الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فإن الباطل ما بَرِح يحارب الحقَّ بسيوفه المفلولة، وشُبُهاته الضئيلة، ثم يرجع خائباً بغير جدوى، وقد عاد اليوم إلى جولة جديدة يتولى كبرها نفرٌ غير قليل من بني جلدتنا ومن غير بني جلدتنا، وتلك الجولة _ كسابقاتها _ تهدف إلى إضعاف سلطان الدين في القلوب، وتنحية الشريعة عن الحياة، والقضاء على البقية الباقية من كرامة المرأة المسلمة، وإلحاقها بركب المرأة الغربية.
ويزعم أولئك النفر أنهم أتوا ببضاعة جديدة هي من ثمرات قرائحهم، ونتائج أفكارهم غير مبالين بسخط الله، ولا غضب الأمة، ولا مُتَحَرِّجين مما سينطق به التاريخ مِنْ وضْع أيديهم في أيدٍ خفية لا شأن لها إلا نصبُ المكايد لأمة كان لها العزم النافذ والكلمة العُليا.
ويود الغيورون على دينهم وأمَّتهم أن يُفْرِغوا أقلامهم، ومحاضراتهم للعمل على رقي شعوبهم، وإصلاح شؤونهم، ويودُّون من صميم أفئدتهم أن يقضوا صباحهم ومساءهم في البحث عن وسائل عزتهم، وخلاصهم من التبعية لغيرهم.
ولكن نفراً جلسوا على رأس الفتنة وهي نائمة، فصاروا يهمزونها بنزق وغرور؛ ليبعثوها حية جذعة تخب في ثياب جديدة، وتصب في قوالب شتى.
ولا شأن لأولئك النفر إلا اللهج باسم حرية الفكر، ولا يقصدون من وراء ذلك إلا النيل من هداية الإسلام، والغضَّ من شأن رجالاته العظام.
ولو صُرِفَ النظر عن ناحيتهم، وترك حبلهم على غاربهم _ لهبطوا في أمتنا في خسار يهتز له قلب العدو شماتةً وفرحاً.
والنفوس التي تتزحزح عن الإيمان قيد شعرة تبتعد عن مراقي الفلاح سبعين خريفا؛ فلابد _ إذاً _ من أن نكون على مرقبة من دعايتهم، وننفق ساعاتٍ في التنبيه على أغلاطهم؛ لعلهم ينصاعون إلى رشدهم، أو لعل الأمة تحذر عاقبة هذا الذي يبدو على أفواههم.(1/1)
هذا وإن دعوى تحرير المرأة وما يدور في هذا الفلك لمن أخطر تلك الدعاوى؛ ذلك أنها تمسُّ الأمة في صميمها، وتعمل عملها في سبيل القضاء عليها، وهذه الدعوى ليس بدعاً من القول يثار حديثاً، بل هي معركة قديمة قد أُثيرت ورُدَّت.
ولقد كان لحَمَلَة الأقلام من أهل الإسلام جهادٌ عظيم، وسعي مشكور في رد تلك الدعوى إبَّان قيامها؛ تلك الدعوى التي ظن أصحابها أنها الطعنة القاضية على المرأة المسلمة وكرامتها [وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً](الأحزاب:25).
ومن أبرز أولئك الأعلام الذين كان لهم القِدحُ المُعَلَّى في رد تلك الدعوى أديب الأمة، وكاتب الإسلام الكبير مصطفى صادق الرافعي؛ حيث كان × حامل أدب الأصالة في زمانه، ورافع لواء البلاغة، والدفاع عن القرآن، واللغة العربية.
وكان سهم الإسلام النافذ في صدور الداعين إلى التبرج والسفور والرذيلة، ولهذا كان خصومه يرهبونه أشد الرهبة، ويحاولون كفَّ بأسه بالثناء عليه، وجعله إماماً لأهل زمانه.
ومَنْ لا يدري ما الإيمان ولا الإخلاص قد يجيء على باله أن يشتري سكوت المؤمنين المخلصين بكلمة مديح أو إطراء.
والناظر في كتب الرافعي × يلحظ أنه أديب الأمة المسلمة، يُعبِّر بلسانها، وينطق عن ذاتها.
ولعل أبرز كتب الرافعي كتاب (وحي القلم) فهذا الكتاب آخر كتاب أنشأه، ولكنه _ كما يقول الأديب محمد سعيد العريان ضابط الكتاب ومصمم حواشيه _ أول ما ينبغي أن يُقرأ له، فهو كتاب يجمع كل خصائص الرافعي: الأدبية، والعقلية، والنفسية متميزة بوضوح في أسلوبه ومواضيعه؛ ففيه دينه وخلقه، وفيه شبابه وعاطفته، وفيه سمته ووقاره، وفيه غضبه وسخطه، وفيه فكاهته ومرحه في مجموعة فصول، ومقالات، وقصص من وحي قلمه، وفيض خاطره، فيها روعة الأدب، وسمو الفكر، وجمال البيان؛ كما أن فيه نظراتٍ في النفس، والكون، والحياة.(1/2)
كما أن فيه جوانبَ عديدةً عن المرأة، وما يُكَاد لها، وما يثار حولها، وما ينبغي أن تكون عليه من العفَّة والشرف، والحجاب، والديانة، والصيانة، وحسن التَّبَعُّل للزوج، وما جرى مجرى ذلك من الأخلاق الفاضلة.
كما أن فيه تحذيراً للمرأة من الرذيلة، والتبرج، والسفور، وأمثال هذه الأخلاق المرذولة، وما تجرُّه من ويلات.
كما أن فيه مناقشاتٍ لكثير من الشبهات التي يوردها دعاة الرذيلة، كدعوى الحرية، وتحرير المرأة، ونبذ التقاليد، والسير في ركاب الغرب، ونحو ذلك.
فكان × يرد تلك الدعاوى بأساليب شتى؛ فتارة يسوق الحديث في قالب التهكم، وتارة يصبه في قالب النصح للمرأة، وتارة بمناقشة تلك الدعاوى مناقشة عقلية مقنعة، وتارة يدير الحديث على ذكر العواقب المترتبة على تلك الدعاوى، وهكذا...
ولقد يسَّر الله لي قراءة هذا الكتاب أكثر من مرة، وكنت أضع خطوطاً على بعض الكلمات التي تمر بي في هذا الشأن؛ فبدا لي أن أجمعها في كتيِّب؛ عسى الله أن ينفع بها.
وسيرى القارئ الكريم أن هذه النقول جاءت على قسمين:
القسم الأول: هو عبارة عن كلمات منتقاة من مقالات متعددة من الكتاب، وخصوصاً الجزء الأول منه.
القسم الثاني: وهو عبارة عن مقالين بكاملهما، والمقالان هما:
1_ مقال بعنوان: (احذري).
وهو عبارة عن تحذيرات عديدة أطلقها للمرأة الشرقية كي تحافظ على دينها، وعفتها، وأصالتها، وتنأى بنفسها عن دعاوى المبطلين.
2_ مقال بعنوان: (عربة اللقطاء).
ويعني بالعربة: العربة التي تُقِلُّ اللقطاء، واللقطاء: جمع لقيط وهم أولاد السِّفاح.(1/3)
وهذا المقال يذكر فيه قصته لمَّا كان جالساً ذات يوم على ساحل الشاطىء، فأقبَلَت عربةٌ تُقِلُّ اللُّقطاءَ الذين أُتي بهم من الملجأ؛ ليقضوا بعض الوقت على شاطىء البحر؛ فرآهم الرافعي، فتأثَّر لمرآهم، ولأحاديثهم مع بعض الأطفال الآخرين الذين كانوا على شاطىء الساحل مع آبائهم وأمهاتهم؛ فكتب هذا المقال الرائع المؤثِّر يصور فيه ما رأى، ويُحَذِّر من خلاله من الرذيلة، ويصور ما تؤول إليه من عواقب وخيمة(1).
فهذا هو خلاصة ما في الصفحات الآتية، والله المستعان وعليه التكلان، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
1_ ولكن المرأة هي التي خُلِقت لتكون للرجل مادة الفضيلة، والصبر، والإيمان، فتكون له وحياً، وإلهاماً، وعزاءاً، وقوةً، أي زيادة في سروره، ونقصاً في آلامه.
