مقالات وبحوث الدكتور عبد الكريم بكار
جمعها وأعدها
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد :
فهذه مجموعة طيبة وممتنعة من مقالات وبحوث الدكتور عبد الكريم بكار حفظه الله
وهي بحوث فكرية عميقة حول أمراض المجتمع الإسلامي ، وكيفية علاجها بشكل دقيق ، بعيدا عن الصخب والضجيج ،وهي منوعة وشاملة
وقد قمت بجمعها - لأهميتها البالغة - من مواقع كثيرة أهمها موقعان :
موقع المسلم اليوم
وصيد الفوائد
هذا وقد بلغت حوالي مائة وتسعة عشر مقالا
وقد قمت بوضعها في الشاملة وفهرستها
وكذلك فقد قمت بفهرستها على الورد
ووضعت ترجمة مختصرة في البداية للدكتور حفظه الله
قال تعالى :
{أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ} (17) سورة الرعد
هذه الآية الكريمة في جملتها تبين أن الذي يصح ويبقى في هذه الحياة، وينتفع به الناس غاية الانتفاع إنما هو الحق. وبالمقابل فإن كل ما كان خلاف ذلك من أنواع الباطل لا وزن له ولا قيمة ولا اعتبار، وسرعان ما يزول ويضمحل .
فهذه الآية تضمنت مثلين حسيَّين، يراد منهما إيصال فكرة واحدة، مفادها: أن الحق هو المنتصر في النهاية، وهو صاحب الكلمة الفصل في معركة الحياة، وأن الباطل هو الخاسر والمنهزم في المحصلة؛ فالمثل الأول وهو قوله تعالى: { أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا } مضروب للماء الذي يُنزله الله من السماء، فيتدفق في الأرض، فيملأ الأودية التي تشكل سيولاً جارفة، تحمل معها كل ما تصادفه في طريقها من القش والورق والفضلات وغير ذلك مما لا قيمة له في الحقيقة. ثم إن هذه السيول الجارفة تشكل على سطحها رغوة بيضاء على شكل فقاعات، سرعان ما يتلاشى شكلها، وينطفئ لونها. ويبقى الماء وحده هو الذي ينتفع به الناس، حيث يرفد الأنهار، ويغذي الينابيع، ويحمل معه الخير، فيحلُّ الخصب بعد الجدب، والنماء بعد القحط، والخير بعد الشح .
والمثل الثاني هو قوله تعالى: { ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله } ضربه سبحانه للنار الحامية التي تعرض عليها المعادن بأنواعها، ومنها الذهب والفضة، بقصد إزالة شوائبها وما خبث فيها، وفي أثناء عرضها على تلك النار تطفو على سطحها طبقة سائلة أشبه بالرغوة البيضاء التي تطفو على سطح الماء، لكنها سرعان ما تتلاشى في الهواء وتضمحل هنا وهناك، ويبقى جوهر المعدن الأصيل الذي ينتفع به الناس، فيصنعون منه أدواتهم، ويستعينون به على قضاء حوائجهم .
كذلك الحق والباطل في هذه الحياة؛ فالباطل قد يظهر، ويعلو، ويبدو أنه صاحب الجولة والكلمة، لكنه أشبه ما يكون بتلك الرغوة البيضاء التي تطفو على سطح ماء السيل، والمعدن المذاب، سرعان ما تذهب وتغيب، من غير أن يلتفت إليها أحد. في حين أن الحق، وإن بدا لبعضهم أنه قد انزوى أو غاب أو ضاع أو مات، لكنه هو الذي يبقى في النهاية، كما يبقى الماء الذي تحيى به الأرض بعد موتها، والمعدن الصافي الذي يستفيد منه الناس في معاشهم حلية أو متاعاً .
على أن في الآية الكريمة - غير ما تقدم - وجهاً آخر من التمثيل، ذكره بعض أهل العلم، وهو أن الماء الذي ضرب الله به المثل في هذه الآية، إنما المراد منه العلم والهدى الذي يبعثه الله على عباده عن طريق أنبيائه ورسله ودعاته، فيأخذ الناس منه حظهم، بقدر ما ييسرهم الله له، ويوفقهم إليه. فتكون عناصر التمثيل في هذه الآية - بحسب هذا الوجه - وفق التالي:
الماء مراد به العلم والهدى. والأودية مراد منها القلوب التي تتلقى العلم والهدى. وسيلان الأودية بقدرها مراد منه حظ القلوب في قبول وتلقي ذلك العلم. والزبد الذي يطفو على سطح الماء والمعادن مراد منه الأباطيل والشكوك والشبهات والشهوات التي تنتاب الإنسان. وما يبقى من الماء الصافي بعد مضي السيل، والمعدن النقي بعد عرضه على النار مراد منه الحق الذي يبقى على مر الأيام والسنين؛ لأن من صفاته الثبات ومن خصائصه البقاء .
ووجه التمثيل - وفق هذا المسلك - أن السيل الجارف والمعدن المذاب كما يذهب زبدهما هنا وهناك، من غير اكتراث ولا اهتمام، فكذلك الأباطيل والشكوك تذهب من قلب المؤمن وتتلاشى ليحل مكانها الإيمان والهدى، الذي ينفع صاحبه، وينتفع به غيره .
وقد روى الطبري ( 20311)عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله في هذه الآية: هذا مثل ضربه الله، احتملت منه القلوب على قدر يقينها وشكها. فأما الشك فلا ينفع معه العمل، وأما اليقين فينفع الله به أهله، وهو قوله: { فأما الزبد فيذهب جفاء }، وهو الشك، { وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض }، وهو اليقين، كما يجعل الحلي في النار، فيؤخذ خالصة، ويترك خبثه في النار. فكذلك يقبل الله اليقين ويترك الشك . ( وهو حديث حسن لغيره))
وعلى نحو هذا التمثيل في الآية جاء قوله صلى الله عليه وسلم: " مَثَلُ مَا بَعَثَنِى اللَّهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا ، فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ قَبِلَتِ الْمَاءَ ، فَأَنْبَتَتِ الْكَلأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ ، فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ ، فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا ، وَأَصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى ، إِنَّمَا هِىَ قِيعَانٌ لاَ تُمْسِكُ مَاءً ، وَلاَ تُنْبِتُ كَلأً ، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقِهَ فِى دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِى اللَّهُ بِهِ ، فَعَلِمَ وَعَلَّمَ ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا ، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِى أُرْسِلْتُ بِهِ " أخرجه البخاري برقم(79 ).
والذي يستفاد من التمثيل الوارد في الآية جملة أمور:
أولها: أن العاقبة للمؤمنين، وأن الحق منتصر لا شك في ذلك، وإن كان الواقع يدل على غير ذلك؛ وأن الباطل لا محالة زائل، وإن كان في يوم من الأيام ممسكاً بالراية ورافعاً لها .
ثانيها: أن العمل الصالح هو الذي يبقى لصاحبه، وهو الذي يرجى منه الخير في الدنيا والآخرة، وأن العمل السيئ يذهب ولا يفيد صاحبه شيئاً .
ثالثها: أن العلم والهدى هو الذي ينفع المؤمن في هذه الحياة، وأن الشك والباطل لا يغنيا ولن يغنيا من الحق شيئاً .
أخيراً، يقول ابن القيم رحمه الله :
إن من لم يفقه هذين المثلين ولم يتدبرهما ويعرف ما يراد منهما فليس من أهلهما .
وقد قال بعض السلف: كنت إذا قرأت مثلاً من القرآن فلم أفهمه، بكيت على نفسي؛ لأن الله تعالى يقول: { وما يعقلها إلا العالمون } (العنكبوت:43) .
====================
أسأل الله تعالى أن ينفع به جامعه وناقله وقارئه والدال عليه في الدارين
جمعه وأعده
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
في 17 شعبان 1428هـ
==================(1/1)
# سيرة ذاتية
أ. د. عبد الكريم بكار
عبد الكريم بن محمد الحسن بكّار
سوري الجنسية، من مواليد محافظة حمص عام 1951م / 1370 هـ.
مقيم في الرياض.
#
الدراسة والشهادات العلمية
1- إجازة في اللغة العربية (درجة البكالوريوس )، كلية اللغة العربية بجامعة الأزهر (1973م/ 1393هـ).
2- درجة (الماجستير)، قسم "أصول اللغة"، كلية اللغة العربية بجامعة الأزهر (1975م/1395هـ).
3- درجة ( الدكتوراه ) بمرتبة الشرف الأولى، قسم "أصول اللغة"، كلية اللغة العربية بجامعة الأزهر (1979م/1399هـ). وكان عنوان الرسالة: "الأصوات واللهجات في قراءة الكسائي ".
#
التدرج الأكاديمي
1- محاضر، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، بريدة - المملكة العربية السعودية (1396هـ - 1401هـ / 1976م-1980م).
2- أستاذ مساعد، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، بريدة - المملكة العربية السعودية (1401هـ - 1406هـ / 1980م-1985م).
3- أستاذ مشارك، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، بريدة - المملكة العربية السعودية (1406هـ - 1410هـ / 1985م-1989م).
4- أستاذ مشارك، جامعة الملك خالد، أبها - المملكة العربية السعودية (1409هـ - 1412هـ / 1989م - 1992م).
5- أستاذ، جامعة الملك خالد، أبها - المملكة العربية السعودية (1412هـ-1423هـ/1992م-2002م).
6- أستاذ، الجامعة العربية المفتوحة، الرياض - المملكة العربية السعودية (2003م-2004م).
#
الأنشطة الأكاديمية
o قمت خلال سنوات عملي الأكاديمي بالتدريس في حقلين : حقل اللغويات وحقل الثقافة الإسلامية.
درّست في حقل اللغويات المواد التالية: المعاجم اللغوية، دلالة الألفاظ، الأصوات اللغوية، اللهجات العربية، القراءات القرآنية واللهجات، النحو، الصرف، المدارس النحوية وتاريخ النحو.
درست في حقل الثقافة الإسلامية: الثقافة الإسلامية والحديث النبوي الشريف.
o رئاسة قسم النحو والصرف وفقه اللغة في كلية اللغة العربية والعلوم الاجتماعية بأبها (1989-1993م/1409هـ - 1413هـ).
o المساهمة في وضع مناهج برنامج (الماجستير) في كلية التربية للبنات بأبها عام 1993م/ 1413هـ.
o رئاسة عدد من اللجان العلمية والفنية مثل لجنة (تقويم الإرشاد الأكاديمي) في الكلية ولجنة (الأسئلة) ولجنة (تطوير المناهج ) ولجنة (نشاط أعضاء هيئة التدريس)، والعضوية في عدد كبير من اللجان مثل اللجنة العلمية ولجنة الأسئلة، واللجنة التحضيرية لمجلس الكلية.
o الإشراف على مئات البحوث النظرية والعملية على المستوى الجامعي، بالإضافة إلى تقييم بعض البحوث المعدة للنشر في بعض المجلات المحكّمة، ومناقشة رسالة دكتوراه.
#
الإنتاج العلمي والفكري والثقافي
الكتب والدراسات المتخصصة
1- "أصول توجيه القراءات ومذاهب النحويين فيها حتى نهاية القرن الرابع الهجري"، بحث غير منشور (1984م/1404هـ).
2- "ابن مجاهد شيخ قراء بغداد"، بحث، مجلة كلية اللغة العربية والعلوم الاجتماعية بالقصيم (1984م/1404هـ).
3- "القواعد والإشارات في أصول القراءات" للقاضي أحمد بن عمر الحموي (تحقيق)، الناشر: دار القلم، دمشق (1986م/1406هـ).
4- "الصفوة من القواعد الإعرابية". الناشر: دار القلم، دمشق (1987م-1407هـ).
5- "رد الانتقاد على الشافعي في اللغة" للإمام البيهقي (تحقيق). الناشر: دار البخاري، بريدة (1987م/ 1407هـ).
6- "أثر القراءات السبع في تطور التفكير اللغوي"، الناشر: دار القلم، دمشق (1990م / 1410هـ).
7- "المهدوي ومنهجه في كتابه الموضح"، الناشر: دار القلم، دمشق (1991م / 1411هـ).
8- "ابن عباس مؤسس علوم العربية"، الناشر: دار السوادي، جدة (1991م / 1411هـ).
الكتب والدراسات الفكرية والثقافية
9- "إنشاء مركز لتعليم اللغة العربية"، دراسة، ندوة (اللغة العربية وآفاق المستقبل)، كلية اللغة العربية بأبها (1993م/1413هـ).
10- "فصول في التفكير الموضوعي"، الناشر: دار القلم، دمشق (الطبعة الثانية: 1994م / 1414هـ).
11- "نحو فهم أعمق للواقع الإسلامي"، الناشر: دار المسلم، الرياض (1415هـ/1995م).
12- "من أجل انطلاقة حضارية شاملة"، الناشر: دار المسلم، الرياض (1415هـ/1995م).
13- "مقدمات للنهوض بالعمل الدعوي"، الناشر: دار المسلم، الرياض (1416هـ/1996م).
14- "مدخل إلى التنمية المتكاملة"، الناشر: دار المسلم، الرياض (1417هـ/1997م).
15- "في إشراقة آية"، الناشر: دار هجر، أبها (1417هـ/1997م).
16- "من أجل شباب جديد"، بحث منشور في وقائع المؤتمر، المؤتمر السنوي للندوة العالمية للشباب الإسلامي، عمّان-الأردن (1998م- 1418هـ).
17- "حول التربية والتعليم"، الناشر: دار المسلم، الرياض (1419 هـ/1999م).
18- "العولمة"، الناشر: دار الأعلام، عمّان (1419 هـ/ 1999م).
19- "القراءة المثمرة"، الناشر: دار القلم، دمشق (1420 هـ/2000م).
20- "عصرنا"، الناشر: دار القلم، دمشق (1420هـ/2000م).
21- "العيش في الزمان الصعب"، الناشر: دار القلم، دمشق (1420هـ/2000م).
22- "رؤى ثقافية"، الناشر: دار المسلم، الرياض (1421 هـ/2001م).(1/1)
23- "تجديد الوعي"، الناشر: دار القلم، دمشق (1422هـ/2002م).
24- "اكتشاف الذات"، الناشر: دار الأعلام، عمّان (الطبعة الثانية: 1423هـ/2003م).
25- "دليل التربية الأسرية"، الناشر: دار الأعلام، عمّان (الطبعة الثانية: 1423هـ/2003م).
26- "خطوة نحو التفكير القويم"، الناشر: دار الأعلام، عمّان (1423هـ/2003م).
27- "تشكيل عقلية إسلامية معاصرة"، الناشر: دار الأعلام، عمّان (1423هـ/2003م).
28- "جدد عقلك"، الناشر: دار الأعلام، عمّان (1423هـ/2003م).
29- "بناء الأجيال"، الناشر: المنتدى الإسلامي، الرياض (1423هـ/2003م).
30- "لمتحدث الجيد"، الناشر: مركز حوار الأجيال، الرياض (تحت الطبع).
#مقالات وفعاليات ثقافية
1- أكثر من 150 مقالة علمية ومقالة رأي في مجلات وصحف عربية، منها:
o مجلة الفيصل (الرياض)، المجلة العربية (الرياض)، مجلة البيان (لندن)، مجلة المعرفة (الرياض)، مجلة الدعوة (الرياض)، جريدة المسلمون (لندن).
2- أكثر من 50 محاضرة عامة ومتخصصة في عدد من الجامعات والمراكز الثقافية، ومنها:
o جامعة أم القرى (مكة المكرمة)، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية (بريدة وأبها)، كلية المعلمين (المدينة المنورة)، جامعة الملك خالد (أبها)، جمعية الإصلاح الاجتماعي (الكويت)، المراكز الصيفية في المملكة العربية السعودية، الندوة العالمية للشباب الإسلامي (الرياض)، صندوق الحج (ماليزيا)، نادي أبها الأدبي (أبها)، الغرفة التجارية الصناعية بالقصيم (بريدة).
3- أكثر من 80 حلقة تلفازية وإذاعية بثت في كل من:
o المملكة العربية السعودية: التلفزيون السعودي (بريدة)، إذاعة القرآن الكريم (الرياض)، قناة المجد (الرياض).
o مصر: قناة المجد (القاهرة).
o تركيا: إذاعة بورصة (بورصة).
#الهيئات والجمعيات
1- عضو المجلس التأسيسي للهيئة العالمية للإعلام الإسلامي التابعة لرابطة العالم الإسلامي (الرياض).
2- عضو الهيئة الاستشارية بمجلة "الإسلام اليوم" (الرياض).
# شهادات التقدير
حصلت على عدد من شهادات التقدير من عدد من الجهات على مشاركتي في مختلف الأنشطة، ونلت لقب (الأستاذ المثالي ) عام 1995م/ 1415هـ على مستوى كلية اللغة العربية والعلوم الاجتماعية بجامعة الملك خالد (أبها)، ومن الجهات المصدرة لشهادات التقدير: جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، جامعة الملك خالد، جامعة أم القرى.
للمراسلة والاتصال:
المملكة العربية السعودية - الرياض 11393 ص. ب 365480
هاتف وفاكس: 4503248 (1-966+)
جوال: 4748926 (5-966+)
البريد الإلكتروني: bakkar2002@msn.com
وأسأل الله التوفيق لما هو خير وأبقى ،،،
مع خالص التحية والتقدير
======================
#النقد البنّاء
في حياتنا العامة والخاصة عدد كبير من الجدليات، حيث يكون الشيء في وجوده أو استقامته أو بواره متوقفًا على وجود شيء آخر. ويتناوب الشيئان على الوظيفة نفسها، كتلك العلاقة التي نلمسها بين المرض والفقر، إذ يهيء الفقر صاحبه للتعرض للمرض، كما أن المرض من جهته يسبّب للفقير المزيد من الفقر وهكذا.
هذا يعني أن خصائص كثير من الأشياء لا تستمد من ذاتها، وإنما من العلاقات التي تربطها بغيرها. ومن المؤسف أن اكتشاف العلاقات الجدلية على الرغم من تأثيرها الكبير، لا يلقى من معظم الناس الاهتمام، وبالتالي فإن معرفتنا بها تتسم بالقصور والسطحية!
بين البناء والنقد علاقة جدلية، عظيمة الأهمية إلى درجة أن كلاً منهما يتغذى على الآخر بصورة جوهرية. ولا نستطيع أن نعرف مدى حاجة كل منهما إلى الآخر إلا إذا قطعنا الحبل السريري الذي يربط بينهما. ولعلي أبسط القول في هذه المسألة المهمة عبر المفردات الآتية:
1- إن القرآن الكريم نزل منجمًا في مدة طويلة نسبيًا، هي مدة حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- بين البعثة والوفاة. ويلاحظ الناظر دون عناء أن معظم ما ينزل من الذكر كان يرتبط بوجه من الوجوه بحركة المجتمع الإسلامي. إنه يوجه المسيرة، ويوضح ملامح الطريق، كما أنه يذكّر السائرين بالمقاصد النهائية لسيرهم. وحين يقع خطأ بسبب اجتهاد أو ضعف بشري، فإن القرآن الكريم ينبه المسلمين إلى ذلك الخطأ بقطع النظر عن مقام المنتقد ، وعن نوع موضوع النقد ، هل هو عام أو هو خاص بشخص من الأشخاص، على نحو ما نجده في قول سبحانه: "ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم" [سورة الأنفال: 67-68]، وقوله: "عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين" [سورة التوبة: 43]. وقوله: "وإذ تقول للذي أنعم الله عليه، وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه" [سورة الأحزاب: 37]، وفي السنة النبوية الكثير الكثير من النصوص التي تنتقد بعض تصرفات الصحابة، وتدلهم على ما هو أفضل وأصوب. وقد وعى المسلمون المغزى العميق لذلك، ومارسوا النقد بصيغ عديدة ، ولطالما كان النقد البنّاء عامل تحرير للأمة من كثير من الزيغ والخطأ على ما هو معروف ومشهور.(1/2)
2- لو تساءلنا: مالذي يعطي المشروعية للنقد، ويجعل منه شيئًا لا غنى عنه لاستقامة الحياة، لوجدنا أن ما يمكن التحدث عنه في هذا الشأن كثير، لعل منه:
أ - حين نخطط لأمر من الأمور، أو نحاول اكتشاف ميزة عمل من الأعمال، فإن من الواضح أننا لا نستطيع الإحاطة بالاعتبارات التي تجعل قراراتنا صائبة على نحو قاطع. هناك دائمًا حقائق غائبة وأجزاء مطموسة، ومعلومات غير متوفرة، ولهذا فإن علينا أن نبني خططنا ونظمنا ومناهجنا على أنها أشياء قابلة للمراجعة، ومحتاجة للتصحيح والتطوير ، ولن نكون موضوعيين إذا فعلنا غير ذلك. إن الطبيب حين لا يتأكد من تشخيص مرض من الأمراض، يصف لمريضه علاجًا مؤقتًا إلى أن تخرج نتائج الصور والتحاليل، فيصف العلاج النهائي؛ لأن خبرته الطبية دلته على السلوك العلاجي الملائم، إن ما هو مطلوب من المعرفة لاتخاذ القرار الصحيح هو دائمًا أكثر من المتوفر، ولهذا فإننا ونحن نخطط، وننظِّر نتحرك في منطقة هشة، ونستند إلى معطيات غير كافية. إن علينا أن نعتقد أننا نقوم بعمل اجتهادي، قد يتبين أنه صواب، وقد يتبين أنه خطأ . وإن كثيرًا من الذين ينفرون من النقد، لا ينظرون إلى هذا المعنى، ولا يهتمون به، ولو أنهم أدركوه بعمق لرحبوا بالنقد بوصفه كرة أخرى على صعيد الاستدراك على قصور سابق .
ب- هناك دائمًا مفارقة بين النظرية والتطبيق، فنحن حين ننظر، ونخطط، نقوم بذلك في حالة من الطلاقة التامة ، وكما يقولون: إن الأحلام لا تكلّف شيئًا ، لكن حين نأتي للتنفيذ، يتجلى لدينا القصور البشري بأوضح صوره، فنحن نتحرك داخل الكثير من القيود الزمانية والمكانية. وكما أن أعمارنا محدودة، كذلك إمكاناتنا وقدراتنا وعلاقاتنا أيضًا محدودة، مما يجعل وجود فجوة بين ما نريده وبين ما نفعله أو نحصل عليه أمرًا متوقعًا. في بعض الأحيان لا ننفذ ما خططنا له ليس بسبب العجز، ولكن بسبب تغير الرأي، أو بسبب الاختلاف بين أعضاء فريق العمل، أو لأي سبب آخر... وهذا كله يجعل النقد أمرًا سائغًا، بل مطلوبًا.
جـ - في بعض الأحيان تأتي مشروعية النقد من الأخطاء التي تقع أثناء التطبيق أو بسبب مغايرة ظروف الاستمرار لظروف النشأة. وإذا تأملت في أوضاع الأمة وجدت أن كثيرًا مما يحتاج إلى إصلاح وتصحيح يعود إلى هذين السببين، فالتقصير في الواجبات والوقوع في المنكرات من أكثر العوامل تأثيرًا في تخلف الأمة وتأزم أوضاعها. وهما يعودان إلى انحراف وقصور في الممارسة. كما أن تجدد معطيات الحياة المعاصرة لتكون شديدة البعد عن حياة أسلافنا ، أوقعنا في أزمات فكرية كثيرة ، بسبب عدم توفر ما يكفي من الاجتهاد للتعامل معها. وهذا من جهته يثير الكثير من الحيرة والكثير من النقد.
ماذا يحدث حين يتوقف التفاعل بين النقد والبناء ؟ ومتى يكون النقد مفيدًا وبنّاءً ؟
هذا ما سنتحدث عنه في المقال القادم بحول الله وطوله.
===============
إمكانات متزايدة
إن الله -جل وعلا- خلق الدنيا دارًا للابتلاء، فوفّر فيها كل شروط الابتلاء، وإن من تمام الابتلاء أن يمكّن الله عباده من الوصول إلى ما يطمحون إليه ما دام في إطار سننه في الخلق، وقد عبر القرآن الكريم عن هذا المعنى بوضوح تام؛ حيث قال -تباركت أسماؤه-: (من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذمومًا مدحورًا، ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورًا كلاً نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء بك وما كان عطاء ربك محظورًا) [الإسراء:18-20]
إن إرادة الله -تعالى- طليقة، فهو يوجه عطاءه إلى من يسعى إليه -إن شاء- ويطلبه، ويأخذ بأسبابه بقطع النظر عن كون المطلوب أمرًا دنيويًا أو أخرويًا. وهذا ما نشاهده اليوم على أوسع نطاق ممكن؛ حيث إن التقدم التقني والعلمي واتساع المدن ووفرة الأموال - بين يدي شريحة واسعة على الأقل- وتلون فنون العيش -قد أدّت إلى بسط غير مسبوق في إمكانات الناس وقدراتهم. إن المجال المتاح لِرجل يعيش مع إبله في البادية أو مع شجره وزرعه في القرية محدود جدًا. إن الوسائل المتاحة له كي ينفع وكي يضر وكي يدفع بالمسيرة إلى الأمام أو يكون حجر عثرة في طريقها - محدودة للغاية؛ وذلك بسبب ضعف التمدن وتخلف العمران في كل من البادية والقرية. وإذا قارنت ما يمكن لعشرين راعيًا للغنم أن يتركوه في الناس من آثار في سلوكهم مع ما يمكن أن يفعله اليوم عشرون شخصًا يعملون في قناة فضائية، لأدركت حجم الإضافة التي حدثت في الخمسين سنة الماضية. ما الذي حدث فعلاً خلال هذه المدة على صعيد توسع الإمكانات، وما مدى تأثيره في الوعي والخلُق والسلوك؟
بمقاربة أولية يمكن أن نقول الآتي:
1- كلما زادت الإمكانات التقنية والمادية بين أيدي الناس اتسعت مساحات الحركة أمامهم، وزادت الخيارات والبدائل مما يزيد الناس قوة إلى قوتهم. ويزيد مع كل هذا ابتلاء الله -تعالى- لهم.(1/3)
2- يكثر أهل الخير ويعظم تأثيرهم، ويكثر أهل الشر والباطل، ويعظم أيضًا تأثيرهم، وذلك بسبب كثرة الوسائل التي يمكن أن يستخدمها هؤلاء وهؤلاء. وبعض الناس لا يدرك هذا؛ فيتحدث عن الشر المستطير الذي يقلقه، ولا يتحدث عن الخير الذي يحيط به. وبعض الناس يفعل العكس.
3- تنحسر الاجتهادات والرؤى السابقة وتقصر عن توفير التغطية الثقافية والتوجيهية، ويجد أهل العلم والفكر أنفسهم في حاجة ماسّة إلى التوصل إلى فتاوى واجتهادات ونظريات جديدة. وهذا يعني بداهة أن تكثر المسائل المثيرة للجدل.
4- تضعف الرقابة الاجتماعية، وتتسع مساحات الخصوصيات، ويذوق الناس طعم الرفاهية، ويصبح لجم النفوس عن مشتهياتها أشق. وكل هذا من تصاعد الابتلاء مع تصاعد القدرة والمُكنة.
5- تصبح إمكانات الحركة أكبر من إمكانات ضبطها، وتقييدها، كما تكبر الفجوة بين إمكانات الغش والتزوير وإمكانات كشفه وحصره.
6- يظهر على نحو مفاجئ كل ما كان ملغيًا أو متجاهلاً أو مكبوتًا، ويأخذ ظهوره شكل الانفجار، وأحيانًا شكل تعويض ما فات، أو شكل الانتقام ممن تسبب في التهميش والإلغاء.
7- حين يأخذ التقدم المادي هيئة الطفرة فإن الناس يعيدون ترتيب أولوياتهم من غير وعي منهم. ويكون ذلك -في الغالب- تعبيرًا عن الانحياز إلى المصلحة على حساب المبدأ.
8- يحدث صراع مكشوف بين الثقافة بوصفها رمزًا لعالم المعنى وبين الحضارة بوصفها مطلبًا لراحة البدن. وكثيرًا ما تغلب الحضارة الثقافة، كما يبدّد الامتدادُ الاتجاه، والمكان الزمان.
إذن كان هذا التشخيص صحيحًا، فما الذي يجب عمله؟
9- لا ينبغي أبدًا الاستسلام لليأس والانسحاب من الساحة بسبب ما نرى من كثرة الشر والفساد، وعلينا أن نتأمل بعمق لنرى كثرة الخير بالمقارنة مع ما كان قبلُ، ولنرى أيضًا الإمكانات الكبرى لتكثيره ونشره. لقد كان أهل العلم قديمًا يغبطون العالم إذا اجتمع في حلقته مائة طالب يكتبون ما يقوله. واليوم صار في الإمكان أن يستمع للعالم الواحد مئات الملايين في وقت واحد، كما صار في الإمكان الاطلاع على كثير من الجهود الخيّرة التي تُبذل في سائر أنحاء العالم.
10- الإسلام مجموعة من المبادئ والمثل والقيم، وهذه مجتمعة تتأبّى على الفرض والإلزام. إن القيم لا تُفرض، لكنها تجذب من خلال تجسّدها في سلوكات الأفذاذ والأخيار. وإن وعي الناس قد تقدم إلى درجة جعلهم لا يكترثون بالكلام المنمّق عن الفضائل والمحامد. وصار الإيحاء الذي تشعه الأوضاع الجيدة والسلوكات المستقيمة والراقية أعظم تأثيرًا في نفوس الشباب وعقولهم، وهذا يحمّلنا مسؤولية تمثّل القيم الإسلامية في حياتنا الشخصية والعامة، وإن كل واحد منا يستطيع -لو أراد- أن يقدم نموذجًا يقتدي به الناس في جانب من جوانب الحياة الفاضلة، أو مسلك من مسالك الطريق القويم.
11- إذا لم يكن لك روح عصر كانت لك كل شروره. أن تكون فقيرًا بين فقراء أو جاهلاً بين جَهَلة أو فوضويًا بين فوضويين... فذاك أمر يظل محدود الأضرار. لكن أن يكون المرء جاهلاً بين علماء أو فقيرًا بين أغنياء أو فوضويًا بين منظمين.... فهذا يعني أن كل مشاكل أولئك ستُحلّ على حسابه. وهكذا فإن الضريبة التي سندفعها نتيجة عدم فهم روح العصر، ونتيجة عدم الاستجابة لتحدّياته ستكون مضاعفة أضعافًا كثيرة!
12- لنقلّل من الشكوى قدر الاستطاعة، ففي زمان العولمة تقل فائدة الشكوى، ويقل وجود الذين يمكن أن نشكو إليهم، ولنعمل دائمًا على محاصرة الشر بالخير، والباطل بالحق، والهزيمة بالنصر. ولنكن ملء السمع والبصر.
13- التقدم الحضاري يتيح الكثير من الفرص، فلنحاول اقتناصها والاستفادة منها. وأولو العزم من المؤمنين يتجاوزون ذلك إلى صناعة الفرص حيث تكشف الإرادة الصلبة والعزيمة الماضية عن الإمكان الحضاري المستتر تارة، وتصنعه تارة أخرى.
ولله الأمر من قبل ومن بعد.
ذكرت في المقال السابق بعض المعاني والمفاهيم التي تشير إلى التغيرات التي يحدثها التقدم العمراني، وأشرت إلى أن تلك التغيرات تصبّ في اتجاه توسيع مجالات الإدراك والفهم ومجالات العمل والحركة، واليوم أذكر -بإذن الله- المزيد من تلك المفاهيم، لعلي أستطيع تغيير قناعات بعض أولئك اليائسين من الإصلاح والمحبطين من رؤية الضغوط والتعقيدات المتزايدة:(1/4)
6- في حالات التخلف يزداد الشبه بين الناس والأشياء والأوضاع لأن العمل والحركة وقبل ذلك الفكر النشيط هي التي تنتج ما يزيل التشابه الفطري الموروث فيما ذكرناه. حين تنظر إلى عشرة آلاف نائم فإنك تدرك ما أعنيه. وفي المقابل فإننا حين سنسير في شارع مزدحم، ونحاول فهم دوافع الناس وأهدافهم في حركتهم الدائبة ندرك مدى التنوع والتفاوت الناجم من السعي في الأرض واستخدام الوسائل المختلفة. على مدار التاريخ كان (التفاوت) مصدر تعليم وتطوير. إننا من خلال اختلاف سوياتنا ورغباتنا ومصالحنا نجد سبلاً للتعاون وسبلاً للنزاع أيضاً. من خلال اختلاف فكر الفرد وذوقه مع الذائقة الثقافية السائدة في المجتمع ومن خلال اختلاف مصلحته مع مصالح الناس من حوله –تقوم أعظم عمليات التغيير والتطوير للفرد والمجتمع معاً. وهذا كله يأتي من وراء النقد العمراني والازدهار الحضري. التفاوت الناتج من التقدم يدعم حاسة المقارنة لدى الناس، ومن خلال المقارنة يكتشف الناس جزءاً من أنفسهم وجزءاً من دافعهم أيضاً؛ ومن هنا فإننا نجد أن القرآن الكريم كثيراً ما يجعل الحديث عن الجنة مقروناً بالحديث عن النار، كما يجعل الحديث عن الذين آمنوا مقروناً بالحديث عن الذين كفروا... التفاوت الذي يولده التقدم العمراني، يتيح المزيد من النمو من خلال فتح شهية الناس نحو التقليد. ولا يخفى أن كثيراً من الدول الناهضة اليوم بدأت بتقليد منتجات غيرها، ثم أخذت في إبداع منتجات عليها بصمتها الخاصة. وسيكون في إمكان كل واحد أن يفعل ذلك؛ حيث إن من الممكن أن نتعرف على أسباب تفوق عالم من العلماء -مثلاً- من خلال الدخول إلى عالمة الشخصي من أجل فهم ما جعله متفوقًا من سمات وخصائص وبرامج ووسائل ... ثم محاولة تقليده في ذلك أو بعضه. وسيكون في إمكان المؤسسات والشركات والهيئات العادية أن ترتقي بذواتها ومنتجاتها من خلال تقليد نظيراتها المتفوقة باتباع النظم والمعايير والأساليب التي تعدّها عوامل أساسية في نجاحها وهكذا... في حالات التقهقر والجمود الحضاري يكون الجميع في حاجة إلى التعلّم، لكن يكون المعلِّم غير موجود أو يكون نصف جاهل، أو يكون الناس غير مدركين لما يمكن أن يفعله العلم في حياتهم، وهذا ما تعاني منه اليوم شعوب إسلامية كثيرة!.
7 – يتيح التقدم الحضاري المزيد من فرص العمل، ومع أن ذلك ليس من غير ضريبة يجب دفعها إلا أن من المسلّم به أنه ما كان للأرض أن تتحمل هذا العدد الهائل من البشر لو لا ما فتح الله به على الناس من علوم ومخترعات ولو لا الجهود المنظمة والعظيمة التي بذلها ملايين الجنود المجهولين في التعليم والتدريب والتطوير.. لننظر إلى فرص العمل التي أتاحها اختراع الحاسوب والجوال. ولننظر إلى ما أتاحه من ذلك صنع السيارة والطائرة والمخترعات الكهربائية والإلكترونية من قبل. وسنعرف فضل كل هذا لو قدّرنا –جدلاً- أن الناس سيعودون في معيشتهم وأعمالهم إلى المستوى الذي كان عليه آباؤهم قبل قرنين من الزمان؛ لا شك أن أكثر من نصف القوى العاملة ستجد نفسها في بطالة قاتلة بسبب الاستغناء عن المنتجات التي تقوم على تحضيرها. وعلى المستوى الثقافي والدعوي فقد زادت إمكانات التواصل بين الناس ونشر الأفكار بما لم يكن واردًا حتى في الخيال. إن هناك أعدادًا كبيرة من العلماء الذين ألّفوا كتبًا نفيسة لكن لم تغادر أدراج مكاتبهم لعدم وجود المال المطلوب لطباعتها ونشرها. وهناك مئات الألوف من طلاب العلم الذين حدّثوا أنفسهم بتأليف بعض الكتب لكن أحجموا لأنهم غير واثقين من التمكن من طباعتها أو نشرها، فقد كان تداول الكتاب وانتقاله من دولة إلى أخرى في المرحلة الماضية صعبًا للغاية، وكان تداول بعض الكتب يشبه في مشقته تداول المواد المخدرة، وكان كثير من الدعاة يشكون عدم القدرة على الوصول إلى المدعوين في بلدانهم وفي البلدان الأخرى بسبب القيود الأمنية أو بسبب عدم توفر المال المطلوب للانتقال... إن كل هذا قد انتهى اليوم بفضل وجود (الإنترنت) و(البث الفضائي). قد صار في إمكان أي مثقف أن يبني لنفسه موقعًا على (الإنترنت) ويقوم ببث ما لديه من معارف وخبرات وإرشادات على ذلك الموقع وبتكلفة لا تكاد تذكر. وصار في إمكان كل داعية أن يوصل كلمته إلى مئات الملايين من الناس في شتى أنحاء المعمورة دون أن يغادر بيته. بل إن شيئًا مذهلاً قد حدث على هذا الصعيد، هو أنه في الماضي لم يكن في الإمكان لشخصين يجلسان في غرفتين متجاورتين أن يطّلعا على كتاب واحد في آن واحد بسبب الشروط الصارمة للرؤية؛ أما اليوم فإننا إذاً وضعنا كتابًا أو مقالاً على (الإنترنت) فإن في إمكان ملايين البشر الإطلاع عليه ونسخه ونشره في آن واحد! وهذا أمر مثير حقًا. إذا كان الأمر على هذه الصورة؛ فلماذا نجد إذًا عشرات الملايين من الشباب المسلم المثقف واللامع، لا يقدم لدينه ودعوته أي شيء ذي قيمة، ويعتقد أنه إذا صار مستهلكًا للثقافة فهذا كافٍ بل يعده مفخرة له؟!(1/5)
إنه القصور التربوي والثقافي الذي نعاني منه والذي طالما تحدثنا عن مخاطره. قد طوّر لنا الآخرون الوسائل التي تساعدنا على الانتشار السريع والفعال، لكننا لم نستفد من ذلك كثيرًا لأننا لم نقم بتطوير أنفسنا وصقل استعداداتنا، ولم نقم بتحطيم الأوهام والقيود التي تشل حركتنا، وهذا ما لا يستطيع أحد أن يقوم به بالنيابة عنا وحتى نعرف كيف استفاد غيرنا من الوسائل الحديثة فيكفي أن نعلم أن الأوربيين أنشؤوا شبكة معلومات أنزلوا عليها نفائس المكتبات الأوربية، وقد بلغت الكتب التي تم وضعها على تلك الشبكة نحوًا من (مليارين ومئة مليون كتاب) وقد نهض بهذه المهمة قرابة ربع مليون شخص. فماذا علمنا نحن؟!
وللحديث صلة
عرضت في المقالَيْن السابقيْن بعض الإمكانات الجديدة التي وفّرها التقدم الحضاري، واليوم أستعرض أيضًا المزيد منها على أمل تكوين صورة متكاملة عن هذه المسألة.
8 – حين يتحرك الإنسان، ويسعى إلى تحقيق مآربه وقضاء حاجاته الكثيرة يجد نفسه مكبّلاً بقصوره الذاتي وطاقاته المحدودة، إن عينه لا ترى إلا إلى حدٍّ معين وضمن شروط معينة، كما أن قدرة يده على التعامل مع الأشياء أيضًا محدودة، وقل مثل هذا في لسانه وحاسة شمّه ورجله وأذنه... التقدم العلمي والتقني والحضاري عامة يزيد في سلطان الحواس، وإمكانات الجسد إلى درجات كان مجرد تخيلنا أمرًا عسيرًا. إن وسائط النقل من الدراجة إلى الطائرة زادت في سلطان الرِّجل. وإن كل أنواع العتاد التي يستخدمها أهل الحرف وموظفو الصيانة زادت في سلطان اليد. وزاد الهاتف في سلطان اللِّسان والأذن؛ حيث صرنا نسمع مَن يتحدث في مكان بعيد جدًا عنّا، ونوصل كلامنا إلى من هم أيضًا بعيدون. أما الهاتف (الجوّال) فقد جعل إمكانات التواصل العالمي شبه مطلقة، وسيكون لذلك آثاره الثقافية الخطيرة في المستقبل وهكذا...
وقد أدّى كل ذلك إلى اختصار الوقت وتحسين الإنتاجية وتخفيف العبء عن البدن. ومع تقدم والوسائل والآلات، تولد معايير جديدة للتحضّر؛ فالإنسان المتخلف اليوم كثيرًا ما يكون كذلك بسبب عدم رغبته أو عدم قدرته على استخدام الأدوات التي يستخدمها معاصروه. وهذا يعني أن الأمم التي تقود حركة الإنتاج العالمي هي التي تصنع مواصفات التقدم والتخلف، وهذا مع كل المميّزات التي حققها، يزيد في أعباء الأمم الفقيرة التي لا تستطيع إنتاج الآلات، ولا تجد المال الكافي لاستيرادها، وهذه الوضعية تغذي حالة الفقر وترسخها. إننا سوف ندهش إذا تأملنا في الوقت الذي توفَّر لربة المنزل بسبب وجود الآلات الحديثة، لكن معظم النساء صار وقت الفراغ وبالاً عليهن ومصدرًا كبيراً للإزعاج لهنّ، وذلك بسبب مواكبة التقدم الإنساني للتقدم التقني والصناعي.
9 – في الماضي كانت أوصال العالم مقطّعة، وكانت الصّور الذهنيّة التي تكوّنها الشعوب عن بعضها مشوّهة ومشوّشة، بل إن أذهان الشعوب مملوءة بالخرافات والترّهات حول الأوضاع والعادات السائدة في المجتمعات المغايرة والبعيدة، وبسبب نقص المعلومات فإن كل وجهات النظر التي كانت يسمها شعب عن شعب آخر كانت تُتلقى على أنها حقائق قاطعة لا تحتمل الجدل. وقد تغير كل ذلك بسبب سهولة الانتقال وسهولة الاتصال، والبث الفضائي اليوم يضع بين أيدينا كل ما نريد معرفته عن شعوب الأرض على نحو لم يسبق له مثيل. هذا كله يعني أن الوعي الذاتي آخذ في التحسن؛ إذ إن رؤية الآخرين على ما هم عليه في واقع الحال تحسّن مستوى رؤيتنا لأنفسنا، وهذا يشكل مكسبًا عظيماً، لكن الذي يحول دون الاستفادة الكاملة من معرفة الآخر هو ما نعانيه من ضعف وقصور في محاكاتنا العقلية، وفي قوى الاستبصار ونظم الإدراك والتفسير، ولكن هذا لن يدوم، وسنشهد مع الأيام الكثير من التقدم في كل هذا.
10- التطوّر المذهل في وسائل الاتصال آخذ في تخفيف الحاجة إلى السفر والانتقال، فهناك اليوم إمكانية ممتازة لعقد اجتماعات بالصوت والصورة بين أشخاص يعيشون في قارات مختلفة. كما أن من الممكن للمرء أن يتلقى تدريباً جيداً، ويحصل على شهادة في علم من العلوم دون أن يغادر بيته وذلك عن طريق (الإنترنت)، كما أن في إمكان المرء أن يبيع ويشتري في أسواق تبعد عنه آلاف الأميال. والتقدم في برامج الترجمة الآلية، يخفف من مشكلات التباين اللغوي، ويجعل الاتصال المعرفي أسهل.
11- مع التقدم الحضاري المتسارع يعود شيء من الاعتبار للقدرات الذاتية والمهارات الشخصية، وصار في إمكان أعداد متزايدة من الناس أن يصبحوا أصحاب ثروات عريضة دون أن يكونوا من أبناء الأسر الغنية أو ممن ورثوا عن آبائهم المجد والمال.
إذا امتلك الشاب فكرة لمشروع ناجح، فإن في إمكانه أن يبيعها، ويصبح من وراء ثمنها في عداد الموسرين، وإذا نمّى الشاب ملكاته وإمكاناته الإدارية فإن في إمكانه أن يحصل على دخل عالٍ من وراء إدارة جيدة لمشروع جيد.
إن التمويل لأي مشروع صار اليوم سهلاً، وصارت الفكرة الذكية والقدرة على الإشراف والمتابعة محوراً مهماً للنجاح. وفي إمكان كثير من الشباب التأهل لذلك والإبداع فيه من غير الحاجة إلى المال.(1/6)
لا أريد أن أفيض أكثر فأكثر في الإمكانات المتزايدة، لكن أريد أن أوضح الشروط الجوهرية للاستفادة من كل ذلك، وهي ليست كثيرة.
ولعل من أهمها الآتي:
1- التخلص من الأفكار القديمة والسائدة حول الممكن و(المستحيل العادي) والقريب والبعيد والسهل والصعب، والاحتفاظ بقدر جيد من الانفتاح على المعطيات الجديدة. والنظر بعين الاتهام إلى معلوماتنا الحالية تجاه ما يمكن لنا الاستفادة منه.
2- الاعتقاد بأن ما لدينا من نظم وترتيبات وأساليب.. يشوبه النقص -كما هو شأن كل ما ينظمه البشر- ويظلّ قابلاً للتطوير والتحسين. ومع أن هذه النظرة مكلفة جداً إلا أنها شرط أساسي في مقاومة التكلّس.
3- ترتيب أوضاعنا الخاصة والعامة على أساس أن لدى الآخرين شيئاً يمكن أن نتعلمه منهم. والنظر إلى الآخر المناوئ والمخاصم بأنه يشكل تحدّياً، كما أن لديه في الوقت نفسه شيئاً من الحلّ لما نعاني منه.
4- إدخال عنصر الوقت في حل أي مشكلة تواجهنا، وفي تخفيف أي إنجاز نريد تحقيقه، وعدم النظر إلى الأمور من زاوية معطياتها الحالية، وإنما من أفق تطورها واتجاهات سيرورتها.
5- تنظيم الذات والتحفز المستمر نحو استيعاب الجديد والبحث عنه والتغيير في الرؤية وفق معطياته.
6- إن شرط كل الشروط وأساس كل الأسس هو الإرادة الصُّلبة والقدرة على الاستمرار والمثابرة في الأداء والعطاء. وشيء بدهي أن يستعين المسلم في كل ذلك بالله -جل وعلا- ويخلص له في أمره كله
===============
#الأشياء الصغيرة
في أحيان كثيرة يجد الناس أنفسهم يعملون وفق معادلات خاطئة، أو يجدون أنفسهم وقد قعدوا عن العمل بسبب تنافر إمكاناتهم مع طموحاتهم. شيء جميل وعظيم ألا نرضى بالقليل، وأن نتطلع إلى الكثير من الخير لنا ولأمتنا، ولكن بشرط ألا تعظم الفجوة بين المطلوب والممكن إلى درجة نفقد معها الحماسة للعمل، ونزهد معها في الممكن، فيضيع من أيدينا إذ ترنو أبصارنا نحو العسير والمستحيل!
في مجال الأعمال يقولون: فكر عالمياً، وتصرف محلياً. وهذا قول حكيم، يمكن أن نستفيد منه في المجال الدعوي والمجال الحضاري عامة. لنمتلك الرؤية الشاملة والواسعة، ولنحاول أن نعرف موقعنا بدقة على الخارطة العالمية والمحلية. ولنلامس في تصوراتنا آفاق المطلوب والمتاح، وآفاق القريب والبعيد، والسهل والمرهق، ولكن لنركّز جهودنا دائماً في دوائر التأثير، حيث لا يدخل في الرصيد في نهاية المطاف إلا تلك المنجزات الصغيرة والقابلة لوضع اليد عليها. الأشياء الصغيرة تظل دائماً قابلة للتنفيذ، لأنها قابلة للتصديق، والأشياء الكبرى كثيراً ما تبقى في حيز الأمنيات، لأننا نشك عادة في قدرتنا على القيام بها.
كثير من الشباب المسلم حائر في توظيف وقته وطاقاته في المجال المثمر والملائم؛ فهذا شاب يرغب في أن يكون داعية وطبيباً. وهذا شاب يرغب في أن يكون مهندساً وفقيهاً. وهذا شاب ثالث يرغب في أن يكون مدرساً ورجل أعمال...
شباب كثيرون ابتعثتهم حكوماتهم إلى بلاد الغرب ليدرسوا بعض التخصصات العلمية المهمة، فما كان منهم إلا أن تركوا تخصصاتهم، وانتقلوا إلى المجال الدعوي. وكثيراً ما تصادف في الولايات المتحدة الأمريكية شاباً مسلماً يعمل إمام مسجد، وقد كان تخرج في قسم الكيمياء أو الفيزياء. وهذا رجل يحمل الدكتوراة في الأدب الإنجليزي ترك التدريس في الجامعة ليدرس في مدرسة عربية هزيلة هناك...
في بلادنا شباب ورجال كثيرون لا يحبون الوظائف التي قضوا فيها شطراً مهماً من أعمارهم، إنهم ينظرون إليها على أنها خط رزق احتياطي، أو أنها مصدر تُستمد منه الوجاهة الاجتماعية. إن تطلعاتهم وتفاعلاتهم ومستقبلهم ليس في هذه الوظائف والأعمال ولهذا فإنهم لا يعطونها إلا القليل من اهتمامهم وجهدهم! هذا مدرس يعمل في تجارة العقار، وهو يجد في تجارته من المردود المادي أضعاف ما يجده في وظيفة التدريس، ولهذا فإنه لا يحضر دروسه، ولا يكلف طلابه بكتابة ما ينبغي أن يكتبوه من الواجبات أو ما ينبغي أن يحلوه من التمارين؛ لأنه لا وقت لديه للتصحيح. وإذا دُعي إلى اجتماع مسائي في المدرسة فإنه لا يحضر فذلك في نظره اجتماع لغو، ولا وقت لديه لمثل ذلك! وهذا ليس أكثر من نموذج صغير لبلاء كبير!
وأود أن أضع النقاط على الحروف في الإضاءات التالية:
1- لن يكون في المستقبل ما يسمى "بالأمم العظيمة والدول العملاقة" ولكن سيكون هناك دوائر تضم أعداداً من الأبطال الصغار الذين يهتمون بإتقان الأشياء الصغيرة التي بين أيديهم وهم يشكلون -حيثما وجدوا بكثافة- بؤراً متفوقة ونافذة ومؤثرة، إنهم يعملون بصمت ومن غير عناوين كبيرة إنهم أشبه بقطرات الماء التي يتشكل منها النهر العظيم، وأشبه بحبات الرمل التي يتكون منها الجبل العظيم، حبة الرمل ليست بشيء، لكن لولا حبات الرمل لم يكن هناك الجبل العملاق!(1/7)
من المهم أن ندرك أن كل موقع يحتله واحد منا هو ثغرة من ثغور الإسلام، ومن خلال نوعية تصرفنا وأدائنا في ذلك الموقع، نسهم في رفع راية الإسلام وحماية حرماته، أو نسهم في ذهاب ريح الأمة وجعلها عالة على غيرها من الأمم. إن أمهر البنائين لا يستطيع أن يشيد صرحاً متيناً من لبنات هشة. وإن أعظم الحكام لا يستطيع أن يبني مجتمعاً أقوى من مجموع أفراده.
كان (بنجوربون) يقول: إن إسرائيل لن تقوم بناء على قرار تصدره المنظمة الصهيونية العالمية، ولكننا سنبنيها لبنة لبنة، سنضم البقرة إلى البقرة والمزرعة إلى المزرعة والمصنع إلى المصنع والجامعة إلى الجامعة، وبذلك وحده يصبح لنا دولة بما تعنيه الكلمة.
هذا المنطق هو المنطق القابل للتطبيق، وأعتقد أن مساعينا في دفع الأمة في دروب النهضة ينبغي أن تتركز في شيئين أساسيين: تقديم النماذج وبناء الأطر.
إن عقولنا تنطوي في أعماقها على ميول نحو الاستحالة، واستصعاب الأمور والنماذج العملية هي التي تزرع في تصوراتنا ومشاعرنا الميول نحو الممكن إن كل مثقف مسلم بقليل من الوعي وقليل من الجهد يستطيع أن يقدم في جانب من جوانب حياته نموذجاً صغيراً يجذب إليه بعض الناس، فيقلدونه ويترسمون خطاه، وبذلك يكثر الخير، وتترسخ تقاليد ثقافية مثمرة.
وهناك في الأمة رجالات فيهم سمات قيادية، ولهم همم عالية وهؤلاء لا يكتفون بتقديم النماذج، لكنهم يبنون الأطر التي تجمع الجهود المتفرقة، وتوجه الأنشطة وتحرر الطاقات الكامنة. ومن النماذج والأطر تتشكل فيزياء التقدم.
2- الأمم الفقيرة ليست هي الأمم التي لا تملك المال، لكنها الأمم التي يتلفت أطفالها يمنة ويسرة، فلا يجدون حولهم سوى رجال من الدرجة الثالثة أو الرابعة، فتتجه أبصارهم نحو رجالات الأمم الأخرى باحثة عن القدوة والمثل وعن حقل جديد للممارسة. وبذلك تنشأ الفتنة الثقافية!
3- هناك علاقة عكسية بين الكيف والكم. وبما أن جهودنا وطاقاتنا مهما بلغت هي في النهاية محدودة فإن ما ننجزه يخضع لتلك العلاقة: الكم دائماً على حساب الكيف. والمتأمل في (حديث القصعة) وفي واقعنا اليوم يجد أن الأمة تعاني من مشكلة (كيف) لا مشكلة (كم) ولو اتجهنا إلى جعل الإحسان والإتقان السمة التي لا نتنازل عنها في جميع أعمالنا لتحسنت النوعية وارتقت الأمة.
أملي أن نكف عن الهروب إلى الأمام والذي طالما مارسناه من خلال الحديث عن الأشياء الكبيرة كيلا نتحمل مسؤولية الأشياء الصغيرة ومن الله تعالى الحول والطول.
==============
#محاصرة الشّرور
مضت سنة الله -تعالى- في الخليقة أن يظل الصّراع مشتعلاً بين الحق وأهله من جهة وبين الباطل وأهله من جهة أخرى. وحين هبط آدم -عليه السلام- وزوجه من الجنة هبط معهما إبليس بوصفه المسؤول الأكبر عن إشاعة الشرور.
إن وجود إمكانيّة لاقتراف الشر والوقوع في الرذيلة، يشكل مظهراً هاماً من مظاهر ابتلاء الله تعالى لعباده، وكلما درجت البشرية في سبيل العمران والتحضر اتسعت الإمكانات أمام أهل الخير وأمام أهل الشر؛ لكن بما أننا نعيش في ظل حضارة ماديّة إلحاديّة فإن اكتشاف مساحات نشر الخير تحتاج إلى نوع من الإبداع، على حين أن الشر يطرق الأبواب، وكثيراً ما يدخل من غير استئذان!
الخبرة القديمة لدينا في مقاومة الشرور، كانت تعتمد على النهي والزجر والتشنيع على المفسدين ومعاقبتهم. وهذا الأسلوب سيظل مطلوباً، لكن التجربة التاريخية علّمتنا أن الضغط الاجتماعيّ إذا لم يصحبه تربية جيّدة وتنمية أجود للوازع الداخلي، فإن آثاره ستكون أقرب إلى السلبيّة منها إلى الإيجابيّة، إنه يساعد على إخراج مجتمع ظاهره الصلاح والاستقامة والامتثال لآداب الشريعة، وباطنه المروق والفسوق.
إذا كنا نريد معالجة نظيفة للانحراف فإن هذا يتطلب معالجة تقوم على النعومة والجاذبيّة والتفاهم، واستخدام الحد الأدنى من القوة والسلبيّة.
إن من شأن التقدم الحضاري أن يوسّع مساحة الحريّة الشخصيّة لكل واحد من الناس، وهكذا فما كان يُظن شيئاً عاماً يؤثر في الحياة الاجتماعيّة -ومن ثم فإنه يمكن نقده -صار في جملة الخصوصيّات الفرديّة.
وتتكون الآن أعراف تجعل نصح الجار لجاره والرجل لأحد أقربائه من الأمور غير المستساغة. ولهذا فإن مساحة القول في محاصرة الشر تضيق يوماً بعد يوم. ومع هذا الانكماش أخذ المبدأ الإسلامي العظيم (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) يذبل ويفقد منطقيّته وأنصاره على نحو مخيف ومخجل!
في الماضي كان عدد كبير من المسلمين يعوّل على الدولة في محاصرة الفساد والحد من انتشار الانحراف بوصفها الجهة الوحيدة التي تملك سلطة رادعة ومنظمة معترفاً بها. وقد كانت الدولة تقوم فعلاً بشيء من ذلك، لكن لا بد أن نلاحظ عدداً من الأمور، منها:
إن الدولة حين تكون مشروعة، فإنها تستطيع الحد من صور انتشار السوء كثيراً، لكن كما أشرت قبل قليل فإن الردع من خلال القوة يكون قليل الجدوى إذا لم يُصحب بعمل توجيهيّ إيجابيّ.(1/8)
ونحن نعرف أن كثيراً من المنحرفين تحوّلوا إلى مجرمين كبار من خلال سجنهم مع فئة ضالعة في الإجرام أو مع أشخاص من أصحاب السوابق. أما إذا كانت الدولة غير مشروعة أو كانت لا تخضع لرقابة شعبيّة جيدة فإن قدرتها على حماية الآداب العامة وحفظ ظاهر المجتمع تكون شبه معدومة؛ لأنها هي نفسها تحتاج إلى الكثير من الإصلاح. وهناك نقطة هامّة لا ننتبه في العادة إليها، وهي أن مطالبة الدولة بالمزيد من التدخل لحماية الأخلاق والآداب والأعراف الحميدة، سيعني على نحو آلي منحها المزيد من الصلاحيّة والنفوذ في التدخل في حياة الناس، وهذا يتطلب تضخم أجهزة الدولة، وهذا ليس في صالحها ولا في صالح شعبها. إن الدولة مثل القلب ومثل الكبد إذا تضخم فسد، وإذا فسد تضخم. وقد صدق من قال: الدولة وليدة عيوبنا، والمجتمع وليد فضائلنا.
إن المجتمع الفاضل في الرؤية الإسلامية هو الذي يقوم بمعظم شؤونه دون أن يطلب المعونة من أي دولة أو سلطة بسبب استغنائه بمبادراته ومؤسساته وارتباطاته الأهليّة والشعبيّة. وأعتقد أننا الآن وصلنا إلى بيت القصيد ومربط الفرس في مقالنا هذا. إن العالم يعيش حالة فريدة من التضاغط والتزاحم العمليّ، وفي حالة كهذه تتعاظم قيمة الفعل ويتضاءل وزن الكلام، كما أن كثرة المغريات والمحفزات على الانخراط في الشأن الدنيويّ أضعفت قدرة الناس على المقاومة للشهوات على مقدار ما أضعفت فزعهم إلى الآخرة وإلى عالم المعنى على نحو عام. المستقبل في الحث والتأثير والكف والزجر سيكون للبيئة والجو والسياق والحالة العامة.
إن البيئة الجيدة تؤثر في الشخصية عن طريق (اللاوعي) وتقلل الميول إلى الشرور بشكل سلس. السياقات الحسنة تُبنى من خلال الألوف من الأعمال الخيرة والمبادرات الكبيرة، ومن هنا فإن على أهل الدعوة والغيرة على مستقبل الأمة أن يفكروا بطريقة جدّية وعمليّة في كيفيّة الحصول على حضور متألق في كل المجالات وعلى كل المستويات. إن الطبيعة -كما يقولون- تكره الفراغ.
ومن ثم فإنّ علينا أن نتوقع أن كل فراغ سياسيّ أو تربويّ أو اقتصاديّ أو إعلاميّ.. لا يقوم الصالحون بملئه فسيملأ بسرعة هائلة من قبل غيرهم.
ونستطيع أن نتعلم من حركة اليهود في العالم أكثر من درس بليغ، حيث استطاعوا أن يتحولوا وبصمت عجيب ومن خلال العمل الدؤوب من أقلية مضطهدة مكروهة إلى أقلية ساحقة ومهيبة ومسيطرة، ومهما قلنا عن محاباة الغرب لهم فإن الصحيح أيضاً أنهم قد أبدَوْا براعة نادرة في التنظيم والتخطيط والجهد المتتابع وتلمس مكامن القوة ونقاط الارتكاز، بالإضافة إلى الإحساس المبكر بأهمية العلم في تكوين النفوذ...
حين تكون على درجة عالية من الكفاءة تكثر أعداد الذين لهم مصلحة عندك، وأعداد الذين يحتاجونك. ومن خلال الحاجة إليك يمنحونك الفرصة تلو الفرصة، لأن تكون مؤثراً وفاعلاً، حتى أعداؤك فإنهم يضطرون إلى مصانعتك من أجل الاستفادة منك.
ملء الفراغ وإحداث التأثير المتميز يحتاج إلى عدد من الأمور المهمة، منها:
1- الكفاءة العالية، والتي يأتي كثير منها من وراء التعلم الجيد والتخصص والتدرب الممتاز والمثابرة في اكتساب الخبرة.
2- الأمانة والاستقامة وشعور المرء بالمسؤوليّة الأخلاقيّة عن العمل الذي بين يديه.
3- التضحية وجعل التبرّع والعطاء المجاني انتظاراً للمثوبة من الله تعالى.
4- فن التفريق بين الجوهري والهامشي وبين المرض وأعراضه، وأعتقد أن انتشار الشرور في المجتمعات الإسلاميّة يعود إلى عدد من الأسباب الجوهريّة والتي منها: حبّ الدنيا، ضعف التربية الأسرية، وهن الإيمان والجانب الروحي، الإعراض عن القراءة والاستمرار في التعلم، عدم كفاءة القوانين والنظم الإداريّة.
5- الشعور بالمسؤولية الشرعيّة عن انتشار المنكرات وشيوع الفواحش، ولنا أن نتأمل قول الله -جل وعلا-:(لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ*كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) [المائدة:78-79]. وفي حديث الشيخين أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دخل على زينب بنت جحش -رضي الله عنها- فزعاً، يقول: "لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب" قالت زينب:"يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟"، قال:"نعم، إذا كثر الخبث".
أي زمان كزماننا غير المباشر أهم من المباشر، ويكون الردع عن طريق الفعل أقوى من التأثير عن طريق الكلام، كما تكون الحركة الإيجابيّة أهم من الموقف السلبيّ الشاحب والمحتج. وللنية الحسنة والنشاط المستعر قيمة في كل زمان، ولا يكافئ فضيلة الإخلاص إلا كرم التوفيق
================
#الكِفاح المستمرّ
خلق الله تعالى الدنيا داراً للابتلاء، فوفّر فيها كل شروط: الأغنياء والفقراء، والأذكياء والبلهاء، والشرفاء والوضعاء، والأقوياء والضعفاء.. كل واحد من هؤلاء مقيم في وضعيّة اختبار بما آتاه الله من مكنة وبما سلبه من نعمة.(1/9)
إن على كل واحد منا أن يعمل أفضل ما يمكن عمله في إطار وضعيّته العامة والإمكانات والأدوات التي بين يديه. كما أن عليه أن يتمتع بروح الممانعة والتأبّي على كل ما يصرفه عن وجهته وهدفه. ليس في هذه الدنيا منطقة آمنة نلقي فيها مراسينا، ونركن إلى ما بلغناه من تقوى وورع وتماسك خلقيّ ونفسيّ، إننا جميعاً واقفون على أرض متأرجحة وفي منطقة تجاذب بين الصحيح والخاطئ والخيِّر والشرير. وإن أيّ تراخٍ أو ترهل في الحاسة الأخلاقيّة يمكن أن يقذف بأحدنا في محيط الضياع أو الانحراف. إن كل ساعة تمرّ علينا تشكل تحدّياً جديداً. علينا أن نواجهه ومن أجل مواجهته، فإننا نحتاج من الله -جل وعلا- أمرين: الهداية والمعونة.
وإن سورة الفاتحة التي يُطلب من المسلم أن يقرأها في كل ركعة تشتمل على المعنيين:(إياك نعبد وإياك نستعين)، (اهدنا الصراط المستقيم)، ولم يلمح هذا المعنى المفسرون الذين قالوا المعنى: ثبّتنا على الصراط المستقيم. إن الاستقامة على أمر الله تحتاج إلى نوع من الكفاح المستمر والمجاهدة الدائمة، ولا سيما أننا نعيش في ظروف صعبة وحرجة؛ إذ المغريات الكثيرة بالميل ذات اليمين وذات الشمال. إن المجتمعات الإسلامية باتت متخمة بأولئك الذين يقدمون نماذج سيئة للأجيال الجديدة ، والأكثر إثارة للأسى أن ما يمكن فعله اليوم من أمور منكرة وشرّيرة دون التعرّض للعقوبة آخذ في التنوّع والاتّساع ، وكثرت المعاذير المختلفة: كل الناس يفعلون هذا.. نحن مضطرون لأن نعطي ضمائرنا إجازة بسبب الضغوط.. لو كان هذا العمل سيئاً ما فعله فلان، أو لما سكت عليه فلان، أو ما سمحت به الحكومة..!!
هناك إلى جانب هذا فيض من الرسائل التي تتدفق من كل اتجاه. ومضمون تلك الرسائل واحد، وهو أننا نستحق أكثر مما نلنا ، وأن هناك وسائل سريعة للحصول على ما نريد. وليس من حقك أن تبحث عن مشروعيّة تلك الوسائل، فالبحث فيها صار قيداً على الانطلاقة الكبرى التي على كل واحد منا أن ينهض لها!
واضح جداً أن ضمائرنا تتعرض لترويض عنيف كي تخفّف من حساسيتها تجاه الطرق غير المشروعة للنجاح والثراء.
إن الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بلزوم الاستقامة حين قال جل وعلا :( فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [هود:118]. قال ابن عباس -رضي الله عنهما-:"ما نزل على رسول الله آية هي أشد ولا أشق من هذه الآية"، ولذلك قال لأصحابه حين قالوا له: أسرع إليك الشيب:"شيّبتني هود وأخواتها".
وهذا منه -صلى الله عليه وسلم- شعور وإعلام بجوهريّة الاستقامة في حياة المسلم، وكونها أساس الأصالة في الشخصيّة الإسلاميّة.
وقد أثبتت الخبرات العالمية المتراكمة أن الاستقامة هي الشيء الأفضل في العمل، وفي العلاقات الاجتماعيّة، وفي العلاقات الدوليّة، والشيء الأفضل في ضبط المجتمع والسيطرة على الجريمة... ولم لا تكون كذلك وهي في معناها العميق تعني ملازمة الحق والاعتراف به والبناء عليه . هناك أشخاص لا يُحصَوْن عدداً يملكون الكثير من مقوّمات التقدم والنجاح والتفوق، لكن منعهم الانحراف والالتواء من التواصل مع أعماقهم، في عمق الإنسان المسلم طيبة وسكينة وتحفّز نحو الخير، لكن عدم الاستقامة لدى كثيرين منا يحول دون الاستفادة من ذلك وتوظيفه في الحصول على تقدم شخصي واجتماعي واضح، إن المعاصي حين تصبح جزءاً من السلوك اليومي للمرء تشكّل اتجاهه العام على نحو يحول بينه وبين تقديره لذاته وثقته بنفسه. كما أنه يفقد المصداقية أو كثيراً منها في نظر الآخرين، وهذه الأمور كافية لإطفاء جذوة التألّق الروحي والاجتماعي في آن واحد.
إن الاستقامة في دلالتها على أصالة الذات، شيء لا يقبل التجزئة؛ إذ لا يُقبل من المرء أن يكون مستقيماً إلا قليلاً أو أن يكون صادقاً في معظم الأحيان، أو أن يكون عفيفاً أمام المال القليل دون المال الكثير.. إن الاستقامة - بوصفها الطابع العام للشخصية - شيء شديد الحساسية؛ فهي إما أن تكون وإما ألاّ تكون، وجهادنا اليومي ينبغي أن يصب على صيانتها أولاً وعلى تعميقها ثانياً.
ولا أجد حرجاً في القول: إننا حتى نكون مستقيمين فعلاً نحتاج إلى أن نكون أكثر تأملاً وأكثر نشاطاً وأكثر تضحية مما نحن على استعداد لتقديمه اليوم.
وهذا يعني أن التقدّم على طريق الاستقامة يتطلب نوعاً من التطوير الشامل للذات. وهذا التطوير حتى يصبح حقيقة يحتاج إلى العزيمة، والإصرار على السير في طريق التغيير. إن السلوك الممتاز يتشكل من مجموعة غير كبيرة من العادات الممتازة. وإن المرء إذا عقد العزم على أن يتخلى في كل سنة عن عادة أو عادتين من عاداته السيئة. وإذا فعل ذلك فإنه لن يمضي عليه أكثر من خمس سنوات حتى يجد نفسه وقد تحوّل من زمرة الأشخاص العاديين إلى فئة الأشخاص الجيدين أو الممتازين.(1/10)
وإني لآمل أن ننظر إلى ضعف الاستقامة على أنه يشكل التربة التي تنبت فيها جذور معظم مشكلاتنا النفسيّة والاجتماعيّة. وإذا تأمّلنا في الكثير من الصعاب التي نواجهها في الحياة لوجدنا أنها تعود إلى الأخطاء الشخصية المتكررة؛ إذ إن الانحراف سيلحق الأذى بصاحبه في نهاية المطاف بصورة من الصور. إنه طريق يؤدي إلى ممرٍّ خلفي ضيق ومظلم، وذلك الممرّ سيفضي في النهاية إلى ممرٍّ مسدود، ولكن قد نحتاج إلى وقت أطول حتى ندرك ذلك.
بالاستقامة نحرّر أنفسنا من هيمنة الرغبات غير المشروعة، ونحرّر إرادتنا من ربقة العبودية ومن أوهام التفوق المكذوب. بالاستقامة نتخلّص من القلق والاضطراب الداخلي، ونحصل على الانسجام الذاتي من خلال اطمئناننا واعتقادنا بأننا نفعل ما ينبغي علينا أن نفعله.
إن الاستقامة توفّر لصاحبها قدراً هائلاً من الشعور بالسعادة والقوة، وإن النظام اللغوي سيظلّ قاصراً عن التعبير عن ذلك.
في عالم كثير التغيّر والتحوّل يكون احتفاظنا بجوهر يستعصي على التغيير شيئاً يعادل بقاء نجم في مداره وقلباً على نظام حركته.
هل يكون ما خططناه صرخة في واد أو نقطة تحوّل من حقل الأشواك إلى حقول الورود؟
ليس عندي جواب، الجواب عند القارئ.
===============
#مشكلات المثقف
من سنن الله تعالى في الخلق أن يكون أسوأ ما يتعرض له الناس شيئاً من صنع أيديهم ونزعات قلوبهم، ولذا فإن علينا دائماً ألاّ نسلّط الوعي على الحجارة التي تُوضع في طريقنا، وإنما على الحفر التي نحدثها بمعاولنا.
ومن الملاحظ في هذا السياق أن كثيراً من المثقفين يملكون البراعة والعدة البيانية الكافية التي تمكّنهم من الظهور بمظهر الضحية، وتمكّنهم من التنصل من المسؤوليات الملقاة عليهم، لكن ما لدى المسلم من حبّ للحقّ، وما لديه من إخلاص وصدق وحرص على بلوغ الأحسن، يدفعه دفعاً نحو وضع شؤونه الخاصة تحت المجهر، ومحاولة رؤيتها بقدر جيّد من الموضوعيّة.
والحقيقة أن المشكلات التي يتعرّض لها المثقف المسلم وصانع الخطاب الدعوي مشكلات كثيرة جداً، ومن الصعب الإلمام بها، ولو على نحو سريع، فلنعرض إذاً إلى بعض ما نراه مهماً منها:
1- ثمة داء واسع الانتشار يتعرض له كل من يهتم بالشأن الثقافي ومن كل الاتجاهات والتيارات، وذلك الداء يتمثل في الرغبة الجامحة في الطفوّ على السطح، وتعجّل الظهور أمام الناس بغضّ النظر عن مدى امتلاكه للأدوات المعرفيّة وبلورته للمنهج الفكري والعلمي الذي سيسير عليه في صياغة خطابه. هذا التعجّل يتم في أحيان كثيرة بسبب ضعف شعور المثقف بمسؤولية التصدي لمهام التثقيف والقيادة الفكرية للناس. ومن وجه آخر فإن هذا التعجّل يتمّ بسبب الإغراءات الكثيرة التي يقدّمها الإعلام، ويقدّمها المجتمع أيضاً لكل من يُظن أنه أضحى (شخصية عامة)، أو نجماً تلفازياً.
المشكلة أن صانع الخطاب اليوم إذا كان ناجحاً فإنه قد يؤثر في الملايين من الناس. وهو عبر رسائله المستمرة يشكّل لديهم اتجاهاً ثقافياً، له محكّاته وملامحه ومطالبه.. ثم إذا به يكتشف أن مذهبه الفكري والإصلاحي الذي نشره على أوسع نطاق، يحتاج إلى تعديل وتهذيب، وربما إلى تغيير جذري، وفي هذه الحالة فإن كثيرين منا يخشَوْن أن يُدخلوا -من خلال التعديل- الاضطراب على تلك الأعداد الهائلة التي شكّلوا وعيها. وأحياناً لا يكون هذا هو الهاجس، وإنما النقص في الشجاعة الأدبية المطلوبة للنقد الذاتي، والتبرّؤ من رؤية أو مذهب أو اتجاه.. ومن ثم فإن الذي يتم هو كتم الأفكار الجديدة في الصدور، أو إشاعتها في وسط ضيق عن طريق الأحاديث الشخصية والخاصة. وهذا على المستوى الأخلاقي شيء خطير للغاية، هناك مثقفون كثيرون لا ينظرون إلى شيء من هذا وذاك، ومن ثم فإنهم ينتقلون من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، ولكل يمينه ويساره مما يجعل قرّاءهم وطلابهم عاجزين عن فهم المنهج الذي يسيرون عليه؛ فتكثر الأقاويل والتفسيرات، ويشيع الغمز واللّمز.
ويحدث ما هو أخطر من هذا، وهو ضعف الثقة بالقيادة الثقافية والفكرية، والزهد في أي خطاب توجيهي، وكلنا يذكر ما جرى من التحوّل المفاجئ لأعداد كبيرة من المثقفين على امتداد العالم من النقيض إلى النقيض، وذلك حين انهار (الاتحاد السوفيتي)؛ إذ رأينا الكثيرين ممن كان يُنَظّر لتحكم الدولة، والاقتصاد الاشتراكي، وحقوق العمال، وقد صاروا بين عشية وضحاها من دعاة الليبراليّة والتعدديّة وحقوق الإنسان واقتصاد السوق، وبعضهم فعل ذلك بفجاحة وغلظة غير مدرك خطورة ما أقدم عليه!
وفي الساحة الإسلامية رأينا كثيرين من الكتاب والمفكرين اشتغلوا ردحاً من الزمن بالحديث عن انهيار البلد وتفاقم الأوضاع وضرورة الإسراع في الإصلاح قبل فوات الأوان... وبعد مدة إذا بهم يعرضون عن كل ذلك، ويشرعون في الحديث عن التربية وتعليم الناس أمور دينهم وأهمية النهوض بالفرد.. وصار إلى جانب ذلك لا يألو جهداً في إيجاد المسوّغات للأوضاع السائدة!(1/11)
وكم من مثقف كان الحديث عن الشعر والأدب والنقد شغله الشاغل، فإذا به يتحول عن ذلك إلى التحدث في الشؤون السياسية والقضايا الإستراتيجية والتنموية.. لا شك في مشروعيّة الترحال والتحوّل الثقافي؛ إذ إنه يعبر عن استمرار النمو والنضج لكن بشرط ألاّ يتم ذلك بدوافع مصلحية وانتهازية. ومع هذا فإنه يجب أن يتم بوضوح تام، ويجب أن يشرح المثقف لأولئك الذين كوّن وعيهم، وأثّرت فيهم ملامح رؤيته الجديدة، وأسباب انتقاله وتقويمه للمرحلة السابقة.
وهذا في الحقيقة لا يحدث إلا قليلاً؛ إذ إننا تعودنا دائماً الحديث عن إنجازاتنا وفتوحاتنا الفكرية والثقافية، ونجد في الوقت نفسه صعوبة بالغة في الحديث عن الأشياء التي لم نفهمها والأخطاء الثقافية التي وقعنا فيها. وهذا يعود إلى البيئة الاجتماعية التي لا تفتأ تلحّ على الظهور بمظهر الكمال في كل الظروف والأحوال!
لا يخفى أن كثرة اختلاط المثقف بالناس وانفتاحه عليهم على نحو مسرف، يحرمه من العثور على الوقت المطلوب للتأمل في تحوّلاته الفكريّة، ولتجديد ثقافته والتواصل مع المنتجات الفكرية الجديدة، مما يجعل ما لديه من أفكار ومقولات معرّضاً للتقادم والتآكل، والذي ينتج عنه التكرار المملّ.
الخلاصة أن علينا التريّث في الظهور والاستعداد له على نحو مناسب، وإذا وجدنا أنفسنا مغمورين بالأضواء، فلنتعلم كيف نخطو خطوة إلى الوراء حتى نظل على تواصل مع مصادر التثقف، وعلينا إلى جانب هذا أن نحدس بالتطورات الثقافية القادمة من أجل المزيد من الوعي بالموقف الفكري الذي يجب أن نتخذه منها، وذلك بقصد تجسيد العلاقة بين الحاضر والمستقبل وإضفاء المنطقية على حركة الفكر خلالهما.
2- المثقف المسلم مهدد دائماً بأن تتحول مهمته التبليغيّة والإرشادية من رسالة تملأ العقل والروح، وتشغل البال إلى حرفة أو وظيفة أو التزام أمام فلان وعلان. إن الذي يصنع خطابه وهو موقن بشرف المهمة التي يتصدى لها، وبأهميتها في إصلاح الناس، يتكلم ويكتب ويحاور، وهو مشتعل حماساً وحيوية وأملاً ببلوغ مراضي الله تعالى، ونيل توفيقه. إنه يجعل من طاقته ووقته وقوداً حياً لتحريك المجتمع في الاتجاه الصحيح.
وإن من شأن هذه الحالة أن تولّد الإبداع والفاعلية والاستمرار في العمل، إنه بسبب إخلاصه وصدقه وحماسته يظهر قدراً كبيراً من الفرادة والتميّز، ويعبّر عن تجربة فذة وغنية، وسيكون الأمر مختلفاً جداً حين يتكلم الإنسان لأنه خطيب جمعة. وحين يعظ لأنه عُيّن على وظيفة واعظ وإلا لما وعظ. وحين يكتب يومياً لأن هناك عموداً يجب أن يقرأه الناس يومياً وقد طرّز اسمه.. إن العمل حينئذ سيكون رتيباً وكئيباً، ويكون عند الحد الذي يسمح باستمراره ليس أكثر. وهذه المشكلة واسعة الانتشار إلى درجة أنها تصلح مفسراً -مع تفسيرات أخرى- لحالة عدم الفاعلية التي نراها لدى كثير من الكتاب والدعاة. قد نكون في هذه المرحلة بحاجة إلى عدد كبير من الأبطال الذين يرفعون الرايات، ويقدمون النماذج الرفيعة في الحرص على التأبّي على التحوّل من موقع الرائد إلى موقع الموظف أو المنتفع. وما أشدّ الفرق بين النائحة والثكلى!
تحدثنا في المقال السابق عن مشكلتين من أهم المشكلات التي يتعرض لها المثقف المسلم أو صانع الخطاب الإسلامي. واليوم نحاول إتمام الحديث بذكر ثلاث مشكلات أخرى نسوقها في الحروف الصغيرة الآتية:
1- التحزب أو الانحياز الفكري خطر آخر يهدد المثقف المسلم وغير المسلم. إن عظمة الأفكار تكمن في قدرتها على الرفرفة، وفي طلاقتها وقدرتها على التعبير عن الكرامة الشخصية والتعبير عن حرية الإدراك والقرار.
وهذه السمات تشكل الأساس الذي نمنح بناء عليه المصداقية للمجتهد والمفكر والداعية. إن المفكر الحر لا يستند في حريته الفكرية إلى التأبي على المساومة والتوظيف من قبل أصحاب المال والنفوذ فحسب، وإنما يملك إلى جانب ذلك المنهج الذي يمكنه من مقاومة (التأطير) الذي يهدد كل صانعي الخطاب. هناك فرق كبير بين مفكر اتخذ من مبادئه وعقيدته وخلاصة تجربته خلفية فكرية وثقافية توجهه، وإطاراً يتفاعل معه، ويتحرك في داخله، وبين مفكر انتسب إلى حزب أو جماعة أو مؤسسة، أو صار موظفاً لدى دولة، فأصبح ولاؤه الجديد عبارة عن إطار داخل الإطار الإسلامي، وأحياناً يتحول إطاره من إطار صغير إلى إطار كبير يتداخل مع الإطار الإسلامي، وهذا يعني أن ذلك المثقف أو المفكر صار منحازاً إلى رؤية جزئية أو اجتهاد فئوي، أو صار معبراً عن مصالح ضيقة لا تتطابق مع مصالح الأمة.
ليس هناك خطورة كبيرة في الأصل في أن يجد المرء نفسه ميالاً إلى اجتهاد دعوي أو إصلاحي دون غيره، لكن من المهم أن يكون على وعي بأنه مهدد بالتقزم الفكري والانحسار في الفهم للخريطة الفكرية والثقافية التي يجب أن يدركها، ويستحضرها عند تحليله وتقويمه للأشياء. وحين يتوفر هذا الوعي فإن المثقف المسلم سيعمل دائماً على محاولة التحرر من قيود ثقافته وانتماءاته وذلك من خلال رؤية الأشياء من زوايا متعددة، ومن خلال الحرص على تفهم طروحات الآخرين والحرص على إنصافهم.(1/12)
2- كثيراً ما يشعر المثقف أنه يرى ما لا يراه غيره ممن يحيطون به، وهذا كثيراً ما يولّد لديه مشاعر نرجسيّة صفويّة، كما يولّد لديه الاعتقاد بإمكانية فهم الواقع ومعرفة هموم الناس من غير مخالطتهم، وقد لاحظنا أن تشكيل ثقافة النخب قد تحول إلى ما يشبه الصناعة المغلقة؛ فصور الواقع يرسمها المثقفون، ويقومون بتحليلها، ويتداولونها بينهم، وهم وحدهم الذين يبتكرون الحلول للمشكلات ويشخّصون الخارج من الأزمات، وكثير منهم تكيّفوا مع أفكارهم، ويتوحّدون مع ذواتهم لاعتقادهم أنهم يعيشون في مجتمعات جاهلة وفاسدة، وهذا ما يجعلهم يشعرون بالغربة والعزلة الهامشية. وقد انعكس ذلك على طروحاتهم التغييرية، فهي ما بين سوداء ورماديّة!
إن الشعور بالتفوق شيء يصعب الاحتراز منه، وكون المثقف يرى ما لا يراه غيره صحيح نسبياً، لكن لا ينبغي لهذا وذاك أن يحرمنا من التغذية الراجعة وقراءة ردود أفعال الناس على ما نخاطبهم به، كما لا يصح أن يحجبنا عن سبر الواقع عن طريق الإحصاء والمعايشة الفعلية وعن طريق الحوار مع الناس العاديين المستهدفين بالرسالة التثقيفيّة.
3- إذا عدنا إلى الوراء مئة سنة من الآن، فسنجد أن المثقف النخبوي كان هو الأكثر أهمية على الساحة، ونخص بالذكر طلاب العلم الشرعي وحاملي الثقافة الشرعية. إنهم يشكلون المرجعية للناس، ويؤثرون فيه ويعيشون معهم ألوان معاناتهم اليومية. أما اليوم فقد اختلف كل هذا على نحو جذري، وهذا الاختلاف يعود إلى وجود خطابات عديدة تنافس الخطاب الإسلامي، وتشوّش عليه، كما أن وظيفة الثقافة العليا إسلامية وغير إسلامية، في صياغة الثقافة الشعبيّة وتوجيهها قد تراجعت إلى أدنى مستوياتها. وما نسمع عنه اليوم من متابعة وتصويت لبعض البرامج المخجلة والتافهة، يوضح لنا أن تنظير المثقفين ومعالجاتهم باتت في واد، وبات معظم الناس في واد آخر.
إن الخطاب الثقافي النخبوي وكذلك الخطاب السياسي يفقد زخمه وتأثيره وجاذبيته على سبيل التدرّج بسبب التغيّرات العالمية، ولا سيما ما حدث على صعيد الثورة التقنية في مجال البث والاتصال. والحقيقة أن التغيرات التي حدثت خلال السنوات العشر الأخيرة؛ وذلك بسبب بروز مؤثرين جدد في الحياة الاجتماعية من خارج الدوائر التقليديّة لصناعة الفكر والمعرفة.
وقد صار لرجال الأعمال والإعلام ومهندسي الحاسبات ومصممي الأزياء ونجوم الطرب والكرة- حضور قوي ومتابعة شعبية كثيفة، تفوق متابعة رافعي مشاعل المعرفة وموقدي مصابيح الفكر. ومن المؤسف أنك حين تلتقي بكثير من صانعي الخطاب الإسلامي تجد أن طروحاتهم ورؤاهم وآمالهم في الإصلاح والتجديد والنهضة بعيدة كل البعد عن اعتبار المعطيات الجديدة، وذلك لأنهم يكفرون بالطريقة نفسها التي فكر بها أسلافهم قبل ثلاثة قرون.
وقد صار لمن كانوا يُسمّون بالعامة والغوغاء وضعيّة عامة تؤثر فيها الأفلام والمطاعم الأمريكيّة، والأذواق والأزياء الأوروبيّة على نحو طاغٍ ونافذ، ولم يشعر كثيرون منا بهذا، ولا حاولوا التكيف معه على نحو إيجابي.
إن على المثقفين أن يدركوا حدودهم الجديدة، وأن يعيدوا النظر في المفاهيم والمقولات التي كانوا يدركون من خلالها الواقع العام للأمة. كما أن عليهم أن يدركوا على نحو دقيق ما تبقّى لهم من دوائر التأثير، ويحاولوا الاستثمار فيها بشكل مكثف، بالإضافة إلى إدراك المسؤوليات الجديدة التي فرضتها التغيّرات الإيجابيّة والسلبيّة الحديثة.
إن التأمل هو التفكير ، وليس هناك شيء أولى بتسليط نور الوعي عليه من الوضعيّة التي صار إليها أولئك الذين عليهم أن يشخّصوا أدواء الأمة، ويصفوا لها العلاج
===============
#الحسّ الدعويّ
هناك خوف مستمر من أن يؤدي طول الأمد وامتداد الزمان إلى حرف الاتجاه وتضييع الأهداف الكبرى؛ إذ إنّ أي انحراف صغير يكبر مع مرور الأيام ليصبح انحرافاً كبيراً. لا نجادل اليوم أن هناك اتجاهاً كبيراً في كل عالمنا الإسلامي إلى التغيير.
وفي أحيان كثيرة يشعر الناس بشيء من الإصلاح. وهذا يحدث في غالب الأحيان بسبب الأوضاع الجديدة الناجمة عن التطور التقني -ولا سيما في عالم البث والاتصال- وانفتاح العالم بعضه على بعض. وهذا كثيراً ما يغري شريحة واسعة من الناس بالانغماس في الحديث عن الإصلاح والمطالبة به. ونحن أمة نحتاج في الحقيقة إلى إصلاح كل النظم التي لديها: التربوية والتعليمية والاقتصادية ومن بينها النظام السياسي؛ فأوضاع معظم البلدان الإسلامية في المسائل الحقوقية والنزاهة المالية وحسن تصريف الأمور الإدارية هي أوضاع أقل ما يُقال فيها: إنها مخجلة! لكن من المهم أن نكون على وعي بشيء آخر، هو ضرورة الاحتفاظ بـ (الحسّ الدعويّ) النقيّ والمبرَّأ من شهوة الحصول على منافع شخصية عاجلة. وأودّ هنا أن أُبدي الملاحظات الآتية:
1- يُلاحظ اليوم أن طابع المناداة بالإصلاح يرتدي حلّة المطالبة بالحقوق أكثر من أي شيء آخر. فهذه جماعة تريد أن تحصل على حرية التعبير، كما هو شأن المشتغلين بالإعلام. وهذه فئة تطالب بالسماح لها بتشكيل حزب سياسي. وهذا فريق يطالب بتحسين الأجور... الخ(1/13)
ومع أن كثيراً من هذه المطالب صحيح إلا أن الإصلاح يظل -بوصفه الحاضر- نزّاعاً إلى أن يكون الحصول على شيء ما. إن طابعه العام هو الأخذ، وعلى الآخرين أن يعطوا، ويقدموا، ويتنازلوا... أما الداعية الحقيقي، أو من يغلب عليه الحسّ الدعويّ الحقيقي فإن الطابع العام لأنشطته هو العطاء غير المشروط، والعطاء المصحوب بالحُرقة على عموم الخلق. وهذا هو شأن الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- إن شعارهم العملي -كما أخبر الله تعالى عنهم هو:(ما أسألكم عليه من أجر). إنهم يدعون الصغير والكبير والشريف والوضيع والغني والفقير، يدعونهم إلى ما فيه صلاحهم في شأنهم الديني والأخروي أولاً وصلاحهم الدنيوي ثانياً. أما الذين يدعون إلى الإصلاح اليوم فإن الذي يغلب عليهم هو المطالبة بإصلاح أمور تمسّ الأمور الدنيوية والمعيشية في المقام الأول. وهم شيئاً فشيئاً بدؤوا ينظرون إلى مسائل التقوى والورع وأداء الشعائر والكفّ عن المعاصي على أنها مسائل شخصية، يتصرّف فيها الناس بحكم أنهم مسلمون واعون ومخلصون. مع أن الذي يتأمل في النصوص الكريمة يجد أن صلاح السلوك الشخصي للمسلم يشكل أهم المحاور التي ذهبت باهتمام الأنبياء عليهم الصلاة والسلام واهتمام من تبعهم بإحسان من أتباعهم وحوارييهم.
2- حين يمتلك المرء الحسّ الدعويّ فإنه يجد نفسه مندفعاً في اتجاه جميع الناس على اختلاف مواقعهم الاجتماعية، وعلى اختلاف مذاهبهم وانتماءاتهم. إنه يبلغ رسالة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ويجعل من صوته امتداداً لأصواتهم. ومن ثم تصبح الدعوة أداة لتمتين اللحمة الاجتماعية، وأداة لتجميع الناس على قضايا محددة وبسيطة: قضية الإيمان والتقوى والعمل الصالح وفعل الخير والنجاة في الآخرة. وكل هذه المفردات تشكل حاجات أساسية لعموم الناس. وتجد في هذه الحالة نوعاً من الاهتمام الخاص يوجّه للفقراء والضعفاء. وكل أولئك المحتاجين إلى العون. وهؤلاء يشكلون البنية الأساسية لأتباع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والبنية الأساسية لكل الصحوات الإسلامية المتتابعة.
أما حين يضعف الحسّ الدعويّ فإن الخطاب آنذاك تصوغه نخب متحالفة أو متشاحنة، ويصبح الطرح الإصلاحي أداة لتقسيم الناس إلى خاصة وعامة، وأداة لتنمية الروح الحزبيّة وروح الفرقاء المتشاكسين الذين يتحدثون من أفق المجاملة الفكرية والسياسية والثقافية والطائفية...
ويستهدفون باستمرار تحقيق مكاسب حزبية أو تسجيل مواقف تاريخية أو إثبات الأهلية للدخول في تحالفات نقية وغير نقية. وتسود أجواء من ضعف الثقة وضعف المصداقية، ويصبح التشكيك والاتهام من أدوات التنمية الثقافية والسياسية. ويضيع في غمرة كل ذلك الحسّ الأخلاقي العميق والالتزام بتعميق التديّن لدى عموم الناس!
3- حين يضعف الحسّ الدعويّ في مجتمع من المجتمعات المسلمة تسود درجة كبيرة من البطالة في صفوف الشباب؛ لأنهم يفقدون المحرك الداخلي لبذل النصح وهداية الخلق، ويفقدون الأفق الفكري الذي يؤطّر حركتهم الاجتماعية. ويجدون أنفسهم في الوقت نفسه عاجزين عن استيعاب الطروحات الإصلاحية -والتي يصوغها في العادة صفوة -وشرحها للناس لأنهم يشعرون أنهم أصبحوا كمن هدم بيته ليبني في مكانه قصراً مشيداً لكن بعد الهدم وجد أن تكاليف بناء القصر تفوق كثيراً ما لديه، ولهذا فإنه وجد نفسه في العراء!
المجال الدعوي بطبيعته رحب الأرجاء؛ حيث نجد كل من لديه أدنى علم مؤهَّلاً لقول كلمة خير في سياق نصيحة أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر أو حث على فضيلة. أما المجال الإصلاحي بوصفه صناعة نخب فإنه لا يتّسع إلا إلى أقل القليل من الشباب، لكن معظم الناس لا يدركون هذا، ويأخذون في الحديث عن أمور لا يعرفون عنها الكثير، ولا يجنون من وراء الحديث فيها أي شيء ذي قيمة، ولو نظرنا إلى مجادلات الشباب اليوم حول الديموقراطية والعلاقة بالغرب وحقوق المرأة وفوائد تشكيل النقابات ونشر الحريات لتأكدت من صحة هذا القول.
من المهم أن يشتغل بالقضايا الإصلاحية واحد أو اثنان في المئة من أهل الخير والعلم. وعلى الباقين أن ينشغلوا بحماية المجتمع من التحلّل الخلقي، وينشغلوا بنشر العلم وتربية الناشئة وإعدادهم للمستقبل، وإلا فسيجد كثير من الناس أنفسهم مشغولين بالإصلاح بوصفه (حديث مجالس) وطقطقات صحفية ليس أكثر.
إن من مهام أهل الفكر والعلم أن يرقبوا وجوه الخلل في توازن المسيرة الدعويّة، ويحاولوا إعادة الأمور إلى مجراها الصحيح، وإلا فإن من شأن الامتداد أن يقتل الاتجاه، كما يقتل المكانُ الزمان.
ولله الأمر من قبل ومن بعد.
================(1/14)
#الذّهنيّة المُقَوْلبة
كلما تقدّم البحث العلمي وتراكمت الخبرات المنهجيّة تبيّن لنا أن قدرات العقل تعي أقلّ مما كان يُظَن. ولا أقصد بالقدرات ما يمتلكه العقل من إمكانات هائلة على صعيد معالجة المعلومات، وعلى صعيد التنظيم وإعادة تشكيل الصيغ، وإنما أقصد قدراته على صعيد إصدار الأحكام في الشؤون الإنسانيّة وفي تحديد الأهداف الكبرى والغايات النهائيّة. إننا نكتشف يوماً بعد يوم أهمّية المعرفة في هذه الأمور وضآلة الدور الذي يمكن أن يقوم به الدّماغ. وقد تبين أن الفراغ المعرفي والمعلوماتي هو البلاء الأكبر الذي يمكن أن ينزل بساحة العقل. ومن هنا تتبين الحكمة البالغة في الحثّ على القراءة والاطلاع وطلب العلم. إن عمل العقل وهو يفكر يشبه من يسلك طريقاً صحراوياً طويلاً من غير أيّ خبرة سابقة بذلك الطريق. إنّه يعرف أنّ عليه ليس أن يصل إلى هدفه فحسب، وإنما عليه أيضاً أن يحفظ تضاريس الطريق حتى يتمكن من العودة إلى وطنه، ولا يهلك في متاهات الصحراء, ولهذا فإنه طيلة الرحلة يحاول تلمّس العلاقات والدّالات التي يتمكن بسببها سلوك الطريق في رحلة الإياب. ولهذا فإنه مشغول بحفظ الجبال التي يمرّ من جانبها الطريق، ويحفظ مسافات انعطافاته ذات اليمين وذات الشمال... هكذا العقل حين يبدأ بتكوين المرتكزات التي سيقوم عليها عمله. إنه يجمع الفكرة مع الفكرة والملاحظة مع الملاحظة والمقولة مع المقولة.. حتى يتمكن من بناء منطقيّته الخاصة وأنساقه الشخصيّة، وهو يتشبّث بما ينتهي إليه من ذلك كما يتشبّث سالك الطريق الصحراوي بالعلامات التي استطاع الحصول عليها.
إذا أراد سالك ذلك الطريق القيام برحلة أخرى فإنه سيجد أن من السهل عليه سلوك عين الطريق، حيث زادت خبرته به، وصارت إمكانية العودة منه أكبر، كما نشأت بينه وبين ذلك الطريق أُلفة نفسيّة تقترب من الحنين. ولهذا فإنه إذا نُصح بسلوك طريق أقرب من ذلك الطريق أو مزوّد بخدمات أفضل... فإنه سوف يستوحش من ذلك، ويتّبع الحكمة الشهيرة: "الذي تعرفه خير من الذي ستتعرف عليه". طبعاً سيكون موقفه من الطريق الجديد المقترح مختلفاً تماماً فيما لو أنه قبْل الشروع في أي سَفَر اطّلع على خارطة جيدة توضّح له كل الطرق التي يمكن أن يسلكها وميزات وعيوب كل واحد منها. إنه في هذه الحالة يغيّر من طريق إلى طريق بسهولة؛ لأن الطريق الذي سلكه كان قد سلكه وهو يعرف أنه ليس هو الطريق الوحيد، وليس هو الطريق الحائز على كل الميزات والمبرَّأ من كل العيوب. هكذا العقل حين يفكر ويشتغل في حالة شحّ معرفي ونقص في المعطيات الجيدة. إنه يعدّ كل ما توصل إليه من مقولات ومرتكزات وأنساق شيئاً ثميناً ونادراً، لا يمكن الاستغناء عنه أو مسّه بأي تعديل.
لقد أصبح العقل أسيراً لمقولاته، مكبّلاً بأغلال صنعها بيديه، وباتت تتحكم بعمله. وسيكون الأمر مختلفاً لو كان أمام العقل عند بدايات عمله مخزون معرفي جيد. إنه حينئذ سيدرك أنه يتّبع خيارات، وليس يخضع لحتميات ولهذا فإنه يكون عقلاً مرناً متجدّداً مستوعباً للجديد دون أن يفقد صلته بالقديم. هذا كله يعني أن علينا أن نستمر في أمرين جوهريين:
الأول: هو التزوّد من العلم، فنحن لا نعرف إلا القليل، بل أقل القليل، وما نجهله أكثر بكثير مما نعرفه. وبما أن المعارف تتضاعف كل عقد أو عقدين، فهذا يعني أن جهلنا جديد.
الأمر الثاني: هو التحرّر العقلي الدائم. إن علينا أن نختبر مقولاتنا وطرق تفكيرنا، ونحاول مراجعتها وتعديلها بما يتواكب مع مسيرة النضج التي نمضي فيها. بعض الناس يعتقد أننا نعيش في أسوأ زمان مرّ على أمة الإسلام بسبب ما يراه من انتشار المعاصي، وسيطرة الأعداء على الأمة... ومن هنا فإنه انطلاقاً من هذا المعتقد يرى بعيني صقر كل السلبيات الماثلة في حياة المسلمين وكل المشكلات التي يعانون منها. وإذا ذُكر أمامه شيء من الإيجابيات هوّن من شأنه أو وجد له نوعاً من التأويل يجعله في مصافّ السلبيّات!
قسم آخر من الناس لديه اعتقاد أن الأمة بخير، ولهذا فإن عقله الباطن يساعده على اكتشاف ما لا يُحصى من الإيجابيّات، والتهوين من شأن السلبيّات، فريق آخر من الناس انطلق في تحليله لأسباب ما نحن فيه من منطلق (القصور الذاتي) فهو يعيد كل أشكال التخلّف في حياة الأمة إلى التحلّل الداخلي، وعدم قيام المسلمين بفروضهم الشرعيّة والحضاريّة. وهو لا يقيم لتخريب الأعداء وتآمرهم أي وزن! هناك قسم آخر يقف في الضفة المقابلة, فهو لا يرى إلا تآمر الأعداء وتدخّلهم السافر في شؤوننا، وهو يعتقد أن الأمة لو تُركت وشأنها لما عانت من أي مشكلة وهكذا... ومن الواضح أن الرؤية الصحيحة تقع بين ما يراه هذان الفريقان من المسلمين. لو تساءلنا كيف يكون في إمكاننا التخفيف من القولبة الذهنيّة في حياتنا الشخصيّة، وفي حياة الناس من حولنا فقد نجد أن علينا أن نفعل الآتي:(1/15)
1- الأشخاص المُقولبون ذهنياً يميلون إلى الصرامة والعناد. وهم يُعدّون من الأصناف التي تتصف بالصراحة المتناهية والميل إلى فرض أفكار غير متّفق عليها. وقدرتُهم على ترويض أنفسهم للتعامل مع الآخرين بعدل محدودةٌ، كما أن قدرتهم على تجزئة الفكرة واتخاذ مواقف متدرجة من الأفكار المطروحة أيضاً محدودة. ويجب أن نتعامل على هذا الأساس، ومن المهم أن ندرك أن القولبة الذهنيّة ليست شراً خالصاً؛ إذ إنّ المقولبين ذهنياً يحدّون من اندفاع المتهوّرين في مسائل التجديد والتطوير، ويمنحون العمل الذي يكونون فيه درجة من الصلابة والمتانة، كما أنهم يلمّون شتاته، ويبثون القوّة في النفوس المتردّدة. إنهم عنصر أمان وعنصر توازن في الوقت نفسه.
2- التعامل مع المقولبين ذهنياً يحتاج إلى الكثير من الحكمة واللطف والحذر؛ إذ من السهل أن تزيد في درجة عنادهم وتقوقعهم على أنفسهم، وذلك إذا اتهمتهم بالعناد أو ضيق الأفق. وقد يكون من الملائم اتباع طريقة (بلورة المزايا والعيوب) في مجادلتهم. نقول: ما مزايا قولك؟ ما براهينه، وما مستنداته المنطقيّة؟ ما العيوب التي تغشاه، وما نقاط ضعفه؟ ويُطلب منه أن يَطلب ذلك أيضاً من مخالفيه.
إن هذه الطريقة تفتح باباً للجدل، وتخفّف من لغة التحدي، كما أنها تجعل المقولب ذهنياً يعتقد أن للحوار إيجابيات، ويعترف أيضاً بإمكانية وجود درجة من الصحّة والقوّة للأقوال المخالفة.
3- من المهم في تعاملنا مع المقولب ذهنياً أن نتعلم حسن الاستماع، وأن نطلب منه ذلك، وألاّ نلحّ في الوصول إلى نتائج فوريّة. إن جزءاً من صلابته تُشكّل بطريقة غير واعية، وسوف ينتهي أيضاً بالطريقة نفسها.
4- المقولب ذهنياً لا يملك الحساسية الكافية للتفريق بين ما يشكل رؤية شخصية اجتهادية ظنية، وبين ما يُعدّ من قبيل الثابت والقطعي، وما يُنظر إليه على أنه حقيقة مستقرة، انقطع حولها الجدل. وأعتقد أن ضعف هذه الحساسية يشكل جزءاً من البنية المعرفية لكل البيئات التي ينتشر فيها الجهل والفقر المعلوماتي، ولهذا فإن من المهم أن نثري تقنيات التفريق بين الظني والقطعي، والشخصي والعام في عالم الأفكار والآراء.
5- المقولبون ذهنياً يعطون للعقل دوراً بارزاً من أجل التعويض عن الثغرات المعرفيّة في منظومات الاستدلال لديهم. وهنا يكون من المهم التوضيح بأن العقل من غير معرفة جيدة كثيراً ما يكون عاجزاً عجزاً شبه تام عن رسم الأولويّات وعن إصدار أحكام حول العديد من الأمور الجوهرية مثل: اللائق وغير اللائق، والمهم وغير المهم، والآمن والخطر، والمستعجل والمؤجل... ونقوم إلى جانب هذا بتوضيح دور المعلومات في بناء الأفكار والآراء والمواقف والاتجاهات.
6- القولبة الذهنيّة نتاج تعليم مشوّه وبيئة يغلب عليها الجهل، وإن التقدّم على هذين الصعيدين، سوف يساعد على التخفيف من غلواء هذه المشكلة، ومن الله تعالى الحوْل والطّوْل.
================
#إدارة الثقافة
لو عدنا إلى أدبيّاتنا عبر القرون الماضية لوجدنا أن معظم تنظيرنا للشؤون الثقافية كان ينصبّ عليها بوصفها علوماً واختصاصات معرفيّة منظمة.
وربما سادت تلك النظرة بسبب قلة ما في أيدينا من المعارف والمعطيات المتعلقة بالإنسان باعتباره كائناً متعدّد الجوانب ومتعدّد الاحتياجات.
أما اليوم فإن المفهوم (الأنثروبولوجي) للثقافة آخذ في الانتشار والرسوخ؛ حيث إن هناك اعتقاداً متزايداً بمحدوديّة تأثير (العلم المجرّد) في صياغة السلوك الإنساني، وفي توجيه حركة الحياة اليومية. الثقافة كما بلورها علماء الإنسان هي ذلك النسيج المكون من العقائد والمفاهيم والنظم والعادات والتقاليد وطُرُز الحياة السائدة في بقعة محدّدة من الأرض. إنها طريقة عيش شعب بعينه، أو هي ما يجعل الحياة جديرة بالعيش، وكثير من مكونات الثقافة يستعصي على التخطيط والتنظيم؛ لأنها تشكل الخلفيّة (اللاواعية) لكل تخطيط وتنظيم. إن تنوع العناصر المكونة للثقافة يمنحها قوة هائلة في مواجهة الوافدات الأجنبيّة، وما يمكن أن تتعرض لها من ضغوطات داخليّة. إنه حين يتعرض أحد أنساق الثقافة للهجوم أو الهون، فإنها تعتمد في استمرارها واستعادة حيويّتها على باقي أنساقها، لكن نقطة قوة الثقافة هذه هي أيضاً نقطة ضعفها؛ حيث يعرّضها تنوّع مكوّناتها في أحيان كثيرة إلى ما يشبه الانقسام على الذات بسبب التصادم بين بعض أنساقها؛ وهذا ما يجعلنا في حاجة إلى ما سميناه (إدارة الثقافة).
أودّ هنا أن أدلي بالملاحظتين الآتيتين في هذه القضية:(1/16)
1- في كل مجتمع نوعان من الثقافة: ثقافة عليا، وثقافة شعبيّة أو ثقافة نخبة وثقافة جماهيريّة. الثقافة العليا تتكون بطريقة واعية وتكون أكثر دراية ببنيتها العميقة، وذلك لأننا نتملكها عن طريق القراءة والتأمل والحوار الرفيع والمقارنة وطرح الأسئلة.. أما الثقافة الشعبيّة فإنها ليست كذلك، إنها تتكون بطريقة غير واعية وغير مقصودة، حيث يتشربها أبناء المجتمع ويتشبعون بها كما يتنفسون الهواء. ونقطة ضعفها هذه هي نقطة قوتها؛ حيث إن اختراقها من قبل الثقافات الأجنبية يكون عسيراً بسبب عشوائيّتها وكتامتها ورقابة المجتمع المشدّدة عليها. أما الثقافة العليا والتي نبدأ بنشرها منذ الصف الأول الابتدائي إلى ما لا نهاية. هذه الثقافة هي التي تمثل الأمة أمام الأمم الأخرى، وهذا ما يجعلها على درجة حسنة من المرونة والقدرة على التكيف وتمثل الرموز الثقافية الأجنبية، أي أن كثيراً من الاقتباس والتطوير يأتي عن طريقها. تنظيمها وتمثيلها الخارجي لثقافة الأمة يعرّضها لأمرين مزعجين:
الأول: سهولة اختراقها؛ حيث إن طريقة اكتسابها الواعية تفتح الطريق لغزوها وبالتالي تحويرها وتهجينها.
الثاني: جفول الوعي الشعبي من أصحابها والشعور بأنهم يتجاوزون حدودهم إلى درجة يسوغ معها اتهامهم بخيانة الأمة وبيعها للغرباء. ومع أن شيئاً من هذا ينطبق فعلاً على بعض المثقفين إلا أن المشكلة أن الثقافة الشعبيّة لا تملك المعايير المنهجيّة، ولا الأسس المنطقيّة التي تمكنها من الحكم الراشد على تصرفات النخبة، مما يجعل موقفها شاعرياً أكثر من أن يكون عقلانياً. وهي بدافع من الخوف من الانقطاع تلجأ في كسب قضيتها إلى التيارات النخبويّة الأكثر محافظة وتقليديّة لتقدم لها العون في كبح اندفاع التيارات المتحرّرة والمتطلعة إلى التحديث. وهذا يجعل من الثقافة الشعبيّة عاملاً مهماً في زيادة الانقسام بين تيارات الثقافة العليا.
يمكن القول: إن تطوير الثقافة الشعبيّة وتخليصها من العادات والسلوكات الخاطئة يقع على عاتق الصفوة أصحاب الثقافة العليا، لكن من الصعب أن يحصلوا على الاستجابة لمناشداتهم وطروحاتهم ما داموا موضع شك وريبة من أولئك الذين يحتاجون لخدماتهم.
في العالم الإسلامي قامت الثقافات الوطنية والمحلية منذ أمد بعيد بإفراغ طاقاتها على الحضّ والكفّ في الثقافة الإسلاميّة المستندة إلى الكتاب والسنة، واجتهادات الفقهاء، وصار من غير الممكن المضي قدماً في تطوير أيّ شأن محلي بعيداً عن مدلولات هذه الثقافة ورمزيّاتها وتحديداتها. وهذا يعني أن ثقافة النخبة لا تستطيع أن تصبح قوة محرّكة للناس ما لم تتشرب روح الدين، وما لم تلتزم بقطعياته وأُطُره العامة. إننا في مرحلة حرجة يحتاج فيها كل من يروم الإصلاح إلى ولاء الناس وحماستهم وتضحياتهم؛ لأن المفكر لا يملك أكثر من ناصية التنظير، والجماهير التي ستتحمل عبء التنفيذ؛ ولهذا فلا بدّ من الاستحواذ على رضاها وإعجابها. وستكون النخبة في وهم كبير إذا ظنّت أنها تستطيع إحداث تغييرات كبرى من غير مساندة حقيقية من طيف واسع من أبناء الأمة. وقد أثبتت التجارب الكثيرة الإسلاميّة وغير الإسلاميّة أن كل حمل يتم خارج رحم الأمة هو أشبه بالحمل الكاذب. وحين يجافي أهل الرؤية والخبرة روح الدين فإنهم يسلمون زمام الأمة إلى عناصر تملك الكثير من الحماسة والاندفاع والقليل من البصيرة والفهم لمتطلبات المرحلة.
إن طاقة ثقافة الأمة تكمن في المستوى الشعبي منها، على حين أن عقلها ورشدها في المستوى الصفوي. وهذا التفاوت هو دائماً مصدر للتوتر والنزاع، لكن في الوقت ذاته يمكن أن يكون مصدراً للتطوير نحو الأحسن والأقوم إذا أدرنا العلاقة بينهما بما هو مطلوب من الذكاء والوعي.
2- إن تنوع الأنساق المكونة للثقافة يحيل دائماً على إمكانية حدوث الصدام والنزاع، كما هو الشأن في التنوّع والتعدّد. ويبدو أن أشد أنواع التوتر تلك التي تقع بين الثقافة بوصفها (هُوِيّة) وسمات خاصة بالأمة، وبين الثقافة بوصفها تعبيرات عن نَزَعات استهلاكية أو تعبيرات عن تحرّكات لتلبية حاجات الجسد، أو تعبيرات عن التكيف مع ظروف ومعطيات شديدة القسوة. وكلّما أوغل الناس في مدارج الحضارة اشتد أُوار الصراع بين هذين النسقين من أنساق الثقافة؛ ذلك لأن ثقافة الهُويّة تتسم بالتعالي عن الانشغال بالواقع، وتنزع نحو المطلق. على حين أن التحضر يزيد وعي الناس نحو مصالحهم، ويفتح شهيّتهم على الاستهلاك، مما يفضي في نهاية المطاف إلى تضخم الثقافة المتعلّقة بتسيير الحياة اليومية وتحقيق المنافع الشخصية، وهذا يجعل الناس يشعرون ويظهرون بأنهم أكثر دنيويّة، وهو ما يثير حساسيّة الترميزات العميقة للهُويّة في الثقافة الإسلاميّة.(1/17)
من الواضح اليوم أن ثقافة ما بعد الحداثة تشجع على انبعاث الهُويّات في كل أنحاء العالم من خلال عمل غير مقصود، وهو المناداة بالنسبيّة الثقافيّة والتأكيد على انعدام الأطر والمرجعيّات، وجعل الحقيقة شيئاً تابعاً للثقافة. وتكمّل العولمة المهمة حين نعتمد نظام التجارة أداة أساسية في تسليع كثير من مظاهر الحياة، وجعلها أموراً جاهزة للمتاجرة والمساومة. إن هذا الدفق الهائل من الرموز والصور الاستهلاكيّة يساعد -على نحو استثنائي- على انتشار الهُويّات المقاتلة دفاعاً عن الوجود، وقد لا يكون أمامنا لإدارة الصراع المحتدم في عمق الثقافة على هذا الصعيد إلا أن ندعم الأنشطة الروحيّة والأدبيّة والاجتماعيّة ذات النفع العام، وأن نحاول إضفاء المعنى على الأنشطة الدنيويّة من خلال الحرص على شرعيتها، وشرح ما يمكن أن يجعلها موصولة بالأعمال الأخرويّة. وما لم نفعل ذلك فإننا سنعاني من الانقسام والتمزق في أعماق ثقافتنا، وسنشعر بالكثير من تشتت الجذور وضياع الأهداف الكبرى
=============
#محاور للتربية الاجتماعيّة
نستطيع القول: إننا نعيش في مرحلة كونيّة فريدة، بسبب ما أحدثته ثورة الاتصالات والبثّ الفضائي من تداخل واختلاط بين البيئات الثقافية المتباينة. كان الناس في الماضي يربّون صغارهم في بيئات مغلقة، ووفق معايير ومفاهيم تربوية محدّدة وخاصة، ولهذا فإن الأطر التربوية السائدة كانت في موضع إجماع، أو ما يشبه الإجماع. ومن ثم فإن الأزمات التربوية كانت تفسّر على نحو دائم على أنها بسبب مشكلات في التنفيذ وقصور في التطبيق ليس أكثر. النماذج والقدوات في المجتمعات المختلفة كانت ترمز باستمرار إلى نجاح الأصول التربوية المشتركة وتغري بالدفاع عنها.
لا يعني هذا كله بالطبع أن الأمور كانت على ما يرام، كما لا يعني أن التطورات التي قلبت تلك الأوضاع رأسًا على عقب كانت من الشر الخالص، لكن ذلك يعني أننا أمام فرص وتحدّيات جديدة. أما الفرص فتتجلّى في كسر العزلة التي كانت سائدة بين الشعوب المختلفة، وكسر حدّة البرمجة المحلية -والتي تتسم غالبًا بالتشوّه والقصور- للعقول والنفوس كما تتجلّى في توفّر قدر هائل من الخبرات المتقدمة والمطلوبة لتحقيق قفزات نوعية في تنمية الأفراد والمجتمعات، إلى جانب إنعاش حاسّة المقارنة.
أما التحدّيات فتتجسد أساسًا في إضعاف المحاور والأسس التي كانت تقوم عليها التربية في المجتمعات الإسلامية، مما أدّى إلى نوع من الانقسام في الوعي، وإلى إرباك عام في الأساليب التربوية الموروثة.
في حال الانفتاح وتعدد المحكّات والنماذج التي تتم الإحالة الشعورية واللاشعورية عليها، تكون المشكلة الجوهرية في فقْد الأرضية المشتركة، مما يدفع في اتجاه التناحر والتفكّك الاجتماعي، يحدث كل هذا في الوقت الذي يتمّ فيه تهميش سلطة الدولة والمدرسة والأسرة والمجتمع لصالح سلطة المال والإعلام. أي إن التربية تواجه تحدّيين في وقت واحد: سحب الكثير من الصلاحية والتأثير من المؤسسات التربوية المهمة، وصيرورة الأسس التربوية موضع جدل ونزاع واعتراض. وهذا شيء خطير للغاية.
في حالة كهذه يكون علينا أن نستنبط من عقيدتنا وثوابتنا محاور أساسية ننسج حولها مئات المفاهيم والرموز التربوية ذات الدلالة الاجتماعية، ونحاول نشرها وتعميمها على أوسع نطاق ممكن. ومع أنني أكره المبالغة في كل شيء، وأعتقد أن من اليسير على التربية أن تنجح فيما أخفقت فيه السياسة والاقتصاد والإعلام والتعليم إلا أنني أظل أميل إلى أن التربية الأسرية تظل قادرة على ممارسة فن الممكن أي إنقاذ ما يمكن إنقاذه.
استطاع علماؤنا القدامى من خلال نظرهم الثاقب، واستقرائهم لمجمل أحكام الشريعة الغراء -أن يستنبطوا مقاصد أساسية سموها (الكليات الخمس)، وهذه الكليات هي: حفظ الدين، والنفس، والعقل، والعرض وحفظ المال. وأوجدوا بعض الترتيبات بين هذه الكليات، حيث يُضحّى بالأنفس من أجل حفظ الدين، ويُضحّى بالمال من أجل سلامة الأنفس والأعراض. ولم يتحدث الأصوليون عن هذه الكليات بوصفها منطلقات وأسسًا لتربية اجتماعية راشدة ومتماسكة؛ لأن هذا كان خارج اهتمامهم واختصاصهم. لكن نستطيع نحن اليوم أن نقوم بذلك من أجل جعل تربيتنا الاجتماعية أشد تمحورًا حول قطعيّات الشريعة، وأشد استجابة لمقتضيات التديّن العميق، ولعلي أبدي هنا الملاحظتين الآتيتين:(1/18)
1- إن التربية الاجتماعية على أساس هذه الكليات، توفّر لنا الحدّ الأدنى من وحدة الاتجاه، ووحدة المعايير التربوية، فالمسلم مطالب بالمحافظة على تديّنه والتزامه من خلال ممارسة الشعائر. ومطالب أيضًا بالدفاع عنه بالوسائل المشروعة والممكنة وبالمجادلة عن مبادئه وأدبيّاته. وهو في الوقت نفسه مطالب بأن يساعد إخوانه المسلمين على الالتزام من خلال تقديم العون لهم، ومن خلال أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر. والمسلم مطالب بالمحافظة على نفسه من خلال توفير أسباب الصحة ودفع الأذى والضّرر عنها. وهو مطالب بالمحافظة على نفوس المسلمين. وعليه أيضًا أن يحافظ على عقول المسلمين وأعراضهم، وأموالهم، كما يحافظ على عقله وعرضه وماله. تصوّر معي أماً تتحدث في تفاصيل تربوية تتعلق بالجانب العقلي لأبنائها، ماذا كانت تقول؟
ستقول لهم: العقل نعمة كبرى من الله -تعالى- وشكر هذه النعمة يكون في المحافظة عليها واستخدامها على أحسن وجه ممكن. الكذب حرام؛ لأنه يؤذي العقل إذ يمدّه الكاذب بمعلومات خاطئة. والمسكرات، والمخدرات تؤذي العقل؛ لأنها تضعف ارتباطاته السببيّة. التقليد يؤذي العقل؛ لأنه يحرمه من التفتّح ومن التحفيز على إبداع آراء ونظريّات جديدة… إنها تقول هذا في مجال التربية الفردية. فإذا أرادت لمس الجانب الاجتماعي قالت: بيع المسكرات وتهريب المخدرات حرام؛ لأن على المؤمن ألاّ يُلحق الضرر بإخوانه المسلمين، وألاّ يساعدهم على الوقوع في المعاصي. وتقول أيضًا: إن الكذب على الناس ينطوي على نوع من الغشّ والخديعة لهم. وعلى المسلم كما يكره أن يُخدع من قبل الآخرين أن يتجنّب خديعتهم وهكذا..
وتصوّر معي باقي الأمهات في البلدة يتحدثن بهذه المفاهيم أمام صغارهن، ماذا يعني هذا؟
إنه يعني أن المربيات صرن يتحدثن لغة واحدة، وصرن يؤكدن على مفاهيم واحدة. ويعني أيضًا توليد وحدة فكرية وشعورية عظيمة ورائعة، إن العولمة تنشر معاني الأنانية والخلاص الشخصي. أما التربية القائمة على الكليات الخمس فإنها تؤكد للناشئة أن الخلاص إما أن يكون جماعيًا أو لا يكون، وإنّ من غير الممكن للمسلم أن يعيش آمنًا هانئًا في جزيرة يحيط بها الشقاء من كل مكان.
2- إن الترتيب بين الكليات الخمس -كما أشرت إليه- ينطوي على مغزًى تربوي كبير؛ إنه يشكّل خطًا أساسيًا في الرؤية الإسلامية للكثير من جوانب الحياة. إن فداء الدين بالنفوس والأموال يعني الارتباط المطلق بالهدف السامي والنهائي لوجودنا على هذه الأرض، وهو الفوز برضوان الله -تعالى- وفداء النفوس بالأموال يعني التعزيز لمركز الإنسان في الكون، ويعني الرد على الهجمة المادية الحديثة التي تجعل من المال المحور الأساس للحياة، وتجعل من الإنسان أداة لتحقيق المزيد من الثراء لأصحاب الحظوة والنفوذ.
نحن حتى نتمكن من جعل (الكليات الخمس محاور للتربية الاجتماعية، نحتاج إلى صبّها في قوالب تربوية حديثة وإغنائها بالتفاصيل والمعاني الجزئية. وهذا يحتاج إلى بحث معمّق وجهد تربوي متميز. لكنّ شيئًا من هذا لن يحدث إذا ما ظلّت الدونيّة تسيطر على نظرتنا لكل هو اجتماعي وعام.
إننا إذا أدركنا أن التقدّم الحقيقي هو في جوهره تقدم روحي واجتماعي أكثر من أن يكون تقدمًا عمرانيًا، فإننا سنبذل الكثير في سبيل الارتقاء بالمفاهيم التربويّة، وسيتغير بذلك الكثير من الأشياء
=============
#النمط العزيز
شيئان جوهريّان يسيطران على تفكيري وتأمّلي، هما التوازن والتكامل.
التكامل يعني: القبض على رؤية عميقة وشاملة لكل الأشياء التي يجب أن نراها، وبالطريقة التي يجب أن تُرى بها تلك الأشياء. أما التوازن فيعني إعطاء جوانب الحياة وجوانب الشخصية على -وجه الخصوص- حقها من الرعاية والتنمية والاهتمام من غير إفراط في جانب على حساب جانب آخر. وربما أمكننا القول: إن امتلاكنا لرؤية حسنة لنوعية التكامل المطلوب هي التي تتحكم في نهاية الأمر بشكل التوازن الذي نسعى إليه. كما أن من الممكن القول: إن عناصر الصورة الذهنية عن (التكامل) قد تختلف من شخص إلى آخر. وقد ينحو بعضها نحو التغيّر، كما ينحو بعضها الآخر نحو الثبات، في الدائرة الإسلامية نمط من الناس يُتّهم بصفاء روحه ونقاء نفسه، ومستوى تعبده -على مقدار خبرته- جيد، ولديه طيبة، تتصل في بعض الأحيان بطرف من الغفلة التي تصل إلى حد السذاجة، وكثير من هؤلاء - إن لم نقل أكثرهم- يأخذون عن عابد أو جماعة تقاليد وطرقًا في التعبد، ويحفظون عن ظهر قلب مقولات، يسيرون في ظلال دلالاتها وكأنها مفردات دستور، لا يمكن إدخال أي تعديل على أية مادة من مواده.
ومشكلتهم أنهم كثيرًا ما يفقدون التوازن، ونصاب الحد الأدنى من التوزيع لاهتماماتهم وأنشطتهم. وينظرون إلى الأقوال المأثورة عن شيوخهم وأسلافهم على أنها أدوات لفهم كل الأوضاع والتعامل مع تحديات كل القصور.(1/19)
ويميل هذا النمط من عباد الله إلى العزلة الشعورية، ويجدون حالات عظيمة من انشراح الصدر وبرْد اليقين، ويملكون طاقة هائلة على البذل والإصرار على الدعوة إلى ما يشعرون أنهم ظفروا به, وتتسم معاملاتهم بالنعومة واللطف، ويميلون إلى حسن الظن، رؤيتهم للواقع عتيقة، ونظرتهم للمستقبل قاصرة ومشوشة، وبينهم وبين التحليل والتفلسف ما يشبه العداوة، لكن لديهم روح متفائلة، وكثيرًا ما تكون تطلّعاتهم محدودة، والتدقيق في صفاء العقيدة وصحّة التصورات، لا يشكّل لديهم هاجسًا، ومعظم هؤلاء عاديون في أعمالهم وإنجازاتهم؛ والناجحون فيهم قليلون كما أن المحقّقين منهم ليسوا كثيرين.
في الدائرة الإسلامية نمط ثانٍ من الناس يقف في الجهة المقابلة للنمط الأول مع وجود الكثير من الأشياء المشتركة بينهما. هذا النمط يحرص حرصًا شديدًا على استقامة تفكيره، ويكثر من النقاش حول ما يعتقد أنه يشكل انحرافًا عن المنهج القويم، يتحدثون باستمرار عن المهم والمهم جدًا، والخطير والخطير جدًا، ويفرقون في تناول التفاصيل المتعلقة بالأمة وبالشأن العام. كثيرون من هؤلاء فتحوا على أنفسهم بابًا عريضًا من ممارسة النقد، إنهم يتحدثون باستمرار عن المصائب والويلات التي حلّت بالأمة، ويكثرون من المقارنة بين ما لدينا، وما لدى الآخرين، وتكون النتيجة في الغالب لصالح الأمم الأخرى، ولاسيما الغربية منها وكثير من أفراد هذا النمط ناجحون في أعمالهم على نحو مقبول، وهذا يشجعهم على أن يقترحوا على غيرهم المشروعات، ويدلّوهم على طرق للارتقاء وآليات للتقدم، يشغلهم المستقبل عن كل شيء وطموحاتهم كبيرة وأحلامهم عريضة. من أكبر همومهم فهْمُ الأمور التي تجعل الناس يعيشون حياتهم وفق تعليمات دينهم، لكن هذا النمط كثيرًا ما يشكو من برودة الروح وخمود الانفعالات، وهو مع حرصه على استبانة الوجهة وتحديد المسار إلا أنه لا يهتم كثيرًا بتوليد (الطاقة) المطلوبة للمضيّ بهمة وعزيمة إلى آخر الطريق، عباداتهم كثيرًا ما تكون عند الحد الأدنى، وبعدهم عن الشُبه ليس بالكبير. وكثيرًا ما يعانون من تمزّقات داخلية بسبب المسافة الكبيرة التي تفصل بين وعيهم ودرجة تألّق إيمانهم، هذان النمطان رئيسيان في الجماهير الملتزمة وهناك أنماط فرعية تتشعب من كل واحد منهما.
في الدائرة الإسلامية نمط ثالث يمكن أن نسميه (النمط العزيز) إنه عزيز -نسبيًا- في وجوده، وعزيز أيضًا على قلوبنا. هذا النمط جمع ثلاث صفات أساسية، هي الوعي العميق، والإيمان الراسخ، والنجاح الباهر. وهذا شرح موجز لهذه الصفات.
يمتاز هذا النمط بالأصالة الخلقية، حيث السجايا الحميدة عميقة الجذور في النفس، وتجسّدها في السلوك يتم بطريقة عفوية ومستمرة، وهو مكين التدين، والإيمان لديه يتجاوز صفاء المعتقد إلى الحيوية والتألّق، إن أفراد هذا النمط يعملون وفق (ربي وعبدك) إن الواحد منهم في نهاره يراقب الله في عمله وجميع أنشطته، هذا العمل يرضي ربي، وهذا العمل يقربني من ربي، هذا العمل لا يرضى عنه ربي إن صلته بالله -تعالى- توجّه حركته، وتصوغ مواقفه وعلاقاته، ومن تلك الصلة القدسيّة يستمد الطاقة على العمل وعلى الصمود في وجه المغريات، أما في ليله فكثيرًا ما يردّد: عبدك بحاجة إليك. عبدك راجٍ لفضلك. عبدك خائف منك. عبدك عبدك....
2 - رسالة هذا النمط في الحياة واضحة إنها العيش للإسلام وبالإسلام. من يُنسب إلى هذا النمط يعتقد أن لكل امرئ دينين: ديناً معلناً ظاهر يمنحه نوعًا من التميّز والانتماء الشكلي، وديناً حقيقياً، ودين المرء الحقيقي هو الدين الذي يكرّس حياته من أجله.
يقرأ هذا النمط الماضي لإصلاح الحاضر، ويتخذ من معطيات الحاضر وقودًا لبلوغ الأهداف العظمى، التفكير لديه إستراتيجي، والرؤية واضحة، وهو مع ميله للإيجابية، وتشبّعه بروح الرجاء يدرك أعباء المرحلة، ويعرف العلامات الدالة على الطرق المسدودة، يجد معرفته ومفاهيمه، ويتهم نفسه، ويمتلك القدرة على السماع والاقتباس.
3 - هذا النمط ناجح في عمله، متفوق في أدائه، يقدم القدوة والنموذج في الكثير من جوانب شخصياته وسلوكاته. إن لديه إدراكًا عميقًا، بالحاجة إلى تحقيق النجاح الباهر؛ حيث مضى زمان الأشياء العادية، وحيث تتطلب الديون المتأخرة على الأمة مضاعفة الإنتاج وبذل المزيد من الجهد.
هذا النمط جمع -باختصار- بين القوة والأمانة، كما قالت ابنة شعيب: (يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين).
ينتسب هذا الطراز من الرجال إلى الإمام الكبير عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ويحاول باستمرار إحياء خطّه وبعث مسيرته.
وإني لأرجو أن نعمق دراستنا المستقبلية حول هذا النمط، كما أرجو أن نجعل الدخول إلى عالمه شيئًا موضع تطلّع وتشوّق، إنه نمط آسر، ويثير الإعجاب، ولمَ لا، وقد اجتمع فيه أفضل ما تفرق في غيره؟!
=============(1/20)
#هدايا الغرباء
الشاغل الأول للثقافة الشعبيّة بما هي عادات وتقاليد ونظم ورمزيّات يتمثل في تحقيق أكبر قدر ممكن من التلاحم الأهليّ والتواصل الأخويّ وهي في سبيل تحقيق ذلك تجد نفسها مضطرّة إلى التغاضي عن كثير من الأخطاء الاجتماعية، والقبول بالكثير من الأوضاع والأشياء السيئة والضارة. إنها تجعل من نشاطها مركزاً للتسويات، وتبدي براعة نادرة في إبداع أنصاف الحلول وإمساك العصا من الوسط.
إن الناس يلوذ بعضهم ببعض في الرأي والموقف كما تلوذ الطير ببعضها أيام الصقيع.
إن التقليد والحرص الدائم على التوافق والتطابق، يعطي دائماً إشارات الرّضا عن الأوضاع السائدة؛ لأنه يساعد على ذبول ملكة التمييز والتفريق بين الأشياء، ويجعل القدرة على النقد في أوْهَى حالاتها.
إن الثقافة الشعبية السائدة في أي مجتمع تدفع بالناس نحو التوحّد الشكلي بسبب الصندوق الذي تضعهم فيه. وذلك الصندوق مملوء بالتّحيّزات والأهواء والرؤى الجزئيّة المبتسرة، كما أنه مملوء بالمعايير والمقاييس غير العلمّية وغير الموضوعيّة. وفي كل الحالات يكون الخروج من ذلك الصندوق أو محاولة النظر إلى ما في خارجه -على أقل تقدير- شرطاً أساسياً لامتلاك رؤية أصيلة ونظرة جديدة للذات وللعالم.
إن الوحي بما هو شيء منفصل عن إنجازات البشر، يُخرج أفذاذاً من الناس من صناديقهم الثقافيّة، ليقوموا بعد ذلك هم وأتباعهم بكسر الاتّساق والمنطق الشكليّ الذي يشعر به سكان الصندوق؛ لكن ذلك لا يكون من غير ثمن، يقول الله - جل وعلا-:(إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) [آل عمران:19].
العلم هو الذي أخرج إبراهيم -عليه السلام- من التّبعيّة لأبيه ليصبح هادياً له ومرشداً (يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً) [مريم:43]. والثمن الذي يدفعه الأنبياء -عليهم السلام- وكل أولئك الذين يسيرون على منهجهم في الخروج على المألوف وإرساء قواعد جديدة للحياة -إن الثمن الذي يدفعونه هو القتل والإيذاء والاضطهاد والطّرد من الديار.
والحقيقة أن التفكير العميق والمنهجي هو الآخر يقوم بخلخلة ما يبدو متصلاً ومنسجماً، ويقوم بإيجاد الفراغات وفتح الفجوات فيما يبدو ممتلئاً ومتماسكاً، إنه يزرع روح التحديث في جسد التقليديّ والمستمر. وبذلك يلتقي نتاج الفكر بثوابت الوحي وحقائق العلم، أو قل: يعمل العقل، ويشتغل على قطعيّات الوحي ومسلمات العلم.
حيث تغادر بلدك بجسدك، فإنك تكون أمام فرصة حقيقيّة للتخلص من كل المفاهيم البالية والضغوط الاجتماعيّة الخاطئة، ومن كل الأهواء التي تُشبع بها أولئك الذين ما زالوا يقيمون في ذلك الوطن، وتُتاح لك فرصة أقل من هذه الفرصة حين تملك فضيلة التأبي وفضيلة التمييز بين الصواب والخطأ والحسن والقبيح، ولو كنت تعيش بين أهلك وفي مدارج صِباك. إنه الانفصال العقليّ والروحيّ الناتج من الامتلاء بالهدي الرّبانيّ: في كلتا الحالتين سيشعر المرء بالغربة، وبشيء من العُزلة والتفرّد، وسيواجه ضغوطاً وأزَمات لا يجدها أولئك المقيمون في أوطانهم، وأولئك المشتغلون بلقمة يومهم، الراضون بالفُتات والفاقدون للتّمييز. وقد قال عليه الصلاة والسلام: "بدأ الدين غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء".
دين واحد بمفرده يحتفظ بنقائه واتجاهه وأهدافه بين عشرات الأديان والمذاهب والتيارات؛ إنه لشرف عظيم ومهمة صعبة. ومسلمون غرباء، يحاولون الاحتفاظ بنقائهم -أيضاً- ويعملون على إصلاح ما تفسده الجماهير العريضة. هؤلاء المسلمون طوبى لهم ثم طوبى!!
حين تغترب ببدنك أو بعقلك ومشاعرك فإنك تضع نفسك على رأس طريقين: أن تعيش على الهامش تجترّ آلام الغربة، وتبكي من الوحدة، وتبذل كل جهدك من أجل الاستمرار في الحد الأدنى من العيش تأكل وتشرب وتتكاثر وتتنفس، وإلى جانب ذلك تغرق في الحديث عن محاسن وطنك الذي فقدته ومساوئ البلد الذي حلَلْته، أو تغرق في ذكر مثالب الناس الذين يخالفونك في اتجاهك وانتمائك ورؤيتك للحياة. وتغرق في الحديث عن العامة والدهماء والغوغاء، وما أنعم الله -تعالى- عليك به إذ لم تكن واحداً منهم.
أما الطريق الثاني: فهو أن تنطلق من نعمة الخروج من الصندوق والتحرّر من قيود الاستكانة لما هو سائدٌ وطاغٍ. وحينئذ فستشعر أنك تملك ما لا يملكه غيرك من ثقوب النظر والقدرة على رؤية الأشياء من زوايا مختلفة. وستشعر أن في إمكانك أن تكون صاحب رسالة، تعيش من أجلها، وتعيش بها، وبهذا وحده يكون للغربة -بشقّيها- معنى، وتكون لها ميزة.
إن المسلم الملتزم والواعي بشجون عصره سيواجه من الآن فصاعداً المزيد من الشعور بالغربة، وإن عليه أن يعدّ نفسه للاستفادة من هذا الشعور كي يجعل منه وقوداً روحياً في حركة التحرير: تحرير الذات وتحرير الأمة وبناء المستقبل.(1/21)
أمّة الإسلام -على كثرة عددها- غريبة بين الأمم، وأصالتها في غربتها ودورها المستقبلي في تقديم شيء للعالم يكمن في هذه الغربة. فكيف يمكن لها أن تقدّم هداياها للناس، وما طبيعة تلك الهدايا؟
في ظل الاتصال العالمي، وفي ظل سيطرة العولمة وانتشار مفاهيمها أخذت مشكلات العالم شرقاً وغرباً في التجانس والتشابه، أي يمكن القول: إن حاجة الإنسان في الغرب على المستوى الروحي والعقلي والأخلاقي لا تبتعد كثيراً عن حاجات مسلم يعيش في الشرق، لكنه ضعيف الالتزام وغارق في شؤونه اليومية. وعلى هذا فإننا يمكن أن نقول -مع شيء من التجاوز والتعميم- : إن ما يمكن أن يقدمه الداعية والمفكر المسلم لإخوانه في ديار الإسلام يقترب شيئاً فشيئاً مما يمكن أن تقدمه أمة الإسلام للأمم الأخرى مع بعض الخصوصيات والاستثناءات. وعلى هذا فإن هدايا الغريب المسلم تتقارب مع هدايا الأمة المسلمة. شيء مهم أن نعرف ماذا نهدي، لكن حتى نعرف ذلك فإن علينا أن نعرف شيئين: ما الذي لا نستطيع إهداءه، وما الذي يحتاجه أولئك الذين سنقدم إليهم هدايانا ومن حسن الطالع أن يكون -في أغلب الأمر- ما لا نستطيع إهداءه هو ما لا يحتاجه الآخرون.
من الواضح أننا لا نملك بإمكاناتنا وأوضاعنا الحالية أن ننشئ دورة حضارية عالمية ذات صبغة إسلامية تعقب الدورة الحضارية الغربية السائدة الآن، وتعكس هيمنة القيم والأفكار والاعتقادات ومناهج العمل والتفكير الإسلامية. نحن لا نستطيع هذا الآن لأننا لا نملك الوسائل والقوى المطلوبة لذلك.
أيضاً نحن لا نستطيع الآن أن نُحدث طفرة علمية وتقنية وبحثية تدفع بما هو متوفر عالمياً نحو الأمام، ونسدي بذلك للإنسانية خدمة تحسِّن في رفاهيتها واستغلالها لخيرات الأرض؛ لأننا لم نستوعب إلى الآن ما هو موجود ولا نسهم إلا على نحو محدود جداً في تطويره.
ونحن اليوم لا نستطيع أن نقدم نظاماً تربوياً أو تعليمياً أو إدارياً يتفوق على النظم الموجودة حالياً، لأننا لم نطور نظمنا القديمة، ولا استخدمنا الموجود بكفاءة. لكن في إمكان الفرد المسلم المتميز أن يقدم لأمة الإسلام أشياء مهمة في كل ما ذكرناه، إذا عرف أن (الغربة) تعني التفوق والتقدم على الصفوف، وليس الضعف والعزلة.
العالم الذي تبنيه العولمة اليوم، وتبشر به الرأسمالية والليبرالية يفتقر إلى رؤية تركيبية توليفية، يشعر الإنسان من خلالها بالاطمئنان إلى مصيره بعد الموت، وتوفر له في الوقت نفسه الإطار التوجيهي في حركته اليومية. ونحن الذين نملك هذه الرؤية.
وعالم اليوم مشبع بالوحشة والنفور واليأس والاستقلال الذاتي العدائي والعنجهية. وهو يحتاج حتى يتخلص من هذه الوضعية البائسة إلى من يقدم له قيم الأخوة والمباشرة والمؤانسة والتواضع والتضحية والتعاون. وهذا ما تؤكده المنهجية الاجتماعية الإسلامية.
عالم اليوم يستثمر أموالاً هائلة في السياحة والترفيه واللهو وكل ما من شأنه خدمة البدن. ولم يخطر في باله أن ينفق أي شيء في خدمة (الروح) وذلك لأنه أسلم قياده لثقافة لا تعرف عن الروح شيئاً، سوى أنهم يعدون (الخمر) مشروباً روحياً!! والمسلمون الملتزمون هم الذين يعرفون كيف يكون غذاء الروح، وكيف يُبنى الإشراق الروحي المسلمون مشغولون بأداء حقوق الله تعالى والبحث عن مراضيه، ويفهمون حقوق الإنسان والحيوان في إطار فهمهم لحقوق خالق الإنسان والحيوان وعلى هدي تعاليمه. أما حضارة اليوم فإنها تتحدث عن حقوق المرأة والطفل والعامل والسجين، كما تتحدث عن حقوق الكلاب والقطط ونظافة البيئة، لكنها لا تتحدث أبداً عن حقوق الله تعالى ولا تقيم لها أي وزن. ونحن نملك الرؤية الكاملة لتوجيه الحضارة في هذا الشأن. العالم الذي اتخذ من الصراع ناموساً للبقاء يملك ويكتسب الكثير الكثير من (العلم)، ويفقد مع الأيام ما تبقى لديه من (حكمة) عالم كثير علماؤه قليل حكماؤه. وما ذلك إلا لأنه لا يعادل غناه بالوسائل سوى فقره في الغايات. وأمة الإسلام وحدها هي التي تعرف الغاية من وجود البشر على هذه الأرض، كما يجب أن تكون المعرفة.
إن قارة (أوروبا) أسست الحضارة الحديثة، وما زال لها موقع متقدم في قيادتها، وهي تقدم الدليل تلو الدليل على قصور البناء الذي وضعت قواعده، وشيدت أركانه. وهل هناك دليل على ذلك أقوى من أن يستحي أي زعيم من زعمائها وأي رئيس من رؤسائها من أن يجري اسم (الله) على لسانه؟!
إن عالم اليوم لا يحتاج إلى التسامح فحسب، لكنه يحتاج أيضاً إلى من يدله على طريق الهداية، ويساعده على أن يقترب من الله تعالى شبراً أو ذراعاً، وهذا ما نملك القيام به.
هذه الوضعية تحملنا مسؤولية كبرى لأننا نملك فعلاً ما العالم في أمس الحاجة إليه.
لكن يجب أن نكون على وعي بأننا لن نستطيع أن نقدم للعالم على طبق من ذهب شيئاً نستخرجه من الكتب، ونسطره على الورق، ثم نذيعه في فضائية أو ننشره على شبكة (الإنترنت)، إننا لو فعلنا ذلك فحسب فإننا نكون كمن لم يفعل أي شيء.(1/22)
إن القيم والأسس والمبادئ والمعاني التي لدينا، مهما كانت عظيمة وسامية فإن العالم لن يتقبلها إلا إذا تفاعلنا نحن معها أولاً، وقدمنا البرهان تلو البرهان على أن المنهج الذي استطاع إنقاذ أمة الإسلام وارتقى فعلاً بها، قادر على أن يفعل ذلك مع الأمم الأخرى. إن العالم يحب أن يرى شيئاً على الأرض، ولا يأبه كثيراً للكلام، فلنساعده على أن يرى.
هنا يأتي دور الغرباء، وهنا يتجسد جهادهم العقلي والروحي والسلوكي فهل نستطيع أن نجعل من (الغربة) هوية قادرة على بعث حركة ريادية داخل أمة الإسلام؛ كي نرى الأمة وقد أصبحت القوة العظمى التي تقوم بالدور نفسه على مستوى العالم؟ هذا ما نرجوه ونطمح إليه.
=============
#ممانعات
مكافحة العماء و (اللاتكوّن) هو العمل الذي لا يكفّ بنو الإنسان عن ممارسته في كل زمان ومكان. وذلك لأن الحقيقة -أية حقيقة- ذات أغوار وأبعاد متتابعة. وكلما اكتشفنا غورًا أو بعدًا برز لنا غور آخر، يتطلب سبره وفهمه معرفة جديدة، تكون في العادة أبعد منالاً وأكثر خفاءً من المعرفة التي احتجناها لاكتشاف الغور السابق، وهكذا فإنه طالما غَمَرنا شعور عام بأن المعرفة أشبه بالمال، المعروض منها دائمًا أقل من المطلوب. نحن في حاجة إلى المزيد من العلم والمزيد من الخبرة من أجل أمرين جوهريين:
1- أن نتعرف على حقول الممارسة المتاحة، وأن نفتح حقولاً جديدة منها ملائمة لما هو متوفر من إمكاناتنا، وما نصبو إلى بلوغه من غايات وأهداف.
2- أن نكتشف السنن الربانية التي تحكم طبائع الأشياء والمنطق الذي يحكم تطورها. ومهمة هذا الكشف هو توفير الوقت والعناء الذي نتكبده نتيجة جهلنا بالممانعات الناشئة من صلابة الأشياء وتأبيها على التشكل الذي نريد. إن العقل بتكوينه الأساسي الفطري لا يستطيع إدراك تلك الممانعات من غير معرفة يمدّه بها المجتمع والواقع المعيش. ولا يستطيع المجتمع الحصول عليها من خلال التأمل المجرّد، وإنما عليه أن ينغمس في التجربة والممارسة أولاً، وبعد ذلك سيكون في إمكانه استخراج بعض الدلالات والمستخلصات حول الطرق المسدودة وحول العلاقات القائمة بين الأشياء، والتي تحكم الكثير من وجوه الانتفاع بها وإعادة تشكيلها، ويمكن أن نقول في هذا السياق: إن عقولنا ستظل متأزمة ومرتبكة وستظل تنتج الفروض الشكلية والبعيدة عن ملامسة المشكلات - ما لم نمتلك الروح العملية، ونحاول تضييق الهوة القائمة بين ما نقول وما نفعل. صحيح أن العقول هي التي ترسم الخطط النظرية؛ لكن إذا ما كانت الأيدي في أزمة وفي عطالة فإن العقل سيجد نفسه يتخبط حيث الافتقار الشديد إلى الأطر التي يعمل داخلها، والمعطيات التي يشتغل على أساسها، ولنضرب بعض الأمثلة على ما نقول:
أ- من غير الممكن في مؤسسة يسودها الظلم وهضم الحقوق جعل العاملين يعملون بحماسة وأريحية. إنهم سيبذلون الحدّ الأدنى من جهودهم بما يكفي لتأمين سير العمل عند حدوده الدنيا. ولكل قاعدة فيما نقول شذوذات لا تجرح صفاء هذه المقولات بمقدار توكيدها لها.
ب- من غير الممكن تكوين ضمير أخلاقي رادع في مجتمع يسوده الخروج على النظم المرعية على نحو سافر وواسع، القانون يولِّد ثقافة . والثقافة حين تتشكل تحمي القانون إلى حد عدم الحاجة إليه في الضبط الاجتماعي، أي تتحول الثقافة إلى قوة ضابطة تحل محل القانون.
ج- لا نستطيع قطع دابر الخلاف في أي قضية وقع بيننا خلاف في تعريفها، وإذا عرفنا أننا لا نستطيع تفادي (الانتقائية) في كل أو معظم التعريفات، عرفنا لماذا يصعب حسم النزاع في الكثير من القضايا الإصلاحية والتربوية.
د- لا تستطيع أن تكون معتزًا بنفسك أو نسبك أو انتمائك إلى شيء بعينه دون أن تعرِّض نفسك لسوء الفهم والنظر إليك على أنك متعجرف ومتكبر. كما لا يستطيع الحليم أن يمنع الناس من تفسير حِلمه على أنه جبن وخَوَر.
هـ - لا تستطيع الوصول إلى حلول كاملة في وسط غير كامل، وإذا عرفنا أن المعروض من المعرفة ومن المال والأدوات والمتوفر من الظروف هو دائمًا دون ما هو مطلوب عرفنا أن حلولنا ستكون دائمًا ناقصة، وسيكون النصر النهائي شيئًا بعيد المنال.
و- كلما زادت الرقابة الاجتماعية على الأفراد ضعف لديهم الوازع الداخلي؛ وذلك لأن الشعور بالمسؤولية يتطلّب قدرًا من التفويض وقدرًا من الحرية. وهذا يعني أن التدقيق الشديد في حياة الأفراد يدفع بهم دفعًا إلى أن يكون لهم سلوكان، خيرهما الذي يظهر للناس.
ز- من العسير جدًا أن نستطيع توليد مشاعر جميلة في مكان تجتاحه الفوضى أو القذارة أو مكان ضيِّق، لا يستوعب الشاغلين له.
ح - في ظل الفساد الإداري، يمكن للاقتصاد أن يتقدم، ولكن إلى حدود، حيث إن النمو الجيد يتطلب دائمًا درجة عالية من الثقة والمصداقية. وهذا ما يصعب توفيره آنذاك. الفساد الإداري يدفع بالناس إلى القيام بموازنات وإجراء حسابات كثيرًا ما تفضي بهم إلى سحب أموالهم من الدورة الاقتصادية.(1/23)
ط - الأنشطة السياسية والتربوية والتعليمية والدعوية والتجارية والإدارية، تتم في إطار (نظم مفتوحة) أي في بيئات تسمح بوجود تأثيرات أجنبية خارجة عن إرادتنا وسيطرتنا. ولهذا فإن التنبؤ بنتائج هذه الأنشطة يظل غير دقيق، وهذا على عكس الأنشطة التي تتم وفق نظم مغلقة.
ي- إذا كان الشيء ذا وسط متدرج لم نستطع أن نصدر عليه أحكامًا قاطعة، وكان علينا أن نقنع بالأحكام التقديرية والتقريبية، كما هو الشأن في (الصفات) والسبب في ذلك عدم قدرة النظام اللغوي على مواكبة التدرج الموجود في الأشياء. وهذا هو مصدر ارتباك العقل في التعامل معها.
ك- من الصعب اليوم أن يتعشق شعب المعرفة، ويبذل من أجلها، أو ينتج معارف متقدمة، وأكثريته تعمل في مهن بدائية وحرف يدوية.
ل - من كانت ملكة النقد لديه نامية أكثر مما ينبغي فإنه لا يستطيع أن يتفادى التعرض للجفاف الروحي.
م - الحرية قدرة على الاختيار. ولا اختيار من غير بدائل. وليس لشعب أن يدّعي أنه حرّ كريم والضرورات تحيط به من كل جانب.
ن - ما دامت قدراتنا -مهما عظمت- تظل محدودة فإن الكم في أعمالنا، لا يكون إلا على حساب الكيف. والتقدم الحضاري كثيرًا ما يتطلب تفوق الكيف لا الكم. إن هذه الممانعات تملي علينا المزيد من التبصر والفهم العميق للعلاقات التي تربط بين الأشياء. وإن فقه الأولويات الذي كثر كلامنا فيه لا ينمو على النحو المطلوب إلا إذا زادت حصيلتنا من هذه المفاهيم والمدركات.
س - الانخراط في العمل والاهتمام بالإنجاز واحترام الممارسة -كل ذلك مما يحسن رؤيتنا لما هو ممكن، وما هو في حيز المستحيل والعسير والبعيد. وإن تجاهل طبائع الأشياء والسنن الربانية في تطور الأمور يظل مكلفًا جدًا مع أن صلابة السنن الاجتماعية أقل من صلابة السنن الطبيعية. وإني أشعر أن فقه الطرق المسدودة ما زال لدينا يميل إلى الفجاجة والضآلة، وإن إنضاجه قد يكون شيئًا مهمًا لتقدم الوعي الدعوي والإصلاحي
==============
#حتى لا يتأخر النصر
هل طال النفق الذي نسير فيه أكثر مما ينبغي وأكثر مما هو متوقع؟ وهل طال انتظارنا للنصر الكبير والإصلاح الشامل والازدهار العام أكثر مما كنا نظن؟
أعتقد أن ذلك صحيح. ويمكن لكل ذلك أن يستمر عقوداً أو قروناً. وهناك إمكانية للانتكاس والارتداد على الأعقاب؛ فالتدهور لا قعر له، ولا حدود تجعله يتوقف.
لماذا لا يقدُم البشير وينبلج الفجر الجديد؟
ربما كان السؤال الأكثر دقة: لماذا يقدُم البشير ويلوح النصر الحاسم؛ ونحن لم نغيِّر في أنفسنا وسلوكاتنا وعلاقاتنا، ولا نشعر أننا نتقدم بخطى ثابتة في الاتجاه الصحيح؟
إن التخلص من وضعية الشَّرْذَمة والانكسار والوهن يحتاج إلى الكثير من العمل والكدح، ويحتاج إلى الكثير من العلم والفهم، كما يحتاج إلى التوقف عن الممارسات السيئة أو بالغة السوء. وأود هنا أن أشير إلى الملمحين الآتيين:
1 - علينا أن نكف عن ممارسة دور الضحية ودور المظلومين الذين اعتُدي عليهم، وسُلبت حقوقهم. الأمة تعزو تخلفها إلى الاستعمار القديم والجديد، والمدارس تعزو إخفاقها في تخريج جيل يعرف ويحب المعرفة إلى تقصير الأسر أو تقصير الجهات العليا في إمدادها بحاجاتها، والموظف المفصول من وظيفته يشكو ظلم رؤسائه... وهكذا فإنك لا تواجه إلا المظلومين، ولا تواجه ظالمين أو معتدين. كل واحد فينا يذكر محاسن ذاته، ويتحدث عن الأعمال العظيمة التي قام بها... ومن النادر أن نجد فرداً أو جماعة أو فريقاً يتحدث عن إخفاقاته أو أخطائه، ومن النادر جداً أن تجد كاتباً من كتّابنا يتحدث عن قصور معالجته لمسألة من المسائل أو يقول: إن هذه المسألة لم تتضح في ذهنه على النحو المطلوب. كل شيء على ما يرام. كلنا ضحايا. نحن لم نفعل إلا ما يجب فعله. والآخرون دائماً هم المذنبون وهم المطالبون بالتغيير!!
لا شك أن شيئاً مما نقوله صحيح، لكن الأصح منه هو ما لا نقوله. الحقيقة المؤكدة هي أن إساءاتنا لأنفسنا هي أكبر بكثير من إساءات الآخرين لنا، بل لا يستطيع الغرب والشرق وكل الخصوم والمنافسين أن يفعلوا بنا أسوأ مما فعلناه بأنفسنا، والله ـ جل وعلا ـ قال لمن هم أكرم منا وأتقى وأنبل: {قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ} [آل عمران: 165].(1/24)
2 - من غير الممكن الحصول على الازدهار الروحي والعمراني من غير ترسيخ فضيلة (الصدق) في حياتنا، ومن أهم مظاهر الصدق ولوازمه تحمل المسؤولية بأريحية عن أعمالنا. ولهذا فنحن في حاجة إلى أن نرسخ في تقاليدنا الثقافية وفي أعرافنا ونظمنا وقوانيننا سهولة الاعتراف بالخطأ، والاستعداد لتحمل النتائج المترتبة عليه عوضاً عما هو سائد اليوم من القول: كلنا مسؤول، وكلنا مقصِّر، وعلى الجميع أن يصلح شؤونه، إن هذا الكلام صحيح في مجمله، ولكن التعميم الزائد عن الحد يُفضي إلى عكس المطلوب؛ حيث تكون المحصلة النهائية عدم وجود مسؤول تمكن محاسبته. عدم تحديد المسؤولية يعني عدم الخوف من وقوع العقوبة، وعدم الخوف من وقوع العقوبة يعني استمرار الأخطاء واستفحالها، وربما كانت حرية التعبير المنضبط بضوابط الشريعة الغراء هي الشرط الأساس لذلك. إن أجواء الكبت والقهر لا تساعد أبداً على تكوين الأشخاص النبلاء ولا تنشئة جيل يبادر إلى الخير، ويتحمل مسؤولية ما عمل. والله الموفق.
==============
#إرشاد الأسئلة
كلمة (النهضة) من الكلمات الأكثر استخداماً في حياتنا المعاصرة. وحين يشيع استخدام كلمة على نطاق واسع فإنها تجتذب الكثير من المعاني والدلالات الفرعية، ويصبح العمل على لمّ شعث تلك الدلالات ومراجعتها من الأمور المهمة، حيث يتوقف على ذلك الكثير من الأشياء.
نحن في حاجة إلى طرح الأسئلة من أجل إعادة تحديد التعريفات والمصطلحات ومن أجل إضاءة حقول الممارسة الدعوية والإصلاحية.
وكل ذلك من أجل الشعور بأننا ما زلنا نعمل في المسار الصحيح.
إن الأسئلة هي وليدة التأمل العميق. التأمل هو التفكير في التفكير أي تسليط نور الوعي على ذاته كي يصبح على دراية أفضل بملاحظاته ومقولاته.
الفقر في الأسئلة سيعني قطعاً الفقر في الإجابات لأن السوية الذهنية المطلوبة لكل منهما واحدة. وأشعر أننا لا نميل إلى طرح الكثير من الأسئلة حول ما ننظِّر له خشية أن نجد أنفسنا وقد حوصرنا بأسئلة لا أجوبة لها. إن أي حقيقة هي ذات طبقات متعددة، وإن اجتراح أي طبقة وفهم كنهها وجوهرها يحتاج إلى معارف ومفاهيم أكثر تفصيلاً ودقة، وإن براعتنا في طرح الأسئلة تعني أننا بدأنا نتحسس الطبقات الأكثر عمقاً في مسائل التخلف والنهوض الحضاري.
وقد أدرك المثقلون بالهمِّ الدعوي والإصلاحي ذلك منذ وقت مبكر؛ فهذا الكواكبي يعقد مؤتمراً وهمياً في مكة المكرمة، حيث يتخيل قدوم وفود من كل أصقاع العالم الإسلامي من أجل التداول والتفاكر والتذاكر في الأزمة الحضارية التي يعاني منها المسلمون. وقد رأى المؤتمرون -كما سجل ذلك الرجل في كتابه (أم القرى)- أن تتركز مداولاتهم في العثور على أجوبة لسؤالين أساسيين هما:
السؤال الأول: ما العلل والأدواء التي تفتك بالأمة الإسلامية حتى انتهت إلى الوضعية التي هي فيها؟
أما السؤال الثاني فقد كان: ما الأدوية والعلاجات التي تحتاجها الأمة حتى تبرأ من أدوائها؟
وبالطبع فقد ذكر المؤتمرون -كما تخيل الكواكبي- الكثير من العلل، ووصفوا الكثير من العلاجات. والذي يبعث الأسى في النفس أن يظل معظم ما نطرحه اليوم من أسئلة، وما نقدمه من الأجوبة قريباً جداً مما ذكرته الوفود الإسلامية قبل ما يزيد على قرن من الزمان!!
هذا يعني أن قدرتنا على حسم الأسئلة والنزاع من كثير من الأجوبة ما زالت محدودة.
نحن هنا نريد أن نطرح بعض الأسئلة التي نظن أنها ستحرض الوعي لدينا على الانتقال من الإدراك العام إلى إدراك أكثر عمقاً وأكثر تفصيلاً:
- حين نتحدث عن نهضة الأمة الإسلامية وعن الدور الحضاري الذي يمكن أن تقوم به، فهل نريد أن نحسِّن مواقعنا داخل المنظومة الحضارية السائدة، فنتحول في إطار الأصول والشروط الحضارية التي وضعها الغرب من أمة تستهلك المنتجات الحضارية إلى أمة تسهم في إنتاجها، مما يعني تدعيم الحضارة الحالية وتعزيز استمرارها مع إنكارنا للقواعد التي قامت عليها وإنكارنا لأدبياتها ورمزياتها؟
- إذا كان هذا غير ملائم لنا لأنه يوقعنا في نوع من التناقض المنهجي، فهل نريد إذًا أن نؤسس حضارة جديدة تحاكي في أصولها ومنطلقاتها وأهدافها الحضارة الإسلامية التي وضع لبنتها الأولى نبينا -صلى الله عليه وسلم-؟
- إذا كان هذا هو المقصود، هل يتم هذا في ظل استمرار الحضارة الغربية، مما يعني إنشاء حضارة منافسة تستلهم عقائد ومبادئ ومثلاً مغايرة لما في الحضارة الغربية؟ أو أن المقصود هو دورة حضارية جديدة تعم العالم، يكون للعرب والمسلمين فيها دور الريادة والقيادة، مما يعني أن الحضارة التي نريد لها أن تقوم لن تقوم إلا على أنقاض الحضارة الغربية؟
- الخيار الأول يعني أن علينا أن ننشئ نظماً جديدة في المجالات السياسية والاقتصادية والتعليمية والتربوية والصناعية والإدارية؛ لأن ما لدينا من نظم تراثية موروثة في هذه المجالات غير كاف لتسيير دفة الحياة العصرية، وبعضه غير ملائم ولا صالح. فهل نملك الإمكانات للقيام بهذا العمل الكبير؟ ومن أين تكون البداية.(1/25)
أما الخيار الثاني فإنه يعني أن المطلوب منا الآن هو العمل على هزيمة الحضارة الغربية وهدم أركانها تمهيداً لتشييد حضارة إسلامية تحل محلها. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل مثل هذا العمل ممكن أم أنه من الأمور شبه المستحيلة بالنسبة إلينا وإلى غيرنا؟
- وفي كل الأحوال هل يمكن للعالم الإسلامي أن ينشئ حضارة منافسة أو بديلة عن الحضارة الغربية وهو مشرذم وموزع على ما يزيد على خمسين دولة؟ وبالتالي فهل يكون علينا أولاً أن نسعى إلى توحيد المسلمين وجمع كلمتهم قبل أن نفكر في إنشاء حضارة بديلة أو منافسة؟ وإلى أي حد يمكن القيام بهذا الأمر في ظل التخلف الموجود الآن وفي ظل الارتباطات الوثيقة القائمة بين معظم الدول الإسلامية والدول الغربية، حيث إن العلاقات التجارية بين الدول الإسلامية أضعف بكثير من العلاقات القائمة بينها وبين الدول الغربية؟
- علينا بعد هذا أن نتساءل: لماذا لم نستطع عبر قرن ونصف من الزمان استيعاب التطورات الحضارية والتقنية والصناعية التي حدثت في العالم من حولنا، وما العوامل التي أدت إلى بقائنا على هامش الحضارة عوضاً عن أن نكون في لجتها؟
هل كان ذلك بسبب بعدنا عن الإسلام؟ أو كان بسبب الاستعمار وتآمره علينا؟ أو كان بسبب عدم وقوفنا من الغرب موقف التلميذ النجيب كما فعلت اليابان؟ أو كان بسبب تمسكنا بعادات وتقاليد بالية وموروثة عن عصور الانحطاط؟
إذا كان الجواب إن واحداً منها هو السبب فكيف يتم التغلب عليه؟ وإذا كانت هذه الأسباب تقف مجتمعة وراء ما نحن فيه، فما وزن كل سبب منها في تعثر النهضة؟
في كل الأحوال كيف يمكننا أن نعمم هذه الأسئلة وأشباهها، وكيف يمكن إيصال ما يتبلور من أجوبة عليها على أمة تشكل اليوم أكثر من خمس سكان العالم؟
لم أرد من هذه التساؤلات بعث اليأس والدفع في اتجاه مغلق، وإنما أردت أن أوضح أن ما نظنه بدهياً وسهلاً لا يكون دائماً كذلك.
(2/2)
ذكرت في المقالة السابقة أن في إمكاننا جعل الأسئلة التي نلقيها على أنفسنا مفاتيح للفهم وأدوات لإيقاظ الوعي. والحقيقة أن المسيرة العلمية والبحثية تعتمد دائماً على حركة جدلية مستمرة بين التحديات والاستجابة لها. التحديات كثيراً ما تتبدى في أشكال من الأسئلة والتساؤلات. والاستجابة لها تتبدى في محاولات اكتشاف الأجوبة الصحيحة لها. وإن كل خطوة يخطوها العلم نحو الأمام تنطوي في أعماقها على طرف من الأسئلة وطرف آخر من الأجوبة. وهكذا فبعد كل جواب هناك سؤال جديد. ومن خلال جدلية السؤال والجواب ترتقي المعرفة وتتكشف سنن الله -تعالى- في الخلق، ويتحسَّن الفهم في حركة حلزونية صاعدة.
المنطق يقضي أن نطرح أولاً الأسئلة الكبرى، ثم نتدرج نحو الأسئلة الصغرى. وفي مجال التخلف والنهوض هناك سؤالان كبيران -كما سبق أن أشرت- الأول هو: لماذا تخلف المسلمون؟ أو لماذا تخلَّف المسلمون، وتقدم غيرهم؟
والسؤال الثاني: ما الذي علينا أن نقوم به من أجل النهوض بالأمة؟ وفي إطار هذين السؤالين لدينا بحر من الأسئلة الصغيرة. وأعتقد أن علينا حتى ننعم بخيرات التساؤل فإن علينا أن نجعل منه عنصراً مهماً في تكوين الجو الأسري في البيوت والجو التعليمي في المدارس. وحتى يتم شيء من ذلك على نحو مقبول فإننا في حاجة إلى شيئين أساسيين:
1- قدر ملائم من الحرية الفكرية والعلمية، حيث تحاول جهات عديدة إضفاء نوع من الاتساق الشكلي على الواقع السائد، والإيحاء بالتالي على أن ما هو قائم طبيعي أو الإيحاء بأنه (ليس في الإمكان أبدع مما كان). والتساؤل يكسر ذلك الاتساق.
2- الشعور بعدم الاكتمال وأن الكمال شيء نرومه ونناهزه، وليس شيئاً نستحوذ عليه. والتساؤل أداة مهمة على طريق السعي نحو تلك المناهزة.
والآن لنطرح بعض التساؤلات الجزئية مع ذكر بعض ما يمكن أن يشكِّل إجابات لها:
- لماذا فقدت كلمة (الأخوة الإسلامية) رونقها إلى درجة تكاد تصبح معها خالية من أي مضمون؟!
هل لأن هذا هو الشيء الطبيعي في ظل تفتح الوعي على المصالح الخاصة؟ أو لأن تصويرنا لمعنى (الأخوة) كان يشتمل دائماً على نوع من المبالغة؟ أو أن هذا يحدث بسبب ضعف الرابطة الإسلامية على المستوى السياسي فانعكس على المشاعر والمواقف الشعبية؟ أو أن السبب الحقيقي يعود إلى الانكفاء على الذات القطرية الذي نشاهده اليوم على مستوى العالم الإسلامي؟ أو أن السبب يكمن في ضعف الإيمان وضعف الالتزام حيث لا معنى للأخوة الإسلامية في ظل وهن الأساس الذي تقوم عليه؟ أو أن حساسيتنا نحو التنوع الثقافي عالية، مما يسبب لنا النفور من بعضنا بسبب ما لدينا من خصوصيات وأنماط سلوكية؟(1/26)
- لماذا نجد الفساد الإداري في معظم البلاد الإسلامية متفشياً إلى حد أنه أصبح وباء متوطناً؟ ولماذا تعجز معظم الدول الإسلامية عن إجراء انتخابات نزيهة تعكس إرادات الناس واختياراتهم مع أن المفترض في كل من يرجو الله ويخشى عقابه أن يكون على خلاف ذلك؟ هل هذا يعود إلى أننا أخفقنا في إرساء تقاليد إدارية تحترم النزاهة وتجرِّم الخروج على النظم والقوانين السارية؟ أو أن هذا يعود إلى رواسب عهود الانحطاط حيث الصولة للقوي والهوان للضعيف؟ أو أن هذا يعود إلى هشاشة التربية المنزلية في مسائل الشعور بالواجب وأداء الحقوق والخضوع لرأي الأغلبية فيما هو من قبيل الاجتهاد؟ أو أنه يعود إلى عدم وجود العقوبات الرادعة لكل من يمارس التزوير، ويأخذ الرشوة؟ أو أن ذلك يعود إلى قلة القدوات التي تقدم نماذج رفيعة في النزاهة والاستقامة المالية؟ أو ماذا...؟.
- لماذا أخفقنا في حياتنا التعليمية في تحبيب الناشئة للقراءة والكتابة، فالإنسان المسلم اليوم لا يقرأ -في المتوسط- أكثر من ست دقائق، على حين يقرأ الفرد في الدول الصناعية يومياً ما معدله ثماني وثلاثون دقيقة؟!
هل هذا يعود إلى بلاء التخلف العام الذي نعيش فيه حيث لم تستطع السياسات المختلفة اعتماد العلم مدخلاً للنمو والارتقاء وحل المشكلات؟ أو أن ذلك يتطلب عناية خاصة في البيوت والمدارس، وتلك العناية غير ممكنة في ظل ازدحام الفصول الدراسية وفي ظل انتشار الأمية لدى الآباء والأمهات، ووجود مستوى متدن جداً من التحصيل المعرفي؟ أو أن هذا يعود إلى غلبة النزعة التجارية على حياتنا العامة، حيث يُلقى في روع الطالب أن الدراسة للنجاح، والنجاح للشهادة، والشهادة للوظيفة، والوظيفة من أجل المال، والمال من أجل المتعة والرفاهية، مما يشجع على السعي للحصول على النجاح بأدنى جهد ممكن؟
- لماذا نجد أن معظم المسلمين فقراء أو تحت خط الفقر مع اعتقادنا أننا نمتلك أفضل منهجية للتعامل مع المال واستثماره وتنميته؟ هل سبب هذا هو الجهل الضارب أطنابه في زمان يشكل العلم شيئاً جوهرياً في ثراء الأمم؟ أو أن السبب يعود إلى فقر البيئة وقلة الموارد؟ أو أن السبب الجوهري يكمن في سوء إدارة الموارد المتاحة وتبديد الثروات؟ أو أن ذلك يعود إلى الإخفاق في إقامة مؤسسات ومشروعات صناعية كبرى تؤمّن ما يحتاجه الشباب من فرص عمل؟ أو أن ذلك يعود إلى عدم مواكبة خطط التنمية للزيادة السكانية؟ أو أن سبب ذلك هو فقد روح المبادرة لدى كثير من المسلمين وحلول التواكل في محل التوكل والفوضى في محل التنظيم والانحراف في محل الاستقامة.
إن هناك الكثير من الأسئلة الإضافية حول كل ما ذكر وحول غيره مما لم نذكره. وهناك أيضاً الكثير من الأجوبة المحتملة.
ولا يسوغ في الرؤية الإسلامية تفسير الظواهر الكبرى بعامل واحد، مما يعني أن خلف كل مشكلة من المشكلات التي نعاني منها عدداً من الأسباب المتنوعة. وحين نتأكد من ذلك فإن علينا أن نحاول معرفة وزن كل سبب من تلك الأسباب، ومعرفة أولويات المعالجة وبم تكون البداية. والله الهادي.
================
#المناعة الفكرية
زود الله -تعالى- أجسامنا بجهاز للمناعة، يساعدها على المحافظة على آلية عملها، وعلى صيانتها من الوافدات الأجنبية التي يمكن لها أن تضرَّ بها، وتقضي على سلامتها. وجهاز المناعة لدى الإنسان قوي إلى حد مدهش، فالجسد بسبب ذلك الجهاز يظل يقظاً حيال ما يدخل في نسيجه مهما طال الزمان، فالذي تُزرع له كلية - مثلاً - يظل في حاجة إلى أن يأخذ أدوية لتثبيط المناعة في الجسم مدى الحياة!.
نحن على المستوى الفكري في حاجة إلى جهاز مناعة مماثل من أجل حماية فكر الأمة من التدمير، ومن أجل إبقائه في حالة من النشاط المكافئ للتحديات التي تواجهنا. وعلينا أن نسلَّم منذ البداية بأننا لن نحصل على نظام لحماية تفكيرنا وأفكارنا كالنظام الذي زوّد الله - تعالى- به أجسامنا، فهذا هبة تامة كاملة. أما ما سنصل إليه باجتهادنا فإنه جهد بشري فيه كل نقائص البشر وكل أشكال قصورهم. وإنما علينا أن نصل إلى أفضل ما يمكن الوصول إليه. وإذا تأملنا في هذه القضية وجدنا أننا في حاجة إلى فهم أمور والعمل بها، إلى جانب حذر أمور واجتنابها. ولعلي أتحدث في هذه وتلك بما يقرَّب هذه القضية إلى الأذهان على نحو ملائم.
أولاً: الأمور التي ينبغي استيعابها:(1/27)
إن الفكر الإسلامي هو عبارة عن مجموعة الرؤى والتحديدات والطروحات والاجتهادات التي توصل إليها العقل المسلم من خلال اشتغاله على النصوص والأحكام والأدبيات الشرعية والإسلامية، وذلك بغية استيعاب الواقع الموضوعي والارتقاء به وحل مشكلاته. والأفكار هي ثمرات تشغيل العقل، وهي أشبه بالزبدة التي يحصل عليها الفلاح حين يقوم بخضّ اللبن. والتفكير هو ذلك الخضّ التي تقوم به عقولنا لمجموعة ما نملك من مبادئ ونعرف من نواميس وسنن ومعلومات ومعطيات معرفية. إنه بعبارة أخرى انطلاق من معلوم من أجل الوصول إلى مجهول. ومن المهم أن ندرك أن إحاطة عقولنا بما نعدّه معلوماً من مبادئ ومعارف... تظل إحاطة ناقصة وقاصرة، كما أن الجهود العقلية التي نبذلها في سبيل التوصل إلى بلورة رؤى ومفاهيم جديدة تظل هي الأخرى نسبية في اكتمالها ونضجها؛ مما يعني أن عمليات الاجتهاد يجب أن تظل مستمرة؛ لأنها لن تبلغ في أي يوم من الأيام المستوى الذي ينقطع عنده الجدل، وتظهر فيه الحقائق على نحو كامل. ويعني هذا أيضاً شيئاً آخر هو تفاوت الآراء والاجتهادات التي سنتوصل إليها. وهذا التفاوت ناتج من تفاوت إدراكنا لجوهر المعطيات التي تشتغل عليها عقولنا، ومن تفاوت عمليات التفكير التي نقوم بها، حيث لا نملك ما يمكن أن يجعلها موحدة ومتجانسة. ومن هنا فإن اتفاق الناس في الفروع و الجزئيات لا يكون أبداً فضيلة أو شيئاً يُطمأن إليه. إنه يدل على أن العقول توقفت عن العمل لتقف على أرضية مشتركة من التلاشي والعدم فالحياة دائماً متنوعة وملوَّنة . أما السكون والموت فهو شيء واحد بإطلاق.
ومن هنا فإن الاختلاف في إطار المبادئ والقواعد الكبرى يعبرّ دائماً عن حيوية فكرية، نحن في أمس الحاجة إليها. ولكن علينا دائماً أن نسعى إلى جعل الخلاف يقوم على أصول عقلية وشرعية معتبرة ومعترف بها.
كما أن علينا أن نشجع الحوار والنقد المؤطر والمحلى بالأدب والخلق الإسلامي الرفيع، بعيداً عن التجريح والاتهام ومحاسبة الناس على نواياهم. ومن المهم في هذا السياق أن نحذر شيئين: الجهل والظلم. كما أن من المهم كذلك أن نفصل بين المعطيات والأمنيات وألا نطلق العبارات الرنانة إذا كنا لا نملك من البراهين ما يوفر لها تغطية منطقية واستدلالية مقبولة. إن هذا يساعد مساعدة كبيرة على بناء جدار المناعة الفكرية الذي علينا جميعاً أن ننهض لتشييده.
إن العقل في الرؤية الإسلامية عبارة عن قوة إدراكية عظمى، امتنّ بها البارئ - جل ثناؤه- على بني الإنسان. ومع أنه يملك بفطرته مجموعة من المبادئ التي تساعده في إنجاز بعض المهمات إلا أنه يظل غير قادر على الاستقلال بنفسه في محاكمة الأشياء ورسم طريق المستقبل، بل إنها نفسية يسهل خداعها، واستسلامه أمام الخبرة العريقة مشاهد وملحوظ.
إن العقل لا يستطيع من غير إرشاد من خارجه الوصول إلى معرفة العلل الأولية ولا الغايات النهائية للوجود. وهو لا يملك محكّات جيدة لتحديد المهم من غير المهم، ولا يستطيع الفرز بين النافع والضار والخير والشر وتحديد ما هو نافع حالاً ضار مآلاً في كثير من الأحيان... وقد شبَّه بعض علمائنا القدامى العقل بوصفه آلة الإدراك بالعين بوصفها آلة الإبصار. وكما أن العين مهما كانت سليمة وجيدة لا ترى الأشياء إلا إذا غمرها النور، فإن العقل لا يرى الأشياء إلا إذا غمرتها المعرفة، ولهذا فرؤية المشكلات تحتاج إلى معرفة، ولا مشكلات بدون معرفة كما أن لا حلول لها أيضاً من غير علم. الأشياء لا تُرى إلا إذا وجدت العين ووجد النور، والأمور لا تدرك على النحو المطلوب إلا إذا وجد العقل ووجد العلم. والمعرفة دائماً هي خبز الدماغ الذي يقتات عليه. ومن غير ذلك الخبز تنهار عمليات الدماغ، وتنحط إلى المستوى الأدنى. وحين نفكر في مسألة دينية محضة فإن المعرفة المطلوبة آنذاك تكون معرفة إيمانية شرعية. وحين نفكر في مسألة دنيوية، فإننا نحتاج بالإضافة إلى ذلك إلى معرفة فنية مهنية متخصصة. وهذه الرؤيا للعقل والتي تمت بلورتها قبل ما يزيد على عشرة قرون هي آخر ما توصل إليه العقل والعلم في العصر الحديث، حيث يجري اليوم تشبيه العقل البشري بالعقل الإلكتروني أو الحاسب الآلي والذي قال فيه أحدهم إنه في آن واحد أذكى وأغبى آلة اخترعها الإنسان. وكما أن الحاسب الآلي لا يعمل من غير برامج نحمّلها عليه؛ فإن العقل البشري لا يعمل من غير معرفة جيدة نزوده بها.
وقد قال أحد المفكرين - بحق-: إن الذكاء لا ينفع الذين لا يملكون سواه شيئاً. وكما أن الحاسب الآلي لا يستطيع إدخال تحسينات جوهرية على البرامج التي نزوده بها ويشتغل عليها، فإن العقل البشري كثيراً ما يقف عاجزاً عن القيام بعمليات نقدية شاملة وعميقة للأصول والمعطيات التي نزوده بها ولهذا شرح طويل، لا يتسع المقام لبسطه.(1/28)
وقد وقع الخلل لدينا في طبيعة الموقف من العقل من قبل طائفتين كبيرتين : طائفة وثقت بالعقل وثوقاً مطلقاً، فحملته مسؤوليات، لا يستطيع القيام بها، ووصل الوثوق إلى درجة الإعراض عن هدي الشريعة الغراء في بعض الأحيان وكانت النتيجة هي استناد العقل إلى معارف واجتهادات وخبرات بشرية متراكمة وإلى العادات والتقاليد والمألوفات السائدة. ولا يمكن لهذه وتلك أن تؤمَّن للعقل حاجاته الأساسية من المبادئ الكبرى والمعارف الصُّلبة والحكمة البالغة والرؤى الشاملة.
أما الطائفة الثانية فإنها استهانت بدور العقل، وبخسته حقه، حيث ظنت أنها من خلال معرفتها بالمنهج الرباني الأقوم - تستطيع فهم الواقع الموضوعي وتطويره والاستجابة لمتطلباته وابتلاءاته.وهي لا تدرك - في غالب الظن- الفارق الجوهري بين المنهج الرباني وفقه الحركة به، وهو فقه يعتمد أساساً على تشغيل العقل بطريقة جيدة وعلى النفاذ إلى الاطلاع على القوى الأساسية التي تشكل الواقع وتدفع به في اتجاه دون اتجاه. كما أن هذه الطائفة ربما كانت لا تدرك أن المبادئ والأحكام التي تشكل رؤيتنا الشرعية والحضارية للحياة، لا تعمل في فراغ وإنما تحتاج إلى بيئة وشروط موضوعية محددة. وتأمين تلك البيئة وهذه الشروط من مهامنا نحن، وليست من مهام المنهج الرباني.
بالعقل الذكي المسلح بالمنهج وبالخبرة والمعرفة الممتازة نستطيع توظيف المنهج وتوفير الأدوات التي تمكنه من ترشيد حركة الحياة.
في المحصلة النهائية لموقف الطائفتين وإن اختلفت على المستوى الشرعي والأخلاقي لكنها على المستوى العملي متقاربة، وهي وجود الانفصام النكد بين أمور الدنيا وأمور الدين، وبين الرؤية النظرية والواقع العملي على ما هو مشاهد في معظم أصقاع عالمنا الإسلامي . وفي حالة كهذه يكون الحديث عن المناعة الفكرية ضرباً من التفاؤل غير المسوَّغ، حيث لا تحصل الأفكار على الصلابة المرجوة إلا من خلال توازن عميق ودقيق بين المعقول وبين المنهج وآليات تطبيقه وتوظيفه .
