بسم الله الرحمن الرحيم
( كيف تبني ثقافتك الإسلامية ).
هذا الموضوع من المواضيع الحيوية لأن مادة الدعوة وعنصر نجاحها هو الداعية فإذا كان الداعية مثقف بثقافة صحيحة وسليمة ، ثقافة واسعة ، كانت مظنة النجاح لهذه الدعوة كبيرة .
وهذه بعض القواعد التي يتبعها الداعية المسلم لبناء ثقافته .
وهذه القواعد إنما هي بناء على تجريب ، فالمسألة تجريبية وليست مأخوذة من كتب وليست تخمينية مجردة .
قواعد بناء الثقافة :
1- وجوب التكامل وعدم الانصباغ بصبغة جزئية ، فكل أبواب العلم واجبة والتراث القديم جزء من ثقافة الداعية ، كما هو الفكر الحديث ... ولاشك أن هذه القضية صعبة وليست سهلة ، وعليك أن تغالب نفسك وتصبر على صعوبة قراءة الأسلوب القديم ولكن مع ذلك هو ضروري ، وتجعل هذا الأمر من الواجبات والتكاليف وليس من المتعة ، كأن تقرأ فما وجدت من لذة تستمر وإن لم تجد لذة أعرضت ، فهذا ليس بصحيح فأنت أمام بناء نفسك ولابد من أن تطيل الصبر على صعوبة الأسلوب القديم التراثي . وهناك بعض الأخوة يُعرض عن كتب الحديث ، ويكتفي بما يتداول المؤلفون اليوم ، وهذا لو لم يكن فيه إلا ذهاب بركة مطالعة الحديث المحض ، لكان سبباً من أسباب العودة إلى الحديث . فالحديث خير كله - أيها الأخوة - والحديث فيه من معاني الحلال والحرام ، وفيه من معاني الوعظ ، وفيه مما يمد الداعية المسلم بكل أنواع المقدرة على التكلم وعلى بناء نفسه ، فيجب أن تكون مطالعة كتب الحديث هي ديدن المسلم .(1/1)
وهناك صنف آخر يقرأ كتب الفقه والحديث وبقرأون الإنتاج الحديث ، ولكن بينه وبين كتب الأدب والبلاغة والسياسة وما قاربها بعد لايقربونها وهذا خطأ ، فنحن نعمل اليوم في مجتمع معقد ، مجتمع فيه ثقافة متنوعة ونريد أن نبلغ باللسان الطلق الذي يأسر المقابل ، فإذاً لابد أن نراعي هاتين الناحيتين :
أولاً : أن المجتمع اليوم ثقافة أهله متنوعة معقدة ويريدون الكلام السياسي والإطلاع على الأحداث وتأصيل المسائل ، فيجب أن نطالع بعض أبواب السياسة لكن لانطالعها بأقلام اليساريين بل نطالعها من خلال كتابت أناس ثقات .
ثانياً : يجب أن نتكلم بالأسلوب الرفيع وأن نختار من اللغة أجملها ومن هنا وجب علينا أن نقرأ كتباً أدبية تصنع فينا هذه الحاسة ، وكذلك الإستشهاد أثناء الكلام والخطب والمقالات لايكون إلا ببيت من الشعر فتأسر به المقابل ، وعلى هذا فنطالع دواوين شعراء الإسلام في العصر الحديث وتجعلها من جملة ثقافتك .
وكثيراً من جوانب التاريخ تفيد في إلقاء الضوء على الحاضر والجذور التي كونت هذا الحاضر ، يقرأها الأخ في التاريخ فيعلم شيئاً كان يجهله ، ومن هنا تجب القراءة التاريخية للتاريخ القديم والحديث بأجمعه ...
2 - وجوب المطالعة المستوعبة المنهجية وعدم الاكتفاء بالأشرطة والسماع ، فمن سيئات ذلك التخلخل في المعلومات ، وتعود الترف في المعاني والأسلوب ، فهذه المسألة من الأمراض المشاهدة في مجتمع الدعاة ، فشريط الكاسيت هذا نعمة من الله جل وعلا ، فكما استعمله الكفار في فسوقهم وفجورهم استعمله المؤمنون أكثر في ترويج معاني الإسلام وإبلاغها إلى أبعد مطلب ، ومن محاسنه أنه يفهمه الأمي الذي لايعرف القراءة والشيخ الكبير والعجوز في البيت والفلاح الذي في قرية بعيدة والمنشغل بعمل آخر كالحداد أو النجار يسمع وهو يعمل ففيه بركة مضاعفة كبيرة .(1/2)
لكن بعض الدعاة في غفلة من أنفسهم ظنوا أن هذا الشريط هو وسيلة ثقافية وليس وسيلة إعلامية ولا وسيلة لإعانة من لايستطيع من هؤلاء الشيوخ الكبار والنساء والأعراب وأمثالهم .
فجاء جيل من الشباب اليوم - ليس كجيلنا الذي نشأنا فيه يوم لم يكن الكاسيت - يكتفي بما في هذه الأشرطة من معلومات ويعرض عما في الكتب من خير وفير كامل . ونشأت قناعة عند شباب اليوم أن يكتفوا بسماع الأشرطة المنوعة .
فهذه الأشرطة : هي وسيلة دعائية فهي تبلغ العامي الذي لايستطيع الصبر على القراءة ، أما لك أيها الداعية فهي وسيلة حماس وعاطفة تحدوك إلى القراءة ولا تحدوك إلى الإكتفاء والقناعة بما فيها ، لأن فيها سيئتين تقلل من كفائتك العلمية :
أ - التخلخل العلمي فهي لا تعطيك العلم من أوله إلى آخره ، وإنما هي تعطيك بعض المواضيع المهمة.
ب - أنها تعودك على الترف في الأسلوب فإذا جاءك أحدٌ أكثر ممن تسمع له علماً وأقل منه أسلوباً فستستحقره وتترك علمه.
فلا يليق لأيها الأخ أن تجعل منهجك الثقافي مبنياً على سماع الأشرطة ، بل اجعلها وسيلة تربوية لغيرك ووسيلة اعلامية ، وانتفع منها ماشاء الله أن تنتفع فلا بأس عليك ، ولكن تكمّل علمك بقراءة متوالية وعميقة لكتب التراث من فقه وتفسير وحديث وغيرها ، ولكتب الفكر الحديثة الإسلامية ولكتابها ، ولكتب التاريخ والأدب وغيرها ، وإن لم تفعل ذلك فستكون هناك ثغرات وستتعود الترف .(1/3)
3 - وجوب المنهجية في القراءة وعدم الاعتماد على ماهو معروض للبيع فقط فرب كتاب نادر ضرورته قصوى للداعية ، فمن الدعاة من يكتفي من الكتب بما يقع في يده ، فيجعل ثقافته هذه الكتب لا غير ، بينما توجد كتب هي أهم في صياغته . فيجب وضع منهج لحيازة جميع ماطبع من الكتب الحديثة والقديمة ، وتُذلل العقبات لحيازة مالم يعرض في السوق ، وأما الإكتفاء بما هو معروض في السوق فهذا نقص وتخلل ، كالتخلل الذي يولده الشريط ، فهذا تخلل آخر ..
وإن من مكملات هذه الطريقة التربوية في المطالعة المنهجية أن تسعى كل مجموعة من الدعاة في تكوين مكتبة عامة بينهم متكاملة بحيث أن الجميع يستعيرون منها ، ولا أعني مكتبة عامة للجمهور ، فمجموعة من الدعاة يعرفون أن أخاهم فلان عنده هذه المكتبة ، كأن يتبرع أحدهم إذا كام ميسور الحال ليشتري لهم الكتب أو يتعاونون فيما بينهم لشراءها ووضعها عند أحدهم . وكم من كتاب هو أنفع من الكتب المعروضة ي السوق .
4- لا بأس من تبعيض الكتاب الواحد ( أي الاكتفاء ببعضه ) أو دمجاً بقراءة بعض فصوله مع فصولٍ من كتب أخرى ، فكثيراً من الكتب تحوي أكثر من موضوع ، خاصة كتب الفقه والحديث وحتى الكتب الحديثة .
5- أفضلية القراءة على الشيوخ والأساتذة ولسنا نعني بذلك أصحاب العمائم فقط ، وأفضلية القراءة على الشيوخ واضحة لأن هذا الشيخ يمثل موسوعة علمية قد سبقك إلى الإطلاع من خلال مطالعاته الكثيرة في حياته ، فهو قد قرأ
أكثر منك وربما أخذ عن شيوخ آخرين ، وعمره أكبر منك فربما ساح في البلاد والتقى بعلماء وشافههم وأخذ عنهم مالم تأخذ ، ففائدته : أنه يختصر لك الطريق ، يعلمك أشياء لاتعلمها إلا من مطالعات كثيرة وقراءة من كتب كثيرة .(1/4)
ومن باب آخر فأنت عندما تقرأ تحتاج إلى شرح مسألة فهو يشرحها بما عنده من العلم ، بينما أنت إن أردت العثور على شرح هذه المسألة – حتى لو افترضنا فيك المقدرة على فهم ماهو مدون – فإنك لاتدري أين هذا الشرح .
وهذه ناحية مشاهدة أشهر وأوضح من أن يدلل عليها .
وكما قلت لانعني بالشيوخ المعممين فقط ، بل ربما يكون استاذ جامعي أخذ من خلال مطالعته الشخصية علماً كثيراً ، وربما يكون عالم يجمع بين أن يكون صاحب صنعة وملازم لبعض العلماء وقرأ كثيراً من الكتب فيستطيع أن يعينك خاصة في المراحل الأولية .
والذي يقلل هذا الفن من القراءة على الشيوخ في مجتمع الدعاة أمرين من خلال تجربتي رأيتهما ، إذا ذللا فستكون هذه الطريقة بمشيئة الله ناجحة :
السلبية الأولى : أن بعض الشيوخ من أهل العلم لايفقهون الدعوة وتضيق صدورهم بالدعاة ،
فتنشأ نفسية عند الداعية الشاب صادة عن علم هذا الرجل .
والحقيقة أن هذا الصدود غير صحيح ، وأن هؤلاء يجب أن نعاملهم على قدر عقولهم ، وأن نعذرهم فيما أخطأو فيه من الظن الخطأ في الدعوة ، وأن نأخذ علمهم النافع وندع خطأهم الذي أخطأوه في معاداة الدعوة .
هذا هو الأسلوب الصحيح ، فهؤلاء أناس مباركون لكنهم أهل غفلة فقط ، حازوا علماً ألمجرد أنهم سمعوا دعايات ووشايات فكرهوك تأتي أنت فتقاطعهم ولا تأخذ علمهم فتكون أنت قد جنيت على نفسك ليس إلا .
فيراد للداعية القلب الواسع جداً الذي يستطيع أن يتلطف مع هؤلاء ويأخذ منهم العلم .
السلبية الثانية : عدم التخطيط القيادي لإجراء هذه المسألة ، فلو أن كل قائد أو مسؤول منطقة يختار شيخين أو ثلاثة ، ويختار من عشرة إلى عشرين من الشباب يوزعهم على هؤلاء الشيوخ ، ويقرأون عليهم بتنسيق وتنظيم مع الشباب من جهة ومع الشيوخ من جهة أخرى . وبدون هذه الطريقة في القراءة على الشيوخ فستجدون فلتات وأوهام كثيرة تعلق في قلب الواحد .(1/5)
6 - ضرورة استلال شيء من التعابير والتقسيم الموضوعي لكل كتاب وجمع ذلك في مدة سنين طويلة ليكون المجموع خلاصة ثمينة بيد الداعية تمكنه من الخطابة وإلقاء الدروس والكتابة .
فهذه المسألة سهلة وبسيطة من باب ، وعظيمة الفائدة من باب آخر ، ولا يراد لها الانتباه الكثير .
فبعض الأخوة يقرأون الكتب تباعاً ولكن يعتمدون على ذاكرتهم فقط ، والذاكرة مظنة النسيان ، يبقى يتذكر المعنى سنة وسنتين وربما في الثالثة ينسى ، ولو أراد أن يعيد القراءة لأشكل عليه ذلك إذ أن هناك كتباً تنتظره والمنهج الذي يسعف الداعية لاينتهي في عشر سنوات بل أكثر .
فيكون بيدك دفتر وقلم تخصصه لكتابة التعابير أو النقول المهمة التي تجدها في الكتاب وقد لاتجدها عند كاتب غيره ، فإذا انتهيت من قراءة الكتاب تكون عندك عشر تعابير ناجحة تقريباً ، فهذه تمثل العدة التي تحفظها وتحاول أن تقرأها أكثر من مرة بحيث تكون من محفوظاتك .
وكذلك تسجل في هذا الدفتر تقسيم الكتاب الذي تقرأه وتدرّجه في طرح موضوعه وكيفية تقسيمه له ، فتسجل من الفهرس أو من نفس الكتاب ، ويمكن تسميته بخارطة الكتاب ، فإذا فعلت هذا بعشرة كتب في السنة الواحدة تقريباً ، وقلبت ذلك الدفتر أصبحت عندك المقدرة على طرح أي موضوع بنوع من التدرج والتقسيم الذي يُفهم الداعية أيما تفهيم ، وليس هو الارتجال المتخبط الذي يأخذ من هنا وهنا .
فالكاتب حينما يقسم كتابه ، فهو ليس تقسيماً بسيطاً فلكم قدم وأخر ولكم عمل أكثر من خريطة ، كالذي يريد أن يبني بيتاً ، فكذلك الكاتب يقلب الأمر عشرين مرة وثلاثين مرة حتى ينتهي إلى تقسيم معين لكتابه .
7- تزكية الكتاب لاتعني خلوه من الخطأ ، فكثير من الكتب التي نذكرها لك لاتعني أنك مطالب بأن تعتقد مافيها اعتقاداً من دون تمحيص ، ولاتعتقد أنا غفلنا عن بعض أخطاء كاتبيها ، أو ضعف بعض أحاديثها أو شيء من ذلك.(1/6)
فعندنا الكتاب الذي يغلب خيره وصوابه على خطأه هو الكتاب الذي يكون في المنهج ، ولا يوجد كتاب خالي من الخطأ بعد كتاب اله جل وعلا إلا صحيح البخاري وصحيح مسلم ، وكل الكتب الأخرى لاتخلو من حديث ضعيف أو رأي مرجوح أو رواية يمكن أن تناقش ، أو زلة من الكاتب بشكل ما .
8- لايمكن تدوين قائمة كاملة بالكتب الموثوقة لعدم وجود كتب موثوقة في بعض الأبواب ، ولذلك فمن الضروري انتظار خطة تهذيب الكتب ، إذ يخلو الباب التاريخي من كتاب شامل موثوق ، وحتى الفقه لم يدون إلى الآن بمعايير نموذجية .
فعلى كثرة كتب التراث الإسلامي فإنها إلى الآن ناقصة من الكتب النموذجية التي يفترض أن تعطي حداً وسطاً في المعلومات وسليماً من الإغرابات والضعف ويكون ملتقى وقاسماً مشتركاً للجميع .
والواجب أن يكون هناك في كل باب كتاب منهجي ، وصفة أي كتاب منهجي هي :
1- شامل لكل شيء .
2- بسيط في عرضه للمعلومات .
3- ليس فيه تعقيد بل المواطن الصعبة مشروحة فيه .
4- يبعد عن الخلافات والإغرابات البعيدة التي ليست هي من قول جمهور الفقهاء.
فلو فتشت كتب التراث فكلها مكتوب بغير معايير نموذجية .
إن في المجلات الإسلامية علم ضروري يكافيء ما في الكتب ، ونظراً لصعوبة حيازتها جميعاً فإن من اللائق إصدار مجلة تنشر أهم المقالات الموجودة فيها ، فالمجلات الإسلامية كثيرة ، ففي كل مجلة يوجد مقال أو مقالين أهم من غيرها ، ففي الشهر يمكن أن نجمع أربعين مقالاً أو نحوها هي أهم مافي هذه المجلات كلها ،
وتجمع في مجلة يمكن أن تسمى المختار من المجلات الإسلامية .(1/7)
10- ضرورة وجود مجلة تسمى المختار السياسي تضم مقالات منوعة سياسية مهمة ، فهناك تحليلات سياسية وأخبار مبثوثة في كافة المجلات سواءً كانت إسلامية أو غير إسلامية وهي كثيرة قد يكون أهمها عشرين مجلة تقريباً ، فبعض المقالات من المهم أن يطلع عليها الداعية المسلم لينبني له الفكر السياسي المطلوب ، وقد يكون المقال ليس من وجهة نظر إسلامية ، فقد يعبر عن وجهة نظر شيوعية لكن من المهم أن تطلع عليه ، وقد يكون المقال لكاتب صهيوني يعبر فيه عن سياسة اسرائيل لكن من المهم أن تطلع عليه ، فلا يعني أن تكون كلها مقالات إسلامية سياسية ...
ولا شك أن مثل هذا العمل ينبغي له جهد جبار ، وليس هو بالعمل الهين لكنه مصدر للثقافة السياسية المنهجية ، مأمون ويمثل توحيد في الفهم والأفكار السياسية .
ولايمكن لهذا الجهد الجبار أن ينمو إلا في بيئة تنظيمية عالية الإرتباط ، وأن تكون هناك مجموعة بينها ولاء وخطة وطاعة للقيادة
11- ضرورة وجود المكتبة الوثائقية ، فالوثائق جزء متمم للكتب والمعلومات ، فالوثائق لايمكن أن يحوزها كل أحد فحيازتها أحياناً خطرة تجلب للواحد التفتيش وغيره .
فمن الضروري أن تكون للجماعة مكتبة وثائقية بحيث تحوي أهم الوثائق التي يمكن الرجوع إليها .
والوثائق : هي أشكال من نشرات الحكومات والأحزاب وقد تكون بعض نشرات الدعوة الإسلامية في بعض الأمور التي لاتنشر على الملأ من المناهج التربوية الداخلية وأمثال ذلك .
فهذه المكتبة صغيرة في حجمها ولكنها عميمة الفائدة ، إذ أنها تشكل مورداً تخطيطياً ومصدراً للباحثين في مجلة سياسية تصدرها الدعوة مثلاً وتريد الرجوع إلى الوثائق التي هي من هذا الجنس .(1/8)
12- الإكثار من النظر في فهارس دور النشر وفهارس المكتبات العامة يطلعك على وجود كتب لم تعلم بها ، وكذلك قائمة المراجع التي تكون في آخر كل كتاب ، فتعلم بوجود كتب لم تعلم بها أبداً ، ولا أنت بمستطيع أن تحوزها أبداً ، وخاصة المطبوعات قبل ثلاثين سنة فأكثر ، فهذه فائدتها تكون فيما إذا وجدت فراغاً لتطالع في هذا الكتاب لتكمل معلوماتك ، وإذا كان عندك بحث معين وتريد أن تراجع مصادر أوفر لبحثك فتراجع من هذه الفهارس .
13- ضرورة توجيه رسائل الماجستير والدكتوراه لخدمة أغراض منهج الفكر في الدعوة ، فهناك طاقات كثيرة من الدعاة تدرس الدكتوراة والماجستير فيمكننا ضرب عصفورين بحجر واحد كما يقال ، فيحوز هذا الأخ الشهادة العليا ليكون استاذاً في الجامعة أو خبيراً في الدولة وفي نفس الوقت يقدم بحثاً نافعاً لإخوانه ينتفعون منه ...
ولا أعني فقط الدارسين في الشريعة الإسلامية ، فالدارس مثلاً في السياسة بدل أن يتكلم عن مشكلة برلين فليتكلم عن مشكلة كشمير مثلاً فهي قضية إسلامية ، أو يتكلم عن مشكلة قبرص قضية إسلامية ، ويعرضها ليزيد ثقافتنا الإسلامية .
وكذلك بدل أن يأخذ شخصية سياسية مغمورة لانستفيد منها ، فليأخذ شخصية اسلامية ، وكذلك في الأدب .. ، وكذلك في التاريخ ..
14- الصور في بعض الأحيان قد تكون مكملة للكتب ، فنشر صورة مثلاً عن مذابح أو مجازر يغنيك عن ألف جملة وجملة في التعبير عن المعنى ، ونشر صورة واحدة يهز القاريء أكثر مما تفعل مقالات عديدة .
الكتب المهمة :
المرحلة الأولى :
1- رسائل الإمام البنا .(1/9)
2- رسائل المودودي الثمان الأولى ، وهي : الإسلام والجاهلية والدين القيم والجهاد في سبيل الله ومنهاج الإنقلاب الإسلامي ونظرية الإسلام والسياسة ... فهذه الرسائل الثمانية هي أهم من رسائل المودودي الأخرى ، وهي أول رسائل طبعت وقد طبعت في الباكستان بتعريب مسعود الندوي أحد أفذاذ الجماعة الإسلامية رحمه الله ، وترجمته أبلغ من ترجمة كتب المودودي الأخرى ، فرسائل المودودي الثمان الأولى فكرها صافي ومهمة .
3- الإسلام بين جهل أبناءه وعجز علماءه .
4- التبيان في آداب حملة القرآن ، للنووي .
5- رياض الصالحين، للنووي .
6- مختصر صحيح مسلم ، فالمختصر أفيد من الصحيح نفسه لأنه :
أ / وضع له عناوين أبواب ولاتوجد في الصحيح .
ب / فيه شرح للكلمات الصعبة ولاتوجد في الصحيح .
7- معركة التقاليد ، لمحمد قطب .
8- قبسات من الرسول ، لمحمد قطب .
المرحلة الثانية :
1- مصحفان صغير وكبير بخط واحد فهما يعينان على الحفظ أيما إعانة فالأوقات الفارغة كثيرة ، فالمصحف الصغير للجيب للقراءة في الأوقات الفارغة ، ومصحف كبير للقراءة في البيت ، وبخط واحد حتى لاتختلف صورة الرسم المطبوعة في ذهنك ، فأنت حينما تقرأ في الصلاة من حفظك فكأنك تقرأ من مصحف تعرف مكان الآية من الصفحة وهل انتهت الصفحة أم لا .
2- المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم ، لفؤاد عبدالباقي وهذا يفيد فيما إذا عرفت طرف الآية ولم تعرف مكانها في المصحف فيرشدك إليها ، أو عند إعداد الدروس والخطب في معرفة الآيات المتعلقة بالدرس أو الخطبة .(1/10)
3- الإتقان في علوم القرآن للسيوطي ، هناك كتب لبعض الأساتذة الجامعيين الذين يدّرسون علوم القرآن أحسن من هذا الكتاب في السلاسة ، ولكن أنا أميل إلى كتب التراث مااستطعت لأن فيها بركة أكثر من بركة الكتب الحديثة .(1/11)
هزة الغرام تنفض الحياة
يُحكى في قصص الأولين : أن بُلبُلين من طير العراق شَبِعا في آب وأيلول من رُطب العراق ، فوُصفتْ لهما بقيةٌ من كَرَز فلسطين ، فطارا إليها ، فلمّا مَيّزا عَظَمة قُبة نبي الله ومَلِك الدنيا سُليمان عليه السلام وقعا عليها ، ودَخَلاها ، فطفق البُلبل يُسبح الله بأسمائه الحُسنى وبتغريد جميل على ألحان أهل العراق ومقاماتهم الجميلة ، وسليمان يطرب لذلك ويسمع ، والبلبل يزداد تجويداً ، حمداً لله تعالى على سلامة وصوله القدس ، ويخرج من الماهوري إلى المخالَف إلى الإبراهيمي تذكيراً لسليمان بجدّه الخليل ، حتى كاد سليمان أن يُردّد وراءه جهراً ويتابع ، لاندماجه ، والبلبل في نشوةٍ استحالت إلى نوع إعجاب بنفسه وغرور ، فبدأ يقترب من صاحبته ، ويلامسها بجناحه ، وهي تبتعد وتأبى ، ويريد منها قُبْلة وترفض ، فألَحَّ ، فطارت إلى الجانب الآخر من القبة .
ـ فقال البلبل : ترفضين ، ولو شئتُ لقلبتُ قُبة سليمان وأجعلُ عاليها سافِلَها ! ! بل أهشم قواريرَ الصرح!!
ـ وذهل عن أن سليمان قد علّمه الله منطق الطير .
ـ فانتفض سليمان غضبانا ، وأمره أن ينزل إلى قُدّام عرشه .
ـ قال سليمان : تتحداني أنْ آنَسْتَ من نفسك قوةً بعدما أسرفتَ في أكل تمر الزَهْدي الأصفر و البَرْبَن الأحمر و الخضراوي ! ! ولمّا تأكل الكَرَز الأسود .. !
ـ قال البُلبل : دعني أشرح لك يا نبيَ الله ، عفواً !
ـ قال سليمان : لا شرحَ ولا عَفْوَ ! ! تقلِب عليّ القبّة ؟ يا سيّاف : اقطع رقبته فوراً ، بل املص رقبة هذا الدعيّ المغرور ودَعْ سيفك طاهرا ! !
ـ قال البُلبل : يا صاحب الجلالة ، دعني أشرح لك حركة الحياة !
ـ فلما سمعت بلقيس الحوار الساخِن : أدركت بفطرتها أنه يملك عُذراً أو حجة ، وغلبها الفضول فشَفَعتْ.
ـ قال سُليمان : قُل واشرح وأوجز في جُملة واحدة ودافع ، فإنّ قَطْعَ رأسك وشيك ! !
ـ قال البُلبل : يا سليل الأنبياء : إن العُشّاق لا يؤاخَذون بِأقوالهم .(1/12)
ـ فأطرق سُليمانُ ملياً ، والتفت إلى بلقيس ، فهزّت رأسها ، مع ابتسامة ، فقال : صَدَقْتَ ! !
ـ فأفرج عنه ، وطار إلى أعلى القُبة يرفرف منتصراً مزهواً .
ـ قالت البُلبلة : الآن الآن فقط ، تعال ولا تقلب القُبة ، ولا تكسر القوارير .
ـ فرفع سليمان رأسه ضاحكاً من قولها ، وناداها من تحت القبة السامقة : دارِيْهِ يا أمَةَ الله ، وأوصيكِ به خيرا.
ـ قال البُلبل : شَكَرَ اللهُ لك وصيتك وتصديقك لحُجة العشّاق .
ـ قال سُليمان : إنما هي هذه الليلة يا عاشق ، وغداً اُريد أن أسمع الماهوري ، والتمجيد على لحن المخالَف و صيحة السُفيان عندما تتوغل في الدرجة الثالثة السيكاه ، على ما علّمك ودَرّبك الحاج فائق السهيل التكريتي من قواعد الألحان العراقية .
ـ قال البُلبل : بل الآن ، أمهلني سُويعة عُرسي .
ثم عاد البُلبل إلى التغريد ، وعاد سليمان ينقر بإصْبَعه ذراعَ العرش طَرَبا ، وبلقيس التي عَشِقته تغار وتأمل (1).
ففي هذه القصة رمزيات تعدل ديوان قصائد ، تُبين سلطة القلب على العقل .. فالحبُ مُحرّك قوي من مُحركات الحياة ، إذا بولغ فيه وصار عِشقاً فإنه يزلزل الحياة ولا يحركها فقط ، ويهزها هزّاً ، ويعيث في الأرض فساداً ربما إذا كان العاشق شجاعاً وقليل تقوى ، ولن يلجم العُشاقَ عن التخريب غير العقل ، والضعف ، والتقوى .(1/13)
والصوفية يلوذون بهذه القصة ، ويجعلونها عُذراً وتأويلاً لشطحاتهم في القول في محبة الله ، ولستُ أرى براءة القرون الأولى ، وأمرهم إلى الله ، ولكنّ قوماً منهم يعيشون معنا ، نعرف عنهم الإخلاص والصدق في خدمة المسلمين ، غير أنهم تمادوا في حُسن الظن والتأول ، فنكلهم إلى نواياهم ، ونبدي لهم الأخوّة والتعاون ، ونمد لهم يد المصافحة ، ونتعامل معهم بالحُسنى ، وعلى قاعدة اجتماع الكلمة وتوحيد الصفوف في المحن وإزاء الفتن ، لما نعرف عنهم من عِشق ، ولا نؤاخذ العُشاق بظاهر أقوالهم ، بل الإمرار أولى ، ونأمر بالمعروف وألفاظ السُنن ، ومن خلال وعظٍ رفيق ، فإن وطأة الهجمة على الدين توجب السماحة .(1/14)
ومذهبُ العِشق السليماني هذا ميزانُ تقويمٍ لأداءِ دعاةِ تخذوا الفكر الإسلامي وسيلةَ تَعبّد وتقرّب إلى الله ، وأحبوا الفقه الشرعي ، وعَشِقوا اُصول الاجتهاد ، وتأصيل أشكال العمل ، وحرصوا على الإبداع والطرافة والتجديد ، وركبوا المغامرات العقلية ، ولزموا الأنساق المنطقية ، فناجحٌ ومقارِب ، وذو إجادة وأسيرُ نقص ، وهم عُشّاق يحاولون ، ومبدأ المحاكمة أن لا يؤاخذ العاشق بقول ، فَنُلِين اللسان معهم ، ونشكر لهم المحاولة ، ونتقبل عنهم أحسن ما قالوا ، ونتجاوز عن اللحن ، ونطلب منهم التكرار ومزيد إمعان النظر في إفتاء يليق بالنوازل المدهشة ، ولا نواجههم إلا بالخير والاحترام والتشجيع والشكر ، لأن الإبداع يحتاج حريةً ، وراحةً من هاجس المحاسبة والتدقيق الشديد ، وحمل الاجتهاد المشتبه على أحسن المحامل ، لأن الذي يتعاطى الاستنباط حائزٌ لحق الخطأ ، وما أحدٌ بمعصوم ، فأما الصوفي فقد تأولنا له وترجّح أمرُه بالنوايا ، وأما السلفي فعلى صواب ولكنه يحتاج إلى اُسلوب الرفق في ترويج صوابه ، والإحالة إلى اختلاف الألفاظ وطرائق التعبير ، ولَمْس الحاجة إلى التعاضد والتئام الحشد ، ويقف الدعاةُ الشموليون في الوسط شهوداً ، ومحوراً للجميع ، ودائرةَ استقطاب ، وركنَ تنظيم ، وساسةً كافلين بأساليبهم الجامعة لما يريد السلفي من توحيد وما يبتغي الصوفي من تزكية القلوب ، وأهل السُنة والجماعة بخير ما دامت هناك في أطرافهم انسيابيةٌ في فهم الآخر والتأول له على مذهب سليمان وإشارة غمزة بلقيس .(1/15)
وطرائقُ تَلَقّي شباب الإسلام العراقي والفلسطيني لمفاد الحوار تحت قُبّة النبي الملك : توظيف ثالث للحكمة العتيدة ، وتخطيط جدير أن يصدع به كل نذير ، فإن القتل قد استحرّ ، وأرهاط الشهداء قد توالت ، والنبي صلى الله عليه وسلم يُنادي اُمته أن تَكاثَروا فإني مفاخر بكم الاُمم ، والمقادير مكتوبة ، لا يزحزحها حزنٌ وبكاء على مفقود ، بل الدمع أيامٌ ثلاثة ، وينبغي أن تتحرك الفطرة في السابع ، لتكاثرٍ واستدراكٍ وتحريكٍ للحياة، وباب ذلك أن يكون الحبُّ والعشق والزواج الحلال ، وتحدي المصاعب ، والرضا بمعيشةٍ زُهدية ، ترجيحاً لملذات الحبّ على سعة في الدار ورفاهية المطعم والملبس ، فإن الحُبّ هو الصفو الخالص الذي يرجع به المرء ، وإنما يكون على أتمِّهِ في أيام الشباب ، والمجتمع كلّهُ مطالَب بأن يساعد الشباب على الزواج ، بتيسير الشروط ، وهدر غلاء المهور ، وإشاعة الوعي التعاملي ، وتعليم البنات حياة التقلّل والبساطة وعمران القلوب بالحبّ والمعاني مهما فاتت رسوم الدنيا ونوافلها ، وهي تربية عائلية منزلية قبل أن تكون واجباً على الفقهاء والواعظين ، فإذا وَجَدَ المجاهدُ والحارسُ والثابتُ الرافض للهجرة بنتَ الحلال الظريفة العفيفة الزاهدة : فليُزمجر ، وليُحرك الحياة ، ولتكن حركتُه العِشقية قويةً عالية الوتيرة ، وليُرعِد ، ويُحدِث الضوضاء ، وليكن منه نداءٌ بنفير ، وطلب نُصرة ، فإن الإنسان سيتجاوب معه ، والطير ، والوحش ، وسيتئد الرئيس ويكون واقعياً أمام طريق الفطرة ، وسيستقيل القاضي ، ويستعفي الشرطي ، وتنهار الأم ، ويلين الأب ، ويكتب المؤرخ ، وتقوم الدنيا فلا تقعد إلا إذا هدأ قلب العاشق ، ولكنه يكون قد عوّض الفاقد ، وأنجبَ جيلَ الجهاد المستقبلي ، ورفع رأس الأمة .
ثم يتنحنح الساذج من أهل الله فيسأل بعد هذه الملاحم : أوَ تتحرك الحياة حقاً ؟
كأنه يرى الجبال ساكنة ، وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَاب (1/16)
==============
( 1 ) أصل القصة في سطرين في الرسالة القُشَيرية / 254 .(1/17)
منهجيةٌ إبداعيةٌ ...في استثمار الخلود
مُنذ أيام طفولتي : كنتُ فتىً ليس مثل بقية الفتيان ، بل أميل إلى الوقار والجد والسكينة ، إذ صحبي وأقراني يتداولون الهزل الرخيص ، والكلام البذيء ، والشتائم ، ويحفظ أحدهم قائمة طويلة من الألفاظ العدوانية التي تتهم أعراض الناس ، وأنسابهم ، ويخلطونها بكذب ، ولكني بقيتُ على عفاف اللسان ، والبراءة من الإقذاع ، والصدق ، ولا أذكر أبداً أني خنت أحداً ، أو كذبت عليه ، مع وفور الطاعة لأساتذة المدرسة ، واحترام من هو أكبر مني ، وما كنتُ كسولاً ، بل أشارك أقراني لعب الكرة ، والركض ، ولا أغيب عن السباحة ولا ليوم واحد في العطلة الصيفية ، وأنا سبّاح ماهر عبرتُ دجلة وعمري ثماني سنوات فقط دون الاستعانة بأحد ، يوم كان دجلة وافر المياه عريضا ، وتجوالي على الدراجة الهوائية يملأ نصف وقتي ، وكانت دارنا في الأعظمية بجنب بعض بقايا بستان أصلان باشا ، فشبعتُ في طفولتي من الرُطَب والنبق ، نرميه بالحجر أو المصيادة فيقع ونلمّه ونأكله بلا غسل ، بل بالنفخ عليه ، ومع ذلك إذا رجعتُ إلى البيت يضع شقيقي الأكبر مجلة الرسالة للزيات في يدي وآتي عليها من الغلاف إلى الغلاف ، وأنا لا أفهم منها إلا قليلاً ، ولكنْ تترسب منها في اللاشعور بعض معانيها ، فتَضاعفَ سَمْت الجدّ الذي فطرني الله عليه ، وما كان هناك تلفزيون يلهينا في ذلك الوقت ، بل كان افتتاح محطته في أواخر سنة 1954 بعدما جلبته شركة بريطانية إلى معرض بغداد ، فاشترته الحكومة منها ، وكانت قضية فلسطين تلك الأيام في ذروة الاهتمام ، وانعكس ذلك علينا في صِبانا ، وحدثت مظاهرات إسقاط معاهدة بورتسموث ، فزاد انفعالُنا وتداولُنا لحديث السياسة مبكراً ، وبدأت المطابع تنتج كتباً عن تاريخ الحرب العالمية الثانية وقصص رومل وغيره ، فتضاعف اهتمامي ، حتى وجدت نفسي في صفوف الدعوة وأنا ناشئ في المدرسة المتوسطة .(1/18)
فأضافت النقلة الدعوية حَفنتين من الجد والصرامة إلى ما منحتني إياه الفطرة والظروف السياسية المتأججة ، بحيث يتداول معنا مربونا أخبار الدول ، والجهاد ، وأوصاف جِنانٍ وفَراديسَ يحتلها الشهداء وأبطال القتال في فلسطين وقناة السويس ، ثم لما سرنا مرحلة اُخرى ودفعونا إلى مجالس العلماء ودراسة صحيح البخاري على الشيخ عبد الكريم الملقب بـ الصاعقة سَرَتْ إلينا روح صواعقية تقلقنا عن الهزل والمزاح وكثرة الضحك ، ولما شرعنا نحضر دروس وخطب الشيخ الدكتور تقي الدين الهلالي بدأنا نُدرك اختلاف المدارس الاجتهادية الفقهية ، وانحزنا لأقوال ابن تيمية ، وأصبحت لنا جولات عريضة مع مدونات ابن قيّم الجوزية ، إذ ما يزال أترابنا يسرحون ويمرحون ويقتربون من باطل اللهو وينحدرون إلى رخيص الآمال والقول ، وازدادت أشواقنا إلى الجنة لما وُضع في أيدينا حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح لابن القيم ، وبلاد الأفراح هي : الجنّة ، لما فيها من خيرات تجلب السرور للمتنعم بها ، فزاد عُلوّاً مستوى اهتمامنا ، وصرنا خَلقاً آخر ، يسوقُنا طموح ، وتسيطر علينا رقابة ذاتية ، ونتج جيل من الشباب كأنهم شيوخ ، يتجردون في عصرٍ ماديٍ كثيف الإغراء ، لكنّ مسارح الحلال بقيت واسعة علينا ، وكنا أشدّ متعة بعواطفنا من مستعجل رَسَف في أغلال الدنيويات ، ونتج من هذا التصاعد التدريجي استواءٌ لنا في فَلك الجد والمثابرة الدائبة ، وامتلكنا حصيلة من الأشواق الاُخروية ، والنظر إلى ثواب عند الله تتضاءل عندما نتصوره ملذات الدنيا الحلال فضلاً عن الحرام ، لأن المهمة الإصلاحية التي حُمِّلنا إيّاها تجسمت لنا وأقنعتنا بأنها عملية ضخمة تتطلب نذر النفس ، وكثرة التعلّم والتفكر ، والجلوس المتكرر للنظر في مصالح المسلمين ، ومن طول الوتيرة الجادّة : تحوّلت إلى سلوك تلقائي غير متكلف .(1/19)
هنا ، وفي ثنايا هذا الاندماج القلبي الروحي مع المهمة الجبارة الدعوية بدأت تسري عندي حالة اجتهاد في تحديد المذهب الأخروي الذي يُسيّرني ويدفعني ، هي فرع من الاجتهادات الفقهية التي تتمايز بها مذاهب الفقهاء ، وتشكلت لديّ وفي مُخيّلتي صورة الحياة التي اُريدها في الجنّة ، وجعلت أقول لنفسي : ويحك من مشترٍ لشيء مجاني مبذول ! !
لقد تكلمت الآيات والأحاديث الصحيحة عن قصور وحدائق في الجنة ، وأنهار ، ولَبَن وعسل مصفى ، فلماذا تشغل نفسك وهي مضمونة ، وتكثر الدعاء أن تكون هذه الخيرات من جُملة ما يُمنح لك وهي أدنى الجنة ربما ، لكنْ اطلب الجنة في دعائك وسَل الله شيئاً فيها مُبتكراً تحبُّه وقد فاتك في الحياة الدنيا إلا قليلا ! !
ويكون إلحاح من الصالحين أن يرزقهم الله الحُور العِين الحِسان ، فأقول لنفسي : ما هذا والأمر أسهل ؟ بل ادع الله أن يميتك شهيداً ، منحةً منه لما يعلم من عفاف وبذل ، فتزف الشهادةُ لك سبعينَ حورية ، وعندئذ اختارُهنّ عشر عربيات ، وعشر غربيات بيض ، وعشر زنجيات سود ، وعشر صينيات ، وعشر يابانيات ، وعشر فلبينيات ، ثم البقية من الأمم الأخرى .
وكل ذلك إنما هو هامش ربح الجنة ، ولكن أطلب اللذات الكبار ، ورأس المال ، والعوالي ، والنوادر ، والغرائب ، والامتيازات ، فإن النشوة في هذه .
وأول أشواقي : إلى الخيل العربية الرشيقة ، فإني اُريد أن يكون لي فَرَس أدهم أسود يلمع كأنه فحمة ، وآخر أبيض كأنه قُطنة ، وأبلق يجمع بُقَعاً من السواد على البياض ، فيسبحنَ بي في براري الجنة الفسيحة سويعاتٍ كل يوم ، وقد حُرمت من الفروسية في الدنيا ، ولم تُتح لي رغم شدة شغفي ، فلعل الله سبحانه يَمُنّ بها عليّ ، حتى إذا امتلأت نفسي من ركوب الخيل عند الضحى العالي : أردفتُ واحدة من نسائي خلفي ، واخترقت غابات الجنة ، ليكون إيابي ظهراً .(1/20)
لكني في بعض الأيام اُريد أن تُسرع بي دراجة نارية أو اُسابق جيراني ، فإني محروم منها كذلك ، حتى أميل عند الاستدارات وإن ركبتي لتكاد تلامس الأرض ، كما أرى في التلفزيون .
وساعة أتجول بمنطاد لأرى تضاريس الجنة من سمائها ، وفي أخرى أهبط بالمظلة وأتقلب في جو الجنة ، وفي يوم ثالث تُحلق بي طائرة شراعية فأطوف حول الجبل البعيد .
إلا أن ذروة لذتي تكون في أن أقود عشرة من أصحابي ، في زوارق صغيرة ، نناحر تيارات أنهار الجنة في عمق غاباتها وبين جبالها ، فإني كنتُ دعوتُ الدعاة إلى مغامرات مثيلة في أنهار آسيا والأمازون والمِيسسبي ، ولكن تطويق العمل الإسلامي لنا في زمن الأزمات والحاجة إلى كثرة الاجتماعات منعتنا من ذلك ، وقياداتنا يابسة لا ترى في مثل هذه المغامرات تربية لنا وتنمية لشخصياتنا ، فلم تأذن لنا ، ولعل ولعي بذلك إنما هو صدى لكثرة السباحة في دجلة في صباي وأول شبابي ، فاُريد أن أستعيد الذكريات ، إلا أني أخاف الثعابين جداً ، وقد أخبرني شيوخي أن لا وجود لها في غابات الجنة .
وكل ذلك تمهيد وتحريك للفكر ، فليست خُطتي في الجنة خطة طعام ولهو ، ولكن أهل الإبداع يقولون أن ومضاته لا تتألق إلا من خلال قوادح المغامرة وتبديل البيئة وعنفوان الحركة وتجديد المناظر ، فجعلت فروسية الخيل والدراجات والمناطيد والمغامرات سبباً لتحريك عقلي وذكائي ، ومقدمة لنيل لذّتي العظمى اليومية التي أريدها على مدى عشرة الآف سنة من امتداد الخلود ..
لذتي الكبرى ومطلبي أن تكون في قصري في الجنة مكتبة إسلامية ومعرفية وعلمية وفنية ، كاملة لا نقصان فيها ، فآخذ القرآن الكريم أولاً ، وأجلس عند عتبة باب قصر عبد الله بن عباس أنتظر خروجه ، لأطلب منه التلمذة وأن يأذن لي بدرس يومي عصراً على مدى سنين يشرح لي أسرار القرآن ، ولغته ، وأعاجيبه .(1/21)
حتى إذا شبعت من علمه : دققت باب الطبري ليمنحني المزيد من معاني القرآن وفقهه ، وألبث معه السنوات الطويلة قبل أن أتحول إلى القرطبي ، والزمخشري ، والآلوسي ، وابن عاشور ، وسيد قطب ، وكل منهم يزيد لي حروفاً وفوائد ، حتى أستوفي علم القرآن من مائتي مُفسِّر ، ودفاتري معي ، وقلمي خلف اُذني ، ونعلي خفيف ، على هيئة طُلاب العلم التلامذة ، فإني حُرمت مثل هذه المجالس في الدنيا إلا قليلا ، واُريد أن أشبع وأنهل ، غير أن أخي خُونا الجَكَني في تِندوف بصحراء الجزائر ، وأخي غلام السائح ، قد أغرياني أنّ ثَمَة علم ولُغة في حاضرة شنقيط بموريتانيا ، فأنا أريد لذلك أن أمكث في الخاتمة عند المُفسّر الشنقيطي مدة أطول ، وأن أذهب له في الجنة على ناقة ، وأن التقي به في صحراء الجنة ، وكان أستاذي الدكتور جعفر شيخ إدريس يُحدثني عن شيخ له في السودان يأبى إلا أن يأتي إلى مجلس التدريس على ناقة ، مبالغة في الحفاظ على صورة الحياة السلفية ، فاُريد أن أقلده .(1/22)
فإذا استوفيت دلائل الفرقان وإعجازه : تناولت من مكتبتي مدونة الحديث النبوي الشريف الكبرى التي استخرجها حبيبي البخاري وسمّاها الجامع الصحيح ، فلا أحتاج إلى انتظار ولا إلى دق الباب ، بل أجده ينتظرني مبتسماً متطلعاً مشتاقاً ، بما وصله من خبر عنّي ، وعن ولعي بالحديث وعلم الرجال ، وبشرطه الذي تعمقت فيه وصار يُسمى بين العلماء شرط البخاري ، وهو يؤخذ بالاستقراء والاستعراض لا بالنص ، فبعد ساعة أطلب فيها منه أن يريني دِقّة رميه بالسهم فيُصيب الهدف عشرة على عشرة ، بالكمال ، ينفد صبري فأطلب منه أن يبدأ رواية صحيحه عليّ ، مع الشرح وبيان أحوال السند والرجال ، فأمكث معه السنوات حتى أحفظ ما هنالك ويجيزني ، وأرجع إلى حورياتي أبشرهن ، وأمشي بينهن مشية الخُيلاء والزهو ، وأتطاول على صاحب لي حَبَسَ نفسَه عند الضفة يشرب ، ويأكل لحم الطير والعنب ، وعاف صحبة البخاري ، مع أني أعطيته عنوانَه ، هناك بين البُحيرة والجبل المنيف .
ثم أستأذنُ البخاري أن أطوف على الإمام مُسلم لأقرأ عليه صحيحه ، وعلى أبي داود والنَسائي والترمذي وابن ماجة والدارقطني وأبي حاتم ، في مائة من أصحاب المدونات الحديثية يروون لي أسانيدهم مباشرة ، ليعلو سندي ، ثم بطبقات الشرّاح ، ابن حجر العسقلاني والنووي ، في ثلاثة آلاف من أهل العلم وتأويل الحديث ومعرفة الرجال وتأصيل الاجتهاد ، واحداً بعد الآخر ، وقلمي ينسخ ، ونَفَسي محبوس ، وتحرّشاتي بهم لا تنقطع ، ألاحقهم بالسؤال ، وأستخرج من كل جواب سؤالاً جديداً ، حتى تنقضي ألوف سنين ، وهم في الفرح الغامر ، أنهم وجدوا مستهلكاً شارياً ، وتلميذاً دائباً ، ومكافئاً في الحوار .(1/23)
حتى إذا استوفيت غرضي من هذا الفيلق : أرسلتُ شفعاءَ إلى الخلفاء الراشدين أن يأذنوا بزيارات ، فأتأدب ولا ألحّ بسؤال ، فيروا أخلاقي ، فيتبسطوا ، ويشرعوا في الملاطفة ، فتدبَّ فيّ الشجاعة رويداً رويداً ، حتى إذا شبعتُ : تحولت إلى بقية الصحابة ، الأول فالأول ، والأعلم فالأعلم ، فيروون لي السيرة ، وأخبار بَدْر واُحُد والمعارك والغزوات ، والشهداء ، وحياة مكة والمدينة ، ووفود العرب ، وأخبار معارك القادسية واليرموك وكلّ الفتوح ، ودخول الأمم في الإسلام ، ونشوء جيل التابعين ، ومَن قَاتل منهم بشجاعة ، ومَن رَصَد نفسه للعلم ، حتى أنزل إلى مالك وأبي حنيفة والشافعي ، فامكث عند كل واحد منهم الدهرَ الطويل ، يعلمني فقهه وأصول مذهبه وأسباب اجتهاداته ، وتكون أيامي مع مالكٍ بخاصة مخلوطة برحمة له ، لأنه كان مصاباً بسُكّر الدم مثلي ، وهو يحب الحلواء مثلي والرُطب ، ولا يستطيع الإكثار منهما ولا أستطيع ، لذلك أتعمد أن التقط له قبل كل زيارة ما يملأ طبقاً من البرحي و الخلاص و بقلة النارِين و الخستاوي و المجدول وأنواع رُطَب الجنة وأهديها له ، مع أنواع حلوى بالزعفران أوصي زوجاتي أن يصنعنها له ، فإنه يحب ذلك ، مُذ أهداه الإمام الليث بن سعد حمل سفينة من الزعفران والسُكر المصري ، وكأنّ إكثاره منهما كان السبب في مرض السكر ، وبسبب هداياي له يشرع في محاباتي ، ويهديني طبعة بماء الذهب من الموطأ ، ويخفض جناحه لي ، حتى أني لأعجب : أين ذهبت فورات غضبه على تلامذته ، وتعييره لفاضل منهم أنه من روّاد دار قُدامة بسوق المدينة ، حيث مجتمع مُلاعبي الطيور ؟ ! وكأني على مدى صلتي به تعتريني رهبة أن ينسبني إلى دار قدامة آخر ببغداد ، أو إلى سوق الغزل تحت منارة مسجد الخلفاء القديم حيث اجتماع أصحاب الطير والحَمام ، ولكنّ أخلاق الجنة غير أخلاق الدنيا ، وتمر تلمذتي له بسلام .(1/24)
إنما مكوثي الأطول ، وانفعالي الأعمق : يكون حين أرجع من جولة لي في الأرباض الغربية ، وأنا على مُهري الأسود ، فأجد أحمد بن حنبل ينتظرني عند مَدخل بستاني ، على عادته الجميلة في التعرف والمبادأة والتواضع ، وكأن الشافعي هو الذي أسَرّ له بخبري وعنواني ، فاستعجل ولم يُعوّل على منهجي المزدحم وخُطتي المتأنية ، فملكني حياء أمام نور صدق تبعث به أسارير وجهه الكريم ، ثم استرسلت ، وانطلق مني سيل الأسئلة ، عن محنته وصبره ووعيه وصفاء عقيدته وتمييزه للبدعة ، فروى لي دقائق أخباره ، وأخبار أصحابه وبطولاتهم معه ، وطلب منهم أن يصحبوه في زياراته الأخرى لي ، فعرفني بهم ، وكان يوماً مشهوداً لما فاجأني بالبطل الواعي والثائر الطموح وركن الدفاع بالسلاح عن السُنّة الغراء تلميذه وشيخ البخاري أحمد بن نصر بن سيف الخزاعي الشهيد ، فتلعثمت أمامه ، وطفقتُ أتمسح به وأمد يدي على صدره ومنكبه ورأسه ، عسى أن تسري إليّ منه عدوى الخير ، لذلك لزمتُه دهراً بعد أن روى لي الإمام أحمد مسنده وتفاريع مذهبه ، واشتقت في الجنة إلى التأليف أيضاً ، لا السماع والرواية فقط ، فاخترت أن أكتب تجربته الفريدة في ظلال الرقابة الحنبلية .
