فحين تشكل الأمية ظاهرة واضحة في مجتمع ما أو حين يكون مستوى التثقيف متدنياً، كما هو الشأن في معظم الدول النامية، فإن الذي يوجه مواقف الناس وسلوكاتهم آنذاك هو عواطفهم، وليس أفكارهم بسبب أن العاطفة موجودة لدى الجميع، وليس كذلك الفكر. أضف إلى هذا أن هيمنة (الثقافة الشعبية) تتمدد حيث تنحسر الثقافة العليا. وعلى حين أن الثقافة العليا لدى كل أمة تضع المعايير العقلانية التي تحدد مواقف الناس بعضهم من بعض، فإن الثقافة الشعبية تستهدف أساساً توفير التضامن الأهلي والتلاحم القبلي والوطني مهما كان بعيداً عن الحق والصواب. ولا نختلف أن مساحات السيطرة للثقافة العليا في مجتمعاتنا في الوقت الحاضر ضيقة. ودور المثقفين الكبار في توجيه الحياة العامة هامشي. ولا نستطيع هنا أن نغفل ما يسببه الجهل من (عمى الألوان) حيث إن العلم يوسع مدى الرؤية، ويسمح بإمكانية الفهم المتعدد للأشياء والأحداث، على حين أن الجهل يولد التصلب الذهني والرؤية العمشاء، حيث يظن محدود المعرفة أن الناس ينقسمون إلى فريقين: فريق معه وفريق ضده؛ وبما أنه لا يملك المقدرة الكافية على التفريق بين الصواب والخطأ، فإنه يتجه إلى جعل الذين معه على الحق والذين ليسوا معه على الباطل. وحالة النفاق التي أشرت إليها هي نتيجة ضمور الشخصية وعدم وجود ضمانات كافية لإيصال الحق إلى أهله وإيقاف المبطلين عند حدود معينة.
وإيجاد حل لهذه القضية صعب جداً في ظل التوتر الاجتماعي الموجود الآن، وفي ظل التخلف العلمي الذي نعيشه؛ ولكن على مثقفي الأمة أن يحاولوا إبراز مظاهر العصبية للرأي، والمواقف التي يتجلى فيها التحيز وضيق الأفق وتجاوز الحق والحقيقة، وأن يشجعوا في الناس روح الموضوعية والمصارحة والحوار وقول الحق. وأعتقد أنه قد آن الأوان لأن تقوم مدارسنا وجامعاتنا بدورها في هذا الشأن، فتقرر بعض المواد الدراسية التي تثري ثقافة الطلاب بمبادئ التفكير المستقيم، وتفضح أشكال التفكير المعوج الذي يسيطر على كثير من الناس.
*
عبر التاريخ الإسلامي اختلط لدى بعض الناس المقدس (القرآن والسنة) بالتاريخي (أقوال وآراء الشراح) مما أدى إلى ظهور أمراض فكرية خطيرة، تجاوزت الدلالات القرآنية وصحيح السنة إلى آراء وأقوال معينة. ما هي الضوابط الفكرية والعقلية للتعامل بمنهجية مع القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة، ومع اجتهادات وآراء السابقين؟
*
لا أعتقد أن القضية التي أشرت إليها هي قضية إسلامية، إنها قضية بشرية عامة، عانت منها الأمم في الماضي، وما زالت تعاني منها في الحاضر. ولا يخفى أن المشتغلين بالقوانين والأمور التشريعية يختلفون اختلافاً واسعاً تجاه تفسير كثير من المواد الدستورية والقانونية، مع أنه أخذ عند صياغتها احتياطات كثيرة لمنع الوقوع في اللبس والفهم المتعدد والمتناقض. وهذا يعود أساساً إلى أن اللغة ناقل غير كفء وغير شفاف، ودلالة الألفاظ على معانيها غير حاسمة في كثير من الأحيان. وحين تدخل اللفظة في تركيب تعبيري، فإنها تتيح مجالاً أوسع للقارئ والسامع كي يفهم المعنى على غير ما أراد صاحب النص. وفي نصوص الوحي يزداد الأمر تعقيداً عند إرادة الوصول إلى حكم من الأحكام، حيث يسهم في تقرير ذلك الحكم عدد من النصوص، بالإضافة إلى فعل النبي –صلى الله عليه وسلم- وإجماع الأمة... وهذا كله يسمح بالتجاوز والخلط.
ولا نستطيع هنا إغفال دور بعض الأمور الجانبية الخارجة عن نظام اللغة في إحداث الخلط الذي أشرت إليه، والتي منها:
1- حماسة العالم أو الكاتب للموضوع الذي يعالجه، تدفعه إلى أن يتجاوز طاقة النص اللغوية والدلالية إلى تقرير معان وأحكام، لا يقررها غيره من أهل العلم الذين يفقدون تلك الحماسة. وكم من عالم قرر بفعل الحماسة قضايا خلافية على نحو يشعر القارئ بأنها مما انقطع فيه الخلاف والجدل. وقد كان الإمام الجويني قد عتب في كتابه (غياث الأمم) على الماوردي أنه أورد في كتابه (الأحكام السلطانية) المسائل الظنية في موارد المسائل القطعية، مع أن أكثر المسائل التي يجري تناولها في باب (السياسة الشرعية) مسائل اجتهادية نظراً لقلة النصوص في هذا الباب، والذي خصص له الماوردي كتابه.
2- التعصب المذهبي الذي ابتلي به عدد غير قليل من طلاب العلم؛ فقد دفعهم إلى صرف النظر عن الوهن الذي قد يكون في أدلتهم، كما جعلهم يغضون الطرف عن حجج الخصوم، وهذا كله يتم على حساب الفهم الأصيل والدقيق والمتوازن للنصوص.
وقد أدرك علماء المسلمين منذ وقت مبكر المشكلات التي سيقع فيها الناس حيال فهم النص القرآني والنص النبوي، فوضعوا علماً كاملاً هو علم (أصول الفقه) من أجل تأسيس معقولية لغوية وثقافية، تساعد على إنارة طرق التعامل مع النصوص الشرعية، وتضع ما يحتاجه ذلك من الضبط والتقعيد والتأطير.(1/266)
وقد اهتم علماء الأصول بتوضيح معاني الحقيقة والمجاز والمطلق والمقيد والمتواتر والآحاد، وما تفيده صيغ الأمر والنهي والاستفهام من معان ودلالات... وفي اعتقادي أن الجهود التي بذلها علماء المسلمين في سبيل ترشيد فهم نصوص الوحي لم تبذلها أي أمة من الأمم، وهي حقيقة مدعاة للفخر والاعتزاز. ومع ذلك فإن التاريخ يحدثنا عن أشخاص كثيرين رفضوا الالتزام بأي قواعد للفهم، وجعلوا قائدهم لذلك الهوى الشخصي والمعطى الثقافي الخاص الذي لا يحتمل أي نقاش جاد، وفي زماننا هذا تصدَّى لتفسير النصوص الشرعية أطباء ومهندسون ومحامون بعيدون عن معاناة اللغة وأصول الفقه، متجاهلين العمل وفق أي أصول استدلالية؛ بل متجاهلين الطاقة اللغوية للنصوص، فجاءوا بالعجائب، ومارسوا دوراً تضليلياً وتخريبياً مؤذياً، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، ولا يخفى إلى جانب هذا أن كثيراً من أدبائنا تأثروا بالاتجاهات النقدية السائدة في الغرب، فأشاعوا في البيئة الإسلامية مفاهيم تقلل من شأن صاحب النص في تحديد مضامينه ودلالاته، كما تقلل من شأن أي ضوابط يمكن أن تؤطر الخلاف في فهمه. وصارت تلك المفاهيم تعطي دوراً أكبر للقارئ والمجتهد في تحديد معاني النص ومراميه، وما يمكن أن يُستنبط منه. إن من شأن وضع كهذا أن يهيئ للدخول في مرحلة من الفوضى الفكرية ومرحلة من الترهل والانفلات في وضعية العلاقة بين النص الشرعي المعصوم، وبين المعنيين بفهمه واستخراج الأحكام والدلالات منه. وعلى كل حال فإن مشكلتنا الأساسية في التعامل مع النصوص ستظل قائمة مع فئتين من الناس: الجهلة وأهل الأهواء. أما إذا تجاوزنا هاتين الفئتين فإن الخلاف بين علماء الشريعة في قضية التعامل مع النصوص ليس بعيد الشقة، وما يجري بينهم من نزاع في ذلك يجري بين كل المختصين وفي جميع العلوم. وأنا مطمئن إلى متانة موقف علمائنا، حيث إنهم كانوا على دراية جيدة بطبيعة الأحكام التي يتوصلون إليها عبر الاجتهاد، ولذا قالوا: مذهبنا صواب يحتمل الخطأ، ومذهب غيرنا خطأ يحتمل الصواب. ومن الواضح أن الله اللطيف الخبير بشؤون عباده قد مهد سبيل الاجتهاد والتفاعل مع النصوص، إذ إن ما كان من مسائل الشريعة ثابتاً لا يتغير بتغير الزمان والمكان –كالعقائد والعبادات- جاء مفصلاً في الشريعة الغراء غاية التفصيل؛ ولذا فإن مناط الاختلاف فيه بين الفقهاء هو الفروع، وليس الأصول. وما كان يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة جاء في الشريعة مجملاً، وليس فيه أكثر من خطوط توجيهية عريضة، والقليل من الضوابط العامة –وذلك مثل طرق إقامة العدل والشورى وإدارة الحياة العامة للأمة- ولذا فإن مجال الاجتهاد والتجديد فيه واسع جداً، والخلاف فيه لا يضر ما دام في دائرة مقاصد الشريعة ووفق الإرشادات العامة، وما دام يحقق المصالح المرجوة. ومع كل ذلك فإن على علماء الشريعة ألا يقفوا مكتوفي الأيدي حيال ما يحدث، وأن يقوموا بالمبادرة المناسبة. وربما كان مما يفيد في ذلك إغناء علم أصول الفقه بالأمثلة الحديثة، إلى جانب إثرائه بالمؤلفات السهلة، حتى يتيسر فهمه لعدد كبير من الناس، بالإضافة إلى محاولة حسم بعض الخلافات الشكلية أو اللفظية التي تشتت ذهن المطلع عليه. وأعتقد أنه يمكن من خلال الانفتاح على الأسلوبية الحديثة ومن خلال الانفتاح على محصلة البحوث اللغوية الحديثة، تعزيز جهود السابقين في تشكيل آليات جيدة للفهم والتعامل مع النصوص عامة، ونصوص الكتاب والسنة خاصة.
*
ما معالم الثقافة والفكر الواعي الناضج التي يمكن أن نقتحم بها الألفية الميلادية الثالثة؟
*
هذا سؤال خطير، والجواب المعمق عليه قد يحتاج إلى كتاب. ولكن لعلي أشير هنا إشارات سريعة إلى نوعية الثقافة ونوعية الذهنية التي نجابه بها المستقبل. إن من المؤمل حقاً أن أمة (اقرأ) لم تعد تقرأ، فنحن في العالم الإسلامي لا نعاني من متوسط أمية يتجاوز نسبة الـ 40% فحسب، ولكن نعاني أيضاً من أن الذين يعرفون القراءة لا يقرأون، وحينئذ فإن علينا أن نتساءل: ما الفرق بين الأمي، وبين شخص يعرف القراءة لكنه لا يقرأ؟
نعاني من هجر الكتاب في زمان تزداد فيه أهمية المعرفة الراقية والمنظمة، حيث يتراجع دور الذكاء في التقدم الحضاري، كما يتراجع دور المال والثروات الطبيعية لحساب ما يملكه الأفراد، وكذلك الأمم من دوافع واهتمامات وأفكار ونظم ومعلومات. وسيظل معظم المسلمين يعانون من الفقر والضنك وذل الوقوف على أبواب الآخرين ما لم يغيروا نظرتهم للمعرفة، وما لم يستعيدوا ما فقدوه من حب القراءة والبحث والاكتشاف. وعلينا في هذا المقام أن نعترف أن مؤسساتنا التعليمية بكل مقوماتها أخفقت إخفاقاً مريراً في إرساء تقاليد الثقافة، تمجد الكتاب، وتدفع الناشئة إلى اعتبار العلم السلاح الأمضى في مواجهة تحديات الحياة.
دعنا الآن نوصّف بإيجاز شديد نوعية الثقافة التي نحتاج إليها –كما قلت- في اقتحام الألفية الثالثة، ثم نصير إلى توصيف نوعية العقلية التي يجب أن تتمثل تلك الثقافة وتتفاعل معها.(1/267)
سيظل الرقي المعرفي شيئاً نسبياً، وما دمنا في زمان يشهد انفجاراً معرفياً هائلاً، فإن السعي إلى الاستزادة من العلم يجب ألا يتوقف في يوم من الأيام؛ إذ إن من شأن البنى المعرفية الموجودة لدى أي أمة أن تفرز على نحو دائم نقائصها وعقابيلها، كما تفرز الأسباب والمحرضات التي تحفزها على الاتساع والنمو.
لا يخفى أن هناك قدراً من المعرفة يعد ضرورياً لصحة إيمان كل مسلم، كما أن هناك قدراً ضرورياً من العلم لاستقامة عباداته ومعاملاته وعلاقاته وتحديد أهدافه الكبرى. وهذا القدر ضروري لكل مسلم مهما كان تخصصه ومهما كان عمله. والمفترض أن توفر التربية البيتية والمناهج المدرسية هذا اللون من المعرفة في المرحلة الابتدائية والمتوسطة.
إن الأصول التي يجب أن تدور معرفتنا في فلكها لا تقتصر على الأصول العقدية والتشريعية، وإنما تتسع لتشمل الأصول والفروض الحضارية التي تساعد أمة الإسلام على الالتزام بدينها وعيش عصرها بكرامة وكفاءة، من نحو العدل والحرية وكرامة الإنسان وحقوقه، وتكافؤ الفرص والإبداع والاعتزاز بالانتماء الإسلامي، والتحصن ضد استلاب الشخصية وما شاكل ذلك مما هو أساسي ومحوري في تبلور ذاتية الأمة وتحقيق ولايتها على نفسها. ثم إننا بوصفنا أمة مسلمة تدين لله بالعبودية، فإن من المهم ألا يسود فينا أي لون من ألوان المعرفة التي تخدش الانتماء لهذا الدين، أو تصطدم بإطار من أطره العامة، أو تشوه الرؤية العامة للأمة في تعاملها بعضها مع بعض، أو في إدراكها لأهدافها وواجباتها.
من خصائص المعرفة المطلوبة لاقتحام الألفية الثالثة (التوازن)، والذي نعني به عدم التركيز على جانب من جوانب المعرفة، وإهمال الجوانب الأخرى، ونجد في هذا الإطار أنماطاً عديدة، ولا يخلو كل نمط منها من شيء من الخلل.
كثيراً ما يحدث أن يركز بعض طلاب العلم على النقل المحض، وتكديس العلوم والأخبار دون أي محاولة لفقهها أو الاستنباط منها وتوظيفها في بلورة رؤية حضارية معاصرة. في الوقت نفسه نجد من يعتمد على العقل والتجربة ومعطيات الدراسات الحديثة في تكوين الرؤى والأحكام دون أي محاولة لدعمها بالنصوص، ودون السؤال عن مدى ملاءمتها لأطر الشريعة الغراء ومبادئها الأساسية. بعض طلاب العلم يعتمد في توجهه الثقافي وبناء هيكله المعرفي معطيات محلية بحتة، ولا يحاول تطعيمها بخبرات الآخرين ومعارفهم، فيضيق على نفسه واسعاً، ويحرم فكره من كثير من التفتح والتجدد. ونجد في جوار هذا الصنف من انغمس في الثقافة الغربية، وظن أنه سوف يستخرج منها الدرر ونوادر الأفكار، مع أن كثيراً من ذلك موجود بصورة واضحة ومؤصلة في تراثنا وأدبياتنا.
نحن بحاجة إلى معرفة تستفيد من الخبرة الإنسانية كاملة، مع نوع من الانفتاح وممارسة النقد الذاتي في إطار أصولنا ومبادئنا ورؤانا الكلية. ونحن مع هذا مطالبون في أن نكون صرحاء في نسبة الفضل لأهله ولو كان عدواً لنا؛ ولو كان ذلك سيضعف موقفنا أمامه. ولا ينبغي أن يمنعنا جحود الجاحدين -من الغربيين وغيرهم- من أن نشيد بالأفكار والإسهامات الممتازة كائناً من كان مصدرها؛ فالمسألة ليست مسألة مصلحة وإنما مسألة مبدأ، كما قال الله –جل وعلا-:"يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى" [المائدة:8].
هناك سمة مهمة للمعرفة المنشودة هي سمة (التجريب) والنزوع نحو محاورة الطبيعة. وهذه السمة جزء أصيل من المنهج العلمي الإسلامي.
وحين أخذنا بذلك المنهج حققنا تقدماً علمياً ضخماً في مجالات الكيمياء والفيزياء والفلك والطب والجغرافيا... ولكن يبدو أن السابقين لم يستوعبوا بشكل جيد مرامي المنهج الإسلامي في الحث على السير في الأرض، وإجراء التجارب واستخلاص المعرفة منها، ومن ثم كان التراجع عن ذلك المنهج سهلاً. وقد أدى التراجع عن التجريب في البحث –مع أسباب أخرى- إلى جمود الواقع الحضاري، ثم تدهوره، وصعوبة النهوض به بعد ذلك. ولست أعرف اليوم سبيلاً لتحريك المعرفة لدينا وفتح نوافذها للتجديد سوى الاتجاه نحو التجربة واستقراء الواقع عن طريق الإحصاء والمقارنة والاهتمام بجزئيات الوقائع وربطها بأصولها، ثم استخلاص الأحكام والنتائج منها، وذلك يساعدنا على فهم أفضل لسنن الله في الخلق، وتلمس وجوه الانسجام بين الكتاب المقروء (القرآن) والكتاب المفتوح (الكون) بكل ما فيه.
لن يحدث شيء من هذا إلا إذا أدركنا أن التقدم التقني بات يشكل مفصلاً مهماً من مفاصل حياة الأمم. ولن يحصل شيء من ذلك التقدم إلا من خلال البحوث الأساسية والتطبيقية ومن خلال الاهتمام بالواقع. ومشكلة الأمة في التعامل مع كل أشكال المعرفة أن من طبيعة التخلف أنه يمد الناس عادة بأجوبة وهمية، ويضعف شهيتهم نحو التساؤل مما يجعلهم يشعرون بالامتلاء الكاذب، ويتجشأون من غير شبع
لا يمكن للمعرفة أن تظل معاصرة وحية وفاعلة إذا لم تكن متجددة ومواكبة للإنتاج العلمي والثقافي المتجدد؛ فالتغيرات المتسارعة في البنى الثقافية المختلفة، جعلت الشيخوخة تدرك المعلومات وهي في عز صباها.(1/268)
وتفيد بعض التقديرات أن نحواً من 90% من المعلومات قد تم تحديثه خلال العقود الثلاثة الماضية.
إن تقادم المعلومات يتجلى في أشكال متعددة، فتارة يتجلى في زيف المعلومة أو عدم دقتها، وتارة في عدم ملاءمتها للخطط الجديدة، وأحياناً بتحول الاهتمام عنها، لأنها لم تصبح ذات قيمة في البناء المعرفي الجديد... ولا ريب أن المعلومات الأساسية في كل فن تستعصي على التغيير السريع، لكن ليس هناك أي وسيلة لصونها من القراءة الجديدة والتي قد تغير بالتالي الكثير من دلالاتها ومعطياتها. كما أن توظيفاً جديداً للمعلومات القديمة قد يغير في النتائج المستقاة منها. هذا يعني أن من الواجب على كل واحد منا أن يتابع الاطلاع والقراءة المنظمة الواعية؛ حتى لا يشعر في يوم من الأيام أن المعلومات التي لديه صارت بمثابة نقود سُحبت من الأسواق، ولم تعد صالحة للتداول.
لا أريد أن أتوسع أكثر من هذا في هذه النقطة؛ ولكن أحب أن أقول: إن ممارسة الاطلاع على نحو جيد سوف تساعد كل واحد منا على تعريفه على حاجاته المعرفية؛ ولكن لن نقرأ بحماسة وعمق وجدية إلا إذا قرأنا بنية الإضافة إلى المعرفة وإثرائها، أي إلا إذا كانت القراءة لدى الواحد منا جزءاً من مشروع كتابة.
أما توصيفي للعقل الواعي الناضج الذي ورد في سؤالك فإنه يتلخص في النقاط الآتية:
1- العقل الناضج هو العقل الذي مر بالكثير من حالات التدريب والتجريب والصقل؛ مما جعله في النهاية يمتلك عدداً من المفاهيم المترابطة والممتازة التي تمكنه من التعامل الراشد مع الأشياء والأحداث والأشخاص.
والنضج العقلي لا يأتي في حقيقة الأمر من كثرة المفاهيم التي يمتلكها الواحد منا، وإنما من نوعية تلك المفاهيم. ومن المؤسف حقاً أن مدارسنا وجامعاتنا، لا تولي مسائل تكوين الشخصية، ومسائل تكوين العقول الواعية أي اهتمام يذكر. كما أن معظم الأسر الإسلامية غير مؤهلة على النحو المطلوب للقيام بدورها التربوي، ولا سيما ما يخص تنمية العقلية وتصحيح التصورات لدى الأطفال والفتيان.
2- ليس من المبالغة القول: إن إنسان العصر الحديث مشرق الوجه مظلم الروح، كثير الذكاء قليل العقل. وهذه مفارقات مزعجة، لا تنم عن نضج متزايد كما قد يظن- كما لا تدل على أن وعينا بالصورة الكلية للوجود قد بات على ما يرام. العقل في عمق ثقافتنا لا يعني القدرة على الاكتشاف بمقدار ما يعني طاقة جيدة على تحقيق التوازن الشخصي وتوازن المرء مع بيئته إلى جانب انسجام سلوكه مع مبادئه وأهدافه. وبهذا الاعتبار فإن التقدم التقني المذهل الذي نشاهده اليوم لا يبرهن على وجود تقدم حقيقي مؤطر بالعقل والحكمة؛ ذلك لأن تجسيدات الذكاء البشري ومنتجاته لا تتصل بمفاهيم الاستقامة والانحراف والسعادة والشقاء، والحياة والموت. بل إن الأمر صار أكثر سوءاً، حيث يتم تحييد العقل والمنطق من اعتبارات قبول كثير من المبادئ والأفكار. وصار الاهتمام منصباً على مدى ما تحققه من سد للحاجات وتلبية للرغبات. وهذا لا يخلو من الانزلاق إلى الهمجية والبربرية، وصار على الدعاة والمثقفين أن ينبهوا الناس إلى الأخطار التي تحيق بهم من خلال الصدوع والشروخ بين الذكاء وطروحاته، والعقل ومقتضياته؛ أي من خلال انفلات الذكاء من ضوابط العقل ومقتضيات التناسق العام.
3- لا بد أن نبحث عن الآليات التي تمكن المسلم المعاصر من امتلاك المفاهيم التي تساعده على أن يفكر تفكيراً يلتصق بالحقائق بعيداً عن الأهواء الداخلية والضغوطات الخارجية، وهو ما نسميه بـ (التفكير الموضوعي) ومن أهم المفاهيم التي يشتمل عليها هذا النوع من التفكير: التحرر من سيطرة الأهواء، وعدم التعامل مع الأمور الظنية على أنها أمور قطعية، بالإضافة إلى إنصاف الناس، وعدم هضمهم حقوقهم، ونبذ التقليد والإبائية، إلى جانب احترام التخصص ومراعاة الدقة في إطلاق الأحكام، والبعد عن التعصب للمذهب أو الجماعة، ورفض التزيد والمبالغة، وعدم الوقوع في فخ تفسير أحداث الكون على أنها أجزاء من مؤامرة كبرى تستهدف الإسلام والمسلمين، وعدم إسقاط القاعدة بالمثال الشاذ... ولا بد أن نعلم أن الموضوعية المطلقة شيء غير موجود، وذلك لأسباب إنسانية وفنية. وكل ما نستطيع أن نفعله هو الاستمرار في المجاهدة حتى نحصل على أكبر قدر من الفهم الموضوعي، وأقل قدر من الانصياع لأهواء الذات. ونحن من خلال الاعتراف بالتقصير، ومن خلال الانفتاح والإنصاف والحوار ورؤية الأشياء بعيون عديدة، ومن زوايا مختلفة نستطيع –بمعونة الله تعالى- أن نبصر مواقع أقدامنا، وأن نعرف مدى موضوعية رؤانا وأحكامنا ومواقفنا.(1/269)
4- نحن نخاف من الجديد، ونحار في التعامل معه، وننقسم تجاهه ونتشرذم. وهذا كله طبيعي، لكن علينا أن ندرك أن من الخطأ أن نفرح بكل جديدة، ونمنحه تأشيرة دخول نظراً لحداثته. كما أن من الخطأ تقديس القديم لا لشيء إلا لقدامته؛ فنحن مسلمون نحكم عن الأشياء من واقع انسجامها مع مبادئنا ورؤيتنا العامة للحياة بقطع النظر عن تاريخها. وعلينا بعد هذا أن نحاول الحصول على رؤية مركبة للأحداث والمعطيات الجديدة؛ فنرى وجهها المشرق، كما نرى وجهها المظلم. وفي تصوري أن الجديد هو دائماً مزيج من الخير والشر، ومزيج من الفرص والتحديات والتعقيد والبدائل، فخبرة البشرية تقول: إن كل أزمة تمنح فرصة لمن كان في الموقع الصحيح. وإنه ما يغلق باب إلا ويفتح باب آخر، لكن قصورنا الثقافي والتربوي، يجعلنا ننشغل بالباب الذي أغلق عن الباب الذي فتح، ومصداق هذا في قول الله –جل وعلا-:"فإن مع العسر يسراً إن مع العسر يسراً" ولذا فإني أرى أن فرص العمل أمام الشباب لا تظهر للعيان، لعدم وجود الناس المؤهلين لشغلها. وعلى هذا فإن معاناة الناس من البطالة لا تعود إلى عوامل اقتصادية، فحسب، وإنما تعود أيضاً إلى تقاعس الناس عن النهوض للتكيف مع الفرص الجديدة.
ليس من السهل أن نحيط بكل ملامح العقل الجيد وشروطه، ولذا فإني أنصح بتكثيف القراءة في هذا المجال؛ فالهوة التي بيننا وبين الأمم الأخرى تتسع، وإن من شروط سدها تكوين بنية عقلية ممتازة، تدرك شروط العيش في زماننا، وتعرف كيف تستجيب لتحدياته.
*
كثر الحديث اليوم عن الإيجابية والإنسان الإيجابي، فما رؤيتكم لهذه القضية؟
*
كثير من المسلمين –ولا سيما المثقفين منهم- يشعرون بانسداد الآفاق، ويسيطر عليهم الإحباط والإحساس بالقهر، وذلك نتيجة سوء الأحوال السياسية والاقتصادية والأخلاقية... ونتيجة تدهور مكانة الأمة بين الأمم الأخرى. ولذا فإن أكثر أحاديث الناس في مجالس السمر وأوقات الفراغ يتمحور حول الشكوى من سوء الأحوال، وحول غرائب وعجائب ما يفعله بعض الناس، مما لا يمت إلى الإسلام أو العروبة أو الإنسانية بأي صلة. ولا يخطر في بال أحد منا أن يراجع حصيلة ذلك، وهل دفعت بالأمة أي خطوة نحو الأمام؟
صحيح أنه لا بد للمصدور أن ينفث –كما قالوا- ولكن سيكون من الخير للمصدور أن يبحث عن علاج لعلته أيضاً عوضاً عن الاستمرار في رفع العقيرة بالتأوه والتوجع. مهما ساءت الأحوال، فستظل هناك هوامش للتحسن والتقدم. ومن واجب الدعاة والمثقفين عامة أن يشتغلوا بتوليد الأفكار والنظريات التي تدل الناس على الطرق المفتوحة، وتساعدهم على تجاوز اليأس الذي يسيطر عليهم. وأعتقد أن كل نظرية توصل الناس إلى طريق مسدود هي نظرية خاطئة، أو لا يصح أن تسمى أصلاً نظرية؛ فنحن نعتقد أن الله –جل وعلا- ما أنزل داء إلا أنزل له دواء؛ كما ورد في الحديث الشريف.
الإيجابية صفة مغايرة للسلبية. وإن من المؤسف حقاً أن يفهم بعض الناس الإيجابية على أنها تعني نوعاً من الاستسلام للخصوم أو التنازل عن المبادئ، أو التراخي في الاستمساك بالحق. إن هذا تشويه غير مقصود لهذا المعنى العظيم!
الإيجابية في نظري تعني الآتي:
1- القدرة على التحكم بالعواطف، حيث يستطيع الإنسان الإيجابي من خلال تحكمه بعواطفه تجاوز خطوط الغريزة. وهذا التجاوز يعبر في اتساع مداه عن مدى استطاعة صاحبه تحقيق إنسانيته من خلال بعده عن (الحيوان) الذي لا يستطيع السيطرة على غرائزه، ولا تأجيل رغباته، والذي لا يقوى أيضاً على المخاطرة... ونعني بالسيطرة على العواطف أن يلبس المسلم لكل حالة لبوسها؛ إذ ليس من الإيجابية أن يحمل الموظف هموم بيته ومشكلاته الخاصة إلى مكتبه أو مدرسته؛ فالأداء الكفء يتطلب موظفاً في أحسن أحواله وأعلى درجات لياقته النفسية والبدنية والعكس صحيح. والحصول على هذه الوضعية يتطلب تدريب العاطفة، وتقوية آلية الضبط الداخلي.
2- الفهم العميق لتحديات العصر ومطالبه وأشكال الاستجابة المطلوبة للعيش فيه، إلى جانب الشعور بالقدرة على التغيير. تغيير النفس وتغيير المحيط وتغيير الرؤية للأشياء. وينطلق الشعور بإمكانية التغيير وضرورته من خلال إدراك أن الله –تعالى- قضى على الكون بالتقلب والتحول، وأن يظل في حالة من الصيرورة المستمرة، كما ينطلق أيضاًَ من مبدأ ضرورة الاستفادة من التجارب السابقة حلوها ومرها، ومن مبدأ ضرورة الانتقال من العمل الخارج عن دائرة الوعي إلى مرحلة استلهام الحق والخير والفضيلة، وتمثلها في السلوك الجديد.
إن الرتابة نوع من العدم، وإن الاستسلام للأخطاء والقنوع بالحالة الحاضرة نوع من الخروج من المحيط الحي إلى محيط الجماد.
3- الصحة النفسية ركن أساسي من أركان الإيجابية؛ إذ لا يمكن للمرء أن يكون في وضع إيجابي وهو يشعر بنوع من (السأم الوجودي) ومن ثم كان لتزكية النفس وتنقية السرائر المكانة العظمى في الإسلام.(1/270)
ما من إنسان إلا يعتريه أوضاع يفقد فيها لياقته النفسية، لكن المهم ألا يستمر ذلك، ويصبح صفة ملازمة له. وللخلاص من تلك الحالة شرع الله –تعالى- التوبة لغسل الشعور بالذنب، وشرع كذلك النوافل وأعمال الخير والبر من أجل تجاوز المصالح الضيقة إلى أفق أرحب، ومن أجل تجديد المعاني الروحية، ونفض غبار التقاعس والخمول عن نفس المسلم.
