مقالات إسلامية
دروس وعبر
دكتور
علاء إسماعيل الحمزاوي
الهجرة انطلاقة وبناء
الحمد لله القائل في حديث قدسي : "يا محمد لو أنهم سلكوا إلي كل طريق واستفتحوا علي كل باب ما فتحت لهم حتى يأتوا خلفك". والصلاة والسلام علي رسول الله.
وبعد ..
فلماذا كانت الهجرة انطلاقة وبناءً؟ والإجابة تقودنا لسؤال آخر: لماذا كان التأريخ بالهجرة؟ في عهد عمر بن الخطاب جاءه رجل بصحيفة تثبت دينا له علي رجل موعده في شهر شعبان، لكن أيّ شعبان؟ لم تثبت الصحيفة ذلك، فكان داعيا لوضع تاريخ عربي يؤرخ به العرب أحداثهم، فقيل: نؤرخ كما تؤرخ الفرس وكانوا يؤرخون بأسماء ملوكهم، وقيل نؤرخ كما تؤرخ الروم ابتداء من الإسكندر المقدونى، وقيل: نؤرخ بمولد النبي وقيل: نؤرخ بهجرة النبي، وقيل: نؤرخ بوفاة النبي.. فاختار عمر التأريخ بالهجرة؛ لأنه نقطة تحوّل خطيرة في حياة البشرية، حيث كانت انطلاقة وبناءً، انطلاقة لقيام دولة إسلامية كبري فتحت العالم شرقا وغربا، وبناء حضارة إسلامية عربية ذات آفاق استمدت أسسها من القرآن والسنة، سجلها التاريخ، بل وصار علي هديها الآخرون إلي عهد قريب وأقامت أوربا حضارتها عليها.
والحديث عن حادث الهجرة طويل ذو شجون، لا تملّ منه الأسماع، ولا يسعنا الوقت للإفاضة فيه ؛ ومن ثم فحسبنا الإيجاز مع إبراز أهم ما يستوقف المسلم ليفيد منه، وينبغي أن نقف ـ بادئ ذي بد ـ عند الحدث نفسه ، إذ نري أنه يؤكد للمسلم علي الهجرة من مكان يهان فيه أو يُمسّ فيه دينه بسوء إلي مكان يُعظَّم فيه قدْر هذا الدين ، ويُرفع شعاره إعلاءً لكلمة الحق .(1/1)
هذا هو ما فعله رسول الله بعد أن ضاقت به السبل في مكة ، وضاقت علي المسلمين الأرض بما رحبت ؛ إذ بلغ أذي المشركين لرسول الله غاية قصوي حينما أدميت قدماه، حتى استأذنته الملائكة في أن يطبق الله عليهم الجبلين أو يغرقهم جميعا، فرفض رحمةً منه بهم، (عسي أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله)، ومن ثم أذن الله له ص ولصحابته بالهجرة، فأمر النبي ص صحابته بأن يسبقوه في ذلك
وبدأ الصحابة يهاجرون واحدا تلو الآخر في خفاء ، وقد حال المشركون بكل قواهم دون هذه الهجرة ، فكانوا يسلبون المهاجر كل ما يملك من أهل ومال، تمّ هذا الأمر مع جميع المسلمين الذين سبقوا الحبيب إلي المدينة ما عدا الفاروق عمر، إذ هاجر علنا بعد أن طاف بالبيت ، وأعلن إنذاره الشديد لمشركي مكة بالهلاك لمن يعترضه ، ومن ثم فما تبعه إلا ضعاف المسلمين يحتمون باحتماه .
من ناحية أخري لما علم المشركون بفعل رسول الله ، اجتمعوا في دار الندوة عليه، واختلفت الآراء ما بين الطرد أو الحبس أو القتل ، واتفقوا بإيعاذ من إبليس علي آخر آرائهم، لكن عناية الله قررت حماية حبيبه ؛ تصديقا لوعده إياه بالأمن في قوله تعالى: {والله يعصمك من الناس } ومن ثم نقل الله ما دار في الاجتماع إلي النبي ، فقال له: {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين} .(1/2)
ومن ثم بدأ النبي يستعد للهجرة ، فأرجي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عليّا بعده ليؤدي الودائع التي كانت مودعة لديه من مشركي أهل مكة . كما استأخر أبا بكر ليصطحبه في رحلته، فأعدّ له العدة كاملة، وفي اليوم الموعود والمشركون علي باب بيته منتظرون خروجه لقتله، استخلف عليّا مكانه في فراشه وتغطي بغطائه ، ورمي المشركين بحبات من التراب قائلا: "شاهت الوجوه وعميت الأبصار وضلت القلوب، وتلا مطلع سورة يس {.. وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون}. ثم خرج مع صاحبه ولم يروه.
استعان النبي بأحد المشركين ليدله علي صواب الطريق بعد أن أمنه ، كما كُلف عبد الله بن أبي بكر بكشف الطريق لأمن الرسول وصاحبه ، وكلفت أسماء بنت أبي بكر بإعداد الزاد وتوصيله إلي النبي وأبيها أثناء الرحلة الشاقة دون أن يراها أحد ، وكان أبو بكر يمشي أمام النبي تارة وخلفه تارة وعن يمينه تارة وعن شماله أخري ، خوفا علي رسول الله .
لما وصل إلي غار ثوء دخلا الغار، وقد استقدمه أبوبكر لأمن الطريق في الغار، وقد وصل المشركون إلي باب الغار، وكادوا يقبضون علي محمد وصحبه، حتى اشتد خوف أبي بكر واشتد بكاؤه، فطمئنه الحبيب لثقته في معية الله ونصره له، فسخر الله جنوده (حمامتان تبيضان وعنكبوت ينسج خيوطه علي باب الغار؛ تأكيدا للأعداء بأن الغار لم يفتح قطّ، فعادوا خائبي الأمل، فأعلنوا أنه من يقبض علي محمد حيا أو ميتا فله مائة ناقة، وكان أول المتسابقين سراقة بن مالك، ولحق برسول الله، فلما اقترب منه انشقت الأرض فابتلعته، تكرر هذا الأمر ثلاث مرات وهو معجزة تؤكد حماية الله لحبيبه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكان النبي يعفو عنه، حتى آمن به وأسلم وعاد مسلما.(1/3)
من ناحية كان الأنصار يخرجون كل يوم خارج المدينة في الحرارة اللاسعة ويصعدون النخل ليروا النبى، وهم في أشد الفرح برسول الله رجالا ونساء صغارا وكبارا، حتى وصل إلي المدينة ، واستقر بها ، وكان أول ما قام به أن أرسي قواعد بناء المجتمع الجديد، فقام بالآتى: بناء المسجد والمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وإصدار صحيفة دستورية تنظم العلاقة بين المسلمين و اليهود في المدينة ، تشريع الجهاد.
بهذا كانت الهجرة نقطة تحول خطيرة في حياة البشرية، فلولاها بفضل الله ما كان للإسلام أن ينتشر بهذه الصورة التي رأيناها فيما بعد شرقا وغربا، شمالا وجنوبا. لهذا ينبغي أن نقف عند هذا الحادث العظيم ؛ لنلتقط بعض الصور أو نستنبط بعض الدروس؛ لنفيد منها، فتنفعنا في حياتنا وآخرتنا، من تلك الدروس:
ـ الصبر والاحتمال للأذى، فالمؤمن لا يكون مؤمنا حقا إلا إذا اختبر ونجح، فال تعالى: "أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون"، فلابد من الفتنة والابتلاء، وهذا ما حدث مع رسول الله والصحابة، فما أُمروا بالهجرة إلا بعد أذي وتعذيب بلغ من رسول الله أن أدميت قدماه في موقف من المواقف.(1/4)
ـ الرحمة والعفو عن الظالم، وهذا نلمسه من موقف رسول مع الكفار المشركين قبل الهجرة وبعد الهجرة ، فقبل الهجرة طلبت منه الملائكة أن يدعو علي قومه، فرفض وقال مقالة عظيمة قالها رب العزة لنبيه إبراهيم في موقف ما، فقد جاء في الأثر أن إبراهيم من شدة غيرته علي الدين رأي رجلا علي معصية فدعا عليه فأهلكه الله، فرأي ثانيا فدعا عليه فأهلكه الله، فرأي رجلا ثالثا فدعا عليه فاستوقفه الله، وقال له: يا إبراهيم أنت رجل مستجاب الدعوة، فلا تدع علي أحد من خلقي، فأنا من عبدي علي ثلاث حالات: إما أن يتوب فأتوب عليه، وإما أن يخرج من صلبه من يعبدني لا يشرك بي شيئا، وإما أن يموت فيلقاني فإن شئت عذبته وإن شئت عفوت عنه. ورسول الله قال للملائكة: لا عسي أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئا، وقال كذلك: اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون. وبعد فتح مكة قال لأهل مكة: لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين.
ـ وجوب الهجرة من مكان فيه معصية لله أو أذي للإنسان أو ضيق للرزق بعد بذل كل جهد ممكن من أجل الإصلاح والتغيير، فإن لم يفعل هذا فقد ظلم نفسه، فاستحق عليه العقاب من الله، تصديقا لقوله تعالى: {إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا} النساء 97.
ـ إصرار المسلمين الضعاف علي الهجرة بالرغم من الأذي الشديد لهم من المشركين يؤكد لنا أن الإنسان لابد أن يكون صاحب رأى، يستخير فيه الله، والرأي تعقبه عزيمة قوية تساعده علي الإقدام علي ما يريد مهما كانت الظروف، ولا يتردد في أمره، ولذلك يقول الشاعر:
إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة فإن فساد الرأي أن تترددا
ولله در القائل :
واستأن حلمك في أمورك كلها وإذا عزمت علي الهوي فتوكل(1/5)
وإذا تشاجر في فؤادك مرة أمران فاعمد للأعفّ الأجمل
ـ حب الوطن: وهذا ما نلمسه من عبارة رسول الله الشهيرة التي خاطب بها مكة وهو مهاجر "والله إنك لأحب بلاد الله إلي ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت" ففي هذه المقالة دلالة واضحة علي مدي حب النبي لوطنه وانتمائه له، وتوكد من ناحية أخري أن حب الوطن من تمام الإيمان، ومن ثم ينبغي علي المسلم أن يقتدي برسول الله في ذلك، فيحب وطنه حبا يقتضي المحافظة عليه، بأشكالها المتعددة، كتأدية عمله بإتقان، والوقوف ضد المخربين، والمحافظة علي اللغة العربية والتسلح بسلاح العلم، ومسايرة التقدم التقني، وإلغاء الأنانية لإحلال الجماعية ...
ـ هجرة عمر علنا تؤكد لنا أن الإسلام بحاجة إلي استخدام القوة في بعض الأمور، وأن المسلم لابد أن يكون قويا ، فلا يفل الحديد إلا الحديد ، وقديما قالوا: "من لم يتذأب تأكله الذئاب"، وإذا ما ألقينا نظرة علي حال المسلمين والعرب المعاصرين نجد أننا بحاجة ماسة إلي سلوك عمر، فلابد أن يكون العرب أقوياء كي يعيشوا وسط الذئاب البشرية، وما أفظعها.
ـ إذا ما وقفنا عند أمر النبي لعلي بالاستبقاء حتى يؤدي الودائع لأصحابها نطمئن إلي أن المشركين كانوا يثقون في صدق رسول الله وأمانته، فهو حقا الصادق الأمين، وهذا الأمر يدعو المسلم ليتحلي بهذه الصفات مع كل الناس علي حد سواء.
ـ موافقة علي علي أن ينام في فراش النبي ويرتدي ببردته وهو موقن أن المشركين قد يقتلونه ظنا منهم أنه محمد، هذا الأمر يعد نموذجا رائعا للتضحية والفداء في تاريخ البشرية، ولعل ما يقوم بها الشباب الفلسطيني اليوم لا يقل بل يزيد عما قام به عليّ بن أبي طالب، فالكل نماذج يقتدي بهم.(1/6)
ـ إعداد رسول الله للهجرة آخذا بالأسباب علي الرغم من إيمانه الشديد بنصرة الله، والمتمثلة في أن يترك عليا في فراشه ، ويطلب من عبد الله بن أبي بكر أن يتحسس لهما الطريق أثناء الرحلة، وأن تقوم السيدة أسماء بإعداد الزاد لهما في خفاء ، وأن يستعين بمشرك بعد أمنه ليدله علي صواب الطريق ، وأن يستخدم بلاغته في إجابة السائل من أين أنتما ؟ فقال: "نحن من ماء " دون كذب منه ، كل هذا أخذاً بالأسباب يؤكد لنا من قرب أنه يجب علي المسلم أن يأخذ بالأسباب ويترك النتائج لله، وهذا معني التوكل في حديث النبيّ (اعقلها وتوكل)، فالتوكل هو الاعتماد علي الله مع الأخذ بالأسباب، ولله در القائل:
علي المرء أن يسعي إلي الخير جهده وليس عليه أن تتمّ المطالب
علي المرء أن يسعي إلي الخير جهده وليس عليه إدراك المقاصد
ولنعلم أن إرادة الله لا تنافي مقتضيات العقل ومعطيات الفكر البشرى، لذلك فقد جعل الله العقل في توازن مع السمع في الإيمان، فقال علي لسان أهل النار: {وقالو: لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير}. فالإسلام لا يقف أبدا عند أداء العبادات، بل ما هي إلا أركان شُيّد عليها بنيان عظيم متين، هو بنيان يستقر قويا إلي يوم القيامة مهما حاول الآخرون هدمه، غير أن قوة استقراره تنبع وتستمد قوتها من أهله ، ولعلنا نلمس هذا في استقبال الأنصار لرسول بهذا الحب العظيم، فخروجهم أياما في الحرارة الشديدة انتظاراً لرسول الله يؤكد لنا أن الإسلام لم يكن محصورا في أداء العبادات ، بل في الحب له ولربه ولرسوله والتضحية من أجله .(1/7)
ـ صحبة النبي لأبي بكر دون سواه تعطينا درسا في كيفية اختيار الصاحب، هل كان أبوبكر جديرا بهذه المنزلة عند رسول الله حتى يقول فيه: "لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن صحبة وإخوة.." والحق أن تاريخ أبي بكر يشهد له بفائق عظمته ، وحسبنا موقفه في حادث الإسراء والمعراج وهو يقول : " إن كان قال فقد صدق " لذلك سمي الصديق ، وموقفه أيضا في صحبة النبي في الهجرة ، فكان يمشي خلفه تارة وأمامه أخري وعن يمينه تارة وعن شماله أخري وكان شديد الخوف علي رسول الله ولما سأله النبي عن ذلك أجاب: "لو متُّ أنا فأنا فرد واحد، ولو متَّ أنت هلكت أمّة يا رسول الله"، هذا هو الصديق الحق، فنعمّا هو وأمثاله، وقديما قالوا: إن أخاك من وساك، وعند الشدائد تعرف الإخوان، وصديقك من صدقك. ومن ثم ينبغي أن نتخير الصديق الحسن ونتجنب صديق السوء كما قال الشاعر:
احذر مصاحبة اللئيم فإنه يعدي كما يعدي الصحيح الأجرب
يعطيك من طرف اللسان حلاوة ويروغ منك كما يروغ الثعلب
يلقاك يحلف أنه بك واثق وإذا تواري عنك فهو العقرب
اختر قرينك واصطفيه تفاخرا إن القرين إلي القرين ينسب(1/8)
ـ إذا ما وقفنا عند اجتماع دار الندوة وما أسفرعنه من نتائج، وانتقاله للنبى، وخروج النبي من بيته والمشركون علي باب البيت واقفون ، وخوف أبي بكر عليه في الغار وثقته في ربه، وما حدث لسراقة بن مالك من معجزة ، كل هذا يؤكد لنا معني واحدا يتمثل في معية الله لحبيبه محمد، فليعلم المسلم أن الله معه مادام هو من المؤمنين المتقين المحسنين ، تصديقا لقوله تعالى: {إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون}، وياهناء من يكون في معية الله؛ إذا سأله أعطاه وإذا دعاه أجابه لا سيما في ساعة العسرة ، وقد ضرب لنا القرآن أروع الأمثلة في نتيجة معية الله للعبد ، تارة مع موسي عليه السلام ، حينما أوشك فرعون وجنوده أن يدركوه ولم يكن أمامهم إلا البحر ، فقال له أتباعه : البحر أمامنا والعدو وراءنا فأين ربك ياموسي ؟ فكان الإيمان من موسي بمعية الله ، ومن ثم كان منه الاطمئنان والثقة بنصر الله في خروجه من المأزق ، فماذا أجاب موسي ؟ القرآن يصور لنا هذا الموقف الرائع في قوله تعالى: {فلما تراء الجمعان قال أصحاب موسي إنا لمدركون. قال كلا إن معي ربي سيهدين. فأوحينا إلي موسي أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم . وأزلفنا ثَمّ الآخرين . وأنجينا موسي ومن معه أجمعين . ثُم أغرقنا الآخَرين } ، والموقف الثاني مع رسول الله في الغار ، لما اشتد خوف أبي بكر عليه حتى قال له : لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا يا رسول الله ، فقال له النبي : لا تخف يا أبا بكر ، ما ظنك باثنين الله ثالثهما ؟ ثقة مطلقة من رسول الله في معية الله ، فماذا كانت النتيجة ؟ يصور القرآن هذا المشهد في قوله تعالى: {إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلي وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم } .(1/9)
ـ حفظ الحقوق وأداؤها لأصحابها: وهذا يبدو في الأمانات التي كانت مودعة عند رسول الله من قبل المشركين؛ حيث استبقي عليا ليؤديها، وشرائه المكان الذي بركت فيه الناقة من أصحابه وكانوا غلامين يتيمين، فنحن نتعلم أداء الأمانة ونتعلم أن نعطي الإنسان حقه مهما كان ضعيفا وكنت أنا قويا.
ـ الاتحاد قوة: وهذا يبدو لنا من خلال المؤاخاة التي قام بها النبيّ بين المهاجرين والأنصار حتى تقوي شوكة المسلمين.
ـ الإيثار : وهذا المبدأ نتعلمه من الأنصار الذين آثروا المهاجرين علي أنفسهم فأشركوهم في المنزل والمال والزوجة بعد طلاقها.
ـ الحث علي العمل : وهذا واضح في موقف المهاجرين؛ حيث رفضوا أن يعيشوا عالة علي الأنصار وطلبوا منهم أن يعملوا؛ لأن العمل شرف وعبادة.
ـ احترام الأديان الأخرى: فقد كان مما أرساه رسول الله في المدينة إصدار الصحيفة المدنية التي نظمت العلاقة بين اليهود والمسلمين، وكان من مبادئها الحرية الدينية لليهود.
ـ تشريع الجهاد للدفاع عن الحق دينا أو مالا أو عرضا أو وطنا.
ـ الحث علي بناء المساجد: فهي بيوت الله في الأرض، وكان لها دور سياسي واجتماعي وثقافي، فضلا عن دورها الأساسي وهو العبادة.
نكتفي بهذا القدر سائلين الله تعالي أن ينفعنا بما نعلم وأن يعلمنا ما ينفعنا.
إنه نعم المولي ونعم النصير
د/ علاء إسماعيل الحمزاوى
الطِيرة من منظور ديني(1/10)
الطيرة مصدر من الفعل (تطيّر)، ومثلها الخيرة من الفعل (تخيّر)، وهما مصدران نادران، والطيرة مأخوذة من الطير، وكانت تطلق قديما على التشاؤم والتفاؤل، وارتباطها بهما يرتدّ إلي أن العربي الوثني كان إذا أراد شيئا ما ذهب إلي عش طائر فهيجه، فإن طار الطائر عن يمينه استبشر بذلك وأقدم علي ما أراد وعزم، وإن طار عن شماله تشاءم ورجع عما أراد، وصار العرب يتفاءلون بكل من يأتي من ناحية اليمين وأسموه (السانح)، ويتشاءمون بمن يأتي من ناحية الشمال وأسموه (البارح)؛ حتى قالوا في المثل: (مَن لي بالسانح بعد البارح)، ثم تخصصت دلالتها بعد ذلك، فأصبحت مرادفة للتشاؤم في مقابل التفاؤل، وقد وردت مشتقات الكلمة في القرآن تحمل هذه الدلالة الأخيرة في ثلاثة مواضع، صفة لثلاثة أقوام سابقة، منهم قوم صالح (ثمود)؛ إذ كانوا يقولون له: ما نرى علي وجهك الخير، وقد نقل لنا القرآن حوارا بين صالح وقومه في قوله تعالى: "قَالَ يَاقَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ. قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ".(1/11)
فلما جاء الإسلام نهى بشدة عن هذا الاعتقاد الباطل، وردّ كل أمر إلى الله تعالى، فالطيرة ليس لها تأثير في جلب خير أو شر، إنما كل أمر بقضاء الله؛ تصديقا لقوله تعالى: "وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ"، وقوله تعالى: "وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ". غير أن هذا لا يمنع أن يكون الإنسان سببا في جلب الخير أو الشر، لكن المقدّر للأمر هو الله وحده، وقد يقدّر للإنسان الخير دون مقابل سالف، لكن لا يقدّر له الشر إلا بسبب منه؛ تصديقا لقوله تعالى: "مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ".
هذا.. وقد أكّد رسول الله النبي ( في جملة من الأحاديث نهْيَ الإسلام عن الطيرة، منها قوله: "لا عدوى ولا طيرة ولا صفر ولا هامة". والعدوَى تعني أن العرب كانوا يعتقدون أن المرض يتعدى بنفسه من شخص لآخر؛ فتشاءموا منه، كما تشاءموا من شهر (صفر)؛ لاعتقادهم أنه شهر تكثر فيه الفتن والمصائب، ومنها قوله ( "لا عدوى ولا طيرة، وإنما الشؤم في ثلاثة: المرأة والفرس والدار}، والحديث يقتضي وجود الشؤم في المرأة والفرس والدار، بل يفيد احتمالية ذلك، ودلالة ذلك قوله (: "إن يكن من الشؤم شيء ففي ثلاثة: المرأة والفرس والدار"،
وقد فسّر العلماء شؤم المرأة في غلاء مهرها وسلاطة لسانها وسوء خلقها وعدم ولادتها، وشؤم الفرس في غلاء ثمنها وبطئها وعدم صلاحيتها للسبق، وشؤم الدار في ضيقها وبُعدها عن المسجد وسوء الجيران.
وختاما نردّد مع النبي ( قوله: "من رجعته الطيرةُ عن حاجته فقد أشرك)، وكفارة ذلك "اللهم لا طير إلا طيرك، ولا خير إلا خيرك، ولا إله غيرك".
د.علاء الحمزاوى
من مظاهر السماحة في الإسلام(1/12)
السماحة صفة عظيمة من صفات الدين الإسلامي ، نعت بها رب العزة ورسوله الكريم، وأمرنا أن نتصف بها ، فقال : " اسمح يُسمح لك " .
والسماحة تعني الرفق في المعاملة وعدم العلظة والفظاظة، لذلك يقول النبي الكريم ص: "إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا " ، ولنضرب مثالا بصلاح الدين ومعاملته للأعداء حالة ضعفهم ، فبعد أن فتح بيت المقدس رأي عددا كبيرا من الإفرنج يحمل علي ظهره أناسا ضعفاء ومرضي ، فكانت سماحته أن أمر بالمال فأُعطي لهم ليتداوي به المرضي وبالدواب فوُزّعت عليهم ، لتحمل أولئك الضعفاء ورأي ( قلب الأسد ) ملك الإنجليز يقود جيشه راجلا، فحمله نبل أخلاقه علي أن يهديه فرسين ، حتى لا يقال إن قائد المسلمين انتهز فرصة ضعف عدوه وتغلب عليه. وأقبلت عليه بعض النسوة يحملن أطفالهن باكيات، وقلن له: أيها السلطان سنفارق البلاد ونحن بين زوجة وأمّ وابنة للجنود الذين أسرتهم وهم عدّتنا في الحياة، فإن مننتَ علينا بهم فالحياة لنا ، وإلا فالموت ينتظرنا . فماذا فعل ؟ تغلبت عليه سماحة الإسلام فأمر بإعطاء الأمهات أبناءهن والزوجات أزواجهن والبنات آباءهن ، وأمّن النساء علي أموالهن وأعتق لهن الأسري ؛ كي يتمتعن بما طلبن من أجل الحياة . ها هي سماحة الإسلام مع الأعداء .(1/13)
السماحة تعني الرأفة والسهولة في التعامل بين الناس ، يقول النبي الكريم : رحم الله رجلا سمحا إذا باع، سمحا إذا اشترى، سمحا إذا اقتضى" ويقول: "رحم الله امرأ سهل البيع، سهل الشراء، سهل القضاء، سهل الاقتضاء" ونضرب مثالا بعثمان ، إذ اشتري قطعة أرض من رجل ، فأبطأ الرجل في قبض الثمن من عثمان ، فلما سأله، قال له: إنك ظلمتني فاشتريت الأرض رخيصة ، والناس لاموني علي ذلك فقال له عثمان: أنت حر في البيع والرجوع، فاختر ما تشاء : الأرض أو الثمن، فما أعظم الرأفة في التعامل . وقد ورد عن رسول الله أن رجلا كان مسرفا علي نفسه من المعاصى، فلما وقف بين يدي الله لم يوجد له حسنة، فقيل له: هل عملت خيرا قط ؟ قال: لا، إلا أنني كنت أداين الناس، فأقول لفتيانى: سامحوا الموسر وأنظروا المعسر أو تجاوزوا عنه. فقال الله: نحن أحق بذلك منك. تجاوزنا عنك وغفرنا لك"
والسماحة تعني العفو والصفح والمغفرة، وأعني بالعفو عفو المقتدرة، وما أعظم جزاءه عند الله (حديث العبدين الظالم والمظلوم) .
السماحة تعني الافتداء، وفي علي المثل الأعلي حينما افتدي النبي بنفسه ليلة الهجرة، حتى نزل فيه قوله تعالي : { ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رءوف بالعباد } .
السماحة تعني العطف علي الفقراء، :(1/14)
شاءت إرادة الله أن يجعل هذا غنيا وذلك فقيرا ؛ للابتلاء : شكر الغني وصبر الفقير، غير أنه فرض علي الغني جزءا من ماله للفقير لتستقيم الحياة بين أفراد المجتمع في نوع من التوازن والعدالة ، وجعل لذلك أجرا عظيما للغني إذا أعطي وعذابا أليما إذا منع ، فقال تعالي في قرآنه : { مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء ..} وقال في حديث قدسي : " الأغنياء وكلائي والفقراء عيالي فإذا بخل وكلائي علي عيالي عذبتهم ولا أبالي " ورفع النبي منزلة الفقراء عند اللفي حديثه " فقراء أمتي يدخلون الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم " ، واليوم عند ربك كألف سنة مما يعدون .
وشرط علي الغني أن يعطي بحب وسخاء ولا يمنّ بذلك ؛ لأن المنّ لون من ألوان الذل والمهانة والخضوع ، وهذه الصفات رفعها الإسلام عن المسلم إلا من الله ، فالعزة لله ولرسوله وللمؤمنين قال تعالي : { الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منّاً ولا أذي لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون } و { قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذي } و { لا تبطلوا صدقاتكم بالمنّ والأذي كالذي ينفق ماله رئاء الناس } وقال النبي الكريم : " ثلاثة لا يدخلون الجنة العاق لولديه والمدمن للخمر والمنان بما أعطي " وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "إياكم والامتنان بالمعروف فإنه يبطل الشكر ويمحق الأجر " . وقدمدح الله الفقراء بأن جعل رسوله فقيرا مسكينا ، وجاء في الأثر أن يوم القيامة ينادي مناد :
أين الذين رضوا بالفقر وأحبوا الفقراء فمحمد إمامهم إلي الجنة .
أين الذين حجوا واعتمروا فآدم إمامهم إلي الجنة .
أين الذين أحبوا الكرم وأكرموا الضيوف فإبراهيم إمامهم إلي الجنة .
أين الذين صبروا في البلاء فأيوب إمامهم إلي الجنة .
أين الذين خافوا الله عند المقدرة فيوسف إمامهم إلي الجنة .(1/15)
أين الذين قالوا الحق لوجه الله فموسي إمامهم إلي الجنة .
أين الذين أحبوا الصدق واتصفوا به فأبوبكر إمامهم إلي الجنة .
أين الذين أحبوا العدل واتصفوا به فعمر إمامهم إلي الجنة .
أين الذين أحبوا الجهاد في سبيل الله فعلي إمامهم إلي الجنة .
أين الذين أحبوا الإيثار واتصفوا به فالحسين إمامهم إلي الجنة .
من مظاهر السماحة الإسلامية الإيثار :
هذه سمة عظيمة اتصف بها الحبيب ـ صلى الله عليه وسلم ـ فرفعه الله بها منزلة عظيمة ، فقد روي أن موسي سأل ربه : أرني بعض درجات محمد وأمته . فقال تعالي : لن تطيق ذلك ولكن أُريك منزلة من منازله في الجنة ، فضلته بها علي جميع خلقي ، ثم كشف له عن ملكوت السموات ، فنظر إلي منزلة كادت تزهق روحه من شدة أنوارها وقربها من الله . فقال : يا رب بماذا بلغ هذه المنزلة ؟ . فقال تعالي : بخلق اختصصته به من بينهم ، وهو الإيثار . يا موسي : لا يأتيني عبد منهم قد عمل به وقتا من عمره إلا استحييت من محاسبته ، وبوّأته من جنتي حيث يشاء.
وتوضح السيدة عائشة مظهرا من مظاهر الإيثار عند النبي ، فتقول : " ما شبع رسول الله ثلاثة أيام متوالية حتى فارق الحياة ، ولو شاء لشبعنا ، ولكن كنا نؤثر علي أنفسنا " .
وكان علي نهج النبي في الإيثار صحابته الكرام ، ولنقف عند عمر ونموذج من نماذج إيثاره ، إذ جاءه أعرابي سائلا ، فقال له :
يا عمر الخيرِ جُزيتَ الجنّهْ اُكسُ بنيّاتي وأمّهنّهْ
وكن لنا من الزمان جُنّهْ أقسم بالله لتفعلنّهْ
فقال عمر : إن لم أفعل فماذا يكون ؟
فقال السائل : إذاً أبا حفص لأذهبنّهْ
فقال عمر : وإذا ذهبت فماذا يكون ؟
فقال السائل :
تكون عن حالي لتُسألنّهْ يوم تكون الأُعطياتُ هنّهْ
وموقفُ المسئول بيْنَهنّهْ إما إلي نار، وإما جنّهْ
فبكي عمر حتى ابتلت لحيته وقال : والله لا أملك إلا هذا القميص ، فخذه لك .(1/16)
ولنقف أيضا عند علي بن أبي طالب ، ومواقفه كثيرة ، منها أنه كان معه أربعة دراهم وهو بمسيس الحاجة إليهم ، فآثر علي نفسه وتصدق بأحدهم ليلا والثاني نهارا والثالث سرا والرابع جهارا . فنزل فيه قوله تعالي : { {الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون } . ومنها أنه ذات مرة جاع هو وأهله جوعا شديدا ، فأخذ من يهودي صوفا لتغزله فاطمة بثلاثة أقداح من الشعير ، فغزلت أول يوم جزءا منه وأخذت قدحا وطحنته وعملته خبزا ، وقبل الأكل قدم رجل قائلا : مسكين من أمة محمد أطعموني شيئا لوجه الله ، فأعطوه الخبز وباتوا جوعا . وفي اليوم الثاني جاء رجل وقال : يتيم من أمة محمد ، فأعطوه الخبز كله ، وفي اليوم الثالث جاء رجل وقال: أسير من أمة محمد ، فأعطوه كل الخبز وباتوا وقد بلغ الجوع منهم مبلغا عظيما، فذهبوا إلي رسول الله ، فلم يجدوا عند جميع زوجاته شيئا ، فأعطاه النبي سلة وقال له: اذهب إلي نخلة فلان ـ وصاحبها واقف ـ ولم يكن بها بلح ، وقل لها: محمد يقول لك : أطعمينا من تمرك . فأسقطت عليهم النخلة تمرا حتى شبع الجميع. ونزل فيهم قوله تعالي : { ويطعمون الطعام علي حبه مسكينا ويتيما وأسيرا إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا } .
كذلك الصحابي الذي ضيّف ضيفَ رسول الله بعشاء أولاده بعد أن أناهم وأطفأ السراج وتظاهر هو وزوجه بالأكل حتى شبع الضيف ، ذلك الرجل مدحه رب العزة، إذ قال له النبي : إن الله عجب من صنيعكما بضيفكما الليلة ، ونزل فيه قوله تعالى: {ويؤثرون علي أنفسهم ولو كان بهم خصاصة}.
من مظاهر السماحة الإسلامية الحياء :(1/17)
الحياء هو الترفع عن الأشياء التي تخجل الإنسان، كأن يخجل الإنسان من رؤية شئ ما أو من حديث ما أو أن يظهر بمظهر لا يرتضيه من الآخرين ، لذلك فهو من أساس متين لإقامة مجتمع سليم قوي تسوده علاقات الحب والمودة والمساعدة والقوة ، تسوده الأخلاق الحسنة ، يدفع عنه الرذائل والوقوع فيها ، إن لم يتصف به أفراد المجتمع ولا سيما النساء لم يستقر علي بنيانه، بل يدُمّر سريعا؛ لأنه يصبح مجتما خربا فاسدة أخلاقه، من أجل هذا كان الحياء من أعظم الصفات الإسلامية ، بل من الإيمان ، قال النبى: "الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذي من الطريق، والحياة شعبة من الإيمان" وقال أيضا: "إذا لم تستحي فاصنع ما شئت".
وقد ورد الحياء في القرآن صفة لإحدي ابنتي شعيب ، تلك التي جاءت إلي موسي {فجاءته إحداهما تمشي علي استحياء ...} وصفة لرسول الله { يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يُؤذن لكم إلي طعام غير ناظرين إناه ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستئنسين لحديث إن ذلك كان يؤذي النبي فيستحيي منكم والله لا يستحيي من الحق } . فالحياء هنا صفة لرسول الله ، علي الرغم من إيذائه ، لذلك فصل الله الأمر ، وأوضح أن الحق لا حياء فيه . وكان صفة لصحابته ، وكان أشد الصحابة حياء عثمان إذ كان تستحيي منه الملائة ، والحديث الذي روته السيدة عائشة " كان رسول الله جالسا ... ودخل أبو بكر وعمر وعثمان ... " وكذلك الصحابة ، ومن أشد مواقفهم ، موقفهم في غسل رسول الله واستحيائهم من كشف عورة رسول الله ، حتى أتم الله تكريمه .
الوقاية خير من العلاج
تطبيق علي (الغضب) كمظهر من مظاهر سوء الخلق(1/18)
شاءت إرادة الله أن تكون النفس البشرية مزدوجة تجمع بين جانب الخير وجانب الشر تصديقا لقوله تعالي : { ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها } وفجورها في سوء خلق صاحبها ، وتقواها في حسن خلقه ؛ لذلك لما خلق الله الكفر قال : يارب قوّني ، فقوّاه بالبخل وسوء الخلق ، ولما خلق الإيمان قال : يا رب قوّني ، فقواه بالسخاء وحسن الخلق . و{ قد أفلح من زكّاها وقد خاب من دسّاها } .
فحسن الخلق أساس الإيمان ؛ لذلك أرسل الله محمدا متتما لمكارم الأخلاق ، وحين مدحه اختصه بحسن الحلق { وإنك لعلي خلق عظيم } . ولا تغني عنه العبادات ، بل لا قيمة لها مع سوء الخلق ؛ لذلك أمر الله بني إسرائيل بحسن الخلق قبل العبادة { وقولوا للناس حسنا وأقيموا الصلاة } . وأكد النبي الكريم هذا المعني في حديث المفلس " أتدرون من المفلس ؟ قالوا : المفلس من لا درهم له ولا متاع . فقال رسول الله : المفلس من أتي يوم القيامة بصلاة وزكاة وحج ... وأتي وقد سب هذا وقذف هذا وسفك دم هذا ... " ووصف المسلم بأنه من سلم الناس من لسانه ويده، ورفع منزلة صاحب الخلق الحسن بأنه أقرب الناس منه يوم القيامة.
وسوء الخلق له مظاهر كثيرة ، نقف فحسب عند مظهر واحد منها، هو الغضب، ثم نقف عند المظاهر المقابلة له من حسن الخلق .(1/19)
الغضب نوعان : غضب في الحق وغضب للهوي أو لغرض شخصي ، ومن الصنف الأول غضب الله علي العبد لفعله المعاصي الشديدة، يقول في حديث قدسى: "عبدي إذا عصيتني فتذكر غضبي عليك فتنتهي عن معصيتك"، فضلا عن غضبه تعالي يوم القيامة ، إذ إنه يغضب غضبا لم يغضب مثله قطّ ؛ حتى يستحيي منه جميع الأنبياء أن يشفعوا للمذنبين إلا سيدنا محمدا ، فالله محق في غضبه ؛ لأنه غضبه يأتي بعد طول صبر علي عاصيه وفتح باب توبته وعفوه وحلمه ومغفرته ، والعبد لا يبالي بكل هذا ويتمادي في معاصيه الشديدة . وكذلك غضب جميع الأنبياء علي أقوامهم لما أصروا علي الكفر ، وأورد لنا القرآن غضب موسي من قومه لما عبدوا عجلا ذهبا ، وكثيرا ما غضب النبي في الحق حتى احمرت وجنتاه
فالغضب في الحق مباح ، غير أن الله أمرنا ألا نغضب في الحق وأن نغفر فقال: {قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ليجزي الله قوما بما كانوا يكسبون } . ووصف المؤمنين بقوله : { وإذا غضبوا هم يغفرون } .
