بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة الطبعة الثانية من آلاء الله على مثلى أن يشتغل محاميا عن الإسلام فى قضية الوجود الإنسانى الصحيح على ظهر هذه الأرض، نعم ذلك من آلاء الله، فأنا أعتقد أن الإسلام لباب الحق الذى يتوجه به أهل السموات والأرض إلى خالق السموات والأرض. والنعم توجب على أصحابها أن يقدروها قدرها، وأن يصرفوا عواطفهم وجوارحهم لشكر مرسلها، فلله المنة، ومنه العون. منذ ربع قرن وأنا مع ألوف غيرى من الناس نملأ هذا الميدان، ميدان الدفاع عن الإسلام فى وجه هجمات متتابعة الأمواج، متلاحقة الزحوف..! أترانا نجحنا فى هذه المهمة التى شغلتنا هذا الأمد..؟ إن الجواب الصحيح، لا. ونعم. ولكن " لا" تقال مرارا وبقوة ، أما " نعم " فتقال حينا، وعلى إغماض: إن الإسلام مظلوم التعاليم والمناهج فى أذهان وأقطار كثيرة. وهو كذلك مهدر الحق، مستباح الحمى.. وعلى من تقع التبعة فى هذه الهزائم المنكرة؟ والجواب الصحيح: على هؤلاء الألوف من الرجال الذين يعرفون بين الناس بأنهم رجال الإسلام، سواء أكانوا من شيوخ الأزهر، أم من أعضاء الجماعات الدينية المتخصصة فى هذا الشأن. إن الحقيقة التى استيقنت منها أن ما أصاب الإسلام فى عصرنا هذا وفى العصور التى سبقته لا يسأل عنه أعداؤه قدر ما يسأل عنه أبناؤه. لقد رأيت ذلك بعينى، ولمسته بيدى. إن الخمول والتفريط، والقصد المدخول، والفكر القاصر، لا يمكن أن يتنزل عليها نصر الله.
ص _004(1/1)
خصوصا إذا فشت هذه الرذائل فى جبهتنا، وكانت الجبهات المقابلة ظاهرة النشاط والحركة والإقدام والتجرد!! والذى يلوم قومه ربما يفهم من حديثه أنه أدى واجبه.. وأسارع إلى الاعتراف بتقصيرى (وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي). لقد اجتهدت فى نصرة الإسلام، والإخلاص لكل عامل فى ميدانه. وكان يمكن أن أكون أكثر جهدا، وأعمق إخلاصا، بيد أن ما فاتنى أمس لن يفوتنى إن شاء الله اليوم. ومع ذلك فإنى لا أزال على موقفى من كشف الأخطاء التى انتشرت بين صفوف العاملين لهذا الدين، لا لشىء إلا لدعم قوى الحق، وتمهيد طريق النصر. لقد نشرت كتابى " فى موكب الدعوة " من سنين معالجا هذه القضية، وسأعاود نشر الطبعة الثالثة منه قريبا إن شاء الله . وها أنذا أعيد نشر هذا الكتاب " من معالم الحق " وليس فى نفسى إلا رغبة واحدة، أن ينتفع القراء بما فيه من بحوث علمية مجردة، وأن يستوعبوا تجارب رجل له ملاحظاته التى يعتقد صدقها فيما أصاب الإسلام من هزيمة ونصر، وفيما أصاب أهله من خير وشر. وأنا أعرف أن كلا الكتابين قد تضمن أمورا يرى البعض دفنها. لكنى أرى من الخطل إسدال الستار عليها، فهى جزء من تاريخ يجب تدبر أحداثه والإفادة منها.. لقد مضى على صدور الطبعة الأولى من هذا الكتاب ثلث قرن، ومع ذلك لم تفقد فصوله جدتها ولا انتهت العبرة من مطالعتها.. بل ما زالت الأخطاء تتكرر فى الجبهة التى ينبغى أن تكون أسرع من غيرها إلى الوعى والاعتبار.. والتذكير بما كان ليس تنديدا بأشخاص، وإنما هو إفادة من أحداث، وتبصرة بحقائق، وتثبت من الصراط المستقيم، وتشبث بأسباب النصر. محمد الغزالى ص _005(1/2)
مقدمة الطبعة الأولي إن التجارب التى بلوتها فى الأيام الأواخر ردت إلى الصواب فيما يمس تقدير الناس وتقويم منازلهم واكتشاف خباياهم... عرفت لماذا أحس رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الرجال قليل، وأن نسبتهم فيمن ترى لا تكاد تبلغ الواحد فى المائة: ولذلك قال: " الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة ". أجل. إن الذين يعول عليهم فى اقتحام الصعاب وتحطيم العقبات، وإدراك الغايات أندر- إلى حد بعيد- مما يفرضه حسن الظن وتوقع الخير. وما أحكم قول الله عز وجل (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون)... وإلى جانب قصور الهمم ووهن المناكب وضعف الإدراك وما إلى ذلك من رذائل العجز المبعثرة بين العامة والهمل، تجد رذيلة أخرى إذا لحقت بالأقوياء شانتهم وحطمتهم، وهى سوء النية، أو بتعبير أدق، غش النية. فإن القصد المدخول يجعل الرجل يأتى عمل الأخيار- وهو بضميره بعيد عنهم- فيخرج منه ضعيفا لا يصل إلى هدفه، أو منحرفا لا ينتهى إلى موضعه. ثم إن صاحب هذا العمل محسوب على قوى الإيمان والإخلاص، فى حين أنه دسيسة مقحمة فيها. أو هو فى الحقيقة جرثومة تعمل ضدها وتثير داخل كيانها العلل... ولم أعرف نفاسة قول الرسول صلى الله عليه وسلم : " إنما الأعمال بالنيات " حتى خالطت المئات والألوف فوجدت فى سيرتها الأعاجيب. طالما بحثت عن الإخلاص المحض لله ولرسوله لآنس به وأستمتع، أو لألوذ به وأستجير، فكانت سوءات الهوى المستور تفجؤنى فتردنى محزونا لا ألوى على شىء...! هناك ناس فاتهم من حظوظ الدنيا ما يكسبهم الوجاهة المنشودة، فالتحقوا بميدان ص _006(1/3)
الدعوة إلى الله يرجون فيه العوض الذى فقدوه. فتحول الميدان الطهور بهم إلى مضمار يتهارش فيه فرسان الكلام وطلاب الظهور وعشاق الرياسة. وانتقلت موازين الحياة الدنيا وتقاليدها ومؤامراتها وأساليبها تبعا لذلك إلى ميدان الدعوة فماذا تنتظر من هذا الخلط إلا أن تقع فتنة فى الأرض وفساد كبير؟ لقد خلصت من تجارب هذه الأيام التى مرت بى إلى أن العمل للإسلام لا يقبل إلا ممن يعمل به. وأن الذين يفشلون فى إقامة أمر الله بينهم أعجز من أن يقيموه بين الناس؟ وأن الله لا يمكن لأمة باسمه إلا إذا نضجت فى هذه الأمة عناصر الخير وربت منابع البر، حتى إذا ملكت نضحت على العالمين من طبيعتها العالية، فأشاعت الرحمة والعدل، وعلمت الطاعة والتقوى، وأمرت بالمعروف ونهت عن المنكر! وذلك مصداق قوله سبحانه (الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور). إن الإيمان الصحيح يجعل نفس المسلم تستجيب لدواعى الخير المختلفة كلما أهابت بها. فهو فى السلم والحرب، فى الصحة والمرض، فى الأمن والروع، فى الخصب والجدب، فى كل حال يقدرها الله له، يواجهها بما يفرض اليقين عليه، لا ينكص ولا يزيغ...! يصبر فى الضراء ويشكر فى السراء، ويكرم عند النفقة ويقدم عند الروع، ويقيم الفرائض الموقوتة ويهجر المعاصى المحرمة، ويبغض المبطلين ويشغب على ضلالهم، ويحب المصلحين ويشد أزرهم..! ذاك شأن المسلم. إن الخضوع لأمر الله والمبادرة إلى إنفاذه استعداد كامن دائم فيه. (إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون). وقد تلت هذه الآية آيات أخرى تفصل حقيقة الطاعة المطلوبة، وتبين أن مشاعر الخضوع لله، المستكنة فى نفس المسلم، موصولة لا تنقطع، متماسكة لا تنفصم. وأن الزعم المجرد عن العمل لا قيمة له فى حقيقة التقوى. ص _007(1/4)
هب رجلا أعجبه دفء الفراش ساعة الفجر وآثر لذة النوم على غيرها من ذكر وقربى، أتحسب ذلك يقدر على جهاد خشن فى ميدان غليظ؟ هب رجلا أغراه فتون الفاحشة فتلوث بها فى أيام الرخاء والسعة، أتراه يطيق مرضاة الله فى الانخلاع عن الدنيا لو طلب إليه أن يفتدى أمته بنفسه يوما ما؟ إن الرجال الذين يسيئون فى القليل لا ينبغى تصديقهم إذا أقسموا فى الكثير. وهذا ما بدأت الآيات الكريمة تفيض فيه (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن قل لا تقسموا طاعة معروفة إن الله خبير بما تعملون). نعم، طاعة معروفة! إن المتكاسلين فى الصلاة، الباخلين بالزكاة لا يقبل منهم حلف على الفداء والتضحية. إن الناكلين عن خدمة الحق بكلمة هادئة لا يحلفون على خدمته ببذل الدم. طاعة معروفة. ما أحز هذه الكلمة فى جلود الخادعين المخدوعين، الذين يظنون محالهم منطليا على الله... ثم شرعت الآيات تجر أولئك إلى صراط الله الذى يزعمون أنهم أوغلوا فيه وهم لما يهتدوا إلى مطالعه (قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم …). والطاعة المعنية هنا قوامها تصحيح العقيدة وتطهير القلب وإدامة الصلاح ولزوم التقى. وتجلية هذه المعانى يجىء فى إبانه. فإن الآيات نزلت فى المدينة. والنبى الكريم يكافح قوى الشرك ويرسى قواعد الدولة التى يريد بناءها. وفى هذه الظروف يقبل المغامرون من طلاب الدنيا ليشاركوا فى الجهاد طلبا للغنيمة. وقد يتطلعون إلى الحكم رغبة فى الإمارة لا إقامة لدين الله. فتعليما لهؤلاء اطردت الآيات تنذر وتبشر، وتعد بالنصر والتمكين الطائعين المخلصين وحدهم . ص _008(1/5)
(وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا …). لكن ما شرط ذلك؟ وما مقدماته الصحيحة؟ (يعبدونني لا يشركون بي شيئا…) (ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون) وعادت الآيات تكرر أوامر الخير وأسباب الفلاح (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون). وهذه مدارج الفضل والسناء. أى مجتمع تهى فيه عرى الأخلاق، وتضعف فيه مقومات النفوس الكبيرة، هيهات أن يوفق إلى تأسيس دولة مكينة أو إقامة حكم رشيد... إن النفوس الدنيا لا يمكنها أن تقيم أحكام السماء، ولا تستطيع- وهى مخلدة إلى الأرض- أن تستجيب لتعاليم الوحى، أو تستقيم مع جوه النقى الطهور. أرأيت امرءا خليعا يشرع دساتير الأدب ويطبقها، أرأيت امرءا خوارا يشرع دساتير الكفاح ويؤججها؟ إن ينابيع الخير التى أخصبت بها الحياة وازدانت.. لم تنبجس من نفوس متحجرة، بل فارت بالرى العذب من نفوس مفعمة بالكمال، فياضة بالبر والسكينة والجمال. وغيوم الشر التى لوثت الآفاق وآذت البلاد والعباد لم تنفخها أنفاس لاهثة يقطعها الإعياء والوجل، بل عصفت بها نفوس لها فى الحياة فعل الأعاصير المجتاحة كانت قوتها فى الخير هى السبب الأول فى اندحار الشر أمامها... والنفوس التى انحصرت فى أهوائها الصغيرة لا تفقه الدين، ولو فقهته ما أصلحت به شيئا فضلا عن أن تصلح هى به... ص _009(1/6)
إن الحقيقة الأولى فى الإسلام زكاة النفوس وسناؤها، وفقدان هذه الحقيقة فقدان الأصل الذى لا يسد مسده عوض، ولا يغنى مكانه صلاة ولا صيام ولا جهاد ولا قيام.. بل فقدان هذا الأصل يجعل العبادات التى يأتيها البعض نوعا من الفساد الملفوف، فإن النيات المدخولة والقلوب الحالكة لا يصلح معها عمل أبدا. إن الله أمر الناس أن يزكوا أنفسهم وأن يزكوا بيئتهم، ومن ثم يكون جهادهم العام فى ترقية الجماعة جزءا من جهادهم الخاص فى تهذيب غرائزهم وتقويم مسالكهم.. فإذا رأيت رجلا يشتغل بجهاد الناس وهو مذهول عن جهاد نفسه، فاعلم أنه خطاف يريد الاشتغال بالسلب والنهب تحت ستار الدين. إن تقوى الله عز وجل لباب الدين وسياج نظمه الدقيقة والجليلة، ورباط تعاليمه فى المجتمع والدولة. ولو أفلحنا فى إقامة هيكل كبير يمثل شرائع الله كلها، وتبرز فيه صور الإسلام المعهودة والمنشودة، ثم حفت بهذا الهيكل نفوس خلت من الله، وضمائر لا تحسن رقابته ما كنا بهذا كله قد أقمنا إسلاما ولا خدمنا إيمانا. ولسنا ننكر قيمة القانون فى حراسة ظاهر الحياة، ولكننا ننكر أن يكون للقانون أثر يذكر فى موازين الخير والأمانة والنهوض والوفاء وحسن التقدير وسلامة القصد . بل إن القوانين أعجز من أن تحاكم الإيمان والنفاق والرياء والإخلاص. وهذه لها ما لها فى قيادة الجماعات إلى الغى أو الرشد.. فى عصرنا هذا نظم القضاء، ورتبت محاكمه، ووزعت أعباء الدفاع والاتهام والموازنة والتمحيص على رجاله، وهيئت الفرص لتدارك الخطأ، واتسعت ضروب التقاضى فأمكنت محاكمة الدول والفرد جميعا. بيد أن هذه الوسائل العديدة لتوفير العدالة وإشاعة السكينة لا تجدى شيئا إذا التاثت النفس الإنسانية وأضلها الهوى، فإن النفوس المجرحة لا تمسك الحق إلا كما تمسك الماء الغرابيل. ولذلك يقول الله لداود- وهو نبى وحاكم: (يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله(1/7)
إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب). ص _010
وكل مستخلف فى الأرض يكون قربه أو بعده من الله على قدر بصره بالحق وانصياعه له وأخذه نفسه والناس به . ونحن لو تركنا الهوى يقيم حدود الله لقطع المسروق وترك السارق وقدم المفلوك وأخز الماجد، وأعطى حيث يجب أن يمنع وخفض حيث يجب أن يرفع. أفتحسب ذلك دينا، أم ذلك هو الفساد المبين؟ إن أولى الناس بالله من حكموا الله فى أنفسهم، وخضعوا لدينه فى طواياهم، وعاشوا له فى شئونهم التى لا يراها إلا هو- جل اسمه- قبل أن يتظاهروا بالعيش له فى كل زحام، والغضب له فى كل خصام. هبك فتحت المصحف فوجدت فيه قول الله تعالى : (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون). وقوله تعالى أيضا : (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى …). إنك- كأى مسلم- مطالب باحترام النداءين، وإجابة الأمرين، على أن فى مقدورك هذه الساعة قبل غيرها أن تقيم العدل بين من تحب ومن تكره ولو بكلمة، أما إنفاذ القصاص الواجب فقد تقيمه غدا إن عجزت عنه اليوم فهل تحسبنى آمنك على هذا الإنفاذ المنشود لو رأيتك تهدر النص الأول، وتجحد كلمة حق تقر بها العدالة وتقوم مخلصا لله رب العالمين! لا يا صاحبى.. إن أولى الناس بالله من يقيم فى جوانب نفسه سلطان الحق، ويهزم نوازع الهوى، فإذا أذنت له الأقدار بامتداد كان البر بعباد الله أول ما ينتظر منه، وكان الجور عن الطريق آخر ما يرمى به.. من خمسة عشر عاما وهذا القلم يكتب للإسلام يشرح نظامه، ويبرز أحكامه، ويغرى الناس بالأخذ به والدخول فيه، ومذ حلت عرى الحكم الإسلامى فى عصرنا، وسقطت دولته تطلع المؤمنون إلى يوم أخر يعلو فيه لواء الدين، وتسود شريعة الله. ص _011(1/8)
وأى مسلم لا يداعب نفسه هذا الأمل الحلو؟ وأى مسلم لا يعمل له وعلى لسانه قول الشاعر: منى إن تكن حقا تكن أعذب المنى وإلا فقد عشنا بها زمنا رغدا لكن من يقيم هذا الحكم المرغوب ؟ وما الأدوات التى تمكن له؟ إن الدولة المسلمة لن تجىء إلا ثمرة أمة مسلمة، وإذا صدقنا أن الوثنيين يقيمون حكما للتوحيد صدقنا أن يقيم الدٌعَار حكما للفضيلة، وأن يقيم المهازيل نظاما للرجولة، وأن يصنع العبيد منهاجا للسيادة.. إن أول ما ينتظر فى جماعة تبغى الحكم بما أنزل الله أن يصحب بعضهم بعضا على هذا الأساس، وأن يعامل بعضهم بعضا بهذا المنطق. لذلك جزعت عندما رأيت بعض من يتنادون بدستور السماء يعيشون فى وساوس الأرض وأوحالها. لقد كان القرآن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أى أن من دعا الناس إلى اتباعه جعله صقال روحه، وملاك أمره، ومعقد شمائله، ودعامة سيرته.. كان محمد عليه الصلاة والسلام نقى السر والعلن، طهور الظاهر والباطن، لا يوجد بين حياته الخاصة وحياته العامة حجاب، فسيرته فى نفسه وفى بيته كسيرته بين الناس، ودعوته التى يعرض على الناس أصولها كان أول الناس احتكاما إليها وأخذا بها، وقد ظل بارزا للأصدقاء والخصوم سنين طويلة، فما عرفت عنه ريبة، ولا وقع تناقض بين سلوكه الخاص وسلوكه العام. إن الرسالة التى نادى بها هى الرسالة التى عاش فيها، وهى التى ضبطت أحواله كلها سواء ما اطلع عليه الناس أو ما خفى عن أعين الناس. ومثل ذلك لا يطيقه الأدعياء من أصحاب الشهوات، ومن ذوى الرجولة المريضة والأخلاق الملتوية. ولقد حاول خصوم رسالته أن يستدرجوه إلى المداهنة والمسلك المزدوج فأبى وهو القائل: " ذو الوجهين لا يكون عند الله وجيها ". ص _0 ص(1/9)
وفى ذلك يقول القرآن : (فلا تطع المكذبين * ودوا لو تدهن فيدهنون). والحق أن صاحب الرسالة العظمى قد زوده الله بزاد من الشرف والصراحة والثبات هى كفاء ما حمل من أمانة وبلغ من رسالة. ولن يصل صاحب رسالة نبيلة إلى غايته إلا إذا مشى فى هذه السبيل المشرقة. ثم إن هذا الرسول لم يفرط أدنى تفريط فى صبغ النفوس بتعاليمه وضبط المجتمع بآدابه، ومحاكمة الصغير والكبير إلى معالمه . بل إنه لم يتساهل فى تطبيق ذلك على جثث الموتى، ففى معركة أحد كان يسأل - وهو يستعرض رفات الشهداء-: أيهم أكثر أخذا للقرآن؟ فيدنيه منه فى الصلاة ويقدمه على غيره فى اللحد! فانظر ماذا صنع المحسوبون على دعوة الله فى زماننا هذا؟ داسوا موازين الإيمان وجاءوا برجال لا يدرون من شرائع الله شيئا ليقودوا ركب الدعاة إلى الله! فكان أن قادوهم إلى مواطن الندم.. إن المسلم الذى يفقد ضميره لإيثار شخص بمنصب كيف يرجى منه أن يحكم بما أنزل الله حين يتولى مهام الدولة ويملك أزمتها الكبرى؟ فإذا غلغلت النظر فى خبء هؤلاء، وجدت تقربا سره الزلفى، وإغماضا سره الجبن، وفصلا سره الحقد، ووصلا سره الإدلال، وصداقة سرها الهوى! فأين ما أنزل الله بين قوم هذه حالهم؟ إننا لن نوفق إلى الحكم بما أنزل الله حقا إلا إذا نمت أعوادنا فى مغارس الفضيلة، فكنا عدولا مع أنفسنا قبل أن نكون عدولا مع الناس... وتربية الأجيال الجديدة لتكوين أخلاق عظيمة ومسالك رائعة، خطوة لابد منها فى هذه السبيل. ص _013(1/10)
وقد هيمنت على مرارة الإحساس بهذه الحقيقة فجعلتنى أصرخ بالألم فى كثير من المقالات المثبتة هنا . إن الاضطراب الشديد داخل الجبهة الإسلامية، والغارة الشعواء على العالم الإسلامى جعلانى موزعا بين الدفاع والهجوم. دفاع ضد أقوياء متربصين. وهجوم ضد أعوان بُله وانين متقاعسين! دفاع رجل يخشى أن يصاب من ظهره لأن المنتمين إلى الإسلام ينالون منه، وكأنه عدو، وهو الصديق الودود!! وهجوم رجل يُعيَر بجهالات غيره، وهو يكافح فكرة (العيش بلا دين). تلك الفكرة التى تزحف وسط أمواج دافقة من العلم المادى والحضارة المدنية. محمد الغزالى ص _015
سنن مطردة
يجب على المسلمين أن يستوعبوا هذه الحقائق
قبل جولة أخرى مع بني إسرائيل
ص _016
.. 1 ..
قد تكون نعمة الله على أمة ما بالتمكين والنصر، كفاء ما حملت من عناء وأبدت من صبر، وعندئذ تبقى هذه النعم ما بقيت الأعمال التى أفلت لها، والأحوال التى قادت إليها..
إن الرجل إذا حصل على منصب كبير بمواهب عرفت له، وكفايات قدرت فيه، فهو مقيم فى هذا المنصب ما ظل مطيقا لأعبائه قائما على حقوقه موصول الماضى والمستقبل بالجد والإخلاص..
أما إذا وصل المرء إلى القمة ثم فقد القدرة على الصعود فإنه سوف ينحدر عنها حتما ليعود من حيث أتى..
إن المحافظة على المجد ليست أيسر من بلوغه، بل قد تكون استدامة النعمة أصعب من تحصيلها !
ألا ترى الثمرة قبل بُدُوَها تحتاج إلى جهود متلاحقة فى غراسها وسقياها وتعهدها حتى إذا نضجت احتاجت إلى جهود أخرى فى المحافظة عليها من آفات العفن وأسباب التلف!!
وشر ما يعترى النعم بعد اكتمالها أن يحسب أصحابها أنها جاءتهم اتفاقا من غير مبررات أكسبتها ولا مقدمات ساقتها، أو يحسبون أنهم نالوها بمحاباة من الأقدار، أو اختصاص مبهم، أو بدعوى العظمة الكاذبة، والاستحقاق الباطل كما قال قارون: (... إنما أوتيته على علم عندي... ).(1/11)
هذا كله يجتث أصول الخير ويستعجل نقمة الملك الأعلى.
لقد ذكر القرآن بنى إسرائيل فى آيات شتى فأبان أنهم بلغوا من منازل الفضل ومعارج الارتقاء ما سبقوا به أهل الأرض قاطبة، وانظر إلى قوله تعالى : (ولقد نجينا بني إسرائيل من العذاب المهين * من فرعون إنه كان عاليا من المسرفين * ولقد اخترناهم على علم على العالمين).
ص _017
أى أن الله اصطفاهم لا عن محاباة بل عن عدالة وحكمة، فلولا أن الشعوب الأخرى فى زمانهم كانت أبخس حظا فى المعرفة والقدرة ما حملهم القدر رسالة ولا آتاهم من الآيات ما آتاهم : (ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين * وآتيناهم بينات من الأمر). وإن الإنسان لينظر إلى اليهود أيام محنتهم فيرى بقايا الاختيار القديم لائحة فى سيطرتهم- وهم قلة- على أموال العالم، واستمرار عنصرهم يغالب الحياة، ويتشبث بها برغم سياسة الاستئصال المنظم التى اتبعها العالم حيالهم.. وإن القرآن الكريم ليذكر هؤلاء اليهود بأمجادهم الأولى ويذكرهم بإمكان العودة إليها لو اطَرحوا الغدرات والأباطيل فيقول : (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون). ثم يقول : (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين). ما الذى جعل أمور هذه الأمة تنقلب رأسا على عقب؟ ما الذى جعلها بعد أن كانت النبوات تزحم ديارها وأنوار السماء تخط طريقها وبركات الله تنهمر فوقها وتحتها وتتحول إلى أمة أخرى تحذرها شعوب الأرض وتتربص بها الدوائر وتتواصى بالنيل منها والكيد لها؟ ذلك أن بنى إسرائيل ظنوا إكرام الله حقا مكتسبا لهم بحكم الجنس فهو مقرون بهم لا محالة مهما صنعوا.. أجل لقد ظنوا إيثار الله لهم ضربة لازب كما يؤثر الرجل بنيه عن غريزة غالبة وعاطفة دافعة.. ثم تأدى بهم هذا الظن إلى التفريط والتكاسل، بل إلى الحيف والتحامل فأمسوا(1/12)
يتفاسدون ويتجاهلون وهم مع ذلك موقنون بأن كفتهم على سائر الناس أرجح ودرجتهم عند الله أعلى وأغلى.. ص _018
والغريب أن هذا الوهم سرى إلى من بعدهم ممن ورثهم فنعى الله عليهم جميعا هذا الغرور بالمعاصى وهذا الانتماء إليه بالزور : (وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق... ). والبشر جميعا يتساوون فى أصل الخلق ويتفاضلون بعدئذ بحسن العمل وليست بين الله وبين عبد ما، أو أمة ما، صلة خاصة تبيح المروق من الدين أو تسقط الحقوق المنوطة بأعناق المكلفين.. ورب العالمين يختبر عباده بالعسر واليسر ويبعث بالرخاء بعد الشدة لا ليخرج المروعون من اللجج المخوفة ويسيروا على شاطئ الأمان مرحين معربدين، كلا بل ليعتبروا بماضيهم ومستقبلهم معا، وإلا فالأمر كما ذكر الله فى كتابه : (وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم إذا لهم مكر في آياتنا قل الله أسرع مكرا إن رسلنا يكتبون ما تمكرون). وربما ظن الناس أن أجلَ نعماء الله على بنى إسرائيل هذا الإغداق السمح الذى يسر لهم أطعمتهم من السماء موائد حافلة بالمن والسلوى! كلا.. إن تأمين أمة على أرزاقها شىء عظيم حقا، فكم تذل الأمم بالسنين العضوض، ولكن اليهود ظفروا بمكاسب روحية كبيرة إلى جانب ما نالوا من إشباع وتأمين، فإن الله تعهدهم بالأنبياء يعلمونهم بالوحى، ويقودونهم بتوجيه السماء! وكان وعاظهم ومدرسوهم رجالا معصومين يدعون إلى الله على بصيرة، ويستعلون على أهواء الدنيا عن عصمة! وتلك نعمة لا تدانيها نعمة.. كم يشعر الإنسان بالحاجة الملحة إلى إمام حكيم يؤنسه بالله،ويُعدُه للقائه إعدادا حسنا، ويلقي على روحه رواء طهورا يجعله فى هذه الدنيا ملكا يفكر فى الخير وحده ويهفو إليه أبدا.. إنك تربح نصف الطريق إلى الحق يوم توفق إلى الهادى المدرب اللبيب، وفى طريق الدعوة إلى الله يوجد علماء وخطباء وقادة وساسة وعباد ونقدة ومجتهدون ومقلدون، ص(1/13)
_019
وفى الطريق كذلك يوجد الأغرار والمهرة والأتقياء والفجرة والمتحدثون والمجاذيب، ترى كم من الجهد يوفر والعناء يقتصد، يوم يقع المرء على قائد استدرج النبوة بين جنبيه ففى فمه شعاع ينطق بالحكمة وفى ضميره روح يلهم الصواب؟ إن صحبة الأنبياء والاستماع إليهم والاهتداء بهم مجد تالد.. وقد غمر الله شعب إسرائيل بهذه الأمجاد، إلا أن كل مبذول مملول، وكل مرتخص مهمل. ألف اليهود مئات الرسل يغدون بينهم ويروحون، فما أكبروا لهم قدرا ولا اقتبسوا منهم خيرا، بل لقد تجرءوا عليهم، وغمطوا حقهم، فإذا وقف نبى أمام هوى جامح ليرده ويحمى الأمة شره لم يجد الأشقياء حرجا من التخلص منه (لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وأرسلنا إليهم رسلا كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقا كذبوا وفريقا يقتلون * وحسبوا ألا تكون فتنة فعموا وصموا ثم تاب الله عليهم ثم عموا وصموا كثير منهم والله بصير بما يعملون). قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله تبارك وتعالى أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات، أن يعمل بها وأن يأمر بنى إسرائيل أن يعملوا بها، وأنه كاد أن يبطئ بها، فقال له عيسى: إن الله أمرك بخمس كلمات أن تعمل بها وتأمر بنى إسرائيل أن يعملوا بها ، فإما أن تأمرهم بها، وإما أن آمرهم أنا بها، فقال يحيى: أخشى إن سبقتنى بها أن يخسف بى أو أعذب.. فجمع الناس فى بيت المقدس فامتلأ المسجد وقعدوا على الشرف. فقال: إن الله أمرنى بخمس كلمات أن أعمل بهن، أوًلهن أن تعبدوا الله لا تشركوا به شيئا. فإن مثل من أشرك بالله كمثل رجل اشترى عبدا من خالص ماله.. بذهب أو ورق.. وقال: هذا دارى وهذا عملى.. فاعمل وأد إلى.. فكان يعمل ويؤدى إلى غير سيده!! فأيكم يرضى أن يكون عبده كذلك؟؟ وإن الله تعالى أمركم بالصلاة.. فإذا صليتم فلا تلتفتوا.. فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده فى صلاته ما لم يلتفت. وأمركم بالصيام، فإن مثل ذلك كمثل رجل فى عصابة معه صرة فيها مسك كلهم(1/14)
يعجبه ريحها. وإن ريح الصائم أطيب عند الله من ريح المسك . ص _020
وأمركم بالصدقة فإن مثل ذلك كمثل رجل أسره العدو فأوثقوا يديه إلى عنقه، وقدموه ليضربوا عنقه. فقال: أنا أفدى نفسى منكم بالقليل والكثير ففدى نفسه منهم، وأمركم أن تذكروا الله.. فإن مثل ذلك كمثل رجل خرج العدو فى أثره سراعا، حتى أتى على حصن فأحرز نفسه منهم. وكذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله تعالى .. . أتدرى ما كانت نهاية الرجل الذى أسدى لقومه هذا النصح؟ إن صدودهم عن الحق وقلة انتفاعهم بالتذكير جعلاه يبطئ- أو كاد- فى تبليغهم فلما ثابر على دعوتهم.. وكافح الفساد الشائع فيهم أهدروا دمه، وقتلوه... وتبدلت حال الأمة الكبيرة فبعد أن كانت تحمد فى العالمين، وتعد أفضل أهل الأرض تنزل السخط عليها فى الآفاق وسارت بمذمتها الركبان، فإذا هى ملعونة حيث حلت وحيث ارتحلت، وعلى لسان من طعنت هذه الأمة؟ إن الحملة عليهم لم يقدها صحافيون مرتزقة ولم تتوسع فيها دعايات مغرضة، كلا، إن أنبياء الله أنفسهم هم الذين تولوا قمع هذه الأمة وإذلال كبريائها وفضح خباياها (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون). ثم غرست هذه اللعنة فى أرض إسرائيل لتثمر الغضب والنقمة على كر الدهور، ولتنتقل من الأجداد عدوى الخسة والغدر إلى الأحفاد، ولتنشر الكراهية فى أنحاء الدنيا للذرارى النابتة بعد الأجيال المنقرضة. وكلما تجمعت مشاعر المقت فى أحد العصور ثار بها مغامر جبار فقاتل اليهود واستباحهم استجابة للعنة الخالدة، وتمشيا مع قول الحق فى كتابه (وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم) إنه علي قدر عظمة النعمة تكون بشاعة الجحود، وتكون صرامة العقاب وليس ذلك قانونا خاصا بجنس، إنه عدل الله فى أهل الأرض طرا.. فما يؤثر الله أمة إلا ص _021(1/15)
بمقدار ما تنطوى عليه من خير، وما يهين أخرى إلا بمقدار ما تسلف من إثم (ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون * ولكل درجات مما عملوا وما ربك بغافل عما يعملون). ومدخل الشر إلى نفوس الأفراد والجماعات هو سوء الظن بالله، أعنى الظن بأن الله يخفض ويرفع دون حكمة باعثة على الخفض والرفع. وهذا ضلال كبير. عندما يتوهم الطائر أنه يحلق من ذاته لا من جناحيه فيخلعهما عنه فسوف يبقى فى مكانه لا يريم، ولن يرتفع عن الأرض قيد أنملة. وقد حدث الله عن موسى فأبان أنه وهبه الحكم والعلم بعد ما اكتملت قواه ونضجت ملكاته . (ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين) فكان إحسان موسى هو الذى رشحه لهذا الإكرام الأعلى. أفتراه ينال شيئا من ذلك لو بدا عجزه وظهرت فجاجته؟ وقال الله عز وجل مبينا سنته فى قيادة الأرض ووراثة خيرها : (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون * إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين) فهل يعنى ذلك إلا أن وراثة الأرض هى من حظوظ الصالحين وحدهم، وأن الذين فسدت عقولهم بالجهل وفسدت قلوبهم بالهوى لن يمكن لهم أدنى تمكين فى شبر ضيق من أقطار العالمين!! والمحزن فى تاريخ الأفراد والجماعات أن العصاميين يظلون معتزين بفضائل الكفاح والعمل صاعدين إلى القمة بأساليب التقدير الصادق والتفكير السليم حتى إذا استقروا، تغير المنطق القديم! فإذا هم يكرمون المناصب والأنساب ولو كانت إلى جانب الصم البكم الذين لا يعقلون..!! ولقد نسى اليهود نشأتهم الأولى والأحوال التى نالوا بها رضوان الله. وحسبوا أنهم لو تغيروا فلن يغير الله ما بهم، فكان من عقباهم ما رأيت.. ص _022(1/16)
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم خبيرا بطبائع الأمم وأسرار المجتمعات يوم اخترق أسداف الغيب، ثم تصور أن أمته قد يعتريها ما اعترى غيرها فقال- منفرا محذرا- " ليأتين على أمتى ما أتى على بنى إسرائيل حذو النعل بالنعل، حتى لو كان فيهم من أتى أمه علانية لكان فيهم من يصنع ذلك.. ". وقال: "لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا فى جحر ضب لاتبعتموهم! قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟؟.. ". فهل درنا فى الدوامة نفسها التى أغرقت الأولين؟ إن تمثال الخلافة الإسلامية فى الآستانة سقط، أما الأمة نفسها فهى- من قبل ومن بعد- قد قطَعت أمما يتنادى اللئام على أكلها، فإذا فتحت عينيك على مصير المسلمين الكالح لم تلبث أن تغمضهما على القذى! فكيف كان ذلك؟ .. 2 .. هل يدرى الخمور ما يصنع عندما يفقد وعيه وتترنح خطاه ذات اليمين وذات الشمال؟ لا. إن صوابه الضائع يخيل إليه الأمور معكوسة.. فقد يغنى ويضحك حيث يجب عليه أن يبكى ويحزن!! ولكن الذين يرقبونه عن قرب أو بعد يعرفون ما يقع منه، ويبنون أحكاما على مسلكه أدنى إلى الحق من أحكام هذا السكران على نفسه ومن تصوره لما يفعل ويترك.. وحال المسلمين- من قرون- قريبة المشابه من حال هذا المخبول الذى دارت العقار برأسه. فقد انطفأت مصابيح الإسلام بأيديهم، وأمسوا يسيرون بلا خطة، ويحكمون بلا شرعة، ويفكرون بلا عقل، فلو قست مسافة ما بينهم وبين الرسالة التى آلت إليهم لكانت بعد ما بين المشرقين! كانوا فى عالمهم الحالم لا يدركون ما انتهوا إليه من ضعف فى أفكارهم وفى أعمالهم وفى وسائلهم وفى معايشهم. ولكن أعداءهم الأيقاظ لم يغفلوا عن هذا المصير، فوقفوا يتربصون به ومعهم المعاول التى يحفرون بها قبره... ص _023(1/17)
وهل غفل أعداء الإسلام يوما عن الكيد له! إن الغزو الصليبى الأول ظل طيلة قرنين عنيدا فى محاولاته اليائسة يبغى أن يجتث أصوله، فلما ارتد مدحورا عاد أدراجه ليتأهب لا ليستريح.... فلما كر بعد إعداد طويل لم يكن فى المرة الأخيرة وحده، بل كانت معه الصهيونية الحانقة، وقد حشدت بنى إسرائيل معها... نعم!. بنى إسرائيل! قد تقول: ومن أين جىء بهم بعد ما مزقوا شر ممزق، وحاقت بهم لعنة الله فنبت بهم البلاد، وأوغرت عليهم صدور العباد؟ والجواب أن اليهود لم يفكروا منذ كسر الصحابة شوكتهم فى القرن الأول أن يدخلوا مع المسلمين فى حرب ما، ومرت أحد عشر قرنا من تاريخ الإسلام، واليهود لا يخطر بأنفسهم- ولو مع الأمانى الطائشة- أن يدخلوا مع المسلمين فى حرب أبدا، وكيف وحسبهم النجاء حيث كانوا؟ حتى رأوا بأعينهم الأمة المرهوبة تضمحل، وتذوى فضائلها، ويذل جانبها، وتهز الفتن الماحقة كيانها، فعلموا أن أمرها أدبر، وأن غضب السماء إذا كان قد نزل بهم مرة، فقد نزل بعدوهم مرة ومرة. ومن ثم تحرشوا بالمسلمين، وما زالوا يناوشونهم حتى اغتصبوا منهم فلسطين، ثم تمادى الغرور بهم حتى صاروا يزعمون أن أرض إسرائيل من الفرات إلى النيل! أرأيت كيف كنا وإلى أين انتهينا؟ فهل ظلمنا ربك؟ كلا. ولكنه أنزلنا على سننه الخالدة، كما أنزل غيرنا من الأم. إن الله لم يكره من اليهود أنهم دم معين، وإنما كره منهم أخلاقا إذا تحولت إلى غيرهم تحولت معها الكراهية إليهم... لقد انتصر السابقون الأولون من المسلمين لأن أسباب النصر المادية والأدبية ترعرعت فى بيئتهم حين ضفرت منها بيئات أخرى. فانظر إلى أحوال أمتنا من خلال هذه الصور التى أعرضها عليك.. لم يبخل اليهود بالمال لإنجاح قضيتهم، بل عرفوا كيف يكسبونه كثيرا وفيرا، وينفقونه كثيرا وفيرا كذلك لبلوغ مآربهم وتحقيق آمالهم، فعندما نهض زعيم الصهيونية الكبير (هرتزل) لينشر دعايته فى ربوع العالم، التقى بالبارون (دى هيرش)(1/18)
الذى أسس جمعية الاستعمار اليهودى وغرضها إسكان مشردى إسرائيل فى بعض أقطار أمريكا، وكان قد رصد لذلك عشرة ملايين من الجنيهات من ماله الخاص..!! ص _024
رجل واحد ينخلع عن هذه القناطير المقنطرة كلها فى سبيل عشيرته؟ فى الوقت الذى يضن فيه أصحاب الثراء الواسع عندنا عن بذل عشر معشار ذلك فى سبيل ربهم وأمتهم! بل فى الوقت الذى تستغل فيه معارك الجهاد لاقتناص المال سحتا من المتاجرة بالسلاح المغشوش!! والعاطفة التى بعثت اليهود على أن يجودوا بأموالهم جعلتهم يمتلكون الأرض عن طريق الشراء السهل، قبل أن يمتلكوها عن طريق الغصب المسلح. إنهم على البعد شرعوا يصوغون قصائد الغزل فى أرض فلسطين، ويقدسون خصبها وجدبها، ويعلقون الأفئدة بحبها والفناء فيها، وانظر إلى أغانيهم فى تعشق الوطن المفقود (إن للحمامة البيضاء عشا صغيرا، وللثعلب وكرا، ولكل إنسان وطنه، إلا اليهود فلهم القبور!). وجاء على لسان البطل فى إحدى الروايات (تسألينني عن أعز أمنية عندى؟ وجوابى: هى أرض الميعاد! وتسألينني عما يداعب أحلامى فأقول: أورشليم! وتسألينني عما يستهوى فؤادى، فأقول: إنه الكنيس! أجل، أريد كل ما فقدناه فى سالف الزمان، وما تهفو إليه نفوسنا، وما جاهد آباؤنا وأجدادنا فى سبيل استرجاعه.. بلادنا الجميلة وعقيدتنا القدسية وعاداتنا البسيطة وتقاليدنا القديمة). هذه هى الحرارة التى نُشَئ عليها بنو إسرائيل قبل هجومهم علينا، أين غابت عنا؟ وكيف يقاس بها الشعور البارد الميت الذى جعل أناسا من العرب يفقدون إعزازهم للأرض التى عاشوا عليها دهورا، فيتركونها لخصومهم بثمن بخس؟ أعرف أن المفتى ورجال الفقه أصدروا أحكاما مشددة بارتداد من يبيع أرضه. بيد أن تكوين الأمم لا يجىء عن طريق الفتاوى المخوفة. إن الأمم قبل كل شىء قلوب تهزها العواطف الجياشة وعقول تقودها الأفكار السليمة. ويوم تجمد القلوب فلا تنبض بعاطفة، ويوم تقف العقول فلا تتحرك بفكرة، فما تراه موضع(1/19)
الفتوى منها؟ إن المسلمين فى تخلفهم الهائل عن قافلة العالم كانوا لا يدرون شيئا ذا بال عما يقع فى أقطار الدنيا القريبة منهم بله البعيدة عنهم! ص _025
أكانوا يتابعون أنباء المؤتمرات التى يعقدها اليهود بين الحين والحين؟ والتى كانت مطامعهم تثب فيها إلى الأمام وثبا. كم كنت أضحك محزونا وأنا أقرأ أن العمال العرب كانوا أحظى عند المزارعين اليهود من غيرهم، لرخص أجورهم! وأمس قرأت النبأ الضخم فى صدر إحدى الصحف (الجنود المراكشيون يتمردون على ضباطهم الفرنسيين) فصحت مرة أخرى أسفا.. إن هذا الخبر لا يدل على ميلاد الحرية فى شعب مسلم مستضعف قدر ما يدل- فى نظرى- على الهاوية التى انحدرنا إليها، إن هؤلاء المسلمين المسخرين فى بلادهم للأجانب الطارئين، والذين استُؤنسوا فصاروا عمالا لليهود، أو جنودا للفرنسيين هم أشبه ما يكون بقطار من الجمال البلهاء يقودها طفل . لقد مرحوا فى بلادهم دهرا وهم آمنون من مكر الله ثم صحوا وقيود الهوان تغل أيديهم وأرجلهم.. أما عن بعض ملوك المسلمين فى هذه الأعصار الكئيبة، فحدث ولا حرج! حدث عن قردة وخنازير، لا عن رجال أمناء مسئولين. كم كان بعضهم يقتتل على الإمارة ويتواطأ مع المستعمرين ليطمئن على بقاء الملك فى بيته الرفيع! ولو ضاعت فى سبيل ذلك شعوب مسلمة. وقبل أن نذكر لذلك المثل من قضية فلسطين نفسها، نذكر الحوار الذى دار بين زعيم إسرائيل ومندوب حكومة إنجلترا حين كان الزعيم اليهودى يسعى فى إيجاد وطن لقومه من أربعين سنة وفى سبيل ذلك أسدى لإنجلترا خدمات جليلة تستحق المكافأة فقال له لويد جورج: إنك أديت للدولة خدمات عظيمة وأود أن أطلب إلى رئيس الحكومة أن يوصى بك عند صاحب الجلالة فينعم عليك بوسام رفيع! فأجابه قائلا: إنى لا أريد شيئا لنفسى. قال: ألا نستطيع أن نقدم لك شيئا عرفانا لجميلك وما قدمت يداك لهذا البلد؟ قال: بلى، أريد أن تعملوا شيئا من أجل الشعب الذى أنا واحد من بنيه. كان هذا(1/20)
الحوار هو اللبنة الأولى فى إعطاء فلسطين لليهود. ص _026
وبعد أن حدث بنيف وثلاثين سنة اجتمع برلمان إسرائيل فى أرض الميعاد ليختار (حاييم وايزمان) رئيسا للدولة اليهودية الأولى بعد ألفى عام. والرجل لا ريب أهل لهذه المنزلة فى قومه. وليت حكامنا- نحن المسلمين- فى مثل هذا الإخلاص للأمم التى يرأسونها. إن الجبهة الإسلامية يوم استصدر (وايزمان) تصريح (بلفور) كانت تعسة سقيمة. حاف الترك على العرب. وغدر العرب بالترك. وتحركت البيوت النزاعة للشرف والسيادة! تنشد مجد أربابها وتحاول إقامة ملك عربى لها. كذلك فعل الأمير فيصل بن الحسين شريف مكة بالمسلمين. ولندع أحداث التاريخ تتكلم، قال إسرائيل كوهين: سافر (وايزمان) إلى العقبة لمقابلة الأمير فيصل بن الحسين شريف مكة. وكان الأمير قد أعلن الثورة فى وجه الأتراك بعد أن اتصل (بمكماهون) المندوب السامى البريطانى فى القاهرة وبعد أن وعده هذا المندوب أن حكومته تمنح الاستقلال للعرب الذين يقدمون مساعدات فعالة للحلفاء (كذا). قال إسرائيل كوهين: وأدرك فيصل أن فلسطين لا تدخل ضمن الأراضي التى ستضم للدولة العربية الهاشمية، عندما زار لندن ووقع بصفته مندوبا عن الدولة العربية اتفاقا مع (وايزمان) بوصفه ممثلا لفلسطين! قال وفى 6 فبراير 1919 أشار الأمير فيصل رئيس وفد الحجاز فى مؤتمر الصلح إشارة رسمية إلى فلسطين حينما ذكر أنه يترك مساكتها ذات الطابع الدولى! يتولى دراستها أصحاب الشأن وفيما عدا ذلك طالب باستقلال المناطق العربية الواردة فى مذكرة وفد الحجاز! انظر كيف يبنى زعماء إسرائيل وطنا لقومهم، وكيف يبنى أمراؤنا ملكا لأنفسهم؟ إن الفتنة المحيرة أن يتصدى لخدمة الإسلام أناس تجردوا من فضائل الإيمان ومن فضائل الرجولة جميعا على حين يتصدى لخدمة النزعات الأخرى قوم لهم عقول لماحة وهمم سباقة. ص _027(1/21)
وما يكون مصير عراك تفاوتت أركانه وأنصاره على هذا النحو؟ حق تنصره الشهوة وباطل يشده الإيثار؟ دين عطل من أولى الأيدى والأبصار، وإلحاد يعينه العباقرة والعمالقة؟ إن النتيجة المخزية لا محيص منها.. والله عز وجل لا ينصر الحق بوضوح أدلته واستقامة طريقته، ولا يخذل الباطل بعوج دعوته وسوء خاتمته، وإنما يبلو أصحاب الحق بأصحاب الباطل. وعلى قدر ما يبذل كلا الفريقين من جهود وتضحيات تكون النهاية الحاسمة.. (ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض). ويؤلمنى أن أقرر الحقيقة المرة أن الرجال الذين ساندوا قضية إسرائيل فى غضون قرنين وخاصة فى أثناء الحرب العالمية الأولى كانوا أصحاب عقيدة وجلد وبذل. أما الأمراء الذين وقعت أزمة المسلمين فى أيديهم فقد كانوا دون ذلك، والأمر كما قيل: إذا جعلت أذنابنا رؤوسا لنا غدونا بحكم الطبع نمشى إلى الورا فى 13 فبراير سنة 1919 وقف شكرى غانم رئيس الوفد السورى فى مؤتمر الصلح يطالب بإنشاء دولة ديمقراطية مستقلة فى سوريا. أما عن فلسطين فقد صرح بأنها تعد الجزء الجنوبى من سوريا، إلا أن الصهيونيين يطالبون بها! ولما كان السوريون قد قاسوا من الآلام مثل ما قاسى اليهود فإنهم يتركون لهم أبواب فلسطين مفتوحة مصاريعها! وليأت كل من عانى الاضطهاد وذاق العذاب. ولتمنح استقلالا ذاتيا على أن تنضم لسوريا فى صورة اتحاد (فيدرالى)! هل سمعت هذا الكلام السقيم وهذا التصور المخبول لتطور الحياة العامة ومطامع الآخرين فى تراث الإسلام؟ بهذا الفكر هزمت قضايانا وتقهقرت أمتنا، وتضاعفت خسائرها، وبهذا اللون من الزعامات السياسية عندنا سار اليهود قدما فى إنفاذ برنامجهم الخطير . وزعيم الوفد السورى يشير فى كلامه إلى مآسى الحكم التركى وما أنزله بالعرب فى ص _028(1/22)
مصر والحجاز وسوريا من هوان.. وجدير بنا أن نقف قليلا لنمحص هذا الكلام ونستكشف خباياه ونستبين وزنه. قد يكون من حق العرب أن ينقموا على الترك بطشهم بهم وجهالتهم عليهم. ولكن ليس من حق العرب أن يتذرعوا بذلك إلى إهدار الوطن الإسلامى العام ووحدة المسلمين الكبرى.. إن للجنسين العربى والتركى خصائص بعضها عظيم وبعضها تافه.. وقد حكم العرب باسم الإسلام وحكم الترك باسم الإسلام فلم يخل كلا الحكمين من أعمال تسربت إليها النزوات الصغيرة وربما كان الأتراك أشد أثرة وأقسى قلوبا غير أننا لا ننسى أن استبداد سلاطينهم قد أساء إليهم مثلما أساء إلى غيرهم. و عندى أن فظاظة الترك فى معاملة العرب جريمة ما كان قصاصها أن ينضم العرب للإنجليز فى حربهم للترك. إن هذه الخيانة المظلمة أخذت- فى ظاهرها- طابع الثأر من دولة الخلافة الجائرة.. بيد أنها فى باطنها لا تعدو أن تكون مطامع أفراد، دينهم هواهم ووسائلهم كل ما أمكن من حلال أو حرام. إن تصوير هذه الخيانة بأنها ثورات شعوب مضطهدة واتتها فرصة التحرر فتشبثت بها، أمر بعيد عن الحقيقة. لقد أفلحت سلطة الاحتلال فى مصر أن تجند نحو مليون ونصف عامل كانوا سندها فى إبادة الجيش التركى فى المعارك التى دارت بصحراء سيناء وجنوب فلسطين ؟ ووثب الأعراب المشايعون للشريف حسين على الحاميات التركية فى الحرمين وأنحاء الجزيرة وأمكنهم أن يفنوها فى مجازر رهيبة! وأكمل اليهود هذه السلسلة من الهزائم الشائنة، فعندما دخل اللنبى مدينة (أورشليم) تألفت منهم عدة فرق اشتركت فى مطاردة الفلول العثمانية المثخنة بجراح الغدر والوقيعة. قال إسراثيل كوهين: فلم تمض سنة حتى كانت فلسطين مطهرة من العناصر الأجنبية . وهكذا انقضى عهد الأتراك بعد أن دام ثلاثة قرون..! ص _029(1/23)
وأتم مصطفى كمال فصول المأساة فأعلن كفر الدولة بالإسلام والعرب. ونجحت سياسة إنجلترا فى إخراج المسلمين من هذه الحرب أمة لا وزن لها ولا مكان. لقد خان ساستنا القدامى دينهم وتاريخهم وحالفوا إنجلترا فغدرت بهم. ووفى اليهود لدينهم وتاريخهم وحالفوا إنجلترا فاحتضنت قضيتهم. ترى أى الفريقين كان أبصر بمواقع قدمه وأحفظ ليومه وأمسه وغده؟؟ .. 3 .. لم يجئ غلب اليهود علينا صدفة عارضة أو معجزة خارقة أو قدرا قاهرا، كلا، بل جاء نتيجة متسقة مع مقدماتها كما يجىء حاصل الجمع أو باقى الطرح صحيحا فى حساب الأرقام. كان العكس- لو وقع- هو الأمر الذى يستحق التساؤل ويحتاج إلى ألف تفسير!! وصحيح أن جمهور المسلمين خاض المعركة وهو واثق من كسبها، إنه فى طوفان الخطب الرنانة والمقالات الحالمة لم يحسن تقدير شىء مما عند خصومه، بيد أن قوانين الكون لا تلين مع من يجهلها.. هب قرية فى الريف تركت الحقول من غير غرس وسقى، ثم اجتمعت فى المسجد تبتهل إلى الله أن يمنحها ثمرا طيبا. أو هب جماعة من العزاب ترهبوا وانقطعوا فى صوامعهم وطلبوا من الله أن يرزقهم البنين والبنات. إن هؤلاء وأولئك ستنشق حناجرهم بالدعاء ثم تعود أيديهم صفرا.. ولقد أحسست- بعد بلاء طويل- أن ما فاتنا فى مضمار الخلق الشخصى والتعاون الجماعى، يشبه ما فاتنا فى ميدان العلم المادى ووسائل الكشف والاختراع، والصناعات والإنتاج. ولندع علماء الحياة فى بلادنا يلهثون وراء أساتذتهم فى الغرب يقتبسون منهم ويتلقون عنهم، ويحاولون جاهدين أن يرقوا بأوطانهم فى نواحى المعرفة وآفاق الحضارة، لندع علماءنا هؤلاء فى جهادهم الحميد، ولنرقب يوما تشاد فيه المصانع ص _030(1/24)
الخفيفة والثقيلة لتمدنا بحاجتنا الماسة إلى ما يدعم جانبنا فى السلم والحرب على سواء ولتغنى فقرنا الفاضح فى شئون العمران كلها، ولتضع نهاية قول الشاعر: إن الذين بنى (المسلة) جدهم لا يحسنون لإبرة تشكيلا!! نعم، لندع هؤلاء فى جهادهم! ولنتجه- نحن المربين- إلى ميدان آخر لا نزال نتعثر فى ساقته أو مؤخرته بينما ملك غيرنا الطليعة ومضى فى سباقه لا يلوى على شىء. يجب أن نصارح أمتنا بأن حصيلتها من أخلاق الحياة الصحيحة وتقاليد الجماعات الموفقة أتفه من حصيلتها من علوم الذرة..! وما بنا من عشق للازدراء على أمة نحن منها، يزيننا ما يزينها، ويشيننا ما يشينها! إنما هى رغبتنا فى الإصلاح، وفى علاج الأدواء الدفينة، تجعلنا نصيح محذرين أو نلكز النيام موقظين. وخصوصا إذا كان العليل مخدوعا فى نفسه لا يجهل علته فحسب بل يحسبها بعض ما أوتى من قوى.. وقديما رأى العلماء أن الجهل المركب أغلظ من الجهل البسيط، وأن الأدعياء- من كل لون- لا يرجى لهم خير.. إن الأمثال تضرب لفساد (الروتين) الحكومى عندنا، وهذه الكلمة غطاء لقصور أو تقصير جمهور الموظفين وتراخيهم المحزن فى أداء واجبها. وذهولهم التام عما حملوا من أمانات، وجروا من تبعات. ومسلك كثير من الموظفين يظهر تقطع الأواصر بين الفرد والأمة التى نبت فيها والدولة التى تشرف عليها. وقد تنقلت فى إدارات ومصالح شتى فوجدت العيب الأول فى الموظف نفسه، لا فى النظام المرسوم له مهما كان معقدا، فهو يوم يريد إنجاز أمر يعنيه، يوطئ له الطريق ويسيره بسرعة البرق، وإلا أداره فى حلقة مفرغة لا يخرج منها أبدا.. أى أن المشكلة فى (الخلق) و (الضمير) قبل كل شىء. ولما كانت أمعاء الدولة داخل هذه الدواوين الراكدة، بين أصابع مديرين وكتبة من هذا الطراز، فلا عجب إذا أزمن فيها (المغص) وتعفنت فيها حاجات الناس . ص _031(1/25)
ونعدو الأداة الحكومية إلى غيرها من نواحى مجتمعنا الأخرى، فيروعك فى القرية وفى المدينة جميعا أن المسلمين صرعى تقاليد بالية وأفكار مريضة. فالغباوة فى فهم القدر كسرت الهمم وأقعدت الآمال. والغباوة فى فهم التوكل أشاعت الفوضى وأغرت بالكسل. ولما كانت الغرائز الدنيا أقوى من أن تكفها الأخطاء السائدة فى فهم الحياة فقد انطلقت تخط لنفسها مجالا بدائيا يسًر ارتكاب الجرائم واقتراب الدنايا حتى بلغ عدد الجنايات عندنا حدا مروعا. وإنك ـ للنظرة الأولى ـ تلمح الانهيار والتفكك الغالبين على النفوس مع أن ذلك ـ فى حكم القرآن ـ من إمارات الكفران والبعد عن الله (ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا). وقد اضطررت- وأنا أعظ الناس أحيانا- أن أنقى القدر الذى يرادف فى أذهانهم الجبر. وأن أنفى التوكل الذى يعنى فى أفهامهم السكوت. وأن أنفى الرجاء الذى يجعلهم يتوقعون رحمة الله بغير عمل، ونصره بغير جهاد.. إن تأخرنا الاجتماعى يجب أن ينتهى على عجل، وإنى أسوق هنا قصصا عرفته من تجوالى جنوبى فلسطين عقب محنتها الأخيرة ليقارن العقلاء بين أحوال اليهود وأحوالنا!. وليعرفوا سر انتصارهم وخذلاننا.. قال لى أحد رؤساء العشائر: خرب الدولاب الذى يستخرج الماء من البئر فى حقلنا. فذهبت إلى الإخصائى اليهودى فى المستعمرة القريبة كيما يأتى لإصلاحه! وبكرت إليه أتعجله فإذا هو يقوم بأعمال موكولة إليه فى المستعمرة، فوقفت أحادثه وأتبسط معه وناولته (سيجارة)! فأخذها ووضعها على أذنه ثم قال: إن الوقت إلى الساعة الثانية بعد الظهيرة من حق المستعمرة فلا أحب أن أشغله بشىء. وعندما أنتهى منه أذهب إليك مساء...! ص _032(1/26)
