من أسرار البناء الداخلي في القرآن الكريم
التكاملية نظرة ثانية على القرآن
ظاهرة النسبية في القرآن الكريم
المستويات الموضوعية والانفعالية في القرآن الكريم
هل القرآن عربي؟
أثر القرآن الكريم في تشكيل الوعي الزمني عند العرب
استقراء العلوم الطبيعية في القرآن الكريم
محمد صبحي السويركي
swairky@hotmail.com
الطبعة الأولى إهداء
إلى:
بنات النبي - صلى الله عليه وسلم -
وزوجاته الطاهرات..
والصحابيات الجليلات..
حباً وقربى ..
ثم لكل من:
الدكتورة أروى ناهض الريّس..
التي ملأت غزة زهوراً قرآنية
أم نضال فرحات..
أم الفلسطينيين جميعاً.. على طريق الشهادة والفداء
وإلى:
كل بناتي وأخواتي الحافظات لكتاب الله في مدينتنا الحبيبة.. غزة
وأخيرا إلى بناتي:
رزان، ابتهال، آلاء، هالة..
وإبني الصغيرين: محمد وصبحي!
لجميعهم .. أهدي هذا الكتاب
تقريظ(1/1)
... ... ... ... ... ... الدكتور/ محمد السقا عيد (1)
... ... ... ... ... ... جمهورية مصر العربية
الأخ العزيز/ الباحث محمد صبحي السويركي
... ... ... ... فلسطين الحبيبة
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
لقد اطلعت على أجزاء هامة من كتابكم القيم (من أسرار البناء الداخلي في القران الكريم) وقد أعجبني ،بحق، هذا الطرح الشيق والجديد، وهذا ما نحتاجه فعلاً في هذه المرحلة..
فسر (على بركة الله) هذه الخطوات، والتي نسأل الله تعالى أن يجعلها في ميزان حسناتكم..
وفقكم الله وسدد خطاكم على طريق الخير
__________
(1) الدكتور محمد السقا عيد ، من مواليد دمياط عام 1963م، تخرج من كلية طب الزقازيق عام 1987م، وحصل على ماجستير في طب وجراحة العيون عام 1995م، عضو الجمعية الرمدية المصرية، باحث في الطب الإسلامي، تتركز كتاباته على المفاهيم الطبية والعلمية لمعطيات الكتاب الكريم والسنة النبوية المباركة. له كتابات عدة في هذا المجال نشرت في صحف ومجلات عربية مختلفة مثل: "العالم الإسلامي" "الرابطة" "المسجد" "المجلة العربية" السعودية. و"التوحيد" "الأطباء" المصرية. مجلة "الوعي الإسلامي" الكويتية. مجلة "منار الإسلام" الظبيانية. مجلة "الهداية" البحرينية. ومن مؤلفاته : حديث الدموع. وله تحت الطبع : "الفقه الإسلامي.. وقضايا طبية معاصرة". "الماء وريد الحياة وشريانها"، "البصمة بين الإعجاز والتحدي"، "عجائب الألوان في عالم الإنسان" وله العديد من الأبحاث المنشورة على موقع موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، منها: "الإعجاز في جسم الإنسان" "معجزة السمع"، "المعجزات الربانية في العين"، "القلب ... نبض الحياة" "البرق وخطف البصر إشارات طبية وهندسية" "البصمة بين الإعجاز والتحدي" "الإعجاز الطبي والدوائي" (عدة أجزاء)، "الصيام بين الفقه والطب" "أسرار البكاء والدموع" و"القتل الرحيم "هل هو رغبة إنسانية أم دعوة شيطانية"؟؟ البريد الإلكتروني للدكتور محمد السقا عيد: dr_mohamed_60@hotmail.com(1/2)
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
..ليست أكثر من محاولة!..
الحمد لله وكفى، وسلام على النبي الذي اصطفى، محمدٍ صلى الله عليه وسلم؛ نبيِّ الرحمة المهداة والنعمة المسداة والسراج المنير وعلى آل بيته الطاهرين وصحبه أجمعين إلى يوم الدين. وبعد
فلكي لا تختلط الأمور على البعض؛ ينبغي عليّ أن أوضح ،منذ البداية، أن هذا الكتاب ليس محاولة لتفسير القرآن الكريم (أو تفسير بعض آياته) ،وما ينبغي له أن يكون، بقدر ما هو محاولة لرصد إشكالية العلاقة بين العقل المسلم في هذا الزمن وبين القرآن الكريم.. لنثبت ،من ثم، وجود إمكانية لـ "ترميم العقل المسلم" (1) من خلال إعادة تفاعله مجدداً مع هذا الكتاب الكريم.. وصولاً إلى حالة "مشابهة" لحالة الجيل الأول الذي تفاعل مع روح النص فأبدع حضارة غير مسبوقة في مجالات الفقه والفكر والعمارة والفن.. الخ
وهذا يقودنا إلى الأزمة التي يعاني منها المسلمون اليوم، فهي وإن بدت أزمة "واقع" و"أشياء" إلا أنها في حقيقتها أزمة "عقل" و"فكر" و"مفاهيم".. انعكست على الواقع فأفسدته!..
لنخلص ،من ثمّ، إلى السؤال الجوهري في حياة المسلمين اليوم؛ والمتعلق بالطريقة التي يمكن من خلالها استعادة مجد هذه الأمة التي باتت اليوم على مفترق طرق تبحث فيه عن كيفية النهوض واتقاء الفناء المزري؟؟!!
إن إيماننا بأن هذه الأمة ما وجدت إلا لتسود، وما تتقهقر حينا إلا لتعود إلى الارتقاء بقية الأحيان.. ليقودنا إلى الخيار الوحيد المتاح أمامنا كأمة: خيار النهوض، فالفناء لن يكون ،أبدا، خيارا واقعيا في حياة أمة كأمة الإسلام!..
__________
(1) يضاف إلى هذا إطلاع غير المسلمين على بعض ملامح القرآن الكريم كي تكون مدخلاً لهم للتعرف على الدين الإسلامي من خلال إعمال العقل والتدبر في آياته، ومن هنا أضفنا مقالين مترجمين للإنجليزية والفرنسية.(1/3)
وعليه؛ فلم نجد إلا القرآن الكريم دواء لترميم وإعادة تشكيل العقل المسلم وتوجيهه على الطريق السليم، بعدما استيقنا أن القرآن الكريم هو دواء أرواحنا ونفوسنا..
والإشكالية اليوم تتمثل في عدم إدراكنا لأهمية هذا الجانب بشكلٍ كافٍ، ونقصد: عدم إدراكنا أن الطريقة الوحيدة المتاحة أمامنا لإعادة ترميم وتشكيل العقل المسلم اليوم إنما تتمثل في عودته للتفاعل الواعي مع القرآن الكريم؛ في ظل شروط موضوعية مسبقة نضعها للعقل لكي لا يضل ولا يشقى.. ومن هذه الشروط:
? استعادة الثقة..
فغالبية المسلمين اليوم ليست لديهم الثقة الكافية بالنفس والتي تُمكنهم من النظر في كتاب الله، وأن يكون لهم سهمٌ في فهمه ووعيه، حيث هناك من يعتقد بأن الجيل الأول الذي قام على فهم القرآن الكريم وتفسيره كان يمتلك مقومات أعلى مما يمتلكه بقية البشر! مكنته من تقديم رؤاه ووجهات نظره حول القرآن.. وفي مقابل إعلاء الجيل الأول هناك عملية مستمرة للتقليل من قدر الذات..
لذا فقد آن الأوان لأن نفهم ونعي بأن لنا دوراً في محاولة فهم هذا الكتاب الكريم، وبأننا ،من الناحية الموضوعية على وجه الخصوص، نمتلك أدوات بحث تتفوق على ما امتلكه الرعيل الأول من المفسرين، وبقي أن نعتني بالجانب الذاتي، وأول ما يجب أن نقوم به هو التغلب على معتقدنا المدمر بأننا "لا نستطيع".. فمن البديهيات أن من يعتقد بأنه "لا يستطيع" هو فعلاً إنسان فاقد للقدرة على الفعل والإنجاز! حتى لو امتلك فعليا الكثير من المهارات.. وهنا نؤكد على ضرورة استعادة الثقة..
? القرآن.. روعة تحتاج لسلامة القلب..!..
فقد ساد في هذا الزمن اعتقاد بأن المختصين فقط هم من يستطيعون فهم القرآن وإدراك روعته وبعد مراميه، وهذا الاعتقاد خاطئ من أساسه، فضلا عن أنه اعتقاد خطير، حيث يحول القرآن إلى كتاب للصفوة! ولأساتذة الجامعات وطلاب الدراسات العليا، وهذا الاعتقاد كفيل بعزل الناس عن مصدر قوتهم..(1/4)
ولنستمع للشهيد سيد قطب رحمه الله وهو يعرض هذا الأمر، واصفاً لنا الروعة التي أحس بها حين سمع القرآن طفلاً.. (تلك أيام.. ولقد مضت بذكرياتها الحلوة، وبخيالاتها الساذجة، ثم تلتها أيامٌ، ودخلتُ المعاهد العلمية، فقرأت تفسير القرآن في كتب التفسير، وسمعت تفسيره من الأساتذة، ولكني لم أجد فيما أقرأ أو أسمع ذلك القرآن اللذيذ الجميل الذي كنت أجده في الطفولة والصبا)!! (1) .
ولعلنا هنا نضع اليد على أحد أسباب عزلة الناس عن دينهم، وقرآنهم، حيث تم التنظير طويلا (ولو على مستوى اللاوعي) إلى ضعة الأجيال الحالية في مقابل الجيل الأول، وكذلك تم التنظير كثيرا لـ "علو قدم المتعلمين والأكاديميين "في التعامل مع القرآن الكريم وتعذر ذلك على من عداهم من الناس العاديين.. وهنا نؤكد على حقيقة ان التفكر في الآيات الكريمة هو أمر مطلوب من قبل الجميع بلا استثناء..
? لا تنقضي عجائبه!..
إن الولوج إلى عالم القرآن من مداخله غير المعتادة المألوفة يجعلنا نرى جماله وكأننا نراه للوهلة الأولى، وهذا ما وجده "سيد قطب" عندما حاول الولوج إليه من مدخل جديد غير معهود: (ووجدتني أشهد في نفسي مولد القرآن من جديد، لقد وجدته كما لم أعهده من قبل أبدا...) (2) ..
وعليه فإننا نشير هنا إلى ضرورة البحث الدائم والتفاعل المستمر بين عقل الإنسان والقرآن، واللحظة التي لا يضيف فيها الإنسان إلى علمه بالقرآن علماً وإلى وعيه وعياً هي لحظة مكررة لا تستحق أن تذكر عند ذكرنا للحياة!..
? قراءة واعية..
__________
(1) التصوير الفني في القرآن، سيد قطب، دار الشروق، ص7.
(2) التصوير الفني في القرآن، سيد قطب، دار الشروق، ص8.(1/5)
فقد وصلنا إلى حالةٍ من عدم الثقة بالنفس بتنا معها نستورد ولا نصدر، نقلد ولا نبدع.. وهذا الأمر تحديدا يبدو أكثر ما يكون وضوحا في علاقتنا بالقرآن الكريم، فقد قنع الناس من القرآن بالحسنات، فتراهم يقرءون ولا يعون، ويقطعون الصفحات لكنهم لا يحصدون من معانيه إلا القريب.. ذلك أننا فقدنا الشجاعة اللازمة للتفكر، والتدبر، وإعمال النظر!.. والمطلوب منا قراءة القرآن بوعي، وتدبر وتفكر، والبحث الدائم والدائم عما هو مستتر من معانيه، رائدنا في هذا الآية الكريمة { قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} (الكهف:109)
? تغيير منظور رؤيتنا للصواب والخطأ
إن من أهم ملامح أزمتنا الراهنة هي اختلاط المفاهيم، فقد وضع البعض "الصواب" مقابل "الحق" و"الخطأ" مقابل "الباطل".. وهذا شيء عجيب، ومريع في نفس الوقت!.. فقد بتنا لا يصدر كتابٌ أو عملٌ إلا ونسمع بعد ذلك حملات التشهير ضد صاحبه، والعجيب أن تلك الحملات تتم لأتفه الأسباب وأبسط الاختلافات، ذلك أن البعض أصبح لا يطيق أن يرى خطأ!.. ونسي أن الخطأ من جبلة الإنسان، وتناسى أن "خير الخطائين التوابون".. وقد حدث ذلك نتيجة إحلال المفاهيم مكان بعضها، فما كان "خطأ" (يمكن تحمله) بتنا نعتبره "باطلاً" يتوجب علينا الاستعاذة بالله منه؛ ومقاومته ،من ثمّ، بكل عنف!.. وللأسف ان هذه السياسة الحمقاء لم تدع لنا ما نعتز به من درر تاريخنا، فمن المؤسف أن نسمع بعض الحمقى يهاجمون رجال الإسلام، حتى أنهم لم يتورعوا عن مهاجمة رموز سامقة كالإمام أبي حامد الغزالي، والشيخ يوسف القرضاوي، والداعية المُجيد عمرو خالد.. في سلسلة لن تنتهي إلا بهدم عُرى هذا الدين عُروة عُروة؛ بالإساءة إلى رجاله.(1/6)
إن هناك حاجة دائمة للتفاعل الواعي والمنصف مع حقائق هذا الدين؛ تفاعلاً يكون أكثر موضوعيةٍ وعقلانية، تناولاً يجنبنا الغضب غير المبرر الذي تعامل من خلاله البعض؛ حتى بتنا يكفر بعضنا بعضاً، ونخرج بعضنا بعضاً من ملة الإسلام لأتفه الأسباب، وهو ما يتنافى مع حقيقة المرونة التي أعطانا الإسلام إياها لنرى الحياة من خلالها..
وهنا يأتي دور كتاب الله المجيد ليقدم لنا القدوة والمثل في هذا الشأن، وهو أقدس نص، وأثبت حقيقة عرفناها.. حيث يحتمل كتاب الله عز وجل تعدد الاجتهادات في فهمه، وإدامة النظر إليه بعينٍ من الفكرِ متجددة، وهو ما فهمه الأولون.
يقول الإمام الغزالي عن القرآن الكريم: (فتفكر في القرآن، والتمس غرائبه، لتصادف فيه مجامِع علم الأولين والآخرين وجملةَ أوائله، وإنما التفكر فيه للتوصل من جملتهِ إلى تفصيله، وهو البحر الذي لا شاطئ له) ...
وهنا يتضح لنا ما يغيب عنا اليوم؛ من ضرورة التفريق والتمييز بين طبيعة النص القرآني الإلهي؛ والذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وبين طبيعة أي نصٍ بشري عداه، والذي يحتمل كل وجوه القصور الإنساني، فالنص القرآني شيء، وتعليقات الناس وشروحاتهم عليه شيئ آخر!! وهذا الأمر يجب أن يكون واضحا، بحيث يدفع الناس إلى مزيدٍ من التقبل لمحاولات فهم القرآن بعين متجددة، ومزيد من التفاعل مع النص القرآني بدون خوف زائد، من أن يؤدي الاجتهاد البشري القاصر إلى الإساءة للنص الإلهي!.. فهذا الأمر لن يحدث، لأنه من المفهوم مسبقاً أن الاجتهاد البشري هو بطبيعته اجتهاد قاصر!
? تقبل الاختلاف والتعامل معه بإيجابية..(1/7)
إن تاريخنا الإسلامي التليد حافلٌ بالاختلاف حول الأمور الشرعية، وقد كان هذا الأمر أكثر مدعاة للفخر منه إلى أي شيء آخر، فالاختلاف في الأمور الشرعية -المباح الاختلاف حولها- هو من قبيل التيسير في أمور الدين، لكنّ الجانب الأشدّ روعةً في هذا المنهج الراقي الذي أتحفنا به هذا الدين العظيم؛ هو قدرته على إيجادِ منهاجٍ للتعامل بين الناس؛ مكّننا على الدوام من استيعاب نقيصة الاختلاف؛ فحوّلها إلى نعمة!!..
ونورد فيما يلي وجهاً من وجوه الاختلاف حول قضية لم يكن من السهل الاختلاف حولها! لنتأكد من عظمة هذا الدين وعظمة هذه الأمة: فقد اختلف العلماء حول: "كيفية وحي الله عز وجل إلى جبريل بالقرآن الكريم"، وقد كان هناك من العلماء من اعتقد بأن جبريل قد تلقفه سماعاً من الله ،عزّ وجل، بلفظه المخصوص. بينما قال آخرون بأن جبريل حفظه من اللوح المحفوظ. وفي رأيٍ ثالثٍ قيل بأن: جبريل أُلقي إليه المعنى؛ والألفاظ لجبريل، أو لمحمد صلى الله عليه وسلم؟! ومن الثابت أن الرأي الأول هو الأصوب، وهو ما عليه أهل السنة والجماعة (1) ومع ذلك فقد وصلتنا وجهات النظر الأخرى الضعيفة بكل احترام!!
فلننظر إلى عظمةِ هذا المنهج القرآني في التعامل مع الأمور؟!.
وهنا نود أن نؤكد بأن علينا اليوم أن نقوم بواجب النظر في كتاب الله عز وجل حتى وإن جاءت محاولاتنا مشفوعة ببعض الأخطاء، على اعتبار أننا بشر.. وهل يتوقع البعض أن يأتي العمل البشري كاملاً تاماً خالياً من الخطأ؟! وعليه فيجب على هذه الأمة أن تعيد النظر في نظرتها للأخطاء، وتغيير نظرتها لها واعتبارها جرائم يجب رجم أصحابها!.. بل يجب النظر إلى الأخطاء على أساس أنها رافعة توصل للصواب.
__________
(1) أنظر كتاب مباحث في علوم القرآن، مرجع سابق، ص34، (بتصرف بسيط).(1/8)
وهنا نود التأكيد على طبيعة العمل الذي بين يدي القارئ الكريم، فهو عمل مليء بالنواقص، حيث هو (أساساً) عبارة عن مجموعة من الأبحاث المختصرة (1) ولاشك أن الاختصار في كثير من الأحيان يأتي مخلاً..
من جانب آخر فإن من عيوب هذا الكتاب أنه كثيراً ما لجأ إلى أسلوب إثارة الأسئلة دون أن يقدم لها إجابات.. مكتفيا بما يمكن أن يحققه ذلك من دفعِ القارئ للتفكير الجاد والعميق فيما يتم طرحه.. وعليه فإن كان لي من كلمةٍ أهمس بها في أذن القارئ الكريم فهي: أن "كن صبورا لدى قراءة هذا الكتاب حتى لو اضطررت لقراءته مرتين"!
وقبل أن أشرع في تقديم واجب الشكر لبعض أولئك الذين يتوجب عليّ شكرهم ،وهم كثر، أود أن أقدم نبذة مختصرة جدا للموضوعات التي تم تناولها في هذا الكتاب؛ لعلها تقوم مقام التيسير بين يدي الموضوعات ذاتها..
__________
(1) عدد من المباحث المنشورة في هذا الكتاب تشكل معا كتاب "هل القرآن عربي: مقدمة في البناء الداخلي في القرآن الكريم" وهو كتاب جاهز للطباعة منذ عدة أعوام، وقد قدم له في حينه فضيلة الدكتور يونس الأسطل، وكذلك سعادة الدكتور عدنان قاسم.. لكن الكتاب لم يطبع لعدم توفر القدرة المالية، وعليه تم تلخيصه في مباحث مختصرة تم نشرها في مجلات وعلى شبكة المعلومات الدولية (الإنترنت) ولتنشر من ثم ضمن هذا الكتاب.(1/9)
ففي الموضوع الأول (التكاملية: نظرة ثانية على القرآن الكريم) حاولنا أن نوضح بأنه ولأسباب تاريخية تتعلق بنشأة علم التفسير فقد تم الاهتمام بالقرآن الكريم بصورة تجزيئية، حيث كان المفسرون الأوائل زاهدين في وضع تفسير للقرآن الكريم لم يضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وقد أدّى ذلك المنهج التجزيئي إلى ضياع الكثير من الصور الكلية التي تتيحها الآيات الكريمة إذا ما نظر إليها المفسر على أنها مجموع واحد يمكن في كثير من المواضع أن يشكل صورة كلية واحدة.. ومن خلال هذا البحث تعرضنا لثلاثة نماذج لصور كلية ظهرت لنا بالنظر إلى الآيات بشكل تكاملي..
ثم تعرضنا لـ "ظاهرة النسبية في القرآن الكريم" ومن خلالها حاولنا التوضيح بأن من مظاهر التقصير في فهمنا للنص الكريم؛ أننا نحتكم فقط للمعاني الاصطلاحية القريبة والشائعة وحدها.. ولا نحتكم إلى جملة المعاني اللغوية المحتملة للفظ؟!.. مما يؤدي إلى ضياع الكثير من الوجوه المحتملة والمشروعة لفهم النص، وأوضحنا أن أخذ جملة المعاني اللغوية "الممكنة" و"المحتملة" و"المتاحة" للفظ معين بالحسبان (وهي متعددة كما تبين ذلك معجمات اللغة) إنما يفتح آفاقا جديدة للانفتاح على النص الكريم.
بعد ذلك تعرضنا لتساؤل بدا للبعض بديهيا، وبدا لنا أنه يستتر خلفه معنى خطير.. هذا السؤال هو: هل القرآن عربيّ؟! وقد تعرضنا له لأن الكثيرين يفهمون "عروبة القرآن الكريم" وكأنها رديف لمعناها القومي.. مع أن تطبيق مفهوم "النسبية" الذي تحدثنا عنه مع بداية الكتاب يجعل للعروبة معانٍ إضافية، دون نفي المعنى القريب (للعروبة) بالطبع.. ومن المداخل الجديدة للعروبة والتي أتاحتها أمامنا "ظاهرة النسبية" أمكننا أن نحل لغز مجموعة كبيرة من الكلمات الواردة في القرآن الكريم (تناهز المائة كلمة) والتي اعتبرها البعض غير عربية!.. فهل هي غير عربية حقا؟!..(1/10)
وفي المبحث التالي تعرضنا لـ "أثر القرآن الكريم في تشكيل الوعي الزمني عند العرب" ومن خلاله أوضحنا أن الإسلام لم يكن حدثاً عابراً في حياة العرب، بل كان له مجموعة من التأثيرات التي غيرت في منهجية وطرق التفكير عند العرب.. لأجل ذلك فقد فاجأ المسلمون العالمَ بمناهجهم التأصيلية الفذّة وغير المسبوقة، والتي استخدموها للحفاظ على تراثهم الديني والعلمي.. وعليه؛ فقد تعرضنا لبعضٍ من ملامح النقلة المنهجية التي نقلها القرآن للناس، فغير مفاهيمهم التي رأوا الأشياء من خلالها، وقد اتخذنا نظرتهم لمفهوم الزمن مثالا على تلك النقلة..
وفي المبحث الأخير "الكيمياء ومنهج استقراء العلوم الطبيعية في القرآن الكريم" قمنا باستقراء منهجي للكيمياء وبعض مصطلحاتها الواردة في القرآن الكريم، بحيث حاولنا أن نقدم نموذجاً ،يمكن احتذاؤه، لاستقراء العلوم الطبيعية المختلفة في القرآن الكريم..
وعليه ،ومن خلال موضوعات الكتاب مجتمعة، نكون قد قدمنا مزيجاً لطيفا ومتنوعاً لمجموعة من العلوم؛ واستقرأنا بعض ما لها من علاقة بالقرآن الكريم، بما يعبر عن شوق وتشويق غامرين يمكن أن يحس بهما من يقرأ القرآن قراءة واعية عميقة ومتأملة..
وهنا أود أن أتقدم بالشكر الجزيل لأسرة عوني داوود رحمه الله وأسكنه فسيح جنانه من دولة الإمارات العربية المتحدة الشقيقة، والتي اختارت أن تبرّ فقيدها بطباعة هذا الكتاب على نفقتها، داعيا الله عز وجل أن يجعل للمغفور له (بإذن الله) ولأسرته خير الثواب.
وأشكر بإخلاص وحرارة كلا من/
أخي الشيخ سيد بركة على مساعدته لي في قراءة هذا العمل وتقييمه والتقديم له، شاكرا له تشجيعه المستمر لي على طريق البحث والتي أفضت أخيراً إلى طباعة هذا العمل.(1/11)
كما لا يفوتني أن أشكر ،وبحرارة، أخي وصديقي الأستاذ/ فضل ياسين الذين تحمل المشاق الشديدة لتوفير نفقات طباعة هذا الكتاب، والشكر الجزيل أيضا لأخي عيسى شويدح داعيا الله عز وجل لهما ولأسرتيهما بالخير وأن يجعل لهما نصيباً من أجر هذا العمل.
ويسعدني أن أتقدم بالشكر الخالص للأستاذ الدكتور عدنان قاسم لما غمرني به من علمه وتلطفه وسعة صدره لدى مراجعته وتقديمه لهذه المادة يوم أن كان يجمعها كتاب تحت
(هل القرآن عربي: مقدمة في البناء الداخلي في القرآن الكريم) والتي تم تضمينها في هذا الكتاب على هيئة أبحاث متفرقة، فكان لتشجيعه أطيب الأثر في دفعي لإنجاز هذا العمل..
كما أقدم شكري الخالص لأخي الدكتور/ محمد السقا عيد من جمهورية مصر العربية، الذي أتحفني وتفضل عليّ بتقريظه الهام لهذا الكتاب، داعياً الله عز وجل أن يجعل الدكتور عيد منارة علم وهدى لأمة الإسلام..
ولا يغيب عني أن أتقدم بخالص الشكر لأخي الكاتب والباحث (القرآني) صلاح الدين أبو عرفة (من الجناح الشمالي لفلسطين) على ما بذله لي من تشجيع مخلص لطباعة هذا الكتاب ونشره؛ في وقت كنت فيه محتاجا لنصائحه الغالية.(1/12)
وأتقدم بالشكر الخاص والخالص لكل من الأخت الباحثة الدكتورة "إيمان بوخبزة" من المغرب الشقيق، التي قامت بترجمة العديد من أبحاث هذا الكتاب للفرنسية والمشاركة بأحدها في "مؤتمر تطوان للإعجاز العلمي" (1) والشكر الخالص كذلك للزميلة الباحثة درية محمد مكي من جمهورية مصر العربية على ما بذلته من جهد في قراءة مسودة هذا العمل وإبداء العديد من الملاحظات المتخصصة عليه.. كما أتقدم بشكري الخالص لطلاب قسم اللغة الإنجليزية في كلية اللغات والترجمة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الذين قاموا بترجمة مقال "ظاهرة النسبية في القرآن الكريم" إلى الإنجليزية ونشره. وإن نسيت فلن أنسى أخي الأستاذ/ فراس نور الحق (مدير موقع موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن الكريم والسنة) من سوريا الشقيقة على ما يبذله ،باستمرار، من جهد للعناية بالأبحاث القرآنية، وعلى نشره الجزء الأكبر من مادة هذا الكتاب على موقعه المتميز.
وأشكر بحرارة إبنتي العزيزة أريج البطش على مشاركتها لي همّ إخراج هذا العمل إلى حيز الوجود، بما في ذلك قراءته وإبداء الملاحظات الراقية عليه؛ مما مكنني من تدارك بعضها.. داعيا الله عز وجل أن يمنحها من علمه وبركته ومحبته.
متمنياً على القراء الأعزاء أن يزودوني بملاحظاتهم على هذا الكتاب، وذلك بالكتابة لي على بريدي الإلكتروني، فلعلنا نتدارك في طبعات قادمة بعض ما فاتنا. وإن كان لي من أمل ورجاء.. فأن يرحمنا الله؛ وأن يتجاوز عن سيئاتنا، وأن يهدينا صراطاً مستقيما..
وصلِّ اللهم على نبيك الخاتم محمد (صلى الله عليه وسلم) وعلى آل بيته الأطهار إلى يوم الدين. وتجاوز عن أخطائنا وسيئاتنا، وارحم والدينا..
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين..
محمد صبحي السويركي
swairky@hotmail.com
غزة في ليلة السابع والعشرين من رمضان 1426هـ
الموافق 30/10/2005م
__________
(1) عقد المؤتمر بمدينة تطوان في المغرب الشقيق بتاريخ 26 يونيو 2005.(1/13)
التكاملية
نظرة ثانية على القرآن الكريم!
ما الذي أردنا قوله في هذا البحث؟
(لأسباب تاريخية ،تتعلق بنشأة علم التفسير، يمكننا استيعاب حقيقة اهتمام المسلمين بالقرآن الكريم بصورة تجزيئية، حيث كانوا زاهدين في وضع تفسير للقرآن الكريم لم يضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وقد أدى ذلك المنهج التجزيئي إلى ضياع الكثير من الصور الكلية التي تتيحها الآيات الكريمة إذا ما نظر إليها المفسر على أنها مجموع واحد يمكن في كثير من المواضع أن يشكل صورة كلية واحدة..
هذا البحث يناقش ثلاثة نماذج لصور كلية ظهرت لنا بالنظر إلى الآيات بشكل تكاملي)
التكاملية (1)
نظرة ثانية على القرآن الكريم!
تقديم
إن من أجلّ النعم التي أنعم الله بها علينا أن أرسل إلينا رسولا كريما بكتاب كريم، ويزيد هذا الأمرَ جلالاً أن الكتاب الذي أرسل به محمد (صلى الله عليه وسلم) يحمل سمة "المطلق" بحيث يمكن اعتباره مطلقا من جهة كونه: الحق، والصدق، والإعجاز.. فهو هو ما أوحى به الله عز وجل، وما بلّغ به الأمين جبريل، وما تلفّظ به الحبيب محمد (صلى الله عليه وسلم) على أسماع كتبة الوحي، وما تناقلته الشفاه الطاهرة جيلاً بعد جيل، إلى أن وصلنا كما هو: مبرءاً من أية زيادة أو نقصان!...
__________
(1) نشر هذا البحث في العدد الحادي والأربعين من مجلة "الوحدة الإسلامية" (وهي مجلة شهرية إسلامية تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان) وكذلك على صفحتها الإلكترونية
http://www.alwahdaalislamyia.net/41/mohammad%20sobhi%20souirky.htm
كذلك نشر هذا البحث على موقع "موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة على الرابط:
http://www.55a.net/alswerkee/nsbea4.htm(1/14)
إن وجود نص بهذه الصفة يُعتبر أمراً غير عادي في حياة البشر، فليست هناك فكرة في حياة شعب من الشعوب أو أمة من الأمم ،غير أمة الإسلام، تماثل أو تقترب من هذه الفكرة، وليس لدى حضارة من الحضارات الأخرى أي لون من ألوان التراث الذي يمكن أن يتميز بمثل هذا الثبات والاستمرار دون انقطاع؛ على أصوله الأولى، كما لدينا من آيات وسور.
ولقد تكفل الله عز وجل بحفظ هذا الكتاب المطهر {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} بالكيفية التي هو أعلم بها، وبضمن ذلك ما قيضه الله عز وجل من جهود قيمة بذلها علماء الأمة وأبناؤها المصطفين لهذه المهمة، والذين لم يدخروا من جهدهم جهدا؛ في سبيل الحفاظ على هذا القرآن؛ على الصورة التي نزل عليها، ابتداء بما ابتدعوه من منهجية علمية فريدة اختصوا بها القرآن وحده؛ وقد كان القرآن سببا في نشأة تلك المنهجية، والتي حاولوا من خلالها الحفاظ على هذا الكنز الثمين بعيداً عن الضياع أو النسيان؛ وبعيداً عن شبهة التحريف، بحيث ظل القرآن على حاله الأول {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه}..
وقد أدى ما تمتع به أولئك الرجال من حسٍ عالٍ بالمسئولية تجاه القرآن الكريم ،أدّى بهم ذلك إلى الحذر ،بل الحذر الشديد، في التعامل معه، ولم يكن الحذر ديدنهم وحدهم، بل إن الطريقة التي تعامل من خلالها رسول الله (صلى الله عليه وسلم)?مع آيات القرآن المنزلة تباعاً إنما كانت تدل على قدرٍ عظيم من الحرص والحذر، إذ حرص رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على تدوين الآيات والسور حال تنزلها، وهو ما لم يفعله (صلى الله عليه وسلم) مع الأحاديث الشريفة، وقد اختط الصحابة الكرام من بعده (صلى الله عليه وسلم) نفس النهج المتميز بالحذر، فعمد أبو بكر الصديق وعثمان بن عفان ،رضي الله عنهما، إلى جمع القرآن الكريم ونسخه وتوزيعه في آفاق الدولة الإسلامية..(1/15)
هذا من حيث التعامل المادي مع القرآن الكريم، من حيث كونه نصوصاً مكتوبةً ومدونة على أوراق أو جلود أو خشب أو حتى عظام حيوانات.. إلا أن الحرص قد دفع بهم إلى اتخاذ إجراءات أشد؛ لأجل الحفاظ عليه من ناحية تواتره الصوتي، والذي هو جزء لا يتجزأ من تواتره بشكل عام (1) فقاموا بابتداع التشكيل والتنقيط، وهي العملية التي ضمنت ،من بعد ذلك، لألسنة العرب الآخذة بالاغتراب عن لغتها.. ضمنت لها أن تحافظ ولو على الحدّ الأدنى من الصلة مع مصدر عظمة تلك اللغة، ألا وهو القرآن الكريم...
إن مجموعة الأمثلة التي سنقوم بطرحها ،في هذا البحث، قد تحمل لنا بعض التوفيق من الله عز وجل في محاولتنا للبرهان على أن القرآن الكريم الذي أخذ حقه من جهود العرب في سبيل المحافظة عليه من التبديل والتحريف لم يحظَ بحقه الكامل من التدقيق والاجتهاد في فهم معانيه وتقصي مراميه من قبل الأجيال المتعاقبة...
__________
(1) لدى ذكر تواتر القرآن فإن فكر البعض يذهب إلى عملية تواتره الكتابي والمصحفي، إلا أن هناك تواترا آخر لا يقل أهمية عن ذلك، ألا وهو التواتر الصوتي، فالعلة في التواتر هي بقاء أصوات القرآن على ما هي عليه، وأشكال الكتابة المختلفة من حروف ونقاط وتشكيل إنما الغاية والغرض منها: المحافظة على تلك الأصوات كما هي، ولبيان أهمية التواتر الصوتي فإن ألفاظا قرآنية مثل كلمة "مجريها" على سبيل المثال في قوله تعالى {بسم الله مجريها ومرساها} لا يمكن إظهار تواترها اعتمادا على شكل الكلمة المكتوبة، بل إن لها طريقة خاصة في قراءتها، فالياء فيها تقع ،من حيث اللفظ، بين الألف والياء، وهي من حيث النطق تشبه حرفA في الإنجليزية. وكما ذكرنا آنفا فإن العلماء يؤكدون على عدم جواز حفظ القرآن بصورة منفردة، بل لابد من تلقيه عمن يتقن تواتره، وذلك حفاظا على تواتره الصوتي.(1/16)
نقول بان النماذج الثلاثة التي سنطرحها قد تستطيع التأكيد والبرهان على أن لآيات القرآن الكريم ما يمكن أن تتفتح عنه من المعاني الجديدة والجليلة في حياة الأمة اليوم، ولأجل أن ندرك العلة التي أصابتنا اليوم وكانت سبباً في الحد من قدرتنا على فهم القرآن الكريم وإصابة المزيد من مراميه؛ فلابد من محاولة فهم الطريقة التي تعامل العلماء الأوائل من خلالها مع القرآن الكريم.
ذكرنا أن الأمة جميعها قد تعاملت مع القرآن الكريم بقدر كبير من الحرص مخافة اختلاطه بغيره من النصوص، حيث بلغ الحرص بالنبي (صلى الله عليه وسلم) أن اختص القرآن بالكتابة الفورية حال تنزل الآية أو السورة منه، دون أن يقوم بالأمر ذاته مع السنة المطهرة، وقد بلغ من حرص المسلمين من بعده (صلى الله عليه وسلم) على عدم الاجتراء على كتاب الله أن وجدنا رجلا كأبي بكر الصديق رضي الله عنه يقول: (أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إن قلت في كتاب الله ما لم يرد الله)..
وقد كانت تلك التحذيرات كافية لجعل التعامل مع هذا النص الكريم مقتصراً على قراءته قراءة صحيحة خالية من عيوب التحريف أو التصحيف، والاجتهاد في فهمه بما يوحي به ظاهر النص، ولقد كان اهتمامهم ،رضوان الله عليهم، منصباً على القرآن الكريم من حيث زمان ومكان وسبب نزول الآيات المختلفة، ويُروى أن علياً ،كرم الله وجهه، كان يقول: (أيها الناس، سلوني عن القرآن، فوالذي بعث محمدا بالحق ما من آية منه إلا وأنا أعلم بها متى نزلت، وأين نزلت، وفيم نزلت).(1/17)
فيما بعد؛ وبعد ازدياد غربة العرب عن لغتهم بسبب اختلاطهم بالأعراق الأخرى، وبسبب مقتل وموت العديدين ممن هم على صلة بالقرآن الكريم أوثق من غيرهم.. بدت هناك حاجةٌ ملحةٌ لتوضيح معاني القرآن الكريم؛ والتي بدأت شيئا فشيئا تصبح غريبة على أبناء العربية. هنا بدأ العلماء بالتعامل مع النص القرآني الكريم بالقراءة مضافاً إليها بعض معاني الألفاظ التي يمكن أن تُشْكل على قارئها، مع بقاء حرصهم الشديد على عدم القول في القرآن بآرائهم الخاصة..
وهنا ،حسب اعتقادنا، نشأت مشكلة من أهم المشكلات التي أعاقت المسلمين فيما بعد عن إدراك الملامح الفنية الكلية للقرآن الكريم، حيث بقي التعامل مع القرآن الكريم منصبا على النواحي الفقهية والبلاغية، وغلب عليه طابع التعامل الجزئي مع المفردات والألفاظ؛ دون أن يتعداه إلى إدراك الجوامع المشتركة والصور الكلية الناتجة عن تفاعل المفردات مع بعضها؛ وبما يشكله ذلك التفاعل من منظومات فنية متكاملة.(1/18)
ويصف الشهيد "سيد قطب" الجهود الجزئية التي بذلت للوصول إلى اللمحات الفنية في القرآن الكريم بالقول: (وأيا ما كانت تلك الجهود التي بذلت في التفسير وفي مباحث البلاغة والإعجاز فإنها وقفت عند حدود عقلية النقد العربي القديمة، تلك العقلية الجزئية التي تتناول كل نص على حدة، أما مرحلة إدراك الخصائص العامة فلم يصلوا إليها أبدا لا في الأدب ولا في القرآن، وبذلك بقي أهم مزايا القرآن الفنية مغفلا خافيا ... ) ليخرج "سيد قطب" بنتيجة هامة حول الأساليب الواجب اتباعها للتعامل مع القرآن الكريم فيقول: ( ... أصبح من الضروري لدراسة هذا الكتاب المعجز من منهج جديد، ومن بحث عن الأصول العامة للجمال الفني فيه، ومن بيان للسمات المطردة التي تميز هذا الجمال عن سائر ما عرفته اللغة العربية من أدب، وتفسر الإعجاز الفني تفسيرا يستمد من تلك السمات المتفردة في القرآن الكريم (1) .
النموذج الأول:
دعوة النور.. في مجتمع ما حول الرسول (2) !!
__________
(1) التصوير الفني في القرآن، سيد قطب، دار الشروق، ص30.
(2) نشر هذا البحث في العدد السادس والأربعين من مجلة "الوحدة الإسلامية" -بيروت وعلى صفحتها الإلكترونية على الرابط: http://www.alwahdaalislamyia.net/46/souwairky.htm
كذلك فقد نشر على موقع "موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة" على شبكة المعلومات الدولية.(1/19)
يعتبر المثل أحد أغراض سبعة (1) في القرآن الكريم، والمثل المضروب في القرآن يمتد ،في حقيقة الأمر، إلى أبعد مما يبدو عليه ظاهريا، ونتيجة لعدم إدراكنا لطبيعة ذلك الامتداد فإن كثيراً من الغموض يمكن أن يكتنف تفسير بعض الآيات التي تشتمل على مثل تلك الأساليب. وسيتضح لنا هذا الأمر بشكل جليّ من خلال النموذج التالي..
{إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون? ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم، وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم? ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين? يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون? في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون? وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون? ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون? وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء، ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون? وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون? الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون? أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين، مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون? صم بكم عمي فهم لا يرجعون}(البقرة:6-18)
__________
(1) الأمر، والنهي، والوعد، والوعيد، والجدل، والقصص، والمثل. أو من: (الأمر، والنهي، والحلال، والحرام، والمحكم، والمتشابه، والأمثال) ودليل العلماء على ذلك ما ورد عن ابن مسعود رضي الله عنه؛ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كان الكتابُ الأولُ ينزلُ من بابٍ واحدٍ، وعلى حرفٍ واحد، ونزل القرآنُ من سبعةِ أبواب، على سبعة أحرف: زجرٌ، وأمرٌ، وحلالٌ، وحرامٌ، ومحكمٌ، ومتشابهٌ، وأمثال) أخرجه الحاكم والبيهقي.(1/20)
فإذا ما أخذنا قوله تعالى {مثلهم كمثل الذي استوقد نارا} فسنجد بأن النظرة التجزيئية للآيات (1) ستملي علينا الربط بين {الذي استوقد نارا} مع الذين {اشتروا الضلالة بالهدى} في الآية التي سبقتها والتي يقول الله عز وجل فيها: {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين}.. وعليه يكون الذي "استوقد نارا" إشارة إلى أولئك الذين "اشتروا الضلالة بالهدى" أو هكذا سيظن البعض!..
ويرتكز الذين قالوا بهذا على حقيقة أن التشبيه هنا إنما هو مجرد علاقة بين رمزين مفردين (المشبه والمشبه به) لكننا نميل إلى الاعتقاد بأن هذا الفهم إنما أملته القراءة التجزيئية للقرآن الكريم، أما القراءة التكاملية فيمكن أن يكون لها رأي آخر؟!!..
إن المنهج التكاملي يعطينا فكرة أوضح عن علاقة التشبيه الواردة في الآيات المشار إليها، فهي ليست كما تبدو ظاهريا مجرد علاقة بين طرفين (مشبه ومشبه به) بل هي صورة كاملة تقابلها صورةٌ كاملةٌ أخرى، لذا فلم يكن عجيبا أن تمتد الصورة التمثيلية إلى آيات عديدة قبل الآية المعنية التي ذكرناها حيث تبدأ الآيات في رسم الصورة الكلية!!.
ويتعاضد التمثيل القرآني في الأمثلة التي سنذكرها (2) لتتضح لنا حقيقة أن بعض أجزاء الصورة في المثل المضروب يمكن أن تظل خافية، غير تامة الوضوح! وسنرى أن إشكالية عدم الفهم هنا إنما نتجت عن عدم مثول الصورة كاملةً للأفهام؛ بل حُذف بعض أجزائها، وتركت الصورة الكاملة ،لحكمة يعلمها الله، تستشف استشفافا من خلال التفكر العميق.
__________
(1) نقصد بهذا المصطلح النظر إلى كل آية بمفردها وبمعزل عن الآيات التي تسبقها أو تلحق بها، ويقصد به كذلك: النظر إلى الآيات دون تتبع الصور الكلية التي ترسمها..
(2) أوائل "البقرة" كما في النموذج الذي ندرسه هنا، وجزء كبير من سورة "العنكبوت" في النموذج الذي سندرسه في صفحات قادمة.(1/21)
من هنا كانت محاولة الوصول إلى المعاني الكاملة للآيات أمراً عسيراً، إذا ما?تم تجاهل الأجزاء الخافية من الصورة المشار إليها، وكثيرا ما أدّت محاولات فهم أمثال تلك الآيات إلى إدراك جزئي لمعانيها!.
وفيما يتعلق بالصورة التمثيلية المبثوثة في بداية سورة "البقرة" وكيفية النظر إليها؛ فلعل الصورة التي نحن بصددها تبدأ فعليا من قوله تعالى: {إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون، ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم، وعلى أبصارهم غشاوة}..
وهنا لابد من التوقف عند ما تم فهمه من قبل بعض المفسرين من أن (الختم) في قوله تعالى{ختم الله على قلوبهم}إنما هو صفة للحالة التي أصبح عليها القلب، وأن (الغشاوة)في قوله{وعلى أبصارهم غشاوة}صفة للحالة التي صار عليها كل من السمع والبصر مجتمعين.
وقد جاء هذا الفهم الجزئي نتيجة لتجزيء الآية إلى مقامين موضوعيين هما: مقام (الختم) {ختم الله على قلوبهم} (أي: طبع الله على قلوبهم فلا يدخل فيها النور)، والمقام الثاني هو مقام (التغشية) {وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة} وقد أضفوا تلك الصفة على السمع والبصر مجتمعين!! (أي: وعلى أسماعهم وعلى أبصارهم غطاء) وهذا التفسير لمدلول الألفاظ المشار إليها يتعارض مع الحقائق العلمية؛ ويتعارض كذلك مع الإمكانية الوحيدة التي تسمح لنا برسم صورة كلية للآيات كما سنري لاحقاً، فضلا عن أنه يتعارض وبشكل أساسي مع ما جاء في سورة الجاثية، والذي يحمل نفس المعنى:{أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة}(الجاثية:23)!(1/22)
فالأدلة التي سقناها ،والدليل الأخير تحديدا، والمستقى من سورة الجاثية، توضح كلها وبشكل كامل أن الختم إنما هو للسمع وللقلب معا، بينما الغشاوة للبصر وحده (1) وهذا يتوافق مع الحقيقة العلمية الصرفة التي سنبينها!!... ويتوافق مع ما يسمح لنا برسم الصورة اللطيفة والمتكاملة التي نحن بصددها!!..
ومن البديهي أن المعنى السابق ،بما يتضمنه من ضرورة التفريق بين "الختم" و"الغشاوة"، لا يتأتيان بدون فهم دقيق لمعاني الألفاظ، فالقرآن الكريم قد فرّق بين نوعين مختلفين من مبطلات الحواس، الأول: وهو الختم (ويعني الإغلاق المطبق) أما الثاني: فهو "التغشية" أو "الغشاوة" والأخير لا يجوز فهمه على أساس أنه (إغلاق مطبق) ومحكم كما الختم، بل هو (أي الغشاوة) إغلاق يسمح للعين أن ترى لكن بشكل ضبابي وجزئي، ويرتكز فهمنا هذا على جملة المعاني اللغوية لكلمة "غشاوة" وكذلك استنادا إلى جملة معانيها في المواضع المختلفة من القرآن الكريم، والتي تفيد جميعها أن الغشاوة لا يمكن أن تكون تغطية كلية، بل هي حالة وسطية (بين حالتين طرفيتين)، وهو ما يتضح في قوله تعالى: {إذ يغشيكم النعاس أمنة منه} والنعاس هنا هو حالة وسطية بين الصحو والنوم!.. ومن هنا يمكن فهم النعاس على أنه حالة بين الصحو والنوم كما أن الغشاوة على العين هي حالة بين الإبصار والعمى!!.
__________
(1) في مناسبة قادمة قد يكون من المناسب دراسة هذا الأمر كتطبيق على اختلاف المستويات الموضوعية في القرآن الكريم، والتي تقتضي إخلاف نبرة القراءة تبعا لذلك الاختلاف!!.(1/23)
كذلك فإن الإشارة العلمية لكلمة (غشاوة) يمكن أن تعزز فهمنا لهذه اللفظة والذي بسطناه آنفاً، على أساس أنها حالة وسطية بين حالتين، فاللفظ "غشاء" كثيراً ما يستخدم للتعبير عن خاصية "نصف الإنفاذ"، فغشاء الخلية سمي غشاء لأنه يُنفذُ من جهة ويمنعُ من جهة أخرى! وهناك أنواع من الأغشية يمكنها أن تمرر بعض الجزيئات كأيونات الأملاح وتمنع مرور بعض الجزئيات الأخرى (1) .
والآن؛ فإنه ومن خلال إدراكنا لآليات عمل كل من حاستي السمع والبصر، وفي ظل فهمنا للفروقات بين الذبذبات التي تسمع بها الأذن (ذبذبة صوتية) واختلافها عن الذبذبات التي ترى بها العين (ذبذبة ضوئية) فلابد من طرح إمكانية أخرى للتعامل مع النص:
من المعروف أن الأذن تسمع بواسطة الذبذبات الصوتية المعبرة عن الأصوات، والتي تنتقل في الهواء بسرعة 320 مترا في الثانية، وتلك الذبذبات قادرة على الانتقال في الهواء، والمواد السائلة، والصلبة مع وجود فروقات في سرعة ذلك الانتقال، ويمكن لتلك الذبذبات (الصوتية) أن تصل إلى الأذن بدون أن يكون للعوائق التي تعترضها كبير تأثير عليها أو القدرة على منعها، وعلى سبيل المثال فإن وضع حاجز ما بين الأذن ومصدر الصوت غير كافٍ لمنع عملية السمع!! إلا أنه وعلى العكس من ذلك فإن ذبذبات الضوء يمكن منعها ،بسهولة، ذلك كون ذبذبات الضوء تسير في خطوط مستقيمة، ويكفي لمنع العين من الإبصار أن نضع بينها وبين مصدر الضوء حاجزا، عندها ستفقد العين قدرتها على الإبصار!.
__________
(1) تمت الاستفادة من ظاهرة الانتشار الغشائي في صناعة أجهزة الكلى الصناعية لتنقية الدم في حال الفشل الكلوي حيث باستطاعة تلك الأجهزة أن تفصل الأيونات عن محتويات الدم.(1/24)
من هنا فإن إبطال حاسة السمع لا يتم بتلك البساطة التي يتم بها إبطال حاسة البصر، فبينما يكفي وضع حاجز ما أمام العين لمنعها من رؤية المرئيات؛ فإن هناك حاجة لإغلاق مداخل الأذنين بشكل محكم لمنع الإنسان من السمع، أي أن يختم عليهما!!..
من هنا كان لابد لنا من طرح السؤال التالي: ماذا يمكن أن يحدث لو فهمنا الآية بشكل مخالف لما فهمه بعض المفسرين، وذلك بأن نجعل الختم للقلب وللسمع معاً {ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم} وعندها ستصبح الغشاوة -حسب هذا الفهم- للعين وحدها {وعلى أبصارهم غشاوة}حيث الغشاوة هنا ليست تامة الحجب، مما يعتبر تفسيرا مقبولا إذا ما تأملنا المثال الذي نحن بصدده (النور والنار) وإلا فكيف يمكن الإتيان بهذا المثال البصري لقوم لا يبصرون أصلا؟!!..(1/25)
ومن المناسب هنا التأكيد على أن الذهاب في التفسير إلى الناحية التي ذهب إليها البعض، وتم فيها الجمع بين مقامي "السمع" و"البصر" {وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة} بحيث نجعل السمع والبصر مشتركين ?في مستوى موضوعي واحد (هو الغشاوة) إنما يتسبب في انهيار كل الصورة التمثيلية التي نريد إظهارها هنا، والتي نرى أن من ضرورات تكونها وتشكلها أن يضاف السمع إلى القلب {ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم} في مستوى موضوعي واحد هو "الختم" فيما يبقى مقام (التغشية) مقصورا على العين وحدها {وعلى أبصارهم غشاوة}!! ويستمر القرآن الكريم بعد ذلك في رسم الصورة التمثيلية برسم عناصرها واحدا تلو الآخر؛ فكان (الكافرون) عنصرا أساسيا أضيف إلى تلك الصورة: {إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون} وتواصل الآيات عرض العناصر الأخرى للصورة عنصرا بعد آخر، لتضيف ،من ثم، بعد ذلك عنصر (المنافقين):{ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين، يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون} ومن الواضح أن القرآن الكريم ،وهو يسعى حثيثاً لاستكمال الصورة المرسومة هنا،????? فكأنما يقوم ،في واقع الحال، برسم صورة تدريجية لعوامل بشرية تموج وتتصارع في المجتمع البشري ذاته!!..
لأجل ذلك فقد وجدنا القرآن الكريم ،ولأجل إحداث حالة من التوازن في الصورة المرسومة، وجدناه يبدأ بإضافة عناصر جديدة لكنها ذات طبيعة مغايرة هذه المرة! إذ أن المجتمع البشري عادة لا يحتوي كفارا ومنافقين فقط؛ بل لا بد من وجود قوى أخرى تكون خيرة وفاعلة، فهي لا تفتأ تقدم النصح الدائم لهؤلاء وهؤلاء بالعودة إلى طريق الرشاد..(1/26)
ولننظر إلى تلك القوى الخيرة وهي تكاد تتوارى في زاويا الصورة المخصصة للحديث عن المنافقين وتتراءى لنا في خلفيتها!! فجاء الحديث معبرا عنها (القوى الخيرة) بصيغة الفعل المبني للمجهول (وإذا قيل) وكأنها إشارة إلى أن الخير إنما هو قيمة بحد ذاته بغض النظر عن الجهة التي تحمله أو تقوله به!!.. {وإذا قيل لهم?(أي للمنافقين) آمنوا كما آمن الناس...} {وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون...}فمن الذي قال لهم وطلب منهم؟ إنه النبي ذاته صلى الله عليه وسلم، وإنهم أتباعه المؤمنون الملتفون من حوله.. بكل تأكيد!.
وتظهر صورة الأخيار في الصورة الكلية من خلال نصحهم المتكرر للأشرار من كفار ومنافقين: {وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء} وكأنما يحاول النص الكريم إظهار حركة التدافع المتماوجة في حركة مجتمعية دائمة بين شرٍ طاغِ يقابله نصحٌ دائم... وقد وجدنا الصورة تعود لتتركز على المنافقين مرة أخرى{وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا، وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون؛ الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون} والتركيز هنا نابع من كون تلك الفئة إنما هي العنصر الأخطر تأثيرا والأشد فتكا بالمجتمعات!!...
وعند هذه النقطة يجب الحذر؛ إذ توشك الموجة أن تنقلب على أعقابها فتأخذ اتجاها آخر!! والإشكالية تكمن في الدقة والرقة والسلاسة التي يتم من خلالها ذلك الانقلاب إلى الدرجة التي نصبح معها بحاجة إلى مزيد من الدقة في الأحاسيس لأجل رصد ذلك الانقلاب والشعور به دون أن تعبث به أفهامنا!!
فبعد أن وصلنا إلى توصيف كامل للصورة المجتمعية سالفة الذكر وجدنا القرآن الكريم يعقب على أحوال الفئة الأخيرة، فجاء تعقيبه على حال المنافقين ?بقوله تعالى {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين}..(1/27)
ولننظر إلى اسم الإشارة "أولئك" المعبر عن ضمير الجمع الغائب.?وهنا يجب الحذر والانتباه جيدا!.. حيث أعقب هذه الآية قولُهُ تعالى{مثلهم كمثل الذي استوقد نارا...} وهي ،أيضا، حديث عن الجمع الغائب!! مما قد يلقي في روع القارئ بأنها تشترك مع الآية التي سبقتها في الجهة التي يتم الحديث عنها (أي المنافقون) بينما الحقيقة مختلفة تماما!.
إن المحك الحقيقي لإدراك البعد غير الظاهر في القرآن الكريم ["العمق" و"التكامل") إنما يكمن في امتلاك رهافة الحسّ بقدر كافٍ للتعامل مع نص بمواصفات غير عادية وغير بشرية، مما سيمكن القارئ من إدراك لحظات الانقلاب السلسة، ومواضع التغير غير المحسوبة، ولو امتلكنا تلك القدرة عندها سندرك أن? السياق في الآيات آنفة الذكر قد اتخذ وجهة أخرى غير تلك التي اتخذها السياق العام للآيات السابقة، وذلك بعد قوله تعالى {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى}.. حيث يجب علينا هنا إقفال القوسين اللذين يضمان داخلهما طبقات المجتمع المتصارعة فيما بينها، وبإقفال هذين القوسين فيكون علينا أن نفتح قوسين جديدين يضمان صورة تمثيلية جديدة، وبهذا يمكن الإدراك بأن كلمة "مثلهم" في قوله تعالى {مثلهم كمثل الذي استوقد نارا...} لا تعود على الآية التي قبلها (أي على المنافقين) بل تعود على كل أجزاء الصورة ما بين القوسين؟!! وبهذا فإن الذي استوقد النار لن يكون?،على الإطلاق، كافرا أو منافقا كما ظن البعض!!.. حيث يجب النظر إلى الآيات التالية على أساس أنها ضمن قوسين جديدين وبما يتماشى مع المفهوم الجديد!!.(1/28)
إن خللا كالذي نعاينه هنا (الرؤية التجزيئية للنص) إنما ينشأ عن عدد من الأسباب، والتي منها: تعجل اشتقاق الصورة التمثيلية من قبل البعض، حيث جعلوا من {استوقد نارا} امتدادا لـ {أولئك الذين كفروا} ولم يتم الالتفات إلى التناقض الناشئ عن اختلاف الضمائر (بل تم تبريره!!) بين ضمير المفرد في {فلما أضاءت ما "حوله"} (1) وضمير الجماعة في {ذهب الله "بنورهم"} مع أن التناقض بينهما بينٌ واضح؟!!
__________
(1) لاحظ/ أن القرآن استخدم {فلما أضاءت ما حوله} وهي إشارة إلى أن العين ترى الأشياء بالضوء الساقط عليها وليس بضوء يخرج من العين ويسقط على الأشياء كما كان يعتقد!..(1/29)
إن محاولتنا للتعامل مع هذه الصورة يأتي مدفوعا بالرغبة في رؤية النص من زواياه المختلفة وليس الاقتصار على زاوية واحدة منه، وهي المحاولة التي ستمكننا في نهاية المطاف من رؤية الأجزاء الدقيقة من الصورة والمختفية بلطفٍ وإحكام.. ولعل تلك المحاولة تشكل أمامنا أملا وحيدا يمكننا من خلاله نفي التناقض الواضح بين الضمائر والذي أشرنا إليه قبل قليل!. والنظرة الجديدة تقتضي النظر إلى الذي {استوقد نارا} على أساس أنه لا يقابل {الذين اشتروا الضلالة بالهدى} وإنما يقابل "داعي الإيمان" المذكور في ثنايا الآيات، والذي لا يفتأ ينصح الكافرين: {آمنوا كما آمن الناس} وهو بهذا إنما يمثل النبي، أو الرسول، أو المؤمن بشكل عام!!.. ويعزز من توجهنا هذا في فهم الآيات ?ما عُرف عن الكافر بأنه لم يُعهد عليه بذل الجهد للوصول إلى النور! وهو المعنى?عينه الذي تشي به كلمة {استوقد} (1) والتي تفصح عن بذل جهد لا يُستهان به لإيقاد النار للوصول إلى النور، وهو جهد لا يمكن أن ينسب للكافرين بأي حال، وإنما يمكن أن يشير إلى الجهد الجهيد الذي يبذله النبي أو الرسول لإبلاغ الرسالة!
..
__________
(1) مما شاع من أساليب اللغة العربية في التعبير عن مقاصدها المختلفة أن إلحاق حرفي الألف والسين في أول الكلمة يمكن أن يشير إلى "الجد في طلب الشيئ"، مثل (إستطعم، إستسقى، إستمطر، إستزل، إستعمر... الخ) وعلى هذا فإن كلمة "استوقد" يمكن أن تفيد: "طلب الوقود وبذل الجهد في تحصيله". والله أعلم.(1/30)
وتنجح المحاولة، وتبدأ الشرارة الصغيرة بالتحول إلى جذوة مشتعلة تنشر النور فيما حولها؛ كما يمكن لها أن تقدم النار، وهو تشبيه دقيق لما تأتي به الرسالات للناس من بشير ونذير!!.. فلما أن أضاء هذا النبي لقومه (وهم طبقات المجتمع الملتفين من حوله) نور الهداية؛ عندها ذهب الله عز وجل بنور أبصار الضالين منهم {فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم} ولم يذهب بنور الرسالة ذاتها!.. لقد ذهب بنور عيونهم وحدهم، فكان أن تركهم في ظلمات لا يبصرون!!..
لكن أين يمكن لتلك الصورة التمثيلية أن تنتهي؟..
إنها تنتهي بقوله تعالى: {فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم فتركهم في ظلمات لا يبصرون} وهنا تكتمل الصورة التي كانت قد ابتدأت بقوله تعالى {ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة}!! وهي النقطة التي بدأنا تحليلنا هذا من عندها، حيث قلنا بأن الختم الكامل إنما يكون على القلوب والأسماع، بينما?الغشاوة (الإغلاق الجزئي) كانت على الأبصار فحسب، وقد تركت لهم تلك الغشاوة?بصيصا غائما كان من الممكن أن يهتدوا به لو حسنت نواياهم! لكن لجاجتهم وترددهم جعلهم يفقدون الأمل الأخير في الهداية والنجاة، عندها كان الختم المطلق على كل حواسهم فكانوا كما قال الله فيهم {وتركهم في ظلمات لا يبصرون، صم بكم عمي فهم لا يرجعون} ..
وصدق الله العظيم
النموذج الثاني
المفاجأة!!.. من فيوضات سورة العنكبوت (1) !!
__________
(1) نشر هذا المقال على موقع "موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة" على الرابط:
www.55a.net/firas/arabic/ index.php?page=show_det&id=389
وكذلك في العدد (42) من مجلة "الوحدة الإسلامية" الصادرة في بيروت.(1/31)
تحدثنا في الصفحات الماضية عن أحد النماذج القرآنية الصالحة للدلالة على ضرورة اتباع منهج شمولي متكامل لفهم القرآن الكريم، ونتحدث هنا أيضا عن نموذج قرآني مشابه، للدلالة على الطبيعة الخاصة للنص القرآني الكريم، وعلى ضرورة تحلي قارئ القرآن بالمعرفة الدقيقة للكيفية التي ينساب النص الكريم من خلالها، من أجل أن يتوصل قارئ القرآن إلى الصورة الجمالية والفنية المتكاملة التي يطرحها، والتي غالبا ما تغيب عن أذهاننا في حمّى تعاملنا التجزيئي مع القرآن الكريم.
والآيات التي نحن بصددها هنا هي من سورة "العنكبوت" وهي السورة التي تسترعي انتباهنا بل وتحيرنا! وتجبرنا على الوقوف أمامها مبهورين؛ وذلك لغرابة التوظيف القرآني لإحدى الحشرات الغامضة، ذلك التوظيف المثير الذي يحتاج إلى وقفة تفكر وتأمل. حيث يقول عز من قائل:
{وقالَ الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلَنا ولنحْمِل خطاياكُم وما همْ بحاملين من خطاياهم من شيءٍ إنهم لكاذبون? وليحملن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالِهم وليُسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون? ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومهِ فلبث فيهم ألفَ سنةٍ إلا خمسين عاماً فأخذهم الطوفان وهم ظالمون?... مثلُ الذين اتخذوا من دون الله أولياءَ كمثلِ العنكبوتِ اتخذت بيتاً وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون}(العنكبوت:12-41)..
والآن؛ دعونا نتوقف قليلاً أمام هذا السرّ الغريب، والطلسم الغامض.. فحيث لا يدري الناسُ ما السرُّ في تسمية سورةٍ بأكملها من سور القرآن الكريم باسم "العنكبوت" ينبغي أن نتوقف.. وأن نتفكر، وأن نتأمل!!..(1/32)
والقارئ المتأمل يظل متعجبا من الهدف الذي أُورد هذا المثال من أجله؛ أو ما الذي أريد به، أو الدلالة عليه!!.. ما عدا المعاني القريبة والشذرات العلمية التي تفيض من جوانب النص!! وقبل أن نخوض في عمق التحليل للنص القرآني المشار إليه؛ فلابد أن نعرض لبعض الإشارات حول حشرة العنكبوت، وهي الإشارات التي قد تُلقي قليلاً من الضوء على الهدف الذي تم من أجله إيرادها على الصورة التي وردت عليها!.
خيوط وعناكب!!!
من المعلوم أن العناكب تتبع فصيلة "العنكبوتيات" وهي فئة من الحيوانات الناجحة والواسعة الانتشار، والتي تضم العناكب والعقارب وما شابهها. ومن أشهر "العنكبوتيات": العناكب، وكثير منها يعيش في منازلنا أو في جوارها، وأنسجتها المستديرة معروفة لنا جيدا.
ومن اللافت في موضوع العناكب أن الحشرات الأخرى لا تسلم من شرها ساعة من ليل أو نهار! فهي دائمة الترصد لفرائسها في ورديات نهارية وليلية! وتبدأ العناكب الليلية صيدها بعد انتهاء عمل العناكب النهارية، وقد ابتكرت العناكب طرقاً مختلفةً لاقتناص فرائسها، فبعضها ينقض على فريسته انقضاضاً مباشراً، إلا أن أشهر طرق الاقتناص لديها يتم عن طريق ما تنصبه من شباك تتخايل للفرائس وكأنها زينة تلمع أمامها، فإذا ما اقتربت منها وقعت فيها وكانت سببا في هلاكها!!..
وتقوم العنكبوت بإنتاج الخيوط الحريرية من غدد خاصة بذلك وتوزعه مغازلها الصغيرة، وتُنتجُ الأنواع المختلفة من الغدد أنواعا خاصة بها من الحرير، وتنسج العناكب شباكها بدقة من خيوط حريرية وفقا لتصاميم خاصة لها أشكال مختلفة.(1/33)
وقد بحث العلماء في تراكيب المادة التي يفرزها العنكبوت فوصلوا إلى ما يدهش العقول، فقد رأوا بعض العناكب تنسج خيوطا رقيقةً جداً، وقد وجد أن كل خيط من تلك الخيوط مؤلف في حقيقته من أربعة خيوط أدق منه، وكل واحد من تلك الخيوط الأربعة مؤلف من ألف خيط! ووجدوا كذلك أن كل واحد من الألف يخرج من قناة مخصوصة في جسم العنكبوت، وهذا الأمر يقود إلى العجب، فكيف يتسع جسم العنكبوت إلى ألف ثقب، يخرج من كلٍ منها أربع من خيوط العنكبوت؟!.
وعليه؛ فإن خيط العنكبوت يتكون في مجمله من أربعة آلاف خيط!!
وأعجب من ذلك كله أن بعض العلماء الألمان قد وجدوا أنه إذا ضم أربعة بلايين من تلك الخيوط إلى بعضها البعض فإن سمكها لن يتجاوز عندئذٍ سمُك شعرةٍ واحدةٍ من شعر رأس الإنسان!!. ومن غريب ما نحن بصدده من الحديث عن بيت العنكبوت ما كشف عنه العلم من القوة الكامنة في خيط العنكبوت، سواء من ناحية دقة غزله، أو قوة تحمله في حال جمعه إلى بعضه بعضا، إلى درجة أن تلك الخيوط لو ضمت إلى بعضها فستصبح حينها أشد قوة من سلك من الفولاذ له نفس السُمْك! وقد بدأ العلماء بالفعل يفكرون في الكيفية التي يمكنهم معها استخدام تلك الخيوط لحياكة الأردية الواقية من الرصاص.
إن المدهش في تناول القرآن لهذا الأمر أن جميع الحقائق التي تم الكشف عنها لا تصطدم ،سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، مع ما جاء القرآن به، إذ يدهشنا أن القرآن الكريم قد تحدث عن العنكبوت التي اتخذت (وليس اتخذ) بيتا، فجاء العلم الحديث ليخبرنا بأن الأنثى بالفعل هي من تقوم باتخاذ البيت!...(1/34)
ويدهشنا كذلك أن وجدنا القرآن الكريم يتحدث عن ضعف "بيت العنكبوت" لا عن ضعف الخيط ذاته! وهذا ما أثبتته الأبحاث العلمية بالفعل. وعلى الرغم مما يطرحه "العنكبوت" و"بيته" من لغز (قد يبدو مناقضا لما هو معلوم لنا من خلال خبراتنا ومشاهداتنا في عالم الطبيعة) إلا أن ما يطرحه القرآن الكريم يبدو أشد غرابة؟!.. فالنظر بشكل متكامل إلى الآيات القرآنية التي تحكي قصة العنكبوت؛ إنما يعطينا فرصة لوضع اليد على سرٍ عجيب من أسرار الاجتماع البشري على هذه الأرض منذ بداية الخلق وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها!..
ولكي نتوصل إلى ذلك السر فلابد من متابعة الآيات الكريمة بنفس تسلسلها الذي تطرحه سورة "العنكبوت" إذ تبتدئ السورة بإحدى عشرة آية مدنية (بعكس بقية السورة والتي هي مكية) والحد بين المدني والمكي في هذه السورة إنما هو الحدّ الذي تبتدئ معه الصورة التي نحن بصددها بالتشكل والارتسام، حيث تبدأ معالمها تلوح لنا ابتداء من الآية رقم(12) (وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم...} وهذه المقولة بالذات هي عقدة الحكاية التي نحن بصددها!..
وتتحدث الآيات الأحد عشر الأولى عن رحلة الإنسان على الأرض، مع ما يرافق ذلك الوجود من فتنٍ ومرارات {أحسبَ الناسُ أن يُتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يُفتنون، ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمنّ اللهُ الذينَ صدقوا وليعلمنّ الكاذبين}.
ولقد اعتبر القرآن الكريم تلك الفتن علامات ضرورية لإثبات الصدق على طريق الحق. وتضع الآيات الكريمة نقطتين مضيئتين أساسيتين في رحلة الإنسان، وهما معلمان من معالم الحق في رحلة الإنسان على ذلك الطريق، وهاتان النقطتان هما: الإحسان إلى الوالدين واجتناب الشرك بالله {ووصينا الإنسانَ بوالديهِ حُسنا، وإن جاهداك لتشركَ بي ما ليس لك به علمٌ فلا تطعهما}..(1/35)
ثم تعود السورة لتلح على أذهاننا بحقيقة ذلك الطريق الذي يجب علينا أن نسلكه {ومن الناسِ من يقولُ آمنا فإذا أُوذي في اللهِ جعلَ فتنةَ الناسِ كعذابِ الله...}!! ويخبرنا بالنهاية التي ستئول إليها الأمور: {وليعلمنّ اللهُ الذين آمنوا وليعلمنّ المنافقين}..
إذن.. فهو توصيف لرحلة الإنسان على الأرض بما يتمايز فيه طريق الحق عن طريق الضلال.. وبما ينتج عنه من إيمان أو كفر، وبما تنتهي إليه من جنة أو جحيم!!..
ونفهم من سياق الآيات أن تلك المقدمة إنما كانت ضرورة موضوعية لا غنى عنها؛ لإعداد وتهيئة السامع لما سيتم تقديمه من عرض خطير!!.. هو رحلة البشرية جميعها: بنماذجها، بشخوصها، بمقدماتها وبنتائجها، ببداياتها وبنهاياتها المتناقضة: فريق في الجنة وفريق في السعير!!..
وهنا تبتدئ رحلتنا مع النموذج الذي نحن بصدده {كمثلِ العنكبوتِ اتخذتْ بيتاً} ولنلاحظ أن منهج "التكامل" الذي نتحدث عنه يرصد آية العنكبوت المشار إليها (ورقمها41) فيجعل بدايتها قبل ذلك بكثير؛ فبدايتها تحديداً هي الآية(12).. ولكي لا نضيع في التفاصيل فلنتذكر دائماً أن كل حلقة من الحلقات التي تعرضها السورة إنما تمثل رحلة كل نبي مع قومه، وتعرضها السورة من خلال خمسة عناصر أساسية (إلا إذا اقتضت خصوصية ما عرض الرواية من خلال بعض عناصرها فقط وليس جميعها) والعناصر التي نتحدث عنها وتكاد تتكرر في قصة كل نبي مع قومه هي:
1- وجود انحراف بشري عن خط الرسالة الإلهية؛ نتيجة لما يزينه الشيطان في صدور أوليائه. وإرسال الرسل ،من ثمّ، لتقويم ذلك الانحراف.
