الاكوع:ذكرياتي في الحج
حوار: عبدالفتاح الشهاري
- كنت أتخيل مكة شعوباً كما هو مذكور في كتب التاريخ
- هي بهجة للقلب وشعور روحاني يأسر الفؤاد
- قلما يمر موسم للحج لايحدث للحجاج أو لبعضهم مايؤذيهم ويكد صفوهم
حين تراه ترى التاريخ صفحة مفتوحة، وحين تسمعه تسمع صدى الايام الخوالي، بين جنبيه حوى علماً وأدباً، زاده الله وقاراً بشعراته البيضاء، تحلى بحلة القضاء وهوى التاريخ فبرع.
اقتربنا منه كثيراً ليحكى لنا ذكرياته الاولى فكان هذا الحوار....
سؤال:بداية فضيلة القاضي إسماعيل الأكوع نود لو تعلمونا عن أول رحلة حج قمتم بها، في أي عام كانت؟
جواب:بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.. أما بعد ..
فأول رحلة حج قمت بها كانت في العام 1978 وذلك أثناء عودتي من سوريا ومروري بالقاهرة، وقد كان عمري وقتها تقريباً 41 سنة.
سؤال:كم تقدرون المسافة التي كان يقطعها الحاج إلى مكة المكرمة في ذلك الوقت من اليمن؟
جواب:كانت تختلف المراحل التي يقطعها الحاج من منطقة إلى أخرى، ولكنها جميعها تدور في إطار الأربعينيات من المراحل، وقد ذكر بعض المؤرخين السابقين أسماءً لهذه المراحل نذكر منها على سبيل المثال: عند بدء السفر من صنعاء مثلاً فيكون المرور بالحطام، ريدة، دماج، خيران، حرب سفيان، العمشية، همدان، صعدة، ضحيان، باقم، الظهران، الحوض، وادي يؤود، وقشة، درب سلمان، درب العقيره، ذهبان، درب المشاعر، وادي عبد، الشط، النماص، العقبة، تبالة إلى أن يصل إلى مكة المكرمة..
ويأخذ الحجاج في طريقهم إلى الحج عدة طرق؛ ففي الصيف يسلكون طريق الجبال، وفي الشتاء يسلكون طريق تهامة على الساحل، وهكذا.
سؤال:ما أبرز الذكريات العالقة في أذهانكم عن الحج؟(1/1)
جواب:أبرز الذكريات معي في الحج، هو ما كنت أزمع القيام به مع الشيخ الجليل حمد الجاسر رحمه الله، فلقد كان الشيخ حمد الجاسر يسعى لزيارة اليمن بشكل دائم، ولم يكن ذلك من باب السياحة فحسب بل لتثبيت المعالم التاريخية واكتشافها، فقرر أن يقوم برحلة علمية أثرية إلى اليمن تستغرق شهراً وذلك بالسير في طريق الحج والقوافل التي تربط اليمن بمكة المكرمة، فلما علم بنك الرياض بهذه الرغبة تبناها على حسابه فأعد العدة لهذه الرحلة التي سيشارك بها فريق من المهتمين، هذه الرحلة تضم خبيراً للآثار ومصوراً علمياً لتحديد وتسجيل آثار الطريق ومهندس مساحة ومساعد طبيب، وغيرها من لوازم هذه الرحلة بما في ذلك السيارات والخيام، وكان المقرر القيام بها يوم الاثنين 15 ربيع الآخر سنة 1410هـ إلا أن هذا المشروع أجهض قبل يوم أو يومين من الموعد المذكور وذلك لما سبقه من ضجة إعلامية وبصورة مثيرة في بعض صحف المملكة، إذ قالت صحيفة المدينة: (علاّمة الجزيرة حمد الجاسر يعيد اكتشاف طريق الفيل)، وقالت جريدة الرياض: (علاّمة الجزيرة يبدأ يوم الاثنين رحلتهم لاكتشاف طريق الفيل)، (علاّمة الجزيرة يمضي شهراً للدراسة والتنقيب عن طريق الفيل)، مما تسبب عنه ردة فعل قوية من بعض علماء المملكة، وذلك لما رددته هذه الصحف وغيرها من أن الهدف من الرحلة هو اكتشاف طريق الفيل، وأن في هذا المشروع إحياء للعهد الوثني مع أن الهدف الصحيح لها هو اكتشاف طريق الملك أسعد الذي هو أيضاً طريق قوافل التجارة بين اليمن والشام عبر مكة المكرمة، وهي التي سلكها أبرهة الحبشي ثم كان طريق حجاج بيت الله الحرام إلى عصرنا فاتصل الشيخ العلاّمة عبدالعزيز بن باز -رحمه الله- بالأمير نايف وزير الداخلية، وأشار عليه ألا خير للإسلام في هذا العمل في شيء، بل ربما يكون مسيئاً للإسلام فأوعز الأمير نايف إلى الشيخ حمد الجاسر بإلغائه، وكنت قد حزمت متاعي للسفر إلى جدة؛ لأنضم إلى هذا الركب(1/2)
وأرافقه مرحلة مرحلة حتى صنعاء وذلك لاستكمال بحوث كتابي: (دروب الحج ومنازله من صنعاء إلى البلد الحرام) ابتداء مما ورد في صفة جزيرة العرب من ذكر المنازل بالتفصيل، ثم أعقب ذلك بذكر قصيدة أحمد بن عيسى الرداعي التي وصف فيها طريق الحج منذ خروجه من بلدته "رجاع" حتى وصل إلى المسجد الحرام، ومن غيرها من المصادر التاريخية الأخرى التي تعرضت لهذا الموضوع حتى انقطع السير على هذه الدروب في الربع الأخير من القرن الرابع عشر الهجري، وذلك للاستغناء عنها بركوب السيارات والطائرات.
سؤال:كيف كان انطباعكم حول مكة في ذلك الوقت؟
جواب:لقد كانت الأمور ميسرة، ولم يكن موجوداً مثل هذا الزحام كاليوم وكان لا يزال الممر بين الصفا والمروة بين دكاكين والأرض لم تكن موصوفة، ولم تكن الحواجز الحديدية والألمنيومية موجودة، وكان الحرم مازال في بداية البناء، وكان الناس ينامون في جوانب الحرم وأيضاً كانت التكاليف بسيطة، كان جبل أبي قبيس مثلاً خالياً من الناس وكان يخيم فيه المساكين، كما كان حول الكعبة حصباء ورمال ليس كما هو اليوم مفروش بأفضل أنواع الرخام العازل للحرارة، ورغم جود المكرفونات البسيطة إلا أنها أيضاً لم تكن بمستوى النظام اليوم من توزيع دقيق للصوت في كل أنحاء الحرم المكي برغم كثرتها إلا أنك تشعر بتفاوت في حجم الصوت وكأن مصدر الصوت واحد، أيضاً كان الاعتماد على التوقيت في ذلك الوقت بالتوقيت العربي (الغروبي) وليس التوقيت (الزوالي) كما هو اليوم.
سؤال:كيف كنتم تتصورون مكة قبل رؤيتها؟
جواب:كنت أتخيلها شعوباً شعوباً كما هو مذكور في كتب التاريخ، ولكن قامت الحكومة السعودية بمواصلة هذه الشعاب مع بعضها إلى الحرم، وكنت أنتظر أن أرى شعب أبي طالب الذي حوصر فيه النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وشعب جياد، وغيرها، وأنا أدركت بقية من هذه الآثار قديماً.
سؤال:وماذا عن كسوة الكعبة؟
جواب:كانت فيما مضى تحمل الكسوة من مصر.(1/3)
سؤال:ماذا كان شعوركم عند أول نظرة لكم إلى الكعبة المشرفة؟
جواب:هي بهجة للقلب وشعور روحاني يأسر الفؤاد ويشعر الإنسان أنه يظل يتمتع بهذا المنظر أبداً أبداً؛ لأنه فعلاً لا يُمل، لا يُمل، لا يُمل، فسبحان الله.