فإذا كان الله قد نهي عن الغضب في الحق ، فما بالنا بموقفه من العبد إذا غضب لغير الحق أو لغرض شخصي ، سئل رسول الله : ما أشدُّ من كل شئ ؟ فقال: غضب الله. فقال السائل: فما الذي ينجي من غضب الله ؟ فقال النبي الكريم: ألا تغضب . لماذا كل هذا ؟ لأن الغضب هو أساس كل شر وبلاء ومعصية، عامل من عوامل تفتيت المجتمع ؛ لأنه يؤدي إلي وقوع ما لا يحمد عقباه ؛ إذ إنه يُخرج الإنسان عن وعيه ، فلا يدرك ماذا يفعل ، مما يؤدي إلي إحداث الخلافات بين الناس ، فتسود المجتمع صفات الكراهية والبغضاء والعداء، وهذه صفات تدمير لأي مجتمع ، فضلا عن عاقبته في الآخرة ؛ إذ هو من مداخل الشيطان، ومن ثم فهو قائد إلي النار ؛ لذلك لما طلب رجل من النبي أن يعظه قال مرارا: لا تغضب. وقال أيضا: "ليس الشديد بالصرعة ، ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب".
علاج الغضب :(1/20)
أوصي رسول الله بالوضوء في حالة الغضب ؛ لأن الغضب من الشيطان ، والشيطان من النار، والماء يطفئ النار . وإذا كان الغاضب واقفا فليقعد ، فإذا قعد هدأ وربما سكن عنه الغضب. وأنا أري أنه يجب علي الإنسان ألا يصل إلي مرحلة الغضب؛ حتى لا يصل إلي مرحلة الندم ، ولكن كيف يكون له ذلك ؟
يكون ذلك بالوقاية ، فهي خير من العلاج ، وهذه الوقاية تتمثل في جملة من الصفات الحميدة، يجب علي الإنسان المسلم أن يتحلي بها ؛ حتى يقي نفسه الوصول إلي حالة الغضب، ويكون في حلّ منه مهما أحيط به ؛ فيكون من المتقين المسارعين إلي الجنة. وهذه الصفات كلها مرتبطة بعضها ببعض في الجزاء ولا يتصف الإنسان ببعضها دون البعض الآخر، ونحن نراها فيما يلي :
سلامة الصدر
نعني بها أن يكون صدر الإنسان صافيا من الكراهية والحقد والغلّ تجاه الآخرين، لأنه في هذه الحالة سيتحمل كثيرا من الأذي ، ويحمل كل تصرف منهم علي حسن النية ، وهذه صفات المؤمنين حقا { والذين جاءوا من بعدهم يقولون : ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم}.
كظم الغيظ والصبر
نعني به أن الإنسان يكتم الغيظ والضيق في داخله ، يحفظ نفسه من أن تمضي فيما هي قادرة عليه ، يملؤها غما وحزنا وغيظا ، ولا يخرجه الموقف عن وعيه غاضبا، ويصبر علي مغضبه، بل ويمتص غضبه فلعله يعتذر عما بدر منه وينتهي الموقف بسلام وحب بينهما. يقول النبي الكريم: "من كظم غيظه وهو قادر علي إنفاذه ملأه الله أمنا وإيمانا". ولله در القائل :
وإذا غضبتَ فكن وقورا كاظما للغيظ تبصرْ ما تقولُ وتسمعُ
فكفي به شرفا تَصبّرُ ساعةٍ يَرضَي بها عنك الإلهُ وتُرفعُ
العفو والصفح والمغفرة والرفق والحلم(1/21)
وخمستها يكمل بعضها بعضا متتابعة ، والعفو معناه الستر ، أي أن الإنسان يسترعلي خطأ الآخر في حقه وهو قادر علي الانتقام ؛ ومن ثم فالعفو المقصود هو عفو المقتدر أو العفو عند المقدرة، والضعيف غير قادر علي الردّ؛ ومن ثم فلا يمتلك العفو . والصفح أن يُظهِر الإنسان البشاشة في وجه أخيه المخطئ في حقه . والمغفرة معناها محو الذنب أو الخطأ من القلب فيصبح صافيا تجاه ذلك المخطئ المذنب. والرفق معناه حسن المعاملة مع المخطئ، والحلم معناه مقابلة السيئة بالحسنة والشر بالخير؛ وقد عبر عنه تعالي بقوله: {والله يحب المحسنين}.
وكلها ما عدا الصفح صفات لله تعالي ؛ لأن الصفح يختص ببشاشة الوجه وليس لله وجه كوجوهنا . وتأكيدا لذلك فقد جاء في القرآن "إن الله كان عفوا غفورا" و"الله غفور حليم"، وجاء في الحديث القدسي " عبدي لا تحزن ، فإن عصيتني بجهلك عفوت عنك بعفوي وغفرت لك بحلمي ورحمتك برحمتي ؛ لأني عفو كريم لا أعجّل بالعقوبة علي عبدي وأنا أرحم الرحمين". ويقول رسول الله: "إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي علي الرفق ما لا يعطي علي سواه".
والله تعالي يحب العبد أن يتصف بهذه الصفات، فأمرنبيه وأمرنا بها فقال: {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين } وقال: {فاصفح عنهم وقل سلام} وقال: {فاصفح الصفح الجميل} وقال: {فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره} وقال: {وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم} وهذه هي الآية الوحيدة التي جمع الله فيها بين العفو والصفح والمغفرة؛ وفيها تأكيد علي مدي الارتباط بينها، ولا يغني بعضها عن بعض. وجاء في حديث قدسى: "يا ابن آدم ، أدّ الأمانة لمن ائتمنك ، وأنصف من خانك وأحسن لمن أساء إليك، واعفُ عمّن ظلمك ، وكلّم من هجرك، وصل من قطعك ، واسأل العلماء عن أمور دينك ودنياك ، فإني لا أنظر إلي صوركم وأجسادكم ، ولكن أنظر إلي قلوبكم ونياتكم ، وأرضي بهذه الخصال عنكم".(1/22)
هذا .. وقد اتصف النبي الكريم وصحابته وتابعوه بهذه الصفات امتثالا لأمر الله، ولعل مقولة النبي الشهيرة عن قومه حينما أدميت قدماه وطلبت الملائكة منه أن يدعو علي قومه وهو مستجاب الدعوة ، فقال : " اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون" وموقفه من المشركين بعد فتح مكة وهو قوي قادر منتصر يؤكد أنه عفوّ صافح غافر رفيق حليم ؛ إذ قال لهم ـ كما قال يوسف ـ " لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم اذهبوا فأنتم الطلقاء " .
كذلك الصحابة اتصفوا بهذه الصفات ، ولنا في ابن مسعود مثلا ، إذ كان في السوق فسرقه لصّ فقال الناس : اللهم اقطع يد السارق ، فردّ قائلا : لا تدعوا عليه، ولكن قولوا: اللهم إن كان سرَقها لحاجة فيها طاعتك فبارك له فيها، وإن كان سرقها لذنب، فاجعله يا رب آخر ذنب له واعفُ عنه واغفر له.
وكذلك اتصف بها التابعون، ونأخذ منهم زين العابدين ؛ إذ كانت له جارية، وذات مرة أخذت تصبّ له ماء يتوضأ، فوقع الإبريق فانكسر، فغضب منها، فأسرعت قائلة: مولاي "والكاظمين الغيظ" فسكن غضبه، فقالت: "والعافين عن الناس"، فقال: عفوت عنك، فقالت: "والله يحب المحسنين" فقال: اذهبي فأنت حرّة لوجه الله.
جزاء ذلك
أعد الله لأصحاب هذه الصفات الجنة الواسعة ، تصديقا لقوله تعالى: {وسارعوا إلي مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين}. ويطيب لي أن أذكر حديثا لرسول الله في هذا الصدد ، إذ كان جالسا بين أصحابه ، فضحك حتى بدت نواجذه، فقال عمر: بأبي وأمي ما الذي أضحكك يا رسول الله ؟ فقال: تذكرتُ موقفا من مواقف يوم القيامة، وقف عبدان بين يدي الله ، أحدهما ظالم والآخر مظلوم، (فدار هذا الحوار ):
فقال المظلوم : يا رب ، هذا الرجل ظلمني ، فخذ لي منه مظلمتي .
فقال تعالي للظالم: عبدي ردّ علي أخيك مظلمته.(1/23)
فقال الظالم : من أين يارب ولم يبق من حسناتي شئ.
فقال تعالي المظلوم : عبدي ماذا تصنع بأخيك ولم يبق من حسناته شئ.
فقال المظلوم: يا رب فليحمل عني من أوزارى. (وهنا فاضت عينا رسول الله بالبكاء وقال يا عمر ذلك يوم عسير عصيب يحتاج كل الناس إلي أن تُحمل عنهم أوزارهم ).
فقال تعالي للمظلوم: عبدي ارفع بصرك إلي الجنان وانظر ماذا تري ؟ .
فقال: أري مدائن من الفضة وقصورا من الذهب، لأي نبي هذا، لأي شهيد هذا، لأي صديق هذا ؟
فقال تعالي : هذا لمن يدفع الثمن . فقال المظلوم : ومن يمتلك الثمن ؟
فقال تعالي : أنت يا عبدي تمتلك الثمن . فقال : كيف يا رب ولم يكن معي شئ ؟
فقال تعالي : الثمن هو عفوك عن أخيك . فقال: عفوت عنه يا رب .
فقال تعالي : خذ بيد أخيك وادخل أنت وهو الجنة .
وقال رسول الله : " إذا جمع الله الخلائق ، نادي مناد : أين أهل الفضل ؟ فيقوم أناس فينطلقون سراعا إلي الجنة ، فتتلقاهم الملائكة قائلين : وماذا كان فضلكم ؟ فيقولون : كنا إذا ظُلمنا صبرنا، وإذا جُهل علينا حلمنا ،وإذا أُسي إلينا عفونا ، فتقول الملائكة : ادخلوا الجنة، فنعم أجر العاملين " .
اللهم تقبل واجعله في ميزان حسناتنا ، وانفع به الناس ، وأعذنا بك من الشرك الأصغر.. إنك عفوّ غفور حليم رفيق رحيم .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
في رحاب حج بيت الله
أولا : مفهومه ومنزلته في الإسلام :(1/24)
الحَِجُّ في اللغة هو القصد نحو اتجاه ما ، ثم انتقل هذا المعني اللغوي إلي المعني الاصطلاحي أي تخصصت دلالته ، فأصبح يطلق علي قصد بيت الله الحرام ؛ لأداء مجموعة من المناسك التي أمر بها الدين . والحج ليس فريضة إسلامية مبتدعة ، بل فُرِض منذ إبراهيم عليه السلام ؛ كما يحكي لنا القرآن " وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا ..." ، فقد أمر الله إبراهيم أن ينادي في الناس بالحج حينما هبط مكة ، ولم يكن بها أحد غيره ، فقال : يا رب وما يبلغ صوتي ، فقال : عليك الآذان وعلينا البلاغ فصعد أعلي الجبل ونادي : أيها الناس إن الله قد فرض عليكم الحج فحجُّوا ، فسمع صوته كل من كتب الله له الحج إلي يوم القيامة فنادت الأرواح في عالم الغيب ـ أصلاب الرجال وأرحام النساء ـ قائلين : لبيك اللهم لبيك ، منهم من قالها واحدة ومنهم من قالها مرتين ومنهم من قالها ثلاثا ، فكتب الله لهم الحج بعدد المرات التي قالها كل منهم .(1/25)
فإذا ما انتقلنا إلي إسلامنا الحنيف نجد أن الحج هو الركن الأخير من الأركان الخمسة التي أقام عليها الإسلام بنيانه ، وهذا يعني أن هذه الفرائض ليست هي كل الإسلام ، بل هي بمنزلة الأعمدة التي يُشيَّد عليها بنيان عال جدا ، وقد فرض الحج في السنة التاسعة للهجرة ـ علي مختلف الآراء ـ وفرضيته ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع ؛ قال تعالي : " ولله علي الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا" وقد أكد النبي ـ صلي الله عليه وسلم ـ هذا المعني في جملة من الأحاديث، منها قوله: "أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا ، فقال رجل أكل عام يارسول الله ؟ فسكت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى قالها الرجل ثلاثا ، فقال : لو قلت : نعم لوجبت ولما استطعتم ، ثم قال : ذروني ما تركتكم ، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم علي أنبيائهم ، فإذا أمرتكم بشئ فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شئ فدعوه " . وقد أجمع فقهاء الأمة علي وجوب الحج علي كل مسلم بالغ عاقل حر مقتدر مرة واحدة في العمر وكذلك المرأة . هذا .. ومدة الحج شهران وعشرة أيام أو ثلاثة أشهر ، وهي : شوال وذو القعدة وذو الحجة .
ثانيا : مناسك الحج وأنواعه:
حج التمتع: أي أن الحاج ينوي الإحرام بالعمرة فقط ثم يتحلل منها، ثم ينوي الإحرام بالحج، وبالتالي يحرم ثم يطوف ثم يسعي ثم يقصر ثم يحرم من مني أو عرفة ويقف بعرفة ويبيت بالمزدلفة ثم يرمي جمرة العقبة ثم ينحر ثم يتحلل بالحلق أو التقصير ثم يطوف طواف الإفاضة ثم يسعي ثم يعود للمبيت بمني ليستكمل رمي الجمار ثم يزور المدينة إن لم يكن زار(1/26)
حج القران : أن يقرن الحاج العمرة بالحج في النية ويقول لبيك عمرة وحجا معا ويبدأ بطواف القدوم فالسعي فالوقوف بعرفة والمبيت بمزدلفة ورمي الجمار والتحلل بالحلق وطواف الإفاضة ثم بقية الجمار. ومثله الحج المفرد إلا أنه ليس علي صاحبه هدى. وعلي ذلك فمناسك الحج هي الإحرام ، وطواف القدوم ، والسعي بين الصفا والمروة ، والوقوف بعرفة، والمبيت بمزدلفة ، والمبيت بمني ، ورمي الجمرات (هي ثلاث ، في كل واحدة سبع حصيات)، وذبح الهدى، والتحلل بالحلق أو التقصير، وطواف الإفاضة. وأركانه خمسة: الإحرام والسعي والوقوف بعرفة وطواف الإفاضة والحلق. وومناسك العمرة: الإحرام والطواف والسعي والتحلل بالحلق أو التقصير.
والإحرام يكون من منطقة رابغ بالسعودية ، غير أن ظروف السفر تجعل الحاج يحرم من المطار فذلك أفضل ويكون الحاج طاهرا متطيبا مصليا ركعتين ، والإحرام يصطحب بالتلبية وتستمر التلبية حتى رمي جمرة العقبة يوم النحر، والوارد عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ "لبيك اللهم لبيك . لبيك لا شريك لك لبيك . إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك" ويجوز للحاج أن يزيد أو يغير في التلبية ، حيث فعل هذا الصحابة ، أمام رسول الله ، ومما ورد في الزيادة " لبيك حقا حقا تعبدا ورقا".
وعندما يري الحاج الكعبة عليه أن يرفع يديه مكبرا قائلا: "اللهم أنت السلام ومنك السلام، وإليك يعود السلام، حيّنا ربنا بالسلام وأدخلنا الجنة بسلام. اللهم زد بيتك هذا تشريفا وتعظيما ومهابة وتكريما ، وزد مَن حجه أو اعتمره تشريفا وتعظيما وبرا وتكريما".(1/27)
وعند الطواف يجب علي الحاج أن يكون طاهرا طهارة الصلاة ، وأن يبدأ من عند الحجر الأسود جاعلا الكعبة عن يساره ويطوف سبعة أشواط مهرولا في الثلاثة الأولي منها داعيا "اللهم إني أسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة . ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار . سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله . اللهم إني أعوذ بك من الشك والشرك والشقاق والنفاق وسوء الأخلاق . اللهم قنّعني بما رزقتني وبارك لي فيه واخلف علي كل غائبة بخير ". وبعد الانتهاء من أشواط الطواف السبعة يُسن له أن يصلي ركعتين ويشرب من ماء زمزم الشافية ، ثم يتوجه إلي السعي . وإذا فاجأت المرأةَ الدورة الشهرية في الحج عليها أن تؤدي جميع المناسك ما عدا الطواف؛ تؤخره حتى تطهر.
وحينما يسعي بين الصفا والمروة يكون طاهرا للصلاة ، وعليه بالدعاء ، فإذا ما رأي البيت في كل مرة استقبله قائلا ثلاثا " لا إله إلا الله والله أكبر ، لا إله إلا الله وحده لا شريك له. له الملك وله الحمد وهو علي كل شئ قدير لا إله إلا الله وحده ، أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده " .(1/28)
وإذا ما وقف بعرفة عليه بالتكبير والتهليل والدعاء ، وما قاله النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في عرفة " لا إله إلا الله وحده . لا شريك له . له الملك وله الحمد . بيده الخير وهو علي كل شئ قدير . اللهم اجعل في قلبي نورا ، وفي صدري نورا ، وفي سمعي نورا ، وفي بصري نورا . اللهم اشرح لي صدري ويسر لي أمري . أعوذ بك من وسواس الصدر وشتات الأمر وفتنة القبر .. أنا البائس الفقير المستغيث المستجير ، الوجل المشفق ، المقر بذنوبه ، أسألك مسألة المسكين وأبتهل إليك ابتهال المذنب الذليل وأدعوك دعاء الخائف الضرير ، من خضعت لك رقبته ، وفاضت لك عيناه وذل جسده ورغم أنفه . اللهم لا تجعلني بدعائك رب شقيا ، وكن بي رءوفا رحيما ، يا خير المسئولين ويا خير المعطين " . ووقت عرفة من زوال شمس اليوم التاسع حتى فجر اليوم العاشر يوم النحر ، ويستحب للحاج أن يجمع في وقوفه بين النهار والليل ، ويصح الوقوف في أي الوقتين . وفي عرفة يصلي الظهر والعصر قصرا وجمع تقديم ، ثم يتوجه إلي المزدلفة ولم ينقطع عن التلبية ويصلي المغرب والعشاء قصرا وجمع تأخير ، ويبيت بالمزدلفة حتى فجر يوم النحر وهو يوم الحج الأكبر ويصلي الصبح (العيد لغير الحجاج) ثم يتوجه إلي مني
وحينما يتوجه إلي مني لرمي الجمار عليه بالدعاء والتلبية ، فإذا ما بدأ رمي جمرة العقبة (سبع حصيات) يجعل الكعبة عن يساره ومني عن يمينه، يقطع التلبية، ويكبر ويدعو : " اللهم اجعله حجا مبرورا وذنبا مغفورا " . والجمار ثلاث: الصغري ، والمتوسطة ، والكبري وتسمي جمرة العقبة ، ويبدؤها من منتصف ليلة العيد مرتبة في يومين لمن تعجل أو ثلاثة لمن تأخر . ويحذر من إيذاء الناس ، ويعزم في قلبه علي رمي إبليس بشدة ، ولا يجوز الرمي بالأحذية .(1/29)
وبعد رمي جمرة العقبة عليه نحر الهدي ثم الحلق أو التقصير ، والحلق أفضل للرجل . وبذلك يكون قد تحلل التحلل الأول بمعني أنه يباح له كل ما حُرّم بالإحرام ما عدا النساء (فذلك بعد التحلل الأكبر، ومجامعة النساء قبل التحلل الأول يفسد الحج) ، ويتطيب ويلبس ثيابه المعتادة ويتوجه إلي مكة لطواف الإفاضة { ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق } .
وبعد الانتهاء من طواف الإفاضة يدخل التحلل الأكبر ، وعليه التوجه إلي المدينة ، فإذا ما رأي المدينة يكبر ثلاثا قائلا : " لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، وهو علي كل شئ قدير . آيبون تائبون ، عابدون ساجدون ، لربنا حامدون . صدق الله وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده " .
ثالثا : الحكمة والفائدة من أداء هذه الفريضة :(1/30)
بدءا لا بد أن يكون المؤمن علي يقين وإيمان بأن الله تعالي ما أمرنا بشئ إلا ولنا فيه فائدة ومنفعة وخير عظيم ، قد يكون في الدنيا والآخرة وقد يكون في الآخرة فحسب ، وربما يكون الأمر شرا في ظاهره ، والخير في باطنه لا يدركه الإنسان ، ومن ذلك أفعال العبد الصالح مع موسي من خرق السفينة وقتل الغلام ، فإذا نظرنا لشعيرة الحج نجد بها العديد من الفوائد والمنافع ، ومن اللافت للنظر أنه الفريضة الوحيدة التي ذكر القرآن أن فيها منافع للمؤمن " ليشهدوا منافع لهم " ، يفصح رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن شطر من هذه المنافع في هذا الحديث ؛ حيث جاءه اثنان يسألانه عن أعمال الحج ، فلما دخلا عليه قال لهما النبي الكريم قبل أن يتكلما : إن شئتما أخبرتكما بما جئتما تسألانني عنه وإن شئتما أمسك حتى تسألاني ، فقال أحدهما : أخبرنا يا رسول الله عما جئنا نسألك عنه ، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " جئتما تسألنني عن مخرجك من بيتك تؤم البيت الحرام ، وعن صلاتك ركعتين بعد الطواف ، وعن سعيك بين الصفا والمروة ، وعن وقوفك بعرفة ، وعن رميك الجمار ، وعن نحرك ، وعن طواف الإفاضة .. فقال الرجل : والذي بعثك بالحق لعن هذا جئت أسأل ، فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : إذا خرجت من بيتك تؤم البيت الحرام لا تضع ناقتك خفا ولا ترفعه إلا كتب الله لك به حسنة ومحا عنك خطيئة ، وأما صلاتك ركعتين بعد الطواف فذلك كعتق رقبة من بني إسماعيل ، وأما سعيك بين الصفا والمروة فذلك كعتق سبعين رقبة من بني إسماعيل ، وأما وقوفك بعرفة فإن الله ينزل إلي السماء الدنيا ويباهي بكم الملائكة ويقول : أفيضوا عبادي مغفورا لكم ، وأما رميك الجمار فمذخور لك مثل الكنز عند ربك ، وأما حلاقك شعرك فلك بكل شعرة حسنة وتُمحي عنك خطيئة ، وأما طوافك البيت في النهاية فذلك لما يستقبل من ذنوبك فأنت مغفور لك" . ويمكن أن نوجز منافع الحج فيما يلي :(1/31)
ـ تقوي الله ، والخوف منه ؛ لأن المسلم الحاج يتخلي عن كل أشكال الترف من ملذات الحياة ويترك أهله وداره ووطنه ، ويلبس ملابس بيضاء واحدة ، ويتقشف ويتصوف ويتحمل كثيرا من مشاقّ السفر والغربة من أجل أداء هذه الفريضة وهو راض كل الرضا .. لماذا ؟ يفعل ذلك ؛ رغبة منه في أن ينال رضا الله ورحمته وجنته ، وكل هذه الأشياء لا تنال لعبد إلا بتقوي الله تعالي . وهذا الموقف يذكرنا بحال العبد بعد موته ؛ فالحاج يقف بين يدي الله يناجيه في خشوع وذل وخضوع ويسأله التوبة والاستغفار ، وكذلك الأمر بعد الموت ، العبد يترك ما يمتلك من متاع ولذة ، ولا يخرج إلا بملابس بيضاء يقابل بها ربه وهو في أشد الخوف والخضوع والذل ، راجيا رحمة الله وعفوه عنه .
ـ ذكر الله سبحانه وتعالي ، إذ هو فرض علي الحاج ؛ لقوله تعالي : " ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله علي ما رزقهم من بهيمة الأنعام " وقوله تعالي " اذكروا الله في أيام معدودات " وذكر الله من أفضل أعمال المؤمن في دنياه وله أفضل الجزاء ؛ إذ يجعل العبد في معية الله والله في معية العبد ، يجيبه حينما يطلبه ، والحق أن الله أوسع رحمة من هذا ، فهو يجيب أي إنسان يناديه بصرف النظر عن عقيدته ، حتى لو كان كافرا ، ولا يوجد إنسان عنيد لله مثل فرعون ، فقد روي في الأثر أنه لما أدركه الغرق استغاث بموسي سبعين مرة ، فلم يغثْه موسي وتركه حتى غرق ، فأوحي الله إلي موسي : لقد استغاث بك فرعون سبعين مرة فلم تغثْه ، وعزتي وجلالي لو أن فرعون استغاث بي مرة واحدة لأغثته ! ولذا يقول أحد العارفين معلقا علي هذا الحدث : هذا حال الحق مع من حشر فنادي فقال : أنا ربكم الأعلى، فما بالكم بحاله مع من يقول في سجوده : سبحان ربي الأعلي !!(1/32)
ـ المكافأة هي الجنة ؛ لقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ " الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة " ؛ لأن الحج مغفرة للذنوب ؛ تصديقا للحديث "حجوا فإن الحج يغسل الذنوب كما يغسل الماء الدرن"، والحديث "من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه " ولنقف عند ( لم يرفث ولم يفسق) بالشرح ، فالمسلم الحقيقي من سلم المسلمون من لسانه ويده وأمنوا شره ورجوا خيره . وأيا ما كان الأمر فإن الله وعد بالمغفرة لكل من وقف بعرفة راجيا رحمته خائفا من عذابه ، وقد روي أن رجلا صالحا حج ثلاثا وثلاثين مرة ، فوقف يناجي ربه : إني حججت ثلاثا وثلاثين مرة : إحداها عن نفسي وثانية عن أبي وثالثة عن أمي ، والباقي عمّن حجوا ولم تقبل حجهم . فسمع صوتا يقول له : عبدي أتجود علي من خلق الجود ؟ أتتكرم علي من خلق الكرم .. وعزتي وجلالي إني قد غفرت ذنوب كل من وقف بعرفة قبل أخلق الخلق .
ـ الحج أفضل جهاد للمرأة ؛ إذ سألت عائشة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : تري الجهاد أفضل الأعمال، أفلا نجاهد يارسول الله ؟ فقال : لا ، ولكن أفضل الجهاد حج مبرور.
ـ زيارة الأماكن المقدسة التي باركها الله وأنزل فيها قرآنه ، وفيها رسول الله وصحابته، والصلاة في أفضل المساجد ؛ فالركعة أفضل من ألف ركعة في سواها وزيارة قبر رسول الله، و" من زار قبري حلت له شفاعتي " وقبور الصحابة .
ـ إحساس المسلم بالأمن والسلام ، فحينما يري الحجاج الكعبة ، كل منهم يقول: "اللهم أنت السلام ومنك السلام ، وإليك يعود السلام ، حيّنا ربنا بالسلام وأدخلنا بسلام . اللهم زد بيتك هذا تشريفا وتعظيما ومهابة وتكريما ، وزد مَن حجه أو اعتمره تشريفا وتعظيما وبرا وتكريما".(1/33)
ـ إحساس المسلم بالحب والترابط والمساواة ، حيث إنهم يتلاقون في حب وتواد وسلام وابتهاج ، يسودهم الإيمان ومناجاة الله ، الكل سواء ، لا فرق بين هذا وذاك ، الكل في صعيد واحد من مختلف الأقطار والألوان والألسنة يقول : يارب !! وهذا مظهر عظيم لما يجب أن يكون عليه المسلمون في هذه الأيام التي تشتت فيها شملهم ، فنحن بحاجة ماسة إلي الوحدة والترابط والحب والسلام هذه الأيام ، فلعل الحج يجعل المسلمين يعودون للتكاتف والاتحاد ؛ ليكونوا أقوياء " وتعاونوا علي البر والتقوى " " وأعدوا لهم ما استطعتم "
ـ حب الوطن ، ونلمس هذا من حب الرسول لمكة موطنه الأول ومهبط الوحي الأول ، فنحن نحج إلي بلد هي أحب البلاد إلي قلب النبي ، فهو القائل لها حينما أجبر علي تركها : والله إنك لأحب بلاد الله إلي ولو أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت " فلا بد علي المسلم أن يقتدي بالحبيب في حبه لمكة ، فيحب مكة بلد الرسول ويحب وطنه اقتداء برسول الله .(1/34)
ـ تقبيل الحجر الأسود رمز رائع للطاعة المطلقة ؛ فالمسلم حريص علي الطواف به وتقبيله أو لمسه وهو مؤمن بأنه حجر !! ولله در عمر ؛ إذ قال له : " والله إني لأعلم أنك حجر لا تنفع و لا تضر ، ولولا أني رأيت رسول الله يقبّلك ما قبلتك " ، والطواف بالكعبة يذكرني بموقف حدث مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذ كان يطوف ذات مرة ورأي شابا أعرابيا يطوف قائلا : يا كريم يا كريم !! فطاف النبي وراءه وردّد قول الشاب ، فالتفت إليه وقال له : والله لولا سماحة وجهك ووضاءته لشكوتك إلي حبيبي محمد فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أو تعرف محمدا يا فتي ؟ قال : لا آمنت به ولم أره ، فبشره النبي بقوله : أنا محمد وأنت معي يوم القيامة، ففرح الشاب بذلك، فهبط الوحي وقال: يا رسول الله كيف تضمن للأعرابي الجنة؟! ، بلغ الأعرابي أنه لابد من الحساب ، فبلغه النبي وبكي بكاء شديدا ، فقال الشاب : علي أي شي يحاسبني ربي ، إن حاسبني علي بخلي أحاسبه علي كرمه ، وإن حاسبني علي تقصيري أحاسبه علي عفوه ، وإن حاسبني علي ذنوبي أحاسبه علي مغفرته ، وإن حاسبني علي معاصي أحاسبه علي رحمته ، فهبط الوحي وقال : يا رسول الله لقد انشغلت الملائكة ببكائك عن ذكر الرحمن ، بلغ الأعرابي أنه لا نحاسبه ولا يحاسبنا وهو معك يوم القيامة .
رابعا : حج الإنابة :
والإنابة هي أن يؤدي شخص ما عن آخر عبادة ما لعذر قاهر كالمرض المزمن أو الهرم المصطحب بالضعف وعدم الاستطاعة أو الموت . وهناك عبادات لا يجوز فيها الإنابة كالصلاة ، وهناك عبادات يجوز فيها الإنابة كالحج والصوم ، ودليل ذلك حديث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع المرأة التي جاءته تسأله " إن أمي نذرت أن تحج ، وماتت قبل أن تحج ، أفحج عنها يا رسول الله ؟ فقال رسول الله : إذا كان علي أمك دين أكنت قاضيته؟ قالت: نعم. قال: إذن حجي فدين الله أحق بالوفاء".
خامسا : نصائح وإرشادات للحاج قبل سفره :(1/35)
ـ استخارة الله بعد النية ، وينبغي الاستخارة في كل أمر ينويه المؤمن .
ـ التوبة ورد المظالم وقضاء الديون وكتابة وصية بما يحب .
- الاجتهاد في رضا الوالدين إن كانا علي قيد الحياة وطاعتهما وبرهما بكل ما يمتلك من استطاعة
- أن يقدم لزوجته كل ما يمتلك من خير قولا وفعلا طاعة وبرا .
- الحب والود والسلام والوئام لكل الناس ومصالحة الخصوم والبدء بالصلح ، وحسن السلوك والخلق .
- التعلّم لقواعد الحج من شروط وأركان ومحظورات ، فلا يعذر لجهله ، وطلب العلم فريضة علي المسلم
- الصلاة ركعتين وقراءة "الكافرون" و"الصمد" وآية الكرسي .
- يودع أهله وأصحابه بحب وصفاء ويدعون له بقولهم : " نستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم أعمالك " .
- أن يقول حينما يخرج : بسم الله ، توكلت علي الله إنا نعوذ بك أن نذل أو نضل أو نظلم أو نُظلم أو أن نجهل أو يجهل علينا " .
- يأخذ معه من ماله الحلال ما يكفيه ذهابا وإيابا ، وما يكفيه ذل السؤال .
- إذا خرج من بيته وركب وسيلة سفره قال ثلاثا : "اللهم لك الشرف علي كل شرف ولك الحمد علي كل حال " وإذا هبط كبر وسبح ثلاثا .
ـ أن يحافظ علي الطهارة دائما بالوضوء ، وأن يكثر من الدعاء في السفر وحتى يرجع إلي بيته، فثلاث دعوات مستجابة لاشك فيهن دعوة المظلوم ودعوة المسافر ودعوة الوالد علي ولده.
ـ ينبغي الحديث عن أنواع الإحرام، واحترام المناسك (ومن يعظم شعائر الله..) وما يترتب عليه الحج من نتائج في سلوك المسلم.
الوسطية في الإسلام
المفهوم ـ المظاهر ـ أثرها علي الفرد والمجتمع .(1/36)
الوسطية من التوسط بمعني الاعتدال ، فأي شئ له ثلاثة أطراف ، طرف يمين وطرف يسار ووسط ، الوسطية صفة من الوسط ، بمعني أن الإنسان لا يجنح إلي أي الطرفين ، ولنضرب مثالا بالحبل أو العصا ، فالإنسان إذا أمسك بالعصا من منتصفها أحكمها ، وإذا أمسكها من أي طرفيها لا يضمن أن يحكمها ، ومنه جاءت الوسطية في الإسلام ، بمعني الاعتدال والتوسط في الأمر .
جاء الإسلام بعد عقائد مختلفة ، منها ما رفضت الإله ، ومنها ما عددت الألهة ، فجاء الإسلام وسطا بينهما يدعو إلي إله واحد لا شريك له ، كما أنه جاء بعد أمم مختلفة في عباداتها ، أمة أحبت الدنيا متمثلة في المال حبا جما ، وأخري زهدت في عبادتها إلي حد الرهبانية المبتدعة {ورهبانية ابتدعوها} ، فجاء الإسلام يحض علي العمل للآخرة مع الأخذ من الدنيا من زينتها التي جعلها الله للناس بالقدر الذي يساعدهم علي تحقيق الغاية التي من أجلها خلق الإنسان {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} ، فالدنيا ليست غاية ، إنما هي وسيلة بدونها لا تتحقق الغاية المرجوة من المؤمن وهي العبادة ، فقال تعالي : { وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين} ، لذلك قيل : " اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا" ، وروي أن الليث بن سعد كان فقيها غنيا متمتعا بزينة الدنيا ، فأرسل له الإمام مالك رسالة ، يقول فيها : " سمعنا أنك تلبس الرقاق وتأكل الرقاق وتمشي في الأسواق " فردّ قائلا : {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق } .(1/37)
والإسلام ركّز تركيزا كبيرا علي جوهر الإنسان وهو القلب ، فالله تعالي يعامل الإنسان علي نيته وقلبه ، يقول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " إن الله لا ينظر إلي صوركم وأجسادكم ، ولكن ينظر إلي قلوبكم وأعمالكم " وفي الوقت نفسه يأمر بالعناية بالمظهر لأن " الله جميل يحب الجمال " وقال تعالي : {خذوا زينتكم عند مسجد } ، ويحاسب الله العبد علي الظاهر بقدر ما يحاسبه علي الباطن ، يقول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان " ، فهذه هي الوسطية .(1/38)
هذه الوسطية نجدها في التعامل ، {ادع إلي سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة} أي زاوج بين اللين والشدة ، فاللين وحده لا يُخضع كل الناس للإيمان بالمطلوب ، كما أن الشدة وحدها لا تحبب الناس في الإيمان به ، فلا بد من المزاوجة ، هكذا كان هدي السابقين ، ولعل "شعرة معاوية " خير مثال علي ذلك " لو كان بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت ، لو شدوها أرخيتها ، ولو أرخوها شددتها" . هذه هي الوسطية ، والتي نجدها في الإنفاق {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما} هذه صفة من صفات عباد الرحمن ، فالإنفاق مطلوب علي وجه اللزوم ، وإلا وقفت حركة الحياة ،ولما قدر الناس علي الاستمرار فيها لأداء حق الله ، لكن التوسط والاعتدال فيه هو المأمور به من الله ؛ لأن فيه منفعة للفرد والمجتمع ، وأفضل الأعمال ما كان صالحا للفرد والمجتمع ، فالتوسط يحقق ارتقاء ذاتيا واجتماعيا ؛ لأننا إذا افترضنا أن شخصا ما يتقاضي دخلا شهريا مائة جنيه ، فإذا ما أنفق نصفها استهلاكاً باع التاجر ؛ فصنع الصانع وزرع الزارع ؛ فتسير حركة الحياة في نمو ، فيحدث "ارتقاء اجتماعى" ، وفي ذات الوقت هو يدبر كل شهر نصف دخله ، فيزيد وينمو ؛ فيغير من معيشته إلي الأفضل وهذا هو "الارتقاء الذاتى" . أما إذا أسرف فأضاع كل دخله ، ارتقي المجتمع وانهار هو علي المستوي الذاتي ؛ لأنه لا فائض عنده يطور به حياته ، والعكس كذلك إذا بخل وقتر زاد ماله الخاص وارتقي كثيرا ولكن يتأخر المجتمع فتقف حركة الحياة ؛ من هنا كانت الدقة في الاعتدال أو القوام ، فهو المطلوب ، لذلك حينما أراد عبدالملك بن مروان أن يزوج ابنته من عمر ابن عبدالعزيز سأله : ما نفقتك يا عمر ؟ فقال : حسنة بين سيئتين وتلا الآية السالفة ، فاطمئن الخليفة وقال : علي بركة الله يا عمر .(1/39)
هذا القوام والاعتدال نجده في قوله تعالي : {ولا تجعل يدك مغلولة إلي عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا} فالبسط مطلوب ، والبسط الشديد مكروه لأنه يفقر صاحبه فيندم ويصاب بالحسرة ، كما أن البخل والشح غير مطلوب لأنه يوقع عليه اللوم من الآخرين ، ومن المهلكات الشح المطاع . لكل هذا حرم الله التبذير وأخبر بأن صفات المبذر هي صفات الشياطين {ولا تبذر تبذيرا إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين..} . وقفة مع (إخوان)1.
