من حصاد الفكر الدعوي
حقوق الإنسان
فى
شريعة الإسلام
بقلم
الأستاذ الدكتور
محمد المختار محمد المهدي
الرئيس العام للجمعيات الشرعية
وعضو مجمع البحوث الإسلامية
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله .. خلق الإنسان وكرمه ، وجعله خليفة في الأرض وفضله ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي أنقذ الإنسان من براثن الضعة والذلة للطغاة الظالمين ، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين ، ومن سار على دربهم إلى يوم الدين .
أما بعد ..
فإن الدين ضرورة من ضرورات الإنسانية الرشيدة ، لا تغني عنه فكرة عقلية ، ولا تنظيم وضعي ، والإسلام على وجه الخصوص دين تتضافر تشريعاته وتتكامل لتكوِّن الشخصية الإنسانية الفاضلة التي تتمتع بكافة الحقوق وتقوم بما عليها من واجبات ، إنه عقيدة تتسق مع العقل والفطرة ، وشريعة تحقق المصالح والمنافع وتربي الفرد الإيجابي الذي يسهم في إسعاد الإنسان ، وتوجيه الحياة نحو الصراط المستقيم ، إنه سلام للخلق وأمن للعالم ، إنه دين الحق الذي تشهد به الفطر السليمة ، وتطمئن إليه النفوس الطاهرة ، وتطيب به الحياة المستقيمة ، وتؤمن به العقول الراجحة ، '[ : (يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً>174<فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً)(1/1)
فإلى الإسلام في عقيدته وشريعته ، في عباداته ومعاملاته ، في نظمه وأخلاقه ، في حقوق الإنسان كاملة تامة .. فلعل قلوبًا تتفتح للهدى والنور فتستمع إلى دعوة الإسلام الحقة ، إذ لا طريق لخلاص البشرية مما تتخبط فيه من ظلمات سوى الإسلام ، قال تعالى:(وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)(1) .
... ... ... ... الأستاذ الدكتور
الأستاذ بجامعة الأزهر
بين يدي البحث
مضى تسعة وخمسون عامًا على إعلان هيئة الأمم المتحدة حقوق الإنسان ، ويوم أن أعلنت ، استبشر المظلومون والمقهورون بأن يكون هذا الإعلان بداية لنشر العدل والحرية والمساواة ، وقَوِيَ الأمل لدى الشعوب المغلوبة أن تحصل على حريتها واستقلالها ، إذ طالما عللوا أنفسهم وعلقوا أمانيهم على الجهود المرتبقة لتعاون الأقوياء على إنصاف الضعفاء حتى يتحقق للجنس البشري ما يصبو إليه من أمن وسعادة ورخاء وازدهار .
غير أن هذا الميثاق - وقد مرت عليه هذه الأعوام - لم يحقق لهؤلاء المطحونين شيئًا من آمالهم ، وظل حبرًا على ورق بالنسبة للشرق الإسلامي على وجه الخصوص ، بل إنه كان سيفًا مسلطًا على رقابهم لتغيير قيمهم ومبادئهم ، وفرض أنماط الغرب ونظمه على شعوبهم ، بل وساعد الصهاينة على إبتلاع أرضهم وانتهاك حرماتهم ومقدساتهم وسفك دمائهم .
ومن هنا كان على العالم الإسلامي وقد منحه الله تعالى بالإسلام منهجًا كاملاً ، ونظامًا شاملاً ، وتشريعًا متكاملاً تتعاون روافده كلها على تكوين الشخصية الإنسانية المثالية ، وعلى صنع المجتمع الفاضل ، وعلى إقامة معالم الحق والعدالة والحرية والمساواة في فجاج الأرض وبين جنبات الحياة .
__________
(1) سورة الأنعام - الآية 153 .(1/2)
كان عليه بهذه الميزة الفريدة وذلك التراث الخالد أن يبرز هذه الحقوق ، وأن ينقذ كرامة الإنسان ، فهو الذي طبق هذه المبادئ ، وأظهر للتاريخ البشري النماذج العملية العالية ، والقدوة الطيبة الصالحة في شتى ميادين الفضيلة والأخلاق .
وقبل أن نخوض في غمار البحث ، نحب أن نضع بين يدي القارئ الكريم ، حقيقتين هامتين تزيلان كثيرًا من اللبس والغموض ، وتمحوان ما قد يتبدى أمامه من تساؤلات وشكوك .
الحقيقة الأولى : أن الإسلام - وهو الدين الخالد العام الشامل
الذي يقول عنه رب العزة : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ)(1) - يَعتبِر جندَه وأتباعه مسئولين عن مهمة تبليغ نوره إلى جميع أفراد الجنس البشري حتى لا يكون لأحد حجة على الله تعالى عند الحساب ، ولأنه نور وهدى ورحمة .. فمن حق كل إنسان أن يرى هذا النور .. ثم هو بعد ذلك مسئول عن نفسه في اختيار ما يحب ، إما بالسير على هداه أو بإغماض العين عن نوره وسناه ، ولكنه حين يغمض عينه ويتنكب طريقه ليس له أن يصد غيره عن هذا النور ، وليس له أن يضع حاجزًا بينه وبين وصوله إلى الآخرين .. عليه أن يختار لنفسه فقط ، فلكل الناس عقول ، وهم أحرار كما كان حرًّا في النظر إليه واختيار ما راق له حسب تقديره ، دون سلطة خارجة عن أقطار نفسه ، ودوافع طبعه ، فإذا ما وضع عقبة أو وقف حجر عثرة في طريق هذا النور ، مانعًا من وصوله إلى الآخرين ، كان متعديًا على حرياتهم ، وكان متسلطًا ظالمًا يجب تأديبه ، وتقليم أظافره حتى يسلم للمجتمع الإنساني كله حق الحرية والاختيار ، وحتى ينزاح من أمامه كل مسيطر على العقول والأفكار .
__________
(1) سورة آل عمران - جزء من الآية 19 .(1/3)
من هنا انطلق موكب الإسلام يزحف إلى القلوب المتعطشة إلى سَلْسَلِه العذب ، ونميره الصافي ، المتطلعة إلى نوره الممتد وبلسمه الشافي ، بالحكمة والموعظة الحسنة ، والمجادلة بالتي هي أحسن ، ومن هنا كان المجتمع الإنساني مقسمًا - في نظر الإسلام - إلى ما يأتي :
1 - المسلمون :
وهم الذين ارتبطوا بمنهج الإسلام ونظامه وعقيدته ينفذون مبادئه ويحرصون على نشرها في الآفاق .
2 - غير المسلمين : وهم :
أ - إما مسالمون لا يقفون في طريق الدعوة ولا يمالئون خصومها ولا يضطهدون أهلها سواء كانوا معاهدين ، أم ذميين ، أم مستأمنين ، فهؤلاء لهم البر والوفاء والاحترام المتبادل ، ماداموا محافظين على هذا الود ، محترمين لهذا العهد ، ?قال تعالى: (إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)(1) .
__________
(1) سورة الممتحنة - الآية 9 .(1/4)
هذا هو المجتمع الإنساني في العرف الإسلامي .. وقد وجه إليهم جميعًا رب العزة خطابه : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)(1) ، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)(2) ،(فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى>123<وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى)(3) .
هذه النداءات الربانية وأمثالها في القرآن الكريم تخاطب في الإنسان جميع أفراده أن ينضموا إلى رحاب الحق، وإلى الإله الحق ، الذي خلق فسوى ، والذي قدر فهدى .. وهذه النداءات لا لبس فيها ولا غموض ، فهي موجهة إلى الجميع بلا استثناء .
ملحظ هام :
بيد أن هناك نداءات وتوجيهات إلى المسلمين خاصة ..
وسيأتي منها الكثير في الأدلة التي سنسوقها برهانًا على ضمان الإسلام لحقوق الإنسان من أمثال '] : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)(4) .
__________
(1) سورة البقرة - الآية 21 .
(2) سورة النساء - الآية 1 .
(3) سورة طه - جزء من الآية 123 ، والآية 124 .
(4) سورة المائدة - الآية 8 .(1/5)
وقد يساور القارئ شك عندما يقرأ هذه الأدلة فيظن أن الإسلام يخص بها صنفًا معينًا من بني الإنسان ، وهم الذين أسلموا وآمنوا بالله ، ويهمل هذه الحقوق بالنسبة إلى غير المسلم .
ولإزالة مثل هذه الشبهة سقنا هذه الحقيقة التي تبيّن أن لغير المسلم حقًّا متكافئًا مع المسلم من التمتع بالحقوق العامة التي تضمن الأمن والاستقرار له في شتى مناحي الحياة ، وتكفل له العيش الكريم .
وبناء على ذلك يكون واضحًا أن كل ما يرد في هذا البحث من أدلة يتوهم منها أنها خاصة بالنسبة للمسلم .. منسحبة بطريق التبع على المسالمين من غير المسلمين .
الحقيقة الثانية : أن أدلة واستئناسات ستأتي في ثنايا هذا البحث مأخوذة من حوادث عملية طبقها صحابة رسول صلى الله عليه وسلم من الخلفاء الراشدين .. وقد يتبادر إلى ذهن القارئ أن القرآن الكريم والسنة المطهرة فقط هما المنبعان الوحيدان للبراهين .. غير أننا نلفت نظره إلى ذلك الحديث الصحيح الذي يرشدنا إلى الاقتداء بأعمال الخلفاء الراشدين من بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حيث يقول صلى الله عليه وسلم : ( أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ عَبْداً حَبَشِيًّا فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِى فَسَيَرَى اخْتِلاَفاً كَثِيراً فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِى وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ )(1) .
__________
(1) أخرجه أبو داود - كتاب السنة - باب في لزوم السنة - حديث رقم 4607 . =
= وأخرجه الترمذي - كتاب العلم - باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع - حديث رقم 2891 .(1/6)
وبهاتين الحقيقتين نستطيع أن نسير في هذا البحث عن حقوق الإنسان .. على أن ما قرره الإسلام منها فهو الأصل والمصدر ، إذ لا يستطيع أحد أن ينكر تأثر الغرب بثقافة الإسلام عن طريق الأندلس ، ثم عن طريق الصليبيين .. وما لم يقرره الإسلام فهو شعار زائف باطل لا يحتوي معنى للكرامة الإنسانية ، ذلك أن أحدًا من البشر لن يستطيع أن يجد سبيلاً إلى المفاضلة بين قانون وضعي وبين الإسلام ، إذ هو بذلك يضع رسالة السماء في مستوى نتاج العقل الإنساني ، مع ما بينهما من بون شاسع في الإحاطة والدقة والحكمة والمصلحة .. بحكم أن الأول صادر عن العليم الخبير الذي لا تخفى عليه خافية ولا تند عنه شاردة لا في عالم الغيب ولا في عالم الشهادة ، لا في السر ولا في العلانية .. وأن الثاني صادر ممن يتأرجح فكره بين حين وآخر ، ويختلف ما يراه مصلحة في يومه ليصير مفسدة في غده ، وهذا من أدلة النقص في الإدراك البشري .
مكانة الإنسان في القرآن الكريم(1/7)
من بين مخلوقات الله الكثيرة اختص القرآن الكريم هذا الإنسان بقيمة خاصة ، ومكانة ممتازة .. فهو المخلوق الذي تحدث عنه الخالق جل علاه أنه قد خلقه بيديه ونفخ فيه من روحه ، فاستحق بهذه النفخة العلوية ، وذلك السر الإلهي أن يكون أكرم مخلوق ، وأن يأمر الله تعالى ملائكته المطهرين أن يسجدوا له : (إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ>71 <فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) ومنحه من العلم والمعرفة ما تفوق به على الملائكة الكرام :(وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ>31< قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ >32< قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ)(1) .
وبوأه ربه منازل الرضا والتكريم فقال له : (وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ)(2).
وكرمه بالاستعداد الفطري الذي استأهل به الخلافة في الأرض : (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً)(3) .
__________
(1) سورة البقرة - الآيات 31 - 33 .
(2) سورة البقرة - الآية 35 .
(3) سورة الإسراء - الآية 70 .(1/8)
وسخر كل ما في الكون من أرضه وسمائه لخدمته والانتفاع به : (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)(1) ...
ولم يتركه هملاً كما لم يخلقه عبثًا ، فاصطفى منه رسلاً يحملون إليه وحيًا ، يهديه ويسعده في تلك الحياة ، ويعيده بعد الحياة إلى الفردوس والنعيم :
(فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)(2) .
هذه قصة الإنسان كما وردت في القرآن الكريم : مكرم مفضل له منزلته السامية ، ومكانته الفريدة في الجنة وفي الأرض .. في الحياة وبعد الموت ، وسر هذا التفضيل والتكريم ما منح من عقل ، وما وهب من علم وإدراك .. وإزاء هذه المنة الإلهية العظيمة أتى واجب التكليف ، وحوسب المرء على ما يقول ويفعل ، وإذا كنا في مقاييسنا البشرية لا نحاسب إلا من له كيان ، ولا نعتب إلا على من ننظر إليه باهتمام ، فإننا ندرك أن مسألة الحساب على العمل تعد من الله تعالى مزيدًا من التكريم لهذا الإنسان .. لقد حمله مسئولية نفسه لأنه رشيد ، ولأنه عاقل ، ولأنه يزن ما يأتي وما يدع : (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)(3)
الإخاء الإنساني
__________
(1) سورة الجاثية - الآية 13 .
(2) سورة البقرة - جزء من الآية 38 .
(3) سورة فصلت - الآية 46 .(1/9)
لقد وصل الإسلام الإنسانية كلها بأوثق الروابط وأمتن الوشائج والصلات حين ردها إلى أصل واحد هو التراب والماء ، وإلى أب واحد وأم واحدة ، فعقد بينهم سببًا لا تبلى جدته ، ولا تهن قوته مهما امتد في آفاق الأرض ومهما طوف حول هذا الكون .. إن الإسلام يرى أن كثرة أفراد البشرية وشعوبها وقبائلها ينبغي أن تكون مدعاة إلى التعارف والتعاون والوئام ، لا سببًا في التناكر والتعادي والشقاق :(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا)(1) .
لا مجال للتفاخر :
ومادام الأصل واحدًا ، والنسب واحدًا كذلك .. فليس هناك داع للتفاخر والتعالي والتسلط والكبرياء ؛ إذ القيمة الحقيقية للإنسان التي يحق له أن يزهو بها ويعتز هي الأثر الطيب الذي تصنعه يداه ، والعمل الصالح المبني على تقوى الله تعالى .. يقول رب العزة سبحانه : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ )(2) .
ولا مجال للتميز :
وبهذه المساواة في القيمة الإنسانية التي تعتمد على الأصل الواحد والنسب الواحد ، لا يتصور في أحد من بني الإنسان أن يولد متميزًا على غيره في الكرامة والقيمة ، أو فيما ينبغي له من حقوق وكيان .. لقد ولد الجميع في حالة متساوية في كل شيء .. ثم منح الجميع بعد ذلك أدوات الفهم والتعقل والتفكير ، ويسر أمام كل فرد سبيل النبوغ فيه :
(وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(3) .
__________
(1) سورة الحجرات - جزء من الآية 13 .
(2) سورة الحجرات - جزء من الآية 13 .
(3) سورة النحل - الآية 78 .(1/10)
كما ولد كل إنسان على فطرة نقية سليمة ، تشكل ضميره ووازعه الديني ، بحيث يدرك الخير والشر بوضوح وجلاء ، '[ : (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ)(1) ، وقال صلي الله عليه وسلم: " كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ "(2) .
حق الحياة
من الأصول الأساسية التي يتبناها الإسلام ويضع لها من القواعد والتشريعات ما يحفظها ويحوطها بالعناية والرعاية هذا الحق .. فالحياة منحة ربانية أعطيت لنا لنستمتع بها ونعمل على حفظها وصيانتها إلى أن يأتي الأجل المحتوم الذي لا يعلمه إلا من خلق الموت والحياة .
وإذا كان الخلق لم يكن عبثًا ، ولم تكن الحياة سدى ، فليس للإنسان أن ينتحر ويقتل نفسه ، أو يوردها موارد الهلكة ، وإلا استحق اللعنة والغضب من الله تعالى ومن المجتمع ، فليست حياته ملكًا له يتصرف فيها كيف يشاء .. يقول الله تبارك وتعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً)(3) .
__________
(1) سورة البلد - الآية 10 .
(2) أخرجه البخاري - كتاب الجنائز - باب ما قيل في أولاد المشركين - حديث رقم 1385 .
(3) سورة النساء - جزء من الآية 29 .(1/11)
وليس لأحد مهما كانت مكانته وسلطانه أن يغصب الإنسان حق الحياة ، ومن فعل ذلك بغير حق فقد آذن الناس جميعًا بالحرب ، وآذن معهم رب الخلق الذي جعل لنفسه وحده صفة الإحياء والإماتة .. والإنسانية كلها متضامنة في كفّ اليد التي تبسط لقتل أي إنسان ، فإن كل بني آدم إخوة .. حق كل واحد منهم في أن يعيش هو حق الآخر ، فإذا قصرت الإنسانية في ذلك .. دخلت كلها في إثم إقرار الجريمة وعدم استنكارها : (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ)(1) .
ثم إن الإسلام لم يشرع حد القصاص في القتلى إلا حفاظًا على هذا الحق المقدس :
(
__________
(1) سورة المائدة - جزء من الآية 32 .(1/12)
وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)(1) .. ولم ينكر ويسخر القرآن من طوائف العرب الذين كانوا يئدون بناتهم في الجاهلية إلا حفاظًا كذلك على هذا الحق الذي يستوي فيه الرجال والنساء .. انظر إلى هذه الوحشية التي يصورها القرآن الكريم بقوله : (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ>58< يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ)(2) .. ثم انظر إلى تحطيم هذه الأسباب التي يبنون عليها إزهاق تلك الروح: (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً)(3) .
أما الحرب المشروعة في الإسلام فهي مختصة بالدفاع عن النفس ، وعن العقيدة ، والحرية ، واستبعاد الفتنة ، واضطهاد المؤمنين ، وإكراههم على الخروج من دينهم .. والحرب في هذه الحالات ضرورة كضرورة بتر العضو الفاسد حتى لا يؤثر على بقية الأعضاء ، فهي كمبضع الطبيب الذي يضحي بالجزء لإصلاح الكل ، فإذا ما اندفع الخطر وساد الأمن والاستقرار ، وسلم المحاربون ، فإن الإسلام يقبل هذا السلام ويضع أوزار الحرب استجابة لقول الله سبحانه : (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ)(4) .
حق المساواة
__________
(1) سورة البقرة - الآية 179 .
(2) سورة النحل - الآيتان 58 ، 59 .
(3) سورة الإسراء - الآية 31 .
