المكتبة الالكترونية
للشيخ / عطية محمد سالم
الإصدار الأول
إعداد موقع روح الإسلام
( www.islamspirit.com )
( للبحث داخل صفحة معينة اضغط Ctrl+f )(1/1)
ترجمة الشيخ عطية محمد سالم
الشيخ عطية محمد سالم هو أحد علماء المدينة المنورة، و قد ولد عام 1346 هـ 1925 م بقرية المهدية إحدى قري محافظة الشرقية بمصر. و كانت بدايته كأبناء الريف فى كتاتيب القرية. انتقل بعدها الي المدرسة الأولية، و كانت مدة الدراسة بها خمسة سنوات. ثم واصل دراسته الدينية بعد مجيئه الي المدينة المنورة عام 1364 هـ فى حلقات المسجد النبوي الشريف، فدرس فيها موطأ الإمام مالك – نيل الاوطار – سبل السلام – رياض الصالحين – البيقونية فى مصطلح الحديث. و كلها على فضيلة الشيخ عبد الرحمن الإفريقي رحمه الله حتى عام 1370 هـ.
الرحبية فى علم الفرائض.
الارجرومية فى النحو.
و هذه على فضيلة الشيخ حماد الأنصاري حفظه الله.
شرح منتهى الإرادات.
صحيح البخاري.
على فضيلة الشيخ محمد بن تركي رحمه الله.
بالإضافة إلى الشيخ محمد الحركان فى صحيح البخاري، و الشيخ عمار فى سنن أبي داود، و الشيخ العرنوس و الشيخ أحمد ياسين الخياري، و الشيخ محمد أمين.
وفى عام 1370 هـ، افتتحت المعاهد العلمية و الكليات و انتقل الشيخ الي الرياض حيث التحق بالمعهد العلمي الثانوي، ثم كلية الشريعة، و كلية اللغة العربية حيث حصل على الشهادتين من كلتا الكليتين فى سنة التخرج منهما معاً. و فى هذه الفترة توطدت علاقة الشيخ بعلماء هذا العصر و منهم فضيلة الشيخ عبد الرازق عفيفي، و الشيخ يوسف عمر رئيس البعثة الأزهرية، و الشيخ الظواهري وكيل الأزهر، و الأستاذ محمد سرحان و إخوانه عبد اللطيف و عبد السلام، و الشيخ يوسف الضبع، و الشيخ النمر الذي تولي وزارة الأوقاف فى مصر، و الشيخ الهراس، و كان هؤلاء من علماء البعثة الأزهرية. أما من علماء المملكة، فالشيخ عبد العزيز بن عبد الله، و الشيخ عبد العزيز بن رشيد رحمه الله، و الشيخ عبد الرازق حمزة و غيرهم.
و فى هذه الفترة أيضا توطدت العلاقة بفضيلة الوالد الشيخ محمد الأمين الشنقيطي – رحمه الله – حيث صحبه طالباً و تلميذاً فى حلقاته و فى رحلاته علاقة الولد والتلميذ مع شيخه حيث من الله عليه بعد ذلك أن أكمل تفسير "أضواء البيان" بعد أن توفي الشيخ رحمه الله.
أما فى المجال الوظيفي، فقد تدرج الشيخ فى الحياة الوظيفية حيث كلف بالتدريس في المعهد العلمي بالإحساء لمدة أربع سنوات و ذلك أثناء دراسته بكلية الشريعة و كلية اللغة، و كذلك كلف بعد التخرج بالتدريس في معهد الرياض، ثم في الكليتين معا حيث كان يدرس "بلوغ المرام" للطلبه في كلية الشريعة، و "الأدب في صدر الإسلام" للطلبه في كلية اللغة، و علم الوضع فيهما معا.
و في عام 1381 تم تشكيل مجلس خاص بقرار من فضيلة الشيخ محمد بن إبراهيم مفتي المملكة لوضع الترتيبات اللازمة لإفتتاح الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة من برامج و مناهج و إدارات. و كان هذا المجلس برئاسة فضيلة الشيخ عبد العزيز بن باز و عضوية كل من الشيخ عبد الرازق عفيفي، و الشيخ مناع القطان، و الأستاذ محمد العبودي، و الشيخ عطية محمد سالم. ثم أسندت إلى فضيلة الشيخ عمارة شئون التعليم بالجامعة الإسلامية، بالإضافة إلى تدريس "بداية المجتهد لإبن رشد"، و "أصول الفقه" عن الشيخ الأمين رحمه الله في حال غيابه.
إنتقل الشيخ بعد ذلك إلى العمل بالقضاء بتكليف من سماحة المفتي و كان رئيسا للقضاء و المحاكم، و تدرج في مراتب القضاء حتى وصل إلى مرتبة "قاضى تمييز" حيث أحيل للتقاعد في 1/7/1414هـ .
و لما افتتحت الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة تم وضع كرسي بإسم الجامعة بالمسجد النبوي، و كان يتناوب عليه كل من فضيلة الشيخ الأمين و الشيخ عبد العزيز بن باز نائب رئيس الجامعة آنذاك. و لظروف صحية للشيخ محمد الأمين حل محله الشيخ عبد القادر شيبه الحمد، و لكثرة أعمال و إرتباطات الشيخ عبد العزيز بن باز حل محله الشيخ عطية محمد سالم. ثم انتقل الشيخ عبد القادر شيبة الحمد إلى الرياض، و انفرد الشيخ عطية بالتدريس في كرسي الجامعة بالمسجد النبوي الشريف إلى الآن، ثم شاركه في الفترة الأخيرة الشيخ على بن عبد الرحمن الحذيفي.
و مما درسه الشيخ عطية لتلاميذه في حلقته بالمسجد النبوي الآتي:
"موطأ الإمام مالك بن أنس" مرتين، وسجلت الأخيرة على أشرطة كاسيت تعدت 700 شريط موجودة بالمكتبة الصوتية بالمسجد النبوي الشريف.
"الأربعين النووية"، و سجلت في أكثر من سبعين شريط كاسيت.
"شرح البيقونية" في المصطلح.
"شرح الرحبية في الفرائض".
"شرح الورقات في اللأصول".
دروس في التفسير "سورة الحجرات – أوائل سورة البقرة – آيات من سورة آل عمران" و غيره .
دروس متفرقة في السيرة النبوية و الغزوات.
كتاب "بلوغ المرام".
كتاب "البلاغة الواضحة".(2/1)
و جميع هذه الدروس مسجلة على أشرطة كاسيت بالمكتبة الصوتية بالمسجد النبوي. كما أن للشيخ عطية مشاركات في الإذاعة و التليفزيون و الدورات و الندوات و الأمسيات فى النادي الأدبي بالمدينة المنورة. و قد شارك الشيخ عطية في عدد من المؤتمرات منها:
مؤتمر إعداد الدعاة بالجامعة الإسلامية.
مؤتمر مكافحة الجريمة بوزارة الداخلية بالرياض.
مؤتمر مكافحة المخدرات بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
مؤتمر أهل الحديث بإسلام أباد باكستان.
المؤتمر الفقهي الإسلامي بماليزيا.
مؤتمر الدعوة ببغداد أثناء القتال مع إيران للمصالحة بينهما.
أسبوع الشيخ محمد بن عبد الوهاب بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
و لا يوجد زائر للمدينة المنورة إلا و استوقفه حلقة الشيخ الكبيرة بالمسجد النبوي الشريف. ذلك العلم الذي يتدفق من الداعية الفقيه أية في البناء الأدبي و البلاغي و الحكمة لا تملك إلا أن تلقي ببالك و جميع مداركك الي هذا العلم و هذا العالم الذي يعيد إليك صورة الرعيل الأول من علماء هذه الأمة ممزوجة بعصرنا الحاضر بوعي و إدراك لعلم السلف و معايشة روح العصر.
مؤلفات الشيخ عطية:
تتمة تفسير "أضواء البيان" لفضيلة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي من أول سورة الحشر إلى آخر سورة الناس – طبع عدة مرات مع الكتاب.
"تسهيل الوصول إلى علم الأصول" بالاشتراك مع آخرين .
"الأدب في صدر الإسلام" بالاشتراك مع آخرين، و كان مقررا بجامعة الإمام الإسلامية.
"تعريف عام بعمومات الإسلام"، و كان مقررا بالجامعة الإسلامية و ترجم إلى اللغة الإنجليزية.
"أصل الخطابة و أصولها"، و كان أيضا مقررا بالجامعة.
"السؤال و الجواب في كتاب الله"، و أصله حلقات بالإذاعة ثم جمعت و طبعت وقررت على طلاب التربية و جامعة الملك عبد العزيز.
"وصايا الرسول صلى الله عليه و سلم"، و كان أيضا حلقات بالإذاعة و جمعت و طبعت و قررت على طلاب كلية التربية بجامعة الملك عبد العزيز .
"في ظل عرش الرحمن"، وموضوعه حديث سبعة يظلهم الله.
"عمل أهل المدينة" ، تأصيل لحجية عمل أهل المدينة عند الإمام مالك ردا على كتاب محمد بن الحسن في نقده لعمل أهل المدينة ( الحجة على أهل المدينة ).
"موقف الأمة من إختلاف الأئمة".
"آيات الهداية و الاستقامة في كتاب الله تعالى" (مجلدين).
"محموعة الرسائل المدنية" ، و تشتمل على ستة عشر رسالة مستقلة هي:
? صلاة التراويح أكثر من ألف عام في مسجد النبي عليه الصلاة والسلام.
? مع الرسول في رمضان.
? نكاح المتعة في الإسلام.
? زكاة الحلي.
? تعريف عام بعموميات الإسلام.
? منهج الإسلام في كيفية المؤاخاة والتحكيم بين المسلمين.
? أصول الخطابة و الإنشاء.
? معالم على طريق الهجرة.
? حكمة التشريع في تعداد الزوجات و تحديد النسل.
? رمضانيات.
? آداب زيارة المسجد النبوي و السلام على رسول الله.
? مع الرسول في حجة الوداع.
? الإسراء و المعراج من الكتاب و السنة.
? سجود التلاوة.
? مع المرضى.
? العين و الرقية و الاستشفاء من القرآن و السنة.
"هداية المستفيد من كتابة التمهيد" (12 مجلد)، و هو إعادة لترتيب كتاب التمهيد لابن عبد البر على أبواب الفقه بدلا من الأسانيد .
"الرق في الإسلام"، كتيب بالمشاركة مع الشيخ الأمين.
كتاب "الدماء في الإسلام".
و للشيخ عطية رسائل و أبحاث بعضها تحت الطبع و البعض الآخر أوراق بحث في الندوات و المشاركات، بالإضافة إلى الإشراف على العديد من الرسائل العلمية بالجامعة و عضو لجان المناقشة للبعض الأخر. بارك الله في عمل الشيخ عطية، و نفعنا بعلمه، و جزاه عن الإسلام والمسلمون خير الجزاء.(2/2)
عنوان الكتاب:
استقبال المسلمين لرمضان
تأليف:
عطية محمد سالم
الناشر:
مجلة الجامعة الإسلامية
السنة الثامنة (العدد الثاني)1395هـ 1975م(3/1)
ص -25- استقبال المسلمين لرمضان
لفضيلة الشيخ عطية محمد سالم
القاضي بالمحكمة الشرعية بالمدينة
بسم الله والصلاة والسلام على خاتم رسل الله سيدنا محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. وارض اللهم عن أتباعهم الأئمة لهداة وعنا معهم ووفقنا اللهم إلى ما تحبه وترضاه. وبعد:
فقد كان المسلمون يستقبلون شهر رمضان بفائق العناية ويولونه أشد الاهتمام ويستعدون لمقدمه فرحا بقدومه، واستبشارا بفضله. وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعوا ببلوغه رمضان. فإذا دخل شهر رجب قال: "اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان".
وكان المسلمون يستقبلونه بقولهم: اللهم قد أظلنا شهر رمضان وحضر فسلمه لنا وسلمنا له، وارزقنا صيامه وقيامه. وارزقنا فيه الجد والاجتهاد والنشاط، وأعذنا فيه من الفتن. وذلك لما يعلمون من فضل رمضان وسعة فضل الله عليهم فيه، وما ينزله تعالى على عباده من الرحمات، ويفيضه عليهم من النفحات ويوسع عليهم من الأرزاق والخيرات ويجنبهم فيه من الزلات. حيث يفتح لهم أبواب الجنان، ويغلق عنهم أبواب النيران ويصفد فيه مردة الجان. فهو للأمة ربيعها، وللعبادات موسمها، وللخيرات سوقها. فلا شهر أفضل للمؤمن منه ولا عمل يفضل عما فيه. فهو بحق غنيمة للمؤمنين.
قال صلى الله عليه وسلم: "أظلكم شهركم هذا. بمحلوف رسول الله صلى الله عليه وسلم ما مر بالمسلمين شهر خير لهم منه. ولا مر بالمنافقين شهر شر لهم منه. بمحلوف رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله ليكتب أجره ونوافله قبل أن يدخله. ويكتب إصره وشقاءه قبل أن يدخله وذلك أن المؤمن يعد فيه القوت والنفقة للعبادة. ويعد فيه المنافق اتباع غفلات المؤمنين واتباع عوراتهم فغنم يغنمه المؤمن". إنه غنم له في العبادة تضاعف له فيها أجر الصلاة وأجر الصدقة ويتاح له القيام مع الصيام، ويتجه فيه إلى تلاوة القرآن. ومجالس الإيمان فيتزود منه إلى عامه كله. ولهذا(3/2)
ص -26- كان السلف يسألون الله ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، فإذا بلغوه سألوه أن يوفقهم فيه، ويرزقهم الجد والنشاط فإذا أكملوه سألوا الله بقية السنة أن يتقبله منهم.
وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أن من حرم الفضل من رمضان لا يناله في غيره، ومن لم يغفر له في رمضان باعده الله في النار. وذلك لما صعد المنبر فقال: "آمين. آمين. آمين..". فسألوه عن ذلك فقال:" أتاني جبريل فقال: من أدرك شهر رمضان ولم يغفر له باعده الله في النار، فقل آمين فقلت آمين، ومن أدرك أبويه أو أحدهما ولم يغفر له باعده الله في النار فقل آمين فقلت آمين، ومن ذكرت عنده ولم يصل عليك باعده الله في النار فقل آمين فقلت آمين". ومن عجب أن جبريل عليه السلام وهو ملك الوحي والرحمة يقول عن مسلم أدرك شهر رمضان ولم يغفر له باعده الله في النار ولكن ينتفي العجب إذا تأملنا فضائل رمضان وتعرفنا خصائصه فوجدناه شهر الرحمة والمغفرة وأن وسائل المغفرة والرحمة من الطاعة والقربة متوفرة، ودواعيها ميسرة والأعوان عليها كثيرون. وفي الوقت نفسه عوامل الشر محدودة ومردة الشياطين موصدة ورحمة الله تعالى منزلة، ولله فيه عتقاء من النار في كل ليلة. وأبواب الجنة مفتحة كلها وأبواب النيران مغلقة كلها. فمن لم تنله الرحمة مع كل ذلك فمتى تناله إذاً، ومن لم يكن أهلا للمغفرة في هذا الشهر ففي أي وقت سيكون أهلا لها، كمن حضر موسم ربح فخفق ولم يربح فمتى يحصل على الربح. ومن خاض البحر ولم يطهر، فما الذي سيطهره.
وهكذا فمن لم ينل المغفرة في رمضان بالتوبة والإقلاع والعودة إلى الله والالتجاء وعمل الطاعات والدعاء فمتى ينالها وإذا حرم ليلة فيه خير من ألف شهر فماذا يرجى بعدها إن هذا شبيه بقوله صلى الله عليه وسلم في الصلاة: "من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعدا". أي إذا كان وقوفه بين يدي ربه سبحانه ومناجاته إياه خمس مرات كل يوم لم تؤثر فيه ولم يجد لها أثرا في نفسه فأي مواقف بعدها ستنهاه.
وكذلك هنا، وأيضا الذي يأبى أو يتوانى عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند سماعه ذكره مع كبير حقه عليه وعظم قدره عند الله. وعظيم ما أجراه الله من الخيرات للأمة وللإنسانية كلها على يديه صلى الله عليه وسلم فما من خير يقربنا إلى الله إلا دلنا عليه ولا(3/3)
ص -27- من شر يباعدنا عن الله إلا حذرنا منه وقد أمرنا بالصلاة والسلام عليه ووعدنا رب العزة بالصلاة علينا عشر مرات إذا نحن صلينا عليه مرة واحدة فمن يتأبى بعد ذلك يكون جاحدا للفضل كافرا للنعمة محروما من صلوات الله ورحماته عليه فباعده الله في النار.
وكذلك من يدرك أبويه اللذين هما سبب وجوده في الدنيا ولم يجعلهما سببا لوجوده في الجنة مع أن الجنة تحت أقدام الأمهات فإنه يكون عاقا لوالديه غير بار بهما فباعده الله في النار، ومن عجب أن نجد اقتران هذه الأمور الثلاثة : شهر رمضان بر الوالدين ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم موجبات للجنة مبعدات في النار. لأن حق الوالدين مقرون ومرتبط بحق الله تعالى:
{وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} وذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم مقرون ومرتبط بذكر الله تعالى. فقرن بهما رمضان لعظم حقه، ومزيد فضله وما خصت به هذه الأمة فيه كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم: "أعطيت أمتي خمس خصال في رمضان لم تعطها أمة قبلهم؛ خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، وتستغفر لهم الحيتان حتى يفطروا، ويزين الله عز وجل كل يوم جنته ثم يقول: يوشك عبادي الصالحون أن يلقوا عنهم المؤونة ويصيروا إليك. وتصفد فيه مردة الشياطين فلن يخلصوا فيه إلى ما كانوا يخلصون فيه من غيره. ويغفر لهم في آخر ليلة. قيل يا رسول الله أهي ليلة القدر قال : لا ولكن العامل إنما يوفى أجره إذا قضى عمله". وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند البخاري رحمه الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كان أول ليلة من رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن وغلقت أبواب النيران فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب. وينادي مناد يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر. ولله عتقاء من النار، وذلك كل ليلة".
نسأل الله تعالى أن يوفقنا إلى الخير ويرزقنا الإقبال عليه، وأن يجنبنا الشر ويقصر خطانا عنه، وأن يجعلنا من عتاقائه من النار إنه سميع مجيب.
مشروعية الصيام
فيعتبر الصيام كعبادة دينية متقدم التشريع لدى الأمم الماضية، والأساس في هذا المبحث قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} فهو مشروع لمن قبلنا. ومفروض عليهم ومؤكد بالكتابة علينا وعليهم سواء(3/4)
ص -28- اتفقت الكيفية أو اختلفت فلكل أمة في فروعها وكيفيات عباداتها شرعة ومنهاج.وقد جاءت صور متنوعة لصيام من قبلنا نورد بعضا منها لا للحصر وللاستقصاء ولكن على سبيل النماذج والأمثلة.فمن ذلك ما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم: "خير الصيام صيام أخي داود كان يصوم يوما ويفطر يوما". وعنه أنه قال: "أما اليوم الذي أصوم فيه فأتذكر الفقراء، وأما اليوم الذي أفطر فيه فأشكر نعمة الله".
ومن ذلك ما جاء في نوع صيام مريم عليها السلام في قوله تعالى: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً}. فكان صياما عن الكلام لا إمساكا عن الطعام.
ومن ذلك صيام نبي الله موسى عليه السلام في المواعدة كما قال العلماء عند قوله تعالى: {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} فقالوا قضى أيامها صائما تهيؤا للملاقاة واستعدادا للمناجاة. وعن نبي الله موسى أيضا صيام يوم عاشوراء شكرا لله أن أنجاه الله من فرعون في ذلك اليوم وتوارث اليهود صيامه عنه إلى أن قدم صلى الله عليه وسلم المدينة وكانوا في الجاهلية يصومونه كما في حديث عائشة رضي الله عنها، وكانوا يعظمون الكعبة فيه ويجددون كسوتها.
أما أول مشروعية الصيام في الإسلام فكان هو صيام يوم عاشوراء لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة ووجد اليهود يصومونه سألهم عن السبب في صيامه فقالوا له: إنه يوم نجى الله فيه موسى من فرعون فصامه شكرا لله فصمناه وها نحن نصومه، فقال لهم صلى الله عليه وسلم: "نحن أحق بموسى منكم" فصامه صلى الله عليه وسلم وأمر المسلمين بصيامه, وأرسل إلى ضواحي المدينة مناديه "من كان صائما فليتم صيامه، ومن لم يكن صائما فليمسك بقية يومه". وقال صلى الله عليه وسلم: "لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع والعاشر". أي ليغاير صيامه صيام اليهود بضم التاسع إلى العاشر، وهنا وقفة وتأمل في كلا الأمرين، صيامه صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء كصيام اليهود إياه، وصيامه التاسع مع العاشر مغايرة لهم. ففي الأول موافقة لهم في صومهم وفي الثاني مخالفة لهم بالزيادة عليهم.
والواقع أن صيامه صلى الله عليه وسلم لم يكن لمجرد موافقة اليهود بدليل مخالفته لهم بضم التاسع إليه ولتصريحه صلى الله عليه وسلم بأن السبب في صيامه هو(3/5)
ص -29- السبب الذي دعا موسى عليه السلام إلى صومه وهو امتنان الله تعالى عليه بطريق في البحر يبسا ونجاته من فرعون وقومه فصامه شكرا لله وهذا السبب له أهميته وعظيم مدلوله في جميع الأديان وتاريخ الرسل مع الأمم لأنه إعلان وإثبات لانتصار الحق على الباطل في الصراع الدائم على البقاء وإلى الصلاح والإصلاح بصرف النظر عن الأطراف والأشخاص وعن الزمان والمكان، ولذا قال صلى الله عليه وسلم: "نحن أحق بموسى منكم". كما بين صلى الله عليه وسلم رابطة النبوة بقوله: "نحن معاشر الأنبياء أبناء علات ديننا واحد". وأبناء العلات هم الإخوة لأب ووحدة الدين في الأصول وفي العقائد فنجاة موسى من عدوه انتصار لدين الله ونبيه. وسواء في المبدأ زمن موسى أو زمن محمد صلى الله عليه وسلم لأنها قضية حق وإظهار عدل. وهذه مبادئ الإسلام والمسلمين.
وإن مما يلفت النظر ويستوقف الباحث هو تعظيم هذا اليوم بصيامه لما أجرى الله فيه من الخير وأن للأمة الاحتفاظ بذكرياتها الجليلة والتعبير عنها بما شرع فيها كالصوم في يوم عاشوراء.
ثم جاء فرض صيام رمضان في السنة الثانية من الهجرة وقد أشارت نصوص مشروعيته إلى ارتباطه بأعظم مناسبة في هذا الوجود كله هي انبثاق فجر الهداية وإشراقة شمس الرشاد التي بددت ظلمات الجهالة، ومهدت سبل السعادة يقول جبريل عليه السلام: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}.فكانت فاتحة الرسالة المحمدية وكان ذلك في شهر رمضان كما قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}. فكان جديرا بزمن إنزاله تعظيمه بصيامه وإحياءه بقيامه. لتُجَدِدَ الأمة روابطها بربها، وتوثق عهودها بمبادئ دينها ويبقى على جدته لا تبليه الأعوام ولا توهنه الأيام.وقد جرت حكمة العليم الخبير في مشروعية هذا الركن العظيم فبدأ بالتدرج، أولاً يوم عاشوراء ثم فرض مطلقاً من غير تحديد: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ}، ثم انتقل من الإجمال إلى التفصيل: {أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ}. وإن كانت لم تقيد بعدد إلا أنها مقيدة بجمع القلة أياما معدودات. شبيه بما في قوله تعالى في مبيع يوسف عليه السلام: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ}. وكذلك الأيام المعدودات ليهون على النفوس تقبلها، وقد شرع بادئ ذي بدء على التخيير: {وَعَلَى(3/6)
ص -30- الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}. ثم ألزموا به بعد أن توطنت نفوسهم عليه واطمأنت قلوبهم إليه. فحددت لهم أيامه وانتفى عنهم التخيير في قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} وبقوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}. وبجانب ذلك نوافل وسنن من الصيام في مناسبات وملابسات أخرى انفرد بها الصيام عن سائر العبادات ما كان منها عاما وما كان منها خاصا. فمن ذلك صيام يوم عاشوراء وإنه ليكفر سنة كاملة.
ومنها صيام يوم عرفة لمن ليس بعرفات وإنه ليكفر سنة قبله وسنة بعده ومنها صيام الست من شوال وإنها مع رمضان بمثابة صيام الدهر.ومنها صوم يوم الاثنين؛ يوم ولد فيه النبي صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه فيه.وغير ذلك - الأيام المطلقة - كالأيام البيض كل شهر ويوم الخميس...إلى غير ذلك.كما شرع الصوم جبرانا لنقص أو تفاديا لخطأ، أو خروجا من مأزق؛ فمن صيام الجبران الصيام عن دم التمتع. ومن التفادي للخطأ عدل دم الصيد وجزائه. ومن الخروج من المأزق الكفارة عن الظهار واليمين وغير ذلك.وهكذا تطور مشروعيته وينفسح تشريعه مما خص به الصيام دون غيره من العبادات.
وإن للقرآن الكريم منهجا خاصا في سبيل تشريع الصيام جملة وتفصيلا وللصيام خصائص وحكم.لكل عبادة في الإسلام خصائصها وحكمتها، وكلها أنواعُ غذاءٍ للروح تتنوع كأنواع غذاء البدن.
فالصلاة: تنهى عن الفحشاء، وتغسل الذنوب كما قال صلى الله عليه وسلم: "كنهر جار أمام بيت أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات"، وتأتي يوم القيامة نورا على الصراط: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}. وكما في الحديث: "والصلاة نور والصدقة برهان".
والزكاة: طهرة للمال وتزكية لصاحبها: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} فهي طهرة للمال من شوائب الحقوق وتعلق(3/7)
ص -31- عيون المساكين، وزيادة له وحصن. "ما نقص مال من صدقة". "حصنوا أموالكم بالزكاة".
والحج: منافع للناس عاجلا وآجلا: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ. لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ}. وفي الحديث: "من أفاض من عرفات خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه". وأيضا: "والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة". هذه هي آثار الصلاة والزكاة والحج فما هي آثار الصيام.
الواقع أنها كلها عبادة لله تعالى تعبدنا بها وأوجبها علينا ولا يستطيع إنسان الإحاطة بحكم العبادات لأنها حق لله ولا يعلمها إلا هو غير أننا أشرنا إلى بعض ما جاءت به النصوص فيما تقدم.
أما الصوم فقد تناولته أقلام عديدة وحاولت أن تنسب إليه حِكماً شتى في أكثر من جانب إلا أن البعض قد يذهب إلى جوانب مادية كالعلاج وصحة البدن أو إنسانية كالعطف على المساكين والشفقة وهذه وإن كان الصوم يفيدها إلا أنه لا يختص بها فقد تحصل بغيره. والبعض قد يذهب إلى جانب خلقي تربوي يتعلق بالقوى النفسية من بهمية وسبعية. وروحانية ملكية وأن الصوم إضعاف للأولى بتقليل الطعام، فتتقوى الثانية. وقد يستأنس لذلك بحديث: "إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم فضيقوا مجاريه". وهذه أيضاً تابعة للأولى لم تخرج عن الماديات ونطاق الحواشي.
ولكن القرآن نص صراحة على أهم خصائص الصيام وحكمته وأبان بأنها الحكمة والغاية من الأديان كلها. وأنها أخص خصائص الشريعة الإسلامية وهي "التقوى" وذلك في معرض التشريع الأول للصيام: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.
و"لعل" أداة نص على العلة والحكمة التي هي التقوى وحقيقة التقوى الوقاية والستر كما قال الشاعر:
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه فتناولته واتقتنا باليد
وهي صيانة المرء من نوازع النفس، وهي جماع الأمر كله في عامة الأديان السماوية ودعوة الأمم السابقين وهذا باب واسع. وقد نص القرآن على أن الغاية من عبادة الناس أولهم وآخرهم من جميع الأمم هي التقوى كما في قوله(3/8)
ص -32- تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، ومعلوم أنه تعالى ما خلق الجن والإنس إلا عبادته كما في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} فتكون التقوى بمضمون هاتين الآيتين هي الغاية من خلق الثقلين الجن والإنس.
ثم جاء النص في حق كل أمة ابتداء من قوم نوح عليه السلام في قوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ. إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ. فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ}.
وكذلك عاد لقوله تعالى: {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ. إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ. فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ}.
وكذلك ثمود لقوله تعالى : {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ. إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ. فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ}.
وقوم لوط لقوله تعالى: {كَذَّبَتْ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ. إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ. فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ}.
وأصحاب الأيكة لقوله تعالى: {كَذَّبَ أَصْحَابُ لأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ. إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ. فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ}.
فكل نبي يدعوا قومه إلى التقوى. وجاء القرآن كله دعوة إلى التقوى. وهداية المتقين كما في مطلع القرآن الكريم: { ألم. ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ}، وبيَّن نوع هدايتهم وطريقة عبادتهم: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ. وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ. أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.
فبين أن الكتاب الكريم كله إنما هو هداية للمتقين وبيان أعمالهم في العقائد والعبادات. وأنها مرتبطة بالتقوى وارتبطت بها نتائج عظام عاجلا وآجلا: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} حتى طريق العلم: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} ولو وقع في مأزق جاءته التقوى فأخرجته: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ}. ولأن التقوى تمنح معية نصر الله للمتقين: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ}.
وعلى هذا تكون التقوى مصاحبة لهم في الدنيا تصونهم وتحفظهم وتكون لهم وقاية وسترا وكلما جاء الصوم جددها وقواها واكتسبت حصانة ووقاية إلى عام قادم وهكذا كل عام في رمضان.(3/9)
ص -33- فإذ انتقل من الدنيا لازمته التقوى وساقته إلى أقصى غايته وأمانيه ابتداء من المحشر فيساق إلى الجنة: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ}. وبعد دخولهم الجنة تأتي التقوى فتحلهم مقاما أمينا: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} ثم تنزلهم منزلة عزٍ لا يتطلعون إلى غيره: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ. فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ}.
وصدق الشاعر في قوله:
ولست أرى السعادة جمع مال ولكن التقي هو السعيد
وتقوى الله خير الزاد ذخرا وعند الله للأتقى مزيد
ومن نعم الله على هذه الأمة أن يجعل ذلك لنا في الصوم. وجعله جُنة نتقي بها كل ما نخشاه وننال بها كل ما نتمناه وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الصوم جُنة" كما في صحيح البخاري رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الصيام جنة فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يجهل وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل إني صائم مرتين..." إلى آخر الحديث. وعند النسائي: "الصوم جنة ما لم يخرقها". زاد في الأوسط: قيل بم يخرقها؟ قال: "بكذب أو غيبة" . ولعل هذا إشارة إلى الكف عن جميع المعاصي كما نبه عليه حديث: "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه".وهنا في جُنة الصائم لم يطالب بترك الزور والعمل به فحسب لأن ذلك مطالب به في كل وقت. ولكنه طولب بترك ما هو له من حق الرد على المعتدي وإسكاته والانتصار لنفسه فإن شاتمه أحد يترك حق الرد عليه وإن كان حقا له ومباحا له إلا أن حق الصيام مقدم وأثر الصوم له فعاليته فكما ترك الطعام والشراب وغيرهما المباحين ومحض حلال له فكذلك يترك حق الرد على من سبه أو شتمه أو قاتله ويرد عليه بقوله: "إني صائم" أن ممسك عن ذلك وفيه وقاية من مجاراة السفهاء والمعتدين لأن الصائم إنسان مثالي ومسلم مسالم بجميع جوارحه لأن التقوى تملأ قلبه فيفيض إخلاصا ومحبة وخشية وخشوعا، ويطهر من الحقد والحسد، والتقوى ستظهر في منطوق لسانه فيكف عن الكذب والغيبة وعن المسابة والمشاتمة بل وعن الرد على من يسبه أو يشتمه..و يقابل الإساءة بالإحسان: "إني صائم". ومثله العين(3/10)
ص -34- تجللها الوقاية وتحجبها عن النظر المحرم وكذلك الأذن في سماعها وتسمعها. وهكذا بقية الجوارح تصبح في وقاية تامة عن كل منهي عنه. على ما سيأتي بيانه فيما ينبغي على الصائم فعله أو تركه.
وكفى بالصوم خصاصية أن اختصه تعالى لنفسه دون بقية الأعمال كما في الحديث القدسي: "إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به".
وللصيام منزلة خاصة بين الأعمال؛ ومما أجمع عليه المسلمون أن الصيام أفضل العبادات. وتقدم بيان عظم نتائجه من تقوى الله تعالى.. ومما يدل على علو منزلته وعظم مكانته أن الله تعالى اختصه لنفسه دون سائر الأعمال وتولى الجزاء عليه لعظيم أجره كما في الحديث القدسي؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له الحسنة بعشرة أمثالها إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به".
ويعد هذا الحديث أعظم مبرز ومظهر لفضل الصيام وبيان منزلته عند الله وهذا الجزء من الحديث يشتمل مسألتين، الأولى بيان أجر الأعمال ومضاعفتها. والثانية منزلة الصوم عند الله تعالى؛ أما مضاعفة الأعمال فقد نص هنا عن الحسنة بعشر أمثالها. وهذا مبدأ عام تقرر ليلة الإسراء والمعراج لما فرض الله على الأمة خمسين صلاة. وراجع النبي صلى الله عليه وسلم ربه في التخفيف حتى استقرت إلى خمس وقال الحسنة بعشر أمثالها فكانت الصلوات الخمس بدلاً من الخمسين صلاة الأولى وتقرر مبدأ في الإسلام وحداً أدنى لمضاعفة الأجر عند الله.
أما الحد الأقصى فلا حد له. فقد يضاعف الأجر بحسب الأعمال أو باعتبار حال أهلها. فمنها ما يضاعف إلى مائة ومنها إلى سبعمائة. بل وأضعاف كثيرة وإلى ما لا يعلم قدره إلا الله.
فمن الأعمال التي تضاف إلى سبعمائة وأكثر الإنفاق في سبيل الله لعظم منزلة الجهاد لقوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ}. وقد جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الأعمال عند الله عز وجل سبع: عملان موجبان، وعملان بأمثالهما, وعمل بعشر أمثاله, وعمل بسبعمائة, وعمل لا يعلم ثوابه إلا الله عز وجل؛ فأما الموجبان فمن لقي الله يعبده لا يشرك به شيئا وجبت له الجنة. ومن لقي الله قد أشرك به وجبت له النار. ومن عمل سيئة جزي بها. ومن أراد أن يعمل(3/11)
ص -35- حسنة فلم يعملها جزي مثلها، ومن عمل حسنة جزي عشرا. ومن أنفق ماله في سبيل الله ضعفت له نفقته الدرهم بسبعمائة والدينار بسبعمائة، والصيام لله لا يعلم ثواب عامله إلا الله عز وجل". ففي هذا الحديث تفاوت الأعمال موجبان للجنة أو النار كما قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} وقال صلى الله عليه وسلم: "من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه دخل الجنة". وعملان بمثلهما السيئة بواحدة ما لم يتب منها والعزم على الحسنة ما لم يتمكن من فعلها له حسنة فإن فعلها فله عشر حسنات؛ وفي الحديث: "من هم بسيئة ولم يعملها وكان تركه إياها لوجه الله فإن له بهذا الترك حسنة". أما الإنفاق في سبيل الله فإنه يضاعف مئات المرات بحسب إخلاص العبادة وقوة رغباتهم وطواعيتهم وإيثارهم لما عند الله تعالى وتقديم غيرهم على أنفسهم ثقة منهم بما عند الله عز وجل. ولو كانوا في حاجة ماسة لأن الإنفاق وقت الحاجة والفقر أعظم منه عند السعة والغنى كما قال صلى الله عليه وسلم في فضل الإنفاق أنه جهد المقل وفي الصحة والشباب وهو يرجو الغنى ويخشى الفقر لأنه يغالب شح النفس ومصداق ذلك في قوله تعالى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.
لأن مقياس الإنفاق بحسب دوافع النفس وأحاسيسها لا بكثرة المال وتعداده كما قال صلى الله عليه وسلم: "درهم سبق مائة ألف درهم". فقال رجل: كيف يا رسول الله؟ قال: "رجل له مال كثير فأخذ من عرضه - أي من جانبه - مائة ألف تصدق بها ورجل له درهمان فأخذ أحدهما فتصدق به". فلم يسبق الدرهم الواحد هنا مائة ألف لتميزه عنها في جنسه ولا لغلاء سعره فهو وإن كان نسبته واحدا من مائة ألف بالنسبة للإنفاق إلا أنه من جهة أخرى نسبة واحد من اثنين أي نصف مال صاحبه فكأنه تصدق بنصف ما يملك في هذا الدرهم الواحد أما صاحب المائة ألف فإن نسبة ما تصدق به نسبة جزء من كل وقد لا يؤثر عليه ولا يشعر به. فهذه منزلة الأعمال عمومها وخصوصها من حسنة إلى سبعمائة إلى مائة ألف بحسب الدوافع ونوازع النفس.
أما بالنسبة إلى الصوم لأنه فوق هذا كله وهو داخل في خصوص قوله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} وجاء عنه صلى الله عليه وسلم: "الصوم نصف الصبر".
أما المنزلة العظمى للصوم فهي في قوله صلى الله عليه وسلم: "إلا الصوم(3/12)
ص -36- فإنه لي وأنا أجزي به". مع أن جميع الأعمال لله وجميع الجزاء عليها من الله تعالى ولكنه خص الصوم بهذه الإضافة. فقيل في ذلك إنها إضافة تشريف كالإضافة في "بيت الله". وقيل لأن الصائم ليس عليه رقيب إلا الله كما في الحديث: "يدع طعامه وشرابه من أجلي". وقيل لأن الله يحفظه لصاحبه يوم القيامة إذا تقاضى الناس بالحسنات وأخذ ممن عليه الحق من حسناته توفية لصاحب الحق حتى تنفذ فلم يبق إلا حسنات الصوم فيقول الله: "إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به" إلى غير ذلك مما يعظم جوانبها كلها من مراقبة الله تعالى وإخلاص العمل إليه واستشعاره طيلة صومه أنه في عمل اختصه الله لنفسه قيل أيضا إن الله اختصه لنفسه لأن الصائم يتصف بصفة من صفات الله تعالى وهي عدم الطعام والشراب وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن عمل يدخل الجنة فعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله مرني بأمر ينفعني الله به. قال: "عليك بالصوم فإنه لا مثل له". وفي الصحيحين عن سهل بن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن في الجنة بابا يدعى الريان يدعى له الصائمون فمن كان من الصائمين دخله ومن دخله لم يظمأ أبدا".
وإذا كانت هذه منزلة الصوم عند الله تعالى فإنها لمن صان صومه وحفظه كما تقدم عنه صلى الله عليه وسلم: "والصوم جُنة ما لم يخرقها" أي بكذب أو غيبة.
ولأن الصوم يتفاوت أيضاً بحسب الأشخاص وشدة المراقبة والإخلاص وليس هو مجرد الإمساك عن الطعام والشراب فحسب بل عن كل ما نهى عنه ولذا قال صلى الله عليه وسلم: "رُبَّ صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش" أي إذا لم يصم لسانه أو بصره أو سمعه بل ولا قلبه وعموم جوارحه لأن الصوم في حقيقته عبادة البدن كله طيلة اليوم كله. فالصائم في مجاهدة النفس من الفجر إلى الليل شهرا كاملا وقد جمعت له الصلاة في قيام الليل والزكاة في منتهاه فخص هذا الشهر المبارك بثلاثة أركان الإسلام. ولذا فإن المسلم فيه ينعم في رحاب الجَنَّة نهاره صائم وليله قائم ومنتهاه إنفاق في سبيل الله.
وهنا نسوق حديث ابن عباس مرفوعا روي عنه: "إن الجنة لتزين من السنة إلى السنة لشهر رمضان فإذا دخل شهر رمضان قالت الجنة: اللهم اجعل لنا في هذا الشهر من عبادك سكانا. وتقول الحور العين: الله اجعل لنا من عبادك أزواجا من صان نفسه في شهر(3/13)
ص -37- رمضان فلم يشرب فيه مسكرا ولم يرم فيه مؤمنا بالبهتان ولم يعمل خطيئة زوجه الله كل ليلة مائة حوراء. ... إلى قوله : فاتقوا شهر رمضان فإنه شهر الله أن تفرِّطوا فيه فقد جعل الله لكم أحد عشر شهرا تتنعمون فيها وتتلذذون وجعل لنفسه شهر رمضان فاحذروا شهر رمضان". وفقنا الله جميعا لحفظه والوفاء بحقه وأسكننا فسيح جنانه.
ولعظم منزلة هذا الشهر فإن له آدابا وأحكاما.
آداب الصيام وأحكامه.
كل عمل جليل له آدابه وأحكامه أداء لحقه وحفاظا عليه ورجاء لفضله ومن ذلك الصيام وقد تقدم لنا من آدابه صوم جميع الجوارح في النطق والعمل بل وفي التفكير.. يصوم المسلم عن جميع ما نهى الله بل وعن بعض ما أباحه الله له.
أما أحكامه فمحلها كتب ودروس الفقه وتأتي حسب السؤال والاستفتاء بحسب ما يعرض للإنسان. إلا أن هناك أحكاما عامة تتصل بالآداب من جهة مراعاتها مما ينبغي تذكير الصائم بها.. وهي تتعلق بمأكله ومشربه وأفعاله وأقواله. من ذلك التحري للمأكل الحلال ليكون عونا على طاعة الله. وليكون ذلك تعويدا على كسب الحلال والتحري عن الشبه طيلة العام فيرجح إذا وزن ويوفي إذا كال ولا يطفف إذا اكتال ولا يغش ولا يدلس ولا يختلس إلى غير ذلك من أنواع النقص في المعاملات التي تُدخل عليه مالا حراما. إذ الواجب عليه المطعم الحلال دائما وفي رمضان بالأخص لأنه لا يليق به الصوم عن الحلال وإباحته لنفسه الكسب الحرام.ثم يأتي بعد ذلك آداب وأحكام المطعم والمشرب وهما وجبتا السحور والإفطار. يعتبر السحور في رمضان خصوصية من خصوصيات هذه الأمة لأنه لم يكن للأمم الماضية في صيامهم سحور ولذا قال صلى الله عليه وسلم: "فرق ما بيننا وبينهم أكلة السحر".
إذا كان الصيام عند من قبلنا وفي أول الإسلام يحرم على الصائم الأكل والشرب والوطأ من حين ينام أو يصلي العشاء فأيهما حصل أولا حصل به التحريم، فيمسكون من صلاة العشاء إلى الغد حتى تغرب الشمس، وتكون مدة الإفطار هي مدة ما بين المغرب والعشاء فقط. وإذا نام بعد المغرب وقبل العشاء حرم عليه الأكل، إلى أن جاء رجل من مزرعته بعد المغرب فذهبت زوجته تحضر له الطعام، فغلبته عينه فنام فلم يستطع أن(3/14)
ص -38- يأكل ولا يشرب، وأمسك لليوم الثاني وأصبح صائما فأغمي عليه في النهار فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم.. ووقع من رجل أن جاء إلى أهله فقالت إني قد نمت فظنها تمنع عليه فواقعها ثم تبين له أنه اختان نفسه فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره فاشتد ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى قوله: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}. ونسخ المنع السابق وأبيح لنا الأكل والشرب والنساء، ومع إباحة الأكل والشرب طيلة الليل إلا أنه عمل عادي لكن أكلة السحر هي الرئيسية المرتبطة بالصوم ولذا أكدها النبي صلى الله عليه وسلم لأنها رخصة من الله امتن بها علينا ومن هنا يستحب تأخيرها لتحقق معنى امتداد الإباحة إلى آخر الليل فجاء عنه صلى الله عليه وسلم الأمر بها: "تسحروا فإن في السحور بركة". والأمر بتأخيرها لتكون عونا على صيام النهار كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "إنها بركة أعطاكم الله فلا تدعوها". وقال: "استعينوا بطعام السحر على صيام النهار والقيلولة على قيام الليل". ونهى صلى الله عليه وسلم عن تقديمه في قوله: "لا تزال أمتي بخير ما عجلوا الفطر وأخروا السحور". وإن ذلك يحصل ولو بالقليل من الطعام أو الشراب كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "السحور كله بركة فلا تدعوه ولو أن يجرع أحدكم جرعة من ماء فإن الله عز وجل وملائكته يصلون على المتسحرين".
وكان سحور السلف قبل الآذان بما يتسع لقراءة خمسين آية. مع أنه يجوز إلى قبيل الفجر بلحظات.
أما الإفطار فينبغي تعجيله عند أول لحظة من الليل أي عند تحقق دخول الوقت كما تقدم: "لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر". رواه البخاري ومسلم. فلا يصح لإنسان بعد ذلك أن يؤخر الفطر إمعانا في التأكد فقد حذر صلى الله عليه وسلم من التأخير إلى طلوع النجوم في حديث سهل ابن سعد عند ابن حبان: "لا تزال أمتي على سنتي ما لم تنتظر بفطرها النجوم".
وفي حديث أنس أيضا: "ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قط صلى المغرب حتى يفطر ولو على شربة ماء". أما على أي شيء يكون إفطاره فجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمر فإنه بركة فإن لم يجد تمرا فالماء فإنه طهور". وجاء(3/15)
ص -39- أيضا أنه صلى الله عليه وسلم كان يفطر على ثلاث تمرات أو شيء لم تصبه النار.
ووردت أدعية وأذكار عند الفطر لأنه جاءت نصوص في أن للصائم دعوة عند فطره ومن الأذكار: "اللهم إني لك صمت وعلى رزقك أفطرت".
وفي المبادرة إلى الفطر سر لطيف هو الإشعار بأن العبد ضعيف وكان ممنوعا من رزق الله وقد جاء له الإذن بتناوله فلا يجمل به التأخر بل يبادر فرحا بنعمة الله عليه كما جاء في الحديث: "للصائم فرحتان إذا أفطر فرح بفطره. وإذا لقي ربه فرح بصومه".
ويستحب له أن يفطر غيره معه لقوله صلى الله عليه وسلم: "من فطَّر صائما كان له كأجر صيامه لا ينقص من أجورهما شيئا ويحصل ذلك ولو بمزقة لبن أو نحوه".
أما ما بين السحور والإفطار فيجتنب شبهات الإفطار أو ما يؤدي إليه ومن ذلك المبالغة في الاستنشاق خشية أن يسبقه الماء إلى حلقه. ومنها الحجامة سواء الحاجم أو المحجوم أما الحاجم فخشية أن يتسرب الدم إلى فمه والمحجوم فخشية أن يضعف ويحتاج إلى الفطر وهذا ما عليه الجمهور وعند الحنابلة رواية أنها تفطر لما ورد من الأحاديث المتعددة فحملها الجمهور على الكراهية وحملها الحنابلة على التحريم ولهذا بحث مستقل إن شاء الله.
كما عليه أن يتجنب مثيرات القيء لأن إثارته مفطرة أما إذا جاءه عفوا وغلبه فإنه لا يفطر.
كما عليه أن يتجنب مداعبة أهله إذا خشي من نفسه كما قالت عائشة رضي الله عنها: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل نسائه وهو صائم وأيكم أملك لأربه". أي من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد نهى صلى الله عليه وسلم الشباب عن التعرض لما يخشى وقوعه. كما أن عليه أن يكثر من تلاوة القرآن كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم أن جبريل عليه السلام كان يدارسه القرآن في رمضان كل سنة مرة وفي السنة الأخيرة دارسه القرآن مرتين إحياء لبدء نزوله في رمضان.
وأن يكثر من الصدقات كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان أجود ما يكون في رمضان حينما يدارسه جبريل القرآن. وللقرآن منهج خاص في تشريع الصيام آمل أن ييسر الله تقديمه والاستفادة منه.
والله نسأل أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(3/16)
عنوان الكتاب:
التراويح أكثر من ألف عام في المسجد النبوي
تأليف:
عطية محمد سالم
الناشر:
الجامعة الاسلامية بالمدينة المنورة
السنة الثانية - العدد الأول - رجب 1389هـ/1979م
(السنة الثانية، العدد الأول)(4/1)
ص -58- التراويح أكثر من ألف عام
بقلم الشيخ عطية محمد سالم القاضي بالمحكمة الكبرى بالمدينة
بحث تاريخي يحمل روح الفقهاء يقدمه فضيلة الكاتب للقراء. والموضوع في الحقيقة حساس يتقبل كثيرا من المناقشة ولا يزال يحتاج إلى كثيرا من البحث والتنقيب ولذلك فإن فضيلة المؤلف ببحثه هذا الجديد يثير الفرصة مرة أخرى لإيفاء (التراويح) حقها والهدف الأول والأخير هو الحق ولذلك فإنه ينتظر بفارغ الصبر آراء القراء وملاحظاتهم وفوائدهم حول الموضوع الذي سيستمر في حلقات متتابعة إن شاء الله .
(المجلة)
أولا: العهد النبوي:
لا شك أن ميدان التشريع وأصله إنما هو ما يكون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن العصر النبوي هو عصر التشريع لقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}, ولقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} إلى غير ذلك من النصوص ويلحق بذلك عصر الخلفاء الراشدين لقوله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي".(4/2)
ص -59- و التراويح وإن اختصت برمضان فإنها داخلة في عموم قيام الليل، وقد جاءت النصوص في عموم قيام الليل، وفي خصوص تراويح رمضان.
فمن عموم التهجد بالليل قوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَك}، {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً}.
أما خصوص قيام رمضان فالواقع أنها وإن كانت أخص من قيام الليل من حيث الزمن، فهي أعم منه من جهة الطلب .
التدرج في مشروعية التراويح:
وبالتأمل في نصوص التراويح يظهر أنها أخذت سبيل التدرج والتطور التصاعدي وذلك كالآتي:
أ - الترغيب المطلق: كما في حديث أبي هريرة عند مسلم وساقه البيهقي ج2ص492 ما نصه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه". قال البيهقي: "رواه مسلم في الصحيح عن يحي بن يحي، ورواه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن مالك". ومثله عن أبي هريرة عند البيهقي، وقال: "رواه البخاري عن يحي بن بكير". فهذا ترغيب من غير تحديد بعدد ولا إلزام بفعل ولهذا قال أبو هريرة في سنن البيهقي: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرغبهم في قيام رمضان من غير أن يأمرهم فيها بعزيمة فيقول : "من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه".
ب- ثم جاء التنصيص على أن قيامه سنة مفروضة بفرضية صيامه كما في حديث عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه ذكر شهر رمضان فقال: "إن رمضان شهر افترض الله صيامه وإني سننت للمسلمين قيامه فمن صامه وقامه إيمانا واحتسابا خرج من الذنوب كيوم ولدته أمه". ففي هذا النص تدرج من مطلق الطلب إلى أنه سنة وزاد في قوتها اقتران سنية قيامه بفرضية صيامه كما تفيده دلالة الاقتران المعروفة في الأصول .
نتيجة هذا الترغيب:
كانت نتيجة هذا الترغيب أن بادر الناس إلى قيامه أفرادا وجماعات يأتمون بمن معهم شيء من القرآن لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: "كان الناس يصلون في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان بالليل أوزاعا يكون مع الرجل شيء من القرآن فيكون معه النفر الخمسة أو الستة أو أقل من ذلك أو أكثر يصلون بصلاته"، قالت:(4/3)
ص -60- فأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة من ذاك أن أنصب له حصيرا على باب حجرتي ففعلت فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن صلى العشاء الآخرة فاجتمع إليه من في المسجد فصلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلا طويلا، ثم انصرف فدخل وتركت الحصير على حاله، فلما أصبح النهار تحدثوا بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن كان بالمسجد تلك الليلة، فأمسى المسجد زاخا بالناس فصلى بهم صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء الآخرة ثم دخل بيته، وثبت الناس فقال لي: "ما شأن الناس" فقلت له: "سمع الناس بصلاتك البارحة بمن كان في المسجد فحشدوا لذلك لتصلي بهم". قال: "اطو عنا حصيرك يا عائشة". ففعلت، فبات رسول الله صلى الله عليه وسلم غير غافل وثبت الناس مكانهم حتى خرج إليهم إلى الصبح فقال: "أيها الناس أما والله ما بت والحمد لله ليلتي غافلا ما خفي عليَّ مكانكم ولكني تخوفت أن يفرض عليكم اكفلوا من العمل ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا". رواه المروزي بهذا اللفظ ورواه البيهقي وذكر الليالي ثلاثا أو أربعا. وفي مجمع الزوائد عن جابر قال: "صلى بنا رسولا لله صلى الله عليه وسلم في رمضان ثمان ركعات وأوتر فلما كان القابلة اجتمعنا في المسجد ورجونا أن يخرج إلينا فلم نزل فيه حتى أصبحنا ثم دخلنا .." الحديث. وأصل الحديث في البخاري ومسلم. وفيه وفي السنن للبيهقي أن رسول الله عليه الصلاة والسلام صلى في رمضان عشرين ركعة ولكنه ضعيف بأبي شيبة.
ففي هذا الحديث على رواية المروزي قيام الناس مع من معه شيء من القرآن فهو تدرج من الترغيب إلى الاستناد المقرون بفرضية الصيام، إلى القيام بالفعل في المسجد مع من معه شيء من القرآن ثم خطوة أخرى وهي القيام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بصلاته وإن كان لم يشعر بهم على الصحيح كما في سؤاله عائشة: "ما شأن الناس" وقوله: "اطو عنا حصيرك".
وأصرح من هذا حديث أنس عند المروزي: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في رمضان فجئت فقمت إلى جنبه ثم جاء آخر ثم جاء آخر حتى كنا رهطا، فلما أحس رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا خلفه تجوز في صلاته، ثم دخل منزله، فلما دخل منزله صلى صلاة لم يصلها عندنا فلما أصبحنا قلنا يا رسول الله:أو(4/4)
ص -61- فطنت لنا البارحة"، فقال: "نعم، وذلك الذي حملني على ما صنعت". ففي هذا الحديث ما يفيد أنه صلى الله عليه وسلم لم يشعر بهم في أول صلاته لقول أنس: "فلما أحس رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا خلفه"، كما أن فيه ما يشعر أنه صلى الله عليه وسلم بدأ صلاته تلك في المسجد بدليل قوله: "تجوز في الصلاة ثم دخل منزله". وكما يشعر بأنه صلى الله عليه وسلم علم بصلاتهم خلفه ولم ينكر عليهم، وأصرح من ذلك دلالة على صلاته صلى الله عليه وسلم في المسجد حديث عائشة عند البيهقي عن عروة بن الزبير رضي الله عنه عن عائشة رضي الله عنها أخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ليلة من جوف الليل يصلي في المسجد فصلى رجال يصلون بصلاته، فأصبح الناس يتحدثون بذلك. وساقت قصة صلاته اليالي إلى الليلة الرابعة. قالت: "عجز المسجد عن أهله فلم يخرج إليهم". ففيه دلالة صريحة أنه صلى الله عليه وسلم خرج إلى الصلاة في المسجد، وفيه دلالة على امتلاء المسجد بالمصلين.
وهده خطوة أخرى وهي امتلاء المسجد بعد أن كانوا أوزاعا فقد عجز المسجد عن أهله ولكنه صلى الله عليه وسلم لم يخرج إليهم خشية أن تفرض عليهم.
إذن فقد كان من الممكن أن يخرج إليهم لولا تلك العلة التي هي خشية أن تفرض عليهم. وكأن الصلاة بهم والاجتماع إليها أمر جائز لولا الشفقة عليهم وخشية تكليفهم بها ثم يعجزون ولقد أقر صلاة غيره بجماعة من الناس سواء في البيوت أو في المسجد.
أما في البيوت فلحديث أبي بن كعب عند المروزي قال عن جابر رضي الله عنه جاء أبي بن كعب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان فقال: "يا رسول الله كان معي الليلة شيء". قال: "وما ذاك؟" قال: "نسوة داري قلن إنا لا نقرأ القرآن فنصلي خلفك بصلاتك فصليت بهن ثمان ركعات فسكت عنه، وكان شبه الرضاء".
وأما في المسجد فحديث أبي هريرة عند المروزي أيضا قال: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا أناس في رمضان يصلون في ناحية المسجد" فقال: "ما هؤلاء؟" قيل: "هؤلاء أناس ليس معهم قرآن، وأبي بن كعب يصلي بهم فهم يصلون بصلاته". فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أصابوا" أو "نعم ما صنعوا".(4/5)
ص -62- ثم كانت المرحلة قبل الأخيرة وهي ما جاء في حديث أنس. وحديث أنس عند المروزي "كان النبي صلى الله عليه يجمع أهله ليلة إحدى وعشرين، ويصلي بهم إلى ثلث الليل، ثم يجمعهم ليلة اثنين وعشرين فيصلي بهم إلى(4/6)
ص -63- نصف الليل، ثم يجمعهم ليلة الثالث والعشرين فيصلي بهم إلى ثلثي الليل. ثم يأمرهم ليلة الرابع والعشرين أن يغتسلوا ويصلي بهم حتى يصبح ثم لا يجمعهم". فهذا الحديث نص في أنه صلى الله عليه وسلم قام بأهل بيته ثلاث ليال مددا متفاوتة. ويتدرج الأولى إلى الثلث الليل والثانية إلى نصفه والثالثة إلى ثلثيه.
وليس ببعيد أن يوحي هذا العمل بين الرغبة في الخير وبين الخوف من أن تفرض، لما يفهم من أنه كان في العشر الأواخر وهي محل الرغبة أكثر وكذلك التدرج في إطالة المدة استجابة لتلك الرغبة. كما يفهم من عدم المواصلة إلى آخر الشهر خشية أن يفرض.
ثم جاءت المرحلة الأخيرة في التدرج من حديث أبي ذر قال في المنتقى: "رواه الخمسة وصححه الترمذي" ورواه أيضا البيهقي ونصه في السنن: "صمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم رمضان فلم يقم بنا من الشهر شيئا حتى كانت ليلة ثلاث وعشرين قام بنا حتى ذهب نحو ثلث الليل ثم لم يقم بنا من الليلة الرابعة وقام بنا من الليلة الخامسة حتى ذهب نحو من نصف الليل، فقلنا: "يا رسول الله لو نفلتنا بقية الليل". فقال: "إن الإنسان إذا قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له بقية ليلته"، ثم لم يقم بنا ليلة السادسة وقام السابعة وبعث إلى أهله، واجتمع الناس حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح" .
قال البيهقي: "ورواه مهيب عن داود قال: "ليلة الرابع وعشرين والسابع مما يبقي، وقال ليلة ست وعشرين الخامس مما يبقي وليلة ثمان وعشرين الثالث مما يبقى".
ففي هذا الحديث وصول بصلاة التراوح إلى حد التجمع والتقرير عليه من رسول الله صلى الله عليه وسلم بدليل قولهم له: "لو نفلتتا بقية الليلة". وفي هذا دلائل على أمرين:
أ- الأول: أنه صلى الله عليه وسلم علم بهم وأقرهم على تجمعهم في المسجد كما أنه في السابعة وعشرين بعث إلى أهله ويشهد لهذا الجزء ما في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم إذا كان العشر الأواخر شد المئزر وطوى فراشه وأيقظ أهله.
ب- الأمر الثاني: أنه وإن لم يحدد صلى الله عليه وسلم عددا من الركعات إلا أنه أقرهم على طلبهم الزيادة عما كان وإلى بقية ليلتهم. فلم ينكر عليهم طلب الزيادة ولكنه أرشدهم إلى ما يعوض عنها وهو(4/7)
ص -64- قيامهم مع الإمام حتى ينصرف. وهذا مثل قصة (زينب) لما مر عليها صلى الله عليه وسلم وهي تسبح على حصى أو نوى حتى رجع فوجدها على تلك الحالة فقال لها: "لقد قلت كلمات تعدل كل ما قلت سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه". فلم ينكر عملها وأرشدها إلى ما هو خير منه وهكذا هنا لم ينكر طلبهم الزيادة وأرشدهم إلى ما هو خير منه بل إلى ما يساويه فحسب.
وعليه فهنا صلاة في جماعة بإمام ومأمومين في المسجد وهذا غاية الإثبات لصلاة التراوح في المسجد جماعة وبإمامته صلى الله عليه وسلم.
ثم جاءت الليلة السابعة والعشرون فكانت عامة شاملة شملت أهله صلى الله عليه وسلم مع عامة الناس.
عدد الركعات في ذلك العصر:
1- جاء عن جابر أربع ركعات
2- جاء في بعض النصوص أنه صلى الله عليه وسلم صلى ثمان ركعات.
3- وجاء في نص ضعيف عشرين ركعة.
4- وجاء الإطلاق بدون تحديد مع التقرير على طلب الزيادة إلى بقية ليلتهم.
5- وجاء التدرج من ثلث الليل ثم نصف الليل ثم ثلثي الليل. وهل كان ذلك بزيادة في عدد الركعات أم بإطالة في القراءة مع عدم الزيادة في عدد الركعات طيلة الليالي الثلاث وإلى أي حد كانت إطالة القراءة والقيام.
كيفية صلاتها:
جاء عن حذيفة رضي الله عنه أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة في رمضان فركع فقال في ركوعه: "سبحان ربي العظيم مثل ما كان قائما، ثم سجد فقال في سجوده: سبحان ربي الأعلى مثل ما كان قائما، ثم جلس يقول: ربي اغفر لي, ربي اغفر لي مثل ما كان قائما، ثم سجد فقال: سبحان ربي الأعلى مثل ما كان قائما، فما صلى إلا أربع ركعات حتى جاء بلال إلى الغداة". فهذا نص في بيان تطويل الصلاة في أربع ركعات في رمضان خاصة.
أما عموم قيام الليل: فقد عقد البخاري بابا بعنوان : كيف صلاة النبي صلى الله عليه وسلم وكم كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل وساق حديث عبد الله بن عمر أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم "يا رسول الله كيف صلاة الليل؟" قال: "مثنى مثنى فإذا خفت الصبح فأوتر بواحدة".(4/8)
ص -78- ( تتمة التراويح)
فهذا نص لا حد فيه وأنه يصلي مثنى مثنى إلى أن يخشى الصبح.
وساقه البخاري أيضا عن ابن عباس رضي الله عنه كانت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث عشر ركعة يعني بالليل.
وحديث مسروق عن عائشة أنه سألها عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل فقالت: "سبع وتسع وإحدى عشرة سوى ركعتين الفجر".
ثم بوب البخاري أيضا باب قيام النبي صلى الله عليه وسلم بالليل في رمضان وغيره.
وساق بسنده إلى عائشة رضي الله عنها: "ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشر ركعة يصلي أربعا فلا تسل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي أربعا فلا تسل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي ثلاثا"، قالت عائشة: فقلت: "يا رسول الله أتنام قبل أن توتر؟" فقال: "يا عائشة إن عيني تنامان ولا ينام قلبي".
ولئن كانت عائشة وصفت صلاته صلى الله عليه وسلم بالطول والحسن وحددتها بإحدى عشرة ركعة فقد جاء حديث حذيفة عند مسلم "أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة فقرأ البقرة وآل عمران والنساء في ركعة، وكان إذا مرّ بآية فيها تسبيح سبّح، أو سؤال سأل، أو تعوذ تعوذ، ثم ركع نحوا مما قام ثم قام نحوا مما ركع ثم سجد نحوا مما قام". قال ابن حجر بعد أن أورد هذا الحديث: "وهذا إنما يتأتى في نحو ساعتين، فلعله أحيا تلك الليلة كلها".
فهذا مما يدل على طول القيام إلى حد أن تستغرق الركعة الواحدة ساعتين.
وقد جاء عند البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فلم يزل قائما حنى هممت بأمر سوء" قلنا: "وما هممت؟" قال: "هممت أن أقعد وأذر النبي صلى الله عليه وسلم". فتحصل لنا من هذا كله أن صلاة التراويح كانت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأنها مشروعة عنه صلى الله عليه وسلم ابتداء وأنها أخذت تتطور على عدة مراحل فكانت كالآتي:
تطورها في العصر النبوي:
1- أولا: بدأت بالترغيب فيها دون أن يعزم عليهم.
2- ثانيا: انتقلت إلى السنة والندب مقرونة بفرضية الصيام.
3- ثالثا: أديت بالفعل أداها أوزاع من الناس.(4/9)
ص -79- 4- رابعا: تسلل الناس إلى مصلاه صلى الله عليه وسلم فأتموا به صلى الله عليه وسلم وهو لا يشعر بهم وهو لا يقر على باطل.
5- خامسا: تقريره صلوات الله وسلامه عليه لمن يصلى بالناس سواء في المسجد أو في البيت.
6- سادسا: صلاته هو صلى الله عليه وسلم بالفعل بأهل بيته.
7- سابعا: صلاته هو صلى الله عليه وسلم بالفعل بأهل بيته وبالناس عدة ليال متفرقة.
أما العدد أي عدد الركعات:
أ- فقد صلى أربع ركعات استغرقت الليل كله.
ب- وصلى ثمان ركعات.
جـ- وصلى إحدى عشر ركعة لا تسل عن حسنهن وطولهن.
د- وصلى ثلاث عشرة ركعة.
وهذا ما يقتصر عليه بعض المتأخرين ولكن:
1- جاء الإطلاق بدون حد من قام رمضان إيمانا واحتسابا.
2- جاء تقريره على طلب الزيادة لو نفلتنا بقية ليلتنا؟
3- وهناك مبحث لم يتطرق إليه أحد فيما أعلم وهو:
أن عائشة رضي الله عتها قالت: "ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء قط ودخل بيتي إلا وصلى أربعا أو ستا". وجاء عنها أنه كان يفتتح صلاة الليل بركعتين خفيفتين.
فلو جمعنا حديث ابن عباس (13) ركعة مع حديث عائشة (6) ركعات بعد العشاء مع (2) ركعتين يفتتح بهما صلاة الليل لكان مجموع ذلك كله (13 + 6 = 19 +2= 21) إحدى وعشرون ركعة. وهو العدد الذي جمع عمر رضي الله عنه الناس عليه مع أُبَي ابن كعب ويكون هذا العدد مستندا إلى سنة لا مجرد اختيار عمر رضي الله عته والله أعلم.
وبعد هذا فلا يحق لأحد أن يمنع الزيادة على ثمان ركعات وقوفا عند حديث مسروق عن عائشة رضي الله عنها أو يعيب فعل عمر متهما إياه بمخالفة السنة حاشاه رضي الله عنه.
عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه:
كان عهد الصديق رضي الله عنه غير طويل، وكان الناس حدثاء عهد بعهد النبوة فلم تتكون عوامل تغيير تذكر بالنسبة للتراويح. ولهذا لم يذكر أحد أن التراويح في عهد الصديق رضي الله عنه طرأ عليها جديد مستدلين بحديث أبي هريرة رضي الله عنه: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُرَغب في قيام(4/10)
ص -80- رمضان من غير أن يأمرهم فيه بعزيمة فيقول: "من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه"، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك وكان الأمر على ذلك". قال البيهقي: "زاد أحمد بن منصور الرمادي في روايته في خلافة أبي بكر وصدر من خلافة عمر رواه مسلم في الصحيح. ورواه مالك بسنده إلى ابن شهاب وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك في صدر خلافة أبي بكر وصدر من خلافة عمر رضي الله عنهما".
ولكن حديث عائشة عند البيهقي قالت: "كنا نأخذ الصبيان من الكُتَّاب ليقوموا بنا في شهر رمضان فنعمل لهم (القلية) و(الخشكنانج)" وعند المروزي: "فنعمل لهم (القلية) و(الخشكار) وهو خبز سمراء".
فهو نص على إقامة التراويح بإمامة الصبيان. وقطعا لم يكن ذلك في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فهل كان في عهد الصديق فيكون تطويرا جديدا أم في عهد عمر؟ والذي يظهر أنه كان في عهد الصديق رضي الله عنه لأنه كان في عهد عمر كما سيأتي ترتيب أئمة للرجال وإمام للنساء وعلى كل ففيه تطوير جديد، فإن كان في عهد الصديق فهو جديد عما كان من قبل وهو الراجح وإن كان في عهد عمر فيغلب على الظن أن ذلك كان في البيوت لأنهن لن يأخذن الصبيان من الكتاب وعمر جاعل إمام لهن، ولا سيما عائشة رضي الله عنها فأحرى بها رضي الله عنها أن تصلي في بيتها وقد يجتمع لها من النساء.
القراءة زمن الصديق:
و قد ظلت القراءة طويلة في زمن الصديق رضي الله عنه لما في حديث عبد الله ولد الصديق، فعن مالك عن عبد الله بن أبي بكر سمعت أبي يقول: "كنا ننصرف في رمضان من القيام فنستعجل الخدم بالطعام مخافة الفجر".
وقد طرأ في هذا العصر أيضا نوع مقارنة بين القراء. فكان الناس يميلون إلى من كان حسن الصوت بالقراءة كما سيأتي إيضاحه إن شاء الله في عهد عمر رضي الله عنه.
في عهد عمر رضي الله عنه:
جاء عهد عمر رضي الله عنه والحال كما كان عليه من قبل يصلون أوزاعا فُرادى وجماعات في البيوت وفي المسجد يصور ذلك أكمل تصوير أثران هما: أثر إياس الهذلي، وأثر عبد الرحمن بن عبد.
