من الآثار الإيمانية لتعليم وتعلم القرآن الكريم
على الفرد والمجتمع
بحث مقدم إلى الملتقى الثالث للجمعيات الخيرية
لتحفيظ القرآن الكريم بالرياض
دكتور
شعبان رمضان محمود مقلد
أستاذ التفسير وعلوم القرآن المساعد
بكلية التربية للبنات بدومة الجندل - الجوف
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، أنزل كتابه هُدى ورحمة وفرقاناً للعالمين، وجعله العرْوة الوثقى وحبله المتين ، من تمسك به سعد واهتدى، وفاز ونجا يوم الدين، ومن أعرض عنه خسر وغوى وحاد عن الطريق المستقيم.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل على محمد النبي وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته وآل بيته الطيبين الطاهرين، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد .
أما بعد ...
لكل منا همة تسكن قلبه.. وتيسر دربه.. ويخطط على منوالها مستقبله، والهمم تتفاوت بين البشر، فشتان بين همة في الثرى وأخرى في الثريا، وعلو الهمة مبتغى كل إنسان ناجح يتطلع إلى حياة أفضل، بيد أن شروطها هنا يراد بها وجه الله تعالى، وأن تكون عونا على البذل والعطاء لهذا الدين.
إذن نحن لا نقصد علو الهمة لذاته، بل نقصد ما وراءها من رضا الله، والعمل على رفعة هذا الدين وعزه، وما يستتبع ذلك من فوز في الآخرة ونجاة من غضب الله وعذابه، ولله در القائل:
إذا ما كنت في أمر مرومِ فلا تقنع بما دون النجومِ
فطعم الموت في أمر حقيرٍ كطعم الموت في أمر عظيمِ
أ - أهمية الموضوع ، وأسباب الدراسة :
وانطلاقًا من ذلك فإن المسلم مطالب دائماً وأبداً بالتمسك بكتاب الله تعالى حق التمسك، وتطبيق منهجه في حياته كلها، وبدهي أن تكون بداية التمسك والتطبيق بالتعليم والتعلم.(1/1)
ولكن الملاحظ - وبخاصة في عصرنا الحاضر - انصراف كثير من المسلمين عن تعليم القرآن وتعلمه، وإن أظهروا حبهم وتقديسهم له، إلا أن واقعهم المعيشي يغاير ذلك، ومن هنا يبدو الخلل واضحًا في حياة المسلمين أفراداً ومجتمعات، الأمر الذي جعلهم غثاءً كغثاء السيل، وجعل الأمم تتداعى عليهم، وجعل الوهن يتمكن من قلوبهم، ونزعت مهابتهم ـ بأمر الله ـ من قلوب عدوهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وما من شك في أن أولى آيات القرآن نزولاً كانت دعوة صريحة للقراءة والعلم والتعلم، وما يستتبع ذلك من تطبيق لما نتعلمه ونتوصل إليه، وآثار ذلك على الفرد والمجتمع.
ومن هنا كان الدافع للكتابة في هذا الموضوع الدعوي القرآني الهام، وكذا لعدم وجود مؤلف خاص في هذا الموضوع - على حد علمي - وإنما هنالك إشارات متناثرة في بطون الكتب والمؤلفات، فأحببت أن أجمع هذا المتناثر، وأبرز معالمه، وأوضح مقاصده عله يكون دعوة خيّرة لكل من يطلع عليه من المسلمين، وطريقًا أو بداية طريق للهدى.
كما أرجو من الله تعالى أن أوفق وأنا أقدم هذا البحث المتواضع للملتقى الثالث للجمعيات الخيرية
لتحفيظ القرآن الكريم والمجتمع بالرياض
ب - تساؤلات البحث :
يهدف البحث إلى الإجابة عن التساؤلات التالية :
أولاً: ما المقصود بالقرآن الكريم، وما معنى الآثار الإيمانية؟ وما مفهوم تعليم وتعلم القرآن؟
ثانياً: ما أهمية الدعوة والعودة إلى تعليم وتعلم القرآن الكريم، وما كيفية ذلك ؟
ثالثاً : ما الآثار الإيمانية التي تعود على الفرد المسلم والمجتمع المسلم من تعليم وتعلم القرآن الكريم؟
ج - منهج البحث والخطوات البحثية :
استخدم الباحث منهج البحث الوصفي، وكذا منهج البحث التحليلي التأملي، لمحاولة الخروج بفوائد علمية هامة دقيقة .
كما اتبع الباحث الخطوات البحثية المختصرة التالية :
1- عزو الآيات القرآنية إلى مواضعها من المصحف الشريف.(1/2)
2- تخريج الأحاديث من مظانها الحديثية، وإيراد حكم العلماء عليها ـ إن وجد ـ .
3- توثيق الأقوال والآثار بإرجاعها إلى مصادرها الأصلية.
4- التأصيل العلمي للموضوعات البحثية ، والوصول إلى نتائج محددة قدر الوسع والطاقة .
د - خطة البحث بالتفصيل :
جاء البحث بعنوان: من الآثار الإيمانية لتعليم وتعلم القرآن الكريم على الفرد والمجتمع، ثم اشتمل على ما يلي:
- المقدمة: وتضمنت الحديث عن أهمية الموضوع ، والباعث على دراسته، وتساؤلات البحث، ومنهج البحث وخطواته البحثية ، كذلك تضمنت المقدمة خطة البحث بالتفصيل .
- الفصل الأول : التعريف بالقرآن الكريم ومفهوم تعليمه وتعلمه.
…وتحته مباحث ثلاثة:
…المبحث الأول : التعريف بالقرآن الكريم، وأسماؤه، وأوصافه.
…المبحث الثاني : مفهوم الآثار الإيمانية .
…المبحث الثالث: مفهوم تعليم وتعلم القرآن الكريم.
- الفصل الثاني: أهمية الدعوة والعودة إلى القرآن الكريم.
ويشمل مباحث ثلاثة:
…المبحث الأول : أهمية تعليم وتعلم القرآن الكريم.
…المبحث الثاني : كيفية العودة إلى القرآن.
…المبحث الثالث : تدبر القرآن الكريم وأهمية ذلك.
- الفصل الثالث : من الآثار الإيمانية على الفرد والمجتمع المسلم من تعليم وتعلم القرآن الكريم، وتحته مبحثان:
المبحث الأول: من الآثار الإيمانية التي تعود على الفرد المسلم من تعليم القرآن وتعلمه.
…المبحث الثاني: من الآثار الإيمانية على المجتمع المسلم والأمة المسلمة.
- الخاتمة : وفيها خلاصة البحث ، ونتائجه ، وتوصياته.
- الفهارس .
وأخيرًا نضرع إلى الله ـ سبحانه ـ أن ينور بالقرآن العظيم قلوبنا، وأن يفتح به أبصارنا، وأن يشرح به صدورنا، وأن يحفظنا به من أمامنا ومن خلفنا، وعن أيماننا وعن شمائلنا. آمين إنه على كل شيء قدير.
الفصل الأول
التعريف بالقرآن الكريم ومفهوم تعليمه وتعلمه.
…
…المبحث الأول : التعريف بالقرآن الكريم، وأسماؤه، وأوصافه.
القرآن في اللغة:(1/3)
اختلفت أهل اللغة في أصل كلمة (قرآن )، ويمكن اختصار وحصر أقوالهم في اتجاهين يوردهما السيوطي في قوله:
وأما القرآن فاختلف فيه فقال جماعة هو اسم علم غير مشتق خاص بكلام الله فهو غير مهموز وبه قرأ ابن كثير وهو مروي عن الشافعي أخرج البيهقي والخطيب وغيرهما عنه أنه كان يهمز قرأت ولا يهمز القرآن ويقول القرآن اسم وليس بمهموز ولم يؤخذ من قرأت ولكنه اسم لكتاب الله مثل التوراة والإنجيل، وهذا هو الاتجاه الأول.
- الاتجاه الثاني: يذهب إلى أن لفظ ( القرآن ) مشتق ، وجاء في هذا الاتجاه أربعة أقوال :
1- أن القرآن مصدر لقرأت كالرجحان والغفران ، سمي به الكتاب المقروء من باب تسمية المفعول بالمصدر. وبه قال اللحياني وآخرون .
2- وقال قوم منهم الأشعري : هو مشتق من قرنت الشيء بالشيء : إذا ضممت أحدهما إلى الآخر .
3- وقال الفراء : هو مشتق من القرائن ، لأن الآيات منه يصدق بعضها بعضاً ، ويشابه بعضها بعضاً وهي قرائن. وعلى القولين بلا همز أيضاً ونونه أصلية .
4- وقال آخرون منهم الزجاج : هو وصف على فعلان مشتق من القرء بمعنى الجمع ، ومنه قرأت الماء في الحوض أي جمعته ...
وبعد أن ذكر السيوطي تلك الأقوال : والمختار عندي في هذه المسألة ما نص عليه الشافعي ـ وهو الاتجاه الأول ـ (1)
__________
(1) 1 ) الإتقان في علوم القرآن للحافظ أبي بكر السيوطي 1/144، تحقيق: خليل محمد العربي،ط/ مطبعة ومكتبة الفاروق الحديثة بالقاهرة،ط/ أولى1415هـ(1/4)
أما الشيخ الزرقاني فيرى أن القرآن مشتق ويقول: القرآن مصدر مرادف للقراءة، ومنه قول الله تعالى: "إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ* فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ" [القيامة 17،18] ثم نقل من هذا المعنى المصدري، وجعل اسمًا للكلام المعجز المنزل على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من باب إطلاق المصدر على مفعوله،... وعلى الرأي المختار فلفظ قرآن مهموز، وإذا حذف همزه فإنما ذلك للتخفيف، وإذا دخلته أل بعد التسمية فإنما هي للمح الأصل لا للتعريف.(1)2)
القرآن في اصطلاح العلماء:
معلوم أن القرآن كلام الله، وأن كلام الله غير كلام البشر ما في ذلك ريب، والقرآن يتعذر تحديده بالتعاريف المنطقية ذات الأجناس والفصول والخواص، بحيث يكون تعريفه حدًا حقيقيًا، ويذكر العلماء له تعريفًا يقرب معناه ويميزه عن غيره.
يقول الدكتور محمد عبد الله دراز ـ رحمه الله ـ : أما ما ذكره العلماء من تعريفه بالأجناس والفصول كما تُعرف الحقائق الكلية فإنما أرادوا به تقريب معناه وتمييزه عن بعض ما عداه مما قد يشاركه في الاسم ولو توهماً، ذلك أن سائر كتب الله تعالى والأحاديث القدسية وبعض الأحاديث النبوية تشارك القرآن في كونها وحياً إلهياً فربما ظن ظان أنها تشاركه في اسم القرآن أيضاً، فأرادوا بيان اختصاص الاسم به ببيان صفاته التي امتاز بها عن تلك الأنواع.(2)3)
ومن التعاريف التي ذكرها العلماء للقرآن الكريم ما يلي :
__________
(1) مناهل العرفان في علوم القرآن ، للشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني 1/16 . ط/ دار الكتب العلمية ، بيروت ، د.ت. ط/ أولى1409هـ
(2) النبأ العظيم: للدكتور محمد عبد الله دراز، ص 14 ، ط/ دار القلم ، الكويت، ط/ 1390ه.(1/5)
أ - جاء في تعريفه أنه : اسم للمتلوّ المحفوظ المرسوم في المصاحف.(1)4)
ب – وقيل أيضًا: اللفظ المنزّل على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من أول الفاتحة إلى آخر سورة الناس. (2)5)
ج - ويعرفونه أيضًا بأنه:
كلام الله المعجز المنزل على النبي محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ المنقول عنه بالتواتر، المتعبد بتلاوته.(3)6)
د - وقيل أيضاً في تعريفه هو : القرآن هو كلام الله المعجز ، ووحيه المنزّل على نبيه محمد بن عبد الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، المكتوب في المصاحف ، المنقول عنه بالتواتر ، المتعبد بتلاوته.(4)7)
ه- وقيل في تعريفه هو : كلام الله المنزّل على خاتم الأنبياء والمرسلين ، بوساطة الأمين جبريل عليه السلام ، المكتوب في المصاحف ، المحفوظ في الصدور ، المنقول إلينا بالتواتر ، المتعبد بتلاوته ، المبدوء بسورة الفاتحة ، المختتم بسورة الناس ).(5)1)
__________
(1) إعجاز القرآن للقاضي أبي بكر الباقلاني ، على حاشية الإتقان للسيوطي ،1/20 ط / مكتبة مصطفى الحلبي ، القاهرة ، ط/ رابعة 1397 ه.
(2) مناهل العرفان في علوم القرآن ، للشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني 1/19 . ط/ دار الكتب العلمية ، بيروت ، د.ت. ط/ أولى1409ه
(3) مناهل العرفان 1/16، 19، مباحث في علوم القرآن للشيخ مناع القطان16،15، ط: مطبعة المدني المؤسسة السعودية بالقاهرة، ط/12،1423هـ الناشر: مكتبة وهبة بالقاهرة، ومباحث في علوم القرآن د/ صبحي الصالح ص21، ط/ دار العلم للملايين، بيروت. لبنان، ط/17، 1988م
(4) لمحات في علوم القرآن واتجاهات التفسير ، لمحمد الصباغ، ص 6 ، ط/ المكتب الإسلامي ، بيروت ، 1394ه
(5) التعبير الفني في القرآن ، د. بكري شيخ أمين ص 11 . ط / دار الشروق ، بيروت ،ط/ثالثة 1399ه(1/6)
و- وقيل في تعريف القرآن هو : المنزّل على الرسول ، المكتوب في المصاحف ، المنقول عنه نقلاً متواتراً بلا شبهة.(1)2)
ومن هذه التعريفات نستطيع أن نقول: إن القرآن الكريم:
كلام الله تعالى الذي أنزله على النبي محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ المعجز، المكتوب في المصاحف، المنقول عنه بالتواتر، المتعبد بتلاوته المبدوء بسورة الفاتحة المختوم بسورة الناس- المحفوظ في الصدور.
أسماء القرآن وأوصافه
للقرآن أسماء كثيرة، وهذا إن دل فإنما يدل على عظمة القرآن، فكما هو معلوم أن كثرة الأسماء تدل على شرف المسمى، ولا ريب أن القرآن الكريم هو أعظم وأشرف كتاب.
ومن أسماء القرآن "الفرقان"، ... باعتبار أنه كلام فارق بين الحق والباطل، أو مفروق بعضه عن بعض في النزول أو في السور والآيات، قال تعالى: " تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً " [الفرقان 1 ]
ثم إن هذين الاسمين هما أشهر أسماء النظم الكريم، بل جعلهما بعض المفسرين مرجع جميع أسمائه،... ويلي هذين الاسمين في الشهرة هذه الأسماء الثلاثة الكتاب والذكر والتنزيل.(2)3)
وقد وردت هذه الأسماء في القرآن نفسه قال تعالى: " إِنَّ هَذَا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً" [الإسراء9] وقال تعالى: "لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ" [الأنبياء10]
وقال تعالى: "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ" [الحجر9] وقال أيضًا: "وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ العَالَمِينَ"[الشعراء192]
__________
(1) التعريفات للشريف علي بن محمد الجرجاني، ص 174 ، ط/ دار الكتب العلمية ، بيروت ، ط/أولى 1403ه
(2) مناهل العرفان 1/16(1/7)
أما عن أوصافه فقد وصفه الله بأوصاف كثيرة أيضًا وردت في آياته منها قوله تعالى: "قُلْ مَن كَانَ عَدُواًّ لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ"[البقرة97]
وقوله: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً" [النساء174]
ومن الأوصاف كذلك قوله: "وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ القُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ" [الأنعام92]
وقوله: "يَا أَهْلَ الكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ" [المائدة15] ومنها قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ" [يونس57] وقوله: " كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِياًّ لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ*بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يسمَعُونَ" [فصلت3،4]
وقوله: "إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ"[فصلت41] وقوله: "بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ" [البروج21]
المبحث الثاني
مفهوم الآثار الإيمانية
الآثار: جمع أثر، والأثر جاء عنه في كتب أهل اللغة:
أثر الشيء بقيته، والجمع آثار و أثور، ... و تأثرته: تتبعت أثره، ... والأثر بالتحريك ما بقي من رسم الشيء، والتأثير: إبقاء الأثر في الشيء، وأثر في الشيء ترك فيه أثرا...(1/8)
و الأثر الخبر والجمع آثار وقوله عز وجل: "وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ" [سورة يس12] أي نكتب ما أسلفوا من أعمالهم، ونكتب آثارهم، أي من سن سنة حسنة كتب له ثوابها، ومن سن سنة سيئة كتب عليه عقابها، وسنن النبي: آثاره...
و أثر الجرح أثره يبقى بعدما يبرأ، والأثر: خلاصة السمن إذا سلىء وهو الخلاص.(1)1)
و أثر الحديث: ذكره عن غيره ... والأثر: (بفتحتين) ما بقي من رسم الشيء. (2)2)
الأثر: حصول ما يدل على وجود الشيء والنتيجة.(3)3)
الأثر له ثلاثة معان، الأول: بمعنى النتيجة وهو الحاصل من شيء، والثاني بمعنى العلامة، والثالث بمعنى الجزء.(4)4)
إذن فالأثر المقصود هنا هو: الخبر والنتيجة الحاصلة من تعليم وتعلم القرآن الكريم.
والإيمان: الإقرار ـ ذكر ذلك الإمام ابن تيميةـ
وهو في لغة العرب: التصديق، والله تعالى المؤمن؛ لأنه آمن عباده من أن يظلمهم.(5)5)
والإيمان بالله ـ عز وجل ـ معناه: الاعتقاد الجازم بأن الله رب كل شيء ومليكه وخالقه، وأنه هو الذي يستحق وحده أن يفرد بالعبادة، وأنه المتصف بصفات الكمال كلها، المنزه عن كل نقص.
__________
(1) ابن منظور: محمد بن مكرم جمال الدين بن منظور الإفريقي المصري في: لسان العرب 4/5،6،9 ط/دار صادر /بيروت ط/ أولى بدون تاريخ.
(2) الرازي: محمد بن أبي بكر عبد القادر الرازي في: مختار الصحاح (أثر)1/2 تحقيق محمود خاطر ط/ مكتبة لبنان ناشرون/ بيروت طبعة 1415هـ-1995م
(3) التعاريف1/33 باب الهمزة فصل الثاء، (التوقيف على مهمات التعاريف) تأليف محمد عبد الرؤوف المناوى / طبعة دار الفكر المعاصر /بيروت ط/أولى 1410 هـ تحقيق د/ محمد رضوان الداية
(4) التعريفات1/23لعلي بن محمد بن علي الجرحاني740-816هـ، ط/ دار الكتاب العربي، بيروت، ط/أولى1405هـ، تحقيق:إبراهيم الإبياري
(5) مختار الصحاح 1/11ـ (أمن)(1/9)
فالإيمان بالله ـ تعالى ـ يتضمن: توحيده في ربوبيته، وتوحيده في ألوهيته، وتوحيده في أسمائه وصفاته.
ومعنى توحيد الربوبية ـ إجمالاً ـ : الاعتقاد الجازم بأن الله رب كل شيء ولا رب غيره.