(4) سورة الأنفال - جزء من الآية 61 .(1/13)
انطلاقًا من مبدأ الإخاء الإنساني الذي تحدثنا عنه ، بنى الإسلام علاقة الإنسان بأخيه على مبدأ المساواة المطلقة أمام القانون .. حتى يستقر العدل ويسود الحق ، وتنمحي كل أثارة من ظلم وإجحاف ، فلا تمييز بين فرد وآخر لأي اعتبار سوى التقوى والعمل الصالح ، وحتى هذا الاعتبار لا يعطي لصاحبه حقًا زائدًا على غيره .. ولكنه فقط يفرض التقدير والاحترام له من المجتمع .. أما أن يحابى أو أن يكون عمله وتقواه وسيلة لنيل حق ليس له فهذا ما يرفضه الإسلام .. وإذا كانت بعض الآراء الحديثة قد أغرقت وتغالت في إبراز شعارات التمييز بين الناس ، فجعلت بعض العناصر تفوق الأخرى ، فهذا سامي وذاك آري ، وهذا يجري في عروقه الدم الألماني ، فإن الإسلام يرد الجميع إلى أصل واحد ، إلى عنصر واحد : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ)(1) .
وإذا كانت نعرة الأجناس قد ذاعت وفشت على هيئة قوميات وجنسيات مختلفة ، فإن الإسلام لم يعط جنسًا فضلاً على آخر .
إن الإسلام لم ينزل للعرب فقط .. ولم تقتصر الدعوة إليه على هذا الجنس .. إنه دين عالمي يخاطب نبيه قائلاً: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً)(2) .
نظرة الإسلام إلى الجنس العربي :
غاية ما هنالك أنه أنزل باللغة العربية ، وطبق أولاً في الأرض العربية .. وحملته إلى الناس كثرة من الجنس العربي .. ومع أن هذه الميزات التي نالها العرب لم يُعطوا فضلاً على من سواهم ، بل حملتهم مسئولية التبليغ والدعوة إلى الله تعالى .
__________
(1) سورة النساء - جزء من الآية 1 .
(2) سورة الأعراف - جزء من الآية 158 .(1/14)
قال سبحانه : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلونَ)(1) ، ولقد طبقت تلك المساواة بين العرب والعجم على أساس الكفاءة والديانة والجدارة .. يروى عن " عمر بن الخطاب " (# أنه وقف على بابه " أبو سفيان بن حرب " و" بلال الحبشي " فأذن لبلال قبل أبي سفيان ، ضرورة أن " بلالاً " وهو حبشي كان من السابقين إلى الإسلام أما " أبو سفيان " فقد تأخر إسلامه إلى يوم الفتح المبين .
لا تمييز بسبب اللون :
وليس في الإسلام كذلك تمييز بسبب اللون ، فإنه يعتبر اختلاف اللون في الإنسان كاختلافه في الزهور والرياحين ، ويجعل هذا الاختلاف دليلاً على إبداع القدرة الإلهية : (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعَالِمِينَ)(2) .
والرسول صلي الله عليه وسلم يغضب بشدة حين يسمع تلميحًا بهذا التمييز في مجتمع كان يعد سواد اللون نقصًا وضعة ، ويغمط الأسود حقه ولو كان كفئًا .. ولا أدل على ذلك من هضم حق الشاعر الفارس عنترة بن شداد العبسي .
عَنِ الْمَعْرُورِ قَالَ : لَقِيتُ أَبَا ذَرٍّ بِالرَّبَذَةِ ، وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ ، وَعَلَى غُلاَمِهِ حُلَّةٌ ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ ؟ فَقَالَ : إِنِّى سَابَبْتُ رَجُلاً ، فَعَيَّرْتُهُ بِأُمِّهِ ، فَقَالَ لِىَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم : " يَا أَبَا ذَرٍّ أَعَيَّرْتَهُ بِأُمِّهِ إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ "(3) .
__________
(1) سورة الزخرف - الآية 44 .
(2) سورة الروم - الآية 22 .
(3) أخرجه البخاري - كتاب الإيمان - باب المعاصي من أمر الجاهلية - حديث رقم 30 .(1/15)
وبمثل هذه التوجيهات الحكيمة محيت من نفوس المسلمين هذه التفرقة محوًا قاطعًا ، فقد أرسل " عمرو بن العاص " إلى المقوقس وفدًا وجعل رئيسه " عبادة بن الصامت " وكان أسود اللون ، فغضب المقوقس لسواده ، وبسطة جسمه وطلب أن يتكلم غيره ، فرفض الوفد قائلاً : " إن هذا أفضلنا رأيًا وعلمًا وهو سيدنا وخيرنا " .
لا تمييز بسبب الدين :
ولا تمييز في الإسلام كذلك بالنسبة للمعاملة بسبب الدين أو التقوى والصلاح - كما ألمحنا إلى ذلك فيما سبق - ، إن النفس الإنسانية محترمة مكرمة بدون نظر إلى دينها أو جنسها ، فقد مرت جنازة على النبي صلي الله عليه وسلم فوقف لها ، فَقِيلَ لَهُ إِنَّهَا جَنَازَةُ يَهُودِىٍّ . فَقَالَ النبي صلي الله عليه وسلم: " أَلَيْسَتْ نَفْساً "(1) .
فإذا ما حدثت مقاضاة بين اثنين وكان أحدهما أتقى من الآخر ، أو كان أحدهما مسلمًا وكان الآخر يهوديًا أو مسيحيًا ، فلا اعتبار لشيء من ذلك أمام القضاء .
شكا يهودي " عليًّا " إلى " عمر " في خلافة " عمر " ، فلما مثلا بين يديه خاطب " عمر " اليهودي باسمه وخاطب " عليًّا " بكنيته ، فقال : يا أبا الحسن ، حسب عادته في الخطاب ، فظهر أثر الغضب على وجه " عليّ " ، فقال له " عمر " : أكرهت أن يكون خصمك يهوديًّا ، وأن تمثل معه أمام القضاء وعلى قدم المساواة ؟! فقال " علي " : " ولكنني غضبت لأنك لم تسو بيني وبينه ، بل فضلتني عليه ، إذ خاطبته باسمه بينما خاطبتني بكنيتي " .
هكذا غضب " علي " لهذا التمييز الواهي غير المقصود ، و" علي " ليس مسلمًا فقط وخصمه يهودي .. ولكن من الصفوة الممتازة من صحابة رسول الله صلي الله عليه وسلم.
لا تمييز بين قوي وضعيف :
ولا اعتبار كذلك للوضع الاجتماعي ، فلا تمييز في القضاء بين قوي وضعيف ، أو شريف وسوقة ، أو حاكم ومحكوم .
__________
(1) أخرجه البخاري - كتاب الجنائز - باب من قام لجنازة يهودي - حديث رقم 1312 .(1/16)
شفع " أسامة بن زيد " وكان حِبّ رسول الله صلي الله عليه وسلمفي " فاطمة بنت الأسود " المخزومية عندما وجب عليها حد السرقة إلى رسول الله صلي الله عليه وسلم، فانتهره الرسول صلي الله عليه وسلم قائلاً : " أَتَشْفَعُ فِى حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ " . ثُمَّ قَامَ فَخَطَبَ قَالَ : " يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا ضَلَّ مَنْ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ ، وَإِذَا سَرَقَ الضَّعِيفُ فِيهِمْ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ ، وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعَ مُحَمَّدٌ يَدَهَا "(1) .
وخطب " عمر بن الخطاب " (# فقال : " أيها الناس ، إنه والله ما فيكم أحد أقوى عندي من الضعيف حتى آخذ الحق له ، ولا أضعف عندي من القوي حتى آخذ الحق منه " .
وكتب إلى " أبي موسى الأشعري " في رسالة القضاء : " آس بين الناس في وجهك وعدلك ومجلسك حتى لا يطمع شريف في حيفك ، ولا ييأس ضعيف من عدلك " .
وكتب إلى الخليفة من بعده : " اجعل الناس عندك سواء ، لا تبال على من وجب الحق ، ثم لا تأخذك في الله لومة لائم ، وإياك والأثرة والمحاباة فيما ولاك الله " .
لا تمييز بسبب الرأي :
ولا اعتبار كذلك باختلاف الرأي السياسي في الدولة ، فعلى رئيس الدولة أن ينفذ حكم الله تعالى بالعدل والقسط على الجميع ، لا فرق بين مؤيديه ومخالفيه ، استجابة لقول الله تعالى : (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (2) .
__________
(1) أخرجه البخاري - كتاب الحدود - باب كراهية الشفاعة في الحد إذا رفع إلى السلطان - حديث رقم 6788 .
وأخرجه مسلم - كتاب الحدود - باب قطع السارق الشريف وغيره والنهي عن الشفاعة في الحدود - حديث رقم 4505 .
(2) سورة المائدة - جزء من الآية 8 .(1/17)
وإذا كان الإسلام لا يضع في اعتباره أمام المساواة بين الإنسانية كلها عوامل الدين ولا اللغة ولا الجنس ولا اللون ولا الرأي السياسي ، فهو كذلك لا ينظر إلى الأصل الوطني على أنه ميزة تعطي لصاحبها حقًّا أفضل من الغريب .. فلقد كانت مكة هي الموطن الأصلي لرسول الله صلي الله عليه وسلموللمهاجرين رضى الله عنهم.
ولما ذهبوا إلى المدينة وجدوا فيها بروح الإسلام وطنًا وأهلاً وأنصارًا لم يظفروا بهم في موطنهم مكة ، ذلك أن الإسلام جعل وطن المسلم ليس هو الأرض التي ولد عليها وعاش عليها فقط ، ولكن الوطن الصحيح هو الأرض التي وجد نفسه حرًّا عليها في دينه وعقيدته ويحكمها الإسلام ، أيًّا كانت هذه الأرض ، وأي انحراف عن هذه النظرة نفاق ومرض نفسي .
هذا " عبد الله بن أُبي " يثير فتنة في غزوة " بني المصطلق " أساسها أن الرسول صلي الله عليه وسلموصحبه المهاجرين غرباء عن المدينة ، وأن أهل المدينة هم الذين آووهم ونصروهم ، ولو أن أهل المدينة منعوا عنهم المعونة لانفضوا عن هذا الوطن ، ومغزاها أن الوطني أعز من الغريب ، ولو كان مشتركًا في الدين واللغة ، وفي هذا يقول الله - عز وجل - : (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ>7< يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ)(1) .
لا تمييز بسبب الغنى والفقر :
__________
(1) سورة المنافقون - الآيتان 7 ، 8 .(1/18)
ولا اعتبار في الإسلام كذلك لفوارق الغنى والفقر ، فلا الغنى يعطي صاحبه حقًّا ، ولا الفقر يبخس صاحبه شيئًا من حقه ، ولقد صرح القرآن الكريم بذلك فقال : )إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا)(1) .
بل إنه لا يصح في عرف الإسلام أن يحترم الغني لغناه ، وأن يحتقر الفقير لفقره ، فمقاييس الرجال لا ينبغي أن تكون رهن المظاهر الخادعة .. عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِىِّ أَنَّهُ قَالَ : مَرَّ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم فَقَالَ لِرَجُلٍ عِنْدَهُ جَالِسٍ : " مَا رَأْيُكَ فِى هَذَا ؟ " . فَقَالَ : رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِ النَّاسِ ، هَذَا وَاللَّهِ حَرِىٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ يُنْكَحَ ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ . قَالَ : فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم ثُمَّ مَرَّ رَجُلٌ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم: " مَا رَأْيُكَ فِى هَذَا ؟ " . فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، هَذَا رَجُلٌ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ ، هَذَا حَرِىٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ لاَ يُنْكَحَ ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ لاَ يُشَفَّعَ ، وَإِنْ قَالَ أَنْ لاَ يُسْمَعَ لِقَوْلِهِ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم: " هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الأَرْضِ مِثْلَ هَذَا "(2) .
بعد هذا البيان الواضح لنصوص الإسلام القاطعة ، يتبيّن إلى أي مدى بلغت قيمة المساواة بين أفراد هذا الجنس البشري كله في كنف التشريع الإسلامي .
حق الحرية
الحرية هي الإطار الذهبي الذي يبدو فيه الإنسان وهو يرفرف في أفقه الإنساني الرفيع ، متميزًا به على ما سواه من المخلوقات .
__________
(1) سورة النساء - جزء من الآية 135 .
(2) أخرجه البخاري - كتاب الرقاق - باب فضل الفقر - حديث رقم 6447 .(1/19)
لقد منح عقلاً وتفكيرًا وإرادة ، وفتحت له أبواب الاختيار والتمييز بمقتضى هذا العقل وتلك الإرادة ، لا سلطان عليه ، ولا جبار يقف بالمطرقة بين يديه .. إن الله تعالى قد جعله سيد هذا الوجود ، وجعل الكون كله مسخرًا لخدمته ، وجعل المخلوقات جميعًا تطأطئ رأسها لهامته .
إن هذه الحرية التي وهبها الله تعالى لبني الإنسان منذ أن وطئوا بأقدامهم هذه الأرض شيء نفيس وهبة غالية لا ينبغي التفريط فيها لأي متسلط جبار .. إن معنى العبودية لله وحده أن يخلع الإنسان كل عبودية لما سواه .. وهذا هو أصل العقيدة الإسلامية .. وأن يتخلص الإنسان من كل ذلة أو خضوع لغير الله تعالى .. إن الجبين الذي يسجد لرب العباد ، لا ينبغي له ولا يتأتى منه أن يخفضه لغير الله تعالى .. من هذا المعنى الحي انطلق صوت " عمر بن الخطاب " يستنكر ما فعله ابن " عمرو بن العاص " قائلاً : " متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا ؟! "
ومن هذا المعنى كذلك سخر سيدنا " موسى " %/ من " فرعون " المتسلط على بني إسرائيل قائلاً : (وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائيلَ)(1) .
بل إن هذا المعنى السامي هو الذي يفرض على المسلمين أن يحاربوا المستبدين لإنقاذ المستضعفين :
(وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً)(2) .
__________
(1) سورة الشعراء - الآية 22 .
(2) سورة النساء - الآية 75 .(1/20)
ومن هذا المعنى كذلك يفرض الإسلام الهجرة من موطن الذلة والاستضعاف إلى موطن آخر يحصل فيه على أمَسِّ حق يتصل بالكرامة الإنسانية ، فإذا ما أهمل هذا الذليل المستضعف ولم يهاجر فمأواه جهنم وبئس المصير : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً >97< إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً) (1) .
بل لقد وصلت قداسة الحرية إلى درجة جعلت من أهداف سيدنا " موسى " %/ تخليص الأذلاء من قيود الذل والاستكانة لفرعون : (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ>5<وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ)(2)
مفهوم مغلوط للحرية :
هكذا يحرص الإسلام على الحرية .. ولكن وياللأسف لقد التبس بهذه الكلمة معان ساقطة هابطة لا تتسق مع سموها ومكانتها ، لقد فهمها البعض حديثًا على أنها الفوضى والتهاون بالقيم والفضيلة والأخلاق ، وفهمها البعض الآخر على أنها ممارسة لكل النزوات والشهوات ، وانطلاق من كل القيود والضوابط الإنسانية والاجتماعية ، فلا يهمه في سبيل هذه الحرية الزائفة أن يعتدي على حرية الآخرين ، وعلى حقوق الآخرين .
__________
(1) سورة النساء - الآيتان 97 ، 98 .
(2) سورة القصص - الآيتان 5 ، 6 .(1/21)
إن الحرية لا تعني أن يفعل الإنسان ما يشاء ، ويترك ما يريد ، لكنها تعني ألا يخضع لأحد سوى ربه ، وألا يذل نفسه لمخلوق ، وأن يرعى حرية الآخرين .. بل إن إيمان الإنسان بأنه مكلف هو أول خطوة من حريته ، ذلك أن الحرية معنى اجتماعي لا يتصور وجوده إلا في مجتمع يأخذ الأفراد منه ويعطون .. وإذن لابد لها من قيود في هذا المجتمع حتى لا تتضارب الحريات ، ولا تتصادم الرغبات ، وكل تقييد للحرية لابد أن يكون له مبرر من قواعد الحرية ذاتها ، وإلا كان عدوانًا عليها ، فتقييد حرية المنفلتين الذين لا يراعون حق المجتمع يكون المبرر له هو المحافظة على حرية المجتمع .
إن النفس الإنسانية حينما تسمو وتشف فإنها تستشعر حرية الآخرين ، وتجد في داخل أقطارها من الحياء ما يمنعها من التعدي والجور .. وهذا السمو وتلك الشفافية وذلك الحياء هو ما يهدف إليه الإسلام في تكوين الشخصية المسلمة المتزنة ، وما أروع قوله صلي الله عليه وسلم: " إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلاَمِ النُّبُوَّةِ الأُولَى إِذَا لَمْ تَسْتَحْىِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ "(1) .. أي أنه إذا انطلقت النفس فقد ذهبت الحرية والإنسانية معًا ، وعاد الناس إلى حياة الوحوش في الغابات .
الحرية الشخصية
أول مظهر من مظاهر التمتع بالحرية ، هي الحرية الشخصية ، وهي تتناول حرية الاعتقاد والتدين ، وحرية الرأي والتفكير ، وحرية العمل والتصرف .
أولاً : حرية الاعتقاد والتدين :
بناها الإسلام على عناصر ثلاثة :
الأول : التفكير الحر الذي يرفض التقليد والضغط .
الثاني : منع الإكراه على عقيدة معينة .
الثالث : حماية العمل على مقتضى العقيدة وأداء الشعائر التي تتطلبها العقيدة .
__________
(1) أخرجه البخاري - كتاب الأدب - باب إذا لم تستح فاصنع ما شئت - حديث رقم 6120 .(1/22)
فأما العنصر الأول : فقد نعى الإسلام وسخر ممن يعتمد على التقليد للآباء في العقيدة ، '[ : (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ)(1) .. ودعا الناس إلى التفكير والاستدلال وتعرف الحقائق بعقولهم ، فقال سبحانه : (قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ)(2) ، (أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ)(3) .
وأما العنصر الثاني : فقد حرم الإسلام إكراه الناس على الدخول في الدين ، '[ : (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ)(4) ، وقال : (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)(5) .. وما أبيح القتال في الإسلام - كما تقدم - إلا لحماية الحرية الدينية ولمنع الفتنة والاضطهاد والإكراه ، '[ : (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ)(6) .. ولقد كان المسلمون الأولون حريصين على تنفيذ هذه التوجيهات بدقة متناهية .
__________
(1) سورة المائدة - الآية 104 .
(2) سورة يونس - الآية 104 .
(3) سورة النمل - الآية 60 .
(4) سورة البقرة - جزء من الآية 256 .
(5) سورة يونس - جزء من الآية 99 .