أ - الأثر الأول: عن نوفل قال(4/11)
ص -81- إياس الهذلي: كان الناس يقومون في رمضان في المسجد وكانوا إذا سمعوا قارئا حسن القراءة مالوا إليه. فقال عمر رضي الله تعالى عنه: "قد اتخذوا القرآن أغاني والله لئن استطعت لأغيرن هذا"، فلم تمر ثلاث حتى جمع الناس على أبي ابن كعب. وقال عمر: "إن كانت هذه بدعة فنعمت البدعة". رواه المروزي.
ب - الأثر الثاني: وهو أثر عبد الرحمن بن عبيد - بالتنوين - (القارّي) خرجت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه في رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاعا متفرقون يصلي الرجل لنفسه ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط فقال عمر: "إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل" ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم: "نعمت البدعة هذه والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون" يعني آخر الليل وكان الناس يقومون أوله. رواه البخاري.
التطور الجديد:
نجد في الأثرين السابقين تطويرا جديدا على يد عمر رضي الله عنه وهو جمع الأوزاع والأشتات على قارئ واحد. وهذا التطور وإن تعددت أسبابه فقد جمع عدة مصالح.
فالأثر الأول يشير إلى أن السبب له صلة بحسن القراءة وفي هذا مجال فسيح لمنافسة القراء وتسابق المصلين، وهو أمر لو طال به المدى لابتعدت الشقة بسببه بين المصلين، فوحد القارئ لتتوحد القراءة. وقد يؤخذ منها درء المفسدة على جلب المصلحة؛ لأن تتبع المصلين لمن هو أحسن صوتا مجال لتحسين الصوت بالقراءة وهو أمر مرغوب فيه غير أنه قد يكون مدعاة إلى التغالي حتى يصل إلى التغني كما أشار عمر رضي الله عنه من قبل فجمعهم على قارئ واحد سدا للذريعة ودرءا للمفسدة.
والأثر الثاني يشير إلى وجود جماعات وأفراد لا تربطهم عوامل موحدة، ولو طال بهم المدى أيضا لافتقدوا عامل الائتلاف والاتحاد وضاعت ثمرة الجماعة فوحد الإمام ليجتمع المأموم وكانت نعمة البدعة في كلا الأمرين. وإلى هنا تم توحيد المصلين للتراويح على إمام واحد وهو أبي بن كعب.
تعدد الأئمة:
و قد جاء عنه رضي الله عنه أنه جعل إمامين للرجال وهما أبي بن كعب وتميم الداري، وكانا يقومان في الليلة الوحدة يتناوبان. يبتدئ الثاني حيث ينتهي الأول كما جاء في رواية السائب(4/12)
ص -82- بن يزيد قال: أمر عمر بن الخطاب أبي بن كعب وتميم الداري رضي الله عنهما أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة، وذلك مع المحافظة على طول القراءة كما في الرواية الأخرى له: كنا نصلي زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في رمضان ثلاث عشرة ركعة، ولكن والله ما كنا نخرج إلا وجاه الصبح كان القارئ يقرأ في كل ركعة بخمسين، آية ستين آية. وكما في رواية السائب أيضا أنهم كانوا يقرؤون بالمئين من القرآن وأنهم كانوا يعتمدون على العصا في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
فالذي تحدد في هذين الأثرين هو:
أ – تعدد الأئمة بعد إمام واحد. وهو أُبَي، وسواء كان ذلك رفقا بالإمام الأول فجعل معه آخر يساعده، أو كان ترويحا للمأمومين وتنشيطا للمصلين ولا سيما وقد كانوا حدثاء عهد بتعدد الأئمة حينما كانوا يصلون أوزاعا.
وقد مضى عمر رضي الله عنه إلى أبعد من هذا فجعل إماما للنساء، وانتخب أكثر من إمام للتراويح، أما إمام النساء فهو سليمان بن أبي حتمة. فكما جاء عند المروزي قال: وعن هشام بن عروة عن أبيه: جعل عمر بن الخطاب للناس قارئين فكان أبي بن كعب يصلي بالرجال وكان بن أبي حتمة يصلي بالنساء. فهذا الأثر يفيد أن إمامة سليمان ابن أبي حتمة بالنساء كانت أثناء إمامة أبي للرجال، أي أنهما كانا يصليان في وقت. هذا لهؤلاء وهذا لؤلائي.
و قد كان ذلك أقصى ما وصلت إليه التراويح من حيث النشاط والصبر وطول القيام وكثرة القراءة.
ثم أخذت قي التدرج إلى الأسهل فتعددت الأئمة وخففت القراءة وكثرت الركعات.
أما تعدد الأئمة أكثر من ذلك فهو كما في رواية عاصم عن أبي عثمان رحمه الله أن عمر رضي الله عنه جمع القرآن في رمضان فأمر أخفهم قراءة أن يقرأ ثلاثين آية وأوسطهم خمسا وعشرين وأثقلهم قراءة عشرين.
فنرى هنا تعدد الأئمة وهو أكثر ترويحا وتخفيفا على نفس الإمام وعلى المأمومين، ثم نرى أيضا تخفيف القراءة فأقصاها ثلاثون بعد أن كانت تصل إلى الستين والمئين. بل نجد أثرا آخر وهو أن عمر رضي الله عنه أمر أبيا فأمهم في رمضان فكانوا ينامون ربع الليل ويقومون ربعه وينصرفون بربع لسحورهم وحوائجهم. وكان يقرأ بهم خمس آيات ست آيات في كل ركعة ويصلي بهم ثمان عشر ركعة شفعا(4/13)
ص -83- يسلم في كل ركعتين، ويروحهم قدر ما يتوضأ المتوضئ ويقضي حاجته، بهذا يتضح إلى أي مدى حدث تغيير وتجفيف في الكيفية والقراءة.
أما عدد الركعات فكالآتي:
1- فتقدم أن أول ما أمر عمر أُبَيًّا أن يقوم بالناس أنه أمره بثمان ركعات. وكان يقرأ فيها بالمئين، وكانوا لا ينصرفون إلا ي وجه الفجر.
2- وتقدم أن عمر أمر أُبَيًّا وتَمِيماً أن يقوما للناس ثلاث عشرة ركعة. وهذا بالنسبة إلى ما جاء من ثمان ركعات يكون معها ثلاث وترا. وقد جاءت رواية محمد بن سرين أن معاذا أبا حليمة القاري كان يصلي بالناس إحدى وأربعون ركعة. ومعاذ أبو حليمة هذا, قال في التقريب: "هو معاذ بن الحارث الأنصاري البخاري القاري أحد من أقامه عمر بمصلى التراويح. وقيل هو آخر يكنى أبا الحارث صحابي صغير استشهد بالحرة ..." اهـ.
و الحرة كانت سنة 63 يؤيد هذا العدد ويفصله رواية أبي زيد عن صالح مولى التوأمة قال: "أدركت الناس قبل الحرة يقومون بإحدى وأربعين ركعة يوترون فيها بخمسة، فكانت الترويح إحدى وأربعون ينقصها أي ستة وثلاثون ركعة.
وصالح هذا قال في التقريب: "هو صالح بن نبهان المدني مولى التوأمة بفتح المشناة وسكون الواو وبعدها همزة مفتوحة, صدوق اختلط في أخر أمره".
قال بن عدي: "لا بأس برواية القدماء عنه كابن أبي زيد وابن جرير، من الرابعة مات سنة 125. والرواية هنا عنه من رواية الأقدمين. وهو ابن أبي ذئب كما مثل ابن عدي لما لا بأس به عنه. فهو هنا يقول: أدركت الناس قبل الحرة يقومون بإحدى وأربعون ركعة ويوترون منها بخمسة. وهذا موافق لما قاله محمد بن سرين أن معاذا بن حليمة القاري كان يصلي بالناس إحدى وأربعين ركعة أي ستا وثلاثين قياما وخمسة وترا.
أ - فتكون التراويح زمن عمر رضي الله عنه بدأت بثلاث عشرة ركعة أي بما فيها الوتر.
ب - ثم إلى ثلاث وعشرين بما فيها الوتر ثلاث.
ج - ثم بست وثلاثين ومعها خمس ركعات وترا. والمجموع إحدى وأربعين ركعة إلا أننا نلاحظ أن كثرة الركعات معها تخفيف القراءة لأنه:
أولا: ثمان ركعات، أو ثمان عشرة ركعة، يقرؤون بالمئين. وكانوا(4/14)
ص -84- لا ينصرفون إلا على وجه الفجر. وعليه قلنا تكون القراءة لست وثلاثين ركعة كالقراءة لثمان أو لست عشرة ركعة.
بل وجدنا عمليا أن عمر رضي الله عنه جمع القراء فأمر من كان أخف قراءة أن يقرأ بثلاثين بينما كانت القراءة بخمسين بستين كما تقدم.
وعليه لا يكون تعارض بين الروايات الواردة وعدد الركعات للتراويح زمن عمر رضي الله عنه. كما قال الباجي رحمه الله في شرح الموطأ ج1ص208 ما ملخصه: قد اختلفت الروايات فيما كان يصلى به في رمضان في زمان عمر رضي الله عنه. فروى السائب بن يزيد إحدى عشرة ركعة، وروى يزيد بن رومان ثلاثا وعشرين ركعة، وروى نافع مولى ابن عمر أنه أدرك الناس يصلون بتسع وثلاثين ركعة يوترون فيها بثلاث.
فيحتمل أن يكون عمر رضي الله عنه بدأ بثمان على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أفاده حديث عائشة رضي الله عنها المتقدم: "ما زاد رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان ولا في غيره على ثمان ركعات". وأمرهم مع ذلك بطول القراءة يقرأ القارئ بالمئين في الركعة فلما ضعف الناس عن ذلك أمرهم بثلاث وعشرين ركعة على وجه التخفيف عنهم من طول القيام، واستدرك بعض الفضيلة بزيادة الركعات وكان يقرأ البقرة في ثمان ركعات أو اثني عشرة ركعة، وقد قيل: إنه كان يقرأ من ثلاثين آية إلى عشرين آية. وكان الأمر على ذلك إلى يوم الحرة، فثقل عليهم القيام فنقصوا في القراءة وزادوا في عدد الركعات فجاءت ستة وثلاثين ركعة والوتر بثلاث فمضى الأمر على ذلك ولعل التخفيف إلى ستة وثلاثين وقع قبل الحرة كما جاء في رواية محمد بن سرين أن معاذ أبا حليمة كان يقوم بهم إحدى وأربعين ركعة. وهو ما مات إلا في وقعة الحرة.
والذي يهمنا ما ظهر من التدرج في التراويح في زمن عمر رضي الله عنه بالتخفيف من القراءة وزيادة عدد الركعات فكانت قلة الركعات معها كثرة القراءة وكثرة القراءة معها قلة الركعات.
مناقشة "نعمة البدعة":
وقبل أن ننتقل من عهد عمر إلى عهد عثمان رضي الله عنهما يحسن إيراد الجواب على قول عمر رضي الله عنه: "نعمت البدعة" لجمعه الناس على قارئ واحد وصلاتهم إياها في جماعة. فما مراده بقوله هذا وما الجمع بين قوله: "نعمت" وبين كونها بدعة؟
وخير ما نسوق في ذلك هو كلام شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله في(4/15)
ص -85- كتابه (اقتضاء صراط المستقيم ) ص 275 ما نصه قال: "فأما صلاة التراويح فليست بدعة في الشريعة، بل هي سنة بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعله، فإنه قال: "إن الله فرض عليكم صيام رمضان وسننت لكم قيامه". ولا صلاتها جماعة بدعة بل هي سنة في الشريعة بل قد صلها رسول الله صلى الله عليه وسلم في جماعة في أول شهر رمضان ليلتين، بل ثلاثا. وصلاها كذلك في العشر الأواخر في جماعة مرات. وقال: "إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة". لما قام بهم حتى خشوا أن يفوتهم الفلاح. رواه أهل السنن.
و بهذا الحديث احتج أحمد وغيره على أن فعلها في الجماعة أفضل من فعلها على حال الانفراد. وفي قوله هذا ترغيب في قيام شهر رمضان خلف الإمام وذلك أوكد من أن يكون سنة مطلقة.
وكان الناس يصلون جماعة في المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقرهم وإقراره سنة منه صلى الله عليه وسلم وأما قول عمر رضي الله عنه: "نعمت البدعة هذه" فأكثر المحتجين بهذا لو أردنا أن نثبت حكما بقول عمر الذي لم يخالف فيه لقالوا: "الصاحب ليس بحجة".
فكيف يكون حجة لهم في خلاف قول الرسول صلى الله عليه وسلم ؟ ومن اعتقد أن قول الصاحب حجة فلا يعتقده إذا خالف الحديث.
فعلى التقديرين لا تصلح معارضة الحديث بقول الصاحب. نعم يجوز تخصيص عموم الحديث بقول الصاحب الذي لم يخالف على إحدى الروايتين فيفيدهم هذا (حسن تلك البدعة) أما غيرها فلا.
ثم نقول أكثر ما في هذا تسمية عمر تلك بدعة مع حسنها، وهذه تسمية لغوية لا تسمية شرعية، وذلك أن البدعة في اللغة تعم كل ما فعل ابتداء من غير مثال سابق وأما البدعة الشرعية فكل ما لم يدل عليه دليل شرعي.
فإذا كان نص رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دل على استحباب فعل أو إيجابه بعد موته أو دل عليه مطلقا ولم يعمل به إلا بعد موته ككتاب الصدقة الذي أخرجه أبو بكر الصديق رضي الله عنه فإذا عمل أحد ذلك العمل بعد موته صح أن يسمى ((بدعة)) في اللغة لأنه عمل مبتدأ كما أن نفس(4/16)
ص -86- الدين الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم يسمى بدعة ويسمى محدثا في اللغة. كما قالت رسل قريش للنجاشي عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم المهاجرون إلى الحبشة "وإن هؤلاء خرجوا من دين آبائهم ولم يدخلوا في دين الملك وجاءوا بدين محدث لا يعرف".
ثم ذلك العمل الذي يدل عليه الكتاب والسنة ليس بدعة في الشريعة وإن سمي بدعة في اللغة أعم من لفظ البدعة في الشريعة، وإن سمي بدعة في اللغة. فلفظ "البدعة" في اللغة أعم من لفظ "البدعة" في الشريعة.
وقد علم أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: "كل بدعة ضلالة" لم يُرِد به كل عمل مبتدأ، فإن دين الإسلام بل كل دين جاءت به الرسل فهو عمل مبتدأ. وإنما أراد ما ابتدئ من الأعمال التي لم يشرعها هو صلى الله عليه وسلم. وإذا كان كذلك فالنبي صلى الله عليه وسلم قد كانوا يصلون قيام رمضان على عهده جماعة وفرادى. وقد قال لهم في الليلة الثالثة أو الرابعة لما اجتمعوا: "إنه لم يمنعني أن أخرج إليكم إلا كراهة أن يفرض عليكم فصلوا في بيوتكم فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة".
فعلل النبي صلى الله عليه وسلم عدم الخروج بخشية الافتراض، وخوف الافتراض قد زال بموته صلى الله عليه وسلم فانتفى المعارض".
وساق بعد ذلك أدلة أخرى كجمع القرآن ونفى عمر ليهود خيبر، وقتال أبي بكر لمانعي الزكاة. ثم قال مبينا ضابط البدعة الحسنة من السيئة بما نصه: "والضابط في هذا والله أعلم أن يقال: إن الناس لا يحدثون شيئا إلا لأنهم يرونه مصلحة، إذ لو اعتقدوه مفسدة لم يحدثوه. فإنه لا يدعو إليه عقل ولا دين فما رآه المسلمون مصلحة نظر في السبب المحوج إليه، فإن كان السبب المحوج إليه أمرا حدث بعد النبي صلى الله عليه وسلم فهنا قد يجوز إحداث ما تدعوا إليه الحاجة إليه - قال رحمه الله عبارة مفادها أن ترك النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الأمر من غير تفريط -.
وكذلك إن كان المقتضى لفعله قائما على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن تركه النبي صلى الله عليه وسلم لمعارض وقد زال بموته" .أهـ
هذا هو كلام شيخ الإسلام بن تيمية بنصه في بيان كلمة عمر رضي الله عنه "نعمت البدعة". وأعتقد أنه واضح في الرد على من يحتج بها على أن صلاة التراويح جماعة بدعة أو أن العدد الذي ورد عن عمر فيها 21 ركعة بدعة.
غير أن البحث في إثبات ذلك العدد عنه أو عدم إثباته ويكفي في ذلك روايات مالك في الموطأ والله تعالى أعلم.
عنوان الكتاب:
التراويح أكثر من ألف عام في المسجد النبوي ( السنة الثانية - العدد الثاني )
تأليف:
عطية محمد سالم
الناشر:
الجامعة الاسلامية بالمدينة المنورة
السنة الثانية - العدد الثاني - شوال 1389 هـ/1969م(4/17)
ص -33- التراويح أكثر من ألف عام في المسجد النبوي
بقلم الشيخ عطية محمد سالم القاضي بالمحكمة الكبرى بالمدينة
الحلقة الثانية:
عهد عثمان وعلي رضي الله عنهما:
أما في عهد عثمان رضي الله عنه فإن عليا بنفسه كان يؤم الناس في التراويح أكثر ليالي الشهر، كما في سنن البيهقي رحمه الله عن قتادة عن الحسن قال: "أمّنا علي بن أبي طالب في زمن عثمان بن عفان رضي الله عنه عشرين ليلة، ثم احتبس، فقال بعضهم: قد تفرغ لنفسه، ثم أمهم أبو حليمة معاذ القارئ، فكان يقنت".
ففي هذا العهد تولى علي رضي الله عنه بنفسه إمامة الناس عشرين ليلة، وفيه أيضا كان القنوت في العشر الأواخر.
أما مسألة القنوت فكان كذلك "أبيّ" يقنت في النصف الأخير من رمضان رواه البيهقي.
ولم نجد جديدا في عدد الركعات، وأغلب الظن أنها كانت على ما كانت عليه زمن عمر رضي الله عنه ، لما سيأتي من عدد ركعاتها في عهد علي رضي الله عنه .
الدعاء في ختم القرآن:
غير أننا وجدنا هنا في عهد عثمان(4/18)
ص -34- رضي الله عنه عملا يكاد يكون جديدا في التراويح وهو الدعاء بختم القرآن في نهاية الختمة، وذلك لما ذكره ابن قدامة رحمه الله في المغني ج2 ص171 قال: "فصل في ختم القرآن، قال الفضل بن زياد سألت أبا عبد الله فقلت: أختم القرآن، أجعله في الوتر أو في التراويح؟، قال: اجعله في التراويح حتى يكون لنا دعاء بين اثنين، قلت: كيف أصنع؟ قال: إذا فرغت من آخر القرآن فارفع يديك قبل أن تركع وادع بنا ونحن في الصلاة وأطل القيام، قلت بما أدعو؟ قال: بما شئت، قال: ففعلت بما أمرني، وهو خلفي يدعو قائما ويرفع يديه".
قال حنبل: "سمعت أحمد يقول: في ختم القرآن إذا فرغت من قراءة {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} فارفع يديك في الدعاء قبل الركوع، قلت إلى أي شيء تذهب في هذا؟ قال: رأيت أهل مكة يفعلونه، وكان سفيان بن عيينة يفعله معهم بمكة"، قال العباس بن عبد العظيم: "وكذلك أدركنا الناس بالبصرة وبمكة، ويروي أهل المدينة في هذا شيئا وذكر عن عثمان بن عفان".
فقوله رأيت أهل مكة يفعلونه وفعل سفيان بن عيينة معهم، ثم قول العباس بن عبد العظيم أدركنا الناس بالبصرة وبمكة وبروي أهل المدينة في هذا شيئا وذكر عن عثمان بن عفان يدل أنّه كان عملا عاما في تلك الأمصار مكة والبصرة والمدينة، ويشير إلى أنّه لم يكن قبل زمن عثمان.
كما يدل على أنّه من عمل عثمان رضي الله عنه إن صحت عبارته، ويروي أهل المدينة في هذا شيئا…الخ.
وعلى كل فقد فعله أحمد رحمه الله مستدلا بفعل أهل الثلاثة المذكورة ومستأنسا بما يروي أهل المدينة في هذا عن عثمان رضي الله عنه ، مما يدل على أنّه كان موجودا بالمدينة عمل دعاء الختم الذي يعمل اليوم في التراويح مع طول القيام، وسيأتي نصه في سياق مذهب أحمد رحمه الله تعالى إن شاء الله.
العباس بن عبد العظيم:
أما العباس بن عبد العظيم الذي أسند إليه القول سابقا: أدركنا الناس بالبصرة ومكة ويوي أهل المدينة في هذا شيئا وذكر عن عثمان بن عفان؛ فإنّ العباس هذا قد ترجم له في التهذيب ج5 ص122 مستهلا يقول: "عباس بن عبد العظيم بن إسماعيل بن توبة العنبري أبو الفضل البصري الحافظ"، وعدّ من روى عنهم نحو العشرين، ثم قال: "وجماعة، وعند الجماعة ولكن البخاري تعليقا"، ثم عدّ عشرة أشخاص ممن أخذوا عنه ثم قال وغيرهم.(4/19)
ص -35- ثم قال: قال أبو حاتم: "صدوق"، وقال النسائي: "مأمون"، وذكر ثناء العلماء عليه، وأخيرا قال: قال البخاري والنسائي: "ومات سنة256" ثم قال: "قلت - أي صاحب التهذيب - وقال مسلمة: "بصري ثقة".
وقال عنه في التقريب: "عباس بن عبد العظيم بن إسماعيل العنبري أبو الفضل البصري ثقة حافظ من كبار الحادية عشرة مات سنة40 - حث م عم".
ورمزه بحرف: (خت) أي للبخاري تعليقا، وحرف (م) أي لمسلم، وحرف (عم) أي للجماعة سوى الشيخين.
فتبين بذلك أن نقله عن أهل المدينة نقل ثقة حافظ، والله تعالى أعلم.
فيكون الجديد في التراويح في عهد عثمان رضي الله عنه أنّ عليا بنفسه كان يؤم الناس فيها عشرين ليلة، وأنّه وجد دعاء ختم القرآن.
عهد علي رضي الله عنه :
أما عهد علي رضي الله عنه فجاء في سنن البيهقي أنّه رضي الله عنه جعل للرجال إماما وللنساء إماما، ولكنه كان يؤمهم بنفسه في الوتر؛ فعن عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي رضي الله عنه قال: "دعا القراء في رمضان فأمر منهم رجلا أن يصلي بالناس عشرين ركعة، قال وكان علي رضي الله عنه يوتر بهم"، قال البيهقي: "وروى هذا من وجه آخر عن علي".
فقد وجدنا هنا تجديدا في زمن علي حيث أنّه كان في عهد عثمان رضي الله عنه يصلي بهم التراويح وفي العشر الأخير يقتصر لنفسه، وهنا نجد عليا رضي الله عنه يصلي بهم الوتر.
أما إمام النساء في زمن علي رضي الله عنه فهو عرفجة الثقفي كما عند المروزي، قال عرفجة الثقفي: "أمرني علي رضي الله عنه فكنت إمام النساء في قيام رمضان".
ففي زمن علي رضي الله عنه كانت التراويح عشرين والوتر ثلاث، وهذا أغلب الظن كما كانت في عهد عثمان رضي الله عنه ، وعهد عمر رضي الله عنه ، وأن الزيادة إنما أحدثت بعد عهد علي رضي الله عنه أي الست والثلاثين المتقدمة.
وفي زمنه أيضا تولى هو الإمامة في صلاة الوتر على خلاف عثمان وعمر رضي الله عنهما.
ما بين عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم إلى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه :
مما تقدم يظهر للمتأمل أن عدد ركعات التراويح كان مستقرا إلى ثلاث وعشرين، منها ثلاث ركعات وترا(4/20)
ص -36- كما في رواية يزيد بن الرومان عند مالك كما تقدم، قال: "كان الناس يقومون زمن عمر بن الخطاب في رمضان بثلاث وعشرين ركعة؛ وهو كما قال عنه في التقريب: يزيد بن الرومان المدني مولى آل الزبير ثقة من الخامسة، مات سنة ثلاثين أي بعد المائة، فيكون قد عني بزمن عمر فقط، وإلا لقال: "وعثمان وعلي".
وعليه تكون الزيادة التي وردت في روايات كل من معاذ القارئ وصالح مولى التوأمة أنها وجدت بعد عمر وعثمان وعلي رضي الله تعالى عنهم، لأنها محددة بما قبل الحرة، ولم تعين أي وقت كان قبلها.
فإذا كانت النصوص تحدد بثلاث وعشرين زمن عمر، وتظل تنص على ثلاث وعشرين أيضا من فعل علي في عهد علي فيكون من البين أن هذا العدد كان مستقرا وثابتا إلى زمن علي رضي الله عنه ، وأن الزيادة إنما جاءت بعده، وقد استمرت إلى عمر بن عبد العزيز فيما بعد.
تحديد الزيادة التي طرأت على عهد علي رضي الله عنه :
1- أولا: جاءت رواية نافع مولى ابن عمر رضي الله عنه كما تقدم عند الباجي أنّه قال: "أدركت الناس يصلون بسبع وثلاثين ركعة يوترون منها بثلاث".
أي أن التراويح زادت من عشرين إلى ست وثلاثين ماعدا الوتر ثلاث؛ ونافع مات سنة 117 أي بعد وفاة عمر بن عبد العزيز رحمه الله بست عشرة سنة، لأنّ عمر مات سنة 101.
وقوله: أدركت الناس، يشير إلى أنّ ذلك من قبل خلافة عمر بن عبد العزيز، وقد صرح بهذا العدد في عهد عمر بن العزيز رحمه الله أبان بن عثمان أيضا، وداود بن قيس عند المروزي؛ قال: "أدركت المدينة في زمن أبان بن عثمان وعمر بن عبد العزيز يصلون ستا وثلاثين ركعة يوترون بثلاث، وفي بعض الروايات ويوترون بخمس".
وبالنظر في رواية داود بن قيس وإحدى روايتي نافع يتبين أن التروايح كانت في عهد عمر بن عبد العزيز ستا وثلاثين ركعة.
وبالنظر في رواية معاذ القارئ وإحدى روايتي نافع الأخرى يتبين لنا أن تلك الزيادة وجدت قبل عمر بن عبد العزيز، لأنّ فيها أنّه كان يصلي إحدى وأربعين ركعة..
وإحدى روايتي نافع أنّه أدرك الناس يصلون ستا وثلاثين ويوترون بخمس ومجموعها إحدى وأربعون، فتتفق روايات كل من نافع وداود بن قيس وصالح مولى التوأمة على وجود إحدى وأربعين ركعة، منها الوتر بخمس،(4/21)
ص -37- وأن ذلك من قبل عهد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ، وأنّه أقرها على ذلك.
وقد استمرت إلى ما بعده كما سيأتي من رواية وهب بن كيسان.
وقد قال الشافعي رحمه الله في كتابه الأم:ج1ص142 ما نصه: "ورأيتهم بالمدينة يقومون بتسع وثلاثين، وأحب إلى عشرين لأنّه روي عن عمر، وكذلك يقومون بمكة، ويوترون بثلاث".
عهد الأئمة الأربعة رحمهم الله
أولا: عهد مالك رحمه الله إمام دار الهجرة:
لقد أدرك مالك رحمه الله عمر بن عبد العزيز، وأدرك من حياته ثمان سنوات لأنّ عمر رحمه الله مات سنة101، ومالك ولد سنة93، فكانت وفاة عمر بعد ولادة مالك بثمان سنوات أي حين كان مالك في أوائل طلب العلم، وقد جاءت النصوص أنّ عدد ركعات التراويح ستا وثلاثين أثناء وجود مالك؛ بل كانت موجودة وعمره أربع وثلاثون سنة كما في رواية وهب بن كيسان، قال: "ما زال الناس يقومون بست وثلاثين ركعة ويوترون بثلاث إلى اليوم في رمضان" وقد مات وهب سنة127.
وقد نص مالك رحمه الله بما هو أصرح من ذلك حيث جاء عن ابن أيمن عند المروزي قال مالك: "أستحب أن يقوم الناس في رمضان بثمان وثلاثين ركعة ثم يسلم الإمام والناس، ثم يوتر بهم بواحدة"، وهذا العمل بالمدينة قبل الحرة منذ بضع ومائة سنة؛ فيفهم من قول مالك هنا: "وهذا العمل قبل الحرة منذ بضع ومائة سنة"، أنّ التسع والثلاثين بما فيها الوتر كانت قبل عمر بن عبد العزيز، وأنّه العدد الذي أقره واستحبه مالك وأخذ به.
ولذا كان يكره أن ينقص عن هذا العدد، كما روى ابن القاسم عنه قال: "سمعت مالكا يذكر أن جعفر بن سليمان أرسل عليه يسأله أننقص من قيام رمضان فنهاه عن ذلك، فقيل له: قد كره ذلك؟ أي قيل لابن القاسم قد كره مالك ذلك، قال: نعم…"راجع المدونةج1ص222.
وقد قام الناس هذا القيام قديما، قيل له: فكم القيام؟ فقال: تسع وثلاثون ركعة بالوتر، وسيأتي نص مذهب مالك مفصلا في ذلك على حدة إن شاء الله، مع نصوص المذاهب الأربعة بعد، والمراد هنا ذكر حالة التراويح في عصره في المسجد النبوي.(4/22)
ص -38- وقد أدرك الشافعي مالكا وأخذ عنه، وجاء عن الشافعي أيضا هذا العدد في المدينة المنورة، قال الزعفراني عن الشافعي: "رأيت الناس يقومون بالمدينة تسعا وثلاثين ركعة".
أما مذهبه فأشار عليه بقوله عقب ذلك "وأحب إلي عشرون"، قال: "وكذلك يقومون بمكة" أي بالعشرين، قال: "وليس في شيء من هذا ضيق، ولا حد ينتهي إليه لأنّه نافلة فإن أطالوا القيام وأقلوا السجود فحسن، وهو أحب إلي، وإن أكثروا السجود فحسن" .
وسيأتي تفصيل مذهبه إن شاء الله عند ذكر المذاهب الأربعة في المسألة، وعليه فلا جديد في عدد الركعات، ولكن قد وجد جديد في نواح أخرى منها:
1- منها كيفية القراءة أي مقدارها، فقد كانت بعشر آيات في كل ركعة كما في رواية عبد الرحمن بن القاسم عند المروزي: "سئل مالك عن قيام رمضان بكم يقرأ القارئ؟ قال: بعشر عشر، فإذا جاء السور الخفيفة فليزد مثل الصافات، وطسم، فقل: له خمس، قال: بل عشر آيات".
ونص ابن وهب في المدونة الكبرىج1ص223: "أن عمر بن عبد العزيز أمر القراء يقومون بست وثلاثين ويوترون بثلاث، ويقرأ بعشر آيات في كل ركعة".
بينما نجد في زمنه من يقرأ القرآن كل ليلة، قال مالك: "كان عمر بن جعد من أهل الفقه والفضل، وكان عابدا، ولقد أخبرني رجل أنّه كان يسمعه في رمضان يبتدئ القرآن في كل يوم، قيل له: كأنه يختم! قال: نعم، وكان في رمضان إذا صلى العشاء انصرف، فإذا كانت ليلة ثلاث وعشرين قامها مع الناس، ولم يكن معهم غيرها"، فقيل له: "يا أبا عبد الله فالرجل يختم القرآن كله في ليلة؟ قال: ما أجود ذلك إن القرآن إمام خير أو إمام كل خير".ا.هـ
الجهر بالبسملة:
2ـ ومنها أنّه وجد في زمنه هيئة افتتاح القراءة لم تكن من قبل، وهي الجهر بالبسملة والاستعاذة.
قال ابن وهب: "سألت مالكا قلت: أيتعوذ القارئ في النافلة؟ قال: نعم، في شهر رمضان يتعوذ في كل سورة يقرأ بها يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قيل له: ويجهر بذلك؟ قال: نعم؛ قيل له: ويجهر في رمضان بسم الله الرحمن الرحيم؟ فقال: نعم".
وعن ابن القاسم: "سئل مالك عن القراءة إذا كبر الإمام افتتح بأعوذ(4/23)
ص -39- بالله من الشيطان الرجيم؟ قال: لا أعلمه يكون إلا في رمضان، فإن قراءنا يفعلون ذلك، وهو من الأمر القديم".
وقوله: هو من الأمر القديم يشهد له ما جاء عن أبي الزناد قال: "أدركت القراء إذا قرءوا في رمضان تعوذوا بالله السميع من الشيطان الرجيم ثم يقرؤون"، قال المروزي: "وكان إذا قام في رمضان يتعوذ حتى لقي الله لا يدع ذلك".
وأبو الزناد مات سنة 130هـ أي بعد عمر بن عبد العزيز وقبل مالك.
وجاء أنّ قراء عمر بن عبد العزيز كانوا لا يدعون التعوذ في رمضان، ولعل هذا هو مراد أبي الزناد بقوله أدركت القراء، يعني قراء عمر بن عبد العزيز، لأنّ بين وفاته ووفاة عمر بن عبد العزيز تسعة عشر سنة فقط.
وظل هذا الأمر بعد أبي الزناد إلى سعيد بن إياس قال: "رأيت أهل المدينة إذا فرغوا من أم القرآن ولا الضالين، وذلك في شهر رمضان يقولون: "ربنا إنا نعوذ بك من الشيطان الرجيم".
أما حكم المسألة عند ملك فكما قال الباجي في شرح الموطأ: "مسألة: ولا بأس بالاستعاذة للقارئ في رواية ابن القاسم عن مالك في المدونة، وروى عنه أشهب في العتبية: "ترك ذلك أحب إليّ".
وقد وجه الباجي كلا الروايتين، والواقع أن البسملة كما قيل: إنها حرف أي جاءت رواية في القراءات السبع بإثباتها، وراية بإسقاطها، وهما عن نافع رحمه الله.
فرواية ورش ترك البسملة، وراية قالون عنه إثباتها وعليه البيت الآتي في القراءات:
قالون بين السورتين بسملا وورش الوجهان عنه نقلا
ونافع هو قارئ المدينة، وعنه أخذ مالك، ومالك في ذلك رجح قراءة قالون، والرواية عن ورش التي فيها الإثبات.
أما ما يبدأ به القراءة في أول ليلة من رمضان فقد قال المروزي قال أبو حازم: "كان أهل المدينة إذا دخل رمضان يبدءون في أول ليلة بـ {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً}.
وأخبرني الشيخ حماد الأنصاري المدرس بالجامعة الإسلامية بالمدينة أنّ هذا هو عمل البلاد إلى اليوم وقد تركهم يفعلونه قبل أن يهاجر إلى المدينة، وقد باشر هذا بالفعل حينما كان إماما في بلاده في التراويح، وأهل تلك البلاد كلهم على مذهب مالك.
مقارنة بين قيام أهل المدينة وأهل مكة في ذلك الوقت:
مما تقدم من كلام مالك أنّه يستحب(4/24)
ص -40- أن يقوم الناس بثمان وثلاثين ويوترن بواحدة أي تمام تسع وثلاثين، مع ما تقدم من كلام الشافعي أنّه أدرك الناس يقومون بالمدينة بتسع وثلاثين؛ فإنّ ذلك كله يبين ما كان عليه القيام بالمدينة زمن مالك والشافعي.
ولكن الشافعي قال فيما تقدم: "وأحب إليّ عشرون"، وقال: "وكذلك يقومون بمكة"، ثم قال: "إنّه نافلة وليس في ذلك حد ينتهي إليه".
ومن مجموع هذه الأقوال يثار سؤال وهو:
لم كان أهل المدينة يقومون بتسع وثلاثين ويستحبه مالك، في الوقت الذي لا يقوم فيه أهل مكة إلاّ بعشرين وهو أحب إلى الشافعي؟
أما قول الشافعي رحمه الله: "وأحب إليّ عشرين، وأنّه قيام مكة"؛ فإنّ الظاهر والله تعالى أعلم أنّ الأصل أي ما كان عليه العمل زمن الخلفاء الثلاثة: عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، وعليه إجماع الصحابة أنهم قاموا بذلك العدد في المسجد، وقام به علي بنفسه في زمنه، أي أمر القارئ أن يصلي بعشرين وكان هو يوتر لهم، وقال أبو زرعة في طرح التثريب ج1ص198: "والسر في العشرين أن الراتبة في غير رمضان عشر ركعات فضوعفت فيه لأنّه وقت جد وتشمير".
وعلى كل فهو عمل يدخل في سنة الخلفاء الراشدين المهديين رضوان الله عليهم.
فكان أهل مكة عاملين بالأصل، وليس هناك موجب للزيادة على العشرين، وإن كانت كما قال الشافعي: "إنّه تطوع وليس في ذلك حد ينتهي إليه".
أما قيام أهل المدينة بست وثلاثين فهو زائد عن ذاك الأصل، وهو وإن كان تطوعا فلم يستحبه مالك؟ ثم ولم زاد أهل المدينة على ما كان الأصل مع أنّ المتوقع أن يكونوا هم أولى بالوقوف عند ما هو الأصل: عشرين ركعة.
والجواب عن ذلك ما حكاه النووي في المجموع شرح المهذب، وحكاه غيره من أن المسألة من باب الاجتهاد في الطاعة، والمنافسة في الخير، وأنّ الموجب الأساسي لذلك هو أن أهل مكة كانوا إذا تروحوا ترويحة قاموا إلى البيت فطافوا سبعا، وصلوا ركعتي الطواف، ثم عادوا إلى الترويحة الأخرى.
ومعلوم أنّ الترويحة أربع ركعات بتسليمتين وكانت الاستراحة تقع بين كل أربع ركعات فيكون لديهم فرصة للطواف أربع مرات بين التراويح، فأراد أهل المدينة أن يتعوضوا عن الطواف فجعلوا ترويحة مقابل كل طواف.(4/25)
ص -41- قال النووي في المجموع ما نصه: "وأما ما ذكروه من فعل أهل المدينة فقال أصحابنا سببه أن أهل مكة كانوا يطوفون بين كل ترويحتين طوافا ويصلون ركعتين، ولا يطوفون بعد الترويحة الخامسة، فأرد أهل المدينة مساواتهم فجعلوا مكان كل طواف أربع ركعات فزادت ست عشرة ركعة، وأوتروا بثلاث فصار المجموع تسعا وثلاثين والله أعلم".
قال الزركشي وهو من أعلام المائة الثامنة في كتابه: (إعلام الساجد بأحكام المساجد) ص260: ما نصه: "قال الماوردي والروياني: اختلفوا في السبب في ذلك على ثلاثة أقوال: أي سبب الزيادة على العشرين المذكورة:
أحدها: أن أهل مكة كانوا إذا صلوا ترويحة طافوا سبعا إلاّ الترويحة الخامسة فإنهم يوترون بعدها، ولا يطوفون فتحصل لهم خمس ترويحات وأربع طوافات فلما لم يكن لأهل المدينة مساواتهم في أمر الطواف الأربع، وقد ساووهم في الترويحات الخمس، جعلوا مكان كل أربع طوافات أربع ترويحات، زوائد فصارت تسع ترويحات، فتكون ستا وثلاثين ركعة لتكون صلاتهم مساوية لصلاة أهل مكة وطوافهم.
والثاني: السبب فيه أن عبد الملك بن مروان كان له تسعة أولاد فأراد أن يصلي جميعهم بالمدينة فقدم كل واحد منهم فصلى ترويحة فصارت ستا وثلاثين.
والثالث: أن تسع قبائل من العرب حول المدينة تنازعوا في الصلاة، واقتتلوا فقدم كل قبيلة منهم رجلا، فصلى بهم ترويحة فصارت سنة والأول أصح"، انتهى منه.
والظاهر أن السبب الحقيقي إنما هو الأول فقط لأنّ الثاني وإن كان يعطينا فكرة عن أبناء الأمراء والخلفاء ومنازل الشرف وميادين المنافسة بالتقدم إلى الصلاة بالناس في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلاّ أنه كان من الممكن حصول ذلك لهم بالتناوب لكل واحد ليلة، ويبقى العدد على ما هو عليه.
أما الثالث: فهو فضلا عن أنّ فيه صورة العصبية فإنّه أبعد أن يكون في الصدر الأول، ولا سيما للمسجد إمام مسؤول عنه، وقد صلوا جميعا بصلاته فريضة العشاء، فكيف يتنازعون عليه في النافلة.
إختصاص أهل المدينة بهذا العدد:
وهل هذا العمل خاص بأهل المدينة أم لغيرهم لمن أراد المنافسة في الخير؟.
فقد ناقش العلماء هذه(4/26)
ص -42- المسألة: فأكثر الشافعية يقولون هو خاص بهم.
قال الزركشي الشافعي في كتابه إعلام الساجد: في خصائص المدينة في المسألة العشرين: قال ما نصه: "قال أصحابنا وليس لغير أهل المدينة أن يجاوروا أهل مكة ولا ينافسوهم" انتهى.
وقال ولي الدين العراقي في طرح التثريب ج1ص98 ما نصه: "وقال الحليمي من أصحابنا في منهاجه فمن اقتدى بأهل المدينة فقام بست وثلاثين أيضا لأنهم إنما أرادوا بما صنعوا الاقتداء بأهل مكة في الاستكثار من الفضل لا المنافسة كما ظن بعض الناس".
والظاهر من مذهب المالكية أنفسهم أنها ثلاث وعشرون ركعة، أي في غير المدينة.
وجاء عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في المجموع ج22ص272 في كلامه على قيام رمضان ما نصه: قال: "ثم كان طائفة من السلف يقومون أربعين ركعة ويوترون بثلاث، وآخرون قاموا بست وثلاثين، وأوتروا بثلاث وهذا كله سائغ فكيفما قام في رمضان من هذه الوجوه فقد أحسن".
وعلى هذا فلا يقوم دليل على خصوصية هذا العدد بأهل المدينة إلاّ بالعمل وبالنقل على مدى الزمن إلى القرن السابع ومن ثم إلى أواخر عهد الأشراف وقبل العهد السعودي.
وقد تقدم أن سبب زيادة أهل المدينة على أهل مكة أن أهل مكة كانوا يطوفون بين كل ترويحتين سبعا ويصلون ركعتين سنة الطواف فجعل أهل المدينة مكان كل طواف ترويحة زائدة حتى بلغ عدد تراويحهم ستا وثلاثين.
وهذا على إطلاقه يفيد أن هذا العمل أي الطواف كان لجميع أهل مكة، ولكن الواقع خلاف ذلك، وهو أنّ أهل مكة كانوا يصلون بأربعة أئمة للمذاهب الأربعة، ولم يكن يفعل ذلك أي الطواف بين التراويح إلا إمام الشافعية فقط، وهذا بناء على ما ذكره ابن جبير في رحلته وقد كان في مكة سنة579 قال: "والشافعي في التراويح أكثر الأئمة اجتهادا، وذلك أن يكمل التراويح المعتادة التي هي تسليمات ويدخل الطواف مع الجماعة، فإذا فرغ من السبع وركع عاد لإقامة تراويح آخر وضرب بالفرقعة الخطيبة ضربة يسمعها كل من في المسجد لعلو صوتها كأنها إيذان بالعودة إلى الصلاة فإذا فرغوا من تسليمتين ثم عادوا للطواف هكذا إلى أن يفرغوا من عشر تسليمات فيكمل لهم عشرون ركعة ثم يصلون الشفع والوتر وينصرفون، وسائر الأئمة لا يزيدون على العادة شيئا".(4/27)
ص -43- ومعلوم أن الشافعية في غير مكة لا يزيدون على ثلاث وعشرين ركعة، والعلم عند الله تعالى.
وبهذا العرض تنهي المائة الثانية ثم قد استهل عصر التأليف والتدوين والاجتهاد والاستنباط والأئمة الأربعة رحمهم الله، وفي أوائل المائة الثالثة بدأ تميز المذاهب الأربعة، وسنفرد لهم فصلا نورد فيه مذاهبهم رحمهم الله كل مذهب على حدة وذلك في نهاية البحث إن شاء الله بعد الفراغ من العرض المسلسل تاريخيا، ونعقد مقارنة بين أقوال المذاهب في حكم التراويح وعددها والقراءة فيها وعمل الختم، وختم أهل مكة وختم أهل المدينة.
ثم نعقبه بمتنوعات عن التراويح مما يتم به العرض وبالله التوفيق وإلى المائة الثالثة.
عنوان الكتاب:
التراويح أكثر من ألف عام في المسجد النبوي (السنة الثانية، العدد الثالث)
تأليف:
عطية محمد سالم
الناشر:
الجامعة الاسلامية بالمدينة المنورة
السنة الثانية - العدد الثالث - محرم 1390هـ/1970م(4/28)
ص -52- التروايح أكثر من ألف عام
بقلم الشيخ عطية محمد سالم القاضي بالمحكمة الكبرى بالمدينة
الحلقة الثالثة
إلى حضرات القراء الكرام قدمنا في الحلقات السابقة من هذا البحث التراويح في العهد النبوي وعهد الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم الآن نقدم ما بعد عهدهم إلى نهاية الألف عام: ما جرى على التراويح في المسجد النبوي من زيادة أو نقص ومن صورة أو شكل.
وقد أبدينا الرأي أنه بحث تاريخي فقهي وأنه للجميع وقد التمسنا من كل من يقف على هذا المبحث سابقاً أو لاحقاً أن يتكرم بإبداء ما عنّ له من توجيه ويهدي إلينا ما وقف عليه مما لم نطلع عليه في المراجع التي بين أيدينا أو مما لم يصل إلينا. ولاسيما مع ضيق الوقت وكثرة العمل وضعف الجهد مما يجعلنا نلتمس من الجميع المشاركة في هذا العمل وبالله التوفيق.
المائة الثالثة..
مضت المائة الثانية والتراويح ست وثلاثون وثلاثة وتر فيكون المجموع تسع وثلاثون. وكان هناك من يرى إحدى وأربعين ركعة كما تقدم.
ودخلت المائة الثالثة وكان المظنون(4/29)
ص -53- أن تظل على ما هي عليه تسع وثلاثون بما فيه الوتر.
ولكننا وجدنا نصاً للترمذي رحمه الله المتوفى في أواخر المائة الثالثة في سنة 279أن التراويح بلغت إحدى وأربعين ركعة بالوتر. فقال: "واختلف أهل العلم في قيام رمضان فرأى بعضهم أن يصلي إحدى وأربعين ركعة مع الوتر وهو قول أهل المدينة. والعمل على هذا عندهم بالمدينة".
فقوله: "والعمل على هذا عندهم بالمدينة" ظاهر في بقاء هذا العمل أو وجوده بالفعل عند حكاية له.
فهل زادت التراويح في المائة الثالثة إلى إحدى وأربعين ركعة أي عمل بأحد الأقوال المتقدمة. أم أنهم اعتبروا التسع والثلاثين تراويح وزادوا لها ثلاثاً فصارت إحدى وأربعين كما تقدم بحث هذه المسألة في أول الكلام على عدد الركعات في زمن عمر بن عبد العزيز وزمن مالك رحمه الله على كل فإن الستة والثلاثون مؤكد وجودها والباقي بين تتمة التسع والثلاثين أو الإحدى والأربعين.
المائة الرابعة والخامسة والسادسة
عادت التراويح في تلك الفترة كلها إلى عشرين ركعة فقط بدلاً من ست وثلاثين كالسابق.
لأن المنطقة كلها أي منطقة الشرق الأوسط بل من مصر والحجاز والعراق قد شهدت اضطراباً شديداً بسبب نزاع العبيديين مع العباسيين.
وقد بدأ حكم العبيديين في مصر سنة 359 تسع وخمسين وثلاثمائة أي في منتصف المائة الرابعة، وظل منبر الحجاز مؤرجحاً بين العباسيين في العراق والفاطميين في مصر حوالي مائتي سنة إلى أن توفي آخر خليفة عبيدي سنة 567 سبع وستون وخمسمائة أي منتصف القرن السادس.
وباستيلاء الفاطميين على الحجاز تغيرت الأوضاع تغيراً شديداً، ولاسيما من جهة الأمن، والسنة وظهور البدع لأنهم لم يكونوا على مذهب أهل المدينة آنذاك.
قال ابن جبير في رحلته وقد وصل المدينة سنة 580 ثمانين وخمسمائة وصور ما شاهده من بدع هؤلاء آنذاك في المدينة، ملخصة من رحلته سنة 179 قال: "وفي يوم الجمعة وهو السابع من محرم سنة 580 شاهدنا من أمور البدع أمراً ينادي له الإسلام يا لله يا للمسلمين، وذلك أن الخطيب وصل للخطبة وصعد منبر النبي صلي الله عليه وسلم وهو ما يذكر على مذهب غير مرضي وكان ضد الشيخ الإمام (العجمي) الذي كان ملازما لصلاة الفريضة في المسجد المكرم فالإمام الراتب على طريقة من الخير والورع لائقة بإمام مثل ذلك الموضع الكريم.(4/30)
ص -54- فلما أذن المؤذنون قام هذا الخطيب أي الذي قدم للخطبة وهو من الشيعة وقد نفد منه الرانيان السوداوان وقد ركزنا بجانبي المنبر الكريم فقام بينهما فلما فرغ من الخطبة الأولى جلس جلسة خالف فيها جلسة الخطباء المضروب بها المثل في سرعة وابتدر الجمع (مردة) من الخدم يخترقون الصفوف ويتخطون الرقاب كدية (أي شحاذة) على الأعاجم والحاضرين لهذا الخطيب القليل التوفيق، فمنهم من يطرح الثوب النفيس ومنهم من يخرج الشقة الغالية من الحرير. فيعطيها وقد أعدها لذلك، ومنهم من يخلع عمامته لينبذها.
ومن النساء من تطرح خلخالها إلى يطول الوصف، والخطيب جالس على المنبر يلحظ هؤلاء المستجدين بلحظات يكرها الطمع إلى أن كاد الوقت ينقضي والصلاة تفوت، وقد ضج من له دين واجتمع له من ذلك السحت كوماً عظيماً أمامه.
فلما أرضاه قام وأكمل خطبته وصلى بالناس، وانصرف أهل التحصيل باكين على الدين، يائسين من فلاح الدنيا متحققين من أشراط الساعة" اهـ بإيجاز.
فمن هذا يظهر لنا الوضع في المسجد النبوي مما يؤكد طروء تغيير الأوضاع العامة في المسجد عما كانت عليه من قبلهم.
وقد أكد ذلك ما قاله ابن فرحون في مخطوط له أثناء حديثه عن المسجد النبوي ما نصه: "ولم يكن لأهل السنة خطيب ولا إمام ولا حاكم منهم"، أي من أهل السنة، ثم قال: "والظاهر أن ذلك منذ أن استولى العبيديون على مصر والحجاز فإن الخطبة بالمدينة كانت باسمهم إلى سنة 662 اثنتين وستين وستمائة أي إلى منتصف القرن السابع حيث تغلب العباسيون على الحجاز وأقيمت الخطبة لهم من ذلك العهد إلى يومنا هذا" اهـ. أي إلى يوم المؤلف.
ثم قال: "وكان أخذ الخطابة من آل سنان سنة 682 أثنين وثمانون وستمائة" اهـ.
ويشهد لهذا ما وقع في مكة من وهن علمي, كما جاء في كتاب السيد السباعي في تاريخ مكة ج1 ص 165 في حديثه عن الناحية العلمية في مكة في العهد العباسي الثاني قال: "ثم ما لبث أن توزع أعلام مكة في الأمصار فضعف النشاط العلمي فما وافى القرن الرابع الهجري حتى كانت علامات الضعف قد زادت وضوحاً في البلاد. وكان العالم الإسلامي قد زخر في هذا العهد بالاختلافات الدينية فاشتدت دعوة الخوارج وشاعت أقوال المعتزلة، والمرجئة، وذاعت المذاهب الشيعية على اختلاف أنواعها"، إلى قوله: "أما المذهب الشيعي فقد وجد على خلاف غيره من يناصره في مكة والمدينة وبعض مدن الحجاز في أوقات مختلفة".
ومما يؤيد القول بوجود مناصرين(4/31)
ص -55- للمذهب الشيعي في مكة والمدينة ما ذكره السيد السباعي في تاريخ مكة أيضاً قوله: "وما لبث الأشراف في مكة على إثر اتصالهم بالفاطميين أن أضافوا إلى الآذان عبارة(حي على خير العمل) وهو تقليد كان يتبعه الفاطميون. وكان ذلك في عام 358أي في المائة الرابعة".
فقد نص على وهن الحالة العلمية، وعلى مناصرة الأشراف للمذهب الشيعي تبعاً للسياسة آنذاك في كل من مكة والمدينة وهو بعد المنطقة عن مقر الحكم العباسي في بغداد. والحكم الفاطمي في مصر. وتنازع الطرفين لمنبر الحرمين رغبة في التأييد لمكانة الحرمين من العالم الإسلامي وأن من استولى عليهما فقد أصبح أحق بالخلافة. ومن وراء ذلك يستدر الحاكمون بمكة والمدينة عطاء كلا الجهتين. وهكذا دواليك ثم قال: "وقد ظل الوهن العلمي على ذلك أي في مكة والمدينة طيلة القرن الرابع والخامس والسادس للهجرة".
فتصوير السباعي لوهن الحالة العلمية وتصوير ابن جبير لحالة الجمعة مما يؤكد حتماً وقوع تغير في صلاة التراويح في المسجد النبوي في تلك الفترة وهي مدة حكم الفاطميين على الحجاز. وقد امتد حكم الفاطميين على العالم الإسلامي إلى سنة 567 وانتهى بموت الخليفة العاضد آخر خلفاء العبيدين.
ولكن على أي صورة كان التغيير إلى مذهب الشيعة أنفسهم أصحاب الحكم أم إلى مذهب الشافعي الذي كان سائداً بمكة ثم نقلوه إلى المدينة والجدير بالذكر أن مذهب الشيعة في التراويح هو كما قال الحلي وغيره من أئمتهم ما نصه: "نافلة شهر رمضان، والأشهر في الروايات استحباب ألف ركعة في شهر رمضان زيادة على النوافل المرتبة يصلي في كل ليلة عشرين ركعة ثمان بعد المغرب. واثنتي عشرة ركعة بعد العشاء على الأظهر.وفي كل ليلة من العشر الأواخر ثلاثين على الترتيب المذكور. وفي ليالي الأفراد الثلاث في كل ليلة مائة ركعة زيادة على ما عليه" ولهم تفصيلات في ذلك فمن أرادها فليراجعها في ج1 ص 65 من كتاب الشريعة للحلي. والذي يظهر أن التغيير الذي وقع للتراويح كان على مذهب الشافعي رحمه الله لما جاء في أقوال أبي زرعة عن أبيه ما نصه: "ولما تولى والدي إمامة المسجد النبوي أعاد إليها سنتها أي في التراويح بست وثلاثين ركعة. ولكنه كان يصلي التراويح في أول الليل عشرين ركعة كالمعتاد وستة عشر ركعة بعد منصف الليل مراعاة للخلاف" فقوله: "يصلي التراويح أول الليل عشرين ركعة" يدل على أنه أخذ بمذهب الشافعي بقرينه قوله: "مراعاة للخلاف" وقوله "كالمعتاد" يدل على أنه العدد الذي كان معتاداً من قبله وأبو(4/32)
ص -56- زرعة من أعيان القرن الثامن وشافعي المذهب.
ومما يدل على أن مذهب الشافعي هو الذي كان مقدماً في مكة والمدينة في عهد الفاطميين ما نقله ابن جبير عن صورة الختم في رمضان في التراويح بمكة في القرن السادس. وكان الحكم بها للفاطميين كما أفاده قوله ما ملخصه: "أن هلال شهر رمضان استهل ليلة الاثنين التاسع عشر من ديسمبر وصيام أهل مكة ليوم الأحد بدعوى في رؤية الهلال لم تصح، لكن أوصى الأمير بذلك ووقع الإيذان بالصوم ليلة الأحد المذكور لموافقة مذهبه ومذهب شيعته العلويين ومن والاهم". لأنهم يرون صيام يوم الشك فرضاً حسبما يذكره.
ثم قال: "وتفرقت الأئمة لإقامة التراويح فرقاً فالشافعية فوق كل فرقة منها قد نصبت إماماً لها في ناحية من نواحي المسجد، والحنبلية كذلك، والحنفية كذلك والزيدية ..." الخ اهـ.
وقد بين أن صلاة أهل مكة كلهم عشرون ركعة فقط حيث قال: "والشافعي في التراويح أكثر الأئمة اجتهاد وذلك أنه يكمل التراويح المعتادة التي هي عشر تسليمات و يدخل في الطواف مع الجماعة". وذكر طوافهم وعودتهم إلى أن قال: "هكذا إلى أن يفرغوا من عشر تسليمات فيكمل لهم عشرون ركعة ثم يصلون الشفع والوتر وسائر الأئمة لا يزيدون على العادة شيئاً". اهـ.
فظهر بذلك كله أن التراويح في تلك الفترة وهي فترة حكم العبيديين عادت إلى عشرين ركعة عملاً بمذهب الشافعي إلى أن أعادها أبو زرعة مع تغيير في صورة الأداء كما سيأتي إن شاء الله في المائة الثامنة.
المائة الثامنة
عادت التراويح فيها إلى ست وثلاثين ركعة ولكن مع اختلاف في الأداء وهذا ما يفهم مما وجد في كتاب (طرح التثريب في شرح التقريب) للإمام زين الدين أبي الفضل والد الحافظ ولي الدين أبى زرعة العراقي المولود في عام 725 خمس وعشرين وسبعمائة، والمتوفى ولده عام818 ثمانية عشر وثمانمائة أي أنهما عمّرا ما بين أوائل المائة الثامنة إلى أوائل المائة التاسعة.
ساق أبو زرعة على حديث صلاته ذات ليلة في المسجد في رمضان فصلى بصلاته أناس..الخ فذكر الشرح وما يتعلق بفقه الحديث ثم تعرض لذكر عدد الركعات في التراويح والخلاف فيها، ومناقشة كلام الناس في الزيادة على العشرين ركعة وأنها سنة أهل المدينة، ثم قال وهو محل الشاهد:
"ولما ولى والدي رحمه الله إمامة(4/33)
ص -57- المسجد النبوي أحيا سنتهم القديمة في ذلك مع مراعاة ما عليه الأكثر فكان يصلي التراويح أول الليل بعشرين ركعة على المعتاد. ثم يقوم آخر الليل في المسجد بست عشرة ركعة فيختم في الجماعة في شهر رمضان ختمتين واستمر على ذلك عمل أهل المدينة بعده فهم عليه إلى الآن". اهـ. راجع طرح التثريب ج1ص98.
فقوله رحمه الله: "ولما ولي والدي إمامة مسجد المدينة أحيا سنتهم القديمة" يدل على أنه طرأ على التراويح تغيير في الفترة التي قبل والده.
وقوله: "فكان يصلي التراويح أول الليل بعشرين ركعة على المعتاد" يدل أيضاً على أنها كانت قبله عشرين ركعة وهو العدد المعتاد عندهم من قبله.
وقوله: "واستمر على ذلك عمل أهل المدينة" أي على عشرين ركعة أول الليل وستة عشر بعد منتصف الليل تتمة الستة والثلاثين ركعة السابقة.
وقوله: "فهم عليه إلى الآن" نص على وجود ذلك العمل إلى حياة المؤلف في أوائل المائة التاسعة في سنة 818 ثمانية عشر وثمانمائة.
المائة التاسعة:
وبناء على ما تقدم من كلام أبي زرعة تكون التراويح قد استمرت على ست وثلاثين ركعة مفصلة كالسابق عشرين في أول الليل وستة عشر في آخره. وقد استمر هذا العمل إلى نهاية المائة التاسعة وأوائل المائة العاشرة كما ينص عليه السمهودي في الآتي:
المائة العاشرة وهي تمام الألف سنة
دخلت المائة العاشرة والتراويح في المسجد النبوي ست وثلاثون ركعة كما جاء عند السيد السمهودي في كتابه (وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى) ج1 ص84 في المسألة (الثمانون) فيما اختصت به المدينة عن غيرها من البلدان ما نصه:
"الثمانون: اختص أهلها في قيام رمضان بست وثلاثين ركعة على المشهور عند الشافعية، قال الرافعي والنووي: قال الشافعي: رأيت أهل المدينة يقومون بتسع وثلاثين ركعة، منها ثلاث للوتر، قال أصحابنا: وليس لغير أهل المدينة ذلك لشرفهم بمهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبره" اهـ. وقد توفي السمهودي سنة 911 وهو شافعي المذهب أيضاً وسيأتي أن ولده كان من أئمة الشافعية في المسجد النبوي.
ثم قال في المرجع نفسه ص85: "والقيام بهذا العدد بالمدينة باق إلى اليوم إلا أنهم يقومون بعشرين ركعة عقب العشاء، ثم يأتون آخر الليل فيقومون بست عشرة ركعة". هـ فنص على وجود العدد والكيفية التي أعادها أبو زرعة رحمه الله.(4/34)
ص -58- تنبية: تقدم ذكر الشافعي رحمه الله عدد التراويح (تسع وثلاثون) منها ثلاثة للوتر ولم يفصل نوع وكيفية الصلاة للوتر والمعروف عند الشافعي رحمه الله أنه ثلاث مفرقات. ولكن السيد السمهودي أشار إلى تغيير في الكيفية حيث قال عقب كلامه الأول ما نصه: "فوقع له خلل في أمر الوتر نبهنا عليه في كتاب (مصابيح القيام في شهر الصيام) وكنت قد ذكرت لهم ما يحصل به إزالة ذلك ففعلوه مدة، ثم غلبت الحظوظ النفسية على بعضهم فعاد الأمر كما كان".
قوله هنا: "فوقع لهم خلل في أمر الوتر نبهنا عليه...إلخ" لم نعلم ما نوع هذا الخلل وما هو تنبيهه عليه. والمعلوم أنه لا يوجد خلاف في الوتر إلا في صورته ما بين الجمع والتفريق كما هو بين الأحناف يجمعون الثلاثة كالمغرب, والجمهور يفرقون بينهما يسلمون من اثنتين ويأتون بواحدة مفردة.
والأحناف يقنتون في الوتر إلا أن الحنابلة يجهرون فيه والأحناف يسرون والشافعية والمالكية يقنتون في الصبح إلا أن الشافعية بعد الركوع والمالكية قبله.
ولعل الخلل هو بسبب تعدد الأئمة وتعدد صور الوتر كما سيأتي بيان ذلك إن شاء الله عند الكلام عن المائة الثالثة عشرة وإيراد رسالة الشيخ سليمان العمري في الوتر وكلام أئمة وعلماء المسجد النبوي أنذاك في هذا الموضوع.
ما بعد الألف المائة الحادية عشرة:
يغلب على الظن أنه لم يطرأ تغيير على التراويح في المائة الحادية عشرة لأننا وجدنا كلام السيد السمهودي المتوفى سنة 911 أن التراويح كانت ستاً وثلاثين ركعة وثلاثة وترا فالمجموع تسع وثلاثون وأنهم كانوا يصلونها على فعله أبو زرعة رحمه الله.
ثم وجدنا للشيخ عبد الغني النابلسي في رحلته التي كتبها عن المدينة في المائة الثانية عشرة أن التراويح أيضاً تسع وثلاثون ركعة مما يؤكد أنها مضت في طريقها إلى عهده وشاهدها على ما جاء عنه تفصيله كالأتي:
المائة الثانية عشرة
دخلت المائة الثانية عشرة والتراويح على حالها كما كانت قبل الألف عشرون ركعة في أول الليل وست عشرة ركعة في آخره وتسمى الستة عشرية كما جاء من وصف الشيخ النابلسي في رحلته إلى المدينة وما نقلته مجلة العرب عن الرحلة في عدد ذي القعدة الجزء الخامس من السنة الأولى للمجلة سنة 1386ص430 نقلاً عن الشيخ النابلسي قوله: "كنا نصلي عند الشيخ السيد علي السمهودي، وولدي يصلي إماما وكان ولد السمهودي إماما من أئمة الشافعية أنذاك وقال: "إن عادة أهل المدينة بعد فراغ الصلاة التراويح يخرجون(4/35)
ص -59- من الحرم، ويقفلون أبوابه، فإذا مضى وقت من الليل نحو الثلاث ساعات أو أربع يعود كثير منهم, فيفتحون أبواب الحرم ويوقدون القناديل، ويصلون ست عشرة ركعة جماعة يسمونها الستة عشرية" اهـ. وهذا هو محل الشاهد على بقاء التراويح على ما كانت عليه زمن السمهودي في المائة العاشرة ولم يطرأ عليها تغيير إلا أنهم يسمون الصلاة التي في آخر الليل الستة عشرية أي نظراً لعدد الركعات ست عشرة ركعة وهذا مما يؤكد أن التراويح ظلت بعد الألف تسع وثلاثون ركعة منها ثلاثة وتراً وتصلى عشرين أول الليل وست عشرة آخره. غير أنه قد وجد أو كان موجوداً من قبل تعدد الأئمة للتراويح حسب تعدد الإمامة للفريضة والذي كان موجوداً آنذاك أئمة لمذهبين فقط هما الشافعية، والحنفية وكان عدة خطباء للائمة الثلاثة أي بزيادة المذهب المالكي، كما جاء في مجلة العرب أيضاً في الجزء الرابع من سنتها الأولى عدد شوال سنة 1386هـ ص334 نقلاً عن رحلة النابلسي أيضاً ما نصه: "وللحرم الشريف خمسة عشر إماما منهم الحنفيون ومنهم الشافعيون وله واحد وعشرون خطيباً، منهم اثنا عشر خطيباً حنفيين، وثمان خطباء شافعيين، وخطيب واحد مالكي.
فالأئمة يصلون بالنوبة في كل يوم إمام واحد من الحنفية، وإمام واحد من الشافعية فيبدؤون من الظهر إلى الصبح والإمام الشافعي يصلي أولاً، ثم الإمام الحنفي إلا في المغرب فيتقدم الحنفي لكراهة تأخير المغرب عنده.
ويصلي الإمام الحنفي يوماً في محراب النبي صلى الله عليه وسلم الذي في الروضة الشريفة فيصلي الإمام الشافعي ذلك اليوم في المحراب الذي خلف المنبر (محراب السلطان سليمان عليه الرحمة والرضوان) ثم في ثاني يوم يصلي الإمام الشافعي كذلك. ويصلي الحنفي مثل ما صلى هو أول يوم". وهؤلاء يصلون التراويح أيضاً في وقت كل لجماعته إلا في ليلة الختم للشافعي فإنهم يصلون جميعاً العشاء والتراويح خلف إمام واحد هو إمام الشافعية وكان إمام الشافعية هو المقدم آنذاك. في الفريضة يصلي أولاً وفي التراويح يختم هو أولاً أيضاً في حفل وحفاوة بالغة كالآتي:
صورة الختم بالمدينة في المائة الثانية عشرة.
قال النابلسي يصف حضوره لختم القرآن العظيم في صلاة التراويح في الروضة الشريفة مع السادة الشافعية. وما شاهده بنفسه كالآتي:
"جاء في مجلة العرب ج9 من سنتها الأولى سنة 1387 عدد ربيع الأول. نقلاً عن رحلة النابلسي ما نصه: وذكر أي النابلسي: "أنهم يختمون(4/36)
ص -60- في كل رمضان في صلاة التراويح ختماً كاملاً، يجعلونه ليلة السابع والعشرين من رمضان وأن الحنفية يجعلون الختم ليلة التاسع والعشرين من رمضان". والنابلسي حنفي المذهب.
ثم قال: "وجلسنا في الروضة الشريفة حين أذن العشاء، واجتمع الناس وحضر العلماء والأعيان، والأكابر على طبقاتهم، كل واحد منهم له سجادة مبسوطة في مرتبته، وحضر مفتي الحنفية، ومفتي الشافعية، وقاضي المدينة، وشيخ الحرم، وخدام الحجرة المطهرة، والخطباء والأئمة كلهم، وكان الشريف سعد بن زيد أمير الحجاز قد سافر قبل ذلك مع أولاده وعساكره إلى جهة مكة" أي أنه لم يحضر لسفره. ولعل هذا يشير إلى حضور الأمير في مثل ذلك اليوم.
قال: "وحضر المؤذنون كلهم فأقاموا الصلاة، وصلى الإمام بالناس كلهم صلاة العشاء". أي أنهم جميعاً صلوا بصلاة إمام واحد فريضة العشاء على غير المعتاد في بقية الأيام. وذلك تمهيداً لصلاتهم جميعاً التراويح بإمام واحد ولذا قال: "وكانت النوبة في الإمامة للشاب الفاضل حادي الفضائل السيد عمر بن السيد السمهودي الشافعي". أي أن إمامة الشافعية موزعة على عدة أشخاص من الشافعية أنفسهم ويتناوبون الصلاة بالشافعية وكذلك الحال عند الأحناف لهم عدة أئمة كما تقدم بيان عدد الجميع.
ثم قال - وهو محل شاهد -: "ثم صلى بهم التراويح إلى أن فرغ منها". أي أن الإمام الشافعي وهو السيد عمر بن السيد السمهودي شافعي المذهب صلى بالجميع التراويح تلك الليلة إلى أن فرغ منها.
ثم قال مبيناً صورة الختم وحفاوتهم به: "فاجتمع المؤذنون في الروضة الشريفة وأنشدوا القصائد النبوية المشتملة على المديح، وذكر الروضة، والمنبر والحجرة المطهرة وحصل الخشوع والبكاء. وأنشدوا القصائد في وداع شهر رمضان، وضج الناس بذلك، وكانت الهيبة العظيمة والجلال والخشوع.
