بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ،والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
أمَّا بَعْدُ :
فإن التفاضل بين النوع الإنساني - فهماً وإدراكاً - أمرٌ مُسَلَّمٌ ثبوتُه عِند أهل السنة والجماعة ، خلافاً لغيرهم من الفرق والجماعات ، الذين سلكوا طريقَ تحكيم العقولِ في نصوصِ الأدلة الشرعية ، فأنكروا التفاوتَ بين العقول والفهوم .
وَرَدُّ هذا التأسيس : مَبسُوطٌ في تضاعيف كُتبِ أئمتنا الكرام المتبعين للأثر ، مؤصلين فهومَهم بفهم سلفنا الصالح - رضي الله عنهم - .
ولمَّا كان زيادةُ الإيمان والصلاح،والفهم والإدراك ، لا يكون إلاّ بكثرة الاستمداد من علوم شريعة الإسلام ،والعمل بذلك ،كان الواجبُ - لزاماً - على المسلمين الاهتمام بطلب العلم الشرعي،أو السؤال لمن يُوثقُ بعلمه وصلاحه ، في جميع أمور الدين والدنيا .
وهذه الرسالةُ : كُتِبتْ على سَنَنِ الاختصار ، قاصداً بها: الحثَّ لنفسي ، ولغيري من أبناء دين الإسلام ، لبذلِ كامل الوسع في طلب العلم الشرعي .
وحقيقتُها :كلماتٌ عابرةٌ ، وفوائدُ منثورة ، وتأصيلٌ نافعٌ في كيفية الطلب ،وحداءٌ يزيدُ همةً عاليةً في قلوب طلبة علم الشريعة الغراء .
سائلاً الله عزَّ وجل : أن يضع لها القبول عنده ، ثم عند عباده المؤمنين ،وأن يجعلها خالصة لوجهه الكريم .وهو حسبي ونعم الوكيل .
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ’’
وكتب :
أبو عبد الرحمن حسن بن محمد بن يوسف
15/شوال/1421
1
قال الله تعالى : { وقل ربِّ زدني علماً } . (سورة طه،الآية : 114) .
وقال سبحانه : { قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون } .
(سورة الزمر ، الآية :9) .
وقال جل وعلا : { يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات } .
(سورة المجادلة ، الآية : 11) .(1/1)
وأخرج البخاري ومسلم عن معاوية – رضي الله عنه – قال: )) سمعتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول :من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين (((1) .
وأخرج البخاري عن عبد الله بن عمرو – رضي الله عنه – قال:)) قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :بلغوا عني ولو آية (( (2) .
وأخرج مسلم عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال:)) قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة (( (3) .
وأخرج ابن ماجة عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال :)) قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : طلب العلم فريضة على كل مسلم (( (4) .
ــــــــــــــــــ
أخرجه البخاري في كتاب العلم :(1/146) باب من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ،وفي كتاب الخمس:(6/217) باب قوله تعالى :(( فإن لله خمسه وللرسول )) . ومسلم في الزكاة: باب النهي عن المسألة ، وفي الإمارة ،باب قوله صلى الله عليه وسلم:(( لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين ...)).
(2) أخرجه البخاري في كتاب الأنبياء (6/496) باب ما ذكر عن بني إسرائيل .
(3) أخرجه مسلم رقم ( 2699) في الذكر والدعاء : باب فضل الإجتماع على تلاوة القرآن .
(4) أخرجه ابن ماجة في المقدمة (1/81): باب فضل العلماء والحث على طلب العلم .وأخرجه غيره، وهو حديث حسن . انظر: صحيح الجامع رقم(3808) .
2
وأخرج الترمذي عن أبي أمامة الباهلي – رضي الله عنه – قال : ذُكر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلان أحدهما : عابد ، والآخر عالم ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : )) إن الله وملائكته ، وأهل السموات والأرضين ،حتى النملة في جحرها ، وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير (( (1) .(1/2)
وأخرج أبو داود والترمذي وابن ماجة عن أبي الدرداء – رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول :)) من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة،وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع، وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض ، حتى الحيتان في الماء ،وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب ، وإن العلماء ورثة الأنبياء ، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً ،إنما ورثوا العلم ، فمن أخذ به فقد أخذ بحظٍ وافرٍ (( (2) .
والأخبار،والآثار في شرف العلم ،وفضل العالم والمتعلم ، كثيرةٌ جداً لا يسعها هذا المقام.
ويمكن الرجوع إليها في مضانها ، مثل :
1- جامع بيان العلم وفضله، لحافظ المغرب:الإمام أبي عمر يوسف بن عبد البر النمري
القرطبي .
2- الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع،وكتاب الفقيه والمتفقه ،كلاهما :للإمام الحافظ أبي بكر الخطيب البغدادي .
3- وكتاب تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم : للإمام ابن جماعة الكناني .
4- كتاب السنن:للإمام الدارمي،وخاصةً مقدمته .
ــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه الترمذي في كتاب العلم (5/ 48): باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة . وهو حديثٌ صحيح ، انظر:
صحيح سنن الترمذي، رقم (2161) .
(2) أخرجه أبوداود في كتاب العلم (4/57) : باب الحث على طلب العلم . والترمذي في العلم (5/47):باب ما جاء
في فضل الفقه على العبادة . وابن ماجة في المقدمة (1/81) : باب فضل العلماء والحث على طلب العلم . وهو
حديثٌ صحيح ، انظر : صحيح سنن الترمذي ،رقم (2159) .
3
5- وكتاب مفتاح دار السعادة : للإمام الحجة محمد بن أبي بكر المشهور بابن القيم الجوزية .
6- أدب الطلب : للإمام محمد بن علي الشوكاني .
7- أبجد العلوم : للشيخ صديق بن حسن القنوجي .
وسائر كتب)) العلم (( في الصحيحين ، وكتب السنة الستة وغيرها .(1/3)
والمراد بالعلم في الآيات ، والأحاديث المذكورة :)) علم الدين والشرع المتين،وهو: علم الكتاب العزيز ،والسنة المطهرة لا ثالث لها .
وليس المراد به العلوم المستحدثة في العالَمِ قديمه وجديده التي اعتنى الناس بها في هذه الأزمان ، وخاضوا فيها خوضاً منعهم من النظر في علوم الإيمان ، وأشغلهم عن الإشتغال بمراد الله تعالى ورسوله سيد ولد الإنس والجان ، حتى صار علم القرآن مهجوراً، وعلم الحديث مغموراً ، وظهرت صنائع أقوام الكفر والإلحاد ، وسُميت بالعلوم والفنون والكمال المستجاد ، وهي كل يومٍ في ازدياد ، فإنالله وإنا إليه راجعون (((1) .
ــــــــــــــ
(1) أبجد العلوم (1/98) .
4
العلم من المصالح الضرورية التي تقوم عليها حياة الأمة ، بمجموعها وآحادها ، فلا يستقيم نظام الحياة مع الإخلال بها ، بحيث لو فاتت تلك المصالح الضرورية لآلت حال الأمة إلى الفساد ، ولحادت عن الطريق الذي أراده له الشارع الكريم .
يقول الإمام الشاطبي – رحمه الله - :)) والحفظ لها - أي للمصالح الضرورية – يكون بأمرين : أحدهما : ما يقيم أركانها ، ويثبت قواعدها ، وذلك بمراعاتها من جانب الوجود . والثاني: ما يدرأ عنها الإختلال الواقع ، أو المتوقع فيها ، وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب العدم (( (1) .
والعلم - بلا ريب – يُسلك في هذه المصالح الضرورية التي تجب مراعاتها من الجانبين المذكورة ، وذلك للأسباب التالية :
أسبابُ كون العلم ضرورة شرعية
1-لأن حاجتنا إليه لا تقل عن حاجتنا إلى المأكل والمشرب والملبس والدواء ،إذ به قوام الدين والدنيا .
2- لأن المحتلين الحاقدين:إنما احتلوا بلاد المسلمين لأسباب كثيرة ، بيد أن من أهمها جهل المسلمين .
3-إنتشار المذاهب الهدامة ، والنحل الباطلة ، وما حدث ذلك إلا لأنها وجدت قلوباً خالية ، فتمكنت منها ، فإن القلوب التي لا تتحصن بالعلم الشرعي ، تكون عرضةً للإنخداع بالضلالات ، والوقوع في الإنحرافات .(1/4)
ــــــــــــــــــ
(1) الموافقات (2/8) .