هذا القوام والاعتدال نجده في تعامل الله المادي مع العباد{ إن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر} فالله خزائنه لا تنفد ولوشاء أن يغني كل الناس لفعل ، لكن جعل بعضهم أغنياء وبعضهم فقراء اعتدالا ؛ حتى يحتاج الناس بعضهم إلي بعض ، وإلا لاستغني كل الناس عن الناس والاحتياج يولد التجمع والاتحاد والحب والتعاون ، وهذا هو المطلوب { واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا} ولو استغني كل واحد عن الآخرين ، لوقفت حركة الحياة ، فيصاب المجتمع بالتفكك والتدهور ، ومن ثم فلا يكون هناك مجتمع إنساني يؤدي ما عليه من حقوق دينية ودنيوية فضلا عن اختبار الغني في الشكر والإنفاق واختبار الفقير في الصبر والتعفف .(1/40)
هذه الوسطية نجدها في الأكل والشرب ، فهو مطلوب لتسير حركة الحياة كما أمر الله {كلوا واشربوا ولا تسرفوا} الطعام والشراب أساس مقومات الحياة ؛حتى يستطيع الإنسان أن يؤدي عمله الدنيوي والأخروي ، لكن الإسراف غير مطلوب ؛ لأسباب كثيرة ، منها أنه مدخل للشيطان " إن الشيطان يجري من ابن آدم مجري الدم من العروق فسددوا مجاريه بالجوع " ، والشبع الكثير يفقد الإنسان إحساسه بالفقير الجائع فيفقد من قلبه الرحمة تجاهه فلا يعطف عليه ، يكون بخيلا عليه ، وربما تنهار قيم المجتمع ، لذلك كان يوسف يكثر من الصوم ، فلما سئل قال : " أخاف أن أشبع فأنسي الفقراء الجائعين" ، والشبع يرهق الذهن عن التفكير (إذا امتلأت البطنة ذهبت الفطنة وقلت الحكمة) ، وهو أساس الأمراض ، فالمعدة بيت الداء ، وقد انتهي الطب إلي أن الإسراف في تناول اللحوم يزيد من نسبة الدهون التي تسبب ضيقا في الشرايين (تصلب الشرايين) وأصعب عمليات وأغلاها عمليات القلب الخاصة بتصلب الشرايين ،ولذلك يقول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ " صوموا تصحوا " و"ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطنه .." وقصة طبيب المقوقس الذي رده رسول الله وقال له : "نحن قوم لا نأكل إلا إذا جعنا وإذا أكلنا لا نشبع " تؤكد أن النبي الكريم قد جمع الطب كله في هذا الحديث
حضارة ذات آفاق
لعل المقصد من العنوان هو الحديث عن الحضارة الإسلامية التي سادت العالم شرقا وغربا في فترة العصور الإسلامية الزاهية بفضل الكتاب الذي أرسي منهجا قويما مستقيما يتفق والقيم الإنسانية السامية والعقل الإنساني الراشد . وأود قبل الخوض في هذا الحديث أن أعرض لمفهوم الحضارة والمفاهيم المتقاربة التي توشك أن تكون مترادفة وهي المدنية والثقافة .
مفهوم الحضارة :(1/41)
لم يتفق المتخصصون علي تعريف ما للحضارة أو الثقافة أو المدنية، بل وضع أصحاب كل علم مفهوما يتفق مع منهجهم ، فمنهم من رأي أن الحضارة أعم من الثقافة والمدنية وهم أهل التاريخ ، ومنهم من جعل الثقافة أعم من الحضارة والمدنية وهم أهل الاجتماع ، وهذا الاختلاف لا يعنينا بقدر ما يعنينا مفهوم الحضارة كمدخل للحضارة الإسلامية ؛ وعلي ذلك فسنعتمد هنا رأي أهل التاريخ والحضارات .
الحضارة من الحضر بمعني الوجود ضد الغيبة ، والوجود هنا هو الوجود الذي يقتضي الاستقرار ؛ لذلك فالحضارة هي صفة للمجتمع المستقر في مكان ما، يتمتع برقي ما في الجانب المادي والمعنوي. ويعرف ابن خلدون الحضارة بأنها "نمط من الحياة المستقرة يقتضي للعيش فنونا من العلم والعمل والصناعة وإدارة شئون الحياة وأسباب الرفاهية ، وهي تعبر عن قمة التقدم الإنساني، وقد تصل الحضارة بعد تقدم مزهل إلي حالة من الترف يعقبه فساد، فتنزلق رويدا رويدا حتى تصل إلي السفح ؛ فهي غاية العمران ونهاية عمره ومؤذنة بفساده". ويري البعض أن "الحضارة نظام اجتماعي يعين الإنسان علي الزيادة من إنتاجه الثقافى، ومقوماتها أربعة عناصر: القيم الأخلاقية، النظم السياسية، الموارد الاقتصادية العلوم والمعارف".
والحضارة لها جانبان: جانب مادي وجانب نظري، الجانب المادي متمثل في كل المبتكرات، كفنون العمارة والهندسة والطب ووسائل التقنية الحديثة، وغير ذلك مما يبتكره الإنسان ويجسده ، وهذا الجانب المادي يطلق عليه المدنية، وأعتقد أن الغرب أقرب إلي المدنية منه إلي الحضارة . والجانب الآخر متمثل في العلوم النظرية المتعلقة بالفكر والعقل والروح والإيمان والأدب واللغة والفلسفة والأخلاق والمشاعر والتعامل وغير ذلك، وهذا الجانب يطلق عليه الثقافة. وعلي ذلك فالحضارة هي الحصيلة الشاملة للمدنية والثقافة ، بمعني أنها مجموع الحياة الإنسانية في صورتيها المادية والنظرية .
الحضارة الإسلامية :(1/42)
هي الحضارة الوحيدة الفريدة التي تتناسق فيها الماديات والروحانيات، وذلك يعود إلي أنها حضارة قامت علي عقيدة ثابتة في المسلم بأنه خليفة الله في أرضه، فلابد أن يكون صالحا مؤهلا علي قدر المسئولية المكلف بها ، جديرا بهذه الصفة العظيمة؛ ومن ثم سعي بكل ما يمتلك لتحقيق ذلك ، وقد ساعده القرآن علي أن يكون إنسانا حضريا يدرك الغاية من خلقه ، فأرسي له منهجا سليما قويما ، يتسم بجملة من القيم عمل بها المسلمون فارتفعت بهم ففتحوا العالم وصنعوا حضارة عظيمة تشرفهم في كل مكان وزمان، أقامت عليها أوربا حضارتها الحديثة. ويمكننا أن نوجز أهم القيم التي وضعها المنهج القرآني لبناء الحضارة الإسلامية العظيمة والتي يحاول البعض طمسها، ويأبي الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون، فيما يلي :
ـ القيادة القدوة :
تتمثل لا شك في شخص رسول الله ( فهو القائد الأول للمسلمين وللعرب، عُيّن واختير منتقيا من رب العزة ، وحدد وظيفته في البداية فقال: "هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين". ولك أن تقول ما تشاء عن العرب في وصف القرآن لهم بأنهم في ضلال مبين، ولاحظ تعبير القرآن (رسولا منهم) بمعني أنه يعرف كل شيء عن شخصياتهم في السلوك والتعامل والفكر والعقيدة، يعرف مداخلهم كما يعرف صفاتهم الحسنة والسيئة ولنا أن نقف هنا لنستفيد درسا في اختيار القائد الناجح.
ـ الاهتمام بالعلم :(1/43)
يكفينا أن أول أمر إلهي للنبي ( كان أمرا بالتعلم والحث على العلم؛ حيث قال تعالي (اقرأ باسم ربك الذي خلق)؛ ولم يذكر المفعول، وتركه يدل علي العموم والشمول2، وهذا يعني أن الأمر هنا الدعوة إلي المعرفة بمعناها الواسع في مختلف مجالات الحياة الإنسانية ، إضافة إلي هذا فقد رفع الله مكانة العلماء فجعلهم مع المؤمنين{ ويرفع الله الذين آمنوا والذين أوتوا العلم درجات} ؛ ومن هنا برع العلماء المسلمون في مختلف علوم الدين والدنيا من تفسير وفقه ولغة وأدب وفلسفة وتاريخ وجغرافيا وطب وهندسة وفلك وترجمة وغير ذلك .
ـ الدعوة إلى استعمال العقل :
دعا القرآن إلي استخدام العقل في كثير من الأمور في كثير من آياته (إن في خلق السموات والأرض ...) والحديث (ويل لمن يلوكها بلسانه ولم يعقلها بقلبه)، بل إن القرآن وضع العقل في منزلة متقاربة إن لم تكن متساوية مع التبليغ والاستماع، قال القرآن على لسان أهل النار: (وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير)؛ وذلك لأن استخدام العقل مركز الفكر، يجعل الإنسان يبدع فيبتكر، فيصنع الحضارة.
ـ حسن الخلق والمظهر:
ركز الإسلام علي حسن الخلق وجعله الدين كله، ولا تنفع العبادات مع سوء الخلق، لأن سوء الخلق يؤثر علي الآخرين سلبيا، ولعل أعظم صفة لرسول الله من ربه (وإنك لعلي خلق عظيم)3، وإذا نظرنا للمجتمع الغربي الآن وقد انحل أخلاقيا نحمد الله علي أن هدانا للإسلام الذي أمرنا بحسن الخلق، والحديث عن ذلك طويل، لكنْ حسبنا القانون النبوي: "كل المسلم علي المسلم حرام .." فهنا احترام كامل لحقوق الإنسان. كما أمر الإسلام بحسن المظهر، لأن الله جميل يحب الجمال و(خذوا زينتكم عند كل مسجد).
ـ العمل قيمة حضارية:(1/44)
العمل روح الحضارة الإسلامية، يقول رسول الله :" إن قوما غرتهم الأماني أحسنوا الظن بالله وكذبوا، فلو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل" ؛ لأن الإسلام ركز علي العمل تركيزا شديدا، فربطه بالإيمان، فلا نجد آية تدعو إلي الإيمان إلا وهي مقرونة بالعمل، وحدد المنهج القرآني نوع العمل وكيفيته ، أما النوع فهو العمل الصالح للفرد والمجتمع دون ضرر علي أي منهما، سواء عمل دنيوي أو عمل أخروي، ففي آيات كثيرة يقول تعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات)، وأما الكيفية ففي إتقانه "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه" وإتقانه أداؤه بإحسان؛ لذلك يقول تعالي: (إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا).
ـ المساواة والعدالة:
جاء الإسلام بعد ظلم وظلام في العالم أجمع، حتى الشعوب الحضارية (فارس والروم) ؛ ومن ثم كان من مبادئه الإنسانية السامية العظيمة الدعوة إلي العدل والمساوة بين الناس؛ فالكل من آدم وآدم من تراب، لا فضل لعربي علي أعجمي ولا لأبيض علي أسود إلا بالتقوى والعمل الصالح؛ (إن أكرمكم عند الله أتقاكم)، والإنسان إذا أحس بالمساوة والعدالة بينه وبين الاخرين أخلص في كل شيء، في عمله في علاقاته في حبه للوطن.
ـ الاتحاد والتعاون المثمر :(1/45)
جاء الإسلام بعد تفرق وتشتت بين العرب ؛ حيث سادة روح الذاتية والقبلية العدائية، ولا شك أن هذه السمة تضعف قوة المجتمع، في حين أن الاتحاد قوة شديدة ؛ فجاء الإسلام داعيا إلي الحب والسلام بين الناس وجعل ذلك شرطا لدخول الناس، وهذا يقتضي التسامح والعفو والحلم، وهذه الصفات الجليلة نواة مبادئ أساسية لتقدم أي مجتمع، هي مبادئ الاتحاد والترابط والتعاون المثمر بين أفراد المجتمع، ومن ثم حرص المنهج الإسلامي علي إفشاء هذه الصفات الحميدة؛ من أجل الترابط والتعاون المثمر بين أفراد المجتمع الإسلامي، بل أمر بالتحلي بهذه المبادئ؛ يقول تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم علي شفا حفرة من النار فأنقذكم منها فأصبحتم بنعمته إخوانا)، ويقول تعالى: (وتعاونوا علي البرّ والتقوى ولا تعاونوا علي الإثم والعدوان).
ـ التكافل الاجتماعي :
أرسى الإسلام مبدأ التكافل الاجتماعي بين أفراد المجتمع من خلال فرضية الزكاة، وفي الوقت نفسه طهرهم من المال الحرام من خلال مكافحة الربا، والحديث عن هذا يطول.
ـ حب الوطن والانتماء له:
حب المواطن والانتماء له والذي يترجم إلي الدفاع عنه والعمل من أجل تقدمه قيمة عظيمة أسهمت في بناء الحضارة الإسلامية؛ ذلك لأن هذا الحب والانتماء جزء من إيمان المسلم بالله وعقيدته الراسخة بداخله، وقد أرسى هذه القيمة في نفوسنا رسول الله ( ، وذلك من خلال حبه الشديد لوطنه مكة المكرمة، كما يتضح من عبارته المشهورة (إنك لأحب بلاد الله إلىّ، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت)، ولذلك وعده رب العزة بالعودة إليها؛ فقال له: (إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلي معاد)، وكان وعده بفتح مكة (إنا فتحنا لك فتحا مبينا).(1/46)
وإذا ما استعرضنا معاركنا الفاصلة في التاريخ بدءا من بدر نجد أنها كانت دفاعا عن الوطن عقيدة وأرضا ومالا وأهلا؛ ومن هنا كانت فرضية الجهاد علي المسلمين للدفاع عن العقيدة والوطن، ولم يدعُ الإسلام إلي استخدام القوة إلا في حالة الدفاع، لكنه أمر بالتسلح الذي يرهب العدو من أجل ألا يقع الاعتداء (أعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم).
ـ إفشاء الأمن والسلام:
نعمة الأمن تمثل ثلث متاع الدنيا للإنسان؛ لأن متاعها في نعم ثلاث: الصحة والأمن والطعام؛ "يا ابن آدم إذا أصبحت معافى في بدنك، آمنا في سربك، عندك قوت يومك، فقد حيزت لك الدنيا". وإعلاءً لقدر هذه النعمة ذكرها القرآن بمختلف اشتقاقاتها تسع عشرة مرة ، صفة للبيت الحرام وأهله {وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا} و{لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين} وصفة لمصر {ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين} صفة للجنة وأهلها {وهم في الغرفات آمنون}. وإذا زال الخوف حل الأمن؛ حيث لا يجتمعان أبدا، يقول تعالى: {يا موسي أقبل ولا تخف إنك من الآمنين}. ولكن لكي يتمتع الإنسان بنعمة الأمن لا بد من توافر نعمة أخرى هي نعمة السلام.(1/47)
وهو السلام الاجتماعي والتعايش السلمي . فالأمن لا يتحقق إلا بتوافر نعمة السلام، سواء علي مستوى الأفراد أو المجتمعات ؛ لأن السلام ضد الحرب ، يعني الحب والوئام والمودة والتسامح والاطمئنان والرخاء ، فما أروع أن يستشعر مجتمع ما بنعمة السلام! وإعلاء لمكانة هذه النعمة العظيمة وأهميتها للمجتمع الإنساني ركز عليها المنهج القرآني؛ إذ وردت بمختلف اشتقاقاتها إحدى وثلاثين مرة، صفة لله تعالي { الملك القدوس السلام}، وصفة للأنبياء والرسل { وسلام علي المرسلين} وصفة للمؤمن { ولا تقولوا لمن ألقي إليكم السلام لست مؤمنا} وصفة لليلة القدر { سلام هي حتى مطلع الفجر} وصفة للجنة { لهم دار السلام عند ربهم}، وتحية المسلمين في الدنيا "السلام عليكم ورحمة الله" وتحية المسلمين في الجنة {ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم} وتحية أهل الجنة لربهم {دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام} وتحية الله لأهل الجنة {سلام قولا من رب رحيم}؛ ومن أجل هذا فإن الله أمرنا أن نبذل ما نستطيع لننعم بهذه النعمة، يقول تعالى: {ادخلوا في السلم كافة} ويقول: {إن جنحوا للسلم فاجنح لها}، هنا أمر بالسلام الاجتماعي، وهذا مسئولية صانعي القرار في الدول، بيد أن هذا السلام لا يغني عن التعايش السلمي بين أفراد المجتمع الواحد، وهو مسئولية كل إنسان يعيش فوق تراب الوطن؛ ولأهميته أشار إليه رسول الله ورغّب فيه كثيرا؛ منه قوله: "السلام اسم من أسماء الله فأفشوه بينكم" ويقول: "إن في الجنة غرفا من ألوان كلها يري ظاهرها من باطنها ويري باطنها من ظاهرها؛ فيها من النعيم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي قلب بشر. قالوا: لمن تلك ؟ قال : لمن أفشي السلام وأطعم الطعام وأدام الصيام وصلي والناس نيام . قالوا : من يطيق ذلك ؟ قال: من لقي أخاه فسلم عليه فقد أفشي السلام ، ومن أطعم أهله حتى يشبعهم فقد أطعم الطعام، ومن صام رمضان وستا من شوال فقد أدام الصيام،(1/48)
ومن صلي العشاء والفجر في جماعة فقد صلي والناس نيام" وسيادة السلام يقتضي العدل بين الناس علي مستوي الأفراد والدول.
ـ الإعلاء من مكانة المرأة :
فقدت المرأة مكانتها عند العرب في الجاهلية وهُضمت حقوقها وأهينت كثيرا، وخير مثال علي إهدار مكانتها وأد البنات الذي حرمه الإسلام ، فضلا عن إنصافها بإعطائها حقها في الميراث والتعليم والعمل الصالح لها وللمجتمع بمختلف أشكاله مادام في استطاعتها.
ـ مبدأ الحرية :
دعا الإسلام إلي حرية الفكر؛ لأن الحرية من أقوى مبادئ التقدم لأي مجتمع وأمة، فأي أمة ينظر إلي تقدمها من خلال مساحة الحرية التي يتمتع بها أفراده في التعبير والتنفيذ، والإنسان إذا أحس بالحرية أبدع فأنتج فتقدم المجتمع ، ولذا نجد أن أي استعمار يفعل أول ما يفعل أن يطمس حرية الشعب المستعمر من خلال الكبت والظلم والقهر، ليحل ظلامه محل نور الحرية، وبذلك يهدم حضارته المعاصرة. والحرية المعنية هي البناءة التي تلزم الفرد أن تحترم حقوق الآخرين، وأن يعرف ما له من حقوق وما عليه من واجبات، لا الفوضى الهدامة التي تضر بالمجتمع لصالح الفرد، فالمصلحة العامة تعادل المصلحة الخاصة.
ـ مبدأ الشوري :
الشورى هي الديمقراطية في اتخاذ القرار الصالح للمجتمع ، وقد أرسي القرآن هذا المبدأ سيطرة القبلية، يقول تعالى: {وشاورهم في الأمر } ووصفهم بقوله: { أمرهم شوري بينهم}.(1/49)
لكل هذه القيم السامية ـ وغيرها كثير ـ قامت حضارة إسلامية عريقة وقد بدأت من الصفر؛ حيث كان العرب أميين في ضلال مبين ـ كما يذكر القرآن ـ ونجح المسلمون بفضل الله ومنهجه المستقيم المستمد من القرآن والسنة النبوية أن يفتحوا العالم وينيروه ويشعلوا مشاعل الحضارة في معظم بلدانه في الوقت الذي كانت أوربا فيه تعيش في ظلام تحت وطأة أدعياء الدين والكنيسة الذين أشبعوهم من الجانب الروحي إلي درجة الرهبانية وأفقدوهم الجانب المادي من الحضارة فكانت حضارة ذات جانب واحد ، ومن ثم فلم تكن حضارة كحضارة الإسلام العظيمة التي قامت عليها أوربا الحديثة .
وصلت حضارة المسلمين إلي أوربا من خلال جامعات أسبانيا ؛ حيث فاق الأوربيون علي أصوات علماء المسلمين في مساجد الأندلس ـ من أبرز مظاهر الحضارة الإسلامية ـ يدرّسون العلوم المختلفة من طب وهندسة وفلك وفقه وتفسير ولغة وأدب وفلسفة وتراجم، بل إن أوربا لم تعرف الفلسفة اليونانية إلا من خلال العلماء العرب المسلمين عن طريق ترجمتها إلي العربية ثم إلي اللاتينية، وظلت الاستفادة من حضارة العرب حتى جلاء الحملة الفرنسية من مصر.(1/50)
ها هي حضارة المسلمين أضاءت العالم بفضل المنهج الذي سار عليه المسلمون في دعوتهم، وأعتقد أننا افتقدنا هذه الحضارة العظيمة اليوم بسبب تركنا لقيم هذا المنهج القويم، وأخذت أوربا بعض قيم المنهج القرآني وأقامت حضارتها الحديثة، وإن كانت في الجانب المادي. ونعود فنقول : إذا كنا فقدنا كثيرا من قِيَم حضارتنا اليوم، فمازلنا نحتفظ بالجانب الروحي والأخلاقي منها، وهذا ما تفتقده حضارة الغرب اليوم، فما أفدح الانحلال الأخلاقي والتفكك الاجتماعي في الغرب، كما افتقده بالأمس، والدليل علي ذلك أنك دخلت متحف اللوفر ـ علي سبيل المثال ـ تجد الآثار الرومانية تصور الانحلال الأخلاقي الذي كانت تعيشه أوربا من كشف عورات الرجال والنساء وغير ذلك مما نراه الآن لديهم، علي العكس تماما من الآثار الإسلامية التي تصور أصدق تصوير حياة المسلمين، وجدير بالذكر أن ثمة تشابها كبيرا بين حضارتنا الإسلامية وحضارتنا المصرية في كثير من الأمور كالدعوة إلي التوحيد والإيمان بالبعث والأخلاق الكريمة العالية، ولك أن تنظر إلي الآثار المصرية والآثار الرومانية في متحف اللوفر، فتؤمن بما نقول، فنعم الحضارة حضارتُنا الإسلامية.
وحق لنا أن نؤكد أن انتقال الحضارة من أمة إلي أمة أمر طبيعي بصرف النظر عن الأسباب؛ لأن الحياة متداولة، كما قال تعالى: (وتلك الأيام نداولها بين الناس)، وما أحسن قول الشاعر:
لكل شيء إذا ما تمّ نقصانُ فلا يُغرّ بطيب العيش إنسانُ
هي الأمور كما شاهدْتها دولٌ من سرّه زمنُ ساءته أزمانُ
حب الوطن من الإيمان
(ممكن يؤخذ منها لليلة القدر)
الحمد لله .. والصلاة والسلام علي رسول الله .. وبعد(1/51)
فإنه يسرنا أن نعرض في السطور القادمة بموجز من القول لموضوع يحتل درجة عالية من الأهمية ، هو حب المواطن وانتماؤه لوطنه والذي يترجم إلي الدفاع عنه والعمل من أجل تقدمه وبناء حضارته ؛ ذلك لأن هذا الحب أو الانتماء جزء من إيمانه بالله وعقيدته الراسخة بداخله ، والتي يؤمن بأنها سبب سعادته في الدارين ، وحب الوطن يأتي من حب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي يعد شرطا لتمام الإيمان ، إذ يقول فيما روي عنه : " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه " وحب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقتضي إتباع سنته ، ومن سنته حبه الشديد لوطنه مكة ، والذي يبدو لنا جليا في عبارته الشهيرة التي دونها لنا التاريخ والتي قالها مخاطبا بها مكة حينما أجبر علي تركها ؛ إذ نظر إليها وقال : إنك لأحب بلاد الله إلىّ، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت"، ولذلك وعده رب العزة بالعودة إليها؛ فقال له: {إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلي معاد} وكان وعده إياه مقضيا؛ حيث فتح النبي مكة؛ وقال له: {إنا فتحنا لك فتحا مبينا}.
وإذا ما استعرضنا معاركنا الفاصلة في التاريخ بدءا من بدر انتهاء بالعاشر من رمضان نجد أنها كانت دفاعا عن الوطن عقيدة وأرضا ومالا وأهلا وخيرات. (وما أعظم الشبه بين بدر وأكتوبر في المعية الإلهية! ، فالملائكة حاربوا في المعركتين).(1/52)
وإذا ما تركنا مكة لنأتي إلي مصرنا نجد ـ بادئ ذي بدء ـ أن مصر تعني في اللغة البلد المتحضر المتمدن ، وهذا يعني أن المصريين منذ القدم أصحاب حضارة ومدنية وتقدم، أحبوا بلدهم فأطلقوا عليها مصطلح "الأرض المحبوبة" ، ولعل حضارة الآلاف السبعة تشهد خير شهادة علي هذا ، بل إن حب كل العالم الآن لمصر الحضارة ـ وقد رأينا هذا رأي العين ـ لشهادة عظيمة تؤكد مكانة مصرنا بين العالم أجمع ، ويعود الفضل في أن تنال مصرنا هذه المكانة إلي ما تتمتع به من صفات حميدة لم تتوافر في أي بلد آخر ، وخير شاهد علي هذه الصفات القرآن الكريم الذي يطمئننا بأن هذه الصفات ثابتة بثباته في الأرض إلي يوم القيامة ، فلقد وردت مصر باسمها في القرآن خمس مرات ـ إحداها منونة ـ وفي كل مرة منها يضفي القرآن عليها صفة جليلة ، فيصفها بأنها بلد الاستقرار في قوله : { وأوحينا إلي موسي وأخيه أن تبوّءا لقومكما بمصر بيوتا} ، وبلد الكرم في قوله: { وقال الذي اشتراه من مصر أكرمي مثواه} وبلد الملك في {ونادي فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتى }، وبلد الخير في قوله: {اهبطوا مصر فإن لكم ما سألتم } وبلد الأمن في قوله تعالى: {ادخلوا مصر إن شاء آمنين}.
وأود أن أقف وقفة عند صفة الاستقرار ، فالله تعالي خلق الإنسان ليعبده {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}، واستعمره الأرض، فقال له: "هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها"، وأباح له التمتع بمتاع الدنيا ما لم يعص الله {وابتغ فيما أتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين}، والإنسان لا يستطيع أن يعيش بمعزل عن المجتمع الإنسانى، كما لا يستطيع أن يتمتع بنعم الله في الكون ولا يستطيع أن يؤدي حق الله عليه كما أن المجتمع لا يرقي ولا يتمدن ولا يتقدم إلا إذا كان مجتمعا مستقرا، تسوده نعمة الاستقرار.(1/53)
الاستقرار:
أكّد القرآن علي صفة الاستقرار في مصرنا الحبيبة، في وصفها إياها بالأرض؛ فالأرض رمز للاستقرار، ولا ريب أن هذه الصفة أوجبت علي المصريين القدماء حبهم الشديد لبلدهم ؛ مما يجعلهم يحاربون الحق من أجل استقرارهم بوطنهم الحبيب مصر، حاربوا موسي وأخاه ورموهما بالسحر يقول تعالي {إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما} ، ويقول تعالي علي لسان فرعون : { أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى}.
ومن هنا حرم الله الظلم بمختلف ألوانه ، ومن الظلم الاعتداء ، سواء علي مستوي الأفراد أو علي مستوي المجتمعات ، ولم يُشرَع القتال أو الحرب إلا في حالة الدفاع عن النفس أو العقيدة أو الأهل أو الأرض أو المال .. وحرّمه فيما عدا ذلك؛ لأن الاعتداء يصيب الإنسان بالخوف والتوتر والقلق، فلا يستطيع أن يعمل؛ فتقف حركة الحياة ، فلا يتحقق ما أمر الله به العباد . فالإنسان بحاجة إلي الاستقرار، وهذا لا يتأتي إلا إذا أحس الإنسان بنعمة الأمن
الأمن:
هذه النعمة تمثل ثلث متاع الدنيا للإنسان؛ لأن متاعها في نعم ثلاث: الصحة والأمن والطعام؛ كما جاء في الحديث: "يا ابن آدم إذا أصبحت معافي في بدنك، آمنا في سربك، عندك قوت يومك، فقد حيزت لك الدنيا". وإعلاءً لقدر هذه النعمة ذكرها القرآن بمختلف اشتقاقاتها تسع عشرة مرة ، صفة للبيت الحرام وأهله {وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا} و{لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين} وصفة لمصر وأهلها {ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين} صفة للجنة وأهلها {وهم في الغرفات آمنون}. وإذا زال الخوف حل الأمن؛ حيث لا يجتمعان أبدا، يقول تعالى: {يا موسي أقبل ولا تخف إنك من الآمنين} ويقول أيضا: {وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به}. ولكن لكي يتمتع الإنسان بهذه النعمة لا بد من توافر نعمة أخري هي نعمة السلام.
السلام:(1/54)
وأقصد به السلام الاجتماعي والتعايش السلمي . فالأمن لا يتحقق إلا بتوافر نعمة السلام، سواء علي مستوي الأفراد أو المجتمعات ؛ لأن السلام ضد الحرب ، يعني الحب والوئام والمودة والتسامح والاطمئنان والرخاء ، فما أروع أن يستشعر مجتمع ما بنعمة السلام ! وإعلاء لمكانة هذه النعمة العظيمة وأهميتها للمجتمع الإنساني ركز عليها المنهج القرآنى؛ إذ وردت بمختلف اشتقاقاتها إحدي وثلاثين مرة ، صفة لله تعالي { الملك القدوس السلام}، وصفة للأنبياء والرسل { وسلام علي المرسلين} وصفة للمؤمن { ولا تقولوا لمن ألقي إليكم السلام لست مؤمنا} وصفة لليلة القدر { سلام هي حتى مطلع الفجر} وصفة للجنة { لهم دار السلام عند ربهم}، وتحية المسلمين في الدنيا " السلام عليكم ورحمة الله" وتحية المسلمين في الجنة {ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم} وتحية أهل الجنة لربهم {دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام} وتحية الله لأهل الجنة {سلام قولا من رب رحيم}(1/55)
ومن أجل هذا فإن الله أمرنا أن نبذل ما نستطيع لننعم بهذه النعمة، يقول تعالى: {ادخلوا في السلم كافة} ويقول: {إن جنحوا للسلم فاجنح لها}، هنا أمر بالسلام الاجتماعى، وهذا مسئولية صانعي القرار في الدول، بيد أن هذا السلام لا يغني عن التعايش السلمي بين أفراد المجتمع الواحد، وهو مسئولية كل إنسان يعيش فوق تراب الوطن؛ ولأهميته أشار إليه رسول الله ورغّب فيه كثيرا؛ منه قوله: "السلام اسم من أسماء الله فأفشوه بينكم" ويقول: "إن في الجنة غرفا من ألوان كلها يري ظاهرها من باطنها ويري باطنها من ظاهرها؛ فيها من النعيم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي قلب بشر. قالوا: لمن تلك ؟ قال : لمن أفشي السلام وأطعم الطعام وأدام الصيام وصلي والناس نيام . قالوا : من يطيق ذلك ؟ قال: من لقي أخاه فسلم عليه فقد أفشي السلام ، ومن أطعم أهله حتى يشبعهم فقد أطعم الطعام، ومن صام رمضان وستا من شوال فقد أدام الصيام، ومن صلي العشاء والفجر في جماعة فقد صلي والناس نيام" وسيادة السلام يقتضي العدل بين الناس علي مستوي الأفراد والدول.
العدل:
لابد من توافر العدل واحترام حقوق الآخرين علي مستوي الأفراد والجماعات لأن الظلم تدمير للمجتمع، يقول تعالى: {والذين يؤذون المؤنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا} {ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق}، ويقول رسول الله ـ ص ـ "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر"، ويقول: "من رفع علينا السلاح فليس منا.." ويقول مستشرق: "إن القتال في الإسلام لم يشرع إلا لنشر العدالة بين الناس" فما أروع هذه المقولة الصادقة! والعدل يحتاج إلي قوة.
القوة:(1/56)
القوة مطلب أساسي لإرساء العدل بين الدول وبين الأفراد، ومن هنا دعا القرآن إليها، فقال: "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم"، فالقوة مطلوبة لمنع الحرب والقتال والتعدي والظلم؛ لأن الإرهاب إرهاب تخويف فمنع لا إرهاب تعدٍّ علي حقوق الآخرين، بمعني أننا إذا كنا أقوياء هابنا الآخرون فلا يتعدون علينا وعلي ممتلكاتنا، وهذه القوة لا تتوافر إلا بالاتحاد والتعاون؛ فالاتحاد قوة، ومن هنا أمر به الله، يقول تعالى: {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا } ويقول أيضا: {وتعاونوا علي البر والتقوى ولا تعاونوا علي الإثم والعدوان}، وقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ "عليكم بالجماعة، فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية"، وقديما قالوا: (من لم يتذأب تأكله الذئاب)، هذه الصفة العظيمة موجودة في شعب مصر منذ القدم قبل أن يكونوا مسلمين، يؤكد هذا نبينا الكريم؛ يقول: "إذا فتح الله عليكم مصر فاتخذوا بها جندا كثيفا فإنهم خير أجناد الأرض ؛ لأنهم في رباط إلي يوم القيامة". والقوة والاتحاد لا يتحققان إلا بالاستقامة والعمل والتسلح بسلاح العلم سلاح العصر.
الاستقامة:(1/57)
وأعني بها اتباع منهج الله وسنة نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأن البعد عنه كفر بنعم الله علينا، وجزاء هذا الكفر عظيم، يقول تعالى: {ضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون} وانظر إلي المفارقة الدقيقة بين نعمتي الأمن والطمأنينة ونقمتي الجوع والخوف. أما اتباع المنهج القرآني يمتّع الإنسان بثلاث نعم: الاستخلاف في الأرض (القوة العسكرية التي تعينهم علي الاستقرار في المكان) والتمكين في الدين أو العقيدة الراسخة، وهذا مترتب علي القوة العسكرية التي تساعدهم علي نشر دينهم في العالم، والأمن، فالمجتمع إذا نشر دينه في كل مكان أمن بوائق الآخرين ، يقول تعالى: {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضي وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا}.
العمل:
العمل أساس من أسس الحضارة الإسلامية ، يقول رسول الله: "إن قوما غرتهم الأماني أحسنوا الظن بالله وكذبوا، فلو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل"، وهذا يعني أن الإسلام ركز علي العمل تركيزا شديدا، وقد ربطه بالإيمان، فلا نجد آية تدعو إلي الإيمان إلا وهي مقرونة بالعمل، وحدد المنهج القرآني نوع العمل وكيفيته، أما النوع فهو العمل الصالح للفرد أوالمجتمع دون ضرر علي أي منهما، سواء عمل دنيوي أو عمل أخروى، ففي آيات كثيرة يقول تعالى: { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات} وأما الكيفية فمتمثلة في أدائه بإتقان ، يقول النبي الكريم : " إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه" وإتقانه أداؤه بإحسان ؛ لذلك يقول تعالي : { إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا}.
إذا ما توافرت هذه الصفات الخمس (الاستقامة والعدل والسلام والاتحاد والعمل) تحقق الأمن للمجتمع ؛ فتحقق له الاستقرار ، فيكون مجتمعا حضاريا.(1/58)
لكل هذه الصفات الحميدة الت وصف الله بها مصر نجد حقدا شديدا من الأعداء علي مصرنا ، وكثيرا ما يسعون إلي غزوها بأي ألوان الغزو ، ولكن المصريين دائما أصحاب عزة وكرامة وأمن وسلام يأبون أن يعيشوا تحت وطأة الذل والقهر، يأبون إلا أن يعيشوا تحت مظلة الصفات القرآنية والنبوية الحميدة لمصرهم ؛ ولعل معركة العاشر من رمضان خير شاهد علي ذلك.
لذلك ينبغي ـ بل يجب ـ علينا أن نحب هذا الوطن ونقدسه ونحافظ علي أمنه وسلامه، محاربين الفساد الدخيل بشتي ألوانه ، لاسيما التخريب الذي تحدثه طائفة من الأعداء تحت شعار الدين ، والدين منهم براء ، كما ينبغي أن نراقب الله في أعمالنا ، فمراقبة الله في العمل تحسنه ، ولا يخالجنا ريب في أن أساس التقدم والرقي لأي مجتمع إنما يأتي نتيجة لإتقان العمل ، وهذا ما نلمسه في أفعال الآخرين (الغرب) ، فهم يتمتعون بجملة من الصفات الحميدة أدت إلي تقدمهم ، غير أن تمسّكَهم بها ليس عقيدة دينية بل مبادئ إنسانية وقيم حضارية أقرها إسلامنا ، ونحن نعلم أن الإسلام ما أقر شيئا يخالف العقل الإنساني القويم .
لهذا يجب علينا نحن العرب أن نتعاون ونتلاحم ونقوي بتوحيد كلمتنا ضد أعداء الإسلام والعروبة ؛ فالاتحاد قوة ، ولا يأكل الذئب من الغنم إلا القاصية، من لم يتذأب تأكله الذئاب.
هذه الأسس يمكن تقال في ليلة القدر، لأنها ليلة السلام، بالإضافة إلي أنها ليلة القرآن، وأول ما نزل منه الحث علي طلب العلم (اقرأ باسم ربك...اقرأ وربك الأكرم) وهي ليلة خير من عمر الإنسان إذا أحسن التقرب إلي الله فيها بأن أحياها إيمانا بالله واحتسابا للأجر عنده بفضل الله.