فلما طبعته مؤسسة الرسالة في الجنة ، واعتنى الأستاذ رضوان دعبول بإخراجه : صرت أزور الشهداء وأهديهم الكتاب ، فمن ثمّ رآه الأبرار في أيادي عمر محمود و إياد العزي و عمر حوران و محمود الهاشمي وأخته ميسون الهاشمية و رعد الدليمي ورافع راية البصرة يوسف الحسّان وعميد الفرات حبيب الراوي ومثال البراءة جبار كاظم الشمري ، والنبيل بن النبيل ليث اسماعيل الراوي، ثم شاع من بعدهم في أيادي شهداء فلسطين ، وشهداء شعوب الأمة الإسلامية ، وعلى مدى الأجيال العديدة ، وتأسس مذهب الجهاد الواعي ، وتأسست شروحه الجلية التي أدلى بها شهيد إيران ناصر سبحاني .(1/25)
وهؤلاء الرهط الذين أنتسب لهم : تتيح قصصهم أن أمشي فخوراً ، بارز الصدر ، مرفوع الرأس ، أثناء جولاتي على ألفٍ من أبناء الأجيال الأخيرة من الأمة حوتهم منهجية حركتي في الجنة ، من بين قادة الدعوة الإسلامية ، وزعماء الجهاد ، وكبار الفقهاء ، والمتبرعين بالأموال ، وأصحاب القلم ، والشعراء .
آنذاك ، وعند هذه المرحلة المتقدمة يكون استئذاني لزيارة خير خلق الله كُلهمِ ، وسيد سادات العرب والعجم ، مولى الثقلين ، نبينا مُحمّد e ، مَن حسُنت جميع خِصاله ، وكشف الدجى بِجَماله ، عَطّر اللهُ ذكره الكريم ، بِعطرٍ شذيٍ من صلاةٍ وتسليم .
وليست هي قلة أدب أن أجعل زيارته بعد زيارة أمته ، بل لأن المقام يقتضي أن أتفقه وأتعلم وأتأدب قبل المثول أمام حضرته ، وأن لا يكون مثولي مثول جاهل ، فكانت تلك الجولات العلمية ، وفي المنهج أن لا اُثقل عليه ، وأن أعرف قدْر نفسي ، فلا أطيل الحوار معه ، ولكن أطلب منه أن يدعو الله أن يأذن لملائكته الكرام أن يعرضوا علي تسجيلات مصورة لسيرته الشريفة بمثل تصوير الفيديو ، ولكن بأبعاد ثلاثة ، أرى فيها وقائع أيامه ومعاركه وصَلاته وهجرته ، بل وطفولته وأيام شبابه ، فإذا كان البشر قد اهتدوا للفيديو ، فمن باب أولى أن يحوز الملائكة شيئاً أدق وأرقى نرى من خلاله كل التاريخ .(1/26)
لذلك سأطلب منه أن يدعو الله أن يأذن للملائكة أن يروني تسجيلات متصلة على مدى آلاف السنين ، لنزول آدم عليه السلام وحواء إلى الأرض ، وذرياتهم الأولى قابيل وهابيل ، وتوالي الأجيال ، والنبوات الأولى والأقوام ، ونوح والذين معه ، وإبراهيم عليه السلام وهجرته وأولاده، وأنبياء وملوك بني إسرائيل إلى المسيح بن مريم وتصوير معجزاته ، ورفعه ، والكيد الذي تعرّض له ، وبقايا الحنيفية في العرب ، حتى قبيل بعثة النبي مُحمّد صلى الله عليه وسلم ، كل ذلك وخلال ألوف سنين من استطراد الخلود أرى التاريخ القديم وسير الأنبياء دقيقة بعد دقيقة ، بالأبعاد الثلاثة ، كأني أشاهد المشاهد رأى العين .
فكأني وأنا أشكر الله وأشكر النبي صلى الله عليه وسلم على إجابة رغبتي الإيجابية : ألمح الحسن والحسين رضي الله عنهما يخرجان من وراء ظهره الشريف ، فأطير من الفرح ، واُعانق وألثم الأيادي والأكتاف ، ومنعني الحياء من جهر بالسلام على فاطمة الزهراء في داخل البيت ، ومعها نساء النبي وبقية بناته ، رضي الله عنهن ، فأومأت وخفضت الصوت وألجمني الأدب .
فلما ذقت طعم وحلاوة رؤية التاريخ الحقيقي غير مزور ولا مبتور الخبر : أغراني الأمر فرجوت النبي صلى الله عليه وسلم أن يشفع لي عند الله تعالى أن يجدد أمره للملائكة الكرام أن يُروني سبع مسلسلات طويلة من الفيديو المجسم على مدى ألوف السنين :(1/27)
الأول : أن يجتمع الطبري وابن خلدون والخطيب البغدادي وابن العديم والجبرتي ، في مائة من المؤرخين الذين أرخوا التاريخ الإسلامي ، وأنا بينهم ، فنرى معاً وبتعليقات منهم كل تاريخنا المشرف ، وأخبار خلفاء بني أمية وبني العباس ، ومن بعدهم من العثمانيين والغزنويين ، ونَمرُ بصلاح الدين الأيوبي ، وألب أرسلان ، وفتح القسطنطينية ، وفتح الهند ، والاندفاع نحو الصين ، ومحنة الأندلس ، وجهاد الشيخ شامل للروس في القوقاس ، وثورات الجزائر ، وبطولات عمر المختار ، ومأثرة الأفغان ، والصياغة العراقية الجديدة لمذهب نقض العولمة .
والمسلسل الثاني : أرى فيه تاريخ البشرية ، والحضارات ، والمدنيات ، وحوادث بابل ونينوى ، وأثينا وروما ، وأخبار الصين ، والفراعنة ، والإنسان القديم ، ومعيشته وصيده وحياته الأولى في الغابات والجبال ، وفي العصر الجليدي ، وأخبار عاد وثمود ، والعرب البائدة ، وحِمْيَر وسد مأرب وسيل العرم ، وأجيالَ أخرى نجهل خبرها .
والثالث : أن اسمع للفلاسفة يتحدثون بصواب وخطأ ، وكيف أن الملائكة تقول للمخلط منهم والملحد : اخسأ فلن تعدو قدْرَك ، وهوميروس ، وهيرودوتس ، وشعراء الأمم ، وخطبائها ، وكتُابها ، ومتاهات أفلاطون وأرسطو ، وتميّز سقراط عنهما وقربه من التوحيد ، ونشأة الدول الحديثة ، والخطط والمنهجيات ، والصراع الاستعماري ، والثورات التحررية ، واكتشاف أميركا ، وتطورها ، والنهضة الصناعية ، والمخترعات ، ونابليون ، والحربين العالميتين ، وقيام إسرائيل ، ودقائق الحياة المعاصرة .(1/28)
والرابع : أن تريني الملائكة عجيب خلق الله للحيوان والنبات والجماد ، والأكوان والمجرّات والشموس والكواكب ، وكيف بدأ الخلق، وكيف حصل التطور ، وانتقل معهم إلى الذرة والإلكترونات والبروتونات وتكوين العناصر تصاعدياً وفق الجدول الدوري ، والاتحاد الجزيئي ، والحقيقة الجسيمية والموجية للضوء ، وانطلاق الفوتونات ، والكمّات ، وأشكال الطاقة ، وارتيابات هايزنبرغ ، ونسبية اينشتاين ، فأكون على بيّنة من العلم الحقيقي وتركيبات المواد ، ثم إني اُحب أن تعلمني الملائكة الرياضيات المعقدة المتقدمة ، فإني أهواها ، وحرمتني منها السياسة ومعالجة قضايا الأمة ومشاكلها ، وأن يأذن الله بإرسال ماكس بلانك الألماني إليّ ليعلمني ويشرح لي كيف اكتشف الثابت حين رصد سيل الفوتونات ، وأن يرسل لي بعده ألف عالم أضاف الواحد منهم اكتشافاً علمياً إلى الرصيد الإنساني ، فاسمع لشرحهم : كيف فعلوا ذلك ؟
والخامس : أن يُنادى في الجنة أن الله أذن لعباده أن يستأنفوا سوق عكاظ ، فأرى واسمع أصحاب المعلقات العشر يتغنون بها ، ويشرحون لنا لغتها ، وأريد أن أطيل محاورتي لعنترة ، وان يشرح لي : ويكَ عنترُ: أقْدِمِ !! ثم شعراء الجاهلية جميعاً ، وشعراء صدر الإسلام ، والبحتري ، والمتنبي ، في ألف شاعر منهم حافظ الشيرازي ، وسعدي الشيرازي ، نزولاً إلى البارودي وشوقي وإقبال وطبقات المعاصرين ، والأميري السوري ، ووليد الأعظمي العراقي، وآل خليفة الجزائري، ونبيل إيران أحمد مفتي زادة في روحانياته وآهاته اللواعج .(1/29)
والسادسة : خاصة عائلية ، ولغيري أن يطلب خصوصية مثلها ، وفيها تريني الملائكة آبائي وأجدادي وجدّاتي ، جيلاً بعد جيل ، إلى يوم البشرية القديم وأولاد آدم ، صورهم ، وأخلاقهم ، وبيوتهم ، وحفلات أعراسهم ، وأين عاشوا ، وفي أي سنة ، ومَن كان لهم من الأبناء والبنات ، فاصعد إلى جدّي العاشر علي بك العِزي المعاصر للسلطان العثماني مراد الرابع ، والذي عاونه في تحرير بغداد من الحكم الصفوي ، وأصعد أكثر لأعرف عز بن يحيى بن مصلح الذي ننتمي له ، وكان عُبادياً ، ثم إلى عامر بن صعصعة جده الأعلى ، ثم إلى مضر وعدنان ، وأريد أن أزور كل جدّ وجدة أياماً ، وان تطبخ لي الواحدة تلو الأخرى البامية ، وتخبز لي ، وتثرد لي ، و الباقلاء والطعام البغدادي .
أما المسلسل السابع : فهو سر أكتمه ولا أبوح به ، فاستعمل فراستك ، إنما هو جدٌ لا هزل ، وتعرفه بالذكاء والإخلاص معاً ، لا الذكاء فقط ، وإذا كنتَ على الدرب فما أقرب أن تميزه .
والمشكلة أن الحياة الأخروية خالدة ، وهذه المخالطات والزيارات وجلسات التعلم والدرس ورؤية الفيديو الثلاثي الأبعاد تستغرق عشرات ألوف السنين ، إنما : ماذا بعد ذلك ؟ هل أكرر واُعيد مثل مناهج الاُسر الدعوية ؟ أم أرجع عامياً بعد دهر الاستعلاء العلمي والهِمَمي فأطلب أطايب طعام الجنة ومزيد لذاتٍ وأنزل عن مستوى التحليق السامي ؟
بلى : قد يكون استعراض الفن الناجح المملوء بالمعنى أو مسحة الجمال سبباً لاستمتاعٍ منهجيٍ إبداعي آخر لألوفٍ من سنوات الخلود ، ولكن ماذا بعد ؟
كما علمتكم طريق تطوير الحياة في الجنة ، فعلموني وأفتوني أيها الأخوة !!(1/30)
وكنتُ أظن أن هذا التمني الواعي والتميز النوعي في دعاء التنعم الأخروي إنما هو سبق لي ، حتى رأيت خبراً طريفاً لبعض رجال شنقيط ، فعلمت أني مسبوق وأنه حاز الامتياز قبلي ، فقد كان اْمْحمد بن محمد اليعقوبي المعروف بابن الطلب شاعراً مُجيداً على طريقة الأولين ، فصنع قصيدة فيها ذكر الصحراء والبداوة والصيد والسهام ، فرآها في نفسه أعلى من قصيدة الصحابي الشماخ بن ضرار الغطفاني في ذلك ، وقال يوماً بعدما نظم جيميته وأبرزها للناس : ( أرجو من الله أن أقعد أنا والشمّاخ بن ضرار في نادٍ من أهل الجنة ، وننشد بين أيديهم قصيدتينا ، لنعلم أيهم أحسن !! ) (1) .
والشماخ هو صاحب القوس العذراء التي باعها فندم وقال فيها شعراً طوّره محمود محمد شاكر إلى ملحمة شعرية رائعة .
ومرة أخرى عارض ابن الطلب قصيدة للصحابي حُميد بن ثور الهلالي فقال : ( أرجو من الله أني أنا وحُميد بن ثور ننشد قصيدتينا في نادٍ من أهل الجنة ، فيحكمون بيننا ) (2) .
وبذلك سبقني رحمه الله ، لكني علمت من ذلك أني على طريقة راشدة في هذا التمني الجاد ، وان تلك السابقة إنما هي شهادة تُنْبِي عن أصالة رغبتي وطريقتي الإبداعية في تطوير آفاق الحياة في الجنان .
ومُرادنا إيجاب كُلّه ، ولكن كسولاً يريد أن ينحرف به إلى سلب ، فيزعم أنه سوف ينتظر الجنة ليقرأ العلم الشرعي ويجوب ويطرق مجالس الأئمة ، تماشياً مع هذه المنهجية الإبداعية وتصديقاً لها ، وقد أخطأ وتوهَّم وكبح به ظنهُ وتأويله ، فإن تعلّمه في الدنيا حدود الحلال والحرام ، وصفاء العقيدة له من البدع ، هو الذي يعصمه ويُدخله الجنة ، ولا تكفيه هِمّته والنوايا إن لم يعضدها صواب المذهب ، فلا تأجيل للعلم ، بل هو واجب فوري ، وعلوم أيام الجنّة تحليق ، ومُتعة ، وغرام ، وشُغل خير ، وجنس من النعيم المعنوي الذي يعلو على النعيم المادي .
فليحفظ هُمامٌ إيجاب الإبداع ... وليحذر التضييع(1/31)
(1) (2) الوسيط في تراجم أدباء شِنقيط /95 /118 .
تاريخ المقال8/20/2006(1/32)
الوعي النِّسبي في خُطط محفوظ
حين تكون سيرة أحد نبلاء المسلمين عميقة الأثر ، بليغة الإفصاح ، واضحة الطبعة : فإنه يترك لمن بَعده مجالاً رَحباً ليستنبط من أعماله ومواقفه الدروس والدلالات ، وذلك هو شأننا مع ثري في المعاني مثل محفوظ النحناح زادَ الله ذِكرَه حُسنا ، فقد كانت للرجل أنفاس المتجردين ، ونظرات المتأملين ، وطبيعة المنطقيين ، واستطاع من خلال الهدوء أن يبعث حركة ، وبالمقارنة أن يستنتج معادلة ، وبامتصاص غضبات الجهالة أن يعصم من حلولِ يُبوسةٍ صلدة ، فترك الأيام ندية بعده .
وقد توسّعَ الأخيارُ في ذكر منقبته في صون الدماء ومنع الانحدار إلى مسلسلات الانتقام ، ولكن فقهه الدعوي العام جلي يُشير إلى وعي قيادي متقدم ، ومحاكمات عقلية لمسائل تتزين عندها الشبهة لتُغري بإغرابٍ أو ميلٍ إلى مرجوح أو جنوح لرخصة ، ولكن إباء محفوظ حفظ له وتيرة العزيمة والانتماء إلى جمهور الفقهاء دون مستعجليهم أو المبطئين .(1/33)
وكانت قضية الجزأرة من أوضح إشارات غلبة عقلانيته على عاطفيةٍ استبدت يوماً ما ، وصَخَب الجزأرة اُريد للإسلاميين الجزائريين فيه أن يقطعوا حبال الوصل مع العالمين العربي والإسلامي ، وأن يحصروا أنفسهم في دائرة الجزائر فقط ، في الولاء والفكر والشعور ، مماشاة لأنساقٍ حيوية كاملة تُدخل في سياقها : الشخصية الجزائرية ، والتراث الجزائري ، والتجربة الجزائرية ، والتاريخ الجزائري ، والقيادة الجزائرية ، والمستقبل الجزائري ، فأدرك محفوظ ما وراء الاستطراد مع هذا المنطق من تثبيط يعزل الجيل الجزائري الصاعد والنشاط الجزائري الشعبي والحكومي عن المسيرة العربية والإسلامية العامة ، فتمرّد ، وأبى ، ورأى ضرورة مماشاة الفكر الوحدوي الجامع المخترق للحدود ، وأنكر كفاية الرصيد المحلي ، وشجّع على نهلٍ من ينابيع خير تنتشر من الرباط إلى ما بعد الهند واندونيسيا ، وفهمنا من إصراره أنه يرى في وجود القلب الدعوي المنفتح المُنكِر للانغلاق تمرداً على الانكفاء اللاواعي الذي علقت به أشواك من التبرم الذي يبديه الجيل البربري العلماني المنحاز للفرانكفونية ، وبعد مرور ربع قرن على عناد محفوظ بدأنا ندرك عطايا السعة الجزائرية المنسابة على رِسلها مع الوحدويات العابرة للحدود ، وخيرية الانعتاق من وسوسة الانكفاء ، وذلك واضح في قسمات وجوه الجيل الذي ربّاه ، والبسمات التي يشيعونها ، وحرصهم على الاقتباس من الدعوة الإسلامية العالمية ، ورفض العبوس والانتحاء الجانبي ، وما دخل على الجزائر عبر الانفتاح من فكر غريبٍ ونمطٍ مؤذٍ لا يدخل في نطاق مسؤولية محفوظ أبداً ، وإنما هي مسؤولية آخرين لم يدركوا معنى وسطيته وخطته التربوية التي تعتمد الانتقاء والاختيار المعياري الذي يكفل نقاء المقتبَس .(1/34)
ولمحفوظ براعة خططية أخرى تجلت في تمرده على التجميع السائب ، يوم آمن بالتنظيم المَسُوس بسياسة الحزم والرقابة ، وأنكر وبالغ في إنكار الاكتفاء ببعث تيار إسلامي عريض منفتح ، ورأى في ليونة الارتباط خطراً بإمكانه أن يحرف العمل والمجموعة ويثير التوترات مع الحكومة والمجتمع من دون سبب ، وذلك ما حدث ، وهو الذي يُفسر الاستيراد العشوائي للأفكار والرؤى حين لم يلتزم انفتاح غيره بالوسطية ومعاييرها ، والخطط الدعوية وقواعد العمل هي شروط متكاملة تؤخذ حزمة واحدة ولا يليق لها أن تتجزأ ، فوجود العمل التنظيمي هو شرط نجاح التمرد على الجزأرة والخروج من الخصوصية المحلية المحدودة إلى الانفتاح العريض ، لأن التنظيم تحكمه قوانين وتربيات وتدابير منهجية مترابطة تجعل الاقتباس سليماً وتحت نظر رقابي وغير بعيد عن أنفاس المجربين الخبراء ، بينما في صناعة التيار احتمالاتُ انفلاتٍ وفوضويةٍ وضعف سيطرة وأهوائية تؤدي فيما بعد إلى تشرذم وشِللية وكيفية وارتجالية ورغبات شبابية تهورية ، وذلك هو الذي آلت إليه تربية سريعة موسمية حين جوبهت بمكر المنافسين ، فلم تستطع التعامل المرن مع الحصار والالتفاف على الكيد ، وانزلقت بسرعة إلى حرب الاستنزاف ، ونجا تنظيم محفوظ من مثل ذلك ، وانضبط ، وانتظر ، ومال برأسه قليلاً حتى مرّت العاصفة ، ثم انتصب ثانية مقتدراً مؤهلاً لمعركة ثانية ، في حين التهى التيار بمناوشات اُريدت عن عمد لتصرف عن أصل التوجه ، وهذه تقديرات لا تنبغي في حينها إلا لعقلية قيادية مستوعبة للمنظر العام المرئي والغائب ، وتعين عليها فِراسة مستحكمة ، وذلك هو الذي هُدي إليه محفوظ فأصاب ، ومضى درسٌ بليغ في امتياز التنظيم على التيار ، والاكتشاف اللاحق لمثل هذا المعنى في أيام العافية ليس له كبير دلالة ، ولكن أن يكتشفه محفوظ إذ المحنة جاثمة والعاصفة الهوجاء تقتلع الثوابت : له كل الدلالات ، وذلك ملمح من ملامح شخصية محفوظ يذهل(1/35)
عن رؤيته الغافلون .
ومن فنّه في التوغل الآمن : إيمانه بإمكان العمل الانسيابي في داخل الآليات الديمقراطية المتاحة ، فهناك دستور وأحزاب وبرلمان وجهاز حكومي يمكن أن ينفذ له من خلال حلف وعملية تبادل منافع تحقق الغطاء اللازم لتحرك تدريجي محدود ضمن سيطرة مراكز القوى الإستراتيجية المالكة لسلطة القرارات الحاسمة ، وكل مجموعة سياسية في مثل هذه التركيبة بين حالين واحتمالين : التقدم البطيء عبر المشاركات والتحالفات ، لتحقيق مجال نشاط قانوني يمنع التحرش ، أو الاعتزال السلبي الذي قد يتطور تحت الضغوط العاطفية إلى معارضة فيها اصطدام وتحديات ، ولكل حالٍ منطقٌ ولغةُ جدلٍ يختلط فيها السلب والإيجاب ، فترجّح عند محفوظ السلوك الأول بسبب تعب شعب الجزائر من الانفلات الأمني ونزيف الدماء ، ورأى وجوب مُهلة استدراكية وبنائية يتحقق أثناءها التطوير والتخصص واستكمال النقص ومدّ الجذور وإقامة العلاقات والاقتراب من جمهور الناس ، وفي تقديري أنه كان مصيباً جداً في فهمه لموقعه وموقع جماعته من المنظر الشامل ، ولكن الحاصل التنفيذي العام لخطته هذه جاز عليه خلل وفتور ، بسبب بقيةٍ من مزاج عاطفي في الشعب الجزائري يميل بها إلى الغضبات والمفاصلات ، ويطلب المعجزات الكبيرة في الزمن القصير ، ولأن رحيل محفوظ دَهم فجأة : استولت شِبْهُ حَيْرة ، لمبالغة في أتباعه وجُنده في التعلق به ، واعتقادهم تحقق الإلهام له ووفرة الكارزمية في طريقته القيادية إلى درجة قارفوا فيها نوعاً من الاتكالية عليه ما كان يريدها ولا يصححها لهم ، ومع ذلك فإن عَجْزَ التنفيذ عن مجارة الطموح لم يُسبب تراجعاً ، بل استعداداً للتصويب ، وآية ذلك استنفار الخَلَف لأنفسهم لاكتشاف مداخل تطوير القُدرة التنافسية ، وفي الجزائر اليوم بعض فراغٍ يساعدهم على العودة إلى الوتيرة النابضة ، وإتقان الاستنفار ، وقد اجتمعت النصائح توصي بتربية إيمانية زهدية تمنع احتمالات تسرب(1/36)
الوساوس الدنيوية التي تغزو الصف الإسلامي من خلال سعة الامتزاج بالمحيط السياسي والتسرب الخفي لإيحاء الاُبّهة الوظيفية إلى نفوس الباذلين ، وفِراستي أنّ أصالة البداية التي حرص عليها محفوظ أن ترفل فيها جماعته ستكون هي الغالبة بحول الله ، وأن الفتور بعده نفضة ، وأن البركات الربانية ستحل في الدار ، لسلامة النوايا وبراءة القلوب ونقاء المضمَر ، ولا نعلم بحمد الله إلا خيراً ، ويخسأ الحاسد ، ففي الجزائر رجال .
ويترجح ذلك بما كان من طريقة محفوظ في بناء وتكوين الطبقة القيادية الجماعية الواسعة ، وكانت بداية منقبته هذه : نصيحة من جمهرة الإسناد الخارجية التي ظاهرته ، أنصت لها واستوعبها مع بداية النشأة قبل ربع قرن ، فلم يؤمن باستبداد وتفرّد ، واستولت عليه حماسة جيدة لتنفيذ منهجية الدورات التربوية التطويرية ، بآفاقها الإدارية والتخطيطية ، وتوعيتها السياسية ، ومقولات الفكر الإسلامي المتقدم ، والفقه الشرعي المقارن ، وبها استطاع وفي وقت مبكر أن يضع عن يمينه زُمراً من الثقات الوعاة والأعوان المكافئين ، وكان ذلك منه نِعم الاستعداد ليوم الحاجة التي بدت عند رحيله رحمه الله ، وبها سجّل نقطة امتياز تتيح لنا أن نرويها الآن عند التغنّي بمظاهر إبداعه .
وليست بأمرٍ خفي : ثقافته الشرعية التامة التي أبرأته من البدعة والتقليد والتأثيرات الاستشراقية في محيط فرنسي الثقافة ، ونعرف ميزته هذه من خلال قياسه بأقرانه .
وهذا الإيجاب : يزينه إتقان اللغة العربية وتدريسه لها ، وفي ذلك إيماء لسبب عامل النُبل في شخصيته ، فإن إجادة اللغة تمنح مهابة ، ومن ذكرياتي معه أننا تداولنا يوماً خبر الجيم المخفّفة المُعطّشَة فأفادني بفوائد ، رجعت بها إلى تحليقات طالب العلم حين يلين له مُعلّمه فيمنحه شيئاً ممما حباه الله به ، وشعرت ساعة كأنه أُستاذي .(1/37)
فكل ذلك من امتيازات ومناقب محفوظ ، الباذل الصامت الفصيح ، عليه رحمة الله . . .
تاريخ المقال6/8/2006(1/38)
الجِراح المُربّية
في تحليل الظاهرة التربوية في الحياة الإنسانية : أن المنظر يُربّي أكثر من القول ، ويترك آثاراً نفسية عميقة في المشاهدين أو في الذين يُعانون ، وهم رجال المشهد والمنظر وميدان العمليات ، لأن التفاعل مباشر ، فيكون ضارباً في الدواخل.
وهذا المعنى أدركه الشاعر الجزائري الداعية الأستاذ محمد برّاح فقال :
لا شيء أفصح من بلاغة جُرحنا (1)
فمنطق المنظر المأساوي بخاصة : نافذ أشد النفوذ ، وهو أبين من تأويل عائم ، ويمنع أن نثق بوعد مُخادع يؤذينا ويُسرع إلى كلام مجاني يزعم فيه الإخاء ولزوم التعايش ، بل جُرحنا الغائر ، وأجسادنا المثقوبة ، ورؤوسنا المقطوعة : أتت بشروح يعجز عن مثلها الجاحظ والزمخشري لو أرادا الوصف الدقيق ، وجرح العراق أكثر نزيفاً من جُرح الجزائر ، فتماثلا في الفصاحة الصامتة التي تترك أثراً تربوياً من خلال شخوصها ظاهرة بين الناس.
ومن ظواهر الحياة : ازدحام مكوناتها ودقائقها ، وتراكم الأجزاء ، وحشد يتدافع بالمناكب في تنافس شديد ، ولذلك يحتاج أحداً يُرتبه ويُعيد له النظام ، وهي مهمة المُصلحين والقادة ، وذلك هو الذي لفت نظر محمد برّاح في الجزائر من سيرة النحناح فقال في رثائه :
هذا الذي هذّب الدنيا ورَتّبها !! (2).
ولا يكون من شرط عمل القائد في ذلك الاستيفاء ، لكنه يضرب المثال ويضع الهندسة والتصاميم ، ليقتفي المستوعب الذي يؤذن له أن يفهم القصة.
ويزداد تأثير هذا القيادي الذي يُعيد ترتيب البيت إذا كان رجل تربية يجيد صنعة الرفق ، فإن الرجل التربوي له حنان ، ويُعلم الناس التفاؤل ، ويَصدق عليه ما وصف به محمد برّاح شيخه النحناح من أنه قد حوّل الآهات ألحاناً ، لأنه رَصَد في يومياته كيف أن رهطاً من شباب الجزائر جريحاً حزيناً أصابته الدهشة :
فضمّه الشيخ والأناتُ صاعدة حتى استحال بلمس الشيخِ فرحانا(3)(1/39)
فطفق الرهط يعمل بجد ، ويستدرك ، وانتقل إلى سمت الإيجاب بعد إذ طرقته وساوس السلبية ، وكادت تتلفه نزوة الثأر وردّ العنف بالعنف.
والقيادي المقتدر ، والصاعد الجسور ، والتربوي المبدع : من شأنهم تأسيس الثقة ، وبثّ التفاؤل ، ليكون الإقدام والاقتحام ، وهو الذي أدركه محمد برّاح من صنعة محفوظ عندما سادت الأحزان ، فقال في رثائه مفتقداً المؤجِّجَ السائق نحو الطموح :
من سوفَ يَقْدر ملء الفجر بعدكمُ بالأُمنيات إذا ما احتلّنا الضجرُ ؟ (4)
وذلك هو وَجَل الصدمة الأولى ، فإنه ذهل عن عمق المنهجية التربوية التطويرية الدعوية التي التزمها ، فأتاحت مضاعفة الشعور بالمسؤولية لدى الوارث ، فأشاع البسمات ، رغم الصدمات ، وذلك هو الشأن المنهجي عند كل محنة ، يريدها المنافس أن تكبتنا ، فتتحول عندنا إلى منحة.
وكل جديد لم يتدرب على تداول مثله الدعاة : يوشك أن يقترن بخطأ ومحاولات فاشلة ، وتلك ظاهرة عامة في حياة أجيال المسلمين المعاصرة حين مارست السياسة ، أنها أتلفها الرهق والتجريب والسير غير المنهجي ، وأجمل الشاعر محمد برّاح وصف أحوالها فقال :
إن الجماهير في إبحارها تعبَت تحتاج في لُجج الأمواجِ ربَّانا(5)
فالمتاهة ولّدت المتاعب ، ولن تكون راحة إلا من خلال تصوّر واحد : أن يتولى القيادة السياسية إسلاميون فقهاء زُهّاد وعاة يُريدون وجه الله.(1/40)
وهذا هو الذي جعل الوعي الدعوي يُشير بوضوح إلى أن الحل الرئيس لمشكلة العالم الإسلامي بصورة عامة إنما يكمن في نزول قيادات ماهرة إلى الميدان ، تُربي مَن حولها وتدرّب جيلاً من القيادات الوسيطة الثانوية التي تساعدها وتحمل معها الأثقال وتتوزع المهام والواجبات ، وتعمل تحت ظلال فكر قيادي متناسق ، وفكر سياسي متجانس ، فتنشأ كتلة قيادية جماعية توفر الأمل بحصول استقرار وإنجاح خطة تنموية شاملة للبلد ، بل وبدء جولة جديدة للحضارة الإسلامية الإيمانية بعد إذ أنهكت الحضارات المادية الحياة الإنسانية.
ويتقوى الأمل بإمكان حصول هذا الطموح في أرض الواقع : أن هناك من أبناء الجيل الدعوي الصاعد الجديد من انفعل بالقضية الإسلامية ، وألهمته الجروح والأزمات أنواعاً من الإلهام ، حتى أصبح الآن جاهزاً لتوفير الإسناد القيادي التخصصي للخطط القيادية إذا مسحت على رأسه يد التدريب الإداري والإبداعي.
وهو جيل رأى محمد برّاح جمهرته تملأ الساحة فأجاد وصفه :
? أشبالنا كَبُروا .. ويكبر شوكنا ..
مَن كان يحبو .. صار لا يهوى الرقود ..
إنا عرفنا كيف نُبدع ..
كيف نصنعُ من جماجمنا الصعود ..
برجالنا .. بنسائنا ...
: يمضي الشهيد مع الشهيد ...
عفنا المنابر والوفود ..
فاحذروا ..
أن تُغضبوا فينا الجراح .. ! (6)
فالجراح علّمته وجوب ولوج طريق الإبداع والصعود ، ولا يُريد أن يُغضبه جهول ، وإنما يُريد أن يحوز التربية التخصصية ليكون إيجابياً ويشرع في البناء ..(1/41)
وهكذا فإن هذه المعاناة ، التي تتعامل مع دماء وأجساد معذبة ، وقتل ذريع يومي : كما أنها وصف محشور بالسوء ورديء المعاني والحقائق : فإنها أيضاً هي الخلفية التي تسند التطور الشخصي للداعية ، والتطور الجماعي ، لأن الألم يعصر القلب فيحركه نحو طلب الأمن والهدوء ، ويحفز العقل للتفتيش عن مخرج وحل ، ويؤدي ذلك إلى حوار مسترسل بين الأصحاب ، وتفتيش عن منطقٍ ودقة وصفٍ وأسباب تعليل ، وكل ذلك نضوج ، لكنه يحتاج ثمناً من الحُرقة واللذعات والصبر المر ، بيد أنه في النهاية يتحول إلى وعي وقناعات وتراكمات من الأجزاء التخطيطية التي قد يستوعبها عنصر آخر فيما بعد هو أذكى وأكثر دربة ، فيرتبها في منظومة وأنساقٍ نظريةٍ تُشكّل منهجية عمل وتحرك لجيل كامل ذي امتداد عريض ، ويكون شاهداً ومثالاً واضحاً لكيفية ولادة المعاني ورسوخ جذورها ونموها وتحولها إلى فكر قيادي ، وهذا الذي يحدث اليوم في العراق من خلال محنة التنافس بعد الغزو الأميركي ، مع وصف إيجابي آخر زائد على هذا المقدار ، يتجلى في أن التنافس الذي تمارسه العناصر الدعوية يحصل بموازاة أحاسيس جهادية عالية وشعور إباء وعزة ومكارم تمنحها الانتصارات على أقوى جيوش العالم ، ومناظر سقوط جنود المارينز قتلى في الطرقات ، أو احتراقهم في سيارات الهامفي ، وهذا الإثخان يرفع وتيرة المعنويات لمتداولي الفكر القيادي ، فيتضاعف التأثر ، ويتسارع النضوج ، وتطوى الأرض ويطوى الزمن للصاعدين الذين تدفعهم محركات التنافس.
الصاعد يُربي نفسَه إذا أومأنا له .. !(1/42)
لكن هذه المنحة القدرية الإيجابية التي تولد من رحم المعاناة والألم ليست هي إلا البداية والأرضية اللازمة للبذر والإنماء ، ولا يمكن أن يزعم أحد أن فيها الكفاية ، ولابد من ممارسة تطوير متعمد للعناصر وفق منهجية متكاملة تعتني برواية كل التجريب الناجح ليُقتدى به ، والتجريب الفاشل لقطع استرساله ، واستخدام العلوم الإدارية ووسائل صناعة الرؤى الاستراتيجية ، ثم انتظار الزمن لإنضاج المتدربين ، ولا يكون ذلك من خلال تربية تلقينية فقط ، بل من خلالها وعبر حلقات متواصلة من الحوار الحر الذي يُثير كوامن العقول وعلى سُنة الصراحة والنقد الإيجابي البنّاء الذي لا يتحرج من تسمية الخطأ بأنه خطأ ولا يجد ضرورة لاستعمال لغة دبلوماسية في ذلك ، ولكن مع الأدب والاحترام ، وبلا تجريح واتهام ، ولعل عشر جلسات من الحوار الأُصولي تستغرق الواحدة ثلاث ساعات : أبعد أثراً في التربية والإنضاج من خمسين محاضرة تلقينية يبقى فيها المتدرب صامتاً كأنه خزان يتم ملؤه.(1/43)
ومن الأهمية بمكان للقادة وأئمة التدريب أن يُدركوا أن عملية التوعية والإعداد للجمهرة الذكية المختارة لا ننتظرها فقط من محاضرة وحوار ورواية أسرار ، وإنما ذلك شطر منها ، والشطر الآخر المكافئ إنما ننتظره من المتدرب نفسه ومحاولاته الذاتية ، ونقطة البداية في تحفيز استعداداته هو التكليف ، بأن يُقال له بأنه مُرشح لأن يكون إعلامياً أو تربوياً أو سياسياً أو إدارياً أو مُخططاً ، وبذلك نكون قد أطلقنا زناد تفجير الطاقة الكامنة فيه ، مع مراعاة رغبته وميوله الخاصة ، فيبدأ يُفكر ، وتصير له قضية ، ويُصبح مُرتبطاً بمحور تدور حوله رغباته وأحلامه وتطلعاته ، وتتبدل نفسه ويُصبح توّاقاً راغباً في التطور ، مُهتماً بالإنتاج ، وتتحقق في داخله نقلة ملموسة أساسها نفسي معنوي ودربها عقلي فكري ، فيمر بمرحلة اصطياد الخواطر ، كأنه حفيد لابن الجوزي ، ويحرص على استلال كل خبر يقرؤه في جريدة أو مجلة يتعلق باختصاصه ، حتى يتجمع له أرشيف مُصغر ، ويطفق يهتم بالبرامج الجادة في الفضائيات ، ويرصد مالاً لشراء الكتب التخصصية ، ويستعير المراجع ، وأهم من ذلك في الحياة المتطورة المعاصرة أنه يشرع في رصد مواقع الانترنيت ، ويتقاسم مع أقرانه المماثلين له في تخصصه واجب الإطلاع عليها ، وقد أخبرني الثقة بأنه وجد أكثر من عشرة آلاف موقع باللغة الإنكليزية لعلم الإدارة والتخطيط الاستراتيجي والمرحلي ، وهذا رقم يشير إلى مثله في السياسة والاقتصاد وفروع التخصص الأخرى ، فلو أن مركز التدريب استحسن أفضل مائة موقع منها ووزع على كل متدرب واجب المتابعة لواحد منها أو اثنين ، مع ترتيب وسيلة لتبادل الجديد المعثور عليه من كل متابع لأصحابه : فإن المحصول العلمي في الباب المرصود يكون ضخماً جداً ومتجدداً بحيث يرتفع مستوى الجميع ، ولو أن المركز التدريبي ألزم كل متدرب بموضوع جزئي داخل التخصص العام يكتب فيه تقريراً أساسياً ويظل يطوره ويضيف إليه كل(1/44)
شهر من خلال حصيلة المتابعة : فإن مجموعة كبيرة من التقارير ستنضج في آن واحد ، بعد سنة أو سنتين ، واجتماعها تتكون به موسوعة كاملة في كل تخصص تكون هي أساس التفقيه للجيل الثاني اللاحق ، وبعد عدة سنوات يتم إنجاز عدة موسوعات متكاملة ، مع خوارط وجداول وإحصاء ولوحات عرض تعليمية تفهيمية يمكن استخدامها من قبل عدد من المحاضرين لإشاعة حقائق تخصص معيّن بين جميع الدعاة والداعيات ، فينتج من ذلك وعي مُكثّف وتنتقل قضية التخصص من كونها قضية رهط صغير نذر نفسه للمتابعة والاجتهاد والاستنباط إلى قضية جمهور إسلامي واسع العدد يستوعب الدروس ، فتكون نقلة استراتيجية ترجيحية في ميدان تطوير التنافسية الشاملة ، وكل ذلك من بركات النصف الذاتي الشخصي من برامج التطوير ، ويكون التراكم الإنتاجي بالغ الأثر عند حصول التقادم.
المُحفّزات البيئية أُستاذ ثانٍ .. !(1/45)
لكن الحفاظ على البيئة هو ركن ضمان هذا التأثير ، وأهم معاني البيئة هنا : انطلاق العملية التطويرية من مؤسسة تكون مثابة دائمة تتيح التعامل مع منهج لا مع أستاذ وشيخ فقط ، وهذه المؤسسية ضرورية لبذر معنى وجود حصة لكل منتسب في الملك ، وسهم وشراكة ، وعبر هذا الشعور يتضاعف الحرص بدافع التوافق مع الفطرة ، ثم وجود الأقران المتماثلين هو المدلول الثاني للبيئة ، وبه يكون تنافس في الخير ، وشبه رياء هو إلى الحلال أقرب وإلى الإباحة أنسب ، أشار إلى مثله الغزالي في إحياء علوم الدين وجعله من أسباب عمران العلوم ، وبين الأقران يرتفع التكلّف ، وتشتغل السجية وتؤدي دوراً إيجابياً في تبادل الرأي وتحديات الجدل المنطقي أثناء المساجلات التي ينتصر خلالها كل مشارك لرأيه ويحاول إثبات صوابه عبر أسباب وذكر تجارب وتذكير بتاريخ فيه شواهد ، ولعل توفر المكتبة والمراجع والأرشيف وبنك المعلومات وأجهزة الكمبيوتر والعَرض والتسهيلات المختبرية والهندسية تُشكل جانباً مهماً في تكميل معنى البيئة الملائمة المعينة على التطور ، وليس آخر معانيها : توفر جانب الجمال والخضرة والمقاييس المعمارية ووسائل الراحة من تبريد وتدفئة وجلوس مُريح ، ولما وفد الشاعر البدوي علي بن الجهم على الخليفة المأمون وشرع يمدحه : بدأ قصيدته بقوله خليفة كالكلب في الوفاء ، فثار عليه الحاجب والوزير والخدم يسكتونه ، وذهلوا عن أنه بدوي ، هذا مدى تشبيهاته التي توجهها انطباعاته البيئية ، فسارع المأمون إلى زجرهم ، وقال : بل اسكنوه جانب القصر الخلافي على دجلة شهراً ثم اجلبوه وليعرض بضاعته ، فرجع إليه بعد شهر يتغزل ويقول في ديباجة قصيدته :
عيون المها بين الرُصافة والجسرِ سَلَبْنَ الهوى من حيث ندري ولا ندري(1/46)
فأذعن الجميع لإبداعه ، وأيقنوا أن البيئة لها أثر ومقال وحق وقيادة للعاطفة والعقل معاً ، وهي مصفاة لغوية للشاعر والناثر ، بل هي مختبر جمالي يمنح أعذب الأساليب وأرق الألفاظ ، وكذلك البيئة تكون في عالم التدريب والتطوير ، تضرب عمقاً فتحول الفوضوي إلى منهجي ، واليابس إلى طري ، والجافي إلى ذوقي ، واللجوج إلى دبلوماسي ، وتفتل أُذن القاسي حتى تعيده إلى الرفق ولين الجانب ، وكل ذلك من فن التربية ومنحة المحيط القياسي الموافق للمواصفات ، حتى أني تكلمت يوماً فذكرت أن الدراسات المعمارية والطبية توصي بأن يكون ارتفاع المنضدة ستاً وسبعين سنتيمتراً ، ليلائم معدل حجم الإنسان العادي وطوله : تعجّب الحاضرون ، إذ تلك حقيقة هندسية عالمية ، ولكن الشعوب في البلدان المتخلفة تجهل مثل ذلك ، بسبب نقص المنهجية ، وهو السبب الذي جعل الأستاذ التلمساني-رحمه الله-حريصاً على أن يُقلد دحية الكلبي الذي تمثّل جبريل-عليه السلام-في صورته ، فكان الأستاذ يخرج علينا في أجمل الثياب ، ويُعلّق على صدره وردة حمراء.
المنظومات التدريبية توجّه الأداء الذاتي(1/47)
وهذا النمط من الإدراك لهذه المعطيات الإيجابية في المساعي التخصصية يوجب على مجموع الدعاة عملاً استدراكياً يُعوض عن تقصيرنا فيها خلال المرحلة الماضية ، أو حرماننا منها بسبب الظروف الصعبة والظلم والمنع الاستبدادي من حاكم أو حزب مسيطر أسندت له الدوائر العالمية المرتبط بها مهمة تجهيل الشعب وإبعاده عن كل وسيلة تنموية ، ولابد أن نتحدى المصاعب ونجالد ، على قاعدة : سدّد وقارب ، والدعوة الإسلامية المعاصرة بحاجة إلى إثراء في الرؤى ، وتوسيع مواردها وتنويع أساليبها ووسائلها ، وإسناد هذه المهمة إلى مراكز بحثية تصف الواقع وتحصي ، وتطلع على آخر الفنون في التخطيط ، وتحاول الاقتباس والتطبيق ، مع اعتبار الخصوصية الإيمانية الشرعية ، ثم الانتقال إلى التدريب من خلال مؤسسات محلية تتبادل الخبرة والمدربين مع مؤسسات مثيلة عديدة في الخارج ، وربما مع أخرى غربية وشرقية ، ثم إدامة التواصل مع المتخرجين من خلال دورات تنشيطية ، ومجلة ، وتقارير ، وسلسلة كتب تخصصية ، وترجمات ، وندوات ، والتعامل معهم كأساتذة في موضوع جزئي محدود أو أكثر يلقون فيه محاضرات لجيل لاحق ، وإذا أضيفت إلى كل ذلك متابعة وتقويم للأداء واختبارات استيعاب وجلسات تشاورية لبحث مواضيع مهمة وإصدار توصيات بعدها : فإن وتيرة الجد ربما تستمر ، ويكون المختص أحد الأمناء الذين يكفلون حياة موضوع تخصصه ، وحضور معناه عند الشدائد والمنعطفات ، ويتوفر ضمان مراعاة مذاهبه عند البحث ، والله الضامن ، وتحصل حالة بِشارة ونِذارة تصدع بمدلولاته ، وكأنها جزء من التعبد بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، الذي هو شأن المؤمنين.(1/48)
والمظنون الذي يترجح بالدلائل والقرائن والتجربة : أن كل الشباب الإسلامي الموقن بالمفهوم الدعوي : يصلح أن يُرشَّح لهذه الخدمة التخصصية والمراتب القيادية إذا كان عنصر الذكاء متوفراً ، مع قوة الشخصية ، وبخاصة عندما يكون هناك إمهال وترك فرصة للتدرب ونمو الأحاسيس الذاتية ، ومن الخطأ التكليف الفوري لمخلص يسترسل مع عفويته الموروثة وغفلته التي تفرضها عليه آلام المرحلة ، ولكن يكون الانتقاء و اكتشاف العناصر الصالحة ، ويكون تكليفها وتفجير زناد الشعور بالمسؤولية فيها ، ويتم تلقينها ، وتدريبها ، وتحسين بيئتها ، مع فتح مجال الاستفادة من المعطيات المتاحة ، وإنضاج عقولها بالحوار ، ثم التدرج في إسناد المهمات لها ، والعفو عن الخطأ الذي تجنح إليه وهدره ، بتأويل قاعدة تعلم الصواب من الخطأ ، وقد يُسنَد الفقير بكمبيوتر ، ومجموعة كتب ، وبمواصلات مجانية توفر عليه عناء انتظار وسائل النقل العامة ، وربما يكون توظيفه وتفريغه ، وإتاحة مجال تحصيل الماجستير والدكتوراه له في الجامعات المحلية والخارجية في موضوع تخصصه نفسه ، وتوفير فرصة زيارته لبلاد أُخرى ليقتبس من أساتذتها ويكتال من عطاء مؤسساتها ، وقد نتعمد طبع رسالة له يُبشر خلالها برؤاه وأُمنياته ، لتكون محور أحاديثه ، أو نمنحه فرصة المشاركة في حلقة تلفزيونية ، ليشتهر ، فتُلزمه شهرته بالتعلم الزائد وتجميل أفكاره وتجديدها ، استثماراً لأحوال الفطرة التي ترغم صاحبها على أن يربأ بنفسه عن الظهور بمظهر الرجعي المتخلف العتيق الثقافة والأفكار الذي تجاوزه الزمن ، وكل ذلك إذا شاء الله ممكن ، والثقة بالعناصر الصاعدة أصل في الخطة التطويرية ، وإذا نجحنا في توسيع الكتلة الدعوية التخصصية واستطعنا ترسيخ معادنها ومضاعفة ثقلها النوعي ومجال أدائها الحيوي : فإننا نكون قد كسبنا نصف معركة المصارعة مع التحديات ونحن جلوس بعد لم نَقُم ولم نلبس الدرع ، ورُبّ فرصة تلمحها عُصبة(1/49)
تتحاور فتدعونا إلى حُسن استقبالها ، فيتولد تفوق حاسم ، ثم رُبّ خطر خفي زاحف تحت ستار يكون التحذير منه فتكون العصمة من دهشة وحيرة والنجاة من تلاوم بين الدعاة يكسر النفوس ويُولّد الإحباط ، وعُرف الناس أن يكون اجتياز الصحراء بدليل يعرف الكثبان والآكام ، ويمهر في اقتفاء الأثر ، وأن تمخر سفنهم البحار بربّان له بوصلة ، وملاح له إلى نجوم السماء نظر ، ويفوز باللذة الجسور المتقن لفنون النزال والتملص والتمويه والتفلّت ، ويرجع صفر اليدين الهيّاب المتلفّت.