وحسم الموقف ليستأنف خدمة أمته ورعاية شئونها.. ونزح يهودى من ألمانيا إلى فلسطين فى أثناء اضطهاد (هتلر) لقومه، وكان الرجل ذا ثروة كبيرة، تركها خلفه وهو هارب. فلما تغيرت حكومة ألمانيا، وعوض اليهود عما فقدوا، أرسلت لليهودى النازح أمواله، وكان آنئذ فقيرا يشتغل خفيرا فى إحدى المستعمرات . فقال له عربى يعرفه: إن الثراء هبط عليك فجأة، فهل ستشترى المستعمرة كلها لتصبح مالكا لها. فقال اليهودى الخفير: ما أفعل بالمال لنفسى! إن أولادى يتعلمون بالمجان فى المدرسة، وقد كبرت سنى! فسأهب هذا المال كله لشئون المستعمرة العامة، ولن أطلب من المسئولين إلا أن يغيروا الكلب الذى يساعدنى فى الحراسة فقد ضعف بصره...!! أرأيت إلى ما تحلى به هؤلاء الناس من إيثار وإخلاص؟ ثم أرأيت إلى ما تخلينا نحن عنه من فضائل الكفاح وأدواته؟ من أجل أى شىء ينصر الله الجهل على العلم والفوضى على النظام؟؟ لقد جند الإخوان المسلمون أحسن من تصدى لقتال اليهود والدفاع عن الأرض المقدسة. ومع ذلك فلن أنسى أبدا تفاصيل أول معركة دارت بين شباب الإخوان ومستعمرات (ديروم) وهى المعركة التى فقدوا فيها اثنى عشر شهيدا من خيرة أهل الأرض إيمانا وشجاعة، ولم تفقد فيها المستعمرة الصهيونية إلا الرصاصات القاتلة..!! ولم؟ لقد رسم خطة الهجوم طفل كبير، لا يدرى من فنون القتال إلا قراءة الأوراد وإطلاق المسدسات فكان ما كان!! يا عجبا! تعوزنا أخلاق البذل والإقدام، فإن وجدناها فقدنا مواهب القيادة الصحيحة! لقد أسمينا مقاتلى اليهود رجال العصابات، وكلمة عصابة تعنى نفرا من اللصوص يشتغلون بالسلب والنهب، يسطون على الآمنين، ويتحينون الفرص للغدر والفرار.. فهى على النقيض من كلمة حكومة التى ترمز إلى رياسة محترمة وإدارة نابهة ونظام واضح!! ص _033(1/27)
وعندما اشتبكت عصابات اليهود مع دول الجامعة العربية السبعة لم يتوقع المسلمون إلا أن هذه الحكومات المهيبة ستؤدب العصابات الثائرة وتسترد منهم الأرضين والأموال التى أغاروا عليها وأخذوها. فلما التقى الجمعان علم المخدوعون أن العناوين المزورة لا تغنى عن الحقائق الكريهة . إن باعة البصل ينادون عليه فى أسواقنا بالرمان، وباعة الترمس يصيحون عليه : يا لوز!! وهيهات أن ينطلى هذا الدلال على أحد.. الوكالة اليهودية كانت حكومة مزودة بأذكى الخبراء وأقوى الجيوش وأعتى الساسة، فلو سالت الجهة المختصة فيها عن شبر من صحراء النقب: عن طبيعته وقيمته ومدى قربه أو بعده عن الماء ، لاستخرجت لك مصورات جغرافية وجيولوجية تشرح كل شىء فيه.. أما رؤساء اليهود فهم رساموا العقائد الصهيونية وجامعوا الشمل الممزق فى المشارق والمغارب.. وأما اليهود أنفسهم فقد أبنا لك طرقا من الحياة التى جمعت بينهم وصهرتهم خلقا جديدا.. كانوا شعبا فتيا يطلب الحياة ويبنى مستقبله.. فكيف كنا نحن؟ اشتركت بعض دول المسلمين فى القتال بقوى رمزية لأنها.. لا قوة لها!! وقنع البعض الآخر بالدفاع عن حدوده وحسبه أن ينجو بجلده!! والبعض الآخر كانت قيادته فى أيدى أعدائه المحتلين.. أما مصر، كبيرة دول الجامعة، وقطب هذه الحرب، فقد كانت تحكمها عصابة تشتغل بالسلب والنهب والاغتيال.. ففى ظل دستور لم تحترم منه مادة، قتلت حسن البنا، وأهدرت دمه! وفى ظل دستور يجعل الشعب سيد نفسه سلبت جميع السلطات ووضعت فى يد غلام عابث يسمى صاحب الجلالة الملك.. ووصلت الألوف المؤلفة لتحرير فلسطين، فسرق شطرها وشرى بالشطر الآخر أسلحة لا جدوى منها.. ص _034(1/28)
ودارت الحرب، فرسم خطتها رجال لو التحقوا بالجيوش الأخرى لجردوا من أوسمة القيادة لأنهم لا يحسنون شيئا أبدا.. ووقع ما لم يكن منه بد.. طارت القشور التى صنعها الخداع، فإذا عصابات إسرائيل جيش محذور الفتك، وإذا كثير من حكوماتنا عصابات سطت على الحكم فسلبته. وغررت بالأمة الحائرة فأهانتها وأذلتها.. كيف تبارك السماء هذه المهازل؟ إن المسلمين أحوج أهل الأرض طرا إلى أن تشخص لهم عيوبهم كى ينأوا عنها، فإن الذين يتجاهلون الحقائق ربما دفعوا ثمن هذا التجاهل اجتياح بقيتهم واستئصال شأفتهم.. إذا كانت بضاعتنا الوهن والخلط والنكوص، وبضاعة أعدائنا الجرأة والأمل والحكمة ، فأيان نربح؟ إن القرآن عاب اليهود قديما بأمور معينة، وصف تخوفهم من الناس وحذرهم من الخلق- مع جرأتهم على الله بالمعصية- فقال : (لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله ذلك بأنهم قوم لا يفقهون). ووصف تقطع أواصرهم بالهوى واختلاف قلوبهم بالضغائن فقال : (...تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون). ووصف طمعهم فى أموال الناس وحرصهم على أكلها سحتا، فلا يردونها إليهم إلا عن إلحاح ويقظة، فقال : (...ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما …). ووصف غرورهم بالانتساب إلى الله وأمل عامتهم فى نيل النعيم المقيم دون عمل خطير وبذل جسيم، فقال : (ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون). ص _035(1/29)
ووصف تحاسد العلماء وغمطهم لصاحب الكفاية وتحقيرهيم لما آتاه الله فقال : (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم... ). ووصف تحجر طبائعهم ونضوب الرحمة من قلوبهم ولعبهم بالنصوص التى نزلت لهدايتهم فقال : (فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به ولا تزال تطلع على خائنة منهم...). استقص هذه الرذائل التى أسقطت غيرنا، ثم سل نفسك: أليست لها نظائر بيننا؟ نظائر؟ إنها هى بعينها.. فر اليهود الأخلاف منها وتهاوينا نحن فيها.. فإذا التقينا بهم فى صدام عنيف فكيف يديل الله لنا منهم؟ والغريب أننا لا نعترف بعللنا ونبدأ فى التخلص من شؤمها. وقف أحدهم يقول للسامعين: إن الشرق والغرب يأخذان نظام الحياة من جماعتكم ويقتبسان الدقة من أعمالكم (!) وحملق أحد العقلاء فى صاحبه كأنه يسأله عن عقبى هذا الهراء.. إن المسلمين يعدون جبهة مغايرة لكلتا الجبهتين المتخاصمتين فى الشرق والغرب، ذلك بلا ريب ما تقتضيه تعاليم الإسلام، وما توجبه آيات الكتاب والحكمة، فافرض جدلا أن زمام العالم أفلت من يدى الروس والأمريكان لتتسلمه هذه الجبهة الثالثة، ترى ما يحدث- والحالة هذه ؟ إن حركة العلم والصناعة سيعروها توقف مباغت، والدنيا المائجة بفنون لا حصر لها من المشاعر النابضة والأفكار اليقظة ستشل!! قد تقول : لكن الربانية والفضائل والطاعات ستنتعش وتشيع، وهنا لا أملك نفسى من الضحك! إن مسلمى الأقطار الإسلامية أمثلة حسنة ولا ريب لهذه المعانى !! وإني لأتخيل هذه الأقطار فى وضعها الراهن، تحتل أماكن الصدارة فى العالم، فتأخذنى حيرة مظلمة !!.. ص _036(1/30)
إن فاقد الشىء لا يعطيه، والذين عجزوا عن تحكيم الإسلام فى نفوسهم وبيوتهم وصفوفهم لهم أعجز عن تحكيمه فى حدود دولة صغيرة بله حدود العالم الكبير.. ألا فلنعرف أنفسنا ولنصلح شئوننا، يغير الله ما بنا، وإلا فالأمر كما قال الله: (وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم).. ( 4 ) فى هذا الجزء المنكود المنتزع من وطننا الكبير يحاول بنو إسرائيل ترسيخ أقدامهم ومضاعفة قواهم. وإنهم ليقبعون وراء الحدود الموهومة التى أحاطوا بها دولتهم لا ينقصهم جد ولا عبوس، يتأهبون ليوم آخر قد تنكمش فيه هذه الحدود حتى تتلاشى وقد تتسع حتى ترضى أمانى المغيرين. وطالب الملك لا يأسى على مغرم ولا ينكص عن تضحية. وكما قال امرؤ القيس قديما لصاحبه: فقلت له: لا تبك عينك إنما نحاول ملكا أو نموت فنعذرا.. وعلى أطراف الأرض التى اقتطعها اليهود والتى لا تزال الدماء تقطر من حر السيف فى تمزيقها. على هذه الأطراف المحزونة يسكن العرب اللاجئون. أصحاب البلاد المطرودون، وقد بلوا بأشياء كثيرة من الجوع والخوف ونقص الأموال والأنفس والثمرات . إننى عشت معهم ليالى وأياما، عرفت فيها نفوسهم عن قرب، وسمعت أزيز البكاء الذى يغلى فى أجوافهم لغدر الأقارب والأباعد بهم، وخشونة الحياة التى سحقت كرامتهم وأكرهتهم أن يتسولوا الإعانات من قاتليهم وكانوا قبلا أهل جاه ومنعة.. فبينا نسوس الأمر والأمر أمرنا إذا نحن فيهم سوقة نتنصف فأف لدنيا لا يدوم نعيمها تقلب تارات بنا وتصرف ص _037(1/31)
كنت بعيدا عن أسرتى. فكلما أقبل ولد من بعيد تفرست فيه ملامح أولادى، وكلما انتحب طفل على ذراع أمه التى أنحفها الفقر الدائم وجف فؤادى. وقد أقارن بين أولئك اللاجئين الحيارى وبين أهل الإسكندرية عندما فروا من الغارات فى الحرب الأخيرة فخرج النساء والأولاد والرجال يطلبون النجاة فى المدائن والقرى من الرجوم المهلكة التى تهددت مدينتهم. لكن الفرق بعيد ، إن أهل الإسكندرية وجدوا إخوانهم فى أنحاء الوادى يخففون روعهم ويسكنون جأشهم. أما أولئك اللاجئون فهم محبوسون فى مخيماتهم لا يدرون ما يأتى به الغد. فرب رجل جثا بعد مهابة، وأم تبذلت بعد احتشام. أما الأجيال النابتة فى هذا التيه المائج فإن الخطة المرسومة لها أن تنمو وليس لها صلة بأرض ولا ثقة بأهل، ولا رضا فى حاضر، ولا أمل فى مستقبل، وهل يدع سعار الحرمان فسحة فى قلب أو فسحة من وقت لشىء من هذا.. إننى لا أعجب لشىء عجبى لأن اللاجئين بقوا إلى اليوم أحياء مع أن الاستعمار الغربى هيأ كل شىء للإجهاز عليهم وإسلامهم لموت محقق.. وما عقبى التحسر وما جدواه؟؟ وإن اليهود ماضون فى إعدادهم الرتيب القوى للجولة المرتقبة، وسوف يدفعون فرقهم يوما ما تنازلنا فى موقف حاسم، وليس أمامنا إلا أن نلقاهم، فإما كشفنا السواد الذى صبغ وجوهنا بالعار، وإلا فبطن الأرض خير لنا من ظهرها.. والدول العربية التى تحدق بإسرائيل لن يعجزها أن تحمى ذمارها، وأن ترد الغزو الصهيونى من حيث جاء.. بل إن دولة واحدة فحسب من دول العرب الكثيرة يجب أن تضطلع بهذا العبء واليهود فى البقعة التى احتلوها لن يزيدوا عن مليونى نفس فهم لا يضاهون أقل دولة عربية من حيث العدد!! إلا إذا اعترفنا فى صراحة أن الجنس الإنسانى قد انحدر فى دمائنا وخصائصنا، إلى هاوية لا تغنى معها كثرة العدد واتساع الرقعة، وقرب الوسائل، وإمكان النجاح.. ومن الصدف العجيبة أن يقع فى يدى مقال رائع صادق كتبه الأستاذ (أحمد رمزى) قبل معارك(1/32)
فلسطين الأولى، وشرح فيه سياسة (الصهيونية) فى كفاحها ضد العرب، وأسباب الغلب التى استجمعتها قبل أن تسدد إلينا ضربتها. ص _038
وأجدنى منساقا مع الكاتب الصادق إلى ترديد العبارات والمعانى التى هتف بها بضع سنين ولم تجد وعيا صحيحا يتلقفها ويجعل منها نبراسا.. إن اليهود لم يربحو الجولة الأولى ضد أمم العروبة مجتمعة لأن ملائكة السماء نزلت تعينهم، أو لأن الخوارق القاهرة صنعت من أجلهم، فقد علمت أن انتصارهم جاء وفق سن مطردة، وأن الوسائل التى رجحت كفتهم عادية بحتة، وأننا يوم نعمل مثل ما يعملون ونجهد مثل ما يجهدون فلن يقر لهم قرار. والحرب فى هذه الأعصار نضال شامل تحشد فى سبيله طاقات الشعوب كلها مادية ومعنوية، ونظرة عجلى إلى ما لدى الصهيونيين من عناصر القوة ترينا ما ينقصنا قبل أن نتعرض لجولة أخرى، وما ينقصنا الآن يتصل بكياننا الاقتصادى، وإنتاجنا الصناعى ونهوضنا النفسى والعلمى. وسأنقل العبارات المطولة التى وصف بها الأستاذ أحمد رمزى أسلحة اليهود فى صراعهم الخطير ضد أمتنا وديننا، ولعلنا نتعرف منها ما نفتقر إليه من عدة الفوز. قال عن الاقتصاد الصهيونى. إنه ينفرد عن غيره بأشياء: 1- بمزية الاعتماد على رءوس أموال طائلة لا تحاسبه، أى يفترض أنها تنفق فى أعمال الإنشاء الضخمة فليس يراعى فيها نسب الربح المعتادة، بل إنها لا تحسب للخسارة حسابا، فهى من قبيل الأموال التى ترصدها الحكومات لإحياء الموات من الأرض من غير نظر إلى فائدة عاجلة. والمفروض أن تبقى الأوضاع كذلك مادام العمل سائرا فى طريق تحقيق وتوطيد الوطن اليهودى وغرس مظاهر الحياة فيه. 2- ثم ينفرد الاقتصاد الصهيونى بمزية لا نظير لها فى الشرق العربى وهى سيره على خطة مرسومة وبرنامج منسق للشئون العمرانية المختلفة، زراعية كانت أم صناعية بناء على نظرة إيجابية ودراسة شاملة. ولا يعتور هذا السير تبديل أو تغيير إلا وفق ما تمليه التجارب الحاسمة. ص _039(1/33)
ثم قال الكاتب : (حينما سارت الوكالة اليهودية فى سياستها نحو دعم الاقتصاد الصهيونى معتمدة على هذه الميزات وضعت نصب عينها من المبدأ الأخذ بأساليب التعبئة الاقتصادية الشاملة: فهى فى كفاحها الإنشائى سواء فى الناحية الزراعية أم الصناعية، لم تعرف يوما ما مواجهة البطالة أو الإضراب، لأن هذا الاقتصاد لم يؤسس على قاعدة العرض والطلب، أو الخضوع لرغبات الأسواق، ولم يرم إلى استيعاب العناصر الفلسطينية اليهودية وإيجاد العمل لها فحسب، بل بنى أساس استيعاب قوات متزايدة متلاحقة من هجرة مستمرة لفئات شتى من العمال اللاجئين روعى فى اختيارهم وتشجيعهم أهداف اقتصادية معينة. فالاقتصاد الذي بنيت أسسه على هذا التوسع الإنشائى والذى لا يمكن حصر مداه أو تحديده جاء قويا ومتشعبا لدرجة أنه حقق هدفين باستمرار.. هما: 1- إبعاد اليد العاملة العربية إبعادا تاما عن المنشآت اليهودية بأكملها. 2- إيجاد عمل مستمر دائم لأية مجموعة من العمال تأتى من الخارج. ولقد نجحت هذه الآلة المحكمة فى السير بانتظام لمدة عشرين عاما بدون أن يعتورها ما يقفها عن تهيئة العمل لعشرات الآلاف من هؤلاء الوافدين ومع تمسكها بمبدأ دفع اليد العاملة العربية بعيدا عن المصانع اليهودية والمنظمات العمالية تغلبت على الهزات الاقتصادية المختلفة، سواء كانت محلية- أى مصدرها حركات عربية، مثل المقاطعة أو الإضراب العام-، أم كانت من تصرف سلطات الانتداب وجمودها بسياستها وتشريعاتها ونوم مشاريعها المختلفة فى وزارة المستعمرات البريطانية. أقول: وهكذا تعاونت القدرة المادية والكفاية الأدبية على إنهاض الاقتصاد اليهودى وجعله أداة طيعة فى أيدى بناة "إسرائيل ". ولك أن تسأل: هل كنا نستطيع أن تطوع بالصدقات لإقامة اقتصاد عربى فى فلسطين كما فعل يهود العالم وهم ملوك المال؟ والجواب: نعم إن الله وضع فى بلاد العرب من البركة، وأفاء على أهلها من الأموال ما يجعلهم أملأ أهل الأرض،(1/34)
غير أن التبذير المهلك فى فنون اللهو جعل ما امتازوا به من فضل يذهب سدى. ص _040
أين تضيع أموال البترول السيال من ينابيع الدول البترولية ؟ إن المال فى الشرق كثير لكن الشهوات أكثر، ومن ثم تبدد فى مواطن العبث ما كان ينبغى أن يتحول أرصدة للإنشاء والتعمير...! وإننا لنرحب بكل ثروة تختم هذه المآسى، وتقيم على الأنقاض الأولى صرحنا الاقتصادى الجديد. ولنعلم أن استعدادنا الحق لن يبلغ تمامه إلا إذا صحب توفير الأموال حسن توظيفها وبذل الجهد فى الإفادة منها ولا حرج علينا إذا استعنا بأولى الخبرة من الأجانب فى هذه السبيل. انظر إلى الأستاذ أحمد رمزى وهو ينصح العرب قائلا: على الذين يقدرون البذل والعطاء أن يتعرفوا الحقيقة الماثلة أمامهم فى حياة صهيون الجديدة فيعلموا أن اليهودى القادم إلى فلسطين لا يدخلها كمستحق فى وقف خيرى جاء ليحيا حياة الصديقين بل يدخلها كمحارب جاء ليحيا حياة المكافحين، وليسهم فى إنشاء هذا العالم الجديد حيث يعتمد الفرد على الجماعة، وحيث يحيا المجتمع اليهودى معتمدا على نفسه مستقلا عن جيرانه العرب، وعن حكومة فلسطين. أصبح هذا المجتمع يدور حول فكرة واحدة، وتحركه عقيدة واحدة، وعقلية واحدة تتلخص فى العمل على إنشاء هذا الوطن، إنشائه فى هذا العالم الأرضى لا فى العالم الآخر، وأن يكون إخراجه من صنع أيديهم لا اعتمادا على معجزات التوراة ونبوءات أنبياء بنى إسرائيل. هذه هى القوة الدافعة التى لازمت العمل فى المبدأ والنهاية، وستلاحقه فى السلم والحرب، وستلازمه فى الهزيمة والمطاردة، والدفاع والهجوم. والحديث عن الصناعة فى الدول الإسلامية يخزى له المرء، ويندى له الجبين!! فنحن فى هذه الناحية الجليلة من حضارة العالم الحديث لا نزال نحبو فى دنيا يجوب أقطارها العمالقة، وبين أيديهم وأرجلهم وعن أيمانهم وشمائلهم، نتاج يبهر العقل والبصر، من بدائع الآلات والمحركات.. وأحسب أنه لو كان للتفوق الصناعى- فى عهد(1/35)
الصحابة الأولين- من الخطر، مثل ما له فى عصرنا هذا- لعلمهم النبى صلى الله عليه وسلم إدارة الآلات كما يعلمهم السورة من القرآن... ص _041
إن تطور الحياة يجرى بأسرع مما نتصور، والشعوب التى تفقد المهارة الصناعية. وتعجز عن تشكيل موارد أرضها ومواهب بنيها وفق مقتضيات التقدم الهائل الذى أحرزه العقل الإنسانى أخيرا، لا يمكن أن تجد لها مكانا كريما بل لا ينبغى أن يكون لها هذا المكان.. ومن المؤسف أن صناعة السيوف عرفت فى اليمن على عهد الجاهلية، وتغنى الفرسان بما فى الصفائح اليمانية من قوة وبريق! ولا أظن لهذه الصناعة وأمثالها أثر اليوم.. فى حين تقذف المصانع بأدوات القتال فى الشرق والغرب فنقف أمامها حيارى مشدوهين. إننا لم نقف حيث انتهينا ثم سارغيرنا! لقد مضى غيرنا إلى غايته ورجعنا نحن القهقرى. واليوم دخلت الكهرباء البيوت لتغسل الملابس وتسخن الماء وتبرده ولتضىء الحجرات وتكنسها، ووسائل ذلك كله بعيدة عنا. أما وسائل النقل فقد تشعبت وبلغت شأوا بعيدا من الجودة، فى البر والبحر والجو. ولا يزال فى بلادنا من يشد وراءه عربة تحمل البضاخ، وكأنه بدل دابة (!). ومصانع الغرب هى التى تغمر الأسواق بهذه المحركات.. وقد شرعت مصر- بعد سنين من معارك فلسطين- تقيم المصانع للأسلحة الصغيرة. وكأن المفروض قبلا أن يعتمد الجهاد الإسلامى على صناعات الكفار(!). أليس من حق الدنيا أن تضحك منا؟ لقد أغار علينا اليهود وإنتاجنا الصناعى فى درجة الصفر. فانظر ما يقوله الأستاذ أحمد رمزى فى وصف قوى اليهود الصناعية قبل الجولة الأولى!! " وفى اجتماع عقده حاكم الجزء الشمالى بمدينة حيفا، صرح اتحاد أصحاب المصانع اليهودية أن الصناعة الصهيونية مستعدة لمساعدة الإمبراطورية بكل قواها وأنها تلبى طلبات وسائل الدفاع اللازمة للجيش البريطانى ابتداء من خطوط التليفون وآلات التراسل والمتاريس والحصون الخفيفة والسيارات المدرعة وصهاريج المياه وأدوات البناء(1/36)
وغير ذلك من لوازم الحرب، وكان من نتيجة هذا أن وضعت الأراضى اليهودية فى المناطق العربية البحتة تحت تصرف الجيوش وأنشئت عليها المعسكرات البريطانية ص _042
وغيرها، وهى المستعمرات المحصنة التى قاومت العرب ولولا الحرب ما وصلت طلائع الصهيونيين إليها وما جرؤوا على زراعتها واستغلالها. وحققت هذه السياسة ما يأتى : 1- الاطلاع على أسرار الجيوش المحاربة وحاجاتها. 2- تسلم معسكرات كاملة الأهبة والتحصين عند نهاية الحرب. 3- الحصول على المواد الخام لصناعتهم باعتبارها من ضرورات الحرب. 4- أن الصناعات التى كانت تمون الجيوش الأجنبية، أصبحت تمون قوات الدفاع اليهودية ضد العرب بأحدث معدات القتال، ولا تحتاج إلى الخارج للحصول عليها. ثم إن هناك حقيقة يجب أن ندركها تماما وهى أن الصهيونيين ينظرون للشعوب العربية والشرقية كافة، نظرة الأوروبى إلى الشعوب التى لم تنضج بعد، ولم تستكمل وعيها، أو فهمها لحقائق الأشياء، أو التى إن فهمت بعض الأشياء تنقصها وسائل التنفيذ، وإذا بدأت فى خطة أو عمل شغلتها أشياء كثيرة عن إتمامها. إذن فالدوافع الكبرى فى نفسية الشعوب العربية غير دائمة ولا مستقرة، فى نظرهم، وقدرة القادة على مواجهة الأمور قاصرة، وهذا ما يجعل أطماعهم فى سيادة هذه المنطقة غير محدودة وهم يعتقدون أنهم سيرثون السيطرة الأوروبية على بلادنا. ونحن نجاهر بأن القول بإخفاء هذه الحقائق عن الشعوب جريمة لا تغتفر. بل يجب أن نذكرها باستمرار. إننا إزاء قوة تتطلب حشد كل ما لدينا من وسائل، وتحتم علينا أن نقف لمحاربتها بعقل وفكر وإرادة، ولا يكون ذلك بغير العلم: العلم الذى هو قوة ثورية هائلة، والذى يمكن صاحبه من القدرة والغلبة والانتصار. نعم سيكون العلم سلاحا قاطعا لحل مشاكلنا معهم. ولقد تعلمنا أن الظروف المحيطة بنا لا تخلق حسب أهوائنا حتى نحل متاعبنا ومشاكلنا طوع إرادتنا، ووفق أهوائنا. إن هذه الظروف نتيجة تطور بعيد المدى، وإن(1/37)
الوصول إلى نتائج ثابتة، يقضى ص _043
بدراسة كل حالة وتعرفها، على طريقة منظمة، وتبعا لمنهج منطقى تحليلى، فالحوادث كلها يجب أن تدرس : حوادث الماضى والحاضر والمستقبل، ولو كانت نتائج الدرس ضد ما ألفناه ولو كانت أحكام البحث تحملنا مسئولية الأخطاء التى فرطت منا. إن المنهج هو القوة الوحيدة النهائية الفاصلة التى لا تحد، والتى لا يمكن أن يقف أمامها شىء فى الوجود من غير أن نجد له حلا. وقضية فلسطين أمام العمل والمنطق والمنهج العلمى يجب أن نجد لها حلا، والحل الفذ هو التغلب على الصهيونية، ولا شىء غير ذلك. إننا بإزاء نكبة من أكبر نكبات التاريخ، تتمثل فى تعريض مليون عربى للهجرة من بلادهم ثم تعريض سائر العرب للبوار. إن القوات التى سوف تزحف على فلسطين بقلوب عامرة، وتأتى من البر والبحر والجو، طلبا للشهادة فى الأرض المقدسة التى وعدنا بها، تقوم بدور تاريخى فاصل. إنقاذ عروبة فلسطين ومنع العالم العربى من أن يشطر شطرين. وأهم من ذلك إثبات حقنا نحن العرب والمسلمين على أرضنا وبلادنا ومنازل الوحى عندنا . إنها عقل وإرادة وعقيدة وإيمان. وهى فى روعتها توحى بكلمة موسى عليه السلام: (أنصتى أيتها السموات فأتكلم.. إننى إذا سللت سيفى البارق. وأمسكت بالقضاء يدى أرد نقمة على أعدائى وأجازى مبغضى. إنى أرفع إلى السماء يدى، وأقول حَىٌ أنا إلى الأبد). ذاك ما كتب من سنين طوال نعيده للاعتبار والعمل الصحيح. وفى هذه الطبعة الجديدة نلفت النظر إلى هزيمة سنة 1967 التى ضاعفت (دولة إسرائيل) ماديا وأدبيا، والتى ألحقت بالعرب والمسلمين خزيا سود وجوههم فى المشارق والمغارب، وأوقعت المسجد الأقصى فى براثن اليهود، ولا يزال أسيرا إلى هذا اليوم... أغرب ما فى هذه الهزيمة أن قادتها لم يشعروا بها (!) فقد قالوا: ما دمنا لم نذهب فلا هزيمة هنالك!! ولمست أعرف فى الدنيا شبيها لهذه البلادة، ولا للجماهير التى قبلتها. من يهن يسهل الهوان عليه ما(1/38)
لجرح بميت إيلام!! ص _046
.. 1 ..
من حق العقلاء أن يمقتوا الدين وينبذوا تعاليمه يوم يكون الدين مرادفا لجمود الفكر وقسوة الطبع وبلادة العاطفة! ويوم يكون استيلاؤه على زمام الحياة عودة بها إلى الوراء وانتكاسا عن الجادة وتغييرا لفطرة الله فى النفس ومنطق الحق فى الجماعة!!
أجل إنه يومئذ لن يكون دينا من عند الله، بل أهواء من عند الناس، ولن يكون السير عليه تقوى ومثوبة بل معصية وعقوبة...
إن الله عز وجل أبر بعباده من أن يتركهم على غير شرع، وأبرّ بهم من أن يشرع لهم العنت والعسر، والكبت والقهر..
وعندما بعث الله نبيه الكريم محمدا صلى الله عليه وسلم وجعل رسالته مددا لقوى الخير والنماء بعدما كادت هذه القوى تضمحل أمام شرور الوثنيات الطاغية، والوثنيات التى ألغت عقل الإنسان فى أفق العبادة، وألغت حريته فى ميدان السياسة، وجعلت للخرافة محاريب مهيبة وسلطات مقدسة (تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم فهو وليهم اليوم ولهم عذاب أليم * وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون).
ولذلك نرحب- نحن المسلمين- بأية حرب تعلن على الكهانة، لأن بواعث الإيمان الصحيح هى التى تثيرها، أو بواعث السخط على الجهالة المغرورة.
والأولى حق يرضى الله، والأخرى عقل يؤيده الواقع.
إن الذى يكفر بالأصنام أحد رجلين: رجل آمن بالله فجحد الطواغيت، أو رجل
لما يعرف الله بعد، بيد أن له عقلا يعزف به عن الخنوع لمسخ من هذه الأرض.
ولو أن أصحاب الشهوات والمطامع نفسوا عنها فى جو صريح سافر لكان ذلك منزلة من الفساد أدنى من غيرها.
أما أن يتخذ الدين سترا لهذه الدنايا فإن الخطب جسيم.
ص _047(1/39)
وقد حذر الله المؤمنين من مسلك الكهان الذين عرف الدين فى سمائهم البارزة ولم يعرف فى شمائلهم وأفعالهم فقال (يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله... ). فالشيمة الأولى فى الداعية، التجرد والإخلاص... والشيمة الأخرى الدلالة على الله بحاله ومقاله... فإذا فقد الأولى، بأن أغرته المنافع العاجلة فأقبل على أموال الناس يغتالها وإذا فقد الأخرى، بأن هبت من سيرته رياح تنفر منه وتبغض الناس فيه وفيما جاء به، فهو كاهن خطر، يدل على الدين بلقبه ووظيفته ويصد عنه بعمله وطبيعته!! وأولئك هم الذين كلف إمام المرسلين بمجافاتهم وترهيب الجماهير من اتباعهم كما كلف المسلمون فى كل عصر بالبعد عنهم، لأن الإسلام غريب عن هذه الإلتواءات النفسية كلها . إنه طهر فى العقل والقلب، ونور فى الخلق والسلوك. واصطلاح مع الفطرة، واستقامة مع العدالة والنزاهة... وقد فرضت طبيعة الإسلام نفسها على تاريخه الطويل، فلم تظهر بأرضه طبقات للكهانة، ولا مجامع للمحترفين الذين يصنعون من ذواتهم همزة وصل بين الأرض والسماء... ولكن لما كانت الكهانة طبيعة فى بعض النفوس التى تجيد المداهنة والمداورة فإن شئون الدعوة والدولة معا، لم تبرأ من رجال يخلطون نيات الجهاد بأعمال السوء، ويعملون لأنفسهم وهم يزعمون أنهم يعملون لله. وليست هذه هي الساعة التى ننهى فيها حسابنا مع هؤلاء، بل نحن فى هذه الكلمة نحاسب قوما آخرين!! ذلك أن بعض الكتاب الحاقدين على الإسلام اهتبل الفرصة السانحة، فرصة الوهن الذى أصاب دعاة الإسلام فى هذه الأيام- على ما توهم- فشرع يكيد للدين نفسه، وينال من حكمه السابق واللاحق، وتاريخه القريب والبعيد... ص _048(1/40)
وأنا أفهم أن يعنف بعض المخطئين فى جنب الله، وأن يثار الغبار على تصرفهم المريب، غير أن النفاذ من ذلك إلى تحقير الإسلام نفسه وإبعاده عن ميدان الحياة- كما حاول أولئك الكتاب- أمر دونه خرط القتاد...!! والعجيب أن خصوم الإسلام يبدون أمام الناس وكأنهم سدنة التطور الواسع فى أساليب الحياة وغاياتها، وعشاق المعرفة الشاملة والتجديد البعيد. وأن ركائزهها فى نبذ الماضى بما حوى من دين وتقاليد هى احترام العقل وحده والاعتراف بما يقر، وهجران ما ينكر. أما الإسلام ودعاته فهم- فى نظرهم- فى واد آخر، لا يحسون هذه اليقظة الإنسانية ولا يرحبون بأشعتها الغامرة . ويعلم الله أننا أرحب عاطفة نحو الحياة والأحياء من هؤلاء الأدعياء، وأن الحضارة التى يشيد المفتونون بمفاخرها ما خط مجراها فى هذه الأرض إلا ظهور الإسلام وإزاحته للعوائق التى صنعها الكهان القدامى أمام العقل والفطرة... ولا يزال الإسلام يوثق العلائق بين الإيمان والفكر، ويجعل العقائد الصحيحة هى الحقائق الثابتة ولا يزال- فى الوقت نفسه- يزين البشر بالتقوى ويقومهم بالسعى وحده!! ونحن نعلم أن الخصومة التى تسود بها ضمائر البعض ضد الإسلام علتها الدفينة هى الجهل الأعمى أو الجحود المكابر، وأن محاولة القضاء على هذا الدين إنما ينشط فيها أقوام يعملون سرا أو علنا لجهات سوف نكشف عنها هنا... نكتب ذلك تعليقا على ما نشره الأستاذ سلامة موسى فى جريدة الأخبار بعنوان (العراق يستيقظ..) قال: (العراق ينتقل من سبات الشرق إلى يقظة الغرب). فإن الدكتور على الوردى يمثل فى بغداد من المبادئ والأهداف والأساليب ما يمثله عندنا خالد محمد خالد. كلاهما يحمل على العادات الذهنية والعاطفية القديمة التى أصبحت (تقاليد) ويحاول أن يوضح زيفها وأنها تعارض الحياة العصرية. وكلاهما يحاول أن يضع الحقائق مكان العقائد. ص _049(1/41)
أقول هذا عقب قراءتى لكتاب (وعاظ السلاطين) الذى ألفه الدكتور على الوردى. فإنه أشبعنى فهما وروى عطشى إلى الحقائق، وخلاصة الكتاب أن ما نعرفه أو نظن أننا نعرفه عن تاريخ العراق إن هو إلا وهم وزيف، وأن الخلفاء العباسيين لا يختلفون عن الخلفاء العثمانيين فى حياة الفسق التى عاشوها، والمظالم التى أوقعوها بالشعوب . هو يذكر لنا أن المتوكل العباسى كان يملك أربعة آلاف جارية، وكان الخليفة الفاطمى يملك عشرة آلاف جارية وخادمة.. وكان عند أخته (ست الملك) ثمانية آلاف جارية منها ألف وخمسمائة من الأبكار... وكان عند الرشيد ألفان من الجوارى.. وطرب ذات ليلة فنثر على الحضور ستة ملايين درهم.. وكل هذا كان الرشيد يأخذه من أموال الدولة. ولا يبالى بعد ذلك أن يذهب إلى الواعظين يستمع إليهم، ويبكى بين أيديهم. كلمات كأنها كى النار. ولابد أنها ستوقظ النائمين الذين خدرتهم كتب المؤرخين الزائفة والذين لم يسألوا أنفسهم قط: من أين جاء هذا الخليفة بهذه الأموال؟ نحن فى حاجة إلى عشرات من المؤلفين أمثال خالد محمد خالد، وعلى الوردى! واستتلى سلامة موسى فكتب بالعدد نفسه تحت عنوان (قبل مائة سنة) يندد بعهد الخلافة، ويوغر عليه- وحده- حفائظ المصريين، حتى لا يذكروه إلا ساخطين. قال: فى مثل هذا الشهر- قبل مائة سنة- كان شبان من مصر فلاحون ومدنيون، من طنطا ودمنهور والمنيا وسائر المدن والقرى يلقى القبض عليهم ثم يحمل كل منهم بندقية ويساق إلى الباخرة أو السفينة الحربية فى الإسكندرية، فتقلع بهم إلى حيث لا يعرفون. ثم ترسو الباخرة أو السفينة فى ساحل القرم عند (سباستبول) التى أخبرنا (تولستوى) أنه حارب فيها. ويطلب من شبابنا الفلاحين والمدنيين أن يقاتلوا الروس حتى يمنعوهم من الدخول فى البحر المتوسط، ومن الاستيلاء على الدردنيل. ويقاتل هؤلاء الشبان المصريون وهم يجهلون دلالة هذا القتال. ص _050(1/42)
وكل ما يعرفونه أنهم يدافعون عن السلطان فى (استنبول). وقال: (وما زلت أذكر ما كتبه الدكتور (شبلى شميل) حوالى عام 1955، وكان من الذين يبصرون بعقولهم. فقد روى أن قائدا تركيا طلب من هؤلاء الشبان المصريين أن يقتحموا موقعا روسيا منيعا، فاعترض عليه ضابط آخر وقال إنهم لو اقتحموه لقتلوا جميعهم . فكان جواب القائد التركى: هل نحن أخذناهم بعدد؟ واعتقادى أنه لم يعد مصرى واحد من الذين اشتركوا فى حرب القرم إلى بلاده العزيزة مصر. والأغلب أن الذين لم يقتلوا تركوا فى تركيا يبحثون عن قوتهم. وحوالى عام 1880 علق اللورد سولزبرى على حرب القرم فقال: إننا أخطأنا وقامرنا على الجواد الخاسر، إذ كان يجب أن نتفق مع الروس ونعطيهم الدردنيل ونأخذ نحن مصر... قال هذا قبل الثورة العرابية بسنتين. ذلك تلويح أنكى من التصريح فى الحملة على الإسلام، وتشويه تاريخه، وتمزيق أمته الكبيرة، وتصيد الشبه لتحقير حكمه، والحيلولة دون عودة أتباعه إلى سياسة موحدة تمليها مصلحة بنيه، والذود عن كيانهم. وقبل أن نعرض الوقائع التى ساقها سلامة موسى نحب أن نبين: لحساب من تدار هذه المكايد؟. أهى لحساب نهضة مدنية بحتة، لا صلة لها بالأديان جملة وتفصيلا؟ أم هى لحساب جهة معينة؟ والجواب ننقله من كلام (سلامة موسى) نفسه فى كتابه (التثقيف الذاتى) ص 85، قال: (ميزة بيروت أنها كانت من أكثر من ثمانين سنة مقر جامعتين عظيمتين هما الجامعة الفرنسية والجامعة الأمريكية. هذا غير عشرات المدارس التبشيرية فى المدن والقرى الصغيرة، لأن اللبنانيين لم يعارضوا التبشير، فانتفعوا بهذه المدارس). وقال كذلك: (وما فعلته حكومة الهند من منع المبشرين قد فعلناه نحن شعبا ص _051(1/43)
وحكومة. ولو أننا تسامحنا- كما فعل اللبنانيون- لكان فى أنحاء بلادنا نحو ألف مدرسة راقية ينفق عليها الأبرار من الأمريكيين وغيرهم. وغير الأبرار الأمريكيين هم الأتقياء من الإنجليز، والصالحون من الفرنسيين، وأهل الورع والإيثار من سائر الدول المستعمرة الأخرى!. هل عرفت إذن سر الحملة على الإسلام ووحدته وحكومته!. هل عرفت لحساب من تستخدم كلمات التجديد والتطور والعلم والحضارة وغيرها؟ لحساب الصليبية الغربية ذات التاريخ الناصع والأهداف المبرأة..!! وذلك، كيما يقضى على الإسلام ذى التاريخ الكالح والأهداف السيئة!. ينعى هذا الكتاب على مصر أنها لم ترحب ببعثات التبشير فى ربوعها وهو قد سره - بداهة- ما تفعله بعثات التبشير فى جنوب السودان. ولعله- بسيرته العطرة فى مصر- يحقق فى شمال الوادى ما عجز المبشرون عن القيام به . ولعل منزلته المرموقة فى جماعة الشبان المسيحيين ومقالاته الحارة التى نشرتها له قديما جريدة (مصر) لعل ذلك كله هو التجديد والتطور، والدعاية المحببة للحضارة الحديثة والنزعات التقدمية الحرة.. أما وقد أفصحنا عن خبيئة هذه الحملة ضد الإسلام فلنلق نظرة عجلى على ما ذكره هذا الكاتب. إنه يريد إيهامنا أن التاريخ الإسلامى قرابة ألف عام كان ليلا طويلا وأن الدولة العباسية لا تقل فسقا عن الدولة العثمانية.. ونحن ندل القراء جميعا على كتب التاريخ ليقارنوا بين أحوال المسلمين وأساليب الحكم فيهم، وبين أحوال الصليبية الغربية، وما أوقعته بالخلائق من مناكر ومآثم ضجت لها الأرض والسماء. وسيرى أى قارئ ذى لب أن دويلات المماليك كانت أنزه يدا وأعص نفسا وأرقى فكرا، من الدول الضخمة التى بناها البابوات والأباطرة، فكان علاجها للأمور سبة فى فن الحكم إلى قيام الساعة... ص _052(1/44)
ونحن نستمسك بهذه المقارنة لأن قاهرى المسلمين فى العصر الحديث، والكتاب الذين يمكرون بالإسلام وأمته لا يزالون يفخرون بنسبهم القديم، ويجعلون من الاستعمار الجديد امتدادا للصليبية الأولى.. فما معنى أن يجرحوا تاريخ الإسلام ويصطادوا له المعايب فى الوقت الذى يسكتون فيه عن تاريخ أسلافهم، وهو سلسلة من الوحل والبعر مهما لفت فى أوراق مفضضة، فرائحتها القذرة تدل عليها!. لنفرض جدلا أن قصر أحد الخلفاء حفل بمائة أمة مع أن أغلب هذه الأخبار ملفق لا أصل له... فلماذا يذكر هذا فى الوقت الذى ينسى فيه أن البابا الأقدس فى تلك الأعصار السحيقة كان يضاجع ابنته، وغيرها من الفتيات الأبكار، والزوجات المحصنات؟. وأى الرجلين يلوث به تاريخ أمة؟ ويصرف به الناس عن اتباع دين؟ لكن الكاتب الناقم على الإسلام يريد طرح ألف سنة من تاريخه بعد أن يرسل حكما عاما على خلفاء بنى العباس بأنهم فساق كخلفاء بنى عثمان!. هل هذا منهج الأستاذ سلامة موسى مع الإنجليز؟. اسمع إليه يقول فى ص 240 من كتابه (تربية سلامة موسى): (أخشى... أن يعتقد القارئ أنى أكره الإنجليز أو أن يؤدى ما ذكرته إلى أن يكره هو الشعب الإنجليزى، فإن هذا الشعب من أنبل شعوب العالم، وما أستمتع به أنا من ثقافة ، أو قيم سامية يعزى معظمه إليه.. إنما أكره الاستعماريين الإنجليز هؤلاء الذين ينهبون الشعب البريطانى ويذلونه بالفقر والجهل كما كانوا ينهبوننا ويذلوننا!). هذا الكلام العدل الرحيم هو التصوير الواجب لما ينبغى أن تكون عليه مشاعرنا نحو الإنجليز. أما الحكام المسلمون قاطبة فهم شر مستطير، ورجعية مقيتة. وبهذا المنطق يذكر الكاتب التقدمى أن دولة الخلافة جندت الألوف منا لمحاربة الروس يوم كانت مصر تابعة لها. وتجنيد المسلمين لنصرة إخوانهم مأساة تستحق التسجيل والسخرية بعد مائة سنة من وقوعها..! ص _053(1/45)
أما ما جندته إنجلترا من أقطار الدنيا لتأييد مطامعها الاستعمارية فأمر لا يسوغ ذكره، ولو هلك فيه من مصر وحدها فى الحرب العظمى الأولى نحو مليون نفس، عدا الذين هلكوا من الهنود والزنوج وغيرهم. إن هناك لفيفا من الأدباء تتفاوت جرأتهم فى خصومة الإسلام، ومحاولة القضاء على عقائده وشرائعه، وإخراج الأمة من نطاق كتابه وسنته... وهم يحتالون على بلوغ مآربهم بوسائل لا حصر لها، على أن أى قارئ خالى الذهن لن يفوته ما يقصد إليه أولئك الكتاب الذين زحموا الصحف اليومية والأسبوعية والشهرية وخلت لهم أنهارها قصدا. إنهم يريدون أن تنسى مصر (إسلامها) وأن تخلع لباسه القديم عن نهضتها الفتية، وأن تتبع الغرب اتباعا، يجعل دوله الكبرى ترضى عنا وتعجب بنا... وقد علمت أن هذه الدول لن ترضى عنا ولن تعجب بنا إلا كما قال الحق فى كتابه : (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم). والعناوين البراقة لحمل الأمة على إطراح الإسلام فى سهولة واستكانة هى فصل الدين عن الدولة، فصل الدين عن القانون، فصل الدين عن المجتمع، فصل الدين عن الأخلاق ، والدين هنا هو الإسلام. ومعنى فصل الإسلام عن هذه النواحى الهائلة من حياة الناس الحكم عليه بالإعدام. وتزيينا لهذه الخدعة نشر (الأهرام) تحية لتركيا يقول فيها: (تركيا نفضت كفنها، وما الحياة إلا نفض كفن). كانت يقظتها القومية قد فازت عام 1958 بإصلاح سياسى أفضى إلى انتخاب برلمان عصرى، أى فصل السلطة التشريعية عن السلطة التنفيذية، مع نشر الحريات المدنية فجاء هذا الإصلاح ممهدا لثورة مقبلة إذ هيأ لها النفوس المتوثبة، فكان مصطفى كمال رائدها. ثورة سلمية قامت فى الأوضاع السياسية على فصل الدين عن الدولة، وفى الأوضاع المدنية على استنان قانون جديد استلهمته تركيا- بعد استعراضها شتى القوانين الغربية- من قانون سويسرى هو القانون النافذ حكمه فى ص _054(1/46)
مقاطعة (فوشاتيل) فاستحدث القانون التركى من الإصلاح فى نظام الأسرة، ولا سيما فى حياة المرأة وعلاقتها المدنية بالرجل، ما وافق ميل تركيا الجديدة إلى التطبع بالحضارة الغربية. وكان فى طليعة آثاره العميقة استبدال الحروف اللاتينية بالحروف العربية، وصار هذا الاستبدال أداة لنشر الثقافة الجديدة، ومن ثم لم تكن قصارى الثورة الكمالية أنها ثورة سياسية اجتماعية، بل كانت كذلك ثورة خلقية من حيث إنها تناولت التقاليد القومية، وانتهت إلى ثورة فكرية ثم إلى فلسفية. ولكنها بقيت ثورة قومية ، إذ إن تركيا لم تحاول نشر الدعاية لها فى الشعوب التى تجاورها). هذه هى التحية الحبيبة التى تقدمها الأهرام لتركيا المرتدة. وتركيا لا تنشر دعاية لمذهبها الجديد، ولم تتكلف ذلك؟ وآلاف المبشرين يقومون عنها بهذه المهمة! إن القضاء على الإسلام من الأهداف الأولى لأغلب الدول الكبرى، إن لم يكن لها كلها. وإن تسيير دول الشرق الأوسط فى المجال نفسه الذى تسير فيه تركيا هو كذلك بعض منهاج الصليبية الحديثة أو الصهيونية الحديثة وذلك هو السر فى مقالات الكتاب الناقمين على يقظة الإسلام فى هذا العصر الأخير. ( 2 ) من الفكاهات السمجة أن يقال للمسلم: دع دينك فإن العلم تقدم! فإذا انخدع بهذه القولة الماجنة وسار خطوات مع أصحابها تبين له سر ضغنهم على الإسلام، فإذا هم يهود متعصبون يريدون إيهام الأغرار بأن العودة إلى الوراء أربعة عشر قرنا رجعية دونها العودة إلى الثلاثين أو السبعين قرنا حتى تصل إلى عهد موسى وصحائف التوراة.!! وقريب من ذلك أن تجد رجلا ثقافته فرنسية بحتة ينظر شزرا إلى التعليم الدينى فى الأزهر، ويعده من بقايا الأوهام الأولى. فإذا تخير مدرسة لتعليم أولاده، عمد بهم إلى معهد يديره كاهن ماكر، أو راهبة لبقة، ثم تركهم حينا من الدهر ليأخذهم آخر الأمر ولهم دين غير الدين، ولسان غير اللسان، ونفوس لا صلة لها بعروبة أو إسلام. ص _055(1/47)
هذه الردة- فى نظر المغفل المفتون بفرنسا- أدل على التقدم وأدنى إلى التحضر من ضروب التعليم الأخرى. ولذلك فهو بها راض وإليها مستريح!!. الحق أن الغزو الأوروبى الحديث أفلح أيما فلاح فى التمكين لنفسه بيننا منذ حول هزيمتنا العسكرية إلى كفران مطلق بما لدينا، وإيمان مطلق بما لديه. دون تمييز بين ما يحمل من طيب وخبيث وبين ما ورثنا من حق وباطل.. وهذه هى المشكلة.. وعلى العقلاء أن يفرقوا بين عدة نزعات متباينة.. هناك الصليبية التى تجر وراءها عقائد أمة وثارات تاريخ طويل.. وتلتزم نهجا ثابتا فى معاملة الأديان والشعوب الأخرى.. وهناك الحضارة العلمانية الجديدة، وهى نهضة انبجست ينابيعها من العقل المجرد والفكر الحر، ولا تزال تكتشف وتنتج فى كل ميدان، غير مستعينة فى مغامراتها بدين ، ولا مستهدية بنص.. ثم هناك هذا الإسلام الذى نقرأ كتابه ونتدارس تعاليمه ونحاول جاهدين دفع العدوان عنه لتبقى رسالته على الحياة متألقة بالحق والخير! وقد تسأل: ممن هذا العدوان المرهوب؟ وما مثاره؟ أهو من رجال العلم المتجردين له، أو من سدنة الحضارة الحراص على اطراد مسيرها وإيتاء ثمارها؟. ونجيب مسرعين: كلا... فما بين الإسلام والعلم من خصومة، وإذا كانت الحضارة الحديثة محنقة من حيف وقع على روادها القدامى، فإن رجال الكنيسة وحدهم، هم الذين يحملون أوزاره ويتلقون عاره. ولعل تأذى العلماء والمفكرين من موقف الكنيسة القديم ضدهم هو الذى جعلهم يعافون الأديان كلها، ويوجلون من كل سلطان يحصل عليه رجالها.. إذ هو- فى نظرهم- سلطان يدعم الجمود ويهدد الحياة أن تعود القهقرى..!! من أين يجىء العدوان إذن؟ يجىء من الاستعمار الغربى الذى جمع فى قرن بين الحضارة العلمية والضغائن الصليبية، أى جمع بين الأضداد ثم انطلق فى أقطار الأرض ليذل العباد ويخرب البلاد..!! ص _056(1/48)
ولكن كيف حدث ذلك؟ الواقع أن الحياة العقلية الاجتماعية فى أوربا وأمريكا أبعد ما تكون عن وصايا عيسى بن مريم، بل هى فى أصولها وفروعها مبتوتة الصلة بروح الإنجيل ونصوصه . والتطور الإنسانى هناك قائم على غرائز الإنسان ومواهبه جميعا، خيرها وشرها. وعندما صحا الإنسان الحديث من غفوته ونظر إلى مفاتيح الكون التى وضعها العلم فى يده جاشت فى دمه نوازع الغلب ودوافع الأثرة ورأى نفسه عملاقا بين أقزام فلم لا يسود ويقود؟ ولم لا يحرك ويوجه؟ ونظر هذا الإنسان إلى الصليبية المهزومة فى مواطنها أمام طلائع المعرفة المظفرة والكشوف الباهرة، ثم منحها حق الحياة وأمرها أن تتبعه. فتبعتة صاغرة، ورنت إليه شاكرة.. وقررت أن تسير فى ركابه وأن تسارع فى هواه.. فصحبها على دخل، وسخرها حيث شاء، بحيث لا تنال من القوة إلا قدر ما تدور به فى النطاق الذى يرسمه فحسب.. ثم انطلق هذا الإنسان الحديث إلى ربوع الشرق، ومن ورائه تلك الذيول والطبول.. فوقع ما لم يكن منه بد، تحرك المسلمون من رقودهم وثارت مشاعرهم وأفكارهم كلها، فى لقاء هذا الفاتح القوى. وتفرسوا فيمن يظاهره سخائم القرون الوسطى، فأحسوا الخطر على كيانهم.. وتيقظت فيهم غرائز النجاة وشرعوا يدفعون عن أنفسهم وبلادهم وعقائدهم.. وفى الصراع القائم بين دين الله من ناحية وبين هذا الزحف المزدوج من ناحية أخرى أريد أن أنبه، وأن أحذر، رجاء أن لا يضيع الحق وسط ضجيج الخصومة الناشبة بين الغالب والمغلوب.. إن العالم محق فى احترامه للعلم وإكباره للعقل واحتفائه بالثمرات اليانعة التى انتهى بها التطور الحديث. وهو محق فى دفاعه عن أساليب الحياة التى أتاحت للعلم اطراد التقدم، ونحن- باسم الإسلام- نرفض كل تغيير يحجر على حركة العقل أو يحد من نشاط العلم. ونؤيد المتوجسين فيما يتخذونه من حيطة، ضد كل محاولة من هذا القبيل.. ص _057(1/49)
إن تحقير العقل- فى نظر الإسلام- يعنى ألا ينشأ فى القلوب إيمان صحيح، ذلك أن صدق الإيمان يقوم على حسن التأمل فى الكون وحسن الإدراك لمظاهره وأسراره... وانظرإلى كلمة " كيف " فى قوله عز وجل للعرب : (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت * وإلى السماء كيف رفعت * وإلى الجبال كيف نصبت * وإلى الأرض كيف سطحت). إن " كيف " هذه من مفاتيح الحقيقة فى علوم الكون والحياة. وهى كذلك من مفاتيح اليقين فى معرفة الله وإجلاله وخوفه ورجائه. فليهدأ بالا أولئك المولعون بتقليد الغرب، الصياحون بين الحين والحين باحترام التطور. فأولو العلم بالإسلام أرسخ منهم قدما فى هذا الميدان، وأحرص منهم على تقديس الحرية الحقة وما تثمره من تجديد وإبداع. ولكن العلم وحده لم يحقق الخير للبشر، بل قد رأينا طبائع السوء تستغله فيما يرد الناس وحوشا لا تربط بينهم عاطفة رحمة، يقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون فى الأرض.. وقد جأرت الأمم بالشكاة الضارعة من هذه الحال.. وإنها اليوم لتبيت جزعة مما يخبئه الغد من أهوال أشد، أهوال تتفتق عنها أذهان العلماء ويتلقفها مردة السياسة وجبابرة الحروب ليخدموا بها ماذا ؟ شهوات الأثرة والاستعلاء لدى أفراد وشعوب!! فحرى بالعالم المعجب بالعقل وإنتاجه أن يصون ذلك بتعاليم تصونه من الزلل وتعصمه من الخطل. ومن ثم كان لابد من دين... دين يتدارك هذا الاضطراب الخطير.. ولسنا نبحث عن الدين لما ننشده من هذه المنافع فحسب.. بل استكمالا للبحث عن الحقيقة الإنسانية والكونية. فمما يحط بقدر الإنسان أن يدرك الدقيق فى ناحية ويعمى عن البديهيات فى ناحية أخرى. ص _058(1/50)
ولسنا نكلف العلماء شططا إذا طالبناهم أن يتعرفوا إلى الله وأن يتخيروا أرشد الأديان بالمقاييس نفسها التى يستكشفون بها مجاهيل الكون، وبالمنطق نفسه الذى يقرون به القوانين ويثبتون به النظريات. إن من أغيظ الأمور عندى أن يفكر الرجل بعقل عبقرى فى موضوع، وبعقل عيل فى موضوع آخر . إما فحولة فى الحالين وإما طفولة فيهما!! وأغلب الضلال يجىء من هذا التفاوت المثير.. ترى عالما فى الذرة يشتغل صهيونيا جلفا، كما رأيت قديما المكرة المهرة- من أعداء محمد الأولين- يجادلونه فى الله، وينثنون إلى أصنام تبول عليها الثعالب فيعبدونها من دونه. إننا راضون أن يحتكم العالم- المتطلع إلى دين يسد الفراغ الهائل فى ربوعه- قواعد المنطق القديم والحديث وإلى وسائل المعرفة كلها. ثم ليكن بعد ذلك ما يشاء، صهيونيا، أو صليبيا، أو مسلما. نعم ليكن ما يشاء بعد أن ينزل على حكم العقل الذى احترمه فى شئونه الأخرى.. إما أن يكون رجعيا بليدا فى بعض شأنه وتقدميا متطرفا فى بعض آخر ثم يحاول- بحكم ما أوتى من قوى مفاجئة- أن يلزمنا بالأمرين معا، فذلك ما نأباه ونقاومه..!! على أنك قد علمت أن الاستعمار الغربى قد صاحب الصليبية القديمة على دخل. فهو يمكن بها لنفسه ولا يمكن لها من نفسه. وحركة الإحياء التى اهتزت بها أوربا وأخصبت وبلغت فى عصرنا هذا شأوا بعيدا، لن تنسى صراعها القديم المرير مع الكنيسة! ولذلك يغلب التشاؤم فى عودة أوربا إلى دين! إن تجاربها المحفورة في تاريخها أشبه بالذكريات المؤذية.. بغضت لديها الأديان جملة !. ص _059(1/51)