2- تكذيب الأقوام المختلفة بالمرسلين إليهم.
3- إيقاع الله العذاب بالمكذبين.
4- يترك الله عز وجل في بيوت المكذبين آية تدل على ما حاق بهم من عقاب.
5- يقيم الله عز وجل الحجة علينا حين يأمرنا بالنظر في الآيات واستقاء العبرة منها!..(1/36)
وضمن السياق العام للعناصر الخمسة التي أوردناها فسنجد أن الآية (13) من سورة "العنكبوت" (بداية رسم الصورة الفنية بعد أن كانت الآية 12 مقدمة موضوعية لابد منها) وتتحدث الآية (13) عن حلقة من حلقات السلسلة الرسالية، وواحدة من تجارب الرسل على هذه الأرض، فهي تتحدث عن رسالة نوح عليه السلام:
{ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه فلبثَ فيهم ألفَ سنةٍ إلا خمسينَ عاماً}..
وتنتهي قصة قوم نوح عليه السلام بالحديث عن النهاية المأساوية للمكذبين:
{...فأخذَهُمُ الطوفانُ وهم ظالمون}...
..ويتم القصد والغرض من إيراد القصة بأن تطلب الآيات ممن يأتي من بعد أن يأخذ العبرة مما حدث، وان يتعظ بالآيات التي تُركت في ديار المكذبين:
{فأنجيناهُ وأصحابَ السفينةِ وجعلناها آيةً للعالمين}!!..
ويشير القرآن الكريم إلى العلامات التي تركها العقاب في ديار الظالمين، وتجعل الآيات الكريمة من تلك العلامات معالم بارزة في هذه الرواية وفي كل رواية ستأتي، فهي تعني: العبرة والعظة، وتعني قيام الحجة الإلهية واستمرارها على الخلق أجمعين ما بقيت تلك العلامات والآيات، حيث تقتضي العناية الإلهية قيام الحجة قبل وقوع العقاب:
{وما كُنا مُعذبينَ حتى نبعثَ رسولا}!!..
وبعد أن يتم إغلاق الملف الأول (الحلقة الأولى في السلسلة) يتم فتح ملف آخر، فإذا ما رحنا نقرأه بطريقة تكاملية وجدنا أن له ،تقريبا، نفس الملامح والتقاسيم، بل وله نفس العناصر الأساسية التي تحدثنا عنها:
{وإبراهيم إذ قالَ لقومهِ اعبدوا الله واتقوه...}..
وهذا هو العنصر الأول من العناصر الخمسة التي ترسم ملامح الرواية الإنسانية!..
{فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه أو حرِّقوه} وهذا هو العنصر الثاني.. حيث التكذيب بما يجيء به الرسل!..(1/37)
وهنا يجدر بنا التوقف قليلاً لنتعرف على خاصية مهمة يتميز بها النص القرآني الكريم، وهي الخاصية التي كانت سببا ،في كثير من الأحيان، في إعاقة العقل البشري ،بقدراته المحدودة، عن المتابعة الدقيقة لما يلقيه النص في الروع من معاني، بما يشير إلى أن "الحركة التركيبية للنص القرآني الكريم هي أسرع ،وبما لا يقاس، من الحركة التفسيرية للعقل البشري"!.. وتشتمل الحركة التركيبية الفريدة للنص القرآني على مجموعة من عمليات التفرع عن الأصل الواحد أو ما نطلق عليه بـ الابتعاد عن "السياق" الأصلي ثم العودة إلى ذلك السياق مرة أخرى. ويكمن عجز العقل البشري في: عدم قدرته على التمييز بين نقاط التفرع عن الأصل ونقاط العودة إليه!! (1) .. مما يجعل النص (من وجهة نظر العقل) وكأنه مجموعة غير متجانسة من الآيات؛ التي تعطي مجموعة غير متناسقة من الإشارات.. مما ينتج عنه ،في كثير من الأحيان، ضياع الخيط الأصلي الذي يشد أزر الرواية ويحدد اتجاهاتها!!..
وإذا ما طبّقنا مقولتنا حول "تفرع النص وعودته للتجمع من جديد" على الآيات الواقعة بين الآية رقم (16) والآية رقم (23) من السورة {وإبراهيم إذ قالَ لقومِهِ اعبدوا الله واتقوه ذلكم خيرٌ لكم إنْ كُنتم تعلمون}(الآية16) إنما تعبدون من دون الله أوثانا...(17) وإن تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم...(18) أولم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده(19) قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق...(20) يعذب من يشاء ويرحم من يشاء...(21) وما أنتم بمعجزين في الأرض...(22) والذين كفروا بآيات الله ولقائه أولئك يئسوا من رحمتي...(23) فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه فأنجاه الله من النار..(24)
__________
(1) نعتقد بأن هذا الموضوع يحتاج لدراسة منفصلة نظرا لأهميته، ولما له من تأثير في فهم النص أو إعاقة فهمه! إذا لم يتم الانتباه إلى هذه الخاصية بشكل كافٍ.(1/38)
وبالنظر للآيات المشار إليها فسنجد أنها تتحدث عن أمور فرعية ليست من أصل الرواية، لكنها ضرورية لرسم ملامحها على كل حال!!..
ولنتابع حركة الآيات في حلقتها الثانية، والتي تتحدث عن نبي الله إبراهيم، لتكون لنا نموذجا هاديا في كيفية استقراء الآيات.. ومن استقرائنا للآيات المتفرعة سنلاحظ أمرين في غاية الأهمية:
أولهما: هو أن التفاصيل الدقيقة الواردة في تجربة نبي الله إبراهيم إنما هي مجرد مثال يمكن أن ينطبق على تجارب الآخرين من أنبياء الله ورسله الكرام، لذا فلن تكون هناك حاجة لتكرار ذكرها في التجارب الآتية.
وثاني تلك الأمور: هو أن الآيات المتفرعة عن السياق الأصلي تحتوي في كثير من الأحيان على إشارات لا يمكن فهمها إذا ما انتزعت من سياقها، بل يتأتى ذلك فقط في حالة النظر إليها ضمن السياق العام الذي تطرحه الآيات، وهو الأمر الذي سنقوم به في سياق تعاملنا مع النموذج الذي بين أيدينا.. على سبيل المثال فإن الآية الكريمة: {قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق...}(الآية20) وكذلك الآية الكريمة {وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدّهم عن السبيل وكانوا مستبصرين}((38) لا يمكن فهمهما إلا ضمن السياق العام الذي سنخلص إليه في نهاية هذا التحليل!!..
وبعد أن يكون التفرع في قصة إبراهيم قد أبعدنا قليلا عن الحبكة الأساسية للقصة؛ فسنجد النص وقد عاد ليلتحم وليتوحد مع خطه الأساسي من جديد: {فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه أو حرّقوه، إن في ذلك لآياتٍ لقومٍ يؤمنون}(24)!!!...
وهنا وجدنا أن العناصر الخمسة التي تحدثنا عنها آنفاً لم تكتمل هنا، ذلك أن الرواية ستعود للتفرع مرة أخرى!!.
{وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثاناً مودة بينكم...}(الآية:25)..(1/39)
بل إن النص الكريم يأخذُ منحىً مدهشاً وذلك حين يقوم بإيراد تجربة أخرى ضمن تجربة لم ينتهِ الحديث عنها بعد!! {فآمن له لوط..} ونجد هنا نموذجا من النماذج التركيبية الفريدة، فقد أُشرك لوطٌ وإبراهيم في حبكة قصصية واحدة، ولعل ذلك بسبب أن زمانهما واحد، ومكانيهما متقاربان!...
ويستمر الاستطراد في رسم الخيوط الثانوية للرواية وذلك من خلال رسم الملامح الثانوية (1) في حياة الرسل أنفسهم من حيث هم بشر يتزوجون، ويتناسلون، {ووهبنا له إسحقَ ويعقوب..}(27) {ولوطاً إذ قالَ لقومِهِ إنكم لتأتونَ الفاحشةَ...}(28) إلى أن تلتقي الرواية المزدوجة لإبراهيم ولوط بنهايتها الطبيعية والحتمية:
{فما كان جواب قومه إلا أن قالوا ائتنا بعذابِ الله إن كنتَ من الصادقين، قال ربِّ انصرني على القوم المفسدين...}(30) {ولما جاءت رسُلُنا إبراهيمَ بالبشرى قالوا إنّا مهلكو أهلِ هذه القرية...}(31).. {إنا مُنزلون على أهلِ هذه القرية رجزاً من السماء بما كانوا يفسقون}(34) {ولقد تركنا منها آيةً بينةً لقومٍ يعقلون}..
وباستقرار آية العقاب في ديار الهالكين تكون العناصر الخمسة للرواية قد اكتملت، عندما ترك الله عز وجل الآيات لقوم يعقلون!!...
وبعد كل هذا الاستطراد في رسم ملامح قصة إبراهيم ولوط مع قومهما، يكون القرآن الكريم قد أكمل ثلاث حلقات من السلسلة الرسالية (نوح، وإبراهيم، ولوط)... لينتقل النص ،بعد ذلك، إلى حلقة جديدة هي قصة أهل مدين ونبيهم شعيب.. وفي هذا يقول عز من قائل: {وإلى مَدْيَنَ أخاهم شُعيباً...}(الآية:36)... {فكذّبوه فأخذتهمُ الرجفةُ فأصبحوا في دارهم جاثمين}(الآية:37)...
__________
(1) هي ملامح ثانوية قياسا على بنية الرواية القرآنية، وقياسا على الخط الأصلي الذي تتحدث عنه، ولا يعني ذلك ثانوية الموضوعات التي تتحدث عنها.(1/40)
ولدهشتنا فإن قصة شعيب مع قومه تنتهي بسرعة، حتى دون أن تكتمل عناصرها الخمسة، بل يُعطف عليها (وبكلمات معدودة) قصة عاد وثمود، والتي تأتي ،هي كذلك، في منتهى الاختصار، لنفاجأ بالعودة إلى عنصر رئيس من عناصر كل رواية ألا وهو النهاية الحتمية، تلك النهاية التي تنطبق هنا على الحلقتين والقصتين معا:
{وعاداً وثموداً وقد تبين لكم من مساكنهم...}(38)..
ولعل الجمع بين الحلقتين في رواية واحدة قد جاء نتيجة لاشتراكهما ،هذه المرة، في نوع العقاب الذي أوقعه الله بهما!!..
ومشهد غريب هو ذلك الذي تنتهي به الآية (38) !!
{وعاداً وثموداً وقد تبين لكم من مساكنهم وزَيَنَ لهم الشيطانُ أعمالَهم فصدَّهم عن السبيل وكانوا مستبصرين}(38)
فبشكل خاطف وجدنا الآيات تنعطف انعطافا حاداً لتتحدث عن الشيطان وزينته التي يوقع الناس من خلالها في شرّ أعمالهم، دون أن يكون السياق العام للآيات يوحي أو ينبئ بهذه الانعطافة المفاجئة، ولتنتهي الآية بشكل أكثر غرابة {فصدّهم عن السبيلِ وكانوا مُستبصرين}(38)..
وكأن الآيات تسخر من أولئك الذين وقع العقاب عليهم، حيث كانوا منقادين إلى أقدارهم بعيون مفتوحة، دون أن يكونوا قادرين على رؤية الأخطار التي كانت محدقة بهم.. إذ لم يكونوا مبصرين!.. بل كانوا مستبصرين، أي مجردّ مدّعي بصيرة!!...(1/41)
ولنلاحظ أنه لم تكن هناك حاجة لإبراز العنصر الخامس من عناصر هذه الرواية المشوقة (الأمر بالنظر في الآيات التي أبقاها الله في بيوت الظالمين) وذلك لسبب غاية في البساطة! إذ لم تعد تلك الآيات والعلامات قادرة على الثبات والبقاء في وجه عوامل الزمن، وعوامل التعرية الجيولوجية، وكل العوامل الأخرى التي يكسبها الإنسان بيديه!... فحيث يتطاول الزمن فتنهد له الجبال هداً، وحيث تنكشف الأرض كل يوم عن وجه جديد، وحيث يسلب الإنسان أخاه الإنسان قدرته على التحرك بحرية فتتاح له فرصة النظر في الآيات.. ساعتها يكون الإنسان قد سُلب ،عملياً، قدرته على النظر في الآيات المنتشرة في أرجاء الأرض!.. مما يترتب عليه سؤال في غاية الأهمية:
هل تسقط ،والحالة هذه، حجة الله على الناس، وهو الحكم، العدل، الذي يقول في محكم التنزيل: {وما كُنا مُعذبين حتى نبعثَ رسولا}؟!! ...
من هنا فإن تأملا للنموذج الأخير الذي عرضناه (مدين، وعاد، وثمود) يكاد يكشف عن قرب طرح المفاجأة التي تكاد تلجم الأفواه، بل تكاد تذهب بالعقول؟!! لكن وقبل ذلك كله تأتي الآيات بحلقة أخيرة مختصرة (تجربة نبي الله موسى عليه السلام مع كل من قارون وفرعون وهامان)، لتأتي الآيات بعد ذلك بإجمال لأهم وأبرز ما تم عرضه في الحلقات السابقة؛ كلون من ألوان العرض الأخير قبل طرح المفاجأة:
{وقارونَ وفرعونَ وهامان، ولقد جاءهم موسى بالبيِّناتِ فاستكبروا في الأرض وما كانوا سابقين}..
ونلاحظ هنا أن الآيات الكريمة لم تجد حاجةً لاستكمال العناصر الخمسة؛ بل اكتفت بإيراد جزءٍ منها، ذلك أنه لا فائدة من طرح عناصر لن يكون لها فائدة عملية في حياة الناس! فالآيات قد ذهبت، والشواهد قد اندثرت، والدلائل كلها انقرضت، فماذا يكون حال الناس؟
..(1/42)
لكن وقبل أن تُطرح الكلمةُ الفصل؛ فإن القرآن الكريم يجمل كل ما تقدم من نهايات أليمة في حياة الأقوام السالفين بالقول: {فكلاً أخذنا بذنبِهِ، فمنهم من أرسلنا عليهِ حاصباً، ومنهم من أخَذَتْهُ الصيحةُ، ومنهم منْ خسفنا به الأرضَ، ومنهم من أغرقنا، وما كانَ اللهُ ليظلمهم ولكن كانوا أنفسَهُم يظلمون}(الآية:40).
وهنا تأتي مفاجأة هذه السورة؟؟!!
لتوضح لنا سر ذلك الاختيار العجيب لتلك الحشرة؛ كي تكون محوراً تدور حوله أحداث السورة وتكون اسما لها:
{مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا}(الآية:41)..
والصورة التمثيلية المرسومة ابتداء من الآية (41) إنما يقصد من ورائها أن تكون صورة فنية تقابل أختها التي رسمتها الآيات المحصورة بين الآيات(14-40) وعليه؛ فهي ليست مجرد إشارة عابرة ككل الإشارات التي سبقتها.. بل قصد منها أن تكون خلاصة الخلاصات، ونهاية النهايات، وعبرة العبر! ... فمن لم تحالفه قدرته وأقداره على النظر في الآيات التي تركها الله في بيوت الظالمين ،لأي سبب كان، فإن حجة الله عز وجل لن تسقط عنه، ذلك أن الله عز وجل (كرما منه ورحمة) قد بثها كاملة غير منقوصة في بيت العنكبوت!!
فمن منّا من لم يرّ العنكبوت من قبل (يقابله الشيطان)؟!..
من منا من لم يرَ الحشرات المخدوعات (يقابلها أولياء الشيطان) وقد تخايلت لها زينة بيت العنكبوت من بعيد (يقابلها ما يزينه الشيطان لأوليائه)..
ومن منا من لم يلمح الحشرة وهي تقترب مبصرةً على غير بصيرة (وكانوا مستبصرين) إلى أن تقع في حبائل العنكبوت وزينته (حبائل الشيطان بالنسبة للإنسان)؟؟
ومن منا من لم يأتِ بيت العنكبوت بعد عدة أيام ليشاهد فيه آيات العذاب التي حلت بالمخدوعين!!
إن التأمل في سورة العنكبوت يكشف عن عمق الملحمة التي ترسمها هذه السورة، والتي هي عينها ملحمةُ مستمرة تؤرخ لنضال الرسل ومآل الرسالات..(1/43)
وآية العنكبوت (1) هي تلخيص معجز وبليغ لتلك النتيجة.. والتي تفيد أمراً واحداً في غاية البلاغة والأهمية ألا وهو أن حجة الله على عباده كانت، ولا زالت، وستبقى قائمة!..
ومن أراد أن يتأكد فلينظر إلى بيت العنكبوت!!
النموذج الثالث
بين خلق الأرض ودحوها.. الحلقة المفقودة!! (2)
من خلال نموذج قرآني آخر؛ نواصل حديثنا عن الضرورة القصوى التي تقضي بالنظر إلى آيات القرآن الكريم نظرة تكاملية شاملة، بحيث يتسنى لقارئ القرآن أن يتمتع بما تتضمنه تلك الآيات من جوانب فنية؛ يهددها الضياع إن لم يتم النظر إلى الآيات الكريمة من خلال هذا المنهج التكاملي والشمولي الذي نتحدث عنه..
والنموذج الثالث الذي نتحدث عنه هنا يتناول قضية خلق الأرض، وهي المسألة التي تعرض لها القرآن الكريم في عددٍ كبيرٍ من آياته، حيث جاء الكثير منها مُجملا، بينما جاء البعض منها مُفصلا. ومن بٍديع ما قيل في شأن خلق الأرض وتكونها ما تناولته الآيات التي نحن بصددها، حيث يقول عز من قائل:
{أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها، رفع سمكها فسواها، وأغطش ليلها وأخرج ضحاها، والأرض بعد ذلك دحاها}(النازعات:28-31).
__________
(1) أخرج أبو داود في مراسيله عن يزيد بن مرثد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "العنكبوت شيطان مسخها الله فمن وجدها فليقتلها". وأخرج ابن أبي حاتم عن مزيد بن ميسرة قال: العنكبوت شيطان. وروى القرطبي في تفسيره عن علي أيضاً أنه قال: طهروا بيوتكم من نسج العنكبوت فإن تركه في البيت يورث الفقر.
(2) منشور على موقع "موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن الكريم والسنة" وكذلك في العدد (43) من مجلة "الوحدة الإسلامية" الصادرة في بيروت.(1/44)
وتفاجئنا الآيات بترتيب حلقاتها، وتدهشنا بشدة رونقها وروعة ألقها وجمالها؛ ذلك أنها ،ورغم كونها موجهة بشكل أساسي للحديث عن خلق الأرض؛ إلا أنها لم تدخل إلى صميم الموضوع بصورة مباشرة!.. لكنها التفت على هذا الأمر التفافاً لافتاً فيه الكثير من العجب والإدهاش. فعلى الرغم من أن الموضوع الأساسي في هذه الآيات هو الحديث عن خلق الأرض؛ إلا أن الأرض لم تشكل الأولوية الأولى في الطرح! إذ ابتدأت الآيات بالحديث عن خلق السماء، وعن الإعجاز في خلقها على الصورة التي هي عليها وذلك بقوله عز وجل:
{أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها، رفع سمكها فسواها، وأغطش ليلها وأخرج ضحاها}
وعلى عكس ما قد يتبادر إلى الذهن فإن الحديث هنا لا يدور عن السماء بمعناها الشامل (1) والتي تضم بين جنباتها النجوم والكواكب؛ وهو المعنى عينه الذي تناولته آيات أخرى مثل: {ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوماً للشياطين} نقول: بأن المعنى في الآيات التي نحن بصددها {أم السماء بناها} إنما تتحدث عن مضمون للسماء مختلف تماما، فهي تتناول السماء بمعنى "الغلاف الجوي"، حيث تعتبر السماء بهذا المعنى (الغلاف الجوي) جزءاً من الأرض وليس شيئا مستقلاً خارجاً عنها!!..
ولا يعنينا هنا الدخول في تفاصيل الآية بقدر ما يعنينا إظهار الالتفاتة الجمالية الكريمة فيها.. فكما نرى فإن الآية بدأت توصيفها للأرض وخلقها بالحديث عن بناء السماء (الغلاف الجوي)! {أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها...} لتعرج بعد ذلك على الموضوع الأصلي ألا وهو خلق الأرض ذاتها:
{والأرض بعد ذلك دحاها، أخرج منها ماءها ومرعاها، والجبال أرساها}
ومن عجيب هذه الآيات أنها تتحدث عن {الأرض بعد ذلك} لكنها لا تفصح لنا عن حال الأرض "قبل ذلك"؟!!
__________
(1) سيتم تناول هذا الأمر بشكل تفصيلي في موضوع "ظاهرة النسبية في القرآن الكريم".(1/45)
وكأنها تقفز عن حلقة هامة من تاريخ هذا الكوكب الجميل، لأجل أن يملأها الإنسان بعلمه وبفكره وخياله؛ أو أن يكتشفها من خلال إنجازاته العلمية على امتداد العصور؛ حيث تمكن الإنسان أخيراً من اكتشاف الكثير من التفاصيل الجديدة حول خلق الأرض والكيفية التي تم ذلك الخلق وفقها..
ولاستجلاء بعض مقاصد القرآن الكريم من وراء هذا الوصف الغريب لتاريخ خلق الأرض وتكونها؛ فعلينا أن نعرض بقليل من التفصيل إلى نظرة الإنسان للأرض على مر العصور، حيث رآها الإنسان القديم تنبسط أمامه فسماها البسيطة! وما درى أنها عندما تطول على سطحها المسافات فإنها تتكور!
إلا أن الإنسان بدأت تتجمع لديه في عصوره المتأخرة أدلة كثيرة تشير إلى "كروية" الأرض؛ ومع ذلك فقد واجهت الإنسان ،في عصوره الأولى، صعوبة بالغة للاقتناع بتلك الحقيقة..
وعلى الرغم من أن بعض فلاسفة الإغريق كانوا قد قالوا بدوران الأرض إلا أن الناس قد ظلوا غير مصدقين، وظلوا على غير قناعة بحركة الأرض ودورانها حول نفسها؛ لمدة ألفي سنة إضافية! أي إلى أن جاء العالم البولندي "كوبرنيكس" في القرن السادس عشر فأحيا النظرية القديمة.
على أن نظرية "كوبرنيكس" (والقائلة بدوران الأرض حول نفسها) لم تشِع شيوعا كبيرا إلا عندما جاء العالم "جاليليو" فكشف الكثير من الحقائق التي عززت تلك النظرية، وقد بقيت تلك الحقيقة (دوران الأرض حول نفسها) في حكم النظرية إلى أن تم إثباتها بطريقة عملية على يد عالم الفيزياء الفرنسي "فوكو" وقد استغرق البشرية مئات السنين لتبدأ قناعة الناس بكروية الأرض!..
لكن ما كادت نظرية "كروية الأرض" تستقر حتى عادت إلى الاهتزاز من جديد! فقد تبين ،لاحقا، أن تلك الكروية ليست كاملة التكور! وأن الشكل الحقيقي للأرض إنما هو بيضاوي وليس كروي!...
لكن كيف تحدث القرآن الكريم عن هذا الأمر قبل تلك المساجلات بمئات السنين؟!(1/46)
كما بينّا فقد ابتدأت الآيات ،التي نحن بصددها، الحديث عن (السماء وبنائها) ولم تبدأ بالحديث عن الأرض ودحوها.. أي جعلها بيضاوية (1) .. والمدقق في الآيات يجدها تروي قصة كوكب الأرض في بداية تكونه وتخلقه، إلا أن تلك الرواية غلفتها بعض العناصر الفنية!
فقد أغفلت تلك الرواية حلقتين من سلسلة حلقات خلق الأرض، أما الحلقة الأولى المفقودة فهي تلك المتعلقة بالموضوع الأساسي (خلق الأرض) وكما أسلفنا فقد ابتدأت الآيات حديثها عن السماء وليس عن الأرض، وهذه الحلقة مفهومة ضمنا!..
أما الحلقة الثانية المفقودة فهي تتعلق بالحالة التي كانت عليها الأرض قبل أن يدحوها الله عز وجل! فالآيات تتحدث عن {والأرض بعد ذلك دحاها} وبهذا تكون قد أغفلت الحالة التي سبقت "ذلك" ولم تعطنا الآيات فكرةً عما كانت عليه الأرض "قبل ذلك"؟!. وكأن الآيات قد اختصرت جزءاً كبيراً من الرواية التي نحن بصددها، وذلك عندما تحدثت عما آلت إليه حال الأرض (إلى الشكل البيضاوي) دون الحديث عما كانت عليه (الشكل الكروي) ذلك أن القرآن الكريم قد ترك للإنسان مهمة استكمال بعض الحلقات المفقودة، من خلال ما يبلغه في شتى مجالات العلوم!...
__________
(1) توضح المعاجم اللغوية أن كلمة دحاها تؤدى معنى أنه جعلها كالدحية أي كالبيضة لان الأدحوة معناها بيضة النعام أو مكان بيض النعام ويكون عادة مستدير الشكل، ولا شك أن هذا يطابق شكل الأرض الحقيقي الذي تدل عليه البراهين النظرية والعملية، كما تؤكده الصور التي سجلتها آلات التصوير أثناء رحلات الأقمار الصناعية في الفضاء، ولفظ دحا يدل على شيئين هما البسط مع الاتساع والتكوير في التكوين، وهذه روعة في التعبير عن أن الأرض التي نراها أمامنا في الظاهر مبسوطة فسيحة الأرجاء هي في واقع الأمر مستديرة كالبيضة، وهذا تقدير العزيز الحكيم الذي أتقن كل شئ خلقه.(1/47)
وفيما يلي نحاول إلقاء بعض الضوء على الحلقة المفقودة؛ وذلك بالاستعانة ببعض المفاهيم الفيزيائية الحديثة، والتي ستوضح لنا الكيفية التي تحولت الأرض من خلالها الأرض من شكلها الكروي إلى شكلها البيضاوي!!..
الشمس أصل للكواكب جميعاً
هناك نظريات شتى تتحدث عن الكواكب السيارة ونشأتها، وهي تتفق على أن الشمس إنما هي أم للكواكب التي نعرفها وأصل تكوّنها!.. ومن هذا المنظور فإن الأرض إنما هي إحدى بنات الشمس!.
ومن النظريات التي حاولت تفسير نشأة الكواكب: نظرية "التصادم"؛ وتفترض هذه النظرية اصطدام جرم سماوي بالشمس؛ مما نتج عنه تناثر بعض المادة الشمسية المنصهرة حولها، وقد استمرت تلك الأجزاء المتناثرة في الدوران حول الشمس (بما للشمس من تأثير جاذب) وقد تبنى هذا الرأي العالم الفرنسي الكونت "دي بيفون".
أما نظرية "الانكماش الشمسي" ومبتدعها الفيلسوف الألماني "عمانويل كنت" فقد زعمت أن أصل منشأ الكواكب هو الشمس بالفعل، لكن دون حدوث تصادم؛ وتزعم هذه النظرية أن الكواكب السيارة قد نشأت نتيجة البرود التدريجي للشمس وتقلص حجمها.
وأيا كانت الحقيقة حول الكيفية التي تكونت المجموعة الشمسية وفقها؛ فإن هناك شبه اتفاق على أن أصل تلك الكواكب إنما هو الشمس بالفعل، وأن الكواكب أول ما تكونت كانت مادة منصهرة..
لكن ما الذي يعنيه كل هذا؟!..
قبل أن نجيب على السؤال المطروح دعونا نتوقف عند تساؤل من نوعٍ آخر: هل شاهدتم ذات مرة قطرة ماء وهي تسقط من فوهة الصنبور؟ أو قطرة الزئبق وهي تتدحرج على سطحٍ أملس وكأنها كرة من معدن؟... فإذا كنت ،عزيزي القارئ، قد شاهدت ذلك بالفعل فالأمر يحتاج إلى تعليل؛ فلماذا اتخذت قطرة الماء وقطرة الزئبق الشكل الكروي ولم تتخذ أي شكل آخر؟!...(1/48)
إن الإجابة عن هذا السؤال يقدمها لنا علم الفيزياء؛ حيث من المعلوم أن المواد ،بشكل عام، ترتبط جزيئاتها فيما بينها بقوى تسمى "قوى التماسك" وتكون قوى التماسك تلك أكبر ما يمكن في المواد الصلبة؛ وتكون أقل ما يمكن في الغازات، بينما تكون متوسطة القوة في المواد السائلة..
من ناحية أخرى تتأثر جزيئات المواد السائلة بنوع آخر من القوى؛ والتي تدعى "قوى التلاصق" وهي القوى المتبادلة بين سطحين غير متجانسين، كالماء والهواء، أو الماء وجدران الكأس الذي يحوي الماء على سبيل المثال. وهذا النوع من القوى هو المتسبب في جعل سطح الماء في الكأس لا يكون مستويا تماما، بل يرتفع عند الجوانب وينخفض في الوسط!!..
وفي كل من حالتي قطرة الماء وقطرة الزئبق فإن قوى التماسك "الشدّ" بين جزيئات المادة نفسها تكون أكبر من القوى المتبادلة بين جزيئات المادة وما يلامسها من هواء، فتكون محصلة ذلك نشوء توتر ما داخل قطرة السائل؛ وتدعى قوى التوتر تلك بـ "التوتر السطحي"، وهذا يعني أن تحاول قطرة السائل الانكماش على نفسها؛ وتقليل مساحة سطحها إلى أقل مساحة ممكنة، ويعتبر الشكل الكروي شكلا مثالياً في هذه الحالة، إذ أنه الأقل مساحة سطح بين الأشكال الأخرى.. وهو ما يفسر ميل القطرة السائلة لأن تتخذ شكل الكرة!!..
إننا ومن خلال هذا المدخل نكون قد وصلنا إلى ما نريد الوصول إليه.. وهو أن كوكب الأرض إنما كان في أول نشأته وانفصاله عن الشمس على هيئة صهير اتخذ شكل الكرة كاملة الكروية، والتي كان شكلها بالضبط كشكل قطرة الماء الساقطة من فوهة الصنبور!..
لكن ما الذي حدث بعد ذلك لتتحول الأرض عن كرويتها، ولتصبح بيضاوية؟! وليصبح طول المحور الواصل بين قطبيها الشمالي والجنوبي يعادل 7900 ميل، فيما قطرها الاستوائي (وهو المتعامد على المحور الأول) طوله 7926 ميلا، بمعنى أن: القطر الاستوائي يزيد على القطر القطبي بمقدار 26 ميلا؟!..(1/49)
ولتفسير هذا التباين بين أطوال قطبي الكرة الأرضية فلابد من الاستعانة ،مرة أخرى، بأحد قوانين علم الفيزياء، وهو قانون "القوى الطاردة المركزية" فمن المعلوم أن كل جسم يدور حول مركزه (مثل الكرة الأرضية) فإنه يكتسب قوة، وتعمل تلك القوة على طرد كتلة الأرض بعيداً عن المركز وباتجاه الأطراف، يشبهها في ذلك أنك إذا ما أمسكت طرف خيط في نهايته ثقل وبدأت تحركه حركة دورانية فإن الخيط يبدأ بالاستقامة، ويبدأ الثقل بالدوران حولك؛ محاولا الإفلات منك، وإذا ما حدث ذلك فإن الثقل المربوط بالخيط سوف يطرد نفسه بعيدا عنك بفعل القوة التي اكتسبها..
وبتطبيق قانون "القوة الطاردة المركزية" على حالة الأرض الدوارة فإن محيط الأرض عند خط الاستواء يكون المنطقة الأشد تعرضا لتأثير القوة الطاردة المركزية، بينما تقل تلك القوة كلما اتجهنا ناحية القطبين، إلى أن تنعدم عند القطبين ذاتهما. ونتيجة لتلك القوة فإن الأثقال عند خط الاستواء تكون مدفوعة إلى الخارج بقوة أكبر من تلك الموجودة عند القطبين؛ مما يعني اندفاع مادة الأرض نحو الخارج، ويكون ذلك الاندفاع أكبر ما يمكن عند خط الاستواء وشبه معدوم عند القطبين، وتكون النتيجة زيادة في طول القطر الاستوائي للأرض وانضغاط القطر القطبي في الوقت ذاته؟!..
وإذا ما أضفنا إلى ذلك حقيقة أن سرعة دوران الأرض حول نفسها عند نشأتها كانت أضعاف سرعتها الحالية! حيث كانت الأرض في ذلك الوقت تكمل دورتها حول نفسها في زمن قدره أربع ساعات فقط! عوضاً عن أربع وعشرين ساعة في يومنا هذا..(1/50)
وإذا ما وضعنا في اعتبارنا أن الأرض وقت نشأتها كانت مثل كرة من عجين، مادتها الصخر المنصهر، قبل أن تتجمد قشرتها، فإن هذا يعني أن قوى الطرد المركزي في ذلك الوقت كانت تعادل القوى الحالية عدة أضعاف.. وهنا يمكننا أن نتخيل تأثير قوى الطرد المركزي على كرة من الصخور المنصهرة التي اتخذت لنفسها شكل الكرة.. لقد كانت نتيجة ذلك أن أصبحت الأرض بيضاوية بعد أن كان كروية!.
إن هذا التحول الغريب في حياة الأرض لم يرصده بهذا الشكل الفني الرائع إلا القرآن الكريم؛ حيث لخص الحالة كلها تلخيصا معجزا عندما قال جل وعلا: {والأرض بعد ذلك دحاها} فهذه العبارة؛ وعلى الرغم من قصرها ومحدودية عدد كلماتها إلا أنها تحتوي على معنيين إعجازيين:
الأول: وهو ظاهر ويتحدث عن بيضاوية الأرض، واستقرارها على ذلك الحال.
الثاني: فهو معنى مختفِ بشكل محكمٍ لطيف، حيث تم الحديث عن أن الأرض ،وقبل أن تصبح بيضاوية، كانت على حالة أخرى، فجاءت بيضاويتها لتكون {بعد ذلك} أي بعد ذلك الحال الذي كانت عليه في بداية تخلقها!!.
فسبحان ربنا في كل ما خلق، إليه أنبنا، وهو رب العرش العظيم.
ظاهرة النسبية في القرآن الكريم
ما الذي أردنا قوله في هذا البحث؟
(عند نظرنا في آيات القرآن الكريم.. لماذا نحتكم للمعاني الاصطلاحية القريبة والشائعة وحدها.. ولا نحتكم إلى جملة المعاني اللغوية المحتملة للفظ؟!..
إن أخذ جملة المعاني اللغوية "الممكنة" و"المحتملة" و"المتاحة" للفظ معين بالحسبان (وهي متعددة كما تبين ذلك معجمات اللغة) إنما يفتح آفاقا جديدة للانفتاح على النص الكريم)
بين يدي الظاهرة(1/51)
مع ازدياد تعقيدات الحياة وتشعباتها تزداد حاجتنا لفهم أنفسنا، ولفهم الواقع من حولنا، وهي المهمة التي يمكن أن نوكلها لأنفسنا بجدارة إن نحن أحسنا التعامل مع كتاب الله تعالى، لكن ذلك التعامل يحتاج منا إمعان نظر، بحيث لا تبقى معارفنا الدينية مجرد تكرار لمعارف آبائنا وأجدادنا (1) ..
ولدى تمعننا في آيات كتاب الله فقد جذب انتباهنا جانب اعتبرناه في حينه جديرا بالدراسة، بل اعتقدنا بأنه يخفي خلفه ظاهرة أصيلة من الظواهر التي يوحي بها النص القرآني الكريم، وتلك الظاهرة هي "ظاهرة النسبية".. لكن وقبل أن نخوض في أمر تلك الظاهرة ؛ فلابد من بعض التقديم بين يديها..
القرآن: كلامُ الله
يُعرّف القرآن الكريم بأنه "كلامُ الله العربيّ المثبت في اللوح المحفوظ للإنزال، ثم المنزّل بواسطة جبريل الأمين على سيدنا محمد(صلى الله عليه وسلم) للهداية والإعجاز، وهو المنقولُ إلينا بالتواتر؛ والمكتوب في المصاحف".
وفي تعريف مبسط له يمكن القول بأنه:
"كلام الله المنزّل على محمدٍ (صلى الله عليه وسلم)؛ المتعبد بتلاوته".
__________
(1) هنا يمثل أمامنا أحد التحديات التي تواجه العقل المسلم في عالم اليوم.. وحسب اعتقادنا فإن القيمة المنهجية للنص القرآني في عالم اليوم لا تقل أهمية عن الفوائد الأخرى التي يمكن أن يجنيها المسلم لدى قراءته للقرآن، فللنص القرآني قدرة عجيبة على إعادة بناء منهجية العقل، لما يمتلكه النص الكريم من سمات تجعل منه النص الوحيد ذا السمات المطلقة القابلة للقياس عليها.(1/52)
والقرآنُ لغةً: مشتقٌ من مادة الفعل "قرأ" (1) والذي يأتي بمعنى: الجمع والضمّ.
والقراءةُ هي: ضمُّ الحروفِ والكلماتِ إلى بعضها. والقرآن في الأصل كالقراءة، مصدر: قرأ؛ قراءة؛ وقرآناً. قال تعالى: {إنّ علينا جمعه وقرآنه، فإذا قرأناه فاتبع قرآنه}(القيامة:17-18) أي قراءته. وهو مصدرٌ على وزن "فُعلان" (بالضم) كالغُفران، والشُكران. تقول: قرأته قرءاً وقُرآناً، بمعنى واحد.
ويُطلقُ "القرآن" بالاشتراك اللفظي على مجموع القرآن، وكذلك على كلّ آيةٍ من آياته، فإذا سمعتَ من يتلو آيةً من القرآن الكريم صحّ أن تقول: إنه يقرأُ القرآن، مثال ذلك قوله تعالى: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا}(الأعراف:204).
وقد ذُكر كذلك بأن تسميته "قرآناً" إنما جاءت لجمعِهِ ثمرةَ كتبِ الله كلِها، ولجمعِهِ ثمرةَ جميعِ العلوم، كما أشار إلى ذلك قوله تعالى:
{ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء}(النحل:89)..
وقد سُمي القرآنُ "قرآناً" كونه متلواً بالألسنة، كما روعي في تسميته "كتاباً" كونه مدوناً بالأقلام. وللعلماء في تعريفِ "القرآن" قولاً يميزه عن غيره من الكتب المنزّلة، فهو (كلامُ الله المنزّل على محمد(صلى الله عليه وسلم)، المتعبد بتلاوته).
إعجازُ القرآن الكريم وسحرُ بيانه
__________
(1) قرأ الشيء: جمعه وضم بعضه إلى بعض. قرأ قراءةً وقرآنا، واقترأ الكتاب: أي نطق بالمكتوب فيه أو ألقى النظر عليه وطالَعَه، أقرأَ الرجلَ: أي جعله يقرأ. استقرأ فلانا: أي طلب إليه أن يقرأ، واستقرأ الأمور: أي تتبعها لمعرفة أحوالها وخواصها.(المنجد في اللغة والأدب والعلوم،ص616).(1/53)
وللقرآن الكريم وجوه من الإعجاز التي لا تعد ولا تحصى بحيث تعجز الكلمات عن الإحاطة بكل تلك الوجوه، لكنّ بعضاً من الكلمات التي أوجزت في وصفه تناولت "الغاية الموضوعية" التي جاء القرآن الكريم لأجل تحقيقها، فهو ،من هذا المتناوَل، حجةُ الله على العالمين، والمستندُ الأكبرُ لشريعة الإسلام، وبثبوت حجة الله على البشر ثبتت الحجةُ بضرورة العمل..
وقد ثبتت حجةُ الله على البشر بثبوتِ إعجاز القرآن الكريم لكل من تحداهم الله من العقلاء، وهذه الحجة لا تقتصر على من نزل القرآن الكريم فيهم في العصر الأول للنبوة، بل ثبتت كذلك في حق من نُقل إليهم فيما بعد ،بالتواتر، وإلى يومنا هذا. وقد ثبتت حجة الله عزّ وجلّ على البشر بثبوت عجزهم أمامه وحيرتهم في مواجهته.
و"العجز" حسبما هو مُتعارفٌ عليه: اسمٌ للقصور وعدم الاستطاعة عن فعل الشيء. وهو ضد "القدرة"، وإذا ثبت الإعجاز ظهرت قدرة المُعجِز، ويكون الهدف من الإعجاز: إظهارُ صدق النبيّ (صلى الله عليه وسلم) في دعوى الرسالة بإظهار عجز العرب عن معارضته في معجزته الخالدة؛ وهي القرآن الكريم، وعجز الأجيال المتتابعة من بعدهم، فالقرآن الكريم ،من هذه الناحية، جاء بالتحدي الدائم والمستمر إلى يوم القيامة؛ في مواجهة الجنِّ والإنس؛ وذلك عندما تحداهم أن يأتوا بمثله: {وإن كنتم في ريبٍ مما نزَّلنا على عبدنا فأتوا بسورةٍ من مثله، وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين}(البقرة:23).. كذلك فقد تحدّاهم أن يأتوا ببعضٍ من مثله: {قل فأتوا بعشر سورٍ مثله مفتريات}(هود:13)..
وعندما ثبتَ عجزُهم أمام هذا التحدي؛ كان القول الفصل: {قل لئن اجتمعت الإنس والجنّ على أن يأتوا بمثلِ هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضُهم لبعضٍ ظهيراً}(الإسراء:88)(1/54)
وأمام هذا الإعجاز؛ وذلك التحدّي.. تعددت الآراء حول إعجاز القرآن الكريم؛ والقدرِ المعجز منه، فقد ذهب المعتزلةُ إلى أن الإعجاز يتعلق بجميع القرآن الكريم لا ببعضه أو بكل سورة برأسها. لكنّ آخرين ذهبوا إلى أن القليل والكثير منه مُعجِز؛ دون تقييد بسورة معينة، لقوله تعالى: {فليأتوا بحديثٍ مثله}(الطور:34).
وذهبت فئةٌ ثالثةٌ إلى أن الإعجازَ يتعلقُ بسورةٍ تامةٍ ولو كانت قصيرة، أو قدْرِها من الكلام؛ كآيةٍ واحدةٍ أو آيات.
كذلك وجدنا من ذهب إلى أن إعجاز القرآن الكريم لا يقعُ في قدرٍ معينٍ منه فحسب؛ بل نجد ذلك الإعجاز في (أصواتِ حروفِه، ووقعِ كلماتِه، كما نجده في الآية والسورة، فالقرآن كلام الله وكفى) (1) .. وهي حجةٌ ،ولا شكّ قوية تسترعي الانتباه إلى حقيقةٍ في غاية الأهمية؛ وهي أن إعجاز القرآن الكريم لم يقتصر ، فقط، على الحقائق الموضوعية التي يطرحها، ولا في قدراته البلاغية وحسب، بل في تمتعه كذلك بإعجازٍ غيرِ عاديّ حتى على مستوى تناسقِ حروفِ الكلمة الواحدة!.
سحرٌ يأخذ بالقلوب والألباب
لقد كان تأثيرُ القرآن الكريم على كلّ من سمعه تأثيراً عجيباً؛ إذ سحرت (2) كلماتُه قلوبَهم؛ وسلبتهم عقولهم وألبابهم، وكان أعجب ما فيه أن خاصيته تلك كانت بالنسبة لهم أمراً غامضاً غيَر معتاد، ووجدوا فيه ظاهرةً تكاد تكون ،بالنسبة لهم، غيرَ مفهومةِ الأسباب!!..
__________
(1) مباحث في علوم القرآن، مرجع سابق، ص297.
(2) السحر المشار إليه هنا هو السحر بمعناه الطيب، وهو السحر الكلامي والذي يقصد به: (غرابة الكلام ولطافته المؤثرة في القلوب؛ المحوِلة إياها من حالٍ إلى حال) (المنجد في اللغة والأدب والعلوم، مرجع سابق، ص323).(1/55)
(ونزل القرآن فظنّه العربُ أولّ وهلةٍ من كلام النبيّ (صلى الله عليه وسلم) وروحوا عن أنفسهم بانتظار ما أَمِلوا أن يطلعوا عليه في آياته البيّنات..) (1)
ولم يكن عجيباً حينها أن تتباينَ ردودُ أفعالهِم تجاهه، فمنهم من اطمأن إليه فآمن به، ومنهم من جحد فكفر، ومنهم من لم يحسم الأمر فآثر الانتظار لعل الأيام تأتي بالخَبَرْ!.
ولقد أثار القرآن الكريم ،ومنذ بداياته الأولى، ردودَ فعلٍ تميزت بالحيرة، فلم يكن من السهل ،بدايةً، استيعابُ حقيقة إرسال نبيّ افترضوا وجوب أن يكون واحداً من أرفعِهم مكانةً، أو أكثرِهم مالاً وولداً!!.. أما محمد (صلى الله عليه وسلم) وما تميز به من مكانةٍ رفيعةٍ ،سواءً من حيث نَسَبِه أو أخلاقه ،والتي لم يعرفوا لها مثيلاً، فقد كان بالنسبة لهم آخر من يصلح لتلك المهمة!
{وقالوا لولا نُزّل هذا القرآن على رجلٍ من القريتين عظيم}(الزخرف:31)...
ولم يكن مهماً ،بالنسبة لبعضهم، ما كان يتمتعُ به محمدٌ (صلى الله عليه وسلم) من رفيعِ خصالٍ وصِدْقِ حديث، إذ أضمروا له التكذيب حتى وإن كان صادقاً! (ومرّوا ينتظرون وهم مُعِدّون له التكذيب، مُتربصون به حالةً من تلك الأحوال؛ فإذا هو قَبِيلٌ (2) غيرُ قبيلِ الكلام، وطبعٌ غيرُ طبعِ الأجسام، وديباجةٌ كالسماء في استوائها لا وهيٌ ولا صدعٌ، وإذا عصمةٌ قويةٌ، وجمرةٌ متوقدةٌ، وأمرٌ فوق الأمر، وكلامٌ يحارون فيه بدءاً وعاقبة) (3) .
__________
(1) إعجاز القرآن والبلاغة النبوية، مصطفى صادق الرافعي، ط3، ص221.
(2) قبيل غير قبيل الكلام: أي ليس مثل الكلام البشري، ولا يشابهه.
(3) إعجاز القرآن والبلاغة النبوية، مرجع سابق، ط3، ص221.(1/56)
وباختصار؛ فإن الشكّ في تلك اللحظات كان شريعةَ الجميع ،إلا من رحم ربُك، والشكُ ،في حدّ ذاته، حقٌ مشروعٌ يمكن من خلاله التمييز بين الأصيل وبين ما كان ادعاءً، لذا؛ فلم يكن مستغرباً أن يجمعَ الشكُ تجاه محمد (صلى الله عليه وسلم) ودعوته بين عمر بن الخطاب والوليد بن المغيرة!! إضافة إلى ما أصابهما من صدعٍ وذهول نتيجة التأثير المحكم لآيات القرآن الكريم!.
وتنقلُ لنا كتبُ التاريخ روايتين متشابهتين تؤرخان لإسلام عمر بن الخطاب ،رضي الله عنه وأرضاه، الأولى منهما لعطاء ومجاهد، نقلها ابن إسحق وقد جاء فيها على لسانه: (كنتُ للإسلام مُباعداً، وكنتُ صاحبَ خمرٍ في الجاهلية أحبها وأشربها، وكان لنا مجلسٌ يجتمعُ فيه رجال قريش.. فخرجتُ أريدُ جلسائي أولئك فلم أجد منهم أحداً. فقلت: لو أنني جئت فلاناً الخمّار. فخرجتُ فجئته، فلم أجِدْه. قلت: لو أنني جئتُ الكعبةَ فطفتُ بها سبعاً أو سبعين، فجئتُ المسجدَ أريدُ أن أطوف بالكعبة، فإذا رسول الله(صلى الله عليه وسلم) قائمٌ يصلي، وكان إذا صلّى استقبلَ الشام، وجعل الكعبة بينه وبين الشام، واتخذ مكانه بين الركنين: الركن الأسود والركن اليماني. فقلت حين رأيته: والله لو أني استمعتُ لمحمدٍ الليلةَ حتى أسمعَ ما يقول. وقام بنفسي أنني لو دنوتُ منه أسمع؛ لأروّعنه (أي لأخيفنه) فجئتُ من قِبَل الحِجْر؛ فدخلتُ تحت ثيابِها، وما بيني وبينه إلا ثياب الكعبة، فلما سمعتُ القرآنَ رقّ له قلبي فبكيت ودخلني الإسلام!.(1/57)
والرواية الأخرى تشير إلى أن عمر ،رضي الله عنه، خرجَ مُتوشحاً سيفه؛ يريدُ رسولَ الله(صلى الله عليه وسلم) ورهطاً من أصحابه قد اجتمعوا في بيتٍ عند الصفا، وهم قريبٌ من أربعين بين رجالٍ ونساء، وفي الطريق لقيه نعيم بن عبد الله فسأله عن وجهته؛ فأخبره بغرضه، فحذّره (أي نعيم) بني عبد مناف، ودعاه أن يرجع إلى بعض أهله؛ خِتنه (1) سعيد بن زيد بن عمرو، وأخته فاطمة بنت الخطاب زوج سعيد، فقد صبئا عن دينهما. فذهب إليهما عمر، وهناك سمع "خَبّاباً" يتلو عليهما القرآن، فاقتحم الباب، وبطشَ بِخِتْنِهِ سعيد، وشجّ أخته فاطمة.. ثم أخذ الصحيفة (بعد حوار) وفيها سورة "طه"، فلما قرأ صدراً منها قال: (ما أحسن هذا الكلام وأكرمه) ثم ذهب إلى النبيّ (صلى الله عليه وسلم) فأعلن إسلامه، فكبّر النبيّ (صلى الله عليه وسلم) تكبيرةً عرف أهلُ البيتِ من أصحابِه أن عمراً قد أسلم (2) .
كذلك فقد واجهت المعاندين والمستكبرين من قريش مواقفُ مشابهة، وذلك من خلال ما أحدثه القرآنُ الكريمُ من تأثيرٍ مزلزلٍ في نفوسهم، فقد حدثَ مثلُ ذلك مع الوليد بن المغيرة؛ والذي أذهلته الآياتُ بِسِحْرِها وأَلَقِها (3) فانصرفَ مقهوراً مُنساقاً تحت وطأة تأثيرها، حتى وجدناه لا يقوى على إنكار ما أصابه! ووجدناه يصفُ القرآنَ الكريمَ والحيرةُ تأخذُ بلبّه وجنانه، فأصبح لا يمتلك لنفسه حولاً ولا قوة، وسمعناه يُقرُ مُعترفاً:
(فوا لله ما منكم رجلٍ أعلمَ مني بالشعر ولا بِرَجَزِهِ ولا بقصيده، ولا بأشعار الجن.. والله ما يشبهُ الذي يقولُه شيئاً من هذا، والله إنّ لقوله لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه ليحطم ما تحته، وإنه ليعلو وما يُعلى عليه)!!.
__________
(1) ختنه: بكسر الخاء وتسكين التاء، أي: زوج أخته.
(2) عن سيرة ابن هشام، نقلا عن التصوير الفني في القرآن، ص10.
(3) تألقها.(1/58)
لكنّ اعترافه هذا لم يكن ليقنعَ قريشاً، فهو ،أي الوليد، لم يذمّ القرآن، بل امتدحه!!.. فلما زادوا عليه من ضغوطهم؛ لم يجدْ مخرجاً إلا أن يلويَ أعناقَ الألفاظ، وأن يتلاعب بالكلمات، فبدلاً من أن يعترف بأن هذا السحر إنما يدل ،بالضرورة، على عدم بشرية مصدره، وجدناه يتجاوب مع دعوة أبي جهلٍ له؛ والتي حرضه فيها بالقول: (والله لا يرضى قومُك حتى تقول فيه) (1) ..
وهنا تتجلّى قدرةُ بعض البشر على التحايل! واتباع الأساليبِ الملتويةِ لوصفِ حقيقةٍ ما بغيرِ ما يجبُ أن توصفَ به!.. فجاءَ ردّ الوليد هذه المرة: (دعني أفكر فيه). فلما أنْ فكّر قال: (إنْ هذا إلا سحرٌ يؤثر، أما رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله ومواليه)؟!.
وبهذا الرد يكون الوليد قد أفشى لنا ،عن غير قصدٍ بالطبع، سراً من الأسرار التي استأثر بها القرآنُ الكريم دون غيره من كلام العرب، ذلك هو الاستحواذُ الغريب؛ والسطوةُ التي لا تردّ؛ لكلمات الله على كلّ من سمعها، بل لعل الوليد في استخدامه لتلك الألفاظ قد أسدى لنا خدمةً أخرى كبيرة، فهو باستخدامه لألفاظٍ من قبيل "سِحْرْ" قد أشار إلى ذلك المصدر الغامض؛ والمجهول لسحر القرآن الكريم، والذي لا يمكن إلا أن يكون وجهاً من الوجوه التي استأثر بها القرآن الكريم؛ فتميزت به لغته عن لغة البشر!.
__________
(1) أي في القرآن.(1/59)
وفي قولٍ (يمكنُ تعميمه والبناء عليه) فإن ذلك التأثير الاستحواذي المسيطر للقرآن الكريم لم يكن أمراً مقصوراً على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أو الوليد بن المغيرة، فلطالما ارتبط ذلك الانفعال تجاه القرآن الكريم بعلاقةٍ جدليةٍ مع عامل آخر كان له أبلغ الأثر في تجلية تلك الميزة وذلك السحر، ولم يكن ذلك العامل إلا تلك المقدرةِ اللغويةِ العالية التي طالما تميزّ بها العرب في ذلك الوقت، والتي مكّنت لهم سُبُلَ التفريق بين الأصيل وما هو غير ذلك، تلك المقدرة التي لو لم تُوجد ،في حينه، لما أمكن لنا ،أبداً، أن نشعر بإعجاز القرآن الكريم، ولاستوى لدينا حينها الغث والسمين!..
وأمام تلك السطوة المثيرة للانفعال؛ فلم يكن أمام بعض المستكبرين إلا اختراع الحجج؛ الواحدة تلو الأخرى، وشقّ سُبُلِ الإنكار، سبيلاً في إثر آخر؛ فاتجه البعضُ لوصف القرآن الكريم بأنه: {أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرةً وأصيلا}(الفرقان:5)..
لكنهم ،هنا أيضاً، لم يفلحوا في إخفاء الأثر العميق الذي أحدثه القرآن الكريم في نفوسهم.. فبوصفهم للقرآن الكريم بـ "الأساطير" (بعد أن أطلقوا عليه صفة "السحر") وجدناهم قد أثبتوا عجزَهُم عن ردّه إلى أصلٍ بيّنٍ واضح، فهو بالنسبة لهم سحرٌ غير معلوم المصدر! أو أسطورةٌ تأتيهم من أعماق التاريخ المجهول، فهم لا يملكون لها ردّا، ولا يعرفون لها تفسيراً!.
بيانٌ يورثُ الحيرة
من هنا؛ فقد تدرجت بهم الحيلةُ لابتداعِ الطرقِ الكفيلةِ بالتغلب على هذا السحر ومواجهة سطوته، وعلى تلك الأساطير ،بزعمهم، والتغلب عليها، وقادهم ذلك إلى تفكيرٍ جديد: فما دام تأثيرهُ غامضاً لا يجدي معه التعامل العقلي البحت؛ فليكن السبيل لمواجهته عدمُ الاستماعِ إليه أصلاً!!:
{وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن، والغَوْا فيه لعلكم تغلبون}(فصلت:26)(1/60)
فغايةُ غَلَبِهِمْ هنا أن يجعلوا أصابعهم في آذانهم فِراراً منه.. وإنه لغلبٌ؛ وأي غلب؟!.
باختصار؛ فقد تجلت الحيرةُ في كلّ ردود الأفعال التي فوجئت بِنَظْمِهِ البديع، فمن آمن كان في حيرةٍ من أمره؛ قبل أن يشرح الله صدره للإيمان، ولعل من آمن ،فيما بعد، كان دائم التساؤل مُتعجباً: ما الذي فعله القرآن بي؟! ...
ومن كذب على نفسه وخدعها (بوصفه للقرآن بالسحر ليخلُص إلى نتيجة مفادها أن محمداً ليس أكثر من ساحر) كان في حيرةٍ من أمرهِ كذلك، ولعله قضى لياليه مُسَهَدّا (1) متعجباً يسائل نفسه: أيةُ قوةٍ تلك التي سيطرت عليّ فجعلتني أذهب إلى ما ذهبت إليه؟! ...
وقد بيّن القرآنُ الكريم ،في لقطاتٍ نادرةٍ، ردودَ أفعال الفئة الأخيرة، فَصَوّرَها في حيرتها لا تكاد تثبت على حال، فهي متقلبةُ الفكر، مبلبلةُ الخاطر والوجدان، تتناوشها الوساوسُ؛ وتختلطُ عليها الأفكارُ بغير ما انضباط!..
..ولننظر إلى اللقطات النفسية العجيبة التي عرضها القرآن، والتي تجلت في حججهم المبتورة:{قد سمعنا...}{لو نشاء لقلنا مثل هذا...}{إن هذا إلا أساطير الأولين...}(الأنفال:31){أضغاث أحلام...}{بل افتراه...}{بل هو شاعر}(الأنبياء:5)
ولنتأمل الجُمَلِ القصيرةِ؛ والعباراتِ القلقةِ التي صوّرت حالهم، فهي لا تكاد تقذفها الألسِنةُ حتى تنقطع!! ... وكأن القرآن الكريم ،وهو يرسم لنا ردود أفعالهم تلك؛ إنما يصوّر لنا حالةً تنطبقُ على البشرِ جميعاً عندما يتنكرون لما هو واضحٌ جليّ، تلك الحالة التي إذا ما تلبست قوماً حوّلتهم إلى حالةٍ من القلق تُفقدهم توازنهم، فنراهم يتلجلجون في الوصف على غيرِ هدىً: {قد سمعنا...}... {لو نشاء لقلنا مثل هذا...}... الخ..
__________
(1) باتَ مُسَهَداً، أي بات مؤرقا وقد جافاه النوم.(1/61)
لكنهم ما إن يبدءوا باستعادة توازنهم، والسيطرة على انفعالاتهم؛ حتى نجدَهم يبدءون مرحلةً جديدةً من مراحل الكَذِبِ؛ لكنه كذب صُراح هذه المرة؛ كذبٌ مع سبق الإصرار؛ وبغير ما خجلٍ أو حياء!.. وهي المرحلة التي انتهى إليها بعض من تنكر للرسالة المحمدية في مراحلها الأولى؛ حيث لجأوا إلى الادعاء ببشرية المصدر الذي أُخذ عنه القرآن الكريم، والادعاء بعدم اختلافه عن أقوال البشر في شيء؟!:
{فقال إن هذا إلا سحرٌ يؤثر، إن هذا إلا قول البشر}(المدثر:24-25)..
من هنا أمكننا أن ندرك عُمق ما أحدثه القرآن الكريم من تأثيٍر غير مسبوق في النفس المتلقية لآياته، تلك التي آمنت، أو هاتيك التي كَفَرَتْ به على حدٍ سواء، لكن تظلُ أشدّ صورِ ذلك التأثير وضوحاً تلك الحيرة الكاملة؛ وذلك الجهل المطبق بماهية السرّ الذي مكّنّ للقرآن أن يُحدث كلّ ذلك الأثر، ولعل ذلك السرّ هو ما ترك الجميع يتساءلون وهم حائرون: أين يكمن السر؟!..
أين يكمن السر؟!
فأين يكمنُ سرّ تلك الزلزلة التي أحدثها القرآن الكريم في كياناتٍ لغويةٍ رفيعة؛ ذاتِ حسٍّ جماليٍّ مُرهف؟!..
..فهل كان السرّ كامناً في الموضوعات ذاتها؛ والتي تناولها القرآن الكريم في أول عهده؟!.. أم كان السرّ في صُلب التشريعات التي أرساها؟..
..أو لعله كان موجوداً في تلك النبوءات المستقبلية التي تنبأ بها قبل حدوثها بسنوات؟!.
فإذا ما رحنا نستقرئُ الآياتِ الكريمةِ الأولى التي تنزّلت في مكة فلن نجد فيها هذا ولا ذاك، فهي لم تكن تحتوي تشريعاً مُحكماً، ولا علوماً كونيةً سابقة (1) ولن نجد فيها إخباراً بالغيب يقع بعد سنين، مثل ذلك الذي ورد في سورة "الروم" (2) ..
__________
(1) إلا إشارةً خفيفةً في السورة الأولى التي تحدثت عن خلق الإنسان من علق.
(2) وهي السورة الرابعة والثمانون من حيث ترتيب النزول.(1/62)
يجب إذنْ (أن نبحث عن "منبع السحر في القرآن" قبل التشريع المحكم، وقبل النبوءة الغيبية، وقبل العلوم الكونية، وقبل أن يصبح وحدةً مكتملةً تشمل هذا كله) (1) ...
وهنا لابد لنا من إعادة السؤال كَرّةً أخرى: ما الذي احتواه القرآن الكريم من أسرار مكّنَتْ له كلّ ذلك التأثير الذي لا يردّ؛ وجعلت له تلك السطوة التي لا تقهر؟!..
لعل ما أحدث كلّ ذلك كان يتمثل في شحناتِ الانفعال التي دفعتها الآياتُ الكريمة في قلوب من استمع إليها، بغضّ النظر عن الموضوع المراد الإخبار عنه!!..
..ولعله كان متمثلاً في أسلوب الأداء القرآني غير المسبوق، فحيث كان القومُ في مكة أهلَ مُماراةٍ ولجُاجةٍ في القول عن فصاحةٍ وبيان، تجدُ في مكيّ القرآن الكريم ألفاظاً شديدةَ القرعِ على المسامع، تقذفُ حروفُها شَررَ الوعيدِ وألسِنةَ العذاب، وكلّ ذلك قد حدث بشكل استعصى على الفهم، فضلاً عن التحليل والتفسير: (وما درى عربيّ واحدٌ من أولئك: لِمَ جعلَ اللهُ في كتابه هذه المعاني المختلفة، وهذه الفنون المتعددة التي يُهيجُ بعضُها النظر، ويشحذُ بعضُها الفكر، ويمُكِنُّ بعضُها اليقين، ويبعثُ بعضُها على الاستقصاء) (2) ...
وكان هذا كلُه يقال، وذلك كلُه يقعُ و (القومَ في شغلٍ عن بيانِ هذه الصورة بما يتملونه منها في نفوسِهم، وما يحُسونه منها في شُعورِهم، وهم حَيارى مُضطربون، أو مُلبون مهطِعون) (3) .
__________
(1) التصوير الفني في القرآن، سيد قطب، دار الشروق، ص16.
(2) إعجاز القرآن والبلاغة النبوية، مرجع سابق، ط3، ص152.
(3) التصوير الفني في القرآن، مرجع سابق، ص23.(1/63)
ولعل الصورةَ الآن قد بدأت بالاتضاح، فكلّ ذلك القدر من التأثير الذي أحدثه القرآن الكريم ،ومنذ اللحظة الأولى، لم يكن إلا استجابةً لذلك السمّو القرآني، والذي أمكن إدراكه؛ وتذوقه؛ والانفعال به.. بفضل ما كان للعرب ،في ذلك الوقت، من إتقانٍ لفنونِ القراءةِ والاستماع، مما مكن للنص القرآني أن يُظهرَ كلّ قُدُراتِه الكامنة، وتجلياتِه اللطيفة، وأحاسيسه الدافقة!.
واستمرت محاولات العلماء ،على مرّ العصور، للتعامل مع النص القرآني بحثاً عن الأسرار المخبوءة فيه، وذلك عبر محاولاتهم الإجابة على بعض التساؤلات المتعلقة بأسرار الإعجاز المبثوثة فيه، وفيما إذا كان ذلك الإعجاز كامناً في حروفه، أو في كلماته، أو هو في مجموع آياته؟!.. ليستقر بهم المطاف ،أخيراً، إلى أن كلّ ما في القرآن عجيب، لكنهم استقروا على أن مناط التحدي والإعجاز في القرآن الكريم إنما هو في ناحيته البلاغية، وهي الناحية التي تحدّى القرآن الكريم بها العرب!..
بعض أشكال استعلاء القرآن(1/64)
ولتجلية هذا الجانب العجيب من جوانب استعلاء القرآن الكريم على ما عداه من كلام البشر؛ وجدنا أبا بكرٍ الباقلاني يتناولُ النواحي البيانية فيه، مقارناً بين نَظْمِ القرآن الكريم ونَظْمِ ما عداه من الكلام قائلاً فيه: (والذي يشتملُ عليه بديعُ نظمه المتضمِنُ للإعجاز وجوهٌ: منها ما يرجع إلى الُجملة، وذلك أنّ نظمَ القرآن ،على تصرفِ وجوههِ؛ واختلافِ مذاهبهِ، خارجٌ عن المعهودِ من نظام جميع كلامهم، ومُباينٌ للمألوفِ من ترتيبِ خطابِهم، وله أسلوبٌ يختص به؛ ويتميزُ في تصرفه عن أساليب الكلام المعتاد، وذلك أن الطرق التي يتقيدُ بها الكلامُ البديعُ المنظومُ تنقسمُ إلى: أعاريض الشعر على اختلاف أنواعه، ثم إلى: أنواعِ الكلامِ الموزونِ غيرِ المُقفى، ثم إلى أصنافِ الكلامِ المعدّل المُسْجَع، ثم إلى معدلٍ موزونٍ غيرِ مُسجع، ثم إلى ما يُرسلُ إرسالاً، فتُطلبُ فيه الإصابةُ والإفادةُ وإفهامُ المعاني المعترِضة على وجهٍ بديعٍ؛ وترتيبٍ لطيفٍ، وإن لم يكن معتدلاً في وزنه، وذلك شبيهٌ بجملة الكلام الذي لا يُتَعَمّلُ يُتصنعُ له..) ليقرر ،الباقلاني، من ثمّ: (وقد علِمنا أن القرآنَ خارجٌ عن هذه الوجوه، ومُباينٌ لهذه الطرق، فليس من بابِ السجعِ، وليس من قبيلِ الشعرِ، وتبيّن ،بخروجهِ عن أصنافِ كلامهم وأساليبِ خطابهم، أنه خارجٌ عن العادة، وأنه معجزٌ، وهذه خصوصيةٌ ترجعُ إلى جملةِ القرآنِ وتميزٌ حاصِلٌ في جميعِه) (1) .
__________
(1) نقلا عن كتاب مباحث في علوم القرآن، مرجع سابق، ص301.(1/65)
وكان الإمام "عبد القاهر الجرجاني" واحداً ممن تحدثوا عن إعجاز القرآن الكريم، وعن تعلّق ذلك الإعجاز بنظم القرآن ذاته؛ وذلك في كتابه "دلائل الإعجاز". ونظراً لجهود الإمام "الجرجاني" في استقراء الإعجاز القرآني؛ فقد اعتُبِر القرنُ الخامس عصراً ذهبياً للإعجاز، وقد كان الانتصار قَبْلَهُ لِلَفظِ على المعنى؛ وذلك في القضية الجدلية "اللفظ والمعنى" في أيهما تكون الفصاحة والبلاغة؟!.
ولـ "ابن عطية" مقولةٌ رائعةٌ حول إعجاز ألفاظ القرآن الكريم يقول فيها: (وكتاب الله لو نُزعت منه لفظةٌ، ثم أُديرَ لسانُ العربِ على لفظةٍ أحسنَ منها لم يوجدْ! ونحن يتبينُ لنا البراعةُ في أكثره، ويخفى علينا وجهُها في مواضع، لقصورنا عن مرتبة العرب ،يومئذ، في سلامةِ الذوق وجودةِ القريحة) (1) .
وكان "مصطفى صادق الرافعي" ،رحمه الله، معتقداً بأن مظاهر الإعجاز في نظم القرآن الكريم تتمثل في ثلاثةِ وجوه: الحروف وأصواتها، الكلمات وحروفها، والجُمَل وكلماتها (2) .
أما الدكتور "محمد عبد الله دراز" فقد قسّم ألفاظَ القرآن الكريم إلى قسمين: الصّدف؛ وسماه "القشرة السطحية"، واللؤلؤة؛ وسماها "لب البيان القرآني"، ولما تكلم عن "القشرة السطحية" لجمال اللفظ القرآني لاحظ أنها تتألف من عنصرين مؤثرين:
الأول: الجمال التوقيعي: ويتمثلُ في توزيعِ حركاتِ ألفاظِ القرآن الكريم وسكناتِها، ومدّاتِها وغُنّاتِها.
أما الثاني: فالجمال التنسيقي: ويتمثل في رصف الحروف في الكلمات وتأليفها معاً (3) .
__________
(1) البيان في إعجاز القرآن، د.صلاح الخالدي،دار عمّار،ص114،نقلا عن "فكرة إعجاز القرآن، ص95.
(2) البيان في إعجاز القرآن، مرجع سابق، ص124.
(3) البيان في إعجاز القرآن، مرجع سابق، ص124-125.(1/66)
وحول المعجزة البيانيّة في القرآن الكريم يقول الدكتور "عدنان زرزور": (إن الكلام والبيان هو ما امتاز به الإنسان.. فجاءت معجزةُ محمد (صلى الله عليه وسلم) بيانية، للإشارة إلى أن هذه الرسالة هي رسالة الإنسان، حيث كان الإنسان، وفي أي زمانٍ وُجد... ولم يكن البيانُ وقفاً على لغةٍ من اللغات، أو أمةٍ من الأمم، لكنّ اختيارَ لغةِ العربِ لينزلَ بها القرآن؛ وليحملَ بها إلى العالَمِ رسالةَ الإنسان؛ يشيرُ إلى فضيلةٍ بيانيةٍ جامعةٍ؛ امتاز بها اللسانُ العربيّ على كلّ لسان) (1) .
من هنا؛ فقد أجمع الدارسون لهذا الجانب من علومِ القرآن على رأيٍ لم يختلفوا حوله! ألا وهو فضيلةُ اللغةِ التي تنزّل بها القرآن الكريم على ما عداها، وعلى تميّزِ القرآن الكريم وبلاغتهِ من هذه الناحية..
ويقودنا هذا الإجماع إلى البحث عن أسرار هذا البيان؛ وذلك عبر الغوص في أعماقِ الأسئلةِ الباحثةِ عن سرّ اللغة؛ التي شرّفها الله عزّ وجلّ بأن حمّلها كلماتِه إلى عباده!.
ولئن كان من المستحيل تناول وحصر كل أسرار السمو اللغوي الموجود في القرآن الكريم من خلال كتابٍ واحد؛ فإننا نخصص الصفحات التالية لتناول ظاهرة لغوية فريدة، يمكن تبيُنُها وتَتَبُعُها في ألفاظ القرآن الكريم؛ بحيث باتت ذات أثر كبير في تحديد معانيه.. وهذه هي "ظاهرة النسبية" في القرآن الكريم..
النسبية: ظاهرة لغوية أصيلة!