(2)
إن كثيراً من القضايا التي تشغل المفكرين المسلمين اليوم تتصل على نحوٍ ما بالواقع الذي تعيشه أمّة الإسلام. وهم يعملون على نحو أساسيّ في إيجاد حلول للمشكلات السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والثّقافيّة من أفق ثوابت الإسلام ومبادئه الكبرى، وإنّ أولئك المفكرين لن ينجحوا في مساعيهم النجاح المنشود إلا إذا استطاعوا إيجاد تيار شعبيّ يتجاوب مع طروحاتهم، ويشارك في علميات التغيير والإصلاح التي يقومون ببلورتها ورسم حدودها. وهذا في الحقيقة يتطلب -فيما يتطلب- أمرين أساسين:
الأول: أن يتمكن المفكّرون المسلمون من إبراز أفضل وأوضح صورة ممكنة للواقع الذي يريدون معالجته، تماماً كما يفعل الطّبيب قبل أن يصف أيّ دواء. وإنّ بعض الأمراض يستغرق شهوراً من هيئة طبية متخصصة حتى يتمّ تشخيصه وتحديده على نحو جيّد. ويجب أن نأخذ بعين الاعتبار أن تشخيص الدّاء الأخلاقيّ أو الاجتماعيّ... هو أصعب -بما لا يقارن- من تشخيص الدّاء الجسديّ. وذلك يعود إلى أنّ أيّ توصيف لوضعيّة اجتماعيّة أو أخلاقيّة... يعتمد أساساً على التعريف لتلك الوضعيّة. والتعريفات في الشأن الإنسانّ تعاني دائماً من القصور الذاتّي، وتعاني من الانتقائيّة والنسبيّة والغموض. ومع هذا فإنّنا حين نتعامل مع مشكلاتنا بعقل مفتوح وبمرونة ذهنيّة جيدة؛ فإنه يمكن الاستدراك والتلافي لكثير من النقص في عمليات التّشخيص والتقويم.
الأمر الثاني: يتجسّد في بلورة خطاب يمكن وصفه بأنه من قبيل السّهل الممتنع. خطاب يصور الواقع بعمق الفكرة وبساطة الأسلوب. وعمق الفكرة يأتي من الفهم العميق والشّامل لذلك الواقع. وتأتي بساطة الأسلوب من فهم مستويات المخاطبين، وخلفياتهم الثّقافية، ومن المهارة في تطويع الكلمات والدلالات، وسوقها على نحو يلامس المفاهيم السائدة في أذهان المُخَاطبين.
إن من الصّعب في أجواء شديدة العمليّة وشديدة المصلحيّة - المحافظة على مناعة تفكيرنا إذا لم نُثْبِت أنّنا نملك الأفكار والطّروحات والبدائل التي تخفف من وطأة المشكلات التي يعاني منها الناس، وإذا لم نُثبت أنّ الأفكار التي نقدّمها لا تجافي روح العصر إلى حدّ بعيد، أو قل لا تتجاهل تشوّقات الناس وطموحاتهم على نحو كامل. وإنما أقول هذا الكلام لأنّ الناس - ولو كانوا ملتزمين- إذا لم يجدوا لدينا ما يحسَّن مستوى عيشهم وأوضاعهم الأدبيّة والماديّة؛ فإنهم سوف يلتمسون ذلك لدى الآخرين، وسوف يدفعنا ذلك -بالتالي- إلى تقديم تنازلات غير مؤصلة وغير منضبطة بضوابط الشريعة. وإني ألمح شيئاً من هذا يجري اليوم في عدد من المجالات!
الإبداع في الحلول، وعدم ترك المشكلات تتراكم، والشّجاعة في تقديم البدائل.. شروط أساسيّة لإبقاء أنظار الجماهير متعلقة بالرُّؤية الإسلاميّة للإصلاح، ومتعلقة بمن يقدمون تلك الرؤية من مفكرين وعلماء ومصلحين.(1/29)
هذا يتطلب أول ما يتطلب فهْم الواقع الذي نريد علاجه؛ فأحكام الإسلام وآدابه ومراميه الحضاريّة ورُؤاه الإصلاحية موجودة في عقولنا ومكتباتنا، تماماً مثل الألوف من أنواع الأدوية الموجودة في (الصيدليات) ومخازن الأدوية. والطّبيب الماهر هو الذي يأمر بإخراج دواء من تلك المخازن دون دواء بحسب رؤيته لداء مريضه.
إنّ كثيرين منا - ولا سيّما الشباب- يسارعون إلى الإدّعاء بفهم الواقع والإحاطة به، مع أنهم لم يبذلوا أيّ جهد متميز في فهمه ومقاربته، ولا يُعرف لهم أيّ اختصاص دقيق في معالجة شؤونه!
إن الواقع أشبه بمادة هُلاميّة فهو شديد الطّواعية والقابليّة للتّشكيل؛ لكن تلك الطواعية خادعة؛ فهو يطاوعنا حتى نظنّ أنّنا قد سيطرنا عليه سيطرة تامة؛ وهو في حقيقة الأمر محتفظ بطبيعته الخاصة، تماماً كما تفعل ذلك المواد الهلاميّة. إنّ الواقع العام يحتفظ بقدرته على البقاء في حيّز الغموض والتعقيد والتشابك والتّداخل، إنه أشبه بأخطبوط له ألف رأس وألف رجل وألف يد. وتكون ثمرة كل ذلك القابليّة للقراءات والتأويلات والتفسيرات المختلفة. ومن هنا تأتي صعوبة التعامل معه. وتستطيع أن تدرك ذلك بسهولة إذا سألت خمسة من الدّعاة أو العلماء أو المصلحين أو المفكرين - توصيف وضعيّة معينة في أحد المجتمعات أو إحدى البيئات الإسلاميّة، كالالتزام أو العدل أو العفة أو الحرية....
وأنا لا أريد من وراء هذا الكلام سوى شيء واحد هو إدراك حجم المهمات التي نُقْدم عليها؛ فلا نتهاون ولا نتعسف ولا نتعجَّل.
إذا صحَّ هذا التحليل وهذا التنظير؛ فإن السؤال الذي يقفز أمامنا هو: ما الأدوات وما المناهج التي يجب أن نستخدمها حتى نحصل على صور مقاربة لحقيقة الأوضاع التي نريد معالجتها؟
في تصوُّري أنّ أيّ جواب سأقدّمه عن هذا التساؤل سيكون قاصراً؛ لأنّ النّظام اللغويّ الذي نستخدمه في تصوير ما نريد تصويره يظلّ دائماً في حالة من القصور الذاتّي؛ إنه ناقل غير جيّد وغير كُفء. فإذا أضفنا إلى ذلك أن تصوري عن المناهج والأدوات التي يجب استخدامها في اجتراح ذلك الواقع هو الآخر غير تام وغير واضح وغير دقيق - فإنك ستدرك كم يحتاج جوابي إلى تكميل وإلى نقد وتمحيص. لكن لا بد أن نقول ما توصّلنا إليه، وسنعتبر ذلك أفضل ما هو ممكن إلى أن يتوفر لدينا ما هو أفضل منه.
1- نحن نحتاج في بداية الأمر إلى تعريف ما نريد معرفته، فإذا كنا نريد أن نُعَرَّف سوية الالتزام في مجتمع من المجتمعات - مثلاً-؛ فإن علينا أن نُعرَّف الالتزام وأن نذكر مقصودنا من هذه الكلمة. إنّ الذي ضاع منه ولده في إحدى الأسواق الكبرى، ويطلب مساعدة الناس على العثور عليه في حاجة -كي يستطيعوا مساعدته- إلى أن يذكر لهم اسمه وحِلْيته من لون وطول وشكل، وأن يذكر لهم لون ونوع الثّياب...؛ وإلا فإنهم قد لا يستطيعون تقديم أي خدمة له.
ونحن بسبب الطريقة التي تعلمنا بها في المدارس والجامعات - قد أدمنَّا الحلول السَّهْلَة؛ ولذا فإننا لا نملك رصيداً ذا قيمة على صعيد التّعريفات والمصطلحات؛ لأنّ الوصول إلى تعريف أو توصيف جيد ليس بالأمر اليسير، ويمكن القول: إنّ التّوصيف الجيّد لأيّ مشكلة يشكّل نصف الحلّ المطلوب. ويتمثل النّصف الثّاني في العثور على العلاج الملائم.
سيكون من المفيد جداً أن نبدأ في كل جلسة حوار أو جلسة تفكير وعصف أو إمطار ذهنّي وفي كل معالجة لقضية شائكة- بذكر التّعريف لما نريد بحثه وتحديد معاني المصطلحات التي سنستخدمها أثناء البحث. وعندما نتخذ من هذا تقليداً ثقافيًّا فسيتَّضح لنا شيئان مهمان:
الأول: صعوبة وضع التّعريفات وصعوبة الحصول على توصيفات جيّدة.
أما الثّاني فهو: عظم الفائدة التي سنحصل عليها من وراء ذلك.
وللحديث صلة..
ومن الله - تعالى- الحوْل والطَّوْل..
(3)
ذكرت في المقال السابق أن أول خطوة علينا أن نخطوها على صعيد فهم الواقع والإلمام به، تتمثل في تحديد التعريفات والمصطلحات بوصف ذلك الركيزة الأساسيّة لكل ما سيأتي بعده من جهد على هذا الصّعيد. ولعلي أتابع في هذا المقال باقي الخُطُوات في هذا الشأن.
أعتقد أن علينا بعد التعريف الجيد للمسألة التي نريد فهمها أن نقوم بتفتيتها إلى أصغر وحدات ممكنة. والحقيقة أن هذا الأسلوب هو ما اتبّعه العالم على مدار التاريخ في التعامل مع الكثير من المعطيات. المعرفة البشريّة - مثلاً- كانت واحدة، ونظراً لضخامتها وصعوبة تعامل العقل البشريّ معها؛ فإنّه تمَّ تقسيمها إلى علوم متباينة من أجل أفضل استيعاب لها. إذا أردنا فهم أو (تقييم) الوضع التربوي في بلد من البلدان - مثلاً- فإن علينا أن نقوم بالآتي:
1- فصْل وضع التربية في الأسر عن وضع التربية في المدارس، وعن وضع التربية في الأُطُر الخاصة مثل الجماعات الإسلاميّة. وعليك أن تقوم باستقصاء منهجي داخل كل قطاع من هذه القطاعات لفهم الأداء التربوي فيها على أفضل وجه ممكن.(1/30)
2- في المدارس لا بد في سبيل العلاج وفي سبيل (التقييم) قبل ذلك من القيام بعملية تفتيت للقوى والأدوات المستخدمة في التربية والتعليم؛ فيتمّ النظر في كلٍّ منها على حدة. إن حُسْنَ التربية في مدرسة من المدارس لا يأتي من الكتب المقررة؛ لأنها موحدَّة على مستوى البلاد في غالب الأمر. ولذا فإن الجودة فيها قد تأتي بسبب تفوق إدارتها، أو الهيئة التدريسيّة، أو الأنشطة اللاصفيّة، أو بسبب حُسْن اختيار الطلاب ووضع شروط لقبولهم لا تضعها مدارس أخرى. وقد يكون بسبب البيئة السكانية للمدرسة. وقد يكون تفوق تلك المدرسة بسبب جودة مبانيها وتجهيزاتها المعمليّة والمخبريّة... وقد يكون بسبب حسن كل ذلك. ويمكن القيام على صعيد التفتيت بنحو ذلك في المجال الأسريّ وفي المجالات التربويّة الأخرى.
من غير هذا التفتيت لن نستطيع معرفة أسباب حسن أو سوء التربية في أي مدرسة من المدارس. وعلينا أن نلاحظ أننا هنا لا نمارس إصدار الأحكام على كل مدارس الدولة ولا المنطقة ولا المدينة. فإذا أردنا شيئًا من ذلك فإن علينا -بعد فهم واقع المدارس في منطقة- أنْ نقوم بعملية حسابيّة من أجل التوصل إلى المعدل الوسطي لحال التربية المدرسيّة في تلك المنطقة؛ حيث يمكن من خلال الدرجات التي تمنحها كل مدرسة أن نقول: إن 80% من مدارس تلك المنطقة ممتازة أو جيدة أو سيئة. ومن غير القيام بهذا فإن أحكامنا ستكون تقديرية وجزافية إلى حد بعيد. ومن هنا ندرك كم تكون درجة تعميمنا عالية وكبيرة حين نقول: إنّ التعليم في العالم الإسلاميّ هو أسوأ تعليم في العالم أو هو أحسن تعليم في العالم أو ... وبسبب هذا التعميم نُتِيح دائماً مجالاً للفهم المتعدّد وللتأويل الخاطئ والحكم البعيد عن الصّواب. إنّ تجزئة أية مشكلة إلى أصغر وحدات ممكنة يُعَدُّ خطوة أساسيّة ضمن خطوات البحث المنهجي الموثوق. البحث المنهجي مكلف جداً وشاقّ جداً. وفي العالم اليوم عشرات الألوف من مراكز البحث التربوي، وكلها يهدف إلى فهم الواقع التربوي على حقيقته، ثم العثور على وسائل لإصلاحه. ونستطيع أنْ نقول بناءً على هذا: إنّ الدول التي لا تملك - وكذلك الجماعات والمؤسسات- مراكز بحوث تربويّة جيّدة، لا تستطيع التعرف على واقعها التربويّ على النحو المطلوب.
3- بما أنّه ليس هناك تفوق تربويّ مطلق ولا تخلف تربويّ مطلق، بمعنى أنه ليس هناك مؤسسة تربويّة كاملة ولا مؤسسة تربويّة كلّها عيوب وسيئات- فإن علينا في سبيل رؤية عقلانيّة لواقع المدارس أن نستخدم (المقارنة) أداة لمعرفة ما عندنا. وقد يكون أفضل ما نُجري فيه المقارنة هو مستوى الخريجين. وفي اعتقادي أن على كل دولة إسلاميّة أن تبلور معايير دقيقة وممتازة لمعرفة مستويات الخريجين لديها. وعلى مستوى الأمة وعلى مستوى العالم يجب أنْ تكون هناك مقارنات تتعرف من خلالها كل دولة على سويّة مُخْرَجات التعليم لديها. وأذكر في هذا السياق أنّه أقيم امتحان عالميّ منذ بضع سنوات لطلاب الصف الثاني في المرحلة المتوسطة في مادّتي الرياضيات والعلوم. وقد شارك في ذلك الامتحان طلبة مختارون بعناية من أربعين دولة. ولم يشارك في ذلك المؤتمر من العالم الإسلاميّ سوى إيران والكويت. وكان ترتيب طلابهما قريباً من المؤخرة أي بعد السادسة والثلاثين - فيما أذكر- وهذا يعطي مؤشراً غير حاسم لوضع تعليم الرياضيات والعلوم لدى نموذجين في بلدين مسلمين!
ولا أريد هنا أنْ أشعَّب البحث أكثر فأكثر فيما تتم فيه المقارنة؛ فذاك حديث طويل وشائك؛ لكن وجود مراكز أبحاث تربوية جيدة لتذلل الكثير من الصعوبات.
يمكن لهذه المنهجيّة في التفتيت أنْ تُؤتي ثمارها في أي مجال أو جزء من الواقع الذي نود التعرف عليه. وعلينا ألا ننسى في كل مرحلة أننا لن نخرج من وراء كل ذلك إلا بنتائج ظنية تقديرية؛ لأنّ كل أدوات البحث وكل مفردات منهجيّته لا تتمتع بالصّلابة الكافية، لكن مع هذا نرضى بما نحصل عليه من ذلك بوصفه مساعداً لنا على اتخاذ القرار الراشد.
من الأدوات الأساسية في اكتشاف الواقع (الإحصاء) والاعتماد على الأرقام. والحقيقة أن دلالة الأرقام تتمتع ببلاغة عالية جدًا . وهذا يعود -أساسًا- إلى أنّ البنية العقليّة للإنسان تتعامل بكفاءة جيدة مع كل ما هو من قبيل (الكم) كما أنها ترتبك ارتباكاً شديداً مع كل ما هو من قبيل (الكيْف). وقد قال أحدهم : "أَعطني رقمًا أُعطِك كتابًا" فالرقم حين يقع في يد خبير يشكل بالنسبة إليه محورًا هامًّا لاستدعاء الكثير من المعطيات والدلالات والتحليلات. حين نقول لاقتصاديّ - مثلاً- ماذا تفهم من قولنا: إنّ دخل الفرد في أفغانستان لا يتجاوز خمسمائة دولار في السنة؟ وذلك الاقتصادي يعرف أنّ دخل الفرد في سويسرا يتجاوز (37) ألف دولار، وفي فرنسا (22) ألف دولار، وفي إسرائيل (18) ألف دولار . إنّه يستطيع أنْ يستشفّ وجود إدارة سيئة للموارد، ووجود جهل وأميّة وكسل وفوضى لدى الناس هناك. كما يستطيع أنْ يستشفّ وجود سرقات، ومتاجرة بالممنوعات، وأمورًا سيئة أخرى؛ لأن كل هذا وذاك يكون عادة من ضمن أسباب الفقر أو لوازمه أو نتائجه.(1/31)
في حديث في صحيح مسلم ورد قوله – صلى الله عليه وسلم- : " أحصوا لي من يلفظ الإسلام" أي اعرفوا عدد من يلفظ بكلمة الإسلام وهي الشهادة. وكان جواب بعض الصحابة: "أتخاف علينا ونحن ما بين الستمئة إلى السبعمئة". إنّ هذا الطلب منه صلى الله عليه وسلم ينطوي على إشارة هامّة علينا أن نلتقطها بذكاء ووعي.
أمريكا أول دولة في العالم على مستوى توفر الأرقام والإحصاءات. وهذه الوضعية أدت إلى حضورها المتميز في كل الدراسات العالمية، حيث إن الباحثين يحتاجون إلى أرقام تساعدهم في عملهم، وهم كثيراً ما يجدون بُغيتهم لدى الأمريكيين. في العالم المتخلف ليس هناك أرقام كافية، حيث يكون الغموضُ والإبهام وسيلةً جيدة لستر الفضائح! والأرقام المتوفرة كثيراً ما تفتقر إلى الدقة والمصداقية. وفي تصوري أن على كل مؤسسة إسلامية مهما كان حجمها ومهما كان شأنها أن تحاول القيام بمسح دقيق لأوضاعها وأنشطتها وحاجاتها وميادين عملها حتى تستطيع أن توفر شرطاً هامّا لتفوقها واطّراد تقدمها.
ولا بدّ لي من الإشارة هنا إلى أن الأرقام – ربما بسبب أهمتها وحساسيتها- كثيراً ما تتعرض للتزوير والتزييف والمتاجرة. وعلينا أنْ نكون على وعي من ذلك.
لدينا ملايين الشباب المسلم العاطل عن العمل، وملايين بل مئات الملايين من الناس الذين لا يجدون عملاً نافعاً يملؤون به أوقات فراغهم. لماذا لا يقوم هؤلاء بتشكيل دوائر تطوّعيّة بسيطة لإجراء مسوحات واستطلاعات للواقع المسلم في بيئتهم الخاصّة من أجل توفير الأرقام الضروريّة لفهم أوضاعنا وإصلاحها؟!
إني لآمل أنْ ندرك -قبل فوات الأوان - أنّ هناك ضرورات منهجيّة وبحثيّة تجب مراعاتها بكل شفافية إذا ما أردنا - فعلاً - أنْ نعيش عصرنا بكرامة وكفاءة. وإنّ عمل شيء ما في الاتجاه الصحيح أنفع لنا وللأمة من التّفرغ للتّشكي وتوزيع الاتهامات ولَطْم الخدود وإطلاق الأُمنيات. وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه ا لله- : إنّ بعض المسلمين يشكو وينوح كما تنوح الثّكلى إذا رأَوْا تغيّر أحوال المسلمين وما هم فيه من كَرْب. وذلك مَنْهِيٌّ عنه. وإنّ الواجب على المسلم أنْ يصبر ويحتسب ويعمل ويتّكل على الله تعالى.
وللحديث صلة
(4)
الفِكر الإسلاميّ فكر في حالة من التشكّل الدائم والصّيرورة المستمرّة، وهو في تشكّله يتأثّر بالواقع ومتطلباته، ويتأثر كذلك ببعض ما لدى التّيارات والوضعيّات الأخرى. وهذا يجعل حركة تطوّره أسرع من حركة تطوّر الفقه وحركة تطوّر الفتوى أيضاً. وهذا الفكر حتى يحافظ على مناعته وصلابته وتميّزه واستمرار نموه- مطالب إلى جانب فهم الواقع- كما ذكرت في المقالين السابقين – بفهم متطلبات الحركة الاجتماعيّة، والتي كثيرًا ما تنبعث من عمق الطبيعة البشريّة، ومن عمق الثّقافة السائدة اليوم، فهم متطلبات هذه الحركة يقتضي الانفتاح عليها. وهذا الانفتاح هو نفسه الذي يطور رُؤانا و طروحاتنا الإصلاحيّة؛ إذْ طالما كان الانفتاح على الواقع وتلمس تداعياته وإحالاته مصدرًا لكل تطور وتطوير. وإذا عَجَزنا عن فهم متطلبات تلك الحركة، وعَجَزنا عن الاستجابة لها في صورة مبادرات تنمويّة وخدميّة، فإننا سنجد أنفسنا نُدفَع نحو الهامش شيئًا فشيئًا مهما ملكنا من الأصوات الجهوريّة المدوّية، ومهما ملكنا من مواقع الهيمنة الثقافيّة ومن أدوات التأثير والإقناع.
فما الذي علينا أنْ ندركه على هذا الصعيد؟ وما الذي علينا أنْ نعمله أو نساعد على عمله؟
إنّ ما علينا في هذا الشأن كثير وكثير جدًا، لكن لعلّي أُلقي ضوْءًا خاطفًا على شيء منه عبر المفردات الثلاث الآتية:
-طبائع الناس ثابتة، فأشواقهم وطموحاتهم وما يرتاحون إليه، وما يُشعرهم بالأذى، وما يرجونه، ويخشونه ... كل ذلك ثابت ومستمر، لأنّه متصل بالفِطرة التي فطرهم الخالق –جل وعلا- عليها؛ لكنَّ وعي الناس ليس ثابتاً، إنّه متحرّك ومتقلّب، وهو كثيراً ما يكون صدًى لمصالحهم ورَغَباتهم، إلى جانب حاجاتهم الروحيّة والجسديّة والمعيشيّة.
وإحساس الناس بالثوابت أو بالحدود -والتي يجب أنْ تتوقف عندها طموحاتهم وسلوكاتهم - ضعيف وأحيانًا معدوم. ومن الواضح أنّنا كلما مضيْنا خُطوة إضافية إلى الأمام في ميادين الحضارة، ازداد وعينا تفتّحًا على مصالحنا، وصار حرصنا عليها أشد. وفي ظل الافتقار الروحيّ والأدبيّ الذي تمارسه العلومة صار الناس يشعرون -كما لم يحدث لهم في أي وقت مضى- أنّ مصالحهم تتجسّد في المزيد من فرص العمل والتملّك، والرفاهية، وراحة الأبدان، والصّعود الاجتماعيّ والبحبوحة الماليّة... وحين تترسّخ هذه الوضعيّة، وتقوى جذورها فإنّ الفوارق بين أهل التدين والالتزام وبين غيرهم في هذه الأمور لا تزداد مع الأيام إلا تضاؤلاً وانكماشًا.
ما الذي يعنيه كل هذا للمناعة الفكريّة؟(1/32)
إنّ من شأن المفكر والمصلح أنْ يحتفظ بمسافة فاصلة بينه وبين الناس الذين يوجههم، ويسعى إلى مساعدتهم. وفي تلك المسافة تتبدّى صلابة المنهج الذي نؤمن به، فنسعى جاهدين إلى ردّ الناس إليه وإلى الجادّة الصّحيحة. ويتجلى فيها أيضاً الفهم الدّقيق لِعِلَل المجتمع، فيتصرف كما يتصرف الطبيب الخبير الناصح، والرحيم في تقديم الدّواء الناجع بأرفق أسلوب ممكن.
في تلك المساحة تظهر لباقتنا وحسن سياستنا وقيادتنا وحسن مجادلتنا ومداراتنا. إنّنا نخطو نحو الناس خُطُوات حتى نجذبهم إلينا خُطوة.
في تلك المسافة تظهر المرونة الذهنيّة لدينا، ويظهر ترتيبنا للأولويّات، وفهمنا العميق لطبيعة المطالب والحاجات التي لا تستقيم الحياة العامة من غيرها، ويأتي على رأس تلك المطالب صيانة حقوق الناس وكرامتهم إلى جانب مناصرة الضعيف والوقوف إلى جانبه حتى يسترد حقه. كلّنا يذكر الاختراقات التي حقّقها المذهب الاشتراكي وفرح كثير من الجماهير به أملاً في أنْ يحسَّن أحوالهم الاقتصاديّة، وأوضاعهم القانونيّة والسياسيّة، وحين وجدوا أنّ الدّعاوى أكبر من الحقيقة بل ضدّ الحقيقة المتحصّلة في كثير من الأحيان انفضّوا عنه، وثاروا عليه.
2- يحتاج الناس حاجة ماسَّة إلى من يساعدهم على تحقيق التوازن في حياتهم الشخصيّة. إنه يُهيَّأ لي في بعض الأحيان أنّ التطرّف والميل عن القصد والاعتدال، إنما هو شيء متوضع في التراث الجيني للبشريّة.
إنّنا نرى فعلاً الكثير من أنشطتنا ومواقفنا وتوجهاتنا قائمًا على ردود الأفعال أكثر من قيامه على رُؤية شاملة ومتوازنة. إنّ مسايرة الناس في كل ما يتجهون إليه، يُعَدُّ خطأ فادحًا، ولا يليق أبدًا بقادة الفكر والإصلاح أنْ يتحركوا وفق رمزيّة (ما يطلبه المستمعون أو المشاهدون). إنّ المنهج الربانّي الذي أكرمنا الله – تعالى – به قد ملّكنا الدّليل الذي يرشدنا إلى الوضعيّة الصّحيحة والآمنة. وإنّ الذين يجهرون اليوم بتحقيق رغبات الجماهير – دون تمييز- يخونون أمانة الرّيادة العلميّة والاجتماعيّة ويجرّون الجماهير الغافلة إلى حتفها!
في الناس اليوم سعي حثيث للحصول على المكاسب الماديّة، وهذا شيء لا يُسبّب مشكلة في الأصل، لكنه حين يتمّ على حساب الأنشطة الروحيّة والأدبيّة والإنسانيّة، فإنّه يرمز إلى خَلَل في حياة الأمّة. وألمس في كثير من المثفقين اليوم حرصًا منقطعَ النظير على التقدّم العقلي وعلى النجاح في الأعمال الدنيويّة، وهذا شيء جيّد لولا أنّه يصاحب إهمالاً للفلاح والطّيبة والصّفاء والتألّق الخُلُقي.
وفي الناس اليوم اهتمام واسع النطاق بالعاجل والمباشر وإهمال للآجل مما جعل قِصَرَ النظر أحدَ أهمّ الأدْواء التي نُعاني منها. وصرنا عبارة عن مجتمعات لا تعرف ما تريد، ولا تمدّ قرون الاستشعار في جوف المستقبل على نحو ما هو مطلوب، وعلى نحو ما هو موجود لدى الآخرين!
وهناك أمور أخرى من هذا القبيل. وإنّ من واجبنا أنْ نطلق من الأفكار والمفاهيم والأدبيّات وصيحات التحذير ما يساعد الناس على استعادة التوازن والاعتدال في هذه المسائل وغيرها؛ بوصف ذلك خطًّا متّصلاً يجب التزامه والمحافظة عليه في كل الأحوال.
3- إنّ زماننا هذا هو زمان البغْي وتجاوُز الحدود. وهذا مفهوم، فألصقُ شيء بالقوّة هو الطُّغيان. ونحن نعيش اليوم في عصر القوّة.
يقول الله – جل وعلا- : ( كلا إنّ الإنسانَ ليطغى أنْ رآه استغنى) [العلق: 7.6]، ويقول- سبحانه- : ( ولو بسطَ اللهُ الرّزقَ لعباده لبغَوْا في الأرض)[ الشورى:27] .
إنّ الناس بما فطرهم الله عليه من حب البقاء يسعَوْن دائمًا إلى التمدّد، ويميلون إلى التغوّل. وكثيراً ما تُهزم المبادئ الواضحة والراسخة أمام هذه الغريزة؛ وقد قال عليه الصلاة والسلام : " لو كان لابن آدم واديان من ذهب لأحبّ أنْ يكون له ثالث". ومن هنا فإنّ مستلزمات المناعة الفكريّة أنْ ننتج المفاهيم والأفكار والنظم التي تمنع تمدّد ذوي القوة: قوّة المال، وقوّة الجاه، والسلطة، وقوّة العلم، والجسم... إنّنا لا نسيء الظّن بالناس، ولكنّ أمور الأمم- أيضًا- لا تُبنى عل حسن الظنّ، وإنما تُبنى على مُعْطَيات ملموسة ومنظّمة، ويمكن الاحتكام إليها. ونحن في العالم النّامي نُعاني أكثر من غيرنا من القهر والإذلال وغَمْط الحقوق. وذلك لا يعود إلى أنّ التربية السائدة لدى الأمم المتقدمة أفضل من التربية السائدة لدينا، وإنما يعود على نحو جوهري إلى أنّ من تدعوه نفسه إلى البَغْي هناك يواجَه بحواجز وسدود منيعة من النظم والقوانين والأعراف والمؤسّسات التي توقفه عند حده، وتُوقع به العقوبة إذا تجاوز ذلك أو احتال عليه.
إنّ التّنمية الجيدة مشروطة دائماً بسيادة الأمن، والاستقرار، واحترام النظم، ووقوف كل واحد من الناس عند الحدّ الذي يجب أن يقف عنده.
ولن يستطيع أيُّ فكر مهما كان لونه، وعمقه، ورسوخه أنْ يصمد لعاديات الزمان وتقلّبات الأحوال، إذا لم يأخذ هذه الأمور التي أشرت إليها، وما يشبهها بعين الاعتبار.
والله ولي التوفيق
(5)(1/33)
قِيمة ما لدينا من طروحات وأفكار إصلاحيّة لا تنبع من جوهريّة ما نقدّم وصوابه وشفافيّته فحسب؛ وإنّما لا بدّ - إلى جانب ذلك- من كونه ملائمًا للمستجدّات الحضاريّة وللمشكلات التي يعاني منها الناس، بالإضافة إلى تناغمه مع الأشواق والتطلّعات التي تحملها الأجيال الجديدة نحو المستقبل. وإنّ علينا أنْ ندرك هذه المسألة بسرعة كبيرة وعلى نحو جيد؛ لأنّ المناعة الفكريّة التي ننشدها ونحرص على التمتّع بها لن تتوفر من الآن فصاعدًا إلا من خلال فتح العين جيدًا على هذه المسائل.
كنّا في الماضي نفهم الحصانة الفكريّة على أنّها المحافظة على ما لدينا، وإغلاق كل المنافذ والأبواب التي قد يدخل منها ما يخالف أو يعكّر ما نعتقد أنّه أثمن شيء لدينا، وهو مبادئنا وأصولنا. وهذا في أساسه ليس خطأً؛ لكن كثيرًا ما كنّا نتوسّع في هذا الشأن حتى طال الحجْر والمنع النقد للفرعيّات والخلافيّات والسياسيّات والاجتهادات، وصار هناك في الساحة الإسلاميّة نوع من المزايدة في هذا الشأن، فكلّما مال المرء إلى التشدّد مع المخالفين دلّ ذلك على غيرته وصلابة دينه، وزاد -مع ذلك- الوثوق به والرّجوع إليه. إنّ الثوابت يجب أنْ تظلّ مصونة وواضحة، ويجب أنْ نتخذ منها محاور للتربية الاجتماعيّة. أمّا ما هو من قبيل الاجتهاد، وما هو من قبيل الخبرة البشريّة في تنظيم الحياة وإدارة المشكلات، وما هو من قبيل الأساليب والأدوات ... فينبغي أنْ يتعرض (باستمرار) للنّقد والمراجعة والغربلة؛ وإلا وجدنا أنفسنا ندفع نحو الهامش باستمرار. إني أتطلّع إلى اليوم الذي نلمس فيه إحساسًا جديدًا وقويًّا بقصور اجتهاداتنا ورؤانا وتنظيراتنا وتنظيماتنا ومبادراتنا... كما أتطلّع إلى اليوم الذي نجد فيه في تنظيم كلّ هيئة أو مؤسّسة شيئًا يتحدّث عن طريقة مراجعة تلك الهيئة، وطريقة نقدها وتطويرها وتنميتها... كما أتطلّع إلى اليوم الذي نتعوّد فيه - معاشر الكتّاب، ومعاشر الدّعاة، ومعاشر المصلحين، والتربويّين- نتعوّد فيه الإعلانَ عن النّقاط غير الواضحة وعن الأفكار غير النّاضجة وغير المختمرة، وعن الخطط غير المكتملة التي نقدمها ونضعها بين يدي الناس, وهذا ليس كرمًا ذاتيًّا نفخر به، وإنّما هو شيء تفرضه طبائع الأشياء، ويفرضه الحرص على مقاومة التكلّس والتحجّر ثم الانهيار. إنّ جزءًا أصيلاً في كل طرح، وفي كل نظام عظيم يكمن في قبوله للمراجعة، والنّقد والإنماء والتّغيير. وهذا أهم عامل من عوامل استمرار الحضارة الغربيّة طوال القرون الماضية على ما فيها من نواقص وانحرافات وأزَمَات...
إنّ من المهم أنْ ندرك أنّك حتى تحافظ على الأصول والثوابت والأساسيّات، فلا بدّ لك من حركة لا تهدأ في تطوير تنظيرك وطرحك الفلسفي، وفي تحسين الأطر والأساليب والأدوات التي تخدم تلك الأصول... إنّ كبار المفكرين المسلمين وكبار المصلحين والدّعاة لا يستطيعون حين يطرحون مشروعاتهم الإصلاحيّة، وحين يبلورون رؤاهم في التغيير والتجديد أنْ يقدموا شيئًا مكتملاً ونهائيًّا؛ وذلك لأنّ عقولنا لا تكتشف الحقائق والمتطلّبات والمشكلات، وما ينبغي أنْ نصير إليه إلا على وجه التدرّج. إنّ كلّ شكل، وكلّ فكرة، وكل وضعية تفتح لنا أفقًا جديدًا ما كان في الإمكان أنْ نراه قبل رُؤية سابقة؛ وهذا هو الأساس الذي يجعل التطوير والتجديد سنّة الحياة. إنْ أيّ جماعة، أو دولة، أو جهة لا تملك آليّات المراجعة ستجد نفسها في أوحال الجمود الذي لا يؤدي إلا إلى فقد الوزن والتحلل الذاتيّ. أضف إلى هذا أنّنا حين نفكر، وننظّر، ونخطّط، ونصمم، نقوم بذلك في جوّ من الطّلاقة الكاملة، وحين يدخل ذلك في مضمار التّطبيق والتنفيذ يكون الأمر مختلفًا جدًّا، حيث يفرض الواقع دائمًا حدودًا للعمل، فهناك الإمكانات المحدودة والنّظم والقوانين المقيّدة، وهناك الأعراف والتقاليد الاجتماعيّة الضاغطة، وهناك المنافسون والخصوم.... ومن هنا تنشأ مفارقة قد تكبر وقد تصغر بين النظريّة والتطبيق، وهذه المفارقة هي التي تمنح المشروعيّة الفكريّة والأخلاقيّة للنقد والمراجعة والمحاسبة.
إذا تأمّلنا في أحوالنا وأوضاعنا وجدنا حرصًا كبيرًا على أنْ تكون أشعّة النّقد موجّهة نحو الخارج، ولذلك أسبابه المفهومة؛ فنقد الآخرين سهل لأنّه لا يتطلّب منّا أيّ تغيير في أوضاعنا. ثمّ إنّنا كثيرًا ما نستخدمه من أجل إظهار فضائلنا وجعل أتباعنا يثقون بما لدينا. ثم إنّ النقد يستخدم أحيانًا جزءًا من حرب شعواء ضد الخصوم والمخالفين؛ مع أنّ أدبيّاتنا الإسلاميّة تحثّنا على أنْ نوجّه أكبر قدر من النّقد والفحص لأنفسنا وأوضاعنا، وأنْ ننشغل بعيوبنا عن عيوب الآخرين. من المهم في مسألة النّقد أنْ نحاول القيام بثلاثة أمور جوهريّة:
1- أنْ يكون النقد وواضحًا وأنْ نسمّي الأشياء بأسمائها في إطار من الأدب الإسلاميّ، وفي إطار الشعور بالمسؤوليّة الأخلاقيّة. إنّ لغة الغمغمة لن تؤدّي إلا إلى تأزّم الأمور. وإنّ كثيرين جدًّا لا يفهمون ماذا نريد، وبماذا نطالب، وماذا ننقد، وذلك بسبب ا لإبهام المعتمّد.(1/34)
2- تحديد المسؤولين عن الأخطاء و التّقصيرات التي تقع هنا وهناك. في أحيان كثيرة نكون واضحين في بيان حجم المشكلة، لكنْ حين يصل الأمر إلى تحديد الأسباب والمتسبّبين نجد أنّنا غير قادرين على وضع النقاط على الحروف. وقد اكتشفنا مؤخرًا أسلوبًا خادعًا في هذا الشأن، وهو القيام بتوزيع المسؤوليّة على أكبر عدد ممكن من الناس، وكأنّنا نحاول أنْ نفرّق دم القتيل على القبائل كما كانت تحاول ذلك العرب قديمًا. ولهذا فإنّ كثيرًا من التقارير والتّوصيات وملفّات المراجعة والمحاسبة يجعلك تخرج بانطباع الخذلان والإحباط ؛ حيث ينتهي الأمر إلى ضرورة أنْ نقتنع بأنّ الكلّ مسؤول، وبأنّ الكلّ أيضًا غير مسؤول!. إذا كنّا غير قادرين على توضيح تقسيم المسؤوليّة عن أزماتنا على نحو جيّد فهذا يعني أنّنا لن نستطيع التخلّص من تلك الأزَمَات ولو بعد حين. ويعني أنّ إيجاد نظام للمحاسبة عادل ودقيق يشكل إحدى الأولويّات الحضاريّة لأمّة الإسلام.
3- تقديم البدائل وإغناء الساحة بالأفكار الإيجابيّة: إنّه لا يكفي أنْ نقول: إنّ في إدارة فلان للمؤسّسة الفلانيّة خللاً كبيرًا. كما لا يكفي أنْ نقول: إنّ هذه اللفظة في بيت الشّعر الفلاني قلقة ونسكت. لا بدّ من أنْ نحاول أنْ نقترح ما هو أجمل وأنفع وأفضل مما هو موجود، ويجب أنْ نمتلك القدرة على الشرّح، والتفسير، والتعليل، لما ننقده إذا أردنا للنّقد ألا يكون نوعًا من اللّغو، أو نوعًا من التكميل الشكليّ لحياة فقيرة في معانيها وإنجازاتها.
إنّ المراجعة عبارة عن مساهمات لإعادة التكيّف والتأقّلم، وإنّ الهيئات الكبرى والمؤسّسات الضخمة أحوج إلى التكيّف من أجل البقاء من غيرها. وإنّ التاريخ ليشهد على أنّ أنواعًا من الحيوانات، والأشجار، الضّخمة هلكت وانقرضت بسبب عدم قدرتها على التكيّف مع الأحوال المناخيّة الطارئة والجديدة.
نحن في ظروف جديدة كلّ الجِدّة، ولهذه الظّروف متطلبات لا عهد لنا بها، وإنّ من جملة تلك المتطلبات النّظر إلى حاجتنا إلى النّقد على أنّها لا تقل أهميّة عن حاجتنا إلى البناء، والنّظر إلى الأخذ والتمثّل على أنّه لا يقلّ أهميّة عن العطاء، والنظر إلى الانفتاح وخوض المعركة ببسالة وإقدام على أنّه لا يقلّ أهميّة عن اللجوء إلى الحصون والاختباء خلف الأسوار.
ولله الأمر من قبلُ ومن بعدُ.
(6)
إن ملامح القصور في العقل البشري أننا لا نستطيع في كثير من الأحيان وضع حدود فاصلة بين الثبات على المبدأ والتمسك بالأصول والثقة بالمنهج وبين التصلب الفكري المذموم، والذي يعني -فيما يعنيه- النقص في تطورنا الذهني بما يلائم المتطلبات والتحديات الجديدة. وهذه الوضعية العالمية الشاملة تجعل الناس دائمًا مُهدَّدين بالعجز عن مسايرة الواقع والملائمة بين المنهجيات التي يؤمنون بها وبين الأسئلة المطروحة عليهم؛ وإن شئت فقل: العجز عن الإجابة عن الأسئلة المطروحة من خلال المنهج الذي يعتقدون بصوابه. بعبارة أخرى: أعتقد أن علينا أن نتلمس دائمًا حجم المرونة الذهنية والمرونة في الطرح وفي الخطاب وفي برامج الإصلاح والمعالجة؛ فالضغوطات التي تمارس علينا من مختلف الجهات، وأوضاع التأزم والتخلف المختلفة تولّد لدينا الكثير من الخوف غير السائغ، وتدفعنا باتجاه الجمود والانغلاق، كما تدفعنا باتجاه استخدام الضغط وسيلة في ترشيد مسيرتنا عوضًا عن الثقة والإقناع دون أن نشعر بذلك، ودون أن نشعر بعدم ملاءمة هذا لروح العصر وللذائقة الثقافية الجديدة. ولهذا فإن الخطاب الإسلامي -والذي يقوم في مفاصله الأساسية على الفكر الإسلامي المعاصر- يميل إلى أن يكون سلبيًّا ضابطًا أكثر من أن يكون مبادرًا محفِّزًا ومنتجًا للأفكار والمفاهيم والمشروعات والبدائل؛ مع أن الحضارات لا تقوم في أول انطلاقها أبدًا على المنع والسلب والضبط.. إنها تقوم بناء على المبادرة والانطلاق والعطاء والمساهمة.. إنها أشبه بينابيع صغيرة، تتجمع فتشكل نهرًا متدفقًا، ثم نجد أنفسنا بعد مدة في حاجة إلى تصفية ذلك النهر وتنقية مائه من الشوائب.(1/35)
إن الفكر الإسلامي سوف يكتسب من المناعة والحصانة والقابلية للاستمرار على مقدار ما يملك من التوازن في بنيته العميقة بين الثوابت والمتغيرات وبين المثالية والواقعية، وعلى مقدار ما يملك من المرونة في الفهم والاستيعاب وفي تقديم الحلول. إن العواصف الهوجاء تقتلع وتحطم الأشجار العملاقة على حين أن السنابل والحشائش تُبدي قدرة أكبر على الصمود والمقاومة والسبب في هذه المفارقة هو المرونة التي في الأخيرة والتصلب الذي في الأولى. واليوم توضع قواعد وكتل مطاطية في أسفل الأبراج والعمارات الشاهقة كي تقاوم الزلازل الأفقية؛ حيث يمنحها المطاط المرونة الكافية للتجاوب مع اهتزازات الزلازل على شكل امتصاص لها. إن المرونة لا يصح أبدًا أن تعني التنازل عن المبادئ ولا التساهل تجاه المحرمات، كما لا يصح أن تعني إقرار الباطل وممالأة الظلم، ولا أن تعني تغيير الاتجاه... إن هذه الأشياء لا تشكل أبدًا مرونة أو تكيفًا صحيحًا، إنها انحراف واضح تجب مقاومته والتصدي له. إن المرونة المنهجية تعني في نظري الآتي:
1- حسن الاستماع وحسن تفهم ما لدى الآخر. إن الأمة في أزمة متشعبة ولو لم يكن من معالم تلك الأزمة سوى ابتعاد عدد كبير من أبنائها عن جادة الالتزام بتعاليم الشريعة الغرّاء وسوى تدني مكانتها العالمية بين الأمم لكان ذلك كافيًا . حين يكون المرء في أزمة؛ فإن عليه أن يفتح عشر عيون وعشر آذان لالتقاط أي فكرة أو أي حل أو أي أسلوب أو أي أداة في إمكانه أن يخفف من غلواء الأزمة التي يعاني منها. إن مشكلة: كمشكلة البطالة، أو رداءة مستوى خريجي الجامعات، أو مشكلة تسلط الحكومات، أو انتقال السلطة بسلاسة وعلى أسس مشروعة، أو مشكلة ضعف الالتزام، أو تفكك الأسرة المسلمة بالتدريج... أقول: إن مشكلة كهذه المشكلات لن نستطيع الحصول لها على حلول من خلال استعراض التاريخ وتجارب الأجداد والآباء لأن سنة الله – جلّ وعلا- مضت ألا تتسع رحلة حضارية سابقة لمرحلة لاحقة. فالحلول التي عثر عليها الناس لأي مشكلة من هذه المشكلات قبل خمسة قرون لن تصلح لحلها اليوم. كما أن ما نحصل عليه من حلول ناجعة وعبقرية لمشكلاتنا لن تحل عين المشكلة بعد قرنين من الزمان.
ولن نجد حلاًّ لأي مشكلة من المشكلات آنفة الذكر لدى الغرب أو لدى اليابان أو الصين...؛ لأن أي حل من الحلول يرتكز على نوعية معينة من المعطيات الثقافية والسياسية وهذه النوعية تختلف اختلافًا واسعًا عن عالمنا الإسلامي وبين الدول غير الإسلامية المعاصرة لنا. لكن سنجد في التاريخ وسنجد لدى الآخرين نواة لحلٍّ؛ تحتاج إلى إنضاج وإنماء أو نجد فكرة ذكية تحتاج إلى تطوير أو أقلمة وتوطين. وهذه وتلك تحتاجان إلى عقل مرن ومحترف في الاقتباس ودمج الأفكار والطرق والمنهجيات المتفاوتة والمتباينة. ولن ينفع الذكاء وحده في الشأن بل لا بد من البحث العلمي المتقن والمتخصص والمستفيض، وهذا ما لم يتم الاعتراف به حتى الآن!
2- تعني المرونة الذهنية والمنهجية -أيضًا- القدرة على إدراك الفرق بين ما هو موجود في حياتنا بسبب الالتزام بالأمر الشرعي وبدافع من الالتزام بأمر الله، وبين ما هو موجود نتيجة عادات وتقاليد أنتجتها ظروف واعتبارات تاريخية، أو أنتجها التوسع في مبدأ (سد الذرائع) بسبب فهم جزئي أو زمني أو مؤقت للمصالح والمخاطر التي تترتب على سلوك معين.
ويقدم لنا وضع المرأة المسلمة نموذجًا لهذا؛ حيث إن كثيرًا مما يحتاج إلى الإصلاح في حياة المرأة المسلمة ومهامها العامة نشأ نتيجة مواصفات اجتماعية معينة مالت بها نحو الغلو أو نحو التفريط والتساهل بعيدًا عن المنهج الرباني الأقوم. قد يكون من الأسس النافعة في تصور إصلاح أوضاع المرأة المسلمة النظر إلى أن الأصل هو تطابق كل ما يُطلب من النساء، وكل ما يحل لهن، وكل ما يصح لهن عمله وممارسته مع ما هو ثابت للرجال؛ إلا ما جاءت النصوص الصريحة بإثبات خصوصية لهن فنصير إليه، ونأخذ به. وإذا اختلف أهل العلم الموثوقون والمتخصصون في مسألة هل هي خاصة بالرجال أو النساء – نظرنا إلى خلافهم على أنه باب من أبواب التوسيع على الأمة ورفع الحرج عنها. ومثل ذلك يقال في اختلاف أهل العلم في كون عمل من الأعمال – يجرّ مفسده أوْ لا. والذي يظن أن الأخذ بالأحوط وبالقول الأشد حذرًا وبالأميل إلى التشدد- يحل مشكلات الأمة أو يساعد الناس على مزيد من الالتزام – يكون واهمًا؛ حيث إن مثل هذا قد يدفع كثيرًا من الناس بعيدًا عن منطقة التدين كلها بما فيها من ألوان صفراء وحمراء، وواقعنا مملوء بالشواهد على هذا.(1/36)
3- تعني المرونة كذلك القدرة على إعادة ترتيب الأولويات الدعوية والإصلاحية والإنمائية. حين نقول: إن إصلاح هذا الأمر يشكل أولوية فإن هذا يعني أننا ندرك خطورة استمراره، وعظم حاجة الناس إليه، وارتباط صلاح مسائل أخرى بصلاحه. وهذه مهمة شاقة جدًّا، وتحتاج إلى فهم عميق للسنن الربانية وللتداعيات المنطقية القائمة بين جوانب الحياة المختلفة. في معظم البلاد الإسلامية تتمثل الأولوية الإصلاحية في تعليم الناس أمور دينهم ، وفي حل أزماتهم الاقتصادية المتراكمة والمتعاظمة. وفي بعض البلدان الإسلامية يشكل الإصلاح السياسي أولوية. ويشكل إصلاح النظام التعليمي في بعض الدول أولوية مطلقة وهكذا... ولا يعني القول بأولوية شيء من الأشياء تعطيل الاهتمام بغيره من جوانب الحياة المختلفة؛ لكنه يعني أن نصرف عليه من الوقت والجهد أكثر مما نصرفه في غيره.
موضوع المرونة المنهجية موضوع طويل وقد أعود إليه في يوم من الأيام.
ومن الله الحول والطول.
(7)
الفكر المنيع فكر قادر على الاستمرار ومناعته نابعة من طبيعته ومقوماته الذاتية، ومقومات الفكر الإسلامي ليست شيئًا يصنعه الناس جريًا وراء أهوائهم أو اجتهاداتهم الشخصية، فالفكر لا يكون إسلاميًا إلا إذا كان تكونه في إطار تعاليم الإسلام ومقاصده العامة، ولا يكون نموه صحيحًا إلا إذا كان عن طريق حبل سري متصل بالمصالح المنضبطة للأمة وبالطبيعة البشرية، وما نعرفه من سنن الله –تعالى- في الخلق. وشيء من هذا الكلام ينطبق على الفكر الإنساني أيضًا؛ حيث إن صناع الأفكار يستطيعون أن يقولوا – على مستوى التفاصيل الدقيقة- الكثير مما يريدون، لكن تظل حيوية ما يقال وقدرته على تشكيل الحضارة مرهونة لاتصالها بالسنن الربانية وبتشوقات البشر وتطلعاتهم.
وتأسيسًا على كل هذا يمكن القول: إن الغلو بكل سماته وأشكاله ومظاهره ومنطلقاته يشكل إحدى الآفات والعلل المزمنة والخطيرة التي طالما أصابت الفكر الإنساني والإسلامي في مقتل، والحقيقة أن البعد عن القصد والميل إلى المنازع والاتجاهات الغالية المتطرفة يشكِّل جزءًا من التراث الحضاري لكل الأمم؛ وإني لأكاد أزعم أن ذلك متصل بالتكوين العقلي والنفسي لبني الإنسان. وإذا صح هذا فإنه يكون جزءًا من أدوات الابتلاء في هذه الحياة. إن الغلو مصطلح شرعي، لكن تطبيقاته واسعة جدًا إلى درجة أن بعضها يتصل بالذوق وبالخبرة البشرية وبالتراكمات الثقافية المتنوعة، ولهذا فإننا حين نتحدث عن الغلو أو الإفراط أو التطرف أو التشدد في أمر من الأمور المتصلة بالتدين والالتزام فإن علينا ألا نتجاوز الأحكام الشرعية. وفي هذا الإطار فإننا نجد اليوم في الساحة الثقافية العامة صنفين ممن يتحدث عن الغلو: صنف يهرف بما لا يعرف، حيث ينطلق من خبرة محدودة جدًا بالشريعة وبالفقه الإسلامي لكنه يملك جرأة تصل إلى حد الوقاحة في إطلاق الأوصاف والنعوت النارية على سلوكات ومواقف لا ينبغي أن يتحدث فيها إلا أهل الاختصاص وهم الفقهاء، وهذا شيء طبيعي فكما أنه لا يتحدث في الأمور الهندسية الدقيقة إلا مهندس، وكما لا يتحدث في المسائل الفيزيائية العويصة إلا فيزيائي فكذلك لا يتحدث في مسائل التدين والالتزام والتعبد والسلوك الإسلامي عامة إلا فقيه خبير. أما الصنف الثاني فإنه ينطوي على سوء نية وعلى انحراف في الوجهة، إنه يريد من خلال الحديث عن الغلو هدم الإسلام ذاته؛ فالذي يمتنع عن إيداع أمواله في البنوك الربوية متزمت غال، والمرأة التي تستر وجهها أو تمتنع عن مجالسة الرجال الأجانب متخلفة ومعقدة، والمسلم الذي يستدل بالآيات والأحاديث في التنظير للقضايا حرفّي محدود. والمسلم الذي لا يستمع للموسيقى غليظ المشاعر، ومفتقر إلى نوع من التهذيب لا يأتي إلا عن طريق الموسيقى...!!
وقد كثر هذان الصنفان في الساحة الثقافية والإعلامية، وكثير منهم يظنون أنهم يساعدون الأمة على النهوض والارتقاء، وهم في حقيقة الأمر يمارسون عملية تخريب واسعة النطاق ولا تظهر آثارها إلا بعد عقد من الزمان.
وعلى كل حال فإن من واجب المفكرين والمنظِّرين وأهل كل الاختصاصات العلمية أن يشيعوا في الجماهير المسلمة مفاهيم الوسطية والاعتدال والتسامح واليسر، وأن يقاوموا نزعات الغلو التي تجتاج كل الشرائح والفئات وكل الدوائر والتخصصات؛ فهناك غلوّ في السياسة وفي الاجتماع وفي التدين وفي الاقتصاد والتربية والتعليم والتعامل مع التاريخ والتخطيط للمستقبل.. وأهل كل تخصص هم الذين يقررون الاتجاهات والأقوال الغالية في تخصصهم، وهم الذين يحددون درجة ذلك الغلو، وعليهم تقع مسؤولية معالجته وتخليص الناس منه، وهذه نقطة مهمة حيث يظن بعض الناس أن الغلو عبارة عن مشكلة دينية محضة، وهذا غير صحيح. قد كانت الشيوعية مغالية حين أعطت دورًا استثنائيًا للدولة في إدارة شؤون الناس، وقد أدى ذلك تهميش المجتمع وتعطيل كثير من وظائفه، وكانت النتيجة هي انهيار الدولة والمجتمع معًا.(1/37)
ومن المربين من يغالي فيجعل دور البيئة حاسمًا في تقرير ثمار الجهود المربية. ومن المؤرخين من فسّر التاريخ تفسيرًا عرقيًا عنصريًا، ومنهم من فسره على أساس عبقرية المكان والدور الحاسم للجغرافيا وهكذا وهكذا.. وكلما تقدم العلم خطوة إلى الأمام يتضح لنا أكثر فأكثر أن المراهنة المبالغ فيها على بعد من الأبعاد أو قول من الأقوال أو عنصر من العناصر أو تفسير من التفسيرات أو دليل من الأدلة معلومة من المعلومات... هي شيء بعيد عن القصد وعن الواقع، وقريب من أن يكون مجازفة علمية، فالتعقيد الذي نكتشفه اليوم في طبيعة كل البنى الثقافية يحتم علينا أن نبلور دائمًا رؤى ونظريات واجتهادات ذات طبيعة تركيبية. والطبائع التركيبية تساعد دائمًا على الحد من الغلو والانجراف خلف وجهات أحادية ضيقة. إننا –كما أخبر سبحانه- ولا نعرف إلا القليل. وكثير من معارفنا هش وغير مكتمل، ومنفتح على آفاق مجهولة، مما يعني أن علنيا أن نحذر أشد الحذر من الاعتزاز باجتهاداتنا الشخصية ومن المغالاة في انتماءاتنا الحزبية والحركية، وأن نظل إلى جانب ذلك في حالة من البحث المستمر عن الرؤى المتوازنة البعيدة عن الإفراط والتفريط، فالمتقدم على الصف والمتأخر عنه يسهم كلٌّ منهما في اعوجاجه. إن اليهود فرّطوا في موقفهم من الرسل -عليهم الصلاة والسلام- بل من رب العالمين –جل وعز- فقد قالوا: يد الله مغلولة، ووصفوه بما لا يليق بإنسان فضلاً عن أن يليق بالخالق، وكذّبوا الرسل وأهانوهم وقتلوهم. أما النصارى فقد أفرطوا في هذا الشأن حيث قدّسوا عيسى -عليه السلام- حتى جعلوه إلهاً. أما أمة الإسلام الوسطية فقد نجت في موقفها العقائدي العام من هذا و ذاك.
ونحن اليوم في حاجة إلى أن نتلمس المزيد من المواقف والتطبيقات التي تعكس وسطيتها في مجالات الحياة كافة. وقد ابتلى الإسلام على مدى عهوده المتطاولة بفئتين من أبنائه : فئة تتفلت من تعاليمه، وتتقاعس عن أداء مقتضياته وواجباته. وفئة تحمل الناس على المكاره، وتدفعهم في اتجاه العسر والحرج والضيق. والفئة الأولى خاضعة غالبًا للشهوة أما الفئة الثانية فإنها في الغالب خاضعة للشبهة. ومن هذه وتلك تتكون وضعية بائسة تجمع بين القصور والانحراف.
وللحديث صلة.. والله وفي التوفيق.
(8)
الإسلام هو رسالة محمد -صلى الله عليه وسلم- الأخيرة التي تتلقاها البشرية من الله –جل شأنه-؛ ولهذا فهي رسالة عامة وشاملة، فيها ما يحتاجه صلاح الناس مهما اتسعت أمداء الزمان والمكان، ومهما تنوعت الظروف والأوضاع والأحوال. وهذا يتطلب بداهة سعة الأطر، ورحابة الأحكام، ومراعاة شيء من التنوع الثقافي، وترك بعض التفصيلات أو كثير منها لتقدير علماء الأمة وباحثيها، ليستنبطوا من الأصول العامة للشريعة السمحة ما يغطيها ويوضح للناس أحكامها.
ويلاحظ في هذا السياق ثلاثة أمور مهمّة:
1- معظم نصوص الكتاب والسنة ظنيّة الدلالة، مما يفتح باستمرار مجالاً للاجتهاد واختلاف الآراء. ولو شاء الله –تعالى- لجعلها جميعاً محكمة قطعية الدلالة؛ لكن ما هو ماثل الآن ينسجم مع خلود الرسالة وختمها وعمومها. ومن شأن الاختلاف توفير إمكانات واختيارات وبدائل. كما أنه يعكس رؤى المجتهدين وتنوع ثقافاتهم وتقديرهم للحالة أو الوضعية موضع النظر. وهذا يضفي على الأحكام طابع اليسر والسهولة، ويجعلها قريبة من معاناة الناس ومشاعرهم. وكل هذا جزء صغير من رحمة الله –تعالى- ولطفه بعباده.
2- النصوص على نحو عام في المسائل التي تختلف باختلاف الزمان والمكان قليلة، وفيها توجيهات عامة. وقلة النصوص ترمي إلى إفساح المجال للمجتهدين كي ينظروا ويستنبطوا في ظلال المقاصد العامة للشريعة وفي إطار حاجات المجتمع المسلم. ونجد هذا واضحاً في المسائل السياسية والإدارية والعلاقات الدولية والمسائل التنظيمية عامة وقد عتب الإمام الجويني في كتابه (الغياثي) على الماوردي في أنه ساق في كتابه (الأحكام السلطانية) الأحكام المتعلقة بالسياسة الشرعية بلغة فيها الكثير من الجزم واليقين أو بعبارة أخرى: ساق الظنيات في موارد وسياقات القطعيات. وهذا لا يليق بمجال، النصوص فيه قليلة والاجتهادات كثيرة مع امتداد آفاقه وتنوع مستجداته. وهذه الملاحظة ملاحظة ذكية من عقل كبير.
3- في صميم المنهج الاجتهادي والاستنباطي شيء يثير الإعجاب، وهذا الشيء هو ما يقوم به الأصولي والفقيه من نظر وتفكر وتحقق قبل إصدار حكم في واقعة من الوقائع أو وضعية من الوضعيات.(1/38)
إن المجتهد قبل أن يصدر حكماً في واقعة جديدة، لا نص فيها ولا إجماعاً سابقاً، يحتاج إلى كثير من التأمل والبحث، فإذا كان بصدد قياس الواقعة الجديدة على واقعة سابقة أو كان في سياق الحكم على شيء جديد بعين الحكم الصادر في شيء سابق منصوص عليه؛ فإن عليه أن يكتشف علة الحكم في الأصل وهذه العلة قد تكون جلية وقد تكون غامضة، وقد يحتمل الحكم في الأصل أكثر من علة واحدة، ويكون عليه آنذاك أن يقوم بعملية أطلقوا عليها (السبر والتقسيم) أو (تنقيح المناط)، وذلك من أجل اكتشاف العلة المؤثرة فعلاً في الحكم. وهذا العمل عمل اجتهادي عظيم يقوم به الأصوليون والفقهاء الكبار المتمكنون.
ونتائج هذا التمحيص كثيراً ما تكون موضع نزاع وموضعاً لتباين الآراء والاجتهادات. فإذا عُرفت العلة المؤثرة في الحكم، فإن هناك عملية أخرى لا تقل شأناً عما سبق، وهي التأكد من أن العلة موجودة في الحادثة الجديدة، وأن الشروط المطلوبة لجعل الفرع مساوياً للأصل أو الشروط المطلوبة لصحة إصدار الحكم موجودة ومتوفرة. وهذا ما سماه الأصوليون (تحقيق المناط) إذا قلنا إن إنكار شيء من المعلوم بالدين بالضرورة يجعل المنكر كافراً كما هو الشأن في منكر فرضية الصلاة أو حرمة الزنا، وإن بلغنا عن شخص شيء من ذلك؛ فإن علينا قبل الحكم بكفره أن نتأكد من صحة ما نسب إليه ودقته في الدلالة على الإنكار. وعلينا أيضاً أن نتأكد أنه عالم بإخراج ذلك الإنكار من الملة، وأنه لم يتراجع عنه ويتب منه وعلينا وعلينا... إن تحقيق المناط أو التأكد من انطباق الحكم على الواقعة يشتمل على رحمة عظمى للأمة حيث جعل الله –تعالى- شيئاً من التشريع في النوازل إلى الأمة ممثلة في مجتهديها.
إذا تأملنا في الملاحظات الثلاث التي سقناها وجدنا أنها جميعاً تدفع في اتجاه واحد هو الرفق واللطف بالمكلفين، وهو الأناة والتريث قبل إصدار الأحكام. وهو التيسير ورفع الحرج ورفع التشدد والغلو.
وهذا الاتجاه في الحقيقة هو سبيل المؤمنين الفاقهين، وسبيل العارفين بأسرار الشريعة ومقاصدها، والخبراء بطبائع الأشياء وسنن الله تعالى في الخلق. إن الغلاة لا يساعدون فكر الأمة على الانتشار، ولا يساعدون المسلمين على بناء منطق عالمي قابل للشرح والتوضيح وقابل للتفهم من قبل الآخرين؛ إنهم على العكس من هذا يتركون لدى الناس انطباعاً بأن الدين جاء لأولي العزم من الناس وليس لعامتهم. وهم إلى جانب هذا يحيدون عن قواعد المنهج الرشيد الذي بلوره علماء الأمة من أجل فهم كيفية الاستجابة لأمر الله في المناشط والاستجابة له في المكاره. وذلك المنهج يأخذ بعين الاعتبار حالات الضعف البشري وحالات القصور الإنساني، كما يأخذ بعين الاعتبار الظروف الموضوعية التي يمر بها العباد. كيف لا والله تعالى يقول في وصف نبيه محمد –صلى الله عليه وسلم-: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ) ؟ [سورة الأعراف:157]. إنه يضع عن أمة الإسلام الأحكام والتكاليف الشاقة التي يضعف عن حملها الإنسان والتي كانت على بني إسرائيل من مثل قتل النفس بالتوبة وتحريم الغنائم. والله تعالى علم المسلمين كما في أواخر سورة البقرة كيف يدعونه برفع الحرج عنهم حين قال: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) [البقرة:286] وقد ورد في صحيح مسلم ما يدل على أن الله استجاب دعاءهم. وقال عز وجل: (طه. مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى) [طه:1-2] وقال: (وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى) [الأعلى:8] قال ابن كثير في تفسيره: "أي نسهّل عليك أفعال الخير وأقواله ونشرع لك شرعاً سمحاً مستقيماً عدلاً لا اعوجاج فيه ولا حرج ولا عسر".
هذا وللحديث صلة.
(9)(1/39)
إن العمل الذي قام به فقهاؤنا على مدار التاريخ الإسلامي هو حقاً شيء يثير الإعجاب. وتأتي روعته من انضباطه بأصول محددة ومن حركته داخل النصوص. ترى فيه الثبات والاتفاق في الأصول والمسائل الكبار. وترى فيه المرونة والاتساع للتنوع والاختلاف في الفروع والمسائل الجزئية. وأعتقد أن قدراً غير قليل من (المناعة الفكرية) يجب أن يستمد من الارتكاز على روح الإنجاز الفقهي ورسومه. وإذا تأملنا في كثير من الانحرافات الفكرية لدى بعض الطوائف الإسلامية وجدنا أنها تشكل نوعاً من الخروج على منهج الاستدلال الذي سار عليه الأصوليون والفقهاء، كما تشكل خروجاً سافراً على الأحكام التي انتهوا إليها. إن الفقيه يقدم لنا دائماً نموذجاً لاعتبار الرأي المخالف. وكتب الفقه المقارن مثل: (المحلى) لابن حزم، و(المغني) لابن قدامة، و(المجموع) للنووي...؛ شاهدة على هذا. وإذا عدنا مرة أخرى إلى (الغلو) بوصفه العدو اللدود لاستقامة الفكر ومناعته واستمراره وجدنا أن الغالين يصدرون في معظم شأنهم عن تجاهل لقول غيرهم واستخفاف بالمخالف كائناً من كان. ولا شك أن هناك الكثير من المسائل التي يكون الخلاف فيها ضعيفاً حتى كأنه غير موجود، لكن هناك أيضاً الكثير من المسائل التي يعد فيها تجاهل الخلاف وتجاوزه ضرباً من الجهل العريض والطيش الكبير. وعلى سبيل المثال فقد ذهب بعض الغلاة في عصرنا هذا إلى تحريم التقليد وإيجاب الاجتهاد، وحجتهم في ذلك أن التقليد طاعة مطلقة. وهذه الطاعة المطلقة لا تكون إلا لله، ولذلك فإنهم يكفرون المقلد لأنه حكَّم غير الله، واتبع غير رسول الله. وهذا يذكرنا بالخوارج حين أطلقوا مقالتهم الذائعة الصيت: "لا حكم إلا لله". والقول بحرمة التقليد يتجاهل ما قرره علماء الأمة في هذا الشأن ويتجاهل تاريخ الأمة كله؛ حيث إن لدينا ملايين الناس المشهود لهم بالخير والصلاح والعلم ومع هذا فإنهم لم يجتهدوا، وكانوا يقلدون أحد الأئمة المتبوعين. كما أن هذا القول يجافي ما تواضع عليه البشر في كل العلوم؛ إذ لا يجيز أي أهل علم أو اختصاص لأي إنسان مهما بلغ أن يجتهد في كل شيء لأن في ذلك هدماً لقطعيات العلم ومواطن الإجماع فيه. وإذا كانوا لا يجيزون الاجتهاد المطلق من القيود؛ فكيف يوجبه هؤلاء في أخطر العلوم، وهو علم الحلال والحرام وتحديد ما يحبه الله –تعالى- ويبغضه؟!
ويتجاهل الغلاة الخلاف بين أهل العلم في تحديد بعض المصطلحات، فيصيرون إلى فهمهم الخاص غير عائبين بتعريف غيرهم، ويلتزمون بما فهموه التزاماً صارماً، ولا يكتفون بذلك، وإنما يصيرون إلى إلزام غيرهم، ويرتبون لأحكام على ذلك، ويتصرفون وكأنهم أمام نص قطعي الثبوت.. قطعي الدلالة؛ هذا مع أن كل العارفين بمناهج البحث وطرق الاستدلال يعرفون أن المصطلح حين يكون هشاً أو انتقائياً أو غامضاً فإن المنهجية تقضي بمراعاة ذلك والأناة في البناء عليه. والمصطلحات التي أساء بعض الغلاة المعاصرين التعامل معها عديدة، ولعل منها مصطلح (جماعة المسلمين)؛ فقد قامت مجموعة منهم بتنصيب أمير عليها، جعلته في مقام أمير المؤمنين، وجعلت نفسها جماعة المسلمين، وصاروا يعتقدون أنهم جماعة آخر الزمان المجتباة قدراً المعلومة عند الله والمكتوبة في اللوح المحفوظ! ويقول أحد قيادييها: نحن جماعة المسلمين، وما عدانا فليس بمسلم. وقد جعل من لم ينضم إليهم بمثابة التارك لدينه المفارق للجماعة، والذي ورد في الحديث الصحيح أنه حلال الدم. مع أن الذي يعود إلى كلام أهل العلم في مفهوم (جماعة المسلمين) يجد أن منهم من ذهب إلى أن جماعة المسلمين هم الصحابة –رضوان الله عليهم- على وجه الخصوص. ومنهم من ذهب إلى أن جماعة المسلمين هم السواد الأعظم من أهل الإسلام. وذهب بعضهم إلى أنها أئمة العلماء المجتهدين. وذهب فريق رابع إلى أنها أهل الإسلام في مقابل الكفار...
ومن المعاصرين من لم يدّعوا أنهم جماعة المسلمين، لكنهم أقرب الجماعات إلى أن يكونوا جماعة المسلمين، ولا ريب أن هذا القول أخفّ من السابق لكنه ترك على تلك الجماعة آثاراً سيئة حيث أصيبت بعقدة الأخ الأكبر الذي يُستشار، ولا يستشير، ويُطلب منه التعاون ولا يطلبه..(1/40)
الغلو في التكفير مظهر آخر من مظاهر استغلال غموض المصطلحات والإعراض عن الشروط والتعريفات. وقد ورد الكثير من النصوص التي تحذر المسلم من المسارعة إلى تكفير أخيه المسلم، منها قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما". وقال: "... ولعن المؤمن كقتله ومن رمى مؤمناً بكفر فهو كقتله". إن أهل العلم الثقات العارفين بموارد النصوص والفاقهين لاستخدامات هذه الكلمة يقولون: إن الكفر يَرِد في الكتاب والسنة ويراد به الكفر المخرج من الملة، وأحياناً يَرِد ويراد به كفر لا يخرج من الملة، فكما أن للإيمان شعباً كذلك للكفر شعب والأدلة على هذا أكثر من أن تحصى. لكن الغلاة لا يأبهون للتفصيلات ولذلك حكموا على مرتكب الكبيرة بالكفر، وكفروا كل من لم يحكم بما أنزل الله مع أن الحاكم إذا لم يحكم بما أنزل الله لأن شهوته حملته على ذلك مع الاعتقاد بأن حكم الله ورسوله هو الحق واعترافه على نفسه بالخطأ لم يخرجه ذلك من الملة، وإن كان ارتكب كبيرة من أعظم الكبائر. والراسخون في العلم يحرّجون كثيراً في تكفير شخص بعينه؛ لأنه قد يكون جاهلاً أو مكرهاً أو دخل في موازنة مخلصة يحقق بها ما يمكن تحقيقه من الخير للمسلمين، ويدفع بها من الشر ما يمكن دفعه. وقد يكون له إيمان وعمل صالح كثير وقد... وقد...، وهذا مما ينقل الحكم على الحاكم من حيز الكفر الأكبر إلى حيز الكفر الأصغر.
إن الغلاة حملوا أنفسهم على المركب الصعب، وقد وجدوا أنفسهم في نهاية المطاف في الزاوية الضيقة. وكانت النتيجة هي الاضمحلال والانحسار؛ فمنهم من قُتل، ومنهم من شُرد، ومنهم من تراجع عن أفكاره، ومنهم من لا يزال على طريقته الأولى لكنه يجد نفسه دائماً عاجزاً عن تقديم شيء إيجابي تنتفع به الأمة.
وللحديث صلة، والله الموفق.
(10)
ذكرْت أنّ الغلوّ قصير النَفَس، وهو ما دخل فكرًا أو مشروعًا أو مؤسّسة إلا شكّل نقطة ضعف فيما توضّع فيه، والسؤال الذي علينا أن نحاول الإجابة عنه هو: لماذا ينشأ الغلوّ؟ وما الخلفيّة النفسيّة والثقافيّة والبيئيّة التي تساعد على انتشاره وكسبه للأنصار؟
والجواب عن هذا السؤال جواب طويل، ولكن سأحاول إجماله في مفردات قليلة.
1- كثيرًا ما ينشأ الغلوّ نتيجة فهم خاطئ للنصوص كما حدث للخوارج في صدر الإسلام. وتعدّد النصوص في القضيّة الواحدة، وكون معظم النصوص ظنّية الدلالة يساعدان على هذا. أضف إلى ذلك القصور الذي يشكّل ما يشبه العاهة الدائمة للنظام اللّغوي في العالم كله وفي كل اللغات؛ حيث إن اللّغة ناقل غير شفّاف، وهي تُنتج لنا -في معظم الأحيان- الفهم المتعدّد بل المتناقض، ولهذا أسباب وحيثيّات يطول شرحها.
2- اعتقاد الاكتمال قبل الأوان سبب من الأسباب القويّة للغلوّ؛ حيث إنك تجد شبابًا يُصدِرون الفتاوى بغاية السهولة، وبالقليل القليل من الشعور بالمسؤوليّة في أمور توقّف فيها كثير من أهل العلم، وتنازع فيها أهل الاختصاص، وكل هذا بسبب الجهل، وبسبب الغرور وسوء الطريقة التي تثقّفوا بها.
3- اعتقاد كثير من الشباب بوجود مؤامرة ضخمة وصريحة وعامة، يشارك فيها الداخل والخارج –دفع دفعًا قويًا في اتجاه الغلوّ. ومن السهل تكفير حاكم ثبت أنه يضرّ بمصالح المسلمين عمدًا لصالح الكافر الأجنبيّ حبًا فيه وولاءً له، وهذا ما يعتقده كثير من الغُلاة، وهو يعبّر عن جهل عريض بطبائع الأشياء، وعن جهل عريض بطبيعة العمل السياسيّ وتعقيداته وموازناته.
4- الضغط الخارجيّ والهيمنة الأجنبيّة على بلاد المسلمين ومكتسباتهم وثرواتهم يجعل التوازن الفكريّ يختلّ لدى كثير من الناس –ولاسيما الشباب- فتجد الخانع التابع الخائف والباحث عن فرصة لإظهار ممالأته للأجنبيّ، وتجد الغالي الذي يريد تحرير العالم الإسلاميّ بأقصى سرعة وبكل وسيلة.
5- العُزلة وإنضاج الأفكار في الظلّ بعيدًا عن أجواء المناظرة والحوار والجهر بالدعوة، وإذا تأمّلنا في تاريخ الدعوات المنحرفة؛ فإننا نجد أن السواد الأعظم منها نشأ، وترعرع تحت الأرض بعيدًا عن الأنظار، وإنّ ضرْب حظرٍ على الأنشطة السياسيّة والاجتماعيّة في كثير من البلدان الإسلاميّة، يدفع كثيرًا من الشباب إلى الاعتقاد بأن الطريق الوحيد المتبقّي لتحقيق أهدافهم في نُصرة الإسلام هو سلوك طريق العنف والقتال.
ممارسة الأنشطة الدّعويّة والاجتماعيّة والسياسيّة تُبقي باب الأمل للإصلاح مفتوحًا؛ ولذا فإن المجتمعات المفتوحة تكون معاناتها من الغلوّ أقل من غيرها.(1/41)
6- المثاليّة والنظر إلى الأمور بعيدًا عن الواقع: إن كثيرًا من المُغالين لا يرون إلا جزءًا من الصورة، وهو تراجع مستوى حكام المسلمين عن المستوى الذي كان عليه حكام الأمة في صدر الإسلام، أو الذي كان عليه الصّفوة من حكام الأمة على مدار التاريخ الإسلاميّ. وهم لا ينظرون إلى التراجع الخطير الذي حدث على المستوى الشعبيّ العام. إنهم يريدون حُكْمًا راشديًا على شعوب بعيدة عن أخلاق الصحابة -رضوان الله عليهم- والتزامهم الصارم، ويذكّرني هذا بقوْل من قال لعلي -رضي الله عنه-: "إنك لا تسير فينا سيرة الشيخيْن: أبي بكر وعمر؟ . فقال: نعم. الشيخان كانا أميريْن على أمثالي، وأنا أمير على أمثالكم". وقال معاوية -رضي الله عنه- لابنه يزيد حين عيّنه وليًا للعهد: كيف ستسير في الناس بُعَيْدي؟ فقال: سأسير فيهم سيرة الشيخيْن: أبي بكر وعمر، فقال معاوية: حاولت فيهم سيرة عثمان فلم أستطع". حين تتجه السفينة نحو القاع فإن الماء يغمر كل أجزائها، وحين تراجع مستوى الالتزام في الأمة لم ينجُ منه إلا القليل، وفي بعض المجالات وليس في جميعها. إن كثيرًا ممن يحملون الفكر الغالي يملكون شعورًا مبالغًا فيه بالواجب، ويحمّلون أنفسهم تكاليف لم تحمّلهم إياها الشريعة الغرّاء؛ مما أدّى بهم إلى ركوب المركب الصعب، ثم أخذوا يحاولون جرّ غيرهم إلى ما صاروا إليه، ولو اقتضى ذلك تكفير المسلمين وحمل السلاح عليهم.
7- ثبت أن كثيرًا ممن تُمارَسُ القسوة في تربيتهم، تنشأ في نفوسهم أحقادٌ دفينة، وتميل طبيعتهم إلى القسوة، ويُظهرون قدرًا أقلَّ من التسامح مع المخالِفين، ومع الأفكار المباينة لأفكارهم.
8- استُخْدِم العنفُ الشديد ضدّ بعض الشباب، واستُخْدِمت أنواعٌ من التعذيب تمسّ الكرامة الإنسانيّة، وتؤكّد لهم أنه لا يُعقل أن يقوم بذلك أناس يخافون لقاء الله أو يؤمنون به. وهذا قدّم برهانًا قويًا للقائلين بالتكفير وبنظريّة المؤامرة.
9- لم يستطع كثير من الإعلاميّين، وكثير من المناوئين للشباب الذين يحملون أفكارًا غالية -أقول لم يستطع هؤلاء أن يظهروا بمظهر الخصْم الشريف؛ فألصقوا بهم أشياء لم يفعلوها، ونسبوا إليهم أقوالاً لم يقولوها، وبعضهم استغلّ موجة الهجوم على الغلوّ ليجعل من كلامه هجوماً على الإسلام، وهذا زاد في غلوّ الغالين، وأكّد لديهم صدق معتقداتهم في اتّهام الخصوم.
إننا هنا لا نسوّغ لأحد الغلوّ، ولا نقدّم عذراً للغالين، ولكن نحاول فهم جذور هذه الظاهرة ومنطلقاتها.وأعتقد أن فتح أبواب الحِوار سيساعد كثيراً في امتصاص هذه الظاهرة، وقد ثبت من تجربة بعض الحكومات العربيّة في هذا الشأن نجاعة التعامل باحترام وتقدير، وانفتاح وعقلانيّة ومصداقيّة مع حَمَلة الفكر الغالي. وهي تجربة قابلة للتّكرار. …
===============
#مملكة الروح
أرواحنا وليست عقولنا هي مكمن وجودنا، وهي البعد الأرحب والأعمق في شخصياتنا. في أرواحنا تجتمع الروعة مع الغموض، ومنهما معاً تتولد الحيرة، والعالم حائر في أمر الروح اليوم، وحائر في التعامل معها. وقد مسّ أمة الإسلام في أيامنا هذه شيء من هذا وذاك. ليست مهمة الإيمان مقصورة على رسم الفضاء النظري لمعتقداتنا ورؤانا، وإنما أيضًا منحنا التميز في عالم فقد الإيمان ودخل عالم الشك والضياع. إن الإيمان بالله -تعالى- يمنحنا ميزة فورية هي صعوبة سجننا داخل معطيات مادية محدودة. إنه يخرجنا فورًا من العالم المحدود والمحسوس إلى عالم من غير حدود.
وذلك العالم عالم الروح وعالم الغيب. في العالم المادي يشعر الإنسان دائمًا بالانكماش والضعف، ويجد نفسه محاصرًا بالضرورات ومهددًا بنفاد الطاقة. لكن في عالم الروح الأمر مختلف، كل شيء يتمدد، ويتسع، ويكبر؛ فيشعر المؤمن بمدد لم يحسب حسابه يغمر كيانه كله بالنور والحبور.
هدفنا الأعظم نحن المسلمين أن نفوز برضوان الله -تعالى-، وهذا الفوز يشكل مرجعية وأولوية بالنسبة إلينا، بمعنى أن الذي يدخل البهجة على نفوسنا، ويغمر أرواحنا بالسرور النقي يجب أن يظل دائمًا في إطار محبوبات الله -تبارك وتعالى-، كما أن كل أشكال الارتقاء المادي وكل المغانم والمكاسب التي نحاول الحصول عليها يجب أن تتم داخل ذلك الإطار.
وهذه نقطة مفاصلة بيننا وبين الأمم الأخرى. إن الأمم التي تقود الحضارة اليوم قد أسست منذ مدة لوضعية فيها الكثير من المجافاة للروح؛ حيث الأولوية لرفاهية الجسد، وحيث الحكم لمنتجات العقل ومعطيات الخبرة والممارسة. وليس في إمكان القوم على المدى القريب فعل أفضل من ذلك ما داموا فقدوا المفاهيم والرمزيات التي تجعل استمداد الرؤى من الوحي شيئًا معقولاً أو مقبولاً. إن الإيمان يجعلنا ننظر بجدية إلى أن كل التحسينات التي ندخلها على بيئاتنا وعلى أوضاعنا العامة لا تشكل غاية في حد ذاتها، وإنما هي وسيلة لمساعدتنا على تعميق صلتنا بالله -تعالى- وعلى النجاح في الابتلاء الذي كتب علينا في هذه الحياة.(1/42)
إن مما يدعو إلى الأسف أن هذا المعنى المحوري قد لحقه الكثير من الحيف في هذه الأيام؛ حيث تعمل العولمة على إغراق وعينا بجزئيات وفرعيات وتفصيلات لا نهاية لها. ومع أن الاهتمام بالتفاصيل يظل علامة على الارتقاء؛ إلا أن ذلك يجب أن يكون في إطار الأصول والمبادئ الكلية، وإلا تحول إلى عامل يطمس ملامح توجهنا العام، فنفقد الغاية العظمى، وتصبح حركتنا في الحياة أشبه بكوكب فقد مداره. الخلاصة أن مواصفات زماننا التي تزداد رسوخًا وتعميمًا لا تخدم عالم الروح، ولا تلائم متطلبات الإيمان، وهذا يعني أن على المسلم الذي يريد أن يحيا وفق مبادئه وعقيدته أن يعوّد نفسه السباحة ضد التيار، وأن يمتلك طاقة استثنائية على التحمل والممانعة، ولدينا العديد من الآثار التي تدل على ما يلاقيه المتمسك بدينه في زمان كزماننا من عنت ومشقة، كما ورد ما يدل على عظم الأجر وجزالة المكافأة التي أعدها الله -تعالى- له.
لا يخفى علينا أننا في عالم يقدّس القوة على حساب الرحمة، ويحتفي بالمادي على حساب المعنوي، وينخرط في العاجل على حساب الآجل، وينظر إلى الطيبة على أنها نوع من السذاجة، وينظر إلى الحديث عن الأخلاق على أنه شيء ينزع إلى المثالية، والمتحدث عنها يستحق شيئًا من الإشفاق!. وفي عالم كهذا تكون الأحاديث حول الرجاء والخوف والمحاسبة والمناجاة والشوق إلى الله -تعالى- وتذكر الصراط والميزان والكوثر وشقاء جهنم... شيئاً يدل على العيش خارج العصر وبعيدًا عن دوائر الاهتمام. وهذا بالضبط ما يجعل مملكة الروح تبدو موحشة ومهجورة!.
إن المسلم في هذه الحياة يحتاج إلى أمور كثيرة، لعله يأتي في مقدمتها أمران: رؤية راشد مسددة للواقع بفرصه وإمكاناته وتحدياته... وطاقة تساعده على قطع طريق طويل مملوء بالصعاب والعقبات.
التفكير والتأمل والتثقف والحوار... أمور تساعد على تكوين الرؤى الجيدة. ويبقى علينا أن نتعلم كيف نحصل على مفتاح منجم الطاقة والقدرة المطلوبة.
إن الإيمان بالله -تعالى- حين يتجاوز وضعية القناعة العقلية ليصبح مصدرًا للشعور بمعية الله -تعالى- والأنس به والتوكل عليه والاستعانة به والثقة بما عنده... فإنه يصبح آنذاك المولّد الأساسي لروح المقاومة وروح المبادرة وروح الاستمرار لدى الإنسان المسلم.
الإيمان حتى يكون كذلك فإنه يحتاج إلى شيء غير الفكر وغير الثقافة، إنه يحتاج إلى التعبد والتنفل والإكثار من ذكر الله -تعالى- ومناجاته... ولا ريب أن من يفعل هذا يكون في الأساس قد صار أداء الواجبات وترك المعاصي شيئًا مالوفًا في حياته وموضع التزام صارم.
في هذا الإطار يقدم لنا شهر رمضان المبارك الذي نتفيأ ظلاله هذه الأيام الفرصة الذهبية لاستعادة شيء من أمجاد الروح السليبة. إن الصيام في حد ذاته هو إعلان من المسلم بأنه قادر لمدة شهر كامل أن يفتح قوسًا في سلسلة أنشطة تستهدف خدمة الجسد، وذلك من أجل إنعاش الروح. إن عالم ما بعد الحداثة يدفع بالناس للعيش في وسط مائع خال من القيود وغير محدود بحدود. ويأتي الصوم بحرفية توقيته من الفجر إلى المغرب ليمنح المسلم فرصة التأكيد على أن التدين الصحيح يوفر للمسلم ترياق المناعة ضد موجات التحديث التي تستهدف تفكيك المنظومة الفكرية والخلقية التي تساعدنا على أن نظل بشرًا أسوياء.
إن الاعتكاف قد بات بين السنن التي هجرها كثير من المسلمين مع أنه يوفر فرصة عظيمة لالتقاط الأنفاس اللاهثة خلف مكاسب مؤقتة، كما يوفر فرصة نادرة لإرواء أرواحنا الظامئة وتحريك عواطفنا الجامدة.
إن في إمكاننا أن نتخذ من رمضان مناسبة لمراجعة أحداث عام كامل ومن خلال تلك المراجعة فقد نتمكن من العودة إلى مملكة الروح ومغادرة عالم الوهم والسراب؛ فهل نحن فاعلون؟
=============
#على المدى البعيد
كنت قد تحدثت في مقالين سابقين عما يجب عمله في كل الأحوال والظروف إيماناً مني بأن هناك شيئاً ما يمكن القيام به من أجل نجاح العبد وفلاحه في أمور دنياه وآخرته. وأود في هذا المقال وما يليه من مقالات أن أتحدث عن نوعية الوسط أو البيئة التي يجب العمل على المدى الطويل من أجل بنائها؛ كي يتوفر للإنسان المسلم الجو الملائم لأفضل عطاء وأفضل إنجاز ممكن. والحقيقة أن أية أمة لا تستطيع استنفار طاقاتها والسيطرة على أوقاتها على وجه مقبول من غير رؤية (استراتيجية) لماهية البيئة التي يجب أن تحيا فيها أجيالها القادمة. ونحن بوصفنا أمة مسلمة لها منهجيتها ورؤيتها وتطلعاتها الخاصة، نعتقد على نحو جازم أن كل أشكال التنمية وكل أشكال التغيير والتطوير يجب أن تستهدف شيئاً واحداً هو توفير بيئة تساعد الإنسان المسلم على القيام بأمر الله -تعالى- على أفضل وجه ممكن، وهذه الرؤية نهائية وواضحة، وهي مستمدة من مجموعة العقائد والمفاهيم الكبرى التي نحملها، وهي رؤية متفردة، ليست لأي أمة من أمم الأرض اليوم، وهي إحدى سنن الله علينا.(1/43)
إذا كان من غير الممكن -في عالم الأسباب- توقع حصول مستقبل مغاير مغايرة كبيرة للواقع؛ فإن علنا - إذا ما أردنا تكوين البيئة التي نريد - أن نحسَّن ونرشَّد القرارات اليومية التي نتخذها في كل صعيد وعلى المستويات كافة؛ إذ إن تشييد البنيات الثقافية والأخلاقية والاجتماعية يحتاج إلى أزمنة متطاولة وهو لا يتم على النحو الصحيح إلا من خلال العمل الحكيم والجذري والمتدرج.
البيئة تعني مجموعة المفاهيم والأخلاقيات والتقاليد والظروف والمعطيات والنظم المتوفرة والسائدة في بلد من البلدان .
وإن البيئة ذات دوائر متسعة منفتحة، والدائرة الأضيق بالنسبة إلى كل واحد منا هي الأكثر تأثيراً في حياته؛ فالأم هي أكثر من يؤثر في الطفل ثم الأسرة عامة، ثم الأقرباء وأهل الحي وهكذا...
والبيئة من وجه آخر أشبه بحبل غليظ مكوَّن من ألوف الخيوط والشعيرات الدقيقة، وكل عدد من تلك الخيوط والشعيرات ينتمي إلى مجال من المجالات الروحية والمعنوية والمادية. وقد دخل في نسيج ذلك الحبل في مرحلة من مراحل تكوّن ثقافة الأمة والأوضاع العامة التي تحيا فيها. وهناك تقريب للفكرة وإشارة إلى بعض تلك الخيوط والشعيرات في عدد من الأحاديث النبوية، منها قوله صلى الله عليه وسلم: "كل سُلامى من الناس عليه صدقة، كل يوم تطلع في الشمس تعدل بين الاثنين صدقة، و تعين الرجل في دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة"، وقوله : " الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة، فأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان" وقوله: "كل معروف صدقة".
إن قول الله - جل وعلا -: (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره * ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره) يدل على رؤية الناس لجزاء أعمالهم في الآخرة، ويمكن أن نهتدي به في القول: إن ما يفعله الناس من خير وصلاح ومعروف وتنمية جيدة - إن كل ذلك يرونه في نوعية الأوضاع والظروف العامة التي يعيشون فيها، والتي ستعيش فيها ذراريهم من بعدهم؛ كما أنهم جميعاً سيرون آثار ما يصدر عنهم من شرور وآثام وأخطاء وخطايا على شكل صعوبات ومشكلات ومعوقات في وجه الحياة الطيبة التي يسعون إليها.
وإني أعترف هنا -وقبل كل شيء- أنني لا أملك الإمكانية الذهنية ولا المعرفة الكافية لرسم ملامح خطة شاملة وبعيدة المدى تستهدف توفير بيئة تساعد الفرد المسلم والدولة المسلمة على النهوض بأعباء الاستخلاف في الأرض، لكني سأبذل جهدي في وضع بعض النقاط على بعض الحروف الكبيرة، ومن الله - تعالى- الحول والطول.
1- قلما وجّه الدعاة والمصلحون لدينا اهتمامهم إلى نوعية البيئة التي يحتاج إليها المسلم كي يحيا زمانه بفاعلية ودرجة من الراحة في إطار العقيدة والقيم والآداب التي يؤمن بها، فقد كان الاهتمام - وما زال- بما يجب قوله أو بشروط الداعية الناجح دون النظر إلى الشروط التي تجعل المدعوين أقرب إلى التفاعل والاستجابة مع أن تأثير الظروف والمعطيات السائدة في توفير خيارات الحركة، وفي حفز الناس على تحديد اتجاهاتهم ومواقفهم تأثير هائل، وأكبر بكثير مما نظن.
إن الفرق بين البيئة المعاكسة والبيئة المواتية للاستقامة والرشاد والعطاء كالفرق بين من يسبح عكس التيار، ومن يسبح مع التيار؛ حين نطلب من شاب أن يبدع ويصبح باحثاً متميزاً في فرع من فروع العلم، ونجد أنه يعيش مع خمسة من إخوته في حجرة واحدة، وليس معه ثمن مرجع يشتريه، ولا تكاليف تجربه يجريها، كما أنه ليس في البلد الذي يقيم فيه مكتبة عامة ولا مركز تدريب ولا جمعية خيرية تمد يد العون في شيء.. حين نطلب ذلك؛ فإن الاستجابة ستكون في منتهى الصعوبة، وستكون في معظم الأحيان هزيلة، وسيكون المستجيبون من الشباب للتحفيز على البحث والإبداع قلة قليلة، أما الباقون فإنهم سيرضخون للظروف وسيرضون بأقل القليل من الإنجاز. وهذا ما هو حاصل فعلاً الآن في كل أنحاء العالم، وفي كل مجالات الحياة. البيئات المحطَّمة والهشة والجاهلة تحطم قوى من يعيش فيها، وتحطم تطلعاته وطموحاته، وتجعل آفاقه محدودة. ولهذه القاعدة شذوذات ملموسة ، لكن الذي يمنح الحياة ملامحها ليست الأمور الشاذة والنادرة وإنما الأمور الغالبة والكثيرة.
إن بلداً صغيراً مثل هولندا أو بلجيكا يسجل من براءات الاختراع ما يعادل نصف ما يسجله العالم الإسلامي بطوله وعرضه!، وإن براءات الاختراع التي تسجل في (إسرائيل) سنوياً يزيد على ما يسجل في الوطن العربي ذي الثلاثمائة مليون!!، وإن ما تنشره جامعة (هارفارد) من بحوث سنوياً يعادل ما تنشره كل الجامعات العربية مجتمعة!!.(1/44)
2- إذا تأملنا في ردود أفعال الأمة على جملة الانحرافات التي كانت تحدث فيها لوجدنا أننا على مدار التاريخ – مع استثناءات مقدَّرة – كنا نعالج مشكلاتنا بوسيلتين؛ هما: سنّ المزيد من النظم والقوانين التي تقيّد حركة الناس وتحدّ من اندفاعاتهم، وقد عبّر عن هذا عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- حين قال: " يحدث للناس من الأقضية على مقدار ما يُحدثون من الفجور" أي يحدث نوع من التشديد في الأقضية والجزاءات على مقدار ما يصدر منهم من تصاعد في الانحراف.
والوسيلة الثانية هي: (القوة) بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى، وقد أشار إلى ذلك عثمان – رضي الله عنه – حين أطلق مقولته الشهيرة: "إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن"، ولو أن أبا بكر – رضي الله عنه– قال ذلك لما قُبل منه ولما كان دقيقاً؛ لأن الردع في زمانه كان بالقرآن (وهو ما نعبر عنه اليوم بالثقافة) أكثر من الردع بالسلطان (وهو ما نعبر عنه القوة)، ومع اضمحلال دور الثقافة والوازع الداخلي كان اللجوء إلى استخدام الشدة في إدارة الحياة العامة يتعاظم وينتشر، وقد نقل ابن حجر في فتح الباري عن الشعبي قوله: " كان عمر فمن بعده إذا أخذوا العاصي أقاموه للناس ونزعوا عمامته، فلما كان زياد ضرب في الجنايات بالسياط، ثم زاد مصعب بن الزبير حلق اللحية، فلما كان بشر بن مروان سمر كفَّ الجاني بمسمار، فلما قدم الحجاج قال: هذا كله لعب فقتل بالسيف".
النتيجة النهائية لهذه وتلك هي إخراج المسلم الخائف والخانع والسلبي والإمعة وإخراج المجتمع الذي يُظهر ضروباً من الامتثال للنظم السارية في الوقت الذي يضمر فيها روح التمرد والتبرم، كما يضمر الكثير من السلوكات والأعمال السيئة. ومع إيماننا بأنه لا يمكن لمجتمع أن يعيش من غير نظم وقوانين توجه الحركة الاجتماعية وتشكل المرجعية الأخلاقية والتنظيمية للناس، ومع إيماننا بأن الدولة مهما كانت عادلة وفاضلة وناجحة لا تستغني عن استخدام شيء من السلطة والقوة؛ إلا أن علينا أن ندرك أن هذا الأسلوب في معالجة الأخطاء ليس هو الأسلوب الصحيح من وجهة النظر الإسلامية، ولا هو بالأسلوب العملي والمنتج والملائم لبلوغ الأهداف التي نسعى إليها.
على المدى البعيد لابد من العمل على توسيع مجال عمل (الثقافة) في تحديد مسارات المجتمع وفي كبحه عن الانحراف والرذيلة . فجوهر الإيمان والإسلام لا يقوم على الإكراه ولا على الامتثال للضغط الخارجي، وإنما يقوم على الاختيار والمبادرة الشخصية والشعور بالمسؤولية. والدولة الفاضلة هي التي تدير شؤون مجتمعها بأقل قدر من القوانين ومن أدوات القهر والإكراه، والفضيلة لا تكون لذلك إلا بتعشق الناس لها واستعدادهم للتضحية من أجلها.
إن كثرة السجون وتصاعد الرقابة الصارمة، وسن المزيد من القوانين؛ هو دليل على قصور التنشئة الاجتماعية، كما أنه دليل على ضعف الإيمان وأدبيات التدين السائد في تشكيل مواقف الناس وسلوكاتهم، ودليل على ضعف جاذبية الدولة في كسب ولاء الناس وتجاوبهم. وقد آن الأوان للتفكير العميق والعمل الجاد من أجل تشكيل بيئة يمتنع فيها الناس عن الانحراف والفساد بدافع من إيمانهم وخوفهم من الله –تعالى- وليس بدافع من خوف الدولة أو كلام الناس. ومداخل مثل هذا الاتجاه واضحة لدى أهل البصيرة والخبرة.
فإن وضع الأمة في بيئة تساعدها على تحسين إنتاجيتها وتحرير طاقاتها واكتشاف إمكاناتها الحضارية الكامنة؛ يتطلب أن نعطي لمسائل الأمن والاستقرار والسلام والوئام الاجتماعي جلَّ اهتمامنا وعنايتنا.
حين يضطرب حبل الأمن فإن الفرصة تصبح متاحة لظهور كل أشكال التوحش والهمجية التي اختفت تحت قشرة رقيقة من طلاء الحضارة. وقد دلت شواهد التاريخ ومعطيات الواقع أن أشد الحاجات إلحاحاً تتمثل في اهتداء الناس إلى طريقة ناجعة لإدارة العنف والتوتر الذي ينشأ نتيجة تصادم رغباتهم ومصالحهم؛ حيث إن اجتماع الناس بعضهم مع بعض على مقدار ما يوفر من المباهج والمسرات والمشاعر الحميمة يوفر إمكانات التناحر والتحارب.
حاجة الناس إلى أن يتعايشوا في إطار نظم وقوانين توضح مبادئ حقوقهم وواجباتهم حاجة ماسَّة؛ لكن هذه الحاجة لا يمكن تلبيتها في أجواء الحرب الأهلية والتطاحن الاجتماعي.
إن القانون السائد مهما كان غير عادل وغير مكتمل فإنه يظل خيراً من الوضعيات التي لا يحكم فيها أي قانون حيث يتحول المجتمع إلى غابة ليس فيها إلا مفترِس ومفترَس وظالم ومظلوم!.
ليست إدارة العنف داخل المجتمعات بالأمر السلس واليسير، فهذه القضية دوَّخت العالم من أدناه إلى أقصاه، والتقدم الذي تحقق على صعيدها نسبي وغير مرضٍ في معظم الحالات، ولعلي أقف مع هذه المسألة الوقفات التالية:(1/45)
1- هناك تشوق إنساني عميق إلى ما يمكن أن نسميه (تحقيق الذات) حيث يتطلع الإنسان إلى أن يؤكد لنفسه وللآخرين قدرته على القيادة والتأثير واستحقاقه للريادة والتسامي نحو المعالي. وهو في سبيل ذلك مستعد للتضحية والبذل كما أنه مستعد عند الحاجة لتجاوز كل المبادئ والقيم؛ بل ارتكاب الجرائم إذا اقتضت الضرورة ذلك!. الأنشطة الروحية والأدبية والتطوعية والاجتماعية تساعد المرء على تحقيق ذاته والكشف عن إمكاناته؛ فهذا يحقق ما يتطلع إليه عن طريق تأسيس رابطة، وذاك يحققه عن طريق رئاسة جمعية، وثالث يحققه عن طريق الانخراط في حركة لحماية البيئة وهكذا..، لكن بما أن كل جماعي يؤسس لسلطة جديدة، ويثير حساسية معينة لدى بعض الجهات؛ فإن هناك رغبة قوية في ابتعاد الناس عن كل الأنشطة الجماعية والحرة مهما كانت نبيلة الأهداف وعظيمة الفوائد والنتائج. ومن هنا فإن انسداد الآفاق أمام الأنشطة المشار إليها أو تضييقها وانحسارها إلى حد كبير؛ دفع بالناس إلى أن يجعلوا تحقيق ذواتهم يتم عن طريق جمع الأموال والثروات واقتناص الوجاهة وإظهار السيطرة عن طريق التفنن في إنفاقها واستخدامها. وبما أن المعروض من (المال) هو دائماً أقل من المطلوب – حيث لا يملأ فم ابن آدم إلا التراب- فإن منافسة ضارية قد اشتعلت في كل مكان من ديار المسلمين وعلى كل المستويات، وعلى مدار التاريخ كانت المنافسة متصلة بانحطاط المدنية وسوء الأخلاق، حيث يدفع الحرص على جمع المزيد من المال نحو الكذب والغش والخداع والرشوة والتضحية بالكرامة وارتهان الذات.. وقد صرتَ تلتقي بأشخاص كثيرين لا ترى فيهم أبداً ما يدل على أنهم يرجون الله والدار الآخرة، أو يقيمون أي اعتبار لمبادئ الإسلام وقيمه! وفقدت الحياة بذلك أجمل معانيها!. إن إطلاق الأنشطة الروحية والأدبية والتطوعية المختلفة والتحفيز عليها وتيسير سبلها، يخفف إلى حد كبير من الطلب على المال، ويخفف بالتالي من حدة التعانف الأهلي والتوتر الاجتماعي.
وأعتقد أن علينا أن نبتكر في إيجاد الأطر والأوعية والنظم التي تتيح للناس الشعور بتحقيق الذات وإشباع التطلعات على نحو لا يتصل بالمال أو أي اعتبار آخر.
2- لن يتحقق السلام في مجتمعاتنا ولا الأمن ولا الاستقرار ولا الشعور بالانتماء للوطن ما لم يسد العدل وتكافؤ الفرص ونفاذ القوانين عل الناس دون استثناء ودون اعتبار خصوصية لأي كان. والحقيقة أن الإسلام عانى طويلاً مع العرب ومع كل المجتمعات التي تقوم فيها الروابط على أساس العرف والنسب؛ وكان الهمُّ المسيطر خلال تاريخنا الطويل – على المستوى السياسي والقانوني- هو نقل المجتمعات الإسلامية من مرحلة القبيلة إلى مرحلة الدولة، أي من مرحلة الولاءات والتكتلات وتبادل المنافع على أساس الولادة ومعطيات التاريخ إلى مرحلة الخضوع للأحكام الشرعية والقوانين والنظم السارية. ويجب أن نعترف أنه لم تسجل اختراقات ذات شأن على هذا الصعيد. وعلى نحو عام فإن النجاحات كانت محدودة جداً وهذا الإخفاق في الانتقال من مرحلة الدولة كان السبب الجوهري وراء كثير من الفتن والثورات التي كانت تجتاح الأمة في العديد من فتراتها التاريخية. وهو نفسه السبب الكامن خلف سلبية الإنسان المسلم عامة والعربي خاصة تجاه المخاطر المحدقة التي تتعرض لها بعض الأوطان الإسلامية إلى درجة أن يقوم الناس ويحتجوا في الغرب ضد ممارسة حكوماتهم تجاهنا، ونحن سادرون غافلون ومنهمكون في همومنا الشخصية، وكأن الأمر لا يعنينا من قريب أو بعيد!!.
حين سرقت امرأة من بني مخزوم – فخذٌ من أنبل أفخاذ قريش- أهمّ ذلك قريشاً: كيف تُقطع يدُ مخزومية ؟! وقالوا: من يكلَّم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلا أسامة بن زيد حبُّ رسول الله؟ فكلّمه أسامة في ذلك، فقال الرسول: " أتشفع في حد من حدود الله ؟! ثم قام – عليه الصلاة والسلام – خطيباً في الناس ليعلن لهم مبدأ من أهم المبادئ التي تقوم عليها الأمم والحضارات العظيمة حيث قال: " إنما أهلك من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد!. وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها".(1/46)
ربما نكون قد قدَّمنا نموذجاً واحداً ثابتاً وشاملاً في مسألة تكافؤ الفرص وإشاعة العدل والتعامل على أساس الكفاءة الشخصية وليس على أي أساس آخر؛ ذلك النموذج هو ما يتم في تشكيل المنتخبات الوطنية التي تمثل بلاد المسلمين في الألعاب الرياضية الدولية. هنا يتم تحري الأكفأ والأليق دون حساسيات ودون حسابات خاصة ودون اعتبار لمنافع جانبية؛ في الأعم الأغلب. وأنت تلاحظ ما يثيره هذا السلوك الجيد من حمية الناس وحماستهم وتعاطفهم حيث ينقلب الشخص غير المكترث بذهاب وطن إلى إنسان مشتعل حماساً إلى درجة لا تُصدَّق بسبب دخول كرة فريقه الوطني في شباك مرمى المنافس!، وإني لا أشك أن الناس سوف يتفاعلون ويبذلون ويهبّون تجاه كل المسائل الكبرى إذا شعروا أن الأمور تجري فيها على ما ينبغي، ووجدوا الإطار الذي يعبرون من خلاله عن ذلك؛ فالخير متأصل في النفوس والولاء لأمة الإسلام وللمجتمع الإسلامي ضارب أطنابه في أعماق شخصية المسلم.
الوطنية في جوهرها شعور بشرف الانتماء لبقعة من الأرض تحكمها نظم وقوانين واحدة، ويجمع الناس الذين يعيشون عليها الالتزام بمبادئ وقيم موحدة، والسعي إلى أهداف متقاربة ولا معنى للانتماء إلى أرض لا تتوفر فيها هذه المعاني. وقد قال أحدهم : لماذا أدافع عن وطن لم يؤمّني من خوف، ولم يُطعمني من جوع، ولم يساعدني على ارتجاع حقي المغتصب؟!.
3- يتطلب استتباب الأمن والشعور بالسلام والاستقرار إحساس الناس بأن لهم نوعاً من المشاركة في إدارة الشأن العام. أما في الأمور اللصيقة بهم؛ فلا يُتخذ قرار دون موافقة أغلبيتهم عليه. وإن قول ا لله – جل وعلا- ( وأمرهم شورى بينهم) يوضح أن بعد الشورى ليس سياسياً فحسب؛ وإنما لها أبعاد أخرى: أخلاقية وتربوية واجتماعية.
على المستوى السياسي من المهم جداً أن يعرف الناس أنهم من خلال الشورى يستطيعون تحقيق ولايتهم على أنفسهم ، ويستطيعون أن يثقوا أنهم إذا ابتلوا بحكومة سيئة، فإنهم قادرون على التخلص منها من غير إراقة دماء أو تخريب للمرافق والممتلكات العامة؛ فالسلم الاجتماعي لا يأتي من خلال الدعوة إليه، وإنما من خلال فتح طرق للتغيير والتطوير والتحسين، تبتعد عن التآمر والقتل والتخريب. إننا أحياناً نمتنع عن استشارة الناس خوفاً من أن يأتوا بعناصر سيئة تسيء للدين والمصلحة العامة، وهذا الخوف مقدَّر ومعتبر وقد يحدث هذا فعلاً في بعض الأحيان ولاسيما في البدايات أو عند فساد التربية، لكن هذا لا يشكل القاعدة، فالولاء للدين وللصلاح والكفاءة قوي جداً في الأمة؛ وفي الإمكان وضع ضوابط تحد من مخاطر هذا الأمر. وعلى كل حال فلن نستطيع أبداً العثور على صيغة في إدارة العنف وتسيير الشأن العام، تخلو من السلبيات أو الأخطاء. ولا بد في سبيل أن تنال بعض الأشياء من أن تخسر أشياء أخرى. هذا هو حال الإنسان الذي يجد نفسه أبداً عاجزاً عن الصدور عن رؤى كلية وبناء تنظيمات وترتيبات كاملة.
إننا في حاجة ماسَّة حتى ننهض ونتخلص من أشكال العنف إلى أن نجعل الشورى تقليداً محترماً في بيوتنا ومدارسنا ودوائرنا ومؤسساتنا وكل مناشط حياتنا؛ فالقضايا الكبرى تظل قضايا خاسرة ما لم تتصد الأمة لحملها والمساهمة في إنجاحها. وكل حمل يتم خارج رحم الأمة هو أشبه بالحمل الكاذب. لكن الأمة غير مستعدة للتضحية ما لم تشعر أنها تشارك في صنع القرار، وأنها ليست عبارة عن أدوات للتنفيذ فقط. وعلى علمائنا ومفكرينا وخبراء التشريع والقانون فينا أن يبدعوا في إيجاد صيغ تنظيمية تجعل الشورى أسلوب حياة، كما تجعل منها أداة للإصلاح والارتقاء في إطار الأصول والثوابت التي نؤمن بها.
4- إنني أتساءل دائماً: هل يمكن للأمن والنظام والسلام والاستقرار والتعايش السلمي أن يتم في أي مجتمع من المجتمعات دون وجود تنظيم جيد للنقد والمعارضة وتضارب الرؤى والآراء والاتجاهات؟
ليس من المقبول في اعتبار العقل والشرع أن يقول من شاء ما شاء دون خوف المساءلة القضائية عن صحة ما يقول، ولا أن يفعل الناس ما يعنّ لهم ولو كان ضاراً بالمصلحة العامة. كما أنه ليس من المقبول أن تكمم الأفواه، فلا يتمكن أي أحد من إبداء وجهة نظره في شأن عام، مهما كان رأيه سديداً ورشيداً، فالقرآن الكريم شجّع الناس على ممارسة النقد من خلال معاتبة النبي – صلى الله عليه وسلم- على بعض اجتهاداته ومعاتبة الصحابة – رضوان الله عليهم- على بعض ما وقع منهم؛ حيث يُعد التستر على الأخطاء أكبر مشجع على تكرارها واستمرارها، وحيث يُعدّ النقد والبحث عن أشكال القصور وأنواع الأخطاء والخطايا من أفضل الوسائل المساعدة على الإصلاح وتخليص الناس من كثير من المشكلات والأزمات ومحاصرة المفاسد والشرور.(1/47)
إن تراثنا الفقهي لم يستوف التنظير والتعقيد لضوابط النقد والمعارضة وتضارب الآراء على نحو يغنينا عن النظر والاجتهاد، بل إن كثيراً من التفاصيل والحيثيات ما زالت غامضة، وأعتقد أن كثيراً من الاضطرابات الهوجاء والأزمات الخانقة التي مرت بها الأمة كان بسبب التطرف في التعامل مع هذه المسألة؛ فالحريصون على بقاء كل شيء على ما هو عليه مهما كان غير ملائم وغير صحيح ضيقوا أبواب النقد إلى حد إسكات الناس عن قول أي شيء. والذين كانوا يشكون من سوء الأحوال كانوا يريدون قلب كل شيء رأساً على عقب بعيداً عن الرفق والتدرج والمجادلة بالتي هي أحسن. وقد آن الأوان لأن تتلاحم الصفوف، وتتشابك الأيدي بين الجميع ومن كل المستويات والمجالات من أجل العمل الدؤوب على إرساء التقاليد وسنّ القوانين وتشييد المؤسسات وإبداع الأفكار التي تنشر الأمن والسلام وحب النظام والالتزام بالأحكام الشرعية والأعراف الصالحة والقوانين السارية، وتساعد في الوقت نفسه على نبذ التعانف والتقاتل واللجوء إلى القوة بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى.
فإن لدى كثير من أهل الخير حساسية خاصة نحو الحديث عن الاقتصاد والتنمية والزيادة السكانية والبطالة؛ فهم يشعرون أن الاهتمام بهذه الأمور لا يخلو من نزوع نحو الدنيوية والمادية، وإعطاء الاعتبارات المعيشية أكثر مما تستحق من العناية والانتباه. وفي تصوري أن هذه الحساسية لم تعد سائغة اليوم، فأنا مع اعتقادي بضرورة توخي الحذر من الوقوع في شرك الحسابات والاعتبارات المادية البحتة بعيداً عن المبادئ والأهداف الإسلامية إلا أنني أعتقد أن من شأن التقدم الحضاري أن يضعف إرادة المقاومة لدى الناس تجاه المغريات، ومن ثم فإنهم يُظهرون المزيد من الاستجابة لضغوط البيئة ومتطلبات العيش، وكثيراً ما يكون ذلك على حساب مبادئهم وقيمهم؛ مما يعني أن تحسين شروط العيش إلى حدود مقبولة، سيساعد الناس على أن يحققوا مصالحهم في إطار مبادئهم وأخلاقياتهم؛ والعكس صحيح.
إن كثيراً من سقم التفكير وتخلف الخطط والمناهج الإصلاحية يأتي من خلال الانغلاق وصرف الاهتمام عن التطورات المتسارعة فيما يتعلق بحاجات الناس وضرورات وجودهم، ومن خلال عدم الاكتراث بالتحولات في ذائقتهم الثقافية ونظرتهم إلى الضغوط والمرفهات والحقوق والواجبات، وإن مفتاح فهم كل ذلك يكمن في شيء واحد هو الانفتاح على الواقع والتأمل في تداعياته وإحالاته واتجاهاته؛ إذ ما فتئ فهم الواقع واستكشافه بإيجابية مصدراً لتطوير الذهنية وتوجيه المعرفة ومصدراً لإعادة ترتيب الأولويات.
لا بد من هذه اللحظة وعلى المدى البعيد من العمل على إيجاد تنمية اقتصادية تكافئ الزيادة السكانية في العالم الإسلامي. ومن المهم أن ندرك أن كل الأمم التي اعتمدت في معيشتها على الزراعة والرعي خلال القرنين الماضيين تواجه مشكلات اقتصادية متفاقمة؛ فالناس يزيدون، لكن الأرض لا تزيد، فهي مع كل جيل تشهد نقلة في التفتت والتضاؤل؛ وعلى سبيل المثال فإذا قلنا: إن زيداً من الناس يملك مئة فدان من الأرض، وله خمسة من الولد، فإنه بعد وفاته ستقسّم ليكون لكل واحد عشرون فداناً. فإذا توفي أولئك الخمسة، وترك كل واحد منهم أيضاً خمسة (فيكون المجموع خمسة وعشرين ولداً) فإن نصيب الواحد منهم سيكون أربعة أفدنة. فإذا قلنا إن أولئك الخمسة والعشرين من الأحفاد توفوا، وترك كل واحد منهم أيضاً خمسة من الولد، فإن عددهم سيكون مئة وخمسة وعشرين، وسيكون نصيب الواحد منهم من تلك الأرض 80% من الفدان. وعليه أن يأكل من هذا القدر الضئيل وأن يبيع على نحو يمكنه من شراء كل حاجاته المتسعة ودفع تكاليف تعليم أبنائه وتطبيبهم وكسوتهم، حيث إن العولمة تدفع الحكومات نحو التخلص من كل الخدمات المجانية التي تقدمها؛ ليواجه كل واحد مصيره على نحو منفرد!.
وهكذا فعبر قرن من الزمان تنخفض حصة الشخص من الأرض إلى أقل من 1%! وليس هذا من صنع الخيال، بل هو الواقع المشهور والملموس وليس الذين يعملون في الرعي بأحسن حالاً؛ فالأرضي المخصصة للرعي هي الأخرى تتفتت وتزدحم فيها الماشية، ويزحف عليها العمران، ويقل عطاؤها بسبب تراجع كمية الأمطار في معظم أنحاء الوطن العربي.
إن نسبة الزيادة السكانية في العالم الإسلامي بشكل عام مرتفعة إذا ما قسناها بما لدى الدول الأخرى، فعلى سبيل المثال يزيد السكان في الدول العربية سنوياً بنسبة 3% في الحد الأوسط على حين أن الزيادة في بريطانيا تبلغ 1.% وفي فرنسا 6.% . أما بلد مثل روسيا؛ فإنه يعاني من نقص في السكان يصل إلى نحو مليون إنسان في السنة، وينقص عدد سكان ألمانيا نحواً من مئة ألف شخص في السنة. وحتى نعرف حجم الزيادة السكانية، وتطورها السريع؛ فإن من المفيد أن نعلم أن إجمالي سكان الوطن العربي كان عام 1400هـ نحو من 160 مليون نسمة. ويتوقع أن يكون وصل عام 1420هـ إلى 300 مليون نسمة، وإن بلداً مثل الجزائر يتضاعف سكانه كل 25 سنة، ومن المتوقع أن يرتفع إلى 285 مليون نسمة خلال قرن!.(1/48)
ويجب أن نأخذ بعين الاعتبار أن الشعوب الإسلامية شعوب فتيّة، حيث إن حوالي نصف السكان هم من الأطفال والأشبال دون سن الخامسة عشرة. وهذا يعني أن لدينا أعداداً هائلة تحتاج إلى تربية وتعليم واستيعاب نفسي واجتماعي، ثم إلى فرص عمل وخدمات عامة كثيرة.
ليست الزيادة السكانية في حد ذاتها مشكلة .. على العكس إنها ميزة؛ حيث لا يمكن اليوم لدولة أن تصبح دولة عظمى إذا لم يصل سكانها إلى الخمسين مليوناً على الأقل . لكن علينا أن ندرك من وجه آخر أن الازدحام على موارد محدودة وعدم القدرة على تأمين الحد الأدنى من الحاجات الضرورية، وتأمين تعليم وتدريب جيدين؛ سيجعل من هذه الأعداد الغفيرة من الفتيان والشباب أشبه بجيش جرار لم يتلقَّ من التدريب ولم يجد من التنظيم ولا من التسليح ما يكفيه؛ إنه في هذه الحالة يصبح هدفاً سهلاً للعدو، إنه يصبح أرقاماً غير ذات معنى، وبعض العنصريين من الغربيين يقولون باستخفاف: إن في العالم خمسة مليارات من البشر، منهم مليار – أي أبناء العالم الصناعي- مواطنون والباقون سكان.
في حديث القصعة وصف واضح للكثرة العددية الفاقدة للكيف والمضمون. فقد قال صلى الله عليه وسلم: "يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. قالوا: أو من قلة نحن يومئذٍ يا رسول الله؟! قال: لا. أنتم يومئذٍ كثيرون ولكنكم غثاء كغثاء السيل...".
إذاً مشكلة المسلمين في آخر الزمان ليست مشكلة (كم) ولكن مشكلة (كيف) و (نوعية).
عدم وجود تنمية جيدة في معظم أنحاء العالم الإسلامي دفع بأبنائنا وإخواننا إلى الهجرة إلى الغرب، حيث يشتغل معظمهم في مهن وضيعة يترفع الأوروبي عن العمل فيها. وهناك يضيع نصف الجيل الثاني ومعظم الجيل الثالث، حيث الانسلاخ شبه الكامل عن العقيدة والهوية. وعيش أبنائهم في الغرب على هامش المجتمع، دفع بهم إلى الجريمة والرذيلة وإدمان المخدرات، فصاروا يشكلون نسبة مخيفة من نزلاء السجون هناك!
وتوجُّه فرنسا إلى منع الحجاب يشكّل نوعاً من التعبير القانوني عن الضيق من جاليات باتت تشكل عبئاً على المجتمع، وهي بادرة خطيرة، وربما تحدو دول غربية أخرى حذوها، ويصبح الملتزمون من المسلمين في الغرب في وضعية أشبه بوضعية من وجد نفسه بين المطرقة والسندان.
ومن واجبنا جميعاً أن نحول دون ذلك بكل وسيلة ممكنة.
لا أريد أن أتحدث أكثر من هذا عن الحاجة إلى تنمية اقتصادية تعتمد على أسس ومنطلقات جديدة، وإنما أحب أن أركّز على نقطتين هنا:
الأولى: حتى يتحسن وضع فرص العمل، وحتى تفتح حقول جديدة لكسب الرزق، فإنه لا بد من الارتقاء بالتعليم وتشجيع الناس على أن يتخذوا من التدريب المنهجي مدخلاً لاكتساب المهارات وتنمية الشخصية.
إن التعليم في معظم أنحاء العالم الإسلامي يعد بالمعايير العالمية قاصراً عن الوفاء بحاجات العصر؛ فالفصول مكدسّة بالطلاب، وأسلوب التدريس مبني على أن يقوم المدرس بكل شيء، ويظل الطالب في موقع المتفرج وليس المشارك والمتفاعل. والتجهيزات المدرسية معدومة أو عند حدها الأدنى. والأهم من هذا وذاك فقد المدرسين والطلاب للحماسة المطلوبة لنجاح العمل التعليمي . ولا يختلف التعليم الجامعي في هذا كثيراً عن التعليم الأساسي، مع استثناءات قليلة.
ولا شك أن هناك الكثير من الاقتراحات والحلول المطروحة للنهوض بالتعليم، لكن ستظل الأمور تزداد سوءًا ما لم تحدث تحولات جذرية في أوضاع المدارس وفي العلاقة بين البيت والمدرسة. وقد آن الأوان ليساهم الآباء في تأمين تعليم جيد لأبنائهم من خلال تشكيل عدد كبير من مجالس التعليم في الأحياء والقرى، ويكون لها صلاحيات واسعة جداً في بحث أوضاع المدارس وتوجيهها ومحاولة النهوض بها، ولا بد من الآن فصاعداً من أن يخصص كل واحد منا جزءاً من ميزانيته الخاصة لمؤازرة المدارس في القيام برسالتها من خلال التوسع في مبانيها وتدعيم مختبراتها وتجهيزاتها المختلفة.
التعليم الجيد وحده هو الذي يوجد في نفس الطالب الولاء لمدرسته ومن خلالها لوطنه وأمته. والتعليم السيئ يجعل الطالب زاهداً في كل ذلك، وإلى جانب تطوير التعليم لا بد من إرساء تقاليد ثقافية تمجد التدريب على اكتساب المهارات والطرق الجديدة في إدارة الأعمال وتنفيذ المهام، فالتطور السريع الحاصل الآن في كل مجالات الحياة سيجعل كل ما لدى الواحد منا من مفاهيم وخبرات ومهارات محدود مدة الصلاحية، حيث تتسارع إليه الشيخوخة، وهو ما يزال في طور الصبا. وقد أدركت الأمم المتقدمة، وصارت تنفق بسخاء بالغ على التدريب انطلاقاً من هذه الحقيقة. إن مجمل ما تنفقه اليابان على التدريب يزيد على 80 مليار دولار في السنة . أما الولايات المتحدة فإنها تنفق ما يتراوح بين 120 مليار دولار و 180 مليار. ولا بد من الآن فصاعداً من أن نسلك كل سبيل لإقناع الناس بأهمية التدريب لدخول سوق العمل ثم الاستمرار فيه. ولا بد أن يكون واضحاً في العقود الجديدة تحديد ما ستقدمه المؤسسة أو الشركة أو المصنع أو الجامعة من تدريب وتعليم لمن سيعمل فيها.(1/49)
الثانية: من المهم أن ندرك أننا في زمان فريد، بات ارتقاء الإنسان فيه منوطاً إلى حد بعيد بنوعية المهنة التي يعمل والتخصص الذي تعمق فيه، فنظراً للتنظيم والتصنيف المتنامي للأعمال والمهن، ونظراً لتحسّن وعي الناس بواجباتهم الوظيفية، صار الناس يبذلون جهوداً كبرى للوفاء بمتطلبات الوظيفة والمهنة، وما تفرضه من تعليم وتدريب وتنظيم للحياة الشخصية. ونستفيد من هذا أن تحسين البيئة ورفع مستوى الناس يتطلب تأسيس توجهٍ إلى الأعمال المتصلة بالمعرفة الرفيعة والجهد الذهني المركّز. ولك أن تقارن بين العاملين في القطاعات المهنية التي لا تتطلب أي جهد ذهني أو معرفة راقية مثل قطاع بيع التجزئة وقطاع الزراعة وقطاع الإنشاء... وبين العاملين في قطاع التعليم الجامعي والبحث العلمي وتقنية المعلومات والتدريب... وستجد صدق ما أريد توضيحه.
إن المجال الواعد اليوم هو مجال (تقنية المعلومات) وكل ما يتصل بمجال الحاسب الآلي وتطبيقاته المتسعة، وهذا المجال بات اليوم القطاع الصناعي الأول حيث تزيد قيمة الأعمال فيه على (التريليون) دولار. ونحن أمة غنية بالموارد البشرية. وهذا المجال يحتاج أساساً إلى العنصر البشري المتعلم وإلى البيئة المنظمة تنظيماً جيداً. ولا يحتاج هذا وذاك إلى أموال طائلة.
إن العالم كله اليوم يخوض سباقاً محموماً نحو ترسيخ أقدامه في هذا المجال، وقد وضعت بريطانيا خطة لتطوير البلد تقنياً، قيمتها خمسون مليار جنيهاً. وعلى ضخامتها فقد ذكر أحد الباحثين أنها غير كافية وجاءت متأخرة !.
ووصفت إحدى المنظمات الدولية الدول العربية بأنها جائعة معلوماتيًا على حين أنها وصفت (إسرائيل) بأنها دولة نَهِمَة معلوماتيًا. وقد أضحت (إسرائيل) اليوم الدولة الأولى في أمن المعلومات، وهي تصدر منتجات معلوماتية إلى أوروبا وأمريكا والصين في غاية التطور والتعقيد، وتقبض أثماناً عالية لها.
إن من المهم جداً ألا نتأخر أكثر مما حدث عن الاستثمار في قطاع المعلومات والتقنية المتقدمة من أجل الارتقاء بالمسلم المعاصر ومن أجل إيجاد فرص عمل للأجيال الجديدة في مجال هو الأسرع نمواً بين مجالات العمل المختلفة. وإذا لم نفعل ذلك فإن الأعداد المتزايدة من هؤلاء الذين تدفع بهم الأرحام سوف تتحول إلى قنابل موقوتة تدمر نفسها وبيئتها في آن واحد.
ومسؤولية التقدم في هذا الشأن ملقاة على عاتق الأسرة والمدرسة والدولة ورجال الأعمال. وعلى كل راشد فينا أن يحاول مساعدة نفسه والارتقاء بذاته حيث أعرض الآخرون عن مساعدته .
فقد كان مالك بن نبي – رحمه الله- لاحظ أن المجتمعات الإسلامية تعاني من (فرط تسييس)، حيث إن هناك ميلاً عارماً إلى مطالبة الدول بأن تقوم بكل شيء على حين يظل معظم الناس غافلين عاطلين. وملاحظته – في ظني- في مكانها حيث إن كثيراً من الإصلاحيين على اختلاف مشاربهم يركزون باستمرار على ما على الحكومات أن تقوم به من إصلاح نفسها، وإصلاح غيرها، على حين أن كثيراً منهم لم يستطيعوا المساهمة العملية في نهضة الأمة؛ وكأن اعتقادنا بأن كلام المرء جزء من عمله، جعلنا نظن أننا بالخطب الرنانة والمقالات البليغة والكتب ذوات المئين من الصفحات نستطيع أن نحل مشكلاتنا المستطيلة في الزمان والمستعرضة في المكان!.
في البداية أحب أن أؤكد أن من المهم أن يشتغل بعض الناس في العمل السياسي من خلال نشر الوعي بطبيعة هذا المجال ومن خلال ممارسة النقد ودخول الانتخابات وتشكيل الأحزاب؛ إنني لست ضد هذا، ولا أهوّن أبداً من شأنه، ولكن الشيء الذي لا أرى أنه صواب هو الظن بأنه حين تقوم دولة حسب المواصفات المطلوبة سوف نتخلص من كثير الأزمات والمشكلات الموجودة.
إن هذا أحد أكثر الأوهام انتشاراً. وكثير من الجماعات الإسلامية المشتغلة بالسياسة علقت كل توازنها على الحكومة العظيمة التي ستشكلها في المستقبل حين تصل إلى الحكم. وبما أن المجال السياسي، لا يتسع لكل الناس، ولا يستطيع كثيرون العمل فيه، فإن أعداداً كبيرة من شبابها عاطلون عن أي عمل دعوي أو اجتماعي نافع!.
وجود الدولة في الأصل شيء مكروه من النفوس؛ لأنها تمثل سلطة وقوة، وهي - على المستوى الوظيفي – أميل إلى أن تكون كابحة وضابطة أكثر من أن تكون بانية أو مُصْلحة. وإذا استطاعت الدولة حماية النظم السارية وتطبيقها دون تحيز إلى جانب دعم استقلالية القضاء وتسهيل حركة الفرد مع حد مقبول من المرافق العامة؛ فإنها تكون قد قامت بأشياء عظيمة جداً. ومعظم دول العالم ما زالت تخفق في تحقيق ذلك.(1/50)
العمل الأساسي الذي يُنْتَظر من الجميع المساهمة فيه هو العمل الاجتماعي - بأوسع ما تحمله هذه الكلمة من دلالة –. في العالم اليوم قطاع يسمونه (القطاع الثالث) أو (القطاع اللاربحي) إنه شيء غير القطاع العام الذي تكون مؤسساته ملكاً للدولة وغير القطاع الخاص المملوك للأفراد، إنه القطاع الذي تملكه الأمة. مهام هذا القطاع أوسع بكثير مما نتصوره وإن الأمم من خلاله تستدرك على قصور النظم المختلفة، إنه يشكّل كرة أخرى على طريق العدالة الاجتماعية وإيصال الحقوق لأصحابها. إن أنشطته تغطي حاجات أولئك الناس الذين لا يقع الاهتمام بهم تحت مسؤولية أي وزارة أو مؤسسة حكومية، وإنه يهتم بالقضايا التي لا تهتم بها أي جهة حكومية. وأستطيع أن أقول دون أن أشعر بالحرج: إن اتساع هذا القطاع يدل على نحوٍ قاطع على خيرية المجتمع وتضامنه وفاعليته واستحقاقه باسم (مجتمع). وعلى مقدار ضيق هذا القطاع وضعفه يكون ضعف المجتمع وتفككه وخموله. وقد لا يستحق لاسم (مجتمع) ويكون جديراً باسم (تجمع)!
إن ما ينشر من إحصاءات عن هذا القطاع يدل دلالة واضحة على أن العالم الصناعي يتمتع بمجتمعات غنية بالمؤسسات والأنشطة اللاربحية. وقد استطاع هذا القطاع أن يجمع من الناس في الولايات المتحدة الأمريكية عام (2002) مبلغاً قدره (212) مليار دولار. وهو رقم فلكي لا يمكن جمع نصفه أو ثلثه في أي دولة من العالم. في أمريكا مليون ونصف مؤسسة لاربحية وثلاثة وعشرون ألف مؤسسة وقفية. وفي فرنسا ستمئة ألف مؤسسة لاربحية. وفي (إسرائيل) ثلاثون ألف مؤسسة لا ربحية ويستوعب القطاع اللاربحي 11% من القوة العاملة هناك في العالم الغربي لكل ثلاثمائة شخص تقريباً مؤسسة لاربحية من نوع ما وعندنا في العالم العربي لا يحصل الـ (5000) شخص على أكثر من مؤسسة، أي إن الفارق يتمثل في خمسة عشر ضعفاً. ويجب أن نأخذ بعين الاعتبار إلى جانب هذا أن الذين يحتاجون إلى العون في مجتمعاتنا أكثر بكثير من المحتاجين في مجتمعاتهم.
إن هناك أشياء مشتركة بين الأمم، وهناك أيضاً خصوصيات لكل أمة. إن المجتمعات الإسلامية بحاجة إلى الكثير الكثير من المؤسسات اللاربحية وسأذكر منها هنا نماذج فقط:
- مؤسسات ومشروعات لدعم الالتزام والمحافظة على الأخلاق والوقوف في وجه التحلل الخلقي عن طريق الاتصال المباشر والحوار مع الناس ووضع لوحات في الطرق وإعلانات في الصحف. بل إن القطاع اللاربحي يحتاج في الحقيقية إلى فضائية وإذاعات خاصة حتى نؤصل حب العمل الخيري في نفوس الناس. أضف إلى هذا تأسيس جمعيات لمحاربة العادات السيئة مثل الإدمان على التدخين والخمور والمخدرات ومثل عادات الإسراف والتبذير في المأكل والمشرب والملبس والمسكن وإرشاد الناس إلى بعض الطرق الاقتصادية في كل ذلك، كما هو الشأن في كثير من الدول.
- مؤسسات للاهتمام بالأسرة وتوجيهها في مسائل التربية ومساعدتها على حل المشكلات التي تواجهها وتوفير مرشدين تربويين ومرشدات تربويات لإصلاح العلاقات الأسرية وتنمية وعي الناس بأهمية التضامن الأسري، وتوضيح مسؤولية كل طرف في ذلك، ونشر عدد كبير من الكتيبات والنشرات التي تعلم الناس أصول التربية الجيدة، كما توضح لهم الأخطاء التربوية التي يقعون فيها.
- مؤسسات وجمعيات وروابط لدعم العلم والتعليم، حيث إن الدول ما عادت تستطيع توفير ما يكفي من المدارس والتجهيزات المدرسية لهذه الأعداد المتدفقة من الأطفال والفتيان. والتعليم الخاص الحالي هو أقل في كثير من الأحيان من المستوى المطلوب، وهو إلى جانب ذلك ينشر الطبقية الاجتماعية والمعرفية، فأبناء الأغنياء يجدون مدارس ممتازة لأنهم قادرون على الدفع، وأبناء الفقراء لا يجدون في بعض الأحيان حتى المدارس السيئة. وبعض الدول الإسلامية – مثل باكستان- لم تستطع إلى الآن إصدار تشريعات لجعل التعليم الابتدائي إلزامياً بسبب عدم قدرة الدولة على توفير المدارس الكافية. وهناك دول لا تستطيع توفير الكتب المدرسية لأبنائها – كما هو الشأن في بلاد عديدة مثل إندونيسيا – وهكذا..
قد آن الأوان ليقوم الناس بدعم التعليم الحكومي والمساهمة في توجيه أنشطته وممارسة نوع من الرقابة عليه بما يخدم التقدم العلمي في البلد. كما آن الأوان لتأسيس عدد كبير من المدارس الخيرية التي يجد فيها أبناء الفقراء فرصاً للتعلم. وفي بعض الدول – مثل تركيا- أنشئت مجالس كثيرة جداً لدعم التعليم الجامعي وتوفير منح للطلاب الفقراء، حيث إن الجامعات الحكومية لا تستوعب سوى 10% من المحتاجين للتعليم الجامعي.
إن من المهم أن تنظم حملات واسعة من أجل قيام الأثرياء بتأسيس شبكات من المدارس والمعاهد العلمية والتقنية لأبناء الفقراء والمعدمين والإنفاق عليها عوضاً عن تبذير المال في السياحة في الغرب أو إنفاقه على مظاهر كاذبة لا تزيد صاحبها إلا خبالاً وسأماً!.(1/51)
- في الأمة اليوم مظالم كثيرة، ولا يكاد يخلو مجلس من المجالس من ذكر مظلمة من المظالم! وقد صارت مهمة المحامين في كثير من الدول الإسلامية- مع الأسف الشديد- طمس الحقيقة وإضاعة الحقوق والعمل على تأجيل المحاكمات إلى ما لا نهاية وتسربت الرشوة إلى سلك القضاء مع استثناءات مقدرة! إن هذه الوضعية تستلزم قيام مؤسسات وروابط ومنظمات لنصرة الضعيف ورفع الظلم عن المظلوم ومؤازرة المضطهد وفضح أشكال الحيف. وقد أثنى - صلى الله عليه وسلم- على حلف الفضول الذي أقامته قريش في الجاهلية، وحضره - عليه الصلاة والسلام- وقال: " ولو دعيت إلى مثله لأجبت". وقال أيضاً في حديث صحيح: " إنه لا قُدَّست أمة لا يأخذ الضعيف حقه فيها غير متعتع".
إن التعليم والقضاء يشكلان محورين أساسين في حياة أي أمة وإن في فسادهما فساد الحياة كلها، فعلينا أن نصلح من شأنهما قدر الاستطاعة ولن يكون ذلك إلا من خلال توفير رقابة شعبية واسعة، ولن تكون تلك الرقابة فعالة إذا لم تنظم وتؤطر على نحو جيد.
- الأمية في العالم الإسلامي ضاربة أطنابها، ومازال المعدل الوسطي لها يدور في فلك الـ(40%) وهذا شيء مخيف في زماننا فقد احتفلت اليابان بتعليم آخر أمي في أواخر القرن التاسع عشر. ولدينا أناس يعرفون القراءة والكتابة لكنهم لا يقرؤون. وكما قال أحدهم: ما الفرق بين الأمي وبين من يحسن القراءة والكتابة لكنه لا يقرأ؟! إن حالة القراءة وطلب العلم والحرص على معرفة الجديد في حالة من التردي المستمر في عالمنا الإسلامي. والكتاب يفقد في كل يوم جزءاً من أرضه لصالح ما يمكن أن نسميه (اللهو المطلي بالمعرفة) وهذا يلقي علينا مسؤولية هائلة. إني أفترض أن يكون لدينا في كل حي من الأحياء مكتبة عامة يضعها أحد الأثرياء في زاوية من داره ليرتادها أهل الحي وتكون مكاناً لالتقائهم ومناقشة أمور حيهم. وأتعشم أن يكون هناك برامج لدعم الكتاب الجيد وأن يكون هناك من حانات للقراءة ومكتبات متنقلة لنشر العلم وإعارة الكتاب. وقد سبقتنا دول كثيرة إلى هذا، ولم يعد لدينا وقت لإضاعته. إن من غير شغف حقيقي بالعلم واتخاذه أساساً للتطوير لن نستطيع أن نتجاوز الأوضاع الصعبة التي نعيش فيها.
- العولمة تشجع الحكومات على أن تنفض يديها من كل الخدمات المجانية والرخيصة التي تقدمها، ومنها (العلاج الصحي). والخدمات الصحية الحكومية في كثير من بلدان العالم الإسلامي في حالة من التدهور حيث يلجأ الناس إلى الطب الخاص، وهناك تجد أشكالاً من التحايل والابتزاز مما يوجب قيام مؤسسات طبية لا ربحية يعمل فيها الأخيار من الأطباء وتتقاضى أجوراً تكفي فقط لتشغيلها. وقد قامت تجارب رائدة في بعض البلدان الإسلامية في هذا المجال، إنها تقدم أفضل علاج، لكن بسعر لا يزيد على 30% مما لدى غيرها. إني أتصور أن يكون هناك جمعيات للعناية بأصحاب الأمراض المزمنة والمستعصية وجمعيات لتوفير الدواء لمن لا يجد ثمنه وجمعيات لدعم المستشفيات الحكومية بالأجهزة وهكذا.
ولا أريد هنا أن أتحدث عن قضية الفقر لأنني سأفرد لها حديثاً خاصاً في المستقبل بإذن الله.
إن العمل الخيري التطوعي يستهدف أولاً الارتقاء بنفوس فئة كبيرة من المجتمع وربطهم بالله - تعالى- وهذه الفئة هي العاملون والمحتسبون في المجال اللاربحي. ويستهدف ثانياً سد حاجات العناصر الضعيفة في المجتمع، وهي في عالمنا الإسلامي كثيرة جداً بل تشكل النسبة الأكبر من الناس. وسنظل نعيش على هامش العالم ما لم نبدع في إيجاد الحلول للمشكلات التي جاءت بها الحضارة المعاصرة . والله ولي التوفيق.…
==============
#في كل الأحوال
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فإن إنجازاتنا وعطاءاتنا تخضع لثلاثة عوامل أساسية، هي:
1- ما ورثناه عن آبائنا وأجدادنا من خصائص عقلية ونفسية وجسمية.
2- البيئة التي نعيش فيها بما تشتمل عليه من مفاهيم وأعراف وتقاليد وبنى تحتية ومرافق عامة...
3- الجهود الشخصية والخاصة التي نبذلها في تثقيف عقولنا، وتزكية نفوسنا وصقل مهاراتنا، واستثمار الفرص المتاحة لنا.
ولا يخفى أن بين هذه العوامل الثلاثة علاقة جدلية مستمرة، فالذكاء المتفوق والقدرات الذهنية الممتازة تساعد المرء على أن يستفيد على أحسن وجه من المعطيات التي توفرها البيئة، كما أنها تجعله يدرك بسرعة حدود إمكاناته الحقيقية وطبيعة التحديات التي يلاقيها والطريقة المثلى لمواجهتها والتصرف حيالها.
البيئة الجيدة تجعل عمل الناس أسهل، وتوفر لهم الظروف التي تساعدهم على التفوق والارتقاء وهكذا..(1/52)
والذي نستفيده من هذا هو أن التفوق في الجهد أو البيئة أو الموروث الجيني، سوف يخفف من أضرار القصور في الجانبين الآخرين. وأن أي قصور في أي جانب أو عامل من هذه الثلاثة سيؤثر سلباً في أداء العاملين الآخرين، وأعتقد أن التكامل والتفاعل بين ما ذكرنا يشكّل مظهراً من مظاهر ابتلاء الله -جل وعلا- لنا في هذه الحياة؛ حيث إن إمكانات الارتقاء والتقدم ستظل موجودة مهما كان الموروث الجيني سلبياً وضعيفاً، أو كانت البيئة صعبة وغير مواتية؛ وذلك من خلال تنمية الإمكانات الشخصية وبرمجة الوقت وتحديد الأهداف واكتساب المهارات، وقبل ذلك كله العبودية الحقة لله -تعالى- والاستعانة به، والتأهل لتوفيقه وفيوضاته غير المحدودة.
ولو أننا تأملنا في سير أولئك الذين صاغوا أمجاد هذه الأمة، وشيّدوا صرح حضارتها لوجدنا صدق ما نقول.
وأحب هنا أن أبلور المفهومات الثلاث الآتية:
أولاً: ما دامت المحصلات النهائية لكل جهودنا الدعوية والإصلاحية والتعليمية خاضعة لموروثاتنا عن الآباء والأجداد، وخاضعة للبيئة التي نعيش فيها وللجهد اليومي الذي نبذله، وما دامت كل هذه الأمور لا تكون أبداً حدِّية وكاملة؛ فإن المتوقع آنذاك أن تكون النتائج التي نحصل عليها مشوبة دائماً بالنقص والقصور، وستظل دائماً أقل مما نريد؛ فأنت لا تستطيع أن تصل إلى حلول كاملة في وسط غير كامل، وستظل هناك فجوة بين طموحاتنا وبين ما يتحقق على الأرض. هذا يعني أيضاً أننا سنظل نشكو ونشكو، وكأن الوعي البشري اخترع الشكوى من سوء الأحوال، ليتخذ منها محرضاً على التقدم.
وإذا تتبعنا هذه السلسلة من الإحالات والاستنتاجات فسنصل إلى الاعتقاد بأنه لن يكون في هذه الدنيا لأي أمة من الأمم أو جماعة من الجماعات أو فرد من الأفراد - نصر حاسم ونهائي- لا يقبل الجدل ولا الشك والنقد. ولهذا فإن الذين يحلمون بانتصارات نقية وتامة سيظلون يصابون بصدمات الإحباط وخيبات الآمال!.
ثانياً: إذا كان الأمر على هذه الصورة؛ فهذا يعني أننا لن نصل أبداً إلى اليوم الذي نعتقد فيه أننا قد حصلنا على البيئة المثلى للعمل والإنجاز، ولا على الأدوات التي نحتاجها لتحقيق أقصى الطموحات، وسنظل نشعر بوجود درجة من المجازفة والمخاطرة عند اتخاذ أي قرار حاسم في أي اتجاه. وهذا يجعلنا نبلور مفهوماً جوهرياً، هو:" اعمل ما هو ممكن الآن، ولا تنتظر تحسن الظروف".
وهذا المفهوم يقوم على مسلّمتين هما:
1- هناك دائماً إمكانية لعمل شيء جيد لأنفسنا وديننا والناس من حولنا.
2- مهما تحسنت الظروف؛ فإنه سيظل هناك من يمكنه أن يظن أن الظرف المطلوب توفره من أجل الإنجاز لم يتهيأ بعد.
ثالثاً: هناك مسلمون كثيرون مصابون بفقر شديد في الخيال، فهم خاضعون لمقولات مستعجلة أطلقها أعلام ومشاهير لم تنضج رؤيتهم لفيزياء التقدم ولا لطبيعة العلاقات التي تحكم قوى التحدي والاستجابة، ومن ثم فإنهم قد صاروا أشبه بمن وضع القيد بنفسه في رجليه في أجواء عاصفة وخطرة!.
إن الخيال نعمة كبرى من الله -جل وعلا-، وقد كان نابليون يقول: "إن مؤسساتنا مصابة بمحدودية الخيال، ولولا الخيال لكان الإنسان بهيمة". ويكفيني هنا لفت النظر إلى مسألة تتجلى فيها محدودية الخيال وعقمه الشديد:
من الواضح أن جمهرة غير قليلة من أبناء الجماعات والدعوات الإسلامية يعتقدون أن تطورات مذهلة سوف تطرأ على الحياة الإسلامية إذا قامت الدولة (الحلم) التي تسيّر شؤون الناس، ولهذا فإنهم عطلوا الكثير من الجهود، وأضاعوا الكثير من الفرص، وعلّقوا توازن أعداد هائلة من الناس على تحقيق ما يتطلّعون إليه!؛ بل إن الأمر تجاوز ذلك إلى ما هو أسوأ، وهو الاعتقاد بأنهم لا يستطيعون إنجاز أي شيء ذي قيمة إلا في ظل دولة إسلامية راشدة. وتلك الدولة ينبغي أن تكون من الطراز العمري، فإذا كانت من مستوى الحكومات الأموية أو العباسية، فربما كانت لا تستحق أقل من الثورة!.
هؤلاء الناس يتخيلون أن الحكومة الراشدة التي يحلمون بها سوف تكون على درجة عالية من الإخلاص والخلق والعلم وحسن التدبير والحنكة في تحفيز الجماهير على الكدح والعطاء، وعلى درجة عالية من الخبرة في حل المشكلات الداخلية ومواجهة التحديات الخارجية، مع أنهم لا يقولون لنا: أين ستكتسب (الدولة الحلم) هذه الخبرات الخطيرة؟ وفي أي بيئة ستتكون لدى أعمدتها هذه الصفات والأخلاق والمهارات الفذة والعجيبة؟ وهم ما فتئوا يشكون من سوء الأحوال وتدهور الزمان!.(1/53)
في ظل هذه الدولة سوف يحدث ما يشبه الزلزال في النفوس والمجتمعات والعلاقات والتوجهات السائدة: في ظل تلك الدولة العجيبة سوف ينشط الكسول ويتعلم الجاهل، ويبذل الشحيح، ويقلع بذيء اللسان عن التفوه بالألفاظ القبيحة، ويكفّ مدمنو المخدرات والمكيفات عن تناولها، وسوف يحاول المدرس غير الكفء صقل مهاراته وإثراء ثقافته... كما أن العلمانيين والليبراليين وأصحاب المصالح المضادة سوف يسلمون لتلك الدولة (المعجزة) بالنزاهة والكفاءة معاً، ولذا فإنهم سوف يسلمون لها القيادة. والدول المناوئة في الخارج سترى أنه لا فائدة ترتجى من وراء مقارعة تلك الدولة؛ ولذا فإنها سوف تتجاهلها أو تهادنها...
وهكذا ستحدث تغيرات كونية هائلة لم تحدث في أي مرحلة من مراحل التاريخ! وحتى يحدث كل ذلك؛ فإن مما لا شك فيه أن طينة تلك الدولة ينبغي أن تكون خاصة، ولا مثيل لها ما دامت ستحقق إنجازات عديمة المثيل!.
وأنا أجزم أن تلك الجمهرة من الحالمين ستنقسم تجاه أفضل دولة إسلامية يمكن أن تقوم في أي مكان من الأرض إلى أقسام عدة: قسم يعمل معها بكفاءة وإخلاص؛ وهذا القسم قليل في أي زمان وأي مكان. وقسم يتمتع بالكفاءة؛ لكن ينقصه الإخلاص والاستقامة. وقسم ثالث يخلص؛ لكنه لانعدام خبرته لا يعرف كيف يخدم الدولة والأمة. أما القسم الرابع؛ فهو قسم منتفع وصولي، ليس من هؤلاء ولا أولئك. والقسم الخامس قسم معارض يرى أن الدولة التي سعى إلى إقامتها قد خانت رسالتها، وانحرفت عن مبادئها؛ فهو منهمك في ردها إلى المسار الصحيح.
أما القسم الأخير؛ فهو القسم الثائر الذي صارت أمنيته التخلص من تلك الدولة بأي وسيلة من الوسائل، ولو كانت استخدام الصنف وإشعال الحرب الأهلية!!.
هذه الأقسام لم نأت بها من نسج الخيال؛ بل هي مما عرفناه من سنن الله –جل وعلا- في الخلق، ومما فهمناه من طبائع الأشياء، وما وجدناه ونجده عند قراءة أي ثورة من الثورات التي تمكنت من الوصول إلى الحكم في بلاد إسلامية أو غير إسلامية.
ولعلي في المقال القادم أشرح شيئاً مما يمكن القيام به "في كل الأحوال"، ومن الله تعالى الحول والطول.
1/2
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فقد ذكرت في المقال السابق أن موروثاتنا النفسية والجسمية... عن الآباء والأجداد وجهودنا الشخصية بالإضافة إلى البيئة التي نعيش فيها تشكل المؤثرات الجوهرية في كل عطاءاتنا وإنجازاتنا، وذكرت أنه مهما ساءت الظروف، وتعقدت الأوضاع، فستظل هناك إمكانية لعمل شيء ما، ومقال اليوم سيكون حول ذلك الشيء.
من المهم أن نعتقد في البداية أن أي جهد يبذله الواحد منا على صعيد إصلاح أحواله الشخصية والارتقاء بذاته، يصب بصورة من الصور في مصلحة أمته، حيث لا يمكن أن نبني أمة صالحة من أشخاص فاسدين، ولا مجتمعاً قوياً من أفراد ضعفاء، وإذا أردت أن تعرف موقع العالم الإسلامي على خارطة القوى العالمية، وأن تعرف مدى تأثيره الحالي في تحديد وجهة العالم؛ فانظر إلى أوضاع كل دولة من دوله على انفراد، فالموج لا يكون أبداً إلا من جنس مائه.
نحن اليوم في حاجة ماسة إلى أن نبلور ونرسخ ثقافة (الإنجاز المتجاوز) والتي تعني -فيما تعنيه- ألا يُؤخَّر شيء يمكن عمله الآن من أجل انتظار شيء سيحدث في المستقبل، وتعني كذلك تعزيز روح المبادرة الفردية لدى الإنسان المسلم وتعزيز روح الإيجابية، والتعامل مع المعطيات الجديدة بعقل وقلب مفتوحين؛ حيث إن معظم المسلمين ما زالوا يرزحون تحت وطأة موروثات عصور الانحطاط والتي يأتي في طليعتها الكسل والفوضى والتواكل والخوف من الجديد والتقليد والتبعية والتفكير الذري ومحدودية الطموحات والمجاراة الاجتماعية والمثالية الزائدة.
والآن اسمحوا لي أن أتحدث عن ثلاث قضايا أتصور أنها ذات أهمية قصوى بين القضايا الكثيرة التي يمكن القيام بها في جميع الأحوال:
1) المجاهدة من أجل تغيير سلم القيم.
هناك قيم عالمية مشتركة تهتم بها كل الثقافات وكل الحضارات، مثل: الصدق، والأمانة، والإحسان، والوفاء، وإغاثة الملهوف، والإتقان والتسامح، والعفو، والجدية، والدقة، والتملك، والرفاهية، والنظافة، والاقتصاد في بذل الجهد.. ويتعامل الناس مع هذه القيم في كل زمان ومكان على أنها مفردات في نسق عام، وهي في تواليها أشبه بدرجات السُلَّم، وتتم التضحية بالقيم الدنيا عند التعارض من أجل الاستمساك بالقيم العليا، فإذا كانت قيمة الصدق -مثلاً- لدى إنسان أعلى من قيمة المال؛ فإنه يلزم الصدق، ولو كان الكذب يجلب له المال الوفير، وحين تكون قيمة الخوف من الله -تعالى- لدى المسلم أعلى من قيمة الخوف من الناس؛ فإنه لا يبالي بغضب الناس إذا كانوا لا يرضون إلا بإغضاب الله، وحين يحلّ النعاس بأحدنا وتكون قيمة النوم عنده أعلى من قيمة تنظيف أسنانه؛ فإنه سينام دون أن ينظفها، وإذا كانت قيمة تنظيف الأسنان أعلى؛ فإنه سيقاوم النعاس إلى أن ينتهي من تنظيفها وهكذا...
المجاهدة في سبيل تغير سُلَّم القيم ينبغي أن تستهدف تحقيق أمرين أساسيين:(1/54)
1- العبودية الحقة لله –تعالى- والالتزام بأمره في المنشط والمكره.
2- الفاعلية العالية في الإنجاز مع المثابرة على العمل الشاق بغية بلوغ الأهداف المرسومة.
وإن التغير في عاداتنا وسلوكاتنا هو الطريق لتحقيق هذا وذاك، ولو أن المسلم أخذ على عاتقه أن يتخلص من عادة سيئة كل ستة أشهر لتحل محلها عادة حسنة؛ فإنه يكون قد التزم بإجراء تعديلات مستمرة في سُلَّمه القيمي بما يحقق العبودية والفاعلية، ومع أن هذا الأمر ليس بالسهل؛ فإنه بالاستعانة بالله -تعالى- والعزيمة التي لا تلين يمكن إنجاز الكثير الكثير. وهذا التحدي سيظل ماثلاً أمام كل مسلم في كل الظروف وإلى أن يلقى ربه.
2) المشروع الشخصي:
علينا أن نقول إن وعينا مفتون بالإنجازات الكبيرة والانتصارات العظمى، مما زهّدنا في الاهتمام بالأمور الصغيرة والتفاصيل الدقيقة، مع أنه من غير الممكن التعامل مع القضايا الكبرى من غير تفتيتها وتنويع المداخل والطرق لحلها، فكرة المشروع الشخصي ما زالت غريبة عن المجتمعات الإسلامية ولدى معظم الناس، مع أنه قد يكون هو السبيل الأكثر يسراً والأقل تكلفة والأكثر نجاعة والأقل مخاطرة في إنقاذ الأمة من الحالة الحرجة التي صارت إليها في ظل قصور الداخل وضغوطات الخارج.
المشروع الشخصي يعني التزام المرء بإنجاز شيء يكرس له حياته أو جزءًا كبيرًا منها، وهو من أجل إتقانه وأدائه على أفضل وجه مستعد للتنازل عن بعض الرغبات وتفويت بعض المصالح وذوق طعم العناء.
المشروع الشخصي رؤية تتكون من الهدف والطاقة والإمكانية والبعد الزمني، ولا قيمة لتلك الرؤية إذا لم يتم تجسيدها في خطة عملية ومنطقية واضحة ودقيقة، من خلال مشروعنا الشخصي نعثر على الدور الأمثل الذي يمكن أن نؤديه في هذه الحياة، كما أننا نجيب من خلاله عملياً عن الأسئلة التي لا يتم التقدم الحقيقي من غير الجواب عنها.
وأهم تلك الأسئلة سؤالان ضاغطان؛ هما:
1- ما الشيء الذي نستطيع أن نفعله الآن لكننا لا نفعله؟
2- ما العمل الذي إن أديناه بطريقة جديدة تكون نتائجه أفضل؟
ومن المهم أن تكون الأهداف التي ننجزها من خلال ذلك المشروع متصلة بالهدف النهائي الذي على كل مسلم أن يسعى إلى بلوغه، وهو الفوز برضوان الله –تعالى-.
سوف تتقدم أمة الإسلام تقدماً باهراً إذا تمكن 5 % من أبنائها من تقديم نماذج راقية في العلم والتربية والأخلاق والسلوك والعلاقات الاجتماعية والإنتاج والإبداع، فالذي يغير معالم الحياة ليس الأفكار والحكم والمقولات - وإن كانت تشكل الأساس لأي ازدهار-؛ وإنما النماذج الراقية التي يتفاعل معها الناس، ويتخذون منها قدوات يقتدون بها.
الأمم الفقيرة ليست تلك التي لا تملك الكثير من الرجال، ولكنها الأمم التي يتلفت أبناؤها يمنة ويسرة، فلا يرون إلا رجالاً من الطراز الثالث أو الرابع، فيحدث ما يشبه الفتنة الثقافية والضياع السلوكي.
من الصعب أن يكون المرء نموذجاً في أمور كثيرة، لكن من الميسور أن يكون عادياً أو فوق العادي قليلاً في جل شؤونه، ويقدم نموذجاً رفيعاً في شأن أو اثنين أو ثلاثة.
إذا نظرنا في سير صفوة الصفوة من أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم- لوجدنا أنهم من خلال براعة كل واحد وتفوقه في بعض الأمور تمكنوا من كتابة تاريخ صدر الإسلام، وتأسيس المرجعية الرمزية والشعورية والأخلاقية لأمة الإسلام بطولها وعرضها: هذا يقدم نموذجاً في العدل، وهذا في الأخلاق والتجرد، وهذا في الصدق والأمانة، وهذا في الثبات على المبدأ، وهذا في النبوغ العلمي والفقهي، وهذا في الحنكة العسكرية، وهذا في الكرم والجود، وهذا في البر بوالديه وأرحامه، وهذا في الحياء وللطف والطيبة... وهكذا تم رسم ملامح أفضل مراحل حضارة الإسلام وملامح أكرم الأجيال.
جمال فكرة المشروع الحضاري الشخصي أنه لا يحتاج إلى كثير مال وأحياناً لا يحتاج إلى أي مال. وهو ليس ذا مقاييس صارمة ومعالم محددة، ولذا فإن معظم الناس يستطيعون أن يهتموا بأمر من الأمور يصبحون من خلاله مناراً ومرجعية لغيرهم؛ ومن الذي يمنع المرء أن يقدم نموذجاً في التبكير إلى صلاة الجماعة أو خدمة والديه أو الحرص على الوقت أو التصبر والتحلم وسعة الصدر ...؟
من خلال المشروع الحضاري يحقق المرء لدينه وجماعته ودنياه الكثير من المكاسب، وهو في كل ذلك الكاسب الأول . لكننا نحتاج إلى شيء من البصيرة وشيء من التخطيط وكثير من الهمة والاهتمام وروح المثابرة.
3-المشاركة في الخدمة العامة:(1/55)
يتجلى الكثير من عظمة الأمم وخيريتها في تمتعها بأعداد كبيرة من المهتمين بالشأن العام والناهضين للقضايا التي لا تدخل في مسؤولية أي جهة من الجهات. وإن في إمكان أي مسلم مهما كانت ظروفه وأوضاعه، ومهما كانت قدراته وإمكاناته أن يسهم في تحسين الحياة العامة وإشاعة الخير محاصرة الشر في البلد الذي يعيش فيه. وسيكون من الخطأ الظن أن الإحسان يقتصر على بذل شيء من المال للفقراء. لا ريب أن هناك مشكلات كثيرة لا يحلها إلا المال؛ لكن أيضاً هناك مشكلات كثيرة جداً لا تحتاج في حلها إلى أي مال. وقد كان عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - يخرج إلى السوق مع غلام له، ثم يعود دون أن يشتري أي شيء، وكان غلامه يستغرب، ويتساءل : لماذا كان ذلك ؟! وكان ابن عمر يجيبه أنه خرج من أجل السلام على الناس.
في المسلمين مظلومون يحتاجون إلى مناصرة، وفيهم جهلة يحتاجون إلى تعليم ومنحرفون يحتاجون إلى إرشاد، ومهمومون يحتاجون إلى مواساة... ولو أن كل مسلم بذل ساعة في الأسبوع في التعاون مع مؤسسة خيرية أو في عمل تطوعي عام لتغير وجه الحياة في عالمنا الإسلامي.
نحن أمة تتحدث كثيراً عن حب الخير وعمل الخير، لكن الأرقام والإحصاءات والنتائج الملموسة تدل على أننا في الأعمال التطوعية والأنشطة اللاربحية في مؤخرة الأمم. ويكفي القول: إن القطاع الثالث والذي يشمل الأعمال الخيرية واللاربحية في (إسرائيل) يستوعب 11% من القوة العاملة هناك؛ على حين أنه في أقطارنا الإسلامية لا يستوعب ولا واحداً في المئة!.
من خلال حبّات الرمل تتشكل صحارى شاسعة، ومن خلال قطرات الماء تتشكل بحار ومحيطات، ومن خلال الأعمال الصغيرة والمبادرات الفردية يتشكل مستقبل أمة إذا امتلكنا ما يكفي من العزيمة والوعي. والله ولي التوفيق.
===============
#في وجه التبسيط
لا تستطيع عقولنا التعامل مع معلومات كثيرة متداخلة ومتقاطعة على نحو مباشر ومثمر، وكثيراً ما نحار في إيجاد حل لهذه المعضلة. وقد لجأ العقل البشري قديماً إلى تقسيم المعرفة -والتي كانت واحدة- إلى علوم واختصاصات بغية تأمين نوع من السيطرة على فوضى المعلومات والوصول بالتالي إلى تنظيم جديد للمعرفة يتيح لبني الإنسان تعاملاً موضوعياً أفضل مما هو سائد. لكن هذا لم يحل المشكلة على نحو كامل، فهناك الكثير من الأوضاع التي لا تمكن معرفة كنهها وتشكيل رؤية واضحة لها من خلال أي علم من العلوم. ومن هنا فقد وجد الكثير الكثير من الناس في سبك المقولات المتقنة، وإطلاق الشعارات الجذابة وتشكيل الصور الذهنية المحددة أداة مثلى لاجتراح المجهول، وتقريب البعيد من الأحداث والأحوال . والواقع أن هذا العمل يلبي إلى حد بعيد تشوقات العامة والجماهير العريضة والتي تبحث عن شيء يريح عقولها من مشاق التأمل والخوض في التفاصيل؛ لكنه لا يخدم الحقيقة الموضوعية في شيء ذي قيمة؛ بل إنه يختزل الواقع التاريخي والمعيشي، ويعطي عنه صوراً مضللة ومبتذلة توفر من الإزعاج للباحث المدقق على مقدار ما توفره من الارتياح والإنشاء لأنصاف العوام والمتشبثين بأذيال المعرفة. ومن أجل توضيح ما أريد قوله سأضرب مثالين اثنين؛ أحدهما يتعلق بالحاضر والثاني تاريخي.
بالنسبة إلى المثال الأول؛ فإن من الملاحظ أن الحسّ الإسلامي يميل في علاقاتنا مع الغرب -على نحو عام- إلى اتخاذ موقف وسط، يبتعد عن الانغلاق التام والانفتاح المطلق. وقد لخّص أحد المصلحين ذلك الموقف بالقول: نأخذ من الحضارة الغربية ما يلائمنا وينفعنا، ونُعرض عن غيره. وهذه الصياغة على المستوى النظري مثالية جدًّا إلى درجة أن معظم شعوب الأرض لا تحلم في علاقاتها بعضها مع بعض بأكثر ما ترشد إليه هذه المقولة. لكن هذه العبارة على المستوى العملي تفقد الكثير من قيمتها بسبب ضيق مجالات تطبيقها، والذي يقف وراء هذا القصور عدم تصور من سبكها كيفيات التطبيق والتنفيذ. إن صعوبة تطبيق هذا القول تنبع من الاعتبارات والحيثيات التالية:
1- نحن نتعامل مع الغرب على المستوى العام وعلى المستوى الشخصي من خلال قرارات عامة. وحين يكون الأمر كذلك فإننا لا نستطيع اتخاذ قرار نفي وإيجابي وملائم على نحو كامل ما دمنا نعيش في وسط غير كامل، وما دامت إمكاناتنا غير كاملة.
2- يختلف الكثيرون من أبناء المسلمين في تحديد ما يلائمنا من ثقافة الغرب وأخلاقه ومنتجاته على نحو عام؛ فما يعده فلان من المسلمين مهمًّا وحيويًّا لنا، ينظر إليه مسلم آخر على أنه خطر وسيئ .(1/56)
3- نحن لا نستطيع في كل الأحوال أن نقوم بعملية الانتقاء التي نريدها فالغرب ليس (سوق خضار) تتسوق منه ما شئت وتدع ما شئت لأصحابه؛ حيث إن هناك ارتباطاً وثيقاً بين الأخلاق والسياسة وبين الأخلاق والاقتصاد وبين الاقتصاد والسياسة، وبين كل هذه الأشياء وبين الاجتماع والتربية والتعليم. فإذا أردت أن تقتبس أسلوباً أو نظاماً من أي مجال من هذه المجالات؛ فقد يقتضي الأمر أن نقتبس ما يرتبط به في مجال آخر، مما لا يلائمك ولا يرضيك. ينظر الغرب إلى التعددية الفكرية والسياسية على أنها أحد مصادر قوته وتميزه، لكن لولا تجرد الغرب من العقيدة الدينية لما أمكن له الحصول على تلك التعددية على النحو الموجود الآن.
حيوية الاقتصاد الغربي قائمة على الربا والتأمين والضرائب العالية وعلى النفوذ السياسي العالمي لدولة وقدرتها على تأمين مواد خام رخيصة وفتح أسواق لمنتجاتها.
المرأة في الغرب تعلمت وأبدعت وعملت في كل المهن والأعمال وحازت درجة عالية من الوعي واستقلال الشخصية... وكان ذلك في أحيان كثيرة على حساب كرامتها وحشمتها وعفتها، كما كان على حساب سلامة البناء الأسري... وهكذا فإن أخذ ما ينفعنا من الغرب قد يقتضي أن نأخذ معه ما لا ينفعنا ولا تبيحه عقائدنا ومبادئنا؛ فتفكيك المنظومات الحضارية أو تغريق الصفقة - كما يقول الفقهاء- ليس ممكناً في كل الأحوال، وحين يكون ممكناً فقد لا يكون مجدياً، فكيف يكون العمل؟.
4- إذا فرضنا جدلاً أننا تجاوزنا كل المحاذير السابقة؛ فإننا سنواجه مشكلة الفجوة بين النظرية والتطبيق- هي فجوة أبدية-. فالتنظير يتم دائماً على نحو طليق من القيود، وعلى أساس توفر كل الإمكانات المطلوبة للتنفيذ، لكن حين نأتي للتطبيق فإنه تواجهنا مشكلات كثيرة لم تخطر في بال المنظَّر، كما أن الإنسان حين يأتي للعمل يضطر إلى الدخول في موازنات دقيقة لا تُعرف ولا تُحسب وقت التخطيط. وهذا مثال يمكن أن نلاحظ فيه كل ذلك:
لدينا حكومة إسلامية شديدة الالتزام وعظيمة الوعي بطبيعة العلاقة التي تربطنا بالغرب، وأرادت أن تأخذ قراراً بشأن علاقة أبنائها بعلوم الغرب. طبعاً لديها خيار إغلاق باب الابتعاث إلى الغرب على نحو نهائي وإذا فعلت ذلك فإنها ستشعر ويشعر مواطنوها أنهم حرموا من علوم مهمة للارتقاء بالحياة في بلادهم، وسوف يؤدي ذلك إلى تراجع الوضع العلمي والتقني في البلد. وهي مع ذلك القرار لا تستطيع أن تمنع من السفر أولئك الشباب الذين يريدون السفر للدراسة على نفقتهم الخاصة، إلا إذا قررت تحويل بلادها إلى سجن كبير.
اتخذت تلك الحكومة قراراً بإيفاد طلابها للغرب من أجل الدراسة في تخصصات، تظن أنها ضرورية لتقدمها ونموها وقوتها، كما تظن أنها لا تشكل خطورة على عقيدة أبنائها وعلى خصوصيتهم الثقافية، كما هو الشأن في دراسة الطب والهندسة والكيمياء والفيزياء وغيرها من العلوم البحتة. وذهب فعلاً ألوف الشباب من أبنائها؛ وهناك تشعر الحكومة أنها فقدت جزءاً كبيراً من السيطرة على أولئك الشباب؛ حيث إنها ستجد بين أولئك المبتعثين من لم يَرُق له التخصص الذي ابتعث إلى دراسته، فتحول من الطب إلى دراسة الأدب الإنجليزي أو الفلسفة أو إدارة الأعمال. وستجد بينهم من تعرف على بعض قرناء السوء، فوقع في شباك الرذيلة ومستنقع المخدرات. وستجد أيضاً من عزف عن الدراسة، وانخرط في مهنة من المهن يكسب منها قوته. وهناك من تزوج نصرانية بدافع الخوف من الفاحشة، فصارت فيما بعد أمًّا لأطفاله ومربية لهم... وهكذا فلم تستطع الدولة المسلمة أن تجعل أبناءها يأخذون من علوم الغرب ما هو نافع، ويعرضون عما هو ضار؛ لأن المسألة في غاية التعقيد.
ولك أن تقيس على هذا التحالف مع الغربيين في بعض الأمور والإقامة بين ظهرانيهم لكسب الرزق، حيث وجد كثير من أبناء المسلمين في الغرب الرخاء على حين ضاقت عليهم بلادهم، بالإضافة إلى الاستغاثة بالغربيين في تنظيم بعض الشؤون المحلية وغير ذلك.
1/2
كنت قد ذكرت في المقال السابق أني سأقدم مثالاً تاريخياً حول تبسيط بعض الناس لأمور هي في غاية التعقيد، واليوم أحاول الوفاء بذلك، وسيكون هذا المقال عن شيء يتعلق بتاريخ الرجل الكبير عمر بن عبد العزيز - رحمه الله-؛ حيث إن عدداً غير قليل من الإسلاميين يعتقدون أن الدولة الإسلامية بإخلاصها وصدقها وإمكاناتها الهائلة تحمل معها أينما قامت مفاتيح الحلول الجذرية المذهلة لكل مشكلات الأمة. وهم يبرهنون على ذلك بالإصلاح الواسع النطاق الذي قام به ذلك الرجل في فترة زمنية قياسية لا تزيد على سنتين إلا قليلاً. وكان من جملة إصلاحاته الباهرة قضاؤه على الفقر في الدولة الإسلامية.
ويستندون في ذلك إلى خبر يفيد أن الخير فاض في زمن عمر إلى درجة أن بعض الولاة أرسلوا إليه يستشيرونه فيما يفعلونه بأموال الزكاة التي جمعوها ولم يجدوا فقراء يوزعونها عليهم، فما كان منه إلا أن أرشدهم إلى أن يشتروا بهم عبيداً ويقوموا بإعتاقهم .(1/57)
والحقيقة أنني شخصياً لا أكاد أحصي الذين سمعت منهم هذا الكلام من أبناء زماننا. وأجزم أن كل الذين يقولون ذلك لم يفكروا في يوم من الأيام في الآليات التنفيذية . وفي حجم الأموال الهائلة التي يتطلبها القضاء على الفقر في دولة تحكم أجزاءً واسعة من العالم خلال مدة زمنية قصيرة جداً في عمر الشعوب والحضارات.
إن هذا الخبر الذي يعتمدون عليه لو صحّ، فإنه في نظري لا يعدو أن يكون حدث في حي من الأحياء أو قرية من القرى أو قبيلة من القبائل، وليس هناك أي فرصة موضوعية لوقوعه فيما هو أوسع من ذلك وذلك للأسباب الآتية:
1- إن الخلاص من الفقر في دولة منتشرة على مساحات ممتدة في آسيا وأفريقيا في سنتين أو عشر سنوات أمر في غاية البعد إن لم نقل إنه في حيز المستحيل العادي؛ لأنه يستلزم أولاً تعريفاً للفقر تجري على أساسه مساعدة الفقراء. وهذا التعريف معقد – كما هو الشأن في تعريف البطالة- ولم يكن متيسراً آنذاك.
ويتطلب ثانياً القيام بمسح واسع النطاق لمعرفة مستحقي المعونة، وهذا يتطلب تشكيل مئات ألوف اللجان التي تقوم بذلك. وبما أن أقاليم الدولة متفاوتة في الغنى والفقر تفاوتاً شديداً؛ فإن عوائد الدولة وجباياتها في الأقاليم الفقيرة لا تسد حاجة الفقراء، ومن ثم فإن هذا يعني القيام بعمليات نقل واسعة ومكثفة للأموال والأشياء والأرزاق من الأقاليم الغنية إلى الأقاليم الفقيرة. وهذا كله على افتراض وجود فائض في بعض الأقاليم؛ وهذا غير ثابت. وعلى كلٍّ فليس لدينا أخبار تاريخية تدل على أن ذلك النقل الكثيف قد تم فعلاً، وهو في أحيان كثيرة لم يكن ممكناً بسبب الحكم (الفيدرالي) الذي كان سائداً، وبسبب صعوبة المواصلات بين الأقاليم الإسلامية المختلفة.
2- هناك ألوف الأخبار المنثورة في كتب التاريخ والتراجم والتي تدل على أن رجالاً كثيرين من أعلام الأمة وعلمائها وصالحيها كانوا يشكون في فترة حكم عمر بن عبدالعزيز من الفقر وقلة ذات اليد. والذين لم يذكر لنا التاريخ عنهم أي شيء يبلغون مئات الأضعاف لهؤلاء. فهل نصدق خبراً واحداً ونضرب بتلك الأخبار الكثيرة جداً عرض الحائط؟!
3- بعض فقر الفقراء يحتاج إلى علاج خاص، وبعضه لا يستطيع أحد علاجه حين يكون فقر الإنسان بسبب كسله وعدم رغبته في العمل؛ فإن الناس يعرضون عن مساعدته، بل يشعرون بأن مساعدته خطأ. وحين يكون فقره بسبب سفهه وتبذيره وسوء إدارته للمال؛ فإن هذا لا يساعده الناس. وإذا ساعدوه لم ينتفع بمساعدتهم.
بعض الفقراء يكونون أيتاماً أو أرامل ومعوقين، وهؤلاء يحتاجون إلى ملاجئ ودور رعاية وجمعيات خيرية ومن غير ذلك تصعب مساعدة العديد منهم.
4- من أين جاءت الأموال لعمر بن عبدالعزيز – رحمه الله- حتى أغنى الناس، ولم يبق فيهم من يأخذ أو يستحق الزكاة؟
الذين يقولون بذلك يذهبون إلى أن عمر حسَّن نظام جمع الزكاة والخراج والجزية فصارت الأموال تذهب إلى خزينة الدولة عوضاً عن أن يضيع كثير منها بسبب الرشوة أو بسبب سرقة الجباة. كما أن الله – تعالى- يبارك في الرزق وينشر فضله ومعونته حين يسوء الصلاح ويتولى الأمور رجال أخيار من نوعية عمر بن العزيز.. وهذا الكلام صحيح جزئياً.
وقد كان إصلاح الأحوال في الأقاليم البعيدة عن مركز الخلافة –ومعظمها كذلك- أعظم مشقة بسبب صعوبة الاتصال. لكن الهدر الذي كان يحدث بسبب فساد نظام الجباية لا يشكل في أي حال رقماً ضخماً، ينقل الأمة من حال الفقر إلى حال الغنى.
5- علينا بعد هذا أن تساءل هل فريضة الزكاة شرعت أو روعي في مشروعيتها ألا يبقى في المجتمع المسلم فقيراً؟ وهل هذه النسبة القليلة كافية لسد حاجات الفقراء في كل الأحوال؟.
لا أعرف آية أو حديثاً فهم منه أئمتنا أن الزكاة إذا أديت على أكمل وجه في مجتمع أو إقليم تم القضاء على الفقر فيه. ولا أعتقد أن من يملك درجة متوسطة من الفقه يُقدم على القول بذلك. إن أفضل عصر أديت فيه الزكاة، وكانت الرغبة فيما عند الله أو أوجها هو عصر النبي – صلى الله عليه وسلم-، ثم عصر الخلفاء الراشدين . ولم يتم الفضاء على الفقر لا في مركز الدولة (المدينة المنورة) ولا في غيرها. وفي أمريكا أو أوروبا يدفع المواطن أحياناً ما يصل إلى 60 أو 70% من دخله ضرائب للدولة، أي عشرات أضعاف الزكاة، ومع هذا فإن في تلك المجتمعات فقراء وبائسين كثر.(1/58)
إنني أعتقد أن شعيرة الزكاة جزء من النظام الاقتصادي الإسلامي وهذه الشعيرة لا تحقق أغراضها بكفاءة إلا إذا اشتغلت باقي أجزاء النظام مثل: القرض الحسن، والكفارات، وتوفير فرص العمل، و... على نحو جيد. والنظام الاقتصادي هو الآخر جزء من النظام الإسلامي العام، فإذا كان هناك فساد إداري أو سياسي، أو كان هناك ظلم اجتماعي فادح، أو تحلل أخلاقي؛ فإن النظام الاقتصادي لا يعمل بالكفاءة المنشودة. ومع كل هذا فإن الأعمال الخيرية لا تشكل متن الكفاية المعيشية لأحد، وإنما هي عبارة عن كرّة أخرى من أجل تلافي قصور النظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية في توزيع العدالة. إنها تساعد النظم المعمول بها، وتسد فجواتها لكنها لا تكون أبداً بديلة عنها. ويجب أن يكون هذا واضحاً.
6- لنا أن نتساءل: هل قضى عمر بن عبدالعزيز على الفقر -على رأي من يدعي ذلك- بسبب صلاحه وتقواه أو بحسب حسن إدارته؟ إن كان ذلك بسبب صلاحه وتقواه، فالنبي - صلى الله عليه وسلم- ثم الخلفاء الراشدون أفضل منه وأصلح. وإن كان ذلك بسبب حسن إدارته وتدبيره، فعمر بن الخطاب حكم أضعاف مدته وهو الإداري والاستراتيجي الأول، ومع هذا فلم يتم القضاء على الفقر في عهودهم الميمونة.
7- إن الله- تعالى- جعل الحاجة والعوز ونقص الأموال أداة ابتلاء واختبار لعباده، وسوف تستمر هذه الأداة إلى أن تنتهي حياة البشر على هذه الأرض؛ قال سبحانه: (ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين)[سورة البقرة:155].
إن هذا التفنيد لتلك المقولة على هذا النحو من التدقيق والتفتيش يستهدف تمرين الذهن على النظر العميق وتحريضه على عدم الاستسلام للمقولات الشائعة، كما أنه يستهدف تكوين بنية عقلية معقدة، تتجافى عن السطحية والتحليلات المستعجلة.
والله الهادي إلى سواء السبيل.…
===============
#أزمة وسائل أم أزمة أهداف
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد :
فإنه ما اجتمع لفيف من المهتمين بالدعوة، والغيورين على صلاح الناس إلا دارت بينهم أحاديث ومجادلات وشكايات حول عجز الدعاة عن امتلاك الوسائل الدعوية التي يتمكنون من خلالها من نشر أفكارهم وتعميم مبادئهم ومقولاتهم. ونحن لا نملّ من المقارنة بين تخلف وسائلنا وتقدم وسائل الآخرين من منافسين ومعادين، ولسنا في ذلك - في كثير من الأحيان- مخطئين أو مبالغين؛ إذ مما لا شك فيه أن العمل الدعوي يعاني من نقص ظاهر في الوسائل التي يمكن أن تستخدم في تبليغ رسالة الإسلام، حيث إنك لا تكاد تجد فضائية إسلامية ذات تميز واضح وجاذبية عالية، كما أنك لا تجد شيئاً من ذلك في مجال البث الإذاعي أو في مجال الإعلام المقروء، فالمجلات والجرائد الإسلامية قليلة العدد نسبياً، ومستوى معظمها على المستوى المهني يتردد بين المتوسط والضعيف، ولا يختلف الشأن في (خطبة الجمعة) حيث إن الخطباء القادرين على تشخيص الحالة الإسلامية ووصف العلاج لها قليلون جداً، لكن مع هذا فالمهم دائماً أن ندرك الأسباب الجوهرية لما نرى من ظواهر ووقائع ومشكلات، ولما نشكو منه من قصور ومنغصَّات وأزمات. ومع أن تخلف المسلمين وضعف مؤسساتهم المختلفة سينعكس ولا ريب على كل الوسائل التي بين أيديهم في كل شؤون الحياة، إلا أن ذلك ليس هو السبب الجوهري في تخلف الوسائل الدعوية، وإنما يكمن السبب الأساس في أن معظم الدعاة لا يملكون الأهداف الواضحة لحركتهم الدائبة. الهدف الجيد الواضح والمدروس يجعل من نفسه أداة لتحريض الذين بلوروه على إيجاد الأساليب والوسائل التي تبلَّغهم إياه، وإن كثيراً من الأهداف الدعوية لا يفعل ذلك لأنه لا تتوفر فيه سمات الهدف الجيد، ومن ثم فإنه يُدرَك بطريقة مبتذلة أو بطريقة غامضة، مما يفقده سمة التحريض التي أشرنا إليها.