5
وهنا أنبه إلى أن شباب الإسلام ، وأبناء هذه الأمة اليوم بحاجة إلى طُلاّب علم ، فقد التقيتُ بكثير من الشباب الأخيار ، في هذه البلاد وغيرها ، فآلمني أن العلم الشرعي ينقص كثيراً منهم . بالرغم من حرصهم على الخير، وحماسهم للدعوة ، وغيرتهم على الدين.
وهؤلاء الشباب تراهم في بلادنا،وفي بعض البلدان الإسلامية ، تقودهم قيادات غير متمكنة من العلم الشرعي ، فما هو مصير أولئك الشباب ، وما هو مصير تلك الجماعات والحركات ؟! .
لاشك أنه لا يصحُّ أن تُقاد الدعوات بأولئك .وأن جهود هذه الدعوات وآمالها سوف تذهب هدراً ، لأن القيادة عندما تكون جاهلةً بأمر دينها جاهلةً بكتاب ربها ،وسنة نبيها ، فإنها تعجز عاجلاً أو آجلاً عن القيام بواجبات الدعوة .
وإن من العجيب أن يتفق الناس على أنه لا يمكن لأحد أن يصمم بيتاً إلا أن يكون مهندساً عالماً بهذا الفن ، في حين يتساهلون في أمر في غاية الأهمية، وهو: أمر الدعوة ، فيقودها رجالٌ ينقصهم العلم الشرعي !! .
4- إن ما لا يتم الواجب إلاّ به فهو واجب.
لعل هذه هي أهم الأسباب التي تجعل العلم ضرورة شرعية بإيجاز(( (1) .
ـــــــــــــــــ
(1) انظر : العلم ضرورةٌ شرعية. للأستاذ ناصر العمر .
6
الأصل في الطلب أن يكون بطريق التلقين ، والتلقي عن المشايخ ، والأخذ من أفواه الرجال لا من الصحف وبطون الكتب ، وهذا هو المنهاج الصحيح الذي سار عليه السابقون من أهل العلم في تحصيلهم وطلبهم للعلم .
قال الإمام الشافعي – رحمه الله - :)) من تفقه من بطون الكتب ضيع الأحكام ((.
وكان بعضهم يقول : )) من أعظم البلية تشيخ الصُحُفية ، أي الذين تعلموا العلم من الكتب (((1) .
وقد قيل : )) من دخل في العلم وحده خرج وحده (( أي من دخل في طلب العلم بلا شيخ خرج منه بلا علم ، إذ العلم صَنعةٌ ،وكل صنعة تحتاج إلى صانع ، فلا بد إذاً لتعلمها من معلمها الحاذق (( (2) .(1/5)
قال الزبيدي – رحمه الله – في)) شرح الإحياء(( :)) وقد أجمع العلماء على فضل التعليم والتعلم من أفواه الشيوخ إلا ما كان من علي بن رضوان الطبيب المصري ، فإنه صنف كتاباً في إثبات أن التعلم من الكتب أوفق من المعلمين ، وكان رئيس الأطباء للحاكم بمصر ، ولم يكن له معلم في صناعة الطب يُنسب إليه ،وهو كلام لا يعبأ به ،ولا يلتفت إليه .قرأت في الوافي بالوفيات للصلاح الصفدي : أن ابن بطلان ،وغيره من أهل العصر ، ومن بعدهم قد ردوا عليه هذا القول ،وبينوه وشرحوه ،وذكروا العلل التي من أجلها صار التعليم من أفواه الرجال أفضل من التعلم من الصحف(( .
ـــــــــــــــــــ
(1) تذكرة السامع والمتكلم (ص85 ) .
(2) انظر : حلية طالب العلم (ص22) للعلامة الفاضل/ بكر أبو زيد-مهم جدا -.
7
ثم ذكر تلك العلل إلى أن قال:)) السادسة: يوجد في الكتاب أشياء تصد عن العلم ، وهي معدومة عند المعلم ،وهي التصحيف العارض من اشتباه الحروف مع عدم اللفظ ،والغلط بزوغان البصر ، وقلة الخبرة بالإعراب ، أو فساد الموجود منه ، وإصلاح الكتاب ،وكتابة ما لا يقرأ ،وقراءة مالا يكتب ، ومذهب صاحب الكتاب ،وسقم النسخ ،ورداءة النقل ، وإدماج القارئ مواضع المقاطع ، وخلط مبادئ التعلم ، وذكر ألفاظ مصطلح عليها في تلك الصناعة ، وألفاظ يونانية لم يخرجها الناقل من اللغة،كالنورس ،فهذه كلها معوقة عن العلم ،وقد استراح المتعلم من تكلفها عند قراءته على المعلم ،وإذا كان الأمر على هذه الصورة ،فالقراءة على العلماء أجدى وأفضل من قراءة الإنسان لنفسه ،وهو ما أردنا بيانه … قال الصفدي : ولهذا قال العلماء لا تأخذ العلم من صُحفي ، ولا مصحفي ، يعني لا تقرأ القرآن على من قرأ من المصحف ، ولا الحديث وغيره على من أخذ ذلك من الصحف … (( (1) .(1/6)
وقال الحافظ الذهبي-رحمه الله – في ترجمة هذا الطبيب : )) ولم يكن له شيخ بل اشتغل بالأخذ عن الكتب ، وصنف كتاباً في تحصيل الصناعة من الكتب، وأنها أوفق من المعلمين وهذا غلط (((2).
)) وقال الوليد:كان الأوزاعي يقول: كان هذا العلم كريماً يتلقاه الرجال بينهم ، فلما دخل في الكتب ، دخل فيه غير أهله ، وروى مثلها ابن المبارك عن الأوزاعي.
ــــــــــــــــــــ
(1) شرح الإحياء (1/98-99) .
(2) سير أعلام النبلاء (17/105 ) .
8
قال الذهبي – رحمه الله - :ولا ريب أن الأخذ من الصحف ،وبالإجازة يقع فيه خلل،ولا سيما في ذلك العصر ، حيث لم يكن بَعْدُ نقط ولا شكل ، فتتصحف الكلمة بما يحيل المعنى ، ولا يقع مثل ذلك في الأخذ من أفواه الرجال ، وكذلك التحديث من الحفظ يقع فيه الوهم ، بخلاف الرواية من كتاب محرر (( (1) .
وكان أبو حيان كثيراً ما ينشد :
يظن الغمر أن الكتب تهدي أخا فهم لإدراك العلوم
وما يدري الجهول بأن فيها غوامض حيرت عقل الفهيم
إذا رمتَ العلوم بغير شيخٍ ضللت عن الصراط المستقيم
وتلتبس الأمور عليك حتى تصير أضلَّ من توما الحكيم
وقوله :
أمدعياً علماً ولست بقاريءٍ كتاباً على شيخ به يسهل الحزْنُ
أتزعم أنَّ الذهن يوضح مشكلاً بلا موضح ؟ كلاّ لقد كذب الذهنُ
وإن الذي تبغيه دون معلم كموقدٍ مصباح وليس له دُهنُ (( (2)
ومن طريف ما قاله ابن الدهان النحوي :
لا تحسبن أن بالكتـ ب مثلنا ستصيرُ
فللدجاجة ريشٌ لكنَّها لا تطيرُ (3) .
ـــــــــــــــــــ
(1) سير أعلام النبلاء (7/114) .
(2) نفح الطيب ، للمقري(2/564و568 ) .والآداب الشرعية ، لابن مفلح(2/135) .
بغية الوعاة ، للسيوطي (1/587) .
9
فعلى الطالب إذا عزم على التفقه، أن يحرص كل الحرص على تلقي العلم من أفواه العلماء ، وعليه أن يجتنب الصُّحُفيين ، وهم الذين تلقوا علمهم من الكتب ، ولم يجلسوا بين يدي الشيخ ، ولم يجثوا على الركب في حلقات العلم .(1/7)
قال سليمان بن موسى : )) كان يقال : لا تقرؤوا القرآن على المصحفيين ، ولا تحملوا العلم عن الصحفيين (( .
وقال الإمام مالك – رحمه الله - : )) أدركتُ بهذا البلد رجالاً من بني المئة ونحوها يحدثون الأحاديث لا يُؤخذ منهم ليسوا بأئمة ، فقال له ابن وهب : وغيرهم دونهم في السن يؤخذ ذلك منهم ؟ قال نعم ،ويجب أن يكون حفظه مأخوذاً عن العلماء لا عن الصحف(( .
وقال ثور بن يزيد : )) لا يفتي الناس صحفي ،ولا يقرئهم مصحفي (( .