ولن تكون المرأة في الحياة أعظم من الرجل إلا بشيء واحد: هو صفاتها التي تجعل رَجُلَها أعظم منها. (2/151)
2_ شرف المرأة رأس مال للمرأة. (1/171)
3_ والمرأة لا يحميها الشرف لا يحميها شيء، وكل شريفة تعلم أن لها حياتين: إحداهما العفة.
وكما تدافع عن حياتها الهلاك تدافع السقوط عن عفتها؛ إذ هو هلاك حقيقتها الاجتماعية، وكل عاقلة تعلم أن لها عقلين: تحتمي بأحدهما من نزوات الآخر، وما عقلها الثاني إلا شرف عرضها. (1/293)
__________
(1) _ سيلاحظ القارئ الكريم قلَّة الحواشي في الصفحات التالية، بالرغم من قوَّة أسلوب الرافعي، وتعصِّيه، واستغلاق فهمه عند بعض الناس؛ وذلك خشية أن يَثْقُل الكتاب، ولئلا يُقْطَع على القارئ استرساله، وما يوجد من حواشي إنما هي موجودة في أصل الكتاب ومن تعليقات الرافعي، ولا يوجد تعليق للمعدِّ سوى موضع واحد هو: تفسير معنى كلمة حوذي.(1/4)
4_ وأساس الفضيلة في الأنوثة الحياء؛ فيجب أن تعلم الفتاة أن الأنثى متى خرجت من حيائها، وتهجَّمت، أي توقَّحت، أي تبذَّلت _ استوى عندها أن تذهب يميناً، أو شمالاً، وتهيَّأت لكلٍ منهما، ولأيٍّ اتفق، وصاحبات اليمين في كنف الزوج، وظلِّ الأسرة، وشرف الحياة، وصاحبات الشمال ما صاحبات الشمال؟ (1/302)
5_ انظر ما فعلت كلمة الحرية بكلمة التقاليد، وكيف أصبحت هذه الكلمة السامية من مبذوء الكلام ومكروهه حتى صارت غير طبيعية في هذه الحضارة، ثم كيف أحالتها؛ فجعلتها في هذا العصر أشهر كلمة يُتَهكَّم بها على الدين، والشرف، وقانون العُرف الاجتماعي في خوف المَعَرَّةِ والدنيئة، والتصاون من الرذائل، والمبالاة بالفضائل؛ فكل ذلك تقاليد.
وقد أخذت الفتيات المتعلمات هذه الكلمة بمعانيها تلك وأَجْرَيْنها في اعتبارهن مكروهةً وحشيةً، وأضفن إليها من المعاني حواشي أخرى، حتى ليكاد الأب والأم يكونان عند أكثر المتعلمات من (التقاليد).
أهي كلمة أبدعتها الحرية، أم أبدعها جهلُ العصر وحماقته، وفجوره، وإلحاده؟ أهي كلمة تَعَلَّقَها الفتياتُ المتعلمات لأنها لغة من اللغة، أم لأنها من لغة مَنْ يُحبِبْن.
(تقاليد)...؟ فما هي المرأة بدون التقاليد؟
إنها البلادُ الجميلةُ بغير جيش، إنها الكنز المخبوء مُعَرَّضاً لأعين اللصوص، تحوطه الغفلة لا المراقبة.
هب الناس جميعاً شرفاء متعففين متصاونين فإن معنى كلمة (كنز) متى تركت له الحرية، وأغفل من تقاليد الحراسة أوجدت حريته هذه بنفسها كلمة (لص). (1/163_164)
6_ العلم للمرأة، لكن بشروط أن يكون الأب وهيبة الأب أمراً مُقرراً في العلم، والأخ وطاعة الأخ من حقائق العلم، والزوج وسيادة الزوج شيئاً ثابتاً في العلم، والاجتماع وزواجره الدينية والاجتماعية قضايا لا ينسخها العلم.(1/5)
بهذا وحده يكون النساء في كل أمة مصانعَ عمليةً للفضيلة، والكمال، والإنسانية، ويبدأ تاريخ الطفل بأسباب الرجولة التامة؛ لأنه يبدأ من المرأة التامة.
بغير هذا الشرط فالمرأة الفلاحة في حجرها طفل قذر هي خير للأمة من أكبر أديبة تخرج ذرية من الكتب. (1/169)
7_ يظنون أننا في زمن إزاحة العقبات النسائية واحدة واحدة من حرية المرأة وعِلْمها، أما أنا فأرى حرية المرأة وعلمها لا يوجدان إلا في العقبات النسائية عقبة بعد عقبة.(1/162)
8_ إن نفس الأنثى لرجل واحد؛ لزوجها وحده. (1/131)
9_ وما هو الحجاب إلا حفظ روحانية المرأة للمرأة، وإغلاء سعرها في المجتمع، وصونها من التبذل الممقوت؛ لضبطها في حدودٍ كحدود الربح في هذا القانون الصارم: قانون العرض والطلب، والارتفاع بها أن تكون سلعة بائرة ينادى عليها في مدارج الطرق والأسواق. (1/195)
10_ ولقد جاءت إلى مصر كاتبة إنجليزية، وأقامت أشهراً تخالط النساء المتحجبات، وتَدْرُسُ معاني الحجاب؛ فلما رجعت إلى بلادها كتبت مقالاً عنوانه: (سؤال أحمله من الشرق إلى المرأة الغربية) قالت في آخره: إذا كانت هذه الحرية التي كسبناها أخيراً، وهذا التنافس الجنسي، وتجريد الجنسين من الحجب المشوقة الباعثة التي أقامتها الطبيعة بينهما _إذا كان هذا سيصبح أثره أن يتولى الرجال عن النساء، وأن يزول من القلوب كل ما يحرك أوتار الحبِّ الزواجي_ فما الذي نكون قد ربحناه؟ لقد _والله_ تضطرنا هذه الحال إلى تغيير خططنا، بل تستقر طوعاً وراء الحجاب الشرقي؛ لنتعلم من جديدٍ فنَّ الحبِّ الحقيقي. (1/205)
11_ إن سموَّ الرجل بنفسه عن الزوجة والولد طيران إلى الأعلى، ولكنه طيران على أجنحة الشياطين، طيران بالرجل إلى فُوَّهة البركان الذي في الأعلى. (1/228)(1/6)
12_ وما هو الحجاب الشرعي إلا أن يكون تربية عملية على طريقة استحكام العادة لأسمى طباع المرأة، وأخصُّها الرحمة، هذه الصفة النادرة التي يقوم الاجتماع الإنساني على نزعها والمنازعة فيها ما دامت سنةُ الحياة نزاعَ البقاء؛ فيكون البيت اجتماعاً خاصَّاً مسالماً للفرد تحفظ المرأة به منزلتها، وتؤدي فيه عملها، وتكون مَغْرَساً للإنسانية، وغارسة لصفاتها معاً. (1/196)
13_ وما كان الحجاب مضروباً على المرأة نفسها، بل على حدود الأخلاق أن تجاوز مقدارها، أو يخالطها السوء، أو يتدسس إليها؛ فكل ما أدى إلى هذه الغاية فهو حجاب، وليس يؤدي إليها شيء إلا أن تكون المرأة في دائرة بيتها، ثم إنساناً فقط فيما وراء هذه الدائرة إلى آخر حدود المعاني. (1/197)
14_ على أن هذا الذي يسميه القوم حرية ليس حرية إلا في التسمية، أما المعنى فهو كما ترى: إما شرود المرأة في التماس الرزق حين لم تجد الزوج الذي يَعُولها، أو يكفيها، ويقيم لها ما تحتاج إليه؛ فمثل هذه هي حرية النكد في عيشها، وليس بها الحرية، بل هي مستعبدة للعمل شر ما تستعبد امرأة.
وإما انطلاق المرأة في عبثاتها، وشهواتها مستجيبة لشهواتها بذلك إلى انطلاق حرية الاستمتاع بالرجال بمقدار ما يشتريه المال، أو تعين عليه القوة، أو يسوِّغه الطيش، أو يجلبه التهتك، أو تدعو إليه الفنون؛ فمثل هذه هي حرية سقوطها، وما بها الحرية، بل يستعبدها التمتع.