__________
(1) علوم القرآن الكريم، عدنان زرزور، ص254، بتصرف(نقلا عن البيان في إعجاز القرآن)، م سابق، ص142.(1/67)
إن من غرائبِ مفردات الكلام البشري: احتمال احتوائِها على وجوه متعددةٍ من المعاني، لذلك تصدقُ عليها مقولة أنها مبنيةٌ وفق قاعدة "المحتوى النسبي المتدرج للمعاني".. والتي يقصد بها: "إمكان احتواء اللفظ الواحد في اللغة على أكثر من معنىً واحد، ولربما احتوى اللفظُ الواحدُ على درجاتٍ متفاوتةٍ من المعاني، مما هو قريب فأبعد؛ فالأبعد؛ والتي يجمعُ بينها جامعٌ لغويٌ مشترك، كإطلاقنا لفظةَ "يد" للتعبير عن عددٍ كبيرٍ من المعاني، إذ يعبر هذا اللفظ تعبيراً صادقاً عن مسمياتٍ عديدةٍ ومعانٍ متفاوتة، كأن يصلح للتعبير عن "يد الإنسان"، ويصلح ،كذلك، للتعبير عن ناحية تشريحية بيولوجية لكثير من الكائنات الحية؛ مهما علت في رتبتها أو سَفُلَتْ، وهو صالحٌ كذلك للتعبير عن معاني مجردة مثل: "التفضل بالنعمة" و"القدرة على الفعل"...
و"ظاهرة النسبية في القرآن الكريم"؛ نحسب (1) أنها تشكلُ قانوناً عاماً يحكمُ ألفاظ القرآن الكريم.. فاللفظ ،بطبيعته، يمكنه أن يتدرج في قدرته على استيعاب المعاني، حيث يمكن للفظٍ ما (من الناحية النظرية على الأقل) أن يأخذ من المعاني القيم من صفر إلى ما لا نهاية!!.. فكلمة: يَدْ، أو رِجْلْ أو عَيْنْ... الخ هي من الألفاظ التي يمكن أن ننسبَها إلى أدني الكائنات الحية، فنقول: يد القرد، وعين الفراشة..الخ، لكن يمكن لها ،في الوقت ذاته، أن تأخذ قيماً مطلقةً، كقوله تعالى: {يدُ اللهِ فوقَ أيديهم}(الفتح:10) وكذلك قوله عز من قائل: {ولتصنع على عيني}(طه:39) فاللفظ هنا واحد، لكنّ شتان بين دلالاته المختلفة!!
__________
(1) لا يصلح ما نورده في هذا الكتاب للدلالة القاطعة على صحة "ظاهرة النسبية في القرآن الكريم"، إلا أننا نتمنى أن تثبت صحتها إما من خلال كتاب منفصل يخصص لهذه الغاية، وإما من خلال دراسات متخصصة يقوم بها باحثون متخصصون في الدراسات القرآنية.(1/68)
ولا تقتصر "النسبية" على المدلولات المادية، بل تتعداها للقيم المعنوية، مثل العدل، والرحمة، والقدرة.. فهي صفات يمكن أن يتمتع الإنسان بنصيبٍ وافرٍ منها، إلا أن قيمها المطلقة مقصورة على الله عز وجل!..
ولعل اللغة العربيّة هي واحدة من أشدّ اللغات قبولاً لصفة المرونة، حيث تعتبر مرونتها معياراً لخصوبة هذه اللغة وقدرتها على الاستيعاب. فاللفظُ الواحدُ في العربيّة يمكن أن تتنازعه عدةُ معانٍ، والتي منها ما هو قريبٌ مما تعارف عليه الناس في حياتهم العملية ونشاطاتهم اليومية، وأن يكون له في الوقت ذاته معنىً ،أو عدة معانٍ، أخرى مما هو مستترٌ خلف المعنى العُرفيّ الشائع. وتعتبر الاحتمالات النظرية لمعاني لفظٍ ما (والموجودة في معجمات اللغة) معاني محتملة له.
فلفظة "الشريعة" ،على سبيل المثال، في معناها الشائع الذي تعارف عليه الناس: ما شرعَ الله لعباده من أمرِ الدين (1) . بينما تتقبل من المعاني اللغوية المحتملة معنى: الطريقة، أو المنهج.. وهي جمعُ شرائع؛ والتي تعني مورد الشاربة.
كذلك؛ فإنَّ "الفقه" يعني عُرفاً واصطلاحاً: (العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسبة من أدلتها التفصيلية) بينما له من وجوه المعاني اللغوية المحتملة معاني: العلم بالشيء؛ والفهم له، وكذلك: الحذق، والفطنة.. وشتان ما بين المعنى الاصطلاحي (2) وبين المعاني اللغوية ذات الأبعاد: المتدرجة في اتساعها؛ والمتعددة في مدلولاتها؛ وحتى المطلقة في كثيرٍ من الأحيان!..
__________
(1) من أمرٍ، ونهيٍ، وحلالٍ، وحرامٍ، وفرائض، وحدود..
(2) الذي يشيعُ عادةً في زمانٍ ومكانٍ معينين.(1/69)
وتعتبر "ظاهرة النسبية" ،بشكل عام، الوجه المقابل لمشكلةٍ كثيراً ما أعاقت قدرتنا على الفهم السليم لمراد الآخرين من كلامهم (وهي صحيحة بالنسبة لكتاب الله عز وجل بوجه خاص) إذ كثيراً ما أحدث الأخذُ بالمعاني القريبة ،للفظٍ ما، خللاً في الفهم لدى من يستمع، حيث يَقصدُ المتحدثُ معنىً بعيداً، ويفهمُ السامعُ المعنى القريب!..
ومن الأمور الجديرة بالملاحظة أنّ المعنى اللغوي المحدد والمقصود للفظ ما؛ كثيراً ما فهمت دلالاته المحددةَ نتيجةَ اقترانه بقرينةٍ تُعطي إيحاءً ما حول المعنى المقصود من بين جملة الاحتمالات الممكنة لذلك اللفظ..
لأجل ذلك، وبغرض فهم الأمور على حقيقتها؛ وعلى كلّ أوجهها المتاحة، كان لا بد لنا ،ونحن نتعامل مع المعاني القريبة للفظٍ ما؛ عدم تجاهل جملة معانيه الأخرى الممكنة مما هو مستترٌ أو بعيد!.
إنَ حاجَتَنا إلى تلك المرونة في فهم معاني الألفاظ (وهو جوهر ظاهرة النسبية) لا تقتصر على الألفاظ المستخدمة في تعاملاتنا اليومية؛ ومطالعاتنا العلمية، بل تتجلى ،أشد ما تتجلى، لدى تعاملنا مع القرآن الكريم، حيث مرونةُ اللغةِ وقدرتُها اللانهائية على الاستيعاب تمثلُ واحدةً من أهم خصائص النص القرآني الكريم؛ ولعل بعض آيات (1) القرآن الكريم قد أشارت إلى تلك الخاصية.
ومن الجدير بالملاحظة أنه وبدون قدرة اللفظ الواحد على استيعاب المعاني المتعددة؛ فإن النصّ القرآني يمكن أن يفقدَ ميْزَتَه الإلهية! والمتمثلة في القدرة غير المحدودة للنص على احتواء المضامين واستيعابها، وقدرة الألفاظ على اختراق حواجز الزمان والمكان، تلك الميزة التي يمكن أن تُقْتَل بين أيدي الناس إذا ما نحواْ إلى تحديد معاني ألفاظ القرآن الكريم؛ وقَصرها على وجوه محددة ومحدودة؛ هي بعضُ الوجوه التي يمكنُ للنصّ القرآني أن يحتملها!.
__________
(1) {قل لو كان البحرُ مداداً لكلمات ربي لنَفِدَ البحرُ قبل أن تنفدّ كلماتُ ربي}(الكهف:109)(1/70)
وفي اعتقادنا فإن تلك "المرونة" أو "المقدرة على الاستيعاب" أو "ظاهرة النسبية" ،سمّها ما شئت؛ ليست أمراً عارضاً نجدُه في بعض المواضع في القرآن الكريم دون غيرها (1) بل هي سُنَّة من سُننه الأصيلة التي لا تنفصل عنه، وصفةٌ ملتصقة به التصاق المفردات بمعانيها اللغوية!..
وسنحاولُ فيما يلي البرهنة على وجود ظاهرة "النسبية في القرآن الكريم" (كظاهرة عامة لا تقتصر على ألفاظه فحسب) وذلك من خلال إيرادنا لمجموعةٍ من الأمثلة؛ والتي نعتقد بانطباق مفهوم "النسبية" عليها، وهي أمثلة معروضةٌ هنا على سبيل المثال لا الحصر:
يتعرضُ القرآنُ الكريم لمفهوم "السماء" في آياتٍ كثيرة، لكن المدقق فيها سيلاحظ أنها لا تشيرُ دائماً إلى نفس المعنى والمضمون، حيث تأخذ تلك اللفظة معاني متدرجة من الأدنى إلى الأعلى، ومما هو قريب إلى ما هو أبعد!.
فالسماء ،في واحدةٍ من حالاتها القريبةِ التي يطرحها القرآن الكريم، هي: مكانُ نزول المطر: {وأنزل من السماء ماء}(البقرة:22)..
ثم تبدأ معانيها بالاتساعِ لتشيرَ إلى معنىً أرحب هو الغلافُ الجويِّ المحيط بالأرض: {ومن يُرد أن يضلَهُ يجعل صدره ضَيِّقاً حرجاً كأنما يَصَّعّدُ في السماء}(الأنعام:125)..
__________
(1) أو هكذا يبدو لنا؛ إلى أن يتم إثبات هذا الأمر أو نفيه.(1/71)
ثم يبدأ القرآن الكريم بإعطاء لفظة "السماء" معانٍ إضافية أبعد من كل ما ذكرناه (1) تكون فيه السماء ذات معنى شامل مُتسع، وذلك عندما يتحدثُ القرآنُ الكريم عن "سماءٍ" ترتبطُ بعلاقةٍ مكانية مع "النجم الثاقب" وفي هذا يقول الله عز وجل: {والسماء والطارق وما أدراك ما الطارق، النجم الثاقب}(الطارق:1-3) ولا يخفى أن العلاقة المكانية التي تربط بين "السماء" من جهة و"النجم الثاقب" من الجهة الأخرى هي علاقة احتواء، فالسماء هنا هي الحيّز المكاني الذي تتواجد فيه النجوم، وهي القرينةُ التي تشيرُ إلى المعنى المقصود للسماء في هذه الآية... وهو معنى مقارب لما ورد في الآية الكريمة {ولقد زيّنا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوماً للشياطين}(الملك:5)...
__________
(1) نود هنا أن نعقد صلة بين مفهوم "المحتوى النسبي" وبين مقدار المد اللازم في الألفاظ التي فيها مد متصل كما في لفظ سماء كما في قوله تعالى {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا}(سورة الشمس الآية:5) وكذلك في كلمات مثل: {جَآءَ}، {قُرٌوءٍ}، {هَؤُلآءِ}..فمن المعروف أن المد فيها هو مد متصل (وهو ما جاء فيه بعد حرف المد همز متصل به) أما حكمه فهو الوجوب، لإجماع القراء على مده زيادة على ما فية من الطبيعي وإن تفاوت القراء في مقدار هذه الزيادة. ويمد من أربع إلى خمس حركات وصلاً ووقفاً ، وست حركات إذا كانت همزته متطرفة . ونود هنا أن نقترح ربط مقدار المد (أربع أو خمس أو ست) بالمحتوى النسبي للفظ، فالمعنى القريب (لكلمة سماء على سبيل المثال) يمد أربعاً، والأبعد فالأبعد خمسا أو ستا.. وهو اقتراح لا يغير من جوهر أو قيمة المد بقدر ما يجعل عملية الاختيار أكثر وعيا، وخاضعة للمعنى المتحصل للقارئ!. والله بعد هذا اعلم(1/72)
ثم تمتدُ "السماء" في معناها إلى ماهيّةٍ مجهولةٍ، كما في قوله تعالى: {ثم استوى إلى السماءِ وهي دُخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين، فقضاهنَّ سبعَ سمواتٍ في يومين، وأوحى في كلّ سماءٍ أمرها}(فصلت:10) وهو معنىً بحاجة إلى كثيرٍ من التدقيق لإدراكه على وجهه الصحيح!..
كذلك فإن لفظة "أرض" في القرآن الكريم نَحَت نفس المنحى، ونسجت على نفس المنوال، فقد وردت "الأرض" في أحد معانيها لتشير إلى مكانٍ محدودٍ صالحٍ للرعي، وذلك في قوله تعالى: {فذروها تأكلُ في أرض الله}(هود:64) والقرينة الموضحة للمعنى هنا هي: الحيّز المكاني الذي يمكن أن ترعى فيه الدابّة!.
ثم وجدنا معانيها تمتدُ لتتسعَ لمعنى: الأرض الزراعية لبلدٍ ما، كما في قوله تعالى: {وإذ قلتم يا موسى لن نصبرَ على طعامٍ واحد فادعُ لنا ربك يُخرجُ لنا مما تنبتُ الأرض}(البقرة:61).. والأرضُ هنا ذات معنىً أبعد وأرحب منها في المثال الأول..
ثم وجدنا مدلولها يتسعُ متجاوزاً البلدَ الواحدَ ليفيدَ معنى: "البلاد" وذلك كما في قوله تعالى: {ألم تكن أرضُ اللهِ واسعةً فتهاجروا فيها}(النساء:97) والقرينة هنا هي الفعل "فتهاجروا" والذي يعني التنقل من مكان إلى مكان، ومن بلادٍ إلى أخرى..
ثم وجدنا مضمونها يأخذُ مدىً أوسع عندما أفاد مُصطلحاً فلكياً حديثاً هو "الكرة الأرضية" أو "كوكب الأرض" وذلك كما في قوله تعالى: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً ثم استوى إلى السماء}(البقرة:29)..
والقرينة المشيرة إلى هذا المعنى هي اقتران الأرض بالسماء، والذي يعني كل كوكب الأرض بما يحيط به من سماء، كذلك يمكن أن تكون طبيعة الخطاب في قوله تعالى {خلق لكم} ،وهي موجهة للعموم، قرينةً أخرى توضح المعنى المقصود.(1/73)
ويمكن للفظتي "سماء" و "أرض" أن تردا لتفيدا معنىً إضافيا غاية في الاتساع، كما في قوله تعالى:{إن في خلقِ السموات والأرض واختلافِ الليلِ والنهارِ لآياتٍ لأولي الألباب}(آل عمران:190) فمضمون الآية الكريمة يمكن أن ينطبق على الكرة الأرضية وما يحيطُ بها من سماء، لكن يمكن له كذلك أن يتجاوز ذلك المعنى لينطبق على أرض كلّ كوكب سيّار من أمثال: أرض المريخ، أرض الزهرة، وأرض المشتري...الخ بما يحيطُ بكلٍ منها من سماءٍ خاصةٍ به، وبهذا فإن المفاضلة في الآية الكريمة (اختلاف ظاهرتي الليل والنهار) يمكن أن تتجاوز المفاضلة بين الليل والنهار على كوكب الأرض لتنطلق إلى مفاضلةٍ ومقارنةٍ أرحبَ وأوسعَ بين ليل ونهار الكواكب المختلفة فيما بينها، حيث لكل أرض (كوكب) سماؤها الخاصة بها، ولعل السماوات هنا قد جاءت جمعاً لتشير إلى اختلاف سماء كل كوكب (أي غلافه الجوي) عن غيرها من سموات الكواكب الأخرى، أما الأرض فقد جاءت مفردة لأنها تشير إلى جنس الأرض، وقد يكون في ذلك إشارة إلى الأصل الواحد لها جميعاً؟! (1) ..
ولعل أعجب المواضع التي وردت فيها لفظتا "السماء" و "الأرض" الوارد في سورة "هود": {فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها شهيق وزفير، خالدين فيها مادامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك}(هود:106-107).. فأية سموات وأية أرض تلك التي ستكون موجودة والناس يعذبون في النار خالدين فيها؟!..
كذلك من الأمثلة التي يمكن ضَرْبُها لنسبية المعاني في القرآن الكريم مفهوم أُمِيّة الرسول (صلى الله عليه وسلم) فقد عبرّت الآيات الكريمة عن تلك الصفة النبوية وذلك في قوله تعالى:{الذين يَتَبِعونَ الرسولَ النبيَّ الأميَّ الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل}(الأعراف: 157)..
__________
(1) أصل الكواكب جميعا هو الشمس، فهن بناتها وهي أمهن!!(1/74)
و"الأميةُ" بمعناها المتعارفُ عليه في عالمِ اليوم هي أميةٌ تستمدُّ معناها من "الأمومة" فيقال: رجلٌ أميّ؛ بمعنى: أنه لا يعرف شيئاً وكأنه يوم ولدته أمه!، وهي في معناها الشائع تعبّرُ عن المعنى المقابل لإتقان القراءة والكتابة.. فهل أرادت الآيات الكريمة أن تشير إلى عدم قدرة النبي (صلى الله عليه وسلم) على القراءة والكتابة؟!..
إنّ المفارقة ستزدادُ وضوحاً إِذا علمنا أن صفةَ "الأمية" قد أُشير إليها هنا في معرضِ خطاب ربِّ العزة لبني إسرائيل {الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل}(الأعراف:157)؟!.. وهي قرينة في غاية الأهمية!!
حيث يتبين لنا من سياق الآية أن "الأمية" في هذا الموضع إنما هي علامةٌ أعطاها الله لبني إسرائيل ليتعرفوا بها على نبيِّ آخر الزمان!!.. فهل تُعتبرُ أميّة النبيّ محمد (صلى الله عليه وسلم) (بمعنى عدم القراءة والكتابة) علامة مميزة يمكنُ أن يَستدلَّ بها بنو إسرائيل على النبيّ الخاتم، نبيّ آخر الزمان؟!.. وقد وردت لفظة "أمي" كذلك في قوله تعالى: {قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا، الذي له ملك السموات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأميّ الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون}(الأعراف:158)..
وفي هذا الموضع يمكن ملاحظة المفهوم العالمي الذي يتحدث القرآن الكريم من خلاله، حيث يوجَهُ الحديث إلى الناس كافة، ويؤكدها بـ كلمة "جميعا" وكأن مفهوم "الأمية" هنا يقابل نفس المفهوم الإنساني العام..(1/75)
إن مفهوم "النسبية" (الذي نناقشه هنا) يسمحُ لنا أنْ نلقيَ نظرةً أبعدَ مدىً، وأن ننسبَ أُمِيَّةَ النبيّ (صلى الله عليه وسلم) إلى لفظةِ "أُمّة" لا إلى لفظة "أم"! وبالتالي فإنّ صفة النبيّ الأميّ تكتسبُ معنىً جديداً هو: "نبيّ الأمة"، أو "نبي الأمم جميعاً".. وتصبح دلالةً على النبي ّالخاتم المُرسل للناسِ كافة، وللعالمين جميعاً، وهو مفهومُ متأصل في القرآن الكريم. فكثيرةٌ هي الآيات التي تحملُ هذا المضمون؛ ومنها: {وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً}(سبأ:28). وكذلك قوله تعالى: {وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين}(الأنبياء:107)
وبهذه الدلالة فقط يتسنى لأُميّة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) أن تصبح دليلاً واضحاً يستعين به بنو إسرائيل للتعرف على النبي الخاتم! فهو من هذه الناحية نبيٌ مرسلٌ للناسِ جميعاً بعد أن كان الأنبياءُ يُبعثون لأقوامهم خاصة!!!..
ونضربُ مثالاً إضافياً واضحاً على "ظاهرة النسبية" في القرآن الكريم وذلك باللفظ "كَفَرَ" والذي ورد في القرآن الكريم بمعانٍ متعددةٍ؛ كان المعنى اللغوي لها (1) قاسماً مُشتركاً بينها جميعاً (2) ..
__________
(1) كفر: كُفرا، كفر الشيء: أي ستره وغطاه، يقال: كفر درعه بثوبه: أي غطاها به ولبسه فوقها. (المنجد في اللغة والأدب والعلوم، مرجع سابق، ص691).
(2) نؤكد مرة أخرى أن "ظاهرة النسبية" إنما تتعامل مع جملة معاني اللفظ في المعجم، والتي تأتي عادة متفاوتة من القريب إلى البعيد فالأبعد، وتحتمل جملة من المعاني (نظرياً على الأقل) تتراوح بين الصفر واللانهاية!!(1/76)
لقد ورد اللفظ "كَفَرَ" في قوله تعالى: {أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالاً وولدا}(مريم:77).. وهي تشير هنا إلى المعنى الاصطلاحي الدارج للكفر، والمتعارف عليه بين الناس، والمستمد لغوياً من معنيي: "التغطية" و"الستر"، وما سُمي الكافرُ كافراً إلا لتغطيته وإخفائه النْعُمِ التي أنعمَ اللهُ بها عليه؛ وعدم اعترافه بها!..
لكن ليس كلُّ كافرٍ كافراً؟!!..
فقد وردت اللفظة عينها في القرآن الكريم لتفيدَ معنىً آخر وذلك في قوله تعالى:
{فاستوى على سوقِه يعجبُ الزُرَاعَ ليغيظَ بهم الكُفَار}(الفتح:29)
وكذلك في قوله تعالى: {كمثلِ غيثٍ أعجبَ الكُفارَ نباتُه}(الحديد:20)
فالكفار المقصودون هنا هم الزُراع، والقرينة هنا واضحة حيث السياق كله يتحدث عن النبات والزراعة والمطر.. لكن لماذا سُمي المزارع كافرا في هذا الموضع؟!..
لقد سمي كذلك لأنه هو منْ يكفرُ البذرةَ (أي يغطيها) بالتراب!..
لكنّ اللفظ ذاته ورد في موضعٍ ثالثٍ ليشيرَ إلى معنىً نظنه مُختلفاً عن سابقيه! وذلك في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوماً غضب الله عليهم، قد يئسوا من الآخرة كما يئسَ الكُفارُ من أصحاب القبور}(الممتحنة:13)..
فمن هم الكفار المقصودون في هذه الآية (1) ؟!.. هل هم الكفار بالمعنى الأول للفظ.. أي من يغطي نِعَمَ الله ويخفيها ولا يعترف بها؟! ولماذا اختُص الكافر باليأس من الموتى مع أن المؤمنَ أيضاً يمكنه أن ييأس من أصحاب القبور كالكافر تماماً؛ ذلك أننا أمام حقيقة إنسانية عامة لا يمكن نكرانها هي الموت!..
__________
(1) قال الحسن البصري في تفسيرها: الكفار الأحياء قد يئسوا من الأموات، وقال قتادة: كما يئس الكفار أن يرجع إليهم أصحابُ القبور الذين ماتوا، وكذا قال الضحاك.(تفسير القرآن العظيم،ج4، مرجع سابق، ص457).(1/77)
أم أن اللفظ يشير إلى الكفر بمعناه الثاني والذي يعني تغطية: البذرة بالتراب انتظاراً لإنباتها؟!.. أم أن هناك معنىً ثالثاً يمكن أن نضيفه إلى سابقيه؟!!..
من الواضح أن نظرةً متسرعةً نلقيها على الآية الكريمة المشارُ إليها سوف تدفعنا باتجاه المعنى الأول لكلمة "كافر" وهو المعنى الأكثر شيوعاً؛ والأكثر تعارفاً عليه بين الناس.. لكن هل يمكن أن يوجد لهذا اللفظ معنىً ثالثاً يكون مُشتقاً من الأصل اللغوي، ولا يكون مجرد إسقاطٍ لمعنىً على آخر؟!..
لنبحث عن القرينة التي تحدثنا عنها سابقاً، والتي يمكنها أن تفيدنا في تحديد أي وجوه معاني اللفظ المذكور هي المقصودة، ولنسأل أنفسنا سؤالاً: من هم أصحاب القبور؟!.. والجواب: هم الأموات بالطبع!!..
ونسألُ أنفسنا مرةً أخرىً: فما علاقة الكُفار بالأموات؟!..
والجواب: أن من يَدفن (1) ميتاً فهو كافرٌ له، وهو أكثرُ الناسِ علماً بحقيقةِ موته، فهو الذي يدفعه في حفرته، ويغطيه ،من ثمَّ، ليهيل عليه التراب بعد ذلك!!.. والمعنى هنا يشترك مع غيره من المعاني سالفةِ الذكر (تغطية أنعم الله وسترها، وتغطية البذرة بالتراب) في أن جميعها تشترك في الأصل اللغوي الذي انبثقت عنه، ألا وهو التغطية والستر؟!!.. وهي وجوهُ معانٍ متعددة، وذات مضامين نسبية للفظ لغويٍّ واحد!!..
ومع اعتقادنا بأن ظاهرة "النسبية" في القرآن الكريم هي قانون عام؛ إلا أننا نظن بأنها تناسب المصطلحات الخاصة بالزمن بشكلٍ خاص؛ حيث لم يحدد القرآنُ الكريم قيماً محددةً لكثيرٍ من الألفاظ ذات الدلالة الزمنية؛ والمتداولةٌ بشكلٍ واسعٍ في حياتنا اليومية، ونعبر من خلالها عن قيم محددةٍ ثابتةٍ تختص بالوقت.
__________
(1) أو هو الحانوتي بلهجة إخواننا المصريين.(1/78)
فالقرآن الكريم يتحدث عن "اليوم" لكنه لا يقصدُ ،دائما، اليوم الذي نعرفه، والذي حدده الإنسان حديثاً بمقدار الزمن الذي تستغرقه الكرة الأرضية لكي تكمل دورةً كاملةً حول نفسها، والمقدّر بأربعٍ وعشرين ساعة من زمننا الأرضي. وُجلُّ حديثِ القرآن الكريم في هذا الشأن (حول كلمة يوم) يتمحورُ حول مفهوم "اليوم الآخر": {يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورُهم بين أيديهم وبأيمْانِهِم، بُشْراكُمُ اليومَ جناتٍ تجري من تحتها الأنهارُ خالدين فيها}(الحديد:12)..
وكذلك في قوله:{لن تنفعكم أرحامُكم ولا أولادُكم يوم القيامة يفصل بينكم}(الممتحنة:3) والقرينة الموضحة للمعنى المقصود واضحةٌ في سياق الآيتين المذكورتين.
لكنَّ كلمة "يوم" في القرآن الكريم لا يقتصر ورودها على المواضع غير محددة المضمون كيوم القيامة، إذ يمكن أن يطال معناها ما تعارفنا عليه في حياتنا اليومية من معانٍ، وذلك باقترانها بقرينةٍ تُقيدها على وجهٍ يفيدُ هذا الفهم، وذلك كما في قوله تعالى: {إذا نودي للصلاةِ من يومِ الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله}(الجمعة:9) وقد حُدِد مفهومُ كلمةِ "يوم" هنا من خلال اقترانها بكلمة "الجمعة" فهو إذن أحد أيام الأسبوع على كوكب الأرض؟!.. وهو عينه المعنى المراد في قوله تعالى: {فانطلقوا وهم يتخافتون، أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين}(القلم:24) والقرينة في المثال الأخير واضحةٌ، فهو حديثُ البشرِ للبشر عما هم متعارفون عليه من أيام الأسبوع!..
أما الإطلاقات العجيبة لكلمة "يوم" في القرآن الكريم فهي تجعل منه مدةً زمنيةً حائرة؟! فهي ليست مما تعارفنا عليه نحنُ سكان كوكب الأرض، كما أنها لا تحمل قيمةً محددةً في حدّ ذاتها، بل جاءت لتحملَ قيمةً نسبيةً (1) وذلك كما في قوله تعالى:
{تعرجُ الملائكةُ والروحُ إليه في يومٍ كان مقدارُه خمسيَن ألف سنة)(المعارج:4)..
__________
(1) بالقياس إلى مدة اليوم على كوكب الأرض!.(1/79)
وكذلك قوله تعالى: {وإن يوماً عند ربك كألفِ سنةٍ مما تعدون}(الحج:47)...
وهنا تبدو الآيات الكريمة وكأنها تحملُ إشاراتٍ واضحةً لمفاهيم فيزيائية حديثة حول "نسبية الزمن" والتي ناقشتها نظريةُ النسبية لآينشتاين بعد ذلك بمئات السنين!!..
كذلك فإن مصطلح "الساعة" كان من المفاهيم الزمنية التي تحدث عنها القرآن الكريم، لكنه لم يقصد به ،على الإطلاق، ما نتداوله اليوم من معانيها، فهو لم يقصد الفترة الزمنية المكونة من ستين دقيقة!.. بل قصد من ورائه ،في بعض المواضع، فترةً زمنيةً قصيرةً نسبياً؛ وذلك كما في قوله تعالى: {لقد تاب الله على النبيّ والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة}(التوبة:117)، وكذلك قوله تعالى: {فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون}(الأعراف:34)..
وهي لم تأتِ في كلّ المواضع لتعبرَ عن نفس القيمة الزمنية القصيرة، بل إن أكثر إطلاقاتها قد جاءت لتخبرَ عن يوم الهول العظيم: {ويوم تقومُ الساعةُ يومئذ يتفرقون}(الروم:14) كذلك قوله تعالى: {حتى إذا جاءتهم الساعة بغتةً قالوا يا حسرتنا}(الأنعام:31)..
وقد يبدو لنا ،في كثيرٍ من المواضع القرآنية، تلاشي واختفاء الحدود الزمنية المعهودة لدينا، فنرى في بعض المواضع أن الآيات تتحدث عن المستقبل بصيغة الماضي، وتتحدثُ عما سيأتي كما لو أنه قد تَمّ بالفعل! كما في قوله تعالى: {إذا السماءُ انفطرت، وإذا الكواكبُ انتثرت، وإذا البحار فجّرت}(الانفطار:1-3) وقوله تعالى:{إذا السماء انشقت}(الانشقاق:1) والآية الكريمة:{وسيق الذين اتقواْ ربهم إلى الجنة زمرا، حتى إذا جاءوها وفُتحت أبوابُها وقال لهم خزنتها سلامٌ عليكم طبتم فادخلوها خالدين}(الزمر:73) وهي ،بلا شك، ظاهرةٌ تستحقُ التوقف عندها من خلال دراسةٍ متأنيةٍ واعية تفرد لهذا الغرض.(1/80)
ولعل من ملامح "ظاهرة النسبية" في القرآن الكريم استخدام بعض الأدوات اللغوية ،في بعض المواضع، للتعبير عن معانٍ غير تلك التي شاع استخدام تلك الأدوات للتعبير عنها!!.
فالفعل "كان" ،على سبيل المثال، والذي شاع استخدامه للتعبير عن حدوث فعلٍ ما في الزمن الماضي، قد ورد في مواضعَ معينةٍ من القرآن الكريم للتعبير عن: "الحقيقة الثابتة" والتي لا علاقة لها بالتحولات الزمنية؛ كقوله تعالى:
{وكان الله غفوراً رحيماً}(الأحزاب:50)
وكذلك قوله تعالى: {كنتم خير أمةِ أُخرجت للناس}(آل عمران:110)
حيث أشير إلى أن المقصود من ورائها هو وجودُ شيءٍ ما في زمانٍ ماضٍ على سبيل الإبهام، وليس فيه دليلٌ على عَدَمٍ سابق، ولا على انقطاع طارئ.
كذلك من ملامح ظاهرة النسبية، استخدام الحرف "ثم" ،ذو الدلالة الزمنية المعروفة (1) ؛ واستعماله بشكل غير مألوف، ففي الوقت الذي يردُ فيه هذا الحرف في بعض المواضع لتكونَ له دلالةٌ زمنيةٌ واضحةٌ كما في قوله تعالى:
{وإذ واعدنا موسى أربعين ليلةً ثم اتخذتم العجلَ من بعده وأنتم ظالمون}(البقرة:51-52)
وجدناه في مواضع أخرى يفتقرُ إلى تلك الدلالة، وليتجاوزَ مهمة "التعبير عن الزمن" إلى مهمةٍ جديدةٍ هي: "التعبير عن الربط الموضوعي" بين كيانين موضوعيين، ولتصبح الدلالة الزمنية (وفق الاستخدام الجديد) ذات قيمة هامشية غير ذات أهمية!.
مثالُ ذلك: التعبير غير المألوف في قوله تعالى: {وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يعرشون (ثم) كُلي من كلّ الثمرات}(النحل:68)
__________
(1) يستخدم حرف "ثم" عادةً للتعبير عن تعاقُب حدثين من الناحية الزمنية، كأن نقول: دخل التلاميذُ الفصلَ ثم تبعهم المدرس، وتفيد التعاقب مع التراخي.(1/81)
فحرف (ثم) هنا إنما يقوم بمهمة الربط الموضوعي بين مقامين موضوعيين هما مقام (اتخاذ البيوت) و مقام (الأكل) ولو دققنا النظر فسنجدُ أنْ ليست هناك علاقة تراتُبٍ زمنيٍ بين عملية (اتخاذ البيوت) وبين عملية (الأكل)، إذ لا يُعقلْ أن يظَلَّ النحلُ بدون أكل إلى أن ينتهي من عملية اتخاذ البيوت! وهي العملية التي يُعتقد أنها استنفدت آلاف السنين لتستقرَ على حالها النهائي؛ بعد تنقلها من الجبال، إلى الشجر، وإلى ما يعرشون!!..
إن النظر إلى حرف (ثم) من خلال المنظور الجديد (الذي لا يشترط الدلالة الزمنية فيه) من شأنه أن يلقي مزيداً من الضوء على بعض المواضع في القرآن الكريم غير كاملة الوضوح بالنسبة لنا كبشر، في الإطار الزمني الذي نعيش فيه وذلك مثل قوله تعالى : {الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام (ثم) استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيرا}(الفرقان:59)..
بقي أن نذكر أنّ "ظاهرة النسبية" في القرآن الكريم هي المبرر الوحيد لصلاحية ألفاظنا "المحدودة" للتعبير عن معانٍ "مطلقة" فالدين ،أي دين، مجالُه عالم الغيب "المطلق" لكن ذلك لا يعني انفصاله عن عالم الواقع "النسبي والمحدود" وهو في الوقت الذي يتناولُ فيه غيرَ المُدرَك من المعاني المطلقة؛ فإنه يتعامل في الوقت ذاته مع المدرك والمحسوس في حياة الناس، لذلك كان من المنطقي أن يقرِن القرآنُ الكريم بين هاتين الحقيقتين فيأتي بهما في آيةٍ واحدة:
{الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة}(البقرة:3)
فالإيمان هنا يمس عالم الغيب، بينما الصلاة حقيقةٌ من حقائق الواقع المحسوس!.. وهو ما يوضح حقيقةَ أن: المعاني المحتملة للفظٍ ما يمكن أن تكون جدّ متباعدة عن بعضها؛ وذلك إذا ما تم استخدام تلك اللفظة للتعبير عن معنيين من عالمين مختلفين يفصل بينهما كلّ ذلك التباعد، كأن يكون الأول غيبياً والآخر محسوس!..(1/82)
من هنا فقد زادت الحاجة لدينا للتفريق بين الوجوه المتعددة والمحتملة للفظٍ ما، لأن الخلط بين تلك الوجوه كثيراً ما كان يؤدي إلى خلل خطير في الفهم.. مثال ذلك ما كان يحدث عندما يتم فهم صفات الله عز وجل (وهي غيب) على ضوء فهمنا وإدراكنا لمعاني تلك الصفات في عالمنا المادي المحسوس!.
المهم هنا هو أننا أصبحنا الآن ندركُ جيداً مدى حاجتنا إلى إرساء قاعدة "المحتوى النسبي المتدرج للألفاظ" والتي بدونها لا يمكن لنا أن نقترب من فهم النص القرآني على وجهه الصحيح..
إن ما يبدو لنا واضحاً الآن هو أن تجاهل قاعدة "النسبية" في القرآن الكريم؛ إنما سيجعل المرءَ أسيراً للمعاني القريبة للألفاظ، بما ينعكس سلباً على طريقة إدراكنا لمعاني الآيات فيحدّ من آفاقها!.. ولعلنا ندرك اليوم حاجتنا إلى إفراد تلك الظاهرة بدراسة خاصة بها، تجلي معناها، وتقدم مزيدا من الشرح والتوضيح لأمثلتها، وهو العمل الذي يحتاج إلى الكثير من الجهد والوقت.
وفيما يلي نورد ترجمة مقتضبة باللغة الإنجليزية لهذا البحث؛ الذي قامت على ترجمته إلى الإنجليزية قسم اللغة الإنجليزية في كلية اللغات والترجمة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. وقد نقلنا الترجمة حرفيا.
Al-Imam Mohammed Bin Saud Islamic University
College of Languages and translation
Department of English
The Phenomenon of Relativism (1)
__________
(1) قام على ترجمة هذا الجزء من بحث "ظاهرة النسبية في القرآن الكريم" قسم اللغة الإنجليزية في كلية اللغات والترجمة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. وقد نقلنا الترجمة حرفيا.(1/83)
One of the miracles of human speech is that one word might bear various possibilities in meanings. They match to the idea that they are built upon the rule: “relative content of meaning” which means that one word or expression might bear more than one meaning, a near and a far one. The sole utterance might possess different degrees of the same meaning; the near, the far, the farther and the farthest. It the same in the use of the word “hand” to express and refer to a variety of truthful meanings. It might be referring to a human hand, or to a certain anatomic biological field of knowledge referring to certain living objects or creatures whether high or low in ranking. The same word might also refer to bounty, awarding, power or capability to act.
The words a “hand”, a “leg” or an “eye” etc ... among other words and expressions that refer to the mere living creatures. We say hand of the monkey, leg of the bee, eye of the butterfly ..etc. In the same time they can be used to address ultimate values.
Allah The Almighty says “ ... ... the hand of Allah is over their hands” (Fath , verse 10)
Allah The Almighty says “ ... ... in order that you may be brought up under my eye” (Taha, verse: 20)
The same word is used to refer to two far fetched meanings. Relativity is not limited to material significances but they ascend to moral values such as justice, compassion and capability ... etc. They are attributes which man can enjoy the most of which. However, the ultimate values refer only to God The Almighty.(1/84)
Arabic language id one of the most flexible meanings. Flexibility is considered a standard criterion of this language and its ability to overwhelm meanings. The sole utterance in Arabic can be used in different usages of meaning among which are the near one that is used and known by people in their practical activities of life, and the far one or ones hidden under the letters of the common word. The possible meanings of a certain word in lexicons are considered possible not ultimate meanings.
In the following lines we are going to identify the presence of the phenomenon of “Relativity in the Glorious Quran” as a general phenomenon that is not limited to its wording. It will be possible through the following examples we are going to provide and which we consider to be applicable to the concept of relativity. They include but not limited to the following:
The Glorious Quran uses the concept of “ the sky’ in many verses. Yet, contemplating and auditing in them, we conclude that they do not mean the same implication in all cases. This word takes grading meanings from near to far and from lower to higher levels.
The sky in one of the near cases set in the Glorious Quran is the place (clouds) from which rain falls.
Allah The Almighty says “ ... ... and sent down water (rain) from the sky” (Baqara, verse: 22)
The meanings begin to enlarge to refer to atmosphere surrounding the earth:
Allah The Almighty says “ ... ... and whomsoever He wills to send a stray, He makes his breast closed and constricted asif he is climbing up to the sky ... ..” (Ana’m , verse 125)(1/85)
The word “sky” is then given wider and vaster additional meanings far from what is mentioned above to refer to vast and comprehensive one. It is expressed in the relation between the sky and the stars as Allah The Almighty says “ ... ... By the heaven, and At Taeik (the night –comer) i.e. the bright star * and what will make you know what At Tarik (the night- comer) is? * it is the star of piercing bright ) (Tarik , verse 1-3)
It is clear that the relation of place represented in these verses joins between the sky and the stars on one hand. On the other hand, the sky is the limit of place in which the star might range and exist. It is also the evidence that refer to the meaning of the verse ... ..i.e. the one approaching the other meaning represented in the following verse:
Allah The Almighty says “ ... ... and indeed we have adorned thenearest heaven with lamps and we have made such lamps (as) missiles to drive way the Shayateen (Devils)and have prepared for them the torment of blazing fire.” (Mulk , verse 5)
That meaning of the sky is extended to an unknown entity as Allah The Almighty says “ ... ... then he rose over (Istawa) towards the heaven when it was smoke , and said to it and the earth; “Come both for your willing or unwillingly. “They both said, “ We come willingly” (Fussilat, verse 11)
This meaning needs a lot of contemplation so as to recognize them in perfect way.
One of the examples of relativism of the meanings of the Glorious Quran is the concept of Illiteracy of the Prophet. The Glorious verses of the Quran expressed this verse.(1/86)
Allah The Almighty says “ ... ... those who follow the message of the Messenger, the Prophet, who can neither read nor write (i.e. Mohammed) whom they find written in the Torah and the Gospel “ (A’raf , verse 157)
Illiteracy in the full meaning of today’s concept derives its meaning from motherhood “relation of some one to his mother” it is said that an illiterate person to refer to someone who does not know any thing as if he were just delivered to life by his mother. Similarly, the word is used to express the opposite meaning of perfection in reading and writing. Does the Glorious Verse want to refer to in ability of the Messenger (SSAS) to read or write? This will be better obvious if we know that the attribute of illiteracy is used in addressing the Children of Israel by Allah The Almighty saying : “those who follow the message of the Messenger, the Prophet, who can neither read nor write (i.e. Mohammed) whom they find written in the Torah and the Gospel “ (A’raf , verse 157)
Therefore it is clear that illiteracy in this respect is a sign given by Allah to the Children of Israel by which they might recognize the Prophet of the Last of times.?!
The term illiterate is mentioned in Allah The Almighty says “ ... ... Say (O Mohammed) O mankind ! Verily, I am sent to you all as the Messenger of Allah to whom belongs the domain of the heaven and the earth. None has the right to be worshipped but He. It is He who gives life and causes death. So believe in Allah and His Messenger (Mohammed) the Prophet who can neither read nor write.” (A’raf , verse 158)(1/87)
In this position, the international concept dealt with in the verses of the Glorious Quran, can be noticed. All human beings are addressed by this speech. This is emphasized by the use of the term “all”
The concept of As Sa’ah (The Hour) is one of the time concepts used in the glorious Quran to refer not only to the current use of the word which is relatively short duration of sixty minutes but to shorter periods of time as said in Allah The Almighty says “ ... .. and every nation has its appointed term ; when their term comes, neither can they delay it it nor can they advance it an hour (or a moment)”(A’raf,verse34)
It did not express the same relatively small time duration in all positions. It is more ultimate as it also came to express the enormous panic of the Day of Judgment.
Allah The Almighty says “ ... ... until of a sudden, the Hour (signs of death) is on them, and they say: ‘ Alas for us! We gave no thought to it’” (An’am , verse 31)
الموضوعي والانفعالي في القرآن الكريم
(مقدمة في الإعجاز الصوتي في القرآن الكريم)
ما الذي أردنا قوله في هذا البحث؟
إذا ما رجعنا إلى النص القرآني الكريم لنحاول استشفاف الخاصية البشرية المتعلقة بالميل البشري إلى اللغة الانفعالية؛ واستجابة القرآن الكريم بشكل مطلق لتلك الناحية.. فسنجد عندها أن النص القرآني الكريم ،بالفعل، لم يتنزل ليلبي متطلبات الجانب الموضوعي وحسب، بل جاء مُشرباً ،بشكل عجيب، بالقيمة الوجدانية والانفعالية!! إلى الدرجة التي يمكن معها الإقرار بأن النص القرآني (وفي نموذج وحيد) قد أشبع ،بالفعل، كل أشواقنا وتطلعاتنا الشعورية والانفعالية!! بالإضافة إلى قيامة بإشباع الناحية الموضوعية!..(1/88)
ومن أجل الوفاء بهذين الجانبين (الموضوعي والانفعالي) فلابد وأن يرتل القرآن الكريم بطريقة صحيحة وجميلة تظهر ما فيه من تفاوت بين مستوياته الموضوعية والانفعالية المختلفة!
الموضوعي والانفعالي في القرآن الكريم
(ما الذي يعنيه تواتر القرآن)؟
يتميز القرن الكريم على ما عداه من نصوص في كونه معجزا، ومن جهة كونه منقولا إلينا بالتواتر، مما يعني عدم حدوث أية تغييرات عليه مهما كانت طفيفة، وإن من شأن ذلك أن يثبت حجية القرآن في حق متبعي الرسالة المحمدية إلى يومنا هذا، ومن المفيد هنا أن نذكر "التواتر" في معناه الاصطلاحي، والذي يفيد: (أن يأخذه ،أي القرآن، عن النبي (صلى الله عليه وسلم) جمعٌ يستحيل أن يتوافقوا على الكذب، ثم يأخذه عنهم جمع كذلك؛ حتى يصلوا به إلينا وإلى من بعدنا من الأجيال اللاحقة).
التواتر الكتابي (المصحفي)(1/89)
لقد كان أول ما فعله النبي (صلى الله عليه وسلم) لدى تنزل آيات القرآن عليه أنه أمر بكتابتها (1) ومما يُروى عن البراء أنه قال: لما نزلت آية {لا يستوي القاعدون} قال (صلى الله عليه وسلم) : (أدعُ لي زيداً، وليجئ باللوح (2) والدواة -ثم قال- اكتب: {لا يستوي القاعدون}. وقد كان من نتيجة ذلك أن حُفظ القرآن الكريم في عهده (صلى الله عليه وسلم) في الصحف، والتي جُمعت في عهد أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه ورتبت.
وقد حمل المسلمون القرآن في صدورهم في عالم ازدحم بالجهاد والمواجهة؛ حيث استشهد الكثيرون من حفظة القرآن، إلا أن اشتداد القتل بالقراء يوم اليمامة كان أشد ما دفع عمر بن الخطاب للإشارة على أبي بكر الصدّيق (رضي الله عنهما) بجمع الصحف التي كتب عليها القرآن الكريم، حيث أنيطت تلك المهمة بالصحابي "زيد" رضي الله عنه؛ وقد جاء في كتاب التكليف من أبي بكر لزيد ما يلي : "إنك شابٌ عاقلٌ لا نتهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) فتتبع القرآن فاجمعْه".
__________
(1) ذكروا أنه صلى الله عليه وسلم قال لمعاوية: (ألق الدواة، وحرف القلم، وانصب الياء، وفرّق السين، ولا تعور الميم، وحسّن الله، ومدّّ الرحمن، وجوّد الرحيم، وضع قلمك على أذنك اليسرى فإنه أذكر له)، و نقل ابن المبارك عن شيخه عبد العزيز الدباغ أنه قال: (ما للصحابة ولا لغيرهم في رسم القرآن ولا شعرة واحدة) وقد التمس العلماء للرسم العثماني أسرارا دلالة على معان خفية دقيقة كزيادة "الياء" في كتابة "أييد" من قوله تعالى {والسماء بنيناها بأييد وإنا لموسعون}(الذاريات:47) إذ كتبت "بأييد" وذلك للإيماء إلى تعظيم قوة الله التي بنى بها السماء، وأنها لا تشبهها قوة على حدّ القاعدة المشهورة، وهي: "زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى")!.
(2) اللوح: هو ما كان يكتب عليه من حجر رقيق، وعظم مسطح، وجريد... الخ.(1/90)
وهنا يشرح "زيد" طبيعة المهمة التي أنيطت به فيقول: "فتتبعت القرآن أجمعُهُ من العصب واللخاف (1) وصدور الرجال"!. وقد أتاح العمل الذي قام به "زيد" للمسلمين فرصة المحافظة عل النص المكتوب؛ لكن المشكلة التي واجهها المسلمون كانت انحصار المستفيدين من ذلك العمل في مكان واحد هو المدينة المنورة، أما الآفاق الأخرى للدولة الإسلامية مترامية الأطراف فقد بدأت تعاني من مشكلة عدم تطابق قراءة القارئين مع النص المكتوب، وقد أدى ذلك إلى اشتداد اختلاف الناس في قراءة القرآن!..
وكما أشار "عمر بن الخطاب" من قبل على "أبي بكر الصديق" بأن يجمع الصحف في مصحف واحد فقد أشار "حذيفة" على "عثمان بن عفان" رضي الله عنهما بالمسارعة إلى إدراك الناس قبل أن يختلفوا حول القرآن نتيجة للأوضاع التي استجدت. فأرسل عثمان لحفصة رضي الله عنها (2) وأمر "زيداً بن ثابت" و"سعيداً ابن العباس" و"عبد الله بن الزبير" و"عبد الرحمن بن الحارث بن هشام" فنسخوها، ثم أرسل إلى كل أفقٍ من الآفاق الستة (3) بصحف ما نسخوا، واستبقى مصحفاً في المدينة، وأمر بما سِوى تلك النسخ من صحيفة أو مصحف أن يحرق، وقد كانت تلك النسخ الستة من المصحف سند القرآن الأكيد؛ حيث لم يكتب فيها غيره، بل وصل الأمر بهم حدا أن جرّدوا معه تلك النسخ من "الاستعاذة" و"آمين" فلما توارثه الخلف عن السلف كان هذا تواتراً قاطعاً بأن ما فيه هو القرآن، وما ليس فيه فليس بقرآنً!!.
__________
(1) العصب: جريد النخل، واللخاف: الحجارة البيضاء الرقيقة.
(2) وقد كان عندها صحف القرآن الكريم التي تم جمعها.
(3) مكة، والشام، والبصرة، والكوفة، واليمن، والبحرين، والمدينة.(1/91)
وقد تم التمام لما قام به "عثمان" رضي الله عنه من جمع القرآن وذلك بما قام به "أبو الأسود الدؤلي" بأمر من "علي بن أبي طالب" كرّم الله وجهه، حيث قام الأول بوضع قواعد النحو صيانة وسلامة للنطق، وضبطاً للقرآن الكريم، حيث اعتبر ذلك بدايةً لعلم "إعراب القرآن". وتعتبر المصاحف المتداولة بين أيدينا اليوم نسخة طبق الأصل عن المصحف الأصلي الذي جمعة أبو بكر، ونسخه عثمان، إذا ما استثنينا من ذلك بعض الإضافات الشكلية كوضع النقاط على الحروف ووضع علامات التشكيل.
التواتر السمعي للقرآن الكريم
وفيما يتعلق بتواتر القرآن فقد اتضح أن كل الجهود التي بذلت واستثمرت في عملية جمع القرآن ونسخه والمحافظة على شكله الكتابي لم تكن كافية لجعل الأجيال المتلاحقة تحافظ على قرآنها سليما خاليا من التحريف، فقد اتضح أن كل ذلك لم يضمن الطريقة المثلى للقراءة؛ حيث أن للقرآن طريقة توقيفية في قراءته نقلت عن النبي (صلى الله عليه وسلم) مثلها مثل هيئة كتابته؛ لا تتم القراءة الصحيحة له دون إدراكها، وتعتبر جزءا لا يتجزأ من إعجازه.
ومما يؤكد أصالة ذلك الجانب (التواتر السمعي) أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) كان يقرأ على صحابته ما تنزل عليه من القرآن ليتقنوا سماعهم له، كذلك فلم يكن النبي (صلى الله عليه وسلم) يكتفي بالقراءة لإسماع صحابته (القراءة الشفهية)، بل كان ،أيضا، يحب أن يستمع إليه من أفواه صحابته؛ تعويداً لهم على قراءته بالشكل الصحيح؛ من ذلك أنه طلب (صلى الله عليه وسلم) من "ابن مسعود" ذات يوم أن يقرأ عليه، فقرأ عليه سورة "النساء"حتى وصل إلى قوله تعالى{فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا}(النساء:41) فقال عندها (صلى الله عليه وسلم):(حسبك الآن)فإذا عيناه (صلى الله عليه وسلم) تذرفان (1) .
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.(1/92)
وتتضح الأهمية القصوى لهذا الجانب التوقيفي (التواتر السمعي) من حقيقة أن جبريل عليه السلام كان يعارض (1) النبي (صلى الله عليه وسلم) القرآن مرة في العام، وعارضه في العام الأخير من حياته مرتين؛ بذلك أخبر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ابنته فاطمة رضي الله عنها قائلاً لها: (كان جبريل يعارضني بالقرآن كل سنة، وإنه عارضني مرتين، ولا أراه إلا حضر أجلي)! وكأن في ذلك تأكيد عل أهمية التواتر السمعي وأصالته!. وكان الناس إبان صحة ألسنتهم، وتوارث ضبطهم للقرآن الكريم بالسليقة لا يحتاجون لمن يضبط لهم قراءتهم، حتى فسدت الألسنة آخر القرن الأول..
لأجل ذلك فقد قام في كل عصرٍ أئمةٌ ممن اجتمع فيهم حفظ القرآن بقراءته؛ والفهم الصحيح لمعناه، والمعرفة الكاملة بلغة العرب، فتصدوا لضبط ألفاظه، ووضعوا قواعد لقراءته، فكان كل إمام يقرأ بما تواتر عنده من القراءات، وكل تلك القراءات المتواترة مسموع من النبي (صلى الله عليه وسلم) وداخل في نطاق الأحرف السبعة التي نزل القرآن بها.
__________
(1) المعارضة هي أن يقرأ أحدهما ويستمع الآخر.(1/93)
لكن التواتر المكتوب "المصحفي" وإن كان قد منع كل ما أمكن أن يلحق بالقرآن الكريم من تحريفٍ وتزوير وحذف وإضافة على النسخ المكتوبة، فإن مخاطر إضافية ظلت محدقة؛ ألا وهي اللحن فيه، وتغيير هيئات الألفاظ وإزاحتها عن الهيئة التي تنزّلت عليها، وقد ساهمت حالة الضعف التي أصابت العرب ،من جهة ارتباطهم بلغتهم، في زيادة حجم تلك المخاطر، وقد أحال ،ذلك الضعف، قراءة القرآن واستيعاب مراميه إلى مهمة محفوفة بالمخاطر؛ وهنا نشأت الحاجة إلى وضع المزيد من الضوابط التي يتم من خلالها المحافظة على تواتر القرآن الكريم، لكن من الناحية السمعية هذه المرة، فكانت قواعد التلاوة والتجويد التي حددت مواقع تلك الأحكام (1) وجعلت منها أساساً قابلاً للدرس والحفظ يمكن تناقله وتعلمه من جيلٍ إلى جيل.
__________
(1) حسبما حددتها التلاوة الصحيحة المتواترة عن النبي (صلى الله عليه وسلم).(1/94)
وقد كان العرب الأوائل بغير ما حاجة إلى تنقيط الخط العربي، أو تشكيله، اكتفاء بما تكوّن لديهم من معارف لغوية بالسليقة، إلا إن الأجيال الجديدة فقدت تلك السليقة، وعلى أثر ذلك فقدت الأمة قدرتها على التعامل المرن مع لغة تميزت دائما بمرونتها وروعتها، بل إن عصور الانحطاط قد قادت الأمة إلى غربة كاملة عن تلك المفاهيم، فلجأ الحريصون على ذلك التراث إلى إيجاد قواعد جديدة للغة، فتم تنقيط الحروف للتمييز بينها، ثم تم تشكيلها، وبالمثل؛ فقد تم تقعيد أحكام التلاوة على هيئة قواعد تدرس مثل كل العلوم الأخرى، لكن؛ وعلى الرغم من كل تلك الجهود؛ فقد ظلت المشكلة قائمة، وتمثلت في حقيقة أن العلم بتلك الأحكام قد أصبح أمراً ضروريا لقراءة القرآن وفهمه، وهو الأمر الذي لم يكن متوفرا في كل الأحيان، بالإضافة إلى أن العلم بتلك الأحكام كثيراً ما اتخذ لنفسه هيئة جامدة لا يُعلم الحكمة من ورائها، فأصبحت تمارس من قبيل التقليد، لذا فقد فقدت عملية قراءة القرآن الجزء الأكبر من قدرتها على إعطاء الثمرة المطلوبة منها، وقد غدت تلك الأحكام (التي لم يعد يفهمها على وجهها الصحيح إلا المتعلم والمثقف) شرطا أساسيا للفهم، وبالتالي لم تعد مهمة فهم القرآن قابلة للتحقق بمجرد القراءة، بل صار لزاما علينا أن نوفر شروطا موضوعية أخرى.(1/95)
وبوضع تلك الضوابط والمداومة على تطبيقها بشكلها الصحيح؛ فقد تعاون "التواتر السماعي" و"التواتر المصحفي" على حفظ القرآن الكريم، وساهم في انتقاله متواترا جيلا بعد جيل. لكن التواتر السماعي كان عليه المعوّل في تحديد كيفية النطق بألفاظ القرآن الكريم؛ وكيفية أدائه على قواعد القراءة؛ التي دونها العلماء فيما بعد على هيئة أحكام ضابطة للتلاوة والترتيل.. من هنا كان المعوّل بالنسبة للقرآن الكريم على السماع والقراءة معا! بخلاف الحديث الشريف؛ لأن الأمر في القرآن الكريم يتعلق بالمعنى وبكيفية أداء اللفظ، بعكس الحديث ،الشريف، الذي تجوز روايته بالمعنى بشروطٍ عرّفها المحدثون. ومن هنا أمكن إدراك الحكمة في "عدم جواز الحفظ من المصحف من غير معلم" يصحح للقارئ نطقه وأداءه؛ كما يقوم به الناس الآن حول الكعبة وفي المساجد، فما تواتر هو القرآن، وما لم يتواتر -مما ادُعِيَ أنه قرآن- فليس بقرآن! بل هو قراءة شاذة وإن توفرت فيها صحة السند وموافقة خط المصحف الإمام واللغة العربية)! (1) .
ولعل هذا المنهج المرتكز على رؤيةٍ وتصورٍٍ واضحين للغة (2) هو ما يفسر لنا المنهج العربي في جمع اللغة واستقرائها عن طريق "الرواية" و"المشافهة"؛ وحديثهم المستفيض عن "السماع"، ومنهج علم القراءات في التلقي والعرض، وهو يفسر لنا أيضا تخصيصهم كتبا تعالج قضية "التصحيف والتحريف" مع ما تلفت إليه العبارة من الاشتقاق من "الصحف" و"الحروف" لأنها أخطاء ناجمة عن "الكتابة" وكذلك ذمّهم من يأخذ اللغة عن طريق "الصحف" لا عن طريق السماع (3) .
__________
(1) تواتر القرآن الكريم وتبعاته وثمراته، الدكتور أحمد فهمي أبو سنّة، كتاب ندوة المحاضرات، رابطة العالم الإسلامي، 1392.
(2) على أنها: "أصوات" ملفوظة قبل أن تكون حروفاً مكتوبةً ومنظورةً!.
(3) فقه اللغة في الكتب العربية، د. عبد الله الراجحي، 1974، ص63.(1/96)
ويبدو أن الرأي السابق والمتعلق بتعلم القرآن الكريم كان نابعاً من إدراك الأولين لحقيقة اللغة العربية.. لغة القرآن الكريم.. وإلى أن العبرة والمعوّل بالنسبة للعربية إنما هو الجانب السمعي لا الكتابي، بحيث تم التأكيد على وسائل التعلم التي يتحقق من خلالها ضبط ذلك الجانب والمحافظة عليه.
يقول "ابن فارس" في باب "القول في مأخذ اللغة": (تؤخذ اللغة اعتيادا كالصبيّ العربي يسمع أبويه وغيرهما، فهو يأخذ اللغة عنهم على مر الأوقات، وتؤخذ تلقنا من ملقّن، وتؤخذ سماعاً من الرواة الثقات ذوي الصدق والأمانة وُتقى المظنون) (1) ..
وبالجملة، فإن التعبد بفهم معاني القرآن الكريم يجب أن يكون مقروناً بالتعبد في تصحيح ألفاظه، وإقامة حروفه على الصفة المتلقاة من أئمة القراءة المتصلة بالنبي (صلى الله عليه وسلم).
وكما ذكرنا سابقا فقد تم ضبط الجانب السمعي للقرآن الكريم بتمييز تلك الهيئات من القراءة، واعتبار تلك (غير الحائزة على شروط التواتر السماعي والمصحفي) قراءةً شاذة..
__________
(1) الصاحبي، ابن فارس، 62-63).(1/97)
من هنا فقد تصدى لهذا الأمر علماء اعتبروا القراءات (1) علماً أفرغوا فيه جهدهم، حيث اعتبروا المتواتر من القراءات ما تحقق فيها شرط موافقتها للمصحف الإمام؛ لأنه كتب من غير نقط وشكل، وأمكن أن يسعها جميعها، وإنما عرف التمييز بينها بالسماع.
والتواتر لابد منه فيما يرجع إلى "جوهر اللفظ" (أي حروفه؛ وحركاته؛ وسكناته) وما يرجع إلى "كيفية الأداء" لأن الذين نقلوا القرآن الكريم نطقوا بالنوعين جميعاً وأُخذ عنهم، وزعم "ابن الجزري" و"الشوكاني" أنه لا يشترط التواتر في قرآنية القراءات، بل يكتفى بصحة السند وموافقتها لخط المصحف الإمام واللغة العربية، وهذا رأيٌ حادث على خلاف ما أجمع عليه القدامى من علماء المسلمين.
__________
(1) القراءات هي اختلاف أوجه النطق بالقرآن سواء أكان في جوهر اللفظ كالحروف والحركات، أو في كيفية الأداء كالمد، والقر والتفخيم، والترقيق، والفتح، والإمالة. والعلماء على أن القراءات هي: متواترة، وآحاد، وشاذة، وجعلوا السبعة متواترة، والآحاد الثلاث المتممة لعشرها، ثم ما يكون من قراءات الصحابة رضي الله عنهم مما لا يوافق ذلك، وما بقي منها فهو شاذ، والقراءات التي تواترت هي: قراءة نافع بن نعيم من أتباع التابعين قارئ مكة المكي، وعبد الله بن كثير التابعي قارئ المدينة، وأبي عمرو بن العلاء المازني من أتباع التابعين قارئ البصرة، وعبد الله بن عمر التابعي قارئ الشام، وعاصم بن أبي النجود التابعي، وحمزة بن حبيب الزيات، وعلي بن حمزة الكسائي من قرّاء الكوفة، وأبي جعفر يزيد بن القعقاع، وييعقوب بن أسحق الحضرمي، وخلف بن هشام.(1/98)
من هنا كان لزاما علينا الالتفات إلى حقيقة أن: المقصود بالتواتر على وجهه الصحيح ليس ،فقط، مجرد التواتر الكتابي (أو المصحفي)؛ بل "التواتر السماعي" أيضا، والذي يعني: "ضرورة تلاوة القرآن الكريم كما تنزل على محمد (صلى الله عليه وسلم)" والتواتر الأول (المصحفي) يسهل ضبطه، فالمصحف قد تكفل الله بحفظه سوراً وآيات، حيث تم تواتر المصحف بشكل متصل ومستمر منذ اللحظة التي تنزل فيها وإلى يومنا هذا بطريق الكتابة..
أما التواتر السماعي ،والذي يعتبر سراً من أسرار القرآن، فهو أكثر صعوبة، إذ لم تكن الوسيلة (التي تتكفل بنقل ذلك التواتر جيلاً إلى جيل) موجودةً باستمرار، لذا فقد أحاطَ قدرٌ كبيرٌ من الضبابية بهذا الجانب من التواتر، حتى بتنا ننظر إلى مسألة تجويد القرآن وترتيله وكأن المقصود منها فقط "إضفاء مزيد من الجمال اللفظي والأداء الفني على كتاب الله الكريم"!! مع أن ترتيل القرآن يجب النظر إليه كواحد من وجوه الإعجاز التي تُضفي مزيداً من الوضوح على الجانب الموضوعي والمزيد من الجمال على الأداء الفني.(1/99)
وبرسوخ قاعدة التواتر على وجهيها (المصحفي والسمعي) فقد صار القرآن الكريم حجةً قطعيةً في حق من لم يسمعه مباشرة من النبي (صلى الله عليه وسلم)، وحجية ذلك التواتر ،سواء من ناحية الجوهر أو الكيفية التي يتم الأداء وفقها، إنما تأتي لتسدَّ الباب أمام إمكانية تحريف كلماته وحروفه؛ سواء أكان ذلك من جهة مخارجها أو من جهة صفاتها، فقد ضبط علماء القراءة مخرج كل حرف وصفاته، فبيّنوا مثلاً أن الهمزة تخرج من أقصى الحلق، والحاء تخرج من وسطه، والباء من بين الشفتين، وبينوا صفة كل حرف من تفخيم وترقيق وقلقلة واستطالة..الخ، إلى الدرجة التي دعت العلماء إلى اعتبار القراءةَ بغير تجويدٍ لحنا! (1) ..
__________
(1) اللحن خلل يطرأ على الألفاظ، منه الجلي ومنه الخفي، والجلي: هو ما يخل باللفظ إخلالا ظاهرا يشترك في معرفته علماء القراءة وغيرهم، وذلك كالخطأ الإعرابي أو الصرفي. أما الخفي: فهو ما يخل باللفظ إخلالا يختص بمعرفته علماء القراءة وأئمة الأداء الذين تلقوه من أفواه العلماء وضبطوه من ألفاظ الأداء.(1/100)
من هنا؛ يمكننا أن ندرك الضرورة القصوى لمعرفة الشكل الصحيح الذي يجب أن يؤدى القرآن به (1) سواء فيما يتعلق بالتواتر المصحفي أو الجانب الآخر (الذي قد يفوق الأول أهمية) والمتعلق بالتواتر السمعي (2)
__________
(1) فيما يتعلق بهذا الأمر فقد شاعت بعض القراءات التي هي أبعد ما يكون عن الأداء الصحيح للقرآن، ومنها: "الترعيد" وهو أن يرعد القارئ صوته، حتى أنهم وصفوا من يقوم به وكأنه يرعد من البرد أو الألم، ومنه "الترقيص" وهو أن يروم السكوت على الساكن ثم ينقر مع الحركة وكأنه في عدوٍ أو هرولة، و "التطريب" وهو أن يترنم بالقرآن ويتنغم به فيمد في غير مواضع المد، ويزيد في المدّ إن أصاب موضعه، ومنه كذلك "التحزين" وهو أن يأتي بالقراءة على وجه حزين يكاد يبكي مع خشوع وخضوع، ومنه "الترديد" وهو ردّ الجماعة على القارئ في ختام قراءته بلحنٍ واحدٍ على وجهٍ من تلك الوجوه.
(2) المقصود به اللحن في قراءة القرآن. وإن من القراءات التي اعتبرت لحنا ما أدخل عليها من ألحان الحداء والغناء والرهبانية، فمنهم من كان يدس من ذلك دسا خفيا، ومنهم من كان يجهر به حتى يسلخه، فمن هذا قراءة الهيثم {أما السفينة فكانت لمساكين}(الكهف) فإنه كان يختلس المدّ اختلاسا يخرجه عن طبيعته، فكان يقرأها (لِمَسَكينَ)، وإنما سلخه من صوت الغناء كهيئة اللحن في قول الشاعر:
أما القطاة فإنّي سوف أنعتها ... ... نعتا يوافق عندي بعض (مفيها)
وهو يقصد بالطبع (ما فيها) فإن كان ذلك يصلح غناء فهو بالقطع لا يصلح في قراءة القرآن لأن المد وقدره إنما هو جزء من المعنى، فضلا عن أنه أمر توقيفي لا يجوز النقص منه أو الزيادة عليه.(1/101)
وهذا يفتح أمامنا مجالاً للافتراض بأن ضرراً حقيقياً يمكن أن يلحق بنا إذا ما انتهينا إلى وضع ننسى معه حقيقة أن "التواتر السمعي" إنما هو جانب توقيفي أصيل في القرآن الكريم (1) وإذا ما نسينا تلك الحقيقة فستصبح أحكام التلاوة ،حينها، مجرد هيئات صوتية لا تدل على أية مضامين؟! وإن من شأن الإخلال بتلك الهيئة أن يخل بمضامين القرآن ذاته، ويصبح الترتيل ،عندها، مجرد موسيقى مصاحبة للنص لا نعرف لها فائدة!!.. ونتوقف عند هذا التساؤل لنتعرف على بعض المباحث اللغوية المتعلقة بإعجاز القرآن الكريم، ذلك أن إعجاز القرآن الكريم إنما يرتبط برباط لا ينفصم مع اللغة ذاتها..
لغة القرآن الكريم: صوتية أم مكتوبة؟!
لقد عرّف اللغوي العربي”ابن جني” (392هـ) اللغة بقوله: (حدّ اللغة أصواتٌ يعبر كل قوم عن أغراضهم).. وهو تعريف يثير دهشة الباحثين البعيدين عن تطور الحياة العلمية العربية، لأنه يقترب اقتراباً شديداً من كثير من تعريفات المحدثين للغة، ولأنه يشتمل على معظم الجوانب التي عرضها "علم اللغة" في العصر الحديث.
__________
(1) يعتبر رسم القرآن الكريم وثيقة هامة تتضح من خلالها خصائص الخط العربي في صدر الإسلام، وفيه نجد كلمات مثل (الرحمن، طه، اسحق، هرون) مكتوبة دون حروف مد، وتعكس طريقة كتابة هذه الأسماء النهج العربي القديم في تدوين الصوامت فقط دون تدوين الحركات الطويلة والقصيرة، لكن كتابة هذه الكلمات على هذا النحو لا تعكس كيفية نطقها، وهي لم تنطق آنذاك إلا كما وصلت إلينا في القراءات القرآنية، ومن هنا نبعت أهمية الجانب السمعي على الجانب المكتوب الذي لا يعبر ،في كثير من الأحيان، عن المطلوب نطقه في النص.(1/102)
ويمكن اعتبار القرآن الكريم (جوانبه الصوتية على وجه الخصوص) السبب الأبرز في ذلك التطور، ومن الحقائق المقررة (أن الدرس الصوتي عند العرب من آصل الجوانب التي تناولوا فيها دراسة اللغة، ومن أقربها إلى المنهج العلمي؛ ذلك أن أساس هذا الدرس مبني على القراءات القرآنية، وهو علم وإن كان متأخرا (من حيث الوضع النظري) عن بعض العلوم العربية الأخرى كالنحو؛ فإنه أسبق منها من حيث الواقع العملي) (1) .
ويمكن الإقرار ،بسهولة، أن قراءة القرآن هي التي جعلت علماء العربية القدماء يتأملون أصوات اللغة ويلاحظونها هذه الملاحظة "الذاتية" التي أنتجت ،في وقت مبكر جداً، دراسة طيبة للأصوات العربية لا تبتعد كثيرا عما يقرره المحدثون. وحين نقول إن "ملاحظة الأصوات ملاحظة ذاتية كانت في فترة مبكرة قد نشأت عن طريق قراءة القرآن" إنما نذكر عمل أبي الأسود الدؤلي في ضبط القرآن الكريم بالنقط من خلال ملاحظة حركة الشفتين (2) . ولا يمضي وقت طويل حتى يقدم لنا "الخليل ابن أحمد" أول تصنيف للأصوات حسب "موضع النطق" أو حسب "الأحياز والمخارج" وتصنيفه هذا يؤدي به إلى تقسيم الأصوات إلى ما يعرف الآن بالأصوات الصامتة والحركات) (3) .
__________
(1) فقه اللغة في الكتب العربية، د. عبده الراجحي، 1974، ص129.
(2) بقوله لكاتبه :إذا رأيتني قد فتحت فمي بالحرف فانقط نقطة فوقه إلى أعلاه، وإن ضممت فمي فانقط نقطة بين يدي الحرف، وإن كسرت فاجعل النقطة من تحت الحرف.