أزمتنا الأساسية إذن في فقد الهدف الجيد، وليست في الافتقار إلى الوسيلة الناجحة، وأزمة الهدف الجيد هي نتيجة قصور بنيوي يعاني منه العمل الدعوي منذ مدة ليست بالقصيرة، وذلك القصور يتمثل في ضعف فهم نوعية الحركة المطلوبة لهواية الناس وإصلاح شؤونهم ونوعية الخطاب الذي تجب صياغته في كل ذلك، وهذا يترتب عليه عدم القدرة على تحديد الأولويات التي يجب أن توجَّه إليها معظم الجهود والإمكانات، مما يدفع الناس إلى أن يعلوا في كل اتجاه، وأن يهتموا بكل شيء ولكن دون تحقيق اختراقات جيدة في أي مجال من المجالات.
إننا إذا امتلكنا الهدف الجيد فقد نتمكن من امتلاك الوسيلة المناسبة، وقد لا نتمكن، لكن إذا لم نمتلكه فإننا قطعاً لن نعرف الوسيلة المطلوبة ولن نصل بالتالي إليها.(1/59)
لو تأملنا في سير المصلحين العظام الذين عدَّلوا في اتجاه التاريخ الإسلامي لوجدنا أن أكثرهم - إن لم نقل جميعهم- لم يكونوا يملكون أي إمكانية جيدة أو وسيلة فعالة لنشر أفكارهم وإصلاح الأوضاع العامة عند انطلاقتهم الأولى، لكن نجد أنهم كانوا - على مستويات مختلفة- يعرفون ماذا يريدون، وكانت الأشياء التي يعملون من أجل الوصول إليها تلوح أمامهم في الأفق، ولا يختلف وضع مصلحي الأمم الأخرى عن وضع مصلحينا، فاليهود الذين اجتمعوا في سويسرا في أواخر القرن التاسع عشر - كانوا يعانون من عزلة عالمية ومن شيء من الاضطهاد في بعض البلدان؛ وفي ذلك الوقت توصلوا إلى أنهم يستهدفون إقامة دولة لهم على أرض فلسطين بعد خمسين سنة، والذي ينظر إلى ضآلة ما بين أيديهم من إمكانات وإلى تحقيق ذلك الهدف في ظل الحكومة العثمانية، يستغرب من ذلك الطموح، لكن العمل الشاق والمثابر نحو الهدف المحدد يوجد طبيعة الكثير من الظروف الملائمة، ويوفر الكثير من الإمكانات المطلوبة وهذا ما حدث.
بعض الذين يشتغلون بالدعوة إلى الله - تعالى- يغلب عليهم قصر النظر، فهم لا ينظرون إلى بعيد، ولا يستطيعون التأمل في مآلات الأشياء، وهذا يحرمهم من رؤية ما هو كامن من إمكانات ومعطيات وعقبات، وهم لهذا مشغولون بما هو ناجز ظانين دوامه واستمراره، مع أن التقدم العلمي والتقني الذي يحدث الآن يجعل ناموس الحياة الأساس في التغير والتبدل، وليس في الثبات والاستمرار.
وهناك ممن يشتغل بالدعوة من يغلب عليه الحسّ العملي، وينظر إلى التخطيط وبناء الاستراتيجيات وبلورة الأهداف على أنه مضيعة للوقت، وليس هناك ما يدعو إليه، وهو في نظره قد يكون مظهراً من مظاهر الفرار من العمل وتحمل المسؤوليات الكبيرة، وهذه الشريحة واسعة جداً وإلى حد لا يُصدَّق!
ومن المؤسف أن فيمن يشنَّع على التخطيط الدعوي من لا يخطط وينظر، كما أنه في الوقت نفسه لا يعمل ولا ينتج، فهو في الحقيقة يعاني من عطالة شاملة، ولو سئل عما قدّمه للأمة خلال أسبوع أو شهر مضى لم يجد شيئاً يتحدث عنه! وهناك من يعمل من غير رؤية راشدة ولا أهداف واضحة ولا فقه للأولويات، وهؤلاء أسوأ حالاً من أولئك؛ لأن حركتهم قد تفضي إلى حدوث كوارث!
الهدف الجيد يحتاج إلى أن نرسم خطة لتنفيذه، وتلك الخطة يجب أن تشتمل على الإمكانات والأوقات المطلوبة، بالإضافة إلى العقبات المتوقعة، وبذلك وحده نجد أنفسنا مضطرين إلى البحث عن الوسيلة الفعالة والملائمة.
لست ممن تتملكه الرغبة بإغراء الآخرين بالبحث عن المستحيل وسلوك الطرق الوعرة لبلوغ الرغائب؛ لأن مشكلتنا الأساسية ليست مع المستحيل الذي نتمناه، ولكن مع الممكن الذي ضيعناه!.
فيا أيها الذين خنقهم الواقع بمعطياته الصعبة، فحرموا من رؤية الآفاق الممتدة التي تنتظرهم، ويا من أدمنوا الشكوى من ضعف الحيلة وانعدام الوسيلة، امنحوا أنفسكم الوقت الكافي للعثور على أفضل تحديد ممكن لما ترغبون في تحقيقه، وسوف تجدون أن ذلك سيجعل وسائلكم أكثر تقدماً وفاعلية، كما أنه سيجعلكم أكثر واقعية، وسيكون لكم من وراء هذا وذاك إدارة أجود للإمكانات المحدودة التي بين أيديكم. والله الهادي.
===============
#خطاب تبليغي
إذا كان الخطاب الصفوي خطابًا تنشئة الخاصة، وتتداوله الصفوة؛ فإن الخطاب التبليغي تصنعه الخاصة، وتقوم باستخدامه شريحة متوسطة بين الخاصة والعامة، إذ توجهه إلى عامة المسلمين. الخطاب التبليغي يشكل أداة مهمة لتوحيد الثقافة عند حدودها الدنيا، كما أنه يعد الوسيلة الأساسية لتذكير الناس بالمبادئ والأصول والأدبيات الإسلامية. ولهذا فإن رقعة تداوله واسعة جدًّا ومن هنا فإنه اكتسب صفة (الشعبية). وشعبيته هذه تملي عليه أن يتصف بخصائص وسمات، ويتعرض لأزمات ومشكلات يحسن بنا الوقوف عندها، ولعل أهمها الآتي:
1- الوضوح: من المهم أن يكون الخطاب التبليغي واضحًا غاية الوضوح، حيث إن تدني المستوى المعرفي لأولئك الذين يتلقونه يوجد في أذهانهم الكثير من الالتباس والخلط في التفسير. ولو أنك سألت عشرة من الناس عن خلاصة ما فهموه من إحدى خطب الجمعة لوجدت تفاوتًا بيَّنًا في خلاصاتهم. إن من الحيوي أن ندرك أن سوء الفهم ليس حادثًا نادرًا، وأن الواحد منا لو شرح فكرته عشرين مرة، فليس هناك أي ضمان لاستيعاب السامعين لها على النحو الذي يريد.
إن اللغة ناقل غير كفء، وإن الناس حين يسمعون كلامًا يفهمونه في ضوء ما لديهم من خلفيات معرفية، بل إن كثيرًا منهم يقرؤون تلك الخلفيات ويبلورونها عوضًا عن الاشتغال بفهم ما سمعوه.(1/60)
ومن هنا فإن من المفيد أن نحاول التأكد من أن الناس فهموا فعلاً ما نقوله لهم كما نعنيه تمامًا . تكرار بعض المقاطع، وعدم تركيز المعاني في ألفاظ قليلة، وعدم الإكثار من ذكر أعداد التقسيمات والفوائد والمضار من الأمور التي تضفي على الخطاب طابع الوضوح، وتجعله قريبًا من تناول الأفهام. وقد كان - صلى الله عليه وسلم- يكرر بعض الجمل المهمة حتى تُحفظ عنه. والتكرار يساعد الذاكرة، ويخفف العبء عن جهاز الإدراك والتحليل. ومن الملاحظ في القرآن الكريم وفي السنة النبوية أن الخصال والميزات والأقسام على نحو عام لا تتجاوز الخمسة إلا على سبيل الندور، وذلك حتى لا يشق على الناس حفظها.
وأعتقد أن التركيز على شرح التعريفات يساعد الناس على الفهم الصحيح، وإذا أوردنا مصطلحًا غريبًا فلنحاول تبسيطه قبل تجاوزه.
2- التأثير والإقناع يشكل هدفًا مزدوجًا للخطاب التبليغي الشعبي، وربما كان طابع التأثير ألصق به، حيث إنه في الغالب لا يشتمل على معلومات جديدة، ولا يكشف عن خبايا وقضايا مجهولة، إنه يذكر بالأصول والحدود والآداب، ويستنهض الهمم للزوم الجادة والأخذ بالتي هي أقوم، كما أنه يحذر الناس من عواقب المعاصي والشرور التي انزلقوا إليها. وهذا كله جعل حامل هذا الخطاب محتاجًا إلى أن يمتلك قدرًا غير قليل من الحماسة لمقولاته وقدرًا من العاطفة الجياشة؛ لأنه من غير ذلك لا يستطيع التأثير في عواطف السامعين، ولا يظهر الفرق بين النائحة الثكلى والنائحة المستأجرة- على حد قول أحدهم-. وهذا يملي على الخطباء والوعاظ خصوصًا وحملة هذا الخطاب عمومًا أن يدخلوا في موازنة دقيقة، بين البقاء أوفياء للحقائق التي يبشرون بها والأدلة والبراهين التي يستندون إليها، وبين كسب القلوب التي يحاولون التأثير فيها، إنهم يجدون أنفسهم في حالة من التردد بين الحقيقة والعاطفة؛ وإن التاريخ ليشهد، وإن الواقع لينطق بأن الذين أخفقوا ويخفقون في إقامة هذه الموازنة أكثر بكثير من الذين ينجحون. وظاهرة (القصّاص الكذبة) ليست ظاهرة تاريخية، نقرأ عنها، وإنما هي ظاهرة مستمرة، فتذوق منها مرارة يومية. ومن المعروف أن بعض القصّاص والوعاظ وضعوا أحاديث ونسبوها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم- وكان دافعهم - في أحسن الأحوال- تكثير سواء المهتدين. وحين ذُكَّر أحدهم بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " من كذب عليّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار" قال: نكذب له لا عليه!! وفي أيامنا هذه انتشر في العالم الإسلامي وباء المبالغة والتهويل في ذكر المحاسن والإيجابيات وذكر المساوئ والسلبيات. وهذا لا يختلف كثيرًا عن تضليل العقول بالكذب الصراح! وهناك أشخاص يلبسون ثياب الدعاة الهداه، لكنهم لا يملكون شيئًا من رشد الداعية ولا تذمم الفقيه، وهم ينشرون الخرافات والأوهام والغرائب والشذوذات ويصورونها للناس على أنها من الأمور الثابتة والبينة التي لا تقبل الجدل والنظر!
إن تنمية الخطاب التبليغي وتنقيته من الشوائب تعد مسؤولية عامة لكل أهل الفهم والغيرة، وإن قوله - صلى الله عليه وسلم-:" بلغوا عني ولو آية " يفيدنا أن في إمكان السواد الأعظم من الناس أن يقوموا بواجب البيان والتبليغ. وإن هذا الخطاب يحمل - على نحو جوهري- عبء القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مما يعني أن أعدادًا كبيرة من المسلمين تسهم في تشويهه، وتستطيع في الوقت ذاته - لو أرادت - النهوض به.
إن بداية الطريق لرفع سوية هذا الخطاب وجعله ألصق بالحق وأقوم لله - تعالى- بالقسط- وربما كانت تتمثل في أن نضع في أذهاننا جميعًا أن الواحد منا بمجرد التصدي للوعظ والإرشاد والأمر والنهي، يضع قدمه على أرض هشة وخطرة، حيث يعرّض نفسه للسحب من رصيد الحقيقة لحساب الرغبة في التأثير في الناس والعدول بهم إلى الطريق الصحيح. وحين يترسخ هذا المعنى في نفوسنا وعقولنا فإنه يكون قادرًا على توليد حاسة جديدة نتلمس من خلالها أشكال الزيف وضروب الزيغ.(1/61)
3- الخطاب التبليغي ينقل رسالة، ويحاكم الحياة العامة إلى نموذج إسلامي نقي وسام مستمد من نصوص الكتاب والسنة وحياة السلف الصالح، ومقتبس من الصور الزاهية للنجاحات الإسلامية في كل زمان ومكان. وله دور جوهري وعظيم في بقاء الإسلام حيًّا في النفوس وفي تنمية النزعة نحو التعالي القيمي والأخلاقي لدى المسلمين في أصقاع الأرض، لكن لصعوبة تقدير حجم المسافة التالة التي يجب أن تفصل بين المثال والواقع، وما هو كائن وما ينبغي أن يكون، فإن الخطاب التبليغي مصاب بالنزوع إلى مثالية مفرطة في قراءة النموذج الإسلامي الذي يمكن لمعظم الناس أن يكيفوا حياتهم معه، كما أنه مصاب بالمثالية الزائدة في قراءة الواقع التاريخي حيث يتم أخذ الناس بالعزيمة، كما يتم تصوير حياة السلف بناء على تتبع سير رجال محدودين لا يشكلون أكثر من 1% من السابقين. وبناء على الإفراط في هذا أو ذاك، فإن لدى كثير من حملة الخطاب التبليغي شعورًا بالمرارة الشديدة من انحراف مسلمي عصرنا وتنكبهم لجادة الاستقامة. وهذا جعل ذلك الخطاب يتشح بوشاح من اليأس والإحباط، وينعكس ذلك باستمرار في صور صارخة من التقريع واللوم والعتب. وهذا مع مخالفته لهدي النبي – صلى الله عليه وسلم- في الحث على التبشير والبعد عن التنفير؛ فإنه يزرع في نفوس الناس نوعًا من احتقار الذات ونوعًا من الضيق من سماع القائمين على أمور الوعظ والإرشاد.
إن بين تعريف المسلمين بواقعهم وبين تنفيرهم وتيئيسهم هامشًا ضيقًا يجب إدراكه بعناية. وإن التشجيع واللغة اللطيفة والقول الليّن تستخرج أنبل ما في نفوس الناس من معاني الاستجابة والاندفاع للعمل.
4- في ظل موجات اللهو وفي ظل الدفق الثقافي الهائل الذي يتعرض له الجمهور الإسلامي صارت معرفة الناس بأمور دينهم آخذة في التقهقر وصار من المهم بمكان التركيز على (المعرفة الفقهية) ولا سيما الأحكام المتعلقة بالسلوك الشخصي للمسلم. إن الفقه في الدين يشكَّل في كل الأحوال فضيلة من الفضائل الكبرى وباباً عريضاً من أبواب الخير.
وقد قال – صلى الله عليه وسلم- : " من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين".
إن من المهم جداً أن تشكل معرفة الحلال والحرام قاعدة الثقافة لدى الجماهير المسلمة من أجل تأسيس وعي مرتبط بالشريعة الغراء وتأسيس وازع داخلي يوجه سلوك المسلم في سره وعلنه. وإن خطبة الجمعة تشكل فرصة ذهبية لمثل هذا التثقيف. ولو أن الخطيب عرض في الخطبة الثانية حكماً فقهياً مما تمس حاجة الناس إليه لأفاد الناس بمعرفة نحو من مئتين وستين مسألة في خمس سنوات وهذا يشكل خلفية فقهية جيدة إذا تم اختيار تلك الأحكام بعناية.
إننا لا ننتبه أحياناً إلى أن الناس يتقبلون الأحكام الفقهية وكل ما يشكّل معطيات علمية ثابتة أكثر من تقبلهم للوعظ والإرشاد الذي يمنح المتحدث نوعاً من التفوق المباشر عليهم. كما أن الحديث في الأمور الفقهية – بوصفها أمورًا بعيدة عن التقدير الشخصي- يمنح المتحدث مصداقية لدى المستمعين أعلى من المصداقية التي ينالها الوعاظ.
5- اعتدال الخطاب التبليغي شيء جوهري، فعمل الداعية أشبه بعمل الطبيب الذي يرى أن من الضروري أن يطلع المريض على علته، وأن يدله على الترياق، ويفتح أمامه باب الأمل في الشفاء. وهذا في الحقيقة ينطوي على موازنة دقيقة؛ فحين يكون تناول الدواء مزعجاً ومكلفاً فإن الناس يعرضون عنه. وحتى لا يعرضوا عنه فإن عليك أن توضح أهميته بالنسبة إليهم. ولا تستطيع بلوغ ذلك ما لم تبين لهم خطورة الداء الذي لديهم، وحين تفعل ذلك فإنك تعرضهم للشعور باليأس والإحباط؛ وهذا ما يجعلهم يعرضون عن الدواء!.
قد يكون من المفيد في هذا أن نقرن الحديث عن الأزمات بالحديث عن الحلول الممكنة لها، وأن نحاول دائماً عدم تضخيم الأمور؛ فاللغة بسبب عجزها الظاهر عن تحديد الصفات والكيفيات تغرينا بالمبالغة، إذ يمكن دائماً أن نصف كثيراً من الأحداث بأنه نكبة أو كارثة كبرى.
وسيظل بث روح الأمل والاستبشار بالتقدم والازدهار أقرب إلى روح الشريعة الغراء وأعون للناس على النهوض.
6- يحتاج صانعو الخطاب التبليغي إلى إغنائه بالمفاهيم والأفكار التي تدل الناس على دورهم الشخصي في الحياة. في العقود الخمسة الماضية – على الأقل- كان لدينا تركيز مبالغ فيه على المقولات الإصلاحية العامة، حيث كانت هموم الأمة تسيطر علينا سيطرة كبيرة، وكان ذلك ينعكس بصورة مباشرة على خطابنا التبليغي، وصار من المألوف أن يتحدث الخطباء أمام العامة عن انكسارات الأمة وسيطرة الأعداء عليها وسلبهم لخيراتها، كما صار من المألوف المقارنة بين أحوال السلف وما نالوه من المنعة والتمكين وبين أحوالنا وما نحن فيه من ضعف واستلاب. ولم نخرج من ذلك بأي شيء ذي قيمة سوى إشاعة الإحباط وتوفير مادة لجلد الذات!.(1/62)
إن الحديث عن هموم الأمة وعن الإصلاحات الكبرى والشاملة ينبغي أن يظل -إلى حد بعيد- في نطاق الخطاب الصفوي النخبوي. أما الخطاب التبليغي فالأولى به الاهتمام بدلالة الناس - على نحو مفصل ومسهب- على ما عليهم عمله للارتقاء بذواتهم وتحسين كفاءاتهم ومهاراتهم، وما عليهم عمله لتحسين صلتهم بالله - تعالى- وتحسين علاقاتهم بعضهم مع بعض، وكل ما يمكن أن نطلق عليه (الخلاص الشخصي) .
إن المجال الخاص هو مجال التأثير الحقيقي للإنسان العادي؛ ومن المهم أن يتعلم كيف يتحرك في ذلك المجال. إن الناس في حاجة إلى من يعلّمهم كيف يوجهون إدراكهم، ويسيطرون على رغباتهم، ويحافظون على أوقاتهم، ويديرون الموارد والإمكانات المحدودة التي في حوزتهم وينبغي أن يكون هذا من المهام الجوهرية للخطاب التبليغي.
7- الحصيلة اللغوية لدى العامة وأشباههم ضئيلة، وهذا يعني أن جهاز التفكير لديهم سيكون ضعيفاً، كما أن آفاق الفهم والاستدلال تكون لديهم أيضاً محدودة. وهذا يملي على صانعي الخطاب التبليغي العديد من المهمات، أذكر منها الآتي:
أ- إثراء ذلك الخطاب بالتشبيهات والأمثلة الحسية. وفي القرآن الكريم وفي السنة النبوية الكثير من ذلك. إن التشبيه ينقل الإدراك من معالجة أمر معنوي إلى معالجة أمر مادي ملموس. وإدراك المحسوس أسهل بكثير من إدراك المجرد والمعنوي. وكثير من الخطباء اللامعين والمتحدثين المؤثرين صاروا كذلك بسبب وفرة الأمثلة والتشبيهات الحسية التي يستخدمونها.
ب- البعد عن ذكر الشُّبه والمآخذ التي يوردها المخالفون وأعداء الإسلام؛ إذ ما الذي سيستفيده الناس إذا حدثناهم عن شبهة انتشار الإسلام بالسيف أو شبهة الرق في الإسلام... وهم لم يسمعوا بكل ذلك، ولا ينظرون إليه على أنه يثير إشكالية لديهم. إن الخطاب الصفوي هو المجال الحقيقي لتداول هذه القضايا. ونحن حين نثير الشبه أمام الناس نضع الإسلام في موقف دفاعي، هو في غنى عنه
كما أن هناك احتمالاً لأن تعلق الشبهة في أذهان الناس بسبب ضعف الرد المستخدم في تفنيدها. وقد وصف بعض أهل العلم الفخر الرازي في تفسيره بأنه يسوق الشبه نقداً، ويرد عليها نسيئة.
وقد سمعت من أحد من كَتب حول الشبه أسفه لذلك، وقال: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما كتبت ذلك الكتاب. نعم حين يتحدث الناس عن أمر مغلوط في مجالسهم ومسامراتهم، لا يبقى لنا خيار سوى الحديث فيه.
ج- البعد عن الخلافيات والتفريعات الدقيقة والتعليلات المتعمقة شيء أساسي في الخطاب التبليغي. إن العامي لا مذهب له، ومذهبه مذهب مفتيه، وينبغي أن تكون الفتوى على قدر السؤال وعلى قدر الحاجة، وذكر الخلافيات - من غير حاجة- يؤسس لدى العامة لعقلية التساهل؛ لأنهم لا يعرفون موارد الاختلاف وأسبابه الموضوعية. وذكر التفريعات يربك وعيهم، ويتسبب في إدخال الأوهام عليهم.
د- إن بساطة التفكير لدى العامة تجعل الطريق إلى تغيير سلوكهم يمر أساساً على القلب، وليس على العقل، فلغة المشاعر والأرواح مفهومة لديهم أكثر من لغة المنطق والبراهين. وإن من المهم لكسب عقول الناس أن نكسب قلوبهم. وهذا يتطلب أن يكونوا أثناء مخاطبتهم في وضع نفسي مريح. ولعل مما يساعد على ذلك أن نخفف من مستوى الجدية في كلامنا، وذلك بأن نضفي عليه مسحة خفيفة من الطرفة والدعابة. وقد كان - صلى الله عليه وسلم- كثير التبسم، كما كان يمازح أصحابه، ويقبل ممازحتهم، كما كان يضحك لضحكهم، ويعجب مما يعجبون منه. إن المسلمين مثقلون بأنواع الهموم، وهم في حاجة إلى درجة من التفريج العصبي، وعلينا أن نتيح لهم ذلك. إن الطرفة تُحدِث تواصلاً بين المتحدث وسامعيه أشبه بالتفاعل الكيميائي، وإن عيون الناس حين يضحكون من طرفة سمعوها تلمع بمشاعر الامتنان لمن أضحكهم. كما أن الطرفة تكسر الحاجز النفسي الذي يصنعه موقف الخطيب والواعظ، وهذا ضروري للتأثير في الناس.
إنني أعتقد أن حاجتنا ماسَّة إلى الكثير من البحث والتداول في خصائص الخطاب النخبوي والخطاب التبليغي إذا ما كنا نريد فعلاً للجهود الدعوية والإصلاحية أن تؤتي ثمارها على المستوى المطلوب.
والله ولي التوفيق،
===============
#الخطاب الصفوي
نحن في الساحة الإسلامية بحاجة إلى لونين من الخطاب. خطاب صفوي نخبوي، وخطاب بياني تبليغي. والهدف من تنويع الخطاب هو القيام بمهمتين عظيمتين: الأولى: العمل على تجديد الخطاب الإسلامي وتعميقه والارتقاء به. أما الثانية فهي التمكن من إيصال الرسالة الإسلامية إلى الشرائح المتوسطة والدنيا من المجتمع، على وجه الخصوص. وسوف أترك الحديث عن الخطاب التبليغي إلى مقال تالٍ، وأتحدث اليوم عن سمات الخطاب الصفوي. والذي أعنيه بالخطاب هنا مجمل المفاهيم والتوجهات والأفكار والآراء التي تعبر عن الثوابت والأدبيات التي نرغب في بلورتها وتعميمها من خلال تداولها وسوقها في نسق متميز محكوم بقواعد وآليات منطقية وبيانية معينة.(1/63)
في ظني أن الاشتغال على بلورة الخطاب الصفوي يتطلب منا معرفة حسنة بالمبادئ الكلية للشريعة السمحة، إلى جانب معرفة مقاصدها وما هو مجمع عليه من أحكامها، بالإضافة إلى فهم عميق للاحتياجات المعرفية والحياتية للناس، إلى جانب تلمس مستمر للتحولات التي تطرأ على الذائقة الثقافية لديهم. إن الدفق المعرفي الهائل الذي يتعرض له الوعي المسلم اليوم يُدخل على عقول الناس وعلى اهتماماتهم وطرائق استيعابهم للأمور الكثير من التغيير والتحوير.ولا بد لنا من متابعة ذلك وتطوير خطابنا بما يتلاءم معه.
وأتصور أن من سمات الخطاب الصفوي الذي نحن في أمس الحاجة إليه الآتي:
- هو خطاب خاص يتداوله العلماء والمفكرون والباحثون في مؤتمراتهم وبحوثهم وحواراتهم ومجلاتهم العلمية المتخصصة. وسبب خصوصيته أن الأفكار التي يتم تداولها فيه تكون في العادة معقدة ودقيقة وموضع اختلاف وجدل، إنها ما زالت في مرحلة البلورة والإنضاج، وليس من الملائم تداولها ونشرها في النطاق العام.
- يشتغل الخطاب الصفوي على مفاهيم عميقة، ويستخدم مصطلحات غير معروفة لدى كثير من الناس والذين جرت عادتهم بالتعامل مع المعاني السطحية والمباشرة للكلمات، كما أنه يستخدم تشبيهات وتعليلات لا يستخدمها السواد الأعظم من الناس.
- من ملامح الخطاب الصفوي الأساسية اشتماله على رؤية نقدية لأوضاع المسلمين السياسية والأخلاقية، والاجتماعية والاقتصادية... إنه يتلمس مواجع المسلمين وأشكال القصور في حياتهم، ثم يبحث في أسبابها وفي كيفية معالجتها. إننا من خلال الخطاب الصفوي نوضح مساحات الجمال والخير في حياتنا العامة، كما نسلط الضوء على المساحات السلبية والقاتمة، بغية تكوين أوضح صورة ممكنة للحياة الإسلامية.
- الخطاب الصفوي خطاب تحليلي، يقوم على فهم طبيعة المشكلات التي يعاني منها المسلمون، ويبحث بعمق في أسبابها وجذورها وأعراضها والعلاقات الجدلية القائمة بين مختلف جوانب حياتنا المعاصرة. إنه يبحث عن الجذور الأخلاقية لأزمة سياسية حادة، كما يبحث عن الجذور الاجتماعية لوضعية اقتصادية متدهورة، ويبحث في أثر قصور المفاهيم في ردود الفعل الخاطئة...
- الخطاب الصفوي الذي نحتاجه هو خطاب تنموي، يدل الناس على الدروب المفتوحة، كما يحذرهم من سلوك الطرق المسدودة، إنه يطرح الرؤى والنظريات التي تفتح حقولاً للعمل والممارسة، ويشرح إمكانات الحركة ومجالات الإصلاح والتطوير الشامل في الظروف السيئة؛ إنه يفعل كل ذلك لأنه ينطلق من مقولة: كل نظرية تفضي بالناس إلى اليأس والقنوط والقصور عن العمل؛ هي نظرية خاطئة، ويؤمن بقوة أن الله - جل وعل- ما أنزل داء إلا أنزل له دواء.
- من سماته كذلك البعد عن القطع والجزم في صيغ التداول، ومن الحذر من إيراد القطعيات في موارد الظنيات، إنه يستخدم صياغة احتمالية لأنه يطرح أفكاراً لينة وفرعية، ويشتغل على شرح نظريات وتوجهات اجتهادية، هي موضع جدل ونقاش وأخذ و ردٍّ.
- الخطاب الصفوي هو خطاب منفتح بطبيعته: منفتح على الاجتهادات داخل المذهبية الإسلامية، كما أنه منفتح على الأفكار والمفاهيم المتداولة خارج النطاق الإسلامي؛ لأنه يستهدف إثراء ذاته بكل ما يُحسَّن بصيرة المسلمين بما لديهم وبما لدى غيرهم .
- هو خطاب غني بالأدلة والبراهين والشواهد والاستنتاجات والتشبيهات العلمية الراقية؛ وذلك لأنه يستهدف بلورة رؤى مركبة وعميقة للماضي والحاضر والمستقبل، كما يستهدف التأثير في عقول مثقفة ومدركة لأشكال النقص الذي يعتري الأعمال التنظيرية عامة.
- يعتمد الخطاب الصفوي طريقة النظر من الزوايا المختلفة لأنه في الأساس وإن اشتغل على الكثير من ا لمعطيات الجزئية؛ إلا أنه يظل معنيًّا ببلورة رؤى كلية ومقولات كبرى. وهذا يحتم علينا أن نتمتع بالقدرة عل تقليب الأمور على وجوهها المختلفة ومحاولة فهمها من آفاق متعددة.
- يعتمد الخطاب الصفوي الملاحظة الذكية في طروحاته، إذ إن قراءة سنن الله - تعالى- في الأنفس والآفاق والمجتمعات وشفافيته نحو استيعاب منطق الأشياء، تتيح للمشتغلين به دائماً نوعاً من النفاذ إلى الحقائق التي لا تدرك على سبيل البداهة أو من خلال النظر العقلي العجول؛ ولهذا فإنه يتمتع بدرجة حسنة من الجاذبية، ويستحوذ على بعض الإعجاب.
- هذا الخطاب الذي عرضت لأهم سماته ضعيف جداً في الساحة الإسلامية بسبب قلة المفكرين العظام الذين حظيت بهم الصحوة الإسلامية في العصر الحديث، وبسبب قلة المؤسسات التي تعمل على وضع البرامج البحثية وإنتاج المفاهيم الدعوية والإصلاحية المتقنة. وبما أن الوعي الإسلامي قد جفل منذ أمد بعيد من كل شيء اسمه فلسفة وتنظير؛ فإن صناعة الأفكار لدينا راكدة، كما أن الجهات المستعدة لإنفاق المال على الأعمال العلمية الممتازة شحيحة إلى حد الندرة، وهذا كله يصب في مصلحة الطروحات المناوئة للفكر الإسلامي.
إنه لا فكر من غير إنتاج فكري، ولا إنتاجًا فكريًّا من غير مؤسسات تهتم به وترعاه وتهيئ له ظروف التكوين والانتشار.
===============(1/64)
#الكرامة الجريحة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد.
نحن أهل كرامة جريحة، وهذا الشعور بذلك يأتينا من مصدرين:
من التاريخ أولاً؛ إذ إننا أمة ظلت صاحبة حضارة مهيمنة مدة لا تقل عن سبعة قرون، واستمرت إشعاعات عطاءاتها ثلاثة قرون إضافية، ويزيد في إحساسنا بالإهانة أننا في منتصف القرن الرابع عشر الهجري واجهنا -بوصفنا "أمة ذات منهج ورسالة"- تيارات عديدة، يرمي جميعها إلى طمس هذا المعنى، وجعل وعي الأمة ينفتح على معان وطنية وإقليمية وقومية وعلمانية ....، بوصفها بديلاً عن الانفتاح على أخص خصائصنا، وهو العبودية لله - تعالى - والاحتكام إلى الشريعة في الشؤون العامة والخاصة، وفي مواجهة هذا الاستلاب اجتهد المثقفون والغيورون في تلك المرحلة - وكانوا فيما ذهبوا إليه على صواب إلى حد بعيد - في كيفية مواجهة ذلك، وانتهوا إلى قرار بالذهاب إلى التاريخ على اعتبار أنه الذاكرة الحضارية للأمة والخزان الأساسي لأمجادها وبطولاتها. ونذكر كيف نشطت في تلك المرحلة الكتب التي تتحدث عن العبقريات وعن سير الرجال العظماء والنماذج التاريخية الفذة، والمعارك المظفرة، والإنجازات العلمية الباهرة، بالإضافة إلى بلورة شيء من حكمة التشريع وكون الإسلام لا يتناقض مع العلم... وأسدل الستار على نحو شبه تام على كل الألوان الرمادية والباهتة التي كانت جزءاً من ألوان ذلك التاريخ، كما تم الإعراض عن الحديث عن الأسباب التي أدت إلى توقف الحضارة الإسلامية عن العطاء؛ لأن الكشف عنها في تلك المرحلة كان سيؤدي إلى الإحباط، ويجعل الناس شبه مجردين من أسلحة المقاومة للتيارات التي أشرت إليها. وقد أدت تلك القراءات المبتسرة والجزئية دورها بكفاءة واقتدار في إنقاذ الذات لمسلمة والثقافة الإسلامية من هزيمة نكراء. وهكذا فقد ترسخ في وعي الأجيال الحاضرة وفي حسَّها مشاعر عميقة بالظلم الذي يلحقه بنا الآخرون اليوم، وبالهوان إذ خسرنا معظم الإنجازات التي كنا نفاخر بها في الأيام الخالية.
وأعتقد أن شيئاً من العلاج لهذا سيكون في إعادة قراءة التاريخ على نحو متوازن وبمنهجية سببية واستقصائية ذكية ومتقنة.
المصدر الثاني لإحساسنا بجرح كرامتنا؛ هو الواقع الذي نعيشه، فنحن أمة تملك أفضل منهج - على مستوى الأصول والأسس والمنطلقات الكبرى على الأقل- لإصلاح العالم، لكننا نعيش في أوضاع سياسية واجتماعية واقتصادية عليلة ومتخلفة عن المنهج الذي نؤمن به، وعن متوسط السائد من كثير من أوضاع عصرنا، ونحتاج إلى الكثير من الفكر والعمل والجهد حتى نتجاوز هذه الأوضاع.
المسلم اليوم يشعر أولاً أنه يعيش على هامش الحضارة، حيث إننا دخلناها من باب الاستهلاك والتمتع ليس أكثر، وينقضي عصر صناعي بعد عصر دون أن نلج أياً منها، ومعظم الدول الإسلامية مازال ما لديها من إمكانات صناعية وتقنية أقل مما كان متوفراً لدى أوروبا في القرن التاسع عشر. ويشعر من وجه آخر أنه غير قادر على حماية أرضه وحقوقه، وغير قادر على تفادي الصفعة التي يوجهها الآخرون إليه ولا على ردها، بل يشعر أحياناً أنه غير قادر على الشكوى من الألم الذي يشعر به، أو غير قادر على جعل تلك الشكوى مسموعة لتكون ذات معنى!!
وهكذا؛ فالإحساس المتضخم بالأمجاد الغابرة جعل إحساسنا بالإهانة التي نتلقاها - وهي أشكال وألوان- شديداً أو متفجراً، لكنه مبهم وغامض حيث لا تعرف الأكثرية الصامتة من هذه الأمة أي تحديدات لأسباب ما نحن فيه على نحو منطقي، فضلاً عن أن تعرف سبل الخلاص منه.
وأود هنا أن أبدي الملحوظتين التاليتين:
1- شيء أساسي أن نشعر بالإهانة والدونية؛ لأننا إذا فقدنا هذا الإحساس فإن ذلك يعني خللاً بنيوياً في رؤيتنا لأنفسنا وللواقع وللعالم من حولنا. وبعض المسلمين حصل على مواقع اجتماعية أو اقتصادية جيدة، فهو مغتبط بالتمتع بثمرات الحضارة وعقد الصفقات وحصد المزيد من المنافع. وينظر إلى الذين يشكون من سوء الأحوال نظرة استغراب، فالأمور تمضي على أحسن ما يرام، وأن يكون بينك وبين الغرب سبب أو تواصل ما، فهذا يعني انفتاح أبواب إضافية للنعيم والنجاح. هذه الفئة من المسلمين ضعُف لديها الإحساس الجماعي إلى حد التلاشي، وهي تشعر في أعماقها بالدونية، لكنها تجد دائماً ما يوجه وعيها نحو همومها ومكاسبها الشخصية. وهذه الفئة في ظل موجات اللهو والمتعة والأنانية التي تبعث بها العولمة - مرشحة للاتساع - ولا ندري كيف سيكون الحال بعد عشر سنوات من الآن ؟!
2- من المهم أن نتخذ من كرامتنا الجريحة محفزاً على المقاومة واكتساب المنعة والارتقاء والفكاك من أسر التخلف لا أن نجعل منها منهجاً للعمل. وهذه القضية لا تخلون شيء من الدقة، وتحتاج إلى شيء من التوضيح.(1/65)
حين يشتعل إحساسنا بالهوان، ونستجيب في توجهاتنا واستخدام الإمكانات التي لدينا لتلك الأحاسيس والمشاعر على نحو بدائي ومتسرع ووفق رؤية جزئية ومبتسرة -؛ فإننا نكون آنذاك غير مؤهلين لمداواة الكرامة المجروحة، ولا استرجاع الحقوق المسلوبة؛ بل إن الاستجابة على هذا النحو ستجعل جروحنا تزداد تقرحاً، وتجعل حقوقنا أكثر تعرضاً للاغتصاب والنهب. ولنا فيما جرى خلال العامين الماضيين من المضايقة والتحجيم للدعوة الإسلامية والمحاربة للمؤسسات الخيرية والمطاردة للدعاة... عبرة إن كنا قادرين على الاعتبار!
وأي شيء أسوأ من أن يصبح ذكر الإسلام والمسلمين شيئاً يثير مشاعر الخوف والاشمئزاز لدى كثيرين من أبناء أمريكا وأوروبا وغيرهما؟!
إن أمريكا أحسَّت بجرج عميق في كبريائها حين تعرضت رموزها الاقتصادية والعسكرية للهجوم، وردت على ذلك الجرح الغائر في كرامتها باتخاذه منهجاً للرد، فقابلت الصفعة بصفعات في أماكن عدة من العالم، وما زالت مستمرة في ذلك إلى هذه اللحظة، فماذا جرى؟
إنها تنتقم من بعض خصومها على نحو ساحق، لكنها لن تستطيع أن تحول دون تكرار ذلك الهجوم عليها مرة أخرى؛ لأنها لم تستطع التوقف لقراءة الأسباب الجوهرية التي أدت إلى الهجوم عليها. إنها تربح معركة هنا ومعركة هناك إلا أنها تخسر جاذبيتها الحضارية من خلال عدوانها على النموذج الذي كانت تقدمه للعالم، وتخسر مع كل ذلك الانسجام الداخلي مع القيم التي تروج لها.وهذا ما علينا أن نستفيد منه على نحو جيد.
أما إذا اتخذنا من جرح الكرامة وكؤوس الإهانة حافزاً على الخلاص؛ فإن سلوكنا آنذاك سيكون مختلفاً. وأتصور أننا آنذاك سنفكر ونتصرف على النحو الآتي:
- إن حالة ارتباك الوعي التي نعاني منها ليست جديدة، ولم تتكون في مرحلة واحدة، وجرحنا الغائر لم يحدث بسبب ما فعله ويفعله بنا الغرب، وإنما بدأ الأمر قبل ذلك بقرون عدة. وحين انفرط عقد الدولة العباسية لم يكن ذلك بسبب غرب أو شرق، وإنما بسبب الانحراف عن المنهج الرباني الأقوم الذي أكرمنا الله به، وبسبب عدم القدرة على التجدد وحل المشكلات المتأسنة .
ولهذا فإن ما نلقاه اليوم من ازدراء لا يعود إلى أحوال هذا الجيل، وإنما بسبب الوضعية العامة للأمة، وهي وضعية صنعتها أخطاء وخطايا القرون.
- كما أن على أمريكا أن تسأل بصدق واهتمام : لماذا يكرهها الآخرون؟ ولماذا يكون هناك شباب في عمر الورود مستعدين للموت من أجل إلحاق الأذى بها؟. فإن علينا أيضاً أن نسأل: لماذا يجري كل هذا لنا؟ ولماذا نحن عاجزون عن الدفاع عن أنفسنا؟ ولماذا لا نساهم في توجيه الحضارة الحالية، ولا نؤثر في موازين القوى فيها؟.
إذا نحن تصرفنا ضد أعدئنا وضد أولئك الذين يوقعون الظلم علينا بعين الأسلوب الذي يستخدمونه معنا، فما الميزة التي تجعلنا أكثر أهلية لوضع أسس لحضارة جديدة ومختلفة عن الحضارة السائدة؟
إننا في حاجة إلى أن نعمل على المدى الطويل حتى نكون في وضعية لا يفكر معها أحد في إهانتنا والعدوان علينا؛ لأن ذلك سيكون بالنسبة إليه مكلفاً جداً. والأرقى من ذلك أن يحترمنا الآخرون للقيم والمنجزات التي لدينا، فينشغلون بكيفية الاقتباس والتعلم منا، بدل الانشغال بإيذائنا وظلمنا. والأرقى من هذا وذاك أن نفكر وندعو ونعمل على تحويل أعدائنا إلى أولياء يدخلون في ديننا، وينشرن مبادئنا وقيمنا. وهذا ما قام به المسلمون الأوائل حين انتهوا من مشكلة الآخر الوثني في جنوب شرق آسيا عن طريق نشر الإسلام وجذب الناس إليه. وإن الغرب على المستوى الشعبي - ينتظر منا هذا الأداء، وهو في أمس الحاجة إليه.
وأنا هنا لا أرمي إلى تمييع الأمور، ولا إلى إخماد روح المقاومة؛ لكنني أريد لأعمالنا وجهودنا أن تكون في السياق المنتج، وأن تعبر قبل ذلك عن رؤيتنا الكونية للعالم، وليس عن انفعالاتنا ومشاعرنا.
- الصراع بيننا وبين أولئك الذين يجرحون كرامتنا ليس صراعاً عسكرياً، ولا يمكن للقوة اليوم أن تحسم أية قضية على نحو نهائي .
وإن أي نصر عسكري سيكون مؤقتاً ومجوّفاً إذا لم يرتكز على تفوق حضاري. وإن شروط الاحترام ونوعية الرد المطلوب على الإهانة - لا تستمد من أدبيات حقبة تاريخية ماضية، ولا يضعها الناس بحسب أهوائهم وأمزجتهم، ولا بحسب معتقداتهم ومبادئهم، وإنما يصوغ ذلك ويحدده أولئك الذين يضعون بصماتهم على الحضارة الراهنة، مهما كانت هذه الحضارة ضالة أو ناقصة أو خاوية وهذه نقطة جوهرية.(1/66)
- إن كرامتنا لم تمتهن بسبب استلاب حقوقنا أو نهب ثرواتنا فحسب؛ وإنما هناك أمور أخرى لا تقل أهمية، فالتخلف الذي يخيّم على العديد من جوانب حياتنا أوجد ندوباً ناتئة في نفس كل مسلم، حيث صار هناك ما يشبه الاعتقاد بأننا غير مؤهلين لإنتاج التقنيات المتقدمة ولا لتصميم النظم المعقدة. وإن كثيراً من العمال المسلمين في الغرب لا يجدون فرصاً لكسب أرزاقهم إلا في الأعمال الوضيعة أو الشاقة أو غير المجزية، والتي يترفع عنها كثير من أهالي تلك البلاد، وإن مسلم اليوم يشعر أن الأمة عالة على الأمم الأخرى في كل شيء حتى طباعة المصاحف وتشيد المآذن! وإن النقلة النوعية في التقنية والصناعة وحدها هي التي تجعل المسلم يشعر بأنه لا يعيش على هامش العصر، كما أنه ليس محروماً من الذكاء ولا المواهب التي يقر للآخرين بامتلاكها.
- سيظل من المهم دائماً أن ندرك أن علاقتنا بالأعداء والمنافسين والأغيار ستظل فرعاً عن الوضعية العامة التي نؤسسها في بلادنا، وإن العلاقات الدولية أشبه بسوق يعرض الناس فيه بضائعهم، ويأخذون منه على مقدار ما في جيوبهم، ولن نستطيع أن ندافع عن حقوقنا ولا أن نرسخ وجودنا على الصعيد العالمي عن طريق (الفهلوة) والإدعاء والشعارات، فهامش المناورة أمامنا ضيق جداً؛ وإن الناس يحبون أن يروا؛ فلنجعلهم يرون إذا ما كنا نريد لموقعنا العالمي أن يتحَسَّن.
- علينا أن ندرك على وجه جيد نقطة الضعف الأساسية في علاقتنا مع الآخرين؛ لأننا من غير إدراكها سنكون كمن يصرخ في واد، أو ينفخ في رماد. وأظن أن تلك النقطة لا تتجسد في نقص إمكاناتنا وقدراتنا مع أنها محدودة، وإنما في تكبيل إرادتنا؛ لأن أصحاب الإرادة المسلوبة يظلون يشعرون بالعجر والانهزام مهما كانت قوة الأوراق التي بين أيديهم.
إن تحرير الإرادة من الخوف والتبعية والاستخذاء أمام الأجنبي سيظل شرطاً جوهرياً لتحريك إمكاناتنا في الاتجاه الصحيح، وشرطاً جوهرياً لاتخاذ قرارات تاريخية ومصيرية .
والله ولي التوفيق.
===============
ا#لبحث عن التوازان
بث الله - جل وعلا- ف هذا الكون توازنًا خفيًّا ينجذب الناس إليه كما تنجذب الأشياء في صور وأوضاع كثيرة ومدهشة، نعرف بعضها ونجهل أكثرها. والمهم دائمًا تلمس آفاق ذلك التوازن وسننه في الأنفس والمجتمعات والدعوات والثقافات حتى نتناغم معه و نسعى إلى تحقيقه، ونعمل في إطاره. لكل الأمور طرفان ووسط وذلك الوسط يتم تحديده في أمور كثيرة من خلال الشريعة الغراء كما يتم تحديده في أمور كثيرة أخرى من خلال العرف والاعتبارات والمعطيات الجديدة. الشجاعة والجبن، والكرم والبخل، والحسن والقبح، واللطف والفظاظة والتبذير والتقتير، والجودة والرداءة، والصلابة والليونة، والغلو والاعتدال، والإفراط والتفريط، والاهتمام والإهمال... كل هذه المتضادات والمتقابلات تقع على خط واحد متدرج. والتغيرات على ذلك الخط متصلة وغير منظورة ونتعامل معها من خلال رسم فواصل وهمية واعتبارية، يمكن دائمًا الاختلاف فيها والجدل حولها، فنحن نتخيل صورة لـ (الشجاعة) في وضعها الأقصى لتكون على أول الخط. وتلك الصورة تختلف من شخص إلى آخر بحسب المفاهيم المحيطة والخبرة الشخصية بهذه الفضيلة. وتتدرج تصوراتنا للشجاعة إلى أن نصل إلى منتصف الخط - وهو منتصف وهمي تقديري-؛ فنقول: إن فلانًا من الناس إنسان عادي، لا يوصف بالشجاعة ولا بالجبن. ثم نمضي قليلاً في السير على ذلك الخط، لنقول: إن فلانًا لديه شيء من الجبن. ثم نمضي لنقول: فلان جبان. فإذا اقتربنا أكثر قلنا: فلان من أجبن الناس. فإذا أرتنا خبرتنا الشخصية بهذه المسألة صورة شاذة ومتفردة في الخوف والهلع قلنا: فلان أجبن الناس. ونحن في كل ذلك ننطلق من مفاهيم وخبرات ذاتية ومحددة؛ فلا التعريفات والمصطلحات دقيقة وصلبة بما يكفي لتوحيد التصورات، ولا الخبرات موحَّدة بما يكفي لإصدار الأحكام. والتعبير عنها هو الآخر يتسّم بالهشاشة؛ إذ إن اللغة هي وسيلتنا في التعامل مع هذه الأمور، والنظام اللغوي يكون شديد الطواعية والمرونة عند التعبير عن المسائل الإنسانية. والبنية العقلية للإنسان على مقدار ما تعمل بكفاءة في تصور (الكم) وتحليله تعمل بارتباك وغموض في تصور (الكيف) والحكم عليه؛ ولهذا فإن من قد تصفه بأنه إنسان عادي، لا هو بالشجاع ولا بالجبان، قد يصفه غيرك بأنه شجاع أو جبان ، ومن تصفه بأنه أجبن إنسان في التاريخ قد يصفه غيرك بأنه واحد من ملايين الجبناء الذين ينطون السهل والجبل. وكثير من الغربيين ينظرون اليوم إلى من نعدّه - بحسب معاييرنا وثقافتنا- معتدلاً على أنه متعصب ومتطرف. وما يعده كثير من الغربيين حشمة ننظر إليه على أنه ابتذال؛ وهذا واضح.
مهما اختلفنا في تحديد المفاهيم؛ فإن الأطراف القصوى تظل أطرافاً؛ إن من الصعب جدًّا في البيئة الواحدة أن ينظر بعض الناس إلى شخص على أنه أكرم الكرماء، وينظر إليه آخرون على أنه أبخل البخلاء؛ فالعقول تدرك الألوان المتباينة والحالات المتباعدة على نحو جيد. ومن ذلك الإدراك يتم الانجذاب نحو الوسط الذي هو مركز التوازن.(1/67)
النفس البشرية ميّالة إلى التغيير غير المكلف حيث تلتمس في الجديد دائمًا شيئًا أفضل مما هي فيه. وبما أن حالات التطرف في كل أمر من الأمور تخل بالتوازن العام للشخصية والمجتمع والأمة فإن الناس - مثلاً- إذا خضعوا في مرحلة من المراحل لقيود شديدة في حركتهم واختياراتهم، فإن البحث عن الحرية والانطلاق يصبح الهمَّ المسيطر عليهم؛ فإذا فُكّت قيودهم انغمسوا في حرية تصل إلى حد الفوضى، وبعد مدة يضيقون بالوضعية الجديدة لما يلمسونه من أذى التفلب المبالغ فيه، ويبدؤون بالمطالبة بالضبط والصرامة ومقاومة التسيّب.
حين تشتد وطأة الجوع على أحدنا فإن الحصول على الطعام يصبح ضاغطًا ومسيطراً، فإذا أكلنا وشبعنا تغيّرت نظرتنا للمائدة وطلبنا رفعها وهكذا...
هذا يعني أن قدرًا غير هيَّن من معرفتنا بقيمة شيء من الأشياء يُستمد من معرفتنا بضده أو من معايشتنا له وقد عرف الناس هذا من زمن بعيد، وعبّروا عنه بتعبيرات مختلفة، وكان مما قالوا: " بضدها تتميز الأشياء" ، "الصحة تاج على رؤوس الأصحاء لا يعرفه إلا المرضى"، " للشوهاء فضل على الحسناء". ويقال اليوم: " الوعي بالذات فرع عن الوعي بالآخر"، ويمكن أن نقول : " رؤية الآخر تتم دائمًا من أفق رؤية الذات". وهكذا فالوعي الإنساني يعمل في أفضل حالاته حين يرى في كل شيء صور الإفراط والتفريط والاعتدال. وقد كان عمر - رضي الله عنه- يتخوف من الحالة التي تصير إليها الأمة من عدم معرفة قيمة نعمة الإسلام حين ينشأ في الإسلام أناس لم يعرفوا الجاهلية. حين يسود الرشد في أمة من الأمم؛ فإن معرفتها بالاعتدال والاتزان هي التي ترشدها إلى رؤية صور الإفراط والتفريط. وحين يسود الجهل والعقم والتخلف، فإن وعي الأمة يتعرف على الاتزان من خلال تعرفه على صور الإفراط والتفريط، ويكون في ذلك شيء من الغموض والالتباس، لأنه قائم على استنتاج لا يخلو من شيء من تركيب الأدلة إذا شعر الواحد منا أنه صار في حالة مرضية من التوازن والاتزان فهذا لا ينبغي أن يدعوه إلى الاطمئنان والاستكانة لتلك الحالة؛ لأن ما يستجد من معطيات وظروف واتجاهات ومفاهيم وتحديات وإمكانات... يُدخِل الخلل على ذلك التوازن؛ ولذا فلا بد من البحث عن توازن جديد. ولو أننا تأملنا في أحوالنا الخاصة وأحوال الأمم عامة لوجدنا أن عدم إدراك أهمية عملية البحث هذه هو الذي أدى إلى تدهور كثير من الأمور، حيث يغلب على الوهم الشعور بجمود الأحوال والمعطيات، مما يدعو الناس إلى الركون إلى ما لديهم من استجابات وردود أفعال. وفي زماننا هذا صارت اليقظة الفكرية نحو ما نفقده من توازن أكثر إلحاحًا بسبب غزارة تدفق المعطيات والمتغيرات. وإذا لم ننتبه جيدًا لذلك فإن على الواحد أن يتوقع الانتقال إلى موقع متطرف دون أن يدري. وكل واحد منا يستطيع اكتشاف ذلك بطريقته الخاصة.
من خلال العرض الذي قدمناه يمكن أن نستشف أن العلاقة بين الأطراف والمتضادات هي علاقة جدلية. ولنا أن نستشف أيضًا أن العلاقة بينها سببية أيضاً، بمعنى أن المجتمع أو الجماعة أو الفرد قد يصير إلى حالة سيئة بسبب فقد الأضداد التي تحرضه على التطوير والتحسين، وهذا هو موضوع المقال القادم. ومن الله - تعالى- الحول والطول.
===============
#لا مكان للصغار في عصر الكبار
الاقتصاد هو ما تبقى من السياسة اليوم؛ والدول التي لم تنجح في إقامة علاقات اقتصادية جيدة فيما بينها، لا تستطيع إقامة علاقات سياسية فاعلة؛ لأن الاقتصاد والتجارة والمال والتنافس على الأسواق الدولية، والمواد الأولية الرخيصة هي الصخرة التي يمكن أن تتحطم عليها كل التقاربات السياسية، وكل أشكال التنسيق في المحافل الإقليمية والدولية. فالمحك النهائي للتعاون والتناصر في هذه الأيام، محك اقتصادي قبل أي شيء آخر .
إن المنطق السليم يقرر أن التحديات الكونية يجب أن تواجَه بجهود كونية، وتعاون المسلمين مع بعضهم هو من هذا القبيل؛ فالعالم الغربي المتربص بالشعوب المستضعفة، ينظر إلى العالم الإسلامي على أنه بنية ثقافية واحدة، ومن ثم فإن المعايير التي تمَّ إرساؤها للتعامل مع دوله هي معايير متقاربة. وما اختلفت دولة إسلامية مع دولة غير إسلامية إلا وقف الغرب إلى جانب الدولة غير المسلمة .
إن العالم الإسلامي حين يكون متفرقاً في عالم مجزأ، فإن الأضرار التي تعود عليه من وراء ذلك تكون أخف وطأة، لكن حين يتمزق في وقت يجري فيه السعي الحثيث إلى تكتلات تجمع الدول القوية؛ فإن الأخطار التي تهدد مصالح المسلمين ستكون آنذاك جسيمة! .
ومن الواضح أن بإمكان التجمعات الكبرى - كالسوق الأوروبية المشتركة- أن تمارس ضغوطاً هائلة على العالم الإسلامي في مجالات كثيرة، مثل أسعار المواد الخام، وأسعار الآلات والمصنوعات التي نشتريها منهم؛ كما أن بإمكانها أن تضع القيود التي تناسبها على تدفق العمالة المسلمة ...(1/68)
لقد بات من المؤكد اليوم أن من العسير على الدول الصغرى أن تهيمن على شؤونها الخاصة، حيث حواشي المناورة أمامها دائماً محدودة، وأسواقها الداخلية أيضاً محدودة. وهي لا تستطيع أن تفتح أسواقاً عالمية لمنتجاتها بسبب ضآلة تلك المنتجات، ولا تستطيع تطويرها بالصورة المناسبة؛ لأن ذلك يتطلب إنفاقاً مكثفاً على البحث العلمي ... وهذا كله لا يتأتى للدول الصغرى. وليس من الشاذ ألا نرى اليوم أية دولة عظمى يقل عدد سكانها عن خمسين مليون نسمة، ومع هذا فالدول العظمى كلها داخلة في أحلاف وتجمعات فعّالة، تزيدها قوة إلى قوتها .
إن كل نوع من المشاريع له طاقة إنتاجية مثالية، فإذا قل عنها كانت منتجاته أكثر كلفة. وعلى سبيل المثال فإن مجمعاً حديثاً للتعدين، وذا دورة إنتاجية كاملة، تكون الصورة المثالية لطاقته الإنتاجية هي أربعة ملايين طن من الحديد الزهر، وخمسة ملايين طن صلب في السنة. وبالنسبة لمصنع إسمنت حديث فإن الطاقة الإنتاجية المناسبة له هي مليون طن سنوياً. وفي إنتاج سيارات الركوب 600 ألف وحدة. وبالنسبة لسيارات الشحن والجرارات في حدود 100 ألف وحدة .
فإذا كانت السوق الداخلية محدودة، ولم تكن هذه الصناعات عالية الجودة ورخيصة التكلفة، فإن إنتاجها سيتكبد خسائر، لا يقوى معها على الاستمرار !
إن التفاوت الذي نلمسه بين دولة إسلامية وأخرى كان لدى ولايات كثيرة في العالم، ثم استطاعت أن تشكل فيما بعد دولاً كاملة، فقد كانت الدويلات الألمانية كذلك، وكانت الولايات المتحدة الأمريكية كذلك، ثم زالت الفوارق والمعوقات. شيء من التضحيات مطلوب على المدى القريب من أجل الوحدة لكن الثمار اليانعة سوف يقطفها الجميع فيما بعد . والمسألة من قبل هذا، ومن بعده مسألة مبدأ. والحسابات النفعية لا تُعطى أهمية كبرى في مجال المبادئ، وإنما يجري التحايل عليها، وتأويلها في سبيل الامتثال لما يجب أن يكون!
حدود التعاون الممكن :
أن من غير الممكن الآن تشكيل تكتل اقتصادي إسلامي على مستوى العالم؛ لأسباب كثيرة، لا داعي لتعدادها. وفي كثير من الأحيان يجد المرء نفسه عاجزاً حيال قضايا كثيرة؛ لكنه إذا قال : ماذا يمكن أن أعمل حيال المشكلات والصعوبات الكثيرة خلال عشرين عاماً، لوجد أنه يستطيع عمل أشياء كثيرة جداً !.
وأود أن أؤكد أنه من الصعب إنجاز أشياء كثيرة في تحقيق التعاون الإسلامي بعيداً عن الشعوب الإسلامية؛ فالحمل الذي يتم خارج رحم الأمة هو حمل كاذب !
وإن علينا أن نعترف أننا لم نقم بواجبنا - ولا على مستوى من المستويات- تجاه تأسيس ثقافة تفضَّل السياحة في ديار المسلمين، والتعرف عليها. كما أننا لم نفعل شيئاً ذا قيمة تجاه تفضيل استهلاك المنتجات الإسلامية، وإن كانت أقل جودة من غيرها؛ وما ذلك إلا لأننا لا نمتلك الوعي المناسب بخطورة نظام التجارة ، وقدرته على اكتساح كل النظم!
وأيضاً فإن جاذبية الغرب للصفوة فينا أقوى بكثير من جاذبية البلدان الإسلامية؛ ومن ثم فإن الولاء للمسلمين لم يتشخص في أي تحركات عملية وتبادلية، بل ظل عبارة عن مقولات ومشاعر !!
إن هناك إمكانات هائلة للتعاون بين المسلمين حكومات وشعوباً، بشرط أن يُنظر إلى القضية على أنها قضية مبدأ ومصير في آن واحد. ومن ذلك الإمكانات:
أ. هناك جهل عريض لدى المسلم بأحوال إخوانه المسلمين، وجهل بالميزات والفرص ولإمكانات الاقتصادية المتوفرة في بلاد الإسلام. وإن بإمكان الجامعات والغرف التجارية والصناعية والاتحادات المهنية أن تقوم بالدراسات والبحوث والمسوحات التي تكشف عن الإمكانات والميزات في كل بلد إسلامي سواء أكانت صناعية أم تجارية أم خدمية، وأن تعمم نوعاً من الثقافة الاقتصادية .
كما أن بإمكان تلك المؤسسات إلى جانب الجمعيات والجماعات والأندية أن تنظم رحلات استكشافية وسياحية، الغرض منها التعارف وبناء الجسور بين رجالات الأعمال المسلمين.
إن أمة الإسلام لن تنجز الكثير، ما لم يشعر كل مسلم أن بإمكانه أن يصنع شيئاً ولو كان استهلاكاً لسلعة، صُنعت في بلد إسلامي، أو نشر معلومة تتعلق به، أو لفت الأنظار إلى مشكلة يواجهها .
ب. إن العالم الإسلامي متنوع الإمكانات والميزات والمناخات؛ وإن لكثير من البلدان الإسلامية ميزات ظاهرة، تشبه التخصص، ويمكن لها من خلال التعاون مع البلدان الإسلامية أن تسد حاجات كثيرة، وأن تسهم في النهضة الاقتصادية الإسلامية الشاملة.
إن أندنوسيا وماليزيا من الدول التي تستطيع تنمية صناعات مهمة، مثل صناعة الورق والإلكترونيات والطائرات إذا وجدتا التعاون من قبل الدول الإسلامية بالإقبال على شراء مصنوعاتهما، وتمويل بعض المشروعات فيهما.
وإن من الممكن جعل السودان مصدراً للغذاء لدول أخرى عديدة، لكنه بحاجة إلى المعونة الفنية والمالية لاستثمار الإمكانات الهائلة التي لديه.
وإن بإمكان دول الخليج أن تقدم خبرات ممتازة، وتقود مشاريع عملاقة في مجال صناعة النفط وتسويقه، كما أنه يمكن لبعضها أن يساهم في تمويل مشروعات إنمائية في دول إسلامية أخرى .(1/69)
ومن غير التكاتف لتوسيع السوق الإسلامي وتعاونها لا يمكن لخيرات الأمة أن تُنمى، ويستفاد منها على الوجه المطلوب.
ج. إن أسرار التقنية عند مستوياتها العليا لا تباع ولا تشرى؛ لأن الوصول إليها مكلف للغاية. وإن كثيراً من الدول الإسلامية مشغول بصرف ما لديه من إمكانات على التوسع في التعليم ومحو الأمية لمواجهة الزيادة السكانية. وهي لا تملك الأموال الكافية للإنفاق على البحث العلمي. ونحن نعتقد أن البطالة سوف تزداد، والأزمات ستتفاقم، ما لم يتم القيام بخطوات جريئة، أهمها زيادة الإنفاق على البحث العلمي، من أجل فتح الأبواب والمسارات أمام التقدم الصناعي. ومن هنا إن بإمكان المسلمين أن يؤسسوا مراكز أبحاث ضخمة متخصصة، تساهم فيها الدول الإسلامية مجتمعة أو متفرقة، ثم توزع نتائجها على الدول جميعها بأسعار تشجيعية وبحسب درجة المشاركة فيها .
وإن من أهم مراكز الأبحاث التي نحتاجها مركزاً للبحث في تقنيات تحلية مياه البحر، وآخر للاستفادة من مصادر الطاقة المتجددة، مثل الطاقة الشمسية ، وطاقة الرياح... ومركزاً للبحث في ( الهندسة الجينية) واستنبات وتهجين بذور جديدة تلائم الظروف المناخية الصعبة، ومركزاً للمعلومات والبرمجة، ومركزاً للمواد الجديدة، وآخر للتحكم عن بُعد والأشعة.
وأعتقد أن هذه القضية بالغة الخطورة والأهمية، وهي لا تحتاج إلى تكاليف كثيرة إذا ما اشترك في إقامتها عدد من الدول. إنما الذي نحتاجه دائماً في مثل هذا الوعي والاهتمام والعزيمة!.
د. لا بد لتحسين التعاون الإسلامي من أيجاد ظروف جديدة، تجعل الناس يندفعون إلى التعاون بصورة آلية؛ فحين تمنح دولةٌ دولةً أخرى سمة ( الدولة الأولى بالرعاية) كما تفعل أمريكا مع الصين مثلاً؛ فإن ذلك يدفع الناس في الدولتين إلى التعامل والتبادل من أجل جني الثمار التي تعود عليهم. وحين تقام منطقة حرة على الحدود بين دولتين، أو تزال الحواجز الجمركية، أو توحَّد التعرفة الجمركية، فإن ذلك كله يدفع الحركة التجارية والصناعية والخدمية إلى الأمام دون الحاجة إلى تذكير الناس بأهمية التعاون؛ حيث المادي أسهل في اللمس من المعنوي !.
إن هناك الكثير من الاقتراحات التي يمكن أن تقال في هذا الصدد، وقد قيل من قبل الكثير . وهناك أمل كبير ي أن تتحسَّن الأحوال في المستقبل، ويكتشف المسلمون أن العون الصادق لن يتلقاه المسلم إلا من المسلم. والله حسبنا.
================
#تحدي الرخاء!
ذكرت في المقال السابق أن المرء قد يفقد توازنه، ويصير إلى حالة مزرية إذا فقد المحرَّض على التقدم والتطور. ولا تختلف المجتمعات والجماعات في هذا الشأن عن الأفراد، والحقيقة أنه حدث تقدم كبير في العصر الحديث تجاه النظرة إلى الصعوبات والتحديات، فقد كانت النظرة القديمة إلى هذه الأمور تتسم بالسلبية الشديدة، وكان الناس كثيراً ما يصابون باليأس والإحباط عند مواجهة الشدائد والمشقات. أما الآن فقد اختلف الأمر على نحو شبه جذري، وصار يُنظر إلى الأمور المعاكسة على أنها شرط أساسي لحماية الذات من الترهل والتفسخ. وقد صار كثير من إنجازاتنا مشروطاً بتوفير بيئة محفزة ومحرضة على العمل، وتلك البيئة هي التي لا يجري فيها كل شيء على ما يرام، وننال فيها ما نشتهي، وإنما البيئة التي تتحدى ولا تعجز. إن التحدي الذي نواجهه لا يشكل عقبة بمقدار ما يشكل مورداً لتصليب روح المقاومة والحث على إبداع الحلول الملائمة واستنهاض الهمم لبذل المزيد من الجهد. في الرؤية الجديدة يشكّل الرخاء - كما تشكّل القوة- تحديًّا على الناس تجب مواجهته قبل فوات الأوان.
إن بعض علماء الحضارات يُرجعون تخلف (أفريقية) إلى الرخاء الذي كانت تحظى به، حيث الأنهار الكثيرة العذبة والفاكهة التي لا تجد من يجمعها، وحيث أنواع كثيرة من الحيوانات التي يمكن صيدها بسهولة، بالإضافة إلى اعتدال الجو والذي لا يتطلب التفكير في توفير طاقة للتدفئة. إن سهولة العيش في أفريقية جعلت أهلها لا يشعرون بأي حاجة لتطوير مفاهيم وعادات وسلوكات يواجهون بها الشدائد، كما لم تدفعهم إلى توطين الصناعة والتقدم فيها، فظلت أفريقية بلداً رعويًّا وزراعيًّا بامتياز. وحين كثر الناس وتنوعت الحاجات وحلَّ الجفاف، وجدوا أنفسهم من غير حول ولا طول.
ويسوق مؤرخو الحضارات مثالاً آخر على خيانة الرخاء هو هذه المرة (إسبانيا)؛ فقد ظل هذا البلد إلى القرن الخامس عشر في طليعة البلدان الأوروبية في الفنون الصناعية، لكن عثور الإسبان على مناجم الذهب في العديد من دول أمريكا الجنوبية التي استعمروها بعد ذلك أدى إلى فتور همة القوم وشعورهم بالاستغناء عن الجدية في تطوير صناعاتهم. وهكذا انتقلت الريادة الصناعية إلى دول أوروبية أخرى، وصارت (إسبانيا) في مكان قريب من مؤخرة القافلة الأوروبية ومازالت كذلك!.(1/70)
وفي العصر الحديث فقدت الدول في المعسكر الشيوعي توازنها في البداية حين ألغت شيئاً اسمه المعارضة السياسية، وحين أخذت الدولة هناك على عاتقها تهميش المجتمع ومحاولة الحلول محله، أي ابتلعت الدولة المجتمع. وكانت النتيجة العامة لذلك غياب أي تحدٍ حقيقي يدفع في اتجاه إصلاح الأخطاء ونقد الذات، مما نجم عنه تمتع الدول الاشتراكية بسلطات شبه مطلقة. والسلطة مفسِدة، والسلطة المطلقة إفساد مطلق، وقد أدى كل ذلك في نهاية المطاف إلى انهيار ذلك المعسكر واتجاه كثير من دوله في اتجاه الغرب ليكونوا أعضاء غير مميزين في حلف شمالي الأطلسي.
في مجال آخر هناك دول قليلة في العالم لا يمارس التعذيب في سجونها. ومنع التعذيب أدى إلى إخراج رجالات أمن من الطراز الرفيع حيث لم يبق ثَمَّ وسيلة لكشف الجرائم سوى البحث الدقيق والتحقيق الذكي والتحليل الممتاز للمعلومات المتوفرة .
أما الدول التي أباحت لنفسها ممارسة التعذيب، فقد حرمت نفسها من ذلك - وهذا بدهي- لأنها لا تشعر بالحاجة إليه!!.
إذا عدنا إلى تاريخنا الإسلامي وجدنا ما يشبه هذا، حيث إن مما لا يخفى أننا أخفقنا على مدى قرون في تنظيم المعارضة السياسية وإضفاء نوع من المشروعية عليها. إن من غير الصحيح أن يقول كل من لا يرتضي سياسة معينة ما شاء، وأن يفعل ما يشاء. كما أن من غير الصحيح أيضاً أن تكمم الأفواه، ويتحول الناس إلى قطيع. ولهذا فإن المعارضة السياسية كانت تفتقر - في غالب الأحيان- إلى الاتزان والوسطية. وكان بعض الناس يعبّرون عن سخطهم من خلال الثورات المسلحة التي أنهكت الأمة، وجعلت تاريخها السياسي رمادي اللون. أما الأغلبية فقد كانت ترى في تلك الثورات فتناً مدلهمة، وكان الخيار المتاح أمامها هو الصمت المطبق والخانق.
ونحن إلى يومنا هذا ننظر إلى الحركات الاحتجاجية التي قامت ضد الحكومات الإسلامية على مدار التاريخ بأنها حركات ضالة أو مغرضة أو مأجورة...، ومع أننا لا نزكي كل تلك الحركات، ولا نحكم لها بالبراءة؛ إلا أننا لم نحاول أن نتلمس الأسباب الدافعة لها ولا الدور الذي كان يمكن أن تقوم به في وجه تغوّل الدولة وتسلطها ولو قدر لتلك الحركات أن تسلك المسلك السلمي في معارضتها. كيف يكون الوضع لو كانت النظرة إلى المعارضة السياسية على أنها جزء من النظام الدستوري للدولة الإسلامية؟ لا شك أن تقدماً سياسيًّا وحضاريًّا باهراً كان يمكن الحصول عليه!.
إذا التفتنا إلى الجانب الثقافي والمعرفي والدعوي لوجدنا أن طلاب العلم الشرعي على مدار التاريخ الإسلامي كادوا ينفردون بالساحة الثقافية دون منافس يذكر، وقد أدى ذلك التفرد إلى ترهل خطاب كثير منهم بل تخلفه؛ حيث إن فقد المنافس نفى الشعور بالاحتياج إلى التطوير، كما حُرم الخطاب الدعوي من ميزة الاقتباس والمقارنة. واليوم نشعر بأن علينا أن نجري بسرعة فائقة حتى نستدرك بعض ما فات.
قد أشار القرآن الكريم إلى نعمة وجود التحدي الضد والمعوق ووجود المصارع والمنافس والعدو حين قال سبحانه: (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين).
إن الله - تعالى- يدفع بالمؤمنين شرور الكافرين والفاسقين من خلال الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن خلال استخدام الإمكانات والموارد المتاحة على نحو يخدم الخير ويعزز الفضيلة. كما أن وجود الكافرين والفاسقين يشكّل محرضاً للصالحين على تحسين أحوالهم والتخلص من أخطائهم. والذي ينظر في كتب التفسير يجد أن معظم المفسرين قد حادوا عن هذا المعنى. ولهذه الآية المباركة مرمى بعيد، لم أر أحداً يشير إليه، وملخصه هو: أنه ما دامت وضعية المدافعة في الحياة تحول دون فساد الأرض؛ فإن على أمة التوحيد أن تعمل على إيجاد أوضاع تتحقق فيها المدافعة في كل دوائر الحياة وعلى كل مستوياتها: في الأسرة والمدرسة والجامعة ودوائر الحكومة والمؤسسة والشارع...، وذلك من خلال إرساء أعراف ونظم تتيح النقد الذاتي والغيري، وتسمح بالمراقبة والمحاسبة لكل من بيده سلطة عامة، كما تسمح بمقارعة الحجة بالحجة وتمحيص البحث بالبحث والفكرة بالفكرة، والنظرية بالنظرية.. في إطار ثوابت الشريعة الغراء وقطعياتها. إن هذه الوضعية هي البديل الصالح لما نعانيه من حركة بندولية ننتقل من خلالها من إفراط إلى تفريط ومن تفريط إلى إفراط بعيداً عن الوسطية والاتزان.
والله وفي التوفيق.
================
#طاقة التحمل!
كلما تأمل المرء في أسرار التشريع وفي طبائع الأشياء ظهر له جليًّا أن بارئ الخليقة ومرسل الرسل ومنزّل الكتب واحد -جل شأنه-؛ وأظن أننا كلما امتلكنا رؤية أعمق وأشمل لتاريخنا وواقعنا ظهرت حاجتنا إلى أن نعمل في ظلال هدي الشريعة الغراء وفي إطار (طاقة التحمل) على كل الصعد التي تعرفنا على سنن الله في الخلق في مسائلها وقضاياها، وذلك حتى لا نهدم ونحن نريد البناء، ولا نُفسد ونحن نريد الإصلاح...(1/71)
في الإمكان أن نقول: إن كل شيء تحمَّله فوق طاقته فإنك تخسره، أو تكاد. وخسارتنا لما نحمَّله فوق طاقته أشكال وألوان.. فقد تتجلى الخسارة في فقده وانعدامه، كما لو ضغطنا على كأس زجاج رقيق أكثر من طاقته على الاحتمال. وقد تتجلى الخسارة في فقده لوظيفته مع بقاء مادته، كما لو حمّل مهندس بناء حديد التسليح في عمارة ينشئها أوزاناً فوق الأوزان التي يتحملها عادة؛ مما يؤدي إلى انهيار البناء بسبب اعوجاج الحديد. وتتمثل الخسارة في بعض الأحيان لهذا الذي نحمَّله فوق طاقته في فقد فاعليته، أي أنه يؤدي عمله لكن على غير الوجه المطلوب، كما أن النتائج تكون أقل من المتوقع. إنك لا تستطيع أن تحمَّل مركبة ضعف حمولتها العادية، ثم تسرع بها كما يسرع الذي يقود مركبة تحمل حمولة عادية. وقد تتجسَّد الخسارة في عدم القدرة على الاستمرار في السعي إلى آخر الطريق كالمسافر الذي يتناول ما لديه من طعام وشراب على نحو مسرف، فإنه سيجد نفسه في مرحلة من المراحل عاجزاً عن متابعة المسير بسبب تحميله لزاده ما لا يحتمل من الاستهلاك، وكالذي يحمَّل بدنه ما لا يحتمل بإطلاق العنان لشهواته، فيجد نفسه هرماً قبل الأوان. وهناك أنواع أخرى للخسارة ...
إن لدينا الكثير من النصوص التي تؤكد مراعاة الشريعة لهذا المبدأ العظيم، منها قوله - سبحانه- : ( لا يكلف الله نفساً إلا وسعها)[سورة البقرة:286]، وقوله : ( وما جعل عليكم في الدين من حرج)[سورة الحج:78]، وقوله : ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر)[سورة البقرة:185]، وقوله: ( لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم)[سورة النساء:148]، وقوله: ( ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة)[سور النساء:129]. وقال عليه الصلاة والسلام: "لولا أن أشق على أمتي لفرضت عليهم السواك مع الوضوء، ولأخرت العشاء إلى نصف الليل"، وقال لعائشة- رضي الله عنها- " لولا حداثة قومك بكفر لنقضت البيت، فبنيتُه على أساس إبراهيم، وجعلتُ له خلفاً فإن قريشاً لما بنت البيت استقصرت".
إنه لا يريد أن يحمّل إيمان قريش الغضّ أكثر مما يحتمل، ولذلك امتنع عن ذلك العمل الذي قد يهيجهم، ويدفعهم إلى الاستنكار.
إن الشريعة راعت حال المكلفين وقدرتهم على النهوض بحقوق الالتزام، ولهذا فليس في ديننا -بحمد الله- ما يشقّ اعتقاده أو يشقّ عمله. وحين يعيش المسلم في ظروف خاصة أو طارئة فإن الشريعة تلمح ذلك، وتجنح به إلى الرخصة والتيسير، وصار من القواعد الفقهية المشهورة أن الأمر كلما ضاق اتسع. وفلسفة الرخصة في الإسلام تقوم على أن التخفيف في التكليف يساعد المسلم على أن يبقى في إطار الاستجابة لأمر الله، وفي إطار الشعور بالقيام بحقوق العبودية عوضاً عن الشعور بالضيق والمشقة والحرج والسعي إلى التماس الأعذار للتقصير والإعراض عن أمر الله بالكلية. ومن هنا كانت رخصة قصر الصلاة وجمعها للمسافر، وجواز التيمم في ظروف معينة، وجواز الإفطار في رمضان للمريض والمسافر، ورفع القلم عن النائم والمجنون والطفل، والإعذار بالجهل في الكثير من المواطن، وعدم المؤاخذة بما لا يستطيعه المسلم من العدل بين نسائه في المحبة والأنس والاستمتاع.
ولدينا العديد من النصوص التي توجه المسلم إلى ألاّ يحمَّل نفسه مالا يطيق حتى لا يقع في شكل من أشكال الخسارة التي أشرنا إليها. وهي نصوص كثيرة في الحقيقة، منها ما رواه الشيخان من قوله صلى الله عليه وسلم : " إذا نعس أحدكم وهو يصلي فليرقد حتى يذهب عنه النوم؛ فإن أحدكم إذا صلى وهو ناعس لا يدري يذهب يستغفر؛ فيسب نفسه" . إن الخسارة هنا واضحة فحمل النفس على العبادة مع شدة النعاس، قد يؤدي إلى عكس المقصود، فيدعو المرء على نفسه عوضاً من الاستغفار. وقال عليه الصلاة والسلام : " لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه. قالوا: وكيف يذل نفسه؟!. قال : يتعرض من البلاء مالا يطيق".
بين الكم والكيف علاقة عكسية، وفي معظم - إن لم نقل جميع- الحالات لا يكون الكم إلا على حساب الكيف، كما لا يكون الكيف إلا على حساب الكم.. نعم يمكن نقض هذه العلاقة إذا كانت أعمارنا وطاقاتنا وأموالنا... غير محدودة، وأنى لنا بهذا؟
حين يعرّض المسلم نفسه لابتلاءات قاسية فإنه يضع نفسه على حافة الخطر حيث لا ضمانة لصبره على ما جرّه لنفسه من البلاء، ولا ضمانة لنجاحه في الاختبار الصعب الذي قرر الدخول فيه. وقد رأينا الكثير الكثير من ذوي القلوب الطيبة وقد نكثوا على أعقابهم نتيجة الذل الذي صاروا إليه بسبب تحميلهم لأنفسهم ما لم يحملهم الله - تعالى- إياه، وكانت النتيجة أنهم انتهوا إلى لا شيء: لا كم ولا كيف!.
إن المثابرة إحدى الفضائل الإسلامية، وهي لا تكون أبداً إلا إذا جعلنا أنشطتنا في إطار طاقاتنا، وإلا إذا تجنبا إرهاق الأنفس.(1/72)
تقول عائشة- رضي الله عنها- : " دخل عليّ النبي – صلى الله عليه وسلم- وعندي امرأة . قال: من هذه؟ قلت: فلانة تذكر من صلاتها- أي تتحدث عن كثرة صلاتها- فقال: مه. عليكم بما تطيقون، فوالله لا يملّ الله حتى تملوا وكان أحب الدين إليه ما داوم عليه صاحبه".
وفي حديث مسلم عنه – صلى الله عليه وسلم- : " هلك المتنطعون" قالها ثلاثاً. والتنطع هو التعمق والتشدد في غير موضع تشديد. الشريعة الغراء تدعو إلى اليسر لأنه من أهم منطلقاتها، ولأن التجربة أثبتت أن الإيغال في أي أمر يكون في الغالب على حساب أمور أخرى؛ ومن النادر أن ترى رجلاً صرف جل اهتمامه وعنايته لأمور معينة دون أن يقع في التفريط في أمور أخرى، لا تقل في أهميتها عما يبالغ في العناية به، فالكيف كما ذكرت لا يكون إلا على حساب الكم.
في المقال القادم سأتناول بإذن الله – تعالى- بعض التطبيقات المعاصرة لمسألة خسران الأشياء التي تحمَّلها فوق طاقتها.
ومن الله الحول والطول.
2/2
ذكرت في المقالة السابقة أن لكل شيء طاقة محدودة على التحمل، وأن علينا مراعاة تلك الطاقة، وإذا لم نفعل ذلك؛ فإننا سنخسر ذلك الشيء. ووعدت بأن أتحدث اليوم عن بعض الأمثلة والتطبيقات التي تفسر هذا المبدأ وتوضحه في العديد من المجالات. والحقيقة أن قائمة الأمثلة طويلة، لكن سأقتصر على خمسة منها في المفردات الآتية:
1- يحاول الناس بصورة شبه دائمة أن يحققوا مصالحهم في إطار مبادئهم حتى اللص الذي دخل بيتاً ليسرق المال فإنه في العادة لا يقتل إذا أمكنه الحصول على المال دون الاحتياج إلى القتل. وهذا يعود إلى أن الإنسان مهما تجرد من القيم والمبادئ فإنه يظل فيه شيء من النزعة الإنسانية وشيء من الحنين إلى السمو والنقاء؛ لكن لهذا حدودًا على التحمل، فإذا وُضع الإنسان في ظروف بالغة السوء من الفقر والعوز والقلة – مثلاً- فإن جهاز المناعة الأخلاقي لديه يتعرض للانهيار بسبب الشعور بالظلم الاجتماعي وبسبب قدرة العقل الفائقة على تأويل القيم إلى حد إفراغها من مضامينها. ومن هنا فإننا قد لا نستغرب – وإن كنا لا نسوَّغ ولا نبيح ولكن نفهم- إذا وجدنا الفلسطيني الجائع والمحاصر والذي تخلى عنه إخوانه في العالم، وقد مد يده للتعاون مع اليهود إلى درجة وضع علامات على سيارات قادة المجاهدين حتى تهتدي إليها طائرات اليهود، وتقوم بقصفها، وقتل من فيها.. وهذا حدث في كل البلاد الإسلامية وغير الإسلامية أوقات الاستعمار. وقد أشار أحد علماء المسلمين قديماً إلى شيء قريب من هذا حين عتب عليه بعض أصدقائه قبوله لهدية من حاكم طاغية، حيث قال: لم أقبل هديته إلا حين حلت لي الميتة. إن الرادع الديني أو الوطني أو الإنساني موجود بنسب متفاوتة لدى جميع الناس، لكنه لدى الأغلبية ينهار، أو يكاد إذا حُمَّل فوق طاقته.
2- نظرت بعض الجماعات الإسلامية إلى نفسها فوجدت أنها الأفضل تنظيماً والأوسع انتشاراً وربما الأقدم في ساحة العمل الدعوي، وهذا –ولا شك- يمنحها شعوراً بالتفوق، ويعطيها على الأرض بعض الحقوق؛ وهذا طبيعي لكن بعض تلك الجماعات لم تنتبه لنفسها، فتولدت لديها (عقدة الأخ الأكبر) فصارت تتصرف كما يتصرف الأخ الأكبر في الأسرة، حيث على الإخوة الصغار السمع والطاعة وتلقي الأوامر والنصائح، وحيث فقد روح المبادرة للتنسيق والتعاون (بل ضعف الاستجابة) لمحاولات الآخرين الانفتاح عليها. وقد أدى ذلك إلى إعراض الجماعات الأصغر حجماً عنها، وبدأ التنافس، وما يجره من مظاهر الانحطاط المدني يشتعل في الساحة الدعوية. إن للقوة دائماً حقوقاً، يقدرها الناس، لكن أصحاب القوة كثراً ما يضخمون تلك الحقوق، أي يحمّلون قوتهم وامتيازهم وتفوقهم ما لا تحتمل من الحقوق والميزات، وكانت النتيجة خسران الامتياز كله بسبب خسران العلاقة مع الجماعات الأخرى والتي يمكن أن تكون معبراً لذلك الامتياز. وقد أشار زهير إلى معنى يلتقي جزئياً مع ما نقوله حين قال:
ومن يكُ ذا فضل فيبخل بفضله *** على قومه يُستغن عنه ويذممِ
3- قد تعودنا في مجالات الأعمال الدعوية والخيرية أن نجد دائماً القليل ممن يملك الحماسة المتدفقة والحركة الدائبة والأريحية المتوهجة مع كثرة السواد وتزاحم الرؤوس والأقدام. والذي يحدث دائماً هو أن كل القاعدين وكل أولئك الذين يحبون أن يروا الآخرين يعملون – دون أن يعملوا هم شيئاً- يتجهون إلى ذلك الشخص النبيل النشط المتحرك؛ فيلقون عليه المزيد المزيد من المهمات والمسؤوليات، وهو لشهامته يتقبل، ويعد ويحاول ... ولكن بما أن لكل شيء طاقة تحمَّل فإن الناس يبدؤون بملاحظة الفوضى والتقصير في عمله وتبدأ سهام النقد بتناوشه... وسبب ذلك يعود إلى عدم إدراكه وإدراكهم أن الكم في نهاية المطاف لا يكون إلا على حساب الكيف.(1/73)
4- تشعر الولايات المتحدة الأمريكية أنها الدولة الأولى في العالم على المستوى التقني والاقتصادي والعسكري، وليس هناك من ينازعها في هذا. وهذا الشعور جعلها توسع مجالها الحيوي ليصبح من غير حدود؛ فالعالم امتداد طبيعي لمزرعة (بوش) في تكساس. ويشعر اليهود أنهم يشكلون الأقلية الساحقة على مستوى العالم، ويكفي أنهم مسيطرون على آلية اتخاذ القرار في الولايات المتحدة ونحن أيضاً لا نرتاب في ذلك. وصار اليهود من خلال تصرفاتهم وتصريحاتهم يرسلون رسائل للقاصي والداني بأنهم لا يأبهون لأحد، وليس من حق أحد أن يراجعهم في شيء. اليهود الأمريكيون يعتمدون في مواقفهم العالمية وفي حركتهم الكونية على ما لديهم صلات هيمنة بكل مراكز القرار في العالم وعلى ما لديهم من نفوذ إعلامي طاغٍ وشامل. لكن بما أن لكل شيء طاقة على التحمل؛ فإن العالم يكتشف الحقائق، وبدأ يتململ على نحو شديد التهذيب من الطغيان الأمريكي والإسرائيلي. وقد فجع اليهود بنتائج استطلاع الرأي الذي نظمه الاتحاد الأوروبي حول الدول الأشد خطورة على السلام العالمي، وقد ذكر الأوروبيون في ذلك الاستطلاع أن (إسرائيل) هي الدولة الأخطر على أمن العالم، تليها حليفتها الولايات المتحدة الأمريكية. ولعل اتخاذ إسبانيا قرار سحب قواتها من العراق في أسرع وقت ممكن يشكل الصدمة الثانية لأمريكا والمؤشر الأخير في سباق المؤشرات الدالة على أن أمريكا واليهود قد حملوا نفوذهم المالي والإعلامي والسياسي ما لا يحتمل من الجرائم والوقاحات؛ ولذا فإنها بدأوا يحسرون توظيفات ذلك النفوذ على نحو تدريجي.
5- كثيراً ما شاهدنا صداقات تتصدع وتضمحل، وكثيراً ما شاهدنا الأقرباء وقد فشت فيهم النزاعات والأحقاد والبغضاء. وكثيراً ما يكون السبب في كل ذلك هو أن الناس حمّلوا الصداقات والقرابات ما لا تحتمل من التبعات والتكاليف. نحن جميعاً ندرك ونقر أن للقريب حقوقاً وأن للصديق أيضاً حقوقاً؛ لكن الذي يحدث أننا نفاجأ بأن أقرباءنا وأصدقاءنا يريدون من الحقوق والمساعدات ما يتجاوز كثيراً توقعاتنا وأحياناً طاقاتنا. وهنا تبدأ المشكلة، حيث الاتهام بالتقصير من جانب والاعتذار والتنصل والتهرب والابتعاد من الجانب الآخر. إن ما بين الناس من ود ومشاعر طيبة، وما بينهم من قرابة ورحم يتحمل - ولا شك- طلب المعونة والخدمة، ولكن ليس من غير حدود. إن العلاقات تدوم وتدوم إذا قامت على قدر جيد من التكافؤ والندية، فإذا تحولت إلى علاقات لانتفاع أحد الأطراف واستغلالها من قبله؛ فأنها تنهار، وقد تنقلب إلى عداوة مستحكمة. إن كل صديق وكل قريب يقدم لأصدقائه وأقربائه شيئاً ما وينتظر منهم شيئاً؛ ومن المهم ألا ينتظر أكثر مما قدم إذا ما أراد للمودة أن تستمر.
إن الدرس الذي نخرج به من كل ما ذكر هو ألا نعلَّق توازننا العام ولا مستقبلنا ولا صلاح شؤوننا على شيء وحيد وفريد، حتى لا ينهار ذلك الشيء في نهاية الأمر، ونشعر أننا خُذلنا في ساعة كنا أحوج ما نكون فيها إلى المعونة والمؤازرة. والله مولانا .
===============
#من طبائع الأشياء
المعرفة هي صناعة الإنسان، والجهل داؤه، والعلم ترياقه.
من خلال الملاحظة وتراكم الخبرات والاستبصار والخيال وقراءة الأحداث واكتشاف العلاقات بين الأشياء ومعرفة سنن الله - تعالى- في الخلق من خلال كل ذلك نبني معارفنا، نكوّن انطباعاتنا، وننظم بالتالي مواقفنا وردود أفعالنا.
المعرفة عبارة عن معلومات، والعلم معارف منظمة ومبوبة. والعالم سواء أكان كبيراً أم صغيراً يشتغل على الجزئيات إدراجاً واستنباطاً على الكليات واستكشاف القوانين والوقوف على الملامح العامة، وشفوف بصناعة المفاهيم الكبرى وصياغة مناهج البحث ومناهج التفكير، وإذ كنا في حاجة إلى كل من العالم والمفكر؛ فإن على كل واحد منهما ألا يقلل من شأن الآخر بل عليه أن يعترف به، ويحاول الاستفادة من عطاءاته.
فقه السنن وفهم طبائع الأشياء، من الأعمال العظيمة التي يحق للمرء أن يغتبط، ويبتهج إذا حقق فيها نجاحاً عظيماً، لأن ذلك يدل على استقراء ممتاز للوقائع المتفرقة، كما يدل على شفافية عالية وخيال خصب قادر على ضم النظير إلى النظير، والخروج من سجن الجزئيات والرؤى الذرية المبعثرة.
وإن مما يؤسف له أن المهتمين بالفهم الكلي قليلون دائماً بسبب مشقة العمل في هذا المجال وحاجته إلى إمكانات ذهنية، قد لا تتوفر لدى كثير من الناس.
فهم طبائع الأشياء قد يحتاج إلى أن نهتم على نحو عميق بملاحظات النابهين جداً من كبار الاختصاصيين، ثم نحاول التفريع عليها وإضافة ما نمكن إضافته إليها. حين نعرف السنن التي تحكم مجالاً أو عملاً أو علاقة ما؛ فإن ذلك يجعلنا كمن يكتشف سبلاً عامة عريضة، تتفرع عنها دروب صغيرة. وآنذاك فإننا نستطيع التفريق بين المطرد والشاذ والمألوف وغير المألوف والطبيعي وغير الطبيعي؛ كما نستطيع التفرق بين المطَّرد والشاذ والمألوف وغير المألوف والطبيعي وغير الطبيعي؛ كما نستطيع أن نثمن المعلومات الواردة عن ذلك المجال، وأن نكتشف ما يمكن أن يكون قد دخلها من زيف وتزيد.(1/74)
وأنا هنا أحاول أن أوضح بعض طبائع بعض المجالات المعنوية والحياتية؛ وينبغي أن يؤخذ كل ما أقوله هنا على أنه مقاربة واستشراف ليس أكثر.
1- المجال الفكري:
التفكير هو: اشتغال العقل على بعض المعلومات من أجل الوصول إلى أمور مجهولة. ومن طبيعة هذا المجال الآتي:
- صدور المفكر عن رؤية جانبية، إذ مهما كان العقل متيقظاً ومدرباً، ومهماً كان خياله واسعاً، وكانت معارفه عميقة وشاملة؛ فإنه لا يستطيع أن يحيط بكل الأمور المتعلقة بالقضايا التي يفكر فيها، أي أن المقدمات التي ننطلق منها إلى بلورة حكم أو الحصول على نتيجة معينة، ستظل مقدمات ناقصة. ولو أننا استشرنا أفضل مركز دراسات متخصص في مشروع من المشروعات أو مشكلة من المشكلات، لما صدر إلا عن رؤية جزئية. ورحم الله الإمام مالك بن أنس حين كان يستشهد عن إفتائه في مسألة من المسائل بقوله- سبحانه - (إن نظن إلا ظناً وما نحن بمستيقنين).
- وجود الأخطاء في المجال الفكري أمر طبيعي وكثير الانتشار، وذلك لأن العقل وهو يعمل على الوصول إلى بعض الرؤى والمحكات والأحكام... يُتيح الأخطاء والأوهام بسبب هشاشة المقدمات والأسس التي يبني عليها أو بسبب سوء التقدير لطبيعة العلاقة التي تربط بين الأسباب والمسببات والمقدمات والنتائج. وهذا يتطلب منا أن نكون دائماً يقظين للمنتجات الجانبية لعمل العقل، كما يجعلنا في حاجة دائمة لمراجعة طروحاتنا وأفكارنا.
- كثيراً ما يصاب المشتغلون بالقضايا الفكرية بالجفاف الروحي، ولست أعرف الأسباب الأكيدة لهذا، لكن ربما كان ذلك بسبب أن الإشراق الروحي يحتاج إلى جهد تعبدي عملي، على حين أن المشتغلين بالقضايا الفكرية يكونون عادة مشغولين بالتنظير واكتشاف الأسباب والعلل. وأحياناً يؤدي إدمان التنظير إلى شيء من الترهل الروحي بسبب أنه يجعل صاحبه أكثر تفهماً للواقع، وبالتالي أكثر خضوعاً له. وهذا يؤدي إلى انخفاض في درجة التسامح والذي يعد حجر الأساس في التفتح الروحي؛ وعلينا أن ننتبه إلى هذا.
- من أعمدة العمل الفكري الاختزال والتخبط، حيث يتشوق المفكر إلى استخلاص بعض القوانين والمقولات العامة من أكوام المعلومات والمعطيات الجزئية، وينتج عن هذا القيام بتحييد الكثير من الأقوال والمعلومات الموثوقة؛ فالبناء الفكري بطبيعته - كما هو شأن البناء التاريخي- هو بناء انتقالي. وأثناء عملية الانتقاء تتم الاستهانة بأمور ومعطيات قد تكون جوهرية وحيوية. هذا بالإضافة إلى أن المفكر بسبب اشتغاله بالأمور الكلية يزهد عادة بكل ما هو جزئي وفرعي. وأتصور أن علم (مقاصد الشريعة) لم يتم، ولم يتبلور بالشكل الكافي؛ لأن الذين اشتغلوا على إنضاجه لم يكونوا من المشتغلين بالفلسفة الكلية للتشريع، كما أن خبرتهم بفقه الأولويات كانت ضئيلة؛ مما جعل قدرتهم حيال دمج بعض النصوص الصحيحة في المرامي للشريعة السمحة محدودة في المجال الفكري يتألف العقل وتبرق اكتشافاته، وهذا يجعل المشتغلين بالفكر يشعرون بنوع من الوثوقية الزائدة، فيطلقون الأحكام في أحيان كثيرة من غير قدر كافٍ من الرؤية والتأمل. وكم عانينا من موجات النقد غير الأصيل وغير المحكم بسبب الإفراط في الثقة بما لدينا من أفكار ومفاهيم، هي في كثير من الأحيان تقبل الجدل والمراجعة.
2- المجال الروحي:
المكمن الحقيقي للذات الإنسانية، هو الروح والمشاعر والعواطف وليس العقل والأفكار والمفاهيم. وقد دلتنا الخبرة على أن المجال الروحي شديد الجاذبية، وهو يملك قدرة هائلة على جعل الناس يتجاوزون الضوابط والحدود التي يضعها العقل؛ بل تلك التي يضعها الشرع أيضاً، وإذا تأملنا في أقوال وسلوكات كل أولئك الذين حدثنا التاريخ عن إعزافهم في المسائل الوجدانية والروحية وفي قضايا الأحوال والمقامات والكرامات والتجليات والنفحات...؛ لوجدنا أنهم - إلا النذر القليل- قد استهلوا تجاوز النصوص الشرعية، أو صاروا إلى تأويلها على نحو لا يخلو من الفجاجة والتعسف .
إن المشاعر الجياشة التي قد يجدها بعض العباد كثيراً ما تقوم بدور المخدر أو المعطل لملكة العقل، والمعطل لدور النصوص والأحكام الشرعية في توجيه سلوك المسلم وضبط مقولاته. وهذا ليس خاصاً بالمسلمين ولا بأهل أية ملة من الملل، بل هو عام يشمل كل أو جلّ من يشتغل بالمسائل الروحية والوجدانية، وقد عانت الأمة كثيراً من أهل (الشطحات) الذين كانوا يلقون بالكلام على عواهنه استجابة للخواطر والوساوس والأوهام والرؤى المنامية. ومن هنا؛ فإن على كل من يهتم بالشأن الروحي أن يحرص الحرص كله على أن يظل في إطار المشروع، وألا يغضّ الطرف عن الرؤية الفقهية كما يصدر عنه من أقوال وأعمال.(1/75)
المجال الروحي يوفر لكل من يدخله درجة عالية من الطمأنينة والسرور والانشراح؛ ولا عجب إذ إن الصلة بالله - تعالى- ومناجاته والتودد والتذلل إليه لا تأتي بغير هذا؛ لكن الملاحظ أن هذه الدرجة من الجور تدفع من يتمتع بها إلى الانطواء على نفسه والميل إلى العزلة والاستخفاف بما يجري في المحيط الخارجي من أحداث، وقد كان من الأدبيات المشهورة لدى العباد والزهاد أو طائفة منهم على الأقل أن من علامات ولاية الشخص أو من أسس الولاية الذكر والصمت والعزلة والجوع. ومن هنا؛ فإن المسلم مطالب إلى جانب تزكيته لنفسه وتطهيره لقلبه وصقله لروحه بألا يندفع من حيث لا يدري إلى تضييع الواجبات الاجتماعية والدعوية، وحتى لا يقع في هذه المصيدة؛ فإن عليه أن يتذكر أهدافه وواجباته.
3- المجال الوعظي الإرشادي:
هذا المجال كثيراً ما يعكس غيرة المسلم وخيريته، وحرصه على تبليغ الرسالة، وعلى استقامة المسلمين وتحسّن أحوالهم، وهو مجال مهم، وله دور حيوي في إبقاء الوعي الإسلامي متيقظاً ومنفتحاً على الأوامر والنواهي. من طبيعة العمل في هذا المجال دفع العاملين فيه إلى السحب من رصيد الحقيقة، وتجاوز البراهين والأدلة المتوفرة على حكم من الأحكام أو في قضية من القضايا، أو مقولة من المقولات؛ فحماسة الداعية للقضية التي يتحدث عنها وحرصه على إقناع الناس بما يقول يجعلانه لا ينتبه إلى أنه تجاوز القصد والاعتدال، وأنه صار يسلك مسالك مندوبي الدعاية والتسويق، والذين لا هم لهم سوي أن يبيعوا أكبر عدد من الزبائن بأعلى قدر من الأسعار.
الوعاظ والدعاة اليقظون والورعون جداً هم الذين يستطيعون النجاة من ذلك إلى حد بعيد، ولكن ربما بشكل غير مستمر. وظاهرة القصّاص في التاريخ تحكي في معظم الأحوال هذه الحقيقة، وقد وضع أقوام منهم بعض الأحاديث من أجل حث الناس على عمل ما يعتقدون أنه مهم لفلاحهم، ولما حُذَّر بعضهم من ذلك، وذُكِر لهم الحديث "ومن كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار" قالوا: نحن نكذب له لا عليه!.
السحب من رصيد الحقيقة يتجلى أحياناً في التهويل والمبالغة حين يُصوَّر خطأ من الأخطاء أو معصية من المعاصي على أنه كارثة الكوارث. وحين يُصوّر عمل من الأعمال النبيلة على أنه السفينة التي ستنقل الناس إلى بر الأمان. ويتجلى السحب من رصيد الحقيقة في أحيان أخرى في التعليلات الفاسدة والتحليلات السطحية والقول بغير علم؛ وهذا كثيراً ما يتم من غير وعي ولا إدراك، ومن هنا فإن المشتغلين بالوعظ في حاجة إلى طاقة هائلة من أجل ردع أنفسهم عن الانسياق خلف عواطفهم.
4- المجال التجاري:
يُثبت النظام التجاري يوماً بعد يوم أنه أقوى النظم الثقافية على الإطلاق، فإذا كان المرء طبيباً وتاجراً؛ فإن التجارة ستخطفه - في الغالب- من الطب، ويؤول أمره إلى أن يصبح تاجراً بمعنى من المعاني، وكذلك الشأن فيما لو جمع المهندس والمدرس والمزارع والموظف بين مهنته وبين التجارة. وإني أظن أن هيمنة التجارة على حياة الناس نابعة في الأساس من أنها تعيد بآفاق غير محدودة من الربح والثراء، وهذا ما يبحث عنه الإنسان الذي لا يملأ فمه إلا التراب. وقد ورد في الحديث أنه في آخر الزمان تفشو التجارة حتى إن المرأة لتشارك زوجها في التجارة، مما يدل على قدرة هذا النظام على اختراق كل العلاقات حتى العلاقة الخاصة القائمة بين الزوجين.
في المجال التجاري تكثر الأيمان ويكثر المديح للسلعة والتشكي من الخسارة فيما إذا بيعت بأقل من كذا أو كذا. وفي المجال التجاري يكون الغش والدعاية الكاذبة والإعلان المبالغ فيه، كما يكون فيه إخفاء العيوب، ويكثر بخس الناس أشياءهم، وكل ذلك استجابة لضغوط الشهوة إلى تكديس المال والتي تسيطر على نفوس البشر.
في زماننا تقوم العولمة على نحو جوهري على التجارة وعلى نشر الأخلاق والمفاهيم والتقنيات التي اعتمدها النظام التجاري، وهي في الغالب سيئة. ولهذا فإن مجال التجارة من أخطر المجالات على دين المرء وصدقه أمانته، وقد أثنى الله - جل وعلا- على أولئك الرجال الذين لا يشغلهم شاغل عن ذكر الله والقيام بواجباتهم، وخص البيع والتجارة لشدة تأثيرها في صرف الإنسان عن المسار الصحيح، فقال سبحانه : (في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ...) الآية. وقد ورد أن ابن عباس - رضي الله عنهما- قال لأصحاب الكيل والميزان من التجار: " إنكم وليتم أمرين هلكت فيهما الأمم السابقة قبلكم".(1).
معرفة طبائع الأشياء تعني معرفة السنن التي سنها الله - تعالى- وبثها في الأنفس والموجودات؛ وهي معرفة مهمة جداً لفهم أنفسنا وفهم العالم من حولنا. والخروج عن هذه الطبائع يظل في كثير من الأحيان ممكناً، لكنه يحتاج إلى مجاهدة وإلى جهد استثنائي حيث السباحة عكس التيار، وحيث الخروج على المعروف والمألوف.
والله الهادي إلى سواء السبيل.
----------------
(1) قد ورد رفعه بإسناد فيه ضعف
=================(1/76)
#الفكر طبيعته وأهميته
كلمة (الفكر) والتفكير والأفكار من الكلمات الشائعة جداً على ألسنة العامة والخاصة اليوم ؛ وعند عودتنا إلى معاجم اللغة نجد أنها تعرف الفكر بأنه :
(إعمال العقل في المعلوم للوصول إلى معرفة مجهول) .
ويقولون : فكّر في مشكلة : أعمل عقله فيها ليتوصل إلى حلها [1] .
ولعلنا نعرف التفكير بأنه (إعمال الإنسان لإمكاناته العقلية في المحصول الثقافي المتوفر لديه بغية إيجاد بدائل أو حل مشكلات أو كشف العلاقات والنسب بين الأشياء) [2] .
ومن خلال هذا التعريف ندرك أن الفكر ليس شيئاً مطابقاً للأحكام والمبادئ ، ولا مطابقاً للثقافة أو العقل أو العلم ، وإنما هو استخدام نشط لكل ذلك بغية الوصول إلى المزيد من الصور الذهنية عما يحيط بنا من أشياء وأحداث ومعطيات حاضرة وماضية وتوسيع مجال الرؤية لآفاق المستقبل .
وبناء على هذا فإن العالم غير المفكر ، فقد يكون المرء عالماً ولايكون مفكراً . وقد يكون مفكراً ولايكون عالماً ، وذلك لأن الميدان الأساس للعلم هو الإلمام بالجزئيات ؛ أما ميدان الفكر فهو إبصار (الكليات) والاشتغال عليها ؛ وقليل أولئك الذين يسمح لهم الاشتغال بالجزئيات بالتوجه إلى النظر الكلي ، كما أن طبيعة الاشتغال بالقضايا الكبرى (تزهد) المفكرين في الاهتمام بالمسائل الجزئية ، حيث يرون أنها مندرجة في أنظمة أشمل تتحكم فيها .
ومع افتراق الطبيعتين إلا أن هناك خطوطاً عريضة تجمع بينهما أهمها :
أن كلاً من المعطيات الفكرية العامة والجزئيات العلمية الصغيرة يميل إلى الظن والتخمين والبعد عن اليقين ؛ وذلك بسبب أن الجزئيات هي مناط الاجتهاد ، ونتائج الاجتهاد تكون في الغالب ظنية ، كما أن وفرة العناصر والمعطيات التي تساعد في تكوين الرؤى الكلية تجعلها بعيدة أيضاً عن الصلابة والجزم ؛ لكن (الإحالات الثقافية) والخبرات المتراكمة تنقلها إلى حيز اليقين أو الرفض أو التعديل بعد مدة زمنية معينة .
لكن هذا لايهوّن أبداً من شأن المعطيات الفكرية ؛ فقد أثبتت التجربة التاريخية أنه (لاشيء يضيع) ؛ فالفكرة مهما كانت ، تترك انطباعا معيناً سلبياً أو ايجابياً ؛ فقد تشكك في مسلمة من المُسلّمات ، وقد تعزز ظناً من الظنون ، وقد تنبه إلى شيء منسي ، وقد تنقذ أمة من كارثة محققة ! !
وكثيراً ما يحدث أن تأتي الفكرة قبل أوانها أو في غير محيطها ؛ فلا تحدث اضطراباً في الواقع العملي ، وهي أيضاً لا تضيع لأنها ستشكل الخميرة التي سوف تنبت يوماً ما أفكاراً أو حلولاً حين تجد المناخ المناسب [3] .
وهناك إلى جانب هذا سمة أخرى أساسية للأفكار ، وهي أن الأفكار التي نستخدمها في حركتنا الاجتماعية تكون في العادة ملائمة للظروف والأحوال المحيطة بها ، ومهمة الأفكار إحداث تغيير ناجح في تلك الظروف نحو الأفضل والأسمى ، وهذا التغيير الذي يحدث يوجب علينا تغيير الأفكار التي نحجت كما تغير الأفكار التي أخفقت ، وذلك لأن تغيير الأفكار للظروف يوجدها في ظروف جديدة غير ملائمة لها ، وهذا مشاهد في الأعمال الإصلاحية الكثيرة التي حدثت في العالم ؛ فحين تطرح أفكار وأساليب لتحقيق النظافة العامة مثلاً فإن تلك الأفكار تفقد وظيفتها وأهميتها حين تصبح النظافة عادة للناس ، ويصبح الحث عليها غير ذي معنى ، وحين تبلور أفكار في ضرورة إرسال الأولاد إلى التعليم الجامعي ، ثم تنجح تلك في تحقيق مقصدها يصبح الحديث عن تلك الضرورة غير مفهوم وهكذا .. وهذا يعني أن كثيراً من الأفكار تنتهي صلاحيته ليس في حالة إخفاقه فقط وإنما في حالة نجاحه أيضا .. وهذا مغاير بالطبع لحقيقة المبادئ والقيم العليا التي تتأبى على التحقق الكامل ، ويظل بينها وبين التمثل الواقعي هوة دائمة مما يصونه من الاستنفاد ، ويجعل الحاجة إليها مستمرة ، ويكمن مقتل النهضة الفكرية في كثير من الأحيان في التشبت بأفكار حققت غايتها ، وفقدت وظيفتها ، والزهادة في مبادئ توجب طبيعتها الخاصة وجوب المحافظة عليها ؛ لأنها تمثل محور الحياة الفكرية التي لاقوام لها بدونه .
أهمية الفكر :
صدّ تأكيد كثير من مفكري المسلمين على أهمية الفكر كثيراً من الشيوخ والشباب عن الاهتمام بمناهج الفكر وقضاياه ظناً منهم أن ذلك الاهتمام سيكون على حساب العمل والتربيةوالأخلاق والسلوك .. وسبب هذا الظن أننا حين نتبني توجهاً معيناً في الإصلاح نلح عليه إلحاحاً يوهم الأخرين بأننا لانرى سواه . ، وأننا نهمل ماعداه ؛ ومن ثم فإنني أبادر إلى القول : إن استقامة الفكر ونقاءه ليس بديلاً عن التربية ولا الأخلاق ولا أعمال الخير ولا الحركة الدعوية ، ولكنه الشرط الأساس لصوابها ورشدها ، فمهمة الفكر رسم مخطط الحركة وجعلها اقتصادية ، بحيث تتكافأ نتائجها مع الجهد والوقت المبذول فيها ، كما أنه يحيّد كل الوسائل والأساليب التي ثبت قصورها ويكثف الخبرات والتجارب المكتسبة في بعض المقولات والمحكات النهائية ، ويساعد على طرح البدائل والخيارات في كل حقل من حقول العمل ، وهذا كله لايتأتى عن غير طريق الفكر . ويمكننا إلى جانب هذا أن نستجلي مسوغات أخرى للاهتمام بالفكر في المفردات التالية :(1/77)
1- إن الحضارة الغربية ذات منظومات متكاملة في المجالات الثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية ، ولها تصورها الخاص في جميع شؤون الحياة ، وهي (الآخر) بالنسبة لنا ، وملاحظاتنا على أنساقها المختلفة ستظل محدودة الأهمية مالم نبلور البديل الأصلح والأنفع والأكمل في تلك المجالات كافة من منظورنا الخاص لنا [4] ، ولاسيما أنه الأجهر صوتاً والأكثر عتاداً وعدة ، وإذا كنا نملك قوة الحق فإنهم يمتلكون حق القوة ، ويطالبون بدفع استحقاقاتها .
وبإمكاننا أن نكون محنة وتحدياً حقيقياً لهم في حالة واحدة ، هي أن نستطيع تقديم رؤيتنا الكونية بشكل واضح ، وأن نطرح بعض الحلول الجذرية المتميزة لبعض الاختناقات الحضارية التي يعاني منها بنو البشر اليوم ، وهذا لايتم إلا من خلال فيض من الخطط والدراسات والنماذج المتقنة ؛ وهذا كله سبيله الرؤية الفكرية الناضحة والشاملة .
2- من الممكن لكل الأنشطة الحضارية أن تمضي في سبيلها إلى حد معين ؛ فالاقتصاد في أسرة ، والنشاط الزراعي في حقل ، ومساعدة ضعيف في مجتمع ، كل ذلك من الأنشطة التي يتيسر القيام بها دون الحاجة إلى عناء التفكير ، لكن عندما يصل الأمر إلي تنشيط اقتصاد دولة أو التخطيط لمجتمع كبير أو حل أزمات حركة أو جماعة في ظروف حاسمة ، فإن التفكير المركز والمعقد يكون هو الآلية التي ينبغي استخدامها .
وإني أعتقد أن معاناة الأمة من بعض المشكلات لمدد تصل إلى قرون كانت بسبب إهمالها للفكر والنقد والمتابعة والمراجعة باعتبارها مبادئ أساسية في التغيير والإصلاح والارتقاء .
إن من المؤسف حقاً أن بعض الإسلاميين ينعت الحديث عن الفكر بالحديث البارد ؛ حتى إذا طرحت مشكلة وطلبت حلاً لها لم تجد إلا الوجوم أو الهروب ! !
3- إن العالم الإسلامي لايعاني من نقص في الإمكانات ولا الوسائل ، فما هو متوفر لديه إن لم يكن أكثر مما عند كثيرين لم يكن أقل ، لكن مشكلته تكمن في أن فاعلية وسائله ونجاعتها مرتكزة على الأساليب والطرق التي تستخدم تلك الوسائل ؛ والأساليب تظل محدودة الكفاءة مالم تستند إلى قاعدة فكرية صحيحة ، ترسم خطة واضحة للعلاج والاستطباب من خلال تشخيص الداء وتعيين الأسلوب الأمثل ومقدار التداخل الجراحي المطلوب إلى جانب تحديد أولويات العلاج وتكاليفه وإفرازاته ، وفي هذا المقام نجد أن الأراضي التي تكفي لإشباع قارة لاتشبع بلداً ، وأن وفي الطاقة البشرية الهائلة صارت عبئا بدل أن تكون ميزة تماماً كجيش ضخم لم يلق التدريب ، ولم يجد السلاح ، ولا الخطة القتالية الناجعة فهو أكوام من الكتل البشرية المستهدفة للعدو !
إن قليلا من الإمكانات والوسائل مع كثير من الفكر والتخطيط والفاعلية التنظيمية والحركية أعود على الأمة بالخير والنفع من أكداس الأشياء الضائعة والمهملة .
4- عصرنا هذا هو عصر الاكتشاف ، وقد اكتشف الإنسان من الحتميات والسنن مالم يكتشفه في أي زمن من الأزمنة ، ولكنه إلى جانب ذلك اكتشف من الفرص والخيارات الشيء الكثير ، وإن كثيراً مما كان يفرض فرضا صار اليوم موضع خيار ، وإن وجود حتميات وضغوط وخيارات كثيرة يلزمنا باللجوء إلى التفكير الفعال ؛ حتى لانصل إلى طرق مسدودة ، وحتى لا نضيّع فرصاً متاحة ، إذ إن كل فرصة بحاجة إلى قرار ، وصاحب ذلك ضعفُ وضمورُ ماكان يستخدم في الأصل بديلاً عن التفكير مثل العادات والتقاليد والمذاهب التي توفر في العادة استخدام العقل [5] .
5- الاستقرار النسبي كان سيد الموقف في العصور الماضية ، وبما أن الأشياء لا تتغير كثيراً فإن التكرار كان البديل الصالح عن التفكير ، كما أن قلة قليلة من الصفوة كانت تملك اتخاذ القرارات ، وكانت تقوم بالتفكير عن الباقين ، وكان صنع القرارات الشخصية ميسوراً ومحدوداً لكن المجتمع اليوم لاينعم بالاستقرار بسبب معدل التغيير الذي تغذيه (التكنولوجيا (والطموحات الاجتماعية [6] .
6- حينما تصاب أمة بدمار شديد أو زلزال ماحق فإنه يبقى لها بعد انهيار بنيانها شيئان : مبادئها السامية الكامنة في شخصيتها الاجتماعية ، وأفكارها وخبراتها التاريخية والحضارية ، وهي تستطيع من خلالهما استعادة كل ما فقدته عندما تتوفر إرادة تجاوز المحنة ، فقد دمرت الحرب كل شيء في ألمانيا ، ولم يبق لديها إلا مخزون الأفكار وعزيمة الانتصار ، فتمكنت من إعادة بناء مصانعها على ضوء الشموع بعد اندحار الهتلرية [7] وهكذا فإن أمة كأمتنا تستطيع بتوفيق الله أن تنجز الكثير ، وتستعيد الكثير إذا ما استطاعت صياغة أفكارها من جديد ، وتلمس سبل النجاة والفلاح .
وهكذا نستطيع القول بعد كل ما مضى : إن توسيع آفاق الفكر لدى المسلم سوف يؤدي إلى توسيع مجاله الحيوي ، ويقلل من ضرورات حركته [*] .
________________________
(1) المعجم الوسيط ، مادة فكر .
(2) انظر تعريفا آخر في : الأزمة الفكرية المعاصرة : 27 .
(3) كثير من أفكار ابن تيمية وابن خلدون جاء في غير أوانه وفي غير محيطه ، وقد وجد الآن كثيرا مما افتقده ، وأصبح يؤتي أكله أشكالاً وألواناً .
(4) ماتصادمت حضارتان إلا كانت كل منهما محنة للأخرى .(1/78)
(5) انظر تعليم التفكير : 28 .
(6) السابق : 28 .
(7) مشكلة الثقافة : 61 .
(*) هذا الموضوع للكاتب الكريم هو جزء من كتاب جديد تحت الطبع ، بعنوان : (مقدمات للنهوض بالعمل الدعوي) ، وهو جزء من السلسلة التي أصدرها الكاتب تحت عنوان : (المسلمون بين التحدي والمواجهة) ، والتي صدر منها : (نحو فهم أعمق للواقع الإسلامي) ، و (من أجل انطلاقه حضارية شاملة) مجلة البيان .
=================
#الاستثمار في الإعلام
كان المفترض أن يقود المسلمون ثورة الاتصالات في العالم حتى يتمكنوا من تبليغ الرسالة ، وحتى يتمكنوا من التواصل والتعاون فيما بينهم ، ولا سيما أنهم موزعون على أرجاء العالم كافة ؛ لكن بما أن ذلك لم يحدث - لأسباب معروفة - فلا أقل من أن نستفيد من الإمكانات الهائلة التي وفرها التقدم التقني على صعيد الاتصالات والبث الفضائي وشبكات المعلومات .
إنني لا أعني ابتداء بالاستثمار استثمار المال فحسب ؛ فالمال ضروري وجوهري ومن دونه لا نستطيع القيام بالكثير من الأعمال ، لكن هناك أمور كثيرة أيضاً لا تحل بالمال ، إنني أعني بالاستثمار في الإعلام إيجاد الاهتمام أولاً بهذا القطاع الحيوي والمهم جداً حيث إن أي مجال أو قطاع لا يرتقي إلا من خلال كثرة المهتمين به ، كما أعني بالاستثمار في الإعلام بذل الجهد والوقت في تفعيل دور الإعلام الإسلامي في النهوض بالأمة وحل مشكلاتها ؛ فبناء مواقع إسلامية على (الإنترنت ) يتطلب المال ، ولكنه يتطلب الجهد والتعب أكثر من حاجته إلى المال ، وطبيعة ممارسة الإعلام والدعوة إلى الله - تعالى - على الشبكات المعلوماتية تتسم بالمرونة ، ويمكن أن يسهم في إثرائها الكثير الكثير من الشباب والأشبال بعد القليل من التدريب والخبرة ، إننا بالمال نستطيع إيجاد بنى وهياكل إعلامية لكن بناء الإعلامي اللامع المحترف يحتاج إلى وقت وقد يكون عليك أن تصبر عشرين سنة حتى تحصل على إعلامي ممتاز ؛ ففهم البيئة الإعلامية واستيعاب الفرص والتحديات الموجودة فيها وشق طريق خاص متميز بين شعابها ووهادها يحتاج إلى الممارسة والمعاناة والانخراط في لجة العمل الإعلامي ، والزمن عامل مهم في بلوغ كل ذلك .
اليهود يتمتعون بالإدراك العميق لأحوال عصرنا ، وبالخبرة الواسعة بمكامن القوة فيه ، وقد كانوا يقولون : من يملك الذهب يملك العالم ، وهم يقولون اليوم : من يملك الإعلام يملك العالم .
وهذا القول عميق الدلالة ؛ فالإعلام اليوم من خلال الإتقان الفائق للبرامج التي يقدمها ، ومن خلال ما يتمتع به من قدرة كبيرة على التأثير بات قادراً فعلاً على أن يصنع شيئاً من لا شيء ؛ إنه قادر على أن يوجد بيئة كاملة من الأفكار والمشاعر والقيم والاهتمامات والاتجاهات لأمور تافهة أو هامشية مثل الرياضة والفن والطبخ والأزياء .. والملاحظ - مثلاً - أن بعض منتجات ( هوليود ) من الأفلام والأعمال الفنية بات يركز على إظهار ( البوذية ) بوصفها الديانة الأعمق روحانية والأكثر إنسانية ، وقد اقتنع كثير من الناس في الغرب على الأقل بذلك ، والسبب هو أن اليابانيين اشتروا أسهماً في ( هوليود ) بعشرات المليارات من الدولارات ، وباتوا يتحكمون في إنتاجها ، وقد قدموا بذلك خدمة لديانتهم كان من الصعب أن تحظى بها لولا عمليات الشراء تلك !
والإعلام في المقابل قادر من خلال تجاهله وتعاميه أن يسدل الستار على أكثر القضايا والأزمات والنكبات حيوية وشناعة ؛ ففي عالم مهموم ومشغول ومشتت يصبح إرباك الوعي وصرف الانتباه أمراً في غاية السهولة ، وأكبر دليل على ذلك ما جرى ويجري ساعة كتابة هذا المقال في فلسطين السليبة ؛ حيث بلغت المأساة حداً جعل وزير خارجية العدو الإسرائيلي يقول : ما جرى في مخيم جنين مجزرة ، وجعل بعض موظفي الصليب الأحمر يقولون إن وضع مخيم جنين يشبه وضع برلين عام 1945م عقب الحرب العالمية الثانية !
إن أمة الإسلام غنية بالأحزان وبالصور والمشاهد المؤلمة والمفجعة ؛ وعصرنا - كما يقولون - هو عصر الصورة ، لكن أين الإعلاميون المسلمون الذين ينقلون صور مآسينا للعالم الذي ضلله الإعلام الصهيوني والإعلام المتحالف معه ؟ !
بالإضافة إلى ما ذكر نحن بحاجة إلى تكثيف الاستثمار في الإعلام لسببين جوهريين :
الأول هو : تأدية أمانة التبليغ وإيصال رسالة الإسلام إلى الناس كافة ، والحقيقة أن البث الفضائي المتوفر الآن إلى جانب شبكات المعلومات قد وفرا وسائل للتبليغ كان أسلافنا عاجزين حتى عن الحلم بها ؛ فقد أمكن الآن مخاطبة مئات الملايين من البشر في آن واحد ، وإيصال ما نريد إليهم ، على حين كان الناس في الماضي يغبطون العالم إذا جلس في حلقته ألف من طلاب العلم .
إن هذه السهولة في التواصل العالمي جاءت في الوقت المناسب ؛ حيث إن معظم سكان الأرض قد فقدوا اليوم الإحساس بالأهداف الكبرى والإحساس بالغاية من الوجود ، والمسلمون وحدهم هم الذين يملكون الرؤية والمنهج اللذين يحتاج إليهما العالم .(1/79)
الأمر الثاني هو : مقاومة شرور الإعلام الماجن الذي دخل كثيراً من البيوت ، وباشر عملية تخريب واسعة النطاق من خلال إفساد الأعراف والأذواق والمفاهيم ، إنه فعلاً يعيد صياغة العقول والمشاعر من جديد على نحو بالغ السوء وليس هناك من حل اليوم سوى إيجاد إعلام إسلامي قادر على المنافسة والاستيلاء على جزء من الجماهير ، إن الإعلام يشكل شيئاً جوهرياً في عصرنا ، وإن التقدم على صعيده يعد من الشروط المهمة لفهم روح العصر والتأثير فيه ؛ وقد قال أحد المفكرين :
(إذا لم يكن لك روح عصر كانت لك كل شروره ) .
الإعلام الإسلامي يواجه تحديات لا يواجهها أي إعلام آخر ؛ حيث إن عليه أن يجمع بين الجاذبية والالتزام ؛ ولذا فإنه لا يستطيع أن يتغذى على شهوات الناس ورغباتهم ، كما لا يستطيع مخادعة الناس واستغلالهم - كما يفعل الإعلام الآخر - ولكن مع هذا فإن ترسيخ وجوده في الساحات العالمية ليس بالأمر المستحيل إذا توفر لدنيا ما يكفي من الوعي والإخلاص والعزيمة .
إن أغنياء المسلمين مطالبون ببذل الأموال ووقف العقارات من أجل إنشاء المؤسسات الإعلامية ، وإن الدعاة والمثقفين مطالبون بأن يسعوا في بناء الأطر الإعلامية وتأسيس مؤسسات الإنتاج الإعلامي وتوجيه الطاقات الشابة من أجل العمل في هذا المجال المهم ، أما جمهور المسلمين فإن دعمهم للإعلام الإسلامي يتمثل في شراء منتجاته وقراءتها وفي الإعلان في وسائله ، وفي التفاعل مع الرسالة الإعلامية التي يقدمها لهم .
والله الموفق .
================
#لمن هذه الخيمة ؟
في عقول كثير من الناس أفكار لأعمال خيرية وإصلاحية كثيرة ، لكن الذي يرى النور منها قليل جداً ، والأقل من القليل هو ذاك الذي يحقق نجاحاً ملحوظاً .
كلما نشبت أزمة اكتشف كثير من المفكرين والدعاة أن لدى الأمة قصوراً أو انحباساً أو مشكلة في جانب من جوانب حياتها ، ويبدأ كل واحد منهم بالتعامل مع ذلك على طريقته الخاصة : واحد يلقي محاضرة وثان يصدر فتوى ، وثالث يؤلف كتاباً ، ورابع يشكل لجنة وهكذا ... أصحاب الفتاوى والكتب والخطب يشعرون أن مهمتهم انتهت ، وفعلوا ما عليهم أن يفعلوه .
ويبقى أولئك الذين يشكلون اللجان ، والمجموعات للبحث والتنظير ورسم الخطط .. إنهم كثيراً ما يشعرون أن مهمتهم كبيرة ، وأن الرد على تلك الأزمة أو معالجة ذلك القصور قد يتطلب ما هو أكثر من فتوى أو خطبة ، ويمضي القوم في اجتماعاتهم الأسبوعية أو الشهرية أو الفصلية ، ويستفرغون جهدهم وطاقتهم في إجراء الدراسات المطلوبة ، وكلما فرغوا من دراسة جزئية ، نسل البحث جزئية أخرى ، وفي كثير من الأحيان يُنسى الهدف الأساس الذي اجتمعوا من أجله ، وتجدّ لديهم أهداف صغيرة يبحثون عن وسائل وأطر لبلوغها وهكذا .. ومع مرور الأيام تأتي الصوارف والشواغل ، وتفتر العزائم ، ويسود نوع من الشعور بانسداد الآفات وبعدم وجود الأهلية لمعالجة ما تصدوا لمعالجته . وربما جاءت أزمة جديدة ، أنستهم القديمة ، ودفعتهم للانشغال بها !
كثير من أولئك المجتمعين يبحثون في مسائل خارج اختصاصهم ؛ ولذلك فإنهم يبذلون جهداً هائلاً ووقتاً طويلاً حتى يسبروا أغوار الأزمة أو القضية التي تصدوا لها ، وحتى يوجدوا قاعدة للفهم المشترك بينهم ، وكثيرون منهم يشعرون بأنهم يحملون الكثير من الأعباء ، وأنه ليس لديهم أي طاقة لتحمل أعباء جديدة ؛ ولذا فإنهم يفيضون ويطوّلون في المناقشات النظرية ، وفي نفس كل واحد منهم توجّس خفي من أن ينتهي البحث إلى تكليفه بشيء عملي ؛ ولذا فإن تلك المناقشات تندفع بالغريزة بعيداً عن ميادين العمل ، وإذا أفْضَت إلى شيء عملي ؛ فينبغي أن يقوم به أشخاص من غير المجتمعين ، فالمجتمعون خُلقوا للتنظير ، وعلى أشخاص أقل سوية أن يتولوا التنفيذ ! ثم لا يجدون أولئك المنفذين ، وتنتهي العاصفة بمجموعة من الأمنيات والمقترحات التي ما تفتأ أن تسقط بالتقادم .
قد يكون من المفيد أن نوضح أن أهم ما يُطلب في هذه المبادرات الخيّرة ، هو أن يعتقد في كل مجموعة أو لجنة شخص واحد على الأقل أن الوصول إلى شيء عملي يُعد أولوية مطلقة بالنسبة إليه ، وكأنه يقول : أنا صاحب هذه الخيمة والمسؤول عنها وحاميها ، ومن أراد التعاون معي فأنا موجود ، وإن لم أجد فسأتابع العمل وحدي . إنه بذلك يجعل من نفسه محوراً يجذب إليه كل أولئك الذين يشاركونه هموم ما تصدى إليه . أولوية واحدة تُخدم بشكل جيد خير من أولويات كثيرة لا يجد صاحبها أي طاقة كافية لخدمة أي منها على الوجه الصحيح .
والله الموفق .
=============
#قصور العقل(1/80)
كان من أشد ما يهلك بني البشر على مدار التاريخ احتقارهم لأشياء كبيرة ، وتعظيمهم لأمور صغيرة ، وقد كان العقل البشري من جملة الأشياء التي أخطأت الحضارة الحديثة في تعاملها معها ؛ حيث إن الغرب بعد أن نفض يديه من إصلاح النصرانية ومن جعلها مصدراً يعتدُّ به لتغطية عالم الغيب عمدت إلى ( العقل ) تستنجد به في توفير مظلة روحية ومادية لكل شؤون البشر واحتياجاتهم . واليوم ينسج على منوال الغرب في هذا العلمانيون الجدد الذين يشنون حملات منظمة ضد التدين والمتدينين ، ويحاولون تفتيت مرجعية الوحي ، واختزالها بطرق عديدة .
وأود هنا أن أوضح في مسألة « قصور العقل » النقاط الآتية :
1 - العقل البشري عقل محدود ، وهو يوفر بيئة لنمو الدلالات والمفاهيم ، كما أنه قادر على استخدام ما تنقله إليه الحواس في محاولته الوصول إلى بعض الأشياء المجهولة ؛ لكن العقل غير قادر على الخوض في مسائل لا تتوفر له عنها معلومات جيدة ؛ فهو لا يستطيع تحديد الغاية من الخلق : أي لماذا نحن هنا كما لا يستطيع سن تشريعات تأخذ بعين الاعتبار مصالح جميع الناس وأوضاعهم دون أن يقع حيف على بعض منهم . أضف إلى هذا أنه لا يستطيع أن يخبرنا عن الأمور المهمة في حياتنا والأمور التافهة ؛ حيث ليس فيه أبواب ندخل منها إلى مجالات كل منها .
والعقل البشري بعد هذا وذاك بنية يسهل خداعها ؛ فحين نزوده بمعلومات خاطئة فإنه يقع في الخطأ بسهولة ؛ إنه عقل قادر على البحث في الأدوات والأشكال والأساليب وكل الأمور المحدودة ؛ لكنه غير قادر على البحث في مصيره الذاتي .
وهو على مقدار ما يبدي من البراعة في التعامل مع ( الكم ) يبدي القصور في التعامل مع ( الكيف ) أو ما يسمى ( الصفات ) . وتجاهل كل هذه الأمور المحددة لقدرة العقل على العمل يؤدي إلى حدوث أخطاء فاحشة تتعلق بمصير الإنسان على هذه الأرض .
2 - العقل البشري ليس بنية مكتملة متميزة منحازة معزولة عن السياقات المعرفية أو عن المشكلات والقضايا التي يعالجها أو يشتغل عليها . وإنما هو إمكانات ومفاهيم وبدهيات ملتبسة بالمعطيات المعرفية ومتفاعلة معها ، كما أنها ملتبسة بالمشكلات الوجودية المختلفة ، ومتفاعلة معها أيضاً وهذا يعني أننا ونحن نحاور نؤثر ونتأثر ، كما أننا حين نعلِّم نتعلم ، كما أن عقولنا تتأثر بالمعلومات التي تعالجها والمشكلات التي تسعى إلى حلها . وهذا كثيراً ما يؤدي إلى اضطراب العقل وتراجعه عن كثير من مقولاته وطروحاته ؛ ولهذا فإنه ليس هناك أي ضمان لاطِّراد تقدم أي مفكر في خط واحد مهما كان ألمعياً ومتمكناً من الأفكار والمفاهيم التي يتبناها ، والأمثلة على هذا أكثر من أن تحصى ، هذا ( هوسرل ) بعد أن كتب ألوف الصفحات في استجلاء علم ( الظاهريات ) محاولاً الوصول إلى البُنى الموضوعية للماهيات المحضة نراه يتحول من رجل يبشر بمنهج جديد إلى واعظ يحذر أوروبا من المخاطر التي تنتظرها إذا هي استمرت في منهجيتها العلمية والفكرية ؛ بل إنه يهاجم ( العقل ) ويتساءل في محاضرة له عام 1935م : هل استقال العقل وفقد دوره في الحياة ، أم أنه خلافاً لذلك كشف عن وجهه الحقيقي الانتهازي الماكر والنفعي ؟
هذا يعني أن تفويض كل شؤون الحياة للعقل وسدنته يشتمل على مخاطرة كبرى ، وليس هناك أي حل سوى العودة بالعقل إلى وظيفته الأصلية في الحركة ضمن أطر ومسلَّمات كبرى يؤمنها الوحي بما يصوغه من أصول ومبادئ ، وبما يرسمه من خطوط عريضة لترشيد حركة الإنسان وعلاقاته .
3 - العقل البشري أبدع حلولاً كثيرة لمشكلات الناس ، وأسهم في توفير الراحة لهم ، وفي تخليصهم من الكثير من أشكال العناء ، وهذا موضع تقدير منا جميعاً ، ولكن علينا أن نقول : إن إبداعات العقل أوجدت مشكلات كثيرة مثل تلوث البيئة ومخاطر الطاقة النووية وسيطرة الآلة على حياة الإنسان وفشو أمراض الحضارة .... وعقولنا غير قادرة على إبداع الحلول للمشكلات التي أوجدتها ؛ إنها تكشف دائماً عن مساحات فاصلة بين وجود المشكلات والقدرة على حلها ؛ وما ذلك إلا لأن منتجات العقول تدخل في تعقيدات وملابسات يعجز العقل عن فك رموزها والتحكم بها . وماذا يمكن للعقل أن يفعل لشخص أدمن الجلوس إلى ( التلفاز ) واستسلم لرغباته فأضاع الكثير من واجباته ؟
وهذا يعني أن الاعتماد على العقل في تصحيح مسار البشرية بعيداً عن القيم والمبادئ التي يوفرها الوحي مجافٍ للصواب وباعث على خيبة الأمل والخذلان .(1/81)
4 - أكثر الناس استخداماً لعقولهم واستثماراً لها هم الفلاسفة ؛ حيث إن صياغة المفاهيم بواسطة العقل هي شغلهم الشاغل ؛ ومع ذلك فإن كل المشتغلين بالفلسفة يعترفون أنه ليس من شأنها أن تمنحنا اليقين ، أو تحدد لنا موطن الداء في قضية من القضايا ، أو تصف لنا الدواء ، أو تقدم لنا مفاتيح حلول المشكلة من المشكلات ، إنها نشاط فكري لا يتوقف عن إثارة الأسئلة ، وإعادة صوغ المشكلات ؛ إنها أشبه بمسلسل ليس له نهاية ، وهي دائماً في حركة مستمرة من إشكال إلى إشكال أعمق وأكثر تعقيداً من سابقه . ولست أقصد هنا إلى الإزراء بالفلسفة ؛ وإنما أريد أن أقول : إن الناس بحاجة إلى اليقين وإلى أطرٍ مهما تكن واسعة إلا أنها في النهاية موجودة وواضحة . وتلك الأطر تضع حداً لكثير من الأسئلة التي يطرحها العقل ، كما ترشد إلى المسار الذي يمكن أن يسلكه في الإجابة على الأسئلة المطروحة . وهذه الأطر لن يجدها الناس إلا في الدين الذي جعله الله جل وعلا مستوعباً لكل الخير الذي جاءت به الأديان السابقة .
5 - العقل البشري عاجز عن التنبؤ الدقيق بما يمكن أن يقع في المستقبل ؛ وقد حاول بعض مفكري أوروبا أن يستعينوا على معرفة ما يمكن أن يقع في المستقبل ببلورة رؤية شاملة للكون : بنيته ، وعناصره ، ونواميسه ، على قاعدة :
إذا أردت أن تعرف ما سيحدث في المستقبل فانظر إلى ما حدث في الماضي .
والحقيقة أنه لا يعرف الغيب إلا الله تعالى ، وأن عقولنا تستطيع أن تتوقع حدوث أمور صغيرة في المستقبل القريب . أما توقع الأحداث الكبيرة في أزمنة متباعدة فهذا ما يكون غالباً غير ذي جدوى ، ويظل في دائرة الظن أو الوهم ؛ وما ذلك إلا لأننا عاجزون عن معرفة كل التغييرات التي ستقع في المستقبل ، والتي ستؤثر في نوعية الأحداث والتحولات التي يمكن أن تقع .
أما قراءة التاريخ لاستخراج النواميس والسنن الكونية منه ، فإن عقولنا تكشف عن قصور مدهش في هذا الجانب ؛ والسبب في ذلك أن معرفتنا بالأسباب الحقيقية التي أدت إلى ولادة أحداث التاريخ الكبرى تظل دائماً معرفة ناقصة . وحين نحاول حصر أسباب الأحداث الكبرى ، ونوفق في ذلك فإن المشكلة التي تنتظرنا تكمن في تحديد وزن كل سبب وحجم تأثيره في وقوع تلك الحوادث ، لكن حين نتأمل سنن الله تعالى في الخلق كما وردت في نصوص الكتاب والسنة ، فإن دائرة خطئنا تضيق ، ودرجة اليقين لدينا تكون أكبر .
6 - لا يملك العقل البشري أي عتاد حقيقي يمنعه من التورط في صناعة الخرافة وقبولها . ولست أبالغ إذا قلت : إن البنية العميقة لعقول معظم الناس هي بنية خرافية ؛ حتى كأن الخرافة هي الأصل لديهم ؛ إذ بمجرد حدوث ضعف في التثقيف الجيد أو وقوع الناس في حالات استثنائية من الشدة والكرب تطفو تلك البنية على السطح .
لو تساءلنا : من أين تأتي قابلية عقولنا للسقوط في مستنقع الخرافة ؟ لوجدنا أننا تجاه حالة لا تخلو من الغموض ؛ لكن يبدو لي أن مصدر ذلك يعود إلى أمرين جوهريين :
الأول : هو جهلنا بمعظم ما يقع في الوجود من أحداث ؛ فإذا قلنا : إنه يقع على الكرة الأرضية في الدقيقة مئة مليون حدث ، فإن الواحد منا قد لا يشاهد منها سوى خمسة أو عشرة ؛ والباقي يقع بعيداً عن النظر ، أضف إلى هذا أن خبرتنا بما حدث في الماضي أيضاً محدودة جداً . ولدى الناس إحساس بأن هناك عوالم لا تغطيها حواسنا ؛ ونحن المسلمين مثلاً نعتقد بوجود عالميِ الجن والملائكة ؛ فإذا ما حُدِّثنا عن حصول بعض الأمور الخارقة أو غير المألوفة ، فإن عقولنا كثيراً ما تتقبلها على أنها تنتمي إلى عالم من العوالم التي لا يراها الإنسان ، أو تتصل بالأحداث التي لم يشاهدها ، وتكون تلك الأمور من الخيال أو من الكذب المحض .
الثاني : هو أن عقولنا تتقبل الأخبار التي نسمعها ما دامت تقع في دائرة المعقول ، وترفضها إذا خرجت عن تلك الدائرة ؛ فإذا ما قيل لنا : إن الناس في البلد الفلاني رأوا شخصاً يحمل عشرة قناطير على ظهره ، فإننا نرفض ذلك ، ونعده من قبيل الخرافة ؛ لأنه يقع خارج دائرة المعقول بالنسبة إلينا ؛ لكن المشكلة هنا أن الذي يرسم دوائر المعقول وغير المعقول في غالب الأمر ليس العقل ، وإنما الثقافة والخبرة ؛ فإذا ما قال لك شخص : أعطني ألف دينار لأتاجر لك به ، وستربح مائة ألف في آخر السنة فإن القناعة بذلك وعدم القناعة به لا يقودان إلى العقل وإنما إلى الخبرة والمعرفة بالتجارة وأحوال السوق في تلك السنة ؛ فصاحب الخبرة ربما يقول لك : لا تصدق ذلك ؛ فأمهر التجار لا يستطيع اليوم مضاعفة رأس ماله مرتين أو ثلاثاً في العام فضلاً عن أن يضاعفه مئة مرة ؛ لكن يأتي شخص آخر عديم الخبرة ، أو له خبرة مختلفة بأحوال السوق ، فيقول : كلام ذلك الرجل معقول ، وقد حدث مثل ذلك في العام الفلاني مع الشركة الفلانية ، ولا مانع من أن يحدث الآن ، وهكذا فمضاعفة رأس المال مئة مرة في السنة تعد من قبيل المعقول في خبرة شخص معين ، وتعد من قبيل الخرافة والاحتيال في خبرة شخص آخر ؛ ولهذا فطالما انقسمنا تجاه بعض الأخبار والأحداث إلى فريقين : فريق يقول :(1/82)
هذا معقول ، وفريق يقول : هذا غير معقول .
وهكذا فقد ظُلم العقل مرتين مرة من قِبَل المشعوذين والمخرِّفين الذين ألغوا دور العقل ، ومرة من قِبَل الذين حرموا نعمة الهداية بأنوار الوحي ، فألهوا العقل ، وطلبوا منه أموراً ليس من شأنه الاشتغال بها .
والله ولي التوفيق .
=============
#ثقافة التساؤل
المتأمل في مداولاتنا الفكرية في وسائل الإعلام ، وفي مجالس السمر ، وفي كل مكان يجد أن ما نردده اليوم من شكوى حول سوء أوضاعنا ، وما نطرحه من حلول هو عين ما ردده أسلافنا قبل أكثر من قرن من الآن . وإذا شئت أن تستوثق من ذلك ، فارجع إلى مداولات المؤتمر الإسلامي الوهمي الذي صوره لنا الكواكبي في كتابه ( أم القرى ) . ونحن إلى الآن غارقون في طرح المشروعات الحضارية التي نعتقد أنها ستخرج الأمة من مشكلاتها المتأسنة . وأملي أن نكف عن ذلك مؤقتاً ؛ فقد حصل لدى الناس تشبُّع من الحلول والمقترحات النهضوية ، وقد وصلوا إلى حافة اليأس والإحباط !
دعونا الآن نخطو في اتجاه طرح الأسئلة حول الحلول التي قدمت : لماذا نملك قدراً هائلاً من المشروعات والمقترحات والحلول لكل أدوائنا ، ونملك مع ذلك أضعف نتائج على الصعيد العملي ؟ !
قد يكون من المفيد أن نعقد لكل مشكلة كبرى جلسات لعصف الأفكار ، لا تُقدَّم فيها الحلول ، ولكن تثار فيها التساؤلات ، ونتداول فيها التعليلات بغية فهم أعمق لطبيعة المشكلات والأزمات التي تعاني منها الأمة . لا ريب أن طرح الأسئلة فن كبير ، وما يحتاجه من ثاقب النظر وواسع الخبرة لا يقل بحال عما يحتاجه تقديم الأجوبة والحلول . وليس من باب التشاؤم القول : إننا لا نملك الأدوات الفكرية والمعرفية التي تمكننا من طرح أسئلة عميقة ومعقدة . ونحن إذ ندعو إلى تكثيف طرح الأسئلة نأمل أن نرتقي في هذا المجال الحي ، ونمتلك عتاده المطلوب . إننا من وراء طرح مزيد من الأسئلة لا نطمع في قطع دابر الخلاف حول تحديد جوهر مشكلاتنا أو تحديد أكثرها خطورة ؛ فذاك أمر قد يكون عسير المنال في المدى المنظور ؛ لكن الذي نطمح إليه هو إيجاد أسس متينة للخلاف وبناء معقوليات وأطر تتحرك داخلها أقوال المتحاورين والمنظرين والمشخصين ؛ مما يضيق بدوره دائرة الخلاف ، ويقرب بين الأقوال المتباينة .
في جلسات عصف الأفكار يطرح كل واحد من المشاركين ما شاء من أسئلة وتعليلات دون أن ينقده أو يرد عليه أحد . ويقوم أحد المشاركين بتلخيص كل ما قيل وتوزيعه على الحاضرين ، وفي جلسة تالية يتم القيام بمناقشة حصيلة الجلسة السابقة وغربلة ما قيل فيها من أجل تحديد الأسئلة والتعليلات الأكثر محورية ، وتلك التي لاقت استحسان معظم المشاركين ، واستبعاد غير الجوهري . وإذا تم التحضير الجيد للموضوعات التي سيتم التساؤل حولها ؛ فإن ما يمكن أن نحصل عليه قد يكون أكبر بكثير مما نظن .
لماذا لا نتساءل ؟
طالما حدثت نفسي عن الأسباب التي تجعل شهيتنا للتساؤل ضعيفة ؛ مما أدى إلى تراكم المشكلات وضعف خبرتنا العامة في التحليل والوقوف على العلل الخفية التي دفعت بالأمة إلى الوضعية التي تعاني منها الآن ، وقد بدا لي أن ذلك يعود إلى عدد من الأسباب ، أذكر منها :
1 - سيطرة الموروثات والتقاليد الشعبية على مداخل التفكير لدى معظم الناس ؛ وتلك الموروثات تنظر إلى الإكثار من طرح الأسئلة على أنه دليل الجهل وقلة الخبرة . كما أن المبادرة إلى الإجابة على أي سؤال يُطرح تعطي انطباعاً معاكساً ؛ ولذا فإن من الملاحظ أنه حين يطرح سؤال يتعلق بالصحة مثلاً وفي المجلس طبيب فإن أكثر من شخص يجيب قبل أن يتمكن الطبيب من إبداء رأيه !
وهذه الوضعية ذاتها تشجع الناس أيضاً على أن يجيبوا أنفسهم على التساؤلات التي تثور في أذهانهم بعيداً عما في الكتب ، وعما لدى أهل العلم ، وهذا يؤدي بهم إلى أن يشعروا بنوع من الامتلاء الكاذب ، ويكونون بذلك كمن يتجشأ من غير شبع !
2 - طريقة التعليم السائدة في المدارس تكرس ما تشيعه الثقافة الشعبية ؛ حيث إن أسلوبنا في تلقين المعلومات يجعل المعلم يظهر في موقف الإنسان الذي يعرف كل شيء ، أو موقف الفارس الذي يجول ويصول في الحلبة وحيداً دون أن يحسب حساب أي شيء . وتتجلى المعلومات التي يسوقها في شكل معطيات قطعية ، تجاوزت مرحلة الجدل والنقاش . وبعض المعلمين يزيد الطين بلة ، فيمنع الطلاب من إلقاء أي سؤال ؛ لأن ذلك قد يشير إلى أنه لا يشرح بطريقة وافية ، أو لأنه قد يوقعه في الحرج مما يدفع الطلاب إلى الصمت المطبق !(1/83)
3 - في المجتمعات الإسلامية جماهير غفيرة يعشقون الغرائب ويروجون لها لأسباب مختلفة منها إمتاع السامعين ، وإظهار العلم بما يجهله غيرهم ، والتسويق لشخص أو جماعة أو فكرة أو طريقة .... والارتزاق من وراء الإثارة التي تحدثها القصص والحكايات العجيبة ! من طبيعة الغرائب أنها لا تعرف الوقوف عند أي حد ؛ ولذا فإنها تتطور في كثير من الأحيان لتأخذ شكل الخرافة ، ولتبني من ثم عقولاًَ خرافية . من مخاطر الغرائب والخرافات أنها تمحو في أذهان الناس الفروق بين الطبيعي وغير الطبيعي ، والجائز والممنوع ، والقريب والبعيد ، والممكن والمستحيل ... ومن خلال زوال الفروق بين هذه الثنائيات تتهيأ أذهان الناس لقبول أي شيء والاستسلام للوضعية الراهنة بوصفها شيئاً لا بديل عنه .
4 - اليأس والإحباط بسبب سوء الأحوال وتدهور مكانة الأمة بين الأمم الأخرى ؛ مما يؤدي إلى الإحجام عن التساؤل حيث يفقد المحبط الحيوية الذهنية ، كما يفقد روح الانفتاح والتفاعل التي كثيراً ما تتمظهر في التساؤل ، فتؤول الأمور إلى السكون التام وانتظار المصير المحتوم .
5 - جفول الوعي الإسلامي في وقت مبكر من تاريخ هذه الأمة من ( الفلسفة ) بسبب تجاوز بعض فلاسفة المسلمين للعديد من الأصول والثوابت الشرعية ، وقد أدى ذلك إلى ضعف صناعة المفاهيم لدينا ، وإصابتنا بقصور مريع في عدد كبير منها . وحين يتضاءل مفهوم ما عن المستوى الذي ينبغي أن يبلغه ، ينحط مستوى العمل ورد الفعل ؛ مما يجعل الانحدار نحو القاع أمراً مقبولاً أو غير مستنكر ، ومن ثم فلا يثار حوله أي تساؤل . إذا أردنا لشهية التساؤل لدينا أن تنفتح من جديد ، فلا بد من معالجة الأسباب التي أدت وما زالت تؤدي إلى اضمحلالها . والله الهادي إلى سواء السبيل .
==============
#إلى متى
لست أدري متى سنبصر طريقنا إلى التخلص من أدوائنا القديمة التي حولتنا من أمة تقود الأمم إلى أمة تستجدي الشعوب في لقمة عيشها وفي أمنها وفي تنظيم شؤونها ؟ ولعل من أدوائنا القديمة الاستسلام للَّحظة الراهنة ؛ فنحن نستمتع ونهجع ونأكل ونلعب كلما أتيح لنا ذلك غير آبهين بما يأتي به الغد ولا مكترثين بما يتطلبه ما بعد الغد !
إن القرآن الكريم حين أمرنا بإعداد العدَّة كان يستهدف إخراج المسلم من ضغوطات الساعة الحاضرة ، لتنفتح له آفاق المستقبل . والتخطيط في حقيقة الأمر يعني الحصول على شيء من هذا ؛ حيث إنه يساعدنا على توظيف إمكاناتنا الحاضرة في مشروعات تستهدف تحسين أوضاعنا في المستقبل . وهذا يستوجب ألا نهدأ حين يتاح لنا الهدوء ، ولا نغفل في أيام الرخاء . وهذا ما تفعله الدول العظمى والأفراد المتفوقون .
قد أثبتت كل الأحداث التي وقعت في العقدين الماضيين أن أعداء هذه الأمة ومنافسيها يعتمدون في الكيد لها واستغلالها على عقدة النسيان لديها ، وعلى كون تحركاتها لا تنبثق من رؤيتها للمستقبل ، وإنما من مواجهة مشكلاتها الآنية . ولذا فإننا أصبحنا ألعوبة في أيدي الآخرين ؛ إذ ما عليهم حتى يُنسونا ما نحن منهمكون فيه إلا أن يخترعوا لنا مشكلة جديدة فننسى القديمة ، وننطلق نحو معالجة الجديدة بنفس الحماسة التي كنا نعالج بها المشكلة القديمة ، وبذلك ننسى الذين ورَّطونا في المشكلة القديمة والذين ورّطناهم أيضاً !
إن كثيراً من مشكلاتنا الفردية والجماعية ناشئ من قصور في المفاهيم لدينا ؛ فنحن كثيراً ما نظن أن توفير أكبر عدد ممكن من الأفكار والرؤى والطروحات يكفي للإصلاح والتقدم . ومع أن مثل هذا شرط لا يستهان به ، لكنه ليس الشرط الوحيد ؛ فنحن إذا عمقنا النظر في تجاربنا ، وفي تجارب الأمم من حولنا ، وجدنا أن أكثر ما يرتقي بالأمم أمران :
النماذج . والمؤسسات .
فعقولنا تميل إلى عدم تصديق ما يطرح من أفكار نهضوية وعدم الاهتمام به والتفاعل معه ما لم نره مجسَّداً في نموذج بشري ، فينتقل ما كان يُنظر إليه على أنه مثالي جداً أو صعب التحقيق من حيز غير العملي إلى حيز الممكن الذي يقع ضمن المكنة والطاقة ، ولعل هذه هي الحكمة من وراء عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وتجسيدهم لما يدعون إليه في سلوكهم . وهكذا المسلمون اليوم يحبون أن يروا نماذج راقية تتحرك على الأرض في كل اتجاه من اتجاهات الحياة : العلم والخُلُق والإدارة والسياسة والإنتاج والعلاقات الاجتماعية .. وعلى مقدار ما يتوفر من نماذج راقية يندفع الناس في طرق الصلاح والإصلاح ، وإن لم يكونوا مفكرين أو مثقفين أو فقهاء ..
أما المؤسسات فإنها تشكل أطراً لتخريج النماذج ، كما أنها تنسف الجهود المبعثرة ، وتتيح لكثير من المشروعات أن يستمر فترات طويلة . وإن في شباب الأمة الكثير والكثير من الرغبة في الخير والعمل ، ولكنهم لا يجدون المؤسسات التي ترسم الأهداف ، وتمهد الطريق ، وتوفر لهم التدريب ، وتعينهم على أنفسهم .(1/84)
إذا أردنا لهذه الأمة أن تنهض فلنركز على إيجاد أكبر عدد ممكن من النماذج الرفيعة والمتفوقة ، وأكبر عدد ممكن من المؤسسات ذات الاهتمامات الجزئية والمتخصصة ؛ فبذلك وحده نتعلم العمل في أيام الرخاء لأيام الشدة ، وبذلك تتحول العواطف النبيلة من كونها فورة مؤقتة إلى وقود لإنجاز الأعمال الجليلة . والله حسبنا .
==============
#أفق
إن كلمة ( اقرأ ) أول كلمة نزلت على نبينا صلى الله عليه وسلم ، وينبغي أن نفقه الدلالة العميقة لذلك في صورة اكتشاف لأهمية العلم والمعرفة في وجودنا المعنوي والمادي ، فنحن بحاجة إلى العلم ليس من أجل الانتفاع بما سُخِّر لنا أو الحصول على فرصة عمل فحسب ؛ وإنما نحتاجه قبل ذلك في فهم أنفسنا ، وفهم طبيعة علاقتنا بخالقنا جل وعلا ، إلى جانب فهم العصر الذي نعيش فيه والتحديات التي تواجهنا .
إن أذهاننا لا تدرك الأشياء على نحو مباشر ، وإنما عبر وسيط معرفي مكوَّن من مبادئ عقلية وعملية ومعارف وخبرات حياتية . وعلى مقدار ما نقرأ ونتعلم ونجرّب ، يتحسن مستوى ذلك الوسيط ، وبتحسنه يتحسن فهمنا للوجود ، ومعه تتحسَّن نوعية الحياة . ومع أن العلم ظل يتمتع بنظرة الاحترام والتقدير على مدار التاريخ ، ولدى كل الأمم المتمدنة ، إلا أنه يكتسب الآن مكانة استثنائية على المستوى العالمي ؛ حيث إن الأمم كانت تنظر إليه على أنه شيء مواز للعقل والحكمة والذكاء الفطري ، وبعض الناس كان يفضّل الذكاء على العلم ، وبعضهم يرجح العلم على الذكاء . وقد كان ذلك في الماضي مقبولاً نظراً لضآلة ما كان متوفراً من المعارف والعلوم ، أما اليوم فإن هذا الكم الهائل من المعارف المتكاثرة قد جعل الموازنة غير واردة ؛ حيث إن كل التراكمات والتنظيمات والترتيبات الحضارية الموجودة الآن مدينة على نحو أساسي للعلم والخبرة والتجربة ، كما أن التعامل مع المعطيات الحضارية والاستفادة منها ومواجهة مخاطرها لن تستقيم من غير المعرفة المعاصرة ، ودور الذكاء الفطري في ذلك هامشي جداً .
إن النظرة الحديثة للعلم لا تجعله في موازاة العقل ، بل تجعله المصدر الأعظم لتكوين العقل بما هو مبادئ ومفهومات ؛ ولهذا فإن تحسين مستوى المعرفة والاطلاع والتثقف لدى الشباب المسلم يجب أن يستحوذ على الكثير من اهتمامنا وجهودنا ، وعلينا هنا أن نعترف أن مؤسساتنا التعليمية قد أخفقت إخفاقاً ذريعاً في إرساء تقاليد ثقافية تمجِّد الكتاب والقراءة ، وترعى حب الاستطلاع لدى الأطفال وتحميه ؛ حيث إن هناك الكثير الكثير من البيوت التي ليس فيها مكتبات خاصة ، كما أن هناك مكتبات كثيرة ليس فيها أي شيء يناسب الأطفال ، ولا يخفى إلى جانب ذلك أن هناك كثيراً من المكتبات التي لا يطالع أصحابُها كتبَها ، فهي في نظرهم جزء من أثاث البيت ، وجانب من تكميله الشكلي ؛ ولذا فإن الوقت الذي يقضيه الإنسان العربي في القراءة هو تقريباً عُشْر الوقت الذي يقضيه فيها الإنسان في الدول الصناعية . يقول أحد الباحثين : إن تعليم القراءة للأطفال يبدأ منذ سن ستة أشهر . وإذا أردت أن تربي قارئاً جيداً فإن عليك أولاً أن تتعرف على مهارات السرد القصصي ؛ أي أن نتعلم كيف نقدم المعرفة للصغار كما يقدم القاصّ الماهر حكاياته المشوقة والممتعة لمن يقصّ عليهم . والقراءة للأطفال ومع الأطفال ذات أثر بالغ الفعالية في نموِّهم الذهني والوجداني . والمهم ليست الكمية التي نقرؤها لهم ولكن المهم تشجيع الطفل على المشاركة أثناء القراءة وإلا فإن استفادته من القراءة ستكون شبه معدومة .
فهل آن لأمة ( اقرأ ) أن تجدد علاقتها الفاترة بالكتاب وبالمعرفة ، وأن تتعلم كيف تقرأ ؟ !
===============
#إدارة التناقض
وجود نوع من التناقض بين الأفراد داخل الأمة ، وبين أمة وأمة ، هو معقد من معاقد الابتلاء في هذه الحياة ، وهو أيضاً مدخل كبير للتطور والتقدم الحضاري ؛ فالوعي يتقدم من خلال اختلاف المستويات أكثر بكثير مما لو ساد الحياة التشابه والتماثل . والتناقض بعد هذا وذاك أداة كبرى للتميز ؛ فمن غيره لا يشعر الأفراد ، كما لا تشعر الأمم بالخصائص والميزات الفارقة بينها .
أمة الإسلام هي آخر الأمم ، ورسالتها هي خاتمة الرسالات ؛ ولهذا فنحن ورثة تراث الهداية في البشرية ، وتاريخ البشرية هو تاريخ الرسل والرسالات والنبوة والأنبياء ؛ وهذا يلقي علينا مسؤولية خاصة نحو العالم ؛ إنها مسؤولية الدعوة والهداية والإصلاح والإنقاذ . وحتى نستطيع القيام بهذه المهمة على الوجه الصحيح فإننا بحاجة إلى العديد من الأمور والتي من أهمها :
1 - السعي المتواصل للمحافظة على الهوية التي تعني دائماً وضوح الميزات التي تميّز أمة الإسلام عن غيرها من الأمم على مستوى العقائد والأحكام والآداب ، وهذا سيكون قليل النفع إذا ظل وضوحه على مستوى الكلام ، وإنما يجب أن يتجسد في حياة أكبر شريحة ممكنة من المسلمين ، وهذا ما يؤمِّنه الالتزام الدقيق .(1/85)
2 - ينبغي أن يهيمن على علاقاتنا بغير المسلمين الإحساس بواجب التبليغ ؛ فأمتنا صاحبة حاجة لدى الأمم الأخرى ، وهذه الحاجة تتمثل في حرصها على أن تصل دعوة الإسلام إذا أمكن إلى كل شخص في العالم ؛ فأهل عصرنا يعيشون أزمات صامتة خانقة ، والإسلام هو المنقذ الوحيد لهم من تلك الأزمات .
3 - التناقض بين الأمم كثيراً ما يفرض أشكالاً من العداء والصراع ، وهناك شواهد كثيرة قديمة ومعاصرة على أن الصراع حين يقوم كثيراً ما يكون قيامه على أسس من الخلاف العقدي أو العنصري أو التاريخي ... لكنه في الغالب يتحول بعد مدة إلى صراع من أجل المصالح ، ومن الضروري عند هذه النقطة أن يظل الصراع مرتبطاً بالتناقض العقدي ؛ لأن ذلك ينبه الخصم إلى أننا نصارع من أجل القيام بواجب ديني دعوي ، وليس من أجل تحقيق مصلحة مادية خاصة ؛ وحين يأخذ الصراع طابع تحقيق المصالح يفقد الكثير من مشروعيته ، ويفقد المساندة التي يحتاجها من عموم الأمة .
4 - في حالة التناقض تكون مقولات المتناقضين أقرب إلى الجلاء والوضوح ، وحين يبدأ الصراع كثيراً ما ينطمس التناقض المنهجي ، وتسود روح الثأر والانتقام ؛ ولذا كان من أدبيات الصراع المسلح لدى المسلمين أن يبدؤوا بدعوة الخصم إلى الإسلام أولاً إعلاناً منهم أنه قتال بسبب التناقض وما يستلزمه ، وليس من أجل مصلحة دنيوية ، وحين أوصى أبو بكر رضي الله عنه جيشه وصيته المشهورة بعدم قتل النساء والأطفال إلخ ... كان يهدف إلى ألاَّ تضيع ميزات جيش المسلمين وأخلاقياته وأهدافه الأصلية من الجهاد في خضم الصراع ومحاولات الغلب والظفر .
5 - الدعوة إلى الله تعالى هي الأساس وانتشارها هو الهدف . وحتى نتيح للناس سماعها ، فيجب أن نهيِّئ الأجواء الملائمة للتبليغ . وحين ينشب صراع فيجب أن يستهدف على المدى البعيد تحقيق تلك الأجواء ؛ ولذا فإن الصراع الشديد والطويل كثيراً ما يطمس معالم التناقض ، ويحرم الدعوة من الهدوء الذي تحتاجه ، وربما كان قبول النبي صلى الله عليه وسلم بشروط قريش المجحفة في صلح الحديبية من أجل تأمين الجو الهادئ الذي يتيح لقريش التعرف على الإسلام .
6 - يأخذ الصراع شكل الطفرة وشكل الانقلاب ، ويتسم القائمون عليه بالحدة وقصر النفس ، وتسيطر عليهم العاطفة ، أما التميز المنهجي والحضاري فيأخذ شكل العمل المتراكم ، ويتحلى أصحابه بروح الثورة والاستمرارية والعطاء على المدى البعيد ؛ ومن المهم ألا نفقد هذه الروح في حمأة الغضب .
7 - نقطة التفوق الكبرى لدى أمة الإسلام اليوم تتمثل في المنهج الرباني الذي تشرُف بحمله ؛ على حين أنها في الميادين الاقتصادية والتقنية العسكرية ضعيفة وعالة على الأمم الأخرى ؛ ولذا فإن من المهم أن نكثّف المجابهة في الساحة التي نملك عناصر القوة فيها ، وأن نكون على حذر ، من أن يجرنا الخصم إلى ساحة تفوُّقه ، فنفقد ميزاتنا ، وتضطرب أمورنا .
والله ولي التوفيق .
===============
#مقاربة الحقيقة
ركز الله جل وعلا في فطرة الإنسان حب التساؤل والتطلع إلى معرفة المجهول . وتاريخ الإنسانية حافل بالجهود التي يحاول الناس من خلالها الخروج من العماء و ( اللاتكوّن ) . والإنسان إذ يحاول التعرف على الوسط الذي يعيش فيه يسعى إلى فهم ذاته وتيسير حركته واستثمار طاقاته ، وهو في سبيل ذلك مطالب بأن يعرف الكثير الكثير من الحقائق ، وذلك لا يتم إلا بامتلاك المنهج والأدوات الملائمة . إن مما هو مألوف أن نجد بعض الحقائق يبدي طواعية من غير حدود ، حتى إذا حاولت القبض عليه واستيعابه تأبّى على التشكل على نحو ما نجده في المادة الهلامية . وهذا ما يخدع كثيراً من الناس ؛ حيث يكون قبضهم إذا يظنون أنهم قبضوا على ما يشبه السراب .
ولعلِّي أسلط الضوء على هذه المسألة المهمة من خلال النقاط الآتية :
1 - إدراك الإنسان للمحسوسات والمجسَّمات أسهل بكثير من إدراكه للمعنويات والعقليات ؛ فنحن نكاد لا نبذل جهداً يذكر في التعرف على لون ثوب أو مساحة غرفة أو وزن هاتف ، أما إذا تحدثنا عن شجاعة شخص أو أثر الرخاء في حياة شعب ، أو أثر اليتم في حياة طفل ومستقبله ، فإننا سنختلف اختلافاً بيناً في ذلك ؛ حيث يكون التعامل مع عناصر غير ملموسة ، وبعضها غامض جداً يصعب الحدس به .
دعونا نقول : إن ( الحقيقة ) ليست ذات جوهر واحد ، أو ذات طبقة واحدة ، وإنما هي ذات طبقات عدة ، بعضها فوق بعض ، وكلما صرنا للبحث في طبقة أعمق احتجنا في إدراكها والتعامل معها إلى أسلوب جديد أو وسيلة جديدة ، ووجدنا أنفسنا على أرض هشة ؛ حيث يشتد النقص في وسائل المعرفة ، كما يزداد الاعتماد على عناصر ذات طابع يكاد يكون شخصياً .(1/86)
حين نرى ( قلماً ) فإننا نعرف سماته الظاهرة لأول وهلة ؛ فإذا أردنا أن نعرف ( ثمنه ) وجدنا أنفسنا بحاجة إلى درجة من الخبرة التجارية وأسعار الأقلام في السوق ؛ فإذا تجاوزنا ذلك إلى معرفة المواد التي صُنع منها القلم ومقدار كل منها والتقنية المستخدمة فيها وجدنا أنفسنا أمام معضلة كبرى ، ووجدنا أن الاقتراب من ذلك يتطلب وجود مختبرات متطورة وتجارب كثيرة وخبرات متخصصة وراقية ؛ ومع كل ذلك ففي الغالب تكون النتائج متواضعة ، وإلا لأمكن اقتباس أسرار التقنية المتقدمة بسهولة . ونحن في كل هذا نتعامل مع شيء محسوس ، لكننا تجاوزنا ما يوقفنا عليه النظر العابر إلى طبقات أعمق من الحقيقة .
2 - في المسائل الصغيرة والمحدودة نستخدم الحواس والأخبار المتواترة والمستفيضة ، ونصل إلى أحكام قطعية أو شبه قطعية ، وذلك كحكمنا بأن زيداً من الناس موجود معنا في هذه الحجرة ، وكإيماننا بوجود بلد اسمه ( الصين ) وشخص مضى اسمه : حاتم الطائي أو الذهبي . ونحن لا نستخدم في إدراك هذا النوع من الحقائق والمعارف مقدمات أو عناصر ذهنية ؛ ومن هنا حصلنا على معرفة يقينية أو شبه يقينية .
أما إذا أردنا الاقتراب من قضية أو حقيقة ذات بنية مركبة فإن الأمر سيكون مختلفاً جداً . وتكون البنية مركبة إذا ساهم في تشكلها عدد من الروافد المتباينة أوالمتقاربة ؛ وذلك كما إذا أردنا الوقوف على ما جرى في معركة من المعارك ، والآثار الرمزية والاجتماعية والاقتصادية التي نتجت عنها . في مثل هذه الحالة يكون من غير الممكن فهم هذه الحقيقة أو الحقائق المركبة على نحو مباشر ؛ ولا بد من استخدام وسيط معرفي ، يسميه بعض الباحثين اليوم بـ ( الإشكالية ) . هذه الإشكالية مكونة من عدد من العناصر ، أهمها معتقداتنا ، بالإضافة إلى الخلفية الثقافية العامة أو ما كان يسمى بـ ( الأهلية ) ثم المعلومات المتوفرة حول القضية موضع البحث . فالطبيب الذي لا يؤمن بوجود ( الجن ) أو الذي لا يرى ( الإصابة بالعين ) سوف يُبعد كل ما يتعلق بهذين الأمرين عند التشخيص والعلاج لكل المرضى الذين يراجعونه ، والذي خبرته في الاقتصاد معدومة يمكن أن يصدِّق من يقول له : إن ثروته يمكن أن تتضاعف كل سنة مائة مرة إذا هو دفع ماله إليه .
والذي لا يعرف الاحتياطات التي تقوم بها الدول النووية نحو السلاح النووي فإنه يمكن إذا رأى قنبلة في صحراء أن يصدِّق من يقنعه بأنها قنبلة نووية ، وهكذا .
الإنسان وهو يستخدم هذا الوسيط المعرفي في استيعاب الواقع الموضوعي لا ينتهي في أكثر الأحيان إلا إلى نتائج ظنية ؛ وذلك لأن صلابة الرأي نابعة من صلابة المقدمات التي ولَّدته . وعند النظر في خلفياتنا الثقافية ومعلوماتنا حول القضايا التي نحاول فهمها نجد أنها كثيراً ما تكون قاصرة وقابلة للجدل والنقد ؛ وهذا ما يجعل تعاملنا مع القضايا المركبة والمعقدة منطوياً على نوع من ( الاجتهاد ) الذي يحتمل الخطأ والصواب .
3 - كثيراً ما نشكو من نقص المعلومات التي تساعدنا على فهم بعض الأمور ، وكثيراً ما نجد أنفسنا بلا حول ولا طول تجاه الوقوف على بعض الدوافع لبعض التصرفات ، أو تجاه تقدير الآثار المترتبة عليه ، أو تكوين صورة جيدة عن واقعة تاريخية معينة ، وفي هذه الحالة نلجأ إلى ( التفلسف ) ، وليس من المبالغة القول :
إنه ما يمر على الواحد منا يوم دون أن يستخدم في كلامه وتأملاته نوعاً من التفلسف من أجل التغلب على ما نواجهه من نقص في عتادنا المعرفي .
نحن نستخدم ( التعليل ) في كثير من الأحيان من أجل جعل تصرفاتنا وأقوالنا تبدو منطقية ومنسجمة ، ونستخدم ( القياس ) لسد الفراغات التي تركها الاستقراء الناقص ، أو حيث يكون الاستقراء التام مستحيلاً ، ونستخدم ( التقنين ) من أجل تسهيل التعامل مع الأفكار والأشياء والمواد . والسنن الواردة في القرآن الكريم والسنن النبوية تهدف إلى مساعدتنا على أخذ العبر والوصول إلى مستخلصات مركزة حول الماضي والمستقبل . حين نمارس ( التحليل ) فإننا نرمي إلى تفكيك المعطيات المعقدة بغية النفاذ إلى جوهرها ، وإتاحة الفرصة لأدمغتنا كي تتعامل معها بكفاءة . وحين نتوقع حدوث بعض الأمور ، ونهجس بالمستقبل فإننا نقوم بعملية استكشاف للعلاقات بين الأسباب والمسببات ، ونفعل ذلك بغية إيجاد نوع من الاستمرارية الشعورية والظرفية ، وتوفير منطقة عيش آمنة وملائمة لحركتنا .(1/87)
إن كل هذه الممارسات الذهنية والمعرفية ما هي سوى طرق لترويض الحقائق ، ومناهزة استيعابها . وهي لا تعدو أن تكون ضروباً من ( المقاربة ) لما نبتغيه . وهي جميعاً تعمل خارج منطقة اليقين والصواب القطعي . وفي هذه العمليات التي أشرنا إليها يقع الكثير من المجازفة والتعسف والتجاوز . وتقدُّم الوعي الإسلامي ولا سيما على الصعيد الشعبي ضعيف جداً في هذا الحقل ؛ بل إن كثيراً من الصفوة من ذوي الثقافة العليا يسلكون مسلك العامة في بعض الأحيان حيال التعامل مع معطيات التفلسف والنظر العقلي . مع أن من الواضح أن ( الفلسفة ) لا تمنحنا الدقة ، ولا تساعدنا على التحديد ، وإنما تزيد في درجة شفافيتنا ، وتساعدنا على رسم الاتجاهات والتعامل مع المسائل الكلية .
4 - في البنية العميقة للمعرفة الإسلامية مرونة فكرية كبيرة ، نحن اليوم في أَمسّ الحاجة إلى التشبع بها وتمثلِها في عمليات الاستنباط والاختلاف والتقويم المختلفة . ومن الملاحظ أن الفكر الحداثي الغربي يقوم اليوم على ركائز غاية في التطرف ؛ فهو شديد التأرجح بين الشك المطلق واليقين المطلق ؛ بين العقلانية المطلقة وبين جحود أي ثابت من الثوابت ، وقد تأثر بهذا كثير من الرؤى الحضارية المعاصرة في بلاد المسلمين .
أما الرؤية الإسلامية في هذا المجال ، فإنها تقوم على ( الوسطية ) المبصرة ؛ فهناك اليقين ، والظن القوي والظن الضعيف ، والشك القوي والشك الضعيف .
والاقتراب من الحقيقة متفاوت ، كما أن التورط في الخطأ متنوع ، وحين وضع الأصوليون قواعد تفسير النصوص لاحظوا هذا المعنى بدقة متناهية ؛ ولذا ذهبوا إلى أن النص قد يكون ظني الدلالة ، فيقبل آنذاك التأويل والفهم المتعدد .
ولاحظوا على سبيل المثال أن الأمر قد لا يفيد الوجوب ، بل قد ينصرف عند وجود قرينة إلى الإرشاد أو الندب أو الإباحة ، كما أن النهي قد يفيد مجرد الكراهة ، وليس الحرمة . العلاقة بين المقدمات والنتائج والأسباب والمسببات في كثير من الآداب الغربية تميل اليوم إلى ( التصلب ) حيث يحاول كثيرون هناك إضفاء معنى التلازم والاطراد على الارتباط القائم بين حدث وآخر .
وقد بات كثيرون لدينا يستخدمون عبارات الجزم والتأكيد فيما تأبى طبيعته ذلك . وقد كان من أدب علماء المسلمين أن يقولوا عقب بسط آرائهم واستنتاجاتهم :
« والله أعلم » ليشعروا القارئ باحتمالية ما ذهبوا إليه وعدم استحواذه على اليقين .
وكان من لطيف ما قرروه قولهم : « مذهبنا صواب يحتمل الخطأ ، ومذهب غيرنا خطأ يحتمل الصواب » ولو أنهم قالوا : « مذهبنا صواب يحتمل الخطأ ، ومذهب غيرنا صواب يحتمل الخطأ » لما أبعدوا النجعة ؛ حيث يرى بعض الأصوليين أن كل مجتهد مصيب . ومن أدب المسلم وصفاء اعتقاده أن يقول إذا تحدث عن شيء مستقبلي : « إن شاء الله » و « بإذن الله » ليذكّر السامعين أن الأمر كله لله ، وليشعرهم بوجود علاقة لينة بين ما نراه أسباباً ، وما نراه مسببات . إن كل ما نصل إليه من مقولات وطروحات يظل أغلبياً يحتمل الكثير من الشذوذ ، كما يحتمل الوهم والغلط ؛ وما ذلك إلا لأن إمكانات التجريب في عالم الفكر والشأن الإنساني عامة محدودة ومعقدة ؛ مما يجعل كل براهيننا على ما نقوله ذات وزن نسبي ومدلولات ترجيحية ، ليس أكثر . وإن من أهم سمات الرجل العقلاني أنه لا يستمسك بآراء وأفكار ليس لديه ما يكفي من البراهين عليها .
===============
#تجديد البعد العقلي
الحمد لله حمد الشاكرين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، وبعد :
فإن الشخصية مركّب فذ من الجسد والروح والنفس والعقل ، ولها بعدٌ اجتماعي عظيم الأثر في وجودها . وإن كل نمو إيجابي في أي جانب من جوانبها ينعكس عليها جميعاً ، كما أن أي خلل يصيب أي جانب منها يعود بالضرر عليها جميعاً .
يستمد الاهتمام بالبعد العقلي نوعاً من التميز من خلال أن التفكير الجيد شرط لتنمية كل شيء في الحياة : التربية والاجتماع والاقتصاد والسياسة والعلاقات ...
ويعد أي تطوير لأي جانب من جوانب الشخصية بالغ الأهمية ؛ حيث إن الرؤية الإسلامية تؤسس مقولة : ( الإنسان أولاً ) . أضف إلى هذا أن التقدم المادي والعضوي قد يكون محدداً بأسوار تجعل المضي فيه أمراً عسيراً أو مستحيلاً ، على حين أن أمداء النمو أمام البعد العقلي والروحي فسيحة جداً .
إن العقل البشري نعمة عظمى من الله جل وعلا وله قدرات هائلة ، هي أكثر مما يظن . ويمكن القول : إنه أشبه بعملاق نائم ! وقد دلّت الدراسات النفسية والتربوية ، وأبحاث الكيمياء والفيزياء والرياضيات أن ما تم استخدامه من إمكانات العقل لا يزيد على 1% من إمكاناته الحقيقية . الحاسب الآلي (كراي) حاسوب عملاق يزن سبعة أطنان ، فإذا عمل بطاقة 400 مليون معادلة في الثانية مدة مئة عام ، فإنه لن ينجز سوى ما يمكن للدماغ البشري أن ينجزه في دقيقة واحدة ] فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ [ [المؤمنون : 14] .(1/88)
يمكن القول : إن لـ (العقل) شكلاً ومضموناً ؛ فشكله تلك القدرات والإمكانات التي زوّد الله تعالى بها أدمغتنا ، مثل القدرة على خزن المعلومات واسترجاعها ، ومثل القدرة على التخيل والتحليل والتركيب ... وهذه متفاوتة بين الأشخاص متساوية على نطاق الأمم .
ومضمون العقل منه ما يعود إلى مجموعة المبادئ الفطرية العالمية التي لا تختلف بين شخص وآخر ، مثل إدراك عدم إمكانية اجتماع الضدين ، وإدراك أن الكل أكبر من الجزء ، وإدراك استحالة القيام بعمل خارج دائرتي الزمان والمكان .
ومنه ما يعود إلى شيء مكتسب مرتبط بالثقافة السائدة ، وهذا في الحقيقة يتشكل من مجموعة المفاهيم المترابطة والراسخة التي يحاول الناس من خلالها استيعاب الواقع الموضوعي وتنظيمه وتكييفه مع حاجاتهم ... وهذا النوع من المضمون مطلّ بالضرورة على مبادئ التفكير الفطرية ومرتبط بها .