وتوحيد الألوهية معناه: الاعتقاد الجازم بأن الله ـ سبحانه ـ هو الإله الحق، ولا إله غيره، وإفراده ـ سبحانه ـ بالعبادة.
أما توحيد الأسماء والصفات فمعناه: الاعتقاد الجازم بأن الله ـ عز وجل ـ متصف بجميع صفات الكمال , ومنزه عن جميع صفات النقص ، وأنه متفرد عن جميع الكائنات، وذلك بإثبات ما أثبته ـ سبحانه ـ لنفسه، أو أثبته له رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الأسماء والصفات الواردة في الكتاب والسنة من غير تحريف ألفاظها أو معانيها، ولا تعطيلها بنفيها أو نفي بعضها عن الله ـ عز وجل ـولا تكييفها بتحديد كنهها وإثبات كيفية معينة لها، ولا تشبيهها بصفات المخلوقين.
وعند أهل السنة: يقع اسم الإيمان على الإقرار باللسان، والتصديق بالقلب، والعمل بالجوارح.(1)6)
أركان الإيمان:
أما محتوى الإيمان فهو ما قاله النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في بيانه:(أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره)(2)7)
__________
(1) الإيمان"أركانه. حقيقته. نواقضه، للدكتور: محمد نعيم ياسين، ط:دار التوزيع والنشر الإسلامية بالقاهرة، ط1986م ، وشرح قصيدة ابن القيم لأحمد بن إبراهيم بن عيسى الشرقي، ط: المكتب الإسلامي، ط: أولى1382هـ 1962م
(2) أخرجه مسلم في صحيحه كتاب الإيمان، باب الإسلام ما هو، برقم99 مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري ت261 هـ تحقيق : محمد فؤاد عبد الباقي ، دار الكتب العلمية – بيروت.(1/10)
فالإيمان بالله يجعل المؤمن يشعر بأن الله يراقبه في أفعاله، والإيمان بالملائكة يجعل المؤمن يستحي من معصية خالقه سبحانه لعلمه أن الملائكة معه تحصي عليه أعماله، والإيمان بالكتب يجعل المؤمن يعتز بكلام ربه ـ جلا وعلا ـ ويقترب إليه بتلاوته والعمل بتعاليمه وأحكامه، والإيمان بالرسل يجعل المؤمن يأنس بأخبارهم وسيرهم لاسيما سيرة المصطفى فيتخذهم أسوة وقدوة، والإيمان باليوم الآخر ينمي في نفس المؤمن حب الخير والعطاء ليحوز ثوابه في الجنة، والإيمان بالقدر يجعل نفس المؤمن ترض وتصبر.
وخلاصة معنى الآثار الإيمانية: الخبر والنتيجة الحاصلة من تعليم وتعلم القرآن الكريم، والتي توصل إلى زيادة الإيمان بالله، وطاعته والتقرب له.
المبحث الثالث
مفهوم التعليم والتعلم
التعليم والتعلم في اللغة:
علم الشيء بالكسر يعلمه علما: عرفه، ورجل علامة: أي عالم جدًا، والهاء للمبالغة، واستعلمه الخبر فأعلمه إياه، وعلمه الشيء تعليمًا فتعلم، وليس التشديد هنا للتكثير؛ بل للتعددية، ويقال أيضًا تعلم بمعنى: أعلم ... وإذا قيل لك اعلم أن زيدًا خارج قلت قد علمت، وإذا قيل تعلم أن زيدًا خارج، لم تقل قد تعلمت، و تعالمه الجميع أي: علموه، والأيام المعلومات: عشر من ذي الحجة، و المعلم الأثر يستدل به على الطريق.(1)1)
العلم: إدراك الشيء بحقيقته؛ وذلك ضربان:
أحدهما: إدراك ذات الشيء.
والثاني: الحكم على الشيء بوجود شيء هو موجود له، أو نفي شيء هو منفي عنه.(2)2)
التعليم والتعلم في الاصطلاح:
التعليم: تنبيه النفس لتصور المعاني.
والتعلم: تنبه النفس لتصور ذلك، وربما استعمل في معنى الإعلام إذا كان فيه تكرير، نحو: "قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ" [الحجرات16]
__________
(1) مختار الصحاح 1/189
(2) مفردات ألفاظ القرآن للراغب الأصفهاني2/194، ط/مكتبة الأنجلو المصرية1970 م(1/11)
فمن التعليم قوله: "الرَّحْمَنُ*عَلَّمَ القُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ *عَلَّمَهُ البَيَانَ" [الرحمن1 - 2]
لكن الإعلام اختص بما كان بإخبار سريع، والتعليم اختص بما يكون بتكرير وتكثير، حتى يحصل منه أثر في نفس المتعلم.(1)3)
المعنى الإجمالي لعنوان البحث
وعلى ضوء ما تقدم من التعاريف التي ذكرناها نستخلص معنًى إجماليًا لعنوان البحث: "الآثار الإيمانية لتعليم وتعلم القرآن الكريم على الفرد والمجتمع" ويكون هذا المعنى:
النتيجة الحاصلة من تعليم وتعلم القرآن الكريم، والتي توصل إلى زيادة الإيمان بالله، وطاعته والتقرب له، والتي بها يتقرب العبد من ربه ـ سبحانه وتعالى ـ فيزداد معرفة بالله، ويزداد يقينًا وعملاً، ويسعد في دنياه وأخراه.
الفصل الثاني
أهمية الدعوة والعودة إلى القرآن الكريم.
المبحث الأول : أهمية تعليم وتعلم القرآن الكريم.
__________
(1) التعاريف1/188باب التاء فصل العين، ومفردات ألفاظ القرآن للراغب الأصفهاني 2/194(1/12)
أنزل الله ـ سبحانه ـ القرآن والعرب ـ بل والعالم كله ـ في أشد الحاجة إليه، فأتاهم بالعقيدة الحقة بعد أن كانوا منها في أمر مريج، والشريعة الصحيحة بعدما تفرقت بهم الطرق، وتقطعت بينهم الأسباب، وأتاهم بالنظم الصالحة لبناء أمة قادرة على أن تسهم في بعث العالم ونهضته ووحدته، والأخلاق الفاضلة بعد أن سادت في المجتمع الجاهلي – بل في المجتمع الإنساني بصفة عامة – الرذائل والمنكرات: من ضلال في العقيدة، وفوضى في التشريع، وفساد في الأخلاق، فأحدث في العالم تحولاً وتجديدًا لم يشهد لهما التاريخ مثيلاً من قبل، تحولاً في التفكير، تحولاً في الأخلاق ، وتجديدًا في الحضارة والمدنية، تحول إصلاحي شامل لكل مرافق الحياة الإنسانية، في كل بقعة من بقاع الأرض التي استظلت بظل الإسلام، كما قدم للإنسانية نموذجاً رائعاً للإنسان المتكامل في عقيدته وسلوكه وأخلاقه، فأقبل عليه الناس من جميع البقاع ومن كل الأجناس، وربط القرآن بينهم برباط العقيدة، وألف بين قلوبهم حتى أصبحوا بنعمة الله إخوانا متحابين، وكانوا بذلك خير أمة أخرجت للناس، قادت العالم وعلمت البشرية قروناً طويلة.
ولا يكون المسلم مسلماً حقاً إلا إذا آمن بذلك كله، آمن بأنه على خير دين، وأنه أوتي خير كتاب إلهي، وأن أمته خير أمة أخرجت للناس، وأن حضارته صلحت بها الإنسانية قروناً طويلة، ولا تزال صالحة لقيادة العالم إلى يومنا هذا، وهو الكتاب الوحيد الذي يستطيع أن ينقذ العالم من الحيرة والضلال، والتخبط والاضطراب.(1/13)
ولن يعود للمسلمين عزهم ومجدهم إلا إذا عادوا من جديد إلى كتاب ربهم وسنة نبيهم، عند ذلك - فقط - يتحقق لهم ما ينشدونه من التقدم والحضارة، والرقي والأمن والسلام، ومن هنا كانت الحاجة ماسة إلى القرآن، ففيه وحده الشفاء من كل الأدواء التي تعاني منها الإنسانية اليوم(1)1) .
وتعلم القرآن الكريم من أجلّ القربات، وأفضل الطاعات، وأهم المهمات،وحَمَلَةُ القرآن هم أرفع الناس قدراً، وأشرفهم علماً، وأقومهم طريقاً.
وقد حث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمته على حفظ القرآن الكريم، ومدارسته وتعلمه وتعليمه، وبيّن فضل أهله وحملته، والأحاديث في هذا الباب معلومة مشهورة.
وقد عني المسلمون بكتاب ربهم عناية فائقة، تميزوا بها على من سبقهم من الأمم؛ حيث تنافسوا في قراءته وحفظه، وتسابقوا إلى دراسته، والعمل به.
وقد ظل هذا الكتاب الكريم على مرّ القرون منذ نزوله إلى يومنا هذا محفوظاً في الصدور، كما هو مكتوب في المصاحف، يأخذه اللاحق عن السابق؛ فالحمد لله على منته وفضله.
والله ـ سبحانه وتعالى ـ لفت النظر لأهمية تعليم القرآن وتعلمه فقال سبحانه: " الرَّحْمَنُ* عَلَّمَ القُرْآنَ *خَلَقَ الإِنسَانَ *عَلَّمَهُ البَيَانَ"[الرحمن1-4]
قال الإمام الطبري في تفسير هذه الآية: يقول تعالى ذكره الرحمن أيها الناس برحمته إياكم علمكم القرآن فأنعم بذلك عليكم إذ بصركم به ما فيه رضا ربكم وعرفكم ما فيه سخطه لتطيعوه باتباعكم ما يرضيه عنكم وعملكم بما أمركم به وبتجنبكم ما يسخطه عليكم فتستوجبوا بذلك جزيل ثوابه وتنجوا من أليم عقابه.(2)2)
__________
(1) "القرآن وحاجة الإنسانية إليه" مقال على الشبكة العالمية للإنترنت موقع مجلس النشر العلمي بدولة الكويت، د. عبد العزيز صقر
(2) تفسير الطبري 27/114 جامع البيان عن تأويل أي القرآن – لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري ت310 هـ دار الفكر- بيروت 1405ه(1/14)
ولنا أن نتساءل: لماذا قدَّم الله ـ سبحانه ـ تعليم القرآن على خلق الإنسان، مع أن المشهود أن الإنسان يُخلق أولاً؟ أليست هذه إشارة إلى أن الإنسان لا يكون إنساناً حقيقياً إلا إذا تعلَّم القرآن؟: "إن السلوك السوي للفرد لا يمكن أن يغرس وينمو في شخص لم يخالط عقله وقلبه القرآن الكريم، ذلك لأن القرآن يجمع عليه أمره في الاعتقاد، ويرسخ فيه ملكة الرقابة الذاتية في السلوك، وفي ذلك يقول البيضاوي عند تفسيره لهذه الآية: لما كانت السورة مقصورة على تعداد النعم الدنيوية والأخروية صدرها ب الرحمن وقدم ما هو أصل النعم الدينية وأجلها وهو إنعامه بالقرآن وتنزيله وتعليمه فإنه أساس الدين ومنشأ الشرع وأعظم الوعي وأعز الكتب إذ هو بإعجازه واشتماله على خلاصتها مصدق لنفسه ومصداق لها ثم اتبعه قوله خلق الإنسان علمه البيان إيماء بأن خلق البشر وما يميز به عن سائر الحيوان من البيان وهو التعبير عما في الضمير وإفهام الغير لما أدركه لتلقي الوحي وتعرف الحق وتعلم الشرع.(1)1)
ومن هنا فتعلم القرآن خير ما يتعلمه المسلم، قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه).(2)2)
ومن تعلم القرآن ثم علمه لغيره، فهو خير الناس. فهو قد جمع بين تكميل نفسه بتعلم القرآن، وتكميل غيره بتعليمه القرآن. هذا ومن لازم تعلم القرآن وتعليمه للغير. حفظه وفهمه والعمل به. فمن حفظه وفهمه ولم يعمل به فهو حجة عليه.
__________
(1) تفسير البيضاوي5/272، تحقيق: عبد القادر عرفات العشا حسونة، ط/ دار الفكر، بيروت، ط/ ثانية 1416هـ 1996م
(2) رواه البخاري في صحيحه: كتاب فضائل القرآن، باب خيركم من تعلم القرآن وعلمه، برقم 5027-5028، صحيح البخاري. لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري. ط/دار المعرفة/ بيروت/ لبنان(1/15)
ولأهمية هذا الكتاب وحاجة الأمة إليه؛ فقد أكرمنا الله به فأنزله علينا، وتكفل لنا بحفظه فقال : " إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ " [الحجر 9] .
نظرة في الواقع
وبالنظر في الواقع المعاش للطلاب الذين ينتسبون إلى حلقات تحفيظ القرآن الكريم نجد أن الآثار الإيجابية للقرآن تظهر بصورة أكبر على الطفل؛ لأن الطفل يسهل تشكيله، وتعليمه، وكما قالوا قديماً: "التعليم في الصغر كالنقش على الحجر".
فالطفل الذي تلقى القرآن منذ الطفولة، يمتاز في كل أحواله عن الطفل الفاقد لهذا الخير، فالقرآن يعطي قوة نفسية، ومتانة في الأخلاق تظهر في المحن، والابتلاءات
والقرآن ينشئ العقلية العلمية الموضوعية التي لا تقبل نتائج بغير مقدمات، ولا تخضع إلا للحجة والبرهان، وهو مدرسة لتعلم الفضائل السلوكية، وتجنب القبيح، وكذلك يعلم المرء الدراسة والتخطيط، والاهتمام بالنظر، والتفكر، والتأمل.
وفي تعلم القرآن للطفل فائدة من جميع النواحي، ففي حفظه له استقامة للسانه، وحفظ له من التلفظ بالسوء، كما يرزقه الله به فهماً يتفرد به بين أقرانه ومن في سنه، وتقوى عنده أيضاً ملكة الحفظ، ويتعذر اختراق عقله بأوهام الدنيا، فيشب مشغول الذهن بالقرآن وآياته ومعانيه وأخلاق أهله ومجالسه.
وحفظ القرآن يساعد صاحبه على التفوق في دراسته، وتعوده على نطق الألفاظ والتحدث باللغة العربية حتى في لعبه وترويحه مع أقرانه.
وبسؤالنا فضيلة الشيخ عيسى بن إبراهيم الدريويش(1)3) عما يحدثه الاشتغال بالقرآن الكريم تعليمًا وتعلمًا أجاب فضيلته بقوله:
مما لا شك فيه أن الاشتغال بالقرآن الكريم يحدث أثرًا إيمانيًا بالغًا لدي المعلم والمتعلم،
__________
(1) مدير جمعية تحفيظ القرآن الكريم بمحافظة دومة الجندل بالجوف(1/16)
أما عن أثره على المعلم فالاشتغال به يؤثر في استقامة شخصيته، وزيادة الوازع الإيماني، فيصل لديه إلى الذروة الإيمانية التي تنعكس على أدائه في العبادات، ونمطه في السلوك، وقد سبق أن وضحت كتب التراجم والسير أن البيئة لها أثرها على السلوك والتصرف في كل أمور الحياة.
أما أثره على الطالب فنجد أن انتظامه في حلق التحفيظ يميزه عن غيره من أقرانه، سواء كان ذلك في دراسته، أو في بقية أحواله المعيشية، فارتباط الطالب بحلق التحفيظ يحدث لديه سلوكًا حسنًا وسمتًا طيبًا، وكذلك يميزه في هيئته وسلوكه وأخلاقه ومعاشرته مع الآخرين، وقبل ذلك كله يحقق له الأثر الواضح في السلوك التعبدي والإيماني الذي يستفيد منه ويتأثر به كل من يتعاملون معه.
وتقول والدة عن ابنها الذي بدرس بالصف الثاني الثانوي ـ: "يحفظ نجلي القرآن كاملاً، وهو يحترم إخوته الكبار، ويعاملني ووالده معاملة حسنة، وقد تأثر بالقرآن الكريم، فهو هادئ الطبع، حسن الخلق، في لسانه فصاحة، وهو متفوق في دراسته، فقد أورثه القرآن حسناً في أخلاقه، وقوة في لغته العربية،وإتقاناً لعبادته، وحباً للطاعة".
وعن نظرة الأبناء في ذلك يؤكد بعض الطلاب أن حفظ القرآن جعله من الأوائل في مادة اللغة العربية، وكذلك ساعده على سرعة استيعاب المواد الدراسية؛ لأنه أصبح يستوعب بسهولة ويسر، وللقرآن أثر كبير في حياته، فبه يعامل أهله وإخوته وأصدقاءه، ثم يقول: وبه اكتسبت احترام الجميع.
دور الوالدين :
برغم الآثار الإيجابية والأمثلة الطيبة للقرآن في تنشئة الأطفال، فإن الكثير من الآباء والأمهات ـ للأسف ـ لا يوجهون أبناءهم لحفظ القرآن، ولا يستثمرون عقول أبنائهم ولا أوقاتهم في ذلك، بل يتركون أبناءهم يبددون الأوقات هنا وهناك في اللهو والمرح، وأمام أدوات اللهو الحديثة.(1/17)
ومما لاشك فيه أن أعداء الإسلام لجئوا إلى صرف المسلمين عن دينهم عن طريق صرفهم عن القرآن، حتى أصبحت صورة حامل القرآن ـ في نظر كثير من الذين لا يدركون قيمته ـ صورة لا يرجوها الآباء لأبنائهم! ففطن من المسلمين من فطن إلى ذلك الأمر، واتجه غيرهم إلى الأندية والملاعب، كوسيلة لتسلية الأبناء، وهؤلاء يحرمون أبناءهم، وأنفسهم فوائد القرآن وبركته والتنشئة عليه، فيكون أبناؤهم ـ بعد ذلك ـ وبالاً عليهم؛ لأنهم تربوا بلا رادع رباني، أو مقوم إلهي.
ويجب أن يعي الآباء أن كل العلوم لافائدة من النبوغ فيها إلا إذا ربطها صاحبها بالقرآن الكريم
كذلك لابد أن يتذكر الآباء والأمهات قول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاث ـ ومن هذه الثلاث ـ أولد صالح يدعو له)(1)1)
وهذا شرف عظيم يناله من حمَّل ابنه القرآن، ولا بد من أن يعي ذلك المحفظون والمعلمون".
ودور الأم كذلك مهم في توجيه أطفالها لحفظ القرآن، فعلى الأم تشجيع ابنها على حفظ القرآن، والذهاب للمسجد وتحبيبه في كتاب الله وتلاوته بالأحكام، وأن ترغبه في حفظه بهدايا، وجوائز نافعة، وبكافة وسائل الترغيب.