(6) سورة البقرة - الآية 193 .(1/23)
يروى في هذا أن عجوزًا نصرانية قابلت " عمر بن الخطاب " لحاجة لها عنده ، وبعد أن أداها لها دعاها إلى الإسلام ، فأبت فخشي " عمر " أن يكون في كلامه إكراه لها فقال : " اللهم إني لم أُكرهها " .
وأما العنصر الثالث : فقد حمى الإسلام من يكونون في ظل حكمه من غير المسلمين في عباداتهم وشعائرهم .. والقاعدة المعروفة التي نفذت على مدى العصور : " إننا أُمرنا بتركهم وما يدينون " ، ولا أدل على ذلك من معاهدة الرسول صلي الله عليه وسلملليهود في المدينة على حسن الجوار ، وعلى ترك حريتهم الدينية يقيمون شعائرهم كما يحبون .
ولقد عاهد " عمر بن الخطاب " (# أهل بيت المقدس على هذه الحرية ، فكان في نص معاهدته معهم : " هذا ما أعطى عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان ، أعطاهم أمانًا لأنفسهم ولكنائسهم وصلبانهم ، لا يكرهون على دينهم ولا يضار أحد منهم " .
والذي يدعو إلى الدهشة فعلاً أن الإسلام لا يبيح وجود دين آخر معه في بلد واحد فحسب ، بل أنه يبيح وجوده في البيت الواحد ، وعلى مرقد واحد ، فأجاز الزواج من اليهودية والمسيحية ، على أن يصرح لها الزوج المسلم بأداء شعائر دينها كما تشاء .(1/24)
بهذه العناصر الثلاثة شيد الإسلام بناء الحرية الدينية على أساس التسامح والمعاملة العادلة النزيهة التي تحترم حرية الآخرين .. ذلك أنه دين يقف على أرض صلبة متينة ، دلائله واضحة ، وبراهينه قاطعة ، وتعاليمه تساير الفطرة البشرية ، وقرآنه الكريم يخاطب نبيّه بقوله : (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّر>21<ٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ)(1) ، وبقوله : (فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ)(2) ، وبقوله : ( فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ)(3) ، وبقوله : (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ)(4) .
الردة نفاق وبلبلة :
وهنا يثور من البعض تساؤل لابد من الإجابة عليه حتى لا يكون هناك شك أو ريبة تشوه هذا البناء المشيد : لماذا - وفي الإسلام هذه السماحة المنقطعة النظير - تقتلون المرتد عن الإسلام ؟
ونقول : إن الدخول في الإسلام كما ذكرنا مشروط بالبحث والتفكير والنظر والموازنة بينه وبين ما سواه ، فإذا ما دخل أحد هذا الدين بعد هذا النظر المفروض عليه والاقتناع به ، ثم أراد الخروج منه فما هو إلا أحد شخصين :
__________
(1) سورة الغاشية - الآيتان 21 ، 22 .
(2) سورة آل عمران - جزء من الآية 20 .
(3) سورة المائدة - جزء من الآية 92 .
(4) سورة التوبة - الآية 129 .(1/25)
إما متآمر : يدخل في الإسلام ويخرج منه ليحدث بلبلة في المجتمع ، وخلخلة في النظام العام كما كان يحدث من أهل الكتاب في بدء الإسلام ، وحكاه لنا القرآن الكريم في قوله : (وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)(1) ، ولا أظن أن مثل هذا العبث يقبله أي نظام يريد لأتباعه الهدوء والاستقرار .. إنه في الحقيقة تعد على الآخرين وإثارة للفتنة والشغب والاضطراب في المجتمع ، وعمل على قلب النظام العام الذي ارتضاه الشعب دينًا وعقيدة .
وإما أنه شخص نفعي مذبذب : لا يستقر على رأي وعقيدة ، إذ ما الذي دعاه إلى ترك دينه الأول ؟ وما الذي دعاه إلى الدخول في الإسلام ؟ ثم ما الذي دعاه إلى الخروج منه علنًا وأمام الناس ؟ إنه من البدهي المعلوم للجميع أن النظام الإسلامي لا يتدخل في نوايا الناس ولا في بواطنهم .. إن له الظاهر ، والله تعالى يتولى السرائر .. فإذا ما زاغت عقيدة مسلم ما ولم تظهر منه بوادر الكفر والزندقة في المجتمع فلن يتعرض لمكروه ، أي أنه لو اقتصر كفره وضلاله على نفسه .. فجزاؤه عند الله تعالى على هذا الضلال وليس للدولة الإسلامية عليه من سلطان .. أما إذا دعا إلى الكفر وطعن في دين الأمة ، فإنه يعتبر متعديًّا على الآخرين ، ومشجعًا على الفساد والكفر ، ومحرضًا على نبذ الإيمان وإطفاء نور الله تعالى .
الجزية :
وهناك تساؤل آخر يمليه الجهل بطبيعة الإسلام .. ولابد من تبديد شبهاته .. لماذا إذن يفرض الإسلام على غير المسلمين جزية في أموالهم ؟ أليس في هذا إذلال لهم وأخذ لأموالهم مقابل عدم إسلامهم ؟
__________
(1) سورة آل عمران - الآية 72 .(1/26)
ولبيان الحقيقة لابد أن يعرف الجميع أن الإسلام لا يفرض على المخالفين لعقيدته أن ينضموا إلى جيش المسلمين ، لأنه ليس لديهم الوازع الديني الذي يجعلهم حريصين على نصر هذا الدين أو تعزيز بناء دولته ، كما أن إجبارهم على ذلك مناف لطبيعة الأشياء ، إذ كيف يطلب من إنسان أن يدافع عن عقيدة غيره ؟ مع هذا لهم حق الأمان من المسلمين ، أي أن المسلمين مفروض عليهم حمايتهم من أي عدوان داخلي أو خارجي .. فهل من العدالة والإنصاف أن يكون كل الغرم على المسلمين ، وكل الغنم لغيرهم على حين أنهم يعيشون في بلد المسلمين ؟
إن الذين حسبوا الجزية بدلاً عن الإسلام واهمون ، إنها بدل من الحفظ والحماية والأمان ، وإسهام في إنشاء وصيانة المرافق العامة .. كما أنها دليل على أنهم لا يضمرون كيدًا ولا سوءًا بالمسلمين ، فهي علامة لخضوعهم للنظام .. فإن لم يدفعوها ويسهموا بها في تكاليف الأمن ، فهم غير متعاونين ، ولا يحق لهم أن يدخلوا في ذمة المسلمين ورعايتهم .. وهذه نتيجة منطقية لا يشوبها أدنى ظلم ولا إجحاف .
ثانيًا : حرية الرأي والتفكير :
إن الرأي منتهى ما يستقر في الذهن بعد البحث والتفكير ، ومن حق المجتمع الذي ربى هذا الذهن وأولاه عنايته أن ينتفع بثمرته ، وهو لا ينتفع بذلك إذا كان هناك قيد على نشر هذه الآراء مادامت في محيط النفع العام ، ومادامت في دائرة العقل ، وفي إطار من الاحترام يحجزها عن التعدي على حرمات الآخرين ، أو على قدسية الأديان والقانون .
إن الآراء السليمة هي التي تكون الجو المناسب للتقدم الحضاري المنشود ، وإن الجو الإسلامي لهو خير الأجواء التي تنمو فيها الآراء السامية الهادية إلى الخير والمصلحة العامة .(1/27)
في غزوة بدر الكبرى ، وفي أول لقاء بين الإسلام والكفر تخيّر الرسول صلي الله عليه وسلممكانًا للمعركة رأى أنه الموقع المناسب ، ومع أن الرسول صلي الله عليه وسلميتمتع بين أمته باحترام وتقدير خاص حيث إنه الموحى إليه .. مع هذا ينفسح مجال الإسلام للرأي والمناقشة ، قال له سيدنا " الحباب بن المنذر " في أدب جم وفي حرص شديد على مصلحة المسلمين : " أرأيت هذا المنزل أهو منزل أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدم عليه أو نتأخر ، أو هو الرأي والحرب والمكيدة ؟ " فقال الرسول صلي الله عليه وسلم: " بل هو الرأي والحرب والمكيدة " فقال : " ليس هذا بمنزل يا رسول الله ، انهض بالناس حتى نأتي على أدنى ماء من القوم ، ثم نغور ما وراءه فنشرب ولا يشربون "(1) ولم يسع الرسول صلي الله عليه وسلمإلا أن يستجيب لرأي هذا الجندي الباسل المخلص .
وفي غزوة الأحزاب أخذ كذلك برأي سيدنا " سلمان الفارسي " في حفر الخندق .
وفي غزوة بني قريظة لما قال الرسول صلي الله عليه وسلميَوْمَ الأَحْزَابِ : " لاَ يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلاَّ فِى بَنِى قُرَيْظَةَ " . فَأَدْرَكَ بَعْضُهُمُ الْعَصْرَ فِى الطَّرِيقِ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لاَ نُصَلِّى حَتَّى نَأْتِيَهَا . وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَلْ نُصَلِّى ، لَمْ يُرِدْ مِنَّا ذَلِكَ ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِىِّ صلي الله عليه وسلمفَلَمْ يُعَنِّفْ وَاحِداً مِنْهُمْ(2)
الآراء المدمرة مرفوضة :
__________
(1) رواه ابن حبان في كتابه " الثقات " .
(2) أخرجه البخاري - كتاب المغازي - باب مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من الأحزاب ومخرجه إلى بني قريظة - حديث رقم 4119 .
وأخرجه مسلم - كتاب الجهاد والسير - باب من لزمه أمر فدخل عليه أمر آخر - حديث رقم 4701 .(1/28)
بيد أنه لا ينبغي أن تتخذ هذه الحرية ذريعة لإشاعة المذاهب الهدامة والدعوة إلى الفساد والانحراف ، ولابد أن تلتزم الآراء خط الفضيلة والمبادئ ، ولابد كذلك أن تلتزم قانون العلم والتمحيص حتى لا يذاع على الناس كل باطل وهراء ، ولابد أن يتخذ أصحاب الفكر آلات العلم التي منحها الله تعالى للإنسان في الوصول إلى الرأي الصائب : (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً)(1) .
مفارقة واضحة بين ميثاق البشر وشريعة الإسلام :
__________
(1) سورة الإسراء - الآية 36 .(1/29)
على أن هناك فارقًا ضخمًا بين التعبير الحديث بحرية الرأي التي تعني إباحة نشره فحسب ، وبين مبدأ الإسلام الذي يفرض إعلان هذا الرأي مادام في دائرة النفع العام ، وفي إطار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، إن الإسلام يعتبر هذا الأمر وذلك النهي فريضة على كل مسلم مستطيع ، وبذلك يفتح الإسلام أقطار العقل والفكر من كل أبوابها ليفكر كل مسلم فيما هو واقع في المجتمع ، ليُكوّن عنه الآراء السليمة ، ويعلنها على الناس ، وهو بهذا الإعلان يؤدي واجبًا لا يفعل مباحًا ، أي أن إبداء الآراء الصائبة في الإسلام ليس ترفًا عقليًا يباشره من يشاء ، ولكنه واجب اجتماعي وفرض ديني ، لا يتخلص المؤمن من تبعته الاجتماعية إلا حينما يؤديه على خير الوجوه . قال صلي الله عليه وسلم: " مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَراً فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ "(1) ، ويقول الله - عز وجل - في وصف المجتمع المسلم : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ)(2) ، ويربط أهلية المسلين للصدارة والقيادة لكافة الأمم بمدى محافظتها على القيام بهذا الواجب مع الإيمان بالله تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)(3) .
ثالثًا : حرية العمل والتصرف :
__________
(1) أخرجه مسلم - كتاب الإيمان - باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان - حديث رقم 186 .
(2) سورة التوبة - جزء من الآية 71 .
(3) سورة آل عمران - جزء من الآية 110 .(1/30)
هناك فرق كبير كذلك بين التعبير بحرية العمل الذي يجعل العمل مباحًا وجائزًا ، وبين روح الإسلام التي توجب هذا العمل وتحث عليه بشتى أنواع الأوامر والأساليب .. إن الحديث عن العمل يتخذ صيغة الأمر في القرآن الكريم في مثل '] : (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ )(1) ، وفي قوله : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ)(2) ، ويتخذ صيغة الامتنان بما هيأه الله تعالى من وسائل العمل والإرشاد إلى استغلال الثروات والخيرات التي بثها الله تعالى في هذا الكون في مثل '] : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى>53<كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهَى)(3) .. وتتخذ صيغة الحث والتأكيد في وصايا رسول الله صلي الله عليه وسلم، يقول صلي الله عليه وسلم: " مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَاماً قَطُّ خَيْراً مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ ، وَإِنَّ نَبِىَّ اللَّهِ دَاوُدَ ?? كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ "(4) .. ويعتبر الرسول صلي الله عليه وسلمالعمل جهادًا في سبيل الله تعالى مادام لغرض شريف نبيل .
__________
(1) سورة التوبة - جزء من الآية 105 .
(2) سورة الملك - الآية 15 .
(3) سورة طه - الآيتان 53 ، 54 .
(4) أخرجه البخاري - كتاب البيوع - باب كسب الرجل وعمله بيده - حديث رقم 2072 .(1/31)
عَنْ كَعْبِ بن عُجْرَةَ قَالَ : مَرَّ عَلَى النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلمرَجُلٌ ، فَرَأَى أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلي الله عليه وسلممِنْ جِلْدِهِ وَنَشَاطِهِ ، فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، لَوْ كَانَ هَذَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ؟ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم: " إِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى وَلَدِهِ صِغَارًا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى أَبَوَيْنِ شَيْخَيْنِ كَبِيرَيْنِ فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَإِنْ كَانَ يَسْعَى عَلَى نَفْسِهِ يُعِفُّهَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ رِيَاءً وَمُفَاخَرَةً فَهُوَ فِي سَبِيلِ الشَّيْطَانِ "(1) .
وبجانب هذه التوجيهات الإسلامية إلى العمل نجد الرسول صلي الله عليه وسلميحرم البطالة والتسول ، قال صلي الله عليه وسلم: " مَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَسْـ أَلُ النَّاسَ حَتَّى يَأْتِىَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَيْسَ فِى وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ "(2) ،
__________
(1) رواه الطبراني في الثلاثة ، وفي الكبير رجاله رجال الصحيح ، والحديث صحيح لغيره - حديث رقم 15619 .
(2) أخرجه البخاري - كتاب الزكاة - باب من سأل الناس تكثرًا - حديث رقم 1474 .
وأخرجه مسلم - كتاب الزكاة - باب كراهة المسألة للناس - حديث رقم 2445 .(1/32)
ويحرم الإسلام وسائل الكسب التي تشجع على الراحة والكسل وتعتمد على المال وحده دون جهد ولا عناء ولا مخاطرة ، ويتمثل ذلك في تحريمه للربا ، يعني أن المال يلد المال دون أن يدخل الجهد البشري كعامل فعّال في نتيجة الكسب ، والقرآن الكريم يعلن حرب الله تعالى ورسوله صلي الله عليه وسلمعلى المرابين فيقول : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِين>278 <َفَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) (1) .
وكذلك حرم الإسلام جميع الطرق التي تؤدي إلى تضخم الأموال عن طريق غير مشروع كابتزاز أموال الناس ، أو غشهم ، أو التحكم في ضروريات حياتهم ، واستغلال عوزهم وحاجتهم ، أو عن طريق الانتفاع بالسلطان والجاه ،
'[ : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْأِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)(2) ، وقال صلي الله عليه وسلم: " وَمَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا "(3) ،
__________
(1) سورة البقرة - الآية 278 وجزء من الآية 279 .
(2) سورة البقرة - الآية 188 .
(3) أخرجه مسلم - كتاب الإيمان - باب قول النبي صلى الله عليه وسلم : " مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا " - حديث رقم 294 .(1/33)
وقال : " مَنِ احْتَكَرَ فَهُوَ خَاطِئٌ "(1) ، وعَنْ أَبِى حُمَيْدٍ السَّاعِدِىِّ قَالَ : اسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم رَجُلاً عَلَى صَدَقَاتِ بَنِى سُلَيْمٍ يُدْعَى ابْنَ اللُّتَبِيَّةِ ، فَلَمَّا جَاءَ حَاسَبَهُ قَالَ : هَذَا مَالُكُمْ وَهَذَا هَدِيَّةٌ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم: " فَهَلاَّ جَلَسْتَ فِى بَيْتِ أَبِيكَ وَأُمِّكَ ، حَتَّى تَأْتِيَكَ هَدِيَّتُكَ إِنْ كُنْتَ صَادِقاً " . ثُمَّ خَطَبَنَا فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ : " أَمَّا بَعْدُ ، فَإِنِّى أَسْتَعْمِلُ الرَّجُلَ مِنْكُمْ عَلَى الْعَمَلِ مِمَّا وَلاَّنِى اللَّهُ ، فَيَأْتِى فَيَقُولُ هَذَا مَالُكُمْ وَهَذَا هَدِيَّةٌ أُهْدِيَتْ لِى . أَفَلاَ جَلَسَ فِى بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ حَتَّى تَأْتِيَهُ هَدِيَّتُهُ ، وَاللَّهِ لاَ يَأْخُذُ أَحَدٌ مِنْكُمْ شَيْئاً بِغَيْرِ حَقِّهِ ، إِلاَّ لَقِىَ اللَّهَ يَحْمِلُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، فَلأَعْرِفَنَّ أَحَداً مِنْكُمْ لَقِىَ اللَّهَ يَحْمِلُ بَعِيراً لَهُ رُغَاءٌ ، أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ ، أَوْ شَاةً تَيْعَرُ "(2) .
__________
(1) أخرجه مسلم - كتاب المساقاة - باب تحريم الاحتكار في الأقوات - حديث رقم 4206 .
(2) أخرجه البخاري - كتاب الحيل - باب احتيال العامل ليهدى له - حديث رقم 6979 .(1/34)
ولقد صادر " عمر بن الخطاب " (# هدايا عماله على البصرة والبحرين ، وقاسم مال عماله على الكوفة ، وفعل مثل ذلك مع " عمرو بن العاص " حين كان واليًا على مصر ، فقد كتب إليه : " إنه فشت لك فاشية من متاع ورقيق وآنية وحيوان لم تكن حين وليت مصر " .. فكتب إليه " عمرو " : " إن أرضنا أرض مزدرع ومتجر ، فنحن نصيب فضلاً عما تحتاج إليه نفقاتنا ، فكتب إليه " عمر " : " إني قد خبرت من عمال السوء ما كفى ، وكتابك إليّ كتاب من أقلقه الأخذ بالحق ، وقد سئت بك ظنًّا ، ووجهت إليك " محمد بن مسلمة " ليقاسمك مالك فأطلعه وأطعه وأخرج إليه ما يطالبك ، وأعفه من الغلظة عليك ، برح الخفاء .. وأذعن " عمرو " للأمر وتركه يقاسمه ماله .