العقل من خلال شكله ومضمونه ينتج شيئاً نسميه : (العقلانية) . وبما أن (الثقافة) تختلف في مبادئها وقيمها وجمالياتها ورمزياتها بين أمة وأخرى ، فإن المتوقع من العقلانية أن تتسم بطابع النسبية ، بسبب الدور البالغ للثقافة في تكوينها . ولذا فليس ثمة عقلانية صافية أو محايدة أو مطلقة . ولعلنا نستشف هذا من النسق القرآني ؛ فهو إذا جمع بين الحكمة والتي هي مركّب من الذكاء والمعرفة والإرادة والكتاب في موطن واحد ، يقدّم الكتاب أولاً ، وكأنه يرمي إلى ضرورة تأطير (الحكمة) بالكتاب (الوحي) حتى تكتسب نوعاً من المرجعية ، وحتى تتخلص من النسبية التي تضفيها عليها الثقافة .
إن بُنانا الفكرية ليست معصومة من رياح التغيير العاتية ؛ فهي باعتبارٍ مّا انعكاس لما يجدّ من نظريات وآراء علمية واجتهادية مبثوثة في جميع مجالات الحياة ؛ ولذا فإن علينا أن نمتلك أعلى درجة من اليقظة والحذر حتى نصون عقولنا من البرمجات الثقافية والبيئية التي تحول دون استيعاب الواقع على النحو الصحيح ، ودون التطوير البعيد المدى الذي نحتاجه .
شروط للتجديد :
إن التجديد في أي جانب من جوانب الحياة ، يتضمن دائماً نوعاً من التخلي عن بعض المألوفات ، كما يرتب تكاليف جديدة ، ويتطلب ضبطاً أكثر للذات ، ولهذا كله كان شاقاً على النفس .
إن أول شرط من شروط التجديد : هو معرفة (الثوابت) على نحو جيد ، والتفريق بينها وبين (المتغيرات) وتتجلى الثوابت في الغاية الكبرى للوجود الإنساني ، وفي المبادئ والقيم العليا التي نؤمن بها ، إلى جانب الأحكام القطعية الواقعة
خارج نطاق الاجتهاد . إن التجديد المستمر كبير التكلفة ، ومفتاح معايشته هو أن يكون في داخل المرء (جوهر) يستعصي على التغيير ، ويمثل الفلك الذي تدور فيه جميع المتغيرات ، وتخدمه .
والشرط الثاني : هو امتلاك ما يكفي من الخيال والوعي للإحساس بالنهاية التي نرنو إليها .
والشرط الثالث للتجديد : أن يوقن المرء أن في إمكانه أن يغير عاداته الفكرية والنفسية والسلوكية ، وذلك يتوقف على القدرة على مجاهدة الأهواء والأوهام والكسل الذهني ، والإخلاد إلى المألوفات .
إن التجديد للبعد العقلي يتم بالتخلص من طرق التفكير الخاطئة ، وباكتشاف الإمكانات ، والآفاق التي تزيد في كفاءة تصوراتنا ، وتحسّن مستوى محاكمتنا العقلية ؛ ولعلي أسوق من ذلك ما يسمح به الوقت على النحو الآتي :
يدّعي معظم الناس أنهم قادرون على عزل أفكارهم عن مشاعرهم ، وأن بإمكانهم أن يحملوا مشاعر تعاطفية نحو أمر ما على الرغم من كونهم يحملون أفكاراً سيئة عنه . والحقيقة أن أفكارنا ومشاعرنا ، تتناوب التأثير والتأثر في معظم الوقت ، وهناك توافق بينها . والنجاح المتوالي يوجِدُ حالة نفسية تظلل جميع حياة الفرد ، وتجعله يعتقد أنه ناجح فعلاً . ويحدث العكس عندما تتوالى أحداث الإخفاق على الإنسان . في كلتا الحالتين تبدو الصورة التي نكونها عن أنفسنا كأنها الصورة الوحيدة الصحيحة ، ونتصرف بعد ذلك على هدي من معطياتها . والحقيقة أن الأمر ليس كذلك ؛ فحين يزور خمسة من الناس مكاناً لا يعرفونه من قبلُ ، فالمألوف أن تكون لهم حياله وجهات نظر متعددة ، وسيكون بعضها أكثر مطابقة للحقيقة من بعضها الآخر . كثير من الناجحين في وظائفهم أصيبوا بأمراض مزمنة كقرحة المعدة حرمتهم نعمة الاستمتاع بالحياة ، وكثير منهم خسروا أنفسهم ، بما أهملوه من شأن آخرتهم .... وبعض من أخفق في دراسته يملك إمكانية هائلة للنمو الحر والنجاح في ميدان تجاري أو وظيفي أو اجتماعي ... ولذا فإن من الحيوي ألا نعتقد أن النجاح الذي حققناه في أي مجال هو الذروة التي لا ذروة بعدها ؛ فالمهم ليس الصعود إلى القمة ، وإنما كم يمكن البقاء عليها ، وألاّ يمكن أن نكون واهمين في تصورنا للقمة ، وأن تكون الحقيقة غير ذلك ؟
في المقابل حالات الانكسار والهزائم التي نمر بها لا تعني نهاية العالم ، بمقدار ما تعني أن علينا أن نفكر بطريقة جديدة ، وأن نبحث عن مجالات جديدة .(1/89)
ولذا كان من الضروري أن يسأل الواحد منا نفسه : كيف أستطيع أن أفكر في هذا الأمر بطريقة أخرى ؟ وكيف يستطيع غيري أن ينظر إليه ؟ وما وجهات النظر الأخرى حياله ؟
إن الإجابة عن هذه الأسئلة تشكل تمريناً عقلياً يحسن أن نجرّبه من وقت إلى آخر .
إن الذي يحول بيننا وبين رؤية الخيارات العديدة المغايرة لما نعتقده ونفضله هو ما استقر في نفوسنا من الانحياز إلى مشاعرنا ومألوفاتنا وطرق تفكيرنا ، وهذا الانحياز مصدر كبير من مصادر الحرمان من التجديد ، والحرمان من مشاركة غيرنا في رؤية الأشياء على نحو أكثر رحابة .
2- النظرة المتعمقة :
إن العقل الذي وهبه الله جل وعلا لنا يتمتع بقدرات هائلة كما ذكرنا لكنه يظل في النهاية محدوداً . وأكثر الأفكار التي نمتلكها هو وليد التجربة وثمرة المعاناة ، أي هو خبرة حياتية متولدة من اشتباك منظومات المعارف والرموز والمبادئ إلى جانب ألاعيب الهوى وأنماط السلطة وأشكال تحقيق المصلحة والاهتمام بالذات ... ولذا فيجب ألا نعتبرها دائماً نهائية ، فصدق الأفكار يظل مرتهناً لما تسفر عنه نتائج إنزالها إلى الميدان العملي الذي كثيراً ما يفقدها تماسكها ويعيد إنتاجها من جديد على وجه الإثراء والتوسيع ، أو على وجه الانتهاك والتأويل . وهذا يعني أن علينا ألا ننتظر الفوز برؤية نهائية ، نسترشد بها في مواصلة البناء وتخطي العقبات ؛ فالأعمال العقلية المتزايدة ، لا تؤدي بالضرورة إلى تقدم عقلاني مطرد ؛ فالنكوص والتراجع من الأمور الواردة بكثرة في هذا الميدان ؛ بل إن للتقدم العقلي مفرزات جانبية شديدة الخطورة ، ولا سيما إذا ما تأتى للعقل أن يتحرر من القيود والقيم الأخلاقية ؛ ثم إن المسيرة الحضارية لا تمضي على هدي أفكار ومخططات يتخيلها مثقفون حالمون متفائلون بمستقبل البشرية على صعيد الفهم والعلم والحوار والرشد والنمو الصحيح ، وإحقاق الحق ، وتجسيد القيم النبيلة ... فهناك أيضاً المصالح والأهواء والشهوات والقصور الذاتي والظروف المعاكسة ... وكل ذلك يجعل من ميادين الحياة مصانع سيئة لإنتاج الأفكار وتطبيقها . وهذا يعني أن علينا حتى نستمر في التجديد العقلي أن نسعى دائماً إلى تفحّص برامجنا وقراءة أحوالنا ، وإقامة علاقات نقدية مع ذواتنا وإنتاجاتنا ؛ حيث النقص شيء ملازم لنا . وليس المطلوب أن تصبح المحاكمة العقلية لدينا كاملة ، وإنما مداومة فضح الممارسات الفكرية الخاطئة ، وكشف زغل أعمال العقل ؛ فالكمال في كل شأن ليس شيئاً نستحوذ عليه ، وإنما هو شيء نناهزه ، ونحاول الاقتراب منه . وما لم نتعامل مع منتجاتنا الفكرية والمعرفية ، ومع تجاربنا وأحداث العالم من حولنا على هذا النحو ، فإن كثيراً من مكتسباتنا الفكرية والنهضوية يمكن أن يتعرض للخطر ، أو يصبح موضع تساؤل .
3- التفكير المتوازن :
تجديد البعد العقلي يتطلب أن يدرب الواحد منا نفسه على التفكير المنهجي المتكامل الذي يستجيب لكل ما يطلبه النجاح في الوصول إلى نتائج جيدة ، وأحكام صائبة . وإذا أراد الواحد منا أن يفكر في موضوعٍ مّا فعليه أن يفعل الآتي :
أ- أن يجهز المعلومات التي تتعلق بموضوعه . ولا بد أن يكون على وعي بنوعية المعلومات المتاحة ؛ إذ إن هناك طبقتين من المعلومات : طبقة المعلومات الحيادية التي تمثل الحقائق الثابتة التي انقطع حولها النزاع ، وطبقة المعلومات المعتقَدة لبعض الأشخاص ، والتي هي أقرب إلى أن تكون رؤى شخصية لهم .
المعلومات الثابتة تمثل معطيات يجب احترامها خلال عملية التفكير . أما المعلومات الأخرى فتساعدنا على إضاءة القضية وتحسّن اختيارنا فيها .
ب- لدى كل واحد منا عواطف حول القضية موضع البحث ، ونحن نحاول عدم الاعتراف بها ، وأحياناً لا نكون على وعي بها ، ومن ثَمّ فإنها تؤثر في التفكير ، وتوجهه على نحو غير سويّ . المطلوب أن نُخرِج عواطفنا إيجابية كانت أم سلبية إلى منطقة الوعي ، ونعترف بها ، ثم نحاول إبعادها عن دائرة التفكير .
ج- لا بد أن نعطي وقتاً للتفكير الناقد الذي يركز على سلبيات القضية موضع النظر . والتفكير الناقد هو تفكير منطقي ، لكنه سلبي ، وهو كثيراً ما يكون مبنياً على حقائق وصادقاً ، وإن كان لا يشترط أن يكون منصفاً دائماً . وعلينا أن نتذكر أن التفكير هو على مستوى مّا تفكير بنائي ؛ حيث لا يستغني أي عمل جيد عن المراجعة وإعادة النظر ، وفي ذلك شكل من أشكال نموّه . وهذا لا يُنسينا أيضاً أن النقد شديد الإغراء ؛ حيث إنه يمنح صاحبه تفوقاً سريعاً على النظراء ، ولذا فينبغي الحذر من الانزلاق إليه بحيث نبدو أننا لا نحسن غيره . ولعل خير ضمانة لذلك هو أن يظل التفكير النقدي على علاقة جدلية بتفاعلات القضايا التي نوجهه إليها .(1/90)
د- في مقابل التفكير الناقد ، هناك التفكير الإيجابي ، وهو التفكير الذي يركز على الإيجابيات ؛ ففي حالة التفكير في إقامة مشروع تجاري مثلاً يُبرز التفكير الإيجابي كلّ الأدلة والمعطيات التي تؤكد احتمالات الربح ويتم إسدال الستار على كل ما يشير إلى احتمالات الخسارة . تبرز قيمة التفكير الإيجابي حين يستطيع الكشف عن الإيجابيات الخفية للقضية . والحقيقة أن الناجحين ينتبهون دائماً إلى جوانب النفع الخفية ، وبذلك يسبقون غيرهم . إن من الثابت أنه لا يُغلق باب حتى يفتح باب آخر ، لكن قصورنا الثقافي والتربوي يجعلنا نُشغَل بالباب الذي أُغلق عن الباب الذي فُتح ! ومع هذا فلا بد من القول : إن الخط الفاصل بين التفكير الإيجابي والاندفاع المتفائل المتهور ، هو خط ضيق ، ولذا فإمكانات الخلط بينهما ستظل متوفرة دائماً .
هـ- لا بد بعد هذا أن نستخدم التفكير الإبداعي الذي يحاول أن يستخرج من معطيات ناقصة حلولاً جيدة ، أو رؤى ناضجة . ولا بد من القول : إن أكثر التفكير الذي نتشبع به في بيئاتنا الثقافية مهيّأ لمعالجة المعلومات ، مثل المنطق والإحصاء والرياضيات ، وتنسيق المعارف ... أما التفكير الإبداعي ، فإنه يحاول إيجاد أشكال جديدة تضاف إلى ما لدينا من تراكيب ندرك من خلالها المحيط . التفكير المبدع يحتاج إلى الوقت ؛ والعجلة هي عدوه الأول . وقد تعودنا أن نقبل أو نتشبث بالحل الذي يظهر لنا لأول وهلة ؛ مع أن الثابت أننا حين نمعن التفكير فإن الأفكار الجيدة لا ترد إلى الذهن أولاً وإنما في آخر المطاف . والمطلوب هو أن نوفر الوقت لاستخراج أكبر قدر ممكن من الرؤى والحلول والاحتمالات ، ثم نعكف على اختيار الأكثر مناسبة لاحتياجاتنا وإمكاناتنا .
التفكير المعوجّ :
إننا حين نمارس التفكير في أي موضوع ، نستخدم في الحقيقة عدداً من العناصر البالغة التعقيد ، مثل مبادئنا العقلية ، وثقافتنا العامة ، وعاداتنا الفكرية والنفسية ، بالإضافة إلى المعلومات المتعلقة بالمسألة موضع التفكير ؛ ثم إننا لا نستخدم كل ذلك في فراغ ، فهناك دائماً ضغوط واعتبارات ظرفية واجتماعية ، تكتنف تفكيرنا في الأمور . وبما أن كل ما ذكرناه لا يكون في العادة كاملاً ولا نقياً ، فإن علينا ألا نتوقع أن يكون باستطاعتنا دائماً النجاح في الوصول إلى تصورات وأحكام راشدة . ولذا فإننا سنظل بحاجة إلى محاصرة أنماط التفكير الخاطئة على نحو ما يصنع الفلاح حين يزيل الأعشاب الضارة من أرضه قبل أن يلقي بذوره .
وفي اعتقادي أن الفائدة من تعلم طرق تفكير جديدة ، ستظل محدودة ما لم نتمكن من تعرية الممارسات التفكيرية الخاطئة والتضييق عليها إلى أبعد حد ممكن . وهي في الحقيقة أشكال وألوان ؛ ويمكن أن نسلط الضوء على بعضها على وجه السرعة .
1- المسلَّمات الثقافية :
نحن إذ نفكر ننطلق من مبادئ ومسلّمات ثقافية ، وتلك المسلّمات ، لا تؤمّن تسايل عمليات التفكير فحسب ، وإنما تريح العقل من عناء البحث والتمحيص أيضاً ، أي تؤمّن له نوعاً من العطالة والسكون ، ومن هنا تنبع جاذبيتها وخطورتها في آن واحد . لو فتشنا في عقولنا لعثرنا على مخزون ضخم من المسلّمات المتعلقة بالناس والأفكار والأحداث . وتصنيفاتُ الأمم والشعوب بعضها لبعض نموذج حي على ذلك : فالشعب الفلاني محتال ، والشعب الفلاني كسول ، والشعب الفلاني ماهر.. ووسائل الإعلام في الغرب (العقلاني) تقترب من أن تصم كل مسلم بالتطرف والإرهاب ؛ مهما تكن درجة التزامه . أما العرب في نظرها فهم شعوب مهووسة بالتبذير والجنس ، تتخبط في الجهل ، وتعشق الفوضى ... وتلك الصور الذهنية ، تشكل مشاعر الناس ، وتوجه سلوكهم ، وتنظم ردود أفعالهم .
إنسان القرن الحادي والعشرين مع أنه يتحدث باستفاضة عن العولمة ، والقرية الكونية ، وتلاقح الثقافات إلا أنه غير قادر على الانعتاق من كثير من المسلّمات الثقافية المتخلّفة ، فهناك انجذاب شديد نحو الإقليمية والعنصرية والطائفية ، أي هناك انسحاب من عالمية الرؤية والثقافة والإحساس المشترك في الوقت الذي تتسع فيه عالمية التجارة ، ويتسايل انتقال المعلومات والأشياء !
2- إسقاط المعلومات غير الملائمة :(1/91)
حين نكوّن اعتقاداً ما فإن القوى غير الواعية فينا تحشد على نحو غير مرئي كل الأدلة والبراهين التي تقوّيه ، وتجعله غير قابل للنقاش ؛ وحين تأتينا معلومات تناقض ما انتهينا إليه ، فإن أكثرنا يحاول الإفلات من التغييرات التي تقتضيها المعلومات الجديدة بأساليب شتى . وعلى سبيل المثال إذا بلغنا عن شخص نثق به ، ونحترمه احتراماً شديداً أنه كان في حياته عاقاً لوالديه ، فإننا عوضاً عن أن نحاول التحقق من تلك المعلومة والتغيير في نظرتنا عند ثبوتها ، فإننا نسلك مسالك عديدة حيالها ، كلها غير سويّ : فقد نقول : إن الذين رووا ذلك حاقدون عليه . وقد نقول : إن أبويه توفيا وهو صغير قبل أن يُكلّف . وقد نقول : إن أبويه كانا يعاملانه بقسوة ؛ فله نوع من العذر فيما فعله . وقد نقول : إن عقوقه لهما كان لمصلحتهما لأنهما لم يكونا على معرفة بها ... وهكذا فإن المعلومة المناقضة لما نعرفه عن فلان تُعامَل بإهمال شديد ، ومن ثَمّ فإنه لا يتم تخزينها ، ويصبح الأمر كما لو أن العقل ليس فيه ( خانة ) مستعدة لقبول المعلومة المشوّشة . وهذه الحالة بعيدة الأثر في تشويه المركّب العقلي لكثير من الناس . وأعتقد أن كثيراً من بطء تقدمنا في فهم التاريخ يعود إلى هذه المسألة .
3- الضلال في تفسير الظواهر :
لو تساءلنا : هل الضلال الذي ينشأ من اختراع أمور لا أصل لها أعظم ، أو الضلال الذي ينشأ من تفسير أمور موجودة تفسيراً خاطئاً ؟
لكان الجواب من غير تردد : أن الضلال الذي يجتاح حياتنا الفكرية من وراء التفسيرات الخاطئة أعظم بكثير من الضلال الذي ينشأ من الكذب الصراح . نجد في خبراتنا اليومية من يقول : إن فلاناً متفوق ؛ لأن أباه لا يكلّفه أي شيء ، فهو متفرغ للدراسة . وفلان منحرف ؛ لأنه نشأ يتيماً ، فلم يتلق التربية المناسبة . والبلد الفلاني ثري ؛ لأن فيه أنهاراً غزيرة . والشعوب الإسلامية متخلفة ؛ لأنها تقع تحت ضغوط مؤامرة كبرى ... ولو أجَلنا النظر في هذه التفسيرات لوجدنا أنها جميعاً محتملة ، وليست قطعية ، فهناك طلاب أثرياء ، ومفرّغون للدراسة ، ومع ذلك يرسبون . وهناك أعداد ضخمة من الأيتام ذوي السلوك الحسن والسيرة الحميدة ، وهناك وهناك ...
إن تفسير الظواهر الكبرى بعامل واحد من أكثر الأخطاء الفكرية انتشاراً ، وهو الذي يقبع خلف عدد ، لا ينتهي من التصورات والأحكام العوجاء والظالمة .
4- تأثير الهالة :
قدرة الناس على مناقشة الأفكار ومعرفة مزايا الأشياء على نحو دقيق محدودة ، ولذا فإنهم يتشبثون بأي شيء يمكن أن يساعدهم على استيعاب ما يرغبون في استيعابه . وحين يتفوق إنسان في مجال ما فإنه يكوّن لنفسه (هالة) ويترك انطباعاً بالجدارة والثقة لدى الآخرين . وبتأثير تلك الهالة ينسى الناس جوهرية (الاختصاص) ويسألون المعجبين بهم عن أشياء ليس هناك أي دليل على تفوقهم في معرفتها . وصار من المألوف اليوم أن يُقبل الناس على استخدام نوع من الصابون أو العطر أو معجون الأسنان ... لأن النجم الفلاني يستخدمه ، أو ظهر في إعلان عنه . وطالما سُئل رياضيون وفنانون عن قضايا سياسية واجتماعية واقتصادية ، وطالما انفعل الناس بأجوبتهم أكثر من انفعالهم بأجوبة بعض المختصين !
وفي عصرنا الحاضر صار للحقيقة العلمية هالة كبيرة ؛ فنحن نحترمها أشد الاحترام ، ونحاول الاستفادة من مؤشراتها ، لكن كما أن من السهل على أي واحد أن يتاجر بعملة زائفة ، فمن السهل أيضاً أن يتاجر بعض الناس بالحقائق العلمية .
وقد وقع كثير من الناس ضحية لتناول أدوية وعقاقير تخلصهم من السمنة أو الصلع أو غير ذلك ... حيث بُهروا بالشرح العلمي لميزاتها وخصائصها . هذا كله يدعونا إلى أن نتعلم المزيد عن كيفية ( تقويم المعلومات ) الواردة إلينا ، وأن نسأل أهل الذكر في كل علم وفن .
5- المبالغة :
نحن لا ندرك الأشياء بطريقة مباشرة ، وإنما عبر وسيط ثقافي وفكري ونفسي أيضاً ، مما يجعل رؤيتنا لها قابلة للكثير من الخصوصية ، ومن ثَمّ للكثير من الانحراف . المبالغة مرض واسع الانتشار ؛ والبنية التحتية له بنية فكرية شعورية ؛ فالإدراك القاصر ، وضعف المحاكمة العقلية ، مما يدفع إلى المبالغة على النحو الذي تدفع إليه المصالح والأهواء والأمراض النفسية ، والانطباعات الخاصة والخاطئة .
وللمبالغة تجليات كثيرة ، نستعرض بعضها من أجل تسليط الوعي عليها :
بعض الناس يميلون إلى تضخيم كل الأشياء ، وكأنها (مجموعة كوارث) فهم يتوقعون الأسوأ دائماً ، فأي ألم مفاجئ يصيب الواحد منهم ، هو دليل على وجود مرض خطير ، وأي خطأ يقع فيه يمكن أن يحرمه من وظيفته !
- هناك من يميل إلى (تعميم الافتراض) فلأن شيئاً ما قد وقع فهذا يعني أنه سيقع دائماً ؛ فإذا نسي موظف عنده تنفيذ أحد طلباته ، قال له : إنك تنسى دائماً ما أطلبه منك . وإذا تبين له أن إحدى الإذاعات كذبت في خبر من الأخبار ، حكم بأن تلك الإذاعة لا تصدق أبداً !(1/92)
- تتجلى المبالغة في بعض الأحيان في صورة قراءة لما في عقول الآخرين ؛ حيث يعتقد بعض الناس أنه يملك شفافية خاصة لمعرفة ما يدور في أذهان العباد ، وما تنطوي عليه سرائرهم ، فإذا توجهت إليه شركة بسؤال ظنّ أنها سألته ؛ لأنها لم تعثر على شخص آخر بإمكانه أن يجيب عن أسئلتها . وإذا واجه مشكلة ، ولم يتدخل فيها أحد من أصدقائه ؛ فذاك ليس لأنهم يريدون المحافظة على خصوصيته ، وإنما بسبب إهمالهم له ، أو شماتتهم به ، وإذا نصحه شخص بنصيحة ، فذاك ليس بقصد إصلاحه ، وإنما بقصد تحطيمه أمام نفسه ، وهكذا ...
- تترجم المبالغة في بعض الأحيان شكلاً من أشكال عدم الاتزان ؛ فترى بعض الأشخاص يتحولون من النقيض إلى نقيضه بسرعة البرق ؛ فبسبب كلمة أو حركة يمكن لأي شيء أن ينقلب رأساً على عقب . ويبدو أن هذا النوع من المبالغة ، هو في الأصل ظاهرة نسوية [1] ، لكن للرجال أيضاً نصيبهم منها ، وطالما سمعنا من يقول : إن كنت تستطيع أن تقول ذلك فهذا يعني أن علاقتنا لا تعني أي شيء . ومن يقول : خطأ واحد يفسد الأمر كله .
- كثيراً ما تتجلى المبالغة في ظاهرة الإسراف في المدح والذم ، وهذه الظاهرة عالمية ، لكن يمكن أن نقول هذه المرة : إنها ظاهرة عربية في المقام الأول ؛ فنحن من أكثر أمم الأرض تمادياً في المدح خاصة وقد تجاوزت المبالغة في المديح لدى بعض الناس مرحلة الكذب الصراح إلى مرحلة الكذب المركب والمعقد ، والذي يحتاج إلى منهاج خاص من أجل كشفه !
وأعتقد بعد هذا وذاك أن تحسن مستوى التفكير لدينا سيظل مرتبطاً بمدى ما يسود حياتنا من مناقشة ومصارحة ، وبمدى ما تحرزه الأمة من تقدم على الصعد الإنسانية المختلفة .
إن تجديد البعد العقلي ، يحتمل الكثير من الكلام ، لكن الوقت المتاح لا يسمح بأكثر مما قلناه ، وأسأل الله تعالى أن يوفقنا لما هو خير وأبقى .
_______________
(1) ورد في الحديث الشريف : (لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ، ثم رأت منك شيئاً قالت : ما رأيت منك خيراً قط) .
================
#القراءة .. مدى الحياة
إن فطر الله - جل وعلا - لبني الإنسان على التساؤل وحب الاستكشاف أتاح لهم أن ينمّوا كينوناتهم المعرفية ، وأن يندفعوا دائماً نحو معرفة المزيد دون أن يجدوا أي حدود للتشبع أو الارتواء . كان العلم في القديم ، يقوم على (النقل) ، فكان التعلم والتعليم عبارة عن أفعال مقترنة بالزمان ، حيث يتمان وفق تتابع زمني ، وحين يموت العالم ، فمن الممكن أن يذهب معه أفضل ما يعرف ، وحين صار للغات أبجديات ، وتمتع الإنسان بنعمة الكتابة ، انتقلت المعرفة من حيز الزمان إلى حيز المكان ، وصار الحفظ والتوثيق والاسترجاع والنشر مما هو متاح على أوسع نطاق ، وبذلك أمكن للناس أن يطوروا معارفهم على نحو مدهش ، وصار للبشرية بذلك تاريخ جديد .
إن هناك دواعي كثيرة ، تفرض على الواحد منا أن يتعلم ، ويقرأ ، ويكتسب الخبرات مدى الحياة ، منها :
1- إن الذي يدعو الإنسان إلى مزيد من التعلم ، هو العلم نفسه ، إذ إنه كلما زادت المعرفة ، اتسعت منطقة المجهول ، والتقدم نفسه يعمل على زيادة حاجة الإنسان الشديدة إلى المعرفة ، حيث إن التوغل في حقول المعرفة ، يتيح إمكانات ومجالات جديدة ، ويولَّد دوافع جديدة للتقدم الأوسع نطاقاً . والمثقف الذي يرغب في الحفاظ على قيمة ثقافته وكرامتها ، مطالب بأن يعيد تكوين ثقافته على نحو مستمر ومتجدد ، وعندما يشعر بالاكتفاء بما لديه من معلومات ، سيضع نفسه على شفا الانحطاط . وإذا كان متخصصاً فإن أمواج القفزات العلمية في تخصصه ، ستقذف به نحو الشاطئ ، ليجد نفسه في النهاية خارج التخصص . الوضع الذهني للرجل متوسط الثقافة - فضلاً عن الضعيف - يسف وينحط بسبب ما يحتشد من النظريات والأفكار والمذاهب التي لم يعد بإمكانه المساهمة فيها ، حتى لو أبدى اهتماماً بها .
إن جهلنا ينبسط مع تقدم المعرفة ، كما ينبسط سطح التماس لكرة ما مع العالم الخارجي عندما يكبر قطرها ، وهذا يشكل تحدياً متزايداً لكل قارئ .
2- لم يكن لدى الناس قديماً إحساس قوي بارتباط كسب الرزق بمدى ما يحصلَّونه من علم ، لكن الوضع قد تغير اليوم ؛ حيث تتضاءل على نحو متصاعد المهن والوظائف التي يمكن للأميين ومحدودي الثقافة الاضطلاع بها . وسوف تجد الأمة التي لا يحسَّن أبناؤها مستوى معارفهم - على نحو مستمر- نفسها مؤهلة لأن تكون تابعة للأمم الأخرى ، ومستغلة لها على كل المستويات !(1/93)
3- إن ما نمتلكه اليوم من معارف وخبرات ، لا يتمتع بقيمة مطلقة ؛ فسكان الأرض يشكلون عالماً واحداً ، وأهمية كل جزء من أجزاء هذا العالم ، تنبع دائماً من قدرته على الصمود والمنافسة وحل المشكلات ، وما يمتلكه من وزن في الساحات العالمية . وشيوع الأمية الأبجدية والحضارية ، قد جلب على أمة الإسلام مشكلات هي أكبر مما نظن ؛ وليس ذلك على صعيد المعيشة والإنتاج فحسب ؛ وإنما على صعيد فهم الإسلام أيضاً ؛ فالإسلام بما أنه بنية حضارية راقية ، لا يتجلى على نحو كامل إلا عبر تجربة معرفية وحضارية رائدة ؛ مما يعني أن التخلف الذي نعاني منه قد حال بيننا وبين رؤية المنهج الرباني على النحو المطلوب .
4- إن العقل البشري ، يميل دائما إلى تكوين عادات ورسم أطر لعمله ، وهي مع مرور الوقت ، تشكل نوعاً من البرمجة له ؛ والبيئة - بكل أنواعها - هي التي توفر مادة تلك البرمجة . وكلما كانت ثقافة الإنسان ضحلة ، وكانت مصادر معرفته محدودة ، ضاقت مساحة تصوراته ، وأصبح شديد المحلية في نماذجه ورؤاه ، عاجزاً عن تجاوز المعطيات الخاطئة التي تشربها من مجتمعه . والقراءة الواسعة ، والاطلاع المتنوع هو الذي يعظم الوعي لديه من خلال المقارنة وامتداد مساحات الرؤية ، وقد كان علماء السلف ، لا يثقون بعلم العالم الذي لم يرحل ، ولم يغبِّر قدميه في طلب العلم ، إدراكاً منهم لمخاطر البرمجة الثقافية القائمة على معطيات محلية محدودة .
5- التدفق الهائل للمعلومات ، وتراكم منتجات البحث العلمي في اتساع مستمر ؛ والنتيجة المباشرة لذلك هي تقادم ما بحوزتنا من معارف ومعلومات . وتفيد بعض التقديرات أن نحواً من 90 % من جميع (المعارف العلمية) قد تم استحداثه في العقود الثلاثة الأخيرة . وسوف تتضاعف هذه المعارف خلال نحو من 12 سنة . ويقول أحد الباحثين : إن على المتخصص المعاصر أن يضع في حسبانه أن نحواً من 10 - 20 % من معلوماته قد شاخ ، وعليه أن يجدده . ويرى أحد الباحثين أن أعراض الشيخوخة تعتري المعلومات بنسبة 10 % في اليوم بالنسبة إلى الجرائد ،
و10 % في السنة بالنسبة إلى المجلات ، و10 % في السنة بالنسبة إلى الكتب .
6- إن تقادم المعلومات يتجلى في صور شتى ، فتارة في ظهور زيفها أو عدم دقتها ، وتارة يتجلى في عدم ملاءمتها للخطط الجديدة ، وأحياناً بتحوّل الاهتمام عنها ، لأنها لم تعد ذات قيمة في البناء المعرفي ، وأحياناً بقراءتها قراءة جديدة ، أي :
إنتاجها مرة أخرى على نحو يبعدها عن مضامينها الأولى ...
والعلاج لذلك كله دوام الاطلاع والمتابعة ، حتى لا يتدهور ما لدينا من معرفة ، وحتى لا نغرق في الضلالات والأوهام التي تنتشر باعتبارها مفرزات جانبية للتقدم العلمي .
القراءة ومصادر المعلومات الأخرى :
عصرنا عصر انفجار المعرفة ، فالأعداد الهائلة من العلماء الذين يشتغلون بالبحث العلمي ، والوسائل المتطورة في حفظ المعلومات ونقلها وبثها ، والتواصل الكوني الفريد والمتزايد ، كل ذلك جعل الناس مغمورين بالأخبار والمعلومات والمفاهيم التي ترد إليهم كل لحظة من شتى أصقاع الأرض . هذه الوضعية حملت الناس على طرح سؤال حول ما تبقى من وظيفة للقراءة والكتاب ، كما حملت كثيراً من المثقفين على الجهر بمر الشكوى من هجر الكتاب ، والافتتان بما تعرضه وسائل الإعلام المختلفة من برامج ومواد ثقافية متنوعة . والحقيقة أن لتلك الشكوى ما يسوغها ، إذ إن هناك مؤشرات واضحة إلى إعراض الناس عن القراءة واقتناء الكتاب ، والى إقبالهم على قضاء أوقات طويلة أمام الوسائل الإعلامية المختلفة .
ويكفي أن نعلم أن متوسط ما يطبع من معظم الكتب في البلاد العربية لا يتجاوز ثلاثة آلاف نسخة للكتاب الواحد .
وهذا العدد المحدود لا ينفد في الغالب في أقل من ثلاث سنوات عادة ، على حين تتجاوز أرقام التوزيع في الدول المتقدمة ذلك بكثير ، بما لا يدع أي مجال للمقارنة !
إن وسائل الإعلام تقدم برامج على درجة عالية من الزخرفة والإتقان ؛ مما يعطيها جاذبية عالية . فاذا أضفنا إلى ذلك انعدام البواعث على القراءة وانعدام التقاليد الثقافية المحبذة لاقتناء الكتاب واصطحابه - أدركنا وضعية القراءة في عالمنا الإسلامي !
إن وسائل الإعلام تقدم معلومات متشظية ، قلما تتصل بالحاجة المعرفية الحقيقية للمتابع لها ، كما أن المعروف أن المعلومات الكثيفة حول أي شيء قد تقف حائلاً دون فهمه على الوجه الصحيح ، تماماً مثل الحقائق والمعلومات القليلة عنه ؟ فللعقل طاقة محدودة على التحليل والتصنيف والغربلة لما يرد عليه ، وحين يزيد على طاقته ، فإنه يربكه ويشتته .(1/94)
من وجه آخر فإن وسائل الإعلام الحديثة ، قد سببت أضراراً بالغة للشعور بالحاجة إلى التفكير ، فكتَّابها ومعدُّو برامجها قاموا بذلك نيابة عن المتلقين . إن مشاهد (التلفاز) ومستمع الإذاعة وقارئ المجلة أو الجريدة .. يتلقى مركَّباً كاملاً من البيانات والإحصاءات المنتقاة بعناية ، والمصوغة بأسلوب بلاغي بارع ، مما يدهش القارئ ، ويدفعه إلى نوع من الاستسلام لها ، والانقياد إلى توجهاتها دون القيام ببذل أي جهد شخصي ؛ وهذا كله مغاير لمتطلبات التطور العلمي والاجتماعي الحديث ، والذي يتطلب منا القدرة على الإبداع ، وترشيد المحاكمة العقلية أكثر من الانشغال باستيعاب بعض مفردات المعرفة واستظهارها . هذا كله لا يجعلنا ننكر أن الدفق الإعلامي والمعلوماتي الهائل ، قد أوجد نوعاً من الاستنارة العامة ، ورفع درجة الوعي لدى الناس ، كما أنه ملكهم الكثير من المعلومات العامة .
إن الهامش الذي يفصل بين التسلية وبين التثقيف الحق هامش ضيِّق ، ومن السهل أن يكون ما نستمع إليه ونشاهده ضرباً من ضروب التسلية ، وتزجية الوقت ، ونحن نظن أننا نتعلم . واعتقد أن الكتاب ما زال هو الوسيلة الأساسية للتثقيف الجيد ، حيث نستطيع أن نمارس حريتنا كاملة في اختيار ما نحتاج إليه ، وهو لا يحتاج إلى آلات مساعدة للاطلاع عليه ، كما أنه رخيص الثمن إذا ما قورن بغيره .
ولست مع هذا أميل إلى التقليل من شأن مصادر المعلومات الأخرى ؛ فالمهم دائماً أن تكون أهدافنا في التثقيف والارتقاء المعرفي واضحة ، ثم نبحث عن الأدوات والوسائل التي تبلغنا إياها .
والله ولي التوفيق ، ، ،
================
#توسيع قاعدة الفهم
لم تكن الحاجة ماسّة إلى الفهم العميق في يوم من الأيام كما هي اليوم ؛ فالمعلومات متوفرة إلى حد التخمة ، وصار الفارق الواضح بين إنسان وآخر يتمثل في مقدرته على الفهم ، والاستفادة من تلك المعلومات على نحو حسن . وهذا لن يتم إلا من خلال امتلاك مركّب عقلي جديد ، ذي بنية متميزة . ومهمة التربية أن تساهم في تكوين تلك البنية وصقلها . وسنذكر هنا بعض المسائل ذات العلاقة بذلك :
أ - إن أول عمل علينا أن نقوم به هو أن نقلع الأشواك من الأرض الطيبة التي نريد أن نزرعها . كثيراً ما نعمد إلى محاولة تلقين الطلاب بعض المبادئ المنطقية ، أو نشرح لهم بعض أساليب التفكير ؛ وعند النظر في مدى التأثير الذي يتركه ذلك في تصحيح تصوراتهم نجد أنه محدود جداً . وقد رأينا كثيراً ممن يدرِّس علم (المنطق) وكثيراً ممن درسه ، ورأينا أن تفكيرهم يفتقر إلى بعض البدهيات التي يحتاجها التفكير القويم ! ولذا فإن من الصحيح أن يركز المربي في البداية على إلقاء الأضواء الكاشفة على الأفكار والرواسب السابقة ، والمفاهيم والعادات العقلية والنفسية التي تحول دون الرؤية الصحيحة [1] ، مثل التعصب والمبالغة والرؤية النصفية ، والميل إلى التبسيط ، والانغلاق ، والخضوع للمقولات الشائعة ، والتعامل مع الواقع على أنه كتلة صلدة ... وأعتقد أن أثر الأسرة في هذا لن يكون كبيراً ؛ حيث إن هذه المسائل أعقد من أن ينتبه إليها الأشخاص العاديون ؛ وإنما المعوّل في ذلك على الوسائل الإعلامية والمناهج المدرسية والمجالس والندوات الفكرية .
ب - إن تقدم العالم كان في الأغلب عن طريق (الأزمات) وإن القفزات العلمية والإبداعية جاءت في الأغلب من خلال الاصطدام بمشكلات كبيرة ومحيرة .
الذين استطاعوا تجاوز العقبات ، والإتيان بالمبهر العظيم ، ليسوا أولئك الذين استسلموا للمقولات والمفاهيم السائدة في الساحة العلمية ، ولا أولئك الذين يتبرمون بالنتائج التي خالفت توقعاتهم ، وفروض بحوثهم ؛ وإنما أولئك الذين يملكون العقل المنظم الذي يهش ويبش في وجه المسائل المحيرة والمعضلات الغامضة ، ويمنحها الرعاية والملاطفة ؛ حتى يجد مخرجاً أو برهاناً يثبتها على محك التجربة والاختبار[2] . إن كثيراً من أفكارنا لن يبلغ حده الكافي من التبلور والنضج إلا إذا اغتبطنا بالحقائق التي لا تتطابق مع ملاحظاتنا وفروضنا الأولية ؛ حيث من خلالها نستطيع إدخال تعديلات على أفكارنا ، ونجعلها أكثر ملاءمة للتقدم ، وأقرب إلى الدقة والصواب . نحن بشر وتحليلاتنا وملاحظاتنا ، ستظل قابلة للتشذيب والتطوير ، ويجب أن نعلِّم أطفالنا وطلابنا هذه الحقيقة ، ونُريهم من خلال الوقائع والمواقف التطبيقاتِ التي تجعلها تتغلغل في (اللاشعور) منهم .
ج - قالوا قديماً : نصف عالم أضر على الأمة من جاهل . وهذا من الحكم الرائعة ؛ لأن الجاهل يملك بعض الأخلاقيات ، مثل التواضع وحب المعرفة ، والقدرة على الاستماع دون مقاطعة . أما نصف العالم ، فإن لديه قدرة على تكرار الألفاظ ، وطرح الفروض المبتذلة والدارجة ، وعنده حظ من الغرور والتعالم ؛ ولذا فإنه يسدل حجباً سميكة على عقله ، فلا يتقبل الأفكار الجديدة ، ولا يملك من الحماسة ما يكفي لتطوير مفهوماته وطروحاته .(1/95)
إن توسيع قاعدة الفهم ، يتطلب منا أن نؤكد دون ملل على ضرورة وضع معارفنا وأفكارنا في موضعها الصحيح من جسم المعرفة البشرية المنظمة ، والسائدة اليوم ، وأن ننظر بجدية إلى خطورة ما نجهله حول كل قضية من القضايا المعاصرة . وأرى في هذا السياق أن قدر العالم وفضله لا ينبعان من كثرة ما يعرف ، وإنما من حدسه بما لا يعرفه وتقديره له ، وأخذه بعين الاعتبار عند إصداره الأحكام .
إن صاحب الفهم الصحيح ، يحاول دائماً أن يجعل أفكاره متساوقة مع حجم البراهين المتوفرة لديه ، فعلى مقدار صلابة المعلومات والبراهين تكون صلابة الأفكار ودرجة الوثوق بها . وإذا نظرنا في واقع عالم الأفكار لدى كثيرين منا ، وجدنا أن درجة الوثوق واليقين كثيراً ما تكون متقدمة على ما هو متوفر لديهم من أدلة وبراهين ومعلومات ؛ مما يجعلهم في حالة دائمة من الاضطراب والتشوش ، ومما يجعل خيبة الأمل حليفة لهم !
د - حتى تتسع قاعدة الفهم لدى الناشئة ، فلا بد من إكسابهم (المرونة) الفكرية ، وسرعة استيعاب المتغيرات الهائلة التي تجتاح العالم . إن شاب الغد يحتاج إلى أن يكون مستعداً للتنقل الجغرافي من أجل طلب الرزق ، فمنطق العصر هو (الترحال) بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى . ويجب أن يكون أيضاً مستعداً لتغيير اختصاصه ومهنته بحسب ما يتوفر من فرص العمل . وبحاجة إلى تغيير مفاهيمه عن أشياء كثيرة محيطة به [3] . وهذا كله يحتاج من الشاب أن يمتلك المرونة الفكرية والنفسية . لعل مما يساعده على اكتساب هذه المرونة أن ينظر إلى أن الاستجابة للتغيير ليست عبئاً خالصاً ؛ فهي بما تتطلبه من التكيف ، تخلص الإنسان من الملل والسأم ، وتخلصه من كثير من الواقع السيئ الذي يعيشه ؛ فالتغيير حين يقوده مسلم ، يكون بإذن الله نحو الأحسن والأفضل .
مما يسهم في تكوين المرونة الذهنية لدى الأطفال ، جعلهم يدركون جملة الفروق والاختلاف بين بني البشر ، وأنه لا يمكن جعلهم نسخاً مكررة بعضهم عن بعض في كل أمر ؛ بل إن الله جل وعلا خلقهم مختلفين ليكمل بعضهم بعضاً على جميع المستويات : { وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِياً } [الزخرف : 32] . ففي الاختلاف ثراء وتنوع وإخصاب وتعاون ، وهو عامل أساسي في توازن الحياة العامة . إن فهم الناس العميق للحياة ، بكل ما فيها من تعقيدات وتشابكات بهدي من المنهج الرباني ، وبتبصير من الخبرة ، سوف يخفف إلى حد بعيد من الشعور بالألم ، ومن التلاوم ، وسوف يجعل أحلامهم ممكنة ، وخيالهم معقولاً بعقال ما يمكن توقعه ؛ أي سيكونون أقرب إلى الحكمة . وكما كان يقول (نيتشة) : (إن النمو في الحكمة يقاس بدقة بانخفاض المرارة) [4] .
ولا ينبغي أن نهمل في هذا الصدد مساهمة معرفة حدود (الجائز والممنوع) في مسألة المرونة ؛ فحين يتضح للمرء بجلاء ما هو جائز ، ويتميز عما هو محظور وممنوع ، فإنه يقبل بجرأة كل الأشياء التي تدخل في حيز المباح ، مهما كانت صورها وأشكالها ، ومهما كانت غريبة وغير مألوفة . ومشكلة معظم الشعوب المتخلفة خلو خبرتها ووعيها من الجذور الفاصلة بين الجائز والممنوع على المستوى القانوني على الأقل ؛ حيث إن لديها إلى جوار كل قانون مكتوب قانوناً غير مكتوب ؛ مما جعل لدى الناس أنواعاً من الخوف غير المسوّغ ، وأحدث حالة من الإحجام المبهم ، كما أنه تسبب في تورط بعض الناس في أمور ، كانوا يظنون أنها من قبيل المباح : وهذا هو السر الأكبر القابع خلف سلبية الإنسان لدينا !
مما ينمي خبرة التفريق بين الجائزات والممنوعات ، أن نستمع بأذن صاغية ، وبعقل مفتوح لكل ما يُطرح من أفكار ، وأن نتقبله على أنه اجتهاد ، ما لم يصادم إجماعاً أو نصاً قطعياً ؛ فالأفكار لا تنضج ، ولا تتبلور ما لم تلكها ألسنة المناظرة .
من خلال الحوار والنقاش والمفاتحة ، ومن خلال الوقوف على الأهواء والأخطاء ، بنصر طريقنا إلى المنظور الكلي الذي هو الحقيقة . ولا ريب بعد هذا وذاك في أن سعة الفهم ، لا تؤدي إلى الاتفاق في الآراء ، لكنها تمنح الأساس للاختلاف ، أي تجعل الاختلاف مؤصلاً واضحاً ، وتجعل ما يتم من اتفاق متيناً ؛ لأنه يقوم على قواعد فكرية ومنهجية صحيحة . ونستفيد من ذلك التسامح والتعاطف المتبادل في حالة الاختلاف ، والتعاون والمشاركة في حالة الاتفاق .
إن الإنسان كائن قابل للتعلم ، بل إن الإنسانية كلها ، تظل تتعلم باستمرار ، وإذا تملكتنا هذه الفكرة ، فسوف نعرف كيف نكتسب المرونة ، وكيف نستخدمها في تحسين نوعية الحياة .(1/96)
هـ- إن الهدف الأساسي من كل ما نتلقاه من تعليم وتدريب ، ليس أن نتمكن من سرد المعلومات عن ظهر قلب ، ولكن أن نحاول ترشيد أحكامنا العقلية ، التي نستند إليها في كل القرارات التي نتخذها في جميع مجالات الحياة . وهذا يعني أن على التربية والتعليم استهداف تكوين (العقل المثقف) وهو ذلك الذي اجتاز عدداً كبيراً من حالات التدرب على التفكير المستقيم ، والذي يستطيع استخلاص نموذج خاص وملامح محددة من خلال استعراض عدد كبير من وجهات النظر المختلفة في المسألة الواحدة . وهذا يعني الاطلاع على مقولات كثيرة في الموضوع الواحد ، وتدريب الذهن على الاستفادة من تلك الموضوعات في بلورة رؤية خاصة متماسكة [5] .
كان أفلاطون يرى أن من الضروري أن يكون للعقل نوع من الاستقلال النسبي عن الوسط الذي يعيش فيه [6] . وهذه الوضعية في تصوري مما يجب أن تشملها جهود توسعة قاعدة الفهم ، وتربية العقل المثقف ؛ إذ إن توحد عقول الناشئة مع الأوساط والبيئات التي يعيشون فيها ، سيؤدي بهم إلى أن يصبحوا (إمّعات) لا يحسنون سوى التقليد ، لكن حين يشجعون على إبداء وجهات نظر مغايرة لما هو سائد ، فإنه سيتكون لديهم عقل ناقد ، وسيكون ذلك مصدراً لتجديد متوازن . إن تثقيف العقل وتدريبه على إصدار الأحكام ، يشبه تقوية العضلات ، حيث يمكن بعد تقويتها أن نستفيد منها في أي عمل يتطلب القيام به استعمالها . إنه يمكن تنمية (العقل المثقف) بطرق عديدة ، منها تهذيب قوى الملاحظة المميزة ، وتقوية ملكة المنطق ليتمكن الفرد من تتبع الحجة نقطة بعد أخرى ، وبالعمل على إنضاج القدرة على المقارنة .
إن بإمكان الدراسات اللغوية والعلوم الطبيعية أن تنمي عادات الملاحظة الدقيقة ، وإن الرياضيات هي المدرب التقليدي لملكات التفكير . أما التاريخ والدراسات الأدبية ، فهي تسهم في تنمية القدرة على الحكم [7] .
________________________
(1) حاولنا في كتاب (فصول في التفكير الموضوعي) تسليط الضوء على شيء من ذلك .
(2) قاموس جون ديوي للتربية : 130 .
(3) العرب وعصر المعلومات : 394 .
(4) قصة الفلسفة : 494 .
(5) انظر الثقافة الفردية وثقافة الجمهور : 83 .
(6) الدروس التي تتعلمها التربية من علم النفس : 138 .
(7) المصدر السابق : 139 .
=================
#من أجل إنتاجية أفضل .. أهمية رسم الأهداف
يعيش العالم المتقدم أزمة حضارة بسبب افتقاده الوجهة أو الهدف الأكبر الذي يجذب إليه جميع مناشط الحياة ، ويمنحها المنطقية والانسجام . أما المسلمون فأزمتهم الأساسية ، هي أزمة حركة في العالم ، وأزمة شهود على العصر ؛ فهم في أكثر الأحيان يتأثرون ، ولا يؤثرون ، ويأخذون من الحياة أكثر مما يعطونها ؛ وذلك بسبب انخفاض إنتاجيتهم ، وضعف إدارتهم لإمكاناتهم الشخصية والعامة . نقرأ آيات الاستخلاف وشروط التمكين في الأرض ، وأدبيات النجاح والفلاح ، لكنّ قليلين منا الذين يسألون أنفسهم عن وظيفتهم الشخصية في تحقيق كل ذلك !
إن الأماني الوردية حول قيادة أمتنا للعالم تداعب أخيلة الكثيرين منا ، وتدغدغ مشاعرهم ، لكن لا أحد يسأل عن آليات تحقيق ذلك ، ولا عن الإمكانات المطلوبة للسير في طريقه !
إني أعتقد أن هناك حقيقة أساسية غائبة عن أذهان الكثيرين منا ، هي أننا لا نستطيع أن نوجد مجتمعاً أقوى من مجموع أفراده ؛ ولذا فإن النهوض بالأمة يقتضي على نحوٍ ما أن ينهض كل واحد منا على صعيده الشخصي ، وما لم نفعل ذلك ، فإن الغد لن يكون أفضل من اليوم .
إن رسم الأهداف نوع من مدِّ النظر في جوف المستقبل ، وإن الله جل وعلا يحثنا على أن نتفكر في الآتي ، ونعمل له : { يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } [الحشر : 18] إن المسلم الحق لا يكون إلا مستقبلياً ، ولكننا بحاجة إلى أن نعمم روح الالتزام نحو الآخرة على مسلكنا العام تجاه كل ما يعنينا من شؤون وأحوال .
أهمية وجود هدف :
من الأدوات الأساسية في تحسين وضعية الفرد أن يكون له هدف يسعى إلى تحقيقه . ونرى أن حيوية وجود هدف واضح في حياتنا تنبع من اعتبارات عديدة ، أهمها :
1- إن كل ما حولنا في تغير دائم ، والمعطيات التي تشكل المحيط الحيوي لوجودنا لا تكاد تستقر على حال ، وهذا يجعل كل نجاح نحققه معرضاً للزوال ؛ ووجود هدف أو أهداف في حياتنا ، هو الذي يجعلنا نعرف على وجه التقريب ما العمل الذي سنعمله غداً ، كما أنه يساعد على أن نتحسس باستمرار الظروف والأوضاع المحيطة ؛ مما يجعلنا في حالة دائمة من اليقظة ، وفي حالة من الاقتدار على التكيف المطلوب .(1/97)
وقد جرت عادة الكثيرين منا أن يسترخوا حين ينجزون عملاً متميزاً ؛ مما يضعهم على بداية الطريق إلى أزمة تنتظرهم . ولذا فإن الرجل الناجح ، هو الذي يسأل نفسه في فورة نجاحه عن الأعمال التي ينبغي أن يخطط لها ، ويقوم بإنجازها ؛ فالتخطيط هو الذي يجعل أهمية المرء تأتي قبل الحَدَث . أما معظم الناس فإنهم لا يفكرون إلا عند وجود أزمة ، ولا يتحركون إلا حين تحيط بهم المشكلات من كل جانب ، أي يستيقظون بعد وقوع الحدث ، وبعد فوات الأوان !
2- إن وعي كثيرين منا بـ (الزمن) ضعيف ، ولذا فإن استخدامنا له في حل مشكلاتنا محدود . وحين يجتمع الناس برجل متفوق فإنهم يضعون بين يديه كل مشكلاتهم ، ويطلبون لها حلولاً عاجلة متجاهلين عنصر (الزمن) في تكوينها وتراكمها ، وطريقة الخلاص منها . ووجود هدف في حياة الواحد منا يجعل وعيه بالزمن أعظم ، ويجعله يستخدمه في تغيير أوضاعه . إذا سأل كل واحد منا نفسه :
ماذا بإمكانه أن يفعل تجاه جهله بعلم من العلوم مثلاً أو قضية من القضايا ؟ فإنه يجد أنه في الوقت الحاضر لا يستطيع أن يفعل أي شيء يذكر تجاه ذلك . أما إذا سأل نفسه : ماذا يمكن أن يفعل تجاهه خلال خمس سنين ؟ فإنه سيجد أنه يستطيع أن يفعل الكثير ؛ وذلك بسبب وجود خطة ، واستهداف للمعالجة ، وهما دائماً يقومان على عنصر الزمن . إني أعتقد أن كثيراً من الخلل المنهجي في تصور أحوالنا ، وحل أزماتنا ، يعود إلى ضيق مساحة الرؤية ، ومساحة الفعل معاً ، وذلك كله بسبب فقد النظر البعيد المدى .
3- إن كثيراً من الناس يظهرون ارتباكاً عظيماً في التعامل مع (اللحظة الحاضرة) وذلك بسبب أنهم لم يفكروا فيها قبل حضورها ، فتتحول فرص الإنجاز والعطاء إلى فراغ قاتل ومفسد ؛ وهذا يجعلنا نقول : إننا لا نستطيع أن نسيطر على الحاضر ، ونضبط إيقاعه ، ونستغل إمكاناته ، إلا من خلال مجموعة من الآمال والأهداف والطموحات ، وبهذا تكون وظيفة الهدف في حياتنا هي استثمار اللحظة الماثلة على أفضل وجه ممكن .
إني أتجرأ وأقول : إن ملامح خلاص جيلنا ، والجيل القادم على الأقل من وهن التخلف والانكسار قد تبلورت في أمرين : المزيد من الالتزام بالمنهج الرباني ، والمزيد من التفوق ، ولا نستطيع أن نجعل هذين الأمرين حقيقة واقعة في حياتنا من غير تحديد أهداف واضحة .
سمات مطلوبة في الهدف :
1- المشروعية :
إن مجمل أهداف المرء في الحياة ، يعادل على نحو تام (استراتيجية) العمل لديه ، ولذا فإن الذين لا يأبهون لشرعية الأهداف التي يسعون إلى تحقيقها يحيون حياة مضطربة ممزقة ، تختلط فيها عوامل البناء مع عوامل الهدم ، وينسخ بعضُها بعضَها الآخر . إن الهدف غير المشروع ، قد يساعد على تحقيق بعض النمو في جانب من جوانب الحياة ، لكنه يحطّ من التوازن العام للشخصية ، ويفجّر في داخلها صراعات مبهمة وعنيفة . وليس المقصود بشرعية الهدف أن يكون معدوداً في (المباحات) فحسب ، وإنما المقصود أن يكون مندمجاً على نحو ما في الهدف الأسمى والأكبر الذي يحيا المسلم من أجله على هذه الأرض ، ألا وهو الفوز برضوان الله تبارك وتعالى وهذا يعني أن الأهداف المرحلية والجزئية للواحد منا يجب ألا تتنافر معه في وضعيتها أو مفرزاتها أو نتائج تفاعلها . ولعل من علامات الانسجام بينها وبين الهدف الأكبر شعور المرء أنه يحيا (حياة طيبة) وهي لا تولد من رحم الرخاء المادي ، ولا من رحم التمتع بالجاه أو الاستحواذ على أكبر كمية من الأشياء ، وإنما تولد من ماهية التوازن والانسجام بين المطالب الروحية والمادية للفرد ، ومن التأنق الذي يشعر به من يؤدي واجباته .
الهدف المشروع عامل كبير في إيجاد التطابق بين رموزنا وخبراتنا ، وهو إلى ذلك مولِّد لما نحتاجه من حماسة للمضي في الطريق إلى نهايته .
2- الملاءمة :
لكل منا طاقاته وموارده المحدودة ، وله ظروفه الخاصة ، وله إلى جانب ذلك تطلعات وتشوّفات ؛ ومن الواضح اليوم أن الحضارة الحديثة أوجدت لدى الناس طموحات فوق ما هو متوفر من إمكانات لتلبيتها ، وهذا يؤدي بكثير من الناس إلى أن يسلكوا طرقاً غير مشروعة لتلبيتها ، أو يؤدي بهم إلى الشعور بالعجز والانحسار .
والهدف الملائم ، هو ذلك الهدف الذي يتحدى ولا يعجز . ومعنى التحدي دائماً : طلب تفجير طاقات كامنة أو استخدام موارد مهملة ، لكنها جميعاً ممكنة . حين يكون الهدف سهلاً فإنه لا يؤدي إلى حشد إمكاناتنا الذاتية ، ولا إلى تشغيل أجهزتنا النفسية والعقلية ، كما لو أننا طلبنا من شخص أن يقرأ في كل يوم ربع ساعة ، أو يستغفر عشر مرات .(1/98)
في المقابل فإن الهدف الكبير جداً يصد صاحبه عن العمل له ، وفي هذا السياق نرى كثيراً من أهل الخير ، يشعرون بالإحباط ، ويشكون دائماً من سوء الأحوال ، وتدهور الأوضاع ، وهذا نابع من وجود هدف كبير لديهم هو (الصلاح العام) لكن ليس لديهم أهداف صغيرة ، أو مرحلية تصب فيه . إن كل هدف صغير يقتطع جزءاً من الهدف الكبير ، ويؤدي إلى قطع خطوة في الطريق الطويل ؛ وعدم وجود أهداف صغيرة ، يجعل الهدف النهائي يبدو دائماً كبيراً وبعيداً ، وهذا يسبب آلاماً نفسية مبرحة ، ويجعل المرء يظهر دائماً بمظهر الحائر العاجز . إنه لا يأتي بالأمل إلا العمل ، وقليل دائم خير من كثير منقطع .
3- المرونة :
إن أنشطة جميع البشر ، تخضع لعدد من النظم المفتوحة ، ومن ثم فإن النتائج التي نتطلع إلى الحصول عليها ، تظل في دائرة التوقع والتخمين . حين يرسم الإنسان هدفاً ، فإنه يرسمه على أساس من التقييم للعوامل الموجودة خارج طبيعة عمله ، وخارج إرادته ، وهذه العوامل كثيراً ما يتم تقييمها على نحو خاطئ ، كما أنها عرضة للتغير ، بالإضافة إلى أن إمكاناتنا التي سوف نستخدمها في ذلك هي الأخرى متغيرة ؛ ولهذا كله فإن الهدف يجب أن يكون (مرناً) ، أي : له حدود دنيا ، وله حدود عليا ؛ وذلك كأن يخطط أحدنا لأن يقرأ في اليوم ما بين ساعتين إلى أربع ساعات ، أو يزور ثلاثة من الإخوة إلى خمسة وهكذا .. هذه المرونة تخفف من ضغط الأهداف علينا ؛ فالناس يشعرون حيال كثير من أهدافهم أنها التزامات أكثر منها واجبات ، والالتزام بحاجة دائماً إلى درجة من الحرية ، وسيكون من الضار بنا تحوّل الأهداف إلى قيود صارمة ، وحواجز منيعة في وجه تلبية رغبات شخصية كثيرة .
4- الوضوح :
هذه السمة من السمات المهمة للهدف الجيد ، حيث لا تكاد تخلو حياة أي إنسان من الرغبة في تحقيق بعض الأمور ، لكن الملاحظ أن قلة قليلة من الناس ، تملك أهدافاً واضحة ومحددة ، ولذا فمن السهل أن يتهم الإنسان نفسه أو غيره بأنه لم يتقدم باتجاه أهدافه خطوة واحدة خلال عشرين سنة ، مع أنك لا تراه خلال تلك المدة إلا منهمكاً ومتابعاً بما يعتقد أنه هدف يستحق العناء !
إنه يمكن القول بسهولة : إن كل هدف ليس معه معيار لقياسه وللكشف عما أنجز منه ، وما بقي ؛ ليس بهدف . ولذا فإن من يملك أهدافاً واضحة يحدثك دائماً عن إنجازاته ، وعن العقبات التي تواجهه . أما من لا يملك أهدافاً واضحة ، فتجده مضطرباً ، فتارة يحدثك أنه حقق الكثير الكثير ، وتارة يحدثك عن خيبته وإخفاقه ؛ إنه كمن يضرب في بيداء ، تعتسفه السبل ، وتشتته مفارق الطرق ! نجد هذا بصورة أوضح لدى الجماعات ؛ فالجماعة التي لا تملك أهدافاً واضحة محددة ، تظل مشتتة الرأي في حجم ما أنجزته ، ولا يكاد خمسة من أبنائها يتفقون في تقويمهم لذلك ! لا يكفي أن يكون الهدف واضحاً ، بل لا بد من تحديد توقيت لإنجازه ، فالزمان ليس ملكاً لنا إلى ما لا نهاية ، وطاقاتنا قابلة للنفاد . ثم إن القيمة الحقيقية للأهداف ، لا تتبلور إلا من خلال الوقت الذي يستغرقه الوصول إليها ، والجهد والتكاليف التي نحتاجها . ولهذا كله فالبديل عن وضوح الهدف ، ووضوح تكاليفه المتنوعة ، ليس سوى العبث والهدر والاستسلام للأماني الخادعة !
إن من أسباب ضبابية أهدافنا أننا لا نبذل جهداً كافياً في رسمها وتحديدها ، وهذا لا يؤدي إلى انعدام إمكانية قياسها فحسب ، وإنما يؤدي أيضاً إلى إدراكها بطريقة مبتذلة أو رتيبة ، مما يُفقدها القدرة على توليد الطاقة المطلوبة لإنجازها .
سنعمل الكثير من أجل أهدافنا إذا أدركنا أنه عن طريقها تتم الصياغة النهائية لوجودنا .
ولله الأمر من قبل ومن بعد
==================
#وحدة الأمة : معوقات وإمكانات
ظلت الوحدة المحور الذي يجذب مشاعر سلفنا أهل السنة والجماعة وأنشطتهم على مدار التاريخ ، بل إن اسمهم يدل على ذلك ، فهم متوحدون على السنة ، وقد ضحوا في سبيل ذلك بتضحيات كثيرة ، ليس أقلها تحمل عسف الظلمة والطغاة ، وكيفوا كثيراً من اجتهاداتهم على نحو يجعل وحدة الأمة واجتماع الكلمة هدفاً أسمى ، وحاجةً ملحة ، لكن ضعف الشورى وضعف الدولة المركزية في بغداد ، وعدم تطوير نظام إداري قوي مرن يحقق التوحيد في جوانب ، ويحفظ الخصوصيات في جوانب ، وأسباب أخرى أدت جميعها إلى تفتت الخلافة العباسية ووأدها على يد التتار عام 656 هـ ، وقامت بعد مدة الخلافة العثمانية ، فجمعت شمل كثير من الدول والإمارات الإسلامية مرة أخرى . ونتيجة لتآمر كبير من الخارج ، وقصور أكبر من الداخل سقطت الخلافة العثمانية ، وتشتت شمل العالم الإسلامي ، ووقع كثير من بلدانه في براثن الاستعمار الأوربي ، الذي لم يخرج حتى شوّه كثيراً من البنى الفكرية والثقافية لتلك الدول المستعمرة ؛ حتى لا تختلف كثيراً بعد خروجه عما كانت عليه قبله ، بل إن بعضها ازداد حاله سوءاً ! .(1/99)
لكن على الرغم من كل ما حصل ظلت أشواق الوحدة تضطرم في النفوس ، وظلت الأبصار مشدودة نحو مستقبل لأمة الإسلام ، يسوده الوئام والتناصر ، ومع كل صدع يصيب كيان هذه الأمة على أي مستوى كانت تتصدع قلوب كثير من المخلصين الغيورين .
فما هي العوائق التي مازالت تحول دون أي شكل واسع ذي قيمة من أشكال الوحدة ، والتنسيق بين دول وشعوب العالم الإسلامي ؟
نحن ننظر ابتداء إلى أن عقيدة التوحيد قادرة على جعل من يؤمن بها أمةً من دون الناس يحكمها منهج واحد ، وتنتهي إلى غايات واحدة ، كما أن تلك العقيدة بما يتبعها من أحكام ونظم تحدد أشكال التعامل بين هذه الأمة وبين غيرها من الأمم ، وهذا كله يجعل تحقيق شكل من أشكال الوحدة بين شعوب العالم الإسلامي أمراً طبيعياً بدهياً ، ولا سيما أن غير المسلمين ينظرون إليهم على أن لهم من التجانس والتميز ما يجعلهم جميعاً في خندق واحد .
والعالم الغربي يسير اليوم بسرعة مدهشة نحو اعتبار كل المسلمين مهما تكن درجة التزامهم أصوليين متطرفين معادين ! .
وإذا كان الأمر كذلك فإن بروز أشكال من التعاون والتوحد بين الشعوب والدول الإسلامية قد يكون مرهوناً إلى حد بعيد بنضوج الصحوة الإسلامية المباركة وانتشارها وتمكنها ، لكن هناك من العوائق والصعوبات ما يجب تذليله أو التخفيف من غلوائه قبل أن نتمكن من تحقيق ما نريد ، ولعلنا نوجز فيما يلي أهم تلك العقبات :
1- إن حالة السكون والركود التي يعيشها كثير من شعوب العالم الإسلامي ستنتج دائماً التفكك والتمزق ، فالانطلاق الراشد يؤمّن ترابطاً عجيباً بين سائر بُنَى الأمة ومؤسساتها ، حيث تتمكن الأمة من حل كثير من المشكلات كما أنها لا تتوهم العناء حينئذ من مشكلات لا وجود لها .
2- هناك علاقة حساسة بين الوحدة والحرية قد تصل إلى حد التضاد في بعض الأحيان ، مع أن كلاً منهما يؤمّن حاجات أساسية للفرد والأمة ، فالوحدة قيود قد تصادر بعض الحريات ، وتستلب شيئاً من المكاسب ، وهذا على كل المستويات ، والناس حين يتحملون أعباء الوحدة وقيودها إنما يفعلون ذلك لما توفره من حاجات ومصالح ، ولما تدفعه من مخاطر التشرذم ، فإذا أحس متحدان (شعبان أو شخصان) أن أعباء الوحدة أكبر من منافعها صاروا جميعاً إلى التخلص منها ، مهما تكن العواطف قوية نحوها ! وهذا هو أكبر سبب أدى ويؤدي إلى الانفصال بين الدول والجماعات على مدار التاريخ ( وهذا هو السبب الذي يؤدي إلى الطلاق بين الزوجين) ، وهذا يعني أن تفكيراً عميقاً ودراسات مستفيضة ينبغي أن تسبق كل شكل من أشكال التوحد ؛ حتى لا يصبح ذلك الهدف الكبير من أهداف الأمة حقلاً للتجارب المخفقة .
3- تتطلب الوحدة الإسلامية بروز قدرة حسنة على (التكيف) عند أفراد الأمة ؛ إذ إن الوحدة تتطلب التنازل عما هو هامشي وصغير ومؤقت في سبيل تحقيق ما هو أساسي وكبير ودائم ، وهذا يتطلب وعياً تاماً بمكاسب الوحدة وتكاليفها بل إن الأمر يتطلب في بعض الأحيان موقف تضحية من قبل بعض الشعوب والجماعات كما يضحي الشهيد بحياته ، ويتنازل عنها في سبيل نصرة دينه ورفعة أمته ، ولن يقدم على هذه التضحية إلا المؤمن الذي تمكن الإيمان من قلبه ؛ فالفهم العميق والإيمان المكين شرطان لابد منهما لحصول ذلك ، والنقص فيهما أو في أحدهما قد يؤدي إلى تصارع فئتين دعواهما واحدة .
4- الفوارق الاقتصادية الكبرى بين كثير من شعوب العالم الإسلامي تجعل تحقيق الوحدة أمراً غير يسير ، ويذكر في هذا السياق أن التبادل التجاري بين الدول الإسلامية لا يتجاوز 4% من مجمل تجارتها ، أما ال 96% فهو مع دول غير إسلامية ، وسبب ذلك أن الغرب ظل على مدار ثلاثة قرون يكيف حاجات الشعوب الإسلامية مع فوائض إنتاجه ؛ حتى لا يجد المسلم شيئاً من حاجاته إلا في الغرب ، أو في بلدان استوردته من الغرب ! .
5- على الصعيد الثقافي ذي الأثر الخطير في العلاقات بين الشعوب نلاحظ أن أكثر مناطق العالم الإسلامي هي مراكز لاجتياح العواصف والأعاصير الثقافية ، فهذا بلد متأثر ببلد مجاور له غير مسلم ، وهذا متأثر بمن استعمره ، وآخر بمن أرسل إليه البعثات ... وهكذا . والوحدة حين تقوم لابد أن ترتكز على عدد من الركائز التربوية والثقافية إلى جانب الركائز العقدية والاقتصادية ، وهذا ما نجده ضامراً إلى حد بعيد في كثير من بلدان العالم الإسلامي .
6- يفتقد العالم الإسلامي اليوم النواة الصلبة القادرة على تبني الأطر الوحدوية وتعزيزها ، والتي تمتلك في الوقت ذاته القدرات والإمكانات التي تجذب دول العالم الإسلامي وشعوبه نحوها ، وإذا علمنا أن الظواهر الكبرى لا يمكن أن تنشأ إلا حول نواة تَنْشدّ إليها وتتحدد من حولها أدركنا الصعوبات التي تواجه الأعمال التوحيدية في العالم الإسلامي .(1/100)
7- شهد أكثر بلدان العالم الإسلامي نشاط تيارات ، وطنية ، وقومية ، وإقليمية نبتت لتملأ الفراغ الذي خلفه انهيار الخلافة العثمانية ، وهذه التيارات أفرزت فلسفات وأدبيات تمجد الكيانات الصغيرة ، وتبحث لها عن أمجاد خاصة بعيداً عن الولاء للوطن الأكبر ، مما يستدعي جهوداً فكرية وأدبية وثقافية كبرى تعيد بناء العلاقة السوية بين عالمنا الإسلامي الكبير ، وبين الأوطان الإقليمية التي نعيش فيها ، والأعراق والأجناس التي ننحدر منها .
هذه بعض المعوقات التي تقف أمام خطوات توحيد العالم الإسلامي لكن لأن الوحدة في عمومها مطلب شرعي ومصيري فإن السعي نحو التقليل من أسباب الشتات والفرقة ، وبلورة بعض الأطر والمؤسسات التوحيدية يظل هدفاً وهاجساً لكل الغيورين على هذه الأمة والمخلصين لهذا الدين .
وبما أن الحديث موجه أصلاً إلى هؤلاء ، فإن بالإمكان أن نذكر بعض الإمكانات المتاحة للأفراد والهيئات الشعبية والرسمية ، مما يعد تمهيداً لجمع شمل الأمة على مستوى ما ، وبكيفية من الكيفيات على الوجه التالي :
1- تحتل اللغة العربية مكانة هامة بين وسائل التوحيد ، ومن ثم فإن المدخل الصحيح لكل أنواع التقريب بين المسلمين هو تعميم العربية بين الشعوب الإسلامية التي لا تنطق بها باعتبارها لغة أولى ؛ إذ إن اللغة ليست وعاء فقط ، لكنها وعاء ومضمون وقوالب للتفكير في آن واحد [*]؛ وينظر المسلمون في بقاع الأرض إلى العربية نظرة إجلال وتقدير لكونها لغة كتابهم ونبيهم -صلى الله عليه وسلم- وتراثهم الروحي والثقافي ، وهذا يساعد كثيراً في الإقبال على تعلمها ونشرها ، ومن واجب الجماعات والمؤسسات والهيئات المختلفة أن تسعى لإدخال العربية إلى مناهج تلك الشعوب باعتبارها لغة ثانية ، كما أن من واجبها العمل على فتح المعاهد والمراكز التي تعلم العربية .
2- من واجب الجماعات والمؤسسات الإسلامية أن تسعى إلى بلورة بعض الأطر الوحدوية كالاتحادات الإسلامية مثل (اتحاد المدرسين المسلمين ، واتحاد التجار المسلمين) .. وهكذا ، وهذا الأمر ليس باليسير إذا أدركنا أهميته ، وفرغنا له الكفاءات والطاقات المطلوبة .
كما أن من المطلوب منا أن نسعى في المنطقة العربية إلى إدخال لغة إسلامية ، كالتركية ، أو الأردية إلى مناهج تعليمنا ، حتى نقيم جسور الأخوة والتفاهم بيننا وبين إخواننا .
3- للدعاة الذين يجوبون العالم الإسلامي دور خطير في اكتشاف كل ما ينمي أوجه التعاون والتكامل بين بلدان العالم الإسلامي ثم الكتابة عن ذلك ونشره ، لتتعزز معرفة المسلمين بالإمكانات التوحيدية المتاحة .
4- العالم الإسلامي بحاجة إلى عدد من مراكز المعلومات والدراسات المرموقة التي تعنى بتثقيف الناس بهموم العالم الإسلامي ، والكشف عن إمكاناته الاقتصادية والتجارية وغيرها ؛ بغية حث الناس على توجيه طاقاتهم وتحركاتهم نحوها .
5- في زماننا هذا قد يكون الاقتصاد في كثير من الأحيان هو ما تبقى من السياسة ، بل إن السياسة تتجه لتتمحض لخدمة الاقتصاد ، وفي هذا الصدد فإن من الحيوي لنمو الصناعات في العالم الإسلامي إقبال المسلمين على استهلاكها ، وسد حاجاتهم بها ، ونحن نقف في كثير من الأحيان من هذه المسألة الموقف المنكوس حيث ننتظر تحسن الصناعة حتى نقبل على استهلاكها ، مع أن من أهم سبل تنميتها وتحسينها ارتفاع مبيعاتها ، ونجد في هذا الشأن أن أبناء الصحوة لم يفعلوا شيئاً ذا قيمة في طريق تشجيع الناس على ش'راء المصنوعات الإسلامية : لا عن طريق الطرح في الإطار النظري ولا عن طريق القدوة الحسنة ! .
6- يتطلب توحيد العالم الإسلامي المرحلية والتدرج على مستوى المؤسسات وعلى مستوى الأقاليم ، والكتل الإقليمية يمكن اعتبارها خطوات إيجابية على الطريق إذا قامت على النهج الإسلامي ، وكانت مفتوحة ، تشجع الانضمام إليها ، وتنمي في الوقت ذاته أدبيات (الكل) الإسلامي المنشود .
وفي الختام فإنني أعتقد أن الطريق شاق وطويل لكنه الطريق الوحيد الذي لا مفر منه ، وطريق الألف ميل يبدأ بخطوة ، وحين يتوفر الإخلاص فإن رحمة الله قريب من المحسنين .
-----------
(*) ومع التسليم بأهمية اللغة العربية إلا أننا نعتقد أن (العقيدة) الحقّة المنبثقة من التوحيد الخالص هي الخطوة الأولى لأي عمل وحدوي ، وأهمية إشاعتها وتصحيحها مطلب مهم يجب البدء به ، وهذا ما أشار إليه الكاتب الكريم في بدايات مقاله ، ولا يُعارِض ما ذكره هنا إذ إن العربية هي الوسيلة المثلى لفهم نصوص الوحي وتعلم عقيدة الإسلام .
==================
#بين المفكر والمختص
يزداد تشعب العلوم يوماً بعد يوم ، ويصبح الفرع فروعاً ، ويتولد من العلم الواحد علوم ، وتتفجر المعرفة نتيجة الأعداد الضخمة من المثقفين الذين يعملون في مجالات البحث العلمي ، ونتيجة الوسائل الكثيرة المتاحة لهم ، وعلى رأسها الحاسب الآلى .
وإلى جانب هذا فإن العلم نفسه صار يفرز مشكلات جديدة ، يوصف كثر منها بأنه مصيري ، ويتقدم العلم ويزداد تشابكه مع العلوم السياسية والأخلاقية ! مما دفعنا إلى تسليط الضوء على هذه القضية .
من هو المفكر ؟(1/101)
يمكن أن نقول بإيجاز : إن المفكر هو من يملك رؤية نقدية ينقل من خلالها تناقضات مجتمعه ومشكلاته إلى حسِّ الناس وأعصابهم ، لتصبح إحدى مفردات همومهم اليومية ، وهو بما يعرف من سنن الله تعالى في الأنفس والآفاق ، وبما يملك من رؤية شاملة فاحصة للواقع والتاريخ يتمتع بـ (حاسة الاستشعار عن بعد) ، فيرى ما لا يراه الناس ، فينذرهم ويوجههم نحو طريق الفلاح . وكثيراً ما تكون حياة المفكر قلقة ، بل قد يدفع حياته ثمناً لما يحمل من فكر ، إذ أن المفكر كثيراً ما يكون سابقاً لمعاصريه ، وهذا يجعل إدراك أبعاد ما يقول غير متيسر لأكثرهم ، كما أن ما يحدثه من استبصار في مشكلات أمته يتعارض مع مصالح فئات في المجتمع ، تقتات من وراء وجود تلك المشكلات ، مما يثيرها عليه ، ويجعله هدفاً لها . وقد يكون المفكر متخصصاً في أحد فروع العلم ، وقد لا يكون . وقليل أولئك الذين يتقنون تخصصاً ما ثم تكون لهم رؤية مجتمعية شاملة .
أما المختص فإنه يكون - في الغالب - متبحراً في علم من العلوم التطبيقية أو الإنسانية ، فهو لا يصدر عنه إلا ليعود إليه ، وكثيرًا ما يكون المختص فاقداً للوعي الاجتماعي ، إذ إن التخصصات في حالة من التوسع المستمر ، كما أن مشكلاتها في تزايد مستمر ، ومهما بذل المرء من جهد بغية إتقان تخصصه وجد أن التراكم المعرفي يبعده عن غايته تلك ، وهذا يقتضي منه المزيد من الانهماك فيه ، والمزيد من البعد عن مشاكل الحياة اليومية ، وبالتالي فهو يبتعد باستمرار عن الرؤية الشاملة .
وحياة المختص - في الغالب - أقرب إلى السلامة والاستقرار ، لأن الفئات التي تنزعج من المفكرين تتخذ من الاختصاصيين وسائل تساندها - ولو بصورة سلبية - في الوصول إلى مصالحها .
ويمكن أن يقال : إن المختص يشبه طبيباً في قافلة كبيرة ، فهو لا يعرف الكثير عن أهداف المسيرة أو محطات التوقف ، إذ إن معالجة الأعداد الكبيرة من المرضى تستغرق كل وقته ، أما المفكر فهو قائد القافلة الذي عنده معرفة تامة بكل المشكلات الكبرى التي تواجه القافلة ، كما أن مخطط السير واضح لديه تماماً ، وهذا في الغالب يجعله لا يتمكن من معرفة التفاصيل الدقيقة لكل شؤون الرحلة ، ولماذا يهتم بذلك وهناك المختصون الذين يعملون على علاجها وتسييرها .
التخصص ومشكلاته :
يجب القول ابتداء أن مجالات التخصص آخذة في التفرغ يوماً بعد يوم ، والباحثون يشعرون بضيق المجالات التي يعملون فيها وميلها إلى شدة التخصص ، وهذه الحال نفسها هي التي أدت إلى التراكم المعرفي الضخم الذي نراه اليوم ، حتى إن بعض المولعين بالإحصاء يقولون : إن المعرفة تتضاعف فيما بين كل عشر سنوات إلى خمس عشرة سنة ، وهذا كله ما كان ممكناً لولا التخصص الدقيق والدقيق جداً ، لأنه وحده الذي يسعف في رفع سقف المعرفة ، وهو وحده الذي أدى إلى وجود كل هذه الإنجازات التي نراها . والذين يحاولون إظهار أنهم على معرفة موسوعية يعرضون - في الغالب - معلومات ناقصة أو مزيفة ؛ لأن زمان المعرفة الموسوعية قد انتهى .
ولكن لابد هنا من القول : إن ما تم من إنجاز علمي ، وبذل في سبيله الغالي والنفيس ، إنما وجد من أجل خدمة الإنسان وتحقيق سعادته ، وعلى المختصين أن يتأكدوا من أن تلك الإنجازات حققت أهدافها ، وظلت في مأمن من أن تستخدم لتدمير إنسانية الإنسان ، بل وجوده كله ! !
ولنضرب لذلك مثالاً واحداً نجلو به ما نرمي إليه .
فقد كان من المعروف قبل الحرب العالمية الثانية أن العلماء الألمان قطعوا شوطاً بعيداً في محاولة استغلال المعرفة النظرية المتعلقة بالتركيب الداخلي للذرة ، وكان من المسلم به أن هذه المحاولات ستسير في المجال العسكري ، وكان هناك خوف من أن تستغل الطاقة الهائلة التي تتولد عن انشطار الذرة في تدمير الإنسان على يد هتلر الزعيم النازي ، ومن ثم فإن مجموعة من العلماء الفارين من جحيم النازية إلى أمريكا طلبوا من الرئيس (روزفلت) رئيس أمريكا آنذاك تخصيص الأموال والوسائل اللازمة لإنتاج القنبلة الذرية قبل أن يتمكن العلماء الألمان من صنعها وجعلها في يد حاكم مثل هتلر يستخدمها في فرض قيم معادية للإنسانية ، وكان في ظنهم أن حيازة أمريكا لها سوف يردع هتلر - فيما لو امتلكها - عن استخدامها . وتم ذلك في مدة قصيرة حين أجريت أول تجربة ذرية في عام 1945 في صحراء نيفادا ، ولم تمض سوى فترة قصيرة حتى ألقيت أول قنبلة على (هيروشيما) في اليابان في الثامن من آب عام 1945 ، وأعقبتها بعد أيام قنبلة أخرى على (نغازاكي) مما عجل بالاستسلام النهائي لليابان .
وقد كان من رأي العلماء الذين اخترعوا القنبلة الذرية أن تجرى تجربة دولية أمام مندوبين من مختلف بلاد العالم لإطلاعهم على مدى القوة التدميرية للقنبلة ، ويطلب من اليابان أن تستسلم على هذا الأساس ، ولكن الحاكم السياسي لأمريكا آنذاك ، وهو الرئيس (ترومان) كان له رأي آخر .(1/102)
وتكفيراً عن الذنب أمضى كثير من أولئك - ومنهم أينشتين - بقية عمرهم في الدعوة إلى السلام . ومن العسير على العلماء اليوم أن يتحكموا في كيفية استخدام علومهم وتطبيقاتها حيث إن الشركات والمؤسسات الكبرى هي التي تنفق على أبحاث العلماء في الغرب ، كما أن الدولة في المعسكر الشرقي ترعى العلماء وتنفق عليهم ، مما يجعل إسقاط حقهم في التحكم فيها أمراً مسلماً به مسبقاً .
ولا تقف مشكلات التخصص المغلق عند هذا الحد ، فقد وجد مثلاً أن بعض الأمم تولي ثقة للمختصين والفنيين ، وربما يحثونهم على القيام بتشكيل حكومة تسمى بالحكومة (التكنوقراطية) ، أي حكومة الاختصاصيين ، وقد خيب هؤلاء الآمال في كثير من الأحيان ، لأنه ثبت أنهم ينظرون إلى المشكلات الكبرى بمنظور أضيق مما هو مطلوب ؛ لأن مهنتهم وتخصصهم الدقيق يغلب عليهم ، ومن ثم فإنهم عاجزون عن تأمل الأمور من منظور شامل . ومن هنا فإن المجتمع كثيراً ما يلجأ إلى السياسيين والشخصيات العامة لإصلاح ما أفسده المختصون .
إن في المجتمع حوارات داخلية غامضة ، لا يقف عليها إلا من خالط الناس في شرائحهم العديدة ، ومن ثم يعجز غالباً المختصون عن قيادتهم وتحسس مشكلاتهم .
وقد عزلت التخصصات المغلقة أصحابها عن طبيعتهم الإنسانية حين تحول العلم على أيديهم إلى مجموعة من الإجراءات التي تقتضي تدريباً وتعليماً مكثفاً ، ومن ثم فإن المختص يتباعد تدريجياً عن رؤية الصورة الكلية للحياة ، كما أن العلم وفق هذا المنهج يفقد وظيفة من أهم وظائفه ، وهي فقه الذات والعودة إليها واستكناه أغوارها ] وفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [ [الذاريات : 21] . ومن ثم فقد برز اتجاه يدعو إلى ضرورة خروج العالم من تخصصه إلى تخصصات أخرى قريبة منه تتكامل معه وتثريه ، كما نشأت دعوات للعلماء التطبيقيين أن يقرءوا في الدراسات الإنسانية ، وأن يعايشوا المشكلات اليومية لمجتمعاتهم - ولو بمقدار - حتى يحدث التوازن في ثقافاتهم وشخصياتهم المجتمعية .
وهذه المشكلات هي مشكلات الباحث في العالم المتقدم مادياً ، أما المختصون عندنا فلهم إلى جانب هذه المشكلات مشكلات أخرى من نوع آخر ، حيث إن الباحثين في ميادين العلوم التطبيقية مازالوا إلى هذه اللحظة عند العلوم ، أما التطبيق فإن الأوضاع في العالم الإسلامي لا تساعد على التطبيق الصحيح ، ولذلك فإن من استطاع من الباحثين الهجرة إلى الغرب هاجر ، ليجد هناك المجال الرحب لتطبيق النظريات التي توصل إليها ، وليضاف إنتاجه بعد ذلك للحضارة الغربية ، ومن لم يستطع الهجرة توقف النمو العلمي لديه ، ثم تراجع ؛ لأن العلم لا ينمو إلا بالتجربة والتطبيق .
أما الباحثون في ميادين العلوم الإنسانية عامة فلهم مشكلة من نوع آخر ، حيث إن عدم تنظيم المعرفة لدينا بالشكل المناسب وانعدام التواصل بين الباحثين جعل كثيراً منا يجاهد في غير عدو ، وذلك لأن البناء المعرفي أشبه شيء ببناء ذي طوابق ، مع فارق واحد هو أن العلماء كلما انتهوا من بناء طابق معرفي انتقلوا إليه وتركوا ما تحته فارغاً ليشكل أساس البناء ومنطلقاته ، وهذا هو التراكم المعرفي .
والمشكلة أن كثيراً من الباحثين لدينا يرفضون الانتقال من الطابق الأول إلى ما فوقه ، إما لعدم إدراكهم لضرورة الانتقال ، وإما لعجزهم عنه ، وإما لعدم معرفتهم أن هناك طوابق أخرى فوقهم . وهذا ما نعنيه عند القول : إن المعرفة عند كثير من
باحثينا تفقد صفة التراكم اليوم .
إن كثيراً ممن يملك أفضل العقول لدينا مشغولون بنشر كتب تراثية أو كتابة بحوث كتب خير منها من أكثر من قرن من الزمان ، وقد يعمل الواحد من سنوات في تحقيق كتاب مخطوط نقله مؤلفه عن كتاب مطبوع بين أيدينا ، فما الحاجة إلى تكرار غير مفيد ! ! إن ما ينبغي العمل فيه في ميادين العلوم الإنسانية هو كل ما يمثل إضافة للذات ، أو يساعد في حل مشكلة واقعة أو متوقعة ، وما عدا ذلك فهو هدر لطاقات الأمة بأمس الحاجة إليها .
ولا يقف الأمر عند هذا ، بل يتجاوزه إلى أن بعض المختصين يفني عمره في حفظ مسائل وقراءة أبواب لا يحتاج إليها الواقع المسلم في شيء ، ولو أنه التفت إلى واقعه ، ثم أعمل النظر فيما يحتاج إليه ذلك الواقع ، من فقه ، وفهم ، وتفجير للنصوص ، وقراءة للتاريخ ، لاستطاع عمل الكثير لهذه الأمة .
ومن هنا يرى بعض المفكرين أنه لا يمكن تنمية فقه الأولويات ، وفقه الموازنات في وضع حضاري شديد التعقيد ، إلا إذا امتلك المختصون رؤية شاملة ، وعرفوا مواضع أقدامهم ، من خلال معرفة الواقع المعاش والواقع التاريخي ، ومن خلال الانفتاح على الأنشطة الحياتية المختلفة
=================
#{ ومَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن سَبِيلٍ }
قصة البشرية هي قصة البحث عن طريق السعادة والأمن والاستقرار ... وقصة البحث عن الفهم والوضوح ، ومحاربة (العماء) و (اللاتكوّن) لكن نتائج ذلك كثيراً ما تكون موضوعاً محزناً للقراءة !(1/103)
وهذه الآية المباركة تفتح أعيننا على السبب الجوهري لذلك ؛ إنه بحث البشرية عن نجاتها بعيداً عن هدي الله - تعالى - وبعيداً عن سبيله الذي وضَّحه لعباده في كتبه ، وعلى لسان رسله وأنبيائه عليهم الصلاة والسلام . ولعلنا نقف مع هذه الآية الكريمة بعض الوقفات التي نستجلي من خلالها بعض ما تشعَّه من معان ومفاهيم ، وبعض ما ترتب على الحيدة عن سبيل الله من مآس ومهلكات ، وذلك من خلال الحروف الصغيرة الآتية :
1- تقرر هذه الآية المباركة أن سبيل الهداية هو السبيل الوحيد الذي على البشرية أن تسلكه ، وفي حالة تنكبه فليس هناك سبل أخرى للنجاة والفوز والنجاح .
ومعنى الآية : أن من يضلله الله فليس له طريق يصل به إلى الحق في الدنيا ، وإلى الجنة في الآخرة ، لأنه قد سدت عليه سبل النجاة . إن الضال يجد سبلاً كثيرة ، لكنها جميعاً توصله إلى غير ما يؤمِّله ، وإلى غير ما يحقق من خلاله ذاتيته ووجوده ، وهذا هو الذي يفهم من قوله - جل وعلا : { وأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ ولا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [الأنعام : 153] .
وفي حديث ابن ماجه عن جابر رضي الله عنه - قال : ( كنا عند النبي - صلى الله عليه وسلم- فخط خطاً ، وخط خطين عن يمينه ، وخط خطين عن يساره ، ثم وضع يده في الخط الأوسط ، فقال : هذا سبيل الله ، ثم تلا هذه الآية : { وأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً ... } ) [2] .
إن هناك دائماً الكثير من إمكانات الحركة ، والكثير من اتجاهات السير ، لكن عدم وجود (الهداية) الربانية يجعل تلك الإمكانات وبالاً على البشرية ، وهذا هو الحاصل الآن .
2- يلمس كل من يعمل فكره في واقع البشرية وجود مفارقة عجيبة بين ما تحرزه في مضمار الاكتشاف والتقنية والتنظيم والسيطرة على البيئة ، وبين ما تحرزه من تقدم على الصعيد النفسي والاجتماعي والأخلاقي والإنساني - عامة - حيث إن التقدم التراكمي المطرد على الصعيد الأول ، لا يكاد يوازيه سوى الحيرة والارتباك ، واتساع الخروق على الصعيد الثاني . وهذا ؛ مع أن الناس يؤملون دائماً أن ينعكس توفر وسائل الراحة والرفاهية على وضعهم الروحي والنفسي والاجتماعي ، لكن ذلك - مع الأسف - أمنية لم تتحقق !
في الغرب تساؤلات كثيرة اليوم عن سبب هذه الظاهرة المزعجة ، وتفسيرات عديدة لها ، فمن قائل : إن العالم لم يوجه من إمكاناته وطاقاته البحثية ما يكفي لسبر غور الأبعاد الإنسانية والاجتماعية المختلفة ؛ وما بذل من جهد في هذه المجالات أقل بكثير مما بذل في المجالات الفلكية والطبية والفيزيائية والكيميائية ... ، ولذلك فالنتائج لم تكن غير متوقعة . ومن قائل : إن المشكلة تعود إلى طبيعة العلوم الاجتماعية ، فهي على درجة من الهلامية تجعلها تتأبى على التشكيل ، ومهما حاولنا تقنين أساليب التعامل معها ، فإن النتائج التي يمكن أن نتوصل إليها ستظل ظنية واحتمالية . ومن قائل : إننا لم نكتشف بعد المنهج الملائم لبحث قضاياها ومشكلاتها .
والأدوات المعرفية المستخدمة الآن في المجالات الاجتماعية أكثرها مستعار من منهجيات البحث والمعالجة في المجالات العلمية ، ولذا ، فإنها ستظل محدودة الفاعلية ... وهكذا ، فالتحليلات كثيرة ، لكن لا يبدو أن هناك سبيلاً للخروج من المأزق !
وعندي أن التقدم في مجالات العلوم الطبيعية ، يعود إلى أسباب عدة . أهمها :
توفر الإطار الذي تتفاعل فيه الخبرات والإنجازات في المجالات المختلفة ، مما يجعل التقدم الأفقي في المجالات العلمية المختلفة يساعد على التقدم الرأسي في كل مجال على حدة . وأمكن التقدم في بلورة هذا الإطار وفي تحديد المبادئ الأساسية للعمل فيه لسببين أساسيين :
يعود الأول منهما إلى أن العلم محدود الطموحات ، ويشتغل بالجزئيات ؛ فكثافة إنجازاته من تواضع طموحاته .
ويعود الثاني إلى كونه على غير صلة مباشرة بمسائل الوحي والروح والاعتقاد ، فكأن الإنجاز فيه في الأصل جزء من سنة الابتلاء في هذه الحياة ، والذي على الناس أن يستخدموا فيه كل مواهبهم وإمكاناتهم للنجاح . أما في مجال العلوم الاجتماعية ، فالأمر مختلف تماماً ، فمهما بذل الناس من جهود ، ومهما اكتشفوا من مناهج ، فإنهم لن يستطيعوا - مثلاً - تحديد الغاية النهائية للوجود ، كما أنهم لن يستطيعوا توفير المقدمات الكافية لتحديد ما يحتاج العقل من مسارات حتى يقوم بأعمال الاستنتاج والتوليد ، كما أنهم سيجدون أنفسهم مشتتين حيال تقويم التجارب الكلية .
العقل البشري - على ما يتمتع به من طاقات هائلة - تظل وظيفته عند بحث القضايا الكبرى أشبه بوظيفة (المدير التنفيذي) الذي يجهز كل أدوات الرحلة ووسائلها ، لكنه لا يحدد أهدافها ووجهتها ؛ فذاك من مهام (القائد) الذي يتجسد هنا في المنهج الرباني المعصوم . وممن انتهى إلى هذه النتيجة (أنشتاين) وهو من أكبر عباقرة القرن العشرين عندما قال : ( إن حضارتنا تملك معدات كاملة ، لكن الأهداف الكبرى غامضة ) .(1/104)
3- حين أعرض الغرب عن (سبيل الله) أخذ يبحث بجدية نادرة عن السبيل البديلة التي يمكن أن توصله إلى كل أمنياته ، وتحقق له كل رغباته ، وقد كان (القرن التاسع عشر) قرن التفاؤل الكبير ؛ إذ حقق العلم انتصارات كبيرة ، واعتقد الناس في الغرب عندئذ أن (العلم) سيكون قادراً على تحقيق كل شيء وحل كل معضلة ، وسيطرت من جراء ذلك النزعة الوضعية أو العلمية المتطرفة التي اعتقد أصحابها أنهم قادرون على حل لغز الكون والإجابة على كل الأسئلة التي يطرحها الإنسان ، والمسألة مسألة وقت ليس أكثر . وانتهى بهم الأمر إلى الاعتقاد بالتضاد بين (العلم) و (الإيمان) فإما أن تكون عالماً غير مؤمن ، أو مؤمناً غير عالم !
في النصف الثاني من القرن العشرين - على نحو أكثر وضوحاً - بدأت النظرة تختلف [3] ، حيث شهد هذا القرن حربين عالميتين إلى جانب أكثر من 130 حرباً صغيرة ، وحيث صارت البيئة الطبيعية في حالة يرثى لها ، وأخذت البنى الاجتماعية المختلفة بالتداعي والانهيار ، وتبين لصفوة من علماء الغرب عظم الخطأ الذي ارتكبه الغربيون حين ردوا على انحرافات الكنيسة بالإلحاد وتأليه (العلم) ، كما تبين لهم أن العلم أعجز من أن يدل على طريق النجاة . يقول (بيير كارلي ) [4] : ( العلم يهدف إلى تمكيننا من معرفة أفضل بالعالم وعلاقتنا به ، كما أن العلم ينير لنا الطريق في صدد ما يمكن فعله ، وبخصوص الوسائل والإمكانات المتاحة ، أو الرهانات والمخاطر . أما (الإيمان) فيقول لنا ما ينبغي فعله لكي نعطي لحياتنا معنى ، إنه يقدم لنا الغاية من الوجود والقيم وأسباب الأمل والعمل ) [5] .
هذه الأفكار صارت من جملة معتقدات بعض صفوة العلماء والمفكرين في الغرب ، لكنها ليست في واقع الأمر سوى خطوات قليلة في طريق طويل ، والتخريب الذي أحدثته (العلمانية) في بنى الحياة الغربية على مدى ثلاثة قرون شديد الانتشار والعمق ؛ والأمل في الإصلاح على المدى المنظور ضئيل للغاية !
4- إن أمة الإسلام ما زالت تنعم - بفضل الله - بالهداية ومعرفة (سبيل الله) وهذا ما يوفر للمسلمين اليوم تميزاً ، لا يشركهم فيه أحد ، كما أنه يخفف الكثير من لأواء الحياة ومشاقها . وأكبر دليل على هذا عدم وجود ظاهرة (الانتحار) في أي مجتمع إسلامي ، على حين أنها تنتشر في أكثر دول العالم تقدماً ورفاهية . لكن لا ينبغي لنا أن نطمئن كثيراً إلى ما نحن فيه ، فهذا الفيض من الأفكار والصور والنظم والنماذج التي يبثها في كل اتجاه أكثر من خمسمائة قمر صناعي تدور حول الأرض أربكت (الوعي) لدى كثير من المسلمين ، وبتنا نرى الكثير من الثقافات المحلية العميقة الجذور آخذةً في التحلل والتفكك والانكماش لصالح رموز الحداثة القادمة من الغرب ، وهذا يفرغ الكثير من الأطر والقوالب الإسلامية من مضامينها ، ويدخل مجتمعاتنا في امتحان ليست مستعدة له !
إن الذي يقرأ التاريخ بشفافية يجد أن التقدم العمراني كثيراً ما يكون مصحوباً بانخفاض في وتائر التدين وسويّات الالتزام ، فالقرن الرابع الهجري - مثلاً - كان قمة في التقدم العلمي والعمراني ، لكن الالتزام بتعاليم الشريعة لم يكن كذلك ، فقد كان في القرون التي سبقته أفضل وأرسخ . وهذا معنى تحذير النبي -صلى الله عليه وسلم- لأمته من الانبهار والافتتان بزخارف الدنيا ، وخوفه من أن تعجز عن إقامة أمر الله - تعالى - في ظروف الرخاء والرفاهية .
إن المنتجات التقنية - بالإضافة إلى هيمنة (نظام التجارة) - أخذت تعيد تشكيل حياتنا على نحو لا يعبأ كثيراً بمقتضيات التدين الحق ، وصار من الواجب علينا أن نتدبر أمرنا ونرفع درجة حساسيتنا للوافدات الجديدة ، والا فقد نستيقظ بعد فوات الأوان . وإن على مثقفي الأمة - على اختلاف تخصصاتهم - أن ينهضوا بمسؤولياتهم والوفاء بالعهد المأخوذ عليهم في هذا الشأن ، فالثقافة ليست وجاهة فحسب ، وإنما ريادة ومسؤولية في آن واحد .
ولله الأمر من قبل ومن بعد ، ، ،
________________________
(1) سورة الشورى : 46 .
(2) أحمد ، ح / 14853 ، وابن ماجه / المقدمة ، ح / 11 .
(3) انظر كتاب العلم والإيمان في الغرب الحديث : 6 ، 7 تأليف : هاشم صالح ، ضمن سلسلة كتاب (الرياض) عام 1998م .
(4) أستاذ فسيولوجيا الأعصاب وعضو أكاديمية العلوم منذ عام 1979 م .
(5) السابق : 63 .
=================
#نسوا الله فأنساهم أنفسهم
يقول الله جل وعلا : { وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ } [الحشر : 19] .
هذه آية جليلة الشأن في كتاب الله تعالى وهي تضع أيدينا على حقيقة كبرى من حقائق هذا الوجود ، وتمنحنا استبصاراً بشأننا العام ، لا يليق بنا أن نتجاوزه دون أن يملأ حياتنا بمعنى جديد !
ولعلنا في الصفحات التالية نقتبس من نور هذه الآية :
1- إن نسيان الله تعالى يكون على مستويين : مستوى ضعف صلة المسلم به ، وتبلد أحاسيسه ومشاعره نحو خالقه جل وعلا ومستوى الإعراض عن هديه واستدبار منهجه .(1/105)
وفي إطار المستوى الأول نجد أن لدينا الكثير الكثير من النصوص التي تحث المسلم على أن يكون كثير الذكر والمراقبة لله تعالى حتى يصل إلى مرحلة الحب له وفرح الوعي به ، والاستئناس بذكره ، وقد قال سبحانه : { يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } [الأحزاب : 41-42] وقال : { وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ } [العنكبوت : 45] .
وفي الحديث الصحيح : (مثل الذي يذكر ربه ولا يذكره كمثل الحي والميت) [1] ولو رجعنا إلى ما حثت عليه النصوص من الذكر ، مما يسمى بعمل اليوم والليلة لوجدنا أن الالتزام بذلك يجعل المسلم لا يكاد ينفك عن تسبيح وتحميد وتهليل واستغفار وتضرع ودعاء ، ما دام مستيقظاً . إن كثرة ذكر لله تعالى تولّد لدى المسلم الحياءَ منه وحبه ، وتنشّطه للسعي في مرضاته ، كما تملأ قلبه بالطمأنينة والأمان والسعادة ؛ لينعم بكل ذلك في أجواء الحياة المادية الصاخبة .
إن الفكر يرسم المسار ، ويرشد إلى الطريق الأصلح للحركة والعمل ، لكنه لا يكون أبداً منبعاً للطاقة والعزيمة والإرادة الصلبة ، وإن الصلة بالله تعالى والتي هي لباب كل عبادة هي التي تمدنا بكل ذلك ، وإن المعاناة التي يشعر بها المسلم اليوم من جراء الانفصال بين قيمه وسلوكه ، لم تتجذر في حياة كثير من المسلمين إلا بسبب ما يشعرون به من العجز عن الارتفاع إلى أفق المنهج الذي يؤمنون به ؛ وذلك العجز لم يترسخ ، ويتأصل إلا بسبب نضوب ينابيع المشاعر الإيمانية في داخلنا !
إن تيار الشهوات والمغريات الذي يجتاج كل ما يجده أمامه اليوم ، لا يقاوم إلا بتيار روحي فياض ، يعب منه المسلمون ما يسمو بهم عن أوحال الملذات والمتع الدنيوية ، ويعوضهم عن نشوتها . ولذا فإن (أدب الوقت) يقتضي من المربين والعلماء الناصحين وأهل الفضل ، التوجيهَ إلى إثراء حياة الشباب والناشئة بالأعمال الروحية وعلى رأسها الذكر حتى لا يقعوا في مصيدة النسيان واللهو والإعراض عن الله تعالى .
إن مما صار شائعاً أن ترى بعض العاملين في حقل الدعوة ، وقد شُغلوا بضروب من أعمال الخير ، لكن الجانب الروحي لديهم صار ذابلاً ، وأقرب إلى الجفاف بسبب إفراغ طاقاتهم في السعي إلى تحقيق أهداف عامة ، كنفع الناس ، أو الدعوة إلى الله تعالى دون أن يستحضروا النية ، ودون أن يطبعوا على ذلك اسم الله تعالى ودون أن يعطروه بشذى من الصلة به ، والإحساس العميق بالامتثال لأمره .
وكانت نتيجة ذلك أن فقدت تلك الأنشطة نكهتها وتأثيرها ، وقصّرت عن بلوغ أهدافها ، بل صار تسرب حظوظ النفس إليها أمراً قريباً ووارداً . إن البنية العميقة للثقافة الإسلامية متمحورة على نحو أساسي حول تعظيم الله ومرضاته ، وإن المسلم إذا فقد قوة الشعور بالارتباط بذلك ، لن يسعى في إعمار الأرض ، وإذا فعل ذلك فإن عمله لن يكون له أدنى تميز ، وسيخبط ، ويرتع كما يفعل غيره !
2- هناك مستوى آخر من نسيان الله جل شأنه يتمثل في تخطيط شؤون الحياة بعيداً عن الاهتداء بكلماته ، والتقيد بالقيود التي فرضها على حركة عباده . وهذا في الحقيقة هو النسيان الأكبر .
وعند تقليب النظر في واقع أمة الإسلام اليوم نجد أن نسبة محدودة من المنسوبين لهذه الأمة تلتزم على نحو كلي بفعل الواجبات ، وترك المحرمات . وبما أن الإحصاء حول أي شيء ليس مرغوباً فيه ، فإننا لا نعرف ، ولا نحزر الاتجاه الذي تسير فيه تلك النسبة المحدودة من الملتزمين : هل هو النمو ، أو هو الانكماش والانحسار ؛ لكن من الواضح أن العديد من القيم والأخلاق الإسلامية العتيدة بدأ يفقد التأثير في ضبط السلوك ، وتكوين المواقف ؛ لأسباب عديدة ، ليس هنا موضع ذكرها . وحين تسمع لكلام كثير من ذوي النفوذ والثقافة في الساحات الإسلامية لا تجد في أحاديثهم وخطابهم العام ما يدل في الشكل أو في الروح على أنهم على شيء من ذكر الله والدار الآخرة ، أو أنهم متأثرون بشيء من منهجيات هذا الدين وأدبياته ، على الرغم من أنهم يُذكرون في عداد المسلمين !
وإن مما يلاحظ في هذا السياق أن تطوراً مريعاً قد اجتاح لغة الخطاب لدينا خلال السنوات العشر الماضية ، فقد كانت لدينا قيم موضوعية ثابتة ، على من يستحق الثناء أن يتخلق بها ، وقد كان الناس يقولون : فلان طيب (ابن حلال) خلوق ، صالح ، مستقيم ، تقي ، متواضع .. أما اليوم فإن ألفاظ المديح تتمحور حول عدد من المزايا الشخصية المرتكزة على مهارات معينة ، وعلى علاقات اجتماعية واسعة ، هي أشبه بما على (مندوبي المبيعات) أن يتقنوه ! وصار يقال :
فلان ناجح ، شاطر ، اجتماعي (دبلوماسي) حَرِك ، مَرِن ، أثبت ذاته ، وحقق وجوده .
وفي اعتقادي أن مثل هذا التطور سوف يجعل المجتمع يموج باللصوص والمرتشين والمحتالين ما دام النجاح ، لا الفلاح ، هو المنظم الخفي للتراتيبية الاجتماعية ! وقد نعد هذا من أسوأ ما شاهدناه من أشكال التطور الأخلاقي والاجتماعي والتربوي ، وسوف تكون له آثار بعيدة المدى في البنية الأساسية للشخصية المسلمة على مدى عقود عديدة قادمة !(1/106)
3- إن الآية الكريمة صريحة في أن نسيان الله تعالى كان سبباً مباشراً في جعل المرء ينسى نفسه ، وكأن الذي يضيّع نفسه في عاجلها وآجلها ، يضيّع الدنيا فتلفه المشكلات من كل صوب ، ويضيع الآخرة بخسران النجاة والفوز بالجنة .
إن نسيان النفس ليس على درجة واحدة ، وإن الضرر الذي سيلحق الناس سيكون بالتالي متفاوتاً ، وعلى مقدار النسيان والتضييع لأمر الله تعالى سيكون التضييع للنفس والدنيا والآخرة .
إن خسران الآخرة للذين ينسون الله ، واضح المعالم ، ويستوي في معرفته العامة لدينا والخاصة ، لكن التضييع لأمر الدنيا هو الذي يحتاج إلى نوع من البيان ، ولعلنا نجلوه في النقطتين التاليتين :
- إن عصر المعلومات الذي يظلنا الآن سيكون والله أعلم أقصر العصور الحضارية ، وسوف يعقبه عصر آخر ، هو عصر (الفلسفة) وبحث المسائل الكلية ، وستطرح الأسئلة الكبرى : من أين جئنا ، ولماذا نحن هنا ، وإلى أين المصير ، ما حدود الطبيعة البشرية ، وما ماهية الخير والشر .. ؟ وإنما نقول ذلك ؛ لأن قراءة التعاقبات التاريخية ، تنبئنا أنه حين تصل حالة مّا إلى حدود متقدمة ، تبزغ من الطبيعة البشرية حالة مضادة لها ؛ فحين تشتد العقلانية أو التقنيّة في أمة ، فإن أشواقاً تنبعث لكسرها ، فينبثق من العقلانيّ العاطفيّ ، ومن التقنيّ الفلسفيّ والفكريّ ، إنه أحد مظاهر سُنّة التوازن التي بثها الخالق جل وعلا في هذا الكون !
ولذا فإن الهمجيّين وسوقة السوقة وحدهم ، هم الذين لا يتشوّفون إلى معرفة مصيرهم النهائي ، وإلى معرفة الغايات الكبرى للوجود !
حين تصير البشرية إلى هذه المرحلة ، سيكتشف الذين نسوا الله ، أنهم لا يملكون أي جواب جازم ، أو مُقْنع على الأسئلة الكبرى المثارة بإلحاح ، بل سيجد الغرب على نحو خاص أنه قد أحرق كل سفن العودة إلى (الوحي) الذي يُعد المصدر الوحيد الذي يجيب على تلك الأسئلة .
وقد كان (أينشتاين) يقول : (إن حضارتنا تملك معدات كاملة ، ولكنها تفقد الإحساس بالأهداف الكبرى) ! .
إن كل إصلاح لشؤون البيئة والاقتصاد ، وإن أي نوع من المحافظة على منجزات البشرية ، سيقتضي من اليوم فصاعداً تقدماً ملحوظاً على صعيد (الإنسان) وما لم يحدث هذا التقدم ، فإن كل شيء سيكون في مهب الريح ! !
والملاحظ بقوة أن الحضارة الحديثة بصبغتها المادية ، قد نقلت مجال السيطرة من الإنسان إلى الأشياء ، حيث أضعفت إرادة البشر ، وأحاطتها بكل ما يخل بتوازنها ، وهذا يعني أن الحضارة الغربية ببنيتها الحاضرة ليست مؤهلة للنهوض بالإنسان .
إذا كنا نعتقد أن الطبيعة البشرية واحدة ، فهذا يعني أن غايات وجودها يجب أن تكون واحدة ، وهذا هو منطوق الوحي ، وهذا ما لا يبصره الإنسان العلماني اليوم ! !
لن تكون الأسئلة المثارة أصيلة إلا إذا كان لها أجوبة موجودة عند جهة مّا وهذه الجهة لن تكون أبداً الإنسان ، فمن تكون إذن ؟ ؟
إن العقل البشري خلقه الله تعالى ليكون في الأصل عقلاً عملياً ، وهو في عمله يشبه (الحاسوب) ، وهو كالحاسوب لا يستطيع إدخال تحسينات جوهرية على المدخلات التي يُغذى بها ، وسيكون الأمر مضحكاً إذا عمدنا إلى تشغيل العقل البشري وتحسين طروحاته وعمله بشيء من منتجاته التي تولى تنظيمها الفلاسفة ، وهم الذين لم يفلحوا في الاتفاق على أي شيء ! ! . إن كل شيء اليوم يتقدم إلا الإنسان فإنه في تدهور مستمر ، وإن مما يثير الفَزَع أنه على مدار التاريخ كان التقدم المادي والعمراني مشفوعاً بانخفاض في وتائر التدين والسمات الإنسانية الأصيلة ، مما يدل على أن الإنسان لا يستطيع أن يوازن بين مطالبه الروحية والجسدية ، دون عون من خالقه .
ولكن المؤسف مرة أخرى أننا لا نريد أن نعترف بذلك ؛ لأن ذلك يقتضي منا تغييراً هائلاً ، نحن غير مستعدين الآن لدفع تكاليفه !
إن نسيان الله تعالى قد أفسد النسيج الإنساني كله ، وحين يفسد النسيج العام ، فلن يكون ثمة فائدة تذكر من وراء التعليم والتدريب والتربية ، وكيف يمكن إصلاح خبز أو كعك أو فطير فسد طحينه ؟ !
إن ضعف الإنسان على مدار التاريخ كان من عوامل استمرار بقائه ، أما اليوم فقد اجتمع له القوة الغاشمة مع الطيش الشديد ، وهذا ما سيسبب الكوارث ما لم يحدث انعطاف كبير في اتجاه الرشد والهداية والتدين المبصر الأصيل .
ب - إن المهمة الأساسية للرسل عليهم السلام أن يبصّروا الناس بما يجب عليهم تجاه خالقهم ، وأن يذكّروهم الدار الآخرة ومطالب الفوز فيها : { رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو العَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ } [غافر : 15] .(1/107)
ومهمة المصلحين إذا ما أرادوا الاستجابة لدعوتهم أن يُنضحوا من التعاليم الإسلامية ما يمزجونه بالخيال الخصب والخبرة البشرية والملاحظات الذكية ، من أجل توفير الظروف التي تجعل الناس أقرب إلى الالتزام . وإن هذه الدنيا دار ابتلاء ، ولذا فإن علينا دائماً أن نختار ما يصلح أحوالنا ، وإن لكل عصر اختياراته واجتهاداته . والمشكلة أن الفضائل والقيم والنظم لا تتفق بعضها مع بعض اتفاقاً كلياً ، بل إن إقامة كثير منها قد يتطلب التضحية ببعضها الآخر : إذا اخترنا الحرية الفردية ، فقد يقتضي ذلك التضحية بشكل تنظيمي نحن في أمس الحاجة إليه ، وإذا اخترنا العدالة ، فقد نُرغَم على التضحية بالرحمة ، وإذا اخترنا المساواة ، فقد نضحي بقدر معين من الحرية الفردية ..
ومن وجه آخر هل يصح أن نعذب أطفالاً كي ننتزع منهم معلومات عن خونة أو مجرمين خطرين ؟ وهل للمرء أن يقاوم حاكماً ظالماً ، ولو أدى ذلك إلى مقتل والديه أو أطفاله ؟ ؟
كل هذا لا يستطيع العقل أن يعطي أجوبة واضحة وقاطعة عنه . وننتهي من هذا إلى أن كل مجتمع يحتاج إلى مقدار مّا من تلك الفضائل والنظم ، كي يجعل حياته متوازنة ومتسقة ، فكيف يتم تحديد ذلك المقدار ؟
إن المنهج الرباني لا يحدد لنا على نحو دقيق القدر المطلوب من التماثل الاجتماعي ، ولا القدر المطلوب من الحرية الفردية ، أو العدل أو الرحمة .. لكنه يضيق دوائر الاختيار ، ومساحات البحث والاجتهاد ؛ والفارق بين المهتدي بنور الله والمحروم منه كالفارق بين من يبحث عن إبرة في صحراء ، ومن يبحث عنها في غرفة . على الجميع أن يبحث ، ولكن حظوظ العثور على المطلوب متفاوتة تفاوتاً عظيماً ، كما أن إمكانات الوقوع في الخطأ ، هي الأخرى متفاوتة كذلك .
إن العقل بطبيعة تركيبه لا يستطيع أن يعمل في أي مجال : فلسفي أو تنظيمي أو تقني إلا إذا أُسعف بإطار توجيهي يهيئ له مقدمات ، وبعض المدخلات الضرورية ، وإن المنهج الرباني عقيدةً وشريعةً هو الذي يوفر ذلك الإطار .
في مجال التربية الاجتماعية مثلاً نجد أن الشريعة الغراء حددت لنا محاور أساسية ، يجب أن ترتكز عليها أنشطتنا التربوية ، وهي ما سماه أهل الأصل بالكليات أو الضرورات الخمس ، وهي حفظ الدين والنفس والعقل والعرض والمال ، وقد تكفّل الفقه الإسلامي بتوفير الأحكام والأدبيات التي ترسم حدود الحركة التربوية في ظل هذه المحاور الخمسة ، كما وضحت المرتبية التي يجب اتباعها عند ضرورة التضحية ببعضها لحفظ الآخر ، على ما هو واضح في كتب الأصول والفقه ؛ فالشأن التربوي لدينا على علاته أفضل مما هو موجود لدى دول كثيرة متقدمة عمرانياً ؛ وذلك بسبب وجود هذا الإطار التوجيهي ، وهذا كله مع أن أكثر الشعوب الإسلامية تعاني من أوضاع معيشية قاسية ، والجرائم بأنواعها لدينا أقل ، والتماسك الأسري والاجتماعي أفضل .
إن محنة العقل الذي نسي الله لم يحن أوانها بعدُ ، ولكن إذا وصل النمو الاقتصادي إلى حدوده القصوى ، وانتشرت البطالة ، وعم ضنك العيش ، فسوف يرى كل المعرضين عن دين الله أن الليبرالية والرأسمالية ليست أفضل ما أنتجه العقل البشري ، وأن الخلاص يتطلب مراجعة جذرية ، من أجل العودة إلى سبيل الرشاد .
الإنجازات الحضارية وسعادة الأفراد ، ووحدة الكيان الحضاري ، كل ذلك سيكون على حافة الهاوية إذا لم يضئ كل منعطفات الطريق شعاع من الغاية الكبرى ، وإذا لم تتلفع جميعاً بهدي من هدي الله ؛ والله غالب على أمره .
------------
(1) أخرجه البخاري .
=================
#{فاستقم كما أمرت}
يقول الله (عز وجل) : { فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلا تَرْكَنُوا إلَى الَذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ } [*] .
قضية الاستمرار في الامتثال لأمر الله (تعالى) في المنشط والمكره من القضايا الجوهرية في التصور الإسلامي ، ومن القضايا الجوهرية كذلك في بنية التشريع وأدبياته ، وليس أدل على ذلك من وصية الله (تعالى) لنبيه -صلى الله عليه وسلم- في هذه الآية وفي غيرها بـ (الاستقامة) ، التي هي : (المداومة على فعل ما ينبغي فعله وترك ما ينبغي تركه) .
وقد قام (عليه الصلاة والسلام) بإسداء النصح بلزومها لمن سأله عن قول فصل يصلح به جماع أمره ، حيث جاء في الصحيح : أن سفيان بن عبد الله (رضي الله عنه) قال : قلت : (يا رسول الله ، قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك ، قال : قل : آمنت بالله ، ثم استقم) [1] .
ولنا مع هذه الآيات المباركة الوقفات التالية :(1/108)
1- إن في قوله (جل وعلا) { وَلا تَطْغَوْا } ، وقوله : { وَلا تَرْكَنُوا إلَى الَذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ } إشارة واضحة إلى ما يعترض سبيل الاستقامة من ملابسات السرّاء والضرّاء ، وقد أخبرنا ربنا (جل وعلا) أن من طبيعة البسط والتمكن استدعاءَ البغي والطغيان ، حيث قال (سبحانه) : { وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ } [الشورى : 27] .
والبغي هو مجاوزة الحد ، وهو يتجسد في صور متعددة : فبغي القوة :
البطش بالضعفاء ، وبغي الجاه والنفوذ : الظلم وأكل الحقوق ، وبغي العلم : اعتماد العالم على ما لديه من شهرة ومكانة ؛ مما يدفعه إلى القول بغير دليل ، ورد أقوال المخالفين من غير حجة ولا برهان ، وطغيان المال : التبذير والإسراف والتوسع الزائد في المتع والمرفهات .
والعارض الثاني للاستقامة على خلاف الأول ، حيث تدفع الطموحات والتطلعات المصلحية والضعف والظروف الصعبة إلى مصانعة الظالمين ومداهنتهم وإشعارهم بالرضا عما هم فيه ، والاستفادة من قوتهم وما لديهم من متاع في تحسين الأحوال وتحقيق المكاسب ... مع أن طبيعة الاستقامة والالتزام في هذه الحال تقتضي المناصحة ، والهجر ، والضغط الأدبي ، والتحذير من التمادي في ذلك ، وهذا كله منافٍ للركون ؛ لكن الشيطان يبرهن دائماً على أنه يملك خبرات مميزة في تزيين الباطل والتلبيس على الخلق ، فهو ينسيهم أحكاماً ومواعظ وأدبيات ومواقف وتجارب ، ويدفع بهم بعيداً عن كل ذلك !
2- إن الاستقامة في التحليل النهائي ليست سوى تمحور المسلم حول مبادئه ومعتقداته ، مهما كلف ذلك من عنت ومشقة ، ومهما ضيع من فرص ومكاسب .
وينبغي أن يكون واضحاً : أن المرء إذا أراد أن يعيش وفق مبادئه ، ورغب إلى جانب ذلك أن يحقق مصالحه إلى الحد الأقصى ، فإنه بذلك يحاول الجمع بين نقيضين ، وسيجد أنه لا بد في بعض المواطن من التضحية بأحدهما حتى يستقيم أمر الآخر .
إن تحقيق المصلحة على حساب المبدأ يُعدّ انتصاراً لشهوة أو مصلحة آنيّة ، أما الانتصار للمبدأ على حساب المصلحة فإنه بمثابة (التربع) على قمة من الشعور بالسعادة والرضا والنصر والحكمة والانسجام والثقة بالنفس ، وقد أثبتت المبادئ أنها قادرة على أن تكرر الانتصار المرة تلو المرة ، كما أثبت الجري خلف الشهوات دون قيد ولا رادع أنه يحقق نوعاً من المتع والمكاسب الآنيّة ، لكنه لا يفتأ أن يرتد على صاحبه بالتدمير الذاتي ، حيث ينمو الظاهر على حساب فساد الباطن ، ويتألّف الشكل على حساب ضمور المضمون !
إن المبدأ أشبه شيء بـ (النظارة) إذا وضعناها على أعيننا ، فإن كل شيء يتلّون بلونها ، فصاحب المبدأ له طريقته الخاصة في الرؤية والإدراك والتقويم ، إنه حين يرى الناس يتسابقون على الاستحواذ على منصب يستغرب من ذلك ، ويترفّع ؛ لأن مبدأه يقول له شيئاً آخر غير ما تقوله الغرائز للآخرين ، وإذا رأى الناس يخبطون في المال الحرام تقززت نفسه ؛ لأنه يعلم ضخامة العقوبة التي تنتظر أولئك ، وإذا أصيب بمصيبة فإنه يتجلد ويصبر ؛ لأنه يرجو المثوبة عليها من الله (تعالى) .
إذا قلّبنا النظر في اهتمامات الناس ومناشطهم اليومية فإن من السهل الوقوف على المحور الذي يعلقون عليه توازنهم العام ، ويدورون بالتالي في فلكه ، وهناك تشاهد من همّه الأكبر النجاح في عمله والمحافظة على سمعته فيه ، كما تشاهد من يتمحور حول المتعة ، فهو يبحث عنها في كل نادٍ وواد ، ومن يتمحور حول المال ، فهو يجوب العالم بحثاً عنه ، ومن يبحث عن السيطرة والنفوذ ، فهو مستعد لأن يفعل أي شيء في سبيل التمكن والتحكم .. وتجد ثلة قليلة بين هذا الطوفان من البشر استهدفت أن تحيا لله ، وأن تبحث عن رضوانه ، ومن ثم : فإنه يمكن تفسير كل أنشطتها ومقاصدها في ضوء هذا المحور ، وهذه الثلة هي التي أُمِر النبيّ - صلى الله عليه وسلم- أن يفصح عن محورها باعتباره رائدها وهاديها : { قُلْ إنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمِينَ } [الأنعام : 162 ، 163] .
إن الذين يعلنون الولاء للمبادئ كثيرون ، بل هم أكثر أهل الأرض ، ولكن لا برهان على ذلك لدى أكثرهم ، ويمكن أن يقال : إن لأكثر الناس دينين : ديناً معلَناً وديناً حقيقيّاً ، ودينُ المرء الحقيقي هو الذي يكرِّس حياته من أجله .
إن من طبيعة المبدأ أنه يمد من يتمحور حوله بقوى وإمكانات خارقة وخارجة عن رصيده الفعلي ، ولذا : فإن التضحيات الجليلة لا تصدر إلا عن أصحاب المبادئ والالتزام ، وهم أنفع الناس للناس ؛ لأنهم يثرون الحياة دون أن يسحبوا من رصيدها الحيوي ، إذ إنهم ينتظرون المكافأة في الآخرة .
التمحور حول المبدأ هو الذي يمنح الحياة معنى ، ويجعلها تختلف عن حياة السوائم الذليلة التي تحيا من أجل التكاثر ومجرد البقاء ! !
المبدأ هو الذي يُضفي على تصرفاتنا الانسجام والمنطقية ، ويجعلها واضحة مفهومة .(1/109)
نحن لا ننكر أن الظروف الصعبة تُوهِن من سيطرة المبدأ على السلوك ، لكن تلك الظروف هي التي تمنحنا العلامة الفارقة بين أناس تشبّعوا بمبادئهم ؛ حتى اختلطت بدمائهم ولحومهم ، وأناس لا تمثل المبادئ بالنسبة لهم أكثر من تكميل شكلي لبشريتهم [2] .
3- لا يماري أحد في أن الإنسان اكتشف في العصر الحديث من الآيات والسنن ما لم يكتشف عشر معشاره في تاريخ البشرية الطويل ، لكن مع هذا فعنصر المخاطرة والإمكانات المفتوحة ما زال قائماً ؛ حيث تتحكم في الظاهرة الواحدة عشرات الألوف من العلاقات التي يصعب معها التنبؤ بنتائج الاجتهادات والأنشطة المختلفة ، ولا سيما في القضايا الكبرى ، كمصائر الأمم والحضارات ، وقضايا التقدم والتخلف ، وما تنطوي عليه من تفاعلات وتغيرات ، وإن الله (جل وعلا) قد ضمن لنا نتائج الاستقامة في الدنيا والآخرة ، فهي بوجه من الوجوه وعلى نحو من الأنحاء لا تكون إلا خيراً ، وإلا في صالح الإنسان ، وقد قال الله (جل وعلا) : { إنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } [الأعراف : 128] ،
وقوله : { لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى } [طه : 132] ، وقوله : { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } [الأعراف : 96] .
أما من يسلك دروب المعاصي والفجور ، ويتبع مغريات الأهواء والشهوات فإنه يظل يتوجس خيفة من سوء العاقبة ، لكنه لا يعرف شكل العقوبة ، ولا طريقة نزولها ولا توقيتها ؛ ليكون الشك والغموض والخوف عاجل جزائه ، ومقدمةً للبلاء الذي ينتظره ، ثم تكون الخيبة الكبرى والخسارة العظمى ! !
إن هناك فترة سماحات تطول أو تقصر بين الانحراف وعواقبه وهذا هو الذي جعل الابتلاء تامّاً ، كما أنه هو الذي جرّأ أهل المعاصي على التماري في غيهم ، لكن العاقل الحصيف ينظر دائماً إلى الأمام ويتحسس ما هو آتٍ ، ويضغط على واقعة من أجل السلامة في مستقبله .
4- علينا أن نجمع بين النصوص التي تدل على ضرورة الاستقامة والالتزام بالمنهج الرباني ، والنصوص التي تفيد رفع الحرج والعنت عن هذه الأمة ، من مثل قوله (جل وعلا) : { هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } [الحج : 78] ، وقوله : { لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إلاَّ وسْعَهَا } [البقرة : 286] ، وقوله : { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ } [البقرة : 185] ، وإذا فعلنا ذلك ، فإننا سنفهم من مجموعها أمرين :
الأول : هو ضرورة تزويد المسلمين بثقافة شرعية تتضح فيها حدود الواجبات والمباحات والمحظورات ، بما يشكل خارطة فكرية واضحة لما ينبغي أن يكون عليه سلوك المسلم وعلاقاته .
الثاني : توفير الظروف والشروط الموضوعية التي تجعل التزام المسلم بدينه ميسوراً ، وبعيداً عن الحرج والمشقة التي لا تُحتمل ؛ إذ إنه لا يكفي أن تكون التعاليم الإسلامية ضمن الطوق ، بل لا بد إلى جانب ذلك من أن تكون الظروف المعيشية العامة التي يحيا فيها المسلم مناسبة ومشجِعة على الالتزام .
إنه كلما تعقدت الظروف المطلوبة للعيش الكريم قلّ عدد أولئك الذين يتصرفون ضمن مبادئهم ويلتزمون حدود الشرع ، فحين يكون المرتّب الشهري للموظف لا يكفي لسداد أجرة البيت الذي يسكنه فإن شريحة كبيرة من الموظفين سوف تلجأ إلى طرق غير مشروعة في تأمين احتياجاتها اليومية ، وآنذاك سيشعرون أن الالتزام التام لا يخلو من العنت ، وحينئذ سيكون عدد الملتزمين بالطرق الشرعية في الكسب محدوداً .
إن الحضارة الحديثة أضعفت الإرادة بما أوجدته من صنوف اللهو والمتع ، وجعلت الشروط المطلوبة للحد الأدنى من العيش الكريم فوق طاقة كثير من الناس ، كما أنها أوجدت من الطموحات إلى الكماليات وأشكال المرفِهات ما يتجاوز بكثير الإمكانات المتاحة ، وهذا كله جعل الاستقامة على الشرع الحنيف بحاجة إلى نمط من الرجال أرقى ، كما جعل من الواجب على الأمة أن تفكر مليّاً في توفير ظروف تساعد على الاستقامة ، وتحفز عليها .
إن المنهجية الإسلامية تقوم دائماً على ما يمكن أن نسميه بـ (الحلول المركبة) ؛ إذ إن هناك من النصوص والأحكام ما يرفع الوتيرة الروحية للمسلم ، كما إن هناك ما يزيد في بصيرته ، وهناك ما يدعوه إلى الصبر والجلد ، وهناك ما يحفزه على تحسين ظروف عيشه وأدائه ، ولا بد أن نمح الفاعلية لكل ذلك حتى يمكن تجسيد المنهج الرباني في حياة الناس .
إن الفكر مهما كان قويّاً ، وإن الوعي النقدي مهما كان عظيماً ، فإن سلوك الناس لن يتغير كثيراً ما لم تنشأ ظروف وأوضاع جديدة تحملهم حملاً على التحول إلى سلوك الطريق الأقوم والأرشد .(1/110)
ويؤسفني القول : إننا لم نستطع إلى الآن أن نبلور نظرية إصلاحية إسلامية معاصرة ومتعمقة في تلمس شروط الاستجابة والظروف الصحيحة والمثلى لها ، إلى جانب تلمس مجمل الحساسيات والترابطات والتداعيات التي تشكل المناخ المطلوب لقيام حياة إسلامية راشدة ! .
إن جل اهتمامنا ينصب على بيان ما يجب عمله ، أما البرامج والكيفيات والإجراءات والأطر والسياسات التي يجب اتباعها وتأسيسها من أجل تحويل المبدأ إلى واقع معيش .. فإنها لا تلقى ما تستحقه من اهتمام ومتابعة ، والخبرات لدينا في ذلك ما زالت ضئيلة ، بل إن هناك مَن يستوحش من الخوض في غمار مثل هذا النوع من البحث ، ويعد التعمق في ذلك ضرباً من (الاستغراب) أو الجنوح نحو المادية ! ، ومن الدعاة من يدعي أنه عارف بكل ذلك ، لكن لو نظرت في إنتاجه المعرفي لم تقف له في هذه السبيل على كتاب أو رسالة ، بل على خاطرة أو فكرة .
(وما أطيب العرسَ لولا النفقة) ! !
ولله الأمر من قبل ومن بعد .
--------------
(*) الآيتين : 112 ، 113 من سورة هود .
(1) أخرجه مسلم .
(2) انظر في ميزان التمحور حول المبدأ : العادات السبع للقادة الإداريين ، ص 120 .
=================
#{ ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون }
في هذه الآية الكريمة إخبار عن قاعدة من قواعد الخلق ، وناموس من نواميس الوجود ؛ وهي في الوقت نفسه : دليل على أن القرآن من عند اللطيف الخبير الذي أحاط بكل شيء علماً .
إن المعرفة والتقدم العلمي الذي كان متوفراً في زمان النبي -صلى الله عليه وسلم- لايمكِّن على أي نحو من الكشف عن قاعدة (الزوجية) في الوجود ، بل إن ما كان في حوزة الناس آنذاك من استقراء واطلاع لم يكن كافياً للكشف عن ظاهرة (الزوجية) في (الأحياء) فضلاً عن ميادين الوجود المختلفة ، وإن الكشوفات الكونية المتسارعة ؛ تميط اللثام في كل يوم عن أشكال من التزاوج والاقتران والارتباط في ميادين الحياة كافة ، وعلى مستويات مختلفة ، ابتداءً بالذرة ، وانتهاءً بالمجرة ؛ مما يُضيف شواهد جديدة على صدق محمد -صلى الله عليه وسلم- .
ولنا مع هذه الآيات وقفات عدة ، نوضحها في الحروف الصغيرة الآتية :
1- إن فَطْر الله (جل وعلا) للكون على المزاوجة دليل إضافي على المغايرة بين المخلوق والخالق المتفرد في ذاته وصفاته وأفعاله ؛ حيث إن ما يترسخ في الخبرة البشرية على الدوام من أن الخلق واحد ، ويخضع لقوانين واحدة ، وتحكم حركتَه ونموه وانهياره قواعدُ واحدة .. إن كل ذلك يدل على توحد الخالق (جل ثناؤه) الذي أوجد كل ذلك التنظيم الدقيق المعجز .
وفي ختم الآية بقوله ] لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [ إشارة واضحة إلى هذا المعنى ، حيث يدرك الناس تفرد الخالق وأَحَديته من خلال ما يشاهدون من ظواهر تزاوج الأشياء وتركيبها ، وارتباطاتها ، وتوازناتها على نحو يستحيل معه العبث ، والارتجال والمصادفة .
وكأن في الآية بعد هذا وذاك إيحاءً إلى أهمية استثمار المعرفة بسنن الله في الخلق في غرس الإيمان وتقويته ، والارتقاء في إدراك واجبات العبودية وآدابها .
2- إن ظاهرة الزوجية ليست دليلاً على وحدانية الخالق (جل وعلا) فحسب ، وإنما هي دليل على نقص المخلوقات وافتقارها لغيرها ، حيث لا تتحدد معاني الأشياء وقيمها الحقيقية من خلال ذواتها ، وإنما من خلال كونها أجزاءً في تركيبات أعم ، وفي هذا الصدد فإنه يمكن القول : إنه عند تدقيق النظر لا يخلو شيء عن تركيب ! .
لولا معرفة الناس بالقبح لما كان للجمال أي معنى أو قيمة إضافية ؛ ولذا قالوا : إن للشوهاء فضلاً على الحسناء ؛ إذ لولاها لما عُرف فضل الحسناء .
ما فضل التنظيم لولا الفوضى ، والذكاء لولا الغباء ، والغنى لولا الفقر ، والفضيلة لولا الرذيلة ، والنهار لولا الليل ، والحلو لولا المر ... أشياء لا حصر لها ، ولا تستمد قوامها من ذاتها ، وإنما من خلال غيرها ! !
وهكذا : فالخلق ، وما يَتَغَنّوْنَ به من خصائص فقراء فقراً مزدوجاً ، فقراً إلى الخالق الموجد ، وفقراً إلى مخلوق آخر ، يجعل له معنى !
ومن وجه آخر : فإن طبيعة العلاقة الزوجية تميل إلى المرونة ، وذات أوساط متدرجة ؛ فالغنى درجات ، وكذلك الفقر ، وقل نحو ذلك في الذكاء والغباء ، والجمال والقبح ، والاستقامة والانحراف ... حيث تلامس أدنى درجات الأول أعلى درجات الثاني ؛ مما يشكِّل مناطق برزخية متأرجحة ، هذه الوظيفة للعلاقات الزوجية تكسر من حدة تفرد كل طرف ، وتجعل الخصائص الفائقة نسبية ، فتتطامن ، وجوانب النقص اعتبارية ، فتشمخ ، وكأنها بذلك تتهيأ للتعاون والاندماج عوضاً عن التنافس والصدام .(1/111)
وكأن ذلك يوحي إلينا بإيجاد الأرضيات المشتركة ، والعدول عن النفخ في الخصوصيات الاجتهادية الذي يحولها إلى حواجز منيعة وقواطع حقيقية بين أبناء التيار الواحد ، والأمة الواحدة ! ، وهكذا : فإذا كنا عاجزين عن أن نستشف من النصوص ما يساعدنا على صياغة علاقات ومواقف جيدة ومنتجة .. فإن علينا أن نتعلم من إيحاءات السنن الكونية ما نُصلح به حياتنا الاجتماعية ، وعلاقاتنا الأخوية ؛ حيث إننا في نهاية الأمر جزء من الظاهرة الكونية الكبرى .
3- الإخصاب أوضح نتائج التزاوج بين الأشياء ، وهو أوضح ما يكون في التقاء الأزواج من الإنسان والحيوان ؛ فمن خلال لقاء الزوجين يتم حفظ النوع وإعتاؤه بنسل على درجة كبيرة من التنوع والتعدد .
ولا يقلّ الإخصاب في الأشياء المعنوية والمادية عنه في الكائنات الحية ؛ فمن عناصر الأرض التي لا تزيد عن المئة إلا قليلاً يوجد بين أيدي الناس اليوم ما يزيد على مليونين من المصنوعات ! ، وعلى الرغم من صرامة القوانين والخصائص الكيميائية يوجد في الأسواق ما يزيد على ثمانين ألف نوع من المركبات الكيميائية ، كما أنه يطرح منها في الأسواق كلّ عام أكثر من ألفي نوع جديد ! .
هذه الخصوبة الهائلة هي نتيجة مباشرة لألوان التزاوج التي تتم بين العناصر المختلفة .
ومما لا ينبغي أن يعزب عن البال أن اللقاء السعيد بين العناصر المختلفة يجب أن يتسم بالمزيد من العناية والدقة والتجربة ، إذا ما أردنا إنجاباً وخصوبة على مستوى عالٍ من الجودة ؛ ولهذا السبب أخذ التقدم في علوم الكيمياء يعتمد على الرياضيات أكثر فأكثر ، وقد كان من قبل يعتمد على التجربة ، حيث تمنح الرياضيات مستويات من الدقة ، لا توفرها التجربة .
وقد أصبح من مقاييس التقدم العلمي الشائعة : قدرة دولة من الدول على إنتاج (المواد الجديدة) ذات المواصفات الفائقة ، والمواد الجديدة لا تتخلق إلا من خلال التزاوج بين عناصر لم يسبق لقاؤها على النحو الجديد ، وبالنسب الجديدة .
اللقاء بين الأفكار والثقافات لا يقل خصوبة عن اللقاء بين العناصر الطبيعية ، وهو الآخر يحتاج حاجة ماسّة إلى وعي وفطنة وحذق ، حتى يكون منجباً ، والقاعدة في هذا : أنه إذا التقت فكرتان ضمن شروط إيجابية ، فإنه ينتج عن ذلك اللقاء فكرة ثالثة ، هي أرقى منهما جميعاً ؛ حيث تؤدي المزاوجة بينهما إلى نضج وتبلور كل منهما ، وحيث يتخلص كل منهما من أجزائه المعطوبة من خلال المقارنة ونمو الوعي النقدي ، لكن ذلك لا يتم إلا إذا اتّسم حاملو الفكرتين بالكثير من الموضوعية والشفافية والهدوء والمرونة الذهنية والرؤية المركبة ، ونحن نلاحظ في هذا السياق أن أكثر من يذهب من إخواننا للدراسة في الغرب ينقسمون إلى فريقين :
فريق يُفتَتَن بما يراه هناك من تنظيم وتقدم صناعي ورعاية لحقوق الإنسان ، فيشغله ذلك عن إدراك بذور الانهيار في تلك المجتمعات ، وجوانب التخلف فيها ، ويؤدي ذلك به إلى الزهادة فيما لديه ، والاستحياء من طرحه على مسامع القوم .
أما الفريق الثاني : فإنه بِداعٍ من الكبر أو الخوف ينغلق على نفسه ، ويتتبع بجدية نادرة كل الجوانب السلبية لديهم ، لكنه يعجز عن تلمس أسرار النهوض والخيوط الدقيقة التي تمد التقدم المادي الهائل الذي أحرزوه بالحيوية والاستمرار .
ويعود هذا الصنف في العادة بنُتَف من المعلومات والمقولات والخبرات التي لا تتكافأ أبداً مع الجهد والمال اللذين بُذلا خلال سنوات عدة ، ولا يلامس هذا الصنف أبداً آفاق المنهجية الفكرية والتنظيمية والأخلاقية والثقافية التي تقف خلف (الحضارة الغربية) ، فكأنه ما سافر ولا اطلع ولا تعلم !
إن احتكاك الثقافات والأفكار والمناهج المختلفة قديكون عامل انحسار وهدم وتمزيق ، وقد يكون عامل إثراء وتصحيح وتطوير ، والمهم في ذلك أبداً هو شروط ذلك الاحتكاك والخلفيات ، والأسس التي يقوم عليها .. إن العزلة والانغلاق لا يكونان أبداً خياراً جيداً إلا إذا كانت شروط التزاوج سيئة وغير متكافئة ، وإذا ما استطعنا توفير الشروط الجيدة لذلك فإن في تلاقح الأفكار والثقافات من عوامل التجديد والنفع والغنى ما لا يمكن التعبير عنه ! .
4- إن قاعدة اللقاء في ظاهرة الزوجية الكونية هي التخالف ، وليست التوافق ، فاللقاء الخصب المنجب يجب أن يتم بين متخالفين ومتباينين ، ومن ثم : فإن العلاقة بين الرجل والمرأة تقوم على التخالف ، على المستويات العضوية والعقلية والنفسية ، وهذا التخالف هو الشرط الأساس لوجود ظاهرة (التكامل) والتعاون ، حيث يظهر لكل واحد من الزوجين : أن كمال البنية المشتركة بينهما وهو الأسرة لا يأتي من أيٍّ منهما على انفراد ، وإنما من خلال اللقاء الإيجابي بينهما ، وتكميل أحدهما للآخر .
ليس إدراك التكامل في ظاهرة الزوجية في الخلق متيسرَ الإدراك واللمس في كل وقت ؛ إذ كثيراً ما تتغلب علينا النظرة الأحادية ، فنتعامل مع الأشياء على أنها عناصر مفردة ، ونغفل عن كونها عناصر في تراكيب أعم !
ولنضرب لذلك بعض الأمثلة :(1/112)
أ - إن تضخم الجانب العاطفي لدى المرأة على النحو المعروف يُنظر إليه عادة على أنه الحلقة الأضعف في تركيبها النفسي ، كما أننا ننظر النظرة نفسها إلى ما نحسّه من تضخم (عقلانية) الرجل وبرودة عواطفه .
فإذا نظرنا إلى كل منهما على أنه طرف في تركيب واحد هو الأسرة أدركنا أن ما خلناه نقصاً هو في الحقيقة مظهر كمال ، وعامل توازن وانسجام ، إذ إن طبيعة وظيفة المرأة في رعاية الأطفال ذوي الشفافية والرهافة المطلقة .. تتطلب مشاعر وعواطف كالتي عند المرأة ، وطبيعة وظيفة الرجل في قيادة الأسرة ، ومعاناة طلب الرزق ، وخوض المواقف الصعبة .. تتطلب من قوة الشكيمة وتماسك الشخصية كالذي نجده عند الرجل .
إن دعاة تحرير المرأة لم ينظروا هذه النظرة ، فدفعوها إلى المطالبة بالمساواة مع الرجل ، وأدى ذلك إلى الإخلال بالتوازن الأسري ، وكثرت حوادث الطلاق ، وكُلِّفت المرأة بالقيام بأعمال لا يتحملها تكوينها ولا جملتها العصبيّة ، والأخطر من ذلك : انتشار مظاهر الشذوذ واستغناء النساء بالنساء ! !
ب- إننا كثيراً ما نصوِّر (القلق) على أنه مرض نفسي ، وهو كذلك عندما يتجاوز حدوداً معيّنة ، لكن حين نتذكر أن الطمأنينة كثيراً ما تكون زائفة ومبنية على معطيات موهومة ، وهي حينئذ أخطر من القلق وأشد فتكاً بوجود الإنسان ، ولذا : فإن بعض صور القلق ولا سيما (القلق المعرفي) تكون ضرورية لتوازن الشخصية ، وللوعي بالمصير وتدارك الأخطار قبل فوات الأوان .
ج- إذا نظرنا نظرة أحادية إلى ثبات المبادئ والتشبث الشديد بها ، فسوف نراه جموداً وعائقاً في سبيل التطور ، وربما دفع ذلك ببعض الناس إلى التفريط بها أو إلى الثورة عليها .
وإذا نظرنا إلى (التطور) على أنه مجموعة من التغيرات المستقلة ، فسوف نراه (تفلتاً) وطيشاً وخيانة للأصالة ...
ولكن حين نسلك كلاً من الثبات والتطور في ظاهرة (الزوجية) الكونية ، فسوف يتبين لنا أن ثبات الأصول والمبادئ والنواميس ليس جموداً ولا عائقاً للتغير المطلوب ، وإنما هو سمة أساسية لطبيعتها ؛ إذ لا يستطيع المبدأ أداء وظيفته إلا من خلال ثبوته واستمراره ، كما أننا سنجد أن جمود المبادئ شرط أساس لجعل التطور ذا معنى ، ولإبقائه تحت السيطرة ، وفي الاتجاه الصحيح .
والتطور في الأدوات والأساليب والخطط والأشكال ليس تفلتاً ، بل إنه ضروري للمحافظة على المبدأ والجوهر والهدف ؛ إذ إن صروف الأيام والليالي تعطب بعض جوانب المناهج والخطط والأشياء ، وليس هناك حلّ لذلك سوى التخلي عن الأجزاء المعطوبة ، وإحلال غيرها محلها .
وإن تحويل الأشياء إلى بنًي ثبوتية في سياق وسط مائج بالتغير والتطور لا يعني سوى التضحية بالأصل والفرع ، والجوهر والمظهر ، والمبدأ والوسيلة ...
وهكذا : فما يُظن نقصاً في بعض الأشياء يتحول إلى ضرب من ضروب الكمال إذا ما نظرنا إليه على أنه جزء من كل ، وعنصر في تركيب أشمل .
5- خَلَق الله (جل ثناؤه) الدنيا داراً للابتلاء ، فوفّر فيها كلّ شروط الابتلاء ، ومن ثم : فإنه حيث يكون أمام المرء مجال للاختيار ، يكون في الحقيقة منغمساً في حالة ابتلاء ، سواء أأخذ بأحد الخيارات ، أو ظل عاطلاً عن اتخاذ قرار .
كثيراً ما تتيح ظاهرة (الزوجية) مجالات للاختيار والابتلاء ، وكثيراً ما يجد الإنسان نفسه مأموراً بالتوازن الدقيق في التعامل مع الظواهر الزوجية ؛ لأن الإخلال به يعني خروجاً عن المنهج الرباني ، وقد يعني ظلماً للنفس أو تفويت مصلحة كبرى .
وحتى يكون الابتلاء تامّاً ، فإن الله (جل وعلا) قد فطر الإنسان على قابلية قوية للانجذاب نحو أحد المتقابلات وإهمال غيره ؛ مما يجعلني أذهب إلى أن الإخلال بالتوازن المطلوب في هذه المسألة ، يكاد يكون أصلاً !
ومن هنا : فإن الموقف الصحيح كثيراً ما يتطلب نوعاً عالياً من اليقظة الفكرية والشعورية ، وإلا : فما أسهل الانحراف إلى طرف على حساب طرف آخر !
عند تقليب النظر في واقعنا التاريخي ، وواقعنا المعيش ، نجد أن عدم إقامة التوازن بين الأشياء المتزاوجة كان سبباً لانحرافات كثيرة ، إذ كثيراً ما نرى جماعة تهتم بالفكر والتنظير ورسم الخطط والتحليل السياسي ، لكنها تهمل جانب الروح والأخلاق ، وجانب السلوك ؛ مما جعلها فقيرة في جنود التنفيذ وأرباب الهمم العالية ، وجعلها بالتالي قليلة العطاء والتضحية ! .. ونجد في المقابل : جماعات تركز على مسائل صفاء القلوب وحسن السلوك ، لكنك لا تجد عندها أدنى وعي بأدب الوقت ومتطلبات العصر ، وقد يكون عدد أتباعها عشرات الألوف ، ثم إنك لا تعثر فيهم على مفكر واحد مرموق ! ، وكثيراً ما يقودها ذلك إلى أن تكون ألعوبة في يد القوى المتنفذة ، مما يدفعها إلى حتفها ويجعل ضررها لا يقل عن نفعها ! .(1/113)
في الماضي البعيد قامت مزاوجة في بنية التربية والتعليم بين علوم الشريعة والعلوم الحياتية والكونية ، وقد أنجب ذلك الاقتران حضارة إسلامية زاهية باهرة ، ثم أخذت علوم الحياة تنسحب من المناهج والحلق الدراسية شيئاً فشيئاً ، حتى جهلت الأمة أبجديات المعرفة في الطبيعة والكون والصناعة ، ووصلت إلى الحضيض ، واليوم ترتكب الأمة الخطأ نفسه على نحو معكوس ، حيث تَرَاجع نصيب العلوم الشرعية في المناهج الدراسية في أكثر البلدان الإسلامية ، كما تراجعت المفردات القيمية والأخلاقية في لغة التربية والإعلام ، وكان حصاد ذلك : أعداداً كبيرة من البشر تحيط بالكثير من المعارف المختلفة ، لكنها تجهل بدهيات وأساسيات في عباداتها ومعاملاتها ! ، وصار لدينا اليوم كمّ هائل من المفردات التي تحث على النشاط والفاعلية والنجاح والتنظيم وحيازة الثروة وتحقيق الذات .. على حين تنوسيت المفردات التي تغرس أخلاق الصلاح والاستقامة والبعد عن الحرام ، والإقبال على الآخرة .. ولا بد أن الناس بدؤوا يشعرون بعواقب هذا الخلل من خلال انتشار اللصوصية وهي أصناف ، والرشوة ، والشره المادي ، والأنانية ، والانغماس في الشهوات ، وقطع الأرحام ، ونسيان الله والدار الآخرة .
6- إذا كانت (الزوجية) تمثل قاعدة مهمة من قواعد خلق الوجود ، فإن ذلك يعني أن ننسجم نحن مع تلك القاعدة ، ونحاول أن نمتلك رؤية مركّبة للأشياء ، ما دام ليس هناك شيء لا ينتمي إلى مركبٍ ما على وجه من الوجوه .
وامتلاك هذه الرؤية سيكون ضروريّاً للمحافظة على توازننا العقلي والنفسي ، وضروريّاً لوضع الأمور في نصابها الصحيح ، وعلى سبيل المثال : فإنه مهما بلغ صلاح الأفراد والجماعات ، فلا ينبغي أن نفسر ما نراه لهم من تصرفات على أساس المبادئ وحدها ، فهناك مبادئ ، وهناك مصالح أيضاً ، وليس في هذه الأرض من يستطيع النفض عن مصالحه على نحو كامل .
وفي مقابل هذا : فإن السواد الأعظم يحاولون تحقيق مصالحهم في إطار المبادئ التي يؤمنون بها ، ما وجدوا أن ذلك ممكن ، وبما أن المبادئ والمصالح طرفان في تركيب زوجي واحد ، فإن احتمال جور الإنسان على أحدهما لحساب الآخر ، يظل أمراً وارداً ، بل يكون في كثير من الأحيان أمراً لا مفر منه ، ولست أقصد من وراء هذا شيئاً سوى الاستبصار في فهم سلوك الناس ، وفهم خلفياته ، ومحاولة تفسيره على أنه يتم وفق موازنات ، وفي سياق ضرورات وطموحات ، وتحت ضغوط وأحياناً تهديدات ، وهذا مهم في الاقتداء والإعذار وأمور أخرى ..
الرؤية المركبة تجعلنا نبصر القصور الذاتي إلى جانب التآمر الخارجي ، وإعطاء كلٍّ منهما وزنه وتأثيره الحقيقي ، كما أنها تجعلنا نشعر بنعمة الرخاء وفيوض النعم إلى جانب الإحساس بالحساب والسؤال عنها يوم القيامة .
بالرؤية المركبة ندرك الصبر وعواقبه ، والظلم ومآلاته ، وبذلك يتم لنا توسيع مجال الرؤية ؛ لنقف على طرفي الموازنة وعنصري المزاوجة ، وبذلك نجسِّر العلاقة بين الأطراف المتنافسة والمتحالفة ، ونحاول أن نرى الأرضية المشتركة التي تجمع بينها .
---------
(*) الآية : 49 من سورة الذاريات .
=================
#{ وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً }
تشعر أمة الإسلام اليوم بغربة حقيقية بين الأمم المعاصرة ، وتجد نفسها فريدة ومتميزة على مستوى المبادئ والمفاهيم والأهداف ؛ وهذا التميز والتأبي على السير في ركاب القوى العظمى جرّ عليها ضغوطاً أدبية ومادية ، هي أكبر مما نظن بكثير .
إن أدبياتنا تعلمنا أن الأسلوب الصحيح في مواجهة ضغوط الخارج وتحدياته لايكمن في التشاغل بالرد عليها ؛ مما قد يجرنا إلى معارك خاسرة ، وإنما يتمثل في الانكفاء على الداخل بالإصلاح والتنقية والتدعيم ... ولا ريب أن ذلك شاق على النفس ؛ لأن المرء آنذاك ينقد نفسه ، ويجعل من ذاته الحجر والنحّات في آن واحد !
والآية الكريمة التي نحن بصددها معْلم بارز في التأصيل لهذا الانكفاء ، ولعلنا نقتبس من الدوران في فلكها الأنوار التالية :
1- إن كثيراً من النصوص يوجهنا نحو الانكفاء على الداخل في مواجهة الخارج بالنقد والإصلاح والتقويم والتحسين ، وإن المتتبع للمنهج القرآني في قصِّه أحوال الأمم السابقة يجد أن ما ذكره القرآن الكريم من أسباب انقراضها واندثار حضاراتها لا يعود أبداً إلى قصور عمراني ، أو سوء في إدارة الموارد واستغلالها ؛ وإنما يعود إلى قصور داخلي ، يتمثل في الإعراض عن منهج الله (جلّ وعلا) واستدبار رسالات الأنبياء (عليهم الصلاة والسلام) ، وهذه الحقيقة بارزة في جميع أخبار الأمم السابقة ؛ حتى يتأصل في حسِّ القارئ للكتاب العزيز إعطاء الأولوية لصواب المنهج قبل أي شيء آخر .(1/114)
وحين حلّت الهزيمة بالمسلمين في أحد ، وقال بعض الصحابة (رضوان الله عليهم ) : كيف نُهزَم ونحن جند الله ؟ ! جاء الجواب : { قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ } [آل عمران : 165] فالهزيمة وقعت بسبب خلل داخلي ، وليس بسبب شراسة الأعداء ، وكثرة عددهم وعتادهم ؛ إذ لا ينبغي تضخيم العدو إلى الحد الذي يجعل تصور هزيمته شيئاً بعيداً ؛ فالعدو بَشَر له أحاسيسه ، وله موازناته ومشكلاته ، وبالتالي إمكاناته أيضاً ، وفي هذا يقول (سبحانه) : { إن تَكُونُوا تَاًلَمُونَ فَإنَّهُمْ يَاًلَمُونَ كَمَا تَاًلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ } [النساء : 104] .
2- ترمي الآية الكريمة إلى تدعيم (الذاتي) في مقابل (الموضوعي) ؛ إذ تعلِّم المسلم أنه إذا ساءت الظروف فإن عليه أن يُحسِّن من ذاته ؛ لأن من المعروف أنه حين تسوء الظروف ، فإن الغالب أن يسوء الإنسان نفسه ، ولذلك : فإنه يحدث في حالات الفقر الشديد نوع من التحلل الخلقي من نحو : السرقة ، والرشوة ، وسؤال الناس ، والذل ، والتحايل ، والغش ، والبخل ، وقطيعة الرحم ... والمطلوب من المسلم آنذاك : أن يقف (وقفة رجل) فيضغط على نفسه ، ويضبط سلوكه ويُلغي أو
يؤجل بعض رغائبه ، ويقتصد في نفقاته ، حتى تمر العاصفة ، وينتهي الظرف الاستثنائي .
ومن النصوص الواضحة في تدعيم الشخصية عند صعوبة الظروف قوله :
(يا معشر الشباب : من استطاع منكم الباءة ، فليتزوج ؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء) [1] .
لم نكن على مدار التاريخ نمتلك الوعي الكافي بهذه الحقيقة ، فبدل أن نلجأ إلى التربية والتوجيه والتعاضد والتراحم ، واكتساب عادات جديدة ، واقتلاع المشكلات من جذورها .. كنا نواجه التفسخ الاجتماعي والانحراف السلوكي بأمرين : القوة ، ومزيد من القوانين ، حيث كانا أقرب الأشياء إلينا تناولاً ، وأقلها تكلفة حسب ما يبدو وقد عبّر عمر بن عبد العزيز (رحمه الله) عن هذه الحقيقة حيث قال : (يحدث للناس من الأقضية على مقدار ما يُحدثون من الفجور) .
ونحن نقول : إن شيئاً من التوسع في الأنظمة والتشريعات الرادعة يحدث عند جميع الأمم ، حين يقع تهديد خطير لأمن الناس وحقوقهم ، لكن الجزاءات والعقوبات هي أشبه شيء بالتدخل الجراحي في العلاج الطبي ، فهو آخر الحلول ، وعند اللجوء إليه ينبغي أن يتم في أضيق الحدود ! .
إن العقوبات الرادعة إنما وجدت لمن فاتتهم التنشئة الاجتماعية القويمة ؛ والعقوبات لا تنشيء مجتمعاً لكنها تحميه . وهذه رؤية إسلامية جلية ، فآيات الأحكام والعقوبات جزء منها لا تشكل أكثر من عُشْر آيات القرآن الكريم ، أما الباقي فكان يستهدف البناء الإيجابي للإنسان من الداخل . إن التجربة علمتنا أن كثرة القوانين وتعقيدها تصب دائماً في مصلحة الأقوياء ، وتزيد في قيود الضعفاء ! ، وأن البطش لا يحل المشكلات ، لكن يؤجلها ، فيكون حال المجتمع كمن يأكل عن طريق الدّين ، فهو ينتقل من سيء إلى أسوأ ! ! .
إن الدولة الفاضلة هي التي تدير مجتمعها بأقل قدر ممكن من العنف واستخدام القوة ؛ لأنها ترتكز أساساً على استخدام الأساليب والأدوات السلمية في الضبط والإدارة .
إن الآية الكريمة تعلمنا مرة أخرى : أن النصر الخاص يسبق النصر العام ، وأن الأمة المنتصرة على أعدائها هي أمة حققت نصراً داخليّاً أولاً ، وحقق كل واحد من أفرادها نصراً خاصّاً على صعيده الشخصي قبل كل ذلك .
3- لا ينبغي لنا أن نفهم نصّاً من النصوص بمعزل عن المنظومة التي ينتمي إليها ، ويعالج معها مشكلة واحدة ؛ والنص الكريم هنا يوجهنا إلى أمرين : الصبر ، والتقوى .
ويعني الصبر : احتمال المشاق والديمومة في تأدية التكاليف الربانية ، مهما كانت الظروف قاسية ؛ لأن ذلك نصف النصر ، إذ إن نصف الفوز يأتي من جهودنا ، وقبله من توفيق الله (تعالى) لنا ، والنصف الثاني يأتي من أخطاء أعدائنا .
إن الصبر لا يعني الاستسلام للأحوال السيئة كما هو مفهوم العوام لكنه يعني عدم اللجوء إلى الحلول السريعة ، وقد جرت العادة أن الناس حين يرون إنساناً متفوقاً : يطلبون منه حلولاً سريعة لمشكلاتهم المتخمرة والمتأسنة ؛ والحلول السريعة تفضي في كثير من الأحيان إلى اليأس والإحباط ، أو إلى الاندفاع والتهور ؛ مما يعقِّد المشكلة أكثر مما يحلها ! .
إن من المهم أن ندرك أن ثمة أوضاعاً كثيرة لا نستطيع أن نفعل حيالها الآن شيئاً ، لكن إذا قلنا : ماذا نستطيع أن نفعل تجاهها خلال عشرين عاماً ، فسوف نرى أننا نستطيع أن نفعل أشياء كثيرة جدّاً ، فكأن الصبر استخدام للوقت في الخلاص من أوضاع لا نستطيع الآن أن ننجح في الخلاص منها .(1/115)
حقيقةُ ضرورة اقتران الصبر بالعمل والحركة للخلاص من الأوضاع الصعبة حقيقة قرآنية لامعة ، نطقت بها الكثير من الآيات القرآنية ، مثل قوله (سبحانه) : { ثُمَّ إنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } [النحل : 110] ، وقوله (سبحانه) : { يَا أََيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بْالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } [ البقرة : 153] ، وقوله (تعالى) : { فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً } [الإنسان : 24] .
إن احتمال المعاناة دون حركة للخلاص من مسبِّباتها قد يكون ضرباً من اليأس والاستسلام ، وقد يكون ضرباً من العجز أو قصر النظر أو ضيق الأفق ... وهذا ما لا يرضى الله (جل وعلا) لعباده المؤمنين منه شيئاً .
أما التقوى فتعني هنا بصورة أساسية : نوعاً من الحصانة الداخلية من التأثر بالظروف السيئة المحيطة ؛ إذ إن الهزائم العسكرية والظروف الاجتماعية والاقتصادية القاسية .. كل ذلك محدود الضرر ما لم يغير من المبادئ والأخلاق والنفوس والسلوك ، بل إنها تصلّب روح المقاومة ، وتُكسب الخبرة ، وتكشف عن الأجزاء الرخوة في البناء الداخلي ، وتحطِّم هيبة العدو في النفوس .
وقد مرّت أمم كثيرة بأقصى مما نمر به ، لكنها استطاعت عن طريق الانتفاضة النفسية والشعورية ، أن تتجاوز المحن ، وتنبعث من جديد ! .
4- إن المفهوم الأساسي للصبر والتقوى هنا هو : تهذيب الذات وتحسينها ، وتدعيمها ، والرقي بها ؛ وهذا التدعيم يأخذ أشكالاً كثيرة ، منها : المزيد من الالتزام الصارم ، ومقاومة الشهوات ، والتعاون ، والمفاتحة ، والمراجعة ، والتضحية ، والمواساة لبعضنا بعضاً ، والحفاظ على رأس المال الوطني ، والاقتصاد في الاستهلاك .. إنه يعني اكتساب عادات جديدة ، من نحو تكثيف القراءة الجيدة ، والنظر دائماً إلى المستقبل بعقل مفتوح ، وتحسين العلاقات مع الآخرين ، والإكثار من المعروف والنوافل ، إلى جانب التخلص من أكبر قدر ممكن من العادات السيئة ، مثل عدم الدقة وخلف الوعد ، وتأجيل أعمال اليوم إلى أوقات أخرى ...
5- يركز الخطاب الإسلامي بصورة عامة على تدعيم الذاتي في كل الأحوال ، وقلما يتطرق إلى علاج الظروف العامة التي يعيش فيها المسلم ، ومن ثم : فإننا نجده يؤكد على الصلاح واستقامة السلوك والانتهاء عن المناهي ...
أما تناول الشروط الموضوعية الضرورية لاستجابة المسلم للدعوة فإنه ضعيف ، وعلى بعض الأصعدة معدوم ، وهو على كل حال فقير ، وتنقصه الخبرة والدربة .
إن بين الإنسان والظروف والأوضاع الحياتية العامة التي يعيشها علاقة جدلية فهو يؤثر فيها ويتأثر بها ، ولا بد للدعاة من أن يدركوا أن الفرد المسلم لا يستطيع أن يبتعد مسافات كبيرة عن الوضعية العامة للمجتمع ، وذلك التباعد مرهق ومكلف ؛ فحين يكون كسب القوت الضروري لا يتأتى للسواد الأعظم من الناس إلا عن طرق محرمة أو ملتوية مثلاً فإن الذين سوف يستجيبون لنداء (اللقمة الحلال) سيكونون قلة ، وسوف تظل مبادئهم في حالة اختبار دائم ، وربما أدخلهم ذلك في مشكلات مع أقرب الناس إليهم .
ولهذا : فكما أن محاولات تحسين المستوى الشخصي للمسلم يظل ضروريًّا وحيويّاً ، فإن تحسين المناخ العام ينبغي أن يظل موضع عناية واهتمام ؛ إذ ليس المطلوب تحقيق شروط الدعوة الجيدة ، وإنما تحقيق شروط الاستجابة الناجحة أيضاً .
ولله الأمر من قبل ومن بعد .
-----------
(*) الآية : 120 من سورة آل عمران .
(1) أخرجه البخاري ، كتاب النكاح .
================
#{ ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً }
يقول الله (جل وعلا) : { يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ } [البقرة : 269] .
وردت كلمة (حكمة) في مواضع عديدة من الكتاب العزيز ، وذهب المفسرون إلى تفسير معناها في كل موضع بحسب السياق الذي وردت فيه ، فتارة تُفسر بالسنة ، وتارة بالموعظة ، وتارة بالقرآن ...
أما في هذا الموضع الذي نحن بصدده ، فإن للعلماء في تفسيرها أقوالاً كثيرة ، منها : النبوة ، والفقه في القرآن ، والمعرفة بدين الله ، والفقه فيه ، والاتباع له ، والخشية ، والورع [1] ...
وروى ابن وهب عن مالك أنه قال في (الحكمة) : إنها المعرفة بالدين ، والفقه في التأويل ، والفهم الذي هو سجية ، ونور من الله (تعالى) [2] .
ولعل هذا القول هو أقرب الأقوال السابقة إلى الصواب . والذي يبدو لي : أن الحكمة تتجاوز المعلومات الجزئية إلى المفاهيم الكلية مع نوع من التطابق بين معارف الحكيم والمواقف العملية له ؛ ومن ثم قيل إن الحكمة تعني : وضع الشيء في موضعه ؛ وإن كنا نرى أن ذلك أحد تجليات الحكمة ، وليس جزءاً منها ، لكنهم لمحوا أن المواقف الصحيحة الملائمة هي التي تكشف عن حكمة الحكماء .
ولعلنا نحاول الحوم حول حمى الحكمة ، وحول بعض تجلياتها وتجسيداتها في المفردات التالية :(1/116)
1- إن تاريخ الإنسان هو مكافحة (العماء) و (اللاتكوّن) في داخل نفسه وفي خارجها ؛ فهو يحاول أبداً صياغة المفهومات والرؤى التي تمكّنه من فهم مركزه في هذا الكون ، ومعرفة المحيط الذي يعيش فيه بغية فهم الموقف الصحيح والخطوة المناسبة .
ومهما بذل الإنسان من جهود في سبيل الوصول إلى ذلك فإن نجاحه يظل نسبيّاً ، كما أن تقدير الناس لذلك النجاح سوف يظل متفاوتاً ؛ حيث إن مبادئ الإنسان ومعارفه تتحكم دائماً في بلورة رؤيته للأشياء ؛ ومن ثم : فإن موقفاً ما قد يكون في نظر واحد منا حكيماً ، على حين ينظر إليه آخرون على أنه طائش وخائب ؛ إلا أن الأيام بما تجلّيه من عواقب ونتائج وبما تركمه من نماذج تساعدنا على نوع من توحيد الرؤية والفهم .
2- إذا كنا نختلف حول تعريف الحكمة فإنه سيظل بالإمكان تحليلها إلى العناصر المكوّنة لها ، وهي على ما يبدو لي ثلاثة : الذكاء ، والمعرفة ، والإرادة ؛ فالذكاء اللماح ، والمعرفة الواسعة ، والإرادة الصُلبة تكوّن معاً : (الحكمة) ، وعلى مقدار كمال هذه العناصر يكون كمالها .
الذكاء بمفرده لا يجعل الإنسان حكيماً ؛ إذ الملموس أن الذكاء دون قاعدة جيدة من العلم والخبرة ينتج فروضاً ومعرفة (شكلية) ، كما أن المعرفة دون ذكاء تجعل استفادة صاحبها منها محدودة ، وتجعل وظيفته مجرد الحفظ والنقل ، دون التمكن من غربلة المعرفة أو الإضافة إليها . والأهم من هذا وذاك : أن المعرفة دون ذكاء تؤخر ولادة الموقف الحكيم ، وتجعل الواحد منا يأتي بعد الحدث بسبب ضعف البداهة .
ولا يكفي الذكاء اللمّاح ، ولا الخبرة الواسعة في جعل الإنسان حكيماً ما لم يمتلك قوة الإرادة ؛ لأن الإرادة القوية وحدها هي التي تجعلنا ننصاع لأمر الخبرة ، وهي التي تنتج سلوكاً يختفي فيه الفارق بين النظرية والتطبيق .
الذكاء موهبة من الله (تبارك وتعالى) ، والمعرفة الواسعة كسب شخصي ، والإرادة القوية هدية المجتمع الناجح لأبنائه البررة ؛ فهو الذي يحدّد العتبة والسقف المطلوبين للعيش فيه بكرامة على مستوى الإرادة ، وعلى مستوى القدرة ، وهو لا يمنح القدرة ، لكنه يمنح أفراده إرادة الفعل والكف من خلال نماذجه الراقية ، ومن خلال المراتبية الاجتماعية التي يصوغها تأسيساً على الاستجابة لأوامره .
3- إن المعرفة مهما كانت واسعة لا تعدو أن تكون إحدى مكوّنات (الحكمة) ، ومن ثم : فإن هناك فارقاً بين العالِم والحكيم ، فقد يكون المرء قمة في تخصص من التخصصات ، لكنه لا يُعدّ حكيماً ، كما أن الحكيم قد لا يكون عالماً متبحراً في أي علم من العلوم .
العلم يفكك المعرفة من أجل استيعابها ، فيقوم بتنظيمها وتوزيعها على مساقات كثيرة ، أما الحكيم : فيقوم بتركيب المعرفة النظرية مع الخبرة العملية من أجل بناء وتشكيل المفهومات العامة في سبيل الوصول إلى رؤية شاملة تندغم فيها معطيات الماضي والحاضر والمستقبل .
العلم يمكننا من صنع الدواء ، وصنع السلاح ، لكن الحكمة تجعلنا نعرف متى نداوي ، ومتى نحارب .
العلماء كثر ، والحكماء نادرون ؛ لأن تحليل المعرفة أسهل من تركيبها ، والعمل الدعوي اليوم ليس فقيراً في الاختصاصيين ، لكنه محتاج حاجة ماسّة إلى الحكماء العظام الذين يمزجون بين العلوم والثقافات المختلفة ، ويخلصون منها إلى محكات نهائية في الإصلاح والنهضة ومداواة العلل المستعصية ...
إن الحكمة أُم الوسائل والأساليب ، لكنها أكبر من أن تحصر في أي منهج من المناهج ، إنها معرفة تتأبى على التنظيم ، فهي دائماً مرفرفة ، على حين أن العلم معرفة منظّمة ، وكل العلوم يبدأ تفتحها على أنها حكمة ، وتنتهي إلى أن تكون فنّاً ، أي : إنها تفقد طاقتها على التجدد بعد أن يتم سجنها في قوالب جاهزة ، وتصبح بحاجة ماسّة إلى أن ترفرف من جديد ، أي : أن تطعّم بالحكمة . ومن ثم : فإن الحكمة تتأبى على الاستنفاذ ، ولذا : فإنها الخير الكثير الفياض المتجدد الذي يهيئه الله (تعالى) لمن شاء من عباده .
4- جفل الوعي الإسلامي قديماً من (الفلسفة) ؛ لأن أكثر فلاسفة المسلمين أخرجوا الفلسفة من إطار الوحي وإطار النصوص والمعطيات الشرعية العامة ، فصارت المفاهيم الفلسفية غريبة عن البنية الثقافية الإسلامية ، بل مصادمة لها .
وفي العصر الحديث : لم تنشأ لدينا مدارس فلسفية ، وإنما اتباع لفلاسفة الغرب ، ومروّجون لفلسفة مادية أجنبية محورها الأساس : هدم عقيدة الألوهية وتدعيم الإلحاد ... فاستمر الجفاء بين الاختصاصيين (العلماء) وبين ذوي النظر الكلي والرؤية العامة .
إن الناظر في الآيات الكريمة التي وردت فيها كلمة (الحكمة) : يجد أنها ما اقترنت بذكر (الكتاب) إلا كانت تالية له ، وكأن في ذلك إشارة إلى أن الحكمة بما هي مفاهيم ونظر كلي لا يصح أبداً أن تتشكل خارج مبادئ الكتاب ومعطياته الكبرى ؛ إنه القيّم والمهيمن عليها ، وليس في ذلك حد من عطاء الحكمة وانطلاقها ، ولكنه إمساك بها كي لا تفقد اتجاهها ومحورها ؛ فالعقل البشري على سعة إمكاناته لا يستطيع أن يعمل بكفاءة إلا من خلال إطار توجيهي يمنحه شيئاً من الثوابت وصلابة اليقين .(1/117)
وقد آن الأوان لتنشيط حركة علمية لا تغرق في التخصصات لكنها تستفيد منها جميعاً : في تنسيق الواقع في ضوء المثال ، وفي إدراك العلاقات الخطية والجدلية التي تربط بين الأشياء ، وفي معرفة سنن الله (تعالى) في الخلق ...
آن الأوان لترك التقدم العلمي لأهل التخصصات يغوصون على مفردات العلوم ، ويضيفون إلى فروع المعرفة كل يوم جديداً ، والسعي إلى تكوين جيل جديد من الحكماء والمصلحين ذوي النظر الكلي والثقافة المَزْجية ، الذين يستخدمون المعارف المختلفة في بناء النماذج الحضارية الخاصة والمشروعات النهضية الشاملة .
وفي اعتقادي أن الحاجة إلى (الحكماء) سوف تزداد ؛ إذ إن المعرفة البشرية على وشك إكمال دورتها ، وعصر ثورة المعلومات الذي بزغ فجره سوف يكون أقصر العصور الحضارية ، ثم يأتي زمان الأسئلة الكبرى : أسئلة الهوية ، وعلل الوجود ، والمصير ، وطبيعة الكينونة البشرية وحدودها ، وحقوقها .. أي : إن الفلسفة قد تستعيد مجدها القديم ، لكن ضمن معطيات ومساقات جديدة ، وبلغة شديدة التعقيد ، وعلينا منذ الآن أن نحضّر أولئك ، الذين يستطيعون فهم أسئلة العصر القادم ، ويحسنون الجواب عليها .
5- الإرادة الصُلبة مكوّن أساس من مكونات ( الحكمة ) كما ذكرنا وهي (الإكسير) الذي يحيل المعرفة النظرية إلى نماذج متحققة في الواقع المحسوس ، إن الحكمة نور داخلي يشكل مفهومات كثيرة متباينة ، ويدمجها في نظم أشمل ، فتبدو منسجمة متناسقة ، لكن الحكيم لا يبدو كذلك ، فهو طراز فريد ، ونموذج خاص ، يصعب تقنين عطاءاته وتوجهاته ومواقفه ؛ لأن طبيعة الحكمة تتأبى على التحقق الكامل ، ومن ثم : فإنها تلوح في بعض المواقف والسلوكات لتدل على فضل الله (تعالى) على أصحابها وتوفيقه لهم . وتلك المواقف تفوق الحصر والعد ، لكن نذكر بعضها من أجل التقريب :
أ- الحكمة نمو دائم ، فالمزج الفاعل بين الذكاء والخبرة والإرادة يجعل مفهومات الحكيم في نوع من الحركة الدائبة ، مفهوم يكبر ، وآخر يضمر ، ونقط تزداد تفصيلاً ، وأخرى تزداد تركيزاً ، أفكار جديدة لديه تفقد بريقها بسرعة ، وأفكار قديمة تنبعث حية لتخط خطّاً جديداً ...
هذه الوضعية تجعل الحكيم في حالة من التألق الدائم ، وهذا التألق قد يفسّر لدى الكثيرين على أنه تناقض واضطراب ، على حين أنه نوع من الاستجابة الناجحة للمرونة الذهنية العالية ، والروافد الثقافية الثرية ، والإرادة الحرة الصُلبة ، لكن كل ذلك يأخذ سمة التغيّر لا التبدّل .
ب- إيثار الآجل على العاجل ، والدائم على الآني ، وما يمليه ذلك من مواقف والتزامات : أكبر سمة من سمات (الحكيم) ، والشرائع السماوية كلها جاءت توجّه الناس نحو هذه الفضيلة ، لكن إغراءات المنافع والملذات العاجلة صرفت جلّ الناس عن الاستجابة { كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ العَاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ } [القيامة : 20 ، 21] .
وعدم تحقق هذه الفضيلة في حياة كثير من الناس ، سببه : ضعف في الخبرة ، أو ضعف في الإرادة ، أو فيهما معاً ، والحكمة تجعل الحكيم في منأى عنهما .
وموقف الحكيم هنا يثير لدى الناس الدهشة ؛ حيث يجدونه زاهداً معرضاً عما يتقاتلون عليه ، وربما اتهموه بالعجز أو الكسل أو القصور ، وهو في الوقت نفسه يضحك في داخله من جهادهم في غير عدو ومحاولات قبضهم على السراب ! ! .
ج- داخل الحكيم ساحة مَوّارة بالحركة والنشاط ، فهو لا يكفّ أبداً عن عمليات المقارنة ، والموازنة ، والتحليل ، والتركيب ، والاستنتاج ، والتشذيب ، والإضافة ، إنها أمواج وتيارات في أعماق المحيط ، أما السطح فإنه هادئ تعلوه السكينة والوقار .
إن من ملامح الأذكياء سرعة البديهة ، وإطلاق الأحكام ، وسرعة تشكيل المواقف ، لكن الحكيم طراز آخر من الناس ، فهو بطيء في تكوين معتقداته ، وصياغة مقولاته ، إذ إنه يملك قدرة خاصة على ضرب كل أشكال المعرفة والخبرة في بعضها بعضاً ، ليخرج في النهاية بزبدة تتميز عنها جميعاً ، لكنها منها جميعاً !
ويفسّر بعض الناس ذلك بالعي والحَصَر ، لكن الأيام تثبت أن مقولات الحكماء هي بنات عواصف فكرية وشعورية هائلة ، لكنها غير منظورة ! .