(3) فقه اللغة في الطتب العربية، د. عبه الراجحي، ص130.(1/103)
ومن المثير للدهشة في تعريف”ابن جني” للغة هو أنه قد قصرها على "الأصوات" وأخرج منها "الكتابة"، وهو دليل واضح على أن علماء العربية لم يكونوا يدرسون اللغة باعتبارها لغةً "مكتوبة"؛ وإنما باعتبارها لغةً "منطوقةً" قائمةً على "الأصوات"، وهو الرأي الذي يتفق عليه علماء اللغة المحدثون؛ الذين يعتقدون بأن تعبير "اللغة المكتوبة" هو تعبير لا يمكن قبوله إلاّ على سبيل المجاز، فاللغة ،علمياً، ذات طبيعة صوتية، وهو ما فهمه”ابن جني” وأمثاله من علماء اللغة منذ قرون..
ومن وجهة نظر اللغويين فإن "اللغة المكتوبة" ليست نوعاً آخر من "اللغة الطبيعية"، إنما الأمر عبارة عن رموز بصرية (ناقصة ومُلْبِسة في كثير من الأحوال) للرموز الصوتية.. مهما كان نوع هذه الرموز البصرية صورياً أو مقطعياً أو فونيمياً، فاللغة شيءٌ والكتابة شيءٌ آخر) (1) .
ومن الواضح أن هناك خلطاً كبيراً يقع فيه الكثيرون حين لا يميزون بين الأصوات والكتابة، أو بين اللغة في صورتها المسموعة وبين اللغة وقد كتبت بحروف، والمتفق عليه أن اللغة هي ظاهرة صوتية، بمعنى: أن الأصل في اللغة أنها نظام من الرموز الصوتية المنطوقة التي يتعامل بها الإنسان، وقد تعامل الإنسان باللغة آلاف السنين قبل أن يكتبها.. فاللغة تقوم أساساً على الصوت، وأما الكتابة فهي ظاهرة حضارية) (2) وهناك العديد من اللغات التي لا يكتبها أبناؤها لغاية اليوم كاللغة المهرية، والنوبية، وكذلك مئات من اللغات الأفريقية.
__________
(1) موجز تاريخ علم اللغة في، تأليف: ر. هـ. روبنز، ترجمة: د. أحمد عوض، عالم المعرفة، ص9(المترجم).
(2) مدخل إلى علم اللغة، د. محمود فهمي حجازي، دار الثقافة للطباعة والنشر، 1978، ص31(بتصرف).(1/104)
ومن الواضح أن الكتابة العربية بتقاليدها المعروفة والكتابة المستخدمة في تدوين اللغات الأوروبية على النحو المعروف لنا، وكذلك كل الكتابات المتداولة في العالم قديما وحديثا هي مجرد محاولة تقريبية لتسجيل الواقع الصوتي لهذه اللغات) (1)
__________
(1) مدخل إلى علم اللغة، د. محمود فهمي حجازي، دار الثقافة للطباعة والنشر، 1978، ص31..(1/105)
وقد يبلغ الاختلاف بين اللغة المنطوقة ومحاولة تدوينها حداً بعيداً في بعض اللغات كالأوروبية المعاصرة، حيث نجد بعض الأصوات تدون بأكثر من رمز كتابي واحد، ففي تدوين اللغة الإنجليزية نجد في الكلمات Photo و For صوتا معينا تبدأ به كلتا الكلمتين، ورغم هذا فتدوين هذا الصوت يختلف في كلتا الكلمتين، ويرجع هذا الاختلاف إلى تاريخ كلتا الكلمتين، فكلمة For في الإنجليزية هي كلمة أصيلة موروثة، لكن كلمة Photo هي كلمة وافدة عليها من اللغة اليونانية (1) فالكتابة في حالات كثيرة لا تمثل النطق تمثيلا مباشرا، ولكنها تعكس جوانب من تاريخ الكلمة، والأمر صحيح بالنسبةِ للخط العربي كما نكتبه اليوم، فهناك أحرف تظهر ،نطقا، في مواضع لتختفي في مواضع أخرى، وخذ على سبيل المثال كلمة (ابن) والتي يظهر فيها حرف الألف إذا ما جاءت الكلمة مستقلة، فإذا ما أضيف حرف الفاء إلى أول الكلمة مثل (فابن) فإن الألف تختفي نطقا وتستقر كتابة، لذلك فقد تم التفريق بين الألف التي لا تظهر في سياق الكلام بمصطلح (ألف الوصل) تمييزا لها عن همزة القطع التي لا تختفي وتظل دائما في الكلمة العربية، وعليه؛ فإن هناك اختلافاً في النطق بين (قال أحمد) و (قال اخرج) ففي العبارة الأولى نلاحظ أننا نطقنا بكلمة (قال) التي تنتهي بحركة قصيرة هي الفتحة، ثم جئنا بعد ذلك بكلمة (أحمد) ونطقنا بالهمزة باعتبارها أول أصوات هذه الكلمة، لكن على عكس ذلك جاءت العبارة الثانية، فالنطق الفصيح لها يجعلنا ننطق بعد اللام والفتحة التالية لها صوت الخاء مباشرة دون أن ننطق بالألف.
__________
(1) لعل في هذا بعض التفسير لاختلاف الرسم القرآني عن الكتابة العربية العادية، حيث الرسم القرآني يعبر عن مطابقة الرسم للنطق كما شاء الله وليس كما يعرف البشر!!(1/106)
ويمكن القول أن اللغة المكتوبة ما هي إلا عبارة عن رموز مرئية يعبر كلٌ منها عن "أسرة" كاملة (وليس عن وِحدة واحدة) من وحدات أصغر منها هي "الوحدات الصوتية"، و(فقط) من خلال هذه الوحدات الصوتية يمكن تحميل النص المكتوب بشتى ألوان العواطف والمشاعر والأحاسيس!! فنبرات الفرح، والحزن، والأسى، والألم...الخ والتي لا يمكن تلمسها من خلال النص المكتوب، وتعتبر تلك المشاعر والعواطف جزء أساسياً في أي نص مقروء، ويعتبر التعبير عنها أثناء قراءة النص القرآني الكريم جزء لا يتجزأ من وفاء القارئ للنص حقه، ويجب الالتفات كذلك إلى أن التعبير بواسطة الحروف المكتوبة إنما هو وسيلة ،ناقصة وقاصرة، لإدراك اللغة، وذلك إذا ما علمنا أن الأبجدياتُ المكتوبةُ لم تخصص رموزاً كتابيةً لجميع الفونيمات المنطوقة، ويعتبرُ البعضُ أن ذلك الأمر هو واحد من عيوب تسجيل اللغة بواسطة الكتابة، فالأجنبي الذي يتعلم اللغة العربية بواسطة الكِتَاب؛ لا يستطيع أن يدرك فروع فونيم حرف النون على سبيل المثال، ولذلك فإنه سينطقها أو يحاول نطق كل تفرعاتها بطريقة واحدة. من هنا أمكن إدراك الحكمة في عدم جواز الحفظ من المصحف من غير معلم يصحح للقارئ نطقه وأداءه!.
وباعتبارنا للغة على أنها أصوات (وليس فقط ما يكتب منها) فإنه يحضرنا قول "ماريو باي" من أن (عدد الأصوات التي يمكن لجهاز النطق الإنساني أن ينتجها لم يمكن حصره أو تقديره على وجه الدقة حتى الآن، وهذا يرجع إلى أن أقل انحراف في المخرج يمكن أن يعطي نتائج مختلفة تدركها الأجهزة الحساسة مثل السبكتروجراف أو مسجل تردد الموجات الصوتية، إن لم تدركها الأذن) (1) ..
__________
(1) أسس علم اللغة، (هامش المدخل لعلم اللغة، للدكتور رمضان عبد الوهاب، ص60).(1/107)
ومعنى قولنا أن اللغة في أصلها منطوقة أن الاعتبار إنما هو لكل ما يتم التلفظ به، وليس فقط ما تتم كتابته، فكلمة "محمد" على سبيل المثال (والتي تحتوي ،من الناحية الكتابية، على أربعة أحرف) إنما تتكون في حقيقة الأمر من وحدات صوتية أكثر، وهي: صوت الميم، ثم صوت الضمة، ثم صوت الحاء، ثم صوت الفتحة، ثم صوت الميم، ثم صوت الفتحة، ثم صوت الدال؛ على الترتيب. ولعل كتابة كلمة "محمد" باللغة الإنجليزية أكثر تعبيراً عن الفونيم من اللغة العربية، ذلك أن العربية تستعيض عن بعض الفونيمات المنطوقة بحركات تشكيل كالفتحة والضمة والكسرة والسكون!.
من هنا يمكننا الافتراض أن اللغة الواحدة والمكونة من عدد محدود من الوحدات الصوتية (1) تمكننا من تأليف وتكوين ملايين الكلمات المختلفة، وذلك عن طريق الأنساق المختلفة لهذه الوحدات الصوتية في المواقع المختلفة، فالكلمات (كتب)، (بكت)، (تكب)، (بتك)، (تبك)، (كبت) كلها ألفاظٌ ممكنة من الناحية النظرية، وهي تتكون من نفس الوحدات الصوتية ولكنها تختلف في ترتيب هذه الوحدات داخل الكلمة. وبعض هذه الكلمات موجودة فعلاً في واقع اللغة العربية؛ والبعض الآخر غير موجود مع أنه ممكن من الناحية النظرية.. وهكذا نجد أن العدد المحدود من الوحدات الصوتية ،في أية لغة، يمكن أن يكوّن ملايين الكلمات، لكنّ كل لغة تختار من هذه الاحتمالات الممكنة –نظريا- عدة آلاف فقط) (2) وهي الكلمات التي نجدها في المعجمات اللغوية لتلك اللغة!!..
* * *
وهكذا تتضح لنا أهمية "التواتر السمعي" للقرآن الكريم، حيث أن أي انحراف في اللفظ ينتج شيئا آخر غير القرآن الكريم حتى لو تشابه معه من الناحية الكتابية!!..
..
__________
(1) يتراوح عددها في أكثر اللغات بين الثلاثين والأربعين، وهو ما اصطلح عليه بالحروف الهجائية.
(2) مدخل إلى علم اللغة، د. محمود فهمي حجازي، دار الثقافة للطباعة والنشر، 1978، ص19(بتصرف بسيط).(1/108)
وهو ما يدفعنا إلى استجلاء المزيد من النقاط الهامة التي تحيط بالنص القرآني المجيد، والمتعلقة بالنواحي الموضوعية والانفعالية للنص الكريم، والتي تجيب في نهاية المطاف على سؤال في غاية الأهمية ألا وهو: لماذا يتوجب علينا أن نرتل القرآن، وإذا ما أردنا إعادة طرح السؤال بصيغة أخرى فيتوجب علينا القول: ما الذي يضفيه الترتيل على النص الكريم للتمييز بين المستويات الموضوعية والانفعالية فيه؟.
لكن قبل الخوض في تلك الجوانب الأصيلة في القرآن الكريم فيجب التعرض ولو بقليل من التفصيل لنواحي أساسية في اللغة العربية، وهي النواحي "المنطقية" الكتابية، و"الانفعالية" السماعية.
"منطقية" اللغة و "انفعالها"!!
كما يرى بعض علماء اللغة (1) فإن اللغة في واقع الحال ليست لغة واحدة بل اثنتان!، ففيما تعبر الأولى عن لغة "منطقية" تعبر الأخرى عن لغة "انفعالية" وفيما تعبر الأولى عن “القيمة الموضوعية” تعبر الثانية عن ”القيمة الانفعالية” في أي نص..
ولعلنا في مناقشتنا للتواتر الكتابي والسمعي في القرآن الكريم نكون قد وضعنا الناحية الكتابية وجها لوجه أمام ما يقابلها؛ ألا وهو: اللغة "المنطقية" أو "الموضوعية"، بينما نكون قد وضعنا الناحية السمعية أمام مثيلتها "الانفعالية"، وكأنما التعبير المكتوب يكون كافيا للتعبير عن الناحية الموضوعية في النص، بينما النواحي "الانفعالية" فيه لا يمكن التعبير عنها إلا من خلال السمات "الصوتية" و"السمعية" للنص!.
__________
(1) اللغة لفندريس، 185 (هامش المدخل إلى علم اللغة ومناهج البحث اللغوي، د. رمضان عبد التواب، ص142).(1/109)
ونجد في بعض اللغات ،كالفرنسية، أن هناك بوناً شاسعاً بين اللغة المتكلمة واللغة المكتوبة، بحيث لا يتم التكلم إطلاقا بما تتم كتابته! ويمكن إيجاز الأمر وزيادته وضوحاً بالقول: إن عملية النطق بالمكتوب كثيراً ما تحمل معها انفصاما (مقصودا) في الترتيب المنطقي للجملة المكتوبة؛ بحيث يتحول ترتيبها المنطوق إلى شكل آخر مختلف تماما عنه في الترتيب المكتوب، ويتجلى الفرق بين اللغتين (المنطقية) و(الانفعالية) عندما نقارن اللغة المكتوبة باللغة المنطوقة، وهي الإشكالية التي كثيراً ما يعبر عنها بإشكالية "الفصحى" و"العامية".
وكمثال حيّ على عملية "إعادة الترتيب" التي تمر بها اللغة المكتوبة أثناء تحولها إلى الشكل المنطوق فإنك؛ وبدلاً من أن تتوجه إلى شخص ما باللغة الفصحى قائلا له: (يجب عليك المجيء سريعا) فإنك تخاطبه بالعامية قائلا له: (تعال بالعجل!).. الخ من الأمثلة، وتتجسد الاختلافات بين اللغتين "المكتوبة" و"المنطوقة" في فصل وفصم عُرى الترتيب المنطقي لأجزاء الجملة المكتوبة؛ وإعادة ترتيبها ،من ثمّ، وفق أولويات جديدة! فلا يعود فيها ذلك الترتيب المنطقي الذي تمليه قواعد النحو...الخ.
ولكي تتضح الفروقات بين هذا وذاك فلابد من التساؤل حول الغاية التي يسعى إليها الإنسان من وراء "إعادة ترتيب الجملة" بنقلها من شكلها المكتوب إلى شكلها الجديد المنطوق؟!
يمكن وصف الإجابة بأنها غاية في العمق؛ إلى جانب كونها غاية في البساطة!..
فالشكل الجديد (المنطوق) عادة ما يكون أكثر استجابة للمنطق الانفعالي المختزن في النفس!! ففي الشكل الجديد؛ لا يتم ترتيب الأفكار ترتيبا موضوعيا بل وفقا لأهميتها الذاتية والانفعالية للمتكلم ذاته؛ وأهمية العناصر المختلفة ،التي يدور الحديث عنها، بالنسبةِ له، ومن الأهمية النسبية لتلك العناصر مقارنة ببعضها بعضاً تكتسب عملية إعادة تشكيل اللغة ،بين المكتوب والمنطوق، جمالها ومنطقها وشرعيتها!!..(1/110)
إلا أن تلك العملية (إعادة ترتيب ألفاظ الجملة) ،وإن كانت مشروعة في اللغات في بعض الأحيان، ، فإن تلك الحاجة تنتفي وتفقد شرعيتها لدى تعاملنا مع نص واحد وحيد هو النص القرآني الكريم، حيث لا توجد هناك حاجة ،أصلاً، لإعادة الترتيب بغرض إبراز النواحي الانفعالية، فالنص القرآني يبرز النواحي الانفعالية بقدر ما يتوجب إبرازها، بحيث أن القارئ له لا يجد في نفسه ميلا لتلك العملية!!
التنغيم في اللغة!..
تعتبر اللغة ،بشكل عام، شكلا من أشكال التعبير عن درجة رقي مجتمع ما، لكن وأيا كان شكلها (اللغة) فهي لا تعبر عن الكمال في أدوات التواصل بين البشر، فاللغة في المجتمع البدائي غير المتحضر ،على سبيل المثال، تكون محدودة الألفاظ والتراكيب والخيال، ولا يكون لها من المرونة ما يسمح لها بالاتساع لكثير من فنون القول، وهي كثيرة المفردات فيما يتعلق بالأشياء المحسوسة والأمور الجزئية، قليلة الألفاظ التي تدل على المعاني الكلية، وكثيرا ما تخلو الألفاظ في المجتمع البدائي من الدقة؛ بحيث يكثر فيها اللبس والإبهام، وهي غالبا ما تعبر عن ضرورات الحياة اليومية، ولذلك كانت جملها قصيرة وروابطها قليلة، وتعتمد اعتمادا كبيرا على الإشارات اليدوية ولغة الجسم لإعطاء المعنى المقصود، حيث تعتبر الحركات والإشارات جزءا مكملا للغة المنطوقة لإيصال المعاني المراد إيصالها.(1/111)
وقصور اللغة عن التعبير عما في النفس ليس مقصورا على اللغات البدائية، حيث كثيرا ما ظهر هذا الأمر في المجتمعات الحديثة أيضا؛ وذلك حين تعجز اللغة عن حمل كافة الدلالات "الموضوعية" و"الانفعالية" التي يريد المتكلم إيصالها لمن يستمع إليه، عندها يقع المرء في حالة يصعب وصفها، وهي الحالة التي تزداد صعوبة إذا ما كان المتحدث مستعملا لجهاز الهاتف، أو إذا ما كان متحدثا إلى الآخرين في أجواء تسودها الظلمة!!؛ حيث يفتقد ساعتها القدرة على إكمال المعاني اللفظية بحركات جسده (1) ..
وقد تعرض”ابن جني” لمثل تلك الحالة حين قال: (وقال لي بعض مشايخنا رحمه الله: أنا لا أحسن أن أكلم إنسانا في الظلمة)؟! (2) .
__________
(1) أية رسالة اتصالية نحاول إيصالها للآخرين لها ثلاثة وجوه: الأول: هو: "معنى" أو "مضمون" الرسالة. والثاني هو الجانب "الصوتي" فيها (ارتفاعا وانخفاضا وتفصيلا للألفاظ عن بعضها.. الخ) والثالث هو "المرئي" ونقصد به (الحركات الجسمية التي يستخدمها المتحدث لتوضيح وإكمال رسالته) وقد وجد أن وصول رسائلنا وفهمها بنجاح من قبل الآخرين إنما يعتمد بنسبة: 7%، 38%، و 55% على كل من: جانب المضمون، الجانب الصوتي، والجانب المرئي لمرسل الرسالة على التوالي.. وهي علة إضافية تدفع باتجاه ترتيل القرآن وحسن أدائه حيث الترتيل هو عناية بالجانب الصوتي، الذي يتوقف عليه نجاح وصول الرسالة بنسة 38% في حال وجود جانب مرئي، ويتجاوز هذه النسبة ليصل إلى 80% في حال عدم وجود الجانب المرئي، كأن نستمع إلى شخص في الإذاعة مثلا، فنجاح رسالة هذا الشخص في الوصول للمستمعين تعتمد بنسبة تقترب من 80% على الجانب الصوتي لديه!.
(2) الخصائص 1/247، هامش المدخل إلى علم اللغة ومناهج البحث اللغوي، ص130، مرجع سابق)(1/112)
والحالة التي نحن بصددها، والتي تعني في جوهرها قصور اللغة ،بشكل عام، عن إيصال المضامين الموضوعية والانفعالية للآخرين تحتم علينا التعرف على بعض الوسائل التي يستخدمها الإنسان لإكمال الصورة اللفظية الناقصة، وهنا لابد لنا من التعرف على مصطلح مهم وهو "التنغيم" والذي يعني (رفع الصوت وخفضه في أثناء الكلام للدلالة على المعاني المختلفة للجملة الواحدة) (1) .
وبكلمات أخرى فإن "التنغيم" يعني تحميل الكلمات الملفوظات بشحنات انفعالية تحدد الوجهة التي يرمي إليها المتكلم، فنفس الجملة يمكن أن تستخدم للتعبير عن مجموعة من الأغراض، وما يميز غرض عن آخر هو التنغيم فقط!!..
مثال ذلك قولنا: (لا يا شيخ) وهو تعبير إذا ما أخذ بشكله الحيادي (الشكل المكتوب) فإنه يصلح للتعبير عن مجموعة متعددة من الأغراض، مثل دلالته على "النفي" أو "التهكم" أو "الاستفهام" وغير ذلك. كذلك فإن للتنغيم القدرة على التمييز بين الأغراض "الخبرية" عن "الاستفهامية" فنغمة الصوت وحدها هي التي تميز بين الأغراض اللغوية المختلفة!.
والتنغيم ،بتعبير أدقّ، هو إضافة ظلال للفظ ما (أو مجموعة الألفاظ) ليست موجودة فيه أصلاً!! بحيث تستطيع تلك الظلال (الصوتية) أن توجه اللفظ إلى اتجاهات معنوية جديدة! وأنت تحس هذا من نفسك إذا تأملته وذلك أن تكون في مدح إنسان والثناء عليه، فتقول: "كان والله رجلا!" فتزيد في قوة اللفظ "الله" وتتمكن في تمطيط اللام، وإطالة اللفظ بها وعليها، أي: رجلاً فاضلاً، أو شجاعاً، أو كريماً، أو نحو ذلك..
__________
(1) المدخل إلى علم اللغة ومناهج البحث اللغوي، د. رمضان عبد التواب، الطبعة الثانية،1985، ص106.(1/113)
ومن غرائب ما يضفيه "التنغيم" على اللفظ أنه يجعله مُحتمِلاً لوجهيه المتناقضين!!.. فأنت تقول: "سألناه فوجدناه إنسانا!". وتُمكّنُ الصوت بـ "إنسان"، فتستغني بذلك عن وصفه بقولك: إنسانا سمحاً أو جواداً أو نحو ذلك. وكذلك إذا ذممته ووصفته بالضيق قلت الشيء نفسه: "سألناه فوجدناه إنسانا!".. لكنك تزوي وجهك وتقطّبه!؟، فيغني ذلك عن قولك: إنسانا لئيما، أو لحِزا، أو مبخّلا، أو نحو ذلك (1) .
وقد ورد مثال ذلك في القرآن الكريم في قوله تعالى {ثم صبّوا فوق رأسه من عذاب الحميم * ذق إنك أنت العزيز الكريم}(الدخان:48-49) ومن الواضح أن التنغيم هنا أمر في غاية الحيوية لتبيين الغرض من الخطاب، والذي انصرف عن موضوعه الأصلي (التكريم) إلى غرض آخر مختلف تماما هو (السخرية)!..
ولعل من الأغراض الأساسية للترتيل أن تتضح أمثال هذه الأغراض على حقيقتها!!. لكن “التنغيم" ليس المؤثر الوحيد الذي يمكن إضافته -وإضفاؤه- على النص ليصبح أكثر تعبيرا عن الشحنة العاطفية والدفق الانفعالي المرافق للحدث! إذ يمكن إضفاء المزيد من الحيوية على اللفظ ليصبح أكثر ملامسة للمعنى؛ وذلك بتغيير نبرة الصوت، أو سرعته، أو بالتشديد على هذه الكلمة أو تلك دون غيرها من سائر الكلام!.
ولعل من الأغراض الأساسية لهذه الدراسة هو أن نبين ما للانفعال من أثر أساسي واضح في تبيين وتوضيح الأغراض الموضوعية للنص (القرآن الكريم على وجه الخصوص) فإظهار الانفعال (2) ليس شيئا زائدا يمكن التخلي عنه كما يعتقد البعض، بل إن إهماله يلغي جزءاً كبيرة من القيمة الموضوعية المتضمنة في النص ذاته..
__________
(1) الفقرات ما بين الأقواس من كتاب المدخل إلى علم اللغة ومناهج البحث اللغوي، د. رمضان عبد التواب، الطبعة الثانية،1985، ص106-107.
(2) بترتيل القرآن ترتيلا صحيحا.(1/114)
ويدلل "فندريس" على ملازمة الانفعال للتعبير عن الأفكار ذاتها بقوله: (فمن النادر عندما تتسابق في ذهننا (ونحن بصدد التعبير عن فكرة ما) عدة عبارات مختلفة، أن تكون إحدى هذه العبارات عقلية محضة، وأن تعبر عن استدلال منطقي بحت، أو أن تصور حقيقةً أو حادثاً ما في بساطته العارية من كل لباس، فإنني أرى حادثاً يقع أمامي فأصيح راثياً لحال صاحبه: (آه! المسكين!)، وأقابل صديقا لم أكن أتوقع لقاءه فأقول له: (أنت! هنا!)..الخ فهذه الجمل ذات قيمة انفعالية عالية، واضحة كل الوضوح، فإذا صيغت في لغة المنطق الجدلية صارت: (أرثي لهذا المسكين) أو (يدهشني أن أراك هنا).(1/115)
ومن هذا المنطلق فإن اللغة ،من وجهة نظر علماء النفس، لا يصح أن تدرس على أنها أداة عقلية فحسب، لأن الإنسان كما أنه يتكلم ليصوغ أفكاره، فهو يتكلم ليؤثر في غيره من الناس، وليعبر عن أحاسيسه ومشاعره وعواطفه، فهو يعبر باللغة عن نفسه كما يعبر عن آرائه، بل إنه يمكن القول بأن التعبير عن أية فكرة بتعبير ما (مهما كان ذلك التعبير شائعاً أو عامياً مبتذلاً) لا يخلو مطلقاً من العناصر الانفعالية، إلا إذا استثنينا اللغة والتفكير العلميين؛ حيث يجب أن تكون تلك اللغة معبرةً عن الفكرة المحضة؛ والحقيقة المجردة الخالية من الانفعالات النفسية.. فإذا ما قلت مثلاً: (حامد يضربُ علياً) بدا وكأنني أعبرُ ،بكل بساطة، عن علاقة بين شخصين يجمع بينهما حدث الضرب، وهذا كل ما يزودني به التحليل المنطقي المزعوم، لكن في الواقع إن مثل هذه الجملة لا يمكن مطلقا أن تكون مجرد عبارة منطقية يعبر بها عن علاقة ما؛ إذ أني أضيف إليها دائما ألوانا انفعالية، فضرب "حامد" لـ "علي" لا يمكن أن يكون عديم الأثر بالنسبةِ لي، إذ لو لم يكن له مساسٌ بنفسي لما قلته، لهذا فإن مثل هذه الجملة ذات قيمة انفعالية تختلف اختلافا كبيراً عن تلك القيمة التي تكون لها لو كنت قد قرأت تلك العبارة في كتاب من كتب التاريخ يدور فيه الحديث عن ملك ما اسمه "حامد" وملك آخر اسمه "علي" لا يعنيني من أمرهما شيء، ذلك أن القصص التاريخي موضوعي دائما، وهذا هو السبب الذي يجعل الدارس للتاريخ لا يتأثر بالفظائع التي يرتكبها البشر؛ لأنه يراها تقع في ماض سحيق، بعكس شعورنا ونحن نقرأ خبراً لجريمةٍ وقعت في مدينتنا!!.(1/116)
والعلاقة بين "الموضوعي" و"الانفعالي" (في القصص القرآني على سبيل المثال) تختلف عما هي عليه حين نقرأ قصة من قصص التاريخ، بل لا نجاوز الحقيقة إن نحن قلنا بوجوب ذلك الاختلاف! فتجريد الموضوع القرآني من ظلاله "الانفعالية" يحول القرآن الكريم إلى شيء آخر مختلف!!.. غير الذي أراده الله لنا:
{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}(الزمر:23)..
وحسب رأينا ،المتواضع، فإن قوله تعالى {يهدي به من يشاء} هو أمرٌ متعلق بقدرة قارئ القرآن على تلاوته حق تلاوته، والتي تقتضي منه تلوين مستوياته الموضوعية بمستويات انفعالية موافقة ومناسبة لها! مما يترتب عليه تحقق واكتمال التأثر بالقرآن عقليا وانفعاليا!.
وبكل ارتياح يمكننا القول بأن القرآن الكريم بطبيعته (من الناحية الشعورية الانفعالية) لا يقبل "الحياد" حتى وإن أتى موضوعه ،في كثير من الأحوال، بصيغة الماضي؛ مما يطال به أزمنة غابرة وأقواما سابقين، فالمطلوب منا حقا هو تفجير الدفق "الانفعالي" في نفس قارئ القرآن؛ بالتوازي مع قراءته الموضوعية له، ذلك أن كل ما يحتويه القرآن الكريم من أغراض موضوعية إنما يرتبط ،في نهاية المطاف، بمصير الإنسان ومآله، وهو ما يوجب علينا إيلاء الناحية الانفعالية فيه اهتماما يتناسب مع أهميتها، بحيث تجعلنا نتناوله تناولاً ،مُتجدداً، تتجلى فيه تلك القيمة بأصدق تجلياتها!!..(1/117)
وإذا ما رجعنا إلى النص القرآني الكريم لنحاول استشفاف شيء مما يتعلق بتلك الخاصية البشرية المتعلقة بـ "الميل البشري إلى اللغة الانفعالية" واستجابة القرآن الكريم بشكل مطلق لها؛ فسنجد عندها إن النص القرآني الكريم ،بالفعل، لم يتنزل ليلبي متطلبات الجانب الموضوعي وحسب، بل جاء مُشرباً ،بشكل عجيب، بالقيمة الانفعالية!! إلى الدرجة التي يمكن الإقرار معها بأن النص القرآني، وفي نموذج وحيد، قد أشبع ،بالفعل، كل أشواقنا وتطلعاتنا الشعورية والانفعالية!! فلا نجد في أنفسنا حاجةً لإعادة ترتيب النص؛ تلبية لجوانب الانفعال فينا كما نفعل مع النصوص الأخرى!؟؟.
"القيمة الموضوعية" و "القيمة الانفعالية"
لنعد الآن للسؤال الذي كنا قد طرحناه مع بداية موضوعنا هذا، ألا وهو: لماذا نرتل القرآن؟.. وللإجابة عن هذا السؤال دعونا نفترض أن أية لفظة يمكن أن تحتوي على نوعين من "المحتوى" أو "المضمون"..
الأول: المحتوى (أو المضمون) الموضوعي: وهو المعبر عن المعنى الموضوعي للفظ.. مثال: الكلمات: حب، كره، سماء، أرض، غيم، مطر، حرب.. الخ فكل كلمة منها تحمل معنى في ذاتها وتستدعيه لدى ذكرها وتدل عليه، ويمكن البحث عن المعاني في المعاجم اللغوية.
الثاني: المحتوى الانفعالي: ويحدد نوع ومقدار ما تثيره تلك الكلمة من انفعال وجداني في نفس المتلقي.. فكل كلمة من الكلمات السابقة تثير مشاعر الاطمئنان أو الانقباض.. الخ لدى القارئ، وتتناسب شدة تلك المشاعر مع القيمة الموضوعية التي يتضمنها اللفظ.(1/118)
ومن الناحية النظرية؛ يمكن للفظ ما أن يحمل قيماً موضوعية أو انفعالية إيجابية أو سلبية، فكلمة "الله، "حق" "رحمة" و"حب" تحمل مضامين تثير في النفس أحاسيس وجدانية انفعالية إيجابية مطمئنة ومريحة {ألا بذكر الله تطمئن القلوب} نظراً لما تحتويه من معانِ موضوعية إيجابية، بينما كلمات مثل: "شيطان" "باطل" "حرب" و"شر" تثير في النفس مشاعر وجدانية انفعالية سلبية (1) نظراً لما تحمله من معانٍ موضوعية سلبية.
بينما هناك نوع ثالث من الألفاظ التي تحمل مضامين موضوعية وانفعالية حيادية مثل حروف الجر على سبيل المثال، والتي لا تحتوي معنى تدل عليه بذاتها..
وعليه؛ فإننا نفترض هنا أن التلاوة الصحيحة للقرآن الكريم يجب أن تُفصِّل وتوضح وتظهر المستويات الموضوعية والانفعالية المختلفة بشكلٍ واضح.. وأن تعطي كل مستوىً موضوعي مستواه الانفعالي المناسب.. وذلك من خلال مستويات صوتية متباينة.
..
__________
(1) من الأمور العجيبة في هذا المجال ما أثبته العالم الياباني "ماسارو إيموتو" من أن بلورات الماء (بعد تجميده) تتأثر بالمشاعر الإنسانية، حيث قام "إيموتو" بأخذ عينات من الماء من مصادر مختلفة وقام بفحص بلوراتها فوجد أن شكل البلورة يختلف من مصدر إلى آخر، الغريب في الأمر أن شكل البلورة قد تأثر بمشاعر الإنسان الموجهة نحو الماء سواء أكانت إيجابية أم سلبية، فإن أنت رحت تقرأ على الماء أو تحدثه! بكلمات جميلة مثل: حب، تقدير.. الخ تصبح البلورة في غاية الجمال، بينما توجيه كلمات سلبية أو نابية للماء كأن تخاطبه بقولك: "أكرهك".. "سوف أقتلك".. الخ يجعل من شكل البلورة في غاية القبح.. وهذا الأمر مثبت وموثق من خلال مؤلفات وصور حقيقية قام المؤلف الياباني بنشرها وموجودة أيضا على شبكة المعلومات الدولية.(1/119)
فلا يستوي موضعٌ يُذكر فيه اسم الله وموضع يُذكر فيه الشيطان (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين).. وليس مقامٌ تٌذكر فيه الرحمة كمقامٍ يذكرُ فيه العذاب!!..
وقارئ القرآن لا يمكن له أن يكون حياديا أمام ما تعرضه الآيات، فلابد وأن يكون ذا موقفٍ واضحٍ تجاه ما يمر به من موضوعات، وهذا الموقف هو المسبب للانفعال نتيجة طرح مواقف ومستويات موضوعية متباينة.. وهذا الموقف الذهني والعقلي ناشئ أساساً عن عوامل داخلية في النص (وليست خارجه) ولابد لها أن تظهر في طريقة الأداء..
فكيف يمكن لمؤمن أن يكون حياديا تجاه هذه القصة على سبيل المثال؟؟(1/120)
{وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا * كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا * وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَرًا* وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا* وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا* قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً * لَّكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا* وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِن تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَدًا* فَعَسَى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِّنَ السَّمَاء فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا * أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا * وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا}(الكهف:32-42)
فكيف لقارئ القرآن أن يعبر عن عدم حياديته، وإعلان انتمائه للقيم المعروضة أمامه؟!
هنا يتضح لنا أن على قارئ القرآن تلاوته متأثرا به، وأن يظهر هذا التأثر في طريقة التلاوة ذاتها، فعليه أن يتأثر بآيات القرآن وعداً ووعيدا {ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا}(الإسراء:109) فيفرح ويسر لآيات الوعد كما في قوله تعالى:(1/121)
{لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (الأعراف:43)
ويحزن ويبكي لآيات الوعيد فزعاً ورهبةً وهولاً، كما في قوله تعالى:
{ وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ}(غافر:18)
وفي حديث ابن مسعود قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم (اقرأ عليّ القرآن. قلت: يا رسول الله؛ أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: نعم.. إني أحب أن أسمعه من غيري، فقرأت سورة "النساء" حتى أتيت إلى هذه الآية:{فكيف إذا جئنا من كلّ أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا}(النساء:41) قال:حسبك الآن. فالتفتّ فإذا عيناه تذرفان) (1) .
لقد اعتبر البعض التوازن بين الناحيتين الموضوعية والانفعالية للنص القرآني جزءا لا يتجزأ من الإعجاز فيه، ويوجد ذلك (أي الإعجاز) في إقناع العقل وإمتاع العاطفة، بما يفي بحاجة النفس البشرية تفكيرا ووجدانا في تكافؤٍ واتزان، فلا تطغى قوة التفكير على قوة الوجدان، ولا قوة الوجدان على قوة التفكير (2) .
وفي الصفحات القادمة سنتعرض لمجموعة من النماذج التحليلية لعدد من الآيات، والتي سنبين من خلالها تصاعد خط “القيمة الانفعالية” في النص المجيد، وترافقها مع تصاعد “القيمة الموضوعية” له..
نماذج تحليلية
نموذج للدلالة على
تأثر القيمة الموضوعية (المعنى) بالقيمة الانفعالية
(التلاوة وتنوع الأداء)
لنأخذ نموذجا للدراسة للدلالة على تباين المستويات الموضوعية في النص القرآني، وكيف أن التعبير عن هذا التباين من خلال التلاوة الصحيحة يؤثر في معاني الآيات، بحيث تصبح التلاوة أمراً جوهرياً، لا مجرد زينة شكلية..
وهو ما نجده في الآية الكريمة من سورة "آل عمران":
__________
(1) أخرجه البخاري وغيره.
(2) مباحث في علوم القرآن، مناع القطان، دار المريخ للنشر، 1988، ص301.(1/122)
{فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}(آل عمران:36)
ففي التفسير (أي لما ولدتها قالت على وجه التحسر والاعتذار يا رب إنها أنثى، قال ابن عباس: إنما قالت هذا لأنه لم يكن يُقبل في النذر إلا الذكور، فقبل الله مريم؛ قال تعالى {والله أعلم بما وضعت} أي والله أعلم بالشيء الذي وضعت، قالت ذلك أو لم تقله. {وليس الذكر كالأنثى} أي ليس الذكر الذي طلبته كالأنثى التي وُهبتها، بل هذه أفضل، والجملتان معترضتان من كلامه تعالى تعظيما لشأن هذه المولودة) (1) ..
__________
(1) صفوة التفاسير، ج1، ص198.(1/123)
لكن علامات استفهام ترتسم حول الجملتين الاعتراضيتين؛ وعلى من تعودان؟ خصوصا الآية الكريمة {وليس الذكر كالأنثى} وفي رأينا المتواضع فإن في الآية المذكورة تعميم يطال كلَّ ذكرٍ وكلَّ أنثى؛ وليست مخصصة لمريم كما قال بذلك البعض، ولو كانت من قوله تعالى (كما ذكر آنفا) لكان فيها شبهة التمييز ضد أحد الطرفين: الذكر والأنثى. وما نعتقده هنا أن الآية { ... قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ..} ليست جميعها من كلام أم مريم، بل جمعت الآية مستويين موضوعيين مختلفين عبر الأول عن كلام أم مريم، بينما اعترض كلامَها جملة تعقيبية من الله عز وجل{والله أعلم بما وضعت} والتي هي بمثابة مستوىً موضوعيٍ أعلى، والخطورة هنا هي في عدم تحديد الحدود الفاصلة بين كلام أم مريم وكلام الله، فإذا ما اعتقدنا بوحدة المستوى الموضوعي بين {والله أعلم بما وضعت} {وليس الذكر كالأنثى} (بوحدة القائل) أصبحت الآية وكأنها إقرار من الله عز وجل بعدم تكافؤ الذكر والأنثى، لكننا إذا ما رددنا {وليس الذكر كالأنثى} ليعود على أم مريم (أي إلحاقها بمستوى موضوعي يعود على أم مريم) فسيكون في ذلك الكثير من الإنصاف في فهم النص.
والأمر نفسه ينطبق على الآية الكريمة {وقالوا اتخذ الله ولدا، سبحانه}(البقرة:116) حيث تقع علامة "الوقف أولى" بعد كلمة "ولدا"، مما يعني أن التوقف اختياري، مع أولوية للتوقف، فإن لم يرد القارئ التوقف فعليه أن يغير في النبرة، وإلا تحولت كلمة "سبحانه" إلى قولٍ يعود على من اتخذ من دون الله ولدا!!(1/124)
وما يهمنا هنا هو أن نشير إلى ضرورة إخلاف نبرة القراءة بين المستويين المذكورين ليعبرا عن اختلاف المستويات الموضوعية التي تحدثنا عنها!.. فالآية {والله أعلم بما وضعت} تقرأ بطريقة تعبر عن مستوى موضوعي يليق بجلال القائل: وهو الله عز وجل، بينما {وليس الذكر كالأنثى} تقرأ بطريقة تعبر عن مستوى موضوعي آخر مختلف يتناسب مع المستوى الموضوعي لأم مريم.. وهكذا دواليك..
نموذج: انهيار مفاجئ في القيمة الموضوعية
بتأثير قيمة انفعالية مفاجئة!
لنتأمل معا الآية التالية:
{وضرب لنا مثلاً ،ونسي خلقه، قال من يحيي العظام وهي رميم}(يس:78)
إن “القيمة الموضوعية” في الآية السابقة كان بالإمكان أن تكتمل حتى لو جاءت الآية على النحو التالي (وضرب لنا مثلا، قال: من يحيي العظام وهي رميم) وهو نص كان بإمكانه أن يفي بغرض الإخبار؛ لو كان الإخبار ،فقط، هو كل ما قصد إليه القرآن من مرامٍ.
لكن ،وكما هو واضح، فإن “القيمة الموضوعية” ،التي هدفت الآيةُ إلى بنائها كلمةً بعد كلمة، ترافقت مع ،قيمة انفعالية متصاعدة.. لكن القيمة الانفعالية ،في حقيقة الأمر، جاءت سابقةً للقيمة الموضوعية، ولم تأتِ مترافقةً معها! وقد شكّلت {ونسي خلقه} نقطة الذروة للقيمة الانفعالية تلك!. بحيث يمكن ان نطلق عليها "نقطة انهيار مفاجئ"!!
وبهذا فإن “القيمة الانفعالية” التي أضافتها المفردتان {ونسي خلقه} قامت بعملية نسف مسبقة للقيمة الموضوعية الممثلة لحجة الخصم، حتى قبل أن يتم طرحها!! وكأنها جاءت لتولد لدى القارئ شعوراً بعدم جدوى الاستماع إلى بقية ذلك اللغو!..
وهنا فإن “القيمة الانفعالية” التي يحملها النص استطاعت أن تضيف ما لم يكن بالإمكان إضافته؛ حتى من خلال المزيد والمزيد من الألفاظ والعبارات؟!.
نموذج عدم الاستقرار النفسي
الناشئ عن عدم الاستقرار العقائدي!(1/125)
يرسم القرآن الكريم خلاصة الشعور بعدم الاستقرار النفسي، الناشئ عن عدم الاستقرار العقائدي وذلك في قوله تعالى:
{ومن الناس من يعبد الله على حرف، فإن أصابه خير اطمأن به، وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه، خسر الدنيا والآخرة}(الحج:11)
فإذا ما رحنا نحاول تحليل الآيات السابقة تحليلاً موضوعيا-انفعاليا فسنجد حينها أن المفردات التي تعتبر مفاتيح التعبير الموضوعي في الآية هي: (يعبد، حرف، خير، اطمأن، فتنة، انقلب، وجهه، خسر.. وكذلك المقابلة بين "الدنيا" و"الآخرة")..
أما “القيمة الانفعالية” في الآية فترتسم نتيجة الجمع بين (يعبد) (ولها قيمة انفعالية إيجابية) وكلمة (حرف) (ولها قيمة انفعالية شبه حيادية) فتكون القيمة الانفعالية الكلية (عبادة على حرف) وهي قيمة انفعالية سلبية!.
وتنتج القيمة الانفعالية الكلية كذلك من الجمع بين مفردة (خير) (ولها قيمة انفعالية إيجابية) و(فتنة) (ولها قيمة انفعالية سلبية)، ومقابلتهما مع مفردة (اطمأن) (لها قيمة انفعالية إيجابية) و المفردة (انقلب) (لها قيمة انفعالية سلبية) وهي ألفاظ ترسم تذبذباً انفعالياً صاعداً وهابطاً!.. وتزداد "القيمة الانفعالية السلبية الإجمالية" للتعبير المشار إليه بإضافتها إلى “القيمة الانفعالية” المتولدة عن كلمة (وجهه) (والتي تمثل قيمة إيجابية أساساً، لأن الوجه موضع تشريف من الإنسان) فإذا أضيفت “القيمة الانفعالية” الخاصة بالوجه إلى ما قبلها تضاعفت “القيمة الانفعالية الكلية” السلبية!.
كذلك فإن الجمع بين القيم الانفعالية للمفردات (خسر) (الدنيا) و(الآخرة) يعبر عن قيمة شعورية انفعالية عارمة، حيث تعبر عن الخسران الشامل والمبين.
نموذج السخرية؛ والدهشة، وعدم التصديق!
{ ... باباً من السماء ... }!!..
يشخص القرآن الكريم حالة العناد والمكابرة لدى الكافرين وذلك في قوله تعالى:(1/126)
{ولو فتحنا عليهم باباً من السماء فظلوا فيه يعرجون، لقالوا: إنما سكّرت أبصارنا، بل نحن قوم مسحورون}(الحجر:15)
ويمثل الشطر الأول من الآية {ولو فتحنا عليهم باباً من السماء} ميلا ناحية “القيمة الموضوعية” على الرغم من أنه لا يخلو من قيمة انفعالية تتمثل في الكلمات (فتحنا) (بضمير المتكلم العائد على الذات الإلهية) و(بابا) و(السماء) وهي تمثل (مجتمعةً) مقدار ما يمكن أن يتحقق من الاستجابة الإلهية.وهي مفاتيح سوف تحقق قيمة انفعالية مضاعفة لما سيأتي بعدها.
{فظلوا فيه يعرجون} لا تعتبر هذه الصورة جزءاً من الصورة الخبرية (والخط الأساسي للرواية) التي يريد القرآن أن يخبرنا بها، بل هي صورة جانبية تعقيبية؛ الغرض منها تحقيق ذروة “القيمة الانفعالية” لما سيأتي بعدها! وهي توضح أن الاستجابة الإلهية (بفتح "باب في السماء) لم تظلْ في حيز الخيال، أو الوهم، أو النظرية، بل أصبحت حقيقة واقعة ينطلقون إليها ليعاينوها ويختبروها بصورة عملية، فها هم قد انطلقوا إلى ذلك الباب فهم فيه يعرجون!.. لكن “القيمة الانفعالية” التي تريد الآية تحقيقها لم تصل ،حتى هذه اللحظة، إلى ذروتها بعد، وإنما ستأتي عندما تتواصل بقية الآية فنصل إلى: {لقالوا: إنما سكّرت أبصارنا}! {بل نحن قوم مسحورون}!!..
وتتحقق الدهشة هنا (التي تمثل إحدى قمم وذُرى القيمة الانفعالية الكلية) وذلك نتيجة المقابلة بين الشطر الأول من الآية والشطر الذي نحن بصدده هنا: {إنما سُكرت أبصارنا}..(1/127)
وتظل وتيرة "القيمة الانفعالية" تتذبذب صاعدة هابطة لتصل ذروتها الكلية وذلك عندما نراهم يتراجعون عن حجتهم تلك، وكأنما أدركوا عدم مناسبتها.. ولننظر إلى تلك الكلمة الجميلة "بل" وهي المفردة التي تمتلك (منفردة) قيمةً موضوعية وانفعالية حيادية، لكنها هنا ،وفي سياق الآية، تساهم في رسم “القيمة الانفعالية” المراد رسمها وإبرازها بما يفيد: العجب والدهشة من حججهم!!.. إذ يقومون هنا هم بأنفسهم بنقض حججهم السابقة خيطاً خيطاً وذلك من خلال استخدام التعبير "بل" والذي يقوم باستدراك ضعف الحجة السابقة بما يفيد نفي (وإن شئت فقل: نسف) الحجة السابقة لاعتقادهم بعدم كفايتها!..
لكن الخاتمة الجميلة للآية {بل نحن قوم مسحورون} تنحو بـ ”القيمة الانفعالية” من جهة "العجب" و"الدهشة" إلى ناحية أخرى هي "الاستهزاء" و"السخرية" فحجتهم الجديدة لم تكن سوى ادعاء أجوف بعدم الحول والقوة، فهذه القوة التي تتحكم في تصرفاتهم ومصائرهم ليست معلومة المصدر! (حسب ادعائهم).. بل هي سحر غير مفهوم.
نموذج الضيق والقلق
{وجرين بهم بريح طيبة}!...
ويستمر القرآن الكريم في تصوير الأحاسيس والمشاعر البشرية في كل لحظاتها (ولعل أعلى نوع من أنواع التناسق تنبهوا إليه (أي العلماء) هو هذا التناسق النفسي بين الخطوات المتدرجة في بعض النصوص، والخطوات النفسية التي تصاحبها)( ).
ونجد القرآن الكريم هنا يصورها في لحظات الضيق وساعات الخطر:
{هو الذي يسيركم في البر والبحر، حتى إذا كنتم في الفلك، وجرين بهم بريح طيبة، وفرحوا بها، جاءتها ريحٌ عاصفٌ، وجاءهم الموجُ من كل مكان، وظنّوا أنهم أُحيط بهم، دعوا الله مخلصين له الدين}(يونس:22)(1/128)
وهذه الآية عجيبة في إيقاعاتها النفسية، فهي ترسم المشاعر والانفعالات البشرية وهي تضيق شيئاً فشيئاً، فهي ،لعجبها وغرابتها، لم تبدأ بوصف حالة الإنسان ابتداء من موطن الخطر ذاته، بل ابتعدت عنه قليلاً لتصوره ، بدايةً، وهو في حالته الطبيعية، فابتدأت به وهو يسرحُ ويمرحُ ،سواء في البر أو البحر، لتقفز قفزةً موضوعيةً أخرى؛ جاءت مترافقةً مع قفزةٍ انفعاليةٍ إضافية، تتمثل في نقل مسرح الأحداث، من سعة البر والبحر إلى محدودية المكان.. إلى الفلك المحمول؟!. وهنا تبدأ “القيمة الانفعالية” بالتكوّن، فنحن قد انتقلنا من عموم الإنسانية إلى خصوص نوعيةٍ محددةٍ منها، وهم تلك الفئة التي لا تعرف الله إلا وقت الشدّة!.
ولاحظْ الانتقال العجيب في الآية؛ من ضمير المخاطب الذي يخاطب العام {حتى إذا كنتم..} إلى ضمير الغائب الذي يخاطب الخاص.. {وجرين "بهم"} فالخطاب القرآني هنا حذِرٌ من التعميم، فهذه الحالة يقع فيها بعض الناس لا كلهم.. ولعل القرآن الكريم أراد من قلب الضمير (من المخاطب إلى الغائب) {"كنتم" في الفلك، وجرين "بهم"}!! مجاراة عنصر الحركة في النص! فبابتعاد الفُلْكِ براكبيها يبدأ النص بالإشارة إليهم كغائب مبتعد لا كحاضر مخاطب؟!..
{وجرين بهم بريحٍ طيبة، وفرحوا بها ... } ومع هذا الجريان السلس، والريح الطيبة المبشرة بكل خير، تتحقق حالة الفرح لديهم.. لتبدأ الآيات بالإعداد لرسم ذروة الانفعال الآتي، فيتضاعف الإحساس بالضيق إذا ما سبقته السعة! فبعد كل تلك الأحاسيس الإيجابية نجد قمةً من قمم الانفعال؛ والمتمثلة بهبوب عاصف الريح، لكن تلك القمة لم تكن الذروة! فها هو الموج يجيئهم من كل مكان ليقذف بهم إلى كل مكان!! وتتحقق ذروة الانفعال عندما تستطيع الكلمات أن تحمل معها وصفاً دقيقاً لانتقال حالة الاضطراب من محيطهم إلى دخيلة نفوسهم.. وعند هذه اللحظة تتحقق القناعة لديهم {أنهم قد أحيط بهم}!..(1/129)
وهنا نجد القيم الانفعالية "المنتشرة" و"المنبثة" في ثنايا الآية سرعان ما تتجمع وتتحد في "قيمة انفعالية كلية" تهيئ المسرح لعرض "القيمة الموضوعية" المرجوة، والمتمثلة في قوله تعالى {دعوا الله مخلصين له الدين} فلولا ما رسمته الكلمات السابقة من قيم انفعالية جزئية (سرعان ما اتحدت في قيمة انفعالية كلية) لما أمكن فهم ذلك الموقف المتمثل بانطلاق ألسنتهم بالدعاء والتضرع إلى الله!!..
نموذج الاطمئنان والسكينة والرضى!
{يا أيتها النفس المطمئنة ... }
ومن أجمل القيم الانفعالية في القرآن الكريم ما تصوره الآيات من معاني الاطمئنان والرجوع إلى الله وذلك في قوله تعالى: {يا أيتها النفس المطمئنة، ارجعي إلى ربك راضية مرضية، فادخلي في عبادي وادخلي جنتي}(الفجر:27-30)
ولو دققنا النظر في الآية المشار إليها لوجدنا مجموعة من القيم الانفعالية التي لن تكون حصيلتها إلا سيلاً من الاطمئنان والسكينة، وتتمثل القيمة الانفعالية الكلية نتيجة تعاضد القيمة الانفعالية لكل من: [النفس (حيادية)، المطمئنة (إيجابية) "النفس المطمئنة" (إيجابية)، إرجعي (إيجابي نوعاً ما)، ربك (إيجابي)، "إرجعي إلى ربك" (إيجابي جداً)، أدخلي (إيجابي، بعكس أخرجي)، عبادي (إيجابي ولنتوقف عند نسبة العباد لله) "أدخلي في عبادي" (إيجابي جداً)، جنتي (إيجابي جداً)، "وادخلي في جنتي" (إيجابي جداً)!
بالإضافة إلى أسلوب النداء الذي افتتحت به الآية، "يا أيتها النفس" ولتكون المحصلة الانفعالية إيجابية جداً، والتي تساهم في تحقيق الغرض الموضوعي للآية.. وهو بث السكينة والاطمئنان!!
نموذج الخسران والفقد والعدم!
{فجعلناه هباءً منثوراً}!!..
أما عن معاني الخسران، والفقد، وعدم الجدوى؛ فيتحدث القرآن الكريم واصفا أعمال المجرمين بقوله تعالى:
{وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثوراً}(الفرقان:23)(1/130)
فقد جاءت كلمة "هباء" لتمثل نقطة ارتكاز أساسية يبلغ التعبير الانفعالي عندها ذروته وغاية مداه، ثم ليتم تجاوز ذلك الحدّ عندما أضيف إليه اللفظ "منثورا"! وبذا فقد تحقق للنص الغنى في المحتوى الموضوعي والانفعالي معاً!.
وبمزيد من التدقيق في النص السابق نلاحظ أن جمع وضم الألفاظ إلى بعضها بعضاً يؤدي إلى حصيلتين الأولى: موضوعية؛ والأخرى انفعالية، ونجد أن ذروة الشعور بالقيمة الموضوعية تكتمل عند كلمة "هباء"، بينما تكون ذروة الإحساس بـ“القيمة الانفعالية” عند كلمة "منثورا"!.
وهنا نود ان نشير إلى ضرورة أن يشعر قارئ القرآن الكريم بهذه القيم الموضوعية والانفعالية المتصاعدة والهابطة باستمرار، في رحلة مستمرة لبناء قيم موضوعية وانفعالية كلية.. تمر على قلب قارئ القرآن مطلقةً كل مشاعر الخشوع والعودة إلى الله..
هل القرآن عربيّ؟!
ما أردنا قوله في هذا البحث؟
كثيرون يفهمون "عروبة القرآن الكريم" وكأنها رديف لمعناها القومي.. مع أن تطبيق مفهوم "النسبية" الذي تحدثنا عنه آنفاً يجعل للعروبة معانٍ إضافية، دون نفي المعنى القريب بالطبع..
ومن المداخل الجديدة للعروبة والتي تتيحها أمامنا "ظاهرة النسبية" يمكننا أن نحل لغز مجموعة كبيرة من الكلمات الواردة في القرآن الكريم (تناهز المائة كلمة) والتي اعتبرها البعض غير عربية!..
فهل هي غير عربية حقا؟!..
هذه الدراسة تحاول الإجابة على هذا السؤال!!
هل القرآن عربيّ؟!
تمهيد
"هل القرآن عربي" مادة توقعنا (حين نشرها) أن تثير نوعا من الجدل، نظرا لطبيعة صياغة العنوان، حيث هال البعض أن يصاغ عنوان البحث في صيغة استفهامية؛ حيث بدا الأمر وكأننا نضع علامات استفهام حول حقيقة أكيدة من حقائق القرآن الكريم ألا وهي عروبته!..(1/131)
وهنا يهمنا أن نوضح بأن الاستفهام هنا لا يعني النفي بقدر ما يمثل دعوة للتوقف قليلا للتأمل وإعمال الفكر، مستأنسين بالآية الكريمة {أإلهٌ مع الله} والتي لا يقصد بها النفي وإنما تأكيد حقيقة عدم وجود آلهة إلا الله.
إلا أنه وعلى الرغم من كل ذلك فإن المسألة الجوهرية في هذا الجدل لازالت قائمة، وتتمثل في حقيقة أن هناك الكثير من المواقف المسبقة التي يحملها الناس تجاه أمور معينة في حياتهم. وعلى الرغم من اختلافنا الواضح مع من يريد "تجميد النص" إلا أننا لا نشك لحظة في طهارة الدوافع؛ وحسن النوايا، ولا نشك لحظة أن رغبة من يخالف إنما هي نابعة (في غالب الأحيان) من حرص شديد للحفاظ على هذا النص الكريم من عبث العابثين!!.
إن المسألة الأكثر أهمية هنا هي أن أسلوب الدفاع المستميت ،من قبل البعض، عما هو قائم؛ والميل نحو رفض كل جديد؛ إنما هو منهج يتناقض تناقضاً تاما مع روح القرآن الكريم، الذي يمتلك طبيعة خاصة هي أحوج ما تكون إلى التفكر المستمر المفضي إلى الاكتشاف الدائم.
والعنوان هنا (هل القرآن عربي) يختصر المسألة التي نطرحها هنا، والتي نؤكد من خلالها على ضرورة الإعمال الدائم للنظر والتفكر المستمر في النص. من هنا كانت رغبتنا في المحافظة على هذا العنوان الذي بدا للبعض "إشكاليا" ليس عنادا، ولا مكابرة؛ بل لأنه يختصر كل ما أردنا قوله، ويعبر عن الإشكالية التي أردنا أن نفضي بها إلى القارئ العزيز، ولم يكن العنوان ،على الإطلاق، ترفاً فكرياً أو محاولة لجذب الانتباه!.
ما أردنا قوله هنا هو أن الحقائق البديهية في القرآن الكريم (عروبة القرآن كمثال) تحتاج إلى مزيد من التفكر والتدبر، لا لنفي بداهتها، بل بسبب كونها تمتلك وجوها أكثر تعقيدا مما تبدو عليه للوهلة الأولى، وأردنا أن نلفت الانتباه إلى أننا لو تعاملنا مع القرآن الكريم على أساس أنه نص عادي؛ بسيط، وسهل.. فماذا يتبقى من إعجاز النص؟!..(1/132)
إننا لو تعاملنا مع القرآن الكريم بمثل تلك الروح (التبسيط المخل) فسنكون ،ساعتها، قد ظلمنا النص القرآني؛ فيما يبدو وكأنه ادعاء من قبلنا بأن ما أراد الله عز وجل أن يوصله إلينا من خلال القرآن هو ،فقط، ما فهمناه نحن منه بالفعل!!.
فمن يمكنه أن يدعي مثل هذا الادعاء؟!..
إن مفهوم "العروبة" في القرآن الكريم هو أحد تلك الأمثلة التي تبدو للناظرين بصورة معينة، فإن رحنا نتأمله بدا بصورة أخرى تثير الإعجاب، وحاولنا ،من خلاله، إيراد وجهة نظرنا حول بعض الألفاظ غير العربية؟!! التي ادعى البعض وجودها في القرآن الكريم.. ودعونا من هنا نبدأ!..
عروبة القرآن في أقوال المفسرين
تعددت كتب التفسير منذ تنزّل القرآن الكريم وإلى الآن، لكنَّ سمةً بارزةً تظهرُ واضحةً للمقارِن بينها، ألا وهي اعتمادُ متأخِرِها على متقدِمِها في كثيرٍ من الوجوه، بحيث يمكن للباحث أن يلحظ بعضاً من التكرار في تلك الكتب إذا ما راح يبحث عن تفسير لمسألةٍ بعينها، وهذا ما سنلحظه عندما نتنقل من تفسيرٍ لآخر لنتعرف على الكيفية التي تناول المفسرون معاني العروبة في القرآن من خلالها.
وقد تناول الإمام القرطبي الآيةَ الكريمة {إنا أنزلناه قرآناً عربيّاً لعلكم تعقلون}(يوسف:2) وذلك بقوله: (يجوز أن يكون المعنى: إنا أنزلنا القرآن عربيّاً ...
أي مجموعاً. و"عربيّاً" ، أي يُقرأُ بلغتِكم يا معشر العرب) (1) .
أما الآية الكريمة: {وكذلك أنزلناه حكماً عربيّاً}(الرعد:37) فقد تشابهت الأقوال في تفسيرها، وقد تناولها البعض بالقول: (وكما أنزلنا عليك القرآن فأنكره بعض الأحزاب، كذلك أنزلناه حكماً عربيّاً، وإنما وَصَفَه بذلك لأنه أنزله على محمد (صلى الله عليه وسلم) وهو عربيّ. وقيل: وكما أنزلنا الكُتُبَ على الرسل بلغاتهم؛ كذلك أنزلنا إليك القرآن حكماً عربيّاً) (2) ..
__________
(1) تفسير القرآن العظيم القرطبي، مجلد5، ص105.
(2) تفسير القرآن العظيم للقرطبي، مجلد5، ص285.(1/133)
أما عن معنى العروبة الوارد ذكرها في سورة "طه" {وكذلك أنزلناه قرآناً عربيّاً وصَرَّفنا فيه من الوعيد}(طه:113) فقد تناولها المفسرون بقولهم: (أي بلغةِ العرب) (1) ..
أما عن معاني العروبة في سورة "الزمر": {قرآناً عربيّاً غير ذي عوج لعلهم يتقون}(الزمر:28) فقد قال عنها بعضُ علماءِ التفسير: (أي حال كونه قرآناً عربيّاً لا اختلافَ فيه بوجهٍ من الوجوه، ولا تعارض، ولا تناقض) (2) .
أما عن معاني العروبة في سورة "الشورى": {وكذلك أوحينا إليك قرآناً عربيّاً}(الشورى:7) فقد قيل فيها: (أي وكما أوحينا إليك وإلى من قبلك هذه المعاني؛ فكذلك أوحينا إليك قرآناً عربيّاً بيّناه بلغة العرب) (3) .
وعن معناها الوارد ذكره في سورة "الزخرف" {إنا جعلناه قرآناً عربيّاً لعلكم تعقلون}(الزخرف:3) قال بعض المفسرين: (أي أنزلناه بلسان العرب، لأن كلّ نبيّ أُنزل كتابُه بلسانِ قومه. قاله سفيان الثوري وغيره. قال مقاتل: لسانُ أهل السماء عربيّ) (4) .
أما الآية الكريمة {وهذا كتابٌ مصدّقٌ لساناً عربيّاً لينذر الذين ظلموا}(الأحقاف:12) فقد جاء في تفسيرها: (وهذا القرآن كتابٌ عظيمُ الشأن، مصدقٌ للكتبِ قبله، بلسانٍ عربيّ فصيح، فكيف ينكرونه وهو أفصحُ بياناً، وأظهرُ برهاناً) (5)
وجاء فيها كذلك قولهم: (أي فصيحا بيِّنَاً واضحاً) (6) ..
__________
(1) تفسير القرآن العظيم للقرطبي، مجلد6، ص162.
(2) صفوة التفاسير، مرجع سابق، ج2، ص78.
(3) تفسير القرآن العظيم للقرطبي، مجلد8، ص7.
(4) تفسير القرآن العظيم للقرطبي، مجلد8، ص57.
(5) صفوة التفاسير، مرجع سابق، ج3، ص195.
(6) تفسير القرآن العظيم، مرجع سابق، ج4، ص200.(1/134)
وإذا ما رحنا نتملّى فيما سبق من تفسيرٍ للآيات التي تحدثت عن معنى العروبة في القرآن الكريم، فسنجدُها جميعاً قد تحدثت عن المعاني القريبة المباشرة للفظة "عربيّ" والتي تطال: جنسية النبيّ محمد صبى الله عليه وسلمِ، الجنسية اللغوية للعرب، وتنزّل كلّ كتاب سماوي بلسان القوم الذين نُزّل إليهم، وتنزل القرآن ،من ثم، بالعربية..
لكن.. هل هذا كله هو ما أراد القرآن أن يخبرنا به؟..
ولو كان هذا هو كل ما أريد الإخبار به؛ فلم كل هذا التكرار في شأن حقائق بسيطة ومباشرة يدركها الإنسان العادي، حتى وإن كان طفلاً في السادسة من عمره؟!!..
ليسمح لنا القارئ الكريم بأن يظلّ هذا السؤالُ مُعلقاً دون إجابة إلى أن نتعرف على حال العرب والعربيّة قبل تنزل القرآن؟!..
العربُ والعربيّة قبل تنزّل القرآن
بعد تناولنا لمفهوم "العروبة" في القرآن الكريم ،حسب أقوال بعض المفسرين، يمكننا الآن أن نحدد لأنفسنا قاعدةً آمنةً نرتكز عليها خلال رحلتنا في التعامل مع الآيات الكريمة السابقة؛ وتسمح لنا ،في الوقت نفسه، بمزيدٍ من الاستقراء لمعاني "العروبة" في القرآن الكريم. ولنفترض بدايةً أن هذه القاعدة يمكن أن تنص على ما يلي: (إن البحث عن معانٍ إضافية لألفاظ القرآن الكريم يجب ألا يكون هدفه ،بأي حال من الأحوال، نفيَّ المعاني الأخرى الواردة في التفاسير المختلفة، ولا نفيَّ المعاني القريبة التي يذهب إليها الذهنُ ابتداءً، بل إن هدفه هو استدعاء المزيد من المعاني البعيدة، التي نظن أن اللفظ القرآني يمكن أن يحتملها ويتسع لها) وهو ما قصدناه لدى حديثنا عن "ظاهرة النسبية في القرآن الكريم"..
وإذا ما استقر بنا الأمرُ على هذا المبدأ؛ جازَ لنا حينها أن نسألَ أنفسَنا: وهل للعروبة في القرآن معانٍ أخرى يمكن أن تذهب إلى ما هو أبعد من معانيها القريبة التي تعرّضنا لها؟!...(1/135)
لنحاول الإجابة على هذا التساؤل من خلال استعراضٍ بسيطٍ لما كان يعنيه كلٌ من مصطلحيّْ "العروبة" و"العربيّة" على أرض الواقع قبل تنزّل القرآن الكريم.. حيث كان العربُ قبل تنزّله قد بلغوا مبلغاً من الفصاحةِ والبلاغةِ لم يُعرف في تاريخهم من قبل؛ فكانوا (قد أطالوا الشِّعْرَ وافتنّوا فيه، وتوافى عليه من شعرائِهِم أفرادٌ معدودون، كان كلُّ واحدٍ منهم كأنه عصرٌ من تاريخه، بما زاد في محاسنهِ وابتدعَ من أغراضِه ومعانيه، وما نفضَ عليه من الصبغِ والرونق) (1) .
ولم تكن حالةُ اللغة العربيّة في ذلك الوقت حالةً عاديةً؛ بل تجاوزت ذلك لتكون في أفضلِ حالاتِها حتى في العصور التي تلت ذلك، والتي بلغ مجدُ العرب فيها شأواً بعيداً (ولما بُعث فيهم محمد(صلى الله عليه وسلم) وخاطبهم بالقرآن كانوا في مستوى بيانيٍ رفيع؛ بل كانوا في أرفع مستوى في البيان والفصاحة والبلاغة؛ لم يصله أحفادُهم في عصورِ الأدبِ في عهد الأمويين والعباسيين والأندلسيين والمماليك) (2) .
والعلم ،بتاريخ العرب وأدب لغتهم (قبل البعثة النبوية الشريفة) يزيدنا معرفةً بحقيقة ما كانت عليه تلك اللغة من رفعةٍ وسموّ، إذ وصلت العربيّة إلى قمة التهذيب في لسانِها، وجمعت خيرَ لهجاتِها من أسواقِ الأدبِ والمفاخرة بالشعر والنثر، حتى انتهى مصبُ جداول الفصاحة، وإدارة الكلام بالبيان؛ في لغة (3) قريش.
__________
(1) إعجاز القرآن والبلاغة النبوية، مرجع سابق، ط3، ص205.
(2) البيان في إعجاز القرآن، مرجع سابق، ص71.
(3) يجدر أن يكون واضحاً أن كثيراً من المواضع التي وردت فيها كلمة "لغة" في هذه الدراسة إنما قصدنا من ورائها معنى "اللهجة"، وليس ما نتداوله اليوم من دلالتها على لغة كاملة مستقلة كاللغة العربية،الانجليزية،والفرنسية.الخ.(1/136)
ولعل كلّ تلك المسيرة إنما كانت تهيئةً للنبأ العظيم الذي يوشك أن ترتجّ له أنحاءُ الجزيرة العربيّة، ومُرتكزاً لإظهار إعجازه وارتفاعه (وكل من يبحثُ في تاريخ العرب وآدابهم؛ وينفذُ إلى ذلك من حيث تنفذُ الفطنة، وتتأتى حكمةُ الأشياء؛ فإنه يرى كلّ ما سبق على القرآن من أمرِ الكلامِ العربيّ وتاريخه إنما كان توطيداً له، وتهيئةً لظهوره، وتناهياً إليه، ودُربةً لإصلاحهم به، وليس في الأرض أمةٌ كانت تربيتها لغويةً غير أهل هذه الجزيرة... ثم كان لهم من تهذيب اللغة، واجتماعهم على نمط من القرشية يرونه مثالاً لكمال الفطرة، وأخْذِهم في هذا السمْتِ ما جعل الكلمة نافذةً في أكثرِهم؛ لا يصدّها اختلافٌ من اللسان، ولا يعترضُها تناكرٌ في اللغة، فقامت فيهم بذلك دولةُ الكلام، ولكنها بقيت بلا ملك حتى جاءهم القرآن) (1) .
لكن هل يعني ذلك كمالاً مطلقاً للعربيّة في ذلك الوقت؟.. وهل عنى تطابقاً كاملاً بين لغة العرب (أو لغاتهم بتعبير أصح) وبين لغة القرآن الكريم التي تنزّل بها فيما بعد؟!!..
عروبة؟.. لكن بأي معنى؟!
للإجابة على هذا السؤال لابد من تناول هذا الموضوع من نفس الزاوية التي بدأنا منها، زاوية تفترضُ: "إمكانية تعدد المعاني للفظِ الواحد"، وإذا ما اتخذنا لأنفسنا هذا المنحى؛ فإننا سنجد لزاماً علينا التفريق بين معنيين مختلفين من معاني العروبة:
الأول: هو العروبة بمعناها "البشري" "القومي" وهو معنىً "نسبي" أقرب ما يكون إلى معاني الكمال البشري، لكنه ،وبدون أدنى شك، لم يكن نموذجاً مطلقاً للكمال؟!!.
__________
(1) إعجاز القرآن والبلاغة النبوية، مرجع سابق، ط3، ص205.(1/137)
أما المعنى الثاني: فهو العروبة بمعناها "القرآني"، والذي يمثلُ ،حسب اعتقادنا، الحدّ "المطلق" من حدود المعاني الممكنة لهذا اللفظ (1) ، وهو وفق هذا التصور يبتعد ابتعاداً كبيراً عما نعرفه من المعاني النسبية للعروبة.
ووفق هذا التصنيف؛ فإن العربيّة الأولى (والتي كانت موجودةً قبل البعثة المحمدية) لم تتطابق تطابقاً كاملاً مع لغة القرآن، سواءً من ناحيتي الكمّ (عدد المفردات) أو الكيف. ويُعتبرُ القرآنُ الكريم النموذج الأشدّ وضوحا في تجسيده للحالة الثانية (اللغة بمعناها المطلق) إذ امتازت هذه اللغة (العربية القرآنية) ،دون غيرها، بخاصية الإعجاز في ذاتها، سواء أعلمنا بحقيقة ذلك التميز أم لم نعلم!.