وأنشد الحسن بن عبد الرحمن لبعضهم يذكر قوماً لا رواية لهم :
ومن بطون كراريس روايتهم لو ناظروا باقلاً يوماً لما غلبوا
والعلم إن فاته إسناد مسنده كالبيت ليس له سقفٌ ولا طنبُ (( (1)
ـــــــــــــــــ
(1) انظر : المحدث الفاصل ، للرامهرمزي (211-212). والكفاية ، للخطيب(194-195) .
10
)) والصحفيون غالباً ما يشتط بهم الفهم ، ويقعون في المزالق ،لأنهم تلقوا علمهم من الكتب دون أن يكون هناك من يربيهم عليه ، ويكشف لهم أسراره ، ويجلي لهم عقده ومشكلاته ، ولهذا فإنه كثيراً ما يفهم الصحفي مسائل العلم بفهمه القاصر وينفرد به ، فيشتط به الفهم ، ويمضي على ذلك لا يجد من ينبهه ويوجهه ويربيه .
تلقي العلم عن الشيوخ سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فالقرآن لم ينزل عليه كتاباً مكتوباً جملة واحدةً ،نزل عليه منجماً ، وتلقاه من مقرئٍ يقرئه ، وهو جبريل عليه السلام، فحتى الرسول - صلى الله عليه وسلم -
جلس مع جبريل ليلقنه القرآن .
والصحابة – رضي الله عنهم – كذلك لم يتلقوا القرآن والسنن من الصحف ، تلقوا من فم النبي - صلى الله عليه وسلم - .
فالعلم عند السلف : علمٌ وتربية .
والذي يستطيع أن يجمع لك بينهما هو شيخك (( (1) .
فإذا لم يجد الطالب عالماً يتفقه عنده ، ويتعلم منه ، ولم يستطع الرحلة إلى غير بلده ،فعليه بأمور :(1/8)
يكون مكتبةً متنوعة الفنون والموضوعات ، من كتب التوحيد ،وكتب التفسير ،وكتب الأحاديث ،والفقه ،والسيرة ،والتراجم والرجال … وغير ذلك مما له صلة بتحصيل علم شريعة الإسلام .
سماع الأشرطة العلمية لأئمة الدعوة في هذا الزمن، كأمثال : الإمام الجامع ابن باز-رحمه الله – والإمام المحدث الألباني – رحمه الله – وإمام الفقه والأصول شيخنا ابن عثيمين-رحمه الله -،وغيرهم من أئمة الإسلام .
الاستفادة من وسائل الإتصال المعاصرة ، فيسأل الطالبُ العلماءَ في غير بلده عن الكتب التي يشتريها ، والمسائل العارضة التي أشكل عليه فهمها ومرادها .
ـــــــــــــــــ
(1) برنامج للمتفقهين، للأستاذ عبد العزيز القارئ(ص45 ) .
11
على طالب العلم أن يجتهد في اختيار الشيخ الصالح في عقيدته ومنهجه وسلوكه .
قال الزرنوجي – رحمه الله - :)) فينبغي أن يختار الأعلم والأورع والأسن كما اختار أبو حنيفة – رحمه الله – حماد بن سليمان – رحمه الله – بعد التأمل والتفكر،وقال : وجدته شيخاً وقوراً حليماً صبوراً ، وقال : ثبتُّ عند حماد بن سليمان فنبتُّ (( (1) .
وقال محمد بن سيرين – رحمه الله - :)) إن العلم دين ، فانظروا عمن تأخذون دينكم(( (2) .
وقال حماد بن زيد – رحمه الله - :)) دخلنا على أنس بن سيرين في مرضه ، فقال : اتقوا الله يا معشر الشباب،وانظروا عمن تأخذون هذه الأحاديث ، فإنها دينكم (( (3).
وقال الإمام مالك – رحمه الله - :)) إن هذا العلم هو لحمك ودمك ، وعنه تُسأل يوم القيامة، فانظر عمن تأخذه (( (4) .
وقال خالد بن خداش –رحمه الله - :)) لمّا ودعت مالك بن أنس قال لي : اتق الله وانظر ممن تأخذ هذا الشأن (( (5) .
ــــــــــــــــــ
(1) تعليم المتعلم (ص 41) .(1/9)
(2) مقدمة مسلم(1/84) واللفظ له .والرامهرمزي في المحدث الفاصل(ص411). وابن عدي في الكامل (1/156-157) . وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (1/1/15).وابن حبان في المجروحين(1/21) . وابن عبد البر في التمهيد (1/46) . والخطيب في الجامع ( 1/29) ،والكفاية (ص150 ) .
(3)المحدث الفاصل (ص 415) .والكفاية (ص150) .
(4) المحدث الفاصل (ص152 ) .
(5)الكفاية (ص152) ،وانظر: مقدمة الكامل لابن عدي (1/157) . والكفاية للخطيب – أيضاً-(ص191),
12
قال ابن جماعة – رحمه الله -:)) ينبغي للطالب أن يقدم النظر،ويستخير الله فيمن يأخذ العلم عنه ،ويكتسب حسن الأخلاق والآداب منه ،وليكن إن أمكن ممن كملت أهليته ، وتحققت شفقته ، وظهرت مروءته ،وعرفت عفته ، واشتهرت صيانته ، وكان أحسن تعليماً ، وأجود تفهيماً ، ولا يرغب الطالب في زيادة العلم مع نقصٍ في ورعٍ أودينٍ أو علم ، أو عدم خُلُقٍ جميل .
فعن بعض السلف: أن هذا العلم دين ، فانظروا عمن تأخذون دينكم . وليحذر من التقيد بالمشهورين ، وترك الأخذ عن الخاملين ، فقد عدّ الغزالي (1)ذلك من الكبر على العلم ،وجعله عين الحماقة ، لأن الحكمة ضالة المؤمن يلتقطها حيث وجدها،ويغتنمها حيث ظفر بها ،ويتقلد المنة لمن ساقها إليه ، فإنه يهرب من مخافة الجهل،كما يهرب من الأسد،والهارب من الأسد لا يأنف من دلالة من يدله على الخلاص كائناً من كان .
فإذا كان الخامل ممن ترجى بركته كان النفع به أعم،والتحصيل من جهته أتم ،وإذا سبرت أحوال السلف والخلف لم تجد النفع يحصل غالباً ،والفلاح يدرك طالباً، إلا إذا كان للشيخ من التقوى نصيب وافر ،وعلى شفقته ونصحه للطلبة دليلٌ ظاهر .
وليجتهد أن يكون الشيخ ممن له على العلوم الشرعية تمام الإطلاع ، وله مع من يوثق به من مشايخ عصره كثرة بحث وطول اجتماع ، لا ممن أخذ من بطون الأوراق،ولم يُعرف بصحبة المشايخ الحذاق … (( (2) .(1/10)
قال محمد بن سلمة :)) أول ما يذكر من المرء أستاذه ، فإن كان جليلاً جل قدره((.
ولهذا ينبغي أن يسافر في طلب الأستاذ إلى أقصى البلاد الشاسعة ،ولو مسح الأرض كلها بقدمه ،وضرب آباط الإبل في طلبه لكان أحق وأولى من طلب موسى الخضر –عليهما السلام – بمجمع البحرين(( (3) .
ـــــــــــــــــــــ
(1) انظر : الإحياء مع شرحه (1/507) .
(2) تذكرة السامع والمتكلم (ص85-87) .
(3) انظر : الرحلة في طلب الحديث ،للخطيب (ص97-105).ومفتاح السعادة، لطاش كبرى زادة(1/24) .وكشف الظنون ، لحاجي خليفة (/46) .وأبجد العلوم(1/242) لصديق حسن القنوجي .
13
احذر أيها الطالب : أن تتلقى العلم عن المبتدعين ، الذين خالفوا منهج أهل السنة والجماعة في وعقيدتهم ومنهجهم وسلوكهم .
قال الثوري – رحمه الله - :)) من سمع من مبتدع لم ينفعه الله بما سمع ،ومن صافحه فقد نقض الإسلام عروةً عروة (( .
وقال مالك –رحمه الله - :)) لا يؤخذ العلم عن أربعة : سفيه يعلن السفه ،وإن كان أروى الناس ، وصاحب بدعة يدعو إلى هواه ، ومن يكذب في حديث الناس،وإن كان لا يتهم أن يكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ،وصالح عابد فاضل إذا كان لا يعرف ما يحدث (((1) .
وقال الخطيب –رحمه الله -: )) … وإذا كان الراوي من أهل الأهواء ،والمذاهب التي تخالف الحق لم يسمع منه، وإن عُرِف بالطلبِ والحفظ (( (2) .
وأخرج بسنده -رحمه الله – عن المغيرة عن إبراهيم قال :)) كانوا إذا أتوا الرجل ليأخذوا عنه ، نظروا إلى سمته (3) وصلاته ،وإلى حاله ، ثم يأخذون عنه (( (4) .
