من أوابد الأشياخ
تأليف
أبي يزن حمزة بن فايع الفتحي
إمام وخطيب جامع الملك فهد بمحايل عسير
المقدمة
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين.. وبعد ,,،
فلا تزال الحياة الإنسانية مليئة بالعجائب ، وثرَّة بالغرائب ، وفي السياق العلمي والدعوي يتباين الناس في مشاركاتهم وعقولهم ونقداتهم وآرائهم ، مما يكشف عمق الهوة ، وشدة الخلاف ، وبعد الاتجاه ، التي سببها اختلاف أطوارهم وقدراتهم وعلومهم.
ولا غضاضة في ذلك ، لأنها سنة الحياة ، وحكمة الباري في خليقته ! لكن الداعي للعجب ، والباعث على الاندهاش بروز أوابد نائية ، وظهور اجتهادات وآراء بعيدة ، تجافي السياق العام ، وتقفو الشواذ ، وتتلقف المهجور ، ولا تنسجم مع بدهيات العقول ، وجواد العدول .
فأحببت هنا أن أقيد ما رأيته ، ولمسته في الحياة العلمية والدعوية (من أوابد الأشياخ) أي غرائبهم وعجائبهم .
قال في لسان العرب : (والآبدة : الكلمة أو الفعلة الغريبة ، وجاء فلان بآبدة أي بداهية يبقى ذكرها على الأبد) (3/68)
وفي التوقيف على مهمات التعريف (الأوابد جمع آبدة ، وهي الخصلة القبيحة ، يبقى قبحها على الأبد) (1/101)
وفي العين : (الآبدة الغريبة من الكلام ، والجميع أوابد) (8/65)
وفي النهاية : (ومنه قولهم : جاء بآبدة : أي بأمر عظيم يُنفر منه ، ويستوحش) (1/13)
وهذه الأوابد التي نجمع بعضها هنا ، ليست كلها في حكم الداهية ، لكنها آبدة غريبة، منها ما يُستشنع أو يُستغرب ، وإن كان في بعضها ما يحمل صفات الداهية من حيث إيغالها في الغرابة المتناهية ، أو النكارة البالغة ,فكراً أو اختياراً أو منحى !
والمقصود : جمع آراء وممارسات وأقوال ، حاول أصحابها فرضها في المجال الدعوى والفكري، وهي آبدة لا تنسجم مع النقل الصحيح ، ولا العقل الصريح ، ولا السياق العام .(1/1)
تُقيد هنا تنبيهاً ونصحاً ، وتكتب استظرافاً في هذا الباب ، ولعل مثلها ضرب من ضروب تقويم الصحوة الإسلامية ، فبرغم محاسنها وكثرة فضائلها ، إلا أن ذلك لا يمنع نقدها وتقويمها ، ونصح رموزها ومن يوجهها .
لأن الدعوة ليست معصومة من الخطأ ، وبعضُ من مارسها أغربَ فيها وخلَّط ، وارتكب ما لا يحسن ولا يليق فوجبَ التنبيه ، وتحتَّم التصحيح .
والله الموفق ، والهادي إلى سواء السبيل ،،
محايل
الأحد 4/6/1426هـ
9/7/2005م
لمجرد الخلاف !!
رأيت دعاة وأساتذة شغوفين بالخلاف والمعارضة لأدنى الأشياء وأصغر القضايا والمسائل .
لا يطرح رأي أمامهم ، إلا وتناولوه بالنقد ، واختاروا الجهة المغايرة له ، مقررين بشاذ الآراء ، وسقيم الأدلة ، وواهي الأفكار .
يقرر المتحدث قضية ما ، بَلْجة كالشمس في رائعة النهار ، فيأتيك هذا المعترض ليضعف سطوعَ الشمس ، وانبلاج النهار ، ونصاعة الضياء فتأخذه الأعين ، ويداري آخرون عنه الضحك !
يقال له : هذه مسألة فيها إجماع منقول ! فيقول : ذُكر الخلاف عن بعضهم، ويلتفت إلى شواذ الطوائف ليقلل من حجم الإجماع ، ويضعف التأثير، ويُري الحضور أن له رأياً وتعليقاً ، وهذه طامةٌ لا يُستهان بها ، أن يكون المتحدث مبتلى بحب الكلام وكثرته ، وبينه وبين الصمت والرزانة مفاوز تنقطع فيها آباط الإبل، والله المستعان .
ولا يُدرى هل هؤلاء غرتهم المقولة الشهيرة (خالف تُعرف) لمجرد المعرفة، وبأي خلاف ، عميق أو سطحي وهزيل ، أو حتى تافه ومشين لأن ثمة مخالفات تعبر عن مستوى فكر حاملها وطارحها ، وتنبئ عن إفلاس علمي ، وانحسار فكري ، لدى مُظهرِها ومبديها .
فالحذرَ ، الحذرَ .(1/2)
مَنْ خالفَ ، فليكنْ خلافه بعلم ناصع ، وأدب باهر ، وتقرير ظاهر ، وليس الذي يتكلم ، ويخالف، حباً للكلام ، ولمجرد المخالفة ، التي تعكس فكره ، ورأيه وطرحه ، وتجعل الناس يطرحونه بداهةً ، كل ما سمعوه أو رأوه ليشارك !! لأن مشاركاته نوع من الأوابد السقيمة والآراء الهزيلة التي تسف الفكر ، وتوهي جوهر الفائدة ، ولب الحديث .
وهي في النهاية شكل من المُستشَنعات الفكرية، والمُهمَلات العقلية ، ومن أمثلة ذلك منع (إنشاء قنوات إسلامية) ، وتخصص الإسلاميين فيها لنشر الدعوة ، وبث الخير ، ومسايرة قفزات الثورة المعلوماتية المذهلة .
فبرغم الانفجار الفضائي الهائل ، وانتفاع الدعوة الإسلامية بذلك ، لا يزال بعض الشيوخ يناقش حرمة التصوير في هذا الباب ، ويؤكد انحصار الدعوة في المسجد والمدرسة والملتقى فحسب .
ومثل هؤلاء ، تجاوزهم الزمن ، وفاتهم القطار وبقاؤهم بفكرهم هذا ، مضرٌ للدعوة ، ومحبط لعزائمها ، لانعدام الرؤية الحضارية لديهم ، وعدم إدراكهم لمتطلبات الواقع التاريخي اليوم ، وعمق الأثر الإعلامي والتقني هذه الأيام .
ومثل ذلك في (الإنترنت) ، رأيت من يقلِّل من شأنها وأنها ملهاة ، ومُذهبة للوقت ، وشاغلة عن الكتب والمصنفات .
وهذه نظرة سلبية ، تنبئ عن آبدة فكرية رهيبة، برزت من الجهل الشديد بالشبكة العنكبوتية وعلوم الحاسب الآلي ، وأنها بوابتك إلى العالم ، ومفاخرها زاهرة وآثاره باذخة على الدعوة ، فوجب التماسها، وتخصيص المتقنين لها ، وإبراز إسلامنا حضارياً متدفقاً ، يُشرق في كل مكان .
وللشيخ الفاضل محمد المنجد ، أشرطة ومحاضرات ومشاركات فاعلة ، لعل هؤلاء المخالفين يحرصون على استماعها ، علَّ نظرتهم تتغير ، ويرتقون فكرياً وثقافياً ، ويجعلون إسلامنا حيوياً ، يساير العصر ، ويستفيد من كل المخترعات والوسائل المسهمة في الدعوة ، دون التصادم مع المسلمات،أو اختراق النصوص الثابتة.(1/3)
وفي العقد الأخير تطبق الأمة على ضرورة العمل المؤسس الجماعي المنظم ، وأنه الأليق بالإسلام ، والأولى للإنتاج ، والأحسن للمنجزات ، لكي يأتيك من يخالف وينازع ، ويرغي ويزبد في حكم التحزب والتجمع ، وأنه تفكيك للإسلام ، وتفويض لكيانه،وذريعة لكيت وكيت !!
وحينما يصبح العالم كالقرية الواحدة ، وتتصل حدوده ، وتتلاقح ثقافاته ، وتفرض المرحلة على العلماء والأساتذة فقه الواقع السياسي والحضاري والاجتماعي والاقتصادي ، يبرز من يجادل في خطورة ذلك ، وضرره علي الدعوة ، دون أن يفقه المراد بهذا الفقه المطلوب .
ويتجاهل اشتراط أئمة الإسلام فقه واقع النازلة، للمفتين والمتفقهين كما هو مبين في(إعلام الموقعين) لابن القيم رحمه الله ، ليصح الحوار ، ويسلم له الاستنتاج، ولا يقع في معرة الجهل ، والخطأ الفادح، أو تملى عليه رؤية ناقصة وتصور مزيف كما هو واضح ومشهور .
يضيق بعضهم بقراءة كتب الفكر والسياسة ، ومتابعة الأحداث ، ويقلل من شأنها في فهم المرحلة، ورصد حركة الأمة ، واستشراف المستقبل ، ويريد من العالم ، أن يكونوا معزولاً في أبواب الطهارات وأشباهها .
وهذه آبدة خاوية من العقل والنقل ، الله المستعان .
يجب على هؤلاء المنغلقين أن يدركوا القضية المتكلَّم فيها ، والتي يجري فيها النقاش ، وأن يتعلموا متى يخالفوا ، وكيف يختلفوا ؟!!
وليست المسألة مجرد إبداء رأي ، أو تعليق يضمّن .
لأن مثل ذلك يقلل من القيمة العلمية والفكرية عند أصحابها ، ويفتح عليهم أبواباً من النقد اللاذع ، والتشهير الجارح ، والبلاء موكل بالمنطق ،
كما يقال .
تضييق المسار
في هذا العصر المتلاطم بالثقافات ، والمتزاحم بالأفكار تغدو الدعوة الإسلامية ، فكرة من تلك الأفكار وثقافة من بين هذه الثقافات ، ولا يشع نورها ، ولا يسطع دورها ، ما لم تتسامَ في الحياة، وتلامس كل الإمكانات ، ، وتسابق الزمان بقوتها وحيويتها وتدفقاتها .(1/4)
في خضم تلك الرحلة العصيبة للدعوة ، تعمَّد فئام بسبب ضيق أفقه وتحجره، أن يضيق مسار الدعوة، ويكتفي بالقديم ، ويسابق بالتقليدي ، وبالبالي وبالمتأخر .
لابد للدعوة من توسيع مساراتها ، وتكثير طرقها وتحديث قنواتها ، والعمل على كل المجالات التي تحتويها الآية الشريفة (وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ). [ الأنفال : 60 ]
فلابد للدعوة أن تحظى بالقوى الفكرية والعسكرية والاقتصادية والعلمية والإعلامية والحضارية ، وأن تجعل من خطابها الخطاب القوي المتدفق الوضاء الذي يكتسح سائر الثقافات والدعوات وإنما يتم ذلك بأمور :
1- ارتقاء الفكر الدعوي ، الذي يفتح آفاق الإبداع والتميز والإنجاز .
2- ظهور سائر أرباب التخصصات في مجال خدمة الإسلام .
3- استغلال الوسائل التقنية والحديثة في مجال خدمة الدعوة وتطويرها وتحديثها حتى تحقق النجاحات الباهرة ، والإنجازات المرغوبة .
4- إدراك خطورة المرحلة ، وأهميتها ، وضرورة السبق الدعوي ، والإنجاز الإسلامي .
5- تجاوز كل الخلافات الفرعية ، والقضايا الهامشية والانخراط في اجتماع عام ، وخطوط متوازية لتعظم الدعوة ، وتبزغ ثمراتها ونتائجها .
المراد من الدعوة في هذا العصر التغلغل في أماكن بعيدة ، وملامسة كل الأطياف والاتجاهات ، والنزول إلى أعمق المحيطات حتى تؤدي رسالتها التي اصطفاها الله لها ، وأوجب عليها القيام بهداية الناس ، واستنقاذهم من الظلمات إلى النور ، واسترحامهم بما فيها من خيرات ونوالات ،
قال تعالى : (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ)
[ الأنبياء : 107 ] .(1/5)
فلابد أن تعي هذه الدعوة ، أنها أعظم بكثير من أن تختزل على منبر ، أو نافذة ضيقة ، أو مؤسسة محدودة ، بل هي الدعوة من (كل نافذة متاحة) ، هي مؤسسات المجتمع جمعاء ، وهي منابر الإلقاء والتحدث ، وهي كلمات الليل والنهار ، هي منتهى الأخلاق والآداب ، وهي المواقع الإلكترونية الزاخرة ، والقنوات الفضائية اللامعة ، وهي كل ما ينعم الله به على الإنسان من مكتشفات ومخترعات! كلها لابد أن تحشد لنصرة دين الله ، ولإبراز الدعوة على الوجه المستحسن والشكل المستطاب .
وحينها يقدر لها النجاح ، والظهور ، والتمكين وتأمين أسباب الضعف والهوان والتأخر ، والله غالب على أمره ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون .
الخطاب التقليدي
تفرض متطلبات العصر ، تجديد الخطاب الدعوي ، وتحسينه ، وتطويره ، واستعمال لغة ، يفهمها أهالي العصر ، وشباب الأمة .
وليس في ذلك معارضة مع الشريعة ، أو تصادم مع النصوص الثابتة !!
بل إنه يتناغم مع روح الشرع ، وينسجم مع مقاصد الشريعة .
لأن لكل زمان ما يصلح لهم وينفعهم ، إذ الحياة ملأى بالمستجدات ، والقضايا التي ما لم تحدث من قبل ، وغصّت الحياة بالمكتشفات والعلوم التي لم تكن من قبل ، ولها لغتها وحِكمها وفلسفتها .
ووعي الدعاة بها مطلب مهم ، ومكسب راجح ليتحقق للدعوة شرفها ، وتتعاظم بركاتها وخيراتها .
فلابد لحملة الدعوة أن يتجاوزوا إطار التقليدية في الدعوة ، وأن يظهر عليهم لمسات الجمال في الشكل ، والمحتوى ، والآلة ، والأداء الذي يندمج في العصر ، وينهل من ثقافته ، ويصيب عمق الثقافة ، وكبد الحقيقة ، إذ لكل زمان دولة ورجال .
وتجديد الخطاب الدعوي ، لا يعني تغيير الدين، وتبديل أحكامه ، كما قد يتوهمه بعض الجهلة والمنغلقين .
بل هو تجديد لغته وأدائه ومقوماته ووسائله ، والرقي بها حضارياً ليتقبله الأنام ويستطعموه ، ويستطيبوه ، إذ الله جميل يحب الجمال .(1/6)
فعلى سبيل المثال : لابد من تجاوز موضوعات الطهارة والرقائق التقليدية أحياناً ، إلى موضوعات الفكر والسياسة والاجتماع بالاقتصاد ، وأن تتناول موضوعات الرقائق في إطار عصري يليق بأحوال المقصرين والعصاة ، الذين أُترفوا من الحياة الدنيا، وانغمسوا في مغانيها .
ومن ناحية اللغة : انفجر العصر بمصطلحات جديدة ، وعلوم حديثة في مجال الحاسوب والتقنية والإلكترونيات ، ويحتاج الداعية لمعرفة هذه المصطلحات، وتطعيم الدروس بأشباهها ، ليكون حاضراً في أعين مستمعيه ومحبيه.
وعليه أنْ يقلِّل من الكلمات التقليدية في الأداء ، وأن يستعمل من الجديد المفيد ، الذي تسمح به اللغة، ولا يتنافى مع الشرع .
وقد يحتاج الداعية والمفكر الإسلامي لاستعمال كلمات أجنبية ، وترجمتها ، ليس للتباهي ، ولكن لإيضاح قضية مهمة ، ولضرورة معرفة اللغة ، ولاندهاش العالم أجمع بدعوة الإسلام ، وعدم انقضاء مكائد الكائدين له .
ومع أداء (المحاضرات بالإنترنت) ، واستماع الملايين لها ، صار من الضروري العناية بذلك والحرص على ارتقائه فنياً وإلكترونياً ، بحيث تنتقل الدعوة لآفاق الأرض ، جليةً ناصعة .
وقد يحتاج الداعية لإحضار الحاسوب معه ، والشرح من خلاله واستعمال بعض الرسومات ، والصور وقراءة ملفات خاصة ، فيها من التقرير والكشف والارتقاء ما لا يخفى ، ولا ينكره إلا ضيق الفكر ، عديم التحضر .
وفي جانب الموضوعات: جدَّت قضايا عصرية في الحرب والسلم والاجتماع والاقتصاد ، تحتاج إلى نظر وبحث وتأصيل وإحصاءات ، من المهم بمكان طرقها وتناولها ، بكل فهم ودراية .
حتى الموضوعات التقليدية المعروفة ، تغيرت بعض أحوالها ، واستفاضت الحياة ببحوث ورؤى جديدة ، لا يمكن مناقشتها من خلال كتب الفقه القديمة ، وعدم مطالعة الكتابات والدراسات العصرية . كموضوعات المال ، والعلاقات الدولية، والفنون والأنكحة وبعض قضايا الأسرة وحقوق الإنسان .(1/7)
فمن يتناولها ، لا يتناولها بمعزل عن البحوث الجديدة ، والتغييرات الطارئة عليها !! وهذا من محاسن البحث العلمي الحديث إذا سلك طريقه الصحيح وليس هذا تنكراً للتراث ! كيلا يخرج جويهل ، يرفع عقيرته بالاتهام والإقحام .
ومن تحدث فيها ، جاهلاً بما جدّ وطرأ ، نُبّه وعُلِّم, وأصلح في مناسبات قادمة ، ومَنْ عَلِمها وتنكر لها ، أنبأ عن قيمة عقله ، وحجم ثقافته ، وبرهن أنه غير صالح لحملان الدعوة في عصر التقدم والازدهار .
إن اختيار بعض العاملين في الحقل الدعوى ، للتقليدية في الكلمة واللون والشكل يعني تأخر الدعوة ، وتقهقرها ، وانعزالها عن عصرها و(الثقافة المطلوبة) .
وادعاؤهم ، أن تقليديتهم حفاظ على الإسلام أو ثوابته ، ناتج عن سوء فهم الإسلام ، وإدراك رسالته ومقاصده ، لأن المسائل الفرعية ، وما يسمى بالمتغيرات تتغير من عصر لآخر ، بخلاف الأصول والثوابت ، فإنها راسخة رسوخ الجبال ، لا تتبدل ولا تغير ، وينتقد من يدنو نحوها .
ونقول هنا إن المسلك والمنهج محافظ على الأصول, ملتزم بالقواعد الأساسية،مجتهد في الفروع حسب المصلحة والحاجة،فحافظ على الانتماء السلفي الراشد ، الذي يتجدد ولا يتبدل ، ويتلاءم مع العصر حسب الأحوال والظروف ، كما قيل (سلفية المنهج مع عصرية المواجهة).
الانعزال المستوحش
إبان الغليان الفكري ، والتصادم الحضاري والحملات الملتهبة تجاه الإسلام ودعوته ، ورموزه وقادته يفكر بعض الناس في الانعزال العجيب ، والانخناس المستتر ، ليقضون حياتهم في عجائب تدبر الذكر ، ولذائذ تعلم الفكر ، غير آبهين بالمرحلة الراهنة ، وتحتم المسئولية ، وغلظ الأمانة المنوطة بهم .
ولا سيما ، أنهم المعنيون بالبلاغ ، في زمان قلََّ فيه الأنصار ، وبان الجهلاء ، فتوجب قيامهم وتأكد استيقاظهم . لكنهم لسبب وآخر ، وغير علمي وموضوعي ، يفضِّلون الترك ، والتباعد ، زاعمين أن الدين دين الله ، وأنه منصور بعز عزيز ، أو بذل ذليل .(1/8)
وتلك آبدة خطيرة ، لا يسوغ السكوت معها ، بل لابد من كشفها وفضح القائمين بها .
وأولى سلبياتها الخطيرة :
تأثيم حامل هذه الفكرة ، ومروجها في أوساط الأمة ، لأنها تعني التخاذل ، وبث روح الهزيمة بين الشباب ، وتعني تخلية الميدان للجهلة والسفهاء ، ونواب الشيطان ليضاعفوا شرهم ، ويكاثروا من ضرارهم ، والله المستعان .
ليت هؤلاء اعتذروا بكفاية الميدان الدعوي ، أو بسقم جارف شاغل ، أو عمل آخر مفيد !! كلا !
بل ألهتهم روحانية المؤمن ، وولوعه بأسرار الصالحين ، وبعضهم أخذته مفاتن التأليف ، والظفر بالكنوز المعرفية ، والذخائر الفكرية ، فيغلق على نفسه باب مكتبته ، ولا يجيب السائلين إلا بعد سنوات،متشاغلاً بما يسميه الشرح الكبير، ومشروع العمر ، والموسوعة الجامعة ، والمعجم الفريد !
غير مهتم بأوساط الدعوة ، وارتخاء دعائمها ، وما يحل بالأمة من نكبات وأرزاء ، تجعل الحليم حيران ، لا يدرك وجهته ، ولا يعرف سبيله !!
وأما من يعتزل بحجة فساد الزمان ، وضرورة حفظ الإيمان ، فيقال له : (أخطأت الطريق) الآن ولم يَحِن الموعد ، الذي ترقب الأنظار فيه ، الأشراطَ الكبار ، والأحداث المدلهمات ، ولم تزل أفق الإصلاح والتغيير بادية العيان ، وما تضخم الفساد إلا بعزوفنا وتقصيرنا عن أداء رسالتنا ، وواجبنا الشرعي ، والله المستعان.
وقد قال الله تعالى : (فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ القُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا) . [ هود : 116 ]
وقال تعالى : (لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ) . [ المائدة : 63 ](1/9)
وليعلم هذا وأمثاله ، أن معركة الحق مع الباطل لم تنقض حتى يحدِّث نَفسه بالفرار والعزلة ، وعليه أن يدرك بتوسيع علمه ، وامتداد أفقه ، أن الوقت لم يحن بعد لذلك ، وأننا في حاجة ماسة إلى أجناد الإسلام،وقادة المرحلة ، وحراس الدعوة وداعميها .
من أسباب الهزيمة
الأحزاب الدعوية المتمثلة في مؤسسات ومراكز وجمعيات لا بأس بها في الإسلام ، وأدلة تقريرها ونجاحها ، مبسوط في غير هذا المكان .
لكن مما يشين هنا التحزب والتقوقع ، المتمدح بدوره ، والناكر للآخرين ، بل النابذ والمحارب ، وإظهار الآخرين في إطار المخالفة والانحراف والضلال المبين.
وهذا ما لا يتصوره عاقل !! فضلاً عن أن يمارسه مسلم داعية !
لكن لوقوعه واستشرائه في الوسط الدعوى ناسب التنبيه عليه ، والتحذير من آثاره وهي آبدة لا تغتفر ، وسوأة لا تمحى ، ومن المؤسف تقلد مشايخ لها ، وتولي فضلاء في الفقه والدين زمامها .
والسبب الاختلاف في مسائل دعوية ، وقضايا فقهية ، جعلت بعضهم يضلل بعضاً ، ويسفه مشاريع الآخر ، ويحذر من ظهوره وشأنه .
ومن مخازي هذا التحزب ، أنه لا يرى إلا نشاطه ولا فوزاً إلا فوزه ، ولا انتصاراً إلا انتصاره وهكذا ، تمجيد للحزب والذات ، وتضليل وتسفيه للآخرين .
وينتقل الخلاف الذي في أصله خلاف طبيعي لاختلاف العقول والقدرات ، ودائر في إطار التنوع، ينتقل إلى خلاف تضاد وعنت ومعاندة ، يسفر عن التنابذ القاتم ، والصراع المحتدم ، الذي يتصور وقوعه مع غير المسلمين, فينقله بعضهم إلى المجتمع المسلم . وفي عصر ازدهار العلم ، وارتقاء الفكر والثقافة ، فيا للعجب!!
إن مثل ذلك يعد شرخاً بالغاً في الكيان الدعوي، لا يحقق النصر ، ولا التقدم ، ويدخل الدعوة في معارك طاحنة مع أبناء جنسهم ، ويحرمها الثمرات اليانعة ، والنتائج الباهرة ، لأنه سبب بالغ من أسباب الهزيمة ، ومفتاح شرور ونوائب لا تنقضي، والله تعالى يقول :(1/10)
(وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ)
. [ آل عمران : 103 ]
وقال عقيبها : (وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ ) .
[ آل عمران : 105 ]
وقال تعالى : (وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا).
[ الأنفال : 45]
والآيات والنصوص في هذا الباب كثيرة مشهورة ، تحذر من فرقة أهل الإسلام وتمزقهم ، وتشرذمهم لأن في ذلك نسفاً للجهود ، وتدميراً للأعمال ، وسوء فهم للدعوة ، وفتح مساحات للأعداء وخدمة لهم من غير كد ، وفيها أضعاف الأضرار مما قد تحققه الدعوة وهي متحزبة متقوقعة ، دون أخذ بالضوابط والاعتبارات ، ورعاية المصالح العامة .
فقه مفقود
من روعة الشريعة ، وجمال الفقه الإسلامي الاجتهاد وبذل الوسع في معرفة مراد الله تعالى ، الذي نتج عنه آراء عديدة ، ومدارس فقهية شهيرة ، تؤصل وتقعد ، وتختار ، عبر منهاج علمي رصين يحتكم للعلم الصحيح ، والعقل الراجح ، وليس لمجرد الهوى والتشهي !
وأسفر ذلك مذاهب إسلامية في الفقه الشامخ المجيد ، كلها تطلب الحق ، وتنتصر بالدليل ، وتتفقه لتحل لنا الإشكالات ، وتكشف المبهمات ، التي أثرت العقلية الإسلامية ، وزادتها لوعاً وسطوعاً ، ووسعت مجال العقل والتفكير وكسرت الجمود المذهبي ، واخترقت التقليد ، وعادت بعوائد حسنة في الجملة ، ولا تخلو من مآخذ , ليس هذا موطن بحثها.
لكن العجيب هنا عدم تعلم بعض الدعاة من هذا الفقه ، وإدراكهم لمعنى سعة الأفق ، وفقه الخلاف ، والإيمان بالتعددية الفقهية،المستضيئة بالبحث الجاد، والتجرد الصحيح .
وليس سراً نقد بعض الشيوخ لآراء فقهية مغايرة ، لمجرد التباين ، والإنكار في ذلك إنكاراً شديداً ، متناسين القاعدة الأصولية المشهورة
(لا إنكار في مسائل الخلاف) .(1/11)
والعجيب أيضاً ، حمل الناس على رأيه ، وتحذيرهم من الاتجاه الآخر ، وهذه من بلايا الفقيه، ومن قلة علمه ، وضيق عقله ، ويكشف عن سوء فهمه للإسلام ، وعدم إتقانه للعملية الدعوية .
لأن الناس لم يزالوا مختلفين ! فطرةً ربانية ، وطبيعةً نفسية ، لما بينهم من تفاوت في العلم والفكر والتفكر وآلته وثقافته وظرفه وزمانه .