من هنا؛ يمكن لنا أن نفهم ماهية السرّ الذي اكتنف مسألة وقوف العرب (وهم أهل العربيّة) أمام الظاهرة القرآنية وهم عاجزين مبهوري الأنفاس؛ لا يدركون لتلك الظاهرة تعليلاً أو تفسيراً، وقد كانت حالةُ العجزِ التي أصابتهم مؤشراً ذا مغزى؛ لا على عجز الإنسان فحسب، بل على عجز اللغة أيضاً: (وعجْزُ العربِ عن معارضةِ القرآن مع توفر الدواعي؛ عجزٌ للغةِ العربيّةِ في ريعانِ شبابها، وعنفوان قوتها)!! (2) ..
__________
(1) إن جوهر ما نتحدث عنه هنا هو: ما يمكن أن نطلق عليه "النسبية"، والتي تعني اشتمال اللفظ الواحد على مجموعة من المعاني المتدرجة في قيمتها، والتي يمكن أن تتراوح بين الحدّ الأدنى والحد الأعلى من حيث المعنى، ويمكن الرجوع إلى المعاني المحتملة للفظ في في معجمات اللغة.
(2) مباحث في علوم القرآن، مرجع سابق، ص292.(1/138)
من هنا يجب الحذر من اعتقادٍ خاطئٍ مفاده أن القرآن الكريم كان إعجازاً وتعجيزاً للعرب وحدهم، فحقيقة الأمرِ أنه كان إعجازا وتعجيزا لهم وللغتهم في الوقت ذاته، والتي إن قدّر لها ،في ذلك الوقت، أن تبلغَ حدّ الكمال في الاستجابة لأغراض التعبير البشري؛ إلا أنها كانت ،بلا شك، قاصرةً عن الاستجابة لتحدي الإتيان بنصٍ يماثلُ نص القرآن الكريم أو يشابهه!!.
وصحيحٌ قولنا: إن لغة القرآن الكريم كانت عربيّة، لكن الأكثر صحةً أنَّ لغة القرآن الكريم كانت (في تفاصيلها الدقيقة) بعيدةً كلّ البعد عن عربيّة العرب في ذلك الوقت، وكثيراً ما غابت هذه الحقيقة عن أذهاننا نتيجةً لعدم تفريقنا بين وجهين من وجوه العربيّة هما: العربيّة البشرية (ببعدها النسبي)، والآخر الرباني (بأبعاده المطلقة). والأخير يعني وجود كيان متميز للعربيّة يختلفُ تمام الاختلاف عن العربيّة بوجهها البشري المعروف.(1/139)
والعربيّة بمعناها المطلق تعني وجهاً آخر هو أشدّ مقدرةً وأكثر تكاملاً وجمالاً (1) ...؟!.
ليس اختلافاً في التركيب فحسب؟!
لقد اعتقد البعض أن تميّزَ "عربيّة القرآن" (بحدودها المطلقة) عن "عربيّة العرب" (بحدّها النسبيّ) إنما يكمن ،فقط، في الروح التركيبية (الكيفية) التي ميزت النص القرآني على الدوام، والتي: (لم تُعرف قط في كلامٍ عربيٍّ غير القرآن، وبها انفرد نظمُه، وخرج مما يُطيقه الناس، ولولاها لم يكن بحيث هو، كأنما وُضع جملةً واحدةً ليس بين أجزائِها تفاوتٌ أو تباين، إذ تراه ينظرُ في التركيبِ إلى نظمِ الكلمةِ وتأليفها، ثم إلى تأليف هذا النظم ... وخرج معنى تلك الروح صفةً واحدةً هي صفة إعجازه في جملة التركيب) (2) ..
__________
(1) لعلنا في اعتبارنا لوجود عربية بأبعادٍ مطلقةٍ تتجاوز العربية البشرية نكون قد ذهبنا نفس المذهب الذي ذهب إليه أبو القاسم حاج حمد في "العالمية الإسلامية الثانية" حين طبق نفس المعايير على التاريخ الإنساني فقال: (مفهوم الحركة في التاريخ البشري لا تستوي خصائصه المرحلية في القرآن على التعاقبات الطبقية المتولدة عن بعضها عبر منهجية الصراع كما هو الحال في تجربة الحضارة الأوروبية. بل تستوي كأشكال دائرية بدءا من الشكل "الفردي" إلى الشكل "القومي" إلى الشكل "العالمي". أي أن التطور البشري يمر عبر هذه المراحل الثلاث. المرحلة الأولى هي المرحلة الآدمية، والمرحلة الثانية هي المرحلة الإسرائيلية، والمرحلة الثالثة هي المرحلة العربية خارج معنى اللفظ القومي (أي خارج ما يعنيه المعنى الاصطلاحي للعروبة). (العالمية الإسلامية الثانية، لأبي القاسم حاج حمد، دار المسيرة، ص105).
(2) إعجاز القرآن والبلاغة النبوية، مرجع سابق، ط3، ص325.(1/140)
ونتيجةً لتشابه (1) أوليات التركيب (الحروف والكلمات) بين وجهي العربية (الرباني والبشري)؛ فقد نشأ عن ذلك اعتقادٌ ،نحسبه خاطئاً، مفاده أن اللغتين في كلتا الحالتين هي واحدة؛ وبأن الفارق الوحيد بين الوجهين إنما يكمن في الناحية التركيبية فحسب، وموطن الخطأ في ذلك هو اعتقادهم بأن: (اللغة التي نزل بها القرآنُ معجزاً قادرةٌ ،بطبيعتها، أن تحتمل هذا القدر الهائل من المفارقة بين كلامين: كلامٌ هو الغايةُ في البيان فيما تطيقه القوى البشرية ،وهو كلام العرب، وكلامٌ يقطع هذه القوى البشرية ببيانٍ ظاهر المباينة له من كلّ الوجوه، ويعجزها عن معارضته، وهو كلام الله...) (2) ...
ووفق ذلك الاعتقاد ،الذي لا نؤيده، فقد تم القفز عن حقيقة التشكيل المعجز للغة القرآن بذاتها، وتميزها عن الوجه الآخر للعربيّة (ببعدها البشري) سواءً من حيث الكم أو الكيف..
__________
(1) حيث الحروف هي نفس الحروف، والكلمات والأساليب تكاد تكون هي نفسها.
(2) البيان في إعجاز القرآن، مرجع سابق، ص91.(1/141)
وتكشف هذه المفارقة (الاعتقاد بتطابق العربيّتين) جانباً من الجوانب التي لم يتم التعامل معها بالقدر الكافي من الاهتمام، حيث لم يتم التمييز بين النصّين ،القرآني والبشري، إلا من حيث اختلاف النواحي التركيبية والكيفية بينهما؛ دون الالتفات إلى حقيقة أن تلك الفوارق لا تقتصر على الناحية (التركيبية) فحسب؛ بل تشتملُ ،كذلك، على فوارق تمس الجوانب الكميّة (من حيث عدد الألفاظ ونوعيتها). وتمس كذلك الجوانب النوعية (من حيث الأساليب) (1) في كلٍّ منهما..
من هنا يتضح لنا عدمُ دقة ما تم تداوله؛ من أن القرآن الكريم قد جاء فعلاً بلغةٍ كانت موجودةً ،بكل تفاصيلها، في حياة العرب! ويتضح لنا كذلك ضرورة إعادة النظر في تلك المقولة لتفيد أن "عربية القرآن هي عربية العرب لكن على وجه الإجمال".
إننا نعتقد بأنّ دراسة تلك الحقيقة بشكل مفصل يمكن أن يُرسّخَ حقيقةَ وجود فوارق بين العربيّة التي تنزّل بها القرآن الكريم وبين عربيّة العرب، وأن تميّزَ كلامِ الله عزّ وجلّ عن كلام العرب آنذاك لم يكن كامناً ،فقط، في جوانبه البيانية والتركيبة، بل يُضاف إلى ذلك تميزه من حيث النواحي الكمية أيضا. وبغرض البرهان على تلك الحقيقة فلنعدْ إلى نفس السؤال: هل تنزّل القرآن الكريم ،حقاً، بلغةٍ كانت موجودةً ،بكل تفاصيلها، في حياة العرب؟!..
أية عربيّة تلك التي كانت قبل القرآن؟!
__________
(1) نشير هنا إلى بعض ما جاء به القرآن الكريم وكان مخالفاً لما تعارفت عليه العرب من أساليب اللغة (وكم من قراءة أنكرها بعض أهل النحو أو كثيرٌ منهم ولم يُعتبر إنكارُهم، كإسكان {بارئكم} و {يأمركم} وخفض {والأرحام} ونصب {ليجزي قوما} والفصل بين المضافين في {قتل أولادهم شركائهم} وغير ذلك)( مباحث في علوم القرآن، مرجع سابق، ص191).(1/142)
من البَديهِيّ القول أن القرآن الكريم قد تنزّل باللغة العربيّة، وأن العربيّة هي لغةُ العرب، وما من عاقل ينكرُ تلك الحقيقة!.. لكنْ دعونا نتساءل عن: ماهيّة اللغة التي نكتب أو نتحدث بها اليوم؟.. وعندها سوف يجيبنا البعض: إنها العربيّة الفصحى!!. ولو أعدنا السؤال مرةً أخرى؛ لردّ علينا البعض: نحن نتكلم بلغة القرآن؟!..
فإن كنّا نحن اليوم نتكلم باللغة التي تنزّل بها القرآن الكريم؛ فهل كان العرب قبل البعثة المحمدية يتكلمون نفس اللغة؟!.
قبل مجيء الإسلام كان العربُ قبائلَ متفرقةً، وكانوا يتكلمون لغةً يطلقون عليها "العربيّة" لكنّ القبائلَ العربيّةَ المختلفةَ كانت تمتلك ألسنةً تختلفُ فيما بينها، والاختلاف بين لسان قبيلة وأخرى كان يمكن أن يضيق أو يتسع، فيتشابه لسانٌ مع آخر، حتى تكاد تكون الفوارق بينهما لا تذكر، وقد يتسعُ الاختلافُ بين اللسانين حتى ليُظَنَّ أن واحداً منهما لا يمُتُ للعربيّة بصلة! ...
لكنّ ذلك التباين بين ألسنة القبائل العربية ولهجاتها لم يمنع من أن يكون لها (للقبائل) من يتصدرُ صفوفها، فكانت قريشُ هي قلبُ العرب في شبه الجزيرة العربيّة، وكان للسانها (أي لهجتها) الصدارة بين ألسنة العرب جميعاً، فكأنها القاسم المشترك بين تلك الألسنة جميعها.
لغة مشتركة
ولقد هيأت عدةُ عوامل دينية وتاريخية لقريش وللسانها أن يكونا على مثل تلك الأهمية، وكان من أهم تلك العوامل: جوارُ البيت، وسقايةُ الحاج، وعمارةُ المسجد الحرام، والإشرافُ على التجارة.. لأجل ذلك؛ فقد أُنْزِلت لهجةُ قريشٍ بمنزلةِ الأبِ للغات العرب جميعاً.. ولم يكن ذلك الإنزال ليتمّ بغير ما سندٍ من خصائص امتازت بها لغةُ قريشٍ ذاتُها، فقد كانت قريش أفصح العرب ألسنةً، وأخلصهم لغةً، وأعذبهم بياناً، وقد ارتفعت (قريش) عن لهجاتٍ رديئةٍ اعترضت في مناطق العرب؛ فسَلِمَتْ بذلك لغتُهم؛ بل أصبحت قاسماً مشتركاً يجمع شتاتَ العرب في ذلك الوقت..(1/143)
وقد كان للعامل الديني أبلغَ الأثرِ في جعلِ لغةِ قريشٍ لغةً مشتركةً لكل القبائل العربيّة؛ لكنه لم يكن عاملاً وحيداً في تشكيل تلك الأهمية، فالعامل الاقتصادي ،كذلك، كان له دورٌ هام: إذ (كان القرشيون يتمتعون بسلطانٍ اقتصاديٍ كبير؛ لأنهم كانوا من أمهرِ العناصر العربيّة وأنشطِها، وفي يدهم جزءٌ كبيرٌ من تجارة الجزيرة العربيّة، وقد أتاح لهم هذا النشاطُ التجاريُّ ثراءً كبيراً؛ بحيث تسنى لهم احتضان الدين.. الأمر الذي أعطاهم سلطاناً سياسياً قوياً. لهذا كله فقد كانت اللغةُ القرشيةُ أقوى اللغاتِ أثراً في تكوّن اللغة العربيّة المشتركة) (1) .
__________
(1) المدخل إلى علم اللغة ومناهج البحث اللغوي، د. رمضان عبد التواب، الطبعة الثانية،1985، ص168 بتصرف.(1/144)
ويتحدث علماء اللغة (1) عن "عوامل قيام اللغات المشتركة"، ويُرجعون ذلك إلى: التفوق السياسي؛ والديني؛ والاقتصادي؛ والأدبي؛ والاجتماعي.. ويضربون لذلك مثلاً باللغة العربيّة، فقد انقسمت اللغة العربيّة منذ أقدم عصورها إلى لهجاتٍ كثيرةٍ، تختلفُ فيما بينها في كثيرٍ من الظواهر الصوتية والدلالية، كما اختلفت في مفرداتها وقواعدها؛ تبعاً للقبائل المختلفة التي تَتَحِدُ ظروفُها الطبيعيةُ والاجتماعيةُ؛ أو حسب تباين تلك الظروف، وهم يعتقدون ،أي علماء اللغة، بأن بروز لغةٍ مشتركةٍ (كلغةِ قريش) بين تلك القبائل؛ إنما جاء نتيجةً لفرص الاحتكاك الكثيرة، من تجاورِ تلك القبائل، وتجارةٍ فيما بينها، وتَنَقُلِها في طلب الكلأ والمرعى، أو تجمعها في مواسم الحج، والمعاملات التجارية في الأسواق، واللقاء في الحروب الأهلية والغزوات وأيام العرب، وما إلى ذلك.. وعندما اشتبكت تلك اللهجات في صراعٍ لغويٍ؛ كان النصر فيه للغةٍ مشتركةٍ استمدت أبرزَ خصائِصِها من لهجةِ قريش؛ تلك اللهجة التي تفوقت على سائر اللهجات الأخرى، فأصبحت لغةَ الأدب؛ بشِعْرِه ونثره، ولغةَ الدين، ولغةَ السياسة والاقتصاد.
ومن الأهمية بمكان أن نذكر هنا أن لسانَ قريش إنما كان الأقرب (من بين ألسنةِ العرب جميعاً) إلى مفهومنا الحاضر حول "العربيّة الفصحى" بحيث باتت لغة قريش تعتبر (على وجه الإجمال) رديفاً للغة العربيّة، ولعل تلك الأصالة اللغوية ،التي حافظ عليها لسانُ قريش، ترجعُ في كثيرٍ من أسبابِها إلى الظروف الجغرافية التي عاشت عليها قريش، فقد ترعرعت بوادٍ غيِر ذي زرعٍ، مكنّ لها المحافظةَ على أصالةِ اللغة، فلم تفقد لغةُ قريش ما تفقده اللغاتُ ،عادةً، من طبائع لغاتها بالاختلاط مع الأقوام الأخرى..
__________
(1) المدخل إلى علم اللغة ، مرجع سابق، ص167.(1/145)
من هنا؛ وكما أن قريشاً قد مثّلت القلبَ النابضَ والعاملَ المشترك بين القبائل العربيّة جميعها؛ فقد مثلّ لسانُها الحدّ الأدنى الذي أمكن للقبائل العربيةِ أن تجتمع عليه، ومثلَّ في الوقت ذاته الحدّ الأعلى مما يمكن تسميته باللغة العربيّة لكن ببعدها "الإنساني" و"البشري"..
وهنا يتأكدُ لنا واضحاً ما ذهبنا إليه من أن تنزّل القرآن الكريم بلغة قريش؛ إنما يُقصد به ،في حقيقة الأمر، القول: (على الأغلب) ولا يعني انطباق لغة قريش على اللغة العربيّة الفصحى انطباقاً كاملاً (أو العكس) يؤكد هذا الأمر ما ذكره ابن عبد البر في "التمهيد": (قول من قال: نزل القرآن بلغة قريش، معناه عندي: "في الأغلب"؛ لأن لغةَ غيرِ قريشٍ موجودةٌ في جميع القرآن، من تحقيقِ الهمز ونحوه، وقريشُ لا تهمز)! (1) .
نعم بلغة قريش... ولكن؟!
إذنْ فلسانُ قريش، كان اللسانَ الأقربَ للعربيّة الفصحى التي نعرفها اليوم، والتي يمثلها القرآنُ الكريمُ خيرَ تمثيل، لكنّ هذا التقارب الكبير بين لغة قريش واللغة العربيّة الفصحى (التي تنزّل بها القرآن الكريم فيما بعد) يجب ألا ينسيَنا حقيقةَ أن لغة قريش، وعلى الرغم من اقترابها الكبير من اللغة العربيّة بمفهومها المعروف لنا اليوم إلا أنهما لا تتطابقان مع بعضهما تطابقاً كاملاً! بل ينبغي التشديد هنا على حقيقة أن القرآن الكريم عندما تنزّل لم يأتِ بما كان موجوداً عند قريش وحدها؛ بل جاء ،أيضا، ممثلاً للعديد من لهجات العرب وألسنتها، وقد مُثِلت تلك اللهجات في القرآن الكريم بالعديد من مفرداتها وألفاظها؛ لكن بتفاوتٍ كبيرٍ بين هذه اللغة وتلك، وقد كانت لهجةُ قريش الأوفر حظاً من بين لهجات العرب جميعاً، وما لم يكن موجودًا في لغة قريش كان موجوداً عند غيرها من العرب، وهكذا كان.
__________
(1) البرهان للزركشي، (هامش المدخل لعلم اللغة، للدكتور رمضان عبد الوهاب، ص58).(1/146)
لغات (1) العرب والعربيّة الفصحى
عندما نطلقُ هذه التسمية (أي: لغة الفصحى) على اللغة العربيّة فإن ما نقصده هو ذلك اللسان الذي نزل به القرآن الكريم، والذي جاء به الحديث الشريف، والشعر الجاهلي كذلك، وهو اللسان ،عينه، الذي لا نزال ،حتى اليوم، نتخذُ منه لسانَ أدبٍ وعلمٍ ودين..
وقد تُدعى اللغةُ الفصحى في كثيرٍ من الأحيان، بـ "القرشية" لغلبة خصائص قريش عليها. كما تُسمى أحياناً أخرى بـ "الحجازية" وذلك لأن عامةَ القبائل الحجازية لم تكن تختلفُ لهجاتُها عن لهجةِ قريشٍ في شيءٍ يُذكر..
لكن هل العربيّة الفصحى التي تجمعنا اليوم هي لغة قبيلةٍ معينةٍ من قبائل العرب؟.. والجواب هو بالنفي، فعربيّتنا الفصحى اليوم ليست لهجةَ قبيلةٍ بعينها، بل هي مزيجٌ لطيفٌ من اختيارٍ أنيقٍ لخصائص لهجاتٍ عربيّةٍ كثيرةٍ، أهمها؛ القرشية (الحجازية) والتميمية، وقد كان مما تميّزت به لغةُ قريشٍ وأهل الحجاز أنهم كانوا لا ينبرون (أي: لا يهمزون) في كلامهم، وذلك عكس ما كانت عليه القبائلُ النجدية؛ كقبيلة "تميم".
ويلاحظُ ،كذلك، أن تميماً كانت تميلُ إلى تفخيمِ الأصواتِ وتضخيمِها، على حين كانت قريش تميلُ إلى ترقيقِها، وهذا الاختلاف أثرٌ من اختلاف البيئتين البدوية والحضرية، ففي لغة أهل الحجاز كانت كلمة "ساق" تُنطق (بالسين) بينما تلفظ في لغة تميم : صاق (بالصاد) وقد جاءت الفصحى لتتوافق مع لغة أهل الحجاز ولتستقر على "ساق" في لفظها.
__________
(1) عندما نطلق مصطلح "لغة" هنا فإننا نقصد المعنى الذي كان سائداً قديماً، ويمكن أن نطلق عليه (اللسان) كذلك، وهو مصطلحٌ يقابلُ في معناه مصطلح "اللهجة" المتداول في أيامنا، ولا نقصد به اللغة بمعناها المعاصر.(1/147)
وبعد هذا الاستطراد حول مفهوم "العربيّة الفصحى" وعلاقته باللهجات (اللغات) العربيّة التي كانت موجودةً قبل تنزّل القرآن؛ فإننا (وابتداء من هذه النقطة) يمكننا أن نستقر على حقيقة وجود وجهين مختلفين من وجوه اللغة العربيّة.
الأول: وهو العربيّة ببعدها المطلق وبمعناها الغيبي القرآني.
أما الآخر: فهو العربيّة ببعدها النسبي وبمعناها البشري، القومي، والإنساني..
ومن الواضح لنا الآن أن لهجات العرب جميعِها ،والتي كانت موجودةً زمن تنزّل القرآن، إنما هي عبارة عن أجزاء من كلّ واحدٍ يمثل المعنى الأشمل للعروبة، بتفاوت في كِبَرِ تلك الأجزاء أو صغرها.
عودةٌ إلى الأصل؟!..
إن ما أصبح واضحاً لنا الآن هو أن القرآن الكريم عندما تنزّل على محمد(صلى الله عليه وسلم) إنما كان يعيدُ التلاحم للغة العربيّة بواقعها التجزيئي القبلي والبشري الذي كان سائداً آنذاك؛ وذلك تمهيداً لإعادتها إلى صورةٍ هي أقربُ إلى أصلِها القرآني، ذلك التلاحم الذي أفلح ،فيما بعد، في القضاء على عصبية اللسان عند قبائل العرب. وهناك دلائلُ كثيرةٌ تشيرُ إلى أن اللغة العربيّة التي تنزّل القرآن الكريم بها؛ إنما كانت رابطاً جامعاً بين اللهجات التي كانت موجودةً آنذاك، حيث صارت تلك اللهجات فيما بعد ("عناصر لغوية" تنتسب إلى قبائل معينة وقد دخلت اللغة الموحدة، وأصبح لها مستوىً من الفصاحة مقررٌ ومعروف) (1) ...
ومن الثابت أن القرآن الكريم كان انتقائياً في تعامله مع تلك اللغات (اللهجات) إذ لم تكن لغات العرب متساويةً في حجم مساهمتها في الكيان اللغوي الجديد (لغةِ القرآن)؛ إلا أن مساهمة لغة قريش كان لها اليد الطولى في هذا المجال؛ إلى الدرجة التي صحّ معها القول أن القرآن الكريم قد تنزّل بلغة قريش!. والعلماء يذكرون أن لأكثر هذه اللغات في القرآن الكريم الكلمة والكلمتين إلى الكلمات القليلة!!.
__________
(1) فقه اللغة في الكتب العربيّة، د. عبده الراجحي،1974 ص110.(1/148)
لكن ،وحسب رأينا، فإنّ العبرةَ التي يجب استقاؤها ،من وراء تمثيل اللغات (اللهجات) العربية المختلفة في لغة واحدة ،هي لغة القرآن، لا تكمن (أي العبرة) في عدد الألفاظ التي تم استقاؤها من لغةٍ بعينها، بل في دلالة ذلك الاستقاء!! فالدلالة هنا واضحة؛ وتذهب بنا إلى أنّ الكيان اللغوي الجديد (عربيّة القرآن) إنما هو كيانٌ لغويٌ جامعٌ؛ وهو أعمُّ وأشملُ من كلّ ما كان موجوداً قبله.
ويمكننا الافتراض أن عمليةُ الدمج التي تمت بين العناصر اللغوية الخاصة بالقبائل العربيّة في لغةٍ واحدةٍ (هي لغة القرآن) لم يكن يعني ،بأي حالٍ من الأحوال، مجرد وراثة لغة القرآن لألسنة العرب؛ وذلك عبر جمعها في لسانٍ واحد، وإنما يعني أن اللغةَ الجديدةَ قد جاءت لترثَ الأصلَ الأول؛ الذي انبثقت عنه كلّ تلك اللغات منذ قديم الزمان؟!.
بين النسبي والمطلق: نتائج أولية؟!
مما بسطناه آنفاً حول الحدّ النسبي للعروبة (ألسنة متعددة) والحدّ المطلق لها (لسان واحد) يمكننا أن نخلص إلى النتائج الأولية التالية:
1- عندما تنزّل القرآنُ الكريم بالعربيّة فقد كان هناك بوناً شاسعاً بين العربيّة التي جاء بها وبين العربيّة (البشرية) التي كانت سائدة آنذاك، فلم تكن لغةُ القرآن الكريم واحدة من تلك اللغات بعينها، كما أنها لم تكن مجرد "مجموعٍ جبريٍ جامدٍ" لتلك اللهجات في كيانٍ لغويٍ جامعٍ جديد!!.
2- عندما نتحدث عن عروبة القرآن وعربيّته، فنحن لا نقصد مجرد الجمع الجبري للهجات العربيّة التي كانت موجودةً في ذلك الوقت، إذ إن فِعْلَ القرآن الكريم وتأثيره لم يقتصر على مجرد إعادة توحيدِ اللغات (اللهجات) العربية في لغةٍ واحدةٍ؛ بل تعداه إلى استكمال جوانب النقص في تلك اللغة (كما سنرى لاحقا).(1/149)
3- مما يؤكد أن الوضع اللغوي العربيّ قبل تنزّل القرآن لم يكن هو الأصل في اللغة، وأن عربيّةَ القرآن وحدها كانت هي الأصل الذي يتوجب التمسك به دائماً وأبداً؛ أنه وبمجرد استقرار اللغة العربيّة ،بمفهومها القرآني، انتفت الحاجةُ إلى الرخصة التي تسمح بتداولِ لغةٍ جزئيةٍ أقلَّ جودة! وقد تمثلت تلك النقلة فيما قام به عثمان بن عفان رضي الله عنه عندما أمر بكتابة المصحف الشريف على حرفٍ واحدٍ فقط (1) ، وتركت القراءة بالأحرف الستّة الأخرى، مما يستبينُ معه أن القراءة بالأحرف السبعة (2) ليست واجبة، ولو أوجب رسولُ الله(صلى الله عليه وسلم) على الأمة القراءة بها جميعاً لوجب نقلُ كلّ حرفٍ منها نقلاً متواتراً تقوم به الحجّة.
__________
(1) مما يروى أن عثمان بن عفان رضي الله عنه قد جمعَ الناسَ على مصحفٍ واحدٍ وقراءةٍ واحدة، وقد قامَ بإرسال نسخٍ منها إلى كلّ أفق من آفاق دولة الإسلام، واحتبس بالمدينة نسخةً واحدةً هي مصحفه المسمى "الإمام"، ثم أمرَ أن يحرقَ ما عدا تلك النسخ من صحيفةٍ أو مصحف. وقد أجمع الصحابة رضوان الله عليهم على تأييد صنيعه، وتَلَقّتْ الأمةُ ذلك بالطاعة.
(2) يجب التأكيد هنا على أن القراءات السبع (بل العشر) كلها متواترةٌ تقوم بها الحجة، أما الشاذة فهي أربع قراءات غير متواترة ولا تقوم بها حجة، مع التأكيد مرة أخرى على حقيقة أن القراءات السبع لا تعني الأحرف السبعة التي نحن بصددها هنا، وأنّ اللفظ "سبعة" هنا إنما هو من قبيل التشابه فقط.(1/150)
4- بالإضافة إلى مهمته الأساسية المتمثلة في توحيد الدين الإنساني؛ فلم يكن عجباً أن يكون للقرآن الكريم هدفاً آخر ألا وهو توحيد اللغة الإنسانية (1) ً! تلك المهمة التي ابتدأها بتوحيد اللهجات العربيّة ذاتها، وذلك بتوسيع القاسم المشترك فيما بينها، وليتجاوز لغةَ قريشٍ إلى لغةٍ أعمّ وأشمل تجمع بين لغات العرب، وليجعلَ ذلك المفهوم مُنطلقَه نحو توحيد البشرية كلها تحت لواء العروبة القرآنية، والتي جاءت لتعلن (إنما العربيّة اللسان) فقد حطم هذا المفهوم ما كان سائداً من معانٍ جزئيةٍ للعروبة، فحوّلها عن معناها القبلي البشري إلى معناها الديني الرباني، والذي يتيحُ الفرصةَ لكلِّ من يتعلمُ لسانَ القرآن الكريم أن يكون عربيّاً خالصاً!.
والآن...
فلعلنا نكون قد أوضحنا أن اللغة التي جاء بها القرآن الكريم لم تكن متطابقةً مع لغةٍ من اللغات العربية التي كانت سائدةً آنذاك تمام الانطباق، لكنها كانت تتشابه معها ،مجرد تشابه، وانفردت عربيّة القرآن عن عربيّة العرب في كونها لغةً واحدةً موحدةً غير مجزأة، بعكس الواقع اللغوي الذي كان سائداً آنذاك.
لكن هل اقتصر دور القرآن الكريم على فعله المحلي؛ والذي تمثل في توحيد أشتات وفروع اللغة العربيّة، والتي كانت أجزاؤها متناثرة بين القبائل العربيّة المختلفة؟..
ولو كان القرآن الكريم قد اقتصر دوره على ذلك الجمع لأشتات العربية؛ فهل يصلحُ ذلك كشاهدٍ على حقيقة اختلاف العربيّة القرآنية عن العربيّة البشرية؟..
لتبيان حقيقة الدور (العالمي) الذي قام به والأثر الذي أحدثه القرآن الكريم في مجال استكمال حقيقة اللغة العربيّة؛ فعلينا أن ننتقل إلى زاويةٍ جديدةٍ، نحاول من خلالها إلقاءَ شعاع إضافي من الضوء على هذا الموضوع؟! لكنه شعاع آت من خارج الدائرة العربية هذه المرة، فماذا تراه يكون؟!!..
ظاهرة مثيرة.. ووجهة نظر تحاول الاقتراب؟!!
__________
(1) كما سنرى في الصفحات القادمة.(1/151)
لو اقتصر دورُ القرآن الكريم على توحيد اللهجات العربيّة في إطارٍ لغوي جامعٍ فما أشبه ذلك بأفعالِ البشر!.. ولقد ذكرنا ،فيما مضى، أن القرآن الكريم ،وفي سبيل استكمال العربيّة لمعناها المطلق.. قد قام ،بداية، بما يمكن أن نطلق عليه (عملية تجميع محلية) لأشتات اللهجات العربيّة، وذلك بهدف إرجاعها إلى أصلها الذي كانت عليه قبل أن تتفرق إلى لهجات. ومع تنزل آيات القرآن الكريم أمكن ملاحظة ظاهرةٍ مثيرةٍ أطال العلماء التوقف عندها، وقد أكدّت تلك الظاهرة حقيقة أن القرآن الكريم لم يقتصرْ دوره على عملية الجمع المحلية لأشتات اللغة العربية. وقد تمثلت تلك الظاهرة في مجموعة من الألفاظ الغامضة التي حفل بها القرآن الكريم، والتي لم يعتدِ العربُ على استخدامها! وقد شكلت تلك الألفاظ ظاهرةً فريدةً تباينت تجاهها الآراء؛ واستعصت على كل تفسير مقنع! وقد عدّ العلماء من تلك الألفاظ من غير لغات العرب أكثر من مائة لفظة، اعتقدوا أنها ترجعُ في أصولها إلى لغات الفرس والروم والنبط والحبش والبربر والسُريان والعبران والقبط!.(1/152)
ومن أمثلة تلك الألفاظ: "برهان" وهي لفظةٌ حبشية (1) "كاهن" وهي لفظةٌ عبرية (2) ، "قلم" وهي لفظةٌ يونانية، و"زيت" وهي لفظةٌ آرامية (3) .
وفي محاولة من قبل البعض لتقديم تفسيرٍ لوجود تلك الألفاظ في القرآن الكريم فقد ذهب إلى أنها إنما (وردت في القرآن؛ لأنه لا يسد مسدّها إلا أن تُوضع لمعانيها ألفاظٌ جديدة)! (4) .. وهذا التعليل (الذي يحاول تفسير وجود تلك الكلمات في القرآن بعلّة افتقار العربيّة إلى ما يسد مسدّها في العربية) هو طرحٌ غير جاد!، وغير موفق! حسب اعتقادنا.. فكيف بلغةٍ غنيةٍ اصطفاها الله عزّ وجل لتحمل كلماته وآخر رسالاته أن تعجز كلّ ذلك العجز؟!..
تعليلٌ غريب؟!...
__________
(1) اللغة الحبشية هي واحدة من لغات الفرع الجنوبي للغة الساميّة، والذي يضم العربيّة الشمالية، و العربيّة الجنوبية، وقد نشأت اللغات الساميّة في الحبشة نتيجة لهجرة عربيّة جنوبية من جزيرة العرب إلى شرق أفريقيا. (مدخل إلى علم اللغة، مرجع سابق، ص92-93)
(2) اللغة العبرية هي إحدى اللهجات الكنعانية، تعلمتها مجموعة من الآسيويين عندما هاجروا إلى أرض فلسطين، فاكتسبوا لهجة كنعانية سائدة في فلسطين، وذلك في القرن الثاني عشر قبل الميلاد، وقد ظلت العبرية لغة الحياة اليومية في هذه المنطقة حوالي ستة قرون، إلى أن حلت محلها لهجات آرامية في نفس المنطقة، وقد ارتبطت اللغة العبرية بالدين اليهودي بعد أن انتهت من الاستخدام في الحياة اليومية. (نفس المرجع السابق، ص88).
(3) اللغة الآرامية هي واحدة من اللغات التي يجمعها الأصل الساميّ، وهي معروفة على مدى القرون الثلاثين الماضية، وليس هناك لغة آرامية موحدة، بل تنوعت في كلّ فترة زمنية تنوعاً بعيداً، وكان منها: آرامية الدولة، السريانية، ولهجات آرامية أخرى حديثة. (نفس المرجع السابق، ص90)
(4) إعجاز القرآن، مصطفى صادق الرافعي، طبعة دار الكتاب العرب، ص72.(1/153)
والتعليل السابق غريبٌ كذلك؛ لأن الأسئلة التي يُثيرها إنما هي من ذلك النوع الذي يمسُّ القلبَ فيدميه؛ ويترك فيه أثراً لا يزول، ويدفعنا إلى التساؤل القلِق: أعجز القرآن الكريم أن يأتيَ بألفاظ عربيّة الأصل تفي المعنى المراد حقه؛ حتى يستعيرها من لغاتٍ أخرى؟!...
ولا تتوقف الأسئلة، بل تزداد حيرتُنا حين نضطر إلى طرح المزيد منها: هل تعريب كلمةٍ أجنبيةٍ يجعلها عربيّة!!؟؟.. وإذا افترضنا أن ذلك ممكن، وأنها قد أصبحت عربيّةً بالفعل؛ فهل يمكن أن تصبح تلك اللفظة جزءاً من نسيج القرآن الكريم الذي قضى الله فيه أن يكون حكماً عربياً؟؟!!.. وهل يمكن للفاني أن يعبر عن الأزليّ؟! وهل يمكن للتراب أن يصبح بمثل ذلك الإشراق؟! وهل يمكن لكلامٍ هو من اصطلاح البشر واختراعهم أن يحمل للبشرِ مراد الله ربِّ البشر؟!.
إن التساؤل في حد ذاته حقٌ مشروعٌ ومكفولٌ لجميعِ البشر، لأن التساؤل هو الطريقة المُثلى لبلوغ المعرفة، مما يفسر بروز (ظاهرة التساؤل) منذ عهد النبوة الأول. وقد كانت تساؤلات مشابهة لتساؤلاتنا التي نطرحها هنا قد برزت وفرضت نفسها واستوقفت البعض زمن النبيّ (صلى الله عليه وسلم)..(1/154)
فمما يُروى أن أعرابياً قد حضر إلى رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ليسأله عن بعض ألفاظ القرآن الكريم التي لم تكن معروفةً للعرب في ذلك الحين، من أمثال الكلمات: يهزأ، وقسورة، وكُبَارا، وعُجاب.. فما كان من النبيّ (صلى الله عليه وسلم) إلا أن استبقاه، وبينما هو على تلك الحال حضر رجلٌ آخر ليسأل رسول الله(صلى الله عليه وسلم) عن أمر ما، فلما تباطأ عنه النبيّ (صلى الله عليه وسلم) وجّهَ الرجلُ حديثه للنبي قائلا له: "أتهزأ بي يا ابن قسورة العرب، وأنا شيخٌ كُبّارا، إن هذا لشيءٌ عُجاب". فكان ذلك القول بمثابة ردّ غير مباشر على تساؤلات الأعرابي، فالنبيّ (صلى الله عليه وسلم) لم يتولَّ الرد عليها بنفسه، ولعل طريقة الرد تلك تُعد من أبدع ما جاء به هذا الدين العظيم، فتلك التساؤلات التي حملها الأعرابي كانت آتيةً من زمنٍ آخر غير ذلك الزمن، وتلزمها معرفةٌ أخرى غير المعرفة الراهنة آنذاك، ومع ذلك فإنّ النبيّ (صلى الله عليه وسلم) لم ينهر الأعرابي قائلاً له: "لقد أخطأت يا أعرابي، إنها عربيّة مائة بالمائة..." ولم تكن إجابته (صلى الله عليه وسلم) من قبيل: "إذهب أيها الأعرابي، إن هذا السؤال أكبر من أن تفهم الإجابة عنه"!..
وكما كان السؤال عن تلك الألفاظ الغامضة مشروعاً فقد ظل ذا إلحاح، وبقي يراودُ أهلَه على مَرّ السنين، مما اضطر البعض ،في محاولةٍ منه لتفسير وجودها، إلى القول: بأن: "الأمر كله لا يعدو أن يكون تشابهاً بين العربيّة وغيرها"!!.
وعُلِّلَ الأمر تارةً أخرى بأن: "اللغات الأخرى هي التي أخذت هذه الكلمات عن العربيّة". أما من قال بأن تلك الكلمات عربيّة ،كابن فارس، فلم يكن له من الدليل إلا القول: (فأما قولنا إنه ليس في كتاب الله تعالى شيءٌ بغير لغة العرب فلقوله تعالى: {إنا جعلناه قرآناً عربيّاً}..(1/155)
(ويواصل ابن فارس حديثه) وادّعى ناسٌ أن في القرآن ما ليس بلغةِ العرب؛ حتى ذكروا لغةَ الرومِ والقبطِ والنبط. فحدثني أبو الحسين محمد بن هارون قال: أخبرنا عليٌ بن عبد العزيز؛ عن عليّ بن المغيرة الأثرم قال: قال أبو عبيدة: إنما أُنزل القرآنُ بلسانٍ عربيّ مبين، فمن زَعَمَ أنّ فيه غير العربيّة فقد أعظم القول) (1) .
هل تأخذ اللغات من بعضها؟..
وكأن تلك التفسيرات لم تكن كافية لإظهار الأمر على حقيقته؛ فحاول علماءٌ آخرون تفسير وجود تلك الألفاظ في القرآن بأن نظروا إلى الأمر من زاويةٍ أخرى تُقرُ مبدأ أخْذِ اللغات من بعضها؛ فقد ذكر الثعالبي ،على سبيل المثال، ألفاظاً دخلت إلى العربيّة من الفارسية والرومية، وذلك في قوله: (فصلٌ في سياقةِ أسماء تفردّت بها الفرسُ دون العرب فاضطرت العرب إلى تعريبها أو تركها كما هي، فمن الأواني: الكوز، الإبريق، الطست، الخوان، الطبق.. وكذلك بعضاً مما نسبه بعض الأئمة إلى اللغة الرومية: الفردوس وتعني: البستان (2) ، القسطاس وتعني: الميزان، السجنجل وتعني: المرآة، البطاقة وتعني: رقعة فيها رقم المتاع..) (3) . وقد سلك "أبو الفتح" نفس المسلك حين أقرّ ذلك المبدأ، وأشار إلى مظاهر انتقال الكلمات الأجنبية إلى العربيّة، وكيفية هذا الانتقال.
إن لم تكن عربيّة.. فماذا تكون إذن؟!..
إذا أردنا أن نستبق الأحداث فإننا سوف نقرر أن كلّ تبرير ذهب إلى عدم عروبة تلك الألفاظ هو تبريرٌ غير صحيح، فالحقيقة المؤكدة هي أن تلك الألفاظ إنما هي عربيّةٌ مائة وواحد في المائة؟!. وإن كلّ الاعتقادات السائدة والتي مفادها أنها أتتنا من لغاتٍ أخرى غير العربيّة؛ إنما هي اعتقادات خاطئة من أساسها.. لكن أين الدليل على ذلك؟!!..
ألفاظ غامضة!!..
__________
(1) الصاحبي، 59-60.
(2) الكلمة بعد الشرطة المائلة هي المعنى المقابل في العربية.
(3) فقه اللغة، 145-146.(1/156)
لقد تعرضنا في الصفحات السابقة لمجموعة من دوائر الفعل القرآني لاستكمال حقيقة اللغة العربية، بما في ذلك فعله في الإطار المحلي المتمثل في تجميع فروع اللغة العربية ذاتها، والتي كانت متناثرة في مجموعة من اللهجات، مما يمكننا من التوجه لمحاولة تفسير وجود مجموعة لا بأس بها من الألفاظ التي اعتقد البعض بأنها ألفاظ غامضة، وغريبة، وغير عربية!!..
ولمحاولة سبر أغوار هذه المسألة فلنحاولْ التعرف على نموذج من النماذج المعبرة عن تاريخ تطور اللغة الإنسانية، وذلك بالتعامل مع فرعٍ من فروعها، وأسرةٍ من أُسرها ذات الأهمية الخاصة، ألا وهي أسرةُ اللغات الساميّة، مع البحث عن العلائق التي تربط بينها وبين اللغة العربيّة إن وجدت!.. لعلنا بعد ذلك نقدمُ تفسيراً لوجود تلك الألفاظ الغامضة!!، والتي ادّعى البعض عدم عروبتها؟! ...
اللغات الساميّة .. أفراد لأسرة واحدة!!
تُطلق كلمةُ "الساميّين" على مجموعةٍ من الأمم التي سكنت أجزاءً من غرب آسيا وشرقَ أفريقيا منذ غابر الأزمان، وهذه الأجزاء هي على سبيل الحصر: الجزيرة العربيّة، والشام، والعراق، وسيناء، وبلاد الحبشة (1) .. والألسن الساميّة هي جمُلةُ الألسن التي تكلمت بها الأممُ الساميّة؛ المندثرُ منها كالأكديّة والسبئية، أو الباقي منها إلى يومنا هذا كالعربيّة والعبرية والسريانية.
مهدُ اللغات الساميّة
__________
(1) الوجيز في فقه الغة، مرجع سابق، ص71.(1/157)
تفترضُ نظريةُ "الأُسر اللغوية" وحدةَ الأصلِ العرقيِّ للأمم الناطقة بألسنة من أسرةٍ واحدة، مما يدعو البعضَ إلى الاعتقاد بوحدة الأصل العِرقي الواحد للشعب الساميّ؛ الذي انبثقت عنه الشعوب الساميّة. وقد اختلف العلماء في جدلهم حول "المهد الأصليّ" للساميّين، إذ اعتقد البعض بأنه أرض أرمينية بالقرب من حدود كردستان، لكنّ العلامة "غويدي" يذهبُ إلى أنّ جنوب العراق ،على نهر الفرات، كان المهد الأول للساميّين. ويزعمُ البعضُ أن بلاد الحبشة هي الموطن الأول للساميّين، كما يزعم غيرهم أن ذلك الموطن إنما كان بلاد اليمن أو القسم الجنوبي الغربي من جزيرة العرب.. وأرجح الأقوال ،والتي يكاد الإجماع ينعقد عليها، هو أن جزيرة العرب كانت الموطنَ الأصليّ لكل الشعوب الساميّة، ويستدلون على ذلك بأمور عدّة، منها: أن التاريخ القديم قد صَرّحَ بخروج الكثير من الأمم الساميّة من هذه الجزيرة، مثل الأكديين، والأراميين، والكنعانيين، وغيرهم... كذلك أن جميع الأمم الساميّة تغلُبُ عليها صفاتُ البداوةِ والأخلاق والطبائع الصحراوية (1) .
ولنحاول الآن أن نتتبعَ الفرضية التي كاد الإجماع ينعقد حولها ،كما أشرنا، والتي تشيرُ إلى أن الجزيرة العربيّة كانت موطناً أصلياً لتلك الألسنة جميعها؛ وذلك من خلال تتبع خط سيركل شعاع خرج من الجزيرة العربيّة وتحديد مكان استقراره بعد ذلك، ولنحاول ،من ثمّ، الوصول إلى نتيجةٍ تُوضِّحُ نوع العلاقة التي ربطت بين تلك الألسنة جميعاً.
الجوامع المشتركة بين اللغات القديمة
__________
(1) الوجيز في فقه اللغة، مرجع سابق، ص73 (بتصرف).(1/158)
يعتبر العرب فرعاً من فروع العرق الساميّ، وهم سكان شبه الجزيرة التي عُرفت باسمهم، ولا يُعلم بدايةُ الزمنِ الذي سكن فيه العربُ في ذلك المكان، والظاهر أنهم كانوا سكانها الأصليّين منذ عصور ما قبل التاريخ. ومما يجدر ذكره هنا هو أن مناهل اللغة العربيّة تعودُ في جذورها إلى الماضي السحيق لشبه الجزيرة العربيّة، وهي: (أكثر قِدَماّ من تسمية حمَلَةِ هذا اللقب ذاته ،أي العرب، فقد أطْلَقَتْ قبائلُ الرُّحَّلِ ونصفُ الرُّحَّلِ والحضر ،التي كانت تقطن قديماً شبه الجزيرة العربيّة والبراري المتاخمة لفلسطين وسوريا وما بين الرافدين، على نفسها ألقاب سلالاتها وقبائلها أو اتحاداتها القبلية، وكانت الشعوب المجاورة فقط هي التي تطلق على هذه القبائل تسميةً عامةً "العرب") (1) .
والعربيّ هو وصفٌ لكل سكان الجزيرة؛ سواءً الحاضر منهم والبادي، وينقسمُ اللسانُ العربيّ إلى عددٍ كبيرٍ من اللهجات التي عاش بعضُها في الجنوب، وعاش البعض الآخر منها في الشمال، وبعضها باد واندثر، وبعضها لازال حياً إلى اليوم. ومن لهجات العربيّة اللهجة الثموديّة، واللحيانيّة، والصفويّة، والجاهليّة، والعربيّة الجنوبيّة، واللهجة الفصحى (2) : والتي تُسمى أحياناً بالقرشية، لغلبةِ خصائصِ لهجةِ قريشٍ عليها، كما إنها تُدعى أحياناً بالحجازية، وذلك لأنَّ عامةَ القبائلِ الحجازيةِ لم تكنْ تختلفُ عن لهجة قريشٍ في شيء. ومهما يكن من أمْرِ التسمية؛ فإن ما نعنيه بالفصحى هو تلك اللهجة التي نزل بها القرآنُ الكريم، والتي جاء بها الحديث الشريف، والشعر الجاهلي، والتي لا نزال ،حتى اليوم، نتخذُ منها لسانَ دينٍ وعلمٍ وأدب.
__________
(1) دراسات في تاريخ الثقافة العربيّة، خالدوف وآخرون، دار التقدم، ص71.
(2) تعرضنا لها سابقاً، ونتعرض لها هنا باختصار للضرورة الموضوعية.(1/159)
وتجدر الإشارة هنا إلى أن الفعل الأول للقرآن الكريم قد تناول تلك الفروع المحلية بالتجميع، حيث تنزل بلغة عربية فصحى هي خليط من تلك الألسنة جميعها.
اللغات الساميّة من غير العربيّة
تعرّفنا على مجموعةٍ من اللهجات التي تنتهي بِنَسَبِها إلى لغةٍ أم واحدة؛ هي العربيّة، والتي تُعتبر ،بدورها، واحدةً من لغات الأسرة الساميّة، وقد لاحظنا تارةً ما بين تلك اللهجات (في اللسان العربيّ) من فروقات تميّزُها عن بعضها البعض، وكذلك ما يجمعُ بينها من تشابه تارةً أخرى. وقد بات الآن ضرورياً أن نَعْرِضَ ،بقليل من التفصيل، للعائلة الكبيرة، التي تُعتبرُ العربيّة أحدَ أفرادها، لكي نتبين أن عملية تجميع الفروع المحلية للغة قد ترافقت مع عملية مشابهة، تم بموجبها عملية تجميع أخرى ولكن بشكل أقل وضوحا، حيث استعادت اللغة العربية بعضا من كنوزها المفقودة!!.. وليست تلك العائلة سوى "أسرة اللغات الساميّة".
لقد تناول "علم اللغات المقارن" بالدراسة والتحليل مجموعةً من اللغات التي تنتمي إلى أُسرةٍ لغويةٍ واحدة، ويعتمدُ البحثُ المقارن على وجودِ تصنيفٍ واضحٍ للغات يتم تقسيمها بموجبه إلى أُسِر لُغوية، ولم تكن القرابةُ بين اللغات معروفةً على نحوٍ علميٍ دقيقٍ إلى أن اكتُشِفت اللغةُ السنسكريتية في الهند، حيث قُورنت مع اليونانية واللاتينية؛ فثبت ،من خلال تلك المقارنات، وجودُ قرابةٍ لغويةٍ بين تلك اللغات، وأنها ترجع إلى أصلٍ قديمٍ واحد.
وما من خلاف حول: التناسب المتبادل، وحتى التقارب الشديد بين لغات الفرع الساميّ. ويُظهرُ التركيبُ الصوتيُ؛ والصرفُ والنحوُ؛ والرصيدُ الأساسيُ القاموسيُ لهذه اللغات ملامحَ تشابه مدهشة، فهناك حوالي 300 كلمة مشتركة للرصيد الأساسي القاموسي مُثْبتةً لجميع المجموعات التي تنقسمُ إليها اللغات الساميّة الحية والمهملة (1) .
__________
(1) دراسات في تاريخ الثقافة العربيّة، مرجع سابق، ص20.(1/160)
وتنقسمُ اللغاتُ الساميّةُ إلى ثلاث مجموعاتٍ كبيرة هي: الشمالية الغربية "أو الشمالية"، والشمالية الشرقية "أو الشرقية"، والجنوبية الغربية "أو الجنوبية". وتعدُّ اللغات الساميّة من أقدم اللغات الإنسانية التي وصلت إلينا مدونة، فاللغة الأكديّة في أرض النهرين قد دُونت منذ سنة 2500ق م، وهي بهذا من أقدم اللغات المدوّنة، وقد وصلت إلينا نصوصٌ مدونةُ بلغاتٍ ساميّةٍ مختلفةٍ منذ هذا التاريخ المبكر وعَبْرَ ما يقربُ من خمسةٍ وأربعين قرناً،كما يعْرِفُ العالمُ الحديثُ عدةَ لغاتٍ ساميّةٍ حيّة أهمها: العربيّة، والأمهرية، ومنها العبرية الحديثة، واللهجات الآرامية الحديثة، والمُهرية، والتجرية، والتجرينية (1) .وفيما يلي نلقي بعض الضوء على بعضِ اللغات الساميّة.
أ- الأكديون ولسانهم:
ويُنسبون إلى منطقةٍ تقعُ في جنوب العراق تُدعى (أكدّ) ويسميهم آخرون بالبابليين؛ نسبةً إلى "بابل"؛ وهي المدينة التي بَنَوْها وجعلوها عاصمةً لهم، كما يسميهم آخرون بالكلدانيين؛ نسبةً إلى إحدى الأسر التي حكمت "بابل" خلال تاريخها الطويل.
أما عن أصل هؤلاء القوم (على اختلاف الأسماء التي أطلقت عليهم) فهم قبائلُ ساميّة خرجت من الجزيرة العربيّة، أو من ناحيةِ سورية ،على خلافٍ في ذلك، واستقرت تلك القبائل في العراق وأقامت فيه، وقد كُتِبَت اللغةُ الأكديّة بواسطة الخط المسماري؛ الذي استعير من اللسان الشومري، وقد تبين من خلال فحص الخط المسماري أن أبجديته لا تحتوي إلا على ثمانية عشر حرفاً فقط، أما حروف التضخيم (2) (والتي تُعتبرُ من أبرز سمات الألسن الساميّة) فلا أثر لها في الأبجدية المسمارية.
__________
(1) مدخل إلى علم اللغة، مرجع سابق1978، ص83.
(2) الطاء، الظاء، الضاد، وحروف الحلق، والعين، والغين، والهاء.(1/161)
أما عن مظاهر التشابه بين اللغتين الأكديّة والعربيّة؛ فقد لوحظ احتفاظُ الأكدية ببعض مظاهر الإعراب التي يُعتقد أنها من خصائص اللسان الساميّ الأول، والذي تخلصت منه الألسنةُ الساميّة الأخرى ما عدا العربيّة الفصحى. وحركات الإعراب في الأكديّة اثنتان هما الضمةُ والكسرة.
ب- الكنعانيون ولسانهم:
وهذه القبائل الساميّة يُعتقد بأنها هي أيضاً قد خرجت من الجزيرة العربيّة؛ وذلك نحو سنة 2500 قبل الميلاد، حيث حطّت في بلاد الشام، وقد أسّسوا فيها مجموعتين من الممالك، الأولى: كانت مجموعةً داخليةً انقرضت سريعاً بوصول العنصر الآرامي والإسرائيلي. أما الثانية: فكانت مجموعةً ساحليةً ظلّت تقاومُ حتى القرن الميلادي الأول. كما أسسوا لهم مستعمراتٍ في الخارج؛ كان من أشهرها مملكة "قرت حدش" (1) أي (قرطاجنة) والتي تقعُ في شمال أفريقيا. يشار إلى أن كلّ آثار اللسان الكنعاني ،سواءً ما وُجد منها في وطنهم أو ما وُجد في مستعمراتهم (2) تدل على عِظَمِ قُرْبِ اللسان الكنعاني من اللسان العبري، وهو ما دعا بعضَ العلماءِ إلى الاعتقاد بأن اللسان العبريِّ إن هو إلا لهجةً من لهجات اللسان الكنعاني، أو أن العبري والكنعاني لسانٌ واحد لا اثنان (3) ..
ج- العبريون ولسانهم:
__________
(1) يوحي اللفظُ "حدش" في اللغة الكنعانية بأنه كان أصلاً لكلمة "حداش" بالعبرية، والتي تعني "جديد" ولعل اللفظ في الكنعانية والعبرية مأخوذٌ عن كلمة "حديث" بالعربيّة والتي تعني الجديد أيضا.
(2) تقع مستعمرتهم "قرطاجنة" بالقرب من تونس حالياً.
(3) إن الحقيقة الأكثر أهمية هنا هي أنه وعلى فرض أن اللسانين الكنعاني والعبري لسانان مختلفان، فهل من المنطقي ان نتساءل إن كانا قد نشآ من أصل واحد وشجرة واحدة أم لا؟!.(1/162)
ويُراد بهم جملة الشعوب التي ترقى بأنسابها إلى نبيِّ الله إبراهيم الخليل عليه السلام، وهم: بنو يعقوب، وبنو إسماعيل، وبنو مدين، والعمالقة، وآل داود، وأهل مؤاب وعمون.. وإذا ما أُطلقت كلمةُ "العبريين" فلا تنصرف إلا إلى أبناء يعقوب وحدهم، أي بني إسرائيل (1) .. واللسانُ العبريُّ شديدُ الشبه باللسان الكنعاني، بل إنه في الأزمنة القديمة لم يكنْ يُعرفُ بهذا الاسم، فصُحُفُ العهد القديم تنعته باللسان اليهودي مرةً، وباللسان الكنعاني مرةً أخرى. ومن الملاحظ كذلك وجود أوجه شبهٍ كثيرةٍ بين اللسانين العبري والعربيّ؛ أكثر منها بين الأخير وبين أي لسانٍ ساميّ آخر، فكثير من قواعد النحو والصرف والمفردات هي هي في كلا اللسانين!!.
د- الآراميون ولسانهم:
وهم قبائلُ ساميّةٌ هاجرت من الجزيرة العربيّة إلى نواحي بلاد الشام حوالي القرن الخامس عشر قبل الميلاد، أي بعد ألفِ سنةٍ من هجرة الكنعانيين الذين سبقوهم، وكما أن أسباب هجرة الأرهاط الآشورية والبابلية والكنعانية من بلاد الجزيرة العربيّة لا تزال مجهولةً إلى الآن، فإننا كذلك لا نعلمُ شيئاً عن الأسباب التي حملت القبائل الآرامية المتوحشة على الخروج من بلادهم المُقفرة. وقد غدا اللسانُ الآرامي لسانَ الأدبِ والفِكْر لكل سكان العراق والشام وجزءٍ من الأناضول لعدة قرون (2) .
__________
(1) الوجيز في فقه اللغة، مرجع سابق، ص81.
(2) الوجيز في فقه اللغة، مرجع سابق، ص85-86.(1/163)
أما "النبطية" فقد اختلف العلماء في نسبهم، فقال البعض: هم آراميون، بدليل اتخاذهم الآرامية لغةً لهم في نقوشهم، وقال آخرون: هم عربٌ؛ بدليل أعلام رجالهم وأصنامهم، مثل: "العزى" و"اللات" و"أمة اللات" و"أذينة" و"أسد" و"أوس" و"عبدة" و"أوس الله"...الخ، ويؤيدُ هؤلاء قولهَم بدليلٍ آخر: هو أن النبط (1) انتشروا في بلادٍ عربيّةٍ؛ حتى عرفت مملكتهم في سيناء باسم "بترا" العربيّة.
هل يوجد ثّمة علاقة؟!.. هذا هو السؤال!!
وبعد هذا الاستعراض لألسنة الأسرة الساميّة.. فلنعد إلى نفسٍ السؤال الذي كنّا قد طرحناه من قبل: هل يوجد ما هو مشترك بين اللغات الساميّة جميعها؟
وهل هناك ثمّة علاقة بين اللسان العربيّ والألسنة الساميّة الأخرى؟!.. وماذا يقول علم اللغات المقارن عن تلك العلاقة؟
وللإجابة على هذه التساؤلات إجابة موضوعية؛ فلابد من العودة إلى علم اللغات المقارن لاستفتائه في هذا الأمر، حيث يتناول ذلك العلم بالبحث النواحي الصوتية الموجودة في اللغات المختلفة؛ والمنتمية إلى أسرةٍ لغويةٍ واحدة (كالساميّة مثلاً)؛ وذلك بُغية التوصل إلى قواعد مطردة تفسر التغيرّات الصوتية التي طرأت عليها على مدى الزمن، والتي أدّت إلى انقسام اللغة الواحدة إلى لهجاتٍ ولغاتٍ كثيرة؛ انقسمت ،بدورها، إلى فروع لغوية إضافية.
ولقد دلّ علم اللغات المقارن على أن هناك مجموعةً من الأصوات التي استمرت في كلّ لغات الأسرة الواحدة دون تغييرٍ يذكر، فاللغات الساميّة ،على سبيل المثال، ظلّ بها صوت "الراء" بدون تغيير. وعلى العكس من ذلك فإن هناك أصواتاً قد خضعت لتغييرات بعيدة المدى؛ والتي منها صوت "الضاد" الذي اختفى بمضي الوقت من كلّ اللغات الساميّة باستثناء اللغة العربيّة!.
__________
(1) ويسميهم العرب بالأنباط والنبيط أيضاً.(1/164)
كما يتناول علم اللغات المقارن (بالإضافة إلى الناحية الصوتية) بناءَ الكلمة ذاتها؛ من حيث: الأوزان، والسوابق (1) ، واللواحق (2) ووظائفها المختلفة، حيث تعتبر دراسة الجملة الخبرية (فعلية كانت أو اسمية) موضوعاً أساسياً في اللغات الساميّة، كما ويتناول "علم الدلالة المقارن" في اللغات الساميّة كلّ ما يتعلق بتاريخ الكلمات وتأصيلها، وقد وُجد أن هناك جامعاً مشتركاً بين كلّ تلك اللغات يتمثل في عددٍ كبيرٍ من الكلمات المشتركة؛ نجدها في كلّ اللغات الساميّة؛ تارةً بنفس المعنى؛ وأخرى بمعنىً مقارب. ولقد كان العالمُ اللغويُ "إدوارد سابير" مؤمناً بوجودِ علاقةٍ مشتركةٍ بين اللغات.
وقد عَرفَ العالمَُ الحديثُ عدداً من اللغات الساميّةِ الحيةِ؛ والتي من أهمها: العربيّة، والأمهرية، والعبرية الحديثة، واللهجات الآرامية الحديثة، والمُهرية، والتجرية، والتجرينية، حيث يُعتقد بأن كل هذه اللغات قد نشأت ،عبر مراحل من التغير، عن لغةٍ واحدةٍ مشتركةٍ لم تصل إلينا نصوصٌ منها، وهي اللغة التي يسميها الباحثون باسم "اللغة الساميّة الأولى" (3) .
__________
(1) السوابق مثل الميم في العربيّة، وهي تُكَوّن ،على سبيل المثال، اسم الفاعل من غير الثلاثي مثل:مُكرِم، واسم المفعول منه : مُكرَم.
(2) اللواحق في العربيّة كثيرة، ومنها اللواحق الخاصة بجمع المذكر السالم سواء أكان منتهياً بـ (ون) في الرفع، أو (ين) في النصب والجر، وكذلك جمع المؤنث السالم والذي ينتهي بالحرفين (ـات).
(3) مدخل إلى علم اللغة، مرجع سابق1978، ص83.(1/165)
وكان العربُ منذ قديم الزمان قد أدركوا وجودَ مثل تلك العلاقة، ولم تكن اللغات الساميّة مجهولةً تماماً بالنسبة لهم، فقد فطنَ الخليلُ بن أحمد إلى العلاقة بين الكنعانية والعربيّة فقال: وكنعان بن سام بن نوح يُنسب إليه الكنعانيون، وكانوا يتكلمون لغةً تضارع العربيّة. كما عرف أبو عبيد القاسم بن سلام اللغةَ السريانية وأداةَ التعريفِ فيها ،وهي الفتحة الطويلة في أواخر كلماتها.
كذلك فقد أدرك ابن حزمٍ الأندلسيّ علاقةَ القربى بين العربيّة والعبرية والسريانية؛ فقال: مَنْ تَدَبَرَ العربيّة والعبرانية والسريانية أيقنَ أن اختلافها إنما هو من تبديل ألفاظِ الناس على طولِ الأزمان، واختلافِ البلدان، ومجاورةِ الأمم، وأنها لغةٌ واحدةٌ في الأصل!!..
ويقول الإمام السهيلي: وكثيراً ما يقعُ الاتفاقُ بين السرياني والعربيّ، أو يقاربه في اللفظ. كما عرف أبو حيان الأندلسي اللغة الحبشية؛ وأدرك العلاقة بينها وبين العربيّة، وألّف فيها تأليفاً مستقلاً، فقال: (وقد تكلمتُ على كيفية نِسْبَةِ الحبش؛ في كتابنا ،عن هذه اللغة، المسمى بـ "جلاء الغبش على لسان الحبش" وكثيراً ما تتوافقُ اللغتان، لغةُ العرب ولغةُ الحبش، في ألفاظ، وفي قواعد من التركيب نحْوِيَةً، كحروفِ المضارعة، وتاءِ التأنيث، وهمزةِ التعدية) (1) .
ونحن ندرك اليوم أن العرب الذين عَرَفوا بوجود تلك العلاقة؛ لم يصيبوا دائماً في تفسيرها على الوجه الصحيح!! فوجدنا” ابن فارس” ،مثلا، يتساءل ذات مرة: ما هي اللغة التي علّمها الله لآدم؟ ومتى اختلفت اللغات؟ وكيف كان هذا الاختلاف؟..
__________
(1) هامش كتاب المدخل إلى علم اللغة، مرجع سابق، ص201+202.(1/166)
ووجدناه يجيبُ عليها بالقول: بأن الله عزّ وجل قد علّمَ آدمَ كلّ اللغات، وأن الاختلاف قد حدث بعد الطوفان؟!!. وننقل على لسانه: (يُروى أن أول من كتب الكتاب العربيّ والسريانيّ والكتب كلها آدمُ ،عليه السلام، قبل موته بثلاثمائة سنة، كتبها من طينٍ وطبَخَه، فلما أصابَ الأرضَ الغرقُ وجد كلُّ قومٍ كتاباً فكتبوه، فأصاب إسماعيلُ ،عليه السلام، الكتاب العربيّ (1) .
وقد نقل “ابن جني” مثل هذا الرأي عن آخرين من أصحاب مذهب التوقيف؛ ويميل فيه إلى أن: (الله سبحانه علَّم آدم أسماء جميع المخلوقات بجميع اللغات، العربيّة، والفارسية، والسريانية، والعبرية، والرومية، وغير ذلك من سائر اللغات) (2) ..
كذلك فقد أدرك المستشرقون وجودَ علاقةٍ ما بين لغاتٍ بعينها مثل العربيّة والعبرية والسريانية. وقد بدأت "هولاندة" في القرن الثامن عشر على يد "شولتنس" بمقارنة العبرية بالعربيّة، وجاء بعده كلّ من "إيفالد" و"ألسهورن" فألّفا في اللغة العبرية مستخدمين العربيّة في المقارنة، كما حاولَ مثلَ ذلك "نولدكه" في الآرامية. وفي عام 1890م ألّف "وليم رايت" كتابه "محاضرات في النحو المقارن للغات الساميّة". كما ألّف بعده بعامٍ كلٌ من "لاجارد" و"بارت" كتابهما "بحوث في أبنية الأسماء الساميّة". وألف "لندبرج" كتاب "النحو المقارن للغات الساميّة”، وألف "تسمرن" كتابه الذي سماه "النحو المقارن للغات الساميّة" ونشره في برلين سنة 1898م. كما كتب في هذا الفن المستشرقُ "كارل بروكلمان" إذْ ألَّفَ كتابه الضخم "الأساس في النحو المقارن للغات الساميّة" وهو في جزأين.
الخصائص المشتركة بين اللغات الساميّة
__________
(1) ابن فارس، الصاحبي، 34.
(2) الخصائص: 1/41.(1/167)
لقد كان من نتائج استخدامنا لعلم اللغات المقارن أن خرجنا بنتيجة هامة مفادها: أن اللغات الساميّة تتفق فيما بينها في مجموعةٍ من الخصائص الصوتية، والصرفية، والنحوية، والدلالية، وتكون هذه الخصائص أشدَّ ما تكون وضوحاً في اللغات الساميّة القديمة، ومن خلال تلك المقارنة يمكننا أن نخلص إلى أن أهم الخصائص المشتركة بين اللغات الساميّة هي:
أ- أننا نجد في اللغات الساميّة مجموعةَ أصواتِ الحلق (1) وهذه المجموعة موجودةٌ في شكلها الكامل في اللغة العربيّة، وقد حدثت لها تغييراتٌ في بعض اللغات الساميّة أدّت إلى تداخل بعضِها، وهذا التداخل واضحٌ في لغةٍ كالعبرية مثلاً، إذ حلّ فيها صوت "العَيْنِ" محل صوتين هما "العين" و"الغين" وهذا يعني أن الكلمات العبرية التي تحتوي على حرف "العين" يمكن أن يقابلها في العربيّة ،من الناحية الاشتقاقية، كلماتٌ تضمُ صوتَ العَيْنِ أو صوت الغَيْن؛ حيث لا "غين" في العبرية.
__________
(1) مجموعة أصوات الحلق هي: العين، الغين، الحاء، الخاء، الهاء، والهمزة.(1/168)
ب- توجد في اللغات الساميّة مجموعةُ أصواتٍ مطبقة (1) والتي تشتركُ من الناحية النطقية في ارتفاع اللسان درجةً أثناء النطق بها مع اتخاذه شكلاً مُقعراً، وقد توجد الأصوات المطبقة في اللغات الساميّة الأخرى بعددٍ أقلَّ من العربيّة، فحرف الصاد في العبرية (2) يقابلُ ثلاثةَ أصواتٍ عربيّةٍ هي: الصاد، والضاد، والظاء، فأيةُ كلمةٍ عربيّةٍ بها صادٌ أو ضادٌ أو ظاء، يكون مقابلها في اللغة العبرية ،إن وجد، كلمةٌ تضمُ الصادَ العبرية، وإذا نظرنا إلى اللغات الساميّة وجدنا أن الضاد العربيّة تقابلُ صاداً في اللغة الأكديّة والأوجاريتية والعبرية، فكلمةُ "أرض" في العربيّة تقابلها كلمةُ ersetu في الأكديّة، وكلمةُ ars في الأوجاريتية، وكلمةُ eres في العبرية.
ج- تتشابه اللغات السامية فيما بينها في أن بناءُ الكلمةِ يقوم على أساس الصوامت والوزن، ومعنى هذا أن المعنى الأساسي يرتبطُ بالصوامت. فالكلمات: فَعَلَ، و فِعْلْ، وفاعِل، يرتبط معناها الأساسي بالفاء، والعين، واللام؛ وهي الصوامت، أما الوزن (مثل فاعل) فيحددُ المعنى الدقيقَ للكلمة؛ بأن يدل مثلاً على من قام بالفعل.
د- تتشابه اللغات الساميّة في أنها تنقسمُ ،من حيث الجنس النحوي، إلى مذكر ومؤنث، ومن حيث العدد إلى مفرد ومثنى (3) وجمع، وتتشابه كذلك من ناحية النهايات الإعرابية وهي الرفع، والنصب، والجر.
هـ- تتشابه اللغات الساميّة الأساسية فيما بينها من حيث وجود عددٍ كبيرٍ من المفردات الأساسية المشتركة فيما بينها، ويمكن تقسيم هذه المفردات إلى المجموعات التالية:
__________
(1) مجموعة الأصوات المطبقة هي الصاد، الطاء، الضاد، والظاء.
(2) المختلف من ناحية النطق عن العربيّة قليلا.
(3) حدث تغيير في بعض اللغات بحيث قل فيها استخدام المثنى وأصبح استخدامه مقصورا على الأشياء الموجودة في الواقع الخارجي في شكل ثنائي مثل اليدين والرجلين، واللغة العبرية مثال حي على ذلك.(1/169)
* ألفاظٌ تختص بجسم الإنسان مثل: (رأس، عين، يد، رجل، شعر.. الخ)..
* ألفاظٌ خاصةٌ بالنبات والحيوان مثل: (قمح، سنبلة، كلب، ذئب.. الخ).
* تتشابه كذلك بعض الأفعال الأساسية مثل: (وَلَدَ، ماتَ، قامَ، زرعَ.. الخ).
* وتتشابه اللغات الساميّة فيما بينها كذلك في الأعداد الأساسية (من 2-10) وفي حروف الجر الأساسية مثل:(مِنْ، على، في).
مربط الفرس!!!
من هنا، وبعد كل ما استعرضناه، فإن الباحث يكون آمناً حين يقرر: (انتماء لغاتٍ متعددةٍ إلى أصلٍ مشتركٍ إذا وَجَدَ تماثلاً كافياً في تركيباتِها النحوية، ومفرداتِها الأساسية، وإذا لاحظَ ازديادَ قُربِ بعضِها من بعض كلما اتجهنا إلى الوراء) (1) .