ولكن مما يبعث شعور الاطمئنان إلى المستقبل ويجعله واعداً : شيوع تيار التدريب الإداري والإبداعي في أقطار كثيرة ، وظهور أئمة فيه هم إلى النضوج والكفاية أقرب ، واكتشافنا أننا أغنياء في الرجال ، الذين يمكن أن يضعهم القادة عن أيمانهم ، وأن يصولوا بهم ويجولوا ، وتمام النجاح يكون في توسيع نطاق هذا الانتشار ، وفي تبادل الخبرات ، وتقاسم الأدوار ، ثم في الإلحاح في طلب العمق النوعي والجزالة الموضوعية والمكنة العلمية والعملية ، لأن العلم ثقيل ، ونحن معادن ، ولن يرضينا أن يكون أحدنا فضة ، فإن الذهب أفضل ، وإلكتروناته ضِعْفَ الكتروناتها ، ثم أقدر منه اليورانيوم ، فإنه مُشع ، والدعوة إشعاع في أصل مهمتها ، وإنه متفجر ، وتكاثف طبقات الران على القلوب والظلم على الشعوب لا يبددهما غير عمل تفجيري للمعاني يخرج عن الرتابة والدغدغة ومشية الاستحياء والخفر الأُنثوي ، ويدنو إلى أقرب من شبرين من الصراحة.(1/50)
و يتضاعف إيجابنا وخيرنا عندما نعلم أن الأحزاب المنافسة تورطت في سلبية الدمويات وجهلت التاريخ ، وكانت قد بذلت كثيراً ، وقدّمت التضحيات ، وتحالفت مع العولمة ، وتم تقديم التمكين لها على طبق من لؤلؤ ، وكان من الممكن أن تحبّب نفسها للناس ، وتتزين ، وتؤسس لها قبولاً عند أهل العراق وعموم أُمة الإسلام من خلال خطة ذكية يكون فيها تدليس وستر لنواياها الخفية ، ولكنّ الله أبى ، وجعل العناصر الغوغائية الجاهلة تستبد داخل كل حزب منها بأموره ، وتم عزل القياديين المؤهلين للممارسة السياسية الذكية ، واستطاع الفوضويون التحكم ، العراة عن علم التخطيط والرؤى الإستراتيجية ، فتشوهت الصورة ، وتم تقديم نموذج لحكم إرهابي يتوجس الناس منه خيفة ، وساعدت القنوات الفضائية المحلية الحزبية على تقديم صورة مثيلة شوهاء ، إذ ذاك مبلغ علمها ، والإناء ينضح بما فيه ، فتراجع الرصيد العالمي لهذه الأحزاب ، مما يجعل امتيازنا نحن بالإيجابيات والعمل المنهجي مضاعف الأثر بإذن الله.
وعلى كلٍ : فإن هذه المقالة أرادت منع الدعاة أن يستهلكوا أنفسهم في أحزان تولدها الدماء والقتول المستحرّة ، والعدول عن ذلك إلى توظيف المحنة إيجابياً لتحصيل نقلة تطويرية تدرأ محناً مستقبلية مثيلة ، مع إعلان الثقة بجيل الشباب الجديد الصاعد ، وأنه مؤهل لكي يقود إذا بذلنا له التدريب ، وخير هذا التدريب أن يكون مؤسسياً ، وأن نصنع له بيئة مُساعدة ، ومِنى لمن سَبق ، وإن لم يكن منك إقتداء بجدك السبعين حين كان يقف بسوق عكاظ خطيباً : فليس أقل من أن تكون مستمعاً عالي الذوق
===============
(1) (2) (3) (4) (5) ديوان نسائم الفجر الصادق / 10 / 6 / 37 / 4 / 41
(6) ديوان ملاحم من شموع القدس/ 32
تاريخ المقال5/17/2006
عرض الردود(1/51)
المستلزمات التربوية لجيل التحدي
الملاحظة الأولى: نسبية هذه المواصفات:
هذه القضية تُبحث بطريقة نسبية، حسب المرحلة التي يكون فيها العمل الإسلامي، والمكان الذي هو فيه. أحيانا تكون الدعوة في بلد ما في مرحلة تأسيسية، فيكون آنذاك من اللازم التجرد للتربية، وتأصيل المفاهيم الأساسية، وصياغة خُلق الداعية الأساسي، من ثبات وتضحية وإخلاص وما إلى هذه المعاني... ولكن تجد في بلاد أخرى قد تجاوزت البدايات ومرحلة التوسّطات وصارت في مرحلة دعوية متقدمة وتواجه أعمال المؤسسات الكبيرة، هنا تكون الصفات التي يتحلى بها إخواننا من جنس آخر. لا نقول أنه لا يكون هناك حاجة إلى الإخلاص، وإلى التربية الإيمانية وأمثال ذلك. ليس هذا هو المعنى، ولكن نقول أنه يُفترض أنها حلت بمقادير وافية في جماعة العاملين، وأنه تلزمهم بعد ذلك أنواع من الكفاءات الأخرى، التي تجعل عملهم عملا مكافئا للحاجة الموجودة، فإذا ركزوا على خبرة سياسية وقضايا تنظيمية، في حين تُركّز الدعوة الأخرى التي في بلد آخر (التي هي في المرحلة التأسيسية)، على قضايا خُلقية وعلى أمور الثوابت. لا يشكل هذا اختلافا في المنهج.
هذه المسألة إنما هي تابعة لطبيعة المرحلة التي تكون عليها الدعوة، أو طبيعة المكان. أنا أتكلم عن دعاة المفروض أنهم تجاوزوا مرحلة البداية، وأنهم كُلّفوا بمواجهة تحديات النظام العالمي الجديد، وأنهم ينزلون إلى ساحة معقدة، لا الساحة البدائية التي فيها مجرّد التربية ومجرد تزكية النفس، فإني إن خرجت عن هذه المعاني الابتدائية إلى معاني أخرى سياسية وتخطيطية لا يَخطُر ببال أحدكم أنني قد تجاوزت الإيمانيات وأنني ازهد فيها، أو لا أوصي بها، أو لا أحَبّذها لإخواني، بل طبيعة الظرف تقول أنه ينبغي أن نزيد على الإيمانيات هذه الشروط المتقدمة.
هذا استدراك لابد منه، ولا بد أن نذكر أنفسنا به قبل أن نتوغل في مثل هذه الصفات.(1/52)
الملاحظة الثانية: مفاضلات جزافية:
البعض قد تكون له قدرة للعلوم الشرعية، والبعض الآخر قد تكون له طاقة للتحليل السياسي والممارسة الميدانية السياسية، والبعض الآخر قد يكون صافقا بالأسواق، والبعض الآخر قد يكون على طريقة أخرى. فليس معنى هذا أن يقوم أحد بمقام التفضيل ويقول هؤلاء يحتكرون الصواب، وأما هؤلاء فأهل خطأ، هؤلاء هم الأولى في هذا الزمن وقولهم هو المقدم والآخرون ينبغي أن يتأخروا، أو ما شابه هذا من الأقوال الجزافية.. كلا بل هم حَلقة مُفرغة ليس فيها ضلوع، على بُعدٍ مُتساوٍ من مركزها ومن نقطة المحور.. فكل العاملين للإسلام فيهم خير وفيهم نوع من الطاقة التي تتكامل.. وتلك سنة الله.
مواصفات جيل التحدي:
أنا أرى أن هناك جملة من الصفات يمكن أن يتحلّى بها الداعية الذي يواجه هذا النظام في هذا المجتمع المعقد، أولها ما أسميه: التربية على المنهجية.
أولاً: التربية على المنهجية .
تعريف المنهجية:
المنهجية إذا عرّفناها لا يمكن أن تحصرها المعاني حصرا دقيقا، وإنما هي أنماط في التعامل يُدركها من يُعاني التعلّم الطويل، أو من يُعاني تنفيذ مسألة مستمرة. كيف يتناول هذا العلم؟ أو كيف يتناول تنفيذ ذلك الأمر؟
نرى أن المسألة المنهجية قضية من باب تجريبية، أي بمرور التجربة تنمو. المعنى المُهمّ الذي فيها أنني ما أهجم على الأمر هجمة واحدة، بدون أن أضع أولويات وبدون أن يكون هناك تدرج.
أسس التناول المنهجي:
التناول المنهجي يتطلّب منكم أن تضعوا:
أولا: جذور المسألة العميقة.
ثانيا: الإحاطة بالأمر الواقع بنظرة شمولية، وليس من خلال زاوية معينة.(1/53)
ما أريده من هذا الواقع ليس مجرد معرفة خبرية، بل تراد لتطوير الأمر وفق مفاهيمك، ووفق مصالحك، بحيث يصب في واديك. فإذاً هو عمل تَسعى له ويؤثر في المستقبل. فأنا لا أدع المسألة تسير بنوع من التلقائية، المهم أنني وفق ثوابت فكرتي ووفق ثوابت مصلحتي أن أفهم ما هو هذا الواقع وإلى ما يُراد تطويره؟ هذا في خلاصته التناول المنهجي للقضايا.
نواقض المنهجية:
المفاضلات الأحادية:
الحذر من الدخول في المفاضلات الأحادية، أعني أنه يكون هواك في مسألة وفي جانب، فكأنك تفهم الواقع والمستقبل وفق هذا الجانب.
مثلا: ما يقال: أيّهما أهم العلم أم الأدب؟ هذا سؤال في أصله فاشل. سؤال في أصله يهدم حقيقة من حقائق الحياة. الأدب مُهمّ والعلم مُهمّ، وهذا له مجال وهذا له مجال.
فالقضايا تحكمها النظرات النسبية، وتقيس على ذلك المسائل في قضايا الحياة جميعا.
لا بد أن نعترف بالموازين النسبية في فهمنا لطبيعة الحاجات الكبيرة، وأن بينها تكامل.. ما لم نفهم الحياة بهذه الصورة فإننا نقع في التفسير الأحادي الذي يفهم الحياة في الجانب الذي يكون هواه.
أحادية التفسير هو دائما النقيض لمسألة المنهجية، والتَّقيّد في الفهم من غير نسبيّة هو نقيض المنهجية.
قيمة المنهجية:
- المنهجية تضاعف قيمة العمل، فالعمل الذي يجيء في مكانه المناسب، أو وقته المناسب يكون أكبر بكثير ممّا لو يكون في وقت آخر.
الثمرة الكبرى لهذه المنهجية أنها توفر الطاقات، وتجعل للعمل الصغير أثرا مضاعفا.
ثانياً : التربية على كسر القوقعة والخروج إلى الحياة الفسيحة، والتفاعل الاجتماعي وتحقيق الكتلة البشرية الإسلامية الضاغطة في معترك الحياة:(1/54)
في أوّل تأسيس الدعوات في أقطارنا، تَعوّدنا على أن نكون بعضا مع بعض في البيئة المسجدية، وأن نعيش في بيئة تُعمّم العفاف، خاصة إذا كان هناك نوع من الفساد في المجتمع، فعلّمونا العيش الانعزالي الذي فيه حصانة لهؤلاء الشباب الذين ينعزلون، بحيث أنّه يبقى وفياً لإسلامه، وفياً لأخلاقه، فيتطبّع هذا الأخ تدريجيا بهذه الطبيعة، حتّى أنه لا يأنس بغير بيئة المسجد، ولا يأنس إلا في بيئة إخوانه الأقربين، يستروح لهم لأنه يجدُ خُلُقاً عاليا، ويُصبح كارهاً لما هو خارج هذا المحيط المسجديّ من الناس الذين فيهم مصلحيات، أو يصبح خائفا من الآخرين، إما يغرونه بفساد أو يغرونه بإلحاد وما أشبه، فيكون كما في المثل، كأنه بيضة هشة والآخرون كأنهم حجارة صلدة.
أنا لا أنكر أن هذه التربية هي ضرورة، وأنها عصمتنا في شبابنا الأول، ولكن مع الأيام الصف الإسلامي توسع وتقادم عهده وتخرجت أجيال.
لِمَ لا تُفكّر بأن الأخ الذي عمره عشرة إلى عشرين سنة في الدعوة، إذا خرج إلى المجتمع سيكون هو الحجارة ويكسر تلك القوقعات، ويكسر تلك القيود؟ !
الإسلام هو الحُجّة الأقوى في الحجج المتصارعة، وصاحبك متحصن بهذه الحجج الإسلامية القوية فلا تخف، أضف إلى ذلك أننا في موطنٍ السّياسةُ فيه تستدعي حملة ضغطٍ، وتركيز للقول، وإسناد بجمهور وافر عريض مُنساب في الساحة.
نحن بين مصلحتين أو بين مفسدتين متعارضتين، المصلحتين المتعارضتين: مصلحة أن نبقي على الدرجة العالية من أخلاقنا، ولكن في القوقعة الصغيرة المسجدية، أو البيئة الطاهرة التي نرتضيها في أي مكان، ومصلحة أكبر أن ننتشر في الأفق، ونأخذ من الآخرين الذين هم دون هذه الصفات.
ينبغي أن يكون هناك نوع من الموازنة، وأغلّبُ المصلحة الأكبر. المصلحة الكبرى تقول أن منطق السياسة لا بُدّ له من عدد وافر، ولا بد له من جماهير تتسع، فإذاً أنا أتسع بهذه الجماهير وأبقي القيود بيدي.(1/55)
ثالثاً التربية على الإيجابية والإبداع:
كان الداعية في زمنه الأول متلقّياً، يُراد منه حسن التلقي، يُلقى له الكلام الإيمانيّ، يُروَى له خبر الأولين، ويُراد منه أن يحسن الاستماع، ويفتح القلب لتلقي مثل هذه التربية.. هذا أمر جميل وهو الأساس في صياغة العناصر الإسلامية، لكن ينبغي أن لا ننسى أن هذه هي المرحلة الأولى (المرحلة التأسيسية)، أما بعد ذلك فنحن نريد من الأخ أن يكون هو قائلا، هو الذي يُربّي غيره.
لمّا نقول التربية بالتلقي ليس معناها فقط اللسان، أنك تقول مفردات العلم فيسمع، اليوم التربية هي عملية متكاملة فيها هذا التلقي، وفيها أيضا المسائل العملية التي تؤخذ من خلال المباشرة والمعاناة والانصباغ العملي بذلك، وفيها قضايا أخرى، أنك تدير العمل بواسطة مجموعة عاملة في مؤسسة، بنظام إداريّ، كقضية صحفية أو مشروع مشترك مع الآخرين ... فقضايا الحياة تتنوع وليست قضية التربية التلقينية هي النوع الوحيد فيها، أن تتربى من أعمالك اليومية في المؤسسة، أو تعاني معاناة في عمل صعب.. من هذه تتربّى.
إن الحياة متنوعة، وتفاصيلها كثيرة، ولابد لنا من أن نوجد نموذجا هو الذي يعرف ماذا يليق لكل حالة من الحالات، وهذا الذي نعنيه بالإيجابية، فالبعض يبقى ينتظر حتى يؤمر فيتحرك، والبعض يأخذ وَصْفات جاهزة، فإذا لم تصله الأوامر من قادته يبقى بدون حركة، يصير له سنوات طويلة في الدعوة، ولكن لا يتحرك إلا أن يُقال له تحرّك وهذه خطة التحرك، وهذا يمينك وهذا يسارك.(1/56)
بالأول كان في التجنيد الإجباري في بلادنا المتخلفة يأخذون القرويين ويعلمونهم اليمين واليسار.. يقولون لهم يمين دُر أو يسار دُر، فأنذاك لا يعي هذه الأمور وهو قروي.. يمسكونه حجارة في كفه ، فيعلم أن التي فيها الحجارة اليمين، فإذا قالوا له: إلى اليمين در، بسرعة يشتغل الكمبيوتر وأدرك أن اليمين هي التي فيها الحجارة! الحجارة التخطيطية دائماً في يده، أما هو أن يكتشف الجهات الأربع وأن ينظر في السماء إلى النجوم ليقود نفسه كما يقود نفسه الغزال أو الذئب بالفطرة التي هو عليها، ما يستطيع ذلك... كلا أيها الإخوة .. الإيجابية مطلوبة عندنا .. أنت نقطة البداية والنهاية في هذا العمل .. أنت عالم مستقل بذاتك، لو فرضنا أنك في جزيرة وحدك أتنتظر رسائل وفاكس وتلكس ليقال اعمل كذا وانظر كذا...
المبادرة الذاتية والإيجابية والابتكار والاختراع ونفسية التملص من الحصار ونفسية التمرد على الواقع المتخلف ونفسية الاستشراف.. هذه أخلاق أساسية في تكوين خلق الداعية المسلم اليوم. و إلا يكون طبعه من نسخة واحدة متكررة.. نريد العنصر الذاتي المنوع في ابتكاراته.. وكم وضع بعض الناس في أماكن يخدمون الأمة بكاملها من خلال المبادرة الفردية، والقضايا في هذا والتمثيل يمكن أن يستطرد ولكننا محدودون بالوقت.(1/57)
أنا قد كتبت سابقاً في القصص الإسلامية، بطولة حسين رؤوف قائد البارجة الحميدية في حرب البلقان سنة 1912م، وهو في الأسطول العثماني، لوحده اخترق الحصار البحري اليوناني وذهب إلى ميناء يسمى ميناء سييرا وفعل فيهم ما فعل لأنه فاجأهم في الخطوط الخلفية، دمر الميناء.. ثم قفل راجعاً، لم يعترضه أحد، ولكن لا يستطيع فك الحصار مرة ثانية، فرجع إلى الإسكندرية، ثم إلى بيروت طيلة مدة الحرب حتى انتهت، فجاء إلى الدردنيل وإلى البوسفور ظافراً مظفراً واستقبلته الأمة كبطل تاريخي، وصار بعدئذ وزيراً للبحرية في أيام الحرب العالمية الأولى، ثم لما صارت النكبة على الأمة واحتلت بلاد الإسلام، عمل مع مصطفى أتاتورك على تحرير بلاد الإسلام من اليونان والجيوش الإنجليزية.. دارت حروب كان بطلاً فيها، فصار رئيساً للوزراء في تلك الأيام، ثم لما أراد أتاتورك إلغاء الخلافة، تمرد عليه وأبى، وقال أنا مسلم ولا يمكن أن يكون ذلك، فاختلف معه وعاش طيلة حياة أتاتورك منفياً في باريس، فلما مات أتاتورك سنة 1936 ، رجع إلى تركيا ولما رجع إلى تركيا وجد نفسه معززاً مكرماً مرة ثانية، فعينوه سفيراً لتركيا في بريطانيا.. بقي سفيراً طيلة الحرب العالمية الثانية. يقول: تشرشل يحاول إغرائي، لأقدم تقريرا إلى حكومتي للموافقة على دخول الحرب إلى جانب الحلفاء، ولكن كنت أرى أنه لا مصلحة لتركيا في ذلك وأريد أن أحفظ بلادي. وفي الديمقراطية التركية أن البرلمان لو أراد شيئا ولم توافق الجهة المختصة فإنه لا عبرة لهذا القرار.. يقول: أن تشرشل عمل العمل الكثير على إغراء نصف البرلمان أن يوافق بالرشوات ، قد وافقوا على دخول تركيا الحرب ، يقول : ولكن تقريري لم يتبدل وجنبت تركيا الحرب ، وبقيت طول الحرب على الحياد وأخرجها سالمة من براثن الحرب، وما استطاعوا أن يفعلوا شيئا ، يقول : حتى تشرشل دعاني ودعا كثيرين وعمل وليمة وقام وخطب ومجدني تمجيدا عظيما على أمل أن أنصاع،(1/58)
وأكتب تقريري بدخول تركيا في الحرب، ولكن لم أفعل ذلك...
دعك من البطولة الأولى، لكن أنظر مقامه في الإباء إذ هو سفير، كيف أن موقف رجل واحد، قد عصم الأمة من تردي اقتصادها، وعصمها على أن تكون وقود حرب، وعصم نفوسا وأرامل وأيتام، وجنب تركيا مزالق السياسة ومتاهاتها في تلك الأيام، وهو فرد واحد.
هذه نسوقها، ولو هو مثل كبير، والداعية قد يزدري نفسه ويقول: لست بسفير ولا بطل وما عندي بارجة حميدية... لا، نحن نسوق الأمثال والقصص لا لتكرر ولكن في متقارباتها، ما تدري أنت ما يخبئ لك القدر.. أتظن في نفسك أنك جرم صغير، وفيك انطوى العالم الأكبر. كما يقول الشاعر.
أنت عالم كبير أيها الأخ، وعزيز بإيمانك، ويمكن أن يسهل الله عليك أن تكون في موطن من المواطن التي تملأ بها الأرض عدلا كما مثلت جورا، تملأ فيها الجامعة أو المؤسسة التي أنت فيها منهجية وأخلاقا وتوفيرا للأموال بعد تسيب وتهور ولا أبالية، يمكن أن تكون أنت مثالا للشباب، في أيام انسحاب وهزيمة وفتور.. يمكن أن تكون أنت مثالا لابتكار مشروع إنمائي ناجح إذ الأموال في العلم الثالث تهدر وتحوّل لهم طبيعة استهلاكية أمريكية، هي من متممات النظام العالمي الجديد. أنت كبير بمقدارك، تستطيع فعل شيء كبير لدعوتك ولأمتك. لا تزدري نفسك، لو نظرنا إلى أنفسنا أننا نقاط بداية ونهاية، وأننا يمكن أن نفعل الشيء الكثير، لأذن لنا ذلك، والحياة ما هي إلا شيء منك ومن أبناء عمنا وخالاتنا وجيراننا ومعارفنا الآخرين. من هم الذين يقودون الحياة؟ لم تفترص أن الأمير الفلاني أو الديكتاتور الفلاني... في ظل الديكتاتور أستطيع أنا أن أعصم البلاد من أشياء كثيرة، كعمل هذا الرجل الذي قلناه حسين رؤوف صاحب البارجة، أو غيره وغيره.
رابعاً : التربية على الأصالة الشرعية والتوسع في العلم .(1/59)
هذه المسألة كثيرا ما ينساها دعاة الإسلام، يعرفون من الإسلام العناوين المهمة، يعرفون من الإسلام العاطفة والإيمانيات الدفاقة، ولكنهم لا يذهبون إلى أبعد من ذلك بتعلم الموازين الشرعية والقواعد في تعارض المصالح والمفاسد، وفي سدّ الذرائع وحكم الضرورات وفي رفع الحرج وأمثال ذلك مما قاله الفقهاء، وأن هذه المسائل بعضها ثوابت شرعية لا يمكن التنازل عنها، وبعضها متغيرات يمكن أن يتعدد فيها الاجتهاد، حسب الزمان والمكان والظرف والمصالح... كما قال الفقهاء.
هذه القضايا والتمييز بين الثابت والمتغير لا يأتي إلا بمطالعات شرعية متعمقة وليست في كلمات يسيرة تؤخذ من أفواه المتكلمين. في المؤتمرات نأتيكم ساعة ونتكلم وتطربوا لهذا الكلام ثم لا شيء بعد ذلك. كلا حَنيُ الظهور فوق هذه الكتب العلمية الشرعية ذات الأوراق الصفراء القديمة التي بدأ البعض يزهد فيها هو مظنة وجود العلم النافع ومظنة وجود الأصالة في التلقي.
هذه القضية أكبر أمثلتها أيها الإخوة ما جرى من هذا الزلزال في الخليج.. قضية الكويت، لو كان عند الجميع الأصالة الشرعية التي تميز معنى العدوان، وتميز معنى الأمة الإسلامية ووحدتها، وتميز معنى الاستعانة بالمشركين وعدم جوازه وأنه لا يجوز إلا في الحدود الضيقة من استعمال سلاح أو استخدام دليل أو ما شابه ذلك... لو اتفق جميع الإخوة وقتها على هذه المعني، وهي مبثوثة في الكتب، ميسورة لمن شاء، بمدة يد قصيرة واحدة إلى أي رفّ في المكتبات الشرعية تستطيع أن تستخرج هذه القضايا، لوفر علينا جهد كبير ولاصطلحت القلوب، ولما حصلت التعكيرات ولما تبدلت القلوب بعضها على بعض.. ما حدث ماهو إلا نوع من هجران هذه العلوم الشرعية وعدم الركون إلى الأصالة.
المسألة أبعد من ذلك وإنما هذا المثل الصارخ الذي أتينا به، وإنما نحن في أيامنا وليالينا.. عمل اليوم والليلة يحتاج إلى شيء كثير نعرف به مثل هذه التفصيلات في الأصالة..(1/60)
طريقة التربية مثلا، على ماذا تربي وماهو الثابت والمتغير في المعاني الإسلامية الأصلية في القضايا التربوية وتزكية الأرواح وما إلى ذلك.
القضايا التي هي أبعد من التربية، مسألة الفكر، من نحن وما فكرنا؟ وبأي الموازين نزن الأفكار الأخرى المطروحة كالرأسمالية والقومية والديمقراطية والشيوعية وغيرها؟ نعرف فقط أن الشيوعية لأنها إلحاد صارخ أنها من الحرام، ولكن لا نميز ما في ثنايا الديمقراطية من مشابهة في معاني الحرية بينها وبين الإسلام، أو بينها وبين الرأسمالية ساحة مشتركة في الحرية الشخصية في استثمار الأموال، ثم لا نميز ما فيها من معاني الربا ومعاني الاحتكار ومن معاني أخرى تخالف قضايا الإسلام... ففكرنا الذي نطرحه يراد أن يعتصم بهذه الأصالة، وعملية التأصيل، بينت الأيام أنها كانت ضعيفة في ساحتنا الدعوية، بعد أن كنا نظن دهرا أنها قوية وأنها وافرة وموجودة بالمقدار الكافي. بينت أحداث الكويت أنها لا. موجودة بمقدار ناقص، وفضحنا فضيحة ينبغي أن نتوب منها، وينبغي أن نرجع إلى تعلم أصول العلم الشرعي وأن نجعل هذه المسألة بابا لمحاسبة النفس وبابا لاستدراك الأخطاء، وليس من عيب في ذلك. العيب هو الإصرار على الجهل.. حاشاكم. ولكن مسألة الأصالة ما تزال ديدن المربيين، وألفت مؤلفات تعين على ذلك، ومن آخر ما رأيت من الكلام اللطيف لأخينا عصام البشير في مسائل شرح الأصول العشرين والأستاذ جمعة أمين كتب في شرح الأصول العشرين أيضا أشياء لطيفة في هذه القضايا، وكتب الأستاذ علي عبد الحميد محمود في فقه الدعوة إلى الله أشياء من هذا القبيل، وكتب آخرون من مجموع كتاباتهم يمكننا أن نتعلم المعاني الأولية للأصالة، وفي كل كتب الفقهاء والتراث القديم زيادة وتفصيل آخر نرشح لكم أن تقرأوا فيها كائنا ما كان المذهب، كن شافعيا أو كن مالكيا . ستصل في النهاية إلى نتيجة واحدة ورؤية مشتركة.
=====
محاضرة مفرغة
يتبع ..(1/61)
تاريخ المقال9/19/2005(1/62)
جوامع التربية
الداعية المسلم واعد، يتلألأ وجهه بنور الإيمان والعلم، ولمعات الوعي، والانسجام مع ألوان الفن المعرفي، والقسمات الحضارية، حتى إنك لتدرك ما تصل إليه نظراته من مدى بعيد..
لتكاد تجد فيها كل المعاني الصوافي العوالي ووصف المنهجية التامة المنبغية له ولمن يصافح ويصاحب.
ركضَ فانكبح... فوازيناه فاتزن...!
وسبب هذه الظاهرة المشرقة والحالة الصائبة التي تبدو وكأنها الاقتراب من الإتقان إذا قسناها بفوضى تلفّ السائبين: أن الداعية المعاصر يستفيد من عطاء التربية المنهجية الدعوية التي صقلتها تجارب المراحل السابقة وهذّبتها ردود الفعل تجاه أخطاء ارتكبت كشفها النقد الإيجابي، وأوضحها الرجوع المتأني إلى الفقه الشرعي والتحليل الموضوعي، وزادتها وضوحاً المعرفة بالواقع والمقارنة التاريخية، فكان من كل ذلك ما هو أشبه بعملية «النخل» و«الغربلة» بمنخل الموازين والقواعد والتجارب، فنتجت من ذلك «صفوة» مؤهلة للقيادة الناجحة والخطو الموزون والتفلّت من المخاطر.(1/63)
وهذه السابقة الناجحة تشير إلى أنه من الأهمية بمكان أن تتضح الخطة المرحلية وخطة المدى البعيد في أذهان الدعاة في أي قطر، معاً، قبل الخطو والممارسة العملية، ليكون الفهم الجامع الشامل حارساً للمسيرة الدعوية من أن يدفعها دعاة مغامرون إلى ارتكاب شطط وتعجّل وأعمال ارتجالية غير مدروسة، إذ أن شيوع المعاني الخططية المتفق عليها تؤسس حساسية بالغة لدى الدعاة ضد كل توجّه مخالف لها يروّج له متهور أو متحمّس يخالف القرارات والاختيارات الجماعية التي ما جاءت وما سُنّت إلا بعد شورى وحوار وتقليب لوجوه النظر والاستعانة بالكم التجريبي العظيم في الأقطار الأخرى وعند الأجيال السابقة، وسينتصب كل داعية آن ذاك رقيباً على أعمال أصحابه وأقرانه قبل القيادة ورقابتها، وسيعظ ويكبح جماح الفائر قبل أن يرفع عقيرته، ويمنع الإغراب والشذوذ أن يمتدّ ويستطيل ويكون قضية، لأنه الأقرب، ويعامل أقرانه على السجية، فيعرف ما هنالك من فلتات الألسن، حيث لا يمنعها تكلّف أو حياء حين يكون الخطاب مع الوجوه.
لكن الوصول إلى هذه المنزلة الصائبة من تأسيس الرقابة التلقائية الإيجابية في القاعدة يلزمه وجود شرح للخطط، بوفاء وتفصيل وتمثيل، ونشر لفقه الدعوة، وكشف لمفاد الدراسات الميدانية، وتوصيف الواقع، ومحاولة التفرّس في المستقبل، وهذا كله واجب تربوي ريادي ثقيل ليس بالسهل، لكنه إن نُفّذ: وهَب بإذن الله إتقاناً، وتوحيداً لرأي الصف، واستثارة لإبداع الدعاة الكامن، وجرأة على اقتحام الصعب، وأملاً وثقة، وموازين تمنح الانسجام والتجانس، مع الطاعة الواعية، والتعامل الرجولي الرفيع الكابت لكثير من وساوس الفتن.(1/64)
ماذا نريد، وما هي قضيتنا؟ وما هي وسائلنا؟ ومن هو صديقنا والحليف؟ ومن هو المزاحم والعدو؟ وما هي الثوابت والمتغيرات؟ وما هو وصف المجتمع الذي نعيش فيه، وعوامل الإيجاب والسلب في تطوره؟ ووصف الدولة والمحيط الإقليمي والسياسة العالمية: كل ذلك من الأسئلة التي يجب أن يجيب عليها هذا الفقه الذي يُكلَّف الرواد بصياغته وترويجه بين طبقات الدعاة.
هذا... أو اشبع ما شئت من آراء نشاز، وأخطاء تتعاقب، واقتباس أساليب خفيفة من أحزاب علمانية فوضوية، بل يصل الأمر إلى استعمال أساليب صبيانية، من قتل شرطي، وتحطيم محل خمور، واختطاف سائح، بتأولات ساذجة، وفقه مبتور، ويرتكب خطأ على خطأ، فيوتر الوضع الدعوي مع الدولة والناس بلا مبرر.
إن بثّ أخلاق الإيمان في الناس، وبناء الأساس الفكري، وترويج العلم الشرعي، وتربية مجاميع التخصص، وتنويع العمل المؤسسي: كلها معالم خططية يعجز الشاب عن اكتشافها إن لم يلقنه مخضرم.
وذلك هو الدرس الجلي الذي تفصح عنه التطبيقات السابقة الناجحة لخطة التربية المنهجية في طورها الأول، ولذلك نتوقع بإذن الله نتائج أقوى وأعمق تأثيراً إذا حصل تجويد لها بشرح الخطط، ومعرفة الواقع، والدراسات المستقبلية، ومزيد الاطلاع الشرعي، وتوسيع العمل التخطيطي.
إن العمل الدعوي الناجح الذي يوازي المقاييس العصرية والتطور الحضاري يلزمه الانتقال من العفوية والارتجال والصيحات البدوية والتعميمات الغامضة والمسارات العاطفية إلى أداء متقن قياسي عبر تمكين أهل التخصص في كل فن، وكل قطر يحتاج إلى وجود عشرات في كل حقل، ونحتاج مائة سياسي قدير ممارس يصلح أحدهم أن يكون رجل دولة، ومائة رجل أعمال متمرّس، وخمسين إعلامياً، ومائة تربوي، وعشرةشعراء، وأمثالهم في العلوم التطبيقية وفروع الفيزياء والكيمياء وأنواع الهندسة وغيرها، ويلاحظ في كل ذلك:(1/65)
وجوب حيازة الدكتوراه، وهي هوية لاحتلال المراكز المتقدمة. وتكثيف الخبرة والتجرد للفن الذي يتم التخصص فيه، وتطبيق منهج تطوير. والعمل مع الأقران كفريق عبر مؤسسات ومراكز حكومية أو دعوية أو شركات. والإعلان عن النفس وإشعار الناس بوجودهم وبآرائهم عبر تأليف الكتب والكتابة في الصحف والظهور في التلفزيون وحضور المؤتمرات.
لذلك، ولصعوبة هذه الشروط والمستويات فإن صناعة «داعية متخصص خبير» واحد يلزمه خمس دعاة ربما لينجح في النهاية واحد، ولذلك يلزم التبكير في توجيه أصحاب الذكاء والقابليات الفطرية الذين تساعدهم ظروفهم العائلية على ذلك، إذ الرحلة طويلة ولا بد من استثمار الفرص التي تتاح، وهذا يمكن أن يكون عبر جعل الأسرة محضناً لرعاية التخصصات كل حسب هواه ورغبته، بأن تكتشف الجماعة معدن كل داعية معه فتوجهه إلى اختيار الحقل التخصصي المناسب. وتهيئ له كل أسباب التعلم وإتقان تخصصه.
نربي السائب من حيث لا يشعر... ونظل نرعى من خَتَم
يجب أن تكون مهمتنا التربوية أوسع من المنهج التربوي الداخلي، وعليها أن تسعى إلى إحداث تأثير قبلي وبعدي.
وهذا أمر لم يتضح عند كثيرين، ويظنون أن التربية الدعوية إنما هي عملية محدودة محصورة بحفظ آيات وأحاديث ومدارسة كتب ، وهذا وهم، والصواب أن جميع أنواع الأعمال الدعوية لها مردود تربوي أيضاً، يرتفع بالمعنويات، ويعلم الدعاة تحليل الأحداث، ويزودهم بحجج، ويمنحهم منطقاً قوياً في التخطئة والتصويب، ويسهّل مهمتهم التبشيرية كثيراً. والأثر التربوي للعلم والكتب أوضح، والممارسة التجارية تقوي الشخصية، وتسري عدوى هذه القوة إلى غير التاجر عبر الحياة الجماعية، ثم هل التربية أبعد من اتعاظ بحدث قديم يرويه مؤرخ، ورمز عاطفي يترنّم به شاعر، واجتهاد جديد يزعمه فقيه؟(1/66)
من هنا فإن جميع الأعمال الدعوية يمكنها أن تُحدث تأثيراً قبْلياًّ في نفوس أنصار الدعوة والمبتدئين، بل في أناس لا نعرفهم يعيشون في زوايا المجتمع الكبير، يبلغهم خبرنا أو يقرأون صحافتنا وكتبنا، ويشاهدون وقارنا وعفافنا، وكل ذلك يربيهم ويختصر لنا الطريق التربوي معهم إذا التحقوا بنا، ومعنى ذلك أن التربية الدعوية لا تبدأ من الفرد من يوم جلوسه في مجالسنا، بل قبل ذلك بكثير، وكلما زاد إعلان الدعوة عن نفسها، وأظهرت زعماءها وعلماءها، وتفنّنت في طرائقها، وتنوعت خُططها: زاد هذا التأثير التمهيدي التربوي موضوعياً، وانتشرت أفقياً بصورة أعرض .(1/67)
والمفروض أن تكون هناك تربية بعدية أيضاً للدعاة الذين يكملون دراسة المنهج وأمضوا عدة سنوات خاضعين للتربية الأسرية المكثّفة، فإن أمثال هؤلاء عادة ما يتوزّعون على اللجان والمراكز وإدارة المؤسسات وتلبية حاجات الأداء الإعلامي والسياسي، وقد تنحّت صرامة الإداريات ويبوسة الممارسات السياسية من مخزونهم العاطفي الإيماني، أو تكون مهنهم مرهقة، مثل التجار والأطباء، لا تدع لهم مجالاً كثيراً لحضور الأنشطة أو مجالس العلماء في المساجد أو كثافة المطالعة، فهؤلاء وهؤلاء ينبغي أن تعينهم جهودنا التربوية على مواصلة الزخم الذي حازوه في سنوات دراسة المنهج، وأن نلاحقهم وهم في أماكن عملهم بنشرات خاصة تحيطهم علماً بما لا يمكن أن تقوله صحيفة الدعوة العلنية، وبيوم في الشهر يلبثون فيه النهار والليل في مسجد للتعبّد والتلاوة على طريقة جماعة التبليغ، ربما، وبقدوات يزورونهم، وبموقع إنترنت خاص بكل ثلّة منهم غير الموقع الدعوي العام، ربما، وأقل من ذلك إرسال أشياء بالفاكس لهم والاتصال الهاتفي، وبابتكارات إبداعية أخرى، مع ملاحظة أن وجود أنواع العمل الإعلامي والسياسي قد تغني عن أكثر ذلك، لوجود جزئيات كثيرة تقوم بتذكير الغائب في مهنته أو المنغمس في إدارته وتنتصب له منها مواعظ وعوامل ربط معنوي، وسيحمله التيار الدعوي العام حتى ولو لم نوجّه له جهداً تربوياً خاصاً.
آن لنا أن ننطلق من مراكز بحث ومؤسسات دعوية ما استطعنا
فالداعية إذا انطلق من «مؤسسة دعوية» منحازاً لها، مدافعاً عنها، مفتخراً بها، مرتاداً أنواع المصالح لتطويرها وتوسيعها وتجويد أدائها، حريصاً على سمعتها ومستقبلها، لأنه شريك في ملكيتها، وهو من أهل البيت، ليس بغريب ولا طارئ ولا زائر ولا وكيل.(1/68)
ومركز البحوث هو الشكل المثالي لهذه المؤسسة، والمفروض أن نزوده بمكتبة جيدة، ونصور على دسك أرشيف المراكز الأخرى، وهي خدمة أتاحها الكمبيوتر تمنحنا فرصة الاستفادة من عمل جاهز دون أن نكرر الجهد، ثم نجعل في المراكز عناصر متميزة فيتشكل من كل ذلك عامل إغراء لجذب دعاة كثيرين كباحثين، فيعمر جانب الوعي السياسي والفكري في الجماعة، ويكون نوع من التشغيل الجيد للطاقات المعطّلة والتفعيل لأدوار أصحاب القابليات، وربما يحصل إبداع متميز من عناصر مغمورة، وكل ذلك لوجود استثمار لفطرة التملّك والمثابة التي شرحناها، ولقيام «استدراج» للدعاة إلى مفاصل البذل النظامي المنهجي يرتكز على الآثار التربوية الطبيعية للجوانب الفطرية، وكثير من الدعاة لا تحركهم ذاتية خاصة بهم، لكن يحركهم التيار العام، ويأنسون للغير إذا رافقهم، ويستوحشون عند الانفراد، وتجاربنا في هذا الباب كثيرة.(1/69)
لكن سعة العمل الدعوي وكثرة الدعاة توجب التوسع في إنشاء هذه المؤسسات وجعلها مثابات انطلاق وأوبة، وهذا يحصل بالتنويع، حتى ول انثلم بعض الوصف المؤسسي في بعضها، فالصحيفة الدعوية «مؤسسة»، والمدرسة الإسلامية «مؤسسة»، وكذا دور النشر، والجمعيات الشرعية، والنوادي الأدبية، والمجامع العلمية والتاريخية، والروابط التخصصية، وحتى الشركات التجارية أحياناً، فيكون من كل ذلك قرابة مائة مؤسسة دعوية، في الواحدة منها العشرة من الدعاة، والعشرين، إلى الخمسين والستين ربما، وبذلك تقضي على الوساوس والبطالة والتسيب والفردية والفوضوية، ويتكامل سير موزون مخطط، وقد أعجبني جداً قول قائد الدعوة في إندونيسيا في مثل هذا الموطن حين قال: وإذا لم نجد مركزاً أو جمعية أو مدرسة لنحقق مثل هذه التحريكات: أعنّا الداعية على افتتاح دكان له أو مكتبة صغيرة، لنعلّمه مخالطة الناس ونيسر له الاتصال بهم، وهو قول صحيح يدل على وعي، ونسي أن يضيف ما ذكرناه من استثمار فرصة التملّك ومغزى المثابة.
========
من كتاب منهجية التربية نقلا عن مجلة المنار
تاريخ المقال7/13/2005(1/70)
تجديد التربية التطويرية
إن التربية الشمولية نقدمها لجمهرة عريضة من أجل أن نكتشف العناصر المتميزة .
التي يمكن أن تقود مائة نوع من العمل الدعوي، بل أستطيع أن أزعم أن مقياس النجاح التربوي يكمن في مقدار النجاح في تربية هذه الصفوة المختارة ذات النباهة، فلابد أذن أن نتقن التربية التطويرية، وأن نضع لها منهجية رديفة للمنهج الشمولي العام ومنها محاضرات خاصة، ومطالعة كتب، ورؤية فيديو وأفلام سينمائية ممثلة وتسجيلية، وزيارة ساحات ساخنة، ولقاء بعلماء شرعيين، وحوار مع مفكرين، ومع أناس مشاهير من رجال الأعمال ومدراء الشركات والمصارف، والصحفيين، والسفراء، وأساتذة الجامعات، مع تدوين الداعية لتقرير ميداني، وبحث موضوعي، في أشياء أخرى شرحتها رسالة معاً نتطور ولست أحب التكرار.
والدليل على حاجتنا إلى التطوير: أن الشكوى دائمة، وأكثر القادة يلخصون الأزمة بكثرة الأعمال واللجان والمؤسسات والمنابر الدعوية، وقلة الرجال الذين يصلحون لها.
وتقول تجربتي الشخصية أن التطوير يبدأ اكتشاف العناصر الواعدة اكتشافًا مبكرًا، ورعايتها إذ هي في ظلال المنهج العام قبل تخرجها منه، وبزيارة ومكالمة هاتفية، ورسالة تشجيع، ومحاولة نقلهم إلى العاصمة ربما إذا كان أحدهم نائيًا، وتيسير دراسته الجامعية، وهذا جزء من فقه تكليف اللجان التربوية بالتفتيش والمرور الأسري.
مجلة الخلاصات :(1/71)
قد يفوت الدعوة الأخذ بالأسباب على أكمل وجه أو قد لا يتيسر ذلك إلا أن العمل الاستدراكي الأقوى أثراً فيما أرى في هذه الحالة يكون في إصدار مجلة الخُلاصات في كل بلد، تلخّص المقالات المهمة المتميّزة في الصحف الإسلامية وغيرها، والتحليلات المثيلة التي تبثها قناة الجزيرة وأمثالها، وخبراً يتهامس به الناس غير منشور، وما في بعض الكتب الجديدة، وتصدر أسبوعياً، إذ ليس كل داعية يُتاح له حيازة هذه الصحف أو يجد وقتاً طويلاً لقراءتها أو مشاهدة القنوات التلفزيونية، وحبذا لو تكون نفس المجلة على موقع خاص في الانترنت، فيتاح إطّلاع أهل الأقطار الأخرى عليها إن رغبوا.
وأظن أن صدور هذه المجلاّت المستخلصة التي يمكن أن تعيد نشر بعض التقارير والدراسات أيضاً.
اللسان الدعوي الواحد :
تدبير التنسيق الموضوعي بين كلام الوعاظ وخطباء الجمعة والإعلاميين وأساتذة الجامعات ومدرسي المدارس، بحيث ينسجم مع قضايا الساعة، ويكون كلامهم صادراً من منطلقات واحدة في التوصيف والتحليل، وبذلك تحدث الظاهرة الليزرية في تركيز الضوء وإكسابه قوة الاختراق والنفاذ والتأثير القوي، ويتنقل السامع يومه وليلته بين مصادر الإيحاء هذه فتزداد قناعاته، وتتصاعد حماسته، ويتعاظم ولاؤه للدعوة، وينطق بدوره، ينقل الرأي لجار وجليس وصديق وشقيق، وهذه هي إحدى أهم الوسائل التربوية، وهذه الطريقة هي من عطاء العمل الدعوي، وتعجز عن أمثالها أعمال المستقلين ويتأدى بها استدراك عظيم على أي ضعف في منهجية التربية، ويزداد أثرها بخاصة في الحالات التي يجري فيها تعتيم إعلامي متعمّد يحجب الحقائق عن جمهور المسلمين، ووحدة كلام المتكلمين تقذف تلقائياً في قلوب السامعين معنى لازماً يحس بعين الإكبار والإعجاب لدعوة ناجحة تقف خلفهم وتوحّد أفكارهم، وهذا الأسر المعنوي هو بلا شك أحد التمهيدات القوية لبدء المرء تأسيس علاقة مع الدعاة.
معالجة العيوب الاجتماعية :(1/72)
إن معالجة آثار العيوب الاجتماعية في الداعية، تكون بالوعظ والحوار والتفهيم، وبقدوات يضربون المثل الصحيح.
فالمنهج العام حدٌ أدنى وقاسم مشترك، وكذا أمثاله من الكتب التربوية التي يصدرها مؤلفوها يتتبعون في الأغلب المواعظ العامة التي تصلح في كل مجتمع، ولكل جيل، ولكل فرد، ولكن تبدي تجاربنا ومعرفتنا الواقعية أن كل بلد تشيع فيه سلبيات وعيوب بين الناس ربما تختلف عن البلاد الأخرى، ومنشأ ذلك أسباب كثيرة يكشفها تاريخ البلد، ولذلك يلزم أن تضاف إلى المنهج لمسات نسبية تختلف باختلاف البلاد، فيها معالجة لتلك السلبيات، لأن الداعية المنتمي لنا ربما يظل دهراً بعد انتمائه رازحاً تحت تأثيرها، لأنه ربيب المجتمع العام.
انظر مثلاً: لا أُبالية الناس بما يجري للبلد والأمة من كيد استعماري وظلم عالمي، أو نشر فساد، ويكاد وهذا المرض أن يكون عاماً في معظم البلاد، فكلٌ يقول: نفسي نفسي، والقليل مَن يتصدّى للإصلاح والمقاومة والرفض والتضحية ببعض جهده وماله من أجل الصالح العام، ومفتاح علاج ذلك: ترك الفرد يشعر بالمسؤولية العامة وأنه جزء في تكوينها وتفعيل الأعمال الوقائية، وكذلك إنقاذ الفرد من حالة الإحباط واعتقاد فوات أوان العلاج والاستدراك، ويكون غرس مثل هذين المعنيين في النفوس بالبحوث والكلام المنطقي، وبأدب وشعر يعززهما، والنجاح في هذا المسعى التربوي يفتح الباب لانضمام مئات ألوف إلى الدعوة كأعضاء وأنصار، يحبسهم اليوم إحباط أو حرص شخصاني.(1/73)
وقريب من هذا: الخوف، ورهبة استولت على النفوس من متاعب تسببها المطالبة بالحقوق، بينما تكمن حماية مؤكدة في سعة عدد المطالبين وتكتلهم، لو كانوا يعلمون، إذ يعجز الظالم عن مقاومة تيار عريض سائد، ففي الكثرة حماية، وهي أنفذ وسائل الدفاع، بينما استطاع الظالم أن يظلم في أماكن عديدة لأنه انفرد بقلة لا يظاهرها سواد كثير، وهذا المنطق أصل، ولكن ترويج أغاني ديوان الحماسة لأبي تمام جزء من العلاج أيضاً، وتأليف شعراء الدعوة لعشر دواوين مثله خطوة أخرى في العلاج، وعشرة دواوين أخرى في الحرية وعشقها، وما زالت أوتار العاطفة أنفذ سلاح، وتدوين أخبار البذل وقصص الشهداء تستأصل كل هاجس، ولما قرأت بنتي مدونة شهداء الحماسة في فلسطين استأذنتني فوراً بالتطوع، فأفهمتها أن في الرجال كفاية.