4- الإنسان الإيجابي يتمتع برؤية جيدة للفرص المتاحة مهما كانت محدودة، ولذا فإن شعاره الدائم: أعمل ما هو ممكن الآن، ولا أنتظر تحسن الظروف والإمكانات. إن الإنسان الإيجابي يعتقد أن مباشرة الممكن توسِّع دائرة العمل وتذلل عقباته. ومن خلال مباشرة الممكن يصبح ما هو مستحيل وعسيرٌ اليومَ ممكناً وسهلاً غداً.
5- لا يكون المسلم إيجابياً إذا لم يملك روح المبادرة الفردية. وفي نظري أن المبادرة الفردية كثيراً ما تكون في منزلة سفينة النجاة في حالة انحطاط الأمم. تعني المبادرة الفردية تجاوز أفراد من الأمة لمستواها العام ولسقف حيويتها واندفاعهم نحو تحقيق ما يتمنى الناس حصوله، لكنهم يفقدون العزم والإرادة للبدء به. وقد علمتنا التجربة أن معظم الناس يحبون الخير، ويقدرون فاعليه، وهم على استعداد للمشاركة في مشاريعه، لكن المشكلة الكبرى هي أن المستعدين منهم لخطو الخطوة الأولى، ووضع أول لبنة قلة قليلة. وهذه القلة هي ملح المجتمع وبركته. المبادرون هم أناس يحبون الخير، ويثقون بأنفسهم، ويحبون خدمة جماعتهم. وهم إلى جانب ذلك مستعدون لتحمل نتائج مبادراتهم، وما قد تجره عليهم من مشكلات ومتاعب، على حين أن باقي الناس يرفعون شعار:(ليبدأ غيري) وشعار:(علينا أن ننتظر النتائج)! ليسأل كل واحد منا نفسه: كم مبادرة خيرة في رصيده، وليحاول تبين موقعه في هذه المسألة.
*
الملاحظ في كتاباتكم التركيز على فكرة الاستجابة للتحديات عوضاً عن الانهزام أمامها. فما الذي تحبون أن تقولوه لقارئ المنار في هذه القضية؟
*
من غير الوعي العميق بطبيعة الحياة، ومن غير معرفة جيدة بسنن الله –تعالى- في الخلق فإن الناس يندفعون بفطرتهم نحو التكيف مع الصعوبات التي يواجهونها. وذلك التكيف غالباً ما يكون سلبياً حيث يتراجع معظم الناس تجاه التحديات، ويتخذون منها ذريعة للتكاسل والتقاعس. وقد كان هذا في الماضي، وما زال مستمراً لدى أناس كثيرين. لكن بدأ اليوم يتبلور لدى بعض الأمم مفهوم (التحدي والاستجابة)، حيث صار كثير من أبنائها يتلمس فهم قوانين ردود الفعل كما يتلمس قوانين الفعل. وتحولت الرؤية للصعوبات والمحن، فلم تعد مصدراً لشقاء لا ينتهي، وإنما صار ينظر إليها على أنها ربما كانت نعماً يؤدي فقدانها إلى الترهل والموت والاندثار. وقد قال أحد كبار السن: كنت أحلم باليوم الذي أترك فيه وظيفتي، وأخلد فيه إلى الراحة التي لا يعكر صفوها الجدل مع الناس والجلوس الطويل خلف المكتب في العمل. وحين نلت ذلك أدركت قيمة ما فقدته، حيث صرت أعاني من نفسية الاسترخاء والإهمال، وتبدد الكثير من علاقات الزمالة وعلاقتي الاجتماعية، وصرت أشعر أكثر فأكثر أن الحياة ليست بحاجة إليّ! إن هذا الرجل بعد أن ترك عمله فقد الفضائل التي كان يتمتع بها من وراء العناء الذي كان يجده في عمله اليومي. حياة الرخاء والعيش السهل كثيراً ما تخون أصحابها؛ لأنها لا تولِّد المثير الذي يحفزهم على الإبداع والتطوير. ويذهب بعض الباحثين إلى أن من الأسباب المهمة لتخلف أفريقيا عدم وجود تحديات تدفع الأفارقة إلى العمل، فقد كان الماء والغذاء متوفرين، ومع اعتدال المناخ لم يكن الناس يشعرون بالحاجة إلى وقود للتدفئة.
ووفرت لهم الغابات سهولة منقطعة النظير لبناء المساكن والعشش والأكواخ. هذا كله جعل الإنسان الأفريقي يشعر ألا شيء يدعو إلى العجلة، ولا إلى الكد والنصب ما دام الحد الأدنى من الحياة متوفراً.
العلاقات الجدلية تقتضي دائماً التنافس والتعاون، فحين تصطدم فكرة بفكرة يتولد عنها فكرة ثالثة هي أعلى منهما مستوى، حيث تكون قد تجاوزتهما معاً، وصارت خلاصة لأجمل ما فيهما. علاقات التنافس والتعاون هذه تتم في نطاق توازنات مستمرة لا غنى للحياة عنها، ومنها تولدت مفاهيم كثيرة في القرن التاسع عشر، منها: التكيف والصراع من أجل الحياة، والتوتر والمقاومة والمجابهة والأزمة واستيعاب وجهة نظر الآخر والكمون والتجاوز والهروب والاختيار والتنازل. وقد استطاع (توينبي) المؤرخ الإنجليزي المشهور أن يستثمر المحصلة التي توفرت لدى البشرية نتيجة نظرية التحدي والاستجابة في تفسير نشوء الحضارات وتحللها.(1/271)
وأدرك توينبي أن التحدي الشديد يكون عميقاً؛ لأنه يخرج من كونه تحدياً إلى كونه شيئاً معجزاً أو محبطاً. كما أن فقد التحدي يؤدي إلى الذبول والترهل. ومن ثم نشأت فكرة (الوسط الذهبي) وهو عبارة عن مجموعة الظروف التي تحرض الناس على العمل دون أن تشكل عائقاً كبيراً في سبيل وصولهم إلى ما يريدون. ومن هنا أيضاً نشأت فكرة ضرورة قيام الدولة ببناء المرافق العامة من طرق ومطارات ومدارس ومشاف... حتى تؤمن للناس المناخ الذي يساعدهم على الانطلاقة الصحيحة. لكن مع هذا لا بد من القول: إننا في اللحظة التي نكتشف فيها تحدياً من التحديات نجد أنفسنا شبه عاجزين عن القيام بأي شيء، كما يجد طفل في الخامسة من عمره نفسه عاجزاً عن كتابة اسمه قبل أن يدخل الروضة. لكن حين نستخدم ما لدينا من فكر، ونحرك وننظم ما لدينا من إمكانات فإن صعوبة المواجهة تتراجع، ويصبح تجاوز التحدي أسهل شيئاً فشيئاً.
من هنا فإن المطلوب منا أن نحمد الله –تعالى- على الشدائد، لأنها تفتح لنا دروباً للرقي والتقدم والعمل قد لا نجدها في حالة اليسر. وإذا عمقنا النظر في تاريخ البشرية وجدنا أنها كانت تتقدم عن طريق الأزمات والشدائد أكثر من تقدمها عن طريق الرخاء وسهولة الحياة. وكل مرادي من هذا أن نحاول تأسيس عقلية المواجهة للصعوبات، وأن نطرد روح الاستخذاء والهزيمة التي تسيطر على كثير من الناس بمجرد أن يجدوا أنفسهم وسط صعوبات شديدة. لو أن نبينا –عليه الصلاة والسلام- استسلم للضغوط الشديدة والمغريات الكبيرة التي لاقاها في مكة إذن لوئدت الدعوة في مهدها، ولكن صلابته الشديدة واستمساكه المطلق بمبادئه وصبره المنقطع النظير على البلاء... فتح له ولهذه الأمة أبواباً من الخير ستستمر –إن شاء الله تعالى- إلى يوم القيامة.
إني أنصح نفسي وإخواني بمحاولة التقليل من الشكوى والتأفف قدر الإمكان، والانصراف إلى العمل الإيجابي المثمر مهما كان صغيراً؛ ومن خلال الأعمال الصغيرة المتراكمة تنهض الأمة، ويتغير وجه الحياة، لكن ذلك يحتاج إلى وقت، وعلينا أن نتعلم كيف نعمل على النفس الطويل.
*
هل توافقون على أن معظم كتب التربية لم تتعد كونها حشداً مكثفاً من الدلائل والشواهد والنقول، وتفتقر إلى البرامج الواعية، والقنوات الناقلة لأهل زماننا؟
*
علوم الإنسان في العالم عامة –ولدينا خاصة- لم تتقدم بالشكل المطلوب؛ نظراً للتعقيد البالغ الذي يواجهه كل من يشتغل بها، وأيضاً لقلة الاستثمارات في البحث العلمي المتعلق بها. وفي هذه الحال فإن التحليل العميق يكون ضعيفاً، مما يدعو الناس إلى الاتجاه إلى حشد القصص والحكايات والأمثلة التي تشير إلى بعض المعاني التربوية، لكن جدوى ذلك مع ضعف البنية المفاهمية ستكون قليلة. التربية في نظري تعني تنمية الجوانب المختلفة في شخصية الطفل من أجل تأهيله ليحيا الحياة الطيبة التي تليق بالمسلم الحق. ولذا فإن على الباحث التربوي أن يأخذ في تحديده للأهداف التربوية، وفي توليده للمفاهيم والأساليب التربوية بعين الاعتبار المعطيات الجديدة في المجالات السياسية والاجتماعية والمعيشية... لأنه يسعى أساساً لتوفير بنية معرفية يعتمدها المربون في البيوت والمدارس في تربية جيل ينشأ ويعمل في أجواء تلك المعطيات.
الحقيقة أن معاناتنا التربوية ذات رؤوس عديدة، لكن أهمها ثلاثة:
1) ضعف ما ينفق على البحث التربوي، وقلة أعداد الباحثين في مجالات التربية. وهذا لا يشكل استثناء من وضعيتنا العامة، حيث إن ما ينفق على البحث العلمي في العالم الإسلامي، لا يشكل أكثر من 5% مما ينفق في الدول المتقدمة! وهذا يؤدي إلى أن نعتمد على البحث التربوي الذي يقوم به الآخرون، وذلك يسبب لنا مشكلات كثيرة بسبب اختلاف كثير من منطلقاتنا ومفاهيمنا الكبرى عما هو سائد في الغرب، وبسبب اختلاف البيئة أيضاً، مما يؤدي بالتالي إلى اختلاف نوعية الأدواء ونوعية العلاج أيضاً.
2) وجود فجوة كبيرة بين الباحثين التربويين وبين المربين في البيوت والمدارس؛ فنحن لا نملك الأطر والآليات التي تحول البحوث التربوية إلى مشروعات وبرامج، تعمل عليها الأسر والمدارس.
3) هناك إعراض عام من قبل معظم الآباء والأمهات عن الاهتمام بالثقافة التربوية ظناً منهم أنهم يستطيعون القيام بواجباتهم التربوية بالأسلوب نفسه الذي مارسه آباؤهم من قبل.
ولذا فإن الأخطاء التربوية ما زالت تتكرر عبر قرون كثيرة؛ لأن الجيل اللاحق ورثها عن الجيل السابق. وإنها لمفارقة مؤلمة أن ترى الرجل في دولة متقدمة إذا اشترى طائراً أو قطاً اشترى معه كتيباً يرشده للأسلوب الأمثل في تربيته وتغذيته... على حين أنك تجد لدينا من أنجب عشرة من الولد دون أن يقرأ أي كتاب في التربية، أو يستمع إلى أية محاضرة، أو يسأل أي متخصص في التربية، مع ضخامة العمل التربوي الذي تصدى له!!(1/272)
إن من واجب الباحثين التربويين أن يثروا الساحة بالكتب التي تعالج المشكلات التربوية المتفاقمة، والكتب التي تيسر الثقافة التربوية، وتنشرها. ومن واجب الآباء أن يغيروا نظرتهم للعمل التربوي، فيجعلوه قائماً على العلم والمعرفة عوضاً عن أن يظل أسيراً لعادات وتقاليد مملوءة بالأخطاء الجسيمة.
*
من أجل تنمية الشخصية وصقل المهارات لا بد من نقد ذاتي يتجاوز العثرات ويتطلع إلى الارتقاء. فهل لديكم أفكار جوهرية يرتكز عليها إحياء روح النقد في الأمة؟
*
النقد مظهر من مظاهر استيقاظ الوعي، فالحضارات حين تدخل في مرحلة التراجع والأفول يسيطر على مثقفيها الانشغال ببيان الإنجازات التي حققها عظماؤها بدل البحث في مسألة استعادة ما فقدوه وتعويض ما فات. يعني النقد وعي الوعي بذاته وقدرته على تجاوز النماذج الشائعة، والعودة إلى الأصول والأهداف الكبرى في كل المسائل التي تحتاج إلى إعادة نظر. ويعني النقد كذلك أن الوعي ما زال يحتفظ بطاقة التمنع على الاندماج في الموضوع، كما يعني أنه متحرر إلى حد ما من أسر البرمجة التي يهيئها الأعداء والعملاء والمنتفعون من وراء انتشار الفساد، وغياب موازين الحق والعدل.
لا يشكل النقد أمراً ثانوياً أو ترفيهياً في حياة الأمم، وليس غيابه شيئاً يمكن الاستعاضة عنه بأعمال أخرى؛ إن النقد هو جزء أصيل من أي عمل عظيم يراد له الاستمرار والارتقاء؛ فنحن بشر نصيب ونخطئ، والتخلص من الأخطاء لن يبدأ إلا من خلال تسليط أشعة النقد عليها، لكن مما يؤسف له أن الذين يمارسون النقد يلقون الكثير من المشكلات، مما دفع جل الناس إلى إيثار الصمت. وتجاوزه بعضهم إلى تزيين الخطأ وتلميعه، مما جعل المشكلات في عالمنا الإسلامي تتراكم وتتناسل، لتصبح بمثابة أوبئة مستوطنة، إن كثيراً من الأخطاء والخطايا التي نقع فيها ليس مصدره الجهل وقلة الخبرة، وإنما مصدره الهوى والرغبة الجامحة في تحقيق المصالح الخاصة، مما يعني أن تكرارها هو المتوقع نظراً لديمومة أسبابها. والذي يساعد على تحجيمها هو الاستمرار في نقدها بشتى الوسائل وشتى الطرق؛ فالأخطاء لا تتبدى دائماً للعيان، ولا تتلبس بلبوس واحد؛ مما يعني ضرورة الاستمرار في كشفها ومواجهتها.
ومن وجه آخر فإن أبنيتنا الفكرية ومقولاتنا وملاحظاتنا النقدية والإصلاحية لا تحتفظ بقوتها وطفوها على سطح الوعي من غير رعاية وحياطة وتدعيم؛ فالتجارب الحضارية للأمم تدل بوضوح على أن البناء الفكري –على خلاف ما يبدو- هش، ويمكن لما تركمه حركة الزمان من تقاليد وعادات، وما تطوره من ثقافات أن يشوه أي بناء فكري مهما كان في الأصل راسخاً وشامخاً؛ والنقد هو الذي يجدد الأبنية الفكرية حين يصقلها، ويجعلها في حالة من التوهُّج واللمعان. ولنا أن نذكر في هذا السياق أفول الإشراقات الفكرية الرائعة التي كانت تضيء سماء الحياة الإسلامية في القرون الخمسة الأولى من تاريخ الإسلام؛ ولما ساد التقليد وحورب التجديد وركدت سوق النقد أخذت الأمية الفكرية والحضارية تستعيد ما فقدته من أرض ونفوذ.
دعني الآن أشير إلى بعض الجوانب التي لم تنل حظها من النقد في الساحة الإسلامية. ولا يعني أن ما سنذكره هو أهم الجوانب، لكنه من أهمها:
1. كثيراً ما نشعر أن المجال الحيوي الصالح لحركتنا ضيق ومملوء بالعقبات... والحقيقة أن هذا الشعور لا يحكي الواقع بمقدار ما يحكي انطباعاتنا، وهذه الانطباعات سببها ضعف (الروح العملية) لدينا، فنحن نملك قدرة على التنظير وشهية للتمني غير قابلة للاستنفاد. الخيال قد يتيح لنا ارتياد آفاق الممكن، لكن الذي يكشف احتياجات العمل والحركة والعقبات التي تقف في طريقنا، وما يمكن أن نؤمله من تحركنا هو العمل نفسه والحركة ذاتها.
إن العمل هو الذي يعقل جموح الخيال، وهو الذي يدلنا على الطرق المسدودة، إلى جانب أنه يحطم أغلال الأوهام. وهو في الوقت نفسه الذي يفتح أبواباً للنمو والتغيير كنا نظن أنها مغلقة. ويقترب من هذا ما نجده لدى الكثير من الأخيار من الحماسة المشتعلة للقيام بالكثير من الأعمال، لكن دون محاولة التأهل لأداء القليل منها. وكثيراً ما يغيب عن أذهاننا أن لكل عمل أسلوبه الفني الذي يجب أن يتبع في أدائه وتنفيذه. إن مشكلة كثير منا أنه لم يدرك ما طرأ من تعقيد وصعوبة على شروط الأداء الناجح في أجواء المنافسة العالمية المحمومة، ولذا فإنه يتصور أن ما كان كافياً من كفاءة وأهلية ووسائل قبل ربع قرن هو كاف الآن!
ربما كنا بحاجة إلى تقاليد ثقافية تؤكد على أن قيمة الفكرة وصوابها لا ينبعان من تناسقها ومدى إقناعها فحسب، وإنما من مدى توفر الأسلوب والإطار والوسائل المطلوبة لتنفيذها. وهذا من مهمة النقد الاجتماعي.(1/273)
2. قد نجد بعض الرسائل التي توجه النقد إلى بعض الانحرافات العقدية أو الخلقية، لكن من النادر أن نجد كتاباً ممتازاً يضع أصبعه على العلل والأخطاء الخفية التي أدت إلى تشويه المركب العقلي لكثير من الأفراد والجماعات، وحرمت الأمة بالتالي من عطائهم وحيويتهم. وقلما تجد كتاباً ينظِّر لكشف الفساد المتأصل في السلوك، والبحث عن جذوره وقواعده الفكرية والأخلاقية، وكشف القوى الداعمة له والمستفيدة منه.
وأعتقد أن حجم انتشار الفساد الإداري والسياسي والأخلاقي والمهني في العالم الإسلامي يحتاج إلى مئات الكتب والبرامج والمقررات الدراسية حتى يمكن الحد منه وإيقافه عند حدود معينة!
3. العقلانية شيء نسبي، وللرجل العقلاني العديد من السمات، لكن هناك سمة مهمة جداً، هي أن الرجل العقلاني يحاول دائماً أن يوفق بين درجة الشدة التي يستمسك بها في منطلقاته وأفكاره المختلفة، وبين حجم البراهين والأدلة المتوفرة لكل منطلق وكل فكرة. وعلى هذا فإن (اللا عقلانية) تعني التمسك بأفكار لا تسندها البنية والمعطيات المعرفية القائمة. وإذا سلطنا الضوء على واقعنا وجدنا أن غلبة العاطفة علينا وسيطرة سرعة التصديق وضيق مساحات المفاتحة والمصارحة... كل ذلك جعل الكثير من الناس يندفعون على نحو مثير إلى استخراج نتائج عامة من معطيات جزئية، ثم السعي إلى تعميمها وإقناع الناس بها. ونحن إلى جانب هذا مولعون بسن القوانين، وإطلاق التعريفات الجامعة المانعة -كما يقول المناطقة- دون استقراء جيد، ودون وعي بخطورة ذلك على طلاقة الخيال وأثره في إغلاق الأبواب المفتوحة. النقد الذاتي يجب أن يوجه إلى هذا النوع من القطع في الآراء والأحكام دون الإحساس بالوقوف على أرض صلبة.
الملكة النقدية تحتاج إلى حماية، وخير حماية لها تكمن في ممارسة النقد والاحتفال به. إن النقد لا يحيا إلا بالنقد ومجادلة الفكرة بالفكرة والطريقة بالطريقة، كما أن الأخطاء النقدية تصحَّح من خلال ممارسة المزيد من النقد.
=============
# الرسالة -حول أداء الصحوة في المرحلة الماضية.
د. عبد الكريم بكار
*
حول أداء الصحوة في المرحلة الماضية.
*
إن الصحوة الإسلامية المباركة أو حركة الإحياء الإسلامي -كما يحلو للبعض أن يسميها- رحمة عظمى من الله -تعالى- لهذه الأمة، حيث انبعثت معاني التدين في نفوس الناس بعد خمود دام قرونًا، ونشأ وعي عميق بأهمية الإيمان والالتزام والعمل للآخرة. وإذا أردتَ أن تتعرف على أهمية شيء فقم بحذف وظائفه ومنجزاته حتى يتبين لك حجم الفراغات التي كان يملؤها ذلك الشيء. ولو أنك أسقطت من هيكل الأمة هذه الملايين من الشباب الملتزم النقي والجاد، وأسقطت منه العمل الخيري والدعوي والإغاثي، وتخيلت تدينًا أقل عمقًا وانتشارًا في الأمة.. لو أنك فعلت ذلك لأدركت حجم الإضافة الذي تمثله الصحوة لهذه الأمة. هذا لا يعني -بالطبع- أن الصحوة على ما يرام، كما لا يعني أنها فعلت كل ما يمكن فعله، فالنقص ملازم للبشر، ورضانا عن أداء فرد أوجماعة أو شعب يجب أن يتشكل في ضوء الظروف والإمكانات والأدوات المتاحة.والصحوة نشأت، واستمرت في ظروف داخلية وخارجية صعبة، ومع هذا فإن عطاءاتها لا تعد قليلة في أي معيار من المعايير. وقد حافظت الصحوة على ذاتية الأمة في وجه الفكر الليبرالي والفكر الشيوعي، على الرغم من ضعف وسائلها وكثرة المعوقات التي تقف في طريقها.
*
حول تجديد خطاب الصحوة:
*
يمكن القول : إن الصحوة الإسلامية المعاصرة بدأت بعد هزيمة (1967م) أمام اليهود، فبتلك الهزيمة النكراء نفض الناس أيديهم من التيارات العلمانية والاشتراكية والقومية، واتجهوا إلى الإسلام بوصفة الملاذ والخيار الأخير؛ وهذا يعني أن مشروعية الصحوة وجاذبيتها في نظر الناس ستظل مرهونة بإنجازاتها، وإلا انصرف الناس عنها إلى غيرها. وهذا شيء يجب أن يولّد فينا الحذر والحرص والغيرة.
تجديد الخطاب الإسلامي يعني تجديد المفاهيم والرؤى والمقولات التي يعبر عنها الخطاب الدعوي والإصلاحي، حتى الجوانب الشكلية من ذلك الخطاب لا تتطور إلا إذا طوّرنا رؤيتنا للأسلوب الدعوي، واكتشفنا العناصر التي تجعله أشد تأثيرًا وأكثر فاعلية. ويؤسفني القول هنا: إن لدينا فقرًا لافتًا في أعداد ومستويات الذين يشتغلون على توليد المفاهيم وتعميقها. وفي ظروف بالغة التعقيد والالتباس يكون إبداع المفاهيم عن طريق التأمل والاستبصار الذاتي بعيدًا عن البحث المنهجي المحترف والأصيل - عاملاً في بلبلة الخطاب وطمس مشكلاته الجوهرية عوضاً عن الكشف عن آفاق نموه وتطويره. وإذا تساءلنا عن مراكز البحوث والدراسات التي يتم من خلالها فهم الصحوة وإمكاناتها وفرصها وأزماتها لما استطعنا وضع اليد إلا على القليل منها. وهذا يشكل في حد ذاته قضية مهمة تستحق التوقف والاهتمام.
سيكون في إمكاننا التحدث عن خطابين للصحوة:
الأول: خطاب داخلي موجّة لأبناء الصحوة، ويعنى بشؤونها وشجونها الخاصة. وأتصور أن هذا الخطاب ينبغي أن يقوم على الأسس التالية:
1- اعتماد النقد الذاتي بوصفة الوسيلة الأساسية لإصلاح عيوب الصحوة وتجديد أبنيتها.(1/274)
2- تلمس أسباب الفتور الذي اعترى كثيرًا من الدعاة أثناء العقد المنصرم والعمل على علاجها.
3- النظر إلى سوء الفهم المتبادل بين الجماعات التي تشكّل الصحوة على أنه تعبير عن عجز الصحوة عن فهم المشكلات الواقعية التي تهدد الأمة، وعن عجزها عن تقديم الحلول الناجعة لها على المستوى الأخلاقي والسياسي والاجتماعي.
4- العمل على معالجة تراجع مركز الروح في حياة أبناء الصحوة والانفتاح أكثر فأكثر على إيقاع المصالح الخاصة، مما يشكل تهديدًا حقيقيًا للوقود المعنوي المطلوب لبذل الجهد الإصلاحي.
5- النهوض بالجانب الفكري والعقلي، وتفنيد المقولات المتداولة بين أبناء الصحوة وإخضاعها للتمحيص والنظر المتعمق.
6- يشكو أبناء الصحوة من ممارسة الإرهاب الفكري ضد بعضهم، والمسارعة إلى الاتهام الذي يصل إلى حد التكفير، مما جعل كثيرين يحجمون عن قول الحق، وجعل كثيرًا من مرشدي الصحوة ومفكريها يرون في المزيد من التشدد والاحتياط وغموض الطرح صمام أمان من طعون المشنعين من أبناء الصحوة ولاسيما الشباب، ولذا فإنه لابد للخطاب الدعوي من التشجيع على الاجتهاد والتجديد وتسمية الأشياء بأسمائها.
7- كثير من أبناء الصحوة منغلقون ثقافيًا، فهم لا يقرؤون إلا في الكتب التي تؤيد ما يتعتقدونه، ويذهبون إليه، وهذا جعل ثقافتهم وآفاق الرؤية لديهم محدودة، وقد انعكس ذلك على خطابهم، وجعله يبدو غير متفهم للأحداث الجارية والمتسارعة؛ ولذا فإن المزيد من الانفتاح على ما لدى الآخر من أجل مزيد من الوعي والفهم يعد شيئًا مهمًا للغاية، كما أن الانفتاح على الواقع يعد مصدرًا مهمًا لكل تجديد وتطوير، وهذا ما علينا أن نقوم به.
الثاني: يمكننا أن نتصور مقومات التجديد في الخطاب الخارجي للصحوة (أي الخطاب الموجّه لأبناء الأمة المسلمة خاصة والأمم الأخرى عامة) في النقاط الآتية:
1- خطابنا في حاجة ماسّة إلى التخلص من المبالغة والتهويل في وصف الخير والشر، كما أنه في حاجة إلى التخلص من التحليلات السطحية والتعليلات الفاسدة، وذلك من خلال التصاق أشد بالحكم الفقهي وبالتفكير الموضوعي والعلمي.
2- إن المراهنة على العمل الدعوي والخطاب الوعظي من غير تحسين البيئة التي يحيا فيها الناس، وجعل شروط حياتهم أكثر يسرًا عن طريق الحلول الذكية -هي مراهنة خاسرة إذ مع انتشار البطالة والفساد الإداري وضعف مراقبة استثمار التفوق، وضعف أداء التعليم وأداء الأسر في البيوت - يكون من الصعب توقع استجابة جيدة للجهود الدعوية من قبل الناس.
3- مع إيماننا بضرورة حدوث نوع من الإصلاح في كل المجالات إلا أن التوظيف الأساسي للجهد الدعوي يجب أن يكون في النهوض بالفرد المسلم، من أجل زيادة درجة استقامته ورفع مستوى كفاءته وإنتاجيته. والخطاب الدعوي في هذا الصدد مطالب بتحفيز الفرد المسلم بشكل دائم على القيام بأكبر عدد من المبادرات الاجتماعية، وبتحفيز المجتمع على تسلُّم زمام المبادرة تجاه قضاياه المصيرية والحية.
4- على الجماعات الإسلامية أن تدرك أن الصحوة باتت أوسع منها بكثير، وقد كان لتلك الجماعات فضل كبير في انطلاق عربة الصحوة، لكن إمكانات الصحوة اليوم باتت أكبر بكثير من إمكانات تلك الجماعات، ويجب أن تنعكس هذه الحقيقة على الخطاب الدعوي تواضعًا واعترافًا لأهل الخير والفضل والعطاء، ولو كانوا غير ملتزمين بأي إطار جماعي.
5- علينا أن نعترف أن خطاب الصحوة في كل أنحاء العالم الإسلامي مصاب بارتباك شديد تجاه نوعية الإصلاح السياسي المطلوب، ونوعية الخيار الأكثر ملاءمة لتنظيم العلاقة بين الشعوب والحكومات. ومن المهم تسليط الضوء على ذلك الارتباك ومعالجته عوضًا عن تجاوزه والقفز عليه أو طمسه وتجاهله.
6- من المهم للخطاب الدعوي أن يركز على ضرورة اعتماد التغيير السلمي والإصلاحي المتدرج، وإشاعة أدبيات الوئام الأهلي والسلام والاستقرار داخل المجتمعات الإسلامية، كما أن على ذلك الخطاب أن يقف بقوة وبوضوح شديد ضد أولئك الذين يعرّضون سمعة الإسلام الدولية للخطر، ويدفعون ببلادهم تجاه الوقوع في فتن داخلية وحروب أهلية، وهذه المسألة من المسائل ذات الأولوية في المعالجة.
7- في ظل العولمة، وفي ظل ضياع الأهداف الكبرى من أيدي الشعوب، والأمم، بات على خطابنا الدعوي أن يؤكد على معاني الرحمة في مواجهة القوة، والمبدأ في مواجهة الوسيلة، والجوهر في مواجهة المظهر، والآجل في مواجهة العاجل، والعطاء في مواجهة الاستحواذ. وسيكون الكلام في هذا قليل الجدوى ما لم يقدّم أبناء الصحوة نماذج عملية من حياتهم اليومية.
8- من المهم أن يؤكد خطابنا الدعوي على القيم والمثل التي تجعل -في العادة- ثقافة أشد جاذبية من ثقافة أخرى، وتلك القيم مثل: الرحمة والعدل والإحسان والتعاون والتسامح والوفاء والجدية والدقة والشورى والانفتاح والكفاءة... وما لم تتمثل الأمة هذه القيم على نحو ملائم وكافٍ، فإن أبناءها سيظلون معرضين للوقوع في أوحال الفتن الثقافية، والوقوع في مصايد إغراءات العولمة والليبرالية.
*
حول تأطير الخطاب الدعوي بالثوابت:
*(1/275)
إن الخطاب الدعوي والإصلاحي يجب أن يخدم الثوابت، ويقوم بترسيخها لا أن يكون فقط في إطارها. والقائمون على صياغة ذلك الخطاب يدركون من خلال فهمهم العميق أن المحافظة على الثوابت قد لا تتم إلا من خلال التعامل بمرونة مع المتغيرات والفرعيات والخلافيات والشكليات. وإن الخطاب الذي يخرج عن ثوابت الأمة يعرّض نفسه للتلاشي التام، ويوقع الأمة في بلبلة، وقد يحرفها عن مسارها الأصلي والصحيح. وعلينا أن نكون حذرين أشد الحذر من أن نمضي مع إغراءات التجديد والتحديث بعيدًا عن أصول الشريعة وعن قطعيات النصوص ومواطن الإجماع، وإلا فإننا سنخسر الثوابت دون أن نحصل على أي شيء.
ولكن مع هذا علينا أن ندرك أن العلاقة بين الثوابت والمتغيرات ليست صلبة ولا واضحة دائمًا بالقدر الكافي، فهناك أمور وقضايا ذات لون رمادي وطبيعة رجراجة ، ويسودها الالتباس، ولابد آنذاك من التعامل معها بحسّ المجتهد الموثوق والخبير.