وكما تلتوى العقد النفسية بسلوك الأفراد تلتوى بسلوك الجماعات والدول، فتضل بها عن سواء السبيل. ومن تتم يجب أن نوقن بأن الاستعمار لا دين له، وأنه يسلط الصليبية علينا كما يسلط الصائد القوانص والجوارح لتمسك عليه فرائس البر والجو.. على أن طول الصحبة ووحدة المأرب قد يؤلفان بين الشركاء المتشاكسين ولو كان أحدهما سيدا والأخر خادما.. ظهر ذلك جليا يوم أفاق المسلمون من غشيتهم وأخذوا يلمون شعثهم ويصلحون أمرهم.. إن الاستعمار الذى يسانده علم لا ضمير له مع حقد الموتورين وجشع الطامعين، ساق إليهم قوى الأرض كلها ليضربهم ضربة قاصمة.. وفى الحلقة الأولى من سلسلة (اخترنا لك) تصوير صادق لما عانى المسلمون والعرب من ضغط نقتطف فى شرحه لك العبارات الآتية: لقد أدركت بريطانيا قبل أن يدرك أحد أن العرب على أبواب نهضة توشك أن تجمعهم صفا... وتوحدهم غاية، وتردهم إلى مكان الصدارة بين أمم العالم.. ثم قدرت ما وراء ذلك من شر يصيبها، إذ سوف تضيع مستعمراتها فى آسيا وأفريقية وتنهار (الإمبراطورية) التى عاشت قرونا على الأشلاء والدماء. قدرت بريطانيا هذا كله.. فدبرت أمرها لتعوق هذه النهضة، ولتصدع وحدة العرب.. ولتشغلهم بفتنة من صنع يديها، فرمتهم بهذا السرطان اليهودى.. وغرسته فى موضع الإحساس المرهف من جسم أمتهم. ذلك هو السر المختبئ وراء تلك المساعدات المتصلة التى قدمتها بريطانيا ظاهرة ومستورة إلى اليهود فى كفاحهم لإنشاء دولة تؤويهم فى فلسطين. فحققت بذلك لنفسها ما أرادت، حين زعمت أنها بإنشاء هذه الدولة قد شطرت البلاد العربية شطرين: شطرا فى المشرق، وشطرا فى المغرب، تفصل بينهما دولة إسرائيل! على أن الإنجليز لم يستطيعوا أن يستروا غرضهم ذاك من أول يوم، فهذا قائدهم (اللنبى) يقول يوم دخل القدس غازيا فى أخريات الحرب العالمية الأولى: (اليوم انتهت الحروب الصليبية)! ص _060(1/52)
فكانت كلمته هذه نميمة تكشف عن الحقد المضطرم فى قلب القائد الصليبى الأخير ضد العرب والمسلمين، فهو لم ير يومئذ فى فتح القدس انتصارا على الألمان، ولا على العثمانيين أعداء بلاده، بل انتصارا على أهل فلسطين أنفسهم- ولم يكونوا معه يومئذ فى حرب- لأن آباءهم، هم الذين غلبوا آباءه فى المعارك الباغية التى دارت باسم الصليب فى تلك الأرض المقدسة منذ قرون! ولكننا حين نذكر كلمة (اللنبى) فى ذلك المقام، نستشعر مع الألم كثيرا من الرجاء، لأننا نذكر فى هذه المناسبة التى خطرت يومئذ ببال القائد الصليبى، أن هذه ليست أول معركة سقطت فيها فلسطين تحت أقدام الغزاة، فإنها لم تزل منذ القرن العاشر هدف المعتدين الأوروبيين باسم الصليب. ولكنهم لا يكادون يضعون فيها أقدامهم ويزعمون لأنفسهم أن الأمر قد استتب لهم، حتى يثور بهم العرب أصحاب البلاد فيقذفوا بهم إلى البادية أو البحر، فلا يبقى منهم إلا رءوس طافية على الماء أو أشلاء مطمورة فى رمال الصحراء.. وتعود فلسطين كما كانت بلدا عربيا يصل بين شرق الأمة العربية وغربها الممتد إلى ساحل الأطلسى . تلك نذر التاريخ التى لم تتكرر مرة بعد مرة منذ حاول أول صليبى أوروبى أن يضع قدمه على هذه الأرض المقدسة، إلى عهد (اللنبى). على أن كبر هذه الجريمة لا يقع على بريطانيا وحدها، فلم تزل أمريكا- منذ همست بريطانيا فى أذنها بذلك السر- تبذل الجهد- مسرفة- فى معونة إسرائيل.. بالمال او العتاد والضغط السياسى ووسائل أخرى، ولم تزل الأموال الأمريكية والأسلحة الأمريكية تتدفق على موانىء إسرائيل لتتمكن وتقوى وتستكمل أسباب الغلبة.. أذلك لأن أمريكا أمة صليبية بالمعنى المنحرف الذى تفهمه أوروبا من كلمة (الصليب)، وهو ضرورة البطش بالعرب مسلمين ومسيحيين، لتكون الغلبة كاملة لأوروبا وحلفائها على أهل المشرق؟ أم تفعل أمريكا ذلك لأنها أمة طارئة على وطن غريب ليس لها فيه جذر، فهى بهذه (العقدة النفسية) فى الشعب(1/53)
الأمريكى تريد أن تجعل توطين الأجانب فى غير وطنهم قاعدة؟ ص _061
ونحن لا نجيب: أى الاحتمالين أدنى إلى الصواب؟ وندع الجواب على ذلك للأمريكيين (الأبرار) الذين يعطفون علينا من وراء البحار فيرصدون القناطير المقنطرة لدعم حملات التبشير فى بلادنا حتى لا تبقى.. أو تبقى- إن ظفرت بالحياة- بلا إسلام. .. 3 .. إن الهزائم التى منى الإسلام بها فى ميدان الثقافة والتعليم أنكى من الهزائم التى منى بها فى ميدان السياسة والحرب. بل قد تكون هذه راجعة إلى تلك. فأنت خبير بأن لكل مذهب فى الحياة- محدودا كان أو رحبا- ثقافة خاصة تقوم على بث تعاليمه وأخذ الأتباع به وتنسيق الدعاية له. فما ظنك بالإسلام وهو دين دعامته الأولى كتاب يخاطب أولى الألباب، وعدته الكبرى فتح مغاليق النفس وإحياء موات الفكر وتعريف الناس بالله عن طريق البحث والدرس والملاحظة والتجربة والاستقراء ؟ إن حاجته للمعرفة المطلقة كحاجة الطير إلى الهواء كيما يسعى ويحلق. فإذا فقد هذا الهواء فإن جناحيه لا تشلان فحسب، إنه سوف يختنق ويموت!. والناظر إلى شئون المسلمين اليوم- ما ظهر منها وما بطن- يوقن بأن الخصائص التى لا يحيا دينهم إلا بها قد ماتت فيهم أو لحقها هزال الموت.. وأكاد أقول: إن الإسلام غير معروف، وإنه لو عرف فليست هذه هى البيئات التى يمسك بتربتها، بله أن يزدهر ويثمر.. هناك أناس يسمون (علماء) بالإسلام لا تعون من آيات القرآن- وهى ألوف- إلا قليلا يعد على الأصابع. ولا يفقهون فى سنة الرسول وأحاديثه- وهى عشرات الألوف- إلا النزر اليسير ومع ذلك فهم علماء!! ص _062(1/54)
فإذا ضممت إلى ذلك أن العمل بالإسلام روح العلم به، وأن العلم والعمل كليهما لا يحسنه إلا امرؤ مكتمل المشاعر ناضج المواهب وثيق العلائق بالحياة نافذ البصر إلى الأحياء، ازددت اقتناعا بندرة الرجال الذين تصدق عليهم هذه الصفة الكبيرة. إنه لو صحت تسمية النجارين والحدادين علماء فى الفلك والكيمياء، صحت تسمية أولئك النفر علماء بالدين . ومع ذلك فهم علماء! تلك حال الخاصة، أما أحوال العامة فهى أدهى وأمر.. إن الجهالة التى كبت فيها بلاد الإسلام من أمد طال، أعادت الجاهلية القديمة وتركت كسفها يتساقط هنا وهناك، فلا يبقى ضياء ولا عرفانا. ومن المحزن أن تقرأ ترتيب الأجناس التى تسكن هذه الأرض فإذا جمهور المسلمين يحتل المنزلة الثالثة عشرة، ولا ندرى أيعقبهم الزنوج فى المنزلة التى تليها؟ أم يشركونهم فى تلك المنزلة فلا يجىء بعدهم إلا الزواحف والحشرات..؟ وينبغى أن نعترف بالمحاولات الجبارة التى بذلها طائفة من الحكام لرفع مستوانا المادى والأدبى. وينبغى أن نعترف كذلك بأن ينابيع المعرفة التى تفجرت فى (أوروبا) فاضت علينا كما تهبط المياه من الشلالات السامقة على الوهاد السحيقة فيسمع لها هدير بعيد. وقد قلنا: إن العلم الحديث تحسس طريقه فى الحياة وحده وأنه لم يجد معونة البتة من الكهانات الأولى، بل لم يخلص مسيره من العوائق المثبطة إلا بعد ما هشم هذه الكهانات وأفقدها حراكها وشقى دهرا طويلا فى مصارعتها والتغلب عليها.. وهنا نجد فرقا ضخما بين أحوال الشرق الإسلامى والغرب المسيحى، يسجله تاريخ العصور الوسطى. إن ارتقاء الحضارة واستبحار العمران اقترنا بازدهار الإسلام فى بلاده. ولم تنحدر أحوال المسلمين المادية والأدبية إلا فى العصور التى انحطت فيها الثقافة الإسلامية واستعجم فيها هذا الدين. ص _063(1/55)
وعلى العكس فى( أوروبا) فإنها لم تبدأ نهضتها الكبرى، وتذرع طريق القوة والنجاح إلا بعد ما حسمت صلاتها بالكنيسة وفصلت الدين عن الدولة وعن العلم وعن الاقتصاد وعن التقاليد وعن بقية شئون الحياة. ونهضة العلم بعيدا عن الدين فى (أوروبا) ثم مجيئه إلى الشرق على حين ضعف من الإسلام وجهالة في أتباعه جعل العلم يتجهم للإسلام والمسيحية على سواء، ويرسل عليهما أحكاما واحدة... وهذا حيف ظاهر وقضاء جائر. ومع ما فيه من خرق، فإن أغلب المتعلمين فى بلادنا قد غروا به، وتقبلوه وكأنه بديهية لا ريب فيها!! ومن ثم تحمل الإسلام أوزار غيره، فأضيفت إليه نعوت وفرضت عليه مواقف هى أبعد ما تكون عن طبيعته وعن تاريخه. وبذل المستشرقون والكتاب التافهون جهودا كبيرة لتلويث سمعة الإسلام وسوقه فى صعيد واحد مع غيره من الأديان التى طالما تأذى العالم من جانبها ولم ينقة إلا يوم نأى عنها... وانظر إلى كاتب معتدل كالأستاذ (محمد زكى عبد القادر) يتحدث عن وضع الأديان فى الحضارة الحديثة فيقول: (تأملت في هذه المنافسة الحادة القوية بين المسجد والسينما، وهى منافسة أوسع من هذا نطاقا، فإنها فى الواقع بين المسجد والكنيسة من ناحية وبين السينما ودور اللهو جميعا. أو هى- بتعبير آخر- منافسة بين الأديان وما تدعو إليه من عبادة وتقشف واتجاه إلى الله، وبين الدنيا وما تدعو إليه من انصراف إلى المتاع واللهو. ولاحظت أن الأديان تتحمل موجة طاغية من العدوان، يظهر أنها تضعفها شيئا فشيئا، بينما تزداد أسباب الفتنة قوة وذيوعا. وتساءلت: هل لو صدر قانون أو قرار يحرم فتح دور السينما فى صباح الجمعة يزداد رواد المساجد، ولو صدر قانون أو قرار آخر يحرم فتح دور السينما فى صباح الأحد يزداد رواد الكنائس؟ وكدت أجيب بأن المساجد والكنائس لن تفيد شيئا من إغلاق دور السينما ولن يزيد المترددون عليهما. ص _064(1/56)
والأصح أن الذى يفيد هو المقاهى والمشارب والشوارع، فإن الناس فى أغلب الظن سيفضلون الجلوس فى المقاهى والمشارب يرقبون النساء والفتيات المارات ويتبادلون التعليقات المختلفة، أو يفضلون التسكع فى الشوارع على الذهاب إلى المسجد، حيث يقف رجل مؤمن يؤكد لهم أنهم خرجوا على أحكام الدين وأن عذاب جهنم ينتظرهم، أو إلى الكنيسة حيث يجدون رجلا مؤمنا آخر يؤكد لهم الشىء نفسه ويدعوهم إلى ملكوت السماء . إن أزمة الأديان ليست أزمة القوانين أو أزمة السينما والمسرح ودور اللهو، ولكنها فى الواقع أزمة الإيمان. فإن الإيمان يهتز فى القلوب اهتزازا خطيرا والشك يزحف على المعتقدات بصورة مزعجة. وما أحسب أن الكوارث التى يتوقعها الناس فى الحرب القادمة، والمصائب التى تحملوها فى الحربين العالميتين الماضيتين إلا مسئولة عن اهتزاز العقائد هذا الاهتزاز الخطير. وقد زاد عدد الجاحدين للأديان زيادة كبيرة على أثر هاتين الحربين، وضاعف من هذا الجحود اضطراب الحياة الاقتصادية والاجتماعية وذيوع الشك فى قدرة الأديان على علاج المشاكل، بل تحميلها الكثير من التبعات فيما بلغته الحياة من اضطراب وقلق. غير أن هذه الحقائق لا ينبغى أن تزعجنا على مصير الأديان، فإن هناك موجات واسعة النطاق بدأت تظهر فى أوروبا وأمريكا والشرق تنادى بالعودة إلى الإيمان، وتغليب الروح على العقل، والالتجاء إلى السماء بدل الاعتماد المطلق على العلم، وقد يتحول هذا الجحود المتزايد بالأديان إلى اندفاع شديد نحوها. يومئذ قد تلغى دور السينما حفلات الصباح فى يومى الجمعة والأحد من نفسها دون قانون أو قرار. من يدرى ربما يحصل هذا، وربما يحصل العكس فتدمر القنابل الذرية المساجد والكنائس ودور السينما واللهو، وتقضى على الإيمان والإلحاد، وعلى الشك واليقين، ويعود العالم مرة أخرى إلى حياة الغابات البدائية، وتتكرر القصة من جديد، ويبعث الله الرسل، عسى أن يكون البشر فى الدورة الجديدة(1/57)
للحضارة أكثر عقلا وأكثر إيمانا..). فى هذا الكلام نسمع أن الإسلام- كأديان أخرى- مسئول عن الحروب العالمية التى شنتها وصنعت أسلحتها وجرت الناس إليها دول (أوروبا). وفى هذا الكلام نسمع أن الإسلام فشل فى علاج علل لم يستشر يوما فى حلها ولا سئل عن أصلها وفرعها، لأنها بدت ثم فشت فى مجتمعات أوروبا! ص _065
وفى هذا الكلام نسمع أمانى حلوة عن عودة الإيمان إلى الحياة وآية هذه العودة المرموقة تغليب الروح على العقل والالتجاء إلى السماء بدل الاعتماد المطلق على العلم !. وهذه كلها أفكار مسيحية محضة، لا يربطها بالإسلام خيط واه ولا قوى!. ذلك لأن الإسلام لا يغلب على العقل روحا ولا جسدا، ولا يقر تفاوتا بين منطق العلم ووحى السماء. فما أحكمه العقل ودعمه العلم فهو دين.. وما ند عن ذلك فهو مفترى على السماء وإن نسب إلى ألف نبى ورسول.. إن الإسلام تقدمى أكثر مما يظن هؤلاء الكتاب. لكن ثقافتهم التى تعتمد فى تكوينها على عناصر كثيرة من الغزو الاستعمارى جعلتهم يتقولون فى حق الإسلام ما قيل فى حق غيره.. ولما كانت المسيحية تفصل العقيدة عن العقل، ولا تخضعها لمنطقه الأخاذ، فإن كتابنا - عفا الله عنهم- نظروا إلى أزمة التدين فى بلادنا ثم قالوا مواسين المؤمنين المحزونين: ( لا تجزعوا سوف يسأم الناس يوما التعلق بالعلم والعقل ويرجعون إلى الدين). إن الطابع الصليبى الذى جعل القاهرة تغلق حوانيتها يوم الأحد على أنه يوم الراحة الأسبوعية، هو الذى يهيمن على أفكار كتابنا هؤلاء وينطقهم بهذا اللغو... لكن كيف نجح الغزو الثقافى الأجنبى فى صياغة الأجيال الجديدة على هذا النحو الشائه ، وكيف أمكنه إخفاء معالم الإسلام، وتجهيل بنيه فيه؟. ولا نحب أن نجيب على هذا السؤال من عند أنفسنا، لنترك الإجابة عليه للأستاذ (سلامة موسى) فإنه بعد أن استهجن مسلك جمهور المصريين فى محاربة مدارس التبشير، وصد أبنائهم عن تلقى ثقافتها المدخولة، قال: (إن الطبقة(1/58)
المستنيرة من الأمة هى التى تعلم أولادها فى مدارس المبشرين الفرنسيين.. وهم- مع الأسف- أفراد قلائل)! ثم تابع كلامه عن مشكلة الثقافة فى مصر- ص 86 كتاب (التثقيف الذاتى)- فقال: ص _066
(على أن ما فقدناه توشك الجامعتان المصريتان بالقاهرة والإسكندرية على أن تعوضانا عنه.. فهنا دراسات عصرية جديدة هى الآن خميرة صغيرة، ولكنها مثل الخمائر، ستربو وتتفشى فى أنحاء البلاد.. وتضع لنا ثقافة جديدة تجعلنا نعيش بأذهاننا ونفوسنا فى القرن العشرين). فالأمل الذى ينشده العاطفون على التبشير، والحاقدون على الإسلام هو إنشاء أجيال ! تتنكر لدينها، وتتهرب من ماضيها لأن فى النسب إليه معرة!. وقد علمت أن الإسلام لا يمكن أن يحيا إلا فى أشعة المعرفة، فمن المضحك أن يعد الرسوخ فى العلوم الحديثة مخاصمة له.. إلا أن الصليبية الجديدة سايرت التطور، ووضعت مناهج الدراسة فى الجامعات الكبرى بحيث يخرج الرجل المثقف وهو لا يدرى عن الإسلام إلا إشاعات طائرة، أو ظنونا حائرة.. وهذا التجهيل المتعمد هو نصف الطريق التى رسمتها أوروبا الصليبية للقضاء على الإسلام خصمها القديم.. إن الأستاذ (سلامة موسى) يكره (المتنبى) الشاعر كراهية قاسية.. فإذا سألته لماذا؟ أجابك: مادح مرتزق صغير النفس!. ومع أن(المتنبى) من أرفع شعراء الدنيا قدرا وأسماهم همة، إلا أن هذا ليس موضوع حديثنا. والواقع أن الرجل يكره (المتنبى) لأنه أطال فى وصف المعارك التى دارت بين العرب والروم، أى بين الإسلام والصليبية القديمة.. وهو بهذه العلة التى أكلت قلبه ضد الإسلام يكره (شوقى)، فإن شوقيا- رحمه الله- كان يرفع عقيرته بالنواح الأسيف كلما سقطت للإسلام مدينة فى الحروب التى دارت بين الترك، وبين جيرانهم من روس وصقالبة ويونان. وكانت عواطفه المفعمة بالأسى على الخلافة المديرة ومجد الإسلام الذاهب تظهر فى قصائده المجودة، فترفع مستواها الفنى إلى القمة. ومن البديهى أن ينفر من ذلك رجال!(1/59)
يريدون أن يهال التراب فى صمت على حاضر الإسلام وماضيه.. فحورب (شوقى) فى حياته وبعد مماته محاربة عنيفة.. ص _067
والمضحك أن هذه الحرب الوضيعة أخذت الطابع الأدبى البحت، فاتهم (شوقى) بالرجعية فى الفكر والصياغة والأداء . وعد الصراع بينه وبين خصومه صراعا بين القديم والجديد!. ويعلم الله أن إسلاميات (شوقى) هى سر التحامل عليه! إن الكهان الذين يحاربون الإسلام أبرع من الكهان الذين يتأكلون به. وليت قومى يعلمون.. قد يقول بعض الناس: هل تريد إقحام علوم الإسلام على المدارس والجامعات؟ وقبل أن أجيب بـ ( لا) أو (نعم) أريد أن أسخر من أولئك المتسائلين: لماذا خرست ألسنتهم وهم يرون الصليبية المحنقة تدس أصابعها فى برامج العلم لتقضى على لغة العرب وشعائر الإسلام فى الوقت الذى تحيى فيه لغاتها وتوقظ عصبياتها؟. إن من حق المسلمين أن يعرفوا دينهم، وأن تقدم لهم وجبات كاملة من تعاليمه تنمى أرواحهم وتزكى نفوسهم وتكشف لهم عن جوانب من الحقائق التى قامت بها الأرض والسماء.. ومن حق المسلمين أن نميط أمام أعينهم اللثام الماكر الذى يتستر به دعاة التطور فى العلم والأدب، ليروا الوجوه الكالحة على طبيعتها الدميمة. وإنى أعترف بأن فى علماء الدين من لا يساوى فلسا، إما لفساد فى عقله أو فى قلبه. أعنى فى علمه أوفى نيته.. ولكنى أعترف كذلك بأن فى العلماء المدنيين الأقحاح جما غفيرا قتلهم الغرور والهوى!، فما انتفعت بهم الأمة، ولا ارتقى بهم العلم.. وهؤلاء وأولئك لا تصح بهم نهضة.. على أن الإسلام لا يقوم بجامعات (لاهوتية) وجامعات (علمانية).. هل يمكن أن تقوم فى (روما) مدارس حمراء وأخرى بيضاء؟ إن الإسلام مهاد نهضة وبناؤها. والعلم المادى المحض يتحول فى جنباته عبادة مستغرقة، وتتحول معاهده محاريب مخبتة ما دام باعث الإقبال عليه أسمى من بواعث الدنيا الصغيرة سرائها وضرائها... ص _068(1/60)
وقد تواضع الناس فى مصر على احتساب (الأزهر) جامعة دينية، وسائر الجامعات الأخرى مدنية... وهذا تقسيم خطأ سواء فى شكله أم فى موضوعه. فإن العلوم التى تدرس فى الأزهر، والكليات التى نيطت بها، يمكن ضمها إلى مثيلاتها فى أية جامعة دون ضير. كما أن الكليات العملية فى أية جامعة- لو حملت عنوان الأزهر- ما تغير شىء فيها، ولا فرض الإسلام جديدا على برامجها.. وما انقسم التعليم العالى عندنا هكذا إلا تقليدا للغرب واقتفاء لأثره!! ولا ريب أن الإسلام قد أصابته أضرار فادحة من هذا الانقسام.. قال الدكتور (أحمد أمين): ساكنى عالم هولندى: ألكم أمل فى الأزهر؟ قلت: لا، لأن الأزهر يتزعم الحركة الرجعية.. وحركة الشباب قوية عنيفة. ثم إن القصر الملكى يحتضنه.. والقصر يريد له أن ينام وأن ينيم..- كان هذا أيام أسرة محمد على. وسئل الدكتور: هل لكم أمل فى الجامعة؟ قال: لا.. لماذا؟ أجاب: لأن الجامعة مدنية محضة ليس لها اتجاه دينى.. والدكتور (أحمد أمين) فى هذه الإجابات يحوم حول الحقيقة التى أشرنا إليها آنفا. وقد رأى الأستاذ (أبو الحسن الندوى) أن يستزيده بيانا فى هذا الموضوع فسأله: هل فشل المسلمون فى الجمع بين المدنية العصرية والروح الدينية؟ فأجاب: كان الجانب المدنى يطغى على الجانب الدينى فى أغلب الأحيان.. وذلك لضعف الرجال الذين يمثلون الإسلام!!. واستطرد: إن العالم الإسلامى ينقصه رجال عرفوا مقاصد الشريعة الكبرى يواجهون الحضارة الحديثة مواجهة الناقد المبصر.. ليميزوا ما ينفع وما يضر.. ثم إنه فى هذه المرحلة المحزنة من تاريخنا ينبغى أن نحذر مركب النقص تجاه هذه المدنية الوافدة الغالبة.. والعلاج الأول هو إيجاد الحلقة المفقودة! إيجاد علماء يجمعون بين علوم الدين وعلوم الدنيا.. ص _069(1/61)
يفهمون الجماهيرأن ليست حضارة الغرب خيرا محضا ولا ما هم عليه شر محض. وهذه الإجابة تنطوى على قدر كبير من السداد.. فإن الحضارة الحديثة تضم عناصر متفاوتة القيم، فما يمت منها إلى العلم المجرد والطبيعة الأصيلة يجب أن نقبله دون تردد ! وكيف نتردد فى شىء من ذلك والإسلام دين العقل والفطرة؟ إن الذين يعترضون هذا الاقتباس هم أعداء الإسلام وأعداء أنفسهم وأعداء العالم كله.. وفى هذه الحضارة شهوات مطاعة وأرجاس مقررة ورذائل يشعلها الهوى والبغى و الغرور. وهناك نزعات لها خصائص النباتات المتسلقة فلا كلام فى ضرورة البعد عنها إنها غريبة عن الحضارة بل هى خصم لها قديم.. بيد أنها أقحمت نفسها عليها وتراءت للمغفلين، وكأنها إحدى ثمرات الارتقاء العام(!). تلكم النزعات هى الصهيونية والصليبية. وعلى المسلمين أن يحذروا عدوهم القديم فى ثيابه الجديدة، إنها نزعات ضد الحضارة وضد الإسلام.. والطفيليات فى البستان تجتث ولا تستبقى. إن الأزمة الآخذة بخناق الإسلام فى هذا العصر شديد الوطأة محذورة العاقبة. والغزو الثقافى الذى انتشر فى أرضه على نطاق واسع بدأ يؤتى ثماره المريرة. جمهور الشباب من بنين وبنات لا يربطه بدينه إلا نسب الاسم الموروث. وسياسة تجهيل النشء فى الإسلام كله أو بعضه تشق طريقها بقوة فى أغلب الجامعات والمعاهد. وقد كتب الأستاذ محمد التابعى فى الأخبار : (قال لى طالب عراقى يدرس الطب هنا إنه سأل مرة زميلة له فى الكلية عن دينها!.. وبهتت الفتاة ثم قالت: دينى؟ أظنه الإسلام!!. ص _070(1/62)
وعاد يسألها: ولكنك تقولين إنك مخطوبة لشاب سويسرى كاثوليكى.. وقالت الفتاة: ولم لا ؟؟..!!. وعندما يراد إتمام هذا الزواج فى بلاد لا تزال للإسلام فيها قداسة اسمية يغير الزوج اسمه القديم فحسب ويبقى كما هو نصرانى الجوهر لا المظهر، هذا إن لم تعلن المرأة ارتدادها ثم تحيا كما شاءت.. والأستاذ (محمد التابعى) يدهش أو يأسف لأن تركيا لا يزال شعبها متمسكا بالإسلام، ولا يزال الحنين يعاود هذه الأمة البائسة، ويعطفها على الدين الذى اعتنقته دهرا..! وهو لا يتحرج من إعلان دهشته وأسفه ليتعجل الاستقرار المنشود، والاستقرار الذى ينشده لتركيا ومصر وغيرهما من أقطار الشرق الإسلامى هو التخلص من الماضى بما حوى، والاندماج فى الغرب اندماجا لا شائبة فيه. وهو ما يعمل له هذا الصحافى الماجن وغيره فى دأب. * * * وفى الوقت الذى يستباح الإسلام فيه علانية على هذا النحو يعقد الكرى أجفان العلماء المكلفين بحراسة الإسلام، ويتقهقر الأزهر والمعاهد الملحقة به تقهقرا عاما فى ميدان التربية والتعليم وتطارد الفلول التى تعمل له، وتتشبث به!!! * * * ص _071
دروس
للنقاد مقاييس شتى يقدرون بها الأمور ويتعرفون الخطأ والصواب
والنقض والتمام وتقويمنا نحن لا يعتمد إلا مقياساً واحداً … هو الإسلام ..
ص _072(1/63)
فن الاختلاط والعزلة هى جنة الدنيا قبل جنة الآخرة.. ما أهدأ العيش فيها، وأقره للعين، وأبعده عن دواعى اللغو واللغوب..! ربوة صامتة وادعة يجد المرء فى سكونها سكينة نفسه، وفى انقطاعها فرصة للفراغ من الخلق والتفرغ للخالق. ولئن كانت عقد الحياة وهواجس الطباع ومشاكل الناس تنتهب قلب المرء وتبعث به شعاعا لا يمسكه شىء.. إن هذه الربوة المنعزلة فى هذا الشعب البعيد تجمع قلب المرء على ربه فما ينقطع عن ذكره فى صباح أو أصيل. سيكون الأنس بالله أصلا قائما، والذهول عنه عرضا عابرا. وهل ينشد المؤمن حياة أفضل من تلك..؟ دارت هذه المعانى فى حقد مسافر طيب من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحدثته نفسه أن يجنح إلى البقعة الريفية التى يعشقها.. لكنه لم يعزم على شىء حتى يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويستهديه فيما يفعل ويدع.. عن أبى هريرة رضى الله عنه قال: مر رجل بشعب فيه عيينة من ماء عذبة.. فقال: لو اعتزلت الناس فأقمت فى هذا الشعب.. إن الذين يعالجون شئون الناس يرون حول هذه العيينة السائلة بالرى العذب، أمنية شهية المنال، إن المكدود يهرع إليها ليراح كما يأوى إليها الظمآن ليروى... ما أشوقنا إلى هذا المكان البعيد وكم تهفو أفئدتنا إلى الارتماء فى أحضان هذه الوحشة السائدة، وكم تتمثل ألسنتنا بقول القائل: وإن امرءا يمسى ويصبح سالما من الناس، إلا ما جنى، لسعيد على أن هذا الصحابى لم يطاوع رغبته أول ما جاشت.. فقبل أن يعتزل الناس فى هذه الناحية المعجبة قال: لن أفعل حتى أستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ص _073(1/64)
ورسول الله أعرف الناس بالعزلة وما يدفع إليها، وما تتمخض عنه، وما يبغيه طلابها من استجماع واستجمام، عندما تموج المجتمعات بالفتنة والصخب.. لطالما أوى إلى غار حراء موليا عن الجاهلية التى غمرت الدنيا بالشرك والإثم.. حتى طلع عليه صبح الوحى فرجع منه يحمل إلى الحياة رسالة النور... ومن قبله قال الخليل إبراهيم لقومه المشغوفين بعبادة الأصنام : (وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا). غير أن العزلة كالصمت.. والصمت قد ينشأ عن الوقار والجد، وقد ينشأ عن العى والحصر.. كذلك اعتزال الناس ربما كان أثر كلال من معاملتهم فهو انسحاب من الميدان. أو كان استعدادا لمنازلتهم فهو عون على النضال.. ومثل هذه الأمور لا يحمد ولا يذم فى كل حال.. ومن ثم تفاوتت السنن الواردة فى تقدير العزلة والحكم عليها ، إلا أن المقطوع به، أن اتجاه الإسلام فى شرح مراتب الكمال يخالف ما عرف فى ذلك عن الديانات الأولى.. كما أن الترهب فى الصوامع القصية، والانقطاع فى الأديار حتى الموت، وهجر الحياة ومطالبها، والإقبال على النفس بالمجاهدة، وعلى الفكر بالتأمل، كان ذلك كله آية اليقين والصفاء التام، والتوبة التى لا ريب فيها... وبهذا المنهج كان الفرد المؤمن إذا تطلع إلى مزيد من التقوى يقربه إلى الله، ركن إلى الذكر، والقراءة، والاستغفار، والصلوات !، وكلما تخفف من الدنيا، ومن الناس، بما يعينه على هذه الغاية كان أنقى وأزكى..! أما الإسلام فقد رسم للعباد المجتهدين طريقا أخرى غير هذه الرهبانية الخاشعة المتبتلة، طريقا يجشمهم السير فى الرمضاء وتحت الصخور... إنه لم يقل لمن يحبون الله اعتزلوا الحياة وتأملوا... بل قال لهم: انغمروا فى الحياة وعالجوا باطلها بالحق، وقاوموا طواغيتها بالقوة، وابذلوا فى تقويمهم المال والدم. ص _074(1/65)
وبهذا التعريف الجديد للتقوى أصبح المؤمنون فرسانا لا رهبانا، ورفض الإسلام الترهب الذى يدع الإثم يسير من غير نكير، وأصبح الإقبال على الحياة ومعالجة كروبها وهمومها لإثبات معروف ومحو منكر، جهادا مبرور الغدو والرواح.. ولا شك أن أهل الشر وحضنة الفساد كرهوا الإسلام لهذه النزعة البادية فى تعاليمه... ومنطقهم فى كراهيته بيَن... فهم لا يضارون من رجال يتقربون إلى الله بالفرار من شرور الدنيا، وإنما يضارون من رجال يتقربون إلى الله بالهجوم على هذه الدنيا، لتقييد الشياطين المهتاجة فى جنباتها... وأولى الناس بمعرفة هذه الحقيقة حملة رسالات الإصلاح.. ولذلك قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لصاحبه الذى شاقته العزلة، وأعجبه أن يعبد الله فى شغف الجبال : " لا تفعل، فإن مقام أحدكم فى سبيل الله تعالى أفضل من صلاته فى بيته سبعين عاما.. ألا تحبون أن يغفر الله لكم ويدخلكم الجنة.. اغزوا فى سبيل الله.. من قاتل فى سبيل الله فواق ناقة وجبت له الجنة...". وفى رواية لأحمد : " لمقام أحدكم فى الصف خير من صلاته ستين سنة ". ونحن على هدى من تجاربنا مع الناس وفقهنا فى الإسلام نشعر بأن الإنسان فى كفاحه العام يحتاج إلى أويقات ينفرد فيها بنفسه مثلما يحتاج السائر إلى منازل يحط فيها رحاله ويحم فيها بدنه، ومثلما يحتاج القارئ إلى هدءات ينسق فيها معارفه وينظم بها فكره... والإسلام الذى يسن الاعتكاف لأبنائه.. ويأذن لهم بالعزلة إلى حين، يرفض أن تتحول هذه العزلة إلى هجران للمجتمع وقلة مبالاة بالمعركة الخالدة الدائرة بين الحق والباطل.. لأن العزلة ـ ولو فى عبادة ـ لن تعدو ضربا من الراحة المحببة أو اللذة التى تنشدها النفوس، نشدان الأجسام لبعض الشهوات... وما قيمة عبادة تجعل صاحبها محايدا، أو مشلول اليد، فى حرب بين الكفر والإيمان لا تدرى نتائجها..؟ ذلك ما كرهه الرسول لصاحبه الذى يتطلع إلى العزلة. ص _075(1/66)
ثم مضى هذا الرسول العظيم يقارن بين جهاد الاختلاط وجهاد العزلة فصور بعد الشقة بين الأمرين تصويرا عجبا . قال أبو هريرة: قيل للنبى صلى الله عليه وسلم :ما يعدل الجهاد فى سبيل الله عز وجل؟ قال: لا تستطيعونه! قال: فأعادوا عليه مرتين أو ثلاثا.. كل ذلك يقول: لا تستطيعونه! وقال فى الثالثة: مثل المجاهد فى سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله لا يفتر من صيام ولا صلاة حتى يرجع المجاهد فى سبيل الله. وحدث النعمان بن بشير قال: كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رجل: ما أبالى أن أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أسقى الحاج.. وقال آخر: ما أبالى أن أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام.. وقال آخر: الجهاد فى سبيل الله أفضل مما قلتم.. فزجرهم عمر، وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو يوم الجمعة- ولكن إذا صليت الجمعة دخلت فاستفتيته فيما اختلفتم فيه. فأنزل الله عز وجل: (أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين * الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون). ومضت السنن المروية عن صاحب الرسالة العظمى تصور الحسنات التى تسجل للمجاهدين وتذكر الأضعاف التى تنضاف إليهم من حيث لا يحتسبون حتى عدت فى موازين أعمالهم أرواث الخيل التى يمتطونها وهم يجوبون الميادين إحقاقا للحق وإبطالا للباطل، إن هذه الأرواث أزكى من الحرير والدمقس الذى يخب فيه القاعدون. وأعرف من بلائى مع الناس أن الإنسان قد يتأذى من كنودهم وغدراتهم، حتى ليأنس بالحيوان ويرهب أبناء جنسه. وأنه قد يشمئز من بعض الأخلاق والأعمال فيفر منها كما يفر من مصادر الروائح العفنة. بيد أن هذه المشاعر إن سوغت الاعتكاف حينا فهى لا تسوغ الإدبار والنفور آخر الدهر.(1/67)
فليس من مصلحة الدين والحياة أن يترك الشر يمرح ويمتد دون جهاد حلو أو مرير. ص _076
فى ميدان التربية للسعى فى تحصيل الفضائل واستكمال الأمجاد، سعادة يستشعرها الرجال المكافحون ويستطيبون بها مراحل الكفاح إن طالت. وربما كان هذا الإحساس المقارن نفحة من السماء، تذكر الإنسان بأصله العريق وتنعش فيه مواهبه العليا، وتؤنسه بحياة الطهر والعفاف والترفع، إن حاولت الوساوس الأخرى أن تزل قدمه أو تخلد به إلى الأرض. وإغراء التوابين والمتطهرين بنشوة هذا الإحساس الراقى بعض ما عناه النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو يوصى الشباب بالتسامي عن الدنايا قائلا : "النظرة سهم مسموم من سهام إبليس - لعنه الله- من تركها خوفا من الله آتاه الله إيمانا يجد حلاوته فى قلبه ". فخطورة النظرة الخبيثة، أنها محور لما يسميه علماء النفس بتداعى المعانى. إن الفيضان المدمر قد يبدأ ثقبا صغيرا فى السدود الحاجزة. والحريق المستعرة قد تبدأ شررا خفيفا. وكذلك تمرُّغ المرء فى المعصية وتقلبه فى حمأتها إنما ينشأ عن تهاون واستخفاف بالخطوات الأولى فى طريق الإثم. والنظرة العابرة تعقب أفكارا مشوهة وتحرك أمانى مكظومة وتثير فى نواحى النفس لغطا وحيرة. وأدنى مراتبها أنها لو لم تجلب شرا عاجلا فهى عائق عن الفضيلة والتجرد لها وكما قال الشاعر : وكنت إذا أرسلت طرفك رائدا لقلبك يوما أتعبتك المناظر رأيت الذى لا كله أنت قادر عليه ولاعن بعضه أنت صابر أما حين يملك الرجل إرادته ويحكم نظره ويراقب ربه ويمشى فى طريقه وهو موقن بأنه لن يغيب لحظة عن شهوده وهو القائل : (يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور) ص _077(1/68)
أما حين يدأب على متابعة الخطو فى سبيل الاستقامة والكرامة ولا تزيده الأيام إلا استهجانا للآثام واحتراما للفضائل، فإنه يرزق قلبا حيا يقر بالطاعات ويبتهج بأدائها، ويفرح بالبعد عن مساخط الله، فرحة الصحيح بالعافية عن الأدواء والعلل. للكسل لذة يتحدث عنها العجزة والقاعدون . وللعمل لذة يعرفها أولو النجدة والبأس ويبلغون فى ظلها أهدافهم القصية. وشتان بين هذه اللذة وتلك.. للنكوص لذة يتشبث بها الهاربون الجبناء، وللمغامرة لذة يطير بنشوتها بغاة العلا، وعلى فم أحدهم: تأخرت أستبقى الحياة فلم أجد لنفسى حياة مثل أن أتقدما شتان ما بين لذة ولذة. وللتهاون بالصلاة والنوم عنها لذة صغيرة., فإن إقام الصلاة ثقيل مرهق للكثير (واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين). ولكن لذكر الله وإقام الصلاة سعادة يشعر بها قوم آخرون وتتجدد بها قواهم. وفى الحديث " يعقد الشيطان على قافية أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد، يضرب مكان كل عقدة- عليك ليل طويل فارقد- فإذا استيقظ فذكر الله انحلت عقدة، فإذا توضأ انحلت عقدة، فإذا صلى انحلت العقد الثلاث، فأصبح نشيطا طيب النفس وإلا أصبح خبيث النفس كسلان ". ومن التغرير السيئ أن تحسب طريق الحق لا مؤنة له ولا جهد فيه. وأسوأ من ذلك أن تنتظر الفلاح فيه باللهو واللعب واتباع الشهوات. إن الأمر يتطلب عناء طويلا وإعدادا كبيرا، وقد مضت سنة الرجولة والبطولة من قديم، أن من طلب عظيما خاطر بعظيمته ، ولأمر ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (حُفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات). وفى أيامنا هذه كثرت المغريات والمنسيات، حتى أصبح الطريق إلى الله يتطلب عزما أشد، وبصرا أقوى، وهمة أبعد. أصبح اللهو واللغو فنونا لا تحصى، ركنت إليها النفوس حتى لكأنها تنزل إليها من منحدر لا قرار له. ص _078(1/69)
وازدحم الناس على موارد العيش يقتتلون على نيل المستطاع منها، فهم فى تنافس وتطاحن، لا يبقيان على إيثار أو رحمة. وحضارة الغرب أساسها الصناعة والتصنع، فهى أبعد ما تكون عن الطبيعة ومجالاتها الرحبة، وبقدر ما ابتعدت الأمم فى ظلها عن بساطة الفطرة ابتعدت كذلك عن الله جل شأنه، فالرجل المعتاد يجد الساعات لمطالعة الغثاء فى شتى الصحف والكتب ولا يجد الدقائق لقراءة آى من القرآن. أما جبهة القوت المترامية وراء الدواوين والدكاكين والمصانع والمزارع، فإن الضجة التى تسودها تصم الآذان.. وقلما تستبين فى بغامها الممتد صوتا يمجد الله ويذكر آلاءه.. على أن هذه الحجب كلها لا تعوق سائرا ولا تصد رائدا. إنها وهم يهول من بعيد ويتكشف باطله من قريب. وأصحاب الإيمان عندما يقومون بحق الله عليهم قد لا تكون هذه العقبات عرضة لهم، بل حفزا لهممهم، وضياء إلى أهدافهم.. ضم إلى هذا أن الله عز وجل يبارك كل جهد فى سبيله مهما ضؤل، وأن اتجاهات الإرادة الإنسانية تعدل عند القوة التى يثب بها جناح طائر ولو كانت تنتقل بخطوات سلحفاة. فأيما عبد وصل فكره بربه وأحب أن يتجه له بعمله فإن ما يلقاه من حفاوة وتقريب وما ينقذف فى قلبه من إشراف وإقبال أضعاف أضعاف ما يبذل من سعى. (...ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا إن الله غفور شكور). بل إن تطلع النفس إلى حسنة- ولو لم تفعلها- يكتب لها حسنة. فإذا ارتقى الأمل فى صنع الخير إلى عمل فقليله يكثر وضعيفه يوثق. وظنون المغفرة والرضوان فيه تقبل وتصدق كما قال الله تبارك وتعالى فى حديثه القدسى: " وأنا عند ظن عبدى بى وأنا معه حين يذكرنى، فإن ذكرنى فى نفسه ذكرته فى نفسي، وإن ذكرنى فى ملأ ذكرته فى ملأ خير منه، وإن اقترب إلى شبرا تقربت إليه ذراعا، وإن اقترب إلى ذراعا تقربت إليه باعا، وإن أتانى يمشى أتيته هرولة ". والحديث تصوير سمح لما وضعه الله فى نيات الخير ومساعى الكمال من قبول وبركة، فلا تستهينن بباعث(1/70)
طيب يتحرك فى ضميرك، استجب له فربما كان المفتاح لعالم كبير من الخيرات والمغانم يرتفع بك إلى عليين ويدفع بك فى إقدام النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. ص _079
قنوع وطموح كتب لى سائل: أليس مما يعين على القعود والفتور ما ينسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث " ارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس " " الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالما ومتعلما). " ما قل وكفى خير مما كثر وألهى " وأمثال ذلك مما يبعث على الزهد ويعوق عن الطموح والحركة..؟ ثم مضى السائل يقول : إن طبيعة الدين تعلق الناس بالآخرة وتصرف همهم عن الحياة لأن الحياة فى منطق الأتقياء فترة مهينة لا يعول على حال المرء بها ولا ضرورة لأن يأخذ المرء إليها إلا زاد الراكب العجل! وشيوع هذا المنطق فى أمة قضاء عليها بالتخلف حتما وسط أمم تعبد الحياة ولا ترى صلاحا أو فسادا إلا فيها، ولا تحس ثوابا أو عقابا إلا بما تنال فى مضمارها العتيد. واستطرد السائل فذكر خشيته من أن تقصر النهضات الدينية فى إسعاد الأمم الجانحة إليها، بل فى حفظ كيانها من العوادى... إن هذه الشبه ليست جديدة. وأحسبنى قد ألقيت عليها ضياء كاشفا فى كتاباتي القديمة... ولكن هذا التساؤل الحائر سيبقى ما بقيت أفهام الناس فى الدين ظنونا حائرة يعوزها اليقين الحاسم. وأسارع إلى الإجابة عن الفقرة الأولى فى هذا السؤال.. إن الأحاديث التى ذكرت هنا صحيحة كلها. والعيب ليس فيها ولا ما فى غيرها من تعاليم! وإنما العيب فى تحريف الكلم عن مواضعه. إذا كان الرضا بالقسمة دينا فهل نحسب التطلع إلى ما فوقها زيغا؟ إليك من سير الأنبياء ما يصرع هذه الشبهة ويدلك على أن الطموح لا ينافى خلال المتقين، بل قد يكون سر صلاحهم واصطفائهم. ص _080(1/71)
ألم تسمع إلى سليمان وهو يطلب من الله ملكا فذا لا يشبهه فيه أحد فيقول : (... رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب). فكان من إجابة الله له (هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب * وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب). إن الله لم يقل له قف عند ما قسم لك.. ألم تر أيوب وكان يغتسل عريانا فوقع عليه جراد من ذهب، فطارت واحدة، فجرى خلفها.. فقال الله له: يا أيوب ألم أكن أغنيتك عن هذا فقال: بلى! ولكن لا غنى لى عن بركتك.. لقد تشبع أيوب من مال الله على هذا النطاق الواسع. فلم يقل الله له: قف عندما قسم لك. وانظر إلى يوسف الصديق وهو خارج من السجن وكان بحسبه- وقد أتيحت له نعمة الحرية بعد اعتقال طويل- أن يحيا فى كنفها، قانعا وادعا، فأبى لنفسه تلك المنزلة، وقال لعزيز مصر : (...اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم). وامتن الله على يوسف إذ تسنَّم هذا المنصب العالى فقال : (وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين). ولم يعاتب الله يوسف على هذا التطلع. فلم يقل له: قف عندما قسم لك.. هؤلاء نفر من المسلمين الكبار لم يخدش الطموح ما عرفوا به من تقوى، ولا نزل بمكانتهم عند الله قيد أنملة.. إن الرضا بالقسمة قد يكون من الدين، وقد يكون من العجز الذى يزجر عنه الدين. إذا سعى الرجل ضاربا فى طول البلاد وعرضها واستنفد قواه فى استنباط الخير وتقريب الرزق فإذا هو يدركه الكلال ويداه فارغتان، من قدر قاهر لا من كسل غالب، فهل ينتحر جزعا، أن يطوى فؤاده على ضرب من السكينة والركون للأحداث؟ ص _081(1/72)
وإذا رأى غيره يؤتى الكثير ويواتيه النجاح وينتقل فى مدارج الرقى فهل يدع سورات الضغينة تأكل قلبه لأنه فشل حيث أفلح غيره، أم يرضى عن الآخرين ويعدل فى شعوره نحوهم ؟.. وإذا ضنت موارد الحلال ودرت موارد الحرام، فهل يقال للمسلم: خذ ما أتيح لك، أم يقال له: استعف وتصبر؟ إن الإسلام يوجب الرضا بالقسمة يوم يكون هذا الشعور النبيل عزاء للمحروم وطمأنينة للمتخلف وحصانة من الجشع. أما إذا قعد الرجل عن الكسب لإعالة نفسه، وإعزاز شخصه، فرضاه بالمقسوم جريمة خلقية... وإذا أبطأ فى توسيع ثروته لتربية أولاده وصيانة حاضرهم ومستقبلهم فرضاه بالمقسوم جريمة اجتماعية، وإذا ترك كيان أمته فى الميادين العامة يتداعى بالخمول والطراوة، والقنوع بأدنى العيش فالرضا بالمقسوم جريمة سياسية. إن الرضا المحمود عنوان عاطفة تعمل فى نطاق محدود، ومن التزوير أن يؤخذ هذا العنوان ليكون غطاء رذائل نبذها الإسلام، وَعَدَّ أصحابها مرضى. أما الدنيا التى لعنها الله وازدراها أولو الألباب فهى دنيا الغرور والمفاسد والأهواء، لا دنيا العمل والغرس والكفاح، ومن من الناس يحمد هذه الدنيا؟ لقد رأيناها تمزق الأرحام بين الأخوة الأشقاء وتغرى بعضهم باغتيال البعض وإخماد أنفاسه، استئثارا بعرض زائل. لقد رأينا فتنتها تنسج على الأبصار غشاوات حاجبة أو خادعة جعلت الأرض مذأبة تسودها الوحشة والرهبة. فأينما يممت لا تلمح إلا ركض الوحوش تهيجها الغرائز الوضيعة، فلا حق ولا خير، ولا أمن، ولا وئام.. أرأيت ألوانها الزاهية وألحانها السابية ؟ إنها تقبل عليك كالمائدة الحافلة الشهية، وتنتهى بك- أو تنتهى معها- مثلما ينتهى الطعام فى بطنك.. فضلات منتنة مزعجة. قبحت هذه الدنيا، ما تغر إلا الحمقى، وما يتمحض لها إلا المغفلون. ص _082(1/73)
فإذا رأى الله عز وجل أن خدعتها الكبرى أطاشت سواد الناس وأذهلتهم عن أنفسهم وعن ربهم، وعن أولاهم وآخرتهم، وبعثتهم مجانين يسعرون الحروب للباطل ويقيمون السلام للعبث . فما الذى يرد لهؤلاء صوابهم إلا أن يقال لهم : (اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور). إن هذه الآية وأشباهها تعيد التوازن إلى النفوس التى اختلت فيها أوضاع الحقيقة: وجماهير البشر عندما يحتبس نشاطهم بين أكوام الثرى من عالمهم الصغير، فلا يفكرون إلا فى حدود المتاع العاجل، يحتاجون إلى نبى يصيح فيهم: "الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالما ومتعلما ". وعندما يتفاضل الناس بحظوظهم من الدنيا وحدها يقول: " أربع من كن فيه فلا عليه ما فاته من الدنيا : حفظ أمانة، وصدق حديث، وحسن خليقة، وعفة فى طعمة". فهذه السهام التى يصوًبها النبيون إلى الدنيا لا يبغون إلا أن يصيبوا بها ما علمت من شر وإثم وغدر. على أن أناسا نظروا إلى السهم المنطلق وعفوا عن الذاهب إليه فظنوا المرسلين يشتغلون بقتل الأحياء... وقالوا: إن رسالات السماء جاءت لتخريب الأرض.. وكذبوا. ما جاءت إلا لعمارتها، وجعلها جنة قبل الجنة وانتفاعا بهدى الله قبل السعادة بجواره المقيم فى ديار النعيم. فليس من حقيقة التقوى أن تكون محدود الأمل، ضيق الرجاء، فإن ذلك يدل على عجز فى النفس، أكثر مما يدل على إيمان فى القلب. بل أولى بك أن تكون بعيد الهمة واسع الطموح، تتطلع إلى آفاق لا نهاية لها مادام فيك عرق ينبض. وكل ما يطلب منك إزاء ذلك أن تهيئ لكل شىء وسيلته وتعد لكل أمر عدته (ومن طلب عظيما خاطر بعظيمته). ص _083(1/74)
والرجل الكفء أهل لما يصل إليه من كرامة، وأهل لما يطلب لنفسه من منزلة . لقد طلب خالد بن الوليد من إخوانه- قادة الفرق فى معركة اليرموك- أن يكلوا إليه أمر القيادة العامة، وعرض ذلك فى صراحة وفى كياسة وأخيب إلى طلبه. على أن انفساح الأمل لا يقبل إلا إذا اقترن بالإخلاص لله وحده، وكان عمل الرجل إذا وضع فى المؤخرة كعمله إذا وضع فى المقدمة سواء بسواء. وبهذه الروح كان مسلك خالد يوم أن ترك القيادة وعاد جنديا.. إن الإسلام إنما يبغض الأطماع السمجة والحرص البارد علي المظاهر الكاذبة واصطناع الدسائس للظفر بأبهة الدنيا لا بخدمة الدين، فكن طموحا واحذر الطمع. إن الدين خير كله، وما تصلح الحياة إلا بتعاليمه، بيد أن علينا إقصاء المتأكلين به عن ساحته، وتمكن أولى الأيدى والأبصار وحدهم من فقهه وعرضه. وأحسبنى فى كثير من كتبى قد أشبعت هذا الموضوع بحثا. وأود أن أقول للسائل المستريب: إن نهضة الإسلام فى عصرنا هذا تعتمد على أصول مكينة من الإدراك المسدد، والعاطفة الحارة.. وإن المسلمين أحوج الناس فى هذه الأيام إلى الانعطاف لدينهم، والاستمساك به.. وربما أخذ على الدعوة الإسلامية فى هذا العصر ما يعرو جبهتها من تقطع، مرده- فى نظرى- اختلاط الدعاة بالأدعياء، والنائحة الثكلى بالنائحة المستأجرة. لكن هذه العلة لن تطول، فإن الحق آخر الأمر ينفرد ويخلد: (...والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون). *** ص _084(1/75)
من آثار الايمان فى التنفير من المعاصى يقول الناصح كلاما حسنا يصف به ما يعانيه المجرمون من متاعب، وما يتعرضون له من مصائب كانوا فى غنى عنها لو استقاموا ولزموا الجادة. وهذا نصح صادق.. فحياة الآثمين وعرة السبل، داكنة الأفق، تكتنفها الأخطار الوضيعة، من بين يديها ومن خلفها.. نعم إن هذه الدنيا ليست دار جزاء، ليست دار جزاء كامل، فقد يرجا بعض المجرمين إلى الغد القريب، وقد يرجا بعض العقوبة كذلك. إلا أن الله- جلت حكمته- شاء أن يكف غرور الناس بفقع من العدل الأعلى تبرق فى حياتهم فينتصف بها الحق ويخزى بها الباطل، ويستروح إليها الصالحون، ويقشعر منها الظالمون. وبهذه الأجزية المعجلة يخوف الله الأمم إذا غوت، ويسوق إليها النذر لتتقى وتعتدل: (أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون * أوأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون * أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون). وفى تاريخ الحياة القريب والبعيد مثل صارخة تحض الأفراد والجماعات على الخير، وتزين لهم عقبى الإيمان والطاعة، وتوضح لهم مصائر الكفر والفسوق، وتكشف للأخلاف الذين نبتوا على أنقاض الأسلاف أن القدر الساهر لا يستبعد عليه أن يؤاخذ الآخرين بما أخذ به الأولين. (أولم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون). ص _085(1/76)
والتلويح بما فى حياة الفضيلة من استقرار وسكينة، وبما فى حياة الجريمة من قلق وخطر، نصح صادق لا ريب فيه، وليس مستغربا- وأنت تغرى بالعفة- أن تندد بحياة الفاحشين الطامعين . وليس مستغربا- وأنت تحذر من الخيانة- أن تنوه بحياة الأمناء الآمنين على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم. وفى القرآن الكريم أمثلة شتى لهذا اللون من التوجيه النافع القريب، قال الله تعالى: (وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله …). وقال : (من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون). قال : (...للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الآخرة خير ولنعم دار المتقين). وجاء على لسان نوح ـ وهو يحبب الإيمان إلى قومه ويرغبهم فى قبوله ـ (فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا * يرسل السماء عليكم مدرارا * ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا). وليست هذه الوعود زخرفا من القول، أو أمانى تخدع بها الناس ليقادوا عن طريقها إلى الحق، كلا، فسنة الله فى عباده أن الأمان جزاء الإيمان، وأن العقوبة جزاء الكفران، وأن التمتع فى الدنيا باللذات والطيبات شرع ابتداء للمؤمنين، وإنما شركهم غيرهم فيه لعلل طارئة. فإذا انزاحت هذه العلل- وستزول حتما فى الآخرة- خلص للمؤمنين وحدهم هذا المتاع. ص _086(1/77)
وذلك معنى قوله تعالى : (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون) . فإذا رأيت شيئا من صفو العيش وبشاشة الرضا يخالط نفس المؤمن فذلك حقه الذى كان ينبغى ألا يزاحمه عليه أحد، لولا أن الحياة- أساسا- دار ابتلاء إلى جانب ما يتسرب إليها أحيانا من مظاهر الحساب والجزاء. هى دار ابتلاء بالواجبات، ثقيلها وخفيفها، والأقدار خيرها وشرها. وهذا الامتحان الشامل تتمشى معه المكافآت المعجلة التى وعد الله بها، كما ترى التلميذ فى مراحل تعليمه الطويل يثاب بالنجاح المطرد، وإن كان لا يعفى من عناء الدرس وطول الاستذكار، وإدمان المطالعة والتمحيص والسهر. وقد تكون للتلميذ نهاية يقف عندها، أما المرء فى هذه الدنيا فهو إلى أن يحشرج، موضوع فى بوتقة الاختبار. والناس يخلطون حين يسوون بين مغارم الاختبار الذى لابد منه وبين نتائج الفوز أو الإخفاق فيه. إن الجيش الذى يكسب المعركة يفقد بعض القتلى، فهل ما فقده فى صراعه يخدش من قيمة النتائج التى بلغها!! إن الله وعد الصالحين حياة طيبة، ولكن لم يعدهم أن يحصلوا على هذا الصلاح المنشود دون جهد يبذلونه..!! وثم أمر يجب أن نعرفه. إن الآلام ليست سواء. هناك آلام وضيعة وأخرى رفيعة. فالذين يحكم عليهم بالسجن عشرين سنة فى الأشغال الشاقة يتعرضون لشقاء لا ريب فيه جزاء جرائمهم. بيد أن هناك من الرجال الأحرار من يقضون أعمارهم فى كد موصول وأعباء جسام، برا بربهم وجهادا لدينهم، وإعزازا لإخوانهم. وشتان بين ألم وألم، شتان بين شهيد تذهب نفسه فى سبيل الله وقتيل تزهق روحه قصاصا وعدلا، تصلح به الحياة، وتطهر به الأرض. ص _087(1/78)