د - من أهم تجليات الحكمة : إدراك حجوم القضايا على وجهها الصحيح ؛ فالحكيم يرى الأشياء الكبيرة كبيرة ، كما يرى القضايا الصغيرة صغيرة كما هي ، وتقدير القضايا بصورة صحيحة من أخطر المشكلات التي ظلت تواجه البشر على مدار التاريخ ، وهل دُمّرت الحضارات إلا من وراء مشكلات وأخطاء ظنها الناس تافهة ، فإذا هي عواصف هوجاء تأتي على كل ما تمرّ عليه ! .(1/118)
الحكيم : رجل يرى ما قبل اللحظة الراهنة ، ويستشرف ما بعدها ، وهو لا يرى نسقاً أو نظاماً من التداعيات الترابطية ، لكنه يرى أنساقاً ونظماً تتوازى ، وتتقاطع ، وتتصادم ، إنه يحسّ بالعاصفة قبل هبوبها ، فيحذر قومه وينذرهم . كلنا نرى القضايا بحجمها الحقيقي ، لكن بعد فوات الأوان ! ، وبعد أن نكتوي بنارها ، وتفوتنا فرصها الذهبية ، لكن الحكيم يأتي في الوقت المناسب ، كما قال سفيان الثوري : » إذا أدبرت الفتنة عرفها كل الناس ، وإذا أقبلت لم يعرفها إلا العالم « ! .
العالم (الحكيم) الذي وصفناه ، أما أهل الاختصاص ، الذين أذهبوا العمر في تفتيق المعرفة حول شيء بالغ الصغر ، أو حول (لا شيء) : فهؤلاء جنود التقدم العلمي ، لكن حظوظهم من إشراقات الحكماء محدودة للغاية ! .
هـ ترتفع درجة المرارة في داخلنا على مقدار فقدنا للحكمة ؛ والنزق والبَرَم الذي نبديه حول كل ما لا يعجبنا سببه جهلنا بالأسباب والجذور والسنن وطبائع الأشياء ومنطق سيرورتها . أما الحكيم : فإن مرارته لا تنبع من مفاجآت الأحداث وفواجعها ، وإنما من غفلة الناس واستخفافهم بالمواعظ التي ألقيت عليهم ، ونبهتهم إلى النهايات المحتومة التي يندفعون إليها دون أي حساب أو تقدير لفداحة الخطب الذي سيواجهونه . إن الآلام التي نشعر بها عند ظهور بعض النتائج تكون مكافئة في العادة للمسرات التي عشناها يوم كانت (عقولنا مستريحة) ومشاعرنا غارقة في عالم الملذات والأوهام ! .
ما ذكرناه من أنوار الحكمة وفضائلها غيض من فيض ، ولا يشف عن محاسنها قول كقول الله (تبارك وتعالى) : { وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً } [البقرة : 269] .
------------
(1) الجامع لأحكام القرآن : ج3 ، ص330 .
(2) السابق : ج2 ، ص131 .
===============
#{ ونبلوكم بالشر والخير فتنة }
خلق الله جل وعلا الدنيا لتكون داراً للابتلاء والاختبتار ، ومن ثم فإنه جعل الإنسان يتقلب فيها بين المنشط والمكره ، والرخاء والشدة ، والخير والشر ، ليرى سبحانه كيف يصنع هؤلاء العباد ، وكيف يطلبون مراضيه في جميع الأحوال ، { ونبلوكم بالشر والخير فتنة } [الأنبياء : من الآية35] .
ولعلنا نقبس من نور هذه الآية المباركة في الوقفات التالية :
1- الناظر في النُظُم العامة التي تحكم مسيرة الحياة يجد أن جوهر (الابتلاء) يقوم على (التشتيت بين المتقابلات) حيث يؤدي عدم القيام بحق الحالة الراهنة أو ما سماه القدماء بأدب الوقت إلى الإخفاق في الامتحان الذي يعني تحول الخير إلى شر أو ارتفاع وتيرة الشر والتدهور ، ولعلنا نميط اللثام عن هذا المعنى من خلال نموذجين اثنين :
(أ) يسعى كل مجتمع إلى إيجاد أكبر قدر ممكن من التماثل بين أفراده بنية المحافظة على قيمه وخصوصياته وزخمه الحركي ، وهذا التماثل من الخير ولا ريب لأن البديل عنه هو الشقاق والاحتراب الداخلي لكن التجربة الاجتماعية أثبتت أن الحرص على التماثل التام بين أفراد المجتمع يؤدي إلى انقسامه على نفسه ، حيث يتشوف أعضاؤه ولاسيما الصفوة منهم إلى النفاذ إلى واقع المجتمع على نحوٍ منفرد ومنعهم من ذلك يؤدي إلى التوتر الاجتماعي ، ويجعل (التماهي) الظاهر عبارة عن شكل فارغ من المضمون ، فينتشر النفاق الاجتماعي والازدواجية في السلوك ، ومن ثم فإن المطلوب هو قدر من التنوع الاجتماعي واحترام الخصوصيات في إطار النظم الكبرى للمجتمع وفي إطار أهدافه ومبادئه العامة .
(ب) حث الإسلام على صلة الرحم وأداء حقوق القرابة ، ورتب في ذلك أحكاماً وآداباً عديدة ، والالتزام بها ورعايتها من الخير العظيم ، لكن ذلك لابد أن يوقف عند حدود رعاية مسائل أخرى لا تقل أهمية وحيوية من مثل احترام النظم التي تتولى توزيع وترتيب الحقوق والواجبات في المجتمع ، حيث لا يصح لعامل القرابة أن يمس العدالة الاجتماعية أو يضغط عليها ، الملحوظ أن ما تسمى بـ (سيادة القانون) لم تأخذ أبعادها بشكل جيد في العصور الحديثة إلا حيث اضمحلت العلاقات الأسرية والقرابية كما هو الشأن في المجتمعات الغربية أما في المجتمعات الإسلامية حيث التواصل الأسري والعائلي أمتن وأفضل ، فإن من الملحوظ أنه يتم الكثير من التجاوز والتفلت من النظم العامة في سبيل إعطاء الأقرباء ما ليس لهم من مكتسبات ظناً أن في ذلك صلة للرحم ! لكن هذا يعني عدم النجاح في الابتلاء والتشتت بين المتقابلات ، إن إكرام الأقرباء لا ينبغي أن يتم على حساب الآخرين ولا بخرق النظام العام ، وإلا كان شراً وبلاءً .(1/119)
ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا إن من أشد ما عاناه التمدن الإسلامي في تاريخنا الطويل كان نقل العرب من مرحلة (القبيلة) إلى مرحلة (الدولة) حيث يتم الفصل شبه الكامل بين العلاقات والحقوق الشخصية وغير الشخصية ، ونجد إلى جانب هذا في سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وسلوك أصحابه الكرام موازنة دقيقة في هذا الشأن ، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- هو الذي قال : يا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئت فإني لا أغني عنك من الله شيئاً [1] وهو الذي قال : .... لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها [2] .
2- النجاح في الابتلاء يقتضي نوعاً من اليقظة لجميع قوانا العقلية والروحية، حتى لا نقع في أسر اللحظة الحاضرة ونستسلم لخيرها وشرها رضائها وكربها ، وهذا يعني نوعاً من الاستعلاء على الواقع وعدم الركون إليه ، والذوبان فيه ، وذلك إنما يقع عند الغفلة عن (نواة) الابتلاء الكامنة فيه ، على نحو ما حدث من غفلة الرماة يوم أحد عن نواة الابتلاء في أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- لهم بالبقاء في مواقعهم مهما كان اتجاه المعركة ، فأدى ذلك إلى تحويل النصر الذي كان يلوح في مستهل المعركة إلى هزيمة ! لكن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يدع المسلمين يستسلمون لمرارة الهزيمة ، ويغرقون في التلاوم والندم ، وإنما اندفع بهم إلى ساحة ابتلاء جديد بأمره لهم بالتوجه إلى حمراء الأسد حيث تحولت مشاعر الفرّ والانكسار إلى مشاعر المبادأة والمطاردة للعدو ! [3] .
ولعل مما يعصم عن الغرق في الحالة الراهنة تعود الاستبصار وتقليب النظر في الحالة الراهنة خيرها وشرها ، ومحاولة فهم المنطقية والآلية التي أدت إلى ولادتها وتجسدها ، وإذا ما تم ذلك أمكن أن نسيطر على تلك الحالة ، ونتصرف إلى اتجاهات سيرها وتطورها ، فإذا كان الابتلاء عبارة عن خير أي خير أصابه المؤمن ثمرة لجهده وكفاحه وجب عليه أن يستمر في ذلك الجهد على نفس الوتيرة التي كان عليها ، وإذا كان قد أصابه من غير تعب كمن ورث مالاً وفْراً وجب عليه أن يشكر الله على ذلك أولاً ، وأن يقوم ثانياً ببحث الأسباب والعوامل التي تؤدي إلى المحافظة عليه وتنميته وتزكيته ، حتى لا يشعر يوماً ما أن النعمة التي هبطت عليه لم يكن يستحقها ! .
وإذا كان ما أصاب المؤمن من شر ومحنة بسبب أخطائه وخطاياه ، فإن النجاح في مواجهة ذلك الابتلاء لا يكون إلا بالخلاص مما اقترفت يداه ، وبذلك يستحق تغيير الله تعالى له كما قال سبحانه : { إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم } [الرعد : 11] .
وإذا كان ما أصابه بسبب ما جناه غيره فإن عليه أن يصبر ، ويحاول أن يتجاوز ما هو فيه من بلاء بتحوله من (صالح) إلى (مصلح) لأن البلاء حين يعم بسبب انتشار الفساد لا يتأهل للنجاة منه إلا الذين يسعون إلى تحجيمه وتطهير المجتمع منه ، كما قال سبحانه : ] فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون [ [ الأعراف : 165] ، ولابد للتوطئة لكل ذلك من سيادة روح المفاتحة والمكاشفة والنقد المنصف البناء حتى لا تندغم الذات في الموضوع ، ونصبح كمن كان يدفع العجلة إلى أن أصبح يجري وراءها مستسلماً لقوة اندفاعها .
3- إن مبدأ (الزوجية) ملحوظ في الكثير الكثير من المخلوقات والموجودات ، وهذا المبدأ كما أنه سبب في تكاثر الكائن الحي ونمو النوع كذلك هو سبب في تحول حالات الرخاء والشدة ، ففي رحم كل رخاء (نواة) لمحنة ، كما أن في أحشاء كل شدة نواة لرخاء ومنحة وهذا واضح في قوله جل وعلا : { فإن مع العسر يسرا، إن مع العسر يسرا } (الشرح : 5 ، 6) إن فهم هذه المسألة يقتضي منا أن نضع الحالة الراهنة التي نعيشها في السياق التاريخي والسببي ، حتى يتبين لنا أنها ليست أكثر من حلقة في سلسلة غير متجانسة من النجود والوهاد والنجاحات والإخفاقات .
إن هذه الدنيا ليست هي الظرف المناسب لتموضع (الأحوال النهائية) في خير أو شر ، وإنما هناك دائماً خلف الباب محنة تنتظر إذا ما نحن أسأنا التصرف بالإمكانات التي بين أيدينا ، وفي المقابل فإن الشدائد والمحن تفجّر روح المقاومة والإصرار والعناد ، تلك الروح التي كثيراً ما تظل هاجعة خامدة إلى أن تأتيها صدمة قوية توقظها من سباتها ، وهكذا فالمطلوب دائماً أن نكون في الموقع الصحيح لمواجهة الابتلاء .
إن طبيعة الابتلاء تقوم على قاعدة من التوازنات العميقة والدقيقة ، والإنسان المبتلى يشبه في كثير من الأحيان الذي يسير على حبل مشدود فهو يطالب حتى لا يقع بأن يستنفذ كل قواه العقلية والجسمية على نحو دقيق ومتوازن وإلا ...(1/120)
4- تمتلك أمة الإسلام بحمد الله عدداً من المنظومات المعيارية والرمزية التي تمكنها من اختراق الحالة التي تعايشها ومعرفة أوجه الابتلاء فيها ، بل وتمكن الصفوة الممتازة من أبنائها من معرفة نسب الخير والشر وحجم الإيجابيات والسلبيات في الواقع المعاش ، وهذه المعرفة تنظم أيضاً ردود أفعالنا على الطوارئ والوافدات الجديدة رفضاً ومدافعة وتعديلاً وتهذيباً وقبولاً وترحيباً ، وهذا يعني أن كل ابتلاء جديد لا يدخل في حياة الأمة (الحية) إلا بعد أن يمر بمصفاة قيمها ومبادئها و (عقيدتها الاجتماعية) [4] أيضاً ، وكلما كان وقع الابتلاء الجديد حاداً ومكشوفاً استطاع أن يستفز ردود أفعال الأمة عليه بصورة قوية وسريعة ، فظاهرة الردة الأولى كانت ابتلاء كبيراً جداً واجهته دولة الخلافة الوليدة في زمان أبي بكر رضي الله عنه بالقوة والسرعة المكافئة ، لكن الابتلاء (المتدرج) الذي حصل بعد ذلك في صورة فرق وعقائد فاسدة وانحرافات سلوكية وفي صورة تجديد أطر الدولة وفق اتساع أمة الإسلام لم يستوفز الطاقات الكامنة في الأمة ، فلم تقم بواجبها تجاهه ، ولعل هذا يدفعنا إلى القول : إن أخطر ما يغيب الإحساس بالابتلاء على مستوى الفرد والجماعة معاً ليس الكوارث الكبرى ولا الجوائح العظيمة وإنما (التغيرات البطيئة) التي تدخل من أضيق المسام ، فتتكيف الأمة معها سلبياً على سبيل التدرج، وهذا ما حصل بالنسبة لأمة الإسلام وما حدث لدول عظمى في عصرنا الحديث ، فقد بدأت بريطانيا العظمى تتراجع عن مركزها العالمي ، وبدأت الشيخوخة تدب في أوصالها منذ أكثر من قرن لكن ذلك لم يظهر إلا في الحرب العالمية الثانية .
ومن الطريف أن بعض علماء (الأحياء) جاءوا بضفدع ، ووضعوه في إناء وأوقدوا تحته ناراً هادئة ، فصارت درجة حرارة الماء ترتفع بمنتهى البطء ، وكان المأمول أن يقفز الضفدع عندما يحسّ بسخونة الماء لكن حدوث التسخين على نحو بطيء أدى إلى أن يتحول (المحرّض) إلى (مخدّر) وكانت النتيجة أن الضفدع انسلق دون أن يبدي أية مقاومة !
وهنا تبرز مهمة العلماء الربانيين العظام والمفكرين المبدعين الذين يمتلكون حاسة (الاستشعار عن بعد) حيث يرون عواقب الأمور قبل فوات الآوان ، ويقومون بما تستحقه من مواجهة وعمل ، وفي هذا يقول سفيان الثوري رحمه الله : الفتنة إذا أدبرت عرفها كل الناس ، وإذا أقبلت لم يعرفها إلا العالم .
وحتى ننجح في مواجهة الابتلاء (التغيرات البطيئة) فإن علينا أن نقوم بأمرين:
أ- الانشداد إلى الأصول والثوابت في المنشط والمكره والتأبي على انصهار منهجيتنا وحاستنا النقدية في المعطيات الجديدة مع محاولة استيعاب تأثير المستجدات على تلك الأصول ومحاولة إيجاد التكييفات والتوظيفات التي ترسخها ، وتجعلها تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها .
ب- المتابعة الجادة والدقيقة لمجمل التغيرات التي تطرأ على حياتنا لا من خلال الحدس والتخمين والملاحظة العامة ، وإنما من خلال ( الرقم ) والأساليب الكمية ، حتى نتعرف بدقة على سيرورة أحوالنا المختلفة والمآلات الصائرة إليها ، وهذا لن يتم إلا من خلال إعادة تنظيم حياتنا ومؤسساتنا المختلفة على أسس جديدة بحيث تخصص كل جهة أو مؤسسة قسماً أو موظفاً يتولى جمع المعلومات الخاصة بها ونشرها حتى ينمو إحساس الناس ب (الكم) وطريقة قياسه ، وليس من المستفز اليوم ذلك التلازم التام والمطلق بين درجة تحضر الدولة ودرجة تقدم الإحصاء فيها .
إن على المسلم أن يظل يكافح ويجاهد في سبيل التعرف على مراضي الله تعالى في كل حالة من أحواله ، ويستشرف بعد ذلك عاقبة المتقين .
------------
(1) أخرجه البخاري .
(2) أخرجه البخاري .
(3) انظر الرحيق المختوم : 318 .
(4) العقيدة الاجتماعية عبارة عن جماع المبادئ والمصالح ومركز التوازن بينهما .
================
#{ وخلق الإنسان ضعيفاً }
الإنسان هذا المخلوق العجيب هو صنعة الله تعالى المحكمة الدقيقة هذا الإنسان الذي يبدو للوهلةالأولى في منتهى البساطة مشتمل على كل أشكال التعقيد ، إنه يبدو قوياً مخيفاً مع أنه في حد ذاته ضعيف في كل جانب من جوانب شخصيته ضعفاً لا يوازيه شيء سوى ما يدعيه من القوة والعزة والسطوة !
إن هذه الكلمات القرآنية الثلاث قد لخّصت لنا جوهر الإنسان ، لكن دون أن تضع لنا الإصبع على مفردات ذلك الضعف ومظاهره ليظل اكتشافها التدريجي عبارة عن دروس وعظات مستمرة تذكر الإنسان بحقيقته ، وسوف ينفذ العمر دون أن نحيط بحقيقة أنفسنا .
ويمكن أن نسلط الضوء على بعض ما أدركناه من ضعفنا وبعض ما يجب علينا تجاه ذلك في الكلمات التالية :(1/121)
1- تَبَصّر بني الإنسان عل الرغم من التقدم المعرفي الكبير بأجسامهم مازال محدوداً إلى يوم الناس هذا ، فهناك أجزاء من أجسامنا مازالت مناطق محرّمة ، فعلم الدماغ مازال علم إصابات أكثر من أن يكون علم وظائف وتشريح ، ومركبّات الأنسجة والسوائل المختلفة في أجسامنا وتفاعلها مع بعضها مازال الكثير منها مجهولاً ، فإذا ما دلفنا إلي مناطق المشاعر والإدراك وصلاتها وتفاعلاتها بالجوانب العضوية ، وجدنا أن كثيراً مما لدينا ظنون وتخرصات أكثر من أن يكون حقائق .
فإذا ما خطونا خطوة أخرى نحو العالم الوجداني والروحي وجدنا أنفسنا في متاهات وسراديب ، حتى إن الفردية لتطبع كل ذرة من ذرات وجودنا المعنوي ، مما يجعل إمكانات الفهم ووضع النواميس والنظم العامة أموراً قليلة الفاعلية محدودة النجاح .
إن الباحثين في مجالات علوم الإنسان يجدون الطرق متشعبة ملتوية كلما تقدموا نحو الأمام ، على حين أن الباحثين في علوم الطبيعة يستفيدون من أنواع التقدم المعرفي الأفقي في إضاءة ما بقي مظلماً من مسائل الطبيعة والمادة . وتقدّس الله تعالى إذ يقول : ] ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا [ [الإسراء : 85]
ويزداد ظهور ضعف الإنسان حين يدخل الإنسان في صراع بين عقله ومشاعره حيث يجد نفسه عاجزاً عن دفع مشاعره والخلاص من وساوسه والتغلب على مخاوفه أو معرفة مصدرها في بعض الأحيان ، ليدرك المرة تلو المرة أنه مع طموحه إلي السيادة على الأرض وغزو الفضاء قاصر عن السيطرة على نفسه !
إن فاعلية كل رأي ودقته نابعان من مجموعة العمليات التي يستند إليها فحين تكون تلك العمليات ظنية وعائمة فإن آراءنا الطبية والنفسية سوف يظل كثير منها هشاً ونسبي الصواب .
2- هذا الإنسان الضعيف لا يستطيع أن يبصر الأمر إلا ضمن شروط ومعطيات زمانية ومكانية وثقافية خاصة ومحدودة ، فهو لا يستطيع أن يتخلص من محدودية الرؤية وضرورة النظر من زاوية معينة ، وهذا هو السرّ الأكبر في أننا لا نملك أن نتفق حول كثير من ا لمسائل والقضايا المطروحة . إن خصوصية تكويننا وظروفنا ومشاعرنا تدفع مواقفنا وآراءنا إلى التفرد ، ومن ثم فإننا نعجز عن توحيد الرؤية وبسط الرأي الواحد في أكثر شؤوننا .
3- نحن عاجزون عن إدراك الأشكال النهائية لأكثر حقائق هذا الكون دفعة واحدة ، فالحقائق لا تسفر لنا عن كل أبعادها وأطوارها إلا على سبيل التدرج ، ومن ثَمّ فإن الإنسان الضعيف يظل يكتشف عجزه باستمرار ، وكأن ما يحرزه من التقدم اليوم ليس إلا عنواناً على ما كان يجهله بالأمس ، وما سيصل إليه غداً ليس إلا رمزاً على ما يجهله اليوم ، ومن ثم فإن التغيير والتطوير يظلان ملازمين لكل إنتاجاتنا وإبداعاتنا علي مقدار ما نحرزه من تقدم في العلم والفهم ، والمقولة التي لا يفتأ هذا المخلوق الضعيف يرددها : » لو استقبلت من أمري ما استدبرت لفعلت كذا، ولقلت كذا .. ، وانطلاقاً من هذا فإن من سمات النظريات العلمية الناجحة أن تكون منفتحة وذات قابلية جيدة للإضافات التي تأتي بها حركة كشف الحقائق وإدراك المجهولات .
4- هذا الإنسان الضعيف لا يستطيع أن يجزم بشيء مقطوع من حوادث المستقبل ، فمهما أدرك المرء الظروف والعوامل والمؤثرات التي تحيط به لم يستطع أن يعرف ماذا سيحدث له بعد شهر أو يوم أو ساعة ، وأعظم أطباء الدنيا لا يستطيع ضمان استمرار حياته أو حياة غيره ساعة من زمان ، ومن ثمّ فإن القلق والخوف من المستقبل هما الهاجس الجاثم فوق صدر الإنسان الحديث الذي فقد الإيمان وفضيلة الدمج بين الحياة الدنيا والآخرة ، والمتأمل في كثير من الأقوال والتصريحات والدراسات يجد أن خبراء الاستراتيجية هم أكثر الناس مجازفة ولا سيما عندما يشرعون في سرد التفاصيل للأحداث المتوقعة ، حيث تقصر طاقات البشر وإمكاناتهم عن التنبؤ بها [2] .(1/122)
5- أكثر ما يظن فيه عجز الإنسان وضعفه هو الإمكانات التي يمتلكها لفهم الواقع المعاش بكلياته وجزئياته ومشكلاته وخباياه ، وقد كثرت في أيامنا هذه الدعوة إلى فهم الواقع وفقهه ، وهي دعوة مهمة ، لكنها تخفي في طريقة طرحها نوعاً من التبسيط للمسألة ، حيث إن فهم الواقع أو مقاربته مسألة من أعقد ما يواجهه العقل البشري ، فالقيم التي نؤمن بها تتحكم إلى حد كبير في رؤيتنا لذلك الواقع ، وكثيراً ما تشكل حائلاً بيننا وبين رؤية حقيقة ما يجري فيه . والعقل الإنساني حتى يلامس الواقع فإنه يفترض ثباته وجموده ، على حين أن الواقع يظل محطّة لتدفق التحولات المشعثة الكثيرة والحادة أحياناً مما يجعل إدراكنا قاصراً عن ملاحقته ، وبالتالي فإن أحكامنا تصدر على أشياء فائتة ومنتهية ومن هنا فإنه لابد من بناء (إشكالية) ، يتم من خلالها تقسيم الواقع إلى قضايا يمكن تحديدها وتقديم إجابات وحلول لها ، والنمط الذي سنصور الواقع من خلاله هو عبارة عن صورة عقلية مركبة تدخل فيها رؤانا العقدية إلى جانب العناصر المعرفية والقيم الاجتماعية التي ترشد حركة المجتمع ، ومادام كل ذلك متفاوتاً عند الناس فإن عجزنا عن لمّ الخلاف سوف يظهر أكثر وأكثر عندما نحاول تقويم الواقع وإصدار الأحكام عليه .
وهذا ما سيؤدي بالتالي إلى اختلافات كثيرة في مناهج الإصلاح ومشروعات النهوض الحضاري ، وهنا يظهر مرة أخرى مأزق وهن الإنسان حيث إن التقدم العلمي لا يتحقق دون الإغراق في التخصص ، والتقدم يستمد مشروعيته وأهميته من كونه يقدم الأدوات التي تساعد على إصلاح شأن الإنسان وترشيد قراراته ، لكن الإغراق في التخصص يحول دون فهم الواقع ودون فهم حاجات الإنسان المختلفة من منظور شامل ، إذ إن مجال التخصصات هو الجزئيات ، وفهم الواقع الإنساني يحتاج إلى رؤى ونظريات كلية لا تتوفر عادة عند الاختصاصيين .. ومن هنا ندرك لماذا نرى تقدم المعرفة وتأخر الإنسان وانحداره شيئاً فشيئاً نحو البربرية ! إننا عاجزون عن رعاية شؤوننا إذ اما ابتعدنا عن الانتفاع بالهداية الربانية .
الموقف الموضوعي مما سبق :
إذا كان الإنسان على ما ذكرنا من العجز والقصور فإن عليه أن يطامن من نفسه ، ويخضع لقيوم السموات والأرض خضوع العارف بضعته المدرك لعظمة خالقه متخذاً من ذلك باباً للأوبة والتوبة الدائمة .
وعلى الإنسان مع ذلك أن يحترم عقله وقدراته فلا يزجّ به في مجاهيل وغيوب لا يملك أدنى مقدمات للبحث فيها ، حتى لا يتناقض واقعه مع ذاته ومن المنهجية القويمة أن نعلّم أنفسنا الصبر على الاستقراء والتأمل وعدم المسارعة إلي إطلاق الأحكام الكبيرة قبل التأكد من سلامة المقدمات التي تستند إليها ، وحين نصل إلي حكم ظني فإنه علينا أن نصوغة بطريقة تُشعر المطلع عليه بذلك ، فلا نسوق القطعيات مساق الظنيات ، ولا الظنيات مساق القطعيات . ويروون عن الإمام مالك رحمه الله أنه كان كثيراً ما يردد قوله تعالى ] إن نظنُّ إلا ظنَّاً وما نحن بمستيقنين[ [الجاثية : 32] وذلك عندما يُستفتى فيفتي ، وقد عتب الإمام الجويني على الماوردي أنه كان في كتابه » الأحكام السلطانية « يسوق المظنونات والمعلومات على منهاج واحد « [3] . مع أن النصوص في مجالات » السياسة الشرعية « قليلة ، وأكثر المسائل فيها مبنية على الاجتهاد .
إن الوضعية التي وضع الله تعالى فيها الإنسان تحتم أن نظل في حالة من الاستعداد الدائم لقبول الحق أياً كان مصدره والتراجع عن الخطأ وتعديل الرأي وامتلاك فضيلة المرونة الذهنية ، وعلى الله قصد السبيل .
------------
(1) النساء : 28 .
(2) اقرأ إن شئت ما كتبه (نيكسون) في كتابه (نصر بلا حرب) عن المستقبل الذي يتوقعه لروسيا ثم ما آلت إليه الأمور ! .
(3) انظر الغياثي : 142 تحقيق د عبد العظيم الديب .
=================
#{ ادخلوا في السلم كافة}
إن المراد بـ » السّلم « هنا : ( الإسلام ) على ما رجّحَه عدد من المفسرين وإن ( كافّة ) حال من ( السّلم ) على ما نرجحه ، ويكون المراد آنذاك : الأمر بالأخذ بتكاليف الإسلام جميعها : ما تميل إليه النفس منها ، وما يخالف هواها .
وتصرح الآية الكريمة بأن في عدم الأخذ بالإسلام كاملاً نوعاً من اتباع الشيطان ، حيث إن المنهج الرباني يباين السبل الأخرى في فلسفتها العامة ، وإن التفريط بشيء من ذلك المنهج سيكون فيه اتباع (آلي) لسبيل الشيطان حيث لا يوجد خيار ثالث .
ويمكن أن نستبصر في إشراقة هذه الآية المباركة المفردات التالية :(1/123)
1- إن المنهج الرباني يتسم بسمتين أساسيتين هما : التكامل والتفرد فهو نظراً لتكامله لا يفسح المجال لعناصر أخرى منافية لجوهره ، وأما تفرده عن المناهج الأخرى فإنه يمنحه نوعاً من الحساسية الخاصة التي تجعل أي انحراف عنه أو به عن مقاصده وغاياته بالغ الضرر على أدائه وإصلاحه للشأن الإنساني كله ، فالصفاء الكلي ليس مطلباً من مطالب الإيمان النظري ، ولكنه مطلب من مطالب توظيف المنهج ورسم دوائر حيويته وفاعليته ، وذلك نظراً للعلاقة الجدلية بين النظرية والتطبيق ، فسلامة الإيمان على مستوى الاعتقاد تتأثر إلى حد بعيد بالأخذ الجزئي للإسلام على مستوى التطبيق ! .
وقد حذّر القرآن الكريم النبي-صلى الله عليه وسلم-من مطاوعة المشركين في الإعراض عن بعض المنهج الرباني حين قال : { وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك } [1] .
2- إن خصال الخير في هذا الدين كثيرة ، وعلى مقدار ما يأخذ المسلم منها يكون كمال إيمانه وإسلامه ، لكن بما أن العمر محدود والطاقات محدودة فإن على المسلم إذا أخذ بعُمُد الإسلام ، واهتدى بهديه العام ، وقبس من كمالاته ، أن يبحث عن المجال الحيوي المناسب لاستعداداته وظروفه وطاقاته كي يتخذ منه محراباً لتعبده وتقربه إلى الله تعالى ، حتى نحفظ للمجتمع الإسلامي توازنه ونسد ثغراته .
ومن هنا فإن عبادة طالب العلم محاولة النبوغ ، وإتقان التخصص حتى نحقق للأمة الاكتفاء الذاتي ولو في حده الأدنى على الصعيد العلمي والفني وعبادة علماء الشرع القيام بالتبليغ وإحياء السنن والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وتجديد وظائف التدين والتبصر في واقع الأمة ، وإن عبادة الحكام إقامة العدل ، ورعاية شؤون الأمة ، وحماية البيضة ، والتعفف عن الأموال العامة ونشر الدعوة ، وعبادة الجندي دوام التمرس بفنون القتال ، واستيعاب الأسلحة الجديدة واستشراف الشهادة ، والاستعداد الدائم للبذل والفداء ، وإن عبادة الأغنياء وذوي الجاه سد حاجة الفقراء ومساعدة الضعفاء على حل مشكلاتهم والوصول إلى حقوقهم ، والبذل في تشييد المرافق العامة ، وهكذا ...
وإن خروج كل واحد من هؤلاء عن مجاله الحيوي سيحرمه ، ويحرم الأمة من خير عظيم ، بل قد يؤدي إلى أضرار بالغة وخيمة العواقب ، فإذا صار هم العالم امتلاك المال بنية إعمار المساجد مثلاً تقلصت جهوده في ميدانه الحقيقي الذي ينبغي عليه المجاهدة فيه ، وإذا انشغل الحاكم بأعمال خيرية أو أداء النوافل عن واجباته الأخرى ، لم يكن ذلك موضع مدح ولا نفع ذي شأن للأمة المسلمة ، وهكذا ...
وهذا كله يحتاج إلى نوع من البصيرة النافذة بغية وضع الأمور في نصابها .
3- إن أنظمة الإسلام يكمل بعضها بعضاً ، كما يفعّل بعضها بعضاً ومن ثم فإن أي خلل أو ضعف في نظام من تلك الأنظمة يؤثر بالسلب على أداء باقيها ، وهذا يعود إلى ما ذكرناه آنفاً من ميزة (التكامل) التي يمتاز بها المنهج الرباني ، ونظراً لأهمية هذه المسألة وضعف الإدراك لها سنفيض القول فيها عسى أن نشعر أننا نقف على أرض صلبة .
وفي البداية فإن مبادئ الإسلام ومنظوماته المختلفة تنضوي تحت رؤية واحدة مما يجعل التخلي عن أي منها هدماً لجزء من الرؤية الكونية الإسلامية ويستوي حينئذ على الصعيد العملي على الأقل الجهل بذلك الجزء مع تجاهله أو جحده ، والنتيجة واحدة ، وهي غبشٌ في الرؤية على المستوى النظري ، واختلال في التوازنات العميقة على مستوى الشعور ، واضطراب أنظمة الحياة الإسلامية على مستوى الفعل والواقع المُعَاش ، وسنضرب العديد من الأمثلة لجلاء هذه الحقيقة .
أ- الزكاة جزء من النظام الاقتصادي الإسلامي ، وعدم القيام بهذه الشعيرة يؤدي إلى عدم كفاءة النظام الاقتصادي ، كما يؤدي إلى إلحاق الضرر بالنظام الاجتماعي والأخلاقي أيضاً ، فالمقدار المفروض من الزكاة في الأموال وعروض التجارة هو 2 . 5% ، وهذا القدر كاف لسد العديد من حاجات المجتمع الإسلامي على مقتضى الحكمة الإلهية البالغة ، لكن ذلك سيكون في الأحوال العادية والطبيعية وفي غير الأحوال الطارئة كما في حالات الزلازل والفيضانات ، وذلك أيضاً فيما إذا التزم أغنياء المسلمين بإخراجها ، وإذا استمر ذلك الالتزام حقبة مناسبة من الزمن ، فلو قدرنا أن 10% من الأغنياء أخرجوا الزكاة وأن التزامهم بأدائها في مجتمع ما لم يمض عليه سوى سنتين ، فإن الزكاة آنذاك لا تقوم بمهامها على الوجه المطلوب ، حيث إن الحالتين اللتين ذكرناهما تجعلان الفقر يتراكم ويتفاقم إلى الحد الذي لا تفي أموال الزكاة بالتخلص منه .
ثم إن نظام الزكاة يؤدي مهامه في ظل فعالية الأنظمة الأخرى ، فإذا كانت موارد القطر شحيحة جداً ، أو كان النظام السياسي فيه مختلاً ، وأدى ذلك إلى انتشار البطالة والعطالة عن العمل ، فإن نظام الزكاة بالتالي لا يوصلنا إلى الأهداف المنشودة منه .(1/124)
وباعتبار الزكاة جزءاً من النظام الاقتصادي الإسلامي ، فإنها أيضاً لا تؤدي وظائفها إلا بفاعلية النظام الذي تنتمي إليه ، فمثلاً : (القرض الحسن) جزء من ذلك النظام ، وإعراض الدولة أو الشعب عنه يؤدي إلى نوع من تعطيل حركة المال وتداوله ، وبالتالي إلى ضعف حركة التنمية والاستثمار مما يفضي أيضاً إلى قلة فرص العمل وكثرة الفقراء والمعوزين .
ومرة أخرى فإن فاعلية نظام الزكاة ترتبط جزئياً بقيام الدولة بواجباتها من ضمان الحد الأدنى من المعيشة للفقير بالقدر الذي يحفظ كرامته ، ويجعله في وضع منتج مثمر ، فإذا عجزت الدولة عن ذلك أو قصرت فيه ، فإن آلية (نظام السوق) ستوجد شريحة واسعة من المحتاجين الذين لا يمكن أن تقوم بهم أموال الزكوات والنذور والكفارات ... وينفعل كل ذلك ويتأثر بقوة النظام القيمي وفاعليته ، فإذا كان نشطاً اندفع الناس إلى التطوع بكثير من الأعمال الخدمية واندفع كثير من الفقراء إلى العمل والحركة مع حسن التدبير والتعفف عن أموال الآخرين مما يخفف من غلواء الحاجة .
ب- الضبط الاجتماعي في الإسلام يقوم على ركنين أساسيين : الأسرة والمجتمع العام بما فيه من وسائل تثقيف وتعليم ورقابة ... وإن الخلل في أي من هذين الركنين سيؤدي إلى شيوع الخلل في أداء الركن الآخر . وواضح أن مهمة الأسرة أن تصقل الفرد من داخله بما تغرسه من قيم وآداب وبما تخطه في ذهنيته ومشاعره من خطوط عميقة ، كما أن مهمة المجتمع الأرحب القيام بالرقابة على تشجيع القيم الإيجابية وحماية أفراده من السقوط فيما يعتبر أعمالاً مشينة أو مُخلة .
والحالة النموذجية في هذا تتجلى في عموم الإيمان بالقيم والنظم ، وتوحد التربية الفردية مع معايير الضبط الاجتماعي على مقتضى ذلك الإيمان ، فإذا ما افترضنا الاختلاف بين القيم الأسرية والقيم التي يبثها الإعلام أو تلقنها المدرسة أو يشيعها الشارع ، فإن النتيجة هي تمزق شخصية الطفل بين مختلف هذه المؤثرات ، وحينئذ فإن التربية الأسرية تتعرض للخطر من قبل المجتمع الأوسع أو يأتي الخطر مما تواضع عليه من قبلها . هذا من جهة ، ومن جهة أخرى فإن الطفل يُخفي في البيت ما تلقفه من المدرسة أو الشارع ، ويُخفي فيهما ما لُقنه في البيت ، والنتيجة هي الازدواجية والحيرة وانطفاء الفاعلية ، أي إجهاض عمل الجهات التربوية المختلفة ، وترك الناشئ لموجات الظروف .
ج- الحدود في الإسلام وسائل للردع ، وهي بمثابة العمل الجراحي الذي يأتي ترتيبه في التطبب متأخراً ، وتؤدي الحدود مهماتها في مجتمع تعمل فيه باقي الأنظمة بكفاءة من نحو الاستقرار والعدل وتوفر فرص العمل المناسبة وانعدام المغريات بالفاحشة وانسجام التربية البيتية مع معايير الضبط الاجتماعي وانتشار العلم ... وإذا ما فرضنا وقوع خلل فيما سبق أو بعضه ، فإن كفاءة الحدود في توفير الأمن للمجتمع سوف تتراجع على مقدار القصور الحاصل في الأنظمة الأخرى ، وهذا كله يجعل مسؤولية أمن المجتمع واستقراره مسؤولية عامة يتحملها كل فرد في المجتمع ، كما تتحملها الدولة على مقدار المكنة والتخصص .
4- إذا كانت أنظمة الإسلام متفردة في رؤيتها الكونية وفي منطلقاتها وأهدافها ، فإن مما يضر بتماسكها الداخلي إدخال العناصر البعيدة عن طبيعتها عليها ، وهذا ما يمكن أن نسميه بـ (التلفيق) ، وإن الثقافة الإسلامية تقبل من الجديد ما ينشط وظائفها ، أو يوظف مبادئها ، أو يملأ فراغات وهوامش أوجدتها خاصية المرونة فيها ، فإذا تجاوز الأمر ذلك إلى الجوهر والأنظمة الأساسية ، فإن النتيجة هي ضرب التوازنات العميقة لتلك الثقافة مما يجعلها تنكمش كما هو الكائن الحي حين يُهاجَم وتفرز نوعاً من العطالة الضرورية كيما تحافظ على وجودها وانسجامها .
وإن ثقافتنا الإسلامية تمر بمرحلة عصيبة لا سابق لها في تاريخها المديد حيث يمتلك زمام تثقيف الأمة أناس كثيرون يجهلون ثقافة الأمة ، بل إنهم رضعوا لبان الثقافة المعادية ، ولسنا هنا بصدد بيان ذلك ولا أسبابه ، لكن ما نشاهده اليوم من عمليات التلفيق والتهجين الثقافي كان حصاد مراحل الركود الفكري والحضاري بصورة عامة ، وإذا كان التجديد سنة من سنن الكائن الحي فإنه إذا لم يتوَل التجديد أهله تولاه غيرهم ، فالإنسان بطبعه لا يصبر على طعام واحد ، وهو يستهلك الشعارات والأفكار والنظم الصغرى ، فإذا لم نقم بإثراء ثقافتنا بالدراسات والخبرات وتجديدها وتحريرها من عوادي الانحراف والجمود والتقليد فعل ذلك من لا يُحسنه ، وصار الانسجام والتجديد عبارة عن سمات ظاهرة جوفاء ، أما الجوهر فيشوبه التناقض والتآكل الداخلي .
ولله الأمر من قبل ومن بعد .
--------------
(*) من قوله تعالى : ] يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين [ (سورة البقرة : 208) .
(1) سورة (المائدة : 49) .
=================
#{ وأن تصوموا خير لكم }
كان من منّة الله تعالى على هذه الأمة أن شرع لها من الدين ما يصلح أمر دنياها وآخرتها ، وكان من أهم ما شرعه صوم شهر رمضان المبارك .(1/125)
والعبادات في الإسلام تكاليف ابتلاء ، ومقياس يكشف عن مدى تمكن الإيمان وألقه في نفس المسلم ، وهي في الوقت ذاته وسائل لتمكين ذلك الإيمان ، إنها له بمثابة الماء للشجر والنبات .
وآيات الصيام لم تعدد لنا أنواع الخيرات التي سنحصل عليها من وراء هذه العبادة ؛ ليظل عطاء هذه العبادة مفتوحاً متنوعاً تظهره التجربة التاريخية الاجتماعية ، والواقع المعاش ، ونستطيع الآن من خلالهما أن نتلمس وجوهاً من ذلك الخير في المفردات التالية :
1- إن الصيام وسيلة فعالة لتربية الإرادة الحرة :
حيث لا توجد عبادة من العبادات تكف المسلم عن شهواته وملذاته مدة متصلة من الزمان كهذه العبادة ، فهي تدريب لإرادة المسلم على مقاومة الأهواء والملذات ومغريات الحياة . والمتأمل فيما يتفاوت فيه الناس في هذا الوجود يجد أن محور التفاوت هو الإرادة لا القدرة ، فالقدرات الفطرية لدى الناس متقاربة لكن تفاوتهم الأساس يكون في مدى صلابة الإرادة التي تُسخّر القدرة وتوجهها والتي تعين على ضبط الوقت ، وتكبح جماح الهوى والركون إلى الدعة وسفاسف الأمور ، ومن هنا فإن الصيام جاء لينمي تلك الإرادة وليُعَودْها التوجه إلى الخير ومقاومة نزوات النفس ؛ ولذا فإن تفريط المسلم في أداء هذه الشعيرة صار لدى العامة من المسلمين مؤشراً إلى نقص في رجولته ، وهذا هو تفسير قيام كثير من المسلمين بالصيام مع تفريطهم في الصلاة ، مع أن أهميتها في الإسلام أعظم ! ويذكر لنا ابن الجوزي (ت 597 هـ) أن هناك صنفاً من الناس لو ضرب بالسياط على أن يفطر رمضان ما أفطره ، ولو ضرب على أن يصلي ما صلى ! وما ذلك إلا لأن الناس عدوا الإفطار نقصاً في الرجولة ، ولم يعدوا الصلاة كذلك ، وقوله سبحانه : ] وأن تصوموا خير لكم [ في أعقاب ذكر الرخصة للمريض والمسافر بالفطر إيماءة للمسلم بأنه من الأفضل له أن يصوم مع المرض المحتمل والسفر غير الشاق ، ليكون في تحقيق إرادته نوع من المكابدة والمعاناة في سبيل الله عز وجل ، وحتى لا يصير بعض الناس إلى إيجاد الرخص والتذرع بها للفرار من الواجبات .
2- الصيام عبادة سلبية ، كيف ؟
فهو امتناع عن أنواع المفطرات ، ومن ثم فإنه بعيد عن الرياء ، وخرق تلك العبادة أمر ميسور في السر لمن أراد ذلك ، ومن هنا فإن صيام رمضان فرصة لتنمية الوازع الداخلي لدى المسلم ، هذا الوازع الذي تعد تنميته محور التربية الفردية الناجحة ، والملموس أن تعاظم هذا الوازع لا يتم إلا من خلال الثقة به والاعتماد عليه في شؤون عديدة ، فهو في ذلك أشبه شيء بعضلات الجسم في أن نموها في استخدامها وتحريكها والاعتماد عليها ؛ ولذا فإننا نرى ضعف الوازع الداخلي لدى أولئك الذين يأتون الفضائل ويقومون بالواجبات من خلال قسر الأبوين أو المجتمع ، فهم يفعلون ما يفعلونه نتيجة ضغط خارجي ، فإذا ما ضعف ذلك الضغط أو تلاشى أتوا من الرذائل والقبائح وأنواع التحلل ما يتناسب طرداً مع حجم الضغوط التي تعرضوا لها فيما مضى ؛ وهذا يجعلنا نساوق بين الرقابة الاجتماعية وتنمية الوازع الداخلي من خلال التربية البيتية القويمة .
3- في الصيام فوائد طبية واقتصادية واضحة :
فهو يخلص الجسم من بعض ما تراكم فيه من الدهون ، ويريح المعدة من العمل الشاق الذي تقوم به على مدار السنة مع فوائد طبية أخرى معروفة .. وفي الصيام توفير إجباري لنحو 40 % من استهلاك الأطعمة والأشربة الذي تعوده الناس في أيام الفطر ، وفي هذا نوع من التعظيم للمالية الإسلامية ونوع من المحافظة على الموارد الغذائية للأمة المسلمة .
4- من خيرات رمضان أنه أضحى ظرفاً لأداء أنواع من القربات لله :
فقد تجاوز صيام هذا الشهر مفهوم التلبس بعبادة من العبادات ليصبح نوعاً من الامتثال لمفردات كثيرة في المنهج الرباني ، ففيه قيام الليل والإكثار من قراءة القرآن والاعتكاف في المساجد ولزوم الجماعات من قبل كثير من المسلمين وإخراج صدقة الفطر والاستبشار بعفو الله وكرمه بما تظهر الأمة من البهجة والسرور في يوم عيدها ، فكأن شهر رمضان مناسبة لازدحام العبادات والقربات في حياة المسلم على نحو لا يتوفر في أي وقت آخر .
5- يمثل الصيام نوعاً من الاتصال والتواصل الاجتماعي :
حيث ترسم الظروف اليومية والمصالح والأوضاع الاجتماعية والطموحات الخاصة مجموعة من الأطياف العازلة لكل إنسان عن غيره مما يؤدي إلى فقد الاتصال أو ضعفه ، وفقد الاتصال في مجتمع ما من أكبر المعوقات له عن النمو والتجانس والصمود في وجه الكوارث وألوان العدوان الخارجي ، ومن ثم فإن امتناع أبناء المجتمع المسلم عن الطعام في وقت واحد مهما كانت أوضاعهم الاجتماعية وتناولهم له في وقت آخر محدد ، إلى جانب الشعائر الجماعية الأخرى التي تعودها المسلمون في هذا الشهر المبارك من أهم ما يوحد الشعور بالتجانس ، ومن أهم ما يزيل الحواجز التي تولدها الظروف المختلفة .
الصيام اليوم :(1/126)
إن مهمة المبادئ العليا أن تكيف حياة الناس وتوجهها وفق مضامينها ومعطياتها ، لكن تلك المباديء لا تعمل في فراغ ، وإنما تشتبك مع أمور عديدة من جملتها : العادات الموروثة والظروف الضاغطة والأهواء والشهوات الجامحة والتأويلات والأفهام الخاطئة للمنهج والمباديء ، وهذا كله ينتهي إلى شأن اجتماعي معاش يلخصه ميل الناس بصورة دائمة إلى جعل النهج الرباني جزءاً من ثقافتهم ، وقد يكون جزءاً صلباً ، وقد يكون جزءاً رخواً على مقدار إقبال الناس على الإسلام وهي التي تجعل من المنهج موجهاً للثقافة ومهيمناً عليها . ومن هنا فإن أخطر علل التدين هي تلك التي تصيب الأمة في مكانة منهجها ومبادئها من ثقافتها العامة ، فتكف المبادئ عن توجيه الفعل ، أو تنحرف عن غاياتها ومقاصدها ، فلا تحقق الحكم المقصودة في تشريعها ، ويكون الجهاد الدائم هو محاولة الإبقاء على المنهج الرباني ساطعاً متألقاً متميزاً عما تواطأ عليه الناس من عادات وتقاليد .
ومازال بحمد الله في مجتمعنا المسلم من يحرص على الصيام على الوجه الأكمل ، وهم في تزايد مستمر لكن الأكثرية الكاثرة من هذه الأمة انحرفت بالصيام عن مقاصده التي ذكرنا أهمها آنفاً ، فعلى حين كان السلف يعدون رمضان فرصة سانحة يغتنمونها في صنوف الطاعات ، نجد كثيراً من المسلمين يسهرون الليل في ضروب من اللهو المختلفة حتى إذا اقترب وقت السحر تناولوا ما لذ وطاب من الأطعمة ، ثم ناموا قبل أداء صلاة الفجر ، وإذا كان هذا النائم موظفاً فإن وقت بداية العمل في رمضان يكون متأخراً ، فيقوم متثاقلاً إلى عمله ليكمل نومه هناك ! وإن كان غير موظف فإن رمضان هو شهر النوم عنده فيستغرق في نومه إلى قبيل المغرب ، فيفوت عليه أكثر من فريضة صلاة ! ! ومع هذا فإن الشعار المرفوع لدى كثير من الموظفين هو أن رمضان شهر عبادة وليس شهر عمل (العبادة التي قدمنا صورة منها ! ) .
أما تهذيب النفس من خلال الجوع فحدث عن هذا ولا حرج ، حيث إن التجار يشرعون في الإعداد لمستلزمات رمضان قبل مجيئه بنحو شهرين ، وتقدر بعض الجهات أن ما يستهلكه كثير من المسلمين في رمضان يصل إلى ثلاثة أمثال ما يستهلكونه في غير رمضان ! ! وقد صار رمضان عبئاً ثقيلاً على الحكومات التي توفر السلع المدعومة لمواطنيها !
وقد كان السلف يدعون الله تعالى ستة أشهر أن يبلغهم رمضان ، فإذا انصرم دعوا الله ستة أشهر أخرى أن يتقبل منهم أعمالهم في رمضان . أما اليوم فإن كل وسائل الإعلام في العالم الإسلامي تشعر الناس بأن رمضان ضيف ثقيل فكأنه شر لابد منه ، ومن ثم فإن كثيراً من البرامج ينصرف إلى الترفيه عن الناس بما يجوز وما لا يجوز ، وانقلب الشهر المبارك إلى موسم للهو واللعب !
وما يحدث لكثير من المسلمين في هذا الشهر المبارك أمر مفهوم ، حيث إن الأمة حين تمر بحالة من الركود الحضاري تكف مبادئها عن الفعل وتسيطر عليها الشكليات والعادات ، فجيوشها لا تقاتل ، ومبدعوها لا يعرفون والفضائل فيها شعارات ، والعبادات عادات .. وتستمر في ذلك حتى تندثر باعتبارها أمة متميزة أو يبعثها الله بعثاً جديداً يحيي ما اندرس من سابق عهدها ، وما ذلك على الله بعزيز .
================
#{ إن خير من استأجرت القوي الأمين }
قصّ الله جل وعلا علينا خبر موسى مع شعيب عليهما السلام حين جاء مدين ، ووجد ابنتين لشعيب قد منعتا غنمهما من الورود بانتظار ذهاب الرعاء وفراغ المكان ، وما حدث من تطوع موسى بالسقيا لهما ، وما كان من أمر شعيب حين بلغه ما قام به موسى حيث أرسل له يطلبه ليجزيه على ذلك وذكر لنا القرآن الكريم كذلك نصيحة ابنة شعيب لأبيها باستئجاره ، وعللت ذلك بقوة موسى وأمانته ، ويذكر المفسرون أن شعيباً عليه السلام أثارت حفيظته الغيرة من كلامها ، فقال : وما علمك بقوته وأمانته ؟ فذكرت له أن موسى حمل حجراً من فوق فوهة البئر ، لا يحمله في العادة إلا النفر من الناس وتلك قوته ، وأنه حين ذهبت تكلمه أطرق رأسه ، ولم ينظر إليها ، كما أنه أمر المرأة أن تمشي وراءه ، حتى لا تصيب الريح ثيابها فتصف ما لا تحل له رؤيته وتلك أمانته .
وقد صدق حدسها فهي ما رأت إلا نبياً من أولي العزم المؤتمنين على الوحي ، الأشداء الأقوياء ! وقد قيل : إن أفرس الناس ثلاثة : بنت شعيب وصاحب يوسف حين قال ( عسى أن ينفعنا ) [1] ، وأبو بكر حين اختار عمر لإمارة المؤمنين . [2]
وقد جمعت ابنة شعيب عليه السلام في تعليلها المختصر ذاك بين أمرين عظيمين ، ينضوي تحتهما معظم الكمالات الإنسانية ، وهما الأمانة والقوة ، وهذه وقفات سريعة معهما :
1- ليست الأمانة هنا إلا رمزاً لما يستلزمه الإيمان بالله تعالى من المحامد كالإخلاص والأمانة والصدق والصبر والمروءة ، وأداء الفرائض والكف عن المحرمات ؛ وقد قال أكثر المفسرين في قوله سبحانه : { إنا عرضنا الأمانة } [3] الآية : إن المراد بها التكاليف الشرعية عامة [4] ، وقد وصفت ابنة شعيب موسى بالأمانة لغضه طرفه ، ومشيه أمامها .
أما القوة فهي رمز لمجموع الإمكانات المادية والمعنوية التي يتمتع بها الإنسان.(1/127)
2- الأمانة والقوة ليستا شيئين متوازيين دائماً ، فقد يتحدان ، وقد يتقاطعان فالصبر جزء من الأمانة ؛ لأنه قيمة من القيم ، وهو في ذات الوقت قوة نفسية إرادية ، وإذا كان العلم من جنس القوة ، فإنه يولد نوعاً من الأمانة ؛ إذ أهله أولى الناس بخشية الله ، { إنما يخشى اللهّ من عباده العلماء } [5] والإيمان أجل القيم الإسلامية ، فهو من جنس الأمانة ، ومع ذلك فإنه يولد لدى الفرد طاقة روحية هائلة تجعله يصمد أمام الشدائد صمود الجبال ، ومن ثم كانت الظاهرة الإسلامية العالمية :
ظاهرة ( المسلم لا ينتحر ) ! . إن هذا التلاقي بين الأمانة والقوة يمثل بعض الأرضية المشتركة لتلاقي أهل الأمانة وأهل القوة ، كما يجعل التحقق من إحداهما المعبر للتحقق من الأخرى .
3- سوف يظل النمط الذي يجمع بين القوة والأمانة نادراً في بني الإنسان وكلما اقتربا من الكمال في شخص صار وجوده أكثر ندرة ، والقوي الذي لا يؤتمن ، والموثوق العاجز هم أكثر الناس ، والذين فيهم شيء من القوة وشيء من الأمانة كثيرون ، وقد روي عن عمر رضي الله عنه : » أشكو إلى الله جَلَد الفاجر وعجز الثقة ، فكل منهما لا يمثل المسلم المطلوب ، ودخل عمر أيضاً على لفيف من الصحابة في مجلس لهم فوجدهم يتمنون ضروباً من الخير ، فقال : أما أنا فأتمنى أن يكون لي ملء هذا البيت من أمثال سعيد بن عامر الجمحي ، فأستعين بهم على أمور المسلمين ! .
4- العمل المقبول في المعايير الإسلامية هو ما توفر فيه الإخلاص والصواب والإخلاص ضرب من الأمانة ، والصواب وهو هنا موافقة الشريعة ضرب من القوة ، هذا بصورة عامة ، لكن في أحيان كثيرة يكون ما يطلب من أحدهما أكثر مما يطلب من الآخر ؛ فالثواب يتعلق بالإخلاص أكثر من تعلقه بالصواب ، فالمجتهد المؤهل ينال أجراً إذا استفرغ وسعه وإن كان اجتهاده خاطئاً ، لكن لا ثواب ألبتة على عمل لا يراد به وجه الله تعالى ، أما النجاح والوصول إلى الأهداف المرسومة في الدنيا فإنه مرتبط بالصواب أكثر من ارتباطه بالإخلاص ، فكم من مؤسسة يديرها أكفاء ليس عندهم شيء من الأمانة ، ثم حققت أهدافها المادية كاملة وكم من مؤسسة أدارها أخيار غير مؤهلين ، فأعلنت إفلاسها !
وقد ذكر ابن خلدون أن للناس مذهبين في استخدام الأكفاء غير الثقات وتقديمهم على الثقات غير الأكفاء ، واختار هو استخدام غير الثقات إذا كانوا مؤهلين ؛ لأن بالإمكان وضع بعض التدابير التي تحد من سرقاتهم أما إذا كان المستخدم لا يحسن شيئاً فماذا نعمل به ؟ ! [6]
وقد ولى النبي -صلى الله عليه وسلم-أهل الكفاية الحربية مع أن في الصحابة من هم أتقى منهم وأورع ؛ لأن القوة (البسالة وحسن التخطيط) تطلب في قيادة الجيش أكثر من الأمانة ، مع أنهم كانوا بكل المقاييس من الأمناء الأخيار وطلب بعض الصحابة ممن عرفوا بالزهادة والورع الولاية على بعض أمور المسلمين فحجبها عنهم لضعفهم .
5- نحن في مراجعة أخطائنا نركز على جانب الأمانة ، ونهمل جانب القوة فإذا ما أخفقنا في عمل ما قلنا نحن بحاجة إلى تقوى وإخلاص ، وإن اتباع الأهواء هو السبب في ذلك ، ولا ريب أن الإخلاص مفتاح القبول والتوفيق وأن التقوى تستنزل الفرج ، لكن ما هي المعايير التي تمكننا من قياس درجة التقوى ومقدار الإخلاص الموجود إذا ما أردنا التحقق منه وكيف نستطيع التفريق بين عمل دفع إليه الهوى وآخر دفع إليه الاجتهاد ؟ ! كل ذلك مما يستحيل قياسة ، وبالتالي فإنه لا يمكن تحديده وما لا يمكن تحديده لا يصلح لأن يكون هدفاً .
وبإمكان الناس أن يقولوا : إلى ما شاء الله نحن أتباع هوى دون أن تستطيع أن ترد على أحد منهم رداً شافياً قاطعاً ! على حين أن قياس القوة ممكن ، وإدراك الخلل فيها يكون عادة ظاهراً يمكن وضع الإصبع عليه فحين يأتي خطيب ليتولى إدارة جيش ، أو التخطيط لمعركة ، وحين يتولى رسم سياسات العمل رجلٌ لا يعرف الواقع ، فلا يقرأ جريدة ولا يستمع إلى نشرة أخبار ، ولا يحسن قراءة أي شيء يحيط به ، فإن الخلل لا يحتاج إذ ذاك إلى شرح حيث تتولى شرحه النتائج ! . وحين يتصدى للاجتهاد في أمور خطيرة أشخاص لا يملكون الحد الأدنى من المعلومات حولها ، وتترتب على اجتهاداتهم فواجع أكبر من أي جريمة ماذا تكون الحال ؟ !
لقد آن الأوان لوضع الأمور في نصابها ، بتأهيل الشخص قبل إيجاد العمل الذي سيعمله ، بدلاً أن يوجد المنصب ثم يبحث عمن يسد الفراغ ليس أكثر !
6- عالمنا الإسلامي النموذج المثالي للقوى الكامنة ، فكل ما عندنا (خام) الإنسان والطبيعة والموارد ، ولعل لله في ذلك حكمة بالغة ؛ إذ أن تشكيل الإنسان المسلم لو تم قبل بزوغ الصحوة المباركة لكان أكثر ضرراً من بقائه على حاله .(1/128)
هذه القوى الكامنة ستظل ثغرات في حياتنا أياً كان موقعها في ظل التكالب العالمي على الصعيد الثقافي والاقتصادي ، وهذه القوى الكامنة تحتاج إلى تفجير وإلى إخراج في شكل جديد يمنحها وزنها الحقيقي وإخراج القوة مهمة الدولة أولاً ؛ فهي المسؤولة عن تفجير الطاقات كافة وتوجيهها ، ومهمة صفوة الصفوة من صانعي المبادرات الخيّرة ، الذين يمتد بصرهم دائماً إلى مستوى أعلى من المستوى الذي تعيش فيه أمتهم فيوجدون باستمرار الأفكار والأطر والأجواء والآليات التي تُفَعّل القوى الخامدة المجهولة للناس حتى حامليها .
واليهود هم من أساتذة العالم في (إخراج القوة) وتوظيفها واستغلالها وصحيح أن ديننا يحول بيننا وبين وسائل كثيرة استخدموها حتى وصلوا إلى ما وصلوا إليه ، لكنني أعتقد أنه مازال في هذا العالم مكان فسيح للمسلم المبصر الأريب ..
وقد بدأت الأمة في امتلاك القوة ، وبدأ المارد الذي نام قروناً يصحو وهو الآن يتفقد أعضاءه وحواسه ، ويحاول أن يتعلم المشي في (حارة) الكرة الأرضية ، لكن بعضاً منا بدؤوا يخبطون يمنة ويسرة قبل أن يفتحوا عيونهم وقبل أن يعقلوا الأجواء التي يصحون فيها ؛ ليغروا العدو بتوجيه الرصاصة القاتلة قبل أن يقفوا على أقدامهم ! .
إن فهم الحياة المعاصرة شرط أساسي يجب توفيره عند كل أولئك الذين يريدون توجيهها والتأثير فيها ، ولن يكون ذلك ممكناً ما لم نكن نحن من صانعي قراراتها وخياراتها ..
7- الأمانة قيد على القوة ، فهي التي تحدد مجالات استخدامها وكيفياته والقوة الآن في يد الآخرين على ما نعرف ، والقيود الأخلاقية عندهم آخذة في الضعف يوماً بعد يوم ؛ لأنها لا تعتمد على إطار مرجعي أعلى يمنحها الثبات ومن ثم فإن القوة ليست في طريقها إلى الانطلاق من أي ضابط أو حسيب ، لكنها في طريقها إلى صنع قيودها بنفسها الصناعة التي تمكنها من مزيد من الانطلاق ، وهي بذلك تجعل الآخرين يتوهمون أنها قيود ؛ حتى لا يشعر أحد أن هناك فراغاً أخلاقياً يجب ملؤه ! وما النظام العالمي الجديد سوى الأحرف الأولى في أبجديات القيود الجديدة ! .
وهذا يوجب علينا المزيد من التفكير والتأمل فيما يجب عمله ، ونحن مع ضعفنا قادرون في هذا المضمار على عمل الكثير الكثير إذا فهمنا لغة العصر ، وأحسنا إدارة الصراع ؛ إننا نملك القيود (الأمانة) ، وهم يملكون القوة ، فهل نسعى إلى امتلاك القوة المقيدة حتى يصطلي العالم بالنار دون أن يحترق ؟ ؟
________________________
(1) سورة يوسف : 21 .
(2) الكشاف 3 : 163 .
(3) الأحزاب : 72 .
(4) انظر البحر المحيط 7 : 253 .
(5) سورة فاطر : 28 .
(6) انظر مقدمة ابن خلدون 2 : 279 .
=================
#{ وإذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ }
أنزل الله - جلَّ وعلا - في المنافقين سورة سُميت باسمهم ، تفضح بعض مواقفهم ، وتُخبر عن بعض صفاتهم ، وكان من جملة ما نَعَتَهُمْ الله تعالى به قوله : { وإذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وإن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ العَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ } [1] .
فقد وصفهم الله - تعالى - بأن الناظر إليهم يُعجبُ بجمال أجسامهم ، ومن يسمعهم يُؤخذ بفصاحة ألسنتهم ، لكنهم كالهياكل الفارغة ، أشباح بلا أرواح ، وأجسام بلا أحلام ...
وهذه الصفات تتناسب مع حالة النفاق ، إذ إن ظاهر المنافق دائماً خير من باطنه ، فظاهره الإيمان ، وباطنه الكفر ، وهو ذلق اللسان ، لكنه يقول غير ما يعتقد ؛ فهو كذاب ، وهو جميل الصورة ، لكنه عاطل من الصفات النبيلة كالإيمان والمروءة والرجولة ، وكل ما يزين الباطن .
وقد روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال : » كان عبد الله ابن أُبي (رأسُ النفاق) وسيماً جسيما صحيحاً صبيحاً ذلق اللسان ، فإذا قال سمع النبي - صلى الله عليه وسلم- مقالته « [2] .
ولمّا كان للظاهر سلطانه القوي في التأثير ، وانتزاع الإعجاب علَّم النبي - صلى الله عليه وسلم- أصحابه ضرورة تجاوزه إلى المعاني الباطنية ؛ لأنها هي الفيصل الحقيقي في تقييم الرجال ؛ وقد ورد في الحديث الصحيح : أن رجلاً مرَّ على النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال : ما تقولون في هذا ؟ « قالوا : حري إن خطب أن ينكح ، وإن شفع يُشفع ، وإن قال أن يُستمع إليه « قالوا : » حريٌّ إن خطب ألا يُنكح ، وإن شفع ألا يُشفَّع ، وإن قال ألا يُستمع إليه « ثم مر رجل آخر ، فقال : » ما تقولون في هذا « . فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم : » هذا خير من ملء الأرض مثل هذا [3] ففضَّل النبي صلى الله عليه وسلم الفقير على الغني ، وذلك لا يلزم منه تفضيل كل فقير على كل غني ، إنما أراد أن يعلمهم أن التفاضل لا يقوم أبداً إلا على المعاني الباطنية ، وما يتبعها من أعمال .
وتطرح هذه الآية الكريمة مسألة خطيرة في حياة الإنسانية بعامة وحياة المسلمين بخاصة ، هي قضية العلاقة بين الشكل والمضمون ، أو الجوهر والمظهر [4] .(1/129)
ونعني بالجوهر ابتداءً : مجموع الخصائص الخُلُقِيَّة والنفسية . والصور الذهنية ، والخبرات والموازنات العميقة للفرد .
أما المظهر : فإنه مجموع ما يحمله الفرد من الصفات الجسمية ، وما يمتلكه من الأشياء ، وما يتحمله من وظائف ، مما لا يعد على صلة مباشرة بكينونته الذاتية .
في البداية ليس الجوهر والمظهر شيئين منفصلين انفصالاً تاماً ، بل بينهما علاقة تأثر وتأثير وأخذ وعطاء ، وقد ورد ما يدل على هذا فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يمسح مناكب أصحابه في الصلاة ، ويقول : » استووا ، ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم « [5] . والمرء حين ينشرح صدره يظهر ذلك على مُحيّاه ، ومن ثم قيل : » من كثرت صلاته بالليل ضاء وجهه في النهار « .
وإذا كان بين الظاهر والباطن مثل هذا التجاذب والتلازم فإن من البدهي ألا يزهِّد الإسلام الناس في الشكل ؛ فالصلاة موقف روحي بحت ، ومع ذلك حرص النبي -صلى الله عليه وسلم- على انتظام الصفوف فيها ، والأمر قريب من ذلك في صفوف القتال .
وحث الإسلام على النظافة ، كما امتنَّ الله - تعالى - علينا بما نشعر به من التأنق عند غدوِّ الأنعام ورواحها ، كما قال سبحانه : { ولَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وحِينَ تَسْرَحُونَ } [6] ، وتلك مسألة شكلية . والأمثلة على هذا أكثر من أن تُحصى .
إذن ما هي المشكلة ؟
تكمن المشكلة في اختلال التوازن بين الجوهر والمظهر ، أو بين المضمون والشكل ؛ فالبشر متفقون على أن اللباب هو الأصل ، وأنه ينبغي أن يُعطي من الاهتمام والعناية والبلورة القسط الأكبر لأن كل الإنجازات الحقيقية التي تتم على السطح نابعة أساساً من إنجازات تمت على مستوى الكينونة والجوهر . وهذا يتناسب مع حقيقة تسخير الكون الذي حبا الله - تعالى - به الإنسان ؛ كيما يظل حراً طليقاً يحكم ويأمر دون أن يُكَبَّل ! بشيء من صنع يديه !
وللمجتمع وما يقره من أعراف سلطانٌ كبير على الناس ، ولما كان الحكم الاجتماعي منصباً على الشكل كان الانحدار نحو الاهتمام بالشكل هو الأمر الطبيعي المتبادر إليه ، أما العناية بالجوهر فيمكن أن تنمو عن طريق التربية الخاصة في الأسرة أو المدرسة ، لكن ذلك سيظل ضعيف التأثير ما لم يكن المجتمع كله خاضعاً لمبادئ عليا خارجة عن إنتاجه ، ولن يكون مصدر تلك المبادئ حينئذ الأرض ، وإنما السماء ! لكن حين يكون الدين عبارة عن بعض الرؤى الغيبية ، أو الدغدغات العاطفية - كما هو الشأن عند بعض الملل - فإنه لا يضع شيئاً في مواجهة التيارات الاجتماعية العاتية ؛ لأنه لا يعدو آنذاك أن يكون عنصراً رخواً من عناصر الثقافة !
وإن الذين الذي يوجِّه ويقاوم هو الذي نُمحِّص حياتنا من أجله !
وحينما يضعف الوازع الديني لدى المسلم فإن الميزان يميل مباشرة لصالح المظهر . وبما أننا نعيش في عصر نتأثر فيه أكثر مما نؤثر فقد أضيف إلى ضعف الوازع الديني عند أكثر الناس الوقوع تحت تأثير الفلسفة الغربية في جوانب الحياة المختلفة ، تلك الفلسفة التي شكَّلت من الإنتاج غير المحدود والحرية غير المحدودة والسعادة غير المتناهية ديناً جديداً اسمه التقدم ! واقتضى ذلك توجهاً كلياً نحو الطبيعة لاستثمار كل شيء فيها ! ثم استهلاكه بصورة جشعة لم يسبق لها مثيل ناسين أن موارد الطبيعة محدودة ، وأن الطبيعة . سوف ترد على ذلك ، بل إنها بدأت بالرد فعلاً !
وعلى صعيد الرمز فقد كان البطل المسيحي يستوحي شخصية الشهيد ، وهو عيسى - عليه السلام - حيث وهب حياته من أجل غيره - حين صلب كما يزعمون - ، ثم انقلبت الأمور رأساً على عقب ، حيث صار العالم الغربي يستوحي شخصية البطل الوثني ، كما يتجسد في أبطال الإغريق والرومان ، ذلك البطل الذي يغزو ، وينتصر ، ويدمر ، ويسرق ، وينهب . وشتان ما بين شخصية الشهيد الذي يهب حياته من أجل غيره ، وبين المقاتل الذي غايته السيطرة على الآخرين وتضخيم الحياة الشخصية ! ! 12
وكانت النتيجة ولادة مجتمعات تعاني من الوحدة ، والقلق ، والاكتئاب ، والنزوع التدميري ، والخوف من المستقبل ، والأنانية الشخصية ، والتفكك الأسري...
تأثرنا - نحن المسلمين - بهذا كله من حيث ندري ، ولا ندري ، وتوجهت قوانا الفاعلة نحو الخارج ، وأهملنا الجوهر ، وكانت حالتنا في بعض النواحي أسوأ ممن تأثرنا بهم ؛ لأن القوم صاروا إلى الشكل بعد أن حققوا ذواتهم بطريقة فعَّالة وإن كان انحرافها يحمل في النهاية بذرة موتها ؛ أما نحن فقد غادرنا الجوهر لغمر أنفسنا بالشكليات !
والناظر في سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- والحياة العامة لصحابته - رضوان الله عليهم - يجد أن السيطرة كانت للكينونة الداخلية ، وليس لما يمتلكه الناس من أشياء ؛ لأن المحور الأساسي للحياة الاجتماعية كان الإنسان ، وليس الأشياء ؛ أما الآن فقد صارت (الملكية) هي المحور ، ويتجلى ذلك واضحاً في أمور عديدة منها :(1/130)
1 - تناقصت الألفاظ المستعملة في الدلالة على الجوهر ، في حين زاد تداول الألفاظ الدالة على الأشياء ، فحديث المجالس لم يعد يتمحور حول البطولات ، والإنجازات ، والمواقف الكريمة ، والصفات الحميدة ، وإنما حول العقارات ، والسيارات ، وأسعار السلع ، وأثاث البيوت ، والأرصدة المالية ...
2 - الرغبة في مزيد من الإنتاج لتحقيق مزيد من الاستهلاك جعل اعتماد الناس على الآلة يتزايد يوماً بعد يوم ، وصار الإنسان ترساً من تروسها ، وصار دوره مكملاً لدورها ؛ ومن طبيعة هذا الشأن أن يزيد اهتمامنا بالمظاهر ، ويشغلنا عن الحقائق .
3 - كانت قيمة وجود الإنسان مستمدة مما يُحسن ويتقن ، وصارت المعادلة الجديدة : قيمة وجودي مستمدة من مقدار ما أملك ، ومقدار ما أستهلكُ ! وهذا ولَّد الخوف الدائم من ذهاب الملكية ؛ لأن ذهابها ذهاب لمالكها ؛ واقتضى ذلك مزيداً من الشح والأثرة والتقاطع ...
4 - علاقتنا بالمعرفة تبدلت ؛ فقد كان حب العلم واكتساب المعرفة من أجل الفقه في الدين وتنمية الشخصية ومعرفة الحياة ... وكانت العملية التعليمية عبارة عن اندماج بين العلم وطالبه ، أما الآن فقد صارت علاقة طالب العلم بما يطلب علاقة تجارية بحتة ، فهو يتعلم لينال الشهادة ؛ وحفظه للمعلومات ظاهري ينتهي عند إفراغها على الورق في الامتحان !
5 - السمات الأساسية للجوهر هي : الاستقلالية ، والحرية ، وحضور العقل النقدي ، والاستخدام المثمر للطاقة الإنسانية ، والنمو ، والتدفق ، لكن العلاقات الاجتماعية ، والسياسية ، والاقتصادية الجديدة جعلت أنشطة الإنسان عبارة عن انشغال دائم مفصول تماماً عن قواه الروحية ، بل يقف ضدها ، ويحد من فاعليتها في كثير من الأحيان ؛ مما أدى إلى الاتكالية والسأم والتذمر ، وجعل الحياة تفقد طعمها الحقيقي بشكل عام .
6 - كانت عواقب الاتجاه إلى الشكل والتغافل عن المضمون كثرَة اللذائذ وانعدام السعادة ! واللذة إشباع الرغبة على نحو لا يتطلب نشاطاً ، مثل لذة الحصول على مزيد من الربح ، أو هي : تجربة لحظة من لحظات الذروة يعقبها في الغالب نوع من الكآبة ، ولا سيما حين تكون غير مشروعة ، حيث يبدأ التقريع الداخلي .
أما السعادة فهي : شعور مصاحب للنشاط الإنساني ؛ وهي أقرب إلى أن تكون حالة من الوجود المتصل على ربوة رحبة ؛ لأنها وهجٌ لكينونة الإنسان ، ونشاطه الداخلي .
ويمكن القول : إن السعادة في مقياسنا الإسلامي تتعاظم كلما ردم المسلم من الفجوة القائمة بين معتقداته وسلوكياته ، حيث يرضى المسلم عن أدائه ، ويستشرف عاقبة المتقين .
كل هذه التحولات باتجاه الشكليات جعلت كثيراً من أمة الإسلام قوة عددية ليس إلا ؛ لأن الذي يفقد الصلة بمكوناته الأساسية لابد أن يصبح شكلياً . فهل تعيد الصحوة المباركة الأمر إلى نصابه بإعادة التوازن من جديد بين الشكل والمضمون ، والجوهر والمظهر لنستأنف رسالتنا الحضارية ؟ ! هذا ما نرجوه . وعلى الله قصد السبيل .
________________________
(1) المنافقون : 4 .
(2) تفسير القرطبي 18 / 124 .
(3) أخرجه البخاري .
(4) ننصح بالرجوع إلى كتاب الإنسان بين الجوهر والمظهر الصادر ضمن سلسلة عالم المعرفة في الكويت وقد أفدت منه هنا في بعض ما كتبت .
(5) أخرجه مسلم وغيره .
(6) النحل : 6 ومثل هذا قوله سبحانه : [ والْخَيْلَ والْبِغَالَ والْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وزِينَةً ] .
==================
#{ إنَّا وجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ }
أكرم الله - سبحانه وتعالى - الخلق ، فأرسل لهم الرسل تترى حتى تظل أعلام الهداية منشورة ، وحتى لا يكون لأحد على الله حجة بعد إرسال الرسل . وينقسم الناس أزاء كل رسالة في العادة إلى فريقين فريق يصدق ، وفريق يكذِّب ، وكانت حجة المكذبين الجاحدين ما حكى الله عنهم : { وكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إنَّا وجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وإنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ * قَالَ أَوَ لَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ } [الزخرف 23- 24] .
وظاهر هذه الآية أن الرؤساء والوجهاء والمترفين هم - في الغالب - الذين قاوموا دعوات الرسل ؛ لأن أية رسالة ستحدث تغييراً في القيم السائدة والأحوال المعاشة ، وهذا التغيير سيمس مصالحهم ومكاسبهم ، ومن ثَمَّ فإن موقفهم هو التأبي والمعاندة . وبما أن الحياة الجمعية لا يمكن أن تستقيم ، وتنتظم من غير ضوابط عرفية تؤمِّن نوعاً من التعاون ، وتَحُوْل دون بغي الخلطاء على بعضهم بعضاً كان الجواب دائماً : أن ما تقوم عليه حياتهم الاجتماعية هو ما وَرِثوه عن آبائهم وأجدادهم من الأعراف والعادات والتقاليد ، وما حياتهم إلا استمراراً لحياة سلفهم الذين يفاخرون بهم .(1/131)
والخلف لا يكتفي عادة بالتلقي الأصمّ عن السلف لكنه ينشئ من الفلسفات والمقولات والخرافات ما يمنح ما ورثه - من تقاليد - القداسة والاحترام مما يجعلها محوراً للمنظومات العقدية والفكرية والرمزية والتاريخية ! وهذا كله طبيعي ؛ لأنه في حالة اندراس معالم المنهج تصبح السوابق التاريخية هي المنهج ، ومن ثم كان من مهمات المصلحين وضع السوابق التاريخية في إطارها الصحيح .
ماذا تعني الآبائية ؟
ليس كل ما يرثه المرء عن آبائه وأجداده رديئاً - لأنه لا يوجد جيل مختص بالرذائل - لكن الرديء هو أن نفقد القدرة على الحكم على تلك الموروثات ، ونُحلها محلَّ القبول والاقتداء ! وإذا تأملنا قضية التقاليد الموروثة وقبولها دون تبصُّر ولا تمييز وجدنا أنها تعني أموراً عديدة منها :
- إن الإنسان قادر على امتلاك منهج يُسَيِّر حياته من خلال خبرته التراثية دون مرشد خارج عن حدود ذاته ، وهذا ما نجده واضحاً في جواب المترفين للرسل حين قالوا لهم : { أَوَ لَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ ؟ } [الزخرف 24] ، وكان الجواب : { إنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ } [الزخرف 24] . وفي هذا الجواب القاطع الخالي من أي تدليل أو برهان توصيف آخر للآبائية هو أن التقليد وإن بنى حوله بعض الفلسفات التسويغية إلا أنه يظل مع الدليل والبرهان على طرفي نقيض ، فهو ظاهرة لا دليل لها سوى وجودها فحسب !
ومما تعنيه الآبائية أن البشر امتلكوا ناصية الحقيقة كاملة فيما يتعلق بشؤون حياتهم الاجتماعية . والشعور بامتلاك الحقيقة مع أنه غير صحيح إلا أنه يدفع إلى الجمود ؛ لأن حركة الفكر والعلم لا تنشط إلا عند الإحساس بأن هناك حقائق خافية أو مشكلات تحتاج إلى حل . ومن هنا كانت متابعة الآباء والأجداد من غير ميزان عبارة عن حركة إلى الوراء تصادم منطق التاريخ ، وتجعل أصحابها مخلفين بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى ! وإذا كان المنهج الحق يسعى إلى تجديد ذوات معتنقيه ونقدها واستيعاب العظات والعبر من حياة الأولين فإن الآبائية تعني تعطيل تراكم الخبرة البشرية وتقويمها ؛ لأن ذلك يخلُّ بالمكانة التي أنزلوا آباءهم فيها !
وتعني الآبائية أيضاً إحالة العادات والأخلاق إلى إطار مرجعي لا منطقي ومتحجّر ، يحكم الناس في حالات اجتماعهم ، ويتيح لهم الانطلاق الحر في خلواتهم ، أي : يؤسِّس الحياة على نوع من الازدواجية ، على حين أن الدين يجعل الوازع الداخلي أساساً للانضباط الفردي والجماعي . وإن التفسير المستمر في كل شؤون الحياة يجعل تقليد الآباء فارغاً من مضامينه في أحيان كثيرة ، فإذا كان الآباء يتقلدون السيف - مثلاً - لمواجة حيوان مفترس ، فما معنى حمل الأبناء له وهم يركبون الطائرة ؟ ! وإن الآبائية بعد هذا أو ذاك توجد نوعاً من الانحباس الاجتماعي المصادم لسنّة التغيير التي بثها الله - تعالى - في الكون ، ومن ثَمَّ فإن الانغلاق على مواريث بالية لابد أن يعقبه انفلات غير متزن يطيح بصالح الموروثات وطالحها .
المصلحون والآبائية :
لا نبعد النجعة إذا قلنا : إن الآبائية هي أخطر مشكلة واجهت الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - وتواجه أتباعهم من المصلحين على مدار التاريخ حيث تمتلئ الساحة الاجتماعية بتركة الآباء ومخلفات الأجداد مما يجعلهم يحتاجون إلى تزييف الموروثات أولاً ، ثم إحلال المنهج الرباني محلها . وإن حملة الهدى الرباني يصطدمون بالآبائيين صداماً مباشراً حيث يرون أن ما بأيديهم من الهدى يجعل التراث مملوكاً خاضعاً للمحاكمة على حين يرى الآبائيون أن التراث هو مالكهم والقاضي في حياتهم لا المتهم !
لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو هل بإمكان البشر الفرار من الارتهان للماضي بدون منهج منفصل عن خبرة الإنسان ، أي : لا زماني ؟ الواضح أن ذلك غير ممكن ؛ لأننا باعتبارٍ ما جزء من الماضي ومكوناتنا الثقافية أكثرها موروث ، فنقده وتجاوزه بمبادئ وأدوات منه غير ممكن . ونحن حينئذ كالجرَّاح الذي مهما كان ماهراً فإنه عاجز عن استئصال زائدته أو مرارته بنفسه ! وعلى المهتمين بصلاح الأمة الغيورين على مستقبلها أن يخوضوا معركتين في آن واحد : معركة الحياة العامة وتنقيتها من الرواسب والشوائب التي تولدها حركة الأيام ، ومعركة داخلية في مجال الحياة الفكرية ، وما فيها من مشكلات التجديد والتقليد والاجتهاد وحدود سلطان العقل والنقل الخ ..(1/132)
إن معالم المعركة الأولى تتمحور حول (مفاصل) التقاليد والسنن والتوزيع الصحيح للاهتمام بمفرادت التكاليف الشرعية ، وما يتصل بها مما يحفظ كيان الأمة . وعلى هذا الصعيد نلاحظ أن المسلمين منتشرون في بقاع الأرض ؛ ولذا فإنهم يعيشون في ظروف شديدة الاختلاف تؤدي إلى تفاوت عظيم في معرفتهم بالدين ، كما أن الثقافات الأجنبية التي تأثروا بها مختلفة أيضاً ، والمؤثرات المدرسية والمناهجية التي تعرضوا لها متفاوتة ، وهذا كله يجعل إمكانات إقامة التوازن بين متطلبات الدين ومتطلبات الدنيا مختلفة ، كما يجعل تحرير الخلاف وترجيح الصواب مختلفاً أيضاً ! ولا ننسى في هذا السياق الآثار الكثيرة التي تتركها توجهات الحكومات المختلفة في إبراز أجزاء من الدين وضمور أجزاء أخرى بحسب المصلحة !
ونستطيع القول : إنه كلما خمدت حركة الفقه في دين الله ، زحفت العادات والتقاليد والبدع لتحل مكانه في حياة الناس ، ذلك لأن من شأن البشر أن يجعلوا الدين - الذي هو منهج رباني مطلق فوق الزمان والمكان - واحداً من عناصر ثقافتهم بدل أن يكون الموجّه لتلك الثقافة والحاكم عليها ، وذلك ميسور عليهم ولا سيما حين تكون هناك بعض الملابسات بين العادات وحقائق الدين في الكُنْهِ أو المظهر ، وقد ذكر ابن الجوزي - رحمه الله - " أن من الناس من لو جلدته حتى يصلي ما فعل ، ولو جلدته حتى يفطر رمضان ما فعل ! " مع أن أهمية الصلاة أعظم . وفي زمننا صار إنكار الناس لتعدد الزوجات في كثير من بلاد المسلمين أعظم من إنكارهم للزنا ! كما صار هناك استغراب من إقبال الشباب على المساجد لأن المساجد خُلقت لمن أكل الدهر عليهم وشرب ، على ما تعودوه في عقود مضت . وفي زماننا تُشْتَنْكَرُ الفاحشة من البنات ويغضُّ الناس الطرف عنها إذا وقعت من الرجال ولا سيما الشباب ! !
وفي زماننا يُتَّخذ الاهتمام بليلة القدر والمولد النبوي وليلة النصف من شعبان وإغراق الأسواق بالسلع في رمضان قناعاً وستاراً مشهوداً ومن خلف الستار لضرب ركائز الإسلام ومبادئه الكبرى وجعل الداعين إليها غلاة متشددين إرهابيين ! !
ويزداد الطين بلة حين يُسهم في هذا الخلل أشخاص تثق بهم العامة لما عندهم من العلم والتقوى . والعامة غير قادرين على مناقشة الأفكار ولا التمييز بين الأدلة ؛ مما يجعلهم تبعا للأعلى صوتاً والأكثر تابعاً . وهذا كله يجعل مسألة تحجيم الآبائية أكثر صعوبة وتكلفة . لكن لا خيار : فإما المنهج وإما المنهج ، وإلا فكيف يكون خلود الرسالة ، وكيف تستمر أنوار النبوة في العالمين ؟ !
المعركة الثانية لا تبتعد في منطلقاتها وعقابيلها [*] عن المعركة الأولى ؛ إذ أنّ تقديس القديم لمجرد أنه قديم هو الطاقة المحركة لأبطالهما ، لكن الخصوم يختلفون فإذا كان الخصوم في معركة الحياة الاجتماعية من العامة والدهماء وأنصاف المتنورين فهم في الثانية ممن يحمل العلم ، ويحسب نفسه من المصلحين - وقد يكون كذلك - لكن بُنَى ثقافتهِ العميقة لا تختلف كثيراً عما لدى العامة !
هذه المعركة هي معركة الاجتهاد والتقليد ، والاجتهاد هو بذل الجهد لمد سلطان النصوص إلى كلّ الحوادث والحالة المستجدة المشابهة في علة الحكم لحالات ورود النص وتطبيقاته لدى السلف ، على حين أن التقليد يحجم من فاعلية النصوص ، ويجعل مجالات الاهتداء بها تتضاءل يوماً بعد يوم ؟ ذلك لأن أية مرحلة سابقة لا تَتَّسِع في تنظيماتها وآلياتها ومعطياتها الجزئية لمرحلة لاحقة ، وهذا ما دعا الصحابة والتابعين من بعدهم إلى الاجتهاد ، وهو ما يدعونا أيضاً إليه .
لعل نقطة الخلاف الأساسية ليست في تجويز الاجتهاد والتقليد لشرائح محددة من الأمة ، وإنما تكمُنُ في نزع (صفة دوام الصواب) عن المجتهد ، ومع أن الجميع يُصَرِّحون بأن المجتهد يُخطئ ويُصيب ، إلا أننا نجد في الممارسة العملية مواقف لا تحصى لا تدلّ إلا على اعتقاد أصحابها العصمة في بعض الأئمة والمجتهدين لاعتقادهم أن إحاطة أولئك الأئمة بالأدلة وَحِدَّةِ ذكائهم وفهمهم مع ما أكرمهم الله به من التوفيق يجعل وقوع الخطأ منهم نادراً أو معدوماً ! وقد رأينا كثيراً من طلاب العلم يلتزم الواحد منهم مذهباً واحداً في كل دقائقه ، ويحاول الدفاع عن ذلك بكل ما أوتي من قوة ، ويوالي ويُعادي في ذلك ، ويخسر إخوة في الله ، وهو يظنّ أنه يخوض معركةً لِنُصرة دين الله !
وهذا يدل على جهلٍ فاضح في العملية الاجتهادية المعقَّدة ، والتي تلتحم فيها عناصر أربعة ، هي مجال رحب ، للاختلاف بين المجتهدين ، هذه العناصر هي :(1/133)
الإمكانات الذهنية التي أكرمنا الله بها والنصوص والأدلة المتعلقة بالقضية موضع الاجتهاد والخلفية الثقافية للمجتهد (وهي ما كان يُسْمّى بالأهلية) بالإضافة إلى الواقعة نفسها والظروف والخلفيات المحيطة بها . وتَمَكُّنُ المجتهدين من كل ذلك متفاوت إلى حدًّ بعيد ، وهذا كله ينفي عن المجتهد دوام الصواب في كلّ ما ينظر فيه . وأن من المفيد أن ننظر إلى المجتهد بعيون أبناء زمانه حيث تخلصوا من وَهْمِ التقديس بسبب من المعاصرة والمعاشرة ومعرفة الخفايا والإمكانات لبعضهم بعضاً .
إننا إذا لم نتمكن من التجديد الذاتي فسنعرِّض أنفسنا إلى غزو من الخارج ، أو انحباسٍ داخلي يعقبه انفجار لا ينبع معه الترقيع ! وإن تجاوزنا المعطيات مراحل عديدة في حياة المتقدمين لنلتصق بالادلة في إطارٍ من مقاصد الشريعة العامة أمر حيوي للغاية ؛ حتى لا نقعَ ضحيةً للغرق في مراحل الانحطاط والتدهور التي مرت بها هذه الأمة في قرونها المتأخرة ! وعلى الله قصد السبيل .
--------
(*) العقابيل : الدواهي .
=================
#{ وكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً}
قصّ الله - تعالى- علينا في كتابه العزيز نبأ لقاء موسى بالعبد الصالح الخضر -عليهما السلام- ، وما جرى بينهما من إخبار الخضر لموسى بعدم صبره على ما سيراه من أعماله ، وتعهد موسى بالسمع والطاعة وعدم العجلة حتى يكون الخضر هو الذي يخبره بكنه ما يراه وعواقبه ، كما تضمنت القصة عدم تمكن موسى -عليه السلام- من الصبر الذي التزم بمكابدته . وفي ثنايا هذه الواقعة عبر ودروس عديدة نجلوها في النقاط التالية :
1- أراد الله -تعالى- أن يُعلّم موسى وجوب تفويض ما لا يعلمه إليه ؛ فقد ورد في الصحيح أن رجلاً سأل موسى على ملأ من بني إسرائيل : هل تعلم أحداً أعلم منك ؟ قال : لا . فأوحى الله إليه : بل عبدنا خضر أعلم منك [1] . وفي هذا إرشاد لأولي النهي أن يقفوا الموقف المنهجي مما لا يعرفونه ؛ فنبي الله موسى كان رسولاً من أولي العزم ، وهو كليم الله ومبلغ رسالته ، ومع هذا بين الله له وجوب تفويض ما لا يعلمه إليه ؛ فهو لم يجتمع بكل البشر ، ولم يعرف مقادير ما خصَّ الله به من شاء من عباده .
وفي هذا الزمان تشعبت العلوم ، وتفرغت حتى صار من العسير على الواحد منا أن يحيط بفرع من فروع المعرفة فضلاً أن يحيط بها جميعاً . وأمانة العلم تقتضي التريث بالفتوى والتحرز من التطاول على ما لا نحسن حتى لا تجتاحنا الفوضى العلمية ..
2- في هذه الرحلة المباركة وقف موسى موقف المتعلم ، ووقف الخضر في موقف الأستاذ ، مع أنه لا خلاف في أن موسى أفضل من الخضر ، وهذا يدل على أن الأفضلية العامة لا تقتضي التفوق في العلم ، وهذا يحثنا على أن نرجع لأهل الاختصاص في اختصاصاتهم ، وألا نرهق أهل الفضل بالسؤال عما لا يعرفونه ، ولا يحسنونه فيسقطون من أعيننا لعدم معرفتهم ، أو يسقطون ويُسقطوننا معهم إذا ما هم قالوا بغير علم ! ورحم الله الإمام مالكاً حين كان يقول : ( إن من شيوخي من أطلب منه الدعاء ، ولا أقبل روايته ) .
3- التزم موسى - عليه السلام - في البداية بالصبر على ما يراه وعدم العصيان حين قال : { سَتَجِدُنِي إن شَاءَ اللَّهُ صَابِراً ولا أَعْصِي لَكَ أَمْراً } [الكهف 69] . وهذا الالتزام كان بناء على ما يعرفه من نفسه من الحرص على طلب العلم ومعرفة الخير . وكان تأكيد الخضر له أنه لن يصبر معه على ما يراه لما يعرف عنه من الحرص والالتزام بما شرع الله من حرمة الأنفس والأموال ، وكانت النتيجة إنكار موسى على الخضر ، كما توقع الخضر . وموقف موسى كان على النهج العام الذي ينبغي على المسلم سلوكه ، وهو إنكار ما خالف الشرع وعدم السكوت عليه ما دام ذلك ممكناً ، ولا يعكر صفو هذا خصوصية الموقف والحادثة [2] .
وقد أنكر موسى على الخضر مع علمه بقدره وعلمه لأن المنهج فوق الأشخاص أياً كانوا . وقد ابتليت هذه الأمة في تاريخها المديد بأقوام أصيبوا بداء تقديس الأشخاص وإقامة البراهين على خيرية ما يفعلونه وتسويغ ما يرتكبونه من مناكر ومخالفات قطعية التحريم لما يعتقدونه فيهم من الصلاح ! .
وأدى ذلك إلى غبش عظيم في الرؤية ، وقد حطوا من قدر المنهج المعصوم على قدر ما رفعوا من شأن من يعظمون ! وما زال هذا مستمراً إلى يوم الناس هذا والله المستعان .
4- كان الخضر موقناً بعدم صبر موسى على ما يراه منه ، وعلل لذلك بقوله : { وكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً } [الكهف 68] . وهذا يشير إلى ظاهرة ثابتة في حياة البشر ، هي عدم الصبر على رؤية أحداث وأعمال تخالف ما استقر عندهم من الأعراف والمعايير ، أو على بذل جهود لا يرون لها نتائج تنسجم معها .(1/134)
وقد وقف الصحابة - رضوان الله عليهم - موقفاً مشهوراً من شروط صلح الحديبية التي كانت في ظاهرها مخالفة لمصالح المسلمين ، ولولا أن الذي ارتضى تلك الشروط النبي -صلى الله عليه وسلم- المؤيد بالوحي لكان هناك شأن آخر . لكن الله - تعالى - جعل فيها من الخير والبركة ما حمل أكثر المفسرين على القول : إن المراد بالفتح في قوله - سبحانه - : { إنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } [الفتح 1] صلح الحديبية [3] . وسبب ذلك الموقف أن الصحابة ما كانوا قادرين على إبصار مآلات تلك المعاهدة ونهاياتها .
واليوم نجد رغبة جامحة لدى كثير من الدعاة والعاملين في حرق المراحل والقفز فوق الحواجز بدافع من الصدق والإخلاص ، والسبب في ذلك أنهم ما أحاطوا خُبْراً بجوانب العملية التغييرية الكبرى التي يتصدون للقيام بها . ونجد ذلك بشكل واضح لدى الشباب الذين يغلي في دمائهم حب هذا الدين والغيرة على هذه الأمة .
وسبب الاستعجال عند الشباب يعود - في أكثر الأمر - إلى أن كثيراً من قادة الدعوات يوهمون الشباب بأن التمكين في الأرض وبسط سلطان الدين هو قاب قوسين أو أدنى ، وذلك رغبة في كسبهم وإغرائهم بالعمل الدعوي ، حتى إذا مرت السنين تلو السنين أدرك أولئك الشباب أن الطريق أطول بكثير مما قيل لهم ، فيؤدي ذلك - عند أية هزة - إلى الإحباط والانزواء والسلبية أو إلى تسفيه القيادات واتهامها بالقصور وتجاوز المرحلة لها ثم الاندفاع خلف قيادات شابة تفتقر في أكثر الأوقات إلى الحكمة والخبرة والعلم والنتيجة معروفة !
وسبب ذلك أن الشيوخ ما بصَّروا الشباب بطبيعة طريق الدعوة وتكاليفه ومشاقه ، مع أن النصوص ، الواردة في ذلك كثيرة جداً .
أما الجوانب التي لم نحط بها خُبْراً فهي عديدة ، نذكر منها ما يلي :
أ- المنهج الرباني الذي نحمله ، منهج مشتمل على أجزاء صلبة راسخة لا يجوز أن تتطور أو يُغض الطرف عن شيء منها كي تؤدي وظائفها في الهداية والإصلاح ، وفيه أجزاء مرنة تقبل شيئاً من الموازنة لتحقيق خير الخيرين ودفع شر الشرين ؛ وكل أجزاء المنهج خير ، ومطلوب التحقق بها ؛ لكن الظرف هو الذي يعطي الأولوية لبعضها على بعض ؛ فأعمال الخير كثيرة جداَ لكن الحال المعاش يرجح شيئاً على شيء ، فإذا كانت في المسلمين مجاعة كان مجال إطعام الطعام أولى بالبذل من مجال التنفل بالحج والعمرة ، وإذا اجتاح العدو بلاد المسلمين كان تجهيز المقاتلين أولى من بناء مسجد أو تأثيث مكتبة عامة وهكذا .. وإذا كان المريض الذي نعالجه يشكو من أمراض عديدة وجب أن نبدأ بالأخطر منها كالنزيف مثلاً .
ب - ومما لم نحط به خُبْراً على الوجه المطلوب الواقع الذي نتحرك فيه ، وهو واقع مفعم بالمؤثرات المختلفة حيث صار من غير الممكن معالجة أية قضية من قضايانا الكبرى على أنها شأن محلي خاص ، فوسائل الاتصال العجيبة المتاحة وتشابك المصالح وتداخلها ونفوذ الثقافة العالمية ، كل أولئك يجعل ما نظنه داخلياً خاضعاً لاعتبارات دولية وإقليمية إلي جانب الاعتبارات المحلية . وفهم تلك الاعتبارات ما عاد ممكناً عن طريق التأمل والشفافية ، وإنما عن طريق الدراسات المتقنة والصلات والعلاقات والمعايشات الداخلية .. وفهم طريقة التفكير لصانعي الخيارات والقرارات .
ج - ومما لم نحط به خُبْراً الإنسان موضع الدعوة ، وهذا الإنسان صار يخضع لمزيج كبير من المؤثرات الثقافية المتضادة - في كثير من الأحيان - مما يجعل تفكيره مختلفاً عن تفكيره في القرن الماضي ، ومفاتيح اهتمامه أيضاً تبدلت ، والطريق إلى حفز مشاعره صارت أكثر التواء . ولم يصاحب ذلك التعقيد كله ما يحتاجه من الفهم العميق القائم على معرفة النفس البشرية والسنن الإلهية التي تحكمها . وآية ذلك جمود خطاب كثيرين منا دون أدنى تحسين أو تحوير .
د- ومما لم نحط به خُبْراً سنن الله - تعالى - في تغير المجتمعات ، ذلك التغير الذي لا يتوقف أبداً لكنه لا يخرج عن الأحكام والأنظمة الإلهية التي تسيره ، وهو تغير أساسه الحركة البطيئة التي إن تسارعت لم تصل أبداً إلى حد الطفرة المناقضة للفطرة . وبما أن عمر الإنسان قصير فهو متشوق أبداً إلى معرفة نتائج أعماله ومجهوداته قبل أن يرحل عن هذه الدنيا لكن سنن الله - تعالى - لا تخضع للرغبات والأهواء ، ومن ثم فإن الله - تعالى - قال لنبيه : { وإمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإنَّمَا عَلَيْكَ البَلاغُ وعَلَيْنَا الحِسَابُ } [الرعد 40]
وإذا كان الوقوف على مفاتيح شخصية الفرد صار معقداً ، فإن الوقوف على مفاتيح شخصية المجتمع أكثر تعقيداً ؛ لأن أبناءه ينتمون إلى شرائح متعددة وكل شريحة منها تخضع لمؤثرات مغايرة ، وهذا يجعل التعامل معه غاية في التعقيد !
إن الحل الوحيد لحالات الاستعجال على قصف الثمار قبل نضجها هو الإحاطة المبصرة بكل جوانب التغيير المنشود وآلياته ، وإلا فإن كثيرا من الجهود ستكون جهاداً في غير عدو ، بل ستكون أخطر على الدعوة من أعدائها !(1/135)
إن فقه التحرك بالمنهج أشق من فقه المنهج نفسه ؛ لأنه يقوم على ركائز عائمة ، وتراكم الخبرة فيه ضعيف لتنوع أحواله وكثرة خصوصياته . ولله الأمر من قبل ومن بعد .
------------
(1) أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء .
(2) ورد في البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : يرحم الله موسى لو كان صبر لقصّ الله علينا من أمرهما .
(3) فتح القدير .
==================
#{ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإذْنِ اللَّهِ }
يقول الله سبحانه وتعالى : { فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ والَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا اليَوْمَ بِجَالُوتَ وجُنُودِهِ قَالَ الَذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاقُوا اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإذْنِ اللَّهِ واللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ } [ البقرة 249] ، تسلط الآية الكريمة الضوء على قضية مهمة من حياتنا ، هي قضية (الكم والكيف) ، وعلى العلاقة الجدلية بينهما ؛ فحين خرج طالوت لحرب جالوت خرجت معه الألوف المؤلفة من الجند (كم) فأراد أن يعرف عن نوعية الرجال الذين سيقاتل بهم فابتلاهم بالشرب من النهر ، فشرب منه السواد الأعظم منهم ، ولم ينجح في ذلك الامتحان سوى ثلاثمائة وبضع عشر رجلاً - كعدة أصحاب بدر - وكان موقف هذه القلة القليلة من جيش جالوت الموقف الذي يتناسب مع كيفهم ، فقالوا : { كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإذْنِ اللَّهِ } ، هذه الفئة القليلة هي الغالبة لما نالت من تأييد الله ونصره ؛ لنصرها دينه واستحواذها على شروط النصر .
وفي ختم الآية : ] واللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [ إشارة إلى أن هذه الفئة كانت تتحلى - في جملة ما تتحلى به - بالصبر الضروري لمجالدة العدو .
إن للكيف شأناً وأي شأن في أوقات الأزمات عامة ومصارعة الأعداء خاصة ؛ حتى إن الرجل ليغالب العشرة من الرجال { إن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ } [الأنفال 65] . وهذه الدنيا دار ابتلاء ، ومن ثم فإن بني البشر محاطون بكل ما من شأنه أن يكون ابتلاءً لهم ، الزمان والمكان والأشياء والأفكار والأعراض ، وكل ما نتركه غفلاً على حالته الفطرية فهو (كم) يتحدى ، ويضايق ، وقد يشوه ، ويقتل ! ! ومن ثم فإننا نمتلك من القدرة والحرية على مقدار ما نكيفه من تلك الفطريات .
ونحن بني البشر محدودو الطاقات والإمكانات ، ومن ثم فإن توسعنا في الكم لا بد أن يكون على حساب الكيف ، كما أن التوسع في الكيف لا بد أن يكون على حساب التوسع في الكم ، وهذا يوجب علينا أن نتعلم كيف نركز على الكم ، وكيف نركز على الكيف ، ومتى يكون هذا ، ومتى يكون ذاك ؟ وإلا فربما ذهب كثير من جهدنا هباءً !
وعلى سبيل المثال فإن الظواهر الاجتماعية تتكون على سبيل التدرج ، وإذا ما استقرت ، وصارت عرفاً ضغطاً على الناس ضغطاً شديداً ، وهي لا تعتمد في سيرورتها على الكيف ، لكن على الكم ، ومن ثم فإن القول السائر في صددها يكون باستمرار : الناس يعيبون هذا ، والناس يحبون هذا ، بقطع النظر عن توعية القائلين ، ومن هنا جاء الحديث الشريف : ( من كثر سواد قوم فهو منهم ) [1] حيث إن تكثير السواد في بعض المواقف ، كالمؤتمرات والتظاهرات - مثلاً - يكون هو الهدف مهما كان القصد ! وهذا يعني أن جهداً كبيراً ينبغي أن يبذل في اتجاه جعل الدين ثقافة عامة للناس يؤصلون أعرافهم عليها ؛ فلا يصبح المعروف منكراً ولا المنكر معروفاً ..
وعلى صعيد الكيف فإن باحثاً واحداً يعد مرجعاً في فرع من فروع المعرفة أجدى على التقدم العلمي من ألوف الملقنين المدرسيين . ونحو من هذه الوظائف الإدارية والقيادية العليا ، فإن شخصاً موهوباً مؤهلاً واحداً أنفع من مئات الأشخاص (الخام) الذين يحتاجون إلى من يصرف أمورهم ..
وفي قضايا الفكر والرأي والالتزام قد ننظر للكم تارة وقد ننظر للكيف تارة أخرى ؛ فإذا كان الحق الذي نتبعه قطعياً - أي ليس مناطاً للاجتهاد - فإن الكم مهدور حينئذ ، وهذا معنى قول بعض السلف : الجماعة أن تكون على الحق ، ولو كنت وحدك . وحين يكون الحق اجتهادياً فإن الكم حينئذ معتبر ، ومن هنا نشأت أهمية كلمة (جمهور) عند الفقهاء وغيرهم .
إن أمتنا اليوم لا تعاني اليوم من نقص في (الكم) على أي صعيد من الصعد ، لكنها تعاني من نقص شديد في (الكيف) ؛ فنحن اليوم أكثر من خمس العالم ، وأراضينا واسعة شاسعة وخيراتنا كثيرة وفيرة ، لكننا إلى جانب هذا في حالة معيشية مأساوية على أكثر الأصعدة ، فأكثر بلدان العالم الإسلامي مصنفة مع البلدان الفقيرة ، وكثير من شعوبنا يعيش تحت مستوى الفقر ! وأعلى نسبة للأمية موجودة عندنا ! أما الوزن الدولي فنحن جميعاً على الهامش موزعون ما بين شرق أوسط وأقصى وأدنى ، أي أننا نُصنف باستمرار تبعاً لموقعنا في المركز ! !(1/136)
ومع أن الوحدة ظلت المحور الذي يجذب مشاعرنا وأدبياتنا ، إلا أن حالتنا الراهنة تتجه باستمرار إلى مزيد من التمزق والتفكك ، مع أن العالم من حولنا يسير إلى التوحد والاندماج ! أما حقوقنا وكرامتنا وأراضينا فوضعنا ووضع العالم منها يلخصه المثل العربي القديم : ( أوسعتهم سباً وأودوا بالإبل ) !!
ولا أريد أن أتمادى في (النبش) وتتبع المواجع حتى لا نقع فريسة اليأس القاتل لكن ما أريد أن أقوله هو أن وضعنا الحالي قد جاءت به النذارة في نصوص كثيرة منها : حديث [2] القصعة المعروف ، والذي وصف حالة الأمة بالغثائية ، والتضاؤل على المستوى الظاهري : غثاء كغثاء السيل ، وعلى مستوى المضمون ( الوهن ) : ( حب الدنيا وكراهية الموت ) .
وللغثاء سمتان أساسيتان : خفة الوزن وعدم الترابط ، ويترتب عليهما نتيجة مخيفة ، هي فقد الاتجاه الحر ، فالغثاء يساق دائماً إلى حيث يريد ، وإلى حيث لا يريد ؛ وفي موازين عديدة يعد فقد الاتجاه فقداً للوجود ذاته ! !
وهذا كله يعني أن أحوالنا الثقافية والسلوكية والاقتصادية إذا ظلت على ما هي عليه فلن تفرز إلا التبعية للآخرين ، والتي ستفرز من جهتها باستمرار صراعات في بُنانا العميقة تؤكد الغثائية وتؤصلها ! !
كيف نحول الكم إلى كيف ؟
نحن في حركتنا اليومية نقوم باستمرار بتحويل (الكم) إلى (كيف) فلا مشكلة في الممارسة العملية ، لكن الإشكال يكن في فقد التوازن بين الكم والكيف ، أو بعبارة أخرى في الكم الهائل الذي نستطيع تكييفه ؛ مما يحوله إلى عبء ثقيل وعقبة كأداء في طريق نجاحنا ؛ فالأمي والجائع والمريض والمنحرف والفوضوي والكسول ، كل أولئك يشدون الأمة بعنف نحو الوراء ، ويقفون في وجهها ، وهي تخطو نحو الخلاص من الغثائية ، وليس هذا فحسب بل إن هذه الهلاميات تستطيع أن تتأبى على أي قالب تشكيل تصادفه ، مما يجعلها دائماً نقاط ضعف في جسم الأمة ونقاط ارتكاز ورؤوس جسور للمتربصين بها الدوائر ! !
ويكون السؤال حينئذ : كيف نحد من نسبة هؤلاء لتكون قريبة من الطبيعية ؟ ؟ إن هناك كلاماً كثيراً يمكن أن نقوله في هذا الشأن ، لكنني أود أن أشير إشارة عابرة إلى محاور أربعة أحسبها منطلقات مهمة في هذه السبيل :
1- أن نشيع في الأمة روح التوحد على الأصول والحق القطعي ، وذلك يستلزم جهوداً دائمة في بلورة ذلك ؛ وأن نشيع إلى جانب ذلك روح التعاذر في الفروع والحق الاجتهادي ، ونضرب للناس الأمثلة العملية التي تنير لهم السبيل ، وأن نبقي في الحالتين هامشاً للتواصل والتبشير والإنذار .
2- أن نوسع في تربيتنا وحياتنا اليومية من مفاهيم العبادة لتشمل مجالات النفع العام ، كالأخذ بيد أولئك الذين قعدت بهم ظروفهم وإمكاناتهم عن أن يعيشوا حياة كريمة طبيعية ( الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله أو القائم الليل الصائم النهار ) [3] وذلك بغية التخفيف من المعاناة التي يكابدها كثيرون من أفراد الأمة .
3- رعاية النابهين وإعطاؤهم ما يستحقونه من الاهتمام والمتابعة والبذل ، والنابهون هم أولئك الذين آتاهم الله - سبحانه - من المكنة ما جعلهم محاور يدور في فلكهم الآخرون ، والنابه قد يكون طالباً عبقرياً ، وقد يكون وجيهاً يأتمر بأمره كثيرون ، وقد يكون واحداً من ذوي رؤوس الأموال الطائلة ، وقد يكون ويكون ... ، وهذا من باب إنزال الناس منازلهم .
4- إقامة المؤسسات الكبرى على مختلف الصعد ، وتلك المؤسسات تؤصل فينا روح الفريق ، كما توفر الأطر الإدارية والفنية والعملية لأولئك الذين يملكون روح الإخلاص والعطاء . إن المؤسسات تمثل مهمة المحرك للسفينة تارة ومهمة المراسي تارة أخرى ، أي : تؤمن حركة راشدة متزنة .
وإذا ما فعلنا ذلك أو بعضه نكون قد ساعدنا الأمة في الخروج من نفق (الغثائية الكمية) المظلم ، ودفعناها نحو امتلاك أهلية قيادة العالم وهدايته . وعلى الله قصد السبيل .
________________________
(1) من حديث لابن مسعود يرفعه انظر فتح الباري 13/37 .
(2) أخرجه أحمد وأبو داود .
(3) أخرجه الشيخان وغيرهما .
==================
#{ إنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْراً }
في هذه الآية خير عظيم ، إذ فيها البشارة لأهل الإيمان بأن للكرب نهاية مهما طال أمده ، وأن الظلمة تحمل في أحشائها الفجر المنتظر . وتلك الحالة من التعاقب بين الأطوار والأوضاع المختلفة تنسجم مع الأحوال النفسية والمادية لبني البشر والتي تتأرجح بين النجاح والانكسار والإقبال والإدبار ، كما تنسجم مع صنوف الابتلاء الذي هو شرعة الحياة وميسمها العام . وقد بثت هذه الآية الأمل في نفوس الصحابة - رضوان الله عليهم- حيث رأوا في تكرارها توكيداً لوعود الله - عز وجل - بتحسن الأحوال ، فقال ابن مسعود : لو كان العسر في جحر لطلبه اليسر حتى يدخل عليه . وذكر بعض أهل اللغة أن (العسر) معرّف بأل ، و (يسراً) منكر ، وأن العرب إذا أعادت ذكر المعرفة كانت عين الأولى ، وإذا أعادت النكرة فكانت الثانية غير الأولى [1] . وخرجوا على هذا قول ابن عباس : لن يغلب عسر يسرين [2] .(1/137)
وفي الآية إشارة بديعة إلى اجتنان الفرج في الشدة والكربة مع أن الظاهر أن الرخاء لا يزامن الشدة ، وإنما يعقبها ، وذلك لتطمين ذوي العسرة وتبشيرهم بقرب انجلاء الكرب .
ونحن اليوم أحوج ما نكون إلى الاستبشار بهذه الآية حيث يرى المسلمون الكثير من صنوف الإحباطات والهزائم وألوان القهر والنكد ؛ مما أدى إلى سيادة روح - التشاؤم واليأس ، وصار الكثيرون يشعرون بانقطاع الحيلة والاستسلام للظروف والمتغيرات . وأفرز هذا الوضع مقولات يمكن أن نسميها بـ ( أدبيات الطريق المسدود ) ! هذه الأدبيات تتمثل بالشكوى الدائبة من كل شيء ، من خذلان الأصدقاء ، ومن تآمر الأعداء ، من تركة الآباء والأجداد ، ومن تصرفات الأبناء والأحفاد !
وهؤلاء المتأزمون يسلطون أشعة النقد دائماً نحو الخارج ؛ فهم في ذات أنفسهم على مايرام ، وغيرهم هو الذي يفعل كل ما يحدث لهم ! وإذا رأوا من يتجه إلى الصيغ العملية بعيداً عن الرسم في الفراغ أطفؤوا حماسته بالقول : لن يدعوك تعلم ، ولن يدعوك تربي ، ولن يدعوك تمسي عملاقاً ، ولن يدعوك ...
وكل ذلك يفضي إلى متحارجة (كذا) تنطق بالصيرورة إلى العطالة والبطالة ، إلى أن يأتي المهدي ، فيكونون من أنصاره أو يحدث الله - تعالى - لهم من أمره فرجاً ومخرجاً !
ولعلنا نلخص الأسباب الدافعة إلى تلك الحالة البائسة فيما يلي :
1- التربية الخاصة الأولى التي يخضع لها الفرد :
وتلك التربية قد تقوم ببث روح التشاؤم واليأس من صلاح الزمان وأهله ، كما تقوم ببث نوع من العداء بينه وبين البيئة التي ينتمي إليها فإذا ما قطع أسبابه بها وانعزل شعورياً بحث عن نوع من الانتماء الخاص إلى أسرة أو بلدة أو جماعة حتى ينفي عنه الشعور بالاغتراب . لكن يكتشف أن ما كان يعتقد فيه المثالية ، ويتشوق إلى تحقيق أماله من خلاله لا يختلف عن غيره كثيراً ، مما يورثه الإحباط واليأس حيث يفقد الثقة بكل ما حوله وتكون النتيجة البرم والتأفف من كل شيء وردود الأفعال السلبية تجاه التحديات المختلفة .
2- التعامل مع الواقع على أنه كتلة صلدة :
يميل أكثر الناس إلى النظرة التبسيطية التي لا ترى لكل ظاهرة إلا سبباً واحداً ، ولا ترى في تركيبها إلا عنصراً واحداً . وهذه النظرة الخاطئة تفضي إلى معضلة منهجية كبرى ، هي عدم القدرة على تقسيم المشكلة موضع المعاناة إلى أجزاء رئيسية وأخرى ثانوية ، كما تؤدي إلى عدم القدرة على إدراك علاقات السيطرة في الظاهرة الواحدة ، وعدم القدرة بالتالي على تغييرها أو تبديل مواقعها .
والنتيجة النهائية هي الوقوف مشدوهين أمام مشكلة متكلسة مستبهمة لا نرى لها بداية ولا نهاية ، والمحصلة النهائية هي الاستسلام للضغوط وانتظار المفاجآت ، مع أننا لو باشرنا العمل الممكن اليوم لصار ما هو مستحيل اليوم ممكنا غداً .
3- عدم الانتباه للعوامل الداخلية للمشكلة :
يندر أن نرى اليوم ظاهرة كبرى لا تخضع في وجودها واشتدادها واتجاهها لعدد من العوامل الداخلية والخارجية ، ويظل العامل الخارجي محدود التأثير ما لم يستطع إزاحة أحد العوامل الداخلية والحلول محله . ونستطيع أن نطبق ذلك على أية مشكلة كبرى نواجهها اليوم . وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة الباهرة حين قال : ] وإن تَصْبِرُوا وتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً [ [آل عمران 120] .
والذي يحدث أننا كثيراً ما نبصر المؤثرات الخارجية - وهي مؤثرات قاهرة حقاً - ونغض الطرف عن العوامل الداخلية ؛ فنحن مثلاً لا نملك إقناع الأعداء بأن يخففوا من غلوائهم في عدائنا ، كما لا يملك بنو البشر جميعاً أن يمنعوا الثلوج من التساقط ؛ لكن الذي نستطيعه هو تقوية أنفسنا حتى لا نكون لقمة سائغة ، كما يفعل الناس في مواجهة ظروف المناخ . لكن المشكلة أن أصعب أنواع المواجهات هي مواجهة الذات ، وأن أرقى أنواع الاكتشاف هي اكتشاف الذات !
4- عدم إدراك حركة الجدل بين الأحوال :
تتعاقب الأحوال كما يتعاقب الليل والنهار ، وما بعد رأس القمة إلا السفح وما بعد السفح إلا القاع . وإن دفع أية قضية إلى حدودها القصوى سيؤدي في النهاية إلى كسر ثورتها أو إنهائها بصورة تامة . وحين تصل تجربة أو نظرية أو منهج إلى طريق مسدود فإن الناس لن يتلبثوا إلا قليلاً حتى يجدوا المخرج الذي قد يكون مناسباً ، وقد لا يكون .
وهنا يأتي دور الثلاثي النكد من الأذكياء والعملاء والبلهاء الذين يحاولون - على اختلاف القصود - عدم وصول أي مشكلة إلى مرحلة الانفجار حتى تظل مستمرة إلى ما لا نهاية ! والمشكلات في عالمنا الإسلامي لم تدم تلك القرون المتطاولة إلا نتيجة الهندسة الإخراجية لذلك الثلاثي ! ! وهنا يأتي أيضاً دور المفكرين الذين يمتلكون رؤية نقدية شاملة ينقلون من خلالها مشكلات مجتمعاتهم إلى حس الناس وأعصابهم حتى لا يتكيف الناس معها سلبياً ، وحتى يتاح بالتالي تجاوزها .(1/138)
{ فإنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْراً * إنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْراً } ، وإن النصر مع الصبر وإن الفرج مع الكرب ، وإن في رحم كل ضائقة أجنة انفراجها ومفتاح حلها ، وإن لجميع ما نعانيه من أزمات حلولاً مناسبة إذا ما توفر لها عقل المهندس ومبضع الجراح وحرقة الوالدة .. وعلى الله قصد السبيل .
________________________
(1) انظر البحر المحيط 8/488 .
(2) السابق , وبعض المحدثين يرفعه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- .
===================
#{ ولَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً }
كان من جملة تسخير الله - تعالى - الكون لهذا الإنسان أن بثّ فيه سنناً تتسم بالاطراد والثبات والشمول . وهذه السنن مبثوثة في الكون والأنفس والمجتمعات .
وإن وجود السنن رحمة من الله - تعالى - بنا ؛ إذ أننا تمكنا بسببها من اختصار كثير من الجهود التي كان علينا أن نبذلها لفهم ما حولنا والتعامل معه . ولنتصور أن قانون إحراق النار ، أو قانون الجاذبية ، أو قانون تغير الحال إلى الأحسن أو الأسوأ تبعاً لجهد الإنسان وسلوكه لم يكن ثابتاً ولا مطرداً فكيف ستكون الحال إذن ؟ !
ومظهر آخر للرحمة في اطراد السنين هو أن التحول في أكثر الظواهر الاجتماعية يتم ببطىء ؛ وعمر الإنسان قصير إذا ما قيس بعمر الحضارات ؛ مما يجعله يبصر مقدمات الحدث دون نتائجه ، ونتائجه دون مقدماته وأسبابه . وحينئذ فإن من السهولة بمكان أن يصاب المرء بغبش الرؤية وضلال الأحكام .
والسنة بتجسيرها للعلاقة بين الماضي والحاضر والمستقبل جعلت في إمكان المسلم أن يعرف النتائج من خلال الوقوف على الأسباب ، والمقدمات من خلال رؤية نتائجها ، أي جعلت الأزمنة كتلة واحدة ، وهي بهذا الاعتبار تكون قد أمنّت للمسلم نوعاً من التواصل عبر حقب الزمان المختلفة ، فالماضي لم يغادرنا حتى ترك في حاضرنا ثقافة عصرنا وصفات وراثية محددة وظروفاً تؤطر مساحات حركتنا اليوم . إن الماضي سيظل يظهر في الحاضر بصورة ما ، وإن الحاضر سيظل يظهر في القابل بصورة ما ، وإن فيزياء التقدم عبارة عن حديث الحاضر مع الماضي عن المستقبل .
السُنَّة : إلتحام بكل الأبعاد ..
إذا كانت السنة هي الناموس العام الذي يؤمن الاستقرار والانسجام بين جزئيات الظاهر الواحدة إذا ما توفرت بعض الشروط الموضوعية فإن هذا يعني أن المسلم مأمور بعبور الماضي ليفهم جذور حاضره ، ومأمور بتجاوز الحاضر ليمد النظر نحو المستقبل ؛ كيما يفقه الخطوة المناسبة . ونجد نصوصاً كثيرة في هذا الأمر ، كقوله سبحانه : { قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ } [آل عمران : 137] . وقوله سبحانه : { قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [العنكبوت : 20] . إنها دعوة للسير في الأرض والخروج من سجن المكان المألوف لرؤية خلق الله وإبصار سننه فيه . وبما أن المكان يرث دائماً الزمان فإننا سوف نبصر من خلال السير في الأمكنة الكثير من الأزمنة الماضية وما خلفته لنا من آثار خلق الله تعالى .
وقد كانت هذه الأمة تحتل في يوم من الأيام مكان الصدارة بين الأمم ؛ فإذا بها تبحث عن مكان في الذيل ، فلا تجد ! والخطوة الأولى نحو استعادة بعض ما فات تتمحور حول بحث الأسباب التاريخية التي أدت بنا إلى هذه الحالة المنكورة . وهذا يعني أن علينا أن نثابر في قراءة التاريخ المرة تلو المرة حتى نقف على جذور الواقع الذي نعيشه إذا ما كنا جادين في تغييره نحو الأحسن .
إن ظواهر كثيرة في حياتنا ستظل غير مفهومة ما لم نعد إلى جذورها العميقة الضاربة في القدم ؛ فإذا ما نظرنا - مثلاً - في ظاهرة » ذل المسلم وخضوعه « لم نستطع أن نفهمها ما لم نعد إلى الماضي ، فإذا عدنا رأينا ما يسوِّغ ذلك ، فقد صُب عليه من صنوف التعذيب النفسي والجسدي ، ومن صنوف الإذلال والإهانة وسياسة » اسحق الذبابة بالمطرقة « ما لا يفرز إلا مسلم اليوم !
ذلك باستمرار باسم المصلحة العامة وأمن الأمة والاستقرار العام ! ! لكن لا بد من القول إن انفتاح العالم على بعضه حتى تحول إلى » قرية إعلامية « - كما يقولون - قد جعل فهم الواقع اليوم أكثر تعقيداً . والسبب أن جزءاً من هذا الواقع هو الذي يمكن مسُّه ، أما الباقي فجذوره وخيوطه ربما كانت خارج أرضي المسلمين كلها ! !
لكن مهما يكن من أمر فإن السنة ترسم لنا المسار العام إن لم تتحفنا بالتفاصيل .
السنة وعلوم المستقبل :(1/139)
هناك اليوم حركة محمومة في الغرب لدراسة المستقبل ، حتى صار لديهم علم اسمه » علم المستقبل « . وهم يصنفون المستقبل إلى مباشر ، وهو يغطي مساحة زمنية قدرها عام ، ومستقبل أقرب وهو يغطي مساحة قدرها خمسة أعوام ، ومستقبل قريب يغطي مساحة قدرها عشرون عاماً ، ومستقبل بعيد يمتد إلى نحو خمسين عاماً ، ومستقبل أبعد يتجاوز الخمسين . وهم لخبرتهم الحسنة بالواقع يستطيعون مد البصر نحو المستقبل في المجالات التقنية والتنموية المادية بصورة خاصة . لكن لاعتقادهم أن العلم هو الذي يكيف سلوك البشر ، وليس الدين فإن كثيراً من توقعاتهم سوف تكون مخيبة للآمال . وتاريخ البشرية هو تاريخ الرسالات والشرائع وما تحدثه من دوائر الاستجابة وردود الفعل ؛ وسيظل مستغلق الفهم على من نظر إليه على غير ذلك .
وإذا كانت وظيفة الإنسان في الحياة هي الالتزام بشرع الله والقيام بإعمار الأرض فإن القرآن الكريم يحدثنا أن هلاك الأمم الماضية لم يكن أبداً بسبب القصور العمراني ، وإنما بسبب التقصير في جانب العبودية لله تعالى والانحراف عن منهجه . وهذا ما لا يستطيع الغربيون اليوم فهمه ؛ ومن ثم فإن كثيراً من دراسات المستقبل لديهم سيظل جهاداً في غير عدو !
ونستطيع القول : إن الإسلام يربي المسلم على النظر دائماً نحو الأمام ؛ فهو منذ البلوغ إلى أن يلقى الله - تعالى - يرنو نحو المستقبل بالآخرة - بل يجعله حكماً في حاضره بكل حركاته وسكناته . وهناك نصوص كثيرة تتحدث عن المستقبل ، وهذه النصوص منها ما يقدم الإطار العام كقوله - سبحانه - : { إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ } [الرعد : 11] . وكقوله - سبحانه - : { َقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إنَّهُ كَانَ غَفَّاراً (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَاراً (11) ويُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وبَنِينَ ويَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ ويَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً } [نوح : 10-12] .
ومنها ما يقدم بعض التفصيلات كإخباره -صلى الله عليه وسلم- عن أن الفنتة ستأتي من قبل المشرق ، وإخباره عن فشو الأمراض الغريبة في الذين تفشو فيهم الفاحشة [1] إلخ .. وقد أوجدت معرفة السنن عند السلف حساً خاصاً بالتعامل مع الواقع من خلال إفرازاته المستقبلية ؛ فهذا أبو بكر - رضي الله عنه - يقول :
» لا تغبطوا الأحياء إلا على ما تغبطون عليه الأموات « وهذا تعبير مركز ينمُّ عن رؤية الأشياء المادية ونهاياتها في لحظة واحدة ! !
وهذا عمر - رضي الله عنه - يأتيه خبر فتح خراسان ، فيقول للناس في المدينة : » لا تبدلوا ، ولا تغيروا ، فيستبدل الله بكم غيركم ، فإني لا أخاف على هذه الأمة إلا أن تؤتى من قبلكم « [2] . وهذا هو يؤتى إليه بغنائم » جلولاء « ،
فيرى ياقوته وجوهره ، فيبكي ، فيقول له عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - : ما يبكيك يا أمير المؤمنين وهذا موطن شكر ؟! فيقول عمر : » والله ما ذاك يبكيني ، وتاالله ما أعصى الله هذا أقواماً إلا تحاسدوا وتباغضوا ، ولا تحاسدوا إلا ألقى الله بأسهم بينهم « [3] ! وقد كان ما خافه رحمه الله !
لماذا التعرف على السنن :
السنن ماضية قاهرة ، ونحن لا نتعلمها من أجل تغييرها أو تحييدها ، وإنما من أجل الانسجام معها والعمل بمقتضاها وتلافي الاصطدام بها . والسنن مع جبريتها لا تمنعنا من الحركة ؛ إذ إن بين جبرية السنن ووسع المسلم وطوقه مساحات واسعة تصلح للتحرك والعمل ؛ فالقوانين الفيزيائية والكيميائية ثابتة ، لكننا من خلال فهمها استطعنا إيجاد الألوف من الصناعات الكيميائية والفيزيائية مستغلين ما بينها من خلاف وتنوع .
ومشكلتنا في هذه القضية ذات رؤوس متعددة :
فهناك من هو غارق في الماضي غريب عن الحاضر ، فهو يرى مقدمات الأحداث وجذورها ، دون أن يرى النتائج ، فهو مغترب أبداً .
ومنا من غرق في الحاضر دون أن يعرف عن بدايات الخلق لأزماته ومشكلاته شيئاً ؛ فهو يدور في حلقة مفرغة لا يرى مخرجاً ، ولا يهتدي سبيلاً .
ومنا من شهد جبرية السنن ، ولم يشهد مساحات التكليف وإمكانات الحركة ، فوقف عاطلاً عن العمل هاجعاً في إجازة مفتوحة ، لكنه أثرى أدب الشكوى من الزمان والظروف وتواطؤ الأعداء بما لا مزيد عليه ! !
ومنا من غرق في الأحلام الوردية ؛ فهو لا يرى ما هو كائن لينطلق به إلى ما ينبغي أن يكون ؛ فهذا شاق ، ويقتضي عملاً ، فوجد أن التعامل مع ما حوله على ما ينبغي أن يكون أسهل وأجمل فصار إليه !
ومنا من لم يسمع بالسنن فتفكيره إلى الخرافة أقرب ، وعلمه بالإرادة الكونية والإرادة الشرعية هباء ، والحياة أمامه بعد واحد ينتهي بطريق مسدود !
واجبنا اليوم :
1 - التركيز في معارفنا العامة على الدراسات التاريخية والنفسية والتربوية والاجتماعية ؛ لنتمكن من استجلاء أكبر عدد ممكن من سنن الله تعالى في الأنفس والمجتمعات .
2- بلورة مناهج للعمل الدعوي تتناسب مع تلك السنن في أساليبها وأدواتها .
3- تربية أبنائنا وطلابنا على التفكير السنني ؛ ليحل محل الأوهام والخرافات التي عششت في أذهان كثير منهم .(1/140)
4 - محاولة القيام بتقويم سنني للأحداث الكبرى في تاريخنا والمعالم البارزة في واقعنا المعاش .
5- القيام بدراسات علمية مستقبلية تعتمد على ما فقهناه من سنن الله تعالى في حركة الفرد والمجتمع .
وإذا ما فعلنا ذلك فسوف نجد الخلاص من كثير من مشكلاتنا ، كما سنجد ساحات ودروباً للحركة والعطاء . وعلى الله قصد السبيل .
________________________
(1) انظر هذه الأخبار وكثيراً نحوها في كتاب الفتن من صحيح البخاري .
(2) الطبري 4/173 .
(3) السابق 4/30 .
===================
#{ وقل اعملوا .. }
خلق الله تعالى الجنة داراً لتكريم أوليائه ، فوفر فيها كل شروط التكريم ؛ وخلق النار داراً لإهانة أعدائه ، فوفر فيها كل شروط الإهانة ؛ وخلق الدنيا داراً لابتلاء الفريقين ، فوفر فيها كل شروط الابتلاء .
إن هذا الدين يعلمنا أن كل ما يحيط بنا في دائرتي الزمان والمكان يمثل بالنسبة لنا ضرورة تتحدانا ، وعلينا أن نعيه ، ونتصرف معه التصرف اللائق بالإنسان المكرم المبتلى .
إن كل لحظة تمر على الإنسان في هذه الحياة هي لحظة اختبار ، وهي في الوقت ذاته ضرورة تتحدى ، وهي (كم) يتطلب منا تكييفاً مناسباً ، فإذا لم نستطع تكيف تلك اللحظة مضت تاركة وراءها قيداً على حرياتنا ووجودنا ! وإن التكييف في موازين هذا الدين السمح قد يأخذ في بعض الأحيان صورة اعتبارية محضة ، كما هو الشأن مع الذي يبادر إلى فراشه فيما يتمكن من حضور صلاة الفجر مع الجماعة ؛ فإنه قد كيف كل لحظه نوم بما انطوت عليه سريرته من قصد . وعلى هذا فإن البطالة والنوم - غير المكيف - ضربان من ضروب الفناء والعبودية المكبلة بالأغلال !
إن كل ما حولنا من فكر ومادة وضرورات هي الأخرى تنادي الإنسان المبتلى كي يتحرر من قيودها بتكييفها ؟ إن الفكرة الصحيحة تتحدانا كي نعممها ، وإن الفكرة الخاطئة تتحدانا كي نفندها ونحجمها ، وإن الفكرة الغامضة تتحدانا ؛ لننفذ إلى جوهرها ، كما أن الفكرة القاصرة تتحدانا لنطورها .
إن الأرض تتحدانا لنزرعها ، فإذا قبضنا على منتوجها تحدانا هو الآخر كي نصنعه على الوجه الأمثل . إن نديف القطن يتحدى النساجين ، فإذا ما صار قماشاً دخل في طور من التحدي جديد ، فلئن كان النساجون قد تحرروا من قيود النديف فقد وقع الخياطون في ضرورة النسيج إلى أن يحيلوه ثوباً جميلاً . فإذا ما عجزت أمة عن أن تخيط نسيجها بين يديها ، أو تزرع أرضاً خصبة تملكها تحول ذاك وهذا إلى قيود على حريتها ووجودها ، وإن من القيود ما يقتل ، ومنها ما يشل ، ومنها ما يشوه ...
وليس انتقال الإنسان من ضرورة إلى أخرى انتكاساً أو زجاً له في دائرة مغلقة - كما قد يتوهم - فنحن إذ نتردد بين مشكلاتنا وحلولها إنما نمضي في حركة لولبية صاعدة تمنحنا المزيد من الحرية والقدرة والتأنق .
إن كل سلعة مصنعة نستوردها هي عبارة عن ضرورة نطوق بها أعناقنا ، وإن أشد المستوردات خطراً على حريتنا تلك التي تكون أكثر إلغاء للعمل عند مستوردها ؛ لأن العمل هو الحرية ، والذي يلغيه يلغي الحرية . ذلك لأن السلعة المصنعة كانت من قبل مادة غفلاً وكان لإمكاننا أن نمارس حريتنا في تصنيعها وتحويلها ، وقد صودرت هذه الحرية حين قام بتشكيلها غيرنا .
وقد أدركت الأمم المتقدمة هذه الحقيقة فتسابقت إلى استيراد المواد الخام ، ووضعت القيود على استيراد السلع المصنعة ؛ فهي لا تبادل الدول الأخرى منها إلا قدراً بقدر حتى تمارس حريتها كاملة ؛ وترى ثمار ما عملته أيديها ..
إن حرية الفرد في المجتمع على قدر عمله ، فإذا ما أخذ من الآخرين أكثر مما يعطيهم فقد من حريته مقدار ما يزيد لهم عنده . وإن أقسى ما يواجهه الحر الكريم أن يرى نفسه غارقاً في عطاء الآخرين دون أن يكون لديه ما يعطيهم ؛ لشعوره بأن ذلك على حساب حريته ، أي : على حساب وجوده ! !
إن العمل هو طريق الخلاص ، وهو طريق تحقيق الذات ؛ ولكن هل كل حركة بركة ، وهل كل عمل هو كسر للقيود وإعتاق للرقاب ؟ ؟
لاريب أن الأمر ليس كذلك ، فالسكون في أيام الفتن - مثلاً - خير من الحركة ، ورب حركة متعجلة قصد منها كسب الحرية أدت إلى الرسف في أغلال العبودية سنين طويلة ، ذلك لأن العمل عبارة عن غزو الصورة للمادة ، وإذا ما شكلت مادة ما على صورة خاطئة فإن هذا قد يعني الحرمان منها باعتبارها كماً ، وباعتبارها كيفاً ؛ لأن أشياء كثيرة قد لا تقبل أن تتشكل إلا مرة واحدة ! ! إنه لا بد من توفر شرطين أساسيين في العمل الكريم ، هما الصواب والإخلاص ، أي القوة والأمانة ، أو القدرة والإرادة ، وإن كان بعض الأعمال يعتمد على أحدهما أكثر من اعتمادها على الآخر ؛ فأعمال الآخرة تعتمد على الإخلاص أكثر من اعتمادها على الصواب ، وإن يكن الصواب أساسياً . وأعمال الدنيا تعتمد على الصواب أكثر من اعتمادها على الإخلاص ، فكلما كان الإخلاص أعظم كانت المثوبة أكبر ، وكلما كان الصواب أكبر كان النجاح أكثر ، تلك هي سنة الله .(1/141)
وتقاس حيوية المجتمع بقدر ما يمور به من حركة الفكر واليد ؛ وعلى هذا الصعيد فقد فجر الإسلام طاقات المسلم على مستوى القيم ، وعلى مستوى الأداء بصورة قل نظيرها في التاريخ ، فشيد المسلمون في قرن من الزمان حضارة زاهرة ظلت تعطي وتقاوم عوامل الفناء نحواً من عشرة قرون ، ثم صارت المجتمعات الإسلامية ، من أقل مجتمعات الأرض حراكاً وعطاء ، فما هو السبب الذي أفضى إلى هذه الحالة المنكورة ؟
في مقاربة أولية للوقوف على جواب هذا التساؤل الكبير ، يمكن أن نقول أولاً : إن ظاهرة كبرى كظاهرة الركود الحضاري أكبر من أن تفسر بعامل واحد ؛ ولكن بإمكاننا أن نسلط الضوء على عامل نحسب أنه كان على جانب كبير من التأثير في هذه الظاهرة ، هذا العامل هو انخفاض مستوى الإيمان بالله - تعالى - أو انخفاض جوهر ذلك الإيمان ، أعني (الصلة بالله تعالى) . حقاً لقد ظلت قيمة الإيمان في أعلى السلم القيمي للمسلمين ، ولكن ذلك وحده غير كاف لإطلاق الطاقات وتوجيهها نحو بؤرة محددة ما لم تتوفر شروط موضوعية في الإيمان نفسه ، وفي البيئة التي يعمل فيها .
وإنما كان ذلك هو السبب في تصورنا ، لأن بنية الثقافة الإسلامية تتمحور داخلها العلاقات حول ثلاثة أقطاب هي : الله - سبحانه - ، الإنسان ، الطبيعة .
وإذا أردنا تكثيف هذه العلاقات حول قطبين اثنين لكانا : ( الله ، الإنسان ) .
وأما الطبيعة فإنها هامشية نسبياً ما أن وظيفتها تتركز في كونها إحدى الدلائل على وجود الله ، وكونها مجالاً للابتلاء ؛ فالمسلم يكتشفها ويعمرها امتثالاً لأمر الله تعالى ، وهذا على خلاف ما هو مستقر في العقل اليوناني الأوربي الذي تتمحور العلاقات فيه على الإنسان والطبيعة . أما فكرة (الإله) فيه فهي عون على كشف الطبيعة ، أي إنها تقوم بالوظيفة نفسها التي تقوم بها الطبيعة في الثقافة الإسلامية .
ومن هنا فإن تعامل المسلم مع الطبيعة ليس مباشراً ، ونظرته إليها معيارية قيمة ؛ فعلى مقدار ما يتوهج الإيمان في صدره يكون تفاعله مع الطبيعة ويكون عطاؤه الحضاري ، فإذا ما خبا الإيمان في صدره - لسبب من الأسباب - انحبس جهده في البناء الحضاري ، أو فتر . وليس كذلك الشأن عند أهل الحضارة المادية . ولا يكفي أن يتوهج الإيمان في صدور أفراد قليلين في المجتمع الإسلامي لاستئناف مسيرة الحضارة الإسلامية ؛ لأن الحضارة ظاهرة اجتماعيه لا ظاهرة فردية .
ونلمح هذا المعنى شائعاً في الخطاب القرآني كله ؛ فكثيراً ما تفتتح آيات الأوامر والنواهي بـ { يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا .. } وكثيراً ما تختتم بـ { إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ .. } { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ .. } ؛ تذكيراً بأن الايمان المتألق هو الذي يطلق طاقات المسلم ، ويفعل القيم لديه . ولم تشذ الآية الكريمة التي نحن بصددها عن هذا النسق حيث يقول سبحانه : { وقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ ورَسُولُهُ والْمُؤْمِنُونَ وسَتُرَدُّونَ إلَى عَالِمِ الغَيْبِ والشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } فقد ربطت العمل برؤية الله تعالى لهذا العمل ومجازاته عليه في الآخرة .
وقد أدى الضعف في فاعلية المسلم وحركته اليومية إلى وجود خلل كبير في حياة المسلمين فصارت بلادهم أفقر بلاد الله ، كما أن نظامهم الرمزي الذي كان في يوم من الأيام أغنى نظم العالم بالأبطال العظام صار اليوم مجدباً على مستوى الكم والكيف ! !
ولم يقتصر الأمر على هذا ، بل إن الأزمة على صعيد الفعل أدت إلى وجود أزمة خطيرة على صعيد (الفكر) ؛ ذلك لأن العقل عقلان على حد تعبير (لالاند) عقل فاعل ، وعقل سائد . أما العقل الفاعل فهو النشاط الذهني الذي يقوم به الفكر حين البحث والدراسة ، وهو الذي يصوغ المفاهيم ويقرر المبادئ . وأما العقل السائد فهو مجموع القواعد والمبادئ التي نستخدمها في استدلالاتنا . فليس العقل السائد شيئاً غير الثقافة . والعقل الفاعل أشبه شيء بالرحى ، والعقل السائد أشبه شيء بالقمح يلقى فيها ؛ وماذا تصنع رحى لا قمح فيها ؟ ! ومن أين ستأتي الثقافة لأمة لا تحرك يداً ، ولا تبني نموذجاً إلا في نطاق الضرورات إن كل انحباس في حركة اليد سيؤدي الى انحباس في حركة الفكر ، وكل انخفاض في وتيرة الإيمان سيؤدي - لدى المسلم - إلى انخفاض في تردد اليد . فهل كتبنا الحرف الأول في أبجدية البداية ؟
===================
#{ وقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ..}
يقرر المتخصصون في علوم الأحياء والسلوك ووظائف الأعضاء أنه - وفي كثير من الأحياء - يفوق الإحساس بالألم جميع الأحاسيس الأخرى ، مثل الإحساس بالجوع والعطش والمتطلبات العضوية الأخرى .(1/142)
بمعنى آخر ، أن هذه الأحياء قد يوقفها الألم عن طلب ما تسد به جوعها وعطشها حتى عند الضرورة ، يقررون ذلك بناءً على عدد كبير من التجارب على حيوانات مختلفة وحتى الإنسان . وعادة ما تتم هذه التجارب بوضع حاجز يسبب ألماً شديداً للكائن الحي عند محاولة اجتيازها للوصول إلى الطعام والشراب . فقد لوحظ أن كثيراً من هذه الأحياء تتردد كثيراً قبل اجتياز هذه الحواجز ، وقسم كبير منها أدى به الجوع والعطش إلى محاولة هجر المكان تخلصاً من هذا الضغط العضوي ، وعند الفشل بمغادرة المكان ، قد يقرر الكائن الحي اجتياز الحاجز وتحمل الألم في سبيل سد هذه الحاجة العضوية المهمة . في حين أن هناك قسماً من الأحياء تصل به عدم القدرة على تحمل الألم إلى الموت .
نفهم من هذا السلوك أمراً مهماً هو أن أي مطلب أو حالة عضوية تؤدي بالكائن الحي إلى تجاهل أو تحمل الإحساس بالألم فلابد وأن يكون ذلك المطلب أو تلك الحالة العضوية من القوة بحيث تعطل ، ولو مؤقتاً ، أو تقلل - على أفضل تقدير - إحساس الكائن الحي بالألم .
وفي تجربة شخصية على عدد من الأحياء البحرية ، وُجد أنها تتوقف تماماً عن تناول الغذاء في حالة حصول عطب شديد . أو لا عادي في الظروف المحيطة بالأحياء . وقد يتوقف الكائن الحي عن القيام بعدد غير قليل من الوظائف العضوية تؤدي به إلى الموت التدريجي إذا زاد العطب والفساد في المحيط من حوله .
ونظرة تفكر فيما تقدم وفي قوله - تعالى - يصف حالاً مشابهاً لحال الأحياء التي تتجاوز مرحلة الإحساس بالألم للحصول على شيء أكثر أهمية ، أو قل أكثر إلحاحاُ ، هو قوله - عز من قائل - : { فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ } [يوسف : 31] ؛ إذ تشير الآية إلى واقع حال تجاوز فيه الإحساس بمطلب معين (وهو هنا الانبهار برؤية النبي يوسف - عليه الصلاة والسلام -) الإحساس بألم قطع اليد ، هذا الألم الذي يعرف الجميع ضرورة شدته بسبب تركز خلايا الحس في هذا الجزء من الجسم . إذاً فقد أدى ذلك المؤثر إلى تعطيل إحساس النسوة بألم قطع السكين ولو جزئياً ..
والواقعة - كما هي معروفة من القرآن في سورة يوسف - تخبر عن مراودة امرأة العزيز لفتاها المملوك عن نفسه . تلك المراودة التي خطط لها أحسن تخطيط وتحرز لها كل الحرز على أن تتم بدون علم بشر { وغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وقَالَتْ هَيْتَ لَكَ } [23] ولكن خبر المراودة والمحاولة انكشف بإرادة الله واطلع عليه مَن اطلع داخل البيت وخارجه . فطار الخبر للخارج - من غير جهة يوسف عليه السلام - بسرعة حتى أن نساء المدينة أصبحن يلُكن وينقلن الخبر في كل مكان ومجلس { وقَالَ نِسْوَةٌ فِي المَدِينَةِ امْرَأَةُ العَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُباً } [30] ؛ حتى رجع الخبر إلى مصدره الأصلى الذي بُهت فيما يبدو من عظم ما يُحاك من مكر في الخارج { فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ } [31] ، وكأن حال لسان نسوة المدينة يقول إننا لا نجد لها عذراً ؛ فهي مَن هي مركزاً ومقاماً وجاهاً ، وأنه لابد وأن يكون قد أصابها شيء إذ تفعل ذلك { إنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ } [30] ، أي أننا لنستقبح منها ذلك الفعل ، فما كان من امرأة العزيز إلا أن صممت أن تجرب بهن نفس السلاح الذى عطل عندها أو أفقدها الإحساس بكل القيم العليا . وفيما يبدو من سياق الآيات الكريمة أن امرأة العزيز لم تزل قادرة على مراودة يوسف - عليه السلام - والخلوة به مع علم زوجها ، الذي كان قليل الغيرة أو عديمها ، ولهذا لما اطلع على مراودتها أول مرة قال { يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا واسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إنَّكِ كُنتِ مِنَ الخَاطِئِينَ } [29] ، فلم يعاقبها ولم يفرق بينهما ، وهو كان له دور في تيسير دعوة يوسف للفاحشة من قبل نسوة المدينة . وكان أن كانت نتيجة التجربة أنهن قطعن أيديهن بسبب الرغبة الجنسية التي فاقت إحساسهن بالألم ، تلك الرغبة الجماعية منهن جميعاً والتي بيَّنها يوسف - عليه السلام - في قوله (تعالى) { وَإلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إلَيْهِنَّ } [33] ، وقوله { ارْجِعْ إلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ } [50] ، فهن قد راودنه عن نفسه لأنفسهن ولامرأة العزيز !(1/143)
سبحان الله ! ، إن رؤية الرجل الحسن مؤثر عظيم القوة عطل لدى المرأة الإحساس بالطهر والعفاف وكل معايير إكرام المثوى وحسن الضيافة وحفظ الزوج وحقوقه . هل يبقى شك بعد هذه الآيات بخطورة الاختلاط وعدم غض البصر ؟ هل يبقى بعد هذا تساؤل عن المقصود من قوله - تعالى - : { وقُل لِّلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ } [ النور : 31] ، أو قوله { قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ } [النور : 30] ، أو قوله - عز من قائل عليم - : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وبَنَاتِكَ ونِسَاءِ المُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ } [الأحزاب : 59] .
ومن فوائد هذه الآيات من سورة يوسف أن الله - تعالى - يروي للأمة تفاصيل قصة حصلت في السر أو هكذا خُطط لها بصورة فردية أعقبها فتنة عظيمة على مستوى نساء المدينة وبصورة علنية وعامة . وقد بلغت السرية كمالها عند إغلاق الأبواب والتي كانت سبعة أبواب (القرطبي) ، حيث الإرادة أن يتم المنكر معها وحدها ، لكن إرادة الله شاءت أن يطلع على ذلك الشهود وزوجها ونساء المدينة وكأنه - تعالى - أراد لهذا الدرس عنواناً آخر هو أن مَن يهتك الستر الذي بينه وبين الله يهتك الله السر الذي بينه وبين الناس وأن من يتقِ الله يجعل له مخرجاً .
هذا ليعلم أن الفتنة والمكر قد يبدأ بصورة فردية أو حالة سرية هنا وأخرى هناك أو تساهل في مسألة ومسامحة في أخرى ، ولكن شر الفتنة لابد أن يعم المجتمع جُله إما بصورته المباشرة ، كما هو في كثير من المجتمعات متمثلة بانتشار الأمراض التي يعم شرها الصالح والطالح ، ذلك إذا لم يؤخذ على يد الفتنة والمكر من أوله وحال حدوثه ، والضابط في ذلك كله الشرع الإسلامي .
ومن الفوائد الأخرى ملاحظة خطورة إهمال البيوت والمجتمعات مما يجلبه الاختلاط والسفور والتبرج من فتن يمكن أن تعصف بالمجتمعات المسلمة ، فإنه من باب تشابه الميول والطبع بين النساء كما فطرهن الخالق كذلك ، فإن ترك باب الاختلاط والفتنة مفتوحاً على مصراعيه وإهمال الضوابط الشرعية في ذلك سيكون له - كما كان الحال مع امرأة العزيز - ردود فعل قد لا يسلم منها كثير من نساء ورجال المجتمع المسلم مما يودي إلى انتشار ما لا يحمد عقباه من أمور تضيع الدين وتخل ببنيان وحدات بناء المجتمع .
وكطباع الصالحين الذين وقاهم الله السيئات ، فإن يوسف - عليه السلام - عندما تعرض للفتنة ، فإنه اندفع ليهجر مكان الفتنة لينجو بدينه وعفته . ونستفيد من ذلك درساً عظيماً هو أن هجر المكان الذي يشاع ويظهر فيه الفساد - خصوصاً عند عدم القدرة على ردها أو اصلاحها أو إنكارها عملياً - قد يكون واجباً بحق الكثير منا . على أن هجر المنكر وداره ليس دائماً مستطاعاً للجميع ؛ فإن الطواغيت غالباً ما تلجأ إلى سد المنافذ { قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [25] .
أليس هذا ما يعمله طواغيت اليوم بالصالحين من سد منافذ الهجرة وفتح أبواب السجون وسد الأفواه والعيون بالأموال والآمال . وأما مَن لم يستبق الباب - وهو قادر على ذلك ورضي أن يكون في مكان السوء والفحشاء واطمئن من غير أن يحرك ساكناً وهو قادر على ذلك - فأخشى أن يكون ممن قال فيهم خالقهم { إنَّ الَذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِتعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وسَاءَتْ مَصِيراً } [النساء : 97] . ولكن حسبنا الله ، فحتى من يملك القوة على الهجرة قد سد الطغاة في الأماكن الأخرى أبواب أرض الله الواسعة فسُقط في أيدي الكثير من الصالحين وإلله المستعان .
ثم إن أساليب الطغاة تتجدد ولا تتبدل . فإن نبي الله يوسف - عليه السلام - لما أنجاه الله من الفتنة الأولى وأظهر طهره وبراءته نصبوا له فخاً آخر أشد قوة ومعه التهديد بأن يكون من الصاغرين ، فما كان منه -عليه السلام - إلا أن قدم نفسه للسجن { رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إلَيْهِ } [33] . وكانت له المكافأة هناك في السجن حيث قيض الله - تعالى - له جواً مناسباً للدعوة وإيصال دين الله لمن لم يمكن له - لولا السجن - طريقاً للوصول إليه . ذلك ليعلم طواغيت اليوم أن تكميم أفواه الدعاة أمر مستحيل حتى داخل الزنزانات والحديد . ولنا في أئمة الإسلام - بعد رسل الله - أسوة حسنة .(1/144)
وعودة إلى نبي الله يوسف نلاحظ أنه - عليه الصلاة والسلام - قد حقق كل مراحل الهجرة ، فقد هجر الكفر { إنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ } [37] وهجر الكبائر { قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ } [23] وهجر الصغائر { قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ اليَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } [92] .
وفائدة عظيمة أخرى أن وعد الله متحقق بأن يجعل لمن يتقيه رزقاً من حيث لا يحتسب ؛ فهذه براءة يوسف - عليه السلام - تأتي من عدة وجوه وطرق :
فيشهد له خالقه أولاً أنه من عباده المخلَصين وأنه صرف عنه السوء ، ويشهد شاهد من أهلها ، وتشهد نسوة المدينة ، ويشهد الملك فيما بعد وفيما قبل ، ثم هي تشهد ببراءة ونزاهة نبي الله . فقد سخر الله هذه الجنود لتقدم دليلاً تلو الآخر على حفظ الله لنبيه وعباده الصالحين عموماً { ومَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إلاَّ هُوَ } [المدثر : 31] ، ذلك إذا علم الله منهم صدق القلوب ثم كان التمكين في الأرض لدين الله وعباده وهي الجائزة التي يرجوها كل مَن يشري مرضاة الله .
=================
#{ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ }
طالما وقفت خاشعاً في محراب هذه الآية وطالما غمرني ضياؤها بأشعته الهادية حيث أودع الرحمن عز وجل في كلمات قليلة من المعاني الكريمة الفياضة ما يمدنا بالمفاهيم النيرة كلما اتسعت مساحات الوعي لدينا وكلما تعاظم رصيدنا من التجارب .
وسأقف مع القارئ الكريم وقفات عدة في إشراقة هذه الآية نغرف من معينها النمير .
الوقفة الأولى :
تمثل هذه الآية مظهراً من مظاهر رحمة الله تعالى حين رضي منهم أن يطيعوه على قدر طوقهم وقدرتهم ؛ وهذا الأمر أحد أهم الأسس التي يرتكز عليها التشريع الإسلامي ، وهو في الوقت ذاته أحد دعائم خلود الشريعة الغراء إذ أن تصرف الأيام والليالي يأتي بما لا يحصى من الظروف والأحوال ، وحينئذ فإن قدرات الناس على القيام بأمر الله تتفاوت تفاوتاً كبيراً ، خاصة لا يجد المفتي لها حكماً تفصيلياً يغطيها ، وتأتي هذه الآية لتمثل المنطلق الرحب والناموس الأعلى الذي يحكم فقه الضرورات ، وفقه ارتكاب أخف الضررين ودفع شر الشرين ، وتشعر هذه الآية الكريمة المسلم الذي وقع في ظروف حرجة ضاغطة بالطمأنينة بالسلامة من الإثم ما دام اتقى الله ما استطاع ، كما أنها تستنهضه لمقاومة الظرف الطارئ وبذل الوسع في الاقتراب من المركز أكثر فأكثر ، وهتو إذ يفعل كل ذلك يشعر برقيب ذاتي منبعه خشية الله سبحانه وتعالى .
الوقفة الثانية :
إن دوائر الاستطاعة تتسع على صعيدي القيام والعمل كلما استطاعت الأمة أن ترقى صعداً في سلم الحضارة . أما على صعيد القيم فإن التقدم المادي والتقني يهيئ الظروف المناسبة لنشر القيم وحملها ، وإذا أخذنا قيمة (الحرية) باعتبارها واحدة من أخطر القيم المتفق عليها بشكل عام لوجدنا أن هذه القيمة ليست حالة يتصف بها الفرد أو دعوى يطلقها ، وإنما هي عملية مواكبة للإمكانات التي يحصل عليها ؛ فإذا ما امتلك الواحد منا ثروة كبيرة من المفردات اللغوية وجد نفسه حراً في اختيار الألفاظ والأساليب المتعددة التي تمكنه من نقل المعلومة التي يريد إيصالها لمخاطبيه مهما تفاوتت مستوياتهم الثقافية . ومن توفرت في بلاده فرص كبير للعمل بشروط ميسرة وجد نفسه قادراً على رفض ما يمكن أن يتعرض له من ظلم أو حيف من أرباب العمل وعلى رفض ما يعده مهنة شاقة أو غير مناسبة ، وهو بذلك يجد أمامه مجالات واسعة للحركة وقدراً أكبر من الخيارات المريحة ، وقد عبر العرب قديماً عن هذه الحالة بمثل شائع حين قالوا : (من أخفض تخيّر) .
وفي المقابل فكيف يمكن لمن بحث عن فرصة للعمل سنوات عدة حتى عثر عليها أن يتصرف كما تصرف الأول ، وأن يشعر بأنه قادر على أن يكون حراً يأبى الظلم ويعيش بعيداً عن القسر والقهر ؟ ! !
وأما على الصعيد العملي فإن أكثر المخترعات أعطت جوارح الإنسان نوعاً من الامتداد في سلطانها وقدراتها ؛ فالآلة مدت في سلطان اليد والطائرة في سلطان الرجل والهاتف في سلطان السمع و(الرائي) في سلطان العين وهكذا ..
ويترتب على اتساع دوائر الاستطاعة تعاظم المسئولية ووجود إمكانات جديدة للمزيد من التقوى وبهذا الاعتبار فإن العمل لتحسين المناخ العام الذي يعيش فيه المسلم عبادة لله تعالى تهيئ الناس لمزيد من الطاعات والعبادات ، وإذا ما حدث خلل في الارتباط بين الاستطاعة والتقوى فإن ذلك يعني نوعاً من البغي الممقوت الذي يخل بالتوازنات العميقة بالفرد كما يستنزل المحن والعقوبات له .
وقد أشار النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى عقوبة شيء من ذلك الخلل حين ذكر الملك الكذاب في جملة من لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ، ولا ينظر إليهم إذ أن السلطان ذو قدرات كبيرة فإذا لم يواكبها الصدق أحدث من الضرر ما لا تنفع معه رقابة الرقباء ! ولذلك استحق العقوبة التي تتناسب مع فعله .
الوقفة الثالثة :(1/145)
لكل منا طاقات محدودة ، ولكل منا طموحاته وأهدافه التي يرمي إلى تحقيقها في هذه الحياة قبل أن يرحل وتنهي الإمكانات والطموحات ؛ ومهما كانت قدرات الإنسان كبيرة فهي محدودة ، ونشاهد في كثير من الأحيان أن طموحاتنا أكبر من طاقاتنا ، وكثير منا يصاب حينذاك بالعجز والإحباط ويؤدي بنا هذا إلى البقاء في إجازة مفتوحة ! !
وهذا مع علمنا أن التكليف على قدر الوسع ، ولو أننا باشرنا ما هو ممكن اليوم لصار ما هو مستحيل اليوم ممكناً غداً ، ولنوضح هذا بمثال صغير ، فلو أننا عمدنا إلى طفل في الخامسة من عمره لم يدخل المدرسة ، وطلبنا منه كتابة اسمه لوجد أن ذلك بالنسبة له مستحيل ، فإذا علمناه كتابة حروف اسمه حرفاً حرفاً ، ثم علمناه الوصل بينهما لوجد أن ما كان مستحيلاً قبل ساعة صار الآن ممكناً وهكذا ...
ونحن في كثير من الأحيان نطوف في المجلس الواحد في أنحاء العالم الإسلامي متألمين لما يحدث للمسلمين ، وشاكين من التآمر عليه ، ثم ينفض المجلس على نحو ما انعقد عليه دون أن يستفيد مسلم من شيء مما قلناه ، وذلك لأننا لم نباشر الممكن ، وإنما أذهبنا أوقاتنا في الحديث عن أمور لا حول لنا ولا طول في التأثير فيها ! !
ولو أننا تحدثنا بما يصلح أمراً من أمور الحي أو في كيفية جعل فلان من الناس يرتاد المسجد لكان ذلك أنفع للمسلمين وأبرأ للذمة من شيء مشغولة به .
الوقفة الرابعة :
إن النبي -صلى الله عليه وسلم- تركنا على المحجة البيضاء ، ووقع التكليف من الله تعالي باتباع ذلك المنهج والتزامه على قدر الوسع والطاقة ، وهذا التكليف سنة الله تعالى في الأنبياء -عليهم السلام- وسنة أممهم ؛ فقد مكث نوح -عليه السلام- يدعو قومه ألف سنة إلا خمسين ، وكانت حصيلته في ذلك وصف الله تعالى : ] وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ [ [هود 40] نعم إنهم قليل حملتهم سفينة واحدة ومع ذلك فإن نوحاً ظل رسولاً من أولي العزم الأبرار ، ذلك لأن المنزلة على مقدار الجهد الموافق للمنهج المنزل ، وليس على مقدار ما يحقق من نجاح وفلاح .
ولكن الذي يحدث في بعض الأحيان أننا نضع أهدافاً معينة نريد الوصول إليها عاجلاً ، ولو كانت هذه الأهداف تستدعي الضغط على المنهج أو القفز عليه أو الانحراف عنه ، وحين يحدث ذلك تفقد الدعوة انسجامها الذاتي كما تهتز الفلسفة النظرية التي تستند إليها ؛ وربما أدى ذلك إلى استعمال وسائل غير مشروعة .
ولا يعني هذا أن نعفي أنفسنا من عمليات المراجعة ، بل يعني أن المراجعة المطلوبة هي التأكد من موافقة أساليبنا ووسائلنا للمنهج الرباني الذي تعبدنا الله تعالى باتباعه والحركة على هديه .
=================
#{أَصْلُهَا ثَابِتٌ وفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ}
سيظل للكلمة أثرها الفعال في تغيير أفكار الناس وأمزجتهم ومشاعرهم وواقعهم ، وذلك إذا استوفت شروطاً معينة . وليس أدل على رفعة مكانة الكلمة في حياة البشر من أن الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام -كانوا يجيدون استخدامها في التعبير عن الحقائق الراسخة والربط بينها وبين واقع البشر ورصيد الفطرة المتبقي لديهم .
فهذا نوح -عليه السلام - يجادل قومه باستفاضة ، حتى ضج قومه من ذلك حين قالوا : { قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا } [ هود : 32] ، وهذا إبراهيم - عليه السلام- يكرمه الله تعالى ، فيهبه من قوة الحجة ما يفحم قومه : ] وتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ إنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [ [ الأنعام : 83] . وهذا موسى -عليه السلام- يقول : { واحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي } [طه : 27 ، 28] ، ثم يطلب من الله تعالى أن يتفضل عليه بإشراك هارون معه في التبليغ لفصاحة لسانه حين يقول : { وأَخِي هَرُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ } [ القصص : 34 ] . والله تعالى يقوم لخاتم أنبيائه : { وقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً } [ النساء : 63 ] . وكل هذا قبس مما نسبه الباري -جل وعلا- لنفسه حين قال : ] قُلْ فَلِلَّهِ الحُجَّةُ البَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ [ [ الأنعام : 149] وحجج النبيين ومضامين خطابهم للخلق -في الأصول - واحدة أو تكاد ، مما يجعل جذور الكلمة الطيبة ضاربة في أعماق الزمن من لدن نوح -عليه السلام- إلى خاتمهم محمد -صلى الله عليه وسلم- ، وهذا يجعل حركة التاريخ كلها في سياقٍ عامٍ واحدٍ ، هو : التأكيد على أهمية الكلمة الطيبة في إنقاذ البشرية من الضلالة .(1/146)
ونحن في كثير من الأحيان نستخف بقيمة الكلمة ، ومع أهمية العمل إلا أن لكل منهما مجاله الذي لا يصلح فيه غيره ، وفى تاريخنا الإسلامي أمثلة كثيرة جداً غيَّرت فيها الكلمة مسار شخص أو مدينة ، بل قارة ، فمما يذكرون في هذا الصدد أن وفداً من بعض بلاد أفريقية وفد حاجاً ، فالتقى بالإمام مالك بن أنس صاحب المذهب ؛ فأثنى مالك على والي ذلك البلد خيراً ، وتمنى لو رزقت المدينة مثله في عدله وصلاحه . فبلغ ذلك والي ذلك البلد الإفريقي ، فأمر بتدريس كتب مالك في بلده ، وأدى ذلك إلى انتشار المذهب المالكي في أرجاء أفريقية ! . وما أظن أن ما حدث كان يخطر للإمام على بال .
وقد تغني الكلمة الواحدة غناء جيش أو جيوش ، كما حدث في غزوة الأحزاب حين أسلم نعيم بن مسعود ، واستخدم عدم علم المشركين بذلك في تبديد الثقة بين قريش واليهود على ما هو مشهور . وقد أدركت الشركات والمؤسسات التجارية قيمة الكلمة في التأثير على المشتري ودفعه إلى شراء ما لا يحتاج له ، قال أحدهم :
لو كان لى عشرة دولارات لتاجرت بواحدٍ وصنعتُ دعاية بالتسعة الباقية .
وإذا أردت أن تشل فاعلية شخص ما ، فيكفى أن تقنعه : أن عمله غير ذي فائدة .
والآية التي نحن بصددها زاخرة بالمعاني والصور التي تجعل الكلمة في أرقى حال جمالاً وكمالاً ونفعاً . ولنقرأ الآية وما تلاها لنقتبس شيئاً من نورها ، قال الله -جل وعلا- : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإذْنِ رَبِّهَا ويَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } [إبراهيم : 24-25] ، لقد شبه الباري -عز اسمه - الكلمة الطيبة بشجرة طيبة ، وهذه الشجرة الطيبة تتصف بثلاث صفات أساسية : ثبات أصلها وعمق جذورها ، ثم ذهاب فروعها وأفنانها في السماء ، ثم نفعها الدائم للخلق باستمرار أكلها وثمارها . ولنفصل القول في تنزيل هذه الصفات على الكلمة الطيبة .
1 - ثبات الأصول :
حين نعرف أن أصول دعوات الأنبياء -عليهم السلام- واحدة ، تركزت في الدعوة إلى التوحيد الخالص وعبادة الله تعالى وإقامة الحق والعدل في الأرض وإعمارها بما يسمح بإقامة مجتمع التوحيد ؛ ندرك أي جذور ضاربة تمتلكها الكلمة الطيبة على اتساع أمداء الزمان والمكان ، وندرك أي رصيد من المنطق العام الذي بناه الأنبياء تستند إليه ، وأي رصيد ضخم من الفطرة يؤازرها في عملية البلاغ المبين .
وقد أخرج البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- : » أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الدنيا والآخرة ، والأنبياء إخوة لعلات ، أمهاتهم شتى ودينهم واحد « . قال ابن حجر : ومعنى الحديث أن أصل دينهم واحد ، وهو التوحيد وإن اختلفت فروع الشرائع -[ فتح الباري 489/6]
فالكلمة الطيبة إرث موروث متصل بالأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- . ولكن المشكلة أن التفريق بين الأصول والفروع قد لا يتهيأ لكل الناس مما يجعل الخلط بينهما وارداً ، وحينئذ فقد يجمد ما ينبغي أن يتطور ، وقد يتطور ما ينبغي أن يثبت .
واليوم نتيجة لعلميات الضغط الفكري التي تمارسها التيارات المادية ، نجد أن كثيراً من الكتاب والمفكرين الذين لهم صبغة إسلامية بدأوا يتزحزحون عن كثير من مواقعهم ، مصطحبين معهم أفكاراً أو أحكاماً عليها الإجماع ، أو السواد الأعظم من
علماء المسلمين ، بل بعض الأصول التي ليست موضع نزاع .
ويحضرني هنا ما كتبه أحد الذين لهم نفس إسلامي عن لقائه مع القسس الذين يعيشون في بعض بلدان العالم الإسلامي ، حيث أثنوا على كتاباته ، وسألوه عن الوضع الذي ينبغي أن يكونوا عليه وهم يعيشون بين المسلمين ؟ وقد أجابهم بقوله :
أول ما نطلبه من النصراني الذي يعيش بيننا أن يتمسك بنصرانيته… ! ! وهذا المطلب عجيب غريب ، وهو غني عن كل تعليق . فهل يصح لهذا و أضرابه أن يدعي أنه يكمل مهمة نبيه - صلى الله عليه وسلم - في تبليغ الرسالة وهداية الخلق ؟ ! .
وقريب من هذا الفتاوى التي صفق لها كثيراً الذين في قلوبهم مرض ، من أمثال : إباحة الربا الذي تتعامل به البنوك اليوم ، ومن مثل : القول بعدم وجود حد للردة في الشريعة… . الخ . وإذا استمر هذا النهج على ما هو عليه اليوم فسنجد أنفسنا أمام دين يقبل كل إضافة كما يقبل أي حذف ، ويصبح قابلاً للتشكيل على ما يشتهي أهل الأهواء والشهوات ، لأنه صار شيئاً ليس بذي طعم ولا لون ولا رائحة… ولكن ذلك لن يكون -بإذن الله- ما نشط أهل الحق في توضيحه والذود عن حياضه .
2 - مرونة الأساليب وتنوعها :(1/147)
على مقدار ما تكون جذور الكلمة الطيبة وأصولها راسخة ثابتة تكون أساليبها مرنة نامية منوعة ، وهذا في حد ذاته أحد مقتضيات ثبات الأصول ؛ فأحوال البشر وأفهامهم مختلفة ، ولذلك تعدد الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- وتنوعت شرائعهم ، وصدق الله العظيم إذ يقول : { ومَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ } [إبراهيم : 14] ، فالرسول يكلم الناس بلغتهم التي يتكلمون بها على أوسع ما تحمله هذه الكلمة من دلالات ، والهدف هو : أن يبين لهم ما يدعو إليه ، وقد أخذ الأسلوب القرآني من العرب كل مأخذٍ ، وتحداهم وطاولهم في التحدي ، وأقام عليهم الحجج الدامغة التي تناسب أوضاعهم الفكرية آنذاك . واللغة في أبسط تعاريفها هي :
مجموعة الإمكانات التعبيرية في بيئة من البيئات ، وهذه الإمكانات التعبيرية تتسع باتساع حضارة اللاغين بها ، واتساع غنى الخلفيات الثقافية لديهم ، وهذه الإمكانات دائمة التغيير والتشكل تمر بعين الأطوار التي يمر بها الكائن الحى من الولادة إلى الموت وما بينهما من مراحل . ولغتنا الفصحى تنمو ضمن أطر صارمة ، فالفاعل لن ينمو ليصبح مجروراً ، والمضاف إليه لن ينمو ليكون مرفوعاً ، ولكن بين تلك الأطر مساحات واسعة شاسعة تتحرك فيها اللغة على مستوى التراكيب والدلالات والأصوات ، وتلك الحركة تساير وتناغم شلالات الثقافة في الأمة في تنوعها ودرجة عنفها .
لغة العصر :
من سمات حركة التاريخ أن دور العبادة تظل كهوفاً لنوعٍ أو لأنواعٍ من العلم مهما ساءت أحوال الأمة الثقافية ، وعلى امتداد تاريخنا الإسلامي كان علماء الشرع يشكلون السواد الأعظم من الكتاب والباحثين والمفكرين ، مما جعل اللغة التي يتكلم بها الصفوة من الناس هي عين اللغة التي يتحدث بها الدعاة ، لأنهم هم الذين شكلوها ، وعلى ألسنتهم تطورت ونمت ... ولكن الزمان قد اختلف ، حيث إن اللغة التي يتكلم بها النخبة اليوم تكونت من جهد ثقافي متنوع ، فأجهزة الإعلام والجرائد والمجلات والقصص والروايات والكتب التي صنفها باحثون تنوعت ثقافاتهم مضامين وأساليب ، وبفعل وسائل الاتصالات الحديثة صار العالم بمثابة قرية صغيرة تكثفت فيها الآراء والاتجاهات والثقافات ...
وكان في هذا تحدٍ عظيم لكل من يريد مخاطبة الناس والتأثير فيهم ، إذ أن الخلفية الثقافية للمخاطبين صارت أكثر تعقيداً بسبب ثراء الساحة الثقافية وتنوعها ، مما أسفر عن وجود حواجز كثيرة ، على الكلمة أن تتجاوزها قبل الاستقرار في الذهن أو العاطفة ، كما صار التزام الدقة في أداء الكلمة شرطا أساسيا للحيلولة دون أن يساء فهمها ، كما صار اختيار العبارات المناسبة للحقيقة التي يُراد إيصالها للمخاطب أمراً ضرورياً جداً .
فإذا كانت الحقيقة التي نريد توصيلها أدبية أو حضارية فإن العبارة القادرة على اختراق الحجب هي التي تحمل في تركيبها قابلية تعدد المعاني عند مختلف الدارسين ، بحيث يكون لكل منهم فيها خطة من التفسير و التأويل ، بشرط أن يكون ذلك ضمن طاقة التركيب اللغوي الذي بين يديه . أما الحقيقة العلمية الكونية أو العقدية أو الفقهية : فينبغي أن تصاغ بعبارة غاية في الدقة لا تدع مجالاً إلا لمعنى واحد ، كما أن في تلك المعنى لا يجد دقة صياغته إلا في تلك العبارة .
فإذا لم يراع المتحدث أو الكاتب هذا أحدثت عباراته للناس فتناً ، وأوقعته في الريبة مع سلامة قصده ، وفتحت عليه من نوافذ النقد ما لا قبل له به .
من خصائص لغة العصر :
يتمخض عن تلاطم الأفكار والثقافات المختلفة قناعات ومفاهيم عند السواد الأعظم من الناس ، وهذه المفاهيم قد تكون صحيحة ، وقد لا تكون لأنها لا ترتكز في أكثر الأمر على حقائق موضوعية بقدر ما تنبع من قوة الفعاليات على الساحات الثقافية والفكرية ، وهذه القناعات تشكل مفردات التركيب الذهني لدى الناس ، مما يجعل امتصاصهم للمعلومات التي يطلعون عليها ذا سمات خاصة تنسجم مع ذلك التركيب . وحينئذ فإن الداعية مطالب بمعرفة تلك القناعات والمفاهيم ، كما أنه مطالب بتحسس التركيب الذهني السائد في عصره حتى يخاطب الناس بلسانهم ، ومن هذه الخصائص :
أ- اعتماد الإحصاء بدلاً عن الفلسفة :
كانت الفلسفة تسمى ملكة العلوم ، وذلك بسبب تأثير منهج أرسطو في منحنيات الفكر البشري ومساراته ، وقد كان الناس إلى عهد قريب يسمون من أوتي فيهم مقدرة خاصة على التعبير بـ (الفيلسوف) ، بل إن بلداً مثل بريطانيا مازال يستخدم كلمة (فلسفة) في شهادات التخصصات العليا لديه . وقد تأثر الفكر الإسلامي قديماً بالمنطق الأرسطاليسي ، وتسربت مقولاته وأقيسته إلى كثير من كتب الأصول والفقه والعربية ، بل والعقيدة . ذلك الفكر الذي لا يقيم للتجربة أدنى وزن ، ومن الطرائف المتناقلة في هذا : أن أرسطو كان يزعم أن أسنان الرجل أكثر من أسنان المرأة ! ولو أن زوجته فتحت فمها وعدَّ أسنانها لعرف أن زعمه حديث خرافة ..(1/148)
وقد أدركت أوربة في أوائل عصر نهضتها ألا نهضة ولا تقدم قبل نبذ الفكر الأرسطي القياسي ، ثم الاتجاه إلى التجريب لتتويجه ملكاً على العلوم المادية ، ومن ذلك اليوم بدأت قناعات الناس تنحو منحى لغة الرقم لاستفتائها والبناء عليها ، وهذه نقطة إيجابية إذا أحسنا التعامل معها ، ولكن كثيرين منَّا مازالوا غير واعين لهذه الحقيقة ، مما يجعلهم يستمرون في سوق الحجج العقلية مع توفر أرقام واقعية تدعم قوله ، وتؤيده ، فعلى سبيل المثال : فإن تقديم نماذج واقعية ذات أرقام محددة على ما يكن أن ينتج من الأمن والرخاء نتيجة تطبيق الحدود والنظام الاقتصادي الإسلامي - أجدى وأنجع بكثير من سرد مجلدات من العلل والحجج العقلية التي تشرح فوائد الالتزام بالإسلام ، أو تلك التي توضح سلبيات الربا وتطبيق القوانين الوضعية .
ومن المفيد هنا أن نقول : إن أرسطو أنشأ فن الجدل ليسد الثغرات التي يتركها الاستقراء الناقص للأحداث والأفكار ؛ كما أنشئت فلسفة التاريخ فيما بعد لتسد النقص في التفاصيل التاريخية ، أما اليوم فقد أضحى الإحصاء إحدى أهم سمات عصرنا البارزة ، مما يسهل استخدامه حتى نخفف من الجدل والمماحكات اللفظية العقيمة .
ب- رفض التعميم :
لقد تعقدت الحياة وكثرت التفاصيل فيها إلى درجة جعلت تعميم الأحكام في أكثر الأحيان أمراً بعيداً عن الحقيقة ؛ وصار التعميم في لغتنا في إحدى أهم الثغرات التي ينفذ منها لهدم ما نقوله وتمييع القضايا التي نعرضها .
على أن التعميم مرفوض في المنهج الإسلامي بصورة عامة ، ومن ثم كثرت الآيات في الكتاب العزيز التي ترد فيها كلمة (أكثر) ، وكلمة (كثير) بمعنى أكثر ، كما أن في السنة ما ينسجم مع هذا من مثل قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( إن أعظم الناس فرية لرجلٌ هاجى رجلاً فهجا القبيلة بأسرها ) [1] .
والمحدثون الذين يتسم عملهم بالدقة والإتقان كانت لهم تفريقات رائعة في أبواب نقد الرجال والحكم على الأحاديث من مثل قول مالك - رحمه الله - : » إن من شيوخي من أتبرك بدعائه ، ولكن لا أقبل روايته « ، ومن مثل قولهم : فلان صدوق إلا أنه غير ضابط ..
فالتعبير بـ ( الاتجاه العام ، أو الانطباع العام ، أو الأقرب أو الأكثر ) هو الأدنى من الحق والأكثر انسجاماً مع لغة العصر .
ج - النفور من الوعظ المباشر :
عكر النسيج الثقافي القائم اليوم الرؤية عند كثير من الناس ، كما أفسد الكثير من الفطر السليمة ، كما أدى نمو الخصائص ا الفردية في صورة مرضية في بعض الأحيان ، كما أدى إلى تضخيم الخصوصيات لتنسحب على كثير من شؤون الحياة العامة التي هي أقرب إلى العموميات ، وقد أدى ذلك كلته إلى تكوين مزاج لا يرتاح للوعظ المباشر ، وصار ينظر إليه في بعض الأحيان على أنه خروج عن اللباقة والآداب الاجتماعية المرعية ، أضف إلى هذا أن انخفاض نوعية الدعاة -كما هو شأن أكثر الأمة- في جانب الالتزام يجعل قبول الناس للموعظة أمراً غير سهل .
ومن ثم فلابد من الاعتماد على الإيحاء والتلميح وضرب الأمثال وغيرها أسلوباً للخطاب وزكانة الداعية تفتح له في كل يوم آفاقاً جديدة في هذا .
د - الاختصار :
الناس اليوم في عجلة من أمرهم ؛ حيث إن المستوى المادي الذي يطمحون إليه جعل الوقت يضيق عن الشروح الطويلة وتكرار البديهيات واستخدام المترادفات ، مما يقتضي الإيجاز - غير المخل - في إيصال الأفكار والمعلومات إليهم ، وصار الإطناب من فضول القول .
هـ - الضيق بالمبالغات :
مرت على أمتنا بعض الفترات التاريخية التي سادت فيها المحسنات البديعية ، وصار إطلاق الألقاب الفخمة يجري دون أي اعتبار أو تحاكم إلى الواقع ، ويقف المرء على هذا في مقدمات بعض الكتب ، وما يطرز به أسماء مؤلفيها من الصفات التي تبتعد عن الحقيقة قليلاً أو كثيراً ؛ لأنها لا تستند إلى قاعدة من المعلومات الصحيحة كما في قولهم :
البحر العلم المجدد جمال الدين فريد عصره ووحيد دهره الذي لم تقع العين على مثله ... وتطلق هذه الأوصاف على عشرات من العلماء الذين يعيشون في عصر واحد أو في بلد واحد في بعض الأحيان . وكانت هذه الإطلاقات مجافية لما عرف عن سلف هذه الأمة ، بل لما عرف عن منهجه - صلى الله عليه وسلم - حيث أثنى على كثير من أصحابه ، ووصفهم بصفات محددة ، فواحد أعلمهم بالقراءة ، وآخر بالقضاء ، وثالث بالصدق ، وهكذا ..