__________
(1) أخرجه مسلم كتاب الوصية، باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته، برقم 4199، ومسند أحمد كتاب تتمة مسند أبي هريرة ، باب: تتمة مسند أبي هريرة، برقم 6227، مسند أحمد بن حنبل ط/ المكتب الإسلامي بيروت ط/ خامسة1958م.(1/18)
وكثير من النساء ظهر لهن دور بارز في توجيه أبنائهن نحو الاهتمام بالقرآن الكريم وتعلم علومه، ولم يغفل التاريخ دور والدة الإمام الشافعي في هذا المجال، وتوجيهها له، وحثه على الترحال والتنقل؛ طلبًا لإتقان حفظ القرآن وتلقي علومه، وما أقسام النساء في جمعيات تحفيظ القرآن الكريم، التي تنتشر في كل مكان في هذا البلد الطيب ـ المملكة العربية السعودية ـ ببعيد عن الأذهان، وما مكاتب التحفيظ الخاصة بالنساء في مصر واليمن، وغيرها من البلاد العربية والإسلامية ببعيد عن الواقع، وأذكر أنني عندما كنت مقيمًا في دولة المالديف(1)2) كنت أرى في كل مكان أذهب إليه معلمات للقرآن الكريم، وكن يعلمن الصبية الصغار قراءة وكتابة اللغة العربية، ثم قراءة وكتابة القرآن الكريم
الحاجة إلى القرآن
وحاجتنا إلى القرآن دائمًا ضرورية وملحة، وتتأكد تلك الحاجة في هذا العصر الذي ضعف فيه الوازع الإيماني عند كثير من الناس، فلهثوا وراء المترفات حلالها وحرامها، ومن هنا نحتاج إلى ما يقوي هذا الوازع ويجدده، وأفضل منبع مستمر ومتجدد للإيمان هو القرآن، يقول تعالى: "إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ" [الأنفال:2]
فالقرآن له تأثيرات عجيبة على استثارة المشاعر، والسيطرة عليها، وتوجيهها لله ـ عز وجل ـ وليس ذلك فحسب، بل إن للقرآن خاصية عجيبة ـ لا توجد في غيره ـ وهي قدرته على جعل من يتعامل معه بطريقة صحيحة في حالة دائمة من الهمة والنشاط والتوقد والإيجابية، وذلك من خلال توليده المستمر للطاقة داخل نفس صاحبه كلما قرأ وتجاوب معه وتأثرت به مشاعره .. هذه الطاقة ستدفعه ليصرفها في أعمال البر المختلفة.
__________
(1) وذلك عندما ابتعثت إلى هناك من قبل الأزهر الشريف مدرسًا للغة العربية مدة أربع سنوات(1/19)
وتتأكد حاجتنا إلى القرآن الكريم حينما ندرك يقينًا أن القرآن له دور كبير في علاج أمراض القلوب، وعلى رأسها مرض العجب، وما يحدثه هذا المرض في نفس الإنسان من تعاظم واستعظام على الآخرين، قال تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ" [يونس57].
ويعرفنا القرآن كذلك بطبيعة النفس وبأنها أمارة بالسوء... لديها قابليه للفجور والطغيان، تحب الاستئثار بكل خير.. لا تنظر للعواقب ..
وعليه فضروري أن يعود المسلم إلى القيمة الحقيقية للقرآن، والتي أنزله الله من أجلها كأداة ووسيلة ربانية للهداية والشفاء والتقويم والتغيير، قال تعالى: "إِنَّ هَذَا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً" [الإسراء 9]
هذا هو دور القرآن الحقيقي، وما قراءته أو حفظه إلا وسائل لتيسير الانتفاع بمعجزته، ومعنى ذلك أنه ينبغي على جيلنا الحالي إذا كان يريد نصرًا وتمكينًا أن يقبل على القرآن بكيانه، وأن يفرغ له أكبر وقت لديه، وينشغل به، ويجعله مصدره الأول للتلقي، ومما يعينه على ذلك أن يخصص له وقتًا كل يوم، وأن يقرأه في مكان هادئ بعيدا عن الضوضاء لتحسن استفادته منه، والتعبير عن مشاعره تجاه الآيات بالبكاء والدعاء، وعليه كذلك أن يهيئ قلبه وفكره للتلاوة بتذكر الموت والآخرة، فقد قال تعالى: "نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ"[ق45] (1)1)
__________
(1) الجيل الموعود بالنصر والتمكين، ص153 تأليف: د.مجدي الهلالي،ط/ دار التوزيع والنشر الإسلامية، القاهرة، الطبعة الأولى 1426هـ - 2005م(1/20)
وقد أدرك سلف الأمة هذا الدور للقرآن والحاجة إليه، فكانوا يتعاهدون القرآن الكريم علماً وتعلّماً وتعليماً، وكانت لهم في ذلك عناية ورعاية خاصة، ومما يدل على ذلك ما ورد عن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال : إن كل مؤدب يحب أن يؤتى أدبه ، وإن أدب الله تبارك وتعالى القرآن ...
وعن الأعمش قال: مر أعرابي بعبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ وهو يقرئ قوماً القرآن، أو قال: وعنده قوم يتعلمون القرآن، فقال: ما يصنع هؤلاء ؟ فقال ابن مسعود: يقتسمون ميراث محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ...
وورد أيضًا عن عمرو بن قيس السكوتي قال: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص
- رضي الله عنهما - يقول: عليكم بالقرآن، فتعلموه وعلموه أبناءكم، فإنكم عنه تسألون، وبه تجزون وكفى به واعظاً لمن عقل.(1)2)
كذلك من حث الصحابة على تعلَّم من بعدهم للقرآن وتعليمه لازدياد الأجر والمثوبة والهداية.
قول كعب: عليكم بالقرآن، فإنه فهم العقل ونور الحكمة، وينابيع العلم، وأحدث الكتب بالرحمن عهداً، وقال في التوراة: يا محمد، إني منزل عليك توراة حديثة، تفتح بها أعيناً عمياً، وآذاناً صُماً، وقلوباً غُلفاً...
وعن أبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنه ـ قال: (إن هذا القرآن كان لكم أجراً، وكائن لكم ذكراً، وكائن بكم نوراً، وكائن عليكم وزراً، اتبعوا هذا القرآن، ولا يتبعنكم القرآن، فإنه من يتبع القرآن يهبط في رياض الجنة، ومن اتبعه القرآن يزُج في قفاه، فيقذفه في جهنم).(2)
حفظ القرآن من خصائص هذه الأمة
__________
(1) فضائل القرآن ومعالمه وآدابه ، لأبي عبيد القاسم بن سلام 1/241، 243دراسة وتحقيق أحمد بن عبد الواحد الخياطي، ط/ مطبعة فضالة ، المحمدية ، المغرب، ط/ 1415ه
(2) سنن الدارمي 2/891، 892 للإمام أبي محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، تحقيق وتعليق د. مصطفى البغا ، ط/ دار القلم ، دمشق ، ط/ ثالثة 1417ه(1/21)
ولا يزال حفظ القرآن شعارا لهذه الأمة، وشوكة في حلوق أعدائها، تقول المستشرقة لورا فاغليري:(إننا اليوم نجد على الرغم من انحسار موجه الإيمان آلافًا من الناس القادرين على ترديده عن ظهر قلب، وفي مصر وحدها عدد من الحفاظ أكثر من عدد القادرين على تلاوة الأناجيل عن ظهر قلب في أوربا كلها).
ويعترف أحد من حرموا نور القرآن بهذه الميزة والخاصية؛ إذ يقول جيمس منشيز:(لعل القرآن هو أكثر الكتب التي تقرأ في العالم وهو بكل تأكيد أيسرها حفظًا).(1)4)
المبحث الثاني
كيفية العودة إلى القرآن
مادامت حاجتنا إلى القرآن ملحة لهذه الدرجة، ومادام تعلمه له هذه الأهمية، ومادمنا قد وصلنا في هذا العصر إلى هذه الدرجة من هجرنا لروح القرآن وتدبره والانتفاع به ـ إلا من رحم ربي ـ فيرد السؤال: كيف نعود إلى القرآن، وكيف ننتفع به؟
وللإجابة على هذا السؤال لابد أن نعلم يقينًا أن القرآن هو حبل الله الذي أنزله من السماء ليخلصنا مما نحن فيه، وأنه مشروع النهضة للأمة جمعاء، ومن هنا علينا أولا بالاعتصام بهذا الحبل والإقبال عليه، إقبال الظمآن على الماء بل أشد، وأن نعطيه أفضل وأكثر أوقاتنا، فالحل ـ يقينًا ـ للخروج من المأزق الذي نعيش فيه يبدأ بالتمسك بهذا الكتاب، فإذا ما تم لنا ذلك ـ وهو يسير لكل من أراده بصدق ـ فعلينا ثانيا أن ندعو الناس إليه، ونبث فيهم روحه، وننتشل من نستطيع انتشاله من جاذبية الأرض والطين لنربطه بحبل القرآن، وأن نستمر على ذلك حتى موعود الله سبحانه .
لأن المتأمل في القرآن يجد أنه يعيد تشكيل العقل من جديد، ويصوب كل فكرة خاطئة لديه، ويبني فيه اليقين الصحيح لكل الأفكار والمعتقدات.
__________
(1) حفظ القرآن الكريم ص12 لمحمد بن عبد الله الدويش: دار الوطن بالرياض ط/ ثانية 1418ه(1/22)
ندرك ذلك تمامًا حين ندقق النظر في العديد من الوسائل التي يستخدمها في ترسيخ المفاهيم الصحيحة في اللاشعور، ومن أهم هذه الوسائل: الاقناع و تكرار الموضوعات
أما الاقتناع: فيه يبرز احترام القرآن للعقل ودوام مخاطبته وإقناعه بأهمية الفكرة المطروحة.
والقارئ المتدبر للقرآن يجد المولى ـ سبحانه وتعالى- وهو الكبير المتعال- يخاطب عقولنا ويبين لنا الكثير من الأمور التي من شأنها أن تقنعنا بما يريده منا، بل أنه ـ سبحانه وتعالى ـ يدعونا في كتابه إلى استخدام عقولنا والتفكير في كلامه، كقوله تعالى: "أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ"[البقرة266]، لنقتنع بما يحمله هذا الكلام من معان وأفكار، فينتقل ذلك كله إلى اللاشعور، ويترسخ فيه، لينطلق بعد ذلك السلوك المعبر عنها بصورة تلقائية.
"وأما تكرار الموضوعات: فالمتتبع للموضوعات المطروحة فيه يجدها متكررة ومتشابهة، كما قال تعالى: "اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ"[الزمر23].
وقال "وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً"[الفرقان50].
وصرفنا أي كررناه بأساليب مختلفة..
ومن فوائد التكرار كذلك إنه يجعل القارئ في حالة دائمة من التذكر واليقظة.(1/23)
وخلاصة القول أن القرآن يعيد تشكيل العقل، ويقوم ببناء اليقين الصحيح فيه من خلال مخاطبته له بأساليب شتى، مما يؤدي إلى إقناعه بما يحمل من أفكار فتنتقل تلك الأفكار بسهولة ويسر إلى منطقة اللاشعور وتترسخ فيها من خلال تكرارها في السور والآيات لتشكل بعد ذلك نقطة بداية قوية لانطلاق السلوك المعبر عنها ....
والقرآن لا يركز على قضايا بعينها، بل يرسم في الذهن خريطة شاملة وواضحة للإسلام، ويعطي كل جزء فيها اهتماما يناسب حجمه، فينشأ عن هذا كله تصحيح للمفاهيم الخاطئة، وتغيير للثوابت الموروثة لتحل محلها معاني القرآن وثوابته، وهذا من شأنه أن يحدث وحدة التصور لدى أفراد الأمة"(1)1).
وهذا كله يدعونا إلى المزيد من التأمل في هذا الكتاب الحكيم، والفكر الدؤوب للوصل إلى طريق تعيدنا إليه.
فإن كنا حقًا نريد العودة إلى القرآن والانتفاع به، واستخدامه كعلاج فعال لما نعاني منه من أدواء، فعلينا أن نغير طريقة تعاملنا معه، وأن يكون همنا من قراءته الانتفاع بمعجزته والدخول في دائرة تأثيره، وهذا يحتاج منا إلى بعض الوسائل العلمية المتدرجة التي تعيينا على العودة الهادئة إليه، وهناك وسائل تساعد المسلم ـ بفضل الله سبحانه ـ على العودة الصحيحة إلى القرآن ومنها:
1ـ الانشغال بالقرآن . 2ـ تهيئة الجو المناسب له. 3ـ القراءة المتأنية.
4ـ التركيز عند القراءة . 5ـ التجاوب مع الآيات . 6ـ أن نجعل المعنى هو المقصود.
7ـ ترديد الآية التي تؤثر في القلب . 8ـ تعلم الآيات والعمل بها ...(2)1)
__________
(1) العودة إلى القرآن لماذا وكيف؟ د/ مجدي الهلالي ص 72،71 ط/ دار التوزيع والنشر الإسلامية،القاهرة، الطبعة الأولى 1424هـ - 2003م،
(2) حطم صنمك وكن عند نفسك صغيرًا. د/ مجدي الهلالي ص168، ط: مؤسسة اقرأ للنشر والتوزيع، القاهرة، 1424هـ - 2004م،(1/24)
ولنا في الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ أسوة في ذلك فلقد ذاق الصحابة حلاوة الانشغال بالقرآن، وأدركوا قيمته، وشاهدوا ثمرة ذلك في واقعهم الذي تغير تغيرًا جذريًا، وأصبحوا شخصيات أخرى غير تلك التي كانت قبل إسلامهم، وكأنهم ولدوا من جديد، ومن هنا كان حرصهم الشديد على تبليغ هذه الرسالة إلى من بعدهم، وكانوا ينزعجون من انشغال الناس بشئ غير القرآن .
فهذا عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ يأتيه اثنان من التابعين بصحيفة يريدان منه أن يقرأها ويقولان له :
هذه صحيفة فيها كلام حسن، فقال: هاتها، يا خادم: هاتى الطست فاسكبي فيها الماء، فجعل يمحوها بيده، ويقول: "نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا القُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الغَافِلِينَ" [يوسف:3] فقلنا: انظر فيها فإن فيها كلامًا عجبًا، فجعل يمحوها ويقول: إن هذه القلوب أوعية فاشغلوها بالقرآن، ولا تشغلوها بغيره.(1)2).
والقرآن كما قال محمد بن واسع : بستان العارفين ، فأينما حلُّوا منه حلُّوا في نزهة .
وللعودة إليه لابد من اتباع عدة أمور:
أولاً: بالتضرع إلى الله والإكثار من الدعاء بطلب العون منه ـ سبحانه ـ على حفظ القرآن، والإلحاح في الدعاء من أعظم آداب الدعاء.
ثانيًا: بجعل وِرْد يومي يتلى فيه القرآن، وحبذا أن يكون ذلك في بداية اليوم . ولا يشغل الحفظ عن التلاوة، فإن التلاوة وقود الحفظ.
ثالثًا: المداومة على أذكار الصباح والمساء والنوم، وكذلك المداومة على الأذكار التي تحفظ المسلم ـ بإذن الله ـ من الشيطان، فإن الذكر عدو الشيطان قال تعالى: "إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ" [المائدة آية 91] .
__________
(1) فضائل القرآن لأبي عبيد/ 73 ـ ط/ دار بن كثير ـ دمشق(1/25)
فإِنْ حَفِظَ اللهُ المسلم من الشيطان استطاع المداومة على تلاوة كتابه وحفظه.
رابعًا: الحرص على حضور مجالس العلماء وعدم التخلف عنها، خاصة مجالس القرآن إلا لعذر، روى مسلم وأبو داود عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده).(1)3)
خامسًا: كل من يود التقرب من القرآن والانتفاع به الاهتمام بالصاحب الذي يساعد على ذكر الله، ويعين ـ بعد الله ـ على تلاوة القرآن فإنه كنز نفيس .
سادسًا: عليه أن يحذر من الغرور، وألا يباهي بتعلمه وحفظه ولا يماري بهما، حتى لايقع في تحذير رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي يقول فيه: ( من تعلم العلم ليباهي به العلماء، أو يماري به السفهاء، أو يصرف به وجوه الناس إليه ، أدخله الله جهنم).(2)4)
وليكن تعلمه للقرآن ابتغاء ما عند الله، واكتساب الخشية والسكينة والوقار لا للاستكبار.
__________
(1) أخرجه مسلم كتاب الدعوات: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر، برقم 6793، وسنن الترمذي كتاب القراءات عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، برقم 2945.
(2) أخرجه ابن ماجه في سننه كتاب باب تعظيم حديث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم، باب الانتفاع بالعلم والعمل به، برقم 260 ، سنن الترمذي كتاب العلم عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، باب ما جاء فيمن يطل بعلمه الدنيا، برقم 2654. لأبي عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي، بتحقيق أحمد محمد شاكر وآخرين، ط / مكتبة مصطفى الحلبي ، القاهرة، ط/ 1398ه(1/26)
سابعًا: ليعلم من يريد تعلم العلم ـ أي علم من العلوم ـ أن بداية العلم هو حفظ القرآن، وكل آية يحفظها باب مفتوح إلى الله تعالى، وكل آية لا يحفظها أو نُسيها باب مغلق، حال بينه وبين ربه، فينبغي أن يكون حرصه على ما لا يحفظه من القرآن أكثر من حرصه على التقدم في أي علم من
العلوم.
ثامنًا: المحافظة على الاستغفار والإكثار منه، فإن نسيان القرآن من الذنوب .
فقد ذكر ابن كثير في تفسيره لقول الله تعالى: " وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ" [الشورى30]
عن الضحاك قال : ما نعلم أحدا حفظ القرآن ثم نسيه إلا بذنب ثم قرأ: " وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ .." الآية ثم قال الضحاك: وأي مصيبة أكبر من نسيان القرآن.(1)1)
وقال الشافعي :
شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي
وأخبرني بأن العلم نور ونور الله لا يُهدى لعاصي(2)2)
تاسعًا: أن يحافظ على الوضوء عند قراءته للقرآن مع إحسانه، ومعنى إحسانه هنا اتباع هدي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الوضوء .
عاشرًا: حفظ القرآن نعمة عظيمة تستحق الشكر، حيث يكون القلب عامرًا، فعلى الحافظ لكتاب الله أن يحمد الله ويشكره على هذه النعمة، قال تعالى: " وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ "[إبراهيم 7]
وكما ورد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه :
__________
(1) تفسير القرآن العظيم لابن كثير4/117
(2) ديوان الإمام الشافعي لأبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي، قافية الصاد، ص54، جمع وتعليق محمد عفيف الزغبي، ط/ مكتبة المعرفة بحمص، ودار العلم للطباعة والنشر بجدة. ط/ ثالثة1392هـ(1/27)
" ينبغي لحامل القرآن أن يُعرف بليله إذا الناسُ نائمون، وبنهاره إذا الناسُ مُفطرون، وبورعه إذا الناس يخلطون، وبتواضعه إذا الناسُ يختالون، وبحزنه إذا الناسُ يفرحون، وببكائه إذا الناسُ يضحكون، وبصمته إذا الناسُ يخوضون"
ومع هذه الأمور، ينبغي أن تكون القراءة بهدوء وترسل وترتيل، وكذلك بتركيز، وأن يجعل المعنى الإجمالي للآية هو المقصود، ولا يتوقف بتعسف عند تفسير كل كلمة، بل ينبغي عليه أن يسمح لآيات القرآن أن تنساب داخلة ويتصاعد تأثيرها شيئًا فشيئًا، حتى تسيطر على المشاعر وتوجهها لله ـ عز وجل ـ، وهذا هو المقصد الأسمى من القراءة والتعلم، فالتدبر المجرد لا يكفي، بل لابد من التأثر الذي من خلاله يزداد الإيمان وتتولد الطاقة ويحدث التغيير والتقويم، وعندما يجد أحدنا قلبه ينفعل ويتحرك مع آية من الآيات فعليه أن يرددها مرات ومرات؛ لأنه كلما فعل ذلك ازداد الإيمان في قلبه.. هذا الترديد لا يوجد له حد أقصى، فطالما وجد التجاوب استمر تردده، فإذا توقف التجاوب انتقل إلى ما بعدها من آيات.(1)3)
المبحث الثالث
تدبر القرآن وأهميته
معنى التدبر وحقيقته
إن تدبر القرآن هو أرفع صور تلاوته وترتيله التي جاءت نصوص القرآن والسنة ببيان فضلها وثوابها، والتدبر هو الذي يساعد قارئ القرآن على النهم من خيراته وفضائله .