وعلى ضوء ما وجدناه من تشابهٍ كبيرٍ بين اللغات الساميّة؛ وفي ضوء المعلومات المتوفرة لدينا والتي تُشيرُ إلى أن الجزيرة العربيّة كانت أصلاً لها جميعاً، فلا مفرّ من الإقرار بوجود علاقةٍ ما بين تلك اللغات جميعها، وأن هناك أصلاً مشتركاً يجمع بينها تكون جميعها قد نشأت عنه؟!!.
وفي الوقت الذي تتمتع فيه مسألة التشابه بين اللغات الساميّة بأهميةٍ معتبرةٍ ،هي أكبر من أن يتم تجاهلها، فإن لها قيمةً مضاعفةً تنتصب أمامنا عندما نتوقف لنتساءل فيما بيننا وبين أنفسنا عن السر الذي اكتنف وجود ألفاظٍ (2) بعينها في القرآن الكريم؛ والتي اعتبرها البعض غريبةً عنه وعن لغته العربية!.. لكننا الآن ،وفي ضوء ما تم طرحه، يتضح لنا بأنها ألفاظٌ عربيّةٌ مائة بالمائة، وكل ما فعله القرآن الكريم هو أنه استعادها بعد أن تناثرت هنا وهناك وبعد أن كاد يطويها النسيان؟!!.
__________
(1) حاشية كتاب المدخل إلى علم اللغة، مرجع سابق، ص199.
(2) ذكرنا آنفاً أن عددها يتجاوز المائة لفظة.(1/170)
ولتعزيز هذه النتيجة؛ فلنتأمل المفاجأة التي فاجأنا بها القرآن الكريم عندما أورد كلمة "مُدّكر"، وذلك في قوله تعالى: {فهل من مدّكر} (1) .. وكان البعض قد اعتقد أن كلمة "مُدّكِر" هي لاتينية؟! لكن يتضح لنا الآن أنها عربية أصيلة وتعني "الذكر"!! ...
كذلك فاجأنا مرة أخرى عندما قرأنا قوله تعالى: {إن أول بيتٍ وضع للناس للذي ببكةَ مُباركاً}(آل عمران:96)، حيث ذكر القرآن الكريم تلك المدينة هنا باسمٍ لها لم يكن متداولاً بين العرب، وقد ذكرها في موضعٍ آخر باسمها الذي عُرفت به وقت التنزيل، حيث قال عز من قائل: {وهو الذي كفّ أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطنِ مكةَ من بعد أن أظفركم عليهم}(الفتح:24) لكنّ المفاجأة سوف تتلاشى إذا علمنا أن "بكة" هو الاسم الهيروغليفي لمكة، وهو الاسم المناسب للتعبير عن الحالة الأولى التي جاءت لتتحدث عن أول بيت وُضع للناس، فهو اسم لمكة وقت وضع البيت!! وهو اسمٌ يراعي عربيّة القرآن بقدر ما يراعي البعد الزمني والتاريخي في هذا الموضوع!!!.
ومن الأمثلة التي فاجأت العرب كذلك وأثارت دهشتهم ما وجدوه وهم يتلون الآية الكريمة{كأنهم حمرٌ مستنفرة، فرت من قسورة}(المدثر:50-51)وسبب الدهشة هو أن القسورة اسمٌ للأسد لكن في الحبشية؟! وحقّ لتلك الدهشة أن تزول؛ وللحيرة أن تختفي بعدما علمنا أن كلمة "قسورة" إنما هي كلمةٌ عربيةٌ صميمةٌ قبل أن تكون حبشية!!
__________
(1) (القمر:15،17،22،32،40،51).(1/171)
وعلى نفس المنوال؛ يمكننا الآن إيجاد تفسيراتٍ واضحةٍ لوجود عشرات الألفاظ المشابهة والتي وردت في القرآن الكريم، مما بدا في حينه غريباً على لغة العرب؛ وذلك من أمثال كلمة: "صابئ"، و"صابي" وهي لفظةٌ هيروغليفية وتعني "مهدي" وقد وردت في القرآن الكريم في قوله تعالى: {إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين (1) من آمن بالله واليوم الآخر}(البقرة:62).
وتتشابه ،كذلك، كلمةُ "حنيف" في اللغتين العربيّة والهيروغليفية، والحنيف هو "الذي أسلم وجهه لله" وهنا لا يقتصرُ التشابه بين اللغتين على مجرد التشابه اللغوي، بل يتجاوزه إلى معنىً عقائدي أرحب هو إسلام الوجه لله!...
كما أن الكلمة الهيروغليفية "مو" (2) تتشابه مع كلمة "ماء" بالعربيّة، مما يوحي بالأصل الواحد لكلتيهما، وقد اشتُق منها اسمُ العَلَمْ "موشي" والمعروفُ جيداً في العبرية، وهو يجمعُ بين لفظتي الماء والسحر، وقد ورد اسم العلم "موسى" في القرآن الكريم (129) مرة، كما في قوله تعالى: {وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون}(البقرة:53)...
كذلك تتشابه كلمةُ "حَتَب" في الهيروغليفية مع كلمةِ "حَطَبْ" في العربيّة، وقد وردت الأخيرةُ في قوله تعالى: {وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطباً}(الجن:15).
__________
(1) اختلفت الأقوال بصددهم فقال سفيان الثوري: الصابئون قوم بين المجوس واليهود والنصارى وليس لهم دين، وقال ابن جرير: أن الصابئين يصلون إلى القبلة ويصلون الخمس،.. وقال أبو جعفر الرازي: بلغني أن الصابئين قوم يعبدون الملائكة، ويقرءون الزبور ويصلون للقبلة، وقال ابن أبي حاتم: الصابئون قوم مما يلي العراق بكوثى، وهم يؤمنون بالنبيين كلهم، ويصومون من كلّ سنة ثلاثين يوما، ويصلون إلى اليمن كلّ يوم خمس صلوات..الخ)(تفسير القرآن العظيم، مرجع سابق،ج1، ص148).
(2) لم ترد في القرآن الكريم بهذا الشكل الحرفي.(1/172)
وهناك ألفاظٌ كثيرةٌ أخرى من أمثال: "الآخرت" والتي تقابلها "الآخرة" في العربيّة، وكذلك "قرارة" والتي تقابلها في العربيّة "دار القرار"!!...
العربية والعبرية.. الأصلٌ والفرع!!
والتشابه بين العربيّة والعبرية (على وجه الخصوص) كبيرٌ جداً، وهو أكبرُ من أن تخطئه العيون أو أن تتجاهله الألباب، إلى الدرجة التي يمكن معها الاطمئنان إلى وجهةِ النظرِ القائلة بأن العبرية إن هي إلا واحدةً من لهجات العرب!!.. بل إن العبرية ،وبسبب حالة الانغلاق التي فرضها أهلها على أنفسهم؛ قد تمكنت من المحافظة على أصالةِ كثيرٍ من الألفاظ ذات الأصل العربيّ! والتي هي في غاية التعبير عن المعاني المقصودة من ورائها؛ كلفظة: "دين" والتي تعني في العبرية "القضاء" أو "الحساب" وقد وردت كلمة "دين" في القرآن الكريم لتشير إلى نفس المعنى: {مالك يوم الدين}(الفاتحة:4)أي مالك يوم القضاء والحساب. ووردت بالمعنى ذاته في قوله تعالى:{يومئذٍ يوفيهم اللهُ دينَهُمُ الحق}(النور:25) أي يوفيهم حسابهم!..
أما كلمة "سِفِر" في العبرية، والتي تعني "كتاب" فهي كلمةٌ معروفةٌ في العربيّة جيدا؛ وتُلفظُ "سِفْر" بتسكين الفاء، وجمعها "أسفار"، وقد وردت في قوله تعالى: {مَثَلُ الذين حُمِّلوا التوراةَ ثم لم يحملوها كمثلِ الحمارِ يحملُ أسفاراً}(الجمعة:5)..
أما الكلمة العبرية "شِلْتُونْ" والتي تعني السلطة والحكم؛ فما هي إلا اللفظ المحرّف للكلمة العربية: "سلطان"! وقد وردت في قوله تعالى: {يا معشر الجنّ والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان}(الرحمن:33)..
أما كلمة "عنان" في العبرية والتي تعني الغيم، فلها نفس المعنى في العربيّة، إلا أن كلمة "غيم" في العربيّة هي أكثر شيوعاً واستعمالاً، لكن المتذوقين للغة العربيّة كثيراً ما يستخدمون هذا اللفظ الفصيح، كما في قولهم: (عنان السماء)!!.(1/173)
وتتضح عروبةُ الألفاظ المذكورة إذا ما درسناها في ضوء إمكانية الاشتقاق منها، وهو ما يدل بشكل قاطع على أنها ألفاظٌ عربيّةٌ أصيلة؛ إذ أنَّ الألفاظَ الواردةَ إلينا من لغاتٍ أخرى لا تكتسب مَيْزَةَ الاشتقاق منها، فدخولُ كلمة "كمبيوتر" ،على سبيل المثال، إلى اللغة العربيّة لتدل على جهاز الحاسوب لا يعني أننا نستطيع أن نشتق منها كلماتٍ إضافية، بينما يمكن الاشتقاق من كلماتٍ اعتقدَ البعضُ ،خطأ، أنها مأخوذةٌ من لغاتٍ أخرى ككلمة: قلم (قَلّمَ، يُقَلِمُ)، و برهان (بَرْهَنَ، يُبَرْهِنُ) مما يدل دلالة قاطعة على عروبتها!!..(1/174)
من هنا فإن النتيجةَ التي نخلصُ إليها تطرحُ إمكانيةً جديةً لأن تكون اللغات التي نُسبت إليها تلك الألفاظ إنما هي في حقيقتها مجردُ فروعٍ لِلُّغة العربيّة (1) وأنها قد اشتقت جميعها من لغة أصليّة هي العربية والتي يُحتمل (2) أن تكون هي اللغة الأصليّة للإنسانية جمعاء!!..
__________
(1) صدر في جمهورية مصر العربية قبل عدة سنوات كتاب أثار كثيراً من الجدل، وهو بعنوان "الهيروغليفية تفسر القرآن"، ويذهب مؤلفه الباحث سعد عبد المطلب العدل إلى أن الأحرف المقطعة في القرآن الكريم والتي تفتتح بها بعض سورة؛ إنما هي عبارة عن حروف صوتية هيروغليفية، وقد أثار الكتاب كثيراً من الجدل، إذ أن التسليم بهذا الأمر يؤدي بالضرورة إلى التسليم بأن القرآن الكريم يحتوي على ما هو غير عربي!.. ومع احترامنا لاجتهاد مؤلف ذلك الكتاب، وعلى الرغم من عدم قراءتنا له، إلا أننا نبقى على رأينا بأن كل ما في القرآن هو عربي، وبأن العربية إنما هي أصل للهيروغليفية وليس العكس!..
(2) نحن هنا لا نجزم لأن الجزم يحتاج إلى برهان، ونحن نعتقد بأن هناك احتمالاً في أن تكون كلّ اللغات الإنسانية هي من أصل واحد، ويفسر البعد بين الأسر المختلفة للغات بأن عملية انشقاق اللغة قد حصل في أوقات مبكرة من عمر البشرية، وإلا فللمتشكك نطرح سؤالاً: ما هو التفسير لتشابه بعض الألفاظ حتى بين اللغات المتباعدة، مثل: أرض والتي تقابلها EARTH في الإنجليزية، كذلك التشابه بين لفظتي فردوس العربيّة و Paradise في الإنجليزية والتي تعني الجنة،كما أن هناك تشابهاً بين لفظة "غرس" في العربيّة ولفظة GRASS والتي تعني عشب في الإنجليزية... وكذلك التشابه في اسم العلم "آدم" (أبو البشر) بين العربيّة والإنجليزية.. الخ.. وكلها مجرد نماذج قريبة تشير إلى ضرورة دراسة هذا الاحتمال دراسة واعية جادة..(1/175)
وقد تناول القرآنُ الكريمُ الأصلَ المشتركَ الذي يجمعُ الخلقَ كلَّهم، وذلك حين تحدث عن خلقِ البشرِ أمةً واحدة، ثم توزُعِهم أمماً مختلفة؛ وانشقاق اللغة الواحدة ،من ثمّ، بينهم، وقد عَرَضَ القرآنُ الكريمُ لهذه الحقيقة في قوله تعالى: {كان الناسُ أمةً واحدةً فبعثَ اللهُ النبيين مبشِرين ومنذرين؛ وأنزلَ معهم الكتابَ بالحق}(البقرة:213)..
وأخيراً ... فإن ما وصلنا إليه من مفهومٍ جديدٍ للعربيّة؛ والذي (قد) يرشحها لأن تكون أصلاً لكل ما جاء بعدها من لغات؛ إنما يرسي مفهوماً جديداً للعروبة التي جاء القرآن الكريم واصفاً نفسه بها!..
.. فعروبةُ القرآن الكريم لم يكن المقصود منها ،في وقتٍ من الأوقات، فقط إرساءٍ المفهوم قريبٍ والذي يفيد الانتماء العرقي لجنس العرب، ونعتقد بأن الآيات الكريمة التي تحدثت عن عروبة القرآن لم تكن تقصد أن تنسب القرآن للعرب كجنس؛ بقدرِ ما كانت تقصد نسبة العربَ أنفسهم للغةِ القرآن الكريم؛ لأن عروبة الأخير هي الأصل!!.
بل إن القرآن الكريم وهو يُرسّخُ مفهومَ احتوائه على أصلِ لغات البشرية جمعاء؛ إنما يُعزز احتمالات أن تكون اللغة العربيّة المقصودة في القرآن الكريم إنما هي اللغةُ التي أوحاها الله عزّ وجلّ لآدم عليه السلام {وعلم آدم الأسماء كلها}(البقرة:31) والتي توزعت على أمم البشرية جمعاء فيما بعد.(1/176)
ومن هذا المنظور؛ والذي يشير إلى أن مجموعةً كبيرةً من اللغات (التي اعتقدنا خطأً بأنها لا تمتّ للعربية بصلة) إنما تشكل ،في حقيقة الأمر، روافد لأصلٍ لغويٍ واحدٍ هو العربية ببعدها الرباني؛ وأن عملية إعادة توحيد تلك الروافد في لغةٍ واحدة (هي في أصلها من عند الله) إنما يضارعُ في معناه حقيقةَ استكمال الدين في هذا الوجود!.. وذلك عبر توحيد الرسالات واستكمالها في رسالةٍ واحدةٍ خاتمة، والتي قال فيها رسول الله(صلى الله عليه وسلم): (مثلي ومثلُ الأنبياءِ من قبلي كمثلِ رجلٍ ابتنى بيتاً فأحسنه وأجمله إلا موضعَ لبنةٍ من زاوية، فجعلَ الناسُ يطوفون به؛ ويعجبون منه؛ ويقولون: لولا هذه اللبنة، فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين)(متفق عليه).
توحيد الدين واللغة.. وجهان لحقيقة واحدة!!
وفي ضوءِ ما نطرحه هنا يمكننا الولوج إلى حقيقة هامة مفادها أن توحيد الدين في رسالةٍ خاتمةٍ ،هي الإسلام، إنما ترافق مع حقيقة أخرى تمثلت في إعادة توحيد اللغةِ أيضاً! ليصبحا فيما بعد دلالةً على جوهرٍ عالميٍ واحدٍ هو رسالة الإسلام. فبتنزّل القرآن الكريم بالعربيّة لم تعُدِ العربيّةُ لغةَ العربِ وحدهم، بل أصبحت لغةَ الدين الجامع، وهنا حدثَ التحولُ الذي أصبح بموجبه كلّ من يتكلمُ العربيّةَ عربيّا؛ حتى لو لم تكن الدماءُ العربيةُ تجري في عروقه! إذ أصبحت اللغةُ خياراً إنسانياً عاما (وليست خاصة بعرق معين) ومُرادفاً لخيار للدين. وصدق رسول الله(صلى الله عليه وسلم) حيث قال: (إنما العربيّة اللسان).
إرث إنساني مشترك!!(1/177)
وإذا ما استقر بنا الأمرُ على ما وصلنا إليه؛ فإن القرآن الكريم ،بأبعاده الرسالية المختلفة، يمكنه أن يفتح لنا آفاقاً رحبةً ونوافذَ واسعةً لاستشراف العالمية التي جاء الإسلام ليمارس وظيفته في ساحاتها، فالقرآن الكريم ،وفق هذا المنطق، يحتوي على ألفاظ تحمل في ثناياها كلّ معاني الدهشة! إذ وعلى الرغم من كونها ألفاظاً عربيةً خالصة؛ إلا أنها تمثلُ ،في الوقت ذاته، إرثاً أثيراً محبباً؛ وذكرياتٍ عزيزةً مثيرةً للانفعال لدى أقوامٍ آخرين! وتمثلُ تلك الألفاظ ،في الوقت ذاته، بعضاً من مسيرة التاريخ الإنساني المشترك!؟..
لقد آن الأوان أن ندرك أنّ عربيّة القرآن الكريم تمسُ غيرَ العرب؛ تماماً بقدر مساسها للعرب أنفسهم، فورود كلمةٍ واحدةٍ في القرآن الكريم من لغةٍ قديمة؛ يُعتبر تشريفاً لتلك اللغة ولأهلها جميعاً، ذلك أنهم وجدوا ،أخيراً، ضالتهم المنشودة!! وجدوا لغتهم الضائعة؛ ولو كان ذلك من خلال كلمةٍ واحدة مبثوثة في ثنايا الآيات هنا أو هناك؟!.
العروبة.. أبعاد نسبية متعددة!!..(1/178)
لكن؛ وبعيداً عن الإشارات التي يمكن أن يوحي بها الجانبُ اللغويُ في القرآن الكريم؛ والذي يُعبرُ عن العروبة في مستواها الأدنى وبمعناها المتداول في حياتنا اليومية؛ فإن المستوى الأعلى للعروبة يمكن أن يُمثلُ مفهوماً مطلقاً لها، وقد جاء ذلك المفهوم لا ليكون إخباراً عن اللغة التي تنزّل بها القرآن الكريم، بل ليكون صفةً موضوعيةً مقترنةً بالنص القرآني ذاته، ويمكن للعروبة ،وفق هذا التصور، أن تذهب مذهباً تكون معه صفةً لذلك الجمع المحكم للقرآن الكريم، وهو ما يميزُ كلامَ الله عن كلام البشر. والعروبة (1) وفق هذا التصور تتشابه وعروبة العرب بمعناها القومي (ذات المضمون النسبي) لكنها لا تنطبق عليها انطباقاً كاملاً بأي حالٍ!!.
__________
(1) عرب: عرب عربا الطعام: أكله، عَرُبَ عُرُوبةً وعروبية وعَرَابة وعَرَبا و عُرُوبا: تكلم بالعربيّة ولم يلحن/ كان عربيّاً فصيحا. عَرِب الرجل: فصح بعد لكنةٍ في لسانه، عَرّب عنه لسانه: أبان وأفصح، أعرب كلامه: حسّنه وأفصح ولم يلحن. أعربّ بالكلام: بينه. أعرب الرجل: لم يلحن في الكلام. العُرْب و العَرَب: جيل من الناس بلادهم شبه جزيرة شرقي البحر الأحمر. رجل عَرِب: فصيح. خيل أو إبل عِرابٌ: كرائم سالمة من الهجنة. العربيّة: مؤنث العربيّ/ اللغة العربيّة: ما نطق به العرب. (المنجد في اللغة والأدب والعلوم،ص495).(1/179)
ومما يدفع للاعتقاد بأن العروبة في القرآن الكريم إنما قُصد بها جانب الفصاحة والبيان ولم يقصد بها ،فقط، العروبة ببعدها القومي؛ ما قاله ابن أبي حاتم (1) : (حدثنا أبي، حدثنا عبد الله بن أبي بكر العتكي.. قال: بينما رسول الله(صلى الله عليه وسلم) مع أصحابه في يوم دجن إذ قال لهم: (كيف ترون بواسقها؟) قالوا: ما أحسن وأشدَّ تراكمها. قال: (فكيف ترون قواعدها؟) قالوا: ما أحسَنَها وأشدّ تمكنَها. قال: (فكيف ترون جونها؟) قالوا: ما أحسنه وأشَدَّ سواده. قال: (فكيف ترون رحاها استدارت؟) قالوا: ما أحسنها وأشدَّ استدارتها. قال: (فكيف ترون بَرْقَهَا: أوميضٌ أم خَفْوٌ أم يشقُ شقاً؟). قالوا: بل يشقُ شقاً. قال: (الحياء الحياء إن شاء الله) قال (أي ابن أبي حاتم): فقال رجلٌ: يا رسول الله، بأبي وأمي، ما أفصحك، ما رأيتُ الذي هو أعربَ منك؟!!.. قال: فقال: (حقّ لي؛ وإنما أُنزلَ القرآنُ بلساني، والله يقول: {بلسانٍ عربيّ مُبين}..
والربط هنا بين الفصاحة وعروبة القرآن الكريم ربطٌ واضحٌ لا لبس فيه!.
أثر القرآن الكريم
في تشكيل الوعي الزمني عند العرب
ما الذي أردنا قوله في هذا البحث؟
لم يكن الإسلام حدثاً عابراً في حياة العرب، بل كان له مجموعة من التأثيرات التي غيرت في منهجية التفكير لدى العرب وفي طرق تفكيرهم..
لأجل ذلك فقد فاجأ المسلمون العالمَ بمناهجهم التأصيلية الفذّة، التي استخدموها للحفاظ على تراثهم الديني والعلمي..
وفي هذا المقال نرى بعضا من ملامح النقلة المنهجية التي نقلها القرآن للناس، فغير مفاهيمهم التي رأوا الأشياء من خلالها، وقد اتخذنا نظرتهم لمفهوم الزمن مثالا على تلك النقلة..)
أثر القرآن الكريم
__________
(1) تفسير القرآن العظيم، مرجع سابق،ج3، ص462..(1/180)
في تشكيل الوعي الزمني عند العرب (1)
تمهيد
عندما بُعث محمد (صلى الله عليه وسلم) كان الذي يحكم العربَ يومها نظرةُ عميقة إلى داخل ذواتهم، وذلك من خلال ذواتٍ متفتحةٍ وأحاسيس مرهفة. أعانهم على ذلك ما جادت به قرائحُهم من ديوان الشعر؛ الذي سجلوا من خلاله أدقّ تفاصيل حياتهم؛ سواء على المستوى الذاتي (الفردي) أو على المستوى الجماعي المتمثل بالقبيلة..
وشاء الله عز وجل أن يتفضل على هذه الأمة بنعمة الإسلام والقرآن، حيث أحدث الأخير في نفوس العرب وقلوبهم مسارب عميقة. ولم يقتصر فعله على ما أحدثه من تأثيراتٍ ظاهرةٍ؛ تمثلت في منظومة الأخلاق والعبادات والمعاملات، لكن اتضح بعد أعوام قليلة أنه قد مسّ عقولهم وأفئدتهم وطرق تفكيرهم فأعاد تشكيلها وصياغتها من جديد!..
لقد كان للقرآن الكريم تأثيراً عجيباً، إذ فتح عيون العرب وقلوبهم على ما حولهم من مظاهر كونية خلاّقة بعد أن كانت تتجه دائما إلى ذواتهم، فإذا الأرض من حولهم غير الأرض؛ والسماوات، وإذا كلُ الأشياء من حولهم ليست ما عهدوه، فلم تعد الأرض مرابع للقبيلة بقدر ما أصبحت مرتعاً خصباً للتفكر ولإمعان النظر، يحدوهم في رحلتهم تلك قوله تعالى: {قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق} ولتُتخذَ (الآيات) بعد ذلك مُرتكزاً لدراسة التاريخ وآثار الغابرين..كذلك لم تعد السماء ما كانت عليه، إذ لم تعد مجرد موطنٍ لقمرٍ أشبه ما يكون بوجه الحبيبة، بل تحولت صفحتها إلى ساعة زمنية تحُسب بها أعمار الغابرين وعبادات المقبلين.. فكيف تأتي لتلك العقول أن تتأثر بالقرآن الكريم بمثل ذلك القدر! وكيف كان للقرآن الكريم مثل ذلك التأثير؟!..
الإنسان وثلاثية "عناصر الحضارة"
__________
(1) هذه الدراسة مدينة بالعديد من أفكارها لكتاب "دراسات في تاريخ الثقافة العربيّة" خالدوف وآخرون، وقد وجب التنويه اعترافا بالحق لأهله.(1/181)
لقد خلق الله ،عز وجل، الإنسان واستخلفه في الأرض ليعمرها، والعمران للأرض هو عينه ما اصطلح علي تسميته بـ "الحضارة" إلا أن "العمارة" و "العمران" تتضمن بين ثناياها "فضيلة التوجه نحو وجه الله الكريم" مصداقاً لقوله تعالى:
{اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها}(هود:61)
ولكي ينشأ العمران (أو التحضر) في مكان ما؛ فلابد من توفر مجموعةٍ من العوامل التي تعتبر أساسية لنشأة أية حضارة..
ويعتبر "الإنسان" العنصر الأول من العناصر الواجب توافرها لنشأة التحضر والعمران في مكان ما.. ويحدد القرآن الكريم السمتين الأساسيتين للعنصر الإنساني المنشئ للحضارة وذلك بقوله:
{سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم}(فصلت:53)
وتصور الآية الكريمة "إنسان الحضارة" بأنه ذلك الكائن مرهف الحسّ؛ الذي يُرسل عيناً على ذاته يستبطنها؛ ويرسل الأخرى على العالم المحيط به؛ في محاولةٍ منه لاكتشاف ذلك العالم واستكناه أسراره!!..
أما العنصر الثاني من عناصر الحضارة؛ فهو عنصر "التراب"، وهو إطلاق مجازي يقصد به "جميع الإمكانات المادية اللازمة لنشوء الحضارة"، والتي تتضمن: المصادر الطبيعية والمواد الخام، مصادر الطاقة بأنواعها (متجددة وغير متجددة) البنية التحتية من وسائل اتصال ومواصلات..الخ
وقد تعرض القرآن الكريم لبعض تلك الإمكانات على اختلافها وذلك في قوله عز وجل:
{وسخر لكم الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى}(الرعد:2)
{وسخر لكم الفلك في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار}(إبراهيم:32)
{وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره}(النحل:12)..
{وسخر لكم ما في السموات والأرض جميعاً منه}(الجاثية:13)..
وهو تسخير يفيد ،في مجمله، كافة الموارد الطبيعية اللازمة لقيام الحضارة من: طاقة، موارد مائية، وسبل مواصلات..الخ..(1/182)
ومن نافل القول أن استثمار تلك الإمكانات المادية (التراب) إنما يحتاج إلى إنسانٍ مُبدع يستلهم الدور المنوط به في الحياة ليحققه، ويعرف معنى "التسخير" الإلهي لتلك الموارد فيقوم به؛ وهي المعرفة اللازمة لتفاعل الإنسان والطبيعة من حوله لكي يجعل من مواردها معيناً له على تحقيق رسالته.. لكن الإمكانات المادية المسخرة لخدمة الإنسان وتحقيق أهدافه؛ إنما هي عرضةٌ للضياع إن لم تصادف الإنسان الواعي لحدود دوره؛ المبدع في تصوراته؛ والمقدّر لأنعم الله عليه..
ومع كل هذا فإن اجتماع هذين العنصرين (الإنسان والتراب) لا يضمنان إنشاء الحضارة ونشر العمران، فهما بحاجةٍ إلى رابطٍ أو ناظمٍ ينتظمهما معاً، وهذا الرابط ليس في حقيقته إلا عنصر "الوقت" ويجب ألا يطوف في خيالنا المعنى البسيط والقريب لهذا المصطلح، ذلك أن نظرة الإنسان للوقت إنما تتوقف عليها كل تصرفاته: حيال نفسه؛ وحيال غيره؛ وحيال كل ما هو موجود من حوله، وقد تضمنت الآية الكريمة ذلك المعنى {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم} إشارة هامة إلى ضرورة استغلال عنصر الوقت بحيث يتم اكتساب أكبر قدر من العمل في أقل وقت ممكن!!.
وسنحاول في هذه الدراسة المتواضعة أن نقوم بتوصيف الدور الريادي الذي قام به القرآن الكريم في سبيل "إعادة تشكيل" و"مَنْهَجَة" العقل العربي في مجال التعامل مع الوقت، وذلك كمقدمة لابد منها لإعادة تشكيل بنية الوعي الحضاري لسكان شبه الجزيرة العربية.
بكلمات أخرى:
نريد أن نقوم بعملية استبطان للوعي الذاتي لدى الإنسان العربي قبل البعثة؛ ومحاولة توصيف كيفية تعامله مع عنصر الوقت؛ والكيفية التي تغير وفقها ذلك الوعي ،بعد ذلك، نتيجةً لتفاعل العقل العربي مع القرآن.
بين منهجين: طبيعي وموضوعي(1/183)
يتميز الإنسان عما حوله من مظاهر الكون الجامدة بكونه مخلوقاً حياً، يأكل، ينام يتنفس، يتزاوج، ويتحرك.. وجميعها مظاهر لحياة ذلك الكائن.. ومع ازدياد معرفة الإنسان بذاته بدأ يتضح له بأن جميع العمليات الحيوية التي تتم داخل جسده تتم وفق وتيرة منتظمة؛ تتكرر كل أربع وعشرين ساعة، يحكمها في ذلك ساعة زمنية بيولوجية دقيقة، تحدد ابتداء العمليات الحيوية؛ وتصاعدها المتدرج؛ وصولاً إلى ذروتها، استعدادا لبلوغها نهايتها الطبيعية، ولتبدأ مرة أخرى من جديد.
ولم يكن غريباً ،والحالة هذه، أن ينام الإنسان في وقت محدد؛ وأن يستيقظ في نفس ميعاد استيقاظه كل يوم.. الخ ليتكرر ذلك النظام الحيوي على توالي الأيام، وإذا ما تغير نظام عيش الإنسان بفعل أي طارئ (كالسفر مثلاً، أو العمل في ورديات مسائية) فإن اضطراباً يمكن أن يطرأ على عمل تلك الساعة، ويظل ذلك الاضطراب قائماً ومسيطراً على حياة الإنسان إلى أن يعتاد على نظام حيوي جديد تتم عملياته الحيوية وفقه.. وهذا هو ما نطلق عليه اسم "الزمن الطبيعي" أو "الحيوي" أو "البيولوجي"..
ومما يتميز به الزمن الطبيعي البيولوجي أنه يتكون لدى الكائن الحي نتيجة عوامل داخلية بحتة (1) وتؤثر (أو تتأثر) به أحاسيس الإنسان، فعلى سبيل المثال فإن الحالة النفسية للشخص تؤثر في طريقة حسابه لهذا النوع من الزمن.. سواء في حالات الفرح أو الحزن!..
__________
(1) صحيح بأن الزمن البيولوجي هو زمن داخلي بالنسبة للإنسان إلا أنه أصبح شائعا اليوم ان الضوء تحديدا هو ما يقوم بتنظيم الساعة البيولوجية للكائنات، فإذا ما تغيرت دورة الضوء لسبب من الأسباب اضطربت حينها الساعة البيولوجية للإنسان، على سبيل المثال: فغن انتشار الضوء الصناعي الذي أحال الليل نهارا سبب للإنسان الكثير من الاضطراب في النوم.(1/184)
ومما يتميز به الزمن الطبيعي ،كذلك، أنه زمن "فردي"، بمعنى: أن تأثيره يكون محصوراً في الشخص ذاته؛ ولا يتعداه إلى الآخرين، وتختلف طريقة الإحساس بهذا الزمن من شخص لآخر بفعل الفروقات الفردية المتعلقة بالحالة المزاجية، وبفعل الحالة النفسية كذلك. وقد وجدنا أن الشاعر العربي امرئ القيس قد تأثرت قدرته على الإحساس بهذا النوع من الوقت نظراً للحالة النفسية والمزاجية الصعبة التي عاشها في لحظة من اللحظات، إلى الدرجة التي أحسّ معها بتوقف الزمن كلياً عن الحركة؛ وهو ما ظهر في أبياته الشعرية:
ألا أيها الليل الطويل ألا انجل ... ... بصبح وما الإصباح منك بأمثل
فيا لك من ليلٍ كأن نجومه ... ... بكلِّ مغار الفتل شُدّت بيذبل
من هنا؛ فلا يعتبر الزمن الطبيعي (الفردي) ناظماً ،بطبيعته، لحياة الأفراد؛ أو باعثاً ومحفزاً لحركتهم الجماعية في الحياة؛ بل يقتصر دوره على كونه محركاً لمشاعر الأفراد تجاه ما يموج حولهم من أحداث، فتأتي انعكاسات تلك الأحداث على مرايا نفوسهم وقد تلونت بطبيعة ذلك الزمن؛ ومتأثرة به!..(1/185)
كذلك فمما يتميز به الزمن (البيولوجي) الطبيعي أنه "غير تراكمي" فهو ،من هذه الناحية، يصلح للتعامل مع عواطف الناس ومشاعرهم؛ لكنه غير صالح لتوصيف وقياس الظواهر الموضوعية في حياتهم (1) والسبب في عدم صلاحيته لذلك ينبع من كون الطبيعة من حولنا ذات طبيعة تراكمية مستمرة!! بمعنى: أن أحداثها ممتدة مستمرة ومتصلة، ويمثل حاضرها امتدادا طبيعيا لماضيها، ولننظر ،مثلا، إلى الجبال من حولنا؛ حيث تعتبر السلاسل الحالية امتداداً طبيعياً لعمليات جيولوجية استغرقت آلاف السنين ،ولازالت مستمرة.. الخ، فكل تلك الظواهر ابتدأت مع ابتداء تخلق كوكب الأرض أو وجدت في مرحلة لاحقة لتلك البداية ولا زالت مستمرة في تكوّنها وانحلالها حتى يومنا هذا، حيث يعتبر وجودها الحالي استمراراً لوجودها الماضي..
وللدلالة على الطبيعة "التراكمية" لزمن الظواهر الطبيعية (الزمن الموضوعي) فإن عينةً من اليورانيوم المشع يمكن أن تفيدنا في تقدير عمر الأرض؛ وذلك من خلال قياس نسبة الرصاص في العينة؛ والمتحول عن المادة الأصلية وهي اليورانيوم (2) ..
__________
(1) على سبيل المثال لا يمكن التعامل مع العلوم من خلال الزمن البيولوجي، فالتغيرات الطبيعية والتفاعلات الكيميائية مثلا تحتاج لمفهوم الزمن الموضوعي للتعامل معها..
(2) ومن المعروف أن اليورانيوم ينحل بالإشعاع؛ بحيث تتحول نصف الكمية منه إلى رصاص خلال فترة زمنية معينة تدعى "فترة عمر النصف".(1/186)
أما فيما يتعلق بنشأة الحضارات الإنسانية وتطورها؛ فقد كان الزمن الموضوعي ،باستمرار، عنصرا لا يمكن الاستغناء عنه لإقامة تلك الحضارات وتطويرها، حيث أن طريقة حساب الوقت في تلك الحالة إنما هي جزء لا يتجزأ من إدراك الإنسان للقوانين الطبيعية اللازم معرفتها لإدراك كنه الحياة وطريقة عملها. ويمكن القول أن جميع الأمم التي استطاعت أن تنشئ حضارات متميزة خاصة بها إنما كان ذلك بفعل التوظيف الصحيح والناجع للعناصر الثلاثة ،آنفة الذكر، مجتمعة..
وعليه؛ فإن الأمم التي لم يكن لها حظٌ من الحضارة والمدنية إنما كان مرجع ذلك ،من جملة عوامل أخرى، افتقارها إلى التوافق والتناغم بينها وبين الطبيعة من حولها، ففيما تكون نظرة أولئك القوم إلى أنفسهم وطريقة تفكيرهم فيما حولهم محكومة بالزمن البيولوجي، فإن العالم من حولهم يتحرك وفق قوانين موضوعية بحتة!!..
لقد كان إحساس الإنسان العربي في شبه الجزيرة العربية قبل البعثة المحمدية الشريفة إحساساً بسيطا.. إحساسا بيولوجياً طبيعياً أكثر منه "موضوعياً". ولم يكن العرب في ذلك استثناء بين الأمم، إذ أن الإحساس البيولوجي أو "الطبيعي" بالزمن كان ،ولا يزال، السمة البارزة التي تميز المجتمعات البدائية والقبلية.
ومع استقرارنا على حقيقة أن ما كان يحكم السلوك العربي قبل الإسلام إنما كان أساسه إحساس عميق بالذات؛ نتج عنه منهج طبيعي بيولوجي في مراقبة العالم المحيط؛ فيمكننا أن نستنتج بأن تلك الطريقة في مراقبة الحياة والتفاعل معها قد ألقت بظلالها على مجموعة من المفاهيم الذهنية التي كانت تراود العرب قبل البعثة المحمدية، حيث كان للحياة ،بالنسبة لهم، اعتبارات ذهنية نفعية واضحة..(1/187)
والحياة في عرف الإنسان العربي قبل البعثة لم تكن تعدو أن تكون امتداداً ذهنياً نابعاً من الجذر اللغوي لكلمة (حيّ) والذي يعني بيولوجيا: "قيام الجسم بوظائفه الحيوية"، وعليه؛ فإن "الحياة" لم تكن تتجاوز كونها "وجوداً بيولوجياً" للنوع الإنساني؛ وهي أقدم دلالة ،كما يبدو، للحياة..
ويمكننا هنا المقارنة بين "المفهوم النفعي البيولوجي" (المشار إليه آنفا) وبين مفهوم آخر يعكس الإدراك "التاريخي" "الثقافي" لوجود المجموع الإنساني، وهو مشتق من الجذر اللغوي "عَمَرَ"، وهي كلمة ترتبط و"العمران" بوثيق صلة، وفيها الكثير من الدلالات التي تتناول "طبيعة الزمن" و"نمط الاقتصاد"؛ و"الروابط المشتركة" بين الأفراد.. ومن هذا الجذر بالذات اشتقت الكلمات الدالة على مظاهر الحضارة الزراعية (عامر، عامرة، عمارة، عمران) وقد ورد هذا المصطلح في القرآن الكريم للتعبير عن الحياة البشرية بسماتها الإنسانية:
{يود أحدهم لو يعمّر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر}(البقرة:96)
و{وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب}(فاطر:11)
كذلك فقد استخدم القرآن الكريم هذا المصطلح لوصف النشاط الأجمل في حياة الجنس الإنساني؛ وهو النشاط المتمثل في بعث الحياة في بيوت الله:
{إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر}(التوبة:18)
ولعل من أسباب تفرد وتميز "العمران" على "الحياة" أن الأولى تأتي متضمنةً الثانية؛ وتتفوق عليها بأنها تأتي مشحونة بمضمون إنساني واضح!.(1/188)
ومع تركيز القرآن الكريم على الطبيعة "الموضوعية" للوجود من حولنا؛ فهو لم يحاول أن يلغي الاعتبارات "الذاتية" للحياة الإنسانية النابضة والمستشعرة لذلك الوجود، بل لقد جعل من الإدراك اللطيف للوجود أمراً مستحيلاً بدون ذات إنسانية مرهفة! فالوجود الموضوعي ،من هذه الناحية، إنما هو امتداد طبيعي ومتقدم لإدراكنا البيولوجي لطبيعة ذلك الوجود، ولعل الارتباط بين شطر الآية الكريمة:{والله خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم جعلكم أزواجا، وما تحمل كل أنثى ولا تضع إلا بعلمه...}(فاطر:11) وارتباطها بالوجود المُتَضَمَنْ في شطرها الآخر: {...وما يعمر من معمّر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب}(فاطر:11).. ما يشير إلى الصلة الواضحة بين "الإدراك البيولوجي" وما يترتب عليه من إدراك "موضوعي" "ثقافي" للوجود!. والإحساس الذاتي البيولوجي (كما يصوره القرآن الكريم) يعتبر مرحلة سابقة على بدء الإدراك الموضوعي الواسع للوجود، لكن الإدراك البيولوجي يجب ألا يلغي الإدراك الموضوعي بحال من الأحوال..
ومن هنا ندرك أن القرآن الكريم قد دمج بين الإدراكين: "الذاتي" و"الموضوعي".. للوصول إلى مزيج لطيف من الإدراك الشامل للوجود من حولنا!.
من نتائج الإدراك البيولوجي للوجود
(الإدراك الأحادي)
لقد كان من نتائج سيادة مفهوم "الزمن الذاتي" "البيولوجي" في حياة الإنسان العربي قبل الإسلام؛ أن انعدم الوعي الجماعي لديهم؛ إلاّ في حدوده الضيقة؛ التي لم تكن تتجاوز القبيلة كمفهوم دال على الجماعة، ولا يوجد في الآثار المخطوطة لمرحلة ما قبل الإسلام (والتي تعود إلى سكان شبه الجزيرة العربية بما في ذلك الصابئة الحميريين) مصطلح يدل على كامل مساحة شبه الجزيرة، فقد كانت "شبه الجزيرة العربية" بالنسبة لكل قبيلة عبارة عن الأرض التي تقطنها! أو التي تمارس خلالها وفي إطارها عملية الترحال، وقد وقر في أذهانهم أن وراء حدود قبيلتهم تقع أراضٍ لقبائل غريبة ،معادية عادة..(1/189)
كذلك فقد أعاقت المسافات الشاسعة لشبه الجزيرة العربية تشكل الوعي بوحدة وتكامل أرض الجزيرة العربية، وقد شكل ذلك الإدراك المنقوص للجغرافيا سبباً مباشراً دفع باتجاه عدم التفاعل مع تلك الجغرافيا، صاحبه تأخر مقابل في أساليب الاستثمار المثلى لخيراتها، وهو ما انعكس في صورة عجز عن إقامة الحضارة؛ اللهم في حدودها الدنيا المتمثلة في رقيّ كبير في مجال الشعر!..
وإذا ما أردنا استجلاء حقيقة نظرة الإنسان العربي قبل البعثة إلى ما حوله من مظاهر الطبيعة، وتبيُن "المنظور الزمني الضيق" الذي نظر إلى تلك الظواهر من خلاله؛ فلن نجد أفضل من الشعر (ديوان العرب) وسيلة لجلاء تلك الحقيقة، حيث تمثلت شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام رابطة "ثقافية" واحدة، وتمَثَلَ التعبيرُ الأكثرُ أهمية عن هذه الثقافة في تكوّن اللغة الأدبية العامة؛ وتطور الشعر المكتوب، والذي اعتُبِر من قبل الجميع ،آنذاك، حِرزاً عاماً للتعبير عن الذات.
وعلى الرغم من الخصوصية القبلية لكل شاعر من شعراء شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام؛ إلا أنهم كانوا جميعاً ينظمون شعراً يحمل سماتٍ عامة لشبه الجزيرة العربية، بحيث يكون مفهوماً لكل قبائلها؛ ويحمل السمات العامة والقواسم المشتركة فيما بين قبائلها، وقد عكس ذلك توافقا كبيراً بين تلك القبائل تجاه كل ما يتعلق باللغة.
ولقد اعتُبر الشعرُ منذ القدم أرشيفاً للعرب، بحيث يكاد يكون الوسيلة الرئيسة والوحيدة للتعبير عن الذات في مرحلة ما قبل الكتابة، ويمكن اعتباره المنهل الأهم ،والأكثر موثوقية، في التعبير عن أوضاع العرب آنذاك. لأجل ذلك فقد اعتنى العرب بشعرائهم عنايةً فائقةً لا يدانيها إلا عنايتهم بمحاربيهم! إذ كثيراً ما اضطرت القبائل العربية للدفاع عن نفسها ،ثقافياً، أمام الخصوم، ولم يكن المدافعون عن حياضها هذه المرة إلا الشعراء!!..
قضايا واهتمامات
الإنسان العربي قبل البعثة(1/190)
كان الشعراء العرب قبل البعثة النبوية الشريفة يتناولون في أشعارهم قضايا ذات مضمون ذاتي قبلي إنساني؛ يسترجع التصورات الروحانية لتراث القبيلة، أو يشرح نشوء عناصر الثقافة والمعيشة والعادات والشرائع؛ أما المعلومات ذات المضمون الكوني الموضوعي؛ فلم يتم إثباتها ضمن معارفهم القابلة للتناقل من جيلٍ إلى جيل!.
كذلك فقد كان الإنسان العربي قبل الإسلام مرهف الإحساس تجاه ذاته، شديد الانفعال تجاه واقعه، يُرى ذلك في أشعارهم التي اهتمت بتصوير تلك المشاعر والأحاسيس.
وفي أبيات "عبده التميمي" (1) نجد تصويراً صادقاً لتلك الانفعالات:
لقد علمتُ بأن قصري حفرةً
غبراء يحملني إليها شرجعُ
فبكى بناتي شجونهنّ وزوجتي
والأقربون إلىّ ثم تصدّعوا
ومثله قول "طرفة بن العبد":
فإن متّ فانعيني بما أنا أهله ...
وشُقّي عليّ الجيبَ يا ابنة معبد
ولا تجعليني كامرئٍ ليس همه ...
كهمّي ولا يُغني غِنائي ومشهدي
والمتأمل للشعر العربي قبل الإسلام يجد أنه كان انعكاساً أصيلاً للإنسان ذاته؛ بتركيبته النفسية المفعمة بالفرادة والخصوصية، إذ كانت أشعارهم تؤصل لأحاسيس عارمة بالزمن الطبيعي "البيولوجي" شديد المساس بالمتحدث ذاته، إلى الدرجة التي تحول معها الشعر إلى مهمة "التأريخ للأحداث الخاصة" في حياة الشعراء.
كذلك فقد رصد الإنسان العربي ،قبل البعثة الشريفة، معالم الزمن البيولوجي من خلال رصده لـ "علامات الحياة الإنسانية" بعمومها، مستخدماً في ذلك مصطلحات تدل على النشاط الحيوي الإنساني، أو تتعلق به.
ويمكن أن نلاحظ في شعر نهاية القرن السادس والربع الأول من القرن السابع تقوية الاهتمام ،تدريجياً، بالخصائص الزمنية للوصف، حيث باتت أشعارهم مفعمة بالإشارات "الزمنية" المختلفة.
__________
(1) شاعر من النصف الأول للقرن السابع الميلادي.(1/191)
وقد مر تشكل مفهوم الزمن (الذاتي البيولوجي) لدى الإنسان العربي قبل الإسلام بأطوار كان الشعر في حينه دائم الإشارة إليها، فكانت المظاهر الطبيعية البيولوجية أشد ما استوقف الشعراء في ذلك الوقت، تلك المظاهر التي تصيب ،عادة، الجسد الإنساني؛ والتي يساهم الزمن ،بشكل طبيعي، في تشكلها.
على سبيل المثال فقد حفلت أشعارهم بوصف مظاهر الشيخوخة، وهي العلامات التي ترتبط طبيعياً بالزمن؛ فقد وصفوا "الشيب"؛ وأوردوا مظاهر "العجز والفناء"، وتناولوا ،من ثم، "عدم أزلية الحياة"، فخلصوا إلى حقيقة أن حياة الإنسان إنما هي عبارة عن مجموعة من "الأدوار البيولوجية" المتتابعة من: (ولادة، نضج، شيخوخة، عجز، فوفاة..).
ونقرأ ،كمثال، ما قاله "عمر بن قميئة" لنرى كل تلك المظاهر ولو بصورة مقتضبة:
فَزِعَت تكتم وقالت عجباً
أن رأتني تغيّرَ اليوم حالي
يا ابنة الخير إنما نحن رهنٌ
لصروف الأيام بعد الليالي
ومما يؤكد مذهبهم "الذاتي" في النظر للطبيعة والحياة من حولهم؛ أنهم كانوا يؤرخون للعلامات الهامة في حياتهم (من ولادة، وموت..الخ) بالدلالة عليها بما يقترن بها من أحداث تحل بشكل طبيعي في مجرى حياة الإنسان.. وليس أكثر دلالة على ذلك من اقتران السنة التي ولد فيها النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) والتأريخ للميلاد الشريف مقترناً بعام الفيل!
الموقف من الحياة والموت
كمؤشر على الموقف من الزمن بشكل عام
"الوجود هو الحياة ذاتها؛ لكنه لا يتعداها.."!!..
لقد كان هذا هو اعتقاد العرب قبل البعثة النبوية الشريفة، مما عنى لهم أن انقضاء "الحياة" بالموت إنما يعني ،بالضرورة، انقطاع الزمن وانتهاء "الوجود" ذاته، ذلك الوجود الذي غالبا ما كانت تتحدد ملامحه بعلامات "الحياة" ذاتها عبر مراحلها المختلفة، حيث كثيراً ما استعيض عن الزمن بمصطلحات تدل على النشاط الحيوي للإنسان، أو تتعلق ،بذلك النشاط، على أقل تقدير!.(1/192)
ويمكن الافتراض اليوم بأن مفهوم الزمن عند العرب قبل الإسلام إنما كان تعبيراً مقابلاً ومكافئاً لصفة "الوجود" الإنساني على الأرض! دون أن يشمل الأبعاد "الغيبية" التي كشف عنها الإسلام فيما بعد (1) وقد كان الإنسان العربي قبل البعثة المحمدية الشريفة يؤمن أن انتهاء الحياة بالموت يوقف الزمنَ بالفعل وينهيه!.
ويبرز مفهومهم للزمن من خلال اهتمام موروثهم الشعري والنثري المنقول عن الحقب السابقة للإسلام بكلا النوعين من الزمن ("الماضي" و "الحاضر" على حدٍ سواء) على اعتبار أنهما أجزاء طبيعية لمادة الحياة التي يعرفها العربي ويدرك كنهها جيداً، إلا أن إدراكهم توقف (بل عجز) عن استكناه الزمن ببعده "المستقبلي"!!؛ كون الموت يشكل حائلاً وحاجزاً بين ماضي وحاضر الإنسان ،من جهة، وبين مستقبله "ذي الطبيعة الغيبية" من الجهة الأخرى، حيث يخرج ،الأخير، بإحاسيسهم من إطارها "الذاتي" الذي اعتادوا عليه إلى إطار جديد لا يعرفون عنه شيئاً؛ ألا وهو الزمن الغيبي "ما وراء الموضوعي"، وهو ما لم يتسنَ للعرب أن يدركوه في ذلك الوقت!.
وبنفس المنطق الذي تعامل الإنسان العربي قبل الإسلام من خلاله مع قضية "الموت" تعامل من خلاله أيضاً مع قضية "القدر" حيث يشكل كلاهما نوعاً من الإدراك المستقبلي للزمن، وقد بقي موقف الإنسان العربي ،تجاه "القدر" ضبابياً غير واضح!! إذ ظل خاضعاً لنفس المعايير الآنية السائدة، والتي جاء الإسلام ،فيما بعد، ليضيف إليها أبعاداً إضافية كانت غير معروفة حتى ذلك الحين.
ويتلخص موقف الإنسان العربي ،قبل البعثة، حيال "القدر" في أنه ظل غير قادر على استيعابه (أي استيعاب القدر) لعجزه عن التنبؤ بما رسمه وبما احتواه في رحم الغيب، وبقي العربي على اعتقاده بأن "القدر يعمل كقوة فطرية عمياء"!!.
__________
(1) وهي مراحل وجود غيبي قبل الوجود الأرضي وبعد انتهاء الحياة.(1/193)
ولا يمكننا تفسير موقف الإنسان العربي من القدر وفهم ذلك الموقف بالشكل الصحيح إلا على ضوء إدراكنا لحقيقة أن الصورة الذهنية للبعد الغيبي (ما وراء الموضوعي) كانت غائبة عن مداركهم تمام الغياب، ولعل في أبيات "زهير بن أبي سلمى" ما يوضح الصورة المهتزة والغائمة لموقف الإنسان العربي تجاه "الأقدار":
رأيت المنايا خبط عشواء من تُصب
تمته ومن تخطئ يُعمر فيهرم
ولقد كان موقفهم هذا بعيداً كل البعد عما جاء به الإسلام لاحقا، من أن الأقدار إنما هي إرادة الله ومشيئته التي كتبها على العباد، مصداقاً لقوله تعالى:{قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا وعلى الله فليتوكل المؤمنون}(التوبة:51) وتحقيقاً لقوله تعالى {إن الله عنده علم الساعة، وينزل الغيث، ويعلم ما في الأرحام، وما تدري نفس ماذا تكسب غدا، وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير}(لقمان:34).. وبذا فقد انتفت العشوائية العمياء عن مصير الإنسان؛ لتستقر الأمور على ما يشاء الله ،للإنسان، ويرضى.
النهج العربي قبل الإسلام
وآلية تحويل "الموضوعي" إلى "ذاتي"
إذا ما رحنا نتأمل اللغة ،أية لغة، فسنجد أن أهم ما يميزها: وجود نوعين من المعاني (1) لكل لفظ من ألفاظها، الأول: وهو المعنى اللغوي، حيث كثيراً ما تتعدد المعاني اللغوية للفظ الواحد؛ يشهد على ذلك مجموعة الألفاظ الموجودة في معجمات اللغة إذا ما رحنا نبحث عن المعنى اللغوي للفظ من الألفاظ..
أما النوع الآخر من المعاني؛ فهو "الاصطلاحي"، وهو معنىً محدد للفظ المقصود، ويتميز هذا المعنى بصفتي: الدقة والوضوح، كما يتميز بكونه يعقد في أذهان الناس رابطةً ذهنيةً شديدة الإحكام بين اللفظ ومعناه في زمانٍ ومكانٍ بعينهما..
__________
(1) سنتعرض لهذا الأمر بشيء من التفصيل حين نعرض لموضوع "ظاهرة النسبية في القرآن الكريم".(1/194)
ويمكن للمعنى الاصطلاحي للكلمة أن يتغير بين وقتٍ وآخر، ومن منطقة لأخرى، حيث يمكن أن ينتشر معنىً معين ويشيع من جملة المعاني اللغوية المحتملة؛ وذلك على حساب المعاني الأخرى. على سبيل المثال فإن كلمة "عصابة" قد استخدمت فيما سبق للتعبير عن معنى جميل هو "الجماعة" ومنه ما ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) (اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض) لكن تحولاً قد طرأ على معنى ذلك اللفظ في أيامنا هذه، فأصبح يشير إلى العصابة بمعنى "جماعة الأشرار"!!..
والحديث عن المعاني اللغوية والمعاني الاصطلاحية للألفاظ هو المدخل الطبيعي الذي يمكن أن ننساب من خلاله لنلامس الطريقة التي تعامل بها العرب مع مصطلحات زمانهم، وعن مقاصدهم من وراء استخدامهم لألفاظ بعينها، وهل أنهم قصدوا من وراء استخدامهم لها ما نقصده نحن اليوم من معانيها الاصطلاحية؟!..
إن توقفاً متأنياً أمام هذا الأمر سيفيد بأن العرب لم تكن تنقصهم الألفاظ، ذلك أن لغتهم قد تميزت بالقوة والفرادة، وتوفر لهم من الفصاحة والبيان ما لم يتوفر لغيرهم، لكن يستوقفنا أن الألفاظ آنئذ لم تكن تعني لهم ،بالضرورة، ما تعنيه لنا اليوم! بل ظلت تلك الألفاظ ذات ارتباط وثيق بذات العربي وطبيعته النفسية، أي أنه قد عاد وأخضع تلك الألفاظ لمقاييسه الذاتية، ونقلها من مربع "الزمن الموضوعي" إلى مربع "الزمن الذاتي" والبيولوجي أو الطبيعي؛ شديد التعبير عن نفسه وذاته هو!...(1/195)
على سبيل المثال؛ فلنأخذ كلمة "يوم" والتي تعني لنا اليوم محتوىً لفظياً محدداً هو: زمن الدورة الكاملة للأرض حول نفسها، والذي يقدر بحوالي أربع وعشرين ساعة من الزمن الأرضي. فماذا كانت تعني كلمة "يوم" بالنسبة للإنسان العربي قبل البعثة؟!.. وهل عنت لديهم (يوما مقداره أربعا وعشرين ساعة)؟!! بالتأكيد لا؛ لكننا سنجد أن معناه قد مال لديهم باتجاه المعنى اللغوي؛ حيث أشارت الكلمة (من جملة ما أشارت إليه) إلى: "زمن اليوم" وبشكل خاص الفترات النهارية، وكان المصطلح نفسه يشير كذلك إلى: "فترة من اليوم" دون أية علاقة بزمن شروق أو غروب الشمس!. ومن جملة معاني "اليوم" في معاجم اللغة: "الوقت من طلوع الفجر إلى غروب الشمس". وتعني كذلك: "الوقت مطلقاً"، أيام الله: أي "نِعَمَهُ ونِقَمَهُ"، وأيام العرب: "وقائعها وحروبها".
كذلك فقد استعمل العرب وحدات توقيت أخرى تشتمل على مضاعفات اليوم، وذلك وفقاً لوحدة ثلاثية هي (ثلاث ليال) وقد كانت تشكل وحدةً توقيتيةً شائعة الاستعمال، وقد جعل العرب لكل ثلاث ليال من الشهر تسمية خاصة بها؛ واحتفلوا بالأيام الثلاثة المعتمة الأخيرة غير المقمرة من كل شهر كنهاية له. ولعل ميلهم لاستعمال تلك الوحدة قد نبع من احتياجات ذاتية بحتة، حيث كانت تمثل لهم قيمة هامة من الناحية الاجتماعية، مثل مدة ضيافتهم للضيف. ومثلت ،تلك الوحدة، كذلك فترة زمنية ذات مغزى في قوانينهم الجنائية العشائرية..
ولم يقتصر تعاملهم الفضفاض مع "التوقيت" على كلمة "يوم" ومضاعفاتها، بل اتخذت مسألة التوقيت ،بعمومها، طبيعة ذاتية؛ فضفاضة؛ غير موضوعية. على سبيل المثال فقد اتخذ العرب من موسم الحج السنوي علامة من علامات التوقيت، وعليه؛ فقد شاع لديهم استخدام مصطلح "حجة" والذي عنى لهم حينذاك: "الفترة الزمنية ما بين موسم الحج والذي يليه" وهي تعادل امتداد سنة قمرية كاملة: ومنه قول عمر بن القميئة:
كأني وقد جاوزت تسعين حجةً(1/196)
خلعت بها يوماً عِذار لجامي
وقول زهير بن أبي سلمى:
وقفت بها من بعد عشرين حجة
فلأياً عرفت الدار بعد توهم
من هنا يمكن التأكيد على أن اصطلاح العرب على تلك الألفاظ لتدلهم على مرادٍ زمني معين إنما جاء في سياق ارتباط تلك المفاهيم ارتباطاً وثيقاً بذواتهم؛ وممارساتهم؛ وعاداتهم التي كانوا عليها..
على سبيل المثال فإن اصطلاحهم على كلمة "حجة" لتمثل "السنة" أو "العام" إنما نبع من موسم الحج السنوي؛ والذي يعتبر من أقدس أيام العرب وأهمها على الإطلاق..
وما بين "يوم" و "عام" فقد أقّتّت العرب لحياتها بالأحداث الهامة التي اعترضت لهم، وقد انقسمت الوحدة الأخيرة (الحجة) إلى وحدات زمنية أصغر، مع بقاء "العامل الذاتي" قاسماً مشتركاً يجمع بينها جميعاً فقد انقسم العام (الحجة) لديهم إلى اثني عشر شهرا: ثمانية منها محُللة؛ وأربعة منها حُرُمْ، وقد اتجه العرب إلى حروبهم وغزو بعضهم البعض طوال الأشهر الثمانية المحللة، إلا أنهم التزموا بالأربعة الأخرى وأبقوا عليها كأشهر محرم فيها القتال. وقد ابتدأت الأشهر العربية بالمحرم وانتهت بـ "ذي الحجة" فجاءت أسماؤها مشتقة من صميم حياتهم وعاداتهم. ومن استقرائنا للشعر العربي يمكننا أن نجد أن هذا النوع من التوقيت الزمني قد استخدم في أصقاع مختلفة من الجزيرة العربية وذلك في القرن الخامس وحتى منتصف القرن السابع الميلادي.
شواهد قرآنية
على الإحساس الزمني البيولوجي عند العرب(1/197)
عندما تنزل القرآن الكريم على محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وسلم) كان العرب قد اشتهروا بفصاحتهم؛ وفروسيتهم؛ ورقة مشاعرهم التي تجلت في أشعارهم التي لم تَجُدِ البشريةُ بأرقّ منها، وقد تنزل القرآن الكريم آيات وسور؛ كانت تراعي المستويات النفسية والموضوعية لدى من أتت لمخاطبتهم، وهو ما يتجلى في السمات الأساسية والملامح العامة التي ميزت كلا من القرآن المكي والمدني، حيث بدا وكأن كلاً منهما (المكي والمدني) يخاطب إنساناً مختلفاً! فحيث كان القوم في مكة في جاهلية تعمى وتصم، يعبدون الأوثان، ويشركون بالله، وينكرون الوحي، ويكذبون بيوم الدين..الخ؛ حيث كان القوم كذلك؛ نزل الوحي المكي: قوارعَ زاجرةً، وشهباً منذرةً.
وعلى العكس من ذلك فقد وجدنا الآيات المدنية: طويلة المقاطع؛ أتت أقل إفعاماً بالانفعال (1) وقد جاءت السور المدنية لتفصل أصول التشريع، وتضع قواعد المجتمع والدولة.. الخ؛ وهذا هو الطابع العام للقرآن المدني.
ولعل الفوارق بين القرآن المكي و المدني تجسد الفوارق التي طرأت ،فيما بعد، فميزت بين إنسان ما قبل البعثة وإنسان ما بعدها!! ففي حين كان الأول مفعماً بالعواطف والانفعالات الجياشة؛ صار الثاني إنساناً مفكراً؛ فكان دائم التأمل في ذاته، كثير النظر في الكون من حوله، مما أَهَلَهُ لأن يصبح صانع حضارة من الطراز الأول!..
وقبل أن تنجح الدعوة الإسلامية في إنتاج نموذجها الإنساني الفريد؛ كان القرآن الكريم يخاطب القوم ،الذين نُزّل القرآن فيهم، مراعياً خصوصياتهم؛ متمهلاً عليهم في ضعفهم، فخاطبهم على قدر عقولهم وقلوبهم؛ دون إهمالٍ لمقتضيات الرسالة التي جاءت لترفعهم إلى مصافٍِ جديدٍِ ينطلقون منه لتغيير معالم الوجود من حولهم!!..
__________
(1) يعتبر قِصَر العبارات مؤشراً على حالة نفسية مفعمة بالانفعال.(1/198)
ولقد صور القرآن الكريم ما كان عليه العرب قبل البعثة أجمل تصوير، فها هو يصور منطقهم المرتكز على نظرة مادية خالصة للحياة؛ لقد كانت نظرتهم لما حولهم نظرة قريبة الغور؛ وذات رؤية طبيعية بيولوجية؛ فقد كانت قضايا جدلهم الدائم من نوعية:
{أإذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أإنا لمبعوثون}(الصافات:16)(سورة مكية)
وادّعوا:{ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر}(الجاثية:24)(مكية)
وكما يشير القرآن الكريم فإن العرب ،قبل البعثة، راقبوا الحياة وملامحها الأساسية من خلال ملامحها البيولوجية الخالصة، وقد رأوا فيها مشهداً سينتهي حتماً بالموت!!.
الزمن في القرآن الكريم
تحدثنا فيما مضى عن الزمن البيولوجي وارتباطه بالمشاعر والأحاسيس الداخلية للإنسان، وتحدثنا كذلك عن عدم صلاحية ذلك النوع من التوقيت لرصد الظواهر الموضوعية التي تحدث في الطبيعة من حولنا، ذلك أن الطبيعة نفسها محكومة بزمن موضوعي ذا طبيعة تراكمية يمكننا من مراقبتها وحسابها بدقة؛ بعكس الزمن البيولوجي الذي يتخذ لنفسه شكل الدورات المتعاقبة التي تبدأ دائما من نقطة الصفر لتعود إليه!..
وعرفنا كذلك أن الزمن الموضوعي يشكل العلاقة بين الفرد ومحيطه، وهو صالح لقياس الظواهر الكونية والحقائق العلمية؛ كونه ذا طبيعة تراكمية، فهو: مستمر؛ متواصل؛ وممتد من الماضي عبر الحاضر وإلى المستقبل.
أما عن الزمن المطروح قرآنيا فهو "متصل" و "مستمر".. لا ينفصل فيه الماضي عن الحاضر؛ ولا ينفصلان بمجموعهما عن المستقبل (1) .
__________
(1) المستقبل بشقيه: سواء المستقبل الأرضي، أو المستقبل بمعنى "ما بعد الموت".(1/199)
لكن العلاقة التي تربط بين أجزاء هذا الامتداد لم تكن مجرد علاقة ذهنية موضوعية فحسب، بل تجاوزت ذلك لتصبح علاقة تقرير مصير، فالماضي ليس مجرد أحداث تذكر بغرض الدراسة الأكاديمية فحسب، لكنها تمتلك قيمة انفعالية وأخلاقية عالية؛ يمكن أن تساهم في تعديل مسار الحاضر لأجل مستقبل إنساني أفضل!!.
ولقد ذُكر الزمن "الماضي" في القرآن الكريم على أساس أنه "ذِكرى" و"عبرة" للاستفادة منها في الحياة الحاضرة، بينما ظل المستقبل الموضوعي (المستقبل بصيغته الأرضية وليس المستقبل الأخروي) ذا سماتٍ جدِّ عاديةِ!! فلم يحتفل القرآن به، ولربما يرجع ذلك إلى القناعة التي ظل الإسلام يحاول ترسيخها لدى أتباعه، ألا وهي أن "المستقبل بيد الله"، وأن قدرة الإنسان على التحكم به هي قدرة مشكوك فيها! لذلك فقد وجدنا القرآن الكريم يؤكد دائماً على أسلوب عيش يرتكز على:
{ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله}(الكهف:23)
وقد تأكد هذا المعنى بقوله تعالى:
{وما تدري نفسٌ ماذا تكسب غدا، وما تدري نفسٌ بأي أرض تموت}(لقمان:34)
منهج قرآني
(الذاتي في إطار الموضوعي)
كما رأينا فيما سبق فإن القرآن الكريم قد ساير العرب في المراحل المختلفة لتطورهم الفكري والتصوري، فأورد الحجج التي ساقها المغرقون منهم في النظرة المادية للحياة؛ وقد أوردها كما هي:{أإذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أإنا لمبعوثون}(الصافات:16)(مكية)وأورد كذلك ادعاءهم:{ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر}(الجاثية:24)(1/200)
إلا أن القرآن الكريم سعى في الوقت ذاته لتقديم "الحياة الدنيا" بصورة وارفة ظليلة، وذلك بعرضها من خلال منظورها الديني؛ حيث لم يقدمها للعرب بوجهها المادي السافر الذي ما عرفوا غيره، كما لم يقدمها في صورتها التجريدية البحتة التي ترتفع عن مستوياتهم العقلية وتصوراتهم الآنية، بل لجأ إلى تصويرها على الصورة التي خبروها؛ لكن في سياق موضوعي غير ذلك الذي عرفوه واعتادوا عليه!! فلم تعد "الحياة" و"الموت" مجرد تكرار يبدأ لينتهي، كما صوروهما حين قالوا: {نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر} بل أصبح للحياة والموت سياق آخر مختلف؛ إذ أصبح لهذا التتابع ،من الحياة والموت، نتيجة تراكمية يمكن ملامستها والبناء عليها!..
وفي هذا السياق فإن ملاحظة هامة تستوقفنا، وهي أن القرآن الكريم قد استخدم نفس اللفظ الذي استخدموه (الدهر) بفارق أن السياق القرآني قد أتى ضمن إطار موضوعي مغاير، فحمل المعنى إلى اتجاه آخر مختلف غير ذلك الذي كان يقصده العرب!!
وبالعودة إلى قواميس اللغة فسنجد أن كلمة "دهر" تحتمل: "الأمد المحدود" كما تحتمل كذلك: "الزمان الطويل"! وحسب رأينا فإن السياق وحده هو من سيحدد أي المعنيين هو المراد، وفي الحالة الأولى {نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر} فقد قرنوا "الدهر" بحياتهم هم، لذا فإن معناه هنا يتجه ناحية "الأمد المحدود"، أما في الحالة الأخرى فقد أوردها القرآن الكريم مقترنة بحياة الإنسان من حيث هو إنسان (ليس شخصا بعينه) {هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكورا}(الإنسان:1)..
من هنا فإننا نميل إلى أن الحالة الثانية هي ذات طبيعة موضوعية تراكمية!..(1/201)
كذلك فقد سعى الإسلام ،من خلال المنهجية القرآنية، إلى رفع المستوى التصوري والعقائدي للعرب؛ حيث بدأ القرآن الكريم بالدمج بين طبيعتهم البسيطة قريبة الغور وبين المقامات ،الموضوعية، العالية التي يريد أن يرفعهم إليها! وذلك من خلال دمج تصوراتهم ،ذات الطبيعة الجزئية، ضمن سياقات موضوعية تصورية جديدة، وهنا تبدأ الأحداث (التي كانت تتراءى لهم في شكلها الجزئي) تُعرض لهم ضمن سياقات جديدة أعطتها امتدادا واضحا! مثال ذلك الآية التي جاءت لتعرض الموت والحياة في سياق جديد أكثر امتداداً:
{ولا يملكون موتاً ولا حياة ولا نشورا}(الفرقان:3)
فلم يعد الموت والحياة مجرد مظهرين من مظاهر الوجود البشري على الأرض؛ بل أصبح لذلك الوجود امتداداً إضافياً واسعاً؛ يتمثل في "البعث" و"النشور" وهي من التصورات العقائدية المستجدة على حياة العرب!.
من الجدير ذكره هنا أن سورة "الفرقان" التي أضافت هذا الامتداد التصوري الجديد هي سورة مكية وتحتل المرتبة (42) من حيث ترتيب النزول، ولعل ترتيبها في بداية الثلث الثاني من القرآن الكريم يفسر النقلة الرائعة التي أحدثها القرآن الكريم في حياة العرب! حيث نقلهم من التصورات الجزئية إلى تصورات جديدة أكثر تكاملا؛ وكان أشد ما ميز تلك التصورات تكونها من أجزاء عديدة لكن ضمن إطار موضوعي واحد يجمعها!!.. نجد تأييدا وتأكيدا لذلك فيما ذهب إليه القرآن الكريم من تصويره للحقائق الموضوعية المحيطة بالعرب بكيفيةٍ تمكنهم من فهمها؛ مع محاولة دائبة منه لرفعهم من الأدنى إلى الأسمى، ومن المادي إلى التجريدي..
ولنتأمل قوله تعالى:
{واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيماً تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا}(الكهف:45)(1/202)
ففي سورة تقع في المرتبة (69) من حيث ترتيب النزول تتجسد الحياة كنباتٍ تتتابع مراحله المختلفة أمام أعين الناظرين، وهو تصوير قريب من أذهان وعقليات العرب آنذاك، لكن أضيف إلى الصورة أبعاد جديدة، وذلك عندما تم تصوير الحياة على أنها تلك الممتدة والمستمرة استمرار نزول المطر، مستفتحا الحديث عنها بفعل مسند إلى الذات الإلهية {أنزلناه} ومختتما باسم الله القدير {وكان الله على كل شيء مقتدرا} وهذا هو السياق الصحيح الذي يجب النظر إلى الحياة من خلاله!!.