وهذه آبدة منكرة ، إذ كيف تنكر على أخيك المسلم اجتهاده ، ومنتهى علمه وتفقهه ؟! وكيف تجيز لنفسك أن تحمل الناس على رأيك ؟! وإلى متى لم تدرك رسالة التراث الفقهي الغزير ، ومسلك الأئمة في تعاطي الفقه والاجتهاد في نصوص الشريعة ، وإيقانهم باتساع الساحة لمثل ذلك ، دون تكبر ، أو تنازع واضطهاد .
ومن المسائل التي كان يجري ولا يزال فيها النكير اللهيب وليس الحوار العلمي للوصول للحقيقة مسألة حجاب المرأة ، وحلق اللحية وارتخاء الثياب، وقد كان يجرى الاحتقار والاستنقاص للأساتذة الجامعين الوافدين ، والمفكرين المبدعين. وقد خسرنا فضلاء منهم بسبب هذا الفقه المفقود ، الذي رباه ضيق الأفق ، وانحسار التفكير ، والنظرة الإقصائية واعتقاد الوصاية على المنهج الصحيح ، والدين الحق ، والإرث السلفي ، والقول الراجح المختار !!
ثم هؤلاء في انتصارهم لآرائهم واجتهاداتهم ، يزيدون من جهالتهم في احتجاجهم لعلماء ، والركون لفقهاء ، نُعتوا في كتب التراجم بالذكاء المفرط ، والغزارة المتناهية ، والعمق في التفكير والاستدلال ، وهذا تحكم لا موجب له ، واعوجاج لا تفسير له ، لأنه يضم إلى تخلفه وآبدته , آبدةً أخرى ، باحتجاجه برأي عالم ، واستنباط فقيه ، وهذا ما لا يقبل في التفكير السليم ، والحوار الموضوعي الصحيح .
وقد يكون هذا العالم المحتج به ، لا يُعرف إلا في تلك البيئة !!
وأنه حين ينهى عن تقديس الأشخاص ، والغلو في الرموز ، يقع في تقديس أئمة مضَوا ، وفقهاء قضَوا .
وهذا شيء عجيب !!(1/12)
من المؤسف جداً أن أكثر أوساط الدعوة وأطيافها لا تزال ناشئة ومتخلفة تجاه (فقه الخلاف)، ووعي لغته وشكله ومحتواه وآلته ، فضلاً عن ممارسته وتطبيقه .
وهذا إن دل على شيء ، فإنما يدل على (التخلف الفكري) لدى تلك الأطياف والحركات ، ويدل على ضعف الجانب العلمي ، وأن تركيز تلك المؤسسات على الجانب السلوكي فحسب ، وربما قد نجحوا في قطع مسافات هائلة فيه لكنها جُرِّدت عن كثير من العلم والفقه ، ولا شك أنه أثر عليها سلباً ، وأوقعها في امتحانات صعبة . لأنَّ التدينَ . هزيلٌ بلا علم ، والعلم عالة بلا فقه وحسن تطبيق .
قال تعالى : (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ) .
[ النساء : 83 ]
وفي الصحيحين قال رسول الله ? : (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين).
وفي خضم جهلهم بفقهيات الخلاف الشرعي يسلكون (الأحادية) في تفسير النصوص ، وفي فهم الدعوة وتطبيقاتها ، ويدَّعون سَداد طريقتهم وأنهم أمثل الناس عقلاً ، وأحسنهم نظماً ، وأصلحهم منهجاً ، ويتعاملون مع الآخرين بذلك المنهج ، وربما ضلَّلوا المخالف في هذا الباب . فلا تفسير للقرآن إلا تفسيرهم ، ولا فهم للسنن النبوية إلا فهمهم وتفقههم .
وهذه بلية شديدة ، وآبدة نكدة عسيرة ، لابد لبصراء الدعوة ، وفقهاء الشريعة من كشفها ونقضها والتحذير منها ، مهما كلّف الثمن المبذول ، والله الموفق والمعين .
البيان الآسر(1/13)
مع بدايات الصحوة الإسلامية ، وبزوغ منائر العودة إلى الله ، انخرط في الدعوة فضلاء ، وأساتذة جامعات ، ومفكرون استطاعوا ، بفضل ثقافتهم ، وتنوع أسفارهم ، وإدراكهم لأهمية البيان أن يدرجوا (اللمسة البيانية) على الخطاب الدعوي، كنوع من أساليب الجذب , ولفت الانتباه ، وتقوية الموضوع وتسديده ، وتمثَّل ذلك في الاستشهاد يشعر العرب القديم ، ولمعات من الأدب الحديث ، وربما قراءة قصائد بطولها تلامس الدين والغيرة عليه ، أو تمجد للأخلاق أو تنتقد مواقف سياسية مخزية ، وتحتوي قضايا الأمة الكبرى .
وكان هذا للوهلة الأولى يُعدّ نقلة في الخطاب ، وتجديداً في الطرح ، تجاوز الأسلوب التقليدي البارد ، فازداد لموع الصحوة ، وأحبها كثيرون ، حتى ممن لا صلة له بقضاياها ولا همومها . وهم في الحقيقة لم يأتوا بشيء جديد ، لأن الشعر ديوان العرب ، ولون من تراثها وحضارتها ، وقد زاده الإسلام تكريماً وتشريفاً,وتمجيده والثناء عليه في حدود المطلوب والمرغوب .
فالنبي ? يقرب المنبر لحسان ويقول : (هاجهم وروح القدس يؤيدك).
ويقول له أيضاً (إن روح القدس لا يزال يؤيدك ما نافحتَ عن الله ورسوله).
وكان الشعر, ولا يزال محل ثناء العقلاء ، وخلفاء الإسلام وأئمتهم ، لم ينكره أو يذمه إلا ضيق المزاج ، فاسد القريحة !
والذي دعاني لتقييد هذا الكلام ، مانمى إليَّ عن بعض الشيوخ المرموقين ، أنه ذم الشعر ، ونقَده ، وسخر منه سخرية شديدة .
فاعتبرت مثل ذلك آبدة منكرة ، لا يسوغ السكوت عليها ، ولا تركها تمر بسلام! بل لابد من نسفها ، وتعريتها ، وبيان أن قائلها قد أتى شيئاً فرياً،إذ لا يليق بمن علم وتعلم ، وأدرك حلاوة البيان، وجمال البلاغة ، أن ينكر الشعر ودوره في جذب القلوب ، وخطف المشاعر ، واستلهاب الجماهير !
وإلا لما قال النبي ? : (إن من البيان لسحرا).
وقوله : (إن من الشعر حكمة) . ولما استمع للشعراء ، وحمد شأنهم !(1/14)
وهؤلاء الدعاة والمفكرون لا ينشدون إلا ما يفيض الحِكم, ويبث الأدب ، وينشر المحاسن .
فماذا بعد ذلك ؟!
هل تُنكَرُ الكلمة الحسناء ، ويُعرَض عن الخطاب الجميل المؤثر . ؟ أو تبقى الدعوة باردة اللسن، بالية الحديث ، ضعيفة البناء ، خاملة التأثير؟!
لا يقول بذلك عاقل !!
الملامسة والمجافاة
وهذه لإخواني الخطباء ، حيث لا يزال طوائف كثيرة منهم ، وعلماء مفتون ، يعتقدون أن منبر الجمعة مخصوص بقضايا التوحيد والأخلاق والطهارة ، وأن ملامسته للواقع ، نوع من خروجه عن مساره،وتصعيد للأزمة ، وتحدث في السياسة .
وأن ذلك ليس المسلك الصحيح ، وليس هو الهدي النبوي ، وهذه مشكلة معقدة ، وآبدة عنيدة ، تحتاج إلى تجلية لتشق أفهام بعض أولئك المنغلقين، الذين يحكرون التوحيد وقضايا الإيمان في الأحاديث النظرية ، ولم يشقوا بها بطون الميادين والتجارب والمحكات .
إن مأساة تعيشها الأمة ، أو ملمة تهدهد كيانها لجديرة أن تُصنع من خلالها دروس التوحيد ، وتربطها بآيات القرآن ، ونستشهد لها من نصوص السنة ، ومن مواقف رسول الله في الملمات ، ومواعظه الكريمات لصحابة الأبرار ، حتى يصبح التوحيد عملاً ، ويزهو ممارسةً وتطبيقاً .
إن الهدى النبوي بلا شك في المنبر هو ملامسة حاجة الناس ، وليس مجافاتها كما توهمه بعض الجهلة ، وجعلوا من منبر الجمعة كلاماً سطحياً خاملاً, نائياً عن الهدف المرسوم له ، والمرام الذي من أجله وُجد وأُسس .
إن من نعم الله تعالى على أهل الإسلام ، أن جعل لهم مثل هذه (الحديقة الغناء) التي يتفيأون من ظلالها كل جمعة ، ويرتشفون منها منابع الهدى والنور والإيمان .
ليس حسناً ولا حكيماً ، استبعاد المنبر عن واقع المسلمين ، وليس من الفائدة جعله أخباراً سياسية ، وردوداً شخصية ، بل يربى في الناس الإيمان ومنائر الأخلاق وحب الله ورسوله ، مع ربط ذلك بحياة الناس وشئونهم .(1/15)
ومن شئونهم الحديث عن الأوابد الكبار ، والدواهي الملمة التي تخطف أفئدة المسلمين ، وتجعلهم في كرب شديد .
وعلى سبيل المثال قضية فلسطين ، لطولها وعمقها ، وعمق ما فيها من التجارب والقصص والدروس ، نجدها غاصّة بدروس الإيمان والفضيلة والأدب ، ونستطيع أن نبرز ما نشاء من خلالها ، وهي تتجاوز الخمسين سنة .
وحدث جديد ، طعن كبد الأمة ، وكشف عوارها ، وأبدى مخازيها ، وهو احتلال العراق ، لا يمكن أن يمضي هكذا بلا اهتمام عن طرف الخطيب .
بل لابد من تناوله واستخراج دروس التوحيد والهدى والبذل والوفاء والتضحية ، وغرس معالم القيم والآداب من خلاله .
وهنا تكمن (براعة الخطيب) ، فإن من يضحي بنفسه في سبيل الله ، ويبيع مفاتن الدنيا ، إرضاء لربه ويجود بما له بلا حسبان ، هو من يعلمنا التوحيد ، ليس الذي يشرحه هذاً بلا تنفيذ ، ويؤلفه خطاً بلا تطبيق ، ويتشدق به خطباً دون معاطاة ، والله المستعان .
شُح الحس الأممي
يعجبك تفاعل دعاة وطلبة علم في برامج الدعوة،وارتقاؤهم بعملها، وسعيهم السعي الحثيث ، الذي يحمل في طياته ألوان البذل والسخاء والتفاني والمبادرة ، إحساساً منهم بشرف هذه الوظيفة ، وعظم نوالها ، وزخارة أثرها ، واستعلاء الإيمان بها .
لكن الملاحظ هنا شح حسهم الأممي ، وضعف تفاعلهم العالمي ، مع بلدان أخرى ، يهمهم وقوف إخوانهم ، ودعمهم ، ونصحهم ، وبسماتهم .
لا سيما وأنه قد تعينت النصرة ، ووجب الدعم، بسبب هوانهم ، وقلة ذات اليد لديهم ، وشدة الهجمة عليهم .
وقد قال الله تعالى : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ).………[ التوبة : 71 ]
وفي الحديث قال رسول الله ? : (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر).
وقال ? : (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً).(1/16)
فحكر الداعية نشاطه على منطقته وإقليمه نوع من ضعف الإخاء ، وفقدان أممية الإسلام ، وقد تحتف به أمور عنصرية ، وهو من مقاصد الاستعمار وأذنابه، أن تتمزق الأمة دولاً ، وتصبح ولايات ، ويتشرذم نشاطها ، وتعظم خلافاتها.
من المؤسف أن حين نزول الويلات والكوارث بتلك الدول المجاورة ، ترى حس هؤلاء لا يتحرك بأدنى عوامل النصرة ، كالدعاء وبالصدقات الفاضلة ، بل العجيب أنه يتم مناقشة هل يجوز نقل الصدقة لبلاد منكوبة ، أو الأضحية ، هل يسوغ إرسالها لبلاد فقيرة ؟!
وتتفرع المسألة ، ويطول النقاش ، والمسلمون هلكى ، جوعى ، تجتاحهم الحروب والبليات !!
هل فقهاؤنا رحمهم لما ذكروا هذه المسائل افترضوها عبثاً أو زعموها ، والبلد في أمس الحاجة ؟!
الذي يبدو أن ذكرها كان لمن أهمل بلده واحتياجه ، ونقلها لأسباب غير وجيهة .
أما الآن وقد صلح شأن بلدك ، ورأيت البلايا في إخوانك المسلمين ، يمزقهم الفقر ، ويحرقهم الوعز ، فلا تتردد في إيصال كل أشكال الدعم إليهم، لتحظى بالثواب ، وتفوز بالنوال
عند الله تعالى .
بل إنها أبرك وأزكى مما لو أبقيتها في بلادك ، التي حاجتها أقل ، وفقرها أدنى ، وعندهم من يكفيهم .
فلا داعي لإثارة هذه المسائل : هل يجوز نقل الصدقة ؟ تجاه بلد احتلت أرض ، ومزقته المجاعة، وجاءهم البطش من كل مكان !!
هذا ليس من الفقه السديد .. وليس هذا وقته ومحله .
ثم إن في التفاعل الأممي تجاه قضايا الأمة فوائد :
1- تعميق روابط الإخوة الإيمانية ، وقد قال تعالى : (إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ). {الحجرت: 10 }
2- كسر حدود الوطنية والإقليمية التي فرضها الاستعمار .
3- تقرير أن الإسلام عالمي ، أممي ، يحتفي بجميع أبنائه مهما اختلفت ألوانهم ، أو تباينت جنسياتهم .
4- شرح للصدور واستطعام للسعادة في زمن خيم فيه البؤس ، وتفشت فيه الأحزان والبليات .(1/17)
5- تربية للأجيال على مثل ذلك ، فالتلميذ يرى أستاذه يجمع الصدقات للبلاد النائية ، والابن يرى أباه ، متهمماً لإخوانه المنكوبين في بلاد كذا وكذا ، فيرتفع الحس الأممي عنده ، ويدرك أن هذا الدين عالمي ، وأن عقيدته أممية، تتجاوز حدود اللون والعرق والمكان ، كما أرادها الله تبارك وتعالى.
وكما قال الشاعر المسلم :
كم بالعراق وكم بالهند من شجنٍ
…………شكى فرددت الأهرام شكواه
وفي ظل تمزق الأقطار الإسلامية ، وتباينها ، وتسلط الأعداء عليها ، ينبغي الارتقاء بالحس الأممي وإعطاؤه قدره ، ومكانته ، ليصدق إيماننا وتحسُن إخوتنا ، ونتباهى بوحدتنا وقوتنا .
التخصص والجامعية
من حين ميلاد المعرفة والعلوم ، وتعرف الإنسان على ما حوله ، وما يسهم في إفادته ويعين على التصور الصحيح ، برزت (قضية التخصص) ، وأن ما يحسنه فلان ، قد لا يحسنه كل أحد ، لما جبله الله في النفوس من ميول وقدرات ، إذ طبائع الأنفس تختلف ، واستعداداتها تتباين .
ومع تطور الحياة الإنسانية ، واكتشاف المرء لما حوله وما سخر الله له ، اتسعت قدراته جيداً ، وبدا يدرك ما يصلح له ، مما لا يصلح .
في الحياة الإسلامية ، وحض ثقافتها على العلم وحبه وطلبه ، وتحمل المشاق دونه ، أتاح ذلك فرص التخصص ، والنبوغ بدرجة كافية .
لأن كل علم يحتاج من الاستعداد والتأهل ما لا يحتاجه غيره ، أضف إلى عنصر الفوارق بين الناس ورغباتهم .
وقد أدرك ذلك نبينا ? في صحابه وتلاميذه ، ووجه كل واحد لما يصلح له فقال كما عند أحمد والترمذي بسند حسن : (أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في أمر الله عمر ، وأصدقهم حياءً عثمان، وأقضاهم علي ، وأفرضهم زيد ، واقرؤهم أبي ، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ ... الخ).
وقال لابن مسعود : (إنك شاب معلَّم) .
وقال لابن عمر : (نعم عبد الله لو كان يقوم من الليل).
وقال لأبي : (ليهنِكَ العلمُ أبا المنذر).(1/18)
في نصوص عديدة يتفقه منها حرص النبي ? على تعميق الصلة ، وإبراز التخصص ، وتوجيه الهمم والعزائم حسب الحال والمقام .
ومع اتساع الثقافة الإسلامية ، وانتشار التدوين، واندماج الأمة بالثقافات الأخرى برز في حياتنا العلمية المحدثون ، والفقهاء ، والقراء ، والمفسرون والأطباء ، والفلاسفة وأشباههم ، وصار العلم بسبب اتساعه وعمقه ، ربما تفرع لمجالات تحتاج إلى متخصصين وبارعين ، فعرفنا أبا حنيفة فقيهاً كبيراً، ومالكاً محدثاً وفقهياً ، والشافعي فقيهاً ، وأحمد محدثاً وفقيهاً ، مع غلبة الحديث عليه ، وكان لهؤلاء تلامذة ونظراء ، يدانونهم في تخصصاتهم وعلومهم ، وربما استقلوا بشيء آخر .
كما عرفنا الخليل بن أحمد لغوياً وعروضياً ، ونحوه في اللغة النضر بن شُميل وابن جني ، وابن هشام ، وهلم جرا .
ومع تخصصهم في اللغة ، إلا أن بعضهم قد يشتهر بجزئية معينة في اللغة، ينبغ فيها ، ويُعرف بها ، ونفس القول في الحديث والفقه والتفسير .
فعلى سبيل المثال اشتهر الأعمش بالحديث لا يكاد يفقه الفقه وأصوله ، واشتهر ابن معين بالجرح والتعديل ، وليس له فهم النص والتفقه فيه ، وكذلك ابن المديني عُرف بالعلل ، وابن أبي حاتم عُرف بالجرح والتعديل والعلل .
وقلما يجمع عالم كل مفردات الفن الواحد ويصنف فيها كلها ، إلا ما قل نحو الحافظ ابن حجر من المتأخرين .
وقد يظهر نوادر ، شح بمثلهم التاريخ ، يجمع فنوناً مختلفة ، ويتحدث فيها بعمق وبصيرة متناهية، نحو شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وابن القيم ، وطبقتهم وبعض تلاميذهم ,حتى إنه ليوصف بعضهم (بالجامعية) والتفنن ، وأنه يحسن كل شيء يتحدث فيه , ويرزقه الله إحاطة عجيبة كما يظهر من خلال مصنفاته ورسائله وفتاويه وينقله مترجموه من معاصريه ، وليس المترجمون المتأخرون ، الذي سلكوا الفخامة والمثالية في تراجمهم .(1/19)
وما أريد قوله : (التنصيص على أهمية التخصص) وأن العلوم منها ما يحتاج إلى تخصص، ودراية ودراسة خاصة، ومتقنة
ممن يطلبها .
لقد أنذهل بعض الشيوخ بثقافة أعلام كالنووي وابن حجر ، وابن القيم والذهبي ، وما يحوطها من التفنن والتنوع فأحب أن يغدو مثلهم .
وهالهم جامعية بعض حفاظ الشناقطة النجباء ، فأحب قفوهم وتقليدهم .
وهذا شيء جميل من حيث المبدأ !
لكن هل أتقن هذا المتشوق ، للجامعية تخصص الأصل ؟! وهل ألف ودرس فيه ؟ أم مجرد شهوة ، أحب أن يحققها ، دون موازنة أو ترتيب !
وفي العصر ظهرت علوم حديثة ، وفنون جذابة استهوت بعض الدعاة ، فأحب أن يضم إلى تخصصه الشرعي ، علمه بالحاسوب ، وحيازة لغة أجنبية مع علوم مظهرية ، طغت على كثيرين ، قد يكون فيها فائدة ، لكنها قليلة .
ونتج عن الانهماك فيها ضعف الرغبة للتحصيل الشرعي والنبوغ فيه ، وحل مستجدات الحياة من خلال فهمه وإتقانه .
والمأخذ هنا تدافع بعض هؤلاء إلى نمط الجامعية نحو المعرفة ، ومحاولة لمِّ شتات كل شيء، وحيازة وثيقة ، أو برهان ، يدل على تعلمه والتماسه ، مع غياب قضية الإتقان والبراعة فيه ، وإهمال التخصص الأم الذي هو محل درايته الأولى، وأصل نشأته الأساسية .
فمحاولة بعض الدعاة إتقان كل شيء والمهارة في كل الفنون القديمة والحديثة, والمتمدنة آبدة غريبة، ومأخذ عجيب ، لأن نهايته إلى الإفلاس والتشتت , إذا مورس بلا ضوابطه ومحاذره .
وليس كل الناس يصلح فيه ! وعندنا نبوغ شخص في فن أو فنين ، مع الإتقان والتعمق ، خيرٌ من التنقل من فن لآخر ، رجاء جمعها والغوص فيها ، وفي النهاية ضياع وحرق لسني العمر ، وربما استفراغ لتلك العزيمة التي لم يحسن تفريغها ولا الانتفاع بها ، والله المستعان .(1/20)
وأرجو أن لا يفهم من هذا الكلام ، عدم اطلاع الداعية على العلوم الحديثة، ومحاولة بلوغ التصور العام عما يحدث ويستحدث ! كلا ، بل نرى أنه من الواجب لمن يتحدث ، ويتسنم المنابر أن يملك الثقافة العامة لما قد يتصل بحديثه ، ويدرك أهميته، لكن لا يتخصص فيه ، ولا يتحدث إلا بعد الفهم والتأمل والاستفادة من المتخصصين كما تقدم بيانه .
وأيضاً من الخطأ تحدث بعض الدعاة في كل شيء ، وخروجهم عن تخصصاتهم مع عدم فهم واقتدار ! أما إذا حصل الفهم والاقتدار ، فلا مانع من التحدث والمناقشة والمشاركة ، لكن مع الضوابط وفهم الآليات .
وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه .
ولعلى أختم هنا بتنبيه مهم ، وهو وأننا الأمة المختارة ، والمرشحة للقيادة ، لابد من تقديم مشروعنا الحضاري للأنام ، وذلك يعني تقديم الرؤية الصحيحة للحياة ، والأطروحة الملائمة للعصر ، وذلك يعني تقديم المتخصصين والبارعين في كل فن ، وإبراز المهارة من خلال شتى معارف الحياة ، وذلك عندما تقدم الدعوة الإسلامية رجالاتها الأفذاذ ، وعلماءها النبلاء ، كل في اتجاهه وميوله، التي تتسم بالدقة والإتقان ، وليس بالتهريج والتفليس، ومحكات الحياة ، تكشف المفسد من المصلح ، والصادق من الكاذب ، والمتقن من المهرج .
والله من وراء القصد ،،
التغريد خارج السرب
غالباً ما تكون الكروب والأزمات موقظة للضمير الإنساني ، وداعية للعمل والنظر ، وباعثة على التجمع والتحزب ، والأخذ بزمام المبادرة والمواجهة .
لكن مما يؤلم أن ثمة ضمائر لا تريد أن تستيقظ إذا دهم الأمة عدواً ، أو حصل انتهاك أعراض ، أو سُرقت ثروات علانية ، أو هدمت مساجد بالأسلحة الفتاكة ، لكأنما هذه الأحداث خارج عالمهم ، بعيدة عن قلوبهم ، لا تعنيهم ولا تهمهم !!
وهذا شيء غريب،وآبدة مُستشنعة ، لا سيما إذا كان مبدوها مشايخ ,عرفوا بالتقى وبالفقه والهدى.(1/21)
لماذا لم يتحرك علماء لمصائب الأمة ، ومآسيها في فلسطين وأفغانستان وأخيراً العراق ، ولم تكن لهم مواقف نصرة وتأييد ، وأناة وتثبيت ؟! بل تحلي كثيرون بالصمت المطبق ، والتجاهل الفاضح ، الذي رأته الأمة عياناً بياناً !!
بل الأمرّ والأنكى , أن بعضهم ليلة قصف الفلوجة،وتدمير مساجدها،وقتل نحو 700 مسلم منها ، يتحدث في مسائل جانبية وقضايا فقهية،لا تمس للموضوع بصلة ، ولم يقدم موقف تضامن، ولا كلمات حرَّى يصرخ بها إلى الله لنصرة إخوانه !!
هل بلغ بهؤلاء الرعب النكِد ، الذي لم يبق لهم عاطفة ولا حساً ولا ضميراً؟
أم أنه الجهل بالواقع ، والانهماك الفقهي غير المحمود ؟!
أم أنه التغريد خارج السرب ، وعدم وعي الحياة السياسية ، وقضايا الأمة المصيرية ؟!
إن هذا الأمر مُخْزٍ ومؤلم !!
لا تدري هل هذا الشيخ ، أو من يسمي نفسه ، مفكراً داخل العالم أو خارجه ؟!
أحداث يتفطر منها الفؤاد ، وتشيب لها الولدان، ولا نرى عالم الشريعة ، يحرك لها ساكناً ، كأنه ليس معنياً بما يحصل !
أو خفي عليه ما دور ورثة الأنبياء تجاه الفتن والبلايا والشدائد العظام ؟!
إن الذي سكت وانخرس في بيته ، خير من ذاك الذي يشرح التوحيد إبان محنة ، دون ربط للتوحيد بواقع الأمة ! وخيرٌ وأجل من ذاك الذي يفكك الفقه ويشرح البيوع أو الطهارات ، دون ربط لمسائل الفقه وفصوله بمأساة المسلمين ، وأن الفقه
الحقيقي هنا ؟ !
ما دورنا تجاه ما يحدث ؟! وما الذي ينبغي فعله ؟! وما العلم الذي يتعلمه؟! اشرح الفقه ، وقرِّر التوحيد ، وبين التفاسير والإعرابات ، ولكن دون انعزال عما يحدث ، أو تجاهل لما يصير ، أو تغريد خارج السرب .
فإن ذلك هو الشطط العظيم ، والبلية الواسعة !!(1/22)
قف مع إخوانك بدعوة حارة ، أو كلمة مناصرة، أو صدقة مباركة ! أو بتثبيت حازم ، أو توجع صحيح ، ولا تكن كالذي خذلهم إبان النصرة، ولا مكن أسلمهم لعدوهم ، ولا كمن سخر منهم ، أو تخلى عنهم ، فذلك مرتع وخيم ، ومنزل أثيم .
عافانا الله وإياك منه ، وأحيا قلوبنا بمحبة إخواننا المسلمين في كل مكان ، ودعمهم وتلمس أحوالهم ، وقضاء شئونهم .
فالله تعالى يقول عن الأنصار :
(يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا) …………[ الحشر : 9 ]
ويقول رسول الله ? : "والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه".