التدبر لغة: دبر الأمر و تدبره نظر في عاقبته و استدبره رأى في عاقبته ما لم ير في صدره وعرف الأمر تدبرا أي بآخره... و التدبير في الأمر أن تنظر إلى ما تؤول إليه عاقبته، والتدبر: التفكر فيه، ... ويقال إن فلانا لو استقبل من أمره ما استدبره لهدي لوجهة أمره أي لو علم في بدء أمره ما علمه في آخره لاسترشد لأمره ... و التدبير أن يتدبر الرجل أمره، ويدبره أي ينظر في عواقبه.(2)1)
__________
(1) الجيل الموعود بالنصر والتمكين،ص153
(2) لسان العرب لابن منظور الإفريقي، مادة: (دبر)4/273(1/28)
التدبر: النظر في دبر الأمور أي عواقبها وهو قريب من التفكر إلا أن التفكر تصرف بالنظر في الدليل والتدبر تصرفه بالنظر في العواقب.(1)2)
إذن فالتدبر: التفكر ومادته تدور حول أواخر الأمور وعواقبها "فالتدبر هو النظر في عواقب الأمور وما تؤول إليه ومن هنا نستطيع أن نفهم التدبر هو التفكر الشامل الواصل إلى أواخر الدلالات الكلم ومراميه البعيدة"
فاعتمادًا على هذا التعريف يكون التدبر هو: "التفكر باستخدام وسائل التفكير والتساؤل المنطقي للوصول إلى معان جديدة يحتملها النص القرآني وفق قواعد اللغة العربية, وربط الجمل القرآنية ببعضها، وربط السور القرآنية ببعضها وإضفاء تساؤلات مختلفة حول هذا الربط أو ذاك.
وعلى ذلك فحقيقة تدبر القرآن: أن يقرأ المسلم كتاب الله بتأمل وتفكر وعناية وحضور، فيتأمل في أخباره ومواعظه، وأوامره ونواهيه، وأحكامه وآياته، وأن يعزم النية على العمل بما يؤمر وعن الانتهاء عما نهي عنه، وأن يتعظ بما فيه من المواعظ والأخبار، ويستحضر ما أخبر الله به عباده من أمور المعاد
فالخشوع والتدبر هما المقصودان ، لا مجرد تلاوته بلا فهم ولا تأمل، وبالخشوع والتدبر تنشرح الصدور وتستنير القلوب؛ ولذلك أخبر الله ـ جل وعلا ـ أن التذكر والتعقل هو ثمرة التدبر، فقال سبحانه: "كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ" [ص 29]
قال الطبري في تفسيرها: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وهذا القرآن كتاب أنزلناه إليك يا محمد مبارك ليدبروا آياته يقول ليتدبروا حجج الله التي فيه وما شرع فيه من شرائعه فيتعظوا ويعملوا به.(2)3)
__________
(1) التعاريف1/167
(2) تفسير الطبري 23/153(1/29)
فعلينا ألا ننسى حظنا من القرآن .. فإنه أساس الثبات إذا عصفت الفتن.. وعلاج الأحزان إذا نزلت المحن .. وشفاء إذا نالت منك الأسقام والعلل.. وحظك إنما يكون منه أنفع وأوفر إذا فتحت لآيات الله قلبك وتدبرتها وتأملتها .. كما قال تعالى:"وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ" [التوبة 124]
أهمية التدبر
وتكمن أهمية تدبر القرآن الكريم فيما يلي:
1- الامتثال لأمر الله ـ سبحانه وتعالى ـ فلقد أمرنا بذلك فقال
" أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً" [النساء82]
"أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد24]
قال البيضاوي في تفسيرها: تصفحونه وما فيه من المواعظ والزواجر حتى لا يجسروا على المعاصي "أم على قلوب أقفالها" لا يصل إليها ذكر ولا ينكشف لها أمر، وقيل أم منقطعة، ومعنى الهمزة فيها التقرير، وتنكير القلوب لأن المراد قلوب بعض منهم، أو لإشعار بأنهم لإبهام أمرها في القساوة، أو لفرط جهالتها، ونكرها كأنها مبهمة منكرة، وإضافة الأقفال إليها للدلالة على أقفال مناسبة لها مختصة بها لا تجانس الأقفال المعهودة.(1)4)
2- كذلك أهمية التدبر في أنه سبب لشحن النفوس نحو الخير والبعد عن الشر، فقد كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يكرر الآية الواحدة مرات ومرات، ويقلبها ويتفكر فيها، إذ ليس هناك فائدة في أن يكرر الإنسان آية عشرات المرات إذا لم يكن فيها تقليب الآية والتفكر فيها، وكثير من الصحابة والصالحين كانوا يكررون كثيرًا من الآيات يتفكرون وينظرون ويعتبرون.
__________
(1) تفسير البيضاوي 5/195،194(1/30)
3- والتدبر يعني الاهتمام ثم التطبيق والممارسة، وهي النقطة الأهم في حياة الأمة، فإذا تدبرنا القرآن نقلناه إلى حقول الممارسة وميادين السلوك
4- ومن أهمية التدبر أنه سبب في تغيير حياة كثير من الناس، فقيمة القرآن الحقيقية في قدرته على التغيير، وهذا بلا شك يستدعى فهم معانيه والتأثر بها والعمل بمقتضاها .. وفي مقدمة من غير القرآن حياتهم صحابة رسول الله، الذين كانوا يسمعون القرآن فيقولون والله إنه ليس بقول البشر، وما هي إلا لحظات تفكر وتدبر قليلة حتى يدخل ذلك الرجل في الإسلام دون تردد، وحينما كانوا يقرؤونه للتلاوة أو في صلاتهم كانوا يقفون عند آياته وقوفًا طويلاً لطلب الهداية علمًا وعملاً، يقول عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ : لا يغرركم من قرأ القرآن إنما هو كلام نتكلم به، ولكن انظروا من يعمل به.(1)1)
وإن أردت مثالا لطريقة الصحابة في قراءة القرآن فإليك هذا الأثر : عن أبي ذئب ـ رحمه الله ـ عن صالح قال : كنت جارا لابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ وكان يتهجد من الليل فيقرأ الآية ثم يسكت قدر ما حدثتك ، وذاك طويل ، ثم يقرأ ، قلت : لأي شئ فعل ذلك ؟ قال : من أجل التأويل يفكر فيه.(2)2)
ويقول عباد بن حمزة : دخلت على أسماء رضي الله عنها وهي تقرأ: " فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ " [الطور27] فوقفت عندها تعيدها وتدعو، فطال على ذلك فذهبت إلى السوق فقضيت حاجتي وهي تعيدها وتدعوه.(3)3)
كيف نتدبر القرآن العظيم
__________
(1) اقتضاء العلم العمل للخطيب البغدادي ص71، تحقيق: محمد ناصر الدين الألباني، ط/ مكتبة المعارف، الرياض، ط:أولى1422هـ
(2) مختصر قيام الليل لمحمد بن نصر المروزي ص149،ط: مؤسسة الرسالة،ط/ ثانية1414هـ
(3) مختصر قيام الليل ص149(1/31)
روى الإمام مسلم أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (إن الله ليرفع بهذا الكتاب أقوامًا ويضع به آخرين)(1)4)
ما من شك في أن رفعة السلف الصالح كانت مصداقا للشق الأول من هذا الحديث، وبسب التصاقهم بالقرآن الكريم فهمًا وتطبيًقا وحسن تدبر رفعهم الله سبحانه
وما من شك في أن سبب المذلة التي نعانيها اليوم هو مصداق للشق الثاني من الحديث، حيث ابتعدنا عن القرآن الكريم فهمًا وتطبيقًا وتدبرًا، فتداعت علينا الأمم، أو قاربنا أن نصل إلى هذه الحال.
لذا كان لزامًا علينا ـ إن كنا نريد لأمتنا أن تستعيد مجدها وشهودها الحضاري ـ أن نعيد تنظيم علاقتنا مع القرآن الكريم وفق المنهج الذي ارتضاه الله لنا، وهذا المنهج يكمن في قوله تعالى: "أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا"[محمد24]
ويكمن أيضا في علاقة الرسول الكريم مع القرآن فقد كان ـ عليه السلام ـ قرآنًا يمشي على الأرض والصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ كانوا لا يتعلمون الآية حتى ينتهوا من الآية التي سبقتها فهمًا وتدبرًا، فانعكس ذلك على سلوكهم وحياتهم فلذلك رفعهم الله به.
وسار التابعون على ذلك فارتقوا وارتفعوا، وجعلهم الله سادة للأمم بعد أن كانوا رعاة للغنم، ثم خلف من بعدهم خلف، وجاءت أقوام جعلت العلاقة بينها وبين القرآن على غير الذي كانت عليه، وما زالت الهوة تتباعد حتى وصل المسلمون إلى ما هم عليه الآن، وتنحت فكرة التدبر للقرآن جانبًا عند أكثر الناس لأسباب مختلفة وتنحى بعدها الاهتمام بالدين شيئًا فشيئًا.
وحتى نعيد علاقتنا مع القرآن الكريم فلا بد من التدبر؛ لأنه هو المفتاح الذي يعني الاهتمام، والمسلم اليوم لا ينقصه شيء مثل ما ينقصه الاهتمام بدينه وقرآنه.
__________
(1) أخرجه مسلم كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل من يقوم بالقرآن ويعلمه، برقم 1894
وأحمد في مسنده كتاب مسند عمر بن الخطاب ، باب مسند عمر بن الخطاب، برقم 234(1/32)
وهنا يتأتى السؤال: ما الطريق التي توصلنا إلى التدبر؟
وللإجابة على هذا السؤال نقول: إن هناك بعض الأمور التي إن حققناها تدبرنا القرآن تدبرًا حقيقيًا، ومنها :
= الاهتمام بلغة القرآن: فالقرآن الكريم نزل باللغة العربية قال الله تعالى:" إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِياًّ لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ" [يوسف2] " وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِياًّ...." [طه113]
فتلك أول خطوة في طريق تصحيح علاقتنا مع القرآن الكريم، فمن يريد أ يتعامل مع القرآن فلا بد أن يتفهم لغته ويعتني بممارستها، ويتعرف على أساليبها، ويتذوق معانيها، ويدرك مراميها.
= الاهتمام بالصحيح من تفسير القرآن الكريم : ذلك أن النبي ـ عليه السلام ـ هو الناقل عن الله وهو المبين للقرآن الكريم .
= الاهتمام بالتلاوة الصحيحة، والفهم الصحيح، والتطبيق السليم .
ثمرات تدبر القرآن
إن لتدبر القرآن شأنًا عظيمًا، فهو مادة حياة القلب وانشرح الصدر، وتجدد الإيمان، قال تعالى: "إِنَّ هَذَا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً" [الإسراء9](1)1)
1 ـ صلاح القلب
__________
(1) سيأتي الكلام عن تفسير هذه الآية في الحديث عن الآثار الإيمانية.(1/33)
فتدبر القرآن شفاء من الشبهات والشهوات ، وهو من أعظم وسائل الثبات ، فيه تطمئن القلوب وتسكن ، وبه تقر الأعين، وقد جمع ابن القيم رحمه الله ثمرات تدبر القرآن اليانعة فقال :"فلا شيء أنفع للقلب من قراءة القرآن بالتدبر والتفكر، فإنه جامع لجميع منازل السائرين ، وأحوال العالمين، ومقامات العارفين ، وهو الذي يورث : المحبة والشوق، والخوف والرجاء، والإنابة والتوكل والرضا، والتفويض والشكر، والصبر، وسائر الأحوال التي بها حياة القلب وكماله، وكذلك يجزي عن جميع الصفات والأفعال المذمومة التي بها فساد القلب وهلاكه .فلو علم الناس ما في قراءة القرآن بالتدبير لاشتغلوا بها عن كل ما سواها . فإذا قرأه بتفكير حتى إذا مر بأية وهو محتاج إليها في شفاء قلبه، كررها ولو مائة مرة، ولو ليلة ، فقراءة آية بتفكير وتفهم خيرا من قراءة ختمة بغير تدبر وتفهم، وأنفع للقلب وأدعى إلى حصول الإيمان وذوق حلاوة القرآن، فقراءة القرآن بالتفكير هي أصل صلاح القلب.(1)2)
2- صلاح العمل:فإن الجوارح للقلب تبع، فإذا خشع القلب للحق ،وشفى من الأمراض والأسقام بتدبر القرآن ، انساقت لأوامره الجوارح ، وظهر ذلك صلاحا في العمل،كما قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ (ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب).(2)3)
__________
(1) مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية أهل العلم والإرادة ص221لابن القيم: محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي أبوعبدالله 691-751هـ، ط/ دار ابن عفان، الخبر، السعودية، ط: أولى1416هـ
(2) صحح البخاري كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه، برقم 52، وصحيح مسلم كتاب المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات، برقم 4070(1/34)
ويقول ابن القيم رحمه الله: ليس شيء أنفع في معاشه ومعاده، وأقرب إلى نجاته من تدبر القرآن، وإطالة التأمل فيه، وجميع الفكر على معاني آياته؛ فإنها تثبت قواعد الإيمان في قلبه، وتشيد بنيانه، وتقعد أركانه، وتربة صورة الدنيا والآخرة والجنة والنار في قلبه، وتحضره بين الأمم، وترية أيام الله فيهم، وتبصره مواقع العبر، وتشهده عدل الله وفضله، وتعطيه فرقانا ونورا يفرق به بين الهدى والضلال، والغنى والرشاد، وتعطيه قوه في قلبه، وحياته وسعادة وانشراحا وبهجة وسرور، فيصير في شأن والناس في شأن آخر.
كما يقول رحمه الله ـ أيضا في نفس الموضع ـ: فإذا حصل المؤثر وهو القرآن، والمحل القابل: وهو القلب الحي، ووجد الشرط: وهو الإصغاء، وانتفى المانع: وهو اشتغال القلب وذهوله عن معنى الخطاب وانصرافه عنه إلى شيء آخر؛حصل الأثر: وهو الانتفاع والتذكر.(1)4)
الفصل الثالث
الآثار الإيمانية على الفرد والمجتمع المسلم من تعليم وتعلم القرآن الكريم.
توطئة
القرآن الكريم فيه تقويم للسلوك، وتنظيم للحياة، من استمسك به فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها، ومن أعرض عنه وطلب الهدى في غيره فقد ضل ضلالاً بعيداً، فالاشتغال بالقرآن من أفضل العبادات، ومن أعظم القربات، ولم لا، وفي كل حرف منه عشر حسنات، وسواء أكان بتلاوته أم بتدبر معانيه.
__________
(1) انظر الفوائد ص123،لابن القيم الجوزية، ط/ دار النفائس، بيروت، ط: سابعة1406هـ(1/35)
وقد أودع الله فيه علم كل شيء، ففيه الأحكام والشرائع، والأمثال والحكم، والمواعظ والتأريخ، والقصص ونظام الأفلاك، فما ترك شيئا من الأمور إلا وبينه، وما أغفل من نظام في الحياة إلا وضحه، قَالَ رَسُولَ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: (كِتَابُ اللَّهِ فِيهِ نَبَأُ مَا قَبْلَكُمْ ، وَخَبَرُ مَا بَعْدَكُمْ، وَحُكْمُ مَا بَيْنَكُمْ، هُوَ الْفَصْلُ لَيْسَ بِالْهَزْلِ، هُوَ الَّذِي مَنْ تَرَكَهُ مِنْ جَبَّارٍ قَصَمَهُ اللَّهُ، وَمَنِ ابْتَغَى الْهُدَى فِي غَيْرِهِ أَضَلَّهُ اللَّهُ، فَهُوَ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ، وَهُوَ الذِّكْرُ الْحَكِيمُ، وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ، وَهُوَ الَّذِي لَا تَزِيغُ بِهِ الْأَهْوَاءُ، وَلَا تَلْتَبِسُ بِهِ الْأَلْسِنَة، وَلَا يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ، وَلَا يَخْلَقُ عَنْ كَثْرَةِ الرَّدِّ، وَلَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ، وَهُوَ الَّذِي لَمْ يَنْتَهِ الْجِنُّ إِذْ سَمِعَتْهُ أَنْ قَالُوا: "إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا"، هُوَ الَّذِي مَنْ قَالَ بِهِ صَدَقَ، وَمَنْ حَكَمَ بِهِ عَدَلَ، وَمَنْ عَمِلَ بِهِ أُجِرَ، وَمَنْ دَعَا إِلَيْهِ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)(1)1)
هذا هو كتابنا، وهذا هو دستورنا، إن لم نقرأه وننتفع به نحن معاشر المسلمين، فهل ننتظر من غيرنا من أهل الأديان الأخرى الذي شذ أهلها وأحدثوا وبدلوا أن يقرؤوه أو ينتفعوا به؟
__________
(1) سنن الترمذي كتاب : فضائل القرآن عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، باب ما جاء في فضائل القرآن، برقم 2906،(وقال أبو عيسى حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه)، شعب الإيمان للبيهقي كتاب في تعظيم القرآن، باب فصل في تعاليم القرآن برقم 1935، ط/ دار الكتب العلمية، بيروت، ط: أولى1410هـ(1/36)
وفي القرآن الكريم بيان لأحوال يوم القيامة وما بعد الموت من البعث والحشر والعرض والحساب والنعيم والعذاب وجمع الناس لذلك اليوم العظيم : " اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً " [النساء 87]
وفي القرآن الكريم دعوة إلى النظر والتفكر في الآيات الكونية والآيات القرآنية: " قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ " [يونس 101] . وقال سبحانه " أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا " [محمد 24] .ومادام القرآن الكريم حبل الله المتين ودستور أمة الإسلام فلابد وأن هناك آثار تعود على من يشتغل به تعليمًا ,تعلمًا، وهذه الآثار أعظم من أن تحويها صفحات قلائل كهذه، وعليه فإننا نحاول أن نعرض فقط للآثار الإيمانية التي تعود على المشتغل به كفرد باعتبار أنه أول من يتأثر بها تأثيرًا مباشرًا، وبالتالي الآثار التي تعود على الأمة بوجه عام باعتبار أن الأمة تتأثر بما يتأثر به أفرادها.