والشعور بعظمة العمل ورفعة الألم بعض الجزاء الذى تطيب به نفوس الأتقياء، وتحس فيه رضوان الله عليها، وامتيازها على غيرها من العاصين والخبثاء.. ثم إن أنواع الاختبار المفروضة على الناس كثيرة معقدة، فإن ما تهيج له نفس قد لا تتحرك له أخرى، وما يكون راحة لإنسان يكون عناء لإنسان. وخلاق النفس- هو وحده- الذى يعرف خصائصها، ويسوق إليها ما يعجم عودها ويمحص معدنها... جاء فى الحديث: إن الرجل يحرم الرزق بالذنب يصيبه ! فهل كل العصاة يعامل بهذا القانون؟ إن هناك من يزداد ثراؤهم بازدياد ذنوبهم كأولئك الذين قيل لهم: (ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما...). (لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد * متاع قليل ثم مأواهم جهنم …). فما معنى هذا؟ معنى هذا أن هناك من الخطائين من تؤدبه فيتأدب، ومن تؤاخذه فيتراجع، فالحرمان لهم فطام عن الذنوب وقيادة إلى المتاب!! ومنهم من يتكاثر حوله المال، كما تتكاثر اللجج حول الغريق، فلا يزال يكرع منها حتى يختنق ويهلك..! ومنهم من تيبس الأرض تحته حتى ينقطع من الطوى! لأن سياط العذاب لو تخلفت عن جلده ما انفك عن غيه. (ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا في طغيانهم يعمهون)..!! إن أنواع الاختبار وأنواع الجزاء أوسع من علمنا، ولذلك ينبغى أن نرمق أحوال الناس ببصر، وأن نحكم عليها بحذر، ومهما اضطربت الظواهر أمامنا، فلا يجوز أن نرتاب فى مصائر المصلحين والمفسدين، ولا فيما يلابس محياهم من شئون وشجون. ص _088(1/79)
(أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون * وخلق الله السماوات والأرض بالحق ولتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون). لا تشكن فى جدوى الاستقامة. إن معيشة التقى والطاعة تورث الصحة البدنية والنفسية، وتوفر الراحة المادية والأدبية، وتحفظ لصاحبها فى آجل أمره وعاجله أنصبة من الخير يستحيل أن تتاح لغيره . لا تشكن فى جدوى الصلة بالله وإيثار ما عنده. إن الصديق الكريم لا يضيع صديقه، فبئس الظن بالله أن تحسبه يضيع أولياءه أو يتنكر لهم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من كانت الدنيا همه فرق الله عليه شمله، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلى ما كتب له. ومن كانت الآخرة همه جمع الله عليه شمله، وجعل غناه فى قلبه وأتته الدنيا وهى راغمة، وما أقبل عبد على الله بقلبه إلا كان الله إليه بكل خير أسرع ". فى كتاب (عش مائة عام) للدكتور (جايلورد هاوزر) عقد المؤلف فصلا عن الاستمتاع بالحياة، وأثر السلوك الحسن فى إسعاد الإنسان وراحة أعصابه وطمأنينة قلبه قال فيه: ( لا يفوتنى هنا أن أشير إلى ما للإيمان الدينى من أهمية قصوى فى حياة البشر، ليس أبين حمقا ولا أشد عمى وانطماس بصيرة، من أولئك الذين يزعمون أنه لا مكانة فى العصر الحديث للدين! فالعقيدة هى النجم القطبى الذى يهدى الملاحين فى عرض البحر إذا خيم الظلام، والحياة فى عصرنا بحر طام، أشد تلاطما، وأوسع مدى، وأحفل بالأخطار والغوامض من بحر الحياة القديم. والحاجة اليوم إلى العقيدة أشد منها فى أى عصر مضى. والنفس الآمنة المطمئنة ص _089(1/80)
لا يمكن أن تبلغ هدوءها واستقرارها ما لم تستند إلى عقيدة راسخة فى قوة أزلية أبدية ومدد أعلى وأعمق من ظواهر المادة المتغيرة . وهذا المحلل النفسى الكبير (يونج) مؤسسى المدرسة المعروفة باسمه، وأكبر تلامذة (فرويد) يقول : ( لقد قصدنى آلاف يطلبون المعونة والشفاء من الحيرة والانحلال، فكان أسرعهم إلى تحقيق أمله ذوو العقيدة، ومن فى سريرتهم بذرة التدين الصادق). إن الشواهد متكاثرة على ما للإيمان من آثار طيبة فى النفس والحياة. ولا ريب فى أن المسلك التقى يفتح على الإنسان أبواب البركة والسعادة. واسمع إلى ما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الصلوات المفروضة-: " من حافظ عليهن عاش بخير ومات بخير. وخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه "!! إن حياة الخسة والفسوق لا تجر إلا الشقاء على أصحابها وعلى المجتمع، وفى الحديث " لم تظهر الفاحشة فى قوم قط إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التى لم تكن فى أسلافهم ". أما الإحسان فإن أثره يتبعه، عافية وارتقاء وخيرا وتوسعة. بل إن بركة الإحسان تتعدى المؤمن إلى الكافر فيحيا فى كنفها أهدأ نفسا مما لو أساء. روى ابن جرير: أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: " ما أحسن من محسن مؤمن أو كافر إلا وقع ثوابه على الله فى عاجل دنياه وآجل آخرته ". وفى رواية البزار: " ما أحسن من محسن مسلم ولا كافر إلا أثيب " قالوا: يا رسول الله، هذه إثابة المؤمن قد عرفناها! فما إثابة الكافر؟ فقال النبى صلى الله عليه وسلم: " إذا تصدق بصدقة، أو وصل رحما، أو عمل حسنة، أثابه الله، وإثابته المال والولد فى الدنيا وعذاب دون عذاب ـ يعنى فى الآخرة ـ وقرأ (...ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب). أرأيت أن معرة تقصيرنا- نحن المسلمين-... وشؤم معاصينا حاق بنا؟؟ أما الكافرون فإن الله العدل لم يهدر لهم إحسانا، ولم يبخس لهم إجادة وإتقانا. ص _090(1/81)
نحو أجيال أرقى أمكن فى عالم النبات إبداع سلالات ممتازة من القمح والقطن والأرز، ضمت إلى وفرة الحصاد جودة الأصناف. وأمكن فى عالم الحيوان تحسين الولائد الجديدة، والعناية بها من ساعة اللقاح إلى عهد النماء والحركة، فظفر الناس من هذه الجهود بمزيد من اللحم والشحم والألبان والأشعار والمرافق الأخرى... إن تحسين الذرارى ومحاولة الارتقاء بها- كما وكيفا- أمر ميسور، وتحقيق ذلك فى عالم الإنسان لتكوين أجيال أنضر وأزكى، عمل يعتبر أولى وأجدى من تحقيقه فى عالمى الحيوان والنبات... والحضارة التى تسود الحياة المعاصرة سارت أشواطا متفاوتة فى مضمار الارتقاء العام، فسبقت فى ناحية وتخلفت فى ناحية، ولا ندرى هل تعادلت كفتا الأرباح والخسائر، أم رجحت إحداهما؟ لقد ارتفع مستوى الصحة العامة وأظن سكان العالم لم يبلغوا فى عصر مضى هذا الحد من الكثرة. إن الأوبئة التى كانت تذر الديار بلاقع تلاشت أو انكسرت حدتها، بيد أن شبح الحرب التى تفنى العالم أجمع لا يفتأ يتهدد المدائن والقرى... ولقد وضعت الأنظمة التى تكفل المعايش وتمد البشر بالأقوات بل يسرت اللذة وأصبح الغناء الذى احتكرته مقاصير الملوك قديما يملا الألوف المؤلفة من البيوت، ويستمع إليه الناس فى الطرق، مبذولا لا ثمن له!. ومع ذلك فإن الناس جياع إلى مشاعر الاستقرار والسعادة، موقنون بأنها فى شئ آخر غير ما يسرته لهم الحضارة الحديثة من متاع وترويح ورفاهية.. والجهود مبذولة لإشاعة الثقافة والرياضة، وتنشيط الأذهان والأبدان، وخلق أجيال فارقتها صفرة الفقر والمرض، وبلادة الجهل والفوضى، ونحن نود أن يصعد ص _091(1/82)
البشر فى درج الرقى حتى يبلغوا القمة، وأن تنجو الحياة من الأدواء التى أزلتها عن الصراط وعاقتها عن الكمال المنشود، لكن كيف السبيل ؟ وأين الغاية ؟ إن العناية بالغذاء، والصحة هى الوسيلة الأولى فى إيجاد حيوان فاره. ولما كان الإنسان كائنا متعدد الملكات والقوى فإن التسامى به يحتاج إلى وسائل كثيرة، وسائل يجب أن تلاحقه مادة وروحا منذ يتكون قطرة ماء فى بطن أمه، إلى أن يتحول بشرا سويا يعالج الحياة وتعانى من جبروته ما تعانى! ونحن ننشىء المعاهد، ونمد بها أنهار المعرفة لتروى بها مواهب الإنسان كما تروى العيدان فى الحقول! فهل هذا التعليم هو الذى يصوغ الناشئة ويهيئ لها أطوارا أرقى من سابقتها؟. إن العلم حياة القلوب وضياء العقل وحاجة المرء إلى العلم كحاجة عينيه إلى الضوء غير أن فنون العلم وحدها لا تندرج بالحياة إلى آفاق أعلى ما لم تصاحبها وسائل أخرى تغير من طبائع المتعلمين أنفسهم حتى تتيح لهم الإفادة مما يتعلمون.. وفى الحديث: أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: " مثل ما بعثنى الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وأصاب منها طائفة أخرى إنما هى قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ. فذلك مثل من فقه فى دين الله فعمل به وعقم. ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذى أرسلت به ". والحديث واضح فى أن العلم وحده لا يخلق أمة متساوية الأنصبة فى حقائق الخير والتقى ، ولا فى أسباب الفلاح والرشد. ولو أحصيت المتخرجين فى مدرسة ما لوجدت لبعضهم أمجادا ظاهرة ولبعضهم مثالب شائنة؟ وبعضهم ظهر حتى أضحى من أعلام المجتمع وبعضهم اختفى فلم يوقف له على أثر! وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول: " إنما أنا قاسم والله معطى ". والمثل الذى ضربه النبى صلى الله عليه وسلم لاستفادة الخلائق من(1/83)
رسالته عد أصنافا من الطباخ التى يحسن أن نشرحها. فأولاها بالله وألصقها بالحق وأجدرها بالتوقير والمثوبة... أولئك الذين علموا وعملوا وعلموا، إنهم استناروا بالمعرفة الصحيحة وأناروا الدنيا بها!! ص _092
أخصبت نفوسهم بالخير المغروس فيها فأزهرت وأثمرت، ثم امتدت الأيدى إلى جناها الدانى تقطف منه ما تشتهى.. أولئك دعائم الرشد فى كل أمة، إذا قاموا رست أركانها، وإذا ذهبوا ذهبت ريحها.. هذا ما قرره الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم إذ قال: " إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤساء جهالا ، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا ". فالعلماء الذين يعصمون الجماعات من الزيغ، هم أولئك الذين أماتوا أهواءهم، وقاموا بحق الله فى أنفسهم وفيما حولهم. انتفعوا بالإسلام ونفعوا الآخرين به، واتصلت حياة هذا الدين بهم كما تتصل حياة الشجرة بما تحمل من بذور فيها طبيعة الإنتاج والنماء، فهى إن ولت أعقبت بعدها ما ينبت مثلها أو أشد.. إلى أن يأذن الله بانقضاء الحياة والأحياء. وذكر الحديث طائفة أخرى من العلماء الذين لا يستفيدون مما علموا فائدة طائلة، إلا أنهم أوعية حسنة للمعارف النافعة التى تظل قائمة بأنفسهم حتى يجىء من ينقلها عنهم ليعمل بها ويفيد منها!! وهذه الطائفة ليست صنفا واحدا، فهناك حفاظ للعلم يعملون بقليل منه ويحملون كثيره دون تدبر فيه أو دراسة عميقة له. وأمثال هؤلاء، هم الذين يصدق فيهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم " رب حامل فقه ليس بفقيه !"، " رب مبلغ أوعى من سامع ". وربما اتسع علم هؤلاء وكثر بذلهم له.. حتى يضرب الناس إليهم لينالوا من حكمتهم ما تصح به النفوس وتصحوا الهمم!! فهم كالبحيرة التى تجمع الماء فيها فأضحت مثابة للعطاش يردونها ليرتووا، وربما حمل الماء منها إلى الأرض العاطلة، فإذا هى بعد حين حالية بالأزهار والرياض.. وحفظة العلم من هذا(1/84)
الصنف أقل رتبة فى الخير من العلماء العاملين المعلمين، بيد أنهم أرقى درجة من صنف آخر يعمل بضد ما يعلم، ويسلك فى الحياة مسلكا يزرى بما أوتى من عرفان.. ص _093
وقد أعلن الله عز وجل سخطه على أولئك الذين يعلمون بأقوالهم، ويجهلون بأحوالهم ، فقال : (كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون).. والحق أن هناك نفرا نكب العلم بهم، وفضحت الأديان بسيرتهم، جعلوا علمهم بالحق مصيدة للباطل فحفظوا منه كلمات يهدون بها الناس، ثم انثنوا من جهة أخرى يجرون المنافع ويصطادون المغانم.. فالفواصل بين ما يقولون وبين ما يفعلون غليظة كثيفة، طباع بهائم وتعليم ملائكة. ولذلك وصف القرآن الصلة بين علمهم وطباعهم بقوله : (مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله والله لا يهدي القوم الظالمين). وأحسب أن هذا الصنف ليس من قبيل الأرض المجدبة التى أمسكت الماء، فالمفروض أن معدن هذه الأرض لا يفسد ما فوقه! والنفوس ينبغى لها أن تصلح بالعلم , فإذا لم تصلح به فلعل من بقية الخير بها أن تحفظه نقيا ليصلح به الآخرون..! وقد تقول: إن الحديث ذكر علماء ينشرون الهدى ولا ينتفعون به، فلم ترك العباد الأتقياء الذين ليس لهم علم ينشرونه؟ والجواب أنه ليس فى الإسلام عباد جهلة، وأقل أحوال المسلم أن تكون لديه معرفة بالفضائل والرذائل فهو يدعو للأولى وينفر من الأخرى.. فإذا لم يكن كذلك فهو من العصاة وليس من المتقين. وأما الصنف الذى أعيا العالمين أمره وأعجز الأطباء برؤه فهم أولئك الذين تتعهدهم بدروس الحكمة وتأخذهم بألوان الأدب، وتغزوهم بالنذر، وتتألفهم بالبشريات... ومع ذلك كله يستعصون على جهودك المتتابعة ويلقون القنوط فى قلبك. انظر إلى قوم إبراهيم كيف هشم أصنامهم ليثبت لهم أنها لا تملك لنفسها ولا لغيرها ضرا ولا نفعا.. فلما جاءوها ورأوها مكبوبة مهينة تساءلوا: (قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا(1/85)
يا إبراهيم * قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون * فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون). ص _094
وإلى هذا الموقف كان يجب على الضُلاَّل أن يهتدوا، وأن يصحوا من غفلتهم على ضوء الحقيقة الرائعة ، لكن النفوس الملتوية تنقلب فيها مقدمات الحق، فإذا بها تتمخض عن نتيجة أخر!! لقد عادوا يقولون لإبراهيم، إن آلهتنا ـ كما علمت ـ لا تنطق ولا تعى. فكيف جرؤت على قداستها؟ (ثم نكسوا على رءوسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون * قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم * أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون * قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين) وجماهير الدهماء من هذا القبيل المتعب، فهم إما أناس لا عقول لهم، يعجزون عن إدراك الحق لقصور أذهانهم على نحو ما قال الشاعر: أقول له عمرا فيسمع خالدا ويقرؤها زيدا ويكتبها بكرا!! وإما أناس لهم عقول مدركة ذكية ولكن ليس لهم ضمائر حية فهواهم هو الذى يوجه علاقاتهم بالخصوم والأصدقاء، ويفسد أحكامهم على الأشخاص والأشياء... هؤلاء وأضرابهم هم الذين شبههم الرسول بالأرض السبخة.. لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ! تحاول أن ترفع رءوسهم وأن تحملهم عن الثرى الذى التصقوا به فكأنك تحرك الرواسى من أوضاعها التى شدت فيها. هل معنى ذلك أنه من الصعب إنشاء أجيال طيبة يترعرع فيها الحق والجمال، وينضر بها العالم ويستقيم العمران، وتستأنف الحياة بها مراحل أدنى إلى الفلاح وأبعد عن الدنايا؟؟ إننى أميل إلى التفاؤل فى حكمى على فطرة الإنسان، وأحسب أنه لو تضافرت عوامل معينة على تمهيد الطريق أمامه لقل عثاره واهتدى إلى ربه، واستراح إلى كنفه.. إن الحكومات تستصلح الآن مساحات شاسعة من الأرض السبخة والصحارى الجافة، وتعمل- دائبة- على تحويلها إلى جنان وحقول تزدان بالزرع والنخيل، وهى تغسل الأرض جيدا لتزيل ما علق بتربتها من أملاح وترقب البذور الوليدة، لتمنع الحشائش الغريبة(1/86)
من النماء على حسابها.. ص _095
فهل ترى أن هذه الجهود لو سلطت على ميدان العلم والتربية لاستصلاح الجماهير المضيعة والعقول الملتاثة.. أما كان لها نتاج كريم وثمر عظيم؟؟ كتب شقى مجرم ليلة إعدامه كلمات أحب أن نقف قليلا لديها، وأن نسائل أنفسنا عن مدى ما فيها من حق. هذا المجرم سرق فى سن الخامسة.. وكان من قطاع الطرق فى الحادية عشرة، وتحول قاتلا فاتكا فى السادسة والعشرين، وحكم عليه بالموت خنقا بالغاز عقابا له على ما جنت يداه. وها هو ذا ـ قبل أن يلقى حتفه ـ يخط هذه الأفكار والمشاعر… وفيها ـ لا ريب ـ عظات بالغة للآباء والمربين. قال: لم يبق لى فى الحياة وقت طويل. فما هى إلا أيام أو ساعات وينتهى أمرى. ولكنه وقت يكفى لأن أعود بذاكرتى إلى الوراء أستعرض بها الماضى فأتبين ما جاء بى إلى هنا، وقادنى إلى هذا المصير . ولست أدرى أى شعور يخالجنى الآن؟! وقد يخيل إلى أننى سأتهافت حتى أهوى، وسأنفجر فأصيح باكيا، ولكنى أرجو أن أصمد وأتجلد، كما يفعل الرجل فى النائبات، وأن أتكلف ـ حتى اللحظة الأخيرة ـ مظهر الجرأة والقوة. أما ما أدرك أنه يملك على تفكيرى وشعورى جميعا، فهو أنى على يقين من أن قتلى لن يفيد أحدا من الناس. فلن يعود الرجل الذى قتلته إلي الحياة ولن يستطيع البشر أبدا أن ينتزعوا الروح من جسد حى ليحيوا بها جسدا هامدا. (.. إننى أتساءل طوال ليلى المؤرق ونهارى الحائر: أما يستطيع الناس- وفيهم من فيهم من العلماء والمفكرين- أن يجدوا طريقة يصلحون بها الأشقياء بدلا من تقتيلهم، فيدفعوا عن الناس شرهم، ويبقوا على حياتهم معا؟! (.. لو وجدت هذه الطريقة لتغير مصيرى، فلأدع الله، فى هذه الساعة الأخيرة من حياتى أن يوفق الناس إلى هذه الطريقة حتى لا يكون مصير من نشأوا مثل نشأتى، أليما مروعا كمصيرى! ص _096(1/87)
(.. إننى أعرض الآن فى ذاكرتى قصة حياتى، فأرى أنى لو ربيت تربية صالحة، ولو وجهت توجيها قويما، لشققت فى الحياة الطريق الذى يشقه الناس الأخيار، ولكنى كنت سيئ الحظ. أكثر مما كنت شرير الطبع، فلم ألق حولى إلا من أساء فهمى ، وأخطأ توجيهى، فقادنى من السرقة، إلى القتل، إلى الإعدام..!.) * * * * إن فساد العلم بالدين والحكم بالدين، كانا من الكوارث الكبرى فى تاريخ البشر، فهل يغر على أولى الألباب إقامة حضارة تُحسن معرفتها لله وإقامتها لحدوده؟ ربما قال المتشائمون: لقد نجح الشيطان من قديم فى إغواء الإنسان، ويبدو أنه ماض فى خطته الأولى يحرز نصرا بعد نصر.. وما من جيل ينقرض إلا ويتقلص معه جزء من ظلال الإيمان... وأقول: إن العراك خالد بين الحق والباطل، وعلى أهل الدين أن يؤدوا واجبهم إلى آخر رمق.. ويؤسفنى أن أقرر هنا أن انتشار الفساد فى الأرض لم يجئ من نشاط الشيطان بقدر ما جاء من تكاسل المؤمنين ووهن عزيمتهم. والله عز وجل يكلف المسلمين خاصة أن يستميتوا فى إعلاء كلمته وحياطة رايته، وقد يصل المحدثون إلى ما لم يبلغه القدامى.. وفى الحديث " أمتى كالمطر لا يدرى أوله خير أم آخره " . ص _097(1/88)
صلابة رجل..!! العاطفة الأولى تجاه شئ ما تحدد ـ إلى أمد بعيد ـ موقف الإنسان منه وسلوكه معه، فإذا فوجئ الإنسان بروع فثبت له ولم تأخذه دهشة المباغتة كان حريا أن ينجح فى مقاومته، وأن تكون له العقبى وإن طالت مراحل الكفاح. أما إذا انتابه الفزع وطار قلبه شعاعا فهيهات أن يتماسك، وإذا عاد إليه صوابه ـ بعد لأى ـ فإن ما فاته من خير قلما يعود إليه.. ولذلك يقول الله عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا…). هذا الثبات أولا، هو بذرة النصر آخرا... ويقول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ " إنما الصبر عند الصدمة الأولى". وفى أدب العرب ما ينوِّه بقيمة هذا الإحساس الأول، وقيمة ما يترتب عليه من سيرة تحمد أو تعاب. قال الشاعر: ولما رأيت الشيب لاح بعارضى ومفرق رأسى قلت للشيب مرحبا ولو خفت أنى إن كففت تحيتى تنكب عنى- رمت أن يتنكبا ولكن إذا ما حل كره فسامحت به النفس يوما كان للكره أذهبا وضبط النفس- حتى لا تطيش بإزاء حادث ما- ليس بالأمر الهين، إنه يحتاج إلى الفكر السديد والعزم الحديد. إننا نكره الآلام ونمج مذاقها المرير، ولكن شاء الله أن يجعل من أكثر الآلام نفعا خالصا، ومن أكثر اللذائذ ضرا محضا. وما يزال الأطباء يصفون الأدوية المريرة لكفاح الأمراض وحسم أذاها، ولا تزال المصائب فى حياة الأفراد والأم مصدر دروس بالغة الأثر فى التربية والتعليم. والرجال الكبار كثيرا ما تظل مواهبهم مطوية فى أستار العزلة البعيدة، حتى تقع حادثة كبيرة فيكون موقفهم منها بداية تكشفهم للناس كما يتكشف البدر بعد انقشاع الغيوم . ص _098(1/89)
وأبو بكر الصديق لم يكن رجلا مغمورا فأظهرته واقعة من الوقائع ، إنما كان رجلا معروفا بمسحة معينة من الجمال، أو لون بارز من العظمة. فلما جاءت أحداث الردة تألقت فى جبين الرجل الكبير أشعة شتى من فضائل الثبات والإقدام والجرأة، تساوقت مع ما عرف عنه قبلا من فضائل الأناة والحلم والوقار، فزادته فضلا على فضل... وفى هذه الكلمة نحاول ـ متواضعين ـ تصوير شىء من عمل الإيمان الكبير تجاه الحوادث الكبيرة.. * * * * لم يكد الرسول ـ - صلى الله عليه وسلم ـ الله عليه وسلم ـ يصعد إلى الرفيق الأعلى حتى انتقض حبل العرب فارتدوا عن الإسلام ، وظنوا أن رمال الجزيرة ستعود كرة أخرى مسرحا لمآسي الجاهلية الأولى ومخازيها.. وشعر السابقون الأولون بخطورة الأمر، ورأوا أنفسهم فى دار الهجرة مهددين بعصابات الأعراب الثائرين وجيوش مانعى الزكاة، والشقة بعيدة بينهم وبين جيش أسامة الذى سار قدما إلى مشارف الشام تنفيذا لوصاة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وليس للدين الكريم بعد حصنه المكين فى المدينة إلا مكة والطائف؛ فقد ثبت هذان البلدان، رغم أن قريشا وثقيفا كانتا آخر من استمسك بعروة الإسلام. على أن شيئا من ذلك لا يغنى فتيلا عن أهل المدينة.. فقد تجمع المرتدون من قبائل عبس وذبيان وأسد وكنانة. وكلما آذنت الشمس بالمغيب اقتربت جموعهم من مداخل البلد المهدد بغية اقتحامه على أهله والقضاء على الإسلام بعد ذلك. * * * * فلما أحس الصديق منهم الغدر، جمع حوله بقايا المسلمين، ولم يكن الأمر بحاجة إلى استثارة أو تهييج، فقد ضمتهم جميعا جدران المسجد النبوى، واستمعوا إلى أبى بكر يشرح خطة الدفاع ويرسم لكل منهم واجبه الذى يقوم به أو يموت دونه، ووزع أفراد هذا الجيش الصغير على ثغرات المدينة ومظان هجوم العدو وجعل المسجد مستودعا يخرج منه المدد إلى الجبهة التى يشتد فيها ضغطه ويخشى تسربه منها!! ص _099(1/90)
وأقبل الليل ؛ وثبت المسلمون فى أماكنهم يتربصون، وما هى إلا ساعات حتى نشب القتال !. لقد تحركت جيوش الأعراب، وها هى ذى سهام المسلمين تخترق عماية الليل، وأبو بكر فوق ناقته يصول ويجول، وصراخ التكبير تتجاوب به الوهاد الموحشة! وخرج المعسكرون من المسجد يشدون أزر المدافعين، وتتابعت أدوار الصراع طوال الليل بين الإيمان والكفران، فما طلعت الشمس حتى تنزل نصر الله على جنده، ونجت المدينة وفر المرتدون. * * * * كان لهذا الفوز معناه، فقد تعلم المرتدون أن المدينة غاية فى المنعة بما فيها من جند كثيف، وما هم إلا النفر القلائل ربا إيمانهم فساوت فعالهم جيشا جرارا، وكان أبو بكر يعرف كيف يستغل القوى التى توشك أن تختفى فى الأيام التى تترادف فيها المفاجآت العصيبة. وحقا اختلت الصفوف، وأقبلت الفق تريد أن تجعل بين كل مؤمن ومؤمن حجابا يفصل بينهما لتفترس كلا منهما على حدة! ولكن أبا بكر كان أسرع منها إلى العمل، فقد ارتفع بإيمانه كما يرتفع العلم فى المعركة المضطربة المختلطة ليئوب إليه الأنصار، ويحتشد من حوله المخلصون، ويكون من هؤلاء وأولئك مأمن للمروعين، ومستقر للشاردين، وكسب أبو بكر المعركة فى إنقاذ المدينة، وما هى إلا أيام حتى قفل جيش أسامة منصورا غانما، فاستراح أبطاله إلى حين. * * * * وبدأ الكفاح الحقيقى، فقد انفتح أحد عشر بابا للفتنة فى آن واحد. والجرح بموت الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يندمل بعد، وأطراف الجزيرة تموج بصفوف من الضلال تحاول الاندفاع إلى قلب الإسلام فتقضى عليه بعد أن تحللت منه!. وهنا يحشد أبو بكر كل من حوله، ويقذف بهم إلى المعركة الفاصلة؟ فيعقد أحد عشر لواء لأحد عشر قائدا، ويفتح إحدى عشرة جبهة مرة واحدة ويراقب القتال فى هذه الميادين بضعة عشر شهرا، وتمر الأيام وهذه الجيوش فى جهاد شاق، لا تنتهى من قتال إلا لتستأنف غيره حتى جاء أخيرا نصر الله والفتح، وهزم الله المرتدين شر هزيمة. ص _100(1/91)
يقولون: مهما يكن الطريق إلى الغاية المنشودة طويلا، فإن المهم هو الخطوة الأولى فيه، وهذا حق. بيد أن الخطوة الأولى لا تلدها إلا عزيمة كاملة وعاطفة ناضجة. إن الحوافز العظيمة وحدها هى التى تدفع إلى الخاطر وتجرئ على اقتحام الصعاب. والأمور لا تكون جسيمة أو هزيلة فى نفسها قدر ما تكون كذلك فى عين امرئ هياب أم مقدام. على حد قول المتنبى: وما الخوف إلا ما تخوفه الفتى وما الأمن إلا ما رآه الفتى أمنا وعندما توالت أنباء الردة على المدينة نهد لها الصديق الجلد، وكأنه غضوب استفزه سفهاء، فما يفكر إلا فى قمع العدوان الذى أصابه. مع أن هول الأخبار الواردة جعل الجبارين يتريثون فى مقابلتها، ويفكرون فى حيلة للخلاص منها . أما أبو بكر فقد أجمع أمره وتوكل على ربه وقرر العمل. ثم رئى فى عدة الكفاح، يقود الجيوش المعبأة للجهاد، وكان الظن به أن يبدو رجل سياسة ورياسة فحسب. وروى أنه عرضت شبهة لعمر دعته أن يطلب مسالمة العرب الناكلين عن أداء الزكاة، ظانا أن تألفهم بما فى قلوبهم من إيمان معلول سينتهى بهم إلى دفع الزكاة التى منعوها. فعن أبى هريرة أن عمر بن الخطاب قال لأبى بكر: (علام تقاتل الناس، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فإذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها ". فقال أبو بكر: والله لو منعونى عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأقاتلنهم على منعه " إن الزكاة حق المال، والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة... قال عمر: فما هو إلا أن رأيت أن الله قد شرح صدر أبى بكر للقتال فعرفت أنه الحق). وكما اجتاحت صلابة أبى بكر تردد عمر، أخذت تغمر سائر الصحابة من مهاجرين وأنصار وأعراب. ص _101(1/92)
روى ابن عساكر: أن أبا بكر خطب الناس يحضهم على جهاد المرتدين ومانعى الزكاة فقال: (الحمد لله الذى هدى فكفى وأعطى فأغنى . إن الله بعث محمدا، والعلم شريد، والإسلام غريب طريد، قد رث حبله، وخلق عهده وضل أهله منه. ومقت الله أهل الكتاب فلا يعطيهم خيرا لخير عندهم، ولا يصرف عنهم شرا لشر عندهم، قد غيروا كتابهم، وألحقوا فيه ما ليس منه. والعرب الأميون يحسبون أنهم فى منعة من الله لا يعبدونه، ولا يدعونه، فأجهدهم عيشا، وأضلهم دينا.. فختمهم الله بمحمد، وجعلهم الأمة الوسطى، ونصرهم بمن اتبعهم، ونصرهم على غيرهم. حتى قبض الله نبيه فركب منهم الشيطان مركبه وأخذ بأيديهم وبغى هلكتهم. (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين). إن من حولكم من الأعراب منعوا شاتهم وبعيرهم. ولم يكونوا فى دينهم أزهد منهم يومهم هذا، ولم تكونوا فى دينكم أقوى منكم يومكم هذا. على ما تقدم من بركة نبيكم، وقد وكلكم إلى المولى الكافى، الذى وجده ضالا فهداه، وعائلا فأغناه، وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها. والله لا أدع أن أقاتل على أمر الله حتى ينجز الله وعده ويوفى لنا عهده. ويقتل من قتل منا شهيدا فى أهل الجنة، ويبقى من بقى منا خليفته وذريته فى أرضه. قضاء الله الحق. وقوله الذى لا خلف له (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض …). * * * * إن هذا الشعور الفائز الظافر، قاد المعركة أولا، وربحها آخرا . ص _102(1/93)
السلام المسلح (...فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين * وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين). كنت أريد شرح الآية الأخيرة فوجدت أن أقصر طريق للإبانة عن معناها والدلالة على تفسيرها يكون بضم سابقتها إليها، فإن المقصود من الآية الأولى تقديم رائع للمقصود من الآية التى تليها. إن الله عز وجل يأمر بنصر الحق والنضال دونه ومجاهدة الكافرين بالنفس والنفيس، ويوصى عباده ألا يستكينوا للظلم ! ويحرضهم على مقابلة العدوان بمثله، وعلى ألا يتركوا الضلال يستعلن فلا يجد من يقمعه ويردعه. كلا. فرسالة الله أعز فى حقيقتها وأعز لدى حملتها من أن يكون لها أمام الباطل منزلة السوء والهوان. وهذا- بداهة- يستتبع سيلا جاريا من النفقة المبذولة، وينابيع دافقة من الإيثار والتضحية وبيع الدنيا بالآخرة. وقد وجه المسلمون الأولون صراحة بهذه التكاليف الشاقة فى هذه الآيات وفى غيرها من كتاب الله، لكن الآية التى نتلوها تمتاز بأنها تضمنت تهديدا خطيرا لمن يجبن عن الكفاح وينكص عن النفقة!! إذا اعتبرت الفارَّ بنفسه وماله ملقيا بنفسه وماله فى الهلاك، وأومأت إلى أن الأمة التي تتراجع عن الموقف الواجب فى ميدان الشرف والفداء لا تلبث قليلا حتى تذل وتخزى ثم يجر عليها التاريخ أذيال العفاء. ردوا العدوان وابذلوا فى سبيل الحق.. وإلا فالتسليم للعدوان والشح بالأموال طريق الضياع والفناء والتهلكة، فلا تلقوا بأيديكم إليها. ألا ليت المسلمين يدركون هذه السنة فى ازدهار الأمم واندثارها لا سيما وهم مع اليهودية والصليبية فى حرب حياة أو ممات... ص _103(1/94)
غير أن فريقا من المسلمين ظلم هذه الآية أقبح ظلم، وفهمها أغبى فهم، وظن أن الله يقول لعباده: احرصوا على أعماركم فلا تعرضوها للاستشهاد فى سبيلى واحرصوا على أموالكم فلا تضيعوها بالإنفاق فى سبيلى! وهكذا لم يكف الناس أن يعصوا، حتى ذهبوا يتلمسون لمعاصيهم الفتوى المشروعة! عن أبى عمران قال: كنا بمدينة القسطنطينية فخرج علينا صف عظيم من الروم فبرز إليهم من المسلمين مثلهم أو أكثر. وعلى أهل مصر عقبة بن عامر وعلى الجماعة فضالة بن عبيد، فحمل رجل من المسلمين على الروم حتى دخل فيهم ثم خرج إلينا، فصاح الناس إليه فقالوا : سبحان الله! ألقى بيديه إلى التهلكة. فقال أبو أيوب: يا أيها الناس، إنكم لتتأولون هذه الآية على غير التأويل. وإنما نزلت فينا معشر الأنصار، إنا لما أعز الله دينه وكثر ناصروه قلنا فيما بيننا: لو أقبلنا على أموالنا فأصلحناها.. فأنزل الله هذه الآية... وإقبال الناس على أموالهم يستصلحونها ليس جرما ينهون عن اقترافه، فإن تعهد المتاجر والمحاقل بما يزيد غلتها ويضعف ثمرتها عمل مطلوب لا قيام للدنيا إلا به، ثم لا قيام لدين إلا إذا ساندته دنيا، نماها العمل، ثم أنهكها البذل فى سبيل الله . وإنما خيف على المسلمين الأوائل أن يقعدوا عن نصرة الدين ويركنوا إلى ما بقى لهم من مال ظانين أن الإسلام قد انتصر وفرغ من أعدائه فلا ضرورة لإعداد ولا استعداد. وهذا خطأ. فإن أعداء الحق لا يخلو منهم جيل ولا ينقطع لهم كيد. ولئن كان الهجوم المسلح غير مطلوب دينا، فإن السلم المسلح من أركان الدين. وذلك يتقاضى الأمة أن تأخذ أهبتها كاملة فلا تبخل على غدد الحرب بمال، ولا تمسى إلا وهى واثقة من أنها على حذر وتهيؤ فإذا بوغتت ردت على العادين وهى عزيزة قادرة. فأما الأمم التى تنام على تفريط وتضن على حماية نفسها ورسالتها بالأرواح والأموال، فهى أمم لا شك هالكة، فى عالم يقال فيه : من لم يتذأب أكلته الذئاب. إن النفقة فى هذه(1/95)
الوجوه سياج يحمى المآثر ويصون الحياة. كما قال الله : (ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء ..) . ص _104
حول مخرج الحسين حكام المسلمين فى أغلب العصور يُعدون أضعف المسلمين إيمانا، وأشرههم نفوسا وأزهدهم فى مرضاة الله. وإذا استثنينا الخلافة الراشدة ونفرا يعدون على الأصابع ممن اقتفوا آثارها واقتبسوا أنوارها فإن الكثرة الباقية تكون سلسلة من المآسى التى ضاعت فى غمرتها حقوق الله والناس. وعندما ننظر خلفنا- بعد أربعة عشرة قرنا من الهجرة- نجد ثلاثة أسر كبيرة حكمت هذا التاريخ المديد : أمية، العباس، عثمان. من هذه الأسر الثلاث برز أغلب ملوك المسلمين، ودانت لهم الجماهير فى المشارق والمغارب، وهناك أسر أخرى أصغر شأنا ظهرت هنا وهناك حاكت الأسر الأخرى المحظوظة من أموية وعباسية وعثمانية، وطبقت أسلوبها فى حكم الدنيا والدين. ولا نعرف من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم سندا لهذا الإقطاع السياسى الرهيب.. ولا ندرى لم امتد فى آفاق الإسلام هذا الدخان الخانق الكئيب؟! لكن الذى ندريه جيدا أن أمر المسلمين شورى، وأنه ليس لأحد أن يفتات عليهم، أو يستبد بهم، وأن الشعوب تختار أكفأ رجل فيها لتلقى إليه زمامها، وأنها تسائله عما اؤتمن عليه، وتقصيه أو تدنيه وفق سيرته فيها. لكن أبناء هذه الأسر ملكوا فقل فيهم القوى الأمين. وكثر فيهم الفجرة الخونة، وكانت مقاليد الأمور تصل إليهم ميراثا مقررا. وكما يرث المرء عن أبيه ضيعة أو مالا أو أنعاما يرث هؤلاء الشعوب الكثيفة بما فيها من خواص وعوام، وعباقرة وطغام.. وأول من ابتدع هذه البدع وغرس شجرتها المشئومة معاوية بن أبى سفيان. وإذا كان الأولون قد تلقوا هذه البدعة بالمقاومة الضعيفة، وإذا كان هناك من قبلها إغماض وترخص، فإن ما نشأ عنها على مر الزمن من رذائل وآثام يكشف جسامة شرها وفداحة أثرها. ص _105(1/96)
ولا ريب أنه كان هناك فى السلف الأول من رفض هذا الانحراف وقرر محاربته بل يمكن القول بأن جمهرة المسلمين كانت ضد هذا التحول فى طريقة حكمها!! لكنها كانت مهزوزة العزيمة كاسفة البال بعد هزيمة صفين، وانتهز المبطلون هذا الانهيار النفسى السائد فمضوا فى طريقهم يعبثون بمقدرات أمة ومستقبل رسالة.. إن الإسلام ليس مجموعة من الوصايا الخلقية والعبادات الشخصية وانتهى الأمر.. إنه نظام شامل للتحرر السياسى والعدل الاجتماعى، وضمان وثيق لحقوق الإنسان وكرامات الأمم. وإذا كان الصلاح النفسى حجر الزاوية فى كل دين فإن الإسلام ينشئ هذا الصلاح إنشاء عن طريق خلق البيئة الفاضلة.. والحكم فى نظر الإسلام أداة مهمة من أدوات هذا التكوين العام فإذا نسى وظيفته أو فرط فيها كان مصدر خلل هائل فى الكيان الإسلامى كله.. وإذا تنكر للإسلام أو تمرد على حدوده أمسى سرطانا يغتال اليوم والغد.. وإنى لأعتبر هوان المسلمين فى هذا العصر هو النتيجة الحتم لفساد الحكم فى بلادهم من زمن بعيد. وأظن الحسين بن على كان يحس الأخطار على حاضر الإسلام ومستقبله متمثلا فى الطريقة التى ملك بها يزيد أزمة الحكم، والطريقة التى يصرف بها شئون الناس. وإنه لأمر مستكره أن يكون على قمة السلطة فى بلاد الإسلام شاب ماجن خليع. والأمة الإسلامية تفقد أجل خصائصها عندما تسكت على هذا الوضع بل إنها ما تستحق أن تبقى مع استقراره.. فكانت ثورة الحسين عليه حركة يثبت بها الإيمان وجوده، ويجدد بها حياته، ويرضى بها ربه!! بل إن هذه الحركة لم يكن منها بد لإعطاء المثل الرفيعة طاقة تسير بها بعدما كادت تقف . وكأن أولى الألباب يتفقون على أن مقاومة يزيد دين، ولكنهم يريدون أن تكون خطة الثورة ذكية بقدر ما هى جريئة وإلا فإن الحاكم المستبد سيشرد برجالها من خلفهم ومن هنا يلوم أكثر النقاد الحسين بن على رضى الله عنه فى مخرجه أيام يزيد وتعرضه وأهل بيته للحتوف، على غير خطة حكيمة، أو حيلة(1/97)
ناجحة، أو قوة مساندة؟ ص _106
ولم يختلف جلة المؤرخين على أن يزيد كان حاكما فاشلا، وأن طريقة استخلافه على المسلمين بعيدة عن تعاليم الإسلام. وأن مدته القليلة حفلت بحوادث مشئومة..!! ولم يختلفوا كذلك فى أنه كان هناك رجال أحق منه بالخلافة وأقدر على تولى شئون المسلمين، وأرضى لله فى خلقهم وعملهم. منهم- أو فى طليعتهم- الحسين بن على سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم.. ومع هذه الكراهية ليزيد فإن المعارضين لحكمه لم يجمعهم نظام دقيق، ولم تتخذ ثورتهم عليه منهجا واضحا موحدا...! كان العامة يكتفون بالسخط المجرد، السخط الذى يتجاوز الفؤاد أحيانا إلى اللسان، كلمة نابية، تقال فى الخلاء...!! وكان الخاصة يرقبون المستقبل، وعواطفهم موزعة. إنهم يدركون أن الخليفة الضعيف سيضطرب الأمر فى يده ويفلت الزمام منه. فمن يا ترى ينهض من بعده بالعبء ويلى هذه الأمة؟ وليس بمستغرب أن يرشح نفر كثير أنفسهم لهذا المنصب، لقد تولاه من هو دونهم فكيف يبعد عنهم أو يستكثر عليهم؟؟ وهذه السلبية فى تفكير العامة والخاصة جميعا مكنت يزيد أن يبقى فى الخلافة حتى يفارقها بالموت وحده... ولو طال أجله لطالت خلافته. ولم لا تطول ومن حوله أعوان يجتمعون عليه بقوة؟ وتغريهم حلاوة الدنيا فى ظله فيتحدون خصومه بعنف..؟ إن المعارضة المفككة المرتبكة لا تلبث أن تضمحل أمام دولة موطدة الأركان محشودة الأعوان. نعم! ولو كانت المعارضة أكثر أنصارا وأدنى إلى الرشاد. وذاك سبب الفشل الذى لحق الثورات ضد يزيد، قال ابن كثير: قدم عبد الله بن عمر المدينة فأخبر أن الحسين بن على قد توجه إلى العراق، فلحقه على مسير ليلتين ص _107(1/98)
أو ثلاث. قال: أين تريد؟ قال: العراق- ومعه طوامير وكتب- فقال: لا تأتهم! فقال: هذه كتبهم وبيعتهم!. فقال: إن الله خير نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بين الدنيا والآخرة فاختار الآخرة ولم يرد الدنيا. وإنكم بضعة من رسول الله، والله لا يليها أحد منكم أبدا، وما صرفها عنكم إلى الذى هو خير منكم فارجعوا. فأبى وقال هذه كتبهم وبيعتهم! فاعتنقه ابن عمر وقال: أستودعك الله من قتيل!! قال ابن كثير: وقد وقع ما فهمه ابن عمر من أنه لم يل أحد من أهل البيت الخلافة على سبيل الاستقلال ويتم له الأمر. وقد قال ذلك عثمان بن عفان وعلى بن أبى طالب. إنه لا يلى أحد من أهل البيت أبدا. وأما الخلفاء الفاطميون بمصر فإن أكثر العلماء على أنهم أدعياء... وعلىَّ ليس من أهل البيت، ومع هذا لم يتم له الأمر كما تم للخلفاء الثلاثة قبله ولا اتسعت يده فى البلاد كلها، بل تنكدت عليه الأمور. * * * * ونحن نوافق ابن عمر فيما ذهب إليه ونخالفه فى العلة التى ارتآها. إن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ آثر الآخرة على الدنيا حقا. وآله الذين هم بضعة منه يريد الله لهم ذلك، ويغلبهم على رغباتهم فيها (...إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا). لكن هل ولاية أمور المسلمين دنيا يذاد الصالحون عنها؟ لقد جاء فى الحديث أن أول السبعة الذين يظلهم الله يوم القيامة " إمام عادل " وجاء أن أول أهل الجنة الثلاثة " ذو سلطان مقسط موفق ". فإمامة المسلمين فى الحكم- كإمامتهم فى الصلاة- عبادة محضة. وما يستطيعه المصلحون إذا حكموا أجدى على دين الله ودنيا الناس ألف مرة مما يستطيعه الصالحون إذا اعتزلوا . بل إن فساد الحياة ومثلها العليا يرجع أول ما يرجع إلى أن نفرا من الطغاة أمكنتهم ص _108(1/99)
الأيام من أن يحكموا الأرض آمادا طويلة فقلبوا الحقائق فى أفهام الناس وأوهامهم، وجعلوا سوق الرذائل نافقة، وتجارة الآخرة كاسدة. فكيف يُؤخر الأتقياء عن الحكم ليتولاه الفجرة؟. إننا- لذلك- نخالف ابن عمر فى فهمه، ونحسب أن الخلافة صُرفت عن آل البيت لحكمة أخرى. إن الزعامة أولا ليست مما تنقله الوراثة، وكم من سلالات باعدت بينها وبين الأصل فروق ضخمة فى الخصائص والمواهب. وربما ظهر فى بيوت المسلمين العامة من يعد أرحب ذكاء وأوسع باعا وأصدق إيمانا وإخلاصا من رجال انحدروا من أصلاب أنبياء... وما كان صلاح الأب ضمانا لصلاح ذريته إلى قيام الساعة. ومع هذا فقد يظهر فى أولاد العظماء من يحاكون نبوغهم ويجددون فى الحياة امتيازهم. والرجال الذين يضمون إلى كفايتهم الخاصة عراقة الأصل يتمتعون بنفوذ مضاعف ومكانة مرموقة. وتلك منح لا تتاح لكل أحد. إن قليلا من الناس يجمع بين الذكاء والجمال، والغنى والعلم، والقوة والحلم، والدين والدنيا. وقد كان الحسين بن على سيدا ابن سيد، ورجولته ـ بغض النظر عن نسبه ـ تستثير الإعجاب. وقد فشل فى إسقاط يزيد، وأخذ السلطة منه، وكأن الأقدار صنعت خيرا له ولأهل بيته من حيث لا يحتسب . نعم، لأن الحاكم بشر يخطئ ويصيب، ومكانته من تملك السلطة وتصريف الأمور توجب على الأمة وضعه تحت رقابة دائمة، فإذا أخطأ قومته وإذا اعوج أصلحته. وعندما يكون الحاكم مبتوت الصلة بنسب مهيب تكون الأمة على تقويمه أجرأ، وعلى الثورة عليه ـ إذا جار ـ أسرع وأقطع. أما إذا أخطأ ـ وهو يقول : أنا ابن النبى ـ فإن الخطأ سوف يغتفر له، بل سوف يتأول له. ص _109(1/100)
وعندئذ يتحول الغلط إلى شرع..! وإذا افترضنا أن هذا الخطأ وجد من يصر على محوه، فلن تتم إزالته حتى يزول معه جزء من هيبة الحاكم. وبالتالى من قداسة النسب الذى يعتز به. وقد يتأدى ذلك إلى غضاضة فى النفوس نحو حق الرسول الذى ينتسب إليه... إن ملوك بنى أمية لما أخطأوا لُعنوا وتنادى المسلمين عليهم من كل جانب حتى أسقطوا دولتهم، وما كان ذلك يحدث لو تولى الأمر أهل البيت... ولما يعلمه النهازون والدجالون من محبة المسلمين لنبيهم وبيته اصطنعوا أنسابا يمتون بها إليه. وأقاموا حكامات كانت ـ بسيرتها المخرفة ـ وبالا على الإسلام وأهله. وتاريخنا السابق واللاحق يحكى أنباء أسر انتحلت الشرف ـ والشرف هو بالنسبة إلى الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالتوالد (!)- وباسم هذا الشرف المكذوب ألحقت بالأمة الإسلامية من الأذى ما تزال تترنح منه حتى الساعة... لقد أصاب ابن عمر فى قوله للحسين : والله لا يليها أحد منكم أبدا. لقد صرف الله الحكم بخيره وشره عن آل محمد ليسوى الناس شئونهم بأنفسهم، ويحلون مشكلاتهم ـ مع حكامهم ـ بأيديهم، باللطف أو بالعنف، باللسان أو بالسنان. وخير لآل محمد أن تسبغ عليهم مشاعر العطف وهم مظلومون من أن تتبعهم مشاعر الحقد، وهم حكام جبارون... * * * * بيد أن حسينا هاجته رسائل أهل العراق وهم يستقدمونه ليجعلوا الأمر له، إنه أهل للسيادة بنفسه وبنسبه، وها هى ذى الجموع تدعوه فكيف يتأخر؟. ويروى أن ابن عباس جاءه ناصحا، قال: يا ابن العم إنه قد أرجف الناس أنك سائر إلى العراق، فبين لى ما أنت صانع. فقال: إنى أجمعت السير فى أحد يومى هذين إن شاء الله. فقال له عبد الله: أخبرنى إن كانوا قد دعوك بعد ما قتلوا أميرهم ونفوا عدوهم وضبطوا بلادهم فسر إليهم . ص _110(1/101)
وإن كان أميرهم حيا، وهو مقيم عليهم قاهر لهم. وعماله تجبى بلادهم فإنهم إنما دعوك للفتنة والقتال. ولا آمن عليك أن يستفزوا عليك الناس ـ بحكم ما فى أيديهم من سلطة ـ فيكون الذين دعوك أشد الناس عليك. فقال الحسين: إنى أستخير الله وأنظر ما يكون. ورجع عبد الله وهو متوجس من مسلك الحسين، ثم غلبته محبته له فعاد إليه يكرر نصحه. فقال له الحسين: يا ابن عم، والله إنى لأعلم أنك ناصح شفيق. ولكنى قد أزمعت السير. فقال له: إن كنت لا بد سائرا فلا تسر بأولادك ونسائك. فوالله إنى لخائف أن تقتل كما قتل عثمان. ونساؤه وولده ينظرون إليه. ثم قال عبد الله : والله الذى لا إله إلا هو لو أعلم أنى إذا أخذت بشعرك وناصيتك حتى يجتمع على وعليك الناس أطعتنى وأقمت، لفعلت ذلك... ويروى المؤرخون أن عبد الله بن الزبير شجع حسينا على الخروج وزين له الثورة على يزيد، وملأ فؤاده ثقة بأنصاره فى العراق وكثرتهم. ويزعم أولئك المؤرخون أن عبد الله كان غاشا فى هذه النصيحة وأنه إنما رغب فى أن يخلو له الجو فى الحجاز حتى تنعقد له إمارته وحده. وهو يوقن بأن الحسين سيهلك فى هذه الرحلة المشئومة. وهذا كلام مستبعد، لأن عبد الله بن الزبير أتقى لله وأعرق فى الإسلام من أن يقترف هذه الدنية. والحق أن هؤلاء الصحابة كرهوا ولاية يزيد أول ما جاء، وتربصوا به الدوائر. إلا أنهم لم يرسموا خطة بينة فى إنقاذ الأمة من بدعته وحمايتها حاضرا ومستقبلا من جريرته. وطبيعى أن ينظر كل منهم إلى يزيد نظرة دخيل على الخلافة، وأن يتمنى لو كان فى مكانه هذا من هو أفضل منه. وعبد الله بن الزبير لا يرى بأسا فى أن يتقدم الحسين لاسترداد الخلافة من يزيد. فهو ـ فى نظره ـ مؤيد بشيعة تعينه على بلوغه غايته . ص _111(1/102)
نعم إن خطة الحسين كانت مجازفة، لا أثر فيها لحسن السياسة. غير أن ابن الزبير ـ وإن كان أدهى من الحسين ـ لم يرزق طول الباع فى سياسة الأمور، وسواء كان حاكما أو معارضا.. تلمس فى سلوكه مع قائد جيوش يزيد عندما وردت أخبار وفاته.. فقد رأى هذا القائد أن يفاتح عبد الله بن الزبير فى التعاون معه والبيعة له، فأبى عبد الله أن يسمع منه ! ولو أصغى لدانت الشام له.. وخلا الجو لابن الزبير ـ بعد ـ ودخلت أغلب أقطار الإسلام فى حوزته. ومع ذلك فإن طريقته فى تصريف الأمور جعلت الدولة تذهب منه. فما زال سلطانه ينكمش، حتى قتله الحجاج وصلبه فى عاصمة ملكه المدبر... فعبد الله لم يغش الحسين حين زين له الذهاب إلى مصرعه بالعراق. وإنما كان يصدر عن طبيعته فى فهم الأحوال العامة وأسلوب معالجتها. ونحن نؤكد أن عدم التقاء الصحابة الأكفاء على زعامة واحدة ومنهاج مشترك، يتعاونون جميعا على تحقيقه وجمع الجماهير عليه.. وهو الذى أتاح للملك الأموى فرصا أطول للبقاء والرسوخ. * * * * لم يستجب الحسين لنداء المشفقين على مصيره، وخرج مع أسرته شطر العراق، ليلقى أنصاره الذين ينتظرونه بالأشواق..!! ويقول الحسين ـ مسليا نفسه مما قد يجد من روع ـ لأن أقتل فى مكان كذا وكذا، أحب إلى من أن أقتل بمكة. هل كان الحسين يخشى على حياته وهو يقيم فى الحرم، مسالما الحكومة الغالبة؟ من الرواة من يقول ذلك. فعن عوانة بن الحكم أن الحسين قال لعبد الله بن الزبير : والله لأن أقتل خارجا من الحرم بشبر أحب إلى من أن أقتل فيه. وأيم الله لو كنت فى جحر هامة من هذه الهوام لاستخرجونى حتى يقضوا بى حاجتهم، وليعتدن على كما اعتدت اليهود فى السبت..!! ص _1 ص(1/103)
إن الملوك لا يستكثر عليها شىء فى سبيل تدعيم سلطانها. ولعل الحسين أحس الغدر من قوم أبغضوه أشد البغض، ولهم مع أبيه وشيعته صحائف قانية. ولأن يموت وهو يبذل جهدا ما فى حرب باطلهم أحب لديه من أن يقع فى أيديهم غنيمة باردة. وهكذا اقتنع الحسين بضرورة الخروج إلى العراق، وليقع له ما يقع. روى عنه أنه قال: رأيت رؤيا، فيها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقد أمرت بأمر أنا ماض فيه. فلما سئل عن الرؤيا قال: ما أنا بمحدث عنها حتى ألقى ربى... ولقى الحسين فى طريقه الفرزدق الشاعر المشهور، فسأله عن أمر الناس وما وراءه، فأجاب الفرزدق : قلوب الناس معك، وسيوفهم مع بنى أمية. ولكن الحسين مضى لا يلوى على شىء حتى اقترب من الكوفة. إن الطريق مقفرة ! أين الوفود التى يرجو أن تستقبله؟ أين أصحاب الرسائل الذين كتبوها ألوفا ألوفا؟ أين حملة السلاح الذين انقضوا على الملك العضوض؟ بل أين الحماة الذين يؤنسون الراكب المستوحش؟ لا شىء من ذلك! لقد جاء بدلهم رجال الشرطة يبغون اعتقال الثائر الفريد.. وانطفأت حماسة الحسين بعدما شاهد قبح الغدر به، فقال لقائد الجند الذين أرسلوا لأخذه ومن معه : اختر منى إحدى ثلاث خصال : إما أن تتركنى أرجع كما جئت.. فإن أبيت هذه فسيرنى إلى يزيد فأضع يدى فى يده فيحكم فى ما يرى. فإن أبيت هذه فسيرنى إلى الترك فأقاتلهم حتى أموت!. فكان تعليق عبد الله بن زياد على هذا العرض : الآن إذا علقت مخالبنا به يرجو الخلاص..؟ ولات حين مناص؟ وأبى عليه واحدة من الثلاث . والحق أن الحسين كان عادلا عاقلا فيما رجاه وأن بطر القوة المنفردة بالحكم هو الذى ص _113(1/104)