إن بعض صور تجاهل أحوال المسلمين شبيهة بالخذلان الآثم ، والانهزام الجاثم الذي يبتلى به بعض من غرته الدنيا ، وانصرف لملاذها ، وانحصر في حدود الوطن والإقليم ! وما هكذا كان علماء الإسلام ، وأئمة الدين ، وكبار المحدثين والفقهاء !!
يا عجباً يتأثر العامي ، ويبكي مصاب إخوانه ، وذاك المتحدث الفقيه في عزلة دامسة ، وغياب غائر ، وتقوقع فاضح ، والله المستعان .
إن من حصافة الفقيه ـ عند فقدان الحس ـ وهو يرى تدافع الأمة نحو شيء معين ، أن يشارك فيه ، ولو بموقف يسير ، ولا يكن في موقع المخذِّل أو الميت والجبان ! كيف ونحن نظن بفقهاء الإسلام خيراً ، وبدعاته بذلاً وتفاعلاً حتى يصيبوا رسالتهم، ويؤدوا ما افترضه الله عليهم .
وإن من الآثار السيئة لغياب العالم عن مصير الأمة ، وتغريده خارج السرب ما يلي :
1- فقدان مصداقيته لدى الأمة ، وإلقاء التهم الصحيحة وغيرها على مكانته .
2- حصول الهوة السحيقة بينه وبين عامة الناس .
3- تخبط العامة بسبب غياب دور المصلحين والناصحين .
4- بروز الجهلة والمأجورين ، ممارسي التضليل والتشويه والتغييب ، وجعل المسئولية في مستنقع الخيبة ، والإلقاء بالأمانة في مرتع الضياع والتباب .(1/23)
5- توسيع حجم المخالفات ، وجرّ الناس لمآزق خطيرة ، أقلها الاختلاف والمنابذة . والله المستعان .
النقد بكُليته
صار الحديث عن النقد وطرح أدبياته وآلته وعوائده ومحاسنه ، وأثره في التطوير والبناء ، من الطروحات المتحضرة في عيون الناس ، وعزف على ذلك كثير من المثقفين ، ولهجت ألسنة شيوخ فضلاء بمثل ذلك ، وأصلوا للقضية من الكتاب والسنة ، وأوضحوا النقاد الهادف البناء ، والنقد الجارح الهدام ،الذي لا يحمل إلا الإسفاف والتشفي.
وصيغت في ذلك كتب ، وعُقدت دروس وندوات!! وكل ذلك بهيّ ورائع في الحياة الفكرية .
لكن المشين ! أن هؤلاء ، ورموز دعاة النقد والتصحيح ، لما مورس معهم النقد لكتبهم وبعض اجتهاداتهم ، وبطريقة مهذبة ، وليس ناقمة ، اصفرت وجوههم، وانتفخت أوداجهم ، ورؤي عليهم الإنكار والاشمئزاز !!
فإن كان الناصح والناقد قِرنا ، هُمش واحتقر ، وإن كان تلميذاً ، عودي ، وسُفه شأنه ، وهجر قوله واختياره .
وهذه بلية نكراء ! كيف يتداعى شيوخ ومثقفون إلى النقد وأهميته ، ويمارسونه مع الأقدمين والمعاصرين ، ثم لما مورس معهم لم تجد لهم انشراح صدر ، ولا سعة أفق ، ولا قبولاً حسناً ، ولا صفاء مهذباً ؟! هذا شيء غريب !!
والله يقول : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ ) . [ الصف : 2-3 ]
لن تنجح عملية النقد ووظائفه ، ما لم نفتح لها صدورنا ، ونوسع لها عقولنا ، ونتجاوز بها حدود القداسة والعظمة والذاتية ، والاستعلائية ! على كل من يلج غمار شيء ، ويدعو له أن يتحمل توابعه وضرائبه .(1/24)
على أننا في الجوانب النقدية والتصحيحية ، نرفض التجريح والتجهيل ومجانبة النقد الراقي الحضاري ، ومع ذلك فإننا نقول يجب على رموز هذا الشأن احتمال أضراره ومحاسنه ، واستطعام خيره وشره ، وحلوه ومره ، مع حسن التوجيه ، وكمال التعليم ، لأن الناس متفاوتون في علومهم وأخلاقهم وأحوالهم ، وقد احتمل رسول الله ? جفاة العرب وصعاليك الناس ، والمتحاملين وكذلك الأئمة النبلاء عبر التاريخ .
فيا من دعا وتداعى للنقد ، وتجمّل بتنظيره وتحريره ، خذ (النقد بكليته) ، واحتمل فيه (بلاياه وشدائده) ، واعتبر ذلك نوعاً من الصبر على الظالم، وتصحيحاً للجاهل ، وتعليماً للمستعجل ، ونشراً للوحدة الدعوية .
على أننا لا نريد من هؤلاء المثقفين إلا قبول النقد الهادف المستقيم ، الذي يؤدى في إطار الأدب والموضوعية ، والتجافي للسيئات والموبقات ، والله الموفق.
التأثير ألوان ..
من حكمة الله تعالى في خلقه ، أن فاوت بينهم في محبوباتهم ، وميولهم وطبائعهم . وفي المنظومة الدعوية تتكاثر ألوان الدعوة والتأثير ، وتختلف الأساليب ، فمن الشيوخ من يدعو إلى الله بتدريس العلم الشرعي ، والفقه في الشريعة ، ومنهم من يدعو بالإيمانيات والرقائق ، وآخر يخاطب الفكر ، ويناقش القضايا العصرية ، وآخر يقرئ القرآن ويعلمه ، وآخر يعتني بالتاريخ والقصص النبوية .
وهكذا تجد أطيافاً عديدة في التأثير واستقطاب الجماهير الراغبة في مثل ذاك اللون .
والناس يتفاوتون في حب ألوان المعرفة ، والمادة التي يرتاحون إليها .
والواجب تجاه ذلك في العالم الدعوي ، أن يحترم كل داعية اللون والاتجاه الذي يفيد فيه أخوه، ولا يقلل من شأنه ، وأن يدرك احتمال الساحة ، وحاجتها لكل التخصصات ,والرغبات ,والفنون .
ومن الضروري لاجتماع الكلمة ، تقاربهم ، وتدانيهم ، وعدم تشنج بعضهم على الآخر .(1/25)
لكن يشتط فئام عندما يريدون حِكْر مجالات التأثير والاستقطاب على مجال واحد ! وكأن الأمة لا تريد إلا تفريع مسائل الفقه ، أو تدريس الجرح والتعديل ، وآخر يوغل في الإيمانيات ، بحجة استشراء الفساد والانحلال ، ولن يعيدهم إلا إصلاح قلوبهم ، وكل ينظر للناس بعين طبعه ومزاجه كما يقال .
والمطلوب هنا (الاعتدال والتوازن) ، وإدراك أن كل هذه الفنون مهمة ومقصودة ، والأمة تحتاج مثلها وأضعافها لسد رغبات جميع أبناء المسلمين لتفاوتهم عقلاً وطبعاً واحتياجاً ، وهذه قضية فطرية، ولا يمكن تجاهلها بحال من الأحوال .
ومن (فقه الشيخ) والداعية تفهّم مثل ذلك ، والتعامل مع الناس من خلاله ، ولا نظن مثلاً أن جميع الشباب لديهم الاستعداد التام ، والهمة البارزة، والذاكرة القوية لحفظ المتون وتقييد الدروس .
وأيضاً ، ليس كل مجامع الشباب والعائدين منهم يهوى مسلسل الإيمانيات ، والتربية العاطفية ، بل منهم ، من يريد (الميادين الجادة) ، والأدوار الباذلة ، التي تعكس نوع عقله وطبيعته ، ومهم إدراك مثل ذلك لئلا نقع في الخطأ والتجاوز .
والمدهش هنا عدم إدراك دعاة وطلبة علم لمثل هذه القضية وإصرارهم على الأحادية في التأثير والتربية ، وحرصهم على الزج بالشباب والناشئة إلى نوع واحد من المعرفة ، أو باب واحد من أبواب التأثير والفائدة وهذا مسلك غريب ، ونهج عجيب !!
متى يؤمن هؤلاء المثقفون بالتعددية الثقافية ، والتعددية في التلقي والتأثير ، وأنها قضية فطرية ، ومسلَّمة فكرية ، حيث يصعب بداهةً جر الناس لنمط معين ، أو مسلك مخصوص ، دون النظر للتفاوت الفطري والخلقي والفكري والقطري والثقافي .
ولشناعة هذه الآبدة ، أرى أنه من الضروري ، أن يحرص هؤلاء الشيوخ على تطوير أنفسهم ، وبناء عقولهم ، علمياً وفكرياً ، وأن يتصوروا المسألة الدعوية جيداً ، (وضرورة التخصص) والتفنن فيها ، وأن يدركوا سعة الإسلام ، وكثرة أتباعه وتباينهم فكرياً وثقافياً .(1/26)
ونرى أنه يجب تدريس الدعوة ، وأصولها ، ووظائفها ، وفقهياتها ، من قبل علماء دعاة ، وأساتذة هداة ، لتمارس (العملية الدعوة) في فضاء آمن ، صحيح ، خالٍ من المجازفات الفاشلة ، والأوابد المستشنعة ، التي ربما أضرت بالدعوة إضراراً كبيراً ، وحرمتها كثيراً من فوائدها وعوائدها .
وحين يشتكي بعض الدعاة من (عزوف الناس) عن العلوم الجادة . وانصرافهم إلى أشياء عادية ـ غير المرشحة لمواجهة الصعاب والتحديات ما ينبغي أن يحزنهم مثل ذلك !
بل عليهم المواصلة بالتوجيه والبيان والتفقيه ، وتنبيه الشباب إلى المقاصد المهمة ، والمطالب السامية ، وضرورة فقه (أولويات التعلم ) والعلوم الماسة للمرحلة الراهنة .
هذا هو المسلك المحمود تجاه تخبط الشباب ، أن يوجهوا إلي السبيل الأحمد والأنفع ، مع إدراك تنوع الناس ، وتباين رغباتهم .
فتح السؤال برهنة الإتقان
جميل كثرة حِلق أهل العلم وبعض القضاة ، وأساتذة الجامعات ، وحتى بعض صغار طلبة العلم ، صار لهم حلق في مجال ما يحسنون ويبدعون .
وهذا علامة انتشار الخير ، وسبيل تصحيح المسار وبوابة التقدم والارتقاء. نشاهد مشايخ يشرحون فنوناً ، ويطيلون ويمططون ، ويزيدون وينقصون ، ولكن كثيراً ما يكون في شروحهم وتعليقاتهم ثغرات تثير المستمع ، وتدعوه للاستفسار والمساءلة.
فإذا ما أراد السؤال ، زجَره الشيخ ، وقال: في آخر المجلس ، فيتكلم الأستاذ إلى أن تقوم الصلاة ، أو حتى يضيق الوقت ، فلا يبقى إلا القيام والانصراف !!
رأيت المشهد هذا ، كثيراً ولا سيما في أول الطلب حينما كنا نتردد على الحِلق في الجوامع الكبيرة ، ولفت نظري في الجامعة ، وتعجبت لماذا لا يفتح هؤلاء الشيوخ المجال للسؤال والمناقشة ولا سيما وأن العلوم الشرعية المطروحة محل تساؤل التلاميذ ، وهي مما يمس حياتهم
وعباداتهم .... !(1/27)
كان المنظر يتكرر معي كثيراً ، وكنت أتضجر من أولئك وأرى أنه نوع من الاستبداد وضيق الأفق، لأن السؤال يثري الدرس ، ويذكر الأستاذ ، وينبه لأشياء ربما نسيها ، ويحفزه للمزيد ، وكنت أعتبر فعل ذلك الشيخ ، تربية على الإذلال والاستبداد ، وتحجيم للنبوغ ، وكسر لهمة التلامذة ، وباعث على النوم والكسل ، وطريق لتراكم الإشكالات ، والتساؤلات في ذهن المستمع ، وأرى أنه خلاف السداد ، والمنهج النبوي والعلمي عبر التاريخ .
لأنه يجب أن يكون بين الشيخ والتلاميذ ، جسر تواصل مبني على المحبة والتساؤل والمفاهمة ، ولابد من تجسيد قيم الحوار والنقاش الجاد ، والبيان الجذاب ، وأدب الحديث في الدروس العلمية ، ولا يكون الحديث من (جهة واحدة) .
ومع تقديري البالغ لوجهات بعض هؤلاء الشيوخ والمدرسين ، لكني أرى أن عدم فتح المساءلة والنقاش بعد الدرس ، نوع من عدم التمكن
والإتقان !!
وإلا لماذا الفرار المطبق ، والانهزام الدائم ، والإعراض التام ، والاعتذار المطلق ؟!! حيث يستمر هذا النمط شهوراً عديدة !
ومثل ذلك ، يزهَد التلاميذ في الشيخ ، ويكشف لهم مدى إتقانه ، ويُذهب الانتماء إليه ومحبته ، ويخرس ألسنتهم ، ويمحو ما عندهم من طموح وإقبال .
ولا نرى أن ذلك مسلكاً صالحاً للتدريسُ والتفقيه، بل يجب على الأستاذ ترك مجال لحديث التلامذة وأسئلتهم ، لتدوم العلاقة ، ويَبين الفهم ، ويدرك ، العمق ، ليذعن الجميع للعلم ، ويعترف الحضور بالفائدة والانتفاع وإلا فما فائدة أستاذ في الفقه وآخر في الحديث ، وثالث في العقيدة ، ونحن نمارس إرهاباً فكرياً ، ومأزقاً تعليمياً تجاه أبنائنا
وطلابنا ؟!!
وهذه آبدة من أوابد التدريس ، لاحظتها في الجامعات وبعض المساجد ، ناسب المقام هنا ذكرها، والتنبيه عليها .
ويمكن هنا تلخيص فوائد فتح مجال للأسئلة في الدروس العلمية :
1- تربية الطالب على الحديث والمناقشة .
2- تعليمه الأدب وحسن السؤال .(1/28)
3- إثراء الدرس بالفوائد الحسان والعوائد الممتعة.
4- إضفاء المتعة والنشاط على الدرس ، وإذهاب النوم والسآمة .
5- كشف البارزين والنابغين الذين يُعتنى بهم ، ويوجهون أكثر من غيرهم .
6- تأكيد لإتقان الشيخ ، وبرهنة على تعمقه وسعته العلمية في تخصصه ، وهذا ضابط إعلان الدرس ، وتداعي الناس إليه ، أن يكون الأستاذ عالماً ومتقناً لما يتحدث فيه وإلا فلا يستعجل الظهور والبروز .
فقد قيل ( حب الظهور قواصم الظهور).
وقيل ( من تصدر شيئاً قبل أوانه فقد تصدى لهوانه).
وأيّ إهانة أعظم من أن يدرك الحاضرون ، انعدام أهليتك للتدريس أثناء الشرح، ويستيقنون ذلك بمنع السؤال ، وإرهابهم فكرياً وأخلاقياً !!
هذه بلية سامجة ، ومنكر سخيف !!
استدراك فى غير محله
حين تتحد جهود الأمة ، وتتعاضد مؤسساتها على تأييد قضية ما ، يُقتنع بها من مأخذ علمي ، واجتهاد فقهي ، أو يتداعون على إنكار منكر مكشوف ، ينبري من بين أولئك من يفت في العضد، وينخر في السقف ، بحجة الاستدراك ، أو الإنصاف التام ، والعدالة الصحيحة ، وما علم أن ذلك نوع من الإنصاف السخيف!
الذي يظهر في غير محله ، ويتجلّى في غير وقته ، ومنابذ للجماعة ، ويخدم مصالح الأعداء والمنافقين لا سيما وأن ذلك الموقف الجماعي من الأمة لا ينعقد ليبرم حيفاً ، أو يصيب غشاً للناس ، بل على العكس ، ينعقد ليجمع المسلمين، ويصيب من الأعداء ، ويكسر شوكتهم ، ويرغم أنوفهم ، فكيف يأتي بعد ذلك من يدافع عنهم ، ويصحح الموقف ، دون دراية واقعية ، وفقه صحيح بدعوى العدل والإنصاف !!
هذا استدراك شنار ، وموقف عار ، أن يتلبس به بعض من يحمل العلم ، وينتسب للعلم والثقافة !(1/29)
يزعم أنه يحق حقاً ، ويزهق باطلاً ، وقد أتى متأخراً ، ليفت في العضد ، ويخدم الأعداء ! وكان عليه ، لو صح استدراكه لتحدث مع أعلام الأمة وصانعي ذلك الموقف ، ويبين مأخذه الفقهي بعلم وبصيرة ، وليس بسذاجة وسخافة ، ويقحم ما عنده في وسائل الإعلام ، ومجالات الإنترنت ، وهو لا يدري ما يقول !
وقد يكون (غرَّه بعض الإعلاميين) أو فَتَنه بعض الشهوانيين ، فجعله يشق الصف ، ويهدهد الجماعة ، ليبطل التحالف ، ويلبس على العوام ، ويجهض المشروع ,ويبيت في قفص الاتهام الدائم وكما قيل : ومن دعا الناس إلي ذمه
ذموه بالحق وبالباطِل
ومن أدبيات تراثنا السلفي :
(إذا عجزتم عن قول الحق ، فلا تقولوا الباطل) .
وإن ذلك لشيء من الباطل ، الذي ساء قولاً وفعلاً وتوقيتاً ، حتى لو حوى حقاً ، فإن نشره دون تثبت وتشاور ، يفسد أكثر مما يصلح ، ويضر أكثر مما ينفع، ويدل بطريقة وأخرى على قلة فقه ذاك الشيخ حتى ولو كثر علمه ، واتسعت ثقافته ، لأن كثرة العلم لا يعني حيازة الفقه ، وإدراك المقاصد والغايات ، فإن هذا علم يحتاج إلى جد وطلب مخصوص ، وقليلٌ من هم الذين يبلغونه ويصيبون ذروته . قال تعالى : (وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً)…………… [البقرة:269]
تصدير الفتوى
من البدهي اختلاف الناس من إقليم لآخر ، ومن دولة لأخرى في عاداتهم وطبائعهم ، وثقافاتهم وأعرافهم ، وصار من العسير أحياناً ، طردهم على حالة واحدة ، وموقف متشابه ، واجتهاد معين .
وقد ساعد سقوط الخلافة العثمانية إلى حصول مزيد من التفرقة بين الأقطار ، وجلب فيها أدواء العنصرية ، رغم وجود الاختلاف الفقهي من القدم، وصيرورة الأمة على ذلك أحقاباً عديدة .(1/30)
وفي التراث الفقهي الإسلامي ، كان للشافعي رحمه الله اجتهاد في العراق ، فلما انتقل إلى مصر، واجه مجتمعاً جديداً ، وأنماطاً مختلفة من الحياة ، فاضطر أن يلائم الناس باختياراته الفقهية ، وابتدع مذهباً جديداً ، يستدل له ، ويقرره بالبراهين النقلية والعقلية .
وهذا هو المتبادر من كل فقيه ، ربا في بلد آخر ، غير محل نشأته الأولى، وتبين فيه أوجه اختلافات ومتغيرات .
فيا ليت بعض فقهائنا يتعلمون هذا الفقه ، ويدركون أن لكل بلد خصوصية، ولكل قطر ظروفه الخاصة ، وتمذهب كل بلد بمدرسة فقهية إسلامية ، شاهد على مثل ذلك .
لأنه يصعب تصدير الفتوى ، وتعميمها على سائر بلاد المسلمين ، لا سيما المبنية على (الاجتهاد المحض) ، وليس فيها الأدلة القاطعة ، ولا الحجج الساطعة، وإنما ترجع إلى نظر الفقيه وبصيرته ، وعمق تفكيره ، لا سيما ما يعود إلى الأدلة المختلف فيها،وبعض ما ليس بقاطع من الأدلة المتفق عليها .
لكن المشكل هنا هو ما يقوم به بعض الشيوخ من تعميم فتاوى فقهاء ، صالحة لبلد معين ! تصديرها إلى بلاد يباينهم كثيراً في عاداته وثقافته، كالبلدان العلمانية ، وإن كانت شعوبها مسلمة ، والأطم تصديرها وتعميمها على مناطق (الأقليات المسلمة) في أنحاء العالم ، مع عدم تقدير ظروفهم وانتمائهم لبلدان كافرة، وتعيش تمدناً مختلفاً، ونمطاً لا ينابذ الحياة الإسلامية ويجانبها فحسب ، بل حتى الحياة العربية التي هي مختلفة
في أقطارها !!
فيا للعجب !
إنه من الجميل والمفيد نشر فتاوى مشايخنا وتوزيعها ، لكن ليس جميلاً ولا حكيماً تعميمها للتطبيق والتفعيل في بلدان تختلف عنا عرفاً وثقافة وتقاليد ، لأن (لكل بلد ما يناسبهم) ويصلح لهم ، وكما قال الفقهاء إن الفتوى تتغير باختلاف الزمان والمكان ، وقرر ذلك الإمام ابن القيم رحمه الله في كتابه النافع الفذ (إعلام الموقعين).(1/31)
وقد قالوا في مسألة الأهلة (لكل أهل بلد رؤيتهم) كما هو الراجح المختار عند المحققين منهم
ولذلك نظائر كثيرة ، تعترفُ بتباين الناس في العادات والأعراف . فليس من الحكمة تعميم اجتهاد فقهي عليهم ، وقصرهم على مذهب معين .
ولما أراد غيرُ خليفة من بني العباس حمل الناس على الموطأ أنكر ذلك مالك رحمه الله ، واعتبره نوعاً من الحيف والتضييق على الناس ، لأن الصحابة اختلفوا ، وقد تفرقوا في الأمصار .
فما يصنعه بعض طلبة العلم من نقل فتوى مجتمع متشدد بالغ الديانة، لمجتمع منفتح ، ليس من الحكمة ، ولا من الفقه !!
وشبهه مسائل في الاقتصاد والعادات والسلوك، يرجع فيها إلى علماء تلك البلدة وهم ودينهم ، ومراقبتهم لله تعالى .
وشبيه بذلك توحيد الفتوى في (الحج) كان يستفتينا كثير من الوافدين إذا مروا بنا فأسألهم هل لديكم شيخ أو مفتٍ في الحملة ؟!
فيجيبون : نعم ! فأقول : استفت شيخ الحملة .
وكان اللغط كثيراً في مسألة الرمي قبل الزوال، والخروج من عرفة قبل الغروب ونظائرها .
والفتوى تأتي من حجاج أحناف ، فكنت أردهم لمشايخهم ، كيلا نسبب لهم حرجاً أو نوقع بينهم فتنة وخلافاً .
هذا هو ما أراه في هذا الموضوع وما يشتبه ، والله يهدينا لأحسن الفقه وأعمقه .
الحفظ والفكر
سلكت الصحوة في طلائعها الأولى العناية بحفظ الإرث ، فأوصت بحفظ المتون ، وتمام الاقتداء ، وانسحب على ذلك شدة التدين ، والمحاكاة للفضلاء ، وقد أثمر ذلك ثمرات حسنة ، وحقق نتائج نبيلة ، لكن احتف بذلك قصور حيث أهمل جانب الفكر ، والمجال العقلي وما يُسمَّى (بالتنمية الفكرية) ، التي تثبت مراحل الدعوة الساخنة حاجة الأمة لها ، وأنها في أمس ما يكون إليها .(1/32)
وقد تبين بالبرهان الواقعي شح الطاقات الفكرية، جراء ما نعيشه الآن من أزمات متنوعة ومتداخلة عن الطاقات التي تحسن تفكر وتحلِّل ، وتخرج بقناعات جيدة ، وخيارات صحيحة ، توضح للناس رؤيتهم المستقبلية ، وما ينبغي عليهم فعله تجاه ما يشاهدون ويتألمون ، وإن كان (التحليل الإلكتروني) حقق أشياء لا يمكن تجاهلها .
لقد اعتنت الصحوة سابقاً ، بتعميق التدين وبناء العاطفة الروحية ، وعمقت جانب الحفظ ورسمته في التعليم والتلقي ، وتقاعست في العناية بالفكر ، وإبراز القامات الفكرية ، والنبهاء الذين يعيشون الجودة الذهنية ، والاستقلال العقلي ، الذي ينعشه العلم الشرعي ، ويثريه التثقيف الديني ، علاوة على ضبطه وحزمه ، ودوام تصويبه وتسديده .
وهذه الآبدة ليست من إفرازات التربية المشيخية، ولا تحتويها الصحوة فحسب ! بل إنها سقم عام ، وداء شائع !
كثير من البرامج التعليمية في دول عديدة همها إبراز الحفاظ والصامدين ، دون الالتفات إلى إخراج حمالي الفكر ، وصانعي التفكير السليم ، وأرباب التحليل المنطقي المنضبط .
رغم ما أنتجه المشايخ الفضلاء ، من نتائج سامية ، إلا إنهم أغفلوا جانب الفكر ، فشح عندهم عباقرة التحليل ، ونبهاء التنظير ، الذين يحسنون تقدير الأمور ويوصفون القضية ، ويسدِّدون فقهاء الشريعة ، ويناقشون المشكلات المعقدة ، والمعضلات المتشابكة ، ويكشفون أبعاد القضايا ، ومراميها ، ومستقبلها وما يتوقع فيها, ويصدعون (بالقراءة الصحيحة) للمرحلة .
التربية بالحفظ أصل أصيل لابد منه ، لكن ليس على حساب إهمال الفكر وغلقه وإخماده ، لأن الدعوة الإسلامية تحتاج إلى العنصرين .
عنصر الحفاظ الصواعق ، وعنصر المفكرين اللوامع ، وكلاهما يكمل الآخر، ويسد خلل أخيه ، ويخدم الدعوة من خلال براعته وما يحسنه ، قد علم كل أناس مشربهم وقد يوجد من يجمع الأمرين ، لكنه شحيح نادر .
المشهور المهجور(1/33)
يمتع الله تعالى القيادات العلمية والدعوية بصفات كثيرة لا توجد في سواهم كالعلم والنباهة والجد والإتقان والقيادة والغيرة والمبادرة ونظائرها.
ومما يزين القيادات الفكرية حدة الذكاء والعبقرية وهو بديع فيهم ، لكن لانهماكهم الفكري، وتقريراتهم الشرعية لما يذهبون ، يهملون تلقيح عقولهم بعقول الآخرين من البطانة الناصحة ، والخواص الغُيُر والتلامذة النجبَة ، عبر الفقه الشرعي المهجور (الشورى الإسلامية).
المبدأ السياسي الرائع ، والقانون الفكري السديد، الذي يضفي المصداقية على القرار ، ويؤكد احترام الناس ، وتبجيل عقولهم ، والاعتراف بصغيرهم وقليلهم من الفكر والثقافة .
ما أجمل أن يكون للداعية النبيه ، والعالم الفطِن من خاصته مستشارون ، يراجعهم ، ويناقشهم ، ويستفيد من خبراتهم وروآهم .
