من آفات القراء
(1 ـ 2)
أحمد بن عبد الرحمن الصويان
اشتهر عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي صاحب الكتاب العظيم: (الجرح والتعديل) بملازمته لوالده، وكثرة أخذه عنه، وكان يقول: "ربما كان يأكل وأقرأ عليه، ويمشي وأقرأ عليه، ويدخل الخلاء وأقرأ عليه، ويدخل البيت في طلب شيء وأقرأ عليه"(1).
إنَّ القراءة هي إحدى الوسائل المهمة لاكتساب العلوم المختلفة، والاستفادة من منجزات المتقدمين والمتأخرين وخبراتهم. وهي أمر حيوي يصعب الاستغناء عنه لمن يريد التعلم، وحاجة ملحَّة لا تقل أهمية عن الحاجة إلى الطعام والشراب. ولا تقدُّم للأفراد ـ فضلاً عن الأمم والحضارات ـ بدون القراءة؛ فبالقراءة تحيا العقول، وتستنير الأفئدة، ويستقيم الفكر.
والقراء المنهجيون هم ـ في الغالب ـ النخبة المتميزة، والصفوة المؤثرة في التكوين الفكري والبناء الثقافي والمعرفي للأمة، ولهذا كانت العناية بالقراء عناية بروح الأمة وقلبها الحي النابض القادر على البناء والعطاء.
والقراءة ملكة وفنّ لا يجيده كلّ أحد؛ فكم من القراء الذين يبذلون أوقاتاً طويلة في القراءة؛ ومع ذلك فإن حصيلتهم وإفادتهم منها قليلة جداً..!
وفي حلقتين اثنتين سأذكر ـ مستعيناً بالله ـ بعض الآفات التي قد تعرض لبعض القراء خاصة في بداية سلوكهم لهذا السبيل.
الآفة الأولى: قلة الصبر على القراءة والمطالعة:
وهذه آفة قديمة ازدادت في عصرنا هذا خصوصاً مع كثرة الصوارف والمشغلات الأخرى؛ حيث أصبح كثير من القراء لا يقوى على مداومة القراءة، ويفتقد الأناة وطول النفس، ولا يملك الجَلَد على المطالعة والبحث والنظر في بطون الكتب وكنوز العلم والمعرفة، وحينما يبدأ القارئ بالاطلاع على الكتاب سرعان ما يضعه جانباً ويشتغل بأمر آخر.(1/1)
إنَّ الساحة الفكرية اليوم تعاني من خلل ظاهر في بناء ملكة القراءة، وها أنت ترى كثيراً ممن يدخلون في (زمرة المثقفين!) من أصحاب الشهادات الجامعية، بل حتى أصحاب الشهادات العليا، ومع ذلك تفاجأ بأن كثيراً منهم ربما يعجز عن إتمام قراءة كتاب واحد خارج تخصصه..!
إننا نعاني من أزمة حادة في عزوف كثير من المثقفين ـ فضلاً عن العامة ـ عن القراءة والبحث، مما أدى إلى اضطراب في التفكير العام، وسطحية مفرطة في كثير من الرؤى، وضحالة علمية حجبت منافذ البصيرة.
وترويض النفس وتربيتها وقسرها على القراءة من أنجح السبل لبناء تلك الخَلَّة الكريمة، خاصة عند نعومة الأظفار وبداية الطلب. وقد يعجز المرء في البداية، أو تصيبه السآمة والملل، ولكنه بطول النفس وسعة الصدر والعزيمة الجادة سوف يكتسب بإذن الله ـ تعالى ـ هذه الملكة حتى تصبح ملازمة له لا يقوى على فراقها، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما العلم بالتعلم"(2)، وتكوين هذه العادة وغرسها في النفس من أولى ما يجب الاعتناء به لدى القراء والمربين.
ولست أدري كيف نروم ـ معاشرَ الدعاة ـ العزة والتمكين، ونتطلع إلى تغيير مسار التاريخ، وهممنا تتقاصر عن الانكباب علي كتب العلم والمعرفة، ونرضى بالقليل من المعلومات العائمة المفككة التي نحصل عليها من هنا أو هناك..؟!
وانظر إلى تلك المزية الجليلة التي تسنمها أسلافنا في هذا الباب، فها هو ذا مثلاً الحسن الؤلؤي يقول: "لقد غبرت لي أربعون عاماً ما قمتُ ولا نمت إلا والكتاب في صدري"(3)، وحدَّث ابن القيم فقال: "أعرف من أصابه مرض من صداع وحمى، وكان الكتاب عند رأسه، فإذا وجد إفاقة قرأ فيه، فإذا غلب عليه وضعه"(4).