والله ولي التوفيق.
==============(1/276)
أنا والفشل
د. عبد الكريم بكار
شكراً لمجمع اللغة العربية بالقاهرة الذي أنقذ الجماهير العريضة من مثقفي العرب وعامتهم من اللوم على الوقوع في اللحن حين وافق على استخدام كلمة (فشل) بمعنى أخفق، أو لم يبلغ مراده، على الرغم من نص المعاجم اللغوية القديمة على أن (الفشل) هو الجبن أو الكسل أو الخوف أو الضعف، وليس الإخفاق أو عدم النجاح، كما هو شائع اليوم.
والشكر ثانية لمجلة (المعرفة) التي تحاول أن تساعد القراء على رسم صورة أكثر اكتمالاً لأشخاص لا يعرفون عنهم سوى جزء صغير من حياتهم أو من أشكال معاناتهم.
-أخفقت في تعلم العروض؛ وحين كنت طالباً في معهد الفتح الإسلامي بدمشق رسبت في تلك المادة، وفي الدور الثاني دخلت الاختبار ونجحت. وما زلت أعتقد أن أستاذ المادة قد نجّحني بغير حق؛ لأنني لا أشعر أنني أستحق أكثر من 20% من العلامة الكبرى، لكن أستاذي -حفظه الله- أراد أن يخفف على ما يبدو من قسوة نظام الاختبارات، فالرسوب في الدور الثاني في أي مادة -ولو كانت العروض- يعني إعادة السنة كاملة، وأظن أنه وجد من الصعب أو غير المقبول أن يضيع طالب -هو الأول على زملائه- سنة كاملة من أجل مادة طالما قال عنها ذلك الأستاذ أمام طلابه: إنها علم شهر وعلاك دهر!
وهكذا تكون قسوة النظام سبباً في تجاوز ذلك النظام، وفي ذلك عظة بالغة يمكن الاستفادة منها في كل مجالات الحياة.
- أخفقت في إنقاص وزني ليكون مثالياً أو قريباً من المثالي، وإني أعتقد أن معركة (الخسخسة) على وزن (الخصخصة) هي أقسى وأطول معركة يخوضها المبتلون بزيادة الوزن أو البدانة، والمهزومون في تلك المعركة أكثر بكثير من المنتصرين. وأكثر الذين تراهم في وضع جيد ليسوا منتصرين، وإنما لم يقدر لهم دخول الحرب، ولو دخلوها لما اختلف شأنهم كثيراً. قرأت مرة أن معظم الذين يلتزمون الحمية ينجحون في التخلص من أحمال الشحم واللحم التي على أكتافهم. ففرحت بذلك, وقلت: "هانت" ثم قرأت أن معظم أولئك المصابرين يعودون لما كانوا عليه من قبل، بعد مدة من الزمن حين يواجهون بإغراءات الطيبات و (عزومات) الأصدقاء؛ فحزنت لذلك، وأصابني ما يشبه اليأس. ثم قرأت أن معظم هؤلاء العائدين يحاولون مرة أخرى الحصول على الرشاقة، فانبعث في نفسي شيء من الأمل، والذي سيعني تكرار المحاولة وتكرار الهزائم، لكن ذلك سيظل خيراً من الاستسلام.
وأعتقد أن بعض الناس من أهل وأصدقاء يتحملون جزءاً من المسؤولية في هذا الإخفاق، فقد قال لي طبيب من أصدقائي. البدين أحسن من النحيف وأوفر حظاً. فقلت: كيف يرحمك الله؟ قال: لأن البدين يستطيع إنقاص وزنه، أما الهزيل فلا يستطيع زيادة وزنه، فأشعرني أن الأمور إلى خير، وأن هناك ما هو أسوأ، لكن صاحبي لا يعرف كل الحكاية!
-أشعر في بعض الأحيان أنني أكثر من الكلام في المجالس العامة وفي كل مرة أقول: هذا غير ملائم، وقد يكون فيه نوع من الهضم لحقوق الآخرين ممن هم قادرون على الكلام. وربما كان ذلك نتيجة إغراء بعض الحاضرين لي بأن أتكلم أكثر وأكثر من خلال تشجيعهم وتفاعلهم، ولكن هؤلاء دائماً قلة وأغلبية الخلق عندنا صامتون، وربما كان لهم رأي آخر, وأحياناً أتكلم بكلام يكون فوق مستوى الحاضرين، فتضيق عليهم الأرض بما رحبت، ويتلمسون مخرجاً مما هم فيه، وأعتقد أن أحوالهم باتت أحسن من السابق، والبركة في الجوال!
- أخفقت في تعلم اللغة الإنجليزية على الرغم من محاولاتي المتكررة، ويبدو أن ذلك يعود إلى عدم إدراكي في مقتبل العمر (وهو وقت تعلم اللغات) لأهمية معرفة لغة حية ومهمة للغاية في التضلع من المعرفة. وربما كان ذلك لأنني درست سنوات طويلة في معاهد شرعية، وهي في تلك الأيام على الأقل لا تشجع على تعلم اللغات الأجنبية.
ويضاف إلى ذلك أنني رجل يفتقر إلى الصبر والجلد على معاناة الحفظ والصم عن ظهر قلب (وهو ما يتطلبه تعلم أي لغة) فقد تعودت خلال مسيرتي العلمية أن ألتقط الفكرة العميقة، ثم أدخلها إلى مصنعي الخاص؛ لأجعل منها نموذجاً في خطاب أو عنصراً في تشكيل رؤية. وربما كان هذا هو السبب أيضاً في إخفاقي في حفظ القرآن الكريم. وإني إلى هذه اللحظة أشعر بندم شديد بسبب إخفاقي في هذا أو ذاك (وعلى الله العوض).
- أخفقت في أن أحب قراءة كتبي، بل في الرجوع إليها لأستخرج منها شيئاً أستخدمه في بعض ما أكتب إلا إذا ألجأتني الحاجة، واضطررت إلى ذلك اضطراراً ولست أدري لذلك سببًا سوى الشعور بأن ما فيها صار من الأمس الدابر، وأنه يمكن العثور في الجديد من النتاج الثقافي للآخرين على ما هو أنفع وأجود، فأنا رجل مشغوف بمعرفة الجديد إلى حد الوله. وأظن أن من الصعب علي أن أطالع في كتبي ولو سجنوني معها!
- أخفقت في الانتظام في ممارسة الرياضة، ومع أنني أجيد بعض فنونها إلا أنني لم أتمكن من الالتزام بأي منها مدة طويلة من الزمن على الرغم من شعوري بأهميتها القصوى لصحة البدن. وربما كان ذلك عائداً إلى الكسل تارة، وإلى الاعتقاد بأن هناك أشياء أهم يمكن بذل الجهد والوقت فيها، وأنا في هذا مخطئ ولكن...!
- أشعر أنني أخفقت أن أكون محاوراً ناجحاً، فأنا مع سعة صدري مع محاوري، إلا أنني لا أسوق حججي في كثير من الأحيان بشكل جيد، مع اعتقادي أن الحق إلى جانبي. فأنا أحياناً أدلي بها دفعة واحدة، فيأخذ محاوري أضعف تلك الحجج، ويرد عليه، ثم ينقلب الحديث إلى قضية فرعية أو مسألة أخرى دون أن يجيب على أدلتي القوية، وقد يتدخل في الحوار أحد الحاضرين ليقلب الأمور رأساً على عقب.
وأحياناً أقول في نفسي: الأفضل أن أترك أقوى البراهين لدي إلى آخر النقاش؛ حتى تكون أشبه بالضربة القاضية! لكن يخذلني أحد صغار المحاور ليقول له: (أمي تقول مشينا)، فأشعر آنذاك بنوع من الإحباط والهزيمة غير المسوغة.
- كنت أحلم من مدة بعيدة في أن يتاح لي فراغ مغطى بدخل كاف، حتى أملأ ذلك الفراغ بما أراه أهم وأنفع، وحتى لا أضطر إلى العمل من أجل الرزق في مجال لا يستهويني. ومن أجل تحقيق ذلك كنت كلما توفر لدي شيء من المال وضعته مع شخص أو جهة من أجل تثميره لعلي أبلغ ما أرجوه، لكن بعد مدة أكتشف أني ابتعدت عن الهدف خطوات عوضاً عن أن أقترب منه خطوة، وصرت مع الأيام أشعر بأنني واحد ممن تصح فيهم المقولة الحكيمة التي أطلقها أحد خبراء السوق:"في كل دقيقة يولد مغفل، ويولد اثنان للمتاجرة به".
وفي كل مرة أقول هذه آخر محاولة، فإذا لم تنجح فلن أحاول مرة ثانية، وتخفق المحاولة، لكن يبقى الطموح إلى النجاح في محاولة ثانية. وإذا أردت أن أحدس بالمستقبل من خلال خبرتي بالماضي، فليس هناك ما يشجع على التفاؤل!
- أخفقت في مقاومة (التسويف) وتأجيل بعض الأمور المهمة، فهناك دائماً أمور ينبغي إنجازها في أوقات محددة وإلا فات المرء خير كثير، لكني مع هذا أؤجلها، ولدي بصورة مستمرة الحجج التي أقنع بها نفسي بأنني مشغول بما هو أهم. وهذا لا يكون في كثير من الأحيان صحيحاً. ما من مرة شعرت فيها بالضرر الذي لحقني من وراء تأجيل شيء مهم إلا عقدت العزم على ألا أعود إلى ذلك، لكن بعد مدة يتكرر المشهد مرة أخرى، وكأن النصر معقود دائماً للطبع على التطبع!
هناك لا ريب إخفاقات أخرى في حياتي لا أذكرها الآن، أو لا أرى فائدة في ذكرها، لكن كل ما ذكرته، وكل ما لم أذكره هو من الأمور العادية والشائعة، والتي قد لا تستوقف أحداً، ولا تلفت نظراً؛ وذلك لأن نجاح الشخص حين يكون عادياً، فإن إخفاقاته لا تكون إلا كذلك.
وأسأل الله التوفيق لما هو خير وأبقى.
==============(1/276)
إدارة التعانف (1 ـ 2)
د. عبد الكريم بكار
إن الله ـ سبحانه ـ قد فطر الإنسان على الاستئناس بأخيه الإنسان كما فطر الخلق ورتّب شؤونهم على الاحتياج العام بعضهم لبعض، لكن من الثابت أيضاً أن اجتماع الناس يولّد العديد من التوترات والصدامات؛ وذلك بسبب اختلاف أمزجتهم وأفهامهم وأهوائهم ومصالحهم... ومن وجه آخر فإن من الثابت أيضاً أن التقدم الحضاري الذي يشهده العالم اليوم لم يهذِّب الطباع على النحو المأمول، ولم يقرِّب المسافات العقلية والروحية والنفسية الفاصلة بين الناس؛ حتى إن أحد الباحثين يرى أن التقدم الحضاري هو تقدم في الطلاء والشكل أما في الأعماق فإن هناك وحشاً كاسراً يتربص وينتظر للفتك والافتراس، والحقيقة أن لدينا شواهد لا تحصى وفي كل مكان من العالم على صحة ذلك.
ويبدو لي أن الناس على مستوى العامة كانوا يدركون هذه الحقيقة أفضل من إدراك بعض الخاصة لها؛ حيث إننا نجد أن الهمّ الذي يسيطر على (الثقافة الشعبية) ليس الإنجاز ولا الرؤية أو الموضوعية أو وضع الأمور في نصابها... وإنما تحقيق أعلى درجة من التضامن الأهلي والتلاحم الأخوي؛ وذلك بغية سد الطرق والأبواب في وجه الصدام والتعانف والعدوان.
انطلاقاً من كل ما سبق فإنّ مصطلح (إدارة العنف) يعني الاعتراف بوجوده كامناً وظاهراً، كما يعني نوعاً من الاعتراف بالعجز عن محوه والقضاء عليه؛ حيث لا سبيل سوى إدارته والتعامل معه، والسعي إلى التخفيف منه قدر الإمكان وإلى إبقائه تحت السيطرة. وإذا أردنا أن نستقصي التشريعات والآداب والإجراءات التي أقرها الإسلام وحفَّز عليها من أجل إدارة العنف ـ فإننا سنجد أمامنا الكثير الكثير مما يمكن أن نتحدث عنه؛ فلا بأس إذاً أن أشير على نحو خاطف إلى ما هو مهم منه، وذلك عبر النقاط الآتية:
ـ امتنَّ الله ـ تعالى ـ على قريش بما حباها به من الأمن بسبب مجاورتها لبيته العتيق؛ فقال ـ سبحانه ـ: {لإيلافِ قُرَيْشٍ * إيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ *} [قريش: 1 - 4].
والأمن يوم القيامة وفي الجنة أحد موعودات الله ـ تعالى ـ لعباده المؤمنين: {مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ} [النمل: 89].
إن شرح قيمة الأمن والاستقرار والشعور بالهدوء والسكينة يفتح وعي الناس عليها ويحفِّزهم على المحافظة عليها، ويحمِّلهم مسؤولية رعايتها من خلال الاستقامة على أمر الله ـ تعالى ـ والتأدب بآداب الشريعة الغراء.
ـ مدح النبي - صلى الله عليه وسلم - الرفقَ؛ والذي يعني: اللطف وسهولة الخلق ويسر التعامل؛ فقال - صلى الله عليه وسلم - : "ما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نُزع من شيء إلا شانه"(1). واللطيف اسم من أسماء الله ـ تعالى ـ والرفق من محابِّه؛ قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ: "إن الله رفيق يحب الرفق ويرضاه، ويعين عليه ما لا يعين على العنف"(2). إن كل الأشياء يمكن أن تؤدَّى بطريقة خشنة وعسرة وجافة، ويمكن أن تؤدَّى بطريقة لينة وسهلة وجميلة، وإن على المسلم أن يجنح إلى الثانية؛ لأنها هي التي ترضي الله سبحانه، وهي التي تدل على سُموِّ الخلق ورُقي النفس. ودعا ـ عليه الصلاة والسلام ـ لأصحاب الأخلاق والمعاملات والمواقف السهلة والسمحة بقوله: "رحم الله عبداً؛ سمحاً إذا باع، سمحاً إذا اشترى، سمحاً إذا قضى، سمحاً إذا اقتضى"(3).
ـ إن من المتوقع دائماً أن يقع الناس في الأخطاء والتجاوزات من كل الأشكال والأنواع، وهذا يحفِّزهم على مقابلة الإساءة بالإساءة والعدوان بالعدوان..؛ لكن الله ـ جل وعلا ـ يريد من عباده أن يكسروا هذه المعادلة الرديئة حتى لا يدخلوا في دوائر العنف؛ التي قد لا يعرفون كيف يخرجون منها، ومن هنا جاء قوله ـ تعالى ـ: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النور: 22].
وقال ـ سبحانه ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [التغابن: 14].
ـ إن الزحام يثير حفائظ الناس، ويزعجهم، ويُظهر ما لديهم من سوء كامن؛ وهذا بسبب أن كل واحد مِنّا يرسم فضاءً وهمياً لنفسه على مستوى النظر وعلى مستوى اللمس؛ فإذا اعتدى أحد على ذلك الفضاء فإنه يشعر بالخطر، ولهذا فإنه ينزعج ويتأهب للدفع؛ الذي يصل إلى القتل عند الحاجة. ويبدو أن رسم الفضاء الخاص والحيِّز الشخصي ليس خاصاً بالإنسان، بل إن الحيوان ـ أو بعضه ـ يفعل ذلك؛ فقد دلّت بعض الدراسات على أن بعض أنواع الأسماك تطلق روائح كريهة من أجل طرد الأسماك التي تدخل على ما تعده مجالاً حيوياً لها!
ومن هذا الأفق نفقه مغزى قول الله ـ عزَّ وجلَّ ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة: 11].
================(1/276)
الفكر طبيعته وأهميته
الاستشارات - استشارات دعوية
الكاتب: د . عبد الكريم بكار | 16/01/2006
كلمة (الفكر) والتفكير والأفكار من الكلمات الشائعة جداً على ألسنة العامةوالخاصة اليوم ؛ وعند عودتنا إلى معاجم اللغة نجد أنها تعرف الفكر بأنه : (إعمال العقل في المعلوم للوصول إلى معرفة مجهول) .
ويقولون : فكّر في مشكلة : أعمل عقله فيها ليتوصل إلى حلها [1] .
ولعلنا نعرف التفكير بأنه (إعمال الإنسان لإمكاناته العقلية في المحصول الثقافي المتوفر لديه بغية إيجاد بدائل أو حل مشكلات أو كشف العلاقات والنسب بين الأشياء) [2] .
ومن خلال هذا التعريف ندرك أن الفكر ليس شيئاً مطابقاً للأحكام والمبادئ ، ولا مطابقاً للثقافة أو العقل أو العلم ، وإنما هو استخدام نشط لكل ذلك بغية الوصول إلى المزيد من الصور الذهنية عما يحيط بنا من أشياء وأحداث ومعطيات حاضرة وماضية وتوسيع مجال الرؤية لآفاق المستقبل .
وبناء على هذا فإن العالم غير المفكر ، فقد يكون المرء عالماً ولايكون مفكراً . وقد يكون مفكراً ولايكون عالماً ، وذلك لأن الميدان الأساس للعلم هو الإلمام بالجزئيات ؛ أما ميدان الفكر فهو إبصار (الكليات) والاشتغال عليها ؛ وقليل أولئك الذين يسمح لهم الاشتغال بالجزئيات بالتوجه إلى النظر الكلي ، كما أن طبيعة الاشتغال بالقضايا الكبرى (تزهد) المفكرين في الاهتمام بالمسائل الجزئية ، حيث يرون أنها مندرجة في أنظمة أشمل تتحكم فيها .
ومع افتراق الطبيعتين إلا أن هناك خطوطاً عريضة تجمع بينهما أهمها : أن كلاً من المعطيات الفكرية العامة والجزئيات العلمية الصغيرة يميل إلى الظن والتخمين والبعد عن اليقين ؛ وذلك بسبب أن الجزئيات هي مناط الاجتهاد ، ونتائج الاجتهاد تكون في الغالب ظنية ، كما أن وفرة العناصر والمعطيات التي تساعد في تكوين الرؤى الكلية تجعلها بعيدة أيضاً عن الصلابة والجزم ؛ لكن (الإحالات الثقافية) والخبرات المتراكمة تنقلها إلى حيز اليقين أو الرفض أو التعديل بعد مدة زمنية معينة .
لكن هذا لايهوّن أبداً من شأن المعطيات الفكرية ؛ فقد أثبتت التجربة التاريخية أنه (لاشيء يضيع) ؛ فالفكرة مهما كانت ، تترك انطباعا معيناً سلبياً أو ايجابياً ؛ فقد تشكك في مسلمة من المُسلّمات ، وقد تعزز ظناً من الظنون ، وقد تنبه إلى شيء منسي ، وقد تنقذ أمة من كارثة محققة ! !
وكثيراً ما يحدث أن تأتي الفكرة قبل أوانها أو في غير محيطها ؛ فلا تحدث اضطراباً في الواقع العملي ، وهي أيضاً لا تضيع لأنها ستشكل الخميرة التي سوف تنبت يوماً ما أفكاراً أو حلولاً حين تجد المناخ المناسب [3] .
وهناك إلى جانب هذا سمة أخرى أساسية للأفكار ، وهي أن الأفكار التي نستخدمها في حركتنا الاجتماعية تكون في العادة ملائمة للظروف والأحوال المحيطة بها ، ومهمة الأفكار إحداث تغيير ناجح في تلك الظروف نحو الأفضل والأسمى ، وهذا التغيير الذي يحدث يوجب علينا تغيير الأفكار التي نحجت كما تغير الأفكار التي أخفقت ، وذلك لأن تغيير الأفكار للظروف يوجدها في ظروف جديدة غير ملائمة لها ، وهذا مشاهد في الأعمال الإصلاحية الكثيرة التي حدثت في العالم ؛ فحين تطرح أفكار وأساليب لتحقيق النظافة العامة مثلاً فإن تلك الأفكار تفقد وظيفتها
وأهميتها حين تصبح النظافة عادة للناس ، ويصبح الحث عليها غير ذي معنى ، وحين تبلور أفكار في ضرورة إرسال الأولاد إلى التعليم الجامعي ، ثم تنجح تلك في تحقيق مقصدها يصبح الحديث عن تلك الضرورة غير مفهوم وهكذا .. وهذا يعني أن كثيراً من الأفكار تنتهي صلاحيته ليس في حالة إخفاقه فقط وإنما في حالة نجاحه أيضا .. وهذا مغاير بالطبع لحقيقة المبادئ والقيم العليا التي تتأبى على التحقق الكامل ، ويظل بينها وبين التمثل الواقعي هوة دائمة مما يصونه من الاستنفاد ، ويجعل الحاجة إليها مستمرة ، ويكمن مقتل النهضة الفكرية في كثير من الأحيان في
التشبت بأفكار حققت غايتها ، وفقدت وظيفتها ، والزهادة في مبادئ توجب طبيعتها الخاصة وجوب المحافظة عليها ؛ لأنها تمثل محور الحياة الفكرية التي لاقوام لها بدونه .
أهمية الفكر :
صدّ تأكيد كثير من مفكري المسلمين على أهمية الفكر كثيراً من الشيوخ والشباب عن الاهتمام بمناهج الفكر وقضاياه ظناً منهم أن ذلك الاهتمام سيكون على حساب العمل والتربيةوالأخلاق والسلوك .. وسبب هذا الظن أننا حين نتبني توجهاً معيناً في الإصلاح نلح عليه إلحاحاً يوهم الأخرين بأننا لانرى سواه . ، وأننا نهمل ماعداه ؛ ومن ثم فإنني أبادر إلى القول : إن استقامة الفكر ونقاءه ليس بديلاً عن التربية ولا الأخلاق ولا أعمال الخير ولا الحركة الدعوية ، ولكنه الشرط الأساس لصوابها ورشدها ، فمهمة الفكر رسم مخطط الحركة وجعلها اقتصادية ، بحيث تتكافأ نتائجها مع الجهد والوقت المبذول فيها ، كما أنه يحيّد كل الوسائل والأساليب التي ثبت قصورها ويكثف الخبرات والتجارب المكتسبة في بعض المقولات والمحكات النهائية ، ويساعد على طرح البدائل والخيارات في كل حقل من حقول العمل ، وهذا كله لايتأتى عن غير طريق الفكر . ويمكننا إلى جانب هذا أن نستجلي
مسوغات أخرى للاهتمام بالفكر في المفردات التالية :
1- إن الحضارة الغربية ذات منظومات متكاملة في المجالات الثقافية
والسياسية والاجتماعية والاقتصادية ، ولها تصورها الخاص في جميع شؤون الحياة ، وهي (الآخر) بالنسبة لنا ، وملاحظاتنا على أنساقها المختلفة ستظل محدودة الأهمية مالم نبلور البديل الأصلح والأنفع والأكمل في تلك المجالات كافة من منظورنا الخاص لنا [4] ، ولاسيما أنه الأجهر صوتاً والأكثر عتاداً وعدة ، وإذا كنا نملك قوة الحق فإنهم يمتلكون حق القوة ، ويطالبون بدفع استحقاقاتها .
وبإمكاننا أن نكون محنة وتحدياً حقيقياً لهم في حالة واحدة ، هي أن نستطيع تقديم رؤيتنا الكونية بشكل واضح ، وأن نطرح بعض الحلول الجذرية المتميزة لبعض الاختناقات الحضارية التي يعاني منها بنو البشر اليوم ، وهذا لايتم إلا من خلال فيض من الخطط والدراسات والنماذج المتقنة ؛ وهذا كله سبيله الرؤية الفكرية الناضحة والشاملة .
2- من الممكن لكل الأنشطة الحضارية أن تمضي في سبيلها إلى حد معين ؛ فالاقتصاد في أسرة ، والنشاط الزراعي في حقل ، ومساعدة ضعيف في مجتمع ، كل ذلك من الأنشطة التي يتيسر القيام بها دون الحاجة إلى عناء التفكير ، لكن عندما يصل الأمر إلي تنشيط اقتصاد دولة أو التخطيط لمجتمع كبير أو حل أزمات حركة أو جماعة في ظروف حاسمة ، فإن التفكير المركز والمعقد يكون هو الآلية التي ينبغي استخدامها .
وإني أعتقد أن معاناة الأمة من بعض المشكلات لمدد تصل إلى قرون كانت بسبب إهمالها للفكر والنقد والمتابعة والمراجعة باعتبارها مبادئ أساسية في التغيير والإصلاح والارتقاء .
إن من المؤسف حقاً أن بعض الإسلاميين ينعت الحديث عن الفكر بالحديث البارد ؛ حتى إذا طرحت مشكلة وطلبت حلاً لها لم تجد إلا الوجوم أو الهروب ! !
3- إن العالم الإسلامي لايعاني من نقص في الإمكانات ولا الوسائل ، فما هو متوفر لديه إن لم يكن أكثر مما عند كثيرين لم يكن أقل ، لكن مشكلته تكمن في أن فاعلية وسائله ونجاعتها مرتكزة على الأساليب والطرق التي تستخدم تلك الوسائل ؛ والأساليب تظل محدودة الكفاءة مالم تستند إلى قاعدة فكرية صحيحة ، ترسم خطة
واضحة للعلاج والاستطباب من خلال تشخيص الداء وتعيين الأسلوب الأمثل ومقدار التداخل الجراحي المطلوب إلى جانب تحديد أولويات العلاج وتكاليفه وإفرازاته ، وفي هذا المقام نجد أن الأراضي التي تكفي لإشباع قارة لاتشبع بلداً ، وأن وفي الطاقة البشرية الهائلة صارت عبئا بدل أن تكون ميزة تماماً كجيش ضخم لم يلق التدريب ، ولم يجد السلاح ، ولا الخطة القتالية الناجعة فهو أكوام من الكتل البشرية المستهدفة للعدو !
إن قليلا من الإمكانات والوسائل مع كثير من الفكر والتخطيط والفاعلية التنظيمية والحركية أعود على الأمة بالخير والنفع من أكداس الأشياء الضائعة والمهملة .
4- عصرنا هذا هو عصر الاكتشاف ، وقد اكتشف الإنسان من الحتميات والسنن مالم يكتشفه في أي زمن من الأزمنة ، ولكنه إلى جانب ذلك اكتشف من الفرص والخيارات الشيء الكثير ، وإن كثيراً مما كان يفرض فرضا صار اليوم موضع خيار ، وإن وجود حتميات وضغوط وخيارات كثيرة يلزمنا باللجوء إلى التفكير الفعال ؛ حتى لانصل إلى طرق مسدودة ، وحتى لا نضيّع فرصاً متاحة ، إذ إن كل فرصة بحاجة إلى قرار ، وصاحب ذلك ضعفُ وضمورُ ماكان يستخدم في الأصل بديلاً عن التفكير مثل العادات والتقاليد والمذاهب التي توفر في العادة
استخدام العقل [5] .
5- الاستقرار النسبي كان سيد الموقف في العصور الماضية ، وبما أن الأشياء لا تتغير كثيراً فإن التكرار كان البديل الصالح عن التفكير ، كما أن قلة قليلة من الصفوة كانت تملك اتخاذ القرارات ، وكانت تقوم بالتفكير عن الباقين ، وكان صنع القرارات الشخصية ميسوراً ومحدوداً لكن المجتمع اليوم لاينعم بالاستقرار بسبب معدل التغيير الذي تغذيه (التكنولوجيا (والطموحات الاجتماعية [6] .
6- حينما تصاب أمة بدمار شديد أو زلزال ماحق فإنه يبقى لها بعد انهيار بنيانها شيئان : مبادئها السامية الكامنة في شخصيتها الاجتماعية ، وأفكارها وخبراتها التاريخية والحضارية ، وهي تستطيع من خلالهما استعادة كل ما فقدته
عندما تتوفر إرادة تجاوز المحنة ، فقد دمرت الحرب كل شيء في ألمانيا ، ولم يبق لديها إلا مخزون الأفكار وعزيمة الانتصار ، فتمكنت من إعادة بناء مصانعها على ضوء الشموع بعد اندحار الهتلرية [7] وهكذا فإن أمة كأمتنا تستطيع بتوفيق الله أن تنجز الكثير ، وتستعيد الكثير إذا ما استطاعت صياغة أفكارها من جديد ، وتلمس
سبل النجاة والفلاح .
وهكذا نستطيع القول بعد كل ما مضى : إن توسيع آفاق الفكر لدى المسلم سوف يؤدي إلى توسيع مجاله الحيوي ، ويقلل من ضرورات حركته .
________________________________________
(1) المعجم الوسيط ، مادة فكر .
(2) انظر تعريفا آخر في : الأزمة الفكرية المعاصرة : 27 .
(3) كثير من أفكار ابن تيمية وابن خلدون جاء في غير أوانه وفي غير محيطه ، وقد وجد الآن كثيرا مما افتقده ، أصبح يؤتي أكله أشكالاً وألواناً .
(4) ماتصادمت حضارتان إلا كانت كل منهما محنة للأخرى .
(5) انظر تعليم التفكير : 28 .
(6) السابق : 28 .
(7) مشكلة الثقافة : 61 .
================(1/276)
بناء المرأة الداعية وتكوينها
مع الدكتور عبد الكريم بكار. وصف الحوار:
ضيف الحوار: الدكتور عبد الكريم بكار .
.................................................
إن سبب قصور الدور الدعوي للمرأة هو عدم الاهتمام بإعدادها، وعدم وجود تقاليد علمية واجتماعية تدفع بالمرأة إلى القيام بنشر العلم الشرعي على نطاق واسع بين بنات جنسها، حيث إن هناك تخوفاً مستبطناً وغير مبرر من أن يؤدي قيام المرأة بدور اجتماعي وثقافي واسع إلى إهمالها لواجباتها الأسرية، وإلى تجاوز الضوابط الشرعية الخاصة بحركة المرأة في المجتمع...
حول رأي الدكتور بكار في سبب قصور الدور الدعوي للمرأة المسلمة ... وطرق علاجه .. وكيفية تكوين المرأة المسلمة فكرياً واجتماعياً لتكون داعية بإذن الله تعالى...كان هذا الحوار ...
السؤال الأول: بداية أستاذنا الفاضل:
هلَّا حدثتنا عن بطاقتك الشخصية، والمؤهلات العلمية التي حصلت عليها، بالإضافة للمؤلفات، والأنشطة الفكرية والدعوية .
عبد الكريم بن محمد الحسن بكّار - سوري الجنسية.
بالنسبة للدراسة والشهادات العلمية التي حصلت عليها :
- إجازة في اللغة العربية - درجة البكالوريوس، كلية اللغة العربية بجامعة الأزهر.
- درجة الماجستير، قسم "أصول اللغة"، كلية اللغة العربية بجامعة الأزهر.
- درجة الدكتوراه بمرتبة الشرف الأولى، قسم "أصول اللغة"، كلية اللغة العربية بجامعة الأزهر، وكان عنوان الرسالة: "الأصوات واللهجات في قراءة الكسائي ".
التدرج الأكاديمي :
- محاضر، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، بريدة - المملكة العربية السعودية.
- أستاذ مساعد، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، بريدة - المملكة العربية السعودية.
- أستاذ مشارك، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، بريدة - المملكة العربية السعودية .
- أستاذ مشارك، جامعة الملك خالد، أبها - المملكة العربية السعودية .
- أستاذ، جامعة الملك خالد، أبها - المملكة العربية السعودية .
- أستاذ، الجامعة العربية المفتوحة، الرياض - المملكة العربية السعودية.