وقد أشعلوا الشموع الكثيرة، وصفوها في الروضة الشريفة والقناديل العديدة موقدة ومباخر الطيب بالعنبر والعود دائرة، وماء الورد كأنه سحابة هامرة وكل جماعة من الحاضرين قدامهم طبق موضوع من الزهور والفل والفاغية، وأنواع الرياحين، حتى أرسل شيخ الحرم إلى الإمام بعد فراغه بالخلعة السنية الفضية الذهبية. وقام الناس يباركون له الختم الشريف وهو جالس في محراب النبي صلى الله عليه وسلم وذلك المقام المنيف وقد حصل لنا كمال الثواب والأجر في ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، وزرنا النبي صلى الله عليه وسلم" ثم ذكر(4/37)
ص -61- رجلاً من أهل اليمن مجذوب الحال كان يحمل قربة ماء من البئر الذي في صحن الحرم النبوي ويقول شقا شقا ولا يأخذ شيئاً من أحد. ثم ذكر انتهاء ذلك الحفل وانصرف ذلك الجمع واطفئت القناديل والشموع.
وبهذه المناسبة فإن عمل الاحتفال المذكور لختم القرآن في رمضان كان معمولاً به في مكة من القرون السابقة حيث جاء عند ابن جبير في رحلته وصف عمل الحفل المذكور بأعظم وأكبر من هذه الصورة سنوردها آخر البحث إن شاء الله.
كما أنه كان موجودا أيضاً بالمدينة في نهاية العهد التركي وعلى أوضاع متعددة سيأتي ذكرها عند الكلام على القرن الرابع عشر إن شاء الله في أواخر عهد الأتراك والأشراف. ولا نستبعد أن تكون صورة الختم تلك ممتدة من ذي قبل وليست وليدة القرن الثاني عشر فقط. ولا سيما وأن المقدم فيه هو ختم الشافعية الذين لهم الأولوية في الإمامة من زمن مسبق من على عهد الأتراك أنفسهم والذين يناصرون المذهب الحنفي مما يدل على أن هذا الحفل ليس من مبتكرات الأتراك بل لعله من بقايا الفاطميين والله أعلم.
المائة الثالثة عشرة أواخر العهد التركي
دخلت المائة الثالث عشرة والتراويح على حالتها الأولى حيث لم يطرأ ما يستوجب تغييرها تبعاً لوضع المنطقة كلها؛ لأن المدينة ومكة ظلتا تحت حكم الأشراف حكماً مباشراً وإن كانت تبعاً للخلافة العثمانية في تلك الفترة.
وتقدم لنا أن الحجاز ظل تحت حكم الأشراف من قبل وإن كان مؤرجحا بين الفاطميين والعباسين إلى أن قامت الخلافة العثمانية التركية، ابتداء من السلطان سليم بمصر، سنة 922 ودعا له منبر مكة سنة 923 وظلت الحجاز أيضاً بأيدي الأشراف تحت سلطان الخلافة العثمانية. إلى أن قامت الحرب العالمية الأولى وانتهت الخلافة بانتهائها وكان آخر قائد تركي بالمدينة هو فخري باشا، قائد الحامية التركية، وسلم المدينة سنة 1337هـ.
وآخر أمير للأشراف بمكة الشريف الحسين، وبالمدينة الشريف علي. وفي سنة 1345 نودي بالشريف الحسين ملكا على البلاد العربية.
فلم تخرج المدينة في تلك الفترة عن الحكم المباشر للأشراف سواء كان ذلك في أوائل العهد التركي أو في أواخره. فلم يطرأ في المائة الثالث عشرة أي تغيير على التراويح إلى أن دخلت المائة الرابع عشرة أي هذا القرن الحالي. وقد شاهد المعاصرون التراويح على ما كانت عليه إلا أنه تعددت لها الأئمة في المسجد النبوي على النحو الآتي بيانه في الكلام على القرن الرابع عشر إن شاء الله.
عنوان الكتاب:
التراويح أكثر من ألف عام في المسجد النبوي (السنة الثالثة، العدد الأول)
تأليف:
عطية محمد سالم
الناشر:
الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة
السنة الثالثة - العدد الأول، 1390هـ/1970م(4/38)
ص -64- التراويح أكثر من ألف عام في المسجد النبوي
بقلم الشيخ عطية محمد سالم القاضي بالمحكمة الكبرى بالمدينة
القرن الرابع عشر
دخل القرن الرابع عشر والتراويح في المسجد النبوي على ما هي عليه من قبل وظلت إلى قرابة منتصفه.
ولم يطرأ عليها أي تغيير لا في العدد ولا في كيفية أدائها فكانت ستا وثلاثين ركعة وثلاثا وترا تصلى عشرون بعد العشاء وست عشرة ركعة بعد منتصف الليل وينادي لهذه الأخيرة باسم الستة عشرية كما قاله النابلسي سابقا في القرن الثاني عشر.
ولكن الجديد في التراويح في هذا الوقت أي أوائل القرن الرابع عشر هو تعدد الأئمة والجماعات المتعددة زيادة على أئمة المذاهب الأربعة، وكانوا كثيرين يزيدون تارة وينقصون أخرى ولكن الدائمين أو الرسميين منهم ستة:
1- إمام للحاكم وحاشيته.
2- إمام للقاضي وكتابه وأعوانه.
3- إمام للأغوات ومن يصلي معهم.
4- إمام للمفتي.
5- إمام لرئيس العسكر.(4/39)
ص -65- 6- إمام للنساء.
7- أئمة للعوائل، تقيم بعض العوائل الكبار التراويح لأفرادها خلف إمام خاص بها، وهؤلاء الأئمة كانوا يصلون التراويح أثناء صلاة الإمام الراتب أي مع أئمة المذاهب السابقين وكانوا يختلفون عنهم في القراءة فيقتصرون على بعض الآيات وقصار السور لأنهم يصلون بأصحاب أعمال لا يستطيعون انتظار أئمة الفريضة لأن الأئمة الآخرين أئمة المذاهب كانوا يصلون بعموم الناس وكانوا يختمون مرتين مرة في الصلاة الأولى، ومرة في الصلاة الأخيرة التي هي الست عشرية.
وكان لهؤلاء الأئمة مواضع خاصة، فكان إمام الأغوات يصلي بهم عند الدكة الخاصة وفي محراب التهجد وهو المحراب الواقع حاليا في مؤخرة الحجرة والذي في الشبك الواقع بين الحجرة والدكة، أي دكة الأغوات محل أهل الصفة.
كما أن النساء كان يصلي بهن داخل القفص, وكان القفص عبارة عن شبك خشبي مزركش يحجز النظر يمتد في الجناح الشرقي من جهة باب النساء ممتدا إلى الشمال إلى الباب المجيدي من مؤخرة المسجد آنذاك وبعرض الجناح الشرقي كله.
وكان بارتفاع نحو ثلاثة أمتار، وغير مسموح لأحد بدخوله سوى النساء والأطفال والأغوات إذا لزم الأمر.
وقد أزيل هذا القفص قبل التوسعة الجديدة الحالية.
وكان إمام لشيخ الروضة يقوم في الحصوة الأولى التي بين باب الرحمة وباب النساء مما يلي مؤخرة الحرم.
ومن العجب ما أخبرني به السيد سعيد باشا شامل أن إمام شيخ الروضة كان يقرأ القرآن كله كل ليلة في التراويح طيلة الشهر، وقال: "كان هذا الإمام يقرأ بسرعة شديدة بحيث أنه كان تأخذه هزة وينسى نفسه وربما قرأ الجزء في الركعة الواحدة".
وقد سمعت من فضيلة الشيخ حسن الشاعر شيخ قراء المسجد النبوي أن رجلا كان يقرأ القرآن الكريم كله في ليلة واحدة من ليالي رمضان في صلاة التراويح، ولكن كان يفعل ذلك مرة واحدة تأكيدا لحفظه، وقال: كان يسرع في القراءة حتى لا تكاد تسمع منه إلا رؤوس الآية أو أواخرها من(4/40)
ص -66- شدة السرعة، ومثل هذا يكون لضبط الحفظ لا للتدبر.
صلاة شيخ الحرم:
وسمعت من الشيخ السيد أحمد الرفاعي وهو شيخ الحرم الآن، أن شيخ الحرم في عهد الأتراك والأشراف كان يصلي التراويح أحيانا في دكته أي دكة شيخ الحرم شتاء وهي الدكة الصغيرة الواقعة بين باب جبريل ودكة الأغوات على يمين الداخل من الباب ولا تزال موجودة حتى الآن وتتسع لثلاثة صفوف كل صف فيه ثلاثة أشخاص وترتفع قدر نصف المتر تقريبا كان يصلي به إمام خاص به وبمن يصلي معه فكان يصلي التراويح بتلك الدكة شتاء ويصلي التراويح بالحصوة الأولى صيفا. ومما يدل على صلاة التراويح بالحصوة على وجه العموم ما جاء عن النابلسي أنه قال عن بعض الليالي قال: "وكنا في صلاة التراويح فنزل المطر فدخلنا إلى الداخل" مما يدل على أنهم كانوا يصلون التراويح في الحصوة صيفا وفي الداخل شتاء وأن ذلك عمل البعض، لأنهم يذكرون صلاة أئمة الفريضة في محاريب معينة ويصلون فيها أيضا التراويح.
وسيأتي ذكر صلاة بعض أمراء المدينة في العهد السعودي للتراويح في الحصوة أيضا زمن الصيف إن شاء الله.
وبجانب هؤلاء الأئمة الست أئمة أيضا لبعض العوائل الكبار تجتمع العائلة بجميع أفرادها من عميدها وكبيرها إلى غلمانها فيأتي إمامهم فيصلي بهم في جهة ما من المسجد إلى أن ينهي التراويح طيلة رمضان.
إمامة طارئة من نوع جديد وطريف:
وكانت هناك إمامة الغلمان الذين يحفظون القرآن ويختمونه في تلك السنة من أي سنة من السنين فإذا تم حفظه في أي وقت من أوقات السنة ظل ينتظر حتى يأتي شهر رمضان فيحضر إلى الحرم ويحضر معه شيخه الذي حفظه وأبوه وزملاؤه الذين يحفظون معه وبعض الأقارب والأصدقاء فيقوم الغلام بصلاة التراويح ويقرأ القرآن الكريم كله في أثناء الشهر أو أقل بسماع شيخه والحاضرين فيكون بمثابة اختبار له وشهادة منهم على حفظه ثم يعمل له والده حفل ختم القرآن كلٌّ حسب اقتداره ومجهوده.
وقد يبذل والد الغلام الشيء الكثير في هذا الحفل فرحا بحفظ ولده للقرآن(4/41)
ص -67- العظيم وقد يهدي الحلل والهدايا الثمينة للشيخ والحاضرين علاوة على الطعام والحلوى ثم يلبس الغلام حلة وعمامة تشعر بأنه ختم القرآن وصلى به التراويح بالمسجد النبوي، وقد حدثني الشيخ السيد جعفر فقيه عن هذا العمل حديثا شيِّقا ولا سيما ما فعله والده نفسه لأحد أولاده، كما سمعت من فضيلة الشيخ محمد سعيد دفتر دار طرقا عديدة في ذلك.
وقد كان لهذا العمل فضل عظيم في تشجيع طلاب الكتاتيب على حفظ القرآن الكريم.
وكان بالحرم النبوي عدة كتاتيب يقوم عليها نخبة من معلمي القراءة والكتابة وتحفيظ القرآن وكانت تلك الكتاتيب هي اللبنة الأولى في تعليم أبناء المدينة كلهم ومنها إلى دروس الحرم أو المدارس فيما بعد.
ولا زالت صلاة هؤلاء الطلاب الصغار الذين ختموا القرآن يصلون بأهاليهم وزملائهم ومشائخهم لازال موجودا حتى الآن إلا أنه على نطاق ضيق ومن قلة من الناس.
ولا يبدؤون صلاتهم إلا بعد أن يفرغ الإمام من الصلاة بالناس.
والجدير بالذكر أنه أخذ يتناقص حتى أصبحنا لا نرى إلا الواحد أو الاثنين فقط وأن الكتاتيب نفسها قد ألغيت ولم تبق إلا آثار وبقايا في جوانب المسجد لا تستطيع مواصلة السير مع الصبيان حتى تعلمهم وتحفظهم القرآن.
كما أن آباء هؤلاء الصبيان لا يرضون لأبنائهم قضاء الوقت في أمثالها فيبادرون بهم إلى المدارس ومن ثم يثقل الطفل بالمواد فلا يستطيع حفظ القرآن اللهم إلا من وجدوا عناية خاصة من آبائهم أو التحقوا بمدارس تحفيظ القرآن التي أنشأتها وزارة المعارف تسد هذا الفراغ وساندها أهل الخير بإنشاء جمعيات لهذا الغرض، وقد التحق بها العديد من أبناء الحاضرة والبادية.
ولقد استطرد بنا الحديث إلى تلك الكتاتيب فلنعد إلى التراويح من أول العهد السعودي.
العهد السعودي
تمهيد:
من أصعب المواضيع على الكتاب هو الموضوع الذي لم يسبق إليه، حيث لا مثال يحتذي ولا مصدر يستقى منه، وسيكون الكاتب، وإن قيل أن له قصب(4/42)
ص -68- السبق إلا أنه سيكون موضع التجربة، ومحل النقد، لأنه سيتصيده من بحار الكتب ثم يجمع ما تصيده في سلك التأليف. فإذا لم يكن له وجود في الكتب، ولم يقيد قط، ولم يكن الكاتب يعاصره كان ذلك أصعب عليه، لأنه لا مرجع يؤخذ منه، ولا مشاهدة يستقي منها، بل سيتصيد ذلك من أقوال الرجال، وإذا كان العهد بعيدا كانت الصعوبة أشد لما يعرض للناس من آفة النسيان، وسيجد اختلافات عديدة وأقوال متنوعة، وعليه هو أن يستخلص منها ما يوصله إلى مطلوبه، وفي مثل هذه الحالة لن يسلم من الخطأ بزيادة أو نقص.
ومبحث التراويح في العهد السعودي وفي أوائله بالذات من هذا القبيل، فلا هو مدوَّن في كتب التاريخ، فيرجع إليها، ولا هو مشاهد فيستقى من الواقع.
وقد اتصلت بالكثيرين ممن شاهدوا أواخر العهد السابق وأوائل هذا العهد فكان كل يدلي بما حفظته الذاكرة ولم تضيعه عليه الأيام، وما نقص من عند هذا يكمل من عند ذاك، وكانت في مجموعها متفقة في أصولها وإنما الخلاف في صورها وأشكالها فاستخلصت منها ما سنقدمه للقراء الكرام ليأخذوا ولو صورة مجملة.
وإني لأجدد الذكرى بما أسلفت من رجاء من حضرات القراء أن من اطلع على شيء يتعلق بهذا الموضوع فإنه يتفضل بتقديمه إلينا تتمة للبحث وتوفية للموضوع وخدمة للمعرفة، وتأييدا للحق.
بدء العهد السعودي بالحجاز:
بدأ العهد السعودي قبيل منتصف هذا القرن وبدأ في المدينة المنورة بالذات سنة 1344هـ، وقد كانت التراويح من قبله تصلى جماعات متعددة بأئمة متعددين في وقت واحد وكانوا جميعا يصلون عشرين ركعة في أول الليل، والبعض منهم وخاصة المالكية يرجعون آخر الليل إلى المسجد النبوي يصلون ست عشرة ركعة المتقدم ذكرها وقد زال هذا التعدد من أوائل العهد السعودي.
أما وجوده فكان طارئا على المدينة لم يحدث إلا بعد القرن السابع وكانت المدينة سبعة قرون تصلي الصلوات كلها بإمام واحد ولا تتعدد فيها الجماعة لفريضة واحدة بل إن مالكا رحمه الله(4/43)
ص -69- وهو إمام دار الهجرة ممن يكره تعدد الجماعة في المسجد الواحد للفريضة الواحدة.
وقد مرَّت بالمدينة قبل هذا العهد أطوار مذهبية ساد أولا فيها مذهب مالك ثم ساد بعده مذهب الشافعي، ثم بعده مذهب أبي حنيفة رحمهم الله جميعا، وذلك بدون تعدد في وقت واحد ثم تعدد المذاهب في المدينة بعد أن ظهرت الدراسات المذهبية وتميز طلاب كل مذهب، وبدأت المنافسة ثم تحولت إلى مناقشة, ثم انتهت إلى تعصب، وأخيرا تعدد الأئمة في الصلوات الخمس، ثم جاء العهد السعودي فتوحدت فيه الجماعة في المسجد النبوي وفي المسجد الحرام للصلوات الخمس وللتراويح.
أما عدد الركعات وكيفية الصلاة فكانت عشرين ركعة بعد العشاء وثلاثا وترا، وذلك طيلة الشهر فإذا دخل العشر الأواخر زيدت عشر ركعات في آخر الليل باسم القيام، ومعها ثلاث وترا. فيكون مجموع الركعات في العشر الأواخر ستا وثلاثين ركعة إذا أضفنا الوتر أول الليل وآخره فيتفق العدد مع ما كانت عليه من قبل، ولكن هل كان ذلك مقصودا أم جاء عفوا واتفاقا يغلب على الظن أنه جاء عفوا وإن الزيادة قصد بها الاجتهاد في العشر الأواخر كما جاء عن عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم كان يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيرها. وعنها أيضا أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل العشر طوى فراشه وشد مئزره وأيقظ أهله.. إلى غير ذلك.
ولا سيما شدَّة التحري لليلة القدر التي تضافرت النصوص أنها في العشر الأواخر، وقد كان صلى الله عليه وسلم يعتكف في العشر الأواخر دون غيرها.
وعليه فتكون التراويح قد استقرت على عشرين ركعة على ما عليه العمل في جميع البلاد وعليه المذاهب الثلاثة. وخصت ليالي العشر الأواخر بعشر ركعات تهجدا وقياما.
الجديد في هذا العهد.
فيكون الجديد في التراويح في هذا العهد بالنسبة لما قبله هو: توحيدها في الجماعة الأولى، وإبطال التعدد الذي كان يشوش بعضهم على بعض. وقد سمعت من الشيخ محمد مظهر أن جده كان يخرج إلى بيته يصلي(4/44)
ص -70- التراويح فرار عن التشويش في المسجد.
والجدير بالذكر أن من أعظم نعم الله على الأمة أن تتوحد في الصلوات كلها في جماعة واحدة، وعلى إمام واحد أيا كان مذهبه من المذاهب الأربعة التي لم تخرج عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ولسنا في معرض مناقشة تعدد الأئمة والجماعة في الصلاة الواحدة في المسجد الواحد لا لشيء إلا لاختلاف مذهب هذا عن مذهب ذاك مع اتفاق أئمة المذاهب أنفسهم رحمهم الله على جواز صلاة كل منهم خلف الآخر. ولسنا كذلك في معرض المقارنة بين مذهب ومذهب فكلهم يرجعون إلى أصل واحد هو الكتاب والسنة. فلسنا في معرض هذا أو ذاك ولكن يهمنا وحدة الأمة، وبالأخص في عمل هو شعار الوحدة، ويكفي في ذلك الإشارة إلى ما سلف ذكره عن عمر رضي الله عنه لما دخل المسجد ووجد تعدد الجماعات فساءه ذلك فجمعهم على إمام واحد كراهية تفرقتهم أوزاعا، ولما رآهم من الغد ورأى اجتماعهم بعد الفرقة أعجبه ذلك وقال: "نعمت البدعة تلك".
أما العدد والاقتصار منه على عشرين ركعة فإنه العدد المعمول به عند الأئمة الثلاثة أبي حنيفة والشافعي وأحمد في غير المدينة وأخذا برواية (( يزيد بن رومان )) في نفس المدينة وعدم الأخذ بالزيادة في مقابل طواف بعض أهل مكة الذي تقدم الكلام عليه. وهذا العدد هو ما كان العمل عليه في المائة الرابعة وما بعدها إلى عهد أبي زرعة رحمه الله وتقدم أنه لما أراد بإعادة الست والثلاثين ركعة لم يعدها مجتمعة بل راعى خلاف الأئمة فصلى عشرين ركعة بعد العشاء عملا بما عليه الاتفاق، وأتى بالست عشرة ركعة آخر الليل مراعاة لعمل أهل المدينة، وقد كان يختم القرآن مرتين إحداهما في العشرين ركعة أول الليل، والأخرى في الست عشرة ركعة التي يصليها في آخر الليل.
وهذا الختم موجود كذلك في هذا العهد حيث يختم الإمام في التراويح أول الليل ثم يختم مرة أخرى في العشر ركعات في آخر الليل من العشر الأواخر.
فالتقى هذا العهد مع الذي قبله تقريبا في النتيجة، وهي ختم القرآن(4/45)
ص -71- الكريم مرتين وإن اختلف عنه في عدد الركعات وفي كيفية توزيع الصلاة، وانفرد هذا العهد بتوحيد الجماعة وإن وجد عدة أئمة يتناوبون الصلوات الخمس دون أن تتعدد الجماعة للصلاة الواحدة.
وكان أول من تولى الإمامة في العهد السعودي من السعوديين هو الشيخ الحميدي بردعان من أهالي حائل.
وتولاها معه ومن بعده عدة أئمة كانوا من أئمة سابقين يصلون بأتباع المذاهب الثلاثة على الوضع الأول فكانوا يتناوبون جميعا للصلوات الخمس يصلي كل واحد منهم بالجميع فريضة دون تعدد الجماعات.
فكان الشيخ محمد خليل من أئمة الشافعية سابقا أسندت إليه صلاة الظهر للجميع.
وكان الشيخ مولود من أئمة المالكية سابقا أسندت إليه صلاة العصر.
وكان الشيخ أسعد توفيق من أئمة الأحناف أسندت إليه صلاة العشاء.
وأسندت صلاتي المغرب والفجر إلى الشيخ عبد الرزاق حمزة.
وكان ينوب عنه الشيخ تقي الدين الهلالي.
كما كان يصلي أيضا الشيخ محمد عبد الله التنبكتي.
ثم كان من بعدهم جميعا لجميع الصلوات الخمس وللتراويح فضيلة المرحوم الشيخ صالح الزغيبي تولى الإمامة حوالي ربع قرن ظل فيها إلى أخريات حياته.
ولما كبر كان يساعده فضيلة الشيخ عبد العزيز بن صالح ابتدأ من شعبان سنة 1367هـ ثم انفرد بالإمامة فضيلة الشيخ عبد العزيز بعد وفاة الشيخ صالح الزغيبي رحمه الله سنة 1376هـ تقريبا.
وفي سنة 1376هـ عيِّن فضيلة الشيخ عبد المجيد بن حسن مساعدا لفضيلة الشيخ عبد العزيز بن صالح.
ولا تزال إمامة المسجد النبوي الرسمية لفضيلة الشيخ عبد العزيز بن صالح ونائبه فضيلة الشيخ عبد المجيد بن حسن إلى تاريخ كتابة ذلك.
وكنَّا نود أن نقدم الكثير عن أصحاب الفضيلة أئمة المسجد النبوي في هذا العهد وخاصة الذين صلوا التراويح ولكن ذلك يطول ذكره ويبعدنا عن الموضوع.
ولكن لا يسعنا إلا أن نورد عبارات موجزة ولمحات خاطفة إلى أن يقيض(4/46)
ص -72- الله من يترجم لهم جميعا تراجم وافية في رسالة مستقلة خدمة للمسجد ووفاء بحق أئمته.
وقد ترجم ابن فرحون للعديدين من أئمة المسجد النبوي في عصره وساق طرفا عنهم رحمهم الله.
ثم أعقبهم بتراجم للمؤذنين ثم للخدام وذكر الكثير من ذلك في عصره رحمه الله.
مما يلفت النظر إلى أسبقية هذا العمل وأنه محل عناية المؤرخين والكتاب والمؤلفين.
ولا سيما إذا تناول البحث جانبا علميا وحُكْماً فقهيا لنوع الإمامة وكيفية القراءة وهيئات الصلاة .. إلخ .. لما لهذا المسجد الشريف من مكانة في النفوس ومنزلة في القلوب جعلته المثل الذي يحتذى والقدوة التي به يقتدى.
ولئن عني بالإمامة في هذا المسجد في السابق فلهي اليوم أولى بالعناية وألزم حيث تزايد عدد المصلين وتضاعف عدد الوافدين وتطلعت الأنظار إلى بلوغ الكمال، وما يتناسب ومقام المسجد من تعظيم وإجلال ولا سيما وقد كان ذلك مقام الرسول صلى الله عليه وسلم ثم خلفائه من بعده.
وإنها لنعمة يسوقها الله لمن أسعدهم من خلقه يشرفون بها ويؤدون حقها.
ومن ثم عظم حق الأئمة في هذا المسجد الشريف على سائر الناس وعظم الواجب في حقهم أقل ما يكون هو ترجمة شخصياتهم وبيان مزاياهم ليقتدي بهم أئمة مساجد الدنيا في الحفاظ على الأوقات وإتمام العمل في الصلوات وما إلى ذلك.
إذا كنا لا نستطيع إيفاء الواجب كما ينبغي فلا أقل من نبذة موجزة للتعريف لا للتأليف، ونقول بإيجاز:
أئمة المسجد.
أما الشيخ الحميدي واسمه الشيخ الحميدي بردعان تقدم أنه كان من أهالي حائل وهو أول من تولى الإمامة في المسجد النبوي في أول العهد السعودي مكث لمدة سنتين ثم طلب من الملك عبد العزيز رحمه الله أن يسمح له بالعودة إلى بلده تلبية لرغبة جماعته ليعلمهم ويصلي بهم فامتنع عليه أولا ثم سمح له أخيرا. وبعد مدة رغب العودة إلى المدينة فلم يتيسر له.
أما الشيخ مولود فكان من أهالي المغرب وكان قد هاجر إلى المدينة قبل العهد السعودي وتوفي بالمدينة ولم أعلم(4/47)
ص -73- أنه صلى التراويح.
وأما الشيخ محمد خليل والشيخ أسعد فمن أهالي المدينة والشيخ أسعد هو الذي تولى صلاة التراويح وتوفي كل منهما بالمدينة وعقبا أبناء كراما. وكان الثلاثة رحمهم الله من أئمة المذاهب الثلاثة في المسجد النبوي قبل هذا العهد.
أما الشيخ عبد الرزاق حمزة فقد هاجر من مصر إلى المدينة في أوائل هذا العهد وتولى الإمامة للمغرب والفجر لمدة فوق السنتين ثم نقل إلى مكة المكرمة، ولم يعد إلى المدينة المنورة وظل بين مكة والطائف. وفي سنة 72ـ 1373هـ انتدب لتدريس المصطلح والحديث في المعهد العلمي بالرياض وانتهى به المطاف الآن إلى الطائف لكبر سنه، نسأل الله لنا وله العافية.
والشيخ تقي الدين الهلالي هو:
هاجر من المغرب في سنة 1340-1341هـ إلى مصر ومكث بها سنة واحدة لقي فيها السيد رشيد رضا وتنقل بين قبلي وبحري والإسكندرية في دعوة سلفية.
ثم سافر إلى الحج تلك السنة ومكث ثلاثة أشهر طرف الشيخ محمد نصيف وكان حفظه الله مركزا لكل سلفي يقدم جدة.
ثم سافر إلى الهند للدراسة والاطلاع على المكتبات وألقى دروسا في مدرسة علي جان من مدارس أهل الحديث في دلهي ثم تنقل في أرجاء الهند، ولقي شارح الترمذي صاحب التحفة أثناء كتابته للشرح المذكور وقد قرظه بقصيدة يهيب فيها بطلاب العلم إلى التمسك بالحديث والاستفادة من الشرح المذكور وقد طبعت تلك القصيدة في الجزء الرابع من الطبعة الهندية.
ثم سافر إلى العراق لمقابلة الشيخ الألوسي فلم يدركه ومكث بها ثلاث سنوات وتزوج بها وأنجب.
ثم جاء إلى الحجاز سنة 1345هـ مرة أخرى ومر بالشيخ رشيد رضا بمصر فكتب معه كتابا للملك عبد العزيز يشير عليه بإقامة الشيخ تقي الدين لديه.(4/48)
ص -74- فأراد الملك رحمه الله أن يوليه الإمامة في المسجد النبوي ولكنه اشترط أن يؤدي الصلاة على نحو عشر تسبيحات في الركوع والسجود فاعتبر ذلك تطويلا فعين مراقبا للدروس في الحرم النبوي وعين زميله الشيخ عبد الرزاق حمزة إماما ولكن الشيخ عبد الرزاق كان ينيبه عنه في بعض الصلوات خاصة في صلاة الصبح.
ومكث سنتين بالمدينة المنورة ثم وقع نزاع بينه وبين أمير المدينة آنذاك فسافر إلى مكة مدرسا في المعهد السعودي وهو معهد ثانوي ديني وقد سمعت من فضيلته أن سبب هذا النزاع هو الاختلاف في أسلوب الدعوة وتغيير المنكر بين الشدة واللين وقد هجا بعض الأشخاص المسؤولين آنذاك لتراخيه في أمر العقيدة وقد أملى علي أبياته في هجائه غير أني لم أرد ذكره لما فيه من التصريح باسمه، وقد توفي قريبا رحمه الله فلا حاجة لذكرها بعد وفاته.
والجدير بالذكر أن زميله الشيخ عبد الرزاق كان سفره إلى مكة لنفس السبب، ثم سافر حفظه الله إلى الهند بدعوة السيد الندوي ومكث ثلاث سنوات ثم رجع إلى العراق ومن ثم سافر إلى أوربا لتحصيل شهادة رسمية عالية بجانب شهادته القروية من جامعة القيروان.
فسافر إلى جنيف ولقي الأمير شكيب أرسلان فتوصل إلى التدريس في جامعة (( بون )) محاضرات في اللغة العربية ودرس حتى نال الدكتوراه سنة 1940م.
ثم سافر إلى المغرب ومكث حتى انتهت الحرب فرجع إلى العراق وعمل أستاذا في جامعة بغداد إلى قيام ثورة عبد الكريم قاسم فهرب إلى ألمانيا ومنها إلى المغرب فعين مدرسا في جامعة الملك محمد الخامس.
ومن ثم دعي إلى المدينة المنورة للتدريس في الجامعة الإسلامية ابتداء من سنة 1388هـ ولم يزل بها حتى الآن مدرسا وعضو المجلس الإداري.
هذه خلاصة ما سمعته مشافهة من فضيلته، وقد سجلته نظرا إلى أنه يعتبر من أسبق المعاصرين لأوائل هذا العهد.
أما الشيخ عبد الله التنبكتي فهو من بلاد مالي من إقليم تنبكتو وهي العاصمة العلمية والسياسية لتلك البلاد وقد كان من علماء العربية والفقه.(4/49)
ص -75- وكان له نشاط حميد في الدعوة بالمدينة ولظروف ما عاد إلى بلاده حوالي سنة 1344هـ وزاول نشاطه منقطع النظير في الدعوة إلى الله بفتح المدارس وتعليم عقيدة السلف، وكانت له جولات مع أعدائه على أيدي المستعمرين الفرنسيين آنذاك ولكن الرجل في نصرة دين الله فكان الله ناصر له كما قال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا} ولم يستطع الأعداء هناك النيل منه وبقي على عمله حتى توفاه الله.
ولعلي آتي بتفاصيل أوفى عنه وعن نشاطه في رسالة التراويح هذه التي ستطبع إن شاء الله تعالى قريبا في كتيب مستقل.
أما الشيخ صالح رحمه الله فقد آلت إليه الإمامة بعد هؤلاء جميعا وقام بها وحده منفردا بها منقطعا إليها ومكث بها مدة خمس وعشرين سنة تقريبا. وتوفي رحمه الله عن عمر يناهز الثمانين.
وكان من أهل القصيم وكتب عنه الشيخ محمد سعيد دفتر دار كتابة وافية في كتابه المخطوط أعلام المدينة.
ولكن الذي يهمنا هو جانب الإمامة وما له فيه من غرائب ونوادر لم تنقل عن غيره منها ما سمعته من فضيلة الشيخ عبد العزيز بن صالح عنه أنه كان رحمه الله إذا أتى المسجد لصلاة العصر لم يخرج حتى يصلي العشاء، وإذا أتى لصلاة الفجر لا يخرج حتى تطلع الشمس.
ومنها ما سمعته من الشيخ عبد الرحمن الحصين أنه لم يؤخذ عليه سهو في الصلاة إلا النادر كما سمعت من فضيلة الشيخ عبد المجيد أنه دخل في الصلاة مرة ثم التفت وأشار إليهم مكانكم وذهب فتطهر وعاد للصلاة ولم يستخلف لأنه كان حريصا ألا تفوته صلاة وهو بالمدينة.
ولذا فالمشهور أنه لم يتخلف عن صلاة قط مدة وجوده بالمدينة إلا لمرض ولم يخرج من المدينة إلا إلى الحج وحج مرة واحدة.
ومن الطريف أن إمام الحرم المكي في وقته كان ربما أطلق على نفسه إمام الحرمين فجاء إلى المدينة وأراد أن يصلي بالمسجد النبوي ولو فريضة واحدة كي يبرر هذا الإطلاق فلم يمكنه الشيخ صالح من ذلك أبدا.
ومن العجائب ما حدثني به رحمه الله أنه في بعض الأيام استيقظ لصلاة الفجر(4/50)
ص -76- وكان من عادته أن يبكر قبل الوقت بساعة تقريبا يتوضأ ويوتر ثم ينزل إلى الحرم وبعد أن أتم وضوءه وأراد لبس حذائه فإذا بعقرب فلدغته في قدمه، ولم يجد من يسعفه في ذلك الوقت ولم يستطع إخبار نائبه ليصلي عنه فصبر وتجلد ونزل إلى الحرم كعادته، وانتظر الموعد المحدد الذي ألف الناس إقامة الصلاة فيه وهو بعد الأذان بثلث ساعة ثم صلى بالناس، ولم يقدم الصلاة عن الموعد المحدد حرصا على إدراك الناس للجماعة، وكل ذلك لم يعلم بحالته أحد حتى انتهى من صلاته وعندئذ نفد صبره وانهارت قواه فلم يستطع النهوض وأخبر بعض الحاضرين فقرأ عليه بعضهم ثم نقل إلى بيته وأسعف هناك بمصل ضد العقرب. وكان في أخريات حياته ينوب عنه فضيلة الشيخ عبد العزيز بن صالح ثم لما ثقلت عليه القراءة صار ينوب عنه في الجهرية وفي خطبة الجمعة وهكذا في التراويح وفي العشر الأواخر.
أما فضيلة الشيخ عبد العزيز بن صالح إمام وخطيب المسجد النبوي الآن ومساعده فضيلة الشيخ عبد المجيد المعاصران فإن معاصرتهما وإمامتهما تغني عن التحدث عنها، ومعرفة الجميع لها تكفي عن التعريف بهما وما يعرفه المعاصرون عنهما أكثر مما سيكتب بخصوصهما.
ولكن ما لابد منه لهذا العرض وما له صلة بصلاة التراويح، وما يقتضيه المقام من الإشارة بإيجاز فإني أوجزه في الآتي:
أولا: فضيلة الشيخ عبد العزيز بن صالح آل صالح ولد بالمجمعة ونشأ في أسرة كريمة عرف جميع أفرادها بالفضل وتحتل مكانتها في البلدة المذكورة بأصالة الرأي وحسن القدوة في أعيانها، فنشأ حفظه الله على أسس كريمة فاضلة ومحبة للخير فحفظ القرآن الكريم في صغره قبل البلوغ. ودرس على المشايخ الأوائل، وأكثر من أخذ عنه العلامة الفاضل الشيخ عبد الله ابن عبد العزيز العنقري من كبار علماء عصره وصاحب الحاشية المعروفة بحاشية العنقري على الروض المربع في ثلاث مجلدات. ثم أنهى دراسة التجويد على الشيخ القراء في المسجد النبوي وإمام عصره في القراءات فضيلة الشيخ حسن الشاعر سنة 1370هـ على قراءة حفص.(4/51)
ص -77- ومنذ بدء دراسته حفظه الله وهو دائب الجد والتحصيل وكانت دراستهم مناقشة ومنافسة على نظام الحلق والمراجع بدون تقيد بوقت ولا اختيار في مقرر وهي الطريقة التي كانت سائدة في عامة البلاد قبل الدراسات النظامية. فكانت مجالا واسعا للتحصيل والنبوغ.
وقد ظهرت مخايل نبوغه في صغره فاختير لمساعدة إمام مسجدهم لصلاة التراويح وعمره 16 سنة ثم عين إماما في المجمعة ثم رئيسا لهيئة الآمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالمجمعة مع مواصلة الدراسة، ثم عين في سلك القضاء فعين في الرياض مع فضيلة الشيخ عبد الله بن زاحم رحمه الله فاتصل في تلك المدة بأصحاب الفضيلة من المشايخ بالرياض وخاصة آل الشيخ وسماحة المفتي رحمه الله، وفي سنة 1363هـ اختار الملك عبد العزيز رحمه الله فضيلة الشيخ عبد الله بن زاحم وكان من خواص رجالاته المقربين ذوي المكانة الخاصة لدى جلالته اختاره لرئاسة محكمة المدينة المنورة، فاختار هو أيضا فضيلة الشيخ عبد العزيز بن صالح ليكون معه بمحكمة المدينة.
وفي شعبان سنة 1367هـ بدأ فضيلته الإمامة في المسجد النبوي مساعدا لفضيلة الشيخ صالح الزغيبي رحمه الله وكان يساعده في الصلوات الجهرية خاصة ثم عموم الصلوات والجمعة.
وفي سنة 1370هـ توفي الشيخ صالح رحمه الله فأسندت الإمامة والخطابة إلى فضيلة الشيخ عبد العزيز حفظه الله وبجانب عمله الرسمي بالمحكمة الكبرى وكان آنذاك مساعد الرئيس مع دروس في الفقه والفرائض بالمسجد ثم بالبيت.
وفي 12 رجب سنة 1374هـ توفي فضيلة الشيخ عبد الله رئيس المحكمة فأسندت الرئاسة إلى الشيخ عبد العزيز بن صالح، وفضيلته من ذاك التاريخ هو الإمام والخطيب ورئيس المدرسين بالمسجد النبوي بجانب رئاسة المحاكم والدوائر الدينية بمنطقة المدينة.
وبعد نظام كادر القضاة عين فضيلته على رتبة قاضي تمييز واختير عضوا في المجلس الأعلى للقضاء وهو المجلس الذي يشرف على سير القضاء كله في المملكة كلها.
وكل ذلك معلوم للجميع الذين عرفوا فضيلته وما ذكرنا ذلك إلا بيانا(4/52)
ص -78- لمقدار الإمامة بالمسجد النبوي وأنها لأعظم منصب وأكبر خطرا من ذلك كله.
ومما هو غني عن الذكر في هذا أن فضيلته وجه الخطابة إلى المشاكل والقضايا الاجتماعية درسا وتحليلا وعلاجا وتوجيها، فنقلها عن الدواوين المسطورة إلى الوقائع المشهورة.
أما التراويح موضوع الرسالة والكتابة فهي في صورتها وكيفية أدائها تلاوة وطمأنينة فهي في الواقع تعتبر الوسط الفاضل، فلا هي طويلة على ذوي الحاجات ولا هي قصيرة عند ذوي الرغبة في العادات، بل هي ترتيل من غير تطويل، وتخفيف من غير تحريف سواء من فضيلته أو من فضيلة مساعده عبد المجيد بن حسن.
تلك نبذة يسيرة لعمل تاريخي من زاوية محدودة لا ترجمة ولا تعريفا إذ التراجم دراسات من مقدمات ونتائج وليس هذا مجالها والتعريف بمن يكون مجهولا ولا محل للجهالة مع عظمة هذا المنصب الذي يعرف بصاحبه لدى القاصي والداني حفظه الله وأمد في عمره لخدمة هذا المنصب الجليل.
أما فضيلة الشيخ عبد المجيد بن حسن فقد بدأ دراسته أولا في بلاده ثم واصل دراسته في مدرسة دار العلوم الشرعية بالمدينة إبان حدتها وقوة دراستها حين كان بها القسم العالي للعلوم الدينية والعربية وواصل دراسته أيضا الدينية والعربية في المسجد النبوية على عدة مشائخ منهم الشيخ الطيب رحمه الله.
وقد اختير للتعليم فالتحق بمديرية التعليم آنذاك وكان أول مؤسس لمدرسة شقراء سنة 1360هـ فقام بها خير قيام وكان لفضيلته أكبر الأثر في جميع أبنائها خاصة في أهالي البلدة عامة.
وفي سنة 1366هـ التحق بسلك القضاء فعين بمحكمة رابغ وعمل بها لمدة ست سنوات إلى نهاية عام 1371هـ.
وفي عام 1371هـ نقل إلى محكمة المدينة ثم كان المساعد الثاني لفضيلة الرئيس الشيخ عبد الله ابن زاحم رحمه الله، وكان المساعد الأول فضيلة الشيخ عبد العزيز بن صالح.
وفي سنة 1373هـ بدأ الصلاة(4/53)
ص -79- بالمسجد النبوي مساعدا لفضيلة الإمام عبد العزيز بن صالح وفضيلته الآن المساعد الأول لفضيلة الإمام يعاونه في الصلوات الخمس وينوب عنه في جميعها وفي الخطبة عند غيابه. ويشترك معه في صلاتي التراويح والقيام على النحو الآتي بيانه إن شاء الله تعالى.
وفي عام التسعين والثلاثمائة والألف عند كتابة هذه الأحرف عين فضيلته عضوا في محكمة التمييز بالمنطقة الغربية وانتدب إلى الهيئة العلمية.
وكما أسلفت فلست في معرض الترجمة ولا بيان المزايا الشخصية والخصائص الفردية لكل من الشيخين فضيلة الإمام ونائبه، فهناك الشيء الكثير سواء ما عرفته من كل منهما، أو عرفه بعض خواصهما أو عرفه كل منهما عن الآخر بحكم ما بينهما حفظهما الله من قوة الصلة وروابط الإخاء والصداقة الشخصية فوق حدود الزمالة والعمل من أول ارتباطهما معا في عمل واحد.
فلسنا في معرض بيان كل ذلك فكما أسلفنا معاصرة فضيلتهما أغنت عن تفصيل الحديث عنهما، وما يعرفه الناس عنهما أكثر مما يمكن أن يقال فيهما.
أمد الله في حياتهما وبارك فيهما أمين.
عنوان الكتاب:
التراويح أكثر من ألف عام في المسجد النبوي (السنة الثالثة، العدد الثاني)
تأليف:
عطية محمد سالم
الناشر:
الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة
السنة الثالثة - العدد الثاني 1390هـ/1970م(4/54)
ص -62- التراويح أكثر من ألف عام في المسجد النبوي
بقلم الشيخ: عطية محمد سالم القاضي بالمحكمة الكبرى بالمدينة
التراويح اليوم في المسجد النبوي:
إنّ كل مواطن أو مشاهد في غنى عن التحدث إليه عن واقع التراويح الشاهد الملموس، ولكن الذين لم يقدر لهم حضور رمضان ولا جزءاً منه بالمدينة لا شك أنهم يتطلعون إلى كل شيء في المسجد النبوي، ولا سيما عن هذا العمل الفاضل، القيام في شهر الصيام، وفي مسجد النبي عليه السلام، ومن الذي يستطيع تصوير ذلك كما ينبغي، ولكني أحاول التحدث عنه حسب ما نشاهده وبقدر ما يمكن إعطاء الفكرة عنه، ومعلوم أن الكتابة لا تصل حد المشاهدة، فليس كالعين في النظر، ولا الأذن في السماع ولكن بقدر المستطاع.
أولا:وقتها:
معلوم أن وقتها بعد صلاة العشاء ولكن الجديد فيه هو أن العشاء في غير رمضان يؤذن لها بعد غروب الشمس بساعة ونصف أي تسعين دقيقة وتصلى بعد ربع الساعة من الأذان.
أما في رمضان فلا يؤذن للعشاء إلا في تمام الساعة الثانية بعد الغروب مراعاة للمصلين الذين يحضرون أولا لتناول ما يفك صيامهم في الحرم النبوي من تمرات خفيفات ثم يصلون(4/55)
ص -63- المغرب ثم ينصرفون إلى بيوتهم لتناول وجبة الإفطار ومن ثم يعودون إلى الحرم لصلاة العشاء والتراويح.
والكثيرون منهم يحضرون من أماكن بعيدة فروعيت ظروفهم وتيسر حضورهم فإذا مضت الساعتان وأذن للعشاء أقيمت الصلاة بعد عشر دقائق فقط ويصليها فضيلة الشيخ عبد العزيز وبعدها يتنفل من شاء من ركعتي سنة العشاء ثم تبدأ التراويح على الكيفية الآتية:
كيفية أدائها:
تبدأ في الساعة الثانية والنصف إلا خمس دقائق تقريباً يبدأها فضيلة الشيخ عبد العزيز، فيصلي عشر ركعات في خمس تسليمات وتستمر إلى الساعة الثالثة إلا خمس دقائق أي تستغرق نصف ساعة تماماً ثم يبدأ فضيلة الشيخ عبد المجيد في العشر ركعات الأخرى مباشرة يصليها بخمس تسليمات تستمر إلى الساعة الثالثة والنصف إلا خمس دقائق ثم يصلي الوتر ثلاث ركعات مفرقة ينتهي منه في تمام الثالثة والنصف تماماً ومجموع القراءة في كل ليلة من كل منهما معاً جزء كامل.
والجدير بالذكر أن صلاة كل منهما حفظهما الله متساوية في الزمن وفي الأداء نصف ساعة لكل عشر ركعات بنصف جزء فيكون العشرون ركعة ساعة كاملة بجزء كامل.
وقد بلغ حرص المصلين على حضور التراويح بالمسجد النبوي حتى أصبحت التراويح كالجمعة لكثرة الزحام ووفرة القائمين من أطراف المدينة والزائرين من خارجها، وهذا العدد يتضاعف والزحام يشتد ليلة تسع وعشرين ليلة الختم، ختم القرآن لما فيه من الدعاء.
الوتر في رمضان في هذا العصر:
أما الوتر ففي التراويح فيما قبل العشر الأواخر فإن فضيلة الشيخ عبد المجيد يوقعه في نهاية التراويح بعد الخمس تسليمات الأخيرة التي يصليها تتمة للعشر تسليمات ويوقعه بثلاث ركعات منفصلة يسلم من ركعتين ثم يأتي بواحدة مفردة ويقنت جهراً بعد الرفع من الركوع.
أما في العشر الأواخر من الشهر المبارك والتي يكون فيها القيام آخر الليل يكون الوتر كالتالي:(4/56)
ص -64- 1- يترك فضيلة الإمام ونائبه الوتر في صلاة التراويح ليؤدياه مع صلاة القيام آخر الليل لحديث: "اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً".
ولا يوقعه أول الليل لحديث: "لا وتران في ليلة" فيوتر بالجماعة أول الليل محمد العلمي على النحو المتقدم، هذا عمل الجماعة العامة لجميع المصلين.
ما عدا جماعة الأحناف فإنهم لا يوترون مع الإمام بل ينفردون به بإمام منهم طيلة الشهر وذلك بعد فراغ الإمام الراتب أو نائبه من الوتر بعد التراويح ويوقعونه ثلاث مجتمعات كالمغرب، وسنلم بمبحث الوتر عند الأحناف في نهاية دعاء القنوت في التهجد ليلة الثلاثين من رمضان سنة 1390هـ بعد الختم بليلة نقل من التسجيل.
اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك اللهم لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت فإنك تقضي ولا يقضى عليك، إنه لا يذل من واليت ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين من تهون به علينا مصائب الدنيا.
اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يرحمنا.
اللهم اجعل خير أعمالنا أواخرها وخير أعمارنا خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاك.
اللهم إنا نسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، والسلامة من كل إثم والغنيمة من كل بر والفوز بالجنة والنجاة من النار، ونسألك الجنة وما قرب منها من قول أو عمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل ونسألك أن تجعل كل قضاء قضيته لنا خيراً لنا يا رب العالمين.
اللهم أعطنا ولا تحرمنا، وزدنا ولا تنقصنا، وأكرمنا ولا تهنا، وارزقنا وارض عنا.(4/57)
ص -65- اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا..
اللم اجعل مجتمعنا هذا مجتمعاً مرحوماً واجعل تفرقنا بعده تفرقاً معصوماً ولا تجعل فينا ولا منا ولا معنا شقياً ولا محروماً.
اللهم انصر دينك وكتابك وعبادك المؤمنين.
اللهم إنا نعوذ برضاك من سخطك وبعفوك من عقوبتك وبك منك لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك. ربنا تقبل منا إنك أنت السمع العليم وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، وصل اللهم على سيدنا محمد وسلم.
صلاة القيام آخر الليل:
تقدم أن أهل المدينة منذ القرون المتقدمة من عهد أبي زرعة رحمه الله كانوا إذا فرغوا منن التراويح يرجعون إلى المسجد في ثلث الليل الأخير لصلاة الست عشرية وذلك طيلة ليالي الشهر كله يصلون ست عشرة ركعة وكانوا ينادون لها على المنارة لاجتماع الناس إليها وكانت ست عشرة ركعة مع عشرين أول الليل تتمة ست وثلاثين كما تقدم، ولكن في هذا العهد لا يصلي من آخر الليل شيء في أول الشهر.
فإذا كان العشر الأواخر ابتداء من ليلة عشرين فإن المصلين يعودون إلى المسجد بدون نداء على المنابر فإذا كان ثلث الليل الأخير حضر الإمام ونائبه وقد تجمع جم غفير من أنحاء المدينة رجالاً ونساء شيباً وشباباً ترى على الوجوه سمة الخير ووقار السكينة وإشراقة التهجد.
فيقوم الإمام في الروضة الشريفة في مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا بدأ الصلاة ساد شعور لا يمكن وصفه ولا تصويره، من جلال وإجلال ورغبة ورهبة، وتلاحق في الذهن الماضي المشرق للمسجد المبارك، والآثار العطرة للروضة المطهرة.
وتراءت صور المصلين عبر القرون الماضية، وأحسست بخيوط من الأشعاع تربطك بالسلف وهبات من نسيم الرحمة تبلل جفاف القلوب وتحيي مواته وتمس شغافه فتزكي شعوره وتوقظ انتباهه وتملك زمامه.
فإذا قرأ الإمام ورتل اجتذب المسامع واستصغى الأفئدة وهناك يمضي(4/58)
ص -66- الوقت ولا يكاد يحسب من العمر أو يعد من الحياة لأنه أسمى ساعات العمر وفوق لحظات الحياة يصلي الإمام ركعتين ثم يصلي نائبه ركعتين وهكذا بالتناوب إلى أن تنتهي العشر ركعات بخمس تسليمات يبدأهن فضيلة الإمام ويختمهن أيضاً يقرأ في كل ليلة ثلاثة أجزاء ويوتر فضيلة الإمام بثلاث ركعات ويقنت كما تقدم ويطيل قنوته وهكذا الليالي التسع.
فإذا كانت الليلة الأخيرة وهي ليلة تسع وعشرين والتي يقع فيها الختم فإن الصلاة تكون فيها كالتالي:
أولاً: في التراويح تكون قراءة الختمة الأولى قد بلغت إلى جزء (عم) فيصلي الإمام التراويح كلها عشرين ركعة فإذا كان في الركعة الأخيرة وقرأ: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} دعا بدعا ختم القرآن الكريم قبل أن يركع، وأطال في الدعاء واجتهد في الإنابة إلى الله والضراعة إليه والمصلون معه يؤمنون ويبتهلون وما أن يسترسل الإمام في دعائه وتظهر رقته في صوته إلا ويجهش الجميع بالبكاء ويضج المسجد بالدعاء إلى أن ينهي الإمام دعاءه ثم يركع ويكمل الركعة الأخيرة، ثم يترك الوتر للشيخ العلمي فإذا كان في القيام من آخر الليل عمر المسجد بالمصلين وأطلقت مباخر الطيب.
وتكون القراءة في تلك الليلة قد وصلت جزء (قد سمع) فيبدأ الإمام الصلاة كالمعتاد ويتناوب معه نائبه وتكون الركعتان الأخيرتان للإمام كما تقدم فإذا كان في الركعة الأخيرة كما تقدم وقرأ سورة (الناس) رفع يديه وبدأ الختم المبارك على النحو المتقدم، فإذا فرغ منه أتم صلاته ثم أوتر وقنت.
ولعظم شأن هذا الختم في المسجد النبوي المبارك وشدة روعته وكبير أثره فإني أورده بشيء من التفصيل في المبحث الآتي مبيناً أقوال العلماء في أصله ومستنده وكيفيته ومكانه من الصلاة وخاصة في المسجد النبوي.
مبحث عمل الختم في المسجد النبوي في الوقت الحاضر سنة 1390هـ.
وبما أن العمل في المدينة وفي المسجد النبوي ومن الإمام الراتب له أهميته وقيمته في العالم الإسلامي كله. وقديماً كان علماء أهل المدينة حجة عند إمام دار الهجرة مالك بن أنس
رحمه الله بناء على أنهم توارثوه عن السلف وأنها منبع السنة.
وهكذا اليوم منزلة المدينة في نفوس المسلمين وقداستها في قلوبهم وإمامتها في أنظارهم فهي دار الهجرة وموطن التشريع.
وعمل الختم في نهاية التراويح والتهجد في رمضان بالمسجد النبوي في هذه الآونة طبقت أخباره الآفاق والأمصار، ويفد لحضوره عدد من جميع الأقطار، فلا بد وأن يكون موضع تساؤل عن أصل مشروعيته ولا سيما من الذين يتطلعون إلى أدلة كل عمل، وقد تساءل عبد الله بن أحمد بن حنبل مع أبيه حين سمعه يذكر عمل الختم فقال له: إلى أين تذهب في ذلك، أي ما هو دليلك فيه ؟ فأجابه بما عنده فيه وسيأتي قريباً إن شاء الله.
وقبل كتابة هذه الرسالة تساءل معي أحد الإخوان الذين لهم غيرة على السنة وشدة على البدعة وشبهته في ذلك من جهتين:(4/59)
ص -67- الجهة الأولى:
أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يصل التراويح كاملة في رمضان، ولم يقرأ القرآن كله في تراويح ولا في تهجد، وعليه فلم يدع بهذا الدعاء ولا محل له عنده؛ لأنه لم يوقع الختم الذي يدعو بعده فمن أين إذاً أصل المشروعية؟.
والجهة الثانية:
إن الناس في حالة سماع التلاوة طيلة الشهر يكونون في هدوء تام وحسن إصغاء وصمت، وعند دعاء الختم تعتريهم حالات الضراعة والبكاء والابتهال ويقول: إن الدعاء لا يكون أعظم تأثيراً من كلام الله تعالى.
هكذا أورد لي وجهة نظره وربما كان لا يحضر ولا يشارك في هذا العمل فكان من المستحسن إيراد الجواب على وجهة النظر تلك وعرض ما أقف عليه من الأدلة عن السلف رحمهم الله سواء المرفوع منها أو الموقوف العام فيها أو الخاص مما تستأنس له النفس ويطمئن إليه القلب إن شاء الله.
أما الأدلة:
فقد وجدت في مجمع الزوائد ج1 ص172 حديث العرباض بن(4/60)
ص -68- سارية رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صلى صلاة فريضة فله دعوة مستجابة ومن ختم القرآن فله دعوة مستجابة" رواه الطبراني، وفيه عبد الحميد بن سليمان وهو ضعيف، وعن ثابت أن أنس بن مالك رضي الله عنه كان إذا ختم القرآن جمع أهله وولده فدعا لهم. رواه الطبراني ورجاله ثقات. ا هـ.
فهنا حديث مرفوع بسند ضعيف وأثر موقوف على صحابي رجاله ثقات فيعضد أحدهما الآخر، وفي رسالة للشيخ حسين مخلوف ما نصه: (يسن الدعاء عقب الختم) وساق حديث العرباض المتقدم وقال: رواه الطبراني وغيره.
وعن أنس مرفوعاً: "من قرأ القرآن وحمد الرب وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم واستغفر ربه، فقد طلب الخير مكانه" رواه البيهقي في الشعب. وكان عند ختم القرآن يجمع أهله ويدعو.
فقد وجدنا حديث العرباض رواه الطبراني وغيره ووجدنا أثراً موقوفاً ومرفوعا عند البيهقي ومؤيداً بعمل الصحابي الذي رواه مرفوعاً.
وعند المروزي في كتاب (قيام الليل) قال: "كان رجل يقرأ القرآن من أوله إلى آخره في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان ابن عباس يجعل عليه رقيباً فإذا أراد أن يختم قال لجلسائه: قوموا حتى نحضر الخاتمة".
وروي عن مجاهد أنه قال: "تنزل الرحمة عند ختم القرآن ويقولون الرحمة تنزل".
فهذه نصوص عامة في الدعاء عقب ختم القرآن مطلقاً من غير قيد الصلاة أو غيرها.
وقد وجدنا عند ابن قدامة تفصيلاً كاملاً في خصوص هذا العمل لأحمد رحمه الله.
قال في المغني ج2 ص171 قال: "فصل في ختم القرآن. قال الفضل بن زياد: سألت أبا عبد الله فقلت: ختم القرآن أجعله في الوتر أو في التراويح قال: اجعله في التراويح حتى يكون لنا دعاءين اثنين، قلت كيف أصنع ؟ قال: إذا فرغت من آخر القرآن فارفع(4/61)
ص -69- يديك قبل أن تركع وادع لنا ونحن في الصلاة وأطل القيام، قلت: بم أدعو؟ قال: بما شئت، قال: ففعلت بما أمرني وهو خلفي يدعو قائماً ويرفع يديه". فقد فصل لنا هذا النص عن أحمد كيفية العمل في الختم وبين لنا محله وعموم الدعاء فيه.
ونص عن حنبل قال: سمعت أحمد يقول في ختم القرآن: إذا فرغت من قراءة {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} فارفع يديك في الدعاء قبل الركوع، قلت: إل أي شيء تذهب في هذا ؟ قال: "رأيت أهل مكة يفعلونه، وكان سفيان بن عيينة يفعله معهم بمكة".
قال العباس بن عبد العظيم: "وكذلك أدركنا الناس بالبصرة وبمكة. ويروي أهل المدينة في هذا شيئاً وذكر عن عثمان بن عفان.
ففي هذا نجد الفضل بن زياد يسأل أحمد لا عن مشروعية الدعاء عند الختم، بل عن موضعه من الصلاة وكيفية العمل فيه وأقره أحمد رحمه الله وبين له الكيفية والموضع مما يدل على أن أصل المشروعية معلوم لهما.
فلا غرو أن يقع التساؤل اليوم عن مشروعية هذا العمل، وقد وقع من قبل بين حنبل وأحمد رحمهما الله وقال له: إلى أين تذهب في ذلك، أي إلى دليل عليه.
وأحاله أحمد رحمه الله على ما عنده فيه مما رآه بالفعل من عمل أهل مكة، وفعل الإمام الجليل سفيان بن عيينة مع أهل مكة، وما يروى عن أهل المدينة، وما كان يفعل في الأمصار الثلاثة الرئيسية البصرة ومكة والمدينة مناطق العلم ومواطن الإقتداء آنذاك بالإضافة إلى ما عند أهل المدينة في ذلك عن عثمان رضي الله عنه، وكذلك ما رأينا عن ابن عباس رضي الله عنه، فظهر من هذا كله مستند مشروعية الدعاء عقب ختم القرآن سواء على الإطلاق أو في التراويح مع بيان الكيفية عن أحمد رحمه الله.
وهي في مجموعها كافية لمثل هذا العمل بناء على أن ما كان مشروعاً بأصله فهو جائز بوصفه، فأصل الدعاء مشروع وكونه متصفاً بصورة الختم لا تنفي مشروعيته ومثله القنوت، دعاء في الصلاة.
ومهما يكن من شيء فإن ما تقدم من(4/62)
ص -70- عرض ما ورد عن السلف يكسب طمأنينة ويورث ارتياحاً لمشروعية هذا العمل، وأن فيه اقتداءً بسلف الأمصار الثلاثة البصرة ومكة والمدينة.
أما التأثر بالدعاء أشد من التأثر بالتلاوة فهذه مقارنة بين حالتي المصلين في سماع التلاوة طيلة الشهر في هدوء وطمأنينة وسماع الدعاء عند الختم في ضراعة وبكاء وخشية وابتهال، وهما حالتان متغايرتان.
إلا أنهما وإن اختلفتا في الشكل فهما متحدتان في المعنى والحقيقة لأن آداب التلاوة في حسن الاستماع والإنصات، وخصائص الدعاء الابتهال والخشوع.
وللدعاء مكان لا تتأتى فيه التلاوة كالسجود أقرب ما يكون العبد فيه إلى الله تعالى، ومع هذا القرب لا تجوز التلاوة وينبغي الاجتهاد في الدعاء وكالحالات التي وردت فيها نصوص أدعية خاصة في الصباح وفي المساء ودخول المسجد وافتتاح الصلاة والقنوت.
وكما أن للتلاوة آداباً فللقرآن مواضع تمر بالمستمع من مواعظ وأخبار وتشريع وحلال وحرام وغير ذلك مما ينقل ذهن السامع من معنى إلى معنى آخر.
وأما الدعاء فإن المستمع والداعي تتركز أحاسيسهم وأفكارهم وشعورهم وقلوبهم إلى وجهة واحدة هي الضراعة والإنابة والابتهال إلى المولى عز وجل.
بل إن الفطرة نوجه القلب في حالة الاضطرار والفزع إلى خالص الدعاء وذل السؤال كما قال صلى الله عليه وسلم: "الدعاء مخ العبادة".
ومن الواضح البين ما كان منه صلى الله عليه وسلم يوم بدر لما قام في العريش حين التقت قوى الحق على قلتها مع قوى الشر على كثرتها توجه إلى الله تعالى بالدعاء وألح على ربه في السؤال حتى أشفق عليه الصديق قائلاً: بعض مناشدتك ربك يا رسول الله.
فقد اجتهد صلى الله عليه وسلم في الدعاء ولم يلجأ إلى التلاوة، وكذلك ما جاء في الأحاديث الصحيحة عن يوم الفزع الأكبر حين يذهب صلى الله عليه وسلم لطلب الشفاعة فإنه يسجد سجوداً طويلاً ويلهمه الله(4/63)
ص -71- بمحامد لم يكن يعلمها من قبل، ولم يوجه صلى الله عليه وسلم إلى التلاوة مما يبين أن للتلاوة مكاناً وحالات وآداباً وتأثيراً، وللدعاء مكان وحالات وتأثير، فهما متوافقان في الحقيقة وإن اختلفا في الصورة، وكلاهما متلائم في مكانه.
أما عمل الختم بالمسجد النبوي اليوم: فالواقع أن الحديث عنه شيق كيف لا والحديث في حد ذاته عن ختم القرآن في أي مكان حديث ممتع للروح منعش للنفس منبه للضمائر الإسلامية لارتباطه بالقرآن الكريم المنزل من رب العالمين.
وإذا كان هذا الحديث يتعلق بالمسجد النبوي وفي الجوار الطاهر الكريم وفي شهر رمضان المعظم وفي آخر العشر الأواخر كان ذلك أعظم من أن يصور بحديث أو يقدم في موضوع، ولكن نسوق للقارئ الكريم وصفاً عملياً بقدر ما يمكن تصويره من وحي الشعور به فنقول وبالله التوفيق:
يقع الختم في المسجد النبوي في شهر رمضان مرتين مرة في صلاة التراويح وأخرى في صلاة القيام آخر الليل وذلك في ليلة التاسع والعشرين من شهر رمضان في أول الليل وفي آخره.
ولعل في ذلك ارتباط وإن كان من غير قصد بما جاء عنه صلى الله عليه وسلم أن جبريل عليه السلام كان يدارسه القرآن الكريم في رمضان كل سنة مرة وفي السنة التي قبض فيها صلى الله عليه وسلم دارسه القرآن مرتين.
وفي هذه الليلة يقع الدعاء في المسجد النبوي في صلاة الجماعة أربع مرات: مرتين في الختم ومرتين في الوتر مما يجعل تلك الليلة ليلة مشهودة عبادتها موصولة.
أما ختم التراويح الذي يكون في أول الليل فإنه إذا جاءت ليلة التاسع والعشرين فيكون قد بقي من قراءة الختمة الأولى جزء (عم يتساءلون)، وهو الجزء الأخير من المصحف الشريف وفي هذه الليلة يصلي فضيلة الإمام الشيخ عبد العزيز بن صالح التراويح كلها بدون تناوب فيها مع أحد وعند الفراغ من قراءة سورة {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} في آخر(4/64)
ص -72- ركعة من التراويح وقبل أن يركع يبدأ الدعاء بالختم يفتتحه بقوله: صدق الله العظيم الذي لا إله إلا هو، المتوحد في الجلال بكمال الجمال تعظيماً وتكبيراً المنفرد بتصريف الأحوال على التفصيل والإجمال تقديراً وتدبيراً إلى آخر ما يدعو به، وسيأتي نص ما أمكن تدوينه في نهاية هذا البحث إن شاء الله.
والجدير بالذكر هنا أنه حفظه الله يطيل القيام ويكثر السؤال ويجتهد في الابتهال ويظهر من الخشوع والخضوع إلى الله، ومن الإنابة والضراعة ما يحرك القلوب ويوقظ الشعور ويفتح الآفاق بالآمال ويطمع في رحمة الله وعظيم النوال لما يرد في الدعاء من نصوص مأثورة تجمع خيري الدنيا والآخرة.
فإذا فرغ من الدعاء ركع وأكمل صلاة الركعة الأخيرة من التسليمة الأخيرة والتي هي تمام العشرين ركعة وسلم وهي نهياة التسليمة العاشرة .
ويترك الوتر إلى الشيخ محمد العلمي فيوتر ويقنت في الوتر ويدعو هو أيضاً بدعاء القنوت المشهور الذي أوله: اللهم اهدنا فيمن هديت..الخ.
ويحضر هذا الختم في أول الليل من المصلين رجالاً ونساءً شيباً وشباباً مما يماثل بهجة العيد.
وتطلق مباخر العود وتنثر أنواع العطور ويتبادل المصلون الدعوات والتباريك ببهجة وفرحة وغبطة تفوق الوصف، ثم ينصرفون موفوري الرجاء والآمال في سعة فضل الله ورحمته.
فإذا كان ثلث الأخير عاد إلى المسجد خلق وفير من أهل المدينة وممن يفدون إليها بغية المشاركة وحضور هذا الختم فيتكامل عدد كبير رجالاً ونساء صغاراً وكباراً.. ويفيض المسجد بالجلال والوقار والهيبة والإكبار ينتظرون الإمام والبعض لم يبرح مكانه خاصة من وجد مكاناً في الروضة فيأتي الإمام ويقوم في الروضة في مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويكون قد بقي من الختمة الثانية ثلاثة أجزاء (قد سمع) و (تبارك) و (عم)، فيصلي الإمام كالمعتاد بالتناوب مع مساعده يبدأ الإمام بالركعتين الأوليين ويختم بالركعتين الأخيرتين، وإذا فرغ من سورة {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ(4/65)
ص -73- النَّاسِ} بدأ دعاء الختم ثم يكمل الركعتين ويسلم ثم يصلي هو الوتر حيث لم يوتر أول الليل ويقنت في الركعة الأخيرة منه، وإذا سلم من الوتر تسابق الناس إليه وإلى بعضهم البعض بأحر التهاني وخالص الدعاء وعظيم الرجاء في القبول وطلب العودة إلى تلك الفرصة الكريمة من كل عام.
وهنا وقفة مع التاريخ الذي سردناه للتراويح في هذا المسجد المبارك فلئن سجل العلماء والمؤرخون وأصحاب الرحلات كالنابلسي وابن جبير وابن بطوطة والعياشي صور الختم في الحرمين من احتفال هائل بإيقاد الشموع والمشاعل ونثر الزهور والرياحين وضرب الفراقع والمقارع وإنشاء القصائد والابتهالات، وغير ذلك.
فإنه في هذا الوقت وقد انقضى عهد الشموع بالكهرباء والثريات الكبريات فإن ليلة الختم في هذا العصر في المسجد النبوي أصبحت مقصد الكثيرين ومحط رحال المسافرين يفدون إليها من أطراف المملكة التماساً لبركاتها وتعرضنا لنفحاتها في هذا المسجد الكريم وفي هذا الجوار العظيم حيث يتوفر لها فضل الزمان من شهر رمضان وفضل المكان من تضاعف الأعمال.
عوامل تجعل لختم القرآن بالحرم النبوي في شهر رمضان وفي الثلث الأخير من الليل تفيض عليه روحاً ويضفي الله عليه نوراً ويكسوه جمالاً ويكسبه حلاوة ويزيده معنوية تفيض كلها على المصلين وجميع الحاضرين والمستمعين رحمات ورضوانا يجل قدرها عن الوصف، ويقصر دونها البيان، ولا يقدر قدره إلا من حضره.
وكيف يمكن وصف الحالات الروحية التي تشمل المكان كله وهي فوق حدود الوصف أو تقييم النفحات الربانية وهي أبعد من مقاييس التقييم حين تكتنف الحاضرين جميعاً.
ومن يقدر على تصوير الأحاسيس النفسية والشعور العميق بالبهجة العظمى لختم القرآن في نهاية رمضان في روضة من الجنان، إنها حالة يغيب فيها الشعور عن الوصف وتفقد فيها القدرة على البيان، فلا يسمع إلا أنات القلوب وزفرات الصدور، ولا ترى إلا عبرات الباكين من أعين الخاشعين في أكف الضارعين.
صور تجل عن الوصف ندركها(4/66)
ص -74- ولا نقدرها ونلمسها ولا نصورها فتبقى في إطار الذكرى ماثلة وفي حلقات التاريخ نيرة عطرة.