بهذه التشريعات الحاسمة رفع الإسلام من قيمة العمل حتى جعله أفضل من الانقطاع لعبادة الله تعالى .
مسئولية الدولة في توفير فرص العمل :(1/35)
ولقد كان الرسول صلي الله عليه وسلم باعتباره رئيس الأمة يحاول فتح أبواب العمل وتهيئة وسائله لمن يريد ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ أَتَى النَّبِىَّ صلي الله عليه وسلم يَسْأَلُهُ فَقَالَ : " أَمَا فِى بَيْتِكَ شَىْءٌ ؟ " . قَالَ : بَلَى : حِلْسٌ نَلْبَسُ بَعْضَهُ وَنَبْسُطُ بَعْضَهُ وَقَعْبٌ نَشْرَبُ فِيهِ مِنَ الْمَاءِ قَالَ : " ائْتِنِى بِهِمَا " . فَأَتَاهُ بِهِمَا فَأَخَذَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلمبِيَدِهِ وَقَالَ : " مَنْ يَشْتَرِى هَذَيْنِ ؟ " . قَالَ رَجُلٌ : أَنَا آخُذُهُمَا بِدِرْهَمٍ . قَالَ : " مَنْ يَزِيدُ عَلَى دِرْهَمٍ ؟ " مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثاً ، قَالَ رَجُلٌ : أَنَا آخُذُهُمَا بِدِرْهَمَيْنِ . فَأَعْطَاهُمَا إِيَّاهُ وَأَخَذَ الدِّرْهَمَيْنِ وَأَعْطَاهُمَا الأَنْصَارِىَّ وَقَالَ : " اشْتَرِ بِأَحَدِهِمَا طَعَاماً فَانْبِذْهُ إِلَى أَهْلِكَ وَاشْتَرِ بِالآخَرِ قَدُوماً فَأْتِنِى بِهِ " . فَأَتَاهُ بِهِ فَشَدَّ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلمعُوداً بِيَدِهِ ثُمَّ قَالَ لَهُ : " اذْهَبْ فَاحْتَطِبْ وَبِعْ وَلاَ أَرَيَنَّكَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْماً " . فَذَهَبَ الرَّجُلُ يَحْتَطِبُ وَيَبِيعُ فَجَاءَ وَقَدْ أَصَابَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فَاشْتَرَى بِبَعْضِهَا ثَوْباً وَبِبَعْضِهَا طَعَاماً . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم: " هَذَا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تَجِىءَ الْمَسْأَلَةُ نُكْتَةً فِى وَجْهِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ "(1) .
حقوق العمال :
وحرص الإسلام كذلك على إنصاف العامل وإيفائه حقه كاملاً في الأجرة دون بخس ولا ظلم ، '[ : (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ )(2) .
__________
(1) أخرجه أبو داود - كتاب الزكاة - باب ما تجوز فيه المسألة - حديث رقم 1641 .
(2) سورة الأعراف - جزء من الآية 85 .(1/36)
وحث الإسلام كذلك على حماية العامل من الأخطار والعمل على تأمينه في عمله ورعايته رعاية تامة ، يقص الله - عز وجل - قصة الرجل الصالح وهو يساعد عمال البحر ويقيهم من خطر اغتصاب الظالم لسفينتهم فيقول على لسانه : (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً)(1) ، وفي هذا توجيه للأمة الإسلامية أن تحذو حذو هذا الرجل الذي يصفه القرآن الكريم بقوله : (فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً)(2) .
ولما كان للجسم طاقة محدودة في مواصلة العمل ، وللنفس كذلك طاقة ينتابها عند مجاوزتها الملل ، فقد أعطى الإسلام للعامل حق الراحة وحق تحديد ساعات عمله بما يتلاءم مع المحافظة على صحته ، وما يتفق مع دوام التجديد لنشاطه وقوته ، قال صلي الله عليه وسلم: " فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا "(3) ، وقال عن الخادم يوصي به مخدومه : " وَلاَ يُكَلِّفُهُ مِنَ الْعَمَلِ مَا يَغْلِبُهُ ، فَإِنْ كَلَّفَهُ مَا يَغْلِبُهُ فَلْيُعِنْهُ عَلَيْهِ "(4) .
__________
(1) سورة الكهف - الآية 79 .
(2) سورة الكهف - الآية 65 .
(3) أخرجه البخاري - كتاب الصوم - باب حق الجسم في الصوم - حديث رقم 1975 .
وأخرجه مسلم - كتاب الصيام - باب النهي عن صوم الدهر لمن تضرر به أو فوت به حقًا - حديث رقم 2787 .
(4) أخرجه البخاري - كتاب الأدب - باب ما ينهى من السباب واللعن - حديث رقم 6050 .(1/37)
وخلاصة ما يهدف إليه الإسلام أن يضمن للعامل حق المعيشة في مستوى لائق من التغذية والملبس والمسكن والعناية الصحية ، وفي إطار الرحمة التي لا تكلفه ما لا يطيق ولا تفرض عليه ما لا يستطيع ، وفي رعايته كذلك لما تتطلبه المصلحة العامة ، فإذا كانت قدراته وطاقاته لا تمكنه من كسب ما يفي بكل حاجاته ، فإن له حقًا آخر على المجتمع هو حق الفقراء والمساكين من الزكاة والصدقات من بيت المال تكفل له هذا المستوى الكريم من المعيشة اللائقة بقيمة الإنسان .
الحرية المدنية
هذا الاصطلاح الحديث يعني في العرف الدولي صفة الرشد التي تجعل الشخص أهلاً لأن يتحمل الالتزامات ، ويعقد باسمه مختلف العقود المشروعة من بيع وشراء وهبة ورهن ووصية ، وما إلى ذلك ، ويقابل هذه الحرية حالة الرق التي تحكم على الشخص بالقصور والعجز عن مباشرة هذه الحقوق ، وعن تحمل هذه الالتزامات .
قضية الرق :
أُلغي الرق حديثًا باتفاق دولي ، وبعد هذا الإلغاء المحدث كثر الكلام واتسع النقد للإسلام .. يعني أنه إذا كان الإسلام يهدف إلى الحرية والمساواة بين الناس في جميع الحقوق ، فلماذا لم يلغ الرق من أول الأمر حتى يتم له هذا الهدف ؟
وحتى نستطيع تصور الملابسات التي اتصلت بهذا الموضوع ينبغي لنا أن نعرف أنه ليس هناك دين ولا قانون سبق الإسلام في تحريم هذا الرق ، أي أن الشريعة اليهودية لم تحرمه ، بل قسمت البشر إلى قسمين : بنو إسرائيل قسم ، وسائر البشر قسم آخر ، وأباحت استرقاق غير الإسرائيليين إلى الأبد ، لأنهم سلالات كتب عليها الذلة من الأزل ، أما المسيحية فلم يرد فيها نص واحد يستنكره أو يحرمه ، بل إن رسائل الرسل كانت توصي بإخلاص العبيد في خدمة سادتهم .
أما الدول قبل الإسلام فقد كانت معاملاتها قائمة على اعتبار رعايا الدول الأخرى غنيمة تستولي عليهم متى استطاعت ، تسترق من تشاء ، وتبيع من تشاء .(1/38)
ويروى في هذا أن " أفلاطون " الفيلسوف اليوناني قد جرى عليه الرق في إحدى رحلاته ، وأن " عمر بن الخطاب " (# قد استرقه قبل الإسلام شخص في إحدى رحلاته إلى الشام ، فاستسلم له " عمر " ابتداء حتى تمكن من الانفراد به فقتله
ولقد كان يحيط بالعرب دولتان كبيرتان لهما حضارة ، وفيهما علم وفي إحداهما ميراث زاخر من الفلسفة والحكمة وهما دولتا الروم والفرس ، ولقد كان قانون الرومان - الذي مازالت بعض قوانينه مقدسة عند أوروبا حتى الآن - يعطي للأشراف الرومان حقوقًا ليست لغيرهم ممن هم في ظل الحكم الروماني ، فالعبيد لا يعاملون معاملة الآدميين ، فليس على السيد مسئولية فيما يفعل مع عبده ، حتى إن قتله فلا تبعة عليه ، وجريمة العبد تضاعف لها العقوبة ، وجريمة الروماني يخفف فيها العقاب ، والدائنون لهم حق استرقاق المدينين إن عجزوا عن الوفاء .
أما الفرس فقد كان الحكم للأشراف خاصة وما كان هناك دين سماوي أو أخلاق سائدة تحمي من الظلم والاستعباد .
والخلاصة :
أن الإسلام قد ظهر في عصر كان نظام الرق فيه شرعًا سائدًا ، وعرفًا دوليًا قائمًا ، وكانت منابعه كثيرة ، ومنافذه قليلة ، وكانت أهم روافده سبعة :
1 - الحرب بجميع أنواعها .
2 - الخطف والسبي .
3 - ارتكاب بعض الجرائم كالقتل والسرقة .
4 - عجز المدينين عن السداد .
5 - سلطة الوالد على أولاده ، فله أن يبيع من يشاء بيع الأرقاء .
6 - سلطة الشخص على نفسه ، فله أن يتنازل عن حريته لقاء ثمن معين .
7 - تناسل الأرقاء .
فلما جاء الإسلام حرم كل هذه الروافد ، ولم يبق منها سوى رافدين اثنين هما : رق الوراثة ، ورق الحرب ، بل إنه قد وضع على هذين الرافدين من القيود ما يكفل نضوب معينهما :
فقيّد النوع الأول : بأن لا يكون تناسل بين جارية وسيدها .(1/39)
وقيّد النوع الثاني : بأن تكون الحرب شرعية غير أهلية ، والحرب الشرعية - كما بيّنا فيما سبق - حدودها ضيقة ، كما أجاز الإسلام في أرقائها المن والفداء ، بل إن القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة جاء فيهما عشرات الأوامر بالعتق والإحسان والمن والفداء ، '[ : ( فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً)(1) ، و'[ : (وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ>12<فَكُّ رَقَبَةٍ) (2) ، ووصى بالإحسان إلى الأسرى فقال تعالى : (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً)(3) ، وقال صلي الله عليه وسلمفي حديث قدسي عن الله - عز وجل - : " ثَلاَثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، رَجُلٌ أَعْطَى بِى ثُمَّ غَدَرَ ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيراً فَاسْتَوْفَى مِنْهُ ، وَلَمْ يُعْطِ أَجْرَهُ "(4) ، وقال صلي الله عليه وسلم: " أَطْعِمُوا الْجَائِعَ ، وَعُودُوا الْمَرِيضَ ، وَفُكُّوا الْعَانِىَ "(5) .
وتاريخ الرسول صلي الله عليه وسلم في غزواته يشهد بهذه الروح التي تهدف إلى حرية العبيد ، ففي " بدر " قبل المسلمون الفداء ، وفي " الفتح " عفا عن أهل مكة وهو قادر على الانتقام منهم ، وفي " بني المصطلق " تزوج النبي صلي الله عليه وسلمأسيرة من هذا الحي ليرفع مكانته ، فتحرج المسلمون من استرقاق الأصهار الجدد .
__________
(1) سورة محمد - جزء من الآية 4 .
(2) سورة البلد - الآيتان 12 ، 13 .
(3) سورة الإنسان - الآية 8 .
(4) أخرجه البخاري - كتاب البيوع - باب إثم من باع حرًا - حديث رقم 2227 .
(5) أخرجه البخاري - كتاب الأطعمة - باب قول الله تعالى : (كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ) - حديث رقم 5373 .(1/40)
والقاعدة الفقهية المشهورة : " الشرع يتشوف إلى الحرية " ، وقد بلغت حدًا من المحافظة عليها لدرجة جعلت بعض الفقهاء يحكم بنسب الولد إلى أب كافر حر ويرفض الحكم عليه بأنه عبد مسلم .
فماذا ينتظر أعداء الإسلام منه أن يفعل أكثر من ذلك ؟ هل كانوا يريدون منه ألا يسترق أعداءه على حين أنهم يسترقون أبناءه ؟!
منافذ الشرع لتحرير العبيد :
إن الإسلام لم يلغ الرق لأن أعداءه لا يستجيبون لذلك فكانت المعاملة بالمثل .. ومع هذا فقد وضع في تشريعاته منافذ كثيرة لو سارت في طريقها الصحيح عبر التاريخ لانتهى الرق من زمن بعيد ، منها أن العتق يلزم باللفظ ولو مزاحًا ، كذلك التدبير ، ومنها أن السيد إذا أتى من جاريته بولد عتقت عليه ، ومنها نظام المكاتبة الذي يبيح فيه السيد لعبده أن يتاجر ويعمل حتى يوفيه ثمنه ، وقد حث الإسلام على مساعدته ، بل جعل له نصيبًا من مصارف الزكاة في كل عام ، '[ : (وَفِي الرِّقَابِ)(1) ، ومنها نظام الكفارات ، فالقاتل خطأ عليه أن يعتق رقبة ، والحانث في يمينه عليه أن يعتق رقبة ، والمظاهر من زوجته عليه أن يعتق رقبة ، هذه كفارات مفروضة .
__________
(1) سورة التوبة - جزء من الآية 60 .(1/41)
وهناك عتق مرغوب فيه تطوعًا بلا إيجاب من الشرع .. قال صلي الله عليه وسلم: " مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً مُسْلِمَةً ، أَعْتَقَ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْواً مِنَ النَّارِ "(1) ، وفضلاً عن كل ذلك فإن الإسلام قد ضمن لهم معاملة كريمة مع سادتهم .. قال صلي الله عليه وسلم: " مَنْ لَطَمَ مَمْلُوكَهُ أَوْ ضَرَبَهُ فَكَفَّارَتُهُ أَنْ يُعْتِقَهُ "(2) ، وكان من آخر وصايا رسول الله صلي الله عليه وسلم قوله : " اتَّقُوا اللَّهَ فِيمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ "(3) .
ومن توجيهاته النبوية ألا يقول السيد لمملوكه : يا عبدي ، ولا : يا أمتي ، بل : يا فتاي ويا فتاتي . ومن مآثره صلي الله عليه وسلم أنه جعل العبيد إخوة لسادتهم ، فقال : " إِنَّ إِخْوَانَكُمْ خَوَلُكُمْ جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ ، فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ ، وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ "(4) .
__________
(1) أخرجه البخاري - كتاب كفارات الأيمان - باب قول الله : ( أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) وأي الرقاب أزكى - حديث رقم 6715 .
(2) أخرجه أبو داود - كتاب الأدب - باب في حق المملوك - حديث رقم 5168 .
(3) أخرجه أبو داود - كتاب الأدب - باب في حق المملوك - حديث رقم 5156 .
(4) أخرجه البخاري - كتاب العتق - باب قول النبي العبيد : " إخوانكم فأطعموهم مما تأكلون - حديث رقم 2545 .(1/42)
ولقد طبق صحابة رسول الله صلي الله عليه وسلممع عبيدهم مبدأ هذا الإخاء ، فلقد وعى سمع التاريخ وهو مطأطئ الرأس إكبارًا عن سيدنا " عمر بن الخطاب " وهو ذاهب إلى الشام لعقد المعاهدة مع أهل بيت المقدس بعد انتصار المسلمين أنه كان معه غلامه ولم يكن معهما سوى ناقة واحدة ، وتنفيذًا لمبدأ الإخاء كان أمير المؤمنين المنتصر يتعاقب الركوب مع غلامه على الناقة .. وإمعانًا في إظهار تلك الأخوة والعدالة والمساواة كان الدور حين دخول المدينة للغلام فما استنكف " عمر " أن يدخل المدينة ماشيًا وغلامه راكب .
إنها عظمة الإسلام تتجلى على رءوس الأشهاد تدمغ أباطيل الحاقدين وأكاذيب الناقمين .
عَنِ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ قَالَ : دَخَلْنَا عَلَى أَبِي ذَرٍّ بِالرَّبَذَةِ فإِذَا عَلَيْهِ بُرْدٌ وَعَلَى غُلاَمِهِ مِثْلُهُ فَقُلْنَا : يَا أَبَا ذَرٍّ لَوْ أَخَذْتَ بُرْدَ غُلاَمِكَ إِلَى بُرْدِكَ فَكَانَتْ حُلَّةً وَكَسَوْتَهُ ثَوْباً غَيْرَهُ ؟ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم يَقُولُ : " إِخْوَانُكُمْ جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدَيْهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ وَلْيَكْسُهُ مِمَّا يَلْبَسُ وَلاَ يُكَلِّفْهُ مَا يَغْلِبُهُ فَإِنْ كَلَّفَهُ مَا يَغْلِبُهُ فَلْيُعِنْهُ "(1) .
بل إن الإسلام قد بلغ الذروة في إبراز كيان الرقيق فأباح لهم أن يكونوا أسرة بالمعنى القانوني السليم ، بل إن حق القود والقصاص قد أعطاه لهم الإسلام ، ولو كان مع حر بل ولو كان مع رسول الله صلي الله عليه وسلم.
__________
(1) أخرجه أبو داود - كتاب الأدب - باب في حق المملوك - حديث رقم 5158 .(1/43)
عن أم سلمة قالت : كان رسول الله صلي الله عليه وسلم في بيتي ، وكان بيده سواك ، فدعا وصيفة لي فلم ترد عليه حتى استبان الغضب في وجهه ، فخرجت إلى الحجرات فوجدتها تلعب ، فقلت : أراك تلعبين ورسول الله صلي الله عليه وسلميدعوك لِلَّهِ فقالت : لا والذي بعثه بالحق ، فقال الرسول صلي الله عليه وسلم: " لولا خشية القود لأوجعتك بهذا السواك "(1) .
الحرية السياسية
وهي تعني حق الإنسان في ولاية الوظائف الإدارية في الدولة إذا كان كفئًا لها ، وهي تعني كذلك حقه في إبداء رأيه في سير الأمور العامة ، وهي بشقيها تعني أن الحكم وسيلة لخدمة المجتمع ، لا وسيلة للسيطرة عليه .. أي أن الحاكم خادم للأمة في تحقيق مصالحها وآمالها ، والإسلام لا يتصور حكمًا .. يسير على منهجه .. يحيد عن هذه الحرية بشقيها قيد أنملة .. ذلك أن الإسلام يعتبر الخلافة الصحيحة ما كانت نتيجة لانتخاب حر وبيعة عامة للأكفأ والأجدر بتولي هذا المنصب الخطير ؛ ضرورة أن نبيّه العظيم قد انتقل إلى الرفيق الأعلى وترك الأمر شورى بين المسلمين .
بل إن الإسلام قد ذهب إلى أبعد من ذلك حين فرض على الرئيس أن يستشير المرءوس في مهمات الأمور ، '[ مخاطبًا نبيّه المعصوم : (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ )(2) ، و'[ في صفة المؤمنين : (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)(3) .