مقالات وفعاليات ثقافية:
- أكثر من 150 مقالة علمية ومقالة رأي في مجلا ت وصحف عربية ،منها:
مجلة الفيصل (الرياض)، المجلة العربية (الرياض)، مجلة البيان (لندن)، مجلة المعرفة (الرياض)، مجلة الدعوة(الرياض)، جريدة المسلمون (لندن).
- أكثر من 50 محاضرة عامة ومتخصصة في عدد من الجامعات والمراكز الثقافية، ومنها:
جامعة أم القرى (مكة المكرمة)، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية (بريدة وأبها)، كلية المعلمين (المدينة المنورة)، جامعة الملك خالد (أبها)، جمعية الإصلاح الاجتماعي (الكويت)، المراكز الصيفية في المملكة العربية السعودية، الندوة العالمية للشباب الإسلامي (الرياض)، صندوق الحج (ماليزيا)، نادي أبها الأدبي (أبها)، الغرفة التجارية الصناعية بالقصيم (بريدة).
- أكثر من 80 حلقة تلفازية وإذاعية بثت في كل من:
المملكة العربية السعودية: التلفزيون السعودي (بريدة)، إذاعة القرآن الكريم (الرياض)، قناة المجد (الرياض).
مصر: قناة المجد (القاهرة).
تركيا: إذاعة بورصة (بورصة).
بالإضافة إلى الكتب والدراسات المتخصصة التي تصل إلى ثلاثين إصدار .
الهيئات والجمعيات:
- عضو المجلس التأسيسي للهيئة العالمية للإعلام الإسلامي التابعة لرابطة العالم الإسلامي (الرياض).
- عضو الهيئة الاستشارية بمجلة "الإسلام اليوم" (الرياض).
شهادات التقدير:
وقد حصلت على عدد من شهادات التقدير من عدد من الجهات على مشاركتي في مختلف الأنشطة، ونلت لقب (الأستاذ المثالي ) عام 1995م/ 1415هـ على مستوى كلية اللغة العربية والعلوم الاجتماعية بجامعة الملك خالد( أبها)، ومن الجهات المصدرة لشهادات التقدير: جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، جامعة الملك خالد، جامعة أم القرى.
السؤال الثاني: قضية بناء الداعية وتكوينها، هل أخذت أهمية جِديَّة في حياتنا ؟
نحن لا نختلف أن المرأة المسلمة لم تنل من الاهتمام بتوعيتها وتهيئتها للمجال الدعوي- ما تستحقه، وهذا يعود إلى تهميش دور المرأة في الحياة العامة، والخوف من تعليمها في بعض الأحيان، كما يعود إلى سيطرة العادات والتقاليد بعيداً عن هدي الدين الحنيف.
ولا ننسى أن الأمة حديثة عهد بأمية، وكثير من أوضاعنا يميل إلى التخلف، وهذا كله يؤثر في مسألة إعداد الرجال والنساء معاً للقيام بالدعوة إلى الله تعالى .
السؤال الثالث : ما أهمية التكوين العلمي والثقافي للداعية، وهل يتم هذا التكوين في الجامعات ؟
لا شك أن المدارس والجامعات تقدم في مسألة تكوين الداعية الكثير من الثقافة، والكثير من المعرفة وأدوات الفهم، وعلينا أن ننظر إلى الدعوة على أنها اختصاص يجب أن يُدرس، ويُتعلم كما تدرس باقي التخصصات، لكن الجامعات لا تقدم كل شيء، حتى كليات الشريعة والدعوة، ولابد من الاهتمام الخاص قبل التخرج وبعده، وهذا الاهتمام يجب أن ينصب على شيئين:
1- المعرفة النظرية.
2- التدريب والحماسة.
ولا حاجة إلى شرح أهمية التكوين الثقافي للداعية، لأن الداعية كثيراً ما يجد نفسه مرشداً ومصلحاً اجتماعياً ومفتيا، ولهذا فإن عليه أن يعد نفسه إعداداً جيداً للقيام بهذه المهام.
وأنا شخصيا أفضل للداعية بعد الاطلاع العام على علوم الدعوة وبعد تحصيل حد مقبول من المعرفة بالأسلوب الدعوي وعموميات الإسلام... أن يتخصص في شيء يهتم به:
فهذا يهتم بدعوة النساء، وهذا بدعوة طلاب الجامعات، وهذا بدعوة الأطفال، وهذا بدعوة التجار والصناعيين وهكذا...
فالإتقان والتميز يحتاج إلى التركيز، والتركيز يحتاج إلى التخصص، ولاسيما في ظل الاتساع المستمر للعلوم والخبرات.
السؤال الرابع: يُلاحظ انخفاض المستوى العلمي عامة لخريجي الجامعات وخريجاتها .. ماهي الأسباب؟ وألا ينعكس هذا على مستوى الداعية العلمي والثقافي ؟
قد لا يكون من المهم أن نتحدث هنا عن أسباب انخفاض المستوى العلمي لكثير من جامعاتنا، فهذا حديث طويل، لكن لا نختلف أن انخفاض مستوى الجامعات، يؤدي إلى انخفاض مستوى خريجيها، هذا شيء ملموس ومفهوم.
و لا بد من أن يخضع المشتغلون بالدعوة والذين يتم إعدادهم لممارستها إلى برامج خاصة، إذ إن الجامعات لا تقدم كل شيء، ولابد من تدريب وتعليم مكمل لما تفعله الجامعات.
السؤال الخامس: تطرقتم في كتابكم ( تجديد الوعي ) إلى تنمية المرأة، هل يمكن إعطاء القراء فكرة موجزة عما تقصد بتنمية المرأة ؟
أشرتُ في كتابي تجديد الوعي إلى أننا قصرنا في مساعدة المرأة على ممارسة واجباتها الشرعية الاجتماعية، وعلى القيام بدور فعال في تقدم المجتمع، والمقصود بتنمية المرأة:
عمل كل ما من شأنه الأخذ بيدها لتكون زوجة صالحة وأماً فاضلة، وداعية ناجحة، وساعية في صلاح المجتمع .
إن على المرأة أن تخدم الأمة، وتخدم الملة والدين، كما يفعل الرجل، ولكن ضمن الضوابط الشرعية المعروفة في مجال الحجاب، والاختلاط بالرجال، وفي نطاق مسؤولياتها الأسرية... والمسألة واضحة.
السؤال السادس: ألا ترى، ونحن في عصر العولمة، والغزو الفكري، أنه من المهم أن تكون الداعية على وعي كامل بما يجري حولها ؟
لا نستطيع أبداً أن يكون وعينا كاملاً بما يجري حولنا، فمعرفة البشر بالواقع ستظل منقوصة، لكن تحسين وعي الداعية بما يجري حوله شيء مهم جداً لأن التطورات الكثيرة التي تجري في المجالات المختلفة ـ تغيِّر في ترتيب الأولويات وتوزيع الاهتمامات لدى الدعاة ولدى غيرهم.
وهذا يجعلني أؤكد على موضوع التخصص، حيث إن من الصعب فهم الواقع من غير تخصص.
وأعني هنا بفهم الواقع على نحو مركَّز:
فهم واقع المدعوين واحتياجاتهم الدعوية والحياتية العامة، وفهم الظروف التي تؤثر في توجهاتهم واختياراتهم، إلى جانب فهم المشكلات التي يعانون منها، وامتلاك رؤية لمساعدتهم في حلها.
السؤال السابع: من وجهة نظركم: هل تؤيد أن الكلام النظري هنا وهناك حول المرأة والثقافة و...إلخ لا يستطيع أن يقف أمام التدفق الإعلامي، والفضائيات الفاسدة ؟ و ما هي الحلول العملية تجاه هذا الواقع المؤلم ؟
الكلام النظري جيد من أجل تكوين الوعي والمعرفة، لكن حين يكون مصدر بياناتك هو قنوات فضائية سيئة ومتكاثرة، فإن مجرد الكلام طبعاً لا يكون كافياً.
في معالجة الدفق الإعلامي السيئ لابد من اتباع ما نسميه ( الحلول المركبة ) مثل:
عدم إدخال القنوات السيئة إلى البيوت، وتقليل ساعات الجلوس أمام التلفاز، وتكثيف البرامج التي تساعد الناشئة على تنمية شخصياتهم بعيداً عن التلفاز، والعمل على إيجاد بدائل إعلامية نقية.
إن إقبال كثير من الناس على مشاهدة الفضائيات نابع من الفراغ الفكري والروحي الذي لديهم، وما لم يتم ملء هذا الفراغ بشيء جيد، فإن مشاهدة القنوات لن تتراجع.
السؤال الثامن: ألا تلاحظ أن دور المرأة في الدعوة إلى الله فيه قصور كبير، ما هو السبب في رأيك ؟
سبب قصور الدور الدعوي للمرأة هو عدم الاهتمام بإعدادها، وعدم وجود تقاليد علمية واجتماعية تدفع بالمرأة إلى القيام بنشر العلم الشرعي على نطاق واسع بين بنات جنسها، حيث إن هناك تخوفاً مستبطناً وغير مبرر من أن يؤدي قيام المرأة بدور اجتماعي وثقافي واسع إلى إهمالها لواجباتها الأسرية، وإلى تجاوز الضوابط الشرعية الخاصة بحركة المرأة في المجتمع.
ثم إن ( الكيف ) لا يأتي إلا بعد ( الكم )، فما دام عدد الداعيات محدوداً، فمن الصعب أن نرى تفوقاً ظاهراً لأعداد كبيرة من الداعيات.
ولكل قاعدة استثناء.
السؤال التاسع: ما نصيحتك، وأنت المفكر والداعية، للمرأة الداعية، حتى تكون على مستوى جيد وعياً وفكراً وثقافة ؟
الذي أود أن أقوله هو: أن علينا أن ننشر فكرتين أساسيتين، الأولى:
أن الدعوة إلى الله تعالى شرف عظيم، ومنة كبرى يمن بها الله على من يشاء من عباده، وهي إلى جانب ذلك مهمة عامة، حيث ينبغي على كل مسلم أن يدعوا إلى الخير، وينشر المودة، ويهدي إلى الرشاد، ويعمل على محاصرة الشر والمنكر على قدر استطاعته وحسب ظروفه.
الثانية:
هي أن حاجة الأمة ماسَّة إلى دعاة وداعيات يحملن رؤية شاملة وعميقة للمهام الدعوية، حيث إن عدم وجود خبرات دعوية عالية في الساحة، يلحق أشد الأضرار بالعمل الدعوي وبالمسلمين عامة.
ونحن نحتاج في هذا السياق أن نركز على عدد من الأمور:
1- الثقافة الشاملة، والخلفية التاريخية والفقهية، وفهم الواقع على قدر الإمكان شيء مهم جداً بالنسبة إلى الداعية.
2- معرفة ممتازة بسنن الله تعالى في الخلق، وفهم جيد بطبائع الأشياء، وخصائص كل مجال من مجالات الحياة.
3- إخلاص وصدق وعزيمة وثقة بالله تعالى وبكرمه من غير حدود، إلى جانب الصبر على مشاق الطريق وتكاليف الدعوة.
4- حب الناس، والعطف عليهم، والحرص على هدايتهم.
5- دماثة الخلق والرقة واللطف واحترام الآخرين.
6- البعد عن العصبية الحزبية، وإشاعة روح التعاون والإعذار، وتقدير الاجتهادات المختلفة.
7- التركيز والتخصص والتعمق في شيء ما، أمور مهمة للنجاح.
8- تدعيم الجانب الروحي؛ لأن طبيعة العمل الدعوي استهلاك للطاقة الروحية لدى الداعية، وليس أحب إليَّ في هذا من الإكثار من الثناء على الله تعالى ومناجاته والتذلل بين يديه وتملقه وطلب كل شيء منه قل أو كثر.
السؤال العاشر: هل من رسالة تود أن توجهها للمرأة المسلمة من خلال موقع دعوتها ؟
أختي المسلمة:
هذه الدنيا دار ابتلاء، ووجودنا فيها عابر ولا ندري متى تنتهي الفرصة الممنوحة لنا، فلنجتهد في تقديم شيء نجده نوراً بين يدينا يوم نكون بين يدي الله تعالى .
وأنت أختي المسلمة ضمير هذه الأمة وروحها وسر جمال الحياة، وسر تراحم مجتمعها، فكوني عند حسن الظن بك، ولا تحتقري نفسك، فأنت شيء كبير جداً، وتستطيعين فعل الكثير الكثير.
والله مولانا ونعم المولى ونعم النصير.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
=================(1/276)
(كيف) مصدر هموم
عبد الكريم بكار - 27/04/2005 - [قضايا الأمة] - عدد القراءات:"345"
شيء مهم أن نعرف ماذا نقول، وأن نعرف ماذا نريد؛ لأن كثيراً من الناس لا يعرفون ما الصواب الذي عليهم أن يتحدثوا عنه، ولا الأشياء التي يريدون لها أن تتحقق. وأعتقد أن المفكر الذي تعود التفكير والتنظير والتعليل تنتهي مهمته عندما يشعر أنه وضع النقاط على الحروف فيما يجب أن يجلوه من مسائل، وقل نحو ذلك في الداعية الذي جعل شعاره في التبليغ: (قل كلمتك وامش) فإنه يقنع بقول ما يود قوله. والأمة بحاجة إلى هذا وذاك؛ لكن الإصلاح يتطلب في الحقيقة ما هو أكثر من ذلك: إنه يتطلب توفير الشروط والنظم والقوانين والأساليب والظروف التي تساعد الناس بطريقة أو بأخرى على الاستقامة وعلى الاستجابة لنداءات الدعاة وتوجيهات المربين ومناشدات المخلصين...
توفير الأمور التي ذكرناها يعني توفير (بيئة صالحة) بأوسع ما تحمله هذه الكلمة من دلالات. دعونا نقول: إنه على مدار التاريخ كان لدينا نقص مريع في التنظير للبرامج والكيفيات والوضعيات والأطر التي تجعلنا ننتقل من مرحلة الكلام إلى مرحلة العمل؛ في الوقت الذي نشكو فيه من فائض في القوة عما يجب فعله، وعما يجب تركه والإقلاع عنه، وربما كان ذلك بسبب تأثير من بعض المفاهيم الجاهلية والفلسفة اليونانية حيث الجنوح إلى الحلول النظرية وكراهة الانهماك في التقنيات وفي الأعمال اليدوية والتنفيذية، وقد تركت هذه الوضعية أسوأ الآثار في قدرتنا على التخطيط للبرامج العملية وفي رصيدنا من الأطر والشروط التي تحوّل الكلام إلى خطوط حركة يومية! وكم رأينا من الدعاة الذين ينتزعون الإعجاب عندما يتحدثون عن القيم والمبادئ والآمال والجراحات؛ لكن سرعان ما يفقدون كل ذلك عندما يقال لهم: كيف يمكن تحويل هذه الأفكار الجميلة إلى واقع معيش؟!
السؤال عن (كيف) يشكّل مصدر همّ وقلق وإثارة للكبار الذين انتهوا من تحديد ملامح الوضعية التي يجب أن تكون فيها الأمة، وباتوا يشعرون بضرورة الانتقال إلى إيجاد الآليات والوسائل التي تساعد الناس على الارتقاء نحو الوضعية المنشودة.
المصلحون المدركون لتكاليف ذلك ومشاقه لا يكفّون عن طرح الأسئلة ومحاولة الإجابة عليها، ومن تلك الأسئلة:
- كيف نستطيع أن نحول دون استثمار التفوق المعنوي والمادي بطرق غير مشروعة؟
- كيف يمكن أن نجمع بين مستوى جيد من الحرية الفردية والعدالة الاجتماعية؟
- كيف نستطيع جعل الناس يبصرون الخط الضيّق الذي يفصل بين النجاح واللصوصية، والخط الفاصل بين الزهد وبين العجز والعيش على هامش المجتمع، والخط الفاصل بين القوة والثقة بالنفس وبين البغي والأنانية...؟
- كيف نستطيع أن نستفيد من تقدم الغرب دون أن نغرق في ثقافته؟
- كيف نستطيع تحقيق معنى الأمة الواحدة في ظل العولمة حيث السعي إلى تمزيق كل الروابط التي تقوم على العقيدة؟
- كيف يمكن أن نوجه النقد إلى بعض إنجازاتنا التاريخية دون أن نشعر بالاغتراب وتشتت الجذور؟
- كيف يمكن للخطاب الدعوي أن يجمع بين الجاذبية والالتزام؟
- كيف يمكن الحفاظ على التألّف الروحي في ظل حياة مترفة؟
- كيف يمكن أن نضبط مقادير الضغط الاجتماعي على نحو لا يؤدي إلى شيوع النفاق والفساد الداخلي؟
إن التساؤل حول هذه الأمور هو بداية لا بد منها لتطوير حساسيتنا نحوها. ومهما ظننا أن الأجوبة والسبل العملية التي نكتشفها جيدة وموائمة فإن التطبيق وحده هو المحك الذي يكشف عن مدى صوابها ونجاعتها، وإن كل حل عملي وكل إطار تطبيقي يمكن أن يفقد مع الأيام فاعليته واتزانه، ويصبح في حاجة إلى تعديل واتزان جديد؛ وذلك لأن العناصر المشكّلة للبيئة في حالة من التغير الدائم، مما يجعل الحلول والأطر المقترحة لا تحتفظ بملاءمتها.
لنحاول الخلاص من التلهي بشرح ما بات معروفاً للصغير والكبير، والضرورة إلى تحويله إلى شيء ملموس يسعد الناس بالعيش في ظلاله.
ولله الأمر من قبل ومن بعد.
* المصدر: موقع مجلة البيان
===============(1/276)
عقدة النسيان
/ د. عبدالكريم بكار
16-5-1425 هـ
فعقولنا تميل إلى عدم تصديق ما يطرح من أفكار نهضوية وعدم الاهتمام به والتفاعل معه ما لم نره مجسَّداً في نموذج بشري
لست أدري متى سنبصر طريقنا إلى التخلص من أدوائنا القديمة التي حولتنا من أمة تقود الأمم إلى أمة تستجدي الشعوب في لقمة عيشها وفي أمنها وفي تنظيم شؤونها ؟ ولعل من أدوائنا القديمة الاستسلام للَّحظة الراهنة ؛ فنحن نستمتع ونهجع ونأكل ونلعب كلما أتيح لنا ذلك غير آبهين بما يأتي به الغد ولا مكترثين بما يتطلبه ما بعد الغد !
إن القرآن الكريم حين أمرنا بإعداد العدَّة كان يستهدف إخراج المسلم من ضغوطات الساعة الحاضرة ، لتنفتح له آفاق المستقبل . والتخطيط في حقيقة الأمر يعني الحصول على شيء من هذا ؛ حيث إنه يساعدنا على توظيف إمكاناتنا الحاضرة في مشروعات تستهدف تحسين أوضاعنا في المستقبل . وهذا يستوجب ألاّ نهدأ حين يتاح لنا الهدوء ، ولا نغفل في أيام الرخاء . وهذا ما تفعله الدولالعظمى والأفراد المتفوقون
قد أثبتت كل الأحداث التي وقعت في العقدين الماضيين أن أعداء هذه الأمة ومنافسيها يعتمدون في الكيد لها واستغلالها على عقدة النسيان لديها ، وعلى كون تحركاتها لا تنبثق من رؤيتها للمستقبل ، وإنما من مواجهة مشكلاتها الآنية . ولذا فإننا أصبحنا ألعوبة في أيدي الآخرين ؛ إذ ما عليهم حتى يُنسونا ما نحن منهمكون فيه إلا أن يخترعوا لنا مشكلة جديدة فننسى القديمة ، وننطلق نحو معالجة الجديدة بنفس الحماسة التي كنا نعالج بها المشكلة القديمة ، وبذلك ننسى الذين ورَّطونا في المشكلة القديمة والذين ورّطناهم أيضاً ! إن كثيراً من مشكلاتنا الفردية والجماعية ناشئ من قصور في المفاهيم لدينا ؛ فنحن كثيراً ما نظن أن توفير أكبر عدد ممكن من الأفكار والرؤى والطروحات يكفي للإصلاح والتقدم . ومع أن مثل هذا شرط لا يستهان به ، لكنه ليس الشرط الوحيد ؛ فنحن إذا عمقنا النظر في تجاربنا ، وفي تجارب الأمم من حولنا ، وجدنا أن أكثر ما يرتقي بالأمم أمران : النماذج . والمؤسسات .
فعقولنا تميل إلى عدم تصديق ما يطرح من أفكار نهضوية وعدم الاهتمام به والتفاعل معه ما لم نره مجسَّداً في نموذج بشري ، فينتقل ما كان يُنظر إليه على أنه مثالي جداً أو صعب التحقيق من حيز غير العملي إلى حيز الممكن الذي يقع ضمن المكنة والطاقة ، ولعل هذه هي الحكمة من وراء عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وتجسيدهم لما يدعون إليه في سلوكهم . وهكذا المسلمون اليوم يحبون أن يروا نماذج راقية تتحرك على الأرض في كل اتجاه من اتجاهات الحياة : العلم والخُلُق والإدارة والسياسة والإنتاج والعلاقات الاجتماعية .. وعلى مقدار ما يتوفر من نماذج راقية يندفع الناس في طرق الصلاح والإصلاح ، وإن لم يكونوا مفكرين أو مثقفين أو فقهاء
أما المؤسسات فإنها تشكل أطراً لتخريج النماذج ، كما أنها تنسف الجهود المبعثرة ، وتتيح لكثير من المشروعات أن يستمر فترات طويلة . وإن في شباب الأمة الكثير والكثير من الرغبة في الخير والعمل ، ولكنهم لا يجدون المؤسسات التي ترسم الأهداف ، وتمهد الطريق ، وتوفر لهم التدريب ، وتعينهم على أنفسهم .
إذا أردنا لهذه الأمة أن تنهض فلنركز على إيجاد أكبر عدد ممكن من النماذج الرفيعة والمتفوقة ، وأكبر عدد ممكن من المؤسسات ذات الاهتمامات الجزئية والمتخصصة ؛ فبذلك وحده نتعلم العمل في أيام الرخاء لأيام الشدة ، وبذلك تتحول العواطف النبيلة من كونها فورة مؤقتة إلى وقود لإنجاز الأعمال الجليلة
قلم / د . عبد الكريم بكار
================(1/276)
التنقيب المعرفي
عبد الكريم بكار
2007-07-21
امتلاك أكبر قدر من المعارف الصلبة في كل مجال من مجالات الحياة هدفنا، وهو في الوقت نفسه وسيلتنا إلى الشعور بالأمن والاطمئنان في ظل اضطراب كوني لم يسبق له مثيل. وهو وسيلتنا أيضًا إلى جعل منة (التسخير) تتجسد في المزيد من تحكم الإنسان ببيئته ومحيطه.
كشف المجهول:
التنقيب المعرفي هو محاولة لاجتراح الحقائق المنثنية والمحتجبة، ذلك الاجتراح مهما بلغ من الحرفية والعمق، فإنه سيظل قاصرًا عن بلوغ أقصى طبقات الحقيقة حيث قضت مشيئة الله - تعالى - أن يظل في كل مخلوق عنصر غيبي تتقاصر أذهاننا عن الإحاطة به، لكن حسبنا أن نقلل نسبة المجهول في كل قضية نعاني معالجتها.
من خلال المزيد من البحث قد نصل إلى المزيد من الإدراك للموازنات العميقة التي بثها الخالق - جل وعلا - في هذا الوجود كما أننا من خلاله نحمي أنفسنا من شرور الرؤى المبتسرة والجزئية والسطحية والمغالية، حيث ينجذب عقلنا الباطن إلى ذلك على نحو عجيب! ونحن بعد هذا وذاك محتاجون إلى التنقيب المعرفي كي نكشف خصائص الأشياء، وكي نثري حياتنا بالمزيد من المفاهيم التي تمكننا من معرفة أكبر قدر ممكن من العلل والأسباب وأكبر قدر ممكن من العلاقات الأفقية التي تربط بين مفردات الوجود. وبذلك يجد العقل الكثير من الأدوات التي يستعين بها على طرح البدائل وفتح حقول جديدة للفهم والممارسة.
الحفر المعرفي شاق وشاق جدًا ولن نستطيع المضي فيه والاستمرار في معاناته من غير توفر بعض الحوافز والشروط التي تجعلنا نشعر بالرغبة للقيام به أو بالاضطرار إليه، وتلك الحوافز والشروط متعددة، لعل من أهمها:
الحقيقة أكثر عمقاً:
حب اكتساب المعرفة والشغف بالوصول إلى طبقات الحقيقة الأكثر عمقًا، حيث يفقد معظم الناس ذلك الشغف، ويكتفون بالمعطيات والمدركات الأولية لكل قضية يبحثونها، فيكون ما يحصلون عليه أشبه بما يحصل عليه صياد يلقي بشباكه في المياه الضحلة قرب الشواطئ. أما الدرر والصيود الثمينة، فلا يصل إليها إلا أولئك الذين يبحرون في الأعماق، ويركبون لذلك الأخطار.
أهمية التخصص:
من غير التخصص والتخصص الدقيق لن يكون هناك تنقيب معرفي حقيقي، حيث يتطلب بلوغ قاع الحقيقة ـ إن كان لها قاع ـ نوعًا من التوظيف الرأسي المكثف للعقل والخبرة. لا ريب أن على المتخصص أن يتزود بالكثير من المفاهيم والمعلومات التي تنتمي إلى علوم شتى، لكن منطقة العمل ينبغي أن تكون محددة وصغيرة وإلا فلن يستطيع الحصول على شيء ذي قيمة.
أدوات التنقيب المعرفي:
على مدار التاريخ كان الوصول إلى الحقائق العميقة، وكان حل المشكلات المعقدة منوطًا بالعثور على المنهج الملائم والأدوات الملائمة للتعامل معها. المنهج المطلوب لمعالجة مشكلة البطالة ـ مثلاً ـ غير المنهج المطلوب لمعالجة قضية فقهية أو لغوية أو تقنية. والأدوات والوسائط المعرفية والتقنية التي يجب استخدامها هي الأخرى مختلفة ومتباينة.
من المؤسف أن حلقة (مناهج البحث) من أضعف حلقات سلاسلنا العلمية. والجهود المبذولة لدينا لبلورة مناهج بحث جديدة محدودة للغاية. والنتائج تدعو إلى الإحباط. وذلك قد يعود إلى قلة الذين يشتغلون بالتخصصات المعرفية الدقيقة، وإلى ارتباكنا في التعامل مع المسائل المتصلة بالفلسفة وتلك التي تتطلب خلفيات ثقافية عريضة ومنوعة.
معرفة السنن:
معرفة السنن الربانية المتعلقة بالقضية موضع البحث أمر حيوي للغاية، حيث إن من شأن السنن أن توضح لنا الثوابت التي تمنح الأشياء طبيعتها، كما توضح لنا منطق الأشياء، أي اتجاهات تطورها. ومع أن امتلاك أكبر قدر من المعلومات حول الظاهرة أو القضية موضع التنقيب يعد أمرًا في غاية الأهمية إلا أن معرفة السنن تظل أهم، لأنها تمنح رؤية كلية، على حين تمنح المعلومات رؤى جزئية مشتتة، ولأنها أيضًا تظل أبعد عن قبول التزييف والمتاجرة، وليس كذلك الشأن في المعلومات.
المقارنة تغني الوعي:
من أدوات التنقيب المعرفي (المقارنة) حيث تتوقف درجة الوعي بالكثير من الأشياء والظواهر والمشكلات على درجة وعينا بالأشياء المماثلة والمضادة، فعقولنا ليست مؤهلة لإدراك الوجود الأعمق للأشياء المعزولة عن أمثالها وأضدادها، فنحن لا نستطيع إدراك مستوى الفقر أو الأمية أو التنظيم أو العدل الموجود لدينا من غير مقارنته بما لدى الأمم الأخرى. من شأن المقارنة التأسيس لعلوم جديدة، ومن شأنها كذلك تشغيل الجهاز العقلي لإنتاج مستويات من الإدراك أكثر عمقًا وشمولاً لكثير من القضايا موضع البحث والنظر.
التنقيب عن المفاهيم والمعاني والحفر حول الجذور والعلل والنتائج والعلاقات وخصائص الأشياء أهم من التنقيب عن النفط والذهب، وقد باتت هذه الحقيقة أشد تألقًا حيث باتت المفاهيم والمعارف تشكل رأسمال التقدم الإنساني بكل أشكاله وأبعاده.
================(1/276)
كيف تصبح معلما ناجحا ؟
مرحبا بالجميع
حضرت ندوة أقامتها المنطقة التعليمية بعنوان(كيف تصبح معلما ناجحا؟)، حاضر فيها موجه اللغة العربية الأستاذ الفاضل: أحمد أبوطالب، وسأنقل لكم بعض ماجاء فيها لتعم الفائدة إن شاء الله.
حتى تصبح معلما ناجحا عليك أن تحرص على أمور منها:
1- الإلمام بعلم النفس التربوي.
أ- معرفة خصائص مراحل نمو التلميذ في كل مرحلة لتقديم الخبرات في الوقت المناسب.
ب- التعرف على دافعية السلوك وكيفية الاستفادة من دوافعه المختلفة لتحسين إقبال التلاميذ على التعلم بشوق،
جـ - دراسة الفروق الفردية بين المتعلمين من حيث النشأة الاجتماعية والاقتصادية.
د- القدرة على حل المشكلات ، بحيث يتعامل مع التلاميذ كأبناء ويبتعد عن الندية والجفاء والعنف.
2- سيكولوجية المعلم.تنعكس شخصية المعلم واتزانه وحسن تصرفه سلبا أو إيجابا على تلاميذه.
3- الحس الطبيعي للتدريس.على المعلم أن يكون قادرا على تحقيق الأهداف العامة والخاصة للتربية، وأن يكون أداة توصيل فاعلة بين الهدف والمتعلم.فالمعلم الناجح يولد ليكون معلما.
4- إعداد المعلم تعليميا وتربويا .يجب أن يكون المعلم مؤهلا ليصل إلى مرحلة الإعداد المناسب مهنيا، ويكون مدركا لأصول التربية الحديثة ليستطيع تحقيق جوانب التربية.
5- فاعلية المعلم وتقويم عمله وقياس مدى نجاحه في مهمته.يقوِّم المعلم نتاج عمله ويحدد الإيجابيات التي نجح في تحقيقها أو السلبيات التي قصر في أدائها.
يقول الطنطاوي في ذكرياته 6/237(ثلاثة شروط لنجاح المعلم :
أولها : استيعاب المادة التي يدرسها ، والإحاطة بها ، والرجوع إلى كل كتاب يصل إليه من كتبها ، لا يقتصر على الكتاب المقرر .
أما في الجامعات فلا يجوز أن يقرر للطلاب كتاب بعينه لا يرجعون إليه ولا يأخذون إلا منه ، ومن يفعل ذلك من الأساتذة يكن معلم مدرسة ابتدائية لا أستاذا في جامعة.
الثاني : أن يسلك إلى أفهام الطلاب كل سبيل فإن ساق المسألة بعبارة لم يفهموها بدّل العبارات حتى يصل إلى العبارة التي يستطيعون أن يفهموها ، وما دامت مسائل العلم في ذهنه ، وكلمات اللغة بين يديه ، سهل ذلك عليه .
لما جاءتنا هذه الرياضيات الحديثة نقل بعض الأساتذة منا ما قاله غيرنا ، فما فهمنا عنهم ، وما أحسب أنهم هم فهموا ما نقلوا ، فجاء أخي الدكتور عبد الغني فشرحها في كتابه الذي وضعه لطلابه في جامعة دمشق من أكثر من عشرين سنة فإذا هي مفهومة واضحة .