والنبي ? وهو أكمل الناس عقلاً ، وأكثرهم فطانة ، كان يشاور أصحابه كثيراً ، وكذلك زوجاته، ومن لم يشتهر بالعلم العميق ، وكان القراء أهل مشورة عمر رضي الله عنه .
وفي القرآن يُمدَح المؤمنون : (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) .…………… [ الشورى :38]
وقال تعالى : (وشاورهم في الأمر).
[ آل عمران : 159 ]
إن قضية جلّى كالدعوة الإسلامية المتسعة الجوانب ، والكثيرة الأعباء ، تستلزم الداعية إلى الله أن يكون له مستشارون في سائر التخصصات التي تنتابه في عمله ودعوته .
وليس مستشاراً واحداً فحسب .
وهذا شكل رائق مِن تنظيم العمل . وتطويره وتحسينه ، وتخفيف أعبائه والداعية إلى الله غالباً مهتم بالعلم الشرعي ، وقد يكون بارعاً فيه ، لكن تفوته أمور ميدانية ، ومعارف في الحاسوب ، وفي الخلافات الاجتماعية ، وفي القضايا السياسية ، وعندما يفتي في الاقتصاد ! أين خبرته المالية ، يسوق الأموال ، وتحرك البنوك والشركات ، وما شابه ذلك ؟! كل ذلك يصعب عليه أن يأتي عليه مع زحمة الأشغال ، وكثرة التكليفات .(1/34)
فمن المسلك المعقول اتخاذ المستشار البارع الناصح ، ذي الخبرة والفهم والسديد .
ليكون عوناً على طلب الصواب ، وتوخي السلامة ، وحسن نتائج الثمرة ، والله الموفق .
وما ضل أبو الطيب المتنبي حين قال :
الرأي قبل شجاعة الشجعان
فإذا هما اجتمعا لحرٍ مرةً
هو أول وهي المحل الثانيِ
بلغا من العلياء كل مكانِ
الثراء التعليمي الهَش !
ينتاب بعض علماء الدعوة ودعاتها انهماك في التدريس والتعليم ، حيث تكثر دروسهم ، ومحاضراتهم ، حتى تستغرق أوقاتهم ، فيقعون في غائلة العزوف عن (القراءة المتجددة) ، وغائلة التكرار الممل ، مما يعني ضعف تأثيرهم ، وتقلص شعبيتهم ، وهذا ليس بحسن !!
لأنه مهما سما علم المرء ، واتسعت ثقافته ، ما كان له أن يقطع القراءة ، وينشغل بتدريس أصوله القديمة وخلفيته السابقة ! ولو كانت متينة !
لأن القراءة بستان العلم ومادة تنوعه وثرائه ، وبابة إجادته وإفادته ، ولا زالت الحياة تطل بالجديد والعجيب، الذي يستوجب النظر إليه والسؤال عنه .
والتكرار علامة الإفلاس إذا كثر وتكرر ، فلا بد من استدامة القراءة ، والتعرف على ما يظهر ويستحدث ، قال ابن المبارك رحمه الله : (لا يزال الرجل عالماً ما طلب العلم ، فإذا ظن أنه قد
علم فقد جهل) .
وعلى الشيخ المتحدث مع الناس أن يجعل أوقاتاً يراجع فيها علمه ، ويقرأ (المستجدات) ، ولا يرهق نفسه بالدروس المتوالية ، التي قد يشوبها التكرار ، وعدم التجديد والتحديث .
ولو اكتفى بدرس أو درسين ، يوفيهما حقهما ، وينقطع للاستزادة المعرفية، ومتابعة النوازل الشرعية، والتواصل الدعوي الآخر ، لأصابَ عينَ الفقه ، وحقَّق التوازن المطلوب .
لأنَّ الأمةَ لا تريد دروساً متكاثرة ينهشها التجوف ، ويحوطها التكرار والملالة ، بل تريد درساً عميقاً محققاً ، محرَّراً ، يواكب الحياة ، ويتمشى مع متطلبات العصر ، ويقرأ المستقبل ، حتى في العلوم الشرعية .(1/35)
وهذا هو (الداعية المتجدد المستبحر) ، الذي يدرك ضرورة استدامة التعلم، وأنه لصيق القراءة والبحث ، ولا يزال يتعلم حتى الموت ، ومع المحبرة إلى المقبرة ، لا يكل ولا ينقطع مهما كثرت الظروف ، واشتعلت الأشغال والصروف.
حضرت مرات مختلفة لبعض المناطق ، وتشوقت لحضور حلقات بعض الشيوخ ، فرأيت (جداول علمية) لبعضهم ، تستغرق أكثر أيام الأسبوع ، وتطالع فيها تنوعاً معرفياً مذهلاً .
فلما حضرتها ، رأيت الشيخ ، قد اتخذ له قارئاً، يقرأ المتن ، ثم هو يعلق بكلام إنشائي معروف ، عارٍ عن العمق والتدليل ، وحسن التقرير، وربما كان المتن المقروء أكثر من المنطوق من المتحدث ، وهذا شيء عجيب !
ثم هو يصنع نحو ذلك في بقية دروس الأسبوع، وقد أرهق نفسَه بالحضور والمواظبة ، ويتناولها بالشكل الموصوف المكرور حيث لا عمق ولا تحضير ، ولا تجديد ، ولا رصد للمستجدات والمطالعة الجديدة !
وإنما يكتفي ببنائه القديم الرصين ، وبلسنه الحاذق المنطلق .
وفي نظرنا هذا لا يكفي لخدمة الدعوة ، ولا تطوير العلم الشرعي ، الذي ينبغي أن يغص في جوانب الحياة الإنسانية ، وأن تكون شريعتنا الغراء مخرجاً لكثير من المشكلات والمآزق الحديثة .
ولهذا لن يتأتى للعالم الشرعي الإسهام في ذلك إلا بمواصلة القراءة ، وتنظيم الجهد ، وتوزيع الطاقات ، والتواصل مع النوازل ، والتعمق في دراستها ، والإعداد التام في الدروس ، وملامستها للواقع المعاش .
وذا هو الفقيه الذي تبحث عنه الأمة ، وبه تستطيع تجاوز التحديات ، وتحقق مقاصد نبيلة منها :
1- تجديد الفقه ، وتطويره بحيث يصير وافياً بمتطلبات العصر .
2- تطوير العلم الشرعي ، والخروج به عن التقليدية الناقصة .
3- حل المشكلات المعاصرة ، وما يسمى بالنوازل المتعاقبة .
4- تربية الأجيال على مسلك صون التراث مع فقه الواقع المعاش ، بحيث يحافظ على القديم ، ولا يهمل الجديد ،وهذا هو المسلك الحق الصحيح .(1/36)
فلا يُتنكر للتراث الإسلامي ، فيأسن الفقه ، ويفقد أصالته ، ولا يُطرَح الجديد ويهجر فيتعطل الفكر ويحصل الجمود ، بل يُجمع بين (الأسلوبين)، بالضوابط والقيود ، التي تحفظ لنا جوهر التراث ، وترقيه لاستيعاب العصر ، ويؤخذ من الجديد الأنسب والمستحسن ،
والله الموفق
تفعيل الدرس
من الجسور الممدودة بين العالم والناس ، وبين الشيخ وتلامذته الدرس المنعقد للتفقيه ، والمحاضرة المعتادة ، ومن الغلط تصور بعض الأشياخ أن علاقتهم بالناس مجرد إلقاء (كلمات علمية) ، وتلك النصائح التربوية في مدة معلومة ثم الانصراف إلى بيوتهم ، والعكوف على أشغالهم ومصنفاتهم !!
كلا ! ليس هو كذا هو (العالم المربي) ، ولا الشيخ النابه ؟!!
إن ذلك القدر المبذول في الدرس ، قد لا يحقق الرسالة التربوية المتكاملة ، ولا يحسّن العلاقة المتواصلة بين الشيخ والتلاميذ !
لذا لابد من تفعيل الدرس ، ليأخذ مجالات أوسع من العلاقة مع الحضور ، ويحسوا بأهميتهم ، ويدركوا بأنهم المخاطبون وليس غيرهم !
ومن صور تفعيل الدرس ما يلي :
أولاً : أن يُشرِكَ العالم الناس في اختيار (عنوان الدرس) ، والموضوع الذي يتحدث فيه ، والظاهرة المراد حَلّها ! أليس الدرس لتعليمهم ، ولعلاج أخطاء فيهم، ولنفعهم ؟! فأشرِكهم في الاختيار ، وفي ذلك من الفوائد ما لا يخفى .
والعالم الذي قرر دروساً في العقيدة أو الفقه ، اجعل التلاميذ ، يختارون الكتاب إذا كان لهم دراية بذلك ، وفي ذلك من إقامة الحجة عليهم فيما لو حصل التقاعس والتقصير مستقبلاً ، كذلك يجسد الشورى وينشر قيم الحوار والنقاش والمفاهمة والمشاركة .
والداعية ذو الدرس التربوي بإمكانه ، أن يتواصل مع الناس بطرح لقاءات مفتوحة ، وجعل صناديق في المسجد ، لإشراكهم في الموضوعات وما لديهم من مقترحات تطويرية .(1/37)
وكذلك بإمكانه بعد أشهر من الدرس ، أن يوزع الاستبيانات وهي وسيلة حضارية لكشف انطباعات الناس حول الدرس ، ومستوى قوته وجودته ووقته وملاءمته للناس ، وتلبية لحاجاتهم ، وينبغي جعل فقرة حول مآخذهم للدرس، وتناول ذلك بكل (مصداقية وشفافية) ورحابة صدر ، حتى يحصل النضج والتصحيح والارتقاء .
ثانياً : تواضع العالم في طرحه وخفض جناحه للحاضرين كما قال تعالى : (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) [ الحجر : 88 ] ، وذلك بحسن الألفاظ، وطيب الكلام ، والبسمات الآسرة ، والثناء المحمود، وتكريم المحسن ، والتلطف مع المخطئ .
ومن تواضعه : سؤاله عمّن تخلف ، والإحسان للمعسر والمحتاج ، وعيادة المريض ، وإرسال السلام ، والدعاء للمسافر بالحفظ والإعانة .
ثالثاً : فتح مجالات لسوآلاتهم ، واستفساراتهم والسماح لهم بالحوار الجاد وبحث المسائل الشائكة ، وتتبّع قضية ما ، وتحقيق نسبة قول لعالم ، أو ترجمة نائية ، وهلم جرا .
رابعاً : التفرس فيهم بالسؤال ، ودقة النظر ، لانتفاء نوابغهم ونبهائهم , لتخصيصهم بمزيد العلم والتوجيه والرعاية ، وجعلهم كقاعدة رئيسة ، وبُنية تحتية للدرس ، فيما لو تقاعس العامة ، وتقلل الحضور ، ولإعداد رجالات الدعوة القادمين، وسادات الفكر المتطلعين .
خامساً : فتح أبواب الزيارة لهم ، وعدم التجافي والانغلاق عنهم ، لأن في ذلك مزيد حبهم للعالم ، واتساع صدورهم له ، لقبول كلمته وتوجيهه، واحترام علمه ونصائحه . وتعزيز لوحدة المنظومة العلمية ، ونوع من ضبط الشباب وحماسهم ، بحيث يصير الشيخ المعلم منارة توجيه الشباب ، ومحل نصحهم .
إن تباعد العالم عن الناس ، وعن تلاميذه خاصة ، لا يوفر له الدعم الاجتماعي والوقائي ، ويوسع الفجوة بينه وبين العامة ، ويجعل منه مجرد ناصح ومتحدث ، ليس بينه وبين من يخاطب أدنى أواصر أو علائق ، وهذا مما لا يسوغ أن يسلكه الشيوخ والفضلاء !(1/38)
كيف نعد لتربية الأمة ، وكيف ننطلق من الدروس والمحاضرات لمشاريعنا الضخمة ، وأعمالنا المرتقبة ، ما لم نحرص على تفعيل الدروس ، وجعلها محطات فاعلة للتربية والبناء والإعداد ؟! وإلا فإنها لا تختلف كثيراً عن الكتب والفهارس ، التي يتردد عليها الشباب من حين لآخر، لا يجد فيها عاطفة ولا انتماء ولا يحمل إليها مشاعر وانطباعات .
لابد أن نتجاوز بالدروس العلمية وحلق الشيوخ عن أدائها التقليدي ، وأن تكون منارة اجتماعية متماسكة ، ومؤسسة خيرية متلاحمة ، تحقق وحدة المسلمين، وترعى فقيرهم ويتيمهم ، وتحفظ كيان العالم وتصون علمه ومقداره .
اللمسة الاجتماعية
الشيخ المدرس ، والقائم بمجالات إصلاحية ، كثيراً ما يخلد للانعزال ، والانزواء للتحضير والإعداد ، وديمة القراءة (وتقييد التأليفات) ، حتى ينسيه ذلك السؤال عن تلاميذه ، والقيام بمصالحه ، والسلام على أهل حيّه !
وهذا قد يكون نوعاً من الجفاء ، وشكلاً من السلوك الذي ينتقده الناس .
ولتلافي مثل ذلك ، وإحداث التأثير والتفعيل للنشاط العلمي والدعوي ، لابد للداعية من لمسة اجتماعية ، (وتواصل شفيق) ، يُنبئ عن سمو خلقه وتواضعه، وصدق محبته ، ورعايته لإخوانه المسلمين .
فنحن مع انقطاع الشيخ للتدريس ، وإعداد المحاضرات ، ونحن ضد انفتاح العالم اجتماعياً بدرجة تُذهب هيبته ، وتضعف عطاءه العلمي والفقهي ، وندعو المشايخ الأجلة إلى لمسة اجتماعية معتدلة ، تنبئ عن قربهم من الناس ، وحرصهم على التلاميذ ، بالسلامة ، والزيارة ، والعيادة أحياناً، ودوام التبسم ، وألوان الصفاء والتشجيع .(1/39)
يصعب على الشيخ أن يزورَ جميعَ الناس ، وأنْ يعودَ كل مريض ، وأن يحضر كلَّ عزاء ، وأن يشهدَ كل وليمة ! لكن يستطيع بلمسة اجتماعية، وبحكمة دقيقة أن يُبين للناس مساره ، وفي خلال ذلك لا يهمل تحيّن الفرص المناسبة ، والمعالجة وقت الفراغ ،وبعث السلام مع الأحبة ، والاستغناء بالجوال لإيصال معان معينة ، وبعث رسائل خاصة.
وهو ما نقصده هنا (باللمسة الاجتماعية) ، ومع ذلك فإنه لا ينسى الاعتذار لفضلاء الناس ، من دعواتهم المتعارضة مع دروسه ونشاطه ، ليشعرهم باحترامهم فيكسب ودهم ولو لم يحضر ، ويقدرونه على ما يبذل ويقدم ، لأن مثله وقد أدرك الأنام نشاطه يعذرونه ، ويغفرون له خلله وتخلفه .
أما (الانقطاع الحاسم) الذي يمارسه بعض طلبة العلم بحجة استغلال الوقت، وإعداد الدروس ، وبناء النفس ، فهذا بلا ارتياب ، هو خلاف المعقول ، ومباين للهدي النبوي ، ولا يبارك للداعية نشاطه ، ولا يفعّل كلمته لدى الناس ، لأنه جلْبَب خيره (بجلباب السلبية) والانقباض ، والناس لا يحبون مثل ذلك .
نحن لا ندعوك إلى الاندماج المذموم ، لكن ندعوك إلى التواصل الاجتماعي بلمسات مؤثرة ، وومضات معبرة ، وبسمات آسرة ، تبني مع الناس جسوراً من المحبة والوئام ، وتقعِّد لخيرك وعلمك وكلمتك الصادقة .
إذا كنت ممن يحسب لذلك حسابه ، ويهتم بما بعد التأثير ، وليس مجرد حشد الكلمات ، ورصّ الخطابات ، وكشف الغلطات ، كما قد يتوهمه بعض الشيوخ ، الذين لتدريسهم العلمي سنين عدداً ، ولم تقدم رسالتها التربوية ، ولم تحقق مشاريعها المرغوبة ، ولم تبنِ قاعدة الانطلاق والإصلاح والتغيير .
فتأمل أخي مثل ذلك ، وعش مع الناس معلماً محباً ، وأخاً رحيماً ودوداً، لتغرس لكلماتك زهرات يانعة ، يحرسها الناس لك ، ولو أهملتها ، أنت المدد الطويلة.
التعمق الشرعي ليس حيازة كل شيء(1/40)
لا ارتياب أن تعلم العلوم الشرعية ، والإبحار فيها منية الأنفس ، وغذاء الأرواح ، ومطلب الأنام، والناس من أهل الإسلام يتداعون إلى ذلك ، ويُهرعون إليه مستشعرين فضل (وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً) [طه : 114 ]
ومتذكرين (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ) [ المجادلة : 11 ].
ولا يغيب عن أذهانهم قوله ? : (طلب العلم فريضة على كل مسلم) حديث حسن .
فإذا جاز الشيخ جوهرَ العلم الشرعي ، وبرَع فيه ونصعت ثقافته ، وبز فقهه ، تصور بعضهم أنه يجوز له (الكلام في كل شيء) ، فربما استعجل الفتاوى التي لها علاقة بالطب ، أو السياسة ، أو الاقتصاد ، أو الاجتماع ، دون الرجوع لأهل الاختصاص ، وهذه (آبدة سيئة) ، ويضاعف من سوئها ، تأفف الشيخ من السؤال والحرص على التعلم ، والاستيضاح من أهل الصنعة ، وهذه مشكلة أخرى !! .
إن علم الشيخ بالشريعة لا يعني حيازة كل شيء ، بل لابد له من القراءة في الثقافة العامة ، (للمعرفة الأولى) ومن ثم الرجوع للمختصين في المجالات الحياتية والكونية ليخرج بالرؤية الشرعية المنضبطة ، لا سيما وأن النوازل في عصرنا هذا تتكاثر ، والأحداث تتوالى ، وبات من المهم استعلام رأي المختص ، وليس الجاهل المتكلف .
ورجوع الداعية الفاضل إلى أهل الصنعة نوع من احترام عقله وعلمه ، واعتراف بجهود الآخرين، وجعلهم في إطار استقلالهم الثقافي ، ونبوغهم العلمي. ثم إن هؤلاء المستبحرين في العلوم الطبيعية والحديثة ، هم يخدمون الإسلام ، ويقدمون لأهله الاستغناء عن الآخرين ، بقدر نواياهم ومثابراتهم .
وما ضعفت الأمة إلا بسبب نظرتها الدونية لتلك العلوم ، فيجب علينا العناية بها وتوجيه الأكفاء إليها، وإعطاء أهلها شعوراً بالتوقير والمكانة ، وأن الأمة تحتاج إليكم فجدوا وثابروا رعاكم الله .
التجدد لا التبدل(1/41)
الفكر الإسلامي ليس جامداً ولا متحجراً ، بل إنَّه ثر متجدد ، يعيش عصره، ويخدم المصلحة الشرعية أينما كانت .
أصوله ثوابت لا تتغير ، أما فروعه ، فإنها تتجدد بتجدد البيئات والأحوال كما هي نظرة فقهاء الشريعة ومفكري الأمة .
ليس عيباً أن يتجدد نظر الفقيه ، وأن يتطور فقهه من خلال العمق الشديد في الشريعة ، والظفر بمزيد من النصوص الشرعية ، وحسن تطبيقها .
لكن العيب أن يتبدل الفقيه ، وأن يسيء قراءة المسألة ، وفهم المرحلة ، ويأتي باجتهاد منكوس لا يخدم ديناً ولا شريعة ، ولا يقيم له من الأدلة ما يسوغه وتسعفه ، وهذا ما سُمي هنا (بالتبدل).
جاء في خطاب الخليفة عمر رضي الله عنه لأبي موسي الأشعري رضي الله عنه قوله :
(لا يمنعنك قضاءٌ قضيتَه بالأمس ، فراجعت فيه اليوم عقلك ، وهُديت فيه لرشدك ، أنْ ترجعَ إلى الحق ، فإن الحقَ قديم ، ومراجعة الحق خيرٌ من التمادي في الباطل) .
نعم إن مسائل الفقه واجتهادات الشريعة ، راجعة إلى خبرة الفقيه وبُعد نظره، وعيشه لتلك المرحلة ، فما رآه في سنة ما, قد يتراجع عنه في سنة أخرى ، وما اختاره في بلد قد تتغير في بلد آخر ، لسبب تلك الأسباب الحسنة التي تلاحظ في الحكم الشرعي .
وقد نظمها بعض علماء الشناقطة في بيت واحد :
يختلفُ الحكمُ بخلف المقصدِ
والشخص والحالِ ووقت البلدِ
وما أجمل أن يثبت الشيخ تراجعه ، واختياره الجديد ، في إطار علمي مقنع، تتوافر فيه الأدلة والدواعي ، لئلا يسيء الناس فهمه ، والتعامل معه.
أما التراجع الذي يعني النكوص ، والتحايل على الأدلة ، وإرضاء لأطراف مخصوصة ، فذلك ليس تجدداً ولا اجتهاداً علمياً ، وإنما هو تبدل مذموم، وتغير مأفون ، يكشفه ضعفُ حجته ، وفراره من الحقيقة ، وقلّة ظهوره ، ومواجهته للمخالفين ، واضطرابه في الحديث ، وما يلف به من هزيمة ، وركون لمنائر الدنيا والعياذ بالله .(1/42)
قال تعالى : " فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ
سَيُغْفَرُ لَنَا " .…………… [ الأعراف : 169]
وقال القاضي الجرجاني في (عزة العلماء الشهيرة ):
أأشقى به غرساً ثم أجنيه ذلةً
إذنْ فابتاع الجهل قد كان أحزما
ولو أنَّ أهلَ العلم صانوه صانهم
ولو عظَّموه في النفوس لعظما
ولكن أهانوه فهانوا ودنسوا
مُحياه بالأطماع حتى تجهما
(والتبدل الفكري) للعالم والداعية هو رجوعه عن اجتهاد أو موقف شرعي لغير مسوغ شرعي ، وإنما استجابة لهوى ، أو ليونة غير محمودة ، أو انهزام ثقافي ، أو رضوخ لضغوطات ، وإن كان هذا الأخير ، يُلتمس فيه العذر حسب طبيعة تلك الضغوطات والتهديدات .
لكن ليدرك العالم الشرعي رسالة العلم من أول خطوة يخطوها في الطلب ، وأنه عُرضة لمطالب ومآزق ، تكشف صبره وثباته على منهجه ، ومدى استمساكه بالنص والثوابت الشرعية ، وليتذكر مديح الله للمؤمنين الصادقين : " وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً " .
[ الأحزاب : 23 ]
وقوله تعالى : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ المُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ) [ محمد : 31 ] .
وإذا كان في البدهيات الإسلامية ، استنكار تبدل موقف العالم في اجتهاد دون مسوغ شرعي ، فإن المستنكر الأشد تبدل منهاجه ، وطريقة تفكيره ، وتعاطيه للقضايا الشرعية ، محفوفاً بضعف حجة ، وتقاعس فكري ، وتلعثم بياني، يوحي بأشياء غريبة، تهوِّن من شأن العالم ، وتقلل قيمته وقدره . والله المستعان.
الفقه بين السعة والتشديد(1/43)
في المعترك الفقهي تبرز مسائل خلافية غزيرة ، وفقهاء متنافسون في الوصول إلى الحق ، عبر سبقهم إلى الأدلة ، وحسن الفهم والاستدلال وهذا أمر قضاه الله لتفاوت بني آدم ، ولتفعيل نطاق العقل البشري ، حيث يظهر سعة الشريعة ، وسمو الفقه الإسلامي ، الذي يربي على التفكير وحسنه ، والتأمل والبراعة فيه ، ويرقي الإنسان في مدارك الكمال الديني والفكري .
وينبغي أن تفهم (رسالة الفقهاء الأربعة) ، وما زاد عليها من تعدد المذاهب الفقهية الإسلامية التي تنتهج الدليل ، وتتجرد في طلب الحق .
ومن وعي الرسالة الفقهية ، توسيع نطاق الفهم، واستيعاب أدبيات الخلاف ، واحترام الآراء المباينة لنا ، ومن وعي الرسالة هجران التشدد والتشديد في الاختيار وإفتاء الناس .
ولهذا قُيِّدت الآبدة هنا : وهي حرص بعض الأشياخ على التشدد والتشديد في الفتيا والاجتهاد ، زاعمين أن ذلك هو الاتباع ، وحسن الفهم ، وقفو السلف .
فتراهم في فتاويهم يختارون أوعرَ الطرق ، وأصعب المسالك ، وأشق الاجتهادات مشددين على أنفسهم وعلى الناس ، وربما كان مرد ذلك أسباباً علمياً ونفسية وسلوكية .
أما العلمية : ظواهر بعض النصوص ، المؤكدة لقضيةٍ ما ، دون الالتفات إلى صوارفها ومخارجها، ومقاصدها , والعمل بالحسم الشرعي القاطع في كل مسائل الخلاف.
أما النفسية : فميلان تلك الروح لسجية التشدد والعنت ، والأخذ بالعزائم مطلقاً ، فما يمكن جعله مكروها ، وليس فيه نص قاطع ، يقضون بحرمته . وما كان سنة فعله , وتتناوله النصوص ومقاصد الشريعة ، يُجعل واجباً مؤكداً ، وحقاً مقضياً !!
وأما السلوكية : فيرى أصحاب هذا المسلك أنه الأقوم للتدين ، وتستطيبه نفوسهم، وتحتمله أرواحهم، ويريدون تعميمه على الآخرين .
وعلى كلٍ ، فهذا المسلك وإن صحت فيه نوايا بعضهم إلا أنه ليس بحسن، لأنه خلاف الجادة ، فليش التشدد هو الدين ، بل قد يكون حمقاً وجهالة ، وتنطعا يعود بعوائد قاهرة لحامليه .(1/44)
قال تعالى : (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ) [ البقرة : 185 ] .
وقال : (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)
[ الحج : 87 ] .
ومثل ذلك التشدد الموصوف يورث الحرج والرهق على الناس .
وفي الحديث قال صلى الله عليه وسلم : (ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه) .
وقال : (إني بعثت بحنيفية سمحة) .
وقال سفيان الثوري رحمه الله (إنما الفقه الرخصة من ثقة ، أما التشدد فيحسنه كل أحد )
ومع ذمِّنا للتشدد ، وتبيان أنه ليس الفقه ، كذلك ليس التدين والفقه التراخي والتساهل المصادم للنصوص ، والمفتئت على الأدلة كما قد يظنه بعضهم .
فدعوتنا هي التوسط والوسطية في فهم الأدلة وتطبيقها ، ليس التشدد الجافي، وليس التيسير الغالي ، الذي ربما استروح ما شاء من الأدلة ، واستطعم الترخيص المطلق ، الذي لا يستند إلى ضوابط ، ولا تحده حدوده ولا حواجز .