ولا ينتهي الإمام من دعائه ويفرغ من تضرعاته إلا وقد استشعر كل فرد في قرارة نفسه ببرد الطمأنينة، وذاق حلاوة المناجاة وغسلت دموعه آثاراً تامة، وأحس بالارتياح وزاد بهجة وغبطة واهتز في إطار ما يكتنفه من شعور بجلال المقام وشرف الجوار وفضل المكان واسترجع بذاكرته عجلة التاريخ أربعة عشر قرناً يستعرض الماضي بعزته وإشراقته ويدرك سر القوة ومصدر الإشعاع الروحي من هذا المكان ينزل به جبريل عليه السلام كل ذلك في لمحات خاطفة وخطرات عابرة ثم يوتر الإمام ويقنت، ثم يكمل الوتر ويسلم فيقبل المصلون بعضهم على بعض بالتهاني وصالح الدعوات متمنين العودة ومؤملين القبول، نسأل الله تعالى أن يقبلنا معهم ويجعلنا وإياهم من عتقائه من النار. آمين.
نص الدعاء عند ختم القرآن: في المسجد النبوي في هذا الوقت الحاضر في التراويح من المعلوم أنه لا توجد نصوص خاصة بذلك ولا معينة له لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقرا القرآن كله في الليالي التي صلاها أول الأمر فلم يؤثر عنه دعاء في ذلك.
ولكن كما قال ابن دقيق العيد: "ما كان مشروعاً بأصله فهو جائز بوصفه" أي أن الدعاء مشروع بأصله وهو مخ العبادة، وقال تعالى في أصل ذلك: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}، وحث صلى الله عليه وسلم على الاجتهاد في الدعاء في السجود بدون تحديد لا في الآية ولا في الحديث ومن هنا كان الأصل في الدعاء الإطلاق والعموم إلا ما جاء منصوصاً عليه كالدعاء في القنوت أو في آخر التشهد أو في أول الافتتاح في الصلاة وكذلك عند دخول المسجد وخروجه وغير ذلك فمثل هذا تكون السنة فيه التقيد بما ورد، وما عداه فهو على عمومه يجتهد الداعي بما تيسر له كما فعل صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر.
وهكذا في هذا العمل فهو موضع اجتهاد وقد تقدم عن أنس أنه كان يجمع أهله ويدعو ولم يعثر على نص معين، كما تقدم عموم لفظه فله دعوة مستجابة أي بعد ختم القرآن وصلاة فريضة على ما سبق بحثه.(4/67)
ص -75- ومن هنا لم يتقيد أحد بنص معين بل يتخير من الدعاء ما تيسر له وما يحقق له رغباته ويعبر عن حاجاته ومتطلباته، سواء من الأدعية العامة المأثورة أو من غيرها، وتقدمت إجابة أحمد للسائل عن الدعاء في الختم فقال: أدع بما شئت.
وقد نسب لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله نصوصاً للدعاء في هذا العمل وهو دعاء جامع شامل وليس بالطويل المسهب ولا بالقصير الموجز، ولم يتقيد الإمام بنص معين بل يدعو بما تيسر وجميع أدعيته من المأثور ولكنه يفتتح الدعاء بقوله:
صدق الله العظيم الذي لا إله إلا الله، المتوحد في الجلال بكمال الجمال تعظيماً وتكبيراً، المنفرد بتصريف الأحوال على التفصيل والإجمال تقديراً وتدبيراً، المتعالي بعظمته ومجده الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً، وصدق رسوله صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً، الذي أرسله إلى جميع الثقلين الجن والإنس بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، اللهم لك الحمد على ما أنعمت به علينا من نعمك العظيمة وآلائك الجسيمة، حيث أنزلت علينا خير كتبك وأرسلت إلينا أفضل رسلك وشرعت لنا افضل شرائع دينك ، وجعلتنا من خير أمة أخرجت للناس وهديتنا لعالم دينك الذي ارتضيته لنفسك وبنيته على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام.
ولك الحمد على ما يسرته من صيام شهر رمضان وقيامه، وتلاوة كتابك العزيز الذي {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} .
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
اللهم إنا عبيدك بنو عبيدك بنو إمائك نواصينا بيدك ماض فينا حكمك عدل فينا قضاؤك.
نسألك اللهم بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحداً من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عند أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا ونور صدورنا(4/68)
ص -76- وجلاء أحزاننا وذهاب همومنا وغمومنا.
اللهم ذكرنا منه ما نسينا وعلمنا منه ما جهلنا، وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يرضيك عنا.
اللهم اجعلنا ممن يحل حلاله ويحرم حرامه، ويعمل بمحكمه ويؤمن بمتشابهه ويتلوه حق تلاوته.
اللهم اجعلنا ممن يقيم حدوده ولا تجعلنا ممن يقيم حروفه ويضيع حدوده.
اللهم اجعلنا ممن اتبع القرآن فقاده إلى رضوانك والجنة ولا تجعلنا ممن اتبعه القرآن فزج في قفاه إلى النار، واجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهلك وخاصتك يا أرحم الراحمين.
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات وألف بين قلوبهم، وأصلح ذات بينهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم، واهدهم سبل السلام، وأخرجهم من الظلمات إلى النور، وبارك لهم في أسماعهم وأبصارهم وذرياتهم وأزواجهم أبداً ما أبقيتهم واجعلهم شاكرين لتعمك مثنين بها عليك، وأتمها عليهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم اغفر لجميع موتى المؤمنين الذين شهدوا لك بالوحدانية ولنبيك بالرسالة وماتوا على ذلك.
اللهم اغفر لهم وارحمهم وعافهم واعف عنهم وأكرم نزلهم ووسع مدخلهم واغسلهم بالماء والثلج والبرد ونقهم من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ}.
اللهم إنا نسألك من الخير كله عاجله وآجله ما علمنا منه وما لم نعلم، ونعوذ بك ونسألك من خير ما سألك منه عبدك ورسولك محمد صلى الله عليه وسلم وعبادك الصالحون.
اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل ونسألك رضاك والجنة ونعوذ بك من سخطك ومن النار.
اللهم لا تدع لنا ذنباً إلا غفرته ولا هما إلا فرجته ولا ديناً إلا قضيته، ولا مريضاً إلا شفيته وعافيته ولا حاجة هي لك رضاً ولنا فيها صلاح إلا قضيتها يا أرحم الراحمين.
ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في(4/69)
ص -77- أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين.
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا.
ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين وصلى الله على خير خلقه محمد وعلى آله وصحبه وسلم. ا هـ.
هذا نص الدعاء المنسوب لشيخ الإسلام ابن تيمية ولكن فضيلة الإمام الشيخ عبد العزيز بن صالح يزيد فيه جملاً مناسبة منها:
اللهم لا تجعل فينا ولا منا ولا معنا شقياً ولا محروماً.
اللهم إنك أمرتنا بالدعاء ووعدتنا بالإجابة فلا تردنا خائبين.
اللهم اجعلنا من عتقائك من النار ومن المقبولين.
اللهم إن رحمتك أوسع من ذنوبنا وعفوك أوسع من خطايانا.
اللهم هب المسيئين منا للمحسنين.
اللهم أنت الغني عنا ونحن الفقراء إليك..
إلى مثل ذلك من العبارات التي تحرك القلب وتزكي الروح.
ثم يختم بنحو قوله: سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين، وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
ثم يركع ويكمل الركعتين، ثم يأتي بركعتي الشفع ثم بركعة الوتر.
ولا يقام عمل ختم آخر نظراً لعدم تقدم الإمامة في الصلاة وإنما يجري ذلك كله في جماعة واحدة وفي ليلة واحدة من إمام واحد وهو الإمام الراتب الشيخ عبد العزيز بن صالح.(4/70)
عنوان الكتاب:
الرشوة
تأليف:
عطية محمد سالم
الناشر:
الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
السنة الثانية عشر - العددان 47 ، 48 - رجب - ذو الحجة 1400هـ(5/1)
ص -123- الرشوة
لفضيلة الشيخ عطية محمد سالم
القاضي بالمحكمة الكبرى بالمدينة المنورة
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله نبينا محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه ومن والاه وبعد:
فهذه عجالة في موضوع الرشوة تلبية لطلب (الإعلام)؛ لتقدم في حلقات (تلفزيونية)، سطرتها كبحث ليساعد على تقديمها على حلقات. وبالله التوفيق ومنه العون والرشاد.
الرشوة لغة:
قيل في المحاباة والجعل؛ قال صاحب القاموس: الرشوة مثلثة الجعل، ورشاه أعطاه، وارتشى أخذها، واسترشى طلبها، والفصيل طلب الرضاع، والرشاء ككساء: الحبل.
وزاد صاحب اللسان: وهي مأخوذة من رشا الفرخ؛ إذا مد رأسه إلى أمه لتزقه.
قال ابن الأثير: الرشوة الوصلة إلى الحاجة بالمصانعة، وأصله من الرشاء الذي يتوصل به إلى الماء؛ فالراشي الذي يعطي من يعينه على الباطل، والمرتشي الآخذ، والرائش الذي يسعى بينهما يستزيد لهذا ويستنقص لهذا.
ألفاظ مرادفة للرشوة:
منها السحت والبرطيل:
والسحت لغة: الحرام، أو ما خبث من المكاسب فلزم عنه العار؛ سمي بذلك لأنه يسحت البركة ويذهبها، يقال: (سحته الله) أي أهلكه، ويقال: (أسحته)، وقرئ بهما في قوله تعالى: {فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ} أي يستأصلكم ويهلككم.(5/2)
ص -124- واستدل له بقول الفرزدق:
وعض زمان يا ابن فروان لم يدع من المال إلا مستحثا أو مجلف
وأصله كلب الجوع، يقال: (فلان سحوت المعدة) إذا كان لا يلقي أبدا إلا جائعا، قاله الفراءi.
ومما يشهد لهذا المعنى اللغوي ما ثبت في فقه اللغة من تقارب المعنى بتقارب الألفاظ، والسحت متقارب مع السحق بالقاف، وهو الدق والطحن بشدة، وفيه الهلاك والتحطيم، وكذلك يشترك مع السحت السحب بالباء، وفيه سحب المرتشي، ويشترك مع السحر، والرشوة فعل عمل السحر في نفسه.
أما البرطيل: فقيل هو الحجر المستطيل، وسميت به الرشوة لأنها تلجم المرتشي عن التكلم بالحق، كما يلقمه الحجر الطويل، وكما جاء في الأثر: (إذا دخلت الرشوة من الباب خرجت الأمانة من الكوة)ii ، قاله ابن تيمية.
وفي القاموس: الترطيل: تليين الشعر بالدهن وتكسيره وإرخاؤه وإرساله .
مناقشة تلك الأقوال:
إن قولهم في الرشوة هي المحاباة والجعل لا يخلو من نظر؛ لأن المحاباة أعمّ؛ فقد تحابي صديقك وتصانع ولدك، وبعض من يقرب منك، أو تلزم مداراته لمروءتك أنت؛ كعطاء الشعراء ونحوهم.
ويقرب من هذا ما فعله صلى الله عليه وسلم مع العباس بن مرداس السلمي، حين سخط العطاء في غنائم خيبر وقال شعرا؛ فقال صلى الله عليه وسلم: "اقطعوا عنا لسانه حتى رضي".
وكذلك دخل رجل واستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عند عائشة رضي الله عنها؛ فتلطف له ثم قال صلى الله عليه وسلم قولا، وذلك عندما استأذن عليه قال: "ائذنوا له؛ فبئس أخو العشيرة"، وقال: "إن شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة من تركه الناس لشره"، وهو صلى الله عليه وسلم بعيد ومعصوم عن شوائب الرشوة، مما يدل على أن المصانعة والمحاباة ليست رشوة، وأن تفسير الرشوة بذلك فيه نظر، وأن المصانعة تكون بمال وبغير مال.
أما الجعل فمعلوم أنه نوع من الإجارة، وهو لا شك جائز بشروطه من بيان العمل المطلوب والجعل المجعول، وله باب في الفقه معروف.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
i أبو حيان .
ii المجموع ج 28 ص 304(5/3)
ص -125- ولو سلمنا أن الرشوة نوع منه - كجعل على باطل - فإن مسمى الجعل أعمّ من الرشوة.
وكذلك السحت؛ فقد فسروه بما هو أعمّ، كقولهم: هو الحرام، وقولهم: هو ما خبث من المكاسب فلزم فيه العار؛ فإنه يشاركه الربا في الخبث ومهر البغي في لزوم العار.. الخ.
وهذا ما يجعلنا نقول: إنه تعريف للرشوة بالمعنى العام، وسيأتي إيضاح المعنى الخاص بها عند الكلام على نصوص القرآن في الموضوع إن شاء الله.
الرشوة في الاصطلاح:
ومما يلزم التنبيه عليه هو أن ما لا يوجد له معنى دقيق في اللغة لا يتأتى وجود معنى دقيق له في الاصطلاح؛ لأن المعنى اللغوي أسبق في الوضع والاستعمال؛ فإذا جاء الشرع نقل المعنى اللغوي إلى الاستعمال الشرعي مع زيادة شروط ووضع قيود شرعية.
ومن هذا المنطلق اختلف في تعريف الرشوة اصطلاحا فقيل:
أ - ما يؤخذ بغير عوض ويعاب أخذه.
ب - وقيل: كل مال دفع ليبتاع به من ذي جاه عونا على مالا يحل، ذكرهما في فتح الباريi.
ج - وقال صاحب الإنصاف: الرشوة ما يعطى بعد طلبه، والهدية ما يدفع إليه ابتداءii.
وهذا أيضا تعريف بالأعم؛ لأن دفع مال لذي جاه ليبتاع به عونا، نوع من الرشوة وليس كلها؛ لأن المرتشي قد لا يكون ذا جاه، وقد يبتاع من ذي جاه ما يحل بالنسبة للراشي على ما سيأتي.
وقولهم: ما يؤخذ بغير عوض ويعاب أخذه؛ فيدخل فيه المكس وحلوان الكاهن.
وقولهم ما يعطى بعد طلبه؛ فقد تقدم الرشوة قبل الطلب وقبل أن تدعو الحاجة إليها تمهيدا إليها.
د- وأحسن ما عرفت به قول الجرجاني: ما يعطى لإبطال حق أو لإحقاق باطل.
وهذا التعريف الأخير أقرب ما يكون لمدلول القرآن له؛ فإن صحة المعنى هو ما يمكن أخذه من عرض القرآن وإيرادها في مواطنها على ما سيأتي إن شاء الله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
i ج 11 ص 212.
ii ج11 ص212.(5/4)
ص -126- وعلى كل فإن لما عرفوا به الرشوة لغة واصطلحوا عليه شرعا صلة كبيرة في الصورة والمنطلق، فالتكلم به إظهار للصورة بصفة عامة.
الصلة بين المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي:
تقدمت الإشارة إلى أنه لابد من وجود صلة قوية بين المعنى اللغوي والاصطلاحي لكل مادة؛ إذ الأصل في الاستعمال هو اللغة، ثم يجري نقل اللفظ إلى الاصطلاح كما هو معلوم.
وهنا جاء في التعريف اللغوي أن الرشوة مأخوذة من (رشا الفرخ) إذا مد رأسه إلى أمه لتزقه.
وهذه صورة صارخة لعمل المرتشي، وبيان حقيقة وضعه في منتهى الضعف النفسي، كالفرخ لم ينبت له ريش، العاجز عن كسب قوته بنفسه يرى أمه يفغر لها فاهه لتخرج مما في حوصلتها وتفرغه في فمه؛ يرد جوعته.
ولو علمنا أن ما تلقاه بفيه إنما هو بمثابة القيء تستخرجه أمه من حوصلتها لكان كافيا في التقزز من أكل الرشوة؛ فهو بهذا يجمع بين ضعف الشخصية وذلة النفس وحقارة الطبع.
وهل يوجد أضعف شخصية ممن يبيع مبدأه وإنسانيته ورأيه وما يعتقد صحته، وينحرف إلى طريق معاكس في كل ذلك، ونظير ما يستخرجه الراشي من جوفه ومن ضروريات مقوماته أو اضطراره للوصول إلى حاجته.
وإذا جئنا إلى الأصل الثاني وهو (الرشاء) الذي هو حبل الدلو ليستخرج به الماء من البئر العميق؛ فإننا نجد أيضا صورة التدلي من علياء العزة والكرامة إلى سحيق الذلة والمهانة، وينحدر من منعة الصدق إلى هاوية الكذب، ومن عفة الأمانة إلى دنس الخيانة، وينزلق عن جادة الحق إلى مزالق الباطل، وكأن الحاجة المقصودة عند المرتشي مغيبة بعيدا عن الراشي بعد الماء في عقر البئر؛ لا وصول إليها إلا بالتدلي بالرشوة كتدلي الدلو برشاه.
وبإمعان النظر تجد أن حقارة المرتشي ومهانته تأتي أول ما تأتي من الراشي نفسه؛ لأنه قاسه بمقياس الإنسانية فوجده لا إنسانية عنده، وبمقياس الأمانة والدين فوجده خاليا منهما، وما تقدم إليه بالرشوة إلا بعد اليأس منه، وإن ألان له القول وتلطف في السؤال، وقد أحسن من قال في نظير ذلك وقريب منه:(5/5)
ص -127- وإذا امرؤ مدح امرأ لسؤاله وأطال فيه فقد أراد هجاءه
لو لم يقدر فيه بعد المستقى عند الورود لما أطال رشاءه
وهكذا صاحب الحاجة لو لم يقدر عدم استجابة من هي عنده، ولو لم يتوقع إعراضه عنه لما قدم له الرشوة ليستجيب إليه.
وكذلك الحال من جانب الراشي؛ إذا لم يكن له حق فيما يطلب، ولا طريق عنده للوصول لما يريد لمنعه منه وتحريمه عليه وعدم استحقاقه إياه؛ فإنه يعمد إلى الرشوة ليتدلى بها متخفيا كتدلي الدلو ظلمة البئر حتى يصل إلى ما يريد.
فظهر بهذا قوة الصلة بين المعنى اللغوي والاصطلاحي للرشوة.
وكذلك السحت، إذا كان أصله كلب الجوع وشدته فإن الصلة قوية بينه وبين أكل الرشوة؛ لأن من تعودها - والعياذ بالله - فإنه لا يشبع قط، ولا يكف يده عنها من أي شخص فقير كان أو غني، ضعيف محتاج للمؤنة أو مستغن قوي، إنما همه هو أن يأخذ ويقذف في جوفه السحت لملء فراغه، ولكن ذاك الجوف كالجحيم يقول: هل من مزيد.
وكذلك البرطيل، لقد قيل إنه الحجر الطويل، وإنها لتسكت آكلها عن الحق كما يسكته الحجر، وهذا معنى ظاهر.
ولكن ما قاله صاحب القاموس من أنه الترطيل تليين الشعر بالدهن وتكسيره وإرخاؤه وإرساله؛ فإن هذا المعنى أوضح؛ لأن الراشي يلين الطريق لنفسه ويمهده كي يصل إلى مطلبه بسهولة، كمن يمر على شعر مدهون ومن جانب المرتشي؛ فإنه يلين الكلام معه وييسر الطريق له ويسترسل معه في باطله استرسال الشعر في اليد، ويسترخي لسماع قول الراشي استرخاء الشعر المدهون الممشط، أي إنه فقد شخصيته وأسقط إرادته واسترخى في دينه وأمانته، واسترسل في باطله حيث أراده الراشي؛ عياذا بالله!.
نظرة في هذه الألفاظ:
يعتبر بعض العلماء أن هذه الألفاظ - رشوة، سحت، برطيل - هي من قبيل الترادف الذي هو ترادف الألفاظ على معنى واحد، ومثل السيف والمهند والصمصام والبتار، ومثل الأسد والهزبر والغضنفر.
ولكن المحققين من علماء اللغة ينفون الترادف في اللغة العربية، ويقولون إن الترادف بمعنى وجود عدة صفات للمسمى، وكل لفظ يكون ملحوظا فيه بعض تلك الأوصاف؛ كالسيف مثلا للجنس، مميزا له عن السكين وأنواع السلاح الأخرى، والمهند يراعى جودة صنعه مثل المصنوع في الهند فعلا، والصمصام يراعى فيه نوع حديده ومعدنه وهكذا.(5/6)
ص -128- وقد أيد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ذلك، ومثّل له في قوله تعالى: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْراً}؛ فقال: يقول العلماء (المور) الحركة من قبيل الترادف، ولكن المور فيه معنى زائد على مطلق الحركة، ألا وهو كونها بسرعة، فالمور الحركة بسرعة.
وعليه يمكن أن يقال هنا إن الرشوة والسحت يجتمعان ويقترقان.
يجتمعان حينما يكون العمل محرما من الجانبين الراشي والمرتشي، فهو رشوة في حقهما، كما في الحديث: "لعن الله الراشي والمرتشي"، على ما سيأتي الكلام عليه فيما بعد إن شاء الله، وهو سحت في حق المرتشي يأكله سحتا.
وينفرد السحت حينما يكون العمل محرما من جانب واحد، وهو جانب الأخذ فقط؛ فيأكله فيأكل ما أخذه سحتا، والله أعلم.
الرشوة في القرآن الكريم:
مأخذ النصوص على الرشوة في القرآن عند العلماء في ثلاثة مواضع:
الموضع الأول: في سورة البقرة في أعقاب تشريع الصيام وقبل الفراغ منه، وذلك في قوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}.
والنص هنا على وضوحه فهو عام في النهي عن أكل الأموال بالباطل بأي صفة كانت، وخاص في الإدلاء بها إلى الحكام لأكل فريق من أموال الناس بالإثم، وهذا النص أقرب موضوعية إلى الرشوة ولارتباط الرشوة بالرشاء في معنى الإدلاء بها على ما سيأتي إيضاحه إن شاء الله.
والموضعان الثاني الثالث: في سورة المائدة.
أولهما عقب تشريع حد السرقة، وتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عن حزنه من الذين يسارعون في الكفر من المنافقين واليهود، ثم جاء وصفهم بأكل السحت عاشر عشرة صفات ذميمة في قوله تعالى: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ}.
وثانيهما موجه فيه الخطاب صريحا إلى أهل الكتاب، وهو أظهر في اليهود لمجيء صفاتهم الكاشفة بعد النداء، وذلك في قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا..} الآية، وبعدها: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ(5/7)
ص -129- مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ..} إلى آخر الآية في نفس السياق.
{وَتَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، ثم نحا باللائمة على الربانيين والأحبار منهم في عدم النهي عن ذلك وخاصة السحت بقوله: {لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}.
وفي هذا الموطن أيضا جاء وصفهم بأكل السحت عاشر عشرة صفات غاية في المذمة.
وبدراسة هذه النصوص في تلك المواضع الثلاثة بالتفصيل ستجد حقيقة معنى الرشوة ومعنى السحت وموضوع كل منهما، وبالتالي خطورة وجودهما ومدى تحذير القرآن الكريم منهما، وبأي صورة صوَّر القرآن مَن يتعاطى شيئا مِن ذلك.
دراسة النص الأول:
النص الأول عن الرشوة في سورة البقرة في قوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}.
والمنهج العلمي الصحيح لدراسة نص الموضوع ما يستلزم أخذ السياق كاملا بقدر المستطاع.
وهو هنا يبدأ من تشريع الصيام في قوله تعالى: {الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، ثم بين مدته أياما معدودات، وزمنه شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس، ثم تفضل بالرخصة عند المشقة بمرض أو سفر تيسيرا من الله تعالى، ثم التقرب إلى عباده السائلين والداعين، وما أحل لهم مما كان محرما على من كان قبلهم من الأكل ليلا إلى الفجر وجواز المباشرة ليلا، وفي النهاية جاء هذا النهي: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} الآية، وبعدها يأتي قوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ..} الآية.
وهنا يأتي السؤال: لماذا آية النهي عن أكل أموال الناس بالباطل في أثناء مجيء آيات الصيام؛ لأن السؤال عن الأهلة وبيان مهمتها ألصق بالصيام؛ لأنه آخر الحج في التوقيت، كما قال فيه: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته".(5/8)
ص -130- والجواب على ما يظهر - والله تعالى أعلم - أنه لتمام الارتباط بين فريضة الصوم وبين تحريم أموال الناس؛ للآتي:
أولا: لأن حقيقة الصوم الإمساك عن المفطرات، وهي أصلها حلال طيلة نهار رمضان كله، وهذا الإمساك هذه المدة من شأنه أن يورث التقوى التي علل بها فرض الصوم لعلكم تتقون؛ فيأتي وبسرعة وقبل الفراغ من توابع تشريع الصيام، شأن الهلال فيستوقف المسلم قائلا: لئن صمت شهرا كاملا عن الحلال المتاح، فلا يصح منك أن تفطر بعد الشهر على أموال الناس بالباطل، بل يجب عليك أن تضيف إلى صومك الشهر عن الحلال صومك طيلة العام عن الحرام؛ فلا تأكل أموال الناس بالإثم على علم منك وإصرار؛ لأن هذا يتنافى مع التقوى التي هي ثمرة الصوم، ولئن فعلت فكأنك ما صمت.
ولئن راعينا ما جاءت به السنة من صدقة الفطر وربطت بينها وبين الصوم لوجدنا لفتة كريمة، وهي بمثابة التعبير العلمي عن التأثر بفريضة الصوم فعلا، أي كأن الصائم يقول: نعم يا رب إنه بعد صومي رمضان وتحصيل تقوى الله لم يبق لي تطلع إلى أموال الناس المحرمة، بل أنا أبذل من مالي لغيري.
وحقيقة الذي يبذل من ماله تطوعا للغير ابتغاء مرضاة الله لا يرجع بيده الأخرى فيأخذ من مال الناس ما حرم الله.
وكذلك في السياق مغايرة في أسلوب الخطاب؛ إذ جاء في الأول: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} الخطاب الذي يجمعهم كفرد واحد وأمة واحدة، وبعد الإثم والأكل بالباطل قال: {لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ} فأصبحوا أناسا متفرقين.
أي إن الصوم جمعهم وآخى بينهم، والرشوة فرقتهم وباعدت بينهم، وهذا في عموم أكل أموال الناس بالباطل، وهو شامل لكل صورة من الصور سواء بالغش والتدليس وبخس الوزن والتطفيف والاختلاس والاغتصاب والسرقة والنهب، وكل أنواع أكل المال بغير وجه حق، وكذلك الربا والرشوة.
ولكن عطف الرشوة بخصوصها على ذلك العموم، وهو ما يعلم عند المفسرين بشدة الاهتمام بهذا الخاص من بين أفراد العام، كقوله تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا}، أي جبريل مع دخوله في عموم الملائكة؛ لاختصاصه فيهم.(5/9)
ص -131- وقد صورها النص بصورة مطابقة لصورة الراشي والمرتشي بطرفيها؛ حيث قال: {وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ}، والإدلاء إرسال الدلو إلى ماء البئر، ولا يكون إلا بالحبل، وحبل الدلو يسمى رشاء؛ فالرشاء والرشوة من مادة واحدة، والمدلي هو الراشي، والمدلى إليه هو المرتشي، وما في الدلو هو الرشوة.
والغاية ليست الحصول على ماء طهور لشراب أو وضوء، ولكن لنقضه من سحت وإثم لأكل فريق من أموال الناس بالإثم عن علم وسبق إصرار، ولما كان التدلي نقيض الترفع فإنه يمكن أن يقال: إن هذا النص يعطينا حكما على المرتشي بأنه تدلى من منعة العزّ إلى هوة الذل، ومن رفعة الصدق إلى سحيق الكذب، ومن علياء العفة والأمانة إلى حضيض ودنس الشره والخيانة، وانزلق عن جادة الحق إلى مزالق الباطل.
وقد خصص هذا النص الرشوة في الحكام مع أنها ليست قاصرة عليهم، ولكنها منهم أعظم خطرا وأشد فتكا؛ لأنهم ميزان العدالة؛ فإذا فسد الميزان اختل الاتزان، وإذا خان الوازن ضاع التوازن، ومن ثم ينتشر الفساد.
وقد يكون يتعلق بالأحكام فيكون من ورائها تغيير حكم الله مما يخاف على صاحبه الكفر - عياذا بالله - إذا كان مستحلا لذلك أو مستهزئا، عافانا الله والمسلمين!.
وسيأتي لذلك زيادة إيضاح عند الكلام على بقية النصوص، وفي الفصل الخاص بمضار الرشوة.
وقد يكون الحاكم عفيفا نزيها ولكنها تعطى الأطراف كشاهد وكاتب لوثيقة زورا وبهتانا، أو لأي طرف له تأثير في الموضوع.
النص الثاني: جاء في سورة المائدة، وكذلك الثالث، وذلك في مسمى السحت الذي تقدم بيانه عند التعريف لغة واصطلاحا، وسنلم بكل منهما على حدة.
أ- قال تعالى عن المنافقين واليهود: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}.
وعلى ما قدمنا من ضرورة أخذ السياق كاملا، وهو هنا من أول تشريع حد السرقة: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ..} الآية، ثم توابع السرقة - من توبة وحق الله تعالى في التشريع - يأتي خطاب الله للرسول صلى الله عليه وسلم: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا}، ثم يصف أعمالهم بقوله: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ(5/10)
ص -132- يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ..} الآية.
وبتأمل هذا السياق في عمومه، والربط بين أوله وآخره لكانت أمامنا حقيقة ثابتة ظاهرة ألا وهي:
أولا: أن المرتشي سارق.
ثانيا: أنه يخشى الكفر عليه؛ لمسارعته إليها تشبيها للمنافقين واليهود في مسارعتهم إلى الكفر.
ثالثا: أن هذا من عمل المنافقين واليهود؛ ففيه مشاركة لهم في لوصف.
رابعا: منهج المرتشين هو الكذب والسماع للكذابين.
خامسا: يأخذون من النصوص ما وافق أهواءهم، وما لم يوافقها يحرفونه من بعد مواضعه.
سادسا: أنهم مفتونون فيما يأخذونه وما ينفذون من أعمال غير مشروعة.
سابعا: قلوبهم غير طاهرة؛ دنستها الرشوة وأكل السحت.
ثامنا: لا يملك أحد لهم من الله شيئا، اللهم إلا هم بأنفسهم إذا تابوا إلى الله تعالى.
تاسعا: أنهم في ذلة في حياتهم، وأشد ما يكون مذلة أمام راشيهم.
عاشرا: ولهم في الآخرة عذاب عظيم.
أي أن آثار الرشوة ظاهر وباطن، وعاجل وآجل.
نسأل الله تعالى السلامة والعافية.
ب- الموطن الثالث:
قوله تعالى: {وَتَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.
وبأخذ السياق من أوله أيضا تجده يبدأ من قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ قُلْ هَلْ(5/11)
ص -133- أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ وَتَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ..} الآية، {لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ}.
وإذا كان قد ظهر لنا الربط في المواطن المتقدمة بين أول السياق وآخره فإننا هنا نجد أن أول السياق مقارنة بين من آمن بالله عقيدة بجميع ما يلزم ذلك الإيمان، وبما أنزل إلينا شريعة بجميع ما يلزم التشريع من حلال وحرام وجائز وممنوع، وبين نقيضهم من أهل الكتاب.
وفي عرض تلك الصفات الذميمة واختتامها بأكل السحت نجده عاشر عشر صفات كلها مذمومة ومن خواص اليهود، بدأت بالحكم عليهم:
أولا: بأنهم شر مثوبة عند الله.
ثانيا: قد باءوا باللعنة والغضب من الله تعالى عليهم.
ثالثا: جعل منهم قردة.
رابعا: جعل منهم خنازير.
خامسا: وعبد الطاغوت بدلا من عبادة الله تعالى وحده، وأول ما يشمله كلمة الطاغوت هنا هو الحكم بغير ما أنزل الله وتغيير حكم الله.
سادسا: وضعهم في شر مكان.
سابعا: ضلالهم عن سواء السبيل.
ثامنا: إبطان الكفر مع قولهم آمنا.
تاسعا: مسارعتهم في الإثم والعدوان، وهو ما كان باطلا في أصله ويوجب إثما لمرتكبه، والعدوان من لوازم الإثم؛ لأن الإثم لا يكون إلا بالتعدي، وكذلك العدوان من لوازمه الإثم؛ لأن كل عدوان لا يكون إلا لما فيه إثم.
عاشرا: وأكلهم السحت، وهذه هي النتيجة للعدوان والإثم بسبب أكلهم السحت.
وتقدم قبل هذا ملازمة أكل السحت للكذب؛ فالكذب والإثم والعدوان ملازمات لأكل السحت لا ينفك عنها لتحقيق غرضها والوصول إلى هدفه وعدوانه.
ثم في هذا السياق من زيادة في المنهج بيان من عليه مسؤولية محاربة هذا الداء العضال، ألا وهم الأحبار والربانيون؛ فالأحبار هم العلماء والربانيون هم من جمعوا بين العلم(5/12)
ص -134- والإنارة، وهذا بيان في تخصيص لولاة الأمر أن عليهم القيام بنهي من تسول له نفسه بأكل السحت، وقدم الربانيون لأنهم أقدر على ذلك لما رجع لهم من الولاية والعلم، وكما في الحديث: "إن الله ليزع بالسلطان.." الخ.
الفرق بين الرشوة والسحت:
لعلنا باستعراض المواطن الثلاثة في القرآن نجد الفرق بين الرشوة والسحت؛ إذ في آية البقرة خاطب الله عموم الناس: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} وصورها بين طرفين أحدهما يدلي للآخر بالرشوة ليأكل فريقا من أموال الناس بالإثم؛ فيتحقق فيها ما دفع لإحقاق باطل أو إبطال حق، ففيها التعدي والحرام من الطرفين المدلي والمدلى إليه، وقد يكون منهما ثالث وهو الرائش بينهما، كما جاء في الحديث على ما سيأتي إن شاء الله.
أما في آيتي المائدة فإنه جاء فيهما وصف اليهود والمنافقين بالمسارعة إلى الإثم والعدوان وإلى سماع الكذب وأكل السحت، ومما جعله أعم من كونه في رشوة بين اثنين أو أعم من ذلك، فقد يكون في غمط حقه عن صاحبه وقد يكون في تحريف الكلام من بعد مواضعه، وقد يكون في أسباب جعل القردة والخنازير من بعضهم.
ولعل هذا المعنى يتضح أكثر عند بيان حكم من اضطر إلى دفع ماله لمفاداة نفسه أو عرض أو استخلاص حق ثابت له إن شاء الله.
وخلاصة القول في هذا الفرق هو أن ما كان في اشتراك بين طرفين في ارتكاب الإثم فهو الرشوة؛ لوجود راش ومرتش، وما كان الإثم فيه من طرف واحد مع اضطرار الطرف الثاني فهو السحت.
ويشهد لهذا ما رواه البيهقيi بسنده عن مسروق قال: سألت ابن مسعود عن السحت أهو رشوة في الحكم؟ قال: لا؛ {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}، و{الظَّالِمُونَ} و{الْفَاسِقُونَ}، ولكن السحت أن يستعينك رجل على مظلمة فيهدي لك فتقبله، فذلك السحت.
الرشوة في نصوص الحديث:
أظهر الأحاديث نصا في موضوع الرشوة حديث عبد الله بن عمر عند الخمسة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لعنة الله على الراشي والمرتشي".وحديث ثوبان
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
i ج 10 ص 139.(5/13)
ص -135- عند أحمد بمعناه، وزيادة: "والرائش"، أي وهو الساعي بينهما يستزيد هذا ويستنقص هذا.
وحديث أبي هريرة بزيادة: "في الحكم"، رواه أحمد وأبو داود.
وقد جعلوا منها هدايا العمال؛ لما جاء في حديث ابن اللتبية، بّوب عليه البخاري قال: باب هدايا العمال، وساق بسنده أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل رجلا من بني أسد يقال له ابن الاتبية (أو اللتبية) على صدقة، فلما قدم قال: هذا لكم وهذا لي؛ فقام النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر فحمد الله عليه ثم قال: "ما بال العامل نبعثه فيأتي فيقول: هذا لك وهذا لي؛ فهلا جلس في بيت أبيه وأمه ينتظر أيهدى له أم لا! والذي نفسي بيده لا يأتي بشيء إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته إن كان بعيرا له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة لها تعير"، ثم رفع يديه حتى رأينا عفرتي إبطيه: "ألا هل بلغت؟ ثالثا.
قال سفيان: قصه علينا الزهري، وزاد هشام عن أبيه عن أبي حميد قال: سمع أذناي وأبصرته عيني، وسلوا زيد بن ثابت فإنه سمعه معي.
وعند أبي داود قال: باب في هدايا العمال وساق بسنده أن رسول لله صلى الله عليه وسلم قال: "يا أيها الناس من عمل منكم لنا على عمل فكتمنا فيه خيطا فما فوقه فهو غلّ يأتي به يوم القيامة"، فقام رجل من الأنصار أسود كأني أنظر إليه فقال: يا رسول الله! أقبل عني عملك، قال: "وما ذاك؟" قال: سمعتك تقول كذا وكذا، وقال: "وأنا أقول ذلك؛ من استعملناه على عمل فليأت بقليله فيء وكثيره؛ فما أوتي منه أخذ وما نهى عنه انتهى".
وقال البيهقي: أخرجه مسلم في الصحيح من أوجه عن إسماعيل.
وفي سنن البيهقي بسنده عن أبي حميد الساعدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هدايا الأمراء غلول" ا?.
ومعلوم أن الغلول جمع غل، وهو الطوق في العنق، وذلك إذا كانت ممن لم يهد إليه من قبل، أو كان لا يكافئ عليها، وكذلك ما أهدي لأهل العامل أو الوالي.
وساق البيهقي في سننه عن عبد الرحمن بن القاسم حدثنا مالك قال: أهدى رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم -وكان من عمال عمر بن الخطاب رضي الله عنه - نمرقتين لامرأة عمر رضي الله عنه؛ فدخل عمر فرآهما فقال: (من أين لك هاتين؟ اشتريتيهما؟ أخبريني ولا تكذبيني!) قالت: بعث بهما إليّ فلان، فقال: قاتل الله فلانا إذا أراد حاجة فلم يستطعها من قبلي أتاني من قبل أهلي؛ فاجتذبهما اجتذابا شديدا من تحت من كان عليهما جالسا، فخرج يحملهما فتبعته جاريتها فقالت: إن صوفهما لنا ففتقهما وطرح إليها الصوف، وخرج بهما فأعطى إحداهما امرأة من المهاجرات وأعطى الأخرى امرأة من الأنصار.
وروى عن عمر بن عبد العزيز أنه اشتهى يوما التفاح فلم يجد ما يشتري به من ماله، وبينما هو سائر مع بعض أصحابه أهديت إليه أطباق من التفاح؛ فتناول واحدة فشمها ثم رده(5/14)
ص -136- إلى مهديه، فقيل له في ذلك، قال: (لا حاجة لي فيه)، فقيل له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقبل الهدية، وأبو بكر وعمر! فقال: (إنها لأولئك هدية وهي للعمال رشوة).
وقد جاء عن أحمد رحمه الله أنه إذا أهدي لقائد الجيش شيء فليس له وحده دونهم.
وقد ذكر ابن كثير في تاريخه أن جيش المسلمين لما ظفروا بالنصر على إقليم (تركستان)، وغنموا شيئا عظيما أرسلوا مع البشرى بالفتح هدايا لعمر رضي الله عنه، فأبى أن يقبلها وأمر ببيعها وجعلها في بيت مال المسلمين.
ومن أبرز ما جاء في أمر العمال والرشوة قصة عبد الله بن رواحة لما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليهود في خيبر ليخرص عليهم، رواه مالك قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث عبد الله بن رواحة إلى خيبر فيخرص بينه وبين يهود خيبر، فجمعوا له حليا من حلي نسائهم، فقالوا: خذ هذا لك وخفف عنا وتجاوز في القسم، فقال عبد الله بن رواحة: يا معشر اليهود والله إنكم لمن أبغض خلق الله إلي، وما ذاك بحاملي على أن أحيف عليكم! أما ما عرضتم من الرشوة فإنها سحت وإنا لا نأكلها، فقالوا: بهذا قامت السموات والأرض.
وقد منع العلماء قبول الوالي ومن في معناه هدية ممن لم يكن له عهد بالإهاء إليه، ولو لم تكن له حاجة بالفعل عنده خشية أن تأتي له حاجة فيما بعد فيدلي إليه بما كان من هديته الأولى.
وقد وقع مثله لعمر رضي الله عنه؛ كان رجل يهدي إليه رِجل جزور كل عام؛ فخاصم إليه يوما فقال: يا أمير المؤمنين اقض بيننا قضاء فصلا، أي كما تفصل الرِّجل من سائر الجزور؛ فقضى عمر وكتب إلى عماله: ألا أن الهدايا الرشا؛ فلا تقبلن من أحد هدية.
دراسة تلك النصوص:
بدراسة تلك النصوص تجد أول شيء التحذير الشديد والوعيد باللعنة - عياذا بالله - على أكل الرشوة، وشملت ثلاثة أشخاص: دافعها وآخذها والساعي بينهما بها.
كما تجد التنصيص على الرشوة في الحكم لما لهذا النوع منها من أكبر الخطر على صاحبه، كما قال مسروق عن ابن مسعود: أنه يخشى عليه الكفر؛ وذلك لأنه قد يحكم بغير ما أنزل الله فيدخل تحت قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}.(5/15)
ص -137- أما حديث ابن اللتبية فهو درس عملي من الرسول صلى الله عليه وسلم لكل من ولي عملا للمسلمين وأخذ فيه الهدية؛ لأنها في واقع الأمر ليست بهدية خالصة وإنما معها مراعاة حالة العامل، ومن ورائها انتظار ما يترجاه المهدي، وكما قال صلى الله عليه وسلم: "هل جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى إليه أم لا".
وهو سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم لولاة الأمور في محاسبة العمال، وهو مبدأ (من أين لك هذا؟)، وقد جاء في بعض رواياته: (فحاسبه صلى الله عليه وسلم)، أي أمر من يحاسبه.
ومحاسبة العمال ثابتة عن عمر رضي الله عنه كما جاء في الإصابة في تراجم الصحابة أن أبا هريرة كان عاملا لعمر على البحرين، فقدم بعشرة آلاف فقال له عمر: (أستأثرت بهذه الأموال؛ فمن أين لك؟) فقال: خيل نتجت وأعطية تتابعت وخراج رقيق لي؛ فنظر فوجدها كما قال، ثم دعاه ليستعمله فأبى؛ فقال: لقد طلب العمل من كان خيرا منك ،قال: إنه يوسف نبي الله وأنا أبو هريرة بن أميمة، وأخشى ثلاثا: أن أقول بغير علم، أو أقضي بغير حكم، ويضرب ظهري ويشتم عرضي وينزع مالي.
ولعمر مع عماله مواقف عديدة وأمثلة مختلفة في هذا الشأن.
وأصل ذلك كله من حديث ابن اللتبية وفعل الرسول صلى الله عليه وسلم معه.
وجاء نص حديث أبي حميد الساعدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هدايا الأمراء غلول"، وقد بين حديث أبي داود أن من كتم من العمال ولو مخيطا- أي ولو أقل شيء قيمته قيمة الخيط - فهو غل يوم القيامة، وترى هذا التحذير قد أفزع بعض العمال فطلب إقالته.
أما أثر عمر فهو زيادة على رفض الهدية؛ فإنه قد بين للعمال وكل من حرمت عليه هدايا العامة أن يؤخذ من جهة أهله سواء زوجه أو ولده أو خادمه أو أي إنسان مرتبط به ارتباط الأهل.
ولذا قال العلماء: لا ينبغي للقاضي أن يتولى الشراء لنفسه خشية المحاباة، ولا يشتري له من يعلم أنه من طرفه؛ حفاظا على القاضي من ريبة الرشوة.(5/16)
ص -138- عوامل تفشي الرشوة والبيئة التي تساعد على انتشارها:
ما دامت الرشوة على غير العادة فإن عوامل تفشيها هي أيضا عوامل غير عادية:
- وأهمها وأساسها هو ضعف الوازع الديني للآتي:
1- ما ظهر من ربطها بالصوم.
2- ما ظهر من أنها من عمل المنافقين واليهود.
3- ما ظهر من أن منهجها الأساسي هو الاستماع للكذب والمسارعة للعدوان والإثم.
ثانيا: وقوع الظلم والجور في المجتمعات؛ فيعمد العامة لدفعها خوفا على أنفسهم أو تفشيا في غيرهم.
ثالثا: عدم مراقبة العمال وأصحاب الولايات على الرعية من قبل المسؤولين؛ فيتجرأون على أخذ الرشوة على أعمالهم.
رابعا: وجود خلل في نظام السلطة؛ فلا يصل صاحب الحق إلى حقه إلا بها.
خامسا: وجود الحاجة والفاقة؛ فيعمد المحتاج إليها للوصول إلى أكثر مما له لسد حاجته وفاقته كما فعل اليهود في خيبر.
أما البيئة التي تساعد على انتشار الرشوة فيها كالآتي:
بما أن الرشوة داء مرض اجتماعي فهي كأمراض البدن تتفشى في البيئة القابلة للمرض:
- مقدمتها البيئة الفقيرة في حالات الأزمات.
ثانيا: البيئة التي لم يتوفر لها الوعي العام؛ فلم تدرك مضار الرشوة فيها، ولم يقو أفرادها على مجابهة من لهم عندهم حقوق في المطالبة بحقوقهم.
ثالثا: البيئة التي فقد الترابط ووقع في أفرادها التفكك؛ فلا يلوى أحدهم إلا على مصلحته الخاصة ولو عن طريق الرشوة وعلى حساب الآخرين.
وإذا تصورنا عوامل تفشي الرشوة والبيئة التي تساعد على انتشار الرشوة فيها فإنه بقي علينا تصوير وبسط نماذج مضار الرشوة وسط هذه العوامل، ومن خلال تلك البيئة بإيجاز.(5/17)
ص -139- مضار الرشوة:
لا شك أن مضار الرشوة مما أجمع العقلاء عليها؛ سواء على الفرد أو على المجتمع، في العاجل أو في الآجل، ولكن هذا الإجماع في حاجة إلى تفصيل وأمثلة في بعض المجالات مما يزيد المعنى وضوحا، وعليه سنورد الآتي على سبيل الأمثلة لا الاستقصاء والحصر، وفي البعض تنبيه على الكل.
وأعتقد أن مضار الرشوة تتفاوت بتفاوت موضوعها واختلاف درجات طرفيها، فهي وإن كانت داء واحدا إلا أن الداء تختلف أضراره باختلاف محل الإصابة به.
فالداء يصيب القلب وغيره، إذا أصاب اليد أو الرجل، كالجرح مثلا؛ فجرح القلب أو الدماغ قد يميت، وجرح اليد أو الرجل غالبا ما يسلم صاحبه ويبرأ جرحه، وإن ترك ألما أو أثرا في محله.
والناس في هذا الموضوع منهم من هو بمثابة القلب والرأس والعين، ومنهم من هو كسائر أعضاء الجسد، وعليه فإذا كانت الرشوة في معرض الحكم فإنها الداء العضال والمرض القاتل؛ لأنها تصيب صميم القلب فتفسده فيختل في نبضاته ويفقد التغذية ويصبح غير أهل للحكم، وقد نص الفقهاء أن الحاكم إذا أخذ الرشوة انعزل عن الحكم؛ لأنها طعن في عدالته التي هي أساس توليته.
ب: تفسد منهج الحكم في الأمة أيا كان منهجها؛ فإذا كان يقتضي كتاب الله في بلد إسلامي فإنها ستجعله يغير هذا المنهج ويحكم بهواه وهوى من أرشاه، وهذا أشد خطرا عليه هو، كما قال ابن مسعود: إنه كفر مستدلا بقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}.
ج: يفقد المجتمع الثقة في الحكم فلا يعول أحد على منهج القضاء والتحاكم لأخذ الحق، وعندئذ فلا يكون أمام المظلوم إلا أن ينتقم لنفسه، ولا عند صاحب الحق إلا الاحتيال لأخذ حقه بيده.
وفي هذا كله ما فيه من فساد مالا يعلم مداه إلا الله تعالى.
د: وبالتالي ينقلب منهج الإصلاح الاجتماعي، فبدلا من أن يتعاون الناس على البر والتقوى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يكون على العكس من ذلك كله، وفي هذا(5/18)
ص -140- مضيعة للأمة كلها كما ضاعت أمة بني إسرائيل كما قال تعالى في موجب لعنهم: {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}.
?: إعطاء الفرصة والتمكين لكل مبطل ليتمادى في باطله؛ فتسلب الأموال وتنتهك الأعراض وتسفك الدماء بدون أي مبالاة؛ تعويلا على أنه سيعبر على جسر الرشوة دون أن يلقى جزاءه.
و: ومن مجموع كل ذلك ستقع الفرقة والشحناء والتقاطع في المجتمع.
وإذا جاوزنا مجال الولاة والحكام فإننا نجد بساحتهم وقريب منهم قرب الفم من الرأس كل من ولي أمرا للمسلمين فلم ينصح لهم حتى يرى كرشوة يعينه أو ينالها بيده، أو تظهر في نطاق عمله وإن كان هو عفيفا لكنه تغاضى عنها بالنسبة إلى من تحت ولايته، وفي استطاعته منعه منها.
وذلك على حد قوله صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه.." الحديث، وقوله صلى الله عليه وسلم: "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته"، والمفاسد في هذا المجال عديدة منها:
أ: تعطيل الأعمال بغية بذل الرشوة.
ب: وبالتالي تكديسها وعدم إنجازها.
ج: يترتب عليه كساد العمل في البلدة وقلة الإنتاج والمضرة على المجتمع بكامله.
د: ذهاب قيمة هذا الجهاز بكامله أدبيا وخلقيا وقريبا من ذلك رسميا، وقد يؤدي إلى تغيير في الجهاز، ويفشو في الناس أن الرشوة هي السبب فتكون مسبة وعارا.
ثالثا: ما يقع في الجمارك وعلى الحدود التي هي بمثابة الثغور؛ فقد تكون سببا في إدخال ما هو ممنوع لشدة ضرره كالممنوعات الدولية من مخدرات ونحوها، أو إخراج ما تمس الحاجة إليه.
ففي الأول تمكن عملاء السوء من بث سمومهم في الأمة لإفساد الأبدان وضياع الأديان، بل وإفساد الأموال والعقول، وما يجر فساد الفعل وراءه من ويلات، وكل ذلك بسبب رشوة يدفعها العامل لعامل الجمرك.
وفي الثاني حرمان الأمة مما هو من حقها أن ترتفق به وتتوسع في استعماله؛ فيتيح الفرصة للمهربين وتحصيلهم مصلحة أنفسهم في اتجارهم في ضروريات الأمة.(5/19)
ص -141- رابعا: قد تكون في إجراء تعاقد مع العاملين، فقد يتعاقد مع غير الأكفاء بسبب ما يقدمونه من الرشوة، ويترك الأكفاء لتعففهم وعزة نفوسهم، واعتدادهم بكفاءتهم.
وفي ذلك من المضار ما يفوت على الأمة الاستفادة من كفاءة، ومعرفة الأكفاء ويمنحهم بمضار وعجز الضعفاء، ومجالات ذلك عديدة؛ فإذا كان في حقل التعليم أضرّ بالعلم نفسه وبتحصيل أبناء وطنه، وإن كان في الطب فليس هو أقل من غيره، وكذلك في المجالات الأخرى ذات الطابع الفني الذي يرتبط بالمجتمع، وقد يكون في إرساء عطاء لمشروع أو في الإشراف عليه؛ فيتعاطف المرتشي مع الأقل كفاءة وإمكانيات وأسوأ معاملة، وتكون النتيجة على رأس المجتمع، فقد يكون مشروع إسكان أو مدّ جسور فينهار هذا أو ينكسر ذاك، والضحية من المجتمع، وقد سمعنا على مثل هذا، وأن مشروع الإسكان انهار قبل أن يسكن وقبل أن تستلمه الجهة المختصة؛ فكيف تكون الحال لو سكن بالفعل، ومثل ذلك في الطرق والمنشآت الأخرى .
خامسا: وقد تكون في إبرام صفقة لحاجة البلد؛ فقد يقع التساهل في الصنف أو النقص في المقدار، وقد سمعنا عن صفقة حبوب؛ فلما وصلت بلدها فإذا هي تالفة بالسوس، فهل تشتري دولة لنفسها حبوبا مسوسة أم أن الرشوة هي التي سوستها، وقد تكون السلعة سلاحا للدفاع عن الوطن والنفس والأهل والمال والعرض فيأتي إما غير صالح أو غير كاف، وقد سمعنا عن السلاح أول ما دخلت الجيوش العربية فلسطين فكان السلاح يرجع على المقاتلين، فهل كانت الأمة تبعث بأبنائها ليعود عليهم السلاح فيقتلهم؛ فيقتلون بأيدي أنفسهم أم الرشوة هي التي قتلتهم.
وقد تكون في إفشاء سر الدولة أيا كان موضوعه؛ فيقع على الأمة من الخسارة بقدر موضوع ذلك السر الذي أفشاه؛ فقد يكون عسكريا فيفوت الفرصة على الجيش أو يوقع الجيش في مهلكة ويمكن العدو منه.(5/20)
ص -142- وقضية حاطب بن أبي بلتعة عندما همّ بإفشاء سر تحركات المسلمين إلى مكة معروفة، لولا أن تدارك الله المسلمين بمجيء جبريل عليه السلام بالجنود وتدارك الظعينة بالخطاب قبل أن تصل العدو.
كل هذا من المفاسد على عامة الأمة والمجتمع حكومة وشعبا، وهناك المضار الفردية، وهي بالتالي تعود على المجتمع؛ لأن الفرد جزء منه، وما يؤثر على الجزء يؤثر بالتالي على الكل.
تأثيرها على الفرد:
أما تأثيرها على الفرد فإن مردّ ذلك على طرفيها: الراشي والمرتشي.
وتقدمت الإشارة إليه في نصوص سورة المائدة من دنس القلب وذلة النفس وصغار المرتشي.
وأول ما يكون ذلك وصغاره عند راشيه وشريكه، وقد جاء في بعض الأخبار أن شخصا ارتشى وباع سرا من أسرار بلده لملك من الملوك؛ فجاء ليقبض ثمن خيانته وطلب لقاء ذلك الملك وظن أنه سيكرمه لقاء ما أسداه إليه من جميل، فلما حضر طلب مصافحة الملك فأمر الملك بدفع الثمن إليه وقال له: هذا ثمن عملك أما يدي فلا تصافح خائنا.
ب: إماتة الضمير في العاملين؛ فلا يخلص في عمله ولا ينجز ما وكل إليه إلا بأخذها.
ج: إضعاف الكفاءات فلا يجهد المجدّ نفسه في تحصيل مقوماته الشخصية لثقته بالوصول إلى مطلبه عن طريقها، كما يعوّل بعض الطلاب على الغش في الامتحان، أو بعض المشتركين في المسابقات للعمل يعوّل على ما سيوصله إلى العمل المنشود عن طريقها وبالطرق التي يسلكها.
وكما أسلفنا نتائج كل ذلك إنما هي على الفرد أولا ثم على المجتمع ثانيا.
ومن كل ما تقدم يظهر خطر تفشيها ومضار وجودها، مما يحتم محاربتها ومعالجة المجتمع من دائها.
طريقة علاجها:
طريق علاج أي داء إنما تبدأ من تشخيصه، ثم بمنع مسبباته، ثم علاج أعراضه ومضاعفاته.(5/21)
ص -143- وإذا كان التشخيص قد وضح فيما تقدم، والأسباب قد وضحت، والأغراض ملموسة والمضاعفات تتزايد فلم يبق إلا منهج العلاج.
ومن المعلوم أن المرض الشخصي يتحمل مسئوليته الشخص المختص به، وإذا كان جماعيا تتحمل الجماعة مسئولية التعاون على علاجه.
والرشوة جمعت بين الأمرين الشخصي والجماعي؛ فعلى الجميع أفرادا وجماعات واجب التعاون على علاجها، وقد رسم لنا القرآن والحديث منهج العلاج.
أولا وقبل كل شيء: القضاء على مسبباتها كما علمنا ضعف الوازع الديني؛ فيعالج بتقويته وتوعية المجتمع توعية دينية، والتحذير من مضارها العاجلة والآجلة من مغبة الأكل الحرام وأثر السحت في النفوس والقلوب مما تقدم.
ثانيا: الرقابة على الأجهزة التي تكون مظنة تفشيها في أوساطها حتى يحسبوا لذلك حسابا، وهذا إن لم يمنعها كلية سيخفف من وطئها.
ثالثا: مصادرة كل ما ثبت أنه أخذ رشوة، سواء كان هذا المأخوذ مالا أو عرضا أو أي عين مادية، حتى تقلل طمع المرتشين وتسد الطريق على من تسول له نفسه بها، كما فعل صلى الله عليه وسلم بابن اللتبية.
رابعا: ما جاء في نص القرآن الكريم: {لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ}، والربانيون هم ولاة الأمر العالمون بحدود الله، والأحبار هم العلماء والمعلمون فيجتمع الوازع الديني من العلماء والوازع السلطاني من الحكام.
الفرق بين الهدية والرشوة:
ما تقدم أو من خلاله يظهر خيال في الأفق باسم الهدية، ويتساءل من خالط هذا الباب عن الفرق بين الرشوة وبين الهدية.
وقبل الإجابة عن الفرق الحقيقي نقدم مقارنة واضحة من حيث الموضوع ثم من حيث الحكم.
لاشك أن المال أو العرض المدفوع هو بعينه؛ فتارة يكون هدية مقبولة، وتارة يكون رشوة ممقوتة.(5/22)
ص -144- والفرق بينهما يظهر من موضوعه والغاية منه، واتفق العقلاء أن الواحد بالجنس يكون بعض آحاده مشروعا وبعض آحاده ممنوعا، كالسجود مثلا؛ فهو جنس يشمل السجود في الصلاة والسجود للسهو وسجود التلاوة وكله عبادة فهو جنس، فإذا وقعت سجدة لله فهي عبادة وفريضة وهي مشروعة، وإذا وقعت سجدة لغير الله فهي شرك وممنوعة، فالسجدة الأولى ليست هي نفسها السجدة الثانية ولكنهما من جنس واحد، أو إن كانتا سجدتان متغايرتان في زمنين مختلفين بل الواحد بالذات يكون ممنوعا باعتبار مشروعا باعتبار آخر، كما في حديث بريرة: تصدق عليها باللحم ووضع على النار للطبخ، ودخل صلى الله عليه وسلم وطلب الطعام، فقدم إليه خبز وملح أو خل فقال: "ولم وأنا البرمة على النار؟" فقالوا: هذا اللحم تصدق به على بريرة، فقال: "هو لها صدقة، وهو لنا منها هدية" فأكل منه.
فباعتباره صدقة حلّ لبريرة وحرم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وباعتباره منها وبعد تملكه وإهدائها إياه بعينه لرسول الله صلى اله عليه وسلم صار حلالا، وأكل صلى الله عليه وسلم منه.
ومن هنا نقول: إن الهدية مشروعة ومرغب فيها، ولها أثر ضد أثر الرشوة؛ لأنها تؤلف القلوب وتورث المحبة، كما قال صلى الله عليه وسلم: "تهادوا تحابوا" وبين أن الهدية تزيل أضغان النفوس.
بينما الرشوة على العكس تورث القطيعة وتوقع العداوة، والهدية يدفع المهدي بطيب نفس تقديرا للمهديىإليه أو تطييبا لخاطره أو تأليفا له، وكلها مقاصد حسنة وعن طواعية، ولذا فهو لا يخفيها كما يخفي الراشي رشوته والمهدى إليه قد يكافأ عليها إن عاجلا أم آجلا.
بينما الرشوة يدفعها الراشي مكرها ويأخذها المرتشي متسترا، وقد جاء الحديث: "لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس"، وهو موافق للهدية معاكس للرشوة، وكما في قوله تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} أي لطيب النفس به.
وقد روي عن علي رضي الله عنه في الدواء أن تأخذ هبة من صداق زوجتك وتشتري به عسلا، أي لاجتماع الشفاء به.
والنصوص في قبول الهدية أكثر من أن تورد هنا، ويكفي إجماع المسلمين على قبولها.
وهناك ما هو أعم، وهو كل عطاء بغير مسألة سواء قصد بذلك الإهداء والمحبة أو قصد به العطف والمساعدة،(5/23)
ص -145- كما في حديث عائشة رضي الله عنها عند أحمد والبيهقي أن عبد الله بن عامر بعث إليها بنفقة وكسوة فردته، ثم استدعت الرسول بها وقالت: إني ذكرت شيئا قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عائشة من أعطاك عطاء بغير مسألة فاقبليه، فإنما هو رزق الله تعالى إليك".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من عرض له من هذا الورق شيء من غير مسالة ولا إشراف نفس فليتوسع به في رزقه، فإن كان غنيا فليوجهه إلى من هو أحوج إليه منه"، رواه أحمد والبيهقي وإسناد أحمد جيد قويi.
والنصوص في هذا من حلها وجوازها معلومة، بينما الرشوة كما تقدم.
فالفرق بينهما هو عين الفرق بين الحلال الصرف والحرام البحت.
تحذير: وهنا يلزم التحذير الشديد من تسمية الرشوة باسم الهدية؛ لأن من أكلها عالما بها أنها رشوة مستحلا إياها فإنه يخشى عليه الكفر؛ لأنه يدخل في عموم من استحل ما علم تحريمه بالضرورة.
والسؤال هو: متى يكون العطاء هدية ومتى يكون رشوة؟
والجواب أولا وقبل كل شيء أن الأمور بالمقاصد، بناء على حديث: "إنما الأعمال بالنيات"، وحديث: "البر ما اطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس".
حديث وابصة بن معبد رضي الله عنه قال جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أتيت تسأل عن البر والإثم؟" قلت نعم، قال: "استفت قلبك! البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك".
هذا بحمد الله مقياس واضح في نفس كل مسلم.
ولكن مع هذا أيضا فقد يتساءل البعض عن وجود فارق بين الرشوة والهدية ينتهي إليه كل إنسان، بل ونحكم نحن بمقتضاه على ما نقف عليه من غيرنا، ومما يخفى على بعضنا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
i مخطوطة النابلسي ص 150.(5/24)
ص -146- ولا بأس بهذا؛ فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم الجواب الكافي في قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الحلال بين وإن الحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ألا إن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب".
ونلاحظ في هذا الحديث تأكيد الأسلوب بـ(إن) في الطرفين الحلال والحرام؛ ليوضح أمرهما ومعرفتهما للجميع، وإهمال الواسطة بينهما عن التأكيد لغموضها، وذلك لأن لا يعرفها كثير من الناس.
وعندنا هنا طرفان واضحان الهدية حلال مشروعة نافعة مرغب فيها، والرشوة حرام ممنوعة ضارة منهي عنها، وبينهما نوع من العطاء في صور يتردد النظر فيها هل يلحقها بالهدية أم يلحقها بالرشوة،ن من ذلك على سبيل المثال:
1- تعاقدت مع إنسان على عمل بقدر معلوم إلى أجل معلوم فأنجزه إليك قبل أجله، أو قام به على أحسن ما كنت تتوقعه فطابت نفسك وأعطيته شيئا مقابل ذلك.
فلا بأس به؛ لأنه يعتبر من ضمن الأجر ومن المكافأة على الإحسان بالإحسان، وإنما دفعت ما دفعته في مقابل نفع ذلك دون مضرة على غيرك، وهو قدم إليك من المعروف ما ليس واجبا عليه، فكانت منكما معارضة إحسان بإحسان.
2- أعطيت إنسانا لك عنده معاملة في جهة من الجهات، وهو مسؤول عنها وعن غيرها، وذلك ليسرع لك في إنجازها، أو هو من نفسه أسرع في إنجازها دون أن تعطيه، فطابت نفسك عن شيء فأعطيته إياه.
وهنا ينظر في كيفية الإسراع لما أعطيته ابتداء منك: هل كان على حساب تأخير معاملات الآخرين أم هو ضمن نطاق عمله وفي نطاق المعتاد؟ فإن كان على حساب تأخير الآخرين فهذا ألصق بالرشوة، بل إنك ستغريه وتدفعه إلى تعطيل المعاملات الأخرى حتى يتقدم إليه أصحابها بمثل ما تقدمت أنت إليه به.(5/25)
ص -147- وإن كان في نطاق عمله وليس على حساب تأخير معاملات الآخرين فلأي شيء دفعت؟ ولأي شيء هو أخذ؟ ولكنها أخفّ مما قبلها إلا إذا كانت ستجعله يتطلع إلى مثل ذلك منك أو من غيرك؛ فتمنع سدا للذريعة.
1- أشخاص يعملون في دوائر أو مكاتب مختلفة وتمرّ بهم معاملات لك، وتأخذ طريقها مع غيرها بدون تمييز لها ولا تخصيصها باهتمام من أجل صاحبها، وهو لا يقدم شيئا على تلك المعاملات لكثرتها أو لكثرة من تمر عليهم، ولكنه في المناسبات كالأعياد أو العودة من سفر ربما يقدم هدايا لبعض الناس أو يقدم مساعدات لبعض الأشخاص، فقدم لهؤلاء مع غيرهم من حيث حاجتهم أو صداقتهم لكثرة التعامل معهم.
وهنا يقال: إن كان ما يهديه من هدايا أو يسديه من مساعدات من حيث الإنفاق عليهم ومد يد المساعدة إليهم لقلة مرتباتهم وكثرة منصرفاتهم وأعطاهم كما أعطى غيرهم؛ فهذا أقرب إلى الإهداء والمصانعة.
ولكن لا ننسى ما قدمناه وهو ما لم يكن ذلك لقصد إنجاز عمله وتقديمه على عمل غير عمل الآخرين، وكذلك ما لم يكن ذلك في حسبان العامل واستشراف منه إليه.
ولعل في هذه الأمثلة بعض الصور التي قد يقع الالتباس فيها على بعض الناس وقد رأينا فيها كلها أن العطاء عن طيب نفس ومن غير سؤال ولا استشراف نفس.
ولكن هناك مجال آخر، وهو ما إذا كان العطاء لا عن طيب نفس بل عن اضطرار، ومن الجانب الآخر بطلب وإصرار؛ فماذا يكون الحكم بالنسبة لعطاء المعطي في حالات اضطراره وبالنسبة للأخذ في حالات سؤاله واضطراره؟
أقوال العلماء فيمن صانع بماله عند اضطراره:
أولا: عند المفسرين وبإيجاز:
قال القرطبي - عند آية المائدة الأولى {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} -: وروي عن وهب بن منبه أنه قيل له: الرشوة حرام في كل شيء؟ فقال: إنما يكره من الرشوة أن ترشي لتعطي ما ليس لك أو تدفع حقا قد لزمك،(5/26)
ص -148- فأما أن ترشي لتدفع عن دينك ودمك ومالك فليس بحرام. قال أبو الليث السمرقندي الفقيه: وبهذا نأخذ؛ أن يدفع الرجل عن نفسه وماله بالرشوة، وهذا كما روي عن عبد الله ابن مسعود أنه كان بالحبشة فرشا دينارين وقال: إنما الإثم على القابض دون الدافع.. ا?.
ثانيا: المحدثون:
جاء في تحفة الأحوذيi على سنن الترمذي - عند حديث أبي هريرة في لعن الراشي والمرتشي المتقدم ذكره - قال: فأما ما يعطي توصلا إلى أخذ حق أو دفع ظلم فغير داخل فيه، وساق خبر ابن مسعود في الحبشة، ثم قال: وروي عن جماعة من أئمة التابعين قالوا: لا بأس أن يصانع الرجل عن نفسه وماله إذا خاف الظلم. وهذا نقلا منه عن ابن الأثير، ثم نقل عن صاحب المرقاة شرح المشكاة كلام الفقهاء عن ابن الأثير.
وكذلك الآخذ إذا أخذ ليسعى في إصابة الحق فلا بأس به.
لكن هذا ينبغي أن يكون في غير القضاة والولاة؛ لأن السعي في إصابة الحق إلى مستحقه ودفع الظلم عن المظلوم واجب عليهم؛ فلا يجوز لهم الأخذ عليه.. الخ.
وفي العارضة لابن العربي على صحيح الترمذيii ما يقرب مما تقدم لفظا ويتفق معه معنى.
وعند الشوكانيiii فيها نقاش طويل، من ذلك نقله عن المنصور بالله قول أبي جعفر وبعض أصحاب الشافعي: إنّه إنْ طلب حقا مجمعا عليه جاز، قيل وظاهر المذهب المنع لعموم الخبر..الخامس.
ثم ناقش هذا القول لعدم قيام دليل عليه، ولعمومات النهي عن أكل أموال الناس بالباطل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
i ج4 ص565
ii ج 6 ص 80.
iii ج 8 ص 288.(5/27)
ص -149- والملاحظ أن كل ما ذكره يصدق على الآخذ، وهذا لا خلاف فيه، إنما البحث في الدافع أيضا؛ فهو يتفق مع الجمهور في تحريمه على الآخذ، وخالف الجمهور في حق الدافع مع الاضطرار، وهو محل البحث.
كلام الفقهاء:
الحنابلة: ابن قدامة في المغني؛ يظهر أن ابن قدامة من أشدّ الناس في باب الرشوة، وقد ذكرها في موضوعين:
الأول: في باب الحجi في فصل إمكان السير، قال: فإن كان في الطريق عدو يطلب خفارة فقال القاضي: لا يلزمه السعي وإن كانت يسيرة؛ لأنها رشوة فلا يلزم بذلها في العبادة كالكبيرة، وقال: ابن حامد: إن كان ذلك مما لا يجحف بماله لزمه الحج؛ لأنها غرامة يقف إمكان الحج على بذلها؛ فلم يمنع الوجوب مع إمكان بذلها كثمن الماء وعلف البهائم.