المبحث الأول
من الآثار الإيمانية التي تعود على الفرد المسلم
من تعليم القرآن وتعلمه
الآثار الإيمانية التي تعود على الفرد المسلم المشتغل بالقرآن تعليمًا وتعلمًا كثيرة جدًا، ولكننا نحاول ـ بمشيئة الله تعالى ـ أن ندقق النظر في آيات القرآن الكريم، وفي سنة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي أنزل عليه هذا الكتاب الحكيم، وفي بعض المصنفات والمراجع التي لها صلة مباشرة بالكتاب والسنة وبهذا الموضوع؛ علنا نستخلص شيئًا من هذه الآثار، داعين ربنا العلي القدير أن ينفعنا بها وينفع بها غيرنا..آمين
أثر القرآن في استقامة العبد
أول وأهم آثار تعليم وتعلم القرآن الكريم الاستسلام لله تعالى بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة والخلوص له من الشرك.(1/37)
فلا يعبد إلا الله تعالى وحده لا شريك له ولا يرجى سواه ولا يخاف إلا منه، فلا نافع إلا هو عز وجل، ولا ضار إلا هو وحده، فلا يتعلق بولي كائناً من كان، ليجلب نفعاً أو يدفع ضراً فيما لا يقدر عليه إلا الله تعالى وحده.
كذلك من الآثار الإحسان بمراقبة الله تعالى وحده، فمرتبة المراقبة تحدو صاحبها إلى عمل كل خير والابتعاد عن كل شر أملاً في وعد الله تعالى، وخوفاً منه ومن وعيده عز وجل سبحانه وبحمده.
إذن فأهم الآثار وأولها: الإيمان بالله والتصديق بوعده ووعيده، والعمل بهذا الكتاب والدعوة إليه، والصبر على الأذى في ذلك ولا شك أن أثر ذلك هو سعادة الدنيا والآخرة، لأن المشتغل بالقرآن الكريم هو من اتقى الله تعالى، ولا يسعد في الدنيا والآخرة إلا من اتقى الله تعالى. قال الله عز وجل :" وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاًّ *وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً "الطلاق من الآيتين 2،3).
وفي نفس السورة يقول أيضًا:" وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يسراً" ( (الطلاق من الآية: 4). وقال أيضًا: " وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً " ( (الطلاق من الآية: 5).
فماذا بقي بعد ذلك من خيري الدنيا والآخرة يريده المتقي بعد هذه الوعود من الله الذي لا يخلف الميعاد.(1/38)
فالقرآن له أثر عظيم في استقامة العبد المشتغل به، ذلك لأنه يعيش به دومًا، يقوم وينام وهو يتفكر فيه وفي أوامره ونواهيه، فهو يستولي على مشاعره وأحاسيسه، فيغير مجرياتها، ويحول طريقها إلى الأفضل، كما أنه يعظه ويذكره، ويكشف له حقيقة نفسه وأصلها، فيشعرها بما عندها من أمراض، ويقدم لها مايشفيها من تلك الأمراض، كما أن القرآن ينير لصاحبه طريق الوصول إلى ربه، فيهديه ويجعله يخشاه بالغيب، يرغبه في ثوابه وجنته، ويحذره من عقابه وناره، ومن أثر القرآن في استقامة العبد ما يلي:
أولاً: سيطرة القرآن على القلب والمشاعر
القرآن إذا أخلص له صاحبه لابد أنه سيحدث تحولاً في قلبه، وشاهد ذلك أنه بعد بيعة العقبة أرسل ـ صلى الله عليه وسلم ـ مصعب بن عمير إلى يثرب ومعه ما معه من القرآن ..فماذا حدث ؟
دخل النور قلوب أهل يثرب فامتلأت بالإيمان، وتغيرت التصورات والاهتمامات وتوحد الفرقاء، واجتمعوا جميعا على كلمة واحدة، وتمسكوا بحبل الله المتين ـ وهو القرآن ـ فكان منهم ما كان من المستوى العجيب في البذل والتضحية والإيثار .. كل ذلك حدث قبل مجيئه ـ صلى الله عليه وسلم ـ إليهم ، والدليل على ذلك ما فعلوه مع إخوانهم المهاجرين من تكافل وإيثار في الدور والأموال والثمار، مع فقرهم وشدة حاجتهم، وما كان هذا ليحدث لولا المستوى الإيماني الراقي الذي وصلوا إليه من خلال القرآن.
فقيمة القرآن الحقيقية في قدرته على التغيير، وهذا بلا شك يستدعى فهم معانيه والتأثر بها والعمل بمقتضاها.
فالقرآن هو روح القلوب التي تحيا به سلامتها وزكاتها منه .
فمن تمسك بالقرآن الكريم فقد نُفخت فيه روح الهداية والتوفيق لكل خير، وقد استنار بالنور الذي يبدد ظلام الجهل ويهدي صاحبه إلى سواء الصراط.(1/39)
قال تعالى:" وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ" [الشورى 52]
قال الطبري: وكما كنا نوحي في سائر رسلنا، كذلك أوحينا إليك يا محمد هذا القرآن روحا من أمرنا يقول وحيا ورحمة من أمرنا، واختلف أهل التأويل في معنى الروح في هذا الموضع فقال بعضهم عنى به الرحمة ...وقال آخرون معناه وحيا من أمرنا ...وقوله ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان يقول جل ثناؤه لنبيه محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ماكنت تدري يا محمد أي شيء الكتاب ولا الإيمان اللذين أعطيناكهما ولكن جعلناه نورا يقول ولكن جعلنا هذا القرآن وهو الكتاب نورا يعني ضياء للناس يستضيئون بضوئه، وهو بيانه الذي بين فيه مما لهم فيه في العمل به الرشاد ومن النار النجاة نهدي به من نشاء من عبادنا يقول نهدي بهذا القرآن فالهاء في قوله به من ذكر الكتاب ويعني بقوله نهدي به من نشاء نسدد إلى سبيل الصواب وذلك الإيمان بالله من نشاء من عبادنا يقول نهدي به من نشاء هدايته إلى الطريق المستقيم من عبادنا.(1)1)
فكما أن الروح إذا دخلت الأبدان حركتها وأحيتها، كذلك القرآن إذا دخل القلوب فإنه يحييها ويحركها لخشية الله ومحبته، أما إذا خلت القلوب من القرآن فإنها تموت، كما أن الجسم إذا خلى من الروح فإنه يموت.(2)2)
__________
(1) تفسير الطبري 25/46
(2) بشراكم يا أهل القرآن.ص5 (كتيب من إعداد القسم العلمي بدار الوطن بالرياض، السعودية، بدون طبعة)نقلاً عن: تدبر القرآن لفضيلة الشيخ صالح الفوزان.(1/40)
والقرآن يشعرنا بضآلة ما نقدمه من أعمال، ويظهر ذلك من خلال عرضه الدائم لعباد الكون وما فيه من مخلوقات لله عز وجل، كقوله تعالى: "فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يسبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لاَ يسأَمُونَ"[فصلت38] وقوله:"يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ" [الأنبياء20]
والقرآن يكشف للإنسان حقيقة أصله الحقير، ومدى ضعفه وعجزه، وجهله وحجم احتياجاته المطلوبة للاستمرار في الحياة وأنه بالله لا بنفسه، ولو تخلي عنه طرفة عين لهلك .
ومع بيان هذه الحقيقة فإنه كذلك يعرفه بطبيعة نفسه المحبة للشهوات، المائلة للفجور والطغيان، الآمرة بالسوء؛ ليشتد حذره منها، فلا ينسب لها فضلاً، بل يجاهدها، ويروضها على الصدق والإخلاص .
فإذا ما ربط العبد بين هذه المعارف وبين ما يحدث له في حياته، تأكدت لديه حقيقة نفسه، وعاش عبدًا ذليلاً منكسرًا لله متحررًا مما سواه.
كذلك القرآن يحذرنا من عاقبة العجب والكبر والغرور، ويعرض الكثير من نماذج الذين استسلموا لهذه الأمراض فأهلكتهم، كإبليس وقارون وفرعون وصاحب الجنتين.
فالقرآن يقدم وصفات العلاج لأهل الكبر والغرور والإعجاب بالنفس :
فعلى سبيل المثال: خطاب القرآن لليهود، وتذكيرهم بما فعلوه،يحمل في طياته أيضا وصف علاج لهم،إذا ما أرادوا الشفاء مما هم فيه،ومن ذلك مطالبتهم بذكر نعم ربهم عليهم ليكفوا عن طغيانهم: قال تعالى:"يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العَالَمِينَ" [البقرة : 122].
ومع ذكر النعم،عليهم كذلك تذكر الآخرة وما فيها من أهوال [واتقُوا يومًا.....].(1/41)
فالدور الهام للقرآن والذي يتمثل في قدرته على التأثير في مشاعر قارئه، واستثارتها بمواعظه البليغة، وقوة سلطان ألفاظه على النفس، مما يزيد الإيمان، ويولد الطاقة الدافعة للقيام بأعمال البر المختلفة بسهولة ويسر قال تعالى: "قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً*وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً *وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً"[الإسراء107ـ 109].
من هنا تتضح لنا أهمية القرآن في استقامة العبد على أمر الله، وتجلببه الدائم بجلباب العبودية له.(1)3)
__________
(1) حطم صنمك وكن عند نفسك صغيرًا. د/ مجدي الهلالي، ص166،164 (بتصرف)(1/42)
أما عن سيطرة القرآن على المشاعر: فنلمس ذلك بوضوح من خلال السيرة النبوية، فحينما رجع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومن معه من الصحابة من غزوات ذات الرقاع وبعد جهد جهيد جاء الليل وأراد الجميع النوم، وكان لابد من حراس يحرسون المسلمين عند نومهم، فقام بهذه المهمة الصحابيان عباد بن بشر وعمار بن ياسر، وتناوب الاثنان على الحراسة، وبدأ بها عباد ونام عمار، فلما رأى أن المكان آمن صلى، فجاء أحد المشركين فرماه بسهم فنزعه وأكمل صلاته، ثم رماه بسهم ثان فنزعه وأكمل صلاته، ثم رماه بثالث فنزعه وأنهى التلاوة وأيقظ عمارا وهو ساجد، فلما سأله عمار لم لم يوقظه أول ما رمي؟ فأجاب بقوله: كنت في سورة أقرؤها، فلم أحب أن أقطعها حتى أنفدها، فلما تتابع علي الرمي ركعت فآذنتك، وأيم الله لولا أن أضيع ثغرًا أمرني رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بحفظه؛ لقطع نفسي قبل أن أقطعها أو أنفدها.(1)1)
فإن كنت في شك من قدرة القرآن على الهيمنة على مشاعر الإنسان والسيطرة عليها فسل نفسك : لماذا ظل عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ يردد قول الله تعالى: "فَتَعَالَى اللَّهُ المَلِكُ الحَقُّ وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً" [طه114] في ليلة حتى أصبح؟ ولماذا استمر عمر بن الخطاب ـرضي الله عنه ـ يردد في الفاتحة طيلة الليل؟!(2)2) وغيرهم وغيرهم
__________
(1) زاد المعاد في هدي خير العباد للإمام ابن القيم الجوزية2/228،تحقيق وتعليق: شعيب الأرنؤوط وعبد القادر الأرنؤوط ، ط/ مؤسسة الرسالة، ومكتبة المنار الإسلامي، ط/13،1406هـ1986م
(2) فضائل القرآن لأبي عبيد ص 147(1/43)
إنها حلاوة الإيمان، وخشوع القلب ، ولذة القرب الحقيقي من الله والشعور بالتغيير الذي يحدث لهم كلما رددوا الآية التي تحركت معها قلوبهم .. فهل من يعيش في هذه الأجواء، ويرى النور بعينه، يعود إلى الوراء، ويستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، فيقرأ القرآن بلسانه وهو غافل عنه؟!
من هنا ندرك أثر القرآن كمنهج أساسي للتغيير الذي حدث لجيل الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ.
ثانيًا: القرآن يعرف العبد بربه ويربطه به سبحانه
ومن تأثير القرآن أنه يعرف العبد بربه إلى أقصى ما يمكن أن تتحمله قدراته العقلية، ويصل به إلى أقرب ما يمكن أن يكون عليه بشر بعد الأنبياء ـ عليهم صلوات الله وسلامه ـ ويقوم القرآن كذلك بربط تلك المعرفة بمجريات الحياة، فلا يرى العبد إلا حكمة الله وراء أفعاله ومشيئته سبحانه، فينعكس ذلك على تعمله معه حتى يصل إلى درجة الإحسان بأن يعبد الله كأنه يراه، فيناجيه من قريب، ويستشعر قربه منه، وقيوميته عليه، فيأنس به، ويزداد شوقه إليه .
ثالثًا: القرآن باعث على خشية الله والفزع إلى ذكره
وهذا أثر إيماني مهم؛ لأنه يبعث على استقامة العبد في شتى أموره، وفي كل تصرفاته.
قال سبحانه: "اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِى بِهِ مَن يَشَاء وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ" [الزمر:23].
قال ابن كثير: هذا مدح من الله عز وجل لكتابه القرآن العظيم المنزل على رسوله الكريم.(1)3)
__________
(1) تفسير القرآن العظيم لابن كثير 4/55،إسماعيل بن عمر بن كثير الدمشقي أبو الفدا، ت774هـ، ط/ دار الفكر، بيروت1401هـ(1/44)
وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي: فأحسن الحديث كلام الله، وأحسن الكتب المنزلة من كلام الله هذا القرآن، وإذا كان هو الأحسن عُلم أن ألفاظه أفصح الألفاظ وأوضحها، وأن معانيه أجل المعاني؛ لأنه أحسن الحديث في لفظه ومعناه متشابهاً في الحسن والائتلاف وعدم الاختلاف بوجه من الوجوه حتى إنه كلما تدبره المتدبر، وتفكر فيه المتفكر رأى من اتفاقه حتى في معانيه الغامضة ما يبهر الناظرين، ويجزم بأنه لا يصدر إلا من حكيم عليم.(1)4)
رابعًا: القرآن هداية لأهله
والقرآن كتاب هداية، والهداية على قسمين: هداية توفيق وعمل، وهي خاصة بالمؤمنين، وهداية دلالة وإرشاد وهذه عامة لجميع الناس، والقرآن الكريم يشتمل على هذين القسمين من الهداية .
فمن القسم الأول قول الله تعالى:"ذَلِكَ الكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ" [البقرة2]
ومن القسم الثاني قوله تعالى:" شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ القُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الهُدَى وَالْفُرْقَانِ ..." [البقرة 185] (2)5)
وأي هداية تساوي هذه الهداية؟ إنها الهداية للتي هي أقوم، والبشارة للمؤمنين، المتبعين لهدي القرآن، المستمسكين به. وفي ذلك يقول الله تعالى :: "إِنَّ هَاذَا الْقُرْءانَ يِهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ وَيُبَشّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا * وأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا" [الإسراء:9، 10].
__________
(1) تيسير الكريم الرحمن 6/463-464
(2) بشراكم يا أهل القرآن. إعداد القسم العلمي بدار الوطن ص5(1/45)
قال ابن جرير: "يقول تعالى ذكره إن هذا القرآن الذي أنزلناه على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يرشد ويسدد من اهتدى به "للتي هي أَقْوَمُ" يقول: للسبيل التي هي أقوم من غيرها من السبل، وذلك دين الله الذي بعث به أنبياءه وهو الإسلام، يقول جل ثناؤه: فهذا القرآن يهدي عباد الله المهتدين به إلى قصد السبيل التي ضل عنها سائر أهل الملل المكذبين به".(1)1)
وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي في تفسيره لهذه الآية :
يخبر تعالى عن شرف القرآن وجلالته، وأنه " يِهْدِى للتي هي أَقْوَمُ "
أي: أعدل وأعلى، من العقائد،, والأعمال، والأخلاق. فمن اهتدى بما يدعو إليه القرآن، كان أكمل الناس، وأقومهم، وأهداهم في جميع الأمور"ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات" من الواجبات والسنن "َنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا" أعده الله لهم في دار كرامته، لا يعلم وصفه إلا هو -سبحانه وتعالى -.(2)2)
قال تعالى:" ... الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً*رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النور وَمَن يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً" [الطلاق11،10]
__________
(1) جامع البيان 8/43
(2) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي، 4/154 ، ط/دار ابن الجوزي بالمملكة العربية السعودية ، ط/ أولى1415هـ.(1/46)
قال الطبري: وقوله " قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً*رَسُولاً" اختلف أهل التأويل في المعني بالذكر والرسول في هذا الموضع، فقال بعضهم: الذكر هو القرآن والرسول محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ... وقال آخرون: الذكر هو الرسول ـ ثم يقول ـ: والصواب من القول في ذلك أن الرسول ترجمة عن الذكر، وذلك نصب لأنه مردود عليه على البيان عنه والترجمة، فتأويل الكلام إذن قد أنزل الله إليكم يا أولي الألباب ذكرا من الله لكم، يذكركم به وينبهكم على حظكم من الإيمان بالله والعمل بطاعته، رسولا يتلو عليكم آيات الله التي أنزلها عليه "مُبَيِّنَاتٍ" يقول: مبينات لمن سمعها وتدبرها أنها من عند الله، يقول تعالى ذكره: قد أنزل الله إليكم أيها الناس ذكرا رسولا يتلو عليكم آيات الله مبينات كي يخرج الذين صدقوا الله ورسوله "وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ" يقول: وعملوا بما أمرهم الله به وأطاعوه "مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النور" يعني من الكفر وهي الظلمات، إلى النور يعني إلى الإيمان.(1)3)
سئلت أم المؤمنين السيدة عائشة الصديقة بنت الصديق ـ رضي الله عنها وعن أبيهاـ
عن خلق رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقالت : (كان خلقه القرآن) (2)4)
__________
(1) جامع البيان للطبري28/152
(2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده كتاب حديث السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ، باب حديث السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ برقم 24080، والأدب المفرد كتاب من دعا الله أن يحسن خلقه، باب: من دعا الله أن يحسن خلقه، برقم 311(1/47)
والقرآن يعود صاحبه الورع في مطعمه ومشربه ومكسبه، ويجعله بصيراً بزمانه وفساد أهله، فهو يحذرهم على دينه، مقبلاً على شأنه، مهموماً بإصلاح ما فسد من أمره، حافظاً للسانه، مميِّزاً لكلامه، إن تكلّم تكلّم بالحق والخير، وإن أنصت كان إنصاته ابتغاء رضوان الله، قليلَ الخوض فيما لا يعنيه ..لايحسد ولا يغش، يحفظ ـ تقديرًا للقرآن ـ جوارحه، يتواضع في نفسه، يقبل الحق من الصغيرٍ والكبير، يطلب الرفعة من الله تعالى لا من المخلوقين .
يُلزمه القرآن بِرَّ والديه، فيخفضُ لهما جناح الذل من الرحمة، ويخفض لصوتهما صوته، ويبذل لهما ماله، ويشكر ويدعو لهما عند الكبر .