سؤال:كيف كانت المشاعر المقدسة كمنى ومزدلفة وعرفة في السابق؟
جواب:كانت في منى بساطة شديدة فوق التصور، ولم يكن موجوداً هذا الزحام الشديد الذي نراه اليوم، وكانت هناك بيوتاً قديمة متناثرة حول منى وقرب الجمرات، لم تكن الشوارع مرصوفة، ولم تكن الأنفاق موجودة، ولم تكن الأشجار مزروعة، فرعا الله كل من يسر الطريق وأعان الحاج على أن ينعم في حجه بالطمأنينة والاستقرار.
سؤال:تؤكدون دوماً على الفرق الكبير بين نسبة الحجاج القليلة في السابق، وتزايد الحجيج الآن، ماهو السبب برأيكم؟
جواب:نعم هناك تزايد ملحوظ، وهناك أسباب عديدة، ولكن من أهمها هو عدم توافر وسائل النقل في السابق كاليوم فوجود الطائرات والسفن ذات الاستيعاب الكبير ساهمت وساعدت في تدفق أعداد الحجاج بشكل كبير ومتزايد، لدرجة أننا نسمع ونرى في رمضان أنه يتجاوز المليون معتمر.
سؤال:ماهي الصعوبات والمشاق التي كانت تعترض الحجاج في السابق أثناء ذهابهم إلى الحج؟
جواب:قلّما يمر موسم حج لا يحدث للحجاج أو لبعضهم ما يؤذيهم ويكدر صفوهم، إن لم يكن أثناء الحج فإنه يحدث لهم أثناء طريقهم للسفر إلى بيت الله الحرام، وذلك حينما كانت طرق الحجاج محفوفة بالمخاطر والمهالك، وتتعرض للسرقة والنهب من قطاع الطرق، وقد تجتاح الحجاج أمراض وبائية مهلكة فتحصد أرواح الكثير منهم بالموت السريع، كذلك كثير من الحجاج كان يتعرض للجوع والعطش إذا ضل في الطريق، كما أنهم قد يتعرضون للحر الشديد أو البرد القارس، وغيرها من المهلكات.(1/4)
وفي إحدى السنوات وقع على حجاج اليمن سموم في يلملم أهلكت طائفة كبيرة وقد قدر من هلكوا في ذلك اليوم أكثر من ألف وخمسمائة إنسان، وفي سنة 818هـ عاد حجاج اليمن من (حلي بن يعقوب) بعد أن بلغهم وقوع خلاف بين أشراف مكة وقيام الأتراك بعزل الحسن بن عجلان وتولية بعض أهله. وعاد حجاج اليمن إلى بلدهم، وقد كان الإمام محمد بن إبراهيم الوزير المتوفى سنة 840هـ هو أحدهم فقال الهادي بن إبراهيم الوزير (أخوه) قصيدة يهنئ أخاه بعودته سالماً ليهون عليه فشل الحج، فقال:
إذا فات حج البيت في ذلك المجرى
فقد كتب الله المثوبة والأجرا
فأجاب عليه أخوه بقصيدة مماثلة لها بالوزن والروي قال فيها:
تبارك من أعطى محمداً الإسرى
وأحصره في عام عمرته قسرا
فسرّ بذاك المشركون لجهلهم
وعز على قوم وقد شهدوا بدرا
سؤال:هل لكم أن تعطونا بعض عادات التوديع والاستقبال للحجاج في اليمن؟
جواب:كان يقام في بيت الحاج ما يسمى بالـ (مدرهة) وهي (الأرجوحة) تجتمع النساء مع الأطفال في بيت أهل الحاج، وتقام فيها الأراجيز والأشعار والقصائد الزهدية وأراجيز الوداع تتغناها النسوة فيما بينهن والصبية.
سؤال:متى أديتم آخر فريضة حج لكم؟
جواب:كان في عام 86 أيام أعمال الشغب الإيرانية في مكة.
سؤال:وهل لاحظتم تغيراً في الطقس والمناخ ما بين حجكم الأول والأخير؟
جواب:طبعاً .. سبحان الله هو المناخ يلاحظ في الجزيرة العربية عامة أنه في تغير مستمر.
سؤال:فضيلة القاضي العلامة إسماعيل الأكوع .. هل من كلمة أخيرة تقولونها في هذا المقام؟(1/5)
جواب:الحج فرصة عظيمة للتجمع بين المسلمين من جميع أقطار العالم الإسلامي، تتلاشى بين الأمم الفروق والطوائف والطبقات، والحج من أعظم المناسبات لتبادل الثقافات والكتب ونشرها، فكتاب (الهمداني) مثلاً وصل إلى الأندلس، كيف وصل؟ عن طريق الحج، فيلتقي العلماء مع بعضهم البعض ويتبادلون فيما بينهم الثقافات والإبداعات وفي الحج تؤخذ الإجازات العلمية لطلاب العلم عل أيدي المشايخ والعلماء، فهو تجمع إنساني إسلامي ثقافي تفرد به المسلمون دون غيرهم، والله المستعان، والحمد لله رب العالمين.(1/6)
مواقف وذكريات من أرض الكنانة
الإسلام اليوم - طه عبد الرحمن
البيت الحرام.. تلك البقعة المشرفة.. و المكان الطاهر الذي شرفه الله تعالي وذكره في كتابه الكريم، وجعل سفر المسلمين إليه فريضة من الفرائض.. وركنا أساسيا من أركان الإسلام.. فأخذ المسلمون يأتون إليه من كل فج عميق
وقريبا يقف حجاج بيت الله الحرام على عرفات الله وبمرور الأيام والسنون تظهر الذكريات وخاصة إذا ارتبطت بنفحات إيمانية ولذلك كان لقاء موقع "الإسلام اليوم" مع عدد من العلماء والمفكرين الإسلاميين يرون ويتذكرون مواقف حجهم أمام بيت الله الحرام وذكرياتهم في تلك الأيام المباركة
صعود الجبل
ومن جانبه يحكي المفكر الإسلامي حسين الشافعي أنه في عام 1954وأثناء رئاسته لبعثة الحج المصرية كان يتمنى قبلها أن ينال شرف زيارة بيت الله الحرام والصعود إلى قمة جبل النور حيث غار حراء ويقول "ذهبنا إلى مكة المكرمة بالباخرة وكانت معنا كسوة الكعبة التي كانت تقدمها مصر وكانت هذه الحجة الثانية لي بعد الحجة الأولي عام 1953بعد قيام ثورة يوليو مباشرة وكان فيها محمد نجيب وجمال عبد الناصر وعدد من أعضاء مجلس قيادة الثورة
ويقول: كان الملك فيصل رحمه الله هو المرافق للبعثة بصفته وقتها وليا للعهد وكان يصاحبني في معظم التحركات وكان قائد الجيش يصاحبني عندما كانت الظروف لا تسمح بوجود ولي العهد معنا لمسئولياته ومشاغله
ويضيف وفي ظل هذا الوضع الرسمي والتقييد بالتحركات المقررة أصبح أمر الصعود إلى جبل النور يحتاج إلى فرصة مناسبة وأثناء انتقالي من منى إلى مكة رأيت هذا الجبل عن يميني بشكله المتميز حيث تبدو قمته المدببة كقمع بلون العاج يفرض جاذبيته على شخصي ووجدت الفرصة متاحة لتحقيق رغبتي، فتوجهت لسائق العربة للتوجه نحو جبل النور وما إن وصلت العربة إلى الجبل اندفعت بكل الشوق لصعود الجبل(1/1)
وكانت هناك حراسة في سفح الجبل يبدو أنها تمنع الناس من صعود الجبل حرصا علي سلامة الحجيج من جهة وحتى لا تتداخل مع مناسك الحج ولم تتدخل الحراسة أمام العربة الملكية التي كنت بها ولكني وجدت الصعود شاقا لأن الميل يكاد يكون قائم الزاوية مع الأرض حتى إن جميع من معي تراجعوا عن الصعود إيثارا للسلامة
ولكن مع ذلك – كما يقول – تحاملت علي قدمي ويدي حتى بلغت القمة واستقريت فوقها قدماي، فلما أدرك من كانوا معي أنني وصلت حتى لحقوا بي، وبدأنا نبحث عن الغار فلم نجد له أثرا من هذا المطلع الصعب وأخيرا اهتدينا إلى شق في الجبل وبين فلقتي الجبل ووجدنا ممرا ضيقا اجتزناه