إلا أن القرآن الكريم ،وعلى الرغم من إقراره لذلك النوع من التعامل مع الطبيعة من حولنا (إن أتى في سياقه الموضوعي الدالّ على قوانين السببية) إلا أنه أوضح ،في الوقت ذاته، أن ورود ذلك التعامل في غير سياقه الموضوعي الصحيح إنما يمثل طريقة تعامل المجتمعات البدائية غير المتحضرة مع المفردات في عالم الشهادة، وهي طريقة تتميز بإنكارها لعالم الغيب في كثير من الأحيان، وذلك حين قال: {وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم}(يس:78)..
مما سبق نخلص إلى القول بأن الإنسان العربي ،قبل البعثة وبعدها، قد تنازعته نزعتان مختلفتان؛ كانت الأولى منهما تشده إلى أعماق ذاته، فتلونت بتأثيرها كل مفردات الوجود المحيط به، بينما حاولت الأخرى أن تجذب فكره إلى ما يحيط به من ظواهر وأشياء؛ يجمع بينها أنها تسير وفق قوانين وسنن موضوعية لا تتأخر ولا تتخلف.
ما الذي فعله القرآن بالعرب؟!!
تحدثنا فيما مضى عن النقلة النوعية التي أحدثها القرآن الكريم في حياة العرب، ولم تكن تلك النقلة مقصورة على ما أضافه القرآن الكريم من مغزى لحياتهم، ولم تقتصر كذلك على مجموعة العبادات ونظم المعاملات التي قدمها لهم، لكن الفعل الأهم كان في مجال "المنهج"، وندرك اليوم بأن التحولات الحقيقية في حياة الأمم إنما هي تلك القائمة على أساس إيجاد منهج جديد لا على إضافة طقوس جديدة إلى حياة الناس!!..(1/203)
نقلة على مستوى المفاهيم!
لقد كان القرآن الكريم المحرك الأول للنقلة الموضوعية التي حدثت في المجتمع العربي في زمن البعثة؛ فحركت إحاسيسه تأثراً وتأثيراً، ونقلته من دائرة الإحساس الذاتي الضيق إلى دائرة المراقبة الموضوعية الواسعة ،والواعية في الوقت ذاته، لما يحيط به.
وقد ترافقت نقلة القرآن الكريم للعرب مما هو "ذاتي" باتجاه ما هو "موضوعي" مع نقلة إضافية نقلتهم من مفهوم "القبيلة" الضيق إلى مفهوم "الأمة" المتسع والقابل دائما للاتساع. وقد ترافقت تلك النقلة مع عملية نحت وتوصيف للمصطلحات بشكل يضمن لها معانيها الموضوعية.
ولقد كان من جملة ما فعله الإسلام بالعرب أن نقلهم من "الانفعال" بالحياة من خلال الأحاسيس الذاتية؛ إلى مرحلة "الفعل" وذلك من خلال مراقبة التراكم الزمني المستمر في الظواهر المحيطة.. وبمساعدة هذا المنهج الموضوعي في النظر إلى الحياة؛ أصبح الزمن جزءاً من أية ظاهرة يعايشها الإنسان، وأصبح واضحاً: عدم إمكانية إدراك أية ظاهرة إدراكاً حقيقيا إلا من خلاله؛ ولم يعد الزمن (التوقيت للأشياء) مجرد انعكاس للظاهرة المحيطة على صفحة الأحاسيس الذاتية للإنسان؛ بل تأريخاً لبداية الظاهرة والمراحل المختلفة لتطورها.
وفيما يلي بعض من مظاهر النقلة الموضوعية التي أحدثها القرآن الكريم في حياة العرب:
نقلة موضوعية في مجال التدوين !
تحدثنا فيما سبق عما مثله الشعر من قيمة في حياة العرب بحيث غدا ديوانا لهم، ذلك أنه قام بدور التدوين للأحداث الهامة في حياتهم، وهي المهمة التي يفترض بالكتابة أن تؤديها وأن تقوم بها، إلا أن الشعر ظل عاجزاً عن القيام بمهمة التدوين تلك؛ لكونه أداة تدوين للانفعالات والأحاسيس وليس من طبيعته التدوين لما هو موضوعي، فهو لا يصلح ،على سبيل المثال، لتدوين العلوم أو التأريخ للأحداث بصورة موضوعية!.(1/204)
وقد ظلت قبائل شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام مكتفية بالشعر؛ بحيث بقيت عملياً دونما كتابة، رغم أنها عاشت قروناً متجاورة مع شعوب ذات حضارات قديمة ذات كتابات متطورة!. وفيما يتعلق بأثر الإسلام على حركة التدوين فقد كان له أثر حاسم في ذلك التوجه الموضوعي نحو التدوين؛ ولدى نظرنا اليوم إلى تلك الانعطافة الهامة في تاريخ العرب سيتشكل لدينا انطباع وكما لو أن العرب قد دخلوا إلى مرحلة الكتابة بدون مقدمات!! حيث صاروا ،وخلال وقت قصير جداً، متقنين لكتابة متطورة واسعة، بل إن فضيلة "إتقان الكتابة" قد تحولت من "التجربة المجدية" إلى "فضيلة دينية" يشهد على ذلك إطلاق سراح الأسرى مقابل تعليم أطفال المسلمين القراءة والكتابة.
ولعل المؤثر الأهم في نشأة حركة التدوين والاتجاه نحو الكتابة ما أمر به رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من تدوينٍ للقرآن الكريم؛ وقد نشأ عن ذلك التوجه حركة أرشفة واسعة؛ ساهمت في حفظ التراث العربي قبل الإسلام (الشعر على وجه الخصوص) لكن مما يؤسف له أن تلك الحركة لم تستطع أن تنقذ إلا التراث المتأخر القريب من بعثة الإسلام، فقد كتب "هشام الكلبي" (1) في هذا الصدد قائلاً: "لم يحفظ العرب من أشعارها إلا ما كان قبيل الإسلام"..
ما نريد قوله هنا هو أن حركة التدوين تلك لم تكن إلا وجهاً من وجوه النقلة النوعية والموضوعية التي أحدثها القرآن في حياة العرب، حيث قادتهم تلك النقلة من مرحلة "استبطان الذات" إلى الانطلاق الواسع باتجاه المحيط، وكذا الانفتاح على الطبيعة؛ والذي قادهم بدوره إلى التفوق في العلوم المختلفة كالفلك والطبيعة والكيمياء والطب!!الخ...
نقلة نوعية في مجال التأريخ!
__________
(1) وهو أحد البحاثة العظام لمرحلة ما قبل الإسلام على تخوم القرنين الثامن والتاسع الميلاديين.(1/205)
ومما أضافه القرآن الكريم للبنية الثقافية للعرب أن أعطاهم بعداً جديداً للزمن يتمثل في إدراك أعمق لما يمثله "الماضي" بالنسبة لهم وانعكاسه على حاضرهم ومستقبلهم، فلم تعد الأمور بالنسبة لهم مقصورةً على مجرد كون التاريخ مخزوناً للذاكرة المنقولة مشافهة (لغياب التدوين) إذ أصبح للماضي ،بفضل القرآن الكريم، بعدا موغلا في عمق التاريخ؛ مرتكزاً ،في الوقت ذاته، على قاعدة واسعة من القصص الذي يؤرخ للإنسانية ابتداء من آدم عليه السلام؛ مروراً بأنبياء الله ورسله عبر المراحل الزمنية المختلفة.
ولم تتوقف المساهمة القرآنية في مجال التأريخ عند الجانب الكمي للقصص التاريخي، بل تعدته إلى الجانب المنهجي، إذ قدّم القرآن الكريم للإنسان العربي منهجاً جديداً غير مسبوق في البحث الواعي والمنظم عن المعرفة التاريخية وتراكمها، وقد ارتكزت المنهجية المستجدة على رؤية حضارية جديدة:
{قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}(الأنعام:11)
وقد أصبحت لعملية البحث آلية منهجية يدعمها نشاط موجّه ومنظم، وبدلاً من النقل عبر مخزون الذاكرة؛ أصبح النشاط الخاص باكتساب المعرفة التاريخية؛ وحفظها؛ ونقلها من ثمّ؛ مهنةً في حدّ ذاتها. وفي هذا المجال يحسب للقرآن الكريم منهجه المتكامل؛ والذي تم بفضله الإلمام بعلم التأريخ كجزء من عملية متكاملة؛ الهدف الأسمى لها إقامة بنيان الدين وعمران الحياة.
التقويم الهجري
كمظهر من مظاهر النقلة النوعية في حياة العرب(1/206)
لقد كان للنقلة المنهجية والتصورية في حياة العرب ثماراً حلوةَ الطعم؛ وضعتهم على أولى درجات التحضر والاكتشاف، وذلك تمهيداً للانطلاق إلى نواحي العالم الأربع؛ متسلحين بحرارة التوجه وبنور الرسالة.. ولقد كانت هناك ضرورات ملحة لابتداع أسلوبٍ جديدٍ للتقويم، والذي اعتبر بدوره أساسا راسخا من أساسات التحضر والعمران، حيث أدرك المسلمون ضرورة أن يُستقى التقويم الجديد من القيم الذاتية للأمة الناشئة!.
وتعتبر بداية التقويم الهجري في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب مظهراً من مظاهر تأثر العقلية العربية تأثرا منهجياً بالقرآن الكريم؛ وبداية تحولها من المنهج الذاتي (البيولوجي) المتمحور حول الذات إلى المنهج الكوني (الموضوعي) المتجه إلى العالم المحيط، ويعتبر التقويم الهجري حداً فاصلاً بين مرحلتين من مراحل تطور الوعي العربي في شبه الجزيرة العربية. وبدخول التقويم الهجري إلى حياة العرب فقد نما نوعٌ من التوافق بين طريقة تفكير الإنسان العربي وبين قوانين الكون من حوله، وقد أصبح للتاريخ ،بفضل التقويم الجديد، حصيلة تراكمية نفت عنه صفة الانقطاع، حيث كانت الحصيلة ،في التقويم الذاتي، تختفي دائما في نهاية العام لتعاود الظهور في العام الذي يليه، ولقد مهد التقويم الجديد لعملية تدوين ناجحة، ارتكزت على أسلوب تراكمي في حساب الوقت، وبفضل التقويم الهجري فقد أصبح للدراسات التاريخية قيمة إضافية تعدت كونها مجرد أحداث ذات مضامين أخلاقية، لتتحول إلى ناحية التأريخ للأحداث في إطارها الزمني والموضوعي الذي وقعت فيه!.
ليعلموا عدد السنين والحساب!(1/207)
كذلك فقد تعامل القرآن الكريم مع العرب بكيفية متدرجة ميزت منهجه في إحداث التغيير، وفي مجال "التراكم الزمني" فإن المنهج القرآني لم يخرج عن تلك القاعدة، إذ تعامل مع العرب ،بداية، وفق ما درجوا عليه من تحكيمٍ لانطباعاتهم الذاتية: {والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم}(يس:39)(41) من حيث ترتيب النزول) وكما نلاحظ في هذه الآية فإن التراكم الزمني منعدم، حيث يتخذ القمر لنفسه ،في هذه الحالة، مجموعة من القيم (المنازل) التي تقع بين أكبر قيمة له (البدر) وأقل قيمة (المحاق)، مما يشكل دورة كاملة تبدأ لتنتهي وذلك في دورات متتابعة مقدارها شهر قمري واحد!!..
كذلك فقد طرحت سورة الفرقان (42 من ترتيب النزول) مفهوماً مشابها {ألم تر إلى ربك كيف مدّ الظلّ ولو شاء لجعله ساكنا ثم جعلنا الشمس عليه دليلا}(الفرقان:45) وتطرح الآية توقيتا صالحا لجزء من النهار، ذلك أنه مرتبط بالفترة المحصورة بين شروق الشمس وغروبها، ويعتبر هذا التوقيت نوعاً من التوقيت "الذاتي" لا الموضوعي. إلا أن سورة تنزلت لاحقاً حملت دلائل أوضح في مجال الانتقال من "الذاتي" باتجاه "الموضوعي"، ومن "التكرار" إلى "التراكم"!! وذلك حين قال الحق تبارك وتعالى: {هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نوراً وقدّره منازل ولتعلموا عدد السنين والحساب}(يونس:5)((51) من حيث ترتيب النزول) فلا يكتفي القرآن الكريم في هذه الآية بالحض على مراقبة الظواهر الكونية في حركتها المتكررة (حركة الشمس والقمر) بل يحضّ كذلك على بدء النظر إلى الحصيلة التراكمية الناشئة عن مجموع تلك الحركة {عدد السنين} و{الحساب}!..
وأخيرا بدأت الأمور تتضح وكأنها قد استقرت على الجمع بين النظرتين (التراكم) و(التكرار) وذلك كما يبدو لنا في قوله تعالى: {يسألونك عن الأهلّة قل هي مواقيت للناس والحج}(البقرة:189)(87 من حيث ترتيب النزول)..(1/208)
فكأنما "مواقيت للناس" قد أفادت التراكم، ذلك أن "مواقيت" هنا هي كلمة غير معرفة تفيد كافة أنواع التوقيت، بما في ذلك التوقيت التراكمي الموضوعي، مثال على ذلك أن حاصل جمع إثني عشر شهرا من الشهور العربية يعطي سنةً هجريةً واحدة. أما قوله تعالى "والحج" (أي مواقيت للحج) فكأنما هي إشارة إلى خصوصية شهر "ذي الحجة" بين أشهر السنة العربية؛ وهو هنا توقيت من النوع الأول "الذاتي" "المتكرر"..
الزمن الغيبي "ما وراء الموضوعي"
تحدثنا فيما سبق عن نوعين من الزمن، الأول: الزمن (البيولوجي)؛ والآخر: أطلقنا عليه اسم الزمن (الموضوعي)، وبذا يبقى أن نعرض للنوع الأخير؛ وهو الزمن "ما وراء الموضوعي".. وهو زمن غير محدد الماهية، ونوعيته غير معتادة في حياة الناس، تحدث عنه القرآن الكريم فإذا العرب أمام أمرٍ لم يعهدوه من قبل، لكن كان له أكبر الأثر في تكوين نظرتهم للحياة..
وقبل أن نتحدث عن هذا النوع من الزمن؛ نحب أن نعرض ،بشيء من الإيجاز، لنظرية "النسبية" الخاصة بالعلامة آينشتين، والهدف من إيرادها هنا أن ستعطي للقارئ الكريم فكرة ما حول غموض الزمن "ما وراء الموضوعي" حتى وفقا للمعايير البشرية!..
والنسبية لآينشتاين (وإن كانت قد ناقشت الزمن من وجهة نظر موضوعية بحتة) إلا أنها لم تعتبره أمراً يختص بالمفاهيم الغيبية غير المدركة بشرياً، ورغم ذلك فإن تقديمها له (أي تقديم النظرية للزمن) لم يخلُ من إثارة للحيرة والغرابة، ويبقى أن القرآن الكريم قد سبق كل تلك النظريات في طرحه لمثل هذا النوع من الزمن والغريب على أفهامنا.. سواء من خلال بعض الآيات التي عرضت لموضوع الزمن، أو من خلال ما عرضه القرآن الكريم حول بعث الإنسان بعد موته.
الزمن غير الموضوعي(1/209)
ونظرية النسبية (1) لآينشتين
ولد ألبرت آينشتين في الرابع عشر من مارس 1879 في مدينة "أولم" التابعة لألمانيا الجنوبية حينذاك، ولم يكن الطفل "ألبرت" الصغير فذاً، بل لقد استغرق تعليمه النطق وقتاً طويلاً!، حتى لقد خشي ذووه أن يكون به جنّة، وقد نشأ وفي بنيته ضعف، مما جعله يميل إلى حب الاختلاء بنفسه منذ نعومة أظفاره..
ويعتبر العام 1905م عاماً مميزاً في تاريخ العالم آنذاك، إذ كان كل شيءٍ فيه يوحي بقرب اندلاع الحرب العالمية الأولى، وفي تلك السنة وضع آينشتين نظريته "النسبية الخاصة" ونظريات أخرى، وقد عكف بعد ذلك على تطوير تلك النظرية؛ وحاول عرضها في المحافل العلمية المختلفة، فكان الحضور في كل مرة يهللون ويطربون ويعلو وجوههم البِشْر، فنشوة لقاء آينشتين غايةٌ في ذاتها؛ حتى وإن لم يفهموا نظريته التي يطرحها!..
ولم يكن آينشتين يُفاجأ بالأسئلة التي يطرحها الحضور، إلا أنها جميعاً كانت تشير إلى عدم فهمهم لتلك النظرية. فماذا تعني مقولة "نسبية الزمن"؟ أو "نسبية المكان"؟ مما دفعه في إحدى المرات لأن يجيبهم مازحا: (لقد كان الناس من قبل يعتقدون أنه لو اختفت جميع الأشياء المادية من العالم لبقي "الزمان" و"المكان" مع ذلك.. وأما نظرية النسبية فإنها ترى أن "الزمان" و"المكان" يختفيان أيضاً هما وسائر الأشياء)!..
__________
(1) يرجى هنا التفريق بين مفهومين للنسبية، الأول: ظاهرة النسبية في القرآن الكريم، وهو مفهوم لغوي تحدثنا عنه في بداية الكتاب، ويتعلق باحتمال وجود مجموعة من المعاني النسبية للفظ الواحد، أما نسبية آينشتاين فهي نظرية لها علاقة بعلم الفيزياء.(1/210)
وعلى الرغم من أن إجابة آينشتين لم تخلُ من دعابة؛ إلا أنها أوجزت في وصف مفهوم "نظرية النسبية" والتي تعني أن الزمن غير موجود وغير قائم بذاته، وأن لكل ظاهرة أو مكان في الكون زمنه الخاص!!.. حتى على الأرض فإن الزمن غير منتظم، بمعنى أن أيام العام ليست متساوية، وأن مساواتها إنما ينبع من رغبتنا في تنظيم حياتنا على كوكب الأرض.. وهذا يعني أن سكان كوكب عطارد ،لو وُجدوا، فستكون لهم فكرة مغايرة عن الزمن؛ تختلف عن فكرتنا نحن سكان الأرض، ذلك أن عطارد (وهو أسرع الكواكب السيارة وأقربها إلى الشمس) يدور حول الشمس في 88 يوماً من أيامنا الأرضية، ويدور دورة واحدة حول محوره في نفس المدة، وهكذا؛ فإن اليوم والسنة يتساويان على سطح ذلك الكوكب السيار!. والغريب هو أن المفهوم نفسه كان موجوداً عند "أبيقور" قبل أكثر من ألفي عام، وذلك حين أجاب على سؤال حول (هل عسانا أن نفكر بالزمان والمكان لو محقت كل الأشياء التي ننظر إلى الزمان والمكان من خلالها). فكان جوابه: (لا وجود للزمان بذاته، بل وجوده بالأشياء المحسوسة وحدها، تلك الأشياء التي نشأت عنها فكرة الماضي والحاضر والمستقبل، إن الزمان لا يمكن تصوره بذاته مستقلاً عن حركة الأشياء أو سكونها).
نسبية الزمن وعلاقتها بسرعة الضوء
ولنسبية الزمن علاقة كبيرة بسرعة الضوء، فسرعة الضوء هي التي تؤدي إلى ذلك التداخل الغريب بين كل من مفاهيم الماضي والحاضر والمستقبل! فلو كانت سرعة الضوء لحظية بحيث تغمر الكون كله دفعةً واحدةً كلمح البصر لكان الزمن مطلقاً؛ وواحداً في كل أجزاء الكون؛ لكن ومع حقيقة كون الضوء الوسيلة الوحيدة لنقل ظواهر الطبيعة من حولنا من مكان لآخر؛ وفي ضوء حقيقة أن سرعة الضوء محدودة (300.000)كم/ث؛ فإن من شأن ذلك أن يجعل الزمن نسبياً، لأن الضوء الذي ينقل الحادثات من مكان إلى آخر يستغرق وقتا، فلكل عالم زمانه المحلي الخاص به.
التداخل بين(1/211)
مفاهيم الماضي والحاضر والمستقبل
ولجلاء هذه النقطة الغريبة (تداخل الأزمنة) فلنفترض وجود ثلاثة كواكب (أ، ب، ج) تقع على خط مستقيم واحد، ويفصل بينها مسافات ضوئية معينة (مائة سنة ضوئية بين كل كوكب والآخر على سبيل المثال)
( ( (
أ ... ب ... ج
وعلى فرض حدوث انفجار في الكوكب (أ) فإن الكوكب (ب) بحاجة إلى مائة عام لكي تصله ومضة الانفجار! ومعنى ذلك أن الكوكب (أ) سيظل مرئياً يتلألأ من قبل سكان الكوكب (ب) وذلك لمدة مائة عام بعد الانفجار! وفي اللحظة التي يتم فيها رصد الانفجار من قبل سكان الكوكب(ب) (بعد مائة عام من حدوثه بالفعل) فستكون تلك اللحظة بالذات ماضٍ بالنسبة للكوكب(أ) وحاضراً بالنسبة للكوكب (ب) وستكون حدثا سيحدث في المستقبل بالنسبة للكوكب(ج) والذي ستبلغه ومضة الانفجار بعد مائة عام أخرى من لحظة بلوغها للكوكب(ب)؟! وبعد مائتي عام من لحظة حدوثها على الكوكب (أ). وهذا المثال يعطينا فكرة واضحة عن مفهوم "الزمن المحلي" وحقيقة أن لكل كوكب زمنه الخاص.
الزمن وعلاقته بالسرعة
ويستتبع القول بمفهوم "الزمن المحلي" نتائج يصعب على العقل قبولها! فمعنى ذلك أن لجسم الإنسان كذلك زمنه الخاص، ويدفعنا ذلك إلى الاستنتاج بأن الشخص المتحرك حركة بطيئة "يشيخ" قبل الشخص المتحرك حركة سريعة! بل إن الشخص الذي يتحرك بسرعة الضوء يعيش خارج الزمن!!.. وكيما نوضح ذلك بطريقة محسوسة؛ نقتبس المثال التالي: لنفترض أن رحالة فلكياً غادر الأرض بسرعة تساوي (1/20.000) من سرعة الضوء، وقضى ذلك الرحالة عامين متنقلاً في سياحة فضائية، المفاجأة ستقع إذا ما عاد ذلك الرحالة إلى الأرض، لأنه سيجد ساعتها أن العامين اللذين قضاهما في مركبته يقابلهما قرنان كاملان مرا على سكان الأرض تبدلت فيهما كل معالمها!!.. إن هذه الرحلة الخيالية ،بالذات، ستكون منطلقنا للدخول إلى عالم "ما وراء الموضوعي" كما عرضه القرآن الكريم..
ما وراء الموضوعي في القرآن الكريم(1/212)
يصور لنا القرآن الكريم حقيقة الوجود كوجهي العملة الواحدة، والوجه الأول للوجود هو: "عالم الشهود" أما الآخر فهو وجودٌ في "عالم الغيب"..
والوجه الأول من الحقيقة يمثله وجودنا في عالمنا الأرضي؛ بكل ما فيه من موجودات؛ سواء أوصلت إليها مداركنا أم لم تصل، كذلك يشمل هذا النوع من الوجود كل الموجودات الكونية التي لن يقدر للإنسان أن يصل إليها أبدا؛ بسبب قصور إمكانياتنا عن إدراكها؛ ذلك أنها تظل منتمية إلى نفس العالم الذي ننتمي إليه في رحلة الحياة الدنيا، وتخضع لنفس القوانين...
أما الوجه الآخر لحقيقة الوجود فهو وجود في "عالم الغيب"، وهو وجود غير مُدرك بالنسبة لنا؛ بسبب قصورنا عن إدراك حقيقته، ولعدم امتلاكنا ،أصلا، القدرة على التعامل معه. وما بين حياة الإنسان على الأرض وانتهائها بالموت؛ فإن عالماً مجهولاً كان قبل ذلك، وعالما آخر سيعقبه. فالحياة الدنيا في التصور الإسلامي ليست البداية؛ إذ كان للإنسان ،قبل ذلك، وجود في عالم الغيب {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم}.. والحياة الدنيا لن تكون نهايتها العدم؛ ذلك أن وجوداً جديداً سيكون في عالم لا ندري عنه شيئا.
من هنا فإن القرآن الكريم (وفي سعيه لتزويد الإنسان بتصورات متكاملة) وجدناه يدمج "الغيب" بحركة "الواقع" فشكّل لنا دائرة متكاملة؛ ترسم للإنسان نقطتي "البدء" و"المنتهى" في رحلته نحو وجه الله الكريم: {إن إلى ربك الرجعى}(العلق:8) {يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه}(الانشقاق:6)..(1/213)
ويصور القرآن الكريم الحضور الكامل للغيب في عالم الشهادة؛ فالإنسان (كما يعرضه القرآن) لم يترك سدى تتناوشه الوساوس والهموم، فقد كان الله قريبا منه دائما، تتنزل عليه رحماته، وتتنزل عليه ملائكته.. وهنا نبدأ بالتعرف على بعض ملامح الزمن "ما وراء الموضوعي" كما عرضه القرآن الكريم.. فقد أورد القرآن الكريم آيات كريمة لا يمكن ادعاء فهمها إلا على ضوء حقيقة ما علمناه ،أخيرا، من أن الكون بالفعل هو مفكك من الناحية الزمنية، وبأن لكل ظاهرةٍ (ولكل عالمٍ) زمنه الخاص؛ غير الملزم للعوالم الأخرى؛ بحيث تتداخل تلك العوالم دون أن تتعارض! ولا يعني توجهنا نحو هذه الآيات ،من خلال هذا المنظور، أننا نحاول تقديم تفسير لها، وكل ما نطمح إليه هنا إنما هو محاولة الاقتراب منها ومحاولة تفهمها.
لقد تحدث القرآن الكريم عن عوالم مختلفة تتم فيها الأمور بسرعات مختلفة كذلك! إذ يقول عز من قائل في هذا الشأن: {يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون}(السجدة:5)
ومع أن بعض التأويلات تذهب إلى أن الألف سنة إنما المقصود بها هو يوم القيامة؛ إلا أنه لا شيء يقطع بأن هذا هو التفسير الوحيد! وهو ما يسري كذلك على قوله عز وجل في آية أخرى: {ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده، وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون}(الحج:47).. والآية الأشدّ وضوحاً فيما يختص بنسبية الزمن هي تلك التي تتحدث عن "معراج الملائكة" إلى السماء، وذلك في قوله تعالى {تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة}(المعارج:4)
ولو طبقنا ما ذهبنا إليه آنفا من أن "خمسين ألف سنة" من زمن الأرض يقابله يوم واحد من زمن "الملائكة والروح" فسسنجد أمامنا عندئذٍ إشارة واضحة تنم عن سرعة مواكبة الغيب لحركة الواقع في حياة الناس!!..
..(1/214)
فقد تحدث القرآن الكريم ، على سبيل المثال، عن الاستجابة الربانية السريعة لدعاء المؤمنين ،في بدر، وتنزل الملائكة لنصرتهم {إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألفٍ من الملائكة مردفين}(الأنفال:9) وهنا يكون الاستغراب! فكيف تأتي استجابة الله عز وجل لدعاء المؤمنين بهذه السرعة مع أن تنزل الملائكة المُثَبِّتِين سيستغرق ألف سنة مما نعدّه نحن البشر؟!.. والأمر يمكن النظر إليه من زاوية أخرى.. فلو فرضنا أن النسبة بين زمن الحدث على الأرض وزمن تنزل الملائكة هو 1:50,000، وأن تنزل الملائكة يمكن أن يحدث أسرع بخمسين ألف مرة من سرعة استغاثة المؤمنين، فلنا أن نتخيل حينها سرعة استجابة الله لدعاء المؤمنين وتنزل الملائكة المثبتين!!.
والأمر هنا لا يعدو أن يكون مثالا إضافياً واضحاً على ما أوردناه من تمتع العوالم المختلفة بأزمنتها الخاصة التي لا تلتقي مع زمن العوالم الأخرى ولا تتعارض معها، وقد ضربنا له مثالاً بذلك الرحالة الذي قضى عامين مرتحلا فلما عاد إلى الأرض وجد أن قرنين من الزمان قد مرا عليها، فكيف تسنى استيعاب قرنين كاملين في عامين؟!..
من هنا نجد أن القرآن الكريم قد تحدث عن ظاهرة "نسبية الزمن" في ثناياه، إلا أنه كان من الصعب آنذاك فهمها على وجهها الصحيح. والله أعلم.
الكيمياء
ومنهج استقراء العلوم الطبيعية في القرآن الكريم
ما الذي أردنا قوله في هذا البحث؟
(في هذا البحث قمنا باستقراء منهجي للكيمياء وبعض مصطلحاتها الواردة في القرآن الكريم، بحيث حاولنا أن نقدم نموذجا يمكن احتذاؤه لاستقراء العلوم المختلفة في القرآن الكريم)
العلوم الطبيعية
ومنهج تدبر القرآن الكريم (1)
__________
(1) هذا البحث عبارة عن تلخيص لكتاب "الكيمياء الحديثة في ضوء القرآن الكريم" والصادر عن دار القرآن في القاهرة، وقد قامت الباحثة إيمان بو خبزة بترجمة العديد من هذه أبحاثه إلى الفرنسية.(1/215)
الولوج للإسلام من باب العلم يعتبر قصة بحد ذاته، كثيراً ما تجلت من خلالها أهمية الاستعانة بالعلوم الطبيعية لإقرار الإيمان وتثبيت الفؤاد، فأمام عاصفة الشك التي يمكن أن تعصف بإيمان المرء يمكن أن تكون العلوم الطبيعية ودراستها بابا صالحا للولوج منه إلى عالم أكثر استقرارا.. وفي مثل تلك الأجواء العاصفة قد يجد المرء من العلوم الطبيعية وسيلة صالحة لإدراك اليقين، وهي الوسيلة القادرة ،ولا شك، على إثبات حقيقة أن ديننا هو من عند الله، وبأن ما نزل من عند الله هو الحق بالفعل.
ولسبب كامن في طبيعة العصر الذي نحيا فيه؛ فقد أمست محاولة الولوج إلى الإيمان من باب العلم حاجة ماسة، إذ لم يعد ممكنا تجاهل كل هذا الكم المتراكم من المعلومات التي تخص العلوم المختلفة، ولا ذلك التقدم المادي الناتج عن تلك الثورة، والتي باتت تواجه إيمان الإنسان بالتحدي.
ومثلما كانت السمة المادية في وقت من الأوقات، وكذلك الاكتشافات العلمية التي حققها الغرب في القرن الأخير؛ عقبة في طريق استقرار الإيمان بالله وبالغيب في النفوس؛ فقد كانت الهزيمة السياسية الماحقة التي أصابت الأمة الإسلامية (والمتمثلة بسقوط نظامها السياسي) دافعاً إضافياً باتجاه اللجوء إلى العلوم الطبيعية وذلك للتغلب على آثار تلك الأزمة؛ والتي تعطل قبلها دماغ الأمة عن التفكير؛ فتوقفت بعدها ملكاتها عن الإبداع!.
لكل ذلك فقد شكل الاتجاه إلى العلوم الطبيعية المختلفة نوعاً من التوازن الداخلي في أعماق الفرد والجماعة؛ مما مكن الفرد والمجتمع -في وقت من الأوقات- من المحافظة على ثقتهم بدينهم وحضارتهم.(1/216)
إن حالة "رد الفعل" (التي تمثلت في اتجاهنا في وقت من الأوقات ناحية العلوم الطبيعية وجعْلِها دليلاً على الحقيقة الدينية) كان يمثل حالةً غير عادية، وغير أصيلة، إذ الأصل أن يُستدل بالحقيقة الدينية على ما عداها لا العكس، لكن مع ذلك فقد ساهم التوجه نحو تلك العلوم في إيجاد زوايا جديدة يُنظر للنص القرآني من خلاها، مما مكّن ،في نهاية المطاف، من إحداث الأثر المطلوب؛ والمتمثل في إدراك الحاجة لتجاوز الأزمة الحضارية، لكن مع كل ذلك فقد بقي التوجه للعلوم الطبيعية ،لإثبات صدق الحقيقة الدينية، بقي مُعبراً عن جانب غير أصيل، ولا يمثل "الفعل" بقدر ما يعبر عن "رد الفعل"، وظل مُعبراً عن الاستجابة لمواجهة حالة الأزمة التي لازمت الأمة خلال القرن الأخير.
وفي الآونة الأخيرة فإن اختلافاً ما قد طرأ على تلك الحالة، حالة "رد الفعل"، إذ بدأنا ،شيئاً فشيئاً، نستعيدُ الثقة بالذات، وبدأنا ،شيئاً فشيئاً، نفقد الثقة في الحضارة المادية برمتها، ابتداء بالفكر الذي وضع الدين موضع الاتهام؛ ورَبَطَه بعلاقة تناقض ومواجهة مع العلم، وقد بدأ الدين في استعادة ما فقده من اعتبار؛ وجاء ذلك كنتيجة مباشرة لاتضاح حدود قدرة أدوات تحصيل المعرفة، وحدود إمكانيات أدوات الاستكشاف، وبالتالي فإن العلم قد ساهم مساهمة مباشرة في رد الاعتبار للأدوات المقترحة من قبل الدين، بل إن العلم قد أثبت أن "الإيمان بالغيب" إنما هو حقيقة "موضوعية" بحتة تفرضها محدودية الوسائل، ومحدودية القدرات البشرية، وذلك حين تم الكشف عن أن ما يمكن لحواس الإنسان أن تحيط به من محسوسات لا يتعدى أن يكون نسبة ضئيلة جداً مما يمكن للإنسان أن يدركه.
والإضافة ذات المغزى هنا هي أن الحقيقة الدينية قد أصبحت مقبولة، ليس فقط من وجهة نظر أصحابها (ممن يؤمنون بالغيب) بل من وجهة نظر علمية بحتة كذلك!!.
جدلية العلاقة بين الإيمان والوعي(1/217)
حين أنزل الله عز وجل كتابه الكريم على نبيه محمد (صلى الله عليه وسلم) وُوجهت دعوة الإسلام بالمعارضة التقليدية التي كانت تواجَه بها كل دعوة جديدة، وقد حملت دعوةُ الإسلام في حينه الكثير مما يمكن أن يثير حفيظة رجالات المجتمع التقليديين؛ الذين كثيراً ما حركتهم مصالحهم الشخصية، وقد احتج المعارضون للدعوة الجديدة بما ورثوه عن آبائهم وأجدادهم من دين، فنَعَى القرآنُ الكريم عليهم الاحتجاجَ بذلك الميراث دون تفكر أو تدبر، فقال عز وجل في محكم التنزيل:
{وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا، أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون}(البقرة:170)
وفي آية أخرى يشير القرآن الكريم إلى حالة الإصرار من قبلهم على مواصلة السير على ذلك النهج من الضلال {بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة، وإنا على آثارهم مهتدون}(الزخرف:22)
ولم يكن ذلك النهج من المعاندة فريداً! إذ ووجه به وبمثله كلُّ نبي من الأنبياء؛ وكل رسول من الرسل، بل أصبح سُنةً بشريةً؛ كثيراً ما رسمت صورة العلاقة بين الإيمان ونقيضه:
{وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة، وإنا على آثارهم مقتدون}(الزخرف:23)
فوجدنا الآيات الكريمة تبين ماهية الاتباع؛ ووجوب ألا يكون إلا فيما عُرفت هدايته من رسالةٍ أو تنزيل: {وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله} وقد نعى القرآن الكريم على نقيض ما تنزل به القرآن فقال عز من قائل:
{وبرزوا لله جميعاً فقال الضعفاء للذين استكبروا إنّا كنا لكم تبعا}(إبراهيم:21)
ويقول في آية أخرى: {وإذ يتحاجّون في النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا}(غافر:47) وهذا التفريق بين معنيين من "الاتباع" تؤكده الآيات الكريمة حينما تتحدث عن نوع مقابل:
{واتبعوا النور الذي أنزل معه، أولئك هم المفلحون}(الأعراف:157)(1/218)
وكذلك: {قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني، وسبحان الله، وما أنا من المشركين}(يوسف:108)
فالنموذج الذي تقدمه الآيات للاتباع المقبول هو "اتباع النور" و "اتباع الرسول"، والاتباع "على بصيرة". وقد وجدنا الآيات الكريمة تقدم نموذجاً متكاملاً لما يدعوه القرآن الكريم بـ "السبيل"، والذي يجمع الصورة المثُلى لكلٍ من "الداعي" و"الدعوة" و"الاستجابة"، فهو سبيلٌ تظلله الهداية؛ لأن هدفه وغايته هو الله، وهو سبيل تسبق فيه "البصيرةُ" "الدعوةَ" ذاتها، ويسبق فيه الفهمُ والإدراكُ الحركةَ نفسها، وهذا السبيل من الاتباع هو الذي يرتقي بالأمة؛ فيحول الكمّ المهمل فيها إلى كيفية فاعلة، ولن يتم كلُ هذا إلا بالوقوف الدائم والمستمر على ضفة الإيمان مستحضرين كل أدوات "التفكر" و "التدبر" و "التبصر"!.
فـ "التفكر" و"التدبر" إذن هما أداتان لبلوغ ما هو صواب، لكن الإصابة ليست هدفاً مضموناً في كل الحالات، والأمة التي تتوقع الإصابة في كل حالات اجتهادها؛ هي أمة لا تدرك حقيقة الإنسان ودوره في هذه الحياة..(1/219)
كما أن معرفة الإمكانيات الحقيقية للإنسان تعزز حقيقة وجود كون خارج الحواس؛ وقد حبا الله الإنسان بمجموعة من الحواس مكّنته من إدراك جزءٍ من الحقيقة التي تحيط به، وما يميز تلك الحواس هو محدودية قدرتها، فالعين البشرية ،على سبيل المثال، تدرك المرئيات حسب طول الموجة المنبعثة منها، وما الألوان التي تراها العين إلا تعبيراً عن أطوال مختلفة للموجات المنبعثة من تلك الأجسام. وتقع الموجات المرئية بين (4000-7600) أنجستروم (1) والتي تمثلُ ما يمكن رؤيته من أشياء، ومعنى ذلك أن كل الأجسام التي تنبعث منها موجات تحت ذلك الطول الموجي (وتقع بين (3000-4000) أنجستروم، وتعرف بالأشعة فوق البنفسجية) لا يمكن رؤيتها بواسطة العين البشرية المجردة، وينطبق الأمر كذلك على الأشعة تحت الحمراء التي يقع الطول الموجي لها فوق (7600) أنجستروم؛ فلا يمكن رؤيتها بالعين المجردة كذلك.
إن محدودية الإمكانيات والقدرات البشرية على إدراك الحقائق من حولنا تمثل عجزاً متأصلا في الإنسان، ويُبررُ هذا العجز -جزئياً- حاجةَ الإنسانِ الدائمة إلى "التوبة" والتي يعرضها الدينُ كفعلٍ بشريٍ لتدارك النقص والخطأ الناشئين عن الضعف الموروث في جبلة هذا المخلوق، ويُنظر إليها كاجتهادٍ إنسانيٍ للتغلب على السلبيات الناشئة عن الانحراف عن طريق الرشاد.. ولؤكد حقيقة أن الأديان السماوية لم تأتِ لتعذيب الإنسان بقدر ما جاءت لتضع أمامه سبيلاً سوياً يسير عليه، ولتضع نُصْبَ عينيه علامات الهداية والرشاد.
__________
(1) يتكون الطيف الموجي من عدة فئات حسب أطوالها، والتي تبدأ بالأشعة الكونية "كوزميك"، جاما، أشعة إكس، الأشعة فوق البنفسجية، الأشعة المرئية، الأشعة تحت الحمراء، وموجات التلفاز، و الراديو. وتقاس تلك الموجات بوحدة الأنجستروم (*A)، وهي مشتقة من السنتيميتر، والذي يعادل 10 مرفوعة إلى الأس ثمانية أنجستروم.(1/220)
إن إدراكنا لحدود بشريتنا وإنسانيتنا يفرضُ علينا القبول بحقيقة إمكانية وقوعنا ،كبشر، في الأخطاء، لذلك فقد أطلق أسلافنا على هذا النشاط البشري اسم "الاجتهاد" وهي التسمية الموضوعية المعبرة عن بذل أقصى الجهد لترجيح تحقيق الصواب دون نفي إمكانية الوقوع في الخطأ!.
إن المطلوب من الأمة اليوم هو أن تعود لسيرتها الأولى؛ بما حباها عزّ وجل من قدرة على إحداث الفعل والمبادرة به، وتتمثل تلك العودة في إعادة تفعيل أدمغة أبناء الأمة لتبدأ بالتفكير الحر والمبدع من جديد، لكن تلك العودة تظل تُواجَه بعدد من العقبات..
إن تلك العودة تقتضي منا الانسحاب من الاضطراب إلى الثبات، وهذا يقتضي منا تحليل كل ما يقع تحت أيدينا إنطلاقاً من قاعدة ثابتة.
عقبات في طريق الوعي
إن قارئ القرآن الكريم عرضة لعدد كبير من العقبات التي يمكن أن تواجهه وتمنعه من الوصول إلى معاني القرآني الكريم ومراميه..
أما العقبة الأولى التي تواجهه وتمنعه من الولوج إلى أسرار جماله فهي: فقدان حس التذوق للغة، وقد أدى ذلك إلى فقدان مفردات القرآن لمعانيها، وتحوُل أُخرى إلى كلمات غريبة على قارئه؛ مع أنها تحمل مضامين النص القرآني، وقد أدّى ذلك كله إلى حالة من الضبابية وعدم الفهم لما يطرحه القرآن الكريم من أحكام وتوجيهات، فكانت النتيجة النهائية: هجران القرآن من الناحية الفعلية، وقد أشار القرآن الكريم إلى تلك الحالة حين قال:
{وقال الرسول يا ربّ إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا}(الفرقان:30)
وقد أدت تلك الحالة إلى أن أصبحت عملية القراءة غير مقترنةٍ دائماً بالفهم، وأصبح عدم فهم القرآن عاملا من عوامل التثبيط لعملية القراءة، مما أدى إلى تكريس شبه دائم لحالة الجفاء والهجران بين الإنسان المسلم والقرآن.(1/221)
ولعل تلك المشكلة (المتمثلة بحالة "الهجران" والتي أصبحت تغلف علاقة المسلم بدينه وبكتاب ربه) لعلها تلقي بظلال كثيفة من المسئولية تدفع كل مهتم لإيجاد السبل الكفيلة بالتغلب على تلك الحالة، والتي تعتبر مظهرا من مظاهر السقوط الحضاري؛ والتي تعني في أفدح وجوهها فقدان الإنسان لأداة الفهم، أداة التعبير، وأداة التفاعل مع المحيط أخذاً وعطاءً.
لكن المشكلة ،وبسبب طبيعتها المعقدة، فإننا لا نرى شيئا واحدا يمكن أن نفعله منفردا يكون كفيلا بحلها، وقد يكون جزءاً من الحل تغيير المناهج الدراسية بكاملها، وإعادة بنائها من جديد على أسس مستقيمة، خصوصاً تلك المناهج الخاصة بمراحل التعليم الأساسي، بحيث تتم إعادة اكتشاف وتأهيل الألفاظ الواردة في القرآن الكريم؛ بما يعنيه ذلك من دمجٍ لها في المناهج المختلفة، وإذا ما حدث ذلك فسوف يكون سهلاً على التلميذ، الطالب، الموظف، العامل، ربة البيت، سوف يكون من السهل عليهم جميعاً قراءة القرآن، وإدراك الحد الأدنى المطلوب توفره لإحداث عملية الفهم، مما سيضعنا ،حتماً، في المكان السليم الذي نستطيع من خلاله استعادة القدرة على "تدبر" النص والانفعال به والتفاعل معه.
إن طلب الوصول إلى حالة "التدبر" يجب ألا يفهم منه أننا نسعى لإيصال الجميع إلى مواقع "الاجتهاد" في فهم وتفسير القرآن الكريم، بل إن غرضنا هو العودة للتذكير بحقيقة أن القرآن الكريم هو كتاب منزّل من عند الله تعالى؛ ليتم فهمه والتعامل معه بصورة مباشرة من قبل المؤمنين به، وألا يستقر أمر فهمه على مجرد طبقة من رجال الدين التي تحتكر فهمه، وتملي كيفية تطبيقه، كما حدث مع الأديان الأخرى!.(1/222)
أما العقبة الثانية التي تقف في طريق التفاعل بين العقل والنص القرآني الكريم فهي عقبة من نوعٍ آخر، إنها العقبة النفسية والتي تتمثل في خوف بعض قراء القرآن من إعمال العقل فيه وتدبر آياته، اعتقادا منهم بأن أعمال العقل في النص من شأنه إفساد قداسته! وقد أدى الحرص المبالغ فيه على "عدم المس بقداسة النص القرآني" إلى التضحية بالمحصلة المتوخاة من وراء تلك القراءة؛ وهي إحداث حالة من التفاعل مع النص والانفعال به؛ بحيث يتسنى للنص فيما بعد أن يكون عامل تأثير في مجريات حياة الإنسان.
وعلى الرغم من صحة القول بأن "للنص القرآني قداسة تفرض محاذير خاصة عند التعامل معه" إلا أنه لمما يتنافى مع طبيعته أيضا أن تؤدي تلك المحاذير إلى إخماد روح التفاعل ما بين القرآن الكريم وقارئه، وإن من شأن تلك الحساسية أن تكون أمراً مقبولاً إذا ما مورست في حدود تؤدي إلى المحافظة عليه من العبث، لكن لا يجوز -ولا بأي حال من الأحوال- السماح لتلك المحاذير أن توقفَ حالة انفعال العقل مع النص، والتي ستؤدي حتماً إلى تعطيل حركة الإنسان باتجاه ربه.
إنه لمما يؤسف له أن تلك الحساسية في التعامل مع النص القرآني -وفي ظل حالة الضعف التي عانت منها الأمة- قد أدت إلى حالة فعلية من الجفاء بين الأمة ومصدر قوتها، وقد ساهمت تلك الحالة في توقف حركة "الاجتهاد" والتي يعادل توقفها توقف الحياة ذاتها!.
إذن؛ فإن محاولات تحقيق الهدف المرجو من وراء "تدبر" آيات القرآن الكريم يمكن أن تضع "القارئ" بين محذورين؛ أولهما: "اقتحام النص" بدون امتلاك ناصية العلم، وفهم اللغة العربية على وجه الخصوص، والآخر: محذور قراءة النص –فقط- ابتغاء تحصيل الأجر، والقراءة بهذه الطريقة.. إن جاءت من العامة كانت مقبولة، لكن لا يمكن قبولها من العلماء الذين أعطاهم الله عزّ وجل نعمة العلم، إذ على أولئك أن يقرأوا النص القرآني الكريم بتدبر وتفكر وفهم.
الغنى الموضوعي في النص القرآني(1/223)
إنّ محمداً (صلى الله عليه وسلم) نبي آخر الزمان، ومعجزته القرآن الكريم، وهي المعجزة الباقيةُ؛ المستمرةُ؛ الخالدة... فكان لابد وأن تتسع آياته لكل ما يطرأ أو يستجد في حياة البشر وفي دنيا الناس من تغيرات، والعلم والاكتشافات هي جزء من تلك التغيرات..
والقرآن الكريم كتابُ تعبدٍ وهداية، لكنه لم يخلُ من شذرات وإشارات إلى أشياء أخرى في مجالات العلوم الإنسانية والطبيعية المختلفة، فهو لم يخلُ من إشاراتٍ تمَتُّ بصلة لعلم الفلك، أو الجيولوجيا.. الخ، لذلك فهي تُعدُّ وجهاً آخر متجدداً من وجوه الإعجاز، ودليلاً من دلائل الإثبات بأن هذا القرآن لم يأتِ به بشرٌ من عند نفسه، وقد جاءت الإشارات لتغطي المعارف الإنسانية كافة؛ بحيث يصعب على بشرٍ عادي أن يحيط بمجال تنوعها؛ فضلاً عن إدراك أسرارها!! والسر في ذلك كما توضحه هذه الآية وأخواتها:
{ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك} (آل عمران:44)
والآيات تأتي في تمام الوضوح وكمال التعبير؛ معبرةً عن أن ما جاء به محمد (صلى الله عليه وسلم) لم يكن لبشر أن يحيط به لولا فضل الله في أن يرسل للبشر نوراً يهديهم:
{وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان، ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا}(الشورى:52)
وتتعدد المواضيع التي تغطيها الآيات الكريمة، لكن القصص القرآني يجمعه جامع: الإحاطة بكل معاني الكمال؛ ذلك أنه مثلما وصفه عز وجل بأنه {أحسن القصص}..
وهو أحسن القصص في كل سورةٍ من سوره، وكل آيةٍ من آياته، وكل كلمةٍ من كلماته، وكل حرفٍ من حروفه ... فالحُسن هنا إنما ينسحب على القرآن الكريم بكامله، وقد جاء في افتتاح سورة "يوسف":
{نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن}(يوسف:3)
معجزة خالدة ودلالات مذهلة!!(1/224)
إن واحدة من الدلالات المذهلة لهذه المعجزة الخالدة يشي بها فهرس سور القرآن الكريم؛ والذي يتناول مواضيع متعددة ومختلفة.. فهو يذكر من الحيوانات: البقرة، الأنعام، الفيل!!.. ومن الأسماء والأجناس: يونس، هود، يوسف، إبراهيم، طه، مريم، النساء، الأنبياء، المؤمنون، لقمان، يس، محمد، نوح، الإنسان، قريش، الناس!!...
أما الظواهر الطبيعية والفلك فسجلّها في فهرس القرآن الكريم جدُّ حافل، فضلاً عما احتوته الآيات ذاتها من إشارات، فمن أسماء السور التي حملت تلك الإشارات: الرعد، الدخان، النجم، القمر، المعارج، التكوير، الانفطار، الانشقاق، البروج، الطارق، الفجر، الشمس، الليل، الضحى، الزلزلة، العصر، الفلق!!..
وفي الأحداث ذات الدلالة في مسيرة الإيمان جاءت سور: الإسراء، الكهف، الروم، الأحزاب، الفتح!!..
ومن أسماء الحشرات اختيرت أعلام السور: النحل، النمل، العنكبوت!!.. وهناك سور كاملة حملت أسماء لشعائر تعبدية مثل: الحج والجمعة!!..
إضافة إلى العديد من السور التي صورت أخلاقاً بعينها يمكن أن تتلبس الإنسان؛ فجاءت السور: المطففين، المنافقون، الماعون، الكافرون!!.. لكن سورة عجيبة حملت اسماً أشد إثارة للعجب، هي سورة "الحديد"!!!.. إذ لم تحمل سورة أخرى من سور القرآن الكريم اسماً لمسمىً يجمعه والحديد وجه شبه، مما يقطع بأن الحديد فيه ما ليس في غيره مما يعلمه الله ولا نعلمه (1) وكل ما نعلمه من تلك الحكمة أن الله عزّ وجل قال فيه:
{وأنزلنا الحديد فيه بأسٌ شديد ومنافعُ للناس}(الحديد:25)
__________
(1) حين تطرق المفسرون قديماً إلى ما في الحديد من منافع للناس؛ لم يدُرْ في خلدهم أن تلك المنافع ستطال جسم الإنسان ذاته!!، حيث وُجدت ذرات الحديد في هيموجلوبين الدم، ووجد أن للهيموجلوبين أهمية خاصة في عملية التنفس؛ فهو يساعد على نقل الأكسجين من الرئة إلى أنسجة الجسم المختلفة.(1/225)
لقد كان مما شدّ انتباهي إلى أهمية إجراء هذا البحث وجود ذلك الاسم العجيب لتلك السورة.. سورة "الحديد".. ثم ما لبثت لفظة "نحاس" أن أضيفت إلى مخزون ما هو جاذبٌ للنظر من مفرداتٍ حفل بها القرآن الكريم، فزادت من تأثير ذلك الاسم لتلك السورة، سورة "الحديد"، وما لبثت ألفاظٌ جديدةٌ أن أضيفت إلى قائمة الحيرة والاندهاش!!، إذ وردت -على سبيل المثال- لفظة "ذرّة" وقد وردت بمعناها المباشر الذي هو أقرب ما يكون إلى الاستخدام العلمي والعملي في عالم اليوم، بعد أن انصرفت عن معناها اللغوي الذي فُهمت به حين تنزلها أو كادت أن تنصرف عنه، لندرك بعد هنيهة أنها وردت بصورة أشد عجباً؛ فقد وردت في كل مواضع ورودها بلفظ "مثقال ذرّة".. ولم ترد كلمة "ذرّة" مجردة ولو لمرة واحدة! وهما المصطلحان اللذان يمكن لمختص في علم الكيمياء أن يفرق بينهما بسهولةً؟!!.
إنها تلك الألفاظ -وغيرها كثير- مما له علاقة وثيقة بعلم الكيمياء؛ والتي دفعتني جميعها باتجاه البحث عنها؛ وعن مواطن الارتباط بين ما عرفناه عنها وبين ما جاء به القرآن الكريم منذ خمسة عشر قرناً من الزمان؛ حيث ضم بين دفتيه العديد من الألفاظ ذات الإيحاء الموضوعي، والتي تنتظر أن نسلط عليها أضواء التخصص؛ لنفهم المراد منها، دون أن يؤثر ذلك على المهمة الأساسية التي نَزَلَ القرآن من أجلها.. أن يكون كتاب هداية يحمل بين طياته رسالة الرحمة.(1/226)
إننا ومن خلال ما ذهبنا إليه في هذا البحث أردنا أن نثبت أمراً صار في حكم البَدَهِي، ألا وهو أنه "ليست لدى البشر -في زمن بعينه- قدرة مطلقة لتفسيركل ما ورد في القرآن الكريم، بل إن هناك ضرورة لأخذ عامل الزمن بعين الاعتبار" ومن هنا يمكن فهم ما ذهب إليه بعض العلماء حين قال: (من هنا ندرك أن مفسري القرآن قد أخطأوا حتماً، وطيلة قرون في تفسير بعض الآيات التي لم يكن باستطاعتهم أن يفطنوا إلى معناها الدقيق، إنّ ترجمة هذه الآيات وتفسيرها بشكل صحيح لم يكن ممكناً إلا بعد ذلك العصر بكثير، أي في عصر قريب منا، ذلك يتضمن أن المعارف اللغوية المتبحرة لا تكفي لفهم هذه الآيات القرآنية، بل يجب، بالإضافة إليها، امتلاك معارف علمية شديدة التنوع) (1) .
وعلى الرغم من اتفاقنا مع الاقتباس الأخير؛ والذي يفيد بعدم استبعاد حدوث أخطاء في إصابة مرامي القرآن الكريم؛ بسبب محدودية ما يحمله زمن معين من انكشاف لعلوم ومعارف بعينها؛ إلا أننا نجد أن من الإنصاف التأكيد هنا على أن تلك الأخطاء لا تقلل من قيمة جهود العلماء واجتهاداتهم في محاولاتهم لفهم مرامي النص، بل يجب علينا هنا التركيز على ضرورة استيعاب حقيقة هامة، وهي أن الجهد البشري مجبول دائماً باحتمالات الإصابة أو الخطأ، وأن احتمال الخطأ ليس سبباً كافياً لوقف الاجتهاد ومحاولة متابعة ما بدأوه من جهود.
__________
(1) موريس بوكاي، القرآن الكريم والتوراة والإنجيل والعلم، ص145و146.(1/227)
وأخيرا: فإن نظرتنا لما يقدمه القرآن الكريم من لمحات تمتُ إلى بعض العلوم بصلة؛ يجب أن تكون محكومة بإدراك حقيقي لحقيقة "عدم وجود علاقة بين الإيحاءات التي وردت في القرآن الكريم وبين أية معرفة بشرية يكون قد حققها العرب في تلك الحقبة من تاريخهم، حيث لم يكن العرب قد حققوا تلك النتائج في مجال العلوم التجريبية، بل على العكس من ذلك؛ فلقد برعوا في فنون اللغة وأساليب البيان، التي كانت مناط تحدي القرآن الكريم لهم، بل إن الحقيقة الثابتة اليوم يوردها السيد "موريس بوكاي" وتتحدث عن أن: (فترة تنزيل القرآن، أي تلك التي تمتد على عشرين عاماً تقريباً قبل وبعد عام الهجرة (622م) كانت المعارف العلمية في مرحلة ركود منذ عدة قرون، كما أن عصر الحضارة الإسلامية النشط مع الازدهار العلمي الذي واكبها كان لاحقاً لنهاية تنزيل القرآن. إن الجهل بهذه المعطيات الدينية والدنيوية هو الذي سمح بتقديم الاقتراح الغريب الذي سمعت (الكلام لازال للسيد بوكاي) بعضهم يصوغونه أحيانا، والذي يقول: إنه إذا كان في القرآن دعاوى ذات صفة علمية مثيرة للدهشة فسبب ذلك هو تقدم العلماء العرب على عصرهم، وأن محمداً (صلى الله عليه وسلم) بالتالي قد استلهم دراساتهم... إن من يعرف، ولو يسيراً، تاريخ الإسلام؛ ويعرف أيضاً أن عصر الازدهار الثقافي والعلمي في العالم العربي في القرون الوسطى لاحِق لمحمد (صلى الله عليه وسلم) ولن يسمح لنفسه بإقامة مثل هذه الدعاوى الوهمية) (1) .
قد يكون فيما استعرضناه وما سنعرض له في سياق هذا الكتاب ما يعيد التذكير بحقيقة أن الإلمام بكل ما جاء به القرآن الكريم من مواضيع لم يكن ليتوفر لبشر دون أن يكون على اتصالٍ مباشرٍ بخالقٍ مطلعٍ على الغيب؛ متصفٍ بالعلم والحكمة، لكن الأمر لا يقتصر على تلك الفائدة وحدها، بل يمكن له أن يحمل لنا المزيد من الدلالات.
__________
(1) موريس بوكاي، القرآن الكريم والتوراة والإنجيل والعلم، مرجع سابق.(1/228)
إن وجود مثل تلك الإشارات يؤكد حقيقة الحالة الخاصة للنص القرآني الكريم؛ وقدرته الفائقة على الاتساع واستيعاب الزمن الحادث بكل ما يحفل به من تطورات واكتشافات، لكن ذلك الاستيعاب لا يعني أن يصبح الغرض من قراءة القرآن الكريم وتعلمه أن نعلم الناس علوم الحياة كعلم الذرّة أو الفلك!! بل يجب النظر إليها على أنها إشارات إلهية مستمرة ومتواصلة على مدى الدهر لإثبات صدق الرسالة، ولتثبيت قلوب المؤمنين بالإيمان:
{وليربط على قلوبكم، ويثبت به الأقدام}(الأنفال:11)
وبذلك يقطعُ النصُ القرآنيُ سلاسلَ الرتابةِ والجمود التي يمكن أن يحفل بها أيُ نصٍ آخر نتيجةً لجمود ألفاظه وغموض تعبيراته، فالنص القرآني إنما هو نص متجدد، ويمكن للمتدبر لآياته أن يرى المزيد من إعجازه طالما كان هناك ما يمكن أن تطلع عليه الشمس.
جوانب
من الكيمياء في القرآن الكريم
إذا أخذنا بالمنهج الذي قمنا ببسطه في الصفحات السابقة، وقمنا بتطبيقه في مجال علم الكيمياء كنموذج لاستقراء العلوم الطبيعية في القرآن الكريم ودراسته في ضوء الحقائق العلمية المعروفة في علم الكيمياء (1) ؛
__________
(1) (عرف الإنسان الكيمياء منذ بدأ استعمال المعادن، لذلك فالكيمياء علم قديم قدم الإنسان، ويمتد تاريخه القديم إلى بدء الخليقة، ولقد اشتركت أكثر الأمم والحضارات القديمة في إقامة صرح هذا العلم، وقد ازدهرت العلوم الكيماوية في العصر الحديث بعد النهضة الأوروبية وإلى الوقت الحاضر، وتفرع إلى عدة فروع أهمها:
1- الكيمياء العضوية Organic Chemistry : وتختص بدراسة مركبات عنصر الكربون، وهو فرع مهم من فروع الكيمياء؛ ويمس مباشرة حياتنا اليومية، وقد كان قديما يعتقد بأن المركبات العضوية تتكون فقط داخل الحجيرات الحية بفعل "قوة حية"، ولكن هذا الاعتقاد لم يدم طويلا، فقد استطاع العالم “فوهلر” سنة 1828م تحضير اليوريا، -وهو مركب عضوي يتكون داخل جسم الكائن الحيي كناتج نهائي لتمثيل الزلاليات ويلفظ خارج الجسم بواسطة الإدرار- من مادة غير عضوية وهي سيانات الأمونيوم، وهذه المحاولة كانت نقطة تحول هامة في تقدم علم الكيمياء.
2- الكيمياء غير العضوية Inorganic Chemistry : وتختص بدراسة كل العناصر ومركباتها ما عدا مركبات عنصر الكربون.
3- الكيمياء الفيزيائية Physical Chemistry: وتختص بتطبيق القواعد الرياضية والفيزيائية على دراسة الظواهر الكيميائية.
4- الكيمياء الحيوية Bio-Chemistry: وتدرس الظواهر الحيوية من الوجهة الكيماوية.(وهي تدرس كذلك مكونات الخلايا الحية على اختلاف أنواعها وكذلك التفاعلات البيوكيماوية التي تحدث فيها).
5- الكيمياء الصناعية Industrial Chemistry: وتختص بتطبيق المعرفة الكيميائية في الصناعة، ومن أهم فروعها الكيمياء الهندسية. (ورد هذا التصنيف في كتاب "معالجة وصيانة الآثار"، باهرة عبد الستار أحمد القيسي، والصادر عن المؤسسة العامة العراقية للآثار والتراث،1981).(1/229)
فإن أول ما سيسترعي انتباهنا في هذا المجال هو أن القرآن الكريم قد غطى طيفاً واسعاً من تفرعات هذا العلم؟!.. مبتدئين بالذرّة ذاتها والتي استأثرت وحدها بفرع مستقل من فروع علم الكيمياء هو (الكيمياء الذرية). وتعتبرالذرة أصغر جزء من أجزاء العنصر ويستمد منها صفاته، بل إن القرآن الكريم قد جذب النظرَ إلى حقيقة وجود ما هو أصغر من ذلك الجزء:
{ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين}(يونس:61)
وكأنه يريد أن يسترعي انتباهنا إلى بُنية الذرّة ذاتها! من حيث احتواؤها على إلكترونات، وبروتونات، ونيوترونات.. الخ..
ثم ارتقى القرآن الكريم بنا درجة فشدّ انتباهنا إلى مجموعة العناصر! ومن الناحية الكيميائية فإن العنصر الواحد يمتلك ذرات متشابهة، لكن القرآن الكريم وهو يعرض لنا نماذج لبعض العناصر فقد أعطى اهتماماً خاصاً لبعضها، والتي تعرف علمياً بمجموعة "المعادن" فذكر منها : الذهب، الفضة، الحديد، النحاس..
ثم عاد القرآن الكريم ليرتقيّ بنا درجةً أخرى على سلّم المعارف العلمية الخاصة بعلم الكيمياء؛ فأورد بعد "العناصر" بعضاً من "المركبات"! فقد وردت لفظة "ملح" ووردت كذلك لفظة "ماء" (1) وهما لفظتان تعبران عن مركبين من المركبات الكيماوية.
إن القرآن الكريم وهو يتناول كل هذه الطُرَف؛ لم يتناولها بوصفه كتاباً شارحا للكيمياء، وهذا الأمر متوقع في ضوء ما ذكرناه من حقيقة أن القرآن الكريم ليس كتاباً مهمته تعليم الناس علوم الطبيعة وما شابه، لكن من المقاصد التي يجب أن تؤخذ بالحسبان لدى التعامل مع القرآن الكريم؛ أن تنجذب عقولُنا وأرواحُنا إلى هذا التنوع الواسع، وهذا التعدد العجيب، وهذا التدرج اللامتناهي في شتى درجات اللون؛ والعمق؛ والاتساع.. لنبدأ -من ثم- رحلة البحث عن التفاصيل!.
__________
(1) سنأتي على ذكر كليهما فيما بعد بالتفصيل.(1/230)
وفي هذا البحث فقد حاولنا أن نقتطف من جِنان القرآن ورودا، ومن بساتينه قطوفاً تراءت لنا متناثرة في ثناياه.. تنوعت بين الذرة، والماء، والحديد والنحاس، والذهب، والفضة، إضافة إلى مجموعة متنوعة من الموضوعات التي تجمعها الكيمياء في عقد واحد..
وقد قصدنا أن نورد في ثنايا بحثنا عدداً من الإضاءات؛ كانت كل واحدة منها تتناول سرا من أسرار الإعجاز القرآني، حيث كشفت كل واحدة منها عن سر لابد من بذل المحاولات الجادة لتتبعه واستجلائه في سور القرآن الكريم وآياته كلها.
وقد قصدنا (من تناولنا للموضوعات الواردة في هذا البحث) إيراد الآيات الكريمة المتعلقة بها جميعها، مع إيراد بعض الملاحظات والشرح ،إن أمكن. ومن المأمول أن يكون واضحاً بأن إيراد تلك الآيات بهذا الشكل إنما قصد منه أن تكون هادياً لمن أراد تناول تلك الموضوعات بعد ذلك بمزيد من التفصيل.
الذرّة في القرآن الكريم
الذرّة في اللغة هي: (واحدةُ الذر، وهي النمل الصغار، وقيل: رأس النملة، وقيل:الذرّة؛ الخردلة. وقيل: كل جزءٍ من أجزاء الهباء الذي يظهر فيما يدخل من الشمس من كوةٍ أو غيرها: ذرّة، والمراد من الكلام (ومن يعمل مثقال ذرة خيرا يره..) أن الله-عزّ وجل- لا يظلم كثيراً ولا قليلاً، أي لا يبخسهم من ثواب أعمالهم؛ ولا يزيد في عقاب ذنوبهم وزن ذرّة فضلا عما فوقها) (1) .
وقال بعض أهل اللغة: (إن الذرّة هو أن يضرب الرجل بيده على الأرض؛ فما علق من التراب فهو الذرّة، وقيل: الذر ما يُرى في شعاع الشمس من الهباء) (2) .
ليست "ذرة".. بل "مثقال ذرة"!!
__________
(1) فتح القدير، محمد بن علي بن محمد الشوكاني، المجلد الأول، ص467.
(2) فتح القدير، المجلد الخامس، ص479.(1/231)
أما عن الـ "ذرّة" في القرآن الكريم؛ فقد وردت مُنَكّرّة في كل مواضع ورودها؛ وجاءت في كافة مواضعها مقترنة بكلمة "مثقال" (1) بما يفيد وجود علاقة عضوية بين اللفظين، بحيث يؤديان معاً إلى ما قُصد إليه من معنى..
وقد وردت لفظة "ذرة" في المواضع الكريمة التالية:
{إن الله لا يظلم مثقال ذرّة، وإن تكُ حسنةً يضاعفها}(النساء:40)
{وما يعزبُ عن ربك من مثقال ذرّةٍ في الأرض ولا في السماء، ولا أصغرَ من ذلك ولا أكبرَ إلا في كتابٍ مبين}(يونس:61)
{لا يعزبُ عنه مثقالُ ذرّةٍ في السموات ولا في الأرض}(سبأ:3)
{لا يملكون مثقال ذرّةٍ في السموات ولا في الأرض}(سبأ:22)
{فمن يعمل مثقال ذرّةٍ خيراً يره}(الزلزلة:7)
{ومن يعمل مثقال ذرّةٍ شراً يره}(الزلزلة:8)
ويجدر أن نلاحظ هنا أن استخدام اللفظ "ذرّة" قد جاء في القرآن الكريم مقترناً دائماً بكلمة "مثقال"، والتي يُقصد بها "وزن"، وأن التعبير القرآني {مثقال ذرّة} يقابله بدقة المصطلح الكيميائي "الوزن الذري" (2) ؟!!.
فلماذا جاءت كلمة "ذرّة" مقترنةً -وفي كل المواضع- مع كلمة "مثقال"؛ ولم تجئ -ولو لمرة واحدة- لتعبر عن الذرّة ككيان، أو حجم، أو شكل، أو ما شابه؟.. وهل هناك ما يمكن أن نستشفه من هذا الاقتران؟!..
يمكن الاجتهاد لمحاولة فهم السبب، وذلك بدراسة الذرة عبر ثلاثة اتجاهات:
ما يُستشف من دلالات اقتران اللفظين "مثقال" و "ذرّة".
ما يُستشف من دلالات (الدقة و التوازن)، وذلك في ضوء دراسة النظريات المختلفة التي تصف بنية الذرّة.
ما يُستشف من دلالات الآية الكريمة {ولا أصغر من ذلك ولا أكبر}.
ولكي نصل إلى كل ذلك؛ فلنحاولْ التعرف على الذرّة كما قدّمها لنا علم الكيمياء.
الذرة وإشكالية الحجم!!
__________
(1) المثقال مفعال من الثقل، كالمقدار من القدر.
(2) هو مجموع أوزان البروتونات والنيوترونات معا، مع إهمال أوزان الإلكترونات لضآلتها.(1/232)
إذا سألت متخصصاً في علم الكيمياء عن الذرّة؛ فإن واحدةً من الملاحظات التي سيبديها لك: أن هناك إشكالية ما في التعامل مع هذا المصطلح المدعو بـ "الذرّة"؟! ذلك أنّ الذرّة إذا أُخذت من ناحية حجمها؛ فهي تعني كل ما في الكون من حجوم هائلة من المادة، بينما إذا دققنا في الأمر بنظرةٍ علميةٍ بحتة؛ فإننا سندرك أن غالبية تلك الحجوم إنما هي عبارة عن فراغ؟!.. بل فراغات شاسعة؛ تحتلها كميات صغيرة جداً من المكونات المادية (1) لذا فإن أصدق ما يمكن وصف الذرّة به؛ هو التعبير عنها قياساً إلى وزنها، وليس إلى أي شيءٍ آخر، وبمصطلح "الوزن الذري" تحديدا؟! والذي يعبر عن وزن محتوياتها من بروتونات ونيوترونات (2) . لكن؛ ولكي يتسنى لنا إدراك هذا الأمر؛ فلنحاولْ الاقتراب من الذرّة بوزنها وحجمها متناقضي الدلالة؟!.
نماذج لتفسير بنية الذرة
لقد مر الفكر الإنساني خلال رحلته بمراحل عديدة من أجل إدراك كنه الذرّة وطبيعة تكوينها، وفي كل مرةٍ كان العلم يضع تصوراً لها ولبنيتها كان يعود ليدركَ أن ذلك التصور يحفل بأخطاء قاتلة؟! لو كانت موجودةً (أي الاخطاء)على أرض الواقع لكانت كفيلةً بإنهاء الوجود بشكل لا يمكن تصوره!. وقد وضعت عدة نماذج وتصورات لتوضيح بنية الذرّة أعرِضُ لثلاثٍ منها بشكل مختصر:
(أ) بنية الذرّة حسب نموذج “رذرفورد” :
وضع العالم “رذرفورد” تصوره للذرّة؛ وذلك في العام 1911م، وينص ذلك التصور على ما يلي:
1- الذرّة تشبه المجموعة الشمسية في تكوينها؛ وتتكون من نواة مركزية (مثل الشمس) تدور حولها الإلكترونات في مدارات مختلفة وتشبه في ذلك الكواكب في المجموعة الشمسية.
2- حجم الذرّة في معظمه فراغ.