وانظر مثلاً: آثار هجمة المال والترف في البلاد النفطية، مثل الخليج والسعودية، فقد صرفت جيلاً واسعاً إلى اللهو والاهتمامات المرجوحة، والكلام الأخلاقي الوعظي كثير، ولكن يبدو أن بروز القدوات المحللين بأعداد كبيرة فيه علاج أجدى، وبخاصة: إسناد ذلك بمؤسسات شبابية تتيح اللهو المباح النافع والمغامرات البريّة والبحرية وصعود الجبال وقطع الصحراء وركوب الخيل والجمال، وكل ذلك من التربية القبلية التي لو بذلنا فيها الجهود فإنها لا تضيع، وإنما نجنيها لاحقاً، لأنها تؤدي إلى وجود جيل جدي منفتح النفس قوي الشخصية، وانفتاح النفس هو الشرط الضروري لإبصار الحق وإدراكه وتمييزه، ولذلك فإن هذا اللهو المباح هو جزء من منهجية التربية الدعوية عند التحليل المتأني، وإن لم يدركه وينتبه له أكثر الدعاة.(1/74)
ومن العيوب المحلية: تأثر المسلمين في الفلبين بالأعراف النصرانية التي فيها تساهل أخلاقي بصورة خاصة، وانطلاء دعاية تمازج الثقافات المختلفة في ماليزيا على كثير من المسلمين، إذ نصف الشعب هناك بوذي وهندوسي، فروّجت التربية الحكومية العلمانية لمعنى امتزاج الثقافات من أجل تحقيق وحدة وطنية بزعمها، فأصبح المسلم غير نافر من ثقافة غازية جلبها الاستعمار لتنافسه في عقر داره، وأصبح الماليزي المسلم هيّناً ليّناً يبالغ في الهدوء، في حين تنحت الناحتات من استقلاله المعنوي الثقافي.
جهاد النفس أربع مراتب :
البناء الحضاري قد يمنعه عدو، فيكون الجهاد عندئذ هو الطريق الوحيد اللائق، دفاعاً عن الحق في البناء.
وجوهر هذه التربية: نقل الداعية من أن يكون مجرد مستهلك إلى أن يكون منتجاً، وتحويله من النظرية إلى التطبيق العملي، ومن التعميم إلى التخصيص، بأن يتعهّد بوضع لبنة في الصرح، ولا يكفي أن يكون محلقاً مع العواطف العالية من دون أن يتميّز بنوع إضافة، ونحمله على أن لا يغادر الحياة الدنيا إلا من بعد أن يقدم شيئاً محسوساً يبقى بعده، من كتاب فيه علم، أو تجارة فيها حفظ مال، أو مصنع يقرّب الأمة خطوة نحو التمكين ويوحي بجهاد، أو أبيات من شعر، أو مؤسسة تخدم غرضاً، أو اختراع فيه إبداع، أو لوحة رمزية تجريدية تثير الخبء، وأقل ذلك: المشاركة في بناء مسجد أو تأسيس صندوق خير، ونقبل من صاحب العذر: الترميم والإحياء والصيانة لإنجاز من سلف، ومصدر الوعظ في كل ذلك: سؤال الإمام البنا المثير: هل نحن قومٌ عمليون؟
وكل منهجيتنا التربوية كان الفقهاء يسمونها: جهاد النفس.
وقد شرحوا أوصافها وبيّنوا مراتبها.
قال ابن حجر: وجهاد النفس أربع مراتب:
حملها على تعلّم أمور الدين.
ثم حملها على العمل بذلك.
ثم حملها على تعليم من لا يعلم.
ثم الدعاء إلى توحيد الله وقتال من خالف دينه وجحد نعمته. فتح الباري: 14/122 طبعة الحلبي.(1/75)
وهذه في الحقيقة هي المراحل التربوية التي تصفها الخطة التربوية الدعوية، فإنها تبدأ بمرحلة التعليم التلقيني القاعد المستكن. ثم تليها مرحلة من التعبّد الكثيف وترويض النفس وتحمل الشدائد. ثم يُدفع الداعية نحو المخالطة الاجتماعية، للتبشير والتعليم وانتقاء الأنصار الجدد وتربيتهم. ثم يتم تنسيبه إلى مجمع التطوير الحضاري وإمداده بالوعي السياسي والفن الإداري والإحساس الجمالي والمنطق البليغ والفكر الأصولي التقعيدي النقدي، ليجاهد في أحد ميادين الإعلام أو العمل المؤسسي أو النشاط الاقتصادي، وليحوّل هدماً تسبّبه ألحان هزّات الأوتار إلى بناء إنتاج وجهاد اقتصادي يحول دون سريان خطط التطبيع، ثم من بعد ذلك أن احتاج إلى قعقعة حديد: روينا له إفتاء ابن حجر السديد.
ولن يصل الداعية إلى مرتبة تالية ما لم يكن في الأولى جاداً.
تاريخ المقال6/19/2005(1/76)
كيف يحوز الداعية فقه الدعوة
الحاجة لفقه الدعوة حاجة واضحة في كل مكان والناظر لتاريخ حركة الدعوة الإسلامية في العصر الحاضر في هذا القرن يجد نقصا كبيرا في هذا الباب أدى إلى أن ترتفع أصوات كثيرة من دعاة مجربين تطلب الاستدراك من هذه النقطة ، وإن دعاة الإسلام عددهم وافر في كل زمان ومكان ، نعم كان العدد وافرا ولم تكن هناك حاجة إلى دعاة جدد من المسلمين فقد كانوا وما زالوا يملئون الساحة في كل مكان من طلاب وعمال ومثقفين وأئمة مساجد ولكن يبدو أن الرعيل الأول منهم من الجيل الذي سبق المحنة كان بحاجة إلى شيء من فقه الدعوة أكثر من الذي حازوه ، ليعرفوا كيف يصارعوا التيارات الأخرى وكيف يحتاطوا للمفاجئات السياسية والتي أذهبت بكثير من عملهم ، فإن الدعوة قد بلغت في مرحلة من مراحلها إلى أن تكون جمهرة كبيرة وقطاع كبير من الشعب ولكن مع ذلك لم تصل إلى حسم ولم تستطع أن تقدم نموذجا للعمل الإسلامي متقدما يستطيع أن يقف على قدميه إزاء التيارات المعادية والسبب يرجع إلى افتقاد الدعاة لفقه الدعوة .
فإن هذه الجمهرة كانت جميلة الإيمان ، وهي بحماسة زائدة وعاطفة غامرة ولكنها لم تكن تعرف طريقة العمل ، من هنا بدأت صيحات المجربين ترتفع إننا لسنا بحاجة إلى تجمهر واسع بقدر ما نحن بحاجة إلى إعادة تربية الجمهرة التي معنا ، فإن أخا فقيها عارفا بمسالك التربية والتنظيم يستطيع أن ينتج أضعاف جمهرة أخرى من الدعاة أو من العاطفيين غير المجربين غير العارفين بالنظريات التنظيمية والتربوية .(1/77)
وكان من مساهماتنا في هذا الباب أن ذكرنا في كتاب المُنْطِلق الحاجة إلى هذا الفقه ، فقه الدعوة والذي قد سميته في هذا الكتاب أنها كالمصنع الثقيل أو الصناعات الثقيلة حيث أن كل بلد ناشئ إذا أراد أن يبني صناعته فيبدأ أولا بتوفير الصناعات الثقيلة حيث هي المفتاح الذي يفتحه وتجعله ينطلق على الصناعات الأخرى وستمكنه من أن يصنع بيديه المصانع الصغيرة وهذه نظرية في التخطيط الصناعي والتطوير الدولي معروفة عند أهل الاقتصاد ، وكذلك أمرنا نحن . فالصناعة الثقيلة في داخل مجموعة الدعاة هي الأهم وليست الصناعات الخفيفة وأقصد بالصناعة الخفيفة بث الحماسة وبث العاطفة والفكر السيار اليومي الهامشي .
هذه كلها لا تُصْنَعْ ولا تؤدي إلى أن تكون الدعوة في موطن المقدمة ، فغاية ما هنالك أن توجد لك تيارا ربما يكون سريع الزوال إما بمحنة فينفض ، وإما بفتنة فينشق ، وتكون هناك كلمات من القيل و القال وتَصْرِفهُمْ عن المطلوب ، وإما أن يكون هناك تنافسٌ مع الأحزاب المقارنة له فتغلبه الأحزاب بفنها وبتخطيطاتها ويبقى هو حائرا فاغرا فاه لا يدري ماذا يفعل .
أما المصانع الثقيلة التي عندنا في الدعوة فهي هذه التي تصنع لك الداعية صناعة جديدة بحيث تعطيه العلم التراثي الأصيل وليس هذا العلم الهامشي الحماسي كما وصفناه ، إنما العلم التراثي من قرآن وحديث وتفسيرهما وتعطيه الفكر التربوي على ضوء تجريب الجماعة في الماضي ، وهذه الناحية مهمة جدا بحيث يستطيع أن يؤثر في الآخرين تربيةً وليس عاطفة ، وكذلك تعطيه الفكر التنظيمي بحيث تستطيع أن تجعل الداعية يعمل من عمل مجموعة صغيرة تأثيرا كبيرا مضاعفا ، والأمر في ذلك مثل المهندس الذي يمكنه أن يقوم ببعض الفن فيضيف لطاقة الماكينة شيئا عظيما فالكل عنده مواد أولية واحدة ولكن باختلاف طريقة ربطها قد يرفع من كفاءة الماكينة .(1/78)
وكذلك الحذر السياسي أو الحكمة السياسية العامة التي تدل الداعية على مواطن الفرص ليغتنمها ، وعلى مواطن الخطر ليتجنب هذه المواطن ، هذا مكمل للعلم التنظيمي والتربوي فإذا أوْجَدْنا الآلة التي تَصْنَعْ لإخواننا الدعاة هذا الوعي في هذه الجوانب فإننا نكون قد بنينا عناصر ثقيلة ، عناصر لا تهتز عند المحن ولا تهتز عند الفتن ، عناصر لا تبذر طاقاتها في غير موطنها فهذا هو المصنع الثقيل في الجماعة .
والدراسة في مثل هذه المسائل قد تشتبه على الأخ فيحسب أننا نحاول أن نضع خطة لبلد معين كالجزائر مثلا فهذه المسألة غير واردة لأن مسألة التخطيط الموضعي إنما هي تابعة لمعلومات تفصيلية فأهل مكة أدرى بشعابها وكذلك كل بلد من البلدان ، فالمعادلة السياسية والاجتماعية في الجزائر فأهل الجزائر أفهم لها حتى لو لقنتمونا إياها بالتفصيل ، لأن المسألة متعلقة بخلجات نفسية حدثت نتيجة معاناة طويلة عاصرتموها فلا يمكن أن يقوم بدوركم أحد كما أنه لا يمكنكم أن تقوموا بدور في هذا الصدد في بلد آخر .
فالتخطيط الموضعي الخاص هو لكم ، ولكننا نريد أن نعلمكم فقه الدعوة العام الذي يعطيكم مادة قياسية تقيسون بها واقع الجزائر على هذه المسائل النظرية المطلقة التي يصح أن يعمل بها في الجزائر ، ويصح أن يعمل بها في اليمن ويصح أن يعمل بها في أي موطن من مواطن العالم الإسلامي .(1/79)
فمعلوماتنا هنا التي نتدارسها في هذه الدروس هي معلومات مطلقة ، فلا تتوهم في لحظة وهم أننا ندعوك إلى تقليدها مائة بالمائة في الجزائر ، وإنما ندعوك إلى أن تأخذ بمثلها كما قال علي بن أبي طالب رضى الله عنه ، يعرف له النحو ( الكلام اسم وحرف فأنحو منحى هذا ) فكان علم النحو الواسع الذي ما زالت جماهير النحاة تضيف إليه أشياء وأشياء ، فنحن نقول لكم أن علم الدعوة في هذه المحاضرات وعليكم أن تنحو منحى هذا الكلام الذي نقوله لكم وأن تقيسوا عليه ، فالغاية من هذه المحاضرات أستطيع أن أقسمها إلى ثلاث شعب وهي شعب كلها مهمة تتضافر لتجويد العمل :
الغاية الأولى ... توحيد الفهم .(1/80)
ومنه تتقارب الاتجاهات في البلد الواحد وهذه من أهم أمور وحدة التنظيم وعدم وحدة الجيوب في الجماعة ، فوحدة الفهم أيها الأخوة هي المرتكز الأساسي للوحدة التنظيمية ، وإذا لم تكن هناك وحدة تنظيمية في الجزائر فلن تكون هناك آمال بالوصول إلى نتيجة إيجابية ، وخذوا مثالا واضحا بما يجري الآن في مصر ، لما غابت الجماعة المجربة عن الساحة ودخلت السجون وأجبرت أن تبتعد عن جماهير الشباب ، نشأت تيارات كثيرة في الشباب ، فبعضهم يقول بتكفير المجتمع ، والبعض ينادي بالإسراع في الجهاد ويسمي نفسه مجموعة الجهاد حتى ولو لم يستند على خلفية تربوية أو يستند على مقدمات يوجبها العقل ، كما أن هناك آخرون يأتونك على نمط ما يكون من حزب التحرير بتصور أن السياسة هي الباب الذي ندخل منه ، وأنه ليس لنا حاجة لشيء آخر من التربية أو الفكر الشرعي غير السياسي ويأتون باختلافات واجتهادات أخرى رأيت كم هم شباب الجامعات وهم كثرة كثيرة في الجيل الحاضر لكنهم ليسوا بأجمعهم في تيار واحد مسخر لخدمة الدعوة الإسلامية الواحدة ، وإنما اختلفت الوحدة التنظيمية وحصلت صعوبات أمام الجيل الذي خرج من السجون من دعاة مصر الأبطال حيث وجدوا معضلة كبيرة في توحيد هؤلاء في بوتقة تنظيمية واحدة وما السبب في ذلك إلا سبب اختلاف الفهم ؛ وخذ مسألة أخرى في هذه القضية ، ما حصل في سوريا فمنذ الاختلاف الذي صار له أكثر من خمسة عشر عاما مازال يؤثر وخاصة في الظرف الثوري الجديد ، وما خفي من هذه القصص في بلدان أخرى كثيرة.(1/81)
وانظر مثلا للهند كبلد إسلامي الجماعة الإسلامية في الهند على نمط مفاهيمنا ولكن تخالفها جماعات أخرى ليست أقل إخلاصا منها ، نيتها واحدة ونجزم بأن نيتهم حسنة ولكن جعلوا محاربة الجماعة الإسلامية في الهند هدفا أول لهم فهم يتعبدون بمحاربة الدعاة المسلمين ، وما هذا إلا لاختلاف الاجتهادات واختلاف وجهات النظر ، وانظر ما حدث من ذلك في تركيا ، فتركيا بلدٌ فيه العمل الإسلامي واسع ، ولكن قائم على اجتهاديين فالاجتهاد الأول ما استطاع أن يهضم التطور الذي حصل له في الحياة السياسية والفكرية التركية فاشتط وجعل من محاربته للقسم الآخر هدفا له بدلا من أن ينشغل بمحاربة الملحدين ، فأنتم لستم أيها الجزائريون لستم بدعة من الشعوب حتى تضمنوا وحدة العمل الإسلامي مع اختلاف الاجتهادات ، قائل يقول ما الضير في أن لا نكون بوحدة تنظيمية واحدة ؟ ما الضير في أن لا نكون في اجتهاد شرعي أو تربوي واحد ؟ وكل منا يسلك مسلكه ونأمل أنه بصيحات الحماسة فتتآلف القلوب وتتم هذه الوحدة ، المسألة أبعد من ذلك أيها الإخوة فإن القلوب لا يمكن أن توحدها عواطف وأقوال هامشية هكذا ، بل إن هذه القلوب وحدتها مرتكزة على الوحدة الفكرية ، والوحدة الفكرية هي التي تنتج الوحدة التنظيمية .
فليس هناك تساهل من هذا الباب وليس معنى ذلك أن أفرض دكتاتورية في هذه القضية ، القلوب ملك لله عز وجل ، وملك أصحابها فصاحبها مخير بين قدرين قدر الخير وقدر الشر يختار أيهما يشاء ، والله سبحانه وتعالى من فوق هو الذي يقضي ما يشاء فلا نستطيع أن نصارع هذه المقادير ، ولكن هي عملية عرض الآراء بالحسنى ، عملية الإقناع ، عملية الحوار ، هذا الحوار بالحسنى سينتج عنه هذا التفاهم المنتظر .(1/82)
فمن هنا هذه الدورات هي مجال حسن ، لأن مما قد يؤدي إلى اختلاف الاجتهاد بعد المسافات داخل الجزائر بين الدعاة ، فالمنطقة الغربية غير المنطقة الشرقية في الأحاسيس ، فالإخوة في الريف ربما ابتدعوا من أحاسيس غير الإخوة الذين في العاصمة ، هذه مجربة في كثير من الأقطار ، وأنتم من باب القياس ولو لم ندخل أرض الجزائر قد تتعرضون لمثل هذه المسائل ، وإن البعض قد يقول بشيء لا يقول به البعض الآخر في الجزائر نفسها .
ومن هنا فإن الاجتماع الواحد بينكم في هذا الموطن كأهل الجزائر معا ولستم من مدينة واحدة ، هو فرصة حسنة لتناول الآراء بينكم للبحث والتمحيص والاتفاق على شيء موحد ومؤكد وأولي في حصول النتيجة المرجوة .
الغاية الثانية ... إنشاء طبقة قيادية :
فإنشاء طبقة قيادية تشارك في تحمل الأعباء التي تقود طاقات المجتمع ، وهذه غاية ثانية تعدل الغاية الأولى في الأهمية لأنك أن أوجدت مجموعة متجانسة فماذا بعد هذا التجانس ، ربيت دعاة ، ثم ماذا ؟
إن لم تجد لهم مكانا لتصريف طاقاتهم ستتحول هذه الطاقة إلى نوع ازدياد وفي مكان محصور وضيق حتى تنفجر ، كالبخار المحصور الذي إن لم ترسله إلى الخارج إما ينفجر الإناء الذي فيه وإما أن يذهب هدْرَاً إلى غير حاجة ، بينما إذا جمعت هذا البخار في مكان محصور ، ثم أرسلته من خلال قناة إلى محرك فإنه يولد لك طاقة ، فيشغل معملا أو يشغل قاطرة وتكون قد كسبت هذه الطاقة التي عندك ، كذلك هنا كثيرا ما تكون عملية التربية ناجحة وعملية التنظيم ناجحة بحيث تكون الوحدة التنظيمية ، لكن السؤال الذي يطرح نفسه بعد ذلك ، ثم ماذا؟ أين تصرف طاقات هؤلاء ؟ هنا تبرز هذه المسألة التي نقولها ، وهي كيف تقود طاقات المجتمع وكيف تتفنن في الوصول إلى المجتمع ؟(1/83)
طاقة القيادة هي من أهم العطاءات في العمل الإسلامي ، ويجب أن نُعلِّم كل داعية مسلم كيف يستطيع أن يفرض نفسه على المسلمين الآخرين غير المنتظمين الساذجين المبتدئين ، يفرض نفسه كقائد لهم ، وهنا لا نعني القيادة داخل الجماعة الواحدة وهي مقصودة أيضاً لكن الأخ لا ندعوه إلى القيادة لأن فيها نوع من الاستشراف لأمر مكروه ، ولكن أن يتعلم هذا العلم بنية أن يكون قائدا لغيره ، وأن يتعلم هذا العلم حتى ينافس أقرانه ويغالب على قيادة مركز عالٍ في الجماعة ، فهذا من المكروه شرعا ولسنا ندلكم على مثل هذا الباب ، ولكن المجتمع نعم نقول قودوا طاقات المجتمع فالجزائر بلد إسلامي فيه طاقات إسلامية وافرة ، بل نحن نجزم من خلال المعرفة التي لنا بالجزائر أنه من الناحية الإسلامية أكثر طاقة من بلادنا المشرقية ، فما زال الإيمان عامرا في قلوب الناس ، وما زالت الحماسة كبيرة ، وتجدر ذكر مثال العمل في الثورة الجزائرية مع سلبياتها التي رافقتها ، إلا أنه أوجد روحا محركة دافعة في الشعب الجزائري ميالة إلى الإيجابية وليست هي السلبية التي نراها في مجتمعات الترف في المشرق العربي ، ولا الطبيعة المتفلتة من الدين التي تكثر في بعض الشعوب حتى قال الحجاج في أهل العراق يا أهل الشقاق والنفاق وكذا ........ وقد يظن الظان أنه متجنيا عليهم كل التجني ، لكنه صادق في بعض دعواه هذه ، الآن لو تذهب إلى العراق تجد الناس فيهم المسلمون الكثير عددهم ، ولكن هناك تفلت كثير أكثر مما هو حاصل في التفلت في الجزائر ، فالجزائر طاقة إسلامية كبيرة ، كيف أقود هذه الطاقة إلى أن تؤدي عملها ودورها في خدمة العالم الإسلامي أجمع ؟(1/84)
هذا سؤال كبير ، هو يؤدى بألفاظ قليلة ، لكن الجواب عليه يأخذ مجلدات وأطنان من الكلام وجلسات بعد جلسات ، ولن نستطيع التعرف على الإجابة على هذا السؤال إلا من خلال عشرة مخيمات من أمثال هذه ، لأن الفن التربوي فنٌ معقد ، نعم ففن الدعوة والتبشير وتجميع الناس فنٌ معقد أيها الأخوة ، فن تنظيمهم وجمع خيرهم في بوتقة واحدة هو أيضا فنٌ معقد ويلزم له تجريب كثير ، فصناعةُ الطاقات أو قيادة الطاقات هذه من أجل الغايات التي نحن بصددها الآن ، وإنما نفعل بدورتنا هذه في مخيمنا هذا من أجل تمكينكم من قيادة الطاقات الإسلامية الكثيرة في الجزائر .
الغاية الثالثة : تأصيل المنهج
تأصيل المنهج بما تطرحه دروس الدورة من آراء فقهية مستلهمة من كتب التراث التي قد تعجز طاقات الداعية الفرد عن رؤيتها ، فحين بدأ العمل الإسلامي الحديث أيها الإخوة كان بعض الإخوة يظنون أن هذا الفن التنظيمي والتربوي هو من المبتكرات الحديثة التي أخذناها عن الغرب ، والتي يمكن أن تسيح فيها عقولنا سياحة مطلقة ، ولكن بعض الرواد من الدعاة الأوائل الذين استطاعوا أن يحنوا ظهورهم وراء الكتب وأن يطيلوا جلستهم مع هذه الكتب التراثية استطاعوا أن يكشفوا لنا شيئا كبيرا من فقه الدعوة يكمن في كتب الفقه التي كنا نظن أنها فقط للعبادات أو فقط للمعاملات الشرعية العادية مما يجري من ضبط البيع وضبط الإيجار وضبط كذا وكذا من أمور الناس العرفية ولكن مع الصبر في هذه المطالعة والتأنِّي الطويل من قبل بعض الدعاة كشف لنا شيئا كبيرا من فقه الدعوة التنظيمي والتربوي بل والسياسي أيضا يكمن في مجموعة كتب التراث التي أعدنا إحيائها ووضعناها في خدمة الدعوة .(1/85)
واليوم يجد الداعية أسطراً لابن تيميه رحمه الله مثلاً أو للشافعي أو لفقيه آخر من فقهاء السلف ، هذه الأسطر تُغْنِي عن مجلدات في المحاورة العقلية إذا أردت إقناع المسلم بها لأن الاحترام لمثل الشافعي أو لمثل أحمد بن حنبل أو لم مالك بن أنس أو لمثل بن تيميه أو لمثل آخرين قاموا بواجبهم في هذا المجال ، هذا الاحترام هو الذي يختصر لك كمية القناعة التي يحتاجها الداعية المخاطب ، وما زالت هناك أسطر قليلة تسمعها لهؤلاء السلف تهزّ المقابل السامع أكثر مما تهزُّه الكلمات العقلية المجردة التي يؤلفها الداعية المعاصر ، ومن هنا فإن الحرص يجب أن يكون كبيرا على استلال كلُّ ما هنالِكَ من فقه الدعوة في كتب التراث ، وسنجد في دروسنا هذه إن شاء الله كمية تعبر عن مقدار نموذجي من هذا الاستلال وقد ارتدنا لك كثيرا من الكتب الفقهية وأتينا لكم بمجموعة من الأقوال ومجموعة من الشواهد التي تعضد ما نحن عليه من فقه العمل ، وبذلك يتأصَّل المنهج وهنا ما أردتُ أن أقوله بتأصيل المنهج . فكلما كان المنهج أصيلاً أي مُرْجَعاً إلى أصوله الأولى منضبطا بما قاله فقهاء السلف كلما أمِنْتَ عليه من التحريف والتأويل البعيد الشاذ ، وأمِنْتَ عليه من أن تتلاعب به الأهواء وشهوات الافتتان أو شهوات الاغتراب ، وشهوات أخرى نعلمها وإن كانت من صفات أهل الجاهلية إلا أن المسلم قد لا يبرأ منها وقول الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام لبعض الصحابة إنكَ امرؤ فيك جاهلية وهو من قدماء الصحابة ، ولم تقل الغبراء ولم تظل الخضراء من ذي لهجة أصدقُ من أبي ذر رضى الله عنه ومع ذلك قال له النبي إنك امرؤ فيك جاهلية ، فوجود شعبة من شعب الجاهلية بالمؤمن أمرٌ ليس بالمستغرب وهذه المسألة شعبة منها ، الأهواء والشهوات في التأويل البعيد واصطناع الرأي تكلفا لمصادمة آراء أخرى وللتدليل على وجهة نظر يظنها صحيحة عنده ، هذه المسألة ليست نادرة الحدوث ، فالضابط لها(1/86)
والرد القوي لها أن تحتكم إلى عَدْلٍ وليس هناك أعدل من السلف ، فاليوم لو اختلف اثنان من الناس يعرضون أمرهما على رجلٍ عاقل ليس من عامة الناس ، بل من عقلاء الناس ونبلائهم فيكون قوله فصلاً بينهما ويرضى به المتنازعون وهذه المسألة شبيهة ، فلو اختلفتُ أنا وإياك في مسألة من فقه الدعوة وطال جدلنا وآتانا آخر بقولٍ لأحد من فقهاء السلف أذعنَّا سريعا لأن الاحترام في قلوب جميع المسلمين ما زال لهؤلاء السلف والقرآن ناطق بمثل هذه المعاني في فضل أهل السبق ، أهل السابقة لهم ما ليس لغيرهم ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا للإيمان فأشار بهذه الإيماءة البسيطة إلى هذا الأدب الجم الذي يجب أن يتحلى به اللاحق وأن يكون كامل الاحترام للسابق ، ومن هنا كلما اكتشفنا كمية أكبر من فقه الدعوة التراثي كلما كان عملنا هذا أكثر أصالة واستفدنا منه أكثر وأكثر .
فهذه الغايات الثلاث هي أهم الغايات التي نرجوها من هذه الدروس والدورات .
ولنا كلامٌ في الشروط التي ينبغي أن تتواجد في الأخ حتى يستفيد من هذا الكلام ، واقتراح طريقة لتكوين فقهاء الدعوة يعني كيف يكون الداعية فقيهاً في أمر الدعوة ؟
وهذا السؤال قد تختلف عنه الإجابات ولكن في ظني أن هناك عشرة وسائل أساسية في هذا الباب تتكامل ، بعضها يسند البعض الآخر لتكوين الفقيه وهي :
أولاً : القابلية الفطرية .(1/87)
التي تدل فراستنا على توافرها فيه ، وهذه القضية أيها الإخوة من أهم القضايا التي لا يمكن تجاوزها بتاتا ، الله سبحانه وتعالى خلق البشر متفاوتين في مقادير الذكاء ، فسبحان من قسم الحظوظ كما أن هناك في بصر العين من هو حاد البصر كزرقاء اليمامة وهناك من هو أعشى لا يبصر القريب منه ممن حوله فكذلك هناك في أهل العقول من هو حاد الذكاء كأنه يطلع على الغيب في بعض الأمور وليس هو الغيب ، لكن من فرط ذكائه استطاع أن يكشف الحجب ، وهناك من تتصارع الأحداث وتتناطح الأمور بين يديه وهو ساه عنها لاه بفكره عنها لا يستطيع أن يكتشف ما فيها من الدلائل ؛ فنحن هنا أمام مجموعة كبيرة من الجزائريين في الجزائر ، ملايين ، فهل كلهم مهيأ لمثل هذه المسألة فسبحان من قسم الحظوظ .(1/88)
الفراسة أو التجربة تقول أن التمييز واجب ابتداءً ، فنحن لا نأخذ في هذه الدعوة إلا أشداء الرجال ، إلا الذكي ، إلا الألمعي ، إلا الصبور ، إلا الشجاع ، إلا صاحب الشخصية القوية ، إلا الكريم ، لأن كل هذه الصفات الطبيعية وهي من خلق الله سبحانه وتعالى وليست من صناعتك أنت بالتربية ، كل هذه الصفات هي صفات مطلوبة لمن يتصدى لعمل كبير وضخم ، ألا ترى أن قائد الجيش لا يأخذ معه الأعرج ولا يأخذ معه الجبان ولا يأخذ معه من لا يعلم فن الحرب ، وإنما يأخذ معه أشداء الرجال فكذلك نحن ، لسنا جماعة المسلمين حتى نقول من دخل دارنا فهو مسلم ومن كان خارجها فهو كافر ولذلك نحرص على الضعفاء والسذَّج ونحرصُ على الجميع نقول حتى لا نسلبهم وصف الإيمان ، كلا لسنا إلا جماعة من المسلمين انتدبنا أنفسنا لخدمة المسلمين في أمر هام هم لا يستطيعونه ، نريد أن نتعلم الفن الذي نوصلهم به إلى العز ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ، عزة المؤمن بارتفاع كلمته وبسط سلطانه في هذه الأرض وليس السلطان الجاهلي، فنحن جماعة انتدبنا أنفسنا لأمر ضخم ، والحرب هو جزء منها مهم وليس خارج التصور ، في المراحل الأخيرة نعم هناك حرب وقبل هذه الحرب هناك محن وهناك سجون وهناك معتقلات وهناك مشانق وهناك حرمان من فرص وظيفية وهناك حرمان من أشياء كثيرة ، لا يقوى عليها سوى أشداء الرجال ؛ فابتداءً نحن يجب علينا أن نميز بين من نجعلهم في صفنا وبين من نجعلهم من خارج صفنا ، ثم الذين جُعِلُوا من صفنا قد تكون فراسة الدعاة في تجميعهم قد أخطأت ، فنغربلهم غربلة ثانية ولا يأتي إلى مثل هذه الدورات ولا نرشحه إلى أن يكون تلميذا في مدارس فقه الدعوة إلا من هو مكتمل الشروط و إلا من هو فعلا عنده مقدار من الذكاء ونوع من الفطرة قد لا يكون تابع للذكاء ، مثل الفطرة التي تكون في الشاعر ، فالشاعر لا يمكنه التقليد في الشعر ، ولهذا أتى بعض من أراد التقليد جاء شِعْرُهُ باردا متكلفا ،(1/89)
فالفقهاء مثلا حاولوا أن يقولوا الشعر ولكنهم لم يفلحوا ، نظموا وهو مجرد نظم ، كلام موزون ومقفَّى نعم ولكن:
إذا الشعر لم يهجسك عند سماعه فليس حريا أن يقال له شعر
لا تجد في شعر الفقهاء تلك العاطفة الجياشة التي في شعر الشعراء الموهوبين ، فالشعر صناعة لا تقلد وكذلك الرسم صناعة لا تقلد ، موهبة يجعلها الله عز وجل في البعض ؛ من هنا نقول أن فقه الدعوة أيضا في جانب كبير منه ، هو موهبة من الله سبحانه وتعالى لا يمكن اصطناعها وإنما يمكن أن تكتشف أولوياتها في بعض من جمعت من الشباب ، فتنتخبهم للسماع الأكثر وتدربهم ، وهناك من تراه مع جودة إيمانه غير قابل لمثل هذا الكلام ، قد أَتَجَنَّى على بعض الصحابة وأقول قولا أرجو أن لا يفهم وفق مقصد آخر ؛ ففي الصحابة من هو أبرعُ منزلةً من بعض الصحابة في الصورة الظاهرة ولكن الأحداث السياسية أثبتت العكس ، نأخذ مثلا عمار بن ياسر رضى الله عنه والحسن بن علي بن أبي طالب ، الحسنُ كان شابا لمَّا حدثت الحروب ، الجمل وصفين ، كان شابا ما يزالُ صغيرا ، وعمار بن ياسر كان شيخا قارب أو تجاوز التسعين وهو مُبَشَّر بالجنة ومناقبه كثيرة ، يقال أن الإمام علي رضي الله عنه أرسل عمار بن ياسر والحسن إلى أهل الكوفة يستنصرهم ويدعوهم للخروج إلى أرض معركة الجمل ، فالحسن بن علي قدَّمَ عمار بن ياسر ، على المنبر فتكلَّمَ عمارٌ بدافع تقواه ، قال ... إنها – يعني عائشة – وهذه القصة في صحيح البخاري إنها والله لزوجة نبيكم في الدنيا والآخرة ولكن الله ابتعثها ليعلم إياه تطيعون أم إياها .. المعنى الذي قصده معنى سليم لكن قُدِّمَ له بمقدمة سياسية غير سليمة ، هو في هذا الموطن مع مناقب عائشة الصحيحة الجَّمَّة التي ذكرها أنها زوجة نبينا صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة ، لكن من ذا الذي يقاتل زوجة الرسول في الدنيا والآخرة فقال له الحسن اجلس فإنَّ للأمر أهله ، وجد نوعا من الخذلان قد(1/90)
تسرَّبَ إلى السامعين في مسجد الكوفة فقال له ذلك وخطبهم وهو شابٌ ، خطبهم خطبة حَثَّهم فيها على نصرة علي رضى الله عنه ، فخرج أهل الكوفة عن بكرة أبيهم ينصرون علياً .
هذا مثل بسيط ، وقد يساء الفهم لمكانة أصحاب هذه الرواية ، عمار بن ياسر رضى الله عنه ولكنه مثل بسيط يريكم أنَّ العمل السياسي ليس عملا سهلا ينبغي لأي أحد ، وقد يأتيك الشخص الداعية المسلم الجم المناقب ، العالي الإيمان ولكن إن وضعته في السياسة والميدان العام لا يحسن القول ولا يأتي بالكلام على وجهه الذي ينفع في موطنه الذي يراد له ؛ وهذا خطأ كبير لأنه إذا كان في وقت احتدام المعركة لتبدل ميزان المعركة ، فكذلك الأمر عندنا فالفطرة التي نريدها في الداعية يجب أن تكون واضحة ، فطرة النباهة السياسية ، فطرة التنظيم ، كما أننا نتطلبها في الشاعر ونقول لا يكون شاعرا إلا صاحب هذه الموهبة فكذلك لا يكون قياديا في مجموعتنا إلا صاحب هذه الموهبة ؛ أما كيف تدرك هذه الموهبة فدعها لأمر من يكتشفها ، دعها للقادة الذين يقولون هذا يصلح وهذا لا يصلح ، فكل الأمور للقادة هم يختارون وينتخبون والقادة قد يخطئون فهم بشر ، وقد تكون تجربتهم أيضا في دور الاكتمال وليست مكتملة تماما ولكن دعهم لأننا لابد لنا من مرجع في هذه الأمور ، وكذلك كل أمور الجماعة ومنها هذه المسألة انتخاب وترشيح من يصلح لهذه المهمة ، فلا تبتئس إن حُجِبَ منها أحد أيها الإخوة ، ولا تبتئس لأن المسألة قد أسندت لغير صاحبك ، فإن هذه الأمور هي أمور اجتهادية وهي من فراسة القيادة في أعضائها ، تنتدب لها من تراه أنه أصلح لتلقِّي هذه المعاني ، فالقابلية الفطرية الأساسية هي شرط من شروط تكوين فقهاء الدعوة .
ثانيا : المعاناة .(1/91)
وهذا أمر قد ذكرتُه في كتابي المنطلق صفحة رقم – 244 – حيث يوجد كلام حول هذا المعنى أن مدة المعاناة واجبة ، وليس كل من هو صاحب قابلية وموهوب يستطيع أن يقول قوله حول فقه الدعوة ، كما ليس من هو بشاعر وعنده الموهبة الشعرية يستطيع أن يجود شعره فشعراء الجاهلية ربما ، أمَّا الآن فإن القابلية الشعرية لابد أن تقترن بمقدرة أدبية و بحفظ وعلم بالموازين حتى يستطيع أن يجود قوله للشعر ، فهنا أيضا المسألة تكون متشابهة فمدة المعاناة أيها الأخوة واجبة ، ولا أعني بمدة المعاناة أنها زيادة العلم فزيادة العلم المطلوبة والتي نريدها هنا هي معنى من المعاني التي يحسها المجرد بأن تفاعله النفسي مع الأحداث ومع تطورها يجعله أكثر استعدادا لفهم الأمر الذي هو بصدده ، فالأخ مثلاً أي الداعية المسلم إن أول ما يبدأ بدراسة الدعوة يكون غافلا عن هذه المعاناة فيكون لاهيا كمن يلعب من الشباب ويلهو مع اللاهين ولكنه حين بلغ بأمر الدعوة ونجح المبلغ في أن يحوز اهتمامه فتراه يفكر في أمر المسلمين ذلك التفكير الجدِّي بعد أن طَلَّقَ اللهو فكلما فَكَّرَ جاهدا في أمور المسلمين وما صاروا إليه بادره السؤال لما صاروا هكذا ؟ لما تفرق المسلمين ؟ كما كانت الجزائر بعيدة الآن عن الإسلام في حكمها وطبيعة نظامها وتنفيذها للإسلام مع إن شعبها مسلم ، لما فشلت حركات إسلامية كانت قبلي ، ويظل يسأل نفسه عشرات الأسئلة من هذا النمط ، وعلى أي طريق يختار ؟ فتختلج خلجات نفسه في نفسه عديد من المعاني تكون هي العامل الذي يستعد به لقبول وتلقِّي أي جواب يكون من المقابِل كذلك المعاناة التجريبية المسألة ؛ فقد يكون هو كلف بجزء من هذا الأمر قيل له أيها الداعي إن الواجبات تقدر بمقادير أهلها وأنطلق في التجريب ، وذهب هو من خلال مدرسته ، من خلال المسجد ، من خلال جيرانه ، بدأ يدعو وقد يكون قد تعرض خلال سنتين من دعوته للتماس مع مائتي شاب لا يرى من المائتين إلا(1/92)
عشرة يأتون للدعوة هل جعل تماسَّه بشباب فوجدهم غارقين في لهوهم لدرجة أنهم ليس عندهم استعدادا الآن لقبول ما يدعو إليه أو ربما يقول ليس الآن وقت دعوتهم ولكن إذا كثر عليه الكلام أو هَزَّته حادثة حياتية تجعله يعود لرشده ثم جعل تماسه مع عشرون آخرون من هؤلاء المئتين فوجدهم أقل ذكاءً من أن يدركوا المعنى الذي يريده ، ثم جعل تماسَّه بعشرة آخري من هؤلاء المائتين فوجدهم أقلُ شجاعة يدركون المعنى لكنهم أهل جبن يخافون ويقولون قد يكون في الأمر صدام أو احتمال مضرة أو سجون أو غير ذلك فيجبنون وينسحبون ، ثم صنع تماساً بأُناس آخرين فوجدهم قد سبقه إليهم الآخرون فحرفوا وقلبوا مفاهيمهم فكانوا مسلمين ولكن على طريقة أخرى مثلاً كما في التنظيمات السلفية التي فيها حزباً من هذا القبيل ، وكجماعة التبليغ التي تتهاون في كثير من هذه المعاني والتي تجعل المسلم مجرد أن يكون مسلما عاطفيا ومتحمسا وليس شيئاً بعد ذلك ، فحصل عنده التحزب والتشيع لجماعته وسُدَّ علينا الطريق ولابد من حدوث حوادث لهم حتى يثوبوا إلى رشدهم ويعرفوا طريق الدعوة الشاملة ، وأشياء أخرى من هذا القبيل فالتجارب مع كل هؤلاء تجارب الفشل والنجاح مع من حصل بهم التماس كلها تعتبر معاناة لهذا الأخ الداعية لأنك لو جئت وذكرتَ حوادثٌ أخرى جرت في بلادٍ أخرى أو في نفس بلاده في عمليات التجميع لازداد فهماً لها لأنه يفهم هذا الكلام الجديد عليه على ضوء ما جرب وقاس من خلال تجاربه الذاتية ، فهذا الذي نقصده بمعنى المعاناة ، ونخرج بهذا بنتيجة مهمة حيث أنك لن تستطيع اختصار الطريق اختصارا كبيرا مع هؤلاء الشباب الدعاة بحيث تقول أنا أول ما يأتيني الداعية أُكثف له الكلام في فقه الدعوة فبدل ما يحوز فقه الدعوة في أربعة سنوات أو خمسة أنا أعطيه إياه في خمسة أشهر أو أقل من خلال دروسٍ مكثفة ، فلن تستطيع ذلك أيها الأخ مهما تمنيت لأن المسألة سوف تصطدم بعقبة رئيسية وهي افتقاد(1/93)
المعاناة في صدر من تكلمه أو تحدثه حتى يحس إحساسك وحتى يدرك الكلام على الوجه الذي أردته أنت وليس على الوجه الذي يستطيع أن ينحرف به التفسير إلى وجه آخر فمن هنا كانت مدة المعاناة واجبة وهذا يعني التدرج في صياغة المعادن القيادية وليس هي مسألة الطفرات وليست هي مسألة تكثيف القول لمجرد القول أن تصاغ هذه المعادن ، و إلا ما كان أسهل هذه المسألة أن آتيكم بعشرات من إخواني يتكلمون في دروس مختلفة ونهديكم مكتبة كاملة في ذلك وتعتكفون خلال شهرين وتكون الجزائر غنية بمعادن الرجال والقادة والفقهاء ، ولكن المسألة أكبر من ذلك بكثير فلابد من المعاناة يوما بعد يوم فالمعاني التي نريد أن نقولها أكبر لكي يكون الإيمان بها أكبر واختلاطها بالقلب يكون أكبر .
ثالثا: قابلية الإجتهاد .
من الشروط الأساسية بهذا الباب هو قابلية الاجتهاد وهذه المسألة من أهم المسائل ، كما أنه يعني حيازة فقه الدعوة في التلقي والاجتهاد وفهم كل ما يقال لك وهي الشرط الأول فهناك منزلة بعدها نوع من القابلية في الاجتهاد والاستنباط الذي يكون فيه الأخ الداعية غير مقلد أو جامد على ما يقال له ، وهذه المسألة شبيهة بكل أمر فيه اجتهاد فهناك بعض العلماء تراهم اليوم عندهم علمٌ واسع لكنهم لهم علم تقليدي لا يخرج عن قول مالك أو الشافعي ، فمهما توسَّعَ علمه فإنه لا يستطيع أن يشارك بالقول في مسائل جديدة أُسْتُجدت من حياة المسلمين من مشاكلٍ كثيرة اقتصادية واجتماعية وسياسية لا يستطيع القول لأنه افتقد هذه الحاسة الاجتهادية .(1/94)
فالاجتهاد أيها الأخوة أو القابلية للاجتهاد بالأحرى هي مسألةٌ أساسية وذلك للمعنى الذي كررناه هنا ، فنحن نتكلم بقول مطلق نظري فمن يأتيك ليلقي الدروس فإنه يقرأ ما في الكتب وهذه الأقوال المفروض أن تصلح لأي مكان لكن عندما تطبق على الناس يحتاج الأمر للاجتهاد ، فهنا الخروج بالأمر من الإطلاق إلى النسبية وهذا هو الاجتهاد المُبْتَغى في هذا الميدان الدعوي من الإطلاق العام إلى النسبية المتخصصة في بلد معين وفي ظروفٍ معينة لرجال معينين وهذا هو الذي نقصده في هذا الباب .