ولقد وقف الرسول صلي الله عليه وسلمفي غزوة أُحد يرسي دعائم الحكم الشورى ، ويسمع التاريخ قواعد الديمقراطية السليمة من خلال سياسته العملية فيها .
__________
(1) أخرجه البخاري في الأدب المفرد .
(2) سورة آل عمران - جزء من الآية 159 .
(3) سورة الشورى - جزء من الآية 38 .(1/44)
لما علم الرسول صلي الله عليه وسلمأن قريشًا قد زحفت بجيوشها من مكة إلى المدينة جمع أصحابه يستشيرهم في الأمر ، وبدأ حديثه معهم بقوله : " إن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم حيث نزلوا ، فإن أقاموا أقاموا بشر مقام ، وإن هم دخلوا علينا قاتلناهم فيها " ومع هذا الرأي الصريح الذي أبداه الرسول صلي الله عليه وسلم، ومع حرص الصحابة على تنفيذ أوامرة .. مع كل هذا ينفسح المجال في الجو الإسلامي الصحيح للتناقش والشورى ، وينقسم المجلس إلى فريقين : فريق مع الرسول صلي الله عليه وسلمويمثله معظم المهاجرين وبعض زعماء الأنصار ، وفريق آخر يمثله شباب الأنصار المتحمس وبعض المهاجرين . قال بعضهم : يا رسول الله ، إنا كنا نتمنى هذا اليوم ، اخرج بنا إلى أعدائنا لا يروا أنا جبنّا وضعُفنا .. وقال آخرون : إنا لا نحب يا رسول الله أن ترجع قريش إلى قومها فيقولون : حصرنا محمدًا في صياصي يثرب وآطامها ، فتكون هذه مجرئة لقريش ، وهاهم أولاء قد وطئوا سعفنا فإذا لم نذب عن حوضنا لم يرع .(1/45)
وهكذا احتد النقاش وأدلى كل بحجته والجميع لا ينقصه الإخلاص ، ولو شئنا أن نقارن بين وجهات النظر لوجدنا الرسول صلي الله عليه وسلمعلى رأي أحكم وأصوب ، إذ رأى أن جيش مكة ليس كله من قريش ، ولكن من أحلاف مستأجرين كالأحابيش ، فلن يلبثوا أن يدب الخلاف بينهم ويعودوا ، فإن دخلوا المدينة دافع عنها الرجال والنساء والأطفال ، ولكن رسول الله صلي الله عليه وسلملما رأى الأكثرية تؤيد رأي الخروج لم يشأ أن يهدم قاعدة الحكم الشورى لئلا تكون نواة للدكتاتورية الفردية ، إذ هو نبراس وقدوة لجند الإسلام إلى أن يأذن الله تعالى للعالم بالفناء .. وصلى الجمعة ودخل منزله وليس لأمة الحرب .. وبينما هو يتجهز كانت صفوف المسلمين متراصة .. فأحس بعضهم أنهم أساءوا التصرف مع رسول الله صلي الله عليه وسلم، وقالوا : استكرهتم رسول الله صلي الله عليه وسلمعلى الخروج فردوا الأمر إليه .. وهنا يقرر الرسول صلي الله عليه وسلممبدأ آخر من مبادئ الشورى : مادام المجلس قد قرر رأيًا وانفض فلا يجوز العدول عنه بأية حال حتى لا يؤدي إلى اضطراب الأمر ، وفتور العزائم ، وضعف الهمم ، وبالتالي إلى الفشل .. لذلك يرد الرسول صلي الله عليه وسلم عليهم قائلاً : " ما ينبغي لنبي إذا لبس لامته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه "(1) .
__________
(1) أخرجه البخاري - كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة .(1/46)
ويؤكد التطبيق الإسلامي في عهد الخلفاء الراشدين هذه الحقيقة التي تعتبر الأمة مصدر السلطات ، قال " عمر " : " لوددت أني وإياكم في سفينة تذهب بنا شرقًا وغربًا فلن يعجز الناس أن يولوا رجلاً منهم ، فإن استقام اتبعوه ، وإن جنف قتلوه " ، فقال طلحة : وما عليك لو قلت : وإن تعوج عزلوه ، فقال " عمر " : " لا : القتل أنكل لمن بعده " ، وكتب لأبي موسى الأشعري واليه على الكوفة : " يا أبا موسى ، إنما أنت واحد من الناس غير أن الله جعلك أثقلهم حملاً .. إن من ولي أمر المسلمين يجب عليه ما يجب على العبد لسيده " .
وقال " أبو بكر " حين ولي الخلافة : " يا أيها الناس ، قد وليت عليكم ولست بخيركم ، فإن رأيتموني على حق فأعينوني ، وإن رأيتموني على باطل فسددوني ، أطيعوني ما أطعت الله فيكم ، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم " .
وقال " عثمان بن عفان " : " إني أتوب وأنزع ولا أعود لشيء عابه المسلمون ، فإذا نزلت عن منبري فليأتني أشرافكم فليروني رأيهم ، فوالله إن ردني الحق عبدًا لأذلن ذل العبيد " .
الفرق بين الشورى والديمقراطية :(1/47)
بيد أنه يجب التنبيه إلى أن هناك فرقًا بين النظرة الحديثة للديمقراطية ، وبين نظرة الإسلام .. فإنه ليس للشعب في عرف الإسلام ولو بأكثرية وغالبية أن يلغي حدًا من حدود الله تعالى ، أو أن يعدل بعض قوانين الإسلام إلا أن يجد له سندًا من النصوص ، بحكم أن الدستور الإسلامي ليس من وضع البشر ، حتى يعدلوا فيه ما شاءوا ، ولكنه من وحي الله تعالى الذي لا تخطئه المصلحة ، أي أنه لو تعارضت ظاهريًا مصلحة مع النص فالمقدم النص ، والشك في النظر إلى المصلحة ، إذ محال أن يكون في الإسلام تعارض حقيقي بين المصلحة الحقيقية والنص القطعي ، والحق حق ولو خالفه الجميع ، والباطل باطل ولو قدسه الجميع ، '[ : (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ )(1) .
هذا فيما يتعلق بالشطر الأول من هذه الحرية .. والأدلة واضحة في أن الحاكم خادم للأمة ، مختار منها ، مؤتمر بأمرها ، خاضع لمشورتها ، وهو أكفؤها ، وموضع ثقتها .. أما الشطر الثاني وهو النقد ، فإن الإسلام لا يعبر عنه بأنه حرية ، ولكنه داخل في مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهما فريضة على المسلمين ، بل إن نقد الحاكم الظالم يسمو إلى مرتبة أفضل من الجهاد .
ولقد كان السلف الصالح رضى الله عنهملا يخشون في الحق لومة لائم .. وما كانوا يخافون من قول الحق جهارًا نهارًا أمام الحاكم مهما كانت قوته وبأسه .
__________
(1) سورة الأنعام - جزء من الآية 116 .(1/48)
رأى " عمر بن الخطاب " أثناء خلافته رجلاً وامرأة على فاحشة فجمع الناس وقام فيهم خطيبًا وقال : " ما قولكم أيها الناس لو رأى أمير المؤمنين رجلاً وامرأة على فاحشة ؟ " ، فقام " علي " فأجابه بقوله : يأتي أمير المؤمنين بأربعة شهداء أو يجلد حد القذف شأنه في ذلك شأن سائر المسلمين ، ثم تلا قوله تعالى :(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً)(1) فسكت " عمر " ولم يعيّن شخصي المجرمين .
وقال رجل من المسلمين لـ " عمر " : اتق الله لِلَّهِ فاستنكر عليه أحد الحاضرين ، فغضب " عمر " وقال : " ألا فلتقولوها .. لا خير فيكم إذا لم تقولوها ، ولا خير فينا إذا لم نسمعها " .
حرية التنقل وحق الهجرة واللجوء
__________
(1) سورة النور - جزء من الآية 4 .(1/49)
هذا الفرع من الحرية ما اضطرت هيئة الأمم المتحدة للتنبيه عليه إلا نتيجة للأوضاع المستحدثة في نظم الدول بعد انهيار نظام الخلافة الإسلامية ، فقد كانت بلاد المسلمين كلها وطنًا واحدًا ، لها جنسية واحدة هي الإسلام ، ولا يحظر على إنسان يتنقل من بلد إلى بلد ، فهو مأمور بذلك .. '[ : (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(1) ، وله أن يقيم حيث يطيب له المقام ، ولا يتصور أن يفرض الإسلام على حرية التنقل والإقامة قيودًا ورسول الله صلي الله عليه وسلمنفسه قد هاجر وانتقل من مكة إلى المدينة ، وأمر أصحابه بالهجرة إلى الحبشة قائلاً لهم : " تفرقوا في الأرض إن الله سيجمعكم " .. بل إن قرآنه يفرض الهجرة في سبيل الله تعالى وترك الأرض التي يشعر فيها المسلم باستضعاف وذلة ، بحيث لو لم يهاجر مع استطاعته كان آثمًا ، فإذا ما هاجر وكانت وجهته الحفاظ على دينه وعقيدته ، فإن الله تعالى يعده على ذلك أن يهيئ له سبيل الراحة والسعادة في مهجره الجديد .. '[ : (وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ )(2) .
__________
(1) سورة العنكبوت - الآية 20 .
(2) سورة النساء - جزء من الآية 100 .(1/50)
وروى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ : مَاتَ رَجُلٌ بِالْمَدِينَةِ مِمَّنْ وُلِدَ بِهَا فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم ثُمَّ قَالَ : " يَا لَيْتَهُ مَاتَ بِغَيْرِ مَوْلِدِهِ " قَالُوا : وَلِمَ ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : " إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا مَاتَ بِغَيْرِ مَوْلِدِهِ قِيسَ لَهُ مِنْ مَوْلِدِهِ إِلَى مُنْقَطَعِ أَثَرِهِ فِى الْجَنَّةِ "(1) .
وطبيعي أن الإسلام الذي يفرض الهجرة على المضطهد يفتح صدره مرحبًا بالمضطهدين من دول أخرى شريطة ألا يكونوا مجرمين أو مفسدين ، ومن هنا يتبيّن حكم الإسلام في الهجرة واللجوء السياسي للمضطهد .. وقد طبق ذلك في ظل الحكم الإسلامي على أن من حق الإمام أن يعطي الأمان للوافد على بلد الإسلام ، ولو كان مشركًا استجابة لقول الله تعالى : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ )(2) .. بل إن الإسلام ليوسع الدائرة ويعطي هذا الحق لكل مسلم .. قال صلي الله عليه وسلم: " الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ "(3) .
حق الكرامة
الكرامة حق لكل إنسان من ذكر وأنثى ، وهذا ثابت وممنوح له من الخالق جل علاه ، فهو الذي فضله على كثير من خلق الله تعالى ، وقد أشير إلى كل ذلك في بدء هذا البحث .
__________
(1) أخرجه النسائي - كتاب الجنائز - باب الموت بغير مولده - حديث رقم 1832 .
(2) سورة التوبة - جزء من الآية 6 .
(3) أخرجه أبو داود - كتاب الجهاد - باب في السرية ترد على أهل العسكر - حديث رقم 2751 .(1/51)
ومن مقتضى هذه الكرامة مراعاة حرمته في دمه وماله وعرضه ، ولقد بلغ الإسلام مبلغ التغليظ والتأكيد لدرجة جعلت رسول الله صلي الله عليه وسلميتحيّن فرصة الاجتماع الضخم في يوم الحج الأكبر وفي وصايا الوداع ليعبر عنها أمام الملأ بأسلوب فريد في تنبيه الأذهان ، وتذكير العقول ، وتوعية النفوس .. قال لهم صلي الله عليه وسلم: " أَتَدْرُونَ أَىُّ يَوْمٍ هَذَا ؟ " . قُلْنَا : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ . فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ . قَالَ : " أَلَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ ؟ " . قُلْنَا : بَلَى . قَالَ : " أَىُّ شَهْرٍ هَذَا ؟ " . قُلْنَا : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ . فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ . فَقَالَ : " أَلَيْسَ ذَا الْحِجَّةِ ؟ " . قُلْنَا : بَلَى . قَالَ : " أَىُّ بَلَدٍ هَذَا ؟ " قُلْنَا : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ . فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ . قَالَ : " أَلَيْسَتْ بِالْبَلْدَةِ الْحَرَامِ ؟ " . قُلْنَا : بَلَى . قَالَ : " فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا ، فِى شَهْرِكُمْ هَذَا ، فِى بَلَدِكُمْ هَذَا ، إِلَى يَوْمِ تَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ . أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ " . قَالُوا : نَعَمْ . قَالَ : " اللَّهُمَّ اشْهَدْ ، فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ ، فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ ، فَلاَ تَرْجِعُوا بَعْدِى كُفَّاراً يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ "(1) .
__________
(1) أخرجه البخاري - كتاب الحج - باب الخطبة أيام منى - حديث رقم 1741 .(1/52)
وإضافة إلى ما سبق من نصوص تؤكد حق الحياة نجد الإسلام يحذر من الاعتداء على هذه الحرمة في عديد من النصوص التي تحمل معنى التغليظ ، '[ : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً)(1) .
ووقف الرسول صلي الله عليه وسلم أمام الكعبة العظيمة وقال : " مَا أَطْيَبَكِ وَأَطْيَبَ رِيحَكِ مَا أَعْظَمَكِ وَأَعْظَمَ حُرْمَتَكِ وَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَحُرْمَةُ الْمُؤْمِنِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ حُرْمَةً مِنْكِ مَالِهِ وَدَمِهِ وَأَنْ نَظُنَّ بِهِ إِلاَّ خَيْراً "(2) .
وإذا كانت هذه النصوص تؤكد هذه الحرمة بالنسبة للمسلم ، فإن رسول الله صلي الله عليه وسلميؤكدها كذلك بالنسبة لغير المسلم المسالم .. قال صلي الله عليه وسلم: " مَنْ قَتَلَ مُعَاهَداً لَمْ يَرَحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ "(3) ، وقال صلي الله عليه وسلم: " مَنْ قَتَلَ قَتِيلاً مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ لَمْ يَجِدْ رِيحَ الْجَنَّةِ "(4) .
__________
(1) سورة النساء - الآية 93 .
(2) أخرجه ابن ماجه - كتاب الفتن - باب حرمة دم المؤمن وماله - حديث رقم 3932 .
(3) أخرجه البخاري - كتاب الجزية - باب إثم من قتل معاهدًا بغير جرم - حديث رقم 3166 .
(4) أخرجه النسائي - كتاب القسامة - باب تعظيم قتل المعاهد - حديث =
= رقم 4750 .(1/53)
ومن مقتضى هذه الكرامة كذلك أن يحترم شرفه وسمعته ، فلا يجوز التجني عليه وإشاعة الفاحشة عنه في المجتمع ، '[ : (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ)(1) ، ومن أجل هذه الحرمة ، ولقطع ألسنة السوء ، أمر الإسلام ألا يكتفي في البيّنة على القذف بشهادة رجلين مع أنه يكتفى في القتل بهما ، بل جعل الشهادة التي تثبت هذا القذف أربعة من الرجال المؤمنين العادلين ، فإن لم يأت القاذف بهذا العدد من الشهود كان هو الفاسق وأقيم عليه الحد ثمانين جلدة ، وسقطت عدالته من المجتمع ،
'[ : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)(2)
المحافظة على المشاعر والأحاسيس :
ومن مقتضى هذه الكرامة أيضًا ألا يجرح مشاعر أخيه وإحساساته ، فليس لأحد أن يسب أحدًا أو يشتمه أو يحقره ، قال صلي الله عليه وسلم: " بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ "(3) ، وقال صلي الله عليه وسلم: " سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ "(4) ،
__________
(1) سورة النور - جزء من الآية 19 .
(2) سورة النور - الآية 4 .
(3) أخرجه مسلم - كتاب البر والصلة - باب تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره ودمه وعرضه وماله - حديث رقم 6706 .
(4) أخرجه البخاري - كتاب الإيمان - باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر - حديث رقم 48 .
وأخرجه مسلم - كتاب الإيمان - باب بيان قول النبي صلى الله عليه وسلم : " سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ " - حديث رقم 230 .(1/54)
بل إن النظرة أو الإشارة التي يشم منها رائحة السخرية والتهكم حرام ، '[ : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْأِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)(1) .
ولقد ذهب الإسلام إلى حد بعيد في المحافظة على شعور الإنسان والإبقاء على حبل المودة والمحبة ، فنهى صلي الله عليه وسلمعن مجرد فتح أية ثغرة قد يشم منها الصديق رائحة الإهمال وعدم الاكتراث .. قال صلي الله عليه وسلم: " إِذَا كُنْتُمْ ثَلاَثَةً فَلاَ يَتَنَاجَى رَجُلاَنِ دُونَ الآخَرِ ، حَتَّى تَخْتَلِطُوا بِالنَّاسِ ، أَجْلَ أَنْ يُحْزِنَهُ "(2) .. بل ندب الإسلام للمسلم أن يغتسل ويتنظف ويتطيب عند الاجتماع بإخوانه في صلاة الجمعة حتى لا يؤذيهم برائحة العرق .
ومن مقتضى هذه الكرامة كذلك ألا يعتقل إنسان أو يُحبس أو يُعزَّر أو يُعذَّب أو يُهان أو يُروَّع أو يُخَوْف في غير حق شرعي مستند إلى قوانين الإسلام .. إنه فيما عدا التعزيز المباح شرعًا للحاكم حين يرتكب الفرد ما يوجبه لا حق للحاكم في الاعتقال أو الحبس أو التعذيب أو الإهانة ..
__________
(1) سورة الحجرات - الآية 11 .
(2) أخرجه البخاري - كتاب الاستئذان - باب إذا كانوا أكثر من ثلاثة فلا بأس بالمسارة والمناجاة - حديث رقم 6290 .(1/55)
قال صلي الله عليه وسلم: " لاَ يُشِيرُ أَحَدُكُمْ عَلَى أَخِيهِ بِالسِّلاَحِ ، فَإِنَّهُ لاَ يَدْرِى لَعَلَّ الشَّيْطَانَ يَنْزِعُ فِى يَدِهِ ، فَيَقَعُ فِى حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ "(1) .. وليس ذلك مختصًا بالمسلم كذلك ، فإن تعذيب غير المسلم له نفس الحكم ، مادام ذميًا أو معاهدًا أو مُؤمّنًا .. فله حق الحياة الآمنة التي تشيع في أكنافها الطمأنينة .