والثالثة حرية المرأة في انسلاخها من الدين وفضائله؛ فإن هذه المدنية قد نسخت حرام الأديان وحلالها بحرام قانوني؛ فلا مَسْقَطَة للمرأة، ولا غضاضة عليها قانوناً فيما كان يُعَدُّ من قَبْلُ خزياً أقبح الخزي، وعاراً أشد العار؛ فمثل هذه هي حرةٌ حريةَ فسادِها، وليس بها الحريةُ ولكن تستعبدها الفوضى.(1/7)
والرابعة غطرسة المرأة المتعلمة، وكبرياؤها على الأنوثة والذكورة معاً، فترى أن الرجل لم يبلغ بعد أن يكون الزوج الناعم كقفاز الحرير في يدها، ولا الزوج المؤنث الذي يقول لها: نحن امرأتان؛ فهي من أجل ذلك مُطْلَقَةٌ مُخَلاَّةٌ كيلا يكون عليها سلطان، ولا إِمْرَةٌ؛ فمثل هذه حرة بانقلاب طبيعتها وزيغها، وهي مستعبدة لهوسها وشذوذها، وضلالها.
حرية المرأة في هذه المدنية أوّلها ما شئت من أوصاف وأسماء، ولكنَّ آخرها دائماً: إما ضياع المرأة، أو فساد المرأة. (1/294_295)
15_ هكذا ينبغي لنساء المسلمين في الصبر، والإباء، والقوة، والكبرياء بالنفس على الحياة كائنة ما كانت، والرضا والقناعة ومؤازرة الزوج وطاعته، واعتبار ما لهن عند الله ما لهن عند الرجل، وبذلك يرتفعن على نساء الملوك في أنفسهن، وتكون المرأة منهن وما في دارها شيء وعندها أنَّ في دارها الجنة.
وهل الإسلام إلا هذه الروح السماوية التي لا تهزمها الأرض أبداً، ولا تُذلُّها أبداً ما دام يأسها وطمعها مُعَلَّقين بأعمال النفس في الدنيا لا بشهوات الجسم من الدنيا؟ هل الرجل المسلم الصحيحُ الإسلام إلا مثل الحرب يثور حولها غبارُه، ويكون معها الشَّظَفُ، والبأس، والقوة، والاحتمال، والصبر؛ إذ كان مفروضاً على المسلم أن يكون القوةَ الإنسانية لا الضعف، وأن يكون اليقينَ الإنسانيَّ لا الشك، وأن يكون الحقَّ في هذه الحياة لا الباطل؟
وهل امرأة المسلم إلا تلك المفروض عليها أن تُمِدَّ هذه الحرب بأبطالها وعتاد أبطالها، وأخلاق أبطالها، ثم لا تكون دائماً إلا من وراء أبطالها؟
وكيف تلد البطل إذا كان في أخلاقها الضعةُ والمطامع الذليلة، والضجر، والكسل، والبلادة؟
ألا إن المرأة كالدار المبنية لا يسهل تغيير حدودها إلا إذا كانت خراباً. (1/146_147)(1/8)
16_ فأكبر الشأن هو للمرأة التي تجعل الإنسان كبيراً في إنسانيته، لا التي تجعله كبيراً في حيوانيته؛ فلو كانت هذه الثانية التي يصطلح الناس على وصفها بالجمال فهي القبيحة لا الجميلة؛ إذ يجب على المؤمن الصحيح الإيمان أن يعيش فيما يَصْلُح به الناس، لا فيما يصطلح عليه الناس؛ فإن الخروج من الحدود الضيِّقة للألفاظ إلى الحقائق الشاملة هو الاستقامة بالحياة على طريقها المؤدي إلى نعيم الآخرة وثوابها. (1/155)
17_ فليس الحجاب إلا كالرمز لما وراءه من أخلاقه ومعانيه، وروحه المَعْبَدية، وهو كالصدفة لا تحجب اللؤلؤة، ولكن تُربيها في الحجاب تربية لؤلؤية؛ فوراء الحجاب الشرعي الصحيح معاني التوازن، والاستقرار، والهدوء، والاطراد، وأخلاقُ هذه المعاني وروحُها الديني القوي الذي ينشئ عجيبة الأخلاقِ الإنسانية كلها؛ أي صبر المرأة وإيثارها.
وعلى هذين تقوم قوةُ المدافعة، وهذه القوة هي تمام الأخلاق الأدبية كلها، وهي سرُّ المرأة الكاملة؛ فلن تجد الأخلاق على أتمها وأحسنها وأقواها إلا في المرأة ذات الدين، والصبر، والمدافعة. (1/197)
18_ وما تخطئ المرأة في شيء خطأها في محاولة تبديل طبيعتها، وجعلها إيجابية، وانتحالها صفات الإيجاب، وتمردها على صفات السلب. (1/197)
19_ فخروج المرأة من حجابها خروج من صفاتها؛ فهو إضعاف لها، وتضريةٌ للرجال بها، وماذا تجدي عادة الحذر إذا أفسدتها عادة الاسترسال والاندفاع؟ فيكون حذراً ليكون إغفالاً ، ثم يكون إغفالاً ليعوِّد الزلة والغلطة، ومتى رجع غلطةً فهذا أول السقوط، ومبدأ الانقلاب، والتحول.
وليس الفرق بين امرأةٍ نفورٍ من الريبة، شَمُوسٍ لا تُطلع الرجال، ولا تطعمهم، وبين امرأة قَرورٍ على الريبة، هلوكٍ فاجرةٍ _ ليس الفرق إلا حجاب الحذر أُسدل على واحدة، وانكشف عن أخرى.(1/9)
وإذا قَرَّت المرأة في فضائلها فإنما هي في حجابها ودينها، وإنما ذلك الحجاب ضابط حريتها الصحيحة باعتبارها امرأة غير الرجل؛ فهو مسمى بالحجاب؛ لاتصاله بالحرية وضبطه لها.
ولكن الضعفاء الذين يعرفون ظاهراً من الرأي لا يدركون مذهبه، ولا يحققون ما ينتهي إليه، وينفذون في حكمهم على الظاهر لا على البصيرة، هؤلاء لا يعرفون معنى الحجاب إلا في القماش والكساء والأبنية كأن حجاب الأخلاق شيء يصنعه الحائك، والباني، والمستعبد، ولا تصنعه الشريعة، والأدب، والحياة الاجتماعية؛ فهم كما ترى حين يأتون بنصف العلم يأتون بنصف الجهل.
لم يخلق الله المرأة قوةَ عقل فتكون قوة إيجاب، ولكنه أبدعها قوةَ عاطفة؛ لتكون قوة سلب؛ فهي بخصائصها، والرجل بخصائصه، والسلب بطبيعته متحجِّب صابر، هادئ منتظر، ولكنه بذلك قانون طبيعي تتم به الطبيعة.
وينبغي أن يكون العلم قوةً لصفات المرأة لا ضعفاً، وزيادةً لا نقصاً؛ فما يحتاج العالَم إذا خرج صوتها في مشاكله أن يكون كصوت الرجل صيحةً في معركة، بل تحتاج هذه المشاكل صوتاً رقيقاً مؤثراً محبوباً مُجْمَعاً على طاعته كصوت الأم في بيتها. (1/198_199)
20_ أيتها الفتاة: إن صدق الحياة تحت مظاهرها لا في مظاهرها التي تكذب أكثر مما تصدق؛ فساعدي الطبيعة، واحجبي أخلاقك عن الرجل؛ لتعمل هذه الطبيعة فيه بقوتين دافعتين: منها، ومنكِ، فيسرع انقلابُه إليك وبحثه عنك.