لا عهد لهم .. أشد قسوة من الحجارة
فماذا ننتظر منهم ؟
الحمد الله .. والصلاة والسلام علي رسول الله .. وبعد(1/59)
فإنه لمن الطبيعي أن يشكر الإنسان صنع المعروف من الآخرين ، وإنه لمن الشاذ أن يجحد الإنسان فضلا أسدي إليه ، ومن غير المعقول أن يديم المنعم نعمه علي إنسان يجحد له فضله ، وماذا يفعل المنعم صاحب الفضل بعد هذا ؟ .وماذا ننتظر نحن من إنسان جاحد كافر بالنعم والفضل ؟
إن هذا الجاحد الكافر اليهود العبرانيون الإسرائيليون أهل الكتاب4، وإن المنعم هو الله ، فلقد أنعم الله علي اليهود بأعظم النعم جعلهم أفضل الشعوب { يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم علي العالمين } .
وقد بدأت نعم الله علي اليهود منذ مطاردة المصريين ؛ حيث انشق لهم البحر كالجبل بعد تأكيدهم من الموت قتلا أو غرقا ، ويصور القرآن الكريم هذا المشهد في قوله : { فلما تراء الجمعان قال أصحاب موسي إن لمدركون . قال كلا إن معي ربي سيهدين . فأوحينا إلي موسي أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم . ثم أزلفنا الآخرين . وأنجينا موسي ومن معه أجمعين ثم أغرقنا الآخرين } . { وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون}.
إن الوضع الطبيعي لهولاء القوم أن يشكروا الله علي أن نجاهم من الهلاك ، ولكنهم قوم جاحدون ، قابلوا الحسنة بالسيئة ، فبمجرد أن وصلوا إلي الشاطئ الآخر حدث هذا المشهد المؤسف الذي يصوره القرآن الكريم {وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا علي قوم يعكفون علي أصنام لهم قالوا يا موسي اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون ... أغير الله أبغيكم إلها وهو فضلكم علي العالمين } .(1/60)
يبدو أن من شبّ علي شئ شاب عليه، إذ عاود الإسرائيليون جحدهم لنعم الله؛ حيث دخلوا سيناء وطلبوا من موسي طعاما ، فأنزل الله عليهم أفضل الطعام {ونزلنا عليكم المنّ والسلوي } فأكلوا وعطشوا ولا يوجد ماء في الصحراء ، وإذا بنعم الله المعجزات تزداد عليهم واحدة تلو الأخري ، حيث رزقهم الماء من أجل الحمد والشكر ، { واذ استسقي موسي لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين} . غير أنهم لم يحمدوا ولم يشكروا ، بل قالوا لموسي : هب أننا ذهبنا إلي مكان ليس به حجر ، فماذا تفعل ؟ فأوحي الله إلي موسي أن احمل معك الحجر ، فقالوا له : هب أنه لم يكن معك عصا فماذا تفعل ؟ فأوحي الله إلي موسي أن كلّمْ الحجر يتفجرْ ماء .
طلبوا من موسي أطعمة أخري أقل مما رُزقوا ، { قالو يا موسي لن نصبر علي طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثّائها وفومها وعدسها وبصلها قال اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم } ومع ذلك لم يشكروا .
قتل أحدهم ولم يعرفوا القاتل ، وأنعم الله عليهم بمعجزة إحياء المقتول ليدلهم علي قاتله ، ولم يعتبروا ويرجعوا إلي الله ، بل ازدادت قلوبهم قسوة ، كما يقول القرآن: {ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله وما بغافل عما تعملون}.(1/61)
ذهب موسي يناجي ربه ، فلما رجع إليهم وجدهم قد اصطنعوا عجلا من الذهب إلها لهم ، فغضب موسي {فرجع موسي إلي قومه غضبان أسفا} . ثم أخذ موسي منهم سبعين رجلا الصفوة منهم يعتذرون إلي الله عما بدر من قومهم ، ولما وصلوا إلي الجبل قالوا : { يا موسي لن نؤمن لك حتى نري الله جهرة } فأخذتهم الصاعقة ، أماتهم الله جميعا ، فحزن موسي ، وطلب من الله أن يحييهم حتى لا يتهم بنوإسرائيل موسي في قتلهم ، فأحياهم الله كما يقول القرآن : { فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون} ولم يشكروا
خرج موسي يتلقي تعاليم التوراة، وواصلوا مسلسل كفرهم وجحدهم لله ولموسى، فدبروا له مكيدة وتهمة عظيمة، حيث أتي قارون بامرأة فاجرة وقال لها: إذا رجع موسي فقولي أمام الناس: إن موسي زني بي ولك ما تريدين من الذهب والمال فوافقت ، فلما رجع موسي بتعاليم التوراة قال : يا بني إسرائيل من سرق قطعناه ومن قذف جلدناه ومن زني رجمناه . وهنا وقف قارون وقال : حتى لو كان الزاني أنت يا موسي ؟ قال : نعم ، فقال قارون للمرأة : قومي وأخبري الناس كيف زني بك موسي ، وهنا بهت موسي ونظر إلي السماء داعيا الله بالبراءة لأن تهمة البريئ أثقل عند الله من السموات والأرض ، ودعوة المظلوم تخترق الطباق السبع، ويقول الله له: وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين ، وقال موسي للمرأة : بحق من فلق البحر بعصاي هل أنا زنيت بك ؟ فقالت المرأة : يا نبي الله وحق من فلق البحر بعصاك أنت ما زنيت بي وأنت أطهر من ماء السماء ، وبذلك برأّه الله من التهمة ، وحذرنا أن نكون مثل بني إسرائيل ، فقال : { يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسي فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها } .(1/62)
وذهب موسي وهارون إلي مكان مناجاة الرب فمات هارون في الطريق ، ورجع موسي إلي قومه ، فقال قومه : إن موسي قتل هارون لينفرد بالحكم وحده ، فقال الله لهم : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما } .
وقد حرم الله عليهم الصيد يوم السبت ، فانظر إلي مكرهم وخداعهم ، { يمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين } و { يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون} إذ كانوا يرمون الشباك عصر يوم الجمعة ويخرجونها يوم الأحد. فما جزاء هؤلاء؟ مسخهم الله قردة ، قال تعالي : { ولقد علمتم الذين منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين } .
اليهود هم أعداء الله ، فكيف نتعامل معهم ؟ ينبغي أن نتخذ من صحابة رسول الله مثلا في المعاملة ؛ إذ يروي أن رسول الله حينما دخل المدينة ، كان هناك يهودي يمتلك بئرا يبيع ماءها غالية للمسلمين بعد إذلال ، فقال النبي الكريم : من يشتري هذه البئر وله الجنة ؟ فقال عثمان : أنا وأخذ يفاوض اليهودي عليها فرفض اليهودي البيع حبا في إذلال المسلمين ، ولما رفع عثمان السعر قبل اليهودي أن يبيع نصفها (حب المال) ، بمعني أنه يبيع الماء يوما وعثمان يبيع يوما ، فكان عثمان يعطي الماء للمسلمين بغير ثمن ليومه ولليوم التالي حتى وقف حال اليهودي فاضطر أن يبيع باقيها لعثمان . هاهم المسلمون الواعون.
اليهود والإجرام:(1/63)
جبل اليهود علي الإجرام؛ لأنهم لا يقدرون قيمة النفس البشرية وأن كل الناس سواسية كرمهم الله، وبالتالي فما يفعلونه اليوم في الفلسطينيين أمر طبيعي في اعتقادهم وليس غريبا عليهم؛ لأنه هم قتلوا بعض أنبيائهم كما يقول الله: "قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم صادقين". ولقسوتهم وغلظتهم اختصهم الله بقوله: "من أجل ذلك كتبنا علي بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا.." وذلك بعد جناية قابيل بقتل أخيه هابيل.
اليهود عبدة المال:
ليس في البشر أمة شغفت بحب المال مثل اليهود؛ ولذا قال لهم المسيح: "لا تعبدوا ربين: الله والمال". وسبب حبهم للمال اعتقادهم بأنهم شعب الله المختار، ومن ثم يجب أن يسيطروا علي العالم لأنهم الأفضل . والمال أهم وسيلة لتحقيق ذلك وهذا ما يحدث اليوم ، فجميع البنوك الكبري العالمية يسيطر عليها اليهود في العالم وبذلك يسيرون دفة الدول الكبري كما يشاءون. وحبهم للمال راجع أيضا إلي عقيدتهم المادية وحرصهم علي الدنيا، كما قال الله تعالى: "ولتجدنهم أحرص الناس علي حياة" ورغم ذلك زعموا أن الآخرة لهم، فاختبرهم الله في ذلك بقوله: "قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين. ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين". ولذا غضب الله عليهم فقال للمؤمنين: "يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم قد يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور". ومن ثم حرّم الله عليهم بعض الطيبات عقابا لهم، قال تعالى: "فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل وأعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما".(1/64)
وحبهم للمال والدنيا أورثهم الجبن والخوف من الموت، فهم أشد الناس خوفا من الموت وجبنا، قضي الله عليهم بالذلة في كل مكان، ولك أن تسأل: كيف هم جبناء وهم قد احتلوا فلسطين؟ أقول لك ما قاله الله: "ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباءوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة" فقوتهم مستمدة من بعض الدول الكبري (حبل من الناس) وقد تكون مستمدة من حبل الله لاختبار المسلمين ولترَ الشعوب العربية الواقع المظلم والمستقبل الأشد ظلما إن لم يغيروا ما بأنفسهم.
علاقة اليهود بالمسلمين:
مهما وصفنا هذه العلاقة فلن نصفها كوصف الله لها في حياة النبي في قوله: "هاأنتم تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور. إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا إن الله بما يعملون محيط". هذه هي العلاقة التي وصفها الله في كتابه، فهم أعداء الحق أعداء البشرية أعداء الديانات أعداء الإسلام والمسلمين، وأذكر حدثا واحدا يدل علي ذلك بين أبي بكر ورجل يهودي اسمه فنحاص، قال له أبوبكر اتق الله وأسلم وصدّق بمحمد وآمن وأقرض الله قرضا حسنا يدخلك الجنة ويضاعف لك الثواب، فقال اليهودي: تزعم أن الله يستقرضنا أموالنا؟ وما يستقرض إلا الفقير، فإن كان ما تقول حقا فالله إذن فقير ونحن أغنياء ولو كان غنيا ما استقرضنا أموالنا، فغضب أبوبكر وضربه علي وجهه، فشكاه إلي رسول الله منكرا ما قاله لأبي بكر فاستوجب الضرب، فأنزل الله في ذلك قرآنا يتلي تصديقا لأبي بكر "لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق. ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد".(1/65)
وحاول اليهود في المدينة أن يوقعوا بين الأوس والخزرج بعد أن صاروا إخوانا أنصارا لرسول الله، فذكّروهم بماضيهم وحروبهم وخلافاتهم حتى كادوا يتقاتلون لولا تدخل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بينهم وأنزل الله في ذلك قوله تعالى: "قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا وأنتم شهداء وما الله بغافل عما تعملون. يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد أيمانكم كافرين وكيف تكفرون وأنتم تتلي عليكم آيات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله فقد هدي إلي صراط مستقيم".
فماذا ننتظر من هؤلاء اليوم؟ وصدق رسول الله إذ يقول: "ما خلا يهوديان بمسلم إلا وفكرا في قتله"، ويقول أيضا: "لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيختبئ اليهودي وراء الحجر أو الشجر فينادي الحجر والشجر يا مسلم هذا يهودي ورائي تعال فاقتله إلا شجر الغرقد، فإنه من شجر اليهود"
من حقوق الإنسان في الإسلام
أنتجت المدنية الغربية منظمة عالمية أسمتها "منظمة حقوق الإنسان"؛ هذه المنظمة قائمة علي حماية حقوق الإنسان، وصاغت هذه الحقوق في مواد وبنود قانونية فيما يسمي بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وقد اعتمد المنظمة في إرساء ميثاقها علي الشريعة الإسلامية؛ نظرا لأن الشريعة الإسلامية هي تلك الشريعة الفريدة التي سمت بالإنسان واعتنت به كثيرا كإنسان كرمه الله خالقه، ومن ثم فهي شريعة أساسها جلب المنافع ودفع المضار والمفاسد ؛ يقول الإمام الشاطبى: "ما شرعت أحكام الشريعة إلا لمصالح الناس، وحيثما وجدت مصلحة فثم شرع الله"، ويقول ابن القيم عن مقاصد الشريعة: "إن مبناها وأساسها قائم علي الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها ورحمة كلها ومصالح كلها، فكل مسألة خرجت من العدل إلي الجور ومن الرحمة إلي غيرها ومن المصلحة إلي المفسدة فليست من الشريعة ؛ لأن الشريعة عدل الله بين عباده ورحمته بين خلقه".(1/66)
هذا .. وحقوق الإنسان في الإسلام نوعان :
ــ حقوق في حالة السلم .
ــ حقوق في حالة الحرب .
أولا : حقوقه في حالة السلم
حق الحياة :
هذا الحق جاء موجزا في الإعلان العالمى؛ حيث نصت المادة الثالثة علي أن: "لكل إنسان الحق في الحياة والحرية وسلامة شخصيته"، أما في الشريعة الإسلامية فهو حق مقدس ؛ حيث لا يجوز لإنسان الاعتداء علي إنسان أو المساس به بشكل أو آخر لأي سبب من الأسباب ، مهما كانت ديانته وجنسيته ونوعه .. فالجميع بشر متساوون في هذا الحق ؛ لأنه لا يملكه إلا الله ، قال تعالى: {وإنا لنحن نحي ونميت ونحن الوارثون } . والعدوان علي الفرد يعد عدوانا علي المجتمع بأكمله والقصاص من الجاني إحياء للمجتمع بأكمله ؛ قال تعالي : {من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا}.
ومن مقومات المحافظة علي هذا الحق في الإسلام المحافظة علي صحة الإنسان وسلامته ودفع الأمراض عنه ؛ فقد قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن مرض الطاعون: "إذا سمعتم بهذا الوباء ببلد فلا تقدموا عليه" وقد عمل عمر بن الخطاب بهذا التوجيه النبوي للعناية بصحة الإنسان، وذلك حينما منع صحابته من دخول بلاد الشام لما انتشر هذا الوباء بها.
ولم تقتصر عناية الإسلام بالإنسان في حياته فحسب ، بل اعتني به بعد موته؛ فقد قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ "لا تسبوا الأموات؛ فإنهم أفضوا إلي ما قدموا إليه" ووقف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لجنازة يهودي مرّت أمامه، فقال أحد الصحابة: إنه يهودي يا رسول الله ، فقال : إنه مخلوق خلقه الله".
وهذه العناية الإسلامية بحياة الإنسان ومقوماتها نابعة الإيمان بقيمة الإنسان، المخلوق العظيم الذي اعتني الله به في خلقه {ولقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم} وتكريم الله له { ولقد كرمنا بني آدم...}.
2 ـ حق الحرية :(1/67)
جاء في الإعلان العالمي أنه "يولد الناس أحرارا متساوين في الكرامة والحقوق"، أما في الإسلام فهذا الحق لا يقل عن حق الحياة ، فالحرية صفة طبيعية أساسية لكل إنسان منذ ولادته حتى مماته ؛ ولعل ما جاء في الإعلان العالمي مأخوذ من مقولة سيدنا عمر "متي استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا ".
وحرية الإنسان تشمل حرية الأفراد وحرية الشعوب ؛ فلا يجوز لشعب أن يعتدي علي حرية شعب آخر ، فإذا ما حدث اعتداء فلا بد من المقاومة بأي وسيلة شرعية.
ومن مظاهر حرية الفرد :
ـ حرية اختيار رئيس الدولة ، ويكون ذلك من أهل الصدارة والثقة ثم يتبعهم الجمهور في ذلك .
ـ حرية نقض الحكم في حدود المصلحة العامة ، وقد أرسي هذا المبدأ أبوبكر بمقولته الشهيرة : " إني وليت عليكم ولست بخيركم ، فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني " .
ـ حرية التظلم من مسئول إلي مسئول أعلي ، وقد أرسي هذا المبدأ عمر بن الخطاب بمقولته : "من كانت له مظلمة عند أحد من الولاة فليتقدم إلي بالشكوى" وخير نموذج تطبيقي له ما فعله للمصري الذي تظلم من عمرو بن العاص.
3 ـ حق المساواة :
جاء في الميثاق العالمي لحقوق الإنسان أنه " يحق لكل فرد أن يستمتع بجميع الحقوق والحريات المنصوص عليها في الإعلان دون تفرقة أو تمييز من أي نوع كالتمييز بسبب السلالة أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الرأي السياسي أو الأصل القومي أو الاجتماعي أو الثروة أو المولد أو غير ذلك من الأوضاع..".(1/68)
أما عن هذا الحق في الإسلام فهو حق قائم علي أن الناس جميعا يرجعون إلي أصل واحد ، فالكل من آدم وآدم من تراب ، قال تعالي : { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثي وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ..} ، وقد أرسي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذا المبدأ الإلهي بين الناس في قوله : " الناس سواسية كأسنان المشط ، فلا فضل لعربي علي أعجمي ، ولا لأبيض علي أسود إلا بالتقوى والعمل الصالح"؛ فالتقوى والعمل الصالح للفرد والمجتمع هما وجها التمييز لتفضيل إنسان علي آخر؛ قال تعالي : { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } ، وقال رسول الله : " من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه " ، وهذا المبدأ طبقه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ حينما استشفع رجل لامرأة من بني مخزوم ـ ذات مكانة اجتماعية عالية ـ في حد السرقة ، فغضب النبي قائلا: "أتشفع في حد من حدود الله ، فإنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد ، فوالله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها" وقطع اليد هو حد السرقة في الإسلام.
وقد عمل التابعون بهذا المبدأ ، وحسبنا مقولة أبي بكر: "القوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ منه الحق والضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ له الحق ".
4 ـ حق العدالة:
العدل اسم من أسماء الله وصفة من صفاته فهو العدل الحكيم ، وهو ميزان الله في الأرض، وهو نتيجة طبيعية لمبدأ المساواة ؛ واستقرار المجتمعات وسلامها وأمنها وأمانها موقوف علي إفشاء هذا المبدأ السماوي ؛ ومن هنا جاءت عناية الشريعة الإسلامية به بوصفه حقا من حقوق الإنسان كإنسان في جميع الظروف والأحوال والزمان والمكان، قال سبحانه: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى} وقال أيضا: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلي أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل}.(1/69)
ومن ثم نقرر بأن الإسلام في هذا الحق الإنساني سبق المنظمات الدولية التي قررت أنه "لجميع الأفراد علي السواء الحق في محاكمة علنية أمام محكمة مستقلة محايدة تقرر حقوق الفرد وواجباته وتفصل في أي تهمة جنائية توجه إليه"، وقررت كذلك أن "كل متهم بجريمة له الحق في اعتباره بريئا حتى تثبت إدانته قانونا بمحاكمة علنية تتوافر فيها كافة الضمانات التي تكفل له الدفاع عن نفسه"، وقررت أيضا أنه "لا يجوز القبض علي أي إنسان أو حبسه أو إبعاده بغير مسوِّغ قانوني" ولكن يبدو أنه كلام، والدليل القاطع ما يحدث للشعوب الإسلامية لأن حق العدالة كما هو مكفول للفرد فهو مكفول للمجتمع ، والحديث عن ذلك يطول ويطول ذو شجون قاسية.
5 ـ حق العمل والأجر :
من حق الإنسان أن يعمل ويؤجر علي عمله ؛ حتى يكون مؤهلا لمقاومة الحياة قادرا علي تحقيق الهدف الذي خلق من أجله وهو العبادة { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } ، وقد حث الإسلام علي العمل وركز عليه كثيرا ، يقول رسول الله : " إن قوما غرتهم الأماني أحسنوا الظن بالله وكذبوا، فلو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل"، وربط الإسلام العمل بالإيمان، فلا نجد آية تدعو إلي الإيمان إلا وهي مقرونة بالعمل ، وحدد المنهج القرآني نوع العمل وكيفيته ، أما النوع فهو العمل الصالح للفرد أو المجتمع دون ضرر علي أي منهما ، سواء عمل دنيوي أو عمل أخروي ، ففي آيات كثيرة يقول تعالى: { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات} وأما الكيفية فمتمثلة في بإتقان ، يقول النبي الكريم : " إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه" وإتقانه أداؤه بإحسان؛ لذلك يقول تعالى: {إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا}.(1/70)
أما عن أجر العمل أو تأمين الإنفاق فقد أقر سيدنا عمر الرواتب حينما أنشأ الديوان ، وقد استمد ذلك المبدأ من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي كان يراعي الفرق في الأجر بين العازب والمتزوج ، فيعطي المتزوج نصيبين والعازب نصيبا واحدا ، وكان عمر يفرض لكل مولود عطاء يزاد علي عطاء أبيه مائة درهم ، وكلما نما الولد زاد العطاء ، وهذا ما تفعله الدول الأوربية الآن ، ويماثله من بُعدٍ ما يسمي عندنا بالعلاوة الاجتماعية و علاوة الغلاء .
ولم يقف حق الفرد في العمل عند استحقاق أجر ه إذا عمل ، بل أقرت له الشريعة حق الراحة من العمل ، كما جاء علي لسان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ "..إن لنفسك عليك حقا وإن لبدنك عليك حقا.." ، بل وأكثر من ذلك أن أقرت الشريعة المعاش بعد الكبر ، أو ما يسمي بمعاش الشيخوخة ، فكان أساسا من أسس العدالة في الدولة ، وأول من أقر معاش الشيخوخة عمر بن الخطاب .
6 ـ حق الحماية من التعسف والتعذيب :
هذا الحق لا يقل عن غيره من الحقوق الإنسانية من وجهة نظر الإسلام ، وقد أرساه القرآن في قوله تعالي : {والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا} ، فالإسلام كفل للإنسان حقه في حمايته من تعسف السلطات بأي شكل ، ومهما كانت جريمة الإنسان ، فلابد أن يعامل في حسابه كإنسان ذي كرامة وتكريم من رب العزة { ولقد كرمنا بني آدم ..} .
وهذا الحق كان ضمن حقوق الميثاق العالمي ؛ حيث جاء في المادة الخامسة منه أنه " لا يجوز تعريض أي إنسان للتعذيب ولا لضروب من المعاملة أو العقوبة القاسية المهينة المنافية للكرامة الإنسانية " .
7 ـ حق حماية العرض والسمعة :(1/71)
حرم الإسلام أن ينتهك عِرض الإنسان أو تساء سمعته، قال تعالى: {ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا}، {ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب}، وقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا".
وهذا الحق نصت عليه المادة 12 من مواد الإعلان العالمي لمنظمة حقوق الإنسان؛ حيث جاء فيها أنه "لا يجوز تعريض إنسان للتدخل في شئونه الخاصة ولا في شئون أسرته أو مسكنه أو رسائله بغير مسوِّغ قانوني ، ولا الاعتداء علي شرفه وسُمعته، ولكل إنسان الحق في الاحتماء بالقانون مِن مثل هذا التدخل أو الاعتداء".
8 ـ حق اللجوء السياسي :
جاء في حقوق المنظمة الدولية : " لكل إنسان الحق في أن يلتمس في غير وطنه ملجأ يفيد منه ويلوذ به من الاضطهاد "، أما في الإسلام فهو حق مكفول لكل مظلوم مضطهد بصرف النظر عن عقيدته وديانته حتى إن كان كافرا، قال تعالي: { وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه}.
9 ـ حق الأقلية :
وضع الإسلام مبدأ عاما يحكم الأوضاع الدينية للأقليات يتمثل في قوله تعالي: { لا إكراه في الدين } وفي الأحوال الشخصية والمدنية لهم الحرية في أن يتحاكموا للشريعة الإسلامية أو شريعتهم الخاصة ، قال تعالي : {فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط} وقال أيضا: "وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله }وقال تعالي أيضا: {وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه..}.
ثانيا : من حقوقه في الحرب
ـــــــــــ
1ـ إنذار العدو بالحرب ، قال تعالي : { وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم علي سواء . إن الله لا يحب الخائنين } .
2 ـ حماية حقوق المستأمن ، فلا يجوز الاعتداء عليه بشكل أو آخر .(1/72)
3 ـ مسالمة المستأمنين غير المحاربين ، قال رسول الله : " انطلقوا باسم وعلي ملة رسول الله ، ولا تقتلوا شيخا فانيا ولا طفلا صغيرا ولا امرأة ، ولا تغلوا ، وضموا غنائمكم ، وأصلحوا وأحسنوا ؛ إن الله يحب المحسنين " .
4ـ عدم القسوة عند التمكُّن من العدو : ونلمس هذا المبدأ من وصية أبي بكر لأسامة بن زيد حينما بعثه علي الجيش إلي الشام ، فقد جاء فيها " لا تخونوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا طفلا صغيرا ولا شيخا كبيرا ولا امرأة ، ولا تعقروا نخلا ولا تحرقوه ولا تقطعوا شجرة مثمرة ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرا إلا لمأكله وسوف تمرون بأقوام قد فرّغوا أنفسهم في الصوامع (الرهبان) فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له".
وخالق الناس بخلق حسن
هذا الموضوع يمثل الركن الثالث من أركان الوصية النبوية الجامعة "اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن". والمقصد من مخالقة الناس بالخلق الحسن حسن المعاملة مع الناس ، بمعني أن الإنسان يعامل الناس معاملة طيبة كما يحب أن يعاملوه.
وقد شاءت إرادة الله أن تكون النفس البشرية مزدوجة تجمع في داخلها الخير والشر؛ تصديقا لقوله تعالي: {ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها}، ففجورها في سوء خلق صاحبها ، وتقواها في حسن خلقه ؛ لذلك لما خلق الله الكفر قال: يارب قوّنى، فقوّاه بالبخل وسوء الخلق ، ولما خلق الإيمان قال : يا رب قوّني، فقواه بالسخاء وحسن الخلق ، و{ قد أفلح من زكّاها وقد خاب من دسّاها } . وجاء في الحديث أن "سوء الخلق يفسد العمل كما يفسد الخل العسل " ، وجاء أيضا أن " أثقل ما يوضع في الميزان حسن الخلق " و "أول ما يوضع في الميزان حسن الخلق " وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ " إن الرجل ليبلغ بحسن خلقه درجة الصائم القائم " وقال : " أقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا " .(1/73)
فحسن الخلق أساس الإيمان ؛ لذلك أرسل الله رسله يدعون إلي حسن الخلق ، وجاء سيدنا محمد ليتمم مكارم الأخلاق التي جاء بها الرسل والأنبياء قبله ، كما قال "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق "، وحين مدحه اختصه بحسن الحلق { وإنك لعلي خلق عظيم}.
وقيل : إن الدين كله حسن الخلق أو الدين المعاملة ، سأل رجل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما الدين ؟ فقال حسن الخلق . وسئل ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما أكثر ما يدخل العبد الجنة يا رسول الله ؟ فقال: تقوي الله وحسن الخلق . ولا تغني العبادات العبد إذا ساء معاملته مع الناس ، بل لا قيمة لها مع سوء الخلق ؛ لذلك أمر الله بني إسرائيل بحسن الخلق قبل العبادة { وقولوا للناس حسنا وأقيموا الصلاة}. وأكد النبي الكريم هذا المعني في حديثه عن المفلس " أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس من لا درهم له ولا متاع . فقال رسول الله : المفلس من أتي يوم القيامة بصلاة وزكاة وحج ... وأتي وقد سب هذا وقذف هذا وسفك دم هذا ... " ووصف المسلم بأنه من سلم الناس من لسانه ويده ، ورفع منزلة صاحب الخلق الحسن بأنه أقرب الناس منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوم القيامة .(1/74)
يتضح لنا أن سوء الخلق هو سوء المعاملة مع الناس ، وهذه المعاملة السيئة لا ينفع معها عمل يتقرب به العبد من ربه ؛ والإنسان الذي يوذي الآخرين أحق بدخول النار ، وأقرب الناس إليه الجيران ، وهم ثلاثة من حيث الحقوق : جار له حق واحد وجار له حقان وجار له ثلاثة حقوق ، فالذي له ثلاثة حقوق الجار المسلم ذو الرحم { والجار ذي القربى} والذي له حقان الجار المسلم من غير ذوي الرحم ، والذي له حق واحد الجار غير المسلم ، وكلاهما ذكره القرآن في قوله تعالى: {والجار الجنب}، والإحسان إلي الجار أيا كان من حسن الخلق، والإساءة إليه من سوء الخلق ، وهذا ما أمر به التشريع كما جاء في الحديث أن رجلا أنصاريا قال : قدمت علي رسول الله فوجد رجلا مقبلا عليه، ووقف مع رسول كثيرا، وطال بهما القيام حتى جعلت أرثي رسول الله من طول القيام ، فلما انتهي من حديثه وانصرف ذهبت إلي رسول الله ، وقلت : يا رسول الله لقد طال بك القيام مع هذا الرجل حتى جعلت أرثي لك من طول القيام ، فقال : أتدري من هذا الرجل ؟ فقلت لا ، فقال : ذاك جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه ، أما أنك لو سلمت عليه لرد عليك السلام"، وفي رواية أخري ".. حتى خشيت أنه سيورثه".
إن المعاملة الطيبة (حسن الخلق) من تمام الإيمان والإسلام ؛ حيث ربط تعالي عبادته بالإحسان إلي مجموعة من الناس منهم الجيران ، { واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب وابن السبيل ..} ، وقال رسول الله : "أحسن مجاورة من جاورك تكن مسلما" وإيذاء الجار يخرج صاحبه عن دائرة الإيمان ؛ يقول رسول الله: "والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن ، قالوا من يا رسول الله ؟! قال : جار لا يأمن جاره بوائقه" أي شره . وسئل رسول الله عن امرأة تصوم نهارها وتقوم ليلها، لكنها تؤذي جيرانها، فقال: لا خير فيها هي من أهل النار".(1/75)
ومن الإحسان أن يعطي الغني الفقير إذا احتاج ؛ وإن لم يفعل فهو آثم يوم القيامة ؛ فقد جاء في الحديث أن " الجار الفقير يتعلق بالجار الغني ويقول : يارب سل هذا لِمَ منعني معروفه وسدّ بابه دونى؟" وقد لخص رسول الله حقوق الجار في إجابته عن السؤال الذي سأله لصحابته : أتدرون ما حق الجار ؟ .. إن استعان بك أعنته ، وإن استنصرك نصرته ، وإن استقرضك أقرضته ، وإن افتقر أعطيته ، وإن مرض عدته وإن أصابه خير هنأته ، وإن أصابته مصيبة عزيته ، وإن مات تبعت جنازته ، ولا تستطل عليه بالبناء فتحجب عنه الريح إلا بإذنه ، ولا تؤذه ، وإن اشتريت فاكهة فأهد إليه منها وإن لم تفعل فأدخلها بيتك سرا ، ولا يخرج بها ولدك ليغيظ بها ولده " .(1/76)
من سوء الخلق الكبر ، وهو الاستعلاء والتعاظم علي الناس ، هو صفة لله وحده ، ولذلك حذرنا منه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقال : " لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر " وقال : "إياكم والكبر فقالوا يا رسول الله الرجل منا يحب أن يكون ثيابه حسنا ونعله حسنا ، فقال النبي : الكبر بطر الحق وغمط الناس " أي إنكار الحق واحتقار الناس، وقال ـ ص ـ: ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة : شيخ زان وملك جائر وعائل مستكبر " . وفي المقابل نجد أن التواضع من حسن الخلق والمعاملة الطيبة الكريمة ، والتواضع يرفع من قدر الإنسان ومنزلته ، لذلك يقول رسول الله : التواضع يزيد العبد رفعة ، تواضعوا يرفعكم الله" وقال: "من تواضع لله رفعه"؛ وذلك لأن التواضع يكسب الإنسان حب الناس وتقديرهم له. وروي عن سيدنا عيسي أنه قال : طوبى للمتواضعين في الدنيا هم أصحاب المنابر يوم القيامة ، وطوبى للمصابين في الدنيا هم الذين يرثون الفردوس يوم القيامة ، وطوبى للمطهرة قلوبهم في الدنيا هم الذين ينظر الله إليهم يوم القيامة " . وجاء في الحديث : أربع يعطيها الله لمن يحب : الصمت والتوكل والتواضع والزهد" والتواضع شرط معنوي لقبول الصلاة ، فقد جاء في الحديث القدسي : " إنما أتقبل الصلاة ممن تواضع بها لعظمتي ولم يتعاظم بها علي خلقى" .
كذلك من سوء الخلق الغضب ؛ لأن الغضب يخرج الإنسان عن وعيه ، فلا يدرك ما يفعل ، فقد يفعل ما لا تحمد عقباه ، ويندم علي ما فعل ، ولا ينفع الندم إذا نفذ القدر ، وذلك راجع إلي أن الغضب مدخل من مداخل الشيطان ؛ ومن هنا أوصي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالوضوء عند الغضب ؛ لأن الغضب من الشيطان والشيطان من النار والماء يطفئ النار . وفي المقابل نجد أن الهدوء وسعة الصدر والصبر علي كظم الغيظ سمات من حسن الخلق يجب أن يتحلى بها المسلم(1/77)
من حسن الخلق والمعاملة الطيبة كفالة اليتيم ، وقد ركز رسولنا الكريم علي ذلك ، ومما ذكره : " أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة " وأشار بإصبعه السبابة والوسطي . وقال أيضا : " من عال ثلاثة من الأيتام كان كمن قام ليله وصام نهاره وجاهد في سبيل الله " وقال كذلك : " أنا أول من يفتح باب الجنة إلا أنني أري امرأة تبادرني بالدخول ، فأقول : من أنتِ وحالكِ ؟ فتقول : أنا امرأة قعدت علي ثلاثة أيتام".
وسئل رسول الله عن حسن الخلق فقال: "خذ العفو، وأمر بالعرف، وأعرض عن الجاهلين، وأن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمّن ظلمك".
وللحديث بقية .
حب الله للإنسان
إن من النبيين الذين أنعم الله عليهم بنعم عظيمة داود عليه السلام؛ إذ علمه الله الحكمة وفصل الخطاب وسخر معه الجبال يسبحن بالعشي والإبكار والطير محشورة كل له أواب، منحه الله أجمل صوت في الدنيا، فكان إذا قرأ الزبور ورتل وغني به خشعت معه الأشجار وسبحت معه الجبال واهتزت لصوته البحار ورددت معه الأطيار. بل إن صوته سيكون نعيما للمؤمنين في الجنة يوم القيامة؛ حيث يؤتي به ويأمره رب العزة بالتسبيح والتمجيد فإذا سبح غطي صوته علي نعيم أهل الجنة. ومع كل ذلك كان يدعو: اللهم ارزقنا حبك!!! فلماذا حب الله وكيف ينال الإنسان حب الله ؟
أما عن فوائد حب الله للإنسان فهي كثيرة نذكر منها :
ـ يرزق القبول من الناس؛ حيث جاء في الحديث القدسي "أن الله إذا أحب عبدا نادي جبريل إني أحب عبدي فلانا فأحبه فيحبه جبريل ثم ينادي في الملائكة إن الله يحب عبده فلانا فأحبوه فتحبه الملائكة ثم يوضع له القبول في الأرض".
ـ يجعله سببا في جلب الخير ودفع الشر؛ إذ يقول الله تعالي في الحديث القدسي لآدم: "إني لي صفوة من خلقي أعزهم بعزي وأقربهم بوصلي وأسترهم برحمتي بهم أمطر السماء وبهم أصرف البلاء، هم أوليائي وأحبابى، فطوبي لهم ثم طوبي لهم وحسن مآب".(1/78)
ـ يجعله عبدا ربانيا مطاعا؛ كما جاء في الحديث " فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وكنت بصره الذي يبصر به وكنت يده التي يبطش بها وكنت رجله التي يمشي بها..".
ـ يبعد عنه نار جهنم؛ كما قال رسول الله: "اللهم ارزقنا حبك وحب من يحبك وحب كل عمل يقربنا إلي حبك واجعل حبك أحب إلينا من الماء البارد؛ لأن الماء البارد يطفئ نار الدنيا وحبك يطفئ نار الآخرة".
وأما عن كيفية نيل العبد حب الله له فنتعرف عليه من خلال الحوار الذي دار بين داود ورب العزة في الحديث القدسى:
قال تعالى: "يا داود أحبني وأحب من يحبني وحببني إلي خلقى.
فقال: يا رب أحبك وأحب من يحبك، فكيف أحببك إلي خلقك؟
قال: أن تذكرني فلا تذكر إلا خيرا.
فقال داود: علمني عملا إذا عملته بلغت به وقارك.
فقال تعالى: اعمل لي كأنك تراني وأحبب المؤمن من أجلي ولا يزال لسانك رطبا من ذكرى. فقال داود: أي عبادك أحب إليك أحبه بحبك؟ فقال تعالى: أحب عبادي إلي تقي القلب، نقي الكفين، لا يأتي إلي أحد سوءا، ولا يمشي بين الناس بالنميمة، تزول الجبال ولا يزول، أحبني وأحب من يحبني وحببني إلي عبادى. قال:يا رب تعلم أني أحبك وأحب من يحبك، فكيف أحببك إلي عبادك؟ فقال تعالى: ذكرهم بآلائي ونعمائي ونقمائى.
يا داود: ما من عبد يعين مظلوما أو يمشي معه في مظلمته إلا أثبتّ قدمه يوم تزول الأقدام".