إن المتعين على الشيخ والعالم تحري الحق بكل تجرد ، والنظر للأدلة بحكمة ، وحسن تأمل ، والحرص على بلوغ الغاية دون استصحاب مأرب مخصوص أو حاجة معينة ، أي يستدل ثم يعتقد ، وليس العكس كما نبه على ذلك الشيخ العلامة ابن عثيمين رحمه الله , حيث أبان أن المنهج العلمي (استدل ثم اعتقد) وهي من محاسن كلامه
رحمة الله عليه .
والمحصل أن التشديد ليس (مسلكاً علمياً) والتيسير المطلق ليس منهجاً علمياً. بل التوسط الذي يجري مع النص . ويراعي مقاصد الشريعة هو المسلك المأمول والمنهج المعقول .
الفتاوى الحماسية
لا يمكن لأحد أن يتجاهل الوضع المتردي ، والانحطاط المطبق الذي تعيشه الأمة العربية والإسلامية وكيف أنها دُمى في يد المحتل والمستعمر ، ولم تفلح مؤتمراتها ولا جلساتها المستعجلة في إبراز الهوية العربية ، ولا حفظ الحقوق القومية فضلاً عن تقرير إسلامية الشعوب ، أو حفظ روحانية الخلق !!(1/45)
يعني باختصار لا قومية ولا إسلامية !! ومع تردي أوضاعهم من الناحية السياسية يوغلون في القمع والاستبداد ، ومصادرة الحريات ، وصب كل ألوان القهر والإهانة على شعوبهم مما ينتج عنه ردة فعل مغايرة ، تتعاطف مع حوادث العنف، وزاد على ذلك عزل العلماء وإهدار مكانتهم ، ورصد تحركاتهم ودروسهم.
لا سيما وأنهم من أعرف الناس بواقع الأمة ، وأعني العالم المتجدد ، الضليع شرعياً ،
والنبيه واقعياً ، ولا يمكن أن يضحك عليه ،
أو يتلاعب بمقاصده!
وفي خضم ذلك يؤدي أهل العلم الصادقون دورهم من التوجيه والإرشاد ، والتفقيه والتصحيح .
لكن قد تنعكس ضراوة العالم المنحط على دروسهم مما ينتج عنه فتاوى حماسية ، واجتهادات ساخنة مفعمة بالغضب والثأر والانتقام دون الأخذ بقانون المصلحة والمفسدة ، ومراعاة مقاصد الشرع، وقضايا الأمة الكلية ومكتسباتها الراهنة ، نحو ما يتعلق بمسائل الحروب والجهاد ، التي حصل في بعضها التوسع، أضر بالدعوة ، ونسف المشاريع الخيرية ، وهدم كيان الأمة الصحوي ، ومنبرها التثقيفي .
إن مثل تلك الفتاوى دافعها الغيرة على أوضاع المسلمين ، وربما فرَّخ بعضها حالة اليأس والإحباط، التي تلف الشعوب المسلمة حتى بلغ نواصي العلماء والشيوخ المبثوثين في الناس ، فانعكس على اجتهاداتهم واختياراتهم العلمية.
لكن رغم كل ذلك ، لابد من مراجعة الذات ، وتمحيص تلك الفتاوى ، ومناقشة عقول عديدة لها ، لا سيما ما يتعلق بفقه النوازل والمستجدات ، والتي ما ينبغي أن تصدر إلا عن جماعات ، وليس أفراداً يحوطهم النقص والاستعجال، والقهر ،
والله المستعان .
الغضب لله ولدينه وشعائره ، مندوب إليه المسلم ويؤجر عليه ، وهو من صور التفاعل والإنكار المشكورة ، لكن الحل العلمي لابد أن يتجرد عن عاطفة هوجاء ، أو مشاعر متدفقة ، تقلل من مصداقية الرسالة الفقهية أو الاجتهاد العلمي.
ومن سمات الفتوى المنضبطة ما يلي :(1/46)
1- الفهم الشرعي ووعي الأدلة بعد الجمع والبحث
2- فقه واقع المسألة والنازلة .
3- الموضوعية والتجرد في البحث .
4- عزل العواطف عن الاجتهاد ، والتباعد قدر الإمكان عن كل مؤثراتها .
5- فقه مقاصد الشريعة ، وعدم الاستعجال.
6- أو محاولة إرضاء الجماهير على أي وجه كان.
نعم إن المسلم ليتفاقم حزناً وغماً بسبب ما يجرى للإسلام والمسلمين في البلاد العربية ، وما تقدمه الحكومات من خدمات جبارة للمعتدين ، لكن لا يعني ذلك التضحية بمكتسبات الدعوة ، والزج بالطاقات والقوى في معارك غير متكافئة لأن الله يقول : (وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ)
[ محمد : 60 ] ولا تزال الأمة بأوضاعها الفكرية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية غير مهيأة للمواجهة ولا تزال في ظرف الإعداد والإصلاح .
إن الواجب على أهل العلم وحملة الوعي أن يضاعفوا من رسالتهم التوجيهية والتربوية ، حتى تنضح الأمة ، ويكتمل الشباب ، ويرتقي الإيمان والفكر، وعندئذ يصدق العمل ، ويصح المسار .
حال الأمة أشبه إلى حد ما بحال الجماعة المؤمنة في العهد الملكي ، وقد قال لهم تعالى : (كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ)
[ النساء : 77 ] .
ومثل هذا الوضع المتدهور للمسلمين يفرض علينا كثيراً من الأناة والصبر والاحتمال والإعداد حتى لا نقع في مزالق حادة ، أو نجتر إلى مضايق مدمرة ، وتلك هي الحكمة الصحيحة .
قال تعالى : (وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) [ البقرة : 269] والحكمة يضبط فقهها بوعي النصوص ، وإدراك مكامن المصلحة والمفسدة ، وحسن التعاطي مع الحدث والواقع .
العلماء تجمّع أو شتات !
كثيراً ما تؤلف المحن والكوارث بين الناس ، وتجعلهم يتناسون أخطاء الماضي ، وإشكالات الحاضر ، لا سيما إذا أوشكهم الخطر ، وأحسوا بالهلاك المحتوم ، وبالإبادة الجماعية .(1/47)
ولعل من فوائد الحملة الصليبية الجائرة على بلاد المسلمين هذه الأيام ، أن يتقارب المسلمون ، ويجددوا إخوة الدين ، ويؤكدوا أواصر التآخي بالبذل والدعاء والتوجع والمساعدة ، والبراءة من المعتدين وأذنابهم .
ومن أولى المعنيين بذلك التقارب ، وتفعيل دوره ، وشحذ آلته هم العلماء والدعاة الذين يدركون من النصوص والأدلة ، ما يدفعهم إلى المسارعة والتطبيق، ولعلهم وقد أمضَّهم الحزن ، وآلمهم الوضع الذليل للأمة في كل المحافل ، أن يأخذوا بأيدي بعض قوة وتماسكاً ، وتناصحاً وتحاوراً .
تجتمع كل الطبقات ، وتتناقش وتتلاقى , إلا علماء المسلمين من أقل الناس لقاءاً وتحاوراً وهذا لا يبشر بخير .
لا أحد ينكر أن الأمة مبعثرة ، وقد صارت دويلات وأقطاراً ، تحتكم لنظام مخصوص ، ولها علماؤها ومثقفوها الذين هم أعرف ببلدهم ، وربما كانت لهم طرائقهم الفكرية والعلمية المختصة بهم .
لكن وقد بات الخطر عاماً ، والحرب شاملة , وقد جدت نوازل وقضايا عصرية كان لابد من اجتماع أهل العلم وتشاورهم وتنازلهم ، لذلك
فوائد منها :
1- تجسيد وحدة المسلمين وتعميق شوكتهم .
2- تضييق مسارات الخلاف المذهبي والدعوي .
3- تسهيل أسباب الدعم والمناصرة .
4- تسريع مناقشة النوازل ، وجعلها في إطار موضوعي مقنع .
5- تلاقح الأفهام والاستفادة من خبرات الآخرين وتجاربهم .
6- تصحيح بعض المسالك الخاطئة ، ونقض بعض الفتاوى الردية ، التي تفوه بها بعضهم، ونصح كل عازف ومقصر .
7- الارتقاء بلغة الحوار وآلته ، وجعله الوسيلة الصحيحة تجاه كل الخلافات والنزاعات .
8- صناعة المجتمع المدني للأمة ، الذي يحظى بالاستقلال والعزة والإرادة الحرة ، وينفك عن كثير من الضغوط والتدخلات .
9- خطوة إلى الأمام لتحسين الخطاب الإسلامي , وجعله يستوعب أطيافاً عديدة ومختلفة .(1/48)
فمن يتأمل هذه الفوائد والمكاسب ، من تقارب أهل العلم والشيوخ لا يتضعضع في إجابة الدعوة وتعزيز الأواصر ، والمشاركة بالنصح والفائدة .
قال تعالى : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) [ التوبة : 71].
وولاية أهل العلم بعضهم لبعض ، يجب أن تبرز كصورة جليلة وسامية , في ظل تفكك الأمة وانفصام إرادتها ، وخواء قضيتها !
إن المحزن في هذا الإطار ، انعزال بعض الشيوخ ، وتعمد بعضهم المنابذة والمخالفة ، وكسر كل وحدة وتضامن مشروع ، أو تحذيره من بلد معين أو شيخ مخصوص ، غير مبال بتلك المكاسب، وابتهاجه بدروسه المحدودة ومؤلفاته الناقصة ، ويعد مثل ذلك هو الإنجاز والإنتاج !!
لا أدري كيف سرى هذا التوهم في عقول بعضهم , واستهان بجهود الآخرين، ونقم على اجتماعات المشايخ وحواراتهم ؟!!
وبات يتحرك في ميدان الشذوذ والركض خلف المذموم دون فقه لمقاصد الدعوة الإسلامية وإدراك لأهمية الوحدة والاجتماع .
ألم يقل الله تعالى : (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)
[ الشورى : 38 ] .
وهل هناك أمر أجل من إيجاد حل لأزمات المسلمين الكبرى ، والحرص على كبح جماع مشكلاتهم ورزاياهم ؟!
إن دور أهل العلم والدعاة لا يكون فاعلاً إلا بأمور:
1- ضرورة اجتماعهم وتقاربهم ، واغتفارهم لأخطاء بعض .
2- التواصل في خطوط عامة ، والحرص على تدعيم المصالح العامة والأصول الكبرى .
3- كسر حدود الوطنية والقومية وأسباب العنصرية ، التي ربما تكون سبباً في تباعد بعضهم عن بعض .
4- إدامة الحوار العلمي والفكري بين دعاة الإسلام ومشايخ الدعوة عبر كل الوسائل المتاحة كالدوريات والاجتماعات ، والمراسلة عن طريق البريد والإيميل والهاتف .
5- ترك القضايا الهامشية ، والفرعية ، والنفسية التي يقيم لها بعضهم وزناً ، مما قد يضر
في مقاصد الاجتماع ، ويفسد ما له حصل التجمع والتشاور.(1/49)
6- تعزيز الاستقلالية في التجمع ، والبعد عن كل المؤثرات ، التي توجه المسار ، وتخلخل المقصد ، وتشوش الرؤية .
إن شتات الشيوخ وتفرغهم صورة من ذهاب دورهم ، وتضييع واجبهم ، وهو سبب رئيس في ضعف الأمة وانهيارها ، وبلوغها الهوان الذي تعيشه ، والذلة التي تستطعمها ، والله المستعان .
تغييب الاقتداء
الدعوة إلى الله قول وعمل وتطبيق ، ولكن لما كان القول أسهل الأساليب ، وأخفها على الأنفس ، وليس فيه ثمة جهد كبير تصدى له الجميع ، فزخرت المواعظ، وتكاثرت الخطب ، وتصاعدت الانتقادات والتصحيحات .
وإذا مورس العمل في زعم بعض الأشياخ ، مورس حيث يكون مسانداً للقول وداعماً له في وقته والظروف المحيطة به .
أما دعوة العمل (القدوة الحسنة) وظهور كل تلك المواعظ ، المحاضرات كسلوك عملي في حياة ذاك الشيخ فهي التي تجاهلها كثيرون ، وتناساها فئام فأضعف دورهم وتأثيرهم .
يتحدث بعضهم عن زيادة الإيمان ، وتعميقه بالأوراد والأذكار ، ثم يُرى مقصراً في ورده ، غير قوام ولا صوام ، ويتناول آخر فضائل حسن الخلق ، ومحاسن الشيم ، ثم تراه في دائرتة وموطن تعامله مع الناس الفظ الغليظ ، أو كثير النقد ، والمجادلة وكأنه لم يسمع .
قال تعالى : (وَلَوْ كُنتَ فَظاًّ غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) [ آل عمران : 159 ] .
من المؤلم جداً ظهور التباين بين القول والعمل في حياة بعض الأشياخ ، إلى درجة لا تحتمل ولا تطاق !! فوجب النصح والإنكار ، وعدّ مثل ذلك آبدة مشيخية ، تستحق الكشف والبيان ، ومحاولة معرفة أسبابها .
بعض الشيوخ يرى متأخراً في صلاة الجماعة وآخر يتحدث عن الورع والزهد ، ودقائق أحوال السلف ، ثم هو يركب السيارة المترفة ، ويسكن في القصر المنيف !
ليس حراماً أن يركب سيارة فارهة , أو يسكن قصراً بهياً , إذا كان حصله من ماله الحلال لكن المشين هنا أن يتحدث عن فضائل الزهد وتذكر الآخرة ، وهو منغمس في لذائذ الدنيا !!(1/50)
لا يُدري أهذا في تام عقله ، أم يستغفل الناس ، ويكشف عواره بلا حياء؟!!
إن طول المسافة بين القول والعمل (القدوة) مضر بالعملية الدعوية والإصلاحية ، ومذهب لهيبة العالم ، وكاشف عن صدقه وإخلاصه ، ومقلل من قيمته ودعوته، وعلى نفسها جنت براقش, كما يقال.
إن شخصية العالم شخصية جليلة ، وتسمو بصدق المنطق ، وجمال الاقتداء وكرم الطباع ، ومحبة الخير والتجافي عن ملذات الحياة ،
وآفات الزهرات .
قال تعالى : (وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلاَ يُلَقَّاهَا إِلاَّ الصَّابِرُونَ) [ القصص : 80 ] .
لما سُئلت عائشة رضي الله عنها كما في صحيح مسلم عن خلق رسول الله قالت : (كان خلقه القرآن). أخرجه مسلم في صحيحه .
هذا هو الاقتداء التام ، وتلك هي القدوة الحسنة، المعنى أنه يمتثل توجيهات القرآن ويعيشه
سلوكاً وتطبيقاً .
وليس هو مجرد حافظ له ، يتلوه آناء الليل وأطراف النهار ، دون وعي له ، وعمل به في كل شئون الحياة .
إن حامل القرآن يتصف بالصدق والصبر وحسن الخلق ، وحفظ اللسان ، والأمانة وحسن السمت ، والتواضع ، وكل مكرمة يعظمها القرآن ، أو منقصهة كشفها وقبحها .
فأين أنتم يا حملة القرآن ؟!
إن أهل العلم هم أولى الناس بحمل القرآن ونشره وتدريسه في الناس .
قال تعالى :
(بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ) [ العنكبوت : 49 ] .
فيا من استودع القرآن صدره ، أبرزه في جوارحك وسلوكك ، حتى تحيا به الحياة الصحيحة، وتؤسس قاعدة القدوة ، وتجعل لعلمك عاقبة ونماءاً وأثراً ، ينعكس على الناس وذلك نوع من التربية المستقيمة , التي تؤثر وتنفع أكثر من كثير من المواعظ والخطب .
وليعلم أن من مساوئ تغييب الاقتداء من الحياة العلمية والدعوية ما يلي :
1- ضعف أثر الداعية في الناس ، وزهدهم فيه ، وفي علمه .(1/51)
2- الإحساس بالألم عندما يرى أفاضل الناس متناقضين لأحاديثهم ، والله المستعان .
3- غياب العلماء العاملين ، والقدوات المؤثرة في الحياة العملية .
4- تخبط الشباب والعامة ، والشعور بالإفلاس التربوي والتوجيهي .
5- إضعاف سلطان العلم ، والتقليل من شأن أهله، وإنهم مجرد علماء لسان ، وليسوا علماء جَنان، وفي الحديث قال صلى الله عليه وسلم ( إن أخوف ما أخاف على أمتي كل منافق عليم اللسان) أخرجه أحمد والبيهقي في الشعب عن عمر رضي الله عنه . إن من أبلغ الأخطاء الفادحة ، أن يتهاون بعض الأشياخ في مسألة القدوة ، ولا يعطيها حجماً دعوياً ، وثقلاً تربوياً ، مع أنها أبلغ في ترسيخ المثل ، وتقعيد الأخلاق من كثير من الكلمات الممططة، والأحاديث المزخرفة .
قدسية النص أم قدسية العالم ؟!
النص هو الوحي المنقول عن الله أو رسوله صلى الله عليه وسلم ، وحقه الإجلال والاحترام والعمل ، إذا صح طريقه , وكانت دلالته قطعية .
العالم هو المتفقه في النصوص ، والمشارك في فهمها ، واستنباط الفوائد ، وحشد التعليقات عليها .
فالمخصوص بالقدسية والاهتمام هو النص والدليل , أما العالم فهو بشر يصيب ، ويخطئ ، وقد يغرب ويخلط ، ويأتي بآبدة عجيبة !
المهم هنا أن تُدرك مكانة النص ، ومكانة العالم لأنه في بعض البيئات الدعوية ، يجعل الشغف بعالم أو داعي إسلامي يستدل بكلامه وبأفهامه في كل مسألة أو قضية ! وإذا استشهد به أو ذكر اسمه حصل القبول والتسليم مع أنه ليس نبياً ، ولا معصوماً من الزلل ، لكن كما قيل : (ومن الحب ما قتل) وعندما يقتل التصور العلمي المنضبط ، تشوش الرؤية ، ويجعل قول العالم دليلاً ، ورأيه
حجة ، واسمه برهاناً لا يفاصل فيه .
وربما صودم بآرائه الأدلة !!(1/52)
وفي ظل الشغف به ، ومحبة تراثه ومؤلفاته ، يُرفض الرد عليه ، وتعقبه في مسألة علمية ، وكأنه لا يجوز محاورته ولا مناقشته ، ويعد الجهال من هؤلاء أن الرد على أئمة قضوا نوعاً من سوء الأدب ، والتطاول المفضوح .
مع أن الردود إذا أُخلص فيها ، وصحت المقاصد والضوابط ، لا دخل لها باحترام العالم وتوقيره ، لأن محبة العالم شيء آخر غير
الرد العلمي .
فلم يزل العلماء يرد بعضهم على بعض ، ويبقى الوئام والتحاب شيئاً مركوناً في الأنفس لا تنقصه الردود والتعقبات .
إن قداسة العالم تعني حبه وتوقيره ونشر تراثه، وليس خلع العصمة عليه، وجعله في مرتبة سامقة محروسة فوق مستوى النقد والمساءلة .
إننا بخلع العصمة على بعض الشيوخ والحفاظ، نقرن تراثهم بالوحيين ، ونصحح الأغلاط ، ونوسع حجم الممارسات الخاطئة ، ونصدرها على أنها الحق الأكمل ، والصواب المستحسن !
أضف إلى تضييق نطاق التفكير ، وحد مسارات التجديد الملائمة للشريعة ، والبقاء على التقليدية المتأخرة عن العصر .
إن محبة العالم شيء آخر غير نقد تراثه وتعقب آرائه واجتهاداته ، وليس نقده نوعاً من التهجم عليه أو بخس حقه !!
بل حقه محفوظ في القلوب ، ومشاعر الإجلال له ولأمثاله لا تنقص أبد الآباد ، ففي الحديث (ويعرف لعالمنا حقه) .
وقال تعالى : (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ) [المجادلة : 11 ] .
يقول مالك رحمه الله (كل يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر صلى الله عليه وسلم). فلا قدسية ولا عصمة لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى الخلفاء الأربعة الراشدين ، لا عبرة بقولهم إذا خالف النص الظاهر الصحيح.
وإن كانت سنتهم ابتداء محل إجلال واهتمام من عموم المسلمين لقوله في حديث العرباض بن سارية (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين
من بعدي) .
اللين وليس الانهزام(1/53)
مبدأ اللين في الدعوة والتعامل مبدأ إسلامي سام، يتمشى مع يسر الشريعة وسماحتها واسترحامها للخلائق .
قال تعالى : (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) [ طه : 44 ] .
وقال تعالى : (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ) [ البقرة : 185 ].
وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : (إني بعثت بحنيفية سمحة).
ولما بعث معاذاً وأبا موسى إلى اليمن قال لهما: (يسرا ولا تعسرا ، وبشرا ولا تنفرا ، وتطاوعا
ولا تختلفا).
ومنهج الله عز وجل هو المنهج النبوي الذي سلكه رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعليم الناس ودعوتهم وإفتائهم ، لما فيه من كسب القلوب، وامتلاك النواصي ، واستجلاب الأشداء .
قال تعالى : (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظاًّ غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)
[ آل عمران : 159 ] .
ومع مدحنا للين وتشجعينا له ، لا يعني ذلك مصادرة الحزم والشدة ، أحياناً حسب طبيعة الموقف والحال ، ولا يعني صدور الفتاوى المنهزمة ، وتأليف البيانات الانبطاحية ، والتي تحاول أن تسوق سماحة الإسلام ، ولين خطابه ، بدعوى دفع التهم ، وصد النقم المتوالية من أعدائه ! بل لابد من تفهم المنهج في ذلك ، وأن اللين ليس انهزاماً ولا ضعفاً وخوراً ، يحط من سمو الشريعة، ويتلاعب بأحكامها ، ويكيف تشريعاتها حسب المواقف والأحداث .
من المؤلم هنا أن يسيء بعض الدعاة التعامل مع اللين وأدبياته كأسلوب ينتهجه للإصلاح .(1/54)
فلا يُرى إلا مسهِّلاً ، وليناً في كل شيء ، حتى إذا انتُهكت حرمات الله ، سلا نفسه بالحكمة ، وتذرَّع باللين المهين ، وربى الشباب على الليونة المستكينة ، وحرمهم من المعاني الجادة ، وترفق بهم في غير مواضع الرفق ، وجعل منهم أصداء لمشروعه الاستضعافي الذليل ، الذي قد لا يخدم المصلحة الدعوية ، بل يكاثر من أعدائها ، ويريهم انهزامية الدعوة ، وضعف حملتها ، وأنهم لا يحسنون إلا الضعف المطبق ، والمذلة المستدامة .
وهذا منهج مرفوض بهذا الوصف !!
لأن الله تعالى يقول :
(فَلاَ تَخَافُوَهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)
[ آل عمران : 175 ] .
ويقول : (وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا)
[ آل عمران : 146 ] .
ويقول (أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ) .[ المائدة : 54 ] .
فالذلة والاسترحام إنما تكون بين أهل الإيمان ، وتمارس مع بني دينك الذين هم أولياؤك ، ومحل نصرتك ودعمك .
أما الكفار البغاة ، فإنهم لا يعطون ليننا في ظل اعتدائهم علينا ، وسلبهم لثرواتنا بل يجب صدهم ، وردعهم ،وكشفهم للأمة ، وإصدار الفتاوى الصارمة في حقهم ما دام أنهم معتدون .
وتنزيل بعض الدعاة آيات الإحسان والترفق العامة في حق الكفرة المعتدين، من أقبح الفقه ، وتبديل للشريعة ، وتلاعب بنصوصها .
نحو قوله تعالى : (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً)
[ البقرة : 83 ] .
كما قال عز وجل : (وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَتِي هِيَ أَحْسَنُ) . [ الإسراء : 53 ] ونظائرها .(1/55)
والنص الفيصل في ذلك ـ لو تفقه هؤلاء ـ هو قوله تعالى : (لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوَهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)
[ الممتحنة : 8-9 ] .
ففقه هذه الآية يجلى لنا كيفية التعامل مع الكافرين .
وثمة شيء آخر يمس المسلمين ، حيث ربما تطاول بعض العتاة والسفهاء من أهل الإسلام على بعض الشعائر, فهؤلاء قد لا يكون من الحكمة خفض الخطاب وتليينه معهم . بل لابد من الحزم والصرامة معهم حتى لا يُفتح الباب ، ويتلاعب بالشرع ويكثر الناقدون ، ويستخف بالشريعة .
لأن الشريعة المطهرة ليست كلاماً بشرياً خاضعاً للنقد والتفكه ، بل هي وحي رباني من استهزء بشيء منها ، فحكمه في كتاب الله :
(وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) [ التوبة: 65-66 ].
هذا من حيث الأصل والمفهوم العام , وإن كانت ثمة تفاصيل ليس المجال مجال بسطها هنا :
لكن المتعين قوله هنا ، أن المتهكم بالشريعة لابد من زجره بالبيان الحاسم، والفتوى الملتهبة التي تكشف خطورة ما أقدم عليه ، وأنه على شفا هلكة . والله المستعان .
وليس قولنا (فتوى ملتهبة) الانجرار نحو العواطف وإطلاق التهم والشتائم بلا مسوغ ! وإنما المقصود الاستناد للعلم والحجة ، ومحاكمة الخصم إلى أقواله وكتبه ، وبدوّ روح الاعتزاز والغيرة على سياق البيان أو الفتوى الصادرة .
قال تعالى :(1/56)
(ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى القُلُوبِ) [ الحج : 32 ] .
وقال أحمد في وصيته لبعض من سأله في الفتنة : (أُعز أمرا لله يعزك الله) كما هو مذكور في ترجمته في الآداب الشرعية .
والغضب لله ، لابد أن يقترن بالعلم ، وحسن سياق الحجج ، وعدم رمي الكلام على عواهنه ، لا سيما في تسجيل المواقف الشرعية ، والنقدات العلمية تجاه أشخاص أو أحوال أو كتب وتصريحات ، والله الموفق .
لا نريد أن تتلاعب العواطف بمواقف العالم لا ليناً ولا غيره ، بل يجب الاعتدال والقصد ، وتسديد الكلمات بمقتضى الحكمة الشرعية ، والحجة العلمية، التي تقطع لسان كل ناعق ، وتذيب تخرص كل ناقد .
لأن الشيخ والداعية ليس كآحاد الأمة الذين لا يحسب لهم حساب !
إن العالم يُحفظَ كلامه ويُنشر ، وسرعان ما يُتلقف ، ويجعل منهجاً يُسار عليه لا سيما من قبل العامة ، والتوقي مطلوب ، والتريث محمود ، مع استيقان أن الدعوة في حرب فكرية مع خصومها الكافرين وأذنابهم من أرباب الخيانة ، والنفاق الذين قال الله لهم فيهم :
(هُمُ العَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ)
[ المنافقون : 4 ] .