أما الشرط الثالث فهو : أن يكون طبيعيا ، فإن لم يعرف المسألة قال للطلاب : إني لا أعرفها ، وإن أخطأ قال لهم : إني أخطأت فيها . أهـ
وقد أضاف الشيخ رحمه الله في الرائي (التلفزيون) شرطا آخر
وهو : أن يكون عادلا فلا يحابي أحدا لا لجماله ولا لغناه ولا لوجاهة أبيه ...
تتكون العملية التعليمية من عدة عناصر منها المعلم والطالب والمنهج وغيرها، وإذا كان المستهدف من العملية التعليمية كلها هو الطالب، فإن أهم عوامل نجاح هذه العملية هو المدرس الكفء الذي يؤدي مهمته بأمانة وعلم وقدرة، و مهما أُنفق على العملية التعليمية من مال وهُيئت لها من أسباب إلا أنه لا يمكن الحديث عن أي تقدم للمجتمع دون النهوض بالمعلم ورفع كفاءته، فللمعلم دوره الأساسي في العملية التربوية والتعليمية، ولأهمية دور المعلم كان لا بد من توافر شروط ومميزات في شخصيته ليستطيع القيام بهذه المهمة بصورة جيدة تؤدي إلى تحقيق الأهداف المرجوة.
حول صفات المعلم الناجح يقول الدكتور/ عبد الكريم بكار: إن من بين الصفات الواجب توافرها في المعلم:
1- الثقافة:
حيث إن العمل الأساسي للمعلم هو نقل المعرفة من مصادرها ومراجعها إلى الطلاب بشكل منظم؛ لذا فالمعرفة بالنسبة إليه كالبضاعة بالنسبة للتاجر؛ فالمعلم بحاجة إلى المعرفة الواسعة من أجل إثبات وجوده وتحقيق ذاته.
2- القدوة:
ذلك أن وثوق الناس بالمعرفة يرتبط كثيراً بمدى ثقتهم بمن يحمل هذه المعرفة، وانطلاقاً من هذا؛ فإن انسجام المعلم مع طبيعة المعرفة التي يقدمها ومع طبيعة المهمة التي ندب نفسه إليها يعد شرطاً لا غنى عنه لنجاحه في عمله.
فالقدوة تتمثل في كل جوانب السلوك، وفي كل تصرفات المدرس مع طلابه وغير طلابه. ذلك لأن المعلم مرب.
3- التربية:
وحتى ينجح المعلم في أن يكون مربياً؛ فإن عليه أن يتمثل شخصية الأب الواعي، ويحاول أن يتصرف مع طلابه كما يتصرف الأب مع أبنائه.
أما الشيخ محمد بن عبد الله الدويش فيقول: "إنه ينبغي للمعلم أو المربي لكي ينجح في أداء مهمته أن يتوافر فيه عدد من الصفات، من أهمها:
* القدرة على بناء العلاقات الإنسانية:
ذلك أن التلقي فرع عن المحبة، وللعلاقة بين التلقي والمحبة من الاتصال قدر كبير مما قد نتصور أحياناً، فمن لم يغرس المحبة في نفوس الطلاب فكثير مما يقوله ستكون نهايته عندما يتلفظ به، ولن يأخذ طريقه نحو القلوب فضلاً عن أن يتحول إلى رصيد عملي.
* الاستقرار النفسي:
حيث إن المربي يتعامل مع الناس ومع الطبيعة الإنسانية المعقدة فلا بد أن يملك قدراً من الاستقرار النفسي فلا يكون متقلب المزاج سريع التغير مضطرباً أو يعاف من وحدة انفعالات أو سوء ظن وحساسية مفرطة، فضلاً عن بعده عن الأمراض النفسية.
* التوازن الاتصالي:
حيث إن التربية ليست عملاً من طرف واحد، وليست تعاملاً مع آلة صماء ومن غير المقبول أن يحول المعلم الطالب إلى شخص مهمته أن يحسن الاستماع والاستقبال فحسب،بل لابد من قدر من التوازن الاتصالي؛ فالتربية عملية اتصال بين طرفين.
أخي المعلم: هذه بعض الصفات التي يرى خبراء التربية ضرورة توافرها في من يتصدر لحمل مهمة ورسالة النبي - صلى الله عليه وسلم- "إنما بعثت معلماً".
ويفصل الأستاذ/ علي لبن (الخبير التربوي، وعضو مجلس الشعب المصري) ؛ فيقسم صفات المعلم إلى قسمين:
صفات شخصية، وصفات مهنية.
فمن الصفات الشخصية التي يجب توافرها في المعلم الناجح:
1- أن يكون محباً لمهنته، ولوعاً بها، يؤدي عمله بشوق وشغف ونشاط، فيتابعه تلاميذه بنفس الشوق والنشاط.
2- أن يكون متواضعاً في غير ضعف، عطوفاً في حزم وكياسة، متحرراً من عقدتي الدونية والتعالي، يعرف متى يكون مرحاً، ومتى يكون جاداً.
3- صحته الجسمية وحيويته، وسلامة حواسه، وغير ذلك مما يساعد على تأدية رسالته.
4- صحته النفسية واتزانه الانفعالي، بحيث لا يسهل مضايقته، ولا تبدو صورته المزاجية هوجاء منفرة؛ لذلك يجب على المدرس أن يجاهد نفسه من أجل إكسابها فضيلة الصبر وسعة الصدر والجلد والوقار والاطمئنان وغيرها، مما يبعث في نفوس التلاميذ السكينة والإشراق.
5- أناقته ونظافته، وطيب رائحته، وحسن هندامه، وجاذبية مظهره؛ تعظيماً للعلم والعلماء.
روى الإمام مالك أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ أشار إلى رجل ثائر الشعر واللحية وكأنه يأمره بإصلاح شعره، ففعل الرجل ثم رجع في هيئة حسنة فقال النبي - صلى الله عليه وسلم-: "أليس هذا خيراً من أن يأتي أحدكم ثائر الرأس كأنه شيطان".
6- فصاحته وجودة نطقه، ووضوح صوته، وقوة بيانه، وجمال تعبيره، وتسلسل حديثه،وإخراجه الحروف من مخارجها، وتنوع نبراته، ولهجته الطبيعية، وخلوه من "اللازمات" وحبسه اللسان... وغير ذلك.
7- ذكاؤه وفطانته، وسعة أفقه، وبعد نظره ويقظة عقله؛ ليمكنه معالجة مشكلات التدريس بحكمة.
8- فهمه لتلاميذه، ومعرفته بأسمائهم ومشاركته في حل مشكلاتهم، وسعيه في مصالحهم، وعدم التحيز في معاملتهم، خاصة عند فض منازعاتهم، استجابة لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: "اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم"،كل ذلك يوطد علاقته بهم،ويكون من أهم أسباب نجاحه.
وفي هذا يقول الإمام ابن جماعة: "إذا غاب بعض الطلبة غياباً زائداً عن العادة سأل عنه معلمه أو قصد منزله بنفسه؛ فإن كان مريضاً عاده، وإن كان في حاجة أعانه، وإن كان في غم خفض عليه، وإن لم يكن شيء من ذلك تودد إليه ودعا إليه.
9- تمكنه من مادته؛ لأن أخطاءه تقلل من ثقة تلاميذه به، وتجعلهم لا يهتمون بالتحضير لمادته.
10- سعة اطلاعه؛ فلا يكتفي بالكتاب المدرسي حتى لا يهبط مستواه إلى مستوى تلاميذه، بل عليه مداومة الاطلاع على كل جديد، أو ما يدعم مهنته؛ كعلم النفس والتربية، أو طرائق التدريس وغيرها، حتى يظل دائماً في مستوى ثقافة عصره.
11- المحافظة على مواعيد المدرسة واحترام لوائحها، والالتزام بمتطلبات مهنته عن حب ورغبة داخل الفصل وخارجه.
12- التودد مع زملائه والبعد عن المشاحنات؛ دمث الخلق، متأدباً في ألفاظه بعيداً عن الغيبة والقول الذي يؤذي الآذان؛ لقوله_ تعالى_: "قل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم...".
13- الاختلاط بالناس ومشاركتهم في الحياة الاجتماعية، ولذلك يرى الإمام ابن جماعة "أنه ليس أضر على المعلم من الزهد في مصاحبة الناس، والبعد عن حركة الحياة العامة".
14- أن يكون عارفاً بأمور دينه متمسكاً، بها محافظاً على تأدية الشعائر آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر، لا يخشى في الله لومة لائم، وفي ذلك يقول أبو اسحق الجبنياني: "لا تعلموا أولادكم إلا عند رجل حسن الدين؛ لأن دين الصبي على دين معلمه". كما يقول الصحابي عتبة بن أبي سفيان لمعلم ولده: "ليكن أول إصلاحك لولدي إصلاحك لنفسك؛ فإن عيونهم معقودة بعينك، فالحسن عندهم ما صنعت والقبيح عندهم ما تركت".
15- أن يكون مخلصاً؛ فيجعل تدريسه ابتغاء وجه الله _تعالى_، ودوام ظهور الحق وخمود الباطل، وكثرة العلماء؛ فيضحي بوقته وراحته في سبيل رسالته؛ كيف لا وهي أشرف رسالة عرفتها البشرية رسالة الأنبياء والمرسلين؟!
وقد أشاد القرآن الكريم برسالة المعلم في قوله _تعالى_: "ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون" فانظر كيف كرم الله المعلم فنسبه إليه _تعالى_، فسماه ربانياً، والرباني هو المنسوب إلى الرب - كما يقول سيبويه-، والإخلاص هو الذي يجعل المعلم ربانياً، وبالتالي يجعل طلابه ربانيين، يرون آثار عظمة الله في كل ما يدرسون، ويخشونه ويحسبون الحساب ليوم الجزاء.
أما الصفات المهنية للمعلم؛ فمنها (والكلام للأستاذ علي لبن):
1- احترام شخصية التلميذ؛ وذلك بمراعاة حاجاته واهتماماته وحقوقه وأيضاً، معرفة قدراته وإمكانياته ليمكن توجيهه على أساس ذلك.
2- القدرة على ضبط الفصل.
3- إتاحة الفرصة للتلاميذ كي يتحدثوا هم معظم الوقت؛ فحديثهم يفوق حديث المدرس في أهميته؛ لأنهم يتعلمون من أخطائهم أكثر من تعلمهم من المدرس وهم صامتون.
4- تشجيع التلاميذ على المساهمة في النشاطات المدرسية؛ لأن شخصية الطفل تظهر على حقيقتها أثناء انطلاقه في اللعب والنشاط الحر، وذلك مما يساعد في التعرف على خلفياته، وتفهم مشكلاته وتحريره من المخاوف والضغوط.
5- مراعاة الفروق الفردية.
6- حسن التعامل مع السلوكيات غير اللائقة، وفي هذا يقول عتبة بن أبي سفيان لمعلم ولده: " قومه ما استطعت بالقرب والملاينة؛ فإن أباهما فعليك بالشدة والغلظة"
7- التشجيع على حسن الأدب والجد والاجتهاد في الدراسة؛ وذلك بالشكر والثناء والقبول والاستحسان، وغير ذلك مما يدفع التلميذ إلى المزيد من النجاح.
8- لا تكتفي بتدريس مادة الكتاب النظرية معزولة عن تطبيقاتها في الحياة العملية؛ بل تضيف إليها النشاطات التي يمكن بواسطتها تحويل معلومات الكتاب النظرية إلى سلوكيات عملية.
9- تزويد الدرس بمروحات عن النفس؛ كالمرح والطرائف وبعض المزاح لإنعاش التلاميذ، وبث الحيوية فيهم وتجديد نشاطهم على أن يتم ذلك بدون إسراف أو إسفاف، ليكون الجد هو الأصل، وفي هذا يقول الإمام علي: "أعط الكلام من المزح بمقدار ما تعطي الطعام من الملح".
ويذكر الدكتور عبد الكريم بكار بعض الأنماط السلبية للمعلمين، منها:
1- المعلم المهمل:
هو إنسان دخل مهمة التعليم على سبيل الخطأ، وعلاقته بها علاقة شكلية وسطحية؛ فأنت لا تكتشف وأنت تتحدث معه أن له أي اهتمامات بالثقافة أو التعليم أو مستقبل الأجيال. ويظهر إهماله في تحضيره لدروسه، وفي تصحيحه لواجبات الطلاب وأوراق امتحاناتهم، ولا يلقي بالاً لشكواهم، ولا يفكر في أحوالهم.
2- المُعلِّم المستبد:
من سمات هذا الصنف من المُعلمين أنه يفتقر إلى الروح الرياضية والمرونة الذهنية، وهو قوي الإحساس بمركزه وسلطته، ويغلب عليه طابع الحرفية والتمسك بالأنظمة دون أن يأخذ بعين الاعتبار الظروف الخاصة التي يمر بها بعض الطلاب، والهم الذي يسيطر عليه هو إنهاء المناهج؛ فلا يعطي للثقافة العامة وتنمية شخصيات الطلاب ما تستحقه من عناية واهتمام.
3- المُعلِّم الفوضوي:
يسير المُعلِّم الفوضوي في الاتجاه المعاكس للمُعلِّم المستبد، فهو لا يأبه بتوجيهات الإدارة، ولا يلتزم بالنظم المرعية، كما لا يهتم بإنهاء المناهج، ولا يكترث بما يسمى الأهداف التعليمية. وهو يحمل في نفسه نوعاً من الرفض للتقاليد التعليمية المعترف بها. إن الذي يسيطر عليه هو العلاقات الإنسانية مع الطلاب. وحرصه على رضا طلابه ومسامرتهم يقع عنده في المرتبة الأولى، ولهذا فإن المحصلة العلمية التي يحصل عليها طلابه من وراء تدريسه تعد متواضعة.
4- المُعلِّم العادي:
نمط المُعلِّم العادي هو النمط السائد في معظم المدارس، ومستوى ما هو عادي وغير عادي تحدده البيئة التعليمية العامة؛ فالمُعلِّم العادي في دولة متقدمة يختلف كثيراً عن المُعلِّم العادي في بلد متخلف فقير. يحرص المُعلّم العادي على إنهاء المناهج، كما يحرص على تنفيذ التعليمات العليا، لكنه مع هذا يتيح للطلاب نوعاً من المشاركة، كما يتيح فرصة محدودة لطرح الأسئلة، ومعرفته بمادته عادية، واهتمامه بتنمية شخصيته وتحسين فاعليته ضئيل أو دون المتوسط.
فهل ترضى لنفسك أيها المعلم المربي أن تكون من بين هذه الأصناف السلبية؟
نربأ بك عن هذه الحالة
قد رشحوك لأمر لو فطنت له فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
( ملاحظة ليس هذا البحث للدكتور عبد الكريم بكار فقط بل مشترك )
=====================(1/276)
أفكار يجب أن تتغير
(*).. أ.د/ عبد الكريم بكار
للشباب يحيا كل إنسان في بيئة مشحونة بالأفكار والعقائد والتقاليد والرموز والمعلومات، ومن مجموع تلك الأمور تتكون ثقافته العامة، ومن تلك الثقافة تتولد رؤيته لأمور كثيرة، كما تتشكل لديه الصور الذهنية التي يرى من خلالها نفسه والعالم من حوله، وإن كل صورة ذهنية تبدأ بالتشكل نتيجة الخواطر التي يتكرر ورودها على الواحد منها، وكثيراً ما تأتي الأحداث اليومية لتؤكد صحة تلك الخواطر، ومن هنا فإن الواحد منا مطالب بأن يعي الصور الذهنية الخاطئة حتى يتمكن من مجابهة الخواطر التي تؤدي إلى تشكيل تلك الصور وقطع الطريق عليها.
تؤكد الكثير من البحوث التي أجريت في علم النفس المعرفي على أن تتغير الأفكار هو المدخل الصحيح لتغيير الاستجابات الشعورية والسلوكية لدى الإنسان، والحقيقة أن الصور الذهنية التي تحتاج إلى التغيير، أو نحتاج إلى التخلص منها على نحو نهائي كثيرة جداً؛ لكن أكثرها حيوية وتأثيراً في مسار حياتنا الشخصية هي تلك الصور التي كوّناها عن أنفسنا وذواتنا؛ إذ إنها تؤثر على نحو جوهري في أسلوب رؤيتنا للحياة وفي نوعية مبادراتنا ونوعية ردود أفعالنا.
ولعلّي أشير هنا إلى بعض تلك الصور والمفاهيم في الآتي:
1 - كثيرون أولئك الذين تسيطر عليهم مشاعر الإحباط، ومشاعر عدم الأهلية للقيام بالأعمال التي يقوم بها نظراؤهم من الناس؛ ولذا فإنهم بالتالي يشعرون أنهم لا يستحقون النجاح والتفوق، وينعكس هذا الشعور بالضآلة على نفسياتهم وسلوكاتهم، حيث إنك تجد الواحد منهم فاقداً للحيوية، فهو يؤدي أعماله بتثاقل وتباطؤ ومن غير أي حماس أو اندفاع، وإذا بدأ بإنجاز عمل أو مشروع فإنه قلَّما ينهيه، وإذا أنهاه لم ينجزه على الوجه المطلوب، وحين يفكر الواحد منهم، فإن تفكيره يفقد المسحة الإبداعية، ويتسم بالرتابة والتكرار؛ إذ لا حافز يدعو إلى التجديد، وهذا الصنف من الناس كثيراً ما يحدثك عن العقبات التي تعترض سبيله، وكثيراً ما يزعم أنها عقبات طارئة وغير متوقعة.
وأخيراً فإن الذين يفقدون الشعور بالأهلية للقيام بالأعمال الجيدة يحملون في نفوسهم الكثير من مشاعر اللوم للآخرين والعتب عليهم؛ لأنهم في توهمهم يخذلونهم ويحجبون عنهم العون الذي كان ينبغي أن يقدموه إليهم؛ وهذا يؤدي إلى عزلتهم، وابتعاد الناس عنهم مما يضاعف في مشكلاتهم، ويشعرهم بالاغتراب.
أنا لا أشك أن مواهب الناس وإمكاناتهم وظروفهم متفاوتة، لكن أعتقد مع هذا أن هناك دائماً أكثر من طريقة ووسيلة لإدخال تحسينات على كل ذلك، لكن السلبية التي ورثها الكثيرون منا من بيئاتهم تمنعهم من رؤية الآفاق الممتدة التي أمامهم، وأظن أن تخفيض الطموحات سوف يقرب المسافة بين الأهداف وبين الإمكانات المتوافرة، مما يحفز الإنسان على العمل والدأب، كما أن توضيح ما يريده الإنسان على نحو جيد يساعد هو الآخر على إزالة الأوهام التي تعشش في أذهان الناس، وتصبح مصدراً لتوليد الإحساس بصعوبات غير موجودة، ومن المؤسف في هذا السياق أن معظمنا يفكرون غالباً في الأشياء التي لا يريدونها، مما يجعلهم يشعرون بالمشكلات أكثر من شعورهم بالنتائج الجيدة.
أخيراً فإن العزيمة على إنجاز أشياء محددة في زمان محدد، تجعل المرء يضع قدمه على بداية طريق النجاح، وبمجرد أن يشعر بأنه بدأ يتقدم تتولد لديه طاقات جديدة، تساعده على المضي نحو الأمام باطمئنان وثبات.
2 - بعض الناس يحملون صوراً ذهنية مبالغاً فيها حول الكفاءة الشخصية والإنجاز العالي، ويعتقدون أن الإنسان إذا لم يحقق نجاحات كبرى، فإنه لن تكون له قيمة بين الناس، وهذا غير صحيح، فالمرء لا يحترم لإنجازاته فحسب؛ بل إن هناك الكثير من السمات التي ترفع من قدر الواحد منا في عيون إخوانه أكثر مما يرفع النجاح، وذلك مثل: الطيبة والتعفف وحب الخير للناس وبذل المعروف والاستقامة على أمر الله - تعالى - وما شابه ذلك.
3 - يغلب على كثير من الناس مفهوم يقضي بأن تسير الأمور على ما يشتهون ويرغبون، وإذا لم يحدث ذلك فإن الحياة تصبح شيئاً لا يطاق، وهذا وهم كبير، فنحن لا نملك زمام الأحداث، ولسنا نحن الذين نحرك الأشياء، ولذا فإن علينا أن نتوقع دائماً أن يحدث ما ليس في الحسبان.
ومن وجه آخر فمن الذي يزعم أن عدم حدوث ما نرغب فيه يشكل كارثة أو انتكاسة؟ إن الله - جل وعلا - وحده هو الذي يعلم خواتيم الأمور وعواقب الأحداث والأوضاع، ولذا فإننا طالما خشينا من وقوع الكثير من الأحداث، لكن بعد أن تقع نلمس فيها من لطف الله - تعالى - ورحمته وخيره، ونرتاح لذلك ونسرّ به، وإذا تأملت حياة الناس وجدت أعداداً لا تحصى منهم استاؤوا - مثلاً - عند فصلهم من وظائفهم، وعدُّوا ذلك مصيبة كبرى، لكن بعد أن انطلقوا في الأعمال الحرة عدوا وقت فصلهم بداية رائعة لمرحلة مثمرة وعظيمة.
يقول الله - جل وعلا - معلماً لنا هذه الحقيقة الناصعة: "وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ" (البقرة: من الآية216)، ثم إن الله - تعالى - أعطانا قدرة هائلة على التكيف مع الأمور الصعبة، وحين يقع ما لا نحبه أو نتوقعه، فإننا إذا استطعنا امتصاص الصدمة الأولى، سنجد أنفسنا متوافقين مع الأشياء الجديدة، وسنجد إذا استخدمنا البصيرة أنها لا تخلو من إيجابيات وحسنات.
4 - الحضارة الحديثة مكّنت الإنسان من السيطرة على الكثير الكثير من مظاهر الطبيعة، ورسخت في عقله ومشاعره أن هناك دائماً العديد من الخيارات، كما أن من حقه أن يتطلع إلى ما هو أكثر وأمتع وأرفه وأجود... وهذا كله جعلنا كلما واجهنا مشكلة طلبنا لها حلاً مثالياً كاملاً، وإذا لم نجد ذلك الحل، فإننا نشعر بالكثير من الأسى والفجيعة!
لا ريب أن التطلع إلى ما هو أحسن وأكثر، شيء ليس خاطئاً من حيث المبدأ؛ لكن يجب علينا أن ندرك أن ذلك لا يخلو في كثير من الأحيان من المثالية والمبالغة، ولذا فإن الإصرار على الحصول على الأفضل دائماً يجب أن يصحب بالاعتقاد أن لله - تعالى - الكلمة العليا والنهائية في هذا الوجود، وأنه لن يحدث إلا ما أراده وقدَّره، وهذا الذي أراده قد يوافق رغباتنا، وقد لا يوافقها، ثم إن الوصول إلى أي حل عاجل أو آجل لمشكلة صغيرة أو كبيرة، لا يمكن إلا أن يظل خاضعاً للبيئة والمعطيات السائدة، وبما أن شروط حياتنا الشخصية وشروط الحياة العامة تظل دائماً دون طموحاتنا وتطلعاتنا، فإننا سنظل نشعر أن الوسط الذي نعيش فيه هو أقل مما نريد، وأقل مما ينبغي أن يكون؛ وهذا يعني أننا لن نصل أبداً إلى حلول كاملة ومثالية؛ لأن الحل الكامل يتطلب وسطاً كاملاً، ولذا فإن علينا دائماً أن نتوقع حلولاً منقوصة ونتائج محدودة، والناس الذين لا يعرفون هذا المعنى سيظلون يشعرون بالخيبة والسخط!
5 - لو تساءلنا لماذا يعيش أشخاص في مركز الضوء وفي لُجَّة الأحداث، على حين يظل آخرون على هامش الحياة أخذاً وعطاءً وتأثراً وتأثيراً، لوجدنا أن لذلك العديد من الأسباب، لكن قد يكون من أهمها أن كثيرين منا يختارون تجنب المشكلات والتحديات، والابتعاد عن دائرة الضوء قدر الإمكان، ولهم في ذلك فلسفتهم الخاصة، وأعتقد أن هذا المفهوم يحتاج إلى تغيير، حيث إن مواجهة الصعوبات والقيام بالمهمات والمسؤوليات، كثيراً ما يكون السبيل الوحيد لتنمية الشخصية وبلورة الإمكانات والقدرات، وفتح مجالات جديدة للعطاء والنفع العام، تصور معي ماذا كان يحدث لو أن رجلاً مثل أبي بكر أو عمر - رضي الله عنهما - رفض إمرة المؤمنين، ولو أن رجلاً مثل خالد بن الوليد رفض قيادة جيوش المسلمين، ولو أن رجلاً مثل الشافعي أو أحمد أو أبي حنيفة اشتغل بالزراعة، ولم يدخل المجال العلمي...؟؟
إن المتوقع آنذاك أن يكون كل واحد من هؤلاء العظماء في وضعية أقل أهمية وأقل ملاءمة للعطاء الكبير الذي قدموه. إن التاريخ يُصنع من وراء التصدي للمهمات الجليلة، ومن وراء التغييرات الكبيرة التي نُدخلها على حياتنا الشخصية من أجل الاضطلاع بالأعمال العظيمة. لا ريب أن البعد عن تحمُّل المسؤوليات والإعراض عما يسبب الصعوبات، يجلب لنا الكثير من الراحة والهدوء، ويجعلنا أقل احتياجاً لاستنفار الإمكانات وتحرير الطاقات، كما أنه لا يتطلب منا كثيراً من التعديل في برامجنا الخاصة؛ لكن علينا أن نتذكر أن البعد عن مركز النشاط الحضاري والرضا بالعيش الهادئ الهانئ، كثيراً ما يتسبب في الضمور والترهل، وفقدان البيئة التي تمكِّن الإنسان من النمو والعطاء، وعلينا ألا ننسى أيضاً أن تواري الصالحين والأكفاء عن محاور الحركة في الحياة، يتيح للآخرين التقدم إليها وملء الفراغ الذي تركه الأخيار بالأمور السيئة والضارة.
6 - لو سألنا الناس الذين لم يحققوا إنجازات جيدة عن الأسباب التي حالت دون ذلك، لوجدنا أن السواد الأعظم منهم يُحيل ذلك إلى عوامل وأسباب خارجية لا يستطيع الإنسان السيطرة عليها، وتلك الأسباب قد تكون مادية أو اجتماعية أو أسرية... وقليلون جداً أولئك الذين يقولون: إنهم لم يحققوا تقدماً أو تفوقاً على أقرانهم بسبب عدم امتلاكهم الاهتمام أو التنظيم الذاتي أو العادات الجيدة أو الآفاق الرحبة... وهذا يعود على ما يبدو إلى أن إدراك العوامل الحسية أسهل من إدراك العوامل المعنوية؛ ثم إن لدينا ميلاً غريزياً إلى جعل أسباب قصورنا أو إخفاقنا تتعلق بالآخرين، أو بأشياء خارجة عن سيطرتنا أو مسؤوليتنا، وهذه الفكرة تحتاج إلى تعديل، فنحن مع أننا لا نتجاهل تأثير العوامل البيئية والظرفية إلا أنا نعتقد أن المشكلة الأساسية تكْمُن في عقولنا ونفوسنا وسلوكاتنا، وحين يحدث تحسن جيد على هذه الأصعدة، فإن تأثير العوامل الخارجية يتضاءل، بل إن الظروف المعاكسة تتحول من معوقات للتقدم إلى محفزات ومحرضات عليه، وكثيرون أولئك الذين صنعت منهم الأوضاع الصعبة رجالاً عصاميين من الطراز الرفيع.
7 - نحن - على نحو ما - جزء من الماضي، وكثير مما نحمله من أفكار ومشاعر وعادات موروثة من أزمنة الطفولة والمراهقة والشباب، ونحن نتمسك بذلك الموروث؛ لأننا نرى فيه استمرارية وجودنا ورسوخ ذواتنا، وهذا يجعلنا نعتقد أن الماضي بكل أحداثه ومؤثراته ومعطياته هو الذي يصوغ سلوكنا في الحاضر، وربما في المستقبل، والحقيقة أن معظم الناس يخضعون لتأثير أحداث الماضي وما أبقته في النفوس من مشاعر وصور وانطباعات، وربما تعاملوا معها على أنها نوع من الخبرة العزيزة التي يجب الاستفادة منها والسير على هديها.
ويمكن القول: إنه كلما امتدت المساحات التي أفلتت من قبضة الوعي، فصار التعامل معها عن طريق (اللاشعور)، وجدنا أنفسنا في أَسْر المشاعر والأفكار القديمة، المشكلة تتمثل في أن تلك المشاعر والانطباعات كثيراً ما تكون غير صحيحة، أو غير ناضجة، أو تكون قد تكونت في ظروف مغايرة كثيراً لما نحن فيه اليوم، وتؤدي الأمثال والمقولات الشعبية المأثورة عن السابقين دوراً سيئاً في هذا المقام؛ لأن كثيراً منها كان عبارة عن إطلاقات بَدَهية لا تستند إلى خبرة عريقة، ولم تتعرض لأي دراسة أو تمحيص جيد.
إن انطباعي عن زيد من الناس بأنه مهمل أو حقود أو كذاب أو سريع الغضب، قد يكون تولد من موقف واحد معه أو نتيجة إخبار بعض الناس لي، ويكون ذلك الموقف استثنائياً، لا يمثل وضعيته العامة، أو يكون الذي أخبرني غير صادق أو غير دقيق فيما يقول، وقد يكون الرجل أقلع عما كان عليه، وحسن حاله، وحينئذ فإن انطباعاتي وأحاسيسي عنه قد تكون متخلفة وظالمة!
بعض الأفكار الموروثة نشأ بسبب وجود الأمية، أو بسبب أسلوب متصلب في التربية، أو بسبب عرف اجتماعي غير صحيح؛ وعلى سبيل المثال فإن قول العامة: "أكبر منك بشهر أعرف منك بدهر" نشأ نتيجة انتشار الأمية، حيث يكون لكبر السن أثر كبير في حصيلة الإنسان العلمية، أما اليوم فإن العلم الغزير ليس مرتبطاً بالأعمار على نحو مطرد... إلخ.
نحن في حاجة ماسة إلى غربلة ما ورثناه من مفاهيم ومقولات ومشاعر وانطباعات عن طريق النقد الدقيق والتأمل العميق والتحاكم إلى الخبرات الجديدة، وأعتقد أننا إذا فعلنا ذلك فإننا سنكتشف زيف الكثير من ذلك، كما أننا سنكتشف أن خضوعنا له قد غمرنا بالكثير من الأوهام!
إن جوهر التقدم العقلي يرتكز إلى حدٍّ بعيد على مدى قدرتنا على امتحان الأفكار والمفاهيم والمشاعر الموروثة، والتأكد من الوضعية المناسبة لها في منظوماتنا الثقافية والقيمية الجديدة.
==============(1/276)
وصايا لحل المشكلات
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده أما بعد : فهذه الكلمات أنقلها إليكم من كتاب الرحلة إلى الذات ( فصول في التفكير الموضوعي ) أ . د . عبد الكريم بكار ، وله درس أسبوعي كل ثلاثاء في قناة المجد ما بين صلاتي المغرب والعشاء .