وقد يجد الفاسق فاسقاتٍ وبغايا، ولكن الرجل الصحيح الرجولة لن يجد غيرك، وإنما سفورك وسفور أخلاقك تمكينٌ للرجل نفسه أن يُرْجِف بكِ الظن، ويسيء فيك الرأي، وعقابك على ذلك ما أنتِ فيه من الكساد والبوار؛ عقاب الطبيعة لمستقبلك بالحرمان، وعقاب أفكارك لنفسك بالألم. (1/199)(1/10)
21_ ولو حدَّثتك بجملة من أخبارهن _ أي النساء المقلدات للأوربيات وما مارست منهن لتكرَّهتَ، وتسخطت، ولأيقنت أن كلمة (تحرير المرأة) إنما كانت خطأ مطبعياً، وصوابها:( تجرير المرأة). (1/204)
22_ وقد تستثقل الزوجة واجباتها بين الزوج والنسل والدار، فتغتاظ، وتشكو من هذه الرَّجرَجة اليومية في الحياة، ثم لا تعلم أن نساءً غيرَها قد انقلبت بهن الحياة في مثل الخسف بالأرض، وقد تجزع للمستقبل، وتنسى أنها في أمان شرفها، ثم لا تعلم أن نساءاً يترقَّبْن هذا الآتي كما يترقب المجرم غَدَ الجريمة من يوم فيه الشرطةُ، والنيابةُ، والمحكمة، وما وراء هذا كله. (1/291_292)
23_ وهناك حقيقة أخرى فيها العزاء كلُّ العزاء للزوجات، وهي أن الزوجة امرأة شاعرة بوجود ذاتها، والأخرى لا تشعر إلا بضياع ذاتها.
والزوجة امرأة تجد الأشياء التي تتوزع حُبَّها، وحنان قلبها؛ فلا يزال قلبها إنسانياً على طبيعته، يفيض بالحب، ويستمد من الحب.
والأخرى لا تجد من هذا شيئاً، فتنقلب وحشية القلب، يفيض قلبها برذائل، ويستمد من رذائل؛ إذ كان لا يجد شيئاً مما هيَّأته الطبيعة؛ ليتعلق به من الزوج، والدار، والنسل.
والزوجة هي امرأة خالصة الإنسانية، أما الأخرى فمن امرأة، ومن حيوان، ومن مادة مهلكة، وتمام السعادة أن النسل لا يكون طبيعياً مستقرَّاً في قانونه إلا للزوجات وحدهن؛ فهو نعمتهن الكبرى، وثواب مستقبلهن، وماضيهن، وبركتهن على الدنيا.
ومهما تكن الزوجة شقيَّة بزوجها فإن زوجها قد أولدها سعادتها، وهذه وحدها مزية ونعمة.
أما أولئك فليس لهن عاقبة؛ إذ النسل قلب لحالتهن كلها، وهو غنىً إنسانيٌّ، ولكن عندهن لا يكون إلا فقراً، وهو رحمةٌ، ولكنها لا تكون إلا لعنةً عليهنَّ، وعلى ماضيهن. (1/292)
24_ الأسرة لا تقوم على سواد عيني المرأة، وحمرة خَدَّيها، بل على أخلاقها وطباعها. (1/293)(1/11)
25_ من سقوط النفس أن يغتر الشاب فتاةً حتى إذا وافق غِرَّتَها مَكَر بها بعد أن يلبسها عارَها الأبديَّ. (1/212)
26_ فإن عفاف المرأة لا تحفظه المرأة بنفسها ما لم تتهيأْ لها الوسائل والأحوال التي تعين نفسها على ذلك.
وأهم وسائلها، وأقواها، وأعظمها تشدُّد الرجال في قانون العِرْض والشرف.
فإذا تراخى الرجال ضعفت الوسائل، ومن بين هذا التراخي، وهذا الضعف تنبثق حرية المرأة متوجهة بالمرأة إلى الخير أو الشر على ما تكون أحوالها وأسبابها في الحياة.
وهذه الحرية في المدينة الأوروبية قد عوَّدت الرجال أن يَغُضُّوا، ويتسمَّحوا؛ فتهافت النساء عندهم، تنال كلٌ منهن حُكمَ قلبها، ويخضع الرجل. (1/294)
27_ والدِّين حرية القيد لا حرية الحرية؛ فأنت بعد أن تُقَيِّد رذائلك، وضراوتك وشرَّك، وحيوانيتك _ أنت من بعد هذا حرٌ ما وسعتك الأرض، والسماء، والفكر، لأنك من بعد هذا مُكَمِّل للإنسانية، مستقيم على طريقتها.
28_ إن الدين في نفس المرأة شعورٌ رقيق، ولكن هو الفولاذ السَّميك الصُّلْب الذي تُصَفَّح به أخلاقها الدافعة. (1/319)
29_ وليس من امرأةٍ إلا وقد خلق الله لها طبيعة ياقوتية، هي فطرتها الدينية التي فيها: إن بقيت لها هذه بقيت معها تلك، ولكنها حين تنخلع من هذه الفطرة تخذلها الفطرة والطبيعة معاً؛ فيجعل الله عقابها في عملها، ويَكِلُها إلى نفسها؛ فإذا هي مقبلةٌ على أغلاطها ومساوئها بطرق عقلية إن كانت عالمة، وبطرق مفضوحة إن كانت جاهلة.(1/12)
وما بدٌّ أن تستسِرَّ بطباع إما فاسدة، وإما فيها قوة الاستحالة إلى الفساد، ويرجع ضميرها الخالي محاولاً أن يمتلئ من ظاهرها بعد أن كان ظاهرها هو يمتلئ من ضميرها، وتصبح المرأة بعد ذلك في حكم أسباب حياتها مصرفةً بهذه الأسباب، خاضعة لما يُصَرِّفها، ويذهب الدين، وينزل مكانه الشيطان، ويزول الاستقرار ويحل محله الاضطراب، وتنطفئ الأشعة التي كانت تذيب الغيوم، وتمنعها أن تتراكم؛ فإذا الغيوم مُلْتَفٌ بعضها على بعض، وتُخْذَل القوة السامية التي كانت تنصر المرأة على ضعفها، فتنصرها بذلك على أقوى الرجال، فإذا المرأة من الضعف إلى تهافت، تغلبها الكلمة الرقيقة، وتغتَرُّها الحيلة الواهنة، وتوافق انخداعها كلُّ رغبة مُزَيَّنة، ويستذلُّها طمعها قبل أن يستذلها الطامع فيها، ولتكن بعد ذلك من هي كائنة أصلاً، وحَسَباً، وعقلاً، وأدباً، وعلماً، وفلسفةً؛ فلو أنها امرأة من (الأسمنت المُسلَّح) لتفتَّتت بالطبيعة التي في داخلها ما دامت الطبيعة متوجهةً إلى الهدم بعد أن فقدت ما كان يمسكها أن تهدم وأن تنهدم. (1/323)
30_ فكل ما تراه من أساليب التجميل والزينة على وجوه الفتيات وأجسامهن في الطرق _ فلا تعدَّنَّه من فرط الجمال، بل من قلة الحياء. (1/302)
31_ وما أوَّلُ الدعارة إلا أن تمد المرأة طَرْفَها في غير حياء كما يمد اللصُّ يده من غير أمانة. (1/297)
32_ وهذه الزينة تتصنع بها المرأة تكاد تكون صورة المكر، والخداع، والتعقد، وكلما أسرفت في هذه أسرفت في تلك.
بل الزينة لوجه المرأة وجسمها سلاح من أسلحة المعاني كالأظافر والمخالب والأنياب، غير أن هذه لوحشية الطبيعة الحية المفترسة، وتلك لوحشية الغريزة الحية التي تريد أن تفترس. (2/63)(1/13)
33_ إن الساقطة لا تنظر في المرآة أكثر ما تنظر إلا ابتغاء أن تتعهد من جمالها وجسمها مواقع نظرات الفجور، وأسباب الفتنة، وما يستهوي الرجل، وما يفسد العفة عليه؛ فكأن الساقطة، وخيالها في المرآة رجل فاسق ينظر إلى امرأة فاسقة لا امرأة تنظر إلى نفسها. (1/77)
34_ من مصائبنا نحن الشرقيين أننا لا نأخذ الرذائل كما هي، بل نزيد عليها ضعفنا فإذا هي رذائل مضاعفة. (1/204)
35_ أما الفتاة فكانت في الأكثر للزواج، فعادت للزواج في الأقل، وفي الأكثر للهو والغزل.
وكان لها في النفوس وقار الأم، وحرمة الزوجة؛ فاجترأ عليها الشبان اجتراءهم على الخليعة الساقطة.
وكانت مقصورة لا تُنال بعيب ولا يتوجَّه عليها ذمٌّ؛ فمشت إلى عيوبها بقدميها، ومشت إليها العيوبُ بأقدام كثيرة.