الإعلام إبراز وابتزاز
نظراً لاتساع وسائل الإعلام ، واشتداد مؤثراتها، أدرك بعض المشايخ مؤخراً أهمية البروز فيها ، واستغلال نوافذها لإيصال الحق ، وبيان السبيل ، وتعليم الناس .
ولا يمكن لأحدٍ ، متعه الله بذرة من عقل وبصيرة ، أن يتجاهل الدور الحيوي الذي تؤديه وسائل الإعلام في غسل أدمغة الناس ، وسلب عواطفهم ، أو تصديقهم ذات اليمين وذات الشمال .
ولو قدر لهذه الوسائل أن تحتل مكانتها السامية، وتؤدي واجبها الشرعي والأخلاقي لأسهمت في نشر الخير ، وتثقيف الجيل ، ودحض الباطل ، وحفز الهمم ، وصناعة الإنجازات ، لأن خيراتها ومحاسنها لا تقف عند حد أبداً ، فهي ترن كل سمع، وتدخل كل بيت ، وتتسع يوماً إثر يوم .(1/57)
ولكن من المؤسف أن هذه الوسائل في غالبها لا تخدم الإسلام ولا قضاياه ، وتسلك المسار المضاد لمقاصد الإعلام الهادف ، وتعتمد تضليل الناس ، وصرفهم للمتع واللذائذ والشهوات ، وتصوير أن هذه الحياة موطن تذوق ولذة واستمتاع فلا تفوتك محاسنها ، ولا تتجاوزك مفاتنها وزهراتها !!
يعني باختصار مسلك علماني صريح ، لا يعنيه الدين ولا خدمته ، ولا نشره ، ولا يحمل فكراً ولا خلقاً !!
إلا إذا استثنينا التضليل والتجهيل والتعمية ، وخلق الاختلاط والسفه ، ووسائل الختا والفجور .
هذه سمة الإعلام العربي المنوع الذي يعتمد صنوف الترفيه والتسلية .
أما من الناحية الإخبارية ، فالقنوات الإخبارية شحيحة جداً ، ولا يمكن الاعتماد على شيء إلا على قنوات محدودة ، سمَت إلى حدٍ ما في
هذا الباب .
وعمدت إلى مسلك الموضوعية والتثقيف الصحيح مع الحرص على هوية الأمة العربية ، والتفاخر بمقدراتها ومكتسباتها إلى حد كبير .
في ظل هذا الغش الإعلامي ، وأدائه لرسالة معينة لا تخدم إلا مصالح رديئة ، تستشعر الدعوة الإسلامية تأخرها ، وأنها في حاجة ماسة إلى الظهور والمشاركة ، لكن لشح الإمكانات ، وضعف الواردات وأسباب تضييقه ، وأخرى ليس هذا موضع ذكرها ، لا يستطيع الدعاة الظهور في قنوات مخصوصة ، تضاهي الاتجاهات الأخرى ! فهي لا تزال متأخرة كثيراً وإزاء ذلك يعمد بعض الدعاة إلى تلبية دعوات القنوات الفاسدة ، أو العلمانية ، التي ليس لها برنامج فكري صحيح ، ولا أخلاقي راسخ .
يجيب بعضهم دعوتها بدعوى الإصلاح فيها ، وسدّ ثغرة ، وتلبية لرغبات في النفس ، لا سيما وأن كثيراً من الدعاة محبوسون عن كثير من وسائل الإعلام ولا يُسمح بظهورهم إلا بعد الرضا عنهم ، أو تقديم تنازلات !(1/58)
وما أود التنبيه عليه هنا ضرورة حذر الدعاة من إغراءات هذه القنوات الفاضحة ، التي ربما حاولت ابتزاز الشيخ جراء إظهاره وظهوره , وتحاول أن تكتسب بهم شرعية ، أو نوعاً من الأخلاقية ، أو المهنية الإعلامية ، وهي عارية
عن ذلك كله .
وربما لطيبة قلوب بعض الدعاة يستوثق من وعودهم باحترام موعد المشاركة ، وعدم إنقاص كلامه أو استعماله في موطن مشين ، أو محاولة إحراج الشيخ ، أو الزج به في مآزق تضر بالدعوة، وتكتسب منها القناة دعايات خائبة!!
وكون المشايخ الكرام إلى هذه اللحظة لا يدركون مخاطر هذه القنوات ، وأنها لا تبث إلا ما يروق لها آبدة ينبغي التنبيه عليها ، وأنه يكفي استغفال الشيوخ والضحك على ذقونهم ، واستمالتهم بألفاظ ثنائية ، لا قصد منها إلا الابتزاز والانتهاز .
إن غالب هذه القنوات تتهكم بالإسلام ، ولا تحمل همه وتصادر إسلامية الشعوب ، وتغرد خلاف قضاياهم وإنما تداعب مشاعرهم ، وتحرك غرائزهم ، وهي ذات رسالة ذميمة يحرص عليها الغرب ، ويؤجر لها أذنابه من المنافقين والمستغربين .
وبالمناسبة حتى المواسم الفاضلة ، لا حرمة لها عندهم كرمضان وعشر ذي الحجة .
نحن هنا لا نمنع المشاركة في الفضائيات إطلاقاً ! لأنها تتفاوت في خبثها وفسادها ، ونعيد ذلك إلى حذق الشيخ وفقهه ، وتقديره
الشرعي للمشاركة .
لكن نقول لابد من أخذ الحذر ، وعدم إحسان الظن بهؤلاء المرضى ، وجعل شروط وضوابط لكل بروز إعلامي ، والتصون قدر الإمكان من التراخي ، أو تقديم تنازلات تمس الحد الشرعي ، أو الأخلاقي .
ولعلاج مثل ذلك الابتزاز ، توحد العلماء وتعاقدهم على مقاطعة من يسخر بالشرع من الفضائيات التائهة . بالطبع يصعب التوحد ، لكن لو كسبنا الجمهرة منهم فهذا خير كثير .(1/59)
أيضاً حتمية استقلالية الدعوة ، والارتقاء بمواردها ، التي تعلي خطابها ، وتبرزه في وسائل حضارية ، متنوعة ، توفر للأشياخ المكان الآمن ، والحضور الأبرز ، الذي لا يخدش القضايا الشرعية، ولا يشوش الرؤية الفكرية ، ويقنع العامة بالخطاب الإعلامي النزيه ، ويكشف لهم زيف الخطابات الأخرى ، التي لا تبرز إلا في دور الخيانة والغش والمغالطة ... والله المستعان .
ويحسن أن ننبه هنا ، إلى تدافع أشياخ وطلبة علم ، على حساب التمكن الشرعي ، وفهم اللغة الإعلامية !! حيث يأتي بعضهم ، ولم يتأهل التأهيل الكافي الذي يخولهم بالمشاركة .
ولكن المقصد البروز على أي وجه كان ، وهذه آبدة شنعاء تمس ما ينبغي أن يكون عليه الداعية من صفاء في القلب ، وصدق في التوجه ، وتأصيل علمي وفكري ، يدركه من يعرف الوضعية التي تعيشها وسائل الإعلام بشتى ألوانها .
صراع النص والرأي
ابتداء أقول : النص هو الوحي عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، والرأي هو الفهم المستنبط من النصوص ، المسترشد بوعي مقاصد الشرع ، والمتكئ أحياناً على أدلة حصل فيها الاختلاف نحو العرف وسد الذرائع ، والمصالح المرسلة ، وإن كان التحقيق اعتبارها لرجوعها غالباً إلى
النصوص الشرعية .
من حين أن ظهرت المذاهب الفقهية المتولدة من فقهاء الصحابة الذين تفرقوا في الأمصار ، وكانت حصيلة كل إمام تتفاوت عن الآخر ، ومنهجه في الاستنباط يباين أخاه .
بدت منائر الخلاف الفقهي ، وبان لكل مذهب أصوله وقواعده التي ينطلق من خلالها ، واشتهر أهل كل بلد بمذهبٍ معين ، وبأعراف تختلف كثيراً عن أهل القطر الآخر .
تظهر في المدينة مدرسة أهل الأثر بزعامة الفقهاء السبعة ، إلى أن جاء مالك رحمه الله ، فوطد لهذه المدرسة أصولها ، ونشر طرائقها وآراءها وصنف لهم كتابه الموطأ الذي يعبرِّ كثيراً عن روح هذه المدرسة ، وإن كان فيه شيء من الرأي ، الذي عرف مالك بإنكاره والتغليظ على أهله .(1/60)
وكان قبله في العراق أصحاب ابن مسعود الذين تلقفوا عنه طريقته الاستنباطية كإبراهيم النخعي والأسود وشقيق وغيرهم .
وعنهم بدت ملامح الفقه الحنفي الذي بزّ فيه ، وبرع الإمام الأكبر أبو حنيفة النعمان ، والذي أُعطي ذكاءً حاداً ، ومنهجاً واسعاً في الاستنباط والابتكار والتخريج، ورافق حقبته الزمنية ظهور أهل البدع ، وأهل الأهواء الذين وضعوا الأحاديث النبوية ، وكذبوا على سيد الخلق عليه الصلاة والسلام ، مما اضطر أبو حنيفة إلى التوقي في الأخذ بكل الأحاديث فلم يأخذ إلا ما يعرف ، ولم تتطلع همته حديثياً كما تطلعت في الجوانب الفقهية التي سما فيها وارتفع ، وحقق من خلالها فطانة الفقيه ، المتمثلة في حسن الاستنباط ووعي الشريعة، ودقة التخريجات ، وحذق الأقيسة ، التي زاد فيها وأربى ، حتى عرفوا في التاريخ الإسلامي والفقهي (بأصحاب الرأي) .
والعجيب أن بعض الدعاة والمثقفين يطلق هذا اللقب على وجه التهكم والاستنقاص ، وكأنه لا حديث لهم ولا سند !!
وهذا جهل بمذهب الحنفية , و إساءة لإمام فاضل ، وبارع . قال فيه الشافعي: (الناس عيال في الفقه على أبي حنيفة) وقد عرف بحفظه ودقته، وسيلان ذهنه ، أضف إلى تمتعه برقي عبادي ، وخشية علمية ، تعز في كثيرين من الفقهاء.
ولدفع هذه الشبهة والاتهام ، صنَّف التهانوي كتابه (إعلاء السنن) ليقرر فيه أن أبا حنيفة ليس له رأي بلا دليل ، وأن أكثر اجتهاداته مبينة على الآثار خلاف الشائع والمهجور .
ومن الضروري مطالعة هذا الكتاب .
ولما ظهر الإمام الشافعي كان فقيهاً ومحدثاً والفقه عليه غالب .
وجاء أحمد وكان قد جمع بين الفنين ، والحديث عليه أغلب حيث الجرح والتعديل ، وفهم علل الأحاديث ومشكلات الإسناد .
حتى قال الشافعي معترفاً بتفوق أحمد :
(إذا صح عندكم الحديث فأخبرونا حتى نرجع إليه ، أنتم أعلم بالأخبار الصحاح منا) .(1/61)
وإزاء اشتداد هذا النزاع الفقهي ، وتباين الناس وأئمتهم وفقهائهم ، تميزت المدارس الفقهية بمدرسة أهل الأثر ، ومدرسة أهل الرأي ، الأولى في المدينة المنورة ، والأخرى في العراق .
وقد كشف صراعهم التاريخ عن عمق الهوة بين الفريقين ، وبانت كتب ومصنفات ومناظرات ، وردود يطول حصرها والوقوف عليها .
والمهم هنا أن الخلافات في نظري أهون مما قد يصوره بعض الناس , للفقيه الذي يأخذ من الحديث حاجته , ومن الفقه بعينه ، دون الإخلال بالنص وشرطه ، أو الفقه وآلته .
ولا أنسى هنا أن أذكر بمقولة عجيبة ذكرها أحمد رحمه الله في زمان إبان اشتداد الصراع بين المدرستين ، ونكارة السلف للرأي وأهله في الاعتقاد ، الذي امتد للفقه قال : (كنا نلعن أهل الرأي ويلعنوننا حتى جاء الشافعي فمزج بيننا) مذكورة في ترتيب المدارك لعياض .
فقه هذه المقولة وغيرها , جعلني أقلِّل من حجم الخلاف التاريخي بين المدرستين , وأن أركز هنا على الجهد الذي بذله الشافعي للمقاربة والمصالحة (حتى جاء الشافعي فمزج بيننا) .
والشافعي رحمه الله إمام أثر ونظر، وصاحب منهج في الاستدلال فريد ، استطاع ببراعته العقلية، وحصيلته الحديثية أن يوفق بين المدرستين ، وأن يوسع المضايق بينهما ، حتى يجعلها مريحة فسيحة للوئام والوفاق , ناهيك عن حذقه الأصولي , وابتكاره لعلم أصول الفقه , الذي هو فلسفة الإسلام الحقيقية , وقوام الاجتهاد, وعماد منهج الاستنباط .
فبان بعد ذلك أن المحدثين لديهم رأي وفهم واستدلال ، و أهل الرأي لديهم أحاديث ونصوص ، وليسوا بمعزل عن السنة والأثر كما توهمه بعضهم، وشنعه آخرون !! .
لكن السؤال الملح هنا :
ما هو الرأي المحمود الذي يُنتهج ، ويجعل مسلكاً وطريقاً ؟!(1/62)
والجواب : أن الرأي المحمود هو الرأي المستضيء بالنصوص ، العائد إلى فهم مقاصد الشريعة ، والتجرد من الأهواء والعواطف ، والنائي عن مصادمة النصوص القاطعة ، والبراهين الساطعة ، والذي يتلاءم مع روح الشرع ، ويحقق سعادة الدارين للمكلف .
ذاك هو الرأي الذي يُفرح به ، ويجب اعتباره والاهتمام به ، وفق شروطه وضوابطه .
وما يُراد تقريره هنا وهو ما يعمد إليه بعض الأشياخ من محاولة إشعال الصراع القديم الذي قام في فترة تاريخية معينة ، لها ظروفها المخصوصة، وملابساتها المختلفة بين المدرستين ، وهذا منهج عجيب ، وآبدة تستنكر ولو تحت مظلة حماية السنة، وصون الشرع ، لأنه حتى ولو طابت الغاية لم تطب الوسيلة ! فأهل الرأي والنظر لهم منطلقات شرعية رصينة ، لا يمكن تجاهلها ، أو إلغاؤها ، أو جعلهم كالأرض الخاوية ، لا نبات فيها ولا زرع !! كلا ، بل لديهم نصوص ، وتوسعهم في الرأي ناجم من توسيع مجال التفكير لديهم ، وإفساحهم لبعض الأدلة الشرعية نحو الاستحسان والمصلحة المرسلة والعرف ، التي لها دلائلها المعتبرة ، وقد عمل بها جماهير الأئمة قبلنا .
وما قد ينعتهم به أحياناً بعض خواصهم ، بأنهم أرباب اتجاه عقلي دون معرفة اتجاههم ، أو قراءة مآخذهم ، ليس من الحسن ، ولا الإنصاف .
العقلانيون هم من يردّون السنة ، أو جلها ، ويحاكمون النصوص المتواترة إلى العقل ،
وربما حاكموا كل النصوص للعقل ، دون
التمييز والتفريق.
ونحن نقول هنا أنه لا يمكن التصادم بين النص الصريح والعقل الصحيح ، فإذا صح الشرع لا يتصادم مع عقل سام واستقام , إنما يحصل التصادم والتنازع مع نصوص واهية ، أو عقول خاوية ليست بصينة ولا زكية ، فلينتبه لمثل ذلك .
والله الموفق ،،
عقل المفكر لا شهرته !
تسطع أسماء وعقول فكرية بارزة في الحياة الدعوية في مجال الإصلاح ورسم المسار وكشف الشبهات ، والردود على أرباب الملل الفاسدة ، والمذاهب الباطلة .(1/63)
وهذه الأسماء أسهمت في جانب ما يسمى (بالفكر الإسلامي) وكان لها دروس ومؤلفات ومناظرات يُشكرون عليها .
لكن للموع بعضهم فكرياً أو بيانياً ، حدا ببعض طلبة العلم إلى تلقف كل ما قالوا ، وجعل كلامهم وتحليلاتهم محل قبول مطلق ، ورجحان تام .
وهذا فيه ما فيه من مصادرة العقل الحاكم ، والبصر المدقق ، وهو نوع من التقليد المذموم الذي يشنعه بعضهم في المسائل الفقهية والاجتهادات العلمية .
لكن في خضم الحياة الفكرية والدعوية يتناسى هذا المسلك ، ويعمد إلى نقل بضاعة المفكر بكاملها، دون نقد ونظر وتمحيص !
وهذه آبدة أخرى ، خليق بكل من يتكلم في هذا المضمار أن ينقدها ، ويدعو إلى المنهج الأمثل في التعامل معها .
فالمعتمد هنا (عقل المفكر, لا شهرته) .
نعم شهرته تعطيه زخماً معرفياً ، ومنزلة فائقة، ولكن لا تقدر له الصواب وحسن الاختيار على
كل حال .
لأنه ينطلق من منطلق عقلي صِرف ، فهذا يجمع ما لديه من معلومات وأخبار ، يحللها بخلفيته الشرعية والتاريخية ، ليصل من خلالها إلى نتيجة وفكرة معينة ، وقد يدمجها بعبارات أخاذة ، وأساليب فانية ، يغتر بها بعض الحماسيين والمستعجلين مستحضراً شهرة المفكر ، وبراعته النظرية ، فلا يدقق ولا يراجع وقد يكون تحليل ذلك المفكر آبدة مناقضة لمعلومة شرعية ، أو فكرة تاريخية ومع كونها آبدة رديئة ، يضيف لها القارئ العامل آبدة إقراره لها , وتسليمه بها
ومحاولة نشرها في الناس , وجعلها منهجاً يرشحه في الحياة !!
فاجتمعت له آبدتان : إحداهما عثرة المفكر ، وثانيهما إقرارها وإذاعتها دون نظر وتدقيق .
مضيفاً إلى ذلك تجاهله لعقله وإهماله لما منحه الله من نظر يفكر به ، ويراجع ، ويتأمل ، وليس التسليم المطلق ، والإيمان المتكامل !(1/64)
إن بعض طلبة العلم يستنكر التقليد في المسائل الفقهية ، ويهاجم أربابه ، ويتجاهل هو وقوعه فيما حذر منه ، بسبب إغلاقه لمنافذ عقله ، مع أن بعض المسائل مستندة للدلائل . وتلك القضايا الفكرية ليست إلا ركاماً من معلومات متناثرة ، وثقافات متلاطمة يحاول المفكر رصها وتنظيمها ، وإضفاء الشرعية ، والمسحة التاريخية عليها .
وما نُبه عليه هنا يأتي في سياق ضرورة (استقلال الداعية فكرياً) ، وذم التقليد ،
(وتعظيم الحق) لا الأشخاص وقد سبق التنبيه على شيء من ذلك .
لكن شهرة ذلك ، واستمتاع بعضهم به ، مع تحريمهم فقهياً ، ناسب ذكره والتنبيه عليه لا سيما وأن بعضهم يعتقد نضوج الفكر الإسلامي عند أشخاص مرموقين ، وأعلام متميزين .
ولا نحط من أقدار هؤلاء ، ولكن كل يؤخذ من قوله ويترك ، ويتبع ، ويطرح حسب الدلائل ، والمفاهيم الصحيحة المشفوعة بالبراهين التاريخية والشواهد الواقعية , والتصور الشرعي السليم .
ومن فاته أكثر ذلك يفوته أكثر الصواب
وأعمقه وأدقه .
والترويج بالشهرة ، دون سبر العقل والرأي ، مسلك مذموم يأتي في بلية تخلف الأمة ثقافياً وحضارياً ، لأنه كم من أفكار مغلوطة ، سارت بها الركبان ، وهي في الحقيقة أغلاط لا تحتمل السكوت ، ومفاهيم يجدر التنبيه والتحذير حسب التعاطي والشيوع والاستعمال .
والله الموفق
التيسير أم الانتقائية
وفنون التحايل ؟!
شاع في العقد الأخير على ألسنة الفقهاء ومفكرين وأكاديميين ضرورة إحياء (فقه التيسير) ودعواهم صحيحة ابتداءً حيث تستند على ما استفاض من سماحة الإسلام ويسر أحكامه ، واختيار رسول الله لأيسر الأشياء ، وتباعده عن عسِرها وترفقه بالناس ، في أخبار تفوق الحصر ، وليس المجال مكاناً لحصرها ونشرها .(1/65)
لكن المشكل هنا والأخطر أن دعوى فقه التيسير وبثها في الناس تأتي من منهج ناقص ، ومن منطلق تحايلي وليس بحثاً موضوعياً أو جهداً علمياً ، يتجلى بعد جمع الأدلة ومعاينة الخلاف ، وسبر الأقوال وتمحصيها .
إن التيسر هو رسالة الإسلام ، وروح الشريعة في الناس ، لأن الله يقول : (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) ويقول عز وجل (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ) .
فالتيسير في الخلاف الفقهي المطروح لابد أن يأتي من بابته ، ويطرق من سبيله , ويلتمس بدليله العلمي ، وفقهه النظري .
وليس بدعوى تقوم على انتقاء الأسهل في ظل نص قاطع ، أو تحايل متفقه يحرص على
الرخصة وأشباهها .
لابد أن تؤتى هذه القضية من منهج علمي رصين ، ولا تكون ردة فعل لعالم متشدد ، أو فقيه متعنت ، يرى في نفسه الجد والحزم ، والحرص على المشاق .
لأن الجميع محكوم بالشرع ، وبعض المسائل تتجاذبها الأدلة ، ومسالك الترجيح تختلف وتتفاوت، وليس فقه التيسر اختيار أسهل المسالك في كل
نزاع فقهي .
وليس فيه التباعد عن تكليف شديد ، وليس هو انتقاء ما يحلو ويطيب !
وليس هو قنص ترخيصات بعض المذاهب أو استجابة لضغوطات الحياة!!
بل لابد أن يمر فقه التيسر بالخطوات العلمية المشهورة وهي كما يلي :
1- جمع كل الأقوال ، وبحث أدلتها وما قد يعارضها .
2- مطالعة كل مذهب من كتبه المخصص فيه .
3- سلوك الموضوعية في البحث ، والتصون من كل عاطفة تشوش البحث العلمي .
4- تدقيق حال الأدلة ، والتأكد من سلامتها صحةً، واستدلالاً واختياراً وتعارضاً .
5- فهم واقع كل مسألة ، والاستفادة من الدراسات السابقة في هذا الباب .
6- التريث والأناة عند الترجيح والاختيار .
7- الولوج بتجرد وصفاء ، وأن يكون السائق هو الدليل ، وليس مقصداً معيناً، ينبغي تقديمه ، سواء كان شدة أو تيسيراً .(1/66)
فإذا حصل اختيار الأسهل للناس والأنسب لحياتهم بعد توخي هذه الخطوات العلمية ، لا ضير ولا حرج ، إذ نكون أحيينا السنة ، وعظمنا شعائر الله ، ولم نتلاعب بشرعه ، ولم نتقصد التهوين والتمييع .
إذ ليس التيسير تمييع الشرائع ، أو التهوين من الواجبات ، والانعتاق من الفرائض المؤكدة ، والأوامر الشرعية الصارمة . واستحضار مراقبة الله تعالى في البحث ، وأن المسألة تعد صادقة ، وليس مجرد تسهيل وترخيص ، مما يمحض القصد، ويصحح التوجه ، وسؤال الله دائماً
التوفيق والسداد .
وقد جاء في صحيح مسلم قوله صلى الله عليه وسلم :
(اللهم رب جبرائيل وميكائيل فاطر السموات والأرض ، عالم الغيب والشهادة ، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم) .
بعض دعاة فقه التيسير بتباعدهم عن المنهج العلمي الدقيق ، قد يتورطون في مآزق خطيرة تضر بخطابهم ، وتعرضهم للذعات انتقادية ، وتعقيبات علمية تقلل من جهدهم ونشاطهم ، وتعكس المعنى المغلوط عن يسر الشريعة ورحمتها ومع انتقاد التلاعب بالشريعة ، كذلك ينتقد المتشدد المتعنت ، ولو كان من أكابر الفقهاء ، لأنه لفرط عزيمته ، وعظم نفسيته يطيق ما لا يطيقه غيره !
لكن أن يحمل الناس على ذلك ، هذه آبدة ، أظن قد مر الإرشاد إليها والتحذير من غوائلها .
والله الموفق ،،
الجماهيرية والنوعية
كان الخطاب الدعوي في فترة من الفترات يهتم بجذب الجماهير وحشدهم لقضاياه ، والعزف على مشاعرهم ، وليس هذا خطأ من الوهلة الأولى ! لأن كل التحركات تعتمد الجمهرة وتوظيفها لمقاصدها ، وتعتمد على تجنبيها والاهتمام بها، نحو الخطاب السياسي والعسكري ، لا تنجح مفرادتها دون القبول على الجماهير وتجمعاتها .(1/67)
لكن المتعين التنبيه عليه هنا ، هو استيثاق وضعية الجماهير ، واعتماد توجهاتها وتجمعها وعواطفها دون الالتفات إلى فقه الاصطفاء والنوعية، الذي هو مقصد عظيم للداعية
والمربي والمؤثر .
مكث بعض طلاب العلم عقوداً يهتم بالجماهيرية وعددها وتفاعلها ، دون أن يكون له حظ من تمييز وانتقاء وتمحيص .
وكانت تلك الجماهير من العوام وقلة من الخاصة تطرب لطرح الإيمانيات والرقائق ، وربما تفانت في محبة الشيخ وخدمته وتشجيعه , وإبراز دوره في الحياة الاجتماعية .
ويُسَرّ الشيخ الفاضل بمثل ذلك التأثير ، ويحمد الله على نعمته وفضله ، ولكن ينسى ذلك الشعور الاهتمام بالنوعية ، والتركيز على أدب الانتقاء ، الذي به يُظهر الداعية عظمته , وارتقاءه
فكرياً وتربوياً .
لأن تلك الجماهير عاطفية غالباً ، متى ما زوحمت في أرزاقها تقاعست عن الحضور لضعف القناعة لديها ، ولغلبة حس الدنيا عليها ، ولخوفها من تجارب الابتلاء والمآزق التي قد يبتلى بها بعض الدعاة .
لكن حين استنهاج مسلك الانتقاء والنوعية ، يتحول التأثير العام من كونه درساً عاطفياً يلهب الجماهير إلى مدرسة تربوية ، تصفي الجيل ، وتنتفي الأكفاء وتعدّ رجالات المستقبل كما يقال .
لأن هذه الدعوة مسئولية ، والدين أمانة ، والعمل تضحية ، فيتعين على طلبة العلم حسن الإعداد والتربية ، وتوقع أسوأ الاحتمالات على
كل حال .
وأن لا يغتر أحدنا بجموع المساجد الغفيرة التي يُفرح بها ، وتنشط المعلم ، لكنها محدودة العمل والفكر ، وتقف على أي مفرق طرق ،
ولا تواصل وتناضل.