وقد ذكرتُ أيضا في هذه المسألة في كتابي المسار في صفحة مائة وتسعة وتسعون لو أردتم المراجعة في عنوان معادلة يفهمها الرجال أن أثنيتُ على كاتب يومئ لهذا المعنى في مجلة المجتمع ويقول أن العقلية الاجتهادية واجبة وأن سيد قطب رحمه الله أنه قد أجتهد كثيرا ودفع بعجلة فقه الدعوة دفعا واضحا وإن كان قد أخطأ كما يظنُّ الظانون فليس هذا مدعاة للحجر عل علمِه وفكره ، فالاجتهاد من ضرورياته ولوازمه أن تضع احتمالا لخطأ المجتهد احتمال لبعض الضرار الذي يصيبه و إلا فلن يستطيع أن يجتهد بتاتا ، وتطرق لهذا المعنى بمقال جيد وأثنيتُ على هذا الأمر وقلتُ لابد من فتح باب الاجتهاد في فقه الدعوة ، ومن هنا فمسألة وجود القابلية للاجتهاد مسألةٌ ضرورية والذي أعنيه بذلك قد سجلته في بعض كتاباتي .(1/95)
وأقول إنَّ مثلَ هذا الحجر على هذه المعاني هو الذي أدَّى سابقا إلى ضمور الفكر القيادي عند كثير من الدعاة وفي ظل طريقة التلقي أو في ظل طريقة التجرد في تلقي الأوامر القيادية وتنفيذها نشأت العقليات التقليدية التي تنقصها المقدرة على الاجتهاد واكتشاف المثيل والبديل إذا تغيرت الظروف وتعوزها نظرة النقد والتقويم من خلال الممارسة العملية ، وأقول أنَّ ضمور الفكر القيادي الحر يكاد يكون مشكلة ملموسة أينما ذهبنا فعدد الدعاة كثير ولكن من يملك هذا الفكر قليل ومعظم الدعاة يقلدون القيادة تقليدا جامدا وينفذون تعليماتها حرفيا ، وقد يكون هذا صحيحا في خلال بداية عمر الدعوة أو التنظيم أو في خلال تخلخل الصف ووجود الفتن أن نُعوِّد الدعاة على تلقي الأوامر والمسارعة في الطاعة ونُضيِّق عليه مجال النقاش خوفا من الجدل ، ولكن في أيام الرخاء ينبغي أن تُسْتَغَلْ لتعويدهم على إبداء الرأي ليتأصَّلَ فيهم الفكر القيادي و إلا فإنَّ الدعوة إذا خسرت في المحن قادتها بقتْلٍ أو سجنٍ أو تهجير كان الجيل القيادي الجديد الذي يأخذُ محلهم ليقود لا يعرف كيفَ يشتقْ خطة تلائم الظروف الجديدة بل يجمد على الخطة الأولى ، وحتَّى التنفيذ هو فنٌ قيادي وليس مجرد حركات ميكانيكية جسدية ويخطئ من يظنُّ غير ذلك ، نعم فنحن لا ننفي أنَّ توسيع دائرة تداول المعاني الخططية يؤدِّي إلى سلبيات مضرة يغترُّ معها بعض الأخوة غرورا يخرجهم إلى شطط في التعاون مع أقرانهم وقياداتهم ثم يؤدِّي بالتالي إلى التطاول الذي لا يوقفه سوى الحزم ، ولكن الإيجابيات كثيرة وتظل دائما أكبر وأوسع إذ يترعرع وينمو الذهن المرن ولا يجمد على حرفية القرارات والأوامر بل يقارن ويقيس ويحلل وهذه الثلاثة هي قنوات الاجتهاد التي تكون أي يقارن المقارنة ويقيس القياس ويحلل الأمور ثم رابعا يربط النتائج بمقدماتها ويرى إمكانية التفريع على قاعدة يدركها من هو علمه الفقه .(1/96)
رابعاً : القدرة على الاقتباس والتفريع
هذا ويدرك أهمية الشرط الذي يرد كاستدراك على كل تعميم وإخلاص وهذا باب سادسٌ أيضا أنَّ هناك شئٌ مطلق لا يمكن أن تستفيد منه في حالة من الحالات أو مجتمع من المجتمعات إلا بشرط يضيف عليه بعض الاستعمال ليوفر له تنفيذا أفضل فاستكشاف هذا الشرط من المسائل الاجتهادية البحتة ليتقدَّمَ بعد ذلك بمقترحاته من خلال هذا النقد من خلال تقارير ناقدة أو نقاشٍ في المؤتمرات ليكون عاملا من عوامل تطور الخطة أو مجهرا للخطة الكبيرة ؛ أمَّا المقارنة التي رأيناها هنا من الأمور التي يطلب منه تنفيذها وبين ظرفه و واقعه فيكتشف ضرورة ما إذا كانت هناك مجال لمقولة أو لتعديل يقترحه ، وليس هذا الكلام لكم لتشتطوا وتختلفوا مع القيادة فتقولون قد قال فلان إنَّ الاجتهاد واجب وأنَّ تنفيذ حرفية الأوامر والقرارات حرفيا مُضِر ، وكذا فكلٌ يعرف طريقه وكلٌ يجتهد بنفسه ، ولكن لا فأنتَ مُكلَّف بأن تطبق من معاني الخطة في قطاعك الذي استلمته أنت في الجامعة أو في معمل صناعي وفيه آلاف من العمال مكلَّف بأن تطبق هذه الخطة ، وأنت أيضا في مجتمع أقرب للبداوة وطباع أهل الريف تطبقه في أهل الريف وأنت في العاصمة مطلوب أن تطبقه في وسط مجتمع من المثقفين الواعين سياسيا فهنا تختلف هذه المجتمعات والخطة واحدة ؛ ولكن من الذي يكتشف العلاقة النسبية المطلقة بين ظروفه وبين الخطة المطبقة ؟ هو الداعي المنفذ فلا يعطي لنفسه حق المخالفة بل نحن أعطيناك حقا وكما أعطيناه حق المخالفة أعطيناه حق الاقتراح والتعديل مع القيادة فتكون هذه هي الوسيلة المثلى لتعرف بها القيادة اختلاف المنطق التنفيذي من محل لمحل واختلاف الظروف التي يسببها الأمر في التنفيذ ومن هنا ومن خلال اقتراحاته ومحاوراته ومن خلال احترامه للقيادة يفعل فعلته التي نريدها ويشارك عندئذ في الاجتهاد هذا الذي نريده ونعنيه . وليس هو التجرؤ على المخالفة و إلا لا تكون(1/97)
دعوة بكثرة الاجتهادات كما قدمنا ، وأما القياس والتفريع فجوهرها اقتباس المماثل والقريب واشتقاق ما يناسب الظرف المتجدد من رأي قريب أو خطط في بلاد أخرى ، وهذا يخاطب به المنفذ والقائد معاً فالقائد فيها يخطط ويضع خطة لكل القطر وينظر للبلاد الأخرى ويقتبس منها عن طريق القياس والتفريع ما يمكن أن يقتبسه ، وكذلك المنفذ يرى عن طريق القياس أشياء هي مماثلة وقريبة مما تريده الجماعة قد تكون هي البديل الأوفق لمثل هذه الحالة ، وأيضا نكرر أن مثل هذه المسألة يجب أن تكون بتفاهم مع الجماعة فالقياس مع المقارنة متلازمان تلازما أكيدا لا تدري أيهما الأهم { حلقة مفرغة الأطراف لا تدري لها طرفا } ، وأما التحليل فسببه أن أي قرار تتخذه القيادة ينبغي أن يكون مستندا إلى أسبابه المنطقية وأن ترجو منه نتائج منظورةٌ سلفاً في ذهنها ، فإذا ضعفت الأسباب المبررة أو جاءت النتائج متخلفة أو مختلفة عن تحقيق الرجاء كان هناك لزوم العودة إلى بحث القرار ، إنَّ الباب المؤدِّي إلى هذه الإيجابيات هو أن تسمح للداعية بأن يُطِّلَّ على منظر إجمالي كلي للبناء التنظيمي ولمحاور العمل والنشاط المتنوعة تتيحه المباحث الخططية وشروط الدورات فيكون تأمل هذا المنظر وطول التحديق إليه ومراقبة حركته المفترضة مُعِيناً للداعية على فهم الأسس النظرية التي يقوم عليها هذا البناء ، وتدوم بها هذه الحركة العملية فيقوده هذا الفهم مباشرة إلى تنشيط الذهن يلحظ معها النجاح فيتمه ويزيده ، المَثَلُ في ذلك كمثل الفيزيائي الذي يضع لنفسه نماذج تمثل تماسك ذرات العناصر المختلفة في جزئ مركب عضوي إذ أنَّ نظر هذا العالم الفيزيائي للنموذج يعين التأمل والاستنباط وتمكنه من استنباط سلسلة إضافات ذرات للجزيء تنتج منها جزيئات هي سلسلة تكاد تكون لا نهائية من المركبات ذات التأثيرات والخواص المختلفة ويظل يتوسع في اشتقاقاته مع أن أصل السلسلة الكيميائية واحدة وقد وسعت هذه(1/98)
الطريقة استعمال الكيمياء في الصناعة والطب والتداوي وغير ذلك ، وهذه المسألة مشابهة أيها الأخوة فالكيميائي ينظر إلى تركيب الجزيئات جزئ كربون مع جزئ هيدروجين والتي هي أساس الكيمياء العضوية كيف تتحد في محاور متعددة كذا ذرة من الكربون مع كذا ذرة من الهيدروجين تتراكب بصورة معينة عندئذ يضيف لها إضافات معينة بطريقة مختلفة ليجعل إضافة ذرة في اتجاه معين أو اثنين أو أكثر إلى ما لا نهاية كل من هذه الإضافات تنتج له مركبا يختلف في طبيعته وخواصه عن المركب الأصيل ومن هنا توسَّعت هذه الطريقة جدا في الكيمياء واشتقت منها مئات بل ألوف من العناصر العضوية التي استخدمت في الصناعة والتداوي على الأخص مع أن الأصل هو كربون وهيدروجين ولكن طريقة التسلسل اختلفت ، فالعلماء كيف استطاعوا ذلك صنعوا له نموذج أمامهم وظلوا نظريا يضيفون لهذا النموذج وبدون احتمال الترابط هم يضيفون ويركبون وهذا التحديق من جانب العلماء إلى هذا المنظر الذي أمامهم هو الذي دَلَّهم على ما يمكن أن يكتشف ويضاف لهذه السلسلة ، كذلك الأمر بالنسبة لقائد حربي عنده قوة كبيرة موزعة في الوديان وخلف التلال وقرب السكة الحديد وقرب كذا وهو وزع قواته الكبيرة في كل مكان ، آمر السرية أو الفصيلة والذي يكون مع أفراد قليلين من هذا الجيش يستطيع أن يفهم المقدار الذي حوله فيقول إذا أُمِرتُ بالتقدم أسلك هذا المسلك ويعرف ما فيه من عقبات وموانع ، لكن آمر الجيش الآن لا يمكنه ذلك إلا من خلال إطلالة كاملة للمنظر الكلي فيركب طائرة ويرى ساحة المعركة عند ذلك يتصور كيف يتقدم أمن الميمنة أم بالميسرة ، هل يجتاز النهر أفضل أم اجتياز الغابة أسرع ويرى كيف ينال من العدو الذي خلف التلال وهذه مسألة عسيرة لا يمكن لأي قائد حلها إلا بالتحديق والنظر الطويل إلى الخريطة العامة أو الصعود لمكان عالي كبرج أو طائرة فيركبها فيرى المنظر بشكل عام ، وهذه النظرة الإجمالية تمكنه من شيء(1/99)
كثير حيث تمكنه من إجادة تحريك جيشه بالوجه الذي يريده ولا يستطيع آمر السرية الصغير من الجيش أن يحرك هذه المسألة لأنه لم يرى المنظر الكلي ؛ فهنا أيها الأخ نحن نريدك أن تكون قائدا كما قلنا للطاقات إن لم تكن قائدا لمجموعة الدعاة وتواضعت ووضعك إخوانك في محلك اللائق إنك مطلوب منك أن تكون قائدا للطاقات على المجتمع مباشرة فكيف تستطيع ذلك إن لم تَطّلِعْ على المنظر الكلي للمجتمع فهذا هو الذي نعطيك إياه هنا في مثل هذه الدورات كل شيء المفروض أن يتكامل لك ولا أعني أن يكون ذلك من خلال دورة واحدة أو من خلال مخيم كهذا بل هي سلسلة دورات يكمل بعضها البعض حتى تَطّلِعْ على المنظر الكلي فدروس التربية تكملها دروس التنظيم ، تكملهما دروس السياسة ، وتُكمِّلْ الجميع معلومات عن واقع العالم الإسلامي الآن ، وكل ذلك يتضافر لكي نُطِّلْ على منظر كلي لكل العمل الإسلامي بفروعه المتشعبة من سياسة وتنظيم وتربية و بواقعه وبتاريخه وجذوره الممتدة كشجرة ولكن لا ترى جذورها ولكن نحن نحفر لك هذه الجذور الممتدة إلى الأسفل كيف تتشعب وكيف تعمل على إنماء هذه الشجرة وأحيانا ولسنا نريد التشاؤم ؛ كيف تنتحر هذه الشجرة أحيانا يكون مرض في الجسم يؤدِّي إلى فساد الثمرة فإذا عرفت المرض في الجذور وكنت طبيبا نباتيا يعرف كيفية العلاج استقامت لك الثمرة ، فمن هنا فإنَّ تاريخ الدعوة لا يلقى عليكم لمجرد الاستئناس ولا لمجرد بث الحماسة ولا لمجرد زيادة علم وترف في المعلومات ولكن قد تكتشفون من خلال التاريخ جذورا كثيرة هي التي سببت جودة الثمرة أو خلافه ، فما كان من جذر حسن تَقَوَّى هذا الجذر ويزيد الثمر نضوجا ، وإن كان هناك فساد في الثمرة فتكون قد عالجت الجذر فيصْلُحْ الثمر من وقت لآخر ، وبهذا نريد أن نشرح ونقول ما الذي نعنيه من قابلية الاجتهاد التي نريدها هنا .
خامساً : محاورة العلماء(1/100)
وهذا ضروري أيها الأخوة ولا يقل عن الأبواب الأخرى لزيادة العلم والاقتباس من محادثة العلماء فأنا وإن جلست لكم ولقد بحثت في نفسي كلام لأقوله لكم من هناك أضعاف وأضعاف هذا الكلام في صدور الرجال جاهز لأن يقال لمن سيحتك بهم من دون تواعد وبدون تكلف وقد تكون البركة في هذا العلم أكثر من البركة في الكلام الذي نقوله لكم بتكلف ، فالعالم الإسلامي فيه قادة وفيه مفكرون ودعاة كثيرين من المجربين الذين لهم مدة معاناة كبيرة والتي قد تهمنا هنا مدة المعاناة قد تطول لثلاثين عاما أو أكثر من ذلك أو أقل علما كثيرا ، كما كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول وهو يدق على صدره إنَّ ها هنا علما كثيرا لو وجدتُ له حفظة كما في صحيح البخاري . يدق على صدره ولكن مع الأسف الحفظة هم الذين خذلوا عليا رضي الله عنه فصارت الفتن واشتعلت فلم تمكنه من بَثِّ علمه الغزير ، فهناك علما كثيرا في صدور قادة الدعوة أيها الإخوان وفي صدور دعاة منتشرين في كل مكان ، ولا تستطيع أن تأخذ منهم هذا العلم كله بواسطة كتابة ولا بالمراسلة لأنهم لو كانوا يستطيعون الكتابة لكتبوا ووفروا عليك الجهد فالكتابة أحيانا لا تجدُ عند الداعية وقتا ليكتبها وأحيانا قد يكون صاحب معنى ولكن ليس له بلاغة تؤدي بها المعنى ، وأحيانا يتواضع ويقول مالي ومال الكتابة سوف أبَلِّغْ علمي للأقربين مني وهم يسعون لتبليغه للأبعدين ويتأول في ذلك تأولات مختلفة ، وأحيانا هو يحوز علما لا يدري أن هناك حاجة لبَثِّ هذا العلم ولو علم أنَّ هناك من يحتاجه لبثه ؛ كثير من المسائل التجريبية يظن أن الجميع يستوون في معرفتها بينما هي في الحقيقة من العلم النادر لأنه يدلي بها لا كرواية تاريخية بل محللة وفق مفاهيم الاجتهاد التي ذكرناها بتحليل وقياس ومقارنة ، فمن هنا أنت كجزائري لن تستطيع أن تكون فقيها في الدعوة إلا أن ترحل ولا تكتفي بهذا الأمر فترحل لبلاد الشرق أو مخيمات الغرب وتختلط(1/101)
بأخوتك وترى رأى العين كيف تسير الأعمال الإسلامية هناك وتحادث وتسأل وكلما كنت حَسَنَ السؤال كان الجواب الذي يقال لك حسنا ، فملاقاة الرجال هي باب من أبواب المعرفة الفقهية أيها الأخ ، أنظر عاملا تربويا في هذا الباب أنا مرة اعترضت على جماعة التبليغ الهندية التي لها طريقة الوعظ السيار وليس الوعظ المستكين، وجماعة التبليغ هذه معروفة بهذه الطريقة قلت لهم هذا ، وعظ لا يفيد ، قالوا : نعم ولكن إذا ما رأيت نتيجة الوعظ فهي نتيجة حقيرة ضامرة ولكن إذا ما رأيت النتيجة في نفوس الواعظين الذين نخرجهم لرأيتها كبيرة إذ أنه يضطر للتعلم ومخالطة الناس ويتعلم الجرأة في مخاطبتهم وتكون له مفيدة أيما فائدة ولولاه لضمرت عناصرنا ومعارفنا وما وعت شيئا من علم الشريعة . ورأيت هذا الجواب منطقيا واضحا هذا إذا كان مع عامة الناس مع قروي وللأخ هم يخاطبونه بمثل هذه المخاطبة البسيطة في شرح لا إله إلا الله معاني واضحة يتعلمون منها هذا العلم فكيف إذا كانت محاورتك لقادة الدعوة ولأهل الفكر ولدعاة قدماء من أولي التجربة هنا ستضطر أن تكون بالموطن الذي يليق لا تكون في ذلك مرائيا حاشاك من الرياء هناك حد يمكن للداعية أن يضبط نفسه ويبعد بها عن أرض الرياء ولكن هو يريد أن يكافئ هؤلاء ويقول لهم قولا واضحا ، فإن لم يكن صاحب علم وذوق ومعرفة في داخل نفسه سوف لا يكون الجواب آنذاك بنفس الدرجة من الحسن في العمل ، مثلا إذا أنت سألته عن بلده حيث تلتقي بداعية من الكويت وتقول له كيف العمل في الكويت وكيف تقاومون الحياة المترفة وكيف تقاومون العمل الماسوني الضخم الموجود هناك وكيف كذا إلى آخره ويجب أن تتوقع أن يسألك ما الجزائر وكيف العمل هناك وهنا كيف تجيبه إذا لم تكن صاحب معرفة بالجزائر فبأي لسان ستنطق إن لم يكن عندك من العلم الشرعي ما يُسْنِد النظريات التحليلية الواقعية التي ستدلي بها ، فترى أنك إن طرقت هذه المحاورات عليك أن تبدأ بتربية(1/102)
نفسك فهذا عاملٌ مهم من العوامل التي تحثُّ الداعية على زيادة علمه وزيادة تفكيره وتماسِّه بالآخرين ليكون نقَّالا للعلم إلى الذين سيحاورهم ولذلك سميناها محاورة وهي ليست مجرد مقال لصحفي يأخذه من دبلوماسي أو رجل أعمال كبير ما هي آخر الأنباء التي عنده وهذا يدلي بحديثه وذاك يسجل على المسجل عنده ولكن كلا فهي محاورة وتبادلٌ للآراء ينقِّح عقول الرجال .
سادساً : مطالعة الكتب
وهذه أيها الأخوة مسألة من المسائل الملموسة ولو أن لي وقتا لرويت لكم الموازين التي تضبط هذه المطالعة والكتب المقترحة لقراءتها ولكنها محاضرة طويلة أظن أن هناك ما هو أهم منها الآن في هذه الأيام ؛ فالمطالعة الكثيرة من أهم أسباب صياغة فقه الدعوة ، ولكن من دلائلها وشروط نجاحها أن تكون مطالعة اجتهادية مستنبطة وتعود للاجتهاد والاستنباط وليست مطالعة تقليدية تقلد الحرف بالحرف وتأخذ ما هناك من حدود الكتب على أنها مسلمات بديهية لا حياد عنها ولا يمكن أن تناقش ، كلا ، بل هي معين للعلم فترتقي بما تقرأ وتكون هذه هي المطالعة المستوعبة وقد قلت في ذلك قولا قلتُ : كما يعيب التقليد الأصالة التخطيطية يعيب كذلك الأصالة الفكرية الاجتهادية أيضا وتبسط افتراضية الاجتهاد المفترضة للداعية وتكثر هذه الظاهرة في البلاد التي تعتمد في تثقيف دعاتها على من يزورهم من الخارج وهي فكرة مفيدة ولكنها تولِّد معها ظاهرة سلبية تعدل الفوائد ، فإن دعاة هذا البلد يصبحون أقلَّ قناعة ودعوة للكلام الجاد الذي يكتسب الصنعة الجمالية التي يحرص عليها المحاضر الزائر ويصبحون مقلدون فقط لا يعرفون الاجتهاد والإبداع إلا قليلا ولا يفهمون الكثير من الدروس التجريبية التي تأتي على لسان قدماء الدعاة فيزهدون بها ، إنَّ من المهم لمثل هؤلاء الدعاة أن يعرفوا أن المعاني المهمة ليست هي الجديدة فقط والتي يحرص المحاضرون على اختيارها بل تكمن أيضا في اكتشاف أسباب ظواهر معروفة وتحليل أمر(1/103)
مجمل إلى جزيئاته وبيان الفروق بين أمرين معلومين وبيان وجه التشابه ، واكتشاف علاقة بين ظاهرتين معروفتين قد كان يظنُّ أن لا علاقة بينهما ، إنَّ الترف في التدريس يجعل التلاميذ ذو حرصٍ على النتائج الموضعية فقط دون جذورها وضوابطها وأسبابها ويصبحون أصحاب علم غير مبرمج لا منهجي ، بل حصيلتهم شتات وأكداس متنوعة مسموعة أكثر ما هي مقروءة بتتابع ويصير اهتمامه بالمحاضرات وفقه الدعوة وبما يطبع لهم مستندا على عاطفة وتجاوب روحي أكثر من استناده على معاناة وتفاعل علمي وتأملي ويكون لهم بُعْد اتكالي في التفكير يبعدون معه عن الأصالة المطلوبة ، فعلاج هذه السلبيات إنما يكون بتكثيف المطالعة الشخصية المنهجية المتدرجة في أبواب الفقه والتاريخ والاقتصاد والسياسة ، ولا يعني الانشغال الكثير عذرا لتكييف هذه المطالعات ومصالح الدعوة مشترك كما أن مصلحتها من الارتفاع بالمستوى الثقافي الفكري ، ولا بأس من تحديد بعض هذا النشاط من أجل تمكين الدعاة من حيازة هذه الثقافة وتمكينهم من التهام الكتب ، كما يمكن أن أقول أن مثل هذه المسألة غاية في الأهمية وأرجو أن لا تفهموا منها أنها سلب لكم باعتباري زائرا لكم ، بل أنا أقصد بالدرجة الأولى بعض البلاد التي تكثر لها الزيارات من البلاد المفتوحة ، هناك في الجزائر نوعا منها ولا يأتيكم إلا بلمم وصعوبة ، ومثل هذه البلاد المنغلقة هذا الانغلاق هي في الحقيقة في حاجة إلى زوار كثيرون لأنها لم تصل لمرحلة حيازة القسط الطبيعي الذي ينبغي أن يكون الأفراد على علم به ويجب أن يتعلمها من الأفراد الآخرين .(1/104)
أمَّا نحن في الحقيقة فهذه هي المرة الأولى التي نجعل لنا دروسا معكم فلستم أنتم المعنيين بذلك بل بلاد مثل الخليج مثلا يزورها أناس كثيرون من أنحاء العالم وهو مهبط القادة والزعماء والمفكرين يحاضرون لهم وهذه ظاهرة في الخليج ككل ربما تظهر أكثرهم في الفكر يصبح معتمدا على السماع أكثر ما هو معتمدا على منهج متدرج مبرمجا في مطالعات تراد له ، وكذلك الغرب اليوم فمخيمات إخواننا في بريطانيا وطبيعة المحاضرات التي تلقى هناك ربما تجعل إخواننا في نوع من الترف الفكري لأنهم يلتقون مع القادة وجها لوجه كل موسم وليس له حاجة لمطالعة ، بينما لو علم وأنصف نفسه لعلم أن المحاضر الذي يأتيه يتكلَّف في الكلام ويأتي له بأجمل ما عنده فقط أما هناك من العلم الجيد الذي لا يستطيع أن يصاغ بحروف جميلة ، هذا يحجب عنه ، وفي هذا العلم بركة إن لم نقل أكثر من هذا الذي يصاغ بحروف جميلة فإنه يعادل هذا الكلام الذي يقال .
فاحرص أيها الأخ ألا تتشبه بهؤلاء وأن يكون لك المنهج الذاتي في المطالعة منهج وبرنامج متدرج تصل فيه إلى الفقه الكامل ، ومرة كتبت مقالا في مجلة المجتمع بعنوان الدموع الباسمة نعم ذكرت فيها بل عِبْتُ على المسلمين اليوم دعاة الإسلام أنهم لا يقرئون كثيرا بل أن كل يكتفي بعناوين الكتب والمحاضرات وبما يسمع أكثر مما يوضح له البرنامج الطويل والكلام فيه مسحة أدبية أكثر ولكن فيه نوع من الواقع ولا بأس في أن أتلو عليكم هذا الكلام ليتولد المعنى الذي أريده .(1/105)
ومقال الدموع الباسمة هذا في عدد – 464 – من مجلة المجتمع في عام 1979 م كتبت أقول يجتمع بين الناس تشبه الأولين لعمل المصلح المتجرد بنفسه كشمعة تحرق نفسها لتضئ للآخرين وكان الكاتبون أصحاب الأقلام والتدوين والتأليف الصحفي يرون أنفسهم أنقى هذه الشمعات ويظنون شعاعهم أوهج اللمعان لما في وصف الناس للعلم بالنور من قرينة تفرض تصوير التشبيه إليهم وذلك شرف نعمناه يحق لهم ولغيرهم أن يتنافسوا في الانتساب إليهم والسباق إلى التحلِّي به ولكني رأيت من الحكمة ما هو أبرع من وصف الأقلام ودورها في التوجيه والبهجة التي تبعثها فقد أطل ذكر على مساحة الحياة يتبع مصادر البسمات بعد أن امتلأت أحزانه فاكتشفت فقال لم أرى باكيا أحسن تبسما من القلم هكذا هو الكاتب وإنها كذلك الأقلام حقا إذا سال منها المداد وذرفت منها الدمعات السود يجوب صاحب القلم كبير الميادين وتكون لهم سياحة في آفاق الأعمال كل الأعمال وينقب في الماضي يستخرج السوابق ثم يرجع يختلي ويقيس ويقارن ويحلل ويعلل لتسطر دمعات قلمه التجارب وما وجدوا لتجف دمعات التائبين ويكون ثمة ختام أنها متاهات الحياة يهيم فيها أكثر البشر فتأتي تجارة المربين عبر دموع الأقلام لتعصم من الخطأ وتوجهه وتمثل التخطيط وتسجل وترسم الطريق فيعدل ويتلملم رافض ويتنافى قانع ويتأنَّى متهور وما بين هذا التنافي والإسراع والإبطاء تصون البصائر وتتكشف أصول المباهج وتغمر القلب برودة السكينة بعد حرارة القلق ولسعات الحيرة وتنفرد أسارير الوجه عن ابتسامة وضَّاءة بعد قنوط أو ذهول .
تاريخ المقال6/13/2005(1/106)
دقائق الليل الغالية
سجود المحراب ، واستغفار الأسحار، ودموع المناجاة : سيماء يحتكرها المؤمنون ولئن توهم الدنيوي جنانه في الدينار، والنساء، والقصر المنيف ، فإن :
· جنة المؤمن في محرابه ([1])
ولقد منّ الله على الناس بكثير من المباح الحلال يفند الرهبانية ، ولكن المؤمن له لذة كلما توجه إلى ربه ، وصفاء روح ، تتضاءل بجانبها لذة المباح ، فيهجر الكثير منه حذر من كدر يعكر الصفاء الذي هو فيه .
جرب ذلك المؤمنون ذلك قديماً ، زمن العيش البسيط ، وعاشر السهر وردي شلة منهم ، فوصفهم ، وخرج بنتيجة ، فقال :
( الذائقون حلاوة المناجاة لابد أن يجدوا صفو الأنس في الصلاة ، ويتكدرون بيسير من الاسترسال في المباح ([2]) .)
وجربه المؤمنون اليوم ، زمن المدينة المعقدة ، وأنابوا صالحا منهم يصف ما يجد كل منهم ، ويقول :
هاتني سجادتي
فهي صفائي وسروري
وهي شوقي ودثاري
وهي نبراس الطهور
ثم دعني في صلاتي
في مناجاة القدير([3])
فهي صفاؤه ، وسروره ، وشوقه .
بل إن الصلاة في يوم هذه المدينة لأظهر في إضفائها السرور ، فبينما يطيل التعقيد
على الإنسان حياته الحاضرى ، فيسأم ، ويمل ، ويضجر ، تختصرها الصلاة إلى بضع ساعات فحسب ، فتعيش في اطمئنان ، وراحة بال ، ولئن كان لنظرية آنشتاين في نسبية الوقت نصيب الصحة ، فأن في الصلاة هذا النصيب ، كما يشرحه مصطفى صادق الرافعي ويقول : ( يا لها من حكمة أن فرض الله علينا هذا الصلوات بين ساعات وساعات ، لتبقى الروح ابدأ أما متصلة أو مهيأة لتتصل، ولن يعجز أضعف الناس مع روح الدين أن يملك نفسه أنه متوجه بعدها إلى ربه ، فخاف أن يقف بين يديه مخطئا أو آثما ، ثم هو إذا ملك نفسه إلى هذه الفريضة ذكر أن بعدها الفريضة الأخرى ، وأنها بضع ساعات كذلك ، فلا يزال من عزيمة النفس وطهارتها في عمر على صيغة واحدة لا يتبدل ولا يتغير ، كأنه بجملته ـ مهما طال ـ عمل بضع ساعات ([4]). )(1/107)
هو طويل جداً ، مخيف مظلم للجاهلي . وهو قصير ، هين منير للمصلي .وحية الجاهلي ركود مستمر.وحياة المصلي حركة ، تزيد صوابا ، أو تستدرك اعوجاجا.
وأنها ( الله أكبر) تنهي هذا الركود ، وتؤسس الحركة . ( الله اكبر . !)
بين ساعات وساعات من اليوم ترسل الحياة في هذه الكلمة نداءها تهتف :
أيها المؤمن : إن كنت أصبت في الساعات التي مضت، فأجتهد للساعات التي تتلو. وأن كنت أخطأت فكفر ، وامح ساعة بساعة . ([5]))
وأظهر حركة يولدها التكبير : حركة التمييز والفرقان ، بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان .فأنك أن قلت : ( أهدنا الصراط المستقيم ، صراط الذين أنعمت عليهم ، غير المغضوب عليهم ، ولا الضالين .) استشعرت في كل ركعة من هذه الأصناف الثلاثة ، وتختص كل ركعة لمن ظهر منهم في زمن واحد ، أو بلد واحد ، فتجول في ركعات يومك بلاد الإسلام أجمع .
ففي ركعة تذكر النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه الأطهار رضي الله عنهم مثلا لمن أنعم الله عليهم ولا الضالين .
وفي ركعة أخرى تذكر هودا وصالحا مثلا ممن أنعم الله عليهم ، عليهم السلام ، وعادا وثمود من الهالكين .
وفي ركعة أخرى تذكر الحسن البصري وابن سيرين وابن المسيب ممن أنعم الله عليهم ، وأهل الردة ، والجهم بن صفوان ، والجعد بن درهم من المتخبطين.
وفي ركعة أخرى تذكر الإمام احمد بن حنبل ورهطه من المحدثين الموفقين، وبشرا المريسي وابن داود من الظالمين .
وفي أخرى تذكر ابن تيمية وابن القيم وابن الجوزي من المصلحين ، وأصحاب وحدة الوجود والفناء الموهوم والشطح والابتداع من المدلسين .
وفي أخرى تذكر الإمام البنا وعودة وسيد ، وثباتهم أمام الطغاة المتجبرين .
وفي أخرى تذكر حركة النور ، وحزب ماشومي ، وضلال أتاتورك وسكارنو من الكاذبين .(1/108)
وبذلك تعقل صلاتك ، والمرء ليس له من صلاته إلا ما عقل منها ن وتجدد عهدك مع أجيال المؤمنين ، وتنبذ المفسدين ، وتلك هي حركة الإيمان ، فإن الإيمان الحق ما أخذ منك الولاء ، وتركك على المفاصلة .
· رجال مدرسة الليل
ولكن تمام التذكر يكون مع الهدوء والسكون . فمن ثم كانت مدرسة الليل . وكان ترغيب الله للمؤمنين أن يجددوا سمت الذين ( كانوا قليل من الليل ما يهجعون ، وبالأسحار هم يستغفرون.) وإذا انتصف الليل ، في القرون الأولى كانت أصوات المؤذنين ترتفع تنادي :
يا رجال الليل جدوا
رب صوت لا يرد
ما يقوم الليل إلا
من له عزم وجد([6])
وإنها حقاً لمدرسة ، فيها وحدها يستطيع رجالها أن يزكوا شعلة حماسهم، وينشروا النور في الأرجاء التي لفتها ظلمات الجاهلية .
وإنها لتجربة إقبال يوجزها فيقول :
نائح والليل ساجع سادل
يهجع الناس ودمعي هاطل
تصطلي روحي بحزن وألم
ورد يا قيوم أنسي في الظلم
أنا كالشمع دموعي غسلي
في ظلام الليل أذكي شعلي
محفل الناس بنوري يشرق
انتشر النور ونفسي أحرق([7])
وإن دعوة الإسلام اليوم لا تعتلي حتى يذكي دعاتها شعلهم بليل ، ولا تشرق أنوارها فتبدد ظلمات جاهلية القرن العشرين ما لم تهل بـ ( يا قيوم ) .
ما نقول هذا أول مرة ، وإنما هي وصية الإمام البنا حين يخاطب الدعاة فقال: ( دقائق الليل غالية ، فلا ترخصوها بالغفلة . ([8])) .
أفعيينا أن نعيد السمت الأول ، أم غرنا اجتهاد في التساهل والتسيب والكسل جديد ؟ أن القول عند الله لا يبدل ، ولكن أرخصنا الدقائق الغالية بالغفلة ، فثقل المغرم ، ولم يجعل الله لنا من أمرنا يسرا .
أن انتصار الدعوة لا يكمن في كثرة الرق المنشور ، بل برجعة نصوح إلى العرف
الأول ، ومتى ما صفت القلوب بتوبة ، ووعت هذا الكلام أذن واعية ، كانت تحلة الورطة الحاضرة التي سببتها الغفلة المتواصلة .(1/109)
ذلك شرط لا بد منه .وكأن النصر حجب عنا لأننا نادينا من وراء الحجرات ، وجهرنا رافعين أصواتنا نوجب على الله لنا هذا النصر بادلال ، نبيعه ونثبت لنا حقا عاجلا في الثمن من دون أن نقدم بين يدي بيعنا همسا في الأسحار ،ولا الدمع المدرار ، وإنما النصر هبة محضة ، يقر الله بها عين من يشاء من رجال مدرسة الليل في الحياة الدنيا، ولا يلت الآخرين المحصرين من ثمنهم في الآخرة شيئا، ويوقع أجرهم عليه.أن تعلم الإخلاص ، وفضح الأمل الكاذب الدنيوي أجلى أعطيات مدرسة الليل ، كما يقول وليد ، وذلك ما توجب تربيتنا تركيزه وتعميقه في النفوس . قال ، والحق ما قال :
يا ليل قيامك مدرسة
فيها القرآن يدرسني
معنى الإخلاص فالزمه
نهج بالجنة يجلسني
ويبصرني كيف الدنيا
بالأمل الكاذب تغمسني
مثل الحرباء تلونها
بالإثم تحاول تطمسني
فأباعدها وأعاندها
وأراقبها تتهجسني
فاشد القلب بخالقه
والذكر الدائم يحرسني([9])
وأكثر من هذا، فان من تخرج في مدرسة الليل يؤثر في الأجيال التي بعده إلى ما شاء الله ، والمتخلف عنها يابس قاس تقسو قلوب الناظرين اليه ،والدليل عند بشر بن الحارث الحافي منذ القدم،شاهده، وأرشدك إليه ، فقال: (بحسبك أن قوما موتى تحيا القلوب بذكرهم ، وإن قوما أحياء تقسو القلوب برؤيتهم.([10])) فلم كان ذلك أن لم يكن ليل الأولين يقظة،وليل غيرهم نوما ؟ونهارا الأولين جدا، ونهار الآخرين شهوة .
· أتسقيك الحمامة ؟
وأنه لقلب رقيق قلب الفقيه الزاهد أبي سهل الصعلوكي، يظهره تأنيبه لنفسه في قوله:
أنام على سهو وتبكي الحمائم
وليس لها جرم ومني الجرائم
كذبت لعمرو الله لو كنت عاقلا
لما سبقتني بالبكاء الحمائم([11])
فإن الذنب لا يغسل إلا بدمع ، والشجاعة تسقى بدمع الليل ، وما عرف تاريخ الإسلام رجاله إلا كذلك ، ولم يقل ابن القيم باطلا في وصفه لهم بأنهم :
يحيون ليلهم بطاعة ربهم
بتلاوة ، وتضرع ، وسؤال
وعيونهم تجري بفيض دموعهم(1/110)
مثل انهمال الوابل الهطال
في الليل رهبان ، وعند جهادهم
لعدوهم أشجع الأبطال
بوجوههم أثر السجود لربهم
وبها أشعة نوره المتلالي([12])
وسأل عبد الوهاب عزال الليل عن أروع أسراره ، فأبان جوابه عن إصابة المؤمنين والمذنبين في تحريهم إياه ، وأستمع لتحاروهما :
قلت لليل :كم بصدرك سر
أنبئني ما أروع الأسرار؟
قال : ما ضاء في ظلامي سر
كدموع المنيب في الأسحار([13])
أفترى المؤمنين إلا مصدق بجواب الليل ، فهو مسارع مستبق ؟
أم ترى أهل البلاغة إلا في إذاعة لما قال ؟ يستملون الناس .
فار من سبح والناس هجوع
يدفن الرغبة ما بين الضلوع
ويغشيه سكون وخشوع
سوف يغدوا ذلك الدمع شموع
لتضئ الدرب يوم المحشر
سجدة لله عند السحر . ([14])
ويلقنون المؤمنين المخطئين طريق الجنة ، فيستملون المسرف في أخرى ان :
عد الى الله بقلب خاشع
وادعه ليلا بطرف دامع
يتولاك بعفو واسع
ويبدل كل تلك السيئات حسنات أجرها لن ينفدا
كل هذا العفو للعبد المنيب
سابغا من خالق الكون الرحيب
للذي تاب إليه من قريب
=============
[1] - شطر لوليد في مجلة التربية الاسلامية 7/627
[2] - مذكرات سائح في العالم العربي / 79
[3] - لياسين خليل اليهتي في مجلة التربية الاسلامية 6/222
[4] - ( 5) من وحي القلم 1/364/259
[6] - عن مجلة التربية الاسلامية 7/498 لأحد وعاظ القرن السادس
[7] - ديوان الأسرار والرموز /79
[8] - مجلة الدعوة عدد 62
[9] - أغاني المعركة /28
[10] - طبقات السلمي / 46
[11] - طبقات الشافعية للسبكي 3/171
[12] - إغاثة اللهفان /255
[13] - ديوان المثاني / 25
[14] - الوليد في مجلة التربية الاسلامية .
تاريخ المقال5/3/2005(1/111)
عندما يستبد الطموح
وقد منحناك نصف المعنى عبر هذا العنوان المليان، ثم ستكسبُ نصف المعركة عَبَر الوضوح وتجانس المنطق ومفاد المنهجية وتلقين قواعد الاتزان، وإنما تلك هبةُ الله ربّانيةٌ أنت تغفلُ عنها وقد نبّهك سبحانه أنه هو (الرحمن، علم القرآن، خلق الإنسان، علمه البيان)!!
فالمقدرة الوصفية، والمهارة في ترجمة الخيال، ومُكنة استحضار المعنى الإستشرافي البعيد ونقله إلى الموطن المنظور القريب، ومهارة جمعِ المتناثر في بؤرة، وتوزيع المتمركز نحو أطرافٍ في المحيط، وإدارة المستقر حول محور: كلُ ذلك إنما هو نتاج التفوق إذا احتلت المنهجية العقل ثم انسابت نحو مكمن العواطف في القلب فاستعمرته فحصل الامتزاج، وكلُ ذلك إنما يفسر نعمة (البيان) التي امتنّ بها الله سبحانه.
وبينما كان شابٌ نبه شريف قانعٌ عفيف يمشي: اعترضه رجل كهلٌ نبيل، فسأله عن اسمه فقال: من أنت يا بُني؟ فأجاب: فقال له: ومن جدُّكَ ولقبُكَ ؟ فحار الفتى جواباً، فهَزَّ النبيلُ كتفه وقال لهُ: جدُّكَ فلانٌ يا بُنيّ، وقد نشأت يتيماً، وحجبوا عنك الإرث، ولك ثروةٌ نهبوها يومَ كنتَ طفلاً، فاستيقظ وعالج فقرك، وعلمهُ أصول التجارة، فأثرى وأصبحت له صدارة.
ذلك أنت أيها الداعية الغريب الناشئ بين طامعين، واللابث مع الفطرة بين منحرفين، فإن سلفك قد تركوا لك إرثك من الحِكَم والمواعظِ والتجاربِ وأصول التعامل، فحرمك منها إعلام يزوّر، ومنهجٌ تعليميٌ يثبّط، وأنت الأحقُ بأن تستمع بمنظر شروق الطموح، لتتوغل في عرصات العمل على منهجية ووضوح.(1/112)
وقد أقام الله تعالى الخليقة كلها على نظام وتدرجٍ موزون، وأنت ترى العناصر في نواة ذرّتها بروتون واحد فإثنان فثلاثة فتسعٌ وسبعون هو الذهب، ثم تتوالى صُعداً حتى تشع، وترى البيئة يحكمها تعادل، ثم ترى الأفلاك تتجاذب فتستقر، وأنت خليفة الله في هذا الكون، وجعل لك في التطور ديدناً، واختار لك من المنهجية سبيلاً، وبها عرفت وعرفنا أن الحياة البشرية تموج، وتزدحم في ثناياها الأفكار والرؤى والرغبات والوشائج والصولات والجولات والأفعال وردود الفعل كلها، تومِضُ وتهتزُ وتتضادَ في الآن الواحد، في المكان الواحد، فيصيبُ أهلَها صُداعٌ وتستولي عليهم دهشة، فيضيعُ الحساب وتستغلق الوجهة، فيستطيلُ عُنقُ رشيدٍ وهبهُ الله مزيدَ عقلٍ ومنحه فضلَ شجاعةٍ، فيُصيحُ صيحةً تصمُتُ لها الضوضاءُ، وتلتوي لها الأعناق، ويبرزُ مقتحمٌ أن أنا لها فأتبعوني، فيقتفي خطواتَهُ منصِفون، ويتبددُ في المتاهةِ آخرون وَجِلون، فتصطف صفوةٌ وتنحازُ نخبة، ويتاحُ لمعجزة الكتلةِ أن تبرهن على صدق من يراها أنها أصلُ ظواهر حركة الحياة.
إن (معجزة الكتلة) هي المدخل الذي ينبغي أن تدلف منه الدعوة الإسلامية في حملتها لإصلاح الحياة، وجوهر حقيقتها أن العمل الفردي الذي يُبديهِ المؤمنون كلٌ على رسلهِ ووفق ذوقهِ واجتهاده ومدى علمه: لا يستطيع أن يمنحهم تفوقاً، مهما كانت النوايا صحيحة والقلوبُ عامرة، لكن العمل الجماعي وصيرورة الجمهرة المتناثرة حُزمةً واحدةً واستحالتها إلى كتلةٍ مترابطة لها أمير يأمر وخطة متفق عليها: حالةٌ أقرب إلى تحقيق الأثر، تتضاعف احتمالات تحقق أثرها وفقاً لسعة عدد عناصر الكتلة، وإتقان فنون العمل، وعمق الطاعة، وسعة ما لها من ولاء في جمهورٍ أعظم منها يحيطُ بها.(1/113)
والآثارُ تزدادُ نفوذاً كلما وضُحَ التناقض مع الفسوقِ أو كتلة الكفر، فظُلم الجهول يقابله عدلُنا، وإهمال المستضعف تفضحهُ نجدتنا وإغاثتنا وخيرياتنا، وقعودُ المترفين تزري عليه نفرتنا، وأحلام دُنياهم تزاحمُها أشواقنا الأخروية، وعندما نزل الله آدم إلى الأرض أراد حكمةً أن يكون بعضُ أبنائه أعداء للبعضِ الآخر، بما كان من الفرقان تبعاً لحقائق الضلال والإيمان.
ومن هنا تنطلق خطة( تطوير العمل الجماعي) التي تمرُ بتطوير قدرات الداعية وتحقيق استقراره النفسي وتميزهِ الإيماني ووعيه الشرعي وإطلالته المعرفية على ساحة الأدب والتاريخ والفن، وأصلُ المقياس في هذا التطور أن يتحول الداعية المؤمن من مجرد مُلبٍ يقتدي وتابعٍ يقتفي ومجيبٍ ينفذ، إلى قياديٍ يجتهد ومتقدمٍ يتوغل وراءٍ يبصرُ بفراستهِ معالم الغد العالي فيبني لصحبهِ مدارج الصعود.
إن(الصنعة القيادية)هي المحور الذي تدورُ عليه محاولات التفوق، وإن الله تعالى إن رَحِم جمهرة الدعوة فوهبها قائداً عالماً واعياً سياسياً مربياً مبدعاً شجاعاً بليغاً، وأدرك الجميع أيادي القدر الربّاني في ذلك، فإنه والجمهرة التي معهُ مكلفونَ بمقارعة قدر السوء الذي أحاط بهم، من سذاجةٍ أو ترددٍ أو إبطاء: بأقدار من الخير يتعرضون لها ويجهدون أنفسهم في أن تحل فيهم وتتمثل بهم، من علمٍ واقتحام وشجاعةٍ ووعي.