فتراه حكى القولين عنهما ولم يرجح، ولكن في تعليله عند ابن حامد ما يشعر بموافقته عليه، بأن تجوز من المحق وتحرم على المبطل الذي يأخذها بدون حق.
والموضع الثاني: في آداب القاضيii، فيما نقله قتادة عن كعب: وإن رشاه ليدفع ظلمه ويجزيه على واجبه فقد قال عطاء وجابر بن زيد والحسن: لا بأس أن يصانع عن نفسه، وقال جابر بن زيد: رأينا في زمن زياد أنفع لنا من الرشا، ولأنه يستنقذ ماله كما يستنقذ الرجل أسيره، فإن ارتشى الحاكم أو قبل هدية ليس له قبولها فعليه ردها إلى أربابها.
وعند المالكية: قال في الشرح الصغير على أقرب المسالكiii:
وفي المعيار سئل بعضهم عن رجل حبسه السلطان أو غيره ظلما، فبذل لمن يتكلم في خلاصه بجاهه أو غيره هل يجوز أم لا؟ فأجاب: نعم يجوز، صرح به جماعة منهم القاضي حسين ونقله عن القفال. ا?.
ذكر في حاشيته التفصيل في الأخذ على الجاه التحريم مطلقا، والكراهة مطلقا، والتفصيل إن كان محتاجا إلى نفقة وتعب سفر وأخذ مثل أجر مثله فلا بأس وإلا حرام.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
i ج 3 ص 219.
ii ج 9 ص 277- 278.
iii ج 3 ص 294.(5/28)
ص -150- عند الأحنافi:
في فتح القدير شرح الهداية قسم الرشوة أربعة أقسام: الثالث منها أخذ المال ليسوي أمره عند السلطان دفعا للضرر أو جلبا للنفع، وهو حرام على الآخذ لا الدافع، وحيلة حلها أن يستأجره يوما إلى الليل أو يومين فتصير منافعه مملوكة، ثم يستعمله في الذهاب إلى السلطان للأمر الفلاني.
وفي الأقضية: قسم الهدية وجعل هذا من أقسامها، فقال: حلال من الجانبين كالإهداء للتودد، وحرام من الجانبين كالإهداء ليعينه على الظلم، حلال من جانب المهدي حرام على الآخذ، وهو أن يهدي ليكف عن الظلم، والحيلة أن يستأجره.. الخ.
ونبه على أن هذا إذا كان فيه شرط بينهما، أما إذا كان الإهداء بلا شرط ولكن يعلم يقينا أنه إنما يهدي إليه ليعينه عند السلطان؛ فمشى بحثا على أنه لا بأس به، ولو قضى حاجة بلا شرط ولا طمع فأهدي إليه بعد ذلك فهو حلال لا بأس به.
الرابع: ما يدفع لدفع الخوف من المدفوع إليه على نفسه وماله حلال للدافع حرام على الآخذ؛ لأن دفع الضرر عن المسلم واجب، ولا يجوز أخذ المال ليفعل الواجب ا?.
وعند ابن تيمية رحمه الله في المجموع - أي مجموع الفتاوى - في موضعين الأول منهما ج 29 ص 258 أثناء الجواب على المطعومات التي تؤخذ عليها المكس ومحتكرة هل يحرم شراؤها؟.
وبعد تفصيل طويل قال: ألا ترى أن المدلس والغاش ونحوهما إذا باعوا غيرهم شيئا مدلسا لم يكن المشترى حراما على المشتري لأنه أخذ منه أكثر مما يجب عليه، وإن كانت الزيادة التي أخذها الغاش حراما عليه، وأمثال هذا كثير في الشريعة.
ثم قال مبينا قاعدة فقهية بقوله: فإن التحريم في حق الآدميين إذا كان من أحد الجانبين لم يثبت في الجانب الآخر، كما لو اشترى الرجل ملكه المغصوب من الغاصب، فإن البائع يحرم عليه أخذ الثمن والمشتري لا يحرم عليه أخذ ملكه، ولا بذل ما بذله من الثمن، ثم حكى أقوال العلماء في خصوص الرشوة، فقال: ولهذا قال العلماء: يجوز رشوة العامل لدفع الظلم، لا لمنع الحق وإرشاده حرام فيهما. يعني في الأمرين الذين هما دفع الظلم أو منع الحق.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
i شرح النهاية ج 5 ص 455، فتح القدير .(5/29)
ص -151- ثم قال: وكذلك الأسير والعبد المعتق إذا أنكر سيده عتقه، ومثل كذلك بالزوجة يطلقها زوجها فينكر طلاقها، فكل منهما يفتدي نفسه بالمال ليحق حقا وهو العتق والطلاق، ومعلوم أنهما حق لله تعالى وإلا بقيت الزوجة على غير عصمة.
ولذا تجد الفقهاء في مثل ذلك قالوا: لا تمكنه من نفسها باختيارها لتكون في حكم المغصوبة.
واستدل رحمه الله في هذا المبحث بالأثر عنه صلى الله عليه وسلم: "إني لأعطي أحدهم العطية، فيخرج بها يتلظاها نارا!"، قالوا: يا رسول الله فلم تعطيهم؟ قال: "يأبون إلا أن يسألوني ويأبى الله له البخل".
وقوله: ومن ذلك قوله: (ما رقى به المرء عرضه فهو صدقة)، فلو أعطى الرجل شاعرا أو غير شاعر لئلا يكذب عليه بهجو أو غيره كان بذله بذلك جائزا، وكان آخذ ذلك لئلا يظلمه حرام.
وساق كلاما طويلا في ذلك المقام.
الموضوع الثاني: في مجموع الفتاوى ج 31 ص 285 في جواب عن سؤال في هدايا الأمراء لطلب حاجة أو التقرب منهم.. الخ.
فبدأ جوابه بحديث أبي هريرة عند أبي داود وابن ماجة، قال: "من شفع حبة الشفاعة فأهدي له هدية فقبلها فقد أتى بابا عظيما من أبواب الربا".
وساق تحريم الرشوة ثم قال: فأما إذا أهدى له هدية ليكف ظلمه عنه أو ليعطيه حقه الواجب كانت هذه الهدية حراما على الآخذ، وجاز للدافع أن يدفعها إليه.
وذكر الأثر الأول في إعطائه صلى الله عليه وسلم عن ملح في مسألة المتقدم إبداءه، وذكر أيضا موضوع العتق والطلاق من أسر خيرا وكان ظالما للناس فأعطوه جاز للمعطي حرام على الآخذ، وساق كلاما طويلا في هذا المعنى.(5/30)
عنوان الكتاب:
بدر الكبرى
تأليف:
عطية محمد سالم
الناشر:
الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
السنة الرابعة - العدد الثاني - 1391هـ / 1971م(6/1)
ص -30- بدر الكبرى
للشيخ محمد عطية سالم - القاضي بالمحكمة الشرعية بالمدينة
تعتبر السيرة النبوية بيانا ومنهجا لسيرة الدعوة وأسلوب الداعي وسجلا لأحداث الكيان الإسلامي من أول بدء الوحي إلى خاتمته وهي جديرة بالدرس والتحليل للتأسي والاقتداء {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ...}
ولكل موقف في السيرة ظروف وملابسات تخصه، وإن غزوة بدر تميزت عن جميع الغزوات والمواقف بتوجيه مباشر بوحي يتلى، وفق خطة مسبقة وكان دور المسلمين فيها التطبيق العملي.
ولا نُبعد إذا قلنا أن تلك الخطة منوه عنها قبل الهجرة في قوله تعالى: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ}. وكان عمر رضي الله عنه يقول: "لم أعلم أي جمع حتى رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر يثب في الدرع ويقرأ {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ}" ولكن أحداث مكة وطريق الهجرة غطت على هذا التنويه. ثم جاء الوعد الصريح في العهد القريب. {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ} تحقيقا للخطة السابقة. وهاهو التوجيه(6/2)
ص -31- الإلهي لتحقيق ذلك وتنفيذه على أيدي المسلمين بتوجيه رب العالمين.
وجوانب الغزوة عديدة ولا يمكن الإلمام بجميع جوانبها في عرض سريع ولا تستوعبها محاضرة عاجلة.
ولكن على سبيل الإجمال فإن جميع الغزوات تشترك في جوانب أساسية هي
1- الأسباب الدافعة عليها.
2- الإعداد لها مسبقا من:
أ- جند، ب- عتاد، جـ -تموين، د- اختيار المكان والزمان إن أمكن، هـ - وضع الخطة الملائمة للزمان والمكان والظروف مع اعتبار قوى العدو وظروفه ونوع سلاحه وطريقة قتاله، وغير ذلك.
3- سير المعركة ونوع القتال:
دفاع أو هجوم. ولكل تنظيمه وعتاده.
كر وفر، أو الزحف في صفوف، الحصار، الإمدادات والتموين.
4- النتائج: تحقيق الغرض الذي قامت لأجله. تحقيق غرض آخر، أو فشلها والهزيمة.
5- المخلفات: تصفية أعمال المعركة وبقايا آثارها في الأمة من الجهتين المتقاتلتين.
تلك هي الجوانب الأساسية التي تواكب كل غزوة وتلازمها ولا بد لها من إعداد وتقدير قبل خوض المعركة والتورط مع العدو. كما كان في غزوات الأحزاب وأحد وتبوك وخيبر وفتح مكة. فكانت خطة الأحزاب حفر الخندق ومفاجأة العدو بها. وخطة أحد: الرماة والمقاتلة. وخيبر حصار العدو. وكلها واضحة المعالم للمسلمين.
الدوافع على الغزوة:
كان الدافع على غزوة بدر هو أخذ العير كما جاء في خبر أبي أيوب النصاري رضي الله عنه قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بالمدينة: "إني أخبرت عن عير أبي سفيان أنها مقبلة فهل لكم أن نخرج قِبَلَها لعل الله يُغْنِمناها؟ " فقلنا:نعم فخرج وخرجنا".
فالدافع إلى الخروج هو الرغبة في(6/3)
ص -32- العير لعل الله يغنمهموها وهذا أمر عادي فيما بين المسلمين والمشركين. فالمسلمون خرجوا من ديارهم فرارا بدينهم وتركوا أموالهم بمكة. وهذا صهيب عند الهجرة قالوا له بمكة: "جئتنا صعلوكا لا مال لك حتى أثريت والآن تريد أن تخرج بأهلك ومالك" فنزل لهم عن ماله وخرج.
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "وهل ترك لنا عقيل من بيت أو ربع". والصدِّيق يقول لولده يوم بدر وهو في صفوف المشركين أين مالي يا خبيث؟ فيقول له:
لم يبق إلا شكة ويعبوب وصارم يقتل ضلال الشيب
فخروج المسلمين لأخذ العير أمر عادي وطبيعي في مثل هذه الحالة. لأن الطرفين في حالة حرب منذ أن تآمروا على قتله صلى الله عليه وسلم وخرج ليلا إلى الغار وهاجر إلى المدينة.
وحالة الحرب تجيز أخذ مال العدو وليس ذلك غدرا ولا اعتداءا ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم لم يخرج من مكة إلا بعد أن رد الودائع لأهلها وخلف عليا رضي الله عنه لأدائها. وتركه في فراشه وتحت ظلال السيوف لأنها أمانات وودائع.
أما هذه فقافلة تجارية في حراسة أربعين رجل أو ثلاثين. ولكن العير لم تكن إلا إغراء على الخروج العاجل الخفيف لئلا لا يتهيأ جيش، وليكون اللقاء بين فئتين مختلفتين ليكون آية، وفي أثناء الطريق يتبدل السبب ويقع الشك في إدراك العير ويتسامع بالنفير.
وهناك يثقل الأمر عليهم ويقع الجدال بينهم. {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ. يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ}.
وهناك أيضا يأتي وعد بإغراء {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ}. وإطلاق إحداهما لم يقطع الأمل في العير. ولم يؤكد لقاء النفير، إلا أن ميولهم إلى السبب الذي أخرجهم وتوددهم إلى غير ذات الشوكة تكون لهم.
وإلى هنا أمر عادي وسير للخطة(6/4)
ص -33- على وجهتها الطبيعية.
ولكن التوجيه الإلهي يوجه الخطة إلى غير ما يريدون وإن كرهوا. {وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ، لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ}.
وهذا أول تغيير في الخطة وأول مجابهة المسلمين بالموقف الجديد. وقد أدرك ذلك سعد إذ يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "ولعلك أن تكون خرجت لأمر وأحدث الله إليك غيره فانظر الذي أحدث الله إليك فامض له فصل حبل من شئت. واقطع حبل من شئت. وعاد من شئت وسالم من شئت. وخذ من أموالنا ما شئت".
وفي ذلك الموقف ينشأ أول مجلس عسكري أعلى يُجري فيه النبي صلى الله عليه وسلم مشاورات مع أصحابه "أشيروا علي أيها الناس" أي في خصوص مقابلة النفير حيث خرجت مكة لحماية العير.
وتكلم كلا الفريقين من المهاجرين والأنصار كما تقدم. وخرج المؤتمر وانفض المجلس على قرار موحد حاسم: القتال.
بقي تحديد المكان:
لم يكن للمسلمين ولا المشركين اختيار في المكان ولا في تحديد الزمان، لقد سار المسلمون إلى ماء بدر لأنه منزل عام على الطريق. ولا يعلمون متى يلتقون بالنفير ولا مصير العير. ومضى المشركون أيضا إلى بدر لتسمع بهم العرب ولا يعلمون متى يلتقون بالمسلمين.
ولكن الخطة والتوجيه الإلهي يحدد مكان المعركة وزمانها: {إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ} وبيَّن تعالى أن ذلك جُزءا من الخطة العامة ليقضي الله أمرا كان مفعولا. {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ}.
وجها لوجه:
لقد أصبح المسلمون مع المشركين وجها لوجه في الميدان. وهناك مرة أخرى يأتي التوجيه الإلهي لتنفيذ الخطة بمغايرة جديدة حول العدد الذي هو ميزان القوة والقتال. فيقلل كلا الطائفتين في نظر الأخرى، {وَإِذْ(6/5)
ص -34- يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} أي لا إلى تقديراتكم وخطئكم.
وقد بين الله تعالى الغرض المقصود من هذا التقليل {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} فلم يترك لكم الأمر ووجهكم إلى ما يغري على القتال. فأصبحوا أمام أمر واقع لم يكن لهم اختيار فلا يستطيعون التقدم ولا التأخر ولكن أرض معسكرهم رمله دهسة تعوق سرعة الحركة وليس ذلك من صالحهم. وأرض العدو سبخة جلدة وما زال المسلمون ببطن الوادي ولا ماء عندهم ولم يشرع التيمم بعد، فوقعوا في وساوس الشيطان وكيف يلقون العدو بغير طهارة!..فجاءتهم عناية الله وغيرت الموقف وعكسته تماما: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ}. وهكذا بين عشية وضحاها تغير الموقف تماما إذ نزل عليهم المطر ليلا فتطهروا وشربوا وتماسك الرمل تحت أقدامهم وثبتت عليه.
بينما سبخة المشركين تنزلق تحت أقدامهم وأصبح الموقف لصالح المسلمين فمعسكرهم متماسك لطيف ومعسكر المشركين زلق رحض.
وفي تلك الليلة وبوحي من إفساح المجال للمشورة وامتدادا لذلك المجلس العسكري الذي أشعر كل شخص بمسئولية القتال يتقدم الحباب بن المنذر بمشورته في المنزل، ويقبل صلى الله عليه وسلم مشورته كما تقدم. ويأتي ملك فيقول: "يا رسول الله: إن الله يقرئك السلام ويقول الرأي ما قاله الحباب" . فيقول صلى الله عليه وسلم: "إن الله هو السلام ومنه السلام" . وينزل على المشورة تلك والتي نالت ما نسميه في عرفنا موافقة من المرجع الأعلى. وإلى الله ترجع الأمور.
إنه تحقيق لما قلنا من التوجيه الإلهي لمعركة بدر. وبهذا كله يتم تهيئة أرض المعركة. وبتثبيتها تحت أقدام المسلمين وتوفير الماء لهم.(6/6)
ص -35- وانزلاق الأرض تحت أقدام المشركين ولا ماء عندهم. وذلك لصالح المسلمين وما كان ليتم ذلك إلا بتوجيه إلهي للخطة وعناية بالمسلمين وفي الصباح يلتقي الجمعان على تلك الحال ولم يبق إلا القتال.
قبل بدء المعركة:
كل ما تقدم من خروج وإغراء وتوجيه. ومشورة وأمنة النعاس وإنزال الماء من السماء وتثبيت الأقدام وغير ذلك. إنما هو مقدمة وتهيئة لهذه اللحظة. لحظة بدء القتال. فهي أخطر لحظة في المعركة. وهي أهم نقطة في الخطة. وأدق جزء في التوجيه وعليها يتوقف مصير المعركة. وبالتالي مصير الدعوة والأمّة بل والإنسانية كلها.
فهي اللحظة الحاسمة وهي الفرقان بين الحق والباطل. وبين البطر والتواضع ومن ثم نجد التوجيه أشد ما يكون. والتعليمات في منتهى الحزم والشدة والقسوة. ونستطيع تسميتها تعليمات الميدان {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}.
وتفصيل تلك التعليمات:
أ- فلا تولوهم الأدبار. وبهذا لا يملكون انهزاما ووجب عليهم الصبر والثبات أمام العدو مهما كانت النتائج.
ب- عقوبة من تسول له نفسه بالتولي غضب الله في الدنيا. ومآله جهنم وبئس المصير.
وهذا خاص ببدر دون غيرها من الغزوات لقوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ} ولكأن المسلمين ذلك اليوم لا يملكون أنفسهم. ولا لهم حق التصرف في شيء. حتى في تحركاتهم.
وقد جاء ما يؤيِّد هذا عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. فقال عمر: "يا أيها الناس لا تغرنكم هذه الآية فإنما كانت يوم بدر وأنا فئة لكل مسلم". وقال نافع: "سألت بن عمر قلت إنا قوم لا نثبت عند قتال عدونا ولا ندري من الفئة. إمامنا أو عسكرنا؟" فقال: "إن الفئة رسول الله(6/7)
ص -36- صلى الله عليه وسلم". فقلت: "إن الله يقول: {إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً..} الآية " فقال: "إنما أنزلت في يوم بدر لا قبلها ولا بعدها".
وهذا بخلاف غيرها من الغزوات فقد جاء في حق أُُحد بعدها بسنة قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ}. ويؤكد أنها في أُحد عدم تولي أَحَدٌ يوم بدر حيث ثبتوا جميعا. بينما في أُحد تولى البعض منهم حتى وصل العريض ووصل المدينة.
وجاء في حنين وهي بعد بدر بست سنوات قوله تعالى: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
ففي أحد وحنين تأتي التوبة بعد التولي وتختص بدر بالعقوبة على من تولى وهنا نجد إحكام الخطة ودقة التوجيه فالمؤمنون خرجوا للعير وقد فاتتهم وتغيَّرت عليهم الخطة. ولم يبق لهم اختيار في إحدى الطائفتين. وأُلزموا بلقاء ذات الشوكة. وكأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون. والآن هم في ساحة القتال لا حق لهم في التولي. ولا يملكون من أنفسهم شيئا. وعليهم أن ينفِّذوا ما يؤمرون به ويوجهون إليه بقيادة السماء.
عندئذ اشتد الموقف وعظم الخطر فجاء النصر من الجانبين:
الأول: تكثير المسلمين في أعين المشركين. {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ}.
الثاني: إنزال الملائكة. {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.(6/8)
ص -37- وكان لإنزال الملائكة في غزوة بدر حالة خاصة وتوجيه مستقل مغاير لنزولهم في غيرها. ولقد أنزل الله جنودا من الملائكة في ثلاثة مواضع سوى بدر:
أولا: عند الغار حراسا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: {إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.
ثانيا: يوم الأحزاب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً}.وكان لإنزال الملائكة في غزوة بدر حالة خاصة وتوجيه مستقل مغاير لنزولهم في غيرها. ولقد أنزل الله جنودا من الملائكة في ثلاثة مواضع سوى بدر:
أولا: عند الغار حراسا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: {إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.
ثانيا: يوم الأحزاب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً}. وكان موقفا جد عصيب {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً}.
ثالثا: يوم حنين: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا..}.
ففي هذه المواطن الثلاثة مع شدة تأزمها. إذ هما في الغار لا مفر لهما منه والسيوف مستلة بأيدي المشركين بقلوب حانقة وصدور حاقدة تغلي دماؤهم ويشتد عداؤهم.
ويوم الأحزاب جاء الأحلاف ليثأروا لقتلاهم واشتد الأمر على المسلمين وزاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا.
وفي يوم حنين على كثرة المسلمين ضاقت عليهم الأرض بما رحبت. في كل ذلك جاءت جنود الله نصرة للمؤمنين ولكنها مع شدة الحال لم تظهر تلك الجنود وكانت من وراء الرؤية.
أما في بدر فقد كان إنزال الملائكة وفق خطة وتوجيه ضمن منهج عملي مفصل:
-1بيان العدد لأول وهلة(6/9)
ص -38- {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}. وفي المواطن الأخرى الثلاثة: {وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ} {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً}. {وَأَنْزَلَ جُنُوداً}. وهنا قال: {أَنِّي مُمِدُّكُمْ} والمدد يكون من القيادة العليا. وبين تعالى الغرض من هذا الإمداد {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلا بُشْرَى لَكُمْ..} إلخ. بشرى وطمأنينة على أرض المعركة.
بعد مجيء المدد رسمت له خطة العمل بما يمكن أن تسميه تعليمات الميدان:
أ- {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا}.
ب- {سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ}
جـ-{فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ}.
ففيه تثبيت للملائكة أولا بقوله:{أَنِّي مَعَكُمْ}. وتثبيت للمؤمنين ثانيا. وقد جاء في الآثار أن المَلَك كان يأتي في صورة رجل معروف ويقول للمؤمنين إن عدوَّكم لا يقوى على لقائكم وإذا شددتم عليهم يفرون أمامكم. وفي الأثر: "أقدم حيزوم". وسأل النبي صلى الله عليه وسلم عنه جبريل فقال: "ما كل ملائكة السماء أعرف يا رسول الله".
وقد تضافرت النصوص أنهم رأوا الملائكة على خيل بلق وكان شعارهم العمائم. وقال ابن عباس: "لم تقاتل الملائكة في يوم سوى يوم بدر من الأيام. وكانوا يكونون فيما سواه من الأيام عددا ومددا لا يضربون". وعن بردة قال: "جئت يوم بدر بثلاثة أرؤس فوضعتهن بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: أمّا رأسان فقتلتهما وأما الثالث فلم أقتله. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم حين ذاك: "قتلته الملائكة". وكان السائب بن أبي حسين يحدِّث في زمن عمر ويقول: "بينما أنا ببدر إذ أوثقني رجل بحبل ومضى عني فإذا ابن الزبير فأخذني وقال من أسر هذا وأنا أستحي أن أذكر ما وقع لي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذاك أسره ملك. خذ أسيرك يا ابن الزبير".
وقوله: {سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْب} تقوية معنوية بما يسمى(6/10)
ص -39- حرب الأعصاب مع أن هذا حقيقة بذاته كما قالوا: كنا نسمع كصوت الحصاة على طشت نحاس يدوي في القلوب من شدة الخوف. وكان مقابل ذلك السكينة في قلوب المؤمنين.
وقوله: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} تعليم بكيفية الضرب وجاء أنهم كانوا يفرقون بين قتلى المؤمنين وقتلى الملائكة مثل سمة النار.
2- مشاركته صلى الله عليه وسلم في المعركة برمي الحصباء في وجوه القوم وقال: "شاهت الوجوه" فلم يبق رجل مشرك إلا أصابه منها ما شغله في عينه وفمه.
وجاءت النتيجة وفق تلك الخطة هزيمة للمشركين تحقيقا للوعد الأول والثاني.
أما الأول فقوله: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ}. وكان عمر رضي الله عنه يقول: "لا أعلم ما الجمع الذي سيهزم حتى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يثب في درعه يوم بدر ويقول: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} ".
ومعلوم أن نتائج المعارك بحسب أسبابها ومقوماتها. وقد شاهدنا أن مسببات بدر ومقوماتها كلها كانت بتوجيه إلهي وخطة مسبقة ولذا كانت نتيجتها تبعا لذلك. {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى}.
فالله الذي ألقى في قلوب المشركين الرعب وهو الذي أوصل الحصباء عيونهم وهو الذي أنزل الملائكة بشرى وطمأنينة تقاتل وتأسر معهم وهو الذي كثرهم في أعين المشركين وأنزل السكينة عليهم.
وهنا نواجه سؤالا وهو في جملته يتلخص في أن المعركة في سيرها وتوجيهها من الله وملائكته وأن المسلمين ما كانوا ليملكوا شيئا من سيرها. وما يقدرون على شيء من نتائجها. وما كانوا إلا سائرين وفق خطة مرسومة وكان يكفي لهزيمة المشركين ملك واحد. فلم كثر عدد الملائكة. وكان الأسر بيد المسلمين؟ والجواب كما نص عليه تعالى من جهتين:(6/11)
ص -40- -1ابتلاء للمؤمنين هل يمتثلون ويثبتون أم لا قال تعالى: {وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.
-2كان المسلمون مستضعفين وكانوا ذوي حقوق عند المشركين وقد عانوا منهم شدة وقسوة فأراد الله أن يشفي صدورهم. ويخزي عدوهم الذي قال: "لا نرجع حتى نرد ماء بدر وتسمع بنا العرب وتعزف علينا القيان" وكان خزيهم على أيدي المسلمين أشد منه على أيدي الملائكة {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ}.
تصفية المعركة:
كانت تصفية المعركة تبعا لنتائجها في المغانم والأسرى أما المغانم فقد أخذت من أيديهم بعد تنازعهم فيها وجعلت لله ولرسوله يضعها حيث شاء فقسمها بينهم. وسميت أنفالا والأنفال ما ينفله الإمام للغزاة. وكأنه تشبيه بالغبي الذي قال فيه تعالى: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ}.
وهنا قال:{ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} فكانت أنفال بدر بمقتضى ذلك لله ولرسوله.
وقال ابن كثير: "قال الإمام أحمد: وساقه بسنده إلى أبي أمامة قال: سألت عبادة عن الأنفال قال: "فينا نزلت أصحاب بدر حين اختلفنا في النفل وساءت فيه أخلاقنا فانتزعه الله من أيدينا وجعله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المسلمين عن بواء (عن سواء)". وعنه: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فشهدت معه بدرا فالتقى الناس فهزم الله العدو فانطلقت طائفة في إثره يرجمون ويقتلون وأقبلت طائفة على العسكر يحوزونه ويجمعونه. وأحدقت طائفة برسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصيب العدو منهم غرة حين إذا كان الليل وفاء الناس بعضهم إلى بعض. قال الذين جمعوا الغنائم: نحن حويناها فليس لأحد فيها نصيب. وقال الذين خرجوا في طلب العدو: لستم بأحق به منا، نحن منعنا عنه العدو وهزمناهم. وقال الذين أحدقوا برسول الله: خفنا أن يصيب العدو منه غرة فاشتغلنا به فنزلت {يَسْأَلونَكَ عَنِ(6/12)
ص -41- الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَال...وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُم}. فقسمها صلى الله عليه وسلم بين المسلمين".
أما الأسارى فقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لسعد وهو عند العريش وقد رأى في وجهه عدم الرضا: "كأني بك لم ترض بفعل القوم؟" قال: "بلى يا رسول الله إن هذه أول وقعة بين المسلمين والمشركين فما كان ينبغي أن يؤسر الرجال وكان أحب إلي أن يقتلوا".
وقد عاتبهم الله فيها عتابا شديدا لما قبلوا الفداء {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}. ثم أبيح لهم أكل الفدا {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً}.
وهكذا جاءت غزوة بدر فرقانا بين الحق والباطل. آية من الله على صدق الرسول وبينة ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة.
ثم اختص الله أهل بدر من المسلمين والملائكة على سواهم بفضل عظيم بعظم الموقف.
"لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" وقال جبريل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما تعدون أهل بدر فيكم؟" قال:"أفضلنا". قال: "وكذلك من حضرها من الملائكة". أو كما قال صلى الله عليه وسلم.(6/13)
عنوان الكتاب:
حكم من لم يحكم بكتاب الله
تأليف:
عطية محمد سالم
الناشر:
الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
السنة السادسة - العدد الرابع - ربيع الثاني 1394هـ - ابريل 1974م(7/1)
ص -30- حكم من لم يحكم بكتاب الله
بقلم الشيخ عطية محمد سالم القاضي بالمحكمة الكبرى بالمدينة
تقدم في أول مبحث من له حق الحكم والتشريع ومن المستحق للسمع والطاعة والإذعان والانقياد لأوامره. وأنه هو الله تعالى وحده. وبيان موجز بأن من شرع ما لم يأذن به الله فقد نصب نفسه شريكا مع الله ومن أطاعهم في تشريعهم واستحله فهو مشرك شرك الطاعة المعروف. وفي هذا المقام نورد تفصيل ذلك مما ورد في مجموع نصوص صريحة:
أولا_ لما قال تعالى:{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْك} إلى آخر الآية. جاء بعدها في السياق {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ}. فجعلهم شركاء تشريع بتشريعهم ما لم يأذن به الله؛ لأن التشريع حق لله ولا يملك هذا الحق إلا الله.
ثانيا_ لما حرم الله الميتة جاء الشيطان لأوليائه من كفار مكة فأوحى إليهم بما(7/2)
ص -31- يحاولون به في تحريمها ويدعون إلى تحليلها فقال لهم: قولوا لمحمد : الشاة الميتة من قتلها فقال لهم: الله قتلها فقال قولوا لهم ما قتله الله يكون حراما وما قتلتموه أنتم يكون حلالا فذبيحتكم إذا أحسن من ذبيحة الله التي ذبحها بسكين من ذهب بيده الكريمة.. فأنزل الله قوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ}.
وقد بيّن فضيلة والدنا الشيخ محمد الأمين في أضواء البيان فيما يكتبه حفظه الله للجزء السابع وسمح بالنقل عنه أوسع بيان في ذلك. فقد ساق هذه القصة ببيانه المفصل وختمه بقوله تعليقا على الآية بقوله: وقوله تعالى: {لَفِسْقٌ} أي خروج عن طاعة الله واتباع لتشريع الشيطان. {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} أي بقولهم: ما ذبحتموه حلال وما ذبحه الله حرام. فأنتم إذاً أحسن من الله وأحل تذكية. ثم بيّن الفتوى السماوية من رب العالمين في الحكم بين الفريقين في قوله: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} فهي فتوى سماوية من الخالق جل وعلا، ثم صرح فيها بأن متبع تشريع الشيطان المخالف لتشريع الرحمن مشرك بالله.
وهذه الآية الكريمة مثل بها بعض علماء العربية لحذف اللام الموطئة للقسم.لحذف الفاء من الجواب وعدم اقترانه بها. وساق فضيلته مناقشة عربية في ذلك. ثم ذكر بعدها الآيات المتعلقة بالموضوع فقال: ومن الآيات الدالة على ما دلت عليه آية الأنعام قوله تعالى: {إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ}. فصرح بتوليهم للشيطان أي باتباع ما يزين لهم من الكفر والمعاصي مخالفا لما جاءت به الرسل.. ثم صرح بأن ذلك إشراك به في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ}. وصرح أن الطاعة في ذلك الذي يشرعه الشيطان لهم ويزينه عبادة للشيطان. ومعلوم أن من عبد الشيطان فقد أشرك بالرحمن. قال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ. وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ. وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ..} ويدخل فيهم متبعوا نظام الشيطان دخولا أوليا: (ولعل مما يشهد لأولية هذا(7/3)
ص -32- الدخول ما سبق تقديمه من قوله تعالى فيمثل هذا المقام: {وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً}. ثم يبين المصير الأخير لمن كان يعبد الشيطان في دار الدنيا في قوله: {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ. الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}.
وقال تعالى عن نبيه إبراهيم: {يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً} فقوله: لا تعبد الشيطان أي باتباع ما يشرعه من الكفر والمعاصي مخالفا لما شرعه الله.
وقال تعالى: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَرِيداً}. فقوله وإن يدعون إلا شيطانا يعني وما يعبدون إلا شيطانا مريدا.
وقوله: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ. قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} فقوله تعالى: {بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ} أي يتبعون الشياطين ويطيعونهم فيما يشرعون ويزينون لهم الكفر والمعاصي على أصح التفسيرين.
والشيطان عالم بأن طاعتهم له المذكورة إشراك به كما صرح بذلك وتبرأ منه في الآخرة كما نص الله عليه في سورة إبراهيم في قوله تعالى: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ} إلى قوله: {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} فقد اعترف بأنهم كانوا مشركين به من قبل أي في دار الدنيا ولم يكفر بشركهم إلا يوم القيامة. وقد أوضح النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى الذي بيناه في الحديث لما سأله عدي بن حاتم رضي الله عنه عن قوله تعالى:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ}. كيف اتخذوهم أربابا وأجابه صلى الله عليه وسلم "أنهم أحلوا لهم ما حرّم الله وحرموا عليهم ما أحل الله" فاتبعوهم وبذلك الاتباع اتخذوهم أرباباً. ومن أصرح الأدلة في هذا أن الكفار إذا أحلوا شيئا يعلمون أن الله حرمه وحرّموا شيئا يعلمون أن الله أحله فإنهم يزدادون كفراً جديداً بذلك مع كفرهم الأول وذلك في قوله تعالى:(7/4)
ص -33- {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّه} أي بالقتال وما لا يجوز في الأشهر الحُرم إلى قوله تعالى: {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}.
وعلى كل فكل من أطاع غير الله في تشريع مخالف لما شرعه الله فقد أشرك به مع الله كما يدل لذلك قوله:
{وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ}. فسماهم شركاء لما أطاعوهم في قتل الأولاد وقوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ}. فقد سمى تعالى الذين يشرعون من الدين ما لم يأذن به الله شركاء.
ومما يزيد ذلك إيضاحا أن ما ذكره الله عن الشيطان يوم القيامة من أنه يقول للذين كانوا يشركون في دار الدنيا {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُْ} أن ذلك الإشراك المذكور ليس فيه شيء زائد على أن دعاهم إلى طاعته فاستجابوا له كما صرح بذلك في قوله: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي}.. الآية . وهو واضح كما ترى.
فتحصل من هذا السياق الوافي والبيان الكافي وقد زاده إيضاحا قوله حفظه الله في مطلع هذا البحث بقوله: "فالإشراك بالله في حكمه كالإشراك به في عبادته؛ قال في حكمه: {وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً}. وفي قراءة ابن عامر من السبعة {ولا يشركْ في حكمه أحدٌ} بصيغة النهي وقال في الإشراك به في عبادته: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً}, فالأمران سواء". اهـ.
وقد سيق إيراد النصوص التي جمعت الحكم والعبادة والحكم والولاية معا.
ولعلنا بهذا العرض وهذا الإيراد لما ذكره فضيلة والدنا الشيخ محمد الأمين في هذا المبحث نكون قد أعطينا الضوء الكافي لمن أراد أن يبصر طريق الحق إلى مطلع النور والهدى والحكم بما أنزل الله من كتاب وحكمة.(7/5)
ص -34- ومن عجب كل العجب أن يعرض الإنسان عن شرع ربه وخالقه ومحييه ومميته وكادح إليه فملاقيه وموقفه بين يديه يأتونه فرادا كما خلقهم أول مرة في يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لا ملجأ من الله إلا إليه قد شرع له ما يصلح دنياه ويسعد آخرته.
وهو مع هذا يعرض ويتولى. وما ذلك إلا ضياع منه لنفسه ونسيان لحظه وتمرد على ربه: {أَوَلَمْ يَرَ الإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ, وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ}. نسي خلقه من نطفة مخلقة فمضغة حتى إذا كان يافعا فتيا ناصب ربه العداء وشرع لخلق الله ما أراد.
وخير ما نختتم به هذا البحث الإنذار من الله لخلقه {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً}. وإن حقيقة الإسلام لا تتحقق إلا بكمال الاستسلام كما قيل:
وأسلمت وجهي لمن أسلمت له الأرض تحمل صخرا ثقالا
دحاها فلما استوت شدها سواء وأرسى عليها الجبالا
وأسلمت وجهي لمن أسلمت له المزن تحمل عذبا زلالا
إذا هي سيقت إلى بلدة أطاعت فصبت عليها سجالا
وأسلمت وجهي لمن أسلمت له الريح تصرف حالا فحالا
ومن أبرز النصوص في موضوع من لم يحكم بما أنزل الله ما جاء متتاليا في سورة المائدة ثلاث مرات {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} والثانية {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} وفي الثالثة {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}.
وجميع المفسرين والكتاب وعلماء الكلام فيهم الطحاوي يتناولون هذه النصوص بالبحث من وجهات علمية ثلاث تتلخص فيمن نزلت؟, وبمن اختصت؟,(7/6)
ص -35- وعلامَ دلَّت؟. واتفقوا أنها نزلت في اليهود والنصارى أما بمن اختصت. فالبعض يخصها بمن نزلت فيهم والأكثرون يعمون بها على أساس أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وأن شرع من قبلنا شرع لنا. وأنها ما ذكرت لنا في شرعنا إلا من أجلنا لنحذر مما حذرت منه. أما مدلولها فالبعض أيضا على أن الألفاظ الثلاثة قد تكون مترادفة المعنى وكلها تأتي بمعنى الشرك وبمعنى العصيان وعليه هل هذا الكفر والظلم والفسق مخرجة من الملة أم هي كفر دون كفر وفسق عصيان وظلم في الفروع؟.
وقد بحث هذا الموضوع شارح الطحاوية بما نصه: قال : "وهنا أمر يجب أن يتفطن له وهو: أن الحكم بغير ما أنزل الله قد يكون كفرا ينقل عن الملة وقد يكون معصية كبيرة أو صغيرة. ويكون كفرا. إما مجازيا وإما كفرا أصغر على القولين المذكورين. وذلك بحسب حال الحاكم: فإنه إن اعتقد أن الحكم بما أنزل الله غير واجب, وأنه مخير فيه, واستهان به مع تيقنه أنه حكم الله فهذا كفر أكبر. ون اعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله وعلمه في هذه الواقعة وعدل عنه مع اعترافه بأنه مستحق العقوبة. فهذا عاص. ويسمى كافرا كفرا مجازيا أو كفرا أصغر. وإن جهل حكم الله فيها مع بذل جهده واستفراغ وسعه في معرفة الحكم وأخطأه, فهذا مخطئ، له أجر على اجتهاده وخطؤه مغفور" هـ..
فقد أوجز الحكم على من حكم بغير ما أنزل الله بناء على اعتبارات مختلفة في نفس الحاكم من اعتقاده أو غير وجوبه وعلمه وجهالته ونحو ذلك.
وقد بحث هذه النصوص الثلاثة فضيلة والدنا الشيخ محمد الأمين في أضواء البيان في الجزء الثاني على قوله تعالى:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} في سورة المائدة قد استوفى البحث مما يغني عن أقوال جميع المفسرين. الموضوع نسوقه بتمامه لتمام فائدته. ثم نعرض وجهة نظر في الموضوع إن شاء الله.
قال حفظه الله: " قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}. اختلف العلماء في هذه الآية الكريمة هل هي في المسلمين أو في الكفار؟, فرُوي عن الشعبي أنها في المسلمين. وروي عنه أنها في اليهود. وروي عن(7/7)
ص -36- طاوس أيضا أنها في المسلمين. وأن المراد بالكفر فيها كفر دون كفر. وأنه ليس في الكفر المخرج من الملة. وروي عن ابن عباس في هذه الآية أنه قال: "ليس الكفر الذي تذهبون إليه". رواه عنه ابن أبي حاتم والحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. قاله ابن كثير. قال بعض العلماء والقرآن العظيم على أنها في اليهود لأنه تعالى ذكر فيما قبلها أنهم يحرفون الكلم من بعض مواضعه وأنهم يقولون {إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا} يعني الحكم المحرف الذي هو غير حكم الله فخذوه. وإن لم تؤتوه أي المحرف بل أوتيتم حكم الله الحق فاحذروه. فهم يأمرون بالحذر من حكم الله الذي يعلمون أنه الحق. وقد قال تعالى بعدها {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} الآية .. تدل على أن الكلام فيهم.
وممن قال بأن الآية في أهل الكتاب كما دل عليه ما ذكر (البراء بن عازب_ وحذيفة بن اليمان، وابن عباس، وأبو مجلز، وأبو رجاء العطاردي، وعكرمة، وعبيد الله بن عبد الله، والحسن البصري وغيرهم. وزاد الحسن وهي علينا واجبة. نقله عنهم ابن كثير. ونقل نحو قول الحسن عن إبراهيم النخعي. وقال _ القرطبي_ في تفسيره {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ _ والظَّالِمُونَ _ و الْفَاسِقُونَ} : "نزلت كلها في الكفار. ثبت ذلك في صحيح مسلم من حديث البراء. وقد تقدم وعلى هذا المعظم.
فأما المسلم فلا يكفر وإن ارتكب كبيرة. وقيل فيه: (أي ومن لم يحكم بما أنزل الله) رداً للقرآن وجحدا لقول الرسول صلى الله وعليه وسلم فهو كافر قاله ابن عباس ومجاهد.
فالآية عامة على هذا. قال ابن مسعود والحسن: هي عامة في كل من لم يحكم بما أنزل الله من المسلمين واليهود والكفار. أي معتقدا ذلك ومستحلاً له. فأما من فعل ذلك_ وهو معتقداً أنه مرتكب محرما فهو من فساق المسلمين, وأمره إلى الله تعالى إن شاء عذبه وإن شاء غفر له.
وقال ابن عباس في رواية {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} فقد فعل فعلا(7/8)
ص -37- يضاهي أفعال الكفار. وقيل أي ومن لم يحكم بجميع ما أنزل الله فهو كافر. فأما من حكم بالتوحيد, ومن لم يحكم ببعض الشرائع فلا يدخل في هذه الآية. والصحيح الأول, إلا أن الشعبي قال: هي في اليهود خاصة. واختاره النحاس قال: ويدل على ذلك ثلاثة أشياء:
منها أن اليهود ذكروا قبل هذا في قوله تعالى: {لِلَّذِينَ هَادُوا} فعاد الضمير عليهم. وفيها أن سياق الكلام يدل على ذلك ألا ترى أن بعده {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ}. فهذا الضمير لليهود بالاجماع. وأيضا فإن اليهود هم الذين أنكروا الرجم والقضاء. فإن قال قائل (من) إذا كانت للمجازاة فهي عامة إلا أن يقع دليل على تخصيصها, قيل له (من) هنا بمعنى (الذي) مع ما ذكرناه من الأدلة والتقرير, واليهود الذين لم يحكموا بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون. فهذا من أحسن ما قيل في هذا.
ويروى أن حذيفة سئل عن هذه الآيات أي في بني إسرائيل فقال: نعم هي فيهم ولنسلكن سبيلهم حذو النعل بالنعل _ وقيل : {الْكَافِرُونَ} للمسلمين, و{الظَّالِمُونَ} لليهود, و{الْفَاسِقُونَ} للنصارى. وهذا اختيار أبي بكر بن العربي. قال: لأنه ظاهر الآيات.
وهو اختيار ابن عباس وجابر بن زيد وابن أبي زائدة وابن شبرمة والشعبي أيضا. قال طاووس وغيره: "ليس بكفر ينقل عن الملة. ولكنه كفر دون كفر". وهذا يختلف إن حكم ما عنده على أنه من عند الله فهو تبديل له يوجب الكفر، وإن حكم به هوى ومعصية فهو ذنب تدركه المغفرة على أصل أهل السنة الخ.. الغفران للمذنبين.
قال القشيري: "وقد ذهب الخوارج أن من ارتشى وحكم بغير حكم الله فهو كافر". وعزا هذا إلى الحسن والسدي. وقال الحسن أيضا: أخذ الله على الحكام ثلاثة أشياء :(7/9)
ص -38- 1_ ألا يتبعوا الهوى. 2_ وأن لا يخشوا الناس ويخشوه. 3_ وأن لا يشتروا بآياته ثمنا قليلا". انتهى كلام القرطبي.
قال مقيدة عفا الله عنه: الظاهر المتبادر من سياق الآيات: أن آية {هُمُ الْكَافِرُونَ} نازلة في المسلمين؛ لأنه تعالى قال قبلها مخاطبا لمسلمي هذه الأمة {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً}. ثم قال: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}.
فالخطاب للمسلمين كما هو ظاهر متبادر من سياق الآية. وعليه فالكفر إما كفر دون كفر وإما أن يكون فعل ذلك مستحلا له، أو قاصدا به جحد أحكام الله وردها مع العلم بها.
أما من حكم بغير حكم الله وهو عالم أنه مرتكب ذنبا, فاعلا قبيحا, وإنما حمله على ذلك الهوى فهو من سائر عصاة المسلمين. وسياق القرآن ظاهر أيضا في أن آية {هُمُ الظَّالِمُونَ} في اليهود لأنه قال قبلها: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}.
فالخطاب لهم لوضوح دلالة السياق عليه كما أنه ظاهر أيضا مع أن آية: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} في النصارى لأنه قال قبلها {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}.
واعلم أن تحرير المقام في هذا البحث أن الكفر والظلم والفسق كل واحد منها ربما أطلق في الشرع مراد به المعصية تارة, والكفر المخرج من الملة تارة أخرى.
{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} معارضة للرسول صلى الله عليه وسلم وإبطالا لحكم الله. فظلمه وفسقه وكفره كلها مخرج عن الملة. ومن لم يحكم بما أنزل الله معتقدا أنه مرتكب حراما فاعل قبيحا فكفره وظلمه وفسقه غير مخرج عن الملة. وقد(7/10)
ص -39- عرفت أن ظاهر القرآن يدل على أن الأولى في المسلمين, والثانية في اليهود, والثالثة في النصارى. والعبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب. وتحقيق أحكام الكل هو ما رأيت. والعلم عند الله تعالى ". اهـ من الأضواء بلفظه قبل طبعه.
وبعد هذا العرض من كلام شارح الطحاوية الموجز وكلام الأضواء المفصل, فإني أورد وجهة نظر في هذه النصوص الثلاثة مما توحي الآيات بسياقها:
أولا _ الآية الأولى: جاءت تبعا لسباق مكتمل عن اليهود, بدأ من التحذير منهم, {وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ} إلى قوله تعالى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُم} إلى قوله:{وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّه} إلى قوله:{إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ..} وإلى هنا كله في اليهود.. وفي عموم التوراة يحكم بها النبيون ثم جاء في السياق {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً} وهنا خطاب للأمة, ثم جاء بعد هذا مباشرة {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ..}
ولكن بالنظر إلى ما أعقبه من قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا} .. فإن {عَلَيْهِمْ} راجع لليهود قطعا, و{فِيهَا} راجع للتوراة قطعا.. وقوله: {بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} مجمل بالنسبة إلى القرآن أو التوراة، فيكون عطف عليهم فيها في السباق أقرب إلى اعتبار ما أنزل الله هو التوراة. وهذا على الأقل يرجح أن قوله تعالى: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} يعني اليهود: أي نزلت فيهم.. أما حكمها عامة أو خاصة فهذا مبحث آخر..
أما الثانية: {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}: تصريح النص والسياق إنها في اليهود لقوله تعالى:{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} إلى آخر: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}.(7/11)
ص -40- وكذلك الثالثة: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} لقوله: {وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} إلى قوله: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}. فهذه في النصارى لذكر الإنجيل.
ومن ناحية أخرى: إننا لو نظرنا إلى لفظتي (كافرون) و (فاسقون), لوجدناهما جاءتا بعد ذكر الكتابين التوراة والإنجيل, أو عموم ما أنزل الله أي أنها في الحكم على من لم يحكم حكما عاما ويأخذ بعموم التشريع بما فيه العقائد والعبادات وتحكيمه ككل لا كجزء.
أما لفظة: (الظالمون) فجاءت عقب تفصيل جزئي في تشريع جانبي خاص بحق الإنسان أي في حق خاص لا في حق عام..
والحق الخاص مبني على القصاص, وهو المساواة أو التسامح, فإن أسقط الإنسان حقه سقطت فيه المطالبة, فمن تصدق به فهو كفارة له.. بخلاف العقائد والعبادات فهي لازمة لا يملك المكلف إسقاطها ولا التصدق بشيء منها.
فهي حق دائر بين المسامحة والمطالبة,{فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَه}, و{فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ..} ومن طالب بحقه فلا بدّ فيها كلها من القصاص والمماثلة. {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ..} إلى {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ}. وإذا لم ينفذ هذا ويحكم بمقتضاه كان الظلم لا محالة؛ لأنه إذا أخذت اليد بالعين والسن بالأنف لم تقع المساواة, وإن أخذت عروض وأموال في أحدها..
والحال أن الجاني معتد فإن الظلم لم يرتفع؛ لأن المال عوض العضو وبقي حق الاعتداء, فأي عقوبة بغير القصاص ستكون ظلما؛ لأنها إما زائدة عن العضو فيظلم الجاني, وإما ناقصة فيظلم المجني عليه ولا يرتفع الظلم إلا بالمقاصة. {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}. وهذا أيضا يجعل هذا الوصف وإن كان خاصا في اليهود إلا أنه عام في كل أمة, إذا لم ينفذ حكم القصاص في النفس والأطراف والجروح فهي ظالمة. ولا تكون بذلك(7/12)
ص -41- وحده كافرة, أي أن هذا جور في الحكم وحيف في الحق وهذا من المعاصي وليس من الكفر والشرك.
وذلك مع اعتبار ما قاله شارح الطحاوية من معتقد الحاكم المتقدم تفصيله وبالله التوفيق.. وهذا ما يتعلق بالمسلمين حاكمين ومحكومين.
أما المواطنين غير المسلمين فإنهم لا يكون إلا محكومين ولكنهم يكونون متساوين مع المسلمين في التقاضي من العدالة والمساواة والإنصاف وضمان الحقوق, قياما لله بالحق{وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}. وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله.
حق المواطنين غير المسلمين في التحاكم:
لقد رأينا في المقدمة ما كان عليه حال البلاد المسلمة حينما كانت تحت حكم الاستعمار وما كان عليه حال المستعمرين من تمييز وحماية ثم اختصاص بمحاكم خاصة في ظل الغلبة والقوة.
أما الإسلام فليس فيه شيء من ذلك في نشر العدالة وميزان الحكم كما في قوله تعالى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً} أي لأنهم أضعف من ذلك. ومع هذا الضعف {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} أي ولو كان المحكوم عليه أو له عدو مخالف. وهكذا يعامل المسلم وغير المسلم على حد سواء. وفي قصة عمر بيان شاف لماّ تحاكم يهودي ومنافق فقال اليهودي: نتحاكم إلى محمد لعلمه أنه لا يأخذ الرشوة. وقال المنافق: نتحاكم إلى فلان, وأخيرا تحاكما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فحكم لليهودي ولكن المنافق لم يقبل, فذهب به إلى أبي بكر رضي الله عنه فحكم بما حكم به صلى الله عليه وسلم فلم يقبل وذهب به إلى عمر رضي الله عنه فسبقه اليهودي بالقول وأخبره بما كان من حكمين سابقين فاستمهلهما ودخل فأتى بسيفه وقتل من لم يرضَ بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كان الحكم لليهودي..(7/13)
ص -42- وفي قصة شريح في قضية علي بن أبي طالب مع اليهودي في الدرع أعظم مثَلٍ للقضاء والمتقاضين والحكم النزيه. افتقد عليٌ درعَه سقط عن بعيره فأخذه يهودي فادعاه به فلم يعطه وقال درعي وفي يدي فاحتكما إلى شريح فطلب شريح من عليٍ البينة فقال: ليس عندي إلا الحسن والخادم. فقال له أما الحسن فولدك ولا تقبل شهادته لك, فقال علي: ويحك ألم تسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة", قال: بلى والله أعلم, ولكن لا بد لك من شاهد آخر, فقال: ليس عندي, فقال لليهودي: انطلق بالدرع, فلما خرج قال: واعجباً والله قاضي المسلمين وإمامه أمير المؤمنين ولم يقبل شهادة ولده له وهو ابن بنت رسول الله, هذا والله هو العدل, يا علي هذا الدرع لك سقط عن بعيرك فأخذته ولكن أردت أن أنظر ماذا سيصنع قاضيك لك وإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله, ففرح علي وقال: خذ الدرع فهو لك وخذ هذه مائتا درهم لك.
هذه هي عدالة الإسلام ومساواته بين جميع المواطنين في الحقوق أمام القضاء مما لم يعرف له العالم مثيلاً, لا قديما ولا حديثا.
وقد وضع الفقهاء أبوابا لأهل الذمة في تآليفهم لبيان ما لهم في ظل الإسلام وتحت حكم المسلمين. وقضية الجيش في سمرقند وقضاؤه فيها بأمر أمير المؤمنين الخليفة عمر بن عبد العزيز أعظم شاهد على ذلك وسيأتي التنبيه على محاسن الشريعة ومساوئ القوانين فيما بعد إن شاء الله.(7/14)
عنوان الكتاب:
محاسن الشريعة ومساويء القوانين الوضعية
تأليف:
عطية محمد سالم
الناشر:
الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
العدد الأول - السنة السادسة - 1393هـ - 1973م(8/1)
ص -20- محاسن الشريعة:
للشيخ: عطية محمد سالم
ليس من السهل على أي إنسان أن يبين محاسن الشريعة ولا أن يعدد جوانب الإحسان فيه لأنها شريعة الإحسان كما قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء وكل شيء لم يخرج منه ولا شيء حتى في حالة القتل وإزهاق الروح فلا بد من الإحسان وفي ذبح الحيوان وفي المحلات التي لا يتذكر الإنسان فيها معنى للإحسان. فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة" إلى آخر الحديث .
ثم لو ذهبنا نتبع مرافق الحياة كلها لوجدنا الإحسان يتوجها بل إن الغاية من خلق الإنسان وإماتته وإحيائه لم يكن لشيء إلا للإحسان : {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ(8/2)
ص -21- أَحْسَنُ عَمَلاً}. {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً}.
وفي الحديث بعد بيان الإسلام ثم يتدرج إلى الإيمان ثم يتوج الجميع بالإحسان إنها صبغة الله {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ}.
و لو ذهبنا نعدد جوانب الإحسان ولو على سبيل الإجمال نجد ابتداء من القول باللسان نجد قوله تعالى: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} حتى في الجدال: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} ..وفي الدعوة إلى الله: {بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} ..حتى مع المسيء: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ}. {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}..
وفي العشرة الزوجية إذا لم تدم: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}..ومع الوالدين: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً}.. إلى ما لا نهاية له.. وأخيرا ومن العموم: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}..
وهذا أمر من الله تعالى بعموم الإحسان مقرونا بالعدل: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالأِحْسَانِ}. إنها شريعة الله أنزلت في كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير على من اصطفاه الله من خلقه وخاتم رسله بالمؤمنين رؤوف رحيم. لخير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله..
إنها الشريعة التي ارتضاها الله فأتمها وأكملها: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً}..
لقد كانت شرائع من قبل وكانت أديان لمن قبلنا نزلت بها كتب وبعثت بها رسل. فجاءت هذه الشريعة أكملها وهذا الدين أتمها والكتاب الذي أنزل(8/3)
ص -22- بها مصدق لما بين يديه ومهيمن عليه. والرسول صلى الله عليه وسلم أرسل بها خاتم الرسل وأفضلهم وارتضاها الله لمن اصطفاه من خلقه لخير أمة أخرجت للناس فهي خير ما أنزل على خير من أرسل لخير من أنزل إليهم فهي الخير أجمع.
ومن ناحية أخرى : إنها وحي من الله بكلام الله فلها ارتباط بصفة من صفات الله . وكمال صفاته سبحانه فرع عن كمال ذاته..{وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}. وهذا النور الذي أخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}..
أسس الإحسان: ومن أسس الإحسان فيها عناصر ثلاثة:
1_ الكمال. 2_ الشمول. 3_ السماحة. 4_البقاء.
أما الكمال فلأنها من الله وبكلمات الله : {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً} وبالحق أنزلناه وبالحق نزل {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً} وفي الحديث: "ما تركت شيئا يقربكم إلى الله إلا بينته لكم وأمرتكم به ولا شيئا يباعدكم عن الله إلا بينته لكم ونهيتكم عنه"..وعليه قال مالك بن أنس رحمه الله: من سن سنة وزعم أنها حسنة فقد زعم أن محمدا خان الرسالة لأن الله أخبر بأنه أكمل لنا الدين وما كان كاملا لا يحتمل زيادة. ومن أراد الزيادة فقد زعم فيه النقص حتى يتمه هو ولن يكون.
فهذه النصوص وأمثالها صريحة في كمال الشريعة..(8/4)
ص -23- ومن الناحية الفعلية للشريعة نجد في مقاصدها البرهان القائم على ذلك للأن جميع حكماء العالم يقولون مقاصد العقلاء في أمرين: جلب النفع و دفع الضر..
والشريعة جاءت بتحقيق هذين المطلبين و زادت مطلبا ثالثا : و هو الحث على مكارم الأخلاق ومحاسن العبادات .
جلب المنافع : فمن جلب المنافع إباحة جميع ما في الأرض وتسخير كل القوة لخدمة الإنسان و القاعدة في ذالك عند الفقهاء : الأصل في الأشياء الإباحة حتى يأتي الحضر .وعليه قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} – {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}. {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} ..
وقد شرعت العقود لتناول هذه المنافع من بيع وإيجار وشركة وغير ذلك مما يجلب النفع على الفرد وعلى الجماعة ..وأقيمت على أسس قويمة ولم تترك لتراضي المتعاقدين حسب أهوائهم بل لاضرر ولا ضرار.والغرم بالغلم وكل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط ، لاكما يقول المقننون :(العقد شرعة المتعاقدين). لأن العقد أحياناً يكون بين قوي وضعيف أو غني وفقير فيقع الحيف ....
أما دفع المضار: فقد دفعت عما يسمى بالضروريات بقصد حمايتها وهي الضروريات لكل مجتمع وقد جاءت جميع الأديان بحمايتها لأنه لاحياة بدونها ولا استقرار ولا أمن ولا طمأنينة وهي:
1- الأديان 2- الأنفس 3- العقول 4- الأنساب 5- الأعراض 6- الأموال.(8/5)
ص -24- أما الأديان : فضرورة اجتماعية فلا توجد أمة بدون تدين سواء كان دينها صحيحا أو فاسدا فإذا كان من عند الله وجب حفظه. لأن به نظام المجتمع وارتباطه. وعليه أمر الله المسلمين بقتال المشركين {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} وقال: {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} والحديث: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ".. إلى آخر الحديث..
فإذا أسلم العبد وجب الحفاظ على دينه فشرع قتل المرتد وتتمة لذلك حرم الابتداع في الدين وحرمت الزندقة وفسق المبتدع وقتل الزنديق.
وأما حفظ العقل : فلأنه هو عامل التمييز ومناط التكليف فهو أعز منال وسبب التكريم فلزم الحفاظ عليه حفظا لما أنيط به وقد عقد بعض الأدباء مناظرة بين العقل والحلم ليظهر فيها فضل العقل ونعمته فقال:
فبالعقل تتمثل الأوامر وتجتنب النواهي فحرم الله كل مسكر ومفتر وجعل حد السكر بالجلد. وحرم القليل من المسكر وإن لم يسكر.. فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} وبين مفاسد المسكر بقوله تعالى {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ}.
وفي النسب : الذي هو رباط الأسرة وعامل تكوينها فقد أحيط بسياج من الحفاظ عليه بتحريم الزنا ووجوب العدة عند الفرقة. وشرع حد الزنا جلدا أو رجما _ وحرم على التأبيد المتزوجة في العدة. وتتمة لحفظ النسب من الزنا حرم الخلوة الأجنبيات.(8/6)
ص -25- وفي العرض : الذي هو مدار المروءة والكرامة والعفة والنزاهة. حرم القذف وشرع حد القذف بالجلد وتتمة لذلك حرم الغيبة والنميمة. المسلم ليس بسباّب ولا لعاّن: {وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الأِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}.
والمال: وهو قوام الحياة حثت الشريعة على جمعه من الحلال وحرم التكسب غير المشروع وقال تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالأِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}..وحرم الغش والتدليس والسرقة وجعل حد السرقة قطع يد السارق وقد جاء في الحديث بأصولها: "ألا إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا".. الحديث.
ومثله حديث: "المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه"..
أما مكارم الأخلاق:
فقد كان عنوانها في شخصية الرسول صلى الله عليه سلم في قوله تعالى عنه: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} وشرحت عائشة رضي الله عنها هذا بقولها: "كان خلقه القرآن " .. وقد أمر المسلمون بالإقتداء والتأسي به صلى الله عليه وسلم: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} .. فجاء ببر الوالدين وحسن العشرة وحسن الجيرة وصدق القول. والوفاء بالوعد وحفظ العهد ونحو ذلك مما لا يحصى . وقد أشير إليه في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}. {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ}.(8/7)
ص -26- وفي وقعة: ذهب أحد المقاتلين بعد المعركة يبحث عن أخ له ومعه قدح من ماء لعله يسعفه به فلما وجده وقدم إليه القدح فأهوى به إلى فمه سمع أنينا بجواره فأشار إلى أخيه أن اذهب بالماء إليه لعله أحوج إليه مني فلما وصله وأهوى بالقدح إلى فيه سمع هو أيضا أنينا بجواره فقال له اذهب به إليه لعله أحوج إليه مني . فلما وصل إليه وجده قد فارق الحياة فعاد إلى الثاني فوجد روحه قد فاضت فعاد إلى أخيه فإذا به قد استسلم وبقي القدح على يديه ومات ثلاثتهم ظمأ إيثارا للغير على النفس في أحوج المواقف وأشد الحاجة.
وفي الإحسان إلى المسيء الصور العديدة ومن أوضحها ما حكي عن زين العابدين ابن الحسن بن علي رضي الله عنهم أن جارية كانت تصب عليه الماء فسقط منها الإبريق فآذاه. فنظرت إليه في إشفاق وقالت : يا يسدي الله تعالى يقول: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} فقال لها كظمت غيظي، ثم قالت {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ}. فقال لها عفوت عنك، فطمعت وقالت {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} قال : اذهبي فأنت حرة لوجه الله…
ومما يدل في هذا المجال التوجيه إلى ما هو أفضل وأحسن والانطلاق إلى الفضائل والإحسان سواء في العبادات والقرب إلى الله أو في المعاملات وحقوق الإنسان.(8/8)
ص -27- فمن العبادات في الصوم {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ} فالحد الأدنى للفدية عن اليوم طعام مسكين. ثم ندبه إلى الزيادة في الخير ومن تطوع خيرا فهو خير له..
ومن المعاملات: أولا في الدين الحد الأدنى إنظار المعسر: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} ثم يندبه إلى ما هو أحسن: {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ}.. وفي تنصيف الصداق المسلم إذا وقعت الفرقة قبل الدخول فتنصيفه حد أدنى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ}..ثم يندبه إلى الأحسن: {إِلا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} .. وهذا كثير وسيأتي بيانه في الحكم والقضاء. ولعل فيما تقدم من بيان جلب المنافع ودفع المضار والحث على مكارم الأخلاق ما يكفي لإثبات كمال الشريعة بجانب ما قدمنا من النصوص الصريحة في ذلك..
وإن من أكمل الأدلة على كمالها لوجودها منذ تشريعها بكمالها . لم تحتج إلى ما يكملها ولم يطرأ عليها ما ينقصها، فقد سايرت السنين والقرون ولم يستطع معاند أو موالي أن يستدرك على ما فيها وما تجرأ إنسان على معارضتها إلا مكابر ومعاند وهو بمعارضته يعلن عن جهله وقصور نظره وهو في عمله أصدق ما يكون عليه قول الشاعر: _
كناطح صخر يوما ليوهنها فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل
بل إن القوانين الوضعية ما تمت ولا تطورت إلا بمقدار ما اقتربت منها واقتبست عنها. كما في أصل نشأة القانون الجرماني فقد كان منه قانون العوائد أخذ من عادات الشعب الإسباني من بقايا الفقه المالكي..(8/9)
ص -28- وهاهي ذي الحكومات في الدول الأوروبية تبدأ تأخذ تشريعات للأسرة من نكاح وطلاق وميراث.
أما الشمول: فقد شملت هذه الشريعة جميع الطبقات والطوائف والأفراد والجماعات. ونظمت علاقة الخلق بالخالق والحاكم بالمحكوم فيما بينهم.
فاشتملت على التشريع الديني في العبادات والدنيوي في المعاملات والأخروي في طرق اكتساب الحسنات واجتناب السيئات.. فهي شريعة الدين والدنيا أو كما يقال : الدين والدولة. وكل شيء كما قال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}..
ومن أوسع معاني الشمول فيها أنها شملت كل أمة من عرب ومن عجم وجمعت بينهم سواسية وسايرت كل زمان ومكان.. فهي شاملة لكل الناس على اختلاف أجناسهم صالحة لكل زمان قديما وحديثا ولكل مكان حاضرة وبادية..
ومن آثار هذا الشمول وذاك الكمال فهي تساير الدنيا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها بخلاف الشريعة المتقدمة عند اليهود حينما قست قلوبهم وغلبتهم ماديتهم مالوا بها إلى المال بكل حيلة واستحلوا لكل غاية كل وسيلة حتى استحلوا ما حرم الله عليهم من الصيد يوم السبت وأكل الشحوم بالبيع وأكل الثمن..
فجاءت الديانة للمسيحيين تخفف من مادية اليهود فمالوا إلى الرهبانية. فلم تأخذها اليهود ولم يأخذ المسيحيون بما عند اليهود من تشريع للمعاملات وأخذوا يشرعون لأنفسهم تتمة لما تشمله تشريعاتهم..(8/10)
ص -29- أما هذه الشريعة فجاءت كما قلنا للدين والدنيا : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.
{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً} إلى آخر السورة..
أما السماحة في الشريعة: فهي صفتها الخاصة كما في الحديث بعثت بالحنيفية السمحة. ومن سماحتها أن الله لم يجعل فيها من حرج في التكليف كما قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}.. وقوله {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} ولم يكلف نفسا إلا وسعها: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلا وُسْعَهَا}..
ومن قواعدها: إن كل مشقة تجلب التيسير. ومن هذا الباب جميع الرخص في الشريعة.. ومن السماحة عدم المؤاخذة في حالة النسيان أو الخطأ أو الإكراه.. وقد كان إصرا على من كانوا قبلنا فحط الله عنا وفي الحديث: "عفي لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" .. ومفهوم عفي لي أنه لم يعف لغيره كما أعطى صلى الله عليه وسلم خمسا لم يعطهن أحد قبله كما في الحديث "نصرت بالرعب مسيرة شهر وأحلت لي الغنائم وأعطيت الشفاعة وكان الرجل يبعث إلى قومه خاصة فبعثت إلى الناس كافة. وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا" .. فقد خص بما لم يخص به غيره صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين. وفي قوله {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ}.. إلى قوله تعالى: {أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}.. فيقول الله تعالى عند كل دعاء قد فعلت.(8/11)
ص -30- وقد بيّن صلى الله عليه وسلم حال من كانوا قبلنا من المؤاخذة على النسيان والخطأ والإكراه . وقد أوخذ أبونا آدم على النسيان : {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً}.
ومن المؤاخذة على الإكراه الرجلان اللذان مرا بصنم لقوم وأمروهما أن يقربا ولو ذبابا فامتنع أحدهم فقتلوه، بينما في هذه الأمة: {إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالأِيمَانِ}.
ومن السماحة: التيسير: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً. َإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً}.
ولن يغلب عسر يسرين.. أما ما يتعلق بخصوص الحكم من هذا كله_ من الكمال والشمول والسماحة فكالآتي :
والواقع أن النظر في كمال القضاء يكون في جانبين _ في شكله وفي معناه.
1_ والجانب الأول ما يعرف الآن بالجانب الإداري الذي يختص بإدارة المحكمة وترتيب القضايا في مواعيد محددة.
ومن هذا قبيل التخصيص بالمكان أو النوع أو المقدار.. وقد وجد النوع الثاني وهو التخصيص في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم حيث أرسل صلى الله عليه وسلم عليا وأبا موسى إلى اليمن وخصص كلا منهما بجانب منه .(8/12)
ص -31- أما النوع والمرتبة: فقال كل من ابن قدامة في المغني1 و القاضي أبو الحسن الماوردي أنه يجوز للولي أن يولي القاضي ولاية عامة في عموم الحقوق فتعم من حيث الزمان والمكان والأقضية. أو عامة في خاص أي عموم الأقضية في خصوص بلدة. أو خاصة في خاص أي في نوع من الأقضية في بلدة وله أن يحدد مبلغا لا يتعداه. وفي الموطأ لمالك : أنه مرّ بقاضي السوق فقال له: لا تكثر لئلا تخطئ. فكان للسوق قاض. وقال عبد الله الزبيري لم تزل الأمراء عندنا بالبصرة برهة من الدهر يستقضون قاضيا على المسجد الجامع يسمونه قاضي المسجد يحكم في مائتي درهم وفي عشرين دينارا فما دونها وتفرض النفقات ولا يتعدى موضعه ولا ما قدره له.