أملى برفض الطلب الذى يصون هيبة الحاكم ويحفظ كرامة رجل كالحسين له مكانته التى لا شك فيها. وبديهى أن يتأبى الحسين على ذل الإسار، وأن يستعد للنضال عن شرفه وأن يبوئ عشيرته مقاعد للقتال، حتى يحكم الله بين الفريقين. روى أن الحسين حين مضى بأصحابه جلسوا يستريحون قليلا، فخفق الحسين خفقة، انتبه على أثرها فزعا، وهو يسترجع ويحمد الله. فسأله ابنه الأكبر: جعلت فداك! مم استرجعت وحمدت؟ قال الحسين: رأيت فارسا على فرس يقول : القوم يسيرون والمنايا تسرى إليهم. فعلمت- يا بنى- أنها نفوسنا نعيت إلينا. فقال ابنه: يا أبت، لا أراك الله سوءا، ألسنا على الحق؟ قال: بلى، والذى إليه مرجع العباد . فقال الغلام: إذا لا نبالى أن نموت محقين. ودار القتال واستمات الحسين وصحبه فى الدفاع عن أنفسهم حتى كاد جند ابن زياد يفشلون فى النيل منهم على كثرتهم. لكن ما تجدى الشجاعة والفروسية أمام هذه الأضعاف المضاعفة؟ أخذ فرسان أهل البيت يتساقطون بطلا بعد بطل. ولبث الحسين ينافح وحده فى معركة لا أمل بها. قال عبد الله بن عمار ـ وهو ممن حاربوا الحسين ـ : حملت عليه بالرمح فانتهيت إليه لأقتله، ثم قلت: ما أصنع بقتله، ليقتله غيرى. فانصرفت غير بعيد، فقاتله رجال عن يمينه وشماله، فحمل عليهم الحسين بقوة حتى تفرقوا، وعليه قميص من خز معتم. فوالله ما رأيت مسكورا قط ـ مات ولده وأهل بيته وأصحابه ـ أربط جأشا ولا أمضى جنانا ولا أجرأ مقدما منه. ولقد وجدوا ببدنه بعد استشهاده ثلاثا وثلاثين طعنة، وأربعة وثلاثين ضربة كلها فيما أقبل من وجهه وجسمه. ص _114(1/105)
ويروى أن الحسين قال وهو يخوض هذه المعركة، أو هذه المجزرة: سأمضى، وما بالموت عار على الفتى! إذا ما نوى خيرا وجاهد مسلما! وآسى الرجال الصالحين بنفسه وخالف مثبورا وفارق مجرما! فإن عشت لم أندم، وإن مت لم ألم كفى بك ذلا أن تعيش وترغما!! وبهذا الختام الحالك انتهت مأساة كربلاء. قتل الذكور كلهم إلا طفلا، وأخذ سائر النسوة أسرى. ومشى أهل البيت إلى يزيد يجرون قيود الهزيمة والثكل. وللأمم فترات يتبلد فيها إحساسها، فتطيف الأخبار الهائلة بها، وهى حالمة ساهمة، بين روعة المفاجأة، واستكانة العجز، وخزى الفشل. وقد سرى موت الحسين فى أرجاء العراق، وبدأت أصداؤه الكئيبة تتردد فى الآفاق ودويه المزعج يطق فى كل فج. وبين وطأة القوة المنتصرة وتربص الجماهير المحنقة جعل هذا المصرع المؤسف يعمل عمله السريع والبطىء فى نفوس المسلمين. فكان مثار فتن وقلاقل بقيت تهز كيان الأمة الكبيرة أجيالا متطاولة. والمؤرخ للعقائد وعملها الحاسم فى توجيه الحياة، يجب أن ينبه إلى أمور : منها أن كل جهد فى محاربة الباطل لا يذهب سدى، وأن التضحيات المبذولة ـ وإن بعدت نتائجها ـ تعمل عملها المتمهل أو المتقطع فى القضاء على الطغيان، وأن صدق النية قلما يضيع أثره عند الله، أو عند الناس. والجبناء فى حرب المنكر يتعللون لقعودهم بأعذار شتى: منها أنهم قد يهلكون دون جدوى، ويظل المنكر قائما لا صدع به. وهذا خطأ . فإن الانتقاض المتجدد عليه يقرب مصيره، إن لم يعجل به.. ص _115(1/106)
وقد مات الحسين، وظل مُلك أمية بعده حيا. إلا أن دمه المسفوك هو الذى قوض الحكم الأموى وألب عليه النفوس، فما زالت تناوشه حتى انهار.. والعاطفة النبيلة ضد الظلم لا تغنى البتة عن الرأى الحصيف والتدبير الحسن. وعندى أن قول الشاعر : إذا هو ألقى بين عينيه عزمه ونكب عن ذكر العواقب جانبا لا يناقضه قول الآخر : الرأى قبل شجاعة الشجعان هو أول، وهى المحل الثانى وذلك أن هناك فروضا يعتد بها الفكر المجرد، فلا معدى عن حسابها. وهناك فروض يظهرها الخوف على العمر، والحرص على المال، فلابد من تنحيتها. فالشجاعة لا تعنى الحمق واطراح الرأى وتقليب وجوهه. والعقل لا يعنى تجسيم الأوهام، والتشبث بأذيال الحياة على أى لون. وقد عاش الحسين شجاعا ومات شجاعا. وربما تسرب الخطأ إلى خطته فى المقاومة، على أن الملابسات التى اكتنفته قد تخفف من لومه، والخطايا التى ارتكبتها الحكومة فى قمعه تبرر سوء الظن بها إلى حد بعيد.. والحسين السيد لا يتوقع منه إلا أن يكون ـ إلى الرمق الأخير ـ بطلا عالى الهمة. إن أصحاب العقائد عندما يحاط بهم يشبهون النار عندما تنفخ فيها الرياح. تتحفز مشاعرهم كلها ويجابهون الأخطار ببأس شديد. وقد قتل قبله بشهور (مسلم بن عقيل) فكان فى دفاعه وتصبره وجلده مثلا للرجولة المبرأة الماجدة. أحاط سبعون من شرطة ابن زياد بالدار التى لجأ إليها، فلم يشعر مسلم إلا والقوم حوله. ص _116(1/107)
فلما دخلوا عليه قام إلى السيف فأخرجهم من الدار ثلاث مرات. وأصيبت شفته العليا والسفلي، ثم جعلوا يرمونه بالحجارة، ويلهبون النار فى أطناب القصب، فضاق بهم ذرعا، فخرج بسيفه يقاتلهم. فأعطاه رجال الشرطة الأمان، فأمكنهم من يده، وجاءوا ببغلة فأركبوه عليها، وسلبوا عنه سيفه فلم يبق يملك لنفسه شيئا. فبكى عند ذلك وعرف أنه مقتول. فقال بعض من حوله : إن من يطلب مثل الذى تطلب لا يبكى إذا نزل به هذا..! فقال: أما والله لست أبكى على نفسى، ولكنى أبكى على الحسين وآل الحسين. إنه قد خرج إليكم اليوم أو أمس من مكة. وأوصى مسلم من بعث إلى الحسين باسمه يأمره بالرجوع... لكن بعد فوات الأوان . كان مسلم يريد تنبيه ابن عمه ألا يثق بصدق أنصاره فى العراق، فهم خاذلوه حتما كما تركوه هو، يقتله ابن زياد. ولكن القدر غلب. فتبع مصرع هذا ذاك. * * * * ص _117(1/108)
العلم يدعو للإيمان إلى متى يظل الإنسان منطلقا فى هذه الحياة كالقذيفة الطائشة، لا يدرى كيف يسير، ولا إلى أين المصير؟ وإلى متى يبقى مندفعا بقواه المذخورة وأهوائه المحصورة حتى إذا نفدت قوته وبطلت حركته سقط حيث طاشت به مطارح الدنيا. (...فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق). عجبت لقوم ينكرون الله، ويجحدون مبتدأهم منه ومنتهاهم إليه. وأعجب من ذلك أن يتوسلوا إلى إلحادهم بالعلم!! العلم الذى هو نهج الإيمان الحق، ودليل الوجود الأعلى!! فإذا ذهبت تتعرف شبههم وجدت إما قصورا فى العلم يلحق صاحبه بالجهال، وإما غرورا بأدنى الحظوظ منه. والمغرور بالقليل يرسل أحكامه مبتسرة مضللة، لا وزن لها ولا معول عليها.. وفى بلادنا صنف من الناس ليس له زاد من المعرفة، إلا قراءات على هامش الأسفار الضخام التى كتبها العلماء الراسخون. قابلت أحدهم من سنين وما زلت أذكر الحوار العنيف الذى دار بينى وبينه. كان هذا المغفل يجادلنى فى وجود الله، ويسوق كلمات حفظها من نظرية النشوء والارتقاء، ويريد ليوهمنى أن خلق إنسان سوى المشاعر نابض الأجهزة لماح الذكاء أضحى عملا فى مقدور العلم! وأن معامل الكيمياء توشك أن تفاجئنا بهذا الاختراع!! فلما تحسست حصيلة هذا المجادل من علوم الكون والحياة وجدتها قشورا يسيرة فاستغربت أن رجلا بضاعته حروف الهجاء فى فن من الفنون يصطنع فيه درجة الإمامة التى تمحو وتثبت. ص _118(1/109)
وفى ماذا؟ فى حقيقة الوجود الأعلى. فاكتفيت بأن أكشف لهذا المغرور جهالته، ثم تركته، وعلى لسانى قول الشاعر : نجا بك عرضك منجى الذبا ب ، حمته مقاديره أن ينالا! وتذكرت قول الله تبارك وتعالى : (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير * ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله له في الدنيا خزي ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق). * * * * من الخرافات الشائعة، أن كثيرا من عظماء التاريخ لا أخلاق لهم، وأن كثيرا من علماء الكون لا إيمان لهم! وأحسب أن ترويج هذه الخرافة بعض ما تلجأ إليه الشياطين فى محاربة الإيمان والأخلاق، حتى تنشأ الأجيال الغضة وهى تحسب التحلل والتمرد أخصر الطرق إلى العبقرية والسمو. والحق أن عرى الأخلاق هى التى صنعت ألوف الرجال، وأن الإيمان بالله حقيقة مقررة لدى جمهور العلماء الراسخين. نعم قد تكون لدى هؤلاء العلماء ريب فى أغلب الديانات المشهورة أو فيها كلها. بيد أن العيب لا يرجع إلى أولئك العلماء الماديين قدر ما يرجع إلى أصحاب الأديان الذين شوهوا رسالات الله، إما بتحريف الكلم عن مواضعه، وإما الأعمال الشائنة التى تضع من أقدار المتدينين، وما يحملونه من دين. والقرآن الكريم لم يصم بالكفر إلا قوما تكشف لهم الحق فجحدوه، وغرض عليهم الدين كاملا فأزروا به وانتقصوه (إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم). (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ….). ص _119(1/110)
أقول ذلك بعد ما انتهيت من مطالعة كتاب (العلم يدعو للإيمان) للعلامة الجليل (كرسى موريسون). وموضوع الكتاب يفهم من عنوانه، إنه تعريف بالخلائق يقودك إلى خالقها وشرح للكون ينتهى بك إلى باريه. وهل للإيمان الذكى العميق نبع يجيش به إلا من هذه المطالعة الدارسة للحياة والأحياء؟ ولأمر ما قال عز وجل : (وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين). إن الإيمان لا ينمو فى قلب ويتخلل شعابه ويغمر رحابه إلا بمدى ما يعى المرء من آيات الله فى ملكوته. ومسلك المؤلف العالم فى كتابه هذا، يقوم على عرض الحقائق المتيقنة عرضا لا أثر فيه للأوهام والفروض، ولا مكان فيه للمغيبات والنصوص. إنه يحترم قوانين المنطق الحديث والفلسفة الحرة ويستهدى إلى غاياته طرقا لا يختلف على صحتها المؤمنون بما وراء المادة والجاحدون لها. ولقد تابعته بعقلى كما تتبع العين الأشعة الكاشفة، وهى تنتقل من أقصى الأفق إلى أقصى الأفق. إن ثروة الرجل فى المعارف الكونية طائلة هائلة وإنك لتعجب أهو أخصائي فى الفلك أم فى التشريح أم فى الكيمياء أم فى غيرها. ولا غرو فهو رئيس أكاديمية العلوم بنيويورك، فحديثه عن العالم الكبير الذى نعيش فيه، وعن القوانين الضابطة لسيره، وعن الأسرار الكامنة فى فنونه وحواشيه حديث الخبير الراسخ المتأنق. فى سرده واحتجاجه..!! والكتاب كله تفصيل مطرد متسق، لما أسماه علماء التوحيد عندنا (بدليل الإبداع). وأساس هذا الدليل على وجود الله لفت النظر إلى ما فى الكون من دقة وحكمة. ص _ ص 0(1/111)
هل رأيت شريط السكة الحديد الممتد من القاهرة إلى الإسكندرية مثلا؟ إنه يربو على مائتى كيلو متر. والمسافة بين الخطين المتوازيين الممهدين لانطلاق عجلات القطار فوقهما لا تزيد ولا تنقص. ألا يدل ثبات هذا العرض على إعداد مقصود لسير القطار فوقه. ألا تدل طريقة المد والتمكين على أن القطار المنساب سيجرى بسرعة معينة؟ ويحمل أثقالا كثيرة؟ هل إذا رأيت أذرعة القاطرة تغمز العجلات بعد ما حركتها سلسلة مضبوطة منسقة من الآلات والأجهزة، فإذا القطار يتحرك وينهب الأرض نهبا. أتحسب أن هذه الأجهزة المتراكبة والآلات المتناسقة قد أخذت أوضاعها العتيدة من غير فكرة صاحبتها وغرض تنتهى به؟ هذا مستحيل! على هذا النحو أخذ الباحث الضليع يسوق آلاف الأمثلة من حقائق الأرض والسماء، فإذا أنت أمام حشود لا آخر لها من براهين الوجود الأعلى، اسمع إليه يقول : (قد رأينا أن العالم فى مكانه الصحيح، وأن قشرة الأرض مرتبة إلى مدى عشرة أقدام، وأن المحيط لو كان أعمق مما هو بضعة أقدام لما كان لدينا (أوكسوجين) ولا نبات ! وقد رأينا الأرض تدور كل أربع وعشرين ساعة، وأن هذا الدوران لو تأخر لما أمكن وجود الحياة، ولو زادت سرعة الأرض حول الشمس أو نقصت لتغير تاريخ الحياة ـ إن وجدت ـ تغيرا تاما، وقد رأينا هذه الشمس هى الوحيدة بين الآلاف التى جعلت حياتنا على الأرض ممكنة وأن حجمها وكثافتها ودرجة حرارتها وطبيعة أشعتها يجب أن تكون صحيحة كلها على ما وجدناها، وهى صحيحة فعلا ورأينا أن الغازات التى بالهواء منظم بعضها إلى البعض بنسب دقيقة. وأن أقل تغيير فيها يكون قتالا.. إلخ). ماذا يعنى ذلك كله؟ ألا يردك إلى الله ويعلقك به ؟ ومع ذلك فيوجد من الناس من يقول لك : إن الساعة التى فى معصمك قد استدارت تروسها وتشابكت آلاتها وانضبطت دقاتها وتحرك عقرب الدقائق بعدما تحرك عقرب الثوانى، وتحرك عقرب الساعات بعدما تحرك عقرب الدقائق، كل ذلك بمحض الصدفة! ص _ ص 1(1/112)
فهذا الحساب المحصى للزمن لم تشرف على تسجيله وإحكام مراصده فكرة واعية ولا يد صناع ماهرة!! كذلك يقول بعض المتعالمين عن السموات والأرضين وما بينهما. وقد تحدث هذا العارف الحصيف عن الصدفة وما ينسبها لها الواهمون من تنظيم واقتدار فقال: إن الصدفة تبدو شاردة غير منتظرة وغير خاضعة لأية طريقة من طرق الحساب. ولكن إذا كنا ندهش لمفاجأتها فإنها ـ مع ذلك ـ خاضعة لقانون صارم نافذ. لنفرض أن معك كيسا يحوى مائة قطعة رخام، تسع وتسعون منها سوداء وواحدة بيضاء. والآن هز الكيس وخذ منه واحدة. إن فرصة سحب القطعة البيضاء هى بنسبة واحد إلى مائة: والآن أعد قطع الرخام إلى الكيس وابدأ من جديد. إن فرصة سحب القطعة البيضاء لا تزال بنسبة واحد إلى مائة وإن فرصة سحب القطعة البيضاء مرتين متواليتين هى بنسبة واحد إلى عشرة آلاف (المائة بعد ما ضوعفت مائة مرة) ! ثم جرب مرة أخرى أو مرتين تصبح الأرقام فلكية!! إن نتائج المصادفة مقيدة بقانون صارم تقييدا وثيقا كما أن اثنين واثنين يساويان أربعة . ويقول فى مكان آخر: وإذا نظرنا إلى حجم الكرة الأرضية ومكانها فى الفضاء وبراعة التنظيمات التى تمسكها فإن فرصة حصول بعض هذه التنظيمات مصادفة هى بنسبة واحد إلى مليون، وفرصة حدوثها كلها لا يمكن حسابها حتى بالبلايين. ونقول: بل لا يمكن افتراضها إلا فى تصور المستحيلات، فإن العقل الذى يمنع أن تبنى المصادفات دارا من بضع حجرات يجزم آكد الجزم بأن هذا العالم الكبير ـ بأفلاكه وآماده وحيوانه وجماده وإنسه وجنه ـ يستحيل أن تنشئه صدفة عارضة. ثم هل تحسب أن مئونة إبقائه وحياطته أيسر من إيجاده لأول مرة؟ إن كلا الأمرين ليس له إلا الله : (الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل * له مقاليد السماوات والأرض والذين كفروا بآيات الله أولئك هم الخاسرون). ص _ ص 2(1/113)
رجال عز أشباههم إن الرجال الذين تصلح بهم الحياة ويطيب معهم العيش ليسوا نماذج معتادة من هذا الغثاء الكثير الذى تراه العين ولا تجد فيه طائلا. بل هم نماذج فريدة للفضائل الجليلة والأخلاق النبيلة والمواهب التى قلما تلقى نظائرها لأنها كالمعادن النفيسة لا توجد إلا على ندرة. وحاجة العالم إلى أولئك الرجال كحاجة العقل إلى المعرفة التى يتألق بها. وحاجة الجسم إلى الطاقة التى يتحرك بها.. بل إن وجود أولئك الرجال بعض الخير الذى يبثه الله فى الحياة ليعيد إليها توازنها إذا اختل. وبعض الأمان الذى يسكن به النفوس القلقة، ويرجع إليها ثقتها بالحق إذا هالها ازدحام الدنيا بالأوغاد والمبطلين. ألا تنحنى احتراما للإيثار العالى وأنت تسمع أحمد بن حنبل يقول : اللهم إن قبلت عن عصاة أمة محمد فداء فاجعلنى فداء لهم... إن الغم الذى يرين على فؤادك من الأثرة الطافحة الغاشية هنا وهناك ينكشف كله أمام الشعاع الطهور الوضىء الذى يبرق فى هذه الكلمة الرائعة. وانظر إلى طبيعة الخير المتغلغلة فى أعماق هذا الإمام يدعو فى سجوده : اللهم من كان من هذه الأمة على غير الحق ـ وهو يظن أنه على الحق ـ فرده إلى الحق ليكون من أهل الحق. دع هذه القمة الشماء، ونقل بصرك فى قوم إذا رأوا الحق معك كرهوك من أجله، أو كرهوه من أجلك. فإذا حملوا عليه حملا أو نقل إليهم نقلا، حولوه إلى تجارة خاصة، ثم حاولوا احتكار الصنف، لينفردوا بمغانمه. كأن الإيمان سلعة تباع فى سوق الجشع والمنفعة. وليس جهادا ترجح مغارمه بكل ما ينشده الانتهازيون من مال وجاه.. ص _ ص 3(1/114)
إن النهضات الإنسانية البحتة لا تبلغ تمامها إذا أشرف عليها صغار القلوب وعبيد أنفسهم. فإن الله قدر ـ فى نظام هذا الكون ـ أن العظائم كفؤها العظماء، وأن من طلب عظيما خاطر بعظيمته. فإن يك هذا فى ميدان العمل للدنيا أمرا لزاما فهو فى ميدان العمل للدين ألزم وأحكم!... كنت أحسب أحمد بن حنبل رجلا يغلب على تقواه التزمت، وعلى مذهبه فى الفقه القسوة والصرامة . ولعل لفيفا كبيرا من العامة والخاصة يحسبون الرجل كذلك. وهذا وهم يجانب الصواب. وأروع ما قرأته وأكبرته وأغرانى بالتعرف عليه موقفه الكريم يوم طلب منه ـ بالسب والضرب ـ أن يشارك فى بدع المتكلمين وأن يقول بخلق القرآن.. قال أحمد: وجىء بالضرابين ومعهم السياط فجعل أحدهم يضربنى سوطين ويقول له المعتصم : شد قطع الله يديك، ويجىء الآخر فيضربنى سوطين، ثم الآخر كذلك، فضربونى أسواطا حتى أغمى على وذهب عقلى مرارا. فإذا سكن الضرب يعود إلى عقلى. وقام المعتصم يدعونى إلى قولهم فلم أجبه. ورجال حاشيته يصيحون : ويحك. الخليفة على رأسك، فلم أقبل.. وأعادوا الضرب ثم عاد إلى فلم أجبه.. فأعادوا الضرب فذهب عقلى فلم أحس به. وأرعبه ذلك من أمرى فأطلق سراحى، ولم أشعر إلا وأنا فى حجرة من البيت وقد أطبقت الأقياد على رجلى.. قال ابن كثير : وجاء الأطباء إلى الإمام المعذب فقطعوا لحما ميتا من جسده ، وجعلوا يداوونه حتى عاد إليه روحه الذى كاد يزهق، فلما شفاه الله بقى مدة وإبهاماه يؤذيهما البرد.. أتدرى ما كان موقفه بعد؟ ص _ ص 4(1/115)
جعل كل من آذاه فى حل إلا أهل البدع! وكان يتلو قوله عز وجل : (...وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم …). يقول : ماذا ينفعك أن يعذب أخوك المسلم بسببك وقد قال الله : (...وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين... ). وينادى المنادى يوم القيامة : ليقم من أجره على الله فلا يقوم إلا من عفا... ولست أسوق هذا الكلام فى معرض المهادنة للاستبداد السياسى كما قد يسبق إلى أذهان الجهلة، فإنى منذ أمسكت بالقلم لم أتريث فى مهاجمة الجبابرة والإعانة عليهم بالتافه والجليل . وكم أعيانى تدريس الحريات الاقتصادية والسياسية لجماهير من المتدينين ما كانت تعقل فى الإسلام شيئا منها. وإنما أسوق كلام ابن حنبل ليعرف الناس أن الرجولة لا تحقد. وأن الأتقياء فوق الأهواء. وأن رغبتهم فى انتشار الخير وثبوت الحق أسبق فى أفئدتهم من رغبة التشفى وسورة الانتقام لأشخاصهم. وعلى ضوء هذه الكلمة الرقيقة الندية للإمام أحمد : (ماذا ينفعك أن يعذب أخوك المسلم بسببك) تعرف أقدار قوم لا يرون بناء حياتهم إلا على أنقاض الآخرين، ومن هم أولئك الآخرون؟ إنهم ليسوا خصوما يطلبون عفوا، إنهم البناءون الأولون والمعلمون المجحودون. لقد عرفت أن عاطفة السماحة التى أودعها الله قلب ابن حنبل سرا من أسرار الاصطفاء الإلهى للإمامة فى الدين والإمامة فى الدنيا.. والذين يتعشقون خلال الرجولة أين كانت : يرون أن الإمام أحمد كان يسير على سننها العتيد، الذى أوضح الشاعر معالمها بقوله: وإن الذى بينى وبين بنى أبى وبين بنى عمى لمختلف جدا فإن أكلوا لحمى وفرت لحومهم وإن هدموا مجدى بنيت لهم مجدا ص _ ص 5(1/116)
وإن ضيعوا غيبى حفظت غيوبهم وإن هم هووا غيى هويت لهم رشدا وإن زجروا طيرا بنحس تمر بى زجرت لهم طيرا تمر بهم سعدا ولا أحمل الحقد القديم عليهم وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا إن النهضات المجوسية يوم ترزق رجالا ذوى قلوب كبيرة تسير وتصنع العجائب... واليقظات الإسلامية يوم يتصدرها رجال لا يفقهون منطق ابن حنبل فى قوانين السلوك تكبو وتتعثر. وإنى أتصفح تاريخ ديننا يوم هجوم (المغول) على أرضه فأجد عجبا من صنع أهله بأنفسهم، وصنع أعدائه لأممهم وعشائرهم. أتسمع عن (جنكيز خان) قائد المغول؟ إنك للوهلة الأولى تحسب أن زعيم أولئك الهمج كان وحشا شرسا لا تعرف الرقة سبيلا إلى قلبه. خاض إلى بلاد الإسلام بحرا من الدم المسفوك ظلما وعدوانا.. لا، إن الأمر يتجاوز هذه الظنون إلى حقائق ينبغى أن نعيها وعيا جيدا.. هب أن (هتلر) ساق جيوش (ألمانيا) على الملك (عبد الله) وشعب (الأردن أو اليمن) أتحسب أن مثل هذه الحروب تصوير دقيق للصراع بين الإسلام يقوده واحد من نسل النبوة، وبين الصليبية الغربية يقودها زعيم أنانى متطلع..؟ كم يكون حظ الإسلام كابيا فى هذه المبارزة، وكم يكون ميراث نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ مبخوسا؟ قال ابن كثير متحدثا عن (جنكيز خان) وشمائله : قدم له بعض الفلاحين ثلاث بطيخات ـ وهو يصطاد ـ فاتفق أن لم يكن عنده أحد من الخزنة، ليعطوه الثمن، فقال لزوجته أعطيه هذين القرطين اللذين فى أذنيك، وكان فيهما جوهرتان نفيستان جدا، فشحت المرأة بهما وقالت : أنظره إلى غد.. فقال لها جنكيز خان : إنه يبيت هذه الليلة مقلقل الخاطر.. وإن هذين لا يمكن لأحد إذا اشتراهما إلا جاء بهما إليك ـ فانتزعتهما فدفعتهما إلى الفلاح... قد تقول : فما بال هذا الذى عز عليه مبيت فلاح ليلة قلق الخاطر يشن على المسلمين الآمنين هذه الحروب المهلكة؟ ص _ ص 6(1/117)
وندع الجواب لابن كثير يقول فيه : كانت البداءة بالشر من (خوارزم شاه) الملك المسلم (!). فإن تجارا من رعية جنكيز خان انتهوا إلى إيران ومعهم بضائع كثيرة فقتلوا وسلب ما معهم. وبلغ النبأ جنكيز خان (!) فأرسل إلى خوارزم شاه يستعلمه : هل وقع هذا الأمر عن رضا منه ؟ أو أنه لا يعلم به فأنكره؟ وقال له فيما أرسل به إليه : من المعهود لدى الملوك أن التجار لا يقتلون لأنهم عمارة الأقاليم، وهم الذين يحملون التحف والقماش، ثم إن هؤلاء التجار ـ الذين أصيبوا ـ كانوا على دينك فقتلهم نائبك، فإن كان أمرا أمرت به طالبنا بدمائهم، وإلا فاستنكره واقتص من نائبك.. فلما سمع (خوارزم شاه) ذلك من رسول جنكيز خان لم ير جوابا سوى أن يأمر بضرب عنقه (!). قال ابن كثير : فأساء التدبير، وقد كان خرف وكبرت سنه، فلما بلغ ذلك جنكيز خان تجهز لقتاله واحتلال بلاده. فكان ـ بقدر الله تعالى ـ ما كان من الأمور التى لم يسمع بأغرب منها ولا أبشع . وإذا كان الإسلام فى ميدان الحكم والسياسة يقوده أولئك الملوك السفهاء فهل يقودونه إلا إلى البوار؟ وإذا كان الإشراك يقوده أولئك الملوك العقلاء فهل يقودونه إلا إلى السيادة. وقل مثل ذلك فى ميدان الدعاية والإرشاد والتربية والإعداد، أفتحسب أن أصحاب الأفئدة الصغيرة والأهواء الكبيرة يحيون فضلا أو يحسنون صنعا.. إننا أمام أزمة الرجولة التى نعانيها، لا نطمع فى رجال من أمثال ابن حنبل يعفون عمن ظلمهم، ولكننا نريد فحسب رجالا، لا يتلمسون للأبرياء العيوب؟ رجالا يخجلون من أن يصفوا المؤمنين بالنفاق، رجالا يعملون لدعم الصف المؤمن، ورد أصحاب الكفاية والإخلاص إليه بدل أن يقولوا فيهم : (لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا... ). اللهم إليك المشتكى، وبك الحول، وأنت المستعان. ص _ ص 7(1/118)
بين الغيبة والنقد إذا نصحت المسىء وأنت فرح لما فرط من إساءته، وتربصت به العقاب، وأنت شامت لما أصابه من جريرته.. فأنت امرؤ لا تقوم لله ولا تقيم حدوده. وكلامك فى وعظه ـ وإن كان حقا ـ إلا أنه كجهاد المنافقين. وطلبك للجزاء ـ وإن كان عدلا ـ إلا أنه إشباع للشهوة لا إقامة للدين!!.. إن النية الصالحة روح كل عمل، وبها ترسو الموازين كالجبال، أو تخف كالهباء، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ إذ يقول : " إنما الأعمال بالنيات ". المؤمن الصادق رجل يعشق الخير ويهوى وقوعه ويحب أصحابه.. جاء رجل إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يسأل : (ما علامة الله فيمن يريده، وما علامته فيمن لا يريده؟). فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم ـ : " كيف أصبحت؟ ". قال: (أصبحت أحب الخير وأهله، وإن قدرت عليه بادرت إليه.. وإن فاتنى حزنت عليه وحننت إليه). قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " فتلك علامة الله فيمن يريده". هذه النفس التى تحب الخير عن نقاء وطهر، تكره الآثام بداهة وتنكمش عن ذويها. فإذا رأت جرما استنكرته، وإذا كانت بينها وبين صاحبه جفوة قديمة لم تفرح لعثرته. إن العصيان قذارة تلوث وجه الحياة كما تلوث الأقذار وجوه الطرق. ومجرد الفرح بوقوع معصية ـ أيا كان مرتكبها ـ يدل على طبيعة مريضة كنود. إن المؤمن لا يبهجه وقوع سيئة من أحد. ويوم يحس الرضا فى نفسه لجريمة تقع من إنسان عدو أو صديق، فليثق بأن فى إيمانه علة خفية، وليسع إلى الاستشفاء منها. كذلك ليس من الإسلام أن تندفع فاضحا مشهرا بمن أخطأ.. مظهرا الشماتة به، طالبا له النكال، وكأنما تدرك ثأرا فاتك، ومكنتك الأيام منه!!. ص _ ص 8(1/119)
إن المرء قد يهتاج لمظلمة تنزل به، وقد يسره أن تقتص الأقدار من البغاة والجبابرة ولكن هذا أمر غير ما نحن بصدده.. إنما نعالج هنا نفوسا تندد بالشر لوقوعه من فلان ، وتخرس عنه لوقوعه من فلان. وهى تحارب الخطأ بقسوة من الأول، وتتغاضى عنه من الآخر، أى أنها تحارب بعض الناس- باسم الخير- شفاء لضغنها، وتبسط اللسان فيه لا شتما شخصيا- كما هو الواقع- بل نقدا دينيا، وهذه هى الطامة..!! إننا نثبت هذه الصور بين يدى بحث مفصل فى الغيبة، ليعرف المسلم الحدود التى تحرم فيها قطعا، والحدود التى تنفصل بها عن دائرة المحرم شرعا.. وسترى أن القصد المصاحب للعمل هو الفيصل المميز بين هذه وتلك. عن أبى هريرة قيل: يا رسول الله ما الغيبة؟ قال: " ذكرك أخاك بما يكره " قيل: أفرأيت إن كان فى أخى ما أقول؟ قال " إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته ". إن ذكرك أخاك بما يكره جريمة، ضرب لها القرآن هذا المثل الشنيع : (أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه...). وذكر النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ هؤلاء المغتابين بما يكشف عن خبيئة الإثم فى أفئدتهم فقال : "لما عرج بى مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم فقلت : من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون فى أعراضهم ". والحق أن تناول الناس بالسوء قد ينال من أقدارهم، بل ربما يدمر حاضرهم ومستقبلهم. فكلمة القدح قد تميت، كما أن كلمة المدح قد تحيى..!! هب أن رجلا كبير القلب حى الضمير ألم بخطيئة ما... إنك تزلزل قدمه فى طريق الخير حين تندد به. وتعطيه فرصة لتجديد حياته واستعادة ثباته إذا سترت عليه. لذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ : " من رأى عورة فسترها كان كمن أحيا موءودة ". إن الفضيلة الجريحة فى نفس مؤمن أزله الشيطان، تجد فى هذا الستر دواء تحيا عليه وتقوى وتنمو. ص _ ص 9(1/120)
أما إذا اطلع سوأتها رجل سليط أو خصم حسود فهو يحب أن ينكأ الجراح ولو اندملت حتى يوردها القبور. وأدب الإسلام ـ فى هذه الحالات ـ أن ليس كل حق يقال.. فلا تذكر أخاك بخطيئة اقترفها، لا لأن الإسلام يريد بقاء الخطايا فى المجتمع، فإن هذا ما يستحيل أن يريده دين. بل لأن هذا أسلوب ناجح فى محاربة الإثم، وتخليص النفوس من أوضاره.. فكم من ستر أعان على متاب، ومكن من عصمة. والناس ليسوا سواء فى الإفادة من هذا العلاج ، إن المدح قد يشجع رجلا على الكمال والإجادة، وقد يقصم آخر بالغرور والتراجع!! والإحسان يستعبد نفوسنا ويملكها، وقد يفسد نفوسا أخرى ويضر بها، حتى تفتك بمن أحسن إليها.. والكلمة التى لا يبالى بها عبد قد يرعد لها أنف الحر. ومن الناس من ترهبه فيشمس ويتمرد.. فإذا خفضت له جناحك وألنت له القول ملكت لسانه وقلبه.. وكثير من الناس إذا طويت معايبهم ونشرت محامدهم أخذت أحسن ما فيهم وسرت بهم إلى الخير.. وذلك ما ينشده الإسلام حين يحرم الغيبة. وحين يشغل الناس بأنفسهم يصلحونها، وبجماعتهم يعلون مكانتها، وينفون عنها الريبة والفاحشة . فإذا لم يكن بد ـ فى سبيل الإيمان والإحسان ـ من ذكر رجل أو قوم بما يكرهون، فليُذكروا ولو طفحت نفوسهم بالأذى، مادام تناولهم بما فيهم ذريعة إلى غاية شريفة، وما دام هذا التناول محكوما بالحق الذى لا تزيد فيه ولا نقصان. روى أبو داود تحت عنوان " من ليست له غيبة ". جاء أعرابى فأناخ راحلته، ثم عقلها، ثم دخل المسجد، فصلى خلف رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلما سلم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أتى الأعرابى راحلته فأطلقها، ثم ركب، ثم نادى : اللهم ارحمنى ومحمدا، ولا تشرك فى رحمتنا أحدا...!! ص _130(1/121)
فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "أتقولون : هو أضل أم بعيره؟ ألم تسمعوا إلى ما قال؟ " قالوا: بلى..! وترجمة أبى داود لهذه القصة بالعنوان الآنف جعلت كثيرا من العلماء يقسم الغيبة إلى قسمين : قسم محرم، وهو ما يقوم على نهش الأعراض، وفضح الأخطاء لشهوة رديئة. وقسم مباح أو واجب، وهو ذكر الأغلاط لتنقية المجتمع منها.. فالمجرم الفار من القضاء إذا حوكم غيابيا فشرحت جنايته وكشفت سوأته، وتكلم فيه بما وقع منه. فهذا فى نظرهم من الغيبة الجائزة . وقد عنى أولئك العلماء عناية بالغة بهذا الموضوع، وأُلفت فيه رسائل شتى. ومنها ما كتبه الشوكانى : (رفع الريبة عما يجوز، وما لا يجوز من الغيبة). ونظم بعضهم ـ على عادة القدماء ـ مواطن الجواز فقال: القدح ليس بغيبة فى ستة متظلم، ومعرف، ومحذر ولمظهر فسقا، ومستفت، ومن طلب الإعانة فى إزالة منكر ورأيى أن الغيبة المحرمة شىء، والأمور التى أحصاها الأئمة شىء آخر ليس من قبيلها، ولا ينبغى أن يجمعها به عنوان واحد، وإن تشابهت الصورة العامة. ألا ترى أن قتل الغيلة.. وقتل القصاص.. وقتل الجهاد، يلتقى كله فى أنه إزهاق للروح؟ ومع ذلك فشتان بين قتل وقتل؟ كذلك الوضع هنا. إن حرب المظالم، وتغيير المناكر، وتحديد الفواصل بين الحق والباطل، تقتضى أسلوبا ربما قسا على الأشرار قسوة لا تهتم بأشخاصهم قدر اهتمامها بعلاج ما يقع منهم. ولا تتشهى النيل منهم قدر اهتمامها بإثبات المصلحة ومحو المفسدة. وهذا المعنى نقيض ما هو ملحوظ فى الغيبة من رغبة فى الفضح والشماتة والتشفى، بل من رغبة فى بقاء الجريمة يصلى المجتمع نارها، ويصلى صاحبها عارها فى وقت واحد!!. قالوا : التظلم غيبة مباحة. وأقول : إن ذكر الظالمين بآثامهم التى بعثت على الشكوى منهم ليس استثناء شاذا ص _131(1/122)
عن قاعدة، بل هو اطراد مع قاعدة أخرى. وعمل بنصوص لا ريب فيها، تهدف إلى صيانة الأمة من البغى والعدوان : (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وكان الله سميعا عليما). وقالوا : المجاهر بفسقه لا غيبة فيه . وأقول : بل إن تعريف الغيبة لا يشمله ابتداء، فإن المرء الذى يفخر بمعاصيه، ويصبح يكشف ستر الله عنه بعد ما أسبله عليه، ويقول ـ ذاكرا نفسه بمقابحها ـ : فعلت كذا وكذا.. لا يسوءه أن يذكره الناس بما فيه، بل قد يستحب ذلك منهم. إلا أن ذكر هذا المجرم على سبيل التسلى والتلهى ليس بإيمان ولا إجمال.. فإن الواجب تتبعه بالنقد والصد، وتناوله بالخصام والملام، وإن الحملة على مثله دين!. * * * * إحقاق الحق، وإبطال الباطل، وحماية المصلحين حتى يؤدوا رسالتهم، وكبح المجرمين حتى تنحصر شرورهم، وإنزال الناس منازلهم حتى يوضع كل امرئ موضعه الذى لا بخس فيه ولا شطط.. هذه جميعا من تعاليم الإسلام الأولى. وعليها تمهدت قاعدة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وأداء النصيحة وحفظ الأمانات ورعاية الحقوق ومنع الإضرار. ومن ثم كان لا بد من المصارحة فى وزن الرجال حين يترتب على تقويم أشخاصهم حق عام أو خاص. فإذا سألك ولىُّ الفتاة عن خاطبها، فاذكره بما تعرف فيه، ففى مثل ذلك سئل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فقال عن معاوية صعلوك لا مال له. وإذا سئلت عن مرشح لمنصب ما، فاذكره بما فيه، ولا تقل عدل فى مستور الحال، ولا جيد جدا فى إنسان متوسط المواهب مثلا. وتعريف الرجال بما أوتوا وبما حرموا ليس أمرا مباحا فقط، بل هو من معالم التقوى ما دام القصد ألا ينخدع بهم ساذج، أو يقع فى شراكهم واهم. وقد صح أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال ـ فى أحد السفهاء ـ : "بئس أخو العشيرة هو "! وقال: " أظن فلانا وفلانا لا يعقلان من أمرنا هذا شيئا " . ص _132(1/123)
ولم تخف على علماء المسلمين هذه الحقيقة، فقام علم الجرح والتعديل فى صميم الثقافة الإسلامية، يتعرض لأقدار الرجال الذين ينقلون السنن، فيصف هذا بالصلاح، وهذا بالفسق، وهذا باليقظة، وذاك بالغفلة!. إن تاريخ الأمم قاطبة تناول الحكام والقادة، تناول الناقد الممحص، فهاجم ودافع. وعظم وحقر. والقرآن الكريم ذكر الأمم المفرطة وما أسلفت من سيئات، وكيف هوت بها مصارعها إلى أسفل سافلين. والحكمة من هذه السياقات محض العبرة، تستخلص من وقائع لا تهمة فيها، وتقدم إلى الأخلاف، كيما يتعلموا وينتفعوا. والغرض المنشود إحقاق الحق، وإبطال الباطل، بغض النظر عن الأشخاص وشئونهم الذاتية. سئلت يوما عن " فلان " الزعيم الإسلامى الكبير ما رأيك فيه؟ فقلت: ليس بأديب ولا خطيب ولا شجاع ولا سياسى. وحظه من كتاب الله وسنة رسوله لا يرتفع به عن مستوى العامة. فقال لى أحد أتباعه: إنك تغتاب المسلمين!؟ فقلت: بل أعرف الناس بأقدارهم وأنزلهم حيث يستحقون. ولو قلت غير هذا لغششت أمة محمد بن عبد الله ـ صلى الله عليه وسلم. إن التزييف فى النقود جريمة، لأنك تروج النحاس بوصفه ذهبا. وأوغل من ذلك فى باب الإجرام أن تزور فى قيم الناس، فتوهم تاجرا ما أن فلانا يصلح شريكا له، وفلان هذا خائن، أو توهم جماعة ما أن فلانا يصلح نائبا عنهم فى أحد المجالس، وفلان هذا أعجز من أن ينوب عن نفس بله عن غيره. غاية ما يوصى الإسلام به تصحيح النية، فإن كلمة التجريح ولو كانت صدقا، إذا أملت بها شهوة الولوغ فى أعراض البشر والزراية عليهم، فهى عند الله ساقطة داحضة. أما إذا قصد بها دفع مضرة وحفظ مصلحة فلا حرج على قائلها. ص _133(1/124)
إباحية أعقب احتلال الغرب لبلادنا عسكريا نتائج بعيدة المدى فى أخلاقنا الخاصة وعلاقاتنا العامة. ويحزننى أن أعترف بأن الأجيال الجديدة تنبت فى مغارس رديئة وبيئات ملوثة وأن الفضائل الشخصية والجنسية تذوب فى حرارة الإثم الزاحف كما تذوب كتل الجليد فوق ألسنة اللهب.. كنا ونحن يافعون نعتقد أن النظر إلى مفاتن امرأة سيئة تسطر فى صحائف الإنسان وتدع فى فؤاده نكتة سوداء. ونعتقد أن الاتصال الحرام يسمى (زنا) وأن الفحش الكامن فيه لا يقل عن الفحش الكامن فى جرائم القتل والشرك وما إليهما. وكان وازع الإيمان يصون المجتمع من مزالق الفتنة ولا يدع المنكر يظهر إلا شذوذا يتوجس منه صاحبه وتهتز له ضمائر الناس. أما اليوم فإن النسوة المتبرجات فى الطرق يأخذن على المرء كل وجهة. فإما أن يسير مغمضا، وإما أن يفتح عينيه مكرها على العورات المفضحة قد صبت فى قوالب تستفز الشهوات استفزازا. وإلى جانب هذا السيل القذر تسهم دور اللهو وأصوات الغناء في تأجيج الشر وإيقاظ الأهواء وتيسير الفجور وتسمية السعار الحيوانى المتمرد حبا شريفا أو غير شريف، ثم تعتذر عن هذا السقوط المتتابع بأنه نداء الطبيعة. والواقع أن عمل الدين فى علاج هذا الفساد العريض إذا كان دقائق من الوعظ فى محطة الإذاعة أو حصصا من الدروس التافهة يُلقنها التلامذة كارهين ، فإنه عمل لا طائل تحته. بل إن هذا الصوت الطيب ـ لو قدرنا أنه خلص واستقام ـ سيعتبر نشازا وسط الضجة الهائلة المتواصلة سحابة النهار والليل تصرف الناس عن الله وعن دينه وتجرئهم على تعدى حدوده وغشيان محارمه.. ص _134(1/125)
وستعتبر الصحائف القليلة التى تخدم الإسلام والتى يقرؤها نفر محدود من المتعلقين به لونا من التفكير الضيق يحيا اليوم ليموت غدا، ويموت معه الآخذون به إن الغزو الخلقى المقارن للاستعمار الغربى بدأ يؤتى ثماره المرة فى تمزيق أمتنا وفض تقاليدها وإهلاك آدابها . والأمراض النفسية التى تصحب هذا التحلل أسرع فتكا بنا من الغربيين أنفسهم فإن انتشار الشهوات فى الغرب جاء بعد ازدهار الحضارة والمعرفة، وبعد أن نال الفرد حظوظا كبيرة من الفهم لمصلحته ومصلحة أمته. فهم يقبلون على العمل وعلى اللهو معا. ويبنون المصنع الفذ والمسرح العابث، ويقسمون أوقاتهم على هذا وذاك بحكمة أو نزق.. أما نحن فقد اندفعنا إلى تقليد الغرب فى ناحيته الماجنة قبل ناحيته الجادة. فلما سرت فى بلادنا جراثيم الفسق لم تجد مناعة تكسر ضراوتها، فكان هذا الفساد العريض. وعادت إلى الأذهان قصة الحمار حامل الإسفنج عندما تبع زميله حامل الملح وقد اعترضهما مجرى ماء فخرج هذا متخففا وذاك موقرا. منذ أيام شغلتنا إحدى الصحف بقصة مدرسة اختفت أياما مع عشيقها ثم ظهرت لتجد صورتها مطبوعة يراها أهل الأرض فلا يطالعون فى ملامحها ولا فى النبأ المثير الذى كتب معها إلا شيئا تعودوه فتركوه يمر بلا نكير. هذه المدرسة هى التى وكلت إليها وزارة المعارف تعليم بناتنا الصغار وتنشئتهن لا أدرى على ماذا؟ هل فكر أحد فى المطالبة بطردها من ميدان التدريس أم ستشترك مع مثيلاتها من النسوة العابثات والرجال الفاسدين لقيادة البلاد إلى الخراب والفوضى؟ ثم أين الأتقياء العاطفون على دينهم الحراص على استنقاذه مما عراه؟ ص _135(1/126)
أما لهم من جهد يوقفون به هذا السيل قبل أن يتحول طوفانا مدمرا؟ أما يتجمعون لمدارسة الوسائل التى تحد من خطره وتخفف من ويله؟ إن النكبة ـ عندى ـ لا تتمثل فى وقوع هذه الفواحش قدر ما تتمثل فى بلادة الشعور بها وقلة الاكتراث بمحاربتها. ولا أدرى ماذا يتمخض عنه هذا البلاء من ظلام يحيق بمستقبل الإسلام فى بلاده لا فى حكمها بل فى خلقها ؟ والغريب أن ناسا ممن كانوا يحيون قدوة فى الدين أضحوا يحيون غير مكترثين لهذا العبث فمنهم من يقضى الصيف بين السابحات الفاتنات، ومنهم من يدع صور محارمه، فى الأحفال الساهرة تنشر، فيراها هذا، ويراها ذاك. إن مستقبل الإسلام يفرض على حراس الشرف والعفاف أن يتيقظوا للنوازل السود التى دهمتنا فعرضت أعراضنا للذئاب والكلاب. * * * * ص _136(1/127)
هل الصراحة الجنسية تعنى الدعارة؟ قرأت مع ألوف القراء تلك الرسالة التى نشرتها (الأهرام) للدكتور مصطفى الديوانى يتساءل فيها مستنكرا : "... لماذا لا نراجع أنفسنا وقوانيننا فى حدود التطور العالمى الخلقى؟ فللشباب ثورته، ولا مفر من مهادنته بطرق محتشمة حتى يزهد فى المرأة عندما يراها فى متناول يده! ". والدكتور يقول ذلك بعد أن يعلن رضاه عن الحال التى وصل إليها (الغرب) من ناحية العلاقات الجنسية بين الرجل والمرأة فيعرض علينا المشاهد التى راقته: (.. نظرت من نافذتى وأنا أكتب هذا فرأيت أجمل (السويسريات) يمشين فى الشوارع دون أن يلتفت إليهن شاب أو يعاكسهن فتى رقيع، وتذكرت كيف ذهبت أمس إلى مسرح (باتاكلان) ـ الذى تقصده أرقى طبقات (جنيف) ـ وكيف صُدمنا ـ نحن المصريين ـ فى بداية الاستعراض، إذ وجدنا الراقصات عرايا تماما إلا من ورقة توت صغيرة، ثم لم نلبث أن اعتدنا العرى والجمال بعد الدقائق الخمس وأصبحنا ننظر إلى الاستعراض، على أنه قطعة من روائع الفن العالمى! ثم تذكرت (باريس) وكيف أبيحت فيها الدعارة سرا وعلنا، وإيطاليا وكيف نظمت الدعارة فيها بشكل محتشم (!) غامض، وإنجلترا العجوز وكيف أباحت الحرية الشخصية فى حدود القبلات والمقابلات فى الحدائق العامة. تذكرت هذا كله ثم قلت لنفسى : هل حالت الصراحة الجنسية دون تقدم هذه الأمم؟. وأخيرا يعلن الدكتور حكمه على الطريقة التى تعالج بها الشئون الجنسية هنا وهناك فيقول : (إن آفة الشرق كذب فى رياء. وتعلق بالقشور دون جوهر الأشياء. الغربى يقابل الداء صريحا ويكافحه صريحا. والشرقى يحاور ويداور حتى يسقط فى الميدان صريعا أو جريحا..). ص _137(1/128)
ثم يختم الدكتور رسالته بهذا الدعاء الصالح! (اللهم ألهمنا الصواب فأنت خير العالمين).. كاتب هذه الرسالة مثل صادق للجيل الذى يرمق حضارة الغرب بإعجاب وإعزاز، ويتقبل تقاليده فى نواح شتى، لا فى الناحية الجنسية وحدها، تقبل الفاقه المقتنع! أو تقبل التابع المسحور. ويؤسفنى أن أذكر أن هذه التقاليد الوافدة علينا من بعيد تكتسح فى بطء، مختلف السدود التى أقيمت فى وجهها. وأن أمورنا العامة إذا ظلت سائرة فى الطريق التى اندفعت إليها من ثلثى قرن فهى لابد منتهية إلى الوضع الذى يقترحه الدكتور المعجب بالأجسام العارية تكسوها ـ أو تكسو جزءا منها ـ ورقة توت.. أو المعجب بالبغاء المباح يقدم للشهوات المسعورة ما يطفئ لوعتها..! أجل فهناك حداة للإثم كثيرون. وعلى لحنهم الصياح الملتاع أخذ مجتمعنا الضعيف يهفو إلى الشر ويتطلع إليه بنهم . ومن آثارهم أن أزقة المدن الكبرى والصغرى تعج بجماهير من النساء يرتدين ملابس قد فصلت لغرض واحد هو استثارة الغرائز الدنيا وإيقاظ ما نام منها. فكأنها وقد أبرزت الأثداء ولفت الأدبار وعرت النحور والسيقان تقول للشباب الجائع : هيت لك! وكاتب الرسالة الآنفة لم يجر فى باله أن يستفتى الإسلام فى شىء مما اقترح وما أظن أنه استفتى الإسلام فى مساكة تافهة أو جليلة عرضت له، بل ما أظنه يهتم لأن الإسلام يقبل أو يرفض ما يفكر فيه. إنه ـ كهذا الجيل الذى صنعه الغزو الثقافى ـ يحمل اسما مسلما وليس له قلب مسلم ولا عقل مسلم، ومن ثم فلا مكان فى حياته لصلاة أو صيام أو جهاد أو غيره. والغزو الثقافى فى الغارة التى شنتها أوربا على بلاد الإسلام يقوم على تجهيل المسلمين فى دينهم وشحن أذهانهم بمعارف محدودة ثم ترك أفئدتهم هواء! وليت الأمم المقهورة ـ إذا أعجبت بالمنتصرين ـ تقلدهم فى فضائل القوة وعناصر الغلب. ص _138(1/129)
إننى أفهم أن يغبط المصدور الضعيف عملاقا سليم الرئتين عريض المناكب وأن يتمنى لو كان مثله! أما أن يكون هذا العملاق مولعا بالتدخين فلا يجد هذا المسلول العليل ما يزدهيه فى حياة صاحبه إلا الدخان يتغزل فى سجائره ولفافاته فهذه هى الطامة التى ـ لاشك ـ مودية بحياته. لقد تركت عاصمة عربية من بضعة شهور وإحدى شركات الخمر تبنى فيها مصنعا هائلا للبيرة! وهكذا نسارع إلى إنتاج اللهو والمجون قبل إنتاج الخير والقوة. وحجتنا أن (أوروبا) لا يخلو بيت فيها من خمر. والفرق الذى جهلناه أو تجاهلناه، أن مصنع الخمر فى أوروبا أنشئ بعد أن أسست آلاف المصانع للإنشاء الضخم فى السلم والحرب.. أما نحن فقبل أن ننشئ فى هذه العاصمة شيئا طائلا نسمح ببناء هذا الخبث!. وأذكر أننى قرأت فى المكان نفسه الذى نشرت فيه رسالة الدكتور مصطفى شكاة حارة لمواطن كادت العلل تفتك بابنته فلما عزَّ شفاؤها بمصر ارتحل إلى (أوروبا) حيث أمكن تشخيص الداء ووصف الدواء فى أسابيع.. ونعى الكاتب على أطبائنا تخلفهم فى مضمار سبق فيه أطباء الغرب سبقا بعيدا.. ووددت لو أن الدكتور ـ كاتب رسالة العرى والفن ـ استفاد من سويسرا ما يزيد علمه بصناعة الطب بدل أن يقحم نفسه فى أمور لا يحسن منها قليلا ولا كثيرا. ولندع كاتب الرسالة ولنعد إلى موضوعها. إن الإسلام حين حرم جعل فيما أحل غنية عن كل محظور. حين حرم لحم الخنزير لم يكتب على الناس أن يقرموا إلى أكل اللحم فلديهم فى لحوم الضأن والطير والإبل والبقر ما يسد شهوتهم أو يزيد.. وحين حرم شرب الخمر لم يسلمهم إلى الظمأ، فعندهم من أشربة الليمون والبرتقال والفواكه المختلفة ما يروون به ويستمتعون. وعندما حرم الربا أباح البيع.. وعندما حرم الزنا أباح الزواج!. ص _139(1/130)
إن محمد بن عبد الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ جاء إلى الناس كما قال الله : (...يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث...). فتعاليم الإسلام متكاملة لا يغنى أمر عن نهى، ولا تصلح أمة بإنفاذ وصية من وصاياه وإهمال أخرى، بل لابد لإدراك رضوان الله فى الدنيا والآخرة، من إنفاذ وصاياه كلها.. والدعاة الذين يحسنون ذكر المحرمات، دون أن يذكروا العوض الذى شرعه الله ليسد مكانها أناس فاشلون.. وقد اتسعت حاجات المجتمع وتشعبت أقضيته وأمسى لزاما على من يتصدى لخدمة هذا الدين أن يذكر ما يثبته قبل أن يذكر ما يمحوه. وأن يظهر قدرته على البناء قبل أن يظهر قدرته على الهدم. فإن السلبية فى مواجهة المشكلات تبقيها ولا تزيلها.. إنك إذا لم تُقم نظام التأمين الاجتماعى ـ كما يطلبه الإسلام ـ فسوف تبقى منطقة فراغ لا يملؤها غير شركات التأمين. وإذا عسرت الاتصال الجنسى الحلال فى الوقت الذى تقول فيه بحرمة الزنا، فأنت تتيح للكبت والتزوير والشذوذ طرائق ممهدة.. والناظر إلى العلاقات الجنسية فى عصرنا يرى أن المسلمين لم يضعوا لها أى حل. هم يقررون أن الزنا حرام. بيد أنهم رسموا تقاليد للزواج تجعله مستحيلا، إلا بعد بضعة عشر عاما على نضج الغريزة الجنسية. فكيف يقضى الشباب هذه الفترة؟ إن الآباء والمدرسين والوعاظ يفرون من هذه الإجابة المريرة لأنهم يعلمون أنها فترة ظلم أو ظلام عند كثير من الفتيان. أما أوروبا فحلت العقدة بإباحة الدعارة، وإطلاق الحيوانات النابحة فى دماء البشر تلغ وتعض كيف شاءت.. وأما أسلافنا الأول فقد يسروا الزواج وبنوا نظام الجماعة على مواجهة الحقائق الجنسية دون مواربة. ص _140(1/131)
وأما نحن ـ فكما علمت ـ بعضنا مصر على احترام دين الله واعتبار الزنا فاحشة ومقتا. وقد استطاع هذا الفريق تحريم البغاء العلنى أو حمل الحكومة على تحريمه ولا يزال يقاوم ضراوة الغريزة المهتاجة ويحارب الكتاب الفسقة ويوصد أبواب الخلاعة التى تتفتح هنا وهناك.. إلا أنه يحارب فى ظروف عاتية ويلقى أشد العنت من أعدائه وأقل العون من أنصاره.. وثم فريق طلق الدين فهو يجهر دون حياء بإباحة الفسق، أو ما يسميه الدكتور مصطفى (!) بالبغاء المحتشم..! فهل تيسير الدعارة وجعل المرأة فى متناول اليد هو الحل الصحى أو العلاج الصريح لمتاعبنا الجنسية؟ وهل الغرب أذكى من الشرق لأنه انتهى إلى ذلك المصير؟ وهل هذه هى الصراحة الجنسية المنشودة؟ وإذا كنا نستريح إلى هذه النهاية فلماذا لا نعد الاختطاف والاختلاس وظائف محترمة لكسب العيش وجمع المال من الحرام والحلال؟ إننى لا أسأل أحدا من دعاة البغاء : هل يحب أن يقدم أخته لتلميذ فائر الشهوة أو زوجته لرقيع يعاكس النساء حتى يمنعه من ذلك الصنيع؟ أو يحب أن يرى ابنته ترقص عارية إلا من ورقة توت أمام الأعين الساهمة والحالمة! إننى لا أسأل أحدا من دعاة البغاء هذا السؤال لأنى أتوجس بل أتوقع أن تكون الإجابة : نعم أقبل! فإن الضمير الذى يلح بضرورة إشاعة الفاحشة فى الناس لا يتحرج من إشاعتها فى بيته وبين أهله وعشيرته. ولكنى أسأل أهل الأرض: أليس لهم رب يرجون ثوابه ويخشون عقابه؟ أليس لهم دين يحلون حلاله ويحرمون حرامه؟ إن الزنا وما يؤدى إليه منكر قبيح فى ديانات موسى وعيسى ومحمد جميعا. فكيف يطلب منا أن نرخص له ونهش لمرآه ؟ ص _141(1/132)