وهذا ما ينقل معنى القيادة الفردية إلى صناعة (الطبقة القيادية العريضة).(1/114)
وأهم ما يمكن أن تفعلهُ الجمهرة: أن تتوزع إلى تخصصات عديدة تلبي حاجة المرحلة والساحة، وتغطي حاجة الناس،ثم يغطي بعضها الآخر الحاجة المستقبلية للدعوة، وتلك هي نظريةُ(صناعة الحياة)التي لم يكتمل فهم الدعاة لها حتى بعد مرور وقت طويل على الجهر بها، ولولا أن دُعاة من أهل الألمعية والذكاء والإبداع قد جسّدوا عملياً جوانب منها عَبْر براعتهم في تخصصهم وانتصابهم قدوات: لقُلنا أن الدُعاة يكسلون في تطبيقها، في الحين الذي يجب أن تكون هي الطريقة التي نتقدم بها لعرض الدعوة، والوسيلة التي نصنعُ بها كماً واسعاً عريضاً من الولاء الذي يُبديهِ الناس لنا، والذي يتكفل بترجيحنا اجتماعياً وسياسياً وثقافياً، وبتمويل ذاتي من الموالين أنفسهم، وأكثر الأعمال السياسية والثقافية والإغاثية يمكن أن تقسِمها الخطة الماهرة إلى مئات أقسام ووحداتٍ تنفيذية متكاملة، كلُ وحدةٍ ليست تحتاجُ غيرَ عددٍ قليل من الدُعاة الذين يمكن أن يسندهم الكثير من الموالين الذين يخلطون مع عملهم الصالح ووجوه التأييد وجوهاً من النقصِ تمنع الأعراف والقوانين الدعوية التنظيمية أو الشرعية أن يكونوا معها أصحاب صفةٍ رسميةٍ في الكيان الدعوي، ولكن يُتيحُ الميدان أن يكونوا في الصف المساند وأن يتحملوا ثقلَ التنفيذ، ومن غير أن يشعرَ مثاليٌّ متشدّدٌ في الشروط بحرجٍ في الأمر أو أن يتصور في ذلك مغامرةً كبيرة، لأن عناصر الدعاة من أهل النضوج والوعي والوفاء ستظل هي التي تمسكُ بالزمام القيادي في كل هذه المفاصل والميادين الجزئية وأطراف النشاط، وذلك يكفي حتى لو كانت نسبتها عشرة في المائة فقط، إذ المفترض أن الأعمال الإعلامية والتربوية لعموم الكتلة القيادية ثم انتصاب الثقات الأكفاء قادةً ظاهرين: من شأنه أن يرفع درجة إيمانِ هؤلاء الكثرة الباقية، ووعيهم وثقافتهم وحرصهم على استمرار الولاء، وبإمكان مجموعة تخطيطية طموحة تُتقِنُ توظيف الطاقات على هذه الطريقة(1/115)
النسبية الشبيهة بصنع المحاليل الفعّالة من أصل كثيفٍ مركز قوي التأثير: نقول إن بإمكانها صُنع خارطةٍ عريضةٍ جداً كثيرة العروق والتوزع والتشابك، في كلِ نهايةِ غصُنٍ منها مؤسسة أو جمعيةٍ أو نادٍ أو مركزٍ أو معهدٍ أو أي شكلٍ من أشكال التجمع الهادف الذي يحوي ثلاثةً أو سبعةً أو عشرةً أو عشرينَ من الدعاة، وخمسين ومائة ومائتين وألفاً من أنصاف وأثلاثِ وأرباعٍ الدعاة، ويكونُ استغراق جميع التخصصات العلمية والثقافية والمعرفية عَبْر هذا الانتشار، ويتمُ تثقيف جميع العناصر في هذه الشبكة الواسعة بثقافة فكريةٍ واحدة، وتزويدهم بطرائق منهجية متقاربة، وتوفير محركاتٍ إبداعية لهم، ووسائل مدنية وتكنولوجية، مع تدريب على نظرية إدارية جامعة، ثم ضبطِ كلِ مفاصل هذا العمل الضخم الكبير من خلال منبع ٍ قياديٍ رقابيٍ مركزي يبعثُ الومضات، ويراقبُ ويستدرك ويرمم ويبذل الصيانة فتكون الساعة الدائرة ذات الإحكام والضبطِ، وذلك هو مفاد النمط الجديد المتطور المتقدم للأداء الدعوي في مجتمع معقدٍ اقتربَ خطواتٍ من أجواء الحرية وأبتعد عن وساوس أيام السجونٍِ والمِحن، وقد تبلغ المؤسساتُ ألوفاً من غير أن تتولّد رهبةٌ في قلوبِ الرهط الذين يخططون، وقد يكون العمل الإعلامي وحدهُ في هذه الخارطة حاوياً لمئة مجموعةٍ تنفيذية، مثلُ جرائد ومجلاّت عامة، ومجلاّت تخصصية، وإذاعة أو إذاعات محلّية وعشرين فرقةٍ صغيرة تخدم قناةً فضائية، وخمسين موقع إنترنت، تديرُ الموقع منها مجموعةٍ من شبابٌ أذكياء من أهل الإبداع يقودهم مخضرمٌ واحدٌ، والأعمال الإغاثية والتعليمية مثلُ ذلك، فضلاً عن سعة شعب العمل السياسي واندماجها مع كلِ فرص العمل الشعبي وتوازيها مع دوائر العمل النقابي المهني.(1/116)
وهنا تظهر أهمية خطة التطوير والتدريب والتربية القيادية، التي تمرُ عَبْر تعليمِ التخطيط الاستراتيجي والمرحلي، والتدريب الإداري، وغرس فذلكات الإبداع، إضافة إلى قواعد السياسة الشرعية والفقه المقاصدي وفلسفة التاريخ وفرائد الأدب واللمسات الفنية ورواية تاريخ الدعوة وتجاربها وقصص أبطالها، ثم لا يكون الاكتفاءُ في ذلك بتلقين مجرّد، بل بمشاهدة أفلام تسجيلية، وأفلام ممثلة جيدة، وتعليم الحوار والنقد عَبْر ندوات، والقيامِ ببحوث تتجانسُ مع الهموم الدعوية وحاجاتِ العمل ورغبات الصاعدين، وقد يتزيّنُ كل ذلك بسياحاتٍ إلى مراكز العلم والمعارض العامة والمتاحف والمؤتمرات والساحات الساخنة وآثار المدنيات ومواقع المعارك، وتتويج كل ذلك بإيحاءات الجمال عند قممٍ وسفوحٍ وأنهارٍ وبحار.(1/117)
ولنشرح معنى حضور الداعية لمعرض صناعي واحد، فان معنى ذلك أنهُ يطّلعُ على إبداع خمسة آلاف عقل ذكي من المهندسين والمخترعين والمصممين في ساحات عالمية عديدة تجيء طواعية وتتركز في مكان واحد لتري الزائر دليل نبوغها وتحطيمها الصعاب واكتشافها مسالك الفنون، فإن المعامل إنما تتنافس بينها من خلال تنافس عقول مهندسيها الذين يستفزون أعماق ومضات عقولهم ليتناوشوا الإبداع ويكتشفوا حلاً عملياً لحاجة مدنية، وحين يتعامل الداعية مع مظاهر هذا التنافس الإبداعي تسري إليه العدوى في اللاشعور، وتبدأ تدور في دواخل نفسه أشياء مثيلة من توازيات الأفكار وتقاطعاتها واستداراتها وحاجتها إلى محاور توزيع ومفاصل تركيز، فيتحول البعد الهندسي عنده إلى بعد فكري عن طريق القياس والمحاكاة والتقليد، أو إلى بعدٍ تربوي، وليس من المحتم أن توصله أفكاره الجزئية المتولدة إلى فكرةٍ شمولية يمكن استخدامها في حياته العملية ويجعلها من معالم تخطيطه، وإنما يكفي في ذلك أن تكون هذه المحاكاة سبب تحريكٍ لذكائه من بعد خمول، أو تتعتق بعض الجزئيات غير الكاملة عنده وتنتظر انتظاراً طويلاً حتى تأتي عملية محاكاة لاحقة تمنحه وتهديه الجزيئة الناقصة، فتتكامل الفكرة عندئذٍ، والعنصر القيادي إنما يتفوق على بقية البشر عبر هذه الحركة العقلية والومضات المتعاقبة التي تستفز كوامن طاقاته، فتطفو أجزاء الصواب إلى السطح، فيلتقطها ويشكل منها ما يريد، وتخدمه النزعة المنهجية والمسلسلات المنطقية في عمله التركيبي هذا، بينما العاجز من الناس والإمّعة التابع كسولٌ لا يسترسل ماشياً مع فكرةٍ تقليدية فضلاً عن أن تكون إبداعية، فيبقى باركاً، إذ المنهجيُّ تسرع به القفزات، ووقوده العقلي لا ينقطع عنه، بل يجد مع ميلاد كل فكرة طريفةٍ لذةً عارمةً تغريه بمزيد توغل، وتدعه مغرما بالذهاب إلى الأقاصي والأراضي البكر.(1/118)
والمتاحف ومعارض الفنون يمكن أن تحولّها الممارسة المنهجية إلى مصدرٍ آخر من مصادر الإثراء الفكري والتوازن النفسي والتنويع التخطيطي، لأنها هي أيضاً محلُ اجتماع عقول وأذواق جمهرةٍ من المبدعين، ولكن على طريقةٍ أخرى ليست بالضرورة هي الطريقة الهندسية، وإنما مؤادها الحاسة الفنية في النفوس الإنسانية، إذ تعتمدُ النزعات الفنية على مجموعة أنساقٍ وقواعد في تناسق الألوان والخطوط وتنويع العلاقات بين الجزء الصغير والمساحة الكلية للعمل الفني، ومعايير الجمال في ذلك هي معايير ثابتة إذا تمّ التأمل فيها من زواياها الأصولية التقعيدية الكليّة، ولكن العقل المتحرك والنفس الساكنة يمكنهما معاً أن يجتمعا ليحققا من تناقضهما تعادلاً، فيهجمُ الذوق الاجتهادي على هذه النتيجة التعادلية، فتتولد منها عشرات المعادلات الفنية التي قد يجمعها نوع تشابه ولكنها لا تُلغي خصوصيتها تحت أثقال التطابق، بل تبقى كُل معادلة جمالية تحتفظُ بنكهةٍ خاصة، وبمقدرة على إحداث انطباع في نفس الناظر جديد، وذاك هو الذي يميّز كل لوحة من لوحات الفنان الواحد عن غيرها ويميز أسلوب كل فنان عن أساليب غيره، في تنوّعٍ كثيرٍ لا تكادُ تجدُ لهُ نهاية، وهذه الإمكانية هي التي استفاد منها الفن التجريدي الاستفادة الواسعة التي جعلتهُ واعظاً ناطقاً لا تكادُ تفلتُ نفسٌ إنسانية من جاذبية إلقاءاتهِ وتأثيراتهِ المباشرة المعلنة أو الخفية المندسّة في اللاشعور، واجتهاد القيادي المسلم ينبغي في جانب منهُ أن يعتمد على هذا النمط الانطباعي الفني والتحريك الذوقي، ومن ثم كان كلُ معرضٍ أو متحفٍ بمثابةِ مدرسةٍ تساهم في تعليم الصنعة القيادية وغرس أُسسِها في نفوسِ الدعاة، وبعض الدعاة يتوهمون أشدّ الوهم حين يتبرؤون من صلتهم بالفن ويزعمون أنهم على خيرٍ وأن الوعي يمكن أن يغمرهم من دون إضاعة وقتٍ في التأمل الفنيّ، وإنما تلك مغالطة يرتكبونها وهم لا يعلمون، وهي مزاعمُ من(1/119)
بقايا الطرائق الإرتجاعية عند بعض الدُعاة مع أنهم يَحيَونَ كأعضاء في مجتمع متطوّر مدنيّ مُعقدٍ غاية التعقيد، والفاحصُ بعين التأمل الواقعي يمكن أن يكتشف بوضوح أنه لا ينجو داعية من هذا التأثر الفني، لأنه يتعرضُ لهُ منذ نعومةِ أظافره عَبَر المناهج الدراسية كُلها، حتى لو كانت علميةٍ بحتة، لأن واضعي المناهج إنما استفادوا من المعطيات الفنية وجعلوها قالباً لعرض حقائقهم العلمية، ثم المجلاّت والجرائد التي يطالعها كلُ داعية إنما توظف المعايير الجمالية لتكثيف التأثير الفكري في نفس القارئ، وفي الإعلام التلفزيوني المرئي، وبخاصة في عصر الفضائيات: شيءٌ كثيرٌ من توظيف المعادلات الفنية لخدمة الفكر والسياسة، وكذلك يتواصل تأثره الفني مع كل نظرة يلقيها على عمارة جميلة أو بيت أنيق يمر بهما إذ هو يتنقل تنقله اليومي المهني، ويكون المعماري الذي بناهما قد ربّاه وارتفع بذوقه وإحساسه الفني وهو لا يدري، وفي زخرفة المساجد درس فني متواصل لكل مصلٍ، وفي أسطر خط الثلث كتلة تأثير جمالي آخر، ولذلك فإن الداعية حين يزعم التكبر على الفن أو الازدراء لهُ إنما يتجاوز هذه الغزوات الفنية التي تغزوه في عُقر داره وتصل إلى أعماق عقله وقلبه وشعوره وذوقه وتنجح في إحداث تكييف بطيء لا يشعر به هو، وانتباههُ إلى مثل هذه الحقيقة هو المفتاح الذي سيفتح عليه أبواب الاستعانة بالاجتهاد الفني من أجل الوصول إلى اجتهادٍ فكري وسياسيٍ هو بأمسّ الحاجة لهما في أدائه الدعوي في عالم معقد، وبذلك عاد مذهب الجمال عنصراً من عناصر المعرفة يكملُ مذهب الشافعي ومالك.(1/120)
فبمثل هذا الوعي لمكامن المؤثرات الاجتهادية في عالمنا المتطور يمكن أن نستطرد لنكتشف أن جميع أنواع الهندسة والعلوم التطبيقية والأساليب الإدارية ومنظوماتها يمكن أن تكون مصادر ثرية لاكتشاف القواعد التخطيطية ومسالك المنهجية، وفي الإقرار بذلك ما ينقلُنا إلى التأكيد وبصراحة على أن الثقافة الشمولية، كلها، والتي تتوزع في ساحات التاريخ والأدب والفن: إنما هي ركنٌ في إعداد القيادي المسلم يلي في أهميته رُكن العلم الشرعي ومعرفة ثوابت العقيدة والحلال والحرام وما يتبعها من المتغيرات ، وكذا العلوم التطبيقية ركن، وشباب الصحوة بحاجة إلى هذه الإطلالة المعرفية التي يدونها مسلمون ملتزمون، وإلى ما يكملها من فلسفة العلوم التطبيقية، وهذه المدونات الإيمانية هي التي يليق أن يبدأ بها الجُدد من الدُعاة، لتحميهم من تأويل بعيدٍ أو فكرٍ جاهلي، وأما الدُعاة القدماء المتوغلون فلسنا نأبه أن يتجولوا في أركان المعرفة العالمية، إسلامّيها وجاهليها، إذ يمكن أن تكمن في ثنايا المعرفة العالمية أجزاءٌ من الصواب تستندُ إلى فطرةٍ، أو إلى بقايا من أثر النبوّات.(1/121)
ويعترضُ داعيةٌ عراقيٌّ عصرته الآلام وأتلفته الأحزان فيتساءل: أفي مثل هذا الوقت الصعب يأبى الراشدُ إلاّ أن يُقحمنا في فذلكاته الفنية وتخريجاته المعرفية والعراق تسيلُ فيه الدماء بغزارة، وتتفجرُ المفخخات، وتتواصلُ الصليات، وتتصاعدُ أدخنة الدبابات الأميركية المحترقة، وتمتلئُ الشوارع بالاغتيال والاختطاف والسرقات، وتتجاوب في السماء أصداءُ أزيز الطائرات ؟؟؟ أم يعظ الراشدَ البغداديَ الحضاريَ العريق وهو يرى تنفيذ خطة الساسة في تهجير متكلّفٍ للأعراب وأبناء الأرياف نحو بغداد من أجل تبديل المعادلات الاجتماعية؟؟ ولعل فلسطينياً يعترضُ أيضاً، ويستغربُ أن يكون عرض هذا الفقه في زمن تمشيط غزة وكثرة قتلى صواريخ طائرات الهليكوبتر الإسرائيلية؟؟ وفقه الدعوة يقول أنْ: نعم، ثم نعم، من أجل أنْ لا تضيع الأصول وتشيع في الصفوف الدعوية أُميّة من يخالطنا من الغوغاء أو يغزونا من الظلمةِ والدهماء، فإن الفوضى إنما هي جزء من الحرب النفسية والفكرية على مدى التاريخ، يصنعها العدو الذكي لكي يحوّل حياة المؤمنين إلى حيرةٍ وذهول وارتجال وابتعادٍ عن المنطقية وحقائق العلم وإيحاء الفن وإلقاء الأدب، فتخريب العراق وفلسطين، أو تخريب كل بلاد أمة الإسلام: لا يكون فقط بالإفقار المادي وهدم البُنى الأساسية فقط، بل بالتخريب المعنوي، وقتل الإبداع، وكبت الفكر، وتشويه الأذواق، وحرف الأخلاق، ويليق أن إذا رأينا خُطة إذلال لنا وتشتيت ونمو حركات ارتجالية تريد أن تعيدنا إلى جاهلية العقيدة أو جاهلية العلوم أو جاهلية التعامل وأميّة التأمل: أن ننتفض ونرفض ونقاوم الأطوار العامية الهابطة، وأن نحرص على التشبه بأنماط النبلاء وطباع النُخبة وسمت العلماء، ليكون إشعاع يقتدي من خلاله الأمي التابع والعامي السائب فيحرص على الصعود بدل أن يستسهل الهبوط، وتتأسس فيه حاسة الحذر من تهمة تتهمه بالغوغائية والفوضوية، ولو استرسلنا مع ضغوط الواقع ومراد أهل(1/122)
السوق والشارع من دون مقاومة لأوشكنا أن نفقد مكتسباتنا التربوية، بل مراقبة التاريخ ترينا أن حملات الإصلاح إنما تنطلق إذا اشتدت الأزمات وحوصر الأشراف واستبدت الدهماء بالنخبة، ومن هنا فإن وصول التخريب الحالي إلى أوطأ منزله يكون هو المحفّز الأكبر لمسيرتنا نحو التميز المعرفي بعد تأسيس الإيمان.
والداعيةُ المسلم اليوم، إذ هو يعيش في رحاب الوعي التخطيطي: يليقُ له أن يرجعَ إلى الوراء ليتذكر أياماً من الأداء العفوي في العمل، تقودهُ إلى استحضار أخبار رحلته الطويلة ورحلة أصحابه في الخروج من الارتجال إلى المنهجية، ومن الجزافية إلى الهَدَفية، وسيكتشف أنه وأسلافهُ قد اضطروا لتحمّل أثقال المعاناة اضطراراً، وأنهم دفعوا ضريبةً من أجل حيازة النمط التخطيطي، وما كانت الرحلةُ سهلةً أو قصيرة، ولكن التراكمات البطيئة للصواب التي توفرت عَبْر امتداد زمني ومكاني هي التي صنعت كتلة الوعي التخطيطي الحاضرة وأرغمت الدُعاة على إتقان التمهيدات واستيفاء الشروط وممارسة التطوير والحرص على المتابعة والتقويم والاستدراك، مع أن الفاحص بالعين النقدية والنظر المنصف يمكن أن يدرك بأن أصول الوعي قد توفرت لدى الإمام البنا (رحمه الله) بشكل واضح، وانهُ كان يسعى على بيّنة منذ قبل المؤتمر الخامس حين أصدر رسالة بين الأمس واليوم، ثم ما كان منه من تدرج وتمهيدات وأمل مستقبلي، لكن غيابه المفاجئ عن الساحة، وملابسات حرب فلسطين الأولى ثم المحنة: هي الأسباب التي أوجدت لدى خلفائهِ ذهولاً بسبب اضطرارهم لمداراة حاجات الوقت وإفرازات المحنة، وكانت معالمُ التخطيط قد انتقلت إلى بعض البلاد العربية حين غاب أبطال مصر في السجون، وقام في العراق وعيٌ واعد، إلاّ أن سطوة الدعاية الناصرية كانت أعتى من الهمس الدعوي، واستمر السير البطيء إلى أن حصلت نكسة حزيران عام 1967 وتبيّن فشل عبد الناصر، فعادَ الناسُ إلى رشدهم، وانقدح زناد الصحوة الإسلامية(1/123)
المعاصرة، فتنامت المفاهيم التخطيطية، وعاد جذر الوعي القديم ليورقْ ويخضّرْ وتلك الإنطلاقة التي اعتمدت تجميع الوعي المتناثر واستذكار الأشواق القديمة كانت هي سمة عقد السبعينات، وفي ظِلال ذلك الانفتاح تم ترسيخُ نداء الحاجة إلى الخطو الموزون والسير المنهجي، وخدمت ظواهر قدرية ذلك الإحساس خدمة جيدة، منها خروج قدماء الدُعاة في مصر من أصحاب الإمام البنا من السجون، حيث تمّ التوريثُ واندماج الأجيال، ومنها أيضاً بدأ نشوء المجموعات الدعوية في شمال أفريقيا وبعض الخليج وأماكن خارج العالم العربي وفي عمل الجاليات في الغرب، مما اظهر حاجةً استهلاكية حقيقية لناتج الوعي التخطيطي المتجمع، ثم بعض الآثار الإيجابية النفسية التي أفرزتها حرب التحريك الساداتية حين عبر قناة السويس، فهو وإن أراد من حربه مجرد تحريك عملية السلام والتي وصل إليها في (كامب ديفيد) سنة 1978 إلاّ أن تفاؤل الناس بالانتصار الحربي قادهم إلى موقف معنوي متفوق استفادت منه الدعوة وطوّرتهُ إلى وعي دعوي خاص، وما كاد ذاك العقدُ يُشرفُ على الانتهاء حتى أثبتت الثورة الإيرانية قدرة الشعوب على أن تمارس أكبر وأعقد عمليات التغيير السياسي، بغض النظر عن الملابسات التي أحاطت بالثورة الإيرانية، وإذا أخذنا بنظر الاعتبار هذه العوامل الأربعة اتضح لنا أن عقد السبعينات كان هو عقد استئناف الفكر التخطيطي، وعقد محاولة التنظير، وتوفير الظروف النفسية التي تتكفل بتصعيد الجانب الشعوري المساند للأنفاس المنهجية، والتطلع إلى حلول وبدائل وخيارات وتحويرات ومشاريع تسعى نحو التكامل، وتوصيفات للواقع وجرد وإحصاء، وانجذاب نحو التخصص واستيفاء المهارات، وغيرِ ذلك مما يُشكّل البُنيةَ الأساسية للمسيرة التخطيطية، وتوفير البيئة المساعدة، واللمس الرفيق والمسح الحنون على رؤوس يتامى التخطيط، أو الربتَ العنيف على أكتاف من رقد فاسترخى.(1/124)
تلك النبضات هي التي جعلت عقد الثمانينات يستثمر وبكفاءة عالية معطيات السبعينات، وبصورة مباشرة وسريعة ما كان فيها تأخير أو تمريض، بل تحقق استعيابٌ فوريٌ للنداء المنهجي وللطموحات العريضة، فشهدت سنة 1981م مولد التنظيم العالمي الدعوي، مصحوباً بزخم معنوي عظيم، مما أتاح على مدى ذلك العقد العديدَ من المؤتمرات الدعوية والدورات والندوات والزيارات المتبادلة بين دعاة الأقطار المشاركة، فكان الركازُ يُنبشُ عنه، والرُكام ينظف ويُعاد ترتيبه، والذكرياتُ تُستعاد والإقتباس تفتحُ له الأبواب، والمحاولات النقدية تزداد جرأةً، مما يجعلنا نصف ذلك العقد بأنه مرحلة تبادل الخبرات، والتناصح، والتماس الطريق إلى الاجتهاد التخطيطي، وتحديد نقاط الالتقاء والتوسط إذا جنَحتْ النظرات إلى مبالغةٍ، فأصبحت بكل ذلك الكتلة المعرفية المنهجية واضحة، وأركان الفكر التخطيطي ضاربةً في عمق الوجدان القيادي، وكأن المستلزمات أصبحت جاهزة وتنتظرُ مستخدماً ومقتحماً يصرخُ ويتصدى.(1/125)
هذا التسلسل هو الذي جعل الهيمنة الأميركية على الخليج والعراق وبعض البلاد العربية والإسلامية بعد تحرير الكويت عامل التحدي الأكبر الذي يقدحُ الزناد ويحوّلُ التنظير إلى واقع وعمل، وكان هذا التحدي هو العنصر الناقص في المعادلة، فاقترن بعاملٍ تصعيدٍ معنويٍ يحققهُ الجهاد الأفغاني ليُصبحا المنطلق التنفيذي للتخطيطات الدعوية على نطاق عالميّ بعد سنةٍ واحدةٍ من بدء عقد التسعينات، وهو العقد الذي امتاز بالتخطيط الفعلي ويتراوح بين الإتقان ودرجات دونهُ، وبقيت تلك الطبيعة التنفيذية المتقدمة الواعدةِ السائرةُ على بيّنة من أمرها: هي صفةُ العقد الأخير من القرن الماضي وإلى حين ما يقربُ من سنتين بعدهُ إلى حين أحداث سبتمبر والهجوم على أبراج نيويورك، حيث اضطرت الدعوة إلى اعتكافٍ ومحاولة ترميم، ووقفة مداراة، وانعطافه استدراك، وكانت القرائن تنذر بأن العقبات قد تكونُ قويةً وشائكة، وكاد أن ينحسر بعض التقدم الذي حققتهُ مسيرة ربع قرن لولا أن الانتفاضة الفلسطينية وانتصاراتها ونموذجها الفذ في التحدي البطولي والبذل والإصرار: قد أعادت العافية إلى نفوس الدعاة المنكسرة وجددت لهم الأمل.(1/126)
وسرعان ما جاءت النجدة في صورة شرٍ مستطير، حين أراد بوش السوء، وأراد الله الخير، فأسكرته الوساوس اليهودية، فاندفع نحو استعمار العراق، فوجده مستنقعاً غاصت فيه أقدامهُ، وتلوثَ وجههُ بطين، وانقلبت حملة الاستعمار عبر الفعل الجهادي إلى مرحلةِ يقظةٍ جديدةٍ لعموم الأمة الإسلامية، تستأنف فيها استعمال التراث القديم، وتفتحُ أبواب الردود المنهجية على العولمة الأميركية، والأيامُ سجال، والانتصاراتُ ميدانها النفس الإنسانية حين تأبى وتطمح، وليس ميدانها السلاح، بل حين يستبد الطموح تتضاءلُ محرّكات السوء المقابل ويبدو العمالقة أشبه بالأقزام، فإن في الأمة اليوم مشاعر ثورية، وعزائم جهادية، ورغبةٌ في العناد، والتفافٌ حول الدُعاة، وبوادرُ عودةٍ إلى الوعي، وكلُ ذلك استعداد لتحقيق التلاحم القوي بين القيادة الدعوية وجُنديةٍ عريضةٍ ممتدةٍ في العرصات العالمية قوامها الشعوب التي صحت فرأت شمس الطموح فاستعدت لمسيرة الاستئناف.
وكان كلُ هذا الاستعراض التاريخي لنشأة وتطور الأحاسيس التخطيطية ضرورياً ليدرك جيل الدعاة الحالي مكامن القوة وكيف أنها تحتاج إلى وقت طويلٍ للنضوج الطبيعي غير المتكلف، وأن صبرهم الطويل وامتدادهم الزمني والمكاني قد أثمر تحديّاتٍ إسلامية للكفر والعولمة والظلم الاستعماري، ووضعتهم الأيام في المكان القيادي، وأن العمل الإسلامي لا تليقُ لهُ القفزاتُ والارتجالات والعفويات.(1/127)
ولابد لنا بعد هذا البيان أن ننعطف نحو ذكر حقائق أُخرى مهمة توضح قضية التخطيط، وأول ذلك: أن مذهب القيادة إنما يستبين عبر الخطة، فإن نمط القيادة في الأداء، والأفكار القيادية التي تحدد فهمها للعملية الدعوية التنفيذية: كل ذلك يترجم الرؤية القيادية النظرية للتخطيط، واختيارها لاجتهاد معين من بين اجتهادات عديدة تقول بها آراء المخططين. والغرض من هذا التنبيه: تقرير ظاهرةٍ مفادها أن الخُطة إنما هي انعكاس مباشر لنوع الفكر التخطيطي الذي تحمله القيادة، وما هي بعائمة أو عديمة النَسَب، ولذلك لا يمكن أن تحجنا قيادة وتلزمنا بوقف الحوار التخطيطي بعد إقرار الخطة بحجة أن حقائق الواقع توجبها، فتأمر برفع الأقلام وتزعم أن الصحف قد جفت، بل لها أن تلزمنا بالخطة ما دامت قد تمّ إقرارها، ولكن في نفس الوقت نبقى نبحث عن الأحسن والأولى، بروح نقدية، ونظل نتداول الفقه التخطيطي العام ونظرياته، وهذه حقيقة لها مردود إيجابي نافع إذا تداولها دعاة يبحثون بنفسٍ سوية وديدنهم اكتشاف ما هو أصوب، أو لها مردود سلبي إذا تداولها موتور ومخالف ومفتتن انشقاقي.
ومن المسائل التجريبية المرئية: وجود قصور لدى الأتباع وجيل المنفذين في فهم الخطة، ويعني ذلك احتمال وجود بَونٍ بين ما تريده القيادة من خطتها وبين ما يكون من استجابة الأتباع، والسبب في ذلك أن القيادي يعايش القضية وينفعل بها ويفكر بشكل أعمق، بينما المنفذ يتلقى أمراً، ولا تكون عنده موازاة نفسية لواضع الخطة، وربما حتى الموازاة العلمية تكون أقل أيضاً.
هذا العيب من عيوب التخطيط إنما تكون إزالته وعلاجه بتدوين شرح للخطة أولاً، وبإشاعة الوعي التخطيطي ثانيا، وفي ذلك تجارب، ومدارسة كتب فقه الدعوة علاج جيد في هذا الباب.(1/128)
وفي تاريخ الجماعة: أنها أصدرت في العراق في الستينات مجلة "النقيب" وبلغت أعدادها في حدود الستين، وشرحت الكثير من حيثيات الخطط، مثل تجويد الاجتماع الأسري، وعلاج الفتور، والتعامل مع المؤيدين، وتنسيق العمل في المنطقة والقطاع، وفنون المخيمات التربوية، وكتابة التقارير، وأمثال ذلك من هموم العاملين، ثم أكملت العين الشرح في الثمانينات والتسعينات.
لكن الحاجة تبقى أوسع من ذلك، فقد تجمعت تجارب عالمية كثيرة ينبغي أن تؤخذ بنظر الاعتبار، ودَوّن عدد من مخضرمي الدعاة مذكراتهم الخاصة، وفيها فقه دعوي جيد ومتنوع، ولابد أن تتقاسم العناصر العاملة بمراكز التطوير واجب استخلاص تجارب في ميادين وأبواب عديدة من مجموع هذه المذكرات.
والذي يشجعنا على هذا أن الكتب الغربية في علوم التخطيط، والتي يعتمد عليها الدعاة كثيراً في إنجاز العمليات التخطيطية الدعوية: إنما هي كتب موضوعة لسَوق الجيوش أو لشرح أداء عمل الشركات الاقتصادية والإدارات الحكومية، بينما التخطيط الدعوي له حيثيات مغايرة وخصوصية، ويتدخل الجانب النفسي العاطفي فيه كثيراَ، وتحكمنا أحكام الحلال والحرام وثوابت العقيدة، مما يتطلب مهارة وحذراَ عند الاقتباس من كتب التخطيط الغربية.وليست المذكرات وكتب فقه الدعوة هي فقط مورد رواية التجارب، بل يلزم المخطط الدعوي أن يستعرض تجارب الأقطار كلها، وأكثرها لم يدون بعد، و إنما نتعرف عليه من خلال ما اشتهر أو بسؤال أهل كل قطر.(1/129)
فالأستاذ محفوظ النحناح تكلم لإخوانه كثيرا، وشرح انعكاس أحداث الجزائر على الخطة الدعوية، وتكاد التجربة الجزائرية أن تكون أكمل خطة في التعامل مع العنف والتعاطي مع معترك سياسي صعب. كذلك حزب الاتحاد الإسلامي الكردستاني نشأ في بيئة تحتكر الأحزابُ العلمانية فيها حقوق العمل السياسي، فسَلَّ نفسه بمهارة من خلال المبالغة في الصفة السلمية إذ الغير يحمل السلاح ويتعامل مع الدول الإقليمية والعالمية، ووضع زعيمُه الأستاذ صلاح الدين صادقي معادلته الصحيحة: لا نثور ولا نستثير ولا نُثار، كعنوان لمرحلية ليس لها إلا أن تكون كذلك، وإلا يكون المَحْق، وصارت سيرة الحزب لأكثر من عشر سنوات مثالاً لعمل إسلامي مستضعف في محيطٍ تعلو فيه لغة السلاح، بينما خرج عن مفاد هذه المعادلة دعاة مسلمون أكراد آخرون فانتهت بهم الصدامات إلى تجزؤٍ وضمور عددي.
بعض الدعاة في أقطار تجاوزت هذه المراحل يزهدون في استيعاب حكمة هذه الخطط في التعامل مع المحيط الشرس، وذلك خطأ، فإن الداعية في دعوة متقدمة يستفيد منها في توليد أفكار عن طريق القياس عليها إذا حدثت مشكلة مقاربة في الصفة والعِلّة، أو إنه سيحتاج إهداؤها إلى بلد آخر تكون الدعوة فيه ضعيفة، فيكون وسيطاً في نقل التجربة إذا وضعه القدر في ساحة أخرى أو في دور الهجرة الخليجية والغربية عندما يجتمع الدعاة من بلاد كثيرة ويتبادلون التجارب، وقد تكون بعض بلاد إفريقيا السوداء ووسط آسيا بحاجة فعلية لها، فيكون الداعية العربي المستوعب لها راوية لمفادها وعنصر تثقيف وتوعية، فالمدى عالمي، وكذلك ينبغي أن تكون أفكارنا التخطيطية ذات شمول لتتناسب مع تنوع الحاجات العالمية، وعندما تنعقد المؤتمرات تظهر الحاجة لمثل هذا التنوع التجريبي وتسقط الحماسة المنحازة للمحليات والجزئيات ويتفوق التصور الواسع على التصور المحدود.(1/130)
المهم أن ننتبه إلى أن"شرح الخطط"وتفسيرها وبيان الفقه الذي انبنت عليه إنما هو عمل له مكانته ضمن نظرية التخطيط، وليست البطولة في أن تضع خطة فقط، بل في أن تشرحها وتفهمها لجمهور الدعاة المنفذين لها، وذلك يكون بالتقعيد ورواية التجارب، والاستشهاد بفحوى قاعدة المعلومات المتجمعة من عمليات الاستبيان الدقيق الذي يصف واقع الدعاة والبيئة المحيطة، أما أن تبقى الأفكار التخطيطية عائمة، أو في ذهن أحد دون أحد، أو هو الداعية يتذكرها حيناً وينساها أحيانا: فخطأ، وكم من فكرة نسيناها في زحمة الأعمال وفي ثنايا الأحزان، ثم تأتي بعد فوات الأوان، فنلوم أنفسنا أن لو كنا قلناها في مناسبتها. ويليق أن نتذكر أن التدوين يُخرج الفكرة من دائرتها الفردية إلى أن يكون لها إقرار جماعي، أو نقض وردّ لها بمعقولية ومنطق، بحيث تأخذ حجمها الصحيح، بينما المرء إذا احتفظ بأفكاره تظل كما هي ولا تنال إجماعاً أو نقداً يصححها أو يتم اقتراح شرط لها يستدرك عليها، فالإفصاح عن المكنون أفضل من الصمت، لما يطرأ على الفكرة من تعديل أو إضافة أو اشتراط.(1/131)
ومن القضايا المهمة في علم التخطيط الدعوي: ضرورة التربية التخطيطية، وهو غير مسألة تدوين الخطط وشرحها، وإنما هي مسألة أوسع تعتمد السلوك وتدرب الداعية على أن يكون منهجي النمط، وأن نجعله يتجانس مع المعاني التخطيطية من خلال غرسها في اللاشعور عبر كثرة ذكرها وتلقينها وتنويع أساليب تفهيمها والإكثار من التمثيل لها، وأنجح الطرائق في التربية التخطيطية: التبكير في تقسيم الدعاة الجدد إلى اختصاصات عديدة، وهي فكرة اقترحها المنهج التربوي العالمي منذ ما يقرب من عشرين سنة، فيتم تعليم الأسرة الأولية فقه هذه الفكرة، ونطلب من كل عضو أن يختار لنفسه تخصصاً معيناً يبدأ بطلبه وتركيز مطالعاته فيه، تماشياً مع قول عمر بن عبد العزيز رحمه الله من أن خير الأمور حقٌ وافق هوى، أي وافق الرغبة، وليس الهوى المذموم، فقد يختار أحد أن يتعلم الشرع، وآخر تاريخ الإسلام العام أو تاريخ البلد، وآخر يختار التتبع لأخبار السياسة والأحزاب ثم تحليلها، وآخر يميل إلى الإعلام الصحفي، وآخر إلى الإعلام المرئي، وآخر يتتبع علم الاقتصاد العام، واقتصاد البلد، وآخر لاقتصاد النفط، ومن يرصد نفسه للاستراتيجيات الأمنية أو العسكرية، أو أن يميل إلى التخصصات العلمية، كأن يكون إغاثياً، أو يطلب إتقان العمل المهني الجماهيري، أو خبرة تكنولوجية متقدمة، وبذلك تكون الأُسرة هي المحضن الأولي الابتدائي لنمو التخصصات، ويكون العضو مرجع الأسرة في ذلك، وأحد مراجع المنطقة، وسينشأ تكامل تلقائي بين أنواع التخصص تبعاً لنوع الرغبات الشخصية، وبعد مدة نطلب من المتماثلين في المنطقة الواحدة أو المدينة كلها أن يجتمعوا لتكوين لجنة أو مجموعة لإتاحة حوار بينهم وتبادل للخبرة والوثائق والمصادر، وبذلك تنشأ عشرات اللجان في المحافظة ومئات في القطر ربما، فنعقد لكل صنف منهم مؤتمراً سنوياً، ويكون من ذلك ردفٌ حقيقي للعمل التخصصي المركزي في الجماعة، ونحوز عناصر تستطيع(1/132)
المحاضرة في المساجد ودور الجماعة عن العلوم والتخصصات التي التزمتها، فينمو علم المتخصص أكثر، ويكون له شغل شاغل وقضية وديدن ومحور تدور عليه تحركاته وتأملاته، فإذا دبّرنا لكل صنف دورة للارتقاء بمستواهم: زادوا عمقاً واستدركوا على النقص، ثم في مرحلة لاحقة نبعث السياسي والإغاثي إلى ساحة ساخنة ليزداد وعياً وانتفاعاً بتجربة حية، والمتفقه إلى القيروان أو ديوبند الهندية ليشافه العلماء، ونطلب من جميعهم السفر على طريقة جماعة التبليغ المتواضعة، من نوم في مسجد أو قناعة بيسير الطعام، لئلا نرهق ميزانيتنا، فيرجع الواحد متشبعاً بما رأى، وتتجدد المعنويات، ويزداد ثقة بنفسه انه صار مبعوث الجماعة وأحد سفرائها إلى هذه المجامع والجامعات ورجال الأحداث والسياسة، ثم نقول للناجح أن يفطم نفسه ويبدأ تعليم الآخرين، وهكذا تتم عملية التربية التخطيطية، وقد يصل البعض إلى مراحل متقدمة، كإتاحة الفرصة له أن يشارك ببرنامج تلفزيوني وندوة، فيتربى أكثر، بدافع الحرص على تجويد كلامه وأن يأتي بما يثير إعجاب الدعاة والناس ورضاهم عن أقواله وتحليلاته واجتهاداته، وأيضاً لأن من يحاوره صاحب علم وخبرة مثله، وعليه أن ينتصر لقناعاته بالدليل والمنطق ولا يدع المقابل يغلبه، وبذلك يستفز كل طاقته العقلية للتفكير، فيكون هذا الاستفزاز إذا تكرر هو العمل التربوي الذي يطوره وينفُض عنه السذاجة نفضا ويكسبه توغلاً وعمقا، و"علم التخطيط"هو أحد هذه التخصصات التي يمكن أن نغرسها منذ مرحلة مبكرة لدى بعض الدعاة، وندعهم يمرون بهذه المراحل المتتابعة التي توصل إلى نضوج ومهارة، ويمكن يُعان الذي يختاره تخصصاً له بتعليمه علم الإدارة، وعلم القيادة، وعلم الإبداع، عبر دورات أيضاً، لأنها علوم مساندة وموازية لعلم التخطيط.(1/133)
هذه بعض الطرائق التي تؤدي إلى نمو"الكتلة التخطيطية" في المحيط الدعوي، وبها تتحول المعاني التخطيطية إلى تربية سائرة حاضرة في نوادي الدعاة اليومية وبنمط تلقائي أقرب إلى العفوية، وأما بقاء الخطة صماء بلا شرح لها فنكبة، والأمر بتنفيذ الخطة دون تربية شمولية تخطيطية تجعل المعاني المنهجية سليقة سريعة الورود فمأساة، والرصد يبين أن أكثر تراجعاتنا وأخطائنا إنما يكون بسبب ذلك ...
تاريخ المقال5/2/2005(1/134)
رواق الخيال الإيماني
في السلوك المعنوي النفسي الإنساني ظواهر لو وقفت عندها متأملاً لمنحتك أنواعاً من العِبَر، ولوجدتَ فيها بعض أسرار النفس، فكل الدعاء ينقص عن مقدار التمام، مثلاً، غير دعاء المضطر الذي حوصر فحاول فاستنفذ طاقته فبلغ قلبه الحنجرة، فإنه يتحول إلى ضراعة من الأعماق، ويكون صاحبه في أشد اليقين واكمل الإيمان تلك الساعة، ويجأر متجرداً. وكذا شجاعة الشجاع تبقى مثلومة، ويعتريها إبطاء مهما استدعاها وأبدى حَثّاً واستنفاراً، إلا في موطن الدفاع عن العرض والأهل والولد، فإنها تتضاعف، وقد تفجأ الرعديدَ بعض المناضلة ويكتشف الناس فيه بقية من حماسة ما كانوا يعلمونها. فكذلك"الفكر": لا يحركه البطر، ولا تهتز أعماق العقل عندما يسود السكون، وإنما تحصل غفوة فكرية، أو ترهلات تنظيرية، أو قناعات تقليدية، ولكن"التحدي"هو عامل التحريك الذي يجعل"التأمل"شغل العاقل، ويستفز مكنونه الوصفي والقياسي، ويُطلق طاقته التحليلية، ثم التركيبية التي هي عكسها، فيفتأ متقلباً بين الحدّين والركنين حتى يجد لرأيه القُراب الذي يلبسه ويُصاغ في معادلة وقاعدة وميزان، كما يجب .
وكما تختلف المواسم وتنتقل من برد زمهرير إلى صيف ساخن، وكما يُنضج الحرُّ اللاهبُ الرُطَب: فإن سخونة هيمنة العولمة نقلت الفكر الإسلامي العالمي العام إلى مرحلة نضوج ووضوح وتميُّز، بسبب التحدي الكبير واستيقاظ فطرة الدفاع عن النفس وعِرض المؤمنين، ثم لأن هجمة العولمة تركزت على العراق وجعلته موضع أول قدم أميركي في خُطة السيطرة المتطورة على العالم الإسلامي: رجعت بغداد عاصمة للجهاد ورمزاً للعزة ومَدْرَجاً للاستعلاء، وصارت بيئة القضية العراقية رواقاً للحوار الفقهي، ونادياً لاكتشاف منطق السياسة الشرعية، وأتاحت حرارة أشواق الأحرار بروز الاجتهاد المكافئ للحقائق الجديدة، والفكر الوسطي الذي يُزري على التطرفات الحادّة أو على التساهلات الحالمة.(1/135)
وهذا هو الذي جعل استئناف إصدار" العين"كرّة أخرى في بغداد ضرورة، لتجيء على قَدَر، وتسير بموازاة الحاجة، فإنه يُراد لها أن تكون مجلة الفكر النخبوي الرفيع، والنقد القواعدي الملتزم، وفقه الدعوة الشمولي، وموطن عَرض التجارب التربوية الجماعية، وتأصيل المواقف وإسنادها إلى العرف الشرعي القديم، والتأكيد على الأنماط المنهجية واللمسات التخطيطية، والتوسل بضوابط الإدارة وتسهيلاتها، والاقتراب من مفجرات الإبداع وأساليب الابتكار، والانعطاف نحو الاستدراك على التقليد والارتجاع والرتابة والاستئسار للماضي، ثم الارتكاب الجريء للاجتهاد الملائم للظرف.
والدعوة الإسلامية العراقية اليوم مؤهلة لأن تكون المحور الذي تنطلق منه وتدور حوله جميع هذه العملية الفكرية المستندة إلى ثوابت العقيدة وكتلة القواعد الشرعية وتراث الاجتهاد السالف، لأنها تنتصب وتتصدى للتعريف بالفن القيادي في أشد النقاط سخونة، وفي بيئة كثف تعقيدها حتى أصبح يشمل كل ما توزع في الساحات الأخرى من أشكال الصراع، والمهادنات والتحالفات، ولا بد للمتحاورين من دعاة الإسلام وهم يتبادلون الرأي من منبر، ونافذة إفصاح، ورواق إنضاج للخواطر، فاخترعنا" العين"لتكون هي الجامع والمفصل والرباط، ثم هي"الرَوْزَنة القادرية"التي أطلّ منها سلفنا رئيس دعاة الإسلام في بغداد الشيخ عبد القادر الكيلاني فرأى سفينته في بحر الأقدار، تتلاطمها الأمواج، فناحر أقدار الشر بقدر الخير، فنجا ورسى، وأقدار السوء في العراق في الزمن الأميركي كثيرة، وقَدَر التوحيد الشرعي السياسي هو وحده الذي يضمن مستقبل العراق، وقد عزم الدعاة على أن يعلّموا الناسَ الخير، صَنعةَ أبيهم إبراهيم وفِعاله في "أُور" عاصمة العراق ذاك الوقت، فإنها ما زالت المنهج.(1/136)
وإذا كان الفكر الاجتهادي الإبداعي هو ما نقترحه للدعاة: فإن من تمام النصيحة أن نغريهم بممارسة التأمل الحر، والتوسع في الافتراض، وتكثير مداخل كل قضية ومخارجها وما بين ذلك من بدائل ومتماكنات، وتقليل الشروط الجازمة، ورفع القيود عند الابتداء واللجوء إلى استنباطها كاستدراكٍ عند الانتهاء، وقبول كل مداخلة طارئة والاقتناع باحتمال صوابها، وتغيير أنساق القِيَم تقديماً وتأخيراً، وتبديل المقادير التي تحتويها كل قيمة ورؤية أثرها في النتيجة، والتردد بين الوصفين العقلاني والعاطفي، فإن في ثنايا هذه التغيرات والحركات يكمن الصواب، والطريق إليه يكمن في تجريب النظر إلى الشيء من زوايا عديدة، وتلك هي آلية الوصول إلى الإبداع، ويجمع كل ذلك"الخيال"الواسع، فإنه أساس الفكر إذا أراد التجدّد، والاجتهاد كله إنما تتضمنه عملية خيالية تتقدم على عملية الاستقرار على رأي يتطور إلى مبدأ، وهذه الفاعلية للخيال حقيقةٌ اكتشفها السلف واستقبلناها نحن الخلف بنوع شك وتخوّف، ومشينا معها على استحياء، إذ يتطلب الأمرُ يقيناً وجزماً وجرأة. أما شاعر السلف فيبشّر به ...
لولا الخيالُ لكُنّا اليومَ في عَدَمٍ ولا انقضى غرضٌ فينا ولا وَطَرُ
كأنّ سلطانها إن كنتَ تعقلها الشرع جاء به، والعقلُ والنظرُ
من الحروف لها كافِ الصفات فما تَنْفكُّ عن صورٍ إلاّ أتت صُوَرُ
وقوله (كاف الصفات) : بمعنى كافي الصفات، وحذفت الياء لضرورة الشِعر، والأبيات ذكرها الفيروز آبادي، والشاعر إنما يتحمس للخيال هنا لأنه المعنى الذي يقرب للعقل الإيمان بالعقائد الغيبية، ولا يجعلنا هذا الغرض المفيد نزهد به فيما سوى ذلك، بل هو المدخل أيضاً لتقريب الاجتهاد في الحلال والحرام وآثار الأحكام.(1/137)
مثال الأمر العقيدي: (عالمُ البرزخ: معقول في نفسه، وليس إلا الخيالُ، فإنك إذا أدركته وكنت عاقلاً: تعلم أنك أدركتَ شيئاً وجودياً كأنك وقعَ بصرُك عليه، وتعلم قطعاً بدليلٍ انه ما ثَمّ شيء أصلا، فما هو هذا الذي أثبتّ له وجوديةً ونفيتها عنه في حال إثباتك إياها؟ فالخيال لا موجودٌ ولا معدومٌ، ولا معلومٌ ولا مجهولٌ، ولا منفي ولا مثبت(1).
أما الخيال الذي يستنبط حكم الحِلّ والحرمة: فأمره أظهر، لأنه يحوم حول محسوسات، من مصالح واستقراءات مقاصدية، ومجاله العملي لذلك أقرب.
فمن يزعم المشاركة في الصناعة الفكرية: يلزمه أن يُطلق لخيالاته العَنان،وأن يسيح في آفاق التصورات، وأن يقترب من المستحيل، حتى إذا قاربه: يرجع ناكصاً غير خسران، ثم أن يقتحم المجهول، ويتسور الأسوار، ويمشي في المجاهل شجاعاً كأنه يسير في الأسواق، لأن الفكر إذا لم نَسبق إليه طريفاً: بارَ وعَافهُ الناس، والبواكير تستبد بالثَّمَن، ثم عند الحصاد يكون الرخْص.ولو رجعنا إلى أبيات الشعر لظهر بوضوح أن الشاعر أدرك تماماً مكمن الأهمية عند اكتشافه القيمة التوليدية للخيال، فإنها في ملاحظته: ما تنفك عن صور إلاّ ويكون ورود صور أخرى، وهذا التوليد هو الذي أغرى أصحاب صنعة الفكر أن يهيموا بالخيال، لأنه ثروتهم الحقيقية.
و"المجاز"هو الجناحُ الذي يحلق بنا ويوصلنا إلى هذا الخيال الثمين، أو هو على الأقل: لغة تواكب المعاني التي يثيرها الخيال ليقنصها، كمِثل ماهر يقترب بحذر من غزال بريٍ، يغافله، فإذا جفل: ركض بموازاته حتى يصيده.
وهو صنعة قديمة، ومنَحانا المفرط في النزعة العملية حَرَمنا من فوائده، وزَعَم أهل التأويل أن القرآن امتلأ مجازا، وزعمهم صحيح لولا أنهم جنحوا إلى تمويه بدعي في مواطن عقيديةٍ غيبيةٍ حقّها التوقيف الصريح، والمجاز قريب من فطرة الأوائل قبل أن يشوب الحياة التعقيد، ومن شأن روّاد الفكر والاجتهاد أن يُحيوه ويحتفلوا به.(1/138)
قال الأصمعي: سمعتُ أعرابياً يقول: (مَن نَتَج الخير: أنتج له فراخاً تطير بأجنحة السرور (2) ) وهذا تصوير أدبي رمزي ناجح، ما كنا ننتظره من صحراوي يابس، لكن الخير له قوة نافذة تجعل البدوي ينطق بالمجاز والتمثيل الحلو، فكأن نتائج الخير عصافير تخفق بأجنحتها حوله، مع الصوت والصفير والتغريد، فتكون لوحة سرور، وهذا إحساس يجده فاعل الخير المكثر منه إذا حَسُنت نيتُه، فينفق وهو فرح، ويأمر بالمعروف وهو طروب...
ويلتذ مع كل غدوة خيرية، وتحلق روحه مع تلك العصافير عند كل رَوحة إحسانية.
lوكذلك الفقيه ثم المفكر والأديب، فمَن نَتَجَ الخيالَ، ورصد وقتاً طويلاً للتأمل وتوليد الخواطر وحاوَرَ نفسه وتعمّق في الافتراض: أنتجت له تأملاته فراخاً من الاجتهاد والمعاني والإبداعيات، تخفق بأجنحتها فتبعد، فتنزل على أكتاف الدعاة في زوايا الأرض، فتغرد، فتدخل لغتُها العقولَ والقلوب.
لكن صنعة الفكر الاجتهادي بهذا الوصف: تخرج عن حدود المحيط السهل، وهي مهنة النبلاء الأذكياء ومعادن النُخبة وأفراد الصفوة، وكم من مستشرف لها بدون كفاية تطاول فشجّه السقف.
وإنما تنبغي وتسهل صعابها بشروط خمسة:
أولها: ضبط الاجتهاد والفكر وسياحات الخيال بقواعد أُصول الفقه ومنهجية الاستنباط وقواعد النظر، وإلا كان الشطح واللبث بمستوى السطح، والمصالح بخاصة: معنى يزعمه كل ميمم وُجهة، حتى هَزُلت، وينبغي عدم الذهول عن تعارض المصالح، فإن من النادر أن يرتبط أمرٌ بمصلحة مفردة، وإنما بمصالح عديدة ومفاسد يقوم بينها تنافسٌ أو تضاد، ولا تعتمد التحليلات أحادية السبب، بل هي أسباب كثيرة وإن اختلفت مراتبها ودرجات تأثيرها، والعاصم من الورطات: أن تستقبل علم الأصول أنه: (مثار الحُجج، ومعيار البراهين المصون عن الزيغ والعِوَج) ، وذلك ما استقبله به من الفهم: المجد الفيروز آبادي(3).(1/139)
أما الحجج والبراهين فهي النصوص واستقراء المعنى المشترك في حشود النصوص، ومنها تتشكل الثوابت والقواعد والموازين، لكن هيئة تحقيق كتاب الفيروزي ألجأتهم الحماسة العقيدية إلى أن ينكروا الصيانة عن العِوَج، لأن براهين الأصول يمكن أن تتطرق إليها اعتراضات ومناقضات مثل التي تتطرق إلى غيرها من العلوم الاجتهادية، ولم استحسن غضبتهم هذه، فإن مُراد الشيخ لم يبعد ليتناول إقرار العصمة، وإنما أراد الإشارة إلى ما تقود إليه قواعد الأصول من وعظ الفقيه والمفكر والخيالي أن يحرصوا على الانضباط والخضوع لمفادها، والحذر من التهور والمبالغة وجزاف القول الموغل في التحرر من مفاد مُجملات الشريعة، ونحن اليوم أحوج من تلك الأجيال إلى هذه المواعظ، للانفتاح الجاري بين أفكار الأمم، والجهل يُغري صاحبه بالاسترسال مع العقليات والتأويلات ومزاعم المصالح وضبابية الإشارات المقاصدية، فتكون دلائل الأصول سبب عصمة، وفي هذا ما يوجب على المنهج العلمي التربوي الدعوي أن يروّج للدراسات الأصولية في المحيط الدعوي الخاص ثم العام، وأن يُصر على ذلك شارحاً ومفسراً مغاليق اللغة الأصولية، حتى تكون ثقافةً سائرة عند الجيلين، وذلك طابع ترشّح”العين"نفسها أن تنطبع به وتخضع له، ويليق لخطط التطوير والتدريب أيضاً أن تعقد الدورات لتدريس علم الأصول، وأن تكفل بعض الدعاة وبعدد كاف ليكونوا طلاب دراسات عليا في الأصول في الكليات الشرعية لينتصبوا فيما بعد كقدوات دائمة في المجتمع الدعوي ورقباء على صنعتي الاجتهاد والخيال وعلى صناعة القرار، لأن حيثيات علم الأصول أدق من أن يوعظ بها جملةً واحدة لتؤسس رقابة دائمة ووقاية شاملة، بل ينبغي أن تكون حاضرة عند كل الحركات التفصيلية للأحداث والسياسات، لأن أطراف معادلاتها المؤثرة في المواقف تتغير، وتجعل الرؤية نسبية، ولا بد من ملاحظة حكم الوقت وعوامل الظرف، وهي عملية تدقيق يخولها الشرع للفقهاء وعلماء الأصول ويفوضهم(1/140)
إياها، لا لوزير مثلاً، أو برلماني، أو إعلامي، أو أي قيادي دعوي لا يتقن معرفة الأصول، والشروط الفقهية لاعتبار المصالح وتمييزها هي بخاصة من أهم ما يَلزم صناع القرار مراعاته، وفيها نظر فراسي ذوقي لا يسهل على الطارئ أن يعرفه، وإنما تلزمه ممارسة أصولية طويلة متكررة ليتمكن منه الفقيه، ولا تكفي فيه المراجعة الميكانيكية السريعة، وإنما هو حكر على فقيه مسترسل يطيل محاورة ثلّةٍ من فقهاء، وكان قد جلس بين يدي المشايخ دهرا.