وكانت بجملتها امرأة واحدة، فعادت مما ترى، وتعرف، وتكابد كأن جسمها امرأة، وقلبها امرأة أخرى، وأعصابها امرأة ثالثة. (1/162_163)
المقال الأول: احذري (1/262_267).
المقال الثاني: عربة اللقطاء (1/306_313).
احذري أيتُها الشرقيةُ وبالغِي في الحذر، واجعلي أخصَّ طباعِك الحذرَ وحده.
احذري تمدّن أوربا أن يجعل فضيلَتكِ ثوباً يُوسَّعُ ويُضيَّق؛ فلُبْسُ الفضيلةِ على ذلك هو لُبْسُها وخَلْعُها.
احذري فنَّهم الاجتماعيَّ الخبيث الذي يَفْرِضُ على النساء في مجالس الرجال أن تؤدّي أجسامُهُنَّ ضريبة الفن.
احذري تلك الأنوثة الاجتماعية الظريفة؛ إنها انتهاء المرأة بغاية الظَّرف والرقة إلى . . . إلى الفضيحة.
احذري تلك النسائية(1) الغَزليَّة؛ إنها في جملتِها تَرخِيصٌ اجتماعي للحُرَّة أن... أن تُشَارِك البَغِيَّ في نصفِ عملها.
أيتها الشرقية:احذري احذري!
احذري التمدن الذي اخْتَرَعَ لقتل لَقَبِ الزوجة المقدَّس، لَقَبَ (المرأة الثانية).
__________
(1) _ نحن نستعمل: النسائية والنسوية، وكلاهما عندنا صحيح، والاختيار في كل موضع للأفصح في موقعه.(1/14)
واخترعَ لقتل لقبِ العذراء المقدَّس، لَقَبَ (نصف عذراء).
واخترعَ لقتل دينية معاني المرأة، كلمةَ (الأدب المكشوف).
وانتهى إلى اختراع السُّرعة في الحب؛ فاكتفى الرجل بزوجة ساعة.
وإلى اختراع استقلال المرأة، فجاء بالذي اسمُهُ (الأبُ) من الشارع، لتُلْقِي بالذي اسمُهُ (الابن) إلى الشارع.
أيتها الشرقية: احذري .. احذري!
احذري وأنت النجم الذي أضاء منذ النبوة، أن تقلدي هذه الشمعة التي أضاءت منذ قليل.
إن المرأة الشرقية هي استمرار متصل لآداب دينها الإنساني العظيم.
هي دائماً شديدة الحفاظ؛ حارسة لحوزتها؛ فإن قانون حياتها دائماً هو قانون الأمومة المقدس.
هي الطهر والعفة، هي الوفاء والأَنَفة، هي الصبر والعزيمة، هي كل فضائل الأم.
فما هو طريقها الجديد في الحياة الفاضلة، إلا طريقها القديم بعينه؟
أيتها الشرقية: احذري .. احذري!
احذري _ ويحكِ _ تقليد الأوربية التي تعيشُ في دنيا أعصابها محكومةً بقانونِ أحلامها.
لم تَعُدْ أنوثتُها حالةً طبيعيَّةً نفسيَّةً فقط، بل حالةً عقليَّةً _ أيضاً _ تَشُكُّ وتُجادل.
أنوثةٌ تَفَلْسَفَتْ فرأت الزواج نصف الكلمة فقط، والأمَّ نصف المرأة فقط.
ويا ويل المرأة حين تنفجرُ أنوثتُها بالمبالغة، فتنفجرُ بالدواهي على الفضيلة.
إنها بذلك حُرَّةٌ مساويةٌ للرجل، ولكنها بذلك ليست الأنثى المحدودة بفضيلتها.
أيتها الشرقية: احذري .. احذري!
احذري خَجَل الأوربية المترجِّلة من الإقرار بأنوثتها.
إن خَجَلَ الأنثى يجعلُ فضيلتَها تخجلُ منها.
إنه يُسقِط حياءها، ويكسو معانيها رُجُولةً غيرَ طبيعيَّة، إن هذه الأنثى المترجِّلة تنظر إلى الرجل نظرة رجل إلى أنثى، والمرأةُ تعلو بالزواج درجةً إنسانية، ولكن هذه المكذوبة تنحطُّ درجة إنسانية بالزواج.
أيتها الشرقية: احذري . . احذري!
احذري تَهَوُّس الأوربية في طلب المساواة بالرجل؛ لقد ساوتْهُ في الذهاب إلى الحلاق، ولكن الحلاق لم يجد في وجهها اللِّحْية . . .(1/15)
إنها خُلِقت لتَحْبِيبِ الدنيا إلى الرجل، فكانت بمساواتها مادّة تبغيض.
العجيبُ أن سرَّ الحياة يأبى أبداً أن تَتَساوى المرأةُ بالرجلِ إلا إذا خَسِرتْه.
والأعجبُ أنها حين تخضع يرفعها هذا السر ذاته عن المساواة بالرجل إلى السيادة عليه.
أيتها الشرقية: احذري .. احذري!
احذري أن تَخْسَري الطباع التي هي الأليقُ بأمٍّ أنجبت الأنبياء في الشرق.
أمٌّ عليها طابَعُ النفسِ الجميلة، تَنْشُرُ في كل موضعٍ جَوَّ نفسِها العالية؛ فلو صارت الحياةُ غَيماً ورعداً وبَرقاً _ لكانت هي فيها الشمسَ الطالعةَ.
ولو صارت الحياةُ قَيْظاً وحَرُوراً واختِناقاً _ لكانت هي فيها النسيمَ يَتَخَطَّر.
أمٌ لا تُبالي إلا أخلاق البُطولةِ وعزائمَها؛ لأن جَدَّاتِها ولَدْن الأبطال.
أيتها الشرقية: احذري .. احذري!
احذري هؤلاء الشبَّان المتدنين بأكثر من التمدن؛ يُبالغُ الخبيثُ في زينته، وما يدري أن زينتَه مُعْلِنَةٌ أنه إنسان من الظاهر.
ويبالغُ في عَرض رُجولتِهِ على الفتيات، يحاولُ إيقاظ المرأةِ الراقدَة في العذراء المسكينة!
ليس لامرأة فاضلة إلا رَجُلُها الواحد؛ فالرجالُ جميعاً مَصائبُها إلا واحداً.
وإذ هي خالطتِ الرجال، فالطبيعيُّ أنها تُخالط شَهَوات، ويجب أن تحذَرَ وتُبالغ.
أيتها الشرقية: احذري .. احذري!
احذري؛ فإن في كل امرأة طبائعَ شريفةً مُتَهوِّرة؛ وفي الرجال طبائع خسيسة متهوّرة.
وحقيقة الحجاب أنه الفصل بين الشرف فيه الميلُ إلى النزولِ، وبين الخِسَّةِ فيها الميل إلى الصعود.
فيكِ طبائعُ الحبّ، والحَنان، والإيثار، والإخلاص، كلما كَبِرْتِ كَبُرَتْ.
طبائع خَطِرَة، إن عملت في غير موضعها _ جاءت بعكس ما تعملُه في موضعها.
فيها كلُّ الشرفِ ما لم تنخدعْ، فإذا انخدعت فليس فيها إلا كلُّ العار.
أيتها الشرقية: احذري .. احذري!(1/16)
احذري كلمة شيطانيةً تسمعينها: هي فَنِّية الجمال أو فنِّية الأنوثة، وافهميها أنتِ هكذا: واجبات الأنوثة، وواجبات الجمال.
بكلمة يكون الإحساس فاسداً، وبكلمة يكون شريفاً، ولا يَتَسَقَّط الرجل امرأةً إلا في كلمات مُزَيَّنَة مثلِها...
يجب أن تَتَسَلَّحَ المرأة مع نظرتها، بنظرةِ غضَب ونظرةِ احتقار.
أيتها الشرقية: احذري .. احذري!
احذري أن تُخْدَعي عن نفسك؛ إن المرأةَ أشدُّ افتقاراً إلى الشرف منها إلى الحياة.
إن الكلمة الخادعةَ إذ تقال لك، هي أخت الكلمةِ التي تقال ساعةَ إنفاذ الحكم للمحكوم عليه بالشَّنْق...