فمن خلال هذا الحوار نعرف أن صفات حبيب الله تخلص في الآتى:(1/79)
ـ تقي القلب : والتقوى معناها مراعاة الله في كل عمل، والمراعاة تقتضي المراقبة، فيراقب الإنسان نفسه في كل قول وعمل، وتقتضي أن يصنع الإنسان حجابا يقيه عذاب النار يوم القيامة ويقيه سخط الله عليه، وهذا الحجاب هو الخوف الدائم من الله، فإذا خاف الإنسان من الغد لم يقبل علي ما يغضب الله وأمّنه الله مما يخاف، كما ورد عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حينما دخل علي شاب في سكرات الموت، فقال له: كيف تجدك؟ فقال أرجو رحمته وأخاف عذابه، فقال الرسول الكريم: لا يجتمعان في قلب العبد إلا أمنه الله مما يخاف وأعطاه ما يرجوه".
وقال تعالى: "فاتقوا الله مااستطعتم واسمعوا وأطيعوا" .هذه الآية فيها رخصة للمسلمين في التقوى؛ حيث إنها ناسخة لقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون)؛ حيث قاموا حتى ورمت أقدامهم وتقرحت جباههم، فنزلت هذه الآية تخفيفا بهم ورحمة. ولذا جاء في حديث الاستغفار والذي نعته رسول الله بأنه سيد الاستغفار (اللهم أنت ربي ..) يشرح الحديث مع التوقف عند (أبوء لك بنعمتك عليّ ، وأبوء بذنبي).
ـ نقي الكفين:أي أن يكون كسبه حلالا فيكون مطعمه ومشربه وملبسه هو ومن يعول حلالا، والكسب الحلال شرط لقبول العمل والعبادة، كما جاء في الحديث "أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة"، وليعلم الإنسان أن أداء العمل بإتقان يجعل الكسب حلال والإهمال فيه يجعل الكسب حراما، فلنتق الله في أعمالنا، واعلموا أن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه".
ـ لا يأتي إلي أحد سوءا: أي لا يؤذي أحدا ولا يتسبب في إيذائه بقول أو فعل، وأن يجعل الناس يأمنون له، يقول رسول الله: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده" وقال: "والله لا يؤمن (3) من لا يأمن جاره بوائقه" أي شروره، فلنتق الله في أنفسنا وفي الآخرين وليعلم الجميع أن "البر لا يبلي والذنب لا ينسي والديان لا يموت، اعمل ما شئت، كما تدين تدان".(1/80)
ـ لا يمشي بين الناس بالنميمة : النميمة والغيبة أن تتحدث عن غائب بحديث يكره سماعه ولا تستطيع أن تذكره في وجوده، وقد نهي الدين عن هذا المرض المتفشي بيننا نهيا مطلقا؛ لأنه يؤدي إلي وقوع الخلافات والخصام والمشاكل بين الناس، وقد وصف الله النمام بأنه فاسق "يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا علي ما فعلتم نادمين". وحذرت الأحاديث من سوء عاقبة النمام، ومنها "لا يدخل الجنة نمام" و"لا يدخل الجنة صاحب غيبة" و"يأتي صاحب الغيبة يوم القيامة فيوقفه الله علي جسر من جهنم" و"يأتي صاحب الغيبة يوم القيامة وله لسانان من النار".
ـ تزول الجبال ولا يزول : أي أنه يتصف بالثبات وقوة الإيمان بالله عند الشدائد والمصائب نتيجة الصبر والرضا، وهذا هو حال المؤمن الحقيقي الذي عجب له رسول الله في حديثه "عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، إن أصابته سراء شكر، وإن أصابته ضراء صبر، وفي كل خير"، وذكر العلماء أن الإنسان لا يخرج عن ثلاث حالات في حياته، هي النعمة والبلاء والمعصية، ويمكن أن يكون مؤمنا طيلة حياته إذا كان في نعمة فيشكر، أو في بلاء فيصبر، أو في معصية فيستغفر.
ـ أحبني : من صفات حبيب الله أن يحب هو الله وحب الله يقتضي إتباع سنة الحبيب رسول الله، قال تعالى: "قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم". فلابد من العمل بسنة النبي الكريم صلي الله عليه وسلم.(1/81)
ـ أحب من يحبنى: أي يحب الناس، وحب الناس المؤمنين من الضروريات التي أمر بها الدين الإسلامى، فقد جعل الحب بيننا أساسا لدخول الجنة "لن تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولن تؤمنوا حتى تحابوا.."، وفي المقابل جعل البغض أساسا من أسس إحباط العمل، فقد جاء في الحديث أن "أبواب الجنة تفتح يومي الإثنين والخميس فترفع أعمال جميع العباد إلا متشاحنين، يقول الله لملائكته: أرجوهما حتى يصطلحا"، وفي حديث آخر "ثلاثة لا تقبل صلاتهم ولا ترفع فوق رءوسهم شبرا: إمام جائر واثنان متخاصمان وامرأة بات زوجها ساخطا عليها". فلابد أن المؤمن الآخرين وأن يحب لهم ما يحب لنفسه كما أمر بذلك رسول الله؛ حتى ننزع من أنفسنا صفات الحقد والحسد والضغينة والكراهية، والحب ليس كلاما وإنما يترجم إلي أفعال ملموسة، نذكر منها:(1/82)
1ـ الوقوف معه وقت الشدة، فيزور المؤمن أخاه إذا كان مريضا أو يساعده بالعطاء المادي أو المعنوي إذا في حاجة لذلك ، فذلك العمل له أجر عظيم، كأنك قدمته لله، لذلك جاء في الحديث القدسي "عبدي مرضت فلم تعدنى، قال: يارب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ فقال تعالى: مرض عبدي فلان فلم تعده، أما أنك لو عدته لوجدتني عنده..عبدي استطعمتك فلم تطعمنى، قال: يارب كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ فقال تعالى: استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه، أما أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندى..عبدي استسقيتك فلم تسقنى، قال: يارب كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟ فقال تعالى: استسقاك عبدي فلان فلم تسقه، أما أنك لو سقيته لوجدت ذلك عندى". والوقوف معه وقت الشدة له فضل كبير، إذ يقول رسول الله: "من فرج عن أخيه كربة فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة" ولنعلم أن الله في عون العبد مادام العبد في عون أخيه، ونسوق مثالا لذلك بقصة الرجل الذي وقف بين يدي رب العزة ووزنت أعماله فرجحت سيئاته علي حسناته، واحتاج الرجل إلي حسنة واحدة ترجح بها كفة حسناته، وطلبها من كل أهله، فلم يعطه أحد شيئا، لأن ذلك اليوم شديد "يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه" فرآه رجل ليس له من الحسنات إلا واحدة، فأعطاها لأخيه حتى ينتفع بها، فعجب الله من صنعه، فقال له: ادخل أنت وهو الجنة"، ومن الوقوف معه في الشدة أن تنصره إذا كان مظلوما وتدفع عنه الظلم، ولك بذلك أجر، كما جاء في الحديث القدسي "يا داود: ما من عبد يعين مظلوما أو يمشي معه في مظلمته إلا أثبتّ قدمه يوم تزول الأقدام"، وفي المقابل توعد الله بالهلاك والويل لمن لا يفعل ذلك وهو قادر، فقال: "اشتد غضبي علي من ظلم من لا ناصر له غيرى، فويل لمن رأي مظلوما وقدر علي نصرته فلم يفعل".(1/83)
ـ الستر عليه في موقف يحتاج إلي الستر، ففي الحديث "من ستر مسلما ستره الله"، ولعل في قصة العبد الإسرائيلي العاصي العبرة، حيث منع المطر بسببه، ولما استسقي موسي ربه أمره الله بأن يخرج العبد من بينهم، وأعلن موسي ذلك لبني إسرائيل، فأحس العبد بافتضاح أمره فوضع رأسه في صدره وقال: اللهم إني تبت إليك فلا تفضحنى، وفجأة نزل المطر، فتعجب الناس لأن أحدا لم يخرج، فسأل موسي ربه عن ذلك، فقال تالي له: لقد تاب إلي توبة قبلتها منه، فقال موسي : دلني عليه حتى أتعلم منه التوبة، فقال تعالى: يا موسي لم أفضحه وهو عاص فكيف أفضحه بعد أن تاب؟!! فيجب علي المسلم أن يستر علي أخيه في المواقف الفاضحة المحرجة، بل يجب أن يستر علي نفسه، لأن الله حليم ستار.
ـ العفو عند المقدرة ؛ لأن الله عفو يحب العفو وأمر عباده جميعا أن يعفو بعضهم عن بعض
وقد جاء في القرآن "إن الله كان عفوا غفورا " و"والله غفور حليم"، وجاء في الحديث القدسي " عبدي لا تحزن ، فإن عصيتني بجهلك عفوت عنك بعفوي وغفرت لك بحلمي ورحمتك برحمتي ؛ لأني عفو كريم لا أعجّل بالعقوبة علي عبدي وأنا أرحم الرحمين ". والله تعالي يحب العبد أن يتصف بالعفو ، فأمرنبيه وأمرنا به فقال : { خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين (قصة العبد الظالم والعبد المظلوم).
ــ الرحمة ؛ لأني الله رحمن رحيم ، رحمن بكل الناس في الدنيا رحيم بالمؤمنين في الآخرة "وكان بالمؤمنين رحيما" وأمرنا بها "أنا الرحمن أحب من عبادي الرحماء، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء، ومن لا يرحم لا يرحم، ولا تنزع الرحمة إلا من شقى" .
بمناسبة بدء العام الدراسي
بهذه المناسبة نود أن نوجه ثلاث رسائل الأولي إلي الأبناء والثانية إلي الآباء والثالثة إلي المعلمين .(1/84)
ـ رسالة إلي الأبناء نحثهم فيها علي الاهتمام بالتعليم والحرص عليه؛ مؤكدين لهم أن الإسلام دين علم ومعرفة وتنوير ، وأن أول أمر إلهي إلي الأرض في الإسلام كان أمرا بالتعلم والتعليم قبل أن يكون أمرا بالتوحيد والعبادة وإقامة الشعائر ، فقال تعالى: "اقرأ باسم ربك الذي خلق" ونلحظ في الآية أن المفعول محذوف ، وحذفه يدل علي التعميم والشمول ، أي تعلم كل أنواع العلوم المفيدة ، والدليل علي ذلك قوله "ولسوف يعطيك ربك فترضى" فالمفعول محذوف لتعميم العطاء حتى يرضي رسول الله، كما نلحظ أن الأمر تكرر، وتكراره يدل علي التوكيد عليه، قال تعالي "اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم". وحث رسول الله علي التعلم والعلم فقال "طلب العلم فريضة علي كل مسلم" ورفع الله منزلة العلماء في قوله: "ويرفع الله الذين آمنوا والذين أوتوا العلم درجات" ، وجعلهم أكثر الناس خشية منه، فقال "إنما يخشى الله من عباده العلماء" وهناك قراءة شاذة تجعل (الله) فاعلا و(العلماء) مفعولا علي أن الخشية بمعني التقدير، وحث رسول الله على التعلم والصبر عليه وبين فضله فيما روي عنه أن "ساعة علم خير من ستين سنة عبادة" ، ولله در القائل :
تعلم فليس المرء يولد عالما وليس أخو علم كمن هو جاهل
وإن كبير القوم لا علم عنده صغير وإن جدت عليه المحافل
ـ والرسالة الثانية للآباء، نحثهم فيها علي الاهتمام بالأبناء في التربية والتعليم؛ ونؤكد لهم أن الأولاد أمانة مسئول الأب عنها يوم القيامة؛ لأنهم من رعيته، وكما يقول رسول الله: "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالأب راع في أهل بيته ومسئول عن رعيته.." ونحذر من التفريق بين الولد والبنت(1/85)
ـ والرسالة الثالثة نوجهها للمعلمين؛ نذكرهم بأن التدريس عمل تؤجرون أو تأثمون عليه؛ لأنه عبادة وأمانة تحاسب عليها، والعمل أساس من أسس الحضارة الإسلامية ، يقول رسول الله: "إن قوما غرتهم الأماني أحسنوا الظن بالله وكذبوا، فلو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل"، وهذا يعني أن الإسلام ركز علي العمل تركيزا شديدا، وقد ربطه بالإيمان، فلا نجد آية تدعو إلي الإيمان إلا وهي مقرونة بالعمل، وحدد المنهج القرآني نوع العمل وكيفيته، أما النوع فهو العمل الصالح للفرد أو المجتمع دون ضرر علي أي منهما، سواء عمل دنيوي أو عمل أخروي ، ففي آيات كثيرة يقول تعالى: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات} وأما الكيفية فمتمثلة في أدائه بإتقان ، يقول النبي الكريم: "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه" وإتقانه أداؤه بإحسان ؛ لذلك يقول تعالي : { إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا}.
الإدمان .. أسبابه و حكمه والوقاية منه
لعل من أبرز المشكلات الانحرافية التي يقع فيها بعض الشباب : العزوف عن الدراسة، والمعاكسات، وإدمان المخدرات، ونحاول في السطور القادمة أن نفرد الحديث موجزا عن الإدمان؛ لأنه أخطر المشاكل العصرية التي تعد مصيدة لكثير من الشباب، ومما يؤكد ذلك أنه مشكلة دولية، تحرص بعض الدول علي القضاء عليها؛ حفاظا علي شعوبها من هذا الوباء الخطير.
الأسباب التي تودي بالشاب إلي الإدمان :
أجريت عدة دراسات وأبحاث حول ذلك ، وخلصت إلي أن ثمة أسبابا عديدة تؤدي إلي الإدمان، منها أسباب اجتماعية، ومنها أسباب نفسية ، ومنها أسباب دينية، ويمكننا هنا أن نرصد بعضها علي النحو التالي :
1ــ غياب الوعي الديني من قبل الأسرة
2ــ عدم وجود رقابة علي الأبناء
3ــ الخلافات الأسرية
4ــ التفرقة بين الأبناء
5ــ صديق السوء
6ــ الجهل والإهمال في التعليم
7ــ الإحساس باليأس
8ــ التقليد والمسايرة
9ــ محاولة إثبات الرجولة
10ــ إشاعة جو المرح
11ــ نسيان الهموم والاكتئاب(1/86)
12ــ الهروب من المسئولية
الحكم الشرعي في المخدرات وتعاطيها :
الشريعة الإسلامية تتميز بالعموم والشمول ، فاعتنت بأمور الحياة الدنيا كبير كما اعتنت بالآخرة ، قال تعالى: "وابتغ فيما أتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين" ، فعلي الإنسان أن يأخذ من دنياه ما ينفعه في الدنيا والآخرة وينفع المجتمع أو من غير ضرر ، أي أنه لا يفعل ما يضره أو يضر الآخرين؛ وفقا للقاعدة الفقهية "لا ضرر ولا ضرار".
وقد تضمنت الشريعة نظاما شاملا لشئون الإنسان في كل ميادين الحياة، فحددت أربعة مصادر للتشريع من أجل استقامة وإدارة شئون حياة الإنسان والمجتمع بما ينفع في الدنيا والآخرة، وهذه المصادر بالترتيب وفقا للعمل بها هي القرآن الكريم والسنة النبوية والإجماع (إجماع العلماء) والقياس.(1/87)
فإذا ما نظرنا إلي المخدرات وتعاطيها أو إدمانها نجد أنها عرفت في منتصف القرن السابع الهجري 658هـ علي يد رجل من المتصوفة .. وبالتالي لم نجد لا في القرآن ولا في السنة حكما بالنهي عنها؛ لأن أوامر القرآن والسنة كانت تخاطب الإنسان (من أمر أو نهي أو ترغيب أو ترهيب) فيما هو كائن معروف لديه، ومن أدلة ذلك أن العرب كانوا يعرفون الخمر ويشربونها، فجاء الأمر بالنهي عنها ووضعها القرآن مع الأصنام في مرتبة واحدة، أي أن مدمن الخمر كعابد الصنم، قال تعالى: " إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون" وقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "اجتنبوا الخمر، فإنه لا يجتمع الإيمان وإدمان الخمر، ألا ليوشك أن يخرج أحدهما صاحبه". وعلة تحريم الخمر أنها تسكر العقل أي تغيّبه ، فلا يدري شاربها ماذا يفعل، وقد يفعل ما لا تحمد عقباه علي نفسه أو المجتمع، وقد أخبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن ذلك، ومن هنا يأتي تحريم المخدرات قياسا علي الخمر؛ لأن كليهما مسكر مضر بالإنسان والمجتمع صحيا واقتصاديا دون خلاف من المختصين من أهل العلم، ويكفينا قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "كل مسكر خمر، كل مسكر حرام" وقوله: "ما كثيره مسكر فقليله حرام"، ولا يفوتنا أن نضع نصب أعيننا قوله تعالى: "ولا تلقوا بأيديكم إلي التهلكة".
سبل الوقاية من هذا الوباء :
ــ الوعي الديني للشباب :(1/88)
ويبدأ من الأسرة؛ ولذلك ينبغي أن تكون الأسرة ذات خلق ودين، حتى ينشأ الأبناء تنشئة سليمة تجنبهم الانحراف والخطأ، والتدين داخل الأسرة يأتي من كون الأب والأم علي دين وخلق حسن قبل أن يتزوجا، ولذلك نصح رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ باختيار المرأة المتدينة والرجل المتدين في الزواج، فقال ".. فاظفر بذات الدين تربت يداك" وقال: "إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير" ، وقيل عن دور الأم في صلاح الأسرة:
الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعبا طيب الأعراق
وعن دور الأب قيل:
وينشأ ناشئ الفتيان فينا علي ما كان عوّده أبوهُ
وما دان الفتي بحجي ولكن يعوّده التدين أقربوه
ويبدأ الوعي الديني للشاب داخل الأسرة منذ لحظة الميلاد، وذلك بتنفيذ سنة رسول الله، حيث أمرنا أن نؤذن في أذن المولود اليمني ونقيم الصلاة في اليسرى؛ ليكون أول ما يطرق سمعه كلمة التوحيد ونداء الفلاح، فإذا بلغ سبع سنوات نعلمه الصلاة بالحب واللين، ونأمره بها مشددين عند العشر، كما قال الرسول الكريم: "مروا أولادكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع"(1/89)
ـ وجود الرقابة : لابد من الرقابة علي الشاب والفتاة من قبل الأسرة، فالأب والأم هما المسئول الأول عن صلاح أمر الأبناء، كما قال رسول الله: "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالأب راع في أهل بيته وهو مسئول عن رعيته، والأم راعية في بيت زوجها وهي مسئولة عن رعيتها" ومن مسئولية الرعاية وجود الرقابة علي أفعال الأبناء والنصح لهم وتحذيرهم من الوقوع في المحظور؛ لأن الله أمر الإنسان المؤمن بحماية نفسه ومن يعول من الانزلاق في الخطأ والانحراف، فقال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد"، فينبغي بل يجب علي الأسرة أن تبثّ في الأبناء حبهم للدين وأداء الشعائر والتحلي بالخلق الحسن وتعليمهم ما هو حلال نافع لهم وللمجتمع يثابون عليه وما هو ضار لهم وللمجتمع يأثمون عليه، حتى يعودنهم علي حب الفضيلة ونبذ الرذيلة.
ـ تماسك الكيان الأسري :
وهذا أمر جد مهم؛ لأن الخلافات الأسرية تنعكس بالسلب علي الأبناء، وربما تؤدي إلي انحرافهم نحو الإدمان أو غيره ، ومن ثم حرص الإسلام علي ضرورة تماسك كيان الأسرة، فوضع ثلاث صفات تجعل هذا الكيان متماسكا: الحب والمودة والرحمة، قال تعالى: "خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة"، وللتأكيد علي ترابط هذا الكيان جعل الشرع الطلاق نهاية المطاف بعد بذل كل جهد للإصلاح وهو نهاية مؤلمة مكروهة عند الله،حيث يقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ "إن أبغض الحلال إلي الله الطلاق".
ـ العدل بين الأبناء :
لأن التفرقة بين الأبناء وتفضيل بعضهم علي بعض قد يكون سببا للانحراف فقد أمر الدين الوالدين بالعدالة بين الأبناء، إذ يقول رسول الله: "اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم".
ـ الاهتمام بالتعليم :(1/90)
وهذا أيضا يقع علي عاتق الأسرة ؛ إذ ينبغي علي الأسرة أن تبثّ في الأبناء حب التعليم، لأن العلم والمعرفة أساس الإصلاح والتقدم لأي مجتمع، ولذا كان أول أمر إلهي إلي الأرض هو الأمر بالتعلم والمعرفة ، قال تعالى: "اقرأ باسم ربك الذي خلق". ومدح النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ العلماء في قوله: "فضل العالم علي العابد كفضلي علي أدناكم" وقال تعالى: "إنما يخشي الله من عباده العلماء"، ولله در القائل :
العلم يرفع بيوتا لا عماد لها والجهل يهدم بيوت العز والكرم
ـ اختيار الصديق :
لأن صديق السوء يكون سببا للانحراف فقد ركز الدين علي حسن اختيار الصديق؛ لأن الصديق الحسن يرفع من شأن صاحبه، بل يعرف الإنسان من خلال صديقه، لذلك يقول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ "المرء علي دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل" ؛ ومن ثم قال: "لا تصاحب إلا مؤمنا ولا يأكل طعامك إلا تقيّ". وقال الشاعر:
احذر مصاحبة اللئيم فإنه يعدي كما يعدي الصحيح الأجرب
يعطيك من طرف اللسان حلاوة ويروغ منك كما يروغ الثعلب
يلقاك يحلف أنه بك واثق وإذا تواري عنك فهو العقرب
اختر قرينك واصطفيه تفاخرا إنّ القرين إلي القرين ينسب
وللحديث بقية.
الزواج اللاعرفي
مفهوم الزواج في الإسلام :
هو التقاء الرجل بالمرأة لاستمتاع كليهما بالآخر علي سنة الله ورسوله؛ وهو مشروع بالكتاب والسنة، قال تعالى: "ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة" وقال رسول الله: ".. ألا إني أخشاكم لله وأنا أقوم وأنام وأصوم وأفطر وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس منى" وقال: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أحفظ للفرج وأغض للبصر.." ويبدو من خلال الحديث بعض الأهداف والغايات من الزواج، وهي حفظ الفرج وغض البصر، وهذا يعني استقامة المجتمع وحمايته من الوقوع في الرذائل.
شروط صحة الزواج:(1/91)
حدد الشرع عدة شروط لصحة الزواج، وذلك من خلال السنة النبوية وأقوال الفقهاء:
ـ الإيجاب والقبول : ونعني به طلب الرجل وموافقة المرأة علي الزواج منه، وإلا يكون الزواج باطلا، وهذا ما أقره النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حينما ذهبت إليه فتاة تخبره أن أباها زوجها من ابن أخيه ليرفع به خسيسته، فجعل النبي الأمر إليها، فقالت: قد أجزت ما صنع أبى، ولكن أردت أن أعلم النساء أن ليس للآباء من الأمر شئ". والثيب تعرب عن رأيها، والبكر يكفيها السكوت استحياء من وليها، والسكوت علامة الرضا.
ـ موافقة الوليّ : وهذا ما أشار إليه القرآن في أكثر من موضع، كقوله تعالى: "وأنكحوا الأيامي منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم" وقوله تعالى: "ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا"، فالفاعل هنا لأهل الزوجة، أي وليها، ومن هنا قال رسول الله: "لا نكاح إلا بولي"، وقوله "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فإن دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها، وإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له".وأجمع الفقهاء علي شرط الولي ما عدا أبا حنيفة، فقد أجاز أن تكون المرأة ولي نفسها بشرط الكفاءة.
ـ الإشهاد علي الزواج : وهذا ما ذهب إليه جمهور الفقهاء، والأساس في ذلك حديث رسول الله "لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل" وينبغي أن نقف عند " عدل" !!
ـ الإشهار والإعلان : فلابد من إشهار الزواج علي مستوي المجتمع المحيط بالزوجين، وهذا ما أشار إليه النبي في قوله "أعلنوا النكاح واجعلوه في المساجد واضربوا عليه بالدفوف وليولم أحدكم ولو بشاة، فإذا خطب أحدكم امرأة وقد خضب بالسواد فليعلمها لا يغرها". ومن هنا أجمع الفقهاء علي أنه لا يجوز نكاح السر.
ـ زاد القانون المصري شرطا آخر وهو التوثيق، أي ينبغي أن تكون هناك ورقة رسمية يكتبها المأذون الشرعي شهادة علي هذا الزواج، وهي حماية لحقوق المرأة والأبناء من بعد.(1/92)
ـ وأخيرا لا يفوتنا أن كل ما سبق سواء ما أقره الشرع أو القانون صار عرفا من أعراف المجتمع، والعرف أصل من أصول التشريع، يؤخذ في الاعتبار في مثل هذه الأمور، ومن هنا فالزواج الشرعي هو زواج عرفى؛ لأن المجتمع تعارف عليه بشكله هذا.
لكن ما الزواج العرفي المعروف اليوم؟
بحثنا فلم نجد المصطلح موجودا في كتب القدماء، وإنما وجدنا مصطلحا مرادفا له هو الزواج السرى، وهو عقد يعقده طرفان رجل وامرأة دون ولي ولا شهود ولا إعلان، ولا توثيق في صحيفة رسمية؛ وهذا الزواج باطل عند الفقهاء؛ لأنه يولد ويعيش في الظلام، نظرا لأنه خالف شروط صحة الزواج.
أما الزواج المسمي بالعرفي فهو مصطلح معاصر نشأ بفعل ظروف مجتمعية معاصرة، وهو يخضع لبعض شروط الزواج الشرعي مفتقدا لبعضها الآخر، فهو قائم علي الإيجاب والقبول والإشهاد، مفتقد موافقة الولي والإشهار، وكلاهما شرط أساسي لعقد الزواج وصحته؛
أما الإشهاد فموجود شكلا مفقود معنى؛ لأن الشهود فيه ليسوا "شهود عدل"؛ ولو كانوا كذلك لما وافقوا علي الشهادة، فضلا عن سوء النية لدي الزوج؛ لأن الزوج لو حسن النية لأعلن هذا الزواج ولما كتمه، لكنه سيئ النية، واثق من انتهائه عند حدوث أي مشكلة؛ ولذا يعتبر هذا الزوج لصا سارقا لأعراض الناس خائنا للأهل والدين، ومن ثم يمكن القول بأن هذا الزواج المسمي بالعرفي حاليا هو زواج باطل؛ لأنه يشبه زواج السر الذي نهي عنه الدين.
أسباب اللجوء إلي هذا الزواج:
يمكن أن نوجزها فيما يلي :
ـ الظروف الاقتصادية الصعبة لبعض طوائف المجتمع.
ـ التنشئة الاجتماعية غير الصحيحة.
ـ غيبة الوعي الدينى.
ـ اتباع رخص المذاهب.
وهناك كثير من الأسباب النفسية والاجتماعية تدفع الشاب والفتاة للوقوع فيه.
الآثار المترتبة علي هذا الزواج:
ـ فتح منافذ الظن السيئ لقذف الناس بالزنا؛ لخوف الزوجين من الإشهار.
ـ ضياع الحقوق للزوجة والأولاد إذا حدث اختلاف بينهما، فأنكر الزوج زواجه.(1/93)
ـ ضياع الأنساب؛ لأن الزوج لا يستطيع بل لا يجرؤ أن ينسب الطفل لنفسه بدون وثيقة زواج، وبالتالي يعامل الأبناء معاملة اللقطاء، وتطبق عليهم أحكام اللقيط، قال تعالى: "ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين".
ـ انتشار الجرائم بسبب سوء تربية الأبناء الناتجين عن هذا الزواج، فيسهل عليهم الانحراف، وتنعكس سلوكياتهم علي المجتمع بالسلب، فيضرون به جرما؛ وهنا يأتي حكم شرعي آخر يزيد من تحريم هذا الزواج، وهو أن "درء المفاسد مقدم علي جلب المصالح"، فالإسلام بني أحكامه في المعاملات علي المصلحة بما يفيد الإنسان والمجتمع، لكن إذا تعارضت مصلحة مع مفسدة في أمر ما يحرّم هذا الأمر أو يكره؛ لأن درء المفسدة مقدم علي جلب المصلحة.
وبالله التوفيق ،،،
في رحاب الأشهر الحرم
الأشهر العربية وسبب التسمية :
سمي المحرم تأكيدا لحرمة القتال فيه؛ لأنه شهر يرجع فيه الحجاج من مكة إلي بلادهم، وكانت العرب في الجاهلية تحله عاما وتحرمه عاما؛ ويجمع علي محرمات ومحارم. وصفر من خلو البيوت من الناس لخروجهم للقتال؛ يقال: صفر المكان إذا خلا. وربيع لارتباعهم فيه، والارتباع الإقامة في عمارة الربع. وجمادي لجمود الماء فيه من شدة البرد. ورجب من الترجيب بمعني التعظيم؛ إذ كان العرب يعظمونه؛ فيعتمرون فيه ولا يقاتلون؛ فهو شهر العمرة والراحة من القتال ويسمي برجب الأصم أو منصل الأسنة. وشعبان من تشعب القبائل وتفرقها للغارة علي الأعداء. ورمضان من الرمضاء وهو الحرّ الشديد ويقال رمضت الفصال إذا عطشت. وشوال من شالت الإبل بأذنابها للطراق أي رفعتها. وذوالقعدة لقعودهم عن القتال استعدادا للحج. وذوالحجة لأداء الحج فيه. ومن ثم فالأشهر الحرم التي هي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب سميت بذلك لحرمة القتال فيها؛ لأنها أشهر الحج والعمرة.
فضل الأشهر الحرم:(1/94)
جاء في الأثر "أن الله اصطفي من خلقه صفايا، فاصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس، واصطفي من الكلام ذكره، واصطفي من الأرض المساجد، واصطفي من الشهور رمضان والأشهر الحرم، واصطفي من الأيام يوم الجمعة واصطفي من الليالي ليلة القدر، فعظّموا ما عظّم الله". فالأشهر الحرم معظّمة من الله وينبغي علي المسلم تعظيمها؛ وربما من تعظيمها أن العام الهجري بدأ بالمحرم علي الرغم من أن الهجرة وقعت في شهر ربيع الأول.
وتعظيم هذه الأشهر في عدم الظلم للنفس أو الغير، فالظلم حرام في كل الأيام، لما جاء في الحديث القدسي "يا عبادي إني حرمت الظلم علي نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا"، لكنه في هذه الأشهر أشد وأعظم حرمة؛ حيث جاء النهي عنه صريحا في القرآن، قال تعالى: "إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق الله السموات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم". ومن الظلم الإثم الذي يرتكبه الإنسان في حق نفسه أو في حق غيره.(1/95)
وفي مقابل ذلك فإن الأجر للعمل الصالح مضاعف، فقد روي عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: "أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد المفروضة الصلاة في جوف الليل". فالصيام مؤكد الاستحباب في هذا الشهر، وأفضل الأيام صوما يوم عاشوراء، ذلك اليوم الذي كان يصومه اليهود، في المدينة، ولما سأل رسول الله عن ذلك أجيب بأنه اليوم الذي نجي الله فيه بني إسرائيل من فرعون، فصامه موسى، فقال النبيّ الكريم: نحن أولي بموسي منكم، وصامه النبيّ وأمر صحابته أن يصوموه، وقيل: إن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمر أن ينادي في الناس في يوم عاشوراء : من أكل فليقطع وليصم، ومن لم يأكل فليتم صومه، وقيل إن رسول الله فرض صيام يوم عاشوراء علي المسلمين حتى فرض صيام رمضان، فترك عاشوراء اختيارا، من شاء صام ومن شاء أفطر. وفيما بعد أشار الصحابة إلي صيام اليهود في ذلك اليوم، فأوصي النبيّ بصيام التاسع والعاشر مخالفة لهم، لكن الأجل لم يمهله. ومن ثم يستحب صيام التاسع والعاشر معا اقتداء بسنة رسول الله. وعن فضل هذا الصيام قال رسول الله: "صيام عاشوراء إني أحتسب علي الله أن يكفّر السنة التي قبله"؛ ومن ثم أجمع العلماء علي استحباب الصيام في عاشوراء لما فيه من عظيم الأجر.
حكم القتال في الأشهر الحرم:(1/96)
ثمة رأيان في ذلك: رأي يمنع اعتمادا علي قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام" وقوله تعالى: "فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين" وقوله تعالى: "فلا تظلموا فيهن أنفسكم" علي اعتبار أن القتال من ظلم النفس. ورأي يبيح ذلك اعتمادا علي قوله تعالى: "الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدي عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدي عليكم" وقوله تعالى: "ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم". ولعل هذا الرأي أفضل وأرجح من سابقه؛ لأنه يبيح القتال في حالة صد الاعتداء والدفاع عن الحق، سواء أكان الحق دينا أو عرضا أو مالا أو أرضا أو وطنا، ولا يجوز الاعتداء في حالة. وهذا لا يعني إباحية القتال بدون وجه حق في الأشهر الأخرى، فذلك ظلم؛ والظلم محرم؛ وذلك يرجع إلي أن الأصل في الحياة أن تقوم علي الاستقرار؛ كي تسعد البشرية بالحياة وكي يعمل الناس من أجل التقدم والارتقاء والازدهار بالمجتمعات، وهذا لا يتأتي إلا إذا أحسّ الناس بالاستقرار.
الاستقرار:
أكّد القرآن علي صفة الاستقرار في مصرنا الحبيبة، في وصفها إياها بالأرض؛ فالأرض رمز للاستقرار، ولا ريب أن هذه الصفة أوجبت علي المصريين القدماء حبهم الشديد لبلدهم؛ مما جعلهم يحاربون الحق من أجل استقرارهم بوطنهم الحبيب مصر، حاربوا موسي وأخاه ورموهما بالسحر، يقول تعالي علي لسان السحرة: {إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما}، ويقول تعالي علي لسان فرعون: {أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى}. فالإنسان بحاجة إلي الاستقرار، ولا يتأتي إلا إذا أحس الإنسان بالأمن وعاش في ظل هذه النعمة.
الأمن:(1/97)
هذه النعمة تمثل ثلث متاع الدنيا للإنسان؛ لأن متاعها في نعم ثلاث: الصحة والأمن والطعام؛ كما جاء في الحديث: "يا ابن آدم إذا أصبحت معافي في بدنك، آمنا في سربك، عندك قوت يومك، فقد حيزت لك الدنيا". وإعلاءً لقدر هذه النعمة ذكرها القرآن بمختلف اشتقاقاتها تسع عشرة مرة ، صفة للبيت الحرام وأهله {وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا} و{لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين} وصفة لمصر وأهلها {ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين} صفة للجنة وأهلها {وهم في الغرفات آمنون}. وإذا زال الخوف حل الأمن؛ حيث لا يجتمعان أبدا، يقول تعالى: {يا موسي أقبل ولا تخف إنك من الآمنين} ويقول أيضا: {وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به}. ولكن لكي يتمتع الإنسان بهذه النعمة لا بد من توافر نعمة أخري هي نعمة السلام.
السلام:
وأقصد به السلام الاجتماعي والتعايش السلمي . فالأمن لا يتحقق إلا بتوافر نعمة السلام، سواء علي مستوي الأفراد أو المجتمعات ؛ لأن السلام ضد الحرب ، يعني الحب والوئام والمودة والتسامح والاطمئنان والرخاء ، فما أروع أن يستشعر مجتمع ما بنعمة السلام ! وإعلاء لمكانة هذه النعمة العظيمة وأهميتها للمجتمع الإنساني ركز عليها المنهج القرآنى؛ إذ وردت بمختلف اشتقاقاتها إحدي وثلاثين مرة ، صفة لله تعالي { الملك القدوس السلام}، وصفة للأنبياء والرسل { وسلام علي المرسلين} وصفة للمؤمن { ولا تقولوا لمن ألقي إليكم السلام لست مؤمنا} وصفة لليلة القدر { سلام هي حتى مطلع الفجر} وصفة للجنة { لهم دار السلام عند ربهم}، وتحية المسلمين في الدنيا " السلام عليكم ورحمة الله" وتحية المسلمين في الجنة {ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم} وتحية أهل الجنة لربهم {دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام} وتحية الله لأهل الجنة {سلام قولا من رب رحيم}(1/98)
ومن أجل هذا فإن الله أمرنا أن نبذل ما نستطيع لننعم بهذه النعمة، يقول تعالى: {ادخلوا في السلم كافة} ويقول: {إن جنحوا للسلم فاجنح لها}، هنا أمر بالسلام الاجتماعى، وهذا مسئولية صانعي القرار في الدول، بيد أن هذا السلام لا يغني عن التعايش السلمي بين أفراد المجتمع الواحد، وهو مسئولية كل إنسان يعيش فوق تراب الوطن؛ ولأهميته أشار إليه رسول الله ورغّب فيه كثيرا؛ منه قوله: "السلام اسم من أسماء الله فأفشوه بينكم" ويقول: "إن في الجنة غرفا من ألوان كلها يري ظاهرها من باطنها ويري باطنها من ظاهرها؛ فيها من النعيم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي قلب بشر. قالوا: لمن تلك ؟ قال : لمن أفشي السلام وأطعم الطعام وأدام الصيام وصلي والناس نيام . قالوا : من يطيق ذلك ؟ قال: من لقي أخاه فسلم عليه فقد أفشي السلام ، ومن أطعم أهله حتى يشبعهم فقد أطعم الطعام، ومن صام رمضان وستا من شوال فقد أدام الصيام، ومن صلي العشاء والفجر في جماعة فقد صلي والناس نيام" وسيادة السلام يقتضي العدل بين الناس علي مستوي الأفراد والدول.