فالتعويل على الجماهيرية كثيراً ليس من مظنة الداعية والمربي ، الذي يعمل للبعيد ويستشرف المستقبل ، ويفقه التجارب الدعوية ، والسير الإصلاحية ، عبر الأزمان .(1/68)
هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى ، لابد أن تتعدى طرح تغذية الجماهير إيمانياً ، إلى دفعهم عملياً ودعوياً ، وأن نحرك الشيخ الكبير ، والمرأة العامية للعمل والتحرك ، حتى تقتنع تمام الاقتناع بأهمية العمل ، وأن البلاغ والنصح ليس مهمة الشيخ والعالم فحسب ، وأنا مجرد متلقٍ ومستمع ، أستنير إيمانياً وروحياً ، ثم أعود مستأنساً
إلى منزلي !!
كلا بل لابد من تثقيفهم من الناحية الدعوية ، وسوق الأخبار والأحاديث التي تحرك فيهم شعور العمل والتفاعل والمسئولية ، وأن نسرد في ذلك قصص العاملين من مختلف الأجناس والثقافات ، وأن خدمة الدين ونصرته مسئولية الجميع ! ليست على فلان ، ولا تلك الجهة الرسمية ، بل لابد أن نكون جميعاً من أنصار الدعوة والذابين عن حياضها ، والساعين لارتقائها والسمو بها .
عندئذ يدرك الجميع أهمية العمل ، وأن ثمة دوراً لابد أن يُبذل بعد حضور الدرس والانتفاع به.
ويسهم ذلك الشعور إلى إنماء الخير ، وتقليل منافذ الشر ، حيث عمل الجميع وأبغضوا المناكر ، وسارعوا بالنصح والتوجيه ، وحققوا زكاة حضورهم، وحبهم للدروس والمحاضرات .
ويكون الداعية إلى الله حينئذ قد فاز في تفعيل الجماهير ، وتهيئتهم بفقه النوعية الذي يتنافى مع الإهمال , و الرضا بالغثائية والهمجية ، التي تبرز في الجماهيرية العوامية .
إذن على الداعية خطوتان :
1- تجاوز الاغترار الجماهيري إلى فقه النوعية والاصطفاء .
2- الانتقال أحياناً من تغذية الحاضرين إلى كشف دورهم ، وما هو المطلوب منهم ، وترسيخ القناعات الفكرية فيهم .
كما قال تعالى عن الجن :
(فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ)
[ الأحقاف : 29 ] .
فلا يكفي في انتفاع المرء ، تزويده بذلك الخير، وتحلية نفسه به ، بل لابد أن ينتقل ذلك الخير إلى أسرته وبيته ، وأهل حيّه وعشيرته . وإلا فما
الفائدة حينئذ؟!
من الوعي الدعوي ...(1/69)
يمتن الله تعالى على بعض طلبة العلم في جهات معينة ، فيحدث خيراً عميماً ، من دروس متنوعة ، وأنشطة تربوية ، ومصالح ومبرات ، فإذا ما قدر لهذه الأمور أن تنقضي أو تتوقف ، يستاء ويضيق ، ويصور حجم الكارثية التي
لحقت بالدعوة.
يتحدث حديث الكسير الولهان الذي فقد أعز أبنائه وأسمى أمانيه .
وكان إبان الخير المبثوث ، والمعروف الوضاء، يوصي بدعم الدعوة وتشجعيها ، والتفاني في خدمتها ، وربما شارك في إبراز فقهها ، وآدابها وما يقال في سمائها وأخطاء المتناولين لها .
لكن أن يعتقد بعض هؤلاء أن الدعوة إلى الله نشاطه العميم ، وخبرته الطويلة ، ومبرَّاته المتكاثرة، هذا هو الخطأ الجلل ، والخطيئة الجلى .
لأنه سوء فهم للدعوة ، وخدمة لمقاصد النفوس، وقد قيل ؛ لهوى النفوس سريرة لا تعلمُ ... أضف إلى ما فيه من نقصان الوعي الدعوي ، إن لم يكن عدمه أحياناً .
إن من الوعي الدعوي أن يدرك الدعاة ومثقفو الإسلام ، أن الدعوة ليس حكراً على فلان ، أو مختصة بجهة ، بل الدعوة ملك الجميع ، ومخاطب بها كل من علم ، ووعى ، وأتقن .
قال تعالى : (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ) .
[ آل عمران : 110 ] .
وقال عز وجل : (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)
[ النحل : 125 ] .
والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو شامل لأمته .
وفي صحيح البخاري قال صلى الله عليه وسلم: (بلغوا عني ولو آية) .
إذن من الخطأ بمكان ، اعتقاد بعض طلبة العلم أن الخير يصب من ينبوعهم ، وأن المعروف ينحدر من جدولهم ، كلا ! بل لابد من الاعتراف بجهود الآخرين وشكر مساعيهم ، وتقدير تحركاتهم ، ولو قلت وهانت ! ويحصل التصويب بحكمة ،
وأناة ، وأدب .(1/70)
وإذا نوقشت قضايا الدعوة تناقش بعيداً عن مقاصد الأنفس ، والجهود الفردية ، وأن يصبح الحديث عنها على كل حال ، وفي كل وقت ، وحال السعة والضيق ، والوصال ، والانقطاع ،
والسفر والحصر .
حيث الدعوة إلى الله ليست شأناً ذاتياً ، ولا جهداً خاصاً ، ولا عملاً محدوداً، بل هي جهد أمة ، ومشروع حياة ، وعرق ونضال كل مسلم
عامل باذل!!
ومن الخطأ في فهم أدبيات الدعوة أن تُعلَّق بأشخاص ، أو تربط بجهد جهة أو مؤسسة ، لأن الأشخاص سيموتون , ولو لمعت أسماؤهم , والمؤسسة ستنتهي يوماً من الأيام إذا حجَّرت دورها، ورموزها ، ولم تعِ رسالتها الحياتية ، ودورها التربوي الواسع !
إن الوعي الدعوي يحتِّم علينا تعظيم شأن الدعوة واعتقاد شموليتها لكل المناحي والأشخاص ، والتغاضي عن يسير الأخطاء ، لمصالح عظيمة ، ومد الجسور بكل العاملين ، وتقوية شوكة المشاركين ، والقضاء على كل أسباب الخلاف والتنازع ، ومفاتح القداسة والذاتية .
قال شعيب عليه السلام فيما حكاه الله تعالى (إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) [ هود : 88 ] .
(والإصلاح الحقيقي) هو التجرد عن الذاتية ، والإخلاص في النصح ، والتباعد عن أسباب الفتنة والنزاع ، والحرص على التضامنية المتكاتفة ، معتمداً في كل ذلك على الباري جل وعلا ، حيث موطن التوفيق ، ومفتاح التسديد والإعانة .
والله من وراء القصد .
فقصر بعض الدعاة ، مفهوم الدعوة على مناشط خاصة ، وتتناول من خلال روآهم وجهودهم، تقصير في المعنى الشمولي للدعوة .
لأن الدعوة إلى الله تعالى قضية كلية شمولية في الإسلام ، بل هي الدين كله ، ولا يقوم الدين ولا يسود وينتشر ، إلا لقيام أهله بالعمل والنصح على كل الوجوه ، وفي سائر الأحوال والفترات .(1/71)
ويجب أن يكون في برنامجنا العلمي والتثقيفي الحديث عن الدعوة وفقهائها وأصولها وآدابها وطرائق أهلها وكيفية تفعيلها مع الوسائل الحديثة .
فهذا هو الإسلام المتدفق ، والدعوة الملتهبة ، التي تتحدى كل معاند ، وتسابق كل حظر ، وتنتصر على كل عدو ، والله غالب على أمره ، وهو نصير دينه ، ورافع شأن أهله ، ما اجتهدوا وأعدوا , ولبسوا لكل حالة لبوسها ، والله الموفق .
فقه الردود
الرد العلمي ، وتسجيل تعقيبات على كتاب أو عالم أو فتوى مسلك قديم معروف ، ولم يزل الناس يرد بعضهم على بعض ، لأن العصمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، والعالم بشر يصيب ويخطئ، والفقهيات والممارسات الدعوية مجال فسيح
للتعقب والاستدراك .
ولا ضير أن تصحح لأخيك ، أو تعقب عليه ، أو ترشده إلى الصواب بشرائط الردود ، وفقه التعقيبات المتسمة بالحوار العلمي ، والمنهج الموضوعي ، والأدب الجمّ ، والتباعد عن الشتائم وتتبع العثرات ، واتهام النيات ، لأن الله يقول: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) [ البقرة : 83 ] .
ويقول عز وجل : (وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [ النحل : 125 ] .
لكن مما يشين في هذه الأزمنة تضخم هذه الردود ، وخروجها عن الإطار العلمي ، وتحولها إلى (معارك شخصية) ، وغارات مذهبية ! وهذه آبدة تستوجب الوقوف . حيث الأصل في العالم السلامة وحب الخير وتحري الحق ، فإذا مازلّ ما ينبغي التعقيب للتشهير ، أو الفضح والتعيير بل يجب البيان بالحسنى ، والتصحيح بالفضلى .
أما الرد بالفم الفاضح ، والقلم الجارح فهذا ينافي حسن الخلق ، وسمو العالم وأدب النصيحة .
ففي الردود جنوحان ممارسان :
الأول : تجاوز حدود الأدب ، ومكارم الأخلاق ، لمقاصد شخصية ، ومعارك هامشية .(1/72)
الثاني : الغرام الطويل بالردود ، بحيث تصبح دندنة الداعية ، وهيامه المستغرق على عقله وقلمه ، وحسه وذوقه ، وربما عزف على ذلك بمسوغات كإنكار المنكر ، والنصيحة للمسلمين ، والغلطة العلمية ، والحوار الفقهي، حتى يستمر في هذا المسلك ، ويتغذى به إلى النخاع ، فلا يكاد يسلم منه داعية أو متكلم أو صاحب تأليف.
وقد لوحظ شيء من ذلك في الحياة المعاصرة , مما شوش على كثير من الشباب ، وضلل العامة ، وصنع الإحن والمشاكسات !!
ومن المؤلم كثيراً أن الردود مع تجاوزها الشرعي والأخلاقي ، تلتفت لعثرات يسيرة يسوغ فيها الخلاف ، يضخمها المخالف ، ويستشنعها بألفاظ بارزات,وكلمات غليظات للإيهام والمخادعة.
وهي جارية في حق توجهات مخصوصة !! في حين سلامة المبتدعة ، وغضّ الطرف عن العلمانيين وأذنابهم وجيرانهم ، وهذه طامة شنيعة !!
كيف تشن الحملات ، وتجيش التعليقات على إخوانك الدعاة والمفكرين ، وتبعد عمن حقه النقد والإنكار ، وفعله يستوجب النقض والإشهار !
إذن فالإيغال البليغ في الردود ، والتهمم بها مع سوء التقدير ، وعدم مراعاة فقهها ، ووعي المرحلة الراهنة ، طريقة غير سديدة ، وأضرارها متفاقمة لا سيما وأنها قد أضرت بعض الشباب من المهتدين حديثاً ، حيث وقعت تلك الكتب بين يديه ، فرأى فيها ما ليس عليه ، وشوش رؤيته ولا أظن أحداً يحب مثل هذه النتيجة !!
لذا فإن من مخاطر الإيغال في الردود ، واستحسانها على كل حال ، وفي كل طرف ما يلي:
1- تصاعد الحس النزاعي عند الراد والمتعقب ، ومحاولة جعل كل خلاف ـ ولو يسير ـ قضية كبرى .
2- إهمال جوانب الإفادات العلمية ، والمشاريع الأخرى ذات الفائدة والعمق والإبداع .
3- استحلاء كلمات الانتقاد ، المفضية إلى بذاءة اللسان ، وفظاعة المنطق وتعكر النفس والمزاج .
4- ترك المعنيين بالتعقب ، ومن تستوجب أحوالهم توالي الردود ، وتسديد البنود ، وإقامة الحجج والبراهين .(1/73)
5- تحول النفس العلمية من ناشرة للخير والنماء إلى عاشقة للردود والثلب وأنماط النقض ، والصد ، والافتئات بحيث لا يحسن مثل هذا ويصير مخصوصاً بها ، والله المستعان .
6- تربية الناشئة على التطاول والتعالم والتعالي ، مما يحرمها لذة الطلب ، والحرص على التفقه، والسعي في القراءة العلمية ، والمطالعة
الثقافية المجدية .
7- تفكيك الوحدة الدعوية ، وصنع معارك لا حاجة لها ، وخلق جو من التباغض والتوتر الذي يفرح الأعادي ، ويدعم مسالكهم ، وقد قال تعالى :
(وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [الأنفال : 46 ] .
الثقافة والدعوة
تحصيل الثقافة الإسلامية طريق لفهم الدعوة واستيعاب معالمها ، لكن ليس كل الدعوة ! ولا يعني فهمها الفهم التام ، وإدراك أسرارها وقضاياها، وتطوراتها.
كما أيقن المثقفون الآن ، أن التفسير علم غير الحديث ، والفقه شيء غير الاعتقاد وصارت لكل علم مناهجه وطرائقه ومؤلفاته . كذلك الدعوة إلى الله بالمفهوم الإصلاحي والتربوي والتغيير كما هي علم مستقل ، لابد له من دراسة وعمق ،
ودراية وفهم .
وصار الآن هناك دراسات خاصة في الدعوة وأصولها وأساليبها ، وتقدم أطروحات علمية لمناقشة قضايا شائكة فيها , وعرف في بعض البلدان كليات خاصة تسمى بالدعوة ، لكنها لا تعطي في (الوعي الدعوي) إلا رتوشاً محدودة ، تشبه ما تقدمه كليات الشريعة الأخرى .
وهذا خطأ من وجهين :
الأول : أن الدعوة باتت علماً مستقلاً تلتمس دراسة خاصة ، تتجاوز مفاهيم الثقافة الإسلامية المشهورة .
الثاني : اعتقاد أن العلم الشرعي بمفهومه العام كافٍ في تحصيل الأساس الدعوي وسبر غور مشكلات الدعوة،وقضاياها وبرامجها !!(1/74)
والذي يراد تأكيده هنا أن فئاماً من الدعاة والمثقفين يحاولون تسطيح المفهوم الدقيق للقضية الدعوية ، ويزيدون من تضييق حجمها ، وتصغير مساحتها، مع أنها كيان كبير ، ومشروع ضخم ، ازداد ضخامة ، واتسع مكانة بانحطاط الأمة ، واستشراء الفساد ، الذي دعا القادة الغُيُر ، والدعاة الفضلاء إلى ضرورة العمل والمواجهة والتصدي .
فإذا أدرك الجميع أن الدعوة فن مستقل وعلم متكامل ، توجهت المدارس والمناهج إلى تعميق تدريسه وأدائه ، وأنه لا يمكن في مقرر يسير يصف أخلاقيات الدعاة ، أو يتحدث عن تاريخ الدعوة وأساليبها من خلال العصور القديمة ، وينتهي المشهد ! كلا !
إن الدعوة في تطور عجيب من خلال اختلاف المراحل التي تعيشها ، والنهضة التقنية التي تواكبها، ومن خلال بدو الصراعات مع الأعادي ، وتجدد مسائل مهمة ونوازل تحتاج إلى مجالس وحوارات لحلها ، وكشف أسباب النزاع فيها .
إذن فالدعوة إلى الله (علم وسيع) لابد أن يتعلمه الشيخ والداعية والمثقف والتلميذ ، ليفقه أصوله ، ويدرك أساليبه ، ويلم بقضاياه وأطرافه وكل
مستجد فيه .
ومن خلال تكثيف الدراسات القرآنية والحديثية والتاريخية ، سنستخرج علوماً هائلة ومعارف ضخمة تؤصل للدعوة ، وتزيد في فهمها وتطويرها مع عدم الغفلة عن مستجدات العصر ، وكيفية الاستفادة منها في نشر الإسلام . وطريقة التعامل مع المخالف ، وما يسمى بحوار الأديان ومناظرات أرباب الزيغ والنفاق وقضايا تجديد الخطاب وتطويره والشخصية الدعوية المتكاملة ، والمناشط التربوية الحديثة والمؤسسات الدعوية المستقلة وكيفية دعمها وتحسينها .
كل ذلك بات من (قضايا الساعة) ومهمٌ إدراكه وبلوغ غاياته ، ولن يتم في طرف عشية أو ضحاها، بل لابد من تدريسه التدريس الشامل ، وتعلمه من كل من يُعنى بخدمة الإسلام ، والحرص على مستقبله وظهوره .
قال تعالى :(1/75)
(وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ) [محمد:60] .
وفي خضم مآسي الأمة ، وتسلط الغزاة عليها ، تعظم المسئولية ، وتشتد الأمانة ، لتؤكد لأهل العلم والشيوخ ضرورةُ التيقظ والحرص ، والمسارعة إلى ترسيخ هذا العلم وتقعيده علمياً وفكرياً ، حتى يصبح علماً له كينونته المستقلة ، وسرجه المنيرة ، التي لا تقبل الممازحة مع شيء آخر .
إن جعل الدعوة إلى الله علم مضاف في ذيل علوم أخرى ، نتج عنه مساوئ منها :
1- التهوين من قدر الدعوة ، وأنها لا تتطلب جهداً كبيراً للبراعة فيها .
2- انخراط أجيال من كل من هب ودب فيها , دون التأهل والتحصيل .
3- تسطيح كثير من قضايا الدعوة ، واعتقاد فهمها ، وجودة التنظير فيها .
4- عدم الإعداد والتخطيط ، وسرد برامجها ، حيث لا تحتاج مثل ذلك لسهولتها وليونتها.
5- هوان العمل المقدم والمطروح ، وبروز مشكلات كبرى تفتقر إلى حلول ومعالجة .
6- سعة حجم الأخطاء المتعاقبة في العملية الدعوية .
7- عدم وضوح الرؤية في كثير من المشاريع والاجتهادات المقدمة بسبب ضعف الثقافة الدعوية .
إن الدعوة أعظم بكثير من مجرد تحسين الداعية خلقه ، أو إلقائه محاضرة في الأخطاء الدعوية ، أو تأليفه في تجارب الدعاة وممارساتهم .
وإن كانت هذه الأمور طيبة مشكورة ، لكننا لابد أن نتحول بالدعوة من مسارها المسطح الضيق، إلى مسارها العميق الشامل ، الذي يؤصل لها تراثياً ، ويجعله متواصلاً مع القضايا الحديثة ، والمستجدات العصرية ، وأن يجسد ذلك في كلياتنا ومعاهدنا ، وتخصص له دورات خاصة معمقة في تبيان الوعي الدعوي ، وكشف فقه الرسالة الدعوية، وكيفية التغلب على المشاكل والعوائق المطروحة ، واختلاف الأنظار في ذلك ، وتباين أقاليم المسلمين تجاه ذلك كله .(1/76)
ولا ينسى هنا الإسهام في ضخ التأليف الدعوي ودعمه ، والحرص على تعميق الدراسات الدعوية ، وربطها بالواقع المتقلب ، ومناقشة القضايا المعاصرة بأسلوب علمي موضوعي ، بعيداً عن العواطف والمشاعر ، التي ربما تضعف من القيمة العلمية ، والنتائج الفكرية . والله الموفق .
الهزيمة الفكرية
عندما تنهزم الأمة في عوامها نفسياً وفكرياً لا يؤلمنا ذلك كثيراً ، لأن البيئة خصبة لذلك ، حيث ضعف التدين ، ومحدودية الفكر والثقافة ، والشعور بالتخلف والمهانة .
لكن أن ينتقل ذلك إلى صفوة الأمة ، وفضلائها هذا ما لا يحتمل ولا يطاق، ويبعث على مزيد الحزن والألم ...
حيث كان من إفرازات الهزيمة النفسية _ المستولية على نفوس كثيرين من أبناء الأمة ، أسهمت عوامل داخلية وخارجية في إيجادها ، وصناعة المناخ لها ـ حصول الهزيمة الفكرية في بعض علمائها ، يبين ذلك في محاضراتهم وتصنيفاتهم ومسائلهم وفتاويهم .
تُستنكر الهزيمة الفكرية في العالم والداعية لما يحمله من علم وخير ، وحسن تدين ، يبعثه على الوثوق بالنصر ، واستيقان الظهور ، وحصول الفرج ، رغم ما يلاقي في الدعوة من ملاقٍ وأرزاء، كما قال تعالى : (أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) {البقرة آية 214}
كما قال عز وجل : (فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ
لَهُمْ عَداًّ ) {مريم آية 84 }.
ومن صور الهزيمة الفكرية كما نشاهد هذه الأيام ، لا سيما في وسائل الإعلام ، التي نبهنا أن من وسائلها ابتزاز العالم وإحراجه على حساب بروزه وإشهاره ، والله المستعان :
1- التحدث عن الإسلام من خلال قفص النقص والاتهام ، والظهور دائماً في موقف المدافع ، والصاد على كل حال .
2- تمييع بعض قضايا الإسلام الجوهرية ، أو إهمالها ، أو محاولة تغييبها من الخطاب نحو ، رسالة الإسلام العالمية والولاء والبراء وهيمنة الدين على شئون الحياة ، وقضايا الجهاد والمقاومة .(1/77)
3- إصدار فتاوى وبيانات متراخية ، تحاول أن تقتفي ما يسمى حالياً (بالتسامح الديني) ويسر الإسلام ، ورحمانية رسالته على حساب إضعاف الطرح وتقزيم بعض الأصول ، والتحايل على بعض النصوص .
4- تبديل بعض المعاني الشرعية نحو مفهوم اللين والرفق ، والسماحة وإبرازها في لون من الضعف المطبق والمهانة المتوالية ، وهذا لا يسوغ ولا يحسن !
5- إبراز دور العالم في مشهد التابع أو المقلد ، وعدم التخلق بأخلاق العزة والجرأة والصرامة.
6- التشاؤم من أوضاع الأمة ، إلى حد التقليل من طاقاتها الشبابية ، وإمكاناتها الفكرية وقدرتها على النهوض والعمل بعد قرون الأسى والانهزام والانحطاط .
إن مثل هذه الهزيمة الفكرية بنشر ثقافة الجبن والتخاذل في الأنام ، كافية في إعطاء الخصم طمأنينة مواصل الحرب العسكرية والثقافية , والإيغال في تفتيت الأمة وإضعاف شأنها ، وتغريب أفكارها ومعتقداتها .
ولهؤلاء المشايخ والمثقفين يقال لهم : راجعوا أنفسكم ، وصححوا عقولكم وتزودوا من قراءة القرآن بعمق وتدبر ، وتعلموا من السيرة النبوية وسنن التاريخ، ما يجدد عندكم الأمل في الإصلاح ، وتبدل الأحوال .
فإن هذه الأمة مهما ضعفت ، وانحصرت وتخلفت واشتعلت فيها الأسقام إلا أنها لا تموت حتى تؤدي رسالتها ، وتصيب غايتها التي وعدها الله تعالى بها ، كما قال تعالى (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) [ التوبة : 33 ] .
وقال صلى الله عليه وسلم لخباب رضي الله عنه كما في صحيح البخاري : (والله ليمتن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حَضر مَوت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ،
ولكنكم تستعجلون).
إذن يجب على كل مثقفي هذه الأمة ، الترفع عن هذا المنزل البيئس ، الذي يحط من مكانتهم ، ومكانة دينهم ، ويجعلهم ساقة الناس ، ومحل تبذرهم ، وتهميشهم ، وأن يتسلحوا بالعزة العظيمة، التي حلاهم الله بها .(1/78)
قال تعالى : (وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ المُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ) [المنافقون : 8 ] .
وقال صلى الله عليه وسلم كما في المسند : (وجُعل الذلة والصَغار على من خالف أمري).
ومقتضاه أن متبع أمري ، ومقتفي هديي هو محل الشمم والتعزز والتسامي خلاف ما يحاوله بعض المنهزمين نفسياً من تهوينهم لقضايا ديننا ، وجعلها هامشية , أو بثها في إطار الانهزام والاستضعاف ، مما يشهد ويؤكد ما يراد تقريره هنا من هزيمتهم ، الهزيمة الفكرية الفادحة التي من أشنع آثارها ، تخدير الأمة ، وكف الهمم ، وتعطيل الطاقات التي قد تجدد للدين حيويته ، وتعيده لأمجاده لو غذيت شرعياً وثقافياً ، في صورة الاعتزاز والتسامي والاستعلاء .
قال تعالى : (وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) [ آل عمران : 139 ]
فالله يرفعنا بدينه ، ويحاول بعض الأشياخ إنزالنا ، وحط مكانتنا بدعوى التسامح ونشر الدين ، ودفع تهم التطرف والإرهاب والحدود ، وشدة الشرائع ، وظلم المرأة في دوامة لا تنقضي
ولا تنتهي .
مع أن مروجيها لا يجرأون على الحوار الجاد، والنظار الحق ، لينكشف زيفهم وإنما يكتفون بالتهريج المتهافت ، واستغلال ما عندهم من وسائل إعلامية للصد عن سبيل الله ، واتهام الإسلام ظلماً وزيفاً وميناً !
قال تعالى : (قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَر) [آل عمران : 118 ] .
ولكن أملنا في الله كبير ، وفي ديننا عظيم ، ولا زلنا ندعوهم للمناظرات العلنية في كل ما يشاع عن الإسلام ، ويتهم به حملته ودعاته .
ولكن هيهات ، هيهات ، هم أقل ، وأهون فكراً، من أن يقفوا للمعركة ويصمدوا للمواجهة .
وما ذاك إلا لانهزامهم فكرياً وعقائدياً واستمساكهم بأساليب الخاوي المتوحش
والمفلس الهمجي !!
البروز الهائل(1/79)
كان من ثمار التربية العلمية التي قام بها مشايخ فضلاء ، وأئمة أجلة اتساع حلق التدليس ، وبدوّ الحفاظ ، وحملة الكتب المتقنين ، والحرصاء على التعلم ، المحتملين للمشاق ، والمتجرعين للتعَب ، والنصب ، مع ما كان في بعضهم من همة عالية ، وعزيمة حازمة ، استطاع من خلالها ، وبعد توفيق الله ، حفظ المتون وجرد المطولات ، والعكوف على الأشياخ مستحلياً حلاوة الطلب ، ولذاذة العلم التي يعرفها من جربها ، واستطعم أترجة الفقه ، وكَرْم المعرفة ، الذي لا يشبع منه ، ولا يمل على حد قول أبي إسحاق الالبيري لابنه في قصيدته الرائعة الفائقة:
فلو قد ذقتَ من حلواه طعماً
……………لآثرت التعلمَ واجتهدتا ولم يشغلك عن هوى مطاع
……………ولا دنيا بزخرفها فتنتا
فبزَّ الطلاب ، وبرزَ الحفاظ ، الذين صاروا أساتذة مع صغر أسنانهم ، وبمحضر شيوخهم وعلمائهم ، فأنشئت دروسهم المتسمة بكثير من العمق والفهم ، وسلالة البيان ، وجدة الخطاب .