وبالقرآن يصل رحمه وينفع مَن صحِبه، ويحسن مجالسة من يجالسهم، ويرفق بمن يعلّمه، لا يعنّف من أخطأ ولا يخجله، وهو رفيقٌ في أموره، صبورٌ على تعلم الخير وتعليمه.
خامسًا: القرآن يرغب في الجنة ويحذر من النار
ومع الآخرة: فالقرآن يرغب في الجنة، ويعرض للعبد ألوان نعيمها كأنها رأي العين، ويزهد في الدنيا، ويصفها بأوصاف عجيبة منفردة حتى تتجافى عنها القلوب، وفي المقابل ـ أيضًا ـ يحذر من النار ويعرض لقارئه صنوف عذابها كأنها ماثلة أمامه رأي العين، فتقشعر القلوب والأبدان وتعود للخضوع لبارئها.
سادسًا: القرآن سبب لجلب الطمأنينة ونزول الرحمة وحضور الملائكة.(1/48)
فالمعلم والمتعلم حينما يعيش كل منهما في كنف القرآن، ويقدر مجلسه، لأنه يدرك تمامًا أن هذا المجلس أرفع مقامًا من أي مجلس دنيوي، وأعلى ذكرًا من تلك المجالس الدنيوية، ولذا جعل الله لهذا المجلس ما جعل من الفضائل والمزايا، التي حين يستشعرها صاحبها تطمئن نفسه ويهدأ فكره، فيكثر من ذكره لربه ويكثر من فعل الطاعات، ويتقرب بالنوافل، فيرسخ يقينه ويزداد إيمانه، فعن أبِى هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده )(1)1)
وعن البراء بن عازب ـ رضي الله عنهما ـ قال: كان رجل يقرأ سورة الكهف وإلى جانبه حصان مربوط بشطَنَيْن، فتغشته سحابة فجعلت تدنو وتدنو، وجعل فرسه ينفر، فلما أصبح أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال: (تلك السكينة تنزلت للقرآن).(2)2)
قال النووي: قد قيل في معنى السكينة هنا أشياء، والمختار منها: أنها شيء من مخلوقات الله تعالى فيه طمأنينة ورحمة، ومعه الملائكة، وفي الحديث فضيلة القراءة وأنها سبب نزول الرحمة وحضور الملائكة، وفيه فضيلة استماع القرآن"(3)3)
أقول: ولابد أن ذلك كله سوف ينعكس على نفس المعلم والمتعلم، ويجعله يقبل على عبادة الله بخشوع وخضوع.
سابعًا: القرآن شفاء ورحمة لصاحبه
ومن الآثار التي تعود على العالم والمتعلم أن القرآن شفاء للأبدان والصدور، ففيه الشفاء الحسي والمعنوي.
__________
(1) سبق تخريج الحديث ص13 من هذا البحث.
(2) أخرجه البخاري: فضائل القرآن، فضل الكهف برقم5011، ومسلم: صلاة المسافرين برقم795.
(3) صحيح مسلم بشرح النووي 6/82(1/49)
قال بن القيم ـ رحمه الله ـ فالقرآن هو الشفاء التام من جميع الأدواء القلبية والبدنية، وأدواء الدنيا والآخرة، وما كل أحد يؤهل ولا يوفق للاستشفاء به، وإذا أحسن العليل التداوي به بصدق وإيمان وقبول تام، واعتقاد جازم واستيفاء شروطه، لم يقاومه الداء أبدا.
وكيف تقاوم الأدواء كلام رب الأرض والسماء؟ الذي لو نزل على الجبال لصدعها وعلى الأرض لقطعها، فما من مرض من أمراض القلوب والأبدان إلا وفي القرآن سبيل الدلالة على دوائه وسببه والحمية منه لمن رزقه الله فهما في كتابه .
وأما الأدوية القلبية، فإنه يذكرها مفصلة، ويذكر أسباب أدوائها وعلاجها،(1)4)
قال تعالى: "أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَة وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ"[العنكبوت 51].
قال ابن كثير: أي إن في هذا القرآن لرحمة أي بيانا للحق وإزاحة للباطل وذكرى بما فيه حلول النقمات ونزول العقاب بالمكذبين والعاصين لقوم يؤمنون.(2)5)
فمن لم يشفه القرآن فلا شفاه الله، ومن لم يكفه فلا كفاه الله.
قال الله تعالى:"وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِياًّ لَّقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ"[ فصلت44]
فالقرآن شفاء وعافية ورحمة وهدى للمؤمنين المتمسكين به، فالتمسك بكتاب الله تعالى يمد المؤمن بالشفاء والعافية والرحمة في الدنيا والآخرة .
وأول من يُشفى به ويُرحم هو العالم والمتعلم، الذين يبذلون فيه جهدًا، ويجعلون هذا الجهد ابتغاء وجه ربهم.
__________
(1) : زاد المعاد لابن القيم 4/352
(2) تفسير القرآن العظيم3/419(1/50)
قال تعالى: "وَنُنَزّلُ مِنَ الْقُرْءانِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّاالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا" [الإسراء82].
قال ابن جرير: "يقول تعالى ذكره: وننزل عليك يا محمد من القرآن ما هو شفاء يستشفى به من الجهل من الضلالة، ويبصر به من العمى للمؤمنين ورحمة لهم دون الكافرين به؛ لأن المؤمنين يعملون بما فيه من فرائض الله، ويحلون حلاله، ويحرمون حرامه فيدخلهم بذلك الجنة، وينجيهم من عذابه فهو لهم رحمة ونعمة من الله أنعم بها عليهم "وَلاَ يَزِيدُ الظَّاالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا" يقول: ولا يزيد هذا الذي ننزل عليك من القرآن الكافرين به إلا خساراً، يقول: إهلاكاً؛ لأنهم كلما نزل فيه أمر من الله بشيء أو نهي عن شيء كفروا به، فلم يأتمروا لأمره، ولم ينتهوا عما نهاهم عنه فزادهم ذلك خساراً إلى ما كانوا فيه قبل ذلك من الخسار رجساً إلى رجسهم قبل".(1)1)
قال ابن كثير ـ رحمه الله ـ في تفسير هذه الآية:
يقول تعالى مخبراً عن كتابه .. إنه شفاء ورحمة للمؤمنين أي : يذهب ما في القلوب من أمراض من شك ونفاق وشرك وزيغ وميل ، فالقرآن يشفي من ذلك كله ، وهو أيضاً رحمة يحصل فيها الإيمان ، والحكمة وطلب الخير والرغبة فيه، وليس هذا إلا لمن آمن به، وصدقه ، واتبعه ، فإنه يكون شفاء في حقه ورحمة ، وأما الكافر الظالم نفسه بذلك فلا يزيده سماعه القرآن إلا بعداً وكفراً ، والآفة من الكافر لا من القرآن.(2)2)
وقال عز وجل: "ياأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مّن رَّبّكُمْ وَشِفَاء لِمَا في الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ" [يونس:57، 58].
__________
(1) جامع البيان في تأويل آي القرآن لابن جرير الطبري 8/139
(2) تفسير القرآن العظيم لابن كثير 3/59(1/51)
قال ابن كثير: يقول تعالى ممتناً على خلقه بما أنزله من القرآن العظيم على رسوله الكريم: "ياأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مّن رَّبّكُمْ" أي زاجراً عن الفواحش"وَشِفَاء لِمَا في الصُّدُورِ" أي من الشبه والشكوك، وهو إزالة ما فيها من رجس ودنس "وَهُدًى وَرَحْمَةٌ" أي يحصل به الهداية والرحمة من الله تعالى، وإنما ذلك للمؤمنين به والمصدقين الموقنين بما فيه وقوله تعالى: "قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ" أي بهذا الذي جاءهم من الله من الهدى ودين الحق فليفرحوا، فإنه أولى ما يفرحون به "هُوَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ" أي من حطام الدنيا وما فيها من الزهرة الفانية الذاهبة لا محالة.(1)3)
كما جاء في تفسير هذه الآية: يلفت الله تعالى أنظار الناس إلى أنه : قد جاءتكم موعظة من ربكم تذكركم عقاب الله وتخوفكم وعيده ، وهي القرآن وما اشتمل عليه من الآيات والعظات لإصلاح أخلاقكم وأعمالكم، وفيه دواء لما في القلوب من الجهل والشرك وسائر الأمراض، ورشد لمن اتبعه من الخلق فينجيه من الهلاك، جعله سبحانه وتعالى نعمة ورحمة للمؤمنين، وخصهم بذلك؛ لأنهم المنتفعون بالإيمان، وأما الكافرون فهو عليهم عمى .(2)4)
__________
(1) تفسير القرآن العظيم 2/436
(2) التفسير الميسر ص215 . إعداد نخبة من العلماء ، بإشراف د. عبد الله بن عبد المحسن التركي، إصدار مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة النبوية عام 1419ه.(1/52)
وأخرج الإمام البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها : (أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات وينفث ، فلما اشتد وجعه كنت أقرأ عليه وأمسح بيده رجاء بركتها) .(1)5)
وعن عائشة رضي الله عنها : (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه ثم نفث فيهما فقرأ فيهما "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ"[الإخلاص1] و "قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الفَلَقِ"[الفلق1] و "قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ"[الناس1] ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده، يبدأ بهما على رأسه ووجهه وما أقبل من جسده ، يفعل ذلك ثلاث مرات) .(2)6)
ثامنًا: معلم القرآن ومتعلمه يجلهم الله تعالى في الآخرة
أهل القرآن هم أهل الله وخاصته، وهم أحق الناس بالإجلال والإكرام من قبل الله سبحانه، وهل بعد إجلال الله إجلال؟ فعن أبِى موسى الأشعري قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( إن من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم ، وحامل القرءان غير الغالي فيه والجافي عنه وإكرام ذي السلطان المقسط )(3)1)
تاسعًا: المعلم والمتعلم خير الناس ومن أعظمهم أجرًا ومنزلة
إن في تعليم القرآن الكريم و تعلّمه خيرا كثيرا ، وفضلا جزيلا وذلك لما يعود على العالم والمتعلم من الأجر والمثوبة .
__________
(1) صحيح البخاري كتاب فضائل القرآن، باب فضل المعوذات برقم 5016. لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، بشرح محب الدين الخطيب، وترقيم محمد فؤاد عبد الباقي، ونشر ومراجعة قصي محب الدين الخطيب، ط/المطبعة السلفية ومكتبتها، القاهرة، ط/ 1400ه
(2) صحيح البخاري: كتاب فضائل القرآن، باب فضل المعوذات برقم 5017
(3) سنن أبي داود كتاب الأدب، باب في تنزيل الناس منازلهم، برقم 4843 ، والأدب المفرد للبخاري كتاب إجلال الكبير، باب إجلال الكبير، برقم 362(1/53)
فعن عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : (خيركم من تعلم القرآن وعلمه.)
ورواية أخرى : (إن أفضلكم من تعلم القرآن وعلمه).(1)2)
قال الحافظ ابن حجر ـ رحمه الله ـ في شرح الحديث: يحتمل أن يكون المراد بالخيرية من جهة حصول التعليم بعد العلم ، والذي يعلم غيره يحصل له النفع المتعدي بخلاف من يعمل فقط ، بل من أشرف العمل تعليم الغير ، فمعلم غيره يستلزم أن يكون تعلمه ، وتعليمه لغيره عمل وتحصيل نفع متعد ، ولا يقال لو كان المعنى حول النفع المتعدي لاشترك كل من علم غيره علماً ما في ذلك ، لأنا نقول القرآن أشرف العلوم، فيكون مَنْ تعَلَّمه وعلمه لغيره أشرف ممن تعلم غير القرآن، وإن علمه فيثبت المدعي. ولا شك أن الجامع بين تعلّم القرآن وتعليمه مكمل لنفسه ولغيره جامع بين النفع القاصر والنفع المتعدي ولهذا كان أفضل، وهو من جملة من عني سبحانه وتعالى بقوله"وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ"[فصلت: 33] والدعاء إلى الله يقع بأمور شتى من جملتها تعليم القرآن وهو أشرف الجميع ... إلى أن قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
ويحتمل أن تكون الخيرية وإن أطلقت لكنها مقيدة بناس مخصوصين خوطبوا بذلك كان اللائق بحالهم ذلك ، أو المراد خير المتعلمين من يعلم غيره لا من يقتصر على نفسه ، أو المراد مراعاة الحيثية لأن القرآن خير الكلام فمتعلمه خير من متعلم غيره بالنسبة إلى خيرية القرآن، وكيفما كان فهو مخصوص بمن علم وتعلم بحيث يكون قد علم ما يجب عليه عيناً.(2)3)
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه: كتاب فضائل القرآن، باب خيركم من تعلم القرآن وعلمه، برقم 5027-5028
(2) فتح الباري بشرح صحيح البخاري 8/694(1/54)
كذلك فالمعلم والمتعلم أعظم الناس أجرًا، فلا ريب أن المؤمن القارئ لكتاب الله تعالى سوف يحصل على الأجر العظيم والخير العميم، وله فضل على من سواه من الناس. فعن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ عن أبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنه ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (مثل الذي يقرأ القرآن كالأترجة طعمها طيب وريحها طيب، والذي لا يقرأ القرآن كالتمرة طعمها طيب ولا ريح فيها، ومثل الفاجر الذي يقرأ القرآن، كمثل الريحانة، ريحها طيب وطعمها مر، ومثل الفاجر الذي لا يقرأ القرآن، كمثل الحنظلة طعمها مر، ولا ريح لها) (1)4) .
قال الحافظ ابن حجر في شرحه هذا الحديث : وفي الحديث فضيلة حاملي القرآن ، وضرب المثل للتقريب للفهم ، وأن المقصود من تلاوة القرآن العمل بما دَلَّ عليه. (2)5)
ومن الأجر الذي يحصله قارئ القرآن أن له بكل حرف حسنة والحسنة بعشر أمثالها، وهذا فضل وخير ولطف من الله تعالى بهذه الأمة، التي هي خير الأمم .
فعن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول ألم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف ، وميم حرف) (3)6) .
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه كتاب فضائل القرآن، باب فضل القرآن على سائر الكلام (رقم 5020)
(2) فتح الباري بشرح صحيح البخاري ، للحافظ ابن حجر العسقلاني 8/685 . بتصحيح محب الدين الخطيب ، ط/ دار الريَّان ، القاهرة، ط/ أولى 1407ه.
(3) سنن الترمذي، كتاب فضائل القرآن، باب: ما جاء فيمن قرأ حرفاً من القرآن ما له من الأجر (رقم 2910)، وقال الشيخ الألباني: صحيح. انظر: صحيح سنن الترمذي 3/9 ( رقم 2327 )(1/55)
قال الحافظ المباركفوري في تعليقه على المقصود بالحرف الوارد في الحديث: والحرف يطلق على حرف الهجاء، والمعاني ، والجملة المفيدة، والكلمة المختلفة في قراءتها، وعلى مطلق الكلمة.(1)7)
وأما الأجر الذي يناله قارئ القرآن يوم القيامة فهو أعظم مما يتخيله فكر.
فعن عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (يقال لصاحب القرآن اقرأ وارتق ورتِّل كما كنت ترتّل في الدنيا ، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها] وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.(2)8)
كذلك فالمعلم والمتعلم أعلى الناس منزلة، وأرفعهم مكانة، يتنسمون مكاناً عالياً، ويرتقون مرتقىً رفيعاً، بتعلمهم لأفضل الكلام لكتاب الله، فعن عمرَ بن الخطابِ ـ رضي اللَّه عنهُ ـ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم ـ قال : (إِنَّ اللَّه يرفَعُ بِهذَا الكتاب أَقواماً ويضَعُ بِهِ آخَرين) (3)1)
وعن عبد الله بن عمر ـ رضي اللّه عنهما ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (يقال لصاحب القرآن اقرأ: وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلك عند آخر آية تقرؤها)(4)2)
__________
(1) تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي ، للحافظ محمد بن عبد الرحمن بن عبد الرحيم المباركفوري 8/182. ط/دار الكتب العلمية ، بيروت، د.ت.
(2) سنن الترمذي: كتاب فضائل القرآن، باب 18 برقم 2914، وقال الشيخ الألباني: حسن صحيح. انظر : صحيح سنن الترمذي 3/10 برقم 2329
(3) سبق تخريج الحديث ص16 من هذا البحث
(4) أخرجه الترمذي في سننه كتاب فضائل القرآن عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقال عنه: حديث حسن صحيح، برقم 2914 ، مسند أحمد كتاب أول مسند عبد الله بن عمرو بن العاص ـ رضي الله عنهماـ، باب أول مسند عبد الله بن عمرو بن العاص ـ رضي الله عنهماـ ، برقم 6760 ، وسنن أبي داود كتاب: باب تفريع أبواب الوتر، باب استحباب الترتيل في القراءات، برقم 1464(1/56)
ومن هنا يعكف صالحو المؤمنين على كثرة تلاوة القرآن، ويتنافسون في ذلك طلبًا لثواب تلاوته.
قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ مشيرًا إلى هذا التنافس في تلاوة القرآن: (لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله القرآن، فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالاً فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار)(1)3)
والحسد هنا مراد به التنافس في فعل الخير، وتمنى فعل ذلك من كثرة التلاوة، وكثرة النفقة في سبيل الله.
وجعل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي لا ينطق عن الهوى، جعل تعلم آية من كتاب الله خيرًا من تملك ناقة ـ وهي أنثى الإبل ـ، وكانت النوق آنذاك أفضل مال العرب، وجعل من تعلم آيتين خيرًا له من امتلاك ناقتين.
وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في الصفة فقال: (أيكم يحب أن يغدو كل يوم إلى بطحان أو إلى العقيق فيأتي منه بناقتين كَوْماويْن(2)4). في غير إثم ولا قطع رحم)؟ فقلنا: يا رسول الله نحب ذلك، قال: (أفلا يغدو أحدكم إلى المسجد فيعلم أو يقرأ آيتين من كتاب الله عز وجل خير له من ناقتين وثلاث خير له من ثلاث، وأربع خير له من أربع ومن أعدادهن من الإبل؟)(3)5)
__________
(1) صحيح البخاري: كتاب التوحيد، باب قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار)، برقم 7091، وصحيح مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب: فضل من يقوم بالقرآن ويعلمه، برقم 1891
(2) لكَوْماء من الإبل: مشرفة السنام عاليته (النهاية في غريب الحديث 4/211)
(3) صحيح مسلم كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل قراءة القرآن في الصلاة وتعلمه، برقم 1870، ومسند أحمد كتاب حديث عقبه بن عامر الجهني، وباب حديث عقبه بن عامر الجهني، برقم 16955، وبطحان والعقيق اسمان لمكانين معروفين بجوار المدينة، ومعنى كوماوين: أي عظيمتين سمينتين(1/57)
وما من شك في أن مقصود الحديث الترغيب في تعليم القرآن وتعلمه، والرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يخاطبهم على ماكانوا يعرفونه آنذاك، فإنهم أهل إبل، وقد كانت حينئذ أعظم شيء يعرفونه ويتعاملون به.