سلم المحاكم: وهو ما يعرف بالتقسيم الحالي: محكمة مستعجلة وأخرى كبرى ثم استئناف. فهو نوع من التخصيص وزيادة في موضوع الاستئناف. فقد وجدنا من ينفي وجوده في تاريخ القضاء الإسلامي . والحق أنه موجود بأصله في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم وكان ذلك في قضية عرضت على علي رضي الله عنه باليمن وهي كما ساقها وكيع وفيها عن أحمد في قضاء علي عنه قال: بعثني النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فأزي الناس زيية الأسد فأصبحوا ينظرون إليه و قد وقع فيها فتدافعوا حول الزيية فخر فيها رجل فتعلق بالذي يليه . وتعلق آخر بآخر حتى خر فيها أربعة. فجرحهم الأسد فتناوله رجل برمح فطعنه وأخرج القوم منها. فماتوا كلهم. فقالت قبائل الثلاثة لقبيلة الأول : هاتوا دية الثلاثة فإنه لولا صاحبكم لم يسقطوا فقالوا: إنما تعلق صاحبنا بواحد فنحن نؤدي دية واحد فاختلفوا حتى أرادوا القتال بينهم فسر رجل منهم إليّ وهم غير بعيد مني فأتيتهم فقلت لهم: تريدون أن تقتلوا أنفسكم(8/13)
ص -32- ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي وأنا إلى جنبكم إني قاض بينكم بقضاء فإن رضيتموه فهو نافذ بينكم وإن لم ترضوه فهو حاجز بينكم فمن جاوزه فلا حق له حتى يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو أعلم بالقضاء مني فرضوا بذلك فأمرهم أن يجمعوا دية كاملة ممن حضروا البئر ونصف دية وثلث دية. وربع دية، فقضى أن يعطي الأسفل ربع الدية. من أجل أنه هلك فوقه ثلاثة. ويعطي الذي يليه الثلث من أجل أنه هلك فوق اثنان ويعطي الذي يليه النصف من أجل أنه هلك فوقه واحد. ويعطي الأعلى الدية كاملة لأنه لم يهلك فوقه أحد.
فمنهم من رضي ومنهم من كره، فقال تمسكوا بقضائي حتى تأتوا رسول اله صلى الله عليه وسلم بالموسم فيقضي بينكم فوافقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عند مقام إبراهيم فساروا إليه فحدثوه بحديثهم.وهو محتب ببرد عليه فقال: إني أقضي بينكم إن شاء الله . فقال رجل من أقصى القوم: إن علي ابن أبي طالب قد قضى بيننا قضاء باليمن، فقال : وما هو؟ فقصوا عليه القصة، فأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم القضاء كما قضى علي بينهم.
ففي هذه القصة يتحقق معنى الاستئناف المعروف حاليا أو التمييز الذي هو عبارة عن رفع القضية بعد صدور الحكم الأول فيها إلى جهة أعلى منها للنظر في سيرها ومطابقة حكمها لواقعها. لأن عليا رضي الله عنه قال: فإن رضيتم فقضائي وإلا فهو حاجز بينكم حتى تأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو أعلم بالقضاء مني . فرضي البعض ولم يرض البعض الآخر. وهذا هو عين ما يعرف بتقرير عدم القناعة ثم رفع القضية بتمامها، ومن جهة أخرى فقد تقرر مبدأ عدم نظر القضية إذا كانت نظرت من قاض آخر لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سمع القائل يقول : قضى فيها علي بنا باليمن توقف عن القضاء(8/14)
ص -33- حتى سمع الحكم الأول فأقره وهذا بعينه هو سلم المحاكم ومراتبها: مستعجلة_ كبرى _ استئناف. وفي النظم الأخرى: محكمة الصلح _ محكمة أولية _ محكمة استئناف _ وتوجد محكمة النقض والإبرام. ويوجد ما يقابلها باسم مجلس القضاء الأعلى قد ينظر القضية بين محكمة التمييز وبعض المحاكم الكبرى.
ومنع عمر الأمراء أن يقيموا حكم القتل حتى يعرض عليه. وهو ما عليه العمل الآن من تصديق الملك أو الرئيس على الحكم في القتل.
أما الترتيب الأول فهو سير المحكمة والمحاكمة فهذا الشكل لم يكن معروفا من قبل لأنه لم تكن له حاجة تدعو إليه. وقد تأثرت بمؤثرات الحياة وتطورات المجتمع.
ما كان عليه الوضع زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي كان عليه الوضع زمن الرسول صلى الله عليه وسلم هو صورة من صور المسلمين الأولين في بساطتهم وصدق كلمتهم وقصدهم إلى الحق ولم على أنفسهم. فكانوا يعتبرون القضاء إبراء للذمة وخروجا من العهدة حتى أن أحدهم كماعز والغامدية إذا ارتكب حدا يأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلب إقامة الحد عليه.
فلم تكن قضايا أمثالهم تتطلب أكثر من التشبث منه في إقراره كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع ماعز: أبِكَ جنون؟ لعلك قبلت. لعلك فاخذت …الخ.(8/15)
ص -34- وقصة العسيف الذي زنا بامرأة من يعمل عنده فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أحدهما يا رسول الله أقض بيننا بكتاب الله وقال الآخر وهو أفقههما: أجل فاقض بيننا بكتاب الله وأذن لي في أن أتكلم فقال: تكلم. قال : إن ابني كان عسيفا على هذا فزنى بامرأته فأخبرت أن على ابني الرجم، فافتديت منه بمائة شاة وبجارية لي ثم إني سألت أهل العلم فأخبروني أن ما على ابني جلد مائة وتغريب عام. وأخبروني إنما الرجم على امرأته. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله. أما غنمك وجاريتك فرد عليك وجلد ابنه مائة جلدة وغربة عام ". وأمر أنيس الأسلمي أن يأتي امرأة الآخر فإن اعترفت رجمها فاعترفت فرجمها . فما كانا إلا مستفتيان. وقد أخبرا من قبل مجيئهما الرسول صلى الله عليه وسلم وسألا أهل العلم لمعرفة الحق وفي الأموال كذلك. كما في حديث الرجلين اللذين اختصما في مواريث بينهما درست معالمهما ولا بينة عندهما فقال صلى الله عليه وسلم أنكم تختصمون إلي فأقضي لكم على نحو ما أسمع فلعل أحدكم ألحن بحجته من صاحبه فمن قضيت له شيئا من حق أخيه فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار. فتراجع كل منهما وبكى وقال: حقي لصاحبي. فلم يتشاحا أو يتلاحيا وأرشدهم النبي صلى الله عليه وسلم لإكمال اللازم بأنفسهما من الاقتسام والإسهام والتسامح.
وفي الزوجية : قضية جميلة زوجة ثابت بن قيس لما أرادت فراقه جاءته صلى الله عليه وسلم وقالت إني والله لا أعيب عليه دينا ولا خلقا ولكني أكره الكفر في الإسلام. صراحة ومروءة لم تتجن عليه فقال صلى الله عليه وسلم أتدرين عليه حديقته؟ قالت بلى وزيادة.فقال صلى الله عليه وسل: أما الزيادة فلا. وقال له.: خذ الحديقة وطلقها طلقة. وأمرها أن تعتد عند أهلها. فانتهى الأمر بالسؤال والجواب. ولم يلزمه معه أي إجراء . ونظير ذلك كثيرا .(8/16)
ص -35- تطور الأمر: أما بعد أن تطاول الزمن وتغير الناس وتداخلت الحقوق والتبست الأمور. وغلبت الأهواء. وسنحت النفوس. وظهر الإنكار تغيرت الأوضاع في شكلية القضاء وتطلب الحال تطورا وضبطا وسجلات وكبتا وقد بدأ شيء من ذلك في زمن عمر. فقد كان يرى أن المسلمين كلهم عدولا على بعض وكتب إلى أبي موسى في ذلك حتى أتاه رجل من العراق وقال له جئتك في أمر لا رأس له ولا وذنبا شهادة الزور ظهرت في بلدنا.
فقال عمر : أو حدث ذلك والله لا يرهن مسلم إلا بشاهدي عدل فنشأت تزكية الشهود لمجهول الحال. فكان عمر ينظر إلى الناس كأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما تغيروا غير الوضع بما يضمن المصلحة و يحقق العدالة.
الكاتب والضبط: وقد كان بعد الخلفاء للقاضي كاتب وضبط وقمطر. وكان يعين له مجلس وزمن أو يختار بيته أو المسجد ونص الخلفاء على ترتيب الخصوم الأول فالأول.
ثم خصصت دور للقضاء والحكم سميت بالمحاكم ونظمت مواعيد الجلسات وزمن حضور الخصوم وغير ذلك وكل ذلك من تطور شكل القضاء مع تطور أحوال الناس . وأقضياتهم . والجدير بالتنبيه عليه هو أن الإسلام لا يمانع من أي تطور يحقق المصلحة ولا يتعارض مع نص من كتاب أو سنة وقد أوجد زمن عمر ديوان الجند لحصرهم وترتيب أعطياهم وجمع القرآن في الصحف وكتب المصحف… الخ. كما اتخذ السجن ونحوه لما فيه مصلحة الأمة.
وبهذه المناسبة فإن القضاء في هذه المملكة وهو قضاء شرعي في منهجه يعتبر مثاليا في شكله وصورته ونظامه من ضبط واختصاص وما يتعلق بذلك. وما ينتج عنه من سرعة إنجاز وفسحه ومعارضته. ويلاحظ لو نظرنا إلى شكوى بعض رؤساء الدول المجاورة عن كثرة القضايا وقلة القضاء وعدم الإنجاز.(8/17)
ص -36- الكمال في منهج القضاء الإسلامي: أما المنهج القضائي في الإسلام فهو المثال الأعلى منذ صدر الإسلام لأنه شمل بالعناية كل من القاضي _ والمقضى عليه _ والمقضى فيه _ والمتقاضين_ وسير القضاء، أي ما يسمى بأطراف القضاء أو أركان القضاء.
أ_ أما القاضي فقد وضع له شروطا إن لم تتوفر فيه لا يتولى القضاء وسيأتي بحثها مستوفاة إن شاء الله.
ب_ والمقضى به فهو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسل وأقضيات سلف الأمة ممن لهم الاجتهاد وحق الاقتداء بهم. وقياس النظائر بالأشياء.
ج_ والمتقاضون سواء كانوا مسلمين أو أهل ذمة على تفصيل سيأتي.
د_ أما سير القضاء فقد أقيمت أسسه بقوله صلى الله عليه وسلم البينة على من ادعى واليمين على من أنكر.
وقال لعلي حين أرسله إلى اليمن إذا أدلي إليك الخصم فلا تقض له حتى تسمع من الآخر فإنه أحرى أن يتبين لك القضاء.
وضمن للقاضي ارتياحه وطمأنينته أثناء القضاء فنهاه أن يقضي وهو غضبان أو في حالة شبيهة بالغضبان من المشوشات للفكر.
وفي كتاب عمر رضي الله عنه إلى أبي موسى قواعد أساسية لمنهج القضاء في الإسلام لم يوجد بعده ما يسايره في معانيه ولا منهجه.(8/18)
ص -37- وإذا كان الغرض من منهج القضاء هو تحقق العدل والإنصاف والمساواة، فإن ما رسمه القرآن بصريح النصوص ليغني عن البيان. منها:
1_ قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ}. ففيه الأمر بالحكم بالعدل بين الناس عموما.
2_ثم يأتي أخص من هذا وهو في خصوص العدول والخصوم في قوله تعالى: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} .{وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا}.
3_ومع غير المسلمين أيضا: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}.
4_ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا}.
تطبيق ذلك عمليا: وقد طبق ذلك قضاة المسلمين كما فعل شريح في قضية أمير المؤمنين علي مع اليهودي في الدرع ادعى به علي وليس عنده شاهد إلاّ الحسن بن علي ومولاه قنبر فلم يقبل القاضي أن يسمع شهادة الحسن لأبيه وحكم لليهودي وكان سبب إسلام اليهودي واعترافه بالدرع لعلي ففرح علي وأهداه عليه ومائتي درهم.(8/19)
ص -38- وقضاء عمر بين رجل من المسلمين وآخر يهودي فقضى عمر لليهودي لما رأى الحق له فأقسم اليهودي لقضيت بالحق فلهزه عمر في صدره وقال: وما يدريك ..
وقضاء زيد بن ثابت بين عمر وأبي في نخيل إلى غير ذلك من الأمثلة التي حققت العدالة ولو على الأنفس والأقربين.
وبهذا يتضح الكمال في القضاء شكلا ومنهجا.
أما الشمول في الحكم : فالاتساع نطاق التحكيم حتى شمل العبادات والزوجات وتعدى إلى القبائل والعشائر وما يمكن أن يسمى القضاء الدولي على ما سيأتي تفصيله إن شاء الله مما لم يسبق إليه.
أ_ أما في العبادات ففي تقدير جزاء الصيد {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ}.
ب_ وفي تقدير الأمور النسبية: كتقدير نفقة الزوجة والأولاد ومصاريف القصار.
ج_ في القضايا الزوجية: حينما تتأزم الأمور أمام القاضي ولا يعلم أسباب الخلاف لما بين الزوجين من الخفاء والتستر ولا طريق إلا الإصلاح: {وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً. وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً}.(8/20)
ص -39- د_ وقد اتسع نطاق الحكم والقضاء في الإسلام فشمل القبائل والطوائف ويمكن أن نقول القرى والمدن والأقطار وما يطلق عليه الآن محكمة العدل الدولية وذلك في قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}.
وفي هذا السياق ما يستنتج منه إيجاد قضاء عالمي وبوليس دولي إذا اعتبرنا الطائفتين بمثابة الدولتين لأن دولة ما لا يحق لها أن تتدخل بالقوة بين دولتين متقاتلتين حتى ينظر في سبب القتال ويعلم ممن الخطأ وهذا يقضي قضاء دوليا. فيحكم على المعتدين بالكف والامتناع وسعي بينهما بالصلح. فإن لم تكف إحداهما كان لزاما من قتالها ولا يحق لدولة متفردة أن تقاتلها فكان البوليس الدولي ليحجز بينهما. إلى أن يتم الصلح أو القضاء وهكذا.
ومن خصائص القضاء في الإسلام أن يدعو إلى التسامي عن مواقف العناد أو المقاصة ويسمو بنفس صاحب الحق إلى التسامح والعفو من ذلك:
1_ قوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ. وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللَّهِ}. فهنا يعطي المدعي حق المعاقبة بالمثل.ولكنه يندبه للصبر ويفضل الصبر للصابرين.
2_وقوله: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} .ثم قال: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}.(8/21)
ص -40- 3_وقوله: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}.
فقد تقرر أن الجزاء بالمقاصة مثلا بمثل ولكن ندب إلى العفو والصبر والإصلاح.
4_ وفي قصاص الجروح: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ.. إلى: وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} ثم يقول تعالى: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ}.
5_ وأعظم من هذا كله في قصاص النفس: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ}.
الواقع أنه لا يتأتى تعداد مساوئ القانون الوضعي ولا تتبعها في كل مسألة كما لم يتأت تعداد محاسن الشريعة في كل مسألة أوحكم ,و كما أشرنا إلى محاسن الشريعة على سبيل الإجمال فنشير هنا أيضا إلى مساوئ القانون على سبيل الإجمال. ويتلخص هذا في الآتي:
1_ نشأة القانون.
2_ وجوده في البلاد الإسلامية.
3_عوامل تدعيمه والإبقاء عليه.(8/22)
ص -41- 4_ الطعن على الشريعة والرد عليها.
5_ مقارنته بين الشريعة والقانون في مسائل الطعن كالقطع والرجم.
نشأة القانون: إن المعتبر الآن من القانون الوضعي يرجع في الأصل إلى القانون الفرنسي مع ما أضيف إليه في كل بلد بحسب حاجاتها ومفاهيمها .
والقانون الفرنسي يتكون في أصله من عدة أصول جاءت محكية في كتاب المقارنة بين القانون الفرنسي والمذهب المالكي للأستاذ سيد عبد الله حسن 1366_1937. قال:
أولا: القانون الروماني وكان في جنوب فرنسا إلى سنة 1785م.
ثانيا: القانون الجرماني وكان في شمال فرنسا.
ثالثا: قانون الكنيسة الكاثوليكية وكان حول الزواج وما يتبعه.
رابعا: قانون الملكية المطلقة بأوامر لويس 14_ 15 _ 16.
خامسا: قانون الثروة.
ثم وحدت في قانون واحد سنة 1804 وهو الذي كان موجودا بمصر سنة 1926م. أما القانون الروماني فقد دخل إلى فرنسا سنة 50 قبل الميلاد حين غزاها الرومان إلى سنة 476 بعد الميلاد.
أما القانون الروماني فدخلها سنة 476 إلى سنة 986. ثم جاء قانون العوائد وبالتالي مزجت تلك القوانين كلها بعد الثورة الفرنسية وجُعلت قانونا واحدا. ولد في أوروبا ونشأ فيها ثم انتقل إلى غيرها.(8/23)
ص -42- أما تواجده في البلاد الإسلامية فإنه ليست لدينا المراجع الكافية للتفصيل في ذلك ولكن على سبيل المثال والإيجاز نذكر عن وجوده في مصر وسوريا والعراق والبلاد العربية. ولم نذكر السعودية لأنه ولله الحمد لم يدخلها قط وكانت دائما تحكم من أبنائها سواء في نجد أو الحجاز وبتحكيم الشريعة.
أ_ أما وجوده في مصر: فكان بدء ذلك سنة 1856 وقبلها كان الحكم للإسلام . ولكن بدأ في هذا التاريخ منذ أنشأت مجالس قضائية محلية . بجوار المحاكم الشرعية المحلية أيضا. ثم تشعب القضاء ووجدت الامتيازات والحماية. وفي سنة 1876 ظهرت المحاكم المختلطة على يد نوبار باشا في عهد إسماعيل باشا وكان قانونها مكونا من القانون الفرنسي والإيطالي والبلجيكي وواضعه (( مسيو مونري ))المحامي الفرنسي الذي كان موجودا بمصر آنذاك.
فكان في البلاد والمحاكم المختلطة لجميع الأجانب بزعم التخلص من المحاكم المختلطة فكانت على نظامها وأوضاعها. وأنشأت سنة 1873 في 14 يونيو بأمر عال من الخديوي توفيق باشا فألغيت مجالس الأحكام. وبقيت المحاكم الشرعية للأحوال الشخصية فقط. والمحاكم الأهلية للأحوال المدنية.
وهكذا قضي على القضاء الإسلامي بالقضاء القانوني في خطوات سريعة لم تستغرق أكثر من خمس وعشرين سنة.
أما سوريا فإنه دخلها دفعة حيث نقل إليها القانون المصري الفرنسي فقط سنة 1949 ميلادي.(8/24)
ص -43- عوامل تدعيم القانون وبقائه: ولما لم يكن لهذا القانون ما يسانده في هذه البلاد وكان مفروضا فرضا ولم يستند على شيء إلا لوجود المستعمر رسم الخطة لتدعيمه ومساندته فأنشأ كلية الحقوق لدراسة القانون وهيأ المراتب والوظائف في الدول لخريجيها ليتولوا زمام الحكم. وأعلى من شأنهم في الوظائف والمرتبات مما صرف النظر إليها ورغب فيها، بينما قلل من فرص العمل أمام رجال الفقه والشريعة وقلل من مرتباهم. حتى لا يتجه إلى تعليم الشريعة إلا ذو العقائد القوية والدين السليم رغبة في الدين ومرضاة لله.
الطعن على الشريعة: ومن ناحية أخرى سلط الطعن على الشريعة من حيث عدم صلاحيتها للقضاء ومن ثم عدم صلاحيتها للحكم. وقال الأستاذ سيد عبد الله أن نقاط الطعن هي:
1_ اختفاء العدالة ووجود الفوضى وتفشي الرشوة وعدم تنفيذ الأحكام غالبا.
2_ تشعب القضاء الإسلامي لوجود الحكم بالمذاهب المختلفة: المالكي ثم الشافعي وأخيرا الحنفي..الخ
3_قسوة الأحكام الشرعية كالقطع والرجم ويقول الأستاذ الشهيد عبد القادر عودة إن الذين يوجهون مثل هذا الطعن على الشريعة قسمان:
قسم درس القانون ولم يدرس الشريعة.
قسم لم يدرس الشريعة ولا القانون.
ومثل هؤلاء لا يحق لهم أن يحكموا بشيء على الشريعة لعدم دراستهم إياها.
ثم يقول إن طعنهم مبني على قياسهم الشريعة على القانون من حيث مبدأ التطور والتجديد في القانون كلما تطورت الحياة المدنية والحضارة فيرون أن الشريعة بناء على ذلك يجب أن تتطور لأنها منذ عهد بعيد وفي أوضاع مدنية مختلفة.(8/25)
ص -44- وقد يكتفي الإنسان برد ادعائهم بأنهم يجهلون الشريعة وكفى ولكن نورد ما يفند مزاعمهم لئلا يغتر بها من كان مثلهم.
أما ادعاؤهم وجود الفوضى والرشوة وغير ذلك من الفساد فليس ذلك راجعا إلى عدم صلاحية الشريعة للحكم. ولكن مرجعه إلى تعطيل الشريعة وفساد الحكام وفرق بين فساد الحكام ونظام الحكم كالفرق تماما بين ضعف المدرس وضعف المنهج.
بل إن قوة المدرس تعطي المنهج قوة وحيوية وكذلك قوة الحاكم وكان الإصلاح السليم هو إصلاح المجتمع وإعداد الحكام والقضاة إعدادا سليما كما فعل المستعمر لقانونه ففتح كليات لتربي حماة لنظامه فهل فتحت معاهد خاصة للقضاة الإسلاميين في جميع المجالات شخصية ومدنية وجنائية.
ب _ وأما تشعب القضاء الإسلامي بتعدد المذاهب فإن ذلك أوسع فرصة لوجود نصوص فقهية قضائية وكان الإصلاح هو تقوية القضاة أي مرتبطا بالأول ليكونوا على حالة تمكنهم من إيجاد حل لكل قضية مهما كانت ومن أي مذهب كان. وإن أحد هذه المذاهب التي لا تخرج في مجموعها عن الكتاب والسنة واجتهاد سلف الأمة لهو أولى وأحرى ألف مرة من أخذ قانون أوروبي وضعه محام فرنسي أو افترضه مستعمر ظالم.
ج _ أما قسوة التشريع الإسلامي : فهذه هي محط الرحل وهي التي جعلت ناشئة القانون يتمسكون به ويفرون من تشريع بلادهم ودين آبائهم وأجدادهم . بل وحق الله تعالى عليهم.(8/26)
ص -45- وفاتهم المساكين أن تشريع الله لخلقه أرحم وأرأف وألطف من تشريع المستعمر لهم. ولقد كان مشركوا مكة أعقل منهم وإن كانت في دعوى عصبية إذ قال صفوان: لأن يريني رجل من قريش يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم خير من أن يريني رجل من هوازن.
وأيضا فاتهم أنه الحليم قد يقسوا رحمة بمن يرحمهم كقول الشاعر:
قسى ليزدجروا ومن يك حازما فليقس أحيانا على من يرحم
وإنا لنورد مقارنة بين الشريعة والقانون فيما اعتبروه قسوة المقارنة:
أولا _في قطع يد السارق:
يرى دعاة القانون أن قطع يد السارق وحشية وغلظة ولا يساير الحضارة والمدنية الحديثة لأن المجرم مريض في المجتمع ويجب أن نعالجه.
والجواب على ذلك من وجوه:
أولا: ومن قريب ما أجاب به جلالة الملك فيصل حفظه الله في مؤتمر صحفي بأمريكا لما سئل هل لا زلتم تقطعون يد السارق في بلادكم ولِمَ؟ فقال: نعم لا زلنا نقطع يد السارق. ولأن الله هو الذي أمر بذلك. أي أنه حكم الله الذي خلقه وهو أعلم بما يصلحه وهو أرحم به.
ثانيا: بما وقع على جواب من سلفهم حينما قال أبو العتاهية:
يد بخمس مئين عسجد وديت ما بالها قطعت في ربع دينار(8/27)
ص -46- فأجاب بعض المؤمنين مبينا الحكمة في ذلك بقوله:
عز الأمانة أغلاها وأرخصها ذل الخيانة فافهم حكمة الباري
ثالثا: نقول لهم أليس الشرع أو القانون لحماية الجميع فلم تعملون على حماية السارق المجرم ولا تعملون على حماية المسروق منه الوادع الآمن. ولم تتوجعون لآلام السارق وهو المعتدي الذي يفوت على العاملين نتائج أعمالهم. ولا تتوجعون على العامل الكادح طيلة عمره وقد يكون ذا عيال وأسرة ضيق على نفسه في النفقة وأرهق نفسه في شبابه ليدخر لكبره وعوزه وأطفاله فيأتي السارق في خفاء بيد أثيمة ويذهب بكل ما جمعه المسكين ويدعه عالة على المجتمع. فقيرا بعد غنى ذليلا بعد عز. ثم يذهب يبددها دون مبالاة ولا يعلم من أين اكتسبت حيث لم يعرق له فيها جبين. فأي الفريقين أحق بالأمن.
والآن : هل نفعت شفقتكم عليهم وهل أصلحت من مرضهم أم أنها جنت على المجتمع الآمن. إن حوادث السرقة في أرقى البلاد مدنية اليوم وقد وصلت إلى ما لم تصل إليه من قبل.
اعتراف بفضل الشريعة : وهاهي بعض البلاد وتضع في قوانينها الحكم بالإعدام لجرائم السرقة إذا وقعت ما بين غروب الشمس وطلوعها وكان موجودا مع السارق سلاح ولو لم يستعمل. أو بالحبس مؤبدا وبعضها يعاقب بالإعدام مطلقا إذا استعمل الهجوم المسلح ولو لم يقتل فيه أحد.
وما ألجأهم لذلك إلا عدم صلاحية اللين والتسامح مع المجرمين ولو نفذوا من قبل قطع اليد لما احتاجوا إلى قتل النفس.(8/28)
ص -47- والواقع أن نفسية السارق تعالج بالرفق أو التسامح لأنها ليست ذات وفق ولا يسامح. فلا يصلح معها إلا ما يردعها.
ثم أي فائدة للدولة في حبس إنسان تتولى الإنفاق عليه طيلة عمره مع ضياع أهله وأولاده إن كان له أهل وأولاد.
وهل في قتله أو حبسه على التأبيد علاج لمرضه أو القضاء عليه حسا أو معنى. فأي القضائين أرحم له وآمن للوطن.
أما رجم الزاني أو جلده: فلو كان لدعاة القانون عقل واعٍ لما ذكروه في هذا السياق ولجعلوه ولو مكابرة موجبا للطعن بالضعف لا بالقسوة لأنه أحيط في الشريعة بشروط في الإثبات لا تكاد توجد إلا بندرة. وما يثبت في تاريخ الإسلام حد الرجم إلا بالاعتراف. وفي غاية من القلة والندرة يمكن عده على الأصابع والاعتراف محض إرادة واختيار ورغبة في التطهر من آثام الإثم فهي نزعة دينية كريمة آثر الآخرة على الدنيا.
ولو امتنع من الحضور إلى القاضي لما طلبه ولو رجع عن إقراره لما حده. بل يدرأ عنه الحد بالشبهة. ومع هذا فالمقارنة بين العالمين الإسلامي الذي يحكم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لأنه دين وبين المجتمع القانوني وخاصة أرعى بلاد العالم المتحضر في نظر المتمدنين بل واضعوا القانون نجد الفرق المذهل .
أولا: في أمريكا أصبح معدل الجريمة كالآتي:
أ_ جريمة قتل كل دقيقة.
ب_ جريمة سرقة مسلحة كل دقيقة.(8/29)
ص -48- ج_ جريمة اغتصاب كل عشرين دقيقة.
د_ جريمة دون اغتصاب لم يجر إحصاؤها.
ثانيا_ في ألمانيا: سجل الإحصاء جرائم القتل عام 1969م فوق ألفي جريمة. في عام 1971م وصلت إلى ثلاثة آلاف وزيادة مطردة.
ثالثا_ في بريطانيا: سنة 1970م سجلت الإحصائيات 41088 قتل وجرائم السطو بلغت في عامين نصف مليون.
رابعا_ في فرنسا: زادت نسبة الجريمة إلى 32هـ عن مجلة الجامعة الإسلامية رجب 92هـ.
هذا هو وضع أوروبا وأمريكا أما روسيا فلا حاجة إلى ذكرها لأنها تعيش في سجن كبير وحياتها كلها جريمة.
أما البلاد العربية التي تحكم بالقانون فلم نقف لها على إحصاء ولكنها لم تكن بالوضع الذي تحمد عليه. بينما هذه البلاد التي أكرمها الله بالحياة في ظل الشريعة الإسلامية لم تتجاوز فيها هذه الجرائم عدد الأصابع في العام وأكبر دليل لهو الواقع المشاهد لكل قاص وداني من مسلم وكافر والفضل ما شهدت به الأعداء، وبالأمس القريب في جولة رئيس وزراء أمريكا كان يطوف بجولة في سيارته المصفحة إلا عند وصوله المملكة تخلى عن سيارته المصفحة وأخذ يجوب بالأسواق والشوارع في ظل هذا الأمن الوارف الذي لم يجده في حياته(8/30)
ص -49- كلها ولا حتى في بلده ومحل سلطانه وأمثلة ذلك عديدة والتاريخ الإسلامي أكبر شاهد للعالم كله على ما نَعِمَ به المسلمون وغيرهم في ظل الإسلام وفي قصة الهرمزان مع عمر ليست خافية وكلمته المشهورة حكمة: فعدلت فأمنت فنمتت.
ولعل هذا يكون فيه شيء من الأخبار والإحصاء. ولكن لنأخذ نصوص القانون: تعتبر القوانين الوضعية كلها أن الزنا حق شخصي ولا علاقة له بالمجتمع فيمتنع نهائيا إثارة دعوى الزنا إلا من أحد الزوجين أو أقرب المرأة غير المتزوجة إلى الدرجة الثالثة.
وينص القانون العراقي أن الزوج إذا أسقط حق المطالبة عن زوجته سقط حق المطالبة أيضا عن الزاني وبعض القوانين لا يعطي حق إثارة دعوى الزنا إلا إذا كان ذلك على فراش الزوجية أو كان بالإكراه. أما إذا كان بعيدا عن فراشه خارج بيته وكان برضاها يسقط حقه في ذلك.
ومن هنا نعلم إلى أي مدى تفسد الأنساب وتتفكك العائلة فتتقطع أواصر الروابط. فتتخلخل قواعد المجتمع كله.
قضية عين:
ومن المؤسف والموجع في تاريخ القضاء القانوني قضية عين وقعت في بلد مسلم مجاور من القضايا الزوجية تتلخص في الآتي:
تزوج امرأة ولم يدخل بها ومكث عدة سنوات فطالبته الزوجة بالنفقة ونصف المهر. وصدر القرار بالحكم تحت رقم 332 بتاريخ 24/6/72م على الزوج يقدم المهر ونفقة شهرين.(8/31)
ص -50- فطعن الزوج في هذا الحكم، وقدم المحامي وكيله هذا الطعن إلى المحكمة وبناه على عدة أسباب والمؤسف والموجع حقا هو مبنى الطعن إذ أنه قال: إن عقد زواجه باطل. ولم يقع دخول. وعليه فالاستمرار في زواجه هذا باطل مخالف للنظام العام.
وعلل بطلان زواجه بأنه قد زنا بوالدة الزوجة. وأن الحرمة تثبت بمجرد النظر إلى العضو المختص للمرأة بشهوة.
وقد حكمت الأكثرية برفض الطعن ولم تسمح له بإيراد الشهود عليه .وقد نشر ذلك في مجلة المحامات لذلك البلد ومع نشرها لذلك فإنها تتوجع لذلك الأمر. وتقول: يتضح أن الزوج هو الذي طلب إبطال العقد بادعائه وطء أم الزوجة بطريق التزاني . فلئن كان كاذبا فإنه من أوجع الحالات التي مرت على القضاء والتي لا يتورع فيها الزوج عن أية فرية دفعا لإلزامه بالمهر والنفقة. ولئن كان صادقا فالسؤال:
أيقبل قوله وقد شهد على نفسه بالفسق؟ وفي الحالة نرى أي ترى المجلة أن قرار القاضي ومحكمة النقض كان حكيما وأكثر صونا للأعراض والكرامات وانطباقا على القواعد الشرعية الكلية.
فكان تعليقنا:
1_ إذا كانت المجلة تتوجع لدعوى الزوج على أم زوجته ليطعن في الحكم فهلا توجعت لجرأة زميلها المحامي في رفع هذا الاعتراض إلى هيئة القضاء . وكان عليه ألا يرضى لنفسه رسولا لهذا الزوج ليكسب القضية بأي وسيلة ولو على شرف المهنة وكرامة شخصه.(8/32)
ص -51- 2_ وإذا كان حكم محكمة النقض بالأكثرية . فماذا كان رأي الأقلية إذن؟ وهل يؤثر على حكم القاضي الأول عدم الموافقة من الأقلية علما بأن المحكوم به هو نصف الصداق وهذا حق مستقر بمجرد العقد الثابت وبموجب قانون تلك البلد بالمادة رقم 148 من قانون الأحوال الشخصية التي نصها :
إذا أقر أحد لامرأة أنها زوجته وليس تحته محرم لها ولا أربع سواها وصدقته وكانت خالية عن زوج وعدة ثبت زوجيتها له بإقراره وتلزم نفقتها ويتوارثان وزواجها ثابت قبل الدعوى باثنتي عشرة سنة. ولم ينكر زواجه منها.
وفي المادة(85) النص على أن الفرقة إذا كانت من جهة الزوج فإنها تنصف المهر قبل الدخول سواء كانت طلاقا أو فسخا أو فعله ما يوجب حرمة المصاهرة بأصولها وفروعها.اهـ . وهذا عين ما في هذه القضية . فهذه مواد قانون تلك البلد يلزم الزوج بنصف المهر فماذا كان يريد المحامي أولا من تقديم هذا الطعن ويتجاهل كل ذلك. وماذا كان يريد الأقلية من قضاة محكمة النقض.
ومرة أخرى مع الأكثرية في محكمة النقض والقاضي الأول في إصدار الحكم ما هو موقف الجميع من الزوج في إقراره بما ادعاه على والدة زوجته من تعزير إن لم يكن حدا.
ومع المجلة حين تقول إنها تتوجع إذا كان كاذبا في ادعائه وترد شهادته فقط إن كان صادقا. أليس افتراض صدقه أشد إيجاعا.
ولكن تقول حكم القاضي وهيئة النقض كان حكيما وأكثر صونا للأعراض والكرامات وانطباقا مع القواعد الشرعية الكلية.(8/33)
ص -52- فأي التشريعين أحكم وأكثر صونا للأعراض : التشريع الإسلامي أم هذا الذي يسمح له بهذا الادعاء أمام هيئة القضاء.
وأي انطباق في هذا الحكم مع قواعد الشرع الكلية وقواعد الشريعة تدينه بأحد أمرين إما القذف إن كان كاذبا وإما الزنا إن كان صادقا وفي كل منهما حد معلوم.
فأي التشريعين أحق بصون الأعراض وحفظ الكرامة وأصون للنسب وأشرف للقضاء وأسلم للمجتمع.
وليست مساوئ القانون قاصرة على ذلك بل أنها لأبعد من هذا كالآتي:
أولا: أن أشد مساوئ القانون أن يكون بديلا عن شرع الله تعالى المنزل.
ثانيا: أن الأديان السماوية متفقة كلها على حفظ الجواهر الست المسماة بالضروريات كما قيل في لامية الجزائري قديما.
قد اجتمع الأنبيا والرسل قاطبة على الديانة في التوحيد بالملل
وحفظ نفس ومال معهما نسب وحفظ عقل وعرض غير مبتذل
وقد شاهدنا موقف التشريع الإسلامي من هذا كله بالتحريم وإقامة الحدود لصيانتها.
موقف القانون منها :
أما موقف القانون منها فكالآتي:(8/34)
ص -53- 1_ أما الأديان فإنه يبيح حرية الأديان وهذا وإن استحسنته البعض إلا أنه مما يؤدي إلى الاستخفاف بالأديان وأي قيمة لها بعد ذلك. ثم هو يؤدي إلى الفوضى لا بالعبادات فحسب بل وفي الحقوق لأن لكل دين حقوق. وارتباطات فيكون اليوم مسلما ويرتبط مع المسلمين بمصاهرة و نسب وعقود وغدا مسيحيا فيرتبط بالمسيحيين كما ارتبط بالمسلمين ثم بعد غد يهوديا وهكذا فيضيع حق المسلمين ثم حق النصارى وهكذا. فهذا أصل قد ضاع بسبب القانون أو ضاع في حماية القانون .
2_ أما الدماء فالقوانين لا تعرف دية ولكن تجعل تعويضا للورثة بحسب ما فاتهم بموت مورثهم فإن كان جامعيا مثلا كطبيب أو مهندس حكمت له وعلى سبيل الواقع فعلا بخمس وثلاثين ألف ليرة. وإن كان دون ذلك كطالب في كلية الصيدلة حكمت لورثته بخمسة عشر ألفا. وإن كان عاملا عاديا حكمت له بخمسة آلاف ليرة فتضع الإنسان موضع السلع ومساوم عليه.
بينما الشريعة جعلت دية الغني والفقير والشريف والوضيع سواء ولم تفرق بل أنها تضاعف الدية في الأشهر الحرم وفي الحرم والمحارم.
3_ أما العقل فلم تتعرض لحمايته فالخمر مباحة ولا عقاب على المسكر إلا إذا سكر ووجد معربدا في المجتمعات العامة.
4_ أما النسب والعرض فإنه لا يدخل في ارتكاب فاحشة الزنا ولا اللواط إلا في حالة الإكراه أو صغر السن أو عند شكوى من له الحق. أو كانت الجريمة مع ذات محرم منه (مادة 385) قانون عقوبات ، واللذين لهم(8/35)
ص -54- الحق هما الزوجان في حالة وقوع الزنا على فراش الزوجين أو بالإكراه خارج البيت. أو لولي المرأة غير المتزوجة إن كان من الطبقة الثالثة ومن عداهما أو فيما عدا ذلك تنص القوانين أن لا حق لأحد في إثارة دعوى الزنا، إن كان بالتراضي بين الطرفين.
وتنص أيضا على أن الزوج أو من له الحق إذا تنازل عن دعواه في حق الزوجة توقفت الدعوى وسقطت حق المطالبة في حق الزاني وإذا تزوج بها أوقف النظر في الدعوى وإذا كان قد صدر فيها حكم أوقف تنفيذه (مادة398).
5_ أما المال: فمن الواضح البين أنها إن لم تتسلط عليه بضريبة أو إلزام آخر فإنها لا تتعرض لنواح عديدة وتترك العقد للمتعاقدين وما تراضوا عليه وتقول القوانين : العقد شرعة المتعاقدين. وتقر وتحكم بالعقود الربوية صريحة إلا أنها تمنع الزيادة عن النسبة المحددة في نظامها كخمسة أو سبعة في المائة مثلا.
في الوقت الذي تعتبر بعض القوانين الأخذ من التمر سرقة وتعاقب عليها كسرقة المنقول بمجرد عطفها أي ولو لم يأكلها بعد. وقد يحبس مؤبدا بينما الشريعة لا تعتبر ذلك سرقة ولا تعاقب عليها بعقوبة السرقة وقد يكون جائعا وفي حاجتها ما لم يتخذ خبنة أي يحمل معه.
فأي النظامين أرحم وأصون لمصالح الأمة أفرادا وجماعات وختاما لقد(8/36)
ص -55- أسفر الصبح لذي عينين وتوجهت دول القوانين إلى نور التشريع الإسلامي لتأخذ نظام النكاح والطلاق عنه وليس ببعيد أن تأخذ بغيره إذا عرفت حقيقته فهل بعد هذا يظل أبناء التشريع الإسلامي بعيدين عنه. اللهم أهدِ العباد لصالح البلاد وما يرضيك وخير ما يوجه للعالم الإسلامي كله في ذلك قوله تعالى:
{قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}.
وبالله التوفيق..(8/37)
عنوان الكتاب:
مرتكزات التضامن والوحدة
تأليف:
عطية محمد سالم
الناشر:
الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
السنة السادسة عشرة، العدد الواحد والستون محرم- صفر- ربيع الأول 1404هـ(9/1)
ص -151- مُرْتكزَاتُ التّضامُن وَالوَحْدَة
للشيخ عطيّة محمد سالم المدرس بالمسجد النبوي والقاضي بمحكمة المدينة المنورة
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى اله وصحبه وسلم. وبعد:
إن الحديث عن التضامن الإسلامي والوحدة الإسلامية موفي حقيقته ومعناه حديث عن الإسلام، وعن الأمة الإسلامية.
إذ إن التضامن كما يقال على وزن تفاعل ولا يكون إلا بين أطراف متعددة تعمل متضامنة على تحصيل ما يضمن لها تحقيق سعادتها ويكفل لها متطلبات حياتها في عزة وكرامة. وحرية إرادة، وإقامة مجتمع فاضل تسوده العدالة وتظله الحرية ويعمره الأمن والرخاء.
وعليه فإن التضامن الإسلامي بهذا المعنى هو بعينه الدعوة إلى الإسلام بكل معانيه وتعاليمه ومناهجه.
بل إن مفهوم التضامن هو نتيجة حتمية لدعوة الرسل جميعا الذين دعوا أممهم لعبادة الله وحده والالتفاف حول ما دعوهم إليه، والالتزام بما جاءوهم به من عند الله كما قال صلى الله عليه وسلم "نحن معاشر الأنبياء أبناء علات ديننا واحد". وقوله سبحانه في دعوة إبراهيم- عليه السلام- وإسماعيل في رفع بناء البيت: {ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفي لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدى قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون}.
وبعد محاجة اليهود والنصارى وابطالها أمر سبحانه المؤمنين أن يعلنوها صريحة: {قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون}.(9/2)
ص -152- فالدعوة إلى التضامن الإسلامي والوحدة الإسلامية دعوة إلى الإسلام الذي دعت إليه جميع الرسل في جميع الأمم .
تعدد الدعوات المعاصرة:
والدعوة إلى التضامن الإسلامي ووحدة العالم الإسلامي قد جاءت في هذا العصر الذي كثرت فيه الدعوات وتميزت فيه التكتلات، واختلفَت فيه مناهج الحياة وكل حزب بما لديهم فرحون. وقد غشيت العالم الإسلامي من هذا كله سحب معتمة حجبت عن الكثيرين أضواء الحقيقة. وغزت عقولَ المسلمين حملات فكرية مشككة أوقعت العوام في حيرة وتركتهم في متاهة. تشتت فيها الصفوف وتفرقت فيها الكلمة وضاعت فيها الشخصية الإسلامية السليمة فطمع فيهم العدو وعجز عن مساعدتهم الصديق.
فاغتصبت بلادهم، ونهبت ثرواتهم، ودنست مقدساتهم. وعجز العالم كله ماثلا في المنظمة العالمية (هيئة الأمم) أن يفعل لنا شيئا مهما كان الحق واضحا والظلم فادحا. وأصبحنا على كثرة عددنا نكاد لا يعبأ بنا فتخلفنا عن مكانتنا المرموقة وتخلينا عن مواقع قيادتنا الحكيمة.
بل أصبحنا تبعا لغيرنا وبدون اختيارنا. الأمر الذي جعل المخلصين من ولاة أمورنا يبحثون عن الشخصية الإسلامية الضائعة وعن المنهج العملي الصالح ويتطلبون أقوم السبل التي تعيدنا إلى ما كنا علَيه وترد لنا حقوقنا وتخلصنا من تبعيتنا لغيرنا ونصبح حيث وصفنا الله تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس}.
فأيقن أولئك المخلصون أن لن يصلح آخر هذه الأمة إلا الذي أصلح أولها ألا وهو العودة إلى الإسلام وليست تلك الدعوات الزائفة ولا المفلسفة فدعوا إلى التضامن الإسلامي والوَحدة الإسلامية.
وكان من فضل الله وتوفيقه أن يكون انطلاقها من مهبط الوحي ومنطلق الرسالة يقودها خادم الحرمين الشريفين وتتبناها رابطة العالم الإسلامي برحاب بيت الله تعالى.(9/3)
ص -153- ثم يأتي هذا المؤتمر العالمي لتوجيه الدعوة وإعداد الدعاة فينعقد وللدورة الثانية في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي انطلق منها الغزاة والدعاة على السواء.
وموضوعه الآن: سبيل الدعوة الإسلامية إلى تحقيق التضامن الإسلامي ووحدة المسلمين وقد حددت أهداف هذا المؤتمر في أهداف نبيلة بناءة واضحة وافية وهي كالآتي:
أهداف المؤتمر:
جاءت أهدافه محددة في خمس نقاط وهي:-
1- تبصير الأمة بالطريق الذي رسمته الدعوة لتحقيق التضامن والوحدة لتعود كما كانت وكما يريد لها دينها أن تكون {واعتصموا بحبل الله}. {إن هذه أمتكم أمة واحدة}.
2- تعميق الانتماء والولاء للأمة الواحدة عقيدة وسلوكا، والتجاوب مع مقوماتها من الأخوة والولاية، والتضامن، والاعتزاز بما اختصها الله به من الخيرية {كنتم خير أمة أخرجت للناس}. {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا}.
3- إيجاد رأي عام إسلامي قوي يعي عن إيمان وبصيرة على هدى الكتاب والسنة حقيقة التضامن والوحدة، ويربط حركته بهما في كل جوانب الحياة واتجاهاتها.
4- تحكيم شريعة الإسلام بين جميع المسلمين والتسليم بما حكم به.
5- أن يتحقق للأمة الإسلامية ما تسعى إليه من التقدم والقوة، وأن يراها العالم في مكانتها التي يجب أن تكون فيهَا لكي تعطي ذلك المكان ما هو مفتقر إليه لتصحيح أوضاعه وإصلاح حيا ته.
وهذه الأهداف كلها تلتقي مع العمل الجاد الأكيد الشامل لكل الأفراد وعلى مختلف المستويات للانضواء تحت راية الدعوة إلى التضامن الإسلامي وتطبيقه عمليا على واقع حياتنا وفي منهج سلوكنا.
وقد وضعت عناوين لمواضيع مختلفة كفيلة بتحقيق هذه الأهداف بلغ عددها الثلاثين عنوانا...(9/4)
ص -154- ومنها ومن أهمها الموضوع الثاني بعنوان مرتكزات التضامن والوحدة وبما أن المرتكزات في كل شيء وهي جمع ركيزة ما تكون بمثابة القواعد والأسس التي يقوم عليها وظهرت لي أهمية العناية بهذا الموضوع أحببت الكتابة فيه آملا التوفيق والسداد ومن الله تعالى العون والتأييد...
تمهيد بين يدي الموضوع:
إن المتأمل لتاريخ الدعوات التي ظهرت في المجتمع الإنساني أيا كان شعارها وخاصة في منطقة الشرق الأوسط وبالأخص في دول المنطقة فإن لكل دعوة مرتكزات ترتكز عليها، ومنطلقات تنطلق منها. وقد تزيف أو تفلسف بما يوهم العامة ويغريهم بها.
من ذلك الدعوة إلى القومية فإنها ترتكز على الجنس والعنصر ولا تبالي بالمبادئ ولا بالعقائد، أشبه ما تكون بدعوى الجاهلية من التعصب للقبيلة ويكفي لفساد هذه الدعوة أنها كانت ولا تزال السبب في تمزيق الأمم التي تظهر فيها وأول خطر منها على العالم ضياع الدولة العثمانية إذ عمل اليهود على إثارة الأتراك ضد العرب وحرضوهم على اختصاص تركيا بالأتراك، فكانت ثورة (أتا ترك) وضياع الخلافة العثمانية وتمزيق العالم الإسلامي دويلات.
وفي أوروبا القومية الجرمانية وغير ذلك.
وآخر الويلات التي جاءت بها دعوة القومية تقسيم قبرص بين الجنسية التركية والجنسية اليونانية.
ومما يندى له الجبين ما سمعته في نجيريا في رحلة داخلية ضمن بعثة الجامعة الإسلامية مع الزعيم الراحل أحمد بلو أنه أثناء الحرب الفلسطينية جهزت سفينة حربية لتتجه إلى فلسطين لإنقاذ القدس فسمع المسؤولون التنادي بالقومية العربية وأن على العرب حماية القدس وعليهم مسؤوليتها، فقال المسؤولون هناك إذا كانت القضية الفلسطينية قضية عربية وليست إسلامية فلسنا بعرب وأمروا السفينة بالعودة.
ومن ذلك الدعوة إلى الوطنية. وكان من سوء نتائجها على الشعب البريطاني صاحب المدنية والحضارة حينما طرد عيدى أمين جميع الرعايا البريطانيين من بلده امتنع الشعب البريطاني في بريطانيا أن يقبلهم بدعوى أنهم استوطنوا غير وطنهم. إلى غير ذلك مما شهده العالم أخيرا.(9/5)
ص -155- وكل تلك الدعوات مع خطورتها فإنها محدودة الأفق محصورة الموطن مهزوزة المرتكزات لم تلبث أن تنهار فتنهدم بأصحابها.
وبعض تلك الدعوات قد تأباها فطر البشر فتفرض عليهم بقوة السلطة كالاشتراكية والتمييز العنصري، فتسلب الفرد أخص خصائص الإنسانية وهي حرية الاختيار، وتعطيل الإرادة وإهدار الكرامة.
أما دعوه التضامن الإسلامي والوحدة الإسلامية:
فهي دعوة تتفق تماما مع فطرة الإنسان التي فطره الله عليها وتساير طبيعته كل المسايرة وتتجاوب مع جبلته إلى أعماق نفسه.
ولهذا فلقد لمست شفاف القلوب واستجابت معها العواطف. فبرزت بين تلك الدعوات العديدة وكتب لها البقاء وقوبلت بقبول حسن لأنها ارتكزت على مرتكزات أصيلة وعميقة وعملية واقعية لم تخرج عن طبيعة الإنسان ولم تغاير عقيدته الإسلامية ولم تصطدم مع واقع حياته التي يحياها في هذا العالم. وهذا هو الإطار الكلي للفرد المسلم وللمجتمع الإسلامي.
وتتلخص تلك المرتكزات في نظري في ثلاثة أمور:-
(1) سنة الحياة وتكوين الإنسان.
(2) منهج التشريع الإسلامي جملة وتفصيلا.
(3) الواقع السياسي والوضع الاجتماعي الذي نعيشه مع العالم حولنا...
ولكل مرتكز من هذه المرتكزات معطياتها، وفعاليتها لو تأملها كل عاقل ومسلم لما حاد عنها ولبادر إلى الانتماء إليها ولعرف أنها هي السبيل الوحيد التي تحقق له كل ما يتطلع إليه من استرجاع حقوقه المسلوبة والحاقه بأمجاد أسلافه.
وسنحاول بعون الله تعالى وتوفيقه بيان كل مرتكز من هذه الثلاثة ومدى عطائه لدعوة التضامن والوحدة...
وإني لآمل أن أكون بهذا العمل المحدود وجهد الطاقة حسب ما أجتزؤه من الوقت وأزاحم به من الأعمال قد أسهمت ولو بأيسر اليسير بين الثلاثين موضوعا ومن بين العديدين من أفاضل الكتاب الذين تمكنهم ظروفهم من الاستيفاء والاستقصاء وبالله التوفيق...(9/6)
ص -156- المرتكز الأول: تكوين الإنسان وسنن الحياة:
قام تكوين الإنسان على أن يكون تعاونيا متضامنا مع غيره لا انعزاليا منفردا بنفسه. ولعل معنى إنسان من الإيناس.
ففي تاريخ هذا الإنسان لم يستطع الإنسان الأول وهو أبو البشر آدم عليه السلام أن يعيش وحده ولو كان في جَنة الفردوس. فخلقَ الله له من نفسه زوجة يسكن إليها {هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها}. (الأعراف: 189).
قال ابن كثير في تفسيره (ج1 ص79) ويقال إن خلق حواء كان بعد دخوله الجنة كما قال السدي في خبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة: أخرج إبليس من الجنة وأسكن آدم الجنة فكان يمشي فيها وحيشا ليس له زوج يسكن إليه فنام نومة فاستيقظ وعند رأسه امرأة قاعدة خلقها الله من ضلعه، فسألها من أنت؟.
قالت: امرأة. قال: ولم خلقت؟. قالت: لتسكن لي...
وذلك ما يشعر بأن تكوين الإنسان أساسا تكوينا جماعيا تعاونيا.
ثم بعد هبوطه إلى الأرض كانت حاجته أشد إلى من يعاونه فيها فبدأ بالإنجاب وتزاوج الأولاد وإيجاد الأجيال والحفاظ على بقاء النوع. ومن ثم تقاسم أعباء الحياة.
ثم كانت الجماعة البشرية أمام العوامل الكونية التي اضطرتها اضطرارا على التضامن والتعاون والاتحاد لتواجه مجتمعة تلك العوامل التي لا يستطيع الفرد أن يواجهها كحماية أنفسهم من المخلوقات المتوحشة وكتذليل الصعاب في الأرض لاستنبات نباتها، واستحصاد زرعها، واستخراج كنوزها، وتصنيع موادها مما يحتاجونه في حياتهم على هذه الأرض.
ثم بعد انتشار الجماعة وتكاثر الجماعات جاءت التنظيمات الجماعية التي تميزت فيها التخصصات الميدانية وتخصص لها بعض أفراد الجماعة.
1- فتميز مثلا مجال الاقتصاد من مآكل وملبس ومسكن وتخصص له رجال يعملون وينتجون ما يوفر للجماعة حاجتها الاقتصادية.
2- وتميز مجال الدفاع وحفظ الأمن، وتخصص له عسكريون ومدافعون.
3- وتميز مجال الطب والعلاج وتخصص له أطباء ومعالجون.(9/7)
ص -157- 4- وتميز مجال التعليم وغير ذاك من المجالات بقدر ما تستجد حاجة الأمة.
5- ومن وراء ذلك كله السياسة والحكم والحكام والسياسيون مما هو في حكم الضرورة للجماعات البشرية ولا يمكن أن تقوم كلها ولا بعضها إلا بتعاون الأفراد بعضهم البعض بل إن كل تلك المجالات ذات الاختصاصات لا يمكن أن تقوم واحدة منها منفردة بدون معاونة مع الآخرين.
وإنا لنلمس ونشاهد ذلك في عالمنا المعاصر في جميع مؤسساته وفي مجموعها فيما بينها. ففي جميعها نجد أن كل مؤسسة تشتمل رئيسا ومرؤوسين وجميعهم من القاعدة إلى القمة كل في موقعه يؤدي واجبه. ولا غنى لرئيس عن مرؤوس.
وكذلك فيما بين تلك المؤسسات كل منها تؤدي دورها في خدمة المجتمع مما لا تؤديه غيرها. وكل منها خادم ومخدوم في دائرة التعاون والتضامن كما قيل:
الناس للناس من بدو وحاضرة بعض لبعض وإن لم يشعروا خدم
فسنة الحياة تلزم الأحياء أفرادا وجماعات بالتضامن معا، وقد امتد فشمل هذا المرتكز الطبيعي جميع دول العالم كله اليوم طوعا أو كرها سواء كان في السلم أوفي الحرب.
عن طريق تبادل منافعهم فيما بينهم فعند هذه سلع وإنتاج ولتلك حاجة ماسة إليها وقد قامت السوق الأوربية بين دول أوربا بتنظيم هذه العلاقة بسبب تفاوت الثروات الطبيعية والكفاءات البشرية. فالسلعة التي تفيض عند هذه تحتاجها تلك وكذلك العكس وهلمّ جرا.
ولا يمكن لأمة اليوم أن تعيش في معزل عن العالم حيث ارتبطت كلها بمصالح مشتركة فهي تسير في نظام تضامن إلزامي تمليه ظروف الحياة وتطورات العالم وعلى سبيل المثال ترابط العالم في تسيير الخطوط الجوية والخدمات البريدية، والأعمال المصرفية، والإصدارات المالية، والتمثيل الدبلوماسي وغير ذلك مما له الصبغة العالمية.
ولا يبعد من يقول إن هذه السنة الكونية التعاونية ليست قاصرة على الإنسان بل هي أيضا موجودة في عالم الحيوانات والحشرات ولا أدل على ذلك من عالم النحل والنمل.
وعلى هذا فإن هذا المرتكز التضامني فطري كوني وهو إلزامي جبري ليس للإنسان فيه اختيار ولا له عنه استغناء.(9/8)
ص -158- فإذا كان هذا المرتكز الفطري يقر في إطار إسلامي، وكانت دعوة التضامن من هذا المنطلق دعوة فطرية تساير الفطرة وتساندها طبيعة الحياة.
وإذا كان لابد للإنسان أن يتضامن مع غيره ولكل جماعة أن تتعاون مع غيرها على أي مبدأ كان سواء كان عنصريا بالجنس أو وطنيا بالموطن أو اقتصاديا بالإنتاج أو عسكريا بالأحلاف فلأن يكون باسم ومنهج الإسلام من باب أولى حيث أنه منهج التعاون على البر والتقوى. وأن الخلق كلهم عباد لله والأرض كلها له سبحانه...
ا لمرتكز الثاني: منهج التشريع الإسلامي:
ولكي نحدد معالم هذا المنهج نعود إلى مدلول التضامن والغرض منه وهو أن يجد الإنسان فردا كان أو جماعة ما يضمن له حياة أفضل يتوفر له فيها ما ينقصه، ويسلم فيها مما يضره ومعلوم أن هذين المطلبين جلب النفع ودفع الضر هما مطلب كل عاقل كما قيل:
إذا أنت لم تنفع فضر فإنما يراد الفتى كيما يضر وينفع
أي يضر عدوه أو ينفع صديقه.
ومنهج الإسلام شامل لهذين المطلبين ومعهما الحث على مكارم الأخلاق وهو مطلب إنساني كما قال أكثم بن صيفي حين بلغه أمر ظهور دعوة الإسلام فأرسل ولده ليأتيه بخبر محمد صلى الله عليه وسلم وما يدعو إليه، فرجع إليه وقال له: إنه يأمر بصلة الرحم وصدق الكلم وأداء الأمانة والوفاء بالعهد وينهى عن كذا وكذا...
فقال أكثم: إنه والله يا بني إن لم يكن دينا فهو من مكارم الأخلاق.
وقد شرع الإسلام عقود المعاملات لجلب النفع وتبادل المصالح لتوفير حاجيات الإنسان. من مطعم وملبس ومسكن في صناعة وزراعة وتجارة.
كما شرع لدفع الضر تحريم كل ضار بجواهر الحياة الخمسة- الدين- النفس- العقل- النسب والعرض. والمال. وجعل فيها حدودا رادعة وزاجرة.
كما أرشد ووجه لمكارم الأخلاق في الروابط الاجتماعية ابتداء من حقوق الزوجين وبر الوالدين. وحسن المعاشرة من العفو عن المسيء والإحسان والإيثار على النفس وغير ذلك، وكذلك روابط الجوار وصلة الأرحام وكفالة الأيتام ومساندة الضعفاء. وعموم التعاون على البر والتقوى.(9/9)
ص -159- وتظهر صور التضامن والوحدة في منهج الإسلام مفصلة ابتداء من العقيدة السليمة ثم العبادات التي هي الغاية من خلق الثقلين الجن والإنس كما قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}. فجميع المسلمين يلتقون على عبادة الله تعالى وحده وبالوجه الذي يرضاه.
وهذا المنهج قد ربط بين جميع الأمم الإسلامية كما قالي تعالى: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه}. فهي وحدة دينية تربط الحق بالخلق في إطار التشريع الإسلامي.
وكما تقدم قوله تعالى: {ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون}.
وعقيدة التوحيد هي المرتكز والتي يجتمع عليها العرب والعجم ويستوي فيها الغني والفقير والكبير والصغير ويلتقي عليها من بالمشرق بمن بالمغرب. وهى العقيدة التي تحرر الإنسان من استعباد الإنسان ومن طغيان المادة وعوامل الطغيان لأن الفرد بإحساسه بأن جميع الخلائق عباد لله ملتزمون بأوامر الله.
وفي العبادات تتجلى هذه الصور عمليا بصور ملموسة وذلك كالآتي:-
(1) ففي الصلاة:
أ- وحدة التوقيت مرتبطة بحركة كونية من طلوع الشمس إلى غروبها.
ب- واستجابة النداء حي على الصلاة حي على الفلاح الله أكبر: {أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا}.
{إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع}.
ج- وحدة الوجهة إلى مركز العالم كله إلى البيت الحرام: {فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شَطره}.
تبدأ هذه الوحدة في استدارة حول الكعبة ثم تتسع حتى تشمل أقطار العالم شرقا وغربا شمالا وجنوبا.
(2) وفي الصيام:
أ- وحدة الزمن في الصوم بشهر واحد للجميع: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، فمن شهد منكم الشهر فليصمه}.(9/10)
ص -160- ب- وحدة الشعور بالتعاطف والتراحم- يبدأ بالإمساك وينتهي بالإطعام وإخراج الفطرة طعمة للمساكين وطهرة للصائمين.
(3)- أما الزكاة:
أ- فهي تضامن إلزامي يربط مختلف الطبقات بعضها ببعض ويقارب بين من باعدت بينهم المادة ويجمع بين من فرق بينهم الغنى والفقر حيث يلتزم الغني بإخراج زكاة ماله: {وفي أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم}. {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم}.
فالزكاة طهرة للنفوس من شح الأغنياء وحسد الفقراء، وزكاة للمال فلا تنقص وتصون المجتمع من حرب الطبقات وغزو الدعايات.
أما الحج وهو الركن الأعظم:
فهو عين التضامن ومظهر الوحدة في أظهر الصور وأقوى المعاني يفد الحجيج من كل فج عميق ملبين الداعي لحج بيت الله العتيق. مجددين العهد القديم مستجيبين نداء إبراهيم- عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم- يخرج الحاج من أهله ودياره مفارقا زوجه وصغاره حتى يأتي الميقات فيتجرد من ثيابه متخليا عن مظاهر دنياه. مُتدثرا رداءه وإزاره متهيأ لحال أخراه.
هناك يعود الحجيج على مختلف ألوانهم وتباعد أقطارهم وتعدد لغاتهم يعودون إلى الفطرة التي فطرهم الله عليها. وتعود إليهم فطرتهم التي ابتعدوا عنها فطرة الوحدة والإخاء والمساواة. فيستوي غنيهم وفقيرهم وأميرهم ومأمورهم. ويستوي عربيهم وعجميهم. وقاصيهم ودانيهم وحدة في الشكل والصورة ووحدة في الهدف والغاية يهتفون لبيك اللهم لبيك.
ب- وفي أرض عرفات في ذلك المشهد الفريد في تاريخ البشرية حاضرها وماضيها حواضرها وبواديها. مشهد يذكر بالماضي في عالم الذرة، حين أخرج الله من بني آدم من ظهورهم ذريتهم {وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى}.
مشهد ينبههم لمستقبلهم يوم يجمع الله الخلائق ويحشرهم حفاة عراة. مشهد تذوب فيه فوارق الجنس والعنصر واللون وتتجلى فيه وحدة الأصل (كلكم لآدم وآدم من تراب). مشهد تفتح له حدود الأقاليم والأقطار والدول: {وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق}.(9/11)
ص -161- مشهد تلتقي فيه الأشباح وتتعانق فيه الأرواح {ليشهدوا منافع لهم}.
جـ- وفي منى يلتقي الجميع على موائد الهدى والإخلاص فيأكلون ويطعمون {فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتمر}.
أمانة الدعوة: ومن هناك يتحملون أمانة الدعوة والبلاغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث حملها أصحابه لمن بعدهم: "بلغوا عني ولو آية". "رب مبلغ أوعى من سامع ". فيرجع الحجاج بمثابة السفراء إلى بلادهم الدعاة إلى ربهم وقد تعارف كل منهم على الكثيرين من إخوانهم ووثقوا عرى الأخوة والولاء، قد ينتج عنها زيارة وصلة ونحو ذلك.
الاجتماعيات:
وكما ظهر مدى التضامن والوحدة في العبادات يظهر كذلك وبقوة في مجال الاجتماعيات لأن الإسلام أقام المجتمع الإسلامي على قواعد مثالية عالية ترتفع عن مقاييس المادة والمعاوضة إلى حد البذل والإيثار.
أ- ففي أصل تكوين المجتمع توجد المساواة في المبدأ: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا}. ففيها وحدة الإنسانية جمعاء.
ب- وفي تكوين الأسرة التي هي لبنة بناء المجتمع. أقامها على روابط المودة والرحمة: {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون}. وجعل معادلة بين الزوجين غاية في تضامنهما: {ولهن مثل الذي عليهن}.
فإذا جاء الأولاد: قابل بين عاطفة الأبوة بإيجاب بر البنوة وجعلها وفاء بحق قد استوفاه الأولاد من قبل {وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا}. ثم أظهر مدى حق الوالدين حين قرنه بحقه سبحانه في قضاء مبرم. {وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا}. ثم إن الولد سيستوفي مثل هذا الحق من أولاده إن هو أداه لأبويه. وهكذا دواليك.
جـ- ثم هو يراعي هذا الصنف من الناس الذي حرم رعاية الأبوين وذاق بؤس القطيعة وذل العزلة ألا وهو اليتيم فكفله بالرعاية وأحاطه بالحنان وجعل صلى الله عليه وسلم لكافله أعلى المنازل في الجنة.
وهذا من أقوى دلائل التضامن الإسلامي في المجتمع الإنساني. لأنه يطيب نفس الأب على ولده إذا حضرته الوفاة بأن المجتمع كافل له ولده.(9/12)
ص -162- ثم إن هذا الولد اليتيم المكفول اليوم سيصبح غدا رجلا ويكفل يتيماً غيره.
د- ثم يفسح المجال خارج نطاق الأسرة فيأتي للجوار فيقول صلى الله عليه وسلم : "الجار أحق بصقبه ". "ولا يزال جبريل- عليه السلام- يوصيه بالجار حتى ظن صلى الله عليه وسلم أنه سيورثه ".
هـ- ثم يربط العالم كله برباط النصح والإخلاص ومحبة الخير "الدين النصيحة قلنا لمن يا رسول الله. قال: لله ورسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم".
و- فتكون النتيجة ترابط العالم الإسلامي كالبناء الحصين "مثل المسلمين في توادهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد". "المسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضا" فأي تضامن بعد هذا وأي وحدة بعد هذا وأي وحدة تضاهي ذلك.
ومن هنا حمل الإسلام جماعةَ المسلمين مسوؤلية الحفاظ على تلك الوحدة وعلى هذا التضامن في السلم وفي الحرب أفراد أو جماعات.
(1) {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله}. الآية...
(2) "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ".
"كلكم راع وكل مسئول عن رعيته ".
{وتعاونوا على البر والتقوى}.
وفرض حقوقا عامة على كل مسلم لأخيه المسلم: "حق المسلم على المسلم ست: إذا لقيته فسلم عليه. وإذا دعاك فأجبه. وإذا عطس فحمد فشمته. وإذا استنصحك فانصح له. وإذا مرض فعده. وإذا مات فشيعه ".
وتلك حقوق متبادلة بين الأفراد يتقاضونها فيما بينهم وقد استوعبت كامل وضع الإنسان من أول لقائه بالسلام عليه إلى آخر وداعه بالتشييع إلى مثواه الأخير.
ربط الإيمان بالمحبة والمودة والعاطفة والرحمة بينهم "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه مايحب لنفسه ".
وحرم الجنة عليهم حتى تسودهم المحبة: "لن تدخلوا الجنة حتى تحابوا".
فالدعاة إذا ما ركزوا دعوتهم إلى التضامن الإسلامي والوحدة الإسلامية على منهج الإسلام كان تركيزا قويا ينطلق من عواطف وشعور كل مسلم حيث يحقق للجميع أفرادا وجماعات كل ما يسمو إليه دون أن تعترضه العقبات ولا تكدره الشبهات.(9/13)
ص -163- وهناك مجال الحكم في سلطاته الثلاث:
السلطة التشريعية. والسلطة القضائية. والسلطة التنفيذية، وهذه السلطات الثلاث وإن كانت بصورها موجودة في كل دولة إلا أنها في الإسلام تتميز بصبغة خاصة تضفي عليها بهاء الرفق ورونق الإحسان.
فالسلطة التشريعية في كل أمة هيئة متخصصة تنظر في ظروف وملابسات حياة الأمة فتشرع لها ما تراه صالحا.
ومهما يكن من شأن هذه الهيئة وتخصصاتها فهو عمل بشري جائز عليه الخطأ والصواب وهو ما يشهده العالم من طروء التغيير والتبديل فقد يكون ما رأوه اليوم يكون غير صالح في الغد.
وإن ما يطرأ على تلك الهيئات من سياسة داخلية واتجاهات فكرية قد تؤثر عليها إلى غير ذلك.
بينما التشريع في منهج الحكم الإسلامي مرجعه لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم والمختصون للتشريع بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم هم العلماء ورثة الأنبياء فإذا ما لزم نظروا تشريع لمستجد في الحياة فإنهم لن يخرجوا عن المنهج الإسلامي في حدود ما أنزل الله من كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وقد نوّه القرآن الكريم إلى أصل هذه السلطات وإلى تميزها عما سواها. في قوله تعالى: {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزي} فإرسال الرسل بالبينات من ربهم، وإنزال الكتاب لتشريع مناهجهم والميزان للعدالة...
والسلطة القضائية، ليقوم الناس بالقسط إذ القضاء تطبيق للمنهج التشريعي.
وأنزل الحديد إشارة إلى السلطة التنفيذية وأداة لنصرة دين الله فيكون المجتمع الإسلامي تحت سلطة حكم عادلة قوية حكيمة وأساس الحكم في البشر إنما هو لله خالقهم لا سواه، وهو أعلم بمصالحهم وما يصلحهم. فهو كالعبادة سواء في قوله تعالى: {إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن كثر الناس لا يعلمون}. (يوسف:40).