يقول أ.د. عبد الكريم بكار ( ص 37 -40 ) بتصرف واختصار :
وفي إطار ممارسة التفكير لحل مشكلة ما يمكن أن نذكر الوصايا والإجراءات التالية :
1- إذا كان الإعداد لحل مشكلة أو اختيار موضوع للبحث يحتاج إلى الكثير من الصبر والتؤدة حتى لا تكون البداية غير مناسبة فإن الحماسة والاندفاع في مواصلة العمل أمر ضروري لإنجاز شيء ذي قيمة ، إذ إن العقبات التي تعترض الطريق كثيرة وشاقة ، وقد يتخذ الباحث قراراً بالعدول عن التفكير في تلك المشكلة ، أو البحث ، ولا بد حينئذ من اتخاذ قرارا شجاع ، إذ إن ما أنفقه من جهد ووقت في جمع المعلومات والإعداد للحل قد يمنعه من ذلك . وقد يكون من المناسب في بعض الأحيان أن نوقف التفكير في المشكلة إلى أن نتمكن من استكمال أدوات البحث . 2- يعود أكثر التشتت العقلي والتباطؤ في العمل إلى عدم القناعة بجدوى المشكلة التي نحلها ، أو اعتقادنا أن هناك مشكلة أولى بالعناية منها ، ومن ثم فإن امتلاك القناعة أمر جوهري لاستمرار العمل .
3- كثير من المشكلات التي نمر بها على صعيد الفرد ، أو على صعيد الأمة مرّ بها غيرنا ممن هم أكثر تقدماً منا ، ومع الاعتقاد بأن لكل مشكلة ظروف نشأة وظروف استمرار مما يمنحها خصوصية الحل ، إلاّ أن معرفتنا بالأسباب التي اتبعت عند الآخرين في معالجتها سوف تساعدنا في حل مشكلاتنا ، حيث تصبح المشكلة أكثر إضاءة ، كما أننا سنستوعب إمكانات عدة تفيدنا في تركيب حل مناسب .
وإن كل العظماء من العلماء لم يبدؤوا من الفراغ ، ولكنهم استطاعوا أن يستوعبوا ، ويهظمو كل الحلول والملاحظات التي أدلى بها من سبقهم من العلماء والباحثين ، ولولا ذلك لما كان هناك تراكم معرفي . وقد سئل ( نيوتن ) عن إنجازاته الضخمة فقال : قد وقفت على أكتاف العمالقة الذين جاؤوا قبلي .
4- قد يكون حل المشكلة التي نريد حلها متوقفاً على حل مشكلة أخرى ، مما يجعل عملنا فيها يشبه عمل من يريد بناء طابق خامس ولم يبن الطابق الأول !.
فإذا أردنا - على سبيل المثال - أن نحل مشكلة كساد سوق الحوار والنقد البنّاء في أكثر بلدان عالمنا الإسلامي وجب علينا أن نبحث في حل مشكلة الحرية التي لا يمكن للمرء بدون حلها أن يقول الحقيقة كاملة ، والتي تجعل الناقد في خطر .
5- قد تكون هناك آراء سابقة حول المشكلة ، وهذه آراء قد تكون خاطئة فتشكل عاملاً من عوامل الإعاقة أمامنا ، وربما تُسقط بعض الإمكانات المتاحة للحل .
فإذا ما أردنا أن ننطلق أحراراً فعلينا ألا نخضع لكل ما يقال ، وإنما نخضعه للدرس والتمحيص .
6- من الحيوي للباحث أن يتحلى بفضيلة المرونة الذهنية ، لأن كثرة التفكير في مسألة ما لا تعني دائماً الوصول إلى حل مرض ، لأن لكل جيل من الأجيال سقفاً معرفياً لا يستطيع أن يتجاوزه ، فالناس يفكرون في الطيران من قرون بعيدة ، ربما من أول ما شاهدوا الطائر يخترق كل الحواجز ، ولكن تحقيق ذلك لم يتم إلاّ بعد تكامل علوم وتجارب مع مواد بعينها هيأت ولادة الطائرة .
وهكذا فقد يكون أفضل نصر لقائد معركة هو الانسحاب بقوته سالمة ، كما فعل سيف الله خالد بن الوليد رضي الله عنه في موقعة مؤتة .
7- هناك خطر ينبغي أن يتجنبه الباحث ، وهو عدم استغراق كل الاحتمالات باتجاه أو طريق ما ، أي : الانتقال من بضعة احتمالات في اتجاه معين إلى احتمالات أخرى في اتجاه آخر ، إلى احتمالات جديدة تصل باتجاه ثالث .
إن هذا الأسلوب ضار بعملية الإنتاج الفكري . ومن الممكن أن يسجل ملاحظة يحتفظ بها أن اتجاهاً ما جدير أو غير جدير بإعادة النظر فيه مرة أخرى .
8- إذا كانت المشكلة موضع التفكير تتطلب تفكيراً جماعياً ، فلا بد حتى نصل إلى الحل الأمثل أن تكون القناعة بأهمية المشكلة متجانسة ، أو متقاربة ، ولا بد أن يكون إلمامهم بها كذلك ، كما أنه من المفضل أن يكون هناك تقارب في مستواهم الفكري والثقافي ، و إلاً كان التفكير فردياً أكثر كفاءة وجدوى .
إصدار الحكم :
كل ما قلناه من قبل عبارة عن مقدمات وخطوات من أجل الوصول إلى حكم ناضج أو رأي سديد ، ولا يشترط حتى يكون الحل ناجحاً أن يتوصل إلى حل دائماً ، إذ إن ولادة أي حل قد تحتاج - كما قدمنا - إلى مقدمات وظروف ومراحل لا يملكها الباحث أو المفكر ، ولذا فإنه قد يكون من قبيل الحلول الناجحة - بمعيار ما - الوقوف على جذور المشكلة ، أو إعادة صياغتها ، أو إسقاط بعض الفرضيات القائمة في حلها ، أو طرح فرضيات جديدة لحلها ، أو تقسيمها إلى أجزاء رئيسة وأخرى ثانوية ، وقد يتخذ الحل صورة إيجاد أدوات جديدة لمبدأ من المبادئ العليا ، أو قيمة من القيم ، أو إيجاد أدوات جديدة لها لم تكن من قبل .
أن كل هذا عبارة عن ضروب من الحلول ، وكمالها مقترن باستنفاد كل وسائل الحل وإمكاناته .
(( هذا ليس للدكتور فقط))
================(1/276)
بين مأزق الأزمة وأزمات التفكير
بدر بن يوسف الحمدان
انقشعت غيوم عمليات (منهاتن وواشنطن) مطلقةً رصاصة البداية (لمارثون) المصالح العالمي ، وابتدأت الدول باستنفار جميع الطاقات والإمكانات لتكسب أكبر قدر من الجولات في هذا السباق الطويل ، وكان الرهان الأكبر على الجهود الاستخباراتية المكثفة والاتصالات الدبلوماسية الواسعة ، مما جعل الغموض يتضاعف ، الذي أدى إلى تخبط في اللغة السياسية، واضطراب وكالات الأنباء العالمية!!
بدأ هذا السباق "في ظل سيادة مناخ دموي شكسبيري يطيح بالروحاني لمصلحة الانتهازي ، لكي تسود اصطفافات قرصنية جديدة تلعب فيها السياسة الأمريكية دور العرّاب في تصدير المعايير والأحكام محوّلين النظام العالمي الجديد إلى بدلة على مقاساتهم النفعية"(1) مسترجعين بذلك خلفيتهم الذهنية لرعاة البقر (الكاوبوي) في صحاري تكساس .
وشعوبٍ ضعيفة تتلظّى**في جحيم الآلام عاماً فعاما
والقوي الظلوم يعصر من**آلامها السود لذةً ومُداما
يتحسّاه ضاحكاً لايراها**خلقت في الوجود إلا طعاما
وهكذا بدأت الأيدي تمتد لنيل أكبر قطعة من كعكة (الحادي عشر من سبتمبر) ؛ فبعضها امتدت بطرق مشروعة وبعضها بطرق ميكافيللية حمراء ... فلا تسل عن الخيانات ، ونقض العهود ، وجزاءات سنمّار !! ...، وبالطبع كانت هذه الأجواء هي المفضلة لدى اليهود والنفعيين البراجماتيين عموماً ، الذين لا يردعهم خلق ولا دين؛ لذلك كانت مغانمهم كبيرة، واستغلوا الكثير من المواقف لصالحهم بخبث ...وذكاء أحياناً!
في هذا الجوّ الاستنفاريّ العارم ، وفي هذا الوقت بالذات ، الذي تحتاج فيه الأمة أن تقف على قدميها ، نجد أمراضاً تفشت بوضوح في هذا الكيان ، من أجل مزيد من العرقلة والتقهقر ... كصاحب الصدر المريض ، قد يتنفس الصعداء في الأجواء السليمة ، ولكن الرياح والأغبرة تكشف عن مرضه وتكرّس تدهوره.
ومن تلك الأمراض التي ظهرت في هذه الأزمة أمراض التفكير ، بل قل إن شئت أزمات التفكير ... أزمات تتكرر من مأزق لآخر، وكأننا لم نسمع يوماً بحديث الهادي البشير صلى الله عليه وسلم : (لايلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين). (2)
فالتفكير السليم هو الخطوة الأولى للتصرف السليم بإذن الله ، وبعد معرفة مكامن المرض تبقّى توصيفه بدقّة ثم معالجته ؛ ومن تلك المكامن المريضة :
1- وهم الكمال :
إننا لم نرث عصا موسى ولا ملك سليمان ، ولا نملك صناديق سحريّة نخرج منها مانشاء ... وليس لدينا (سوبرمان نيتشوي) يملك جميع الحلول لجميع المشاكل ، ولا يصح أن يعتقد إنسان أنه حاز كمال الدين والدنيا ، ولا يمكن أن يخطىء وليس بحاجة لتصويب أحد أو تعليم من الآخرين ...
هكذا البشر ليسوا كاملين مستغنين عن التفكر والاعتبار ، والإنسان يبقى متعلّما "من المحبرة إلى المقبرة" كما قال الإمام أحمد رحمه الله ؛ وإن من أهم سلبيات "الفلسفات التقليدية القديمة - من أفلاطون إلى كنْت- اعتبار العقل حائزاً على استعدادات ذهنية لا أثر للتجربة ولا حتى لتطور المعارف عليها"(3) ، ونحن اليوم "كثير من تصرفاتنا وسلوكاتنا ومواقفنا محكومة بميولنا ورغائبنا وأحياناً بأوهامنا ! ... لأننا غير مهتمين ببذل الجهد في كشف سنن الله الكونية"(4) والاستفادة والاعتبار منها.
ألم يحثنا الله تبارك وتعالى في كتابه العزيز على التفكّر والاعتبار ؟!
(وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس مانزّل إليهم ولعلهم يتفكّرون) النحل 44 ، (إن في ذلك لآية لقوم يتفكّرون) (النحل 69)، (فاعتبروا يا أولي الأبصار) (الحشر 2 )، (قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين) (الأنعام 11)
وهنا تتمايز المواقف : فالتصرفات والسلوكات المبنية على سنن الله تأخذ طريقها للنجاح تلقائياً ، أما المبنية على العواطف والرغبات المجرّدة فتأخذ طريقها للإخفاق ؛ فإلى أي الفريقين نميل ؟!
2- أزمة اختزال :
هذا الكون الواسع الكبير بتنوّعه وثرائه ، وما دار على مسرحه من تاريخ البشريّة المديد ، يوحي للإنسان بعظمة الخالق سبحانه وتعالى ومدى التنوّع الهائل الذي قامت عليه هذه الحياة ... فلو نظرنا لمخلوق مثل الإنسان ، نجده ذلك الكائن المعقّد المركّب من : عقل وشهوات وغرائز وميول وعواطف وقيم ومبادىء ...إلخ.
لذلك فالمنطق الصحيح يقتضي أن يرى الإنسان حوادث البشر ويقيّمها من أكثر من جهة حاسباً حساب هذا التنوّع والاختلاف ، أما الرؤية الاختزالية ذات الجهة الواحدة فهو منطق خاطىء مصيره الفشل لأنه مخالف لسنن الله تبارك وتعالى في هذا الكون.
فالأزمة الواحدة قد تشتمل على عدة حوادث ، وهذه الحوادث تختلف نسب الخير والشر فيها ، فبعضها يغلب فيه الخير ، والبعض الآخر يغلب فيه الشر ، وقد يتساويان ، وقد يجهل الإنسان الكثير من المعطيات لسبب أو لآخر ...فهل من المنطق السليم أن يقال: إن الأزمة الفلانية كلّها خير أو كلّها شر ؟!
إن التعميم والإطلاق أدوات غير مؤهلة لتناول الظواهر الكبرى بشكل إيجابي فعّال ، وقد جاءت الأزمة الراهنة لتنادينا بصوت عالٍ وتقول : إن الألوان ليست أبيض وأسود فقط ... بل هناك ألوان أخرى كثيرة!
3- الانشغال بالقشور :
"في عام 1946م أجرى (سلومون أش) تجربة سأل فيها بعض الناس رأياً في شخص وصفه بأنه : ذكي ، مجتهد ، مندفع ، ميال للنقد ، عنيد ، حسود. وسأل أناساً آخرين السؤال نفسه لكنّه بدأ بالصفات السلبية : حسود ، عنيد ، ميال للنقد ... .، وكانت النتيجة أن الفريق الأول كوّن آراءاً أكثر إيجابية عن الشخص من الفريق الثاني" (5) ذلك أن الصفات الأولى كانت إيجابية فأثّر الانطباع الأولي (القشرة) على الحكم النهائي (اللبّ).
ولعبة المصطلحات من أهم أساليب التأثير على الصورة الذهنية للإنسان ، ففرق بين كلمة "قُتل" و"استُشهد" وفرق بين "رجل دين" و"عالم شرعي" وفرق بين "الإرهاب" و"الأمن القومي" ... وغيرها الكثير من ألاعيب المصطلحات التي تصرف الإنسان عن تصوّر (لبّ) المسألة تصوّراً سليماً.
ومن أساليب توجيه العقول للقشور ، أسلوب تأثير الهالة ؛ فقد ننظر لموضوع معيّن من خلال زاوية واحدة من زواياه ضُخّمت عن حجمها الفعلي وأعطيت هالة كبيرة وبرزت بفعل فاعل ، فصرفتنا عن النظر للموضوع بزواياه مكتملة ... أو لأن تلك الزاوية المبرزة أشبعت عواطفنا ، أم لأنها لامست أنساقاً معينة لدينا ...إلخ.
هذه الألاعيب (الانطباع الأولي، لعبة المصطلحات، تأثير الهالة) وغيرها تمارس علينا بشكل يومي خصوصاً من قبل وسائل الإعلام ، وتستخدم كثيراً في لغة الاتصال السياسي ، فعلينا الانتباه لهذه الحيل ، لأنها كثيراً ماتنجح وتبعدنا عن (لب) القضايا وتصرفنا نحو (القشور).
إن هذه التوصيفات البسيطة ماهي إلا غيض من فيض ونحن بحاجة دائمة للمراجعة المستمرة ، والنظر في التاريخ والاستفادة منه ، والنظر في سنن الله تعالى في هذا الكون والاعتبار بها ، من أجل وعي إيجابي أكثر ، لرفعة هذه الأمة المباركة وتمكينها.
ولاتأس من حادثات الدهور **فخلف الدياجير فجر جديد
ولولاغيوم الشتاء الغضاب **لما نضّد الروض تلك الورود
ولولا ظلام الحياة العبوس**لما نسج الصبح تلك البرود
--------------
(1)الحياة ، الملحق السنوي ص 18
(2)رواه مسلم ، المختصر برقم 44
(3)سالم يفوت ، العقلانية المعاصرة ص 65
(4)عبد الكريم بكار ، تجديد الوعي ص 40
(5) عبد الكريم بكار ، العيش في الزمن الصعب ج2 ص 68
=================(1/276)
العمل المؤسسي... معناه، ومقومات نجاحه
عبد الحكيم بلال
لعل من أخطر ما تعانيه الأمة الإسلامية: غياب الروح الجماعية.
ولقد انعكس هذا الواقع على الفكر - كما للأخير انعكاس عليه - فصار من عللنا الفكرية: ممارسة التفكير بطريقة فردية، ومنها أيضاً: نمو التفكير في شؤون الفرد على حساب التفكير بشؤون المجتمع. وعليه: فإن الفقه المتعلق بشؤون الفرد وحركته وحقوقه وواجباته ظل أكثر نمواً من الفقه الذي يهم الجماعة، ففُصِّلت الفروض العينية، وبقيت الفروض الكفائية - والتي تصير عينية بالتقصير فيها - بقيت عند بعضهم عائمة، كمسألة: كفاية الأمة في كل جوانبها، وكمسألة: أهل الحل والعقد، وبيان تشكيلهم، ودورهم.. وبقيت الدراسات التي تتناول أبنية المجتمعات الإسلامية التاريخية ومشكلاتها وأطوارها محدودة؛ ونتيجة لذلك فقد رأينا سجل التاريخ حافلاً بالمآثر الفردية ضامراً في الأعمال الجماعية.
والسبب أن الوعي المدني لم يتم تنظيمه بشكل كافٍ، فهو بحاجة إلى المؤسسات المختلفة(1).
ولقد تأصلت فكرة الفردية اليوم، ثم تأزم الموقف حين ورث كثير من الدعاة إلى الله- تعالى - ذلك المرض من أمراض التخلف الحضاري، فلا تزال ترى اليوم كثيراً من التجمعات الإسلامية محكومة بعقلية الفرد، تعيش مركزية القرار، رغم ازدياد التحديات، وتوالي المحن، وتفاعل الأزمات.
ولئن كان بعض الدعاة في العقود الماضية يسعون إلى مجرد الانتشار الأفقي للدعوة، فإنه لا يقبل من أحد اليوم التفكير بعقلية تلك المرحلة؛ فلقد صارت الصحوة اليوم معادلة صعبة في الموازين العالمية، والخطر الأوحد أمام الأنظمة الغربية، بل نستطيع القول: إن كثرة الأتباع غير الواعين أصبح يمثل هاجساً للدعاة والمصلحين أنفسهم.
وعليه فلا بد من مراجعة أساليب العمل الدعوي اليوم. كما أنه من الضروري العناية بتنمية الفكر الجماعي، وأسلوب العمل المؤسسي المحكم الذي صار أسلوب القوة والتحدي في هذا الزمان، ويكفي برهاناً من الواقع أن الدول الكبرى في الوقت الحالي دول مؤسسية ليست مرتبطة ارتباطاً كلياً بالأفراد؛ فالولايات المتحدة الأمريكية مثلاً هي بجملتها مؤسسة ضخمة تضم في ثناياها عدداً هائلاً من المؤسسات مختلفة التخصصات، ولا تتغير استراتيجياتها الرئيسة بتغير أفراد حكوماتها إلا من منطلق جماعي.
وفي هذه المقالة: محاولة لتأصيل الفكر الجماعي، وبيان معنى العمل المؤسسي، وتحديد المراد به، ثم عرض شيء من مزاياه وفوائده، وبعض أسباب تقصير الدعاة في الأخذ به، ثم ذكر مقومات نجاحه. وما هذا الطرح إلا إثارة للموضوع؛ ليأخذ طريقه إلى حوار جاد(2).
نحو وعي أعمق للروح الجماعية:
إن تغيير واقع الأمة يتطلب في المستوى الأول تغيير النفوس، ومن عناصر ذلك التغيير: تعميق الفهم، وتجديد الفكر، وتصحيح المفاهيم التي من أهمها: مفهوم الفرد، والجماعة، وهو - بحمد الله - مفهوم في غاية الوضوح.
إن الفرد هو العنصر الأساس في بناء الأمة، ولكن شرط قيامه بدوره الأكمل هو تعاونه مع بقية أفراد الأمة.
والأمة التي يتعاون أفرادها هي أمة الريادة؛ لأن تعاونهم يضيف كل فرد إلى الآخر إضافة كيفية لا كمية، ومن ثم تتوحد الأفكار والممارسات من أجل تحقيق رسالة الأمة، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يربي صحابته على الروح الجماعية، روح الأمة، كما ضرب مثلاً - للمجتمع - بقوم أقلَّتهم سفينة، إن أراد أحدهم خرقها وجب على الجميع الأخذ على يده، وإلا غرقوا جميعاً(3)؛ فالمسؤولية في بلوغ الريادة تقع على الأمة جميعاً في مقابل أمة الكفر.
والعودة بالناس إلى روح الأمة يستدعي إجراءات، أولها: فك الارتباط القائم بين العمل الإسلامي والأُطُر الحزبية الضيقة(4)؛ ليتقبل العمل الإسلامي الاستراتيجية الصائبة الموصلة إلى الهدف، سواء انبعثت من داخله أو خارجه.
وهذا يجرنا إلى الإجراء الثاني المتمثل في تنمية الصفات التي تحقق التفاعل بين الأفراد وتعميقها، كالأخوة، والشورى، والتواصي بالحق وبالصبر، والعطاء المتبادل، والقدرة على التجميع، مع موالاة الأمة، لا الحزب.
ولا بد في ذلك من تحقيق التوازن بين الروح الفردية والروح الجماعية، وهذه مهمة التربية المتوازنة التي لا تحيل الأفراد أصفاراً، وأيضاً لا تنمي فيهم الفردية الجامحة، بل توفر لهم المناخ المناسب لتنمية شخصياتهم، مع اختيار أساليب العمل التي تحول دون التسلط، وتنمي المبادرات الذاتية، وترسخ الشورى.
ويكفل كلَّ ذلك إجراءٌ ثالثٌ يحوِّل العمل من أسلوب المركزية في اتخاذ القرار وتطبيقه ومراقبة تنفيذه إلى أسلوب المشاركة التي تُحسِّن الأداء وتنمي الشخصية، فيلتقي نموها مع روح الفرد التي أثمرها التعاون فيزداد التفاعل وتتكامل الجهود.
إن الجماعة والتنظيم في الإسلام يعني كلٌ منهما: "التعاون" و "العلمية" أي تعاون الجهود في خطة يضعها العلم؛ فجوهر الجماعة وحقيقة التنظيم إنما هو التعاون بين المسلمين، والتكامل بين نشاطاتهم في طريق التمكين لشريعة الله، وإقامة دولة الإسلام، وإحياء الأمة الإسلامية"(5).
تعريف العمل المؤسسي:
كل تجمع منظم يهدف إلى تحسين الأداء وفعالية العمل، لبلوغ أهداف محددة، ويقوم بتوزيع العمل على لجان كبرى وفرق عمل وإدارات متخصصة: علمية، ودعوية، واجتماعية؛ بحيث تكون لها المرجعية وحرية اتخاذ القرار في دائرة اختصاصها... يعتبر عملاً مؤسسياً.
وليس المراد بالعمل المؤسسي العمل الجماعي المقابل للعمل الفردي؛ إذ مجرد التجمع على العمل، وممارسته من خلال مجلس إدارة، أو جمعية أو مؤسسة لا يجعله مؤسسياً، فكثير من المؤسسات والمنظمات والجمعيات التي لها لوائح ومجالس وجمعيات عمومية إنما تمارس العمل الفردي؛ لأنها مرهونة بشخص منها؛ فهو صاحب القرار(6)، وهذا ينقض مبدأ الشورى الذي هو أهم مبدأ في العمل المؤسسي.
مزاياه وفوائده (7):
1 - تحقيق مبدأ التعاون والجماعية الذي هو من أسمى مقاصد الشريعة.
2 - تضييق الفجوة بين عمل الدعاة، وردم الهوة بينهم بتحقيق ذلك المبدأ، وتأسيس الأعمال المشتركة بينهم؛ فإن ذلك يقلل التصادم والنزاع، وهي الطريقة المتبعة بين الدول في تأسيس اللجان والمجالس المشتركة، وهو ما لم يشعر بعض الدعاة بأهميته وضرورته بعد(8).
3 - تحقيق التكامل في العمل، وذلك في عمل الفرد عزيز، فكثيراً مما يحصل من القصور في عمل الفرد يتلاشى في عمل المؤسسة؛ إذ المفترض حدوث التكامل باجتماع الجهود، والمواهب، والخبرات، والتجارب، والعلوم، مع التزام الشورى، والتجرد للحق.
وأيضاً: فإن العمل الفردي يصطبغ بصبغة الفرد، بينما المفترض أن يخلو العمل المؤسسي من ذلك(9).
4 - الاستقرار النسبي للعمل، بينما يخضع العمل الفردي للتغير كثيراً - قوة وضعفاً أو مضموناً واتجاهاً - بتغير الأفراد، أو اختلاف قناعاتهم.
5 - القرب من الموضوعية في الآراء أكثر من الذاتية؛ حيث يسود الحوار الذي يَفْرض قيامُه وضعَ معايير محددة وموضوعية للقرارات تنمو مع نمو الحوار، في حين ينبني العمل الفردي على قناعة صاحبه.
6 - دفع العمل نحو الوسطية والتوازن؛ إذ اجتماع الأفراد المختلفين في الأفكار والاتجاهات والقدرات يدفع عجلة العمل نحو الوسط، أما الفرد فلو توسط في أمر فلربما تطرف - إفراطاً أو تفريطاً - في آخر.
7 - توظيف كافة الجهود البشرية، والاستفادة من شتى القدرات الإنتاجية؛ وذلك لأن العمل المؤسسي يوفر لها جو الابتكار والعمل والإسهام في صنع القرار، بينما هي في العمل الفردي أدوات تنفيذية رهن إشارة القائم بالعمل، ويوم أن أعرض المسلمون عن هذا العمل خسروا كثيراً من الطاقات العلمية والعملية، فانفرد أصحابها بالعمل، أو فتروا عنه(10).
8- ضمان استمرارية العمل - بإذن الله - تعالى - لعدم توقفه على فرد يعتريه الضعف والنقص والفتور، ويوحشه طول الطريق وشدة العنت وكثرة الأذى.
وللمثال: فقد كان من أقوى أسباب استمرار التعليم قوياً في الدولة الإسلامية - حتى في عصور الضعف السياسي -: قيامه على المؤسسات العلمية القوية التي تمدها الأوقاف، كما تمد سائر الجهود الدعوية والإغاثية - التي لم يُتجرأ عليها إلا في العصر الحديث - واليوم نرى استمرار المؤسسات الغربية قوية تساندها جمعيات كثيرة(11).
9- عموم نفعه للمسلمين؛ لعدم ارتباطه بشخصية مؤسسه، وهذا بدوره ينمي الروح الجماعية الفاعلة، ويحيي الانتماء الحقيقي للأمة، وهذا مكمن قوتها.
10- مواجهة تحديات الواقع بما يناسبها؛ فإن الأمة اليوم يواجهها تحدٍّ من داخلها، في كيفية تطبيق منهج أهل السنة مع الاستفادة من منجزات العصر، دون التنازل عن المبادئ(12)، كما يواجهها تحدٍّ من خارجها مؤسسي منظم؛ والقيام لهذا وذاك فرض كفاية لا ينهض به مجرد أفراد لا ينظمهم عمل مؤسسي، كما لا ينهض أفراد الناس لتحدي العمل المؤسسي في مجالات الحياة الاقتصادية، أو السياسية، أو الإعلامية، أو غيرها.
11- الاستفادة من الجهود السابقة والخبرات التراكمية، بعد دراستها وتقويمها بدقة وإنصاف وحيادية، وبذلك يتجنب العمل تكرار البدايات من الصفر الذي يعني تبديد الجهود والعبث بالثروات.
لماذا الإحجام عن العمل المؤسسي؟
ولسائل أن يقول: عَمَلٌ بهذه المزايا ما الذي حدا بالأمة اليوم أن تحجم عنه؟
ويجاب: بأن للأمر خلفيات وأسباباً، منها:
1 - طبيعة المجتمعات الإسلامية المعاصرة عامة، وعدم ترسخ العمل المؤسسي في حياتها؛ لما اعتراها من بُعد عن الدين أدى إلى تأصل الفردية، وضعف الروح الجماعية، والحوار والمناقشة والمشاركة، ولما حلّ بها من تخلف حضاري أقعدها عن الأخذ بأسباب الفاعلية والنجاح، فأصابها التأخر وتبدد الطاقات.
2 - ضعف الملكة الإدارية لدى كثير من العاملين في الحقل الإسلامي، بسبب إهمال العلوم الإنسانية التي أفاد منها الغرب، وهذا مما ورثه العاملون عن مجتمعاتهم. وقد أدى هذا الضعف إلى الجهل بالعمل المؤسسي ومقوماته وأسباب نجاحه فتلاشت الخطط، وأغلقت دراسة الأهداف وإقامة المشاريع، وصار العمل مجرد ردود أفعال غير مدروسة أو عواطف غير موجهة(13).
3 - حاجة الدعوة إلى الانتشار، مع قلة الطاقات الدعوية المؤهلة؛ مما حدا بكثير من الدعاة إلى التركيز على الكم لا الكيف، والغفلة عن قدرة العمل المؤسسي على الموازنة بين الكم والكيف، وتحقيق أكبر قدر منهما.
4 - الخلط بين العمل الجماعي والمؤسسي، والظن بأن مجرد قيام الجماعة يعني عملاً مؤسسياً، في حين أن كثيراً من التجمعات والمؤسسات لا يصدق عليها حقيقة هذا الوصف؛ لانعدام الشورى، والمركزية في اتخاذ القرار.
5 - الشبهات العارضة التي يتذرع بها المانعون من العمل الجماعي، بحجة بدعيته؛ فأحجموا بذلك عن العمل المؤسسي انطلاقاً من هذه الشبهة.
6 - حداثة العمل الإسلامي المعاصر، فإنه إذا ما قورن عمره بعمر المؤسسات الغربية بان قصيراً جداً. يقال هذا لئلا تُهضم الحقوق، ولكي نقترب بالحديث من الإنصاف لهذه الصحوة المباركة؛ حيث نرى بوادر الاهتمام بالمجالات الإدارية أكثر من ذي قبل.
لكي ينجح العمل المؤسسي:
للتربية الإيمانية المتكاملة أكبر الأثر في بناء الطاقات، وتنميتها، واستثمارها استثماراً مناسباً، وهذا عماد العمل المؤسسي، ويمكن تفصيل المقومات اللازمة لنجاحه على النحو الآتي:
1 - توفر القناعة الكافية بهذا الأسلوب من العمل؛ بإدراك ضرورته، وخاصة في زمن القوة، وبمعرفة مزاياه وثمراته، وفهم مقومات نجاحه للوصول به إلى المستوى المطلوب.
2 - صدور القرارات عن مجالس الإدارة، أو اللجان ذات الصلاحية، حرصاً على خروجها من أدنى مستوى ممكن، لتكون أقرب إلى الواقعية وقابلية التنفيذ، ولا يجوز أن يكون المصدر هو الفرد أو المدير؛ فإنه يستمد صلاحياته - هو أيضاً - من المجالس، لا العكس، ويجب أن تملك المجالس واللجان صلاحية مراجعة قرارات المديرين ونقضها.
3 - أن تكون مجالس الإدارة أو اللجان غير محصورة في بيئة واحدة محكومة بأطر تنشئة وتربية وتفكير محددة مما يؤثر على طبيعة اتخاذ القرار، فوجود أفراد من بيئات مختلفة ضمن هذه المجالس يثري العمل المؤسسي بتوسيع أنماط التفكير وتعديد طرق التنفيذ(14).
4 - أن تسود لغة الحوار، حتى تتلاقح الآراء للخروج بأفضل قرار، وأيضاً حتى يخضع الرأي الشخصي لرأي المجموعة.
ويذكر هنا بالمناسبة: نزول النبي - صلى الله عليه وسلم - على رأي أصحابه في أحد، وخروجه من المدينة تلبية لرغبتهم، مع ميله للبقاء في المدينة، وتأييد رؤياه لرأيه(15)، وبعدما حصل ما حصل لم يصدر منه لَوْم لأولئك المقترحين للخروج.