وساق ابن بطة –رحمه الله – بسنده عن عمرو بن قيس المُلائي قوله : )) إذا رأيت الشاب أول ما ينشأ مع أهل السنة والجماعة ، فارجه ، وإذا رأيته مع أهل البدع ، فايئس منه ، فإن الشاب على أول نشوئه (( .
ــــــــــــــــــــــ
(1) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (1/138-139) . وانظر : سير أعلام النبلاء(8/61) . والآداب الشرعية(1/11)
(3/146 ) .
(2) الجامع(1/136 ) .
(3) السمت : هيئة أهل الصلاح .
(4) الجامع (1/128) .
14
وقال –أيضاً- :)) إنَّ الشاب لينشأ ، فإن آثر أن يُجالس أهل العلم ، كاد أن يسلم ، وإن مال إلى غيرهم ،كاد يعطب (( (1) .
ثم قال هذا الإمام – رحمه الله -:)) فانظروا رحمكم الله من تصحبون ، وإلى من تجالسون ،واعرفوا كل إنسانٍ بخدنه ،وكل أحد بصاحبه، أعاذنا الله وإياكم من صحبة المفتونين ، ولا جعلنا وإياكم من إخوان العابثين ، ولا من أقران الشياطين ، وأستوهب الله لي ولكم عصمة من الضلال،وعافية من قبح الفعال (( .
ولذا إنْ ابتليت يا طالب العلم : بإنسانٍ مفارقٍ لجماعة المسلمين باسم أو رسم ، فقل له
باطمئنان:)) هذا فِراقُ بيني وبينك(( (2) .
ويا أيها الطالب :)) إذا كنت في السعة والإختيار،فلا تأخذ عن مبتدع رافضي،أو خارجي ، أو مرجيء ،أو قدري ، أو قبوري ، … وهكذا ، فإنك لن تبلغ مبلغ الرجال صحيح العقد في الدين ، متين الإتصال بالله ، صحيح النظر ، تقفو الأثر،إلا بهجر المبتدعة وبدعهم .
وكتب السير والإعتصام بالسنة ، حافلة بإجهاز أهل السنة على البدعة، ومنابذة المبتدعة ،والإبتعاد عنهم كما يبتعد السليم عن الأجرب المريض ، ولهم قصص وواقعات يطول شرحها،لكن يطيب لي الإشارة إلى رؤوس المقيدات فيها:
فقد كان السلف – رحمه الله - : يحتسبون الإستخفاف بهم ، وتحقيرهم ، ورفض المبتدع وبدعته ،ويحذرون من مخالطتهم ،ومشاورتهم ،ومؤاكلتهم ،فلا تتوارى نار سني ومبتدع،
ــــــــــــــــــــ
(1) الإبانة (1/205-206و2/482).
(2) انظر :حكم الإنتماء (ص177) للعلامة بكر أبو زيد .
15(1/12)
وكان من السلف من لا يصلي على جنازة مبتدع ،فينصرف...،وكان من السلف من ينهى عن الصلاة خلفهم ،وينهى عن حكاية بدعهم، لأن القلوب ضعيفة ،والشبهة خاطفة،وكان سهل بن عبد الله التستري،لا يرى إباحة الأكل من الميتة للمبتدع عند الإضطرار،لأنه باغٍ،لقول الله تعالى: { فمن اضطر غير باغ } الآية، فهو باغٍ ببدعته (1)
وكانوا يطردونهم من مجالسهم ، كما في قصة الإمام مالك – رحمه الله – مع من سأله عن الإستواء ، وفيه بعد جوابه المشهور:)) أضنك صاحب بدعة، وأمر به فأخرج (( .
وأخبار السلف متكاثرة في النفرة من المبتدعة وهجرهم ، حذراً من شرهم، وتحجيماً لانتشار بدعهم ،وكسراً لنفوسهم حتى تضعف عن نشر البدع ، ولأن في معاشرة السني للمبتدع تزكية له لدى المبتدئ.
والعامي: مشتق من العمى وهو بيد من يقوده غالباً .
ونرى في كتب المصطلح وآداب الطلب ، وأحكام الجرح والتعديل: الأخبار في هذا .
فيا أيها الطالب: كن سلفياً على الجادة ،واحذر المبتدعة أن يفتنوك ، فإنهم يوظفون للإقتناص والمخاتلة سُبلاً،يفتعلون تعبيدها بالكلام المعسول ،وهو:عَسَلٌ مقلوب ،وهطول الدمعة ،وحسن البزة ،والإغراء بالخيالات،والإدهاش بالكرامات ،ولحس الأيدي،وتقبيل الأكتاف.وما وراء ذلك إلا وحم البدعة،ورهج الفتنة يغرسها في فؤادك،ويعتملك في شراكه، فو الله لا يصلح الأعمى لقيادة العميان وإرشادهم ،وأما الأخذ عن علماء السنة،فالعق العسل ولا تسل . وفقك الله لرشدك، لتنهل من ميراث النبوة صافياً ،وإلا فليبك على الدين من كان باكياً .
ـــــــــــــــــ
(1) الفتاوى(28/218) لشيخ الإسلام ابن تيمية،انظرها فهو مهم .
16(1/13)
وما ذكرته لك هو في حال السعة والإختيار،أما إن كنت في دراسة نظامية لا خيار لك ، فاحذر منه ، مع الإستعاذة من شره باليقظة من دسائسه على حدِّ قولهم:)) إجْنِ الثمار ،وألقِ الخشبة في النار(( ،ولا تتخاذل عن الطلب ، فأخشى أن يكون هذا من التولي يوم الزحف، فما عليك إلا أن تتيقن أمره وتتقي شرَّه .
وما سطرته لك هنا هو من قواعد معتقد أهل السنة والجماعة،ومنه ما في العقيدة السلفية،لشيخ الإسلام:أبي إسماعيل عبد الرحمن بن إسماعيل الصابوني المتوفى سنة449
-رحمه الله - :
)) ويبغضون أهل البدع الذين أحدثوا من الدين ما ليس منه،ولا يصحبونهم،ولا يسمعون كلامهم،ولا يجالسونهم ،ولا يجادلونهم في الدين،ولا يناظرونهم،ويرون صون آذانهم عن سماع أباطيلهم التي إذا مرت بالآذان وقرَّت في القلوب ضرّت وجرّت إليها من الوساوس والخطرات الفاسدة ما جرَّت،وفيه أنزل الله عزّ وجل قوله: { وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره } ) الآية:68 من سورة الأنعام( (1) .
قال الإمام الشوكاني –رحمه الله – مفسراً لهذه الآية :)) والمعنى : إذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا بالتكذيب والرد والإستهزاء ،فدعهم ولا تقعد معهم لسماع مثل هذا المنكر العظيم، حتى يخوضوا في حديث مغاير له .
ـــــــــــــــــ
(1) عقيد السلف أصحاب الحديث(100-101).
17
وفي هذه الآية:موعظة عظيمة لمن يتسمح بمجالسة المبتدعة الذين يحرفون كلام الله ،ويتلاعبون بكتابه وسنة رسوله،ويردون ذلك إلى أهوائهم المضلة،وبدعهم الفاسدة ،فإنه إذا لم ينكر عليهم،ويغير ما هم فيه ،فأقل الأحوال أن يترك مجالستهم،وذلك يسير عليه غير عسير. وقد يجعلون حضوره معهم مع تنزهه عما يتلبسون به شبهة يشبهون بها على العامة ، فيكون في حضوره مفسدة زائدة على مجرد سماع المنكر (( (1) .(1/14)
وقال الإمام النووي-رحمه الله- في )) كتاب الأذكار(( :)) باب التبري من أهل البدع والمعاصي ،وذكر حديث أبي موسى –رضي الله عنه - :أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برئ من الصالقة والحالقة ،والشاقة (( متفق عليه .
))وعن ابن عمر – رضي الله عنهما-:براءته من القدرية((رواه مسلم (2).
والأمر في هجر المبتدع:ينبني على مراعاة المصالح وتكثيرها ،ودفع المفاسد وتقليلها،وعلى هذا تتنزل المشروعية من عدمها ، كما حرره شيخ الإسلام ابن تيمية
–رحمه الله – في مواضع من كتبه.
ـــــــــــــــــــ
(1) فتح القدير(2/128).
(2) الأذكار(441) .