إن الصراحة الجنسية غير الدعارة الجنسية. الصراحة الحميدة أن نبحث عن العوائق الموضوعة أمام الحلال لنزيحها. وأن نستعرض العقد التى تواجه الشباب فنحلها. وألا نتهرب من أمور يعتبر التهرب منها تمكينا للرذيلة وتجاهلا للحبائل التى نصبها الشيطان فى طريق الإنسان.. إن فى دين الله حلولا سمحة للمشكلات التى يظن بادئ الرأى أنه لا حل لها إلا بالمروق والفسوق. وأستطيع أن أجزم بأن السلف الصالح لم يتعرضوا ـ لا شيوخا ولا شبانا ـ للأزمات العصبية والنفسية التى يسقط فى مخالبها جمهور غفير من شبابنا المحافظين والمنحلين.. ذلك أننا لم نحسن صياغة أوضاعنا فى القوالب التى ارتضاها الإسلام وجعل ما سواها إفراطا أو تفريطا. * * * * إن الكتاب الذين يتملقون الغرائز الدنيا على هذا النحو، لا يعالجون عللنا إلا كما يعالج السكير بلاءه بقوله : وداونى بالتى كانت هى الداء..! سنستريح من بلائنا يوم يفيق هذا من نشوته أو من غشيته. وخير لنا أن نستعيد ثقتنا فى أحكام الشرائع، وقيم الأخلاق. فمهما اصطنعنا الحضارة بالتحلل فلن نزداد إلا انتكاسا. * * * * ص _142(1/133)
وفاق وخلاف طالما تساءلت عن موقف الكنيسة من طوفان التحلل والفسق الذى سرى إلى العالم ممزوجا بحضارة (أوربا)! ثم نضح علينا بحكم التفوق المادى الذى ساند الغرب ورجح كفته فى كل ناحية. إن الإنجيل الذى بين يدى القوم غالى بفضائل العفاف والطهر، وحسم دوافع الجريمة ومفاتن الغريزة، وفى إنجيل (متى) أن العينين إذا أزلتا الإنسان فهما جديرتان أن تفقأ. إن تلف عضو واحد أيسر من هلاك المرء كله. وعيسى بن مريم ـ كإخوته من أنبياء الله ـ غيور على حرمات الله أن تنتهك، وعلى أعراض عباده أن تهان وتداس!. فما هذا الرجس الذى عم وصم وانفجرت عيونه الحمئة بين شعوب أوروبا وأمريكا ثم منها إلى أقطار العالمين؟. وفيما أنا حابس نفسى على نقد واستنكار لهذا الصمت المريب، إذ بى أقرأ نداء حسنا لـ (بابا روما) وجهه إلى النصارى الكاثوليك جاء فيه: (... إن ملابس السيدات أضحت مأساة خلقية يندى لها الجبين، وإن محاربة هذه الخلاعة هى إحدى بنود الإصلاح الذى يعتزمه (البابا). واستطرد النداء يقول: (إن العرى لم يعد مقصورا على ملابس الشاطئ بل ساد الأماكن العامة والخاصة، حتى الكنائس ودور العبادة أمست مليئة بالعراة. ويسير علينا أن نتصور مدى الفساد الذى ينتج عن ذلك، وخاصة بين طوائف الشباب). وأشار (البابا) إلى جهود الكتاب الأوائل أمثال (شيشرون) و (وسينكا) فى الدعوة إلى الاحتشام وإرخاء الجلابيب. وبين أن الجسد الإنسانى ينبغى أن يحاط بسياج من فضائل العفة وآداب السلوك، وحض رجال الدين ـ فى كل مكان ـ على الدعوة إلى ذلك والدأب على تحذير الأطفال والشباب من تقاليد العرى التى تتجدد ص _143(1/134)
كل عام فى فصل الصيف، وتبصيرهم بعواقب هذا التبذل فى أنفسهم ومجتمعهم. وختم (البابا) نداءه بأن (هذه الحرب الشعواء على (مودات) الخلاعة جزء أصيل من رسالة الكنيسة) . سرنى هذا الواعظ الحكيم، ورأيت فيه غيرة محمودة على فضائل توشك أن تندثر فى أنحاء العالم. إن البنات فى أى بلد كدن يحسبن عملهن الأول إبراز محاسنهن لاجتذاب الرجال، ووظيفة الملابس الأولى ـ عندهن ـ أن تكون إطارا لما يراد تعريته، وستارا خادعا لما تحسن تغطيته. وقد انطلق مردة الإنس والجن فى سباق فاجر لابتكار ألوان من الملابس المختلفة تلتقى كلها عند غاية واحدة، هى تجسيم مفاتن المرأة طولا وعرضا، حتى تحظى بنظرة خبيثة أو اشتهاء حرام. والإحصاء الثابت فى أغلب أقطار العالم عن الأمراض السرية والنفسية، وعلل الشذوذ والانحراف، وعن اختفاء (البكارة) فى فتيات بعض الأمم، يدل على شناعة الخراب الأدبى الذى انتهت إليه الدنيا، ونالت به سخط الله. والقوادون من الرجال هم الذين يزينون هذا العهر ليجعلوا الفتك بالمرأة عملة متداولة لا يختشيها أحد ولا تحذر مغبتها امرأة. ومن المصائب السود أن نرى إعلانات (السينما) صورا داعرة لرجال احتضنوا نسوة فى أوضاع تسرق ألباب المراهقين. وقد رأيت ـ منذ أيام ـ امرأة معها أطفالها قد وقفت تتأمل ـ فى دهشة منظر فتاة مستلقية، قد جثم عليها كلب من نجوم السينما ـ لا تدرى أو تدرى ـ ما يفعل بها. التقطت هذه الصورة ثم ألصقت على جدران القاهرة إغراء بحضور رواية من الروايات الخليعة!. ويبدو أن منظر الأم وأطفالها أمام هذه الصورة المزرية قد آذى مشاعر أحد الإخوان السائرين معى. ولعله سبح بفكره بعيدا، إذ قال لى : ربما كانت تلك الأم أرملة وهؤلاء يتاماها. إن هذه المسكينة تحيا فى مجتمع يحث على السقوط!. ولنعد إلى حديث (بابا روما). ص _144(1/135)
وددت لو أن رجال الكنيسة فى الشرق ـ على اختلاف مذاهبهم ـ أيدوا هذه الصيحة وأكدوا ما تضمنته من دلالات طيبة، حتى يشعر المارقون من الفضائل أنهم خارجون على كل دين . وأن بهيمتهم تلك منكر لا يرضاه أحد ممن يتصلون بالسماء مهما كانت طبيعة هذه الصلة. إن فى أسفار العهد القديم والجديد نصوصا شتى تحارب الفاحشين وتطارد وساوس الهوى لتقضى عليها، وواجب على آباء الكنائس أن يقيموا تعاليم دينهم فى هذه الناحية، وأن يتعاونوا معنا فى حفظ تقاليد الشرف وحدود الفضيلة. لقد جاء فى (العهد القديم). خروج: 20: 14، 17 (من الوصايا العشر): ( لا تزن) ( لا تشته امرأة قريبك ولا عبده ولا أمته). وجاء فى (العهد الجديد). متى ص 5: 27 (من عظة المسيح على الجبل): (قد سمعتم أنه قيل للقدماء لا تزنوا. وأما أنا فأقول لكم : إن كل من ينظر إلى امرأة ليشتهيها فقد زنى بها فى قلبه). وفى كورنثوس الأولى 6: 18: (اهربوا من الزنى. كل خطيئة يفعلها الإنسان هى خارجة عن الجسد لكن الذى يزنى يخطئ إلى جسده). وفى كورنثوس الأولى 5: 9: (كتبت إليكم فى الرسالة أن لا تخالطوا الزناة). وفى كورنثوس الأولى 6: 9: ( لا تضلوا.. إنه لا زناة ولا عبدة أوثان ولا فاسقون ولا مأبونون ولا مضاجعو ذكور، ولا سارقون ولا طماعون ولا سكيرون ولا شتامون ولا خاطفون، يرثون ملكوت الله). وفى كورنثوس 10: 8: ص _145(1/136)
(ولا تزنوا كما زنى أناس منهم (بنى إسرائيل) فسقط فى يوم واحد ثلاثة وعشرون ألفا). وجاء فى تحريم الخمر. أمثال 23: 29- 32: ( لمن الويل؟ لمن الشقاوة؟ لمن المخاصمات؟ لمن الكرب؟ لمن الجروح بلا سبب؟ لمن ازمهرار العينين؟ للذين يدمنون الخمر الذين يدخلون فى طلب الشراب الممزوج. لا تنظر إلى الخمر إذا احمرت حين يظهر حُبابها فى الكأس، وساغت مرقرقة، فى الآخرة تلسع كالحية وتلدغ كالأفعوان). (العهد الجديد) . أفسس ص 5: 18: ( لا تسكروا بالخمر التى فيها الخلاعة). لو أن الكنيسة المسيحية ـ على اختلاف مذاهبها ـ جدت فى الحملة على الفسوق لكفكفت من حدة المعاصى فى حضارة أوروبا. ولأعانتنا ـ نحن كذلك ـ على تجنيب ألوف الشباب المفتونين بها مهاوى الرجس التى ينزلقون إليها ويستمرون فيها. ونحن لم نستبح تدوين ما نقلناه آنفا إلا ليعلم عبيد الدراسات الأجنبية، أن ما هم عليه منكر لا يسانده وحى صحيح ولا مدخول. إن الملابس المتحشمة تهدى إليها الطبائع النظيفة ولو لم ترد بوصفها نصوص مفصلة. وقد زكيت ـ فى كتاب لى ـ ملابس الراهبات النصرانيات، وأشدت بالنسب القريب بينها وبين ملابس السيدات الريفيات فى بلادنا. وهذه الملابس وتلك بقايا فاضلة من تقاليد الدين الحق. ماذا ينقم الفساق من الملابس الطويلة؟ ينقمون أنها تحجب عنهم ما يهيج الحيوان الرابض فى دمائهم؟. إن الحفاظ على قوى الأعم المادية والروحية يوجب على الحكومات اليقظة أن تعنى بهذا الأمر.. ص _146(1/137)
أجل إن قصور القانون عندما سمح بمخاز شتى وليتنا ننفذ أية قوانين فى رعاية الفضيلة إن عز علينا إقامتها باسم الإسلام...!! والخلاعة العالمية هى بعض ما نؤيد الكنيسة فى محاربته ونسر لما بدا من حملتها عليها وتيقظها لها . إن الإسلام آخذ أهل الكتاب الأولين بأنهم مفرطون فيما لديهم من نصوص لا يبالون أن يواقعوا الحرام فى مأكلهم ومنكحهم. ولا يصدون نوازع الهوى يوم تغريهم بعدوان أو اختلاس. فقال عز وجل (وترى كثيرا منهم يسارعون في الإثم والعدوان وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون * لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون). فالرعية مؤاخذة بما اجترحت، والأحبار والرهبان مؤاخذون بما سكتوا وأن لم يتدنوا إلى قول إثم، أو أكل سحت . وهذه الأحكام التى اتفقت فيها الأديان كلها واطردت فى تبيانها وتوكيدها الكتب الثلاثة فى الديانات الكبرى (التوراة) و (الإنجيل) و (القرآن) لابد من إقامتها حتى تصح نسبة إلى كتبها ونسبة الأديان إلى السماء. وإلا فلأمر ككله لغو وادعاء. وذاك معنى قوله تعالى : (قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك... ). مثل هذا الإنذار يوجه إلينا نحن المسلمين كذلك. فلسنا على شئ حتى نقيم ما أنزل إلينا من ربنا...! سئل أحد رجال الإسلام عن كيفية التقارب بين الإسلام والمسيحية على مقاوة النظم والنظريات المادية التى تهدد حضارة الجنس البشرى. فأجاب : هنا أمر يجب التنبيه له وإعطاؤه حظه من العناية والتقدير، وهو ألا تنظر الكنيسة الغربية إلى الإسلام كما تنظر إلى العدو البغيض الذى يجب التخلص منه، تحول موقف الكنيسة فى هذا العهد حتى وافقت على زواج الرجال من بعضهم والنساء أيضا، ضاربة بتعاليم الإنجيل وكل الكتب السماوية فى محاربتها للشذوذ. ص _147(1/138)
فإن مثل هذه النظرة تضر الإسلام والمسيحية جميعا، وتفسح الطريق أمام الإلحاد ليهدم الديانتين معا . ولهذا يجب أن يكف المتعصبون من أهل الغرب عن المفتريات التى يلصقونها بالإسلام، وينالون بها من جلاله وقدسيته فى أنفس المسلمين، ويحاولون بها أن يخرجوا المسلمين بالترغيب والترهيب غن دينهم. وإنى لواثق من أن المسلم الذى يخرج عن دينه ـ بدافع الرغبة أو الرهبة ـ إنما يخرج عن التدين نفسه، فلا يكون مسلما ولا يكون مسيحيا. ومعنى ذلك أن هؤلاء المتعصبين يقومون بعملية هدم خطيرة لن تستفيد المسيحية منها شيئا إنما يستفيد منها مذاهب التحلل والإلحاد وحدها. * * * * هذا كلام صادق فى تصوير العلاقات بين الإسلام والنصرانية، وبين الأمم التى تعتنق الديانتين الكبيرتين. وسنرى ما يصنعه العقلاء منهم. وعلى ضوئه يكون الغد القريب والبعيد. * * * * ص _148(1/139)
تذكر التعليم شفاء الجهالة، والتذكير دواء النسيان. وهناك حقائق كثيرة فدى إليها الإنسان ولم يكن من قبل يعرفها. وحقائق أخرى كانت نفسه مستعدة لها أو ملمة بأطراف منها ثم لأمر ما ـ غابت عنه وذهل عنها. فإذا أعيدت عليه، تعلق فكره بها، كما يتعلق فكرك بوجه رجل برز إليك فجأة وكنت قد رأيته من بضع سنين، فأنت تشق حجب الماضى الملتفة بذاكرتك حتى تستبين الملامح الأولى، وتربط بين ذكريات الأمس المدبر وصفحة اليوم الجديد... الحقائق الكبرى فى دين الله من هذا القبيل. توحيد الله، الملجأ إليه فى الشدائد، والإحساس بالعودة إليه، إن قريبا، وإن بعيدا، احترام الفضائل وأهلها، الاشمئزاز من الرذائل ومقترفيها، النشوة من انتصار الحق وإقرار العدالة... إلخ. إن هذا كله مغروس فى الفطر السليمة، لا تدهش له إذا سمعت به، ولا تستغربه إذا اقتيدت إليه، بل تحس كأنها تسير فى طريق لها به عهد، وبينها وبينه أواصر شداد. ومن هنا سمى الله القرآن الكريم ذكرا، لأنه لا يجىء بتعاليم جديدة على الفطرة الأصيلة تعد معرفتها علما بعد جهل مطبق، لا، إنها تذكير للعقل بما لا يليق أن يعزب عنه، تذكير للضمير بما ينتظر أن يحكم به، تذكير للمرء بماضيه الأول ونسبه العريق وصلته الموثقة بمن أحياه واستبقاه إلى أجل مسمى. وقد اطرد استعمال هذا اللفظ فى القرآن الكريم فى مناسبات شتى: (ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى * إلا تذكرة لمن يخشى). (وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا). ص _149(1/140)
(وهذا ذكر مبارك أنزلناه أفأنتم له منكرون). (...وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم...). (كلا إنها تذكرة * فمن شاء ذكره). (... إنما أنت مذكر * لست عليهم بمسيطر). (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون). (فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء...). (فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون). (فتول عنهم فما أنت بملوم * وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين). والآيات التى تخيرت هذا التعبير كثيرة، وهى كلها تشير إلى أن قضايا الإيمان والبعث والجزاء ليست غريبة على نفس الإنسان، وأن الذين جاءوا بها لم يكتشفوا المجاهل المنكورة، أو يبدعوا ما يضيق به أولو النهى. * * * * الحق أن الوحى الأعلى جاء منظما لقوى موجودة، أو موجها لمواهب قائمة، أو محركا لأجهزة معطلة. فإذا حدث ـ لأمر ما ـ أن اختفت هذه الأسس العتيدة فلن يكون للدين عمل، إذ ما يصنع البناء وقد فقد اللبنات التى يرصها والأرض التى يشيد عليها؟ إن عمل الدين إيقاظ قلوب غفت، ودفع أفكار توقفت. فإذا مات القلب وهمد الفكر، ففيم العمل؟ قد يوقظ الطبل النيام إذا غفوا فمن لك بالطبل الذى يوقظ الموتى؟ ص _150(1/141)
إن الإيمان بالقيمة الذاتية للإنسان نفسه جزء من الإدراك الصحيح لرسالة الدين، لا يصح أن يغيب عن داعية حصيف.. * * * * على أن القلوب أوعية متفاوتة جدا... ورؤيتها للحق التى تذكر به، واستفادتها منها، أمر لا يعلم مداه إلا الله... أرأيت هذه العيون الشاخصة فى وجوه أصحابها؟ إن فى بعضها قصورا لا يكمله إلا منظار طبى معين، وهذا العيون الضعيفة، وما يكملها من عدسات قد لا تلمح من الشخوص والمسافات ما يلمحه بصر حاد بأصل الخلقة يستجلى المرئيات الدقيقة دون وساطة ودون إعياء... كذلك القلوب!! إن بعضها ـ من غير دراسة طويلة ـ يدرك من حقائق الوجود أقصاها وأخفاها . وبعضها ـ على طول الدراسة ـ لا يكاد يعى. إن المطر ينزل من السماء فتمتلئ به الأوانى التافهة وتموج به الأنهار والبحيرات. كذلك الوحى النازل من السماء، يتحول منابع جياشة بالرى فى قلوب، ورغوة زائلة فى أخرى. وهذا ما أشارت إليه الآية الكريمة (أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال). إن القرآن لا يزال بين أظهرنا. وهو صوت يذكر بقوة وجلاء. وبقى أن نسأل لا عن عدد السامعين، بل عن عدد من يشعرون أن النسيان للمضروب عليهم قد زالت غشاوته وتقطعت ضلالته. * * * * ص _151(1/142)
حياة... قال الله عز وجل : (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم...). الحياة التى يدعو إليها الرسول ليست حركة الأجسام على ظهر الأرض فى طلب الضرورات والمرفهات . فإن الناس ليسوا بحاجة إلى من يذكرهم بهذا، أو بشىء منه. إنما الحياة التى يراد نقلهم إليها، أو بعثهم بها، هى حياة العقل الذى عرف الحقيقة والضمير الذى هفا إليها والإنسان الذى يتحرك فتمشى فى أوصاله فكرة يريد تحقيقها ورسالة ينشد أداءها. هذه هى الحياة الصحيحة التى تتصور أن يدعو إليها رسول. ومن ثم فإن الاستجابة له تعنى حياة أرقى مما يعرف الجهال ويألف السفهاء، حياة أسمى مما يصل إليه أصحاب المشاعر المحدودة والحواس الموصولة بظاهر الحياة الدنيا فحسب.. والصورة الجليلة لهذه الحياة اليقظة الذكية التى لابد منها لاتباع الرسول وفقه دعوته وإبلاغ رسالته تراها فى قول الله لنبيه : (ومنهم من يستمعون إليك أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون * ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون). إن البشر الذين احتبست أنصبتهم من الحياة فى حدود ضيقة من الجهل والخرافة، وسقوط الهمة وخور العزيمة، ليسوا أهل الاستجابة للرسول الداعى إلى حياة راشدة ماجدة، يُقبل الإنسان فيها على الدنيا وعلى الآخرة، إقبالا عارما جياشا، وقديما قيل: ليس من مات فاستراح بميت إنما الميت ميت الأحياء إنما الميت من يعيش كئيبا كاسفا باله قليل الرجاء ص _152(1/143)
فإذا لم نعلم أن الإسلام حياة تجدد المجتمع، وروح يخلق الفرد، فقد جهلنا الإسلام الذى يباعد البون بين رسالته وبين غيرها، وبين أتباعه وبين غيرهم فيقول : (وما يستوي الأعمى والبصير * ولا الظلمات ولا النور * ولا الظل ولا الحرور * وما يستوي الأحياء ولا الأموات...). لا أدرى سر هذا الفتور الشائع فى بلادنا شيوع الخدر فى العضو الخامل المنوَّم. إن الجماهير فى الغرب كالنحل فى خلاياها، لا تهدأ لهم حركة، ولا يسكن لهم مطمع ولا يضعف لهم إنتاج. والدول ـ كبراها وصغراها ـ تحشد رعاياها فى مشروع ضخم لا يكادون يخلصون منه حتى يشغلهم آخر أضخم منه. أما نحن ـ أعنى بلاد الإسلام كلها ـ فلا نزال ندور حول أنفسنا ونتحرك فى مواضعنا ونذهل عن مصايرنا، وتصلنا أنباء الحياة الزاحفة هنا وهناك وكأنها أنباء العالم الآخر. ما هذا..؟ إن الوحى الإلهى روح يدفع الملهمين، ويغرس فى نياتهم الصدق، وفى أهدافهم السمو، وفى حركاتهم الجهد والمشقة وركوب الأخطار.. فكيف جعلنا الوحى الملهم قيدا معوقا وزكيا فى ظلاله إلى الدعة والخمول؟ بل كيف عشنا فى ظلاله أصحاب عيون لا تبصر من آيات الكون شيئا، وأفئدة لا تعى من أسراره إلا قليلا..؟ على الدعاة المخلصين لله ورسوله أن يجعلوا من تعاليم هذا الدين الخصب بذرة تعيد الحياة إلى هذا الركام الكثيف من العامة الهامدين والخاصة الجامدين، وأن يفهموا الدنيا الخائرة أن الإسلام دعوة مفرطة فى التحرر والتقدم إذا كان بعض الحمقى يحسبه رجعية واستكانة.. يا أسفاه، كم حمل الإسلام من أهواء الناس، وكم أصابه من جهل بنيه. كاد الليالى ، وكادته مجالدة وارتد عدوانها من بعد تقتال ثم انثنت وبها من صبره حرق وإن كسته ،لكيد ، ثوب أسمال ص _153(1/144)
فى سبيل من..؟ نحن نتتبع بعواطفنا صراع الثوار الحمر مع الغزاة الفرنسيين فى الهند الصينية مؤملين أن تجىء نتائجه قامعة لغزو المستعمرين، وهاشمة لصلفهم القديم. ومؤملين كذلك ـ شأن الضعاف الموغرين ـ أن تقتص الأقدار لقتلانا فى المغرب، بعد ما عجزنا نحن عن الانتقام لهم. ألم نقرأ فى صحف اليوم مصرع الأبطال الثلاثة الذين حاكمهم الفرنسيون فى تونس، ثم حكموا عليهم بالقتل رميا بالرصاص ؟ أو لم نروع من إقدام الجبناء وهم ينفذون ما قضوا به، فإذا بالضحايا الكرام يستقبلون الموت محدقين جرآء، رافضين أن توضع على أعينهم عصائب، وسهام الهلاك تنطلق إلى صدورهم ورءوسهم وأعناقهم..؟ فماذا يصلنا بهؤلاء الفرنسيين الوحوش؟ وماذا يجعلنا نحبس مشاعر الشماتة وجيوشهم تتلاشى فرقة بعد فرقة أمام الثوار الحمر..؟ بيد أن شيئا يحيك فى أنفسنا كلما طالعنا أنباء هذه المعارك.. هو أن الدم الفرنسى الصرف ليس وحده هو الذى يسفك فى ميادين التحرير بالهند الصينية، فهناك ما يسمى بالفرقة الأجنبية! جيش ذو لجب يقاتل ـ فى جانب الغزاة ـ أهل البلاد الأصلاء ! ممن تتكون هذه الفرقة؟ قالوا من الزنوج.. ومن المسلمين المغاربة الذين شاهت بلادهم تحت وطأة أولئك الفرنسيين وأخذوا للعمل تحت إمرة الغالب. أرأيت؟ إن كتائب العبيد تفنى بين يدى جلاديها!! ماذا دهى أولئك الذين يسمون مسلمين؟ ما هذا العمى الذى طمس على أبصارهم وأفئدتهم؟ ص _154(1/145)
لقد تبعت قتال أولئك المسلمين تحت رايات مبتوتة الصلة بتوحيد الله، مبتوتة الصلة بحقوق البشر فيما يقدسون من دماء وأعراض، مبتوتة الصلة بما يتعشقه الناس من أمجاد وآمال، فلم أفقه له معنى ألبتة. ولقد ضحكت ـ وشر المصائب ما يضحك ـ يوم أذاع (رويتر) فى أنحاء العالم أن المسلمين الأتراك كانوا يقاتلون فى ميدان (كوريا) بحماس بالغ، وأن صيحاتهم التقليدية فى القتال (الله أكبر) كانت تلقى الذعر فى صفوف أعدائهم . يا للفوضى المغرقة! ما صلة تكبير الله بحرب تقع بين روسيا وأمريكا؟ ولماذا يكون الدهماء من المسلمين علف مدافعها؟. ومن قبل ذلك تبعت قتال أهل الريف وراء الجنرال فرانكو. إنهم استماتوا مع رجاله حتى أكسبوه النصر العظيم فى أسبانيا، ضد أعدائه وأعداء الكنيسة الكاثوليكية العتيدة. واليوم تتكرر المأساة نفسها ويقاتل رجال الفرقة الأجنبية من زنوج ومسلمين (!) فى سبيل مجد فرنسا التى أسست فى العصر الحديث أسوأ استعمار عرفه العالم. كان المسلمون قبل غيرهم رماد ناره المستعرة.. إن التعليل الوحيد لهذه الطامة الشنعاء أن هناك جمهورا كثيفا من الأمة المسلمة قد تحجر أو استعجم، لا ندرى كيف نصفه، فأمسى لا يحير صوابا ولا يعقل خطابا، فهو يستأجر للأغراض الدنيئة كما تستأجر الدواب للحمل سواء بسواء. وإلا فلماذا لا يدير الجندى المغربى سلاحه ليقتل به من قتل قومه واستباح حماه وأذل أرضه وأرض آبائه..؟؟ بدلا من أن يحارب فى قارة أخرى لا يعرفه أهلها؟ ربما قلت: هذه قسوة فى الحكم، لعله مستضعف أحُكم الإسار حوله، فقلبه ضد فرنسا وسيفه معها. وهذا ـ لو صح ـ لا يغير من النتيجة شيئا. ص _155(1/146)
فإن ذمة الله بريئة من كل أحد يمكن للظلم على هذا النحو، ويوطن ظهره لإراحة الطغاة وإرهاق المستضعفين كما ترى . إن هؤلاء الجنود المرتزقة يذكروننا بما روى فى المسلمين الذين قتلوا مع المشركين فى معركة بدر، فإن بعض المستضعفين ممن اعتنق الإسلام حمله كفار قريش أن ينحاز إلى جانبهم، وأن يبقى مع أهل مكة فى هجومهم على الرسول وصحبه، فقتل وهو ظالم لنفسه. فنزلت فيهم الآية : (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا). إن الظالم لنفسه كالظالم لغيره، كلاهما حرب على الحق والكرامة، فلا مكان له فى دين الله، ولا منزلة له فى هذه الدنيا. والمسلمون الذين ينتسبون لهذا الدين ويلوثون دعوته وأمته بالعمل فى خدمة الظالمين يجب أن يبتروا وأن ننساهم نسيا. * * * * ص _156(1/147)
وسائل يظهر أن الإسلام أكبر منا، وأن تكاليفه أبعد من هممنا وأن مطالبه الكثيرة لا تزال تتحدى مزاعمنا. وأول ما يكشف عن هذا العجز الشائن أننا نريد الوصول إلى أهداف إسلامية ـ كما نقول ـ بوسائل مبتوتة الصلة بالإسلام. وأظن أن هذا المسلك لا يتحمل إلا تفسيرا واحدا، هو أن الإسلام ليس بغيتنا وأن شيئا آخر هو الذى يسيطر على نياتنا وأعمالنا. هل تظن أن إخوة يوسف كانوا صادقى الرغبة فى صلاح النفس يوم قرروا قتل يوسف؟ كلا!. فأى صلاح هذا الذى يتوصل إليه باقتراف جريمة؟. (اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوما صالحين). إنهم لن يكونوا قوما صالحين بوسائل فاسدة، وغارس الأشواك لن يلقى جنى غراسه وردا أبدا. وقد لفت البوصيرى أنفسنا إلى هذه الحقيقة، فإن المرء قد تحدثه نفسه أن يشبع هذه النهمة فحسب، وأن يدرك هذه الشهوة وكفى، وبعد ذلك تسكن نفسه إلى ما حصلت عليه من حرام وتستأنف حياة أفضل. فقال الرجل الحكيم: فلا ترم بالمعاصى كسر شهوتها إن الطعام يقوى شهوة النهم أى إن الوسائل الفاسدة لن تزيد مرضى القلوب إلا علة، وإذا حسبوا أنها تكسر شهوتهم فهى فى الحقيقة تطغى شرتهم وترسخ فى الإثم أقدامهم. ص _157(1/148)
وعندما كان بعض اللصقاء بالإسلام يطلبون منا مداهنة فاروق وأمثاله من الرؤساء ابتغاء نصرة الإسلام، قاومت هذا العوج النفسى جهد الطاقة، لأن الإسلام الباقى بعد ترضى المتكبرين فى الأرض، شىء آخر غير الدين الذى ارتضاه الله لعباده. ولن نكون أصحاب رسالة صحيحة إذا كان الملوك الفسقة وأمثالهم من دهاقين الاستبداد السياسى هم رعاة الدعاة إلى الله وحماتهم الأشداء. إن الإسلام بحاجة إلى من ينجده من هؤلاء الطغاة. وإن أمته المهيضة بحاجة إلى من ينقذها من عتوهم وعلوهم، فكيف يطلب منا أن نركن إلى أولئك الطغاة والله يقول : (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون). وعلى المسلمين ألا يخامرهم القنوط إذا ما رأوا بعض المرتزقة فى ميدان الجهاد لا يزالون يبحثون عن طاغوت آخر ليخدموا الإسلام بالانحناء له، والاغتراف من خزائنه. إن العبيد لا يقدرون الحرية يوم تساق إليهم عفوا. ألم تر كيف صنع اليهود مع موسى لما استخرجهم من مصر واستنقذهم من بطش فرعون؟. حنت نفوسهم إلى صنم ينكسون عنده رؤوسهم كأن ارتفاع الهامة أمر معنت، (وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون * إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون * قال أغير الله أبغيكم إلها وهو فضلكم على العالمين). إن الإسلام صنع الرجال الذين هدموا كسرى وقيصر، ولم يلتحق أحد من رجاله بالوثنيات ليستنزل فى مقاصيرها نصر السماء. فلنعد إلى صفوفنا المتواضعة، وقروشنا القليلة، فذلك أجدى من خزائن الذهب تلتمس عند ذوى الكنوز. ص _158(1/149)
ما تمسكنا بهذه الوسائل ! إن كنا صادقين فى إعزاز ديننا وإحياء أمتنا؟. إنه فى سبيل العمل للإسلام توجد أعمال تحتاج إلى الجندى المجهول، تحتاج إلى المكافح الصامت، تحتاج إلى الرجل الذى يبذل من وقته وماله، دون رياء أو ضجة. وقد كان لدينا قسم (البر والخدمة الاجتماعية) والمفروض فى منهاج هذا القسم، أنه ينظم أعمالا استطاع إخواننا الأقباط ـ بقليل منها ـ أن ينهضوا بطائفتهم، وأن يدفعوا بها إلى الأمام. فماذا فعلنا نحن لنستدرك ما فاتنا، وأن نلحق من سبقنا؟؟. لقد جمعنا الألوف من طرق شتى لإصدار جريدة كنا فى غنية عنها. وضننا بأى قدر من المال ـ مهما زهد ـ على أعمال البر والخدمة الاجتماعية. فهل هذه وسائل الفوز والفلاح؟. كم تكلفنا محاربة الرذيلة والتفكك والجهالة من جهد وسهر؟ ومن تجميع وتنسيق؟. كم نحن فقراء إلى المدارس التى ترفرف عليها روح القرآن والمستشفيات والملاجئ والأندية المبرأة، ولجان الخدمات العامة، ومحاضن الأولاد والشباب. كم نحن فقراء إلى مؤسسات تشد أعصاب أمتنا. هذه الأعصاب التى استرخت، ووهنت لطول ما عراها من أزمات ونكبات. إن الإسراف فى هذه الأبواب، لا يعترضه أحد، ولا يتوقع منه إلا أطيب النتائج أما (تسول) المبالغ الطائلة، لتنفق فى غير مصرف، وترك الأعمال الصحيحة تتطلب العون، فلا تجده، فذاك مسلك عجيب. إن الوسائل الصحيحة وحدها، هى التى تخدم الإسلام. * * * * * ص _159(1/150)
التحدى الكارهون للعرف السيئ، والخارجون على التقاليد القديمة مكروهون من العوام والجامدين. وعلى قدر ما تكون قداسة الخرافة الشائكة يستعر الغضب ضد المتبرمين بها والمنكرين لها. ولذلك يقول الله لنبيه : (وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون * وما هو إلا ذكر للعالمين). وأصحاب الحق بإزاء هذه العيون التى تقدح شررا، وهذه النفوس التى تتميز غيظا، لا يزدادون إلا ثقة بما لديهم واستهانة بما يواجههم. وإنك لتسمع إلى واحد من حملة الوحى يعالج جهالة الجماهير حوله، فترى آية من آيات الله فى الرسوخ والصرامة والتحدى. كأن عناد العوام معه عبث صبية يلعبون فى أصول طود ذاهب فى الجوزاء. قرأت هذه الآية يصف بها القرآن دعوة نوح عليه السلام لقومه : (واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون). وراعنى ما فيها من إصرار وإقدام. إنه يقول لهم: إن ضايقكم دعائى إلى الله فما أبالى بكم، ومهما اشتد سخطكم فلن أحذر جمعكم أو أتهيب عقبى النزاع معكم.. فإنى أستند إلى الله وأطمئن إلى تأييده، وأعرف أن ما تعلقتم به من دون الله أعجز من أن ينالنى بضر فأجهدوا جهدكم، ص _160(1/151)
واجمعوا كيدكم.. ثم اصنعوا ما شئتم وعجلوا بما تقدرون على فعله فلا ضرورة لتريث أو إمهال.. ويشبه نوحا فى هذه المقالة هود عندما صاح بقومه : (...إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون * من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون * إني توكلت على الله ربي وربكم ….). وهذا التوكل ضرب من القوة التى يزود الله بها المصلحين كم يزود الصحيح بالمناعة بين المرضى، فيعتلون وينجو، ويقعدون ويسير. ثم يقول ما قال الشاعر: ويوجد بيننا أمد قصى فأمُوا سمتهم وأممت سمتى والتوكل هنا أمارة من أمارات القدرة على الحياة والأمل فى المستقبل، إن ضعفت الطاقة واكفهر الجو، فهو قرين الصلابة والبأس، وسر الرباط والكفاح. لكن هذه الأمة لما جف عودها تحولت الخضرة اليانعة الطافحة بدلائل الحياة إلى هشيم تذروه الرياح بل توقد به الأفران. وإذا كان التوحيد قد انقلب إلى شرك فلا غرابة إذا انقلب التوكل إلى انكسار وخور وانهيار وهزيمة. إن التوكل على الله يبعث الجرأة على الناس. فلن يكون أبدا سبب ضيعة فى الدنيا أو هوان بين أهلها. وقد سمعت نوحا وهودا كيف يحفزهما التوكل إلى أن يقولا لقومهم : هاتوا ما عندكم فلن نحفل به. * * * * إلا أن ثمة عنصرا آخر يقارن هذا التحدى أو يعين عليه، هو تجرد الداعية واستغناؤه المطلق عن البشر قاطبة. فمن التناقض المثير أن تحرص على تملق الدهماء فى الوقت الذى تكلف فيه بردهم عن غوايتهم وشفائهم من جهالتهم. ص _161(1/152)
إن المعلم يترضاه تلامذته وليس هو الذى يترضى تلامذته . وخير ما يقال فى داعية : إنه استغنى عن دنيا الناس فلم يخافوه عليها، وبذل ما لديه من خير، فهرعت إليه الوفود ترجوه. وهذا المعنى أكده نوح لقومه : (فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين ). صدق من قال : أذل الحرص أعناق الرجال. إنه ليس أعصى على فنون الإغراء من الرجل الزاهد ينظر إلى الناس وهو بنجوة من مشاعر الرغبة التى تدنيه حيث يجب أن يبعد، أو مشاعر الرهبة التى تبعده حيث يجب أن يدنو. كلا. إن غناه فى قلبه حصنه من هذه الثغرات التى تستذل الملوك. فهو ملىء النفس، رفيع الرأس بما يدخره عند الله وحده.. وتنزيه الدعوات عن المتاجرة بها هو معنى الزهد الذى لاذ به الأئمة، واحتفى به العلماء. فليس الزهد هو الجهل بالحياة وهجر أسباب العمل، وقصور الباع فى مختلف الحرف، وترك زينة الدنيا عجزا عن بلوغها أو بلادة عن تذوق الجمال الذى أودعه الله فيها.. ورب نبى استمتع بالمال والبنين، وهو ـ مع ذلك ـ من الزاهدين...! ورب محروم عاش يتشهى ويتلمظ ، فما كان فقره رفعة لشأنه، ولا زيادة فى حسناته. إن الزهد ألا تبيع مثلك العليا بملك الدنيا إن خيرت بين هذه وذاك. فإن الله عاب قوما بأنهم آثروا الأولى على الآخرة فقال : (ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وأن الله لا يهدي القوم الكافرين * أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم وأولئك هم الغافلون). ص _162(1/153)
أما أن تحس نعمة الله وتستمتع بها ويشوق بدنك وروحك حسنها، فهذا مالا يضير رجلا مؤمنا مجاهدا وفيا لفضائله. ألا ترى القرآن الكريم ينبه إلى ناحية من نعم الله على أبناء آدم فيقول ـ فى تسخير الأنعام ـ : (ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون). إن هذا الجمال منة تستحق التنويه، فما بالك بألوان الجمال الأرقى، وقد أتاحها الله جميعا للذين آمنوا....؟. إن أصحاب الدعوات قد تحبب لهم من الدنيا أشياء. بيد أن شيئا مما يروقهم فيها لا يحجبهم عن الله ولا يهون عليهم الحق ولا يذلهم للناس....؟ * * * * وهذا الذى سقناه من دلائل التوكل والتجرد. خُلُق بنى عليه أولو العزم من الرسل، وكلف الله صاحب الرسالة الخاتمة أن تعتصم به، وأن يتأسى فيه بأخوته السابقين (فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ولا تستعجل لهم …). وعلى السائرين فى آثار النبوات الأولى أن يأخذوا بحظوظهم من هذه الخلائق الصلبة، فإن رسالات الله لا يستطيع حملها طلاب الدعة ومتملقو الجماهير.. ليس أقوى فى عرض قضية ما من الرجل الذى لا يهاب أحدا، ولا ينشد رفدا، فإنه يعتمد على الله ولا يرقب إلا جداه... ص _163(1/154)
نصيحة المسلمون الآن فى مراكز حرجة تقع بهم المآسى وتلاحقهم الإهانات. فما يخرجون من غمة إلا ليدخلوا فى مثلها أو أنكى منها. كل ذى قوة فى الأرض يفتات عليهم، وكل ذى مأرب يتجه إليهم، وبلادهم تدور فيها رحى المطامع، وينتجعها الرواد من كل صوب وحدب. شأن أى مكان ممرع أغفى أهله وذهب حراسه. والإسلام ـ تبعا لأصحابه ـ يلقى العنت وتكتنف مستقبله الصعاب. ونحن لا نذكر متاعبنا هنا لنقنط من زوالها أو نستكين لبقائها. فإن الاستسلام للهزائم لا يقول به رجل، مسلما كان أو كافرا. أجل، إن الرجولة المجردة تتحمل المكاره فكيف إذا اصطبغت بالإيمان، وفاض فى نواحيها اليقين والأمل؟؟ ألا تفعل العجائب؟؟ عندما سقطت الدولة الإسلامية فى القرن السابع على أيدى التتار المغيرين لم تفن هذه الأمة ولا ضاع دينها، بل لم تمض أيام طوال حتى ذاب التتار عليهم فى غمار المسلمين، فطوتهم الأوطان الإسلامية وفرضت عليهم دينها وتقاليدها. ثم مضت أيام أخرى فإذا المغيرون الأوائل يتولون جندا للإسلام، ويمدون أمته بعناصر جديدة، بادية الحماس، شديدة الوطأة. وبديهى أن الفاتحين الذين اعتنقوا دين المغلوب وأعجبوا بتقاليده لم يفعلوا فلك إلا لأن الأمة التى انهزمت عسكريا ظلت من الناحية العلمية والاجتماعية أرجح كفة من الغزاة المزهوين. وأحسب أننا ـ وسط الدائرة المعتمة المحيطة بنا ـ يجب أن نبنى سياستنا الإسلامية على أمرين متكاملين : هما المنفذ الوحيد من هذا الحصار الخانق. ولأبدأ بآخرهما ترتيبا، وهو إحسان الصلة بالناس. إن الذين يخلفون وراءهم أحقادا اجتماعية عنيفة يدمرون على أنفسهم وعلى رسالتهم، ولو كانت قوى البر والبحر تظاهرهم! ص _164(1/155)
ونحن المسلمين أولى الناس طرا بالاعتماد على الحكمة والجدال الهادئ والإقناع الكريم فى عرض قضايانا المعقدة وقضايا ديننا المظلوم. نحن أجدر بذلك ـ ولو كنا مدججين بالسلاح ـ من رءوسنا إلى أقدامنا.. أما إذا كان السلاح ومصانعه عند خصومنا فإن التحدى الطائش لون من الانتحار فوق أنه ضرب من العصيان، ولا أحب أن يفهم امرؤ من هذا الكلام أنى من أتباع غاندى فى سياسة المقاومة السلبية، أو أنى ألاين الغاصبين وأنسى ضراوتهم بنا وبإخواننا فى كل قطر. كلا كلا . إننى أرى ظهر الأرض خيرا من بطنها إذا لم نعش أعزة بديننا، بل إنى من دعاة الاستقتال دون أن تطيش غايتنا وتهون مقدساتنا. والروح أرخص ما يدفع غضبا لله وذيادا عن حقوقه. هو أرخص ما يدفع ولو فى معركة لا تكافؤ بين أطرافها، نحمل فيها العصى ويحمل أعداؤنا فيها قنابل الذرة المتفجرة! هذا منحى غير ما نحن بصدده هنا. إن حق الدفاع غير أسلوب الدعاية والعرض والاستدلال. والإسلام أغنى الأديان بمغريات القبول، فإذا فات إنسانا حظه الواجب من إدراك هذه المغريات فلن يعوضه عنها الحماس القائم على الخشونة والجلافة والغيرة البالغة، سواء كان ذلك عن إخلاص أو اصطناع! إن هناك أناسا أحيوا السنة عن صدق، لكنهم أساءوا خدمتها بشىء من القسوة بدا عليهم أو اتهموا به فتقهقروا فى المجتمع العام وتقهقرت معهم السنة. وفى الدنيا فتانون كثير يصرفون الناس عن الحق بسوء فهمهم فيه وسوء عرضهم له. وضيق العطن آفة فريق من المتعرضين للكلام عن الإسلام، حتى لقد أوقعوا فى أوهام شتى أن الإسلام يوم يقوم حكمه فلن يسمع إلا صوته. وهذا جهل بالدين والدنيا معا.. ومن حق العالم كله أن يصيح: خذوا الطريق على أولئك الملتاثين، قبل أن يوصدوا منافذ الفكر الحر على أهل الأرض. ص _165(1/156)
يجب أن يعلم الناس عنا أننا ـ استجابة لديننا ـ حراص على نشر الإسلام بأسلوبه العتيد، أسلوب الأدب والمرونة والتجمل وأننا ـ لو ملكنا قوى الذرة ـ ما استعنا بها فى إقامة دليل أو تدعيم حجة . إن معتمدنا الأول والأخير هو الإبانة عما فى الحق من جمال تهوى إليه الأفئدة؟ وسلاحنا الفذ اجتذاب الألباب بما يقنعها، لا بما يرغمها. هذه نصيحتى لإحسان الصلة بالرأى العام. أما الأمر الأول الذى يسبق تلك الوصاة فهو أن نضمن عناية السماء بنا، وأن نستوثق أن الله معنا. وذلك بتطهير النفوس والتزام التقوى. إن الغنى قد تطغيه ثروته. والقوى قد تبطره قوته. والأمم المتمكنة فى الأرض قد تدفعها أسباب الغلب إلى الفتك والاستعلاء. أما أن يطغى البائس ويستكبر العاجز وينسى المستضعفون فى الأرض ربهم وما يجب له من توقير وعبادة، وما ينبغى من مرحمة. فهذه هى الطامة! ونحن المسلمين إذا كنا ـ على ما نزل بنا ـ لن نصحو من سبات ولن نرجع عن إعنات. وإذا كنا سنظل سراعا إلى مواطن الأثرة والحقد والقطيعة، فكيف نرقب أن تعمل قوى السماء معنا، وأن تعز جانبنا المهيض. إننا ـ فى هذه المحن المتشابكة حولنا ـ أفقر خلق الله إلى تأييد الله. بإصلاح ما بيننا وبينه، والاستقامة على سننه السمح الرحيم. ويوم تكون أحوالنا من السمو والسناء بحيث تجعل البشر يرمقوننا بإعزاز وإعجاب، ورب البشر ينظر إلينا نظرة الرضا والقبول فسوف تنكشف الكروب كلها. أما أن نغضب الله بالعصيان وننأى عن خلقه بسوء السيرة فأمر لا تصلح به دنيا ولا يصلح به دين. لو انهزمنا أمام الغرب هزيمة المسلمين الأول أمام التتار لأوشك الغرب أن يدخل فى ديننا ونصير وإياه سواء. أما أن نتحول نحن إلى أخلاق التتار أنفسهم فتلك هزيمة لا قيام منها آخر الدهر. ص _166(1/157)
طبيعة الإسلام أحق امرئ بوظيفة ما، من كمل استعداده لها وتمت طاقته عليها.. فمنصب القضاء يرشح له المبرزون فى دراسة الشرائع والقوانين، وأعمال الهندسة الكبرى والصغرى يقام لها من أوتوا حظوظا موفورة من الدراية والخبرة، وكذلك سائر شئون الحياة الأخرى، لا يعد أحد من الناس أهلا لها حتى يستجمع الأسباب الميسرة لمباشرتها، وإلا نُحى غير مأسوف عليه. واستكمال القدرة على ولاية وظيفة ما، لا يقع بغتة. إن الإنسان فى هذا المجال كالثمرة، لا تنضج إلا بعد مراحل متأنية، فإذا أينعت صلحت لما خلقت له، أما قبل ذلك فإن فجاجتها تغرى باطراحها لا محالة. وإذا كان الفرد لا يحمد فى منصبه إلا إذا نهض بأعبائه، فكذلك الجماعات والأمم. إن إصلاح الأرض وترشيد الحياة ليسا أعمالا هينة، ليسا ادعاء يملكه أى قبيل من الناس. إن الأقدار التى تتبرم بموظف مهمل فى عمله، تتبرم أشد وأوسع، من أمة مهملة فى واجبها. وكما تطرد الدولة الموظف الكسول المتلاف، تؤخر العناية العليا كل أمة أعجزها القصور وشلها الفساد. نعم تؤخرها وتقدم من هو أكفأ منها على إصلاح البلاد ونفع العباد:. وعندما تنظر إلى الأمة الإسلامية الأولى تعرف أن الرسالة التى اضطلعت بها فى الحياة هى التى منحتها حق السبق ووضعت فى أيديها الزمام. ولقد شرحنا فى موضع آخر كيف أنه كان من مصلحة البشر قاطبة أن تتحول السلطة عن الدول الكبرى يومئذ لتستقر فى هذه الأمة الجديدة ولتبقى فى ربوعها حينا من الدهر. إن السيادة التى واتت المسلمين الأولين لم تجئ عفو الخاطر أو محض الصدفة، ولم تجن ربح قمار أو جائزة (يانصيب).. كلا. ص _167(1/158)
إن الدولة التى أقامها المسلمون الأوائل بنتها نفوس بلغت شأوا بعيدا من مجادة الخلق وسعة الكفاية وعمق اليقين وروعة التجرد وصدق الأخلاق . ومن وراء هذه النفوس الكبيرة تلمح صاحب الرسالة العظمى يتعهد القلوب بالصقل، ويأخذ النفوس بالأدب الشامل، وينسق الصفوف بالوعى لا بالغباء، وبالحق لا بالهوى. وقد تستطيع عصابة من الناس أن تخطف (حكما) بالاغتيال والنسف أو بالاحتيال والعسف، بيد أن نسبة هذا (الحكم) لله حمق كبير. إن الانتساب لله يقتضى شمائل أنبل وفضائل أجل مما تواضع الناس على إكباره من شمائلهم وفضائلهم. وفى أقطار العالم اليوم حكومات يشرف عليها رجال أولو عزم وبأس، وهى حكومات ناجحة فى حدود برامجها وأهدافها، ولن نبخس أصحابها حقهم من تقدير. ولكن البون بعيد بين حكم ينجح فى إسعاد شعب ما، وبين نبوة انخلعت من حظوظها الخاصة ومشت فى الأرض تغرس أعواد الوحى، وترقى بالعالم إلى آفاق أزهى وأنضر، تريد أن يعرف الناس ربهم الذى جهلوه، وأن تمسكهم بكتابه الذى جحدوه. وأين ـ فيما نرى ـ ورّاث هذه النبوة ورعاة هذا الميراث، بل سل قبل ذلك: أين أساليب الأنبياء فى العمل والبلاغ والإعذار؟. لقد ضجت نفسى من أناس تنقصهم القدرة على إقامة حكم لأنفسهم ثم يزعمون أنهم يريدون إقامة حكم لله؟، بم؟ كيف؟ بأدوات معطوبة ووسائل مقلوبة وغرور بعيد..؟. إن الأمة المسلمة، إذا لم تدْعُ للإسلام بسيرتها، صارت وبالا عليه. فإن عبثها بالنصوص التى بين أيديها واضطراب أمورها نتيجة هذا العبث، سيكون فتنة تصد الآخرين عن اعتناق هذا الدين. وقد فسر العلماء قوله تعالى (ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا …) بما يشبه ص _168(1/159)
هذا، قال مجاهد: لا تعذبنا بأيديهم ولا بعذاب من عندك فيقولوا: لو كان هؤلاء على حق ما أصابهم هذا.. إن الرجال الذين يحملون الحق يجب أن يشرفوه بعملهم. لا أن يشوبوه بهواهم، فإن إهانتهم له تبعد الكثير عن قبوله، وقد يدخلهم ذلك فى نطاق من عنتهم الآية: (ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون) . إن المواثيق التى أخذها الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى بيعة العقبة الأولى على الأنصار الداخلين فى دينه تستدعى التأمل، كان الإسلام محصورا مُعَنّى فى شعاب مكة يتربص أعداؤه به الدوائر وتهدد مستقبله الخطوب، ومع ذلك فإن اهتمام النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالأنصار الجدد لم يتعد الطريق المرسوم لتكوين الرجولة المؤمنة، فبايعهم أولا على ترك المناكر الشائعة من شرك وسرقة وزنا وبهتان، ثم استوثق من أنهم توابون يعودون إلى الله عجلين، إذا باعدهم الشيطان عنه.. فلما رست مكارم الأخلاق فى جذورهم، واستقامت مع أصول التقوى طريقهم جاءت البيعة الأخرى على الكفاح والتضحية. والقرآن النازل بمكة سار على هذا السنن، ربِّى الرعيل الأول على الإيمان والعفاف والأدب والوفاء، وصنع منهم نماذج ريِّقة للدعوة التى ينادون بها، فلما اصطدموا بقوى البغى نزلت ملائكة السماء لتؤيد إخوانها على الأرض. إن العالم شهد قديما ألوفا من الجنود المرتزقة يسيرون فى ركاب الجيوش الغازية ابتغاء السلب والنهب.. وهؤلاء المغامرون من طلاب المنافع ـ ولو بأرواحهم ـ ليسوا أصحاب دعوات ولا حملة رسالات. وما كان محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ يجمع أمثالهم حوله، بل ما كانوا هم ليطيقوا السير معه وهو يكلفهم بالصلاة والزكاة والذكر والعبادة. فطبيعة الارتزاق لا تقبل دروس التربية. ماذا يصنعون فى قول النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ لهم " ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند ص _169(1/160)
مليككم وأرفعها فى درجاتكم، وخير لكم من إعطاء الذهب والورق، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: ما هو يا رسول الله؟ قال: ذكر الله عز وجل !!.. ". إن هذا الحديث مبين عن طبيعة السلام فى الإسلام وكاشف عن العروة الوثقى فى تعاليمه، وعن الغاية التى يدفع عباد الله إليها، فإذا أكره بعدئذ على حرب خاضها ليخلص منها إلى هذه الغاية وحدها. دروس التربية العملية ومراتب الارتقاء النفسى هى فى الإسلام كيان الفرد وكيان المجتمع، وهى وسيلة وغاية وسبب ونتيجة معا. روى عن عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ أنه قال : كان إذا نزل على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الوحى يسمع عند وجهه كدوى النحل، فلبثنا ساعة، فاستقبل القبلة ورفع يديه وقال : اللهم زدنا ولا تنقصنا، وأكرمنا ولا تهنا، وأعطنا ولا تحرمنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وارض عنا وأرضنا! ثم قرأ (قد أفلح المؤمنون * الذين هم في صلاتهم خاشعون) الخ... الآيات المذكورة فى صدر سورة المؤمنين. أترى أحدا يجمع هذه الشيم الرفيعة، ثم يضل أو يزيغ أو يجاهد لمغنم عاجل؟. كلا... ولو حرصنا على اتباع منهج الإسلام فى عملنا لانتهى بنا إلى خير كثير. إن التأسى برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لزام علينا، فلنعد إلى أنفسنا، ولنستأنف السير على البصيرة. وإننى لأسجل هنا ما كتبه الأستاذ أحمد حسن الزيات فى التنديد بما يصطنعه (البعض) من أساليب مخزية فى خدمة الإسلام، قال : (هل قرأت منذ يومين فى الصحف ما أذاعته شركات الأنباء من أن عصابات مسلحة تألفت فى إندونيسيا باسم الدين وسمت نفسها (جماعة دار الإسلام)، وسيلتها الإرهاب والقتل والتدمير والنهب، وغايتها إقامة دولة إسلامية تحكم بدستور القرآن وتقضى بشريعة الله، وقد بدأت (جهادها) بغارات دامية على بعض القرى فى غرب (جاوة) قتلت فيها عشرين جنديا ومدنيا، ودمرت أربعة وستين منزلا بعد ص _170(1/161)
أن سلبت ساكنيها الحياة والمال!! فماذا دهى الحنيفية السمحة حتى تبدلت سنتها فى هذه النفوس فارتد نورها ظلاما وترياقها سما، وسلامها حربا، ونظامها فوضى؟ هل يرى هؤلاء الضالون ما زعمه (الباطنية) من أن للقرآن ظاهرا هو ما يعلمه الناس، وباطنا هو ما يعلمونه هم؟ فالحلال هو الحرام، والحرام هو الحلال، والمعروف معناه المنكر، والمنكر معناه المعروف وكذلك يقولون فى الصلاح والفساد والخير والشر ؟ حقيقة الأمر وواقعه أنهم لا يعلمون من القرآن ظاهرا ولا باطنا، ولا يفقهون من الدين أصلا ولا غاية، إنما هم كقتلة عثمان: طغام مثل النعام، يتبعون أول ناعق، والناعق قد يكون طماعا يريد المال، أو طماحا يريد الملك وعلة ما أصاب الإسلام من الانتكاس فى هذه الحقبة الأخيرة، أن المثقفين من ذوى البصائر والضمائر قد شككتهم مادية العلم فى روحية الدين، فوقفوا من الإسلام موقف المحايد، لا يؤمنون ولا ينكرون، وأخطأوا القياس، فظنوا كما ظن بعض دول الغرب: أن الدين عائق عن التقدم فقطعوه عن دنياهم وتركوه للعامة وأشباههم من جهال العلماء يفترون على الله ما لم يوح، وينسبون إلى رسوله ما لم يقل، ويؤولون آى الكتاب على الوجه الذى يدنيهم من الثمرة الحرام ويؤديهم إلى المنفعة ويحشون رءوسهم ورءوس الأغرار والسذج برواسب من مخرقة اليهود وصوفية الهنود، لا تدفع إلى الأمام ولا ترفع إلى فوق، لذلك اختلف مفهوم الإسلام فى أذهان أهله اليوم عما كان فى أذهان عمر وخالد، والرشيد والمأمون، والناصر والحكم، والعزيز، والحاكم، فى صدر الدعوة الإسلامية، وفى قلب الحضارة العربية، مفهومه اليوم فى أذهان الخادعين الطامعين من طلاب الغنم أو الحكم الإرهاب والاضطراب والغيلة والفرقة والتزمت والتعصب، وكان مفهومه فى أذهان صحابة الرسول وخلفائه العدل والإحسان والوئام والسلام والنظام والتسامح والمحبة. فلنجدد أولا هذا المفهوم فى أذهان الناس، ثم لندع بعد ذلك إلى أن يكون الحكم(1/162)
له والقضاء به. وتسألنى من الذى يستطيع أن يجدد هذا المفهوم على النحو الذى أنزل الله القرآن به وأصلح أمر الأولين عليه. فأقول لك : إنه الأزهر. ونقول نحن : ذلك، يوم يعود الأزهر إلى الكتاب والسنة ويجعلهما لباب ثقافته ومحور دراسته. ثم يوم يوائم بين ما يعلم من دين... وما بلغته الحياة من أطوار). ص _171
السمع والطاعة
.. 1 ..