الآفة الثانية: ضعف التركيز:(1/2)
كثير من القراء يقرأ بعينيه فقط، ولا يقرأ بفكره، ولا يستجمع قدراته العقلية في التفهم والبحث. وربما جال القارئ بعقله يميناً ويساراً، وطافت بخاطره ألوان من الهموم والمشاغل، ثم يفاجَأ بأنه قضى وقتاً طويلاً لم يخرج فيه بمادة علمية تستحق الذكر.
وبعض القراء يبدأ بهمة ونشاط وتركيز، ولكنه بعد أن يقرأ قليلاً من الصفحات يبدأ بالتململ التدريجي، حتى ينفلت الزمام من يديه، ويستيقظ فجأة بعد أن سبح في عالم رحب من الخواطر الشخصية البعيدة عن مادة الكتاب، قال طه حسين: "كثيراً ما نقرأ لنقطع الوقت لا لنغذو العقل والذوق والقلب. وكثيراً ما نقرأ لندعو النوم لا لنذوده عن أنفسنا"(5).
وقد يؤدي ضعف التركيز أحياناً إلى اكتساب معلومات مضطربة أو مغلوطة أو ناقصة، مما يقود إلى نتيجة عكسية تضر القارئ ولا تنفعه، وقد يتعدى ضرره إلى غيره..!
إن امتلاك القدرة على التركيز واستحضار الفكر امتلاك لزمام المادة العلمية، وهي السبيل الرئيس للوصول إلى الفهم والإتقان. ويختلف مقدار التركيز المطلوب في القراءة حسب طبيعة الكتاب المقروء؛ ومستواه، وحسب مستوى القارئ الثقافي أيضاً، وحسب الهدف من القراءة؛ فمقدار التركيز الواجب لقراءة كتاب علمي متخصص يختلف عن التركيز المطلوب لقراءة قصة أدبية أو كتاب في الثقافة العامة.
وهذا يقودني إلى تقسيم القراءة إلى نوعين:
النوع الأول: القراءة التصفحية: وهي القراءة التي يريد منها القارئ الاطلاع على مادة الكتاب وموضوعاته الرئيسة، ويريد منها التعرف من حيث الجملة على أبوابه وفصوله، ومنهج المؤلف وطريقة عرضه. وهذه الطريقة تصلح أن تكون مقدمة للقراءة، وبعدها يقرر القارئ جدوى إعادة قراءة الكتاب بتركيز، أو الاكتفاء بالتصفح السريع. والاكتفاء بذلك يصلح لتكوين معلومات عامة، ولكنه لا يبني علماً راسخاً.(1/3)
النوع الثاني: القراءة العلمية: وهي القراءة المركزة التي يستجيب فيها القارئ لمادة الكتاب، ويتفاعل معها، ويرمي إلى تحليلها وبيان أفكارها وأهدافها، وقد يدخل في حوار إيجابي معها. وهذا النوع من القراءة هو الطريق الصحيح للبناء العلمي والمعرفي. ولأهميتها في تثبيت المعلومات، ولأهمية الكتاب المقروء قد يرى القارئ إعادة قراءته عدة مرات لترسيخ المكتسبات العلمية التي تحصَّل عليها، ولاكتساب معلومات أخرى ربما لم تتيسر له في القراءة الأولى، وها هو ذا المزني يقرأ كتاب (الرسالة) للإمام الشافعي خمسمائة مرة(6)!
وآفة كثير من القراء أنَّ أحدهم قد يعمد إلى قراءة الكتاب العلمي العميق قراءة تصفحية كما يقرأ الجريدة، ويكون همه الانتهاء من الكتاب، ولك أن تتخيل ماذا يمكن أن تكون حصيلة القارئ حينما تكون هذه هي طريقته دائماً في القراءة..!!
وقد ذكر العلماء والتربويون أسباباً كثيرة تعين القارئ على التركيز، مثل: اختيار الأوقات المناسبة، والأماكن الملائمة الخالية من الصوارف، وأن يكون خالي الذهن، ولديه الاستعداد العقلي والنفسي الذي يعينه على استجماع قدراته الفكرية.. ونحو ذلك مما يطول وصفه، ولكن يجمعها وصف واحد وهو: أن يكون جاداً حريصاً ذا همة صادقة؛ فمن امتلك هذا الوصف حرص على تذليل كافة العقبات التي قد تعرض له.
الهوامش:
(1) سير أعلام النبلاء (13/251).
(2) أخرجه: الخطيب في تاريخه (9/127)، وانظر السلسلة الصحيحة (1/605).