وكان في نهايته غار حراء بفتحته التي تواجه الشرق فتصب الشمس أشعتها في مدخله، وكنا أمام الغار ساعة شروق الشمس وقلت سبحان الله الذي أرسل رسوله بالهدي ودين الحق ليظهره علي الدين كله وكفى بالله شهيدا ووقفت خاشعا أمام هذا المكان تقديرا لصاحب الغار الذي كان يقضي فيه الليالي والأيام متعبدا منقطعا عن الدنيا وما فيها ليكون في وحدته وخلوته مع ربه يتهيأ لهذا اليوم الموعود الذي يلتقي فيه أمين الأرض محمد بن عبد الله صلي الله عليه وسلم مع أمين السماء جبريل عليه السلام
رؤيا في الحج
في البداية يقول فضيلة الدكتور أحمد طه ريان – الأستاذ بجامعة الأزهر – لقد حججت إلى بيت الله الحرام خس مرات منذ 25عاما تقريبا الأولي كانت في عام 1977م ويستعرض فيها شريط ذكرياته والتي يصفها بأنها كانت طيبة حيث كان متزوجا حديثا، وقام هو وزوجته بالحج وفي مزدلفة رأى رؤيا طيبة.. بأنه اشترى مجموعة من الكؤوس الزجاجية وفسرها له البعض بأنه سيرزق عدد كثير من الأبناء والبنات وتحقق له ذلك ورزقه الله تعالي بثمانية من البنين والبنات(1/2)
ويستطرد قائلا أنه في عام 1978 مر بذكرى أليمة عندما كان يتعلم قيادة السيارات رغبة منه في الحج بصحبة زوجته وعدد من أصدقاؤه بالسيارة حيث كان يعمل أستاذا بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
ويقول بعد أن تعلمت القيادة صدر قرار بأن تسليم شهادات رخصة القيادة لن تكون إلا بعد موسم الحج فأصبت أنا وزملائي بحزن بالغ ولكن رضينا بقضاء الله تعالي وذات يوم وأنا نائم وإذا بأحدهم يأتي إلى ويطلب مني أن نستأجر سيارة لنذهب بها إلى الحج وبسرعة شديدة خرجت بملابس النوم وقمت بقيادة السيارة ولم أكن أحمل وقتها رخصة القيادة وفي طريقي بأحد شوارع المدينة المنورة وإذا بمدير المرور يطلق صفارته لإيقافنا وعند استجابتي له ووقوفي قلت له إنني لا أحمل رخصة قيادة فقال لي أن ذلك عقوبته خمسة أيام ونظرا لا رتدائي ملابس البيت وهي الملابس التي لا تليق بملابس العلماء وخاصة من العلماء في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة لم أقل له إنني أستاذ في الجامعة الاسلامسة حرصا علي هيبة ووقار العلماء، وربما لو قلت له ذلك لتغير الحال كثيرا ولكنني فضلت دخول السجن وقضاء الأيام الخمسة بالسجن حرصا علي هيبة العلماء.
ويضيف كان السجن ترفيهيا بكل المقاييس وليس بالشكل الذي نسمع عنه في بعض الدول، وفي العام التالي حجيت في العام 1979، وفي أثناء طواف الإفاضة ومع زحام المطاف الشديد دخل أحد المسئولين الكبار من الدول الإسلامية
وكان حرسه يدفعون إلى الحجيج بقسوة وبشدة بالغة للتوسيع لذلك المسئول وأمام ذلك تدافع الحجيج الذين كان خلفهم زمزم وكدنا يومها نموت بسبب هذا الزحام لولا لطف من الله تعالي
ويشير إلى أنه بعد ذلك الموقف وجهت مناشدة بأن يكون طواف أمثال هؤلاء المسئولين في آخر الليل مثلا أو بعد صلاة العشاء أو بعد صلاة الفجر ليطوف المسئول بشكل مريح وفي الوقت نفسه لا يؤذي غيره من الحجيج(1/3)
وفي العام التالي وأثناء حج د. أحمد طه ريان للمرة الرابعة يتناول ذكرياته في هذه المرة بقوله: كنا في منى وأثناء ذبائح الهدي كان يتم ذبحها ثم إلقائها خلف الخيام التي كنا نقيم فيها، وكان يتنوع هذا الهدي ما بين خراف وعجول وبعد مرور ثلاثة أيام أصبح المكان لا يطاق من الرائحة.. فكان هذا وضع مستهجن من الجميع
ويقول: بعد الحج قمت بكتابة مقالة في مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة بعنوان "ذبائح موسم الحج" مصادرها ومصارفها "وبينت فيها الأسباب التي توحد الهدي وذكرت كيف يمكن لنا أن نستفيد من الذبائح وذلك بشحنها إلى بلاد العالم الإسلامي الفقيرة.. وبالفعل لم يكد يمر عامان إلا ويتم تنفيذ هذه المطالبة.. حيث يجري ذبح الهدي في المجازر الحكومية ثم يتم تجميدها وإرسالها إلى البلاد الفقيرة من دول العالم الإسلامي .
الصلاة في الكعبة
أما الدكتور عبد الصبور شاهين – المفكر الإسلامي المعروف – فيؤكد بداية إن الحج فريضة تجعل المسلم يتعمق في العبادة ويحباها بجميع جوارحه ويقول " أنا شخصيا أعتبر الحج أرقي تجسيد للفضيلة، ففيه أمضي في رحاب سيدنا إبراهيم خليل الرحمن ومنه إلى معاناة الرسول صلي الله عليه وسلم مع قومه، وفي الحج أشعر أنني أسير علي طريق التطبيق العملي والفعلي للإسلام "(1/4)
ويضيف مهما تحدثت وتكلمت عن فوائد الحج ومناسكه فلا يمكن بأي حال من الأحوال أن أنقل الأحاسيس والذكريات التي كنت أتوقف عندها فمناسك الحج كلها عندي لها مواقف إيمانية وكنت أسعد وأنا في الحج إلى أن أكرمني الله ورفع من شأني وجعلني أسير علي طريق الهدى خلف سيد المرسلين وخاتم النبيين، وأيقنت تماما أن الحج ليس طقوسا تؤدي بشكل ميكانيكي وإنما هو جوهر الأيمان وسمو روحي لا يمكن إن تتكرر وعبادته تقام بكل الجوارح وبدون أن يكون للإنسان سلطة علي أعضائه ويتذكر د. شاهين ذكرياته في الحج وهو يسعى بين الصفا والمروة فيقول: أتذكر وأنا أسعى بين الصفا والمروة السيدة هاجر وهي تهرول ذهابا وإيابا باحثة عن الماء لطفلها الوليد فهذا ولا شك أسمى عواطف الأمومة ودائما أتذكرها وأتخيلها وكأني أشاهد بالفعل سيدنا إسماعيل وكأنه أمامي وهو يمتثل لأمر أبيه إبراهيم عليه السلام عندما قال له " إني أري في المنام أني أذبحك فيذعن قائلا: "يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين " فقمة الطاعة لله ولرسوله عليه السلام.
ويواصل ذكرياته قائلا: لقد يسر الله لي في أثناء الحج الدخول إلى الكعبة وصليت فيها من الداخل وهو الموقف الذي لا يمكن أن أنساه ما حييت وكنت أشعر وقتها وكأني روح بلا جسد علي وجه الأرض فهو المكان الذي حفظه الله تعالي منذ عهد آدم وحتى الآن إلى ما شاء الله وكنت أشعر وقتها إن الركعة الواحدة ترفعني معها ملايين الدرجات وأيقنت أني إنسان ضعيف وذليل لا حول لي ولا قوة أبتغي مرضاة الله وعفوه ويجب أن أكون كذلك دائما.