18
والمبتدعة إنما يكثرون ويظهرون إذا قل العلم،وفشا الجهل ،وفيهم يقول شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله - :
)) فإن هذا الصنف يكثرون ويظهرون إذا كثرت الجاهلية وأهلها،ولم يكن هناك من أهل العلم بالنبوة والمتابعة لها،من يظهر أنوارها الماحية لظلمة الضلال، ويكشف ما في خلافها من الإفك والشرك والمحال (((1).
فيا أيها الطالب: تبين لك مما سبق أن اختيار الشيخ الناصح سليم العقيدة والمنهج من ضروريات أصالة الطلب،ولأن الشيخ قدوة السالك ،وحادي الطالب،ونجمه المنير المتبع،فكن يا طالب العلم من أهل الأهواء والبدع على حذر،)) فإذا اشتد ساعدك في العلم ،فاقمع المبتدع وبدعته بلسان الحجة والبيان ((. والسلام (2) .
ـــــــــــــــــ
(1) انظر: حلية طالب العلم (29-32) للعلامة الفاضل بكر أبو زيد .
(2) في أمر المبتدع وهجره ، انظر :
الإبانة (2/437الخ ) . وأصول إعتقاد أهل السنة للالكائي (رقم264ورقم1141 إلخ ).والإعتصام
للشاطبي(1/111 إلخ ). والجامع للخطيب(1/27و 224) .ومجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية
(2/132و5/119و14/459-460و28/213و216-218) . و (هجر المبتدع ) للعلامة بكر أبو زيد
وهو مهم في بابه .
19(1/15)
قال الإمام ابن عبد البر – رحمه الله -:)) طلب العلم درجات ومناقل ورتب، لا ينبغي تعديها،ومن تعداها جملة فقد تعدى سبيل السلف – رحمهم الله –ومن تعدى سبيلهم عامداً ضل ، ومن تعداه مجتهداً زل (( (1) .
فيا أيها الطالب : عليك أن تحرص على سلم التعلم الذي اصطلح عليه العلماء ،وأن
)) تحرص على التدرج في سلم العلم، فالعلم لا ينال قفزاً، إذا قفزت من فوق الجدار فزلت قدمك ،وسقط على رأسك في مجال التعلم ،فلا تلومنّ إلا نفسك، لأنك بدلاً من أن تأتي البيوت من أبوابها،أردت أن تقفز من فوق الجدران.
إذا حاولت أن تستغني عن سلم التعلم وعن التدرج فإنك لا تصل إلى الفقه، ولا تفقه أبداً(( (2) .
فلابد من التأصيل والتأسيس لكلِّ فنٍّ تطلبه بضبط أصله،ومختصره على شيخ متقن لا بالتحصيل الذاتي،آخذاً الطلب بالتدرج .
قال الله تعالى: { وقرآناً فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ورتلناه ترتيلا } .
وقال تعالى: { الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته } (3) .
ــــــــــــــــــ
(1) جامع بيان العلم وفضله(2/166) .
(2) برنامج للمتفقهين(ص35) .
(3) انظر: حلية طالب العلم(ص18) .
20
قال علماؤنا الكرام:)) من لم يتقن الأصول حرم الوصل (( (1) .
و)) من رام العلم جملة ذهب عنه جملة (( (2) .
و)) ازدحام العلم في السمع مضلة الفهم (( (3) .
ومراحل الطلب ثلاث:
مرحلة الابتداء .
مرحلة التوسط .
مرحلة التمكن (4) .
فمن واظب على هذه المراحل كان- بإذن الله - من طلبة العلم ،ومن تعداها جملة،فقد تعدى سبيل السلف – رحمهم الله - ومن تعدى سبيلهم عامداً ضل،ومن تعداه مجتهداً زلّ – كما قدمنا عن الإمام ابن عبد البر- رحمه الله - .
فعلى طالب العلم: أن يحرص على التأسيس العلمي الصحيح المتقن،ويحرص على التدرج في سلم التعلم ، مبتدأً –كما أسلفت ذكراً –بالمختصرات،ثم الكتب المتوسطة،ثم بعد ذلك عليه بجرد المطولات مما يوجدُ ملكةَ التمكن في علوم شريعة الإسلام.(1/16)
والله الموفق لا ربّ سواه .
ــــــــــــــــ
(1) تذكرة السامع والمتكلم (ص144) .
(2) علوم الحديث لابن الصلاح(ص127) .
(3) شرح الإحياء(1/334) .
(4) انظر : تعليم المتعلم(ص70) .وشرح الإحياء(1/522) . وترتيب العلوم(ص104و209) . وأدب الطلب للإمام
الشوكاني
21
على الطالب المحافظ على عقيدته من دخن الشبهات والشهوات: أن يجتنب كتب الإبتداعِ في الدين ،وذلك لأنها السم الناقع ، والداء العضال المذهب لدين المرء ودنياه.
وقد حذر منها أئمة الإسلام ، مثل : الإمام أحمد وغيره،ولم يخالف في ذلك أحد .
قال الإمام الذهبي –رحمه الله - :)) قال الحافظ سعيد بن عمرو : شهدت أبا زرعة،وقد -سُئل عن الحارث المحاسبي وكتبه- فقال للسائل :إياك وهذه الكتب، هذه كتب بدع وضلالات ، عليك بالأثر ، فإنك تجد فيه ما يغنيك ، قيل له : في هذه الكتب عبرة ، فقال : من لم يكن له في كتاب الله عبرة فليس له في هذه الكتب عبرة ، بلغكم أن سفيان ومالكاً والأوزاعي صنفوا هذه الكتب في الخطرات والوساوس ، ما أسرع الناس إلى البدع ! .
قال الذهبي : مات الحارث سنة ثلاث وأربعين ومئتين ،وأين مثل الحارث ، فكيف لو رأى أبو زرعة تصانيف المتأخرين كالقوت لأبي طالب ، وأين مثل القوت ! كيف لو رأى بهجة الأسرار لابن جهضم ، وحقائق التفسير للسلمي لطار لبه ،كيف لو رأى تصانيف أبي حامد الطوسي في ذلك على كثرة ما في الإحياء من الموضوعات ، كيف لو رأى الغنية للشيخ عبد القادر، كيف لو رأى فصوص الحكم والفتوحات المكية ! … نسأل الله العفو والمسامحة آمين (((1).
ــــــــــــــــــ
(1) ميزان الإعتدال (1/431) .
22
وقال الإمام ابن القيم –رحمه الله - :)) فصلٌ، وكذلك لا ضمان في تحريق الكتب المضلة وإتلافها .(1/17)
قال المروذي : قالت لأحمد:استعرت كتاباً فيه أشياء رديئة، ترى أن أخرقه أو أحرقه ؟ قال :نعم. وقد رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - بيد عمر كتاباً اكتتبه من التوراة وأعجبه موافقته للقرآن ،فتمعر وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى ذهب به عمر إلى التنور فألقاه فيه .
فكيف لو رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - ما صنف بعده من الكتب التي يعارض بها ما في القرآن والسنة ؟والله المستعان .
وكل هذه الكتب المتضمنة لمخالفة السنة : غير مأذون فيها ، بل مأذون في محقها وإتلافها،وما على الأمة أضر منها.وقد حرق الصحابة جميع المصاحف المخالفة لمصحف عثمان ، لما خافوا على الأمة من الإختلاف .
فكيف لو رأوا هذه الكتب التي أوقعت الخلاف والتفرق بين الأمة ؟…
وقال أبو عبد الله : أهلكهم وضع الكتب،تركوا آثار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأقبلوا على الكلام.
إلى أن قال:والمقصود: أن هذه الكتب المشتملة على الكذب والبدعة يجب إتلافها وإعدامها ،وهي أولى بذلك من إتلاف آلات اللهو والمعازف ،وإتلاف آنية الخمر،فإن ضررها أعظم من ضرر هذه،ولا ضمان فيها ،كما لا ضمان في كسر أواني الخمر وشق زقاقها (((1) .
وقال في الزاد :)) وقوله: فيممت بالصحيفة التنور،فيه المبادرة إلى إتلاف ما يخشى منه الفساد والمضرة في الدين،وأن الحازم لا ينتظر به ولا يؤخره،وهذا كالعصير إذا تخمر،وكالكتاب الذي يخشى منه الضرر والشر،فالحزم المبادرة إلى إتلافه وإعدامه(((2).
ـــــــــــــــــــ
(1) الطرق الحكمية (ص275-277).
(2) وانظر: أبجد العلوم(1/228) .
23
ومن الهجر للمبتدعة عند أهل السنة والجماعة:
هجر كتبه، وعدم مجالسته،والإبتعاد عن مجاورته،وترك توقيره،وترك مكالمته،وترك السلام عليه،وترك التسمية له،وعدم بسط الوجه له،وعدم سماع كلامه،وعدم مشاورته،وهكذا من الصفات التي يتأدى بها الزجر بالهجر (1) .