يَغْتَرُّونكِ بكلمات الحب والزواج والمال، كما يُقال للصاعِد إلى الشنَّاقة(1): ماذا تشتهي؟ ماذا تريد؟ الحب؟ الزواج؟ المال؟!
هذه صَلاَة الثعلب حين يَتظاهر بالتقوى أمام الدَّجاجة.
الحب؟ الزواج؟ المال؟ يا لحمَ الدَّجاجة! بعض كلماتِ الثعلب هي أنياب الثعلب.
أيتها الشرقية: احذري .. احذري!
احذري السقوط؛ إن سقوطَ المرأة لِهوْلِهِ وشدَّتهِ ثلاث مَصائبَ في سُقوطِها هي، وسقوط من أوجدها، وسقوط من تُوجِدهم!
نَوَائب الأسرةِ كلها قد يَسْتُرها البيت، إلا عارَ المرأة؛ فَيدُ العار تَقْلِب الحِيطانَ كما تقلب اليد الثوبَ فتجعل ما لا يرى هو ما يُرى.
والعار حكمٌ يُنفذه المجتمع كلُّه، فهو نَفْيٌ من الاحترام الإنساني.
أيتها الشرقية: احذري .. احذري!
احذري لو كان العار في بئر عميقة لقلبها الشيطان مِئْذنةً ووقفَ يُؤذّن عليها.
يفرَح اللعين بفضيحةِ المرأة خاصَّةً، كما يفرح أبٌ غنيٌ بمولود جديد في بيته.
واللصُّ، والقاتل، والسكِّير، والفاسق، كلُّ هؤلاء على ظاهر الإنسانية كالحرِّ والبرد.
__________
(1) _ كلمة =المشنقة+ ليست عربية، ولكن لها وجهاً في الاشتقاق، غير أن كسرة ميمها تجعلها ثقيلة،وكان اسمها قديماً (الشناقة) ذكرها ياقوت في معجم الأدباء، وهي أفصح وأخف، فلعل الشناقة بعد هذا تشنق المشنقة.(1/17)
أما المرأة حين تسقط فهذه من تحت الإنسانية هي الزلزلة.
ليس أفظعُ من الزلزلة المرتجة تشق الأرض، إلا عارَ المرأة حين يشق الأسرة.
أيتها الشرقية: احذري .. احذري!
عربة اللقطاء (1)
جلستُ على ساحل الشاطئ في (اسكندرية) أتأمل البحر، وقد ارتفعَ الضُّحى، ولكنَّ النهارَ لَدْنٌ ناعمٌ رطيبٌ كأنَّ الفجرَ ممتدٌ فيه إلى الظُّهر.
وجاءت عَربة اللُّقَطَاء فأشرفَتْ على الساحل، وكأنها في منظرها غمَامةٌ تتحرك، إذ تَعلوها ظُلَّةٌ كبيرة في لَون الغَيْم، وهي كعَربات النقل، غيرَ أنها مُسوَّرةٌ بألواح من الخشب كجوانب النعش تُمْسك مَن فيها من الصِّغار أن يتدحرجوا منها إذ هي تدرُج وتَتَقَلْقَل.
ووقفتْ في الشارع؛ لتُنْزِل رَكْبَها إلى شاطيء البحر؛ أولئك ثلاثون صغيراً من كل سَفِيج لَقيط ومَنْبوذ، وقد انكمشوا وتَضاغَطُوا إذ لا يمكن أن تُمَطَّ العربة فَتَسعَهم، ولكن يمكن أن يُكْبَسُوا ويتداخَلُوا حتى يَشْغَلَ الثلاثة أو الأربعة منهم حَيِّزَ اثنين.
ومَنْ منهم إذا تألَّم سيذهب فيشكو لأبيه؟
وترى هؤلاء المساكينَ خَلِيطاً مُلْتَبِساً يُشْعِرك اجتماعُهم أنهم صَيْدٌ في شَبكة لا أطفالٌ في عربة، ويَدُلُّك منظرهم البائس الذليل أنهم ليسوا أولادَ أمَّهات وآباء، ولكنهم كانوا وساوِسَ آباء وأمهات.
هذه العربة يجرُّها جوادان أحدهما أدهم، والآخر كُمَيْت(2).
فلما وقفتْ لَوَى الأدهم عُنقَه والتفتَ ينظر: أيفرِغون العربةَ، أم يزيدون عليها؟
__________
(1) _ كتبها في مصيفه بسيدي بشر سنة 1935م.
(2) _ الأدهم: الأسود، والكميت: الأحمر.(1/18)
أما الكُمَيْت فحرَّك رأسه وعَلكَ لِجامَه كأنه يقول لصاحبه: إن الفكرَ في تخفيف العبء الذي تَحملُه يجعلُه أثقلَ عليك مما هو، إذ يُضيف إليه الهمَّ، والهمُّ أثقل ما حملتْ نفس؛ فما دمتَ في العملِ فلا تَتَوهَّمَنَّ الراحةَ؛ فإن هذا يُوهِن القوة، ويَخْذُلُ النشاط، ويَجْلِبُ السأم؛ وإنما رُوحُ العمل الصبر، وإنما رُوح الصبر العزم.
ورآهم الأدهم يُنْزِلون اللُّقَطَاء، فاستخفَّه الطرب، وحرَّك رأسه كأنما يسخَر بالكميت وفلسفته، وكأنما يقولُ له: إنما هو النُّزُوعُ إلى الحرية، فإن لم تكن لك في ذاتها، فلتكنْ لك في ذاتك، وإذا تعذَّرَت اللذةُ عليك، فاحتفظ بخَيالها، فإنه وُصْلَتُكَ بها إلى أن تُمكنَ وتتَسهَّل؛ ولا تجعلَنَّ كلَّ طباعِك طباعاً عاملةً كادِحةً، وإلا فأنت أداةٌ ليس فيها إلا الحياةُ كما تريدك، وليكن لك طبعٌ شاعرٌ مع هذه الطباع العاملةِ، فتكون لك الحياةُ كما تريدك وكما تريدها.
إن الدنيا شيءٌ واحدٌ في الواقع؛ ولكنَّ هذا الشيء الواحدَ هو في كل خيال دنيا وحدها.
وفي العربة امرأتان تقومان على اللقطاء؛ وكلتاهما تزويرٌ للأم على هؤلاء الأطفال المساكين.
فلما سكنت العربةُ انحدرتْ منها واحدة وقامت الأخرى تُناولُها الصغار قائلةً: واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة. . . إلى أن تمَّ العدد وخلا قَفَصُ الدَّجاجِ من الدجاج؟
ومشى الأطفالُ بوجوه يتيمة، يَقرأ من يقرأ فيها أنها مُسْتَسلِمةٌ، مستكينة، معترفة أنْ لا حق لها في شيء من هذا العالم، إلا هذا الإحسانَ البخْس القليل.
جاؤوا بهم لينظروا الطبيعةَ والبحرَ والشمس، فغفل الصغار عن كل ذلك، وصرفوا أعينهم إلى الأطفال الذين لهم آباء وأُمَّهات.
وآ كبدي! أضنى الأسى كَبِدِي؛ فقد ضاق صدري بعد انفساحه، ونالني وَجَعُ الفكرِ في هؤلاء التُّعساء، وعرتني منهم علة كدس الحمى في الدم؛ وانقلبت إلى مثواي، والعربةُ وأهلها ومكانها وزمانها في رأسي.(1/19)
فلما طاف بي النوم طاف كلُّ ذلك بي، فرأيتُني في موضعي ذاك، وأبصرتُ العربةَ قد وقفتْ، وتحاوَرَ الأدهم والكميت؛ فلما أفرغوها وشعر الجوادان بخفَّتها التفتا معاً، ثم جمعا رأسيهما يتحدَّثان!
قال الكميت: كنت قبل هذا أجرُّ عربة الكلاب التي يقتلها الشّرْطَةُ بالسُّم، فآخذ الموتَ لهذه الكلاب المسكينة، ثم أرجع بها موتى؛ وكنت أذهبُ وأجيء في كل مراد ومُضطرب من شوارع المدينة وأزقتها وسككها، ولا أشعر بغير الثقل الذي أجره؛ فلما ابتليت بعربة هؤلاء الصغار الذين يسمونهم اللقطاء، أحسست ثقلاً آخر وقع في نفسي وما أدري ما هو؟ ولكن يخيل إليَّ أن ظل كل طفل منهم يثقل وحده عربة.