حج الشباب(1/5)
أما الدكتور عصام العريان القيادي الإخواني المعروف فيقول: أول مرة حجبت فيها كان في العام 1975عندما كنت طالبا وكانت لهذه الحجة ذكريات كبيرة فكنا مجموعة من طلبة وأساتذة جامعة القاهرة وشهد هذا العام انفجار في أنابيب الغاز في منى فأحرق جزء كبير من خيام الإيرانيين، ويتذكر هذه المرة قائلا لأننا كنا في عنفوان الشباب قررنا السير من منى إلى عرفة وفي منى نمنا ليلة التروية في المسجد فكنا الوحيدين الذين نمنا في السجد بجوار اليمنيين وكانت ليلة مؤلمة للغاية لأن المسجد لم يكن به نظافة علي الإطلاق.. فكنا عرضة للحشرات ورغم ذلك كانت ذكريات جميلة ورحلة ممتعة
ومن ذكرياته أيضا تلك الحجة التي أداها في أعقاب خروجه من السجن في العام 1982وكانت أول مرة يحج فيها مع زوجته ويصفها بأنها كانت رحلة طيبة.. لصحبتها التي جمعت بجانب الزوجة عدد من الأخوان بعد فارق عنهم دائم عام تقريبا قضاه في السجن
وكانت حجته الأخيرة في إعلام 2000 بعد خروجه أيضا من السجن بعدما قضي فيه 5سنوات ويقول " بعد هذه المدة كنت في غاية الشوق للحرم الملكي والمسجد النبوي فبعد أن خرجت من السجن بشهرين
طلبت من رجال الأمن السماح لي بالحج فقط ووافقوا علي ذلك برغم تخوفهم فكانت رحلة شوق
كما يصف أبو حامد الغزالي الحج إلى بيت الله الحرام ويضيف رحلة الشوق هذه ظهرت في سلوكي ومشاعري ورأيت في هذه المرة مناسك الحج في صورة رائعة نيتجة الجهد المبذول وتهيئة الأماكن المقدسة لراحة الحجيج(1/6)
حسن الشيخ: رحلتي الأولى والتغيرات
اجرى الحوار:عبدالفتاح الشهاري
- كانت الطرق في ذلك الزمن غير معبدة وغير مرصوفة
- ليس من السهل أن تجد نفسك أمام قبلة الأرض.
- كنت ترى الحجاج متناثرين على الطرقات فرادى وجماعات تحت لهيب الشمس.
- تحرر الجمهوريات الإسلامية من الاتحاد السوفيتي كان عاملاً في زيادة نسبة الحجاج.
من سهولها وجبالها وواحاتها الخضراء، من مراتع الصبا وأنس الطفولة، غادر إلى طيبة ومسجدها باحثاً عن الحقيقة، فكانت هناك الانطلاقة الأولى، فتعلم وعلم لكن الحنين وحب الخير والدعوة عاد به إلى وطنه ليحضنه عالماً وداعية ومربياً.
التقيناه فسألناه عن :
سؤال:البطاقة الشخصية
جواب:حسن عبدالله الشيخ /الوكيل العام المساعد لقطاع الإرشاد بوزارة الأوقاف والإرشاد، عضو بعثة الحج اليمنية الرسمية، درست جميع المراحل الدراسية بالمملكة العربية السعودية، تخرجت من الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة (كلية أصول الدين)، نلت درجة الماجستير من الجامعة نفسها،عملت مديراً عاماً للوعظ والإرشاد بوزارة الأوقاف والإرشاد اليمنية، ثم عميداً للمعهد العالي للوعظ والإرشاد .
معد ومقدم برنامج "الدين والحياة" والذي يبث أسبوعياً على القناة الفضائية اليمنية،له حلقات علمية يومية بعد صلاة الفجر، إمام وخطيب جامع الرحمن بصنعاء، ولي العديد من المقالات والدراسات والبحوث والفتاوى .
سؤال:أول رحلة قمتم بها للحج في أي عام كانت؟ وكم هي المدة التي كنتم تمضونها في الطريق ؟
جواب: أول رحلة قمت بها كانت في العام 1391هـ هذا العام اتجهنا فيه من القرية إلى مكة المكرمة في شهر شعبان بهدف طلب العلم ثم أداء الحج، إذ كانت الرغبة أن نتفرغ لطلب العلم؛ حتى ننال حظاً منه.
كانت تستغرق الرحلة من القرية إلى البلد الحرام يومين أو ثلاثة؛ لتضاريس الطريق في تلك الأيام، وكان التنقل من البلاد على ما يقرب من 45 مرحلة.(1/1)
سؤال:في طريقكم إلى الحج لابد أن هناك صعوبات قد واجهتكم، فما أبرز هذه الصعوبات؟ وهل من مواقف لا تزال عالقة في الذاكرة؟
جواب:فأول رحلة من قريتي التي تسمى "المحابشة" بدأناها باتجاه بعض الأسواق المجاورة ومنها إلى أن وصلنا إلى سوق السبت بالمحرق وركبنا (قلاباً) تابع لمشروع الطريق الذي كان يشق يومها، ثم انتقلنا بسيارة أخرى من السيارات القديمة والتي تسمى حينها (الروسية) إلى حرض ويومها لم تكن هناك تأشيرة مسبقة فأعطانا رجل الأمن مروراً إلى جازان. ودخلنا المملكة بداية الأمر على حمار وكنا ثلاثة أشخاص، وكنا نتداول الركوب فوق الحمار بين فترة وأخرى على حسب المراحل المقطوعة، إلى أن وصلنا إلى أقرب سوق في المملكة وهو (صامتة)، أذكر يومها أنه كان لدي عند وصولي إلى جازان 25 ريالاً سعودياً فركبنا إلى جدة بعشرين ريالاً فقط على سيارة تدعى (مرسيدس) من الحجم الكبير ذي الدورين، فكنا أسعد حظاً أن ركبنا أنا ومجموعة معي على (الكنب) وهو الخانة المفتوحة فوق السائق، وقد كانت الطرق في ذلك الزمان غير معبدة وغير مرصوفة، فعند مرورنا من جازان مررنا بطريق أبها، وكان يومها مازال يشق ويعبد، أما طريق الساحل فلم يكن موجوداً أصلاً.
سؤال:هل لكم أن ترسموا لنا صورة لمكة المكرمة في ذلك العهد؟
جواب:كان تصورنا عن مكة أولاً بحسب ما قرأنا في القرآن والسير بأنها ستكون في أرض قاحلة جرداء، فأول شيء شدنا هو وضع مكة في ذلك الوقت ووضع الحرم في وسطها، فلم يكن على تلك الصورة التي كانت في مخيلتنا، أما منظر الكعبة المشرفة فيا له من منظر لا يوصف، فليس من السهل أن تجد نفسك أمام قبلة الأرض جميعها وجهاً لوجه، كان منظراً مؤثراً للغاية، إلا أنني أذكر أن ما لفت انتباهنا كطلاب علم ولأول مرة عندما رأينا النساء والرجال مع بعضهم البعض وسط الحرم المكي، فأذكر بأن هذا المشهد مما أثار استعجابنا في بادئ الأمر.(1/2)
سؤال:الوقوف بعرفة والنفرة منها والمكث بمنى، ما الذي يميز تلك الأيام؟ وهل هناك مشاهد منها لا تزال عالقة في ذهنك ؟
جواب:كانت المشاعر المقدسة في ذلك الوقت غير ما نعرف اليوم فلم يكن موجوداً هذا النظام الذي نلمسه، وهذه الأنفاق المنحوتة من تحت الجبال، لقد كان الحجاج وعددهم البسيط مقارنة باليوم يجعل الأمور تسير على غير تنظيم قويم كما هو اليوم، فكنت ترى الحجاج متناثرين على الطرقات فرادى وجماعات تحت لهيب الشمس وسياطها المحرقة، أما اليوم ولله الحمد فيكفي أن ترى وتشاهد رذاذات الماء المتطاير فوق رؤوس الحجيج وترى الأشجار المزروعة في كل جانب، كل ذلك لترطيب الأجواء والطقس فرعى الله كل من قام بهذه الجهود الجبارة خدمة لحجاج بيت الله الحرام.