وهكذا فالقرآن خير كله، قراءته عبادة وتعلمه عبادة، والعمل به عبادة، والاستماع إليه عبادة، فأي أجر وأي ثواب من أي عمل آخر يداني هذا الأجر وذاك الثواب الذي يحصله المسلم من تعليمه وتعلمه القرآن؟
وإنه لفخر للمعلم والمتعلم وحتى للذي يقرأ كلام الله ويتعتع فيه، ذلك حينما يعلم أنه ـ بفضل الله ـ أعظم الخلق أجراً، وأكثرهم ثواباً، ولم لا، وهم يحملون في صدورهم كلام ربهم، ويسيرون بنور مولاهم وخالقهم، عن عائشة ـ رضي اللَّه عنهاـ قالتْ : قال رسولُ اللَّهِ ـ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم ـ: (مثل الذي يقرا القرآن وهو حافظ له مع السفرة الكرام البررة، ومثل الذي يقرا وهو يتعاهده وهو عليه شديد فله أجران)(1)6)
وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: (من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، أما إني لا أقول: الم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف) (2)7)
__________
(1) صحيح البخاري كتاب التفسير باب: تفسير سورة عبس، برقم 4653، وصحيح مسلم كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل الماهر بالقرآن، برقم 1859
(2) سنن الترمذي كتاب: فضائل القرآن عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، باب: ما جاء قيمن قرأ حرفا من القرآن ما له من الأجر، برقم 2910، وقال: هذا حديث حسن صحيح(1/58)
وعن عثمان بن عفان -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه)(1)8) وهذا يدل على بيان فضل تعليم القرآن والترغيب فيه، وقد سئل سفيان الثوري عن الرجل يغزو أحب إليك، أو يقرأ القرآن؟ فقال: يقرأ القرآن؛ لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (خيركم من تعلم القرآن وعلَّمه)
- عن مجاهد عن أبي هريرة ـ رضي اللّه عنه ـ عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (من استمع إلى آية من كتاب الله ـ عز وجل ـ كتبت له حسنة مضاعفة ومن تلاها كانت له نورًا يوم القيامة )(2)1)
فأي أثر يعود على نفس المسلم أعظم من ذلك الأثر، وأي عمل يرفع المسلم ويجعله موصولاً بهذا الحبل المتين أفضل من ذلك؟
عاشرًا: محاجة القرآن عن أهله وشفاعته لهم.
فمعلم القرآن ومتعلمه أينما اتجه فعين الله ترعاه، فأهل القرآن هم الذين لا يقدمون على معصية، ولا يقترفون منكراً ولا إثماً، لأن القرآن يردعهم، وأوامره تأمرهم، ونواهيه تزجرهم، ففيه الوعد والوعيد، والتخويف والتهديد، فلتلهج ألسنتهم بتلاوة القرآن العظيم.
__________
(1) سبق تخريجه ص23،9
(2) مسند احمد كتاب تتمة مسند أبي هريرة، باب: تتمة مسند أبي هريرة، برقم 8289، وشعب الإيمان للبيهقي كتاب التاسع عشر باب في تعظيم القرآن ـ باب فصل في إدمان تلاوة القرآن برقم 1981(1/59)
عَن النَّوَّاسِ بنِ سَمعانَ ـ رضيَ اللَّه عنهُ ـ قال : سمِعتُ رسول اللَّهِ ـ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم ـ يقولُ : (يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعلمون به، تقدمه سورة البقرة وآل عمران، وضرب لهما رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثلاثة أمثال، ما نسيتهن بعد، قال: كأنما غمامتان أو ظلتان سوداوان، بينهما شرق، أو كأنهما حزقان من طير صواف، تحاجان عن صاحبهما) (1)2)
فليستبشر أهل القرآن بذلك، ولينعموا بالأثر الذي يعود عليهم، فيصور نبي الرحمة حوار القرآن والشفاعة لصاحبه يوم القيامة، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ: (يَجِيءُ الْقُرْآنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَقُولُ يَا رَبِّ حَلِّهِ، فَيُلْبَسُ تَاجَ الْكَرَامَةِ، ثُمَّ يَقُولُ يَا رَبِّ زِدْهُ، فَيُلْبَسُ حُلَّةَ الْكَرَامَةِ، ثُمَّ يَقُولُ يَا رَبِّ ارْضَ عَنْهُ، فَيَرْضَى عَنْهُ، فَيُقَالُ لَهُ : اقْرَأْ وَارْقَ وَتُزَادُ بِكُلِّ آيَةٍ حَسَنَةً)(2)3)
__________
(1) صحيح مسلم كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل قراءة القرآن وسورة البقرة، برقم 1873، ومسند أحمد، كتاب حديث النواس بن سمعان الكلابي الأنصاري، باب: حديث النواس بن سمعان الكلابي الأنصاري، برقم 17185
(2) سنن الترمذي كتاب: فضائل القرآن عن رسول الله ـصلى الله عليه وسلم ـ برقم 2915 (وقال حديث حسن صحيح)، وشعب الإيمان للبيهقي كتاب: الكتاب التاسع عشر من شعب الإيمان في تعظيم القرآن، باب فصل في إدمان تلاوة القرآن، برقم 1997(1/60)
ويصدق ذلك حديث أَبي أُمامَةَ ـ رضي اللَّه عنهُ ـ قال : سمِعتُ رسولَ اللَّهِ ـ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم ـ يقولُ: (اقْرَؤُوا القُرْآنَ فإِنَّهُ يَأْتي يَوْم القيامةِ شَفِيعاً لأصْحابِهِ) (1)4)
فمن اشتغل بالقرآن الكريم أمنه الله تعالى من الخوف في نفسه وأهله، في عاجله وآجله.
قال تعالى: " فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ " (البقرة من الآية: 38).
حادي عشر: مرافقة الملائكة للمشتغل بالقرآن
ومن الآثار التي تعود على قارئ القرآن الكريم ـ معلمًا أو متعلمًا ـ أنه يرافق الملائكة الكرام البررة .
فعن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة ، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران). (2)5)
__________
(1) صحيح مسلم كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب : فضل قراءة القرآن وسورة البقرة، برقم 1871، ومسند أحمد كتاب حديث أبي أمامة الباهلي الصدي بن عجلان، باب حديث أبي أمامة الباهلي الصدي بن عجلان برقم 21689
(2) رواه مسلم في صحيحه: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل الماهر بالقرآن والذي يتتعتع فيه (رقم 798)، ورواه الترمذي في سننه،كتاب فضائل القرآن، باب ما جاء في فضل قارئ القرآن (رقم 2904)، وقال الشيخ الألباني: صحيح. انظر: صحيح سنن الترمذي 3/9 (رقم 2325)(1/61)
قال الإمام النووي ـ رحمه الله ـ في هذا الحديث: السفرة ، جمع سافر ككاتب ، وكتبة ، والسافر: الرسول ، والسفرة : الرسل ، لأنهم يسفرون إلى الناس برسالات الله وقيل السفرة الكتبة ، والبررة المطيعون من البر وهو الطاعة ، والماهر : الحاذق الكامل الحفظ الذي لا يتوقف ولا يشق عليه القراءة بجودة حفظه وإتقانه... ويحتمل أن يراد أنه عامل بعملهم ، وسالك مسلكهم ، وأما الذي يتتعتع فيه فهو الذي يتردد في تلاوته لضعف حفظه فله أجران ، أجر بالقراءة وأجر بتتعتعه في تلاوته ومشقته. ... ولم يذكر هذه المنزلة لغيره وكيف يلحق به من لم يعتن بكتاب الله تعالى وحفظه وإتقانه، وكثرة تلاوته وروايته كاعتنائه حتى مهر فيه والله أعلم. (1)6)
المبحث الثاني
من الآثار الإيمانية على المجتمع المسلم والأمة المسلمة
إن القرآن الكريم له أثر عظيم على المجتمع المسلم المشتغل به، وبالتالي ينسحب هذا الأثر على الأمة المسلمة، فهو طريق توصل إلى استقامتها، ذلك لأن هذا المجتمع الذي يعيش بالقرآن دومًا حينما يستقيم أفراده لابد أن تستقيم بهم الأمة؛ لأنه باستقامة الأفراد تستقيم الأمة، لأن الأمة ماهي إلا أفراد، فالفرد أساسها ولبنتها، فإذا صلحت اللبنة صلح كل ما تؤلفه.
وكثير من الخطابات القرآنية جاءت تخاطب الأمة جميعها، بل وهناك خطابات للناس أجمعين، ومن هذه الخطابات: "يأيها الذين آمنوا" ، وقوله: "يا أيها الناس"، وما من شك في أن كل خطاب من هذه الخطابات معني به الأفراد كل فرد على وجه الخصوص، ومعني به الأمة جميعها على وجه العموم.
__________
(1) شرح النووي على صحيح مسلم للإمام أبي زكريا يحيى بن شرف النووي، 6/84-85 . ط/ دار إحياء التراث العربي ، بيروت ، ط/ ثانية1392ه.(1/62)
وبناءً على ذلك فكل أثر من الآثار الإيمانية التي ذكرنا أنها تعود على الفرد المسلم، فهي آثار إيمانية تعود ـ أيضًا ـ على الأمة المسلمة، فإذا أردنا أن نقوم الأمة تقويمًا إيمانيًا ـ من خلال القرآن الكريم ـ فلا بد أن نقوم أنفسنا كأفراد أولاً لأن الأمة ما هي إلا أفراد، فإذا سعى كل منا إلى تقويم نفسه واستشعر هذه المسئولية على عاتقه، فسيمتد الأثر بالطبع إلى من حوله، وقد أصاب عين الحقيقة من قال: إن الإصلاح يبدأ من الفرد نفسه، ثم يأخذ بيد من هم بجواره الأقرب، لأن الإنسان حينما يعرض على ربه للحساب سيسأل عن نفسه أولاً ثم عمن يعولهم فتتبع الدائرة عليه، والتي مركزها هي النفس حتى تشمل الأمة بأسرها.(1)1)
وكما أن المشتغل بالقرآن تعليمًا وتعلمًا يسيطر القرآن على مشاعره، ويحدث التغيير في قلبه، فكذلك الأمة التي تنشغل بالقرآن لابد وأن القرآن سيسيطر على اتجاهاتها، ويحدث التغيير فيها بأسرها، وكما أن القرآن يعرف العبد بربه ويربط به سبحانه، ويكون باعثًا له على خشية الله والفزع إلى ذكره، فكذلك في الأمة يربطها بربها، ويكون باعثًا لها على الفزع إلى طريق الله في كل أمورها ومعاملاتها، ونستطيع أن نفصل الكلام في ذلك بعض الشيء فنقول:
* الاشتغال بالقرآن والتدبر في آياته تعليمًا وتعلمًا يزيد الأمة إيمانًا وتصديقًا، وهذا يكون سببًا في تقدمها وازدهارها، وفي ذلك يقول الله تعالى: "إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ "[الأنفال2]
__________
(1) الطاعة وأثرها في القرآن الكريم، للدكتور: شعبان رمضان مقلد (بحث منشور بحولية كلية الدراسات الإسلامية والعربية، جامعة الأزهر بالقاهرة، عدد23ج2ص636 )(1/63)
قال الطبري في تفسير هذه الآية: المؤمن هو الذي إذا ذكر الله وجل قلبه وانقاد لأمره وخضع لذكره خوفا منه وفرقا من عقابه وإذا قرئت عليه آيات كتابه صدق بها وأيقن أنها من عند الله، فازداد تصديقًا بتصديقه وذلك هو زيادة ما تلى عليهم من آيات الله إياهم "إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ" يقول وبالله يوقنون في أن قضاءه فيهم ماض فلا يرجون غيره ولا يرهبون سواه.(1)2)
وقال ابن كثير: وصف الله المؤمنين فقال: "إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ" فأدوا فرائضه وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا يقول زادتهم تصديقا وعلى ربهم يتوكلون يقول لا يرجون غيره وقال مجاهد وجلت قلوبهم فرقت أي فزعت وخافت(2)3)
* الاشتغال بالقرآن تعليمًا وتعلمًا وتطبيقًا لما جاء فيه من حدود مقوم للأمة، وسبب لجلب الطمأنينة والرحمة وجلب الرخاء والثبات والنصر لها على الأعداء، قال الله تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ *ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ " [محمد9،8،7]
* كما أن المشتغل بالقرآن من الأفراد له العطاء الزائد في الدنيا، فكذلك الأمة المؤمنة المهتمة بدستورها المطبقة لحدوده، لها العطاء الزائد في الدنيا بلا كد ولا نصب، وفي ذلك يقول تعالى: " وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ " [الأعراف96]
__________
(1) جامع البيان 9/178
(2) تفسر القرآن العظيم 2/286(1/64)
قال البيضاوي: ولو أن أهل القرى يعني القرى المدلول عليها بقوله "وما أرسلنا في قرية من نبي"، وقيل مكة وما حولها "آمنوا واتقوا" مكان كفرهم وعصيانهم "لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض" لوسعنا عليهم الخير ويسرناه لهم من كل جانب، وقيل المراد المطر والنبات.(1)1)
* القرآن فيه شرف الأمة، ولاشك في ذلك، ولا يتحقق ذلك إلا إذا آمنت به واشتغلت به، وانتفعت بما فيه، يقول الله تعالى: "لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ"[الأنبياء10] قال الطبري: اختلف أهل التأويل في معنى ذلك فقال بعضهم معناه: فيه حديثكم... وقال آخرون: بل عني بالذكر في هذا الموضع الشرف، وقالوا: معنى الكلام لقد أنزلنا إليكم كتابًا فيه شرفكم،... ثم يقول: وذلك أنه شرف لمن اتبعه وعمل بما فيه (2)2)
وقال البغوي: لقد أنزلنا إليكم كتابا يا معشر قريش فيه ذكركم يعني شرفكم، كما قال وإنه لذكر لك ولقومك وهو شرف لمن آمن به.(3)3)
* والقرآن الكريم يؤثر في المجتمع المسلم فيجعل مساجده عامرة بالمصلين المخبتين إلى الله تعالى رب العالمين، وينبه أفراده في كل وقت وحين إلى المسارعة لأداء الفرائض والسنن على أكمل وجه وأتمه.
* والقرآن الكريم يحمل المجتمع المسلم على الحكم بما أنزل الله تعالى، فيحكم شريعة الله في طريقة أداء عباداته وفي معاملاته وأخلاقه وسلوكياته، وقضائه، ويحمله على الإخلاص وأداء العبادات بالطريقة الصحيحة لها، قال تعالى : " وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ " (البينة: 5)
__________
(1) تفسير البيضاوي3/43
(2) جامع البيان 17/7،6
(3) معالم التنزيل للبغوي3/239(1/65)
* والقرآن الكريم يؤثر في المجتمع المسلم فيزيد من تمسكه بسنة نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، والأخذ بكل ما جاءت به من أحكام وأخلاق وآداب، سواء أكانت مبينة لبعض ماجاء في القرآن الكريم، أم مخصصة لبعض ماجاء فيه عامًا، وذلك هو العلم الحقيقي لكتاب الله الكريم، وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وقد قال الله ـ عز وجل ـ: " مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ " (الحشر من الآية: 7).
فالتمسك بسنة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، سواء أكانت قولاً، أم فعلاً، أم تقريراً، أم صفة لها علاقة بالتبليغ عن الله تعالى ربنا، وهذا كله من آثار الاشتغال بالقرآن الكريم تعليمًا وتعلمًا.
* والقرآن الكريم يؤثر في المجتمع المسلم المشتغل به، فهو يقوم بواجب الدعوة إلى الله تعالى، ليعبده وحده لا يشرك به شيئًا، متبعًا في ذلك هدي رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وحده، قال الله تعالى عن هذه الأمة وصفاتها : " كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ " (آل عمران: 110).
* كذلك من اشتغل بالقرآن الكريم مكن له الله تعالى في الأرض، ويسر له أسباب الاستقرار وعدم الاضطراب.
قال تعالى : " وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ " ( النور: 55).(1/66)
ولننظر إلى الرعيل الأول لهذه الأمة، فقد كانوا أكثر الناس اشتغالاً بالقرآن الكريم وأعظمهم اتباعاً له، كيف فتح الله تعالى لهم البلاد طولها وعرضها، وجعلهم يتغلبون على الجبابرة من أهل الكفر والإلحاد، فأصبحوا بالقرآن الكريم سادة وقادة يدين لهم الكثيرون من أهل الأرض بالطاعة والولاء.
وصدق رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ( إن الله تعالى ليرفع بهذا القرآن أقواماً ويضع به آخرين)(1)1)
نظرة فيما هو مشاهد من أثر الاشتغال بالقرآن في حياة المسلمين اليوم
إذا كان الاشتغال بالقرآن الكريم قد ظهر أثره جليًا على الرعيل الأول لهذه الأمة في الفتح والتمكين وإقامة دولة عمها الخير والصلاح في الأرض، وكان هذا في وقت قصير جداً في أعمار الناس فضلاً عن أعمار الدول، فإذا كان الاشتغال بالقرآن الكريم تعليمًا وتعلمًا يترك أثره الحسن على حياة الفرد والمجتمع ويورث سعادة الدنيا والآخرة،
وقال تعالى : " وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ" (الحج من الآية: 40-41).
إن كان الأمر كذلك، فإننا نلمس بحمد الله تعالى في هذه البلد - المملكة العربية السعودية ـ منذ أن سمعنا بها ونحن صغار قبل أن تطأ أقدامنا ترابها نلمس أنها دولة تتفيأ ظلال القرآن الكريم رغبة منها في أن تنعم بما وعد الله تعالى به المجتمع المشتغل بالقرآن الكريم، من سعادة في الدنيا والآخرة.
__________
(1) سبق تخريج الحديث ص16 من هذا البحث.(1/67)
فأثبت التاريخ أنها أعلنت أن القرآن الكريم دستورها يتعلمه صغيرها وكبيرها، فلا تخلو منه مرحلة دارسية مطلقاً. بدءاً من رياض الأطفال - حتى مرحلة الدكتوراه - وفتحت له المدارس الخاصة، ودعمت الجمعيات الخيرية القائمة على تعليمه، في دورها الخاصة والمساجد في مختلف المناطق، بل وتعطي طلاب مدارس تحفيظ القرآن الكريم عناية خاصة فتجري لهم المكافآت الشهرية، وغير ذلك من إقامة المسابقات التي تنتهي بإعطاء مكافآت وشهادات للمتفوقين كل ذلك لحفز الطلاب على حفظ القرآن الكريم، وتنظم المملكة ـ أيضًا ـ المسابقات الدولية للقرآن الكريم في كل عام تعطي الطلابَ المتفوقين في ذلك المجال جوائزَ مالية ومعنوية كبيرة ، وغير ذلك من الجهود التي تبذلها المملكة العربية السعودية في خدمة كتاب الله تعالى ولا أستطيع إحصاؤها، بل وهناك جهود أخرى تبذلها المملكة في مجال خدمة القرآن الكريم، من مثل مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف والقيام بتوزيعه في مختلف أنحاء العالم سعيًا إلى إيصال المصحف الشريف إلى يد كل مسلم حسب الاستطاعة. كذلك رعاية بعض وسائل الإعلام من قنوات الإذاعة والتلفزة، مثل إذاعة القرآن الكريم، وإذاعة نداء الإسلام من مكة المكرمة وغيرها.