قال الأدهم: وأنا فقد كنتُ أجرُّ عربةَ القمامةِ والأقذار، وما كان أقذَرَها وأنتَنها، ولكنها على نفسي كانت أطهرَ من هؤلاء وأنظف؛ كنت أجِدُ ريحها الخبيثةَ ما دمت أجرُّها؛ فإذا أنا تركتُ العربة استَرْوَحْتُ النَّسيم واستطعَمْت الجوّ، أما الآن فالريحُ الخبيثةُ في الزمن نفسِه، كأن هذا الزمن قد أرْوَحَ وأنتنَ منذ قُرِنْتُ بهؤلاء وعرَبتهم.
قال الكُميت: إن ابن الحيوان يستقبل الوجود بأمه؛ إذ يكون وراءها كالقطعة المتممة لها، ولا تقبل أمه إلا هذا ولا يصرفها عنه صارف، فترغم الوجود على أن يتقبل ابنها، وعلى أن يعطيه قوانينه؛ أما هؤلاء الأطفال فقد طردهم الوجود منه كما طرد الله آباءهم وأمهاتهم من رحمته؛ وقد هديت الآن إلى أن هذا هو سرُّ ما نشعر به؛ فلسنا نجرُّ للناس، ولكن للشياطين.
وهنا وقف على حُوذيّ(1) العربة صديقٌ من أصدقائه فقال: من هؤلاء يا أبا علي؟
قال الحوذي: هؤلاء ... هؤلاء يا أبا هاشم.
__________
(1) _ الحوذي: هو السائق الحادي، قال في القاموس ص425: الحوذي: بالضم الطارد، والمستحثُ على السير.(م)(1/20)
قال أبو هاشم: سبحان الله! أما تترك طبعك في النكتة يا شيخ؟ قال الحوذي: وهل أعرفهم أنا؟ هم بضاعة العربة والسلام: اركبوا يا أولاد، انزلوا يا أولاد، هذا كلُّ ما أسمع.
قال أبو هاشم: ولكن ما بالك ساخطاً عليهم، كأنهم أولادُ أعدائك؟
قال الحوذي: ليت شعري من يدري أيُّ رجلٍ سيخرج من هذا الطفل، وأيَّةُ امرأةٍ ستكون من هذه الطفلة؟
انظر كيف تعلقت هذه البنت وعمرها سنتان، في عنق هذا الولد الذي كان من سنتين ابن سنتين(1). . . لا أراني أحملُ في عربتي أطفالاً كالأطفال الذين تحملهم العربات إلى أبواب دورهم؛ فإن هؤلاء اللقطاء يُحملون إلى باب الملجأ، وهو بابٌ للحارات والسكك لا يأخذُ إلا منها؛ فلا يُرسل إلا إليها.
وأنا والله يا أبا هاشم، ضيِّقُ الصدر، كاسف البال من هذه المهنة؛ ويخيل إليَّ أني لا أحملُ في عربتي إلا الجنونَ، والفجورَ، والسرقةَ، والقتلَ، والدعارةَ، والسكْرَ، وعواصفَ، وزوابعَ.
قال أبو هاشم: ولكنَّ هؤلاء الأطفال مساكين، ولا ذنبَ لهم.
قال الحوذي: نعم لا ذنب لهم، غير أنهم هم في أنفسهم ذنوب؛ إنَّ كلّ واحد من هؤلاء إنْ هو إلا جريمة تُثبِتُ امتدادَ الإثم والشر في الدنيا؛ ولدتْهم أمهاتُهم لِغَيَّة(2) فقطع صاحبُه عليه وقال: وهل وَلَدْنَهُمْ إلا كما تلد سائرُ الأمهات أولادَهن؟
قال: نعم، إنه عملٌ واحد، غير أن أحوالَه في الجهتين مختلفة لا تتكافأ؛ وهل تستوي حالُ من يشتري المتاع، ومن يسرقُ المتاع؟
__________
(1) _ تعبير بالنكتة على طريقة ظرفاء البلديين من أمثال (أبي علي) والمراد أنه ابن أربع سنوات.
(2) _ ولدته لِغَيَّة: أي من سفاح، وضده لرَشدة بفتح الراء.(1/21)
ها هنا باعثٌ من الشهوة قد عجز أن يسموَ سموَّه _ وما سموُّه إلا الزواج _ فَتَسَفَّل وانحطَّ، ورجِعَ فِسقاً، وعاد أَوَّلُهُ على آخره: كان أوله جُرْماً فلا يزال إلى آخره جُرْماً، ولا يزال أبداً يعودُ أولُه على آخره؛ فلما حملت المرأة وفاءتْ إلى أمرِها، وذهب عنها جنونُ الرجلِ والرجلُ معاً؛ انطوتْ للرجال على الثأر والحقد والضغينة؛ فلا يكون ابنُ العارِ إلا ابنَ هذه الشرور _ أيضاً _.
والأمهاتُ يُعددْن لأجِنَّتهن الثيابَ والأكْسِيَة قبل أن يُولدوا، ويُهيِّئْن لهم بالفكرِ آمالاً وأحلاماً في الحياة، فيُكْسِبْنَهُم في بطونهن شعورَ الفرَح، والابتهاج، وارتقابَ الحياة الهنيئة، والرغبة في السموِّ بها؛ ولكنَّ أمهات هؤلاء يُعدِدْن لهم الشوارع والأزقة منذُ البَدء، ولا تترقبُ إحداهن طولَ أشهر حملها أن يجيئها الوليد، بل أن يتركها حيَّاً أو مقتولاً؛ فيورِثْنهم بذلكَ وهم أجنَّةٌ شعورَ اللهفةِ والحسْرة والبغض والمقت، ويطبعنهم على فكرة الخطيئة والرغبة في القتل، فلا يكونُ ابنُ العار إلا ابنَ هذه الرذائل _ أيضاً _.
وتظلُّ الفاسقة مدةَ حملها تسعة أشهر في إحساس خائف، مترقب، منفرد بنفسه، منعزل عن الإنسانية، ناقم، متبرّم، متستر، منافق؛ فلو كان السَّفيحُ من أبوين كريمين لجاء ثُعباناً آدميَّاً فيه سُمُّه من هذا الإحساس العنيف.
ومتى ألقت الفاسقةُ ذا بطنها(1) قطعتْه لِتوِّه من روابط أهلِه وزمنِه وتاريخِه ورمتْ به ليموت؛ فإن هلك فقد هلك، وإن عاش لمثلِ هذه الحياة فهو موت آخرُ شرٌ من ذلك؛ ومهما يتولَّهُ الناسُ والمحسنون فلا يزالُ أوَّلُه يعود على آخره؛ مما في دمهِ وطباعه الموروثة، ولا يبرحُ جريمةً ممتدَّةً متطاولة، ولا ينفكُّ قصةً فيها زانٍ وزانيةٌ، وفيها خطيئةٌ ولَعنة.
__________
(1) _ أي وضعت وولدت، وهو تعبير عربي بليغ.(1/22)
فهؤلاء _ كما رأيتَ _ أولادُ الجُرأة على الله، والتعدي على الناس، والاستخفاف بالشرائع، والاستهزاء بالفضائل؛ وهم البغض الخارج من الحب، والوقاحة الآتية من الخجل، والاستهتارُ المنبعثُ من النَّدامة؛ وكلٌّ منهم مسألةُ شرّ تطلبُ حلَّها أو تعقيدها من الدنيا، وفيهم دماءٌ فوَّارة تجمعُ سمومها شيئاً فشيئاً كلما كبروا سنةً فسنة.
قال أبو هاشم: ألا لعنة الله على ذلك الرجل الفاسق الذي اغتر تلك المرأة فاستزلَّها وهوَّرها في هذه المَهواة، أكان حق الشهوة عليه أعظم من حق هذا الآدميّ؟ أما كان ينبغي أن يكون هذا الآخرُ هو الأول في الاعتبار، فيعلمَ أن هذا اللقيط المسكين هو سبيلُه إلى صاحبته، وهو البلاغ إلى ما يحاوله منها؛ فيكون كأنما دخل بين الاثنين ثالثٌ يراهما، فلعلهما يستحيان؟
قال الحوذيُّ الفيلسوف: لعنة الله على ذلك الرجل، ولعنات الله كلُّها، ولعناتُ الملائكة والناس أجمعين على تلك المرأة التي انقادت له واغترت به، إن الرجل ليس شيئاً في هذه الجريمة، فقد كانت بصقةٌ واحدةٌ تُغرقُه، وكانت صفعةٌ واحدةٌ تهزمه، وكان مع المرأة الحكومةُ والشرائعُ والفضائلُ، ومعها جهنمُ _ أيضاً _.