من إمارات الإحكام فى شئون الجماعة والدولة، أن تنتقل الأوامر من الرؤساء إلى الأطراف، كما ينتقل التيار من المولد إلى الأسلاك الممتدة، فلا يقطع نوره خلل ولا يرد قوته قطع أو خبل.
إن الجسم المعافى تستجيب أعضاؤه (للإرادة) التى تنقلها الأعصاب من الدماغ المفكر فيتحرك أو يسكن وفقها.
ولن تعجز الإرادة عن بلوغ أهدافها إلا إذا اعتل الجسم، وأصيبت أجهزته بالعجز والشلل.
والمجتمع الصحيح كالجسم الصحيح يشد كيانه جهاز دقيق ويضبط أموره نظام محكم، وتتعاون ملكاته العليا وقواه المنفذة تعاونا وثيقا يسير به فى أداء رسالته كما تسير الساعة فى حساب الزمن.
وقد وضع رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم ـ الله عليه وسلم ـ قاعدة هذا النظام المتجاوب وجعل القيام عليه من معالم التقوى، فإنه لن يستقر حكم ولن تصان دولة إلا إذا سادتها الطاعة والنظام .
ولذلك قال عليه الصلاة والسلام : " من أطاعنى فقد أطاع الله، ومن عصانى فقد عصى الله، ومن أطاع أميرى فقد أطاعنى، ومن عصى أميرى فقد عصانى ".
وقال الله عز وجل: (أطيعوا الله) أى اتبعوا كتابه. (وأطيعوا الرسول ) أى خذوا بسنته. (وأولى الأمر منكم) أى فيما كلفوكم به من أمور تخدم الكتاب والسنة. وطبيعة الحياة عندما فرضت خضوع الجسم للعقل إنما بنت هذا لمصلحة الجسم والعقل جميعا، على أساس أن العقل يصدر عنه ما يضر الجسم أو يؤدى به إلى التهلكة.
فإذا استحمق امرؤ وشرع يخلط، حجرنا عليه فورا، إنقاذا له من شر نفسه وإنقاذا للجماعة منه.
كذلك اطردت فطرة الله فى شئون الحياة كلها:(1/163)
فقوانين السمع والطاعة التى سنها الإسلام، بل التى وضعتها نظم أخرى وطبقتها
ص _172
بصرامة ، لم يُقصد بها إلا حفظ المصلحة العليا للجماعة، فكأنما أملت بها غريزة البقاء وضرورة الحياة. ولا مجال البتة لجعلها متنفس هوى جامح أو شهوة عارضة. وعندما شرع قانون السمع والطاعة لم يفترض فى الأطراف التى تمثله إلا قيادة راشدة تنطق بالحكمة وتصدع بالحق وتأمر بالخير، ثم جنود يلبون النداء ويمنعون العوائق ويتممون الخطة. وبذلك تنتظم دورة القانون فى الأمة كما تنتظم دورة الدم فى البدن فتستقيم الحياة وتستقر الأوضاع. أما الطاعة العمياء لا لشىء إلا لأن القائد أمر، وأمره واجب الإنفاذ، فذلك منكر كبير وجهالة فاحشة لا يقرها شرع ولا عقل. روى الإمام أحمد فى فسنده قال : بعث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ سرية واستعمل عليهم رجلا من الأنصار فلما خرجوا وجد عليهم الرجل فى شىء ـ تبرم بسيرتهم معه ـ فقال لهم : أليس قد أمركم رسول الله أن تطيعونى؟ فاجمعوا إلى حطبا ثم دعا بنار فأضرمها فيه، ثم قال: عزمت عليكم لتدخلنها. فقال لهم شاب منهم : إنما فررتم إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من النار، يعنى ـ فكيف تقادون باسمه إليها ـ؟ لا تعجلوا حتى تلقوا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فإن أمركم أن تدخلوها فادخلوها. فرجعوا إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأخبروه. فقال لهم: " لو دخلتموها ما خرجتم منها أبدا. إنما الطاعة فى المعروف ". لو دخلتموها ما خرجتم منها أبدا. هذا الترهيب الغليظ يستأصل جذور الطاعة العمياء من نفوس الأتباع جميعا، ويجعلهم يحملقون فيما يصدر إليهم من أوامر، فلا يكونون عبيدا إلا لله ولا جثيا إلا للحق. إنما استكبر من استكبر من الفراعنة والجبابرة لأنهم وجدوا من الرعاع من يسارع إلى إجابة أهوائهم وإطاعة نزواتهم دون بصر أو حذر فعتوا فى الأرض وعلوا علوا كبيرا... ولو أنهم عندما أصدروا أوامر يُمليها الغرور(1/164)
وتنكرها الحكمة وجدوا من يردها عليهم ويناقشهم الحساب، لتريثوا طويلا قبل أن يأمروا بباطل. ص _173
والثقة ـ خصوصا فى أهل الدين ـ تغرس حسن الظن فيما يأتون ويذرون، وتجعل المرء يتلقى توجيههم بالقبول الحسن فهو ينزل عنده مطمئنا إلى أنه يطيع فى المعروف . ونحن لا نلوم إنسانا على نقاوة صدره وليونة طبعه، ولكن المؤمن لا يأذن لأحد أن يستغل هذه الصفات النبيلة فيه ليجعل منه شخصا طائش القياد ضرير العين والقلب. وفساد الأديان الأولى جاء من طراوة الأتباع فى أيدى رؤسائهم وتحولهم مع مبدأ السمع والطاعة إلى أذناب مسيرة، لا فكر لها ولا رأى. روى أنه لما نزل قوله تعالى : (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله) قال عدى بن حاتم ـ معترضا ـ : إنهم لم يعبدوهم، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : بلى، إنهم حرموا عليهم الحلال وأحلوا لهم الحرام، فاتبعوهم فتلك عبادتهم إياهم. فانظر كيف غدت الاستجابة العمياء شركا، وكيف استغلت الثقة لتغيير أحكام الله وإضلال عباده عن الصراط المستقيم. إن الفراعنة والأباطرة! لهوا لأنهم وجدوا جماهير تخدمهم بلا وعى. والأحبار والرهبان والبابوات تألهوا كذلك، لأنهم وجدوا رعايا تمنحهم الثقة المطلقة وتلغى وجودها الأدبى أمام ما يصدرون من أحكام. والشعوب التافهة فى كل زمان ومكان هى التى تصنع المستبدين وتغريهم بالأثرة والجبروت. وقد بلغ من حمق العامة فى بعض أدوار التاريخ المصرى أن قالوا: الحماية على يد فلان خير من الاستقلال على يد فلان!... لو رشح فلان حجرا لانتخبناه... إن الحب المكين شىء واحترام الحقيقة المجردة شىء آخر. ولشعب ما أن يعشق زعيمه وأن يصوغ فيه قصائد الغزل. بيد أنه لا يسوغ أن يتطور به هذا الحب حتى يحاكم الحقائق إلى شخصه بدل أن يحاكم شخصه إلى الحقائق. ومن قديم عرف المصلحون والأئمة أن السمع والطاعة وسائل لا بد منها لسير الأمور وبلوغ الغايات. ونحن لا نمارى فى المبدأ بعد ما(1/165)
شرحنا أصله فى صدر حديثنا، وإنما نحذر من الزوائد الخطرة التى تنضاف إليه وتتوسع فيه وتقتل الحقيقة والحرية باسمه. ص _174
إن الإسلام لم يشرع قانونا ينتقص من (الاستقلال الشخصى) لأى إنسان أو يغض من (حريته القكرية) . ألم تر إلى موقف رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصحابته فى أسرى بدر؟ لقد استشار أصحابه ما يصنع فيهم؟ فما حاول أحدهم أن يتعرف رأيه ليتملقه بتأييده، بل أدلى كل منهم بما يراه الحكم الصحيح فى القضية المعروضة وسار كل وفق طبيعته الخاصة. الحليم يعرض العفو، والحازم يعرض العقاب، ولا يعنينا أن نعرف هنا من أخطأ أو من أصاب. وفى السيرة شواهد شتى لما كان عليه السلف الأوائل من أصالة نظر، وحرية فكر، مع ما أثر عنهم من حب عميق لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وما أخذ عليهم من مواثيق السمع والطاعة. ونحن نعرف أن بعض الناس لا يحسن التفكير العام، وقد تضم إلى ذلك أنه لو ترك لكل امرئ الحق فى مناقشة ما يكلف به لتسربت الفوضى إلى شئون الحكومات والشعوب. وهذا حق، ولكنه لا يصادم ما نحن بصدد تقريره. إن هناك فرائض لا يجوز خدشها ومحرمات لا تمكن استباحتها، وشئونا أخرى هى مجال للأخذ والرد وتفاوت التقدير. وهذه لا يملك البت فيها واحد برأسه، وإنما يرفع الخلاف فيها أصحاب الحل والعقد وأهل الشورى. فإذا مرت بمرتبة البحث والعرض، فلكل ذى رأى أن يظهره وأن يدافع عنه غير منكور ولا محقور. حتى إذا تمخض الدرس والنقد عن الرأى الذى استقر عليه الإجماع أو جنحت إليه الكثرة، لم يبق مكان لتردد أو ارتياب أو اعتراض. والحكومات المعاصرة ـ على اختلاف مذاهبها ـ تحترم هذه القاعدة. ولعل هذا سر الإفراد والجمع فى الآية ( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول) فالإله واحد والرسول واحد. ص _175(1/166)
أما (وأولى الأمر منكم) فهو كثير، وما يقرونه ـ جماعتهم أو أغلبهم ـ فهو محل احترام العامة . وليس ذلك الذى أقره الإسلام فى سياسة أمته بدعا تفرد به، فإن أمما أخرى أقرت مثله من قبل ومن بعد. ذلك، وليس كل من غلب على حكم بلد ما يسمى ولى أمر فيه، تقرن طاعته بطاعة الله ورسوله. فكم أرمُق قرونا من تاريخ الإسلام الرحب وبقاعا من وطنه الكبير فلا أجد ظلا لولاية صحيحة..! كما أن الشئون التى يعالجها الولاة الموثقون تتفاوت فى موضوعها تفاوتا كبيرا، فشئون الدنيا غير شئون الدين. وشئون الدين نفسه ليست سواء، فالأصول غير الفروع، والنظرى غير العملى. فقد يختلف أولو الأمر فى بناء جسر أو تعلية خزان، وقد نختلف فى ذلك معهم لا صلة لهذا الخلاف بطاعة أو معصية. وقد يختلفون ونختلف معهم فى فقه الصلاة ويلتزم كل منا وجهة نظره... ولا وزن هنا لخطأ أو صواب. وقد تكلم العلماء فيمن يسمون أولى الأمر شرعا، والشئون التى ترى طاعتهم فيها دينا، ورفعوا الغموض عن كليهما. ولقد عجبت لخلاف وقع بين شباب من المسلمين أثاره بعضهم بتشاؤم هو: نحن جماعة المسلمين، أم نحن جماعة من المسلمين؟ والإجابة على هذا السؤال لها نتائج ذات بال. بل نتائج ترتبط بها صيانة دماء وأموال! فإن الذين يحسبون أنفسهم جماعة المسلمين يرون مخالفة قائدهم ضربا من مخالفة الله ورسوله، وطريقا ممهدة إلى النار وبئس القرار! إلا أننى عز على أن يُلعب بالإسلام وأبنائه بهذه الطريقة السمجة، وأن تتجدد سياسة الخوارج مرة أخرى، فيُلعن أهل الإيمان ويترك أهل الطغيان. وبم؟ باسم أن القائد وبطانته هم وحدهم أولو الأمر! وأن لهم حق السمع والطاعة؟ وأن الخارج عليهم يصدق فيه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من رأى من أميره شيئا فكرهه فليصبر، فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبرا فيموت إلا مات ميتة جاهلية " ص _176(1/167)
وقوله : " من خلع يدا من طاعة لقى الله لا حجة له، ومن مات وليس فى عنقه بيعة مات ميتة جاهلية ". وهذه الأحاديث وأمثالها وردت فى منع الفتوق الجسيمة التى يحدثها الشاغبون على الدولة، الخارجون على الحكام. وقد عانى المسلمون وعانت خلافتهم الكبرى أقسى الآلام من ثورات الحانقين والناقمين، وربما كان سقوط الحكم الإسلامى فى الأرض بسبب هذه الانتفاضات الهائلة... بيد أن تعليم هذا الجنون كان أسلوب تربية وتجميع عند بعض الناس!! أن يقال أن الولاء للقيادة يكفر السيئات، وأن الخروج عن الجماعة يمحق الفضائل، أى إسلام هذا؟ ومن من علماء الأولين والآخرين أفتى بهذا اللغو؟ وكيف تلبسون الدين هذا الزى المنكر؟ وهيهات، فقد تغلغل هذا الضلال فى نفوس الناشئة حتى سأل بعضهم: هل يظن المسلم نفسه مسلما بعدما خرج من صفوف الجماعة؟ ولنفرض أن رئيس الجماعة هو أمير المؤمنين وأن له حقوق الخليفة الأعظم (!) فهل هذا يؤتيه على أتباعه حق الطاعة العمياء؟ إن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يؤت هذا الحق! ففى بيعة النساء يقول الله له (... ولا يعصينك فى معروف). وعن ابن عمر رضى الله عنهما قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ " السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة "... وروى مسلم : عن عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة قال : دخلت المسجد فإذا عبد الله بن عمرو بن العاص جالس فى ظل الكعبة والناس مجتمعون عليه، فأتيتهم فجلست إليه فقال: كنا مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ سفر فنزلنا منزلا، فمنا من يصلح خباءه، ومنا من ينتضل، ومنا من هو فى جشره ، إذ نادى رسول الله : الصلاة جامعة فاجتمعنا إلى رسول الله فقال : إنه لم يكن نبى من قبلى إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شر ما يعلمه لهم ـ وإن هذه الأمة جعلت ص _177(1/168)
عافتيها فى أولها وسيصيب آخرها بلاء وأمور تنكرونها، وتجىء الفتنة فيقول المؤمن : هذه مهلكتى، ثم تنكشف وتجىء الفتنة فيقول المؤمن : هذه، هذه!... فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذى يحب أن يؤتى إليه. ومن بايع إماما فأعطاه صفقة يده، وثمرة قلبه فليعطه إن استطاع. فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر...! قال: فدنوت منه فقلت: أنشدك بالله، أنت سمعت هذا من رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ، فأهوى - إلى أذنيه وقلبه - بيديه وقال: سمعته أذناى ووعاه قلبى. فقلت له: هذا ابن عمك معاوية يأمرنا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل ونقتل أنفسنا، والله تعالى يقول : (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما). قال: فسكت ساعة - لحظة - ثم قال : أطعه فى طاعة الله، وأعصه فى معصية الله... سياق الحديث كما ترى فى توفير الأمن لحكم قائم، وخليفة مبايع، ومع ذلك فإن عبد الله رأى التمرد على الحاكم فريضة إذا أمر بمعصية، فكيف بالتمرد على رجل من سوقة الناس منح نفسه أو منحه أشياعه سلطانا موهوما! على أن من الإنصاف لتعاليم الإسلام - ونحن بصدد الكلام عن تغيير الحكام - أن نذكر القاعدة القائلة: إذا كان تغيير المنكر يؤدى إلى مفسدة أعظم، فالإبقاء عليه أولى، وذلك مصداق قوله تعالى : (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب). والواقع أن الزلازل التى تتبع إسقاط الحكومات قسرا بعيدة المدى. ومن ثم لم يرض الإسلام أن يشهر السيف فى وجه حاكم إلا أمام ضرورات ملجئة. أبانها هو ولم يترك بيانها لتقدير أحد. بل إنه حبب إلى المؤمن التضحية ببعض حقوقه الخاصة إشاعة للاستقرار فى أنحاء البلاد، وإغلاقا لمنافذ الفتن. فعن عبادة بن الصامت قال : " بايعنا رسول الله – صلى الله عليه(1/169)
وسلم - على السمع والطاعة فى منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا، وألا ننازع الأمر أهله - أى نطلب الحكم من ولاته - إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان " . ص _178
وإننى لأمقت أن أكون داعية لحاكم ما، وأستعيذ بالله من أن أعين بكلمة على بقاء وال جائر. غاية ما أبغى أن أشرح قانون السمع والطاعة وأن أمنع الكهان والدجالين من الاحتيال به على ناشئة قليلة الفقه فى الإسلام. إن تغيير حاكم شىء والانصراف عن واعظ غير موفق شىء آخر. لقد كان الراسخون فى العلم يدعون إلى الله ويتجردون للدعوة، فكان الناس يرون طاعتهم من طاعة الله لأنهم تلقوا دروس معرفته عنهم. ثم جاء الراسخون فى الجهل يطلبون حقوق القيادة، ويتحدثون عن قانون السمع والطاعة، ولست أعنف دعيّا من هؤلاء على مزاعمه ومطالبه. فالأمر كما قيل: "بعض الناس طغاة لأننا نركع لهم ". .. 2 .. القول بعصمة الأئمة غير معروف بين جمهور المسلمين من أهل السنة. فمذهبهم أن القائد أو الحاكم يجىء من أى طبقة، وأنه فى موضعه العالى من تصريف الأمور يجوز عليه أن يخطئ وأن يصيب. وأن نصحه ـ إذا أخطأ كمؤازرته إذا أصاب ـ واجب على الأمة. بل إن أهل السنة يرون أن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ على جلالته ـ قد يخطئ فيما لم ينزل به وحى... ولكن الإرشاد الأعلى يستدرك عليه ويوجه اجتهاده إلى الصواب الذى فاته. أما الشيعة فهم يحصرون الخلافة فى الأسرة النبوية، ويقولون بتقديس من يتولى منهم شئون المسلمين. ولست فقيها فى مذهب الشيعة.. ورأيى أن الخلاف فى سياسة الحكم ـ عندنا معشر المسلمين ـ سياسى لا عقدى، وأن أركان الإسلام تُظلم عندما يقحم عليها هذا الخلاف الذى بدأ تافها ثم استفحل مذ خالطته شهوات الدنيا! وأريد أن أعرض هنا المسألة (عصمة أو تقديس القيادة).. فإن القول بعصمة واحد من هؤلاء هو عندى خرافة كبيرة. ومن السخف أن يطالب عاقل بتصديق هذا الزعم سواء تبجح به رئيس أو هرف به(1/170)
مرءوس. ص _179
وربما كان الضغط الذى صادفه التشيع أول أمره سر انتشار هذه الكلمة، فقد استبد الأمويون والعباسيون بالحكم دهرا طويلا، وضيقوا الخناق على معارضيهم حتى جعلوهم يحيون فى جو من الوجل والتوجس . والأحزاب المناوئة للحاكم عندما تفقد نعمة العلانية فى التنفيس عن رغباتها، والإبانة عن مقاصدها وغاياتها، لا ترى بدا من جمع فلولها فى الظلام ونشر تعاليمها فى شكل رسائل أو منشورات مقتضبة حاسمة... وقد كان طلاب الخلافة من ذرية على يعيشون فى هذا الخفاء المسحور، وينالون من الحب بقدر ما يناله الحاكم من سخط. وربما كان بعضهم أعف نفسا وأصدق قيلا من أمراء أمية والعباس فهو يرى فى مناوشته الحاكم وإسقاطه خدمة للإسلام قبل أن يكون خدمة لنفسه... والوسيلة الوحيدة هى المقاومة السرية، حيث يتلقى الأتباع الأوامر الصادرة من فوق على أنها نصوص واجبة الطاعة، لا مجال ألبته لمناقشتها أو التملص منها، لا... إن شيئا من هذا لا يجول بخاطر واحد من الأتباع! فإن تنفيذ هذه الأوامر دين تقبل عليه النفس بلذة وشغف، ولو كانت عقباه العطوب..! وفى هذه الدائرة المغلقة تتحول الثقة فى القيادة إلى قول بعصمة الأئمة... ذلك أن مرور الزمن على هذا الكبت يُحور الصلة بين الأتباع المضطهدين وسادتهم المختفين حتى تنتهى إلى هذا المصير. وخطورة هذا الضرب من المعارضة المستخفية أنه البيئة الخصبة لنمو الأوهام والأساطير. وأظن أن الفرق الكثيرة التى نهشت جوهر الإسلام ـ من باطنية وقرامطة وغيرهم ـ لم تتولد إلا فى هذه البيئة. إن الأوامر التى يصدرها أشخاص فقدوا قوة العمل فى النور قلما تخضع لتمحيص المنطق وتحقيق الشورى.. حتى بعد أن تواتيهم السلطة ويقيموا حكما يرعى أمور الناس فى وضح النهار.. وهكذا ينتقل مبدأ تقديس الزعامة من صفوف المعارضة إلى صفوف الحكم نفسه، والإسلام برىء من هذا كله. ص _180(1/171)
وقد رأيت جمعا غفيرا من شباب المسلمين ينظرون إلى قائدهم نظرة يجب أن تُدرس وأن تُحذر. قال أحدهم : إن القائد لا يخطئ . ومع أن كلمة " القائد لا يخطئ " وجدت امتعاضا من السامعين، إلا أنه امتعاض المذنب عندما يواجه بجريرة لا يجد منها فكاكا.. ويكره أن تلتصق به، لظهور معرّتها. والقوم يخلطون بين توقير القائد وتوقير المهابة له... وبين الخنوع لرأيه والمسارعة فى هواه. لقد قال قائل: " إن الإيمان بالقائد جزء من الإيمان بالدعوة ". ثم أضاف " ألا ترى أن الله ضم الإيمان بالرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى الإيمان بذاته ـ جل شأنه ـ؟ ذلك أن المظهر العملى للطاعة والأسوة هو فى اتباع القائد اتباعا مطلقا "...!! ثم استدرك القائل : " لا أعنى بهذا أن أسوى بين القائد والرسول فى حقيقة الطاعة، إنما أقصد دعم مشاعر الولاء نحو القائد، فأنا أضرب مثلا فحسب "...!! إن نفرا من العباقرة ظهروا فى ألمانيا وإيطاليا ومصر والهند أوتوا من المواهب الخارقة ما جرفوا به جماهير العامة واستهووا به الخاصة وكانت آراؤهم تعصف بما عداها وأشخاصهم تطوى الأصدقاء وتكسح الخصوم . وهؤلاء الزعماء الكبار لا تضبط صلاتهم بأتباعهم ـ على هذا النحو ـ تعاليم الإسلام، فلا هم عرفوا ولا هم تقيدوا بها. إن الأقدار قد تسلح بعض الناس بقوى أشبه بقوى القاطرة التى تجر وراءها ألف عربة، وإذا كانت شعوب بأسرها يطريها الإعجاب بقائد ما، فتنشق حناجرها بالهتاف له، وتملكها عقلية القطيع فى السير وراءه، فذاك أمر يصح أن تُدرس علله ونتائجه على ضوء التاريخ القديم والحديث. أما الشىء الذى تحار البرية فيه فهو إطباق قبيل من الناس على تقديس شخص ليست لديه ذرة من الخصائص العبقرية . إن بركات الطاعة العمياء لا آخر لها، وأولها أنها تصدق فى أصحابها قول القائل: لا يبلغ الأعداء من جاهل ما يبلغ الجاهل من نفسه وحين كان الوعى السياسى يتطلع إلى مزيد من الحريات كان بعض الناس ضعاف ص(1/172)
_181
الإحساس بمعنى الشورى، وحق قيام الأحزاب، فلم يشعروا بقيمة الدساتير الضابطة إلا بعد فوات الأوان. وأستطيع أن أقول: إن الحاجة تكون ماسة إلى تربية أزكى وفقه أوسع وتخليص للدين من مسالك غبية كانت تقع باسمه، ومن أمراض نفسية تختفى وراء شعائره. ولو كان المفروض أن يقود أهل الجهاد والعلم والدراية والتوجيه لوجد من هؤلاء كثير.. لكن أصحاب هذه المؤهلات معروفون يتحدث الناس إليهم ويأخذون منهم ويردون عليهم . والقائد لا يكون كذلك ـ وما ينبغى له ـ (!) وإنما ينبغى أن يكون شيئا تشرئب إليه الأعناق، وتخشع عنده النفوس... أجل... ينبغى أن يكون صنما حيا يأمر فيطاع، ويأتى إليه الأشياع ليتمسحوا به ويطوفوا حوله. وعقدة الضعة تجعل صاحبها لا يكتفى بتخطى من هم أكفأ منه، بل إنه يسعد بتحطيمهم، ويسر إذ يقدر على إقصائهم وإطفائهم. وبنظرتنا إلى هذا الخلل الفظيع فى مقاييس الخير، سنجد أننا سوف نحرم من رعاية الله أبدا بتقريره... وخاصة أن الشبان اضطربت أفكارهم وأحكامهم حتى خيل إلى بعضهم أن يزن الأمور بمدى رضاء القائد ومدى الولاء له!! أما الخطأ والصواب، أما العقم والإنتاج، أما النكوص والشجاعة، بل قل: أما العلم والجهل فتلك أمور لا يلتفت إليها فى تقديم وتأخير... وعفاء على أمة تستقر فيها تلك المهازل.. إن البقاء فيها مضيعة للوقت ومنقصة للدين! أأشقى به غرسا؟ وأجنيه ذلة ؟ إذن فأتباع الجهل قد كان أحزما!! ولكنى مرة أخرى أرجع اللوم على القطيع المسير. إن حسن النية لا يشفع فى الاستجابة لأصحاب الأهواء. وقد نعى القرآن على قوم أغلقوا عقولهم على رأى فلم يفهموا سواه ولم يفكروا فيما عداه زاعمين أن الخير فيه وحده فقال فيهم (قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا * الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا). يجب ألا نأخذ رأينا كقضية مسلمة، ولا أن نقبل كلام غيرنا دون مناقشة وتدبر. ص _182(1/173)
بل يجب أن نبحث عن الحق، ونجتهد فى الوصول إليه، فإذا عرفناه عرفنا الرجال على ضوئه وصادقناهم أو خاصمناهم على أساسه . إن المسلم الصادق هو الذى يعرف الرجال بالحق، أما أولئك الذين يعرفون الحق بالرجال ويثقون فى أى كلام يلقى إليهم لأنه صادر عن فلان أو فلان، فهم أبعد الناس من فهم الإسلام، بل هم آخر من يقدم للإسلام خيرا أو يحرز له نصرا... وافقه أيها المسلم كلمة الإمام مالك ابن أنس : " كل امرئ يؤخذ منه ويرد عليه إلا صاحب هذا المقام " (يعنى رسول الله صلى الله عليه وسلم ). فقضية الدعوة هى التى تعنينا. هل ستترك الأيدى الخفية تلعب بزمام الحركة الإسلامية الكبيرة وتشل نشاطها فى ميادين الحياة؟ هل من الضرورى أن يحمل الإسلام أوزار قيادات واهنة، تستر ضعفها بالاستبداد، ونكوصها بالمكر السيئ ؟ ولحساب من هذا؟ إن شرف الدعوة العظيمة فى أنها صدى للإسلام، وصورة كاملة لتعاليمه الراشدة. - فاعلم أن الإسلام بُنى على الوضوح والثقة والتعقل. - (ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين). - (إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون). - فارفض الغموض فى رسالتك واحذر قبول الريبة باسم السمع والطاعة. فالطاعة فى المعروف، والرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ". - ولا تتعصب إلا لما تعقل وتؤمن، فإن التسليم للأوهام بعض الطقوس الماسونية فى هذا العصر، وبعض طقوس الكنيسة فى العصور الوسطى المظلمة. - أما الإسلام فبرىء من هذه المسالك المحدثة. إن القيادات مسئولة ـ من قبل ومن بعد ـ عن الخسائر التى أصابت الحركة الإسلامية فى هذا العصر، وعن التهم الشنيعة التى توجه للإسلام من خصومه المتربصين. فقد صورته على أنه نزوات فرد متحكم، كما صورت الهيئات الإسلامية وكأنها تسودها الدسائس وتسيرها الأهواء. ص _183(1/174)
وسوف نبقى ندفع عن الإسلام شرور أعدائه السافرين والدخلاء حتى تنجلى الغمة ويفرح المؤمنون بنصر الله . نعلم أن الإسلام أول أمره اشتبك مع اليهود فى حرب ضروس، لم تضع أوزارها حتى انكسرت شوكتهم وكتب عليهم الجلاء، فاختفت جماعتهم من جزيرة العرب واضمحلت قواهم أمام امتداد الإسلام فى المشارق والمغارب. لكن اليهود الذين فنوا بالهزيمة التامة فى ميدان القتال... وأعجزهم عن أن يصيبوه بأقل أذى فى ساحة مكشوفة واضحة.. انفلتوا يكيدون له فى ميدان آخر فاستطاعوا أن يلحقوا به متاعب جمة.. ما زال من أربعة عشر قرنا مضت يعالج جراحها إلى اليوم..! دسوا وسط الجماعة المسلمة من يورث نار الفتنة ويلبس على المسلمين أمر دينهم ودنياهم، فإذا الفكر الإسلامى تشوبه الخرافة، وإذا الإسرائيليات تمتزج بمنابع ثقافتنا وتغزو عقول العوام وتعوج بسير الإسلام وسط أهله أنفسهم! فكيف يستقيم سيره ـ بعد ـ بين الناس؟ ومعنى ذلك أن اليهود ثأروا لأنفسهم من الهزيمة التى أدركتهم، وإن كان علماء الدين ونفذة الشريعة لم يستكينوا لهذا البلاء، وبذلوا جهودا كبيرة فى فضح هذه الإسرائيليات وتخليص لباب الإسلام الحق من تلك المحدثات التى اعترته. وقريب من نضح اليهودية الماكرة على الإسلام ما رووه من أن الفرس لما دخلوا الإسلام نقلوا إليه تقاليدهم فى معاملة الأسر المالكة عندهم، فجعلوا الأسرة النبوية موطن قداسة وعصمة، وأحبوا أن تتبوأ فى مجتمعهم المكانة التى كانت قبلا لآل ساسان... وبذلك تعكر رواء الإسلام فى أذهانهم كما يتعكر كوب الماء إذا سقطت فيه قطرة مداد..! إن الحقيقة العليا فى هذا الدين يجب ألا يشوب صفاءها كدر. وسواء انتصرت أو انهزمت فلا يجوز أن يتطرق إليها زيادة أو نقصان أو تحريف. إن اجتياح (التتار) لبلاد الإسلام وطيها لراية الخلافة فى بغداد، وتقتيلها ما قتلت من السادة والرعاع، إن ذلك المصاب أهون فى وقعه وأثره من شيوع مذهب المرجئة بين عوام المسلمين(1/175)
وظنهم أن الأعمال ليست ضرورة لصحة الإيمان. ص _184
وعندما أنهض الإسلام جماعة الإخوان فى مصر كيما ينصفوا مبادئه ويذودوا عن حماه تنضرت وجوه كثيرة، وسرت حرارة الأمل فى أوصال المؤمنين، وتمشت إلى جانبها رعدة الخوف فى قلوب الفساق والظالمين، وسارت الدعوة تطوى المراحل البعيدة وهى تمر مر السحاب . وشرفها الذى تباهى به الأولين والآخرين أنها تتأثر بصاحب الرسالة العظمى صلوات الله عليه وسلامه وتقبس من سناه. ثم جاءت المحنة الكبرى فقتل حسن البنا جهرة لا اغتيالا، واقتيد خيرة إخوانه إلى المنافى والسجون، وظل الإرهاب المسلط يجرعهم الغصص ويتوقع منهم الفتنة حتى جاء نصر الله، فانجابت الغمة وعادوا أحرارا. أرأيت؟ كان شرف الدعوة التى قادها المسلمون أنها خطر على الإقطاع الزراعى والافتيات الرأسمالى، والاستبداد السياسى، لأنها صدى الإسلام الصحيح. والإسلام الصحيح لا يبقى حيثما تسود وتتوغل هذه المفاسد الشائنة. غير أن حفنة من الملتحقين بالركب الإسلامى شاءت أن تعكر هذا كله، وأن تجعل حصاد ربع قرن هشيما تذروه الرياح. منذا ينكر أن معرفة الله أساس الدين؟ وأن صلاح القلب ملاك الأدب؟ ولكن إذا كنت متدينا وجاءك الغريم يتقاضاك حقه، فما معنى أن تلويه عن غرضه بمحاضرة طويلة عن التصوف والزهد؟ إذا كانت للباطل صورة سمجة، أفتظن للحق الذى يراد به باطل صورة مستحبة؟ فى بعض الأقطار التى تدين بالإسلام لا تزال نظم الحكم أسوأ ما عرف العالم. فالفرعونية الحاكمة والقارونية الكانزة كلتاهما تنشب مخالبها فى عنق الشعب العانى المهيض... وفى أيام قريبة ذهب داعية كبير إلى هذه البلاد، واجتمع الناس حوله يستمعون منه الحكمة وفصل الخطاب. واجتمع الجياع الحفاة يسمعون صوت الإسلام من الرجل المرموق (!) فإذا بمحاضرة تستغرق الساعتين عن.. غزوة الحديبية. ووقف الخطيب فى المحراب ليتملق حكام البلد الحروب ويزجى لهم الثناء ويوزع عليهم البسمات. ص _185(1/176)
وفى هذه المحاريب خسر الإسلام معارك ميسورة النجاح لأن الذى يحارب الظلم الاجتماعى والاستبداد السياسى رجل متكبر طائش يعيش فى محراب نفسه!! أما الذين هادنوا الظلم وساروا فى ركب الملوك، وحملت أبدانهم وبطونهم من هدايا القصور السادرة، فهم أهل المحاريب الطاهرة... وحسبى أن أنصح المسلمين بكلمات موجزة. إنه لا قيمة لحياة أشخاص أو مماتهم، ولا لبقائهم أو ذهابهم إذا ظللتم أنتم أيها المسلمون أوفياء للدين الذى قمتم على دعوته واستمددتم وجاهتكم عند الله والناس من العمل به والجهاد له . ودينكم بإزاء الفرد علم وتربية، فاحذروا على أنفسكم الجهال بالإسلام والفساق عن أمر الله، وأيقنوا بأن الله لا ينزل نصره على متجر بدينه إذا خلا بحرمة لله سطا عليها. ودينكم بإزاء المجتمع أخوة، ووحدة. وتلك معان مستغربة فى دنيا الإقطاع والاستبداد حيث تظالم الطبقات ودسائس السادة والعبيد، فاحذروا على صفوفكم أذناب العهد البائد. احذروا الرجال الذين أذعنوا للعبودية يوم نشرت ظلامها فى الآفاق، ونكصوا على أعقابهم ضائقين يوم بدت طلائع النور الخافت.. لأنهم خفافيش... خفافيش للأسف تزعم أنها وحدها صاحبة الحق فى الكلام عن الإسلام. ودينكم بإزاء الدولة عدالة، سبيلها الحكم بما أنزل الله. والرجل الذى يأبى الحكم بما أنزل الله فى خاصة نفسه وفى حدود إخوانه الأقربين لا يتصور منه أن يحكم بما أنزل الله بين الناس، وسيكذبه العالم كله يوم يزعم ذلك. فاحذروا على كيانكم هذا التطاول الذى ـ إذا كره طارد العلماء المجاهدين ـ وإذا رضى قرب المداهنين والقاعدين. ثم ادعى بعد ذلك أنه يحكم بما أنزل الله. انسوا الأشخاص واذكروا دعوتكم على ضوء الإسلام وحده. إن العابثين بحقائق الإسلام الكبرى لهم مطامع لم تنته بعد. ومرة أخرى أقول لكم : إن الإسلام يحتاج إلى الهمم البعيدة والمشاعر الحية النابضة، فاحذروا الرجال الذين سقطت همتهم وبردت عاطفتهم وفرضوا موات ص _186(1/177)
أنفسهم على دين قام من نشأته بحب المحقين وبغض المبطلين. فالمتأمل يرى أنه من الواجب قمع الغرور الذى يستولى على أغلب العاملين فى البيئات الدينية، فيشط بهم بعيدا عن مرضاة الله وعن إقناع العقلاء.. وانظر إلى ما روى من أن أتباع زعيم دينى فى السودان تهافتوا على تقبيل سلم عربة السكة الحديدية التى سافر فيها. وقال الشعراء فى تحيته : (أعداء ذاتك عصبة فى النار)!! إن صلف الرؤساء وهوس العوام على هذا النحو جاهلية عمياء، وليست إسلاما قط. إن كلمة (أغمض عينيك واتبعنى) لا يمكن أبدا أن يقرها دين يؤمر رسوله بهذا البيان الواضح : (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين). فلنخدم الإسلام بقوة، ولنخدمه بنظام. أما إشباع نزوات الاستعلاء فى هذا، وكبوات الاستخذاء فى ذلك، بالكبر هنا، وبالهوان هناك، فأبعد ساحة عنه، ساحة يهتف فيها باسم الله ويفرض فيها العمل للإسلام. * * * * فى أعقاب الفتن المشئومة التى تنال من كيان الأمة، مر الإسلام بمحنة قاسية وعوت تيارات الغزو الثقافى تريد أن تعصف ببقايا الإيمان، وأن تفض كل مجامعه، شرعت أنافح عن بقايا نهضة كان الأمل فيها متألق السنا ولكنها عن غرور أو قصور تعرضت لما تعرضت له. ونظرت فإذا وجه الحياة دميم، وملامح المجتمع منكرة، وأزمة الإيمان طاحنة، وتذكرت قول أم المؤمنين عائشة: ذهب الذين يعاش فى أكنافهم وبقيت فى خلف كجلد الأجرب قلت: إننى ما أحسن الحياة إلا بدينى ولدينى، فماذا أصنع بإقرار هذه الوحشة السائدة والفتنة العمياء؟؟ ص _187(1/178)
وتذكرت عويف بن معاوية الفزارى وكان قد زوج أخته من عيينة بن أسماء الفزارى صديقه الحميم، إلا إن عيينة ـ لغير ما سبب معروف ـ طلقها، فغضب عويف، وقال: الحرة لا تطلق لغير ما بأس!! وعاش بعد مراغما لعيينة. ومضت الأيام وأمر الحجاج باعتقال عيينة وحبسه ووضع القيود فى يده. فلما بلغ الخبر عويفا هاجت فى نفسه ذكريات الود القديم وقال: ذهب الرقاد فما يحس رقاد مما شجاك، ونامت العواد خبر أتانى عن عيينة موجع كادت عليه تصدع الأكباد بلغ النفوس بلاؤه فكأننا موتى ،وفينا الروح والأجساد * * * * لما أتانى عن عيينة أنه أمسى عليه تظاهر الأقياد! نحلت له نفسى النصيحة إنه عند الشدائد تذهب الأحقاد * * * * وذكرت: أى فتى يسد مكانه الرفد حين تقاصر الأرفاد؟ أم من يهين لنا كرائم ماله ولنا- إذا عدنا إليه- معاد؟ ووقفت عند بيت فى هذه القصيدة أردده كثيرا، وأظن أن الراوى حذف من قبله ومن بعده أبياتا تتصل بموضوعه. فى هذا البيت يقول الشاعر: يرجون عثرة جدنا ولو أنهم لا يتقون بنا المكاره بادوا وهو يعنى خصومه، وخصوم صهره المعتقل الذى تظاهرت عليه القيود. يقول: إنهم يتربصون بنا الدوائر، ونحن الذين ندفع عنهم السوء، ولولا بطولتنا لبادوا..! والواقع أن الأمم قديما وحديثا تعتمد على أصحاب العقائد فى رد الحوادث السنود، فإعلان حرب الاستئصال عليهم لون من الانتحار. والأخطاء لا تحارب بالخطايا. ولعن الله من يبنى مجده على أشلاء العباد! ص _188(1/179)
ومن حقى أن أغضب، ففى الفكر الدينى المتأخر آفة تزرى به، ويجب أن يبرأ منها على عجل، وإلا تعرض لغضب الناس ورب الناس . إنه لا حرج أبدا من اختلاف وجهات النظر، لكن لا يجوز لصاحب رأى ما أن يحسب نفسه المتحدث الرسمى باسم الله ورسوله، وأن من عداه خارجون على الإسلام بعيدون عن الحق. إن مدرسة جمال الدين الأفغانى ـ محمد عبده ـ رشيد رضا من أجل المدارس الفكرية فى تاريخ الإسلام! وهناك جهود مسعورة بين السلفيين (!) لتلويث سمعتهم واتهام عقائدهم وجعلهم جواسيس على الإسلام. فهل هذه سلفية؟ وهل يلام من يعرى أصحابها؟ من حقى أن اقسو على جهلة يتطاولون على غيرهم يبغون الإجهاز عليه! ماذا يبقى للإسلام من ضياع رجاله، أو تحقيرهم والحط من شأنهم؟ والمدهش أن هذا الداء لا يزال باقيا، فترى غلاما يتحمس لحكم فرعى فى فقه العبادات يريد تكفير أبى حنيفة لأنه يخالفه! والإسلام لا يقوم بهذه الفوضى، والذى أرجوه ألا تتكرر مأساة الغلو والتطرف بين العاملين للإسلام، فيفقد بعضهم بعضا، ثم يفقدهم الإسلام جميعا، ويخلو الجو لأعداء الله. * * * * * * ص _189
من تجارب داعية
من عشر سنين أثبت هذه الكلمات ويبدو أنه لا يزال
فيها ما يغري بمطالعتها
ص _190(1/180)
1ـ ذكاء فى الضلال وغباء فى الهدى: أكره الرجل يكون قويا فى عصيانه، فإذا اهتدى كان ضعيفا فى تقواه. وأكره الرجل يفهم دقائق الأمور، ويحسن مواجهة الحقائق، ولا يستطيع أحد أن يضحك منه إبان انطلاقه مع شهواته، واسترساله فى مطاوعة أهوائه. فإذا تاب وأناب استغلق تفكيره واضطرب تصرفه. فلو كان تاجرا لم يحسن الربح فى تجارة الآخرة، كما كان يحسن فى تجارة الدنيا، ولو كان رئيسا لم يستطع ضبط شئونه، كما كان يديرها ـ من قبل بكل دقة. ومن المضحكات، أنى أعرف رجلا كان فى جاهليته بارزا مرهوبا، فلما طلق حياة الشقاوة آثر أن تكون طاعته لربه على نحو لا غناء فيه، فهو يصلى الصبح فى الحسين، والظهر فى السيدة، والعصر فى الإمام إلخ. ثم هو يندفع فى هذه العبادة بحماسة تجعل قلبه يتعلق بما أدخله العرف الخاطئ على الدين من قشور ومظاهر " فكأنما انتقل من ضلال إلى خبال؟ هذا إخلاص قتل الجهل قوته، وبدد فائدته. والإيمان يحتاج إلى العلم والذكاء، كما يحتاج إلى طيبة القلب. ويحتاج إلى المهارة والحنكة، كما يحتاج إلى مرونة النفس. ولأمر ما، دعا النبى ـ - صلى الله عليه وسلم ـ الله عليه وسلم ـ أن يعز الإسلام بأحد العمرين. 2ـ كلمة الإيمان: قد يشترك بعض الناس فى وصف واحد، ولكن اختلاف أنصبتهم منه لا يجعل الحكم لهم كما لا يجعل الحكم عليهم، سواء فى الخير أو فى الشر! فإذا كانت 50 % هى النسبة الفاصلة بين النجاح والرسوب، فليس معنى هذا أن رسوب الذى نال ا% كرسوب الذى نال 49% أو أن نجاح الذى نال النهاية الصغرى كنجاح الذى نال أعلى الدرجات، وإن اشتركا جميعا فى وصف النجاح والرسوب. وقد يشترك بعض الناس فى النطق بكلمة واحدة، ومع ذلك لا يعنى أحدهم من المعانى ما يعنيه الآخر، ولا يقصد أبدا إلى ما يقصد إليه الأخر من أهداف. وخير مثل لذلك ما ذكره أحد الأدباء من أن (الحمَال) فى محطات السكك ص _191(1/181)
الحديدية يقول (الدنيا كلها متاعب) وهو قول يكاد يتحد فى لفظه مع قول أبى العلاء المعرى : تعب كلها الحياة فما أعـ جب إلا من راغب فى ازدياد فأبو العلاء لا يشكو من حمل ثقيل ناء به كتفه، ولكنه يقرر فلسفة التشاؤم ويستعرض أمورا لا عداد لها. قبل أن يرسل حكمه على هذه الدنيا. وكثير من المسلمين يشترك فى النطق بكلمة التوحيد، فيهم المستغرق، وفيهم الذاهل، وفيهم المتفانى، وفيهم العاصى... وفيهم من يقولونها عندما يشهقون فيعطسون فيتشهدون. فإذا أردت توزيع الأحكام على هذه الحالات فإياك أن تخلط. لا تعط مرتبة الامتياز لكل ناجح، فإنها للأوائل فقط. ولا تعط صفة التفكير الفلسفى لحمالى المحطات فإنها لأصحابها من طبقة أبى العلاء. وإذا سمعت أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : من قال " لا إله إلا الله دخل الجنة " فاعلم أن البشرى ليست لكل قائل. فما أكثر الذين يهبطون فى فهمها إلى درجة حمالى المحطات فى فهمهم لمتاعب الحياة، وما أكثر الذين ينجحون فيها بالنهاية الصغرى، بعد مختلف الشفاعات والاستثناءات. 3ـ حماسة: للعامة مفارقات فى أقوالهم وأعمالهم تستحق أن نقف لديها قليلا لنعجب من كثرة المسارب النفسية، التى تهرب إليها الحقائق، وتتوارى فيها إلى حين.! جاءنى مرة رجل يسألنى عن حقيقة صلاة التسابيح، فقلت له : لا داعى لأن تعرفها لأنها لا تنفعك بشىء. فقال: كيف، أتنهانى عن الصلاة؟ قلت له: أنهاك عن الدجل فأنت شخص تخون فى أداء واجبك، وتفرط فى ضرورات دينك، فتفكيرك فى استكمال نوافله كتفكير بائع الفسيخ فى الرائح العطرية، قبل تنظيف جسمه وغسل ثوبه. وسمعت خطيبا يرغى ويزبد، ويبرق ويرعد، يقول: إن الناس تهاونوا بالدين وأصبحوا يلفون بضائعهم فى أوراق الصحف والمجلات، وفى ذلك إهانة للإسلام. و. و... وانتهى الرجل من قوله، ثم بدا لى أن أفرج عن نفسى بمناقشته. ص _192(1/182)
فقلت له : يا فلان ولكن الناس تعدوا من حدود الله ما هو أخطر من ذلك وأبين فى ضلاله، فإذا أغضبك اتخاذ الصحف لفافات لشتى السلع، فهلا أحرج صدرك من قبل أن الناس اتخذوا آيات القرآن هزوا ولعبا وأن أركان الإيمان متهدمة فى نفوسهم ومجتمعاتهم واتجاهاتهم؟؟. وخرج الرجل وأنا أؤكد أن عين الشيطان قريرة بجهاده الهزيل. لقد ذكرنى الاستمساك بهذه التوافه بنبأ قوم جاءوا يستفتون عن حكم الصلاة فى ثوب عليه دم البعوض! على حين كانت سيوفهم مخضبة بدم البشر!. والجنون فنون، والنفاق أيضا فنون . ولعل من عجائب الجهاد فى هذا العصر، أن الجماعات الإسلامية أعياها أن نعمل للدين كله، فجزأت الفضائل والرذائل، وتخصصت كل طائفة فى محاربة رذيلة بعينها، ومناصرة فضيلة بعينها، والوقوف على الحياد فيما وراء ذلك من فضائل ورذائل. وكذلك يكون الجهاد... 4ـ نهاية الجدل: دين المرجئة شاع الآن فى أغلب الأقطار الإسلامية. والمرجئة طائفة تربطها بالمنافقين الأولين أواصر متينة، ترجع كلها إلى ترك الأعمال وإهمال التكاليف، والتهرب من الواجبات والتبعات، والزعم بأن الإيمان منفصل عن هذا كله. ولا شك أن هذه الإباحية فى الدين، هى التى هدمت المسلمين، وأسقطت دولتهم. فما يعقل أن يقوم بناء على هذا الانحلال الشائن. ولعل العلة فى شيوع هذا المذهب جاءت من الإبقاء على الجدل الكلامى، الذى دارت رحاه بين الفرق الأولى للمسلمين. ثم دراسة هذا الجدل للعامة من المتعلمين، والعامة من الرعاع، والغفلة عما سيخلفه من آثار سيئة. فى القرآن آيات وعد ووعيد، لو تركت فى مجراها الطبيعى لأدت رسالتها الحقة فى توجيه النفوس إلى الخير، ولحفظت على المسلمين قوتهم ودولتهم. أما الآن فلا يروعنى إلا أن آيات الوعيد يعرفها الكثيرون مقرونة بالتأويل الذى يصرفها عن ظاهرها، وبالتالى يسلبها أثرها التوجيهى المطلوب. ص _193(1/183)