العدل:
لابد من توافر العدل واحترام حقوق الآخرين علي مستوي الأفراد والجماعات لأن الظلم تدمير للمجتمع، يقول تعالى: {والذين يؤذون المؤنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا} {ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق}،(1/99)
ومن هنا حرم الله الظلم بمختلف ألوانه ، ومن الظلم الاعتدء علي الآخرين ، سواء علي مستوي الأفراد أو علي مستوي المجتمعات؛ ولذا فالقتال لم يُشرَع في الإسلام إلا في حالة الدفاع عن النفس أو العقيدة أو الأهل أو الأرض أو المال .. وحرّمه فيما عدا ذلك؛ لأن الاعتداء يصيب الإنسان بالخوف والتوتر والقلق، فلا يستطيع أن يعمل؛ فتقف حركة الحياة ، فلا يتحقق ما أمر الله به العباد . فالإنسان بحاجة إلي الاستقرار، وهذا لا يتأتي إلا إذا أحس الإنسان بنعمة الأمن. ويقول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر"، ويقول: "من رفع علينا السلاح فليس منا، ومن غش فليس منا" ويقول أحد المستشرقين: "إن القتال في الإسلام لم يشرع إلا لنشر العدالة بين الناس" فما أروع هذه المقولة الصادقة! والعدل يحتاج إلي قوة.
القوة:
والقوة لا تتوافر إلا بالاتحاد والتعاون؛ فالاتحاد قوة، ومن هنا أمر به الله، يقول تعالى: {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا } ويقول أيضا: {وتعاونوا علي البر والتقوى ولا تعاونوا علي الإثم والعدوان}، هذه الصفة العظيمة موجودة في شعب مصر منذ القدم قبل أن يكونوا مسلمين، يؤكد هذا نبينا الكريم؛ يقول: "إذا فتح الله عليكم مصر فاتخذوا بها جندا كثيفا فإنهم خير أجناد الأرض ؛ لأنهم في رباط إلي يوم القيامة". والقوة والاتحاد لا يتحققان إلا بالاستقامة والعمل.
الاستقامة:(1/100)
وأعني بها اتباع منهج الله وسنة نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأن البعد عنه كفر بنعم الله علينا، وجزاء هذا الكفر عظيم، يقول تعالى: {ضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون} وانظر إلي المفارقة الدقيقة بين نعمتي الأمن والطمأنينة ونقمتي الجوع والخوف. أما اتباع المنهج القرآني فيمتّع الإنسان بثلاث نعم: الاستخلاف في الأرض (القوة العسكرية التي تعينهم علي الاستقرار في المكان) والتمكين في الدين أو العقيدة الراسخة، وهذا مترتب علي القوة العسكرية التي تساعدهم علي نشر دينهم في العالم، والأمن، فالمجتمع إذا نشر دينه في كل مكان أمن بوائق الآخرين ، يقول تعالى: {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضي لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا}.
العمل:
العمل أساس من أسس الحضارة الإسلامية ، يقول رسول الله: "إن قوما غرتهم الأماني أحسنوا الظن بالله وكذبوا، فلو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل"، وهذا يعني أن الإسلام ركز علي العمل تركيزا شديدا، وقد ربطه بالإيمان، فلا نجد آية تدعو إلي الإيمان إلا وهي مقرونة بالعمل، وحدد المنهج القرآني نوع العمل وكيفيته، أما النوع فهو العمل الصالح للفرد أو المجتمع دون ضرر علي أي منهما، سواء عمل دنيوي أو عمل أخروى، ففي آيات كثيرة يقول تعالى: { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات} وأما الكيفية فمتمثلة في أدائه بإتقان ، يقول النبي الكريم : " إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه" وإتقانه أداؤه بإحسان ؛ لذلك يقول تعالي : { إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا}.
وأخير نكرر القول بأنه بالاستقامة والعمل تتحقق القوة والاتحاد فيسود العدل فيتحقق السلام فيتحقق الأمن فالاستقرار للإنسان، فيرقي المجتمع ويتطور ويكون مجتمعا حضاريا.(1/101)
لكل هذه الصفات الحميدة التي وصف الله بها مصر نجد حقدا شديدا من الأعداء علي مصرنا ، وكثيرا ما يسعون إلي غزوها بأي ألوان الغزو ، ولكن المصريين دائما أصحاب عزة وكرامة وأمن وسلام يأبون أن يعيشوا تحت وطأة الذل والقهر، يأبون إلا أن يعيشوا تحت مظلة الصفات القرآنية والنبوية الحميدة لمصرهم ؛ ولعل معركة العاشر من رمضان خير شاهد علي ذلك.
لذلك ينبغي ـ بل يجب ـ علينا أن نحب هذا الوطن ونقدسه ونحافظ علي أمنه وسلامه، محاربين الفساد الدخيل بشتي ألوانه ، لاسيما التخريب الذي تحدثه طائفة من الأعداء تحت شعار الدين ، والدين منهم براء ، كما ينبغي أن نراقب الله في أعمالنا ، فمراقبة الله في العمل تحسنه ، ولا يخالجنا ريب في أن أساس التقدم والرقي لأي مجتمع إنما يأتي نتيجة لإتقان العمل ، وهذا ما نلمسه في أفعال الآخرين (الغرب) ، فهم يتمتعون بجملة من الصفات الحميدة أدت إلي تقدمهم ، غير أن تمسّكَهم بها ليس عقيدة دينية بل مبادئ إنسانية وقيم حضارية أقرها إسلامنا ، ونحن نعلم أن الإسلام ما أقر شيئا يخالف العقل الإنساني القويم .
لهذا يجب علينا نحن العرب أن نتعاون ونتلاحم ونقوي بتوحيد كلمتنا ضد أعداء الإسلام والعروبة ؛ فالاتحاد قوة ، ولا يأكل الذئب من الغنم إلا القاصية، من لم يتذأب تأكله الذئاب.
العنف بين الزوجين(1/102)
مما لا شك فيه أن الإسلام نهي عن العنف بين الناس بصفة عامة؛ لأن الإسلام من السلام، وبين المسلمين بوصف خاص؛ لأن المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، وبين الزوجين بصفة أخص؛ لأن الحياة الزوجية قائمة علي السكن والمودة والرحمة، قال تعالى: "ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة". لكن العنف له أسباب، إما من الزوج أو من الزوجة، ولذا وضع الشرع مجموعة من الأسس ليلتزم بها الزوج والزوجة حتى تستمر الحياة الزوجية بشكل طبيعي قائمة علي الحب والتقدير والاحترام بينهما خالية من العنف المكروه، هذه الأسس هي واجبات كل منهما، فقد حدّد الشرع واجبات كل منهما قبل حقوقه، فواجبات الزوج تتضح في قوله تعالى: "وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسي أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا"، فالعشرة قائمة علي المعروف والصحبة الطيبة وهذا ما يجلب الحب، وليس العكس كما قال عمر بن الخطاب حينما أخبره رجل أنه لا يحب زوجته: إن البيت لا يبني علي الحب. ومن واجبات الزوج ما نراه في قول النبي حينما سأله رجل عن حق الزوجة: "أن تطعمها إذا طعمت وتكسوها إذا اكتسيت ولا تضرب الوجه ولا تقبّح ولا تهجر إلا في البيت". فالمسلم عليه أن يحترم زوجته ويحسن معاملتها ولا ينقلب عليها بالإساءة لفعلها شيئا يغضبه، وينبهنا النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلي هذا الأمر في قوله: "رفقا بالقوارير" ويحث علي فعل الخير مع الزوجة في قوله: "استوصوا بالنساء خيرا، فإنهن خلقن من ضلع أعوج" وقوله: "خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي"، ويقول: "المقسطون يوم القيامة علي منابر من نور علي يمين الرحمن (وكلتا يديه يمين) الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما وُلّوا". وما أجمل ما قاله الشاعر اليوناني هوميروس للرجل: إذا اتخذتَ المرأة زوجة فكن لها أبا وأما وأخا؛ لأن التي تترك أباها وأمها وأخاها من الحق أن تري فيك رأفة الأب وحنان الأم ورفق(1/103)
الأخ، فإذا عملت بنصيحتي تكن نعم الزوج الموفق". وينبهنا رسول الله إلي أمر مهم، وهو أن الكمال لله وحده، فإذا رأي الزوج من زوجته تصرفا سيئا فليغفر لها في مقابل تصرفات وأخلاق حسنة أخري فيقول: "لا يفرك مؤمن مؤمنة، فإن كره منها خلقا رضي منها آخر"، ولله در القائل:
ومن ذا الذي ترضي سجاياه كلها كفي المرء نبلا أن تعدّ معايبه
ومن المعروف في الصحبة أن تُرِي زوجتك من نفسك خيرا في مظهرك وجوهرك وتعاملك، وكان ابن عباس يقول: إني أحب أن أتزين للمرأة كما تتزين هي لي.
ولنعلم أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قدوتنا في كل شئ، فقد كان حليما رقيقا في تعامله مع زوجاته، ولننظر إلي قول عائشة له: أنت الذي تزعم أنك نبيّ ؟ فيبتسم رسول الله ويحتملها بحلمه، وذات مرة اختلف مع عائشة فأحضرا أبا بكر، فقال لها رسول الله: تكلمي أو أتكلم؟ فقالت: تكلم أنت ولا تقل إلا حقا! فلطمها أبو بكر قائلا: أو يقول غير الحق يا عدوة نفسك؟ فاستجارت برسول الله وقعدت خلف ظهرها، فقال النبيّ: إنا لم ندعك لهذا ولم نرد منك هذا"(1/104)
وفي المقابل فإن المرأة عليها واجبات حددها الشرع قبل الحقوق، ويكفينا قول النبيّ: "لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت الزوجة أن تسجد لزوجها" فهذا حديث جامع لواجبات الزوجة تجاه زوجها، وجاءت امرأة إلي رسول الله تتحدث باسم النساء فطلبت منه الجهاد حتى ترزق الشهادة، فقال لها النبيّ: "أبلغي من لقيت من النساء أن طاعة المرأة للزوج واعترافها بحقه عليها يعدل ذلك، وقليل منكن من يفعله". وحدث أن جاءت امرأة إلي رسول الله تشكو له زوجها وكان حاضرا بأنه يضربها إذا صلت ويفطرها إذا صامت .. فسأل الرسول الكريم زوجها عن ذلك، فقال الزوج: أما قولها "يضربني إذا صليت فإنها تقرأ بسورتين وقد نهيتها، فقال الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولو كانت سورة واحدة لكفت الناس، ثم قال الزوج: وأما قولها "يفطرني إذا صمت، فإنها تنطلق تصوم وأنا رجل شاب فلا أصبر، فقال النبيّ: لا تصوم امرأة إلا بإذن زوجها" وذلك لأن هذا الصوم نافلة وطاعة الزوج واجبة، والواجب مقدم علي النفل. ومن صفات المرأة الصالحة عند رسول الله "إذا نظر إليها أسرته، وإذا أمرها أطاعته، وإذا غاب عنها حفظته في ماله ونفسها". وذكر العلماء أن من حق الزوج علي الزوجة إكرام أهله والبر بهم ولاسيما الوالدان والعناية بهما.
وينصح أبو الدرداء زوجته بقوله:
خذي العفو مني تستديمي مودتي ولا تنطقي في سورتي حين أغضب
ولا تنقريني نقرَك الدفّ مرة فإنك لا تدرين كيف المغيّب
ولا تكثري من الشكوي فتذهب بالقوي ويأباك قلبي والقلوب تقلّب
فإني رأيت الحب في القلب والأذي إذا اجتمعا لم يلبث الحب يذهب(1/105)
والحق أن معرفة الزوجين واجباتهما يعود إلي الأسرة التي نشأ فيها كل منهما، فعلي أسرة الرجل أن تنصحه وكذلك أسرة الفتاة عليها أن تنصحها قبل الزواج، ولنا في النبيّ الأسوة الحسنة، فحينما خطب عليّ منه فاطمة قال له النبيّ: "هي لك علي أن تحسن صحبتها" وتروي لنا كتب السير والتاريخ أن شابا ذهب إلي عمه ليخطب ابنته، فأجلسه عمه بجانبه ومسح علي رأسه وقال له: "أقرب قريب خطب أحب حبيب، لا أستطيع له ردّا ولا أجد من إسعافه بُدّا، قد زوجتكما وأنت أعزّ عليّ منها وهي ألصق بقلبي منك، فأكرمها يعذب علي لساني ذكرك ولا تهنها فيصغر عندي قدرك وقد قربتك مع قربك فلا تبعد قلبي من قلبك" ويوصي أحد الصالحين ابنته ليلة الزواج بقوله: "إياك والغيرة فإنها مفتاح الطلاق، وإياك وكثرة العتاب فإنه يورث البغضاء، وعليك بالكحل فإنه أزين الزينة، وعليك بالماء دائما فإنه أطيب طيب" وما أجمل وصية الأعرابية لابنتها ليلة الزفاف" أي بنية لو أن امرأة استغنت عن الزوج لغني أبويها وشدة حاجتهما إليها لكنت أغني الناس عنه، ولكن النساء للرجال خلقن ولهن خلق الرجال.. أي بنية إنك فارقت بيتك الذي منه خرجت وعشك الذي فيه درجت إلي بيت لم تعرفيه وزوج لم تألفيه، وأصبح عليك رقيبا مليكا فكوني له أمة يكن لك عبد وشيكا، وكوني له أرضا ومهادا يكن لك سماء وعمادا، واحفظي له خصالا عشرا تكن لك زخرا: الأولي والثانية الخضوع له بالقناعة وحسن السمع والطاعة، والثالثة والرابعة التفقد لمواضع عينه وأنفه فلا تقع عينه منك علي قبيح ولا يشم منك إلا أطيب ريح، والخامسة والسادسة التفقد لوقت منامه وطعامه فإن تواتر الجوع ملهبة وتنغيص النوم مغضبة، والسابعة والثامنة الاحتراس بماله ورعاية عياله وملاك الأمر في المال حسن التدبير وفي العيال حسن التقدير، والتاسعة والعاشرة أنك لا تعصي له أمرا ولا تفشي له سرا فإن عصيت أمره أوغرت صدره وإن أفشيت سره فلا تأمني غدره". وما أجمل وصية(1/106)
النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ للنساء في عائشة؛ قال:
يا عائشة : احفظي بيتك ، فإن النساءَ يومَ القيامة أكثرُهنَّ حطبٌ للنار .
قالت : ولمَ ذلك يا رسولَ الله ؟
قال : لأنهنّ لا يصبرْنَ في الشدة ، ولا يشكرْنَ في الرخاء ، ويكفرْنَ النِّعَم .
يا عائشة : إن الله أوجب حق الرجال علي النساء أن يُطعْنهم في أمورهم ، ولا يصُمْن إلا بإذنهم .
يا عائشة : ما من امرأة باتت هاجرة لفراش زوجها إلا لعنتها الملائكة حتى تُصبح
يا.. : ما من امرأة خرجت من بيتها بغير إذن زوجها إلا لعنها كلُّ ملك في السماء
يا عائشة : ما من امرأة قالت لزوجها : ما رأيت منك خيرا قطّ إلا أحبط اللهُ عملَها
يا عائشة : ما من امرأة نظرت لزوجها بوجه عبوس إلا لعنها كلُّ نجم في السماء .
يا عائشة : ما من امرأة كلّفت زوجها في أمر نفقتها ما لا يطيق لن تنالها رحمة ربي وليس لها في شفاعتي نصيب .
يا عائشة : ما من امرأة قالت لزوجها : أراحني الله منك فلن تشمَّ رائحة الجنة .
عائشة : ما من امرأة دعاها زوجها للفراش فأبت إلا خرجت من حسناتها كما تخرج الحبة من قشرها .
يا عائشة : ما من امرأة دعاها زوجها فأجابته بطيب نفس إلا غفر الله لها ذنب يومها وليلتها وهي في حرز الله وأمانته .
يا.. : ما من امرأة غزلت وكست زوجها إلا كساها الله من حُلل الجنة يوم القيامة
يا عائشة : لو أن امرأة مصّت منخر زوجها وهو يسيل دما وقيحا ما أدت له جزاءً .
يا عائشة : طوبي لمن رضي عنها زوجها ، فإن رضا الزوج من رضا الله تعالي .
يا عائشة : من أدرك والديه ولم يدخلاه الجنة فلا أدخله الله الجنة.
صدق رسول الله صلي الله عليه وسلم
تعدد الزواج ومناقشة للمثل الشعبي
"الضُّرة مُرّة"(1/107)
المثل يدخل في نطاق العلاقات الزوجية وبالتحديد يعالج موضوع تعدد الزوجات والموقف العدائي من الزوجة السابقة للزوجة اللاحقة، والحديث عن تعدد الزوجات في الإسلام يقودنا إلى القول بأن الإسلام دين إنساني بمعني الإنسانية؛ جاء ليتوافق مع الطبيعة البشرية الفطرية فهو دين الفطرة، وفي نفس الوقت جاء لينقله من الحياة الحيوانية العشوائية إلي الحياة الإنسانية المنظمة؛ ولعل في هذا الموضوع دليلا علي ذلك، فقد جاء الإسلام والعرب يجمعون بين عدد من النساء قد يصل إلي العشر، فحجم وحدد أربعا فحسْب حداً أقصي للرجل، قال تعالى: "فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثني وثلاث ورباع"، وكان الرجل يأتي إلى رسول الله يخبره أنه متزوج أكثر من أربع، فيأمره رسول الله أن يختار أربعا منهن ويفارق الأخريات.
وأود أن أقف عند بعض الأمور المهمة بصدد هذا الموضوع:
ـ التعدد أصل أم فرع (رخصة)؟:
يري البعض أن الأصل في الزواج هو التعدد وأن الإفراد استثناء، وأنا لست موافقا لهذا الرأي، وأستند في ذلك إلي بعض العبادات مثل الصلاة والصوم، فالصلاةُ تامةً والصومُ فرضٌ أصلٌ، والقصرُ والفطرُ رخصةٌ مسببة، ومن لا يؤدي الصلاة تامة ويصوم رمضان كاملا بدون عذر يبيح الرخصة يعاقب علي ذلك، ومن يمتلك أسباب الرخصة فله أن يأخذ بها؛ لأن الله يحب أن تؤتي رخصه كما تؤتي عزائمه، ومن يتم الصلاة والصيام فلن يعاقب بل يؤجر، قال تعالى: "وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون"، وبناء علي ذلك لو كان التعدد هو الأصل لصار واجبا علي كل مسلم قادر لا يمتلك أسباب الرخصة والاستثناء ليكتفي بواحدة، ويأثم إن فعل ذلك، وهذا أمر غير مقبول لا شرعا ولا عرفا، مما يجعلنا نقرر أن التعدد رخصة مسببة من الله تعالى للرجل. لكن لماذا التعدد؟
لماذا التعدد:
من المؤكد أن هناك أسبابا ودواعي راعاها الإسلام في ذلك، ولعل من أهمها:
ـ عقم المرأة أو عدم قدرتها علي الإنجاب، مما يُحرِم الرجل من الذرية.(1/108)
ـ استمرار فترة الإخصاب عند الرجل أكثر منها عند المرأة، حيث تصل عنده إلي سن السبعين في حين أنها لا تتعدي سن الخمسين عند المرأة، فهناك حوالي عشرين سنة خصوبة عند الرجل ليس لها مقابل عند المرأة، فمعالجتها بتعدد الزوجات أفضل من الكبت للشهوة أو الانحراف عند بعض الرجال.
ـ زيادة عدد النساء الصالحات للزواج عن عدد الرجال الصالحين للزواج في حدود أربع نسوة كحد أقصى، ومعالجة هذا الأمر تكون بإحدي ثلاث:
1ـ أن يتزوج الرجل من امرأة واحدة ويبقي الباقي عوانس بدون زواج، وبالتالي تحرم حقا من حقوقها البشرية الفطرية، وهنا نجد بعض النساء العازابات منكبّات علي العمل والكسب في محاولة منهن للحوق بالرجل وإثبات الذات، غير أن هذا لا يغنيها عن وظيفتها الأولي وهي أن تكون زوجا وأمّا.
2ـ أن يتزوج الرجل من امرأة زواجا شرعيا، ويعاشر أخريات معاشرة غير شرعية؛ حتى تستمتع المرأة بالغريزة الجنسية، مما يؤدي إلي تدمير المجتمع.
3ـ أن يتزوج الرجل بأكثر من امرأة في حدود أربع، وهذا هو الحل الإسلامي لحصول كل من الرجل والمرأة علي حقوقهما الفطرية الغريزية كاملة كما أراد الله.
تعدد مقيّد:
التعدد رخصة تلبّي مقتضيات الفطرة البشرية للرجل والمرأة، وتحمي المجتمع من الوقوع في الرذائل والانحلال الاجتماعي، ومن ثم فالتعدد ليس مطلوبا لهوي في نفس الرجل، وإنما هو ضرورة توجبها ضرورة، غير أن هذه الرخصة مقيدة بتحقيق العدل بين الزوجات، قال تعالى: "..فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة.." فالرجل إذا فَقَدَ تحقيق العدل فَقَدَ الرخصة، وهذا القيد يحمي الحياة الزوجية من الفوضى والاختلال، كما يحمي الزوجة من الظلم والجور، ويحمي كرامتها من امتهان الرجل لها بتفضيله غيرَها عليها، وقد قرر الله أن الإفراد أفضل من التعدد المقيد بتحقيق العدل فقال: "ذلك أدنى ألا تعولوا.." أي ألا تجوروا ولا تظلموا.
العدل المطلوب:(1/109)
نود أن ننبّه إلي أمر مهم، وهو أن العدل المطلوب تحقيقه هو العدل المادي في الأشياء الملموسة من نوم ومأكل ومشرب وملبس وتقدير واحترام, أما العدل في الحب والمشاعر فذلك صعب بل مستحيل, قال الله تعالي عنه: "ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتزروها كالمعلقة".
وهذا الأمر الإلهي يتوافق مع طبيعة العقل البشرى, فلو كان الرجل يمتلك العدل في الحب بين زوجته الأولي والثانية أو الثالثة ـ مثلاًـ لما أقدم علي التعدد في الزواج, ولذلك كان رسول الله يدعو فيقول: "اللهم إني أعدل فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك". ومن نماذج عدله المادي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه وزع دينارا علي كل زوجة سراً ودون علم الأخريات ثم جمعهن وقال لهن: أفضلكم عندي من أعطيتها الدينار.
وإذا وصل الخلاف بين الزوجين ذروته فالأفضل لهما الطلاق؛ لأن الحياة الزوجية قائمة علي السكن والمودة والرحمة فإن فقدت ثلاثتها فلا معني للحياة ولا قيمة، ولذا قال تعالى: "وإن يتفرقا يغن الله كلاً من سعته وكان الله واسعاً حكيماً".
من وصايا النبي صلي الله عليه وسلم
حفظ الإنسان لربه
الحمد لله .. يقول في حديثه القدسي: "عبدي لا تغتر بشبابك، فكم من شاب سبقك إلي الموت، ولا تفرح بالدنيا فلست مخلدا فيها، واستح منك عند معصيتك أستح منك فلا أعذبك". وبعد ..(1/110)
فهذه الوصية يوجهها رسول الله للمسلمين في شخص ابن عباس قائلا له: "يا غلام إني أعلمك كلمات، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلي الله في الرخاء يعرفك في الشدة، وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، جف القلم بما هو كائن إلي يوم القيامة، فلو أن الخلق جميعا أرادوا أن ينفعوك بشئ لم يقضه الله لك لم يقدروا، ولو أنهم أرادوا أن يضروك بشئ لم يكتبه الله عليك لم يقدروا، واعلم أن في الصبر علي ما تكره خيرا كثيرا، وأن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا". صدق رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ
احفظ الله:
الوصية تبدأ بأمر غرضه الحث والحرص من النبي الكريم علي المسلم، لكن هذا الأمر يستدعي سؤالين: أولهما هل يحتاج الله من الإنسان أن يحفظه؟ والآخر كيف يحفظ الإنسان ربه؟ والسؤالان عن الحفظ يذكران بالرضا من العبد عن ربه، حيث روي أن بني إسرائيل سألوا موسي أن يرضي عنهم الله، فأوحي الله إلي موسي قائلا: فليرضوا هم عني، فقالوا: وكيف نرضي نحن عن ربك، فأوحي الله إلي موسى: إذا رضوا بقضائي فقد رضوا عني. فرضا العبد عن ربه هو رضا من العبد بقضاء الله، وكذلك الحفظ فهو يتعلق بالعبد نفسه، أي يحفظ العبد نفسه، فإذا حفظ نفسه حفظ الله، وهذا الحفظ نوعان: حفظ العبد لأوامر الله في أداء العبادات من صلاة وصيام وزكاة وأمانة وغير ذلك، فيؤديها كما أمر. وحفظ العبد لنفسه من المهالك بالوقوع في المعاصي، وهذا الحفظ يشمل ثلاثة: حفظ الرأس وحفظ البطن وحفظ الفرج. وحفظ الرأس يشمل ثلاثة، وحفظ البطن يشمل أمرين، وحفظ الفرج من الحرام.(1/111)
أما حفظ الرأس فيشمل: حفظ السمع من الاستماع إلي ما يغضب الله، فهناك كلام طيب وكلام خبيث، وينبغي علي المؤمن أن يجنب نفسه الاستماع إلي الكلام الخبيث في حق الآخرين؛ لأنه شريك المتكلم في الإثم، وينبغي أن يستمع إلي ما يفيده كاستماعه إلي القرآن كما أمر الله "إذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون". والكلام الخبيث يسئ إلي الإذن إذا سمعته، والكلام الطيب يسرّ الأذن إذا سمعته، فليعمل المسلم بقول النبي الكريم: ما سرّ أذنك أن تسمعه فاعمل به، وما أساء أذنك أن تسمعه فاجتنبه". أما حفظ البصر فيقصد به غض البصر عن النظر إلي محارم الله وبخاصة في الطريق العام، فغض البصر من حق الطريق علي المسلم، وقد حذر رسول الله من الجلوس في الطرقات، فقال: "إياكم والجلوس في الطرقات، فإن كان لابد فأعطوا الطريق حقها، قالوا وما حق الطريق؟ قال : غض البصر وكف الأذي ورد السلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر". فالمسلم يحفظ نظره من الحرام، لأن النظرة سهم من سهام إبليس؛ من وقي نفسه منها خوفا من الله أبدله الله إيمانا يجد حلاوته في قلبه. وهناك أشياء يثاب السلم إذا نظر إليها، بل هي عبادة، حيث ورد عن النبي الكريم أن النظر إلي الكعبة عبادة، والنظر في كتاب الله عبادة، والنظر إلي الوالدين عبادة. أما اللسان فهو سلاح ذو حدين لك وعليك، لذلك روي أن أحد الأمراء أمر بذبح شاة ثم أمر باستخراج أحلي قطعة وأمرّ قطعة فيها فأشير إلي اللسان، فهو قائد إلي الجنة وهو قائد إلي النار، لذلك قال رسول الله: "اضمنوا لي هذا أضمن لكم الجنة، وقد أمسك بلسانه"، سأله أحد الصحابة أمؤاخذون نحن بما تقول ألستنا يا رسول الله؟ فقال: ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب الناس في النار علي وجوههم يوم القيامة إلا من حصائد ألستنهم؟". وقال رسول الله: لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه". واستقامة اللسان لا تتم للعبد إلا إذا جنّبه(1/112)
ثلاثة أشياء: الأول: الكذب؛ فقد حذر رسول الله من الكذب في قوله: إياك والكذب، فإنه يهدي إلي الفجور والفجور يهدي إلي النار، ولا يزال الرجل يكذب فيكذب حتى يكتب عند الله كذابا"، فالكذب محرم إلا في ثلاثة حالات: بين المرء وزوجه ، وبين متخاصمين من أجل الصلح بينهما وفي حالة الحرب؛ لأن الحرب خدعة. والثاني: النميمة أو الغيبة؛ فقد حذر رسول الله كثيرا منها، فـ"لا يدخل الجنة نمام" و"يأتي صاحب الغيبة يوم القيامة وله لسانان من نار" ويأتي صاحب الغيبة يوم القيامة فيوقفه الله علي جسر من جهنم"، وروي عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: "إياكم والنميمة فإنها أشد من الزنا؛ لأن الرجل يزني ويتوب إلي الله، فيتوب الله عليه، وإنما صاحب النميمة لا يغفر الله له حتى يعفو عنه من اغتابه". وهناك قصة تروي أن امرأة ماتت وبعد أن دفنوها نسوا في قبرها كيسا، فرجع أخوها يستخرج الكيس فوجد القبر نارا، وكانت أختها تؤدي الفرائض والنوافل، فلما سأل أمه علم أنها كانت تتصنت علي أبواب الجيران لتسمع الكلام وتنم بينهم. والثالث: الثرثرة أي الكلام الكثير بدون داع، فالكلام الكثير يؤدي إلي الوقوع في الخطأ، وبالتالي يخسر الإنسان أخاه أو صاحبه فيخاصمه، لذلك سأل رجل رسول الله: عظني يا رسول الله، فقال: إذا قمت إلي الصلاة فصل صلاة مودع، ولا تتكلمن بكلام تعتذر منه غدا، وازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس".(1/113)
وأما حفظ البطن فيشمل أمرين: الأول حفظ القلب من الأمراض الخبيثة كالحقد والحسد والكراهية وسوء الظن والطمع والبخل وجميع المعاصي؛ لأن القلب أساس الإيمان والعمل؛ كما قال رسول الله: "إن الله لا ينظر إلي صوركم وأجسادكم، ولكن ينظر إلي قلوبكم وأعمالكم"، وقال تعالى: "واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه" والعمل مرتبط بالنية، والنية محلها القلب، كما جاء في الحديث "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى.."ونية المرء خير من عمله، ولعل في قصة الرجل الذي قتل مائة ونوي التوبة لكنه مات قبل أن يتوب، فتنازعت عليه ملائكة الرحمة والعذاب، وأخذته ملائكة الرحمة. وقصة الثلاثة الذين أول من تسعر بهم النار: العالم والكريم والشهيد؛ حيث إنهم خلت أعمالهم الحسنة من النية الخالصة، لعل في ذلك دليلا علي أن النية بدون عمل خير من العمل بدون نية. إذن علي المسلم أن ينظف قلبه من هذه الأمراض، وأن يكون قلبه قلبا شاكرا؛ فإن الله يحب من الدنيا ثلاثة: قلبا شاكرا ولسانا ذاكرا وجسدا علي البلاء صابرا. والثاني: حفظ المعدة من الطعام والشراب الحرام؛ لأن الكسب الحرام يحبط الدعاء، والدعاء مخ العبادة، ولذا قال رسول الله: "أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة". والحرام ليس مقصورا علي السرقة، بل إن عدم أداء العمل بإتقان كما يرضي الله يدخل صاحبه في دائرة الكسب الحرام، وكذلك من يبيع أو يشتري ببخس في السعر والميزان يدخل في الكسب الحرام.(1/114)
وأما حفظ الفرج فذلك أهم ما يحفظ؛ لأن الفرج أمانة في عنق الإنسان، أمر الله بحفظه، ولا يحفظه إلا مؤمن، قال تعالي في المؤمنين المفلحين: "والذين هم لفروجهم حافظون". والله ميز الإنسان عن سائر المخلوقات؛ حيث خلق الخلائق ثلاثة أصناف: الملائكة وركب فيهم العقل دون الشهوة، والحيوان وركب فيه الشهوة دون العقل، والإنسان وركب فيه العقل والشهوة، فمن غلبت شهوته عقله فالحيوان خير منه، ومن غلب عقله شهوته فهو خير من الملائكة. ولم يطالب الإنسان أن يكون كالملائكة فيستعمل عقله فقط ويكون بلا شهوة، فالشهوة هي سبب في استمرار النسل البشري في الأرض ليكون خليفة لله، ولذا شرع الله الزواج من أجل ذلك، فهناك حلال وهناك حرام، وعلي الإنسان أن يتحري الحلال ويتجنب الحرام، وكان أول أمر إلهي لآدام أن احفظ فرجك ولا تضعه إلا في حلال. وجعل الله في جماع الرجل لزوجته أجرا كما أخبر رسول الله. فحفظ الفرج من جريمة الزني من أهم ما يحفظه المسلم. ويروي أن شابا أتي مجلس رسول الله، فقال: أين محمد؟ فدُلّ عليه، فأمسك به بشدة، وقال: ائذن لي بالزنا! فغضب عمر، وطلب من رسول الله أن يضربه، فقال رسول الله: خلوا بيني وبينه، ثم قال له: ماذا تريد يا فتى؟ فقال: ائذن لي بالزنا، فقال النبي الكريم: أترضاه لأمك؟ أترضاه لأختك؟ لعمتك، لخالتك، لأحد من أقاربك؟ وفي كل مرة يقول الفتى: لا ، فقال رسول الله: فكيف ترضاه لغيرك؟ فقال الفتى: ادع الله لي يا رسول الله.فدعا له فقال: اللهم غضّ بصره، واحفظ فرجه، واغفر ذنبه. يقول الشاب: دخلت علي رسول الله والزنا أحب شئ إلي قلبي، وخرجت والزنا أبغض شئ إلي قلبي.
احفظ الله يحفظك .. وتجده معك:
الجزاء من جنس العمل، قال تعالى: "وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم" وقال: "فاذكروني أذكركم" وقال: "ولئن شكرتم لأزيدنكم".فإذا حفظ العبد حدود الله من أوامر ونواه فقد حفظ الله، وحفظه لله له جزاء متعدد:(1/115)
1ـ له الجنة يوم القيامة، قال تعالى: "وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب ادخلوها بسلام ذلك يوم الخلود لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد".
2ـ يحفظه الله في دنياه من كل سوء في دينه وفي صحته وفي زوجته وولده وماله، فيجعله في خير عافية، وإذا مرض غفر ذنبه، ويرزقه بزوجة صالحة وذرية صالحين، ويبارك في ماله لنفسه ولأهله من بعده؛ ولننظر إلي الغلامين صاحبي الجدار الذي أقامه الخضر؛ لأن تحته كنزا لهما تركه أبوهما الصالح فاستخرجاه، ويروي أن شيخا كبيرا كان بعافية وصحة، فلما سئل عن ذلك قال: هذه جوارح حفظناها من المعاصي في الصغر فحفظها الله في الكبر، علي عكس رجل كان ضعيفا لا يستطيع المشي وهو أصغر من الآخر، فلما سأل سائل عن ذلك، قيل: هذا رجل ضيع الله في الصغر فضيعه الله في الكبر. ومن حفظ الله للعبد في دنياه أن يحفظه من القدر نفسه، قال تعالى: "له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله". كذلك من حفظ الله للعبد في دنياه أن يمنعه عن فعل أمر بحبه فيه خير ظاهره كفعل الطاعات، كما جاء في الحديث "ومن عبادي من يطلب بابا من الطاعة فأمنعه عنها حتى لا يدخله العجب والغرور". ويحفظه في دينه في حياته من الشبهات والشهوات المحرمة، وعند موته من الفتنة فيتوفاه علي الإيمان، ولذا يقول بعض السلف: إذا حضر الرجلَ الموتُ يقال للملك: شم رأسه، فيشم فيقول: أجد في رأسه القرآن، فشم قلبه، فيقول: أجد في قلبه الصيام، فشم قدميه، فيقول: أجد في قدميه القيام، فيقال: هذا رجل حفظ نفسه فحفظه الله. ولذلك علمنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن نقول دائما عند النوم: "اللهم إن قبضت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين" وكان رسول الله يدعو "اللهم احفظني بالإسلام قائما، واحفظني بالإسلام قاعدا، واحفظني بالإسلام راقدا، ولا تطمع فيّ عدوا ولا حاسدا".(1/116)
ويحفظه بعد موته، قال تعالى: "ويثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء".
3ـ يرزقه الله معيته في جميع أموره في كل وقت وفي كل مكان، وما أدراك ما معية الله، معك الفئة التي لا تغلب، والناصر الذي لا يهزم، والحارس الذي لا ينام، والهادي الذي لا يضل، فليعلم المسلم أن الله معه مادام هو من المؤمنين الصابرين المتقين المحسنين ، تصديقا لقوله تعالى: "واعلموا أن الله مع المؤمنين" وقوله: "استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين" وقال: "إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون"، وياهناء من يكون في معية الله؛ إذا سأله أعطاه وإذا دعاه أجابه لا سيما في ساعة العسرة ، وقد ضرب لنا القرآن أروع الأمثلة في نتيجة معية الله للعبد ، تارة مع موسي عليه السلام في أكثر من موقف مع فرعون، وكان آخرها حينما أوشك فرعون وجنوده أن يدركوه هو وأصحابه، ولم يكن أمامهم إلا البحر، فقال له أتباعه: البحر أمامنا والعدو وراءنا فأين ربك يا موسي ؟ فكان الإيمان من موسي بمعية الله، ومن ثم كان منه الاطمئنان والثقة بنصر الله في خروجه من المأزق، فماذا أجاب موسى؟ القرآن يصور لنا هذا الموقف الرائع في قوله تعالى: {فلما تراء الجمعان قال أصحاب موسي إنا لمدركون. قال كلا إن معي ربي سيهدين. فأوحينا إلي موسي أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم . وأزلفنا ثَمّ الآخرين . وأنجينا موسي ومن معه أجمعين . ثُم أغرقنا الآخَرين}، وتارة مع رسول الله في أكثر من موقف، من أبرزها موقف الغار، لما اشتد خوف أبي بكر عليه حتى قال له: لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا يا رسول الله، فقال له النبى: لا تخف يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟ ثقة مطلقة من رسول الله في معية الله، فماذا كانت النتيجة؟ يصور القرآن هذا المشهد في قوله تعالى: {إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا(1/117)
ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلي وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم}.