قوام مكتبة طالب العلم:(1/18)
))عليك بالكتب المنسوجة على طريق الإستدلال،والتفقه في علل الأحكام،والغوص على أسرار المسائل.وأجلها كتب الشيخين:
شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله – وتلميذه ابن قيم الجوزية-رحمه الله-.
وعلى الجادة من قبلُ ومن بعد،كتب:
1-الحافظ ابن عبد البر المتوفى سنة 463 –رحمه الله- وأجل كتبه :)) التمهيد(( .
2-الحافظ ابن قدامة المتوفى سنة 620-رخمه الله- وأرأس كتبه:)) المغني(( .
3-الحافظ الذهبي المتوفى سنة 748 –رحمه الله- .
4-الحافظ ابن كثير المتوفى سنة774 –رحمه الله- .
5-الحافظ ابن رجب المتوفى سنة 795 – رحمه الله- .
6-الحافظ ابن حجر المتوفى سنة 852-رحمه الله - .
7-العلامة الصنعاني المتوفى سنة 1182-رحمه الله – لا سيما كتابه النافع:)) سبل السلام (( .
8-الحافظ الشوكاني المتوفى سنة1250-رحمه الله - .
9-الإمام محمد بن عبد الوهاب المتوفى سنة 1206 –رحمه الله - .
10- العلامة صديق حسن القنوجي المتوفى سنة1307 –رحمه الله- .
11-العلامة محمد الأمين الشنقيطي المتوفى سنة 1393- رحمه الله-لا سيما كتابه:
))أضواء البيان(( (1) .
ــــــــــــــــــــ
(1)انظر: هجر المبتدع(ص17) بكر أبو زيد. ( 2) انظر:حلية طالب العلم (ص55) .
24
ينبغي لك أيها الطالب:)) أن تكون صادق الرغبة،قوي الفهم،ثاقب النظر،عزيز النفس،شهم الطبع عالي الهمة،سامي الغريزة،لا ترضى لنفسك بالدون،ولا تقنع بها دون الغاية،ولا تقعد عن الجد والإجتهاد المبلغين لك إلى أعلى ما يراد،وأرفع ما يستفاد،فإن النفس الأبية،والهمم العلية، لا ترضى بدون الغاية في المطالب الدنيوية من جاه،أو مال، أو صناعة، أو حرفة ،حتى قال قائلهم:
إذا غامرت في شرفٍ مدومِ فلا تقنع بما دون النجوم
فطعم الموت في أمرٍ حقير كطعم الموت في أمر عظيم
وقال آخر مشيراً إلى هذا المعنى :
إذا لم تكن ملكاً مطاعاً فكن عبداً لخالقه مطيعا
وإن لم تملك الدنيا جميعا كما تهواه فاتركها جميعا(1/19)
وقد ورد هذا المعنى كثيراً في النظم والنثر،وهو المطلب الذي تنشط إليه الهمم الشريفة،وتقبله النفوس العلية،وإذا كان هذا شأنهم في الأمور الدنيوية التي هي:سريعة الزوال،قريبة الإضمحلال،فكيف لا يكون ذلك من مطالب المتوجهين إلى ما هو أشرف مطلباً، وأعلى مكسباً ،وأرفع مراداً،مع كون العلم أعلاها وأولاها بكل فضيلة،وأجلها وأكملها في حصول المقصود،وهو الخير الأخروي فإن الله سبحانه قد قرن العلماء في كتابه بنفسه وملائكته ،فقال: { شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم } .
(سورة آل عمران،آية:18) .
ـــــــــــــــ
25
وقصر الخشية له التي هي سبب الفوز لديه عليهم ، فقال : { إنما يخشى الله من عباده العلماء } (سورة فاطر، الآية:24) .
وأخبر عباده بأنه يرفع علماء أمته درجات ، فقال : { يرفع الله الذين ءامنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات } (سورة المجادلة، الآية:11) .
وناهيك بهذه المزية الجلية، والمنقبة النبيلة،فأكرم بنفس تطلب غاية المطالب،في أشرف المكاسب،وأحبب برجل أراد من الفضائل ما لا تدانيه فضيلة،ولا تساميه منقبة،ولا تقاربه مكرمة (( (1) .
قال الإمام ابن القيم – رحمه الله - :)) … السعادة الثالثة ،هي:السعادة الحقيقية،وهي سعادة نفسانية روحية قلبية،وهي سعادة العلم النافع ثمرته ،فإنها هي الباقية على تقلب الأحوال،والمصاحبة للعبد في جميع أسفاره،وفي دوره الثلاثة، أعني دار الدنيا،ودار البرزخ،ودار القرار،وبها يرتقي معارج الفضل،ودرجات الكمال .
أما الأولى : فأنها تصحبه في البقعة التي فيها ماله وجاهه .(1/20)
والثانية : تعرضه للزوال والتبديل بنكس الخلق،والرد إلى الضعف،فلا سعادة في الحقيقة إلا في هذه الحالة : التي كلما طال الأمد ازدادت قوة وعلواً،وإذا عدم المال والجاه فهي مال العبد وجاهه ،وتظهر قوتها وأثرها بعد مفارقة الروح والبدن ،إذا انقطعت السعادتان الأوليان ،وهذه السعادة لا يعرف قدرها ويبعث على طلبها، إلا العلم بها،فعادت السعادة كلها إلى العلم وما يقتضيه،والله يوفق من يشاء،لا مانع لما أعطى،ولا معطي لما منع .
ـــــــــــــــــ
(1) أدب الطلب (98-99) للإمام الشوكاني .
26
وإنما رغب أكثر الخلق عن اكتساب هذه السعادة ، وتحصيلها :وعورة طريقها،ومرارة مباديها،وتعب تحصيلها،وإنها لا تنال إلا على جد من التعب،فإنها لا تحصل إلا بالجد المحض ، بخلاف الأوليين، فإنهما حظ قد يحوزه غير طالبه،وبخت قد يحوزه غير جالبه،من ميراث، أو هبة،أو غير ذلك.
وأما سعادة العلم ،فلا يورث إياها إلا بذل الوسع،وصدق الطلب،وصحة النية،وقد أحسن من قال في ذلك :
فقل لمرجي معالي الأمور بغير اجتهاد رجوت المحالا
وقال الآخر:
لولا المشقة ساد الناس كلهم الجود يفقر والإقدام قتال
ومن طمحت همته إلى الأمور العالية،فوجب عليه أن يشد على محبة الطرق الدينية،وهي : السعادة،وإن كانت في ابتدئها لا تنفك عن ضرب من المشقة والكره والتأذي، وإنها متى أكرهت النفس عليها،وسيقت طائعة وكارهة إليها،وصبرت على لأوائها وشدتها، أفضت منها إلى رياض مونقة،ومقاعد صدق ومقام كريم، تجد لذة دونها لعب الصبي بالعصفور بالنسبة إلى لذات الملوك، فحينئذ حال صاحبها كما قيل:
وكنت أرى أن قد تناهى بي الهوى إلى غاية ما بعدها لي مذهب
فلما تلاقينا وعاينت حسنها تيقنت أني إنما كنت ألعب
فالمكارم منوطة بالمكاره،والسعادة لا يعبر إليها إلا على جسد المشقة ، فلا تقطع مسافتها إلا في سفينة الجد والإجتهاد. قال مسلم في صحيحه: قال يحي بن أبي كثير: لا ينال العلم براحة الجسم.(1/21)
وقد قيل:من طلب الراحة ترك الراحة .
فيا واصل الحبيب أما إليه بغير مشقة أبداً طريق
27
ولولا جهل الأكثرين بحلاوت هذه اللذة ، وعظم قدرها،لتجالدوا عليها بالسيوف،ولكن حفت بحجاب المكاره،وحجبوا عنها بحجاب الجهل،ليختص الله لها من يشاء من عباده ،والله ذو الفضل العظيم (( (1).
فعليك أيها الطالب :)) دوام الحرص على الإزدياد،بملازمة الجد والإجتهاد،والإشتغال والإشغال قراءةً وإقراءً ،ومطالعةً ،وفكراً ،وتعليقاً وحفظاً ،وتصنيفاً وبحثاً (( .