ولم تقتصر المبالغة على إطلاق الألقاب ، بل تجاوزت ذلك إلى أن أصبحت جزءا من الاعتبارات الذهنية والعلمية عند كثير من الناس ، وقد عاد الأمر إلى نصابه في لغة العصر ، وصارت المبالغة مملولة ممجوجة .
و - التجديد :(1/149)
كان من خلق بني إسرائيل أنهم لا يصبرون على طعام واحد ، وقد انسحب هذا الخلق اليوم على كثير من جوانب الحياة في المسكن وترتيب أثاثه ، والملابس وأشكال تفصيلها ، والمراكب وأنواعها ، وشأنهم في القضايا المعنوية نحواً من ذلك ، فهم تواقون إلى الجديد من المعاني والأفكار والأساليب ، وصاروا يشعرون بجمود من لا يواكبهم في ذلك وقصوره ، وليس في التجديد ما يذم إذا تم مع المحافظة على الأصول والثوابت ، بل قد لا تتم المحافظة على الأصول إلا من خلال التجديد في الوسائل والأساليب ، حيث تعرض بأشكال تنسجم مع روح العصر .
ز- المعالجة العملية :
تقدم العلوم على الصعد العملية شكل حس الناس ومنطقهم العام ، في الميل إلى الواقعية والارتياح في الصيغ العملية ، ونظام الخطوات المتتابعة ، التي تسلم كل واحدة منها إلى الأخرى في الوصول إلى هدف أو حل مشكلة ، وصارت الحاجة ملحة إلى (كيف) ، ولم يعد طرح المبادئ كافياً وحده ، فما عاد كافياً الترديد لنحو :
لابد من رفع المستوى الخلقي لدى الفرد ، أو لابد لنشر الدعوة بين الناس ، بل أنت مطالب بأكثر من هذا ، مطالب ببيان الإمكانات المتاحة ، ثم بيان المنهج والخطط والأدوات التي يمكن استخدامها في الاستفادة من تلك الإمكانات ؛ وذلك لأن تعقد الأشياء وتشابكها يحتاج إلى نوع مكافئ من تعقد الفاعلية على مستوى الخطط والأساليب والأدوات .
ح -عدم قبول تفسير الظواهر الإنسانية بعامل واحد :
الإنسان ذو أبعاد فسيحة وأغوار عميقة ، وكل الظواهر التي تتصل به على درجة عالية من التعقيد في الأفكار والمبادئ والمواقف والعادات ، وفي الاجتماع والاقتصاد ... كل أولئك يتشكل ويتبلور نتيجة نسيج معقد من العوامل .
وإذا كان هذا هو الواقع فإن تفسير أية ظاهرة إنسانية وتعليلها بعلة مفردة غير صحيح ولا دقيق ؟ فلا يمكن أن يقال مثلاً إن الشعب الأفغاني صمد في وجه المحتلين بسبب إيمانه أو بسبب صعوبة تضاريس أرضه من جبال وكهوف ، أو بسبب رصيد الفطرة لديه ، أو بسبب العون الخارجي ..
إنه لم ينفرد سبب واحد من هذه الأسباب بولادة ظاهرة الصمود ، بل إنها جميعاً مع أسباب أخرى أسهمت في إيجاد وضع متميز يستمد تميزه من خصوصية شروطه وأسبابه . وهكذا ...
كيف نمتلك لغة العصر ؟
في العالم اليوم ما يسمى بثورة المعلومات مما يفرض على المثقف المسلم أن يرسم لنفسه خطة تثقيفية خاصة تناسب رغباته واختصاصه العلمي ، والمهمة التي ندب نفسه لها . والمشكلة الكبرى في عزوف كثير من الناس عن القراءة فأمة (اقرأ) ما عادت تقرأ مما خلق نوعاً من الخلخلة الثقافية في ساحتنا الفكرية ، وجعل كثيراً من أهل الخير عاجزين عن فهم لغة العصر ، وإذا عزم المرء على القراءة فلابد له من القراءة الواسعة في شتى أنواع المطبوعات ، وعليه أن يقرأ لكل المدارس حتى لا يقع فريسة للانغلاق الفكري أو ضحية للأفكار الفقيرة التي تظهر في أساليب شتى .
ولابد لمن يريد أن يسير في طريق الانفتاح الثقافي من ثقافة شرعية أساسية يتمكن بها من تحديد الثوابت التي أكبر فضائلها دوامها واستقرارها ، حتى لا ينجرف مع نتاج المدارس والتيارات التي يقرأ لها .
كما لابد له من محاولة امتلاك منهج في التفكير يستند إلى وعي صحيح بأحداث الماضي ، ووعي جيد لظروف الحاضر ، حتى يتمكن من امتلاك رؤية واضحة لكيفية عمل سنن الله في الأنفس والآفاق . إن الذي يملك شذرات من المعلومات كمن يملك قطعاً من الذهب ، أما الذي يملك منهجاً ذا نماذج خاصة ، فإنه يمتلك مفتاح منجم من الذهب ، فإذا حصل على هذا وذاك فإن الانفتاح في الاطلاع يكون خيراً كله ، وحينئذ يتجاوز الداعية مرحلة السيطرة على اللغة ليصبح من موجديها ومؤهليها ، ولكن لابد قبل الانهماك في القراءة من اختيار ما نقرأ ، فلنقرأ للعباقرة ، ولأولئك الذين يقدرون مسؤولية الكلمة ، والذين لا يدفعون بكتابهم إلى المطبعة إلا بعد الاعتقاد بأنه يشكل إضافة جديدة للفكر الإنساني .
3 - دوام نفعها :
إن الشجرة الطيبة التي ضربها الله تعالى مثلاً للكلمة الطيبة دائمة الثمار ، وديمومة عطائها نابعة من تناسق الصفتين السابقتين : ثبات الجذور ، وبسوق فروعها في جو السماء ، والكلمة التي لا جذور لها لا تستطيع أن تصنع شيئاً .
والأفكار التي تبثها قصيرة العمر كزهور الربيع ؛ والكلمة التي لا تنسجم مع لغة العصر لا تستطيع ملامسة أعماق الإنسان الذي تقرع سمعه ، والذي وصفناه بأنه بالغ التعقيد . وقد ملكتنا هذه الآيات الكريمة المقياس الذي نتعرف به على الكلمة الطيبة ، وهذا المقياس هو : ] تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ [ ، فنحن إذا أردنا من هذا المنظور أن نقيس أداء خطب الجمعة في عالمنا الإسلامي وآثارها في ترقية فهم الناس للإسلام والتزامهم به وجدنا أن أطناناً من الورق تكتب أسبوعياً دون أن تؤتي الثمار التي تتناسب مع حجم ذلك الجهد المبذول ، ونعني به خطأ الأسلوب .
إن مهمة المسلم أن يعيش عصره ويكون مؤثراً لا متأثراً ، وأن يكون له دور في صياغة لغة العصر .
---------(1/150)
(1) أخرجه ابن ماجه والبيهقي قال الهيثمي : رجاله ثقات وإسناده صحيح .
================
#{ فاعتبروا يا أولي الأبصار}
هذه آية جليلة الشأن في الكتاب العزيز سرت مسرى المثل ، وذاعت على الألسنة والأقلام ؛ لأنها تعني وجوب الاستفادة من تراكم الخبرات البشرية ، وأخذ العظة والعبرة من أحوال الأمم السابقة ، والمعاصرة ، وتوفيراً للجهد ، واختصاراً للطريق ، وفراراً من عذاب الله تعالى ...
وقد قص الله تعالى علينا في سورة الحشر قصة جلاء بني النضير من المدينة إلى خيبر والشام مبيناً وقوع ما ليس في الحسبان ، فقال تباركت أسماؤه : { هُوَ الَذِي أَخْرَجَ الَذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وأَيْدِي المُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ } [الحشر : 2] .
لقد كان خروج بني النضير في تلك الصورة المهينة الذليلة حدثاً بعيداً عن أذهان بني النضير وأذهان المسلمين لأن الأسباب المادية التي أخذ بها القوم كانت على درجة من الإتقان والإحكام تحول دون تصور ما وقع ..
ولكن العزيز الجبار الذي لا رادَّ لأمره ، ولا معقب لحكمه أتاهم من حيث لم يحتسبوا أتاهم من الداخل ، فألقى في قلوبهم الرعب ، فخارت عزائمهم ، وأدركوا أن قوتهم ما عادت تغني عنهم شيئاً .
وما أشبه الليلة بالبارحة ! !
فهذه هي النظرية الشيوعية تنهار اليوم في أسرع مما كان يدور في خلد البشر ، وهذه هي مئات الألوف من الكتب والمجلدات التي سطرت في فلسفة النظرية وترويجها وتكييف البشر معها تغدو رماداً تسفوه رياح التغيير العاتية في وجوه السدنة والكهنة والمرتزقة والأذناب وأشباه الأذناب ..
لقد كان سقوط النظرية الشيوعية أمراً لا مفر منه ، ولكن المذهل هو انهيار البناء الذي أنفق فيه ثلاثة أرباع القرن من الزمن مع ملايين الأنفس وما لا يحصى من الآلام والعذابات وصنوف المعاناة الإنسانية في أسرع من لمح البصر .
قد كانت أفكار (كارل ماركس) رد فعل لحرمان طويل ومعاناة شخصية قاسية . والناموس العام لردود الأفعال البعد عن الموضوعية وفقدان الاتزان . وقد قبل أفكار (كارل ماركس) في البداية صنفان من البشر :
صنف طحنه الظلم والحرمان ، وتقلب دهراً في التعاسة ، وطرق كل باب للخروج من نفق الظلمات الذي ولد فيه فإذا بنظرية تعده بجنة على الأرض تنسيه طعم كل ما مضى من العناء والبلاء ، فهبَّ إلى اعتناقها والترويج لها على أنها الحل الأخير والمخرج الوحيد .
والصنف الآخر - وهم الكثرة من الأشياع - وجد في السلطات المطلقة التي تركزها النظرية في قبضة الحزب الشيوعي والدولة الماركسية ما يلبي من خلاله كل طموحاته الشخصية من الجاه والمال والتسلط ، وما يتفرع عن ذلك من شهوات
وملذات ومصالح ..
ولم يمض وقت طويل حتى أدرك الذين كانوا يحلمون بالفردوس أن الخبر غير الخبر وأن المحصول غير المأمول ..
ولكن إدراك الشعوب كثيراً ما يأتي متأخراً بعد فوات الأوان ..
فقد ركزت الحكومات البلشفية المتعاقبة على صناعة السلاح دون باقي الصناعات حتى تتمكن من كسر شوكة أي معارضة محتملة للثورة على حين أنها لم توفر لشعوبها أحذية جيدة تنتعلها ..
وجمعت إلى ذلك تجنيد عشرات الألوف من المخبرين السريين الذين يحصون أنفاس الشعوب ويعدون نبضات قلوبهم .
ولجأت الشعوب إلى سلاحها الماضي وحيلتها الأخيرة ، فشرعت في المقاومة السلبية ، وأدارت ظهرها لخطط التنمية المتعاقبة التي كانت تضعها الحكومات الشيوعية . ومن البدهي أن الحكومة تخطط وأن الشعب ينفذ فإذا لم ينفذ الشعب كانت الخطط حبراً على ورق أو صرخة في واد ، وهذا ما جرى لقد كان كل عام يمر يعنى مزيداً من الفروق المعيشية والحضارية بين أتباع الشيوعية وأتباع الرأسمالية ، وحين انهار جدار (برلين) أدرك الألمان الشرقيون - الذين كانوا يُدلُّون بأنفسهم على أشياعهم من أبناء أوربا الشرقية- الفجوة الضخمة التي تفصلهم عق الألمان الغربيين ، فالدخل عند الغربيين عشرة أضعاف الدخل عند الشرقيين ، والهواتف عشرة أضعاف وأعداد السيارات مضاعفة وهكذا على هذه اللازمة ..
وفى اعتقادي أن الأحزاب الشيوعية انهارت بهذه الصورة ؛ لأنها عجزت عن بناء حضارة مناسبة للعصر تغني شعوبها عن تكفف الآخرين وتوجد الثقة بالأسس النظرية التي قامت عليها ، وأسباب أخرى من هذا القبيل لا نقصد هنا إلى تعدادها .
هل من معتبر ؟
كانت الأحزاب الشيوعية والحكومات التابعة لها بحاجة إلى نوعين من المراجعة :
الأول : مراجعة أصول النظرية وقواعدها الأساسية والتي أثبتت السنين أنها خيالية ومتناقضة .(1/151)
الثاني : قياس آراء النظرية من خلال الواقع الذي أفرزته التجربة الطويلة ، لمعرفة مكامن الخلل ومواضع الداء في النظرية والتطبيق . ومع أن (برجنيف) كان يقول : إذا لم نستطع كشف الأخطاء قتلتنا ، فإن سدنة الأحزاب الشيوعية بدءاً بقائل هذه الحكمة لم يستطيعوا الكشف عن أي خطأ ذي شأن فضلاً عن القدرة على الإصلاح . وكان الشغل الشاغل هو التبرير والدفاع والثناء بالجملة على الوضع القائم .
وفى عالمنا الإسلامي اليوم الكثير الكثير من الأخطاء وأصناف القصور على المستويات كافة . ووجود الأخطاء أمر طبيعي ؛ ذلك لأن حركة الزمن تدع الكثير من الجديد بالياً ، وتوجب استمرار الاجتهاد والتكييف بين المبدأ والمصلحة ، وبين الوسائل والغايات ، وبين الأساليب والأهداف . وخلال عمليات التكييف هذه تحصل مفارقات تحسب للأمة تارة وعليها تارة أخر ى .
والأمة الحية اليقظة لا تكف أبداً عن عمليات المراجعة وقياس أداء المناهج والأساليب والأصول ، كما لا تمل من بحث المعوقات وطرح الحلول لها .
وإذا كان الآخرون يحتاجون إلى نوعين من المراجعة فإننا بحمد الله نسير في طريق لاحبة رسمها الأصفياء الأولون من رسل الله وأوليائه ، ومن ثم فإننا بحاجة إلى نوع واحد منها ، وهو التأكد من موافقة خطانا لروح الشريعة الغراء ونصوصها ومدى توفر الشروط النفسية والاجتماعية التي يجب توفرها في حياة خير أمة أخرجت للناس .
وتتشخص هذه المراجعة في المفردات التالية :
1 - امتلاك الشجاعة الكافية للاعتراف بالأخطاء وأنواع التقصير في مسيرتنا الحياتية .
2 - التفريق الدقيق بين الأمراض وأعراضها حتى لا نعالج مظاهر المرض وأعراضه ونترك حقيقته ، فيكون العلاج مؤقتاً .
3- البحث في البنى التحتية لتلك الأخطاء للوقوف على عللها الأولى وأسبابها الحقيقية اهتداء بقوله تعالى : { قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الخَلْقَ } [العنكبوت : 20]
4- التغيير في برامجنا وأساليبنا بما يتناسب مع نتائج تلك المراجعات .
5- وضع صمام الأمان الذي يحول دون تكرار الوقوع في تلك الأخطاء .
6- غرس روح تحمل المسؤولية في أفراد الأمة والتربية على الشجاعة الأدبية الباعثة على محاصرة الخطأ والنقد البناء ، وتنمية روح المبادرة الفردية لديهم .
وإذا فعلنا هذا فإنا نكون قد ضمنّا استمرار الثقة بأصولنا الاعتقادية والفكرية ، وأوينا إلى ركن شديد يعصمنا من الأعاصير العاتية والانهيارات المدمرة .
وليس هذا على وارثة تراث الأنبياء والمكلفة بتبليغ الكلمة الأخيرة بعزيز .
ولله الأمر من قبل ومن بعد .
=================
#{ كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ }
يشكل انهيار العلاقات الاجتماعية إحدى أهم المشكلات التي تعانى منها المجتمعات الحديثة حيث نما الشعور بالفردية والتوحد ، وحُكمت المصالح الخاصة في كثير من شئون الحياة ، وقد أصاب أمة الإسلام شيء من ذلك ، فاضمحلت ضوابط التربية الاجتماعية التي تشكل الحس الجماعي لدى الفرد المسلم مما أشاع الفوضى الفكرية والاجتماعية ، وضخم مشاكل المسلمين الاقتصادية لأن عمليات التنمية لا تتم على ما ينبغي في مجتمع واهي الروابط مختلف الأفكار والمفاهيم .
ومن هنا شددت تعاليم الإسلام على ضرورة المحافظة على العلاقات الاجتماعية وإقامتها باستمرار على هدي الرسالة الخاتمة التي تعد استمراراً لدعوات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام .
وتحقيقاً لذلك التواصل قصَّ الله تعالى علينا أخبار الأمم السابقة والعواقب الوخيمة التي انتهوا إليها حين شاعت فيهم الانحرافات والمخالفات دون أن يرفع أحد منهم رأساً أو يقول كلمة لأولئك الذين يستعجلون أيام الله لأنفسهم ولأممهم فقال تعالى : { لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ، كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ } [المائدة : 78-79] .
فقد أجرم القوم مرتين : مرة حين وقعوا في الآثام ، وأخرى حين تركوا المعاصي تشيع فيهم دون أن تسود فيهم روح التناهي عنها .
وقد جاء في الحديث ما يفسر تدرجهم نحو الحال التي استوجبت لهم اللعن ، فقد روى ابن مسعود عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال : » إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل فيقول : يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك ، ثم يلقاه من الغد وهو على حاله فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده ، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ثم قال : { لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا .. } « [1](1/152)
لقد طال العهد بصالحي بني إسرائيل فبدأت المناكر تزحف إلى حياتهم عن طريق أهل الأهواء والشهوات ، وكان فيهم صالحون فقاموا ونهوا أصحاب المعاصي ووعظوهم ولكن هؤلاء تأصل فيهم المنكر وصار النزوع عنه أمراً عسيراً ، وكان الأمر يتطلب من صالحيهم جلداً وصبراً ومفاصلة إلا أن درجة التوتر الحيوي عند أولئك الصالحين لم تكن كافية بحيث يشعرون بالتميز ويشكلون تياراً نشطاً يحاصر أولئك العصاة ويشعرهم بالشذوذ والإثم ...
وكانت المرحلة التالية سيطرة شعور العجز والضعف على أولئك الصالحين مما جعلهم يخالطون أهل المعاصي ويرضون عن أعمالهم أو يظهر للناظر أنهم كذلك فضاعت معالم الحق وجاءت أجيال تالية فنشأت في الانحراف وشبت فيه وصار التفريق بين المعروف والمنكر أمراً غير متيسر لكل الناس .
وكانت العاقبة أن ضرب الله قلوبهم بعضهاً ببعض ، وهذه العبارة في الحديث النبوي ترمز إلى حالة من الفوضى المصحوبة بالعذاب حيث فقدت تجمعاتهم الشروط الضرورية لبقائهم واستمرارهم المادي والمعنوي فكانت أيام الله في خاتمة المطاف جزاء ما فعلوا .
إن كل مجتمع مهما بلغ من الفضل والرقي لا يستغنى عن شريحة فيه تتمثل فيها المثل العليا لذلك المجتمع تحفظ عليه وجوده المعنوي المتمثل في عقيدته وأخلاقه وضوابط علاقاته وهؤلاء يمثلون الخيرية في ذلك المجتمع كما قال عليه الصلاة والسلام : » ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له في أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره ، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون مالا يفعلون ... « [رواه مسلم ] .
إن هؤلاء الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر يملكون من التوهج في أرواحهم والحيوية في نفوسهم ما يجعل همَّ مجتمعهم همهم الأكبر ، فيسعد بهم ذلك المجتمع إذ يحفظون عليه توازنه واستقامته وشروط استمراره ، وكما لا يشترط لصحة المجتمع جسمياً وبيئياً أن يكون كل أفراده من الأطباء كذلك لا يشترط في المجتمع المسلم أن يكون كل أفراده من الدعاة الناصحين ولكن ينبغي أن تتوفر نسبة كافية في المجتمع مسموعة الصوت واضحة التأثير تملأ الفراغ الثقافي وتملك من الوسائل المؤثرة ما يسمح باستمرار وضوح جادة الحق والخير والصواب ويسمح باستمرار سنة المدافعة بين الحق والباطل على وجه مكافىء وهذا ما يشير إليه قوله عز اسمه : { وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ } [آل عمران : 104] .
وقد جرت سنة الله في الابتلاء أن تلقى هذه الفئة الطيبة الخيرة المُحَارَبة دائماً وتلقى الأذية والعنت وما ذلك إلا لأنها تسير في الاتجاه المضاد لأهل الشهوات والأهواء الذين يمكن أن نسميهم بـ ( المختزلة ) حيث يكثفون هموم البشرية كلها في هم واحد هو همهم ، ويتجاوزون رغبات الخلق ومصالحهم مهما عظمت إلى رغباتهم ومصالحهم هم ، وعلى كل حال فإن الذي يظن أنه باستطاعته أن يسير في دروب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مقوماً للمعوج ومحارباً للأهواء والشهوات وناصراً للمظلوم ثم لا يلحقه شيء مما لحق بهم فهو واهم في ذلك وإلى هذا أشار لقمان وهو يعظ ابنه حين قال : { يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ المُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ } [لقمان : 17] فقد أشعر ابنه بما يلحقه من الأذية إذا هو قام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
ولكن نظراً للأخطار التي تهدد الأمة بخلوِّها من هذه الشريحة المباركة التي تعد قلبها النابض وبصيرتها النافذة فإن الله تعالى قرن محاربة هذه الفئة بالكفر به وقتل رسله حيث قال جلَّ وعلا : ] إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ . أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ [ [آل عمران : 21-22] .(1/153)
واليوم والأمة تسعى جاهدة إلى الخروج من نفق الظلمات نافضة عنها غبار الضعف والفرقة والتبعية والتخلف ؛ تكثر المشاريع الحضارية المطروحة في البلاد الإسلامية من قبل أهل العلم والفكر ، كما يكثر الضرب في الأرض لدراسة التجارب الحضارية الحديثة والمعاصرة للأمم الأخرى ، والنتيجة الملموسة إلى هذه الساعة من وراء كل ذلك سلبية والسبب في ذلك - والله أعلم - أننا نأتي البيوت من غير أبوابها ذلك لأن التخلف المادي الذي يعاني منه المسلمون ليس هو المرض ولكنه من أعراض المرض ، والمعالجة الصحيحة تكون بتفحص المرض وأسبابه وجذوره فإذا عالجنا المرض ذهبت كل أعراضه ، أما المرض فهو كامن في الخلل الذي أصاب رؤية المسلمين للدنيا والآخرة ، والخلل الذي أصاب أخلاقهم ومقاصدهم وعلاقاتهم ببعضهم بعضاً ، مما ترتب عليه مفاسد جمة قعدت بالسواد الأعجم من المسلمين عن أن يكونوا لَبِنَاتٍ صالحة في أي بناء حضاري فذٍ متميزٍ ، وغاب عنا روح الفريق حين التفت كلٌّ إلى مصلحته الخاصة ضارباً عرض الحائط بكل شيء وراءها . ولابد من وقفة متأنية عند هذه النقطة نظراً لخطورتها وكثرة المشكلات الناشئة عنها .
إن كثيراً من مجتمعات المسلمين اليوم لا يتوفر فيه ما يجعله صالحاً لإطلاق اسم (مجتمع) عليه لأن التفلت من الواجبات الشرعية والوقوع في المحظورات - والتي في مجملها تشكل الحس الجماعي عند المسلمين- يجعل صفة الفردية طاغية على هذه التجمعات وإن بدت حسب الظاهر في صورة مجتمعات منظمة متحدة ..
إن المجتمع - كما يقول مالك بن نبي - الذي يعمل فيه كل فرد ما يحلو له ليس مجتمعاً ولكنه إما مجتمع في بداية تكونه وإما مجتمع بدأ حركة الانسحاب من التاريخ فهو بقية مجتمع .
واليهود حين أرادوا تدمير المجتمعات الغربية خططوا لتضخيم جانب الفردية على حساب الحس الجماعي حتى كثرت القضايا التي يعدها العرف هناك خصوصيات تخضع بمزاج الفرد ومصلحته ، وكانت النتيجة التي انتهوا إليها تفكك تلك المجتمعات على نحو مخيف ذهب بأمن الحياة وروائها وسيعصف بكل الجهود العزيزة التي بذلت في بناء الحضارة الحديثة في يوم من الأيام .
وقد انتقلت هذه العدوى إلى بلاد المسلمين فصار كثير من المسلمين غير مستعد لقبول نصيحة من أحد بحجة أن ما يلاحظ عليه يعود إلى خصوصياته التي لا تقبل أي نوع من التدخل . وهذا الصنف من الناس - وهو يمثل اليوم في المسلمين الأكثرية - على غير دراية بفلسفة هذا الدين في إقامة المجتمعات وإنشاء الحضارات مما يجعل رؤيتهم للحياة كثوب ضم سبعين رقعة مختلفة الأشكال والألوان .
وبإمكان المسلم من خلال نظرة سريعة في بعض النصوص أن يتعرف وجهة الشريعة في هذا ، وإليك حديث السفينة الذي وضع النقاط على الحروف في هذه المسألة بصورة مدهشة ، فقد روى النعمان بن بشير رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : » مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها ، وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم . فقالوا : لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا . فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً ، وإن اخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً « [رواه البخاري ] .
إن هذه السفينة تمثل المجتمع الإسلامي الذي توحدت عقائده وتوحد اتجاه سيره وتوحدت غاياته والمخاطر والتحديات التي تواجهه ، وإن القائم في حدود الله تعالى هو تلك الفئة الصالحة الملتزمة بشرع الله الآمرة بالمعروف الناهية عن المنكر ، وإن الواقعين فيها هم أولئك الذين ينتهكون حرمات الله من ترك الواجبات والوقوع في المحرمات ، والحديث يقرر أن ما يتوهمه بعض الناس من خصوصياته ليس كذلك كما أن الذين احتلوا أسفل السفينة كانوا واهمين قي ظنهم أن لهم الحرية الكاملة في التصرف في أرض السفينة .
وذلك لأن تصرفهم فيها بخرقها يمس مصالح الذين فوقهم بل مصائرهم .
ولنضرب لما يتوهمه بعض الناس من خصوصياتهم مثلاً من حياتنا المعاشة حيث وقع في خلد كثير من الناس أن الصلاة عبادة بدنية تعبر عن صلة خاصة بين العبد وربه ، وأن المقصر في أدائها لا يؤذي جاراً ولا ينتهك لمجتمعه حرمة ، وبذا تكون الصلاة من المسائل الخاصة بالمرء ، يؤديها كلما حلا له ذلك ، ويتركها كلما عنَّ له ذلك ، ومن ثَمَّ فإن مساءلة الناس له عنها يعد ضرباً من الفضول الذي ينفر منه ذوق الإنسان المعاصر ذي الإحساس المرهف والرسوم الاجتماعية الدقيقة .(1/154)
ولكن الأمر في نظر الشريعة الغراء ليس كذلك إذ إن فقهاء الأمة مجمعون على أن الصلاة ليست من خصوصيات الإنسان التي يقف المجتمع المسلم تجاه تاركها صامتاً غير مبال ولا مؤاخذ ، لذلك رأى بعض الفقهاء أن تاركها (كسلاً) مقراً بفرضيتها يقتل كفراً ، وبعضهم قال يقتل حداً ، وبعضهم ذهب إلى أنه يسجن إلى أن يصلي ، وهم في هذا يصدرون عن فهم صحيح لطبيعة عمل هذا الدين في تسيير دفة الحياة الاجتماعية ، لأن المعصية حين تشيع في الناس يستوجبون نزول العقوبة وذهاب الريح ، ولا تشيع الفاحشة إلا حين يغض المجتمع الطرف عنها وطالما أجهض الجهد الإنساني الضخم في إعمار الأرض بسبب التقصير في جانب العبودية لله تبارك وتعالى وشواهد الماضي والحاضر ناطقة بذلك ، وكيف لا والله تعالى يقول : { وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ } [الأنفال / 50] . وكيف لا والرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول مجيباً لمن سأله : أنهلك وفينا الصالحون ؟ : » نعم إذا كثر الخبث « [أخرجه الشيخان ] .
نعم إن الأمن حين يضطرب حبله لا يضطرب على الطالحين وحدهم ، وإن الأسعار حين تغلو لتفوق طاقة الناس لا ترتفع بالنسبة للطالحين فقط ، وإن العدو حين يستبيح الحمى لا يستثنى أحداً وهكذا ...
وإذا كان أصحاب الأهواء والشهوات لا يبصرون أكثر من مواقع أقدامهم ولا يعبأون بحاضر ولا مستقبل فإن على المجتمع أن يتحمل المسؤولية تجاه حاضره ومستقبله وآخرته .
-----------------
(1) أخرجه الترمذي وحسنه .
================
#{ ولا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ }
هذه آية عظيمة القدر في كتاب الله - عز وجل -حيث إنها تسهم إسهاماً كبيراً في تشكيل رؤية المسلم إلى أشياء كثيرة في عالم الأحياء وترتب على عدم الاهتداء بهدي هذه الآية كثير من الخلل في حياتنا المعاصرة .
وما اخترناه ليكون عنوانا لهذه المقالة جزء من آية هي قول شعيب عليه السلام لقومه ] يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُوا الكَيْلَ والْمِيزَانَ ولا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ ولا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إصْلاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [ [ الأعراف : 85] .
وسياق الآية وإن كان يدل في ظاهره على أن المقصود المباشر بـ (أشياءهم) هنا ما يتبادله الناس في معاملات هم من المتاع ، إلا أن ما يملكه الناس ويتمتعون به من أخلاق وأفكار وتاريخ ... أولى بإقامة العدل وإنزاله في منازله من غير وكس ولا بخس ولا شطط لما يترتب على الإخلال بذلك من الحقد والقطيعة والفرقة وذهاب الريح ...
ولما كانت أصول دعوات الأنبياء - عليهم السلام - واحدة فإن الأمر بإقامة الموازين والحكم بالعدل والإنصاف ظل الوصية الخالدة التي يوجهها كل نبي إلى قومه ؛ لأنه بالعدل قامت السماوات والأرض ...
وقد أوصى الله تعالى رسوله محمداً -صلى الله عليه وسلم- أن يعلن لأمته أمر الله له بإقامة العدل فيها ، فقال : ] وقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ [ [الشورى : 15] .
وأوصى المؤمنين بإقامة العدل مع الناس كافة حتى الأعداء الذين يبغضونهم ويحاربونهم ، فقال تعالى : ] يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ولا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى واتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [ [المائدة : 8] .
وقد كان -صلى الله عليه وسلم- يقوم لله بالشهادة فيعطي كل ذي حق حقه ، وفي سيرته العطرة مئات الشواهد التي تفيد التزامه المطلق بإنزال الناس منازلهم ، وذكر محاسنهم وميزاتهم ، مهما كان انتماؤهم وحيث كان موقعهم فهذا هو يقول : » أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد : ألا كل شيء ما خلا الله باطل « .
مع أن لبيد وقتها كان كافراً [1]، وكان بإمكانه عليه الصلاة والسلام أن يثني على شعر بعض أصحابه المملوء حكمة وهدى بدافع حصر الخير فيهم ، ولكن الالتزام بالحق والإنصاف وعدم بخس أحد حقه يأبى ذلك فأثنى على كلام رجل كافر .
ومن الجدير بالذكر هنا أن عثمان بن مظعون رضي الله عنه سمع لبيداً ينشد البيت فلما قال :
ألا كل شيء ماخلا الله باطل
قال له عثمان : صدقت ، فلما قال :
وكل نعيم لا محالة زائل
قال له عثمان : كذبت نعيم الجنة ليس بزائل .
وإن المرء ليعجب لهذا الإنصاف أيضاً من عثمان المقتبس من مدرسة النبوة حيث أثنى في النصف الأول على لبيد ، ويكذبه في النصف الثاني ! ! .
وجاء المسلمون بسفانة بنت حاتم الطائي في السبي ، فذكرت لرسول -صلى الله عليه وسلم- من أخلاق أبيها ونبله فقال لها :
» يا جارية هذه صفة المؤمنين حقاً لو كان أبوك مؤمناً لترحمنا عليه ، خلوا عنها فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق والله تعالى يحب مكارم الأخلاق « [2](1/155)
لقد وقف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من حاتم الموقف الذي تمليه شريعته الغراء التي جاء بها فأثنى عليه وأطلق سراح ابنته وأكرمها ولكنه لم يترحم عليه لعدم إيمانه لتهتدي الأمة بهذا الهدي النبوي العظيم ! ! .
ونبه -صلى الله عليه وسلم- النساء على ما يجري على ألسنتهن من انتقاص أزواجهن وجحد معروفهم عند أدنى خلاف فقال : » أريتُ النار فإذا أكثر أهلها النساء يكفرن ، قيل : أيكفرن بالله ؟ قال : يكفرن العشير ، ويكفرن الإحسان ، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم رأت منك شيئا قالت : ما رأيت منك خيرا قط « [3] .
وإن هذا الحديث يبرز قضية العدل إبرازاً يقل نظيره حيث جعل عليه الصلاة والسلام جحوده سبباً كبيراً لكثرة وجود النساء في النار ، وكأن كفران العشير يحدث في الحياة الزوجية من الشروخ والندوب ما يوازي الجرائم الاجتماعية الكبرى .
وعلى هذا المنوال نسج الصحب الكرام رضوان الله عليهم حين إصدار الأحكام على الخصوم فضلاً عن الإخوة والرفاق ، فقد قاتل علي رضي الله عنه الخوارج وقاتلوه ثم قتلوه ، ولما سئل من قبل بعض الناس عنهم أمشركون هم ؟ قال : من الشرك فروا ، فقالوا : أفمنافقون ؟ قال : إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً - أي هؤلاء يذكرون الله كثيراً - قيل : فما هم يا أمير ألمؤمنين ؟ قال : إخواننا بغوا علينا فقاتلناهم ببغيهم علينا ! ! [4] .
فهل بعض إنصاف أبي الحسن من إنصاف ؟ وهل هنالك كلام يقوله شاهر سيف أرق من هذا الكلام ؟ ! .
وظل روح العدل والإنصاف سارياً في الأمة قروناً عديدة ، وتجلى ذلك بشكل واضح جداً في القواعد التي صاغها المحدثون في الجرح والتعديل حيث وضحوا الجوانب المختلفة لشخصية الراوي ، وحكموا على كل زاوية على حدة ، ثم انتهوا إلى حكم عام حوله ، وصار عندهم من الظواهر المألوفة أن يطلب أحدهم الدعاء من رجل فإذا جاءه حديث عن طريقه حكم على الحديث بالضعف لأن طلب الدعاء مبني على اعتقاد الصلاح ، أما قبوله روايته فيعتمد على شيء آخر كضبط الراوي وعلمه ونباهته ، وغير ذلك ...
ولكن تراجعت هذه الرؤية الموضوعية الفذة فيما تراجع من الجوانب المختلفة من حياة المسلمين وصار المنصفون الذين يجردون الشهادة لله ، ويضعون الأمور في مواضعها دون بخس أو تزيد من القلة الذين يشار إليهم بالبنان ، ولنذكر بعض النماذج التي ضربت بجذورها في حياة المسلمين اليوم ، وصارت تشكّل ظاهرة مرضية مزمنة ، وذلك نتيجة التطفيف في المكاييل وبخس الناس أشياءهم :
1- يقوم شاعر ماجن أو ملحد بنظم قصيدة عصماء تتوفر فيها كل العناصر الفنية المجمع عليها ، فيتصدى لنقده بعض أهل الخير ، فيسقطه ويشنع عليه غاضاً الطرف عن كل إبداعه الفني ، وما ذاك إلا لأن اتجاه ذلك الشاعر لا يروقه فاتخذ منه موقفاً ثابتاً ، حتى لو كان مضمون تلك القصيدة لا يمس أصولنا الاعتقادية ، ولا مسلماتنا المذهبية .
والواجب في مثل هذا أن يثنى على جوانب الإبداع في القصيدة ، وينتقد المضمون إن كان فاسداً نقداً أصولياً هادئاً عفيفاً .
ومن الواجب كذلك أن يفرق بين إنتاج الرجل الواحد فيثنى على الصالح منه وينتقد ما فيه دخن ، يقدم أحد الكتاب أو الشعراء خدمة جلى للمسلمين في كتاب أو قصيدة ويتعثر في كتاب أو كتب أخرى فيعطى حقه في كل منها دون بخس أو شطط ، وحين يكون النقد أو الخلاف في وجهات النظر على هذا المنهاج يكون إمكان الإصلاح أقوى ، ونكون أقرب من الصواب ، وأقرب للتقوى .
والرؤية التي يشكلها الإسلام لدى المسلم السوي في مثل هذا أن يشجع الأعمال الإيجابية ، ويثني عليها ، ويكون عوناً فيها ، فإذا رأى خللا نبه عليه ، وحذر منه وقام بالبلاغ المبين ، ولو جرى مثل هذا في المجتمع لساد الانطباع بالإنصاف لدى الفريقين ومَن بينهما من الناس ولأدى ذلك إلى تفتيت كتل المتشنجين والمتحاربين الذين لا يرون لغيرهم فضلا ، ولا يظنون فيمن خالفهم إلا سوءا .
2 - يتآخى بعض أهل الخير في الله ويسعون جهدهم لخدمة هذا الدين وأهله صفاً واحداً ، ثم تحدث اجتهادات أو أخطاء تؤدي إلى تباين وجهات النظر ، فتنشأ في الصف الواحد تيارات ومدارس ، وقد يتطور الأمر فيجد بعضهم الاستمرار مستحيلا مما يجعله يقعد أو ينحو منحى آخر يجده أجدى وأنفع .
وسرعان ما يختلف اتجاه الرياح ، فيصبح الأخ الناصح أو القائد المحنك أو الصادق المخلص جباناً ، أو بخيلاً أو صاحب مصالح بل قد يصبح عميلاً أو منافقاً ... إلى آخر ما يجود به قاموس (عمى الألوان ) من الأوصاف الشنيعة والاتهامات المقذعة ، ويصبح اللقاء بين الحميمين العدوين ضربا من المستحيل مع أن نظرة متأنية منصفة في ساعة إنابة لله جل وعز كفيلة بتبديد الغيوم وإذابة الثلوج . وإنما يحدث مثل هذا لخلل في التربية الاجتماعية وأسلوب التلقي وغياب المناهج والمعايير الدقيقة التي يتحاكم إليها المتنازعون ، وما غابت المناهج النيرة إلا كان البديل هو الاتهام وسوء الظن وطمس الحقوق .(1/156)
3- قد يحدث أن يسوق الله طالب علم إلى أحد المدرسين فيأخذ عنه بعض ما عنده من العلم في بعض الفنون ، ويشعر الطالب في بعض الأحيان أن ما عند هذا الشيخ في تخصص ما لا ينقع الغلة ، ولا يروي الصادي فيتجه إلى شيخ آخر يلتمس ما عنده ، وهنا يشعر الأستاذ الأول أن ما فعله هذا الطالب فيه نوع من إساءة الأدب وعدم الوفاء بل قد يشعر أن هذا الطالب يوحي بأن ما عند الشيخ في هذا الفن ضئيل الفائدة وحينئذ يبدأ تقطيب الوجه ، والتصريح والتلميح والإشادة بأقران ذلك الطالب الذين يمثلون الأدب والوفاء والعبقرية ، ثم تكون الجفوة والقطيعة ....
ونحن الآن في زمان ترك فيه الحلاق الحجامة ، وقلع الأضراس ، وترك فيه الطبيب الفلك والحساب بل إن إحاطة المرء بكل فن من الفنون صار متعذراً نظراً للتراكم الثقافي العظيم ، والانفجار الهائل في المعلومات .
وهذا الداء قديم عندنا ، وما لم تحرر النيات لله تعالى فستقطع رحم العلم ، ويحل الجفاء موضع الدعاء ، والإزورار موضع التزاور . وكم تختلف الصورة لو أن هذا الأستاذ أرشد تلاميذه إلى أولى الاختصاص ليفيدوا منهم إذا لقارضه الثناء الأستاذ الآخر ولاتصلت الأنساب العلمية وأثريت الحياة الثقافية ، وقبل هذا وذاك حصول الالتزام بمنهج لله تعالى الذي لا يرضى لعباده التباغض والتحاسد وبخس الحقوق ...
والخلاصة أن هذه الآية الكريمة مما عطل به العمل عند كثير من المسلمين ، ونشأ عن هذا التعطيل مرض اسمه : (عمى الألوان) ولكنه في البصيرة دون البصر ، فأطفئت ألوان كثيرة لا تكاد تحصى كانت تتوهج بين الأبيض والأسود ، وكثر النمط الذي يقرظ ب : (وحيد دهره وفريد عصره) والنمط الذي يقول فيه (الرجال) ما رأينا منه خيرا قط ...
----------------
(1) فتح الباري 7/1530 .
(2) البداية والنهاية 2/198 .
(3) صحيح البخاري 1/24 .
(4) البداية والنهاية 7/300 .
===============
#نبض العصر (1)
د. عبد الكريم بكار 5/7/1428
19/07/2007
لا أستطيع في مقال أو مقالين أو حتى عشرة مقالات -وكذلك غيري- رصد التطورات التي باتت تشكل نبض الحقبة الزمنية الراهنة، فالموضوع كبير جدًا، لكن سأركز حديثي عن شيء من المستجدات التي تتعلق بتنمية الشخصية في مجال الوظائف والأعمال وفي الحياة العامة أيضًا، وهذا مما يهم الشباب الطامح والساعي إلى تغيير وتحسين وضعه الوظيفي، ولعلي أشير في هذا السياق إلى الملاحظات الآتية:
1- نحن الآن قد غادرنا الأدبيات التي كانت سائدة في العصر الصناعي، مع أن كثيرًا من المسلمين وغيرهم لم يدخلوا ذلك العصر، وهذا مما يثير الحزن! والعصر الجديد هو عصر المعرفة والمعلومات وعصر الخدمات، حيث تحل الخدمات والمنتجات غير الملموسة محل المنتجات والسلع، مما يشير إلى شيء من التحوّل في حاجات الناس، وأنت ترى كيف أن الفرد الواحد ينفق سنويًا على تجديد حاسبه الشخصي وعلى جواله الألوف، مع أن ما يحصل عليه من وراء استخدام هذا وذاك شيء لا يرى، ويصعب تقويمه وتثمينه كون قطاع الخدمات أصبح هو القطاع المهيمن على حركة الإنتاج في كل الدول المتقدمة، والمتجدد والنامي بسرعة في باقي دول العالم -يعني أن الإنسان اليوم بات على ارتباط وثيق ليس بالآلات ولا بالمواد الأولية، وإنما بالناس من حوله؛ إذ سيجد كل واحد نفسه في المستقبل غير البعيد إما في موقف مقدم الخدمة، وإما في موقف المتلقي لها، ولهذا شرح طويل لسنا في حاجة إليه الآن، لكن الذي تعنيه هذه الوضعية هو أن كل واحد منا صار محتاجًا إلى وقفة طويلة يتفحص فيها ذاته، ويراجع مدى ما يتمتع به من لياقة ذهنية وأخلاقية وشعورية واجتماعية، فالتعامل المكثف مع الناس يثير الكثير من التوترات، ويحتاج إلى الكثير من الشفافية والتهذيب والانضباط الذاتي، وهذا كله لا يتم إلاّ إذا استطاع المرء وضع يده على الزوائد الضّارة والسلبية في شخصيّته كي يشذّ بها، ويتخلّص منها، ومن المعروف أن الناس كلّما درجوا في سُلَّم التحضر صاروا يتوقّعون ممن يخالطونهم، وممن يقدمون الخدمات لهم درجة أكبر من اللطف والحساسية الأخلاقية، ودرجة أكبر من التقدير لظروفهم الشخصية، وهذا يعني أن مسألة الارتقاء بالذات ليست شيئًا نتفكّه به، أو شيئًا ترفيهيًّا، وإنما هو شيء جوهري لكل من يريد النجاح في عمله وفي حياته الاجتماعية على نحو عام.(1/157)
2- فيما مضى كنا نتحدث عن مسألة التزام الموظف بالحضور في الوقت المحدَّد وانصرافه كذلك في الوقت المحدد، كما كنا نتحدث عن ضرورة عدم التشاغل بأي شيء خارج عن طبيعة عمله أثناء وجوده في ذلك العمل، والحديث في هذا الشأن مازال مستمرًا لدى الكثيرين، لكن يُلاحظ أن الوضعية الجديدة للوظائف باتت تتطلب شيئًا أكثر من مجرد الحضور والانصراف، إنها تتطلب ألاّ يفكر الموظف في مسألة الدوام والعمل عامة على أنه طرف متعاقد مع جهة لها مصلحة مختلفة، إن عليه أن يعمل كما لو كان هو صاحب العمل أو شريكًا فيه، وهناك جهود كثيرة تُبذل وعلى أكثر من صعيد من أجل ترسيخ شعور جديد بالمسؤولية لدى العمال والموظفين تجاه أعمالهم، هذا الشعور يستهدف سلوكًا وظيفيًا جديدًا يتعامل مع العمل وكأنه شيء مصيري، في نجاحه نجاح الجميع ونجاتهم، وفي إخفاقه إخفاق الجميع وغرقهم؛ إذ من السهل جدًا أن يجد المرء نفسه في العراء من غير أي دخل، فالفصل اليوم يتم عن طريق الكمبيوتر وحساباته، كما أن كثيرًا من المؤسسات والشركات باتت تُغرق موظفيها بالرواتب العالية والمكافآت والميزات السخية، وبعضها يخصص للعاملين لديها جزءًا من الأرباح، وهذا كله يتطلب من الشاب الذي يريد بناء سيرة ذاتية جيدة، ويريد الارتقاء في السلم الوظيفي أن يغضّ الطرف عن مسألة الدوام والعمل ساعات محددة في اليوم، وأن يغضّ الطرف عن المناسبات الاجتماعية التي تعوّد حضورها، حتى شؤون أسرته، فقد يكون عليه أن يبحث عمّن يساعده في تدبير بعضها... هذا هو المنطق الجديد، وسواء أكان عادلاً أو ظالمًا، صحيحًا أو خاطئًا، فإنّ على ذوي الطموحات العالية أن يراعوه، ويتعاملوا معه باهتمام بالغ.
3- التربية التي تلقيناها كانت تؤكد من غير ملل على البطولة الفردية والنجاح الشخصي، ومع أن ذلك ينافي الروح الإسلامية إلاّ أن النجاح في الحياة والأعمال لم يكن يتطلب تأهّل الإنسان للعمل ضمن فريق أو بوصفه جزءًا من منظومة متكاملة، أما اليوم فإن الأمر مختلف جدًا؛ إذ إن قطاع الخدمات -الذي يشكل كما أشرنا القطاع الحي والرئيس بين قطاعات الإنتاج -حساس جدًا للخلافات والنزاعات التي يمكن أن تقع بين أفراد المجموعة الواحدة، كما أن تقديم أفضل خدمة يتطلب درجة عالية من الانسجام الروحي بين أفراد الفريق الواحد ودرجة عالية من الصبر والتعاون والتضحية غير المشروطة، ولهذا فإن الشركة أو المؤسسة الممتازة تحارب بلا هوادة المكايدات والمناكفات التي يمكن أن تنشأ بين بعض العاملين لديها، ولعل من أهم سمات الشخص الصالح للعمل ضمن فريق هي السمات الآتية:
1- قدرة عالية على الإصغاء وسماع النصح.
2- مساعدة بعض أعضاء الفريق في بعض مهامهم.
3- المحافظة على أسرار العمل.
4- الشعور بأن الفريق كله في مركب واحد.
5- غضّ الطرف عن الأخطاء والهفوات.
6- الجدية في معالجة الأخطاء.
7- البعد عن التحزبات والشللية داخل الطريق.
8- تكوين خلفية ثقافية جيدة عن جميع أعضاء الفريق.
العصر الجديد يتيح الكثير، ويتطلب الكثير، وعلى من أراد أن يكون معاصرًا أن يعي كل ذلك، وأن يكون مستعدًا له.
كنت قد تحدّثت في المقال السابق أن الحقبة التي نعيش فيها تتميز تميزًا واضحًا بالتركيز على المعرفة والخدمة، كما ذكرت أن الفاعلية في الأعمال والوظائف صارت مرتبطة بما يتم إنجازه، وليس بمسألة الدقة في الحضور والانصراف، كما كان عليه الأمر في السابق، وذكرت أيضًا أهمية إعداد المرء نفسه للعمل ضمن مجموعة؛ واليوم أتحدث عن مفردات وملامح أخرى، أعتقد أنها تشكل نبض عصرنا، وذلك عبر النقاط التالية:
1- نستطيع القول: إن الحرص الشديد على الإنجاز العالي وعلى مواجهة المنافسة المتصاعدة في سوق العمل وفي الإنتاج على نحو عام، قد جعل الناس عمليين أكثر، ودفعهم إلى تحييد قدر كبير من عواطفهم واعتباراتهم الشخصية، وذلك لصالح الكفاءة الشخصية والقدرة على التفوق في العمل وأداء المهام، وعلى سبيل المثال فإن توظيف الأقارب كان أمرًا أخلاقيًا في الدرجة الأولى؛ إذ من غير المفهوم أن يكون رب العمل محتاجًا إلى موظف، وله أخ أو ابن عم يصلح مبدئيًا أو تقريبيًا لأن يكون ذلك الموظف، ثم لا يقوم رب العمل بتوظيفه، إن ذلك يعبِّر عن نوع من العقوق والجفاء الذي يطلق ألسنة الأقرباء بالذم واللوم.
الأمر اليوم صار مختلفًا جدًا، فمصلحة العمل فوق الجميع، وهناك عزوف عام عن توظيف الأقرباء، بل إن بعض المؤسسات الكبرى ترفض أن يكون لديها موظفان يربط بينهما نوع من القرابة، وذلك منعًا للتكتلات الضارة بسير العمل، ومنعًا للاستغلال غير المشروع، ومن هنا فإن على المرء ألاّ يدخل في حساباته الوظيفية كون أحد أقربائه يملك مؤسسة كبرى، أو يدير شركة عملاقة؛ حتى لا يُصدم ويعاتب دون مُعْتِب.(1/158)
في الماضي أيضًا كان بعض الموظفين والعمال يعتمدون في البقاء في وظائفهم وأعمالهم، وفي الترقي في تلك الوظائف على التملق والمديح، وتقديم الخدمات الخاصة، أي على أنشطة غير موضوعية، وعلى مؤهلات لا يمكن الحديث عنها، ولا تعود على العمل بأي فائدة، وقد عبّر عن هذه الحالة واحد من هؤلاء حين بدأت الدوائر الحكومية بإدخال الحاسب الآلي واستخدامه في أعمالها، فقال: هذا الجهاز الجديد ينجز أكثر مما ينجزه عشرة من أمثالي، وأخشى مع الأيام أن يحل محلي، وأبقى من غير أي عمل، فأجابه زميل له بقوله: كن مطمئنًا فلن يجدوا حاسبًا منافقًا مثلك، ولهذا فإنهم لن يستغنوا عنك!
لا شك أن هذه الحالة في طريقها إلى الانقراض، لكنْ لها ذيلٌ طويل جدًا، وسيظل للنفاق والتملّق دور في تعامل الناس وفي توظيف الموظفين، لكن هذا سيتضاءل في الشركات الكبرى والمؤسسات المحترمة، وسيظل موجودًا في الدوائر الحكومية حيث لا تجد من يتألم لانخفاض الإنتاجية أو توظيف غير الأكفاء، كما أنه سيظل موجودًا في المؤسسات والشركات المهترئة التي تعيش خارج العصر، وخارج سياق أي منافسة، لكن مع هذا فإن النفاق والتملق سيتراجع على نحو عام، ولن يكونا في المستقبل بابًا لأي ارتقاء كبير أو تقدم حقيقي، وسيكون الدور الحقيقي في النجاح لأمرين مهمين:
أ – المبادئ والقيم التي لدى الموظف، وذلك من نحو الصدق، والأمانة، والدقة في العمل، وإنجاز الأشياء في موعدها، إلى جانب الرقة، واللطف، والدماثة، واستيعاب الآخرين على نحو ممتاز.
ب – القدرة الكبيرة على استثمار الطاقة والقدرة على متابعة المهام من غير كلل ولا ملل.
وهذان الأمران إيجابيان جدًا، ويشكلان العودة إلى المعايير الصحيحة في شغل الوظائف.
2- في الماضي كانت الأمور في العمل والأسرة وحتى العلاقات العامة –تُدار على أساس الترغيب والترهيب واعتماد سياسة (العصا والجزرة)، وقد كانت تلك السياسات مبنية على معطيات تاريخية وتجارب غير مكتملة، وهي جزء من فلسفة قديمة تعتمد التحكم المطلق بكل بشيء، وذلك يأخذ بعين الاعتبار هواجس الطبائع والمصالح المتنافرة. أما اليوم فإن الأمر بدأ يختلف شيئًا فشيئًا؛ والحقيقة أن نظام المكافآت والعقوبات سيظل ساري المفعول لدى بعض الأسر والمؤسسات على الأقل، لكن يُلاحظ توجه جديد على صعيد التربية والعلاقات والتوظيف، وهذا التوجه يقوم على أساس الثقة بالناس وإطلاق إمكاناتهم الداخلية، وإيجاد صيغ جديدة تؤدي إلى توحيد المصالح عوضًا عن تنافرها وتصادمها، وهكذا فإن على رب الأسرة وعلى الأم كذلك العمل على تعزيز ثقة الأبناء بأنفسهم، وعلى تدعيم الوازع الداخلي لديهم وحفزهم على أداء واجباتهم دون الحاجة إلى المتابعة والرقابة، وقلّ مثل هذا في قطاع الأعمال والوظائف، وهذا أيضًا تطوّر إيجابيّ، وهو يتناسب مع تكريم الله –تعالى- للإنسان ومع طبيعة الإيمان الذي من شأنه دائمًا حفز المسلم على فعل ما هو أحسن وأفضل، والكفّ عن كل ما هو سيّئ وشرير، وإن علينا أن نطوّر في أفكارنا وأساليب تربيتنا وإرادتنا بما يستجيب لهذا اللون من نبض العصر، إذا ما أردنا أن نظل قريبين من التطورات الحديثة المتتابعة، وأردنا أيضًا أن نستفيد منها على الوجه الصحيح.
التراكم المعرفي والتقدم التقني السريع والمنافسة الحادة في الأسواق، أمور ثلاثة غيّرت نبض العصر، وأدّت إلى بداية حقبة حضارية جديدة بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى. ومن المهم جدًا لكل الشباب أن يفتحوا أعينهم جيدًا على ملامح هذه الحقبة وعلى نوعية نبضها حتى يكونوا أشخاصًا فاعلين ومؤثرين وناجحين، ونحن ما زلنا نحاول استكشاف تلك الملامح؛ والله المستعان.(1/159)
في البيئات المتخلفة تتطور المصالح الشخصية، ويحقق كثير من الناس الكثير من أهدافهم المادية وغير المادية بسرعة وبجهد أقل، وذلك لأن الحركة في سوق العمل وفي مجال كسب المال عامة، لا تأخذ في اعتبارها النظم السارية، فالإهدار القانوني، يتيح للناس أن يقوموا بكل حساباتهم وبرسم كل أهدافهم على أساس حرية الحركة واستخدام القوة والنفوذ والرشوة والوجاهة... في تحقيق الأمنيات وبلوغ الرغبات، ويكون الثمن طبعًا هو انحطاط الأخلاق وفقر الحياة الثقافية والاجتماعية. هذه الوضعية باتت غير مقبولة في ثقافة النهضة الحديثة؛ إذ بات على من يريد بلوغ وضعية (العملقة) والريادة أن يبحث دون كلل عن صيغ للتوفيق بين أهدافه وبين النظم والقوانين السارية ومتطلبات التنمية المستدامة؛ لابد من الحصول على المشروعات والأعمال بطريقة مشروعة وصحيحة، ولابد من دفع الضرائب للدولة، كما أنه لابد من مراعاة نظافة البيئة والوضع التنظيمي العام. وهذه الأمور قد تجعل النجاح صعبًا، كما تجعل تحقيق تراكم مالي سريع أمرًا غير متاح في كثير من الأحيان، لكن يشعر الإنسان مع مراعاته لهذه الضوابط والقيود أنه لا يكسب المال على حساب دينه وخلقه، ولا يجمع الثروة على نحو يؤدي إلى إضعاف الدولة التي تحكمه والمجتمع الذي يعيش فيه. لاشك أن الناس مفطورون على حب التحلل من القيود والإفلات من النظم والتكاليف، لكن الإصرار على تحقيق تقدم بعيد المدى، وتحقيق ازدهار روحي ومادي وثقافي في آن واحد هو الذي يحمل الناس على تحمل التكاليف التي ذكرناها. وإذا نظرنا في أوضاع الشركات العملاقة التي مر على إنشائها أكثر من مئة عام، وما زالت تحقق النجاح تلو النجاح، فإننا نجد أنها تستجيب فعلاً لنبض العصر في معظم الأحيان. وهكذا فإن على الواحد منا أن يحذر من النجاح الذي لا يتحقق إلاّ على حساب الاستقامة الخلقية، ولا يتحقق إلاّ عندما تتدهور البيئة القانونية والطبيعية التي يعيش فيها.
وأعتقد أن هذه الوضعية تستجيب وتتماشى مع التعاليم الإسلامية في مجال العمل على نحو مدهش!
من جملة ما نعتقد أنه جزء من نبض العصر (التركيز) في العمل، والحقيقة أن للشمول والتنويع إغراءات، تصعب مقاومتها، لكن إذا دقَّقنا النظر في الشأن الإنساني، فإننا سنجد أن الإنسان مفطور على أن يتقن ويؤدي عملاً واحدًا في وقت واحد، والتشتت و الجمع بين الاهتمامات المختلفة قلما يتيحان للمرء تحقيق إنجازات كبيرة. حين نقول: إن المعرفة تتضاعف كل عشر سنوات فهذا يعني أن ما هو مطلوب من العلم لتحقيق تفوق كبير بات أضعاف ما كان مطلوبًا قبل خمسين سنة، كما أن كثرة المنافسين في كل مجال من المجالات جعلت المقاعد الأولى محجوزة للأشخاص ذوي التخصصات الدقيقة، أي لأولئك الذين استطاعوا تركيز جهودهم في مجال أو عمل مهم. تدل بعض الدراسات على أنه لو كان للمرء فرصة، مقدارها (80%) لتحقيق هدف واحد بامتياز، فإنه إذا أضاف إليه هدفًا آخر فإن الفرصة لتحقيق هذين الهدفين بامتياز ستتراجع لتكون في حدود (64%)، وإذا سعى إلى تحقيق خمسة أهداف في وقت واحد فإن فرصه في الحصول على نتائج ممتازة سوف تهبط إلى (33%). كثير من الشباب حائر في أمر: هل يكمل دراسته العليا أو يكتفي بالدراسة الجامعية، وينصرف إلى سوق العمل لكسب رزقه، و منهم من يود أن يشتغل بالدعوة إلى الله -تعالى- إلى جانب أنه يعمل مهندسًا في إحدى الشركات، وبعضهم يودّ أن يجمع بين طلب العلم والتجارة... ومع تقديري وتفهمي للحالات الصعبة لكثير من الشباب إلاّ أن من المهم أن تكون معالم الوضعية الصحيحة واضحة بالقدر الكافي: إذا وجد المرء فرصة لأن يكمل دراساته العليا في جامعة جيدة، فلا ينبغي له أن يقدِّم على هذا أي شيء آخر؛ لأن الدراسات العليا تتيح له التركيز الذي نتحدث عنه. وإذا استطاع الإنسان أن يتفرغ للدعوة، فليفعل، وإذا استطاع أن يدعو إلى الله -تعالى- من خلال إتقانه لتخصصه فهذا شيء حسن. وإذا كان يعمل في التجارة، وأمكنه أن يتاجر في صنف واحد حتى يصل على تصنيعه في يوم من الأيام، فهذا أحسن من أن يتاجر بعشرة أصناف وهكذا... لكن من المهم أن ندرك أن النجاح لا يأتي من وراء أي تركيز، وإنما يأتي من وراء التركيز على أمور تشكل أهمية قصوى للمجتمع، كما أن الشخص الذي يقوم بها يملك الرغبة والقدرة على إنجازها على نحو مبدع، فقد تجد من قضى عمره في زراعة أرضه أو في صناعة الأحذية أو في طهي الطعام... لكنه لم يحقق أي تقدم استثنائي من وراء ذلك؛ لأنه لم يهتم بتوفير الشروط التي أشرنا إليها، ولم يكن الامتياز العالي هدفًا من أهدافه في أي يوم من الأيام.
==============
#حول تنمية الشخصية
نبض العصر (1)
د. عبد الكريم بكار 5/7/1428
19/07/2007(1/160)
لا أستطيع في مقال أو مقالين أو حتى عشرة مقالات -وكذلك غيري- رصد التطورات التي باتت تشكل نبض الحقبة الزمنية الراهنة، فالموضوع كبير جدًا، لكن سأركز حديثي عن شيء من المستجدات التي تتعلق بتنمية الشخصية في مجال الوظائف والأعمال وفي الحياة العامة أيضًا، وهذا مما يهم الشباب الطامح والساعي إلى تغيير وتحسين وضعه الوظيفي، ولعلي أشير في هذا السياق إلى الملاحظات الآتية:
1- نحن الآن قد غادرنا الأدبيات التي كانت سائدة في العصر الصناعي، مع أن كثيرًا من المسلمين وغيرهم لم يدخلوا ذلك العصر، وهذا مما يثير الحزن! والعصر الجديد هو عصر المعرفة والمعلومات وعصر الخدمات، حيث تحل الخدمات والمنتجات غير الملموسة محل المنتجات والسلع، مما يشير إلى شيء من التحوّل في حاجات الناس، وأنت ترى كيف أن الفرد الواحد ينفق سنويًا على تجديد حاسبه الشخصي وعلى جواله الألوف، مع أن ما يحصل عليه من وراء استخدام هذا وذاك شيء لا يرى، ويصعب تقويمه وتثمينه كون قطاع الخدمات أصبح هو القطاع المهيمن على حركة الإنتاج في كل الدول المتقدمة، والمتجدد والنامي بسرعة في باقي دول العالم -يعني أن الإنسان اليوم بات على ارتباط وثيق ليس بالآلات ولا بالمواد الأولية، وإنما بالناس من حوله؛ إذ سيجد كل واحد نفسه في المستقبل غير البعيد إما في موقف مقدم الخدمة، وإما في موقف المتلقي لها، ولهذا شرح طويل لسنا في حاجة إليه الآن، لكن الذي تعنيه هذه الوضعية هو أن كل واحد منا صار محتاجًا إلى وقفة طويلة يتفحص فيها ذاته، ويراجع مدى ما يتمتع به من لياقة ذهنية وأخلاقية وشعورية واجتماعية، فالتعامل المكثف مع الناس يثير الكثير من التوترات، ويحتاج إلى الكثير من الشفافية والتهذيب والانضباط الذاتي، وهذا كله لا يتم إلاّ إذا استطاع المرء وضع يده على الزوائد الضّارة والسلبية في شخصيّته كي يشذّ بها، ويتخلّص منها، ومن المعروف أن الناس كلّما درجوا في سُلَّم التحضر صاروا يتوقّعون ممن يخالطونهم، وممن يقدمون الخدمات لهم درجة أكبر من اللطف والحساسية الأخلاقية، ودرجة أكبر من التقدير لظروفهم الشخصية، وهذا يعني أن مسألة الارتقاء بالذات ليست شيئًا نتفكّه به، أو شيئًا ترفيهيًّا، وإنما هو شيء جوهري لكل من يريد النجاح في عمله وفي حياته الاجتماعية على نحو عام.
2- فيما مضى كنا نتحدث عن مسألة التزام الموظف بالحضور في الوقت المحدَّد وانصرافه كذلك في الوقت المحدد، كما كنا نتحدث عن ضرورة عدم التشاغل بأي شيء خارج عن طبيعة عمله أثناء وجوده في ذلك العمل، والحديث في هذا الشأن مازال مستمرًا لدى الكثيرين، لكن يُلاحظ أن الوضعية الجديدة للوظائف باتت تتطلب شيئًا أكثر من مجرد الحضور والانصراف، إنها تتطلب ألاّ يفكر الموظف في مسألة الدوام والعمل عامة على أنه طرف متعاقد مع جهة لها مصلحة مختلفة، إن عليه أن يعمل كما لو كان هو صاحب العمل أو شريكًا فيه، وهناك جهود كثيرة تُبذل وعلى أكثر من صعيد من أجل ترسيخ شعور جديد بالمسؤولية لدى العمال والموظفين تجاه أعمالهم، هذا الشعور يستهدف سلوكًا وظيفيًا جديدًا يتعامل مع العمل وكأنه شيء مصيري، في نجاحه نجاح الجميع ونجاتهم، وفي إخفاقه إخفاق الجميع وغرقهم؛ إذ من السهل جدًا أن يجد المرء نفسه في العراء من غير أي دخل، فالفصل اليوم يتم عن طريق الكمبيوتر وحساباته، كما أن كثيرًا من المؤسسات والشركات باتت تُغرق موظفيها بالرواتب العالية والمكافآت والميزات السخية، وبعضها يخصص للعاملين لديها جزءًا من الأرباح، وهذا كله يتطلب من الشاب الذي يريد بناء سيرة ذاتية جيدة، ويريد الارتقاء في السلم الوظيفي أن يغضّ الطرف عن مسألة الدوام والعمل ساعات محددة في اليوم، وأن يغضّ الطرف عن المناسبات الاجتماعية التي تعوّد حضورها، حتى شؤون أسرته، فقد يكون عليه أن يبحث عمّن يساعده في تدبير بعضها... هذا هو المنطق الجديد، وسواء أكان عادلاً أو ظالمًا، صحيحًا أو خاطئًا، فإنّ على ذوي الطموحات العالية أن يراعوه، ويتعاملوا معه باهتمام بالغ.
3- التربية التي تلقيناها كانت تؤكد من غير ملل على البطولة الفردية والنجاح الشخصي، ومع أن ذلك ينافي الروح الإسلامية إلاّ أن النجاح في الحياة والأعمال لم يكن يتطلب تأهّل الإنسان للعمل ضمن فريق أو بوصفه جزءًا من منظومة متكاملة، أما اليوم فإن الأمر مختلف جدًا؛ إذ إن قطاع الخدمات -الذي يشكل كما أشرنا القطاع الحي والرئيس بين قطاعات الإنتاج -حساس جدًا للخلافات والنزاعات التي يمكن أن تقع بين أفراد المجموعة الواحدة، كما أن تقديم أفضل خدمة يتطلب درجة عالية من الانسجام الروحي بين أفراد الفريق الواحد ودرجة عالية من الصبر والتعاون والتضحية غير المشروطة، ولهذا فإن الشركة أو المؤسسة الممتازة تحارب بلا هوادة المكايدات والمناكفات التي يمكن أن تنشأ بين بعض العاملين لديها، ولعل من أهم سمات الشخص الصالح للعمل ضمن فريق هي السمات الآتية:
1- قدرة عالية على الإصغاء وسماع النصح.
2- مساعدة بعض أعضاء الفريق في بعض مهامهم.
3- المحافظة على أسرار العمل.(1/161)
4- الشعور بأن الفريق كله في مركب واحد.
5- غضّ الطرف عن الأخطاء والهفوات.
6- الجدية في معالجة الأخطاء.
7- البعد عن التحزبات والشللية داخل الطريق.
8- تكوين خلفية ثقافية جيدة عن جميع أعضاء الفريق.
العصر الجديد يتيح الكثير، ويتطلب الكثير، وعلى من أراد أن يكون معاصرًا أن يعي كل ذلك، وأن يكون مستعدًا له.
حول تنمية الشخصية
نبض العصر (2)
د. عبد الكريم بكار 26/7/1428
09/08/2007
كنت قد تحدّثت في المقال السابق أن الحقبة التي نعيش فيها تتميز تميزًا واضحًا بالتركيز على المعرفة والخدمة، كما ذكرت أن الفاعلية في الأعمال والوظائف صارت مرتبطة بما يتم إنجازه، وليس بمسألة الدقة في الحضور والانصراف، كما كان عليه الأمر في السابق، وذكرت أيضًا أهمية إعداد المرء نفسه للعمل ضمن مجموعة؛ واليوم أتحدث عن مفردات وملامح أخرى، أعتقد أنها تشكل نبض عصرنا، وذلك عبر النقاط التالية:
1- نستطيع القول: إن الحرص الشديد على الإنجاز العالي وعلى مواجهة المنافسة المتصاعدة في سوق العمل وفي الإنتاج على نحو عام، قد جعل الناس عمليين أكثر، ودفعهم إلى تحييد قدر كبير من عواطفهم واعتباراتهم الشخصية، وذلك لصالح الكفاءة الشخصية والقدرة على التفوق في العمل وأداء المهام، وعلى سبيل المثال فإن توظيف الأقارب كان أمرًا أخلاقيًا في الدرجة الأولى؛ إذ من غير المفهوم أن يكون رب العمل محتاجًا إلى موظف، وله أخ أو ابن عم يصلح مبدئيًا أو تقريبيًا لأن يكون ذلك الموظف، ثم لا يقوم رب العمل بتوظيفه، إن ذلك يعبِّر عن نوع من العقوق والجفاء الذي يطلق ألسنة الأقرباء بالذم واللوم.
الأمر اليوم صار مختلفًا جدًا، فمصلحة العمل فوق الجميع، وهناك عزوف عام عن توظيف الأقرباء، بل إن بعض المؤسسات الكبرى ترفض أن يكون لديها موظفان يربط بينهما نوع من القرابة، وذلك منعًا للتكتلات الضارة بسير العمل، ومنعًا للاستغلال غير المشروع، ومن هنا فإن على المرء ألاّ يدخل في حساباته الوظيفية كون أحد أقربائه يملك مؤسسة كبرى، أو يدير شركة عملاقة؛ حتى لا يُصدم ويعاتب دون مُعْتِب.
في الماضي أيضًا كان بعض الموظفين والعمال يعتمدون في البقاء في وظائفهم وأعمالهم، وفي الترقي في تلك الوظائف على التملق والمديح، وتقديم الخدمات الخاصة، أي على أنشطة غير موضوعية، وعلى مؤهلات لا يمكن الحديث عنها، ولا تعود على العمل بأي فائدة، وقد عبّر عن هذه الحالة واحد من هؤلاء حين بدأت الدوائر الحكومية بإدخال الحاسب الآلي واستخدامه في أعمالها، فقال: هذا الجهاز الجديد ينجز أكثر مما ينجزه عشرة من أمثالي، وأخشى مع الأيام أن يحل محلي، وأبقى من غير أي عمل، فأجابه زميل له بقوله: كن مطمئنًا فلن يجدوا حاسبًا منافقًا مثلك، ولهذا فإنهم لن يستغنوا عنك!
لا شك أن هذه الحالة في طريقها إلى الانقراض، لكنْ لها ذيلٌ طويل جدًا، وسيظل للنفاق والتملّق دور في تعامل الناس وفي توظيف الموظفين، لكن هذا سيتضاءل في الشركات الكبرى والمؤسسات المحترمة، وسيظل موجودًا في الدوائر الحكومية حيث لا تجد من يتألم لانخفاض الإنتاجية أو توظيف غير الأكفاء، كما أنه سيظل موجودًا في المؤسسات والشركات المهترئة التي تعيش خارج العصر، وخارج سياق أي منافسة، لكن مع هذا فإن النفاق والتملق سيتراجع على نحو عام، ولن يكونا في المستقبل بابًا لأي ارتقاء كبير أو تقدم حقيقي، وسيكون الدور الحقيقي في النجاح لأمرين مهمين:
أ – المبادئ والقيم التي لدى الموظف، وذلك من نحو الصدق، والأمانة، والدقة في العمل، وإنجاز الأشياء في موعدها، إلى جانب الرقة، واللطف، والدماثة، واستيعاب الآخرين على نحو ممتاز.
ب – القدرة الكبيرة على استثمار الطاقة والقدرة على متابعة المهام من غير كلل ولا ملل.
وهذان الأمران إيجابيان جدًا، ويشكلان العودة إلى المعايير الصحيحة في شغل الوظائف.(1/162)
2- في الماضي كانت الأمور في العمل والأسرة وحتى العلاقات العامة –تُدار على أساس الترغيب والترهيب واعتماد سياسة (العصا والجزرة)، وقد كانت تلك السياسات مبنية على معطيات تاريخية وتجارب غير مكتملة، وهي جزء من فلسفة قديمة تعتمد التحكم المطلق بكل بشيء، وذلك يأخذ بعين الاعتبار هواجس الطبائع والمصالح المتنافرة. أما اليوم فإن الأمر بدأ يختلف شيئًا فشيئًا؛ والحقيقة أن نظام المكافآت والعقوبات سيظل ساري المفعول لدى بعض الأسر والمؤسسات على الأقل، لكن يُلاحظ توجه جديد على صعيد التربية والعلاقات والتوظيف، وهذا التوجه يقوم على أساس الثقة بالناس وإطلاق إمكاناتهم الداخلية، وإيجاد صيغ جديدة تؤدي إلى توحيد المصالح عوضًا عن تنافرها وتصادمها، وهكذا فإن على رب الأسرة وعلى الأم كذلك العمل على تعزيز ثقة الأبناء بأنفسهم، وعلى تدعيم الوازع الداخلي لديهم وحفزهم على أداء واجباتهم دون الحاجة إلى المتابعة والرقابة، وقلّ مثل هذا في قطاع الأعمال والوظائف، وهذا أيضًا تطوّر إيجابيّ، وهو يتناسب مع تكريم الله –تعالى- للإنسان ومع طبيعة الإيمان الذي من شأنه دائمًا حفز المسلم على فعل ما هو أحسن وأفضل، والكفّ عن كل ما هو سيّئ وشرير، وإن علينا أن نطوّر في أفكارنا وأساليب تربيتنا وإرادتنا بما يستجيب لهذا اللون من نبض العصر، إذا ما أردنا أن نظل قريبين من التطورات الحديثة المتتابعة، وأردنا أيضًا أن نستفيد منها على الوجه الصحيح.
حول تنمية الشخصية
(مزيد من الوعي)
د. عبد الكريم بكار 27/3/1428
15/04/2007
تنطلق جهود تنمية الشخصية من نقطة جوهرية، هي التعرف على الذات والوعي بها، وهذه المهمة تبدو لي وكأنها من السهل الممتنع، وذلك يعود أساساً إلى هشاشة المعايير والمقاييس التي نتعرف على أنفسنا من خلالها؛إذ إن كل واحد منا يظل قادراً على القول: إنه أدرى بنفسه، وأعلم بعلله ونقاط ضعفه، وهذا صحيح إلى حد ما، لكن حين نعرف أن الواحد منا لا يعيش في جزيرة معزولة، وأن إنجازاته وعلاقاته تتعرض للتقييم والنقد من قبل الآخرين، ونعرف أن هناك معايير دقيقة للتعرف على كفاءة الشخصية، وتلك المعايير قد لا تكون معروفة لدينا على نحو جيد، حين نعرف كل ذلك يبدأ اكتشافنا لتعقيدات الوعي الذاتي والتبصر الشخصي. السؤال الذي يطرح نفسه بقوة، هو: أين بداية رحلة التعرف على الذات، وما الأدوات التي يمكن أن نستخدمها في ذلك؟
وأقول في الإجابة عن الشق الأول من السؤال ما يلي:
(1) من المهم أن ندرك أن الحصول على أكبر قدر من الوعي الذاتي يشكل شيئاً مهماً على طريق القيام بأمر الله تعالى وعلى طريق إصلاح النفس، ومن الواضح أن من يغلب عليه الجهل والطيش، يعاني من فقر مدقع في القدرة على نقد الذات وبيان محاسنها وعيوبها، وحين تطلب من أحد الأميين أن يحدثك عن نفسه، فإنه يطلب منك أن تتحدث عما تراه فيه، أو يتحدث بحديث لا يخلو من السطحية والتحيز والتفاهة. إذاً هل أستطيع القول: إن ما لدى المرء من مستوى معرفي ومن تحصيل علمي هو الذي يتحكم بقدرته على رؤية ذاته؟ هذا هو الظاهر، والقرآن الكريم يؤنب في غير موضع أولئك الذين فقدوا الإحساس والشعور بأوضاعهم وبما يدور حولهم، وفي هذا يقول سبحانه: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ). [سورة البقرة:11-12].
ويقول سبحانه:(يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) [سورة البقرة:19]، وقال: (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) [سورة النحل:20-21].
نحن نتوقع أن يتحسن وعي الناس بأنفسهم بسبب الحوارات والنقاشات الكثيرة التي نراها في الفضائيات وبسبب تراجع نسبة الأمية في كثير من البلدان.
(2) إن السعي إلى المزيد من الوعي الذاتي كثيراً ما يتطلب منا الاعتراف بأن ما نجهله عن أنفسنا أكثر مما نعرفه، والغرور والعجب هو الذي يصرفنا عن هذا الاعتراف، وحتى نتأكد أننا لا نعرف عن أنفسنا إلاّ القليل، فليحاول كل واحد منا أن يتساءل عن نقاط القوة في شخصيته وعن نقاط الضعف، وليحاول العثور على خمس نقاط في كل جانب، وسيجد أن ما سيقوله غير واضح وغير قطعي، ويقبل الكثير من الجدل والأخذ والرد.
(3) بناء على هذا فإننا في حاجة إلى اعتماد أسلوب التدرج في اكتشاف أنفسنا، وعلينا الاستمرار في ذلك، وهذا يحتاج إلى أن ننمي في داخل أنفسنا درجة عالية من النفور من الغموض والعماء، وأن نكافح بعناد من أجل رؤية أنفسنا ورؤية الأشياء من حولنا على النحو الصحيح. وأقول في الإجابة عن التساؤل حول الأدوات التي يمكن استخدامها في الوعي الذاتي ما يلي:(1/163)
1- على المرء أن يصوغ ما لديه من أفكار ومشاعر وانطباعات وملاحظات ومشاعر في تعبيرات وجمل واضحة ومنظمة ومسلسلة، وذلك بغية الرجوع إليها عند إرادة التفكير في الشأن الشخصي تماماً، كما تفعل مؤسسة تجارية حين تعد تقريراً عن أوضاعها العامة من أجل مناقشته في اجتماع من الاجتماعات المهمة. وقد كان كثير من الشباب يسجلون ذكرياتهم في دفاتر صغيرة ليستمتعوا بقراءتها في يوم من الأيام، ونحن نريد أكثر من ذلك وأنفع، نريد بياناً واضحاً عن انطباعاتنا وطموحاتنا وعن مشاعرنا تجاه أنفسنا وتجاه الآخرين، لنجعل من ذلك البيان دليلاً للعمل الشخصي، وهذا ليس بالعسير، ولكن علينا أن نعتقد أن البيان الذي سنصوغه هو بيان اجتهادي تم الوصول إليه باستخدام أدوات قاصرة، ولهذا فهو قابل للتعديل والمراجعة والتطوير.
2- نوع اللوم الذي يتلقاه المرء من نفسه على أعماله يؤشر بوضوح إلى أحواله وأوضاعه، فهناك مسلم تلومه نفسه لأنه لا يصلي، وهو يشعر بالتقصير الشديد، وهناك مسلم تلومه نفسه على قلة ذهابه إلى المسجد، وهناك من تلومه نفسه لأنه لم يدرك تكبيرة الإحرام.. أيضاً هناك طالب يعنّف نفسه لأنه رسب، وطالب يعنف نفسه لأنه لم ينجح بتقدير ممتاز، وطالب يعنف نفسه لأنه لم ينل شهادة تقدير في آخر العام وهكذا.. وفي إمكان المرء أن يتعرف على مدى ما يحرزه من تقدم على صعيده الشخصي من خلال فحص حركة لوم نفسه له، فإن وجد أنها تتجه نحو التوبيخ على أشياء صغيرة ودقيقة فليحمد الله تعالى، وإن وجد أنها تتجه نحو التوبيخ على التقصير في فرائض وواجبات ونحو الوقوع في كبائر وموبقات فليتوقف فوراً وليعمل على إنقاذ نفسه من غضب الله ومقته.
3- تشكل المقارنة وسيلة أساسية في فهم الوجود عامة وفهم الذات خاصة؛ إذ إن في إمكان المرء أن يقارن أوضاعه وإنجازاته بأوضاع وإنجازات أشخاص آخرين يعيشون في ظروف مشابهة لظروفه، ولديهم معطيات قريبة من المعطيات التي في حوزته: طالب من أسرة فقيرة يقارن نتائج اختباراته بطالب من أسرة فقيرة – مثلاً- مع ملاحظة مستوى الذكاء والخلفية الثقافية، وموظف في مؤسسة يقارن إنجازاته ووضعه الوظيفي ومدى نجاحه ورضا رؤسائه عنه.. بما لدى زميل له في ظروف مشابهة وهكذا..
إن زيادة الوعي الذاتي تتطلب أن نطور حساسيتنا تجاه سلوكنا اليومي لنعرف ما فيه من عمل يدعو إلى الحمد والاعتزاز، وما فيه من عمل يتطلب المراجعة والتوبة والإصلاح. الاهتمام والملاحظة واليقظة الذهنية والشعورية أدوات مهمة في فهم أنفسنا وفهم العالم، وعلينا أن ننمي هذه الأدوات، ونستخدمها من أجل الحصول على أعلى درجة من الاستبصار الذاتي، والله ولي التوفيق.
حول تنمية الشخصية (4)
(مقاومة التهميش)
د. عبد الكريم بكار 16/4/1428
03/05/2007
نحن نعيش في عصر المعادلات الصعبة؛ إذ إننا كثيراً ما نجد أنفسنا مخيرين بين أمرين، أحلاهما مر، وهذا بسبب التغير السريع الذي يحتاج كل شيء، وبسبب كثرة العوامل المؤثرة في حياتنا العامة.
حين كان الناس يعيشون في الصحارى والقرى الصغيرة، كانوا مغمورين بمشاعر العزلة، لكن تلك العزلة كانت تمنحهم شعوراً قوياً بالاستقلال والسيطرة على البيئة المحلية، كما أن العزلة كانت توفر حماية طبيعية لكل العناصر الضعيفة. اليوم اختلف كل شيء؛ إذ إن ثورة الاتصالات جعلت العالم أكثر ترابطاً، وصار من الممكن أن يجوع إنسان في أقصى الشرق بسبب قرار اتخذه إنسان في أقصى الغرب! من المهم أن ندرك أننا نعيش في عالم مملوء بالأخطار، وليس هناك وضعية آمنة على نحو كامل، كما أنه ليس هناك قرار ليس له سلبيات، والتحدي يكمن في أن نتخذ القرار الأكثر إيجابية ونفعاً والأقل ضرراً.
إذا اتخذنا قراراً بالانفتاح على العالم وبالاندماج مع أفكار العصر وتطلعاته فإننا نواجه مخاطر الذوبان وفقد الهوية وإضاعة الاتجاه والأهداف الكبرى، كما أننا نكون قد أسلمنا قيادنا لقوى غاشمة ليس لبغيها وشرورها حدود، وإذا سرنا في طريق الانعزال، وركزنا أكثر على الخصوصية، وسيطرت علينا هواجس الخوف من الأشياء الجديدة، فإننا نعرض أنفسنا لمخاطر التهميش، فنصبح أشبه بسكان قرية على طريق سريع، نزحوا منها إلى السكنى في مكان بعيد لا يرون فيه غريباً ولا يراهم أحد. نحن لا نؤمن بالانفتاح المطلق؛ لأنه يعرض شبابنا ومصالحنا لمخاطر هائلة، لا يمكن مقاومتها، ولا نؤمن بالعزلة؛ لأنها ستخرجنا من سياق العصر، وتؤدي بنا إلى الضعف الذي يأتي بمخاطر الذل والاستعباد من قبل من يملكون روح العصر وأدواته.
إذاً ما الذي علينا أن نعمله؟ وما الموقف الصحيح في هذه المسألة الشائكة؟
الجواب يكمن في ضرورة الاتجاه إلى الانفتاح المحدود وإلى قبول تحديات العصر والتفاعل معها عبر فهم دقيق لما يجري حولنا وعبر محاولة امتلاك الأخلاقيات التي تمكننا من أن نعيش زماننا في إطار مبادئنا، وهذه بعض الملاحظات السريعة:(1/164)
(1) قالت العرب قديماً: إن المحاصر لا يأتي بخير، أي إن الذي لا يملك سوى الدفاع عن نفسه من غير أي قدرة على الحركة والمناورة والمبادرة لا يُتوقع منه شيء عظيم أو استثنائي، وكل ساعة تمر عليه وهو محاصر تقلل من قدرته على الاستمرار في الدفاع وصد الخصوم والأعداء.. أيضاً المهمش والذي أدمن المواقف الدفاعية والمتترس خلف نظام لا يرى أن في إمكان العقل البشري إبداع أفضل منه كل هؤلاء سيجدون أنفسهم في نهاية المطاف أشبه بالمحاصر، وهذا ما استوعبه المسلمون الأوائل على نحو جيد، فاتخذوا من نشر الإسلام في الأرض وسيلة لجعلهم في موقف المبادر وفي قلب الأحداث العالمية، وبذلك تجاوزوا موقف الجامد والمحاصر والمهمش والخائف من الجديد.
(2) مقاومة التهميش تتم من خلال الاعتقاد بأن ما لدينا من أوضاع ونظم ومعطيات ليس كاملاً، ولهذا فإننا نشعر أن في إمكاننا أن نتعلم من غيرنا، وأن لدى الآخرين شيئاً مفيداً يمكن أن نتعلمه، وهذا الاعتقاد يشكل نقطة البداية، ويأتي بعد ذلك تأهيل النفس للسباحة في تيار قوي وسريع، وهذا التأهيل يقوم على الآتي:
? تعلم جيد والإنفاق بسخاء على الدراسة في مدارس وجامعات جيدة والحصول على أعلى الشهادات المتاحة.
? استقامة خلقية عالية، تجعل من صاحبها نموذجاً في الأمانة، وأهلاً للثقة، ومثالاً للمصداقية.
? محاولة العمل في مؤسسات وشركات (متعلمة) وذات تنظيم ممتاز؛ إذ إنها تكون أشبه بالجامعات التي تمنحك تدريباً عالياً، وإن العمل في بيئات مهترئة ومتخلفة يضع صاحبه في خانة المحاصر والمهمش سواء بسواء.
? العمل على فهم روح العصر؛ إذ إن كل حقبة زمنية تعد مجالاً لحركة أفكار وقيم وقوى معينة، وحين يستوعب المرء ذلك ولو على نحو منقوص فإنه يدفع عن نفسه شيئاً من التهميش على مستوى الوعي وعلى مستوى المعرفة. وأعتقد أن (الإعلام) المكتوب والمنظور والمسموع يشكل القوة الرئيسة الضاربة اليوم؛ وقد كان اليهود يقولون قبل قرن: من يملك المال يملك العالم، وهم يقولون اليوم: من يملك الإعلام يملك العالم، ومن هنا فإن المسلم المعاصر والذي يعيش فعلاً داخل تيار المعاصرة يحاول أن يستخدم الإعلام على أفضل وجه ممكن، وإذا لم يستطع، فإنه يحاول الاستفادة الشخصية من الإعلام على قدر الوسع والطاقة.
? الفاعلية والإنتاجية العالية شرطان مهمان لتفادي التهميش في زماننا؛ إذ إننا نعيش معركة شرسة على كل صعيد، وفي سوق العمل هناك عرض كبير وطلب قليل، والإنسان الفعّال جداً وذو الإنتاجية العالية يستطيع الحصول على عمل جيد، أما العاديون فسيجدون وظائف هامشية ليجدوا أنفسهم في نهاية المطاف على هامش الحياة.
? العلاقات الحسنة مع الناس مصدر رزق والأخلاق الحسنة أيضاً مصدر رزق، والقدرة على العمل ضمن فريق صفة مهمة اليوم من صفات ذوي الإنجاز العالي، ولا بد من فهم كل هذا والعمل بمقتضاه.
والله الموفق.
حول تنمية الشخصية (5)
(الفكاك من الأسر)
د. عبد الكريم بكار 2/5/1428
19/05/2007
الارتقاء بالذات أمر ممكن لجميع الناس دون استثناء، وذلك لأن الكمال والتقدم العقلي والروحي والاجتماعي لا منتهى له، وليس له حدود صارمة توقفه عند وضعية معينة. إذاًَ لماذا نجد أن معظم الناس غافلون عن تنمية شخصياتهم، بل إن بعضهم يعاني من تدهور في بعض جوانب حياته الخاصة؟!
الجواب ببساطة هو: أن الواحد منا يأتي إلى هذه الحياة وهو يملك عدداً كبيراً من (القابليات) الإيجابية والسلبية، وهو في نشأته وانتقاله من طور إلى طور أشبه بمن يمشي في صحراء مترامية الأطراف شديدة الظلمة، وطرقها مملوءة بالحفر والأشواك والحجارة والوحوش.. ومن خلال الأهوال والمشاق التي يمر بها تتحول القابليات إلى انطباعات وتصوّرات وسلوكات تشكل شخصيته، وتحدد نظرته إلى نفسه وإلى العالم من حوله، وتلك النظرة كثيراً ما تميل إلى السلبية، لكن مع هذا لا يفقد الإنسان مرونته واستعداداته للاتجاه نحو ما هو أحسن وأكرم والاتجاه إلى ما هو أسوأ، لكن الزمن لا يسير في صالحه على هذا الصعيد، فهو كلما تقدم في السن زادت صلابته الذهنية وتحولت القابليات لديه إلى انطباعات وعادات وصار تخلصه من عاداته السلبية أشد صعوبة، إن في إمكاني أن أقول: إن لكل واحد منا نفسين: نفساً صغيرة ناجزة لكنها مكبلة بالأوهام والخوف واليأس والعجز... ونفساً كبيرة تحت التأسيس، لا تظهر ولا ننعم بها إلاّ إذا قمنا بإثارة عاصفة كبرى من خلال طموحاتنا الكبيرة ومن خلال ما نملكه من جدية وعزيمة وإصرار وتصميم.. والمطلوب هو أن نبعد نفوسنا الصغيرة عن طريق نفوسنا الكبيرة؛ إذ إن ذلك الإبعاد يشكل شرطاً لظهور إمكاناتنا الكبرى المتوارية والمتربصة والمتوثبة نحو التجسد في أشياء عظيمة ملموسة ومنظورة. السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: ما سمات النفوس الصغيرة التي علينا أن نتخلص منها؟
إن سمات نفوسنا الصغيرة تتلخص في الآتي:(1/165)
(1) احتقار الذات والنظرة الدونية إلى النفس، ومن العجيب في هذا الشأن أن كثيرين منا لا ينظرون إلى ما متعهم الله -جل وعلا- به من صحة ومال ووقت وذكاء.. ولا يقيمون له وزناً، ولهذا فإنهم لا يشعرون بالامتنان لله تعالى، ولا يتخذون منه منطلقاً لتحسين أحوالهم، وهذا يسبب إشكالية كبيرة في الحقيقة. إذا تأملنا في تاريخ كل العظماء الذين بنوا أمجادهم بجهودهم، وقدموا للعالم أفضل الأفكار والمشروعات والخدمات، فإننا نجد شيئاً مشتركاً بينهم هو الثقة بالإمكانات الصغيرة التي بين أيديهم واستثمارها بفعالية عالية، مما جعل التوسع والانتقال إلى ما هو أكبر ممكناً. إن الذين يعيشون في بيئات جاهلة ومحطمة وبائسة يعدون متخصصين بل بارعين في تلقين مفاهيم احتقار الذات، ولهذا فإن الأجيال الجديدة التي تعيش في تلك البيئات تواجه تحدياً ضخماً، لا تستطيع الانتصار عليه من غير رؤية نماذج ممتازة تستلهم منا معاني الثقة والكفاح والسباحة ضد التيار، والمتعلمون والدعاة والشباب الخير الناجح هم المسؤولون عن تقديم تلك النماذج.
(2) الطموحات الصغيرة والرضا بالفتات والعيش على هامش الحياة، سمة أخرى من سمات النفوس الصغيرة، بل إني أقول: إن الطموحات الصغيرة تعني نفوساً صغيرة، ونتائج متواضعة ومستقبلاً عادياً. إن على الأسرة أن تعمل جاهدة في دلالة أبنائها على نقاط القوة لديهم وعلى المميزات التي يتمتعون بها والظروف الحسنة التي يعيشون فيها، وذلك من أجل توفير قدر جيد من الثقة بالنفس، وعلينا إلى جانب ذلك أن نقدم لهم كل الدعم الممكن في إكمال دراساتهم وإقامة مشروعاتهم وتمويل اختراعاتهم، وتقديم العون لما يحتاجون إليه من دورات وكتب وأسفار هادفة... ويأتي بعد ذلك دور المدرسة، وهي بما تملك من رؤية ووعي وخبرة تستطيع تقديم البرامج والوسائل والتفاصيل التي تفتح المجالات والآفاق أمام الطلاب ذوي الطموح العالي من أجل تشكيل بيئة جديدة فيما بعد.
الناس إذاً من جنس طموحاتهم ومن جنس اهتماماتهم أيضاً، وإن في إمكان كل واحد منا أن يتعرف على نفسه وهل هي صغيرة أو كبيرة، من خلال تعرفه على الأشياء التي تثير اهتمامه وتشكل مصدر همومه، فإذا كانت كبيرة ومتصلة بالآخرة ونفع الأمة فإنه ذو نفس كبيرة، وإذا كانت صغيرة وأنانية ومادية، فهو ذو نفس صغيرة، وأظن أنني لست بحاجة إلى القول: إن الدنيا صغيرة وكل ما فيها صغير، وإذا كانت طموحاتنا دنيوية محضة ومادية خالصة، فإنها لن تكون أبداً كبيرة؛ إذ لا يمكن لجلد الشاة أن يتسع لناقة، ولهذا فإن من المهم جداً أن نراجع النيات، وندقق في المعايير حتى لا ننساق خلف الأوهام، ونسير في طريق الأقزام!
(3) صاحب النفس الصغيرة يبدو دائماً وكأنه في عجلة من أمره، خططه قصيرة المدى، ونفسه في العمل أيضاً قصيرة، وهو يريد أن يرى كل آماله وقد تحققت بين عشية وضحاها، وإذا صادفه بعض العقبات، فإنه يغير طريقه، وينتقل إلى مشروع جديد، وقد يغير بعض أهدافه الأساسية والكبرى.. على حين أن صاحب النفس الكبيرة يعرف أن طريق الكمال والإمامة والمعالي طريق طويل أولاً، ومملوء بالعقبات والأشواك والمنغصات ثانياً، وإلاّ لصار كل الناس عظماء. لا أستطيع في هذا المقال أن أتحدث عن كل سمات النفوس الصغيرة، لكن أجدد الدعوى إلى مساعدة نفوسنا الكبيرة على الظهور والتألق من خلال إبعادنا لنفوسنا الصغيرة بكل ما فيها من نقص وعلل عن طريقها.
والله ولي التوفيق.
حول تنمية الشخصية(6)
د. عبد الكريم بكار … … … … …17/5/1428
… … … … …03/06/2007(1/166)
حين يحاول المرء صيانة ذاته وتطويرها، فإن من المهم أن يعرف الطبيعة الثقافية والحضارية للعصر الذي يعيش فيه، وهي طبيعة مختلفة عن طبائع كل العصور الماضية، وليس في هذا الكلام أي نوع من المبالغة، في الماضي كان الناس في بلدانهم وأماكنهم المختلفة يعيشون وفق معطيات عقدية وثقافية محلية وموروثة، ولهذا فإنهم كانوا يكيِّفون كل شيء في حياتهم وفق تلك المعطيات، ومنها سلوكاتهم ومواقفهم المختلفة؛ أما اليوم فإن على معظم الناس –وبعد ثلاثة عقود.. كل الناس- أي يتكيفوا مع أفكار ومفاهيم ومعتقدات قادمة من قارات أخرى، أو من أماكن بعيدة داخل قارتهم، وهذا يعني أن علينا أن نتوقع دائمًا أن نواجه ما يصدمنا، أو يشكّل امتحانًا حقيقيًا لنا؛ وعلى سبيل المثال فإن المواد الثقافية الواردة من الغرب مثل الأفلام والبرامج التلفازية والقصص والروايات والكتب والمجلات والدوريات الفكرية والسياسية.... تنشر أفكار ومفاهيم (ما بعد الحداثة) والتي تعني في جملة ما تعنيه تشجيع الانفلات العام من أي أصول أو ثوابت أو كليات أو مرجعيات، والتنظير للفكر السائل والنسبي، فالتطور في كل شيء ودون حدود، هو شرعة الحياة. كما أن فكر عصر (ما بعد الحداثة) يجنح إلى (التفكيك) فلكل مجال قيمه الخاصة به، ولا مجال للقيم العامة، وعلى سبيل المثال فإن (عالم الاقتصاد) يحكم بقيم من داخله، وهي القيم التي تؤدي إلى نموه وتعامل الناس فيه مع بعضهم على نحو لا يثير الكثير من النزاع، أما قيم الحلال والحرام وما يتصل بالربا والجشع والعقود الفاسدة وكل ما شاكل ذلك، فهي قيم وافدة من مجال المعتقدات الغيبية، ولهذا فإنها غير ذات قيمة. وفي مجال الجمال وإظهاره وتوظيفه والاستمتاع به... لا معنى لقيمة (الستر) والاحتشام لأنها ورادة من مجال آخر، على حين أن الإسلام يعلمنا على أن الستر يشكل أولوية أو إطارًا للجمال فالمرأة المسلمة تتزين في إطار الستر وعدم إثارة الآخرين، ولا أريد أن أستطرد في شرح مفردات عصر (ما بعد الحداثة) واستعراض التحديات التي تسببها لنا، لكن أقول: إن المسلم لم يمر في تاريخه الطويل بظروف وأوضاع ثقافية تستدعي منه اليقظة الفكرية والشعورية... كالظروف والأوضاع التي يمرّ بها اليوم، وهو يحتاج إلى درجة عالية من اليقين بصواب منهجه ودرجة عالية من الصلابة في التمسك بقيمه ومبادئه الإسلامية، وهذه الصلابة تتوفر له من خلال الآتي:
1- التصميم والعزم الأكيد على ألا يقبل أي نوع من المساومة على مبادئه، ولاسيما في مجال المال والأعمال، حيث إن عصر ما بعد الحداثة هو عصر محو المحرمات والمقدسات، والمستفيدون للعولمة يروجون لذلك بغية تجريد الناس من أي قيم يمكن أن تمنحهم التأبي والتمنع في وجه زيادة الأرباح وزيادة الاستهلاك والحراك المالي والاقتصادي عامة. الإنسان لم يكن إنسانًا بمكوناته الجسمية أو بصورته، وإنما بروحه ووجدانه وخُلُقه، ومن ثم فإنه لا يعادل خسارة المرء لنفسه شيءٌ سوى خسرانه للمبادئ التي يؤمن بها، وإن الذي يبيع دينه، ويعمل ضد عقيدته ورؤاه وقيمه، لا يصح أن يقال فيه: إنه حقق أي مكاسب أو نجاحات، يمكن أن يغبط عليها. وحتى لا يدخل في اختبار أي مساومة، فإن عليه أن يبتعد عن المجالات والمواقف المشبوهة، والمناطق الرمادية التي يختلط فيها الخير بالشر والحق بالباطل، كما ورد من قوله –صلى الله عليه وسلم-: "فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه" (متفق عليه).
2- الصلابة الداخلية تعني كذلك أن يتخذ المسلم من مبادئه ملهمًا له ومحرِّكًا على مسرح الحياة وفي شأنه كله، كما يتخذ منها مرشدًا وموجهًا، فهو يُقْدِم ويبذل ويضحي في هدي تلك المبادئ، وهو كذلك يحجم ويتأبي ويقاوم في ضوئها وبحسب مدلولاتها، والحقيقة أنه لا يعادل صفاء العقيدة سوى صياغتها لسلوك صاحبها. إن المبادئ تظل هشة وغائمة واحتمالية ما لم تُدعَّم بالمواقف الصلبة، والحاجة إلى هذا شديدة اليوم لأن كثيرًا من المسلمين صار يعاني من ازدواجية بغيضة في أعماق شخصيته، فهو يعتقد أن الصواب في كذا وكذا، لكن تطلعاته وطموحاته ومساعيه تمضي في سياق مضاد! حين يتقاعس الناس عن المبادرة نحو أنواع من الخير، فإن المبادئ تستحث صاحبها على أن ينطلق ولو كان وحده، وحين يتدافع الناس في اتجاه الاستحواذ على شيء من متاع الدنيا، فإن المبادئ تدفع بصاحبها نحو الانشغال بشيء مختلف؛ فالمبادئ تلهم وترشد وتحفِّز، وتكبح... إنها فعلاً نظارة يرى المرء من ورائها الوجود، وقوة تحركه في تحقيق ما يراه!(1/167)
3- رجل المبادئ يبرهن على تمسكه بمبادئه من خلال تمحوره حولها، واعتزازه بها، على حين أن الذين لا تشكل المبادئ بالنسبة إليهم أكثر من تكميل شكلي أو ظاهري (ديكور) يذهبون في التمحور مذاهب شتى، فهذا يتمحور حول المنصب الذي احتلَّه، وذاك يتمحور حول الأسرة التي ينتسب إليها، وآخر يتمحور حول الثروة جمعها... إنهم جميعًا يعتزون بأشياء صنعها غيرهم أو أشياء يستعملونها بأيديهم... أما الذين يتمحورون حول مبادئهم فإن مصدر اعتزازهم هو تلك الأشياء العظيمة التي صنعوها لأنفسهم في أنفسهم! إن الحياة لا تكون ثرية وسعيدة وقيِّمة إلا إذا كان في قلوب الذين يحيونها معان ورمزيات يُضحّى بالحياة نفسها من أجلها، وهذا هو الدرس البليغ الذي يلقيه علينا الشهيد!
حول تنمية الشخصية (7)
د. عبد الكريم بكار 4/6/1428
19/06/2007
فشل النجاح
كثيرون أولئك الذين يملكون المقومات والمعطيات الكافية لأن يكونوا رجالاً عظماء، لكنهم لم يصبحوا عظماء، ولكل منهم أسبابه الخاصة. يقول (أرنولد توينبي) أشهر مؤرخي بريطانيا في العصر الحديث: "إن في إمكانك أن تلخص بشكل جيد تاريخ المجتمع ومؤسساته في أربع كلمات: "لا شيء يفشل مثل النجاح". هذا القول من ذلك المؤرخ المفكر يلخّص مشكلة كبرى وعامة يقع فيها عادةً خواص الناس والبارعون منهم، وهي تستحق فعلاً أن نسلِّط الضوء عليها لعلنا نجد مدخلاً للتعامل معها. وهذه مقاربة أولية لها:
1- معظم أنشطتنا ليس عبارة عن مبادرات ذاتية نطلقها بناء على رؤية شاملة وواضحة لما ينبغي أن نقوم به، وإنما هي ردود أفعال على التحديات المحيطة بنا. هذا رجل لديه ثلاثة من الأولاد، عزم في وقت مبكر على أن يعلمهم التعليم الجيد، وبما أن ذلك الرجل كان يعيش في منطقة نائية، ومستوى التعليم فيها منخفض، فإن أعلى شهادة سمع بها، وكان يطمح إلى أن يحصل عليها أبناؤه الثلاثة هي (الثانوية)، وقد بذل الرجل جهدًا مشكورًا في تمكين ابنه البكر من الحصول على تلك الشهادة، وقد نجح فعلاً في ذلك، وأحدث استجابة جيدة للتحدي الذي كان أمامه. بعد خمس سنوات انتقل الرجل إلى السكن في العاصمة حيث الجامعات والمعاهد العليا، وحيث الكثير من الشباب والرجال الحاصلين على الإجازات الجامعية وما فوقها، لكن صاحبنا لم يلتفت إلى ذلك، وظلت أمنيته العظمى أن يحصل أولاده على الثانوية، وقد حدث ذلك فعلاً، وذهب الثلاثة للبحث عن وظائف، وكانت المفاجأة المؤسفة؛ فشهادة الثانوية تعني في البادية أن صاحبها يمتلك نوعًا من الريادة الثقافية، وهو أكبر من كل الفرص والوظائف المتاحة هناك، لكنْ في العاصمة الأمر مختلف جدًا، وأخذ الثلاثة يبحثون عن عمل يمكِّنهم من العيش الكريم عند حدوده الدنيا، فلم يجدوا، وصاروا عالة على أبيهم! وهكذا فإن السكنى في العاصمة تتطلب من الأب وأبنائه إطلاق استجابة جديدة من خلال الحرص على نيل أعلى الشهادات المتاحة في العاصمة، وهذا ليس من باب الكماليات، وإنما هو ضروري جدًا من أجل الحصول على مرتب يكفي لسد نفقات العيش في العاصمة.
هذا يعني أن الفشل يولد من رحم النجاح، وذلك حين يقف نجاحنا عند مستوى معين، وحينئذ فإن الناجح يتحول إلى فاشل أو مخفق!
2- قد رأينا في الجامعات شبابًا ممتازين جدًا، وعلامات النباهة والنبوغ ظاهرة عليهم، وقد تخرّجوا فعلاً بتقديرات عالية، ونالوا الأوسمة والدروع... لكن بعد التحاقهم بوظائفهم أفل نجمهم، ولم نعد نسمع عنهم أي شيء، وبعضهم صار أقل من عادي! وهناك خطباء لامعون أثّروا في مرحلة من المراحل في أعداد كبيرة من الناس، ثم انطفؤوا كما تنطفئ الشمعة، وصاروا في حكم المنسوخ، بسبب قدوم جيل جديد من الخطباء الشباب، وهناك مؤلفون أتحفونا بكتب ممتازة، تكشف عن موهبة وقدرة عالية على الفهم والتحليل، ثم غابوا عن الساحة من عشرات السنين، فلم نعد نطّلع على أي جديد نتيجة قرائحهم... أمثلة كثيرة تفوق الحصر، وهي تدعو إلى الأسى؛ لأن الأمة في أمس الحاجة إلى هؤلاء وأولئك ولكن....
3- قالوا قديمًا: ليس المهم أن تصعد إلى القمة، لكن المهم كم تستطيع أن تمكث هناك. اليوم صار الصعود إلى القمة أمرًا عالي التكاليف بسبب كثرة المنافسين وتشعب المجالات وكثرة المستويات، لكن الفرص أيضًا زادت والوسائل المساعدة على الارتقاء والتقدم في زيادة مستمرة، أما البقاء في المقدمة المحلية أو الإقليمية فهو ممكن لمن يدفع ثمنه، وربما كان من جملة الثمن الآتي:(1/168)
أ – التمييز بين الظروف والقدرات الشخصية؛ إذ إن معظم الناس يخضعون لظروفهم، وهي في أكثر الأحيان ليست مثالية أو مواتية، أما الذين يريدون البقاء في القمة، فإن لهم شأنًا مختلفًا، إنهم يحاولون دائمًا اكتشاف طاقاتهم الكامنة واستثمارها على أحسن وجه، ويحاولون في الوقت نفسه ممارسة نوع من التمرد ضد الظروف الصعبة، ونجد هذا المعنى واضحًا في سيرة نبينا –صلى الله عليه وسلم- وسيرة إخوانه من الأنبياء والمرسلين، ومن جاء بعدهم من عظماء هذه الأمة وعظماء كل الأمم، إن المهم دائمًا ليس الاستهانة بالعقبات الموجودة، وإنما كيفية التعامل معها وكيفية الدوران حولها، وإني أعتقد ان أي واحد منا سيكون شخصًا مختلفًا جدًا إذا قطع نصف المسافة بين ما يفعله الآن وبين ما في مقدوره أن يفعله. ما هو كامن من ا لإمكانات والظروف الجيدة والفرص العظيمة... هو دائمًا أكثر وأكبر مما هو ظاهر، وهذه فعلاً حقيقة مذهلة!!
ب- لو تأملنا في سيرة كل أولئك الذين ذبلوا قبل الأوان أو من غير أسباب واضحة لوجدنا أن ما حققوه من نجاح وتألق هو السبب، وذلك لأن النجاح كثيرًا ما يولّد لدى أصحابه درجة عالية من الثقة بالنفس، والتي قد تصل إلى حد الغرور، وهذا يجعلهم لا يلتفتون، أو لا يهتمون بالتغيرات السريعة التي تحيط بهم، والتي تتطلب منهم تطوير أنفسهم على نحو ملائم. أضف إلى هذا أن الناجحين يتمسكون في العادة بالأسباب التي ساعدتهم على النجاح –وهذه الأسباب قد تكون أفكارًا وقد تكون عادات وعلاقات- ويظنون أن الاستمرار في النجاح لا يكون من غير ذلك. وهذا ليس بصحيح؛ فنحن في حاجة إلى التخلي عن الأفكار الناجحة مثل حاجتنا للتخلي عن الأفكار الفاشلة؛ في مرحلة من المراحل قد يكون المزيد من التثقف والاطلاع وجمع المعلومات هو أساس النجاح، لكن في مرحلة أخرى قد يكون الفهم والتحليل وبلورة النماذج واكتشاف أدوات جديدة للتفسير... هو المطلوب لتحقيق نجاح جديد أو الحصول على تميّز فريد. إن مما لا ننتبه إليه في أحيان كثيرة كون الإنسان مخلوقًا مستهلكًا يستهلك الأشياء والنظم والأفكار والمعلومات والتقاليد، وكثيرًا مما يُحسب في عداد المقولات الحكيمة والنيرة، ولهذا فإن التطوير المستمر هو أهم شرط للنجاح المستمر.
حول تنمية الشخصية (8)
د. عبد الكريم بكار 20/6/1428
05/07/2007
الحياة ليست ورطة
الحياة نعمة من الله –تعالى- وحياتنا نحن البشر نعمة مضاعفة؛ إذ كرّمنا الله –جل وعز- وسخر لنا ما في السماوات وما في الأرض حتى نسعد ونعمل ونتمتع ونشكر ونعبد، ونحن في كل ذلك مبتلون، وإذا نجحنا في الاختبار، فإن ما ننتظره من كرامة الله –تعالى- شيء يفوق كل خيال، ولهذا فإنه مهما ساءت الظروف، واشتدت الكروب، فإننا نملك ما نغتبط به، ويمكن أن نوجه مشاعرنا بطريقة، تعود علينا بالكثير من الأمل والكثير من الارتياح، لكن مع هذا لا بد من القول: إن الإنسان بوصفه كائنًا محتاجًا ومستهلكًا ومتجددًا، فإن المعطيات الملموسة، تظل ذات معنى وذات قيمة، فالمرء حين يجوع، ويعرى، ويعاني من الأمراض والآلام المبرّحة يصعب عليه أن يشعر بالسعادة إلاّ إذا كان صاحب شفافية روحية عالية جدًا، وهذا في الناس نادر، ومن وجه آخر فإن الإنسان يجد نفسه في أحيان كثيرة عاجزًا عن إدراك أوضاعه الخاصة، من أفق مستقل ومنفصل، مما يحمله على مقارنة نفسه بغيره، وهذه المقارنة كثيرًا ما تجلب ازدراء النعم التي أسبغها الله –تعالى- عليه، ومن هنا ورد التوجيه الكريم من النبي –صلى الله عليه وسلم- بأن ينظر المسلم في أمور الدنيا إلى من هم دونه حتى يشعر بما تفضل الله به عليه من الخير والبركة والنعمة. السؤال الذي يطرح نفسه هو: كيف يستطيع الواحد منا أن يحمي نفسه من مشاعر البؤس والحرمان، وكيف يستطيع بلورة رؤية شخصية، خلاصتها: أن الحياة فرصة، ومقدمة لخير عظيم؟
الجواب على هذا التساؤل طويل، وله ذيول وامتدادات كثيرة، لكن أود أن أشير إشارة سريعة إلى ثلاث نقاط جوهرية:
1) إن في إمكان المسلم أن يستظل بأمان الله ورحمته ولطفه وأن ينتظر حسن موعوده من خلال المزيد من التنفل والتقرب والتذلل والإخبات والمناجاة، وحين يسلك المؤمن هذا المسلك في إغناء الروح فسوف يُفاجأ بحجم المسرات التي ستغمره، وما أعظم قول الله تعالى في الحديث القدسي:"وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطيّنه، ولئن استعاذني لأعيذنّه" رواه البخاري. إن العبارات لتعجز فعلاً عن وصف كرم الله -عز وجل- ورحمته بعباده، وليس علينا إلاّ أن نباشر العمل لنقطف الثمر.(1/169)
2) نحن في حاجة إلى ألاّ نقع أسرى الأوهام: أوهام الشهرة والثراء والقوة والسعة والسيطرة... لأن الواحد منا إذا وقع في مصيدة شيء من هذا، فإنه سوف يقع ويلقى حتفه وهو يركض خلف السراب. لنبدأ والنهاية في أذهاننا، وهي نهاية واضحة، ولا نحتاج إلى ذكاء كبير كي ندركها، الدنيا محدودة، ومحدود كل ما فيها من مسرات وآلام وأمجاد وأزمات.. كل ذلك محدود ومؤقت وزائل، وإن إدراكنا لهذه الحقيقة سيخفف من الجزع الذي يسيطر على بعض منا، كما سيخفف من الأشر والبطر الذي يسيطر على كثيرين، ولنتأمل قول الله تعالى: (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير* لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور) [الحديد:22-23]. التوازن مصدر لخير عظيم، لكنه يحتاج إلى وعي واجتهاد وشيء من السيطرة على الأهواء والرعونات النفسية، التوازن فضيلة من أعظم الفضائل؛ لأن الشخص المتوازن شخص نجح في إيقاف فضائله عند حدود معينة، فلم تنقلب إلى رذائل، إنه كريم كرماً لا يصل إلى حد التبذير، ومدبر لأموره تدبيراً لا يصل إلى حد الإمساك، ومقبل على الآخرة إقبالاً لا ينسيه الدنيا، كما أنه يكسب رزقه ويحسّن أوضاعه المعيشية على نحو لا يصرفه عن آخرته..
3) هذا الزمان هو زمان الإبداع والفكر والابتكار والمرونة والتكيف وإدارة الموارد والإمكانات، هو عصر عاد فيه الاعتبار للإنسان وإمكاناته الهائلة بعد أن تم استعباده في عصر الضعافة، ويكفي لتأكيد هذا ما ذكره بعض الباحثين من أن تكلفة المنتجات قد اختلف توزيعها اليوم عما كان قبل ثلاثين سنة، فقد كان 20% من التكلفة يذهب للإبداع والابتكار و80% للمواد الأولية، أما اليوم فقد اختلف الأمر؛ إذ إن 70% من التكلفة يعود للمعرفة والإبداع الإنساني و30% للمواد الأولية وهذا يعني أن الذين لن يعلّموا ولن يتعلموا بطريقة ممتازة سيجدون أنفسهم فعلاً في ورطة كبيرة مهما كانت وفرة المواد الأولية لديهم كبيرة، وذلك لأن دورها في صناعات المستقبل وفي كسب المنافسة العالمية سوف يتراجع يوماً بعد يوم!
ماذا يعني هذا بالنسبة إلينا؟
إنه يعني الآتي:
أ- الحرص على تلقي العلم في جامعات مرموقة.
ب - اعتماد التعلم مدى الحياة مبدأ في اكتساب المعرفة.
جـ - اكتساب المهارات المتجددة، والسخاء في دفع تكاليف ذلك.
د - تأهيل النفس للعمل ضمن فريق.
هـ- الاستفادة القصوى من الوقت.
و- العمل على النفس الطويل، وامتلاك الرؤية الإستراتيجية.
كل شيء في العالم يتغير ويتجدد بسرعة كبيرة، وعلينا أن نفتح أعيننا على ذلك جيدًا حتى لا نجد أنفسنا في أزمات خانقة، لا نعرف السبيل إلى الخروج منها.
وعلى الله قصد السبيل..
================
#مكافحة العماء
د. عبد الكريم بكار 27/11/1427
18/12/2006
يأتي الواحد منا إلى الدنيا وهو لا يعلم شيئًا، ويخرج منها بعد عمر مديد، وهو لا يعرف إلاّ القليل، ويجهل الكثير الكثير، وهو بين القدوم النضر المتفتح، وبين الأفول الذابل الواهي، ويبذل الكثير من الجهد، ويلاقي الكثير من العناء في سبيل امتلاك رؤية حسنة لمحيطه ورؤية الجديد المؤثّر في معيشته، وفي سبيل مكافحة العماء (اللاتكوّن). هذا الإنسان المحدود، يواجه على نحو دائم مشكلة إدراك الأشياء على ما هي عليه، ومشكلة التعامل معها على النحو الصحيح. والمشكلة الأكثر تعقيدًا تكمن في جهله بقصوره وضعف إمكاناته، مما جعله المخلوق الأكثر إسرافًا في الادعاء والتبجّح في هذا الكون!
نحن في حاجة حقيقة إلى إنشاء (علم الطرق المسدودة) أو ما يمكن أن يُسمّى بـ (علم القصور الذاتي) أو (علم الجهل)، أي نحتاج إلى تنظيم معرفة تمكننا من أن نتحدث كثيرًا عن الأشياء التي لا نعرفها والغوامض التي لا نفقهها، والفنون والمهارات التي لا نتقنها، كما تمكننا من تلمس الحدود الفاصلة -على نحو مقبول- بين القريب والبعيد، والصعب والسهل، وما نستطيع تغييره، وما لا نستطيع، وما نملكه وما لا نملكه... ونحن في حاجة إلى هذا العلم حتى نقلل من إمكانات الخطأ، وحتى نقلل من النزاع والجدال العقيم، كما أننا في حاجة إليه من أجل توفير الجهد والوقت، فنحن حين نعرف الطرق المسدودة، نمضي في الطريق المفتوح بثقة وطمأنينة، وحين نعرف ما لا نستطيع فعله، نُعرض عنه، وحين ندرك ما لا نستطيع دفعه، نسلِّم لله -تعالى- به، ونحتسب فيه. لدينا مئات الآلاف بل عشرات الملايين من العلماء والباحثين الذين يتحدثون عما يعرفون وليس لدينا إلاّ النزر القليل من الذين يتحدثون عن المشكلات غير المحلولة وعن المعلومات الناقصة والخبرات الفجة، وقد أدى هذا إلى وجود ضعف شديد في تراكم الخبرات المتعلقة بالموضوعات الشائكة والمسائل المستعصية، كما أدى إلى أن يبدأ الباحثون الجدد من نقطة الصفر، كما يبدأ الطفل رحلة المعرفة بتعلم كتابة اسمه! لهذا فنحن في أمس الحاجة إلى أن ننشر كل المفاهيم والمعارف والخبرات ذات الصلة بما نجهله، وبما أعيان أعيانا فهمه، وأتعبتنا الإحاطة به.(1/170)
دعونا نتساءل في البداية عن الأسباب الجوهرية لقصورنا في الفهم وارتباكنا في التعامل المعرفي مع الكثير من القضايا والمسائل المتنوعة، ثم نتحدث بعد ذلك عما يفرضه علينا ذلك القصور من مواقف وسلوكات.
1- البشر بمجملهم لا يعرفون تفاصيل كل ما يجري، فأنا لا أعرف ماذا يجري الآن في أوروبا أو إفريقية، والذين هناك لا يعرفون تفاصيل ما يجري في آسيا، بل إن أبناء القرية الواحدة لا يعرفون تفاصيل كل ما يجري في قريتهم على نحو مباشرين نقل وإخبار من بعضهم إلى بعضهم الآخر. أضف إلى هذا أن العلم الذي تراكم لدى البشرية لم يتوصل إلى كشف كل العناصر المكونة للبيئة، ولا إلى كشف العلاقات التي تربطها والتفاعلات التي تجري بينها، كما أن البشر لا يعرفون أسباب ما يجري أو كل ما يجري على وجه دقيق، وعلى سبيل المثال فإن هناك حزمة كبيرة من الأمراض التي تصيب الإنسان والحيوان، وليس هناك من يعرف أسبابها، ولا من يعرف العلاقات التي يمكن أن تربط بين عشرة أعشاب نادرة في الصين ومرض نادر وغامض في إفريقية. إن الجهل بما يجري وببعض أجزاء وجودنا على هذه الأرض وبالعلاقات التي تتبادلها الأشياء... جعل مجال الظن والشك والوهم والتخرص والإدعاء والتقول واسعًا للغاية، وهذا وحده كافٍ لجعل رؤى أفضل الناس عقولاً تضطرب، وتحار حيال أعداد كبيرة من الظواهر والقضايا الطبيعية والإنسانية والحضارية.
2- من الواضح أن القصور الذاتي هو الطابع الأساسي للوجود الإنساني، وسمة القصور الذاتي هذه دفعت الناس دفعًا إلى أن يعتمدوا على بعضهم في فهم الوجود؛ فهناك من يعلِّم، ومن يتعلم، وهناك من يستشير، ومن يُشير، ومن يرى الشيء، فيحدِّث به من لم يره، ومن يعقل الشيء، ويدرك تفاصيله وخفاياه، فيشرحه لمن لم يسمع عنه إلاّ القليل. هذه العلاقات الاعتمادية تقوم أساسًا على (اللغة) المنطوقة والمكتوبة، حتى الرموز والإشارات -مثل لوحات التحذير وإشارات المرور- تعتمد في دلالتها على اللغة، وهنا تدخل البشرية في تعقيد جديد؛ إذ إن اللغة منتج بشري، وما أنتجه البشر يظل قاصرًا، ولهذا فإن لدى علماء اللغات في أنحاء العالم إجماعًا بأن النظم اللغوية نظم قاصرة في التعبير عن حاجات البشر، وقاصرة عن تحقيق التواصل الكامل بينهم، وهذا القصور يأتي من قصور نظم الكلام؛ حيث إننا في أحيان كثيرة لا نجد الكلمات والتعبيرات التي تترجم أفكارنا ومشاعرنا على نحو دقيق، وكما نريد بالضبط، وكثيرًا ما نقول حين نراجع في بعض ما نطقناه: إننا لم نرد هذا، وإنما أردنا كذا، ولكن خاننا التعبير؛ كما أن قصور اللغة يتجلى في قصور نظم الفهم والتعبير والتأويل لما نسمع، ونقرأ ووجود عشرات التفاسير المطولة والمختصرة لكلام الله العزيز دليل واضح على ما نقول، والخلافات الذائعة بين الفقهاء الدستوريين على مستوى العالم وبين القضاة والمحامين، تقدم أدلة إضافية على حقيقة ما نقول. وشيء من إشكال استخدام اللغة يعود إلى طبيعة تركيب (المخ البشري)؛ إذ إنه يتعامل مع اللغة الكمية والدلالات الرقيمة والإحصائية بكفاءة عالية، لكنه يُبدي الكثير من الارتباك حين يتعامل مع ما هو من قبيل اللغة الكيفية، فنحن نعبر عن الصدق والأمانة والشجاعة والاجتهاد والخمول والفرع والرضا... بتعبيرات كثيرة، يتلقفها الدماغ على أنها تعبيرات غير دقيقة وغير جادة وغير وافية، ولهذا فإنه يسمح لنفسه بتأويلها على نحو شبه احتياطي، مما يجعل التواصل العقلي والشعوري لدينا واهيًا وموضع تساؤل. ولا أعرف أي دواء حاسم لمعالجة هذه المشكلات، لكن يمكن عن طريق إعادة تكوين العادات الكلامية لدى الناس أن نحرز بعض التقدم على هذا الصعيد
مكافحة العماء (2)
د. عبد الكريم بكار 21/12/1427
11/01/2007
تحدثت في المقال الأول عن أن الإنسان يظل طيلة عمره يكافح من أجل رؤية الأشياء على ما هي عليه، ومن أجل الاهتداء إلى الأسلوب الأمثل في التعامل معها، واليوم أكمل الحديث عن أسباب هذه المعضلة وعن بعض ما يحسِّن من سوية التعامل معها عبر المفردات الآتية:(1/171)
1- عقولنا لا تتعامل مع القضايا والمشكلات وكل أشكال الموجودات على نحو مباشر وإنما من خلال تجسيدها في مجموعة من الصور المترابطة والناشئة عن الرموز والمصطلحات والتعريفات والتقسيمات والأحكام ذات الصلة بكل قضية من تلك القضايا... إن من الواضح أن شدة الذكاء وضخامة التحصيل العلمي والاحتراف المنهجي في البحث- لم تكن كافية في يوم من الأيام لقطع دابر النزاع حول أي مما ذكرناه، وعلى سبيل المثال فإن اختلاف الناس حول الكثير من (التعريفات) جعلهم يقفون عاجزين أمام حسم القضايا المرتبطة بها، وسأذكر هنا مثالاً سريعًا لذلك من خلال ذكر التساؤلات التي تدور حول تعريف (الالتزام) وتعريف الشخص (الملتزم): حين نقول: هذا مسلم ملتزم، فماذا يعني ذلك؟ هل يعني أنه يؤدي الواجبات والفرائض ويتجنب الوقوع في الكبائر والموبقات، أم أنه يعني أيضًا أداء النوافل وفعل السنن والمستحبات، واجتناب ما هو من قبيل المكروه والمرغوب عنه وخلاف الأولى؟ وإذا وقع الملتزم في كبيرة، فهل يخرجه ذلك من دائرة الالتزام؟ وإذا كانت التوبة من الكبيرة تعيد صاحبها إلى مصاف الملتزمين، فما الموقف من الذي يقع كل أسبوع في كبيرة ولا يلبث أن يُتبعها بتوبة؟ وكل هذا مبني على أن تعريف الكبيرة متفق عليه، وليس الأمر كذلك على ما هو معروف ومشهور! ونظرًا لغموض كل ذلك، فإن الناس يحاولون دائماً التشبث بأي شيء من أجل العثور على معيار يستعينون به على إصدار الحكم الملائم. وأنا أذكر كيف أن الناس في كثير من أصقاع العالم الإسلامي ينظرون إلى من أدى فريضة الحج على أنه قد بلغ مرتبة عالية جداً في التمسك والالتزام، ولهذا فإنهم يظلون يستهجنون منه الوقوع في أي مخالفة شرعية، ولطالما سمعنا من يقول: حاج، ويكذب! حاج ويأكل حقوق الناس! حاج ويسمع الأغاني!.. ولطالما رأينا من يغضب إذا لم تقرن اسمه بلقب حاج، لأنك بذلك تنزع منه وساماً عظاماً، أو تبدو في صورة المستخف به! وهذا كله مع أن شعيرة الصلاة أعظم حرمة عند الله تعالى من شعيرة الحج أو الزكاة.. ومع أن المحافظ على الصلاة يقوم بعمل عظيم، ويبذل جهداً مستمراً أكبر بما لا يقارن من الجهد الذي يبذله الحاج، لكن الناس نظروا –بحسب أمزجتهم واجتهاداتهم- إلى أن الحج يشكل فاصلاً كبيراً جداً بين تاريخين أو مرحلتين من مراحل العمر، ولهذا فإن الشخص بعد الحج يجب أن يكون شخصاً مختلفاً جداً عما كان عليه قبله!
ويختلف الناس في الملتزم من وجه آخر حيث ينعته بعضهم بأنه متعصب، وينعته آخرون بأنه متشدد، وينعته فريق ثالث بأنه منغلق، وأضاف الغرب في السنوات الأخيرة والحاطبون في حباله من قومنا، نعوتاً جديدة لمن عليهم ملامح الالتزام، ومن تلك النعوت: (إرهابي)، (متطرف)، (أصولي)، (ظلامي)، (رجعي)، (متخلف)... والعجيب أن كثيراً ممن يطلقون هذه الألقاب على المتدينين، يمتنعون عن مناقشتها والتداول في مدى انطباقها على من يمكن أن نسميه (المسلم الصالح) أو (المسلم الملتزم). وعلى سبيل المثال فإن الولايات المتحدة ترفض رفضاً باتاً عقد مؤتمر دولي من أجل تحديد مفهوم (الإرهاب) حتى يعرف العالم: هل ما يقوم به الفلسطينيون ضد اليهود هو من باب مقاومة المحتل أو من باب الإرهاب والعدوان على الأبرياء؟!
وهذا يعني ببساطة أن القوى النافذة تضر من دفع ضريبة وضوح المصطلحات والتعريفات، وتستغل غموضها للبطش بأعدائها، وهذه القوى قد تكون داخل البلدان الإسلامية، وقد تكون قوى مناوئة ومعادية لها.
قد تقول لي: قد عرفنا الداء، وعرفنا حجم العماء الرابض في هذا التعريف، فما العمل؟
الجواب يتمثل في الآتي:
أ - حين نضع تعريفاً لأي شيء، فإن من المتوقع أن يعبر ذلك التعريف عن مدى إحاطتنا بما نعرِّفه، وعن اعتقادنا فيه ورؤيتنا له وبما أن كل ذلك يتفاوت بين أمة وأمة وأحياناً بين شخص وآخر، فإن من غير المستغرب أن نجد لكثير من القضايا الإنسانية والأخلاقية والاجتماعية والحضارية عدداً من التعريفات المتباينة. وحين يوجد للشيء الواحد أكثر من تعريف فإن المجال يصبح مفتوحاً أمام الانتقاء والتحيز ومتابعة الأهواء وتمرير المصالح المشروعة وغير المشروعة. الخلاصة المستفادة من هذا هي أن الحسم الكامل للخلاف في التعريفات سيظل مفقوداً. وأن الاستغلال السيئ لذلك سيظل مستمراً.
ب - مصطلح (الالتزام) و (الملتزم) مصطلح جديد، حيث لا أعرف أن أحداً من السلف استخدمه كما نستخدمه اليوم، وهذا يعني أن تعريف الالتزام هو أيضاً جديد في هذا الحقل، ولهذا فإن علينا أن نتساءل ما المصطلح القديم الذي استخدمه السابقون في سياق الدلالة على الاستقامة الدينية. هل هو مصطلح (صالح) أو (تقي) أو (ورع)؟ أو ماذا؟ وإذا استطعنا إلحاق مصطلح (ملتزم) بواحد من هذه المصطلحات فهل نستطيع الاستفادة من مدلول المصطلح القديم في توضيح المصطلح الجديد؟ أو يكون الخيار هو إلغاء المصطلح الجديد؟ أو ماذا؟(1/172)
ج - أحياناً قد نستطيع التغلب على مشكلة غموض التعريفات والمصطلحات من خلال وضع التقسيمات والتنويعات، كما فعل بعض نابهي علماء العقيدة والأصول والفقه حين قالوا: هناك: نفاق عقدي ونفاق عملي، وهناك إيمان دون إيمان، وكفر دون كفر، وفسق دون فسق، ومن ثم فإننا نستطيع أن نقول: إن الالتزام درجات، وبذلك نكسر حدة الغموض والخلاف.
د - تفتيح الوعي الإسلامي على أهمية الوضوح في كل المسائل التي نبحث فيها فنتعلم كيف نصبر على بذل الجهد في تحديد المصطلحات والتعريفات، وتحرير مواضع النزاع، وذكر ما ليس مختلفاً فيه. وقد كان بعض علمائنا القدامى يذكرون عقائدهم في بدايات كتبهم، فليتنا نفعل نحواً من ذلك بذكر أكبر عدد ممكن من الأطر والمنطلقات والمفاهيم والمصطلحات والتعريفات والاحترازات التي تساعدنا على حصر دوائر النقاش في حدود ضيقة، كما تساعد من يسمعنا ويقرأ لنا على فهم تعبيراتنا بأقل قدر ممكن من الوهم والالتباس
مكافحة العماء (3)
د. عبد الكريم بكار 6/1/1428
25/01/2007
من المهم أن ندرك أن الأصل في الناس هو الجهل حتى يتعلموا، كما أن الأصل في أنماط تفكيرهم هو الاعوجاج والفجاجة إلى أن يدرّبوا أنفسهم على التفكير القويم، وقد صرّح القرآن بهذه الحقيقة الناصعة حيث قال –سبحانه-: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [سورة النحل: 78].
إن من الواضح جدًا أن الناس يكرهون العماء، ويكرهون الجهل بما يجري حولهم، كما تكره الطبيعة الفراغ، ولهذا فإنهم يسارعون إلى إصدار الأحكام وتقرير المسائل مهما كانت مرتكزاتهم المعرفية ضئيلة، وسطحية، وهم بذلك يزيدون الطين بلة، ويفاقمون المشكلة.
كثير من الناس لا يعرفون أن (العقل) من غير معرفة هباء، وأن الذكاء من غير معرفة جيدة لا يكون كافيًا لتشكيل التصوّرات الصحيحة وإصدار الأحكام الرشيدة... وهذا التوهّم يفسِّر جزئيًّا تقاعس كثير من بني جلدتنا عن القراءة واصطحاب الكتاب، وعن البذل السخي على التعلم واكتساب المعرفة. وهذه إشارات سريعة في هذه المسألة:
1- إن من معايير التقدم الحضاري مدى ما يتوفر لدى البلد من معطيات ومعلومات وأرقام وإحصاءات... ذات صلة بالحياة اليومية للناس، وذات صلة باهتماماتهم ومشروعاتهم المستقبلية. إنّ توفّر القدر الكافي من المعلومات والأرقام يحسِّن درجة الوعي لدى الناس، ويساهم في ارتقاء مستوى تفكيرهم، وهو إلى جانب ذلك يوفر لهم قدرًا من الأمان ضد الغش والتزوير والتزييف الذي ينتشر اليوم في كل مجالات الحياة، وعلى نحو لم يسبق له مثيل!
في الدول الفقيرة والنامية شح كبير في المعلومات، وذلك لأن بناء الهياكل المعلوماتية مكلف جدًا، ويحتاج إلى درجة من التنظيم ليست متوفرة لدى كثير من الدوائر والجهات والمؤسسات الحكومية والأهلية. وهذا الفقر المعلوماتي يشجِّع الكثيرين على الكذب واللعب بعقول الناس وخداعهم، وفي بلدان إسلامية كثيرة تتحكم الحكومات وموظفوها بإدارة المعلومات والإحصاءات، وفي ظل ضعف المسألة والمحاسبة الشعبية فإن موظفي الدولة يستطيعون نشر ما يريدون من أرقام، وحجب ما لا يريدون نشره على مقتضى مصلحة الحكومة ومصالحهم الخاصة، وهذا جعل الثقة بما يُنشر ضعيفة، وأحيانًا معدومة، وقد قال أحد الكتاب يومًا: إننا لا نحصل على أي أرقام صحيحة؛ حتى درجات حرارة الطقس هناك مَن يتلاعب بها! وهذا الكلام مع أنه لا يخلو من المبالغة إلاّ أنه يشير إلى الإحباط الذي يعاني منه كثير من الناس على هذا الصعيد. ومن هنا فإنه لم يعد من المستغرب ما يُلاحظ من ذلك الارتباط الوثيق بين تدني مستوى الشفافية والإفصاح وبين الرشوة والفساد الإداري والمالي وخراب الأخلاق والذمم، وإن التقارير السنوية لمنظمة الشافية الدولية، تضع معظم الدول الإسلامية في ذيل الدول على مستوى النزاهة والاستقامة الإدارية والمالية؛ وهذا على مقدار ما هو مخجل، محفّز لنا على التحرك من أجل فهم الأسباب الموضوعية والتفصيلية لذلك، ومحاولة معالجة تلك الأسباب.
2- لم يستطع علماء الأمة ومثقّفوها الشرعيون ودعاتها نقل الإنجازات الضخمة لعلماء الحديث على مستوى التثبّت والتدقيق في الأخبار والآثار المروية، لم يستطيعوا نقلها من الإطار (الأكاديمي) والتنظيري إلى الثقافة الجماهيرية العامة؛ إذ لا نجد إلاّ القليل من التحرّز تجاه تداول الشائعات والأخبار الكاذبة، وإلاّ القليل من التبصُّر في مضمون ما يتم تداوله ومدى وثاقته وصحّة نسبته إلى قائله، ولهذا فإن لدينا الكثير الكثير من الخرافات، والكثير من المعطيات اللينة التي لا تصمد في وجه أي تمحيص أو اختبار. إن العقل البشري في بنيته العميقة يقبل الخداع والتضليل على نطاق واسع، ولهذا فإن الأكاذيب التي يتم نشرها تؤثر في أحكامنا وطروحاتنا على نحو هو أكبر مما نظن، وهناك شريحة واسعة من الناس يمكن وصفها بأنها ضحية حقيقية للمراوغة اللغوية وصناعة الكذب المتعاظمة!(1/173)
ليس هناك من حل لهذه المعضلة سوى إيجاد ثقافة الاهتمام بالأرقام والإحصاءات، وعلى الجماعات والمؤسسات والجامعات الإسلامية أن تجعل من نفسها قدوة في الشفافية والإفصاح والصدق، فتؤسس أقسامًا للإحصاء والمعلومات تابعة لها، وتكون مستعدة لمناقشة ما يُقال حول المعلومات التي تنشرها. وعلى الدول أن تُلزِم الدوائر الحكومية والشركات والمؤسسات الخاصة بالقيام بنحو من ذلك. إن المعلومات مثل السياسة أكبر من أن تُسنَد إلى جهة واحدة، وإن وجود معلومات وأرقام واردة من جهات مختلفة، يساعد الناس على تشكيل رؤى معتدلة للقضايا الحياتية المختلفة، ويساعدهم في الوقت ذاته على النجاة من مآسي الأرقام المغلوطة.
3- من أمن العقوبة أساء الأدب، ومن أمن الفضيحة تمادى في السوء والرذيلة، هذه هي طبيعة الناس، وهذا هو حال كل الذين لا يجدون رادعًا من دين أو خلق متين. ومن الواضح أن ضعف النقد الثقافي والاجتماعي لدى الكثير من الشعوب قد جرّأ من لا يعرف على قول الخطأ والباطل، وشجع المنحرفين على المضي في طريق الانحراف. ومن هنا فإن تنشيط سوق النقد وتوسيع مجال حرية التعبير يشكلان نقطتين مهمتين على صعيد مكافحة تزوير المعلومات، والحد من الشائعات وسيطرة الرؤى الأحادية. إن الاستقامة المعرفية تحتاج إلى اعتماد أسلوب نقد الفكرة بالفكرة، ومقارعة المعلومات بالمعلومة، وتمحيص البحث بالبحث، ومواجهة الاقتراح باقتراح آخر.... وما لم يتم اعتماد هذا الأسلوب، فإن من المتوقع أن يستمر الإنتاج الثقافي الرديء، والقادر على طرد الإنتاج الجيد، ومحاصرته كما تفعل العملة الرديئة بالعملة الجيدة!
مكافحة العماء (4)
د. عبد الكريم بكار 24/1/1428
12/02/2007
السؤال الذي يطرح نفسه بعد كل ما ذكرناه هو: ما الذي يمكن لهذا الإنسان المسربل بالنقص والقصور أن يفعله من أجل فهم الأحداث والأشياء والأوضاع، ومن أجل تفسير وقائع الماضي، واستشراف اتجاهات المستقبل؟
لا شك في أننا نستطيع أن نفعل الكثير، كما أننا سنجد أنفسنا عاجزين عن فهم الكثير، وهذا مما لا جدال فيه؛ فالرشد المطلق والوعي الكامل والرؤية المحيطة ليس من شأن الإنسان الظفر بها، وذلك ببساطة لأنه ليس مؤهلاً لذلك في تركيبه العقلي واستعداده الفطري، فما الذي يمكن أن نفعله، أو ما ملامح ما يمكن أن نفعله؟
لعلي أشير على نحو موجز إلى بعض الأسس المهمة على النحو الآتي:
1) قد يكون من المفيد أن ننظر إلى معارف الناس وخبراتهم المتعلقة بأي قضية من القضايا على أنها ناقصة وغير ناضجة، وليس في هذا أي غمط لأحد، أو استخفاف بأي خبرة؛ فما من أحد يعرف شيئاً أو يدّعي الإلمام بشيء إلاّ وهناك من هو أدرى وأعلم منه، كما قال جل شأنه:( نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) [سورة يوسف: من الآية 76]. هذه النظرة الموضوعية لأهل العلم والخبرة تبيح لنا أن نتساءل ونناقش كل كاتب ومتحدث، وتبيح لنا أن نضع أفكاره وأطروحاته واجتهاداته على طاولة التشريح، ولِمَ لا والمفكرون والباحثون المتخصصون حين يخرجون علينا بشيء جديد، فإنهم في الحقيقة يعبرون على نحو ما عن وجهة نظر شخصية أو فئوية، ومن حقنا أن نبحث ذلك ونقدم وجهة نظرنا فيه. هذه الرؤية المنهجية للمعرفة تساعدنا على أن نكون شركاء في تطوير الفكر والعلم عوضاً عن أن يكون دورنا مجرد التلقي والاستسلام للباحثين والخبراء، وهذه النظرة هي نظرة الراسخين من العلماء وأهل البصيرة العارفين بعمليات تكوين الرأي، ورحم الله تعالى الإمام مالك بن أنس حين كان يقرأ قوله تعالى:(إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنَّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ) (سورة الجاثية: من الآية 32): عندما يفتي في بعض المسائل العويصة.(1/174)
2) نحن في الصحوة الإسلامية نحتاج من أجل مكافحة العماء إلى أن نصغي بتركيز شديد إلى ما يقوله عنا المخالفون لنا، ومن هم خارج دائرة الصحوة مهما كانت اتجاهاتهم ومنطلقاتهم، وذلك لأن الإنسان أي إنسان يرى الأشياء ويفسر الأحداث من أفق عقائده ومسلّماته وأفكاره وخلفيته الثقافية.. ونحن حين نستخدم كل ذلك في صياغة الرؤى الجديدة لسنا معصومين، ولسنا دائماً في أحسن أحوالنا، بل هناك قصور منهجي ومعرفي واضح لدى كثيرين منا، استماعنا باهتمام لما يُقال فينا وعنّا، ليس بسبب أننا غير واثقين من منطلقاتنا، ولكن لأننا نريد أن نوسع دوائر الرؤية لدينا، ونريد أن نستفيد من أدوات النقد والتحليل التي يستخدمها الآخرون، ومن الواضح في هذا السياق أن كثيرين منا حصروا اطلاعهم في دائرة الثقافة الشرعية والتراثية عامة، ولم يقرؤوا شيئاً ذا قيمة في علوم الحضارة والمستقبليات، ولم يطلعوا على كتب المنطق الحديث ولا على شيء من كتب الفلسفة الإسلامية وغير الإسلامية، ولهذا فإن طروحاتهم تكون محدودة بسبب ارتكازها على ألوان محددة من المعرفة، إنهم يفكرون داخل الصندوق، ولا يعرفون شيئاً مهماً عما يجري خارجه، مع أن الأحداث الجارية تتأثر إلى حد بعيد اليوم بتوجّهات القوى النافذة على الصعيد السياسي والإعلامي والاقتصادي، وكثير من تلك القوى لا ينتمي لا إلى العروبة ولا إلى الإسلام، نحن نعتبر معرفة الحقيقة هي الأساس في كل جهد إصلاحي ونهضوي، ويجب أن نحرص عليها حتى نستطيع وصف العلاج الناجح الناجع للواقع الإسلامي.
3) ثمة شيء أساسي على طريق وضوح الرؤية، وهو البحث المخلص والصادق عن الخطوط العريضة التي يتحرك فوقها الناس، ومحاولة فهم أكبر قدر ممكن من سنن الله تعالى في الخلق، ومحاولة فهم طبائع الأشياء التي فطرها الخالق سبحانه عليها، إن لكل مجال من مجالات الحياة سننه وقوانينه التي تحكمه، وله قيمه وأخلاقياته، كما أن له تداعياته وضروراته الخاصة به.. وفهم كل ذلك، يساعدنا مساعدة كبرى على تحصين أنفسنا وعقولنا من سيطرة الرؤى المبتسرة والمعلومات المزيفة والمزورة وسيطرة الرغبات والأهواء المضلة المضللة، وقد كان علي رضي الله عنه يقول:"رأي الشيخ ولا رؤية الصبي" أي أن حدس كبار السن وتخمينهم واجتهاداتهم أولى بالصواب والقبول من رؤية الصبي للأشياء بعينه، وما ذلك إلاّ لأن الخبرة التي لدى الشيوخ تمكنهم من امتلاك فهم أعمق للنظم والقوانين الكونية، وفهم أعمق للوضعيات التي أوجد الله تعالى فيها الأشياء، وعلى سبيل المثال فإن الذي نخافه على الشركاء هو البغي والعدوان، والذي نخافه على الفقراء هو الذل والهوان، أما الذي نخافه على الأغنياء، فهو الطغيان والاستعلاء، كما أننا نخاف على الوُعّاظ من الوقوع في الكذب والمبالغة، ونخاف على العسكريين من التفكير الحرفي، ونخاف على المفكرين من الجفاف الروحي وعلى العباد من التفكير الخرافي.. إننا نخاف على هؤلاء من الوقوع في هذه المشكلات؛ لأننا نعرف طبيعة هذه المجالات والاختصاصات والوضعيات، ومما يؤسفني على هذا الصعيد أن أقول: إننا لم نبذل إلاّ القليل من الجهد المطلوب لفهم هذه الأمور، مما أوجد لدينا قدراً غير قليل من الاضطراب المنهجي، مع أن المتأمل في آيات الذكر الحكيم يجد الكثير الكثير من الأنوار الهادية إلى السنن والدالّة عليها!
مكافحة العماء (5)
د. عبد الكريم بكار 4/2/1428
22/02/2007
لدينا اليوم عدد كبير من المؤشرات المعرفية، وكم ضخم من المعلومات المتعلقة بكل جانب من جوانب الحياة، وهذه الوضعية تمكن كل مدعٍ أن يقول الكثير مما يريد قوله، مما جعل معرفة الصواب والحق على جانب كبير من التعقيد، وليس لدى أحد من الناس حلول كاملة لذلك، لكن هناك محاولات ومقاربات جيدة، ومن تلك المقاربات السعي إلى فهم الأمور عن طريق(النماذج)، والحقيقة أن ما سنه الله -تعالى- من سنن في الخليقة بالإضافة إلى ما فطر عليها الأشياء من طبائع، إلى جانب تشابه كثير من ردود أفعال الناس على التحديات التي يواجهونها، إن كل ذلك يتيح لنا بناء(هيكل) من الأفكار والمشاعر والصور الذهنية والانطباعات ... نتمكن من خلاله فهم الأوضاع والأحوال في بلد من البلدان أو مؤسسة من المؤسسات... إننا في بناء ذلك الهيكل أو النموذج نستثمر المعلومات المتاحة في تكوين رؤية لحقيقة ما يجري على نحو استشرافي مجمل وحذر، فلا نغوص في التفاصيل، ولا نمضي مع الأقاويل والشائعات، ونعرف كيف نتعامل مع المعلومات الزائفة والمجازفة. وهذه بعض الأمثلة الشارحة لما نريد الوصول إليه:
السلوك المستعمر:
حين تقوم دولة بغزو دولة أخرى واحتلال أراضيها، فما المحددات العامة لسلوك الدولة الغازية؟
الجواب باستخدام (النموذج) وهو الآتي:(1/175)
تقوم الدولة الغازية بحملة إعلامية تهيئ النفوس والعقول لقبول الاحتلال، ولهذا فإن كل الحملات الاستعمارية تبدو في نظر القائمين بها مشروعة؛ فهي إما لاسترداد حقوق مغتصبة، وإما لنصرة حليف، وإما للوقاية من خطر محتمل، وإما استجابة لنداء استغاثة من بعض أهل البلد المغزوّ.... أعذار كثيرة تُستخدم بغية جعل شريحة من الناس -على الأقل- تقتنع بمنطقية الغزو أو الاستعمار. وهذا يهدف إلى إحداث جدل داخلي وخارجي يخفف من وحدة المعارضة ضد المستعمِر.
يحاول المستعمِر التحالف مع بعض أهل البلد المستعمَر من خلال توظيفهم في خدمته، ومن خلال منحهم بعض الامتيازات، أي تحويلهم من أناس يحملون روح المقاومة إلى أناس يجدون في استمرار المستعمِر فائدة لهم. ومن هؤلاء الحلفاء يكون الحكام المحليون والمرتزقة والجواسيس، وكل أولئك الذين يقومون بتلميع صورة المستعمِر.
يحاول المستعمِر إيجاد مادة يتحدث عنها الإعلام، ويتحدث بها أهل البلد المستعمَر، وتلك المادة تشتمل في العادة على صور من رحمة المستعمِر وعدله وإنصافه وتمدّنه ورقيّه، كما تشتمل على بعض المنجزات العمرانية، مثل الطرق والجسور والسدود وما شابه ذلك.
يسعى المستعمِر إلى التواري خلف بعض عملائه المحليين في الأمور المشينة، فيوكل إليهم إصدار بعض القرارات السيئة التي تثير حفيظة الناس، فيوكل إليهم كثيراً من أعمال التعذيب وفرض الضرائب، وذلك لخلق شعور ليرى الناس بأن مشكلتهم الأساسية ليست مع المستعمِر، وإنما مع بعض بني جلدتهم، وهذا يجعل أهل البلد مهيئين لخوض حرب أهلية، تضعف الجميع، وتجعل البعض يطلب النصرة من المستعمِر على أبناء بلده وإخوانه. ويستفيد المستعمِر من هذا فائدة جُلّى تتمثل في تراجع حدة المقاومة لوجوده، وفي شعور بعض أهل البلد بضرورة بقائه من أجل توفير الحماية لهم، أو من أجل الحيلولة دون مزيد من التدهور في الأمن والاقتصاد.
يربط المستعمِر الغازي بين أبناء النخب في البلد المستعمَر وبين مؤسساته الثقافية؛ فيوفد البعثات إلى جامعاته لتكون عبارة عن حوامل ثقافية من بلاده إلى بلادهم، وذلك من أجل تعزيز ارتباط المستعمَرين بالمستعمِرين، ومن أجل ضمان استمرار نفوذه الثقافي حتى بعد رحيله عن البلاد المستعمَرة، وهذا ظاهر جداً اليوم، فبعد مرور ما يزيد على نصف قرن على رحيل المستعمِرين مازالت النخب الثقافية في البلاد المستعمرة قبل رحيله (......)بتغيير ما يمكن تغييره من مناهج التعليم، ويُعلي من مقام لغته في المدارس والجامعات، كما أنه يربط أهل البلد المستعمَر بعقود واتفاقيات طويلة الأجل تضمن له الاستمرار في التأثير في أوضاع البلاد التي انسحب منها.
قد يقول قائل: ما ميزات (مكافحة العلماء العماء) عن طريق بناء النماذج؟
أقول الميزات كثيرة وعديدة ففي مثالنا هذا نجد الآتي:
أ-حسم ما يمكن أن ينشأ من خلاف حول تحديد ماهية تدخل دولة في شؤون دولة أخرى، كما هو الشأن في العراق وفلسطين حيث ترفض أمريكا وإسرائيل وصفهما بالمستعمرتين أو المحتلتين، وحين نفهم النموذج ونطبقه عليهما نجد أنهما دولتان مستعمِرتان بتوحش.
ب-فهم وتفسير أنشطة المستعمِر، فنحن من خلال فهم النموذج نستطيع فهم ونقد وتحليل سلوك المستعمِر، بل إننا نستطيع توقعه والتنبؤ به، وهذا يساعد أهل البلد المستعمَر على عدم الانجرار خلف المستعمِر، كما أنه يوحّد صفوفهم في مقاومته.
ج-الاهتداء إلى أسلوب معالجة ظاهرة الاستعمار ومعالجة أسبابها والنتائج التي تترتب عليها.
د-العمل على تحصين البلاد من دخول الاستعمار، أي تحسين أوضاعه حتى لا يكون قابلاً للاستعمار.
مكافحة العماء (6)
د. عبد الكريم بكار 18/2/1428
08/03/2007
ذكرت في المقال السابق ضرورة مكافحة العماء عن طريق بناء هيكل من الأفكار والتصورات والمعطيات المتصلة بسنن الله –تعالى- في الخلق وما نعرفه من طبائع الأشياء، وقلت: إنه يمكن أن نسمي هذه الطريقة في مكافحة العماء بطريقة الفهم بوساطة (النماذج)، وذكرت مثالاً لذلك يتعلق بسلوك المستعمر، ووعدت بذكر مثال أو مثالين من أجل توضيح الفكرة، وأنا الآن أنجز ما وعدت به:
الأخلاق والسلوكات الناجمة عن الزحام:
كيف يتصرف الناس حين يعيشون في مكان ضيق ومزدحم مدةً طويلة من الزمان؟
هذا السؤال يتعلق بإحدى الظواهر الاجتماعية المهمة؛ إذ إن من الملاحظ أن للمكان تأثيرًا كبيرًا في إبراز أنواع معينة من السلوك وإثارة أنماط محددة من المشاعر، وسيكون من المفيد جدًا فهم ذلك عن طريق (نموذج) واضح المعالم. وهذه محاولة صغيرة على هذا الصعيد:(1/176)
1- فطر الله -تعالى- الناس على حب التملك وحب الاستقلال، ولهذا فإنهم يحاولون الاستحواذ على أوسع مساحة ممكنة من الفضاءات المعنوية والمادية، فلا تكاد ترى شخصًا سويًا يبحث عن الدونية والمكانة المنخفضة، كما أنك لا تكاد تجد شخصًا سويًا يبحث عن مكان ضيق يقيم فيه، أو يبحث عن شخص يشاركه في المساحة المملوكة له. والذي يبدو أن هذا الميل ليس خاصًا بالإنسان؛ فهناك دلائل عدة، تشير إلى أن كثيرًا من الكائنات الحية، يسعى إلى امتلاك حيز خاص به، وينظر إلى من يتجاوزه على أنه عدو، تجب مقاومته. وقد ذكر بعض الباحثين أن بعض الأسماك يطلق رائحة كريهة من أجل منع أي كائن من الاقتراب من المساحة التي يعدها مجالاً حيويًا له!
2- هذا يعني أننا حين نضع عشرة من الرجال أو الأولاد في حجرة ضيقة يسكنها في العادة شخص أو شخصان، فإننا نعرضهم لصعوبات ومشاكسات، تشبه ما يتعرض إليه المساجين في دولة متخلفة! ما النموذج الذي يقدمه هؤلاء العشرة على الصعيد الخلقي والاجتماعي؟ في ملامسة الجواب يمكن أن نقول الآتي:
أ - سيشعر كل من في المكان بالضيق وشيء من الاكتئاب والملل، وذلك لأن هذه الوضعية مخالفة لما فُطر عليه الإنسان من بسط سلطانه ونفوذه على أوسع مساحة ممكنة. وقد دل العديد من الدراسات على أن الناس حين يعيشون في مكان واسع وأنيق يتبادلون فيما بينهم مشاعر أكثر حميمية، ويكونون أشد تعاطفًا. وحين يعيشون في مكان ضيق أو قذر أو فوضوي قد بُعثرت محتوياته، فإنهم يتبادلون مشاعر الضجر والتقزز والضيق.
ب - سيشعر كل واحد من سكان المكان أن الذين يساكنونه يزيدون في ضيق المكان، ويشكلون ضغطًا عليه، أي أن وجودهم غير إيجابي، ويتمنى لو كان عددهم أقل، حتى لو كان أولئك الساكنون أخيارًا وطيبين أو كانوا إخوة وأقرباء، فالناس عند ازدحام المصالح يقدمون مصالحهم في الأعم الأغلب، والإيثار هو الشيء القليل الذي يشبه الاستثناء والشذوذ.
ج - المنزل الذي يسكن فيه أولئك العَشَرة سيفقد قدرته على القيام بوظائفه؛ فالمكان ككل الأشياء يفقد الكثير من ميزاته ووظائفه إذا حمّلته فوق طاقته: الجلوس في ذلك المكان والنوم والحركة... كل ذلك سيكون غير جيد ولا مريح، وأماكن الخدمة الملحقة بالمنزل ستكون أيضًا في حالة سيئة...
د - سيتعرض كل مَن في المكان المشار إليه إلى امتحان صعب؛ إذ إن المطلوب منهم جميعًا أن يظهروا بمظهر المسرور المطمئن والراضي بما هو فيه، مع أن واقع الحال ليس كذلك، ولهذا فإن معظمهم سيخفق في هذا الامتحان، وستجد الأنانية والأثرة والمحاصّة والتبرم، وستجد التوتر والنزق... والسبب وراء كل ذلك أنهم لا يعيشون في وضع طبيعي بسبب عدم أهلية المكان لاستيعابهم.
هـ- في هذا المكان الضيق يحدث نوع من الانكشاف الثقافي المؤذي، فنحن نقدِّر بعضنا، ونتعاذر لعدد من الأسباب، من أهمها أننا نستطيع من خلال قلة الاحتكاك بيننا أن نحجب عن بعضنا بعض المواقف والوضعيات والتصرفات التي تعكر الصورة الذهنية التي رسمها كل واحد منا عن معارفه وإخوانه وزملائه... أما في هذه المعايشة الصعبة فإن قدرة السكان على الظهور بالمظهر اللائق على نحو مستمر ستكون محدودة؛ إذ إنهم سيفقدون الكثير من طاقتهم الروحية على التصنع والتجمل. ولهذا فإن كل واحد منهم -وهذا في الغالب- سيشعر أن التقدير المتبادل بينه وبين مَن حوله هو أقل من المعتاد والمألوف. وربما تقع بينهم عداوات يصعب في المستقبل تجاوزها.
و- قل مثل هذا في شأن ازدحام السيارات في الشوارع ولاسيما في أوقات ارتفاع درجات الحرارة؛ إذ يشتد نزق الناس حين انقضاء الإشارة الخضراء مرات عديدة وهم في أماكنهم لم يتحركوا إلاّ مسافات قصيرة، ولذا فإن من الصعب الالتزام بأنظمة المرور في حالات الزحام الشديد، حين يشعر الناس أنهم فيما يشبه حالة الطوارئ، ولذا فارتكاب المخالفات ليس شنيعًا!
ولك أن تقول مثل هذا في حالة الازدحام على الخدمات العامة؛ إذ إن من المؤذي جدًا للمرء أن يجلس على باب عيادة طبيب أربع ساعات وهو يعاني من الألم دون أن يحظى بالدخول. في هذه الحال يمكن للناس أن يستسيغوا دفع الرشوة واستخدام الوساطة والتحايل على بعضهم من أجل الدخول في وقت مبكر...
إن فهم هذا النموذج على نحو جيد يساعدنا على تقدير مخاطر (الزحام) والعمل على تلافيها، كما يساعد الآباء والأمهات على القيام بدورهم التربوي في حالة ازدحام مسكنهم الضيق بالكثير من الأبناء والبنات.
إن المزيد من الفهم يعني المزيد من الاقتصاد في الجهد والمزيد من التقدم، والله ولي المتقين.
============
#صياغة القوة
د. عبد الكريم بكار 2/7/1427
27/07/2006(1/177)
لاشك أن الوعي المسلم يمر بمرحلة عصيبة في هذه الأيام دون أن يرى سبيلاً عمليًا للخروج من الأزمة. في فلسطين شعب بأكمله يعاني من الجوع والذي والقهر والقتل اليومي وصعوبة الحركة وكسب الرزق.. ويتعرض لبنان للتدمير الشامل حيث يتم حرق كل شيء وتهجير الناس، وتعريضهم أيضًا للجوع في بلد تعوّد كثير من العرب أن يأكلوا من خضاره وفاكهته! هبَّ المسلمون كما يفعلون في كل مرة: مظاهرات في كل مكان، وهتافات واحتجاجات واتهامات، وفضائيات تعجّ بكلام المحللين السياسيين... والنتيجة: جمع شيء من المال لمواساة بعض المنكوبين. لكن اليهود حاصروا الشعبين، ومنعوا دخول أي شيء. وقد اجتمعت أموال جيدة لدى جامعة الدول العربية، وهي عاجزة عن إدخالها إلى المحتاجين إليها داخل فلسطين!! وضع صعْب للغاية، ومعظم الناس عاجزون عن فهمه واستيعابه، وعاجزون عن عمل شيء يشفي الصدور، ويخفف من الكروب. لعلي هنا أضع بعض العلامات في محيط هذه الحالة المأساوية، وذلك عبر النقاط الآتية:
1) هناك حقيقة قديمة وراسخة، نقول: حين يصطدم طرفان، فإن كل واحد منهما يستخدم أعظم ما لديه من قوة ونفوذ في سبيل تحقيق الغلبة، وفي ظل تحالف الغرب مع اليهود وسكوت قسم من العالم على ما يجري يجد القسم الثالث -وهم العرب والمسلمون- أنفسهم عاجزين عن عمل أي شيء. هذه الحقيقة يجب أن تكون واضحة تمام الوضوح، فالرادع الأخلاقي اليوم في أضعف حالاته، واليهود يخافون من أن يسجل أعداؤهم أي نصر حقيقي عليهم؛ لأن هذا يعني تصدع المجتمع اليهودي، وربما انهياره، لأن معظم أبناء ذلك المجتمع من جنسيات أخرى، وباستطاعتهم العودة إلى أوطانهم الأصلية في أي وقت، ولهذا فإن قادة اليهود في فلسطين يتبعون مع أعدائهم سياسة: "اسحق الذبابة بالمطرقة"، وهذا ما يفعلونه اليوم في فلسطين ولبنان.
2) الأزمات لا توجد مشكلات جديدة، بمقدار ما تعبِّر عن مشكلات قديمة، أي نتيجة مشكلات متراكمة، كما أنها تجلو للناظرين ما كان خافيًا عليهم من أمرهم، حين تأتي موجة شديدة من الحر، فإن بعض مرضى القلب يموتون؛ لأنهم لا يتحملون تلك الموجة، وليس لأنها أوجدت لديهم مشكلة جديدة، وهكذا نحن اليوم. حين نشرت بعض الصحف في الدنمارك وغيرها رسومًا تسيء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- هبّ العالم الإسلامي عن بكرة أبيه، وأظهر من نبل المشاعر ومن الولاء شيئًا مشرفًا وباهرًا، وحدثت مقاطعة واسعة للدنمارك، والآن هدأت العاصفة -وهذا طبيعي- ولم يبق منها إلا الأعمال التي تم تأسيسها من أجل المستقبل أو من أجل مواجهة أزمة جديدة حين نتعرض لأزمة خطيرة نتساءل: أنحن فقراء أم أغنياء؟ أنحن مترابطون أم متفرقون؟ أنحن أقوياء أم ضعفاء؟ أنحن أعزة أم أذلة؟.... وتأتي أجوبة لا حصر لها، وكثير منها متناقض. والجواب هو: أننا فقراء وأغنياء في آن واحد، كما أننا أقوياء وضعفاء أيضًا... وهنا تخطر في بالي المقولة الذائعة في بعض الأوساط الشعبية، عن المزارع والفلاح، وحالهما في الفقر والغنى، يقول الناس: الفلاح يعيش فقيرًا، ويموت غنيًا. وهم يشيرون بذلك إلى أن الفلاح يمتلك أرضًا، قد تساوي الملايين، لكنه يعيش على الكفاف بسبب أن الأرض لا تعطي من الإنتاج ما يتناسب مع قيمتها المرتفعة. هل ذلك الفلاح فقير؟ نعم لأنه -حسب الظاهر- مرتبك في تدبير قوت يومه. هل هو غني؟ نعم لأنه يملك أرضًا تساوي الكثير. هل يصحّ إعطاؤه من الزكاة؟ قد يقول الفقيه: مادام لا يملك النصاب، فإنه يصح إعطاؤه منها. والأرض التي في حوزته هي بمثابة المصنع، أو عتاد المهنيين... هذا هو وضعنا تمامًا، وهذا هو وضع الكثير من دول العالم النامي. وعلى مدار التاريخ كانت الدول التي تعاني من التخلف تملك الإمكانات والثروات والمواد الخام، لكنها تجد نفسها عاجزة عن استغلالها على النحو الأمثل.
3) هل نستطيع بعد هذا أن نقول: إن المشكلة التي تعاني منها أمة الإسلام لا تتمثل في أنها لا تملك المعطيات، بل تتمثل في أنها لا تملك إدارة المعطيات التي في حوزتها؟ وهل نستطيع القول: إن زماننا لا يعبأ كثيرًا بالقوة الكامنة، ولا يُعدّ ذلك شيئًا خطيرًا، وإنما يهتم بما تملكه الأمم من أدوات وأساليب تستخدمها في إخراج تلك القوة من مكمنها لتصبح شيئًا ملموسًا، وذلك لأن التقدم الحضاري يتمثل أساسًا ليس في إيجاد ما ليس موجودًا، وإنما في الاستفادة من الموجود عن طريق التصنيع والتطوير والتوجيه والتركيز... وإن قارة إفريقية تقدم ألف دليل على صحة ما نقول، كما تقدم دول محدودة الثروات والإمكانات مثل اليابان وسنغافورة واليهود في فلسطين ألفًا آخر من الأدلة على ذلك. إذن نحن في حاجة إلى أن نكفّ وقبل كل شيء عند التحدث عن الإمكانات الهائلة التي لا نعرف كيف نستفيد منها، ونتّجه عوضًا عن ذلك إلى الحديث عن كيفية الاستفادة من تلك الإمكانات في خدمة وجودنا وقضايانا وحل مشكلاتنا، وإذا لم نفعل ذلك، نستشعر بالمزيد من خيبة الأمل والمزيد من مرارة الذل والإنكسار.
صياغة القوة 2
د. عبدالكريم بكار 16/7/1427
10/08/2006(1/178)
شيء مهم أن نعتقد أنّ من سنن الله -تعالى- في الخلق أنّ هناك أشياء لا تُحصى تحتاج إلى صياغة، وإلى إعادة صياغة، وأشياء كثيرة أيضًا لا تُحصى تحتاج إلى تأهيل وإلى إعادة تأهيل. كل مادة خام تتحدّانا كي نخرجها في شكل ينتفع به الناس. القطن يتحدّى من يحوِّله إلى خيوط، فإذا صار خيوطًا، أخذت الخيوط تتحدّى من يحوِّلها إلى قماش، فإذا قبلنا التحدّي، ونسجناها، وصارت قماشًا، صار القماش يتحدّى الخياطين ليحوّلوه إلى ثياب تدفع عنا الحر والبرد، وتحسِّن مظهرنا، كما تستر عوراتنا، هكذا كلما نجحنا في تحدٍّ، وجدنا تحدّيًا آخر ينتظرنا، ومع كل نجاح نرتقي، ونتقدم، ونتخلص من عبء المواد الخام التي تشكّل مصدر استفزاز لأولي الألباب. هل تريد أن تعرف الفارق بين الأمم القوية والأمم الضعيفة؟ إذا كنت تريد ذلك، فانظر إلى ما يصدّرونه ويستوردونه: الأمم القوية تستورد المواد الخام، وتصنّعها، ثم تصدّرها في شكل سلع ومنتجات باهظة الثمن، يشترون المواد الخام بالقنطار، ويبيعونها في شكل حبوب ومعلبات صغيرة وقطع دقيقة ومتقنة... أما الدول الضعيفة والآخذة في النمو، فإنها على العكس من ذلك؛ إنها تصدّر المواد الخام، وتستورد السلع والآلات والتجهيزات... أي أنها تستورد ما صدَّرته بسبب عجزها عن تصنيعه.
الفرد المسلم هو القوة الهائلة الأساسية التي تحتاج إلى إعادة صياغة، أي يحتاج إلى تحويل من قوة كامنة إلى قوة ملموسة وفاعلة ومؤثرة، إعادة صياغة الفرد تستلزم الكثير من العمل، لكن يمكن أن نذكر بعض الملامح الأساسية في هذا الشأن:
1- الإنسان الحر هو الإنسان القوي؛ لأن الحرية تسمح له بأن يبرع وينطلق ويتعلم، ويعبر، ويتحمل المسؤولية، ومع أن معظم المسلمين في الأرض يعانون من قدر من القهر والإذلال والكبت -على درجات مختلفة- إلا أن كلمة (الحرية) تخيفنا أكثر مما تخيفنا كلمات (الظلم) و(العسف) و (الإكراه) و(الاستبداد) لماذا هذه الوضعية؟ لا أريد أن أدخل في متاهات صغيرة وفي تحليلات جزئية؛ لكن ربما كان ذلك؛ لأن كثيرين من أهل الغيرة يخشون من أن تؤدي الحرية إلى الفوضى وانتشار الإلحاد والفساد والعري وكل أشكال الانحلال. وهذا اعتراف صريح أو اهتمام بأن البيوت والمدارس لا تربي، وبأن الضمير والوازع الشخصي لدى الشباب، هو ما بين ضعيف ومعدوم، وأن ما نراه من الانضباط في الشوارع والأماكن العامة لا يعدو أن يكون الوجه الجيد من العملية، أما الوجه الرديء، فهو قابع في البيوت، حيث لا خوف من نقد الناس ولا من عقاب الله -تعالى- وإذا كان هذا صحيحًا، فهذا يعني أننا نعاني من نوع من السرطان القاتل الذي يدفع بصاحبه إلى مرحلة (اللاعودة) من غير أن يشعر بأي ألم!! لا أحد يسعد بأن يفهم الناس الحرية على أنها الفوضى، أو الخروج على الأخلاق والقيم والفضائل والثوابت، إنما المراد بأن يكون الأصل في سلوكات الناس وتصرّفاتهم وعلاقاتهم وتعبيراتهم ومواقفهم واختياراتهم هو الجواز، كما قالت القاعدة الفقهية الشهيرة: "الأصل في الأشياء الإباحة"، فإذا منع مانع شرعي واضح ومتفق عليه، أو كان تصرف الناس يضر بمصلحة وطنية عليا وواضحة، فإن على الدولة والمجتمع أن يتعاونا على منع ذلك التصرف. لا شك أن اعتماد هذا التوجُّه يستلزم الكثير من التطبيقات الجديدة والتغييرات المهمة، ولا شك أن بعض الناس سوف يستغلون مناخ الحرية استغلالاً سيئاً، لكن الأضرار ستظل أقل بكثير من شعور الناس بالاختناق وبالقيود الثقيلة، التي تجرّدهم من روح المبادرة وتحمّل المسؤولية، وتضعف لديهم الرقابة الشخصية، وتحوّلهم إلى أناس خائفين حذرين، يتجرّعون الهموم، كما يصبحون عبارة عن كائنات استهلاكية بامتياز! والنتيجة طبعاً مجتمعات ضعيفة وأمة مستخذية! إنك فعلاً لا تستطيع أن تبني مجتمعاً أقوى من مجموع أفراده، تماماً كما أنك لا تستطيع أن تبني من لبنات هشّة جداراً صلباً. لنعد إلى التربية في البيوت من أجل تأسيس شخصية (الطفل الحر) من خلال اعتماد أسلوب الرفق واللطف والحوار في التربية، ومن خلال معاملة الطفل على أنه كائن محترم، والعمل على أن يكون رجلاً كريماً ومسؤولاً وعزيزاً وصادقاً وأبياً.. في المستقبل.
2- لا يمكن للفرد أن يكون قوياً أو بداية مشروع لأمة قوية وعزيزة إذا كان جاهلاً. نعم من لديه علم قد يكون قوياً، وقد يكون ضعيفاً، لكن الجاهل لا يكون إلا ضعيفاً. نحن في هذه المسألة نعاني من مشكلة ذات رؤوس ثلاثة هي:
أ- إعراض معظم الناشئة عن القراءة، ونفورهم من الكتاب، وانصرافهم عن كل ما يشكّل اهتماماً معرفياً.
ب- ضعف أكثر المؤسسات التعليمية في كل المراحل؛ ولا سيما الجامعية.
ج- عدم وجود التنوّع الكافي في المعاهد والكليات العليا بما يلي حاجات الشباب الراغب في إكمال دراسته، وبما يتلاءم مع رغباتهم وظروفهم.(1/179)
وهذه المشكلة جعلت الارتقاء بنوعية الوظائف والمهن التي يشغلها الجيل الجديد أمراً صعباً، مع أن من الصعب اليوم الارتقاء بأمة من الأمم من غير جعل نسبة عالية من الوظائف على صلة بالمعارف المتقدمة والتقنية الدقيقة. الفرد القوي فرد حرّ ملتزم ومتعلم ومتدرب، وإذا استطعنا أن نحدث اختراقاً على هذين الصعيدين، فإن لنا أن نتفاءل بولادة أمة قوية وعزيزة.
صِياغة القوّة (3)
د. عبد الكريم بكار 30/7/1427
24/08/2006
المواهب الفطرية والقدرات الخلْقية التي زوَّد بها البارئ -عز وجل- بني البشر تكاد تكون ثابتة على مدى التاريخ. وقد ظل الناس في كل زمان ومكان يحاولون الاستفادة من تلك القدرات وتوظيفها وصقلها... لكن يبدو أن محاولاتهم كانت دائمًا تحقق نوعًا من النجاح النسبي والمحدود. وربما أمكننا القول: إن الناس كانوا يستفيدون من قدراتهم الكامنة على مقدار حاجتهم وعلى مقدار تطور وعيهم ومعارفهم؛ ولذا فإن استغلالنا اليوم لطاقاتنا يُعدّ –في الجملة وعلى نحو عام- ممتازًا إذا ما قسناه إلى ما كان السابقون يفعلونه، وهذا لا يحتاج إلى برهان. السؤال الذي أطرحه، وأحاول الإجابة عنه هو:
ما أكثر الأشياء تأثيرًا في تحويل القوى والقدرات الكامنة لتصبح مكونات قوية وظاهرة في أسلوب حياة جديدة؟
الجواب فيما أظن يكمن في شيئين: المكان الذي يعيش فيه الإنسان، والمهنة أو الوظيفة التي يكسب منها رزقه. وقبل أن أشرع في شرح هذين الأمرين أود أن أقول: إننا هنا لا نتكلم عن حالات فردية أو شاذة، وإنما نتكلم عن ظواهر ومعطيات ووضعيات عامة فقد نجد في البيئة المثقفة والراقية عناصر في منتهى السوء، كما أننا قد نجد في أماكن العمل المعقدة أشخاصًا غير مؤهلين، أو يفكرون بطريقة رديئة، أو يعملون على نحو تخريبي...
مكان العيش:
نعني بمكان العيش هنا تلك السلسلة من الدوائر التي ينفتح بعضها على بعض، وتؤثر على نحو ما في صياغة روح الإنسان ومشاعره وأفكاره وأخلاقه وعاداته... والتي تتمثل في الأسرة والحي والقرية والمدينة والدولة والإقليم. إن أضيق الدوائر هي الأقوى تأثيرًا، وهي الأسرة ثم الأوسع، فالأوسع. لكن ينبغي أن يُقال أيضًا: إن المرء يتأثر في بعض جوانب حياته بالمدرسة والجامعة التي يدرس فيها، وذلك على مستوى طرق التفكير وفهم الحياة والتطلع إلى المستقبل. إن للأسرة الدور الأكبر في رسم الخطوط العميقة في شخصية الطفل، لكن قيامها بذلك الدور على نحو يجعل منه شخصًا متميزًا، يحتاج منها إلى أن توفر جوًا تربويًا يختلف كثيرًا عن الأجواء السائدة لدى معظم الأسر الإسلامية اليوم. وأودّ في هذا السياق أن أبدي الملحوظات الآتية:
1- إن أول ما تحتاجه الأسرة المسلمة من أجل تنشئة جيل جديد هو الاعتقاد بأن التربية الناجحة لا تتحقق من غير اكتساب معرفة تربوية جيدة، فقد أُصبْنا في الأزمنة الغابرة بأفدح الأضرار حين اعتقدنا أن تربية الإنسان تتم على نحو تلقائي وفطري كما تتم تربية الحيوان في البراري، ولذلك فإن معظم الآباء والأمهات يبذلون الكثير من المال والجهد من أجل تهيئة أنفسهم لاستقبال المواليد الجدد، ويملك الكثيرون منهم العزيمة لإنجاب عشرة من الولد دون أن يخطر في بالهم شراء كتاب في التربية، أو سماع محاضرة أو شريط (كاسيت)، أو سؤال خبير من أجل معرفة الطرق والأساليب التربوية الصحيحة، ومعرفة نوعية القيم والمفاهيم التي ينبغي زرعها في نفوس الأطفال وعقولهم! لهذا فإن نشر الثقافة التربوية الجيدة يشكل أولوية كبرى على صعيد صياغة قوة الأمة.(1/180)
2- ينظر كثيرون منا إلى التربية على أنها عملية تعليمية، فهم يعتقدون أنهم إذا وضّحوا للطفل الخطأ من الصواب، فإن سلوكه سوف يتغير؛ لأن مشكلته كانت الجهل بذلك، وهذا غير صحيح؛ فالتربية في جوهرها عبارة عن تفاعل الصغار مع المعطيات الراسخة في بيئتهم، وليست عملية تلقين يقوم بها الكبار، أو عملية استفادة معرفية ينجزها الصغار. الأطفال يتفاعلون مع اتجاهاتنا ومشاعرنا وسلوكاتنا، ومع أسلوبنا في الحياة. ولعلي أقرّب المسألة عن طريق هذا المثال: لو كان أمامي نبتتان محتاجتان إلى الماء، وقمْت بسقي إحداهما دون أن أتكلم، أما الثانية فناشدتها أن ترتوي، وأن تكبر وتنمو، وحدثتها عن فوائد الماء وضرورة الانتعاش... ما النتيجة المتوقعة لذلك؟ النتيجة معروفة، وهي نمو الأولى وذبول الثانية. وذلك لأن الأشجار لا تتفاعل مع النصائح كيلا تيبس وتموت، وإنما تتفاعل مع الماء العذب. هكذا الأطفال يحتاجون إلى بيئة يتشربون مفاهيمها وقيمها وعاداتها الكريمة والعظيمة، ولا يغني عنها فصاحة الفصحاء ولا علم العلماء. ماذا يعني هذا الكلام؟ إنه لا يعني سوى شيء واحد هو: أن التربية الجيدة تحتاج إلى بيئة جيدة، والبيئة الجيدة تتطلب مربين جيدين. وأعتقد أن علينا إيقاف التداعيات والإحالات المترتبة على سوء أوضاعنا السلوكية عن طريق عقد العزم على شيء جوهري وعظيم، هو أن نجتهد ونحن نربي أبناءنا في تهذيب أنفسنا وإصلاح أوضاعنا الأسرية. إن الذي نحتاجه ليس الالتزام بآداب الشريعة الغراء والوقوف عند حدود الله -تعالى- فحسب، وإنما توفير البيئة الأسرية المدرسية التي تساعد الصغار على اكتشاف أنفسهم واستثمار نقاط التفوق لديهم،كما تولّد في نفوسهم روح الأمل والمبادرة وخُلُق التضحية والعطاء والمثابرة.
إن الطريق إلى إخراج الأمة من حالة (الوهن) التي أشار إليها حديث (القصعة) صار واضحًا، لكن نحتاج من أجل المسير فيه إلى الإخلاص والصدق والعزيمة، وإلى شيء من المعرفة بمتطلبات العيش في زمان كزماننا.