5 - تحديد ثوابت ومنطلقات مشتركة للعاملين في المؤسسة تكون إطاراً مرجعياً لهم، توجه خطة العمل، وتناسب المرحلة والظروف التي تعيشها المؤسسة.
6 - التسامي عن الخلافات الشخصية، وتقديم المصلحة العامة على المصلحة الشخصية، وهذا يتم بتحسين الاتصال والتواصل بين أفراد المؤسسة بعضهم مع بعض، وبينهم وبين سائر العاملين في الحقل الإسلامي.
وهذا أساس قوي للنجاح؛ ففي استفتاء لعدد من القياديين الناجحين اتضح أن الصفة المشتركة بينهم هي القدرة على التعامل مع الآخرين(16)، ولن يتم ذلك لأحد ما لم تتربَّ أنفسنا على العدل والإنصاف، ومعرفة ما لدى الآخرين من حق، ومحاولة فهم نفسياتهم من خلال نظرتهم هم لأنفسهم، لا من خلال نظرتنا نحن.
7 - الاعتدال في النظرة للأشخاص؛ فإنه في حين يصل الأمر لدى المنحرفين عن أهل السنة والجماعة في نظرتهم للأشخاص إلى حد الغلو والتقديس، فإنَّا نجده عند بعض أهل السنة - الذين سلموا من الغلو - بالغاً إضفاء هالة على بعض الأشخاص تؤثر في مدى استعدادهم لمناقشة رأيهم، أو احتمال رفضه مع بقاء الاحترام الشخصي، وهؤلاء يشكلون ضغطاً على العمل المؤسسي وتوجيهاً غير مباشر للآراء(17).
وكأن هذا ما أراده عمر - رضي الله عنه - حين عزل خالد بن الوليد - رضي الله عنه - خشية تعلق الناس به، وربطهم النصر بقيادته(18).
8 - إتقان التخطيط، وتحديد الأهداف لتنفيذها، وتوزيع الأدوار، وهذا يتطلب مستوى جيداً في إعداد القادة والمسؤولين، وتدريب العاملين مع الاستفادة من كل الإمكانات، وتوظيف جميع الطاقات، بعد التعرف عليها جيداً(19).
والمهم هو التركيز في جداول الأعمال على المنطلقات والأسس والخطوط العامة، دون الانهماك في المسائل الإجرائية، والتي قد لا تحتاج إلا لمجرد قرار إداري أو إجراء تقليدي، ودون المسائل التي يكثر الجدل والخلاف حولها.
ولضبط الخطط، وإتقان تنفيذها، وبلوغ الأهداف، يراعى الآتي:
أ - الأناة في التخطيط، والحماسة في التنفيذ(20)؛ فالأول: لمراعاة القدرات والإمكانات، ومعرفة التحديات وحسن تقدير العواقب، وتحاشي مخاطر السرعة، والثاني: لاستباق الخيرات، وكسب الزمان، واغتنام الهمة، ومبادرة العزيمة.
ب - أهمية قيام المؤسسات بأداء أعمالها بأساليب علمية حكيمة تكفل استمرارها وأداءها لعملها على الوجه المطلوب، وحتى لا تتعرض لكيد الكائدين وأساليب المغرضين، ولا ينبغي أن يكون أهل النفاق أكثر حنكة منا؛ فكم نالوا أهدافهم من جمعياتهم وأعمالهم حتى بلغوا مناهم(21). اللهم ألهمنا رشدنا، وأعذنا من شر أنفسنا(22).
------------
الهوامش:
(1) انظر: مقدمات للنهوض بالعمل الدعوي، د. عبد الكريم بكار، ص39.
(2) بعد إعداد هذه المقالة اطلعت على رسالة قيمة ـ لما تطبع بعد ـ بعنوان: العمل المؤسسي الإسلامي ودوره في التغيير الشمولي، د. سامي الدلال ـ جزاه الله خيرا ـ.
(3) انظر الحديث في البخاري، كتاب الشركة، باب (6)، 3/11.
(4) التي تحبس صاحبها في بوتقة ضيقة، فيحصر ولاءه في الحزب، ولايعرف الدعوة إلا بمفاهيمه، بغض النظر عن مدى التوافق مع الشريعة.
(5) انظر: مقالا بعنوان: روح الفريق والمبادرات الذاتية، لمحمد بدري، في مجلة البيان، العدد83، ص42.
(6) انظر: مقالا لعبد الله المسلم، مجلة البيان، العدد: 118، ص18.
(7) انظر: مقال: لعبد الله المسلم، في مجلة البيان، العدد: 117، ص38.
(8) انظر: مقدمات للنهوض بالعمل الدعوي، د. عبد الكريم بكار، ص 238.
(9) انظر: العمل الجماعي، د. عبد الوهاب الديلمي، ص 35.
(10) انظر: خواطر في الدعوة، محمد العبدة، ص165.
(11) انظر: خواطر في الدعوة، ص147.
(12) انظر: خواطر في الدعوة، ص37.
(13) انظر: البيان، العدد: 110، ص4.
(14) الفكرة مقتبسة من: المسار، لمحمد الراشد، ص62ـ66، فليراجع.
(15) كما في مسند أحمد: 3/351، وصححه الألباني في تخريج فقه السيرة للغزالي، ص269.
(16) انظر: دليل التدريب القيادي، ص142.
(17) انظر: مقالأ لعبد الله المسلم، في مجلة البيان، العدد: 118، ص18.
(18) راجع البداية والنهاية، 8/115، وقد يوجه الأمر توجيها آخر، انظره في الفتاوي لابن تيمية: 28/256.
(19) انظر: مشكلات وحلول، للبلالي، ص183، ودليل التدريب القيادي، ص137 وما بعدها، والمسار للراشد، ص166ـ167.
(20) انظر: مقدمات للنهوض بالعمل الدعوي، د. بكار، ص162.
(21) انظر مقالا لعبد القادر حامد، البيان، العدد: 31، ص96.
(22) الموضوع بحاجة ماسة إلى إثراء، ويمكن الاستفادة فيه من كتب الإدارة، مثل: الخطوات الذكية، الإدارة، مثل: الخطوات الذكية، الإدارة بضمير، (مترجمة)، وتنظيم العمل الإداري في النظام الإسلامي، د. محمد الأغبش.
مجلة البيان، العدد (143)، رجب1420، نوفمير 1999.
===============(1/276)
التربية من خلال الحوار
من الواضح أن العولمة تقوم بعملية تهميش واسعة النطاق لكثير من السلطات التقليدية الموروثة، إنها تهمش سلطة الدولة وسلطة المدرسة وسلطة الأسرة والمجتمع والقبيلة، وتوسع في الوقت نفسه من مدى الحرية الشخصية على حساب الرقابة الاجتماعية.
وليس من المهم السؤال: لماذا يحدث هذا، وكيف يحدث، إنما المهم أن نبحث عن الصيغة الملائمة لمواجهة هذه الوضعية الجديدة.
لا يخفى إلى جانب هذا أننا ورثنا من عصور الانحطاط عادات وتقاليد تربوية لا تتفق مع الرؤية الإسلامية في بناء الفرد والنهوض به، فقد كان يسود في الأسرة في كثير من البيئات الإسلامية نظام شبه عسكري، حيث يُسكت الرجل المرأة، والأخ الأكبر الإخوة الصغار، ويُسكت الصبيان البنات... أضف إلى هذا اللجوء العام إلى الصمت ما لم تحدث مشكلة، فينتبه الأبوان إلى ضرورة الكلام من أجل العلاج! أما في الكتاتيب والمدارس، فقد ساد التلقين وقل البحث والتنظير، كما ساد الكبت والضرب، وكان من المألوف في العديد من البيئات الإسلامية، أن يقول الأهل لشيخ الكتَّاب إذا دفعوا إليه الصبي:"لك اللحم ولنا العظم"، أي لك أن تضرب حتى لو أدى ذلك إلى تمزق اللحم، أما العظم فليس من حقك كسره. وكأن الوالد هو الذي سيقوم بتلك المهمة، لتكتمل دائرة العنف على الطفل المسكين!
وساد كذلك لدى بعض التيارات والتوجهات الإسلامية المهتمة بتربية النفوس الاستسلام للشيوخ والتماس الأعذار والتأويلات لما يقومون به، ولو كان ينطوي على مخالفة شرعية ظاهرة. ومن العبارات المشهورة في هذا قولهم:"من قال لشيخه: لم لم يفلح أبداً"! وكانت نتيجة تلك التربية تخريج أجيال يسيطر عليها اليأس والخوف والاتكالية وانتظار المساعدة عوضاً عن تقديمها. أجيال لا تحسن التعبير عن أفكارها وحاجاتها وآرائها. ولا تشعر بذواتها وإمكاناتها. وكانت عاقبة كل ذلك انحدار مكانة الأمة بين الأمم وطمع الأعداء فيها وانتشار التعانف والتقاتل في ديارها عوضاً عن التراحم والتعاون والتناصح والتدافع بالتي هي أحسن وأرفق.
لدينا مصطلح (الحوار) ومصطلح (الجدال) ولهما دلالة مشتركة على دوران الكلام بين طرفين وترجيعه بين شخصين أو فريقين. لكن نلمح في العديد من النصوص والأدبيات أن الجدال كثيراً ما يميل إلى الخصومة في الكلام، كما ينطوي على حرص كل واحد من المتجادلين على غلبة خصمه وإفحامه وإلزامه الحجة وبيان خطئه. ونتيجة لهذا فإن من المألوف أن يقع خلال الجدل بعض الظلم والادعاء والكذب والتطاول واستخفاف أحد المتجادلين بالآخر. وقد قال الله -جل وعلا-:"وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ" [الحج:8]، ومن هنا وجهنا -سبحانه- إلى أن نجادل المجادلة المقيدة بالأدب الإسلامي الرفيع، والمجادلة بالحق الساعية إليه؛ حيث قال:"وجادلهم بالتي هي أحسن" [النحل:125]، وقال:"وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ" [العنكبوت:46]، أما الحوار فمع دلالته على تردد الحديث بين اثنين إلا أنه لا يحمل صفة الخصومة وإنما يحمل صفة الحرص على العلم والفهم والاطلاع. إن الدافع الأساسي للمحاور الجيد ليس إقناع من يحاوره بوجهة نظره وجعله يقف إلى جانبه، وإنما دافعه الأساسي أن يُري محاوره ما لا يراه، وأن يظفر من محاوره أيضاً بأن يكشف له غموض أمور لا يراها ولا يعرفها، إن كلاً من المتحاورين يطلب الوضوح ومعرفة الحق والحقيقة. ولا شك في أن بعض الحوار قد ينقلب عند الانفعال وتوفر اعتبارات معينة إلى جدل عقيم ومقيت. كما أن بعض الجدل قد يتسم بالرفق والحكمة.
إن الحوار لا ينبغي أن يكون أسلوباً نستخدمه داخل الأسر والمدارس من أجل تربية الصغار وتعليمهم فحسب، وإنما ينبغي أن يكون أسلوب حياة، يسود في الأسرة والمدرسة والمسجد ووسائل الإعلام وفي الشركة والمؤسسة والدائرة الحكومية.. إن الحوار الحيوي للجميع، وإن غيابه عن حياتنا سوف يؤذي الجميع؛ وذلك لأن البديل سيئ جداً، وهو كثيراً ما يكون القهر والكبت والانعزال والأنانية، واتباع الهوى وتصلب الذهن ومحدودية الرؤية، وإعجاب كل ذي رأي برأيه!
يمكن القول إنه لا يكاد يخلو بيت أو مؤسسة أو مدرسة من شيء من الحوار، لكن السؤال هو: هل كل حوار يؤدي إلى تربية جيدة؟ وهل أي حوار -مهما كان- يعد كافياً لزرع المفاهيم والقيم والعادات الجيدة في شخصيات الصغار والكبار؟ طبعاً لا.
إن الحوار الذي يربي فعلاً هو الحوار الجيد والعلمي والموضوعي والقائم على أسس أخلاقية جيدة. حين يتوفر الحوار الجيد والمديد والمستمر فإنه يولد، ويقتضي بطريقة غير مباشرة عدداً ممتازاً من الأفكار والمفاهيم والرؤى والمبادئ والعادات والسلوكات الصحيحة والرائدة.
وإذا تساءلنا عن الشروط التي يجب توفرها من أجل حوار ناجح ومثمر أمكننا أن نعثر على الآتي:
1- الإيمان العميق بأن لكل إنسان أن يعبر عن ذاته، وأن يدافع عن قناعاته في إطار المبادئ الكبرى المجمع عليها، وإتاحة الفرصة للمرء كي يعبر عن قناعاته ومزاجه... شرط جوهري لنمو الحياة العقلية والروحية، كما أنه مشروط لشعور الطفل بكرامته وإنسانيته.
2- حتى يصبح الحوار أسلوب حياة يجب أن نؤمن بأن الواحد منا مهما بلغ من التحصيل العلمي، ومهما كانت عقليته ممتازة فإنه في نهاية الأمر لا يستطيع أن يصدر إلا عن رؤية جانبية محدودة. وذكاء الجماعة أكبر من ذكاء الفرد. ومن خلال الحوار نستطيع معرفة رأي الجماعات والمجموعات، والاستفادة من أكبر قدر ممكن من الآراء.
3- من المهم -حتى يصبح الحوار أسلوب حياة- أن نوطن أنفسنا لقبول النقد. فقد يوجه التلميذ في المدرسة أثناء الحوار انتقاداً لأسلوب التدريس، أو ينتقد عدم كفاية استخدام المدرس لوسائل الإيضاح. وكذلك يتعرض الأبوان في الأسرة إلى شيء من الاعتراض والمراجعة حول مجمل قراراتهما في إدارة شؤون الأسرة ومعالجة مشكلاتها. وحين نفقد روح التسامح والمرونة الذهنية المطلوبة لذلك فإننا سننظر إلى الحوار على أنه باب لإساءة الأدب من قبل الصغير مع الكبير، وسيكون البديل آنذاك هو التعسف والاستبداد.
حين نحاور الأطفال في البيوت والمدارس، وحين نعتمد أسلوب الحوار في مجالسنا وإداراتنا ومؤسساتنا نحرز عدداً لا بأس به من النجاحات التربوية على الصعيد الفكري وعلى الصعيد العقلي، وأيضاً على الصعيد الاجتماعي.
من خلال الحوار الناجح والموضوعي والمستمر نتمكن من تنمية الحس النقدي لدى الأطفال في البيوت والمدارس. والحقيقة أن ما يتم من مراجعات ومجادلات بين المتحاورين يعد وسيلة مثالية للوصول إلى هذا الغرض.
لا يعني النقد اكتشاف السلبيات فحسب، بل يعني اكتشاف السلبيات واكتشاف مساحات الخير والحق والجمال في الأقوال والمواقف والعلاقات والأشياء.
حين يسمع الأطفال وجهات نظر متباينة ومتعددة في الموضوعات والقضايا المطروحة للنقاش، فإنه تنمو لديهم القدرة على المقارنة، والمقارنة -كما يقولون- هي أم العلوم. ومن خلال نمو المقارنة تتشكل رحابة عقلية جديدة لا يمكن بلوغها عن غير هذه السبيل.
حين ندير حوارتنا على نحو جيد فإننا من خلال الحلول الوسطى والآراء المعدَّلة والملقحة نشيع في حياتنا الرؤى المتدرجة، كما نشيع القابلية العقلية لإدراك ما في الأشياء من نسبية. وأعتقد أن تخفيف الاحتقان والتوتر الاجتماعي وكذلك تخفيف التوتر السائد في علاقاتنا مع المنافسين والخصوم على المستوى الدولي -يتطلب أن نؤسس في نفوس وعقول الصغار والكبار أن الخير في الناس، وكذلك الشر ليس مطلقاً؛ حيث لم يجعل الله -جل ثناؤه- الفضائل حكراً على أمة أو جيل أو مجتمع، كما أنه لم يجعل الرذائل كذلك. ويتطلب كذلك أن نؤسس في الأذهان أن هناك واجباً دون واجب وحراماً دون حرام وأذى دون أذى ونجاحاً دون نجاح وإخفاقاً دون إخفاق... وأعتقد أنه في زمان شديد التعقيد وكثير الغموض بات الأطفال -على نحو أخص- بحاجة إلى تربية تنمي لديهم فقه الموازنات، وهذا الفقه يقوم على عدد من المبادئ المهمة، منها:
- لكل شيء ثمن، وهذا الثمن قد يكون وقتاً، وقد يكون جهداً، وقد يكون مالاً، وقد يكون سحباً مما لدى المرء من رصيد الالتزام أو الكرامة أو السمعة...
- من تلك المبادئ أيضاً ضرورة العمل على تحقيق خير الخيرين، ودفع شر الشرين، فقد نفوِّت خيراً أصغر من أجل الحصول على خير أكبر. وقد ندفع شراً أكبر بالوقوع في شر أصغر. وقد نحتمل الضرر الأصغر من أجل تحاشي الوقوع في ضرر أكبر.
من خلال الحوار بوصفه صبغة عامة للاتصال والمعايشة نتبادل رسالة عظيمة قائمة على نفسية الرخاء وعقلية السعة، حيث يوقن الجميع أن في إمكان المرء تحقيق ذاته، والوصول إلى أهدافه وبلورة آرائه على الرغم من إتاحته الفرصة للآخرين بأن ينقدوه ويجادلوه، ويعترضوا على بعض ما يقول. وعلى العكس من هذا فإنه حين ينعدم أو يضعف الحوار في مؤسسة أو أسرة أو مدرسة... فإن كل واحد من الذين يعيشون في تلك المحاضن يشعر بالعوز والضيق وقلة الفرص، ويسود اعتقاد بأن تقدُّم فلان ونجاحه لا يتم إلا على حساب الآخرين، كما أن نجاح أي واحد من الأقران والزملاء لا يتم إلا إذا تضرر وتراجع! وهذا بسبب سيطرة فلسفة خفية توحي للناس بأنه ليس في الأرض من الخير ما يكفي لإسعاد الجميع، فتسيطر عقلية الشح حتى في الأفكار والآراء، فالأمور محسومة، فإما أن يكون الحق معي أو معك. وإما أن أكون أنا على الطريق الصحيح، وإما أن تكون أنت، حيث لا يتوفر لدينا طريق ثالث!
أما حين يسود الحوار فسيدرك الناس -ولو بطريقة غير واضحة- أن هناك دائماً طريقاً ثالثاً وفكرة معدلة، حيث إنه ما احتك مفهوم بمفهوم مناقض إلا أمكن أن يتولد عن هذين المفهومين مفهوم ثالث، هو أرقى منهما لأنه ثمرة لرؤية مشتركة، ونتيجة لتلاقح العقول الفذة.
ولنتأمل في قول الله -جل وعلا-:"الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً والله واسع عليم".
إننا من خلال الحوار نكتشف القواسم المشتركة، ونجد أن الذي يقف في أقصى اليمين يتواصل على نحو ما مع الذي يقف في أقصى اليسار؛ لأن الحوار يتطلب بطبيعته بلورة قواعد جديدة واكتشاف أرضيات لم يسبق لنا عهد بها. إن الحوار بالنسبة إلى الكبار أشبه باللعب بالنسبة إلى الصغار، ولو أنك أعطيت مجموعة من الأطفال دراجة -مثلاً- ليلعبوا عليها فإنك ستجد أنهم خلال دقائق توصلوا إلى بلورة قاعدة لتداولها والاستمتاع بها، وهكذا نحن الكبار فإننا في حوارنا المتواصل مع بعضنا ومع أسرنا وأطفالنا نستطيع بلورة العديد من المبادئ والأدبيات والرمزيات التي تجمع بيننا، وتقربنا من بعضنا.
إن الحوار يحجم الخلاف في العديد من الأمور، ويزيل سوء الفهم وسوء التقدير وسوء الظن الذي يسود في حالات التدابر والتجافي. وهذا يمهد الطريق للتعاون والتعاضد والعمل معاً وكأننا فريق واحد.
ولا بد هنا أن أشير إلى نقطة مهمة، وهي أن الحوار يُنعش فيمن نربيهم ونعلمهم الشهية لطرح الأسئلة، حيث إنه بطبيعته يتضمن ما لا يحصى من الأسئلة، إن المحاور يستفهم من محاوره عن بعض الغوامض، ويطلب منه الدليل على بعض ما يورده من أقوال وآراء ومسائل، كما أنه كذلك يعترض من خلال الأسئلة على بعض ما يقوله محاوره... وهذا كله يمرن الأطفال والناشئة والشباب والكبار على أن يفضوا بما في أنفسهم، وأن يسألوا عن الأشياء غير المنطقية وغير المستساغة مما يرون ويسمعون. والحقيقة أن كثيراً من ينابيع الحكمة يتفجر، وكثيراً من شرارات الإبداع والابتكار ينقدح ويتوهج من خلال الأسئلة التي يطرحها النابهون والسائرون في دروب النجاح والتفوق.
إن طريق الحوار هو طريق المستقبل وهو طريق النهوض وطريق الفهم العميق والرؤية الثاقبة، كما أنه طريق التآخي والتعاون، وإذا لم نسلك هذا الطريق، فقد يكون الطريق الذي نسلكه هو طريق التباغض والتجافي والتعانف والانغلاق وسوء الفهم، وهذا ما لا يتناسب مع الرؤية الإسلامية للمستقبل، كما لا يتناسب مع الأدبيات الإسلامية في العلاقات الاجتماعية.
والله من وراء القصد.
كاتب المقال: د. عبد الكريم بكار
المصدر: موقع الدكتور عبد الكريم بكار
===============(1/276)
المناخ الأسري السليم وسِماته
من حكمة الله ـ عز وجل ـ أنه جبل الإنسان على حاجات نفسية تساعده على البقاء، وتحميه من الهلاك، ويتعدى دورها في أحيان كثيرة إلى الحماية من الانحراف والضياع.
وهذه الحاجات قد تكون ظاهرة ومعلومة للجميع، مثل: الحاجة إلى الغذاء أو الحاجة إلى النوم ونحو ذلك؛ إلا أن الكثير من الحاجات النفسية المؤثرة في حياة الإنسان لا تكون معلومة إلا للمتخصص مما يعظم دوره في النفع العام وخدمة المجتمع، ويُعْظِم كذلك المسؤولية الواقعة على كاهل كل منا في تثقيف الذات ورفع مستواها في المجالات المؤثرة في مسيرتها في الحياة.
ومن رحمة الله بعباده أن جعل بعض السلوكيات والعادات الإنسانية خادمة لاحتياجات كثيرة ومتعددة في وقت واحد، بل من رحمته أن جعل هذه الحاجات متداخلة ويشبع بعضها بعضاً.
ومن الطباع البشرية المشبعة لاحتياجات نفسية متعددة: الأسرة؛ فهي مغذية لحاجة الأبوة والأمومة والحب والحنان والجنس بالنسبة للزوجين، والخبرة والتقدير والمسؤولية والسلطة الضابطة والانتماء والإنجاز؛ إلى آخر القائمة من الحاجات. وليس هدفنا من هذا المقال تفصيلها وبيان كيفية إشباعها، بل الهدف بيان السمات الأسرية المعينة والمحققة للدور الأسري الفعال.
ولعلنا نذكر تلك السمات على شكل نقاط فيكون أوضح للمراد وأخصر للمقال، ولا يعني ترتيب السمات تسلسل الأهمية، بل كل السمات مهمة، وتوافرها متكاملة يعطينا المناخ الأسري السليم، وبحسب النقص فيها يحصل الخلل في مناخ الأسرة:
? السمة الأولى: تتسم عملية التأديب والتربية في المناخ الأسري السليم بالإيجابية:
وجوانب الإيجابية هنا متعددة، ومن ذلك:
1 - الحب والقبول غير المشروط:
أخرج الشيخان عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قَبَّلَ النبي -صلى الله عليه وسلم - الحسن بن علي ـ رضي الله عنهما ـ فقال الأقرع بن حابس: إن لي عشرة من الولد ما قبَّلت منهم أحداً. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم - : "من لا يرحم لا يُرحم".
التقبيل ما هو إلا مؤشر من مؤشرات الحب والرحمة من الوالد لولده، ودلائل هذه المحبة كثيرة ومتعددة، والأصل ظهورها من الوالد لولده ومعرفة الولد لها، والبعد عن وضع الشروط والمقاييس لمنح هذه المحبة للولد. والشرط الوحيد الذي من الممكن دخوله في هذا الأمر هو القرب والبعد عن الإسلام أو الطاعة كما في عقيدة الولاء والبراء؛ فهذا المقياس يدخل فيه جميع الخلق سواء كانوا من الأقارب أو الأباعد؛ ولذا قال الله ـ عز وجل ـ لنوح ـ عليه السلام ـ الأب الذي يرجو ربه أن ينقذ ابنه من الغرق: {وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالَ رَبِّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وإلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ} [هود: 45 - 47].
فمن القوة في التفريق والإبعاد نفي كونه من أهله، والسبب في ذلك الفرق الاعتقادي بين الوالد وولده.
أما في غير هذا الشرط فالأصل أن يُعطَى الولد مطلق المحبة، ولا نقيدها بنجاح أو إخفاق، ولا بموافقة أو مخالفة، ولا بحسن مظهر أو سوئه. يقول الدكتور عبد الكريم بكار: "يحبنا أطفالنا؛ لأننا نقدم لهم حباً غير مشروط، وهذا ما علينا أن نفعله؛ فالأولاد هدية من الله ـ تعالى ـ وعلينا أن نتقبل تلك الهدية مهما كان شأنها".
ويقول الدكتور كمال دسوقي: "يحتاج الأطفال من الناحية الانفعالية أول ما يحتاجون إلى الشعور بالأمان العاطفي؛ بمعنى أنهم محبوبون كأفراد ومرغوب فيهم لذاتهم وأنهم موضع حب وإعزاز الآخرين".
وتقول الدكتورة هدى قناوي: "ولا شك أن تقبُّل الطفل غير المشروط على ما هو عليه يؤثر في فكرة الطفل عن نفسه، وتوجد علاقة وثيقة بين تقبل الذات وتقبل الآخرين، ومن ثم يمكن القول إن تقبل الطفل على ما هو عليه يعزز إيجابية مفهوم الفرد عن ذاته وتقبله لها وتكيفه مع الآخرين مما يؤثر في النهاية على سلامة صحة الطفل النفسية").
ولا يعني الحب غير المشروط التسليم بالأخطاء، بل السعي لعلاجها بالطرق التربوية الإيجابية مع توافر ذلك الحب.
2 - التركيز على الإيجابيات:
يقول علماء الهندسة النفسية: "ما تركز عليه تحصله"، وهذا الأمر ينطبق على النظرة إلى الذات وكذلك النظرة إلى الآخرين، ومنهم أعضاء المجتمع الأسري. فتركيز النظرة على الجوانب الإيجابية في أعضاء الأسرة يزيل بالتدريج ـ ومن غير أن نشعر ـ الجوانب السلبية لديهم. عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم - : "لا يَفْرَكْ مؤمن مؤمنة إن كره منها خُلُقاً رضي منها آخر"، فلا يخلو إنسان من إيجابيات تستحق التشجيع والثناء، وهذا التركيز هو نوع من أنواع التعزيز للصفة الإيجابية مما يوسع دائرة الإيجابيات على حساب دائرة السلبيات. يقول الدكتور عمر المفدى خلال كلامه عن تكوُّن مفهوم الذات لدى الأطفال: "أما كيف تنشأ هذه الأفكار التي تشكل مفهوم الذات؟ فإنها تنشأ من خلال ردود أفعال الآخرين تجاه الشخص أو تجاه سلوكه؛ فالطفل الذي يكرر عليه الآخرون أنه جيد وحلو وذكي وغيرها من الصفات الإيجابية من المتوقع أن يتجه مفهومه عن ذاته للإيجابية؛ بينما الطفل الذي يكرر على مسامعه بأنه طفل سيِّئ أو شرير أو غبي وغيرها من الصفات السلبية؛ فمن المتوقع أن يتجه في مفهومه لذاته نحو السلبية". ومن مشاكل النظرة السلبية أنها لا تؤثر على المتربي أو الآخر فقط، بل تؤثر على نفس المربي فتجعله يغفل أو لا يستطيع أن يرى الإيجابيات، بسبب الغشاوة التي وضعها على عينيه لعدم عدله بالتركيز؛ ويوافق هذا الأمر قول الشاعر:
وعين الرضا عن كل عيب كليلة ولكن عين السخط تبدي المساويا
3 - الحماية المسبقة من السلبيات:
فالوقاية خير من العلاج، والعلاج في القضايا التربوية والنفسية قد لا يستطيع إزالة العلة أو المرض أو المشكلة التربوية تماماً، بل في أحيان كثيرة لا بد من بقاء نسبة ولو قليلة من آثار ومظاهر تلك المشكلة؛ وهنا تكمن الخطورة؛ ولذا أصبح البحث عن الدروع الواقية والمانعة من وجود السلبيات من أقوى طرق التربية. وعندما رأى النبي -صلى الله عليه وسلم - مع عمر صحيفة فيها شيء من التوراة غضب، وقال: "أمُتَهَوِّكون فيها يا ابن الخطاب؟ والذي نفسي بيده! لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به، أو بباطل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده! لو أن موسى ـ عليه السلام ـ كان حياً ما وسعه إلا أن يتبعني"، وما كان النبي -صلى الله عليه وسلم - ليفعل ذلك مع مثل عمر إلا من أجل حماية ذلك الجيل ومن بعدهم من دخول سلبيات الأمم الأخرى عليهم أو وقوعهم في الخلل في مصدر التلقي، فكانت الشدة في أول الأمر مع ما يُتصور أنه سهل ويسير للحماية مما هو أشد وأعظم.
ومن جوانب الحماية المسبقة من السلبيات ما يلي:
أ - تنمية الانضباط الداخلي:
عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: كنت خلف رسول الله يوماً، فقال: يا غلام! إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفِعَت الأقلام وجفَّت الصحف". في هذا الحديث يُعلِّم النبي -صلى الله عليه وسلم - هذا الغلام الصغير قواعد أساسية في الانضباط الداخلي يحتاج إليها الكبير قبل الصغير.
فمن أقوى جوانب تنمية الانضباط الداخلي لدى الإنسان تقوية مراقبة الله في قلبه، ووسائل تنمية ذلك متعددة وكثيرة، وليس هذا موضع بسطها.
ومن جوانب الانضباط الداخلي معرفة المعايير الاجتماعية ومعايير الأسرة وغرس الاهتمام بها وتقديرها لدى المتربي. وسيأتي الكلام عنها في السمة الثانية.
ب - اختيار البيئة الصالحة لأفراد الأسرة:
أمر النبي -صلى الله عليه وسلم - أصحابه بالهجرة إلى الحبشة لما اشتد بهم الأذى وفتنوا في دينهم، فكان اختياره للحبشة كبيئة جديدة للمهاجرين معللاً بأن فيها ملكاً عادلاً لا يُظلم عنده أحد، وبناءً على ذلك سيكون لديهم القدرة على أداء عباداتهم والتمسك بدينهم ومنع أي مؤثر خارجي على هذا الجانب. ولم يكتف النبي -صلى الله عليه وسلم - بتلك البيئة المناسبة لوجود بعض السلبيات فيها، بل ما زال -صلى الله عليه وسلم - يبحث عن بيئة أفضل من تلك البيئة، فعرض نفسه على قبائل العرب حتى تحققت له الفرصة وبايع الأنصار وهاجر إلى المدينة؛ ومن هناك تحققت الانطلاقة الكبرى للدين الجديد وبلغ الآفاق، وتربى أتباعه في بيئة إسلامية صافية وسالمة من كل سمات الجاهلية. وهذا الأسلوب ـ وهو أسلوب البحث عن البيئة الصالحة ـ من أهم أساليب التربية الاستباقية ـ إن صح التعبير ـ إذ فيها تربية جماعية، واختصار لجهد المربي وبعد عن الانشغال ببُنَيَّات الطريق. فعلى رب الأسرة لكي يحمي أسرته من السلبيات أن يختار لهم البيئة الصالحة. والمراد بالبيئة هنا الحي والمدرسة، بل ما يشاهد وما يسمع وما يقرأ، بل يتجاوز الأمر ذلك إلى اختيار أقارب الأسرة الذين يستطيع رب الأسرة قبولهم أو رفضهم وهم أخوال أبنائه؛ إذ عليه أن يختار لهم أماً من بيئة صالحة تساعد أبناءه على الاستقامة والنجاح؛ إلا أن هذا الاختيار محصور بما قبل الزواج ومجيء الأولاد؛ فإذا تم ذلك فقد انتهى الاختيار.