__________
(1) الفراغ إلى المادة في الذرة 1:ألف مليون طن أي 1×10أس15
(2) يمكن إهمال أوزان الإلكترونات نظراً لضآلتها.(1/233)
3- معظم كتلة الذرّة (أي وزنها) مركزة في نواتها، ولا تحتسب كتلة الإلكترونات لأنها ضئيلةً جداً إذا ما قورنت بكتلة النواة التي تحتوي على البروتونات والنيوترونات.
4- تتكون الذرة من نواة مركزية ؛ يدور في فلكها إلكترونات في مدارات مختلفة، ويمكن تشبيه النواة بالشمس، والإلكترونات بالكواكب الدوارة بانتظام حولها.
وقد واجهت ذلك النموذج العديد من الاعتراضات العلمية، ففروض هذا النموذج (والمتعلقة بدوران الإلكترون حول النواة) تتعارض تعارضاً جوهرياً مع فروض النظرية الكهروديناميكية (نظرية أرنشو Earnshaw)؛ حيث أنه وبموجب هذه النظرية: لا يمكن لنظام ساكن من الشحنات الكهربائية أن يكون في حالة توازن، فالإلكترونات في الذرة يجب أن تتحرك وتتعجل نحو النواة، وبالتالي فإنها ونتيجة لذلك تشع جزءا من طاقتها. وعملياً؛ فإن هذا يعني استمرار النقص ،وبشكل تدريجي، في نصف قطر دوران الجسيم المتحرك حول النواة؛ وذلك تبعاً لنقص طاقته.
والمعنى الوحيد الذي يقدمه هذا الاعتراض هو أن فروض نظرية “رذرفورد” –لو كانت صحيحة- فإن ذلك يعني بأن على الإلكترون أن يدور حول النواة في مسار حلزوني يصغر شيئاً فشيئاً ،بسبب نقص طاقة الإلكترون، مما ينتهي به في نهاية المطاف ملتصقاً بالنواة؟!.(1/234)
ويعني هذا الأمر أن تفقد الذرّة فراغها الهائل؛ والذي يعطي لها بنيتها وحجمها، ولنا أن نتخيل تأثير ذلك الأمر على الذرة إذا علمنا أن كثافة مادة النواة (1) يمكن أن تصل إلى مائة مليون طن لكل سنتيمتر مكعب!! وهذا يعني أن كل مائة مليون طن من المادة التي نعرفها؛ يمكن أن تتحول إلى سنتيمتر مكعب واحد حجماً؛ وذلك في حال فقدت ذرات تلك المادة الفراغات الهائلة الموجودة بداخلها، مما يسمح لنا بالقول عندئذٍ بأن هذا الأمر لو حدث؛ فإن الكرة الأرضية بكامل مادتها يمكن أن تتحول إلى حجم صغير جدا من المادة!.. لكن مع احتفاظها بنفس الوزن؟!؟!.
ولفهم هذا الموضوع جيداً لابد من الاستماع إلى صدى السؤال: لماذا يأخذ الوزن القليل من المادة كل هذا الحجم الهائل؟!.. وللإجابة على هذا السؤال يجب علينا أن نتعرف على مبدأ "عدم التأكد" للعالم هيزنبرغ.
يعتبر هذا المبدأ واحداً من المبادئ الهامة في علم الكيمياء، والذي جاء في إطار النظرية الذرية الحديثة (2) وهو يلقي الضوء على هيكلية الذرّة وبنيتها الفراغية، وينص هذا المبدأ على أنه: (يستحيل من الناحية العملية تحديد مكان الإلكترون وسرعته في نفس الوقت).
أما عن المعنى البسيط لهذا المبدأ؛ فهو التأكيد على استحالة تحديد مكان الإلكترون حول النواة وسرعته في نفس الوقت، ذلك أنه ولتحديد المكان بشكل دقيق فلابد من إيقاف الحركة وتحديد السرعة، ولكي يحدث هذا فلابد من تثبيت وضع الإلكترون في مكان محدد، وهذا الأمر مستحيل من الناحية العملية!.
لكن ما الذي يريد أن يخبرنا به "هيزنبرغ" من خلال هذا المبدأ؟!
__________
(1) هو وزن حجم معين من مادة الذرّة بدون فراغات حيث وزن الذرة هو وزن النواة تقريبا.
(2) يتم التطرق إليها لاحقا بشيء من التفصيل.(1/235)
إن المعنى الكامن في هذا المبدأ هو أن الإلكترون يدور حول النواة بسرعات عاليةٍ جداً يصعب تخيلها، بحيث تؤثر تلك السرعة ،غير العادية، على طبيعة إدراكنا للذرّة ذاتها من ناحية الحجم!. لكن ماذا تعني تلك السرعة من الناحية العملية؟!
إن تلك السرعة الهائلة للإلكترونات حول النواة هي التي تجعل للذرّة (التي غالبية حجمها فراغ) تجعلها ذات بنية وهيكل محددين يمكن رؤيتهما والتعامل معهما، وكلنا يعلم مدى تأثير الزيادة في السرعة على تحديد الشكل، إذ يمكنك رؤية أسلاك عجلة الدراجة الهوائية، أو سنابل المروحة الكهربائية أثناء دورانها بشكل بطيء، لكن الأمر يصبح أكثر صعوبة عند زيادة السرعة، بحيث تتحول أمام ناظريك إلى مسطح دائري مصمت يصعب اختراقه؟! ... وهذا شبيه بما يحدث للذرة بالضبط.
من هنا يمكننا أن نتخيل تأثير السرعة العالية للإلكترونات على تشكيل بنية الذرّة، وتحديد حجمها وهيكلها، مما يتيح لإلكترون واحد وحيد يدور حول نواة ذرّة الهيدروجين أن يتواجد ،في نفس الوقت، في جميع نقاط سحابة إلكترونية كروية الشكل تحيط بتلك النواة، ويعطي ذلك ذرّة الهيدروجين بُنية كُروية مادية، ويعطيها كذلك حجما ملموساً يمكن التعامل معه!!.
وعلى نفس المنوال فإن 26 إلكترون تدور حول نواة ذرّة الحديد؛ تعطي الحديد كل هذا القدر من الصلابة؛ على الرغم من الفراغات الهائلة التي تفصل إلكتروناته ومداراته عن بعضها البعض!. من هنا جاز لنا الاعتقاد بأن وزن الذرّة (وهو ثابت حتى لو فقدت الذرّة كل الفراغات الموجودة فيها) هو واحد من ثوابتها؛ بعكس حجمها الذي يتكون في غالبيته من كمٍ هائلٍ من الفراغ!.
"مثقال ذرة" بنسبة 100%(1/236)
ومن هنا أيضاً يمكننا أن نتفهم تركيز الآيات القرآنية بنسبة 100% من مواضع ورودها على أن تكون لفظة "ذرة" مقترنة دائماً بكلمة "مثقال"، الأمر الذي يعطي بعض الدلالة حول الدقة غير العادية التي تكتنف أسلوب القرآن الكريم وكذلك دقة ألفاظه، والتي تشكل وجهاً من وجوه الإعجاز فيه.
وأخيراً نختتم هذا المبحث الخاص بالذرة في القرآن الكريم بتوجيه خطابنا لمن يدّعون بأن القرآن الكريم ،لدى ذكره للذرة، لم يقصد الذرّة بمعناها الاصطلاحي المتعارف عليه في علم الكيمياء، فنقول: صحيح إن القرآن الكريم عندما تنزّل قد فُهمت فيه كلمة "ذرّة" بمعناها اللغوي، لكن إذا ما توقفنا بكلمات القرآن الكريم وألفاظه فقط عند المعاني التي كانت مفهومة حين تنزله؛ فأين يكمن الفضل في القرآن الكريم على ما عداه؟!!..
إنه يكمن في "القدرة الفائقة" على التجدد؛ واستيعاب المزيد من المضامين التي تطرأ عبر توالي السنين، بحيث يمكن فهمه بدون تناقض في كل زمانٍ ومكانٍ إلى يوم القيامة..
(1) L’atome dans le coran
Mohammed Swairky
Traduit par
Iman Mustafa Boukhobza
Le mot atome a été mentionné dans le coran dans les sourates suivantes :
« Certes, Allah ne lèse (personne), fût-ce du poids d'un atome. S'il est une bonne action, Il la double, et accorde une grosse récompense de Sa part. » Les femmes Sourate 4, 40
__________
(1) الترجمة الفرنسية لمقال: "الذرة في القرآن الكريم" وقد قام على ترجمته الأخت الباحثة الدكتورة إيمان بوخبزة، نقلناه حرفيا عن موقع "موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة" على الرابط:
http://www.55a.net/firas/french/index.php?page=show_det&id=47(1/237)
« Tu ne te trouveras dans aucune situation, tu ne réciteras aucun passage du Coran, vous n'accomplirez aucun acte sans que Nous soyons témoin au moment où vous l'entreprendrez. Il n'échappe à ton seigneur ni le poids d'un atome sur terre ou dans le ciel, ni un poids plus petit ou plus grand qui ne soit déjà inscrit dans un livre évident. » Jonas, Sourate 10, 61
« Ceux qui ne croient pas disent : "L'Heure ne nous viendra pas" . Dis : "Par mon Seigneur! Très certainement, elle vous viendra. [Mon Seigneur] le Connaisseur de l'Inconnaissable. Rien ne Lui échappe fût-il du poids d'un atome dans les cieux, comme sur la terre. Et rien n'existe de plus petit ni de plus grand, qui ne soit inscrit dans un Livre explicite. » Saba, sourate 34, 3
« Dis : "Invoquez ceux qu'en dehors d'Allah vous prétendez [être des divinités]. Ils ne possèdent même pas le poids d'un atome, ni dans les cieux ni sur la terre. Ils n'ont jamais été associés à leur création et Il n'a personne parmi eux pour Le soutenir". » Saba, sourate 34, 22.
« Quiconque fait un bien fût-ce du poids d'un atome, le verra, »
«et quiconque fait un mal fût-ce du poids d'un atome, le verra.»
La secousse, Sourate 99, 7 et 8 Il est important de noter que le mot atome dans le coran était toujours mentionné avec le mot poids «Mithkal», ce mot en arabe a un correspondant en chimie qui est: La mass atomique ou le poids atomique. Ceci n’explique pas l’atome comme entité, volume, ou forme.
On peut essayer de comprendre, la raison de la combinaison de ces deux mots, en se concentrant dans trois directions:(1/238)
1. Pourquoi cette combinaison entre les deux mots: atome et poids?
2. En se basant sur les différentes théories atomiques, qu’est ce qu’on peut tirer de ceci point de vue précision et équilibre
3. Qu’est ce qu’on peut tirer du verset «Et rien n'existe de plus petit ni de plus grand» ولا أصغر من ذلك ولا أكبر
L’atome et le volume:
Dans la chimie, il y avait toujours le problème de compréhension de l’atome et son volume.Il s’agit des vides gigantesques occupés par des masses très petites. Donc la meilleure méthode de décrire un atome serait celle qui est relative à son poids et non pas a son volume ou autre characteristiques.
Exemples des théories atomiques:
La compréhension de l’atome et de ses constituants et de son monde a passé à travers des étapes différentes. Plusieurs théories ont été postulées:
a- Ruterford
b- Bohr
c- La nouvelle théorie atomique.
A- Le modèle de Rutherford: En 1911, Rutherford a postulé une théorie pour comprendre l’atome. Sa théorie consistait en:
1. Il y a une similitude entre l’atome est le système solaire. L’atome se forme des électrons qui tournent autour d’un noyau comme les planètes qui tournent autour du soleil.
2. Le volume de l’atome ce n’est qu’un vide.
3. La masse ou le poids de l’atome sont concentrés dans son noyau. Celle des électrons est négligeable si on la compare à celle du noyau formé par des protons et des neutrons.(1/239)
Cette théorie a eu beaucoup d’opposition d’un point de vue scientifique, spécialement la partie qui concerne le mouvement des électrons autour du noyau. Ce mouvement ne peut pas exister selon les lois thermodynamiques. Selon cette théorie, il ne peut pas y avoir un système de charge électronique en équilibre. Les électrons dans l’atome doivent entrer en mouvement en se dirigeant vers le noyau. Pratiquement, cela veut dire qu’il y a une diminution continue du rayon de l’atome jusqu'au point ou l’électron rencontre le noyau.
B- Le modèle de Bohr:
En 1913, Bohr a rectifié le modèle de Rutherford. Sa nouvelle théorie peut se résumer dans les points suivants:
1- Le noyau de l’atome est chargé positivement.
2- Le nombre des électrons qui portent une charge négative et qui tournent autour du noyau le long des orbites est équivalent au nombre des protons qui portent une charge positive et qui se trouvent dans le noyau.
3- Les électrons tournent autour du noyau avec une vitesse très grande. Ces électrons sont sous l’influence de deux forces équivalentes dans leurs valeurs opposées dans leurs directions.
a. Une force de répulsion qui pousse les électrons vers l’extérieure.
b. Une force d’attraction entre les électrons et les protons.
Le bilan de ces forces est nul.
4-Les électrons tournent autour du noyau avec une vitesse très grande sans perdre ou gagner de l’énergie.
5-Les électrons tournent autour du noyau le long des niveaux energitiques bien déterminés.
6- L’électron a une énergie bien déterminée qui dépend de la distance entre le noyau et la localisation de cet électron.(1/240)
7- Dans sa position d’équilibre, l’électron tourne autour du noyau le long d’un niveau energitique convenable. Lors de son excitation, l’électron gagne une énergie supplémentaire et peut se déplacer à un niveau energitique plus haut. Dans le cas contraire, quand l’électron perd de l’énergie, son déplacement cette fois est de son niveau enegitique à un niveau plus bas. Ce déplacement s’accompagne d’une émission d’un rayonnement avec une fréquence et une longueur d’onde bien déterminée.
Par conséquent, Bohr a ajouté quelques rectifications à la théorie de Rutherford. Cela a donné plus d’explication et de précision pour mieux comprendre le monde de l’atome.
C-La nouvelle théorie atomique:
La nouvelle théorie atomique a apparu après introduction de quelques corrections et rectifications:
1- la double nature de l’électron «Dual nature»
2- Le principe d’incertitude d’Heseinberg.
3- Le mouvement de l’électron.
Il n’était plus suffisant de considérer l’électron comme une entité de charge négative et d’une masse négligeable qui tourne autour du noyau le long des orbites. Il faut maintenant prendre en considération le caractère d’une onde. L’électron maintenant est une entité matérielle considérée comme une onde.
En utilisant la théorie d’incertitude d’heisemberg, Il est devenu impossible de parler d’une location bien déterminée d’un électron autour du noyau. Mais on parle maintenant de la probabilité de trouver un électron dans l’espace autour du noyau.(1/241)
Donc, il a apparu une nouvelle explication au mouvement de l’électron. On parle maintenant d’un nuage électronique au lieu du mouvement d’un électron autour du noyau. Le nuage électronique montre la position d’un électron et la probabilité de son existence autour du noyau.
Conclusion:
D’après la graduation précédente dans la compréhension du monde de l’atome. La connaissance humaine de l’atome s’est développée jusqu’à la théorie atomique moderne. Par conséquent, ce qu’on a trouvé dans le coran concernant l’atome ce n’est qu’une preuve que ce que le Prophète Mohammed a apporté doit être de la part de Dieu.
Les différentes théories atomiques se sont déplacées d’une connaissance primitive du mouvement des électrons le long des orbites bien déterminées autour du noyau. Ce développement de la connaissance a ajouté une meilleure explication de «tawazune» (équilibre) et «alkest» (justuce). Cette connaissance s’est développée du mouvement des électrons autour du noyau le long des orbites, jusqu’au concept du nuage électronique.
Dans le coran, les deux mots poids et atome «mithkal dara» montre la justice. Dieu nous a donné une unité de justice. Dieu nous a donné une unité de peser les choses, c’est celle du poids d’un atome. Cette unité c’est un exemple de précision et de certitude pour que la justice puisse s’appliquer dans notre monde.
Donc, le coran nous a présenté le poids de l’atome comme un exemple de justice. La science de son coté l’a utilisé comme une unité de précision et de certitude.(1/242)
La dernière leçon qu’on peut tirer c’est celle de la combinaison des deux versets «poids d’un atome» avec «ni un poids plus petit ou plus grand», ici, le coran nous pousse à utiliser l’observation dans l’univers. Le coran nous guide à chercher tous ce qui est petit et tout ce qui est grand. Ceci est une recherche infinie. Ces résultats et ces recherches peuvent être résumés dans quelques mots. C’est ceux que Dieu est le dieu des sciences et des connaissances. C’est lui le dieu de la justice.
مجموعة
العناصر المعدنية في القرآن الكريم
من المصطلحات الأكثر شهرة في مجال علم الكيمياء ما يطلق عليه "العنصر" وجمعها "عناصر" وشهرتها تنبع من أهميتها في مجال الكيمياء، بل في كل مجالات الحياة من حولنا، فالعنصر هو اللبنة الأساسية لتشكيل المركبات، والعنصر يشترط فيه أن يكون مكوناً من نوع واحد من الذرات!.. وعلى هذا فإن العناصر تتكون من ذرات متجانسة، وأهم العناصر المعادن والتي منها:
معدن الذهب
يعتبر الذهب من العناصر الكيميائية النفيسة وذلك لمجموعة من الخواص التي يتميز بها، والتي من أهمها: ما يبديه من ثبات كيميائي في وجه العوامل الكيميائية المختلفة، فهو ثابت في وجه أكسجين الجو، وبخار الماء، والأحماض، والقلويات، ومواد قليلة هي القادرة على إحداث تأثيرات على عنصر الذهب، مثل: الماء الملكي؛ والذي يتكون من أحماض الكبريتيك والنيتريك بنسب مختلفة. وقد ورد عنصر "الذهب" في القرآن الكريم ثماني مرات، جاء اللفظ منكّراً في ستّ منها، وكانت مواضع وروده كما يلي:
{يحلون فيها من أساور من ذهب}(الكهف:31)
{جناتٍ تجري من تحتها الأنهار، يُحلون فيها من أساور من ذهبٍ}(الحج:23)
{يحلون فيها من أساور من ذهبٍ ولؤلؤا، ولباسهم فيها حرير}(فاطر:33)
{فلولا أُلقي عليه أسورةٌ من ذهب، أو جاء معه الملائكةُ مقترنين}(الزخرف:53)(1/243)
{يطاف عليهم بصحافٍ من ذهبٍ}(الزخرف:71)
وفي واحدٍ من مواضع ورودها جاءت منكرة ومنونة:
6- {إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يُقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً}(آل عمران:91)
أما اللفظة المعرّفة -الذهب- فقد وردت في القرآن الكريم مرتين، جاءت في كليهما مقترنة بمعدن الفضة، وجاءا في الموضع الأول ليعبرا عن قيمتهما -الذهب والفضة- من حيث كونُهما زينةً (1) ومتاعاً في الحياة الدنيا.
1- {زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة}(آل عمران:14)
أما الموضع الآخر فوردا فيه معبرين عن "قيمة اقتصادية معطلة".
2- {والذين يكنزون الذهب والفضة، ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم}(التوبة:34)
معدن الفضة
تعتبر الفضة الأخ الشقيق للذهب، وذلك لاشتراكها معه في مجموعة من الخواص والمميزات والتي من أهمها الندرة في الطبيعة والثبات النسبي في مواجهة العوامل والظروف الكيميائية .
وقد ورد ذكر معدن الفضة في القرآن الكريم ست مرات على وجه الإجمال، واحدة منها -على الأقل- تحتاج إلى توقف وإمعان نظر، وإلى معرفة علمية مختصة للوصول إلى معناها المقصود، وهي التي تتحدث عن جعل الله عز وجل لبيوت الكافرين سُقُفَاً من فضة.
__________
(1) ترجع قيمة كل من الذهب والفضة ونفاستهما جزئيا إلى ندرتهما في الطبيعة، وكذلك إلى الجهود المبذولة في استخلاصهما، لكن تلك القيمة ترجع كذلك إلى ما يبديه كل منهما من خواص كيميائية، تتمثل في عدم وجود إمكانية لأكسدتهما بواسطة أكسجين الهواء الجوي، وبمقارنة جهد الأكسدة والاختزال لكل من الذهب والفضة مع جهد الأكسدة والاختزال للحديد أو النحاس نجد أن هناك إمكانية لتدفق الإلكترونات من الأخيريْنِ باتجاه ذرات الأكسجين، مما يعني صدأ كل منهما، وهو ما لا يحدث في حالة الذهب أو الفضة.(1/244)
1- {ولولا أن يكون الناس أمةً واحدةً لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضةٍ، ومعارج عليها يظهرون}(الزخرف:33)
ولابد هنا من طرح السؤال التالي: لماذا الفضة بالذات؟..
وقد ورد في تفسير هذه الآية: (أي ولولا أن يرغب الناس في الكفر إذا رأوا الكافر في سعة من الرزق، ويصيروا أمة واحدة في الكفر، لخصصنا هذه الدنيا بالكفار، وجعلنا لهم القصور الشاهقة المزخرفة بأنواع الزينة والنقوش، سقفها من الفضة الخالصة) (1) .
وثلاثُ آياتٍ أخرى تحدثت عن الفضة كمعدن نفيس؛ حيث هو شكلٌ من أشكال تكريم الله عزّ وجلّ لعباده المؤمنين في الجنة، فهي أكواب، وأساور.. الخ.. حيث قال عز من قائل:
2- {ويطافُ عليهم بآنيةٍ من فضةٍ وأكوابٍ كانت قواريرا}(الإنسان:15)
3- {قوارير من فضةٍ قدّروها تقديرا}(الإنسان:16)
4- {وحلوا أساور من فضةٍ، وسقاهم ربهم شراباً طهورا}(الإنسان:21)
أما الاسم المعرّف لهذا المعدن النفيس -الفضة- فقد ورد في القرآن الكريم مرتين؛ وقد جاء اللفظ المعرّف للفضة مقترناً مع اللفظ المعرف للذهب في كلا الموضعين (2) ؛وجاءا في الموضع الأول ليعبرا عن قيمتهما -الذهب والفضة- من حيث كونِهما زينةً ومتاعاً في الحياة الدنيا، أما الموضع الآخر فوردا فيه معبرين عن "قيمة اقتصادية معطلة".
معدن الحديد
يعتبر الحديد واحدا من العناصر المعدنية ذات الأهمية الواسعة في حياة الإنسان، وذلك لما يتميز به من وفرة كبيرة نسبيا في الطبيعة، وكذلك نتيجة لمجموعة الخواص الفيزيائية والكيميائية التي يتميز بها هذا العنصر، وقد وردت هذه الكلمة في القرآن الكريم مُنكرة تارة ومعرّفة أخرى، فقد وردت كلمة "حديد" في موضعين كما يلي:
{ولهم مقامع من حديد}(الحج:21)
__________
(1) (صفوة التفاسير، محمد علي الصابوني، المجلد الثالث، ص157).
(2) (آل عمران:14) و (التوبة:34) وقد سبق التطرق لهما عند الحديث عن معدن الذهب.(1/245)
وقد فُسرت بأن (لهم مطارق وسياط من الحديد يُضربون بها) (1) .
ووردت في الآية (22) من سورة "ق" بمعنى القوة والنفاذ {لقد كنت في غفلة من هذا، فكشفنا عنك غطاءك، فبصرك اليوم حديد} أي : فبصرك اليوم قوي نافذ، ومن هنا اكتسب الحديد أهم صفاته وهي صفة القوة والنفاذ.
أما اللفظ المعرّف فقد ورد في ثلاثة مواضع.
1- {آتوني زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال انفخوا، حتى إذا جعله ناراً قال آتوني أفرغ عليه قِطْرا، فما اسطاعوا أن يظهروه، وما استطاعوا له نقبا}(الكهف:96)
وقد جاء فيها : (أي أعطوني قطع الحديد، واجعلوها لي في ذلك المكان، حتى إذا ساوى بين جانبي الجبلين {قال انفخوا} أي انفخوا بالمنافيخ عليه. {حتى إذا جعله نارا} أي جعل ذلك الحديد المتراكم كالنار بشدة الإحماء {قال آتوني أفرغ عليه قطرا} أي أعطوني أصبّ عليه النحاس المذاب. قال الرازي: لمّا أتوه بقطع الحديد وضع بعضها على بعض حتى صارت بحيث تسد ما بين الجبلين إلى أعلاهما، ثم وضع المنافيخ عليها حتى إذا صارت كالنار صبّ عليها النحاس المذاب على الحديد المحمى فالتصق بعضه ببعض وصار جبلاً صلدا) (2) .
2- وورد اللفظ المعرّف كذلك في الآية الكريمة {وألنا له الحديد}(سبأ:10)، ويطالعنا المفسرون فيما يختص بهذه الآية بقولهم: (أي جعلناه لينا ليعمل به ما شاء. قال الحسن: صار الحديد كالشمع يعمله من غير نار. وقال السدي: كان الحديد في يده كالطين المبلول والعجين والشمع يصرفه كيف يشاء من غير نار ولا ضرب بمطرقة) (3) .
3- وأخيرا: فقد وردت لفظة "الحديد" في الآية الكريمة:
{وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس}(الحديد:25).
__________
(1) صفوة التفاسير، محمد علي الصابوني، ج2، ص286.
(2) صفوة التفاسير، محمد علي الصابوني،ج2،ص206.
(3) فتح القدير، محمد بن علي بن محمد الشوكاني، المجلد الرابع، ص315.(1/246)
وقد ورد في معني هذه الآية، أي: (وخلقنا وأوجدنا الحديد فيه بأس شديد، لأن آلات الحرب تُتخذ منه، كالدروع، والرماح، والتروس، والدبابات، وغير ذلك. {ومنافع للناس} أي وفيه منافع كثيرة للناس كسكك الحراثة، والسكين، والفأس، وغير ذلك، وما من صناعة إلا والحديد آلة فيها.. وأراد بالحديد جنسه من المعادن؛ قاله الجمهور) (1) .
معدن النحاس
ورد ذكر معدن النحاس (2) في القرآن الكريم بتعبيرات مختلفة، فقد أشير إليه بلفظه الصريح أي: "نحاس"، فقال عزّ وجل:
{يرسل عليكما شواظ من نارٍ ونحاسٌ فلا تنتصران}(الرحمن:35)
وعُبر عنه كذلك بألفاظ أخرى من أمثال "قِطْرا" وذلك في الآية الكريمة:
{قال آتوني أُفرغ عليه قِطْرا}(الكهف:96)
وأشير إلى معدن النحاس كذلك بالتعبير المركب "عين القِطْر"، وذلك في الآية الكريمة:
{وأسلنا له عين القِطْر}(سبأ:12)
وفي كلتا حالتيه الأخيرتين {قِطْرا} و {عين القِطْر} -و فيما يبدو لنا- فإن الألفاظ قد جاءت لتعبر عن الحالة السائلة لمعدن النحاس (الصهير) بينما تم التعبير عن حالته الصلبة باللفظ "نحاس" كما في قوله تعالى:
__________
(1) صفوة التفاسير، محمد علي الصابوني، المجلد الثالث، ص329.
(2) مما يستوقف الإنسان في هذا العصر أن القرآن الكريم قد أشار إلى الفوائد القريبة لهذه المعادن، لكن لعل في تلك الإشارات إلى تلك المعادن بالذات هي دعوة للإنسان للبحث عن مزيد مما يخصها من معارف، وقد وجد أن النحاس موجود في تركيب جسم الإنسان ذاته، فهو يدخل في تركيب أنزيم السيتو كروم أوكسيديز Cytochrome Oxidase الذي له دور في عملية التنفس، ويتواجد الإنزيم السابق في الميتوكوندريا، وهو ذو أهمية في عمليات الأكسدة والاختزال.(1/247)
{يرسل عليكما شواظ (1) من نارٍ ونحاسٌ (2) فلا تنتصران}(الرحمن:35) (3)
وقد وردت "عين القِطْر" و"قِطْرا" للدلالة على الحالة الطبيعية الثانية للنحاس؛ وهي (الحالة السائلة) أو "الصهير".
"النحاس" و "القطر".. إسم لكل حالة طبيعية؟!
يتوافق ما ذهبنا إليه بشأن اختلاف تسمية معدن النحاس باختلاف حالته الطبيعية (صلب-سائل) مع حالات مشابهة تم فيها استخدام ألفاظٍ مختلفةٍ للتعبير عن الحالات الطبيعية الفيزيائية المختلفة لنفس المادة، فالماء مثلاً في حالته السائلة يدعى "ماء" لكنه إذا تحول للحالة الصلبة صار ثلجاً، ولا نقول "ماءً مجمداً" ثم إذا تحول إلى الحالة الغازية صار "بخاراً" لذا فإنه من قبيل الدقة اللغوية أن يفرق القرآن الكريم بين حالتي الصلابة والسيولة للنحاس، وأن يُعبر عن كل حالةٍ بما يناسبها من ألفاظ.
وعلى الرغم من اعتقاد بعض المفسرين بأن "عين القِطْر" قد تكون عيناً تخرج نحاساً من الأرض، حيث جاء قولهم في الآية الكريمة {وأسلنا له عين القطر} أي: (أسلنا له عين النحاس كما ألنا الحديد لداود، وقال قتادة: أسال الله له عينا يستعملها فيما يريد) (4) ..
على الرغم من ذلك الاعتقاد فإننا نميل إلى أن كلمة "عين" هنا قد لا تعني ما يتبادر إلى الذهن للوهلة الأولى؛ من أنها عين تخرجُ نحاساً سائلا من باطن الأرض؛ بل قد تكون إشارة دقيقة للدلالة على أن النحاس (الذي هو موضوع النقاش هنا) إنما هو نحاسٌ في حالته السائلة، وهي بهذا تتشابه مع عين الماء في سيولتها، وليس في مصدر خروجها من باطن الأرض!..
__________
(1) اللهب الذي لا دخان فيه. أو هو لهب النار الحامية.
(2) قال ابن عباس: {نحاس} هو الدخان الذي لا لهب فيه. (صفوة التفاسير، ج3، ص296).
(3) تم تناول هذه الآية بشيء من التفصيل في ص (89) من الكتاب.
(4) فتح القدير، محمد بن علي الشوكاني، المجلد الرابع، ص316.(1/248)
وتتعاضد هذه الإشارة مع الإشارة السابقة التي تم التعبير فيها عن النحاس باللفظ "قِطْرا" لتعطيا نفس المعنى ونفس الدلالة؛ من أن النحاس هنا هو النحاس المنصهر وليس النحاس في حالته الصلبة.
أما المواضع التي وردت فيها الألفاظ "قِطْرا" و "عين القِطْر" والمعبرة عن النحاس في حالته السائلة، فكانت:
أ- الآية الكريمة: {حتى إذا جعله ناراً قال آتوني أُفرغ عليه قِطْرا، فما اسطاعوا أن يظهروه، وما استطاعوا له نقباً}(الكهف:18).
ب- وكذلك الآية الكريمة: {ولسليمان الريح، غُدُوُها شهرٌ ورواحها شهر، وأَسَلْنا له عين القِطْر}(سبأ:12-13)
أما الملاحظات التي تستوقف القارئ لهذه الآيات فهي: أن القرآن الكريم قد فرّق بين طريقتي إعداد المعدنين للاستعمال، فاستخدم للحديد التعبيرات {حتى إذا جعله ناراً} (أي كالنار من شدة الإحماء) و {وألنّا له الحديد} (أي جعلناه ليناً ليعمل به ما شاء) بينما استخدم للنحاس اللفظ {قِطْرا} كما عبر عنه كذلك بـ قوله:{أسلنا له عين القِطْر} وكلاهما يشير إلى النحاس المذاب، أي في حالته السائلة.
ولا شك في أن التفريق بين المعدنين من حيث تصرفهما وانفعالهما بالحرارة يُعدُّ وجهاً من وجوه الإعجاز القرآني، لأنه لو كان القرآن الكريم من عند غير الله لما أمكن لبشرٍ التمييز بين الألفاظ من حيث مناسبتها لحالات هذين المعدنين ودرجات انصهارهما، فمحمد (صلى الله عليه وسلم) -في البدء والمنتهى- لم يكن حداداً أو سباكاً يعمل في سباكة المعادن وصهرها فيعرف ذلك بالتجربة!؟.
لكن ماذا يعني لنا استخدام اللفظين (ألان) و (أسال) من الناحية الكيميائية؟!
التوزيع الإلكتروني(1/249)
وعلاقته بالخواص الحرارية لمعدني الحديد والنحاس (1)
لكي نستجلي غموض هذا الأمر فلابد من إيراد المزيد من الحقائق حول بنية الذرّة وتوزيع الإلكترونات في مداراتها المختلفة، وذلك تمهيدا لإلقاء الضوء على التوزيع الإلكتروني لكلٍ من معدني الحديد والنحاس.
كما أشرنا سابقاً فإن الذرة تتكون من نواة تتركز فيها الشحنة الموجبة (البروتونات)، بالإضافة إلى أجسام متعادلة الشحنة تدعى (النيوترونات)، والتي لها نفس وزن (البروتونات)، وتشكل النيوترونات والبروتونات ،مجتمعةً، الوزن الكلي والفعلي للذرّة.
يدور حول النواة مجموعة من الإلكترونات مساوية للبروتونات من حيث العدد ومقدار الشحنة، وتختلف شحنة الإلكترون عن شحنة البروتون في كونها سالبة، وتكاد الإلكترونات تكون معدومة الوزن (2) .
ونظراً لتساوي أعداد الشحنات الموجبة (البروتونات) مع أعداد الشحنات السالبة (الإلكترونات) ونظراً لتضاد نوعية تلك الشحنات؛ فلم يكن غريباً ،والأمر كذلك، أن يُقال: إن الذرّة (الذرّة وليس الأيون) متعادلة كهربياً، لكن يمكن للذرّة ،خلال التفاعلات الكيميائية، أن تفقد إلكتروناً أو أكثر فتتغلب الشحنة الموجبة على السالبة في المقدار؛ وتتحول الذرّة إلى أيون موجب، ويمكن للذرّة كذلك أن تكتسب إلكتروناً أو أكثر وأن تتحول بالتالي إلى أيون سالب.
__________
(1) تمت ترجمة هذه المادة إلى الفرنسية تحت عنوان "الحديد والنحاس في القرآن الكريم"، حيث قامت الباحثة المغربية الدكتورة "إيمان بوخبزة" بترجمتها وتقديمها لمؤتمر الإعجاز في القرآن الكريم، والذي انعقد في مدينة تطوان بالمغرب بتاريخ 26/6/2005.
(2) يعادل وزن الإلكترون (1/1840) من وزن البروتون تقريباً.(1/250)
تعتبر النواة وما فيها من بروتونات ونيوترونات ذات تأثير هامشي في التفاعلات الكيميائية العادية، ولكنها مكان التفاعلات النووية، وتعتبر الإلكترونات ،في المدار الخارجي على وجه الخصوص، صاحبة التأثير الأكبر في التفاعلات الكيميائية؛ بالإضافة إلى ما تبديه من تأثير على الصفات الفيزيائية (الطبيعية)؛ مثل حالات الصلابة أو السيولة أو الغازية، وتكون ذات تأثير واضح في الفلزات على وجه الخصوص، فهي تؤثر في صفات التوصيل الحراري، التوصيل الكهربي، درجة الانصهار، درجة اللمعان... الخ.
وكما أسلفنا فإن الإلكترونات تتوزع حول النواة بشكل محدد ودقيق، ويتحدد موضع كل إلكترون حول النواة حسب أربعة متغيرات (1) ويمكن لإلكترونين مختلفين أن يتجاورا فيتشابها في ثلاثة من تلك المتغيرات؛ لكن لا يمكن لهما أن يتشابها ،على الإطلاق، في المتغير الرابع، لأن التشابه في المتغير الرابع سيعني حينئذٍ أن يتواجد هذان الإلكترونان في نفس المكان في ذات الوقت، وأن يدورا حول نفسيهما في نفس الاتجاه؛ وهذا أمر مستحيل، إذ لابد لهما أن يختلفا ،على الأقل، فيما يسمى بعدد الكم المغزلي (Spin) والذي يعني: دوران أحدهما مع حركة عقارب الساعة، ودوران الآخر ضد حركة عقارب الساعة، حيث يأخذ الأول إشارة موجبة، بينما يميز الآخر عنه بإشارة سالبة، وهما بهذا يمكن تشبيههما بأخوين شقيقين، يمكن لهما أن يتشابها -من حيث التسمية- في ثلاثة من عناصر الاسم الرباعي، لكن ولا بأي حال يمكن لهما أن يتشابها في العنصر الرابع، وإن حدث ذلك فهو يعني أن يأخذ الأخوان نفس الاسم، وهذا مستحيل!!.
__________
(1) المتغيرات الأربعة التي تحدد وضع إلكترون وحالته هي: مكانه بالنسبة للمستويات الرئيسية، مكانه بالنسبة للمستويات الفرعية ضمن "مستوى رئيسي" معين، مكانه في مدار (أوربيتال) معين يقع تحت "مستوى فرعي" معين، وأخيرا: اتجاه دوران الإلكترون حول نفسه مع أو ضد اتجاه دوران عقارب الساعة.(1/251)
ومن المعلوم أن الإلكترونات تتوزع حول أنوية الذرات في مستويات طاقة رئيسية (أغلفة) وهذه المستويات أو الأغلفة تقدر بسبعة أغلفة في حالة الذرات المستقرة. ولا يمكن لأي مستوى رئيسي أن يستوعب أكثر من عدد محدد من الإلكترونات، ويتحدد هذا العدد حسب رقم المستوى ذاته، ولو افترضنا أن رقم المستوى (n) (1) فإن عدد الإلكترونات الذي يستطيع كل مستوى أن يستوعبه هو :2 مضروبا في (مربع رقم المستوى).
فالمستوى الأول يتشبع بعدد ... ... [2×(1)2]= ... ... 2 ... إلكترون
بينما يستوعب المستوى الثاني عدد ... [2×(2) 2] = ... ... 8 ... إلكترون
ويتشبع المستوى الثالث بالعدد: ... [2×(3) 2]= ... ... 18 ... إلكترون
أما المستوى الرئيس الرابع فإن أقصى عدد من الإلكترونات يمكن أن يستوعبه =
2×(4) 2= 32 إلكترون،وهكذا...
وقد وُجد أن مستويات الطاقة الرئيسية (الأغلفة) يمكن أن تنقسم في داخلها إلى مستويات فرعية (تحت أغلفة)، وقد أطلق على "تحت الأغلفة" اسم (عدد الكم الثانوي)، ويُشار إليها بالأحرف اللاتينية (2) (s) و (p) و (d) و (f) وهكذا...
وقد وُجد أن المستوى الرئيس الأول(1) (الأقرب إلى النواة) يحتوي على مستوى فرعي واحد هو (s).
والمستوى الرئيس الثاني يحتوي على مستويين فرعيين (تحت أغلفة) أعطيت الأحرف اللاتينية (s) و(p).
أما المستوى الرئيس الثالث فقد وجد أنه يتكون من مستويات فرعية (تحت أغلفة) عددها ثلاثة، أعطيت الأحرف اللاتينية (s) و (p) و (d).
__________
(1) ويطلق عليه اسم (عدد الكم الرئيسي) (يشار إليه بالأعداد: 1، 2، 3... لغاية العدد 7 ابتداء من المستوى الأقرب للنواة.
(2) كما سبق وأن أوضحنا فإن المدارات التي تدور الإلكترونات حول النواة في نطاقها تنقسم إلى مستويات رئيسية (أغلفة) يمكن أن تصل إلى سبعة، لكن وجد أن تلك المستويات الرئيسية (تحت الأغلفة) تنقسم في داخلها إلى تحت مستويات (تحت أغلفة) اتفق على أن تعطى تلك المدارات (تحت الأغلفة) الأحرف اللاتينية:(s)و(p)و(d)و (f).(1/252)
أما المستوى الرئيسي الرابع فيحتوي على أربعة مستويات فرعية (تحت أغلفة) هي: (s) و(p) و(d) و(f). وهكذا دواليك حتى المستوى الرئيس السابع.
وما أوجزناه هنا يطرح السؤال التالي: ما علاقة عدد الأغلفة بما نحن بصدده من دراسة لصفات الحديد و النحاس؟!..
والجواب هو أن الصفات التي يبديها أي عنصر من العناصر إنما يحددها عدد الإلكترونات التي تدور حول النواة، وكيفية توزيعها في المستويات المختلفة، والمستوى الأخير على وجه الخصوص!.
ولنحاول الآن تبسيط الأمور وذلك بشرح كيفية توزيع الإلكترونات حول الذرات المختلفة؛ ولنبدأ بأبسط الذرات على الإطلاق وهي ذرّة غاز الهيدروجين.
تتركب ذرة الهيدروجين من: نواة تحتوى على بروتون واحد، ونيوترون واحد، أما بالنسبة للإلكترونات ،وهو ما يهمنا هنا، فتحتوي ذرّة الهيدروجين على إلكترون واحد يتواجد في المستوى الرئيس الأول، وبمراعاة قراءة معادلة التوزيع من اليسار إلى اليمين؛ يكون توزيعه الإلكتروني كما يلي: ... ... ...
1(s)1
ولنقفز الآن إلى عنصر عدد إلكتروناته (11) وهو عنصر نشط وفعال يعرف باسم الصوديوم، حيث سنجد أن توزيعه الإلكتروني هو:
1(s)2 , 2(s)2 2(p)6 3(s)1
فماذا يعني هذا التوزيع؟
إنه يعني أن المستوى الرئيسي الأول (العدد "1” الموجود إلى يسار الرمز) يحتوي على مستوى فرعي واحد (s) وهو مشبع بإلكترونين، أما المستوى الرئيسي الثاني (العدد "2” الموجود إلى يسار الرمز) فهو يحتوي على مستويين فرعيين (2s) و (2p)، ويشغله ثمانية إلكترونات (2) و (6) على التوالي، أما المستوى الرئيس الثالث (العدد "3” الموجود إلى يسار الرمز) فإن الإلكترون الوحيد المتبقي يتخذ له مكاناً في (3s)؛ مما يعني أن هناك إلكتروناً وحيداً، تُنسب إليه فعالية الصوديوم، مكانه في المستوى الفرعي الأخير (3s).(1/253)
ولنأتِ الآن إلى الفلزين محور النقاش، وهما الحديد والنحاس، ولنتعرف على توزيع الإلكترونات حول النواة لكل منهما؛ ونبدأ بالحديد:
Fe26 = 1(s)2 , 2(s)2 2(p)6 , 3(s)2 3(p)6 , 4(s)2 , 3(d)6
ولنقم الآن بتوزيع الإلكترونات في المدار الفرعي الأخير [3(d)6]، حيث يتكون هذا المدار من خمسة صناديق (أوربيتال) يمكن لكل منها أن يمتلئ في أقصى طاقته بإلكترونين يزدوجان معاً، ويلغي عندئذ كل منهما التأثير المغناطيسي للآخر:
3d 6
التوزيع الإلكتروني للمدار الفرعي الأخير لذرّة الحديد Fe26
فإذا ما احتُل أحد الصناديق بإلكترون واحد فإن ذلك الإلكترون يكون له تأثير مغناطيسي (سالب أو موجب)..
ومن هذا التوزيع الإلكتروني المشار إليه نلاحظ أن لذرّة الحديد أربعة إلكترونات منفردة في مدارها الأخير، ويكون لهذه الإلكترونات الأربعة تأثيرا مغناطيسيا يعادل مجموع تأثير أربعة إلكترونات..
ونتوقف عند هذه النقطة لنتناول معدن النحاس، لكن دون أن ننسى أن هناك في المدار الأخير لمعدن الحديد أربعة إلكترونات منفردة!.
وبنفس الطريقة فلنحاول التعرف على التوزيع الإلكتروني لمعدن النحاس؛ وذلك لأجل المقارنة بينه وبين فلز الحديد من حيث تأثير الحرارة على كل منهما؛ ودرجة الانصهار على وجه الخصوص:
3d 9
التوزيع الإلكتروني للمدار الفرعي الأخير لذرّة النحاس Cu29
من التوزيع السابق للإلكترونات في المدار الفرعي الأخير لذرّة النحاس نجد أن لتلك الذرّة إلكتروناً واحداً منفرداً في مدارها الأخير، ويكون التأثير المغناطيسي للإلكترونات المنفردة في ذرة النحاس يعادل تأثير إلكترون واحد فقط!.. بعكس الحديد الذي يمتلك تأثر أربعة من الإلكترونات المنفردة!!
مما سبق وبمقارنة توزيع الإلكترونات في المدار الأخير لكل من ذرتي الحديد والنحاس نلاحظ ما يلي:
1- أن المدار الفرعي الأخير للحديد يحتوي على أربعة إلكترونات منفردة، يقابله إلكترون واحد في ذرّة النحاس.(1/254)
2- الإلكترونات الأربعة في ذرة الحديد والإلكترون الوحيد في ذرة النحاس؛ تعتبر صاحبة التأثير الأكبر على الخواص الكيميائية والفيزيائية لكليهما، بحيث تعتمد عليها إمكانية تكوين روابط فلزية (معدنية) بين ذرات العنصر نفسه.
3- تكتسب تلك الفلزات قوة صلابتها وارتفاع درجة انصهارها من عدد الإلكترونات السائبة في المدار الأخير، والتي تتجمع على هيئة سحب إلكترونية تتحكم في الخواص الفيزيائية للعنصر مثل: درجة الانصهار، درجة التوصيل، اللمعان... الخ.
مما سبق يتأكد لنا بأن التوزيع الإلكتروني لكلٍ من فلزي الحديد والنحاس يؤكد حقيقة أن درجة انصهار الحديد أعلى من درجة انصهار النحاس، بسبب وجود أربعة إلكترونات منفردة في مداره الأخير؛ مقارنة بإلكترون واحد في المدار الأخير للنحاس، وهذا الأمر هو حقيقة واقعة إذ تبلغ درجة انصهار الحديد (1535 درجة مئوية) بينما تبلغ درجة انصهار النحاس (1083.4 درجة مئوية)!
من هنا جاز لنا أن نتخيل بأن تعريض الحديد والنحاس لمصدر حراري واحد سيؤدي إلى "إسالة" النحاس، وعندها يكون الحديد قد "لان" فقط!.
والنتيجة النهائية التي نخرج بها من هذا الشرح هي أن هناك دقة غير بشرية في استخدام الألفاظ {ألنّا} ومصدرها الليونة و{أسلنا} ومصدرها السيولة، وأن ذلك التفريق لم يكن ليتأتّى لبشر مهما أوتي من العلم.
زاوية أخرى للنظر؟!...
أما الزاوية الأخرى التي نتناول معدني الحديد والنحاس بالدراسة من خلالها؛ فهي تلك المتعلقة بالمنهج الذي اتبع لتفسير الآيات التي جاءا في سياقها، ولنا هنا ملاحظتان:
هل يمكن أن نكون قد أخطأنا؟!!
الملاحظة الأولى: للوهلة الأولى يبدو وكأننا قد وقعنا في تناقض، وذلك حين فرّقنا بين الحالتين الطبيعيتين (الصلبة والسائلة) لمعدن النحاس، واعتبارنا أن اللفظ "نحاس" يختص بالحالة الطبيعية الأولى (الصلبة)، وأن اللفظين "قِطْرا" و"عين القِطْر" يختصان بالحالة الطبيعية الثانية (السائلة).(1/255)
ويخالف ما ذهبنا إليه آنفاً ما قال به بعض المفسرين؛ واعتبارهم أن ما قصد إليه من وراء كلمة "نحاس" في قوله تعالى {يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس...} إنما هو (نحاس مذاب يصب على رءوسكم يوم القيامة) (1) .
لكن ما بدا هنا وكأنه تناقض لم يكن الملاحظة الوحيدة التي وجب التوقف عندها، فلكي نستطيع الوصول إلى ما هو أقرب للصواب؛ لابد لنا من النظر إلى تلكم الآيات برمتها من زاوية جديدة.
يقول الله تعالى في محكم التنزيل:
{يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا، لا تنفذون إلا بسلطان، فبأي آلاء ربكما تكذبان، يرسل عليكما شواظٌ من نار ونحاسٌ فلا تنتصران}(الرحمن:33-35)
وكما يتضح من الآية الكريمة فإن الخطاب هنا موجه للثقلين، أي الجن والإنس، وقد اعتبر بعض المفسرين أن الخطاب قد وجه لهما: (إن قدرتم أن تخرجوا من جوانب السماوات والأرض هاربين من الله، فارين من قضائه، فاخرجوا منها، وخلّصوا أنفسكم من عقابه، والأمر للتعجيز {لا تنفذون إلا بسلطان} أي لا تقدرون على الخروج إلا بقوة وقهر وغلبة، وأنّى لكم ذلك؟ قال ابن كثير: معنى الآية أنكم لا تستطيعون هرباً من أمر الله وقدره، بل هو محيط بكم لا تقدرون على التخلص من حكمه، أينما ذهبتم أحيط بكم، وهذا في مقام الحشر حيث الملائكةُ محدقةٌ بالخلائق سبع صفوف من كل جانب، فلا يقدر أحدٌ على الذهاب إلا بسلطان، أي إلا بأمر الله {يرسل عليكما شواظٌ من نار} أي يرسل عليكما يوم القيامة لهب النار الحامية {ونحاس} أي ونحاس مذاب يصب فوق رءوسكم. قال مجاهد: هو الصفر المعروف يصب على رءوسكم يوم القيامة) أ . هـ (2) .
والمنظر هنا يتنازعه تفسيران: أحدهما: يصفه بأنه خاص بيوم الحشر...
__________
(1) صفوة التفاسير، محمد علي الصابوني، المجلد الثالث، ص298.
(2) صفوة التفاسير، محمد علي الصابوني، المجلد الثالث، ص298.(1/256)
والآخر يقدمه لنا من خلال نظرة مستحدثة، تشبعت بالإنجازات التي قدمتها الحضارة الإنسانية؛ ومن معالمها: الانطلاق إلى آفاق الكون الواسع، عبر رحلات فضائية وصلت إلى سطح القمر، والمريخ ... الخ، ومن خلال ما وصلت إليه المناظير العملاقة التي نفذت إلى أعماق الكون بمئات بل ملايين السنوات الضوئية.
وفي معرض تقييم كلتا وجهتي النظر؛ فقد عاب بعض العلماء النظرة الثانية (التفسير العلمي) قائلاً: (جنح بعض المتأخرين في هذه الأيام إلى تفسير الآية تفسيراً خاطئاً، فزعموا أن الإنسان يمكنه الصعود إلى السماوات وإلى الكواكب، وفسروا "السلطان" بالعلم، وهو مخالفٌ لأقوال المفسرين، ويرده سياق الآية وسباقها، فإن الآية سيقت لبيان أهوال الآخرة وشدائدها بدليل قوله تعالى {سنفرغ لكم أيها الثقلان} وقوله بعدها {يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس} وقد اتفق المفسرون على أنها في الآخرة) (1) .
وهاتان النظرتان تعبران عن رؤيةٍ نموذجيةٍ لمنظر واحد؛ وقد اختلفت فيه الآراء، لكن ما نريد إثباته هنا هو أن هذا الاختلاف هو أمر طبيعي نشأ ،بشكل أساسي، نتيجة امتلاك الإنسان المعاصر لحصيلةٍ هامةٍ من العلوم النظرية والتجريبية، أعطته المزيد من الأفق الذي يمكن أن يُرى من خلاله النص.
لذلك فلا مفر من طرح مجموعة من الأفكار، لمحاولة الوصول إلى ما هو أقرب إلى الصواب، مستذكرين أن القدسية تنسحب على النص وحده، أما فهمه؛ ففيه اجتهاد.
والزاوية التي نريد دراسة النص من خلالها، هي ما تحمله ألفاظه من مدلولات، ولنا هنا عدة ملاحظات:
__________
(1) صاحب كتاب صفوة التفاسير، المجلد الثالث، حاشية ص297.(1/257)
1- الذين قالوا بتعلق الأمر بيوم الحشر؛ فسروا كلمة {تنفذوا} على أنها محاولة للهروب من الله ومن قضائه، ولابد هنا من النظر إلى ما تعطيه كلمة {تنفذوا} من معنى وإيحاء (1) وسنجد حينها أنها تعطي مدلولاً هو أقرب إلى معنى "الاختراق" و"الاجتياز" منه إلى معنى "الهروب".
2- إذا ما حاولنا المقابلة بين كلمة "تنفذوا" بمعناها الذي ذهب إليه البعض ،أي الهروب، وبين ما ورد في القرآن الكريم مُعبرِاً عن نفس المعنى ،أي الفِرار، لوجدنا أن القرآن الكريم قد عرض لمعنى الفِرار في عدة مواضع، فجاءت هي ومشتقاتها كما يلي:
{ففررت منكم لما خفتكم}(الشعراء:21)
{قل لن ينفعكم الفِرار إن فررتم من الموت أو القتل}(الأحزاب:16)
{كأنهم حُمُرٌ مستنفرة، فرتْ من قسورة}(المدثر:51)
{قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم}(الجمعة:8)
{ففروا إلى الله إنّي لكم منه نذير مبين}(الذاريات:50)
{لو اطلعت عليهم لوليت منهم فِراراً}(الكهف:18)
{وما هي بعورة، إن يريدون إلا فِراراً}(الأحزاب:13)
{فلم يزدهمْ دعائي إلا فِراراً}(نوح:6)
{يوم يفر المرء من أخيه}(عبس:34)
{يقول الإنسان يومئذٍ أين المفر}(القيامة:10)
__________
(1) وردت كلمة "النفاذ" في المعجم الوسيط بمعنى: جواز الشيئ عن الشيئ والخلوص منه، كالنفوذ ومخالطة السهم جوف الرمية وخروج طرفه من الشق الآخر. أما "النفاذ" فقد ورد في لسان العرب بمعنى: الجواز، وفي المحكم: جواز الشيء والخلوص منه. تقول: نَفَذْتُ: أي جُزْت.(1/258)
وبالرجوع للآيات حسب ترتيبها نجد أنها تناولت عدداً من أنواع الفِرار من أمثال: (فِرار الخوف، الفِرار من الموت أو القتل، فِرار البهائم من بعضها، الفرار من الموت، الفِرار إلى الله: بمعنى اللجوء والعودة إليه، فِرار الرعب، الفِرار من المعركة، الفِرار من الهداية والإصرار على الضلال، الفِرار من الأخ والخليل، العجز عن الفِرار الناشئ عن الحيرة والارتباك)... ونلاحظ هنا أن النوعين الأخيرين هما مما يصيب الإنسان يوم الحشر.
وإذا ما قارنّا هذه الآيات بالآية التي نحن بصددها {إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات} لوجدنا أن هناك اختلافاً بيناً في كيفية التناول، وكما يبدو جلياً فإن الألفاظ "تنفذوا" و "فانفذوا" و "تنفذون" (والتي وردت في الآية المشار إليها) قد جاءت لوصف حالة وحيدة من نوعها لم تتكرر في موضع آخر من القرآن الكريم، مما يحمل على الاعتقاد بأن النفاذ هنا لم يقصد به "الهروب" أو "الفِرار"، وإنما قصد به نوع خاص وفريد من النفاذ، أو الاختراق، والذي يمكن أن يكون مقصوداً به النفاذ إلى العالم الخارجي.
3- إن التعبير الوارد في الآية الكريمة محور النقاش {أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض} يُفهم منه بشكل واضح وجود مكان هو (السماوات والأرض) ولا ينطبق هذا الأمر على يوم الحشر، حيث تكون الصورة قد اختلفت إلى ما لا نعلمه، ففي ذلك اليوم لن نجد الأرض التي نعرفها، ولا السماوات، وذلك بنص الآيات الكريمة: {يوم تُبدل الأرضُ غير الأرض والسماوات، وبرزوا لله الواحد القهار}(إبراهيم:48) والآية: { يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب}(الأنبياء:104)(1/259)
4- إن ما يدفع على الاعتقاد بأن ما أشارت إليه الآيات {إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض...} هو ما نعرفه من سموات وأرض (وليس موقفاً آخر من مواقف يوم الحشر) هو أن سورة "الرحمن" قد تحدثت من بدايتها عن عدة موضوعات كان من بينها السماوات والأرض، ويقطع هذا الأمر بأن المقصود بالسماوات والأرض في كلا الموقعين واحد من حيث المعنى، وهما السماوات والأرض المعروفتان لنا في حياتنا الدنيا.
والنتيجة النهائية التي يمكن تحصيلها هنا بعد دراستنا للآية الكريمة {يا معشر الجن والإنس} هي أن التعبير القرآني {أقطار السموات والأرض} إنما قصد به أمر في الحياة الدنيا وليس يوم الحشر.
لكل الأسباب السابقة تتضح الحاجة إلى إعادة النظر في التفسير الذي أورده بعض المفسرين وذهبوا فيه إلى أن المقصود بالآية الكريمة {يا معشر الجن والإنس} هو موقف من مواقف يوم القيامة، ولا مفر من إضافة احتمال أن يكون المقصود من الآية الكريمة هو ما ذهب إليه بعض العلماء؛ من أن الآيات تصف محاولات الجن والإنس للنفاذ إلى العالم الخارجي، ومن هنا نحاول أن نخلص إلى ما يمكن أن تكون قد ذهبت إليه الآيات من معنى؛ والذي قد يكون: (لقد كتب الله عزّ وجل على الجن والإنس أن يكونوا حبيسي جبلتهم التي فطرهم الله عليها، لكن ستكون هناك محاولات من قبل الجن لاختراق أقطار السماوات، ومحاولات من الإنس لاختراق أقطار الأرض، وحين تتم تلك المحاولات فإن نتيجتها مرهونة بسلطان الله الذي هو "إرادته" و"مشيئته"، وينبه عزّ وجل الثقلين إلى أن محاولاتهم تلك ستواجه بعقبات، إذ سيواجه الجن بنار حارقة وشهب ثاقبة، وسيواجه الإنسان بعقبات تتمثل في الكتل السابحة في الفضاء من شهب و نيازك).(1/260)
وإذا ما اتفقنا على وجود مشروعية لوجهة النظر هذه، فلعل ذلك يعني أن ما قُصد إليه من لفظة "نحاس" يشابه في معناه ما ذهب إليه الجمهور بالنسبة للحديد حين قالوا: (وأراد بالحديد جنسه من المعادن) (1) وعندها يمكن النظر للنحاس على أساس أنه (أريد بالنحاس جنسه من المعادن) وهنا يمكن تخيل (ملايين الملايين من الشهب والنيازك المنطلقة في الفضاء كأنها الرصاص والقنابل المنهمرة) (2) .
إنتهى
لا تضنوا علينا بملاحظاتكم
محمد صبحي السويركي
swairky@hotmail.com
ولا تنسونا وآباءنا من طيب دعائكم
مراجع بحث الكيمياء
1. القرآن الكريم.
2. صفوة التفاسير، محمد علي الصابوني، دار الصابوني للطباعة والنشر والتوزيع.
3. في ظلال القرآن، سيد قطب.
4. فتح الرحمن في تفسير القرآن، عبد المنعم أحمد تعيلب.
5. فتح القدير محمد بن علي بن محمد الشوكاني، طبعة دار المعرفة للطباعة والنشر- لبنان.
6. المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، محمد فؤاد عبد الباقي، دار الريان للتراث.
7. العلوم الطبيعية في القرآن، يوسف مروة، دار ومكتبة الهلال، بيروت.
8. القرآن الكريم والتوراة والإنجيل والعلم، موريس بوكاي، دار المعارف، القاهرة.
9. مع الله في السماء، د. أحمد زكي، ص40، حاشية 4.
10. معالجة وصيانة الآثار، باهرة عبد الستار أحمد القيسي، المؤسسة العامة للآثار والتراث، العراق، 1981).
11. الكيمياء العضوية، ب. بافلوف و أ. نيرينتلييف، دار مير للطباعة والنشر.
مناهج الكيمياء لمرحلة الدراسة الثانوية.
فهرست
الموضوع ... الصفحة
- إهداء ... 2
- تقديم بقلم/ الشيخ/ السيد حسين بركة – فلسطين ... 3
- تقريظ بقلم الدكتور/ محمد السقا عيد/ جمهورية مصر العربية ... 6
- ليست أكثر من محاولة!.. ... 7
- التكاملية (نظرة ثانية على القرآن الكريم) ... 16
__________
(1) صفوة التفاسير، محمد علي الصابوني، المجلد الثالث، ص329.
(2) العلوم الطبيعية في القرآن، يوسف مروة، دار ومكتبة الهلال، بيروت، ص171.(1/261)
- النموذج الأول: دعوة النور.. في مجتمع ما حول الرسول! ... 21
- النموذج الثاني: المفاجأة!!.. من فيوضات سورة العنكبوت! ... 30
- النموذج الثالث: بين خلق الأرض ودحوها.. الحلقة المفقودة! ... 41
- ظاهرة النسبية في القرآن الكريم ... 48
- بين يدي الظاهرة ... 49
- القرآن: كلامُ الله ... 49
- إعجازُ القرآن الكريم وسحرُ بيانه ... 50
- سحرٌ يأخذ بالقلوب والألباب ... 52
- بيانٌ يورثُ الحيرة ... 56
- أين يكمن السر؟! ... 57
- بعضٌ من أشكال استعلاء القرآن ... 59
- النسبية .. ظاهرة لغوية أصيلة ... 62
- The Phenomenon of Relativism ... 75
- الموضوعي والانفعالي (مقدمة في الإعجاز الصوتي في القرآن الكريم) ... 79
- (ما الذي يعنيه تواتر القرآن)؟ ... 80
- التواتر الكتابي (المصحفي) ... 80
- التواتر السمعي للقرآن الكريم ... 82
- لغة القرآن الكريم: صوتية أم مكتوبة؟! ... 87
- "منطقية" و"انفعالية" اللغة ... 92
- التنغيم في اللغة ... 94
- القيمة الموضوعية والانفعالية ... 99
- نماذج تحليلية ... 102
- نموذج للدلالة على تأثر القيمة الموضوعية (المعنى) بالقيمة الانفعالية ... 102
- نموذج: انهيار مفاجئ في القيمة الموضوعية بتأثير قيمة انفعالية مفاجئة! ... 103
- نموذج عدم الاستقرار النفسي الناشئ عن عدم الاستقرار العقائدي ... 104
- نموذج السخرية؛ والدهشة، وعدم التصديق! ... 105
- نموذج الضيق والقلق (وجرين بهم بريح طيبة! ... ) ... 106
- نموذج الاطمئنان والسكينة والرضى! {يا أيتها النفس المطمئنة ... } ... 108
- نموذج الخسران والفقد والعدم! (فجعلناه هباءً منثوراً!!..) ... 109
- هل القرآن عربيّ؟! ... 110
- تمهيد ... 111
- عروبة القرآن في أقوال المفسرين ... 113
- العربُ والعربيّة قبل تنزّل القرآن ... 114
- عروبة؟.. لكن بأي معنى؟! ... 116
- ليس اختلافاً في التركيب فحسب؟! ... 118
- أية عربيّة تلك التي كانت قبل القرآن؟! ... 119
- لغة مشتركة ... 120
- نعم بلغة قريش... ولكن؟! ... 122
- لغات العرب والعربيّة الفصحى ... 122
- عودةٌ إلى الأصل؟!.. ... 123(1/262)
- بين النسبي والمطلق: نتائج أولية؟! ... 124
- ظاهرة مثيرة.. ووجهة نظر تحاول الاقتراب؟!! ... 126
- تعليلٌ غريب؟! ... ... 128
- هل تأخذ اللغات من بعضها؟.. ... 129
- إن لم تكن عربيّة.. فماذا تكون إذن؟!.. ... 130
- ألفاظ غامضة!!.. ... 130
- اللغات الساميّة .. أفراد لأسرة واحدة!! ... 131
- مهدُ اللغات الساميّة ... 131
- الجوامع المشتركة بين اللغات القديمة ... 132
- اللغات الساميّة من غير العربيّة ... 133
- الأكديون ولسانهم ... 134
- الكنعانيون ولسانهم ... 134
- العبريون ولسانهم ... 135
- الآراميون ولسانهم ... 135
- هل يوجد ثّمة علاقة؟!.. هذا هو السؤال!! ... 136
- الخصائص المشتركة بين اللغات الساميّة ... 139
- مربط الفرس!!! ... 140
- العربية والعبرية.. الأصلٌ والفرع!! ... 143
- توحيد الدين واللغة.. وجهان لحقيقة واحدة!! ... 145
- إرث إنساني مشترك!! ... 146
- العروبة.. أبعاد نسبية متعددة!!.. ... 146
- أثر القرآن الكريم في تشكيل الوعي الزمني عند العرب ... 148
- تمهيد ... 149
- الإنسان وثلاثية "عناصر الحضارة" ... 150
- بين منهجين: طبيعي وموضوعي ... 152
- من نتائج الإدراك البيولوجي للوجود (الإدراك الأحادي) ... 156
- قضايا واهتمامات الإنسان العربي قبل البعثة ... 157
- الموقف من الحياة والموت كمؤشر على الموقف من الزمن بشكل عام ... 159
- النهج العربي قبل الإسلام وآلية تحويل "الموضوعي" إلى "ذاتي" ... 161
- شواهد قرآنية على الإحساس الزمني البيولوجي عند العرب ... 164
- الزمن في القرآن الكريم ... 165
- منهج قرآني (الذاتي في إطار الموضوعي) ... 166
- ما الذي فعله القرآن بالعرب؟!! ... 169
- نقلة على مستوى المفاهيم ... 169
- نقلة موضوعية في مجال التدوين ... 170
- نقلة نوعية في مجال التأريخ ... 171
- التقويم الهجري كمظهر من مظاهر النقلة النوعية في حياة العرب ... 171
- ليعلموا عدد السنين والحساب ... 172
- الزمن الغيبي "ما وراء الموضوعي" ... 173
- الزمن غير الموضوعي ونظرية النسبية لآينشتين ... 174
- نسبية الزمن وعلاقتها بسرعة الضوء ... 175(1/263)
- التداخل بين مفاهيم الماضي والحاضر والمستقبل ... 176
- الزمن وعلاقته بالسرعة ... 176
- ما وراء الموضوعي في القرآن الكريم ... 177
- الكيمياء ومنهج استقراء العلوم الطبيعية في القرآن الكريم ... 180
- العلوم الطبيعية ومنهج تدبر القرآن الكريم ... 181
- جدلية العلاقة بين الإيمان والوعي ... 182
- عقبات في طريق الوعي ... 185
- الغنى الموضوعي في النص القرآني ... 187
- معجزة خالدة ودلالات مذهلة!! ... 188
- جوانب من الكيمياء في القرآن الكريم ... 192
- الذرّة في القرآن الكريم ... 195
- ليست "ذرة".. بل "مثقال ذرة"!! ... 195
- الذرة وإشكالية الحجم!! ... 196
- نماذج لتفسير بنية الذرة ... 197
- "مثقال ذرة" بنسبة 100% ... 200
- L’atome dans le coran ... 201
- مجموعة العناصر المعدنية في القرآن الكريم ... 204
- معدن الذهب ... 205
- معدن الفضة ... 206
- معدن الحديد ... 207
- معدن النحاس ... 209
- "النحاس" و "القطر".. إسم لكل حالة طبيعية؟! ... 209
- التوزيع الإلكتروني وعلاقته بالخواص الحرارية لمعدني الحديد والنحاس ... 211
- زاوية أخرى للنظر؟! ... ... 216
- هل يمكن أن نكون قد أخطأنا؟ ... 217
- فهرست ... 223
المؤلف في سطور
محمد صبحي محمد السويركي..
من مواليد مدينة غزة بتاريخ 12/7/1963، عضو اتحاد الكتاب الفلسطينيين منذ العام 1991م، يحمل درجة البكالوريوس في العلوم (كيمياء) من الجامعة الإسلامية بغزة، وكذلك دبلوم خاص في الكيمياء العضوية من جامعة الأقصى (كلية التربية الحكومية سابقا) ويعمل حاليا مديرا لدائرة التدريب بوزارة العدل- غزة
إنتاجات فكرية
1. أي دور وأية حركات (كتاب منشور (1994م)
2. "الكيمياء الحديثة في ضوء القرآن الكريم" (دار القرآن بالقاهرة) وترجمت بعض موضوعاته للفرنسية
3. "تكنولوجيا الورق وسبل العناية بالكتب والمخطوطات" (جاهز للنشر)
4. وقد نشر للمؤلف العديد من المقالات والدراسات على الإنترنت وفي مجلة "الوحدة الإسلامية الصادرة في بيروت، بالإضافة لما نشر له في الصحف والمجلات الفلسطينية.(1/264)
بعض المقالات المنشورة
"الحركة الإسلامية والعمل السياسي في المرحلة القادمة" (الوطن1994)/ "كنت معهم ... ؟" "القدس" و"الكرامة 1994" /"نحو إسلام لمعترك الحضارة" "القدس" و"الكرامة" 1994/ "اغتيال رابين.. الكلمات التي لم تُقل"نشر في مجلة "آفاق إسلامية"1995/ "الحركة الإسلامية وتحديات المستقبل" "الوطن"1995/ "الإسلام وتحدّيات القرن الحادي والعشرين" "الراية"1996/ "كرمل..خطوة لها ما بعدها" "النهار" 1996/ "ليغفر لك الرب يا غزّة..!!" "القدس 1996/ "حركة حماس بعد تحرير الشيخ ياسين.. إلى أين؟!!" "القدس"1997/ "مذبحة الأقصر وبوابات العالم العربي لدخول قرن جديد" "القدس" 1997م/ "ما الذي يراد لأمنا حواء؟!" نشر على حلقتين في جريدة "القدس"1998..
أدب ونقد
1- (من حكايات أطفال فلسطين) مجموعة قصصية للأطفال وهي غير منشورة، ... ... 2000.
2- وجه آخر للبنفسج، دراسة نقدية لديوان (كل على حدة) لدنيا الأمل إسماعيل ... ... 2002
3- “أغمضوا عيونكم فأسراركم على وشك الافتضاح" دراسة نقدية لمجموعة قصصية لهبة الزيان2002
4- "رجل وثماني عشرة امرأة" قصة قصيرة ... ... ... ... ... 2002
5- منتهى الشر" قصة قصيرة نشرت على موقع القصة العربية.
6- لم يمت/ ملاك آخر/ عندما ضحك البنفسج.. قصص غير منشورة
7- الإشراف على إنتاج فيلم كرتون بعنوان (سلام والمطر) ...
ورشات تدريبية
1) كيف تجعل من نفسك إنسانا متميزا ورشة تدريبية (30 ساعة تدريبية)
تم عقد30 ورشة منها في مؤسسات مختلفة في قطاع غزة.
2) تنمية المواهب الإبداعية الكتابية لدى الناشئة ... ... ورشة تدريبية (30 ساعة تدريبية)
3) مهارات التواصل غير اللفظي (لغة الجسم) ... ... ورشة تدريبية (15 ساعة تدريبية)
4) إعداد وتدريب المدربين ... ... ... ... ورشة تدريبية (50 ساعة تدريبية)
5) إعداد السيرة الذاتية والمقابلة الشخصية للعمل ... ... ورشة تدريبية (30 ساعة تدريبية)
6) البلوغ والمراهقة وكيفية التعامل معهما؟ ... ... ... ورشة تدريبية (20 ساعة تدريبية)(1/265)
7) خلق الإنسان بين العلم والقرآن ... ... ... ورشة تدريبية (30 ساعة تدريبية)
8) الزوجية في القرآن الكريم. ... ... ... ... ورشة تدريبية (15 ساعة تدريبية)(1/266)