ا(1/141)
لشرط الثاني: وفرة الأحاسيس الفنية لدى المفكر، وعلّو درجة الذوق الجمالي، بل الموازين الجمالية هي أُخت الموازين الأصولية وبينهما طِباق وجناس في الاشتقاق ثم في الأثر والنتيجة، وغاية علم الجمال الإسلامي أن يميل بالنفس نحو سكينة أعمق بعد طمأنينة الإيمان، لأن الحالات النفسية هي الجذر الأسفل لورقات الاجتهاد، فإن كان ثَم استقرار وهدوء في الأعماق: جاءت الورقات خُضراً ربيعية ولها نضارة، وإن كان المنغرِسُ مزيجُ القلق اللاهب والفوران العاتب على الأقدار: جاءت الورقات حُمراً خريفية يابسة، تأمر بالعبوس والغضب والثأر، لذلك لا يمكن فصل لغة الألوان وسياقات تجانسها عن لغة الاستنباط وسياقات الاجتهاد، ومن هنا كلّفت"العين"نفسها باستحداث تربية جمالية في محيط الدعاة وخطط التطوير، لأن المعيار الجمالي ما هو بشيء طارئ وثوب يُشترى ويُلبس، وإنما هو جملة انعكاسات كثيرة تنمو على مهلٍ وتبقى تتراكم في رحاب الفطرة السليمة النقية غير الملوثة، فإن كان مُعلّم الجمال قد تأخر وصوله فانحرفت الفطرة: انتظرنا عملية بطيئة تزيح التأثيرات الجمالية خلالها ترسباتَ التناشز والتنافر، وندع همسات الجمال تطغى على تمتمات الوساوس، وومضات النور تبدد عتمات الظلام، وقد جاء الفن التجريدي العالمي المعاصر على قَدَر، وأكثره يتوافق مع النمط الإيماني في الرمزية والتمثيل والإيماء، ولا أجد تباعداً وافتراقاً، ومن الممكن أن نستثمر إبداعاته لتطوير فن إسلامي إشاري يكتفي بجزء المبنى للإفصاح عن المعنى، وبالأثر للدلالة على المؤثّر، وبالظل عن الجسم، وقد أبرمت"العين"خطة فنية تريد أن ترتفع بأذواق الدعاة ومعاييرهم الجمالية، من أجل أن تنالَ اجتهاداتهم الصفاء وتنسابَ سَلسة، وكل اجتهادٍ لم يودع رَحِم الجمال فإنه حجر يتدحرج، وقد يتكاثف زخم العنف فيه، وقد ينتهي هادراً هادماً، وهل"اللطخات"الحمراء التي أرهقت الناس بعد تكفيرهم غير ذهول وغفلة عن مبتدأ درب(1/142)
الوميض الجمالي؟؟
ومن الغريب أن نتكلف نحن في الزمن المتأخر مهمة البرهنة على وجود هذه العَلاقة الطيبة بين الجمال والفكر، بينما كان أجدادنا أوعى لها، فمما استوعبه ابراهيم بن محمد الشيباني في جيل السلف: أن حُسن الخط يمنح(بهجة الضمير)(4).
وذلك يعني أن التجربة قد استوفت إدراك العلاقة بين الفن والنفس، وأن صناعة الجمال وسيلة قريبة لإنتاج الانفتاح النفسي، وتحقيق طرب الروح، وانتظار أصداء داخلية إيجابية يمكن توصيلها بومضة جمالية ثانية، ثم ثالثة وجعلها تترى، فما يزال الإنسان السوي موصولاً بالفرح ونلمس منه إقبال القلب، ليردف الحقيقة الإيمانية، وهذه لمسة قديمة عريقة ترينا طرفاً من"الوعي الجمالي"لأجيال المسلمين الأولى، وتخلُّفَنا نحن اللاحقون، وكان من اليسير علينا أن نتناوش التفاؤل والبشائر من مكان دانٍ ووسيلة سهلة فطرية بعيدة عن التعقيد، ولكننا ابتعدنا، وكتبنا على أنفسنا طول الطريق، ويليق أن نقترح على من لم تطحنه بعد آلام السياسة وضغوط معاناة الإصلاح أن ينتفض ويميل نحو الدرب الحضاري ليضع مع أقرانه"ميثاق التربية الجمالية"التي تظاهر وتسند آثار التزكية العقيدية الشرعية وصفاء التوحيد، وتكون مورداً للفكر ومَدْرجاً تدرج عليه محاولات الاجتهاد.
وأصل القضية: أن النفس السوية الفطرية الساذجة: تُدرك المعنى الجمالي وتناسق الألوان، كذاك الأعرابي البدوي الذي سألوه: (أي الألوان أحسن؟ قال: قصورٌ بيض، في حدائق خُضر)(5).
ومعنى ذلك أن حاسته الذوقية أدركت التناسق والتركيب الجمالي بين لونين، لا الانطباع الذي يولده لون واحد فقط، وعلى مثل هذه الإمكانية نبني خُطتنا في التربية عَبْر لغة الجمال، لتؤول في النهاية إلى لغة فقهٍ وأدب، ولغة حماسة وجهاد واعٍ واجتهاد.(1/143)
الشرط الثالث: جماعية الرأي، وتكوين رُوحٍ كُلّية مشتركة تخرج عن الحد الفرداني والفهم الشخصاني، فيرتقي الفكر من مستوى الذوق الخاص إلى أن يكون تجربة عامة لا تعكر عليها محدودية الذكاء أو سلبيات الغضب، وذلك نمط وَرَدَ عند السلف وانتبهوا له.
فإنما نعاني-نحن معشر الدعاة-مذهباً واحداً في الكتابة والبحث والتأويل، تبعاً لوحدة الجذر والمستقى، وتأثراً بثوابت الشرع، والكتلة الموضوعية المعنوية في مدونات فقه الدعوة هي فكر متصل، بعضه من بعض، وكأننا نحقق ظنّ الحسن بن وهب حين قال:
(الكاتب نفْسٌ واحدة، تجزّأت في أبدان متفرقة)(6)
فأسماؤنا شتى، وأساليبنا متنوعة، وبلاغتنا درجات، ولكن الفحوى مترادفة، والطرائق متناسقة، والوجهات متوازية، وينتظمها اجتهاد متقارب، وتحركنا عواطف جامعة، ويجذبنا ويسوقنا تحليل يتباعد من أجل أن ينعطف نحو اندماج وتداخل، ففينا ينتسب الجزء إلى الكل، وإذا انتشرت تأملاتنا نحو الأطراف القصية: ارجع المحيط أصداءها إلى المركز، فتكثف، وتكون شديدة قوة التأثير، اشتقاقاً من الحقيقة الليزرية وحرارتها، فيعود أمرنا بحاجة إلى رمزيات وخيالات يحس بها المخالط لنا بَرْدَ الفكر الإيماني المطمئن الذي لم تكوه لذعات القلق، ولا شتَّتتهُ متاهات البحث عن الصواب، ويعود المحيط يحوينا ويحويه، في دائرة واحدة، تكون مثالاً للبيئة المتجانسة التي تنتج "الكتابة الجماعية" المشتركة، وإنما أُريدت مجلة"العين"لتكون هذه البيئة.
وسبب هذه الجماعية الفكرية: أن جمهرتنا الدعوية لم يحشدها تجنيد إجباري أو سَوْقٌ جزافي أو سباق نحو مصالح دنيوية، وإنما جَمَعَتْنا بَيعة رضائية، وأغرتنا جنانٌ وأُجور أُخروية، فثبتَ الحق لكلٍ منّا أن يضع حَرفاً في وثائق الرأي.(1/144)
و"الشورى" وفق أدب الشرع إنما تجمع نصف هذه الحروف فقط، لأنها تكون في سويعاتٍ كل موسم، وفي سياقٍ لا يختاره المستشار، وتعكّر على الرأي آنذاك حِدّة انقسام الرأي في المواقف المشكلة، وهي غالباً ما تكون كذلك صفتها، وهذا التعكير يمنع بعض الرأي، لكن"التحدي"المتولد من حماوة البحث واستقتال كل صاحب مذهب في الانتصار لفحوى مذهبه يُتيحان ظهور حروف كانت مركوزة في الأعماق وأثارتها المساجلة فطفت إلى السطح، فتكون تعويضاً.
وأما النصف الآخر من الحروف فإنما يتراكم ويَتولد ويتكثف في عملية بطيئة عبر حوارات حُرّة في وقت غير عصيب، ويكون استرسال الداعية خلالها على السجية، وترفع عنه إرهاب الرقابة والإعابة، وتمنع عنه إلقاءات التقليد إذا شاهد عند التصويت كثرة كفوف ترتفع بالموافقة أو الرفض كأنها غابة، فيملكه الاستحياء فيخالف قناعته، أو يتقي تهمة الانفراد وخرق الإجماع فلا تبدو منه مناضلة ومقارعة.
وما دام الوصف كذلك: فإن مولّدات الفكر إنما تكون عبر تقسيم كتلة الدعاة الكبرى إلى زُمرٍ صغيرة تتشكل منها المحاور والمنابر، والمجلات منها، ودُور العلم منها، والمؤتمرات والندوات ووسائل الإعلام، إذ هناك يكون التكافؤ وشعور الأمن ويبلغ استفزاز المكنون أقصى درجاته، وفي هذا السياق المنهجي استأنفت"العين"بزوغها، لا تُغري الخيالي المتأمل بإفصاحٍ شجاع فقط عن حروفه، بل تدربه وتعينه على خطّ الحروف جَليّة، لتكون ريحاناً وتعليقاً وديوانا.
الشرط الرابع: بذل المجهود، ومضاعفة التعب، واستنفاذ الوسع، والتعنّي في الطلب، وشدة الحرص على الوصول إلى نتيجةٍ اجتهادية، والإبعاد في الخيال.
ومفاد قصة موسى والخضر: استحباب إيغال طالب العلم في الرحلة إلى العلماء ليأخذ عنهم ويتفقه بهم.
وفي آية سورة الكهف: (لا أبرحُ حتى أبلُغَ مجمَعَ البحرين أو أمضيَ حُقُب).
أي: ( ولو أني أسيرُ سنين كثيرة. والحقْبُ: سبعون سنة، أو ثمانون، وقيل: أكثر.(1/145)
فمثلُ هذا النبي الكريم الحليم يقول: إني أسيرُ إلى لقاء هذا العبد الصالح، ولو أني أسيرُ هذه المدة المتطاولة والسنين الكثيرة حتى أظفَرَ بلُقياه)(7).
وللدعاة في هذا الهدي النبوي تذكرة، ولهم معه مناسبة اقتداء، وتطاول السير إنما هو إشارة لجنس البذل وإتعاب النفس حتى يصيبها الرهق، ودلالة الاقتضاء تجعل كرم الداعية وإنفاقه لماله ووقته وصحته وخبرته مثيلاً للسير حُقُبا، فمن أراد أن يماشي رجال"العين"فليستعد، وليبذل.
وهذه هي طريقة محمد بن عبد الباقي الحنبلي الإمام، وقد أفصح عنها فقال:
(ما أعرف أني ضيّعت ساعة من عمري في لهوٍ أو لعب)(8)
وقد نقضنا اجتهاده هذا في"صناعة الحياة"، ورأينا في اللهو تجديد النفس والطاقات والهمة إذا كان بمقدار، ولكنها سيرةٌ في وتيرة الجد والمواصلة والإنتاج نعظ بها أنفسنا: أن نكون دوماً في الاستنفار لا نهدأ، وإنما الراحة تمكين لذي العزيمة أن يستعد لجولة أخرى من الدأب، ويميزها الأصيل عن التمادي والرخاوة والتضييع، ومَن ركب أمواج العزائم في شبوبيته: أطال التحديق بقية عمره نحو المعالي، فيفتأ يكون صاعدا، لا يستلذ الوقفة، بَلْهَ النزول.
والمحرك لمثل هذه المبالغة: عُشق العلم، فعن ابن الجوزي أنه قال:
(ما يتناهى في طلب العلم إلا عاشق)(9)
ومثل ذلك: الإصلاح، والجهاد، وأغلب أبواب الخير، وهذه هي الرتبة التي تليق للداعية أو طالب العلم: أن لا يرضى ببقاءٍ على هامش، أو لبثٍ عند ساحل، بل يكون الولهان الذي يهيم غراماً بجلسة بين يدي أُستاذ، وأجمل أمانيه أن تنال يده أي كتاب ثم يُتاح له أن يبقى معه نهاراً كاملاً بلا إزعاجات قرينٍ كسول يعزف عن العلم ويرصد اهتمامه لتتبّع أسعار الباذنجان.(1/146)
وأصل الطموح يستلزم إرهاق النفس، فإن المعنى الأول الذي يتبادر إلى الذهن عند تفسير الطموح: أنه ذهاب إلى أبعد من الحدود المرئية، وتجاوز للقناعة، واقتحام المجهول، وطلب المزيد، وتوسع الأمل، وارتياد العرصات البكر، وبلوغ الأقاصي، في مثابرة، وموازاة للأشواق وحرارة العواطف إذا حَمت.
والخيال شريك في هذه العزمات كلها، وقد أوجبناه على المفكر والمجتهد والمبدع، وألزمناهم به، فعاد هو والطموح يستلزمان المبالغة في البذل، وإطلاق العنان لجوادٍ يقطع المسافات، ولتصورٍ تأملي لا يجب أن تكون له نهاية، ثم عادا معاً: الخيال والطموح: يقدمان الضمان أنْ إذا قطع الهمام المسافات وسار الحُقُبَ ولقي المجتهد: فإنه لا يقلده، لأنه قد أُوتي بهما عُدّة الإبداع كاملة، فلماذا يقف؟ وجدير به أن يبدأ من حيث انتهى أُستاذه الحكيم، لا من حيث بدأ وتوسط، وإنما أراد الملاقاة والاقتباس لتستمر أسانيد الحركة العقلية لا ليتواكل ويقنع، والمجرّب يدرك أن وصول التلميذ إلى شيخه يمنحه إمكانية الارتفاع والنظر الرفيع الفوقي، ومعنى ذلك أن ساحات الخيال قد توسعت أمامه، فتعود وتيرة الاجتهاد تهتز وتنتج.
الشرط الخامس: وجود الظهير المعين الذي يحمل عبء الجهود المعاشية وأثقال الأعمال التنفيذية، من أجل أن يتجرد المفكرُ للتأمل والتنظير، والمجتهدُ للقياس والتقعيد، وذلك هو "الكاتب" بلغة السلف، و"السكرتير" بكلام الأعجمين المعاصر.
ففي القديم كان السياسي يتمنى ...
مَن لي بكاتب لبقٍ رشيق زكيٍ، في شمائله جَدَاره
تُناجيه بطرفك من بعيد فيفهم رَجْع لحْظِك بالإشاره(10)
لكن هذا التمني سهل، وحصول تواضع الظهير صعب، لأن مثل هذا الصاعد الذكي المؤهل إذا اكتشف الشمائل الحسنة التي حباه الله بها: سرعان ما يتخيل لنفسه الرئاسة أيضاً، ويسلك القفز، لا عتبات المدارج.(1/147)
ومع ذلك فما زالت تلك المظاهرة هي اُمنية القائد الدعوي، والرمز الذي يتصدى لزعامة الجمهور، والبرلماني، وكبراء الإعلاميين، وأقطاب التربية، ورؤساء المؤسسات، ورواد الاجتهاد والتجديد الفكري.
وذلك أن التأمل حالٌ يقتضي التفرغ والبعد عن الشواغل والملهيات ومُثيرات الغضب والتوتر وجالبات الأحزان، وهو منزلة متقدمة موهوبة هبة من الله تجعل العقل دائب التحرك، موزوناً تغلب عليه الأنماط المنهجية، ويحتاج إلى سكون طويل وانسياب يتهادى خلاله بين القلب والنفس من أجل أن يصل إلى درجة العنفوان ليكتشف معادلة أو عَلاقة أو وصفاً دقيقاً، ولذلك يجب أن يُعان على الوصول إلى هذه الدرجة من الحركة من دون تعكير أو السماح للصوارف أن تصده وهو في منتصف دربه وتلهيه، فهو مؤهل مستعد قد أُودعت فيه إمكانات الإبداع، لكنه حسّاسٌ جفول وحشي الطباع كأنه غزال وثاب نفور، و كأنه جوادٌ بري أبيض اعتاد حُرية الخَبَب في المروج الخضراء فينطلق فجأة إذا اقترب منه غريب!! ولذلك يجب أن يَترك الرهطُ متميّزهم هذا لسياحاته التأملية، وأن ينتظروا ترجمات الإلهام التي يفوه بها أو يخطها قلمه، ومن جُملة الإعانة له: تفريغه، ورفع وسوسة المعاش عنه.
قال ابن الجووزي : ( كان للعلماء مَن يُراعيهم من الإخوان، حتى قال ابن المبارك: لولا فلانٌ وفلان ما اتجرتُ، وكان يبعث بالمال إلى الفضيل وغيره )(11).(1/148)
أي أنه كان يمارس التجارة من أجل أن يُعين العلماء. وهذه سُنة دعوية كانت سبباً في عمران العلم ودوامه، ومانعاً أن يمد الثقة يده إلى سلطان ولئيم، والمفروض أن يحييها أغنياء الدعاة اليوم، من دون فضيحة ومنّة وإحراج، بل بالسرّ والستر، فإن الحياة تعقدت، ويكاد طالب العلم والمفكر إذا ابتلي بعائلة أن يقطع سيره وتتلفه وظيفة ومهنة، والعفاف زينة العلماء، فليوفره الأغنياء لهم لتصلح الحياة ويكون الاقتداء، وليتجردوا للتفكير وصياغة تعابير الإيمان وتفسيرها، وموازين الخطط والمناهج وشروحها، وأحسن من ذلك: أن تتولى الإدارة الدعوية هذا التفريغ، فإنها الأعرف، وأن يُسمى راتبٌ دائم يُقدّر وفق قواعد ونظام، على أن لا يعامل المفكر وصاحب الصنعة العلمية كالتنفيذي.(1/149)
أما بعد: فإننا بتوفير هذه الشروط الخمسة: يمكن أن نقترب من النجاح في تجويد صنعة الفكر الإسلامي المتقدم الذي يؤذن له أن يرتكب الإبداع، والله الآذن، وله المشيئة، وإذا صدق القول في أن الشركات الكبرى تصرف عُشر ميزانيتها على عملياتها التخطيطية والتسهيلات الإدارية: فإن القياس يشير إلى أن الدعوة يلزمها أن تؤمن بمثل هذا المنطق، وأن تمنح الفكر اهتماماً مضاعفاً، وأول ذلك: العلم الشرعي الذي يمكن تنميته تحت ظلال أُصول الفقه، ثم المعرفيات بعامّة، والأداء الحضاري، ولا ينبغي أن نترك الدعاة عُشاق العلم لأقدارهم، بل أن نعينهم بمثابات مؤسسية، وترتيبات منهجية، وبتفريغ وابتعاث، وتنصيب رؤساء على مجاميع كثيرة ننشرها في الساحات، ثم برفع"نبراسٍ" نوريٍ فكري يُناسب المستوى النخبوي الذي وضعتهم هممهم فيه يكون محور البَوح والحوار والنقد، ويراد لمجلة " العين " في طورها الجديد أن تكون هذا النبراس والمحور، تواصل الشوط الأول، وتبني طبقة على طبقته، وتعتني بنشر مفردات كثيرة وتفصيلات تجزيئية في ميادين الفقه والأُصول والفكر المتقدم النخبوي النقدي، وفي علوم التخطيط والإدارة والإبداع، وفي النظر السياسي من زاوية استراتيجية شمولية، ومعرفيات التاريخ والأدب والفن بأنفاس عميقة، لتكوين نظريات العمل الإسلامي، ثم لتحديد خصوصيات القضية العراقية خلالها، بما كان ويكون من صيرورة القضية العراقية قضية مركزية للأمة.
وقد مدح أعرابي رجلاً، فوصفه بأنه: ( عيد مسافة العقل) ، ثم قال : ( إنما يرمي بهمته حيث أشار الكرم)(12)
ومثل هذا النموذج هو الذي تحتاجه مرحلة العمل الدعوي الإسلامي المعاصرة، فإن العاطفة تصنع شيئاً، ولكن العقل يمنح أكثر، إذ باتت الحياة معقدة، وتؤدى الأمورُ بتخصص، وتلزمها خطة، وتنظمها منهجية، وكل ذلك تترجمه مساحة عقلية لها سعةٌ وامتداد، لكن ينبغي أن تكمّل ذلك همةٌ عالية بعيدة تستهين بذل الغالي.(1/150)
لذلك كان من تمام وصف الآخر له أنه: (مستحكم الأدب، من أي أقطاره أتيته: انتهى إليك بكرم فعال وحُسن مقال).
فهندستُه كثيرة الزوايا والأقطار والتربيع، وله استدارة أيضاً وتكوير، وما بين ذلك كله شأنٌ سالك: الفعلُ سوي مؤثّر، والفكر واضح، والبيان يحكمه منطق.
فتلك صفات الداعية الناجح الذي تريد"العين"أن تساهم في تربيته وصناعته.
وتلك آفاق"العين"وغاياتها ومنهجيتها ووسائلها، وكل داعية شريك وكفيل ومالك، والتطوير قد يعسر في الساحة العريضة، والزعامة قد تنالها تهمة إذا صارحت، فكانت إنابة"العين"لتكون البديل، وآلة التطوير، والزعامة الفكرية الواعدة.
ولرجال الخيال من "الراشد"تحية ..
==========================================
(1) المغانم المطابة للمجد الفيروز آبادي 1 /86 والأبيات كذلك في 1 /85.
(2) العِقد الفريد 4 /28 - طبعة الدار العلمية.
(3) المغانم المطابة 1 /82.
(4)(5)(6) العقد الفريد 4 /254، 54، 256- طبعة الدار العلمية.
(7) المغانم المطابة 1 /100.
(8)(9) الآداب الشرعية لابن مفلح 3 / 316، 1 /245.
(10) العقد الفريد 4 /254- طبعة الدار العلمية.
(11) الآداب الشرعية 1 / 247.
(12) العقد الفريد 4/ 35 طبعة الدار العلمية.
تاريخ المقال4/30/2005(1/151)
المشمرون
مقدمة طريق الدعوة ، وأول خطوة فيه : أن يؤسس الدعاة لأنفسهم همة عالية. وإنها وصية أبي القاسم الجنيد رحمه الله إذ يقول : (عليكم بحفظ الهمة ، فان حفظ الهمة مقدمة الأشياء.) .
همة تخرجهم من الفتور إلى واللامبالاة إلى انشغال تام بالتبشير إلى الدعوة ، والتفكير بمصالحها .وهمة تبعدهم عن تتبع الرخص والأعذار ، وتحملهم على الإقلال من التمنيات، وتعليق القلب بمستقبل الدعوة ، وتحريك العزيمة وإثارتها للوصول إلى الهدف.
وهي الهمة التي تجعل هدف صاحبها يستهين كل صعب ، ويعاف كل دعة ، وتقر عينه بالتضحية ، ويطرح كل جاهلية من قلبه دفعة واحدة بلا انتظار، ولا توان ، ولا تردد ، ولا تعليق على شرط،ويعود يحزن من إذا استوى يوماه. وهذه هي تجاربنا تنطق : إن من بدا الدعاة بحزم وعزم ضمن له الاستمرار . ومن بدأ بلين وتراخ لزمه هذا اللين، وظل حرجا متأرجحا ، وربما لم ينفعه الاستدراك إذا أراد مهما حاول .وإذن ، فإنها الأيام الأولى تحدد السمت ليس غير .
الرسول المشمر
وللداعية في كل ذلك إقتداء حسن برسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه ـ كما تقول عائشة رضي الله عنها ـ من كان يراه : يراه (غاديا رائحا ، لم يضع لبنة على لبنة، ولكن رفع له علم فشمر إليه. ).(1/152)
فلم يكن نبي الله صلى الله عليه وسلم ليفتر أو يعقد ، بل هو حركة دائبة يريد أن ينتسب إلى طريقته خطة يومية عنوانها : الحركة الدائبة والغدو والرواح للاتصال بالناس وتبشرهم بمعاني الإسلام ، وتأديب وتربية من يستجيب منهم ، وعائشة رضي الله عنها إنما عددت عزوف قلبه الشريف صلى الله عليه وسلم عن كل المطامع الدنيوية ، واستغراق عمله الديني والتربوي لكل أوقاته . ما بنى دار من لبن ، ولا تعلق قلبه بمال ، ولا أبقاه في يده إن حصل عليه ، ولا شغف قلبه حب حسناء . وبذلك فت طريقا يعرفها الموفقون لها ، ويعيش بلذة السير فيها من يرى قلق وأسى واضطراب من هرب من الدعاة إلى الإسلام حرصا على دنيا زائلة .
لا تلفت إلى الوراء
فطريقك واضح أيها الداعية ، ووجهك مرفوع لعلم قد لك ، فشمر إليه ، ولا تلتفت للوراء. سير الداعية بلا التفات ، كما رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه يوم خيبر لما أعطاه الراية . قال له : ( أمش ولا تلتفت، حتى يفتح الله عليك).
فسير الداعية إلى الأمام أبدا حتى فتح الله له ، ومتى التفت فلت أمره، وفت في عضده ، وربما تلف. وما تأخر من تأخر إلا لهذا الالتفات .
أو كما قال ابن القيم رحمه الله ( لا وقوف في السير، بل إما تقدم أو تأخر، كما قال تعالى : { لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر} . فلا وقوف في الطريق، إنما هو ذهاب وتقدم ، أو رجوع وتأخر. ) . وإنما المؤمن هارب من الشيطان إضافة إلى تقدمه ، وهو في هربه كالظبي في هربه من الذئب أو الأسد ، فإذا التفت التفاتة بسيطة إلى الخلف رأى المنظر المفزع ، فتزيد رهبته ، ويعجز عن مواصلة سرعته، ويدركه الطالب كما هو مشهور من أمره عند الصادين . لذلك فإن سيد قطب رحمه الله ظل ينادي من وراء قضبان السجون في قصيدته الرائعة كل داعية :
أخي فامض لا تلفت للوراء.
طريقك قد خضبته الدماء
ولا تلفت ها هنا أو هناك.
ولا تتطلع لغير السماء.(1/153)
وهذا تاريخ الإسلام يرينا دوما أن القانع قابع ، والتواق سباق .لذلك يريد السبق ، ودخول الجنة في الزمر الأولى ، فانه يأبى المنزل ،ويأبى القناعة بالدرجة التي وصل إليها من الخير، ويكون ديدنه أن يتابع السير، ويرتقي مدارج الفضل وينتسب إلى عمر بن عبد العزيز رحمه الله حين رفض القناعة فقال : ( إن لي نفس تواقة، لم تتق إلى منزلة فنالتها إلا تاقت إلى ما هي ارفع منها ، حتى بلغت اليوم المنزلة التي ليس بعدها منزلة ، وإنها اليوم قد تاقت إلى الجنة ) فكن متحركا إلى الأمام أيها الداعية ، و إلا هو الموت أو شبهه ، كما جرب إقبال قبلك فنادى ( وجودي السير، والعدم السكون ) .
والداعية لا يهدأ إذا أبصر فعلا الغاية الجميلة الرائعة ، وهو النابض الذي لا يسكن ابدأ ، وهو الذي يسير في الطريق ابدأ ، لا يتخذ الجزء منه مرحلة وغاية ، بل يمشي وينشد :
ماذا أقول وفطرتي
لا ترتضي دعة المنازل
قلبي على قلق كما
تهفو الصبا حول الخمائل
فإذا نظرت إلى جميل
رائع حلو الشمائل
خفق الفؤاد إلى الذي
يعلوه حسنا في المحافل
إني ليهلكني القرار فما
أعوج على المراحل
في جنة عالية قد رفعت لك أيها الداعية والله بر رحيم ، ودود غفور ، فشمر للوصول إليه والى جنته ، واجمع قلبك وباطنك على التحديق إليها ، واركب مركب التبشير والتبليغ ودعوة الناس وتأديبهم للوصول إلى ربوعها.
لابد من بينونة كبرى !!(1/154)
ولابد للداعية من أن يصير عن هؤلاء الناس ، كما يقول ابن القيم . فهو كائن مع الناس ، يعيش بينهم لينتقي ويربي ، بائن عنهم بقلبه ، مزايل لما هم فيه من عرض الدنيا . ولقد وصل بعض أئمة الإسلام الذروة في هذه البينونة الكبرى حتى وصف الإمام الفقيه الكبير المحدث محمد بن إسحاق بن خزيمة صاحب الصحيح المشهور بأنه كان : { لا يدخر شيئا جهده ، بل ينفقه على أهل العلم ، ولا يعرف صنجه الوزن ، ولا يميز بين العشرة والعشرين . ولا يعرف كم الكيلو والغرام!! تراه عن قله ذكاء وهو العالم الفقيه الإمام ؟ ولكنه وهب جميع فكره للإسلام. وكذلك كان أمر الإمام المحدث إسحاق ابن رهويه الحنظلي، إمام خراسان كلها وشيخ البخاري ومسلم ، فقد وصفه تلميذه أبو يحيى الشعراني فقال : كنت إذا ذاكرت إسحاق في العلم وجدته فردا،فإذا جئت إلى أمر الدنيا وجدته لا رأي له . لا ينظرون إلى الدنيا على أنها حرام، فتحريمها بدعة ، ولكن لأنهم يرونها أنها تشغل عن السير إلى الله ، ولأنهم انغسموا في العلم والعمل ، فنسوها ، وسلموا كلهم لله فما عادوا يذكرونها ، كما سلم فروة بن عمرو الجذامي رضي الله عنه نفسه، وكان ملكا على العرب الذين في مدينة معان وما حولها من أسفل الشام فلما اسلم وأرسل رسولا منه إلى النبي صلى الله عليه وسلم يعلمه بإسلامه أخذه الروم فحبسوه ، واجتمعوا لصلبه في فلسطين فلما قدموه ليقتلوه قال :
بلغ من سراة المسلمين بأنني سلم لربي أعظمى مقامي(1/155)
ثم ضربوا عنقه. فتسليم الكل حد حده فروة ، ومنع به أن يقتصر من بعده على دون هذا الحد .ولا يكون داعية اليوم من لم يسلم كله لله . وإما انه داخل خارج ، فهو انه داخل في مجتمع هؤلاء الناس ،يعيش بينهم، وينتسب إلى قبائلهم وعوائلهم لكنه خارج على قوانينهم المخالفة للشريعة ،لا يطبقها ،ولا تغره. انه الخارج على القانون حقا . لكنه الداخل للقلوب حقا. يدخله بالدعوة والنطق بالحق ، وبانتسابه إلى حزب الإمام الغزالي إذ يقول : (ما كنت أجوز في ديني أن أقف عن الدعوة ومنفعة الطالبين بالحق ، وقد حق علي أن أبوح بالحق، وانطق به وأدعو إليه ). فلا ينزوي .
ليس منا من ثوى في صومعة
يحبس الأفكار والفكر معا
ضاق نفسا عن مجال وسعا
ضاق نفسا عن مجال وسعا
فثوى في ضيقع قد خنعا
ليس شيئا أن ترى معتزلا
عابدا ، تخشى البرايا ، وحلا
إنما العابد من خاض الحياة
موضحا فيه سبيلا للنجاة([12])
والناس قد أضلتهم الأحزاب ، وامتصت أخلاقهم وعقائدهم المبادرات الجماعية للماقرين والعملاء ، فكيف يقعد المسلم؟ المسلم لا يقعد ، لكن كأن من شرطه أن تستفزه بلاغة الدعاة حين يقولون :
إيه دعاة الحق أنتم معقد إلا
مل المضيء ، فبالظلام أطيحوا
ضاق نفسا عن مجال وسعا
ضل القطع وزمجرت ذؤبانه
تغدو على اشلائه وتروح
إني أعيذ بهاءكم أن ينزوي
في ركن بيت ، والجواد جموح
قودوا الجموع إلى السماء وخلفوا
من شاء تعلوه الزمان سفوح
المجد مجدكم فعار أن يرى
يعدو إليه مغامر طموح
فعار أن يسبق الدعاة مغامر ، ومراهق ، وطموح إلى لمصالح شخصية ، ومنفذ لخطط ماسو نية .(1/156)
أما الانفصال عن الناس في وقت الاتصال فهو الانفصال مرتبة الهمة ، فالمنتسبون إلى الإسلام لا هون، والداعية ذو قلب مهموم بمصالح المسلمين. ومن حوله يجمع الدينار والدرهم ، وهو يدخر الحسنات عند الله. وغيره ( يتوكل في حصول مال أو زوجة أو رياسة ، وهو قد استجمع ( التوكل في نصرة دين الله وعلاء كلمته ، وإظهار سنة رسوله، وجهاد أعدائه . ) . كما يقول ابن القيم . والله سبحانه وتعالى يفصل الدعاة عما الناس فيه .( إذا صلح القلب لله عز وجل لا يدعه مع الخلق والأسباب ، لا يدعه مع البيع والشراء ، والأخذ والعطاء بالأسباب.يميزه ويخلصه. ) . إنما يبقى جسمه فقط مع البيع والشراء ، أو وراء منضدة مكتبه الوظيفي ، أو أمام كشف رصيده في البنوك ، أما قلبه فهناك .. ( إن هذه الدعوة لا يصلح إلا من حاطها من كل جوانبها. ووهب لها ما تكلفه إياه نفسه وماله ووقته وصحته .{ قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } . فهي دعوة لا تقبل الشركة ، إذ أن طبيعتها الوحدة ، فمن استعد لذلك فقد عاش بها وعاشت به ، ومن ضعف عن هذا العبء فسيحرم ثواب المجاهدين، ويكون مع المخلفين، ويعقد مع القاعدين ، ويستبدل الله لدعوته به قوما آخرين { أذله على المؤمنين وأعزة على الكافرين ، يجاهدون في سبيل الله ، ولا يخافون لومه لائم ، ذلك الفضل من الله يؤيته من يشاء}. أو كما وصف الجنيد رحمه الله هؤلاء الذين انفصلوا عن الناس ، فقال ( إن لله عبادا صحبوا الدنيا بأبدانهم ، وفارقوها بعقود إيمانهم اشرف بهم علم اليقين على ما هم عليه صائرون، وفيه مقيمون وعليه(1/157)
راجعون… فأنظرهم… تر أروحا تتردد في أجساد قد أذبلتها الخشية ، وذللتها الخدمة ، وتسربلها الحياء … واسكنها الوقار ، وانطقها الحذار … شغلها بالله متصل، وعن غيره منفصل.) إن قول ابن القيم ذلك ، وهذه الأقوال والسير التي شرحته ، تبين اصل جانب المفاصلة الشعورية ، ومفاصلة الفرد الداعية السلوكية ، مما ذكره سيد قطب من المفاصلة الحركية.
الإتباع جماع الخير ..
وجماع كل الخير : الإتباع والقيام بحقيقة التوحيد . إتباع النبي صلى الله عليه وسلم وتقليده والسير في طريقه. فبهمة الإتباع: شابه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وهو راع قليل الشأن في العرف الجاهلي، ارفع العباد أشاقهم وعلاهم وأشرفهم منزلة، رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى قال حذيفة رضي الله عنه: ( إن أشبه الناس دلا وسمتا وهديا برسول الله صلى الله عليه وسلم لابن أم عبد، من يخرج، بيته إلى أن يرجع إليه. ) . وبهمة الأتباع غير الله لجليس المتبعين الذاكرين لله، الذي جالسهم لحاجه معهم، كما ورد في الحديث الصحيح فيقول الملائكة ممن أحصوهم : ( فيهم فلان ، إنما جاء لحاجة.) جاء لحاجة ،يريد مالا أو يقضي ديونا.فيقول تعالى : (هم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم.) فانظر أيها الداعية هو الله البر الرحيم الذي يغفر في الآخرة لجليس الذاكرين ، أليس هو الكفيل بهداية هذا الجليس وجعله ينطق معهم في الحياة الدنيا ؟ والله سبحانه يحشر معهم هذا الجليس في الجنة في الآخرة ، أليس هو الله القادر على أن يدخله جنة تجمعهم في الدنيا ؟
تاريخ المقال4/25/2005(1/158)
الانتقاء .. يقي المصارع
من أول المعاني التي نستمدها من الدراسة التحليلية للظاهرة التربوية أن ( الإنسان العقائدي ) هو من تمكنت منه مفاهيم معينة واستولت عليه واستمد أقواله وتصرفاته جمعيا منها ووفقها .
فالاقتناع لا يسمى عقيدة ما لم يكن مستمرا وإنما يمسى ( ميلا وقتيا ) أو ( تقليد) ن فان كان عازما شديدا ولم يكن مستمرا سمى ( فورة ) .
وشتان ما بين سلوك العقائدي وسلوك الفائر.العقائدي له موازيين محددة ، يزن ويقيس ويمحص ويستنتج قبل أن يخطو . والفائر يغضب ويندفع ، ويسرع ويستعجل ، فيتورط . لهذه الصفات الفردية أصداء وانعكاسات في المجموع ، فالمجموع يندفع اندفاعات عفوية بإلحاح من أعضائه ، فتبدد القوى ، ويكون الفشل.انه الاندفاع العفوي الذي يسير فيه المجموع بلا خطة ، أو بخطة لا تلائم الواقع وبلا هدف غير مركز ، ولا واضح وتتحمل الأماني والمثاليات والأحلام لجعله هدفا. وهذا وصف مرعب في الحركات ، يرغمها على التفتيش عن حلول تقي مصارع العفوية.
صعود الثقات رأس الوقاية
وأول الحلول يتمثل في تواصي قادة الحركة وجنودها بسمت من التشدد في تسليم مراكز التوجيه داخل الحركة ، وتأمين صعود الثقات إليها ، من أصحاب الإيمان والعلم والعمل .
لقد رأينا في تحليلينا للتربية أنها ما كانت موجهة من عناصر لها أهلية القيادة وتوجيه المسموع والمنظور وجهة معينة ، ولا تتوفر هذه الأهلية إلا أن يمكن خلفها تصوير صادق للعقيدة والمفاهيم ، فأن أعترى هذا التصوير تعكير وغبش فقد فات الركن الأساسي في التربية ، ولم تعد تربية .
كذلك ، فأن صعود الثقات إلى مراكز التوجيه هو الذي سيؤمن وضوح الأهداف البعيدة في أذهان المخلصين الفائزين من جنود الدعوة الجدد الذين لم تعركهم التجارب وهو الذي سيؤمن تفسير السياسات المرحلية لهم وإيضاح تبريراتها ، وفي كل هذا مساهمة أكيدة في التأمين ضد الاندفاع المستعجل ، وضد الاندفاع غير الهادف.(1/159)
والداعية حين تنظر إلى الحالة الراهنة للحركات الاسلامية المنبثة في العالم الإسلامي وحين يرجع إلى تاريخها ، تتجلى أمامه عظم رعاية الله سبحانه وتعالى لها في اختيار قادتها ، فليس فيهم إلا إمام له قدم راسخ في العلم والصدق والإخلاص ، لكن قد تجد لهم من تساهل في اختيار الأعوان دفعوا ثمنه غاليا في انشقاقات وفتن ، أو في مواقف لينة ، وكان ذلك من تمام العناية الربانية أيضا ، فإنهم من خلال التساهل تعلموا التشدد ، ومن معاناة التعامل مع الضعفاء تعلموا الحرص على الانتقاء ، وليس مثل العلم التجريبي .
تجارب أبدلتني غير ما خلقي
وتوسع المرء أبدالا تجاربه
ومنه نوع ما هو يستأهل ، ولكنه ضرب من المجازفة في الاعتماد على السذج الذين ينقصهم أسلوب العصر ويعوزهم الوعي السياسي ، حتى لكأن الدعوة تثن من كثرة أخطائهم. وتنادي وانه ليوم طويل ، يعرفه ويميزه المنغمس في العمل اليومي الحركي ، فان تعقد المجتمع الحاضر ، وتعدد الأحزاب ونشاطها ، والتخطيط اليهودي والماسوني داخل أقطار العالم الإسلامي ، كل ذلك يتطلب نوعا من الدعاة المسلمين يزيدون على إيمانهم وإخلاصهم وعلمهم الشرعي نوعا من الوعي السياسي ،والخبرة بالأساليب التنظيمية ، والمهارة في التخطيط المتزن الملائم للواقع التي نملكها ،وهؤلاء هم وحدهم أصحاب النباهة الذين يبددون هموم الدعوة.
لانفصل بين الإدارة والتربية(1/160)
وباطل ظن من يتوهم عدم وجوب شرط القدوة لمن يشتغل في مراكز الدعوة التي ليس لها فيها توجيه مباشر ، فالبعض يفصل بين المربين من الدعاة وغيرهم ممن ينفذون الأعمال التي يتطلبها شمول الدعوة،لكن تحليل الظاهرة التربوية ينفي ذلك ، فإنهم جزء من هذه الدعوة يقلده الجدد والأنصار، ولسان ناطق يسمعه هؤلاء فيتأثرون به ، ولذلك لم يفهم السلف فصل وظيفة رجل الدولة الاسلامية عن التعليم والتربية ، وكانوا يرون أنه رجل تربية أيضا .قال ابن تيمية رحمه الله في شرح معنى (كونوا ربانيين) :
(قال مجاهد :هم الذين يربون الناس بصغار العلم قبل كباره ، فهم أهل الأمر والنهي) .قال ( وذلك هو المنقول عن السلف في الرباني . نقل عن علي قال :( هم الذين يغذون بالحكمة ويربونهم عليها . وعن ابن عباس قال : هم الفقهاء المعلمون قلت : أهل الأمر والنهي هم الفقهاء المعلمون . وقال قتادة وعطاء : هم الفقهاء العلماء الحكماء .
قال ابن قتيبة : واحدهم رباني ، وهم العلماء المعلمون .) .
وإذن ، فان جميع من يساهم في أعمال الدعوة إنما هو قدوة يحتمل تأثيرها ، ويجب أن يجوز شروط القدوة العملية .
دقة مركز القدوة
ومركز القدوة حساس جداً ، ويجب أن لا يوضع فيه إلا من كان مستعدا للأخذ بالعزيمة والبعد عن الرخص ، والأمن كأن يغلب عليه الجد والزهد والتجرد .ولا بد أن يكون فعله ابلغ في التعبير عن عقيدته ومعاني دعوته من قوله ، لان المنظر أعظم تأثيرا من القول . ومن هاهنا ، لما هم أمام مصر الليث بن سعد بفعل مفول ينافي العزيمة قال له إمام المدينة يحيى سعيد الأنصاري ( لا تفعل ، فإنك إمام منظور إليك .) ويقول أبو عمرو السلمي : { من لم تهذبك رؤيته فاعلم انه مهذب } .
ومن لم ينعشك عبيره على بعد ، فأعلم أنه لا طيب فيه ، وتتكلف لشمه .(1/161)
والداعية الصادق تستمر هيبته الايمانية في تصاعد ما تصاعدت هيبته لله تعالى وتعاظمت اهتمامات قلبه بدعوته ، حتى يغدو منظره قاطعاً لغفلة ناظره .
وقال الشافعي : { من وعظ أخاه بفعله كان هادياً . } . وكان عبد الواحد بن زياد يقول : { ما بلغ الحسن البصري إلى ما بلغ إلا لكونه إذا أمر الناس بشيء يكون اسبقهم إليه ، وإذا أمر الناس بشيء يكون أبعدهم منه } ويقول السهروردي : { للمريد بلقاء كل صادق مزيد ، وقد ينفعه لحظ الرجال كما ينفعه لفظ الرجال ، وقد قيل : من لا ينفعك لحظة لا ينفعك لفظه }. ثم شرح هذا المعنى اللطيف فقال : { إن الرجل الصديق يكلم الصادقين بلسان قوله ، فإذا نظر الصادق إلى تصاريفه في مورده ومصدره ، وخلوته وجلوته ،وكلامه وسكوته ، ينتفع بالنظر إليه ، فهو نفع اللحظ . ومن لا يكون حاله وأفعاله هكذا فلفظه أيضا لا ينفع ، لأنه يتكلم بهواه ، ونورانية القول على قدر نورانية القلب ، ونورانية القلب بحسب الاستقامة والقيام بواجب حق العبودية وحقيقتها.}. وهذا من جيد الكلام، وصاحبه غير المبتدع المشهور قتيل حلب . ومثله من كلام التابعين قول شهر بن حوشب : ( إذا حدث الرجل القوم فان حديثه يقع من قلوبهم موقعه من قلبه.) .
وقول مالك بن دينار: ( إن العالم إذا لم يعمل بعلمه زلت موعظته عن القلوب كما تزل القطرة عن الصفا .) أي قطرة الندى عن الصخرة الملساء.
ويروى انه قيل لعيسى عليه السلام :{ من اشد الناس فتنة ؟
قال : : زلة العالم ، إذا زل العالم زل بزلته عالم كثير.} .(1/162)
فكل هذا كان من فقه الدعوة دقة اختيار من يكون قدوة ، ولا تساهل في الأمر ولا نخدع أنفسنا فنبرر التساهل تجاه البعض بعدم تسميتهم قدوات ، وبوصف مهمتهم بغير وصف التربية ، فان كل من يتعامل مع الدعاة إنما هو قدوة لهم ، من حيث إمكانية رؤيته وسماع قوله ، ووجود تأثر السمع به ، فإن أنضاف لذلك إيحاء وصف الداعية بأنه من المربين زاد كلامه ومواعظه ، فان عضدها فعله فنعمت المواعظ منه ، وان لم تترجمها حياته اليومية معهم إلى أفعال فإنها لا تعدو أن تكون هذرا منفرا .
إن الموعظة إن لم تناد في أسلوبها الحي كانت كالباطل أشبه ، وانه لا يغير النفس إلا النفس التي فيها قوة التحويل والتغيير ، كنفوس الأنبياء ومن كان في طريقه روحهم وان هذه الصناعة إنما هي وضع نور البصيرة في الكلام ، لا وضع القياس والحجة ، وان الرجل الزاهد الصحيح الزهد إنما هو حياة تلبسها الحقيقة لتكون به شيئاً في الحياة والعمل ، لا شيء في القول والتوهم ، فيكون إلهامها فيه كحرارة النار في النار ، من وأتاها أحسها . ولعمري ، كم من فقيه يقول للناس : هذا حرام ، فلا يزيد الحرام إلا ظهور وانكشافا مادام لا ينطق إلا نطق الكتب ، ولا يحسن أن يصل بين النفس والشرع ، وقد خلا من القوة التي تجعله روحا تتعلق الأرواح بها ، وتضعه بين الناس في موضع يكون به في اعتبارهم كأنه آت من الجنة منذ قريب ، راجع إليها بعد قريب.
والفقيه الذي يتعلق بالمال وشهوات النفس ، ولا يجعل همه إلا زيادة الرزق بالمال وشهوات النفس ، لا يجعل همه إلا زيادة الرزق وحظ الدنيا ، هو الفقيه الفاسد الصورة في خيال الناس ، يفهمهم أول شيء إلا يفهموا عنه .
وبإيجاز: إن الأسوة وحدها هي علم الحياة.ودعوتنا هي الحياة.فالأسوة وحدها هي علم الدعوة . وعلم الدعوة كله هو الأسوة الصادقة .
أختر عليم اللسان ..!(1/163)
ولو تفحصنا مدى تطبيق هذا العلم المهم لوجدنا ثغرات كبيرة في تاريخ الحركات الاسلامية الحديثة كان يحصل فيها انخداع بالخطباء ، وأصحاب الشهادات العالية والمشاهير ، ويدفعون إلى الصدارة من دون طويل تجريب لهم ، وتقع الدعوة في ورطة ربطهم باسمها ، ولا يلبث المعدن الضعيف أن يفضح نفسه أثناء ترغيب أو ترهيب أو سياسة حركية تقضي فقها لفهمها ، فيكون النكوص.
إن الإيمان ، وفقه الدعوة ، وشدة الانغماس في العمل التجميعي والتربوي ، ووضوح الطاعة،هي المحكمات التي يجب أن تتحكم في عملية التنقية والتأمير، لا شروط الوظائف الحكومية وأعراف المجامع الأدبية .