4 - الاتفاق بين الأبوين على طرق التربية وتبادل الأدوار:
فوسائل التربية متعددة وما يناسب أسرة قد لا يناسب أخرى، والأدوار المطلوبة من كلا الوالدين مختلفة، وعلى الوالدين تحديدها وعقد الاجتماعات الخاصة بينهما من أجل مناقشة قضايا الأسرة، وحل المشاكل التي قد تطرأ بينهما بعيداً عن نظر بقية أفراد الأسرة. ومن الأخطاء التي تقع فيها كثير من الأمهات إخفاء الجوانب السلبية لدى الأولاد عن والدهم: إما خوفاً عليهم من سطوة والدهم، أو ظناً منها إمكانية الحل دون علمه، أو مخالفته بسلبية هذا الجانب. ومما يقع فيه الآباء ويسبب هذه المشكلة لدى الأمهات الشدة والغلظة الدائمة أو اللامبالاة والانشغال عن بيته بصحبه وجلسائه أو أعماله، وتتعدى دائرة الاتفاق الأبوين ويدخل فيها الإخوة الكبار والأقارب الذين لهم احتكاك دائم بأفراد الأسرة.
يقول الدكتور عبد الكريم بكار: "ولا ينبغي أن ننسى أهمية التنسيق بين باقي أفراد الأسرة؛ فالأجداد والجدات والعمات والخالات والإخوة الكبار يستطيعون إجهاض العديد من السياسات والجهود التربوية للأبوين"، ويقول الدكتور مأمون مبيض: "إنه لأمر معين ونافع أن يكون لك أقرباء جيدون يسكنون بقربك؛ حيث يقدمون لك المساعدة العملية والمعنوية، ولا شك أن هذا الدعم المعنوي والنفسي أمر مفيد جداً؛ لأنك قد تتعرض لبعض القلق وانشغال البال وأنت تعمل على تنشئة ولدك".
? السمة الثانية: تتضح فيه معايير المقبول والمرفوض:
عن وهب بن كيسان قال: أُتي رسول الله -صلى الله عليه وسلم - بطعام ومعه ربيبه عمر بن أبي سلمة فقال: "سَمِّ الله، وكُلْ بيمينك، وكُلْ مما يليك".
وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن الحسن بن علي أخذ تمرة من تمر الصدقة، فجعلها في فيه، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم - بالفارسية: "كخ كخ! أما تعرف أنَّا لا نأكل الصدقة؟".
في هذين الحديثين يبين النبي -صلى الله عليه وسلم - للصغيرين معايير عليهما الالتزام بها.
ووضوح هذه المعايير لدى أفراد الأسرة له دور في الاستقرار النفسي كما أن له دوراً في المشاركة العملية والإنجاز داخل الأسرة وخارجها؛ لأن الفرد قد عرف ماله وما عليه؛ فتبين له المراد، وسهلت عليه المنافسة، واستطاع تحقيق حاجة أساسية من الحاجات النفسية وهي الحاجة إلى إرضاء الآخرين وإرضاء المجتمع.
يقول الدكتور حامد زهران: "ويحتاج الطفل إلى مساعدة في تعليم المعايير السلوكية نحو الأشخاص والأشياء. ويحدد كل مجتمع هذه المعايير السلوكية، وتقوم المؤسسات القائمة على عملية التنشئة الاجتماعية ـ مثل الأسرة والمدرسة ووسائل الإعلام وغيرها ـ بتعليم هذه المعايير السلوكية للطفل مما يساعد في توافقه الاجتماعي. إن الطفل يحتاج إلى المساعدة في تعلم حقوقه، وما له وما عليه، وما يفعله وما لا يفعله، ما يصح وهو في خلوة وما يصح وهو في جماعة، ما يصح وهو في حدود الأسرة وما يصح وهو خارج نطاقها... إلخ. ويحتاج إشباعُ هذه الحاجة من جانب الكبار إلى كثير من الخبرة والصبر والثبات والفهم).
? السمة الثالثة: له مواعيد منضبطة وقواعد واضحة:
عن أبي برزة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - "كان يكره النوم قبل العشاء والحديث بعدها".
وعن جابر ـ رضي الله عنه ـ عن النبي -صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا استجنح الليل ـ أو قال: جنح الليل ـ فكفُّوا صبيانكم؛ فإن الشياطين تنتشر حينئذٍ؛ فإذا ذهب ساعة من العشاء فخلُّوهم، وأغلق بابك واذكر اسم الله، وأطفئ مصباحك، واذكر اسم الله وأَوْكِ سقاءك، واذكر اسم الله، وخمِّر إناءك، واذكراسم الله ولو تعرض عليه شيئاً".
هذا جانب من تنظيم الإسلام للحياة الأسرية؛ وما اهتم الإسلام بهذا الجانب إلا لدوره وأثره النفسي والتربوي.
يقول الدكتور عبد الكريم: "من مسؤوليات الأم إشاعة النظام في بيتها، فتجعل وقتاً محدداً لتناول وجبات الطعام، كما تجعل وقتاً لنوم الأطفال وأوقاتاً يُنهون فيها مذاكراتهم وواجباتهم؛ إن مثل هذه الترتيبات والتنظيمات ترسِّخ في حس الأبناء معنى الانضباط والاهتمام بالوقت".
ويقول الدكتور إبراهيم الحارثي: "تَعَوَّدْ وضع قوانين لك ولأسرتك، وأشرك جميع أفراد أسرتك في صياغة القوانين العائلية. اعقد جلسات أسرية لمناقشة القانون الذي تضعه لحل مشكلة ما، ركِّز دائماً على الالتزام بالقوانين الأسرية التي تضعونها جميعاً".(1/276)
ومن القواعد التي لا بد من وضوحها لدى أفراد الأسرة عواقب السلوك وما يترتب عليه من ثواب أو عقاب؛ إذ في ذلك شعور بمسؤولية الفرد عن تصرفاته وتحمله ما يترتب عليها وتقبُّله لتلك العواقب عند وقوعها؛ إذ يشعر الكل أن ما تم هو نتيجة طبيعية ترتبت على سلوك معين؛ فلا يترتب على العقاب الشعور بالظلم والقهر والتسلط، ولا يترتب على الثواب الغيرة أو الشعور بتفضيل أحد أفراد الأسرة على حساب الآخر.
ولكي تحقق هذه القواعد والضوابط أهدافها لا بد من وجود سلطة ضابطة يشعر أعضاء الأسرة بوجودها، وهذه السلطة حاجة أساسية من الحاجات النفسية في الطفولة والمراهقة، والناس فيها بين إفراط وتفريط، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم، والزيادة في السلطة والتشديد فيها يؤدي إلى وجود الصراع بين الكبار والصغار في الأسرة، بل ويؤدي إلى انفراط السيطرة في النهاية.
والإخلال في السلطة وعدم القيام بها يؤدي إلى الضياع والفوضى داخل المجتمع الأسري، والمطلوب سلطة ضابطة تجمع بين الحزم والحنان والرحمة، وتراعي مراحل النمو وتندرج نحو الاستقلال والحرية.
? السمة الرابعة: تتبادل فيه المسؤوليات والأدوار:
عن عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم - يقول: "كلكم راع ومسؤول عن رعيته؛ فالإمام راع وهو مسؤول عن رعيته، والرجل في أهله راع وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة في بيت زوجها راعية وهي مسؤولة عن رعيتها، والخادم في مال سيده راع وهو مسؤول عن رعيته. قال: فسمعت هؤلاء من رسول الله -صلى الله عليه وسلم - ، وأحسب النبي -صلى الله عليه وسلم - قال: والرجل في مال أبيه راع وهو مسؤول عن رعيته؛ فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته".
ولو تتبعنا منهجية النبي -صلى الله عليه وسلم - في تربية أصحابه لوجدنا توزيع المهام والمسؤوليات واضحاً وجلياً؛ فمنهم من تولى جانباً عملياً، ومنهم من أُعد لجانب علمي، ومنهم من تولى شأناً من شؤون النبي -صلى الله عليه وسلم - وخدمته.
والأدوار التي من الممكن تبادلها داخل الأسرة كثيرة ومتعددة، ومن الممكن تجزئتها أو دمجها حسب عدد أفراد الأسرة، ويأتي على رأس القائمة الوالدان وتبادلهما للدور التربوي والقيادي في الأسرة واتفاقهما على ذلك كما ذكر في السمة الأولى.
وإنه لمن المحزن في هذا العصر أن تجد شباباً قد قاربوا سن الزواج ولَمَّا يستطيعوا إدارة شؤونهم وحوائجهم الخاصة، فلا توجد لديهم قدرة على بيع أو شراء، ولا إنجاز معاملة في دائرة أو جهة، بل ولا القدرة على اختيار ما يناسبهم من ملبس ونحوه.
والفتيات ليس لديهن القدرة على إدارة منزل من طبخ أو غسل أو تربية أو استقبال ضيوف.
يقول الدكتور مصطفى فهمي: "يؤكد كثير من علماء النفس أهمية العمل في تكامل الشخصية؛ فهو وسيلة ومن وسائل التعبير عن الذات يحاول بها الفرد أن يحقق أهدافه وأن يشبع رغباته وحاجاته، وأن يحيل قيمه ومثله حقيقة واقعة، وأن يعبر عن دوافعه وصراعه وقلقه بصورة مقبولة منه ومن المجتمع في معظم الأحيان، وهو في أثناء التفاعل مع الوسط الذي يعمل فيه ينمو وتتكامل شخصيته وتتحقق ذاته ويشعر بقيمته وإنسانيته. وذكر الدكتور عبد العزيز النغيمشي عند كلامه عن التهيئة لتحمل المسؤولية أن من ضمن المجالات التي تعين على ذلك المشاركة الأسرية، وعلل ذلك بقوله: "إذ إن الأسرة كالمجتمع الصغير لها أعضاء وأنظمة وقيادة وميزانية وبرامج وعادات، ويمكن من خلالها ممارسة كثير من الأدوار والمسؤوليات. والأسرة هي المحضن الأول للفرد الذي فيه يترعرع وينشأ؛ ووفق كيفية النشأة والتربية في الأسرة تكون استقلاليته أو تبعيته وإقدامه أو إحجامه".
إلا أن إعطاء هذه الأدوار والمسؤوليات لا بد أن يكون بتدرج وتدريب مسبق ومراقبة من المربي لئلا يؤدي ذلك إلى نتيجة عكسية.
? السمة الخامسة: يشجع المشاركة الاجتماعية:
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم - : "كل سلامى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس: يعدل بين الاثنين صدقة، ويعين الرجل على دابته فيحمل عليها أو يرفع عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وكل خطوة يخطوها إلى الصلاة صدقة، ويميط الأذى عن الطريق صدقة".
وقال -صلى الله عليه وسلم - : "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرَّج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة".
إن تحميل الهم العام للأمة، وغرس حب خدمة الآخرين وتقوية الشعور بالانتماء للمجتمع الذي يعيش فيه الفرد كل ذلك يساعد الفرد في اكتشاف الذات، وتحقيق الإنجاز الذي هو حاجة من الحاجات النفسية التي يحتاج الإنسان إلى إشباعها، وهي في الوقت نفسه وسيلة من وسائل بناء وتطوير الذات وتوسع دائرة العلاقات لدى الفرد.
ومن المجالات المتاحة في المشاركة الاجتماعية النشاط المدرسي اللامنهجي من توعية إسلامية، ونشاط كشفي، وجماعات النشاط الطلابي المتنوعة؛ ففي هذا المجال غرس البذرة الأولى للمشاركة الاجتماعية لدى أفراد الأسرة ممن ينتمون إلى التعليم باختلاف مراحله، ومن المجالات المتاحة في المشاركة الاجتماعية المؤسسات والجمعيات الخيرية النفعية أو الدعوية أو العلمية.
وعلى الوالدين إعانة أولادهم على المكان الأنسب لهم من بين تلك المجالات وفتح المجال لهم للاختيار.
واندماج أفراد الأسرة في البرامج الاجتماعية المتنوعة يساعد الأسرة في صقل شخصيات أفرادها وقوة الارتباط الأسري، والبعد عن سفاسف الأمور والانشغال بالترهات الملهية مما يرفع قوة الطرح في الجلسات الأسرية، ويفتح المجال لتبني مشاريع أسرية مشتركة، بل يؤثر تأثيراً ظاهراً في الأجيال المتتابعة من الأسرة الواحدة.
يقول الدكتور أمين أبو لآوي مبيناً مكانة المشاركة الاجتماعية في التربية الإسلامية: "تتجه التربية الإسلامية إلى زرع بذور التعاضد والتماسك والتضامن في نفوس الناشئين من أجل تحقيق اتجاه العمل الجماعي والشعور بالمسؤولية عن الجماعة؛ وذلك عن طريق إبراز أهمية العمل المنظم والهادف إلى رصِّ الصف وتنسيق الجهود الفردية لخدمة الأهداف العليا في المجتمع الإسلامي".
? السمة السادسة: يشجع النجاح والتميز:
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم - : "نِعْمَ الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل. فكان عبد الله بعدُ لا ينام من الليل إلا قليلاً".
وعن عبد الرحمن بن سمرة ـ رضي الله عنه ـ قال: "جاء عثمان إلى النبي -صلى الله عليه وسلم - بألف دينار حين جهز جيش العسرة فينثرها في حجره. قال عبد الرحمن: فرأيت النبي -صلى الله عليه وسلم - يقلبها في حجره ويقول: "ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم".
وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم - للأشج، أشج عبد القيس: "إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة".
ولو تتبعنا سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم - لوجدنا فيها مواقف متعددة لاستنفار الطاقات وتشجيع المواهب.
وهذا الجانب يعطي الشعور بالثقة وتقدير الآخرين للمتربي، ويقوي فاعليته وانتماءه للجهة التي منحته الفرصة لإظهار ما لديه من قدرات، ويساعد في تكرار النجاح والحرص عليه.
يقول الدكتور مأمون مبيض: "من الأهمية بمكان أن يبذل الآباء بعض الجهد في تعلم أساليب التشجيع فهو من أهم الأمور التي يمكنهم استعمالها في التربية وهو من الأمور المؤثرة في الأنواع الأخرى من السلوك".
وتشجيع النجاح والتميز في الأسرة لا يكون عن طريق التمييز في الحقوق بين أعضائها أو الاهتمام ببعضهم وإهمال الآخرين، بل يكون بغرس المفاهيم الصحيحة للنجاح، وفتح المجال للإنتاج والإبداع، وتوفير الوسائل المساعدة على ذلك والتحفيز المدروس والصادق الواقعي لمظاهر النجاح لدى أفراد الأسرة.
? السمة السابعة: لديه أوقات للمرح والفكاهة والاستجمام:
عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ "أنها كانت مع النبي -صلى الله عليه وسلم - في سفر قالت: فسابقته فسبقته على رجلي، فلما حملت اللحم سابقته فسبقني، فقال: هذه بتلك السبقة".
وعنها ـ رضي الله عنها ـ قالت: "رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم - يسترني بردائه وأنا أنظر إلى الحبشة يلعبون في المسجد حتى أكون أنا التي أسأم، فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن الحريصة على اللهو".
وعن عبد الله بن شداد عن أبيه قال: خرج علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم - في إحدى صلاتَيِ العشاء وهو حامل حَسناً أو حُسيناً، فتقدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم - فوضعه، ثم كبَّر للصلاة، فصلى، فسجد بين ظهراني صلاته سجدة أطالها. قال أبي: فرفعت رأسي وإذا الصبي على ظهر رسول الله -صلى الله عليه وسلم - وهو ساجد، فرجعت إلى سجودي، فلما قضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم - الصلاة قال الناس: يا رسول الله! إنك سجدت بين ظهراني صلاتك سجدة أطلتها حتى ظننا أنه قد حدث أمر أو أنه يوحى إليك. قال: "كل ذلك لم يكن ولكن ابني ارتحلني فكرهت أن أُعَجِّله حتى يقضي حاجته".
وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قالوا يا رسول الله إنك تداعبنا، قال: "إني لا أقول إلا حقاً".
إن إغناء أفراد الأسرة عن الالتفات إلى خارج الأسرة أو البحث عمن يشبع حاجة من حوائجهم أمر مهم، وعلى قائد الأسرة الاهتمام به. والمرح والفكاهة والاستجمام من الأشياء المهمة المهملة من الكثير من الآباء لعدم الاقتناع، أو لكثرة مشاغله، وقد اعتبر الكثير من التربويين اللعب والمرح وسيلة من وسائل التربية، بل أُلِّف في ذلك كتب متعددة ورسائل متخصصة.
يقول خالد العودة: "للترويج دور مهم في التربية الخلقية والروحية إضافة إلى دوره في الجوانب الأخرى، والأسرة محتاجة إلى اللعب والترويح حاجة أساسية كحاجتها للطعام والشراب أحياناً".
ووسائل الترويح في الأسرة المسلمة متعددة، ومن ذلك المداعبة والمزاح والنزهة والرحلة الأسرية، وتوفير لعب الأطفال الهادفة، والتجمعات العائلية، وزيارة المتاحف والمعارض المفيدة، وتوفير الكتب والأشرطة السمعية والمرئية وبرامج الحاسب الآلي التعليمية والترفيهية ووسائل الإعلام؛ إلى آخر القائمة من الوسائل التي بإمكان الأب توفيرها لأسرته وفق الضوابط الشرعية.
يقول خالد العودة: "وإدارة الترويح المنزلي تتميز بكونها شأن أسري خاص يصعب التحكم فيه من خارجها، ولذا تزداد مسؤولية الوالدين في اختيار الأنماط والتطبيقات المناسبة".
? السمة الثامنة: يتسم بالمرونة ومراعاة الظروف:
الأسرة محضن تربوي يستمد مكانته من النصوص الشرعية التي هي بدورها منضبطة بقواعد من ضمنها: "لا ضرر ولا ضرار" و "المشقة تجلب التيسير" وعدم المؤاخذة عند الجهل أو النسيان أو الإكراه.
ولا يخلو عضو من أعضاء الأسرة من ظروف تمر به وتمنعه من تحقيق الأهداف العامة للأسرة من مرض ومشاغل وتعكُّرِ مزاجٍ وقلة ذات اليد، ونحو ذلك.
فلا يعني وجود خطط أو أهداف أو اتفاقيات محددة داخل الأسرة أن نكون صارمين في تحقيقها؛ فقد تضطر الأسرة لتأجيل بعض برامجها أو إلغائها، أو قد تضطر للتعامل بطريقة معينة مع أحد أفرادها؛ لأنه يمر بمرحلة نمو معينة، أو قد تتنازل الأسرة عن بعض مطالبها لصعوبات مالية تمر بها.
ولو تتبعنا سنة النبي -صلى الله عليه وسلم - في ذلك لوجدنا اليسر والسهولة والبساطة.
عن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم - عند بعض نسائه، فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين بصحفة فيها طعام فضربت التي النبي -صلى الله عليه وسلم - في بيتها يد الخادم فسقطت الصحفة، فانفلقت، فجمع النبي -صلى الله عليه وسلم - فلق الصحفة، ثم جعل يجمع فيها الطعام الذي كان في الصحفة، ويقول: غارت أمكم. ثم حبس الخادم حتى أتى بصحفة من عند التي هو في بيتها، فدفع الصحفة الصحيحة إلى التي كُسِرت صحفتها، وأمسك المكسورة في بيت التي كَسَرَت".
قال أنس ـ رضي الله عنه ـ: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم - من أحسن الناس خُلُقاً، فأرسلني يوماً لحاجة فقلت: والله! لا أذهب، وفي نفسي أن أذهب لما أمرني به نبي الله -صلى الله عليه وسلم - قال: فخرجت حتى أمرَّ على صبيان وهم يلعبون في السوق؛ فإذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم - قابض بقفاي من ورائي، فنظرت إليه هو يضحك، فقال: يا أُنَيْسُ! اذهب حيث أمرتك! قلت: نعم أنا اذهب يا رسول الله! قال أنس: واللهِ لقد خدمته سبع سنين أو تسع سنين ما علمت قال لشيء صنعتُ: لِمَ فعلتَ كذا وكذا، ولا لشيء تركتُ: هلاَّ فعلتَ كذا وكذا!".
ولا يعني ذلك اللين أو المداهنة في المحرمات، بل على رب الأسرة حمايتها من كل ما يخالف الشرع، والإنكار على من وقع في منكر منهم مع اعتبار الآداب الشرعية في ذلك.
عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن قريشاً أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا: ومن يكلم فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم - ؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله -صلى الله عليه وسلم - ؟ فكلمه أسامة فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم - : "أتشفع في حد من حدود الله؟ ثم قام فاختطب، ثم قال: إنما أهلكَ الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله! لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها".
ومن المرونة في الحياة الأسرية النظرة الإيجابية للمشكلات؛ فلا يخلو تجمع بشري منها. والإيجابية هنا في تقبُّل وجود المشكلة، وأنها أمر طبيعي لا يعني انتهاء العلاقة الأسرية أو فسادها. ومن الإيجابية في النظرة إلى المشكلات الأسرية السعي لعدم ترسبها في الأسرة واستغلالها كحدث تربوي.
? السمة التاسعة: يسود فيه الأدب والاحترام المتبادل:
عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم - : "ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر".
يتصور الكثير من الناس أن الأدب والاحترام عندما يُطلق يراد به احترام الأصغر لمن هم أكبر منه سواء كان ذلك في العمر أو في غيره؛ مع أن الاحترام قضية تبادلية لا يمكن أن توجد من الإنسان تجاه من لا يحترمه، ولكي يكون الاحترام سمة من سمات أسرنا علينا أن نسعى لتوفير سمات المناخ الأسري السليم في أسرنا؛ إذ بتوفيرها يشعر عضو الأسرة بالانتماء إليها والحرص على مصالحها ومحبته لأعضائها، وعلينا كذلك أن نحرص على توفير أمرين مهمين لهما أثرهما في الاحترام المتبادل.
أ - العدل بين أفراد الأسرة:
في الحقوق والواجبات وعدم إشعار أحد منهم أن غيره مقدم عليه أو أفضل منه.
يقول الدكتور عادل رشاد: "إن عطاءنا لأبنائنا يجب أن يكون متوازناً بشكل عام؛ فلا ينبغي أن يشعر الأبناء بأنك تفضل بعض أطفالك على بعضهم الآخر، وأي اختلال لهذه القاعدة كفيل ببعث الغيرة والكراهية ومن ثَم تهيئة أسباب النزاع بين الإخوة". ويقول مجاهد ديرانية: "إن التفضيل في المحبة بين الأولاد خطأ فادح؛ أما إظهار ذلك والتصريح به فهو خطيئة، بل هو جريمة لا تغتفر ولا تعود أضرار ذلك على المفضولين فقط بأن ينشؤوا ساخطين أو معقَّدين، بل إن الضرر يكون أوسع من ذلك؛ بحيث يسود بين الإخوة أنفسهم روح الحسد والضغينة ومشاعر الكره المتبادل".
وهذا العدل لا يكون في العطاء أو العاطفة فقط، بل حتى بالتكليف والمطالبة بالمشاركة في أعمال الأسرة؛ فبعض الآباء يركز على أحد أبنائه لسرعة استجابته أو لإتقانه العمل، ويظهر ذلك في تركيز الوالدين على الابن الأول أو البنت الأولى، فتجد هذين يقومان بالكثير من أدوار الوالدين في الأسرة، وهذا الأمر يؤدي إلى سلبيات تربوية متعددة من أقلها الحقد والكره بين الإخوة؛ فالمكلف بالعمل يرى أنه قد أثقل عليه بالعمل وفتح المجال للآخرين للهو وإنجاز ما يريدون من أعمال، والآخرون يرون أن والديْهم لا يثقان بهم كما يثقان بالمكلف بالعمل.
ب - فتح باب الحوار داخل الأسرة:
إن تنفيذك للأمر وأنت مقتنع فيه لا شك أنه سيكون أفضل وأتقن مما لو فعلته بالإكراه وقوة السلطة. ومن المحال أن يتقبل الإنسان فكرة من الأفكار عن طريق الإكراه والسلطة التعسفية حتى لو أظهر خلاف ذلك تجنباً للضرر الذي قد يلحق به عند المخالفة، ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل يؤدي إلى التفكك ونشوء النجوى والثللية داخل الكيان الواحد، ولذا فمن الخير للأسرة ولكي تسود فيها الشفافية والجماعية في اتخاذ القرار أن يفتح فيها باب الحوار لنقاش المشكلات.
يقول سلمان خلف الله: "للحوار قيمة حضارية وإنسانية، وعلينا أن نعمل ونأخذ به في حياتنا وممارساتنا التربوية والأسرية، ويجب أن تؤمن به كل أمة. والحوار يخلق التفاعل الدائم بين الطفل من ناحية وبين المنهج والمعلم من ناحية أخرى؛ فلا بد أن يوصل الحوار إلى كشف الحقيقة وخاصة إذا كانت غائبة؛ فهو الوسيلة المهمة في بناء شخصية الطفل كفرد وكشخصية اجتماعية، وهو يخلق أيضاً روح المنافسة بين الأطفال، فيحملهم على الدخول في ميادين المناقشة العلمية. وكذلك يثبت فيهم روح الجماعة والتعاون، ويبعد عنهم الأنانية وحب الذات المفرط، ويبث فيهم روح الألفة والمحبة، ويعودهم على النظام والتعاون، ويساعد على الابتكار واحترام الطفل لذاته".
ومن صور الحوار التي أدت إلى المحبة والألفة والاقتناع، ومنعت من التمادي في الخلل ما رواه أبو أُمامة قال: "إن فتى شاباً أتى النبي -صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله! ائذن لي بالزنا! فأقبل القوم عليه فزجروه قالوا: مَهْ مَهْ! فقال: ادْنُهْ! فدنا منه قريباً قال: فجلس. قال: أتحبه لأمك؟ قال: لا، والله! جعلني فداءك. قال: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم. قال: أفتحبه لابنتك؟ قال: لا، والله! يا رسول الله! جعلني الله فداءك. قال: ولا الناس يحبونه لبناتهم. قال: أفتحبه لأختك؟ قال: لا، والله! جعلني فداءك. قال: ولا الناس يحبونه لأخواتهم. قال: أفتحبه لعمتك؟ قال: لا، والله! جعلني فداءك. قال: ولا الناس يحبونه لعماتهم. قال: أفتحبه لخالتك؟ قال: لا، والله! جعلني فداءك. قال: ولا الناس يحبونه لخالاتهم. قال: فوضع يده عليه وقال: اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصِّن فرجه! فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء".
فلو تعسف النبي -صلى الله عليه وسلم - ـ وحاشاه ذلك ـ لما حصلت هذه النتيجة الجميلة.
ومشكلة الكثير من المربين مع الحوار هو عدم معرفة آدابه وأساليبه، بل إن الكثير من صور الحوار لدينا تنقلب إلى موعظة أو تحقيق أو مناظرة، ومع ذلك نظن أننا نؤدي الكم والكيف المطلوب من الحوار مع من نربي، وأن الخلل أتى من قِبَلهم وليس من قِبَلنا. يقول الدكتور عبد الكريم بكار: "لم تترسخ بعدُ تقاليد الحوار الصحيح في حياتنا الاجتماعية والأسرية، ولهذا فإن من الملاحظ أننا كثيراً ما نبدأ حديثنا مع من نربيهم من أبناء وطلاب على أنه محاورة تتجلى فيه النِّدِّية، ثم ينتهي إلى أن يكون مناظرة خشنة يملى فيه الرأي إملاءً مباشراً؛ فهل نتخذ من العثور على طريقة جديدة في التفاهم هدفاً نسعى إليه؟.
? السمة العاشرة: يشعر كل فرد فيه بالانتماء والاندماج والتحمس لتحقيق أهداف الآخرين والتعاون معهم:
هذه السمة هي نتيجة لتوفر السمات السابقة ومن الغريب أن يطالب بعض المربين مَنْ تحت يده بهذا الأمر وهو قد فرط بالأمور السابقة. وجزء من هذه السمة هو حاجة نفسية أساسية لا بد من إشباعها وإلا أدى ذلك إلى العزلة والشعور بالوحشة والاغتراب. يقول الدكتور أحمد راجح: "يزداد شعور الفرد بالأمن والتقدير الاجتماعي كما يزداد اعتداده بنفسه واعتزازه بها حين ينتمي إلى جماعة قوية يتقمص شخصيتها، ويوحد نفسه بها كالأسرة القوية، أو النادي، أو النقابة، أو الشركة ذات المركز الممتاز، وتنبت هذه الحاجة في أحضان الأسرة من علاقة الطفل بأمه وأفراد أسرته، ثم تعززها أو تحبطها بعد ذلك التجارب التي يمر بها الفرد، ومتى أرضيت هذه الحاجة وشعر الفرد بالانتماء إلى جماعة معينة زاد ولاؤه لها وشعوره بأنه جزء منها يصيبه ما يصيبها على أن إرضاءها يتوقف على تقبُّل الجماعة للفرد؛ لأنه يعمل من أجلها، وعلى تقبُّل الفرد للجماعة؛ لأنها تُرضي حاجاته ومطالبه". وتقول الدكتورة هدى قناوي: "المرء في حاجة إلى أن يشعر بأنه فرد من مجموعة تربطه بهم مصالح مشتركة تدفعه إلى أن يأخذ ويعطي، وإلى أن يلتمس منهم الحماية والمساعدة؛ كما أنه في حاجة إلى أن يشعر بأنه يستطيع أن يمد غيره بهذه الأشياء في بعض الأحيان".
وعندما يتحقق الشعور بالانتماء للأسرة لدى أعضائها سيترتب على ذلك الاندماج بين أفرادها والتعاون والسعي لتحقيق أهداف الجميع لشعورهم بأهمية وأثر ذلك على حياتهم الخاصة، وعندما يستطيع المربي تقوية الجوانب الإيمانية وغرس أهمية الجانب الأخوي وتقديم ما عند الله على ما عند الناس لدى المتربين ـ عند ذلك تزول النظرة للمصلحة المادية الدنيوية في هذا الجانب أو تعظيمها.
وأخيراً: فإن الوصول لإصلاح الأمة على المستوى العام يحتاج إلى إصلاحات كثيرة على المستويات الفردية والمؤسسية، ومن المؤسسات الأولى المؤثرة في هذه الجانب كيان الأسرة، وما ذكر في هذا المقال هو جزء من الإصلاح الأسري الذي نسعى إليه، وأرجو من الله ـ عز وجل ـ أن أكون قد وفقت للصواب فيه.
بقلم / حسين بن عجاب العوفي
===================(1/276)