سؤال:من الملاحظ أن نسبة الحجاج تزداد سنوياً، حتى بلغت نسباً عالية، فهل تذكر إحصائية تقريبية حول عدد الحجاج في تلك السنة؟
جواب:طبعاً ومما لاشك فيه أن هناك تزايداً في عدد الحجيج من عام لعام، وما ذاك إلا للتزايد الطبيعي لسكان العالم، كما أن هناك عوامل أخرى ساعدت في هذا النمو منها تحرر عدد من الجمهوريات الإسلامية التي كانت تحت سيطرة الاتحاد السوفييتي سابقا،ً والذي لم يكن يسمح بدخول المسلمين لأداء فريضة الحج، إضافة إلى الجمهوريات الأخرى في شرق آسيا وفي وسط أوروبا، وكل هؤلاء -ولله الحمد- زادوا من الإقبال والتدافع لأداء فريضة الحج، ولا ننسى أيضاً وجود الصحوة الإسلامية اليوم بين المسلمين، فكانت الباعث والمحرك للنفوس لأداء هذه الشعيرة وهذا الركن من أركان الإسلام.
سؤال:مَنْ أبرز العلماء والشخصيات الذين قابلتهم في الحج؟(1/3)
جواب:جالسنا العديد من المشايخ وعرفناهم في ذلك العهد أمثال الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله- والشيخ صالح بن عثيمين -رحمه الله- والشيخ سالم عطية -رحمه الله- وغيرهم من المشايخ والشيخ أبو بكر الجزائري -أطال الله عمره- وعرفنا عدد من أئمة الحرمين الشريفين أمثال الشيخ عبد العزيز بن صالح -رحمه الله- والشيخ عبد العزيز الخياط وغيرهم الكثير..
سؤال:مظاهر التوديع أو الاستقبال للحجاج من مدنهم أو من أهل مكة كيف كانت؟ وما أبرز السمات التي يتميز بها الحاج بعد عودته ؟
جواب:تمتاز قرى اليمن بعادات خاصة تميزها في مسألة توديع واستقبال الحجاج، فقبل سفر الحجاج يتم التجمع عندهم من قبل أهل القرية أياماً متتالية حتى موعد السفر يتم الاجتماع عندهم ومحادثتهم حتى يأتي يوم سفرهم فيخرج جميع من في القرية لتوديعهم، وعند رجوعهم يتم خروج أهل القرية ببنادقهم وآلياتهم على امتداد القرية، ويخرج الأطفال بما يسمى بالألعاب النارية والمفرقعات، وبمجرد دخول الحجيج من قرية إلى قرية حتى يتم استقبالهم من أهل تلك القرية المارين من عندها بإطلاق النار من فوهات البنادق، ويقوم الأطفال بإشعال الألعاب النارية والمفرقعات، وهكذا حتى يتم وصول سيارات الحجاج إلى مقر قريتهم الأم، فيذبحون لهم الذبائح ويقيمون الولائم وغيرها من عادات أغلب قرى أهل اليمن.
سؤال:صورة للمرأة وللمعاملة في الحج بين الأمس واليوم؟(1/4)
جواب:بحكم عملي كعضو دائم في بعثة الحج الرسمية اليمنية فما يجب أن يشار إليه هو فتح الجهات الرسمية والقائمة على الحج في المملكة ذراعيها وقلبها لكل ملاحظات تقدم لهم من قبل بعثات الحج الإسلامية والأخذ بها والتشاور الجاد الذي يقومون به معهم في هذا المجال، على سبيل المثال أذكر أنه كان في القدم محاولات لعزل النساء عن الرجال خصوصاً في مكة المكرمة، فطبقت في إحدى السنوات الماضية قضية الفصل بينهم في الطواف، بحيث يكون الرجال داخل المقام والنساء خارج المقام، فلم تعط هذه المسألة النجاح المطلوب، وفي سنة أخرى قامت الجهات المشرفة على الحرم المكي بعدم إدخال الأطفال داخل الحرم مع أهاليهم وأيضاً لم تنجح هذه العملية، ومن ضمن المقترحات التي نوقشت في التجمعات السنوية مع البعثات الإسلامية مسألة إقامة ممرات للداخلين من بوابة الحرم المكي من جهة المسعى، وتكون الممرات هذه كجسور حتى لا تقطع على الساعين وبالفعل نجحت هذه العملية، وغيرها الكثير من الأمور التي تسعى دائماً حكومة المملكة العربية السعودية -حفظها الله- في الجلوس مع البعثات الإسلامية، والتشاور معها إلى كل ما يخدم بيت الله الحرام .
كلمة أخيرة
ختاماً أوجه شكري وتقديري لشبكة الإسلام اليوم والقائمين عليها وفي مقدمتهم فضيلة الشيخ سلمان بن فهد العودة، والذي أكن له في نفسي كل الحب والاحترام والتقدير سائلاً المولى -عز وجل- أن يثيبه على ما يقوم به هو وإخوانه في هذه الشبكة الإسلامية الهادفة، جعلها الله أن تكون في ميزان حسناتهم..(1/5)
من ربوع الغرب إلى بلاد العرب(4/4)
د. عبدالكريم جرمانوس
وبعد أن انتهيت من أداء المناسك أزفت ساعة الرحيل ودعت أصدقائي من سادة العرب وكبار العلماء كالأستاذ "محمد شطا" شيخ قضاة مكة، ورئيس الشرطة، وبعض الأطباء النابهين، ووصلت إلى جدة حيث قضيت أياماً في ضيافة الشيخ محمد علي، وهو رجل علامة يحذق لغات شتى، وقد تجول في أنحاء أوروبا ويعرف الشيء الكثير من عادات الشرق والغرب.
وأقلت الباخرة فوقفت في مدمها واجما ساكناً تتناهبني شتى العواطف، وأنا أودع هذه الأراضي المقدسة التي ربما أراها للمرة الأخيرة، وكلما بعدت بنا الباخرة أغرورقت عيناني بالدموع، فقد خلفت في تلك الديار صداقة جديدة تكاد لعذوبتها تشبه الحب، وذكرى عزيزة هي ثمرة عقيدتي في الإسلام واليوم الآخر. فما أعظم الفرق بين مدنية أصدقائي العرب، وإخواني في الله، الذين تشبع في قلوبهم فكرة الاتصال بالواحد القهار فيصدقون عن الماديات، وبين مدنية المغرورين الذين يتهالكون فرقا وراء قضبان المادة وينقعون غلتهم في شهوة المال!.
|1|2|3|4|(1/1)
من ربوع الغرب إلى بلاد العرب(1/4)
د. عبدالكريم جرمانوس
لثلاثين عاماً خلت وأمنيتي الوحيدة الاشتراك في موكب الحجيج والذهاب إلى مكة، حيث بزغ فجر الإسلام، وانتشرت دعوة النبي الكريم وتعاليمه المقدسة.
وقد انبثق في نفسي هذا الشعور إثر مشاهدتي رسوماً فوتوغرافية نشرت في إحدى الصحف الأوروبية الكبرى عن سياحة قام بها أحد الرحالين وتحدث فيها عن عجائب الشرق حيث تسطع الشمس طول النهار، ويريق القمر أشعته الفضية فوق رمال الصحراء في الليل.
وكان الأثر الذي تركته هذه الرسوم والمناظر الفتانة عميقاً في نفسي، وباعثاً لإقبالي على تعلم اللغة التركية، وعلى زيارة الشرق مهد الديانات الحديثة ومهبط الوحي المقدس.
ولكن الأمور جرت في شيء من البطء، أي أكثر مما تخيلته في البدء، فمشاغل الحياة والواجبات اليومية الملقاة على عاتقي وقفت عقبة في سبيل تحقيق تلك الأحلام الذهبية التي تطوف بذهني وتجذبني نحو الإسلام، وأخيراً دعيت إلى زيارة الهند حيث قضيت بين ربوعها سنوات ثلاثاً لإلقاء محاضرات عن التاريخ في جامعاتها، وهناك اعتنقت الدين الإسلامي في مسجد دلهي العظيم، ومن تلك الساعة أحسست من أعماق روحي بأنني اقترب من الغاية التي أرنوا إليها بحيث يصبح في مكني الطواف بالبقاع الإسلامية المقدسة في مكة، والتعريج على المدينة مقر القبر النبوي الطاهر ومثوى سيد الخلق.