(3) جامع بيان العلم وفضله (2/1231).
(4) روضة المحبين، ص 70.
(5) خصام ونقد، ص 6.
(6) مقدمة الرسالة، ص 4، وما أجمل قول الإمام البخاري: "لا أعلم شيئاً أنفع للحفظ من نهمة الرجل ومداومة النظر" هدي الساري، ص 488.
وقفات
من آفات القراء
(2 ـ 2)
أحمد بن عبد الرحمن الصويان(1/4)
في المقالة السابقة تحدثت عن أهمية القراءة ومكانة القرَّاء، وذكرت آفتين من آفات القراء هما: "قلة الصبر على القراءة والمطالعة"، و"ضعف التركيز". وفي هذه المقالة أذكر الآفة الثالثة بإذن الله ـ تعالى ـ.
الآفة الثالثة: ضعف المنهجية في القراءة:
المكتبة الإسلامية مليئة ـ بحمد الله تعالى ـ بالإصدارات العلمية في مختلف فنون العلم والمعرفة، وتحتوي على حصيلة كبيرة من الكتب والدراسات والأبحاث التي جاءت نتيجة جهود تراكمية متتابعة ومستفيضة تنمو عبر السنين.
ويختلف هذا الإنتاج قوة وضعفاً، وأصالة وتقليداً، ولا يستطيع المرء مهما أوتي من ملكات وقدرات أن يغطي جزءاً يسيراً من ذلك النتاج الضخم.
وقد يحار القارئ ـ المبتدئ خاصة ـ من أين يبدأ؟! وكيف يبدأ؟! ولذا كان الواجب على القارئ أن يرسم لنفسه منهجية واضحة للقراءة يدرك من خلالها إلى أين يسير.. وما أهدافه؟! ولعلِّي أذكر ها هنا الملحوظتين الآتيتين:
الأولى: بناء القاعدة العلمية:
إن ترتيب الأولويات من أهم المسائل التي تعين المرء على النجاح بشكل عام، ويتأكد ذلك في أولويات القراءة، وقديماً قال أبو عبيدة: "من شغل نفسه بغير المهم أضرَّ بالمهم"(1). وكم أحزن على ذلك الشاب الذي لم يستقم عوده، ولم يشتد ساعده، ثم أراه يلقي بنفسه في بحر متلاطم الأمواج كيف يبحر فيه؟! وقد رأينا شباباً لم يقرؤوا بعدُ (كتاب الأربعين النووية)، ثم تراهم يعزمون على قراءة (فتح الباري!) وأشباهه من كتب العلم. وجميل أن توجد هذه الهمة، لكن أحسب أن مآل هؤلاء في النهاية إذا لم يتداركهم الله بفضله: الشعور بالإحباط والعجز، ثم الملل والسآمة؛ لأنهم لم ينموا نمواً طبعياً يتدرجون فيه في درجات العلم بتدرج فهومهم وبصائرهم.(1/5)
ونظير ذلك من يبدأ بقراءة ما يسمى بـ (الكتب الفكرية) المتقدمة، دون أن تكون له حصيلة شرعية يميز فيها بين الغث والسمين، ودون أن يبدأ بالكتب الفكرية الميسرة التي تكمل بناءه العلمي والثقافي.
والواجب أن يحرص القارئ في بداية الطلب على بناء القاعدة العلمية التي يبني فيها مداركه العقلية وملكاته العلمية بناءاً راسخاً متيناً.
وبناء القاعدة العلمية يتطلب من القارئ جهداً كبيراً؛ فهو يأخذ من كل فرع من فروع العلم الرئيسة كتاباً أصيلاً يدرسه دراسة تفصيلية، ولا ينتقل منه إلى كتاب آخر إلا بعد أن يتقن أبوابه، ويعرف قواعده وفنونه، ثم إذا قرأ كتاباً آخر في الفرع نفسه كان كالبناء على تلك القاعدة والأساس.
والقدرة على اختيار الكتاب المناسب لها دور بارز في اختصار المسافات في طريق القارئ الطويل. وكم من قارئ قد ضلَّ الطريق وحرم الوصول؛ لأنه أراد أن يصعد السطح بلا سلم، أو أراد أن يبني داره على أرض هشة غير مستقرة، ومن المفيد هنا التأكيد على أهمية استشارة أهل الاختصاص وأصحاب الخبرة لمعاونة القارئ المبتدئ في ترشيح الكتب المناسبة له، وقديماً سئل (فولتير) عمن سيقود الجنس البشري؟ فأجاب: (الذين يعرفون كيف يقرؤون)(2).