حفظ الله هذا البلد الآمن الطيب، وجعله حصنًا للإسلام والمسلمين، ووقاه من مكر الماكرين وكيد المعتدين.
وأخيرًا فإن لتعليم وتعلم القرآن آثارًا عظيمة في حياة الأمة الإسلامية من نواح عديدة منها: أنه ينمي أخلاق الأفراد، فيصلحها، وبصلاحها تصلح الأمة، ويجمع كلمة الأمة، فيجعلها وحدة واحدة قوية مترابطة، يدًا واحدة على من سواها.(1/68)
و بترابط الأمة يشمر أفرادها عن ساعد الجد والاجتهاد، فيزداد الإنتاج وتكثر خيراتها، ولا يتحكم فيها سواها. وبتعلم القرآن الكريم تربط آياته بواقع الحياة وحاجات العصر، ودقائق العلوم، فتتوسع دائرة العلم والثقافة فتتأصل المعارف في ذهن صاحبها عن طريق حفظه لكلام الله والعمل به، والالتفات إلى ظواهر الكون من خلال آياته، فتفتح آفاق التوسع في العلم والتجربة والاختراع.
وتعلم القرآن يساعد المسلم على التوصل إلى الأساليب المثلى في الدعوة إلى دين الله، بلغة مناسبة لعصر المعرفة العلمية والوسائل التقنية وبالجملة فالقرآن الكريم يبعث بين الأمة التراحم والتواد بين أفرادها، وينشر العدل والإنصاف والمساواة، وإثبات الحقوق لأصحابها، وهذا كله يزيد الأفراد خشية لربهم وتضرعًا إليه، فتزداد الأمة إيمانًا ويقينًا، وتلتفت إلى عدوها فتعد له العدة، ولا تفرط ولا تتهاون في حقوقها ولا تخضع ولاتذل إلا لربها، فتكون كالجسد الواحد...إلى آخر هذه الآثار الإيمانية التي تنقي عقيدتها، وتقودها إلى ربها.
الخاتمة
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لانبي بعده، محمد بن عبد الله ـ صلى الله وسلم وبارك عليه ـ وعلى آله وأصحابه ومن سلك طريقه واتبع سنته إلى يوم الدين.
أما بعد...
لقد عشت ـ بحمد الله تعالى ـ مع هذا الموضوع الحيوي الذي تجاذبني في دراسته شعور غريب، شعور بالأسى والحزن بسبب بعد أغلب المسلمين عن العمل بكتاب الله تعالى، واتباع منهجه، وإهمالهم له(1/69)
وعلى الرغم من هذا الشعور الذي ينتابني إلا أنني أجد في النفس بارقة أمل آمل فيها بِعَوْدِ المسلمين إلى القرآن الكريم، عوداً حميداً، وهذا الأمل يحدوني كلما أجد طائفة من المسلمين ـ ولو قليلة ـ تتدارس كتاب الله وتحاول العمل بما فيه، وازداد هذا الأمل عندي منذ أن وطئت قدمي أرض هذه البلاد المقدسة (المملكة العربية السعودية) حماها الله وزادها بالإسلام تمسكًا، وبالقرآن عملاً وتحكيمًا، وأبعد عنها أهل الشر والسوء.
هذا وقد انتهيت من هذا البحث إلى نتائج أهمها :-
أولاً : أن القرآن الكريم: كلام الله تعالى الذي أنزله على النبي محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ المعجز ، المكتوب في المصاحف ، المنقول عنه بالتواتر ، المتعبد بتلاوته المبدوء بسورة الفاتحة المختوم بسورة الناس- المحفوظ في الصدور.
ثانياً : للقرآن أسماء كثيرة وأوصاف عديدة وردت في القرآن نفسه، وكلها تدل على عظمة هذا الكتاب الكريم.
ثالثاً : معنى " الآثار الإيمانية لتعليم وتعلم القرآن الكريم " النتيجة الحاصلة من تعليم وتعلم القرآن الكريم، والتي توصل إلى زيادة الإيمان بالله، وطاعته والتقرب له، والتي بها يتقرب العبد من ربه ـ سبحانه وتعالى ـ فيزداد معرفة بالله، ويزداد يقينًا وعملاً، وسعادة في الدنيا والآخرة.
رابعاً : لتعليم وتعلم القرآن أهمية قصوى فهو يعيد الأفراد إلى ربهم وتمسكهم بدينهم، وهو يعيد الأمة إلى عزها ومجدها وريادتها للأمم.
خامساً : حفظ القرآن من خصائص هذه الأمة، وله تأثير كبير على تقويم عقول الأولاد وشخصيتهم ، فهو يعودهم الفضائل السلوكية، ويقوم اللسان والأخلاق، وله من الإيجابيات مالا يُحصى.(1/70)
سادساً : لابد من العودة الصحيحة إلى القرآن والتي تتمثل في: الانشغال بالقرآن، وتهيئة الجو المناسب له، والقراءة المتأنية، والتجاوب مع الآيات، وجعل المعنى هو المقصود، وترديد الآية التي تؤثر في القلب، والعمل بما في الآيات من أحكام، ثم على المسلم أن يأخذ بالوسائل التي تساعده على ذلك.
سابعاً : على المسلم أن يتدبر آيات القرآن فيقرؤه بتأمل وتفكر وعناية، حتى يُصلح قلبه ويأتمر بأوامره وينتهي بنواهيه.
ثامناً : لتعليم وتعلم القرآن آثار إيمانية عديدة وعظيمة، منها ما يعود على الفرد المسلم ومنها ما يعود على الأمة المسلمة، فمن الآثار التي تعود على الفرد:
سيطرة القرآن على القلب والمشاعر، وهو يعرف العبد بربه ويربطه به سبحانه، وهو باعث على خشية الله والفزع إلى ذكره، وفيه الهداية لأهله، وتعليمه وتعلمه يرغب في الجنة ويحذر من النار، والاشتغال به سبب لجلب الطمأنينة ونزول الرحمة وحضور الملائكة، ولأهله الشفاء والرحمة، وهم من خير الناس ومن أعظمهم أجرًا في الآخرة، لذا يجلهم الله تعالى، والقرآن يشفع لهم، ويجعل الله الملائكة مرافقين لهم.
ومن الآثار التي تعود على الأمة المسلمة:
أنه ينمي أخلاق الأفراد، فيصلحها، وبصلاحها تصلح الأمة، ويجمع كلمة الأمة، فيجعلها وحدة واحدة قوية مترابطة، يدًا واحدة على من سواها.
وبترابط الأمة يشمر أفرادها عن ساعد الجد والاجتهاد، فيزداد الإنتاج وتكثر خيراتها، ولا يتحكم فيها سواها.
وبتعلم القرآن الكريم تربط آياته بواقع الحياة وحاجات العصر، ودقائق العلوم، فتتوسع دائرة العلم والثقافة فتتأصل المعارف في ذهن صاحبها عن طريق حفظه لكلام الله والعمل به، والالتفات إلى ظواهر الكون من خلال آياته، فتفتح آفاق التوسع في العلم والتجربة والاختراع.
وتعلم القرآن يساعد المسلم على التوصل إلى الأساليب المثلى في الدعوة إلى دين الله، بلغة مناسبة لعصر المعرفة العلمية والوسائل التقنية(1/71)
والقرآن مصدر هداية للأمة بأسرها، والعلم والعمل به يزيدها إيمانًا وتصديقًا، وفي تعليمه وتعلمه تقويم الأمة، وزيادة العطاء لها من الله، وجلب الطمأنينة والرحمة والرخاء والثبات والنصر لها على الأعداء، وفي الاشتغال به شرف للأمة بأسرها ورحمة لها...إلى غير ذلك مما يكون سببًا في عزها في الدنيا ونجاتها في الآخرة.
التوصيات
أوصي نفسي وكل مسلم ومسلمة بالتمسك بكتاب الله تعالى وبذل الجهد في تعليمه وتعلمه، وامتثال لأمره، واجتناب نهيه .
كما أوصي الجميع بالاهتمام بالقرآن الكريم، وجعله منطلقًا للدعوة إلى الله ـ عز وجل ـ
وإذا كان لي من توصيات فإني أوصي بما يلي:
أولاً : زيادة الاهتمام بجمعيات تحفيظ القرآن الكريم ماديًا وأدبيًا، وزيادة الطرق التي تشجع على حفظ القرآن.
ثانياً : تكثيف الدراسات القرآنية في مراحل التعليم المختلفة، و الاهتمام بعلومه.
ثالثاً : إنشاء المراكز القرآنية المتخصصة في العالم الإسلامي ، وعقد الندوات واللقاءات التي تخدم القرآن.
رابعاً : توجيه الدعوة لأقطار العالم لتعريفهم بالقرآن ودراسة علومه.
والحمد لله أولاً وآخرًا وظاهرًا وباطنًا .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
المصادر والمراجع
القرآن الكريم
1- الإتقان في علوم القرآن للحافظ أبي بكر السيوطي ، تحقيق: خليل محمد العربي،ط/ مطبعة ومكتبة الفاروق الحديثة بالقاهرة،ط/ أولى1415هـ
2- إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول ، للإمام محمد علي الشوكاني تحقيق : أحمد عزّو عناية ، ط/دار الكتاب العربي ، بيروت. ط/أولى 1419ه
3- إعجاز القرآن للقاضي أبي بكر الباقلاني ، على حاشية الإتقان للسيوطي ط / مكتبة مصطفى الحلبي ، القاهرة ، ط/ رابعة 1397 ه.
4- الإيمان"أركانه. حقيقته. نواقضه، للدكتور: محمد نعيم ياسين، ط:دار التوزيع والنشر الإسلامية بالقاهرة، ط1986م(1/72)
5- بشراكم يا أهل القرآن. (كتيب من إعداد القسم العلمي بدار الوطن بالرياض، السعودية، بدون طبعة)
6- تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي ، للحافظ محمد بن عبد الرحمن بن عبد الرحيم المباركفوري ، ط/دار الكتب العلمية ، بيروت، د.ت.
7- التعاريف (التوقيف على مهمات التعاريف) تأليف محمد عبد الرؤوف المناوى / طبعة دار الفكر المعاصر /بيروت ط/أولى 1410 هـ تحقيق د/ محمد رضوان الداية
8- التعبير الفني في القرآن ، د. بكري شيخ أمين . ط / دار الشروق ، بيروت ،ط/ثالثة 1399ه
9- التعريفات لعلي بن محمد بن علي الجرحاني740-816هـ، ط/ دار الكتاب العربي، بيروت، ط/أولى1405هـ، تحقيق:إبراهيم الإبياري
10- تفسير البغوي (المسمى معالم التنزيل)، للإمام الجليل محيي السنة أبي محمد الحسين بن مسعود، تحقيق: خالد عبد الرحمن العك، مروان سوار،ط/ دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع،بيروت، لبنان، الطبعة الخامسة 1423هـ - 2002م
11- تفسير البيضاوي، تحقيق: عبد القادر عرفات العشا حسونة، ط/ دار الفكر، بيروت، ط/ ثانية 1416هـ 1996م
12- تفسير الطبري المسمى: جامع البيان عن تأويل أي القرآن – لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري ت310 هـ دار الفكر- بيروت 1405هـ
13- تفسير القرآن العظيم: لابن كثير ،إسماعيل بن عمر بن كثير الدمشقي أبو الفدا، ت774هـ، ط/ دار الفكر، بيروت1401هـ
14- التفسير الكبير (المسمى : مفاتيح الغيب) ، للإمام الرازي ، ط /دار الإحياء التراث العربي ،بيروت ، ط أولى1415ه.
15- التفسير الميسر، إعداد نخبة من العلماء ، بإشراف د. عبد الله بن عبد المحسن التركي، إصدار مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة النبوية عام 1419ه.
16- تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي، ط/دار ابن الجوزي بالمملكة العربية السعودية ، ط/أولى1415هـ.(1/73)
17- الجيل الموعود بالنصر والتمكين، تأليف: د.مجدي الهلالي،ط/ دار التوزيع والنشر الإسلامية، القاهرة، الطبعة الأولى 1426هـ - 2005م
18- حطم صنمك وكن عند نفسك صغيرًا. د/ مجدي الهلالي، ط: مؤسسة اقرأ للنشر والتوزيع، القاهرة، 1424هـ - 2004م،
19- حفظ القرآن الكريم : لمحمد بن عبد الله الدويش: دار الوطن بالرياض ط/ ثانية 1418هـ
20- ديوان الإمام الشافعي لأبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي، جمع وتعليق محمد عفيف الزغبي، ط/ مكتبة المعرفة بحمص، ودار العلم للطباعة والنشر بجدة. ط/ ثالثة1392هـ
21- زاد المعاد في هدي خير العباد للإمام ابن القيم الجوزية، تحقيق وتعليق: شعيب الأرنؤوط وعبد القادر الأرنؤوط ، ط/ مؤسسة الرسالة، ومكتبة المنار الإسلامي، ط/13،1406هـ1986م
22- سنن أبى داود "الإمام أبوداود سليمان بن الأشعث السجستاني" ، ط/ المكتبة العصرية/صيدا، بيروت
23- سنن الترمذي: لأبي عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي، بتحقيق أحمد محمد شاكر وآخرين، ط / مكتبة مصطفى الحلبي ، القاهرة، ط/ 1398ه
24- سنن الدارمي : للإمام أبي محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، تحقيق وتعليق د. مصطفى البغا ، ط/ دار القلم ، دمشق ، ط/ ثالثة 1417ه
25- شرح قصيدة ابن القيم لأحمد بن إبراهيم بن عيسى الشرقي، ط: المكتب الإسلامي، ط: أولى1382هـ 1962م
26- شرح النووي على صحيح مسلم للإمام أبي زكريا يحيى بن شرف النووي،. ط/ دار إحياء التراث العربي ، بيروت ، ط/ ثانية1392ه.
27- شعب الإيمان للبيهقي، ط/ دار الكتب العلمية، بيروت، ط: أولى1410هـ
28- صحيح البخاري. لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري. ط/دار المعرفة/ بيروت/ لبنان
29- صحيح مسلم: لمسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري ت261 هـ تحقيق : محمد فؤاد عبد الباقي ، دار الكتب العلمية – بيروت.(1/74)
30- الطاعة وأثرها في القرآن الكريم، للدكتور: شعبان رمضان مقلد (بحث منشور بحولية كلية الدراسات الإسلامية والعربية، جامعة الأزهر بالقاهرة،عدد23ج2ص636
31- العودة إلى القرآن لماذا وكيف؟ د/ مجدي الهلالي، ط/ دار التوزيع والنشر الإسلامية،القاهرة، الطبعة الأولى 1424هـ - 2003م،
32- فتح الباري بشرح صحيح البخاري ، للحافظ ابن حجر العسقلاني ، بتصحيح محب الدين الخطيب ، ط/ دار الريَّان ، القاهرة، ط/ أولى 1407ه.
33- فضائل القرآن ومعالمه وآدابه ، لأبي عبيد القاسم بن سلام ، دراسة وتحقيق أحمد بن عبد الواحد الخياطي، ط/ مطبعة فضالة ، المحمدية ، المغرب، ط/ 1415هـ ، ط/ دار بن كثير ـ دمشق
34- الفوائد: لابن القيم الجوزية، ط/ دار النفائس، بيروت، ط: سابعة1406هـ
35- اقتضاء العلم العمل للخطيب البغدادي ، تحقيق: محمد ناصر الدين الألباني، ط/ مكتبة المعارف، الرياض، ط:أولى1422هـ
36- "القرآن وحاجة الإنسانية إليه" مقال على الشبكة العالمية للإنترنت موقع مجلس النشر العلمي بدولة الكويت، د. عبد العزيز صقر
37- لسان العرب لابن منظور: محمد بن مكرم جمال الدين بن منظور الإفريقي المصري ، ط/دار صادر /بيروت ط/ أولى بدون تاريخ.
38- لمحات في علوم القرآن واتجاهات التفسير ، لمحمد الصباغ، ط/ المكتب الإسلامي ، بيروت ، 1394ه
39- مباحث في علوم القرآن د/ صبحي الصالح ، ط/ دار العلم للملايين، بيروت. لبنان، ط/17، 1988م
40- مباحث في علوم القرآن للشيخ مناع القطان، ط: مطبعة المدني المؤسسة السعودية بالقاهرة، ط/12،1423هـ الناشر: مكتبة وهبة بالقاهرة.
41- مختار الصحاح لمحمد بن أبي بكر عبد القادر الرازي تحقيق محمود خاطر ط/ مكتبة لبنان ناشرون/ بيروت طبعة 1415هـ-1995م
42- مختصر قيام الليل لمحمد بن نصر المروزي ، ط: مؤسسة الرسالة،ط/ ثانية1414هـ(1/75)
43- مسند الإمام أحمد بن حنبل 241 هـ ، تحقيق : شعيب الأرناؤوط ومحمد نعيم العرقسوسي وعادل مرشد وصحبهم ، مؤسسة الرسالة – بيروت ، ط1 ، 1413 هـ ـ 1993م.
44- مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية أهل العلم والإرادة ، لابن القيم: محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي أبوعبدالله 691-751هـ، ط/ دار ابن عفان، الخبر، السعودية، ط: أولى1416هـ
45- مفردات ألفاظ القرآن للراغب الأصفهاني، ط/مكتبة الأنجلو المصرية1970 م
46- مناهل العرفان في علوم القرآن ، للشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني . ط/ دار الكتب العلمية ، بيروت ، د.ت. ط/ أولى1409هـ
47- النبأ العظيم: للدكتور محمد عبد الله دراز، ط/ دار القلم ، الكويت، ط/ 1390ه.
الفهرس
المقدمة......................................................................................... 2
الفصل الأول
التعريف بالقرآن الكريم ومفهوم تعليمه وتعلمه.............................................................. 4
……المبحث الأول
التعريف بالقرآن الكريم، وأسمائه، وأوصافه................................................ 4
المبحث الثاني
مفهوم الآثار الإيمانية.................................................................................. 6
المبحث الثالث
مفهوم التعليم والتعلم............................................................................ 7
الفصل الثاني
أهمية الدعوة والعودة إلى القرآن الكريم....................................................................... 8
المبحث الأول
أهمية تعليم وتعلم القرآن الكريم............................................................... 8
المبحث الثاني
كيفية العودة إلى القرآن......................................................................... 12
المبحث الثالث(1/76)
تدبر القرآن وأهميته............................................................................. 15
الفصل الثالث
الآثار الإيمانية للفرد والمجتمع المسلم من تعليم وتعلم القرآن الكريم..................................... 18
توطئة
المبحث الأول
من الآثار الإيمانية التي تعود على الفرد المسلم من تعليم القرآن وتعلمه...................... 19
المبحث الثاني
من الآثار الإيمانية على المجتمع المسلم والأمة المسلمة.............................. 28
الخاتمة...................................................................................... 31
المصادر والمراجع..................................................................................... 33
الفهرس..................................................................................... 35(1/77)