ولكن كيف أذهب إلى الحج وأنا لا أعرف من العربية حرفاً واحداً؟؟
كيف أدرس "أم اللغات" وأنا في أوروبا وبالأخص في بلاد نائية كالمجر، لا يوجد بها من يتكلم بهذه اللغة التي هي في نظري أصعب من تعلم أربع لغات أوربية معاً!؟
وتلك لعمري كانت من أقوى العقبات التي وقفت حائلاً بيني وبين تنفيذ رغبتي أو تحقيق أمنيتي في حينها.(2/1)
على أنه كان لي من قوة الإيمان وثبات اليقين ما دفعني إلى الإقبال على تعلم هذه اللغة مهما بلغت العقبات وقامت الصعاب، فبدأت أولاً أدرس العربية بدون معلم، وبواسطة كتب حصلت عليها من المكتبات الأوروبية، ثم عكفت على قراءة القرآن الكريم بمساعدة المعاجم اللغوية، وحفظت عن ظهر قلب معاني الكلمات المهمة والألفاظ المعقدة، وتابعت السير على هذه الخطة عدة شهور إلى أن أصبحت -بفضل الله ورعايته- ملما بأصولها.
وفي خلال شهور الصيف أخذت أطالع قصص (ألف ليلة وليلة) والمعجم إلى جانبي، وكثيراً ما لاقيت صعاباً كادت تفت في عضدي وتوهن من قواي، كالشعر الجاهلي الذي كان يبدو على الرغم من جماله وموسيقاه معقداً، فكنت من حين لآخر أقذف بالكتاب جانباً، وقد قر في عزمي ألا أعود إليه مرة أخرى ليأسي من التقدم.
وبمرور الزمان انتصرت على جميع الصعاب، ورحت أتفهم العربية في شيء من السهولة واليسر، مع أنني لم أسمع في حياتي صوت متكلم بها؛ ولما أيقنت مقدار ما تبطنه الظروف، وأن هناك بعض النقص في إلمامي بالأدب العربي والشريعة السمحاء عمدت قبل الشروع في زيارة البقاع الإسلامية المقدسة على أن أقيم فترة طويلة من الزمن في مصر، حيث الأزهر الشريف مركز الثقافة الإسلامية ومحط العلماء إلى جانب مثقفي مصر وصحفييها وغيرهم ممن مهدوا السبيل أمامي لاستكمال نواحي دراستي في الأدب العربي، والتعمق في شعاب الدين الحنيف، بحيث أصبح قادراً على صد هجمات كل من تسول له نفسه الافتراء أو التشويه من عظمة الإسلام في أوروبا.
وكانت فكرتي مقترنة دائماً بأن أدرس العربية دراسة جامعية لا دراسة هواية.
وعقب وصولي القاهرة قصدت فوراً للإقامة في الحي الوطني المعروف "بسيدنا الحسين"، لكني لم أوفق للحصول على سكن ملائم.(2/2)
لقد كنت في خلال إقامتي الطويلة بتركيا أقطن في غرفة رحبة مؤثثة بالطنافس الوثيرة والرياش الفخم، وكنت أتناول أفخر المآكل الشرقية وأشهاها؛ فمن مظاهر الحياة الإسلامية فن الطهي، إذ يؤثر عن النبي الكريم أنه كان يحث الناس على العناية بمسائل الطعام وبالذبيح المحلل، ولا تخفى الفائدة من وراء ذلك، فاتباع الطرق الصحية ووسائل النظافة والعناية باللحم مما يزيد من صحة الأجسام وقوتها.
---
* مجلة الرسالة
|1|2|3|4|(2/3)
من ربوع الغرب إلى بلاد العرب(2/4)
د. عبدالكريم جرمانوس
وفي أواخر فبراير زودني الأستاذ النجار بكتب توصية بمناسبة عزمي على أداء فريضة الحج؛ وكان له الفضل الأكبر في تقديمي إلى "بنك مصر"، ذلك الصرح المالي العظيم الذي يتناول من جملة مشروعاته الاقتصادية تنظيم سبل السفر إلى الأقطار الإسلامية المقدسة.
ومما يذكر -مع الأسف العميق- أن أعمال الحج كانت تقوم بها قبل ذلك شركات ملاحة أوروبية لا علم لها بما تتطلبه حاجات الحجاج المسلمين، فكانت بواخرها تحمل المشروبات الروحية، وتقدم إلى الركاب الطعام الأوروبي، ولا تكثرت بأن تهيء لهم الماء الكافي للوضوء، ولا إقامة مصلى يؤدون فيه الفرائض الشرعية.
أما "بنك مصر" فقد نظم للحج باخرتين كبيرتين تعدان من أكبر البواخر، وزودهما بكل ما يحتاج إليه الحجاج من وسائل الراحة والمأكل بحيث يشعر المسافر أنه لم يفارق بلاده، وقد كانت بغيتي أن استقل إحدى هاتين الباخرتين، لأنني عددت نفسي مصرياً بعد أن شربت من ماء النيل، ولكني لم أتمكن –واأسفاه- من نيل بغيتي، فإن قانون شركة ملاحة مصر يمنع من نقل الحجاج الأجانب على هذه البواخر، وعلى الرغم من المجهود الذي قمت به وتوسط الهلباوي بك لم أوفق، واضطررت إلى السفر على إحدى بواخر الشركة الخديوية.
وقامت بنا الباخرة باسم الله مجراها تشق برزخ السويس، فرحت أفكر في تاريخ ذلك المضيق الذي كان سبباً في فصل أفريقياً عن آسياً، بل كان فاصلاً بين حقبتين من أحقاب التاريخ؛ ومع أنه قرَّب مصر من أوروبا فقد جعل لمصر مركزاً سياسياً ممتازاً بحيث أصبحت جزءاً من أوروبا.(3/1)
وبينما أنا غارق في غمار تلك الأفكار إذ اقترب مني فريق من الحجاج وبدأ التعارف بيننا بسرعة، كان بينهم طبيب هندي تصحبه كريمته، ولكن لسوء الحظ لم يكن هذا الطبيب يعرف من اللغة العربية حرفاً واحداً، فاضطررنا أثناء السفر إلى التحدث باللغة الإنجليزية. وفي ذات يوم نظر إلى نسخة من القرآن الكريم في يدي، وهي الطبعة التي تولتها المطبعة الأميرية، فأعجب بها أيما إعجاب، وطلب مني أن أبتاع لحسابه ألف نسخة من هذه الطبعة ليبعث بها إلى الهند إذ لا توجد هناك مصاحف جميلة من هذا النوع.
وكان بالباخرة أيضاً حاج مراكشي، يشغل وظيفة قاض في فاس، وكان صبوح الوجه، وقوراً، أميل إلى التزام الصمت، لكنه ما كاد يسمعني أتحدث العربية مع أحد الحجاج الأتراك حتى أقبل إلينا واشترك في الحديث.
ولشد ما أعجبت بتبحر الرجل في العلوم الإسلامية والفقه، كما أن لباسه الشرقي الفضفاض كان يخلع عليه طابعاً من الرزانة والوقار، أما صاحبنا التركي فكان أحد ضباط الشرطة في دمشق، وبعد اعتزاله الخدمة أثر أن يبقى في سورية حيث تعلم اللغة العربية، وكان طيلة السفر يشكو مر الشكوى من الأنظمة الحديثة في تريكا وبالأخص ترجمة القرآن وتشويه هذه الترجمة، بحيث لا تؤدي المعاني المقصودة، ويظهر سخطه وتبرمه بالغازي الذي يحول دائماً بين المسلمين والأتراك وبين أداء فريضة الحج، ويرهق كل من أراد الحج بالضرائب الفادحة.(3/2)
من ذلك ترى أننا كنا على ظهر الباخرة من بلاد متباينة، ولكن تجمعنا جامعة الإسلام، وتؤلف بين قلوبنا وتجعلنا نعيش كأفراد أسرة واحدة. فلما اقترب موعد العشاء أخذنا أماكننا على المائدة، وكان يخيل إلى كل من يرانا أننا في برج بابل، فكل منا يتكلم بلغة لا يفهمها الآخر، بيد أننا سوف نصل بعد بضعة أيام إلى جدة، وتطأ أقدامنا الأرض المقدسة فنخلع عن أنفسنا تلك الملابس التي تفرق بيننا لنستبدل بها لباس الإحرام الفضفاض، بحيث لا يصبح أي فارق بيننا بل نكون سواسية في حضرة رب البيت الكريم.