حدث زيد بن سعنة وهو من أحبار اليهود أنه أقرض النبي صلي الله عليه وسلمقرضًا كان محتاجًا إليه ليسد به خللاً في شئون نفر من المؤلفة قلوبهم .. ثم رأى أن يذهب قبل موعد الوفاء ليطالبه بالدين ، قال : أتيته فأخذت بمجامع قميصه وردائه ونظرت إليه بوجه غليظ ، قلت له : يا محمد ألا تقضيني حقي ؟ فوالله ما علمتكم بني عبد المطلب إلا مُطْلاً ، ولقد كان لي بمخالطتكم علم .. ونظر إليّ " عمر " وعيناه تدوران في وجهه كالفلك المستدير ، ثم رماني ببصره وقال : يا عدو الله ، أتقول لرسول الله صلي الله عليه وسلمما أسمع وتصنع به ما أرى ؟ فوالذي نفسي بيده لولا ما أحاذر فوته لضربت بسيفي رأسك ، فقال النبي صلي الله عليه وسلم:
" يا عمر ، أنا وهو كنا أحوج إلى غير هذا .. أن تأمرني بحسن الأداء ، وتأمره بحسن اتباعه .. اذهب به يا عمر فأعطه وزده عشرين صاعًا من تمر مكان ما روعته " ، ففعل " عمر " .
هكذا يعطي الرسول صلي الله عليه وسلمعوضًا ليهودي رُوِّع من " عمر " بعد أن أساء الأدب في معرض الطلب .
مراعاة حرمة البيوت :
ومن مقتضى هذه الكرامة أيضًا مراعاة حرمة البيت والأسرة ، فلا يحل لأحد أن يتهجم على المسكن ، أو أن يدخل البيت بغير إذن صاحبه ، أو يتجسس على من فيه من الخارج ، أو يتبصص من ثقب فيه على من فيه .. '[ :
(
__________
(1) أخرجه البخاري - كتاب الفتن - باب قول النبي صلى الله عليه وسلم : " مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلاَحَ فَلَيْسَ مِنَّا " - حديث رقم 7072(1/56)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا)(1) ، وقال : (وَلا تَجَسَّسُوا )(2) بل إن من أدب الإسلام ألا يأتي الإنسان بيت أخيه مواجهة حتى لا يكشف عورة عند فتح الباب .
ومن مقتضى هذه الكرامة ألا يعتدي على حرمته في نفسه بتفتيشه أو فتح مراسلاته إلا إذا كان بوجه حق ، وكان في سلوكه ما يريب .. فلقد مضى تاريخ الإسلام على أن الرسائل تختم بالخاتم حتى لا يتلاعب بها أحد .. ولقد نظم سيدنا " عمر " مرفق البريد تنظيمًا حضاريًا صار المنظمون من بعده عالة عليه .
حق العدالة
إن العدالة حين تسود مجتمعًا تنصرف كل طاقاته إلى العمل المثمر والنتاج الصالح في جو من الاطمئنان على وصول كل حق إلى أربابه الشرعيين دون جور أو إجحاف .
ومن أجل ذلك أعطى الإسلام لكل إنسان حقه في التمتع بظلال هذه العدالة .. ورسم القرآن الكريم مناهج تحقيقها ، والقرآن الكريم حينما يحدد ذلك - وهو من الله تعالى وتسري أحكامه على الحاكم والمحكوم - فإنه لا يتأتى معه استبداد ولا ظلم ، فالاستبداد يأتي حين يكون هوى الحاكم هو القانون : (إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)(3) .
__________
(1) سورة النور - جزء من الآية 27 .
(2) سورة الحجرات - جزء من الآية 12 .
(3) سورة يونس - الآية 44 .(1/57)
ولقد أمر القرآن الكريم بالعدالة مع الوالدين والأقربين .. ومع الأعداء والمخالفين على السواء ، بل أمر بها مع نفس الإنسان : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً)(1) .
وأمر بها مع اليهود وبني إسرائيل المسالمين ..
قال تعالى : (فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)(2)
وأمر بها الحاكم والمحكوم : كتب " عمر بن الخطاب " (# عنه منشورًا إلى الناس يقول فيه : " إني لم أبعث عمالي ليضربوا جلودكم ولا ليأخذوا أموالكم ، فمن فعل ذلك فليرفعه إليّ لنقتص منه " ، فقال " عمرو بن العاص " : لو أن رجلاً أدب بعض رعيته أتقصّنّ منه ؟ قال " عمر " : " إي والذي نفسي بيده لأقصن منه ، وقد رأيت رسول الله يقص من نفسه " .
وكان " جبلة بن الأيهم " سيدًا وأميرًا في الجاهلية - وكان نصرانيًا فأسلم - وطاف بالكعبة يومًا ، فزاحمه أعرابي من العامة ، وداس ثوبه غير قاصد ، فاستشاط الأمير غيظًا ، ولطم الأعرابي على وجهه ، ورفعت القضية إلى " عمر " فأمر بالقصاص إلا أن يعفو الأعرابي .. فقال " جبلة " : كيف وهو سوقة وأنا ملك ؟ فقال " عمر " : إن الإسلام سوى بينكما ، فطلب الأمير مهلة فرّ في أثنائها على أرض الرومان راجعًا إلى النصرانية .
__________
(1) سورة النساء - الآية 135 .
(2) سورة المائدة - جزء من الآية 42 .(1/58)
ولقد بلغ الإسلام حدًّا من العدالة لم يبلغها ولن يبلغها قانون سواه ، ورد عن بعض الفقهاء : " إذا بعث الحربي عبدًا له متاجرًا إلى دار الإسلام بأمان فأسلم العبد بعد دخوله دار الإسلام بيع ، وكان ثمنه للحربي مالكه " .. هكذا تصل عدالة الإسلام إلى حد يحتفظ فيه بحق الحربي في ثمن العبد الذي أسلم .
المتهم بريء حتى تثبت إدانته :
وانطلاقًا من هذه العدالة التي بلغت هذا الحد من السمو لا يمكن أن يعتبر شخص مدينًا بدون ثبوت الدعوى عليه ، بل إن الإسلام - الذي يعتبر من اتهم بالزنا بريئًا حتى يشهد عليه أربعة عدول ، بحيث إذا نقص هذا العدد اعتبر المدعي والشهود فسقة ، واعتبر المتهم بريئًا - إن هذا الإسلام لا يمكن أن يجيز لأي سلطة أن تعامل أي متهم معاملة المجرم قبل ثبوت الدعوى عليه .
كما أن الإسلام قد أعطى للعامل حرية في اختيار نوع العمل الذي يتناسب مع مقدرته ومواهبه ، فلا يُحْكَم على إنسان بعمل معين ، أو يعاقب على تركه إلا إذا ترتب على هذا العمل أو الترك مضرة عامة ، أو حدث من جرائه خلل ، أو تضارب مع مصلحة الجماعة ، فالقاعدة الإسلامية : " لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ " .
كما أنه لا يتأتى في جو الإسلام أن يضيع حق أو تنظر قضية بغير نزاهة وتحرٍّ وتدقيق ، فإن الإسلام يستغرق في تفاصيله أحوال القاضي : من غضبه ورضاه ، وضيق نفسه وانبساطها ، فلا يجيز له أن يحكم في قضية ما وهو غاضب ، أو جائع ، أو قلق ، أو مشغول .
ميزان العدالة :(1/59)
كما أن الإسلام يضع في ضمير المسلم ميزانًا للعدالة بينه وبين الله من الخشية والتقوى ومراقبته تعالى ، قال صلي الله عليه وسلم: " إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَىَّ ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ أَخِيهِ شَيْئاً بِقَوْلِهِ ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ فَلاَ يَأْخُذْهَا "(1) ، ويشير القرآن الكريم إلى هذا الميزان الدقيق فيقول : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْأِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)(2) .
حق الملكية
من الحقوق المقررة في الإسلام حق الملكية الفردية ؛ إذ هو يتعلق بغريزة حب التملك المركوزة في الطبائع البشرية ، والإسلام يهذب هذه الغرائز ولا يكبتها ، ويوجهها ولا يحاربها ، غاية ما هنالك أن يكون هذا التملك من أبواب مشروعة ، ومن طريق حلال ، فإذا كان كذلك كانت حرمته في الإسلام حرمة الأعراض التي يدافع عنها المرء حتى آخر رمق في الحياة ، وقد مرت نصوص كثيرة تؤكد هذا ، قال صلي الله عليه وسلم: " لاَ يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلاَّ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ "(3) .
__________
(1) أخرجه البخاري - كتاب الشهادات - باب من أقام البيّنة بعد اليمين - حديث رقم 2680 .
(2) سورة البقرة - الآية 188 .
(3) أخرجه الدارقطني - كتاب البيوع - باب (1) - حديث رقم 2924 .(1/60)
إن تملك المال ليس مباحًا في نظر الإسلام فقط ، لكنه أمر مرغوب فيه ، مطالب به ، ولا يتنافى تملكه مع الورع والتقوى والزهد .. قال صلي الله عليه وسلم: " يَا عَمْرُو نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ لِلْمَرْءِ الصَّالِحِ "(1) ، وكان الرسول صلي الله عليه وسلم يدعو بهذا الدعاء : " اللَّهُمَّ إِنِّى أَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالْعَفَافَ وَالْغِنَى "(2) .
إن المال عصب الحياة وقيام الناس ، ولا يعقل أن يذم الإسلام ما به قيام الناس ، بل إنه لينهى عن الإهمال فيه وإعطائه للسفهاء ، قال تعالى : (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً)(3) .
والإسلام حين يعطي الإنسان هذا الحق فإنه بذلك يحفز الهمم لتثميره ، وتنميته ، والانتفاع به في حدود ما شرع .
لقد أباح التملك والانتفاع الكامل بثمرة العمل فقال صلي الله عليه وسلم: " مَنْ أَحْيَا أَرْضاً مَيِّتَةً فَهِىَ لَهُ "(4) ، ولقد ترك كثير من الصحابة أموالاً طائلة بعد الموت .
وقد وضع الإسلام نظام المواريث بحكمة ودقة وعدالة تحول دون الاختلاف والشقاق بين الوارثين ، عكس ما يحدث عند بعض أنظمة الغرب التي تنقل جميع الثروة أو معظمها إلى الولد البكر .
__________
(1) أخرجه أحمد - حديث عمرو بن العاص - حديث رقم 18236 .
(2) أخرجه مسلم - كتاب الذكر والدعاء - باب التعوذ من شر ما عمل ومن شر ما لم يعمل - حديث رقم 7079 .
(3) سورة النساء - جزء من الآية 5 .
(4) أخرجه مالك - كتاب الأقضية - باب القضاء في عمارة الموات - حديث رقم 1427 .(1/61)
ويحرم معظم الفقهاء أن يوصي المالك لأي وارث استنادًا إلى قول الرسول صلي الله عليه وسلم: " لاَ وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ "(1) ، كما يحرم الإسلام أن يوصي المالك لغير ورثته إلا في حدود الثلث من التركة ، وذلك بعكس ما يجري في بعض نظم الغرب التي تجعل المالك حرًّا في التصرف ، بحيث يحق له أن يوصي بتركته كلها لمن يشاء ، مما أثار حفيظة أصحاب الحق الشرعي ، وخلق تفاوتًا ضخمًا بين الناس ، وفتح أبوابًا واسعة للمذاهب المتطرفة الهدامة التي اعتمدت على الثورات والانقلابات العنيفة التي سادت أوروبا في العصور الحديثة .
فلو لم يكن للملك مكانته المحترمة في الإسلام فكيف يفسر اهتمامه الشديد بتنظيم ثرواته وتداولها ؟!
إن حق الملكية الفردية له من الحرمة والحماية ما يجعله أصلاً وأساسًا لبناء النظام السليم لاقتصاديات الأمة التي تسير على هدى الإسلام .
بيد أن كل مالك في عرف الإسلام مسئول عن تصريف ماله حسب أوامر الشرع وتعاليمه ، أي أنه مسئول عن هذا المال من أين اكتسبه وفيم أنفقه ؟ ومسئول عن أداء الواجبات الاجتماعية المفروضة فيه من قبل الخالق ، ومسئول عن كل تصرف سيء يخل بأغراض الشرع الحنيف .
والإسلام بعد هذا يضع لهذا الحق من الحفظ والرعاية ما يجعله يفرض أقسى العقوبات على من يعتدي على حرمته بسلب أو نهب أو اختلاس أو قطع طريق ، ففرض قطع يد السارق ، '[ : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(2) .
__________
(1) أخرجه البخاري - كتاب الوصايا .
(2) سورة المائدة - الآية 38 .(1/62)
وفرض القتل أو الصلب أو النفي أو قطع الأيدي والأرجل من خلاف لقطاع الطريق الذين يرهبون الناس بالاعتداء على حرمات أموالهم وأعراضهم ودمائهم ، '[ : (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ)(1) .
حق التكافل الاجتماعي
للإسلام نظام فريد متكامل يخلق الجو الصحيح للمودة المتبادلة بين أفراد المجتمع ، ويستعمل المال وسيلة لتحقيق هذا الهدف ، ولضمان مستوى معيشي لائق بكرامة الإنسان ، ولذلك نراه حريصًا على تكافؤ الفرص وحماية المجتمع من البطالة والمرض والعجز والترمل والشيخوخة .
إن الفرد الذي أصيب بعاهة تمنعه من أداء العمل وليس لديه من المال ما يكفل له المعيشة الطيبة ، وإن الضعيف الذي لا تمكنه طاقاته من اكتساب أجر يضمن له تلك الحياة المناسبة ، وإن اليتيم الذي فقد أباه وليس لديه ما يساعده على التربية السليمة حتى ينتفع المجتمع من مواهبه وطاقاته ، وإن الأرمل التي فقدت زوجها - وهو يعمل في خدمة الأمة - ولم يترك لها ما يكفيها وعياله ، وإن الشيخ الهرم الذي استنفد قواه لصالح هذا المجتمع ، ولم يستطع توفير ما يحفظ كرامته في الكبر ، إن هذه الطوائف - وأمثالها كثير في كل مجتمع - لا يتفق مع كرامة الإنسان ، ولا كرامة الأمة أن يتركوا هملاً بلا رعاية ، بل إنه لا يتحقق الأمن عند العامل إذا رأى زميله - الذي أصابته محنة في بعض أعضائه ، أو أصابه الكبر والشيخوخة - مهملاً ضائعًا بلا كفالة ولا ضمان من المجتمع .. من أجل هذين الهدفين :
1 - مراعاة الكرامة الإنسانية .
2 - تحقيق وسائل الثقة والأمن عند الأفراد العاملين .
__________
(1) سورة المائدة - الآية 33 .(1/63)
شرع الإسلام من وسائل التضامن الاجتماعي ما يهيئ للجميع حياة طيبة وكريمة ، بحيث لا يوجد في هذا المجتمع - الذي يطبق هذه الوسائل - عاجز ولا فقير ولا محتاج .. ولقد حقق هذا الأمل الكبير سيدنا " عمر بن عبد العزيز " في مدة لا تتجاوز ثلاثين شهرًا ، هي كل المدة التي حكم فيها الدولة الإسلامية الواسعة ، من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب .. فلقد روى المؤرخون أن " يحيى بن سعيد " قال : " بعثني عمر بن عبد العزيز عاملاً على صدقات إفريقية ، فاقتضيتها وطلبت الفقراء لأعطيها إياهم ، فلم نجد بها فقيرًا ، ولم نجد من يأخذها ، لقد أغنى عمر الناس ، فاشتريت بها عبيدًا وأعتقتهم وجعلت ولاءهم للمسلمين " .
ذلك أن الإسلام يوزع الثروات توزيعًا عادلاً يحقق كل هذه الأهداف النبيلة .. لقد فرض نظام الزكاة وجعله ركنًا من أركان الإسلام في معظم روافد الثروة : في الزروع ، والثمار ، والتجارة ، والأنعام ، والذهب ، والفضة ، والركاز .. وحدد مصارفها لمحتاجيها من الفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم والمكاتبين والغارمين وأبناء السبيل وفي سبيل الله .. وسلك مانعي هذه الزكاة وجاحديها مع الكافرين والمرتدين عن دين الله تعالى لدرجة جعلت " أبا بكر " (# يحاربهم ويقول : " لو منعوني عقال بعير كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم عليه " .(1/64)
وشرع مع الزكاة صدقة التطوع ورغّب فيها بإثارة مشاعر الرحمة والإنسانية في النفوس المؤمنة ، قال صلي الله عليه وسلم: " مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ "(1) ، وقال صلي الله عليه وسلم: " وَاللَّهُ فِى عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِى عَوْنِ أَخِيهِ "(124) ، وقال صلي الله عليه وسلم: " أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ فِى الْجَنَّةِ هَكَذَا "(2) وشبك بين أصابعه ، وقال صلي الله عليه وسلم: " لاَ تُنْزَعُ الرَّحْمَةُ إِلاَّ مِنْ شَقِىٍّ "(3) .
وأوصى الإسلام بالجار ذي القربى ، والجار الجنب ، والصاحب بالجنب .. قال صلي الله عليه وسلم: " مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِى بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ "(4) ، وقال صلي الله عليه وسلم: " ليس المؤمن الذي يشبع وجاره جائع "(5) .
وأوجب على الأغنياء نفقة أقاربهم العاجزين .. وعلى الولد نفقة الوالدين الفقيرين .. وعلى الزوج نفقة الزوجة والأطفال .. وعلى المجتمع أن يتضامن في القضاء على الجوع والفاقة والحرمان .. وعلى بيت المال أن ينفق على الزمِن والشيخ الفاني ، والمريض ، والعاجز ، والمرأة التي لا عائل لها ولا مال عندها .
حق التكافل للمسلم ولغيره :
__________
(1) أخرجه مسلم - كتاب الذكر والدعاء - باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر - حديث رقم 7028 .
(2) أخرجه البخاري - كتاب الأدب - باب فضل من يعول يتيمًا - حديث رقم 6005 .
(3) أخرجه أبو داود - كتاب الأدب - باب في الرحمة - حديث رقم 4942 .
(4) أخرجه البخاري - كتاب الأدب - باب الوصاة بالجار - حديث رقم 6015 .
(5) أخرجه البخاري - الأدب المفرد 1/52 .(1/65)
ولا فرق في تعاطف المجتمع الإسلامي بين مسلم وغير مسلم قال " ابن عباس " لغلامه - وهو يذبح شاة - : يا غلام لا تنس جارنا اليهودي - ثلاث مرات - فقال الرجل : لم تقول ذلك يا ابن عباس ؟ فقال : والله إن رسول الله صلي الله عليه وسلمقال : " مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِى بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ " .. ورأى " عمر " شيخًا يتسول وهو يهودي فقرر له نفقة من بيت المال وقال : " ما أنصفناك إذ أخذنا منك الجزية ، وأنت شاب وتركناك تتسول وأنت شيخ " .