تقرب إلي الله في الرخاء يتقرب إليك في الشدة:
دعوة من رسول الله إليك أن تتقرب إلي الله بالطاعات والنوافل وقت الرخاء وقت الراحة وقت السعة وأنت تمتلك كل شي من صحة وغني وقوة وشباب وفراغ؛ لأن هناك أوقاتا تضيق فيها وأصعبها عند موتك وبعد موتك، لذا قال رسول الله: "اغتنم خمسا قبل خمس: اغتنم حياتك قبل موتك، وشبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وقوتك قبل ضعفك، وفراغك قبل شغلك" فهذه أوقات الرخاء إذا تقربت إلي الله فيها تقربَ إليك الله في الخمسة الأخرى، لأن الله يحب العبد أن يدعوه وقت السعة قبل الضيق؛ لأن في الضيق كل الناس يدعون الله القريب من الله والبعيد عنه، وربما الكافر يدعو الله وقت الشدة. ولذلك قال الشاعر:
نحن ندعو الإله في كل كرب ثم ننساه عند كشف الكروب
كيف نرجو إجابة لدعاء قد سددنا طريقه بالذنوب(1/118)
ولذلك قال رسول الله: "من سرّه أن يستجيب الله له في الشدائد فليكثر من الدعاء في الرخاء". وقد ضرب لنا القرآن مثلين في ذلك في جزاء كل من تقرب إلي الله في الرخاء قبل الشدة، ومن لم يعرف الله إلا وقت الشدة، أما الأول فهو يونس عليه السلام، حيث كان كثير الذكر والقرب من الله في الرخاء، فلما ابتلعه الحوت وصار في شدة عصيبة (ثلاث ظلمات ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة بطن الحوت) ومع كل هذا كان يدعو الله في هذه الشدة، حتى سمعته الملائكة، فقالت: يارب هذا صوت معروف فمن هو؟ فقال: صوتي عبدي يونس، فقالوا: الذي لا يزال له عمل متقبل ودعوة مستجابة، فقال: نعم. فقالو: أفلا ترحمه بما كان يصنع في الرخاء؟ فقال: بلى، فنجاه من الغم وأمر الحوت أن يخرجه من بطنه سالما خارج الماء. يقول القرآن: "فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلي يوم يبعثون". ويقول في موضع آخر: "وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادي في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فاستجبنا له فنجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين". أما المثل الثاني فهو موقف مضاد مع فرعون، حيث كان طاغيا مستكبرا يستعبد الناس في الأرض، حارب الحق في صورة موسي وأتباعه (قال: أنا ربكم الأعلى)، فلما وقع في شدة ما بعدها شدة، ـ هي شدة الغرق أعلن إيمانه بموسي وإله موسي ـ قال: "آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين"، لكن إيمانه لم ينفعه، بل جعله الله عبرة لغيره؛ لأنه نسي الله وقت الرخاء فنساه الله وقت الشدة، قال تعالي ردا عليه: "آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين. اليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون".
وإذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله:(1/119)
هذه الجملة في معناها هي جوهر العلاقة بين الإنسان وربه؛ فالله تعالي هو خالق الإنسان وهو المتكفل بأمره، سخر له كل شئ في الدنيا من أجل عبادته، وقد لخص سيدنا إبراهيم العلاقة بين العبد وربه تعالي في قول القرآن علي لسانه: "فكلهم عدو لي إلا رب العالمين. الذي خلقني فهو يهدين. والذي هو يطعمني ويسقين. وإذا مرضت فهو يشفين. والذي يميتني ثم يحيين. والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين".
إذا كانت العلاقة بين الإنسان وخالقه أن الله خلقه ويهديه ويطعمه ويسقيه ويشفيه ويحييه ويغفر له، فماذا يكون موقف الإنسان تجاه ذلك؟ طبيعي أن يكون الله هو المستعان والمسئول عن الإنسان في جميع أموره، ويجب علي الإنسان الطاعة المطلقة لله تعالى، ولا يجوز أن يكفر ويجحد بنعم الله أو يستنكف أن يسأل الله ما شاء، وإذا جحد الإنسان ربه، فهل يقابله الله بالغضب عليه واللعنة؟ لا! رغم أن المخلوقات الأخرى غضبت علي الإنسان لما جحد بنعم الله، ولذا يعرض لنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن بعض المخلوقات غضبت علي ابن آدم، وضاقت به ذرعا لما عصي ربه، فـ"قالت الأرض: يا رب ائذن لي أن أُختفَي بابن آدم فقد طعم خيرك ومنع شكرك، وقالت السماء: يا رب ائذن لي أن أسقط كسفا علي ابن آدم، فقد طعم خيرك ومنع شكرك، وقالت الجبال: يا رب ائذن لي أن أخِرّ علي ابن آدم، فقد طعم خيرك ومنع شكرك، وقالت البحار: يا رب ائذن لي أن أغرق ابن آدم، فقد طعم خيرك ومنع شكرك، فقال تعالى: لو خلقتموه لرحمتموه، دعوني وعبادي فإن تابوا إلي فأنا حبيبهم، وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم".(1/120)
والسؤال أو الاستعانة هنا نوعان: سؤال بمعني التوكل علي الله في الأمور، والتوكل يعني الاعتماد علي الله مع الأخذ بالأسباب، وإلا فهو تواكل، فمثلا المريض عليه أن يذهب إلي الطبيب معتمدا علي الله في شفائه، ولا يجوز إن يجلس في بيته معتقدا أن الله هو الشافي دون أن يأخذ بالأسباب، كما لا يجوز أن يعتقد أن الطبيب هو الشافي من الأمراض، فذلك يخرج الإنسان عن دائرة الإيمان، كما قال رسول الله: "من قال: لولا الطبيب لما شفي المريض فقد كفر بما أنزل علي محمد". فالإنسان يعتمد علي الله آخذا بالأسباب قدر استطاعته، ومن هنا جاء قول الله: "إياك نعبد وإياك نستعين" أي نستعين بك وحدك يا رب علي قضاء مصالحنا، وهو ما أمر به الله في العمل للرزق، إذ هو الرزاق ومع ذلك قال: "هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور"، فانظر إلي قوله (فامشوا في مناكبها) و(كلوا من رزقه) فالجملة الأولي تدعو إلي الأخذ بالأسباب، والثانية تؤكد أن الله هو الرزاق المطعم. والثاني أن السؤال بمعني الدعاء، والدعاء مخ العبادة، والله أمرنا أن ندعوه، قال تعالى: "ادعوني أستجب لكم"، وقال رسول الله: "سلوا الله من فضله فإن الله يحب أن يسأل" وقال: "من لا يسأل الله يغضب عليه"، علي عكس الإنسان، يغضب حين يسأل، لذا قال القائل:
لا تسألن بُنيّ آدم حاجة وسل الذي أبوابه لا تحجبُ
الله يغضب إن تركت سؤاله وبُنيّ آدم حين يسأل يغضبُ(1/121)
وجاء في الحديث أن الله ينزل كل ليلة إلي السماء الدنيا ويقول: هل من داع فأستجيب له؟ هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟". والسؤال يحمل نوعا من الإذلال والافتقار والحاجة من السائل للمسئول، ويحمل اعترافا ضمنيا بقدرة المسئول علي استجابة سؤال السائل، فمن الذي يستطيع أن يفعل ذلك غير الله؟ قال تعالى: "وما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم. يا أيها الناس اذكروا نعمت الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنّي تؤفكون" ولذا كان السلف الصالح يدعون: "اللهم كما صنت وجهي عن السجود لغيرك فصنه عن المسألة لغيرك". فيجب علي المؤمن أن يسأل الله ويستعين به في كل أموره، وليكن مؤمنا بأن الله هو الصانع لكل شئ، فليتوكل عليه ولا يتواكل.
جف القلم بما هو كائن إلي يوم القيامة...(1/122)
هذه الجملة علي الرغم من أنها تثير نقاشا جدليا إلا أنها تبعث علي الطمأنينة في قلب المؤمن، فكل شئ مقدر من قبل الله، وقد كتبه عليك قبل أن تأتي للحياة، كما جاء في الحديث أن الإنسان إذا بلغ أربعة أشهر في بطن أمه نزل إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بكتب أربع كلمات: أجله ورزقه عمله ومصيره (شقيّ أم سعيد)، فكل ما يصيب الإنسان من خير أو شر مقدر ومكتوب مسبقا، قال تعالى: "ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك علي الله يسير. لكيلا تأسوا علي ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور" وقال تعالى: "وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا رادّ لفضله". وسأل رجل رسول الله: فيم العمل اليوم؟ أفيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير أم فيما يستقبل؟ فقال: بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير. فقال: فيم العمل؟ فقال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له"، وهذا يذكرنا بقوله تعالى: "فأما من أعطي واتقى. وصدق بالحسنى. فسنيسره لليسرى. وأما من بخل واستغنى. وكذب بالحسنى. فسنيسره للعسرى". وكان رسول الله يدعو: "اللهم إني أسألك الرضا بعد القضاء" ومن هنا جاء قول النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلو أن الخلق جميعا أرادوا أن ينفعوك بشئ لم يقضه الله لك لم يقدروا، ولو أرادوا أن يضروك بشئ لم يكتبه الله عليك لم يقدروا.
واعلم أن في الصبر علي ما تكره خيرا كثيرا...(1/123)
وهذا من فضل الله علينا، حيث قدّر ما قدّر ثم جعل فيما قدر خيرا لنا حتى وإن بدا ظاهره خلاف ذلك؛ ومن ثم يقول رسول الله: "لا يقضي الله للمؤمن من قضاء إلا كان خيرا له، إن أصابته سراء شكر، وإن أصابته ضراء صبر، وفي كل خير" وسأل رجل رسول الله وصية جامعة، فقال له: "لا تتهم الله في قضائه" أي تعترض علي ما أصابك أو تشكو للعبد مصيبتك، والله يحب أن يختبر درجة إيمان عبده المؤمن، لذا جاء في الحديث القدسي "انطلقوا ملائكتي إلي عبدي فصبوا عليه البلاء صبا، فيصبون، فيحمد الله، فيرجعون، فيقول تعالي وهو أعلم: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك يا رب. فيقول: ارجعوا فصبوا عليه البلاء فإني أحب أن أسمعها من عبدي". وليؤمن المؤمن أن بعد الصبر نصرا وأن بعد الكرب فرجا وأن بعد العسر يسرا بإذن الله؛ لأن الله يتولي أمر الدفاع والحماية للمؤمن، قال تعالى: "إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور. إذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله علي نصرهم لقدير"، ويروي أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال لأصحابه وكان بجانبه حجر: لو دخل العسر هذا الحجر لجاء اليسر ودخله حتى يخرجه، فأنزل الله قوله: "فإن مع العسر يسرا. إن مع العسر يسرا"، وجاء العسر معرفا وجاء اليسر منكرا؛ للتأكيد علي أن العسر مفرد واليسر متعدد غير معروف؛ ولذا قال رسول الله تعليقا علي الآية: "لا يغلب عسر يسرين"، ويقول الشافعي:
صبرا جميلا فما أقرب الفرجا من راقب الله في الأمور نجا
ومن صدق الله لم ينله أذي ومن رجاه يكون حيث رجا
وليتأكد المؤمن أن كل كرب يمرّ به يعقبه فرج إذا سلّم الأمر لله، ولننظر إلي الكرب الذي أحاط بأم موسى لما علمت بأن فرعون سيقتل كل أطفال بني إسرائيل، فأمرها الله أن تلقيه في البحر، وظاهر الأمر فرار من قدر إلي قدر، لكنها اطمأنت بفرج الله، قال تعالى: "
وقال آخر:
ولربّ نازلة يضيق بها الفتي زرعا وعند الله منها المخرج(1/124)
كملت فلما استحكمت حلقاتها فرجت وكنت أظنها لا تفرج
الصلاة ومكانتها
حديثنا عن الصلاة يشمل إجابة عن هذه الأسئلة:
س1: ما مفهوم الصلاة ومشروعيتها؟
س2: ما شروط الصلاة ؟
س3: ما أركان الصلاة ؟
س4: ما أوقات الصلاة ؟
س5: ما سنن الصلاة ؟
س6: ما فضل الصلاة؟
س7: ما عقوبة ترك الصلاة؟
الصلاة تحمل ثلاثة معان: الصلاة بمعني الرحمة؛ ومنه قوله تعالى: "هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلي النور وكان بالمؤمنين رحيما" أي يرحمكم. والصلاة بمعني الدعاء ومنه قوله تعالى: "إن الله وملائكته يصلون علي النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما" فالصلاة من الله رحمة ومن الملائكة والمؤمنين رحمة. والصلاة بمعني الصلة، أي الصلة بين العبد وربه؛ وقد فرضت الصلاة علي كل الأنبياء والرسل، قال القرآن علي لسان إبراهيم: "رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء" وقال عن إسماعيل: "وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضيا" وقال عن زكريا: "فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب" وقال لموسى: "إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري" وقال عن عيسى: "وجعلني مباركا أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا" وقال لرسول الله محمد: "أقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل". وقد فرضت في السماء ليلة الإسراء والمعراج وقد كانت خمسين صلاة لولا رحمة الله بنا وتدخل موسي عليه السلام، فصارت خمسا في العمل وخمسين في الأجر؛ عملا بقوله تعالى: "من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها"؛ ومن ثم فهي معراج العبد إلي ربه كل يوم خمس مرات.
شروط قبول الصلاة:(1/125)
هناك شروط مادية ملموسة وشروط معنوية، والشروط الأولي نوعان: شروط وجوب وشروط صحة، وشروط الوجوب تتمثل في الإسلام، فلا تجب علي غير المسلم، والبلوغ فلا تجب علي الطفل، والعقل فلا تجب علي المجنون أو السكران، قال تعالى: "ولا تقربوا الصلاة وأنت سكاري حتى تعلموا ما تقولون" وقال رسول الله: "رفع القلم عن ثلاثة: النائم حتى يستقيظ والصبي حتى يبلغ والمجنون حتى يعقل" إلا أننا نبه إلي النوم ليس حجة في ترك ميعاد الصلاة، إذ يجب علي المسلم أن يجعل نومه بين الأوقات وأن ينوي أن يقوم للصلاة، ويجب أن نعلم أبناءنا الصلاة حتى يتعودوا، وقد شدد رسول الله علي ذلك فأمر بضربهم عند ترك الصلاة، قال: "مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع واضربوهم عليها وهم أبناء عشر..."، وأن المسلم الذي يتعاطي المخدرات مرتكب كبيرة من الكبائر.(1/126)
وأما شروط الصحة فهي: استقبال القبلة (يجوز في صلاة النافلة الانحراف عن القبلة بعد تحريها بدقة، قال تعالى: فأينما تولوا فثمّ وجه الله)، وستر العورة (للرجل حدود للعورة تختلف عنها عند المرأة، فعورة الرجل من سرته حتى أسفل ركبته، وجسم المرأة كله عورة ما عدا الوجه والكفين)، والعلم بدخول الوقت (يجب التيقن من ذلك إلا في حالة الجمع بين صلاتين، فيكفي دخول وقت الأول)، والطهارة من النجاسة في البدن والثوب والمكان، والطهارة من الحدث الأصغر أو الحدث الأكبر، قال تعالي جامعا بينهما: "يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلي الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلي المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلي الكعبين وإن كنتم جنبا فاطّهروا.." والحدث الأصغر هو إخراج ريح أو بول أو غائط أو لمس امرأة أجنبية أو نوم أو إغماء أو سكر أو جنون، وهو يوجب الوضوء، وصحة الوضوء تكون بالنية وغسل الوجه والذراعين والمسح علي الرأس وغسل الرجلين مع الترتيب في الغسل، وله سنن كالتثليث في الغسل والمضمضمة والاستنشاق وغسل الأذن من الداخل، والتسمية والدعاء بما أثر عن رسول الله "اللهم اغفر لي ذنبي وبارك لي في رزقي ووسع لي داري .. أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوابين والمتطهرين" فذلك له أجر كبير عند الله. وأرجو أن أنبه إلي أمرين: أولهما أنه ينبغي أن نعطي كل عضو حقه في الغسل؛ فإذا تُرك جزء صغير من عضو لم يأته الماء نتيجة السرعة في الوضوء بطل الوضوء فبطلت الصلاة، والآخر الشك في الوضوء أو الانتقاض، إذا شك المسلم هل هو متوضئ أم لا؟ عليه الوضوء، وإذا كان متوضئا وشك في الحدث فله أن يبني علي اليقين وهو الوضوء، والأفضل أن يتوضأ في كل الأحوال لما له من فضل عظيم.(1/127)
وأما الحدث الأكبر فهو الجماع سواء بإنزال المني أو بدونه، وإنزال المني سواء بالمجامعة أو بدونها، وإنزال دم الحيض أو النفاس من المرأة؛ فقد قال رسول الله لعائشة: "إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وصلي" ولا تعيد المرأة الصلاة. والحدث الأكبر يوجب الغسل، والغسل له ركنان النية وتعميم الجسم بالماء، وله سنن كثيرة، منها الوضوء والتدليك والبدء بالشق الأيمن، ويستحب للمغتسل ألا يحلق شعرا ولا يقلم ظفرا وهو جنب.
أما الشروط المعنوية فيبينها الله تعالي في حديثه القدسي: "إنما أتقبل الصلاة ممن تواضع بها لعظمتي، ولم يستطل بها علي خلقي، ولم يبت مصرّا علي معصيتي، وقطع نهاره في ذكري، ورحم المسكين وابن السبيل، ورحم الأرملة ورحم المصاب، ذلك نوره كنور الشمس، أكلؤه بعزتي (أرعاه وأحفظه)، وأستحفظه ملائكتي، وأمده بقوتي، ومثَله في خلقي كمثَل الفردوس في الجنة".
أركان الصلاة:
الصلاة كما لها شروط قبول لها أيضا أركان، لا تقبل إلا إذا أديت كاملة أركانها، وهذه الأركان نتعرف عليها من حديث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ للرجل المسئ صلاته؛ حيث كان رسول الله جالسا في المسجد، ودخل رجل فصلى، ثم جاء إلي النبي فسلم عليه، فقال له رسول الله: وعليك السلام، ارجع فصلّ فإنك لم تصلّ، فعاد فصلي ثم جاء فسلم، فقال له: وعليك السلام، ارجع فصل فإنك لم تصل، فعاد فصلي ثم جاء فسلم، فقال له: وعليك السلام، ارجع فصل فإنك لم تصلّ"، فقال الرجل: علمني يا رسول الله، فقال ـ ص ـ: إذا قمت إلي الصلاة فأسبغ الوضوء ثم انوِ ثم كبّر، ثم اقرأ الفاتحة وما تيسر من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعا، ثم ارفع حتى تستوي قائما، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم اقعد حتى تطمئن قاعدا، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها".(1/128)
بداية أشير إلي أن هذا الحديث يشير إلي أدب الأستاذ أولا ثم أدب الطالب ثانيا، فرسول الله لم ينهره ولم يسئ إليه، ولم يعلمه من أول مرة، بل تركه حتى يسأل هو إذا أراد؛ لأن العلم إذا طُلب يكون أفضل للحفظ والإتقان من قِبَل المتعلم، فرسول الله يعلمنا كيف ومتي ننصح الآخرين.
أما نص الحديث فهو يشير إلي أركان الصلاة التي لا تقبل بدونها، وتبدأ بالوضوء التام لكل أعضاء الوضوء.
ـ النية معناها الإخلاص لله في العمل، ومحلها القلب، ولا داعي أن تقول بصوت عال: (اللهم نويت أصلي صلاة كذا..)، واعلم أن نية المرء خير من عمله.
ـ القيام، وإلا القعود لغير القادر لأي ظروف، لما روي عن أحد الصحابة أنه كان مريضا، فسأل رسول الله عن ذلك، فقال له رسول الله: صلِ قائما، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلي جنب، فإن لم تستطع، فمستلقيا علي ظهرك، لا يكلف الله نفسا إلا وسعها". وهذا الحديث يشير إلي مدي يسر الدين وسماحته ورحمة صاحبه بالعباد.
ـ تكبيرة الإحرام؛ يقول رسول الله: "مفتاح الصلاة الوضوء، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم". وأود أن أشير إلي أمر مهم، وهو أن بعض الناس يدخلون الصلاة وقت ركوع الإمام، فيقع المصلي في أكثر من خطأ يبطل صلاته دون أن يشعر؛ حيث إنه يسرع بالركوع بعد تكبيرة واحدة سريعة، ونحن لا نعلم هل التكبيرة التي كبرها هي تكبيرة الإحرام أم تكبيرة الركوع، فإن كانت تكبيرة الإحرام فقد فاتته الثانية وهي من سنن الصلاة التي تستوجب سجود السهو، وإن كانت الثانية فقد فاتته الأولي وهي تستوجب إعادة الصلاة، فضلا عن ذلك فهو لم يطمئن في القيام، وهذا ركن من أركان الصلاة، فلننتبه أيها المؤمنون.
ـ قراءة الفاتحة؛ لذا جعل رسول الله الصلاة بغير الفاتحة صلاة ناقصة، وأوصي بقراءتها حتى وراء الإمام سرا.(1/129)
ـ الركوع والاطمئنان في الركوع بأن يستوي ظهره وعنقه، وهذا أمر مهم؛ لأن بعض الناس لا يحاولون أن يطمئنوا في الركوع باستواء الظهر والعنق، وإنما يخطف الركوع خطفا.
ـ الرفع من الركوع والاعتدال في القيام، وكثير من الناس لا يفعل ذلك.
ـ السجود والطمأنينة في السجود، وهذا أمر مهم، وإلا تضيع الصلاة علي صاحبها، ولذا يقول رسول الله: "إذا سجدت فمكّن جبهتك من الأ{ض ولا تنقر نقرا" وقال: "أمرت أن أسجد علي سبعة أعضاء: الجبهة واليدين والركبتين وأطراف القدمين" وفي رواية "ثمانية أعضاء وزاد الأنف".
ـ الجلوس بين السجدتين والاطمئنان في الجلوس
ـ التشهد الأخير والصلاة علي رسول الله في آخر ركعة.
ـ التسليمة الأولى، وأقل التسليم (السلام عليكم)، وأكثره (السلام عليكم ورحمة الله وبركاته).
ـ ترتيب الأركان ركن من الصلاة، فلا يجوز للمصلي أن يأتي بركن قبل ركن، وصدق رسول الله في قوله: "صلوا كما رأيتموني أصلي".
سنن الصلاة
هناك سنن داخل الصلاة ، وهناك سنن مستقلة عن الصلاة، ومن السنن الأولى:
ـ قراءة بعض آيات القرآن في الركعة الأولي والثانية، والإطالة في الأولي والتقصير في الثانية.
ـ التشهد الأول، وتركه يستوجب سجود السهو، ومن نسي أن يسجد للسهو فلا شئ عليه، وكذلك الأمر إذا نسي المصلي قراءة الآيات.
ـ رفع اليدين في تكبيرة الإحرام؛ لأن معناها أنك تضع الدنيا خلف ظهرك؛ لتكون مع الله فحسب.
ـ التسبيح والتحميد والتعظيم في الركوع، والتسبيح والدعاء في السجود، وأقله ثلاث مرات (سبحان ربي العظيم) و(سبحان ربي الأعلى).
ـ وضع اليد اليمني علي اليد اليسري علي الصدر، قال رسول الله: "من أخلاق النبيين وضع اليمين علي الشمال في الصلاة".
ـ دعاء الاستفتاح بعد تكبيرة الإحرام وهو "اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما ينقي الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد".(1/130)
ـ الاستعاذة في الركعة الأولى، فذلك أمر من الله، يقول تعالى: (إذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم"، والبسملة في كل ركعة في مطلع كل ركعة.
ومن السنن الثانية:
ـ الأذان والإقامة، يقول رسول الله: "إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم"، والأذان يكون للجماعة، أما المنفرد فلا عليه أذان وإن استحب له ذلك، "فلا يسمع مدي صوته جن ولا إنس ولا شئ إلا شهد له يوم القيامة". ولعلكم تعلمون قصة الأذان، فلما أُمر النبي بالصلاة اقترح علي الصحابة أن يأتوا بناقوس يُضرب به للناس في الجمع للصلاة، فرأي أحد الصحابة رؤيا، يقول: طاف بي وأنا نائم رجل يحمل ناقوسا في يده، فقلت له: أتبيع هذا الناقوس؟ فقال: وما تصنع به؟ فقلت: ندعو به إلي الصلاة، فقال: أفلا أدلك علي ما هو خير من ذلك؟ تقول: الله أكبر.. (الأذان)، واستأخر غير بعيد ثم قال: إذا أقيمت الصلاة تقول: (الإقامة)، فلما أصبحت أخبرت رسول الله، فقال: إنها لرؤيا حق إن شاء الله، فقم مع بلال فألق عليه ما رأيت فليؤذن به فإنه أندي منك صوتا.. فسمع عمر ذلك، فجاء إلي النبي وقال: والذي بعثك بالحق لقد رأيت مثل الذي أرى، فقال رسول الله: فلله الحمد. ويستحب لمن يسمع الأذان أن يردد وراء؛ فإذا قال المؤذن (حي علي الصلاة حي علي الفلاح) يقول المستمع: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم يصلي علي رسول الله، لما روي عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا عليّ، فإنه من صلي عليّ صلاة صلي الله بها عليه عشرا، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا، فمن سأل الله لي الوسيلة حلت له شفاعتي" والوسيلة أن تقول: "اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آتِ محمدا الوسيلة والفضيلة والدرجة العالية الرفيعة، وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته".(1/131)
ـ يستحب الدعاء بين الأذان والإقامة، لقول النبي: "لا يرد الدعاء بين الأذان والإقامة" والدعاء عن النبي قوله: "سلوا الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة".
ـ ختام الصلاة مسبوق بالاستغفار والسلام لله وآية الكرسي ومتبوع بالدعاء، فقال رسول الله: "من سبح لله دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين وحمد ثلاثا وثلاثين وكبر ثلاثا وثلاثين تلك تسع وتسعون، ثم قال تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو علي كل شئ قدير غفرت له ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر". والسلام أن تقول: "اللهم أنت السلام ومنك السلام وإليك السلام حينا ربنا بالسلام وأمتنا بسلام وأدخلنا الجنة بسلام".
ـ الصلاة النافلة المؤكدة التي واظب عليها النبي عشر ركعات: ركعتان قبل الصبح، وركعتان قبل الظهر وركعتان بعده، وركعتان بعد المغرب وركعتان بعد العشاء. هذا بالإضافة إلي أنه من السنة ركعتان بين الأذان والإقامة، ومن السنن المؤكدة صلاة الضحي (أقلها ركعتان وتصل إلي اثنتي عشرة) فمن صلي الضحي بني الله له بيتا في الجنة، وهي زكاة الجسد كل يوم.
أوقات الصلاة(1/132)
الصلوات لها أوقات محددة يجب أن تؤدي فيها، فلا يجوز أن تؤدي قبلها، وإذا أديت بعدها تعتبر قضاء؛ لقوله تعالى: "إن الصلاة كانت علي المؤمنين كتابا موقوتا"، ووقت الصبح من آذان الفجر حتى شروق الشمس، والظهر من أذان الظهر حتى قبل العصر، والعصر من أذانه حتى قبل المغرب، والمغرب من أذانه حتى قبل العشاء، والعشاء من أذانها حتى منتصف الليل، ولننتبه إلي أن الصلاة في أول الوقت أفضل من تأخيرها. أما الصلاة النافلة فهي جائزة في أي وقت ما عدا الأوقات التالية فهي فيها مكروهة: وقت طلوع الشمس حتى ارتفاعها قدر رمح، ووقت استواء الشمس ما عدا يوم الجمعة، وقت الاصفرار حتى الغروب، وهناك وقتان الصلاة فيهما أقل كراهة من الأوقات السابقة، وهما: من بعد صلاة الفجر حتى الشروق، ومن بعد صلاة العصر حتى الغروب، وسبب الكراهة أن الشيطان يدني رأسه من الشمس في هذه الأوقات، يقول رسول الله: "إن الشمس تطلع ومعها قرن الشيطان، فإذا ارتفعت فارقها، فإذا استوت قارنها، فإذا زالت فارقها، فإذا أذنت للغروب قارنها، فإذا غربت فارقها"
فضل الصلاة:(1/133)
من فضائل الصلاة أنها .... ويجب أن تؤدي الصلاة بخشوع تام، وقد قال الله عنها "وإنها لكبيرة إلا علي الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم وأنهم إليه راجعون" ومن فضلها أنها عون للعبد وقت الحاجة يستعين بها، قال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة"، ورسولنا الكريم هو القدوة في ذلك، كان إذا فزعه أمر لجأ إلي الصلاة، ولذا سن لنا صلاة (قضاء الحاجة). ولنعلم أن الذنوب للإنسان كالنار التي تحرق جسده والصلاة هي الماء التي تطفئ النار، فقد جاء في الحديث "إن لله ملكا ينادي عند كل صلاة: يا بني آدم قوموا إلي نيرانكم التي أوقدتموها فأطفئوها" وقال أيضا رسول الله: "تحترقون تحترقون فإذا صليتم الصبح غسلتها ثم تحترقون وتحترقون فإذا صليتم الظهر غسلتها... ثم تنامون فلا يكتب عليكم حتى تستيقظوا" ولذا كان رسول الله يكره النوم قبل العشاء والحديث بعدها.(1/134)
وفي مقابل الأجر الكبير للمحافظ علي الصلاة نجد العقاب الشديد للمهمل المقصر، ولننظر إلي صلاة الجمعة؛ حيث قال النبي عن فضلها: "من الجمعة إلي الجمعة ... مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر" وفي المقابل قال: "لقد هممت أن آمر رجلا يصلي بالناس ثم أحرّق علي رجال يتخلفون عن الجمعة بيوتهم" وقال: "من ترك ثلاث جمع تهاونا طبع الله علي قلبه". فإذا انتقلنا إلي صلاة الجماعة في المسجد نجد فضلها عظيما ولذا حث النبي عليها في قوله: "عليكم بالجماعة.." وقال: "صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة" وذكر أن كل خطوة إلي المسجد صلاة، ونجد في المقابل أنه لم يرخص للأعمي أن يصلي في البيت، وقال له: أتسمع الآذان؟ قال: نعم. قال: فأجب" وقال: "لقد هممت أن آمر بالصلاة فيؤذن لها ثم آمر رجلا فيؤم الناس ثم أخالف إلي رجال فأحرق عليهم بيوتهم"، وقال: "إن أثقل الصلاة علي المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، لو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا، لولا ما في البيوت من النساء والذرية لأقمت العشاء وأمرت فتياني يحرقون ما في البيوت بالنار" وقال الإمام عليّ: لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد، وجار المسجد الذي يبعد عنه بأربعين بيتا. وروي أن رسول الله رأي رجلا خارجا من المسجد قبل أن يقام للصلاة فقال: "أما هذا فقد عصي أبا القاسم".(1/135)
وأشدّ من ذلك من يؤخر فرضا علي فرض، قال الله تعالي في حقه: "فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون" أي مفرطون ومقصرون ومؤخرون فرضا علي فرض، والويل هو واد في جهنم لو سيرت فيه الجبال لذابت من شدة حرارته، وقد أعده الله لثلاثة أصناف من الناس: الساهين المقصرين في الصلاة والمكذبين والمطففين في الميزان، قال تعالى: "ويل يومئذ للمكذبين الذين يكذبون بيوم الدين" وقال: "ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا علي الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون"، ليس هذا فحسب بل جعل الله المقصر في أداء الصلاة في وقتها مضيّعا لها، فقال فيه: "فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا إلا من تاب وآمن وعمل صالحا فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئا"
وأشد من هذا تارك الصلاة، فهو فاسق لأنه خالف أوامر الكتاب والسنة، والفسق هو الخروج عن المألوف السائد، والصلاة هي أساس الدين، وقال رسول الله: "بين الرجل والكفر الصلاة من أقامها أقام الدين ومن هدمها هدم الدين" وقال: "إن أول ما افترض الله علي الناس الصلاة من دينهم الصلاة، وآخر ما يبقي الصلاة، وأول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة الصلاة، فإن صلحت صلح سائر عمله.." وفي القبر يقول الله للملائكة: "انظروا إلي صلاة عبدي فإن صلحت فانظروا إلي سائر عمله"، ومن ثم فتارك الصلاة كما قال رسول الله: "يحشر تارك الصلاة مع فرعون وهامان وقارون" وقال الله تعالي عن فرعون وأتباعه: "ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب"، وترك الصلاة هي أول صفة من عدة صفات تسلك بالعبد في سقر، كما جاء في القرآن، حيث يسأل أصحاب اليمين أهل الجنة المجرمين من أهل النار: "ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين حتى أتانا اليقين فما تنفعهم شفاعة الشافعين فما لهم عن التذكرة معرضين".(1/136)
فلنحرص علي أداء الصلاة في المسجد وفي وقتها جماعة حتى نثاب فندخل الجنة ولا نقصر أو نترك فنأثم إثما عظيما.. نفعنا الله بما نعلم وعلمنا ما ينفعنا
الحسد الداء والدواء
الحمد لله والصلاة والسلام علي رسول الله ..وبعد،،
فالحسد من أمراض القلوب القاسية التي تهلك صاحبها يوم القيامة، فضلا عن أضرارها في الدنيا التي سنتحدث عنها فيما بعد.. وقد تحدث القرآن عن الحسد في أكثر من موضع، منها قوله تعالى: "ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله علي كل شئ قدير"، وقال تعالى: "أم يحسدون الناس علي ما آتاهم الله من فضله.."، وقال تعالى: "قل أعوذ برب الفلق ..ومن شر حاسد إذا حسد".
والحسد ثلاثة أنواع: حسد بمعني الغبطة أي يتمني الحاسد أن يكون له مثل ما عند الآخر من نعم من غير أن تزول من صاحبها، وهذا الحسد مباح؛ لأنه يدخل ضمن التنافس الذي قال الله عنه: "وفي ذلك فليتنافس المتنافسون"، وهذا ما أشار إليه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الحديث "لا حسد إلا في اثنتين: رجل أتاه الله مالا فسلطه علي هلكته في الحق ورجل أتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها الناس" وحسد بمعني كراهة الحاسد أن يرزق الله إنسانا ما نعمة ما، وهذا النوع مكروه ومحرم، وحسد بمعني تمني زوال النعمة من الآخر، وهذا النوع أشد كراهة وتحريما عند الله، لا يتأتي إلا من قلب جاحد حاقد، بل هو من الكبائر؛ لأنه يشير إلي اعتراض الحاسد علي الله المنعم بنعمه علي المحسود.
وليعلم الناس أن الحسد هو أول ذنب عُصي الله به في السماء، حينما عصاه إبليس برفضه السجود لآدم؛ لأنه حسد آدم علي نعم الله عليه، وهو أول ذنب ارتكب في الأرض، حينما قتل قابيل أخاه هابيل حسدا؛ لأن الله تقبّل قربان هابيل ولم يتقبل قربان قابيل، قال تعالى: "..فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر.." الآية(1/137)
والحسد داء شر من البخل والحرص وأشد من الطمع والجشع، يصيب الغني والفقير، والكبير والصغير والعظيم والوضيع، وهو داء صعب علي القلب، عدو للحق، حليف الباطل، به يختلف الناس ويكره بعضهم بعضا، وبفضله تتقطع صلات الأرحام، وتقع الحلافات بين الأهل وبين الجيران، وتعطل مصالح الناس؛ لأنه يحمل صاحبه علي كتمان الحق وإنكار الفضل لأهله، والحاسد إن اطلع علي الخير أخفاه وإن اطلع علي الشر أفشاه، فتسود العداوة والبغضاء، فيتفتت المجتمع ويتفكك بعضه من بعض، بل إنه يؤدي إلي تدمير المجتمع، ولنا في قصة يوسف وإخوته العبرة والعظة، فبالحسد اختلفوا وحاولوا التخلص من أخيهم بإلقائه في الجب، ولولا إرادة الله نافذة لكان الحسد سببا في قتل يوسف.
وهذا يدفعنا إلي القول بأن الحاسد لا يضر إنسانا إلا إذا كان الله كاتبا له ذلك، ولنطمئن إلي أن الحسد ليس حتما أن يزل النعمة من الآخر، فلو كانت النعم تزول بالحسد لما بقي في الدنيا محسود، لأن نعم الله لا تحصي وكل ذي نعمة محسود.(1/138)
لكل هذا أمرنا الله أن نستعيذ به من الحسد، وخص به سورة كريمة ضمن أربعة أشياء أمرنا أن نستعيذ به منها.. (هي سورة الفلق)، ونهانا النبي عن الحسد ضمن جملة أشياء ذميمة نهانا عنها في قوله: "لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تناجشوا ولا تدابروا ولا يبع بعضكم علي بيع بعض وكونوا عباد الله إخوانا، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، التقوى ههنا التقوى ههنا" وأشار إلي صدره ثلاث مرات. ونهانا الله عنه في قوله تعالى: "ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم علي بعض"، وقال: "واسألوا الله من فضله"، وعلمنا إذا رأينا نعمة ما عند إنسان ما أن نقول: "ما شاء الله لا قوة إلا بالله"، فهذه العبارة القرآنية إذا قالها الحاسد كفي الله المحسود شر الحسد. وكما أن الإسلام نهانا عن الحسد علمنا أيضا أن نحفظ أنفسنا ونعم الله علينا من عين الحاسد، وذلك بالمحافظة علي الاستعاذة بالله من الحاسد (سورة الفلق)، وتقوي الله وحفظه (احفظ الله يحفظك)، والتوكل علي الله (ومن يتوكل علي الله فهو حسبه) والإيمان بأن كل شئ مرده إلي الله (وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله)، والمزيد من شكر الله علي نعمه (ولئن شكرتم لأزيدنكم)، والصبر علي الحاسد والإحسان إليه (ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا كل ذي حظ عظيم"، والتوبة والاستغفار، فقد تكون الذنوب السبب في جلب الحسد علي الإنسان (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم)، وغير ذلك مما يقرب الإنسان من ربه.