وهذا خير تطرب له النفوس ، وتُسَر له الأرواح ، ويدرك الأشياخ ثمرة تعليمهم وبلائهم ، وأن الله بارك لهم ، وأخرج من نباتهم الطيب الزكي.
لكن قد يحمل بعض الأشياخ الجدد ، تعمقه البالغ أو فصاحته السلسلة ، أو شغفه العلمي إلى نسيان قدر الشيوخ ، وتجاهل حق العلماء الكبار ، الذين كان دور وبذل !! وقد يزيد من التجاهل انتقاد الشيخ الأجل ، وحصول مسائل خلافية ، فقهاً أو فكراً، فتعمق الهوة بينهم ، وينفصل العلماء الشيوخ، عن العلماء الشباب ، الذين هم شباب وأبناء بالنسبة لكبار السن ومقدميهم .
وهذا ليس بحسن . لأن دعوتنا قديمة وحديثة لا تزال تؤكد أهمية ترابط أهل العلم وتقاربهم ، مهما كان حجم الخلاف العلمي أو الدعوي ! فكل يُجل ويحترم رأيه ، ما دام منطلقاً عن علم وفهم ، ومبتغياً للخير والإخلاص .
والمتعين فعله تجاه ذلك ما يلي :
1- احترام الصغار للكبار ، وتقدير سنهم وتقدمهم العلمي وسبقهم التدريسي .(1/80)
2- الحرص على مد الجسور معهم ، وإن اختلفت البيئات ، وتباينت العقول والأفهام .
3- إظهارهم من خلال الدروس ، وتقريبهم للتلاميذ وتقديرهم في المحافل والمناسبات .
4- تربية التلاميذ على احترام العلماء الصادقين ، ليكبر العلم في نفوسهم ، وليعطي العلماء مكانتهم ، ولتسلم أعراضهم فلا يقع منهم أحد بريبة ولا ثلب ، ولا نقيصة .
5- عدم إثارة المسائل المختلف فيها دعوياً وفقهياً أمام العامة ، وإذا ذُكرت تنولت بعلم وأناة ، دون تشنج أو إثارة أو تطاول ، لأن الخلاف مشروع إذا كان بعلم وفهم ، وليس
بهوى وعنَت !!
ولا زلنا هنا نؤكد على خطورة توسيع الفجوات بين الشيوخ والدعاة ، وأن المطلوب هو دعمها وسدها بكل ما أوتينا من قوة ، ليصح المقصد ، ويقوي الجهد، وتنضج الثمرة ، ولكيلا نبقي للأعداء مدخلاً ومنفذاً .
أما ما يفعله بعض الأشياخ من منابذة علماء كبار لفرط حماسهم ، أو تمكنهم العلمي ، مما يجعل الناس يتجهون إليهم ، ويحتلون مكانة سامية ، وبروزاً هائلاً ساحقاً للآخرين ، فيستغل مثل ذلك لكشف صحة الطريق ، وسلامة المنهج.
فهنا آبدة منكرة ، لا تليق أن يتخلق بها حملة العلم الشرعي ، وفضلاء الدعاة الذين يقدرون للعملية الدعوية قدرها ، ويحرصون على التئام الشمل ، وتوحيد الصف ، لأنها مما تكدر النيات ، وتفسد المقاصد ، ويفتح لإحن الأنفس مفاتح ومداخل. قال صلى الله عليه وسلم : (إن الشيطان يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ، ولكن في التحريش بينهم ).
وقد يضفي الشيطان عليها مسوحاً علمية لتسويغها ، وتسويقها ، وهذا عين الخطر والبلاء .
ومثل ذلك البروز الهائل خليق بأن يعمق جوانب الرغبة والشكر والحمد عند الداعي ، وأن يحمله على كثير من التواضع والأدب والإصغاء ، وحسن الظن، واحتقار الجهد وسلامة الصدر ، ليحصل النماء ، وتعم البركة الدروس والكلمات .(1/81)
وإذا لم يحصل مثل ذلك ، وتجاوز السيل محله، فإنه جدير بأن يكب صاحبه، ويحرمه لذة المناجاة والقبول ، ويصرف أنظار الناس عنه ، لما يرون من شطحات الأخلاق ، وتجاوزات الآداب التي ليست حلية الشيوخ ، ولا تاج الدعاة والناصحين .
والله الموفق ،،
التيجان الخلقي
في زحمة الحياة ، وتكاثر مشكلاتها ، وطفرة مستجداتها تسيطر المصلحية والنفعية على حياة الناس ، وتيبس لهم الشفافية الخلقية ، والحلية الأدبية، وتصبح بمعزل عن لقاءاتهم واحتكاكاتهم ، ولا تستعمل إلا عند الاحتياج والمصلحة .
وليس الأشياخ بمعزل عن ذلك ، فكثيرون يخالطون الناس ويحتكون بهم ، وبعضهم ذوو تجارات ومصالح ، تفرض عليهم القرب
والاتصال بالعالم .
وفي ظل اليبوسة الأخلاقية ، ربما سرى شيء من ذلك إلى بعض الأشياخ رغم ما هم عليه من دعوة وخير وإصلاح .
لكن لغلبة الداء ، وفشو الوبال ، ينتقل إليهم غباره ، ويصيبهم من خلله وعواره وهذا ما كشفته الأيام ، وأظهرته الأحداث والظروف ، التي تخالط هذه الدنيا ، وتصطك بمتغيراتها وشئونها مما عكس بدوره الإهمال الأدبي لدى بعض الدعاة ، جراء انغماسهم في الحياة الاجتماعية الصاخبة .
ففقد كثيرون منهم (التيجان الخلقي) الذي يحوي من طيب الخصال ، ونبل الشيم ما يدعم رسالة الداعين ، ويرسخ جذورها وثوابتها .
لكن مع كل أسف ، أفلحت الدنيا الفاتنة ، والحياة المصطلية أن تقلل من الزخم الأخلاقي الذي بات محدوداً في حياة فئام منهم ، فلا تكاد ترى صبر الداعية تجاه مشكلة وموقف ، ولا تلمس حلمه إذا غضب ، ولا تواضعه تجاه مار ، ولا رحمته بمسكين بئيس ، أو فقير خامل .
وثمة تحركات وتفاعلات تصدر من بعضهم في الحياة العملية تستهجن وتستغرب أن يكون صاحبها ذاك الخطيب المِصقع، أو صاحب الدرس الأسبوعي، أو ذو المؤلفات الرصينة .
هل أفلحت الدنيا في الإخراب والإفساد ؟أم إنه الانفصام بين القول والعمل؟!(1/82)
أم إن قضية الدعوة بلغت الغاية من الهوان والتساهل حتى لا يقيم هؤلاء لها وزناً ، ولا يعطونها اعتباراً !!
هل نقول : يجب علينا أن نراجع علمنا ، ونجدد دعوتنا ، ونستعيد قراءة فقه الدعوة ، وأخلاق الداعية ، وقد بُث منها في القرآن غير قليل من نحو :
* (خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ) …[ الأعراف : 199 ]
* (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) ………[ البقرة : 83 ]
* (وَلَوْ كُنتَ فَظاًّ غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) …[ آل عمران : 159 ]
* (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) …[ الحجر : 88 ]
* (وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ) ……[ لقمان : 17 ]
* (وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً)…[ لقمان : 18 ]
وقد قال صلى الله عليه وسلم : (إن العبد ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم والقائم) ..
أخرجه أبو داود .
وقوله كما عند أحمد ومالك : (إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق) .
وقوله في حديث الإعرابي في الصحيحين : (إنما بعثتم ميسرين ، ولم تبعثوا معسرين)
ونصوص أخرى غزيرة لا يمكن حصرها ، ولا يمكن الوقوف عليها في مقال يسير. فالمهم هنا مراجعة أنفسنا وتصحيح مسالكنا لتسمو دعوتنا ، وتفلح مقاصدنا .. والله الموفق .
اقتضاء العلم للعمل
(العقيدة العملية)
هذا عنوان تراثي اشتهر عن الأسلاف
والعلماء السابقين .
فهذا علي رضي الله يقول : (هتف العلم بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل).
وللخطيب البغدادي رسالة مهمة اسمها
(اقتضاء العلم العمل).
والذي يُراد توضيحه هنا أننا لاحظنا عدداً غير يسير من الشيوخ والدعاة يتناولون قضايا العقيدة في إطار كلامي استدلالي ، تسطع به الألسن ، وتصم منه الآذان , وتنصت له الأسماع .
لكن سرعان ما تنقضي رسالته ، وتتهاوى قامته عند انقضائه ، حيث انعدام معاني التوحيد في الحياة العملية !(1/83)
تعج الحياة باختبارات العقائد ، وبمحن التوحيد والإخلاص ، وقليل من يثبت ويصمد ، ويعلن توحيده بفعالية ، وليس بدروسه الشديدة الطويلة في مسجد كذا وكذا . ألا ترى ما صنعه المؤمنون في الأحزاب .. قال تعالى :
(وَلَمَّا رَأَى المُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً) [ الأحزاب : 22 ] .
وقبلها في أحد وحمراء الأسد :
(الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ)
[ آل عمران : 173-174 ] .
توحيد بعضنا مهين ، وإخلاصه فيه غبش ، وإذا بانت المصائب رؤي جزعه ، وبما تعلق بأشخاص ، وربط مصير الأرزاق بأشخاص ومؤسسات .
ويستنزل نصر الله بدعاء مخروق ، وبخضوع مغشوش !! ليس هذا هو أستاذ التوحيد ومعلم العقيدة، الذي انقصم عمله عن قوله ، وضاع توحيده في مهب الريح .
وفي نحو العمليات والمعارك التي تخوضها أمتنا بان توحيد بعض هؤلاء، وكيف استقلوا إيمانهم تجاه القوى الكبرى ، وظنوا أن الدين ذاهب ، وأن الأمة زائلة ، وخفي عليهم نصوص التمكين وثوابت أن العاقبة للمتقين ، وأن الدائرة على الكافرين مهما تضخمت قوتهم ، واشتعلت نيرانهم قال تعالى :
(كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) [ المجادلة : 21 ] .
وقال عز وجل :
(إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ) [ غافر : 51 ] .
وهذا الحديث يأتي في سياق العمل بالعلم وترسيخ معنى القدوة ، وقد تقدمت إشارات إلى
مثل ذلك .(1/84)
لكن ما أريد بيانه هنا ضرورة تجسيد معاني التوحيد في الواقع ، لأنها أصل الإيمان ، وبابة النهوض والتغيير ، وبصلاح التوحيد تصلح الأنحاء والأطراف وتسلم الأمور والتحركات .
أما إذا بدا خواء توحيد الدعاة وانجرافه أمام أول موقف ، فإن ذلك سيكون له المردود السيئ على العامة ، وسيهون من ثقة الناس في أشياخهم ، وسيضاعف من ارتخاء الدعوة ، وعدم أداء رسالتها على وجهها الصحيح وهذا مشين ومخزٍ!!
لابد أن يتحول التوحيد من التنظير الفكري في الطحاوية والواسطية إلى مناهج عملية ، ومواقف ملموسة ، تزكى القول ، وتصدق المنطق ، وتربي العامة، وتصنع الاقتداء وتعلي شأن العالم ، ومن عظمة هذا الدين .
لا سيما وأن الله أشهد العلماء على أجل مشهود مع نفسه وملائكته قال تعالى : (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا العِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ) [ آل عمران : 18 ] .
لابد أن تتحول المواعظ التوحيدية ، والكلمات العقائدية إلى رسائل روحانية تستقر في الفؤاد ، وتنعكس على الجوارح والأعمال .
وعندئذ نكون قد بلغنا التوحيد الأقوم ، وأصبنا المعتقد الأحكم .
والله الموفق ،،
البحر والسواقي
يبهرك بعض الدعاة بفرط نشاطه ، وكبر همته, وسخاء نفسه التي يمكنها الله تعالى لاستيعاب أعمال عديدة ، والقيام بمهام جليلة ، والإشراف على مناشط مختلفة ، تندر في أمثالهم ، بل في جماعات مجتمعة ...
حتى إن هذا الفاضل يصير بمثابة القاعدة الصلبة التي تُنجح الأعمال ، ويبيت كالبحر الزخار خيراً وإنماء وإنتاجاً .
ومتى غاب أو تخلف ساء العمل ، وتكدر المشروع ! بل ربما لم يقم , ولم يفكر فيه .
لكن هذا الصنف عزيز ، وولادته محدودة , ونوصي مثل ذلك الفاضل ، بتأسيس القاعدة ، وإبراز لطاقات ، وإنشاء المؤسسة .(1/85)
بعض هؤلاء الأشياخ لعنفوان جهادهم ، يبرزون في كل موقف ، ويؤسسون كل فضيلة , وآخرون لمآرب نفسية ، يجب عندهم الإشراف على كل شيء ، وربما ليس لديه ثقة فيمن هو حوله . وهذا خطأ ، بل يجب عليه صناعة الثقة ، وإبراز الأكفاء ، وتشجيع الجهود حتى لا ينقطع العمل بوفاته أو مرضه ، وغيابه , فالدعوة أغلا وأعظم من أن يرتبط مصيرها بأشخاص ، ولو
عزوا وعظموا .
لأن ذلك الفذ لن يدوم لنا ، وعلينا أن نغذي تلك العناصر ، وننقي تلك السواقي حتى تتفاعل وتتضامن ، فتندفع كالبحر الزخار ، عبر عمل مؤسسي متكامل منظم ، لا ينخرم بموت فلان
ولا علان .
هذا هو المسلك الأحكم ، وتلك هي الخطة الراشدة ، لمن يفقه الدعوة ، ويحرص على بقائها واستمرارها .
لا ارتياب أن لكل مشروع ، وعمل ضخم قيادة يهبها الله من الأوصاف ما يهبها ، لكن لا يعني ذلك احتواءها لكل عمل ، وتغيبيها للآخرين .
نريد أن تكون تلك القيادة كالبلسم الروحي ، الذي يدفع ويحفز ، لا أن يلغي ويحتكر !! لأنه باحتكاره يحكم على المشروع بالوفاة المفاجئة في أي لحظة .
وعند تأمل المنهج النبوي في القيادة نلحظ أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشارك في كل غزاة ، ولم يحضر كل مشهد ، وصنع قادة كباراً وشباباً ، وأطلق كلمات الإجلال لرسل ودعاة ، واستخلف أناساً لم يكونوا معروفين من قبل ...
فهنا هو يرشح أسامة لقيادة جيش جليل فيه أبو بكر وعمر ، ويرسل معاذاً وأبا موسى إلى اليمن ، ويستخلف أبا لبابة وابن أم مكتوم ، ويرسل رجلاً في سرية ابن أنيس إلى عُرَنة في عرفات لقتل خالد بن سفيان الهذلي .
ونظائر ذلك كثير ، ليصنع القادة ، ويبرز الطاقات الحاملة بعد وفاته ، أو عند أي تخلف له عليه الصلاة والسلام
إن قيام بعض الفضلاء باحتواء العمل من أوله إلى آخره بدعوى إنجاحه وسلامته ، ليس من الفقه الرشيد لأنه وإن ادعوا ما ادعوا ...
خاطئ على المدى البعيد ، ويعود بالآثار السيئة على الدعوة .(1/86)
ويعتبر مثل ذلك آبدة عمل قد عظم وتكامل .. وقد يعرض الشيخ والداعية نفسه بتهم لا يسلم منها مع حرصه الأولي وإخلاصه المتقدم .. ومنها :
1- الاتهام بالسيطرة والمركزية ، والحرص على الزعامة المتسلطة .
2- ربطه بحب الشهرة ، والثناء الباذخ وأن يقرن كل نجاح بدوره وبروزه .
3- جهله بالمشروع الدعوي ، وأنه عمل جماعي متكامل ، تُغطّى من خلاله كل التخصصات والموهبات .
وحين يُعلن انفصام المشروع عن كل ذات وشخصية ، وجعله كالعمل الجماعي المتكامل بالسواقي الداعمة والمغذية ، يبعث رسائل من أهمها :
1- إظهار الدعوة مستقلة ، صافية عن كل نوايا ومآرب غير محمودة .
2- نجاح العمل الجماعي ، وأهميته في كل الأحوال والظروف ، حيث يتفانى الجميع على البر والتقوى ، ويهجرون الأنانية والهوى .
3- بقاء الدعوة وحيويتها في الشكل المؤسسي ، المعتمد على الخطط الواضحة ،
والرؤى الدقيقة .
4- إن الدعوة عمل لله لا ، يحكمه أشخاص ، وأشياخ همهم إبراز محامدهم ، ومصادرة جهود الآخرين وربما طمس من لا يحبون ولا يألفون والله المستعان .
تأجيج الغثائية
في الكليات الشرعية تتدفق الآلاف المؤلفة من التلاميذ الطامحة لتحصيل الشهادات ، وحيازة الوظائف ، وفيهم من تلوح له بارقة العلم الشرعي ، فيهفو إليها جاداً مسروراً ، ولكن سرعان ما يصدم بغثائية طلابية لا هم لها إلا حب الشهادة على
أي وجه كان .
ولا أرَب لها ، للتحصيل والارتقاء فكراً وخلقاً والله المستعان .
ولم يعد سراً تضاعف أحجام تلك الغثائية ، ومشاركة أطراف مختلفة في تأجيجها وتوليدها ، ومن هؤلاء بعض الأشياخ الذي ظن أنه بمسلك التيسير والتسامح سيكسب الطلاب . فإذا هو يدمر هممهم ، ويوسع راحتهم ، ويزيد من
كسلهم ، وخوائهم .
فلا كتاب يربط التلاميذ !
ولا وظائف علمية يعدونها !
ولا مسائل يبحثونها !
ولا حوارات يرتقون بها !(1/87)
بل مع المؤسف تذهب المحاضرة في أحاديث جانبية ، ونكات حجرية .. وآخر الفصل تقرر مذكرة خفيفة ، خالية من المصادر المنوعة والعمق الفكري ، والبحث العلمي .
ليتها كانت (مذكرة) تضم المصنفات المختلفة والتحقيقات الوفية .
لكن للأسف ، أنها خاوية شكلاً ومضموناً .
هذا مأزق علمي تورط فيه عدد غير قليل من الشيوخ بدعوى التخفيف والتراخي والانعتاق من بعض المسئوليات والتضحيات العلمية فوقعوا في بلية الغثائية الجارفة ، التي لا تحمل علماً ، ولا تلتمس هماً ولا فكراً .
إنه لشيء محزن أن تخرج الآلاف بلا رسالة ، إذ تهفو لهم المساجد ومؤسسات الدعوة والإصلاح والمعروف ، فلا تجدهم ، ولا تمسك بآثارهم .
ما السبب ؟!
الأسباب كثيرة : هوان عام ، وهزيمة مشينة , وانحطاط الرغبة في العلم ، وضعف الهمم ، وسطوع الدنيا ، وتراخي الأساتذة في
أسباب أخرى.
ويهمنا هنا إسهام بعض الأساتذة والأشياخ في تكثير الغثائية ، بتسطيح التدريس ، وتراخي التربية العلمية ، وانعدام الإصلاح الفكري ... والاكتفاء برتوش عامة ، ونقوش فارغة ..
والله المستعان ،،
الاستبداد الدعوي
لم يخطئ أو يبالغ بعض الدعاة عندما قال : (إن الحكم الفردي من قديم أهلك الحرث والنسل ، وفرض ألواناً من الجدب العقلي والشلل الأدبي ، أذوت الآمال ، وأقنطت الرجال).
ولا زلت أقول في كثير من المناسبات أن أشكال الاستبداد السياسي الممارس في الوطن العربي والإسلامي ، انتقل تلقائياً على الأسرة والدعوة والمدرسة وكافة مرافق المجتمع ، حتى مسنا في الكيان العلمي والدعوي وتقطعت كل أسباب الحوار والتواصل بين حملة العلم وصودرت العقول الواعية ، وعطلت مواهب هي أنفس من الذهب غلاء ، وأصفى من الفضة لمعاناً.(1/88)
الاستبداد آفة الآفات ، وهو من أسقام الدعوة المعضلة ، ولا تزال آثاره غائرة في كثير من الأماكن ، بسبب الانحطاط المطبق في الأمة ، والتسلط الدولي على شعوبها وخيراتها ، أفرز ذلك لوناً من الاستبداد الدعوي الذي يمارسه بعض الدعاة والمربين ، ممن لهم فضل ، أو يشغلون مراكز حساسة ذات بال .
ومن غير لا يشعرون ، يلغون مبدأ الشورى والحوار واحترام العقول والمواهب ، وإذا مورس شيء من ذلك مورس في إطار شكلي تمثيلي لا يغير حالاً، ولا يحسن واقعاً ، ومثل هذا الاستبداد آثاره عاتية على الدعوة إلى الله ، لأنه لا يمكن لعقل واحد أن يحقق الإنجازات الضخمة ، والتقدمات الحضارية ، وهو ينطلق من رؤية آحادية، يحفها ما يحفها من الضعف والهوى ، والتعصب والاستحسار !!
ومع هذه الأدواء المحيطة به يرفض الحوار ، ومناقشة الصواب الذي اختطه واختاره !! وإذا كان مقتنعاً بصوابيته , لماذا لا يزكيه بآراء الآخرين والمشاركين في الحقل الدعوي ؟!
إنه لمن السخف أن يتنبه الغرب لذلك في إدارة أعمالهم ومشاريعهم ، ولا نزال نحن نصطلي بنيار الاستبداد والانغلاق ، الرافض لكل معنى تقدمي ، يوسع آفاق الدعوة ، ويجدد لها ضوءها وحيويتها ، ويرفع من نفوذها وقوتها .
أما وهي بالصورة السقيمة من تسلط فئام عليها، وجعلها شأناً خاصاً ، كأنها من أملاكهم أو عقاراتهم، يعني ما يشبه الوصاية والمسئولية على الدعوة وكيانها وكتبها والمشاركين فيها ، حتى جعلوا من ليس على خطهم ، أو من خالفهم في مسائل فقهية ، وما يسوغ فيها الخلاف ، خارجاً عن نطاق الدعوة وحملتها ، وليس مؤهلاً للدخول في خضمها ، ويشتط بعض الجاهلين حينما يعتبره عدواً للدعوة ، ومناوئاً للسلفيين ، خارجاً عن
الخط العام !!
ومن صور استبداد هؤلاء دعوياً :
1- اعتقاد الوصاية على الدعوة ، وخططها ومشاريعها وكتبها وطرائق فهمها
والمشاركة فيها .
2- قمع العقول الفكرية ، والمواهب المستنيرة وممارسة لون من التحاور الشكلي.(1/89)
3- إقصاء المؤثرين والمبدعين ، لا سيما من يصغرهم سنا ، لكنه فاقهم علماً ووزناً في الساحة الدعوية .
4- دعم الرؤية الأحادية وتغييب ما يخالفها أو يحسنها ويطورها .
5- رفض تفهم وجهات النظر الأخرى .
6- إضفاء نوع من القداسة على المتنفذين رتبةً أو سناً أو مالاً ، دون إدراك صحيح لقضية الدعوة ، وأنها مشروع جماعي وفكري ، فيه جوانب اجتهادية واسعة ، لا تقبل الحسم ولا القطعية والحدية ، التي يعتقدها أولئك الأشياخ.
7- تجسيد الحزبية المقيتة وليس الجيدة المحمودة ، ولكن التي تعادي وتوالي في توافه الأمور وفي خلافات علمية سائغة .
8- دفع الأخطاء عن مشاريعها ، واعتقاد عصمتها وحداثتها ، في ظل التطور الحضاري ، رغم ما في كثير منها من تخلف وهزال وتقليدية .
وفي الختام أرجو أن لا يُساء فهم القضايا المطروحة في أوابد الأشياخ ، وأن نعتبر ذلك لوناً من ألوان التصحيح والمناصحة ، والارتقاء بعملنا الدعوي وعطائنا العلمي ، لأن الانطلاقات الدعوية والعلمية أكثرها اجتهادات قابلة للأخذ والرد ،
والكر والفر .
وإنني لأخص بها نفسي وأبنائي وتلاميذي أولاً، ثم أبعثها إلى كل صدر رحيب ، وعقل رزين، يفقه الدعوة الإسلامية ، ويحترم النقد الهادف السليم ولا يعتقد العصمة إلا لنبينا عليه الصلاة والسلام, ومن عداه بشر يصيبون ويخطئون .
وما قررناه هنا اجتهاد ورؤى واضحة ، تطالعها الأفئدة ، فتأخذ صوابها ، وتطرح خطأها .
والله الموفق
فهرس المحتويات
المقدمة ..............................................................................
1
لمجرد الخلاف ...........................................................
4
تضييق المسار ..........................................................
11
الخطاب التقليدي........................................................
15
الانعزال المستوحش ...............................................
21(1/90)
من أسباب الهزيمة ...................................................
25
فقه مفقود .........................................................................
29
البيان الآسر ..................................................................
35
الملامسة والمجافاة .................................................
39
شُح الحس الأممي ......................................................
43
التخصص والجامعية ...............................................
49
التغريد خارج السرب ............................................
58
النقد بكليته .....................................................................
65
التأثير ألوان ..................................................................
69
فتح السؤال برهنة الإتقان ....................................
74
استدراك فى غير محله .........................................
80
تصدير الفتوى ..............................................................
83
الحفظ والفكر ...............................................................
88
المشهور المهجور ....................................................
91
الثراء التعليمي الهَش ...............................................
94
تفعيل الدرس .................................................................
100
اللمسة الاجتماعية ......................................................
106
التعمق الشرعي ليس حيازة كل شيء ......
110
التجدد لا التبدل ............................................................
113
الفقه بين السعة والتشديد ......................................
118
الفتاوى الحماسية .......................................................
124(1/91)
العلماء تجمّع أو شتات ! .....................................
130
تغييب الاقتداء ...........................................................
138
قدسية النص أم قدسية العالم ؟! .......................
146
اللين وليس الانهزام ................................................
151
الإعلام إبراز وابتزاز ............................................
161
صراع النص والرأي ..............................................
169
عقل المفكر لا شهرته ! ........................................
179
التيسير أم الانتقائية وفنون التحايل ؟! ........
185
الجماهيرية والنوعية ..............................................
192
من الوعي الدعوي ...................................................
199
فقه الردود .....................................................................
206
الثقافة والدعوة ...........................................................
213
الهزيمة الفكرية ...........................................................
222
البروز الهائل ...........................................................
231
التيجان الخلقي ...........................................................
238
اقتضاء العلم للعمل(العقيدة العملية) ................
243
البحر والسواقي ...........................................................
249
تأجيج الغثائية ................................................................
256
الاستبداد الدعوي ......................................................
260
??
??
??
??
17(1/92)