وكتب " خالد بن الوليد " في معاهدة الصلح مع أهل الحيرة المسيحيين : " وجعلت لهم أي شيخ ضُعف عن العمل أو أصابته آفة من الآفات أو كان غنيًا فافتقر وصار أهل دينه يتصدقون عليه طرحت جزيته وعيل من بيت مال المسلمين هو وعياله ما أقاموا بدار الإسلام " .
هذه هي العدالة الإسلامية في أسمى معانيها .. وهذا هو الضمان الاجتماعي الحق .. فليقارن من أراد أن يقارن بين هذه القوانين ، وبين ما استحدث من قوانين ، ليجد السمو والعظمة يتبديان بوضوح كامل في تشريعات الإسلام .
حق الإعفاف(1/66)
إذا بلغ الشاب مبلغ الرجال .. وبلغت الفتاة مبلغ النساء ، فمن حقهما على المجتمع أن يؤسسا أسرة ، وأن يسهما في خدمة الأمة وهما في بيت مستقر ترفرف عليه السعادة والهناء والاطمئنان ، دون عقبات أو عراقيل .. '[ : (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ)(1) ، وقال صلي الله عليه وسلم: " يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ "(2) .
والزواج في الإسلام له أهداف نبيلة تتجاوز حدود المتعة الجسمية إلى آفاق من السمو الروحي ، بالسكن والمودة والرحمة '[ :
(وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)(3) .. وهو عماد الأسرة .. والأسرة عماد المجتمع .. وكلما كان الزواج قائمًا على أسس متينة كانت الأسرة أقوى وأسعد تفيض منها القوة والسعادة على المجتمع الذي هي لبنة من لبناته .
__________
(1) سورة النور - جزء من الآية 32 .
(2) أخرجه البخاري - كتاب النكاح - باب قول النبي صلى الله عليه وسلم : " مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ " - حديث رقم 5065 .
وأخرجه مسلم - كتاب النكاح - باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ووجد مؤنة - حديث رقم 3464 .
(3) سورة الروم - الآية 21 .(1/67)
لذلك شرع الإسلام نُظُمًا محكمة تمنع الشطط في الاختيار .. وتمنع أن يكون الاختيار لأسباب سريعة الزوال ، منها : مراعاة الجانب المعنوي مع الجانب الحسي في الاختيار : من حسن الطبع والأخلاق والدين .. قال صلي الله عليه وسلم: " تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لأَرْبَعٍ لِمَالِهَا وَلِحَسَبِهَا وَجَمَالِهَا وَلِدِينِهَا ، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ "(1) .
ولكي يتوافر الاختيار الصحيح ، شرع الإسلام " الخطبة " وأباح للخاطب والمخطوبة أن يرى كل منهما الآخر في حضرة المحارم ، فإن الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف ، وما تناكر منها اختلف .. وحدد هذه الرؤية بما يظهر عادة من المرأة المسلمة ، ويدل في نفس الوقت على الحسن والجمال .. وهو الوجه والكفان .
عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ : خَطَبْتُ امْرَأَةً عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلي الله عليه وسلمفَقَالَ النَّبِىُّ صلي الله عليه وسلم: " أَنَظَرْتَ إِلَيْهَا ؟ " . قُلْتُ : لاَ . قَالَ : " فَانْظُرْ إِلَيْهَا فَإِنَّهُ أَجْدَرُ أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَكُمَا "(2) .
__________
(1) أخرجه البخاري - كتاب النكاح - باب الأكفاء في الدين - حديث رقم 5090 .
(2) أخرجه النسائي - كتاب النكاح - باب إباحة النظر قبل التزويج - حديث رقم 3235 .(1/68)
وكما أعطى الإسلام هذا الحق للرجل أعطاه كذلك للمرأة ، فهو حين يراها مكشوفة الوجه ستراه هي أيضًا .. ولقد أعطى لها الإسلام حق الاختيار ولكن في صورة من الحياء تتفق مع طبيعة الأنوثة التي يزيدها الحياء جمالاً وكمالاً ، بحيث يستأذنها وليها إن كانت بكرًا .. ويستأمرها إن كانت ثيّبًا .. قال صلي الله عليه وسلم: " لاَ تُنْكَحُ الأَيِّمُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ وَلاَ تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ " . قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَكَيْفَ إِذْنُهَا ؟ قَالَ : " أَنْ تَسْكُتَ "(1) .
ثم بعد هذه المقدمات الهامة يأتي عقد الزواج الذي يسميه الإسلام في القرآن الكريم بالميثاق الغليظ ، ويحرص الإسلام على حياطته برعاية خاصة ، فيؤكد على الرجل أن يستوصي بزوجته ، وأن يكون لها الراعي الأمين ، والشريك الحريص على إيفائها حق الزوجة ، في إطار الإخلاص والرحمة .. قال صلي الله عليه وسلم: " اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ "(2) ، وقال صلي الله عليه وسلم: " خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِهِ "(3)
ويؤكد على المرأة كذلك أن تراعي حقوق زوجها ، وأن تكون في طاعته ..
__________
(1) أخرجه البخاري - كتاب النكاح - باب لا ينكح الأب وغيره البكر والثيب إلا =
= برضاها - حديث رقم 5136 .
وأخرجه مسلم - كتاب النكاح - باب استئذان الثيّب في النكاح بالنطق والبكر بالسكوت - حديث رقم 3538 .
(2) أخرجه البخاري - كتاب أحاديث الأنبياء - باب خلق آدم صلوات الله عليه وذريته - حديث رقم 3331 .
وأخرجه مسلم - كتاب الرضاع - باب الوصية بالنساء - حديث رقم 3720
(3) أخرجه الترمذي - كتاب المناقب - باب فضل أزواج النبي - حديث رقم 4269 .(1/69)
قال صلي الله عليه وسلم: " إِذَا صَلَّتِ الْمَرْأَةُ خَمْسَهَا وَصَامَتْ شَهْرَهَا وَحَفِظَتْ فَرْجَهَا وَأَطَاعَتْ زَوْجَهَا قِيلَ لَهَا ادْخُلِى الْجَنَّةَ مِنْ أَىِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ شِئْتِ "(1) ، وقال صلي الله عليه وسلم: " أَيُّمَا امْرَأَةٍ مَاتَتْ وَزَوْجُهَا عَنْهَا رَاضٍ دَخَلَتِ الْجَنَّةَ "(2) .
معالجة الشقاق بين الزوجين :
__________
(1) أخرجه أحمد - مسند عبد الرحمن بن عوف - حديث رقم 1683 .
(2) أخرجه الترمذي - كتاب الرضاع - باب ما جاء في حق الزوج على المرأة - حديث رقم 1194 .(1/70)
فإذا حدث شقاق بينهما طلب الإسلام إلى الزوج أن يتريث ويتأنى ولا يغضب .. '[ :(َإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً)(1) ، وقال صلي الله عليه وسلم: " لاَ يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقاً رَضِىَ مِنْهَا آخَرَ "(2) ، وبذلك يتغلب على الخلاف الطارئ الذي قد يهدد الأسرة بالانهيار ، فإذا حدث الشقاق من ناحيتها .. فللزوج أن ينصحها بالكلام اللين وبأسلوب الملاطفة ، فإن أصرت فله أن يهجرها في المضجع ، فإذا عاندت فله أن يضربها ضربًا خفيفًا غير مبرح .. فإذا لم يحدث وفاق بعد هذه الوسائل عقدت لجنة مصالحة مكونة من مندوب عن الزوج من أهله ، ومندوب عن الزوجة من أهلها : (إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا)(3) ، فإذا وجدا أن الشقاق قد اتسع ، وأن الرأب لن ينصدع ، وأن الحياة بينهما صارت جحيمًا لا يطاق ، فإن الإسلام يبيح في هذه الحالة الطلاق ، ولكنه حين يبيحه يضع له نظامًا خاصًا يكون به طلاقًا سنيًا حسنًا .. فينهى الإسلام الزوج أن يطلقها إلا في حالة طهر من الدورة الشهرية ، ولم يقربها في هذا الطهر .. في هذه الحالة الخاصة التي هي مدعاة لكمال الرغبة في المرأة .. إذا ظل الخلاف مستمرًا فإن الرجل لن يقدم على الطلاق حينئذ إلا وحبال الصلة قد انقطعت ولم يعد للحياة الزوجية معها سبيل .
__________
(1) سورة النساء - جزء من الآية 19 .
(2) أخرجه مسلم - كتاب الرضاع - باب الوصية بالنساء - حديث رقم 3721 .
(3) سورة النساء - جزء من الآية 35 .(1/71)
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَر رضى الله عنهما أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهْىَ حَائِضٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم فَسَأَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَسُولَ اللَّهِ صلي الله عليه وسلمعَنْ ذَلِكَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم: " مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ، ثُمَّ لِيُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ ، ثُمَّ تَطْهُرَ ، ثُمَّ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدُ وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ ، فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِى أَمَرَ اللَّهُ أَنْ تُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ "(1) .
__________
(1) أخرجه البخاري - كتاب الطلاق - باب قوله : )َا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) - حديث رقم 5251 .(1/72)
وهو حين يقدم على الطلاق يطالبه الإسلام أن يوقع عليها طلقة واحدة رجعية .. ويطالبه كذلك بأن يبقيها في بيت الزوجية مدة العدة لا تخرج منه إلا أن تأتي بفاحشة مبيّنة ، وفي أثناء العدة وهي مدة كافية لندم المتسرع ، له حق مراجعتها بدون تعقيدات ولا معوقات : ( وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحاً)(1) ، فإذا ما انتهت العدة صارت غريبة عنه ، ولكن الإسلام يبيح لهما أن يعودا إلى حياة الزوجية بعقد جديد .. وقد وسع الإسلام أمامهما الفرص فأعطاهما حق الطلاق والعودة مرتين ، '[ : (الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ )(2) ، كما ندب حين الطلاق أن يكون هناك شاهدان حتى يبذلا جهدًا في منع وقوعه ، '[ : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ)(3) ، والإسلام لا يضع كل هذه التشريعات إلا ليحصر الطلاق في دائرة الضرورة ، حفاظًا على حق الأولاد في حماية الأسرة والتربية ، والحيلولة بين انهيار الأسر وتشريد النشء الجديد.
حق المرأة في الإسلام
تختلف نظرة الإسلام إلى المرأة عن أي نظام سبقه ، لم يعتبرها سببًا لوقوع آدم علية السلام في الخطيئة حتى تلعن كما فعل غيره ، ولكن إبليس قد وسوس لهما معًا .
__________
(1) سورة البقرة - جزء من الآية 228 .
(2) سورة البقرة - جزء من الآية 229 .
(3) سورة الطلاق - جزء من الآية 2 .(1/73)
ولم يعتبرها جنسًا أدنى من الرجل ، بل ردهما إلى أصل واحد ، ومزج بينهما مزجًا لا يستطيع أحد فصله : (وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً )(1) ، ووجه الخطاب إليهما معًا في التكاليف ، وحدثنا عن إمكان تفوق المرأة على الرجل في القيام بهذه التكاليف : (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ)(2) .
فالمساواة قائمة بين الرجل والمرأة في القيمة الإنسانية المشتركة ، وأمام القانون ، والتكاليف ، وفي الحقوق العامة .. فلها حق التعليم ، وحق التملك والتصرف فيما تملك دون حجر عليها من الرجل ، قال تعالى : (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً )(3) ، ولها حق اختيار الزوج كما سبق أن أشرنا إلى ذلك ، ولها شخصيتها القانونية ، فالإسلام لا يسلبها حق انتسابها إلى أبيها حينما تتزوج وينسبها إلى زوجها كما تفعل بعض الدول .. والقرآن الكريم يعبر عن هذه المساواة القائمة بينهما في '] : (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ)(4) .
قضية القوامة :
هذه الدرجة التي تحدثت عنها تلك الآية الكريمة تحتاج إلى مزيد من التفصيل والبيان حتى نأتي على نقد الناقدين وتشهير المحرفين .
هناك فعلاً تفرقة في بعض الأحكام بين الرجل والمرأة تبعًا لاختلاف وظيفة كل منهما في الحياة نتيجة لاختلاف الطبيعة المفطور عليها كل منهما .
__________
(1) سورة النساء - جزء من الآية 1 .
(2) سورة التحريم - جزء من الآية 11 .
(3) سورة البقرة - جزء من الآية 229 .
(4) سورة البقرة - جزء من الآية 228 .(1/74)
فشهادة المرأتين برجل في بعض الأمور العامة التي لا تتصل بمحيط النساء .. إذ أن اختلاط المرأة بالحياة العامة قليل لكثرة مشاغلها في البيت وتربية الأولاد .. كما أنها تنتابها الدورة الشهرية وأعراض الحمل والوضع .. وكل ذلك يؤثر عليها ذهنيًا فقد أثبت الطب الحديث أنها تشبه المريضة في هذه الأحوال .. وهذا المرض المتكرر قد يؤثر على ذاكرتها فتنسى ما رأته ، وهذا المعنى هو الذي عبّر عنه القرآن الكريم في قوله : (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى)(1) .
والقوامة في البيت للرجل لما طبعت عليه المرأة من عاطفة جياشة تؤهلها للحضانة والأمومة .. وهذه الطبيعة تجعلها سريعة الانفعال .. ولأن الرجل هو المكلف بالإنفاق عليها وعلى البيت .. وليس من العدالة في شيء أن يكلف أحد بالإنفاق على هيئة دون إشراف عليها .. زد على ذلك أن المرأة بحكم طبيعتها وحيائها لا تتصل بالحياة العامة كثيرًا كما أسلفنا .. والإشراف على البيت يحتاج إلى دراية كاملة بكل ما يجري على أرض الواقع ، حتى تكيف الأسرة نفسها وتصرفاتها على ضوء خط السير للمجتمع ، إذ هي لبنة من لبناته .. ولقد صرح القرآن الكريم بسبب إعطائه الرجل حق القوامة ، فقال تعالى : (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ)(2)
التفرقة في الميراث :
__________
(1) سورة البقرة - جزء من الآية 282 .
(2) سورة النساء - جزء من الآية 34 .(1/75)
والمرأة على النصف من الرجل في الميراث في بعض الحالات ، لأنها من مبدأ حياتها إلى نهايتها مكفولة لا كافلة .. حينما تكون فتاة لها حق النفقة على والدها حتى تتزوج ، وحينما تتزوج تكون زوجة لها حق المهر والنفقة على زوجها .. وحينما تكون فقيرة أرمل لها حق النفقة على أقربائها الموسرين .. فإن لم يكن لها أقرباء موسرون فعلى الدولة .. فكانت التفرقة في الميراث تبعًا للتفرقة في الأعباء الاقتصادية .
حق الطلاق :
وحق الطلاق ثابت للرجل .. إذ هو الخاسر الذي سيتحمل مغبته من تحمله لحقوق المرأة والأولاد بعد الطلاق .. كما أنها سريعة الانفعال كما أسلفنا .. هذا إذا وثقت المرأة فيه أولاً ، وأسلمت له قيادها ، أما إذا ارتابت في حسن تصرفه أو تخلخلت ثقتها فيه فلها أن تشترط عليه قبل الزواج أن تنوب عنه في طلاق نفسها متى شاءت كما رأي ذلك بعض الفقهاء .. كما أن لها حق طلب الطلاق في حالات وقوع غبن عليها أو إساءة الرجل في استعمال حقوقه ، ولها حينذاك أن ترفع أمرها للقضاء وتطلب الطلاق لإعساره بالنفقة ، أو لتقصيره في حق من حقوق الزوجية ، أو لاتقاء الضرر والضرار ، أو لغيبة الزوج غيبة طويلة .
كما أن لها أن تدفع المهر الذي أخذته وتطلب الخلع منه للكراهية .
المرأة ورياسة الدولة :
والمرأة لا يجوز لها أن تتولى رياسة الدولة وتوجيه دفة الحكم ، فلقد صح عن النبي صلي الله عليه وسلم حينما ولى الفرس عَلَيْهِمْ بِنْتَ كِسْرَى قَالَ : " لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً "(1) ، ذلك أن هذه المناصب الخطيرة تحتاج إلى وعي دائم وكامل لا يتوافر للمرأة في الحالات الخاصة بالنساء والتي أسلفنا بعضها .. وليس عندها استعداد فطري للقيام بهذه المهمة الخطيرة .
منع زواج المسلمة من غير المسلم :
__________
(1) أخرجه البخاري - كتاب المغازي - باب كتاب النبي إلى كسرى وقيصر - حديث رقم 4425 .(1/76)
والمرأة المسلمة لا يجوز لها أن تتزوج بيهودي أو نصراني .. والرجل المسلم له أن يتزوج بيهودية أو نصرانية .. ذلك أن للرجل حق القوامة على المرأة .. ولا يتأتى من الرجل المسلم أن يجرح مشاعر امرأته غير المسلمة ، إذ هو مطالب في الإسلام أن يحترم كل الرسالات السابقة ، وأن يؤمن بكل الأديان والأنبياء الذين بعثوا قبل الإسلام .. فإذا ما بدرت منه بادرة تخل بالاحترام الواجب لسيدنا " عيسى " %/ أو لسيدنا " موسى " %/ مثلاً ، فليس بمسلم .. أما اليهودي والمسيحي فإنهما لا يؤمنان بالإسلام ، ولا بنبي الإسلام ، وهما بهذا قد يطعنان ويجرحان دين زوجتهما المسلمة مما قد يؤدي إلى شقاق دائم وخلاف مستمر .
حق الحفاظ على كيان الأسرة
لحماية هذا الكيان شرع الإسلام واجبات وآدابًا يرعاها كل من الزوج والزوجة داخل البيت حتى يستمر حبل الصلة والمودة متينًا وقويًا ، وحتى لا تكون هناك أخطار ومشاكل داخلية .. وشرع واجبات وآدابًا أخرى يتكفل بإقامتها المجتمع ممثلاً في الدولة حتى يحميها من الأخطار الخارجية التي تهدد بقاءها .
فقد أمر الزوج بالعمل والتكسب ليحمي زوجته وأولاده من آلام الفاقة والحرمان .. وأوصاه بزوجته خيرًا ، وبغض إليه الفرقة .. وحمله من التبعات ما يجعله يتوقف كثيرًا قبل التجرؤ على الطلاق .
وأمر الزوجة بالأمانة في بيت زوجها ، وحفظ ماله ، ورعاية أولاده .. ونهاها عن إدخال أحد بيت زوجها إلا بإذنه ، حتى لا يدخل بالفساد والإفساد ، وأمرها بالتحبب إلى زوجها وطاعته ، ولطف المعاشرة معه .
وأمرهما بتربية الأولاد وحسن تأديبهم ، '[ : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً)(1) ، وأباح للمرأة الفطر في رمضان إذا كانت مرضعًا حماية لها ولطفلها من الضعف والضرر .. وقد سبق مزيد من التفصيل والبيان لهذه الواجبات والآداب .