صياغة القوة (4)
د. عبد الكريم بكار 18/8/1427
11/09/2006
المكان الذي يعيش فيه الإنسان هو أسرته أولاً، والمدرسة والجامعة التي يدرس فيها ثانيًا؛ إذ إنه يقضي في المؤسسات التعليمية جزءًا مهمًا من حياته، وقد كنت أشرت في المقال السابق إلى أهمية الأسرة في صياغة الإنسان، وأتحدث اليوم –بحول الله- عن المؤسسة التعليمية على نحو موجز عبر النقاط الآتية:
1- من المهم ألاّ نفصل بين العمل التربوي الذي تقوم به الأسر في البيوت وبين العمل التعليمي والتربوي الذي يقوم به المعلمون في المدارس، مادام الجميع يعمل على إيصال رسالة واحدة، ويستهدف صياغة جيل جديد وفق مواصفات موحدة. إن مدارسنا لن تعمل على نحو جيد إذا لم تتلق الدعم من الأسر، من خلال سلوكها التربوي. وفي هذا السياق أود أن أشير إلى أن القضاء على الازدواجية في شخصيات الناشئة، يتطلب العمل الجاد والمستمر على صعيد تكوين (المجتمع العلمي). المجتمع العلمي ليس هو المجتمع الذي يبني المدارس والجامعات؛ إذ إن كل المجتمعات اليوم تفعل ذلك، إنما المجتمع العلمي هو الذي يحاول جعل سلوكاته في حركته اليومية قريبة مما يلقنه لصغاره في المدارس، فإذا كان يعلِّمهم الحرص على الصدق والعدل والنظام والنظافة والجدية... فإنه يحاول من خلال النظم والقوانين التي يسنّها، ومن خلال العادات والتقاليد التي يتمسك بها- يحاول تمثّل تلك القيم وتجسيدها في سلوكاته وعلاقاته. كما أن الناس في المجتمع العلمي يتجاوبون مع ما يلقّنونه لأطفالهم في المدارس فيما يتعلق بالرذائل والمعاصي والسلبيات، حيث الحرص على تجنب الكذب والظلم والفوضى والكسل والتسويف وخلف الوعد... وأعتقد أن هذا هو التحدي الأكبر الذي يواجه مجتمعاتنا اليوم.(1/181)
2- يتحدث المصلحون ومفكرو النهضة اليوم عما يمكن أن نسميه (المجال القائد) أي المجال الأكثر جدارة بالتركيز وباستثمار الإمكانات المتاحة فيه بسبب محوريته، وقدرته على قيادة باقي المجالات على طريق التقدم والازدهار، ويرى كثير من الباحثين في المجال الحضاري أن قطاع (التعليم) بكل مراحله هو أولى القطاعات بأن يكون نقطة الانطلاق، ومحل التركيز والاهتمام. وهذه الرؤية صحيحة؛ لأن هذا الكمّ الضخم من المعرفة المنظمة قد أتاح للتعليم مكانة فريدة على صعيد التغيير والإصلاح، بل إن كل مجالات الحياة من السياسة والاقتصاد إلى الصناعة والاختراع، إلى العلاقات الدولية... إن كل هذه المجالات لا يمكن اليوم إدخال تحسينات مهمة عليها من غير أشخاص متعلمين تعليمًا ممتازًا، يقومون بتحديد نظمها، وبعث الروح فيها، قد ثبت اليوم بما لا يدع مجالاً للشك أن التقدم المادي بكل أشكاله سيقف في نهاية المطاف عند حدود لا يتعداها، ثم يصير إلى التراجع، تمامًا، كما هو شأن أجسامنا. أما التقدم العقلي والروحي والفكري والخلقي، فلا حدود له يتوقف عندها، وليس هناك قيود تحدّد إيقاعه، وهذا ما ينبغي أن يعمل عليه التعليم في مراحله المختلفة. إن هناك من الدراسات ما يشير إلى أن البشرية لم تستخدم من طاقاتها الذهنية التي زوّدها الخالق –جل وعز- بها سوى 1% ! ولا شك أن بعض الشعوب لم تستخدم من تلك الطاقات سوى واحد في الألف أو واحد في العشرة آلاف!
3- لدينا إجماع بأننا لا نعلِّم بالطريقة التي ينبغي أن نعلم بها، وأسباب ذلك متنوعة تنوعًا كبيرًا، ولا أريد الخوض في هذا الأمر الآن، لكن أود أن نركِّز على بعض الإجراءات الأساسية والكبرى التي تساعد على تطوير المناخ العام للتعليم.
من هذه الإجراءات تشجيع القطاع الخاص على الاستثمار في التعليم، وتقديم الإغراءات له، مثل تقديم قطع كبيرة من الأرض من أجل تشييد المدارس والجامعات –مجانًا، ومثل تقديم قروض لا ربوية، وتقديم المشورة الفنية... لكن لابد مع هذا من أن تقوم الحكومات والجهات المانحة من وضع معايير صارمة وواضحة للجودة، مع ممارسة الرقابة المستمرة، وإلاّ تحوّلت هذه المهنة الإنسانية العظيمة إلى مجال يجذب الجشعين والمزوِّرين وكل أشكال الطفيلبين، كما هو حاصل الآن في كثير من البلدان؛ مع الأسف الشديد! لماذا لا نقوم بوضع معايير ومواصفات لأداء الجامعات والثانويات والمعاهد في المرحلة الأولى، وعلى أساسها يعرف الناس أن الجامعة التي يدرس فيها أبناؤهم هي الثالثة على مستوى البلد أو الأولى أو العاشرة... وقُلْ مثل هذا في الثانويات والمعاهد. إن مثل هذا التصنيف سيوجد حافزًا قويًا للرقي، وسيحمي الأهالي والطلاب من ألوان الخداع التي تمارسها بعض المؤسسات التعليمية. كما نجحنا في تصنيف الفنادق والنوادي الرياضية، فإن من الممكن أن ننجح في هذا. وقد سبقتنا أمم كثيرة إلى هذا، وقد أثبت نجاعته، وإذا كنا سنكِل تطبيق مثل هذا العمل لبعض الموظفين الوالغين في الرشوة والمال الحرام، فلنستعِن ببعض المنظمات والهيئات والمؤسسات العالمية ذات الخبرة العريقة، ومع ما في هذا من اتهام الذات إلاّ أنه يظل أفضل من الانتقال من مستنقع إلى مستنقع آخر!
4- لا تصبح المؤسسات التعليمية مكانًا جيدًا لصياغة القوة وتحرير الطاقات الكامنة من غير تعزيز التدريب وورش العمل وتحسين مستوى التفاعل بين الأساتذة والطلاب. والحقيقة أن المؤسسات التعليمية التي تقدم تدريبًا تعليميًا لدينا ضئيلة جدًا، والتي تقدم تدريبًا ممتازًا شبه معدومة، وهذا يعود أحيانًا إلى التكاليف الباهظة للتدريب، وأحيانًا إلى الفهم الخاطئ للأسلوب الأنجع في التكوين العلمي. حين يشرح طبيب حالة أحد المرضى لخمسين من طلابه، فإن لك أن تقول: إن الذين يستفيدون من ذلك الشرح هم في حدود العشرة، أما الباقون، فهم أشبه بالمتفرجين! وحين يتخرج طالب الإعلام، وقد قرأ الكثير عن النظريات الإعلامية لكن لم يمارس الكتابة الصحفية، ولم يتدرب في أي مؤسسة إعلامية، فإنه يكون الشبه بمن قرأ عشرين كتابًا في الإعلام، وهو في بيت أهله، لكن له ميزة الشهادة التي يحملها، وإن كانت موشّاه بالكثير من اليأس والإحباط! إذا كنا غير قادرين على الإبداع، فسيكون من فضائلها الاعتقاد بأن لدى الآخرين شيئًا يمكن أن نتعلمه، فهل نفعل ذلك
صياغة القوّة (5)
د. عبد الكريم بكار 12/9/1427
05/10/2006(1/182)
إذا تأملنا في واقعنا وجدنا أننا نملك عددًا جيدًا من الأشخاص المتفوقين على المستوى الفردي، وذلك لأن التربية في الأسر وفي المدارس تركز على النجاح الفردي، وليس على النجاح الجماعي، وهذا يشكل معضلة كبرى في زماننا؛ لأن النظم المعيشية التي ترسِّخها العولمة، تساعد على وجود الكثير من الضعفاء والكثير من المظلومين والمهمّشين، أي يكثر لدينا أولئك الذين لا تهتم بهم أي جهة حكومية، ولا يعرف الأفراد الغيورون كيف يساعدونهم، ومن هنا فإن صياغة القوة التي أفاء الله –تعالى- بها على هذه الأمة تتطلب ما يشبه الثورة الكبرى في إنشاء الأطر والجمعيات والمؤسسات والاتحادات والمنظمات الطوعية و(اللاربحية) التي تهتم بالارتقاء بمختلف جوانب الحياة، كما تهتم بمساعدة الناس الذين نسيهم الناس، وبالأمور التي لم يرتقِ وعي الأفراد إلى إدراكها والعمل من أجلها؛ ولعلي أشير في هذه المسألة المهمة إلى النقاط التالية:
1- من المهم أن ندرك أن الخلاص الفردي بين أمواج البشر الغارقين في الهموم والأزمات، وأن العيش في جزيرة معزولة في وسط محيط من البائسين والمحرومين –هو أمر غير ممكن في زماننا وفي كل زمان؛ فالهناء والازدهار والأمان والاستقرار إما أن تكون جماعية أو لا تكون، ولهذا نجد أن القرآن الكريم يشدّد حين يعرض لذكر النعيم الأخروي على معنى الحياة الجماعية في الجنة، على ما هو واضح ملموس، وإن الذين يحلمون بالتفرّد بالرخاء والسرور على حساب وجود أعداد كبيرة من الضعفاء والمجتهدين- هم من مرضى القلوب والنفوس، ومن ذوي الاضطراب العقلي؛ لأن ما يحلمون به غير ممكن التحقق، ومن المؤسف القول: إن الصيرورة إلى هذه الوضعية تكاد تكون حتمية بالنسبة إلى الجماهير العريضة، ما دامت الأطر التي تساعدهم على التخلص من التمحور حول الذات، غير موجودة، وفي بعض المجالات غير كافية. ومن المؤسف مرة أخرى أن الخوف لا يزال يسيطر على الكثيرين تجاه تنسيق أي جهد جماعي، في أي مجال وعلى أي صعيد، وكأن أبناء الأمة عبارة عن لصوص أو مجرمين، لا يكون اجتماعهم إلا شريرًا ومؤذيًا ومع أن بعض الناس هم كذلك إلاّ أن هؤلاء هم الشذوذ الذي يؤكد القاعدة، أما معظم المسلمين فإنهم توّاقون إلى بذل الجهد في سبيل الإصلاح وتحقيق النفع العام، ونشر الخير، وإعانة الضعفاء.
2- إننا في حاجة إلى ما يحمي أنفسنا من أنفسنا؛ إذ إن الفراغ الذي يشعر به كثير من الشباب، هو مصدر أساسي لحدوث الكثير من الانحرافات والجرائم، فالطاقة الغائضة التي لا تُوظّف بطريقة صحيحة تتحوّل إلى طاقة مدمرة لصاحبها، وتصبح سببًا أساسيًا للشعور بالتفاهة، كما أن العطالة والبطالة تولد الشعور باحتقار الذات.. ولهذا فإن حاجتنا إلى المؤسسات الخيرية لا تكمن في سد الخلات الاجتماعية فحسب، وإنما تكمن قبل ذلك في حماية المنتمين إليها من داء الأنانية، وفي مساعدتهم على تحقيق ذواتهم، وتلبية حاجاتهم إلى السمو الروحي والخلقي.
3- إن علينا أن نفرِّق بين ما يستحق لقب (مجتمع) وبين ما هو عبارة عن حشد أجساد، وُجد بسبب الضرورة من غير قيم ولا مبادئ ولا مقاصد... والمعوّل عليه في هذا التفريق هو حجم الشريحة التي تهتم بالشأن العام، وتقتطع من وقتها وجهدها ومالها ورفاهيتها جزءًا، تستخدمه في تخفيف لأواء العيش عن الآخرين، وفي الارتقاء بهم، ومن هنا ورد الكثير من النصوص المحفِّزة على فعل الخير وعلى البذل والعطاء والتضحية، وقد مثّلت ظاهرة (الوقف الإسلامي) على مدار التاريخ معيار تفاعل الأمة مع تلك النصوص، كما أن تفاعل أي مجتمع إسلامي مع الإرشاد الرباني لعمل الخير كان يشكل معيارًا لخيرية ذلك المجتمع واستقامته، ومن هنا فإنه ورد في بعض الآثار أنه ما من صحابي إلا وقد وقف شيئًا في سبيل الله: هذه امرأة وقفت شيئًا من حليها لتلبسه بعض المسلمات الفقيرات في المناسبات، وهذا رجل يقف ثوبًا، أو يقف فأسًا أو سُلمًا أو دارًا أو أرضًا.. إن مجتمع الصحابة –رضوان الله عليهم- هو أكرم مجتمع إسلامي، وهو في الوقت نفسه أكثر المجتمعات الإسلامية اهتمامًا بالصدقة والتطوّع والوقف ومساعدة الضعفاء وهو بالتالي أجدرها باسم (مجتمع).(1/183)
4- المرحلة التي تسبق ولادة المجتمع الجدير بلقب (إسلامي) هي المرحلة التي يولد فيها ذلك العدد الضخم من المؤسسات ذات النفع العام، وأهم تلك المؤسسات على الإطلاق تلك المؤسسات التي تساعد الإنسان المسلم على الارتقاء بروحه وفكره وثقافته، وهي مؤسسات محدودة جدًا في معظم المجتمعات الإسلامية، ونحن في الحقيقة نتشوف إلى رؤية مؤسسات قوية تهتم بإنعاش الجانب الروحي والخلقي في حياتنا؛ لأن هذا الجانب هو أكثر جوانب الحياة تضررًا من عمليات العولمة، كما أننا نطمح إلى رؤية المشروعات الوطنية العملاقة التي تحفز الناس على القراءة والبحث وتكوين النظرة العلمية للحياة والأحياء. ونحن كذلك في حاجة إلى إقامة المؤسسات التي تساعد الأسر الإسلامية على حل مشكلاتها التربوية المتصاعدة. ولست أريد أن أعدد هنا ما نحن في حاجة إليه من المنظمات والجمعيات الخيرية، لكن أود أن أؤكد على أن المسلمين في أمس الحاجة إلى أن يكونوا في وضعية، يكون انتماء الواحد منهم إلى ثلاث أو أربع مؤسسات ومنظمات خيرية هو القاعدة، وهو الأصل والمألوف، كما يكون وجود أفراد غير منتمين إلى أي منها هو الشيء الشاذ والغريب وغير المفهوم... وهذا يتطلب من الدول أن تحفز الناس، وتساعدهم على المساهمة في الارتقاء بالشأن العام، مع الاحتفاظ بحقها في الإشراف والرقابة والتنظيم، ولن ترى مثل هذه الأمنية النور إذا لم يكن لدينا عدد من الرواد الذين يعملون في الظروف الصعبة، ويفتحون الأبواب المغلقة، ويرسمون للناس ملامح الوضعية التي يجب أن يصيروا إليها، وأعتقد أن كثيرين منا يستطيعون أن يكونوا من أولئك الرهط العظيم والمنقِذ، لكن بشرط امتلاك شيء من التفتح الذهني والكفِّ عن احتقار الذات. والله الموفق.
صياغة القوة 6
د. عبد الكريم بكار 12/10/1427
03/11/2006
إن جزءًا مهمًا من صياغة قوة الأمة يتعلق بتقليل الهدر من الطاقة المتوفرة الآن، والحقيقة أن أمة الإسلام وعلى مدار تاريخها الطويل كانت تبدي نوعًا من الارتباك حيال منع الانقسام الثقافي والاجتماعي الذي ينتج عن أي حركة حرة في أي مجتمع؛ وقد كان الإخفاق في تخفيف التوتر الاجتماعي يؤدي إلى الاقتتال الداخلي والاحتراب الأهلي في بعض الأحيان، أما في أكثر الأحيان فإن هناك نوعًا من الحرب الباردة التي لا تكاد تتوقف على العديد من الأصعدة، وهذه بعض الملاحظات السريعة في هذا الشأن.
1- كثير من الأوقات والجهود يضيع هباء على مستوى أبناء الدعوة والصحوة بسبب الانشغال بأخطاء الآخرين، وتفنيد مقولاتهم، ومحاصرة نفوذهم، والكل يدّعي أنه من خلال جهوده، يحافظ على نقاء الإسلام وسلامة الوجهة العامة للدعوة... ونحن لا نحاسب الناس على نواياهم، ونعتقد أن معظم من ينشغل بالرد على إخوانه مخلص في مساعيه، ولا تنقصه الغيرة، لكن المشكل يكمن في منهج التعامل مع تعددية الرؤية والاختلاف الثقافة والبيئة والخلفية.
إن أبناء الصحوة الإسلامية في أي مجتمع مسلم باتوا يشكِّلون تياراً عريضاً للغاية، وصار لديهم بنى اقتصادية وتعليمية لا بأس بها، لكن تأثيرهم في نهوض مجتمعاتهم، لا يزال محدودًا وشيء من ذلك يعود إلى فرقتهم المنهجية والثقافية، وإلى المكايدات والمناكفات التي تجري بينهم، وإلى استغلال الخصوم لكل ذلك وتوظيفه في تشويه صورتهم وتفريق الناس عنهم وأعتقد أننا على هذا الصعيد في حاجة إلى أن نتشرب المفاهيم التالية:
أ - علينا أن نعترف بأننا نعيش حالة من الصدام بين أبناء الدعوات والحركات والتيارات الإسلامية، وأن هذه الحالة لا يمكن التخلص منها على نحو كامل، لكن يمكن أن نخفف الكثير من لأوائها وشرورها.
ب- الخلاف في وجهات النظر ليس شيئًا مقبولاً فحسب، لكنه شيء مطلوب، لأننا حين نحصل على خمسة حلول لمشكلة من المشكلات نكون قد ملكنا خيارات أكثر لمعالجتها، كما أن اختلاف الدعاة في تقويم الواقع وتشخيص العلل ووصف العلاج، يشبه عمل الأطباء، كما يشبه عمل الفقهاء، وكما أن من غير الممكن جمع هؤلاء وأولئك على رأي واحد في كثير من الحالات والمسائل، فإن من غير الممكن كذلك جعل المصلحين والدعاة والجماعات الإسلامية، يتفقون على رؤية واحدة لأوضاع الأمة، وعلى رأي واحد لأفضل الطرق لتحسينها.
جـ- إن أسوأ ما يمكن أن يجعل الاختلاف بين أهل الخير -ظالمًا وغير موضوعي- هو اتهام النيات، ومحاسبة الناس على مقاصدهم وخفاياهم. إن الله –سبحانه وتعالى- وحده هو الذي يعرف نوايا العباد ودوافعهم، وحين ندعي ذلك نكون قد تجاوزنا حدودنا إلى البغي والعدوان. ومن المؤسف أن كثيرًا من مجالس أبناء الدعوات، لا يكاد يخلو من اتهام الشيخ الفلاني أو الجماعة الفلانية بالوقوع في محظور، أو فعل ما لا يليق دون أن يكون هناك أي دليل أو برهان أو مستند! وهذا إن دل على شيء فإنه يدل على نقص في الديانة وقلة في الورع، وعلى الذين يفعلون ذلك أن يتذكروا أن الله –تعالى- سيسألهم عن ذلك وعن الآثار السيئة وأحيانًا المدمرة –التي ترتبت على طعنهم في بعض الرموز والعاملين في الدعوة-.(1/184)
د – شيء آخر سيِّئ واسع الانتشار في بعض المجتمعات الإسلامية، هو الإسراف في (التصنيف)؛ فهذا الكاتب سلفي، وذاك صوفي، والثالث إخواني، والرابع تحريري، والخامس موالي للسلطة، والسادس متعاطف مع هؤلاء أو أولئك... ويفعلون مثل هذا مع أئمة المساجد والخطباء وأبناء الجماعات والعاملين في المؤسسات والمنظمات الخيرية والدعوية... والمشكل هنا أن كل أبناء جماعة يكوِّنون صورة ذهنية سلبية عن الجماعة المنافسة، وحين يريدون تشويه صورة أي إنسان، فيكفي أن يقولوا: إنه من جماعة كذا، وبعدها يفسِّر كل كلامه وكل تحركاته على ذلك الانتماء المزعوم! والمتربصون بكل أبناء الدعوات يصبون الزيت على النار، ويساعدون كل جماعة على تشويه سمعة الجماعات الأخرى، حتى لا يبقى في الساحة الإسلامية مرجعية موثوقة، ولا يبقى داعية، يمكن أن يقود أعمالاً إصلاحية كبرى. هناك أشخاص كانوا ينتمون في يوم من الأيام إلى جماعة من الجماعات، ومنذ عشرين سنة اختلفوا معها، وتركوها. وهناك أشخاص مازال على علاقة مع بعض الجماعات، لكن علاقاتهم شكلية، وهم على خلاف واسع مع جماعاتهم، أضف إلى هذا أن بعض الجماعات الإسلامية الكبرى تشتمل على مدارس وتيارات، وبينها العديد من التباينات على المستوى التنظيري وعلى مستوى الحركة والممارسة؛ وليس من الصواب تجاهل ذلك. حاسبوا الناس على أقوالهم وأعمالهم ومواقفهم، وليس على انتماءاتهم، فذلك أقرب للموضوعية وأقرب للتقوى، وأنفع للجميع.
هـ- نحن بشر، ونفوسنا ليست زكية بالقدر الكافي، لذلك فقد يحسد بعضنا بعضًا، وقد نحمل على بعضنا بعض الرواسب القديمة، وبعض الأحقاد، وقد نتحسس من بعض الأمور التي لا تستحق التحسس، وقد نسيء فهم بعض العبارات، وتفسير بعض التصرفات كما أن وعينا بالمناهج الدعوية التي تميزنا عن بعضنا ليس كاملاً؛ وهذا كله يؤدي إلى الجفاء والقطيعة والفرقة، والمطلوب أن نعترف بوجود كل ذلك، وألا نُلبس تضارب المصالح والمنافسة على مناطق النفوذ ثوب الخلاف المنهجي، و ألا نبالغ في الأمر، فنجعل زلة المنافس عبارة عن نكبة تحيق بالإسلام وأهله.
و- حتى نخفف التوتر، فنحن في حاجة إلى أن نعمق لدى الأتباع ثقافية التعاذر والتسامح والفهم المتبادل، ولنعلم أن مناهجنا مهما تباينت فلن تجد أحدًا من خارج ساحة الصحوة أقرب إلينا من بعضنا لبعض، ولهذا فلنتق الله في الأمانة المنوطة بنا، وفي أعراض المسلمين، ولنكن دائمًا ممن يجمع، ولا يفرِّق، ويقرِّب، ولا يباعد ويهدِّئ ولا يثير، فذاك خير وأبقى
صياغة القوة (7)
د. عبد الكريم بكار 29/10/1427
20/11/2006
تحدثت في المقال السابق عن بعض الأمور التي تثير التوتر داخل التجمعات الإسلامية، وسأركز الحديث اليوم عن بعض ما يثير التوتر في الساحات الإسلامية عامة، وعن بعض ما يمكن أن تساعد على خفض ذلك التوتر. وأود أن أقول في البداية إن تاريخنا الإسلامي مملوء بالتوترات والثورات والمناوءات الخطيرة، ولم يكن ذلك من غر أسباب ومقدمات، ولاشك في أن الوضع الآن أفضل، لكننا نعيش في زمان يتطلب التقدم فيه درجة عالية من الأمن والسلام والاطمئنان والتواؤم والنظام، وهذه لا تتوفر من غير إصلاح كثير من الأمور, ومعالجة الكثير من المشكلات حين نتحدث عن الضروريات والحياة على أي وجهٍ كان، فإن ما يطلب من شروط يسيرٌ ومحدود ما دامت البهائم تجد سبيلاً للعيش، لكن حين نتحدث عن أمة عزيزة منيعة وحياة هانئة مزدهرة ومسلم ناجح مبدع مؤثّر، فإن ما نحتاج إليه من الشروط والأوضاع والأسباب سيكون شيئًا كبيرًا، وهذا هو الذي يحملني على الاستمرار في الكتابة وعلى الاستمرار في محاولة بلورة المفاهيم الحياتية المختلفة. ولعلي ألمس في هذا السياق المعاني الآتية:
1-إن اجتماع الناس بعضهم مع بعض يشكل مصدرًا كبيرًا للمؤانسة والأمان والتعلم.. لكنه في الوقت نفسه، مصدر للتوتر والنزاع والصدام، وما ذلك إلا بسبب ما بين العباد من الاختلاف في العقول الأمزجة والأهواء والرؤى والعادات والانتماءات والمصالح.. وبهذا يكون الإنسان هو أكثر من يُسعد أخاه الإنسان، وأكثر من يخيفه ويزعجه. وإذا صح هذا –وهو صحيح إن شاء الله- فإنه يتطلب أن نعمل بجد على توفير أرضية عريضة للتفاهم والمفاتحة، وأرضية عريضة للعدل والنزاهة والشفافية وإحقاق الحق ومقاومة الباطل.
2-إذا أردنا أن نحافظ على قوة مجتمعاتنا، وان نصوغها صياغة جديدة فلابد من أن نؤسس في تربيتنا وفي تعليمنا وفي علاقاتنا الاجتماعية لما يمكن أن نسميه (السلوك الأنيق) وهو السلوك الذي يملك صاحبه درجة عالية من رهافة الإحساس نحو الذين يحتك بهم، إنه يحسب حساب الكلمة والإشارة والموقف.. ويحاول أن يكون دائمًا في موقع المعطي والمحسن والمسامح والمتغاضي.. إنه يتنازل عن بعض حقوقه، ويمارس شيئًا من الضغط على نفسه في سبيل توفير شيء من الراحة والأمان لأولئك الذين يختلط بهم، ويعاملهم والنصوص الكريمة التي تشير إلى هذا المعنى كثيرة ومعروفة.(1/185)
3-الوضوح شيء أساسي في مسألة خفض التوفر وتوفير الاستقرار والازدهار؛ والحقيقة أن الغموض والالتباس يشكل قاسمًا مشتركًا بين جميع الدول النامية والتي تتطلع إلى النمو، هناك غموض في مفاهيم أساسية مثل: الالتزام والحرية والوطنية والانتماء والكرامة والتضحية والتعاون.. وهناك إلى جانب هذا قوانين كثيرة مكتوبة لكنها غير مطبقة، بل إلى جانبها قوانين عرفية، يُعمل بها على نطاق واسع... ومنها فإن المطلوب أكبر قدر ممكن من الوضوح في كل شيء، متى يتبين الصالح من الفاسد والمحسن من المسيء. إن الغموض الذي نعاني يكون في بعض الأحيان أحد نواتج التخلف، ويكون في أحيان أخرى مقصودًا حتى يتمكن أصحاب القوة الغاشمة والأطماع غير المحدودة من التحرك بحرية تامة، وهذا يوغر الصدور، ويوهن اللحمة الاجتماعية، ويجعل اغتصاب الحقوق أمرًا ميسورًا.
4-إن الناس يصبرون على القلة، ويكنّون كل مشاعر الولاء لأوطانهم مهما كانت مواردها شحيحة، وظروفها صعبة، لكنهم لا يرضون عن الفساد المتعمد، ولا يهنأ لهم عيش وهم يرون الظلم الفادح والعدوان السافر على الحرمات والحقوق؛ ومن المؤسف جدًا أن تقارير منظمة الشفافية الدولية تضع كثيرًا من الدول العربية والإسلامية بين الدول الأكثر فسادًا على حين أنها تضع أساتذة الجشع في العالم (اليهود) وعباد البقر في الهند في مرتبة أفضل بكثير، وهذه الوضعية فحجلة، وتكشف عن قصور هائل في الاستقامة الخلقية، وفي النزاهة والضبط الإداري، ولهذا فإن مكافحة الفساد وتضييق موارده وسالكه عن طريق حرية الصحافة واستقلالية القضاء واختيار أهل الصلاح للمناصب العليا، تشكل عوامل مهمة على طريق تخفيف التوتر داخل المجتمعات الإسلامية، حيث لا يحدث الحراك الاقتصادي، ولا الأمن الاجتماعي في بلد تضيع فيه حقوق أقوام جهارًا ونهارًا، ويأخذ فيه أقوام ما ليس لهم من غير خوف من أحد؛ وقد قال –عليه الصلاة والسلام-: "إنه لا قُدِّست أمة لا يأخذ الضعيف فيها حقّه غير متعتع". (حديث صحيح أخرجه ابن ماجة).
5-نحن نخشى من النقد ظنًا منا أنه يثير الفتن والقائل، وهذا صحيح في ظل عدم وجود نظم واضحة لمحاسبة المفترين ومدمني القذف والغمز واللمز، لكن حين يكون هناك نظام لمحاسبة المتحدث عن حديثه في إطار الأحكام الشرعية والأعراف الصحفية والإعلامية المعتبرة، فإن النقد لا يأتي بالفتن، وإنما يُصبح سيفًا مسلطًا فوق رؤوس الفاسدين والمرتشين والمجرمين؛ وإن كثيرًا من استقامة الحياة المالية والإدارية في الدول المتقدمة مدين لحرية التعبير وحرية الصحافة مع ما يصاحب ذلك من مشكلات لا تخفى إن الناس يخافون من الفضيحة، ويجب أن يظل الشعور من التلوث بها شيئًا حاضرًا في أذهانهم، وإلا فإن الذي سنشاهده سيكون قريبًا مما تعاني منه شرائح واسعة من مجتمعات العالم؛ والله المستعان في كل حال.
صياغة القوة (8)
د.عبدالكريم بكار 11/11/1427
02/12/2006
يخاطر كثير من الكتّاب والدعاة المسلمين بما تملكه الأمة من مواد خام وثروات وموارد طبيعية، وينظرون إليها على أنها من مكامن القوة الكبرى لدينا؛ وهذا الكلام حق، وإن كان لا يخلو من المبالغة، و وجه المبالغة فيه أنه يتجاهل بعض الحقائق المؤثرة في هذا الشأن، ومن تلك الحقائق تراجع دور المواد الخام في ثراء الأمم بسبب البدائل التي تأتي بها التقنية المتقدمة، وبسبب تعرّض تلك الثروات للنفاد عبر عقود محدودة، وتُقدّم (إندونيسيا مثالاً واضحًا في هذا السياق حيث أدّى ازدياد حاجتها إلى (النفط) وتراجع إنتاجها إلى إيقاف تصديرها لهذه المادة المهمة.
ومن تلك الحقائق ذلك العجز الظاهر لدى معظم الدول الإسلامية عن استغلال المواد الخام التي حباها الله –تعالى- بها فهي بسبب تخلفها الصناعي، تعتمد اعتمادًا كبيرًا على الدول المتقدمة في استخراج المواد الخام التي لديها وفي تصنيعها واستثمارها على الوجه الأمثل، وهذا يجعلنا نتحدث في هذا المقال عن الصناعة وأهميتها في قوة الأمة. والحقيقة أن مسألة التخلف الصناعي مسألة بالغة الحساسية للإنسان المسلم؛ إذ إنه ينظر حوله فيجد أن كل أو معظم ما بين يديه من مصنوعات هو من إنتاج أولئك الذين كانوا يستعمرونه في يوم من الأيام، أو من نتاج شعوب ودول له إشكالية معينة معها، وقد صار يشعر بالضآلة والعجز، بل وصل به الحال إلى اتهام نفسه بالغباء أو الإعاقة العقلية؛ لأنه لا يجد أي تفسير للحالة المزرية التي تعيش فيها الدول والشعوب الإسلامية، أليس من المؤسف ألاّ يكون لدينا إلى هذا اليوم سيارة عربية خالصة مع أن العرب يملكون العقول والأموال والأيدي العاملة، ومع أن دولاً صغيرة نسبيًا مثل كوريا تصنع اليوم العديد من أنواع السيارات إلى جانب عشرات الآلاف من أنواع المعدات والآلات المختلفة؟!(1/186)
والأمر يتجاوز هذا كله فنحن إلى هذه اللحظة نعتمد على الآخرين في طباعة المصاحف وتشييد المآذن؛ إذ لا نصنع آلات الطباعة ولا الرافعات المستخدمة في البناء. العالم الإسلامي لديه زيادة سكانية عالية، وملايين الشباب بل عشرات الملايين، يبحثون اليوم عن أي فرصة للعمل، فلا يجدون، والحل لن يكون في المشروعات السياحية التي يتهافت عليها رجال الأعمال اليوم، ولا في الزراعة أو في المواد الخام، وإنما هي التقنية والصناعة. وتتبوأ الصناعات المعدنية اليوم قمة الهرم بين الصناعات المختلفة، وتُعدّ مقياسًا رئيسًا للتقدم الاقتصادي والصناعي لدى الدول، وقد أثبتت بعض الدراسات المسحية التي قامت بها معاهد متخصصة أن كل مكان عمل في صناعة الحديد والصلب وصناعة المعادن غير الحديدية -يوفر ثمانية أماكن عمل جديدة في صناعات لم تكن لتوجد لولا أن هذه الصناعة تمدها باحتياجاتها من المعادن. وأنا لا أدري مَن سأخاطب بكلامي حول النهضة الصناعية؛ إذ إن معظم قرائي من الشباب الذين لا يملكون قرارات التحوّل الاقتصادي، ومن ثم فإني سأشير إلى أمرين، يمكن أن يثيرا اهتمام الشباب:
الأول: إن التقنية التي تناسب العالم الإسلامي ليست التقنية المتطورة جدًا، ولا الموافقة لأرقى المواصفات العالمية، ولا المصانع المجهزة بأحدث الآلات، وذلك لأن الأيدي العاملة لدينا وفيرة، ونحتاج إلى الكثير من فرص العمل، والمصانع المتقدمة جدًا عالية (الأتمتة)، ولهذا فإنها تحتاج إلى القليل من الأيدي العاملة، وهي باهظة الأثمان، وصيانتها معقدة، وقطع غيارها عالية التكلفة. نحن لدينا القليل من المال والكثير من الأيدي، كما أننا نحتاج إلى مصانع أقل تعقيدًا حتى يتدرب شبابنا على صيانتها، ومن هنا قامت دعوات في البلدان النامية إلى استخدام التقنية المناسبة، وهي قد تقتضي استيراد معدات مستعملة وإنشاء ورش جيدة لصيانتها، كما تقتضي ضغطًا كبيرًا للإنفاق على أشكال المباني وأثاثها والسيارات المستخدمة، وجعلها أقل جودة وأناقة، أضف إلى هذا القيام بإنتاج سلع غير ذات جودة عالية؛ لأن الجودة العالية تحتاج إلى مال أكثر وتقنية أعلى... والهدف من كل هذا تشجيع الشباب على إنشاء بعض المشروعات الصناعية ذات الكلفة المنخفضة من أجل وضع بلادنا على طريق التصنيع ومساعدة الأفواه الجائعة على أن تجد شيئًا تأكله. إن كثيرًا من الشباب يعزفون عن استخدم الآلات المستعملة بسبب نقص المعلومات والخوف من التورّط في شراء معدات تالفة، وهنا يبرز دور الدولة ودور مجالس تطوير الصناعة؛ إذ إن بإمكانها توفير معلومات جيدة عن نوعيات المعدات المستعملة وعن صيانتها، والبلاد التي يمكن استيراد أصناف معينة منها، ويمكن للدولة كذلك أن تجعل سوق الآلات المستعملة أكثر حيوية وتنظيمًا. لابد من اعتماد عقلية (البداية المتواضعة) ثم التطوير المستمر من أجل توطين التقنية، وإن كل الدول الصناعية والدول التي تسير في طريق النمو الصناعي بدأت بدايات متواضعة، ثم تحسّن مستواها شيئًا فشيئاً.
الثاني: هو المشروعات الصغيرة التي يمكن أن يقوم بها الشباب، ودورنا نحن الكبار أن ننشئ الأطر والمؤسسات التي توفر أكبر قدر ممكن من المعلومات والاستشارات عن المشروعات الصغيرة وتوفير الصناديق والمؤسسات المالية التي يمكنها مشاركة الشباب في مشروعاتهم أو تقديم القروض اللاربوية لهم، وعلينا أن نعترف أننا لم نبذل أي جهد في هذه السبيل! وعلى الشباب أن يتعلموا فضيلة الادخار من أجل الاستثمار، وعلى الأسر أن تنمي هذا المعنى في نفوس صغارها، وقد ذكر ابن الأثير في النهاية أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- سأل أحد أفراد رعيته عن حال الناس في الإقليم الذي جاء منه، فحدّثه عن جزالة عطاء الوالي لهم، حتى إن الواحد منهم يصرف المال فيما ينبغي، و لا ينبغي؛ وكان توجيه عمر لهم: "فلو أنه إذا خرج عطاء أحد هؤلاء، ابتاع منه غنمًا، فجعلها بسوادهم، فإذا خرج عطاؤه الثانية ابتاع الرأس والرأسين فجعلهما فيه، فإني أخاف عليكم أن يليكم بعدُ ولاةٌ، لا يُعدّ العطاء في زمانهم مالاً. فإن بقي أحد منهم أو أحد من ولده، كان لهم شيء قد اعتقدوه، فيتكئون عليه، فإن نصيحتي لك وأنت عندي جالس، نصيحتي لمن هو بأقصى ثغر من ثغور المسلمين".
ألا ما أشبه الليلة بالبارحة، وما أجدرنا بأن ننتفع بكلام أعظم رجل إستراتيجية في الإسلام
==============
#البنية العقلية
د. عبد الكريم بكار 26/9/1427
19/10/2006
في البنية العقلية العميقة لبني الإنسان أمور غير مواتية. ونظراً لعدم وجود وعي بها فإننا نستجيب لها، ومن خلال تلك الاستجابة نحصل على الكثير من النتائج السيئة. ومن ذلك -على سبيل المثال- الميل إلى رؤية السلبيات والعزوف عن رؤية الإيجابيات. وكأن هذا نابع من الرغبة الدفينة في النقد، أو هو نابع من عجز بنيوي في رؤية الأشياء الجيدة. ومهما يكن السبب، فإنه قد ترتّب على هذه الوضعية المختلة خلل آخر على مستوى المعالجة. وهذه بعض الأمثلة التوضيحيّة:(1/187)
1- في البيوت تعوَّد كثير من الآباء الصّمت المطبق، فهم لا يقومون بالتحادث مع أبنائهم، ولا ببذر بعض الأفكار الجيدة في عقولهم، ولا بتوضيح القيم والمثل السامية التي ينبغي أن يتشربوها. وربما كان ذلك منهم بسبب الاعتقاد بأن أمور أبنائهم تمضي على ما يُرام، وأنه ليس هناك شيء جديد أو زائد يمكن إيصاله إليهم. ويستمر الأمر على هذه الحال إلى أن يقع أحد الأولاد في مشكلة كبرى، أو يسبب لأسرته ما يشبه الفضيحة.
حينئذ تتفجر ينابيع الحكمة على لسان الأب، ويبدأ حملة كبرى من التقريع والتوبيخ واللوم، ويتمادى في ذلك إلى الضرب والطرد من المنزل..
لو كانت البنية العقلية للأب بنية إيجابية فلربما حدث العكس، وهو أن يتحدث في الأحوال العادية -أوقات الرخاء- بما يبني الاتجاهات الجيدة، وبما يرسّخ في نفسه القيم الإسلامية والمُثل السامية. إنّه يحاول أنْ يمدَّ جسور الثقة بينه وبين ابنه. ومن خلال هذه وتلك ينمو الوازع الداخليّ لدى الأبناء، وتسهُل المفاتحة بينهم وبين آبائهم، وبذلك يتمّ حفر خطوط متقدمة تحول دون وقوعهم في مشكلات كبرى. وإذا حدثت مشكلة فإن علاجها يكون سهلاً، ويكون طريق الأوبة معبّداً، ويجد الأب حينها أنه لا يحتاج إلى الكثير من الهياج ولا الكثير من الصياح.
2- بات من المعروف في كثير من المدارس أن المدير الجيد هو المدير الحازم الذي يضبط إيقاع الحركة في مدرسته، ويقضي على ما يمكن أن يظهر من شذوذات في ملابس الطلاب وهيئاتهم. ومع أننا لسنا مع التساهل حيال هذه الأشياء إلا أن الجهد الأساس لا ينبغي أن يُبذل فيها؛ لأنها ليست أكثر من أعراض للمرض، وليست المرض ذاته. إن الجهد ينبغي أن ينصبّ على بناء عقول الطلاب وبناء عواطفهم ومشاعرهم على النحو الذي يعمّق معنى الالتزام والفضيلة في نفوسهم ليكون صلاح المظهر شيئاً يعكسه جمال المخبر.
إنّ من المهم أنْ ندرك أن الأعمال الحضاريّة والإصلاحيّة الكبرى لا تقوم على المنع والحجر والتضييق، وإنما تقوم على العطاء والبذل والإبداع والمبادرة، وفي ظل ذلك تتم معالجة المشكلات التي تنشأ نتيجة الحركة والتقدم.
وإن كثيراً من انحرافات الأبناء والطلاب ما هو إلا صدى لنقص البناء، وصدى للفراغ الروحي الرهيب الذي يجتاحهم. الأعمال الإيجابية تدفع في اتجاه التفتح الروحي والذهني، على حين يدفع الحظر وفرض القيود في اتجاه الاختناق والذبول، وبينهما من الفرق ما يشبه الفرق بين الحياة والموت.
إن الضعيف اليائس المحاصَر لا يحتاج إلى ما يزيده ضعفاً، وإنما يحتاج إلى ما يحرّر طاقاته، ويحرّك المعاني الراكدة في ذاته. والمؤمن القويّ خير من المؤمن الضعيف وفي كلٍّ خير؛ كما قال الصادق المصدوق.
==============
#رمضان: فرصة للتجديد
د. عبد الكريم بكار 28/8/1427
21/09/2006
حظي رمضان باهتمام المسلمين في القديم والحديث وفي كل أرض من أرض الإسلام، وقد تجاوز استعداد المسلمين لاستقباله كلّ ما هو مألوف في التعامل مع العبادات؛ بل إن لدى المسلمين دوافع خفية لجعل هذا الشهر عبارة عن احتفالية كاملة، تُتوّج بأفراح العيد؛ وقد ذكر ابن الجوزي أن في مسلمي زمانه مَن إذا جلدْتَه حتى يفطر في رمضان ما أفطر، ومن إذا جلدْتَه ليصلي ما صلّى! إنها فعلاً مفارقة عجيبة؛ لكن يبدو لي أن كثيرًا من الناس ينظرون إلى الفطر في نهار رمضان على أنه نقص في الرجولة وضعف في الشخصية، ولهذا فإنهم يحرصون عليه هذا الحرص المميز. وهذه بعض الخواطر التي تتعلّق بهذه الشعيرة العظيمة.
1- شرع الله -تعالى- العبادات في الإسلام من أجل صقل الإنسان المسلم وتهذيبه، ومن أجل تدعيم صلته بالله -تعالى- فضلاً عن أنها أدوات ابتلاء واختبار، فمَنْ أدّاها على وجهها وبآدابها نجح وأفلح، ومن ضيّعها أضاع نفسه، وعرّضها لأشد العقوبات. هذا يعني أن علينا أن نتلمّس ما تتركه عبادة الصيام من تأثير في جوهر التديّن، والذي يقوم على الإخلاص وحبِّ الله -تعالى- ورجائه والشوق إليه والحياء منه، والسعي الصادق والدؤوب في تلمّس مراضيه، وإن الذي صام رمضان، وقام ليله، واعتاد ارتياد المساجد فيه، جدير بأن يشعر بأن تغييرًا جيدًا قد طرأ على ذاته، وأنه قد أعاد شحن طاقاته الروحيّة التي استنفد كثيرًا منها في الفترة الواقعة بين رمضان ورمضان. الذي أريد أن أقوله هنا هو: أن ثمرة الصيام يجب أن تظهر في حسن عبودية المسلم لله -عز وجل- على صعيد الرجاء والخوف والثقة والتذلّل والحب والولاء... إنه يشعر بمشاعر من كان تائهًا عن أهله وبيته، ثم وجده ووجدهم! ويجب أن تظهر ثمرة الصيام أيضًا على صعيد السلوك العملي من الالتزام بحدود الله -تعالى- والعمل بآداب الشريعة الغراء... إننا نريد أن نرى بعد رمضان تحسنًا يطرأ على رؤيتنا للدنيا والآخرة، أي أن تترجم حركتنا اليومية اعتقادنا بأن الدنيا مزرعة الآخرة.(1/188)
2- يؤسفني القول: إن معظم الوسائل الإعلامية، تقوم بتشويه الوجه الحقيقي لرمضان، وتغيير ملامح رسالته للأمة، وذلك عن طريق تصويره للناس بأنه ضيفٌ ثقيل، يحتاج مستضيفوه إلى الكثير من الترويح عن النفس حتى يستطيعوا تحمّل وطأته، وحتى يمر بسلام، مع أن الرؤية الإسلامية الأصيلة والموروثة نسبيًّا، هي أن هذا الشهر الكريم هو فرصة عظيمة لمن يوفقه الله -تعالى- لصيامه وقيامه؛ ومن هنا كان كثير من السلف يدعون الله -تعالى- ستة أشهر قبل قدوم رمضان أن يبلِّغهم رمضان، فإذا انتهى رمضان دعوا الله -تعالى- ستة أشهر أن يتقبل منهم صيامه. والتشويه الثاني الذي تقوم به وسائل الإعلام هو تصوير رمضان على أنه مناسبة كبرى وطويلة للهو والتمتّع بأصناف الأطعمة والسهر ولعب الورق وتجمعات المراهقين والشباب في الشوارع.. مع أن الذي نعرفه من أسرار مشروعية الصوم هو أن المسلم في رمضان يهذِّب نفسه من خلال حرمانها من ملذاتها وشهواتها، كما أن الجوع الذي يعانيه، يجعله يتذكر الجياع، فيبسط يده بالإحسان للفقراء، أضف إلى هذا أن الناس في رمضان يتناولون وجبتين في رمضان عوضًا عن ثلاث وجبات، وهذا يعني وجود نوع من التوفير فيما يُنفق على الطعام، مما يساعد على التصدّق، ومما ينعش رأس المال الوطني... لكن الواقع يشهد أن ما ينفقه الناس على المأكل في رمضان، يتجاوز ما ينفقونه في أي شهر آخر! هكذا يتم إجهاض الشعائر العظيمة، وهكذا يتم صرف المبادئ عن وجهتها الشريفة!
إنني أدعو نفسي وإخواني إلى تقليل مشاهدة التلفاز في رمضان إلى أدنى حد ممكن حتى يعود لرمضان ألَقُه، وحتى يعود كما كان فرصة للتنفّل والذكر وقراءة القرآن وبذل المعروف...
3- رمضان يصلِّب لدينا روح المقاومة، ويقوّي الإرادة والعزيمة، وينبغي أن نستفيد من ذلك في جعل شهر الصيام مناسبة لتغيير بعض العادات غير المرْضيّة واكتساب بعض العادات الحميدة؛ والحقيقة أن الذي يجعل الإنسان ملتزمًا ومتفوقًا ليس سوى صفات قليلة، كما أن ما يجعل سلوك الإنسان، يوصف بالسيّئ أيضًا ليس بالكثير، إنه يكفي أن يتخلص المرء في كل رمضان من عادة واحدة سيئة وإحلال عادة حسنة مكانها حتى يجد نفسه بعد خمس سنوات وقد انتقل من شخص سيّئ إلى شخص عادي، أو من شخص عادي إلى شخص جيد أو ممتاز، تصوّر معي شخصًا ترك في سنة عادة التسويف، وفي التي بعدها عادة الفوضى في التعامل مع الوقت، وفي ثالثة عادة المبالغة في الكلام، وفي رابعة عادة التأخّر عن صلاة الجماعة، وفي خامسة عادة جفاء الأهل والأرحام.. كيف سيكون حاله؟!
4- نحن نعيش في وضعيّة كونية جديدة آخذة في التشكل والانتشار، وهذه الوضعية، تُعطى فيها الأولويةُ للمحسوس على المعنوي، وللمباشر على غير المباشر، وللآني على الآجل، وللقوة على الرحمة، وللنجاح على الفلاح، وللمتغير على الثابت. إنها وضعيّة مخيفة ومقلقة حقًا، وإذا ما استمر الوضع على ما هو عليه الآن، فهذا يعني أن الأجيال القادمة ستنظر بعين الاستخفاف إلى كثير مما نعدّه الآن شيئًا عزيزًا وعظيمًا، والحل لهذه المعضلة لن يكون فلسفيًا أو إرشاديًا، وإنما هو حلٌّ عملي يقوم على أن نحيا رمضان كما كان المسلمون الأوائل يحيونه: صيامٌ عن الطعام والشراب وعن المعاصي والذنوب، وإحياءٌ لليالي المباركة وللأرواح والقلوب، وتقرّبٌ إلى الله -تعالى- بأصناف القربات، إن هذا وحده هو التعبير الحقيقي عن رفضنا للتحلّل الداخلي والغزو الثقافيّ القادم من كل مكان.
والله الموفق.
=============
#التعصّب (1)
د. عبد الكريم بكار 5/5/1427
01/06/2006
في الساحة الإسلامية العامة دعوة عريضة لتوحيد الأمة في كيان سياسي واحد، وفي ساحة الصحوة والدعوة هناك دعوة مماثلة لتوحيد العمل الإسلامي، أو على الأقل العمل على تقريب توجهاته ومناهجه، ولكن الواقع يشهد أن الاستجابة لكلتا الدعوتين تقترب من العدم، مع أن ولاء المسلمين قاطبة كان على مدار التاريخ للأمة، وليس للدولة القطرية، ومع أن لدى الإسلاميين الكثير من النصوص والمقولات التي تؤكد على وحدة الكلمة ونبذ الخلاف والفرقة، فلماذا لم تتحقق هذه التطلّعات؟
في البداية لا بد من القول: إنني لا أحكم هنا على مدى واقعية الدعوة إلى توحيد الأمة تحت لواء سياسي واحد، ولا توحيد الجماعات الإسلامية في أي بلد من البلدان الإسلامية تحت إمرة قيادة واحدة، فهذه مسألة تحتاج إلى نقاش معمَّق، لكن أود هنا أن أشير إلى مرض اجتماعي واسع الانتشار على صعيد الأمة بشكل عام، وعلى صعيد الجماعات الإسلامية على نحو خاص.
وهذا المرض والذي هو (التعصب) يشكّل عائقاً أساسياً أمام كل أشكال التقارب بين الأفراد والجماعات والشعوب والمؤسسات.. وذلك لأنه يكرِّس أسباب الفرقة، ويهدم ما هو موجود من أركان اللقاء والوحدة والتعاون. وهذه بعض الملاحظات الجوهرية في هذا الشأن:
للتعصّب علاقة لغوية بـ (العصبيّة)، ومعناها أن يدعو الرجل إلى نصرة (عُصبته) -أي قرابته من جهة أبيه الذين يتعصّبون له وينصرونه- والتألّب معهم على من يناوئهم ظالمين كانوا أو مظلومين.(1/189)
إن المتعصّب لشيء أو ضده يتسم بالعاطفة الشديدة والميل القوي، فهو في حالة التعصب لقومه أو جماعته أو وطنه أو أفكاره.. لا يرى فيما يتعصّب له إلا الإيجابيات والمحاسن، وفي حالة التعصّب ضد شيء مما ذكرناه، فإنه لا يرى المعايب والسلبيات، وهذا يعني أن المتعصّب مصاب بـ (عمى الألوان). والمتعصّب إنسان غارق في أهوائه وعواطفه، على مقدار ضعفه في استخدام عقله، ولا يعني ذلك أنه لا يفكر، إنه يفكر، ولكن الأفكار التي تتمحض تتمخض عن تشغيل عقله، يتم إنتاجها في إطار العواطف الجامحة التي لديه، وتكون مهمتها الأساسية ليس ترسيخ الاعتدال والإنصاف، وإنما التسويغ للميول والعواطف العمياء التي تغلي في صدر الإنسان المتعصّب!
لا يحبّ المتعصّب المناظرة؛ لأن التعصّب الذي لديه يوحي إليه بأنه على الحق الواضح الذي لا يقبل النقاش، لكن المتعصّب يحب الجدال بالباطل الذي يقوم على أسس غير موضوعية وغير عقلانية. والإنسان المتعصّب بعد هذا وذاك إنسان عجول، يُصدر الأحكام على الناس من غير فحص للأدلة والبراهين والأسس التي تقوم عليها تلك الأحكام، إنه مع قومه فيما يحبون ويكرهون، ومع جماعته فيما تقدم عليه، وفيما تحجم عنه، وهم في كل ذلك على صواب، ولا يحتاج ذلك إلى أدلة، على حد قول الشاعر:
لا يسألون أخاهم حين يندبُهم … …
في النائبات على ما قال برهانا
ومن لوازم التعصّب ومكوناته -بالإضافة إلى ما أشرنا إليه- الآتي:
الجمود؛ إذ إن المتعصّب يلازم الأفكار الموروثة حول ما يتعصّب له، فإذا كان يتعصّب لبلده، فإنه يحفظ كل ما قيل في فضائله بقطع النظر عن صحته، ولا يفتح عقله للتعامل مع المقولات الجديدة حول ذلك البلد؛ فهو بلد الصدق والأمانة والشهامة والكرم.. وإن كان الناس من حوله يلاحظون أن وجود هذه الفضائل نسبي، وأن بين أبناء بلده من ليس صادقاً ولا أميناً ولا كريماً...
من مكونات التعصّب ولوازمه التفكير غير المنطقي؛ إذ تنطمس الأسباب عند الحديث عن المشكلات، ويختل الربط بين المقدمات والنتائج، فإذا حدثت محنة عظيمة لجماعة المتعصّب فإن تلك المحنة ليست بسبب سوء تقديرها للأمور، أو بسبب أخطاء تربوية أو تنظيمية أو بسبب أخطاء إستراتيجية.
إن كل هذه الأخطاء لا يستطيع المتعصّب رؤيتها، ولهذا فالمحنة التي وقعت هي بسبب مؤامرة كبرى تعرّضت لها الجماعة أو بسبب وشاية من جماعة منافسة، أو بسبب عدم التزام بعض أبنائها بالتعليمات.. وحين يُنبَّه المتعصّب إلى أن السلوك الفلاني سيؤدي إلى كذا وكذا، فإن المتعصّب يفسر ذلك بالحسد والحقد والجهل؛ وذلك لأن في سلسلة المعقولات لديه حلقات مفقودة، لهذا فإنه لا يستطيع رؤية التداعيات المنطقية بين الأشياء.
التعميم المفرط داء وبيل يُبتلى به المتعصبون عادة، ونحن نقول دائماً: إن التعميم المفرط من أكثر أخطاء التفكير شيوعاً، وذلك بسبب عجز معظم الناس عن إصدار أحكام مبنية على رؤية تفصيلية منصفة، إن أي فضيلة تثبت لواحد من أفراد قبيلة المتعصّب، يعمّمها على باقي أبناء القبيلة، وإن أي رذيلة تثبت عن قبيلة منافسة يقوم بتعميمها على جميع أبناء كل تلك القبيلة، وفي هذا من الظلم ما لا يخفى. وهكذا فالمحاباة والتحامل صفتان أساسيتان لدى الإنسان المتعصّب، وهاتان الصفتان توجدان خللاً كبيراً في الشخصية، ولهذا فإن المتعصّب يكون في الغالب محروماً من التوازن العقلي والانفعالي الذي يتمتع به الأسوياء
التعصّب (2)
د. عبد الكريم بكار 19/5/1427
15/06/2006
نتابع في هذا المقال الحديث عن التعصّب الذي بدأناه في المقال السابق.
2- التعصّب حين يطول أمده، فإنه يؤثر في الشخصية تأثيرًا بالغًا، إنه يصبح عبارة عن مصنع للنظارات التي يرى المتعصّب الأشياء من خلالها، فهو في كل موقف يتعلق بمن يوجه التعصّب ضدهم، يفكر، ويفهم، ويدرك، ويعي، ويشعر، ويسلك ويتصرف ويحكم وفقًا للصورة الذهنية التي شكّلها عنهم؛ وعلى سبيل المثال فإن المتعصّب حين يعتقد أن القبيلة الفلانية قبيلة منحطّة في نسبها أو سجلها التاريخي أو مكانتها الاجتماعية الحاضرة، فإن نظرته إلى تصرفات أفرادها وأحكامه عليهم ومشاعره نحوهم، تتجسد في الآتي:
o إذا رأى واحدًا من أفراد القبيلة، فإنه ينظر إليه نظرة دونية، فهو غير جدير بالتفوق الظاهر، وإذا احتل منصبًا كبيرًا نظر إليه على أنه أصغر من أن يحتل ذلك المنصب، وإذا طالب بحق ثابت له، رأى أنه يبالغ في طلب ذلك الحق.
o إذا حدثت سرقة أو جناية، أو وقعت فعلة شنيعة، ولم يُعرف مرتكبها فإن المتعصّب يتهم واحدًا من أبناء تلك القبيلة -لا على التعيين- بفعل ذلك، ويبعد التهمة عن أبناء القبائل الشريفة والرفيعة.
o حين يقع ظلم على رجل ينتمي إلى قبيلة وضيعة فإن المتعصّب لا يجد في نفسه الحماسة للدفاع عنه ومناصرته، ربما لأنه يعتقد أنه لا يُعقل أن يكون مظلومًا، أو يعتقد أن من المؤكد أنه هو الذي تسبّب في إيقاع الظلم على نفسه.
o يحاول المتعصّب الابتعاد في معاملاته وعلاقاته الاجتماعية عن أفراد القبيلة المنحطة وذلك خوفًا من العار أو الأذى أو الخيانة.(1/190)
o ينظر إلى ابن القبيلة المنحطة على أنه غير موثوق في كلامه، ويفسر الغامض منه تفسيرًا سيئًا.
إن كل ما ذكرناه يتم من خلال الرؤية الاجمالية، ومن غير أدلة وبراهين يمكن الاعتماد عليها. وأنت ترى أنما أشرنا إليه يشكل في الحقيقة نوعًا من التمييز الشبيه بالتمييز العنصري الذي مارسه البيض في جنوب إفريقية، ويمارسه اليهود اليوم في فلسطين السليبة. إن التعصّب والذي يعزز التمييز بالصورة التي رأيناها يقسِّم أبناء الملة الواحدة إلى طبقتين متمايزتين: طبقة القبائل النبيلة ذات الحسب والنسب والتفوق والشرف وطبقة القبائل الدنيئة الوضيعة التي لا تمت إلى المكرمات بأي صلة!
وفي هذا من الحيف والظلم والنجس الذي تمقته الشريعة الغرّاء، حيث يقول الله -تعالى-: (ولا تبخسوا الناس أشياءهم، ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها) [الأعراف: 85]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إن أعظم الناس جرمًا إنسان يهجو القبيلة من أسرها، ورجل تنفَّى من أبيه" (رواه ابن ماجة). وقال: "لا يُؤخذ الرجل بجريرة أبيه، ولا بجريرة أخيه" (رواه النسائي).
3 – من الواضح من خلال ما ذكرناه عن التعصّب ضد (القبيلة المنحطة) أن المتعصّب يقوم بعملية (تنميط) لجميع أفراد القبيلة؛ فهم جميعًا لديه يتخلقون بأخلاق واحدة، ويفكرون بطريقة واحدة، ولهم تطلعات واحدة... وهذه العملية (التنميط) هي النتيجة الحتمية لعجزنا عن العيش في عالم واسع الأرجاء كثير التعقيدات، فنحن غير مهيئين للتعامل مع كل الأحداث الموجودة بشكل مباشر، ولهذا فإننا نعيد بناءها في نماذج بسيطة كي تصبح سهلة الإدراك. ومن المشاهَد أن (التنميط) يقوم على الاختصار والتعميم، فالجماعات الإسلامية –مثلاً- حين تحاول ملامح بعضها بعضًا، تعمد إلى (الاختصار): هذه الجماعة تشتغل بالدعوة، واهتمامها بالعلم الشرعي محدود، المثقفون فيها قليلون، وهي لا تشتغل بالسياسة، ولا تهتم بالجهاد (قتال الأعداء) ولديها بدع كثيرة. هذه السمات هي ما توصف به إحدى الجماعات الإسلامية العاملة على الساحة والمنتشرة في شبه القارة الهندية على نطاق واسع. الصفات المذكورة هي كل ما تتصف به في نظر الجماعات المتعصّبة ضدها والمناوئة لها. ولا يُذكر في العادة ما لديها من أعمال عظيمة في الدعوة، ولا يذكر ذاك العدد الضخم من الناس الذين تغيّرت أحوالهم إيجابًا بسبب دعوتها لهم.
بعد الاختصار يأتي التعميم، فكل من ينتمي إلى تلك الجماعة وسواء أكان من أعمدتها وأركانها، أو كان يتحرك في هامشها –كل أولئك يتسمون بالسمات العامة لتلك الجماعة، وعند معاملته ومناظرته وتقويمه... يُعامل وكأنه فعلاً متمثل لكل صفات جماعته، ومتشرب على نحو كامل لكل مبادئها و أخلاقها، ويحمل كل عيوبها ونقائصها... وإذا نظرنا إلى الواقع وجدنا أن في أفراد تلك الجماعة، من يمضي معها، وهو لا يعرف إلاّ القليل عن إيجابياتها وسلبياتها، ومنهم من يمضي معها، وهو يناقشها في بعض ما يُؤخذ عليها، وهذا موجود في الحقيقة لدى كل التجمعات والجماعات والأحزاب، بل هو موجود بين أفراد الأسرة الواحدة، حيث يظهر أبناء الأسرة أمام الناس، وكأنهم شيء واحد، مع أن بينهم الكثير من التباين والاختلاف. التعصّب يقوم على الاختصار المخلّ والتعميم المحجف، أي هو مولود لأبوين غير شرعيين، ولذا فإنه مذموم بمعايير الشرع والمنطق والإنسانية.
التعصّب (3)
د. عبد الكريم بكار 3/6/1427
29/06/2006
في هذا المقال من حديثنا عن التعصب سنتحدث بحول الله -تعالى- عن الأسباب التي تدفع الأشخاص والجماعات في اتجاه (التعصّب) على أمل تكوين ثقافة واضحة حول هذه العلة الأخلاقية والاجتماعية المنتشرة على نطاق واسع؛ ولعل من أهم تلك الأسباب الآتي:
1- الجهل سبب رئيس بين أسباب التعصب؛ إذ إن الشخص أو الجماعة أو القبيلة أو الحزب حين يجهل حقيقة ما عليه الآخرون فإنه يقع بسهولة فريسة لأحاديث المجالس غير الموثوقة والمتحاملة، كما يقع فريسة للدعاية المضادة، وتدل بعض الدراسات على أن الناس كلّما عرفوا أكثر وأكثر عن بعضهم خفّت حدة التعصب لديهم، وذلك لأن تلك المعرفة تظهر لهم زيف الشائعات المغرضة التي يتداولونها عن بعضهم من غير أي تثبّت؛ وفي هذا الإطار نفهم حكمة العديد من التشريعات والعبادات الإسلامية ذات الصبغة الاجتماعية، مثل: الحج وصلاة العيدين والجمعة والجماعة، ومثل الحثّ على التزاور وعيادة المريض، وصلة الأرحام، والتعاون على البر والتقوى.... والله –تعالى- يحثنا بطريقة واضحة على التعارف والتواصل حين يقول: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ). [الحجرات:13]. إن انتشار الذرية وتنوع الانتماء القبلي من الأمور التي تبعث على الفرقة والتناحر والتعصب، لكن القرآن الكريم يذكّرنا بثلاثة أمور أساسية:
أ – الناس مهما اختلفوا وتباعدوا، فإن عليهم أن يتذكّروا أنهم جميعًا من أب واحد وأم واحدة، فهناك دائمًا شيء مشترك.(1/191)
ب- هذا التنوع قد يُستغلّ للعداء والتجافي، لكن الله –تعالى- يريد من عباده أن يتخذوا منه أداة للتواصل والتآلف والتعارف على قاعدة "نختلف لنأتلف".
جـ- لا ينبغي لهذا التنوع أن يُتّخذ طريقًا للكبر وهضم الحقوق والشقاق، فالإنسان يكون أفضل من غيره بشيء من واحد، هو (التقوى). ومن التقوى رحمةُ العباد والرفق بهم وجلب النفع لهم.
2- يجد العنصريون والأنانيون ومحدودو الأفق في التباين الفكري والثقافي والعرقي... مرتعًا خصبًا لإنعاش التعصب وزيادة حدة الاختلاف. إن هؤلاء يجعلون من أنفسهم ومن مجموعاتهم محورًا أوحد، فكل ما لديهم هو الأصل، وكل ما لدى الآخرين ينبغي أن يكون صورة، وإلاّ تعرضوا للنبذ والعدوان والاضطهاد، مع أن الواقع يشهد أنه ليس هناك قبيلة ذهبت بكل المكرمات، ولا جماعة ذهبت بكل النجاح، كما أنه ليس هناك تيار أو مذهب ذهب بكل الصواب، ونحن نعرف أن أحد فقهائنا القدامى أطلق قاعدة ذهبية في هذا الشأن حين قال: "مذهبنا صواب، يحتمل الخطأ، ومذهب غيرنا خطأ، يحتمل الصواب" لكن الذي كان يجري – ومازال في معظم الأحيان – هو أن مدرسي كل مذهب كانوا مشغولين باستمرار ببيان فضائل مذهبهم والدفاع عن أصوله وفروعه دون ممارسة شيء ذي قيمة من النقد والمراجعة والتمحيص. ووقع في مثل هذا الجماعات وأحزاب وتيارات عديدة. إن النقد الذاتي يخفف من حدة التعصب، ويقلل من إمكانية استغلال العواطف المتاجرة بها، لكنّ هذا يحتاج إلى قدر كبير من الإخلاص والشجاعة الأدبية والرؤية الموضوعية.
3- تشتد حدة التعصب في المجتمعات التي فيها قوانين غير منصفة، وذلك كأن تنال طبقة أو فئة أو مجموعة امتيازات خاصة، دون بقية الناس؛ هذه القوانين تعمل على توليد ثقافة التعصب من أجل إيجاد منطلق لإقناع المحظوظين باستحقاقهم للامتياز، وإقناع المظلومين بأن ما يجري لهم هو شيء طبيعي، ومن هنا فإن الشريعة شدّدت كثيرًا على مسألة العدل ومقاومة الظلم. والحقيقة أن الفئة التي تنال ما ليس لها تُصاب بنوع من التشوّه في أرواحها وعقولها وأخلاقها، وهذا من عدل الله –تعالى- بين عبادة!
4- المنافسة على طلب الرزق تذكي نار التعصب، فحين يجد السكان الأصليون أن الوافدين إلى بلادهم صاروا يزاحمونهم على الأعمال والوظائف، فإنهم يسعون إلى إيجاد آلية لكسر حدة منافستهم، ويجدون في التعصب وسيلة جيدة لذلك، والمفروض لحل مثل هذه المشكلات النظر بعين الإنصاف للإيجابيات والسلبيات التي تترتب على وجود أولئك المنافسين، والسعي إلى إيجاد نظم وقوانين عادلة ومريحة تحكم وتنظم العلاقات بين الجميع، ولاسيما أننا نعيش في عصر العولمة حيث كل شيء يتداخل ويتواصل بوتيرة متصاعدة.
5- أحيانًا تتعصب جماعة أو قبيلة ضد جماعة أو قبيلة أخرى من أجل تقوية نسيجها وتقوية صفوفها، وهذا ما يفعله اليهود في فلسطين المحتلة، فهم يحتقرون العرب والفلسطينين خاصة، ويشنون الحروب المتتابعة من أجل تقوية الروابط الاجتماعية والأيدلوجية القائمة بين اليهود، ولاشك أن اللجوء إلى التعصب بوصفة مورد تضامن ينطوي على انحطاط أخلاقي، ويدلّ على فساد الأسس التي قام عليها الكيان أو التجمّع.
التّعصُّب (4)
د. عبد الكريم بكار 17/6/1427
13/07/2006
بعد أن تحدثنا عن ظاهرة التعصّب وعن أسبابه، آن لنا أن نتحدث عن سبل مقاومة هذه الظاهرة السيئة والمنحطة، وذلك عبر المفردات الآتية:
(1) التعصّب ليس شيئاً وراثياً، لكنه يُكتسب، ويُتعلم من البيئة المحيطة، وهذا يعني أن الإنسان كما يتعلم التعصّب، يمكنه أن يتعلم التساهل والتسامح. وقد دلت الكثير من البحوث والدراسات على أن الشعوب والجماعات تتغير اتجاهاتها عبر الأجيال، كما تتغير أنماط التفكير لديها، فالإنسان كائن يتعلم باستمرار، لكن الخلاص من العيوب لا يتم عن طريق المصادفة، وإنما عن طريق القصد والتخطيط والمجاهدة.
(2) للتخلص من أي ظاهرة نحتاج إلى تركيز الضوء عليها، بل نحتاج في الحقيقة إلى تشريحها. وظاهرة التعصّب من الظواهر الشديدة التعقيد؛ لأنها تقوم على عقائد وأفكار ومفاهيم راسخة ومترابطة، وذات مسحة منطقية أو نصف منطقية. ومن الواضح أن التعصّب يشكل نوعاً من حب الذات، ويشتمل على درجة كبيرة من الأنانية والتمحور حول النفس، وذلك لأن المرء يحب الذين يشبهونه، وينفر من الذين يتبين له أنهم مغايرون له، وهذا ينم عن غفلة شديدة أو وعي زائف، أو نفس مريضة!
(3) انتهت نظريات التفوّق العرقي والتي سادت فترة طويلة من الزمان، وعادت الأمم المتحضرة إلى المعيار الإسلامي في التفاضل، وهو الاستقامة والنفع العام والتفوّق في الأداء، وصار من الواجب علينا نشر هذا المعنى على أوسع نطاق.(1/192)
(4) كثيراً ما يقوم التعصّب على التعميم الخاطئ، فنحن حين نحكم على شعب بأنه أحمق أو كسول أو غدّار أو غبيّ.. نقوم بتعميم ملاحظة أو معلومة جزئية عن أفراد قليلين لنجعلها شاملة لأعداد كبيرة قد تبلغ مئات الملايين من البشر، وفي هذا من الظلم والتجني ما لا يرضى الله تعالى به، وما لا يليق بالإنسان العاقل والموضوعي الحريص على وضع الأمور في نصابها، ولهذا فإن مقاومة التعصّب تحتاج إلى تقوية الوازع الديني، والذي يدعو إلى التوقي من ظلم الناس، وإلى تدعيم التفكير الموضوعي والمحاكمة العقلية العادلة لدى الناشئة، وهذا من مسؤوليات الأسر في البيوت، ومن مسؤوليات المدارس ووسائل الإعلام.
(5) يدفع التعصّب في اتجاه العداوة والعزلة، ولهذا فإن كثيراً من التعصّب سببه الجهل وضعف الاتصال، ومن هنا فإن علينا التفكير في الوسائل التي تساعد على الاتصال الفعال، والوسائل في الحقيقة كثيرة منها:
أ - الحوار وتبادل الأفكار، ومناقشة القضايا والمشكلات التي تثير التعصّب، وتلك القضايا كثيرة، فقد تكون المعتقدات والمفاهيم الخاطئة عن أولئك الذين يجري التعصّب ضدهم، وقد يكون التنافس على طلب الرزق، وقد يكون سيطرة فئة على بعض القطاعات أو بعض الموارد.. إن الحوار يكون أشبه بفتح جرح التأم على فساد، فتح الجرح مؤلم، ولكن حتى نطهّره لا بد من تحمل الألم.
ب - فِرَق اللعب تساعد في تعريف الشباب على بعضهم، وهذا واضح جداً في الألعاب ذات الصبغة العالمية؛ إذ يتم اختيار الأكفأ لتمثيل البلاد بقطع النظر عن لونه ودينه وعرقه، وكم رأينا من مشاعر الجماهير الإيجابية والحميمة تجاه لاعبين ينتمون إلى فئات لها مشكلة مع تلك الجماهير!!
ج - للتعليم دور أساسي في التخفيف من مشاعر التعصّب عن طريق الاتصال الفعّال، وقد قامت بعض الدول التي تعاني من العنصرية باتباع سياسات تعليمية بنّاءة في هذا المجال، وعلى سبيل المثال فقد كُلّف الطلاب بإجراء بحوث متنوعة على أن يقوم بعض الطلاب السود بكتابة جزء من البحث، ويقوم الطلاب البيض بإكماله أي لا يكتمل البحث إلاّ من خلال تبادل المعلومات والتحدث حول منهج البحث بين الطرفين.
د - الاتصال الفعّال المؤثر، هو اتصال عفوي حر بعيد عن الرسميات، وهذا يتحقق خلال اللعب والبحث والتسوّق والاختلاط بين الجوار.. لكن لا بد مع هذا من شيء مهم جداً هو عدالة القوانين؛ إذ إنّ كثيراً من الفوقية والنرجسيّة والتميّز الأجوف يأتي من وراء القوانين الظالمة التي تمنح فئة أو فئات من الشعب امتيازات لا تستحقها، وقد ثبت أن للقوانين قدرة فائقة على توليد الثقافة التي تمنحها الشرعية، وتضفي عليها المنطقية والانسجام. العدل يدفع في اتجاه الإخاء، والظلم يدفع في اتجاه التعصّب والتنابذ والعدوان. هذه حقيقة راسخة، يجب أخذها بعين الاعتبار.
(6) تسليط وعي الناس على التناقضات الأخلاقية التي سبّبها لهم التعصّب؛ إذ إن كثيراً من الذين يتعصّبون ضد غيرهم يؤمنون بالعدل والمساواة وكرامة الإنسان، ويحفظون الآيات والأحاديث والأقوال التي تدل على ذلك، لكنهم لا يستفيدون منها شيئاً، وهم من وجه آخر، يحبون من غيرهم أن يعاملهم على أنهم بشر أسوياء محترمون، لكنهم لا يفعلون ذلك مع الآخرين. إن توعية الناس بهذه المعاني على نحو مستمر، قد تساعد فعلاً في تخفيف غلواء التعصّب.
(7) نشر الروح الإيجابية والتفكير الإيجابي مهم أيضاً على هذا الصعيد؛ إذ إن على المسلم أن يركز على رؤية الإيجابيات، وعلى ما لدى الناس من فضل وخير، ويتعلم غضّ الطرف عن النقائص والهفوات، فذلك أسلم لقلبه وأفضل لدينه، وأعون له على مواجهة مشاق الحياة.
إن التعصّب مرض عُضال مزمن، عانت منه البشرية على امتداد تاريخها الطويل، وما زالت تعاني، وستظل تعاني، ولهذا فإن المطلوب ليس استئصال شأفة التعصّب وإنما التخفيف من لأوائه، وهذا يحتاج إلى علاجات مركبة وعلى النفس الطويل.
والله الموفق.
=============
#جزء من كل
د. عبد الكريم بكار 6/4/1427
04/05/2006
يحكم وجودنا وشؤوننا مجموعة كبيرة من النظم المتشابكة والمتداخلة، وتلك النظم تمنح في التحليل النهائي الحياة البشرية طبيعتها العامة. إن من المهم ونحن نحدد المواقف وآليات العمل في أي مجال من المجالات أو مشروع من المشروعات أن ندري أن ما نريد معالجته يخضع لنوعين من النظم: نظم تحكمه بوضعه شيئًا ذا مواصفات محددة وشخصية مستقلة، ونظم تحكمه بوصفه جزءًا من ظاهرة أكبر، أو بوصفه شيئًا سيتأثر ببيئته وبعوامل أخرى خارجة عن طبيعته. إننا حين نمتلك مثل هذا المدخل لفهم الأمور بوضوح، نكون قد بدأنا بامتلاك ما نسميه (الرؤية الشاملة للواقع) وهذه الرؤية ضرورية للغاية، إذا ما أردنا أن نفهم المحفزات والمساعدات الإضافية التي يمكن أن تأتينا من هنا وهناك، وأن نفهم الانسدادات والتأزمات الخفيّة التي تعترض سبيلنا، ولعلي أضرب بعض الأمثلة التي توضح هذه القضية.(1/193)
1- هناك اتفاق بين أمم الأرض على أهمية القراءة ومجالسة الكتاب، لكن الواقع يكشف تباينًا كبيرًا بين شعب وشعب؛ فقد ذكرت بعض الدراسات أن متوسط القراءة في اليوم لدى العربي، هو في حدود ست دقائق. على حين أن الأوروبي يقرأ وسطيًا في اليوم حوالي ثمانٍ وثلاثين دقيقة. هذا مع أننا أمة (اقرأ) وأمة التراث الذي دعا إلى الاهتمام بالكتاب والعلم والعلماء. لماذا يحدث هذا؟
إذا نظرنا إلى القوانين الداخلية التي تحكم قضية القراءة، فقد لا نجد فوارق تذكر بين العربي والأوروبي، الكل يدرك أهمية القراءة، وعلى الجميع بذل جهد معين من أجل الاستمرار فيها، لكن الذي يصنع الفرق، هو البيئة والنظم الخارجية. إن الإنسان على مدار التاريخ لم يجد مشكلة في الاستجابة للمحفزات والدوافع الأساسية، فالكل يحاول الحصول على ما يحميه، ويؤمِّن له الاستمرار في الوجود؛ لكن المشكلة التي طالما واجهها الإنسان هي الاستجابة للدوافع والحاجات الثانوية، مثل القراءة وتدعيم الذات والتفوق وتهذيب النفس، وما شاكل ذلك، نحن نعرف أن الجلوس ساعة من زمان من أجل قراءة كتاب يحتاج إلى شيء من راحة النفس وراحة الجسد، أي إلى (مزاج) مواتٍ لاستخدام العقل وبذل الجهد من أجل الحصول على معرفة، قد لا نعرف في أحيان كثيرة ماذا نصنع بها، ولا كيف نستثمرها. ومن ثَمّ فإن الناس لن يقبلوا على الكتاب إلا من خلال وجود دواعٍ ومحفزات خارجية، وفي هذا السياق نجد شيئًا يستحق الاهتمام، وهو أن الدول التي سجل أبناؤها ساعات طويلة من القراءة سنويًا، هي دول وفرت عددًا كبيرًا من الوظائف التي تتصل بالجهد العقلي، وتوفر الجهد الفصلي، أي أن جزءًا مهمًا من اقتصادها، يقوم على المعرفة والبحث والتطوير والتعليم. إن الذي يكسب رزقه عن طريق عمل غير مجهد بدينًا، من جهة، ويجعله على صلة بالمعرفة من جهة أخرى، وتكون لديه ألفة وعلاقة حميمة مع الكتاب إلى درجة أن يصبح العلم جزءًا من هواجسه اليومية، ومغذيًا أساسيًا لنشاطه العقلي على مدار الساعة. في المقابل فإن الشعوب المعرضة عن القراءة -كأكثر شعوبنا- هي شعوب تعمل في الزراعة والحرف اليدوية والأعمال الخدمية التي تحتاج الكثير من الجهد البدني، وعلاقتها بالتفكير والبحث والمعلومات محدودة للغاية، وهذا يؤثر في التوجه إلى الكتاب من ناحيتين جوهريتين:
أ- عدم المساعدة على توفير (المزاج) الذي تتطلبه القراءة والذي يحتاج إلى بدن غير مجتهد.
ب - عدم قيام ألفة بين الواحد منا وبين القراءة وأجوائها وبين الكتاب وإيحاءاته ومسرّاته.
وحتى تتغير هذه الوضعية فإن على الأمة أن تتخذ قرارات حاسمة على صعيد تغيير وجهة الاستثمار، وذلك بالتوجه إلى إنشاء المزيد من البني المعرفية والصناعية التي يتطلب العمل فيها درجة عالية من التأهيل على مستوى التعليم والتدريب. وهذا يكون في التوسع في إنشاء الجامعات والمعاهد والأكاديميات ومراكز البحوث والدراسات لتستوعب أعدادًا كبيرة من الطلاب، كما أن من المهم على هذا الصعيد إيجاد جامعات ومعاهد رائدة، تخرج قيادات وكفاءات علمية وإدارية عالية، تتولى قيادة حركة التنمية والتطوير. بالإضافة إلى هذا فلابد من التوسع في الصناعة الإلكترونية، وصناعة الحاسبات والبرمجيات، والتوسّع في الصناعات الدقيقة في مجالات الأشعة والأدوية والأجهزة الطبية، وما شاكلها مما يتطلب اتصالاً قويًا بالبحث والمعرفة. هذا يعني أن نستهدف أن يكون لدينا خلال ربع قرن نحو من 40% من الوظائف التي يحتاج أداؤها إلى الازدياد من العلم وخوض غمار البحث والتجريب. وبهذا وحده سيقرأ الكثير من الناس، وستتضاعف لدينا أعداد المنتجين للمعرفة مع القليل من الحث على القراءة. لكن الذي يثير الأسف أن الكثير من دول العالم الإسلامي تسير في الاتجاه المعاكس، بمعنى أنها لا تصنع شيئًا ذا قيمة إلا أنها تتوسع في إقامة المطاعم والفنادق الترفية الفخمة والمنتجعات السياحية والملاهي... والتي تتطلب المزيد من الشباب غير المؤهل، وهي بهذا تشجع على وجود مستويات متدنية من التعليم والتأهيل، فالسوق غلاّب، يُجلب إليه ما ينفق فيه.
جزء من كل(2)
د. عبد الكريم بكار 20/4/1427
18/05/2006
كنت قد تحدّثت في المقال السابق عن أن كل شيء يخضع لنوعين من النظم: نظم داخلية ونظم خارجية، وضربت لذلك مثالاً بـ (القراءة)، واليوم أحاول تقديم مثال ثانٍ ومثال ثالث إن أمكن:
أ- التربية عمل كبير وخطير، تحكمه شروط داخلية وشروط خارجية، وهذا ما يجعلها عبارة عن جهد جزئيّ في محيط كلّيّ. أما الشروط الداخلية، فهي تعود إلى شخصية المربي وأسلوبه التربوي ومدى قدرته على التأثير في من يربيه؛ كما تعود إلى شخصية المتلقي للتربية ومدى قابليته للتفاعل مع المربي ومدى انسجامه معه، وهي شروط ليست بالكثيرة. وإذا كان التغيير في خصائص متلقي التربية ليس بالأمر اليسير، فإن الأمر كله يعود إلى شخصية المربي وبراعة أسلوبه وحسن تأتّيه...
أما الشروط الخارجية المؤثرة في نجاح العمل التربوي، فهي عديدة منها:(1/194)
أ - وضع الأسرة والأقرباء والجيران والأصدقاء والزملاء الذين يحتك بهم الطفل والفتى الذي يتعرض للتربية،؛ إذ إن هؤلاء يقومون بإرسال رسائل مستمرة ذات مضمون تربوي، وهذا المضمون يشكل رافدًا مهمًا بين الروافد التي تصبّ في الجهد التربوي للأبوين، وعلى سبيل المثال فإن الأبوين إذا كانا صالحين جادّين وعارفين بالأسلوب التربوي الصحيح الذي عليهما اتباعه في تربية ابنهما، فإن المتوقع أن يتأثر الابن بهما تأثرًا كبيرًا، لكن الذي يغيّر طبيعة هذا التوقع تلك الرسائل التي يرسلها الأقرباء من إخوة وأعمام وأخوال... والرسائل التي يرسلها الأصدقاء والجيران والزملاء... فإذا كانت مناظرة أو مقاربة للمضمون التربوي الذي يقدمه الأبوان، فإن المأمول أن تكون نتائج جهدهما التربوي باهرة، لكنْ يحدث شيء سيئ إذا كانت رسائل هؤلاء تحث الصغير على التساهل تجاه العبادات، وتهوِّن عليه الوقوع في الموبقات... إذْ إن هذا يعني أن ينظر إلى ما يقوله له أبواه على أنه لا يخلو من تشدّد وتزمّت، أو أنه غير ملائم لروح العصر.. ومن ثم فإن الطفل -وعلى نحو غير شعوري- يُحدث استجابات مختلطة، فيها ما يلبي رغبة الوالدين، كما أن فيها صدى لما يراه الأصدقاء والأقرباء.. أي أن سلوكه خضع لشروط داخلية وخارجية في آن واحد.
ب - الإعلام المشاهد والمقروء والمسموع مؤثر هائل في تكوين الأبناء، لما يتمتع به من حضور وجاذبية واتقان... والمشكل اليوم أن الأطفال لا يتعرضون لتأثير إعلام واحد صادر عن جهة واحدة، يمكن التفاهم معها من أجل التقريب بين مفردات الرسائل التي يوجهها للأطفال، ومفردات الرسائل التي توجهها الأسر والمدارس. إن الوسائل الإعلامية تنتمي إلى أكثر من (130) بلدًا في العالم، وهي تعكس ثقافات وديانات وتطلّعات متباينة أشدّ التباين. وإن نسبة غير قليلة من الناس قد أسلمت أبناءها للفضائيات من غير قيود تُذكر، ولهذا فإن ما يقوله الأبوان بات يُفهم لدى هؤلاء الأبناء في ضوء الخلفية الثقافية العميقة والمتماسكة التي بناها الإعلام بشتى صوره ومكوّناته، وبهذا فعلاً يصبح ما يقوله الأبوان جزءًا مرتهنًا للكل أكثر من أن يكون بعضًا منه.
جـ - لا يمكن ونحن نتحدث عن المؤثرات في تنشئة الصغار أن نتجاوز الدور الذي يقوم به المدرّس، وهو دور يساند -على نحو عام- دور الأسرة، وقد يكون في بعض الأحيان أسمى وأرقى منه، لكنه على كل حال ليس مطابقًا له. إن الأطفال يتأثرون أساتذتهم أكثر من تأثرهم آباءهم؛ لأنهم يرون آباءهم في كل أحوالهم -الجيدة والسيئة- ولا يرون أساتذتهم إلا في أكمل أحوالهم، لكن من الصحيح أيضًا أن بعض المدارس، تقدم تعليمًا متهالكًا ومتدني المستوى، وبذلك فإنها تزرع اليأس والإحباط في نفوس الطلاب؛ وتخفِّض من مستوى طموحاتهم. وبعض المعلمين، يجعلون الطالب يشعر بالظلم أو التمييز العنصري والطبقي، وبذلك يشوّشون على الجهد التربوي المبذول في البيوت، وكم من طفل كان متوقد الذكاء شديد التطلع والتجاوب!! وبعد أن دخل المدرسة، أخذ يخبو شيئًا فشيئًا إلى أن أصبح أقل من عاديّ، وذلك بسبب رداءة التعليم الذي تلقاه، وهبوط سويّة المعلمين الذين أخذ عنهم. وهذه معضلة من المعضلات الكبيرة.
3 - يقدم العمل الدعوي نموذجًا واضحًا لعلاقة الجزء بالكل، وذلك لأن الداعية يريد توجيه عقول المدعوين وقلوبهم نحو قيم ومثل وسلوكات ومفاهيم معينة، وهو يخاطب أقوامًا تلقّوا الكثير الكثير من الرسائل المختلفة، ورسائل من الأهل، ومن المدرسة، ومن الإعلام ومن أماكن العمل، ومن النظم والقوانين السائدة، بالإضافة إلى الرسائل التي ترسلها التحديات المعيشية المماثلة، وتكاليف رعاية الأبناء والإخوة... إننا كثيرًا ما نشكو من ضعف استجابة الناس، وذلك لأننا لا ندرك أننا ونحن نخاطب شخصًا، وندعوه إلى شيء ما، يكون ما نقوله له بمثابة لون في لوحة أو مادة في طبخة مكونة من عدد من المواد، ومن ثم فإن تأثيرنا لابد أن يكون في النهاية جزئيًا.
الرسالة التي أودّ إيصالها من وراء كل هذا الكلام، هي أن على المصلح والمهتم بتحسين أوضاع الأمة أو أوضاع أسرته أو مؤسسته، أن يكون له عينان مفتوحتان بقوة: عين على الجهد الذي يبذله والمخطط الذي يضعه، وعين على المؤثرات البيئية والمساهمات الخارجية البعيدة عن متناول يده؛ إنه بهذا وبهذا وحده يستطيع أن يطوِّر أداءه، ويحسِّ سوية توقعاته.
والأمر الثاني الذي أودّ التذكير به، هو الاستثمار في البيئة التي تؤثر في كل جهودنا الخاصة وفي كل المجالات. إن أي جهد إيجابي بنّاء يُبذل في تحسين حياتنا الاجتماعية والأخلاقية والسياسية والاقتصادية والتربوية... يحسِّن في نتائج جهودنا الشخصية على الصعيد التربوي والتعليمي والدعوي..
إن العمل وفق هذا المنطق يولّد لدينا الروح الجماعية، ويجعلنا نهتم بكل شيء، ولا نزهد بأي جهد يُبذل في أي مجال مهما كان قدره.
والله ولي التوفيق...
============
#المعادلات الصّعبة
د. عبدالكريم بكار 8/3/1427
06/04/2006(1/195)
نحن نعيش في عالم يزداد ازدحامًا، حيث تتكاثر الأشياء غير المطلوبة، وأنا اليوم لا أريد أن أتحدث عن المدن المليونية، ولا عن الأجواء المزدحمة بالطائرات والأقمار الصناعية، كما لا أريد أن أتحدث عن المحلات التجارية المزدحمة بالسلع والأشياء، إنما أريد أن أتحدث عن ازدحام القوانين والنظم والمعادلات. كلما زادت معرفتنا بسنن الله -تعالى- في الخلق، وتحسنت بصيرتنا في فهم طبائع البشر والأشياء أدركنا على نحو أعمق أننا في حركتنا واختياراتنا ومواقفنا محكومون بالكثير من السنن والكثير من المعادلات الصعبة. وحين نُحرم من التأمل نجد أنفسنا منطلقة في خططنا ورغباتنا دون حذر ولا استعداد لمعرفة الثمن الذي علينا أن ندفعه حين نتجه إلى اختيار وضعية من الوضعيات. وسأضرب سألقي عددًا من الأسئلة لتوضيح هذه الحقيقة المهمة:
1- الناس دون استثناء يُذكر يميلون إلى سعة العيش والرفاهية والدعة، إنهم من خلال وفرة الأشياء بين أيديهم يشعرون بالأمان من الفقر والعوز، ويشعرون بالقدرة على بلوغ الرغبات والتمتع بالمرفهات والمشتهيات، لكن الناس يغفلون -في العادة- عن السنة التي تحكم حياة المرفهين، وهي التعرض للإصابة بداء الترهل والكسل، وضعف روح المقاومة، والوقوع في أسر الأشياء التي يحبونها. إنك لا تستطيع أن تستمتع بالأشياء دون الشعور بالضعف أمام سلطانها، والنظر إليها على أنها قد تحوّلت من أشياء ثانوية لا مشكلة مع فقدها، إلى أشياء أساسية يصعب الاستغناء عنها. والنفوذ المتزايد للمرأة في الحياة الأسرية والحياة العامة نابع من هذه المعادلة؛ فالناس حين يدرجون في سلم الحضارة يتذوقون طعم الرفاهية وليونة العيش، والمرأة بالنسبة إلى الرجل مصدر أمن واطمئنان وترفيه، وبما أن المرأة تنظر إلى الرجل على أنه أيضًا مصدر أمن وترفيه بالنسبة إليها، فإن الرجل لا يستطيع أن يترفّه بها دون أن يرفّهها، ومن جملة ترفيهها الانصياع لها، والسعي في تحقيق رغباتها. وأنا لا أسوق هذه الفكرة على سبيل الاحتجاج أو الانزعاج، وإنما أسوقها على هذا النحو لنشرح للذين ينكرون الوضعية الجديدة للمرأة، ونوضح أسبابها، وكيفية التعامل معها.
حين يختار الإنسان حياة الزهد والتكشف التقشف والتقلل من متاع الدنيا، فإنه يكون في الحقيقة منسجمًا -بحسب الرؤية الأولية- مع الرؤية الإسلامية في التعامل مع الحياة الدنيا وزينتها على أنها أشبه بالمناظر الجميلة التي يراها المسافر في طريقه، إنه يتجاوزها قاصدًا وجهته التي أنشأ مسفره من أجل بلوغها... لكن هذا الاختيار على ما فيه من رشد، له ثمن يجب دفعه عن طيب خاطر. الفقير يواجه مشكلات مغايرة -طبعًا- للمشكلات التي يواجهها الموسر، لكن ربما كانت أشد. إن الفقير المقلّ، لا يستطيع وصل أرحامه وجيرانه وأصدقائه بالمال؛ لأنه لا يملكه، وهذا ما يجعله -في الغالب- موضعًا لإشفاق الناس، ومصرفًا من مصارف الزكاة، وهي -كما ورد- أوساخ الناس، لذلك لم يكن لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا لآله قبولها. والفقير مع هذا قد يُصاب بداء الحسد والتطلع لما في أيدي الناس، وقد يدفعه الفقر إلى قبول الرشوة بحجة ضرورات العيش وإلحاح مطالب الحياة. ويجد الفقير نفسه -في أحيان كثيرة- مقودًا ومدفوعًا إلى وقوف مواقف لا يرتضيها لنفسه، لكن لا يستطيع فعل شيء بسبب ضعف إمكاناته. وقد قال الله -تعالى- مقررًا قضية الابتلاء في السراء والضراء: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ). [سورة الأنبياء: من الآية 35]. وإعفاف الفقير لأسرته والحصول على شعور أولاده بالرضا عن وضعهم العام، لا يكون في العادة جيدًا على ما هو معروف وملاحظ. ومن هنا يمكن القول: يصيب يطيب أن يعيش المرء -كما يقولون- بالطول والعرض، يعطي نفسه كل ما تشتهيه وتتوق إليه، ومع ذلك يحافظ على لياقة وسلامة جسمه من الأمراض والعلل، فإما أن يختار هذا أو ذاك، وعلم الصحة كله قائم على شرح هذه المعادلة.(1/196)
2- يميل بعض الناس إلى الضبط الشديد في تربيته لأولاده وإدارته لموظفيه، ويرى أن هذا هو الأسلوب الأمثل لحفظهم من الانحراف، والأسلوب الأمثل لجعل العمل يسير في الاتجاه الصحيح وبالكفاءة المطلوبة. هؤلاء الناس يتخذون من الرقابة والمتابعة والمنع والزجر الأداة التي يضبطون بها ما يريدون ضبطه. والحقيقة أننا حين نحيِّد وعينا عن فهم طبيعة العمل التربوي والإداري. فإننا نندفع إلى مسالة مسألة الشدة والمنع على نحو بدهي وغريزي، ولهذا فإن هذا الأسلوب هو الأكثر شيوعًا في البيئات التي يغلب عليها الانحسار المعرفي والحضاري. الثمن الذي يُدفع نتيجة اتباع هذا الأسلوب هو ضعف الثقة بين الطرفين، وعدم السماح للوازع الداخلي (الضمير) بالنمو الكافي؛ لأن هذا الوازع لا ينمو إلا حين يمنح صاحبه الحرية، ويُحمّل المسؤولية. أضعف أضف إلى هذا شيوع النفاق لدى من يطبق معه هذا الأسلوب؛ إذ يصبح له سلوكان، خيرهما الذي يظهر لنا، كما أن الموظف يعمل حينئذ بالحدود الدنيا من طاقته، أما الإبداع فلا تسأل عنه؛ لأنه لن يكون موجودًا. هناك أناس آخرون يميلون إلى منح الثقة، وإلى التدليل والنظر إلى الابن والموظف على أنهما قادران على اكتشاف أخطائهما وتصحيحهما، وينظران إلى الضبط التربوي والإداري على أنه أسلوب عقيم وضارّ. الثمن الذي يُدفع عند الجنوح لهذا الأسلوب هو التمزق والتمرد وضعف الشعور بالمسؤولية؛ لأنه ليس هناك من يسأل، إلى جانب التمادي في الخطأ أحيانًا دون أن يشعر أحد؛ لأنه ليس هناك من يتابع ويحاسب.
لعلي في المقال القادم –بإن الله- أسوق المزيد من الأمثلة، وأوضح فقه التعامل مع هذه الحالات.
والله الموفق.
المعادلات الصعبة (2)
د. عبد الكريم بكار 22/3/1427
20/04/2006
تحدّثْتُ في المقال السابق عن معادلتين من المعادلات الصعبة، وسأحاول اليوم إلقاء الضوء على اثنتين منها:
3- لا تستطيع على المستوى الحضاري أن تنال ميزات الانفتاح والانغلاق في آن واحد؛ إذ لابد لك من أن تختار، وتوازن وتدفع الثمن، وتتحمّل التّبعات. إذا جنحنا إلى الانغلاق ووضع الحدود والحواجز بيننا وبين الأمم الأخرى، فوقفنا في وجه دخول المطبوعات، وكل المواد الإعلامية السيئة وغير الملائمة، وخضنا ما يشبه الحرب الباردة على المستوى الثقافي مع المخالفين، فزهّدنا الناس في منتجاتهم الفكرية والثقافية، وأثرنا الشكوك والشبهات حول رموزهم وأعلامهم... إذا فعلنا هذا، فماذا نكسب؟
قد نكسب شيئًا من تماسك موقفنا الثقافي والمعرفي والفكري، وقد نستطيع المحافظة على مكوناتنا الثقافيّة والعقديّة من الذوبان، وقد نستطيع تنشئة جيل يفخر بالانتماء إلى الإسلام، وينظر بحذر إلى الأديان والأيدلوجيات الأخرى، هذه المكاسب مهمة ونفسية، فالتجانس الثقافي ووحدة المعتقد والرؤية من أسس وحدة الأمة وأصول قوتها ونهضتها. لكن ماذا نخسر في هذه الحال؟
إن الانغلاق ووضع الحواجز يحرم ثقافتنا من الاتصال بالثقافات الحية المتجددة والمبدعة. ومن الواضح أننا في هذه الحقبة من التاريخ لسنا الذين يبدعون ويجدّدون، ولسنا الذين يخترعون، وإذا كنا لا نبدع، ونسدّ السبل أمام الاقتباس من المبدعين، فهذا يعني أننا نعمل على زيادة الفجوة بيننا وبين الأمم الأخرى. إن التاريخ يعلمنا أن الأمم التي تنعزل عن تيار الحضارة تعرّض نفسها للتعفن الداخلي، وتصاب بداء الاجترار بسبب فقد المحرض على التنويع والتجديد.. وتقدم الدول الإفريقية الفقيرة، كما يقدم السكان الأصليون (الهنود الحمر) للولايات المتحدة الأمريكية نموذجًا حيًا على هذا. إن الثقافة تقوى من خلال التبادل، وتحمي نفسها من ويلات القصور الذاتي من خلال اكتساب بعض عناصر القوة من الثقافات القويّة.
الخلاصة لهذا كله هي: أن الانفتاح ينفع، لكن يهدّد بتشويش الرؤية وهدم مكونات الهويّة والخصوصيّة الثقافيّة، أما الانغلاق فإنه يساعد على التميز والترابط والوضوح، لكنه يهدّد بالتخلف والاقتتال الداخلي والعقم والاجترار، فما العمل؟
4- كثر الناقدون للعمل الجماعي على صعيد الدعوة إلى الله –تعالى- وخدمة الإسلام، وأُلِّف الكثير من الكتب التي توضّح عيوب بعض الجماعات، وتشنّع على الانضمام إلى أي جماعة إسلامية. في المقابل فإن كثيرًا من أتباع الجماعات الإسلامية ينظرون إلى الدعاة والناشطين الإسلاميين الذين يعملون فرادى على أنهم لم يدركوا فوائد العمل الجماعي، ولم يدركوا الأخطار التي تتهدد الأمة، والتي تقتضي من الجميع رص الصفوف ووحدة الكلمة، ويصاحب ذلك نوع من الإزدراء للمنجزات، وقد يصل الأمر إلى حد الاتهام بالتخذيل وإذهاب الريح.
حين يعمل الإنسان مع جماعة، فإنه يكسب الكثير من الأشياء، فهناك من يخطط له، ويشجعه، ويوفر له الإطار للعمل، كما يوفر له درجة من الانتماء الملموس والمحدد، وكثيرًا ما يكون العمل الجماعي حرزًا للشباب من الانحراف والعطالة.(1/197)
وحين يعمل الإنسان بمفرده، فإنه يشعر بالحرية، ولا يجد نفسه ملزمًا بسياسات وخطوات ليس مقتنعًا بها، كما أنه يتحمل مسؤولية أعماله، ويختار قراراته. وبالإضافة إلى هذا فإنه يسلم من داء التحزّب والتعصّب الذي ابتُلي به كثير من أتباع الجماعات الإسلامية، ويسلم بذلك من الكثير من الغيبة والنميمة...الخ.
كيف نتعامل مع المعادلات الصعبة؟
1- يجب أن نعترف أن التعامل مع مثل هذه الأمور شاق وصعب، وهذا كثيرًا ما يكون بسبب عدم اكتشافنا لجميع العناصر التي تدخل في تركيب هذه المعادلات، فنحن لا نرى كل أجزاء الصورة، ولذا فهناك دائمًا إيجابيات وسلبيات لا نراها، ولا نحسب حسابها.
2- إذا كان الأمر كذلك، فهذا يعني أن تعاملنا مع المعادلات الصعبة، يقوم على الموازنة بين ما نأخذه وندفعه، والموازنة لا تقوم دائمًا على معطيات واضحة، ولهذا فستظل موازناتنا موضع جدال وأخذ و ردّ، وفي هذه الحال فإن علينا أن نتعاذر مادمنا نظن أن مواقفنا تقوم على اجتهاد، فالاجتهاد لا يُحسم باجتهاد آخر.
3- أهم شيء في التعامل مع المعادلات الصعبة هو معرفة المكاسب والخسائر التي ستنشأ عن اختيار وضعية من الوضعيات، ولهذا فيجب رصدها واعتبارها بدقة، ويجب أن نحاول ضبطها بضابط شرعي وضابط مصلحي معتبر.
4- إذا اخترنا وضعية من الوضعيات، فعلينا أن نفتح عينًا على المنهجية التي اخترناها، وعينًا على ما عزفنا عنه، وعلى سبيل المثال، فإن على من اختار العمل الفردي أن يدرك أن أمورًا كثيرة لا يستطيع القيام بها بنفسه، ومن ثم فإن عليه أن يكون مستعداً لطلب المعونة ممن يساعده فيها، كما أن عليه ببذل النصح والمشورة لمن يحتاجها من الجماعات والمجموعات الدعوية. وعليه إلى جانب هذا أن يحذر من أن تصبح الفردية لديه فردية مرضية، تعبر عن الأنانية والعجز عن التلاؤم والرؤية الضيقة. وعلى من اختار العمل مع جماعة أن يحافظ على قدر من حرية الرأي والاختيار والمبادرة، كما أن عليه أن يكون متسامحًا مع الذين يخالفونه في المنهج، وبعيدًا عن التحزّب والتعصب، ومستعدًا لسماع النصح من خارج جماعته، فقد يكون لدى فرد من الأفراد من سداد الرأي ونفاذ البصيرة ما ينفع به جماعة كبيرة.
سيظل التعامل مع المعادلات الصعبة صعبًا، وستظل النتائج موضع شك أو جدل، ولكن لابد من أن نحاول لنصل إلى أفضل ما يمكن الوصول إليه.
ولله الأمر من قبل ومن بعد
==============
#الإنسان الحكيم
عبد الكريم بكار 23/2/1427
23/03/2006
قالوا كثيرًا في الحكمة، واختلفوا في شأنها اختلافًا واسعًا؛ وذلك بسبب اتصال الحكمة بعدد من العلوم والقوى الخلقية والعقلية. وحين يقف الإنسان الموقف الذي عليه أن يقفه، فإنه يكون قد أنجز إنجازًا ليس بالقليل. في بعض الأحيان يكون هناك نوع من الغموض والالتباس أو نوع من التقاطع بين المعطيات المعرفية، أو نوع من ضعف الإدراك للمنافع والمضار، وحينئذ فإن قلّة قليلة من الناس هي التي تتمكن من فهم المحيط واتخاذ القرار الصحيح.
قبل أن أتحدث عن بعض سلوكات الرجل الحكيم ومواقفه أود أن أوضح مكونات الحكمة، وما يحتاجه الموقف الحكيم. لعل أصح تعريف للحكمة هو ذلك التعريف الذي يقول: إن الحكمة هي وضع الشيء في موضعه. وحتى نضع الشيء في موضعه، فإننا نحتاج إلى أمرين أساسيين:
الأول: هو معرفة ما يجب علينا قوله أو فعله، وما يجب علينا تركه أو رفضه أو تجاهله... وهذا يعني أننا نحتاج إلى معرفة جيدة وخبرة ممتازة بما نحن مقدمون على التعامل معه.
الثاني: هو الإرادة والعزيمة التي نحتاجها كي نقاوم رغباتنا وشهواتنا، وما لدينا من طموحات غير مشروعة وأمور غير لائقة، وكي نتجاوز ما لدينا من قصور ذاتي. وقد نحتاج حتى نكون حكماء فعلاً إلى شيء ثالث هو الرضا والقناعة بما قسمه الله -تعالى-، والنظر إلى كل ما لم نستطع الوصول إليه بعد بذل الجهد على أنه شيء ليس لنا، وبالتالي فإننا لا نتحسر عليه، ولا نحسد من ظفر به، ونشعر أن ما جرى لنا شيء طبيعي وجيد.
من المهم أن نتذكر دائمًا أن ما لدينا من معرفة، يظل دائمًا أقل مما هو مطلوب، أي أن مواقفنا ستظل تفتقد في بعض الأحيان إلى المعرفة، التي لا نعرف كيف سنحصل عليها. ومن وجه آخر فإن سيطرتنا على رغباتنا ومشتهياتنا، تظل هي الأخرى غير كاملة، أي أننا نرى الصواب في موقف ما، لكننا لا نفعل ما نراه بسبب عدم امتلاكنا للطاقة الروحية المطلوبة لذلك. والخلاصة لكل هذا، هي: أنك لا تجد حكيمًا هو حكيم في كل المواقف وكل التصرفات، فالنقص ملازم لبني البشر مهما كان شأن الواحد منهم.
مواقف وسلوكات حكيمة:(1/198)
1- المسلم الحكيم هو المسلم التقي الملتزم الذي يتحرّج أشد التحرّج من التقصير في واجب أو الوقوع في محرّم. إنه يعرف واجبه تجاه خالقه -جل وعلا-، ويملك الإرادة والعزيمة على الامتثال لذلك الواجب. إن المسلم الذي يعيش أزمة مفارقة بين معتقده وسلوكه لا يمكن اعتباره حكيمًا مهما كانت براعته المعرفية، ومهما كانت مقدرته الإدارية ومهارته في القيادة والاتصال... لأنه بعدم التزامه خسر أكبر ميدان يمكن للحكمة أن تتجسد فيه. كلما ازداد المسلم شفافية، وكانت معاييره في التعامل مع الأشياء والأحداث.
2- لا يكون الإنسان حكيمًا إذا لم يعرف الحدود الفاصلة بين ما يعلمه، وبين ما يجهله. إن هذه المعرفة ضرورية جدًا لتجلي الحكمة في حياتنا. إننا من خلال تلك المعرفة نستطيع التوقف عن الكلام والجدال والإعلان بأننا لا نعرف أكثر مما قلنا، أو الإعلان بأن الكلام لم يعد مفيدًا؛ لأنه صار عبارة عن مراء، يُظهر أمراض النفوس أكثر مما يُظهر إشراقات العقول.
3- من علامات حكمة المرء معرفته بقدر نفسه، فلا يرفعها فوق ما هي عليه حقيقة، ولا ينزل بها عن ذلك. حين يرفع المرء نفسه فوق قدرها فإنه يقع في الكبر والغرور والوهم، وتأتيه الصدمات من كل مكان، وحين يستخفّ بها، وينظر إليها نظرة احتقار فإنه يذلّها، ويحرمها الكثير من الخير. لا يكفي كي يكون المرء حكيمًا أن يعرف ما هو ناجز في حياته وفي شخصيته، وإنما عليه أن يعرف أيضًا الطاقات الكامنة لديه، أي الصورة العقلية والثقافية والاجتماعية والمهنية التي يمكن أن يكون عليها إذا بذل جهده في الاهتمام بنفسه. وتلك المعرفة، لا تكون كافية إذا لم يصاحبها تفتّح عقليّ على الجديد، وعمل متواصل على الارتقاء. وإذا كان هذا المعيار صحيحًا -وهو صحيح إن شاء الله- فإن معظم الناس ليسوا حكماء؛ لأنهم راضون بأوضاعهم، وكثيرًا ما يكونون خائفين من التغيير، متهيّبين لتكاليف الإصلاح.
4- من الحكمة أن نتعرف على اتجاهات الناس، وأن نأخذ بعين الاعتبار ظروفهم وأشكال معاناتهم. إن أعقل الناس أعذرهم للناس -كما كان يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه- وإن المعرفة الكاملة صفح كامل. إن من المهم أن ندرك أن كثيرًا من عباد الله يعانون من مشكلات لم يصنعوها بأيديهم، ويعيشون في بيئات وفي ظروف لم يختاروها لأنفسهم؛ ومن ثم فإن إعذارهم والإشفاق عليهم ومؤازرتهم إن كل ذلك يدل على حساسية أخلاقية عالية، ويدل على رؤية واسعة وحكيمة.
شيء من الحكمة هو فيض يجود به الله -تباركت أسماؤه- على عباده، وشيء آخر نصل إليه عن طريق المعرفة المدققة والمجاهدة الحسنة لنفوسنا، وبداية كل خير كثيرًا ما تكون في الاعتراف بالقصور والتقصير والسعي في مدارج الكمال على قدر المستطاع.
============
#الاختراق القيمي
د. عبد الكريم بكار 9/2/1427
09/03/2006
كان ضعف الاتصال بين أجزاء العالم في الماضي يوفر حماية طبيعية للثقافات الضعيفة من اجتياح الثقافات القوية؛ لكن هذا الوضع آخذ في التغير اليوم على نحو مدهش ومتسارع، فثورة الاتصالات والبث الفضائي وتداخل مصالح الأمم والشعوب، يدفع في اتجاه إيجاد تجنيس واسع النطاق للاهتمامات والقيم والرؤى والعلاقات، ومن هنا فإن على الكثيرين منا ومن غيرنا أن يقبلوا بأشياء كثيرة كانوا يستنكرونها من قبل، كما أن عليهم أن يهيئوا أنفسهم للمزيد من التغير في النظر إلى كثير من الأمور.
القيم هي كل ماله قيمة مادية أو معنوية واعتبارية، وتشكل القيم لدى الإنسان المرشد الأكبر له في دروب الحياة الملتوية، كما أنها تعلمه كيف ينظّم ردود أفعاله تجاه الأشياء والأحداث المختلفة.
تقول إحدى قواعد التواصل الأممي: إنه إذا التقى قويّ وضعيف فإن اللقاء يكون في الأعم الأغلب لصالح القويّ، إذ يمكّنه اللقاء من إبراز جاذبيته وفرض شروطه. وإنّ كثيرًا من القيم لا يستمد قوته من مشروعيته أو عظمته أو سماحته، وإنما يستمدّها من قوة حضوره. وذلك يعود إلى أن وعي الإنسان بعظمة القيم التي لديه ووعيه بما يحتاجه من قيم، يظل ناقصًا وميالاً إلى الغموض. ومن هنا فإن الناس يطربون في نهاية الأمر للصوت القادر على الوصول إلى آذانهم.
نقصد بالاختراق هنا إجبار منظومةٍ قيمية منظومةً قيميةً أخرى على التعرّف على ذاتها من جديد وعلى إعادة ترتيب درجات سلّمها الخاص، كما تجبرها على إحداث بعض التغييرات في إطارها المرجعي. الثقافة السائدة في ديار المسلمين تقوم في جوهرها على تعاليم الإسلام وأدبياته، وهي تتعرّض اليوم لضغوط متنوعة من الثقافات السائدة في الدول الصناعية التي تقود مسيرة التطوّر التقني والاقتصادي، وهذه الضغوط لا تُمارس على ثقافتنا فحسب، بل تُمارس على كل الثقافات التي لا يتمتع أصحابها بموقع في غرفة القيادة الأممية والدولية، ولعلي أوضح معالم هذا الاختراق عبر المفردات الآتية:(1/199)
1- تكون القيم اليومية على نحو حسن؛ إذ إن تجسيد القيم يشكل لها شريان الحياة الذي لا تستطيع البقاء من غيره. كما أن القيم تكون ضعيفة إذا لم تتمكن من توفير قدر من الإقناع والإرضاء للأجيال الجديدة المتطلعة إلى الجديد والعملي والمريح.
2- يتخذ الاختراق الثقافي والقيمي في بعض الأحيان إجبار الشعوب المخترقة على وضع قيمها أو بعض قيمها موضع تساؤل واستفهام وشرح؛ بغية تأويلها أو تجاوزها. إن القيم أشبه شيء بالصحة، نسأل عنها ونتحسّسها حين نشعر أنها باتت في خطر، ونحن اليوم نطرح على أنفسنا العديد من التساؤلات المتعلقة بعدد من القيم، وذلك مثل:
- هل نحن عاطفيون أكثر مما ينبغي؟
- هل لدينا نظام حكم إسلامي كامل أو مبادئ توجه الحاكم المسلم؟
- ما أسباب انتشار الاستبداد في كثير من بلدان العالم الإسلامي؟
- ما أسباب ما لدينا من نقص من جدية ودقة ومصداقية في مجال الأعمال؟
- ما أسباب ضعفنا العام، وتمزّق شعوبنا ودولنا على هذا النحو؟
وهكذا فإن لدينا عشرات الأسئلة من هذا القبيل، والتي سنختلف في الإجابة عنها، وهذا الاختلاف يشكل الدليل الملموس على وجود الاختراق القيمي.
3- إذا تأمّلنا في القيم السائدة في العالم لما وجدنا كبير اختلاف فيما بينها، وإنما يمكن التباين في ترتيب السُلّم القيمي، وفي مقدار الاهتمام الذي يوليه شعب ما لقيمة من القيم. وعلى سبيل المثال فإن إكرام الجار وبر الوالدين وصلة الأرحام والصدق في القول والوفاء بالعهد من القيم العالمية المعترف بها في كل مكان. والذي يُظهر الخصوصيات القيمية هو تعارض هذه القيم مع قيم أخرى، فإذا كانت -مثلاً- رغبة الزوجة في أن تسكن في بيت منفرد، وكانت رغبة الأبوين أن يقيم ابنهم الوحيد مع أسرته معهم فإن مدى الاهتمام بقيمة الوالدين هو الذي سيتحكم في قرار الزوج. ونحن نعرف كيف يحدث التبدّل الآن بالنسبة إلى هذه القيمة، فقد كان من غير المقبول قبل خمسين سنة أن يترك الشاب بيت أبويه إذا تزوّج، ثم صار ذلك مقبولاً. وصارت إقامة الأبوين عنده شيئاً معقولاً. والآن فإنّ كثيراً من الأبناء يفضلون إسكان آبائهم وأمهاتهم في دور منفصلة والإنفاق عليهم، أو التخلّص منهم بإلجائهم إلى الذهاب إلى بيوت كبار السن...!
ولعلنا نلاحظ اليوم أننا نركز في تثقيفنا وفي تربيتنا على امتلاك المزيد من (القوة) على حساب الاهتمام بقيمة (الرحمة)، كما صار للنجاح والثراء مساحة متسعة على حساب مساحة التقوى والورع؟ اليوم مساحة الاهتمام بخدمة الذات على حساب قيمة خدمة الناس، ومساحة اللهو و (الفرفشة) والمتعة وإرواء حاجات الجسد على حساب مساحة الاهتمام بالسمو الروحي والتأنّق الخُلُقي، وصار الحديث عن الفضيلة والمروءة يلقى نوعاً من الاستهجان لدى بعض الناس... وهكذا.
إن هذه القضية ليست واضحة في ذهني بالقدر الكافي، لكن أحببت إثارة الاهتمام حولها بغية توليد وعي جديد بمسألة التبدّل القيمي حتى نسعى إلى تجديد قيمنا وتحصينها بالطريقة التي تتلاءم مع مبادئنا ومثلنا العليا. والله الموفق
==============
#شبابٌ حائِر
د. عبد الكريم بكار 26/12/1426
26/01/2006
ليست الحيرة شرًا محضًا؛ فالجزم في حالات الغموض والأوضاع المتنازع في شأنها يعبر عن الجهل وضعف الوعي، لكن ذلك يجب أن يظل محدودًا بمستويات معينة، وإلا أصبح عامل شلل ومصدر يأس وإحباط.
لدى الشباب همة وتطلّع وطموح ورؤى وأحلام... وكل هذا أساسي في كل المراحل العمرية؛ لكن محدودية الخبرة وضعف المعرفة بحدود الواقع ومدى ممانعة المجالات المتاحة... تجعل الفواصل بين الممكن والمستحيل غير مدركة، وهذا يؤدي إلى السقوط في الكثير من الأوهام، ويُحدث بالتالي الكثير من الصدمات النفسية والانعكاسات السلبية. هل كل هذا طبيعي، وشيء لابد منه، أم أن هناك خللاً ما يجعل ذلك شيئًا خارجًا عما ينبغي أن يكون؟ وما أسباب هذه الوضعية الصعبة؟ وكيف يمكن التخفيف من لأوائها؟ هذا ما أريد أن أتحدث عنه؛ ولكن دعوني أشرح أولاً ما قصدته من حيرة الشباب عبر المفردات الآتية:(1/200)
كثير من شبابنا حائر بين الماضي والحاضر، فهو دائم المقارنة بين ما عرفه عن الماضي المجيد والحضارة الإسلامية الزاهية، وبين واقع مفعم بالمغريات والإنجازات التقنية وألوان المرفهات، لكن شوكة الأمة فيه مخضودة، وراياتها منكسة، وهي عالة على أعدائها في جلّ ما تستهلكه، وتتنعم به حتى طباعة المصاحف وتشييد المآذن، فإن الأمة تعتمد فيهما على العتاد الذي صنعه أعداؤها أو منافسوها، شبابنا حائر بين الركون إلى ماضٍ يمده بالاعتزاز والكبرياء وبالطمأنينة والانتماء، لكنه لا يساعده في الحصول على وظيفة مرموقة، كما لا يساعد الأمة على بناء حاملة طائرات أو صناعة حاسوب صغير، وبين حاضر يجافي -أو هكذا يشعر الشباب على الأقل- مضامين الإيمان، ويبتعد كثيرًا عن متطلبات التقوى والصلاح والسعي إلى الآخرة، لكن القوى التي تشكّل هذا الواقع هي التي تأتي بالجديد، وتطوّر القديم، وتمنحه التصريح "بالولوج إلى ساحات الشهرة والمال والنفوذ والسرور". الشباب حائر في أمره بين المضي مع قلبه وبين الاستسلام لمصالحه، وهنا يأتي من يقول له: لا تناقضَ بين الولاء للماضي والانتفاع بالحاضر، وهو يقتنع بهذا لكنه عند التنفيذ العملي يجد نفسه مثل الذي يمشي على حبل مشدود، يخشى أن يسقط ذات اليمين أو ذات الشمال، وكلما مضى في مسيرته وجد أن الكلام سهل، وأن الممارسة وحدها هي التي تكشف عن الصعوبات والتحديات.
كثير من الشباب الصالح حائر في اختيار التخصص والعمل الذي يشبع من خلاله رغباته وحاجاته، ويحقق مصالحه، وفي الوقت نفسه يخدم من خلاله دينه وأمته ودعوته. في الإغراق في التخصص يجد مزية الإتقان والنجاح، ويجني الثروة، ويشعر بالتفوق. وفي التخصص الشرعي وممارسة العمل الدعوي يجد أنه يعمل لآخرته، ويستجيب لأشواق روحه وتطلعات قلبه، كما أن النجاح في العمل الدعوي قد يجعل منه شخصية عامة، يُشار إليها بالبنان، وتخفق خلفها النعال، كثير من الشباب يشعر بالندم وشيء من الإحباط لأنه درس تخصصًا، لا يحبه، ولا يجد نفسه فيه. وكثير منهم يغبطون غيرهم على تخصصاتهم، في الوقت الذي يكونون فيه موضع غبطة وحسد من غيرهم. وبعض الشباب درس شيئًا، ثم تركه، وصار يعمل في مجالٍ، لا يمت إليه بأي صلة. ومن هنا فإن كثيرًا من الشباب يتمنى لو أنه يستطيع التخصص في أكثر من مجال، والسعي فيما يعمر دنياه وآخرته.
شباب كثيرون حائرون ومترددون بين العمل الفردي والعمل الجماعي، ومنهم سمعوا كثيرًا عن إنجازات الجماعات والمجموعات، كما سمعوا كثيرًا عن عقم الأعمال الفردية والصغيرة وقلة جدواها في مواجهة الطغيان العالمي والمشروعات والمخططات والإمكانات العملاقة؛ كما أنهم سمعوا عن أخطاء الجماعات وسلبياتها وأمراضها وانشقاقاتها... مما يضعف الرغبة في العمل معها. وهم أيضًا يرون أفرادًا كثيرين ينجزون للأمة الكثير من الأعمال العظيمة دون أن يكون لهم ارتباط بأي جماعة أو تنظيم. ومن المؤسف أن هذه الوضعية تنشر في بعض البيئات الإسلامية معادلة الاستهجان والاستخفاف المتبادل، فأبناء الجماعات ينظرون إلى الشاب الذي يعمل بمفرده نظرة مشوبة بالاستغراب: كيف غابت عنه فضائل العمل الجماعي؟ وكيف نسي الآثار الواردة في التحذير من الفرقة والابتعاد عن الجماعة؟ والشاب الذي يعمل على نحو منفرد، ينظر فيرى ذهابًا وإيابًا لشباب كثيرين حوله، ويرى صولات وجولات، ثم يقول في نفسه ما قاله الأول: "أسمع جعجعة ولا أرى طحنًا". فمن هو يا ترى المصيب ومن هو المخطئ؟!
حيرة كثير من الشباب من نوع آخر: أنهم سمعوا من يقول: نحن نعيش صحوة إسلامية حقيقية وشاملة، والشواهد عليها كثيرة وكثيرة جدًا. ولهذا فنحن في خيرٍ، يشوبه بعض الشر. وسمعوا أيضًا من يقول: لم نمر في مرحلة أسوأ من المرحلة التي نعيش فيها اليوم، وقد لا تشبهها إلا مرحلة احتلال التتار لكثير من بلاد المسلمين، ولهذا فنحن في شر، يشوبه بعض الخير، والعولمة فعلت فعلها فينا؛ إذ فكّكت عرى وحدتنا، وضيّعت شبابنا، وأغوت بناتنا ونساءنا، وليس أمامنا سوى الانطواء والاعتزال وإغلاق النوافذ والأبواب، ونتيجة كل هذا اضطرب عريض في تقييم الواقع، حتى إنك لترى أهل المجلس الواحد، وقد انتقلوا من المبالغة في ذم زماننا وأوضاعنا إلى مديحه ومديحها دون الشعور بالوقوع في أي تناقض!
ما أسباب هذه الحيرة، وكيف نعالجها؟
شباب حائر- 2
د. عبد الكريم بكار 10/1/1427
09/02/2006
الشباب حائر في أشياء كثيرة جدًا، وهذه حقيقة. والحقيقة الثانية هي أن قدرًا من هذه الحقيقة يُعدّ شيئًا طبيعيًا، فنحن البشر مهما بلغنا من العلم تظل معارفنا ومدركاتنا محدودة، كما أن مقدرتنا على الجمع بين الحقائق المتقاطعة ووزن المعطيات المتباينة أيضًا محدودة، وينتج من كل هذا نوع من الخوف من القرارات التي تتعلق بالمستقبل، ومع الخوف يكون التردّد وتكون الحيرة.
ما أسباب حيرة الشباب في تقويم الماضي وتقويم الأوضاع الحاضرة؟ وكيف يمكن التخفيف من حدة هذه الحيرة؟ هذا ما سنحاول الإجابة عنه.(1/201)
1- كل تصوراتنا، وكل الأحكام التي نصدرها في أي مسألة من المسائل، وحول أي قضية من القضايا، تعتمد على التعريفات والمصطلحات التي نستخدمها أثناء عمليات التفكير. وعلى سبيل المثال، فإننا حين نقول: إننا في حال هزيمة وضعف، أو في شرٍ غالب يشوبه بعض الخير، فإنّ علينا أن نتساءل: ما الذي نقصده بالهزيمة والضعف بالنسبة إلى أمة الإسلام؟ هل نقصد أننا لا نسيطر على العالم فلذلك نحن ضعفاء؟ أو نقصد أنّ لنا أرضًا مغتصبة في فلسطين لا نستطيع تحريرها، فلهذا نشعر بالضعف؟ أو نقصد أن صوتنا في المحافل الدولية خافت؟ أم نقصد أن سلوك معظم المسلمين لا يتطابق مع تعاليم الإسلام، ومن هنا تأتي غلبة الشر؟ أم ماذا نريد؟
واضح أن هذه التساؤلات نابعة من تصورنا لأضدادها، أي أن الذي يطرح هذه التساؤلات يتصور أن غلبة الخير علينا، وأن حكمنا لأنفسنا بالنصر والغلبة، إنما يكونان إذا تطابقت سلوكات معظم المسلمين مع تعاليم الإسلام على نحو كامل، وإذا تحكّمنا في القرارات العالمية، وبسطنا نفوذنا على أراضينا وثرواتنا، والحقيقة أن كل تصوّر من هذه التصورات يرتبط بعدد كبير من التعريفات والمصطلحات التي تحتاج إلى تحرير وإلى مراجعة وتدقيق. نحو مثلاً حين نقول: إننا في عصر من أزهى عصور الإسلام نقارنه مع عصور سلفت، ساد فيها الجهل والتقليد، وانتشر فيها الفقر، كما انتشرت الخرافة والعقائد الفاسدة، ومع كل هذا ينتشر الانحراف السلوكي والخروج على تعاليم الإسلام بالجملة والمفرق. أما اليوم فالأمر قد تحسّن في كثير من هذه الأشياء. أما مسألة الغلبة والسيطرة، فالعالم اليوم ليس عبارة عن قلعة كبرى، والمنتصر هو الذي يستولي على مفاتيحها، الأمر ليس كذلك، اليابان وألمانيا مقيدتان في مسائل إنتاج السلاح بسبب هزيمتهما العسكرية في الحرب العالمية الثانية، وهما لا تشعران بالذلة والتبعية؛ لأنهما تسيطران في مجالات أخرى، مثل: الاقتصاد والتقنية.. الدول الغربية كافة مرتبكة ارتباكاً عظيماً في الشأن الاجتماعي، حيث المعاناة الشديدة من التفكك الأسري، ومن انتشار الجريمة الفردية والمنظمة، وهي تعاني أكثر وأكثر من فقدان الأهداف الكبرى والغايات النهائية للحياة. والهند –مثلاً- يبلغ عدد سكانها قريباً من خمس سكان العالم، وليس لها نفوذ دولي، لكن لها نفوذ اقتصادي متصاعد. العالم الإسلامي من جهته يتمتع بمواقع إستراتيجية كثيرة، ويتحكم بالطاقة، ولديه مشكلات اجتماعية أقل مما لدى غيره، والأهم من كل ذلك أنه يملك مرجعية للتقنين والتشريع وتوجيه القيم، كما يملك معايير واضحة للخير والشر والحق والباطل، كما يملك رؤية واضحة لما ينبغي أن تكون عليه علاقة الإنسان بالله سبحانه وعلاقة الإنسان بأخيه الإنسان، وإذا كان لدينا جرح نازف في فلسطين العزيزة، فهناك عشرات الملايين من الأميال المربعة التي تحت سيطرة المسلمين... إذاً علينا أن ندرك أن مسألة التعريف هي مسألة في غاية الأهمية، وعلى الشباب قبل أن يندفعوا في إطلاق الأحكام الحضارية الكبرى أن يتأملوا وأن يسمعوا من أهل العلم والخبرة والفهم الصحيح. كل أمم الأرض لديها ميزان، ولديها مشكلات، وينبغي أن يكون اتجاه تفكيرنا ليس نحو اليأس والإحباط، ولكن نحو التعلم من الآخرين من أجل تكثير الخير الذي لدينا.
2- انقسام الموجهين، وغلوّ بعضهم في الانحياز إلى رؤية اجتهادية محدودة من أهم الأسباب التي توقع الشباب في الحيرة والاضطراب، ومن المؤسف هنا أن أقول: إن كثيرين ممن يتولون توجيه الشباب وتوعيتهم، ينظرون إلى رؤاهم وتوجهاتهم الخاصة على أنها قطعية وصائبة على نحو حاسم، أي لا ينظرون إليها على أنها نابعة من اجتهاد وخبرة خاصة، فإذا كان الموجّه سوداويّ المزاج متشائماً أو مأزوماً، فإنه يسلك كل سبيل حتى يلقي في روع الشباب بأن الأمة في أسوأ حال، وليس من حيلة سوى انتظار المهدي! وإذا كان ينتمي إلى جماعة معينة فإنه يزهّق الشباب في العمل الفردي، ويجعل العمل الجماعي هو سفينة نوح لأمة مشرفة على الغرق! وإذا كان الموجّه متشبعاً بمنهج إصلاحي معين، كالإصلاح عن طريق التربية الروحية أو نشر العلم الشرعي، أو العمل في الميدان السياسي.. فإنه يغمط باقي المناهج حقها، ويحمل الشباب على الإيمان بوجود منهج واحد للإصلاح هو منهجه! وكثير من الشباب -مع الأسف- لا يملك المعيار الذي يفرق من خلاله بين ما هو حقيقة متفق عليها وبين ما هو رؤية شخصية، وخاصة أن كثيراً منهم لا يملك قوة الفكر وقوة الروح التي يتمكن بها من النظر الثقافي والتربوي والمنهجي الذي نشأ فيه، مع أنه يرى في صندوقه الكثير من الأشياء التي لا تعجبه، لكنه يخاف من الخروج من الصندوق أو البحث عن بديل أو المطالبة بالإصلاح؛ لأن الذين أشرفوا على تربيته جعلوا منه مقلداً وتابعاً من الطراز الرفيع.
شباب حائر (3)
د. عبد الكريم بكار 24/1/1427
23/02/2006
آن الأوان بعد أن استعرضنا نماذج من حيرة الشباب و أسبابها لأن نتحدث عن أمور تساعد على تخفيف تلك الحيرة، وهي في الحقيقة كثيرة، لعل من أهمها:(1/202)
1- الواقع أوسع من الخبرة وأوسع من التجربة، ولهذا فإن كل ما يُقال لنا يعبر عن بعض أجزاء الصورة، ويجب أن نتقبله على أنه ناتج اجتهاد. لا شك أن هناك أشياء قطعية كثيرة وخطوطًا متّفقًا عليها، لكن هذه الخطوط في مسائل تفسير التاريخ وفهم الواقع والتخطيط للمستقبل يميل معظمها إلى أن يكون ظنيًا تقديرًا.
2- حاول دائمًا أن تستشير، وتسأل وتناقش، وتستفيد من كل الخبرات المتاحة، لكن اتخذ القرار بملء إرادتك ومن غير تبعيّة لأحد، ودرِّب نفسك على ضرب الآراء ببعضها لتستخرج منها الرأي المعتدل والمتزن، وحاذر من الانحراف مع الغلاة في أي اتجاه وفي كل شأن.
3- في مسألة اختيار التخصص حاول أن تتخصّص في علم أو فن أو مجال يتناسب مع ميولك وقدراتك. لك أن تتذكر في هذا السياق أن المهم كثيرًا ليس التخصص ونوعيته، وإنما موقعك في ذلك التخصص. إذا كنت من الأوائل المبرزين في تخصص غير مهم، فقد يكون ذلك أنفع لك وللناس من أن تكون شخصًا عاديًا أو أقل من عادي في تخصص مهم؛ جغرافي أو مؤرخ على مستوى عالٍ أفضل وأهم وأنفع من طبيب خامل وهكذا...
4- خدمة الدعوة إلى الله –تعالى- والمساهمة في الإصلاح العام قد يتمّان بطريقة مباشرة، كما هو الشأن في خطيب الجمعة والذي يوجه الشباب في حلقة دعوية .. وقد يتمان بطريقة غير مباشرة من خلال إتقان التخصص وتقديم خدمة متميزة للناس وتحسين اقتصاد البلد المسلم، وتقديم قدوة حسنة للناشئة، وقول كلمة الحق في المنشط والمكره وتربية الأولاد تربية حسنة ومساعدة العناصر الضعيفة في المجتمع... كل هذا من عمل البر والخير؛ والأمة محتاجة إلى كل هذه الألوان من الأنشطة. ونحن نعرف ما يُسمى بـ (الفروض الكفائية)، والقيام بهذه يُسقط الإثم عن مجموع الأمة، ويكون للمشارك في القيام بها الثواب والفضل العظيم. تصور معي مجتمعًا من غير أطباء أو مهندسين أو ممرضين أو معلمين أو تقنيين... إنه مجتمع مرتبك في شؤونه ومفتقر إلى معونة غيره، ومن خلال الحاجة إلى المعونة يكون الضعف والاستخذاء، ومعهما يتولد الشعور بالدونية والتخلف، ولهذا فإن الفضل والأجر لا يكونان في نفس الانتماء إلى تخصص أو في عين القيام بعمل معين، وإنما يكونان في مدى نفع ما يُقدَّم ومدى حاجة الناس إليه؛ وعلينا أن نتخلص من وهم الألقاب وضجيج الأسماء والشهادات.
5- بعض الشباب لديه تطلعات واسعة، ورغبة قوية في أن يحصل على الكثير الكثير من الأشياء؛ فهو يريد أن يكون داعية وتاجرًا ومفكراً وكاتبًا... ولا يعرف كيف يجمع بين كل هذه الأشياء. وأعتقد أن من المهم أن ندرك أننا لا نستطيع الحصول على كل شيء، ولأن نتقن بعض الأشياء، ونحصل عليها بجدارة أفضل من أن نتنازل عن أشياء أخرى. زماننا هذا زمان التخصص، ومن الصعب أن يصبح المرء بارعًا جدًا في أشياء عديدة. وأود هنا أن أشير إلى أن كثيرًا من الشباب لا يحقق نتائج عالية، ولا يلمع نجمه بسبب افتقاره إلى التركيز. التركيز هو أكبر مفتاح للإتقان اليوم. ولا شك أن التركيز سيحرمنا من ميزات الشمول، لكن علينا أن نتقبل ذلك؛ لأن ما سنحصل عليه من وراء التركيز أكبر بكثير مما نفقده. المهم دائمًا أن يصب التفوق الباهر في محيط تحقيق الغاية العظمى التي نسعى إليها، وهي الفوز برضوان الله تعالى.
6- ما من وضعية من أوضاعنا الفردية وأوضاع أمتنا إلا ولها إيجابيات كما أن لها بعض السلبيات، وهذا من سنن الله –تعالى- في الخلق. واستيعابنا لهذه السنة العظيمة يخفف من الشعور بالمرارة الذي ينتاب الكثير من الشباب. للفقر بعض الإيجابيات؛ إذ تتعزز روح التواصل والاعتماد المتبادل بين الناس، وله بعض السلبيات؛ فهو يثير الكثير من المشكلات والحزازات. وللثراء والرخاء إيجابيات أيضًا، فهو يساعد على توفير قدر من الهناء، كما يساعد على حل العديد من المشكلات، لكنه يضعف روح التواصل على المستوى الشعبي وينشر الاستقلال المرضي، ويصرف الناس عن تطوير الكثير من المهارات. عزة الأمة وتمكنها وسيطرتها العالمية، يفتح عليها باب الابتلاء بالترهل الذاتي والنزاعات الداخلية، أما الضغوط التي تواجهها أي أمة، فإنها تثير الخوف والانزعاج لكنها تقوّى شبكة العلاقات الداخلية، وتساعد على رصّ الصفوف، وتستنفر روح المقاومة والممانعة، وهكذا.... المهم هو أن نبحث عن مُرادات الله –تعالى- منا في الحالة التي نكون عليها حتى ننجح في مواجهة ابتلاءات السراء وابتلاءات الضراء.
7- لستَ مسؤولاً عن صلاح الأمة ولا عن تقدّمها، فلا تشغل نفسك كثيرًا بهذا الأمر، لكنك مسؤول عن صلاح نفسك وأسرتك، ومكلف بنصح جيرانك وإتقان عملك. وحين تقوم بهذه الأشياء على نحو جيد، فأنت ممن يساهم عمليًا في تقدّم الأمة وازدهارها. بعض الشباب يشغل نفسه وتفكيره بالأشياء الصعبة ويفرط في عمل الأشياء السهلة، وهذا من قلة التوفيق.(1/203)
8- مظلة (أهل السنة والجماعة) تتسع لنا جميعًا: الذي يعمل ضمن جماعة والذي يعمل على نحو مفرد. والعمل الجماعي ليس غاية في حد ذاته، لكنه وسيلة لإنجاز ما لا يمكن إنجازه على نحو منفرد. والمهم دائمًا هو النتائج. بعض الناس يضيع الكثير من الواجبات وتفتر همته إذا عمل بمفرده، فهذا يسعى إلى التعاون مع غيره، مع أن عليه أن يكون يقظًا لأمراض العمل الجماعي من التحزّب والعصبية ومديح الذات وإثارة النزاعات مع الجماعات الأخرى... وبعض الناس يستطيع أن يبدع إذا كان بمفرده، فلا حرج عليه في ذلك، لكن ليكن مستعدًا للتعاون مع غيره عند الحاجة وبذل النصح لمن يحتاجه. ولا مانع من أن يتعاون الإنسان مع عدد من الجماعات والجهات في آن واحد؛ لأن المطلوب ليس ارتباطًا يشبه الارتباط الأسري، لكن المطلوب هو تحقيق أفضل النتائج والعمل بفاعليّة وهمّة ونشاط.
لنجعل من اكتشاف أنفسنا واكتشاف محيطنا العمل الذي لا يتوقف، ولا نملّ منه، ومن خلال ذلك سوف نتخلص من الكثير من أشكال الحيرة. والله الموفّق.
-=============
#المراجعة الشخصية
د. عبد الكريم بكار 27/11/1426
29/12/2005
سيظل وعي الواحد منا بنفسه منقوصًا ومحدودًا بحسب غموض التعريفات، ونسبية المعايير، وضعف قدرة الناس على مواجهة أنفسهم بصرامة وصراحة، ولكن مع هذا فلا بد من السعي المستمر إلى مراجعة الصورة التي كوَّناها لأنفسنا عن أنفسنا، وتلك التي كوّنها الآخرون لنا، ثم تلقفناها على أنها صورة صحيحة وصادقة. وتستمد هذه المراجعة مشروعيتها من كون عقولنا لا تدرك أبعاد الحقائق إلا على سبيل التدرّج. وإذا حاولنا التبصّر بالأمور التي نحتاج إلى تدقيقها لوجدنا الكثير الكثير مما ينبغي التوقف عنده وإعادة تقييمه. وحسبي هنا أن أقدم نماذج لما أعده مهمًا في هذه السبيل، وعلى القارئ الفطن أن يقيس ما لم يُقل على ما قيل، وما هو متوارٍ على ما هو ظاهر:
1- كثيرًا ما يلتقي المرء بأناس محبطين متشائمين، ضاقت بهم الأرض، وظنوا أن ما هو قادم من الأيام لن يكون بحالٍ أفضل مما مضى. وإذا دقق الإنسان في أسباب ما هم فيه فسيجد أن مشكلة (التعميم) غير الموضوعي وغير الرشيد هي التي أوقعتهم في ذلك. قد يخفق الواحد منهم في مشروع تجاري، فيعمم الإخفاق على كل ذاته، وتتكون لديه قناعة بأنه لا يصلح للنجاح في أي شيء؛ ويبدأ في توقع الإخفاق في كل مجالات الحياة؛ مما يدفعه في اتجاه الخوف والخمول واحتقار النفس... وبعض هؤلاء المتشائمين يرى اثنين أو ثلاثة في محيطة، وقد أخفقوا في مساعيهم في مجال من المجالات، فيدفعه ذلك إلى القول: إن ذلك المجال سيِّئ، ولا خير فيه، ويبدأ في التدليل على ذلك بإخفاق فلان وفلان وهكذا..
المراجعة لهذه الحالة وغيرها تعتمد على محاولة توسيع قاعدة الفهم والتخلص من أسْر الصور الجزئية، ومحاولة رؤية الوقائع عبر مفاهيم جديدة ومغايرة للمفاهيم السابقة. وعلى سبيل المثال فإن الاعتقاد بأن لدى كل واحد منا نقاط قوة ونقاط ضعف، يبعث صاحبه على رؤية الإخفاق في مجال من المجالات بوصفه نتيجة لضعف الأهلية في ذلك المجال أو قلة الاستعداد وعدم إحكام الأسباب والمقدمات. وعليه عوضًا عن اليأس والتشاؤم أن يكتشف نقاط القوة لديه، ويحاول الانخراط في الأعمال التي تنسجم مع تلك النقاط. والواقع والتاريخ يشهدان من خلال ألوف الأمثلة والوقائع على صحة هذا المفهوم، فكم من رجل غيّر مجال عمله، فأصاب نجحًا منقطع النظير بعد الإخفاق الذريع. وقُل مثل هذا في النظر إلى مجال من المجالات على أنه مجال صعب أو ضعيف أو قليل الجدوى أو خطر... حيث يدلّ عدد غير متناهٍ من النماذج على أن الناجحين في أي مجال من المجالات اليوم هم أكثر بكثير من المخفقين، وفي إمكان المرء أن يطلع على قصص نجاح مثيرة في كل المجالات التي يظن المتشائمون أنها مجالات ميتة. وقد قال أحدهم: ليس هناك مشروع مخفق، وإنما هناك إدارة مخفقة. وقال آخر: ليس هناك إخفاق بمعنى الكلمة، وإنما هناك نتائج غير جيدة بسبب وجود مقدمات واستعدادات سيئة. وهذا حق.
إن على كل واحد من أولئك الذين أصدروا على أنفسهم أحكامًا قاسية ونافذة بعدم الأهلية لإنجاز الأشياء العظيمة أن يقفوا ليتلمسوا خطيئة (التعميم) التي وقعوا فيها، وحينئذ سيجدون آفاقًا جديدة تتسع، وأبوابًا موصدة تنفتح. ولن يستفيد أي من هؤلاء من هذه النصيحة إذا كان اتخذ من سوء ظنه بنفسه متكأ للهروب من تحمل المسؤولية، أو وجد فيه ملاذًا من التعب وبذل الجهد!(1/204)
2- تعني المراجعة الشخصية أننا نأمل من درأ استعراض تاريخنا الخاص أن نتعلم وننضج أكثر مما يمكن أن نحصل عليه من ذلك إذا ما نظرنا في تاريخ الآخرين وسيرهم الخاصة. إن سجل حياة كل واحد منا مملوء بالمؤشرات ذات الدلالات الكبيرة والواضحة. إذا تأمل الواحد منا في مجموعة الرؤى التي كانت تشكل نظرته للحياة والأحياء، فسيجد أن كثيرًا من تلك الرؤى انتهى إلى غير رجعة بسبب الوعي الذي حصلنا عليه عبر معاناة شؤون الحياة؛ كما أنه سيجد أن بعضها قد تبلور أكثر وتعمق، بل تحوّل إلى معتقدات ومسلّمات راسخة. وسيجد قسمًا ثالثًا مازال موضع نظر وتمحيص. وإن هذه الأقسام الثلاثة على ما بينها من تباين تعمل على خط واحد، هو جعل المرء يعتقد أنه مازال في حالة من النمو والصيرورة والانتقال من حال إلى حال. وهذا الاعتقاد هو الذي يحفزنا على أن نتحسس مآلات أوضاعنا وتسليط نور الوعي عليها؛ كي نشعر أننا نتقدم في مدارج الصلاح والازدهار، وأننا نحرز نوعًا من التفوق المستمر على أنفسنا. ومن وجه آخر فإن من الصعب على الواحد منا أن يقوم بدوره التربوي تجاه أبنائه من غير أن يتذكر الوضع السلوكي والعقلي والروحي الذي كان فيه في مرحلة الطفولة والمراهقة. إن كثيرًا من الأسر المسلمة يشهد نوعًا من (صراع الأجيال) بسبب فقدان الوسيط الثقافي الذي ينقل عبره الآباء أفكارهم ومشاعرهم وقيمهم إلى الأبناء، وبسبب الجهل بطبيعة المراهق، وما يتعرض له من ضغوط، وما يواجهه من أزمات ومشكلات. المراجعة الشخصية تتيح الفرصة لمقارنة ما عليه أبناؤنا اليوم بما كنا عليه يوم كنا في مثل أعمارهم، ومن خلال المقارنة ندرك كُنْه المواقف التي علينا أن نقفها تجاه أوضاعهم وتصرفاتهم المختلفة.
3 - من خلال التبصر الذاتي سندرك أن كثيرًا من الأخطاء التي وقعنا فيها كان بسبب الجهل: جهل بعظمة من نعصيه، وجهل بالطريقة الصحيحة التي علينا أن نعالج بها الأمور، وجهل بأنواع قصورنا وضعفنا. ونحن نريد من خلال معرفة كل هذا أن نتعلم كيف نحمي أنفسنا في المستقبل من الوقوع في مثل ما وقعنا فيه. وهذا الغرض النبيل لا يتحقق من غير تحليل عميق لطبيعة الطموحات والتطلعات التي تحركنا، وطبيعة الحوافز والمحطات التي تنظم ردود أفعالنا تجاه الأحداث المختلفة. وسيظل مثل هذا التحليل ممكنًا إذا تحلّينا بالهدوء، ومنحنا أنفسنا الفرصة الكافية للقيام بذلك، إلى جانب امتلاك ما يكفي من الإرادة والاهتمام.
المراجعة الشخصيّة 2/2
د. عبد الكريم بكار 14/12/1426
14/01/2006
تحدثت في المقال السابق عن ثلاث نقاط تتعلق بمسألة المراجعة الشخصية، وفي هذا المقال أعرض لباقي ما لديّ في هذا الشأن:
4- سيظل من مهامنا الشخصية الأساسية العمل على إدراك الفرق بين ما هو كائن في أوضاعنا الشخصية، وبين ما ينبغي أن نكون عليه. وتنبع أهمية هذه المسألة من كونها المصدر الأساس لبلورة وعينا بالطموحات والتطلعات والأحلام التي تحركنا، وتحدد اتجاهاتنا. البداية ستكون في محاولة تحديد الوضعية القائمة الآن، وذلك من خلال طرح عدد من الأسئلة، من مثل: كيف أقيّم درجة التزامي بأمور ديني؟ هل أنا ممن يستفيدون من أوقاتهم على نحو جيد؟ هل رؤيتي للمستقبل واضحة؟ هل أوظف طاقاتي على نحو جيد؟ هل أعطي علاقاتي مع الناس حقها من الرعاية والاهتمام...؟ هل ...؟
ليست عملية تقييم الحالة الراهنة لأي واحد منا بالأمر السهل كما نرغب أن تظهر في معظم الأحيان، لكن أعتقد أن المرء مهما كانت معاييره غامضة، يظل يمتلك من الأحاسيس والمشاعر والمؤشرات ما يمكّنه في النهاية من الحصول على أشياء ذات قيمة؛ والله -عز وجل- يقول: (بَلِ الْأِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ) (القيامة:14-15). بعد هذا ننتقل إلى تحديد ملامح الوضعية التي نتطلع أن نكون عليها في مختلف شؤونها ومن الواضح جدًا في هذا السياق أن معظم الناس لا يعرفون ماذا يريدون؛ إن لديهم أحلامًا وتطلعات، لكنها غير محددة، ولا يملكون للوصول إليها أي برامج أو توقيتات زمنية معينة، وهذا هو السبب الذي يدفعهم إلى التحدث عما لا يريدون، وعن الأشياء التي لا تعجبهم، ولا يرتاحون إليها. الذين يعرفون ماذا يريدون تشكل طموحاتهم ما يشبه الهاجس، وهم باستمرار يسألون، ويستشيرون، ويتعلمون. قد يكون مما يساعد على تحديد الوضعية التي نتطلع إليها -السعي إلى تحديد عدد من المجالات المتعلقة بحياتنا الشخصية، مجال السلوك الشخصي، مجال الحياة الأسرية، مجال العمل، مجال الحياة الاجتماعية، مجال الصحة الجسمية، مجال الثقافة والصحة العقلية والنفسية الخ... وفي كل مجال من هذه المجالات وغيرها نحاول أن نحدد ما الذي نريد الحصول عليه. من خلال معرفة ما هو كائن ومعرفة الذي نريده أن يكون تتضح لنا المسافة الفاصلة بينهما. وهي مسافة تشبه المساحة الفاصلة بين الصحة والمرض.(1/205)
5- تتضمن عملية مراجعة الحالة الشخصية العمل على محاولة فهم القناعات التي يحملها كل واحد منا ومراجعتها على نحو دقيق. حين نكون في المرحلة العمرية الأولى فإننا نكون مستعدين لتصديق كل ما نرى، وكل ما نسمع، ومع الأيام تتراكم لدينا الخبرات، ونبدأ بتشكيل قناعاتنا حول مختلف المسائل المطروحة. والذي أود التأكيد عليه، هو أنه ليس هناك أي ضمانة لصحة وصواب ما تشكّل لدينا من قناعات ومسلّمات حول أساليب العمل، وحول المجدي من غير المجدي من محاولات التجديد والإصلاح؛ وذلك لأن الأساس الذي نبني عليه قناعاتنا في هذه القضايا، يظل يتسم بالنسبة والهشاشة. وهذا يعني أن نعتقد أن المراجعة دائمًا ممكنة، وقد تكون مفيدة. والذي يهمنا هو مراجعة القناعات التي تسبب لنا القوة والقناعات التي تسبِّب لنا الضعف. إن عقولنا وهي تحاول إنتاج المفاهيم التي تساعدها على معالجة الأشياء، كثيرًا ما تنتج الأوهام والمقولات الزائفة، وهذا من القصور المستولي على جملة البشر. ومن واجبنا التحرر من الأوهام وامتلاك المفاهيم التي نحاكم إليها القناعات. من القناعات التي تسبِّبُ لنا القوة الآتي:
- لم أستخدم بعدُ كل إمكاناتي، ولم أستثمر كل طاقاتي الكامنة.
- ما من حالة ولا وضعية إلا وهي درجة من التحسين.
- من خلال المثابرة في العمل أستدرك على ما يكون لديّ من نقص.
- العلاقات الحسنة مع الناس باب من أبواب الرزق.
- في فضل الله -تعالى- ما يكفي الجميع، ولذلك فلا داعي للحسد.
- ما أكتسبه من معارف وخبرات أهم مما ورثته عن آبائي من إمكانات.
- ما عند الله -تعالى- يُنال بطاعته، وليس بمعصيته.
- ما يُغلق باب إلا ويُفتح باب آخر.
ومن القناعات التي تسبب الضعف:
- لست مؤهّلاً لاحتلال مناصب قيادية.
- لا فائدة من كثرة المحاولة مع معظم المشكلات التي تواجهني.
- الذين حولي يكرهونني من غير سبب واضح.
- العمل مع الناس متعب والأفضل الاستقلالية.
- أنا لا أفهم إلا في المجال الفلاني، ومن الصعب تعلّم شيء في غيره.
- لم يبق في العمر ما يستحق البدء بمشروع جديد.
6- لا يكتمل وعينا بأنفسنا، ولا نستطيع مراجعتها على النحو المطلوب إذا لم نقيّم الأساس الذي تقوم عليه سلوكاتنا على نحو عام. وذلك الأساس قد يكون راشدًا، وقد يكون سيئًا، يعبر عن الضياع والضعف. ومن هنا فإن على الواحد منا أن يحاول إدراك ما يكون من تصرفاته عبارة عن استجابة لأحكام الشرع والعقل، وما يكون منها عبارة عن استجابة لأحكام الغريزة والشهوة والمصلحة. بهذا التساؤل اليومي والمستمر تنتعش الرقابة الذاتية لدى الواحد منا، كما تقوى حاسّة النقد الذاتي. وإذا استجبنا لهذا الوعي الجديد، وبدأنا في تكثير الاستجابات الراشدة، وتقليل الاستجابات الغريزية، فإننا نكون قد وضعنا أنفسنا في سياق الارتقاء الذاتي وإصلاح الأخطاء الشخصية التي طال أمدها.
من خلال الوعي والعزيمة والمثابرة ومن خلال المحاسبة والتدقيق والمراجعة نحصل -بإذن الله تعالى- على ثمرات كنا نعدها من جملة الأحلام والأمنيات؛ بفضل الله.
وقد أعود إلى هذا الموضوع في يوم من الأيام
============
#...ولكن...
د. عبد الكريم بكار 15/10/1426
17/11/2005
إذا تأملنا في بنية الخطاب الإسلامي الحالي وجدنا أنه يتجه شيئًا فشيئًا نحو التعقيد والتركيب، حيث الخوض في التفاصيل، وحيث استخدام الاستدراكات والاستثناءات والاحترازات على نحو واسع ومتسع. وهذا يشكل علامة إيجابية على تطور الفكر الإسلامي واكتسابه المزيد من الحساسية حيال التنوع العظيم الذي فطر الله -جل وعلا- عليه الأشياء والأحداث. كما أنه يعبر عن شعور أعظم بالمسؤولية تجاه التفاصيل الحياتية الكثيرة. هذا كله لا ينفي وجود شريحة إسلامية ليست قليلة، من الكتاب والمتحدثين، مازالت مفتونة بالتقريرات الجازمة والأحكام الصارمة؛ ظنًا منها أن ذلك يعبر عن التمكن العلمي، كما أنه يحفز الناس على العمل الصالح؛ إذ يحشرهم في الزاوية الضيقة! والخبر السارّ هنا هو أن هذه الشريحة تسير في اتجاه التقلص وليس في اتجاه التمدّد والاتساع. ولعلنا نلقي بعض الأضواء على هذه المسألة عبر المفردات الآتية:(1/206)
1- إننا حين نستخدم أدوات مثل (لكن) و (إلا) و(ربما) فإننا نعبِّر في الحقيقة عن عدد من المعاني، قد يكون أهمها الشعور بقصور النظام اللغوي الذي نستخدمه. ونحن نعرف أنه ليس هناك نظام لغوي كامل، وذلك القصور كثيرًا ما يتجلى في قصور القواعد التي نعبر من خلالها عن الظواهر، مما يلجئنا في النهاية إلى استخدام أدوات تدل على الاستثناء، ونحن نعبر عن ذلك القصور بقولنا: "لكل قاعدة شواذ"، إلى جانب الشعور بعدم كفاءة النظام اللغوي نشعر أننا نتحدث عن ظواهر مركبة، يصعب التعبير عنها بجمل جامعة أو بجمل بسيطة ومختصرة، ولهذا الشعور دلالة على النضج الفكري الذي يتجسد في الوعي على امتلاك الرؤى المركبة ذات الأبعاد المتعددة. إن الأطفال ومَن في حكمهم ممن حُرم من التزوّد بالمعرفة الجيدة يقنعون بأي تعبير، ويسارعون إلى تصديق أي مقولة؛ لأنهم لا يملكون من النضج العقلي والثراء المعرفي ما يجعلهم يبحثون عن المهمل والمسكوت عنه والشاذ والقليل من الظواهر المطروحة للبحث والتداول. ولك أن تتخذ من هذا معيارًا للتقدم العقلي، فالذين يكثرون من الاستدراك والتحرز في كلامهم ويحاولون نقد المقولات والقواعد العامة يكشفون عن وعي بالطبيعة المركبة لمعظم ظواهر الوجود، والذي يحفزهم من جهته على الأناة في إصدار الأحكام واقتراح طرق المعالجة. أما الذين ما زالوا في أول طريق النضج، فإنهم يفرحون بحفظ القوانين العامة والجمل ذات الدلالات المطلقة، ويتضايقون ممن يجادلهم في شيء منها. وإن المتعمق في كثير من الحكم والأمثال الموروثة والحديثة يجد أنها تنزع إلى التعمق والتعبير المبسّط عن قضايا كبرى، لكنها تُتَلقّى من لدن كثيرين بشيء من الفهم الحرفي، مع أنها في الأصل رؤى وخبرات لأشخاص معينين، أي أنها نابعة من نظرة خاصة أو جزئية. وأتمنى أن يتفرّغ لإعادة النظر فيها بعض الباحثين النابهين بغية وضع الأمور في نصابها.
2- الرشد الفكري يعني أشياء عديدة، ومن أهم ما يعنيه وضوح الرؤية، وينبغي أن نفترض ابتداء أن المعرفة النامية والخبرة المتراكمة تتيح للمتأخر أن يرى ميزات الأشياء وسلبياتها على نحو أفضل من رؤية المتقدم لها. إن المتأخر أشبه بمن يقف على كتفي عملاق، فهو يرى ما يراه العملاق، وما لا يراه. لكن هذا لا يتم إذا اعتقدنا أننا محرومون من المواهب التي حبا الله بها السابقين، أو اعتقدنا أن كل ما قاله السابقون يظل أقرب إلى الصواب؛ على حين يظل ما نقوله نحن يظل أقرب إلى الخطأ. إن الله -سبحانه- أتاح للمتأخرين من الاطلاع على قوانين الكون أضعاف أضعاف ما أتاحه للسابقين؛ ولا مانع يمنع من أن نتمكن من كشف سنن نفسية واجتماعية وإصلاحية وتربوية كانت غائبة عن استيعاب معظم من سبقنا؛ فالمعطي الوهّاب رب السابقين واللاحقين، ولا على حاجر على فضله. إن هذا الكلام قد يثير الوحشة لدى بعض الناس، مع أن كثيرًا مِن تقدّمنا اليوم ربما كان مرتبطًا بالعمل وفق معطياته ولوازمه.(1/207)
3- الرؤية السطحية تتشكل من مجموعة كبيرة من المسلمات والمقولات البسيطة والمستعجلة وذات الطابع الشخصي. أما الرؤية المتعمقة المدققة فهي رؤية مركبة. والرؤية المركبة هي رؤية تفصيلية بامتياز، والمتأمل في الذكر الحكيم يجد توجيهًا قويًا نحو تعميم هذه الرؤية وترسيخها في العقلية الإسلامية. وهذا التوجه يتجلّى تارة في الاستثناء، وتارة في إطلاق تعبيرات غير حاسمة، وتارة في تعبيرات تؤسس إلى المحاسبة والاحتزاز من التعميم والشمول. وهذه بعض النماذج لما يدل على ذلك. يقول الله –سبحانه-: (وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) [سورة العصر]. وقد تلقى الوعي الإسلامي الاستثناء في هذه السورة على أنه محورها والمقصود الأكبر منها؛ حيث إننا نستشهد بها في معظم الأحيان للدلالة على الأهمية الكبرى للتواصي بلزوم الحق والصبر. ويقول –جل وعلا-: (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً) [آل عمران: 75]. إن أهل الكتاب متفاوتون في أمانتهم، كما أنهم متفاوتون في صدقهم وفي درجات انحرافهم، وفي مدى عداوتهم للمسلمين. والرؤية التفصيلية هنا تحرضنا على أن ننظم تجاههم ردود أفعال مختلفة، ونتوقع منهم مواقف وسلوكات متباينة. وفي هذا نفع ومصلحة للجميع. ويقول سبحانه: (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) [يوسف: 103]. وقال: (اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) [سبأ: 13]. مهما بذلنا من الجهود الدعوية، ومهما كانت الغلبة للمسلمين في الأرض فإن أهل ملة الإسلام سيظلون أقلية، وهذا تشهد به كل مراحل التاريخ، وهذا ما يشهد به الواقع المعيش. وهذا الشأن في الشاكرين القائمين بحقوق النعمة. إننا لا نستطيع تعميم حكم الإيمان أو الكفر أو الشكر أو الاستقامة في أي عصر من العصور. وعلينا قبل إصدار الأحكام أن ندقق ونتحقق. ثم إن جهود الأمة المسلمة بناء على هذا استهدف زيادة عدد المؤمنين والشاكرين وتقليل أعداد الكافرين والجاحدين، ليس أكثر من ذلك. والانطلاق من هذا المقصد يعرض علينا التحلّي ببعض الأخلاق والآداب، واستخدام بعض الوسائل الخاصة
ولكن ... (2)
د. عبد الكريم بكار 29/10/1426
01/12/2005
ذكرت في الحلقة السابقة الاهتمام بمسألة التفصيل والاستثناء والاستدراك في الخطاب الإسلامي، وأنه يعبر عن نوع من اتساع الرؤية وتقدّم الخبرة. وسأكمل هذا الموضوع اليوم عبر المفردات الآتية:
1- حين نتحدث عن ظواهر كبرى أو أوضاع عامة، فإن المشكلة التي قد تواجهنا كثيرًا ما تتمثل في تحديد المستثنى والمستثنى منه أو الخط العام، وما هو شاذ عنه أو دخيل عليه: هل الأمة الآن في حالة صحوة، يتخللها بعض الإشكالات والسلبيات؟ أو أن الأمة في غفوة على الرغم مما نشاهده من بعض الإشراقات والمبشِّرات والإنجازات؟ هل أوضاعنا تسير نحو الأحسن أو أنها تسير نحو الأسوأ؟
عشرات الأسئلة التي نطلقها هنا وهناك من أجل توفير نقطة ارتكاز للفهم أو توفير مدخل للوعي. ويكون الجواب في معظم الأحيان متعددًا ومتباينًا. وحين يصل الأمر إلى هذا الحد من التشويش فإن كل أشكال البحث والنقاش تصبح من غير معنى، ومن غير جدوى، كيف يكون في إمكاننا التغلب على هذه المشكلة والصيرورة إلى درجة من الوضوح تسمح بالمعالجة الجيدة؟
في اعتقادي أن الوصول إلى وضعية متألقة ينقطع معها الجدل، ليس في حيز الممكن؛ لأسباب معروفة، لكن يمكن أن نحصل على شيء جيد إذا خطونا الخطوات الآتية:
أ – تحديد التعريفات والمصطلحات المراد استخدامها في عملية (التقييم)، ومحاولة الاتفاق عليها قدر الإمكان. وأذكر في هذا السياق أنني طالما سمعت من الشباب الغيور الخيّر من يقول: متى النصر؟ متى نرى رايات الإسلام خفاقة في كل مكان؟
وأذكر أنني في إحدى المرات ردَدْت على سؤال أحدهم بسؤال جديد، هو: ما الذي تعنيه بالنصر؟ هناك نصر عسكري، وهناك نصر سياسي وآخر تربوي ورابع تعليمي وخامس اقتصادي.... فعن أيّ نصر تسأل؟ ولم يجد ذلك الشاب ما يجيب به.
حين يقول قائل: ما أسباب سقوط العالم الإسلامي اليوم؟ فلنقل قبل أن نتحدث عن أسباب السقوط: ما المقصود بالسقوط؟ وما المكان الشاهق الذي كانت تحتله الأمة في المجالات التي أشرنا إليها؟ وما الشواهد والإحصاءات التي تدل على تراجع الأمة في كل ذلك؟
لو أننا اتخذنا هذا المنهج في تناول الأشياء، فسوف نجد أن معظم الناس يتحدثون عن أشياء كثيرة, لا يعرفون عنها إلا القليل. وكثير من الناس يقول ما يقوله من باب التقليد بعيدًا عن أي مناقشة أو محاكمة!(1/208)
ب - تقسيم الظواهر موضع البحث إلى أصغر أجزاء ممكنة. إن من الصعب ومن غير الموضوعي أن تقول: إن التعليم لدينا ينتقل من سيئ إلى أسوأ، أو من حسن إلى أحسن؛ إذ إن هذا الحكم يشمل عشرات الألوف من المدارس والمؤسسات التعليمية. وإذا نظرنا بتأمل إلى واقع المدارس، فإننا سنجد قطعًا أن بعضها يقدم تعليمًا متميزًا جدًا، ربما كان أفضل مما تقدمه المدارس المناظرة في العديد من الدول المتقدمة. كما أننا سنجد أن بعضها يسيء إلى عقول الطلاب ونفوسهم أكثر مما تفعله مدارس مناظرة في الكثير من دول العالم. لكن السؤال الذي يُطرح بعد هذا هو: ما الذي يمنح للتعليم في هذا البلد مسحته العامة أو وضعه الطبيعي: أهي المدارس السيئة أم الممتازة؟ وما الذي يشكل الشاذة والاستثنائي؟ وللإجابة عن هذا السؤال فإنه لا مناص من الخوض في التفاصيل والقيام بإجراء المسوح والدراسات المساعدة.
إن الإنسان يصدر دائمًا عن رؤية محدودة وجزئية، وإن الإحصاء المنهجي هو الذي يحول دون الفرق في ذلك.
جـ - المقارنة مساعد آخر على كشف المطِّرد من الشاذ والمستثنى من المستثنى منه. يمكن لنا حتى نتعرف على الوضعية الحقيقية لمؤسسة أو جماعة أو هيئة... أن نقوم بمقارنتها بنظيراتها المعاصرة، أو التي كانت موجودة في مرحلة تاريخية معينة. ولكن علينا أن نحذر في هذا السياق من المقارنات الخاطئة؛ إذ تعوّد كثير من الناس أن يقارنوا أشياء بأشياء لا تناظرها ولا تماثلها. من خلال المقارنة نصل إلى بعض التحديد، ونوفر أساسًا لإصدار الأحكام. إن مقارنة الأشياء المحسوسة بأخرى مثلها تأتي بنتائج واضحة؛ لأن الأسس التي تقوم عليها المقارنة تكون محددة بشكل جيد؛ فنحن اليوم نقارن مثلاً بسهولة الناتج القومي لأي بلد إسلامي مع أي بلد آخر، ونحصل على نتائج ذات مغزى، وذلك لأن حساب الناتج يقوم على أساس متّفق عليه، وهو جمع قيم السلع والخدمات التي ينتجها القطر، وتقسيم حاصل الجمع على عدد السكان، لكن من الصعب أن نقارن مقارنة جيدة بين الناتج الأدبي والدعوي والتربوي لجماعة إسلامية وجماعة مسيحية. يمكن -بالطبع- أن نقارن تنظيم إحداها بتنظيم الأخرى، أو نقارن الإتقان في الأداء أو سرعة الحركة لمعالجة الأخطاء.
2- الخطاب الوعظي والتعليم التلقيني مسؤولان إلى حد بعيد عن تشكيل (التفكير الحدِّي) الذي يطرب للمطلقات والكلمات الكبيرة، وينفر من التقييد والاستثناء والاستدراك. إن كلاً من الواعظ والمعلم الملقِّن يظن أن مَن أمامه غير صالح للنقاش والحوار، وغير صالح لاستيعاب التفاصيل؛ كما أن الرغبة الجامحة في خروج المتلقي بشيء محدّد وصارم تدفع في اتجاه تناسي الشذوذات -والتي قد تشكل ظواهر كبرى- والإعراض عن الاستثناءات.
أما الخطاب المشوب بالنقد والحرص على بيان العلل والأسباب وكشف العلاقات فإنه يساعد على بناء العقل المركّب القادر على رؤية الأشياء من زوايا مختلفة، وعلى مستويات متباينة، ومن شأن التعليم القائم على الحوار والتساؤل والاستنتاج إشاعة ثقافة تهمّش الاستبداد الفكري، وتحبّذ البحث والتأمل والاهتمام بالمستثنى والمهمل والمنزوي.
3- سيظل للخطاب الحدِّي العاطفي الجانح إلى التعميم و(البيع بالجملة) تأثير واسع في الجماهير العريضة، وسيظل كل ما يخرج عن القواعد العامة مصدرًا للمضايقة، ما لم يرتقِ المستوى المعرفي للناس، وما لم تنتشر فيهم المفاهيم الدقيقة والمعبِّرة عن حساسية فكرية عالية. إن أصحاب الثقافة الشفهية يعتمدون على الذاكرة في حفظ ما يحصلون عليه من معرفة، ولهذا فإنهم يميلون إلى المختصرات والعبارات المقننة خوفًا من النسيان. مع التبحّر في المعرفة وانتشار الثقافة الكتابية تنفتح شهية الناس إلى الشرح والتوضيح والتفاصيل المملّة. وإلى أن يحدث هذا لدى الجماهير المسلمة، فإن علينا مراقبة تعبيراتنا ونشر وعي جديد بأهمية (لكن وأخواتها).
=============
#بِنْيةُ التخلّف
د. عبد الكريم بكار 13/11/1426
15/12/2005
ليس على وجه الأرض أمة تستطيع أن تدّعي أن كل ما لديها حسن جميل أو متقدّم متفوّق؛ كما أنه ليس على وجه الأرض أمة يمكن أن تُوصم بأن كل ما لديها سيّئ أو منهار. وهذه الوضعية تعود إلى تعقيد نسيج التقدّم والتخلّف وكثرة العوامل والمظاهر المكونة لكل منهما. نحن في هذا المقال ومقالات أخرى تليه -بحول الله- سنركِّز على هذه المسألة سيراً خلف الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- والذي كان يسأل الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن الشر، على حين كان غيره من الناس يسألونه عن الخير، وكأني به أراد تكميل اللوحة واستكمال المشهد؛ إذ إن الخير المنشود لا تتم المعرفة به من غير معرفة الشر، إذ يُظهر الضدّ حسن الضدّ أو قبحه، وأودّ قبل الخوض في غمار هذا الموضوع أن أوضح عدداً من الأمور المهمة.(1/209)
1- نحن المسلمين ننظر إلى الأشياء من أفق عقيدتنا وأفق المنهج الرباني الأقوم الذي نؤمن به، ونسعى إلى تكييف حياتنا مع مقولاته ومدلولاته، ومن هنا فإننا قد نرى في بعض الأمور ما لا يراه غيرنا. إن عبادة البقر -مثلاً- تشكل مؤشراً قوياً إلى تخلّف من يقوم بها، ولو كان يترّبع على كرسي رئاسة دولة عظمى أو مركز أبحاث متقدم.
2- إلى جانب ما نجده في معاييرنا من خصوصية، فإن علينا أن نقرر أن ما هو مشترك بين الأمم في تأسيس النظر إلى التخلّف والموقف منه يُعدّ واسعاً وكبيراً، وهذا في الحقيقة يعود إلى ما فطر الله سبحانه عليه العباد من الطموحات والحاجات، وإلى الظروف والتحدّيات المتشابهة، والتي يعيش فيها معظم الناس.
3- من خلال ما هو عام وما هو خاص في تكوين النظرة إلى التخلّف يبرز شيء مهم، هو سلم الأولويات لدى كل أمة. نحن المسلمين ننظر إلى إنعاش التدين والالتزام والسير وفق مراضي الله تعالى على أنه يشكل أولوية الأولويات وغاية كل الإصلاحات التي نُدخلها على نظمنا الحياتية المختلفة، على حين أن كثيراً من أمم الأرض وشعوبها ومفكريها لا يعطون لهذه القضية أي اهتمام؛ إذ يسيطر على الاهتمام دفع عجلة الاقتصاد، ومكافحة الأمراض، وتحسين التعليم، وتحقيق المزيد من الرفاهية.
4- من المهم -ونحن نتحدث عن بنية التخلّف- ألاّ نميّع القضية ونهوّن من خطورة ما نحن فيه بدعوى الخصوصية، مما يدفعنا إلى غضّ الطرف عن المعايير العالمية، وعن تطلعات المسلم للمشاركة في صياغة عصره والعيش في ظلاله.
إن الفساد والتعذيب والاستبداد وأكل الحقوق والكسل والفوضى، والخروج عن القوانين، وتشغيل الأطفال، والتسرب من المدارس، والإعراض عن القراءة، والقسوة في تربية الأبناء، وتفكك الأسرة، وانتشار المخدرات، إلى جانب الفقر والتخلّف التقني.. إن هذه الأمور مكروهة في كل معيار ولدى كل الأمم، ويجب أن نتعاون مع العالم في القضاء عليها. إن التقدم في تقليل هذه الشرور يُعدّ مطلباً عالمياً، وينبغي أن يكون مطلباً لأمة الإسلام، ولا يصح التهاون حيالها لأي سبب من الأسباب.
حين نقول: إن هذا الشعب متخلّف أو هذا النظام غير متقدّم، فعلى أي أساس نبني هذا الحكم؟
نحن المسلمين ننطلق في حكمنا من اعتبارين:
الأول: هو مدى القرب والبعد مما نعتقد ونؤمن أنه وضع صحيح أو خاطئ، أي الخضوع لأدبيات الإسلام وتقريرات الفقهاء.
الثاني: ما نعتقد أنه يساعد المسلم على عيش زمانه بكرامة وكفاءة وفاعلية، وما نعتقد أنه يؤدي إلى الانسجام مع المعايير الدولية المتفق عليها.
ومن هنا فإن معظم مفردات التخلّف تعود إلى نوعين منه:
1- تخلّف عن السويّة التي يتطلبها الالتزام بالمنهج الربّاني الأقوم.
2- تخلّف عن ركب الحضارة المعاصر، ومقتضيات ريادته والتأثير فيه. ومن المهم أن أؤكد على شيء جوهري في هذا الشأن، وهو أن التخلّف الذي نعاني منه يمنعنا من بلورة رؤية جيدة ودقيقة حول الوضعية العامة للمسلمين وحقيقة المعاناة التي يعيشونها على نحو يومي، وهذا يعود إلى أنك حتى تتعرف على الواقع فإنك بحاجة إلى معرفة ومعلومة جيدة. والحقيقة أن العالم الإسلامي يعاني من شح الأرقام التي يستدل بها على فهم ما هو فيه، كما أن الأرقام المتوفرة كثيراً ما تكون غير دقيقة، بسبب عدم نزاهة المصدر، أو بسبب ضعف الإمكانات المطلوبة للقيام بمسوحات إحصائية جيدة!
هذا يعني أن ما سنقوله عن التخلّف وبنيته ومظاهره سيظل قائماً على الظن والمقاربة. إننا حتى نقلل من التحيّز الناشئ من طبيعة صياغة التعريفات والمصطلحات نحتاج إلى المعارف الكمية، وهذه بعضها متقادم وبعضها مبنيّ على أسس لا تساعد في الكشف عن ظاهرة التخلّف لدى الأمة، ولهذا فإن الحديث عن التخلّف يظل مزعجاً لكثير من الناس، وذلك بسبب ما ينشره من تشاؤم أولاً، وبسبب ضعف قدرته على الحسم ووضع النقاط فوق الحروف أو تحتها ثانياً. لكن مع كل هذا فإن من الثابت أن الحديث عن المرض يسبق دائماً الحديث عن العلاج. وإذا أراد المفكرون والمصلحون إغراء الناس بالحلول التي يقدمونها إليهم فلا بد من جعلهم يستيقنون أن أحوالهم ليست على ما يُرام، وأنهم فعلاً بحاجة إلى ما ينهض بهم، ويحسّن أوضاعهم.
إذا تلقينا الحديث عن المآسي بعواطفنا ومشاعرنا، فإننا سننزعج كما ينزعج المريض حين يسمع من طبيبه عن تشخيص مرض خطير لديه، لكن إذا تلقيناه بعقولنا وما نحمله من تشوّق إلى السعي نحو الأفضل والأحسن، فإن الأمر سيكون مختلفاً؛ إذ سنكون مثل المريض الذي ينتظر بعد سماع الأخبار السيئة ما سيفضي به الطبيب عن إمكانات العلاج والمعاناة.
المحذور في الحديث عن التخلّف هو أن نبالغ في جلد أنفسنا إلى درجة اليأس، ونفض اليد من كل معالجة، والحقيقة أن المعادلة صعبة للغاية؛ إذ إنه لا يمكن الحديث عن التخلّف من غير نقد للذات، ولا يمكن نقد الذات من غير ظن البعض أننا نقوم بجلدها!
ما الحلّ؟
ليس هناك حل حاسم؛ ولكن خلط الحديث عن الدّاء بالحديث عن الدّواء قد يرطّب الأجواء، ويبعث على التفاؤل
=============
#بداية تقدّم
عبد الكريم بكار 1/10/1426
03/11/2005(1/210)
انتهى رمضان (كل عام وأنتم بخير)، وصار جزءًا من الماضي، ونحن نشعر جميعًا أن هذا الشهر المبارك كان يشكل احتفالية روحية ضخمة شارك فيها المسلمون: صغارهم وكبارهم في سائر أنحاء المعمورة. إننا لا نعرف عبادة من العبادات تستحوذ على اهتمام المسلمين على النحو الذي نجده في عبادة الصيام. لقد تعود المسلمون التعامل مع شهر رمضان على أنه شهر استثنائي، وهذا يعود في الأساس إلى ما لمسه الصحابة -رضوان الله عليهم- من إقبال نبيهم -عليه الصلاة والسلام- على العبادة في كل رمضان، ولاسيما العشر الأواخر منه، فقد كان يعتكف في المسجد، ويعتزل نساءه، ويشد مئزره إيذانًا بالانصراف الكلي إلى مناجاة الله -تعالى- والتقرب إليه. ولدى كثير من المسلمين اليوم شعور بأن رمضان مناسبة مهمة لتخصص حركة المساعي الدنيوية في سبيل توفير المزيد من الوقت للإقبال على الله -سبحانه-؛ ومن ثم فإن كثيرًا من الأعمال يُؤخر إلى ما بعد رمضان، ولهذا دلائله الإيجابية الكثيرة!
إن المتتبع لحملة الآداب والسنن والمشروعات في شهر رمضان المبارك -يجد أنها مجتمعة توجد بيئة روحية فريدة، ففي هذا الشهر المبارك يرتاد المسلمون المساجد بكثرة، وتشهد صلاة الفجر حضوراً لافتاً مع أنها في غير رمضان شبه مهملة من معظم المسلمين. ونجد إقبال المسلمين على قراءة القرآن حتى إن بعضهم ليختم في هذا الشهر خمس ختمات أو ستًا. وتنبسط الأكف بالصدقة والعطاء، وتكثر الموائد التي يجتمع عليها الفقراء.. وهذا كله يجعل الوضعية الوجدانية والروحية لدى معظم المسلمين في حالة ممتازة.
لا أريد أن أسترسل في الحديث عن فضائل رمضان وبركاته، ولكن أود أن أقول: لماذا يعود السواد الأعظم من المسلمين بعد رمضان إلى ما كانوا عليه قبله من تقصير في أداء الفرائض وهجر للمساجد وغوص في الشأن الدنيوي..؟!
هل يحدث هذا لأن المسلمين ينظرون إلى رمضان على أنه (موسم)، ودائمًا تكون المواسم طارئة وغير عادية، ويكون ما بعدها مثل ما قبلها؟
أو أن هذا يحدث لأن تأثير رمضان في نفوس المسلمين لم يكن جذريًا إلى درجة إغرائهم بالتمسك بالمسرات الروحية التي خبروها في رمضان والعمل على استمرارها؟
هل يكون السبب هو كثرة المشاغل الدنيوية التي تجذب الناس بعيدًا عن الاهتمام بالمعنى والمشاعر والرفاه الروحي؟
أعتقد أن سبب ذلك هو خليط من كل هذا، وهناك أسباب أخرى ربما تعود إلى طبيعة النفس البشرية وميلها إلى الملل، والتنصل من المسؤوليات.
إننا ونحن مهمومون بشجون الإصلاح، وغارقون في شؤون التنظير العقلي، نسينا شيئًا جوهريًا هو أن المكمن الحقيقي لذات الإنسان هو روحه وليس عقله. ونسينا كذلك أن علاقتنا الشفيفة بالله -جل وعلا- هي مصدر السعادة الحقيقية في هذه الدنيا، وهي مصدر الوقود الحيوي الذي نحتاجه من أجل الاستمرار في العطاء ومن أجل مقاومة الضغوط الهائلة التي تتوارد علينا من كل اتجاه. إن حب الله -تعالى- ورجاءه وخوفه واستحضار عظمته وفضله علينا ولطفه بنا.. هي المحصلة النهائية لكل قربة من القرب، وكل عبادة من العبادات. وإن المطلوب أن تشكّل هذه المعاني الصبغة العامة لكل هواجسنا، وأن تصوغ سلوكاتنا وقبل ذلك أمانينا وتطلعاتنا. إن علينا أن نقوم بحركة توعويّة كبرى تستهدف تعليم الناس الطريقة التي تمكّنهم من جعل رمضان نقطة لبداية تغيير على الصعيد الشخصي. لعل مما يرمز إلى هذا ما سنّه النبي -صلى الله عليه وسلم- من إتْباع صيام رمضان بصيام ستة أيام من شوال؛ إذ المحاولة الواضحة للتشبث بالصيام ونقل بعض قرب رمضان إلى شوال.
في رمضان تعوّد الناس الاستيقاظ قبل الفجر من أجل السحور، ومن المهم أن يحاولوا الاستيقاظ مدى الحياة في وقت السحر، ولو مرة واحدة في الأسبوع. وفي رمضان ذاق الناس معنى التلاوة اليومية لكتاب لله -تعالى- ومن المهم أن يرتّب كل واحد منهم على نفسه وردًا أو حزباً يوميًا من التلاوة حتى يظل على صلة بكلام الله. وفي رمضان تعوّد الناس البذل، وسيكون من الحيويّ أن يوطّنوا أنفسهم على مساعدة غيرهم على نحو يومي ولو بشيء زهيد.
سنعرف قدر رمضان، وسنقوم بحق عبادة الصيام حين نحاول استصحاب ظلال الصيام وإيحاءاته وإشراقاته لتكون جزءًا من السلوك العام والأجواء العامة لأمة الإسلام. بالتثقيف والحوار والقدوة وزيادة الوعي قد نستطيع الوصول إلى كثير مما نريد في هذا الشأن.