وبعد انتهاء طعام العشاء بقليل صفرت الباخرة صفيراً عالياً، فغادرنا المائدة وتهيأنا للوضوء، ثم صلى كل منا ركعتين قرأ فيهما سورة الإخلاص، وقل يا أيها الكافرون.
وكان البحر هادئاً والهواء ندياً والنجوم تتألق في القبة الزرقاء، وراحت الباخرة التي كانت تحمل على ظهرها أكثر من 700 حاج تلقى مراسيها بين هتاف الحجاج ودعواتهم الحارة.
وهكذا ظل الحجاج في هرج ومرج، فكنت أرى البعض يهتف بقوله: لبيك اللهم لبيك، والبعض الآخر مستغرقاً في صلاته، وآخرين صامتين لا يبدون حراكاً، شاخصين بأبصارهم في ذهول نحو الأرض المقدسة التي خرج منها سيد الخلق ورسول رب العالمين.
وما كنت بأقل من هؤلاء الحجاج شعوراً بالغبطة والابتهاج ولزمت مكاني خاشعاً راكعاً لا تقوى قدماي على الحركة، ودقات قلبي تثب في قوة وعنف بينما يردد لساني في خفوت: لبيك اللهم لبيك.
ثم انهمرت الدموع من مآفيّ ولم أملك أن أمنع نفسي من الاسترسال في البكاء.
أجل! أدركت الحق الصحيح ولمست عظمة هذا الدين الحنيف، وعبثاً حاولت النوم في تلك الليلة، لأشرد عقلي، واتجهت بتفكيري إلى أعمال الخلفاء، رضوان الله عليهم، وإلى رعايتهم الأمم الإسلامية، وتوزيع أسباب العدالة عليها طبقاً لأصول الشريعة السمحاء.
|1|2|3|4|(3/3)
من ربوع الغرب إلى بلاد العرب(3/4)
د. عبدالكريم جرمانوس
وكنت لأ أزال منزوياً في مقدم الباخرة، حينما أسفرت أضواء الفجر الشاحبة عن هذه البقاع الإسلامية المقدسة، فإذا بجدة تسمو في السماء اللازوردية، بينما تترامى أمواج البحر على أقدامها، تشقه عشرات البواخر والزوارق في حركة متواصلة، يتصاعد منها صخب داو اختلطت فيه كافة لغات الشرق، فأعادت إلى ذهني المكدود بابل بأسواقها وشعوبها، إلا أن المدينة الخالدة كانت تبدو فوق هذه الحياة اللاغظة، كأنما تسمو خلوداً فوق مظاهر مدنيتنا الحديثة الزائلة، وقد برزت منها مآذن في دقة الحراب وقباب كانت شاحبة البياض قبل أن يدنسها دخان بواخر الغرب فكانت ترسو في ظلها المراكب الشراعية حاملة طوائف المسلمين من الهند وجاوة وسومطرا والصين وشواطئ أفريقيا.
واقترب الصابح فاستعد الركاب للنزول وبدأوا يستقلون الزوارق الخفيفة، وكانت النساء يرتدين تلك الملابس البيضاء، سافرات الوجه، لا يجرؤ أحد أن يتطلع إليهن بنظرة، ومن ذا الذي في قلبه مرض فينظر إليهن في هذه الساعة الرهيبة نظرة اشتهاء؟ وفي الواقع أن الجاذبية الجنسية كانت منعدمة تماماً؟ وقد أبعد الحجاج عن خواطرهم شتى صور الحياة حتى لا يحول شيء بينهم وبين الوصول بقلوبهم إلى نور الله الواحد القهار.
وكان على الشاطئ حشد من الحمالين والمطوفين ومراقبي جوازات السفر، وفريق من موظفي الحكمة لجباية الضرائب، وهم جميعاً يتكلمون لغات شتى،. فما أن يهبط عليهم أحد الحجاج حتى يتلقطه المطوف ويقوده إلى الموظفين المختصين، وبعد إتمام الإجراءات الرسمية يصحبه إلى المسكن المعد لإقامته.(4/1)
وجاء دوري، فلما مثلت أمام مراقب الجوازات تطلع إلي وسألني عن جنسيتي فأجبته: من بلاد المجر، عند ذلك أظهر ارتباكاً، إذ لم يسبق له أن سمع قبل اليوم ببلادنا، وأخيراً أسرّ إلي بأن مسألتي من المسائل التي يبت الأمير فيها بنفسه، وأشار إلى أحد رجال الشرطة وأمره بأن يقودني إلى دار الأمير؛ لأنه هو الذي بيده سلطة التصريح لي بالسفر إلى مكة.
وكانت دار الأمير تبعد عن الميناء مسافة لا تقل عن نصف ساعة سيراً على الأقدام، ولبيت الأمر فسرت مع ذلك الشرطي نتجاذب أطراف الحديث في طريق معبدة ملساء، غير أنه كان من سوء حظي، أن أحد مسامير الخف الذي كنت أنتعله، برز من موضعه ودخل في قدمي فأحدث لي ألماً شديداً ظل أثره أياماً طويلة.
وما إن انتهت مقابلتي للأمير، وقد استغرقت نحو ساعة، عدت إلى الباخرة، ولقد كان أسفي لضياعها عظيماً، وكم عنقت نفسي لوقوعي في مثل هذا الإهمال الذي كانت نتيجته ضياع الأمتعة بما فيها الكتب!
وكدت أقطع الأمل في العثور عليها، ولكن الله سلم، فإن النظام المحكم الذي يقوم به رجال الشركة في الحكومة السعودية أتاح لي أن أعثر عليها بسهولة في إحدى قاعات الجمارك وعليها بطاقة باسمي، وبعد ساعة قادني المطوف إلى دار الأستاذ محمد ناصيف الذي كنت أحمل إليه كتاب توصية، وما كان يتلوه حتى رحب بي على طريقة العرب في شوق وترحاب، وغمرني بكل صنوف الكرم التي لن أنساها؛ وتلك لعمري إحدى مفاخر الإسلام التي تتجلى عظمتها في كل مناحي الحياة.
والأستاذ محمد ناصيف فوق أنه من سراة الحجاز فهو رجل مثقف ثقافة عربية ناضجة، وتضم داره مكتبة زاخرة لا يكاد الإنسان يرى مثيلها في بعض الأقطار الأوروبية أو الآسيوية، وله رفاق يلتفون حوله كأسراب الطيور، ليلتقطوا من حديثه الشهي الحكم البالغة والآيات البينات.
***********(4/2)
تبعد جدة عن مكة بمسافة 79 كيلو متراً، وتشبه مبانيها الاستحكامات العسكرية، ودورها مرتفعة ارتفاعاً شاهقاً، وهي مكونة من جملة أدوار، بينما تتوج جدة قباب المساجد المقدسة، واسمة إياها بذلك الطابع الفريد الذي يميزها دون سائر مدن العالم.
ومن الغريب أن قناصل الدول والوزراء المفوضين يقيمون في جدة دون أن يتخطوها إلى داخل الأراضي المقدسة، ويستحضر رجال الهيئة السياسية طعامهم من الخارج، حتى الماء يجلبونه من مصر؛ لأن مياه جدة أجاجية غير صالحة للشرب.
تستقبل أسواق جدة عادة زبائن من كافة بقاع العالم، ولا يفتأ تجارها يستحضرون أنوعاً من السلع لا تناسب بينها مطلقاً، بل هي خليط من أذواق مختلفة ومشارب متباينة.
وبعد أن قضيت في ضيافة الأستاذ محمد ناصيف بضعة أيام صدرت الأوامر بالسماح لنا بالسفر إلى مكة. والواقع أن الفترة التي قضيتها في دار ذلك الشيخ الجليل دفعنتني إلى الإيمان الشديد بأن الفوارق الجنسية لا أثر لها مطلقاً في الإسلام، بعكس ما نشاهده في الحضارة الأوروبية من الإشادة بالقوميات والعصبيات وغيرها من المشكلات الاجتماعية التي تثيرها روح التعصب الأعمى.