ألم تعلم الحمقاء أن الرجلَ الذي ليس زوجاً لها ليس رجلاً معها، وأن الشريعة لو أيقنت أنه رجلٌ لما حرمت عليها أن تخالطه؟ إنه ليس الرجلُ هو الذي ساور هذه المرأة، بل مادةُ الحياة التي رأت في المرأة مُستودعها، فتريد أن تقتحم إلى مقرها عنوةً أو خداعاً أو رضىً أو كما يتفق؛ إذ كان قانون هذه المادة أن توجد، ولا شيء إلا أن توجد؛ فلا تعرفُ خيراً ولا شرَّاً ، ولا فضيلةً ولا رذيلة.
لأيهما يجبُ التحصين: أللصاعقة المُنقضَّة، أم للمكان الذي يُخشى أن تنقضَّ عليه؟
لقد أجابت الشريعةُ الإسلامية: حصنوا المكان، ولكن المدنية أجابت: حصِّنوا الصاعقة!(1/23)
وكانت المرأتان المصاحبتان لجماعة اللُّقطاء تتناجيان، فقالت الكبرى منهما: يا حسرتا على هؤلاء الصغار المساكين! إن حياة الأطفال فيما فوق مادة الحياة، أي في سرورهم وأفراحهم، وحياةُ هؤلاء البائسين فيما هو دون مادة الحياة، أي في وجودهم فقط.
وكِبَرُ الأطفال يكون منه إدخالهم في نظام الدنيا، وكِبَرُ هؤلاء إخراجهم من (الملجأ) وهو كلُّ النظام في دنياهم، ليس بعده إلا التشريدُ، والفقرُ، وابتداء القصة المحزنة.
فقالت الصُّغرى: ولم لا يفرحون كأولاد الناس، أليست الطبيعةُ لهم جميعاً، وهل تجمع الشمسُ أشعتها عن هؤلاء لتُضاعفها لأولئك؟
قالت الأخرى: الطبيعة؟ تقولين الطبيعة؟ إنك يا ابنتي عذراء لم تبدأ في حياتك حياةٌ بعد، ولم تجاوبي بقلبك القلبَ الصغير الذي كان تحت قلبك تسعة أشهر؛ وإنما أنتِ مع هؤلاء (موظَّفة) لا تعرفين منهم إلا جانب النظام وقانونَ الملجأ.
لقد ولدتُ يا ابنتي خمسة أطفال، وبالعين البليغة التي أنظرُ بها إليهم أنظر إلى هؤلاء، فما أراهم إلا منقطعين من صلة القلب الإنساني: يعبسُ لهم حتى الجوّ، وُيظلم عليهم حتى النور، ويبدو الطفل منهم على صِغَرِه كأنه يحملُ الغمَّ المقبل عليه طولَ عمره.
يا لهفي على عودٍ أخضرَ ناعمٍ ريَّانَ كان للثَّمر فقيل له: كن للحطب!
الفرحُ يا ابنتي هو شعورُ الحيّ بأنه حيٌّ كما يهوى، ورؤيتُه نفسه على ما يشاء في الحياة الخاصة به.
وهؤلاء اللقطاء في حياة عامَّة قد نُزعت منها الأمُّ والأبُ والدارُ، فليس لهم ماض كالأطفال، وكأنهم يبدؤون من أنفسهم لا من الآباء والأمهات.
قالت الصغيرة: ولكنهم أطفال.
قالت تلك: نعم يا ابنتي هم أطفال، غير أنهم طُردوا من حقوق الطفولة كما طُردوا من حقوق الأهل، وحسبُك بشقاء الطفل الذي لم يعرف من حنان أمه إلا أنها تقتله، ولا من شفقتها إلا أنها طرحته في الطريق.
إن الطبيعة كلَّها عاجزة أن تعطي أحدهم مكاناً كالموضع الذي كان يتبوَّؤُه بين أمه وأبيه.(1/24)
ليس الأطفالُ يا ابنتي إلا صوراً مُبهمةً صغيرةً من كل جمال العالم، تفسِّرها أعينُ ذويهم بكل التفاسير القلبية الجميلة؛ فأين أين العيونُ التي فيها تفسيرُ هذه الصُّور اللقيطة؟
ألا لعنة الله والملائكة والناس أجمعين على أولئك الرجال الأنذالِ الطّغام الذين أولدوا النساء هؤلاء المنبوذين! يزعمون لأنفسهم الرجولة، فهذه هي رجولتهم بين أيدينا، هذه هي شهامتهم، هذه هي عقولهم، هذه هي آدابُهم!
عجباً، إن سيِّئات اللصوص والقتلةِ كلها يُنسى ويتلاشى، ولكنَّ سيئات العشاق والمحبين تعيش وتكبر.
أكان ذنبُ المرأة أنها صادقة فصدَّقتْ، وأنها مُخْلِصة فأخلصتْ، وأنها رقيقة فلانت، وأنها مُحسنة فرَحمتْ، وأنها سليمة القلب فانخدعت؟
وآ كبدي للمسكينة! هل انخدعتْ إلا من ناحيةِ الأمومة التي خُلقت لها؟ هل انخدعتْ إلا الأمُّ التي فيها؟ وهل خدعها من ذلك اللئيم إلا الأب الذي فيه؟
وآ كبدي لمن تُفْجع بالنكبة الواحدة ثلاث فجائع: في كرامتها التي ابتُذِلتْ، وفي الحبيب الذي تبرَّأ منها، وفي طفلها الذي قطعته بيدها من قلبها، وتركته لما كتب عليه!
إن هذا لا يُعوّضُه في الطبيعة إلا أن يكون لكل رجل من أولئك الأنذال ثلاث ُ أرواح، فيُقتل ثلاثَ مرات: واحدةً بالشنق، والثانيةَ بالحرق، والثالثةَ بالرَّجْم بالحجارة.
وكان اللقطاء قد تَبَعْثروا على الساحل جَماعاتٍ وَشتَّى، فوقف أحدهم على طفل صغير يلعبُ بما بين يديه، وأمُّه على كَثَب منه، وهي تتلهَّى بالمخرَّم تتلوَّى فيه أصابعُها.
فنظر الطفلُ إلى اللقيط وأومأ إلى جماعته ثم قال له: أأنتم جميعاً أولاد هاتين المرأتين أم أحدهما؟ قال اللقيط: هما المراقِبَتَان؛ وأنتَ أفليستْ هذه التي معك مراقِبة؟ قال الطفل: ما معنى مُراقبة؟ هذه ماما! قال الآخر: فما معنى ماما؟ هذه مُراقبة.
قال الطفل: وكلكم أهلُ دار واحدة؟ قال: نحن في الملجأ، ومتى كبرنا أخذونا إلى دورنا.(1/25)
فقال الطفل: وهل تبكي في الملجأ إذا أردت شيئاً ليعطوك؛ ثم تغضبُ إذا أعطوك ليزيدوك؟ وهل يُسكتونك بالقرش والحلوى؟ والقبلة على هذا الخد وعلى هذا الخد؟ إن كان هذا فأنا أذهبُ معكم إلى الملجأ؛ فإن أبي قد ضربني اليوم، وقد أمر (ماما) أن لا تعطيني شيئاً إذا بكيت، ولا تزيدني إذا غضبت، ولا...
وهنا صاحت المراقبة الصغيرة: تعال يا رقْم عشرة.
فلَوَى اللقيطُ المسكين ُ وجهه، وانصاعَ وأدبر.
ومشى الأطفال بوجوه يتيمة، يقرأ من يقرأ فيها أنها مستسلمةٌ، مستكينةٌ، معترفة أن لا حق لها في شيء من هذا العالمِ إلا هذا الإحسان البخس القليل.(1/26)