بل أن على الدعاة أن يجفلوا ويخافوا ويحذروا من يكون عليم اللسان ، الذي يكثر التمشدق،ويتكلف اختيار الفصيح، فأن النفاق والضعف يكثر في الصنف، ويجب أن لا يطمئن الداعية إلى احد بهذه الصفة إلا من بعد أن يضمر في نفسه امتحانه، فيراقبه مراقبة دقيقة مدة ، ويكون توثيقه له من بعد تجربة ، ومن بعد رؤية قرائن إيمانه وصدقه .
أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما خاف الأحنف بن قيس رضي الله عنه ـ وكان الأحنف متكلما لبقاً داهية ـ أبقاه عمر معه في المدينة سنة يراقبه ، ثم قال له: يا أحنف ، قد بلوتك وخبرتك فلم أر إلا خيرا ، ورأيت علانيتك ، فأنا كنا نتحدث : إنما يهلك هذه الأمة كل منافق عليم .
وكتب عمر إلى أبي موسى الأشعري : أما بعد ،فادن الأحنف بن قيس وشاروه واسمع منه .
وكم يحيط بالدعوة في العالم الإسلامي اليوم من رجال يجب على قادة الدعاة امتحانهم ، وكم هي حاجة الدعاة إلى مثل علم عمر .
كم من المتكلمين بالإسلام تري الدعاية ترفعه ، فإذا عاملته وجدته مصلحاً جاف القلب والروح.
وحقا قال عبد الوهاب عزام :
أن في الناس أوجها لامعات
تملأ العين زهرة ورواء
ويراها البصير صورة زهر
لم تهبها الحياة عطرا وماء(1/164)
ولمثل لهذا دأب السلف الصالح على كثرة التوصية بضرورة مثل هذا الاختبار ، كقول سيد التابعين الحسن البصري : ( اعتبروا الناس بأعمالهم ودعوا قولهم ، فان الله لم يدع قولا إلا جعل عليه دليلا من عمل يصدقه أو يكذبه ، فإذا سمعت قولا حسناً فرويدا بصاحبه ، فأن وافق قوله عمله فنعم ، ونعمة عين ، فآخه ، وأحببه ، وأودده ، وان خالف قولا وعملا فماذا يشبه عليك منه ، أو ماذا يخفي عليك منه ؟ إياك وإياه ، ولا يخدعنك . ) .
أنها الوصية القديمة ، ولكن القلوب تغفل ، وشهوة الوصول السريع ، أو شهوة التكاثر بالأنصار ، تهلي ، وتدعو إلى التجاوز عن العلم الموروث.
البدعة ضعف أيضا…
وضعف الضعيف يكون من بدعة كما يكون من ذنب ، وهذا ما تعارف عليه العلماء منذ القدم ، حتى إنهم كانوا ليهجرون الأخ الشقيق إذا اعتقد ببدعة ، مثل علي بن حرب بن محمد الموصلي ، هجر أخاه أحمد بسبب قوله أن لفظه بالقرآن مخلوق ، مع ثقته وصدقه . ومع سلامة قوله هذا ، واشتهاره عن البخاري أيضا ، ولكنه أنكر عليه لقرب العهد من بدعة القرآن ، وأرادوا أن لا يدندن احد بما يقرب من ألفاظ المعتزلة ويزيد حيرة العامة .
ولكن أدعياء وحدة الأمة في هذا العصر يدعون إلى التجاوز عن معاني البدع ، وسرى هذا الوهم إلى بعض الدعاة ، واسقطوا أمر البدعة كعامل من عوامل التمييز ،فوقعوا في الخطأ .
إنه خلق جميل أن تعطف على المبتدع ، وان تنصره على كافر ، وترفع الظلم عنه ، وتقف على معه في مجه من هو أكثر بدعة منه لكنه أمر خطر أن تفتح له صفوف الدعوة قبل توبته ، وأن تؤمره قبل سلامته .
تاريخ المقال4/24/2005(1/165)
الأخوة .. شعار أمتنا
التسبيح في دقائق السحر الغالية ، والتعامل الأخوي الإيماني : ركيزتان متلازمتان تقوم عليهما الجماعة المسلمة وعينان نضاحتان ، تسكبان خيرا للدعاة لا ينضب . ( أنهما ركيزتان تقوم عليهما الجماعة المسلمة ، وتؤدي بهما دورها الشاق العظيم ، فإذا انهارت واحدة منهما لم يكن هنالك دور لها تؤديه .) .
التقوى أولا ..
إنما التسبيح عنوان الإيمان وإسلام النفس لله تعالى ، والإيمان عنوان التصور الموزون ، ضمانة الثبات أمام مخاطر الطريق .
ركيزة الإيمان والتقوى أولا .. التقوى التي تبلغ أن توفي بحق الله الجليل .. التقوى الدائمة اليقظة التي لا تغفل ولا تفتر لحظة من لحظات العمر حتى يبلغ الكتاب اجله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } .
اتقوا الله ـ كما يحق له أن يتقى ـ وهي هكذا بدون تحديد تدع القلب مجتهدا في بلوغها كما يتصورها وكما يطيقها . وكلما أوغل القلب في هذا الطريق تكشفت له آفاق ، وجدت له أشواق . وكلما اقترب بتقواه من الله ، تيقظ شوقه إلى مقام أرفع مما بلغ ، والى مرتبة وراء ما ارتقى ، وتطلع إلى المقام الذي استيقظ فيه قلبه فلا ينام ! { ولا تموتن إلا وانتم مسلمون } .
والموت غيب لا يدري إنسان متى يدركه فمن أراد ألا يموت إلا مسلما فسبيله أن يكون منذ اللحظة مسلما ، وأن يكون في كل لحظة مسلما . وذكر الإسلام بعد التقوى يشي بمعناها الواسع : الاستسلام لله طاعة له ، وإتباعا لمنهجه ، واحتكاما إلى كتابه . وهو المعنى الذي تقرره سورة آل عمران كلها في كل موضع منها .
هذه هي الركيزة الأولى التي تقوم عليها الجماعة المسلمة لتحقق وجودها وتؤدي دورها .(1/166)
لا بد من الإيمان بالله ليوضع الميزان الصحيح للقيم ، والتعريف الصحيح للقيم ، والتعريف الصحيح للمعروف والمنكر ، فأن اصطلاح الجماعة وحده لا يكفي ، فقد يعم الفساد حتى تضطرب الموازين وتختل ، ولا بد من الرجوع إلى تصور ثابت للخير وللشر ، وللفضيلة والرذيلة ، وللمعروف وللمنكر ، يستند إلى قاعدة أخري غير اصطلاح الناس في جيل من الأجيال .
وهذا ما يحققه الإيمان بإقامة تصور صحيح للوجود وعلاقته بخالقه ، وللإنسان وغاية وجوده ومركزه الحقيقي في هذا الكون … ومن هذا التصور العام تنبثق القواعد الأخلاقية ، ومن الباعث على إرضاء الله وتوقي غضبه يندفع الناس لتحقيق هذه القواعد ، ومن سلطان الله في الضمائر ، وسلطان شريعته في المجتمع تقوم الحراسة على هذه القواعد كذلك .
ثم لابد من الإيمان أيضا ليملك الدعاة إلى الخير ، الآمرون بالمعروف الناهون عن المنكر ، أن يمضوا في هذا الطريق الشاق ، ويتحملوا تكاليفه ، وهو يواجهون طاغوت الشهوة في عرامتها وشدتها ، ويواجهون هبوط الأرواح ن وكلل العزائم ، وثقلة المطامع … وزادهم هو الإيمان ، وعدتهم هي الإيمان ، وسندهم هو الله … وكل زاد سوى زاد الإيمان ينفد ، وكل عدة سوى عدة الإيمان تفل ، وكل سند غير سند الله ينهار .
ويحدثنا إقبال عما فعله هذا الإيمان من توحيد التصور الذي انتبه إليه سيد قطب فيقول :
وحد الرؤى لنا والفكرة
كسهام جمعتها جعبة
نحن فكر وخيال واحد
ورجاء ومآل واحد
فهذا أقصى ما يكون م الاتحاد ، بأدنى ما يكون من الوسائل ، فالرؤية واحدة ، والفكر والخيال واحد ، والرجاء واحد ، والمصير واحد ، كل ذلك يعطيه الإيمان ، وما أسهل تناوش من ملك القلب لهذا الإيمان البسيط ، ذي الأعطيات الثمينة .
ونثني بالأخوة …(1/167)
( أما الركيزة الثانية فهي ركيزة الأخوة .. والأخوة في الله ، على منهج الله لتحقيق منهج الله .{ فلا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم ، إذ كنتم أعداء ، فألف بين قلوبكم ، فأصبحتم بنعمته إخوانا ، وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها ، كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون . } .
فهي أخوة أذن تنبثق من التقوى والإسلام … من الركيزة الأولى … أساسها الاعتصام بحبل الله ـ أي عهده ونهجه ودينه ـ وليست مجرد تجمع على أي تصور آخر ، وعلى أي هدف آخر ، ولا بواسطة حبل آخر من حبال الجاهلية الكثيرة ! { واعتصموا بحبل الله جمعياً ولا تفرقوا .. } .
هذه الأخوة المعتصمة بحبل الله جميعا نعمة يمتن الله بها لمن يحبهم من عباده دائما ( وهكذا قامت الجماعة المسلمة الأولى ـ في المدينة ـ على هاتين الركيزتين على الإيمان بالله : ذلك الإيمان المنبثق من معرفة الله ـ سبحانه ـ وتمثل صفاته في الضمائر ، وتقواه ومراقبته ، واليقظة والحساسية إلى حد غير معهود إلا في الندرة من الأحوال . وعلى الحب .الحب الفياض الرائق ، والود . والود العذب الجميل، والتكافل. التكافل الجاد العميق .. وبلغت تلك الجماعة في ذلك كله مبلغا، لولا أنه وقع ، لعد من أحلام الحالمين ! وقصة المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار قصة من عالم الحقيقة ، ولكنها في طبيعتها اقرب إلى الرؤى الحالمة ! وهي قصة وقعت في هذه الأرض ، ولكنها في طبيعتها من عالم الخلد والجنان ! وعلى مثل ذلك الإيمان ، ومثل هذه الأخوة ، يقوم منهج الله في الأرض في كل زمان ..) .(1/168)
ومن هنا كانت هذه العودة إلى محاولة تأكيد معنى الأخوة كجزء من إحياء فقه الدعوة ، فان الأخوة شرعة دعوتنا وشعارها واسمها، وميثاقها الذي واثقتنا به، وكتابها الذي كتبته على نفسها، وما زالت تأتي دعوتنا المباركة بائر جديدة من تجاربها المتكررة تسرع بها إلى ابتغاء كل وسيلة إلى هذه الفضيلة ، وتجميع أنصارها إلى الله على التحابب ، والتكافل ، والتسامح ، ومكملات هذه الرواسي الشامخات ، وكمالها أن ترى من بعد وحدة الرؤية والفكر والخيال والرجاء والمصير : وحدة القلب والروح ، بل ووحدة اللفظ ، كما أراد إقبال حين يقول :
نحن من نعمائه حلف إخاء
قلبنا والروح واللفظ سواء
عقد الأخوة ..
ويظل هذا الاتحاد يتنامى حتى يكون عقدا واجب الوفاء ، فقد تلكم ابن تيمية عن (عقد الأخوة ) هذا ، وبين أن الحقوق التي ينشئها إذا كانت من جنس ما أقره النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديثه لكل مؤمن على المؤمنين فإنما هي :
(حقوق واجبة بنفس الإيمان ، والتزامها بمنزلة التزام الصلاة والزكاة والصيام والحج ، والمعاهدة عليها كالمعاهدة على ما أوجب الله ورسوله ، وهذه ثابتة لكل مؤمن على كل مؤمن وأن لم يحصل بينهما عقد مؤاخاة . ) .
فيأتي العقد ليؤكدها أذن ، ولم يحصل خلاف إلا في التوارث عند عدم وجود القرابة كما كان الأنصار والمهاجرون يتوارثون بالتآخي الذي أقره النبي صلى الله عليه وسلم بينهم أول مقدمة المدينة ، فقد قال أكثر الفقهاء بنسخ ذلك ، وإجازة أبو حنيفة واحمد بن حنبل في أحدى الروايتين عنه .
إن هذا العقد الأخوي يزيد الواجب الإيماني ثبوتا ، وما أراه إلا كبيعة سلمه بن الأكوع الثانية رضي الله عنه يؤكد بيعته الأولى حين كانتا في ساعة واحدة يوم الحديبية تحت الشجرة ، كما جاء عنه في صحيح البخاري قوله : ( بايعنا النبي صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة ، فقال لي : يا سلمة : ألا تبايع ؟ قلت: يا رسول الله قد بايعت في الأول. قال وفي الثاني.) .(1/169)
وكذلك المسلمون : أوجب الإسلام على بعضهم البعض حقوقا ، ويتتابعون بعقد أخوة في الثاني ، زيادة خير، وابتغاء توثق، وعنصر تذكير لتنشأ الجماعة المؤلفة المتماسكة المستحكمة التي وصفها إقبال رحمه الله في رموزه حين يقول :
كل فرد بأخيه ائتلفا
مثل در في سموط آلفا
لفهم في عيشهم معترك
كل فرد بأخيه ممسك
من جذاب تتوالى الانجم
كوكب من كوكب مستحكم
وهكذا ، فأنه ليس من عمل للداعية المسلم اليوم أثمن من غدوة يهب فيها لدعوته ـ بفضل الله ـ ناشئا يغمس نفسه فيؤازره ، فيستغلظ ، فيستوي على عقد الأخوة ، يعجب الدعاة ، ويغيظ الكفار به الكفار .
آفات المجالس ..
وهذا الانغماس يؤدي إلى الاجتماع والمجالسة وبالتالي ، ولذلك وجب التعرف على المجالسة النافعة ، الابتعاد عن المجالسة الضارة .
ولابن القيم كلام موجز شامل في ذلك ، يدل على تجربة داعية من أهل الوعي ، شخص فيه أخطار المجال فقال : ( الاجتماع بالإخوان قسمان : أحدهما على مؤانسة الطبع وشغل الوقت ، فهذا مضرته أرجح من منفعته ،واقل ما فيه أنه يفسد القلب ويضيع الوقت .
الثاني : الاجتماع بهم على التعاون على أسباب النجاة والتواصي بالحق والبصر ، فهذا من أعظم الغنيمة وانفعها ، ولكن فيه ثلاث آفات :
أحدهما : تزين بعضهم لبعض .
الثانية : الكلام والخلطة أكثر من الحاجة .
الثالثة : أن يصير ذلك شهوة وعادة ينقطع بها عن المقصود . ) .
والذي يؤسف له أن مخاوف ابن القيم هذه تحولت إلى واقع تحياه بعض مجالس الدعاة الحالية ، ووجد التزين وسيلة ليظهر فينا ، وزادت الخلطة بين الدعاة عن مقدارها الذي تحتاجه الدعوة وتحولت إلى شبه بطالة وشهوة تلهي عن مقصود تجمعنا في متابعة العمل مع الناشئة والجدد ، وفي الانطلاق خلال المجتمع العام لتبليغه كلمة الإسلام .
والمرء يعجب من صغيره غيره .!(1/170)
ولو أن عادتي التزين والبطالة تقفان عند حدهما لعولج أمرهما بمجرد استنهاض وتذكير خفيفين ، ولكن هاتين الآفتين تتعديان في آثارهما ، ويتولد عن اجتماعهما خلق الضيق عن العفو ، بينما يشير استقراء الحياة الجماعية إلى ضرورة خلق التسامح والمرونة لمن يحياها.
وقد يظن البعض أن مثل هذا الكلام اقرب إلى مواعظ العامة منه إلى بحوث الدعوة ولكن من يعاني ادارة العمل اليومي للدعوة الإسلامية يدرك ضرورته ، ويعرف كم من الترف ، بل والخطر ، يمكن فيه يتعالى مثل هذه المواعظ ليهمس بمعاني فنون التخطيط والعمل السياسي في آذان من تضيق صدور بعضهم عن معاني التسامح والعفو عن صاحب الزلة والخطأ ،ولابد من اقتران التوعية العملية للداعية المسلم بالتربية الخلقية الإيمانية ، ولابد من سيرهما معا.
وهذا هو مصدر إصرار الأقدمين والمعاصرين على التوصية بسعة الصدر والتحابب الأخوي . يقدمهم الفضيل بن عياض فيقول : ( من طلب أخا بلا عيب صار بلا أخ .) فضع في حسابك عندما تعقد ( عقد الأخوة أن تتعاقد معه غير معصوم. ويتلوه رويم البغدادي الزاهد فيقول ( الفتوة : أن تعذر إخوانك زللهم ، ولا تعاملهم بما يحوجك إلى الاعتذار إليهم .) .
ويأخذ الشعراء دورهم في التوصية فيقول مشرقيهم :
لا لوم في خطأ ولا تثريبا
سامح أخاك إذا أتاك بزلة
ويقول ثالثهم :
إذا ما بدت من لك زلة
فكن أنت محتالا لزلته عذرا
أحب الفتى ينفي الفواحش سمعه
كأن به عن كل فاحشة وقرا
سليم دواعي الصدر لا باسط أذى
ولا مانع خيرا ، ولا قائل هجرا
ولكن كم أرتنا الأيام من قال هجرا ، وتراه إذا ما دعوته إلى اللين يعبس ويبسر ، ويذهب مغاضبا ، كأنما تدعوه إلى شيء نكر وإنما هي سذاجة نفس نريد أن نقيه إياها ، وإنما هو تربص العدو نريد أن نبعده عنه ، بما عرفنا عن عدونا من قعوده للدعاة صراطا أخوتهم المستقيم.(1/171)
وهاؤم تفصحوا تاريخنا ، كم من منتصر لنفسه استعجل فخاصم ، فما استطاع من قيام وكان منتصرا ، ولفته دوامة العيش المعقد فضاع في خضمها منسيا ، يأكل ويشرب ، وليس له من بعد ذلك نوع وجود .
إن جموع هؤلاء المغاضبين إنما تأخرت وضاعت في تيار الدنيويات بما كانت بموازين الأخوة تخل ، لو أنهم استقاموا على الطريقة الأولى وراغوا إلى فقد الأخوة الموروث ، لما مسهم اللغوب والضياع .
إن الفقه الذي ورثناه عن التابعي بكر بن عبد الله المزني ينص على انك : ( إذا وجدت من إخوانك جفاء فذلك لذبن أحدثته ، فتب إلى الله تعالى ، وإذا وجدت منهم زيادة محبة فذلك لطاعة أحدثتها فاشكر الله تعالى .) .
فاتهم نفسك إذا عوملت بجفاء أو رأيت نوع تقصير في حقك الذي تظنه قبل أن تبادر الهجوم .
ومثل هذا ما ورثناه عن أبي سعيد الخراز ، فانه ينص على أن : ( من أدب المريد وعلامة صدق إرادته : أن يكون الغالب عليه : الرقة والشفقة والتلطف ، والبذل واحتمال المكاره كلها عن عبيده وعن خلقه ، حتى يكون لعبيده أرضا يسعون عليها ، ويكون للشيخ كالابن البار ، وللصبي كالأب الشفيق ويكون مع جميع الخلق على هذا ، يتشكى بشكواهم ، ويغتم لمصايبهم ، ويصبر على أذاهم فان هذا مراد الله تعالى من المريدين الصادقين : أن يعطفوا على الخلق من حيث عطف الله تعلى عليهم ، ويتأدبوا بآداب الأنبياء والصديقين، وآداب أوليائه وأحبابه.) فهذان نصان قديمان من فقه الأخوة الايمانية ، يصوغهما عبد الوهاب عزام في العصر الحديث في بيتين جامعين من مثانيه ويقول :
في فؤادي بحران: ملح وعذب
وبه صرصر وريح رخاء
فهو على البغاة عصوف
وهو عذب لصاحبي وصفاء
فأنت مطالب أيها الداعية المسلم أن تملأ قلبك من مشاعر الأخوة في الله لإخوان العقيدة بقدر ما يجب أن تضع فيه من مقت أهل الباطل البغاة.
تاريخ المقال4/24/2005(1/172)
استعلاءٌ في الطريق العالي
وأول ارتفاع يرتفعه المؤمن بهمته العالية هو الاستعلاء على الجاهلية التي من حوله .
إن الهمة بمجرد أن تصل أولى درجات العلو ، تنقل صاحبها نقلة بعيدة ، وتدعه في أول صفحة من ظلاله : ( كما ينظر الكبير إلى عبث الأطفال ) .
إنهم أقزام من حوله ، يعيشون ( في المستنقع الآسن ، وفي الدرك الهابط ، وفي الظلام البهيم .) .
أما هو فسائر في … الطريق العالي . علو لم يبتدعه ، ولم يتكلفه ، ولم يحتمل للاتصاف به ، وإنما مما أنعم به رب العالمين . إنه هو ـ سبحانه ـ سمى طريقه ، وصراطه ونهجه بـ …. الطريق العالي .
وإنها لتسمية ثمينة ، يكشفها لنا الإمام ابن تيمية رحمه الله من قراءة أخرى لقول الله تعالى : ( هذا صراط علي مستقيم ) أشار إليها ابن عطية في تفسيره ، فنقل لنا عنه قال: { إن جماعة من السلف قرأوا ( علي مستقيم ) من العلو والرفعة } ثم قال ابن تيمية : ( والإشارة بهذا على هذه القراءة ، إلى الإخلاص ـ لما استثنى إبليس من اخلص ـ ، قال الله له : هذا الإخلاص طريق رفيع مستقيم ، لا تناله أنت بإغوائك أهله ) أي قال إبليس : { فبعزتك لأغوينهم أجمعين ، إلا عبادك منهم المخلصين } .
فهو طريق عالٍ مستقيم ، كما اسماه الله تعالى ، والطرق غير واطئة ..
والسالك في هذا الطريق العالي ، يستعلي منذ أول قدم يضعها في بدايته ، ويحلق في الأعالي ، تبعا لسلوكه هذا ، وبمجرد سلوكه ، من غير رفرفة جناح ، أو جهد أخر ، أو ما يظنه السطحي تطاولا وتكبرا .
ومن هنا كان نظره ذاك طبيعيا ، إذ لما كان هو في العلو وطريق السماء ، فهو إذن لا يبصر من الأسفل وطرق الأرض إلا صغارا ، وتلك ظاهرة فيزيائية ، ومعادلة رياضية ، كما أنها حقيقة إيمانية .(1/173)
ومن هنا كان المكان الطبيعي المعتاد للمسلم هو مكان القيادة والتصدر ، ولا التبعية والانقياد ، إذ الإسلام الذي يحمله هو ( بطبيعته عقيدة استعلاء ، ومنهج وقياده ) ولذلك أمر الله المسلمين ألا يهنوا ، وان ينتهوا عن دعوة الكفر إلى المسالمة ، والعيش المتصالح ، فقال سبحانه { ولا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم } .
( وأنتم الأعلون اعتقادا وتصورا للحياة . وأنتم الأعلون ارتباطا وصلة بالعلي الأعلى ، وأنتم الأعلون منهجا وهدفا وغاية .. وأنتم الأعلون شعورا وخلقا وسلوكا .. ثم أنتم الأعلون قوة ومكانا ونصرة ، فمعكم القوة الكبرى { والله معكم } فلستم وحدكم … إنكم في صحبة العلي الجبار القادر القهار ، وهو لكم نصير حاضر معكم يدافع عنكم .وابتغاء رسوخ هذا الشعور في نفوس المؤمنين ، كرره الله تعالى فقال : { وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } .
إنه الاستعلاء على قوى الأرض الحائدة عن منهج الإيمان . وعلى قيم الأرض التي لم تنبثق من أصل الإيمان ، و على تقاليد التي لم يصغها الإيمان ، وعلى قوانين الأرض التي لم يشرعها الإيمان وعلى أوضاع الأرض التي لم ينشئها الإيمان .
الاستعلاء ، مع ضعف القوة ، وقلة العدد ، وفقر المال ، كالاستعلاء مع القوة ، والكثرة والغنى على السواء .
الاستعلاء الذي لا يتهاوى أمام قوة باغية ، ولا عرف اجتماعي ، ولا تشريع باطل ، ولا وضع مقبول عند الناس ولا سند له من الإيمان.
وليست حالة التماسك والثبات في الجهاد إلا حالة واحدة من حالات الاستعلاء التي يشملها هذا التوجيه الإلهي العظيم .(1/174)
والاستعلاء بالإيمان ليس مجرد عزمة مفردة ، ولا نخوة دافعة ، ولا حماسة فائرة ، إنما هو الاستعلاء القائم على الحق الثابت المركوز في طبيعة الوجود . الحق الباقي وراء منطق القوة ، وتصور البيئة ، وإصلاح المجتمع ، وتعارف الناس ، لأنه موصول بالله الحي الذي لا يموت .
إن للمجتمع منطقه السائد وعرفه العام وضغطه الساحق ووزنه الثقيل على من ليس يحتمي منه بركن ركين ، وعلى من يواجهه بلا سند متين . وللتصورات السائدة والأفكار الشائعة إيحاؤها الذي يصعب التخلص منه بغير الاستقرار على حقيقة تصغر في ظلها تلك التصورات والأفكار ، والاستمداد من مصدر أعلى من مصادرها واكبر وأقوى .
إن المؤمن هو الأعلى … الأعلى سندا ومصدرا ، فما تكون الأرض كلها ؟ وما يكون الناس ؟ وما تكون القيم السائدة في الأرض ، والاعتبارات الشائعة عند الناس ؟ وهو من الله يتلقى ، والى الله يرجع ، وعلى منهجه يسير ؟
وهو الأعلى إدراكا وتصورا لحقيقة الوجود ، فالإيمان بالله الواحد ، في هذه الصورة التي جاء بها الإسلام ، هو أكمل صورة للمعرفة بالحقيقة الكبرى ، وحين تقاس هذه الصورة إلى ذلك الركام من التصورات والعقائد والمذاهب ، سواء مت جاءت به الفلسفات الكبرى قديما وحديثا وما انتهت إليه العقائد الوثنية والكتابية المحرفة ، وما اعتسفته المذاهب المادية الكالحة … حين تقاس هذه الصورة المشرقة الواضحة الجميلة المتناسقة ، إلى ذاك الركام وهذه التعسفات ، تتجلى عظمة العقيدة الإسلامية كما لم تتجل قط . وما من شك أن الذين يعرفون هذه المعرفة هم الأعلون على كل من هناك .(1/175)
وهو الأعلى تصورا للقيم والموازين التي توزن بها الحياة والأحداث والأشياء والأشخاص . فالعقيدة المنبثقة من المعرفة بالله ، بصفاته كما جاء بها الإسلام ، ومن المعرفة بحقائق القيم في الوجود الكبير لا في ميدان الأرض الصغيرة . هذه العقيدة من شأنها أن تمنح المؤمن تصورا للقيم أعلى واضبط من تلك الموازين المختلفة في أيدي البشر ، الذين لا يدركون إلا ما تحت أقدامهم ولا يثبتون على ميزان واحد في الجبل الواحد بل في الأمة الواحدة ، بل في النفس الواحدة من حين إلى حين .
وهو الأعلى ضميرا وشعورا ، وخلقا وسلوكا ، فان عقيدته في الله ذي الأسماء الحسنى والصفات المثلى ، هي بذاتها موحية بالرفعة والنظافة والطهارة والعفة والتقوى ، والعمل الصالح والخلافة الراشدة فضلا عن إيحاء العقيدة عن الجزاء في الآخرة ، الجزاء الذي تهون أمامه متاعب الدنيا وآلامها جمعيا ، ويطمئن إليه ضمير المؤمن ، ولو خرج من الحياة الدنيا بغير نصيب .
وهو الأعلى شريعة ونظاما . وحين يراجع المؤمن ك لما عرفته البشرية قديما وحديثا ويقيسه إلى شريعته ونظامه ، فسيراه كله أشبه بمحاولات الأطفال وخبط العميان ، إلى جانب الشريعة الناضجة والنظام الكامل . وسينظر إلى البشرية الضالة من عل في عطف وإشفاق على بؤسها وشقوتها ، ولا يجد في نفسه إلا الاستعلاء على الشقوة والضلال .
عزة …. هي الجناح
ولكن …لن يتمكن المسلم من أن يذوق هذا الاستعلاء على من في الأرض من القوى الباطلة ، والتصورات الباطلة ، والقوانين الباطلة ، حتى يعلو هو عن الأرض نفسها وقيودها ، وشهواتها ، وندائها ، لذائذها الموهومة .
أنه علو عن الأرض ، اسمه في قاموسنا : العزة الإيمانية .
( والعزة الصحيحة حقيقة تستقر في القلب قبل أن يكون لها في مظهر دنيا الناس حقيقة تستقر في القلب فيستعلي بها على كل أسباب الذلة والانحناء لغير الله ..(1/176)
حقيقة يستعلي بها على نفسه أول ما يستعلي .. يستعلي بها على شهواته المذلة ، ورغائبه القاهرة ، ومخاوفه ومطامعه من الناس ومن غير الناس ومتى استعلى على هذه فان يملك احد وسيلة لإذلاله وإخضاعه ، فإنما تذل الناس شهواتهم ورغباتهم ، ومخاوفهم ومطامهم ومن استعلي عليها فقد استعلى على كل وضع وعلى كل شيء وعلى كل إنسان ، وهذه هي العزة الحقيقية ذات القوة والاستعلاء والسلطان !
إن العزة ليست عنادا جامحا يستكبر على الحق ويتشامخ بالباطل . وليست طغيانا فاجرا يضرب في عتو وتجبر وإصرار وليست اندفاعا باغيا يخضع للنزوة ويذل الشهوة .وليست قوة عمياء تبطش بلا حق ولا عدل ولا إصلاح … كلا ! إنما العزة استعلاء على شهوة النفس، واستعلاء على القيد والذل ، واستعلاء على الخضوع الخانع لغير الله ، ثم هي خضوع لله وخشوع ، وخشية لله وتقوى ، ومراقبة لله في السراء والضراء , ومن هذا الخضوع لله ترتفع الجباه .. ومن هذه الخشية لله تصمد ما يأباه . ومن هذه المراقبة لله لا تعني إلا برضاه .
وإذا ذاق السمل حقا عرف حين يذوقها إنها أعظم لذة تتضافر دونها كل لذائذ الطعام والنساء والوظائف الكبيرة ، وعرف صدق عزم حين يقول :
خير ما لذة الكريم الإباء .
لذلك كان دأب إقبال أن يستنهض من التصق بالأرض ، أو من استخفى فولج كهوف الأرض ، خوفا أو تكاسلا وتقاعدا ، فيدعوه إلى الخروج من جاذبيتها ، وخداع أوهامها ، والتحليق عاليا عاليا …
أنت يا من يطير منك جناح
دودة في ظلمة الترب تراح
مستكين تشتكي جور الزمان
قد أصيب الذل من هجر القرآن
قد هبطت الأرض طهرا كالندى
بالكتاب الحي أمسكت يدا
فإلام العيش في الترب ؟ ارحلا
اصعدن فوق السماوات العلي(1/177)
إن المسلم الحق لا يلتصق بالأرض يوما ، ولا يكون في المؤخرة يوما ، لأنه يشعر بما هو فيه من ( تبعه الوصاية على هذه البشرية في مشارق الأرض ومغاربة ، وتبعة القيادة في هذه الأرض للقطعان الضالة ، وهدايتها إلى الدين القيم، والطريق السوي .
لا رخاوة ، ولا حل وسط ، بل …. إرادة تتغير …
ومن هذا الشعور بهذه المهمة القيادية صرت تجد إرادة التغيير صفة لازمة وديدنا مستمرا للمستعلين ، المتسامين في فلك الاستعلاء …. لا يتنازلون ، ولا يهبطون درجة ، ولا يتلونون ، ولا يرضون بوسط ومناصفة ، ولا يكتفون بدعاء ، ولا بقصائد الجاهلية ، وتغيير مجرى التاريخ الذي يريده الطواغيت .
ويومها ، ظن مسيلمة الكذاب أن الأمر شهوة تسلط ، ونزوات ورغبة استعباد للناس، فجاء يعرض على النبي صلى الله عليه وسلم مناصفة ، ثمنها الكف والتهادن ، ولم يكن المسكين يدري أي علو في التوحيد يستحيل معه التنازل عن شيء من متمماته. وفوجئ برسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده قطعة جريدة سعف نخل يقول له :
( لو سألتني هذه القطعة ما اعطيتكها . ولن أتعدى أمر الله فيك . ولئن أدبرت ليقونك الله ) .
والله ، ما يكون جواب عصبة الإيمان على أهواء الأرض وأحزاب الباطل حين تعرض اليوم عروض الحلول الوسطى إلا جواب النبي صلى الله عليه وسلم لمسيلمة و إلا أن تعلنها صراحة : لو سألتمونا أي تنازل مهما قل فلن ننزل لكم ، ولن نتعدى أمر الله فيكم .. فأمركم بالمعروف والحسنى وننهاكم عن المنكر الذي انتم فيه ، فإن توليتم فليعفرنكم الله .
( ويستحيل تلفيق منهج نصفه من هذا ونصفه من هناك . وكما أن الله لا يغفر أن يشرك به فكذلك هو لا يقبل منهجا مع منهجه . هذه كتلك سواء بسواء ، لان هذه هي تلك على وجه اليقين .(1/178)
هذه هي الحقيقة ينبغي أن تكون من القوة والوضوح في نفوسنا ونحن نقدم الإسلام للناس بحيث لا نتلجلج في الإدلاء بها ولا نتركهم حتى ، يستيقنوا أن الإسلام حين يفيئون إليه سيبدل حياتهم تبديلا .. سيبدل تصوراتهم عن الحياة كلها ، كما سيبدل أوضاعهم كذلك ، ويجعلهم اقرب إلى المستوى الكريم اللائق بحياة الإنسان . ولن يبقى لهم شيء من أوضاع الجاهلية الهابطة التي هم فيها ، اللهم إلا الجزئيات التي يتصادف أن يكون لها من جزيئات النظام الإسلامي شبيه . وحتى هذه لن تكون هي بعينها ، لأنها ستكون مشدودة إلى اصل كبير يختلف اختلافا بينا عن الأصل الذين هم مشددون إليه الآن، أصل الجاهلية النكد الخبيث ! وهو في الوقت ذاته لن يسلبهم شيئاً من المعرفة العلمية البحتة ، بل سيدفعها قوية إلى الأمام.
يجب ألا ندع الناس حتى يدركوا أن الإسلام ليس هو أي مذهب من المذاهب الاجتماعية الوضعية ، كما أنه ليس أي نظام من أنظمة الحكم الوضعية ، بشتى أسمائها وشياتها وراياتها جمعيا ، وإنما هو الإسلام فقط ! الإسلام بشخصيته المستقلة . الإسلام الذي يحقق للبشرية خيرا مما تحلم به كله من وراء هذه الأوضاع . الإسلام الرفيع النظيف المتناسق الجميل الصادر مباشرة من الله العلي الكبير .) .
والمسلم لا يقنع حتى يرى قومه مثالا لهذه النظافة والتناسق والجمال . ولا يكيفه النور الضعيف ، ولا البصيص ، وإنما يبغى الشمس الكاملة ، فيأخذ يترنم :
نحن لا نرضى بنار الغسق
نحن لا نرضى بنور الشفق
نحن لا نرضى بنجم الصبح لاح
لا ولا نرضى تباشير الصباح
نحن لا نرضى نجوما لامعة
إنما نبغي شموسا طالعة(1/179)
لهذا كان من علامة صدق المسلم أن لا يرضى بتسلط الجاهلية ، ومضت أعراف الدعاة بذلك ، وقالوا : ( أنه من كان يؤمن بالله ورسوله ، لا يمكنه أن يرضى بتسلط النظام الباطل أو يعقد عن بذل نفسه وماله في سبيل إقامة نظام الحق . فكل من يبدو في أعماله شيء من الضعف والاستكانة في هذا الباب ، فأعلم أنه مدخول في إيمانه ، مرتاب في أمره ) .
ووقف شاعرهم يعلن هذه المادة من دستور العمل :
لسنا نريد مناهجا وضعية
قرآننا السامي أعز وأرفع
سنحطم الأغلال عن أعناقنا
ونصد تيار الفساد ونمنع
ثم يعود فيؤكد في وقفة أخرى :
أنا مسلم لا أرتضيها عيشة
نكراء بين مشرق ومغرب
أنا مسلم لا أدعيها فكرة
أوحي إلى بها دماغ الأجنبي
أنا مسلم آمنت أن محمدا
قد جاء بالشرع الحنيف الأصوب
ويعود فقيه الدعوة الأستاذ المودوي ، يشرح مرة أخرى لمن عساه في حاجة إلى مزيد بيان ، فننطلق من لسانه الكريم الكلمات المجلجلة :(1/180)
( إن هذه الشريعة الإلهية لم تنزل للأقزام الخانعين ، ولا لعبدة الأهواء وموالي الدنيا ، ولا لأمثال الريشة الطائرة في مهب الريح أو أمثال الغثاء الجاري مع تيار الماء ، ولا الحربائيين الذين يتلونون بكل لون من ألوان البيئة ، وإنما نزلت لأولئك الليوث الأبطال الذين يجدون أنفسهم أقوياء على تغيير مهب الريح ، ومقاومة التيار وتحويل مجراه إلى الجهة الصحيحة ، والذين يحبون صبغة الله فوق سواها ، وقد عزموا على أن يصبغوا جميع العالم بهذه الصبغة. إن الكائن الذي يقال له { المسلم } لم يخلق للانسياق مع التيار ، وإنما الغاية من وراء خلقه في هذه الدنيا أن يوجه تيار الحياة في الوجهة التي هي وجهة الحق والصواب بحسب إيمانه وعقيدته ، ولئن كان هذا التيار قد غير مجراه من هذه الوجهة الصحيحة ، فكاذب في دعوى الإسلام من يرضى بها المجرى المتحول عن وجهة الصواب . إن الذي هو مسلم حقا وبكل معنى الكلمة لا جرم أن يزاحم سير هذا التيار المنحرف ، ويبذل غاية وسعه في صرف مجراه ، ولن يهمه هذا الجهد نيل الفوز أو حصول الخيبة ، بل إنه سيتحمل ما يناله فيه من الخسارة والضرر ، ولن تنهزم روحه المكافحة حتى وإن انكسرت أعضاؤه من جهد الصراع مع التيار، وتفككت أوصاله وألقته الأمواج على الشاطئ مهزولا مغشيا عليه .
والحق : إن المفكر المعتد بفكره ، المعتز بنفسه ، لا يرى في الواقع حجة . فكم من واقع هو زور أو جور أو ضرر . إن جهاد المصلحين في الأمم أكثره لإزالة الباطل والشر ، أي إزالة الواقع المكروه وإثبات النافع . ولعل أكبر ما يميز أمة من امة ، وإنسانا من آخر ، هو الخضوع للواقع أو الاستكبار عليه . ) .(1/181)
والمسلم ـ لأنه مسلم ـ لا يعرف إلا الاستكبار على الواقع المنحرف عن الاستقامة التي أراداها الله ، ووظيفة الداعية ( هي إقصاء الجاهلية من قيادة البشرية ، وتولي هذه القيادة على منهجه الخاص ، المستقل الملامح ، الأصيل الخصائص … يريد بهذه القيادة الرشيدة الخير للبشرية ، واليسر الخير الذي ينشأ من رد البشرية إلى خالقها ، واليسر الذي ينشأ من التنسيق ، ترتفع إلى المستوى الكريم الذي أراده الله لها ، وتخلص من حكم الهوى . أو كما قال ربعي بن عامر حين سأله رستم قائد الفرس : ما الذي جاء بكم ؟ فكان جوابه : الله ابعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده ، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة ، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام .
ولم يجيء الإسلام إذن ليربت على شهوات الناس الممثلة في تصوراتهم وأنظمتهم و أوضاعهم وعاداتهم وتقاليدهم ، سواء منها ما عاصر مجيء الإسلام ، أو في الغرب سواء ، إنما جاء ليلغي هذا كله إلغاء ، وينسخه نسخا ، ويقيم الحياة البشرية على أسسه الخاصة .) .
فهو إقصاء بكل ما تحمله الكلمة من معنى .
أي قلع هذه النبتة الضارة ، ورميها بعيدا . وذلك لا يكون بمجرد الدعاء ، ولا الخطب والقصائد ، وإنما بشيء آخر أكثر نفاذا وتأثيرا ، سموه للحر الذي يفهم ، فقالوا :
إسلامنا لا يستقيم عموده
بدعاء شيخ في زاويا المسجد
إسلامنا لا يستقيم عموده
بقصائد تتلى لمدح محمد
إسلامنا نور يضئ طريقنا
إسلامنا نار على من يعتدي(1/182)
وضمانة ذلك استمرار هذا الاستعلاء ، ورفض التنازل ، بداية ، وخلال السير ، ونهاية ، فان عروض التنازل لن تنقطع ، والدعاية للحل الوسط لن تسكت و( هي محاولات أصحاب السلطان مع أصحاب الدعوات دائما . محاولة إغرائهم لينحرفوا ـ ولو قليلا ـ عن استقامة الدعوة وصلابتها ، ويرضوا بالحلول الوسط التي يغرونهم بها في مقابل مغانم كثيرة . ومن حملة الدعوات من يفتن بهذا عن دعوته لأنه يرى الأمر هينا ، فأصحاب السلطان لا يطلبون إليه أن يترك دعوته كلية ، وإنما هم يطلبون إليه تعديلات طفيفة ليلتقي الطرفان في منتصف الطريق ، وقد يدخل الشيطان على حامل الدعوة من هذه الثغرة ، فيتصور أن خير الدعوة في كسب السلطان إليها ولو بالتنازل عن جانب منها .
ولكن الانحراف الطفيف في أول الطريق ينتهي إلى الانحراف الكامل في نهاية الطريق . وصاحب الدعوة الذي يقبل التسليم في جزء منها ولو يسير ، وفي إغفال منها ولو ضئيل ، لا يملك أن يقف عندما يسلم به أول مرة ، لان استعداده للتسليم يتزايد كلما رجع خطوة إلى الوراء .(1/183)
والمسألة مسألة إيمان بالدعوة كلها ، فالذي ينزل جزء منها مهما صغر، والذي يسكت عن طرف منها مهما ضؤل ، لا يمكن أن يكون مؤمنا بدعوته حق الإيمان . فكل جانب من جوانب الدعوة في نظر المؤمن هو حق كالآخر ، وليس فيها فاضل ومفضول ، وليس فيها ضرورة ونافلة ، وليس فيها ما يمكن الاستغناء عنه ، وهي كل متكامل يفقد خصائصه كلها حين يفقد احد أجزائه ، كالمركب يفقد خواصه . ومن هنا كان من شرط الإيمان الذي لا يتم إلا به أن يغير صاحبه المنكر بقلبه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من رأي منكم منكرا فليغيره بيده فان لم يستطيع فبلسانه ، فان لم يستطيع فبقلبه وذلك اضعف الإيمان .) فيعتقد كراهيته وبطلانه ، ليحجبه ذلك عن الرضا يوما ببعض وجوه المنكر وأشكاله المتعددة إذا تعرض للمساومة ، وما يكون التنازل من شيء من الإسلام إلا ليحل محله في القلب شيء من أضداده من صور الباطل والمنكر ، وهو وان لم يكن إزالة وتغيير ـ كما يقول الإمام النووي ـ إلا انه مقدمة للتغيير وتهيؤ له وإعداد النفس لتغييره فعلا ، لان الإنسان ، عادة ، لا يزيل شيئا يحبه ، وإنما يزيل ويغير شيئا يكرهه ، فكراهة الشيء مقدمة لإزالته وسابقة لتغييره ، فجاز إطلاق اسم التغيير على كراهة القلب للمنكر بهذا الاعتبار . وكراهة القلب للمنكر تجعل القلب حيا عامرا بالإيمان ذا حساسية كافية ضد المنكرات والفساد ، ولا يسع المسلم ترك هذه الكراهية ، وإذا فقدها كان ذلك علامة مرض لقلبه ، فليسارع إلى تطبيبه بعلاج الإيمان قبل فوات الأوان ، وقد اعتبر الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى عدم الإنكار القلبي ردة عن الإسلام ، فقد قال رحمه الله في الفتاوى5/128 : والمرتد من أشرك بالله تعالى ، أو كان مبغضا للرسول صلى الله عليه وسلم ولما جاء به ، أو ترك إنكار منكر بقلبه .(1/184)
لا خوف ولا ذل ، بل رفض وبذل . وما دام الأمر كذلك ، فان الداعية يقف موقف التحدي الواضح ، ويبدأ صراعه مع أئمة الجاهلية ، ويعلي صوته بنداء الإيمان …
يا هذه الدنيا اصيخي واشهدي
أنا بغير محمد لا نقتدي
لا رأسمال الغرب ينفعنا ولا
ولا فوضى شيوعي سخيف أبلد
وسطا نعيش كما يريد إلهنا
لا نستعير مبادئا ، ولا نجتدي
لكنه يعلم إذ يقول ذلك أن الأمر أمر جد ، وما هو بالهزل ، وانه لابد له من تعب ونصب ( فأمر العقيدة الرخاوة فيه ولا تميع ، ولا يقبل أنصاف الحلول ولا الهزل ولا الرخاوة . انه عهد الله مع المؤمنين ، وهو جد وحق ، فلا سبيل فيه لغير الجد والحق … وله تكاليف شاقة . نعم ! ولكن هذه طبيعته .أنه أمر عظيم . أعظم من كل ما في هذا الوجود فلابد أن تقبل عليه النفس إقبال الجاد القاصد العارف بتكاليفه ، المجتمع الهم والعزيمة ، المصمم على هذه التكاليف . ولابد أن يدرك صاحب هذا الأمر انه إنما يودع حياة الدعة والرخاء والرخاوة ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وقد نودي للتكليف ـ : (( مضى عهد النوم يا خديجة )) وكما قال له ربه : (( أنا سنلقى عليك قولا ثقيلا )).
ولابد من تجوال ،وذهاب وإياب ، ولفحة شمس …
قد ترحلنا من الفج العميق
لا نبالي بقريب أو سحيق
قد غنينا عن مبيت ومقيل
وعن الأمواه والظل والظليل
ثم بعد هذا لابد من تفويت فرص دنيوية .
وما أحلى هذا التفويت عند الداعية وما ألذه ، ولكن من لا عقيدة لهم ولا نهج في الحياة ممن حوله : من أقاربه معارفه وجيرانه في السكن والسوق والوظيفة ، يظنون ذلك حرماناً ، ويدعونه ـ من باب الرفق به ـ لان يغمض عينه من أمور وأمور ، لئلا يحرم نفسه من فرص شراء وترقيات يتمنونها له .
وقديما ، تعرض الداعية الزاهد الثقة محمد بن كناسة الكوفي لمثل هذا الرفق الموهوم، فأرسلها أبياتا رائعة ، كانت جوابا لصحبه ، وأرادها لكل الدعاة من بعده، يرسلونها جوابا إن أعوزتهم البلاغة …(1/185)
يقولون لو اغضمت لازددت رفعة
فقلت لهم : أني إذن لحريص
يكلم وجهي لا أبا لأبيكم
مطامع عنها للكرام محيص
ماشي دوين القوت والعرض وافر
وبطني عن جدوى اللئام خميص
سألقي المنايا لم أخالط دنية
ولم تسر بي في المخزيات قلوص
وإنما التغميض شرعة الأذلاء والضعفاء والجماهير الخائرة . والضعف ليس عذرا ، بل هو لجريمة ، فما يريد الله لأحد أن يكون غفيا ، وهو يدعو الناس كلهم إلى حماه يعتزون به والعزة لله . وما يريد الله لأحد أن ينزل طائعا عن نصيبه في الحرية ـ التي في ميزته ومناط تكريمه ـ أو أن ينزل كارها . والقوة المادية ـ كائنة ما كانت ـ لا تملك أن تستعبد إنسانا يريد الحرية ، ويستمسك بكرامته الآدمية . فقصارى ما تملكه تلك القوة أن تملك الجسد ، تؤذيه وتعذبه وتكبله وتحبسه . أما الضمير . أما الروح . أما العقل . فلا يملك أحد حبسها ولا استذلالها، إلا أن يسلمها للحبس والإذلال !
من ذا الذي يملك أن يجعل أولئك الضعفاء تبعا للمستكبرين ، في العقيدة ، وفي التفكير، وفي السلوك ، من ذا الذي يملك أن يجعل أولئك الضعفاء يدينون لغير الله ، والله خالقهم ورازقهم وكافلهم دون سواه ؟ لا احد . لا احد إلا أنفسهم الضعيفة. فهم ضعفاء لا لأنهم أقل قوة مادية من الطغاة . ولا لأنهم أقل جاها أو مالا أو منصبا أو مقاما … كلا ، أن هذه كلها أعراض خارجية لا تعد بذاتها ضعفا يلحق صفة الضعف بالضعفاء . إنما هم ضعفاء لان الضعف في أرواحهم وفي قلوبهم وفي نخوتهم وفي اعتزازهم بأخص خصائص الإنسان ! .
تاريخ المقال4/24/2005(1/186)