وصادف أن رافقني في السيارة إلى مكة خمسة عشر زنجياً من أهالي الصومال، وكنا في خلال الطريق لا ننقطع عن أن نهتف: لبيك اللهم لبيك! وهنا يجدر بي أن أنوه -للمرة الثانية- بعظمة الإسلام التي تتجلى في عدم التفرقة بين الكبير والصغير والرئيس والمرؤوس، فالكل سواسية؛ وقد شعرت بتلك الحقيقة وأنا بصحبة هؤلاء العبيد الفقراء، وقارنت بين ذلك وبين الفروق الشاسعة في أوروبا المواجهة نحو احتقار العناصر الضعيفة والتفرقية بين الألوان.(4/3)
كانت السيارة تنطلق بنا في طريق ممهد لا يمله النظر في كل جزء من أجزائه، طريق سلكه قبلنا ملوك وعظماء وأنبياء منذ مئات السنين، وكانت السيارة كلما مرت بقافلة من القوافل نظر الأعراب إلى تلك الآلة الجهنمية التي تنبعث منها أصوات منفرة وروائح كريهة، في شيء من الحنق والغيظ.
فقد أصبح النقل اليوم في أكثر طرق الحجاز بالسيارات تمشياً مع مقتضيات الحضارة الحديثة، مع أن البدو كانوا يربحون الشيء الكثير من نقل الحجاج بالإبل، وكانت النقود التي تدفع إليهم تبقى في حوزتهم، أما السيارة فإن ثمنها وأثمان وقودها وطقع تغييرها تتسرب الآن إلى خارج البلاد، فلا عجب إذا نظر إليها البدو في شيء من الخنق، ونقموا على من كانوا سبباً في إدخال تلك "الآلة الجهنمية" إلى الصحراء، وهم يقولون إن الإنسان يجب أن يركب في سبيل الحج أشق الأمور، فلا يخال نفسه ذاهباً إلى سياحة هادئة، ويتذرع بوسائل الراحة والرفاهية مما يلقاه في السيارة، وبمقارنة الأبل بالسيارة نجد أن للأولى قوة احتمال على الجوع والعطش، بعكس السيارة التي تحتاج إلى تجديد الماء كل أربع ساعات، والوقود كلما نفذ، فضلاً عن جهل السائق بميكانيكيتها مما يسبب عطلها في الطريق، وترك الحجاج في العراء إلى أن تقدم سيارة أخرى.
أجل! لقد أزعجت السيارة ذلك الهدوء الشامل في الصحراء وأقضت مضاجع الأعراب، وحولت طمأنينتهم إلى نوع من الثورة على الحضارة الأوروبية وما تقدمه إليهم من كهرباء وطيارات ولاسلكي.
دخلت سيارتنا مكة في منتصف الليل تقريباً فراعني أن أرى الناس في الشوارع، يغطون في نومهم ويحلمون بالجنة التي هم بها موعودون، لا سيما وأنهم أصبحوا على قاب قوسين منها. أهاج هذا المنظر خاطري فانبثق في نفسي شعور خفي وأنا استقبل تلك الأرض المقدسة التي وطئتها قدما الرسول وكانت خير منارة للحق، فهدت الناس إلى السبيل القويم.(4/4)
وقصدت لساعتي إلى دار مطوفي، وهي دار رحبة عالية البنيان، بها غرف في الدور الأسفل أعدت لاستقبال الحجاج الجدد عند وصولهم إلى مكة، وبعد أن رحب بي المطوف سألني عما إذا كنت في حاجة إلى طعام أو شراب فأجبته بالنفي، إذ كنت لا أزال غارقاً في تيار من الأحاسيس الخفية، معللاً النفس بقرب بزوغ النهار للطواف بالكعبة المقدسة.
وما إن غشيت غرفتي واستلقيت على البساط حتى أغمضت عيني واستولى علي النعاس، فتخيلت الرسول الكريم وقد بدا أمامي في شكل نوراني، يكاد يخطف الأبصار، وكأنما هو ينشر كلمة الله فيضيء بها العالم يدعو الخلق إلى كلمة الحق، ورأيت الخلفاء الأربعة يتوسطون حلقات من الناس طبقاً لقواعد الدين الحنيف، ويسودون العالم بالحكمة والمحبة لا بالعنف والشدة، ثم تخيلت هارون الرشيد وهو يجول آناء الليل في شوارع بغداد وبجوس من خلال أزقتها ودروبها، فيكافئ الأتقياء وينزل عقوبته بالمجرمين، وانبسطت أمامي بلاد الأندلس الزاهرة وقد سادها حكم العرب، فنشروا بين ربوعها العلم والحكمة والفلسفة والفلك والفقه، حتى أصبحت هذه العلوم كشجرة مباركة فرعها في السماء، وأظلت بأوراقها اليانعة الخضراء زوار مكة المكرمة والكعبة الشريفة، ولا يظن أحد أن ما شهدته كان من قبيل الرؤيا أو أضغاث أحلام، بل هي أشباح خالدة تطوف بذهن كل مسلم صادق العقيدة متوجه إلى الله بقلب نقي طاهر.(4/5)
وعند انبثاق الفجر نهضنا من النوم على أصوات ملائكية، كأنها هابطة من السماء، تلك هي أصوات المؤذنين يدعون المؤمنين إلى صلاة الفجر التي هي خير من النوم، فقمت مهرولاً، وبعد أن توضأت يممت شطر المسجد الحرام ومعي مطوفي، وكنت أؤدي الصلاة المفروضة طبقاً لإرشاده، ثم بدأت أطوف بالكعبة، فسرني أن رأيت الوفا من الحجاج، من كافة الألوان والأجناس، يقبلون في لهفة على لم الحجر الأسود، وهو رمز تاريخي للإسلام، كان الرسول الكريم يتبرك به ويقبله، وتبعه في ذلك الخلفاء الراشدون، وظلت تلك العادة متبعة للآن، ولقد حاولت مراراً أن أقترب منه فكان يصدني عن بلوغه كثرة الزحام، وبعد مشقة لمست بيدي سطحه الرمادي الأملس، ولكن ما كدت ألمسه حتى رأيت سيدة من أهالي فرجانة تقع على الأرض إثر صدمات عنيفة من الخلف، وكانت تحمل على ظهرها طفلتها المسكينة التي ستصبح حاجة بعد حين، ولقد قدمت هذه المرأة التقية إلى الحج ممتطية صهوة جواد مع بقية أفراد أسرتها، من بلدها في أواسط آسيا فاستغرق سفرهم أربعة أشهر، ولقد أخبرتني هذه الحاجة أنها كانت تدخر لهذه الزيارة المقدسة من سنوات بعيدة، وأخيراً حققت حلمها وكانت مبتهجة أشد الابتهاج.
وقمت بعد ذلك للسعي بين الصفا والمروة، وهناك نالني كثير من المشقة والعناء، فجلست بجوار حلاق أخذ يقص خصله من شعري المبعثر عملاً بالسنة الشريفة، ولبثت في انتظار مطوفي ليأخذني إلى جبل عرفات.
وإن اللقاء على جبل عرفات لهو الغرض الأساس تقريباً للحج، فالحجاج الذين يقدمون إلى جدة متفرقين، يجتمعون كلهم في يوم واحد، ويحشرون في صعيد واحد، وهنا تظهر عظمة الدين الحنيف وحكمته، فقد كان مجموع الحجاج فوق عرفات لا يقل عن خمسين ألفاً، مع أن مكة بمساحتها الشاسعة لا تستطيع أن تأوى مثل هذا العدد الوافر.(4/6)
وجبل عرفات من أجمل جبال العالم، يصل الماء إليه من "عين زبيدة" في أنابيب، وهو عمل عظيم في ذاته، لأنه يخفف من متاعب الحج للحصول على الماء، وهناك تل يطلقون عليه "جبل الرحمة" به مصلى كان النبي عليه الصلاة والسلام يصلي فيه.
ولقد رأيت الحرس يقيم على تلك البقعة ليمنع الحجاج من إقامة الصلاة بالقرب منها، كما أنهم يحرمون على الحجاج السجود أمام العمد الحجرية المسندة إليها.
|1|2|3|4|(4/7)