ومن هذا المنطلق في الحكم كان الظلم في غيره محققا في أي حكم سوى حكم الله: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون}.(9/14)
ص -164- وفي مقابل ذلك لا يتم إيمان العبد حتى ينزل على حكم الله راضيا مسلما تسليما:
{فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما}. (النساء: 55).
ومن هذا المنطلق فان ارتكاز دعوة التضامن إلى منهج التشريع الإسلامي وفي ظل الحكم بما أنزل الله تكون دعوة ممتدا سببها بالله لا تلاقيها صعوبات ولا تعطلها عقبات وهي دعوة مضمون لها النصر من عند الله: {إن تنصروا الله ينصركم. ويثبت أقدامكم}. مضمونة نتيجتها للأمة سعادة في الدنيا وفلاحا في الآخرة.
المرتكز الثالث: واقع الحياة الذي نعيشه والتيارات السياسية التي حولنا:
من الواضح البين حالة العالم السياسي والسياسة التي فرضت على الجميع وألزمت العالم كله العيش ضمن تكتلات سياسية، وأحلاف عسكرية واتفاقيات اقتصادية. وليس بوسع أي دولة أن تعيش وحدها في معزل عن هذا العالم بعيدة عن تلك التكتلات لقوة ترابط الدول بعضها مع بعض شاءت أم أبت.
ولم تعد السياسة مجرد تنظيم لعلاقات الدولة في الخارج بل أصبح الداخل مرتبطا بالخارج في السلم وفي الحرب عن طريق الإنتاج والتسويق. فهي منافع مشتركة ومصالح متبادلة. توثقت باتفاقيات عالمية أو ثقافية وأحلاف عسكرية. وأهم ذلك كله الأحلاف العسكرية لأنها لحماية الدولة بكل مرافقها والداعي لكل ذلك من اتفاقيات وأحلاف هو شعور تلك الدول بالضعف وبالحاجة إلى تضامنها بعضها مع بعض وذلك منذ الحرب العالمية الأخيرة حيث كانت عصبة الأمم لدولة أوروبا ضد هتلر والنازية لعجز تلك الدول منفردة عن مقاومتها.
وبعد عصبة الأمم جاءت هيئة الأمم وضمت دول العالم على أمل الحياة في أمن وطمأنينة. ولكن هيئة الأمم لم تحقق للعالم ما أمله فيها حيث أقيمت في بادئ أمرها على التخصيص والامتياز فمنحت الدول الكبرى حق النقض (الفيتو).
ومن العجب أن يمنح هذا الحق للدول القوية التي تستطيع أن تظلم وأن تتعدى مما يصعب معه استخلاص حق المظلوم أو استرجاع حق مغصوب.
وكان الأولى لو أجيز ذلك أن يعطى للدول الضعيفة لترد به عن نفسها.
وأن أحداث التاريخ وخاصة في الدول النامية لتشهد بذلك.(9/15)
ص -165- قامت جامعة الدول العربية وكان قيامها مظهرا من مظاهر تضامن دول المنطقة مهما قيل عن أسباب قيامها.
وكل تلك الهيئات والمؤسسات العالمية لم تستطع استتباب الأمن ولا منح الطمأنينة للعالم فنشأت تكتلات وأحلاف عسكرية انطلقت في سياق التسلح النووي بما يهدد العالم كله بالدمار. وذلك في حلفي الناتو وحلف شمال الأطلسي.
وانقسم العالم إلى معسكرين اقتصاديين شيوعي في الشرق ورأسمالي في الغرب وما بقي من العالم يدعى بدول عدم الانحياز.
ولكن عدم انحيازه لم يعزله عن غيره ولم يبعده عن الخطر ومن ثم أوجد لنفسه ارتباطات فيما بينه وعقدت له عدة مؤتمرات لدراسة وضعه ووضع التدابير لصالحه.
وآخر ما يكون ما حدث في المنطقة من قيام مجلس تعاون دول الخليج دفع قيامه واقع العالم السياسي وحاجة دول المنطقة إلى التعاون الأخوي وقد شمل عدة مجالات عامة اقتصاديا وسياسيا وأمنيا وثقافيا وإعلاميا. فهو أصدق صورة لما نرجوه للعالم الإسلامي من التضامن والوحدة.
ومع هذا كله فان هذه المؤسسات الدولية على اختلاف مناهجها وأشكالها فهي إما إقليمية محدودة وإما عالمية غير عادلة.
أما التضامن الإسلامي فليس هو بالتضامن المادي النفعي وإنما هو تضامن أخوي عاطفي إنساني ديني دعَا إليه الإسلام والتزم المسلمون بمضمونه ولا غنى لهم عنه.
"المسلم أخو المسلم لا يخذله ولا يظلمه ولا يسلمه، المسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضا، لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه".
وتحت هذا الشعار واستجابة لهذا النداء: {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا} يدعوا دعاة التضامن بكل قوة ووضوح.
وحدة الأمة:
إن الوحدة والتضامن متلازمان ويلزم من وجود كل منهما وجود الآخر لأن الأمة المتحدة المتضامنة، والأمة المتضامنة، متحدة، وهذا من خصائص الإسلام ونتائج منهجه وتشريعه.(9/16)
ص -166- ووحدة الأمة في نظر الإسلام وتعاليمه ترتكز على مرتكزين رئيسين :
(2) وحدة الجنس.
(2) وحدة العقيدة.
ومن ورائهما عناية الله وإنعامه على عباده وامتنانه.
(1) أما وحدة الجنس ففي إرجاعهم إلى أبيهم آدم عليه السلام وأمهم حواء : {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا} ومن وراء هذا التعارف إخاء وتراحم: {إنما المؤمنون إخوة} وقد صور الإمام علي ـ رضي الله عنه ـ معنى وحدة الجنس فقال في أبيات له:
الناس من جهة التمثيل أكفاء أبوهم آدم والأم حواء
(ب) أما وحدة العقيدة فهي الوحدة المعنوية التي تقابل الوحدة الحسية لأن العقيدة عمل القلب لا علاقة لها بالجنس ولا باللون ولا بالمكان ولا بالزمان فيرتبط فيها جميع أبناء المعتقد الإسلامي فيؤمن أنه وكل من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله وآمن بما آمن به السلف الصالح ودعا إليه الكتاب والسنة، شعر يقينا أن كل من دان بذلك أنه أخ له في دينه وملتزم معه في تكاليفه فيرتبط آخر الأمة بأولها بل صالح هذه الأمة بصلحاء الأمم واقرأ قوله تعالى: {اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم}.
{آمن الرسول بنما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير}.
(ج) أما عناية الله في هذه الوحدة وإنعامه على هذه الأمة فهو من تأليف هذه القلوب وتقارب هذه النفوس يلقى المسلم أخاه المسلم من أقصى الدنيا وأدناها. فإذا هو يبادله التحية ويتبادل معه التعاطف. وذلك تحقيق لقوله تعالى : {واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا}.
وقوله تعالى: {لو أنفقت منا في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم}. فهي نعمة امتن الله تعالى بها على هذه الأمة. وبعد امتنانه بها شرع ما يحفظها.وما يديمها فبعد قوله تعالى : {إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله }.
قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابوا بالألقاب}.(9/17)
ص -167- كما نهى عن سوء الظن وعن التجسس والغيبة. وهي كلها عوامل فرقة وتمزيق الوحدة بينما دعا إلى تقوية هذه الوحدة بالتراحم والتعاون وحسن الجوار وكل ما فيه معاني الإنسانية من عفو وتسامح إلى حد الإحسان إلى المسيء : {والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين}.
فهذه كلها روافد تصب في أصل أوجه الوحدة الإسلامية ترويها فتنمو على أثرها.
الخاتمة:
وإذا كانت دعوة التضامن الإسلامي كدعوة ظهرت في هذا العصر متميزة من بين الدعوات التي انطلقت في العالم وخاصة بين المسلمين. من قومية وطنية ومدنية ديمقراطية وشعارات متعددة.
فإن الدعوة إلى التضامن الإسلامي في هذا الوقت بالذات وبدت هذه الدعَوات والشعارات لهي أولى وأحرى للأمة الإسلامية لتعود بها إلى صميم دينها والحفاظ على كيانها وإثبات شخصيتها وتثبيت دعائمها على تلك المرتكزات الثلاث...
وإذا كانت في ظهورها ومنطلقها من خادم الحرمين الشريفين ومن جوار القبلة المشرفة قبلة وجهتهم ومهوى أفئدتهم فإنها بلا شك قد لامست شغاف القلوب المؤمنة وأيقظت شعور الشعوب المسلمة، ولا طقت عواطف كل مسلم في العالم فلقيت بحمد الله قبولا لدى الجماعات واستقبلت بترحاب من الأفراد.
ولا نزال نسمع كل حين وآخر بنتائج عظيمة حيث تنادي بعض الدول بالعودة إلى الإسلام والتزامها بتنفيذ أحكام الشريعة بدلا من القوانين التي كانت تسير عليها.
ومن ثم يلتقي قادة تلك البلاد بشعوبها وتلتف تلك الشعوب بقادتها وتواصل الأمة سيرها على نور الله.
واليوم ومن رحاب الجامعة الإسلامية ومن أرض المدينة المنورة مهد الدعوة ومنطلق الدعاة تتجدد تلك الدعوة من المؤتمر الثاني لإعداد الدعاة تنطلق في جدتها وجديد رونقها(9/18)
ص -168- وصفاء محاسنها بريئة من كل شائبة نزيهة عن كل غرض شخصي أو مادي بعيدة عن أي اتجاه سياسي أو فكر أجنبي مصطبغة بصبغة الله: {ومن أحسن من الله صبغة وتحن له عابدون} فإنها بحمد الله لتعلوا على الشبه وتسمو عن الشكوك وتحلق في سماء الحق معلنة أنها دعوة السلف وأمانة الخلف وأنه لا يصير آخر هذه الأمة إلا ما قد أصلح أولها وسما بسلفها قمة المجد.
كما أنها بارتكازها على تلك المرتكزات الثلاث التي أسلفنا وهي مرتكز طبيعة تكوين الإنسان وسنة الحياة. ومرتكز منهج التشريع الإسلامي. ومرتكز الحالة السياسية والوضع الاجتماعي الذي نعيشه. فإنها ترتكز على عوامل قبولها وتحمل دواعي بقائها.
كما تحقق للأمة الإسلامية كل مطالبها وتمكن لها ما أراده الله منها: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله}. {ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم}. أي دعوة التضامن الإسلامي بما تشير إليه هذه الآية في نهايتها لم يقتصر نفعها على المسلمين فحسب بل وعلى أهل الكتاب لو آمنوا بها وأيدوها.
ثم بين تعالى ما لو تم للعالم الإسلامي اتحاده وتضامنه وأخذ الأعداء يكيدون له أنهم سيندحرون كما قال: {وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون}.
ونحن لا نبعد إلى هذا الحد ولا نفرط في التفاؤل أو نتطلع إلى غير المسلمين وإنما ندعو إلى تضامن الأمة الإسلامية تحت شعار الوحدة والإخاء
وإن دور الدعاة إبراز أهمية التضامن وضرورة الوحدة على ضوء كتاب الله وسنة رسوله ومحاسن الإسلام وحكمة التشريع ما أمكن ذلك.
فإن العالم الغربي اليوم في متاهة الحيرة وظلمة الضلالة ولو وجد ضياء من تعاليم الإسلام لبادر إليه.(9/19)
ص -169- وليس بعيدا عنا إسلام (الدكتور المسيحي) في المؤتمر الطبي. لما رأى ما في الإسلام من تعاليم وما في القرآن من إعجاز الأمر الذي جعله يعلن عن إسلامه في قاعة المؤتمر عن قناعة وإدراك ومعرفة.
وها هي الأعداد الكثيرة التي يعلن عن إسلامها في كثير من دول العالم. وفي هذه البلاد وفي المدينة بالذات لما يشاهدون من إخاء وتعاطف وتعاون وتراحم فالله الله في الدعوة إلى الله وإلى التضامن الذي هو التطبيق العملي لدعوة الإسلام: {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون}.
كما إنا لنهيب بالجهات المختصّة أن تمد يد العون وتبذل كل الجهد لمساعدة الدعاة إلى الله في دول العالم بما يستطيعون به القيام بواجبهم وأداء عملهم على الوجه الذي يرونه وتتطلبه دعوتهم في مراكز عملهم.
كما نأمل دوام انعقاد هذا المؤتمر وعلى فترات متقاربة لمدارسة أحوال الدعاة على ضوء واقع حياتهم وما يستجد أمامهم: وتقديم المساعدة إليهم قولا وعملا وبالله التوفيق.. وصلى الله وسلم وبارك على إمام المرسلين وخاتم النبيين وعلى آله وصحبه وسلم...(9/20)
عنوان الكتاب:
مشاكل الطلاب الجامعيين وحلها على ضوء الإسلام
تأليف:
عطية محمد سالم
الناشر:
الجامعة الإسلامية
الطبعة الأولى - 1388 هـ - 1968 م(10/1)
ص -22- مشاكل الطلاب الجامعيين وحلها على ضوء الإسلام
للشيخ عطية سالم المدرس في الجامعة
إن مشاكل الطلاب الجامعيين جزء من مشاكل الأمة التي أقامت تلك الجامعة، ولهذا فإن لكل مجتمع جامعي مشاكله الخاصة المنبعثة من مجتمعه المحيط به.
فمن أراد دراسة مشاكل الطلبة الجامعية لزمه دراسة مشاكل الأمة وتتبع الحياة الدراسية من مبدئها حيث أنها تمتد وتندرج من البيت إلى المدرسة ثم إلى الجامعة في عقلية الطالب وتفكيره وظروفه.
يستلزم شمول النظر لمنهاج الدراسة في الأمة كلها والتنسيق بينها حتى تصبح وحده متكاملة يكمل بعضها البعض كحلقات عمر الإنسان في نشأته من طفولته إلى شبابه إلى رجولته خلقا سويا ثم إنتاجه في الحياة.
وألزم ما يكون ذلك النظر على الجامعة نفسها حيث أنها تتلقى الطلاب من المدارس فتعمل على صبغتهم بالصبغة الجامعية المتميزة، وحيث أنها هي التي تمد المدارس برجال التربية والتعليم منها وإليها يكون أمر الطالب.
وتتبع ذلك يستلزم مجهودا في الدراسة، وإمكانيات في العمل، وفسخه من الزمن كعمل إيجابي كلي. وإلى ذلك الوقت تنبغي العناية بأهم المشاكل الحاضرة وتطلب حلها حلا سليما.
والعناية بمشاكل الطلبة عناية بالجامعة كلها، والعناية بالجامعة هي بلا شك عناية بالأمة. وكما قلنا أن على الجامعة نفسها العمل لإيجاد حلول لمشاكلها فالجامعات في الأمم كالقلب في الجسم ينبض حيوية بالدم لتغذية الجسم كله فيفيض حيوية ونشاطا وهو بدوره يستنفذ قدرا مضاعفا من التغذية ليقاوم عمله الدائم وجهاده(10/2)
ص -23- المتواصل في سيبل حيوية هذا الجسم، وكالطبيب يسهر لمعالجة الأمة يجب عليه أن يعنى بنفسه.
وكذلك الجامعة في عنايتها بمشاكل الأمة وتوجيه أبنائها وتهيئتهم على النحو الذي يتحملون به أعباء الحياة، والسير قدما إلى الغاية المرجوة، وإصابة الهدف المقصود، إن عليها أن تعنى بمشاكلها الذاتية وتوليها كل اهتمامها لتصبح من القوة والسلامة بحيث تمكنها من الاضطلاع بأعباء القدوة والتوجيه والرسم والتخطيط والدعوة والإرشاد وتوفير أسباب السعادة والسمو.
تحديد المشاكل
غير أن المشاكل الجامعية تختلف في نظر الجامعيين اختلاف البيئات التي تقوم بها، وقد تكون موضع اتفاق أو موضع خلاف من ذلك الآتي على سبيل المثال:
1- الاختلاط المزدوج بين الجنسين كما في بعض البلاد الإسلامية.
2- التعليم الثنائي: أ- الديني ب- المدني كلاهما على انفراد وعزله، الذي أوجده الاستعمار وبقيت آثاره من بعده.
3- التوجيه الخارجي الذي تمليه الدولة أو فكرة ما.
4- التعليم المهني الذي دعت إليه الحاجة يوما ما.
5- النفقات الدراسية كما في بعض البلدان التي لا تخصص مكافآت للطلاب.
6-إشغال الفراغ الذي يتجاذب الطالب بين المذاكرة أو اللهو والأشغال.
فبعض هذه المشاكل قد تكون موجودة في بلد غير موجودة في أخرى وقد تكون مشكلة في بلد آخر.
أما في نظر الإسلام فإنها إن وجدت مشكلة في أي بلد كانت مشكلة عنده في جميع البلدان وعلى مر الزمان حتى تعالج. أما كون تلك المسائل مشاكل في ذاتها فكالأتي:
أولا – الاختلاط المزدوج – ما من شك في أن هذا النوع من الاختلاط دخيل على الجامعات العربية انتقل إليها مع بعض النظم التعليمية الغربية. والباحثون إزاء هذا الاختلاط على قسمين:
أ – قسم يراه ضروريا للحياة الجديدة، ويعلل لذلك بأنه يكسب كلا من الطرفين الصقل للسفور والوداعة في الاخلاق واللطف في المعاملة. ولا مانع عندهم أن تدفع الأمة الثمن إزاء ذلك ما يثبت في سجل الحوادث لدى الجامعات.
ب- بينما القسم الآخر يراه معولا يهدم البيت العربي، والخلق الإسلامي، والقيم الإنسانية، والقوى الشخصية، حيث تنهار قوة كل من الطرفين أمام سلطان الآخر.
وهاتان النظرتان جزء من الاختلاط العام سواء في الجامعة أو المجتمعات(10/3)
ص -24- الأخرى. إلا أنها في الجامعة أخطر لطول المكث ودوام الصلة وقوة المعرفة.
وأخطر من هذا كله بالنسبة للجامعة ما يتعلق بالمنهج والدراسة، حيث ساوت بين مختلفين في أصل الخلقة والفطرة والنزعة والاستعداد العقلي والفكري والجسمي. ولنأخذ لذلك مثلا: كليتي الحربية والهندسة كيف تساير الفتاة أخاها في الكلية الحربية في الآتي:
1- التدريب العسكري المفروض يوميا بحركات عنيفة. وهبها سايرته بجهد، كيف تتخلى عن عواطفها ورقتها وشعورها كأنثى إلى شدة وقوة وغلظة فتملأ قلبها غيظا وحماسة ورغبة للقاء العدو.
إن في تكليفها ذلك إخراج لها عن فطرتها وتحميل لها فوق طاقتها:
خلق الله للحرب رجالا وعلى الغانيات جر الذيول
2- وكذلك الحال في الهندسة: إنها إن أحسنت صنع الخرائط لذوقها ولطف إحساسها، لن تستطيع أن تشد السقالة وتصعيد إلى أعلاها لتشرف على تنفيذ رسمها، كما أنها لا تقوى على شق الصحراء وتسلق الجبال أو هبوط الوديان لوضع مخطط على الطبيعة لأي مشروع ما.
فكيف نكلفها دراسة كل ذلك عمليا بجوار الشاب الكامل الاستعداد الخلقي والفطري. وكيف تستطيع الجامعة أن توفق بين الجنسين المختلفين في دراسة منهج موحد وإعدادهما معا لمستقبل واحد.
أما علاج هذه المشكلة على ضوء الإسلام في حل المشاكل منهج جذري يتتبع أصل الداء فيستأصله وباستئصال الداء يحصل الشفاء.
ومن هنا كان علاج هذه المشكلة بالذات كالأتي:
أولا من الناحية الخلقية وأن عدها البعض شكلية. فهو يمنع هذا الاختلاط لا في الجامعة فحسب بل في كل الاجتماعات {وإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} وفي وقار وحشمة بعيدا عن مظان الفتنة وفي سياج من العفة.
وإذا لزمت خلطة ضرورية فبوقاية وتحفظ: في القول: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً} والنظرة بالعين: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ}.
{وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِن}.
ثانيا من الناحية المنهجية إن صحت هذه التسمية: فقد خص الإسلام كل جنس بما يليق به وبتكوينه الذاتي واستعداده الخلقي وذلك من جانبين:
جانب تعليمي: وهو قوله تعالى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَة} فجعلهن في بيوتهن(10/4)
ص -25- معلمات للكتاب والحكمة.
2 - وجانب عملي: وذلك من قول عائشة رضي الله عنها لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا رسول الله غلبنا الرجال على الجهاد فلا نجاهد. فقال: "ألا أدلك على جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة".
فقد تطلعت عائشة رضي الله عنها إلى عظمة الجهاد وعظيم الأجر فتاقت نفسها إليه فأرشدها الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ما يليق بها من الحج والعمرة وهما عملان يجمعان بين المصالح الاجتماعية والعبادات البدنية والمالية لما فيها من معرفة أحوال الناس والإنفاق على المحتاجين وشهود المنافع المبنية عليها بقوله تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُم}. وبجانب ذلك أيضا السماح لبعض النسوة لمصاحبة الجيوش لا لحمل السلاح ولكن لسقى الماء وتضميد الجرحى كما في حديث أم عطية.
وكما في عمل فاطمة رضي الله عنها لتضميد جراح رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد.
وكذلك تجنب المرأة مواقف الزحام والاختلاط كما في طلب عائشة رضي الله عنها من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تصلي بالبيت (الكعبة) كما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويصلي الرجال فأخذ بيدها إلى حجر إسماعيل وقال لها: "صلي ههنا فإنه من البيت".
وما من شك أن علاج المشكلة باستئصال جذورها خير من الإبقاء على تلك الجذور وتطلب حلول لنتائجها وفروعها.
وما قاله الفريق الداعي إلى الاختلاط من صقل الشعور واعتداد بالشخصية وتلطف في المعاملة والسلوك الخ. مع بقاء العفة وسلامة الكرامة مقاومة للقوى الطبيعية ومغالطة للفطرة الأصلية.
ولهذا كان الثمن غاليا وأكثر مما زعموا من بعض حوادث ثبتت في سجل العقوبات، لأنها قطرة من بحر بالنسبة إلى ما يسجله المجتمع نفسه مما لا يصل إلى المسئولين ولا يوضع في سجلات المراقبين ولا تحويه ملفات الطلاب.
وتصديقا لنظرية الإسلام في هذا الحل فقد وجد بعض الجامعات الغربية (جامعة كمبردج) بإنجلترا لا تسمح للبنات أن يصبحن أعضاء فيها (ص 31 الجامعي).
كما لمس المشرفون على التعليم في بعض البلاد الإسلامية نتيجة تلك التجربة ورأوا ثمرة هذا التقليد فأنشأوا كليات للبنات في بعض الجامعات كجامعة (عين شمس).
فقد بدأت المشكلة من الجامعة وبدأت الجامعة بالتخلص منها.
والجامعة الإسلامية تهيب بالجامعات المدنية أن تعمل بحرية على توسيع نطاق العلاج لهذه المشكلة فيشمل خارج الجامعة كالحفلات(10/5)
ص -26- والصالونات وحلبة السباق والبلاجات مما لا تدعو إليه عندنا حاجة أو تلجئ إليه ظرورة.
وتكون الجامعة بذاك قد حملت لواء الإصلاح في المجتمع كله. فتحقق هدفا من أهدافها الأصلية.
ولا يفهم من ذلك أن الجامعة لا ترى تعميم التعليم للجنسين فتاريخ المسلمين حافل بالمتعلمات من النساء.
أولاهن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها تروي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفتي فيما تسأل فيه. وإذا جئنا إلى الأواخر نجد لأخت صلاح الدين الأيوبي إجازة على نسخة لسنن أبي داود بخطها وتوقيعها عليه. كما نجد بنت شيخ الإسلام تقي الدين السبكي من شيوخ جلال الدين السيوطي. ولكن في صيانة وعفة ونزاهة وحشمة وتعليم في ميادين صالحة لها، لا تخرجها عن نطاقها وتبعد بها عن فطرتها، فنكلفها عنتا ونجهدها عملا. ولا سيما بعد تقرير ديوان الموظفين بمصر عام 1361 إزاء عمل المرأة في مختلف الوظائف.
ثانيا: التعليم الثنائي:
ذلك التعليم الذي عزل الدين عن الدولة وأوجد منهجين متنافسين وقام بجانب أحدهما يسانده بالمال والجاه ويفتح أمامه أبواب المناصب العالية.
وقد بدأ هذا النوع بعد الحملة الفرنسية على مصر وحاجة محمد علي إلى إعداد موظفين للحكومة، وجاء بعد ذلك الاحتلال الغربي فضيق حدود التعليم واقتصر على طبقة معينة من الشعب فأنتجت تفرقة بغضيه وأوجدت هوة سحيقة بين الطبقات:
1. طائفة قليلة أتيح لها التعليم المدني .
2. أكثرية لم تستطع الدراسة.
3. طلبة العلم المدني مفتحة أمامهم أبواب العمل وتغدق عليهم الأموال.
4. طلبة العلم الديني توصد دونهم الأبواب ويحرمون المساعدات.
5. وأخطر من هذا كله تضارب بعض المواد في البلد الواحد. فبينما طالب الجامعة الأزهرية مثلا يدرس تحريم الربا يدرس زميلة في كلية التجارة جوازه ضمن أعمال البنوك. فكان لا بد من إيجاد تفكك في الأمة، وقلق وعدم استقرار في التعليم واضطراب.
وقد ظلت تلك الطريقة سارية، وهذه السياسية ماضية، وبالتالي كانت النتيجة تزداد سوءا، والهوة بين أبناء الأمة تزداد بعدا، حتى أنه لو اجتمع أخوان أحدهما متعلم تعليما مدنيا والآخر متعلم تعليما دينيا لخلته اجتماعا بين رجلين أحدهما غربي والأخر شرقي، لبعد مابين الصبغتين اللتين أصبغ بها كل منهما، وعليه فإن أحدهما سيهدم ما يبنيه الآخر وستكون الحكومة بجانب أحدهما.
ولقد تنبه لذلك كثير من رجال الفكر ومشايخ الأزهر منذ أواسط القرن الثالث عشر هجري كالشيخ(10/6)
ص -27- حسن العطار الذي شهد أواخر العهد التركي وثلاثين سنة حكم محمد على وتولي مشيخة الأزهر سنة 1246وتوفي سنة 1250. والشيخ مصطفى العروسي الذي تولى مشيخة الأزهر سنة 1281إلى 1287 وقد تقدم للخديوي إسماعيل في السادس عشر من ربيع الثاني 1282 بلائحة لتنظيم الأزهر ومما جاء فيها: البند الرابع والعشرون – ما نصه: "بما أن الجامع الأزهر من أشهر مدارس الدنيا وأجلها قدرا وارفعها في جميع الأقطار ذكرا، والمقرر في أذهان العالم أنه مشحون بالعلماء المحققين والفضلاء الراسخين مملوء بالأفاضل الحائزين من كل فن طرفا ومن كل علم من العلوم الشرعية والعقلية طرفا، والحال بخلاف ذلك.وإن كان....."الخ (عبد الواحد وافي)
ثم مضت المذكرة تعدد الفنون التي ترغب إدخالها في الدراسة ولكن كلها مساع لم يتم فيها شيء إلى أن جاء جمال الدين الأفغاني وتلميذه النبيل الشيخ محمد عبده فأنشأ في عهده مجلس إدارة الأزهر بأمر من الخديوي عباس حلمي الثاني سنة 1312 وتكون المجلس من كبار علماء الأزهر من اختصاصه الأشراف على سير الدراسة في الأزهر فادخل بعض الدروس كأدب البحث والمصطلح ومتن اللغة ورسم الحروف والعروض..الخ.
ثم قسم المنهج إلى مراحل ثلاث: مرحلة أولية ومرحلة ثانوية ومرحلة عالية بقانون واستبدل به ثلاث كليات عالية بقانون 1326 وهكذا إلى سنة 1352 في عهد الشيخ محمد الأحمدي الظواهري فألغى القسم العالي واستبدل به ثلاث كليات: أ- كلية أصول الدين. ب– كلية الشريعة. ج- كلية اللغة العربية.
وكانت نهاية هذه الإجراءات قانون 1930 ميلادية الذي حدد وظائف المتخرجين مابين أعمال كتابية وتدريس ووعظ وقضاء بالمحاكم الشرعية. ثم جاء التعديل الأخير بعد الثورة. والذي يظهر من كل هذه التعديلات أنها كانت تتجه بالأزهر نحو وجهة التعليم المدني من حيث الشكل والنتيجة وإن اختلفت من حيث الموضوع وكلها باسم الإصلاح والتقريب بين المناهج المختلفة في البلد الواحد حتى لا يبقى للفوارق بين متعلمي الأمة مكان، وتيسير سبل العمل بعد التخرج لتكسر حدة الحقد ويقصر أمد التطلع.
إذن فالتعليم الثنائي من مشاكل التعليم الجامعي حيثما كان، والقائمون على التعليم يعملون على إصلاحه منذ كان، غير أنها كلها حلول مؤقتة ومجهودات فردية لم تصل إلى الغاية المنشودة.
أما حل هذه المشكلة على ضوء الإسلام:
فإنه كما سبق يكون بالعمل على استئصال سبب الإشكال واقتلاع جذور المشكلة من أول ظهورها، والحل هنا بالذات من جهتين:
الأولى: النظر في المنهج الإسلامي للتعليم.
الثانية: تكييف مناهجنا العلمية(10/7)
ص -28- الحديثة على ضوئه.
أما منهج الإسلام في التعليم فواضح بين. ومن المعلوم أن أهم أسس المناهج الحديثة التي ينبني عليها الميراث الثقافي للأمة، وإن كان لكل أمة ميراثها الذي تعتز به وتحافظ عليه فإن من أهم عناصره الدين واللغة العربية والعادات والتاريخ وعليها يتوقف كيان الأمة، لأنه إذا ضاع دينها فقد وجودها، وإذا اندرست لغتها إنماعت في غيرها، وإذا تركت عاداتها ضاعت صبغتها، وإذا نسي تاريخها انقطعت صلتها بماضيها فتاهت في مجاهل الزمن لا تدري أين تسير ولا تعرف نقطة الانطلاق فضلا عن حرمانها نتائج التجارب والقدوة بالأبطال والتأسي بالعظماء ممن شادوا التاريخ وسجلوه.
والمنهج الإسلامي وفي طليعته كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كالشمس في رابعة النهار وكالكنز مفتح الأبواب، يبدأ مع الصبيان في الكتاب وينتهي مع الرجال في المساجد كما هو الحال في المدينة المنورة في صدر الإسلام. وتخرج على ذلك أئمة الأمة وقادتها من علماء الصحابة والتابعين كما قال مسروق: "سامعت أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم فوجدت علمهم انتهى إلى ستة:
إلى عمر وعلي وعبد الله (ابن مسعود) ومعاذ وآبي الدر داء وزيد بن ثابت".
وقد انتشروا في الأمصار ونشروا العلوم حيثما كانوا؛ أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي موسى ومعاذ إلى اليمن. وأرسل عمر ابن مسعود إلى الكوفة. الخ. وهل كان ابن عباس حبر الأمة ومجاهد وعطاء وغيرهم إلا تلاميذ المسجد؟ وقد اتسعت حلق المسجد للموالي مع الأشراف فانتشر العلم وكثر العلماء من جميع الطبقات.
وكذالك الحال في مصر بعد سقوط بغداد، يبدأ التعليم من المكتب وينتهي بالأزهر، وقد قام الأزهر وما أقيم بجوراه من مدارس إسلامية كالمدرسة الناصرية للشافعية والقمحية للمالكية والسيوفية للحنفية وكلها بالقاهرة.
والمدرسة البيهقية بنيسابور والنظامية ببغداد، وقد قام الجميع بنقل تراث الأمة والحفاظ على كيانها إلى اليوم الحاضر.
وكان لزاما على الجامعات الشرقية في البلاد الإسلامية أن تبقى على هذا الأساس للمنهج الدراسي وتضيف عليه ما شاءت من العلوم والفنون.
غير أن الجامعات الشرقية كانت في يوم ما تسير وفق خطة مرسومة خارج نطاقها ولم تكن تملك الخروج عنها، بل ربما حوربت عند قيامها كجامعة القاهرة عند إنشائها.
أما اليوم وقد أصبحت الجامعات ولله الحمد في أيدي أبنائها ولا نظارة لأجنبي عليها فقد تطلعت إلى إصلاح ذاتها وتطوير مناهجها إلى أن تحقق الغرض من إنشائها.
ومما يؤيد تطلع الجامعات إلى(10/8)
ص -29- إصلاح وتطور ما أعلن في أوائل يناير من هذه السنة 1963عن المجلس الأعلى للعلوم بالقاهرة أن دعا ستة علماء بارزين في بريطانيا وتشيكوسلوفاكيا وألمانيا الغربية للحضور إلى القاهرة للمساهمة مع العلماء العرب في تنفيذ بحوث الخطة العلمية للجمهورية العربية المتحدة (مجلة دعوة الحق العدد الرابع السنة السادسة يناير 1963) فأصبح لهذه البلاد الحق في أن ترسم لنفسها خطة دراستها والعمل على تطويرها. وألزم ما يكون إنما هو الحفاظ على تراث الأمة من دين ولغة وتاريخ.
ومن هنا يتضح الجواب على السؤال الآتي: هل الأولى في الإصلاح إدخال العلوم الدينية في مناهج الجامعات المدنية أم إدخال العلوم المدنية في مناهج الجامعات الدينية بغية التقرب بينهما؟.ومهما يكن من شيء فإن لكل جهة دعاتها وأنصارها.
غير أن الواقع العملي والشعور الديني يؤيدان الرأي الأول، حيث أن حاجة الطالب المدني إلى العلوم الدينية أشد من حاجة الطالب الديني إلى العلوم المدنية.
وما دمنا نؤمن بضرورة التخصص في العلوم فيكون الحل الوسط لهذه الحالة أن نوسع نطاق الإصلاح ونضع في عين الاعتبار المرحلتين السابقتين اللتين هما كجزء تحضيري للجامعة، فنعطي الطالب القسط الأوفى من المنهج الديني وإذا وصل إلى الجامعة جعلنا منه ما ينمي له ما تأصل عنده من قبل عملا بفحوى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.
فقد جعلت الآية الكريمة السعي إلى الصلاة عند النداء واجبا يترك من أجله البيع والشراء، وأنه خير لمن يعلم، وهذا بمثابة المرحلة الأولى وجعلت قضاء الصلاة مؤذنا بالانتشار في الأرض ابتغاء من فضل الله وهذا بمثابة المرحلة الثانية، دين ودنيا، لأن الانتشار في الأرض والابتغاء من فضل الله يشمل جميع ميادين العمل، غير أنها لم تدع هذا الشخص في انطلاقه غافلا منقطعها عن ربه بل ربطته بما لا يعوق عمله ولا يعطل إنتاجه، بل فيه عون له وفلاح {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.
ومن قوله صلى الله عليه وسلم: "مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع ". حيث جعل الفترة الأولى من سني الدراسة للدين الماثل في الصلاة التي هي عماده، وجعل الفترة الثانية للشؤون الاجتماعية الماثلة في الاستقلال الذاتي والعمل الفردي المشعر بتميز حق كل فرد فيما يأتي وما يدع، فيعرف ما له فلا يتعداه وما عليه فلا يأباه وصدق الله العظيم {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْك}(10/9)
عنوان الكتاب:
مع الأخ أحمد جمال العتاب قبل الجواب
تأليف:
عطية محمد سالم
الناشر:
الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
السنة السابعة العدد الرابع، 1395 هـ/ 1975 م(11/1)
ص -6- مع الأخ أحمد جمال العتاب قبل الجواب
بقلم: فضيلة الشيخ عطية محمد سالم القاضي بالمحكمة الكبرى بالمدينة
منذ توفي والدنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمة الله عليه وطلاب العلم يتبادلون التعازي في فقيد العلم وراحل العلماء. ولا يزالون في كل مناسبة وعند كل بحث علمي يتذكرونه ويتذاكرون حديثه ويعرضون أقواله, فهم لا يزالون يعيشون في ظل تراثه العلمي, وما خلفه من نفائس التأليف.
غير أن الأخ الأستاذ أحمد جمال توجه إلى ما كانت تنشره مجلة الجامعة الإسلامية في حياة الشيخ رحمة الله تعالى عليه من كتابه (دفع إيهام الاضطراب) وأداه توجهه إلى وجهات نظر عنده بعث بها إلى مجلة الجامعة لنشرها فأحيلت إلى المسئولين ليروا رأيهم في صلاحية نشرها. وقبل جوابهم عليها بعث بها إلى مجلة التضامن الإسلامي فنشرتها حالاً على ما هي عليه طبعاً.
وكان هذا العمل من الوجهة الصحافية قد يعتبر من حرية الصحافة وإن اتسم بالعجلة وعدم التريث.
ولكن من الناحية العلمية والموضوعية قد لفت أنظار طلاب العلم وخاصة أبناء الشيخ وتلامذته فكتب الأخ أحمد الأحمد بياناً لنواح علمية ونشر في(11/2)
ص -7- جريدة المدينة. فلم يرق للأخ أحمد جمال ما نشر فكتب في جريدة عكاظ تعقيباً على الرد وجاء بما لا ينبغي لمثله أن يأتي به.
فكتب الأخ أحمد الأحمد ليرد عن نفسه فلم تفسح له ولا جريدة مجالاً آنذاك للنشر ولغرض ما كان ذلك.
فكتبت للأخ أحمد جمال عتاباً قبل الجواب ولكنه لم ينشر ولأمرٍ ما أيضاً فتركت وشغلت ولربما كان الترك نوعاً من الرد.
غير أن الأخ أحمد جمال لم يترك, بل ولم يكتف بالصحف المحلية ولا بجرائد المملكة, فراح إلى خارجها فعبر الصحراء وقطع الربع الخالي حتى وصل إلى الشقيقة الكويت فنشر في الزميلة مجلة الوعي الإسلامي, وبنفس الموضوع حول دفع إيهام الاضطراب مع تغييره في العنوان فقط, ولست أدري ما الحامل على ذلك أهو الحرص على نشر العلم والمعرفة؟ فإن الموضوع لم يتغير والصحف والمجلات تغطي المنطقة.
أم هو تجاهل مكانة الصحافة؟ وكانت في وقت ما تسمى (صاحبة الجلالة) لحريتها واحترام كلمتها, أم هو إستجهال القراء بتغيير العنوان فقط؟ أم هي أشياء أخرى تعتمل في نفسية الكاتب ولم يستطع الإفصاح عنها ولم يستطع أيضاً الإفلات من جاذبيتها ولا الخروج عن نطاقها فراح يكتب هنا وهناك؟.
ومرة أخرى: فقد نقرأ حتى لطالب ثانوي في موضوع يناسب مرحلته الدراسية فنكبره ونقدر كتابته ونقرأ لأستاذ توجيهاً فنستمع إليه ونستفيد منه.
ولكن أن نقرأ لكاتب نقاشاً علمياً مع كبار العلماء ولم يقدم ولا دليلاً علمياً على ما يأتي به فهذا مالا يستسيغه قارئ ولا يقدم عليه كاتب مخافة من خطيئة وتجنباً لزلة.
وهذا ما كنت أظنه بالأخ أحمد جمال ولكنه سارع فماذا كانت النتيجة وماذا بعد الخطأ في العقدية إذ يقول في كلام الشيخ رحمة الله تعالى عليه عن أخذ(11/3)
ص -8- الكتب يوم القيامة باليمين وبالشمال ومن وراء الظهر, إنه لا كتب ولا يمين ولا شمال ولا وراء ظهر, إنه ضري مثال عن اليمن والتشاؤم, أبمثل هذا القول وبمثل هذه الجرأة على الله وعلى كتابه يرد ويناقش كبار العلماء.
ولو تساءلنا مع الأخ أحمد جمال بأي نوع من أنواع الدلالات أخذت هذا المعنى؟ إن القرآن ليدل في هذا المعنى بدلالة التطابق على وجود الكتب وعلى أخذ الناس كتبهم بأيديهم فالمؤمن يأخذ كتابه بيمينه والكافر يأخذه بشماله أو من وراء ظهره، والقرآن يدل بدلالة الالتزام على وجوب الإيمان بذلك بدون تأويل ولا تعطيل, ويدل بدلالة الإيماء والتنبيه أن من رد ذلك فهو من جهله وفساد عقيدته وهذا ما أربأ به عنه.
وقد يكون قد رآه في بعض كتب التفاسير مما لا يفرق بين رأي المعتزلة وغيرهم ولم يحاول الأخ أحمد جمال أن يقف عنده ويرد أو يناقشه بمدلول منطوق القرآن.
وحيث أن الأخ أحمد جمال لم يكف عن الكتابة ولا يزال يبعث بمقاله هنا وهناك على ما فيه من أخطاء علمية وتهجمات أدبية على سلطان العلماء العز بن عبد السلام ووالدنا الشيخ محمد الأمين فقد استوجب زيادة العتاب عليه ولزم الكتابة إليه فعدت إلى الموضوع وفي مجلة الجامعة.
وبعد هذا فليكتب الأستاذ ما شاء وليبعث به إلى حيث أراد فإن جاء بجديد فعسى أن يفيد وإن كان تكرارا لما قال ويقول فإن الباطل لا يروج أكثر من مرة والخطأ لا يصححه التكرار.(11/4)
ص -9- فأقول وبالله التوفيق:
بسم الله أبدأ وبه أستعين والحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على أشرف الخلق أجمعين وخاتم الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وبعد . . . فإلى الأستاذ أحمد محمد جمال حفظه الله.
سلام الله تعالى عليك ورحمته وبركاته كنت منذ عدة أشهر سمعت أنك كتبت مقالاً حول (دفع إيهام الاضطراب) لوالدنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله وقد قرأته على شكل مقالات في مجلة الجامعة الإسلامية وكان مقالك عبارة عن ملاحظات على الكتاب وبعثت به إلى سماحة رئيس الجامعة لاستطلاع رأيه ونشره في المجلة وسمعت أن سماحته أحاله على جهة مختصة فلاحظت عليه ما يمنع نشره وأعادته لسماحته مع ملاحظاتها عليه.
ثم فوجئت بنشر المقال في مجلة (التضامن) وبدون ملاحظة ولا تعليق عليه وإن كان هذا حقا من حقوق كلتا المجلتين من قبول ورفض فقد عجبت لنشره أكثر من كتابته وبما أن الحقيقة العلمية هي بغية كل محق وهدف كل باحث وغاية كل منصف تصفحت المجلة وطالعت المقال فبدت لي ملاحظات من عدة جهات حتى في العقيدة من حيث النفي والإثبات لحقائق القرآن وصريح النصوص ودلالة المطابقة في بعض ما تناوله مقالكم ورغبة في بيان الحقائق وواجب النصح أحببت إخبارك بها ولكن قبل إبدائها والتحدث فيها لي معك عتاب أخوي قبل البحث العلمي يتلخص في الآتي:
أولاً: بنيت مقالك على أن الشيخ رحمه الله توهم اضطراباً في آيات كتاب الله ثم راح يدفعه والحال في نظرك أنه لا إيهام ولا اضطراب والواقع أن هذا وهم منكم سبق إليكم في حق الشيخ وسأحاول دفعه عنكم إن شاء الله في بيان حقيقة الكتاب وسبب تأليفه وعتابي عليك هنا: أنك كتبت المقال وأبديت الملاحظات على كتاب لم تطلع على مقدمته وهذا ما ساقك إلى توهمك في الشيخ ما لم يكن فيه، وملاحظاتك على كتاب ما ليس فيه ومعلوم أن مقدمة كل كتاب هي توجيه لما فيه وهي موجز موضوعه ومرآة محتوياته.(11/5)
ص -10- فمثلك يعاتب على ملاحظاته على كتاب لم يقرأ مقدمته أو قرأها ثم أغفلها. .
ولو كنت قرأتها قبل ذلك لعرفت هدف الشيخ رحمه الله ولكانت استفادتك من الكتاب أكثر ولقدمت للشيخ وافر الشكر وسألت الله له الرحمة والرضوان ولعل مما يكشف عن حقيقة هذا الكتاب ويدفع ما توهمته في الشيخ وقوفك على سبب تأليفه كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "إن معرفة أسباب النزول تعين على فهم الآيات", فكذلك هنا معرفة سبب التأليف تعين على فهم موضوع الكتاب، والغرض من تأليفه، ومعلوم لديكم ما يقوله الأدباء والكتاب والنقاد:
إن معرفة ظروف وملابسات إنشاء القصيد وكتابة المقال تحدد نقاط النقد وتضع الميزان الصحيح للناقد الموجه بناء على أن لكل مقام مقال.
وحقيقة هذا الكتاب وسبب تأليفه يخصني في الدرجة الأولى وأستطيع أن أقول: إنما وضع بسببي إن لم يكن من أجلي وذلك حينما كنت أقرأ على الشيخ رحمه الله تفسير سورة البقرة وكان رحمه الله مخصصاً لي حصة يومياً ما بين المغرب والعشاء. . ومكثت فيها لمدة سنتين في تلك الحصة وكان رحمه الله يأتي بما فتح الله عليه من دقائق التفسير ولطائفه. . على أن تفسير هذه السورة يعتبر أساساً لتفسير القرآن كله. فكان رحمه الله يمعن في بيان شتى علوم القرآن من بلاغة ولغة وأصول وأحكام وغير ذلك وخاصة بيان أوجه الجمع بين بعض الآيات التي ظاهرها التعارض، وبيان أقوال السلف في ذلك ابتداء من قوله تعالى: {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} مع قوله تعالى:{هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى}, ومثل قوله تعالى: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ}, مع قوله تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ}, ومثل ذلك كثير مما هو مسطور في الكتاب.
فسألته: وهل يوجد تأليف يوقف طالب العلم على هذه الأوجه للجمع بين تلك الآيات؟
فأجاب : أنه لم يطلع على مثله.
ورغبته في وضع رسالة في ذلك خدمة لكتاب الله وتسهيلا لطلاب العلم، لأنها توهم كما يوجد في الأحاديث ما يوهم ويحتاج إلى بيان أوجه الجمع. فشرع(11/6)
ص -11- رحمه الله في تأليفه في أوجز وقت وذلك في عطلة المذاكرة قبل الاختبار حوالي العشرين يوماً وأعطانيه أبيضه للطبع فكانت لي دراسة خاصة لجميع نقاطه وكنت أعرف الناس بموضوعه وقد أشار رحمه الله في مقدمته بأوضح عبارة حيث قال ما نصه:
" أما بعد فإن مقيد هذه الحروف عفا الله عنه أراد أن يبين في هذه الرسالة ما تيسر من أوجه الجمع بين الآيات التي يظن بها التعارض في القرآن العظيم". فترى أنه عفا الله عنه ورحمه أراد بيان أوجه الجمع ودفع الظن عن كتاب الله. فكان رحمه الله عالماً ولم يك متوهماً وحاشاه رحمه الله من مثل ذلك مع ما أعطاه الله من فهم في كتاب الله.
ولعل بهذا الإجمال يكون قد ذهب عنك ما توهمته أنت في الشيخ رحمه الله، والتقيت مع الشيخ في موضوع الكتاب وأنه أراد تصحيح مفاهيم من يظنون توهماً في كتاب الله ومن هنا يكون منطلق عتابي معك ثم إن موضوع (إيهام الاضطراب) الذي ينفيه سيادتكم ليس جديداً ولا حادثاً. وقد سئل عثمان رضي الله عنه عن الاستمتاع بالأختين بملك اليمين فقال:" أحلتهما آية وحرمتهما آية يعني {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} مع {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} وقد ذكر البخاري رحمه الله أن رجلاً أتى ابن عباس وسأله عن آيتي البقرة والنازعات في خلق السماوات والأرض فقال له ابن عباس: أشك في كتاب الله؟ فقال لا: بل أسأل.
فبين له ابن عباس وجه الجمع بينهما. فهذا في زمن ابن عباس توهم اختلافاً واضطراباً في كتاب الله وكشف له ابن عباس عن المعنى وبيّن له وجه الجمع فلا غرابة إذاً أن يتوهم إنسان اليوم وأن يدفع أحد العلماء هذا التوهم وهكذا فعل الشيخ رحمه الله في هذا الكتاب فلم يوجد اضطراب فعلاً في كتاب الله كما قال تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} ولكن يوجد إيهام عند من ليسو بعلماء به كما قال تعالى:{كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} فخص التفصيل بقوم يعلمون ومفهومه أنه غير مفصل عند غير العالمين وليس غريبا منهم أن يتوهموا والعلماء هم الذين يبينون.(11/7)
ص -12- ثانيا_ بين الترك والاستعجال:
وهو أن الكتاب قد طبع منذ عشرين عاماً والمقالات نشرت منذ خمس سنوات ولم تظهر ملاحظاتك إلا بعد وفاة الشيخ رحمه الله وقد عاتبك الأخ أحمد الأحمد على تركك إبدائها طيلة هذه المدة فاستثارك عتابه واعتذرت بأنك لم تطلع عليه في حين طبعه وهذا يمكن قبوله منطقياً بالنسبة لطبع الكتاب ولكن لا يقبل بالنسبة لنشر المقالات في مجلة الجامعة وقراءتك له فيها وقد اعتذرت أيضاً عن اطلاعك على المقالات بأنك كتبت ملاحظاتك قبل وفاة الشيخ ولكن يا أستاذ أحمد: أعلم يقيناً أنك لم ترسلها إلى مجلة الجامعة إلا بعد وفاته بأشهر وهنا عتابي عليك كعتابي على سلف لك من قبل. لِمَ لَمْ تقدمها للشيخ شخصيا في بعض لقاءاتك إياه في الرابطة؟ أو ترسلها إليه خاصة؟ فكنت تلقيت منه الجواب وكان في ذلك فائدة عظيمة وكفيت المؤونة في ذلك كله وسلمت مما قيل عنك وقلته أنت عن غيرك وسلمت أفكار الناس من هذا الاضطراب. علماً بأنك قلت إنها كانت مكتوبة في حياة الشيخ فماذا كان المانع إذا؟ هذا من ناحية الترك والتأخير. أما من ناحية الاستعجال فما هو موجب التسرع في النشر في مجلة أخرى بعد امتناع الأولى عن النشر؟ أليس كان من الأولى التريث؟ حتى تعلم ما هو المانع من النشر وكان يجمل الاستفسار عن ذلك فلربما قدموا لك ما فيه مقنع أو على الأقل عرفت وجهة نظر غيرك قبل إبداء ما عندك ولن تعدم فائدة في ذلك.
فأين اصطبارك مدة حياة الشيخ من استعجالك إثر وفاته؟ وأرجو ألا يثيرك هذا التساؤل كما أثارك مثله من قبل.
ثالثاً: قد تقول: إن كل شيء مرهون يوقته وقد كنت مشغولاً بمهام عملك وكان مقالك يحتاج إلى تنقيح وتصفية أو تبييض وتهيئة وقد فرغت من ذلك كله وقدمته وبعد وفاة الشيخ وأنا معك على هذا كله لأنه منطق مقبول وقد تتحكم الظروف خاصة مع مثلك لكثرة أشغاله وتعدد التزاماته ولم يكن هناك توقيت لوفاة الشيخ رحمه الله وحرصاً منك على الفائدة للقراء قدمت ملاحظاتك(11/8)
ص -13- أو نشرت مقالك وذلك قطعاً بعد وفاة الشيخ وأنت قطعاً تعلم بها ويدفن في مكة وقد نشرت مجلة الجامعة محاضرة كاملة في نعيه وترجمته ونشرت قبل مقالك وهنا عتابي عليك هو أن مقالك كله وأنت الكاتب الأديب جاء خلواً نهائياً من أية عبارة تنم عن أسىً وأسف أو تعزية لموت الشيخ رحمه الله وقد أسف وتوجع من هو أقل صلة به منك علماً بأن موته لم يكن رزءاً في شخصه ولا على أبنائه فحسب بل كان على العلم والعلماء وقد علمت قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً من صدور الرجال ولكن بموت العلماء"، فكان من حقه عليك أن يتضمن مقالك ما يشعر القارئ بأحاسيسك نحوه وقد قال القاضي عياض عن بعض مشايخه: "ما لكم تأخذون العلم عنا وتذكروننا فلا تترحمون علينا", وقد نوهت في مقدمة المقال مدى استفادتك من تأليفه رحمه الله وقد يكون تداركاً منك لذلك في كلماتك التي أوردتها في ردك على الأخ أحمد الأحمد وترحمك عليه ثم أعقبتها بقولك أقول ذلك طائعاً مختاراً ولكنها جاءت بعد عتاب ولو سبقته لكانت كافية وافية وقد أذكرتني بذلك لوعة الأسى فيه وشدة الحرمان من بعده مما يدفعني نيابة عنك أن أجدد التعازي لكل طالب علم والمجلس الأغر في المسجد النبوي في الشهر المبارك (شهر رمضان) من كل عام والذي كان بحق روضة من رياض الجنة يسعد فيه الصوام بتفسير القرآن وترتع فيه ملائكة الرحمن وقد خلا فيه هذا العام فعظم علينا في المدينة فقده وحرمنا درسه فإنا لله وإنا إليه راجعون.
رابعاً _ في النقد الشخصي والنقد الموضوعي:
من المعلوم لسيادتكم ولكل كاتب وناقد أن النقد الهادف هو النقد الموضوعي وأن النقد الشخصي إنما هو من قبيل الهجاء. والعتاب هنا أنك أدخلت النقد الشخصي في النقد الموضوعي فبدأت باتهام الشيخ بأنه توهم اضطراباً في كتاب الله ثم حكمت عليه بأنه أسرف في ادعاء النسخ ثم كنت مع الأخ أحمد الأحمد في مطلع كلامك افتتحته بهراء ونداء وطعن شخصي وتعريض بإيراد آيات من كتاب الله تمتدح نفسك وتنتقص غيرك فجئت بما عبت وهذا وإن(11/9)
ص -14- كان يقع فيه الكثيرون وللأسف فإنه لا يليق بمثلك لأنك كما قلت كما قلت طالب علم متأدب بآداب القرآن ثم جئت في نهاية مقالك بالسلام على من اتبع الهدى. فلمن توجه هذه التحية وترسلها من جوار البيت الحرام وأنت تخاطب زميلاً لك مسلماً يدرس في معهد المسجد الحرام وقراء مسلمين. إن هذا كله أمر شخصي لا صلة له بالموضوع ولذا فإني لا ولن أقصد إلى أية جانب من الجوانب الشخصية وهو مبدأي دائماً لا مع سيادتك فحسب ولكن مع كل إنسان وقد أصلته أثناء تدريس الفقه المقارن بالجامعة وضمنته مقدمة رسالة (زكاة الحلي) لأن الغرض معرفة الحق من غير تعرض ولا تأثر بقائله كما قال النووي في مقدمة (المجموع) قال:"إني لأعرض المسائل الخلافية وأبيّن الحق والراجح فيها وأبين الخطأ وأبالغ في تزييفه وإن كان قائله كبيراً عندنا لئلا يغتر أحد بنسبة القول إليه مع إقامة الدليل عليه والعتاب هنا هو إدعاؤك على الشيخ الإسرف في النسخ بدون دليل عليه وأنت تعلم أن النسخ من بين علوم القرآن الذي لا يقال فيه بالرأي لأنه متوقف على معرفة التاريخ لمعرفة المتقدم من المتأخر وهذا لا يكون إلا عن طريق الرواية والإثبات بالسند. فكل من ادعى نسخاً بدون دليل فادعاؤه مردود عليه وكل من نفى نسخاً ثابتاً بالدليل فنفيه باطل ولكي تقف على حقيقة موقف الشيخ من النسخ أذكر لك ما لم تطلع عليه من رسالة في النسخ وهي مخطوطة لدي وستنشر إن شاء الله مع تتمة (أضواء البيان) وهي شرح لأبيات السيوطي رحمه الله التي ذكرها في الإتقان وقد عاب السيوطي على من يسرف في ادعاء النسخ وذكر المتفق على أنه منسوخ بصفة إجمالية وشرحها الشيخ وبيّن المراد منها وموقفه من الموضوع وأنه بعيد كل البعد عن دعوة الإسراف في النسخ ولعل بهذا تلتقي مع الشيخ في أمر النسخ إلا فيما ذكرته ولم تعقب عليه من القول بعدم النسخ نهائياً وسكوتك عنه يوهم رضاك به ومعلوم أن القول بعدم النسخ هو قول اليهود لعدم البداءة على الله وهو مذهب باطل كما لا يخفى.
خامساً: أبديت جميع ملاحظاتك وأوردت جميع تعقيباتك دونما نص يعتمد عليه وبنيتها كلها على قولك (قلت) بينما من تلاحظ عليه لم يورد مسألة إلا ومعها دليلها والنص الذي بناها عليه. والعتاب عليك أنك تفتح باباً (لقلت)(11/10)
ص -15- وهو باب (رأيت) الذي عابه سلف الأمة وسموا أصحابه بأصحاب الرأي وقال الشافعي رحمه الله في رسالة (جماع العلم) ما معناه:" ليس لنا أن نقول بشيء في هذا الدين إلا بدليل وإلا لكان كلامنا مثل كلام من نعيب عليهم وكان لكل شخص أن يقول برأيه ما شاء وليس لقولنا فضل على قوله: "إلا بما نورده من دليل" والواقع أن هذا الباب هو أخطر أبواب القول في الدين وخاصة في كتاب الله وقد أجمعوا على تحريمه نهائياً في كتاب الله تعالى ولم يدخل الشك على الشباب إلا من هذا الباب وأنت ممن يعمل على سد هذا وصيانة الفكر الإسلامي من الحيرة والشك.
سادساً: بعد إبداء ملاحظاتك وبعد الرد عليها ماذا تكون النتائج؟ وما هو موقف القراء بعد ذلك؟ أيعيدون النظر أم لا يبالون بما قلت؟ على كل فإن العالم الإسلامي لم يعد يحتمل تشكيكاً في علمائه ولا إهمالاً لكتابه وهو في أمس الحاجة لتقوية أواصر روابطه بالعلماء والأدباء في نطاق الدعوة والإرشاد والتوجيه والتضامن والترابط ليصل بهم علماؤهم إلى ما يرضي ربهم وأداء واجبهم في حياتهم ويأخذوا عن أدبائهم محاسن أخلاقهم ومن هنا لم أكُ لآخذ النقاش العلمي على صفحات الجرائد بالقيل والقال فقد يقع المقال في يد القارئ ولا يقع الجواب في يده إما لفواته عليه أو لعدم نشره إليه أو غير ذلك فيقع الشك ولا يأتي ما يزيله وقد كان الشيخ رحمه الله يأبى أشد الإباء مناقشة أي موضوع علمي على الجريدة بل يترفع بالعلم أن ينشر في الجرائد وقد امتنع فعلاً عن الرد على من تكلم عن الكتاب في حين طبعه وتولى الرد أحد طلابه هو أحمد الأحمد نفسه ولو كان رحمه الله موجوداً الآن لما سمح بالرد ولا بالمناقشة على هذا النحو ولذا فإني أقول كلمة أخيرة وهي خطوة أولى: إن كل ما قدمته هو عتاب أخوي وليس بحثاً علمياً ولا رداً ولا مناقشة إنما البحث العلمي والمناقشة تكون مني مع سيادتكم على أحد تلك الأمور:
1_ إما أن نلتقي شخصيا نتعاون معاً على طلب الحقيقة العلمية يهديها كل منا لأخيه.(11/11)
ص -16- 2_ وإما أن تختار من شئت من أصحاب الفضيلة العلماء وهم لله الحمد قريب مني ومنك يشهدون بحثنا ويعاوننا على تحقيق غايتنا والحكمة ضالة المؤمن والحق أحق أن يتبع وقد قال مالك رضي الله عنه:"كل كلام فيه مقبول ومردود إلا كلام صاحب هذا القبر صلى الله عليه وسلم" ، وليكن محضر من شئت من العلماء لبيان ما يقبل وما يرد من القول عملاً بقوله تعالى:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}, والعلماء هم ورثة الأنبياء وليس هناك تعصب ولكن إنصاف ليس هنا ادعاء ولكن مطالبة بالحق وإذا كان الرأي والقول موافقاً للصواب فهو ملزم بالقبول مهما كان قائله ومهما كانت منزلته كما قيل في ذلك:
لا تحقرن الرأي وهو موافق حكم الصواب إذا أتى من ناقص
فالدر وهو أعز شيء يقتنى ما حط قيمته هوان الغائص
وقديماً قبل أبو هريرة رضي الله عنه الحكمة من الشيطان وأقره عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وختاماً: نظراً لضيق الوقت عندي وعدم استعدادي للمقاولات والتلاقي على صفحات الجرائد فأقول:
أرجو أن تتقبل كلماتي بروح أخوية وتفسرها تفسيراً أدبياً لا يخرجها عن نطاق العتاب ولا تحملها أي معنى آخر فإنني أقرر مقدماً ونهائياً أني لم أضمن كلامي ولا أقصد به سوى ما تنطبق عليه حرفياً وإذا كان فيها مالا يرضيك فمعذرتي إليك لأني لا أرضى من نفسي ما لا أرضاه لها من غيري وتقبل فائق تحياتي وتحية الله لمؤمنين {وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}..(11/12)
عنوان الكتاب:
موجز البيان في زكاة الأطيان والبنيان
تأليف:
عطية محمد سالم
الناشر:
الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة
السنة الثانية عشرة - العدد السادس والأربعون - ربيع الآخر- جمادى الأولى - جمادى الثانية، 1400هـ/1980م(12/1)
ص -127- موجز البيان في زكاة الأطيان والبنيان
لفضيلة الشيخ عطية محمد سالم القاضي بالمحكمة الكبرى بالمدينة المنورة
هذه أسطر سطرتها إجابة على سؤال حول ما يتعلق بموضوع زكاة الأراضي الزراعية والعمارات السكنية سميتها "موجز البيان في زكاة الأطيان والبنيان" فأقول وبالله التوفيق.
الحمد لله الذي أكمل لنا الدين وأتم علينا النعمة، والشكر له على ما هدانا للإسلام وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين الهادي إلى صراط مستقيم وعلى آله وصحبه الذين حفظوا لنا الكتاب والسنة نقلوا لنا معالم الطريق القويم ورضي الله عن التابعين الذي بينوا لنا ما كان خافيا وجمعوا لنا أطراف ما كان نائيا من تقييد مطلق وتخصيص عام وقعدوا قواعد وفرعوا فروعا كانت المنهج لمن جاء بعدهم، ونهج منهجهم، فسعد بسعادتهم.
أما بعد:
لقد شاءت حكمة العليم أن تكون قسمة المال بحسب مقتضيات الحال، وتسيير نظام الكون بمقتضيات اختلاف الأحوال، قال تعالى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}.
ولكي يربطهم في المال جعل تعالى الزكاة طهرة لمال الغني، وطعمة لجوعة المسكين، فقال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا}.(12/2)
ص -128- فهذه طهرة لمال الغني مما عساه خالطه من شبه خفية ولنفسه من الشح البغيض، وطهرة أيضا لنفس الفقير من حقد على الغني لغناه.
جاء في مستهل رسالة السائل أن المال مال الله يستخلف فيه من يشاء من عباده بالقدر الذي يتناسب وقابلياتهم وما وهبهم من أهليات وكفاءات.
ولم ينس -وهو الرحيم العادل- أولئك الذين خلقهم معدومي القابليات أو ضعاف الأهلية، بل اقتضى عدله ورحمته أن يجعل لهم حصة معلومة في الأموال تغطي ضروراتهم وتسد نفقاتهم، وشرع ذلك بقوله: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} الآية.
إن هذه المقدمة وإن كانت ليست من صلب الموضوع إلا أنه يدعوني أن أبدي رأيا عارضا وهو أن الاستخلاف في المال منه سبحانه ليس على قانون الأهليات وإنما على شرعة الابتلاء، فلم يعط الأذكياء لذكائهم، ولم يترك البلهاء لبلههم وعلى صدقات غيرهم كما قال تعالى لسيد الخلق صلى الله عليه وسلم: {وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ}.
كما أنه أيضا ليس على مقياس الإيمان والكفر كما قال تعالى: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا }.
وقد قيل في المعنى الأول:
ولو كانت الأرزاق تجري على الحجا هلكن إذا من جهلهن البهائم
ولا بالقوة والضعف أيضا قال الأديب الشنقيطي:
قد تجوع الأسد في آجامها والذئاب الفبس تعتام القتب
أي بعد قوله:
لا يزهدك أخي في العلم أن غمر الجهال أرباب الأدب
إن تر العالم نضوا مرملا صفر كف لم يساعده سبب
وتر الجاهل قد حاز الغنى محرز المأمول من كل أرب
قد تجوع الأسد… … …. … … … … …. … ….(12/3)
ص -129- وقد جعل الله تعالى الغنى والفقر فتنة ليرى الغني أيشكر أم يبطر ويرى الفقير أيصبر أم يضجر.
وعلى كل فقد أنزل لعباده من الأرزاق ما يكفيهم كما قال علي رضي الله عنه :
"لقد جعل الله في مال الأغنياء ما يكفي حاجة الفقراء وما اشتكى فقير قط إلا بقدر ما أمسك غني من زكاة" وهذا كله مسلم به والحمد لله.
وقد عقب السائل بما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم شرحا وبيانا وتأكيدا للزكاة في الأموال: "أدوا زكاة أموالكم"، وذكر أن القرآن رغب وكذلك السنة في التصدق بكل ما زاد عن الحاجة الأصلية والشخصية: "من كان له فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل زاد فليعد به على من لا زاد له" وذكر من أصناف المال ما ذكر حتى إن الصحابة رأوا أن لا حق لأحدهم في فضل… وحبب إليهم الإيثار على النفس، {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ } الآية.
أما ما كان من الترغيب والحث على الإيثار ونحو ذلك فهو باب واسع لتهذيب النفوس وترابط وتعاطف الأمة وقد خرج الصديق من كل ماله، وهذا مجال المنافسة الحميدة والنفوس الكريمة.
أما العود بفضل الظهر والزاد… الخ فهذا كان في السفر وفي أمس ما يكون للمواساة… بل قد تفرض بعض الظروف عند نقص التموين وإعلان الطوارئ في المجموعات التي تتعرض لمثل ذلك كالمعسكرات والجيوش… الخ.
ولكن ما نحن بصدده وهو فرضية الزكاة فإن نصوصها قطعية الدلالة والثبوت ولكن جاءت النصوص لها بمقادير وحدود معلومة كما في قوله تعالى: {حَقٌّ مَعْلُومٌ}، والمعلوم لا يكون مجهولا ولا مبهما ولا متروكا لعواطف الأغنياء وسجاياهم.
وكل فرض في الزكاة فهو معلوم المقدار من جانب المالك ومن جانب المسكين.
وقد جاء هذا ضمن رسالة السائل بما نصه: وقد وضحت السنة النبوية الشريفة كيفية تأدية الزكاة وحددت نسبا معينة تؤخذ من الأموال المختلفة، وعلى اختلاف هذه النسب فقد فرضت جميعها على الأموال عينا أو مقومة بنقدها وهذا مبدأ قويم سديد واضح.
أما أنهم لم يستجيبوا لأبي ذر رضي الله عنه فلأنه رأي شخصي انفرد به عن جماعة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكيف بأموال عثمان التي مول منها جيشا كاملا وغيره كثيرون ويكفي أننا وقفنا على أن الزكاة حق معلوم وليس كل المال وقد نوه جميع المفسرين على ذلك عند قوله تعالى : {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} ومما وصفهم به {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} أن "من" للتبعيض أي من بعض ما رزقناهم، ولا يخفى أن البعض يتذرع بأبي ذر رضي الله عنه إلى الاشتراكية.
ثم قال السائل: فإذا كنا نفهم من لغتنا أن كلمة - أموالهم - وأموالكم - تعني جميع أموالهم وأموالكم فإننا نستطيع القول مستندين إلى الكتاب والسنة أن الإسلام لم يكتف بفرض الزكاة على جميع الأموال فحسب، بل إنه رغب المسلم في بذلها كلها في سبيل الله.
وهنا نقول كما أسلفنا إن كان المجال للترغيب فالمجال فسيح من شق التمرة إلى كل ما يملك كما قال تعالى: { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ } وكما فعل الصديق.(12/4)
ص -130- أما الفرض والإلزام فكما قدمنا أيضا لا بد فيه من معلوم، والمعلوم لا بد أن يكون مقدرا، وهو ما عرف بالنصاب وبالنسبة المعينة.
ثم قال السائل: والأموال منقولة وغير منقولة كلها أموال قابلة للنماء ويتحقق فيها الربح، سواء عن طريق مبادلة عروضها أو منافعها ويجب والحالة هذه فرض الزكاة عليها جميعا إلا ما استثني منها بنص.
أما القول بأن الأموال منقولة وغير منقولة كلها أموال قابلة للنماء … إلا ما استثني منها بنص فإنه يرد عليه بيت السكنى ودكان المبيع وعبد الخدمة وفرس الحاجة ولعله ما أراده بالاستثناء.
أما الحكم بوجوب فرض الزكاة عليها جميعها إلا ما استثني بنص فإن لقائل أن يقلب المدعى ويقول لا زكاة عليها جميعها إلا ما استثني بنص والذي جاءت فيه النصوص معلوم.
والنص جاء عاما في الكتاب، والسنة جاءت وخصصت وبينت الأموال المزكاة وكم مقدار الزكاة فلزم الالتزام بالنص، كما أنها بينت الفرض من التطوع.
وأما قول السائل: فليس من العدل - والإسلام كله عدل - أن تفرض الزكاة على مال ويعفى منها قسم آخر معرضين عن النص إلى الاجتهاد والقياس.