والطالب الحريص على العلم:)) لا يضيع شيئاً من أوقات عمره في غير ما هو بصدده من العلم والعمل،إلا بقدر الضرورة من أكل،أو شرب،أو نوم،أو استراحة لملل،أو أداء حق زوجة ،أو زائر، أو تحصيل قوت وغيره، مما يحتاج إليه،أو لألم أو غيره ،مما يتعذر معه الإشتغال،فإن بقية عمر المؤمن لا قيمة له ،ومن استوى يوماه، فهو مغبون،وكان بعضهم لا يترك الإشتغال لعروض مرض خفيف، أو ألم لطيف،بل كان يستشفي بالعلم،ويشتغل بقدر الإمكان،كما قيل:
إذا مرضنا تداوينا بذكركم ونترك الذكر إخلالاً فننتكس
وذلك لأن درجة العلم درجة وراثة الأنبياء،ولا تُنال المعالي إلا بشق الأنفس،وفي صحيح مسلم عن يحي بن أبي كثير ، قال: لا يستطاع العلم براحة الجسم .
وكما قيل :
لا تحسب المجد تمراً أنت آكاله لا تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا
ـــــــــــــــــ
(1) مفتاح دار السعادة (1/108-109) .
28
وقال الشافعي – رحمه الله – حقّ على طلبة العلم بلوغ غاية جهدهم في الاستكثار من علمه،والصبر على كلّ عارض دون طلبه،وإخلاص النية لله تعالى في إدراك علمه،نصاً،واستنباطاً،والرغبة إلى الله تعالى في العون عليه.
وقال الربيع: لم أر الشافعي –رحمه الله- آكلاً بنهار،ولا نائماً بليل ، لاشتغاله بالتصنيف(( (1) .
وسئل بعض الحكماء :)) ما السبب الذي ينال به العلم ؟ قال : بالحرص عليه يتبع ، وبالحب له يستمع ، وبالفراغ له يجتمع .(1/22)
وقال الرياشي: سمعت الأصمعي،وقيل له : كيف حفظت ونسي أصحابك؟ قال: درست وتركوا .
وقال أحدهم :
لا يدرك العلم إلاّ كل مشتغل بالعلم همته القرطاس والقلم (( (2).
وقال ابن المديني : ))قيل للشعبي : من أين لك هذا العلم كله ؟ قال : بنفي الإعتماد، والسير في البلاد، وصبر كصبر الجماد ، وبكور كبكور الغراب (((3) .
وقال الخطيب : )) بلغني عن بعض الحكماء أنه قال : أيها المتعلم: إنك إن لم تصبر على تعب العلم ، صبرت على شقاء الجهل (( (4) .
ـــــــــــــــــــ
(1) انظر : تذكرة السامع والمتكلم (ص26-29) .والمجموع للإمام النووي(1/56) .والفقيه والمتفقه(2/102) .
(2) جامع بيان العلم(1/102-103) .
(3) تذكرة الحفاظ للذهبي(1/81).وانظر: جامع بيان العلم(1/103).وأدب الإملاء
للسمعاني(ص112). وعيون الأخبار(2/123).والحث على طلب العلم(ص64).
(4) الفقيه والمتفقه (2/103).
29
ومن شعر ابن نباتة السعدي :
أعاذلتي على إتعاب نفسي ورعيي في الدجى روض السهاد
إذا شام الفتى برق المعالي فأهون فائتٍ طيب الرقاد (1) .
وقال آخر :
فكن رجلاً رجله في الثرى وهامة همته في الثريا
وقال آخر :
فقل لمرجي معالي الأمور بغير اجتهاد: رجوت المحالا
وينصح الإمام ابن هشام النحوي:طلبة العلم بالصبر على مشاق العلم والتحصيل،ويحثهم على الهمة العالية في تحصيل العلوم، فيقول :
ومن يصطبر للعلم يظفر بنيله ومن يخطب الحسناء يصبر على البذل
ومن لم يذل النفس في طلب العلا يسيراً يعيش دهراً طويلاً أخا ذُلِّ (2) .
وقال الزرنوجي –رحمه الله -:))ثم لا بد من الجد والمواظبة والملازمة…
وقيل:من طلب شيئاً وجدَّ وَجَد ، ومن قرع الباب ولجَّ ولَج ،وقيل بقدر ما تتعنى تنال ما تتمنى…
وأنشدت :
تمنيت أن تمسي فقيهاً مناظراً بغير عناء فالجنون فنون
وليس اكتساب المال دون مشقة تحملها فالعلم كيف يكون
ــــــــــــــــــ(1/23)
(1) الفقيه والمتفقه(2/104) .والإلماع (ص235-236) والغنية(ص77) كلاهما للقاضي عياض .
(2)بغية الوعاة (2/69) للسيوطي. والبدر الطالع(1/402) للشوكاني .
30
ولا بد لطالب العلم من سهر الليالي ، كما قال الشاعر :
بقدر الكد تكتسب المعالي ومن طلب العلا سهر الليالي
تروم العزّ ثم تنام ليلاً يغوص البحر من طلب اللآلي
علوُّ القدر بالهمم العوالي وعزّ المرء في سهر الليالي
تركت النوم ربي في الليالي لأجل رضاك يامولى الموالي
ومن رام العلا من غير كدٍّ أضاع العمر في طلب المحال
فوفقني إلى تحصيل علم وبلغني إلى أقصى المعالي
قيل: اتخذ الليل جملاً، تدرك به أملاً .
وقيل :من سهر بالليل ،فقد فرَّح قلبه في النهار .
وقال أبو الطيب :
على قدر أهل العزم تأتي العزائم وتأتي على قدر الكرام المكارم
وتعظم في عين الصغير صغيرها وتصغر في عين العظيم العظائم
يا طالب العلم: فاجتهد بالليل والنهار،فإن تحصيل العلم بالجهد والتكرار…
قيل :قال أبو حنيفة-رحمه الله- لأبي يوسف –رحمه الله-: كنت بليداً أخرجتك المواظبة، وإياك والكسل فإنه شؤم وآفة عظيمة .
قال الزرنوجي: و اتفق لي في هذا المعنى :
دعي نفس التكاسل والتواني وإلا فاثبتي في ذا الهوان
فلم أر للكسالى الحظ تحظى سوى ندم وحرمان الأماني (1) .
ــــــــــــــــــــ
(1) تعليم المتعلم (ص58-63 ) .
31
فيا أيها الطالب :علوّ المكارم لا يدرك بالدعة والسكون،ومن أراد البلوغ إلى ذلك العلو بغير جدٍّ واجتهادٍ كان مخدوعاً، كما قيل:
)) العلم عزيز الجانب،لا يُعطيك بعضه حتى تعطيه كلك ،وأنت إذا أعطيته كلك كنت من إعطائه إياك البعض على خطر (((1).
فعليك أيها الطالب :بترك الكسل،والتشمير لنيل المعالي،وإيثار السهر في الليالي .وقد قيل:
))ما اشتار العسل من اختار الكسل((.(1/24)
ومن جملة أسباب الكسل : الإعتماد على الإستقبال،فإن ذلك ربما يخترم الآمال،ويمنع الأشغال.ومن المقرر لدى العامة والخاصة: أن فوات الفرصة مما يورث الغصّة .
قال الشاعر :
إذا هجع النوام أسبلت عبرتي وأنشدت بيتاً فهو من أحسن الشعر
أليس من الخسران أنَّ ليالياً تمر بلا شيء وتحسب من عمر
إذا أنت لم تزرع وأبصرت حاصداً ندمت على التفريط في زمن البذر (1) .
ومن جملة أسباب الكسل -أيضاً- في تحصيل العلوم :)) قلة التأمل في مناقب العلم وفضائله،فينبغي للمتعلم أن يُتعب نفسه على التحصيل،والجد والمواظبة بالتأمل في فضائل العلم ،فإن العلم يبقى ببقاء المعلومات،والمال يفنى،كما قال القائل :
رضينا قسمة الجبار فينا لنا علم وللأعداء مال
وإنَّ المال يفنى عن قريب وإنَّ العلم يبقى لا يزال (2) .
ــــــــــــــــ
(1) انظر : مفتاح السعادة (19-20) لطاش كبرى زاده .
(2) تعليم المتعلم (ص63) .
32
ومما يضعف الهمة في طلب العلم:العلائق الدنيوية ،فالعلائق صارفة وشاغلة للقلوب ،وما جعل الله لرجل من قلبيين في جوفه.ومهما توزعت الفكرة قصر عن إدراك الحقائق وفهم الدقائق،والفكرة المتوزعة كجدول تفرق ماؤه فنشفت الأرض بعضه،واختطف الهواء بعضه، فلا يبقى منه ما يجتمع ويبلغ الزرع (1) .
فعلى الطالب: أن يقلل من هذه العلائق حتى يصل إلى مطلوبه .