__________
(1) سورة التحريم - جزء من الآية 6 .(1/77)
فإذا ما تمت على وجهها المشروع كان البناء الداخلي متماسكًا لا تنال منه الأعاصير الهوج .. وتفرغ أعضاؤها للعمل البنّاء ، وإفراغ كل الطاقات المثمرة في نهضة الأمة ورعاية الطفولة التي هي الثمرة المرجوة لمستقبلها .
وشرع لذلك أيضًا حدودًا يرعاها المجتمع تكفل لكل أسرة أمنها واستقرارها ، وتحميها من التصدع والانهيار .. وأي رجل وأي امرأة في المجتمع كلاهما مأمور بغض البصر ، والاعتصام بالحياء من التردي في عواقب النظرة الخائنة ، حتى لا يفتتن أحد بجمال أحد ، فتتقوض دعائم الأسرة ، فقال تعالى بالنسبة للرجال : (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ )(1) وقال بشأن المرأة :(وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ)(2) .
وأمر كل النساء بالتزام الحشمة والوقار وألا يبدين زينتهن للأجانب وألا يتبرجن تبرج الجاهلية الأولى .. حفاظًا عليهن من أطماع المستهينين بالفضائل .. '[ : (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً)(3) ، وجعل الإسلام للبيت حرمة خاصة لا يجوز انتهاكها ، وحد حدودًا للزنا والقذف وكل أنواع الانحراف السلوكي الذي يؤدي إلى هدم الأسر وانصراف الطاقات الشابة للتسكع والجري وراء الرذيلة والفساد .
إن الدولة بعد كل هذه التوجيهات الإسلامية الرائعة مكلفة بتوفير ضمانات الاستقرار للأسر وحماية الآداب العامة التي تعين على ذلك ، إذ لا يمكن تركها للأفراد وحدهم .
__________
(1) سورة النور - جزء من الآية 30 .
(2) سورة النور - جزء من الآية 31 .
(3) سورة الأحزاب - الآية 59 .(1/78)
وإن ذلك لا يقل أهمية عن الدفاع ضد العدو الخارجي ، فإن العدو الداخلي ممثلاً في شيوع الرذيلة والفساد وانهيار الأخلاق لهو أنكى وأشد ضراوة في خلخلة الكيان للمجتمع الإسلامي بأسره .. قال الشاعر :
وَإِذا أُصيبَ القَومُ في أَخلاقِهِم فَأَقِم عَلَيهِم مَأتَماً وَعَويلا
حق التعليم والثقافة
للتعليم في الإسلام منزلة فريدة من الاهتمام والعناية ، فهو لا يتصور أن هناك إنسانًا على وجه الأرض يُرجى منه خير وهو غير معلم أو متعلم : " كن عالمًا أو متعلمًا ، ولا تكن الثالث فتهلك " .
وإنه بأول جملة نزلت من دستوره الخالد تحددت معالم هذا الدين ، إنهاتعتمد على التربية والتعليم : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ>1<خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ >2<اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ >3<الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ>4<عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ)(1) ، وأن آدم لم يفق الملائكة إلا بالعلم .
والمتعلم العامل بعلمه في نظر الإسلام ليس كالجاهل ولو كان عابدًا '[ : ( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ)(2) ، والعلم بتعبير القرآن الكريم يهدي صاحبه إلى الحق : (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ )(3) ، والعلم العميق سبيل الخشية من الله :)ِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)(4) ، وطلبه ليس للمسلم والمسلمة فيه اختيار ، إنه فرض لازم وواجب محتم .. قال صلي الله عليه وسلم: " طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ "(5) .
__________
(1) سورة العلق - الآيات 1 - 5 .
(2) سورة الزمر - جزء من الآية 9 .
(3) سورة سبأ - جزء من الآية 6 .
(4) سورة فاطر - جزء من الآية 28 .
(5) أخرجه ابن ماجه - المقدمة - باب فضل العلماء والحث على طلب العلم - حديث رقم 224 .(1/79)
والتعليم للصغار حق إلزامي على الكبار ، وعلى الدولة بنص هذا الحديث الكريم ، وبذلك التطبيق السليم من سيد المرسلين صلي الله عليه وسلم.. لقد قبل في فداء بعض أسرى بدر أن يعلم الواحد منهم عشرة من أطفال المسلمين القراءة والكتابة ، بل إن رسول الله صلي الله عليه وسلمليلزم المجتمع بالتضامن في إزالة الأمية ومحو الجهل ، ويضع على عنق المتعلم مسئولية التعليم للجاهل .. وعلى عنق الجاهل مسئولية التعلم من المثقف .. بل جعله حقًّا من حقوق الجوار .
خطب رسول الله صلي الله عليه وسلم ذات يوم فأثنى على طوائف من المسلمين خيرًا ثم قال : " ما بال أقوام لا يفقهون جيرانهم ولا يعلمونهم ؟! وما بال أقوام لا يتعلمون من جيرانهم ولا يتفقهون ؟! والله ليعلمن قوم جيرانهم وليتعلمن قوم من جيرانهم ويتفقهون أو لأعاجلنهم العقوبة " .. ثم نزل ، فقال قوم : من ترونه عني بهؤلاء ؟ .. ثم عرف أنه قصد بذلك الأشعريين ، فإنهم قوم فقهاء ولهم جيران جفاة جهلاء ، فبلغ ذلك الأشعريين ، فأتوا رسول الله صلي الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله ، ذكرت قومًا بخير ، وذكرتنا بشر ، فما بالنا ؟ فقال : " ليعلمن قوم جيرانهم وليتعلمن قوم من جيرانهم أو لأعاجلنهم العقوبة في الدنيا " ، فقالوا : يا رسول الله ، أنفطن غيرنا ؟ فأعاد قوله عليهم ، فطلبوا منه سنة يمهلهم فيها حتى يطبقوا هذا التوجيه الكريم .
الحث على تعلم العلوم الكونية :(1/80)
والإسلام لا يقصر واجب التعليم على العلوم الشرعية والدينية ، بل إنه يدعو إلى تعلم كل ثقافة فيها خير وصلاح للمجتمع .. ذلك أنه يتخذ من العلم وسيلة لكشف أسرار الكون ونواميسه ومجاهيله ، وكلما اكتشف العلم مجهولاً بهر العقل من دقة الصانع البديع ، ولا أدل على ذلك من إشارة القرآن الكريم إلى تحصيل علم الطبيعة والنبات والحيوان وطبقات الأرض .. ثم يعقب على هذه الإشارة بأن العلماء هم الذين يخشون الله .. '[ : { (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُود>27<ٌوَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) (1) ولكنه مع ذلك يقرر أن الاقتصار على العلم الدنيوي البحت وقوف عند ظاهر الأشياء وسبيل إلى انهيار الحضارات واستخدام الآلات في الحرب والتخريب .. '[ : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ >82< فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ)(2) .
__________
(1) سورة فاطر - الآيتان 27 ، 28 .
(2) سورة غافر - الآيتان 82 ، 83 .(1/81)
وعند التأمل في هذه الأدلة يتبيّن أن الإسلام هو أصل إيجاب التعليم على الدولة للأطفال في سنيهم الأولى بلا مقابل .. فإن الرسول صلي الله عليه وسلميعبّر عن طلب العلم بأنه فريضة ، وعلى الدولة أن تقيم فريضة الله تعالى .. ولم يطالب الرسول صلي الله عليه وسلمآباء الأطفال الذين تعلموا من أسرى بدر عوضًا .
أما التعليم الفني والمهني فإنه فضلاً عن حتمية اختلاف المواهب والاستعدادات الفطرية عند الأطفال ، فإن القرآن الكريم يعرض علينا نماذج تتجلى فيها روعة الفن والصناعة الدقيقة ، فداود %/ كان صانعًا لأدوات الدفاع : (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيد>10<َأَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ )(1) .
و" سليمان " %/ كان يصهر المعادن : (وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ)(2) ، والجن حوله يعملون له بمشيئته وبإذن ربه في صناعة المحاريب والقدور والجفان : (يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ)(3) .
ويمتن الله تعالى على البشر بما في البحر من ثروات مائية ومعدنية ، ويثير لديهم شعور الانتفاع بها على أوسع مدى .. وبالثروة النباتية مشيرًا إلى بهاء المنتجات الزراعية وجمالها .. وبالثروة المعدنية في جوف الأرض .. ويشير إلى عملية بناء السدود المحكمة في قصة ذي القرنين .
__________
(1) سورة سبأ - جزء من الآيتان 10 ، 11 .
(2) سورة سبأ - الآية 12 .
(3) سورة سبأ - الآية 13 .(1/82)
والقرآن الكريم مملوء بهذه المظاهر الحضارية التي تدعو إلى الإبداع والإتقان في مختلف الحرف والفنون .. ولقد شجّع الحكم الإسلامي في تاريخه الطويل على ذلك حتى صارت الحضارة الإسلامية منبعًا ثريًّا استقى منه الغرب علومه ومعارفه وحضارته التي يعيشها الآن .
أما الحرص على التعليم الجامعي العالي وتقدير المتعلمين ، فإن وصايا الإسلام بمواصلة التعليم حتى آخر رمق في الحياة .. ورفع منزلة العلماء إلى درجات تكاد تقرب من الأنبياء ؛ لتعني أن يتعلم المرء من المهد إلى اللحد .. '[ : (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً)(1) ، وقال صلي الله عليه وسلم: " إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ ، إِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَاراً وَلاَ دِرْهَماً إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَ بِهِ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ "(2) .
ولقد جعل الإسلام التخصص والتعمق في مختلف العلوم فرض كفاية على المجتمع يقوم به من لديه نبوغ كاف للتبريز في هذه المجالات .
__________
(1) سورة طه - جزء من الآية 114 .
(2) أخرجه الترمذي - كتاب العلم - باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة - حديث رقم 2898 .(1/83)
أما مناهج التربية الإسلامية التي تقوم على تهذيب الروح وإيقاظ الحافظة والحث على التفكير والتأمل ، وتقوية اللسان ، وبعث كل ما طوي في العقل والقلب من ينابيع صالحة ، وتلقين مبادئ الدين والخلق .. هذه المناهج كفيلة بتنمية الشخصية الإنسانية وتعويدها احترام الحريات الأساسية والحقوق الإنسانية ، وإرادة الخير والازدهار لكل شعوب الأرض التي يجمعها أصل واحد ونسب واحد ، وغني عن البيان أن الإسلام يطالب الآباء بتوجيه الأبناء وتربيتهم واختيار ما يصلح لمواهبهم أن تبرز فيه ، قال صلي الله عليه وسلم: " وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَهْوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ "(1)
وأما نوع الثقافة التي تسري في شرايين المجتمع ، ويباح في جو الإسلام تناولها ، والإسهام في تنميتها ، والتمتع بآثارها ، والاستفادة من نتائجها .. فهي كل ثقافة لا تتعارض مع مبادئ الإسلام ، ولا تهدم فضيلة من فضائله ، ولا تدعو إلى مذاهب هدامة ، أو عقائد فاسدة ، أو فلسفات منحرفة .. ذلك أن الجانب النظري من الثقافة محكوم بتراثنا الإلهي الخالد الذي وفر علينا الجهود البشرية المضنية التي بذلتها الأمم التي لا تؤمن بالإسلام ، ولم تصل إلى نتيجة مرضية توائم بين العقل والقلب ، وتسلك طبائع الإنسان ونوازع الفطرة ودوافع الغريزة في ثوب من التوازن والاتساق كما أسداه إليها هذا الدين العظيم .
واجبات بإزاء الحقوق
__________
(1) أخرجه البخاري - كتاب الأحكام - باب قول الله :( أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ )- حديث رقم 7138 .(1/84)
إذا كان كثير من الناس يعيش مستنفدًا جهده وطاقاته في المطالبة بالحقوق ولا يقنع بما يحصل منها مهما أخذ ، فإن الحقوق ليست غايات يسعى الإنسان إليها لذاتها ، وإنما هي وسائل فحسب ، تمكن الإنسان من أداء واجباته في الحياة ، وإذا كان بعض الناس يمضي في تلك الحياة كما تمضي البهائم والأنعام ، لا تدري الحياة بوجوده ولا بموته .. فإن قيمة الإنسان الحقيقية فيما يتركه من آثار ، وما يجدده في مظاهر تلك الحياة ، وفي إسهامه في خدمة المجتمع وتقدمه دينيًا وخلقيًا وعلميًا وماديًا .. ولولا هذا ما امتاز الإنسان على سائر المخلوقات ، ولكان وجوده عبثًا في الحياة .. '[ : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ>115< فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ)(1) .
إن حق الحياة ما منح للإنسان إلا ليستغله في النافع من القول والمفيد من العمل ، وليتخذ منها مطية لآخرته يلقى ربه بما قدم أبيض الوجه ، ناصع الصحيفة ، قوي الحجة ، آمنًا في وقت الفزع ، مكرمًا في وقت الحساب .
وما أعطي حق الحرية إلا لتنفسح أمامه كل المجالات ليستخدم فيها كل الطاقات ، بلا حواجز ولا قيود إلا بمقدار ما يحافظ على حريات الآخرين وحقوق رب العالمين .
وما أعطي حق المساواة إلا ليتمكن من العمل في جو من تكافؤ الفرص والحفاظ على الكرامة الإنسانية ، فيبذل كل ما في وسعه لتنتفع الحياة بمواهبه وقواه .. وكذلك حق العدالة والكرامة الإعفاف والتعليم .. كل حق ما هو إلا وسيلة لأداء واجب ، فلا ينبغي أن تحول الوسائل دون الوصول إلى الغايات والأهداف .
إن على الإنسان واجبًا نحو نفسه ، وواجبًا نحو ربه ، وواجبًا نحو أسرته ، ونحو مجتمعه ، ونحو دنياه وآخرته .. مما هو مفصل في تعاليم الإسلام .
__________
(1) سورة المؤمنون - الآيتان 115 ، 116 .(1/85)
وإن الشعور بهذه الواجبات هو مشكلة الإنسان في هذا العصر .. إن الإنسان في مختلف الشعوب والأمم إذا شعر بهذه الواجبات .. ذلّل ما أمامه من عقبات ، وانطلق يرسي دعائم الحقوق المهضومة ، ويركز أسس الحقوق القائمة ، ويزيل هياكل الظلم والاستعباد .. ويطهر الأرض ممن يدوسون بأقدامهم على حقوق الإنسان وعلى كرامة الإنسان .
وعلى العرب خاصة تقع مسئولية هذا البيان من منطلق أن الله تعالى قد شرفهم بنزول الوحي الخاتم بلغتهم .. '[ : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلونَ)(1) .
الخاتمة
وهكذا تستبين الحقيقة الساطعة التي تثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن الإسلام قد منح الإنسان أقصى ما يمكن أن يمنح من حقوق ، وأعانه بشتى الوسائل والنظم على أداء التكاليف والواجبات التي تزدهر بها الحياة ، ويعمر بها الكون .
وإننا لنرجو من الضمير الحر للبشرية أن يفتح عينه على هذه الحقوق المهدرة على ثرى فلسطين ، والعراق ، والشيشان ، وكشمير ، والصومال ، والسودان .. وعلى هذا التشرد البائس للاجئين .. وعلى هذه الوحشية الكالحة والعدوان السافر على المقدسات والحريات من شراذمة الصهيونية وذيولها .. ليحس بواجبه إزاء تلك الأوضاع التي تهدد وجود التعاون الدولي .. وتتحدى ببشاعة وصفاقة إعلان حقوق الإنسان .
__________
(1) سورة النحل - جزء من الآية 89 .(1/86)
على العالم أن يتذكر أنه في نفس العام الذي شهد هذا الإعلان قد ولدت فيه عصابة نازية تمثل السرطان والجرثومة التي تنخر في مبادئ هذه الحقوق .. ومازالت على طول هذه المدة تمارس مخططاتها العدوانية الآثمة .. وما لم تتضافر القوى الخيّرة في هذا العالم على القضاء على هذا الخطر ، فإن هذا الإعلان سيظل حبرًا على ورق ، وأملاً للإنسانية لم يتحقق .. وصدق الله العظيم حين بيّن طبيعة هؤلاء في قوله :(كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ)(1) .
وإننا لنضرع إلى المولى القدير أن يوفق البشرية إلى التفيؤ بظلال الإسلام ، حتى تسير قُدُمًا إلى الأمام نحو الحضارة الرشيدة والمدنية الزاهرة ، والتقدم المنشود .
الفهرس
الموضوع ... الصفحة
مقدمة ... 3
بين يدي البحث ... 7
مكانة الإنسان في القرآن الكريم ... 17
الإخاء الإنساني ... 20
لا مجال للتفاخر ... 21
لا مجال للتميز ... 21
حق الحياة ... 22
حق المساواة ... 26
نظرة الإسلام إلى الجنس العربي ... 28
لا تمييز بسبب اللون ... 28
لا تمييز بسبب الدين ... 30
لا تمييز بين قوي وضعيف ... 31
الموضوع ... الصفحة
لا تمييز بسبب الرأي ... 33
لا تمييز بسبب الغنى والفقر ... 35
حق الحرية ... 36
مفهوم مغلوط للحرية ... 39
الحرية الشخصية ... 41
أولاً : حرية الاعتقاد والتدين ... 41
ثانيًا : حرية الرأي والتفكير ... 49
ثالثًا : حرية العمل والتصرف ... 53
الحرية المدنية ... 63
قضية الرق ... 63
منافذ الشرع لتحرير العبيد ... 68
الحرية السياسية ... 72
الفرق بين الشورى والديمقراطية ... 77
حرية التنقل وحق الهجرة واللجوء ... 79
الموضوع ... الصفحة
حق الكرامة ... 82
المحافظة على المشاعر والأحاسيس ... 86
مراعاة حرمة البيوت ... 89
حق العدالة ... 90
المتهم بريء حتى تثبت إدانته ... 93
ميزان العدالة ... 94
حق الملكية ... 95
حق التكافل الاجتماعي ... 99
حق التكافل للمسلم ولغيره ... 103
حق الإعفاف ... 105
__________
(1) سورة المائدة - جزء من الآية 64 .(1/87)
معالجة الشقاق بين الزوجين ... 109
حق المرأة في الإسلام ... 112
قضية القوامة ... 114
التفرقة في الميراث ... 116
الموضوع ... الصفحة
حق الطلاق ... 117
المرأة ورياسة الدولة ... 118
منع زواج المسلمة من غير المسلم ... 118
حق الحفاظ على كيان الأسرة ... 119
حق التعليم والثقافة ... 123
الحث على تعلم العلوم الكونية ... 126
واجبات بإزاء الحقوق ... 132
الخاتمة ... 135
الفهرس ... 137(1/88)