هذا التأويل القديم جهد العلماء فى تقريره هدما لمذهب الخوارج. ففهم الجمهور منه نصفه الذى يحلو له، وترك غلو الخوارج... إلى باطل المرجئة. وضاع لب الدين الصحيح وجوهر الحق الواضح فى تيار هذا الجدل. إن جماهير المسلمين الآن يجب أن يفقهوا دينهم كما أنزله ربهم، وليتق الله أولئك العلماء الذين يسردون جدل الفرق الأولى سردا مجنونا. فربما وضعوا السلاح المرهف فى أيدى من لا يحسنون استخدامه ضد أعدائهم بقدر ما يحسنون استخدامه فى إيذاء أنفسهم وجر البلاء عليها. 5ـ حكمة: طب الأرواح كطب الأجسام.. علم وفن. يزور الطبيب رجلان مريضان يطلبان لديه الشفاء، من ضعف يحسان به، فيصف الطبيب الغذاء الجيد لأحدهما لأنه مريض بالسل، ولا يصف هذا الغذاء للمريض الآخر إذ أنه مصاب بالسكر. ومعنى هذا، أن سبب الضعف هو الذى يملى نوع الدواء. ومثل هذا يقال فى علاج الأرواح واختيار الأدوية الناجعة لمرضى القلوب. فقد يصف الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ دواء لشخص ما، فيكون من الخطأ أن نصف الدواء نفسه لشخص آخر. لأن الرسول الحكيم وضع لهذه الحالة الأخرى دواء آخر يخصها. المربى الجاهل قد يسىء إلى الدين وإلى الناس، بعدم بصره بأسباب الداء وأصول الدواء، فيصف للإنسان المصاب بفقر الدم رياضة تقتله، ويصف للإنسان المصاب بضغط الدم علاجا يزيده سوءا على سوء. إذا قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ " لا تغضب " فاعلم أنها لم تقل لشخص بليد العاطفة، فلا تقلها له، وإذا قال " اتقوا الله وأجملوا فى الطلب " فاعلم أنها لم تقل لقعدة البيوت فلا تقلها لهم، وإذا قال " إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق " فاحذر أن تقولها لرجل كسول فى العبادات... إلخ. إن قراءة النصوص ـ وخاصة السنن ـ دون معرفة الملابسات التى أملت بها ليست بابا إلى العلم الصحيح، ولا وسيلة إلى التربية الجيدة.. ص _194(1/184)
أخرج ابن أبى خيثمة من طريق ابن إسحاق عن عمر أو عثمان بن عروة عن أبيه قال: قال أبى ـ الزبير بن العوام ـ : أدننى من هذا اليمانى ـ يعنى أبا هريرة ـ فإنه يكثر من الحديث عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأدنيته، فجعل يحدث. والزبير يقول صدق! كذب!. فقلت: ما هذا؟ قال: صدق أنه سمع هذا من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم . ولكن منها ما وضعه فى غير موضعه. 6ـ أخطاء: عندما قامت الحرب العالمية الثانية أعطيت نفسى حق الباحث المدقق فى أسبابها ونتائجها وبدايتها ونهايتها، وتنبأت، بمصير أسود لحضارة الغرب ونظمه، كما تنبأت بمستقبل زاهر لبلدان الشرق الإسلامى المتعب. وجلست أنتظر من الأيام أن تصدق ظنونى. فإذا الأيام تتكشف لى عن نقائض مزعجة. وإذا بى أجد أن آرائى كلها أو أكثرها خطأ فى خطأ، ولم تُجد فلسفتى الفارغة شيئا فى تغيير الواقع. تبين لى أنه ليس صحيحا أن الحضارة الأوروبية تنهار بمثل هذه السهولة، أو تخفى فى مثل هذه المدة، نتيجة حرب أو حربين. فإن هذه الحضارة قامت بعد قرابة مائتى عام من اليقظة العقلية الجارفة، وغارت جذورها فى بيئات الغرب إلى عمق بعيد، فإن احترقت ثمارها يوما، تجددت أغصانها وثمارها ما بقيت عوامل الحياة موفورة بتربتها. وربما لم يزدها الحصاد المتكرر إلا نموا. ومهما كان الحصاد شديدا، فإن النمو بعده يكون شيطانيا عاتيا. على أن الجوانب المادية لهذه الحضارة ليست شرا كلها، وليس من مصلحة العالم الإتيان على كل معالمها. أما مستقبل الشرق الإسلامى فهو ـ برغم ما نؤمل ـ ليس واضحا مشرقا، ذلك أن طول الأمل وكثرة الانتظار لا يردان السواد بياضا فإن علل المسلمين التى أصيبوا بها كامنة بينهم كمونا غريبا. ص _195(1/185)
لقد اعترى بناءهم الحيوى من الضعف العقلى والأدبى ما يعترى الأجسام، من فقر الدم، وضعف الأعصاب، ويوم يلمح الإنسان بوادر الشفاء من هذه الأدواء، يوم يلمح فى الأفق طلائع النهضة الصادقة، ويوم يتحدث عن مستقبل الشرق الباسم. أما بناء نصرنا على هزيمة غيرنا، وانتظار النجدة من الغيب المبهم، فذلك مسلك هو الحمق بعينه. نعم قد تكون هناك عوامل مساعدة ينتفع بها فى تدعيم نهضتنا، ولكن العوامل المساعدة ثانوية إضافية، أما عوامل النصر الأولى فهى ما نقوم به نحن من تلقاء أنفسنا وبقوة سواعدنا، لا ما نحلم به من آمال. 7ـ المتردية و النطيحة: هذه قصة شهدت وقائعها ولم أعجب لها، لطول ما رأيت من أمثالها، وأحسست من آثارها. كان لرجل ثرى ولد مريض البصر، عاث الرمد فى عينيه برغم جهود الأطباء المتوالية، حتى كاد يأتى عليهما لولا بقية من ضياء يعرف بها الولد ألوان الحياة. وجلس الأب يوما فقال لأصحابه. أنا وهبت ابنى لله، وسوف أدخله الأزهر بعد أن يحفظ القرآن ! وما هى إلا أيام حتى كان الولد يرتل الآيات ويستظهر الصفحات على يد فقيه أعمى معروف بالمهارة!! ولكن القدر العجيب لم يشأ أن يترك المسألة تمر على هذا النحو، فإن الولد الذى حار الطب فى عينه، بدأ يصح، وكلما مرت الأيام ازداد بصره حدة، وازدادت أجفانه نضارة وإشراقا؟. وحار الوالد وجاشت فى نفسه شتى الخواطر، لقد وهب ابنه للأزهر على أساس أنه أعمى أو شبه أعمى، وذلك وحده ما يجعله يقفه على التعليم الدينى، من باب قول الله (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الحُسْنَى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُّفْرَطُونَ). أما الآن فماذا يصنع؟. ص _196(1/186)
ولم يطل تردده فما هى إلا أيام حتى كان الفقيه الأعمى طريدا والولد بإحدى المدارس المدنية!. ذلك مبلغ عناية المسلمين بدينهم، لا يهبون لتعلمه إلا طوائف من الناس فيها العمياء، والعوراء، والمتردية، والنطيحة، وما أكل السبع!! أما أصحاب المواهب العريقة والخصائص الدقيقة، والوجوه الصبيحة، والأجسام المكتملة، فليس من البر أن يظفر بها دين الله!! أخشى أن يرتفع المستوى الصحى فى الأمة، فلا نجد من يتعلم الإسلام!!. 8ـ بين الأكفاء والأدعياء: قال لى صديق ذكى ـ ظلمته أوضاع الحياة ـ : لو أن هؤلاء القصار ـ أعنى قصار الباع والرأى والتدبير ـ أحبوا أن يتطاولوا على غيرهم، بطريقة لبقة هادئة لهان الأمر، ولتسامحنا فى ارتفاع رءوسهم على رءوسنا!. قلت له: وما هذه الطريقة التى ترضاها؟ قال: لو صعدوا على أكتافنا لما وجدنا ضيرا فى أن نحملهم. ولو استووا على قوائم من خشب فاستطالت بها قاماتهم، وامتدت بها أعناقهم لما شعرنا بحرج فى استواء الصفوف حتى على هذا النحو! أما الذى يملأ النفس حنقا أن يحاول هؤلاء الأغبياء تحطيم أقدامنا حتى نعجز عن الوقوف. ومن ثم يتطاولون فى الحياة كيف يشاءون!. قلت ـ وأنا أبتسم ـ : يا صديقى إن الذكاء كالجمال، ربما جنى على صاحبه. ألا تعلم أن عمر نفى أحد الملاح من المدينة، سدا للذرائع؟. قال لى ـ ضاحكا ـ: إذن أنصرف قبل أن تفكر فى تغريبى. وذهب صاحبى ولم يذهب من نفسى وقع حديثه. فقد طافت برأسى صور من تاريخنا الغابر والحاضر عرفتنى مدى الخطر فى تولية المناصب الكبرى من ليسوا لها أهلا. فإن هؤلاء الضعاف لا يستعينون على ضعفهم باصطناع الأكفاء واحترام مواهبهم ص _197(1/187)
وتقدير كفاءتهم، بل تراهم يحقدون ويحذرون، ثم يبذلون جهدهم فى إقصاء كل ذى نباهة أو استغلال حاجته إليهم ـ إن كان ذا حاجة ـ فيصرون على إذلاله وتقليم أظافره . وتأمل فى تاريخنا وفى مصارع كثير من أئمة العلم والدين، تجد مصداق ذلك واضحا فى تهشيم الأغبياء لرءوس الأذكياء لا لأقدامهم ـ كما قال صديقى ـ خشية على منازلهم التى قفزوا إليها فى غفلة الزمن. ألا فلنحسن اختيار من يلون أمورنا، فإن الغبى لا ينفع ولا يترك لغيره المجال كى ينفع. فالنكبة به مضاعفة، والمصيبة فيه فادحة. * * * * لست أستكثر على الرجل الممتاز أن يعرف لنفسه قدرها وأن يقرر لها حقها! وليست مبالغته فى ذلك جرما يؤاخذ عليه بعنف، ولكنه قد يكون إفراطا ينبه إليه بلطف!. إنما الشىء الذى يستثير النفس أن يكثر الادعاء العريض، وأن ترى الرجل فى منزلة غريبة يراها لنفسه، فيصبح وليست له كفاية القواد، ولا طاعة الجنود. لأنه ـ فى رأى نفسه ـ يجب أن يتقدم. وهو يحرص على ذلك، بينما لا تساعده مواهبه على الوقوف فى الطليعة وتحمل العبء! ثم هو يكره أن يتراجع إلى مستقره العتيد وأن يتقبل ـ فى طواعية ـ ما يلقى إليه من توجيه. وقد يؤثر العزلة على العمل، أو يركب العناد رأسه، فيكون على نفسه وعلى الناس شرا مستطيرا!! هذا المرض شاء بيننا، فإذا أراد قوم أن يؤسسوا جماعة ـ مثلا ـ فى بلدهم كان هذا المرض هو أول عوائق تقدمها وأول أسباب انحلالها.. وما أكثر ما نجد مظاهر هذا الادعاء الذى يجعل الرجل ـ كما قلت ـ ليس له كفاية القواد ولا طاعة الجنود. وعندما يشيع الادعاء تفقد الحقائق قيمتها، ويستبد الجهل بأصحابه ويتقهقر العلم والخلق، وتضطرب موازين الأمور ! ص _198(1/188)
وذلك هو ما كون بيننا جيلا من الناس يحسنون إصدار الأوامر فحسب، ويريدون أن يشرفوا من بعيد على تنفيذها. فإذا تغير الوضع وصدر إليهم أمر، لم تجد أمامك تنفيذا، بل لا تجد أمامك أحدا. 9ـ هذه الأمة: دعاية المسلمين لدينهم لن تقوم لها حجة، ولن تكون لها وجاهة، إلا إذا تغيرت أحوالنا العامة، وبُدلت الأرض غير الأرض. فإن جمهور الأجانب ليسوا فلاسفة، حتى يفصلوا بين الدين وأصحابه، وحتى يهضموا أن مبادئ الإسلام شىء، وعمل الناس بها شىء آخر قد يناقضها تمام المناقضة، وقد لا تكون صلته بالإسلام أوثق من صلة الكفر بالإيمان..!! ... أمس رأيت جنازة تسير وأمامها صفان من المأجورين بملابس التشييع، وخلفها جماعة يتصايحون بالتكبير ويتمايلون على أنغامه، ومن خلفهم عربات تحمل النساء النادبات، وقد اختلط صراخهن بصياح الحوذية، وهم يكيلون السباب لحميرهم، كى تضبط سيرها فى موكب الموت الرهيب!.. ربما لا يكون فى هذا ـ على أنه منكر ـ ما يغرى بالتعليق، لأننا ألفنا المنكر، فقلما نغضب له.. إنما المؤسف أن خلف هذه الجنازة وملحقاتها، كانت عدة سيارات تمشى ببطء، وكانت تحمل فريقا من الإنجليز المحاربين. ولمحت إلى جانب عجلة القيادة فى إحدى السيارات فتاة ترتدى اللباس العسكرى، وتنظر إلى النسوة الصاخبات الباكيات، وعلى فمها ابتسامة هائلة!. ودارت عينى بين وجهها ووجوه سائر الجنود المحملقين، ثم بين أفراد الجنازة الشرقية الإسلامية المائجة بما فيها، وشعرت بسخونة تكاد تحرق رأسى، وبحياء شديد يستولى على أوصالى. وطن فى أذنى صراخ الصارخين وضحك الضاحكين، ثم أدركت أن كل شىء فى هذا الشارع يتساءل عن وجودى، أنا عالم الدين، أو رجل الدين ـ كما يقولون ـ فيهمس : أى معنى له؟ أى معنى له!. ص _199(1/189)
10ـ فنون الدعاية: يظهر أن دعاية القلم واللسان مهما اتسعت فهى قليلة النتائج، ضئيلة الآثار. وقد يكون فى الكتابة أو الخطابة شىء من الغناء إذا استخدمتا لغرض محدود، ولكن إذا كان الأمر يتعلق بإقامة نظام سياسى، أو اجتماعى، فالكتابة، أو الخطابة، أسباب مساعدة، وليست وسائل مباشرة للنجاح. نعم قد تحدث الدعاية القوية بصحفها، وخطبائها جوا يخطف أبصار الناس بألوانه، ومظاهره، وقد يدوم ذلك أياما أو أعواما، غير أن هذا الجو الصناعى لا يلبث أن يزول، كما تزول غيوم الدخان، إذا دفعتها الريح بصدرها فجعلتها ـ بعد ما سدت الأفق ـ هباء باطلا. ومع ذلك فالذين يميلون بطبائعهم إلى الجدل والثرثرة يؤثرون هذه الدعايات، ويعلقون عليها آمالا واسعة ويرون الانتصار فى معركة كلامية أمرا له ما بعده فى توجيه التاريخ، والهيمنة على الحوادث!!.. وخصوصا إذا كان الحق نصيب هؤلاء، فيما يعتقدون ويدافعون، إنهم عندئذ لا يدركون إلا منطق الكلام وحده. وهذا ـ للأسف ـ ما وقع فيه المسلمون، وما اتجه إليه دعاتهم منذ زمن بعيد، يحسبون أن مناظرة أهل الأديان الأخرى، والانتصار عليهم فى نقاش علمى حاد، يجدى على الإسلام كثيرا. وجرهم ذلك إلى ترك العمل الصامت، وهجر المسلك المغرى بفضائله. على حين أن المبشرين المسيحيين جعلوا الأساس الأول فى دعايتهم عكس هذا الاتجاه، فجعلوا من الاشتغال ببعض الأعمال الإنسانية وظيفتهم الدائمة. واختبئوا بين ما توحى إليه هذه الأعمال فى النفوس، ثم بدأوا يقومون بدعايتهم لدينهم. ومن ثم فتحوا المدارس والملاجئ والمستشفيات، وأشرفوا على تحقيق غايتها الأصلية والتبعية، بعناية ونظام، وساعدهم على المضى فى طريقهم أنهم اختيروا بطريقة غير الطريقة التى يختار بها دعاة الإسلام عندنا، طريقة اختيار العاجزين فى أجسامهم، والقاصرين فى ثقافتهم!.. ألا فلنراجع أنفسنا! إن الدعاية للإسلام لا معنى لها إلا بعد إقامة دولته وتكوين أمته، وحشد النابهين(1/190)
من بنيه لخدمته وإلا فإن الكلام الكثير لن يكون إلا لغوا. ص _200
11ـ متاعب الحياة: لما انتهى العام السابق، ووقفتُ على أعقابه أودع لياليه، بحلوها ومرها، بدرت منِّى لفظة تدل عل الشعور بالضيق، وعلى الإحساس العميق بما قد يكون أصابنى من المتاعب والآلام. وما كاد يساورنى هذا الخاطر الضعيف المهزوم حتى راجعت نفسى، وعاودنى رشدى، فعلمت مقدار ما أفسد حياتنا من معانى الضعف الإنسانى. إننى أشبه الطفل المدلل يصرخ للحوادث التافهة، ويثور لأقل المضايقات! والحقيقة أننى فى ذلك كسائر المصريين ـ وربما كسائر الشرقيين ـ أنسوا بحياة الراحة ومعيشة الخفض، فهم لا يطيقون أى تعكير لها! وأرهفت إحساساتهم جدا فهم يجسمون ما يمسهم من أشواك الورود، فإذا بها طعنات رماح، وتذكرت قول القائل فى وصف هذا الضعف العجيب: خطرات النسيم تجرح خديه ولمس الحرير يدمى بنانه ونتيجة هذه الدعة التى ألفناها كانت وخيمة فى نظرتنا للأمور، بل كانت وخيمة فى أوضاعنا الاجتماعية، والسياسية. فالموظف الذى يضطرب إذا نقل إلى الصعيد ماذا تقول فيه إذا قارنته بابن لندن أو بنت لندن التى تجوب شوارع القاهرة آمنة!؟ والشاب الذى يشعر بالخطر على حياته الغالية لمجرد الوهم، ماذا يكون أمره إذا كلف ـ كما يكلف غيره ـ بأن يظل أياما طوالا فى قلب غواصة تجوب أعماق المحيطات، وتكون بمن فيها كالذئاب الجائعة ترتقب الفرائس لتنقض عليها. والرجل الذى يجزع من خسارة قرش ماذا يكون موقفه إلى جانب من يفضل نسف بيته على الاستسلام الذليل؟!! لنكن أقوياء لا تهزنا النوائب، ولا تقع منا إلا موضع أقدامنا. لماذا لا يحيط بشغاف قلوبنا إطار من الصلابة والقوة يحمينا من الخضوع لمتاعب الحياة، ويثير فى دمائنا غريزة العناد والكفاح! فإما سدنا الحياة، وإما فقدنا الحياة. ص _201(1/191)
ص ـ الأغانى: من الخير أن نعلم شيئا عن منازع الطبيعة الإنسانية التى لا يصح أن تقاوم لأنه لا معنى لمقاومتها! والغناء بعض هذه المنازع التى ترتاح إليها النفس وتسلم إليها الجماهير مقادها، وتجد فيها متنفسا لعواطفها المكبوتة. والكثرة العظمى من الناس يصغون إلى الأنغام المتسقة والأصوات الطروب، ويتفتح المستعصى من مشاعرهم على هذه الأصداء الشجية أو المرحة. وربما نسوا متاعبهم وتجدد نشاطهم واستأنفوا السير الجاد فى مواكب الحياة، كما تستأنف الإبل اندفاعها فى قلب الصحراء على حداء القائد اللبيب. وقد فهم قادة الأمم هذه الطبيعة، فاستغلوا الأغانى فى سبيل تدعيم نهضتهم والتمكين لها من أفئدة الناس. وكان للصحابة غناء طيب، حفروا الخندق حول المدينة على نبراته، وذرعوا الصحراء الفسيحة وهم يرددون مقطوعاته. وللشعوب المتحاربة الآن غناء أدى رسالته الرهيبة فى دفع أبنائها إلى الميدان الدامى!! ونحن لا ننكر الغناء ولا نتجاهل أثره، وكثيرا ما ألمح طوائف الشباب تسمع وتستعيد، فلا يؤسفنى إلا شىء واحد! هو أن هذا الاستماع يثير الشهوة ولا يثير دماء التضحية. ويهيج عواطف اللهو الخبيث، ولا يهيج عواطف المرح الطيب والنخوة العالية. إننا لا نحرم الشعوب من متعتها، ولكن هذه المتعة ستقتلها إذا تناولتها بهذه الطريقة المجنونة. إننا بحاجة إلى الأغنية الجادة ذات المعانى الكريمة والأهداف النبيلة. فلنوجد هذه الأغانى أو هذه الأناشيد، ولنزاحم بها ما يملأ حياتنا الشرقية من لغو وعبث.. إن الشعوب دائمة الحركة فإن لم يتحكم فى حركتها أهل الخير تحكم فيها أهل الشر. وهى دائمة الغناء، فإن لم يغن لها العقلاء غنى لها السفهاء. ص _202(1/192)
13ـ نفسيات الشعوب: للشعوب نفسيات عامة تختلف عليها شتى المشاعر، وتتوارد عليها الأحوال المتباينة، وتستقبل بها ما يعرض لها من المشكلات على النحو الذى تشاء من حفاوة أو جمود، ومن استخفاف أو جد. وهذه النفسية غامرة قاهرة، تفرض مسلكها على الجماهير، فلا يكاد ينجو من ضغطها أحد، ولعلها هى التى أوحت بقول القائل: وما أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد وهى كذلك متغلغلة مطردة تتناقلها القرون ويتركها السابق للاحق، ويبقى طابعها واضحا فى التقاليد والعادات، وسائر عناصر البيئة. والذى يهم الدعاة من هذا الكلام أن يعرفوا عوارض هذه النفسية فى أمتنا وأن يتبينوا الأصيل فيها والطارئ والخبيث فيها والطيب. فإن ذلك أدنى إلى نجاح دعايتهم! فى بعض الأحيان تكون نفسية الأمة فى حال استرخاء وفتور، نتيجة لبعض الحوادث المفاجئة، فقلما تكترث لما يوجه إليها من نداء أو تلتفت لما يطلب إليها من عمل. وفى بعض الأحيان تضطرم مشاعر الأمة وتتحرك بقوة تستعصى على كل توقف. والدعاة الأذكياء يلبسون لكل حال لبوسها، فإذا لم يستطيعوا مواجهة أمر لم يعجزهم الالتفاف حوله والإحاطة به، فلا هم الذين يقفون فى مد السيل، ولا هم الذين ينكشفون فى جزره. ونفسية المصريين على جانب من التعقيد الغريب ولذلك يحار معها من لم تطل خبرته بها. كثيرا ما يختفى تحت مظهرها الوادع الساخر الباسم قدر كبير من العنف والضيق والألم!. ربما تجد هذه الأمة هادئة، فسل نفسك: أهو هدوء رضا، أم هدوء انتظار؟ وربما تجدها غرقت فى جو نفعى مادى، فسل نفسك: أهى سورة اللذة، أم هى النفرة من الألم؟ ص _203(1/193)
ومن الخطل أن تحسب الأعراض الطارئة دليل علة قديمة فى نفسية الأمة، فيدخل اليأس إلى قلبك، فالحقيقة أن جوهر الأمم قلما يلتوى مع اليد الصناع، وليس يتهم الأمم بالنقص إلا من جهل أساليب العمل معها واستطال أمده. 14ـ قيمة الدعاية : أثار التفاتى منظر بائع فواكه يسوق عربته الصغيرة أمامه، وعليها صفوف مرصوصة متسقة من الثمر الجيد، قد وضعت الواحدة منه إلى جانب الأخرى بعناية ودقة ونظام لم يضطرب عقده على طول ما انتظم فيه من مئات وألوف. فكان المنظر ـ بحق ـ مغريا على الإعجاب إن لم يكن مغريا على الشراء. إن هذا الرجل قد أفرغ وسعه فى إجادة عرضه لبضاعته التى يرتزق منها. وهنا شعرت بخاطر سريع يعترض تفكيرى، ويلوى عنانه إلى ناحية أخرى.. سمعت سؤالا خافتا ينبعث من أعماق نفسى. هل أنت ـ كعالم دين ـ تنظم للناس بضاعتك، وتحسن عرضها على أبصارهم وبصائرهم، لتبعث فى نفوسهم الإعجاب على الأقل إن لم تغرهم بالإقبال والقبول؟ وشعرت بحيرة فى الإجابة! ومعنى هذه الحيرة أن الجواب بالسلب! وبدا لى كأن علماء الأديان يكتفون بما لها من قيمة اسمية طنانة، وبما لهم فيها من منازل متوارثة عالية، فهم لا يجشمون أنفسهم مشقات العرض المنظم الطويل لما لديهم من بضائع، هى ـ لا ريب ـ أنفس ما فى الحياة من عروض. ماذا يتصور الناس عندما يسمعون صوت الدين، أو عندما يلمحون سمت رجاله؟ إن أذهانهم تعتريها صور مبهمة للحرمان والتزمت، ورسوم فاترة للسكون الموحش، والفناء القريب. وتلك الصور الخاطئة وحدها تكفى لهدم كل ما يجب للدين من محبة خالصة عميقة، وتكفى لصرف النفوس عن مبادئه وفضائله. فالدعاية للدين، تشبه أن تكون معكوسة النتائج لا تغرى الرائين بالمجىء إلا لتغريهم بالانصراف، وهذا فشل ذريع يحمل تبعته العارضون المفرطون. إن حسن العرض طابع العصر الحديث. ص _204(1/194)
والمذاهب المتكاثرة التى تتراكض فى زحام الحياة تتمتع بدعاة أقوياء يشدون أزرها، ويقيمون أمرها.. ومن الخير لعلماء الدين أن يهجروا ـ إلى غير عودة ـ حياة التراخى والطمأنينة، وأن يقبلوا على ما لديهم، يعرفونه على حقيقته، ثم يعرفون الناس حقيقته من غير تزيد، ولا انتقاص. فمن الظلم الفادح للجمال الغالى أن يلف فى بالى الخرق، وأن يتراكم عليه الوسخ والتراب. 15ـ وحدة الأديان : حاجة النفس الإنسانية إلى الدين كحاجة الجسم إلى الغذاء، ووجود الدين فى المجتمع الإنسانى ضرورة ماسة، يفقد المجتمع ـ إن فقدها ـ عقله وأمانه وتوازنه، والأديان الكبرى تقوم حقائقها على أصول سماوية ثابتة، وتعتمد على الوحى من الله عز وجل... أما الأديان الأرضية الأخرى فهى ـ فى الحقيقة ـ فلسفات نفسية، صادفت فى بيئاتها رواجا وقبولا جعلها تشبه الدين، وليست بدين. وكلامنا الآن عن الأديان السماوية الحقة، ومبلغ تقارب حقائقها، ومدى صلة الناس بها. فإن الأديان تواجه فى هذا العصر من فوضى الإلحاد والإباحية حربا، إن لم تتحد أمامها ذهبت فيها. والناظر إلى الإسلام، وإلى أركانه الخمس، وإلى سائر شرائعه يراه قد وضع الأساس لوحدة دينية يصح أن يلتقى الناس جميعا عليها، كما التقت بها الهدايات الأولى، تلك الهدايات التى بَشَّر بها جميع الأنبياء، وظهرت بها كتبهم ووصاياهم، وانتفع الناس بها حينا فسعدوا، ثم زاغوا عنها حينا آخر فطواهم الشقاء. الإيمان بالله وحده عامل مشترك فى كل دين، والقرآن الكريم يقول : (وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون). ص _205(1/195)
وكذلك تطهير النفس بإقامة الصلاة، وإعانة الفقراء بإيتاء الزكاة، والقرآن يقول عن أمم الأنبياء السابقين : (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة). والصيام ليس بدعا فى التشريع الإسلامى، ولكنه طاعة روحانية عريقة فى قدمها (...كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون). والحج عبادة شرعت على عهد شيخ الأنبياء إبراهيم عليه السلام، وهو الذى بنى الكعبة، ودعا الناس إليها . والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فريضة لم تخل منها رسالة، ولم يعذر فى تركها حبر ولا راهب، من أصحاب الديانات الأولى. وكذلك الدعوة الحارة إلى مكارم الأخلاق، والبعد عن الرذائل. بل العقوبات الرادعة فى كثير من هذه الجرائم تكاد تكون واحدة فى الأديان كلها، تتفق سماتها كما تتشابه الملامح المتوارثة بين أدنى الأقرباء. إن وحدة الدين فى كل زمان ومكان، هى لب الإسلام. وعوامل المسالمة والتقريب بين المتدينين فى متناول اليد، لمن يبتغى وجه الله، والمسلمون من جانبهم أسرع الناس إلى محو بذور التفرقة والشقاق كما يأمرهم بذلك دينهم الذى يجعل من مقومات الإيمان الاعتراف بجميع الأنبياء السابقين، وبجميع الكتب المنزلة. وهل الإسلام إلا توكيد للحقائق السليمة فى الديانات الأولى، وحث على الاستمساك بها، وإزالة الغبار القديم عما نسى من تعاليمها، وعتب على المقصرين من أبنائها يصح أن يوجه مثله، وأشد منه إلى المسلمين أنفسهم إذا ما قصروا فى حقوق ربهم وخرجوا عن هدى كتابهم. إن القرآن يصح جعله كتابا للأديان كلها ـ كما رأيت ـ وإن من مصلحة العالم أن يلتفت المتدينون فيه إلى ما بأيديهم، وإلى ما بأيدى إخوانهم، وأن لا يمكنوا لشياطين الإلحاد والعصيان من الظفر بمصير الأرض، والاستيلاء على أزمة الأمور فيها. ص _206(1/196)
16ـ عدو ولكن له فضل: أستطيع أن أقول إننى استفدت من أعدائى بقدر ما استفدت من أصدقائى. فلئن كان بر هؤلاء بى قد دفعنى إلى الإجادة، وتطلب الكمال، لقد كان كره أولئك لى يدفعنى إلى الحذر وتوقى النقص!. والمرء تتيسر له سبل الاستقامة بين عوامل الرغبة والرهبة، فقلما يحيد أو يتراجع. والهيئات والأحزاب بإزاء هذه الحقيقة كالأفراد، وليس يغير من أثر هذه الحقيقة أن الناس يكرهون أعداءهم، ويودون أن يختفوا من أمام وجوههم. فكم من هيئة تريثت فى حكمها، خشية امتداد الألسنة إليها، وكم من حكومات لزمت الصواب خشية ثورة المعارضة عليها. ومن ثم يجب أن نرقب أعداءنا لنستفيد منهم كما أننا نرقبهم لنتقى غوائل حقدهم، وكوامن خصوماتهم. سمعت مرة أحد أصدقائى يتكلم ـ بحرارة ـ عما صنعته دول الغرب بأمر الشرق فقلت له: يا صديقى لست أظنك جاوزت حد الصواب فيما ذكرت. إن هؤلاء الناس أهانونا حقا، ولكنا كنا نياما، فاستيقظنا على ركل أقدامهم، وصفع أكفهم. ومن الخير لنا أن نستفيد من بواكير هذه اليقظة، وأن نزيل بقايا النعاس من أجفاننا، ثم نأخذ بعدئذ بتلابيب هؤلاء القوم لنعاتبهم أو لنحاسبهم على أسلوبهم البارد فى إيقاظ النائمين! أما طريقتى أنا فى فهم الأمور، فهى تلقى تسعة أعشار اللوم على النائم الغافل، ولا تعنى بتوجيه العشر الباقى إلى الموقظ الشرس. ذلك لأنى أقدر الفائدة التى تصيبنى من أعدائى، وأنتفع بها فى تقويم عقلى، وتدعيم شأنى. ومن الخير لنا ـ نحن أبناء العالم الإسلامى ـ أن نراجع أنفسنا قبل أن نراجع غيرنا. وأن نداوى أخطاءنا على عجل قبل أن نفكر فى الانتقام ممن نفذوا إلينا منها. ص _207(1/197)
وإذا ضربك خصمك على عضو مريض، فاستشف أولا... ثم انزل معه فى ميدان المعركة، وذلك طريق النصر. إن هناك أقواما محصتهم الشدائد فحملوا مغبتها بعدما كرهوا وطأتها. فلنستفد من الخصومات التى تقع لنا، فكم تفدى عين الناقد الناقم، وكم تُزل عين الصديق المغضى. 17 ـ موظفون : كنت أسير يوما، فسمعت اثنين يتحادثان، يقول أحدهما لصاحبه: أنا لا أقضى لأحد من الناس عملا إلا إذا أشعرته بأن دون ذلك عقبات صعبة التذليل. وأن مصلحته معقدة، ليس فى إمكان أحد حلها، فإذا أحس بالحرج وأخذ يلح فى الرجاء قمت متبرما متثاقلا، وأخذت أقضى له مسألته قليلا قليلا، لكى أطيل عليه أمد بلائه، وأستمع إلى شدة رجائه!! حتى إذا ما انصرف أدرك أننى صاحب الفضل عليه، ووجدت أنا فى ذلك ما يثبت مكانتى، ويفخم وظيفتى. وكان صاحبه يستمع إليه وهو يومئ برأسه، موافقا على مسلك صاحبه الموظف الأمين على مصالح الجمهور. ويؤكد أن الناس يستحقون هذه المعاملة، وأن هيبة الموظف لا تقوم إلا بها... وكنت أستمع إلى هذا الحديث، وأنا أتميز غيظا، وقلت : لو أن لى سلطة حكام القرون الوسطى لأمرت بضرب أعناق هؤلاء الذين يأخذون مال الأمة، ليعذبوا أبناءها، ويهدروا حقوقها، ويكبتوا مشاعر الأنفة والإباء فيها!! وما لى أتمنى سلطة حكام القرون الوسطى، وفى أحداث الأيام المعاصرة ما يريح من هذا البلاء. لقد قرأت منذ شهور حكما روسيا بإعدام نفر من الموظفين ثبت عليهم التلاعب بأنظمة الملاجئ ، والإساءة إلى من فيها، فتقرر قتلهم بتهمة خيانة الشعب!! ص _208(1/198)
إن خيانة الشعب أمر خطير، وجرم دنىء، لا ينبغى أن تأخذنا فيه هوادة، بل ينبغى أن تحدد عناصر الجريمة فيه بدقة بالغة، فإذا ثبت على أحد من الموظفين أنه يستغل وظيفته لإشباع شهوته، وإرضاء غروره، جعلناه هدفا لنكال أليم. وبذلك تصان المصالح العامة، وتقضى حاجات الناس فى هدوء وكرامة. أعتقد أن فى مصر عددا من الأطباء يكفى لمداواة المرضى جميعا. وعددا من المدرسين يكفى لتعليم الأميين جميعا. ولكن وجود هؤلاء وأولئك لم يستأصل المرض، ولا الجهل ولا التراخى فى إتمام الأعمال. وعلة ذلك واضحة. فمتى يؤدى كل واجبه على ما يرضى الله؟. ثرثرة بالإصلاح : بعض الناس يجدون مهارة ملحوظة فى وصف الآفات الخلقية والاجتماعية التى تشيع بيننا. ولكنك لا تكاد تهتز لشىء مما يقولون. فهم يقفون عند حد النعى على الناس، ووصف ما يقع من تصرفات سيئة. وربما جاوزوا ذلك إلى بعض تمنيات سطحية عن إصلاح الفاسد، وإقامة المعوج، ثم لا يساهمون ـ بعد ذلك ـ بجهد ما فى نهضة إصلاحية، ولا يهتمون بعمل ما، فى سبيل تغيير ما ينكرون. وهؤلاء ـ فى نظرى ـ مجردون من معانى الدين الصادق، والوطنية الصحيحة. ولو أن سائحا أوروبيا جاس خلال هذه الديار، وتعرف أحوال أهلها عن كثب، وشاهد حياتنا العامة من جميع نواحيها، لاستطاع ـ ما دام له عين تبصر، وفؤاد يعقل ـ أن يعرف كثيرا من أخطائنا المنبثة فى كل مكان، والتى صارت سمة لا تزول فى حياة هذا المجتمع المريض. بضعة شهور فحسب تجعل الأوروبى الطارئ الغريب يعرف الكثير عنا إن لم يعرف كل شىء. فكيف بالمصرى الذى يحيا على هذه الأرض من مهده إلى لحده!! لا جرم كان لطباع قومه أبصر، وبوجوه الخلل فيها أعلم. فالوقوف عند سرد العيوب الشائعة، والإفاضة فى شرح أعراضها وآثارها لا يدل على شىء من الكفاية، ولا ينبئ عن ذرة من الإخلاص وهو ضرب من الشقشقة ص _209(1/199)
يتقنه بعض الناس، وخصوصا المرضى بداء القنوط. لا تكاد تستمع إلى أحدهم حتى يلقى عليك خطبة طويلة عما أصاب الأخلاق من انتكاس، وعما أصاب المجتمع من تدهور، وعما أصاب السياسة من ضلال. ثم هو بعد لا يتحول من مكانته تلك. أقصى ما لديه هذه المعرفة المجردة، وكأنه يدل بها على من حوله، فهو ينظر إليهم كأنه فوق قمة وليس هذا دليل فضل أبدا. وإنما يتفاوت الناس بعد معرفة الداء فى البحث عن العلاج. وفى السعى إلى إيصاله لكل عضو مريض من جسم الأمة، وفى السهر على ذلك حتى تتم السلامة، وتعود العافية المفقودة، وتستأنف الأمة طريقها إلى الغاية العليا التى تنشدها وهى أشد تماسكا وأقوى على مواجهة صعاب الحياة. كيف نعيش وكيف نموت : هناك شبه قريب بين حاضر المسلمين المبعثرين فى قارات الأرض، القابعين فى أماكنهم من (الدنيا القديمة) وبين ماضى المسلمين القلائل الضعفاء يوم استجابوا لدعوة النبى العربى، فما كادوا يؤمنون برسالته حتى وقعوا فى مهاب عواصف حمقاء من الحيف والخسف، روعت يومهم وغدهم، وأباحت مالهم ودمهم، وجعلت آفاق الصحراء الفسيحة أضيق فى أعينهم من سم الخياط!. كان أعز المسلمين يلتمس (الحليف) القوى أو الجار العزيز، ليدرك فى ظله بعض الأمان على نفسه وأهله. وكان زمام الحياة الاقتصادية والسياسية فى الوطن الخاص ـ بل فى الدنيا كلها ـ بعيدا عن أيدى هذا النفر من المسلمين، وأنى لهم به؟ بل أين هم منه؟ وهم قليل مستضعفون فى الأرض، يخافون أن يتخطفهم الناس!. كانوا يعيشون على هامش الحياة كما نعيش نحن الآن، أو لعلنا نحن الذين نعيش على هامش الدنيا كما كانوا يعيشون!. وأيا ما كان الأمر، فإن هذه الحياة التى فقدوها فسعوا إليها ـ إذ كرهوا العيش على هامشها ـ وفقدناها نحن ولم نزل نضطرب فى حدودها المهينة، إذ لم نسع بعد إلى التخلص منها... هذه الحياة المفقودة المنشودة ـ هى الحياة فى ظل دولة مستكملة الحرية والسلطان، تأخذ لربها ولنفسها ما(1/200)
تريد، وترسل جندها فى أى ميدان، ليعودوا بالنصر الغالى، وليفرضوا على الناس شروط المنتصرين. ص _210
ولقد جاهد المسلمون الأولون بضعة عشر عاما حتى استطاعوا أن يحققوا هذه الأمانى، وأن يسجلوها يوم بدر تسجيلا لا يزال يعجب له التاريخ . * * * * أما نحن فلا تزال أمامنا أمور وأمور، ولئن كان الشبه قريبا من ناحية بين المسلمين الآن، وبين المسلمين قبل بدر، إنه لبعيد من ألف ناحية أخرى. فهم ضعفوا بقلتهم، على حين ضعفنا بكثرتنا. وهم عزوا فى أنفسهم، على حين استكنا فى أنفسنا. وهم منذ دخلوا الإسلام رفضوا كل وضع جائر، وتربصوا به الدوائر. أما نحن فمذ ولدنا فى الإسلام لم نزل نغمض العين على القذى، ونتفلسف فى تحمل الأذى. وهم بنوا على العقيدة الراسخة آمالهم وأعمالهم، وبنينا ـ نحن ـ آمالنا، وأعمالنا على المآرب والمنافع. فكان من البداهات أن يبعد عنا النصر، إذ فزت من بين أيدينا أسبابه، وأغلقت دوننا أبوابه. وكان من البداهات أن يبلغ المسلمون الأولون بعد بضعة عشر عاما أول نصر يعملون له، فإذا دولتهم مكينة البناء، وإذا دعوتهم خفاقة اللواء... ومن الذى أحرز النصر؟ رجال قلة، يزدحم بهم مسجد صغير من مساجد القاهرة الآن. بل إنهم يتيهون فى صحن مسجد من المساجد الكبيرة التى توجد هنا وهناك، وتزدحم كل أسبوع بالآلاف. ولكنه النصر العزيز ظفر به من استحقوه بأخلاقهم وبطولاتهم. ولم تضن عليهم عناية الله به، بل جعلته لهم مكافأة باهرة، ومعجزة قاهرة (قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار). * * * * ص _211(1/201)
قلت لنفسى: ما أحوج إلى المسلمين إلى من يعرفهم دينهم! ثم فكرت مليا، فإذا بى أقول: بل ما أحوج المسلمين إلى من يعرفهم دنياهم!! قد يكون للوعظ بالدين موضع بين قوم انشغلوا بإتقان حياتهم، وانكبوا على عاجل دنياهم، فهم بحاجة إلى من يذكرهم بالله والدار الآخرة. أما المسلمون فهم أحوج إلى من يعلمهم كيف يعيشون.. وإلا فهل أحصيت ضحايا جرائم القتل التى حدثت من نحو ستين سنة، أى من بداية الاحتلال الإنجليزى إلى الآن . إنها تبلغ عشرات الألوف. فهل أحصيت عدد القتلى فى موقعة التل الكبير، وفى ما بعدها من محاولات لاسترداد سيادتنا القومية؟ وهل رأيت بهذه المقارنة المادية كيف أن ضحايا النقص الخلقى والسقوط الاجتماعى أضعاف من ضحايا الاستقلال المنشود؟؟. وإن هذه الدماء التى سفكت للشيطان لو سفك مثلها فى سبيل الله لنلنا عزتنا وكرامتنا من زمن بعيد.. ولكننا لم نزل بحاجة إلى تعليم واسع، وتربية عميقة، وتوجيه سديد يفهمنا كيف نعيش؟ وكيف نموت؟ ولمن نعيش؟ ولمن نموت؟. غلط يجب أن يحارب : يوجد خطأ جسيم فى تفكيرنا الإسلامى، وقع فيه القدامى ووقع فيه المحدثون وكان له أثر وخيم على وحدتنا الأولى ويوشك أن يكون له نفس الأثر على نهضتنا الحديثة.. هذا الخطأ يرجع إلى قلة التفكير أو انعدامه فى حقائق الكون، وخصائص مادته وأحوال المخلوقات المختلفة، مما جعل قسما كبيرا من ميراثنا الثقافى الإسلامى بحوثا لاهوتية نظرية خاض فيها المتصوفة والمعتزلة وساهم فيها علماء الكلام من سلف وخلف، على حين قلت العلوم الطبيعية والمعارف الكونية العلمانية.. مع أن منهج القرآن الكريم يقوم على عكس هذا الاتجاه تماما، فهو يصرف العقول عن البحث فى الخالق إلى البحث فى الخلق، ويرفض الكلام عن الروح ويرد السؤال عن حقيقتها، ويلح فى لفت أنظار الناس إلى ما فى العالم من آيات وآثار وروائع ص _2 ص(1/202)
وبدائع وما أكثر ما يقول : (أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض...) (أولم يتفكروا في أنفسهم...) (أولم يسيروا في الأرض...). لكنا ـ للأسف ـ لم نهتد بضوء الوحى فى مسلكنا، ولم نحدد على منهجه الجلى خطتنا.. فما أسرع ما أصابتنا لوثة الأقدمين فى آرائهم وأفكارهم، فإذا فلسفة الإغريق الخرافية تترجم إلينا، وإذا العقل الإسلامى النظيف يلوث بضروب من السفسطة والجدل والأوهام المتصلة بذات الخالق وحقيقة الخلق، واخترق المسلمون ـ حين عالجوا ذلك ـ أسوارا مضاعفة القوة من نصوص القرآن والسنة حتى انتهى بنا المطاف أخيرا ـ ونحن أمام نصوص مؤولة شر تأويل، وكتب فيها من حقائق الإسلام القليل، ومن لغو أثينا وروما أكثر من هدى مكة والمدينة. والعجب أن عوام المسلمين الآن يعتنقون كثيرا من هذه الأفكار، فمنهم من لا يحسن كسب قروش يقتات بها ويريد أن يكلمنى عن وحدة الوجود، ومنهم من لا يحسن أن يخط الألف ويريد الكلام فى حقيقة الصفات العليا، ومنهم من لا تميز بين تصرفه وتصرف الحيوان، ومع ذلك يخوض فى فلسفة الجبر والاختيار، أو فلسفة المعرفة والعمل. ماذا كان يحدث لو اتجه التفكير الإسلامى اتجاها عمليا منتجا؟ أما كان يجند هؤلاء وأمثالهم لخدمة الدولة ونفع المجتمع، بدلا من هذا الهذر البعيد عن نصوص الإسلام وعن روح الإسلام والذى يعتبر أصلا هاما من أصول تأخرنا المعيب؟. إيمان طويل: الإيمان بالله واليوم الآخر جزء من الإيمان بالله الواحد لا ينفك عنه. ولهذا اليقين فى الغد المغيب أثر يظهر فى أعمال يومنا الحاضر، ويقترن بخلقنا وسلوكنا. واستغراق الناس فى حدود العالم المحسوس وحده يجعلنا نعيد توكيد هذه الحقيقة الكبيرة. ويجعلنا نبرز بعض السن الإلهية فى مسير الدعوات الدينية... وما تتعرض له من ذبول أو ازدهار، ومن خذلان أو انتصار... إن لقاء الله حق لا يعروه شك، وقد أمر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يظل فى إيمانه بربه وعمله له حتى يدرك(1/203)
هذا اللقاء الذى لا محيص عنه. قال عز وجل : (واعبد ربك حتى يأتيك اليقين). ص _213
والحكم فى النزاع الدائم بين الإيمان والكفر، وبين العدالة والظلم، بين الرحمة والقسوة ، لابد من إقراره وإن طال دونه المدى. وهبه لم يصدر إلا بعد لقاء الله. فإن تأخره هذا لا يرد حقه باطلا. وبين الحاضر الذى يحتدم فيه هذا العراك... والغد الذى يصدر فيه هذا الحكم بون واسع أو ضيق، يُبتلى فيه البشر بما شاء الله من خير وشر. فمن الناس من يغره حاضره فيحسبه كل شىء. ومنهم من يؤمن بالله واليوم الآخر فيأخذ حذره ويعد أهبته. ومهما اضطربت الأوضاع فى دنيانا فإن الله ـ سبحانه ـ يؤكد لنا فى آياته أنه لن يدع الأمور بغير فصل ولن يترك البشر من غير جزاء. لماذا؟ قال : (ليبين لهم الذي يختلفون فيه وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين). ويومئذ تتمخض الأوهام الكبيرة فإذا هى هباء، وتنقشع السحب الخادعة فإذا هى جهام. (حتى إذا رأوا ما يوعدون فسيعلمون من أضعف ناصرا وأقل عددا * قل إن أدري أقريب ما توعدون أم يجعل له ربي أمدا). فى عهد ما قبل الهجرة للدعوة الإسلامية كان المؤمنون يتعرضون لفتن متلاحقة ومحن مترادفة ويتقلبون بين البأساء والضراء ويسيرون فى طريق حُفت بالمكاره وفرشت بالأشواك. كان خصومهم شديدى الجرأة. عليهم، وزادهم ضراوة فى عدوانهم أن الحق أعزل وأن ناصريه ضعاف وأن أشياعه قلائل. والقوة المجرمة إذا أمنت العقاب واطمأنت إلى العاقبة انسابت فى غيها وأوغلت فى إساءتها لا يردها عن طغيانها شىء. وقد كلف المسلمون أن يصبروا على هذا الحاضر المؤسف وأن يؤملوا فى مستقبل أكرم لدعوتهم ولأنفسهم. وحذر الكافرون من غد تتبدل فيه الأحوال وتفرغ فيه أيديهم من أسباب البطش، ويومئذ يكونون أذل جانبا وأقل عددا. * * * * علي أن النفوس ليست سواء فى تحمل ما يفرضه الإسلام من مصابرة وثبات، وكثيرا ما تجيش بالأفئدة آلام مبرحة كلما اشتد الضغط وغام الأفق وطال(1/204)
البلاء. ص _214
وقد تنطلق من النفوس همسات خافتة أو صيحات راعدة. متى يجىء هذا الغد المرتقب؟ متى تبدو معالم فجره وسط هذا الظلام؟ متى تقدم طوالم سعده وسط هذه النحوس ؟ متى؟... بيد أن الله عز وجل يقطع هذا التساؤل ويرد المسلمين إلى الصبر المر على يومهم، ويجعل تعلقهم بالحق الذى يدفعون عنه أشد من تعلقهم بالمستقبل الذى يتنفسون فيه. ومن ثم فهو يعكر عليهم الأمل فى فوز قريب ونصر سريع. ويربيهم على أخلاق المجاهدين الذين يعملون حبا فى العمل وحده، وإن بعدت الثمرة أو طاحت بها الريح. روى عن خباب بن الأرت قال : شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وهو متوسد بردة فى ظل الكعبة، فقلنا: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال: " قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له فى الأرض فيجعل فيها ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه! ما يصده ذلك عن دينه... والله ليُتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضر موت فلا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون ". فى ميدان الكفاح لنصرة دين الله كان الغلب الساحق للمؤمنين حقا لا ريب. ولكن أقواما من المؤمنين ماتوا قبل أن تقر عيونهم برؤيته. من هؤلاء سيد الشهداء حمزة الذى مزق جسمه فى الهزيمة الهائلة التى نزلت بالمسلمين على جبل أحد، ومثله مئات الأبطال الذين هلكوا قبل أن ترفع للحق راية، ولم تكن هزيمة الأشخاص ـ ولن تكون ـ علامة على هزيمة المبادئ ولا سقوطها دون الغاية المأمولة لها.. ومن ثم عالج القرآن بعنف ركون أصحاب الدعوات إلى حل عاجل لما ينزل بهم أو لما يفعله أعداؤهم. وعلم الله نبيه أن يتعهد نفسه وصحابته بالأعمال الإيجابية البحتة، وألا يشغلهم تربص السوء بأعداء الله عن ذلك الواجب (وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد على ما يفعلون). الذى ندريه تمام الدراية أن الإسلام حق، وأن العمل له أيا(1/205)
كانت النتائج ـ حق. فإما عزة فى الدنيا، وإما فرحة يوم لقاء الله.
ص _044
ضد الإسلام
إن أقلاماً شتى تحارب الإسلام وحده
تحت ستار من محاربة التعصب(1/206)