قال الإمام ابن القيم –رحمه الله - :
)) الوصول إلى المطلوب موقوف على هجر العوائد،وقطع العلائق. فالعوائد السكون إلى الدعة والراحة،وما ألفه الناس واعتادوه من الرسوم والأوضاع التي جعلوها بمنزلة الشرع المتبع ، بل هي عندهم أعظم من الشرع ، فإنهم ينكرون على من خرج عنها وخالفها ما لا ينكرون على من خالف صريح الشرع ،وربما كفروه أو بدّعوه وضللوه ، أو هجروه وعاقبوه لمخالفة تلك الرسوم.وأماتوا بها السنن،ونصبوها أنداداً للرسول يوالون عليها ويعادون، فالمعروف عندهم ما وافقها ،والمنكر ما خالفها .(1/25)
وهذه الأوضاع والرسوم قد استولت على طوائف بني آدم؛ من الملوك والولاة،والفقهاء والصوفية،والفقراء،والمطوعين ،والعامة، فربى فيها الصغير،ونشأ عليها الكبير،واتُّخِذَتْ سنناً، بل هي أعظم عند أصحابها من السنن،والواقف معها محبوس،والمتقيد بها منقطع ،وعمَّ بها المصاب،وهجر لأجلها السنة والكتاب، من استنصر بها فهو عند الله غير مقبول.وهذه أعظم الحُجُب والموانع بين العبد وبين النفوذ إلى الله ورسوله .
ـــــــــــــــــــ
(1) انظر : أبجد العلوم(1/124).ومفتاح السعادة(1/19) لطاش كبرى زاده. وتذكرة السامع والمتكلم (ص70-71)
33
وأمّا العوائق:فهي أنواع المخالفات ظاهرها وباطنها،فإنها تعوق القلب عن سيره إلى الله ،وتقطع عليه طريقه ،وهي ثلاثة أمور : ))شركٌ ،وبدعةٌ،ومعصيةٌ((فيزول عائق الشرك بتجريد التوحيد ،وعائق البدعة بتحقيق السنة،وعائق المعصية بتصحيح التوبة .
وهذه العوائق لا تتبين للعبد حتى يأخذ في أهبة ،ويتحقق بالسير إلى الله والدار الآخرة،فحينئذ تظهر له هذه العوائق، فيحسُّ بتعويقها له بحسب قوة سيره وتجرده للسفر، وإلا فما دام قاعداً لا يظهر له كوامنها وقواطعها .
وأمّا العلائق: فهي كل ما تعلق به القلب دون الله ورسوله من ملاذِّ الدنيا وشهواتها،ورياستها،وصحبة الناس،والتعلق بهم ،ولا سبيل له إلى قطع هذه الأمور الثلاثة ورفضها إلا بقوة التعلق بالمطلب الأعلى،وإلا فقطعها عليه بدون تعلقه بمطلوبه ممتنع،فإن النفس لا تترك مألوفها ومحبوبها إلا لمحبوب هو أحب إليها منه، وآثر عندها منه، وكلَّما قوي تعلقه بمطلوبه ضعف تعلقه بغيره،وكذا بالعكس،والتعلق بالمطلوب هو شدّة الرغبة فيه،وذلك على قدر معرفته به وعلى قدر شرفه وفضله على ما سواه (((1) .
قلت: فالوصول إلى معرفة شريعة الإسلام،وحط الرحال في جنة الرحمن،موقوف على هجر العوائد،وقطع العلائق ،كما قال هذا الإمام –رحمه الله - .(1/26)
والأمر كما قال-أيضاً-: مبني على قوة التعلق وشدة الرغبة في المطلب الأعلى، فكلما اشتدت رغبة طالب العلم في طلب العلوم الشرعية هانت التضحية،وأصبح المآل كالحال وضوحاً وتحققاً .
ــــــــــــــــــ
(1) الفوائد (274-275) .
34
وأقول:إنَّ الناظر بتأمل واستقراء لحال سلف أئمتنا الأعلام ،وأخبارهم في طلب العلوم الشرعية،والتعب والسهر في ذلك،والرحلة في طلب العلم،وما عانوه من مشقة وفقرٍ وترك الملذات،ليرى العجب العجاب .وكلّ ذلك من أجل تحصيل علومٍ تكون سبباً في رضى الله عنهم ،ودخولهم منازل الكرامة والرضوان ،بجوار ربنا الموفق لكلِّ خيرٍ وهداية (1) .
فيا أيها الطالب:إن طمحت نفسك إلى مراقي هؤلاء الأئمة،فوجب عليك أن تسير على المحجة التي سلكوها، وتخوض الغمرات التي خاضوها،وهي في ابتدائها لا تنفك عن ضروب من المشقة والمعاناة والتأذي،ولكن متى أكرهت النفس عليها،وسيقت طائعة ومكرهة إليها ،وصبرت على لأوائها وشدتها،واستلانت ما استوعره غير أبناء بجدتها،أفضت إلى رياضٍ مُونِقَة،ومقاعد صدق رفيعة متألقة،ومقام كريم،ونعيم موقيم،تجد كلّ لذة كانت بلغتها قبل لذة هذا المقام: مثل لذةّ لعب الصبي بالعصفور،بالنسبة إلى لذَات الملوك وأرباب القصور ،كما قيل :
وكنت أرى أن قد تنهاه بي الهوى إلى غايةٍ ما بعدها لي مذهبُ
فلما تلاقينا وعاينتُ حسنها تيقنت أني كنت ألعبُ (2) .
ــــــــــــــــ
(1) ينظر لمعرفة شيء من أخبارهم في ذلك:كتب التواريخ،والتراجم،والسير (كالإصابة) لابن حجر،و(البداية والنهاية)لابن كثير،و(سير أعلام النبلاء ) للذهبي.وغير ذلك من كتب أئمتنا الكرام .
(2) انظر : مفتاح دار السعادة،لابن القيم (1/108-109).وصفحات من صبر العلماء(ص122) .
35
أيها الطالب:إذا بذلت جهدك في طلب العلم، وتحمل المشاق والمتاعب فلن يخيب الله مسعاك - إن شاء الله -،فعيك بالصبر،حتى تنال ما تتمناه،كما قيل :(1/27)
إني رأيتُ وللأيام تجربة للصبر عاقبة محمودة الأثر
وقلّ من جد في أمرٍ يطالبه واستصحب الصبر إلا فاز بالظفر (1) .
وأقول لك كما قال الإمام يحي بن أبي كثير –رحمه الله- :
))لا يستطاع العلم براحة الجسد (((2).
وختاماً أيها الطالب :
أقول لك :)) قد يكون طلب العلم الذي هو الواجب والمستحب والمتأكد،مذموما في حق بعض الرجال: كمن طلب العلم ليجاري به العلماء،ويماري به السفهاء،ويصرف به الأعين إليه، أو لِيُعظَّم ويُقّدم،وينال من الدنيا المال والجاه والرفعة،فهذا أحد الثلاثة الذين تسجر بهم النار(3) .
ــــــــــــــــ
(1) الشهب اللامعة (201)لابن رضوان المالقي .
(2) رواه عنه مسلم في صحيحه(5/113-مع شرح النووي) .
(3) ورد هذا في حديث أخرجه مسلم(3/1513-1514) من حديث أبي هريرة .
36
فحاسب نفسك،واتق ربك،واستعد لهجوم المنية،واستفق من خمار (1) كَلَبِ شهوتك،وتزود لآخرتك بنبذ حطامٍ يضر جمعه،وتصدق بما فضل عندك منه،فلعلّ ذلك يغسل ما وقعت فيه من الذنوب والآثام ...(((2).
أيها الطالب:
إنَّ الأمة تناديك،فليكن جوابها العمل لما يحييها،والسعي في إصلاح شؤونها .
واعلم أنك لن تحيا حياةً طيبة إلاّ بحياتها،وقوة بأسها، فاحزم وتعلم واعمل،وانشر علمك في مشارق الأرض ومغاربها … (3) .
أيها الطالب :
إنَّ كاتب هذه الأسطر:يودعك وداع محبٍ لك،راغب في نجاحك،ويرجو منك أن تنظر فيما سطره في هذه الكواغد بعين البصيرة والإعتبار ،واعلم أن روح المطالعة :أن تعمل بما تقرأ ،وما ضر هذه الأمة إلاّ ترك العمل بما تعلم ...
والسلام عليك ورحمة الله وبركاته .
ـــــــــــــــــــ
(1) الخمار:بقية السكر .
(2) انظر : مسائل في طلب العلم وأقسامه(ص210-213 ضمن ست رسائل) للذهبي .
(3) انظر: عظة الناشئين (ص168) للشيخ مصطفى الغلاييني .
37(1/28)