إذا كنا قد نفذنا نص الشريعة فيما بينت لنا في خصوص الأموال المزكاة فهذا غاية العدل ولا يصح لنا أن نتخطاها باجتهاد ولا بقياس.
والذي يريد أن يجعل نوعا من المال زكويا لم تجعله نصوص السنة التي فصلت الأموال وبينتها لم تجعلها زكوية لا يمكن أن يصل إلى ذلك إلا بالاجتهاد أو بالقياس، وهذا الذي ينهى السائل عنه علما بأن القياس نوع من الاجتهاد في تحقيق العلة كما لا يخفى وهي مجال واسع.
ولكن قسمة الأموال في مجالات متعددة لم تترك لاجتهاد يقع فيه اختلاف وجهات نظر لا لقياس تختلف فيه العلة كما قسم الزكاة نفسها {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ …} الآية، والميراث، وكذلك الأموال المزكاة لما كانت الأموال متنوعة، جاءت السنة محددة.
ومعلوم أن القاعدة العامة في الزكاة في الإرفاق فمن جهة المزكي حين يمتلك النصاب ويحول عليه الحول إلا الزرع، ومن جهة آخذها فلسد حاجته.
وقول السائل - الافتراضي - عندما نقول بفرض الزكاة على الريع أو الربح فإننا نكون قد أخرجنا أصل المال من وعائها، وفتحنا بابا للتهرب منها وألزمنا بعض أصحاب الأموال من المسلمين بدفع الزكاة عن أموالهم حتى عند تعرضهم للخسارة، وأعفينا أموال البعض الآخر لا نأخذ الزكاة إلا من أرباحها.
وهنا السؤال: هل من العلماء المعلومين من قال لا زكاة إلا على الريع أو الربح؟.
إني لا أعلم أحدا قال بذلك، وإن قاله أحد فهو محجوج بالنصوص ولا يكون قوله حجة على النصوص.(12/5)
ص -131- ومعلوم للجميع أن الأموال المزكاة عند فقهاء الأمة وفي المذاهب الأربعة هي كالآتي:
النقدان - أعمالها أو خزنها:
بهيمة الأنعام - نمت أو لم تنم ما دام النصاب موجودا.
الحبوب والثمار ـ ما دام قد حصل على نصاب.
عروض التجارة - في نهاية الحول ربحت أم لم تربح ما دام تقويمها بلغ النصاب ولو أنها ربحت فإن ربحها يضم إلى رأس المال ويعتبر الجميع مالا زكويا دون ما فرق بين أصل وربح.
حتى ذهب الفقهاء إلى أبعد من هذا وهو لو كان الربح في السلعة الواحدة بسبب غلاء السعر، وقد نص النووي في المجموع على أنه لو اشترى سلعة بمائتين للتجارة ومكثت إلى تمام الحول ولم تبع وأصبحت تساوي ثلاثمائة فإنه يزكي الثلاثمائة كاملة وهكذا في كل ربح متصل أو منفصل ناض أو غير ناض إذ العبرة على التقويم في نهاية الحول وتقوم بما هو أصلح للمساكين.
وعند الحنابلة نص في المغني على أن من اشترى أرضا للتجارة وفيها نخيل فأطلع وأبّره وبقيت الأرض حولا ولم يبعها واجتمع له من النخيل نصاب فإنه يزكي الأرض زكاة عروض ويزكي الثمار زكاة معشر كالثمار.
ورأي آخر يقول يقوم الجميع الأرض والثمار ويزكي زكاة عروض.
وبهذا يظهر أن الفقهاء لا يقصرون الزكاة على الريع أو الربح فقط إذا كان الأصل فيها التجارة.
أما إذا كان الأصل للقنية وحصل منه ريع أو ربح فهو كالآتي:
1- أرض زراعية.
2- عمارات سكنية.
3- مصانع إنتاجية.
وكلها إما لشخص وإما لشركاء كشركة مساهمة فعلا.
أما الأرض الزراعية ولشخص فإن النصوص جاءت في زكاة الزروع والثمار وفي مسميات الأجناس مخصوصة هي من الثمار التمر والزبيب والخلاف فيما عداهما من الثمار المجففة وكذلك في الزيتون أي فيما يعصر من زيته…الخ.
وفي الحبوب كالبر والشعير والخلاف فيما لا يقتات من بقية الحبوب أما ما لا يجفف من الفواكه كالتفاح والسفرجل ونحوهما كذلك من الخضروات كالخيار والقثاء والبطيخ والقضب ونحوها فلا زكاة عليها عند الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد، ولكن على أثمانها إذا حال عليها الحول وكانت نصابا كما روى مالك في الموطأ قوله:
"والسنة التي لا خلاف فيها عندنا، والتي سمعت من أهل العلم: أنه ليس في شيء من الفواكه كلها صدقة: الرمان والفرسك والتين وما أشبه ذلك وما لم يشبهه إذا كان من الفواكه"، قال: "ولا في القضب ولا في البقول كلها صدقة ولا في أثمانها إذا بيعت حتى يحول على أثمانها الحول من يوم بيعها ويقبض صاحبها ثمنها وهو نصاب".(12/6)
ص -132- ولم يقل أحد قط إن الأرض الزراعية تزكى عينها كما تزكى ثمرتها.
ومن المعلوم أن الأرض بذاتها ليست قابلة للنماء في نفسها وإنما نماؤها في ثمرتها اللهم إلا أن تكون للتجارة فإن نماءها قد يكون في ارتفاع سعرها، وهذا الارتفاع في السعر لا يعود على المقتني بشيء فسواء غلت الأرض أو رخصت فإن العائد عليه منها هو بيعها ما دام لن يبيعها، فليس من الإرفاق بالمالك أن يزكي عن الأرض بتقويمها كل سنة ويزكي غلتها من ثمار وزروع.
وقد نص أبو عبيد المتوفى سنة 224 على الإجماع على أن لا زكاة في الخضر عند علماء الحجاز والعراق والشام.
أما العمارات السكنية: فإن كانت لسكنى صاحبها فلا زكاة فيها إجماعا، ولو كانت فسيحة أو تزيد على حاجته لأن له حق التوسع والتوسعة على نفسه وعياله، وقد كان للصحابة الدور الكبار مثل قصر سعد بالعقيق وغيره ولم ينقل أنه كان يؤمر بتقويم مسكنه ويزكيه.
فإن كان للكراء: فقد نص مالك أيضا في الموطأ بقوله: "الأمر المجتمع عليه عندنا في إجارة العبيد وخراجهم وكراء المساكن وكتابة المكاتب أنه لا تجب في شيء من ذلك الزكاة قل أو كثرت حتى يحول عليه الحول من يوم قبض صاحبه".
فهو ينص على أن السكن إذا كان للكراء أي للالستغلال والنماء فإن الزكاة في كرائه فقط وحتى يحول عليه الحول.
وكذلك نص غيره قال في المغني ما نصه: "ولو أجر داره سنتين بأربعين دينارا ملك الأجرة من حين العقد وعليه زكاة جميعها إذا حال عليه الحول" إلى أن قال: "ثم إن كان قد قبض الأجرة أخرج الزكاة منها وإن كانت دينا فهي كالدين معجلا كان أو مؤجلا، وقال مالك وأبو حنيفة لا يزكيها حتى يقبضها ويحول عليها الحول بناء على أن الأجرة لا تستحق بالعقد وإنما تستحق بانقضاء مدة الإجارة".
ثم قال: "وعن أحمد رحمه الله رواية أخرى: فيمن قبض من أجر عقاره نصابا يزكيه في الحال فقد ذكرناه في غير هذا الموضع وحملناه على أنه حال الحول قبل قبضه".
فهذه نصوص الفقهاء على كراء المساكن ومعلوم أن عين المسكن صغيرا كان أو كبيرا إنما هو مال مكتسب ومختص بمالكه ولا يحل لنا أن نأخذ منه شيئا بدون وجه مشروع، فمن ادعى المشروعية فيه فليبين دليل المشروعية وإلا بقي المال معصوما كعصمة دم صاحبه، كما في الحديث.
أما المصانع: فمعلوم أن كل مصنع أيا كان نوعه أنه لم ينشأ إلا لعمل تجاري وبقصد الاستفادة من إنتاجه وعليه فهو من أول وهلة مؤسس بمال للتجارة ويلزم اعتبار كل شيء فيه من عروض التجارة، إلا أنه ومواد صناعته وإنتاجه الصناعي يقوّم جميعه وتزكى القيمة، كل هذا في العمارات السكنية وفي المصانع الإنتاجية إذا كانت لشخص.
فإن كانت لشركاء كشركة مساهمة نظرنا: إن كانت الأراضي الزراعية أو العمارات السكنية أو المصانع اشتريت أو أنشئت لتباع فهي عروض تجارة لحساب المساهمين فإما أن تتولى إدارة تلك الشركة الزكاة عن الجميع: رأس المال والربح سواء في نهاية كل حول وإما أن يتولى المساهمون بأنفسهم زكاة أجزاء مشاركتهم أي أسهم مشاركتهم لمن بلغت أسهمه نصابا على ما هو معلوم.(12/7)
ص -133- وإن كانت ابتنيت المساكن للقنية ولكل مساهم حصة مشاعة ولكن للتأجير لا للتجارة كانت أعيانها على أملاك المشتركين وكان ما حصل من أجرة يزكى إذا حال عليه الحول على الوجه المتقدم. لبقاء أعيان ذلك في ملكهم وإنما العائد عليهم منها هو الأجرة المتحصلة ومن كان عنده مال آخر يزكيه فإنه يضم حصته من الربح أو من الأجرة إلى رأس ماله الآخر ويزكيه مع سائر أمواله ولا يكون له حول مستقل.
وهذا أعتقد أنه وضح لا لبس فيه، وما كان عليه السلف فهو الذي ينبغي أن يسير عليه الخلف.
وما تجدد من شركات نقل أو أعمال سياحية فكلها على قاعدة التملك للقنية أو للتجارة فمن يوجد عنده سيارة كمن يوجد عنده بعير في السابق في أصل الاستخدام ومن عنده عشر سيارات كمن عنده عشر من الإبل.
ولم يقل أحد إن أصحاب الإبل التي كانت تنقل عروض التجارة على إبلهم في ذاتها زكاة، فكذلك اليوم وسائل النقل على اختلاف أنواعها لا زكاة في أعيانها وإنما الزكاة في أجورها.
وهذا أيضا أعتقد أنه واضح لا لبس فيه.
أما السببان اللذان ذكرهما السائل للالتباس على الرأي وهما في قوله:
أولا: أننا نواجه أموالا لم تكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كالعمارات والمصانع والشركات.
فأعتقد أن هذا لا لبس فيه لأنها وإن كانت جديدة في أشكالها وصورها فليست جديدة في حقيقتها وأصلها لأن جنسها كان موجودا فالمساكن المؤجرة كانت موجودة وتقدم قول العلماء فيها وسواء أكانت صغيرة أو كبيرة فالكلام على الكيف لا على الكم، وكذلك المصانع فإن قضية حماس مع عمر رضي الله عنه لما رآه يحمل جلودا مصنعة بالدبغ ونحوها، فقال عمر رضي الله عنه: "أدِّ زكاة مالك"، فإذا كان الأصل في جلود الحيوانات كمادة خام وهي الأهب، فإذا دبغت صارت أدما وقد قال حماس: "ما لي مال إلا أدم أبيعها" فهذا معناه تصنيع لما فيه من تطوير المادة الخام، وكذلك ما جاء في حديث سمرة في البزّ والبزّ نسيج تطورت فيه مادته من قطن أو كتان أو مخلوط الحرير مع أحدهما.
فيكون مبدأ التصنيع وزكاة إنتاج الصناعة موجودا ولو بصورة بسيطة أو مبسطة، فيلحق بها كل ما وجد من جنسها من المصانع أيا كان حجمها أو نوع إنتاجها.
وأقوى من هذا من حيث الإسناد، ما رواه الإمام أحمد وجاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم يحث عمر على الصدقة فجاء فقال منع ابن جميل وخالد بن الوليد وعباس عم النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما ينقم ابن جميل إلا إنه كان فقيرا فأغناه الله، وأما خالد فإنكم تظلمون خالدا قد احتبس أدرعه وأعتاده في سبيل الله، وأما العباس فهي عليّ ومثلها معها…الخ"، فهنا آلات الحرب مصنعة ظنوها عند خالد للتجارة فطالبوا بزكاتها.
ورد عنه النبي صلى الله عليه وسلم بأنها هي بنفسها مسبلة في سبيل الله فلا زكاة فيها أي لأنها(12/8)
ص -134- هي زكاة أي صدقة فتصدق بها، ومفهومه لولا ذلك لزكاها وهي مال مصنع وجبت فيه الزكاة لولا أنها مسبلة عند خالد.
أما السبب الثاني لوجود الالتباس على الرأي وهو قول السائل أننا نشأنا في بيئة رأسمالية أثرت في نفوسنا واستقرت في أعماقنا إلى جانب عقيدتنا الإسلامية فأصبحنا نحاول التوفيق من حيث لا نشعر بين إسلامنا وبين حرصنا على أن يبقى المال بيد مالكه لا تؤثر عليه التشريعات الإسلامية.
فهنا يقال وبكل هدوء ما المراد بالبيئة الرأسمالية أهي على المفهوم الاقتصادي التمسك برأس المال أم المفهوم السياسي ما هو مقابلة الشيوعية؟.
وعلى كل إذا كنا نتفق بأننا نشأنا في بيئة مسلمة فإن أقرب الاعتبارات لمدلول هذا القول هو المفهوم الاقتصادي فينبغي أولا وقبل كل شيء أن لا نتأثر بهذه التيارات الحديثة ولو في مسمياتها حتى أننا نسمي النظام الإسلامي باسم مستورد له مدلول خاطئ في نظر الإسلام.
لأن الإسلام ليس رأسماليا ولا حتى اشتراكيا، بل هو الإسلام بنظامه ومنهجه راعي حرمة الملكية وطالب بمساعدة من لا ملك له.
ويحث على الكسب المشروع ويحرم أي كسب غير مشروع والكسب غير المشروع هو المعروف عند الاقتصاديين ما كان في غير مقابل كالربا والميسر والاعتداءات كالسرقة والغصب والغش…الخ.
وعليه فلا يتأتى بحال من الأحوال أن يلتبس النظام المالي في الإسلام بأي نظام مالي آخر.
وبالتالي فلا نحتاج إلى التوفيق من حيث نشعر أو لا نشعر بين عقيدتنا وبين إبقاء المال بيد مالكه لا تؤثر عليه التشريعات الإسلامية.
ثم لماذا نحاول إبقاء المال بيد مالكه وهو بالفعل في يده؟ هذا هو الأصل وهذا ما يسمى في الأصول استصحاب الأصل.
ولكن القضية بالعكس نريد أن نحاول إخراجه من يده بتشريعات جديدة وإسلامية، وهذا محل البحث فهل بالبحث وجدت تشريعات إسلامية سوى ما كانت من قبل تخول إخراج المال من يد صاحبه؟.
وكلنا يعلم أن المال في يد صاحبه معصوم إلا بحقه والمسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه إلا بحقه.
ولا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس، إذًا فأين التشريعات الإسلامية التي نحاول أن نجنب مال صاحب المال عنها؟.
أما قول السائل بأنه يخشى أن يكون قاسيا إذا قال إننا عندما نصدر حكما إسلاميا نقف على أرضية رأسمالية تؤثر في أحكامنا وآرائنا فأقول بدون خشية ولا تخوف إن من يكون مثل ما وصف السائل من حيث موقفه وتأثره لا يكون في قوله عليه قسوة، ومن كان بعيدا عن ذلك فهو بعيد عن أن تناله قسوته، والحق أحق أن يتبع.(12/9)
ص -135- ولكن يبدو أن في هذا الأسلوب وفي الإحساس بتلك القسوة ما يمكن أن يكون فيه تناقض إذا قلنا أحكاما إسلامية ونحن على أرض رأسمالية أي إنها أرض متأرجحة أو زلقة لا تثبت القدم عليها أو رأسمالية تتنافى مع الإسلام، فكيف نصدر أحكاما إسلامية من قاعدة غير إسلامية.
أعتقد أن الإحساس بالقسوة هو الذي ساق هذا التعبير.
وأما قول السائل إن بعض الكتاب المسلمين عند معالجتهم لهذا الموضوع بقولهم من أين يأتي صاحب العمارة بالزكاة إذا لم تؤجر أو ماذا يفعل صاحب المصنع إذا كانت زكاة مصنعه أو عمارته مقومة أكثر من ربحه أو بدل إيجار عمارته.
فيقال أولا: وأي عمارة الآن في أي قطر معطلة عن السكن لانعدام الساكن؟ وهل بنيت إلا استجابة لحاجة المجتمع إلى سكن؟.
أما كون ربح المصنع لا يفي بزكاة ما يقوم به فهذا بعينه يرد على مال التجارة فقد يخسر ولا يكسب شيئا ومع ذلك فإنه يقوم ما يوجد عنده لأنه مال زكوي والربح والخسارة أمور عارضة كمن عنده ذهب وفضة ولم يعملها في شيء يربح منه فإنه يزكيه من عينه ولو أدى إلى نقصانه كل سنة كما قالت عائشة رضي الله عنها: "اتجروا في أموال اليتامى لا تأكلها الزكاة".
أما قول السائل مبديا رأيه بما نصه:
أما عن الأموال التي لم تكن موجودة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي اليوم معظم مجموع مال الأمة من عمارات ومصانع وشركات وغيرها فإنني أرى أن الصحيح أن نطبق عليها حكم القرآن والسنة قبل أن نلجأ إلى الاجتهاد ـ {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ } وجميعها أموال سواء أكانت منقولة أو غير منقولة وسواء أكان الاتجار بأعيانها أو منافعها، وقد جعل الله الحق العام فيها لا في أرباحها ولا في ريعها.
إن قول السائل عن الأموال التي لم تكن موجودة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد بينا أنها كانت بأجناسها فليس في الأمر جديد من حيث الأصل.
وأما رأي السائل في تطبيق القرآن والسنة، فإن للآخرين أن يقولوا بالموجب المعروف عند الأصوليين وهو القول بموجب ما يقول السائل به فعلا.
ولكن وما هو حكم القرآن والسنة، وقد قدمنا أن قوله تعالى: {حَقٌّ مَعْلُومٌ} قيد الحق المطلوب بأنه معلوم ولا معلوم في التشريع إلا من جهة المشرع والسنة فسرت وأعلمت وليس لأحد حق في تشريع جديد، فنقول نعم إن العمارة والمصنع والأرض مال، ولكن عموم المال قد جاء تخصيصه وجاء بيان المخصوص منه وبيان المزكى منه وبيان الحق المطلوب فيه.
وقد درست هذه المسألة حديثا على مستوى المؤتمرات ومجامع البحوث واتفقت الكلمة على أن لا زكاة في أعيان العقارات ولا أعيان الأراضي الزراعية كما جاء في كتاب "التطبيق المعاصر للزكاة" للدكتور شوقي إسماعيل شحاته طبع سنة 1397هـ ،1977م جاء في الباب السادس منه زكاة إيرادات الأموال العقارية.(12/10)
ص -136- جاء في الفصل الثاني منه عنوان زكاة العقارات المبنية ذات الإيراد، قال في مستهل كلامه منه ما نصه: "لا شك أن الدور والمباني إذا كانت للسكنى الخاصة فلا زكاة فيها لأنها مال يراد لحاجة أصلية".
ثم يقول: "أما الآن وقد أصبحت الدور والمباني تشيد بقصد الاستثمار طلبا للفضل والنماء" إلى أن يقول: "لذلك يتعين إخضاعها لزكاة المال".
ثم يقول: "إنها لا تخضع لزكاة التجارة وإن مكانها بين الأموال العقارية ذات الإيراد شأنها شأن الأطيان الزراعية التي تؤخذ زكاة الزروع والثمار من غلتها".
ثم نقل رأي حلقة الدراسات الاجتماعية بدمشق سنة 1372هـ - 1952م وهو قياس زكاة العقارات المبنية ذات الإيراد على زكاة الزروع والثمار حيث إن كلا منها يعتبر أصلا ثابتا يدر إيرادا.
ونقل أيضا رأي مجمع البحوث الإسلامية في مؤتمره الثاني سنة 1385هـ وهو أن المؤتمرين قرروا أن لا تجب الزكاة في أعيان العمائر الاستغلالية والمصانع والسفن والطائرات وما شابهها بل تجب الزكاة في صافي غلتها عند توافر النصاب وحولان الحول.
ثم ناقش ما يكون من زكاة أو 5\2% أو 10%، كالزرع الخ، فهم يتفقون بخصوص العقارات أن لا زكاة في أعيانها.
وهذا الذي يهمنا في قراراتهم حيث إنها الموافقة للنصوص، وإن كنا نختلف معهم في كل ما ذكر من طائرات وسفن…الخ، وفي نسبة ما يكون فيها من الزكاة.
وأعتقد أن للشيخ محمد أبي زهرة رأيا كذلك في هذا بأن الأعيان لا زكاة فيها ولا حول في زكاة أجرتها، على رأي قدمناه عند الحنابلة وإن كان مرجوحا.
أما قول السائل بأن القول بأخذ الزكاة من أرباح المصانع وإيجار العمارات قد فتح أبوابا كثيرة كلها تريد التنصل من الزكاة، فهذا يقول بلزوم نفقات الزروع أولا وذلك يقول لا زكاة في المعلوفة من الأغنام، وآخر يقول لا زكاة في عروض التجارة وهناك من يقول لا زكاة في المجوهرات التي تتعدى أقيامها مئات الآلاف والتي تزين صالات الأغنياء وقصور المترفين، ومن قائل لا زكاة إلا في الذهب والفضة والحنطة والشعير والزبيب والغنم والإبل والبقر إلا آخر ما هنالك من آراء تخرج معظم الأموال من الزكاة.
فأقول وبالله التوفيق إن من هذه الأقوال الصحيح والباطل، ومعلوم ما قاله مالك رحمه الله: "كل كلام فيه مقبول ومردود إلا كلام صاحب هذا القبر صلى الله عليه وسلم".
وإني لمورد إلمامة موجزة على هذه الأصناف بإذن الله.
1- أما المصانع والعمارات فقد قدمنا القول فيها.
2- وأما إخراج نفقات الزرع أولا فهذا تفريع لا تأصيل لأن زكاة الزروع متفق عليه وتقدير النفقات محل خلاف والرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يوصي العامل بشيء عن النفقات.
3- أما زكاة المعلوفة: فإن الأصل في ذلك الحديث وهو قوله صلى الله عليه وسلم في سائمة الغنم الزكاة، فكان مفهوم الوصف الذي هو السوم أن لا زكاة في المعلوفة لانتفاء وصف السوم المذكور، ولكنا(12/11)
ص -137- نقول إذا كانت المعلوفة معدة للتجارة ففيها زكاة التجارة وعلى نظام التجارة بالتقويم لا زكاة الغنم بالعدد.
4- أما عروض التجارة فالنصوص متضافرة في زكاتها ولم يخالف الجمهور فيها إلا داود ولم يؤثر ذلك في الوجوب ولا عبرة بمن خالف فيها..
5- أما المجوهرات: فما دمنا مقيدين بالنص كتابا وسنة، والأصل في الإسلام عصمة المال كعصمة الدم سواء بسواء لا يجوز شيء منهما إلا بحقه، وجاءت نصوص الزكاة عامة وخاصة أي عموم {وَفِي أَمْوَالِهِمْ} و{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ } واتفقنا أن هذا العموم قد خصص بأصناف معينة…وقيد بقيود مميزة، وبينتها السنة بيانا شافيا.
فهل وجدت من النصوص ما يدخل الجواهر في الزكويات ولو عن الخلفاء الراشدين وبعد الفتوحات وأخذ الغنائم من كسرى وقيصر وبعد أن فتحت مصر والشام والبلدان المعروفة وغنم المسلمون من الجواهر الشيء الكثير كما هو معلوم، وكان للخلفاء الراشدين حق وضع السنن للناس فيما استجد لهم فهل يوجد عن أحد منهم نص في ذلك، وهذا نص أبي عبيد نحو هذا يقول:
"وإنما اختلف الناس في العنبر واللؤلؤ فالأكثر من العلماء على أن لا شيء فيهما كما يروى عن ابن عباس وجابر وهو رأي سفيان ومالك جميعا.
ومع هذا إنه قد كان ما يخرج من البحر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فلم تأتنا عنه فيه سنة علمناها ولا عن أحد من الخلفاء بعده من وجه يصح فنراه مما عفا عنه كما عفا عن صدقة الخيل والرقيق".
فتراه هنا وهو إمام في هذا الباب وعاش في القرن الثاني وأدرك القرن الثالث أي أدرك القرون المشهود لها بالخير وآثار الفتوحات ينص على اللؤلؤ وهو من الجواهر الكريمة وإن كان بحريا فيكون مثله الجواهر البرية من الأحجار الكريمة.
وهذا هو عمل الأئمة رحمهم الله.
وقد يقال إن الوعيد في منع الزكاة جاء النص فيه على الذهب والفضة فقط { وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} ولم تأت في غيرهما من الحلي والجواهر، وقد يرشح لهذا قوله تعالى: {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ }، والذي هو صالح ليحمى عليه هو المعدن، وجاء في الحديث "ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي زكاتها إلا إذا كان يوم القيامة صفح له صفائح من نار فيكوى بها جبينه وجنببه…الخ"، وهو الذي يتناسب مع الذهب والفضة ولا يتأتى صفائح من الأحجار الكريمة وجاء النص على بقية الأموال الزكوية من إبل وبقر وغنم…الخ.
وجهة نظر: ولي وجهة نظر أعرضها للمناقشة وهي:
إنه من المعلوم أن الذهب والفضة هما قيم الأشياء وأثمانها ويقولون إن فرض الزكاة فيها يمنع(12/12)
ص -138- كنزها وتجميدها ويدفع بصاحبها إلى دفعها في الأسواق وتعميلها فيسهم في إنعاش اقتصاد الأمة، أقول وبالتالي فإن الجواهر عنصر جامد وظيفته النقدية أي بعبارة أخرى الذهب والفضة مال سيال والجواهر مال جامد، بل إنه لا نماء فيه فالأرض والعقار وعروض التجارة مال جامد صامت لكنها كلها مال نام متحرك، وبذلك فقد غايرت الجواهر جميع أصناف المال من هذه الناحية.
بقي ما أشار إليه السائل من أنها تساوي الملايين ويزين بها القصور ونحو ذلك، فيقال إن فُعِل ذلك للزينة فقط فلا بأس وله دليل من قوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ}.
وإن كان فُعِل ذلك تهربا من الزكاة وإذا مضى الحول حولها إلى مال نام يستغله فإنها حيلة لا تصح ولا تعفيه من المسئولية.
وأعتقد أن في هذا الكفاية من هذا الوجه والله أعلم.
ومما يستأنس به ما نص عليه ابن حزم أنه لا زكاة في المجوهرات مطلقا وقال: "لأنه مال مسلم محترم لا يؤخذ إلا بنص صحيح صريح".
أما مناقشة السائل للحاصل الزراعي وأنه ليس ربحا محضا فتقدم الكلام عليه بما لا يحتاج إلى إعادة.
ولكن في قوله: الذي أعتقده بخصوص الأرض أن المزارع كان يملك أرضه التي يزرعها بنفسه وهي في هذه الحال مال غير نام مشغول بالحاجة الأصلية كحانوت البائع أو محل التاجر، وآلة الزراعة يومها لا تعدو أن تكون محراثا…الخ وعلى هذا الأساس فإن كل ما يملك المزارع وقت الحصاد من مال هو حاصله الزراعي، وأخذ الزكاة من الحاصل يعني أخذها من المال وليس من الربح أو النماء.
أقول إن المتأمل في هذا القول يجد شبه تخالف لأن تلك الأرض التي كان يزرعها المزارع والتي هي مشغولة بالحاجة هي التي جاء فيها {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} وهي التي أخذ النبي صلى الله عليه وسلم فيها العشر أو نصفه، فهي إذا زائدة عن شغل الحاجة وليس في عينها زكاة.
أما أنها كانت لا قيمة لها فهذا باب آخر أطال الكلام فيه الأستاذ أبو الأعلى المودودي بما لم يقله إمام من الأئمة وليس عليه عمل من سلف الأمة فلا حاجة إلى نقاشه.
أما قول السائل بأن الأرض كانت تملك بطريق التصرف أي الإحياء وليست مالا، فإنكم لو أعيد النظر لوجد أن الأرض في ذلك الوقت هي عين المال، ألم يشتر النبي صلى الله عليه وسلم أرض المسجد أول قدومه المدينة.
ألم تكن الأرض موضع الغرس، وغرس النخل أطول الأشجار عمرا؟.
إن الأرض التي تملك بالتصرف هي الأرض الميتة التي لم تكن محياة لا بزرع ولا بنيان ولا غير ذلك، وقد كان الإمام يقطع ما شاء منها لمن شاء وإلا لما كان للإقطاع من الإمام محل إذا كانت الأرض ليست مالا وتملك بالتصرف، وعليه يقال: كانت الأرض موجودة والزكاة مفروضة ولم يأخذ النبي صلى الله عليه وسلم زكاتها فعدم الفعل مع وجود المقتضي وعدم المانع يدل على عدم الوجوب.(12/13)
ص -139- أما اعتقاد السائل مرة أخرى أن حولان الحول يتحقق على الحاصل الزراعي وقت الحصاد لاستغراق الموسم الزراعي حولا ابتداء بالحراثة والبذر ونحوه، فهذا يغاير طبيعة الزراعة لأن أطول الزراعة عمرا في الأرض هو القمح ومدته لا تتجاوز ستة أشهر، أما الذرة فلا يصل ثلاثة أشهر وفيه مع ذلك مغايرة لما عليه جمهور المسلمين.
أما مشروعية زكاة البقر: فجاء في رسالة السائل أن أبا بكر رضي الله عنه أخذ الزكاة عن الإبل والغنم ولم يعلم وهو صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن على البقر زكاة لأن بلاد نجد والحجاز بلاد غنم وإبل إلا أن معاذا رضي الله عنه عندما ذهب إلى اليمن وجد فيها البقر تجارة نامية فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بوجوب الزكاة فيها وروى ذلك عنه.
الواقع أن زكاة البقر مشروعة قبل أن يذهب معاذ إلى اليمن وقد جاء في خطاب عمرو بن حزم الأنصاري الذي فيه أنصباء الزكاة وفي نص حديث بعث معاذ نفسه عن ابن عباس قال: "لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذا إلى اليمن أمره أن يأخذ من كل ثلاثين من البقر تبيعا أو تبيعة جذعا أو جذعة، ومن كل أربعين بقرة بقرة مسنة، قالوا: فالأوقاص قال ما أمرني فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء، فلما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله فقال: ليس فيها شيء.
وبهذا لم يكن تشريع زكاة البقر نتيجة تجدد العلم بوجود هذا النوع من المال ولم يكن يعلم عنه من قبل حتى نجعله قاعدة لاجتهاد جديد.
بل إن النصوص تربط زكاة البقر بزكاة الإبل لمشاكلتها بها وفي الحديث الطويل: "ما من صاحب كنز…الخ، ولا صاحب بقر لا يؤدي زكاتها …الخ"، راجع نيل الأوطار.
زكاة الخيل:وقال السائل وكذلك فعل سيدنا عمر عندما أخذ الزكاة عن الخيول وقد أصبحت في عهده أموالا وتجارة رغم أن رسول الله لم يأخذ الزكاة فيها.
وأود أن أذكر أن عمر رضي الله عنه وأرضاه لم يأخذ الزكاة في الخيل ولم يأخذ ما أخذه ابتداء من نفسه.
ولم يطالب أهل الخيل بشيء فيها وإنما حقيقة الأمر كالآتي:
أولا: عدم وجوب الزكاة فيها لقوله صلى الله عليه وسلم: "ليس على المسلم صدقة في عبده ولا فرسه"، ولما ذكر صلى الله عليه وسلم الوعيد الشديد في مانع الزكاة في الذهب والفضة والإبل والغنم قالوا والخيل يا رسول الله قال: "الخيل معقود في نواصيها الخير"، وذكر أقسامها الثلاثة: أجر وستر ووزر، وبين أن الأول المحتبسة في سبيل الله والثانية المستغني بها صاحبها والثالثة التي ربطها صاحبها بطرا…الخ، وذكر ولم ينس حق الله في ظهورها وفسر بمعان عديدة، ولم يأخذ صلى الله عليه وسلم فيها زكاة قط.
هذا هو الأصل وكذلك كان الحال في خلافة الصديق رضي الله عنه أما عمر فلم يخرج عن هذا الأصل، والأصل في أخذه فيها هو ما رواه أحمد رحمه الله أن عمر رضي الله عنه جاءه ناس من أهل الشام فقالوا: "إنا قد أصبنا أموالا خيلا ورقيقا نحب أن يكون لنا فيها زكاة وطهور"، قال: "ما فعله صاحباي(12/14)
ص -140- قبلي فأفعله"، واستشار أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وفيهم علي رضي الله عنه فقال علي: "حسن إن لم تكن جزية راتبة يأخذون بها من بعدك" فتراه هنا يعرض عن أخذ الزكاة محتجا بعدم أخذ صاحبيه من قبله.
ونرى عليا رضي الله عنه يحسن أخذها ما لم تكن جزية يأخذون بها من بعد عمر رضي الله عنه.
فأين فرضية الزكاة في الخيل في فعل عمر، أم تكون جزية يأخذون بها اليوم.
ثم إن القائلين بزكاة الخيل وهم الأحناف فقط مختلفون في كيفية زكاتها.
هل على كل رأس دينار أو تقوم أم ماذا لعدم النص في ذلك؟.
هذا كله إذا كانت الخيل للنماء وأما التي كعروض تجارية فهي مزكاة زكاة التجارة بإجماع.
أما ما نواجهه اليوم من شركات الدواجن للحم والبيض ورؤوس أموالها بالملايين فهل يتركها الإسلام بلا زكاة.
ويقول السائل إنكم تعتقدون أن الكتاب والسنة من جهة والعدل في فرض التكاليف من جهة أخرى كلها تقضي بفرض الزكاة على الأموال.
أقول وبالله التوفيق إن اعتقاد السائل هذا صحيح ما دامت تلك الشركات تشغل وتستثمر الملايين وهي أعمال نامية سواء في دواجن أو أسماك ما دامت للتجارة وإن كان أصل السمك لا زكاة فيه فإذا أدخل في التجارة بالصيد والبيع أو التصنيع فإنه حينئذ يزكى كل المال الذي يعمل لذلك.
وأما قول السائل إن مجال الاجتهاد واسع في ميادين أخرى.
فهذا حق ومحل الاجتهاد في باب الزكاة اليوم هو إلحاق المسكوت عنه الذي استجد بنظيره المنصوص عليه كجميع أنواع الأعمال التجارية بل مثل شركات الإنشاء وعمل المقاولات فإن على ذلك كله زكاة فيما يعمل ويسهم في الاستثمار نزكي الآليات والمواد المستخدمة كلها مع ما تحصل عليه الشركة من أرباح تقدر الآليات وتضاف قيمتها إلى ربح العملية ويزكى الجميع، وهذا هو الاجتهاد بأوسع معانيه.
أما الضرائب التصاعدية أو غير التصاعدية: فإنها تؤخذ باسم الدولة لمصلحة خزينة الدولة وتغطية نفقات رسمية لا صلة لها بالمساكين ولا مصارف الزكاة.
فهي وإن كانت لمصالح الدولة وقد تضطر الدولة التي لا موارد لها إلى أن تفرض مثل ذلك على الأموال لسد حاجاتها بل ولتجهيز جيوشها على ما هو معلوم إلا أن فيها من الظلم ما لا يخفى في جعلها تصاعدية حتى تصل إلى 90% أحيانا.
ولهذا مضاره على الفرد وعلى الجماعة معا من تساهل في الإنتاج وتحايل على الدولة نفسها ومحاولة توسيع النفقات وقد حدثني شخص حاج عن رحلات بعض المواطنين إلى أوروبا وتبذير الأموال بأن من دوافع ذلك تصعيد حساب النفقات باسم التجارة حتى لا تذهب الأرباح في الضريبة التصاعدية.(12/15)
ص -141- وسبق أن نشرت بعض المجلات عن ذلك في السابق عن البرلمان البريطاني تكلم وزير الخزينة وقال: "رفعنا من نسبة الضريبة ولم ترتفع نسبة الدخل إلى الخزينة". فأجابه عضو البرلمان قائلا: "بقدر ما ترفعون من الضريبة بقدر ما يحتالون على مفتش الضرائب".
ولعل بهذه المناسبة يظهر لنا فضل ونبل ورفعة مكانة الزكاة في الإسلام إذ يشعر المزكي أنه يخرجها في سبيل الله وينتظر العوض من الله أضعافا مضاعفة وقد جاء في زمن النبي صلى الله عليه وسلم أن عامله أتى على صاحب إبل بضواحي المدينة (الحناكية) فوجد عليه بنت مخاض فقال صاحب الإبل: "هذه صغيرة لا ظهر لها فيركب ولا ضرع فيحلب ولكن هذه ناقة كوماء فخذها في سبيل الله" فتشاح هو والعامل، العامل لا يريد التعدي بأكثر مما يجب والمالك لا يرضى بالصغيرة في سبيل الله، صورة نزاع لم يشهد لها التاريخ مثيلا، وأخيرا قال العامل له: "إن كان ولا بد فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم منك قريب فخذها وادفعها له أنت بنفسك". فذهب بها وسأله صلى الله عليه وسلم: "طيبة بها نفسك؟" فقال: "نعم".
فقال للعامل: "خذها ودعا لصاحبها بالبركة في ماله". فكان في زمن معاوية يخرج عددا من الإبل زكاة ماله.
فأنت ترى خلفيات نظام الضرائب من نتائج عكسية في الاقتصاد والنماء وغضاضة في النفس.
بينما إيجابيات نظام الزكاة زيادة في النماء وانتعاش في الاقتصاد وطيبة في العطاء وطهرة للجانبين معا.
وبالله التوفيق وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم.(12/16)
عنوان الكتاب:
وجوب الحكم بما أنزل الله
تأليف:
عطية محمد سالم
الناشر:
الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
السنة السادسة - العدد الثاني - رجب 1393هـ - أغسطس 1973م(13/1)
ص -38- وجوب الحكم بما أنزل الله
هذا المبحث من أهم مباحث القضاء الإسلامي، وألزم ما يعنى به في قسم الدراسة الخاص به في جميع مراحل التعليم والمعاهد العالية الإسلامية وأخص ما يكون بشعبة القضاء بالجامعة الإسلامية وهو الأصل وما عداه فرع عنه.
ولذا لزم البسط فيه قدر الطاقة واحتمال الجهد. وإيراد أقوال السلف واختيارات الخلف، والنظر في حال العالم اليوم مما يسير عليه من قضاء وضعي وتحاكم لغير ما أنزل الله.
وإن العناية بمثل هذه الدراسة ليست من ضروريات هذه الشعبة فحسب بل من ألزم ما تكون للعالم الإسلامي بل وغير العالم الإسلامي ليروا حقيقة الأمر ولتمد إليهم أيدي المساعدة. وتضاء لهم الطريقة ويوضح لهم المنهج ويوجهون إلى الجهة الصحيحة بهداية كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ونور الوحي المنزل من رب العالمين على سيد المرسلين وخاتم النبييين المبعوث رحمة للعالمين صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، وهذا الموضوع وإن كان بالأهمية بمكانته فإني أورد ما بلغه الوسع ومما يقرب دراسة هذا الموضوع تقسيمه إلى ثلاث نقاط:(13/2)
ص -39- الأولى: بيان من له حق الحكم والتشريع للخلق وتلزم طاعته وامتثال أوامره والخضوع له والانقياد لما شرع ومن ثم يملك الإلزام به والعقوبة على مخالفته والثواب على طاعته.
الثانية: من الذي شرع لجميع الأمم الماضية ولمن كان تحاكمهم وبيان مصدر التشريع لها والحكم فيها.
الثالثة: ما جاء في حق هذه الأمة من النصوص وما يترتب عليه من نتاج عاجلة وآجلة.
أما من له حق الحكم والتشريع فإنه حق لله تعالى لأنه خالق الخلق وأعلم بمصالحهم مربيهم وأعلم بشؤونهم، وهو الحكيم العليم الرؤوف الرحيم سبحانه له مقاليد السموات والأرض وبيده ملكوت كل شيء وهو على كل شيء قدير، شرع لجميع الخلائق في جميع الأمم كما قال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيه}.
وجاء في النصوص متضافرة متوافرة على أن الحكم كله لله لا حكم لأحد سواه كما في قوله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلا َّلِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ}. وذكر القرطبي أنه قرئ {يقض الْحَقَّ} وكقوله: {فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} ومنها قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} قال القرطبي: "أي ليس يتعقب أحد حكمه بنقض ولا تغيير".
ومن ناحية أخرى فإن امتثال الحكم طاعة والطاعة هي عين العبادة والعبادة لا تكون إلا لله وحده وقد جمع الحكم والعبادة معاً لله وحده في قوله: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاه} فكما لا تجوز عبادة غير الله لا يجوز الحكم إلا لله.
وهذا الحق واجب لله تعالى على خلقه بموجب ولايته عليهم، وأيضاً قد جمعا معاً في قوله تعالى: {مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً}.(13/3)
ص -40- وفي هذا كله دليل على أن الحق في الحكم وفي تشريع الأحكام لله تعالى وحده وأن من عداه يكون شركاً مع الله كما في قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ}. وبالتالي يكون من أطاعهم فيما شرعوا مما لم يأذن الله به مشركاً مع الله، وهو المسمى شرك الطاعة المنوه عنه في قوله تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ}.
فجعل تعالى طاعتهم فيما يوحون به شركاً، وذلك بعد قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ}، فقالوا ما قتلتموه يكون حلالاً وما قتله الله يكون حراماً، فأنزل الله الآية {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ}.
وعن عكرمة قال: "الشياطين هنا مردة الأنس من مجوس فارس". وعن عبد الله بن الزبير أنه قيل له: "إن المختار يقول يوحى إليّ" فقال: "صدق إن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم". ويشهد لهذا قوله تعالى: {أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً}.
ومن هنا كانت طاعة غير الله فيما لم يأذن به الله ربوبية لهم. قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّه} وسئل حذيفة عن هذه الآية هل عبدوهم فقال: "لا. أحلوا لهم الحرام فاستحلوه. وحرموا عليهم الحلال فحرموه".
وعليه حديث عدي بن حاتم عند الترمذي قال: "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب فقال: ما هذا يا عدي اطرح عنك هذا الوثن وسمعته يقرأ في سورة براءة {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّه} ". ثم قال: "أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئاً استحلوه وإذا حرموا عليهم شيئاً حرموه". وفي رواية "أن عدياً قال: "يا رسول الله ما كنا نعبدهم". فقال: "ألم يكونوا يحرمون عليكم ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون لكم ما حرم الله فتحلونه"، قال: "بلى". قال: "تلك عبادتكم إياهم".(13/4)
ص -41- وبهذا يظهر أن الحكم أصالة لله وحده وتشريع الأحكام له سبحانه وحده وليس لأحد سواه في ذلك حق.
وقد ظفرت في هذا المقام بما كتبه فضيلة والدنا الشيخ محمد الأمين حفظه الله لأضواء البيان فيما يعده للجزء السابع الذي لم يقدم للطبع وهو مبحث لم يسبق إليه في بيان موجبات التشريع وصفات من له الحق في ذلك لكمال ذاته وصفاته.
ذكر ذلك عند قوله تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} نوجزه من ما يحتمله المقام إلى أن يتم الله هذا الجزء وينعم علينا بظهوره. فيرجع إليه كل طلب، ويتزود منه كل راغب وقد ذكر فضيلته عن هذا الموضوع في مواضع مختلفة من الأضواء خاصة في الجزء الثاني وفي سورة النساء، والكهف، والمائدة، وبني إسرائيل، وكلها ولله الحمد وافية، ولكن ما أعده حفظه الله في هذا المقام أتم وأوفى ما كتب.
قال حفظه الله: "( مسألة ): اعلم أن الله جل وعلا بيّن في آيات كثيرة صفات من يستحق أن يكون الحكم له. فعلى كل عاقل أن يتأمل الصفات المذكورة التي سنوضحها إن شاء الله، ثم يقابلها مع صفات البشر المشرعين للقوانين الوضعية فينظر هل تنطبق عليه صفات من له التشريع سبحان الله عن ذلك فإن كانت تنطبق عليهم ولن تنطبق، فليتبع تشريعهم، وإن ظهر يقيناً أنهم أصغر من ذلك فليقف بهم عند حدهم ولا يتجاوز بهم إلى مقام الربوبية سبحانه وتعالى أن يكون له شريك في عبادته أو حكمه أو ملكه.
الآية الأولى: قوله تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ}. ثم قال مبيناً صفات من له الحكم بقوله: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ، فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالأََرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْوَاجاً يَذْرَأُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}. فهل في الكفرة المشرعين للنظم الشيطانية من يستحق أن يوصف بأنه الرب الذي له هذه الصفات من الخلق وبسط الرزق.(13/5)
ص -42- الآية الثانية: قوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}. فقوله تعالى فيها: {فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ} كقوله في تلك {فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ}. وقد عجب نبيه عليه السلام بعد قوله {فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ} من الذين يدعون الإيمان مع أنهم يريدون المحاكمة إلى من لم يتصف بصفات من له الحكم المعبر عنه بالطاغوت، وكل تحاكم إلى غير شرع الله تحاكم إلى الطاغوت وذلك في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً}.
فالكفر بالطاغوت المصرح به هنا شرط في الإيمان كما بينه تعالى بقوله: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} ومن لم يتمسك بها فهو في مهواة مترد مع الهالكين.
الآية الثالثة: قوله تعالى: {لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً}، فهل في الكفرة من يستحق أن يوصف بشيء من هذه الصفات.
الآية الرابعة: قوله تعالى: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}. فهل في الكفرة المشركين من له هذه الصفة.
الآية الخامسة: قوله تعالى: {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ}.
الآية السادسة: قوله تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ. قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ. وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}.(13/6)
ص -43- فهل في مشرعي القانون من يستحق أن يوصف بشيء من ذلك أو يستطيع ولو ادعاء أن يأتي بشيء من ذلك.
الآية السابعة: قوله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ ألاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}.
الآية الثامنة: قوله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ}.
الآية التاسعة: قوله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} فهل لأحد ممن يضع القوانين يدعي لنفسه شيئاً من ذلك.
الآية العاشرة: قوله تعالى: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ. وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}. فهل في أولئك من له شيء من هذه الصفات.
ويمكن أن يقال أيضاً: هل منهم من تمت كلمته لا تبديل ولا تغيير أم أنهم في كل وقت يغيرون ويبدلون ويعدلون بحسب ما يطرأ عليهم مما لا يعلمون عند وضعهم للقوانين أو كلما جاءت أمة غيرت ما وضعته الأمة قبلها فلم يثبت لهم وضع ولم يسلم لهم قانون.
الحادية عشرة: قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ}. فهل من أولئك من ينزل الرزق للخلائق ويتصرف فيه فيملك التحريم والتحليل.
الثانية عشرة: قوله تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.(13/7)
ص -44- وهنا تصريح بأن ما قننوه إنما هو ما تصف ألسنتهم الكذب افتراء على الله، وأنهم بذلك لا يفلحون ثم يثبت أنهم يمتعون قليلاً ثم يعذبون العذاب الأليم. وهذا واضح في تباعد صفاتهم من صفات من له حق التحليل والتحريم وفرض الحكم والزام الطاعة.
الثالثة عشرة: قوله تعالى: {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ}. وهذا على قصد التعجيز عن بيان مستند التحريم.
فهذه الآيات كلها التي ساقها فضيلته حفظه الله في بيان من له حق الحكم والتشريع، وأن أخص ما فيها أنه تعالى له مقاليد السموات والأرض والخالق الرزاق الدائم الباقي العلي الكبير. يقلب الليل والنهار وتمت كلمته صدقاً وعدلاً، وما يكون من غيره كذب وافتراء، ولا يقيمون عليه شهادة ولا يفلحون ولهم عذاب أليم.
ومن أهم ما يلفت النظر في هذه النصوص أنه تمت كلمته تعالى صدقاً وعدلاً؛ لأنها من عالم السر وأخفى يعلم غيب السموات والأرض لا تخفى عليه خافية.. وكلمات غيره افتراء وكذب مضطربة متغيرة ومبدلة من وقت لآخر. كما أن أولئك لا يفلحون بتشريعاتهم وغايتهم يمتعون قليلاً ولهم عذاب أليم. حتى لو ادعوا استقامة أمرهم وسلامة أوضاعهم في نظرهم فإن ذلك كله مؤقت ومتاع فإذا جاؤوا إلى الله كان لهم العذاب الأليم. وأي قيمة في متاع قليل يعقبه عذاب أليم..
بينما تشريع الله تعالى فيه سعادة الدنيا وفلاح الآخرة كما في قوله تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى}.
حتى قيل: إن الله ضمن لمن اتبع هداه أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة، ونحوها قوله: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاًً لِنَفْتِنَهُمْ فِيه} أي بالعمل. {وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً}.(13/8)
ص -45- كما حكم على من أعرض عن ذكره بالعكس {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}. لأن الأول يسير على هدى من الله ونور، والثاني يتخبط في دياجير الجهل على ما سيأتي بيانه إن شاء الله عند المقارنة بين الجانبين في بيان محاسن الشريعة الآتي:
تحكيم الشريعة في الأمم الماضية:
وقد تولى سبحانه الحكم والتشريع لجميع الأمم على ألسنة الرسل بواسطة الكتب وبما يوحيه سبحانه لمن شاء من عباده..
ابتداء من آدم عليه السلام إلى مجيء نبينا محمد عليه الصلاة والسلام.. فكان حكم الله فيهم وكانوا يتحاكمون إليه بالقرابين كما تقدم1..
ثم جميع الأنبياء من بعد نوح عليه السلام في قوله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} فكان الناس أمة واحدة على التوحيد فاختلفوا فبعث الله النبيين من نوح وما بعده.
قيل كانوا على التوحيد حتى وقع الشرك في قوم نوح فبعث الله النبيين وأنزل مع كل نبي كتاباً بالحق ليحكم الله بكتابه أو يحكم النبي في قومه بكتاب الله، فيما اختلفوا فيه، فلم يترك الحكم لأحد من الخلق حتى الأنبياء، ولكن كان الحكم لله بمقتضى كتابه الذي ينزله على أنبيائه وهذا عام في الأنبياء.
ثم جاء في خصوص داود في تنصيبه خليفة للحكم بين الناس بالحق: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تقدم في مبحث ضرورة نصب القضاء.(13/9)
ص -46- فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} فجعل استخلافه في الأرض للحكم بين الناس، وجعل حكمه بالحق ونهاه عن اتباع الهوى وحذره من عقاب الذين يضلون عن سبيل الله الذي هو الحق …
وبعد داود أمة موسى. أنزل الله عليهم التوراة للحكم بما أنزل الله: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأََحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}.
فالتوراة أنزلت على نبي الله موسى يحكم بمقتضاها في قومه.. ثم يحكم بها من بعده النبيون من بني إسرائيل والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله أي التوراة، وكانوا عليه شهداء على أنها من عند الله.. ثم جاء من بعده عيسى عليه السلام، وأنزل عليه الإنجيل وأمر بالحكم بما فيه وأمر قومه أن لا يخرجوا عن حكمه..
قال تعالى: {وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ} أي من الهدى والنور..
وجعل من لم يحكم به منهم: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} ثم جاء عقب ذلك مباشرة في سلك النظم في حق الأمة قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجا}..(13/10)
ص -47- وبهذا تكتمل حلقة الحكم بما انزل الله في جمع الأمم منذ أن كانوا أمة واحدة فاختلفوا، إلى داود إلى أنبياء بني إسرائيل إلى موسى وعيسى ثم إلى هذه الأمة..
الجديد في خصوص هذه الأمة
وبتأمل النصوص المختصة بهذه الأمة خاتمة الأمم نجده يتميز عما قبله بما يتناسب ورسالتها الدائمة إلى أن يرث الله الأرض من عليها، وهذه النصوص كالآتي:
أولاً ـ قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً}..
ثم أعيد الأمر مرة أخرى في الآية التالية لها بنفس النص:
{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ}..
ففي هذا النص عدة نقاط جديدة عما تقدم من الأمم:
أ ـ أن ما أُنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم لهذه الأمة مع أنه مصدقاً لما بين يديه من الكتاب فهو مهيمن عليه.
ب ـ التحذير مرتين عن اتباع أهوائهم عما جاء من الحق.
ج ـ انفراد كل أمة بمنهاج تشريعي يخصها.
د ـ التحذير من أن يفتنوه صلى الله عليه وسلم عن بعض ما أنزل الله.(13/11)
ص -48- وفي النقطة الأولى: بيان منزلة ما أنزل الله على هذه الأمة مما أنزله تعالى على الأمم الماضية من أنه مهيمن على كل ما سبقه من الكتب لاشتماله على كل ما فيها وزيادة عليه بما يلائم هذه الأمة فهو مهيمن على غيره ولا يهيمن غيره عليه.
وهذه الهيمنة هي التي جعلت هذه الأمة خير أخرجت للناس وكانت أمة وسطاً لتكون شهداء على الناس. وهي التي من أجلها غضب الرسول صلى الله عليه وسلم لما رأى الصحيفة في يد عمر بن الخطاب رضي الله عنه يتلوه من التوراة ويستحسنها. قال له: " ألم آت بها بيضاء نقية يا ابن الخطاب، والله لو أن موسى بن عمران حياً ما وسعه إلا اتباعي.." فلم يدع هذا الكتاب مجالاً لشيء من غيره..
وفي النقطة الثانية: التحذير مرتين عن اتباع عما جاء من الحق، وأن أعداء الإسلام سيحاولون استمالة المسلمين والحكام خاصة عما جاءهم من الحق وأن ما يحاولون إليه هو الباطل والضلال لأنه ليس بعد الحق إلا الضلال ولا واسطة بينهما، ويشهد لهذا قوله تعالى:
{وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَق}..
والنقطة الثالثة: تدل على أن مناهج تلك الأمم في التشريعات الفعلية والفرعية لا تتلاءم مع هذه الأمة، ويشهد لهذا أيضاً أن جميع العبادات مشروعة لمن قبلنا ولكنها ليست مثل ما هي مشروعة لنا كالصلوات والزكاة والصيام والحج وهذا معروف ومفصل في محلاته، فكذلك تشرع الأحكام في العقود والعقوبات والمعاملات … الخ. فلا يصلح أخذ شيء مما كان مشروعاً لهم ولو أنه منزل من عند الله إليهم إلا يجيء لنا كما هو معروف في قاعد شرع ما قبلنا شرع لنا ما لم يأت في شرعنا ما يدل على أنه ليس بشرع لنا، ومعلوم أنه ما كان شرعاً لهم وجاء في شرعنا أنه ليس شرعاً لنا لا يحق لنا أن نأخذ به فكيف بتشريعات البشر ووضع القوانين الوضعية.(13/12)
ص -49- والنقطة الرابعة: تدل على أنهم سيحاولون بكل وسع أن يفتنوا المسلمين ولو عن بعض ما أنزل الله، والتحذير من هذا البعض لأنهم إن تمكنوا من هذا البعض سيحاولون إلى بعض آخر وهكذا، ولا يكتمل التشريع إلا بتمامه ومن ناحية أخرى فلسنا بحاجة إلى أخذ بعض منهم لأن فيما أنزل إلينا تبياناً لكل شيء. ولا يحق للأمة أن تترك مما أنزل الله إليها ولا البعض منه وإن كان هذا مما اختص به مما أنزل الله على هذه الأمة فإن الله تعالى قد اختص رسوله صلى الله عليه وسلم عمن قبله من الرسل في مجال الحكم في قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ}. فقد أعطى حق الحكم وأن حكمه بما أراه الله ولذا ألزموا لحكمه والتسليم لأمره في قوله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً}.
إرساء قواعد الحكم السليم: وفي جملة ما تقدم إرساء لقواعد الحكم السليم الذي يقوم على أساس العلم والمعرفة لأنه بما أنزل الله وبما أراه الله وجاء في الحديث أن من ولي القضاء بدون طلب له وكل به ملك يسدده.
ومحاطاً بالنزاهة التامة لأنه مجانب لاتباع الهوى، وجاء في حديث القضاء ثلاثة: وقاض عرف الحق ولم يحكم به أي حكم بهواه فهو في النار. مستقلاً عن أي مؤثر، واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك.
وفي نهاية السياق بيان عاقبة من تولى عنه وأعرض في قوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} ..
فقد اكتملت في هذا العرض أسمى عناصر القضاء والحكم المثالي مما ينادي به العالم اليوم لإصلاح القضاء من وحدة، واستقلال، وحرية، كما اكتمل للحاكم في منهج الإسلام عوامل الحكم السليم من العلم المعرفة والنزاهة.
وعلى هذا الاكتمال عقدت مقارنة بين منهجين في الحكم مختلفين:(13/13)
ص -50- أ ـ حكم الجاهلية.
ب ـ وحكم الله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}.
أما المنهج الأول: فيكفي لبطلانه ورده إسناده للجاهلية، وهو وصف يتنافى مع أبسط قواعد العدالة وزاده نكارة أنه عرض في صورة إنكاره أفحكم الجاهلية يبغون.
وأما المنهج الثاني: فيكفي للحرص على قبوله ووجوب العمل به أنه من عند الله ومن أحسن من الله حكماً لقوم يؤمنون والتذييل بقوم يؤمنون هنا تتبين للأذهان وإيقاظاً للضمائر واليقين في النفس لعظمة هذا الأمر، تحذير الأمة مما حذر منه الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقد حذر المؤمنين من أعدائهم كما حذر الرسول صلى الله عليه وسلم من قبل فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}.
فهذا نداء تحذير لجميع المؤمنين أن يتخذوا اليهود والنصارى أولياء، وهذه الولاية المنهي عنها وإن كانت عامة فهي تتناول الولاية في الحكم الذي هو موضع السياق وهو عين التحذير الوارد في أول السياق الموجه للرسول صلى الله عليه وسلم. وأحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك.
وما استقر القانون الوضعي في البلاد الإسلامية بهذه المولاة المنهي عنها لأنه إن كان إيجاده ابتداء فرضاً من المستعمر بالقوة فقد ذهب المستعمر وبقي من يواليه وقد أخذت البلاد استقلالها سياسياً، ولم تستطع تحقيق استقلالها قضائياً، لا لشيء إلا للموالاة، وكأنها لا تريد أن تقطع صلتها بمن كان مستعمرها.(13/14)
ص -51- النص الثاني: والنص الثاني الخاص بهذه الأمة في وجوب الحكم بما أنزل الله أعم من الأول لاشتماله جميع الأمة بتكليفها بأداء الأمانة ونصب الحكام والحكم بين الناس والطاعة لأولي الأمر منهم.
في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأََمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأََمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً. فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً. أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً. وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماًً. فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً. وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً. وَإِذاً لآَتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً. وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً. وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً. ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ}.
وهذا السياق كله في قضية الحكم وبيان موقف المنافقين من التحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله. وبجانب ذلك منهج مزدوج يبين موقف الحكام من المحكومين وموقف المحكومين من الحكام. فأمر الجميع أولاً بأمر عام وهو(13/15)
ص -52- أداء الأمانة إلى أهلها وأخصها أمانة الحكم عند الحكام وأمانة الحقوق عند المحكومين ثم خص كل منهما بما يلزمه وكلف به فخص الحكام بقوله: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ}. وليس هذا قاصراً على الحكام في مجلس القضاء بل هو عام في كل حكم بين اثنين من شؤون المسلمين كما يشمل حكمي الزوجية وغيرهما.
ثم خص المحكومين بالأمر: بالسمع والطاعة لأولي الأمر وهم العلماء والأمراء وبالتالي الحكام.
وبالنظر في تكليف الأمة بالسمع والطاعة نجد أصلاً أصيلاً في حدود تلك الطاعة المأمور بها فيقول تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُول} بتكرار لفظ الطاعة. أما أولوا الأمر فتأتي طاعتهم معطوفة على طاعة من قبلهم.
وبحكم تبعية المعطوف للمعطوف عليه تكون طاعة أولي الأمر تابعة لطاعة الله ورسوله. أي أنه لأولي الأمر حق الطاعة ما داموا طائعين لله ورسوله أو ما دامت طاعتهم موافقة لطاعة الله ورسوله. فإذا كانت مخالفة لطاعة الله ورسوله فلا طاعة لهم فيما يأمرون به لمخالفته لأوامر الله ورسوله.
وعليه الحديث " لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق " . وهذا خاص فيما يأمر به وينهى عنه لا فيما يأتي هو ويذر. وعليه الحديث "عليكم بالسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد حبشي " . "والسمع والطاعة ما لم تروا كفراً بواحاً ". إلى غير ذلك من النصوص التي تضع حداً للسمع والطاعة وتفرق بين الحكم والحاكم.
وفي هذا المقام يقيم المرجع بين الأمة فيما بينه وبينها وبين حكامها فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول أي لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ثم ربط هذا بالإيمان بالله واليوم الآخر وبيان النتيجة خير وأحسن تأويلا. مآلا في العاقبة عاجلاً وآجلاً.
وأيضاً مقارنته بين متحاكمين إلى منهجين مختلفين متحاكمين إلى الطاغوت وقد أمروا انظر: يكفروا به ومتحاكمين إلى كتاب اله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.(13/16)
ص -53- أ ـ فالمتحاكمون إلى الطاغوت بدعوة من الشيطان ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً.
ب ـ والتحاكمون إلى ما أنزل الله. بدعوة من الله. ولكن المنافقون يصدون عنه صدوداً.
وبمفهوم هذا فإن المؤمنين على خلاف ذلك، وقد بينه تعالى في قوله: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.
بيان الدوافع التي سببت الإعراض ونتيجته
ومع هذه المقارنة الكاشفة بين الله تعالى نتيجة هذا الإعراض وأسبابه.
أما النتيجة ففي قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} أي الإعراض والصدود والتحاكم إلى غير ما أنزل الله فيجر عليهم كل المصائب بعدم الردع أو الزجر أي بضياع الأموال وانتهاك الأعراض وغير ذلك.
التمويه والتضليل: ثم يبين تعالى ما يتلبسون من مظاهر التمويه والتضليل بقوله تعالى: {ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً}.
وفي هذا المقام بيان لعين الدعوة القديمة المتجددة وهي عين الإحسان والإصلاح وهي عين ما يدعيه أولئك دعاة التغيير من قولهم نريد ما فيه المصلحة وما يتناسب والوضع الحاضر وما يساير التطور إلى غير ذلك مما لا يخرج من ادعاء السابقين من سلفهم حتى أدى ببعضهم أن تجرأ وقال حيثما وجدت المصلحة فثم شرع الله ز وهذا القول زاد في ضلاله عن قول المتقدمين لأنه ينزل بمستوى الشرع إلى هؤلاء الناس ويجعل الشرع تابعاً لما يسمونه مصلحة. إنا لنتساءل ما حدود هذه المصلحة المزعومة أهي في ربويات البنوك أم عقود الغرر(13/17)
ص -54- أم في حرية الأفراد ومساواة المرأة وإشباع الرغبات. أم في أي مجال يريدون. وهل المصلحة هي ضابط التشريع أم العكس. وهل المصلحة إلا أمور نسبية فما يكون مصلحة لهذا يكون مضرة لذاك. ولو كانت المصلحة هي المتحكمة لما كانت للشرائع حاجة. ولكن الشرائع هي التي تحدد المصالح المعتبرة. وتحد من أنانيات البشر وطغيان المادة وشره النفوس ولذا يقول تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}. ولم يقل تتحقق مصلحة.
ولعل من قائل أن المصالح المرسلة أصل من أصول التشريع فيقال له: لا تنسى ما قيدت به من كونها مرسلة ولم تتعارض مع نص ينهى عنها ولها باب واسع.
ولبيان كون تلك دعاوى كاذبة ونابعة عن هوى ومرض في قلوبهم جاء قوله تعالى: جواباً على ادعائهم {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} من واقع التولي والإعراض. ولكأن هذا الجواب الموجه إلى ما في قلوبهم ونفوسهم إغفال واطراح وإلغاء لدعواهم إرادة الإحسان والتوفيق. فكان يقول لهم ليس لهذا الادعاء وجود فيما تدعونه وليس لدعواكم قيمة ولا اعتبار أو حقيقة.
وإنما الحقيقة هي ما وقر في قلوبكم وصدقه العمل. ومع هذا كله فقد اتجه القرآن الكريم إلى تلك النفوس الضعيفة والقلوب المريضة بالموعظة {وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً}. لعل الله ينفعهم بذلك.
ثم قضية عامة في حق عموم الرسل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ}. أي فما كان من حقهم أن يخالفوه أو يعرضوا أو يتولوا عنه.
ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم بهذا الإعراض وبهذا التولي وسمعوا الموعظة وأثر فيهم القول البليغ جاؤوك فاستغفروا الله جاءوا تائبين مقلعين عما كانوا عليه راجعين إلى الله وإلى ما أنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم واستغفر لهم الرسول. ولعل في استغفار الرسول لهم إشعار بصدق توبتهم وقوة عزيمتهم وإخلاصهم في رجوعهم إلى الله. لوجدوا الله تواباً رحيماً.(13/18)
ص -55- وفي نهاية المطاف معهم يأتي الجواب والحكم بفصل الخطاب:
مؤكداً بالإقسام بالله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ} ولا يثبت لهم إيمان ولا يكونون ضمن عداد المؤمنين حتى يأتوك مذعنين و{يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً} ولا ضيقاً ولا تأففاً ولا غضاضة مما قضيت. ويروا فيه الإحسان المطلوب والتوفيق المنشود ويسلموا تسليماً. بدون تردد ولا ارتياب. وقد بيّن تعالى موجبات هذا التسليم والرضا بحكم الله وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم أولاً: في واقع الحال لأن حكم الله يحكم ما يشاء ويختار. وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم حكم بما أراه الله.
ثانياً: في النص قوله تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} ما كان لهم الخيرة سبحانه وتعالى عما يشركون. {وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} أي ما تكن من دوافع يخفونها وما يعلنون من ادعاءات يلفقونها. وهو الله لا إله إلا هو له صفات الحمد والكمال في الآخرة والأولى وله الحكم وإليه ترجعون.
وكذلك الحال في قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس لأحد فيها اختيار أو بالأصح ليس لمؤمن فيها اختيار كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}. ومن يعص الله ورسوله: أي بمخالفة قضائه وأوامره: فقد ضل ضلالاً مبيناً، ثم تأتي قضية افتراضية تبيّن رحمة الله ولطفه بجانب حقه وقدرته: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً}.
فلو حكم الله عليهم أن يقتلوا أنفسهم أو يخرجوا من ديارهم وهذا من أشق التكاليف وله الحق في إلزامهم به. ما فعلوه إلا قليل منهم..
مع أنه سبحانه قد فرض على من قبلهم لذنب ارتكبوه. في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى(13/19)
ص -56- بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ} أي ففعلوا وقتلوا أنفسهم طاعة لله.. وأمر إبراهيم عليه السلام بذبح ولده إسماعيل عليه السلام: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ}..
فلو كان عندهم استعداد لتنفيذ هذا الحكم لو صدر عليهم لكان خيراً لهم وأشد تثبيتاً في إيمانهم كما قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً}. {وَإِذاً لآَتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً}.
ثم تأتي الخاتمة بمثابة مقارنة بين من يطيع الرسول ومن تولى عنه فبعد أن عالج موقف المعرضين عن كتاب الله وعن طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: مبيناً من يطيع بقوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيماً} أي بحقائق النفوس وخفايا الصدور ودوافع الإعراض ودعاوي الإحسان، وهو يعلم المفسد من المصلح.
وقد كشف القرآن في موقف آخر نفسياتهم على حقيقتها بأن دوافع الإعراض هي الأنانية والمادية القاتلة لا دعوى الإحسان والتوفيق كما زعموا..
وذلك في مقارنة بين المؤمنين والمنافقين، بين المعرض عن التحاكم إلى كتاب الله وبين المطيعين لأوامر اله في قوله تعالى: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَات} وهي آيات الكتاب ليحكم بينهم بما أنزل الله {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}.
ثم يعرض الفريقين ومواقفهم إزاء هذه الآيات المبينات:
أ ـ فالفريق الأول: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ(13/20)
ص -57- مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ}. نفى عنهم الإيمان لتوليهم عما أنزل الله.
ثم بين واقعهم العملي: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ. وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} موقف غير ثابت وعمل ليس مطرداً..
فهل هي أنانية منهم أو مادية فيهم أو كما قال تعالى: {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} : إنه عين الظلم أن يأتوا لحكم الله مذعنين إذا كان الحق لهم ويتولوا عنه معرضين إذا كان الحق عليهم..
ب ـ أما الفريق الثاني: وهم المؤمنون فبينه تعالى بقوله: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}، فالسمع والطاعة في كلتا الحالتين فيما لهم وما عليهم فكانوا مفلحين..
وفي هذه المقارنة بيان للمبررات المتوارثة في كل جيل وفي كل أمة لأنها عين المبررات التي تذرع بها المعرضون من الأمم السابقة. وإن اختلف شكلها: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ ذلك أنهم قالوا لن تمسنا لنار إلا أياماً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}.
فكلا التعليلين افتراء لا حقيقة له. ولكن الله تعالى كشفها وبيّن حقيقة حالهم..
فهل يحق بعد ذلك الإعراض عما أنزل الله والتحاكم لغير كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم اللهم لا.
أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يؤمنون.(13/21)