ومن اللطائف العجيبة أن ابن الجوزي كان يتكلم عن ضرورة ترتيب الأولويات لطالب العلم، ثم يقول: (قد علم قصر العمر وكثرة العلم، فيبتدئ بالقرآن وحفظه، وينظر في تفسيره نظراً متوسطاً لا يخفى عليه بذلك منه شيء. وإن صحَّ له قراءة القراءات السبعة، وأشياء من النحو وكتب اللغة، وابتدأ بأصول الحديث من حيث النقل كالصحاح والمسانيد والسنن، ومن حيث علم الحديث كمعرفة الضعفاء والأسماء، فلينظر في أصول ذلك)(3) ثم ساق ابن الجوزي علوماً يبدأ بها طالب العلم في عصره، قد يعجز عنها بعض المنتسبين إلى العلماء في عصرنا..!
الثانية: بناء القاعدة الفكرية:(1/6)
ها هنا معضلة يقع فيها كثير من القراء، وهي أنه في أثناء القراءة لا يحرص على بناء فكره، وإحياء قدراته العقلية ولا يستحثها للنظر والتأمل، وإنما يقع أسيراً ينتظر التلقين من المؤلف، ويقف دائماً موقف المتلقي، ومثل هذا وإن حصل كمّاً من المعلومات فإنه ليس قارئاً جيداً؛ لأنه لا يملك البصيرة ولا القدرة على التمييز والموازنة بين اجتهادات العلماء والمفكرين. (فالتفكير هو الذي يجعل ما نقرؤه ملكاً لنا)(4).
ونظير ذلك من يعتني بالحفظ وحده، ولا يلتفت إلى الفهم. والحفظ على الرغم من أهميته وضرورته؛ فإنه لا ينبغي الاكتفاء به، بل يجب تسخيره لخدمة الفقه والفهم، وقديماً عتب الإمام أحمد على بعض المحدثين بقوله: (ما أقل الفقه في أصحاب الحديث)(5)، ومن لطائف الأخبار في هذا الباب ما ذكره إسحاق بن راهويه حيث قال: (كنت أجالس بالعراق أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وأصحابنا، فكنا نتذاكر الحديث من طريق وطريقين وثلاثة، فيقول يحيى بن معين من بينهم: وطريق كذا. فأقول: أليس قد صح هذا بإجماع منا؟ فيقولون: نعم. فأقول: ما مراده؟ ما تفسيره؟ ما فقهه؟ فيقفون كلهم إلا أحمد بن حنبل)(6).
إن بناء القاعدة الفكرية للقارئ من أشق المهمات التي تواجه القارئ الجاد؛ فليس كل كتاب يمكن أن يبني فكر الإنسان، حتى بعض الكتب المفيدة التي قد يستفيد منها القارئ مادة علمية قد لا يخدم ذلك البناء؛ وما أحسن قول الإمام ابن القيم: (الفكر هو الذي ينقل من موت الفطنة إلى حياة اليقظة)(7)، وهنا يأتي دور المعلمين والمربين في توجيه طلابهم والأخذ بأيديهم في الطريق القويم. وقديماً كان بعض العلماء يربي فكر الطالب ببعض مسائل الحساب والفرائض، ويحاوره بعويص المسائل، وهذا منهج نبوي أصيل في التربية والتعليم؛ فها هو ذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل أصحابه: "إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنها مثل المسلم، فحدثوني ما هي؟"(8).(1/7)
وبهذا يتبين أن القراءة الجادة هي قراءة التفهم والبصيرة والإدراك، ونعمة الفهم من أجلِّ النعم التي ينعم الله ـ تعالى ـ بها على العبد، و "رُبَّ شخص يفهم من النص حكماً أو حكمين، ويفهم منه الآخر مائة أو مئتين"(9). وكم جرَّ سوء الفهم على صاحبه من الخلل والاضطراب؛ وما أحسن قول الإمام ابن القيم: "ما أكثر ما ينقل الناس المذاهب الباطلة عن العلماء بالأفهام القاصرة"(10).
الهوامش:
(1) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (2/160).
(2) القراءة أولاً، ص 38.
(3) صيد الخاطر، ص169.
(4) التفكير علم وفن، ص 133.
(5) طبقات الحنابلة (1/329).
(6) تاريخ بغداد (4/ 419).
(7) مفتاح دار السعادة (1/181).
(8) أخرجه البخاري في العلم (1/145) رقم (61)، ومسلم في صفات المنافقين (4/2146) رقم (2811).
(9) مفتاح دار السعادة (1/60).
(10) مدارج السالكين (2/431).
البيان ........149(1/8)