الغش والتدليس
حديثنا عن الغش يأتي من خلال حديث رسول الله "من حمل علينا السلاح فليس منا، ومن غشنا فليس منا"، ويدور حول ثلاثة محاور: الأول: لماذا نهي الدين عن الغش؟ والثاني: فيم يكون الغش؟ والثالث: ما جزاء الغشاش؟(1/139)
…الغش معناه إظهار غير المضمر، إظهار الخير وإضمار السوء، وتزيين المصلحة لإنسان كذبا في أمر ليس فيه مصلحة؛ ومن ثم كان نهي الدين عن الغش، فالغشاش إنسان كأنه يتعامل في الظلام بعيدا عن النور؛ لأنه يزين للإنسان أمرا علي غير حقيقته، وهذا الأمر يتنافى مع الدين وربه ونبيه وكتابه، بل والمسلم نفسه، الكل نور يتنافى مع ظلام الغشاش، فالله نور، والدين نور، والنبي نور، والكتاب نور، والمسلم نور.
الله نور؛ إذ يقول: "الله نور السموات والأرض" أي منورها بنوره، ويقول: "نور علي نور"، ويقول: "وأشرقت الأرض بنور ربها"، ولما سئل رسول الله: هل رأيت ربك؟ فقال: نور أنّي أراه؟! وكان رسول الله يدعو "اللهم إني أعوذ بنور وجهك الكريم الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة.."، وقال ابن مسعود: "إن ربكم ليس عنده ليل ولا نهار، نور العرش من نور وجهه الكريم"، وقيل في تفسير الآية "وأشرقت الأرض بنور ربها": يوم القيامة يتجلى الحق للخلائق للحكم بينهم، فتضئ الأرض وتشرق بنور وجهه الكريم.
…ومما يدل علي أن الدين نور قول الله لأهل الكتاب: "يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون"، وقال تعالي عن الظالمين الكاذبين: "يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون".
…ومما يؤكد أن الكتاب نور قوله تعالى: "فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا" وقوله تعالى: "يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا".(1/140)
…ومما يدل علي أن النبي نور قوله تعالى: "قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين". ومما يدل علي أن المسلم نور قوله تعالى: "يوم تري المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم" وقال المفسرون: الناس علي قدر أعمالهم يمرون علي الصراط بنورهم، فمنهم من يكون نوره كالجبل ومنهم من يكون نوره كالنخلة، ومنهم من يكون نوره كالرجل القائم، وأدناهم نورا رجل نوره في صابعه يضئ مرة ويطفأ أخرى. وروي عن رسول الله أن المسلمين يعطون نورا يوم القيامة فإذا ما انتهوا إلي الصراط انطفأ نور المنافقين، فلما سمع الصحابة بذلك خافوا ودعوا الله أن يتم عليهم نورهم، فنزل فيهم قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا توبوا إلي الله توبة نصوحا عسي ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك علي كل شئ قدير". وجاء في الحديث أن رسول الله قال: "أنا أول من يؤذن له في السجود يوم القيامة، وأول من يؤذن له برفع رأسه، فأنظر بين يديّ فأعرف أمتي من بين أمتي، وأنظر عن يميني فأعرف أمتي من بين الأمم، وأنظر عن شمالي فأعرف أمتي من بين الأمم، فقال رجل: وكيف تعرف أمتك من بين الأمم يا رسول الله؟ فقال: غرّ محجلون من آثار الطهور، ويؤتون كتبهم بأيمانهم، سيماهم في وجوههم من أثر السجود، أعرفهم بنورهم يسعى بين أيديهم".(1/141)
…والغش يكون في المعاملات والعلاقات والعبادات، وثمة غش في العقيدة، والأخير أخطر أنواع الغش، والمسلم لا يمكن أن يقع في هذا النوع من الغش، لأنه يخرج صاحبه عن دائرة الإيمان مطلقا، قال تعالي عنه: "ومن الناس من يقول آمنا بالله واليوم الآخر وما هم بمؤمنين. يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون .. وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلي شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزءون". وأما الغش في العبادات فيعني أن المسلم يؤدي العبادة أداء شكليا، ولا يمتثل لأوامرها ونواهيها، قال تعالي عنهم: "إذا قاموا إلي الصلاة قاموا كسالي يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا"، فثمة غاية مشتركة بين الصلاة والزكاة والصيام والحج هي حسن الخلق أو التخلق بالأخلاق الحميدة وتجنب كل ما هو شر سئ مكروه، الطهارة للنفس والبدن، وإن لم يحقق المسلم ذلك فهو غشاش في عبادته، لذا قال رسول الله: "من لم تنهه صلاته فلا صلاة له" بعد أن قال القرآن: "إن الصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر"، فكيف يكون سلوك المسلم سيئا وهو مقيم للصلاة، وقد قال رسول الله: "إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان".
…وأما الغش في العلاقات فنعني به أن الإنسان يكنّ ويسرّ الكراهة والبغضاء لإنسان ويظهر له الحب، يضمر السوء ويظهر الخير، وما أسوأ أن يخيّب إنسان حسن ظن الآخرين فيه؛ لذا يقول رسول الله: "كبرت خيانة أن تحدث أخاك بحديث هو لك صادق وأنت له كاذب"(1/142)
…وأما الغش في المعاملات فنعني به المعاملات التجارية وغير ذلك، وبخاصة الغش في الميزان بالزيادة أو النقص أو ارتفاع السعر أو الجودة، وهذا ما أشار إليه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حديثه "أنه مر علي صُبرة طعام (كومة)، فأدخل يده فيها أصابت أصابعه بلالا، فقال: ما هذا يا صاحب الطعام؟ فقال: أصابته السماء يا رسول الله، فقال: أفلا جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس؟ من غش فليس مني". وقد وصف الله الغشاشين بالمطفيين الذين أعد لهم الويل في جهنم، فقال تعالى: "ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا علي الناس يستوفون. وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون" فالغشاش هو البائع الذي ينقص في الميزان، وهو المشتري الذي يستوفي الميزان أكثر من العدل، ويبخس الناس أشياءهم، وهذا ما نهي الله عنه، فقال: "وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان" وقال: "ولا تبخسوا الناس أشياءهم". (وقفة عند الفرق بين كال واكتال، قسط وأقسط).(1/143)
…وأما جزاء الغشاش فشديد عند الله، الغشاش هو منافق فاسق كاذب، لأن الغشاش هو الذي يظهر غير ما يضمر، فيظهر الخير ويضمر السوء، يظهر الوهم علي أنه حقيقة والباطل علي أنه حق، فهو خارج عن المعتاد المألوف؛ لأن المعتاد أن يكون الإنسان صريحا مع نفسه والآخرين، فيظهر ما يضمر، فيتفق لسانه مع قلبه، والمنافق هو الذي يظهر غير ما يضمر، وهو يضمر السوء ويظهر الحسن، فهو خارج عن المعتاد المألوف المأمور به، والفسق من قولهم: (فسقت الرطبة عن قشرها أي خرجت)، فالفاسق هو الخارج عن طاعة الله وأوامره، ومنه قوله تعالي عن إبليس: "وإذا قلنا للملائكة اسجدوا لآدام فسجدوا إلا إبليس أبي ففسق عن أمر ربه"؛ ولذا وصف الله المنافق بأنه فاسق في قوله تعالي عن المنافقين: "نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون". والفسق صفة قوم نوح وفرعون وقومه، قال تعالى: "وقوم نوح من قبل إنهم كانوا قوما فاسقين" وقال تعالي لموسى: "وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء في تسع آيات إلي فرعون وقومه إنهم كانوا قوما فاسقين"؛ ومن أجل هذا أبغضه الله وكرّهه لنا في قوله: "وكرّه إليكم الكفر والفسوق والعصيان". ومن يغشّ وينافق ويفسق فهو امرؤ كذاب مخادع غير صادق لا مع نفسه ولا مع ربه ولا مع الآخرين، وقد قال الله تعالي عن الغشاشين في عهد رسول الله ـ ص ـ: "ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصّدّقن ولنكوننّ من الصالحين. فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون. فأعقبهم الله نفاقا في قلوبهم إلي يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون. ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم وأن الله علام الغيوب". وقال تعالي عن الكاذبين: "إن الذين يفترون علي الله الكذب لا يفلحون. متاع قليل ولهم عذاب أليم".(1/144)
ومن صفاتهم أنهم فاسدون سفهاء في الأرض، قال تعالي عنهم: "وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون. ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون. وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون".
ومن جزائهم أنهم يحرمون النور يوم القيامة، قال تعالى: "يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى.." وقال تعالي فيهم: "وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم ولعنهم ولهم عذاب مقيم". وقال: "إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار". وقال كذلك: "إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا". ويخبرنا رسول الله في حديث قدسي عن رب العزة عن جزاء الغشاش في العبادات "أن عبدا يلقي في النار فتلقي أمعاؤه أمامه، فيدور بها كما يدور الحمار في الرحى، فيجتمع حوله أهل النار، فيقولون: يا فلان ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ قال: كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وكنت أنهي عن المنكر وآتيه". وقال رسول الله: "لأعلمنّ أقواما من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضاء، فيجعلها الله هباء منثورا، أما إنهم إخوانكم ومن جلدتكم، ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنهم قوم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها". وقال كذلك ـ ص ـ: "إن في جهنم واديا تستعيذ منه جهنم كل يوم أربعمائة مرة أعده الله للمرائين من أمة محمد، لحامل كتاب الله وللمتصدق في غير ذات الله وللحاج إلي بيت الله وللخارج في سبيل الله".
وللحديث بقية تأتي إن شاء الله،،،
ثلاث مهلكات(1/145)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله .. حديث قدسي (أهل الذكر في حضرتي، وأهل الفكر في ضيافتي، وأهل المعاصي لا أقنطهم من رحمتي، إن تابوا إليّ قبلتهم، وإن لم يتوبوا داويتهم، أبتليهم بالمصائب؛ لأطهرهم من المعايب". سبحانك لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك
وبعد ..
فنعيش هذا اللقاء مع حديث النبي ( (ثلاث منجيات وثلاث مهلكات، ثلاث منجيات: تقوى الله في السر والعلن، وقول الحق في الرضا والسخط، و( نسيتها)، وثلاث مهلكات: شح مطاع وهوىً متبع وإعجاب المرء بنفسه). والحديث يحذر المسلم من الوقوع في واحدة من هذه الصفات السيئة التي تهلك صاحبها بأن تودي به إلى النار يوم القيامة، ونفصل القول في كل واحدة على حدة.
بدأ الحديث بصفة (الشحّ المطاع)، والشح هو البخل الشديد، وقيل: البخل يكون في الأشياء المادية التي تقدر بمال، كأن يبخل في عطاء الفقراء والمحتاجين مما رزقه الله، وقد يكون كريما على نفسه وبيته، وإن كان بخيلا على نفسه والآخرين، فهو شديد البخل، والشحّ يكون في الأمور المادية والمعنوية، كأن يبخل بالمال ويبخل بالنصيحة إذا طُلِبت منه، فهو يضنّ بالنصيحة التي فيها خير للناس. وقيل: البخيل هو الذي لا يأخذ ولا يعطي، والشحيح هو الذي يأخذ ولا يعطي، والرجل البخيل الشحيح بعيد من الناس بعيد من الله بعيد من الجنة قريب من النار.(1/146)
والبخل صفة ذميمة حذّر منها النبي ( فقال: "مَن آتاه الله مالا، فلم يؤد زكاته، مُثّل له يوم القيامة شجاعا أقرع يطوّقه يوم القيامة، يقول له: أنا مالك أنا كنزك"، ثم تلا النبي ( قوله تعالى: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)، أي لا يحسبن البخيل أن جمعه للمال سينفعه، بل هو مضرة له في دينه وربما في دنياه، وروي أن رجلا من الصحابة (الأنصار) اسمه ثعلبة طلب من رسول الله أن يدعو الله له بالغنى، فرفض النبي حرصا عليه، وقال له: أما ترضى أن تكون مثل نبي الله؟ فوالذي نفسي بيده لو شئت أن تصير الجبال ذهبا وفضة لصارت، فأصرّ ثعلبة واستحلف النبي أن يدعو الله أن يرزق ثعلبة مالا، وأقسم إن رزقه الله ليعطين كل ذي حق حقه، فرزقه الله غنما تكاثرت ونمت حتى أشغلته عن صلاة الجماعة، وجعلته بخيلا حتى على دفع الزكاة والصدقة، فأنزل الله فيه قرآنا وفي أمثاله في كل زمان، وذلك قوله تعالى: (وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنْ الصَّالِحِينَ. فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ. فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ)، حكم الله عليه أن يكون من المنافقين، فجاء إلى النبي ( مسرعا ليعطيه الزكاة، فرفض صدقته ولم يقبلها حتى توفي النبي ( فجاء إلى أبي بكر، فرفض، وكذلك عمر وعثمان اقتداء برسول الله، وماتوا جميعا غاضبين عليه. فهل ترضى وتقبل أن يغضب رسول الله عليك، وأن تحشر في زمرة البخلاء المنافقين؟!(1/147)
بسبب البخل والشح قد يغيّر الله الأمة بأمة أخرى، فقال تعالى لصحابة رسول الله ( ولنا جميعا: (هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ).
والبخل والشح ضد ضد الفلاح، والجود الإنفاق خير للإنسان، قال تعالى: (وأَنفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ. إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ).
أي أنفقوا على الأقارب والمحتاجين مما رزقكم الله يكن خيرا لكم في الدنيا والآخرة. وبيّن أن مَن يتحلى بالكرم، ويتجنب صفة الشحّ فقد فاز وأفلح في الدنيا والآخرة (صفات المفلحين في مطلع سورتي البقرة والمؤمنون)، ثم أشار إلى أن الشحّ مناف للقرض، وأن القرض من صفات المؤمن الكريم، فحث على القرض من خلال الجزاء الحسن، واعتبر أن الذي يقرض أخاه فكأنما أقرض الله، ويضاعفه الله له أضعافا كثيرة.(1/148)
والشحّ والبخل ضد الجود والكرم، فالبخل منع، والكرم عطاء، والعطاء نوعان: عطاء بحب مع المقدرة، وهذا ممدوح في القرآن، كما في قوله تعالى: (ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا) وقوله: (وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ)، وخير من يمثله سيدنا عثمان؛ حيث جهز ثلث الجيش، حتى قال فيه النبي: إن الله قد غفر لك ما قدمت وما أخرت وما أعلنت وما أسررت، وما هو كائن إلى يوم القيامة. وعطاء بحب مع الاحتياج، وهو الإيثار، وما أجمل صفة الإيثار، وقد مدح الله الأنصار بهذه الصفة في قوله تعالى: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ)، فالأنصار أحبوا المهاجرين وآثروهم على أنفسهم في كل شيء رغم احتياجهم. وخير من يمثله أبو بكر حينما تصدق بكل ماله، ولما سأله النبي ما أبقيت لأهلك؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله. والصحابي الذي ضيّف ضيف رسول الله بطعام أهله وأولاده الصغار، وقد أطفأ السراج وتمثّل هو وزوجته بالأكل حتى شبع الضيف. فلما أصبح والتقى برسول الله قال له النبي: إن الله قد عجب ـ أو ضحك ـ من صنيعكما بضيفكما الليلة.(1/149)
والبخل يخرج صاحبه عن دائرة الإيمان؛ لذا حذر منه رسول الله، فجاء في الحديث "إياكم والظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، وإياكم والفحش، فإن الله لا يحب الفحش ولا التفحش، وإياكم والشح، فإن الشح أهلك من كان قبلكم؛ حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم". وقال أيضا: "لا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبدا". وقال: "البخيل بعيد من الله بعيد من الناس بعيد من الجنة قريب من النار"، ومدح الكرم، فقال: "برئ من الشحّ مَن أدّى الزكاة وقرى الضيف وأعطى في النائبة"، وقال: "السخي قريب من الناس قريب من الله قريب من الجنة بعيد عن النار".
وأما الصفة الثانية فهي (الهوى المتبع)، والهوى هو الحب والرغبة، فإذا كان الشيء المحبوب فيه معصية فهو هوى محرّم، وإن كان شيئا حميدا فهو هوى مباح، وفي الغالب أطلقت كلمة الهوى على حب الشهوات والرغبة فيها، كالطمع الذي يجلب ظلما وجورا، وكذلك ارتكاب الفواحش وغير ذلك مما يغضب الله، وبهذا المعنى جاء الهوى في عدة مواضع من القرآن، منها قوله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا) وقوله: (يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ)، ومثال للهوى (ضرب عبدالله بن عمرو بن العاص للمصري الذي غلبه في السباق، وعدل عمر في أن يضرب المصري عمرو بن العاص قصاصا).(1/150)
أما الإنسان الذي يقاوم هواه فهو مؤمن يخاف ربه، مصيره الجنة، قال تعالى: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى. فإن الجنة هي المأوى)، وقد نزلت هذه الآية فيمن همّ بمعصية في خلوة، فتركها خوفا من الله وهو قادر عليها، وقد أمر الله رسوله ألا يتيع أصحاب الهوى، فقال له: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) وكذلك قوله تعالى: (فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى)، وفي وصف النبي ( (وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى).(1/151)
أما الهوى المحمود فقد جعله النبي ( شرطا من شروط الإيمان، وذلك في قوله: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به". أي تكون رغباته وشهواته متوافقة مع السنة النبوية، فلا يحب شيئا فيه معصية لله ومخالفة لهدي الحبيب ( , والهوى المنهي عنه هو الهوى الشيطاني، ومعناه أن الإنسان إذا أتبع نفسه شهواتها وجعلها أسيرا للشيطان فقد هلك، فالنفس البشرية نفس تجمع بين الخير والشر، كما قال تعالى: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا. فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا. قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا. وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا). أي أن الله خلق النفس سوية مستقيمة على الدين الحنيف المتوافق مع الفطرة، ثم وضع فيها الخير والشر، وقد أفلح وفاز من جعل هواه تبعا لما أمر به الشرع، فيأتي الأمر الحسن وهو فرِح تقوده نفسه إليه، ولا يرغمها عليه، وهذه مرحلة تحتاج إلى ترويد النفس البشرية وتعوّدها على فعل الخيرات؛ لأنها أقرب إلى فعل الشهوات بفضل الشيطان؛ إذ الشهوات ليس فيها مشقة؛ ولذا حفّت النار بالشهوات وحفّت الجنة بالمكاره، فالأعمال الصالحة فيها مشقة ومكروه يحتاج وقتا طويلا حتى تُعوّد النفس عليه، فتأتيه وهي راضية.(1/152)
وأما الصفة الثالثة فهي (إعجاب المرء بنفسه)، وما أخطر هذه الصفة على صاحبها، والإعجاب معناه أن الإنسان يرى نفسه أفضل وأحسن الناس؛ ولذا فصاحبه يتصف بالغرور والاستعلاء والخيلاء والتكبر، وكلها صفات تحرّم على صاحبها الجنة؛ قال النبي (: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر) وأخبر ( أن من الثلاثة الذين لا ينظر الله إليهم يوم القيامة من جرّ ثوبه خيلاء، أي إعجابا وغرورا وتكبرا؛ لأنها صفات إبليس؛ حيث رفض السجود لآدم؛ تكبرا وغرورا وإعجابا بنفسه؛ حيث قال الله له: (مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ)، أعجب بنفسه، ورأى نفسه أفضل من آدم، فرفض السجود.
ومن مظاهر الإعجاب أنك لا تسمع للآخرين ولا تولي لهم اهتماما ولا تحترمهم، وأنك تحتقر مَن تراه أقل منك، لكن مَن أدراك؟! فقد يكون عند الله خيرا منك وأحسن؛ ولذا حذرنا النبي ( من أن نحتقر أي إنسان مهما كان حاله، فقال: "إن الله أخفى ثلاثا في ثلاث، أخفى رضاه في طاعته، فدخل رجل الجنة في كلب سقاه، فلا تحتقرنّ طاعة لله، وأخفى سخطه في معصيته، فدخلت امرأة النار في هرّة حبستها عن الطعام والشراب، فلا تحتقرن معصية لله، وأخفى أسراره في خلقه (فجعل بعضكم لبعض سخريا)، فلا تحتقرنّ عبدا لله".
هاهي المهلكات الثلاث التي تهلك صاحبها يوم القيامة؛ لأنها من أعظم المعاصي، ونحن لا نطيق عذاب الله، فليتق الله كل مسلم، وليتجنب هذه المهلكات، وليتذكر دائما أنه لا ملجأ ولا منجأ من الله إلا إليه.
ست وصايا لإبراهيم بن أدهم(1/153)
أوصى بها رجلا أسرف على نفسه من المعاصي، فجاءه فقال له: يا شيخ، كثرت معاصيّ، وجئتك لتعلمني شيئا من الزهد عسى أن أنتفع به، فقال له الشيخ: يا هذا احفظ عني عدة وصايا واعمل بها، ولا يضرك أن تعصي الله بعدها، فقال: هات الأولى يا إمام، فقال: إذا أردت أن تعصي الله فلا تأكل من رزقه. فقال: كيف يا شيخ؟! وكل ما في الأرض من ملك الله، وهو القائل: (ما من دابة في الأرض إلا على رزقها)، فلا أستطيع، هات الثانية، فقال: إذا أردت أن تعصي الله فلا تعصه في أرضه، فقال: والله إنها أشد من الأولى يا إمام، كيف ذلك وهو الذي له ملك السماوات والأرض؟! هات الثالثة، فقال: إذا أردت أن تعصي الله فلا تعصه في مكان يراك فيه. قال كيف يا إمام وهو القائل (وهو معكم أينما كنتم) فقال الإمام: يا رجل أيحسن وأتقبل أن تأكل من رزقه وتعيش في ملكه وتعصيه وهو يراك؟ فقال: لا والله يا إمام، هات الرابعة. فقال الإمام: إذا استطعت أن تدفع عنك ملك الموت حينما يأتيك ليقبض روحك فاعص الله، فقال: لا ياإمام، هات الخامسة. فقال: إذا استطعت أن تخاصم وتجادل منكرا ونكيرا في القبر وتدفعهما عنك فاعص الله، فقال: لا أستطيع ياإمام، هات السادسة. فقال: إذا استطعت أن تمتنع عن أمر الله يوم القيامة حينما يأمر بإلقائك في جهنم فاعص الله. فقال: حسبي حسبي يا إمام والله لا أقدر على واحدة من هذه الوصايا.
المؤمنين: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ. إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ).
هذه المعلومة تسجل في موضوع التقوى:(1/154)
قال تعالى: "فاتقوا الله مااستطعتم واسمعوا وأطيعوا" .هذه الآية فيها رخصة للمسلمين في التقوى؛ حيث إنها ناسخة لقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون)؛ حيث قاموا حتى ورمت أقدامهم وتقرحت جباههم، فنزلت هذه الآية تخفيفا بهم ورحمة. ولذا جاء في حديث الاستغفار والذي نعته رسول الله بأنه سيد الاستغفار (اللهم أنت ربي ..) يشرح الحديث مع التوقف عند (أبوء لك بنعمتك عليّ ، وأبوء بذنبي).
طرفة دينية عن الصحابة الأئمة
جاء رجل إلى أبي بكر الصديق فقال له: أقسمت ألا أكلّم زوجتي حينا من الدهر، فماذا أفعل؟ فقال له: كلمها بالليل، ثم التقى بعمر فسأله السؤال نفسه، فأجابه: كلمها العام القادم، فذهب إلى عليّ ليفصل في الأمر، فقال له: لا تكلمها حتى يوم القيامة. فاستعجب الرجل واستغرب من اختلاف الإجابات، فالتقى بهم مجتمعين واستفسر منهم عن سبب الخلاف بينهم، فقال أبو بكر: اعتمد في إجابتي على قوله تعالى: "فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون"، فالحين هو جزء من اليوم ليلا أو نهارا، وقال عمر: اعتمد في إجابتي على قوله تعالى: "تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها" أي كل عام؛ لأن الشجر يثمر مرة واحدة في العام، وقال عليّ: اعتمد في إجابتي على قوله تعالى: "ولتعلمنّ نبأه بعد حين" أي يوم القيامة.
فما أروع هؤلاء الرجال الذين عُرف الحق بهم وعرفوا هم بالحق، اتفقوا واختلفوا، ولم يخرجوا في هذا وذاك عن كتاب الله.(1/155)
ـ مما ورد عن عمر بن الخطاب أن عمرو بن العاص كتب له من مصر أن نهر النيل يفيض على الناس فيهدم البيوت، فكتب عمر رسالة (من عمر بن الخطاب إلى نهر النيل في مصر .. أما بعد، فإن كنت تجري بأمرك فاجر كما شئت، وإن كنت تجري بأمر الله فتوقف!! ثم أمر عمرو بن العاص أن يلقيها في النيل، فلما ألقاها توقف في الحال عن الفيضان. هؤلاء أناس حكموا بأمر الله ، ولا ننسى كلمة أحد الملوك الذي أراد أن يدخل في الإسلام، فسأل عن عمر، فدُل عليه في المسجد، فرآه نائما على الأرض وفي جلبابه (14) رقعة، فقال: (حكمت فعدلت فأمنت فنمت يا عمر) ولا ننسى يوم مماته وما تمناه من الشهادة في سبيل الله والموت في مدينة رسول الله، وفرح أن قتله مجوسي لا مسلم وقت الصلاة، وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر بعد قتله قبل موته للشاب الذي سلم عليه ودعا له وهو يجر ثيابه في الأرض، فأمره أن يرفع ثيابه، قائلا له: هو أتقى للرب وأنقى للثوب.
ـ قيل :
خذي العفو مني تستديمي مودتي ولا تنطقي في سورتي حين أغضبُ
ولا تنقريني نقرَك الدفّ مرة فإنك لا تدرين كيف المغيّبُ
ولا تكثري من الشكوى فتذهبَ بالقوَى ويأباك قلبي والقلوب تقلّبُ
فإني رأيت الحب في القلب والأذى إذا اجتمعا لم يلبث الحب يذهبُ
وتروي لنا كتب السير والتاريخ أن شابا ذهب إلي عمه ليخطب ابنته، فأجلسه عمه بجانبه، ومسح علي رأسه وقال: "أقرب قريب يخطب أحب حبيب، لا أستطيع له ردّا، ولا أجد من إسعافه بُدّا، قد زوجتكما، وأنت أعزّ عليّ منها، وهي ألصق بقلبي منك، فأكرمها يعذب علي لساني ذكرك، ولا تهنها فيصغر عندي قدرك، وقد قربتك مع قربك، فلا تبعد قلبي عن قلبك".
ـ قيل: من احتجت إليه فأنت أسيره، ومن استغنيت عنه فأنت نظيره، ومن تفضلت عليه فأنت أميره.(1/156)
ـ قالوا: احذر ثلاث كلمات أن تقولها : " أنا ـ لي ـ عندي " ، فالأولى قالها إبليس "أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين" فكانت العاقبة الطرد من رحمة الله ... والثانية قالها فرعون " أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي" وكانت العاقبة الغرق ... والثالثة قالها قارون " إنما أوتيته على علم عندي" وكانت العاقبة الخسف به وبداره الأرض. (تسجل آيات العواقب). وأنا أقول : هذه الكلمات مرتبطة بسياقها، فممكن تقال من إنسان ويؤجر عليها، فمثلا يقول: رب أنا أتوب إليك ، لي ذنوب كثيرة ، عندي رجاء وطمع في رحمتك.
ـ صفات الله نوعان: صفات جمال يحب العبد أن يتصف بها مثل (الرحمن ـ الرحيم) ، وصفات جلال لا يجوز للعبد أن يتصف بها مثل (العظمة والكبرياء).
ـ روي أن أبا حنيفة كان جالسا في المسجد النبوي، ودخل أمير المؤمنين المنصور في موكب لزيارة رسول الله، فأحدثوا ضجيجا في المسجد، فوقف أبوحنيفة يخاطب المنصور، فقال له: يا أمير المؤمنين اعلم أن الله أدّب قوما فقال لهم: "لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ..." واعلم أن الله ذمّ قوما فقال لهم : "إن الذين ينادونك من وراء الحجرات ....." واعلم أن الله مدح قوما فقال لهم: "إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله ..." واعلم أن حرمة رسول الله ميتا كحرمته حيّا.
ـ عناوين مقالات خطب (تحت الإعداد):
1ـ حقوق الآخرين على المسلم وتفسير للآية 36 من سورة النساء (اعبدوا الله .... والصاحب بالجنب) أو بعنوان (واجبات المسلم تجاه الآخرين).
2ـ مفهوم الأمانة وتفسير الآية (إنا عرضنا الأمانة على...) آخر الآحزاب وأن من التفسير أنها حرية الاختيار، ويستعان بكُتيب الأمانة الموجود بالمكتبة.
3ـ حياة رسول الله من خلال كتاب (محمد) والصحابة من خلال (حياة الصحابة)(1/157)
4ـ مظاهر تفضيل النبي على سائر الأنبياء (روايات الحديث : فضلت على الأنبياء بخمس .. وست .. وسبع ..، وفي رواية أعطيت من ربي خمسا لم يعطهن نبي قبلي .....) راجع: دلائل النبوة ج5 ص 472 وما بعدها (الموضوع مفصل)
5ـ الأدب مع الله ومع الآخرين (تمت الخطبة وألقيت في البلد).
6ـ الصبر الجميل (نماذج من الصابرين على المصائب العظيمة : يوسف وأيوب ويونس عليهم السلام).
7ـ خطبة عن الزلزال (عرض للآيات التي تتحدث عن الأرض وما يحدث لها، والعقوبات التي وقعت على بعض الأقوام من خسف ورجفة وصعقة، عرض لـ(فرعون وقارون ولوط وغيرهم) مع الإشارة إلى أنه لا تعارض بين تقدير هذه الأمور بأمر الله والأسباب الطبيعية التي يفسر بها علماء الجولوجيا هذه الظواهر، فذلك مثله مثل إنسان يموت بسبب حادث أو سم أو فشل كلوي أو أي مرض قاتل، فالمقدر للأمر هو الله مع الإيمان بالأسباب التي يسببها الله لتنفيذه ما قدّره سلفا.
7ـ تفسير آية (وفي أنفسكم أفلا تبصرون) الذاريات. يراجع تفسير الشعراوي الصوتي مع كتب التفسير الأخرى مثل الألوسي.
8ـ الحديث: "إن الله أخفى ثلاثا في ثلاث، أخفى رضاه في طاعته، فدخل رجل الجنة في كلب سقاه، فلا تحتقرنّ طاعة لله، وأخفى سخطه في معصيته، فدخلت امرأة النار في هرة حبستها عن الطعام والشراب، فلا تحتقرن معصية لله، وأخفى أسراره في خلقه (فجعل بعضكم لبعض سخريا)، فلا تحتقرنّ عبدا لله".(1/158)
ـ واستكمالا للحديث السابق: يروى أن رجلا جاء إلى إبراهيم بن أدهم، فقال له: يا شيخ، كثرت معاصيّ، وجئتك لتعلمني شيئا من الزهد عسى أن أنتفع به، فقال له الشيخ: يا هذا احفظ عني عدة وصايا واعمل بها، ولا يضرك أن تعصي الله بعدها، فقال: هات الأولى يا إمام، فقال: إذا أردت أن تعصي الله فلا تأكل من رزقه. فقال: كيف يا شيخ؟! وكل ما في الأرض من ملك الله، وهو القائل: (ما من دابة في الأرض إلا على رزقها)، فلا أستطيع، هات الثانية، فقال: إذا أردت أن تعصي الله فلا تعصه في أرضه، فقال: والله إنها أشد من الأولى يا إمام، كيف ذلك وهو الذي له ملك السموات والأرض؟! هات الثالثة، فقال: إذا أردت أن تعصي الله فلا تعصه في مكان يراك فيه. قال كيف يا إمام وهو القائل (وهو معكم أينما كنتم) فقال الإمام: يا رجل أيحسن وأتقبل أن تأكل من رزقه وتعيش في ملكه وتعصيه وهو يراك؟ فقال: لا والله يا إمام، هات الرابعة. فقال الإمام: إذا استطعت أن تدفع عنك ملك الموت حينما يأتيك ليقبض روحك فاعص الله، فقال: لا ياإمام، هات الخامسة. فقال: إذا استطعت أن تخاصم وتجادل منكرا ونكيرا في القبر وتدفعهما عنك فاعص الله، فقال: لا أستطيع ياإمام، هات السادسة. فقال: إذا استطعت أن تمتنع عن أمر الله يوم القيامة حينما يأمر بإلقائك في جهنم فاعص الله. فقال: حسبي حسبي حسبي ياإمام والله لا أقدر على واحدة من هذه الوصايا.
8ـ تصوير ليوم القيامة من خلال آيات القرآن الكثيرة المتنوعة التي تصور هول ذلك اليوم (الجبال تسير وتطير والعشار تعطل والكواكب والشمس والبحار والقبور والمرضع والحامل وغير ذلك ...)
9ـ خطبة عن أهل الكتاب من القرآن.
10 ـ خطبة عن ( الإسراف والتبذير ) من القرآن والسنة.
11ـ خطبة عن النار ومنازل وأسمائها في القرآن.
12ـ خطبة عن " عباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا".
13ـ خطبة ضرورية عن قوله تعالى عن قارون:(1/159)
{قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ }القصص78
وعرض قصص النمرود مع إبراهيم حينما حاجه في ربه، وفرعون مع موسى، وقارون مع موسى، وأبره في هدم الكعبة، وأبوجهل وأبولهب مع النبي ص
14 ـ التوكل واليقين بالله، أمثلة: ( صنع سفينة نوح بدون ماء، رمي إبراهيم في النار، موافقة إسماعيل على ذبحه، شق البحر لموسى وغرق فرعون، موقف النبي مع أبي بكر في الغار ـ موقف المسلمين لما قيل لهم إن الناس أجمعوا لكم)
14ـ خطبة عن (الفرح والحزن) في القرآن والسنة. عرض لآياتهما في القرآن.
15 ـ شرح حديث (29) في الأربعين النووية وهو موجه لمعاذ بن جبل في وجوه الخير.
الفهرس
الهجرة انطلاقة وبناء…2
دلالة الطيرة في القرآن…10
من مظاهر السماحة في الإسلام…12
الوقاية خير من العلاج…18
في رحاب حج بيت الله…24
الوسطية في الإسلام…34
حضارة ذات آفاق…38
حب الوطن من الإيمان…47
لا عهد لهم .. أشد قسوة من الحجارة…54
من حقوق الإنسان في الإسلام…60
وخالق الناس بخلق حسن…67
حب الله للإنسان…71
بمناسبة بدء العام الدراسي…77
الإدمان .. أسبابه و حكمه والوقاية منه…79
الزواج اللاعرفي…84
في رحاب الأشهر الحرم…88
العنف بين الزوجين…96
تعدد الزواج ومناقشة للمثل الشعبي…101
من وصايا النبي صلي الله عليه وسلم…104
حفظ الإنسان لربه…104
الصلاة ومكانتها…116
الحسد الداء والدواء…126
الغش والتدليس…129
طرفة دينية عن الصحابة الأئمة…134
الفهرس…146(1/160)
1 استعمل القرآن لفظ (إخوان) ولفظ (إخوة) ؛ الأول يدل علي التشابه بين جماعة في الصفات سواء كانت حسنة أو سيئة ، ومنه {فأصبحتم بنعمته إخوانا } و { إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين} ، ويدل الثاني علي القرابة من النسب (اللحم والدم) ومنه { جاء إخوة يوسف} ؛ وذلك لأن القرابة أشد تماسكا بين الأهل من التشابه في الصفات بين الأصدقاء ، وإذا زادت أواصر الربط بين الأصدقاء في الصفات أطلق علي العلاقة بينهم لفظ (إخوة) ومنه قوله تعالي : { إنما المؤمنون إخوة} .
2 حذف المفعول في اللغة إما أن يكون للعموم أو لأنه معروف ، ولنقرأ سورة الضحى (ما ودّعك ربك وما قلى) فالأصل (قلاك) وحذف المفعول لعلم المخاطب به، ثم قال (ولسوف يعطيك ربك فترضى) فقدر المفعول للشمول وعموم العطاء.
3شرح لغوي للآية، فالحرف (على) يدل على الاستعلاء، وكأن النبي فوق الخلق، فضلا عن توكيدها بـ(إن واللام).
4 سموا العبرانيين نسبة إلي عبور سيدنا إبراهيم نهر الفرات ، والإسرائيليين نسبة إلي سيدنا يعقوب فهو إسرائيل كما يقول القرآن: "كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل علي نفسه من قبل أن تنزل التوراة" والمحرم كان الإبل. وسموا أهل الكتاب لأنهم أصحاب كتاب مقدس هو التوراة، وسموا اليهود نسبة إلي يهوذا الابن الرابع ليعقوب ، ويهود من هاد يهود هودا أي تاب ورجع، ومنه قوله تعالى: "إنا هدنا إليك" أي تبنا ورجعنا.
??
??
??
??(1/161)