والله ولي التوفيق.
===============
#من أجل المثاقفة
د. عبد الكريم بكار 3/9/1426
06/10/2005
حين يشتبك الناس بالأيدي، وحين يشهر بعضهم السلاح في وجوه بعض فإن ذلك يعني اصطدام بُنى ثقافية متناقضة وعقليات متباينة. ويبدو أن الناس يرون في حسم الأمور عن طريق القوة والقهر الوسيلة الأسرع للتخلص من الشقاق الفكري والثقافي. ومع أن تكاليف استخدام القوة دائماً باهظة إلا أن كثيراً من الناس يراها أسهل من مناقشة خصم عشرين سنة دون أن تكون متأكداً من إقناعه أو تغيير بعض أفكاره. ولا شك أن هذا يشكل خطأ فادحاً في الرؤية الإسلامية وفي الرؤية الوضعية المعاصرة.(1/211)
حين ترى انغلاقاً في الفهم واعتزازاً بالاجتهاد والرأي، ففتش عن بنية التربية وأسلوب التعليم؛ إذ إن من شأن التربية المتسلطة أن تدفع في اتجاه التسلط، والذي يعني رؤية مريضة للذات وللغير. كما أن أسلوب التعليم القائم على فرض المعلومات وإلغاء دور الطالب، يؤسس لعقلية ترى في الجدل والحوار مدخلاً لهدم المعتقدات وتقويض ركائز المعرفة. مع أن المنهج القرآني يؤكد أن كل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام اتخذوا من المجادلة أداة لنشر الدين والشرائع وترسيخها في نفوس الناس وعقولهم.
ولعلي أسوق في هذا الشأن الملحوظات الآتية:
1- إن عقولنا لا تدرك الحقائق دفعة واحدة، وإنما على دفعات متعددة، وقد تنقضي الأعمار، دون أن نشعر أننا استحوذنا على كل أبعاد حقيقة من الحقائق أو أدركنا كل ميزات شيء من الأشياء، وهذا يعني أن أبواب التطوير والتحوير لآرائنا ورؤانا ستظل مشرعة. والدليل على صحة ما نقول استمرار العالم في إنتاج أشكال جديدة من كل المصنوعات التي تمكّن من إنجازها عبر القرون، ولم يقل أحد: إن هذا الشكل أو هذا الطراز من هذا الشيء هو آخر ما يمكن إبداعه، بل إن الحاصل هو العكس من ذلك تماماً؛ إذ يحث كل خبراء التقنية على رصد المزيد من المال من أجل دفع عجلة التطوير، والذي كثيراً ما يعني تخفيض التكاليف وتحقيق مستوى أعلى من الجودة وتوسيع الوظائف. وكثير من هذا يتوقف على اكتشاف المزيد من الخصائص التي زوّد الله تعالى الأشياء بها، كما يقوم على معرفة المزيد من العلاقات التي تربط بينها. وتقليد ما لدى الآخرين واستعارة بعض ما لديهم من أفكار وأساليب، من الطرق اللاحبة المطروقة في كل ذلك. هذا كله يعني أن نعدّ الكثير من اجتهاداتنا شيئاً مؤقتاً وقابلاً للتغيير في أي وقت. ومثل هذا الاعتقاد هو الذي يحمينا من شرور التصلب الذهني والتكلس الثقافي، ويدفع بنا في اتجاه الانفتاح على ما لدى الآخرين، ومحاولة اقتباس شيء مما لديهم. وهذا في الحقيقة أحد الأسس المهمة في مسألة المثاقفة.
معظم مشكلاتنا، من صنع أيدينا، وبعضها مما صنعه الآخرون لنا، لكن سيظل لدى أولئك الآخرين جزء من الحل لما صنعوه لنا ومما صنعناه لأنفسنا، وإنكار هذه الحقيقة، أو التقليل من شأنها، يدفع بنا نحو العنصرية الثقافية، ويدخلنا في نفق الارتباك والركود.
2- كثيراً ما ننسى أننا محدودون وضعفاء، وكثيراً ما نذهل عن كون أدواتنا الفكرية والمعرفية غير كاملة، مما يجعل ما نبلوره من آراء وننضجه من أفكار ومواقف موسوماً بالخلل والقصور. إن المصطلحات والتعريفات التي نستخدمها في صياغاتنا الفكرية والثقافية غير حاسمة، ومعرضة دائماً للإصابة بوباء التحيز والانتقاء، كما أن النظام اللغوي – أي نظام لغوي- الذي نعوّل عليه في تأسيس الوعي بالذات وبالأشياء هو نظام غير مكتمل، وعلى الرغم من عدم اكتماله ونقصان كفاءته، فإن سيطرتنا عليه تظل محدودة!
الوضعية الناتجة عن كل هذه المعطيات هي أننا سنظل نبحث عن الحقائق، وسنظل نُواجه بأسئلة لا إجابات عنها؛ لأن الحقيقة ذات طبقات عديدة، وكلما اخترقت طبقة وقفت أمامك طبقة جديدة تتحداك، لتشعر بالتالي أن طريق الاكتشاف يبدأ ولا ينتهي، هذه الحالة الصعبة تجعل نتائج بحوثنا ودراساتنا للظاهرة الواحدة تتباين وتتقاطع في كثير من الأحيان؛ مما يجعلنا قادرين على القول: لدينا جزء من الحقيقة ولديكم جزء آخر، فكيف السبيل إلى المزج بينهما؟ أو كيف السبيل إلى جعل ما لدي من خبرة ومعرفة يشكل مع ما لديك منهما طريقاً إلى الدنو معاً من الحقائق الثابتة والمعارف القطعية؟
قد يكون الدخول في حوار على أساس ما أصّله سلفنا وأئمتنا حين قالوا:" مذهبنا صواب يحتمل الخطأ، ومذهب غيرنا خطأ يحتمل الصواب" هو الذي يجعل من المثاقفة شيئاً لا بديل عنه لتضييق دوائر الجهل وتوسيع دوائر الاستنارة والفهم.
إن لدى الناس شعوراً غريزياً يدفعهم إلى الاعتقاد بأنهم دائماً على صواب، وعلينا أن نتعلم كيف نقاوم هذا الشعور، ونتخلص من قيوده وعقابيله، وكلما كان الشعور قوياً وراسخاً لدى الواحد منا كان الشعور بخيبته بنفسه أكبر وأشد، لكن إدراك هذا قد لا يتم إلا بعد فوات الأوان!(1/212)
3- لا ينبغي للتثاقف أن يكون عبارة عن اقتباس واستعارة فحسب، بل ينبغي أن يوفر مساراً لنقد الذات. علينا أن نقف من بعضنا الموقف الصحيح القائم على الاحترام المتبادل المصحوب بنشاط محموم من أجل الوعي بالذات والآخر، وهذا لا يكون إلا من خلال بعث حركة نقدية شاملة تستهدف توفير الكثير من وجهات النظر المختلفة في المسائل الإصلاحية الكبرى، ونحن في الحقيقة في حاجة إلى نظرة جديدة للنقد؛ إذ ارتبطت النظرة القديمة إليه بالنزاع والشقاق والتسفيه والعدوان.. النظرة الجديدة لا تقوم بوصف النقد وسيلة لإبراز العيوب والمساوئ فحسب، وإنما تقوم بوصفه أداة للكشف عن مساحات الصواب والجمال والخير أيضاً، وعلى عده مصدراً لإضاءة الواقع من أجل النهوض به. إنك حين تنقدني توفر لي مادة تساعدني على نقد ذاتي من خلال منظار جديد، وحين أنقدك أفعل مثل ذلك. وهذا مشروط بلزوم الحق والإنصاف والتحلي بالأدب الإسلامي الرفيع في هذا الشأن حين يعلمني شخص كيف أنقد ذاتي، فإنه يقدم لي هدية قد لا أعرف الحصول عليها من غير أي طريق آخر، ومن هنا فإن مثاقفة النقد تكتسب أهمية فريدة.
من أجل المثقافة (2/2)
د. عبد الكريم بكار 17/9/1426
20/10/2005
كنت قد تحدثت في المقال السابق عن بعض الأفكار التي تتعلق بمسألة المثاقفة والتبادل الفكري والمعرفي، وفي هذا المقال سأتحدث عن المزيد من النقاط المكملة بغية المزيد من البلورة لهذه المسألة المهمة.
4- سيظل الشعور بالحاجة إلى المثاقفة واهياً ما لم نعتقد على نحو راسخ أن مساعينا إلى معرفة الحقائق لا تكون أبداً منتجة على نحو كامل، بمعنى أننا لن نحصل على اليقين الكامل في كثير من القضايا التي نتداول فيها الرأي.
وهذا يعود أساساً إلى أن الله – جل وعلا- جعل في كل ظاهرة من الظواهر عنصراً غيبياً استأثر بعلمه، وليس للبشر سبيل إلى معرفته. وهذا العنصر حين يُكتشف يؤثر في فهمنا للظاهرة وفي موقفنا منها. حين نتحدث عن المخاطر المحدقة وعن الفرص المتاحة والأحداث المتوقعة، فإننا في الحقيقة نتحدث ونحن في منطقة بين العلم والظن، أو بين الظن والشك أو بين الشك والوهم. وإن نظرة فاحصة على تحليلاتنا للأحداث الكبرى منذ عشرين سنة إلى اليوم تكشف -على نحو جليّ- عن دقة هذه الرؤية. وإذا كان واقع الحال على ما نصوّره -وهو إن شاء الله كذلك- فإن من المتوقع أن يعرف شخص متخصص أو باحث في مسألة من المسائل كالفقر أو البطالة أو التلاحم الاجتماعي ما لا يعرفه باحث متخصص في المسألة نفسها، وهذه المعرفة الشخصية حين تمتزج بخلفية فكرية وثقافية خاصة، فإنها تسفر من غير ريب عن رؤية مغايرة وتحليل مختلف. وهذا كله يدعونا إلى عدم التصلب في اجتهاداتنا وإلى عدم المبالغة في الاعتزاز بما تبلور لدينا من أفكار واتجاهات، بل إن هذا يتطلب منا أن ننتظر من بعضنا الأفكار التي تساعدنا على اكتشاف جوانب الخطأ في نظرياتنا.
تعالوا في هذه المرحلة لنعمل على بلورة الأخطاء في طرق تفكيرنا، وعلى إعطاء هذه البلورة الأولوية على تصحيح ما نعتقد أنه خاطئ، وأنا أعتقد أن الباحثين في الفكر الإسلامي والناشطين في ساحات الصحوة محتاجون اليوم إلى إعلاء شأن تحديد نقاط الخلل في طروحاتهم؛ فالذي يكتشف أنه وقع خلال مسيرته الإصلاحية في عشرين خطأ أرفع مقاماً وأولى بالتقدير من الذي لم يكتشف إلا خمسة أو عشرة أخطاء؛ وذلك بقطع النظر عمّا قام به كل واحد منهما من تغيير وتجديد في مسيرته الفكرية والعملية، وإنما نقول هذا لأن اكتشاف الخطأ في المجال الفكري كثيراً ما يكون ناتجاً عن إصلاح طريقة التفكير، وعن امتلاك رؤية جديدة للتعامل مع المعطيات المختلفة. إن الضعف يحيط بنا إحاطة الثوب بالبدن، وإن معلوماتنا محدودة، لكن جهلنا غير محدود، حتى إنه من القول: إن العلم الذي لدى كبار الباحثين والمتخصصين هو علم ظرفي ووقتي، ووثاقته مرتهنة بالوقوف على المزيد من المجهول منه، وأنا أعتقد -على نحو جازم- أنه لو قُدّر لنا أن نطلع على كل الحقائق والمعلومات والمعطيات المتعلقة بقضية من القضايا، فإن أحكامنا عليها سوف تتغير، وقد تنقلب رأساً على عقب!
من خلال الحوار والتفاهم العقلاني ومن خلال الإحساس بعدم الكمال، قد نصل إلى تصحيح أخطائنا أو زيادة الوعي بها – على الأقل- وبذلك نقترب معاً على ما بيننا من تباين من معرفة الحقيقة.
5- نحن لا نهتم بالبحث عن أوجه القصور في تفكيرنا، كما أننا لا نهتم كثيراً بالجرم الذي يرتكبه أولئك الذين يتسترون على الأخطاء، ولا أدري لماذا يحدث هذا. ربما كان اعتقادنا بسلامة نياتنا وحسن مقاصدنا يدفعنا إلى الظن بأننا مجتهدون، وما دمنا مجتهدين فإننا مأجورون على اجتهادنا، ومن ثم فإننا لسنا في حاجة إلى المراجعة والبحث عن الأخطاء، ولا شك أن هذا خاطئ؛ إذ إن الذين يحملون نوايا سيئة ضد مصلحة الإسلام أو ضد مصلحة المسلمين أو ضد مصلحة أوطانهم هم نادرون جداً، لكن الذين يسيئون إلى كل ما ذكرناه يفوقون الحصر!(1/213)
إن معظم ما نقع فيه من أخطاء ليس ناشئاً عن حب الأذى أو الإساءة وإنما ناشئ من القصور: القصور في الفهم والقصور في العلم والقصور في أدوات البحث وملكات الاجتهاد، ولهذا فإن استماعنا إلى بعضنا بعضاً باحترام واهتمام هو الذي يساعدنا على تقليل الضرر الناشئ عن الأخطاء غير المقصودة.
6- نحن في حاجة إلى إرساء تقاليد ثقافية تسهّل علينا الاعتراف بالخطأ، وتسهّل علينا بالتالي الاستفادة من خبرات بعضنا، وأظن أن من أهم ما يحول دون إرساء تلك التقاليد ذلك التسابق المحموم نحو استعراض ما نعرف، وما نتقن، الكل يريد أن يثبت أنه يملك من الرؤية والفهم والمعرفة ما ليس لدى غيره، ومن كان هذا شأنه، فإنه يجد صعوبة بالغة في الاستفادة من غيره أو الاعتراف بأخطائه، نحن في حاجة إلى أن نتعوّد التحدّث عما لا نعرف، وعن المشكلات غير المحلولة، ووجهات نظرنا القاصرة وغير الناضجة، لنتحدث عن هشاشة معرفتنا ببعض المسائل، وعن عجزنا عن تقليب النظر في بعض القضايا، وسنجد أننا بهذا الأسلوب من احترام المنهج واحترام عقول الناس نكون قد وضعنا أنفسنا على بداية طريق المثاقفة وتلقيح الفكر، وما أجمل قول الله - جل وعلا-:( قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ...)[الأنعام: من الآية50] ، وقوله:(...وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)[الأعراف: من الآية188]. إنه التأسيس لتقليد الأعراف بمحدودية العلم والقدرة، وهذا ما نحتاج إليه في سياق استعراض تشخيصاتنا وعلاجاتنا للمشكلات العالقة
=================
#التفكير الشبابي
د. عبد الكريم بكار 18/8/1426
22/09/2005
يتضح لنا يوماً بعد يوم أن معظم المشكلات التي يعاني منها الناس، لا يعود إلى ما هو موجود في الواقع، ولا إلى ضعف الإمكانات والمعطيات المادية، وإنما يعود إلى قصور في الذهنية، وإلى خلل في رؤية الأشياء، وإلى خلل في آلية التفكير وعتاد العقل. ولو أننا تأملنا في طريقة تفكير الشباب لوجدنا أن لها طابعاً خاصاً يميزها عن طريقة تفكير الشيوخ. وبما أن التعميم في كل شيء يشكل خطأ في الحكم، فإنه يمكن القول: إن هناك من الكهول والشيوخ من يفكر بنفس طريقة الشباب؛ لأنه يملك روح الشباب وحيويته وتوقّد ذهنيّته. وهناك أيضاً من الشباب من لا يفكر كما يفكر الشاب الذكيّ، وذلك ليس لأنه يفكر بلون آخر من منهجية التفكير، وإنما لأنه لا يفكر أبداً! فما معالم تفكير الشباب؟ وما وجه المفارقة بينه وبين تفكير الشيوخ؟
1- تتعاظم الخبرة لدى الكبار في السن، وتنضج التجربة والرؤى، وتكتمل القناعات. ولهذا -ولا شك- ميزته الكبرى، بل هو إحدى الثمار اليانعة للمعاناة الطويلة والأخطاء المتكررة، لكن لهذا أيضاً مشكلاته وعقابيله العديدة، والتي منها كثرة الحديث عن الماضي، والإغراق في تحليله وبيان أزماته وممانعاته. بمعنى آخر يجد الكبير في السن نفسه وكأنه صار مكبلاً مرتبكاً بأثقال التجربة الكبيرة التي خاضها.
إن الخيال ينقل الوعي من بؤرة الخبرة ويجعله على حوافها؛ ليكون متصلاً بالمظنون والمجهول والمتوهم والمحتمل. وحين تكون الخبرة عريضة وعميقة، فإن مغادرة الخيال لحدودها تصبح أمراً شاقاً. وهذا يجعل المرء يبدو وكأنه يدور حول نفسه.
أما الشباب، فإن لديهم القليل والقليل جداً مما يمكن أن يتحدثوا عنه، ولهذا ميزاته وسلبياته. حين يفكر المرء من غير خبرة يتكئ عليها فإنه يكون مهدداً بالتهور وبالبعد عن الحدود التي يرسمها الواقع، وخطورة مثل هذا التفكير تتمثل في اتخاذ قرارات غير عملية، والتطلع إلى الحصول على أشياء لا يمكن الحصول عليها، مما يجعل الشاب يتعرض في النهاية إلى موجات من اليأس والإحباط، لكن التفكير الإبداعي يتطلب من المرء أن يكون مستعداً لرؤية الأشياء خارج الأنماط المألوفة، وبعيداً عن الارتباطات السببية المعهودة والمعمول بها، ومن هنا فإن معظم المبدعين هم من الشباب، ومن يكبرهم قليلاً.
إن السذاجة كثيراً ما تكون عبارة عن محرّض لبذل أعظم الجهود وتحمّل أكبر المشاق، وهذا ما نجده لدى الشباب ونجده أيضاً لدى الكتاب، إننا -معشر الكتاب- نتمتع بسذاجة كسذاجة الأطفال؛ إذ نعتقد أن ما نكتبه يؤثر تأثيراً بالغاً في حركة المجتمع، ومع أن هذا قد لا يكون صحيحاً في كثير من الأحيان، وهو مبالغ فيه في معظم الأوقات إلا أنه يشكل الوقود الحيوي للاستمرار في الكتابة بوصفها عملاً عظيم التكاليف وقليل الجدوى.(1/214)
2- يحلم الشباب بالأحلام العريضة الطويلة، ويمدون أبصارهم نحو الآفاق البعيدة؛ لأن اعتقادهم بطول المدة المتاحة لهم في هذه الحياة، يحملهم على التفكير والاستثمار في قضايا ومشروعات بعيدة الأمد وذات بعد إستراتيجي، وهذه ميزة كبرى على صعيد تطوير الأمم والشعوب؛ وعلى صعيد تأمين مساقات للعمل والعطاء على صعيد الأفراد، أما الشيوخ فإن إحساسهم بدنو الأجل ونفاد الطاقة يجعلهم يفكرون فيما يمكن أن يحدث على المدى القصير، كما يدفعهم في اتجاه التقليل من الحديث عن التغيير والتطوير، مع أن الله تعالى قد ينسأ في الأجل، ويمدّ في الطاقة، مما يمكّن المرء من القيام بالكثير من الأشياء العظيمة. وإنه لدرس بليغ ذلك الذي نستخلصه من قوله عليه الصلاة والسلام:"إذا قامت الساعة على أحدكم وفي يده فسيلة فليغرسها". إن علينا أن نفكر في المستقبل البعيد، وأن نؤسس الأعمال الجيدة والمطلوبة بقطع النظر عما إذا كنا نحن سنقطف ثمارها، أو كان من يفعل ذلك من الأبناء والأحفاد.
3- يتسم تفكير كثير من كبار السن بالتشاؤم، ويتّشح بالسواد، ولا ندري تماماً لماذا يكون ذلك؟ هل هو بسبب تراجع القوى والشعور بالضعف والشعور بالخوف من الموت وما بعده؟ أو أن ذلك يكون بسبب التربية والبيئة اليائسة والمحبطة حيث بلغ التشبع بمعطياتها أقصى مداه؟
أما الشباب فله شأن مختلف حيث الآمال الغضة والنفوس المتطلعة إلى الأفق البعيد، وحيث الترقب للأشياء السارة والمدهشة، تفكير الشباب تفكير يتسم بسمتين مهمين هما التفاؤل والمرح.
ضعف الخبرة بظروف الحياة وقيودها يساعد الشباب على التفاؤل ويدفعهم دفعاً في انتظار مباهج الحياة ومسراتها. والمرح شيء طبيعي في النفس البشرية حين تسلم من الشعور بوطأة التكاليف وثقل الأعباء، وهذا موجود لدى الشباب؛ إذ تكون مسؤولية إعالتهم على أهلهم، وأعتقد أن في إمكان الشيوخ أن يستفيدوا من الشباب، ويتعلموا منهم هذه الميزة، وذلك بشيء من إدارة الإدراك ومحاولة رؤية الأشياء بطريقة جديدة.
4-الشباب أكثر مواكبة للجديد وأقدر على التلاؤم معه، وهذا يجعلهم يعتقدون أن هناك معطيات جديدة في كل مجال من المجالات، ووجودها طبيعي ومألوف، والاستجابة لها لا تحتاج إلى تفريغ الذهن من معطيات قديمة ومتقادمة؛ إذ لا قديم يذكر لدى الشباب ولهذا فإن الشباب يعملون وفق قاعدة (الجديد صحيح حتى يثبت خطؤه) أما الشيوخ فيعملون وفق مقولة (الجديد يُعامل بتريّث وحذر إلى أن يثبت صوابه). ومع أن أياً من الموقفين لا يكون مناسباً في بعض القضايا إلا أن الانفتاح على الجديد يظل أقرب إلى الصواب في معظم الأحيان.
5- شبابنا يرون اليوم بأم أعينهم الطفرات المتتابعة في مجال التقنية والاتصال والكماليات والمرهفات، وهذا يدعوهم إلى التفكير وفق المقولة (كم ترك السابق للاحق)، أما كبار السن فإن امتلاءهم من القديم وعدم تفتّحهم على الجديد.. يجعلهم يفكرون وفق المقولة الذائعة (ليس في الإمكان أبدع مما كان) ووفق مقولة (ما ترك الأول للآخر شيئاً)، وهذا يعبر عن التوجّس من الجديد، كما يعبر عن التعلّق بالقديم.
نحن في حاجة إلى العمل وفق معادلة صعبة، تقوم على أفضل ما لدى الشيوخ من الأناة والخبرة وعمق التجربة، كما تقوم على أفضل ما لدى الشباب من توثّب ذهنيّ وتفتح عقليّ وانطلاق روحيّ، ومن يستطيع الجمع بين هاتين الفضيلتين فإنه يستحق بجدارة لقب (شيخ الشباب).
============
#التاريخ والتجديد
د. عبد الكريم بكار 4/8/1426
08/09/2005
من المشهور بين الناس أننا نقرأ التاريخ من أجل الاستفادة من عظاته ودروسه، وحتى نتمكن من مقارنة أحوالنا بأحوال من سبقنا، فنزداد بصيرة وخبرة بما يجب أن نفعله، وبما يجب أن نتركه وهذا المشهور لا شكّ في صحته، وإن كان من يستفيد من عبر التاريخ دائماً قلة لكن هناك لفهم التاريخ ووعي معطياته فوائد أخرى مهمة، في مسائل التربية والإبداع والتجديد واستشراف المستقبل والتعمق في فهم العلوم...
ولعلي أشير إلى شيء من هذا عبر الملحوظات الآتية:(1/215)
- الأمم العظيمة تستخدم التاريخ أداة للتوجيه وأداة للتربية؛ إذ تتخذ من إنجازات الآباء والأجداد ومن سير العظماء محفّزات على السمو والعطاء والاستقامة، وهذا -إذا سلم من المبالغة والتهويل والقراءة المنحازة- يُعدّ شيئاً مفيداً وجيداً. المربون والمعلمون والدعاة يختلفون اختلافاً واسعاً في توظيف ما يُعد مصلحة معرفية وأخلاقية، فمنهم من يستخدم تلك الحصيلة للبرهنة على فضل السلف وانحطاط الخلف! ومنهم من يستخدمها من أجل تعليم الناشئة الإذعان للمجتمع والتكيف مع الظروف الحاضرة، وقليلون أولئك الذين يوظفون المستخلصات التاريخية في إيقاظ الوعي وتدعيم الحس النقدي والحفز على الوصول إلى شيء جديد، وسبب ضآلة هذا النوع من التربية والتعليم يعود إلى أننا حين نقرأ التاريخ لا نتوقع منه أن يساعدنا في فهم واقعنا وتطوير هذا الواقع، إن كثيراً من شبابنا منغمسون في تلبية الرغبات الآنية أو غارقون في هموم تأمين الحاجات الضرورية، وبعض منهم حائر في أمره ومستقبله! ومن مهام التاريخ حين يُدرّس بطريقة صحيحة أن يساعد الناشئة على الانفصال عن الواقع، وأن ينقذهم من الضياع في معطياته. إن التاريخ يدرس الآن على أنه سلسلة أحداث التاريخ عبر سرد متماسك، يربط المعاصرين بأسلافهم، ويسلط الضوء على سلسلة التطورات الإيجابية والسلبية التي صنعت الفرق بين مرحلة ومرحلة، وبين جيل وجيل. وهذا يتطلب أن ندرس مع التاريخ فلسفته وفقهه، وأن نثير الأسئلة حول أسباب وقائعه وأحداثه، ونبحث عن العلل والمقدمات والجذور، ونكتشف سنن الله -جل وعلا- في الاجتماع البشري، ونجلو طبيعة النفس البشرية في إقبالها وإدبارها، إن التاريخ حين يُدرس بهذه الطريقة، يحسّن مستوى البصيرة لدى المتعلمين، ويمكنهم من امتلاك الأدوات التي ينقدون بها الواقع الذي يعيشون فيه عوضاً عن أن ينجرفوا مع تياراته العاتية من غير أي قدرة على التأبّي والممانعة، إن نقد الواقع يساعدنا على بلورة ملامح الهوية التي تميّزنا عن غيرنا، كما أنه يفتح السبيل أمام تطوير هذا الواقع وإخراجه من سياق التداعيات والتحوّلات العمياء التي تصنعها العولمة بإمكاناتها الهائلة.
- إن الهم الذي يسيطر على المدارس والجامعات اليوم هو إعداد خرّيجيها لسوق العمل، أي مساعدتهم على أن يكرّسوا عقولهم وطاقاتهم، وأن يكيّفوا اتجاهاتهم وميولهم مع ما يساعدهم على كسب لقمة العيش، أو بعبارة أخرى تعدّهم لأن يكونوا مسماراً صالحاً في الآلة الكبرى التي يديرها رجال المال والأعمال، وهذا الاتجاه في التعليم مطلوب وإيجابي، لكن ينبغي أن نكون على وعي بالتأثيرات الجانبية السيئة لهذا التوجيه في التعليم وفي إعداد الناشئة للحياة. إننا حين نعدّ الأجيال للتكيف مع سوق العمل عن طريق تلقينهم معلومات تجعل منهم أشخاصاً تقنيين تنفيذيين كما يجري الآن، فإننا نجعل منهم أشخاصاً عاجزين عن المساهمة في إيقاف التدهور الذي تتعرض له مجتمعاتهم. إن التطور الاجتماعي يتم بطريقة غير واعية، ومن مهام المثقفين على اختلاف درجاتهم أن يساعدوا الأمة على تجاوز الأزمات الكبرى التي تتعرض لها من خلال تراكم الأخطاء والخطايا الصغيرة والكبيرة للأجيال المتعاقبة، ولا يستطيع المثقفون والمتعلمون عامة القيام بهذا الدور إلا إذا تلقّوْا العلم على أنه تحرير وعتق من الاستكانة للقوى الغاشمة، ومن التقليد الأعمى للآباء والأجداد، وإلا إذا تلقّوْه على أنه وسيلة للتكيف مع الواقع ووسيلة لترشيده وتحسينه أيضاً، ومما يساعد في بلوغ هذا العمل على إضفاء الطابع الأخلاقي والإنساني على المعرفة والتقنية، فالعلم للعمل ولخدمة الناس ونصحهم وتصحيح أوضاعهم. يجب أن نعلم الناشئة الدور التاريخي الذي قام به العلم في بناء الأمة وتشييد الحضارة الإسلامية، بالإضافة إلى توضيح دور العلم في تكوين الرجال العظام على امتداد التاريخ الإسلامي. يجب أن يطلع الناشئة على تاريخ الحركات الإصلاحية الكبرى وعلى العوامل والأسباب التي تساعد على نشوء الأفكار العظيمة ذات الطبيعة الاختراقية، إذا ما كنا نريد للتاريخ وللعلم أن يساهما في تجديد الأمة ودفعها نحو الأمام.(1/216)
- في بنائنا المعرفي ثغرات واضحة، لا تخطئها عين الناقد، وتلك الثغرات كثيرة، ولعل من أهمها إهمال تاريخ العلوم، وإهمال اكتشاف مقاصد التشريع بالإضافة إلى التقصير الظاهر في التعرف على سنن الله تعالى في الخلق، والتقصير في معرفة طبائع الأشياء ولا سيما الطبيعة البشرية، إن العلوم الإنسانية والعلوم البحتة كذلك تُقدّم للناشئة مبتورة من بعدها التاريخي؛ فتبدو وكأنها تكونت منذ البداية على الصورة التي عليها الآن حيث لا يعرف الدارسون تاريخ نشوئها ولا الأطوار التي مرت بها، كما لا يعرفون شيئاً ذا قيمة عن العلماء الكبار الذين تركوا بصماتهم عليها، ولهذا فإنك لا تشعر أن ما نقدمه في المدارس والجامعات يبني عقولاً منهجية، أو يبني شخصيات تتمتع بالاستقلال الفكري والمعرفي، وما ذلك إلا بسبب شعورهم بضآلة ما يتلقونه وغموضه. إننا في الحقيقة لا نستطيع أن نفهم أي علم على نحو عميق إلا إذا فهمنا تاريخه وخارطة تكوينه وتحوّلاته، ومن المؤسف أننا لا نبذل جهداً يذكر في شرح كيفية تحدّر الجديد من القديم، وليس لدينا أي جامعة أو كلية أو معهد يقدم شيئاً متميزاً في تاريخ أي علم من العلوم!
إن التجديد المعرفي والاجتماعي سيكون صعباً من غير الاطلاع على الأطوار السابقة لعلومنا وأوضاعنا، إننا من خلال قراءة تاريخ العلوم نتعرف على بواعث الاجتهاد وبيئاته والعقبات التي تواجهه، كما أننا ننمي لدينا حاسة المقارنة، ونكتسب المزيد من المرونة الذهنية، والمزيد من القدرة على رؤية الأشياء من زوايا مختلفة، وقد صدق من قال:"إذا أردت أن تعرف المستقبل فانظر إلى الماضي"؛ إذ تمكننا معرفة الماضي من اكتشاف السنن التي تجسد العلاقة بين ما فات وبين ما هو آت، ومن خلال هذا وذاك نكتشف آفاقاً جديدة للتطوير، ونفتح حقولاً جديدة للممارسة، وقد آن الأوان للعمل على استدراك بعض ما فات، والعمل على توظيف التاريخ في تغيير نوعية الحياة لمئات الملايين من المسلمين.
===========
#نوعيّة الحياة
د. عبد الكريم بكار 20/7/1426
25/08/2005
وصفوا القرن التاسع عشر بأنه كان قرن (التفاؤل) بسبب كثرة الفتوحات العلمية التي حدثت فيه. ووصفوا القرن العشرين بأنه كان قرن (التشاؤم) بسبب اشتماله على حربين عالميتين وأكثر من مئة حرب إقليمية ومحلية. أما القرن الحادي والعشرون -والذي ما زلنا في بدايته- فلا ندري الاسم الذي سيكون لائقًا به في نهاية المطاف، لكن بعض أصحاب الرؤى الإستراتيجية يرون من الآن المسارعة إلى تسميته بقرن (التعقيد). وأعتقد أنهم محقون في هذه التسمية. والسبب في وجاهة هذا الاسم هو أن أبرز ملامح التطورات المتسارعة التي نشاهدها على كل صعيد هو (التنوّع): تنوّع في الطُّرز وتنوّع في العناصر المكونة للمصنوعات، وتنوّع في الفهم وفي التفسير للنصوص والأحداث، وتنوّع في الأمراض والمشكلات والأزمات، يصحبه تنوّع في الحلول والأدوية والعلاجات... وإذا تساءلنا عن أكثر الأشياء ملازمة للتنوع فسنجد أنه (التعقيد). وإذا تساءلنا مرة ثانية: ما الذي يترتب على التعقيد أو ما الذي يلازمه؟ لوجدنا العديد من الأشياء التي يمكن أن نتحدث عنها؛ لكن لعل ما يهمنا منها ثلاثة، هي:
1- ارتباك الوعي؛ إذ إن الوعي الأكثر قدرة على استيعاب الأمور المعقدة هو الوعي الذي تشكل ونما في بيئة صناعية. أما الوعي الذي تشكل في بيئة رعوية أو زراعية، فإنه يجد صعوبة بالغة في فك رموز التركيبات الشديدة التعقيد. وهذا هو حال الوعي لدى معظم المسلمين؛ إذ إنه ليس هناك أي دولة إسلامية يمكن أن توصف بأنها (دولة صناعية) بمعنى الكلمة!
2- صعوبة العجز عن إدارة الأشياء المعقدة والتحكم التام بها. خذ مثالاً على ذلك السيطرة على التدفق الثقافي الأجنبي. وخذ السيطرة على موضوع (الاستنساخ)، هذا العمل البالغ الخطورة والذي يمكن أن يتم في شقة مستأجرة! وخذ السيطرة على تلوث البيئة وارتفاع حرارة الأرض. إن كل هذه الأشياء ومئات الأشياء على شاكلتها باتت خارج السيطرة، وهذا شيء مقلق ومخيف.
3- المرونة؛ إذ إن من شأن كثرة العناصر التي أدّت إلى التعقيد أن تتيح قدرًا كبيرًا من المرونة في التعامل مع الأشياء على صعيد إيجاد تكوينات جديدة، وعلى صعيد إيجاد حلول للمشكلات القائمة. إن بعض العطور اليوم مكوّن مما يزيد على ستين عنصرًا كيميائيًا، وهذا التعقيد والتنوّع يتيح الحصول على مئات الروائح من خلال التغيير في كميات العناصر المكوّنة. ولهذا فالتنوع يأتي بالتعقيد ويأتي بالمرونة في آن واحد، وهذه معادلة غير مألوفة.(1/217)
الذي نخلص إليه من وراء هذه المقدمة هو أن العيش في عصر سِمته (التعقيد) يتطلب منا أن نطوّر منهجيات معقدة إذا أردنا القيام بمواجهة ناجحة للمشكلات التي أخذت تغير ملامح حياة الإنسان المسلم، وتسبب له الكثير من الألم والأذى. إن ما نواجهه من مشكلات لم يحدث بمحض الصدفة، ولا بوصفه ناتجًا طبيعيًا لتفاعلات بريئة هي جزء من ثمن التحضر... إن هناك جهات كثيرة تسعى إلى تحقيق مصالح خاصة، وطبيعة تلك المصالح تقتضي إدخال تغييرات سيئة على الحياة الشخصية لأعداد كبيرة من البشر. وتلك الجهات تستثمر أموالاً وخبرات عظيمة وهائلة في سبيل الوصول إلى أهدافها، ومن ثمّ فإن ردود الفعل العشوائية والخجولة التي تصدر من هنا وهناك، ستكون قليلة الجدوى. إن التخريب الواعي والمنظم يجب أن يُقابل بإصلاح على شاكلته، وإلا كنا كمن يحاول علاج السرطان بـ (الإسبرين) أو إسقاط طائرة بمسدس. نحن في حاجة إلى قيام مشروع وطني في كل قطر إسلامي يكون همه الأكبر مراقبة (نوعية الحياة) ورصد التطورات الإيجابية والسلبية التي تطرأ على سلوكات الناس وعاداتهم ومواقفهم المختلفة. هذا المشروع يحتاج حتى يخدم الأغراض التي أُنشئ من أجلها إلى تشكيل عدد كبير من الهيئات والجمعيات والأنشطة المتخصصة. وستكون المهمة محاولة بلورة معايير ومواصفات للحياة الطيبة التي تليق بالمسلم المعاصر على المستوى الروحي والخلقي والاجتماعي والصحي والمعنوي... ثم العمل على نشر الوعي بها في أوساط الجماهير بشتى الوسائل والسبل المتاحة. أما المهمة الثانية فهي العمل على تنظيم حملات متتابعة وأنشطة مستمرة لمقاومة أنواع الأخلاق والسلوكات السيئة التي يسببها العيش في هذا الزمان؛ إذ المحرك الأساسي لسلوك البشر هو المادة والمتعة واللهو والإرواء المباشر للرغبات، وسيكون على تلك اللجان أيضًا متابعة التقصير في الواجبات الشرعية والخلل في التواصل الاجتماعي وما شابه ذلك مما هو مشاهد اليوم.
نحن في حاجة إلى جمعيات تتابع إعراض الشباب عن الذهاب إلى صلاة الجماعة في المساجد، والإعراض عن القراءة واقتناء الكتاب، وجمعيات تتابع التغيرات الثقافية والسلوكية مثل: الإدمان على التدخين والخمور والمخدرات والإسراف في الإنفاق وسوء استخدام الموارد مثل: الماء والكهرباء بالإضافة إلى العادات الشخصية السلبية مثل: السهر والنوم المتأخر والأكل في المطاعم والبدانة واستخدام المنبهات والمنشطات..... إن هذا ما هو إلا عادة محدودة للأشياء الكثيرة التي تحدّد نوعية الحياة لدى الأمة والتي تحتاج إلى الاهتمام.
السؤال المطروح هنا هو: لمن نقوم بتوجيه هذا الكلام؟
الحقيقة أنني أوجه الكلام لكل أولئك الذين يملكون الوعي والغيرة على مستقبل هذه الأمة، وهم بحمد الله كثر. الأمة تتملك اليوم ملايين الشباب التوّاقين لعمل شيء إيجابي يصب في المصلحة العامة، وإن على الكهول والشيوخ أن يوفروا لهم الأطر والمؤسسات والجمعيات التي يتمكنون من خلالها من عمل شيء جيد. إن رصد الواقع وقراءته عن طريق المسح والإحصاء والاستبيان عمل كبير وحيوي في هذا المشروع، وإن في إمكان مجموعة مكونة من خمسة شباب أن تقوم بعمل مسحي منظم ومنهجي لظاهرة من الظواهر تحت إشراف أستاذ متخصص، ثم تقوم بنشر نتائج ذلك المسح على الإنترنت وغيره من أجل إيقاظ وعي الناس ورفعهم للاهتمام بتلك الظاهرة والتعامل معها بما يلائم. ولابد من التنسيق مع الجهات الإعلامية والتربوية في كل خطوة من خطوات مشروع (نوعيّة الحياة). إن الإصلاح الذي تحتاج إليه الأمة له ألف رأس وألف ذراع وألف ذيل، وإن من المهم أن نمتلك القناعة بأن التقدم الشامل لا يتم من خلال عمل كبير يقوم به فلان أو فلان أو هذه الدولة أو تلك...، وإنما يتم من خلال ملايين المبادرات الصغيرة التي تصدر عن ملايين الأبطال الصغار، وأعتقد أننا نستطيع أن نتعلم من الغرب في هذا الشأن الكثير من الدروس البليغة والمفيدة.
=============
#إدارة الثقافة
د. عبد الكريم بكار 28/2/1426
07/04/2005
لو عدنا إلى أدبيّاتنا عبر القرون الماضية لوجدنا أن معظم تنظيرنا للشؤون الثقافية كان ينصبّ عليها بوصفها علوماً واختصاصات معرفيّة منظمة.
وربما سادت تلك النظرة بسبب قلة ما في أيدينا من المعارف والمعطيات المتعلقة بالإنسان باعتباره كائناً متعدّد الجوانب ومتعدّد الاحتياجات.(1/218)
أما اليوم فإن المفهوم (الأنثروبولوجي) للثقافة آخذ في الانتشار والرسوخ؛ حيث إن هناك اعتقاداً متزايداً بمحدوديّة تأثير (العلم المجرّد) في صياغة السلوك الإنساني، وفي توجيه حركة الحياة اليومية. الثقافة كما بلورها علماء الإنسان هي ذلك النسيج المكون من العقائد والمفاهيم والنظم والعادات والتقاليد وطُرُز الحياة السائدة في بقعة محدّدة من الأرض. إنها طريقة عيش شعب بعينه، أو هي ما يجعل الحياة جديرة بالعيش، وكثير من مكونات الثقافة يستعصي على التخطيط والتنظيم؛ لأنها تشكل الخلفيّة (اللاواعية) لكل تخطيط وتنظيم. إن تنوع العناصر المكونة للثقافة يمنحها قوة هائلة في مواجهة الوافدات الأجنبيّة، وما يمكن أن تتعرض لها من ضغوطات داخليّة. إنه حين يتعرض أحد أنساق الثقافة للهجوم أو الهون، فإنها تعتمد في استمرارها واستعادة حيويّتها على باقي أنساقها، لكن نقطة قوة الثقافة هذه هي أيضاً نقطة ضعفها؛ حيث يعرّضها تنوّع مكوّناتها في أحيان كثيرة إلى ما يشبه الانقسام على الذات بسبب التصادم بين بعض أنساقها؛ وهذا ما يجعلنا في حاجة إلى ما سميناه (إدارة الثقافة).
أودّ هنا أن أدلي بالملاحظتين الآتيتين في هذه القضية:
1- في كل مجتمع نوعان من الثقافة: ثقافة عليا، وثقافة شعبيّة أو ثقافة نخبة وثقافة جماهيريّة. الثقافة العليا تتكون بطريقة واعية وتكون أكثر دراية ببنيتها العميقة، وذلك لأننا نتملكها عن طريق القراءة والتأمل والحوار الرفيع والمقارنة وطرح الأسئلة.. أما الثقافة الشعبيّة فإنها ليست كذلك، إنها تتكون بطريقة غير واعية وغير مقصودة، حيث يتشربها أبناء المجتمع ويتشبعون بها كما يتنفسون الهواء. ونقطة ضعفها هذه هي نقطة قوتها؛ حيث إن اختراقها من قبل الثقافات الأجنبية يكون عسيراً بسبب عشوائيّتها وكتامتها ورقابة المجتمع المشدّدة عليها. أما الثقافة العليا والتي نبدأ بنشرها منذ الصف الأول الابتدائي إلى ما لا نهاية. هذه الثقافة هي التي تمثل الأمة أمام الأمم الأخرى، وهذا ما يجعلها على درجة حسنة من المرونة والقدرة على التكيف وتمثل الرموز الثقافية الأجنبية، أي أن كثيراً من الاقتباس والتطوير يأتي عن طريقها. تنظيمها وتمثيلها الخارجي لثقافة الأمة يعرّضها لأمرين مزعجين:
الأول:سهولة اختراقها؛ حيث إن طريقة اكتسابها الواعية تفتح الطريق لغزوها وبالتالي تحويرها وتهجينها.
الثاني:جفول الوعي الشعبي من أصحابها والشعور بأنهم يتجاوزون حدودهم إلى درجة يسوغ معها اتهامهم بخيانة الأمة وبيعها للغرباء. ومع أن شيئاً من هذا ينطبق فعلاً على بعض المثقفين إلا أن المشكلة أن الثقافة الشعبيّة لا تملك المعايير المنهجيّة، ولا الأسس المنطقيّة التي تمكنها من الحكم الراشد على تصرفات النخبة، مما يجعل موقفها شاعرياً أكثر من أن يكون عقلانياً. وهي بدافع من الخوف من الانقطاع تلجأ في كسب قضيتها إلى التيارات النخبويّة الأكثر محافظة وتقليديّة لتقدم لها العون في كبح اندفاع التيارات المتحرّرة والمتطلعة إلى التحديث. وهذا يجعل من الثقافة الشعبيّة عاملاً مهماً في زيادة الانقسام بين تيارات الثقافة العليا.
يمكن القول: إن تطوير الثقافة الشعبيّة وتخليصها من العادات والسلوكات الخاطئة يقع على عاتق الصفوة أصحاب الثقافة العليا، لكن من الصعب أن يحصلوا على الاستجابة لمناشداتهم وطروحاتهم ما داموا موضع شك وريبة من أولئك الذين يحتاجون لخدماتهم.
في العالم الإسلامي قامت الثقافات الوطنية والمحلية منذ أمد بعيد بإفراغ طاقاتها على الحضّ والكفّ في الثقافة الإسلاميّة المستندة إلى الكتاب والسنة، واجتهادات الفقهاء، وصار من غير الممكن المضي قدماً في تطوير أيّ شأن محلي بعيداً عن مدلولات هذه الثقافة ورمزيّاتها وتحديداتها. وهذا يعني أن ثقافة النخبة لا تستطيع أن تصبح قوة محرّكة للناس ما لم تتشرب روح الدين، وما لم تلتزم بقطعياته وأُطُره العامة. إننا في مرحلة حرجة يحتاج فيها كل من يروم الإصلاح إلى ولاء الناس وحماستهم وتضحياتهم؛ لأن المفكر لا يملك أكثر من ناصية التنظير، والجماهير التي ستتحمل عبء التنفيذ؛ ولهذا فلا بدّ من الاستحواذ على رضاها وإعجابها. وستكون النخبة في وهم كبير إذا ظنّت أنها تستطيع إحداث تغييرات كبرى من غير مساندة حقيقية من طيف واسع من أبناء الأمة. وقد أثبتت التجارب الكثيرة الإسلاميّة وغير الإسلاميّة أن كل حمل يتم خارج رحم الأمة هو أشبه بالحمل الكاذب. وحين يجافي أهل الرؤية والخبرة روح الدين فإنهم يسلمون زمام الأمة إلى عناصر تملك الكثير من الحماسة والاندفاع والقليل من البصيرة والفهم لمتطلبات المرحلة.
إن طاقة ثقافة الأمة تكمن في المستوى الشعبي منها، على حين أن عقلها ورشدها في المستوى الصفوي. وهذا التفاوت هو دائماً مصدر للتوتر والنزاع، لكن في الوقت ذاته يمكن أن يكون مصدراً للتطوير نحو الأحسن والأقوم إذا أدرنا العلاقة بينهما بما هو مطلوب من الذكاء والوعي.(1/219)
2- إن تنوع الأنساق المكونة للثقافة يحيل دائماً على إمكانية حدوث الصدام والنزاع، كما هو الشأن في التنوّع والتعدّد. ويبدو أن أشد أنواع التوتر تلك التي تقع بين الثقافة بوصفها (هُوِيّة) وسمات خاصة بالأمة، وبين الثقافة بوصفها تعبيرات عن نَزَعات استهلاكية أو تعبيرات عن تحرّكات لتلبية حاجات الجسد، أو تعبيرات عن التكيف مع ظروف ومعطيات شديدة القسوة. وكلّما أوغل الناس في مدارج الحضارة اشتد أُوار الصراع بين هذين النسقين من أنساق الثقافة؛ ذلك لأن ثقافة الهُويّة تتسم بالتعالي عن الانشغال بالواقع، وتنزع نحو المطلق. على حين أن التحضر يزيد وعي الناس نحو مصالحهم، ويفتح شهيّتهم على الاستهلاك، مما يفضي في نهاية المطاف إلى تضخم الثقافة المتعلّقة بتسيير الحياة اليومية وتحقيق المنافع الشخصية، وهذا يجعل الناس يشعرون ويظهرون بأنهم أكثر دنيويّة، وهو ما يثير حساسيّة الترميزات العميقة للهُويّة في الثقافة الإسلاميّة.
من الواضح اليوم أن ثقافة ما بعد الحداثة تشجع على انبعاث الهُويّات في كل أنحاء العالم من خلال عمل غير مقصود، وهو المناداة بالنسبيّة الثقافيّة والتأكيد على انعدام الأطر والمرجعيّات، وجعل الحقيقة شيئاً تابعاً للثقافة. وتكمّل العولمة المهمة حين نعتمد نظام التجارة أداة أساسية في تسليع كثير من مظاهر الحياة، وجعلها أموراً جاهزة للمتاجرة والمساومة. إن هذا الدفق الهائل من الرموز والصور الاستهلاكيّة يساعد -على نحو استثنائي- على انتشار الهُويّات المقاتلة دفاعاً عن الوجود، وقد لا يكون أمامنا لإدارة الصراع المحتدم في عمق الثقافة على هذا الصعيد إلا أن ندعم الأنشطة الروحيّة والأدبيّة والاجتماعيّة ذات النفع العام، وأن نحاول إضفاء المعنى على الأنشطة الدنيويّة من خلال الحرص على شرعيتها، وشرح ما يمكن أن يجعلها موصولة بالأعمال الأخرويّة. وما لم نفعل ذلك فإننا سنعاني من الانقسام والتمزق في أعماق ثقافتنا، وسنشعر بالكثير من تشتت الجذور وضياع الأهداف الكبرى
==========
#هدايا الغرباء
د. عبد الكريم بكار 1/1/1426
10/02/2005
الشاغل الأول للثقافة الشعبيّة بما هي عادات وتقاليد ونظم ورمزيّات يتمثل في تحقيق أكبر قدر ممكن من التلاحم الأهليّ والتواصل الأخويّ وهي في سبيل تحقيق ذلك تجد نفسها مضطرّة إلى التغاضي عن كثير من الأخطاء الاجتماعية، والقبول بالكثير من الأوضاع والأشياء السيئة والضارة. إنها تجعل من نشاطها مركزاً للتسويات، وتبدي براعة نادرة في إبداع أنصاف الحلول وإمساك العصا من الوسط.
إن الناس يلوذ بعضهم ببعض في الرأي والموقف كما تلوذ الطير ببعضها أيام الصقيع.
إن التقليد والحرص الدائم على التوافق والتطابق، يعطي دائماً إشارات الرّضا عن الأوضاع السائدة؛ لأنه يساعد على ذبول ملكة التمييز والتفريق بين الأشياء، ويجعل القدرة على النقد في أوْهَى حالاتها.
إن الثقافة الشعبية السائدة في أي مجتمع تدفع بالناس نحو التوحّد الشكلي بسبب الصندوق الذي تضعهم فيه. وذلك الصندوق مملوء بالتّحيّزات والأهواء والرؤى الجزئيّة المبتسرة، كما أنه مملوء بالمعايير والمقاييس غير العلمّية وغير الموضوعيّة. وفي كل الحالات يكون الخروج من ذلك الصندوق أو محاولة النظر إلى ما في خارجه -على أقل تقدير- شرطاً أساسياً لامتلاك رؤية أصيلة ونظرة جديدة للذات وللعالم.
إن الوحي بما هو شيء منفصل عن إنجازات البشر، يُخرج أفذاذاً من الناس من صناديقهم الثقافيّة، ليقوموا بعد ذلك هم وأتباعهم بكسر الاتّساق والمنطق الشكليّ الذي يشعر به سكان الصندوق؛ لكن ذلك لا يكون من غير ثمن، يقول الله - جل وعلا-:(إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) [آل عمران:19].
العلم هو الذي أخرج إبراهيم -عليه السلام- من التّبعيّة لأبيه ليصبح هادياً له ومرشداً (يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً) [مريم:43]. والثمن الذي يدفعه الأنبياء -عليهم السلام- وكل أولئك الذين يسيرون على منهجهم في الخروج على المألوف وإرساء قواعد جديدة للحياة -إن الثمن الذي يدفعونه هو القتل والإيذاء والاضطهاد والطّرد من الديار.
والحقيقة أن التفكير العميق والمنهجي هو الآخر يقوم بخلخلة ما يبدو متصلاً ومنسجماً، ويقوم بإيجاد الفراغات وفتح الفجوات فيما يبدو ممتلئاً ومتماسكاً، إنه يزرع روح التحديث في جسد التقليديّ والمستمر. وبذلك يلتقي نتاج الفكر بثوابت الوحي وحقائق العلم، أو قل: يعمل العقل، ويشتغل على قطعيّات الوحي ومسلمات العلم.(1/220)
حيث تغادر بلدك بجسدك، فإنك تكون أمام فرصة حقيقيّة للتخلص من كل المفاهيم البالية والضغوط الاجتماعيّة الخاطئة، ومن كل الأهواء التي تُشبع بها أولئك الذين ما زالوا يقيمون في ذلك الوطن، وتُتاح لك فرصة أقل من هذه الفرصة حين تملك فضيلة التأبي وفضيلة التمييز بين الصواب والخطأ والحسن والقبيح، ولو كنت تعيش بين أهلك وفي مدارج صِباك. إنه الانفصال العقليّ والروحيّ الناتج من الامتلاء بالهدي الرّبانيّ: في كلتا الحالتين سيشعر المرء بالغربة، وبشيء من العُزلة والتفرّد، وسيواجه ضغوطاً وأزَمات لا يجدها أولئك المقيمون في أوطانهم، وأولئك المشتغلون بلقمة يومهم، الراضون بالفُتات والفاقدون للتّمييز. وقد قال عليه الصلاة والسلام: "بدأ الدين غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء".
دين واحد بمفرده يحتفظ بنقائه واتجاهه وأهدافه بين عشرات الأديان والمذاهب والتيارات؛ إنه لشرف عظيم ومهمة صعبة. ومسلمون غرباء، يحاولون الاحتفاظ بنقائهم -أيضاً- ويعملون على إصلاح ما تفسده الجماهير العريضة. هؤلاء المسلمون طوبى لهم ثم طوبى!!
حين تغترب ببدنك أو بعقلك ومشاعرك فإنك تضع نفسك على رأس طريقين: أن تعيش على الهامش تجترّ آلام الغربة، وتبكي من الوحدة، وتبذل كل جهدك من أجل الاستمرار في الحد الأدنى من العيش تأكل وتشرب وتتكاثر وتتنفس، وإلى جانب ذلك تغرق في الحديث عن محاسن وطنك الذي فقدته ومساوئ البلد الذي حلَلْته، أو تغرق في ذكر مثالب الناس الذين يخالفونك في اتجاهك وانتمائك ورؤيتك للحياة. وتغرق في الحديث عن العامة والدهماء والغوغاء، وما أنعم الله -تعالى- عليك به إذ لم تكن واحداً منهم.
أما الطريق الثاني: فهو أن تنطلق من نعمة الخروج من الصندوق والتحرّر من قيود الاستكانة لما هو سائدٌ وطاغٍ. وحينئذ فستشعر أنك تملك ما لا يملكه غيرك من ثقوب النظر والقدرة على رؤية الأشياء من زوايا مختلفة. وستشعر أن في إمكانك أن تكون صاحب رسالة، تعيش من أجلها، وتعيش بها، وبهذا وحده يكون للغربة -بشقّيها- معنى، وتكون لها ميزة.
إن المسلم الملتزم والواعي بشجون عصره سيواجه من الآن فصاعداً المزيد من الشعور بالغربة، وإن عليه أن يعدّ نفسه للاستفادة من هذا الشعور كي يجعل منه وقوداً روحياً في حركة التحرير: تحرير الذات وتحرير الأمة وبناء المستقبل.
أمّة الإسلام -على كثرة عددها- غريبة بين الأمم، وأصالتها في غربتها ودورها المستقبلي في تقديم شيء للعالم يكمن في هذه الغربة. فكيف يمكن لها أن تقدّم هداياها للناس، وما طبيعة تلك الهدايا؟
هدايا الغرباء
د. عبد الكريم بكار 15/1/1426
24/02/2005
في ظل الاتصال العالمي، وفي ظل سيطرة العولمة وانتشار مفاهيمها أخذت مشكلات العالم شرقاً وغرباً في التجانس والتشابه، أي يمكن القول: إن حاجة الإنسان في الغرب على المستوى الروحي والعقلي والأخلاقي لا تبتعد كثيراً عن حاجات مسلم يعيش في الشرق، لكنه ضعيف الالتزام وغارق في شؤونه اليومية. وعلى هذا فإننا يمكن أن نقول -مع شيء من التجاوز والتعميم- : إن ما يمكن أن يقدمه الداعية والمفكر المسلم لإخوانه في ديار الإسلام يقترب شيئاً فشيئاً مما يمكن أن تقدمه أمة الإسلام للأمم الأخرى مع بعض الخصوصيات والاستثناءات. وعلى هذا فإن هدايا الغريب المسلم تتقارب مع هدايا الأمة المسلمة. شيء مهم أن نعرف ماذا نهدي، لكن حتى نعرف ذلك فإن علينا أن نعرف شيئين: ما الذي لا نستطيع إهداءه، وما الذي يحتاجه أولئك الذين سنقدم إليهم هدايانا ومن حسن الطالع أن يكون -في أغلب الأمر- ما لا نستطيع إهداءه هو ما لا يحتاجه الآخرون.
من الواضح أننا لا نملك بإمكاناتنا وأوضاعنا الحالية أن ننشئ دورة حضارية عالمية ذات صبغة إسلامية تعقب الدورة الحضارية الغربية السائدة الآن، وتعكس هيمنة القيم والأفكار والاعتقادات ومناهج العمل والتفكير الإسلامية. نحن لا نستطيع هذا الآن لأننا لا نملك الوسائل والقوى المطلوبة لذلك.
أيضاً نحن لا نستطيع الآن أن نُحدث طفرة علمية وتقنية وبحثية تدفع بما هو متوفر عالمياً نحو الأمام، ونسدي بذلك للإنسانية خدمة تحسِّن في رفاهيتها واستغلالها لخيرات الأرض؛ لأننا لم نستوعب إلى الآن ما هو موجود ولا نسهم إلا على نحو محدود جداً في تطويره.
ونحن اليوم لا نستطيع أن نقدم نظاماً تربوياً أو تعليمياً أو إدارياً يتفوق على النظم الموجودة حالياً، لأننا لم نطور نظمنا القديمة، ولا استخدمنا الموجود بكفاءة. لكن في إمكان الفرد المسلم المتميز أن يقدم لأمة الإسلام أشياء مهمة في كل ما ذكرناه، إذا عرف أن (الغربة) تعني التفوق والتقدم على الصفوف، وليس الضعف والعزلة.
العالم الذي تبنيه العولمة اليوم، وتبشر به الرأسمالية والليبرالية يفتقر إلى رؤية تركيبية توليفية، يشعر الإنسان من خلالها بالاطمئنان إلى مصيره بعد الموت، وتوفر له في الوقت نفسه الإطار التوجيهي في حركته اليومية. ونحن الذين نملك هذه الرؤية.(1/221)
وعالم اليوم مشبع بالوحشة والنفور واليأس والاستقلال الذاتي العدائي والعنجهية. وهو يحتاج حتى يتخلص من هذه الوضعية البائسة إلى من يقدم له قيم الأخوة والمباشرة والمؤانسة والتواضع والتضحية والتعاون. وهذا ما تؤكده المنهجية الاجتماعية الإسلامية.
عالم اليوم يستثمر أموالاً هائلة في السياحة والترفيه واللهو وكل ما من شأنه خدمة البدن. ولم يخطر في باله أن ينفق أي شيء في خدمة (الروح) وذلك لأنه أسلم قياده لثقافة لا تعرف عن الروح شيئاً، سوى أنهم يعدون (الخمر) مشروباً روحياً!! والمسلمون الملتزمون هم الذين يعرفون كيف يكون غذاء الروح، وكيف يُبنى الإشراق الروحي المسلمون مشغولون بأداء حقوق الله تعالى والبحث عن مراضيه، ويفهمون حقوق الإنسان والحيوان في إطار فهمهم لحقوق خالق الإنسان والحيوان وعلى هدي تعاليمه. أما حضارة اليوم فإنها تتحدث عن حقوق المرأة والطفل والعامل والسجين، كما تتحدث عن حقوق الكلاب والقطط ونظافة البيئة، لكنها لا تتحدث أبداً عن حقوق الله تعالى ولا تقيم لها أي وزن. ونحن نملك الرؤية الكاملة لتوجيه الحضارة في هذا الشأن. العالم الذي اتخذ من الصراع ناموساً للبقاء يملك ويكتسب الكثير الكثير من (العلم)، ويفقد مع الأيام ما تبقى لديه من (حكمة) عالم كثير علماؤه قليل حكماؤه. وما ذلك إلا لأنه لا يعادل غناه بالوسائل سوى فقره في الغايات. وأمة الإسلام وحدها هي التي تعرف الغاية من وجود البشر على هذه الأرض، كما يجب أن تكون المعرفة.
إن قارة (أوروبا) أسست الحضارة الحديثة، وما زال لها موقع متقدم في قيادتها، وهي تقدم الدليل تلو الدليل على قصور البناء الذي وضعت قواعده، وشيدت أركانه. وهل هناك دليل على ذلك أقوى من أن يستحي أي زعيم من زعمائها وأي رئيس من رؤسائها من أن يجري اسم (الله) على لسانه؟!
إن عالم اليوم لا يحتاج إلى التسامح فحسب، لكنه يحتاج أيضاً إلى من يدله على طريق الهداية، ويساعده على أن يقترب من الله تعالى شبراً أو ذراعاً، وهذا ما نملك القيام به.
هذه الوضعية تحملنا مسؤولية كبرى لأننا نملك فعلاً ما العالم في أمس الحاجة إليه.
لكن يجب أن نكون على وعي بأننا لن نستطيع أن نقدم للعالم على طبق من ذهب شيئاً نستخرجه من الكتب، ونسطره على الورق، ثم نذيعه في فضائية أو ننشره على شبكة (الإنترنت)، إننا لو فعلنا ذلك فحسب فإننا نكون كمن لم يفعل أي شيء.
إن القيم والأسس والمبادئ والمعاني التي لدينا، مهما كانت عظيمة وسامية فإن العالم لن يتقبلها إلا إذا تفاعلنا نحن معها أولاً، وقدمنا البرهان تلو البرهان على أن المنهج الذي استطاع إنقاذ أمة الإسلام وارتقى فعلاً بها، قادر على أن يفعل ذلك مع الأمم الأخرى. إن العالم يحب أن يرى شيئاً على الأرض، ولا يأبه كثيراً للكلام، فلنساعده على أن يرى.
هنا يأتي دور الغرباء، وهنا يتجسد جهادهم العقلي والروحي والسلوكي فهل نستطيع أن نجعل من (الغربة) هوية قادرة على بعث حركة ريادية داخل أمة الإسلام؛ كي نرى الأمة وقد أصبحت القوة العظمى التي تقوم بالدور نفسه على مستوى العالم؟ هذا ما نرجوه ونطمح إليه.
=============
#الكرامة الجريحة
عبد الكريم بكار 20/8/1424
16/10/2003
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد.
نحن أهل كرامة جريحة، وهذا الشعور بذلك يأتينا من مصدرين:(1/222)
من التاريخ أولاً؛ إذ إننا أمة ظلت صاحبة حضارة مهيمنة مدة لا تقل عن سبعة قرون، واستمرت إشعاعات عطاءاتها ثلاثة قرون إضافية، ويزيد في إحساسنا بالإهانة أننا في منتصف القرن الرابع عشر الهجري واجهنا -بوصفنا "أمة ذات منهج ورسالة"- تيارات عديدة، يرمي جميعها إلى طمس هذا المعنى، وجعل وعي الأمة ينفتح على معان وطنية وإقليمية وقومية وعلمانية ....، بوصفها بديلاً عن الانفتاح على أخص خصائصنا، وهو العبودية لله - تعالى - والاحتكام إلى الشريعة في الشؤون العامة والخاصة، وفي مواجهة هذا الاستلاب اجتهد المثقفون والغيورون في تلك المرحلة - وكانوا فيما ذهبوا إليه على صواب إلى حد بعيد - في كيفية مواجهة ذلك، وانتهوا إلى قرار بالذهاب إلى التاريخ على اعتبار أنه الذاكرة الحضارية للأمة والخزان الأساسي لأمجادها وبطولاتها. ونذكر كيف نشطت في تلك المرحلة الكتب التي تتحدث عن العبقريات وعن سير الرجال العظماء والنماذج التاريخية الفذة، والمعارك المظفرة، والإنجازات العلمية الباهرة، بالإضافة إلى بلورة شيء من حكمة التشريع وكون الإسلام لا يتناقض مع العلم... وأسدل الستار على نحو شبه تام على كل الألوان الرمادية والباهتة التي كانت جزءاً من ألوان ذلك التاريخ، كما تم الإعراض عن الحديث عن الأسباب التي أدت إلى توقف الحضارة الإسلامية عن العطاء؛ لأن الكشف عنها في تلك المرحلة كان سيؤدي إلى الإحباط، ويجعل الناس شبه مجردين من أسلحة المقاومة للتيارات التي أشرت إليها. وقد أدت تلك القراءات المبتسرة والجزئية دورها بكفاءة واقتدار في إنقاذ الذات لمسلمة والثقافة الإسلامية من هزيمة نكراء. وهكذا فقد ترسخ في وعي الأجيال الحاضرة وفي حسَّها مشاعر عميقة بالظلم الذي يلحقه بنا الآخرون اليوم، وبالهوان إذ خسرنا معظم الإنجازات التي كنا نفاخر بها في الأيام الخالية.
وأعتقد أن شيئاً من العلاج لهذا سيكون في إعادة قراءة التاريخ على نحو متوازن وبمنهجية سببية واستقصائية ذكية ومتقنة.
المصدر الثاني لإحساسنا بجرح كرامتنا؛ هو الواقع الذي نعيشه، فنحن أمة تملك أفضل منهج - على مستوى الأصول والأسس والمنطلقات الكبرى على الأقل- لإصلاح العالم، لكننا نعيش في أوضاع سياسية واجتماعية واقتصادية عليلة ومتخلفة عن المنهج الذي نؤمن به، وعن متوسط السائد من كثير من أوضاع عصرنا، ونحتاج إلى الكثير من الفكر والعمل والجهد حتى نتجاوز هذه الأوضاع.
المسلم اليوم يشعر أولاً أنه يعيش على هامش الحضارة، حيث إننا دخلناها من باب الاستهلاك والتمتع ليس أكثر، وينقضي عصر صناعي بعد عصر دون أن نلج أياً منها، ومعظم الدول الإسلامية مازال ما لديها من إمكانات صناعية وتقنية أقل مما كان متوفراً لدى أوروبا في القرن التاسع عشر. ويشعر من وجه آخر أنه غير قادر على حماية أرضه وحقوقه، وغير قادر على تفادي الصفعة التي يوجهها الآخرون إليه ولا على ردها، بل يشعر أحياناً أنه غير قادر على الشكوى من الألم الذي يشعر به، أو غير قادر على جعل تلك الشكوى مسموعة لتكون ذات معنى!!
وهكذا؛ فالإحساس المتضخم بالأمجاد الغابرة جعل إحساسنا بالإهانة التي نتلقاها - وهي أشكال وألوان- شديداً أو متفجراً، لكنه مبهم وغامض حيث لا تعرف الأكثرية الصامتة من هذه الأمة أي تحديدات لأسباب ما نحن فيه على نحو منطقي، فضلاً عن أن تعرف سبل الخلاص منه.
وأود هنا أن أبدي الملحوظتين التاليتين:
1-شيء أساسي أن نشعر بالإهانة والدونية؛ لأننا إذا فقدنا هذا الإحساس فإن ذلك يعني خللاً بنيوياً في رؤيتنا لأنفسنا وللواقع وللعالم من حولنا. وبعض المسلمين حصل على مواقع اجتماعية أو اقتصادية جيدة، فهو مغتبط بالتمتع بثمرات الحضارة وعقد الصفقات وحصد المزيد من المنافع. وينظر إلى الذين يشكون من سوء الأحوال نظرة استغراب، فالأمور تمضي على أحسن ما يرام، وأن يكون بينك وبين الغرب سبب أو تواصل ما، فهذا يعني انفتاح أبواب إضافية للنعيم والنجاح. هذه الفئة من المسلمين ضعُف لديها الإحساس الجماعي إلى حد التلاشي، وهي تشعر في أعماقها بالدونية، لكنها تجد دائماً ما يوجه وعيها نحو همومها ومكاسبها الشخصية. وهذه الفئة في ظل موجات اللهو والمتعة والأنانية التي تبعث بها العولمة - مرشحة للاتساع - ولا ندري كيف سيكون الحال بعد عشر سنوات من الآن ؟!
2-من المهم أن نتخذ من كرامتنا الجريحة محفزاً على المقاومة واكتساب المنعة والارتقاء والفكاك من أسر التخلف لا أن نجعل منها منهجاً للعمل. وهذه القضية لا تخلون شيء من الدقة، وتحتاج إلى شيء من التوضيح.(1/223)
حين يشتعل إحساسنا بالهوان، ونستجيب في توجهاتنا واستخدام الإمكانات التي لدينا لتلك الأحاسيس والمشاعر على نحو بدائي ومتسرع ووفق رؤية جزئية ومبتسرة –؛ فإننا نكون آنذاك غير مؤهلين لمداواة الكرامة المجروحة، ولا استرجاع الحقوق المسلوبة؛ بل إن الاستجابة على هذا النحو ستجعل جروحنا تزداد تقرحاً، وتجعل حقوقنا أكثر تعرضاً للاغتصاب والنهب. ولنا فيما جرى خلال العامين الماضيين من المضايقة والتحجيم للدعوة الإسلامية والمحاربة للمؤسسات الخيرية والمطاردة للدعاة... عبرة إن كنا قادرين على الاعتبار!
وأي شيء أسوأ من أن يصبح ذكر الإسلام والمسلمين شيئاً يثير مشاعر الخوف والاشمئزاز لدى كثيرين من أبناء أمريكا وأوروبا وغيرهما؟!
إن أمريكا أحسَّت بجرج عميق في كبريائها حين تعرضت رموزها الاقتصادية والعسكرية للهجوم، وردت على ذلك الجرح الغائر في كرامتها باتخاذه منهجاً للرد، فقابلت الصفعة بصفعات في أماكن عدة من العالم، وما زالت مستمرة في ذلك إلى هذه اللحظة، فماذا جرى؟
إنها تنتقم من بعض خصومها على نحو ساحق، لكنها لن تستطيع أن تحول دون تكرار ذلك الهجوم عليها مرة أخرى؛ لأنها لم تستطع التوقف لقراءة الأسباب الجوهرية التي أدت إلى الهجوم عليها. إنها تربح معركة هنا ومعركة هناك إلا أنها تخسر جاذبيتها الحضارية من خلال عدوانها على النموذج الذي كانت تقدمه للعالم، وتخسر مع كل ذلك الانسجام الداخلي مع القيم التي تروج لها.وهذا ما علينا أن نستفيد منه على نحو جيد.
أما إذا اتخذنا من جرح الكرامة وكؤوس الإهانة حافزاً على الخلاص؛ فإن سلوكنا آنذاك سيكون مختلفاً. وأتصور أننا آنذاك سنفكر ونتصرف على النحو الآتي:
-إن حالة ارتباك الوعي التي نعاني منها ليست جديدة، ولم تتكون في مرحلة واحدة، وجرحنا الغائر لم يحدث بسبب ما فعله ويفعله بنا الغرب، وإنما بدأ الأمر قبل ذلك بقرون عدة. وحين انفرط عقد الدولة العباسية لم يكن ذلك بسبب غرب أو شرق، وإنما بسبب الانحراف عن المنهج الرباني الأقوم الذي أكرمنا الله به، وبسبب عدم القدرة على التجدد وحل المشكلات المتأسنة .
ولهذا فإن ما نلقاه اليوم من ازدراء لا يعود إلى أحوال هذا الجيل، وإنما بسبب الوضعية العامة للأمة، وهي وضعية صنعتها أخطاء وخطايا القرون.
-كما أن على أمريكا أن تسأل بصدق واهتمام : لماذا يكرهها الآخرون؟ ولماذا يكون هناك شباب في عمر الورود مستعدين للموت من أجل إلحاق الأذى بها؟. فإن علينا أيضاً أن نسأل: لماذا يجري كل هذا لنا؟ ولماذا نحن عاجزون عن الدفاع عن أنفسنا؟ ولماذا لا نساهم في توجيه الحضارة الحالية، ولا نؤثر في موازين القوى فيها؟.
إذا نحن تصرفنا ضد أعدئنا وضد أولئك الذين يوقعون الظلم علينا بعين الأسلوب الذي يستخدمونه معنا، فما الميزة التي تجعلنا أكثر أهلية لوضع أسس لحضارة جديدة ومختلفة عن الحضارة السائدة؟
إننا في حاجة إلى أن نعمل على المدى الطويل حتى نكون في وضعية لا يفكر معها أحد في إهانتنا والعدوان علينا؛ لأن ذلك سيكون بالنسبة إليه مكلفاً جداً. والأرقى من ذلك أن يحترمنا الآخرون للقيم والمنجزات التي لدينا، فينشغلون بكيفية الاقتباس والتعلم منا، بدل الانشغال بإيذائنا وظلمنا. والأرقى من هذا وذاك أن نفكر وندعو ونعمل على تحويل أعدائنا إلى أولياء يدخلون في ديننا، وينشرن مبادئنا وقيمنا. وهذا ما قام به المسلمون الأوائل حين انتهوا من مشكلة الآخر الوثني في جنوب شرق آسيا عن طريق نشر الإسلام وجذب الناس إليه. وإن الغرب على المستوى الشعبي – ينتظر منا هذا الأداء، وهو في أمس الحاجة إليه.
وأنا هنا لا أرمي إلى تمييع الأمور، ولا إلى إخماد روح المقاومة؛ لكنني أريد لأعمالنا وجهودنا أن تكون في السياق المنتج، وأن تعبر قبل ذلك عن رؤيتنا الكونية للعالم، وليس عن انفعالاتنا ومشاعرنا.
-الصراع بيننا وبين أولئك الذين يجرحون كرامتنا ليس صراعاً عسكرياً، ولا يمكن للقوة اليوم أن تحسم أية قضية على نحو نهائي .
وإن أي نصر عسكري سيكون مؤقتاً ومجوّفاً إذا لم يرتكز على تفوق حضاري. وإن شروط الاحترام ونوعية الرد المطلوب على الإهانة – لا تستمد من أدبيات حقبة تاريخية ماضية، ولا يضعها الناس بحسب أهوائهم وأمزجتهم، ولا بحسب معتقداتهم ومبادئهم، وإنما يصوغ ذلك ويحدده أولئك الذين يضعون بصماتهم على الحضارة الراهنة، مهما كانت هذه الحضارة ضالة أو ناقصة أو خاوية وهذه نقطة جوهرية.(1/224)
-إن كرامتنا لم تمتهن بسبب استلاب حقوقنا أو نهب ثرواتنا فحسب؛ وإنما هناك أمور أخرى لا تقل أهمية، فالتخلف الذي يخيّم على العديد من جوانب حياتنا أوجد ندوباً ناتئة في نفس كل مسلم، حيث صار هناك ما يشبه الاعتقاد بأننا غير مؤهلين لإنتاج التقنيات المتقدمة ولا لتصميم النظم المعقدة. وإن كثيراً من العمال المسلمين في الغرب لا يجدون فرصاً لكسب أرزاقهم إلا في الأعمال الوضيعة أو الشاقة أو غير المجزية، والتي يترفع عنها كثير من أهالي تلك البلاد، وإن مسلم اليوم يشعر أن الأمة عالة على الأمم الأخرى في كل شيء حتى طباعة المصاحف وتشيد المآذن! وإن النقلة النوعية في التقنية والصناعة وحدها هي التي تجعل المسلم يشعر بأنه لا يعيش على هامش العصر، كما أنه ليس محروماً من الذكاء ولا المواهب التي يقر للآخرين بامتلاكها.
-سيظل من المهم دائماً أن ندرك أن علاقتنا بالأعداء والمنافسين والأغيار ستظل فرعاً عن الوضعية العامة التي نؤسسها في بلادنا، وإن العلاقات الدولية أشبه بسوق يعرض الناس فيه بضائعهم، ويأخذون منه على مقدار ما في جيوبهم، ولن نستطيع أن ندافع عن حقوقنا ولا أن نرسخ وجودنا على الصعيد العالمي عن طريق (الفهلوة) والإدعاء والشعارات، فهامش المناورة أمامنا ضيق جداً؛ وإن الناس يحبون أن يروا؛ فلنجعلهم يرون إذا ما كنا نريد لموقعنا العالمي أن يتحَسَّن.
-علينا أن ندرك على وجه جيد نقطة الضعف الأساسية في علاقتنا مع الآخرين؛ لأننا من غير إدراكها سنكون كمن يصرخ في واد، أو ينفخ في رماد. وأظن أن تلك النقطة لا تتجسد في نقص إمكاناتنا وقدراتنا مع أنها محدودة، وإنما في تكبيل إرادتنا؛ لأن أصحاب الإرادة المسلوبة يظلون يشعرون بالعجر والانهزام مهما كانت قوة الأوراق التي بين أيديهم.
إن تحرير الإرادة من الخوف والتبعية والاستخذاء أمام الأجنبي سيظل شرطاً جوهرياً لتحريك إمكاناتنا في الاتجاه الصحيح، وشرطاً جوهرياً لاتخاذ قرارات تاريخية ومصيرية .
والله ولي التوفيق.
=============
#تجنب ردات الفعل غير المدروسة
9/1/1428
28/01/2007
هل تربية الشباب تربية صالحة هي أخضاعهم للحكومة دائماً ؟
• هل خسرت الحكومات رهان المصالحة مع شبابها ولماذا ؟
• طوفان الغضب لدى الشباب هل تكفيه مظاهرة تمثيلية ؟
خلفية المبادرة
يرى الدكتور ناصر العمر أن حماس الشباب تجاه المواقف التي تتخذها الحكومات، يتبع لمواقف تلك الحكومات من القضايا المصيرية الداخلية والخارجية، ففي حالة عمل الحكومات العربية والإسلاميَّة على تطبيق الإسلام التطبيق الصحيح، كما أنزله الله تعالى على رسوله الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، وإتباع سنة المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام، ترى الشباب يخضع لحكوماته، ويتفانى في الإخلاص لها، أما في حالة عدم تطبيق الشريعة الإسلاميَّة في الحكم، ومخالفة الشرع، فإن الشباب يندفعون للوقوف في وجه حكوماتهم. إن المواجهات الحماسية لبعض الشباب ناتجة عن خلل ما، وأرى أن الخلل عائد إما إلى:
• نوعية التطبيق الإسلامي من قبل الحكومات.
• نوعية تربية الشباب.
• نوعية من يُربي الشباب ويقودهم.
• وجود معضلات لدى الحكومات الإسلاميَّة لم يستوعبها الشباب.
ويؤكد فضيلة الشيخ الدكتور عائض القرني على ضرورة تربية الشباب على الاستقلالية في التفكير، وطلب الدليل، وعدم التحزب والتبعية، والرجوع إلى أهل الرأي والخبرة والتجربة، إذ إن تربية الشباب على التبعية المطلقة للحاكم تقتل شخصيته, وتلغي وجوده؛ كما أن التربية على العداء والمعارضة تجعل من الشاب إنساناً ناقماً لا يرضى بالحق، ولا يحسن رؤية الجانب المشرق في المجتمع.
وقد قال علي -رضي الله عنه-: ( اعرف الحق تعرف أهله، ولا تعرف الحق بالرجال).
أما الشيخ جودت سعيد فيعقد مقارنة بين حماس وإخلاص الشباب حالياً لإسلامهم في العالم الإسلامي، وبين حماس وإخلاص الخوارج الذين خرجوا عن جماعة الخليفة علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
فعلى الرغم من خروجهم عليه - رضي الله عنه - فهو لم يكفرهم، بل قال عنهم: إن هؤلاء ليسوا منافقين، لأنهم يذكرون الله كثيرا، وهم قد أخطئوا في الفهم فقط، وليس في الإخلاص للإسلام. مجملاً ذلك بقوله - رضوان الله عليه -: " ليس من طلب الحق فأخطأه، كمن طلب الباطل فأدركه"
ويأتي الشيخ بأمثلة حية لاندفاع وحماس الشباب تدل على إخلاص الشباب وحماسهم، وعدم تأييدهم حكوماتهم في كثير من المواقف التي تسيء إلى أوطانهم، مثل اندفاعهم في فلسطين المحتلة إلى تفجير أنفسهم وسط الصهاينة، المحتلين لأراضيهم ، هادفين بذلك الشهادة وطرد الغاصبين. ويستدرك الشيخ في تعليقه على ذلك بالقول بأنه مع ذلك "لا يحق للشباب، ولا لغيرهم تفجير أنفسهم واستخدامهم القوة في تغيير الحكم في بلادهم، وإجبارهم على القتال ضد من لم يحن الأوان لقتاله لأسباب مختلفة".(1/225)
الدكتور عبد الكريم بكار يرى بأن فكرة البطولة والانتقام من المعتدي تبرز لدى الشباب كلما ضعفت إنجازات أمتهم، فهم يرون أن ضرب المعتدي من خلال الأعمال الحماسية والانتقامية السريعة عبارة عن تعويض سريع عن نقص الإنجاز، وتخاذل الحكومات عن القيام بواجبها. ويوضح أن مقاومة المعتدي ظاهرة أممية عامَّة، و ليست خاصة بالمسلمين، ولكنها تظهر بطولاتها، وبالتالي أثرها وقسوتها عندنا أكثر من غيرنا، لأننا أمة كبيرة والتحامل عليها شديد، وحكوماتها شديدة التقصير.
إن هذه الرؤى لا يفهم منها إعذاراً لمن يقوم بترويع الآمنين ، أو الاعتداء على الذميين والمعاهدين ،وإنما يعني ضرورة فهم الإشكالية بصورة صحيحة تمكن من التعامل معها برشاد وموضوعية.
المحاور الرئيسية للمبادرة
- الجهد التربوي في العلاقة مع الشباب
- تفعيل الحوار البنّاء مع الاتجاهات الفكرية المختلفة
- إصلاح الأوضاع الداخلية وإشاعة التعددية الفكرية والتعبيرية
ضمن المِحوَر الأول للمبادرة ثمة العديد من الاستراتيجيات منها:
يرى الدكتور ناصر العمر التأكيد على الجهد التالي:
1. تربية الشباب تربية صالحة، وعمليّة وضمن بيئة مكشوفة واضحة، للتعرف على من يقودهم، والتحاور معهم بشكل مباشر. هذا يقتضي التسامح مع مختلف الأفكار حتى لا تنمو في الخفاء وتأخذ أكبر من أثرها الطبيعي.
2. إيجاد (ودعم وجود) القادة الحكماء من العلماء، والمصلحين، ومثقفي المجتمع (من غير الرسميين)، الذين يوضحون للشباب حقيقة تطبيق شريعة الله، أي " أن الأمور لا تعالج إلا بتحكيم شرع الله ". ويعملون على التبصير بنتائج الأمور لدى الشباب، وعدم التسرع في الحكم، فالعجلة قد تعطل عملاً إسلامياً ناجحاً.
3. التيقن بأننا لا نسعى إلى نزع خاصية العداوة من أفئدة بعض القادة الغربيين، وأن عدو المبادئ لا يتحول إلى صديق، ولكن يجب أن نعمل على تحييده ومهادنته، وإحراجه أمام المنصفين من قادة الفكر والسياسة في الدول الغربية ، والدول والقوى الأخرى .
4. تربية الشباب على ترشيد ردود الأفعال على إساءات الغرب، وإدراك أن المواجهات العنيفة مع الغرب ستعطي الحكومات الغربيَّة وإعلامها فرصة لتشويه صورة الإسلام والمسلمين. كما أن المواقف المتشددة مع الغرب ستعطيه فرصة سانحة، وذريعة لتحريض الحكومات ضد الشعوب المسلمة، ومن ثم ممارسة مزيد من الضغط على الدول الإسلاميَّة، لذا لابد من الانخراط في " خطط عمل بعيدة المدى " لكسب الرأي العام الغربي لصالح قضايانا.
5. التربية على طول النفس في العلاقة مع الآخرين أساس مهم كذلك، حيث يجب أن يتربى عليه العاملون في الحقل الدعوى بشكل عام، إذ يرى جودت سعيد أنه على الرغم من أن حكم الحكومات الإسلاميَّة، ليس حكماً إسلامياً صحيحاً، فإن تغيير الحكم يبدأ حاليا بالمصالحة مع الآخرين (أيا كان الآخرون) حتى يوجد الاحترام, فيحافظ كل فريق على حدوده وحقوقه. ويؤكد على أن لا نحاول حل جميع الإشكالات بأنفسنا -في ضوء عمرنا القصير- وإنما نعمل بهدوء وبالاتجاهات الصحيحة، حسب أمر الله بالصبر والمصابرة، ولنترك المشكلات العالقة الحساسة للأيام، فالذين سيأتون مستقبلا، هم وحدهم سيحلون تلك المشكلات.
وفي ذات السياق يعتبر الدكتور عائض القرني أن التربية مسئوولية مشتركة بين الأب والداعية والستاذ في المدرسية ، وكلُّ عليه حمت من هذا بحسب إمكانه، ولا يُعفى أحد من المسئولية البتة ، حتى الشاب هو مسئول عن نفسه ، كما قال سبحانه:(قُوا أَنفُسَكُم وَأَهلِيكُم ناراً ) ، وكما قال صلى الله عليه وسلم "كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته" والحديث الآخر " مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين ...."، ويدخل في ذلك :مسئولية الحاكم ، والرئيس ، ورجل الإعلام ، وغيرهم ).
وضمن المحور الثاني للمبادرة تقوم رؤية العديد من الباحثين، من أمثال الدكتور حسن الهويمل والشيخ سلمان العودة ، لتجنيب الشعوب الإسلاميَّة (خصوصاً فئات الشباب) ردات الفعل الحماسيَّة وغير المدروسة على التالي:
1. إيجاد المشروعية للجهات والهيئات الشرعية في البلاد الإسلاميَّة وتدعيمها، لتقوم بدورها الراشد في تحديد المسؤولية، ولتهيئة فرص القبول لها لدى الشباب المتحمس. هذا يعني ضرورة انعتاق المؤسسات الدينية من الارتباط المباشر بالتوجهات الحكومية والقرار السياسي للدولة، وتمكين تلك المؤسسات من اتخاذ قناعاتها بذاتها، دون إملاء أو تدخل مباشر من الإرادة السياسية. هذا الأمر سيعطي المؤسسات الدينية القابلية الكافية لدى المجتمع، ويمكنها من فتح خطوط حوار مجدية مع فئات الشباب، وبالتالي التأثير الإيجابيّ فيهم.
2. الاعتراف بأن ثمة مشكلة لا بد من التعامل معها بكل أبعادها، وهذا يستلزم الاعتراف، ومن ثم محاولة التعرف، على أطرافها والتعامل مع تلك الأطراف بأريحية وهدوء.
3. الحوار المتكافئ، والصريح والمباشر والاستماع الإيجابيّ للشباب المتحمس، بصورة معادلة وبكل حرية، لتمكينه من سماع الخطاب من الآخرين، وبالتالي تكوين القناعات الراسخة لديهم، مع توفير الأمن للطرف الآخر (الشباب المتحمس)، و إبلاغه مأمنه.(1/226)
4. إتاحة الفرصة الإعلامية للاتجاهات الفكرية المغالية والمنحرفة ، حيث أن ظهورها سيكشف انحرافها وخطأها لأتباعها في المقام الأول ، وللجمهور بشكل عام . بما يؤدي إلى تحجيمها ، والقضاء عليها بإذن الله .
ويعتبر الدكتور عائض القرني الحوار حق مشروع للجميع ، حتى الطفل الصغي ، فضلاً عن الراشد ، يبتدىء بحديث الجارية التي سألها النبي صلى الله عليه وسلم :"أين الله ؟" وينتهي بحديث اليهودي الذي قال له النبي في مرض الموت:"قل لا إله إلا الله " ، والحوار يشعر الإنسان بقيمته ومكانته, ولا يلغي عقله، ويعفينا من مأساة التقليد الأعمى, وقتل المواهب والقدرات.
والقرآن حفل بالعديد من المحاورات، ورسولنا -صلى الله عليه وسلم- أسس الحوار بمكة في قصته مع الوليد بن المغيرة, لما انتهى من سياق كلامه؛ فقال صلى الله عليه وسلم: انتهيت يا أبا المغيرة ؟ كما في كتب السيرة).
ضمن المِحوَر الثالث والمتعلق بإصلاح الأوضاع الداخلية وإشاعة التعددية الفكرية ،وثمة العديد من الاستراتيجيات، أهمها:
1. توفر القناعة بضرورة الإصلاح الداخلي لأوضاع الدول الإسلاميَّة والعربية بشكل خاص هو أساس مبادرة الدكتور عبد الكريم بكار القائمة على الوعي بأسس "التفكير الموضوعي " لحقيقة الصراع بين المسلمين والغرب. فهو يرى أن هذا الصراع " صراع حضاري " في مقامه الأول، ويرتبط هذا الصراع بأوضاعنا الداخلية، " فإذا تحسن موقف الحكومات في الداخل، تحسنت صورة الحكومات في الخارج"، وأصبح هناك نوع من التكافؤ في العلاقة مع الغرب مما سيقلل بشكل طبيعي وهادئ من الأعمال الحماسية، ومن المواجهات غير المدروسة.
2. العمل على إشاعة التعددية الفكرية إزاء النوازل، وتفعيل الأداء والعمل في إطار الممكن لمؤسسات العمل الإسلامي، والاجتماعي، والإعلامي، في البلاد الإسلاميَّة، من أجل خروج الأفكار إلى النور، وبالتالي ترشيدها، والتعامل معها بشكل ناضج.
3. إتاحة الفرصة الكافية للأعمال الاحتجاجية وقبول الأشكال المختلفة للتعبير، بما فيها تنظيم الاحتجاجات العلنية مثل المظاهرات والمسيرات، مع التريث وانتظار الوقت المناسب لأي عمل احتجاجي. إننا إذ ندعو إلى التريث باندفاع الشباب ومطالبتهم حكوماتهم بالتطبيق الصحيح للشريعة الإسلاميَّة، ولكننا في الوقت نفسه لا ندعو إلى إلغاء الاحتجاج، أو تكميم الأفواه، حتي لا يبعث ذلك على اليأس وبالتالي ظهور أنواع من الأعمال العنيفة وغير المدروسة لدى الشباب.
4. إن أكثر الاحتقانات الموجودة لدى الشعوب العربية نابعة من الشعور بالقهر من جهة، والإحباط من الجهة الأخرى . هذا الأمران هما السمة الغالبة في من يتجه إلى الأعمال العنيفة ، وهنا أيضاً الأرض الخصبة التي تنبت فيها أعمال العنف والتطرف الفكري في العالم الإسلامي .
وفي ذات السياق يشير الدكتور عائض القرني إلى حاجتنا في العالم الإسلامي بحاجة عملية إصلاح شاملة؛ في السياسة والاقتصاد والتعليم والإعلام والفكر والمجتمع؛ لأن الجمود والتخلف الذي ضرب العالم الإسلامي سببه غياب روح الإصلاح والتجديد؛ فعقمت الأمة عن إنجاب القدرات ومواكبة الأمم الأخرى في عمارة الأرض واستثمار المواهب وتنمية الإبداع.
والإسلام يحترم الرأي الناضج، وكان رسولنا -صلى الله عليه وسلم- يربي الناس على هذا، فكان يسمع آراءهم، ويقول: « أَشِيرُوا أَيُّهَا النَّاسُ عَلَىَّ » وهو المعصوم، وربما ترك رأيه لرأي غيره؛ كما في بدر, في قصة الحباب بن المنذر.
وقد ذم القرآن التفرد بالرأي والاستبداد بالأمر، وحكى عن فرعون قولته المشهورة ( مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى ) (غافر: من الآية29)
===============
# (كيف نوحد الصف بين الدعاة والجماعات الإسلاميَّة ؟ )
* دائرة الإسلام أوسع من خلاف .
* هل هناك أزمة ثقة بين الإسلاميين أم أزمة حوار ؟؟
* متى تراجع الجماعات الإسلامية مناهجها ومواقفها الدعوية ؟؟ قبل الانهيار أم بعده ؟؟
خلفية المبادرة(1/227)
لعل مما يسلِّم به الجميع الأثر الملموس لما قامت به الجماعات والاتجاهات الفكرية الدعوية، من جهد كبير في تكوين صحوة إسلامية قوية خلال القرن الماضي، والخمسين سنة الماضية بشكل خاص. بل وحسب تعبير الدكتور خالد الطراونه فقد شكلت "صحوة تغييرية شاملة ساهمت فيها أطراف مختلفة، ومشارب متنوعة، وأيديولوجيات متعددة هدفها " التمكين "، وإخراج بلدانها من " ربقة الاستعمار و "التخلف والتبعية" و "الاستبداد "، إلى أحضان الحرية والعدل والازدهار. مع ذلك فلا يخفى على أحد الواقع الأليم الذي يعيشه العمل الدعوي في العالم الإسلامي حاليا، نتيجة لتعدد الجماعات الإسلاميَّة المتناحرة، والآثار السيئة التي تجلبها للناس، والتي ربما تولد نوعا من الإحباط بين صفوف المسلمين، كما يحدث حاليا في باكستان وفي إيران، وفي الاتجاهات الإسلاميَّة والدعويَّة في العراق. ولعله يجلب الأسى فور تذكرنا أن المسلمين في بلاد الكفر على الرغم من قلتهم، وضعف حيلتهم، تكثر عندهم الجماعات الإسلاميَّة المتناحرة، إذ يذكر أحد الدعاة حال المسلمين في أيرلندا، حيث يبلغ عدد المسلمين فيها ما بين (850 - 1000) مسلم فقط، ومع ذلك يوجد ثلاث جماعات إسلامية متناحرة، مما يولد إحباطاً لهم، وربما صدا عن الدين لدى غيرهم.
مع ذلك يؤكد الدكتور عبدالكريم بكار أنه يجب الإدراك منذ البداية أن " مناط الخلاف " بين الجماعات الإسلاميَّة هي الفروع، وليست الأصول- في أكثر الأحايين -، ونظراً لذلك فإن كل جماعة تشعر أنها على الحق، وبالتالي فهي تشعر أنها من مركز الدائرة، وأنه لا معنى بأن يطلب منها أن تتبع غيرها (كما هو شأن المذاهب الفقهية تماماً)، أو حتى التنسيق معها، وهذا سر إخفاق معظم المحاولات التي تبذل لجمع كلمة الإسلاميين.
يرى الشيخ محمد العبده أن توحيد الجماعات والدعاة توحيداً اندماجياً هو من الصعوبة بمكان، إن لم يكن مستحيلا. ويجب أن نكون أكثر واقعية وعمليّة، إذ أن عدم قدرتنا على "جمع الكلمة" أمر معروف ومتوقع، "فكلمة الإنسان وموقفه وأولوياته" هي في الواقع جزء من "شخصيته"، وانعكاس مباشر لتفرده وخصوصيته، والتي يستحيل أن يتفق عليها البشر. لذلك فإن المبادرة الحالية تعتمد الواقعية منهجا، ولذا لا تطمح إلى جمع الكلمة، بين الدعاة والجماعات، وإنما تستهدف "جمع الصف" بين الإسلاميين. من هنا يؤمن الشيخ سلمان العودة بضرورة وإمكانية "توحيد الصف"، في الوقت الحالي، حيث لا يقصد به أن ينسبك الجميع في وحدة أو مجموعة واحدة، لأننا ندعو إلى التعددية الآن، سواء داخل الصف الإسلامي، أو خارجه. وإنما يمكن اتخاذ خطوات عمليّة تقرب وتساعد على الوحدة والعمل في الساحة بأهداف بعيدة المدى، مع الإقرار بوجود الخلاف والتعامل معه بأريحية وإيجابيّة. هذا ما يفرضه الواقع الآن، وتمليه الظروف العمليّة والقناعات الراسخة حاليا. بمعنى أنه عندنا إطار شرعي عام، وما سوى ذلك لا يفرض أحد على أحد ذوقه الخاص، أو رؤيته الخاصة، فالناس لم يُتعبدوا إلا بمحكمات الكتاب والسنة، وقطعيات الإجماع التي مضت عليها الأمة، وما وراء ذلك فيه مجال واسع وخصب لأن يتفق الناس وأن يختلفوا، وأن يتعاذروا فيما بينهم.
ثمة مسألة هامة، إذ يشير بعض الدعاة إلى أنه لا يوجد في الأصل "أزمة حوار"، ولا "أزمة مبادئ" بين الدعاة والجماعات الإسلاميَّة، بل أن المشكلة الرئيسة أن ثمة "أزمة ثقة" بينهم. من هنا وحيث أن الدعاة صادقون جميعهم، ومخلصون لدينهم، كما نحسبهم والله حسيبهم، فإن الأمر كله لا يحتاج إلا إلى واقعيَّة حقيقيَّة في النظرة والتصور، ثم إلى رجال مخلصين مهمتهم التقريب والتوفيق بين مواقف الدعاة والعلماء، وجمع الصف على كلمة سواء. هذا الأمر ليس مستحيلاً بل سيتحقق عن قناعة، إذا صدقت العزائم والنوايا بإذن الله تعالى.
المحاور الرئيسية للمبادرة
تعتمد هذه المبادرة على عدد من الاستراتيجيات ضمان المحاور التالية:
* إدراك ونشر المفهوم الحقيقيّ لوحدة الصف الإسلامي
* تعظيم استخدام الآليات الإيجابيّة في التعامل مع الآخرين
* استخدام وسائل وآليات واحدة وتنفيذ مشروعات مشتركة
* مراجعة الغاية الأساسية من وجود الجماعات والاتجاهات الإسلامية
ضمن المحور الأول ثمة العديد من الاستراتيجيات حسب وجهة نظر العديد من الكتاب والمثقفين، أبرزها ما يلي:
1. إدراك أن المقصود بوحدة الصف ألا تتحول الاختلافات الجزئية بين الجماعات، إلى ألوان من الصراعات التي تستنزف الجهد الإسلامي. هذه الاستراتيجية يطرحها الشيخ سلمان العودة معتقدا أن المهم هو تكوين نضج وتربية: تتفاهم مع الآخرين، وتقبل عذرهم، وتتفق معهم، وتختلف معهم أيضا، لكن لا تجعل من هذه الاختلافات مجال للتخندق، والتباعد، والصراع. إن المشكلة في كثير من الأحوال أن يستشعر كل فريق أنه يجب أن يبدأ بالأقربين الذين يخشى أن يكونوا منسوبين إليه، لذلك لابد أن ينفيهم عنه. لقد سمعنا من يقول: "البعيد معروف أنه بعيد، المشكلة في القريب الذي يتلبس به"، ورأينا بعض الإسلاميين يتحولون إلى كائنات مشغوفة بافتعال الصراع مع الأقرب فالأقرب.(1/228)
2. الدكتور عبد الكريم بكار يؤكد على أن حقيقة وجود الاختلاف في الكلمة بين المسلمين حقيقة شرعية وتاريخية. لذا يجب ألا يدعو ذلك إلى اليأس في "توحيد صفوف المسلمين"، بل يجب الاستمرار في استهداف توحيد الطرح الإصلاحي أو تقريبه، حتى وإن اختلفت رؤانا الجزئية، وتنوعت أولوياتنا الدعوية والعمليّة.
3. الإيمان الجازم بأن جُل الخلافات بين الجماعات الإسلاميَّة اجتهادية، وهذا قد يقربها إلى القلب وليس إلى العقل فحسب.
4. اعتبار أن الخلاف في أصله ضرب من التنوع، والتخصص وترتيب الأوليات لكل جماعة أو اتجاه. وهذا ما يراه الشيخ محمد مصطفى المقرئ / لندن، ويدعم رؤياه بأنك تجد في كل جماعة إسلامية قائمة، العديد من التقسيمات التخصصية، وهذا دليل على اقتناعها بأن هذه التقسيمات تحقق التكامل فيما بينها، وهذا – لا ريب – أصل لا غنى عنه في تعامل الجماعات مع بعضها؛ كي تتمكن من أداء رسالتها، بغض النظر عن طبيعة منهجها الحركي، وتوجهها الفكري، فالكل في هذا الأصل سواء.
5. التزام الشرع في العلاقات التعاونية والتكاملية، مراعين أن الدواعي المصلحية تُسوِّغ اعتماد التقارب مع المختلفين أصولياً. فمن باب أولى التجاوب مع الدواعي الشرعية الملزمة بالتقارب مع المختلفين فروعياً.
ضمن المحور الثاني (تعظيم استخدام الآليات الإيجابيّة في التعامل مع الآخرين) يرى مجموعة من العلماء والدعاة التأكيد على الاستراتيجيات التالية:
1. نشر الصدق مع الله تعالى لدى الأفراد والجماعات والعلماء وطلاب العلم ، وتجنيد ولاء الناس لله سبحانه وتعالى، وليس لنصرة الجماعة ورفعتها، وسمعتها.
2. التربية الإيجابيّة على البعد عن التعصب، والإصرار على الموقف، مهما كان السبب أو الباعث، ومهما بلغت قوة القناعة لدى الإنسان. فالتعصب مذموم في كل حال من الأحوال، حتى لو كان لصواب بيِّن وواضح، فكيف حينما يكون التعصب لخطا، أو لما يحتمل الخطأ. إن مبعث التعصب لدى الكثيرين يكون بسبب تجميد بعض الأشياء المتحركة، أو تحريك بعض الأشياء الثابتة التي هي في الحالين تقبل الأخذ والرد، لكنه أخذها بنوع من الصرامة والنظرة الحادة من وجهة واحدة.
3. تجنيد المسلمين لله سبحانه وتعالى فقط، والعمل على أولويات الرأي العام الإسلامي، الذي يجتمع على كلمة سواء.
4. التعامل الحازم مع "مظاهر التفريق "، و"إثارة النعرات"، ورفض أدبيات "التجريح الشخصي".
5. تأسيس منهج "فقه الائتلاف"، والعمل على تطبيقه في العالم الإسلامي؛ من أجل إشاعة ثقافة الألفة والتآخي والنصح بين أصحاب المذاهب المختلفة، بدلا من ثقافة البغض والتجهيل والأحكام المسبقة على الآخرين.
6. العمل على صرف الوقت والجهد من طرف كل جماعة متناحرة مع غيرها لخدمة الإسلام الصحيح، بدلاً من التناحر لأهداف شخصية لا تمت – في أكثر الأحايين – إلى الإسلاميَّة بصلة.
7. الدكتور عبد الكريم بكار يؤكد على استراتيجيات التعامل الإيجابي بين العلماء ورؤوس الجماعات الإسلامية وفق التالي:
• الكف عن النقد الجارح والغمز واللمز العلني، والاستعاضة عنه بالمراسلات والنصح في السر.
• إرسال كل جماعة إشارات دورية إلى الجماعات الأخرى، عن طريق زيارة المسؤولين الكبار فيها، والثناء عليها في مجلس عام، ومواساتها في شدة، والوقوف إلى جانبها في أزمة.
• الحوار المستمر المبني على حق الآخر في الخلاف والرؤية، وذلك لبلورة رؤى ومواقف إصلاحية مشتركة.
• وضع خطوط حمراء لا يصح تجاوزها، وإن حدث خلاف لا يجوز التشهير بها أو التجسس عليها، أو منافستها في مجالها.
8. الشيخ محمد مصطفى المقرئ / لندن يدعم اعتماد الجانب الإقناعي في تنمية روح الجماعة في التعامل، ولذا يؤكد على الاستراتيجيات التالية:
• إدراك الأخطار المحيطة بالعالم الإسلامي، واعتماد الجماعات الإسلاميَّة صيغة التعاون فيما بينها (علاقات تكاملية لا تصادمية)، والسعي إلى نبذ العلاقات التصادمية وكف الصراع – ولا سيما – ونحن نعيش عصر التكتلات، تلك التي لم تجتمع على شيء قدر اجتماعها على حرب الإسلام.
• العمل على نبذ الفرقة والمنابذات الحزبية بين الجماعات الإسلاميَّة – حيث ثبت بالدليل القاطع – أنها تُغيب الوعي التربوي بين الجماعات الإسلاميَّة، وتؤدي بها إلى ألوان من الفتن والصراعات والسباب، حتى وصلت في بعض الأحيان إلى شهر السنان.
أما أهم الاستراتيجيات ضمن المحور الثالث (استخدام وسائل وآليات واحدة وتنفيذ مشروعات مشتركة) من وجهة نظر الكثير من المقصودين بالدراسة فهي:
1. نظر كل جماعة إلى نجاح الأخرى على أنه نجاح لها. والإيمان بأن الساحة تتسع للجميع، وتحتاج إلى جهودهم جميعا، وارتباط المسلم مع أي جماعة هو التزام بالدين.
2. بلورة أعمال تعاونية مشتركة في مجالات الدعوة والتعليم والإغاثة والإصلاح عامَّة. وعدم الالتفات مطلقاً إلى الخلفيات الفكرية أو الدعوية في تنفيذها أو في تحديد القائمين عليها.(1/229)
3. الدكتور ناصر العمر يركز على تقريب وتوحيد الوسائل والآليات؛ لجمع موقف العلماء والجماعات الإسلاميَّة في العالم الإسلامي، ويؤكد أهمية تقديم مشروعات استراتيجية ناجحة، لا تقدم نظريات افتراضية، ويشترط لتلك المشروعات أن تطبق عمليّا، بحيث تتوافق الأقوال مع الأفعال.
أما المحور الرابع للمبادرة الحالية فيتضمن العديد من الاستراتيجيات المتعلقة بمراجعة الغاية الأساسية من وجود الجماعات والاتجاهات الإسلامية، وأهمها حسب ما توصل إليه فريق البحث من رؤى ومشاركات، للعديد من العلماء والدعاة والباحثين ما يلي:
1. مراجعة كل جماعة لأدبيتها ومناهجها ومواقفها الدعوية، بحيث تقف الجماعات الإسلاميَّة مع نفسها، و تفتش عن مكامن الخلل فيها، وتبحث عن الأنقى منهجاً والأكمل تجربة، و تقبل " بفقه المراجعات "، وتجعله قيد التطبيق بشكل صريح ومباشر وعمليّ.
2. الإقتداء بسنة النبي ?، الداعية إلى الابتعاد عن دعوى الجاهلية، وأن يتداعى المسلمون فيما بينهم " بالمسلمين" و "المؤمنين" و "عباد الله "، بحيث يهجروا الانتسابات المحدثة، التي لم ينتسب إليها الرسول ?، ولا الرعيل الأول بما فيها ما يفهم منه تزكية للمنهج، أو ادعاء شمولية أو أسبقية معينة، أو انتساب إلى جيل أو فئة راشدة. إن الله سبحانه وتعالى سمانا المسلمين " هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا " وحسبنا ما رضي الله لنا .
3. على الفصائل والجماعات الإسلاميَّة أن تعتبر نفسها روافد تصب في نهر الإسلام العظيم، مراعين قوله تعالى: ? ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا?( )، وقوله سبحانه أيضاً: ? ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون? ( ).
4. العمل على تقليل أهمية الاعتماد على الاتجاهات الفكرية، والجماعات والتجمعات والمحاضن الإسلاميَّة الحالية. في هذا الصدد يجب أن لا ننسى ما قامت به تلك الجماعات من جهود عظيمة، ونجاحات رائعة هيمنت على العمل الإسلامي فترة من الزمن. مع كل هذا ففي هذا الوقت بالذات، ومن فقه المرحلة أن نسعى إلى تقليل الاعتماد على آليات وأطر تلك الجماعات والتجمعات ، والتيارات الحركية والفكرية، بحيث نعتبرها بمثابة بيوت محمية (Green Houses)، نجحت في تنضيج الخطاب الإسلامي. ومن استكمال نجاحها، أن تتيح الفرصة للأمة بمجموعها للعمل والتقارب والتطوير. إننا بأمس الحاجة أن نعتبر أن الحركة الإسلاميَّة هي الأمة، بجسمها الفاعل وفي امتدادها وتنوعها وإيمانها ووعيها، قال تعالى: ?إن الذين فرقوا دينهم لست منهم في شيء، إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون?( ). هذا لا يعني العمل على إلغاء بعض الجماعات الإسلامية، فالجماعات الموجودة ربما تنتظم ملايين الأفراد، كجماعة التبليغ مثلا، وجماعة الإخوان، والجماعات السلفية. لذلك يرى الشيخ سلمان العودة أن فكرة السعي في إلغاء هذه الجماعات أو تفكيكها، -خصوصاً أن هذه الفكرة تسعى إليها مجموعات داخل العالم الإسلامي وخارجه، لأغراض أخرى- ليست من الأولويات حاليا، بل ولا يحبذ ذلك. إذ على الرغم من أننا يجب أن نضخم دورها، فهي واقع ينبغي التعامل معه، ومحاولة استثمار الجوانب الإيجابيّة فيه، والسعي للتصحيح والتنمية، والتدارك بقدر المستطاع.
5. في هذا الإطار يقول الشيخ سلمان العودة: " إن الخطأ أن نختصر الأمة في جماعة أو حتى جماعات الدعاة. جمهور المسلمين، هم ثروة هائلة للإسلام، وبالتالي ينبغي أن يتم إعادة الاعتبار لهذه الأمة في أنفس كثير من الدعاة، بحيث لا يتم التعامل معهم على أنهم مسلمون من الدرجة الثانية، لا، فكثير من هؤلاء عندهم إمكانيات واستعدادات كبيرة جدا، تفوق غيرهم من المنتمين إلى تيارات فكرية أو حركية. إن مما يندى له الجبين أن المواجهة تكون أحياناً بين المسلمين وبين الإسلاميين، وهذا خطأ كبير وخطير جداً. لذا ينبغي إعادة أو تجسير العلاقة بين ما نسميهم بالإسلاميين وبين المسلمين.
6. العمل على ألا تقدم الجماعات نفسها على أنها هي الإسلام، وإنما هي رؤية داخل المجتمع الإسلامي، وبالتالي ليس من المهم لكل أحد أن ينتمي إلى هذه الجماعات مهما كثرت. إذ رغم ما للجماعات من جهود وأتباع، فإننا ينبغي أن ندرك أن العالم الإسلامي بحاجة إلى كثير من الجهود المؤسسية، والفكرية التي لا تكون مرتبطة أيضاً بتنظيم ولا باجتهاد محدود
============
# قراءة في وقائع مأساة
د. عبد الكريم بكار(1/230)
ليست قراءة التاريخ والوقوف على حقائقه بدقة بالأمر الهين. وليس تحديد عوامل سقوط أمة أو حضارة شيئاً في متناول اليد؛ فالأمر في الحقيقة أشق بكثير مما نظن. ولا تأتي صعوبة هذا الأمر من مدى إمكانية التحقق من حدوث الوقائع التاريخية فحسب، ولكن من إمكانية قراءتها قراءة راشدة دقيقة؛ فالناس حين يقرؤون التاريخ لا يقرؤونه على نحو مباشر، وإنما من خلال (إشكالية) كوّنوها لأنفسهم، ولذا فإن تفسير الحقائق يتوقف إلى حد بعيد على المعتقدات والمبادئ والخلفيات الثقافية للمفسرين. وهذا يعني أن علينا أن نرضى بموضوعية ناقصة ونتائج نسبية الصواب. ومشكلة التاريخ أنه يتأبى على الخضوع للتجربة، فنحن لا نستطيع أن نجزم هل لو أن أهل الأندلس لم يغرقوا في النعيم أو لم ينقسموا على أنفسهم، أو لم يصيروا من الهجوم إلى الدفاع... هل كانت أعمار دولهم ستطول أكثر مما كانت عليه؟
وذلك لأن أسباب السقوط عديدة، ولا نعرف على وجه التحديد شكل النتائج إذا تخلَّف واحد منها.
وتدل شواهد الماضي والحاضر على أن قراءة التاريخ عقيمة بالنسبة إلى السواد الأعظم من الناس، حتى إن بعض الكتاب المسلمين والغربيين يرون أن أخذ العبرة من أحداث التاريخ عبارة عن خرافة كبيرة. لكن هذا القول لا يخلو من المبالغة. والرؤية الإسلامية في هذا الشأن واضحة فهناك فئة قليلة من الناس يتعظون بوقائع التاريخ، ويأخذون منها العبرة، كما قال -جل وعلا-:"لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب". وأولو الألباب المعنيون هم أولئك الذين استطاعوا الطفو فوق أمواج الانحطاط والاحتفاظ بالرؤية المنهجية الصحيحة في وسط يمور باللاهثين خلف الشهوات والمصالح الضيقة.
إن الخيال الخصب ليغرينا بتعداد الكثير من الأسباب التي أدَّت إلى خروج المسلمين من الأندلس، لكن ذلك لا يتحصل منه كبير فائدة، كما لا تتحصل فائدة جيدة من قاعدة بلغت استثناءاتها الثلاثين أو الأربعين، ولذا فإن من الأولى الاقتصار على أهم ما يراه المرء من أسباب.
إن سقوط الأندلس يشكل مأساة كبرى، لأن سقوطها لم يكن سقوط دولة، وإنما سقوط حضارة كان يمكن لها أن تكون نقطة انطلاق لتمدين العالم في تلك الحقبة، كما أن سقوطها قلع شعباً مسلماً من جذوره وعرَّضه للضياع الكامل؛ ومن هنا تأتي فرادة النكبة التي حلت بالإسلام والمسلمين في الأندلس.
وقد رأيت هنا الاقتصار على ذكر خمسة أسباب جوهرية ساهمت في حصول ما حصل، أسوقها موجزة في السطور الآتية:
1- إن التقدم العمراني المذهل الذي حدث في الأندلس يدل على أن المسلمين هناك كانوا يمتلكون الكثير من المعارف والعلوم والخبرات المتقدمة بالنسبة إلى ما كان سائداً في محيطهم -على الأقل- وهذا ليس موضع جدال. لكن هل كل تقدم عمراني يعد تمدناً وتحضراً، وهل من اللائق أن نقتصر على الدلالات المباشرة للإنجازات الحضارية، أم لا بد من البحث عن دلالات أخرى قد تكون ذات شأن فيما نحن بصدده؟
إن القرآن الكريم يعلمنا أنه ما من أمة من الأمم السابقة هلكت بسبب قصور عمراني، وإنما بسبب الحيدة عن منهج الله -تعالى- واستدبار رسالات الأنبياء -عليهم السلام-. وبناء الأبنية الفخمة في الأندلس قد تجاوز حدود الخيال بسبب الأموال الهائلة التي أنفقت فيها، وكان ذلك مصادماً للبنية العميقة للتدين الحق، ومخالفاً لكل الأدبيات التي تهوِّن من شأن الدنيا وترغِّب في الآخرة. ولنا أن نسأل عن أعداد الفقراء الذين تم اقتطاع تكاليف أشكال الرفاهية من قوتهم اليومي، ومن حصتهم من ناتج البلاد الأندلسية وخيراتها؟!
لا ريب أن أعداداً ضخمة من الناس كانوا يشعرون بالظلم والجور، وهذا من عوامل تفكيك المجتمع وذهاب الريح، وتعجيل الهزيمة. أضف إلى كل هذا أن الرؤية الإسلامية للمنجزات العمرانية تلح دائماً على السياق الذي تمت فيه والمقاصد التي دفعت إليها. ونستطيع أن نقرر هنا أن كثيراً من الأبنية والمشروعات العمرانية، تمت في سياق التنافس في إثبات الذات والغلبة على النظراء وسياق التفاخر والتكاثر، فهي بالتالي شواهد تراجع حضاري أكثر منها أمارات نهوض وتقدم؛ فقصر الزهراء -مثلاً- والذي اشتغل فيه عشرة آلاف رجل وثلاثون ألف دابة، والتي كانت سواريه -كما زعموا- من المرمر والحجر الشفاف، وكانت رؤوسها مرصعة باللؤلؤ والياقوت، هذا القصر منسوب إلى الزهراء حظية عبدالرحمن الناصر. إنه آية في الإتقان، والجمال لكن لا صلة له بتدين أو رجولة أو إصلاح.
2- المال الذي تدفق على الأندلس من خلال غزوات الفاتحين الأولين، ومن خيراته الذاتية، جعل إمكانية غرق أعداد كبيرة من الناس في النعيم الواسع أمراً ميسوراً. وذلك النعيم مزَّق الوحدة الشعورية العميقة لأفراد المجتمع، حيث إن فخامة القصور والمباني وكثرتها أتاحت لكثير من أبناء النخبة والصفوة أن يشكلوا ثقافتهم الخاصة، وأن يصنعوا عالمهم الخاص الذي يعج بالنساء والغلمان والخمور والمغنين وهناك لا يكون هم إسلام ولا مستقبل ولا أندلس ولا أعداء!(1/231)
وظل السواد الأعظم من الناس بين متشوق إلى الحصول على مثل ذلك وباحث عن ثغرة للدخول إلى ذلك العالم، وبين مهمش لا حول له ولا طول. وفي مثل هذه الوضعية يضيع الإحساس بشرف الانتماء للوطن وتضيع الحماسة المطلوبة لمناهضة أعدائه، والدفاع عنه. وتعلمنا تجارب الأمم وشواهد الأيام أن كل قضية يُعزل عنها السواد الأعظم من الناس هي قضية خاسرة، وأن كل حمل يتم خارج رحم الأمة هو كالحمل الكاذب. وآنذاك يسهل بيع الشعوب والمتاجرة بقضاياها ومصيرها من لدن حفنة من الخونة (والخيانة فنون) الذين لا يجدون أي رادع يحول بينهم وبين ما يشتهون.
وترينا بعض الوثائق أن الوزيرين أبا القاسم المليح ويوسف بين كماشة كانا عميلين للأعداء، ومع ذلك فإنهما كانا يفاوضان عن المسلمين من قبل أبي عبدالله الصغير آخر ملوك الأندلس. وقد ذكروا أن أبا القاسم المليح خاطب الملكين الكاثوليكين (إيرناندوري نافرا) بقوله: أقسم بالله وبالشريعة أنني إذا استطعت أن أحمل غرناطة على كتفي لحملتها إلى أصحاب الجلالة؛ وهذا برغبتي وليقض الله عليّ إذا كنت كاذباً كما أتمنى أن ينتهي هذا الأمر (أي تسليم غرناطة للأسبان) على خير. وأرجو أن تكونوا على يقين بأنني خادم شريف ومخلص لأصحاب الجلالة!!
3- مما ذهب بريح الأندلسيين أنهم خربوا بأيديهم الأرضية المشتركة التي كانت تمكنهم من تجاوز الانقسامات العنصرية والقبلية. وإن بقاء شوكة المسلمين في الأندلس كان متوقفاً على اتخاذ الإسلام والالتزام بمبادئه وقيمه قاسماً مشتركاً أعظم بين عناصرهم وقبائلهم المختلفة، وقد كان ذلك في بدايات وجودهم هناك حيث كان القائد البربري أو العربي يقود جيشاً جراراً خليطاً من البربر والعرب، وكانت مظلة الإسلام تتسع للجميع، وتغنيهم بالتالي عن الاحتماء بالتنوعات العرقية. لكن لما ضعف الشعور بالوحدة الإسلامية ثارت النعرات العنصرية والقبلية (كما حدث في المشرق تماماً) إلى حد يثير الاشمئزاز، وقد بلغ الانقسام حداً دفع بعض ملوك وأمراء المسلمين أن يعقدوا مع النصارى أحلافاً ومعاهدات ضد إخوانهم المسلمين، بل بلغ الانقسام إلى درجة إرسال الكتائب لمساعدة الأسبان ضد بعض الإمارات الإسلامية، على نحو ما حدث في سرقسطة في عهد ابن هود وما فعله أبو زيد ملك بلنسية وابن الأحمر في غرناطة... بل إن النزاع بين المسلمين أخذ في بعض الأحيان شكل التصفيات الشاملة، وعلى سبيل المثال فقد ولي محمد بن هشام أمر قرطبة عام 399 م وقد رحَّب به أهل قرطبة، وأقاموا الولائم احتفاء بولايته؛ وقد كان الرجل يبغض البربر بغضاً شديداً، فأمر أن يُنادى في الناس: من أتى برأس بربري فله كذا؛ فتسارع أهل قرطبة في قتل من قدروا عليه، ولم يبق تاجر ولا جندي إلا اجتهد في القتل والنهب. وقد نُهبت ديار البربر وهُتكت حريمهم، وسبيت نساؤهم وبيعت في السوق، وبُقرت بطون بعض الحوامل!!
مع هذا السلوك الإجرامي ومع هذه الروح العنصرية لا يبقى أي شيء مقدس، كما لا يمكن للوحدة السياسية إلا أن تكون في مهب الريح، وهذا ما حدث فقد تحللت الدولة الأموية هناك إلى اثنتين وعشرين دولة، يحارب في كثير من الأحيان بعضها بعضًا (هل هذا هو عدد دول جامعة الدول العربية؟!) ويبحث كل منها عن مصالحه الخاصة والنجاة بنفسه.
وهكذا يثبت التاريخ المرة تلو المرة أن العصبيات العنصرية والأنانيات الصارخة كانت تشكل دائماً معول هدم في جسد الإمبراطورية الإسلامية في المغرب كما في المشرق على حد سواء.
4- كان الوعي الأندلسي مرتبكاً؛ فهناك ما لا يحصى من الشواهد على أن التقدم العمراني والرخاء في العيش في الأندلس كان يلازمه على نحو شبه مستمر انخفاض في مستوى التدين والالتزام؛ وحتى لا نجور على القوم فإن الأندلسيين لم يكونوا استثناء من القاعدة، فتاريخ الأديان في العالم كله ناطق –مع الأسف- بهذه الحقيقة. أصيب الأندلسيون بمرض (الانهيار البطيء) حيث كانت صورة التدين لديهم تبتعد رويداً رويداً عن جوهر التدين الحق، وصارت البيئة العامة أشبه بحبل غليظ جُمعت خيوطه إلى بعضها خيطاً وراء خيط إلى أن استحال قطعه، وصار أهل الإصلاح والصلاح والغيرة يشعرون باتساع الخرق عليهم. وقد حاول بعض كبار علمائهم مثل المنذر بن سعيد وابن حزم وابن عبد البر وأبي الوليد الباجي قد حاولوا إيقاف التدهور، ورد طبقة الصفوة إلى سبيل الرشاد، لكن الأمر كان أكبر منهم.
إن مشكلة المترفين أنهم كلما حصلوا على درجة من درجات الترف شعروا أنها حق مكتسب لهم، وعدوا التنازل عنها نوعاً من الفقر والعوز، وهكذا كان الأندلسيون عاجزين عن أن يخطوا خطوة واحدة إلى الوراء، مع أن العدو يتحين الفرص للانقضاض عليهم، فأدركتهم أيام الله.(1/232)
قد انتشرت بينهم الذنوب والمعاصي، وصارت المبادئ السامية عبارة عن شعارات فارغة لا توجه السلوك، بل تتخذ للتزيين والتكميل الشكلي، وقد كان ابن حزم يقسم بأن ملوك الطوائف لو علموا أن في عبادة الصلبان تمشية لأمورهم لعبدوها! وانعدمت الغيرة الدينية لدى كثير من العامة، فصار إنكار المنكرات من الأمور المنسية، وقد ذكر بعض المؤرخين أن رجلاً نصرانياً وقف في شارع عام في قرطبة أيام ابن عبدالجبار، وشتم النبي -صلى الله عليه وسلم- بألفاظ نابية، فلم يكلمه أحد من المسلمين بكلمة! وقد تحركت غيرة أحد المسلمين، فقال مستنهضاً لمن حوله: ألا تنكرون ما تسمعون! أما أنتم مسلمون؟ فقال جماعة منهم: امض لشغلك!
وانتشرت في العديد من المدن الأندلسية أشياء تخدش صفاء العقيدة، فقد كانت قرطاجة -كما وصف بعض المؤرخين- مملوءة بأقواس من الحجارة المزخرفة بالصور والتماثيل وأشكال الناس وصور الحيوانات، مما يدهش الأبصار.
إن كل شكل من أشكال المعصية موصول على مستوى ما بشكل من أشكال الهزيمة والانكسار، وهذا ما لم يكن واضحاً لدى القوم!
5- إن مصير المسلمين في الأندلس كان مرتبطاً بالخطة التي ينتهجونها في التعامل مع أعدائهم، وفي وضع كوضعهم كان الخيار الصحيح بالنسبة إليهم هو الاستمرار في الجهاد حتى يوجهوا فائض القوة نحو الخارج، وحتى يحافظوا على وحدتهم الداخلية، بالإضافة إلى أن ذلك يمكنهم من فتح خطوط متقدمة في أرض أعدائهم حتى يتمكنوا من الحفاظ على أرضهم (كما فعل اليهود) وقد كان بإمكانهم فعل ذلك؛ وربع الأموال التي أنفقت على أشكال الترف والسرف كان كافياً لتزويد الحركة الجهادية بما تحتاجه من نفقات؛ لكن القوم ارتضوا لأنفسهم الخطة الدفاعية في مواجهة عدو له عمق استراتيجي ضخم هو أوربا كلها. وليت القوم أحسنوا الدفاع إذن لخرجوا بشيء ما، لكنهم كانوا طوائف وشيعاً فلم يستطيعوا الوقوف صفاً واحداً، وقد كان حسم المواقف وتحديد الوجهة هو أهم ما ينقصهم، كما هو شأن كل المخذولين.
إن المسلمين بإعراضهم عن الجهاد وإدامة الهجوم وضعوا أنفسهم في وضعية المدافع المحاصر وقد قالت العرب قديماً: المحاصر لا يأتي بخير. وعلى كل حال فدولهم الكثيرة التي كانت تتطاحن في مساحة محدودة من الأرض -لم تكن مهيأة لأكثر مما فعلت، فقد كان بين معظمها وبين الحكم بما أنزل الله -تعالى- فجوة كبيرة، وهي كما وصفها ابن حزم -رحمه الله- :"نظم مستبدة مستهينة بالدماء مكثرة من أسباب الترف وضروب العمران واستجلاب المنافقين من الكتاب والوزراء والشعراء، وقد نشأ بينها من المفاسد ما أعوز دفعه، واستحكم ضرره" كلما قرأت في تاريخ الأندلس السليبة تذكرت صراعنا مع اليهود، وأبصرت من أسباب الهزيمة هنا ما أبصرته هناك! ولله الأمر من قبل ومن بعد
==============
# شيء شخصي
د. عبد الكريم بكار
ليس هناك من شك في أننا نعيش في ظل حضارة تمارس أكبر عملية تنميط للأذواق والرغبات والأفكار والرؤى والمفاهيم على نحو مستبدٍ وطاغ، من أجل تعبيد الطريق أمام الإنتاج العظيم والتسويق الكبير، ومن أجل إزاحة كل الخصوصيات والتنوعات الدينية والعرقية التي تعوق حركة العلولمة.
في ظل الحضارة الحديثة يتم نشر الشروط الموضوعية المطلوبة للحياة الطيبة؛ ومعظم تلك الشروط - إن لم نقل جميعها- لا يتحقق من غير المال. وبما أن المعروض منه دائمًا دون ما هو مطلوب، فقد اشتعلت منافسة ضارية من أجل الحصول عليه. والمنافسة الحامية تتصل على نحوٍ ما بشكلٍ من أشكال انحطاط المدنية. وبما أن الحضارة المعاصرة رسّخت في وعي الناس أن المال هو كل شيء، فقد صارت كل طرق تحقيق الذات تمرّ عبر امتلاك أكبر قدر ممكن منه، ومن شدة تعمق هذا الفهم صار كثير من الناس مستعدين لعمل أي شيء من أجل المزيد من الاستحواز عليه، إلى درجة أن صار الهامش الفاصل بين النجاح على الصعيد المالي وبين اللصوصية ضيقًا لا يكاد يرى!
الحضارة الحديثة تؤكد أيضًا على الحقائق بوصفها الأساسي الذي يقوم عليه كل تطوير وكل مراجعة، وتهمل مسألة (القيم) وما يمكن أن يكون لها من دور إرشادي في استخدام الحقائق وتوجيه السلوك.
وهي مرة ثالثة تؤكد على العلم بوصفه حقائق تم اختبارها، وأثبتت صلاحيتها في بناء التقدم، في الوقت الذي أهملت فيه دور (الحكمة) بوصفها شيئًا خاصًا وخيارًا شخصيًا؛ ولهذا فقد صار لدينا اليوم عدد كبير من العلماء، وعدد قليل من الحكماء!
وأخيرًا فإن الحضارة الحديثة تروّج لثقافة الصورة وثقافة الشكل، وأخذ يستقر في أذهان الناس شيئًا فشيئًا أن الرجل السعيد هو دائمًا شاب، والمرأة السعيدة هي دائمًا جميلة، ويتم غض الطرف عن كل موروث البشرية الذي يؤكد على دور الفضيلة والإيثار والتقوى والقناعة والثبات على المبدأ في الحياة الهانئة واللياقة الاجتماعية!
من الواضح في ضوء كل هذا أن على الذين يرغبون في إعادة الأمور إلى نصابها أن يعيدوا اكتشاف هذا المهمل والمهمّش والسكوت عنه، أي القيم والحكمة والجوهر وتوجيه الإدراك نحو تلمس موارد غير مادية للأمن والسعادة والطمأنينة والنهوض.(1/233)
وأود هنا أن أركز على نقطة هي أن في إمكاننا من خلال رؤية مغايرة لبعض الأشياء وتفسير بعض الأحداث على نحو يستجيب للرؤية الإسلامية للحياة -أن نخفف من الطلب على المال والشهرة والنفوذ؛ بوصفها أدوات لتحقيق الوجود المعنوي، والمادي وأن نخفف من وطأة منغصات الحياة أيضًا.
وليس في هذا أي قفز على الشروط الموضوعية للحياة السوّية ولا أي تجاوز للحقائق الثابتة، بل إنه على العكس من ذلك يشكل التصاقاً بالحقائق الأشد عمقًا والأقوى رسوخًا.
إن العالم ليس إلا ما نراه، وإن جوهر الأحداث يكمن في تفسيرنا لها وفي تحديدنا لعلاقتها بنا، وإن للحقيقة الواحدة عشرين ظلاً، ورسم تلك الظلال من شأننا نحن بني آدم، وكما يتم تلوين السائل بلون الإناء الذي نضعه فيه كذلك يمكن أن تتفاعل مع الأشياء وفق الظلال التي نرسمها لها والأصداء التي نضعها.
يساعد في هذا أن عالمنا الداخلي لا يتأثر بالشروط الموضوعية الخارجية، ولا بالحقائق الملموسة فحسب، فالأوهام والأحلام والذكريات والمخاوف والأمنيات والخيالات تؤثر في ذلك العالم على نحو قد يكون أشد وأعمق من تأثير الحقائق الصلبة. وحين يقول إنسان: إنه سعيد، فينبغي أن نصدقه، ويجب عليه هو ألا يتساءل عن أسباب سعادته، وليست الدعوة إلى توجيه الإدراك شيئًا جديدًا نبتدعه، فهناك نصوص وآثار وأقوال تؤكد على نجاعة هذا الأمر ومشروعيته، وهناك ممارسة يومية له من كثير من الناس لنتأمل في قوله -سبحانه-: "كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ" [البقرة:216]. وقوله: "وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً" [النساء: من الآية19]. إنها دعوة إلى عدم الحكم على الأمور بناء على عواطفنا على ما يلوح لنا من ظواهرها أو بداياتها؛ لأن ذلك ينطوي على العجلة والسطحية، فمعرفة مآلات الأشياء تحتاج إلى علم مطلق، وهو غير متاح لنا، ولهذا فإن على المسلم ألا يغالي في حب الأشياء وكرهها؛ لأنه لا يعرف كيف ستكون عليه الحال في النهاية. وكان أبو بكر -رضي الله عنه- يقول: "لا تغبطوا الأحياء إلا على ما تغبطون عليه الأموات" فما دمنا نحن -وما نملك- شيئًا عابرًا في هذه الدنيا فإن ما يستحق الغبطة فعلاً هو ما يذهب معنا وليس ما يبقى هنا، وهو شيء وحيد لا أشياء، إنه باختصار العمل الصالح.
إن المرء من خلال توجيه إدراكه يستطيع أن يستخرج من عمق الأزمة والمصيبة شيئًا يستدعي الحمد والشعور بالرضا، كما كان يفعل عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- حيث عبّر عن ذلك بقوله: "ما أصبت بمصيبة إلا تذكرت فيها ثلاثة أمور: أنها لم تكن في ديني، ولم تكن أكبر مما هي عليه، وذكرت مثوبة الله فيها".
إن الموت الذي يشكل هاجسًا مقلقًا يمكن أن ينظر إليه نظرة، وينظر إلى العيش في هذه الحياة على أنه عائق يحول بيننا وبين الحياة الحقيقية المنتظرة، وقد قال أحد فقهاء النفس والشرع: "إن المسلم إذا أدى ما افترضه الله -تعالى- عليه، وانتهى عما نهاه عنه لم يكن بينه وبين أن يدخل الجنة إلا أن يموت" بهذه اللفتة والرؤية المختلفة تصبح الحياة شيئًا معوِّقًا، ويصبح الموت جسرًا إلى مأمول عظيم!
وكتب رجل في الثمانين إلى رجل في الستين مهنئًا له ببلوغ تلك السن، كتب يقول: "قد بدأت تعيش بعد ستين سنة من التأهب، وأنت الآن من الحكمة بحيث يمكنك أن توجه نفسك، وتساعد الآخرين، ولهذا فأنت مقدّر لك أن تكتشف كما اكتشفت أنا من قبلك أن أفضل شطر في الحياة هو بين الستين والثمانين. لا تتصور أبدًا أنك تقترب من النهاية، بل من بداية جديدة، وإن مثل هذا الموقف سيغير كليًا استشرافك للمستقبل؛ وإن هذه الحياة وإن كانت تحتاج إلى أن نتحملها في بعض الأحيان إلا أنها تقدم أساسًا وإلى الأبد الوعد بحياة أسمى وأجمل".
إنه لشيء مدهش أن نمتلك من نفاذ البصيرة ما يجعلنا نبصر خطّ النهاية ونحن عند خط البداية، فنوفر على أنفسنا الكثير من الجهد والعناء، والكثير من صدمات الوعي وظلمات الطرق المسدودة!
المنغصات والمتاعب ومضيّ الأمور على غير ما نشتهي لها دائمًا وجه آخر يتجلى في كونها جزءًا من توازن الحياة، وبفضلها تتألّف المسرّات والملذات؛ إذ إن من الواضح أن لا سبيل إلى الشعور بكمال الهناء إن لم يسبقه شعور بشيء من العوز والشقاء؛ فألذ الطعام ما كان بعد جوع، وأهنأ الشراب ما كان بعد عطش...
وحين يأتي ما يقطع بهجة من مباهج النفس، فإن تلك البهجة تتحول إلى ذكرى، وبذلك التحول تصبح مصدرًا لاستمتاع نقي نستدعيه متى ما شئنا!(1/234)
السأم الذي يشكل ألد أعداء الحياة الهانئة، له هو الآخر وجهه المشرق، حيث إنه يشكل أفضل عازل لنفوسنا عن التفاعل مع الأشياء السيئة التي تضر بصحتنا النفسية والعقلية. والكسل الذي لا يلقى أي مديح من أي أحد كثيرًا ما يمهد لانطلاقة روحية وحركية عظيمة، كما أنه يعيد للحياة توازنها من خلال صرفنا عن النشاط المسرف والجدية المبالغ فيها.
المال الذي في أيدينا هو وسيلة تحرير لنا من ذل الحاجة، ووسيلة تحرير من عالم الضرورات، لكن مواصلة الرحلة لاكتساب المزيد منه دون أي حدود قد تحوله إلى شيء يستعبدنا وينهكنا.
هكذا بالتفكير اللانمطي بالبراعة الشخصية في النظر إلى الأشياء من منطلق شخصي وخارج قواعد ما تشيعه العولمة للحياة المرفهة يمكن لنا أن نستلهم الحقائق الكبرى في الوجود؛ ليبدأ فصل جديد في الحياة هو أكثر غنى وإمتاعًا وأمنًا من كل ما عهدناه وخبرناه.
=============
# مدى -1
د. عبد الكريم بكار
لو تأملت في حياة كثير من الناس لوجدت أن أهم مفقود لديهم هو التوازن والاعتدال، وهذا يعود -كما أشرت في المقال السابق- إلى أن الميل إلى التطرف هو الأصل. أما التوازن فشيء يكتسب، ويبحث عنه، إنه مثل العلم من طلبه ظفر به وإلا ظل على الجهل الذي هو الوضع الأصلي لبني الإنسان، والسؤال الملحّ والمهم دائمًا هو كيف وبم نحصل على التوازن؟
في تصوري أن من أهم ما يفيد في هذا الشأن الآتي:
1- النظر إلى أي وضعية متوازنة نصل إليها على أنها اجتهادية ونسبية ومؤقتة. إننا حين نسعى إلى الاتزان في موقف من المواقف أو في تعبير من التعبيرات أو في علاقة من العلاقات نتخيل في العادة وضعيتي الإفراط والتفريط، ونحاول أن نتخذ بينهما مسلكًا وسطًا، ونحن في هذا على صواب، لكن من المهم أن ندرك أن تخيلنا للإفراط والتفريط والنقطة التي تتوسطهما هو تخيل ناقص وإدراكنا إدراك نسبي، بمعنى قد ينظر غيرنا إلى ما نعده وسطًا على أنه يميل إلى التشدد أو التساهل. وفي عصر التفسير السريع صار كل توازن يأخذ طابع المؤقت؛ وذلك لأننا في توازننا نعتمد على إدراك أشياء متغيرة، والذائقة الثقافية للناس في حالة من التغير المستمر والمتسارع، وهذه الرؤية للتوازن تحفزنا على إعادة النظر في كل أشكال التوازن لدينا.
2- الإيغال في أي شيء -مهما يكن جيداً وحميداً وضرورياً- يؤدي إلى تضييع أشياء مهمة وضرورية. وقد أكد -صلى الله عليه وسلم- صواب رؤية سلمان الفارسي حين قال لأبي الدرداء -رضي الله عنهما-:"إن لربك عليك حقاً وإن لنفسك عليك حقاً ولأهلك عليك حقاً فأعط كل ذي حق حقه". إن لكل شيء ثمناً ولكل اهتمام زائد بأي شيء سلبية خطيرة هي نسيان أشياء أخرى مهمة. والتوازن في كل ذلك جزء من الابتلاء في هذه الحياة. الجود جيد، لكن الإيغال فيه يتصل بالسفه والتبذير. الجرأة جيدة لكنها تتصل بالوقاحة. الحذر جيد لكنه إذا تجاوز حدوداً معينة صار خوراً وجبناً. الشجاعة جيدة، لكنها إذا لم تقيد ببعض الحسابات العقلية تحولت إلى تهور وهكذا... ولذا قالوا: الفضيلة وسط بين رذيلتين.
3- من المهم أن نراقب ردود أفعالنا؛ إذ إن كثيراً من الشطط ينشأ حين نتخذ موقفاً أو نسلك مسلكاً بناءً على الانفعالات التي تعتمل في صدورنا.
والحقيقة أن أكثر من 70% من أنشطتنا اليومية هو في جوهره ردود أفعال على مثيرات متنوعة، وحين تخف رقابة وعينا على عواطفنا فإننا نقابل الخطأ بالخطأ والتطرف بتطرف مماثل؛ لكن حين نركز ليس على ما قيل لنا ولكن على ما يليق بنا أن نفعله أو نقوله، فإننا نكون قد تحررنا من وطأة رد الفعل العشوائي والفوضوي، وما أجمل قول الله - عز وجل-:"وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ" [فصلت:34].
4- كثيراً ما يكون الشطط والبعد عن القصد ناتجاً عن فقر الخيال وقصر النظر، فنحن في كثير من الأحيان نعلِّق كل توازننا على شيء من الأشياء ظانين أنه يشكل بالنسبة إلينا شيئاً مصيرياً، وإذا فقدناه فلا معنى للحياة بدونه، ونضيف إلى هذا الاعتقاد بأن ذلك الشيء سيظل شيئاً استثنائياً في نظرنا في كل الأحوال وكل الأزمنة؛ ولهذا فإننا نفعل من أجله ما لا يصح فعله، ونهمل في سبيل المحافظة عليه ما لا يصح إهماله. ويكفي الواحد منا لفهم هذا الأمر أن يتأمل في تاريخه الشخصي، وكيف كان ينفض يده من أشياء وصداقات وعلاقات كانت بالنسبة إليه شيئاً أثيراً وخطيراً. ولنتأمل ملياً في قوله -عليه الصلاة والسلام-:"أحبب حبيبك هوناً ما، عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض بغيضك يوماً ما، عسى أن يكون حبيبك هوناً ما".
مدى - 2
د. عبد الكريم بكار
إذا كان (التفكير الموقفي) يعبر عن الوعي المتأخر والجهد الاستدراكي، فإن (التفكير الوقائي) و(التفكير الاستراتيجي) يعبر عن الرؤية الشاملة للواقع بطبيعته ومعطياته، ولمنطق الأشياء ممتدة في الماضي والمستقبل.(1/235)
حين نكف عن التفكير وعن بذل الجهد المطلوب في الاتجاه الصحيح فإن أزماتنا ومشكلاتنا تأخذ في التصاعد، حيث إن كثيراً منها ذو طبيعة تفاعلية.
وآنذاك نجد أنفسنا وقد أحيط بنا، ودخلنا في نفق مظلم، لا نعرف كيف نخرج منه.
إن استراتيجية كل مسلم ينبغي أن تقوم على الحياة من أجل الإسلام، أملاً في الفوز برضوان الله -تبارك وتعالى-. وقد قال -عليه الصلاة والسلام-:"خياركم أطولكم أعماراً وأحسنكم أعمالاً"، وقال:"لا تتمنوا لقاء العدو وإذا لقيتموهم فاصبروا" وإن من الإنجازات الكبيرة لأسلافنا أنهم استطاعوا بلورة المسائل الكلية التي تدور حولها فروع التشريع، وهي حفظ الدين وحفظ النفس وحفظ العقل وحفظ العرض وحفظ المال. وقد ذكروا أن (الدين) أعلاها حظاً بالرعاية والصيانة إلى درجة التضحية بالأنفس والأموال من أجله. ولهذا شرع الجهاد بالنفس والمال، كما أن المال يُبذل من أجل حفظ النفوس، ولهذا يجوز دفع المال للعدو من أجل تخليص أسرى المسلمين.
إن كون حفظ النفوس والأموال والأعراض والعقول مقصداً عظيماً من مقاصد الشريعة الغراء يمنح رؤيتنا الاستراتيجية توازناً وعمقاً جديرين بالتأمل.
إن بقاء الدين عزيزاً كثيراً ما يشترط وجود أوطان عزيزة، وعزة الأوطان كثيراً ما تتوقف على وفرة الرجال المخلصين الشرفاء، وعلى وفرة الأموال بوصفها الأداة التي لا يمكن الحصول من غيرها على أي أداة، وهكذا فإن الحفاظ على نفوس المسلمين وأموالهم هو بمعنى ما يشكل نوعاً من الحفاظ على الدين، ولهذا فإن بذلها في أي اتجاه - ولو كان نصرة الدين وصيانة الأوطان- يظل خاضعاً للموازنة والاعتبار والنظر.
لو اجتاح العدو بلداً مسلماً، ورأت حكومته أو أهل الحل والعقد فيه وجود إمكانية لدفعه دون أن تستأصل شأفة المدافعين عنه، فإنه لا مناص من القيام بذلك، أما إذا غلب على ظنهم أو تيقنوا بأن مدافعة العدو ستؤدي إلى ذهاب النفوس والأموال دون أمل في النجاح فإن المهادنة جائزة، وذلك لأن المحافظة على إمكانات المسلمين في وقت الضعف تشكل المقدمة لاستخدامها في نصرة الدين، والدفع عن الأوطان في وقت لاحق.
العيش من أجل الإسلام هو الخط الاستراتيجي الذي يتسع لكل المسلمين، والموت في سبيل الإسلام هو (المناورة أو التكتيك) الذي يتَّسع لفئة من المسلمين في بعض الأوقات، وإن (التكتيك) إذا لم يكن في سياق عمل (استراتيجي) كان عبارة عن انتفاضة مؤقتة تعقبها حسرة وندامة.
إن مهمة العمل الاستراتيجي تتركز في أن نحل مشكلاتنا الداخلية بأقل قدر من العنف، ومن غير إراقة دماء، وهذا يقتضي أن نتشرب روح السلم والعمل على النفس الطويل، وإلا فإننا سنظل نجد أنفسنا غارقين في الدماء دون أن نحل أي مشكلة.
إن كثرة الطوارئ في حياتنا وفي علاقاتنا مع أعدائنا تدل على ضعف أبنيتنا الحضارية واختلال نظمنا الأساسية في التفكير والعمل.
الموت من أجل الإسلام سهل، وفيه مغريات. والشاق حقاً هو أن نعرف تماماً متى يكون ذلك سبيلاً إلى إنعاش الإسلام وعزة المسلم
مدى-3
د. عبد الكريم بكار
إن التطورات السريعة التي شملت كل المجالات والتي لم يسبق لها مثيل، وفرت -ولا شك- الكثير من الفرص والكثير من الأوضاع الإيجابية، لكن الناس ليسوا مهيئين للتعامل معها على الوجه الصحيح.
إن جملتنا العصبية ومرونتنا الذهنية وقدرتنا على الاستيعاب، إنها جميعاً تتعامل دائماً مع المتغيرات البطيئة على نحو أفضل من تعاملها مع التغيرات السريعة، ولهذا فإن لنا أن نقول: كلما زادت سرعة التغير كان لنا أن نتوقع تزايداً في اختلال منظومة الأنساق التي تشكل حياتنا العامة والخاصة. ومن ثم فإن علينا أن نفتح عيناً على التطور وفوائده ومكاسبه، وعيناً على الأضرار التي يسببها لنا على مستوى التوازن بين جوانب حياتنا المختلفة.
قبل الثورة المعلوماتية وثورة الحاسوب كنا نشكو من الخلل الذي همَّش الإنسان لصالح الآلة، لكن اعتماد تقدم منجزات الحاسبات على البرمجة والتي تعتمد بدورها على الذكاء والمجهود الذهني المركز أعاد الاعتبار للعنصر البشري في التنمية لكن ذلك كان للعقل لا للروح. ولهذا فإن من الملاحظ أننا مشغولون اليوم بالحديث عن الذكاء والإبداع والتفوق والنجاح والقوة والقدرة على الاحتمال، وما شابه ذلك مما يرتبط بالعقل والدور الذي يمكن أن يؤديه في النهوض العام، إلى جانب التركيز على النشاط العقلي الذي فرضته ثورة الحاسوب، يتم التركيز على النشاط الاقتصادي الذي تفرضه العولمة بقوة. وهكذا فقد غدا (المال) المحور الأساسي في الحياة، وصار الحصول على المزيد منه يشكل الهاجس الأقوى الذي يجتاح الخواطر. وبما أن المعروض دائماً من المال هو أقل من المطلوب، فقد أثارت شدة الطلب عليه ما لا يحصى من التوترات الاجتماعية، وفسد بسببه الكثير من الذمم. وصاحب كل ذلك ضمور وتراجع في الأنشطة الدعوية والروحية والأدبية والإنسانية، وكانت حصيلة ذلك ذبول في عالم المعنى وخمود لتألق الروح، واجتاحنا شعور باليأس وانسداد الآفاق، وبالغربة بين الأهل والأحباب!(1/236)
إن البشر عبارة عن مخلوقات عاطفية، ومكمن وجودنا الحقيقي هو الروح وليس العقل. وسعادتنا لا تتوقف على امتلاك المزيد من المال – كما نتوهم- فالمال مخلوق لقضاء الحاجات، وليس لتفجير ينابيع السرور العميق.
إن رمضان يشكل فرصة لاستعادة شيء من أمجاد الروح السليبة، وهو فرصة لترميم ما طرأ على توازننا الشخصي من اختلال.
إن في إمكاننا اليوم أن نسقي شجرة الإيمان بماء المناجاة والتذلل بين يدي الله –تعالى- كما أن في إمكاننا أن نتأمل في الهدف النهائي لخطواتنا اللاهثة. إن المستقبل الحقيقي لا يكون أبداً مؤقتاً، ولذلك فإنه أكبر وأوسع من أن يتحقق في حياتنا الفانية والمحدودة، إن ترك نفوسنا تنشغل بما تصادفه على السجية دون توجيه سيعني دائماً الانشغال بكل ما هو صغير ومؤقت، وهذا ما تفعله في الحقيقة العولمة حين تغرق وعينا بتفاصيل لا نهاية لها، وهي في الوقت نفسه تطمس على رؤيتنا للأصول والكليات، وأعتقد أنه قد حانت الساعة التي يعاد فيها رسم الأولويات وتحرير الوعي من جملة الارتباكات والتخبطات، وحين نأخذ بالعمل في هذا الاتجاه، فسنكون قد بدأنا بكتابة تاريخ جديد لانتصار الحقيقة على الوهم
مدى-4
د. عبد الكريم بكار
نستطيع القول: إن أمامنا على المستوى الثقافي تحديًا بين أساسين: التحدي الأول، وهو يتمثل في توليد أكبر عدد ممكن من الأفكار والمفاهيم المطلوبة لإطلاق نهضة إسلامية شاملة. إن المثل والمبادئ والقيم العليا هي أساس كل نهضة؛ وإننا إذا تأملنا بعمق فيما هو مشترك إنساني منها، وما هو خاص بأمة دون أمة لوجدنا أن المشترك أكبر من الخاص؛ لكن المبادئ الكبرى لا تستطيع إيجاد واقع ناهض من غير وسيط أو أداة تستعين بها، وتلك الأداة هي الأفكار والمفاهيم الصغرى ذات البعد التقني.
إن الرغبة في تحسين المستوى الصناعي –مثلاً- موجودة في كل مكان من الأرض، لكن أمماً بعينها هي التي استطاعت إنجاز ذلك بسبب الكم الهائل من الأفكار والأطر والنظم التي تراكمت لديها، بالإضافة –طبعاً- إلى إرادة صلبة في التحول من التجارة إلى الصناعة بوصفها القاعدة الأساسية للتنمية الحديثة. وما ينتجه المجال الصناعي من أفكار كان في الماضي هو عماد التقدم التقني، ثم صار للجامعات ومراكز البحث العلمي والتطوير وأقسام الجودة في الشركات دور بارز في ذلك. ومن المؤسف القول: إننا على صعيد هذا التحدي لم نسجل إلا القليل من النجاحات!
أما التحدي الثاني فإنه يتمثل في تعميم المبادئ والأفكار والقيم على الناس، من أجل إيجاد صبغة ثقافية واحدة تجنس الرغبات والتطلعات والمعايير داخل المجتمع الإسلامي الواحد. وأعتقد في هذا السياق أن الدعوة إلى الله تعالى تشكل أوسع الأطر المطلوبة لحركة تعميم الثقافة وتوفير السمات العامة الضرورية لتوحيد الأمة، ويلاحظ في هذا الشأن تراجع الهم الدعوي لدى كثير من طلاب العلم، إلى درجة أنه يمكن لنا أن نقول: إنه مع مرور المزيد من الوقت يصبح لدينا الكثير من الباحثين والمتخصصين والقليل من الدعاة والحريصين على نشر العلم بين الناس، وهذا في الحقيقة يشكل خطورة على الصفوة المثقفة وعلى الناس العاديين، إن قيمة المعرفة مرتبطة على نحو أساسي بالتحامها بأكبر عدد من الناس ومرتبطة بما يمكن أن تقدمه من حلول للمشكلات السائدة، وبما تفتحه من حقول للمارسة، وهذا لا يتأتى من غير نشر الأفكار والمعارف على أوسع نطاق ممكن.
إن المال حين يرتكز في يد فئة محدودة تتداوله بينها بعيداً عن الدوائر الشعبية، يتحول إلى أداة إفساد لأصحابه وللمجتمع أيضا، وهكذا العلم فإنه حين يتضاءل نشره بين الناس يفسد أصحابه ويحولهم إلى طبقة تستغل ثمراته لمصالحها الشخصية، ويعزلهم عن القاعدة الشعبية العريضة بما يوفر لهم من مفاهيم التميز والاستعلاء على من يسمون أحياناً بالعامة والدهماء! على حين أن ممارسة الدعوة توفر لطالب العلم روح التفاوض وأخلاق التلاؤم مع غيره، أي أن الدعوة توفر تواصلاً اجتماعياً يقوم على السياسة عوضاً عن شيوع الصراع القائم على استخدام القوة.
إن قوله –صلى الله عليه وسلم-:"بلغوا عني ولو آية". وقوله:"نضر الله امرأ سمع مقالتي هذه فوعاها فأداها كما سمعها فرب مبلغ أوعى من سامع" يستهدف تكوين استنارة عامة لدى الأمة وإيجاد وعي عام بما يجب أن تصير إليه في أمر دينها ودنياها.
وقد أثبتت التجربة الحاجة الماسة إلى ذلك، حيث إن القيادة الثقافية المستنيرة لا تستطيع استثمار معارفها واستخدامها في ترشيد الحركة الاجتماعية إذا لم تتمكن من إيجاد قاعدة شعبية عريضة متشعبة بأفكارها وطروحاتها.
إن العلم للعمل، وإن عمل المثقف لا يقتصر على انسجام سلوكه مع معارفه، وإنما يتجاوز ذلك إلى جعل تلك المعارف شموعاً يهتدي بها السارون في عصر شديد الاضطراب
مدى - 5
د. عبد الكريم بكار(1/237)
لو تساءلنا: ما أهم ما تفقده مجتمعاتنا اليوم لأمكننا أن نذكر العديد من الأشياء، وأظن أنه سيكون في مقدمتها شيء خطير هو (الثقة)، الثقة جزء مهم من رأسمال المجتمع، وحين تفقد من مجتمع من المجتمعات فقد لا يستطيع ذلك المجتمع استعادتها إلا عبر قرون من العمل، هذا إذا كانت استعادتها ممكنة. وإن العولمة تلعب دورًا جوهريًا في ذلك، حيث إنها تنشر أخلاقيات (الصفقة) بما تنطوي عليه من المساومة والمبالغة والخديعة، وإن الأداة الرئيسية التي تستخدمها العولمة في ذلك هي فن الدعاية والإعلان، حيث باتت الدول المختلفة تنفق من أجل الترويج للسلع ما يزيد على أربعمائة مليار دولار سنويًا! الثقة تعني وجود درجة عالية من الطمأنينة الاجتماعية والتي ترتكز أساسًا على المصداقية والشفافية ومتانة الخلق. وأعتقد أن من المسؤوليات الأساسية للخطاب الإسلامي اليوم، القيام بتقديم نموذج تطبيقي في إشاعة الثقة وبناء المصداقية، هذا النموذج يقوم على السعي إلى التزام الصدق وخدمة الحقيقة وتقديم النصح الخالص للناس فيما يصلح أمور دينهم ودنياهم.
أدنى درجات الصدق يتمثل في موافقة كلام المرء لمعتقده؛ فإذا كان صانع الخطاب يعتقد –مثلاً- أن الأمة تمر بمرحلة حرجة جدًا وجب عليه أن يصرح بهذا ولو كان بذلك يعرّض نفسه لأن يوصم بأنه متشائم، وإذا كان يعتقد أن الجانب الروحي من حياة الأمة يحتاج إلى عناية خاصة كان عليه أن يجهر بذلك، ولو كان بهذا سوف يثير عليه بعض من يرى أن الحديث في المسائل الروحية كثيرًا ما ينمّ عن انحراف عقدي وهكذا...
أما درجات الصدق الأكثر سموًا ورقيًا فإنها عديدة، ولعل من أهمها:
1- تحري مدى مطابقة الكلام للواقع، إذ إن كثيرًا مما نعتقد وجوده قد لا يكون موجودًا في واقع الأمر، حيث إن آراءنا ومعتقداتنا كثيرًا ما تكون نتيجة قراءات ناقصة للواقع أو للتاريخ.
2- العثور على درجة ملائمة من التكافؤ بين اللفظ والمعنى؛ حيث إن من الملاحظ اليوم الاهتمام بأناقة الكلمات ورنينها على حساب عمق المضمون، مما يجعل وصف السامعين لكثير من الكلام بأنه (كلام فارغ) شيئًا صادقًا ودقيقًا.
إن الاهتمام بالاتساق الشكلي للتعبير بأن شيئًا ملموسًا، إذ إنه جزء من (ثقافة الصورة) الذي ترسخه الحضارة الحديثة. ولا يعني هذا بالطبع أن نسوّغ لأنفسنا استخدام التعبيرات المبتذلة، لكنه يعني أن نجعل توضيح الحقيقة على ما هي عليه بالضبط همنا الأساسي في التبليغ.
3- السكوت عند العجز عن قول الحق وإذاعة الحقيقة، حيث لا ينسب لساكت قول. وإن ما يجعل المرء موثوقًا حرصه على اختيار المجال الذي يستطيع أن يتحدث فيه عن كل أو جل ما يعتقد.
4- استخدام اللغة الكمية في التعبير؛ لأنها أكثر دقة ولأن العقل البشري يتعامل معها بكفاءة عالية على خلاف التعامل مع الكيف أو ما نسميه (الصفات)، حيث يبدي العقل في استيعابها الكثير من الارتباك.
إن بلاغة الرقم هي بلاغة العصر الحديث، لكن علينا أن ننتبه إلى ما يمكن أن نسميه (المتاجرة بالأرقام) حيث قابليتها الشديدة للتزوير والتزيد والمبالغة.
قال الصادق المصدوق: "إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقًا، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابًا".
بالصدق ومجاهدة الأهواء ونبل المقاصد نبني الثقة، ونحافظ على ما تبقى من معاني الطمأنينة والاتصال النقي
مدى - 6
د. عبد الكريم بكار
إذا تأملنا بعمق في الحياة العامة للأمة فإنه سوف يثير انتباهنا شيئان مهمان:
الأول: هذا العدد الهائل من الشباب الغيور والمهتم بتحقيق شيء جيد يصب في رصيد هذه الأمة. وأعتقد -من غير تردد- أنه ليس على وجه الأرض أمة من الأمم تملك من الشباب الراغبين -في نصرة قضاياها العامة والقادرين على التضحية في سبيلها بالنفس والنفيس- مثل ما تملك أمتنا.
الثاني: هو الارتباك في توظيف هذه الرغبات والقدرات واستثمارها على النحو المجدي.
إن موقف الغرب المنحاز لليهود، وإن محاولته السيطرة على العالم الإسلامي بالشكل الفجّ والبعيد عن الالتزام المبدئي والمسحقة الأخلاقية –قد ولّد لدى شباب الإسلام شيئين كبيرين: روح الانتقام والثأر من الظالم المعتدي، واللجوء إلى الإسلام والالتزام بتعليماته بوصفه أكبر مصدر لتأمين المحافظة على الهوية، وبوصفه القادر على إيجاد قاعدة مشتركة لمقاومة العدوان.(1/238)
روح الثأر والالتزام بصرامة بتعاليم الإسلام يشكلان الشرارة التي تشعل الطاقات الهائلة المذخورة في دماء شبابنا اليوم. ونظرًا لعدم وجود (رؤية حضارية) قادرة على توظيف هذه الطاقات فقد نما لدينا على نحو سريع ما يمكن أن نسميه (التفكير الموقفي)، والذي يعني حشد كل الأفكار وكل الإمكانات من أجل سد ثغرة أو خدمة قضية محدودة. التفكير الموقفي هو تفكير طوارئ لا يهتم كثيرًا بأسباب القضية موضع الحشد، كما لا يهتم بما يترتب على النجاح أو الإخفاق الذي يمكن أن ينشأ من الجهود العزيزة المبذولة. وهذا موروث عن قرون سلفت، حيث كان مفهوم (النصر) شبه محصور في النصر العسكري، وحيث كان تحقيق الغلبة في معركة من المعارك يشكل حدثًا فاصلاً وواسع التأثير في مسيرة الأمة، كما هو الشأن في مثل غزوة بدر أو الأحزاب أو حنين... وكثيرًا ما أسأل عن شروط تحقيق النصر، أو يقال لي: لماذا أبطأ النصر علينا؟ أو يقال: إن هذا التصرف يؤخر النصر... وهذه التساؤلات، وما ينسل منها تدل على أن كثيرًا من الناس ينظرون إلى مسيرة أمة المليار ومئتي مليون نفس، كما ينظرون إلى مسيرة قافلة مكوّنة من مئة نفس، تعرضت لهجمة من اللصوص وقطاع الطرق؛ فكما أن التغلب عليهم يشكل نصرًا لأمة الإسلام، يمكن أن يشكل مرحلة جديدة في تاريخها.
ولا شك أن الأمر ليس كذلك. قلت مرة لواحد ممن سألوني عن (شروط النصر) قبل أن نتحدث عن الشروط والأسباب والعقبات عرّف لي النصر الذي تريده، ونبحث عنه، وطبعًا لم يستطع ذكر تعريف له؛ لأن تعريف نصر أمة يختلف كثيرًا عن تعريف الانتصار في معركة.
إن من المهم أن ندرك أن الصراع بين الأمم سنة من سنن الله –تعالى- في الخلق، وهو مظهر مهم من مظاهر (الابتلاء) في هذه الحياة، ولهذا فسيظل لكل عصر صراعه، ولكل صراع منطقة وأدواته وأساليبه وتحدياته. وإن أول خطوة على طريق الفوز في أي صراع تتمثل في فهم هذه الأمور على نحو جيد.
في زمان كثير التعقيد، وفي قضايا معقدة التكوين يكون تحقيق النصر النهائي شيئًا غير وارد، ويكون العمل المترابط والممتد على ما فيه من مشاق ومن ضعف الجاذبية هو المورد الذي يساعدنا على أن نراكم النجاحات الصغيرة، وهو السد الذي حول دون انتشار الإحباط الذي يسببه التفكير الذري والحشد والجهد المعزول.
مدى (1/2)
د. عبد الكريم بكار
كنت دائماً أتساءل: لماذا لا نلمس إلا القليل من التقدم العقلي مع كثرة ما ينشر ويطبع من كتب ومجلات، ومع كثرة ما يذاع من برامج في الوسائل الإعلامية المختلفة؟
وقد تبين لي أن ذلك يعود في أكثر الأمر إلى ما يستهدفه الناس من وراء القراءة والاستماع والمشاهدة, كما يعود إلى طريقة القراءة وطريقة التلقي، وإلى كيفية التعامل مع ما يتحصَّل من معرفة من وراء ذلك.
إذا تساءلنا: لماذا يقرأ الناس ولماذا يستمعون ويشاهدون البرامج الثقافية، فإننا سنجد أن الناس في هذا الشأن ثلاثة أصناف:
صنف يقرأ من أجل التسلية والتخلص من وطأة الإحساس بالفراغ. وهذا الصنف يشكل من المستوى العالمي ما يزيد على 60% من القراء. ولا يخلو هذا النوع من القراءة من بعض الفائدة.
صنف ثانٍ يقرأ من أجل الاطلاع والحصول على بعض المعلومات، كمن يبحث عن حكم فقهي لمسألة من المسائل، أو ينظر في المعجم لمعرفة معنى كلمة من الكلمات. وفائدة هذا النوع من القراءة أكبر من فائدة النوع الأول. وكثير من القراء لا يعرف للقراءة فائدة سوى ذلك.
صنف ثالث –وهو قليل جداً- يتطلع من وراء القراءة إلى تحسين قاعدة الفهم لديه، والارتقاء بمستواه الذهني، وإحداث تعديل مستمر في رؤاه وطروحاته ومنهجية تعامله مع الأحداث والأشياء، هذا الصنف من الناس هو الذي يستفيد أحسن فائدة ممكنة من وراء القراءة ومن وراء الاستماع والمشاهدة أيضاً.
سيكون في إمكان كل واحد منا أن يكون من هذا الصنف إذا قام بشيئين أساسيين:
الأول: أن يقرأ الكتاب بطريقة جادة وواعية. والحقيقة أن القراء الممتازين لا يقرأون كتابًا كثيرة، لكن حين يقرأون كتاباً فإنهم يقرأونه بطريقة جيدة.
القراءة الجيدة تعني نوعاً من التفلية للكتاب، أو نوعاً من الحرث له. والقارئ الجيد يحاول معرفة الخلفية الثقافية والانتماء الفكري للكاتب، كما يحاول تشكيل رؤية جيدة حول قيمة المصادر التي اعتمد عليها في تأليفه. وهو إلى جانب هذا يطرح الكثير من الأسئلة حول معالجة الكاتب ومدى وفائه بالغرض الذي أخرج الكتاب من أجله، كما أنه يحاول تكوين رؤية خاصة حول القضايا التي عالجها الكتاب.
الثاني: التفكير في مضمون الكتاب، وما يمكن أن يُحدثه من (خلخلة) في أنساقه الفكرية المختلفة. إن الكتاب الجيد يتطلب من قارئه ثلث ساعة تفكير –على الأقل- بعد كل ساعة قراءة. وسنرتكب خطأ فاحشاً إذا فكرنا من غير قراءة ومن غير معلومات. كما سنرتكب خطأ مماثلاً له إذا استغنينا بالقراءة عن التفكير أو وجدنا في القراءة مهرباً من عناء التفكير.(1/239)
ليكن تفكيرنا بعد كل قراءة في المحصلات النهائية التي يمكن أن تغير في منهجية التفكير لدينا: هذه فكرة تدعم رؤيتنا للواقع. وتلك فكرة توجب عليَّ أن أكون أكثر حذراً حيال التعميم في الحكم على الاتجاه الفلاني. وهذه فكرة ثالثة تُظهر سطحيتي في رؤية القضية الفلانية وهكذا...
إن الذي يملك معلومة أشبه بمن يملك قطعة ذهبية. أما الذي يملك منهجاً في رؤية العالم، فإنه أشبه بمن يملك مفتاح منجم من الذهب. ولك أن تتخيل الفرق بينهما!
==============
# الوطنية: انتقال من الغريزة إلى العقل
د. عبد الكريم بكار
مفهوم الوطن من أكبر المفاهيم التي تتغلغل في طبقات وجودنا غير الواعي. ويبدو أنه راسخ في التراث الجيني للبشرية، كما أنه كذلك بالنسبة إلى الحيوان.
المجال الحيوي الذي يرسمه كل واحد منا لنفسه، يعمق مفهوم الوطن واقتحام ذلك المجال يثير فينا مشاعر عدوانية لا يثيرها أي تصرف آخر. الأعلام والرايات التي ترفعها الدول فوق أراضيها تحمل معنى الاختصاص بمكان والتمسك به والذود عنه. وللمكان عبقريته الفذة القادرة على توليد ما لا يحصى من المشاعر والمفاهيم والخلفيات المشتركة بين كل أولئك الذين يقطنون فيه، ومنها جميعاً تتشكّل معاني (المواطنة) على نحو مبهم وغير مرئي.
ولعلي أقف مع مسألة الوطنية الوقفات التالية:
1- الوطنية ذلك المعنى النبيل شيء أسمى من الحضور في مكان والانتماء إليه؛ إنها كيان معنوي يبنيها الأفراد الصالحون من خلال التضحيات التي يقدمونها من أجل صلاح المجموع وسلامتهم وكرامتهم. وهذه التضحيات تتعاظم لتبلغ حد التضحية بالحياة نفسها؛ ولذا فإن (الشهيد) يمثل رأس الهرم في البناء الوطني، ولن يكون المواطن صالحاً إلا إذا حمل بين جوانحه معنى من معاني الشهادة، والتي تمثل قمة العطاء غير المحدود، وغير المشروط. والذين لا توحي إليهم (الوطنية) بمعنى من هذا القبيل يشكلون عبئاً على أوطانهم.
2- حب الوطن والساكنين فيه ومناصرتهم، غريزة لدى الإنسان، يندفع للعمل بمقتضاها دون وعي منه؛ لكن من الثابت أيضاً أن اجتماع الناس بعضهم مع بعض، يولِّد في حد ذاته توترات كثيرة بسبب ضعف المفاهيم الجامعة، وتصادم المصالح وانتهاك الفضاءات الخاصة. وهذا يعني أن على أبناء كل وطن أن يبحثوا عن صيغة للتعايش إذا ما أرادوا تحقيق درجة من التقدم الحضاري. وهذه الصيغة لا يمكن لها أن تنشأ من غير توفير الحد الأدنى من القيم المشتركة والفهم المتبادل. وهذا من جهته يتطلب أن ننمي في العقلية الجماعية رؤية واضحة لمعطيات الواقع وآفاق المستقبل. إن ما لدينا من غرائز ودوافع فطرية، يظل كافياً لتوجيه وتنظيم أوضاعنا البدائية، مما هو على شاكلة النمو والتكاثر والحد الأدنى من البقاء؛ لكن الإنسان الذي كرّمه الله -تعالى- وجعل منه خليفة ومتعه بالخيال والطموح والإرادة الحرة -لا يستطيع أن يحيا بكامل خصائصه، كما لا يستطيع توفير كل حاجاته إذا ما خضع للدوافع الغريزية، بل عليه دائماً أن يتخذ قرارات صعبة وشاقة، ومن تلك القرارات تنبثق إنسانيته حيث تنشط دوافعه العدوانية في ظل نظم قيمية تكسر حدتها، وتجعلها جزءاً من حياة طيبة متوازنة تُلبي فيها الرغبات في إطار من المشروعية والتعاون والتضامن الأهلي.
3- على مدار التاريخ، وفي كل مكان من الأرض ظلَّت (الوطنية) تعاني من معضلتين اثنتين، هما: فوضى المشاعر، وعدوان الطموحات غير المحدودة. ونجد في سياق المعضلة الأولى أن سعي الكائنات الحية -بدءاً بالفيروس وانتهاء بالإنسان إلى المزيد من الاستقلال- قد أجَّج مشاعر الأنانية. والبحث عن الخلاص الشخصي لدى كثير من الناس بعيداً عن التفكير في شجون الآخرين. وجاءت (العولمة) لتعزز هذه النزعة، فهي تزيد في مشاعر الفردية، وتدمر أحاسيس التعاون والانتماء بما تمارسه من خلع للفرد من أسرته، وللأسرة من المجتمع، وللمجتمع من أمته الكبرى. وهذا ما أشاع في الناس هواجس الخوف من المستقبل.
ونجد إلى جانب هذا مشاعر الولاء المتطرف للوطن والتعلق بكل ما فيه، والحرص الشديد على عدم مغادرته مهما كان الثمن، ومشايعة أهله على الحق والباطل. وقد تضخم ذلك عند بعض الشعوب، حتى أفرز حركات قومية وعنصرية (النازية نموذجاً) غاية في التطرف وتمجيد الذات واحتقار الآخرين. وهي تطل برأسها من جديد اليوم في أكثر دول العالم إحرازاً للتقدم التقني. وهذا كله يتم بدافع من الغريزة، بعيداً عن موازين الحق والعقل. وقد قال الشاعر العربي قديماً:
وهل أنا إلا من غُزيَّة إن غوت …غويت وإن ترشد غزية أرشدِ
وقال الآخر:
إذا أنا لم أنصر أخي وهو ظالم …على القوم لم أنصر أخي حين يُظلم
إن مجال الوجدان يستعصي أكثر من أي مجال آخر على سلطان العقل؛ مما يجعل الفوضى والاختلال من سماته الأساسية.(1/240)
حين جاء الإسلام رشّد قضية الولاء للوطن ومشايعة أهله في جملة ما رشّد من شؤون الحياة. ونجد في هذا الصدد أن الله -تعالى- أخذ على المنافقين أنهم متشبثون بالإقامة في أوطانهم إلى حد عصيان أمر الله، حيث يقول: "وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً" [النساء:66]، وذكر أنه قد يكون في مغادرة الأوطان والهجرة في سبيل الله سعة في الرزق وإرغام للعدو: "وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً" [النساء: من الآية100].
وفي الحديث الصحيح: "أنصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا". فقال رجل: يا رسول الله أنصره إذا كان مظلومًا؛ أفرأيت إذا كان ظالمًا كيف أنصره؟ قال: "تحجزه عن الظلم فإن ذلك نصره". وقد كان من جملة بنود الوثيقة التي أنجزها النبي -صلى الله عليه وسلم- لتنظيم العلاقة مع اليهود في المدينة نصرة المظلوم والأخذ على يد الظالم. إنها صياغة جديدة للمشاعر والمواقف وردود الأفعال.
المعضلة الثانية التي أضرت بالمشاعر الوطنية هي الطموحات الجامحة لدى كثير من الناس، والتي تدفع على نحو صارخ إلى اختراق المجال الخاص للآخرين والعدوان على حقوقهم وحرمانهم من فرص الترقي الاجتماعي والاقتصادي. إن الشعور بالواجب تجاه حقوق الوطن والمواطنين، لا يتولد لدى المرء إلا إذا شعر بشرف الانتماء لذلك الوطن، وهذا من جهته لا يتوفر إلا إذا أحسَّ الناس بأنهم ينالون ما يستحقونه دون عناء. وقد قال أحدهم: لماذا أدافع عن وطن لم يطعمني من جوع، ولم يؤمِّني من خوف"؟!
انخفاض سوية الالتزام لدى كثيرين منا بالإضافة إلى أزمة (قصور المفاهيم) التي نعاني منها على أكثر من صعيد -يجعل الشأن العام بعيدًا عن بؤرة الاهتمام-.
ويبدو أن ما أحرزه الفرد من وعي أعلى بكثير مما أحرزه المجتمع، مما يجعله يندفع نحو أهداف وغايات غامضة، ويجعل نمو المعاني والمفاهيم الجمعية بطيئًا.
لا يمكن توليد مشاعر وطنية صادقة من غير توفر كتلة حرجة من النماذج الخيرة التي تعلم الناس بسلوكها معاني الاستقامة والتضحية، ومن غير امتلاك شفافية جديدة نحو العدل (بكل مستوياته ومظاهره) ومن غير مراقبة جيدة لاستثمار التفوق حتى يظل ضمن أطر مشروعة، وإلى أن يتم ذلك، فإن لنا أن نتوقع الكثير من أنماط الإساءة للمعاني الوطنية، والمزيد من الاستغلال الجائر لها.
=============
#القليل الدائم
د. عبد الكريم بكار
تدعيم الذات عمل كبير. وهو ينبع أساسًا من اعتقاد المرء أن ذاته ليست معطى نهائيًا جامدًا -كما كان سائدًا لدى الفكر التقليدي القديم- وإنما هي مفاهيم ومشاعر واتجاهات وعزائم وعادات ومواقف. وحين ننظر إلى ذواتنا على هذا النحو فإننا سنتعامل معها على أنها شيء قابل للنمو، كما أنه قابل للذبول والاضمحلال.
الإنجاز المتتابع -مهما كان محدودًا- يعزز ثقة الإنسان بنفسه ويخلصه من مشاعر الإحباط والخذلان. وعلى هذا فإن كثيرًا من الناس يملكون المؤهلات لأن يكونوا عظماء، لكن مؤهلاتهم كامنة، ولا يبرزها سوى العمل والعطاء غير المشروط. خطرت لي هذه الأفكار وأنا أتابع بعض الحملات الخيرة لتقديم المعونة لإخواننا في فلسطين السليبة. وقد رأيت في تلك الحملات من مشاعر النبل والكرم والخير والمروءة ما يدل على أن هذه الأمة تحتفظ بدرجة عالية جدًا من الحيوية والقدرة على التضحية! مشكلتنا التي تحتاج إلى تنظير وإلى حلول عملية، هي كيف نحوّل الفورات العاطفية والمشاعر النبيلة الفياضة إلى نوع من الالتزام المستمر بدعم قضايانا الكبرى، وعلى رأسها القضية الفلسطينية. أعتقد أن المشكلة تتمثل أساساً في تعميم الوعي بالأهمية الفائقة للعطاء المستمر الدائم الذي لا يرهق أحدًا، لكنه يشكل بالنسبة إلى قضايانا الكبرى -نظرًا لكثرة عدد المسلمين- شيئًا عظيمًا- إن الله -جل وعلا- يحب من عبده الثبات والاستمرار في طريق الخير على قدر الوسع والطاقة؛ وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "عليكم بما تطيقون فوالله لا يمل الله حتى تملوا. وكان أحب الدين إليه ما داوم عليه صاحبه".
إن العالم الإسلامي مليء بحمد الله بالجمعيات الخيرية والمؤسسات الإغاثية التي تقوم بدور ضخم جدًا في سد حاجات المحتاجين، وتوفير الخدمات المختلفة للفقراء والمساكين. ومع أن بعضها يقوم ببرامج رائعة تتسم بالديمومة والاستمرار في جمع المال وإنفاقه إلا أن هناك أموراً كثيرة إضافية يمكن أن تقوم بها. وأود هنا أن أقترح بعض المقترحات التي تفعّل (العطاء الدائم) بالنسبة لإخواننا في فلسطين، وهي على النحو الآتي:
1- قيام وسائل الإعلام المختلفة ببث الوعي لدى كافة شرائح المسلمين بضرورة الالتزام بشيء ما -مهما كان يسيرًا- يخصص لدعم صمود إخواننا في فلسطين، ومساعدتهم على مقاومة عدوهم وإعمار بلادهم.(1/241)
2- دعوة الجمعيات الخيرية والهيئات الإغاثية الموظفين في العالم الإسلامي وكل من له دخل ثابت على أن يتبرعوا بـ ½% من دخولهم الشهرية أو السنوية لصالح أسرة شهيد أو أسير أو لصالح أرملة أو يتيم أو عاطل عن العمل.
3- قيام البلديات بالتبرع بـ ½% من ميزانياتها لدعم البلديات في فلسطين، ويمكن عقد نوع من (التوأمة) بين كل بلدية في فلسطين وبين عدد كبير من البلديات في الدول الإسلامية.
4- قيام الجامعات والمدارس في العالم الإسلامي بالتبرع بـ ½% من ميزانياتها أو دخولها لصالح الجامعات والمدارس الفلسطينية.
5- حث التجار والصناعيين والمستثمرين المسلمين عامة على أن يجعل الواحد منهم 2% من استثماراته ومشروعاته في فلسطين المحتلة؛ حتى لا يضطر الناس هناك للعمل عند اليهود.
6- قيام الجمعيات الخيرية بإيجاد دائرة خاصة فيها اسمها (وقف الأرض المباركة) تقوم تلك الدائرة باستقطاب الأوقاف المختلفة لصالح بناء المساجد والمدارس في فلسطين، وتقوم تلك الدائرة بالإشراف على الأوقاف وإدارتها وتنميتها.
7- متابعة الجمعيات الخيرية والهيئات الإغاثية الموجودة للشركات والمؤسسات لتقوم بتخصيص أسبوع من أرباحها أو يوم من دخلها في السنة لصالح دعم المسلمين في فلسطين المحتلة.
إن هناك الكثير الكثير من الأطر والأساليب التي نستطيع من خلالها إنجاح فكرة (القليل الدائم). وأنا أعرف أن هذه الأعمال ستواجه العديد من الصعوبات والعقبات، وربما تتعرض لبعض أشكال إساءة التصرف، لكن من خلال العمل والمتابعة تزول العقبات وتصحح المسارات، وتؤتي الجهود الخيرة ثمراتها المرجوة.
إننا من خلال هذه الأعمال المباركة لا ننفع إخواننا فحسب، وإنما ننفع أنفسنا أولاً من خلال ما نرجوه من مثوبة الله، ومن خلال الشعور بأننا أمة قادرة على النهوض بمسؤولياتها، وقادرة على التصدي للمهام الصعبة.
والله ولي التوفيق.
=============
# بالعلم لا بالذكاء
د. عبد الكريم بكار
في تاريخ الأمم جدل قديم حول علاقة العقل بالعلم، وحول القدر المطلوب من كل منهما للإبداع والإنجاز المتفوق. وكثيراً ما كانت ترجح كفة الذين يقدمون العقل على العلم، وربما كان ذلك بسبب الاعتقاد بإمكانية الحصول على العلم ويسر ذلك، على حين أن الموهبة والذكاء من الأمور التي لا يمكن اكتسابها. وعزز من مكانة المقدمين للعقل تعاظم نفوذ المنطق اليوناني في العديد من علوم الثقافة الإسلامية، والذي يُنظر إليه على أنه إنجاز عقلي محض. وقد وصل الأمر إلى النظر إلى تفضيل العلم على العقل على أنه اتجاه سوقي لا يليق بمثقف رصين! وأعتقد أن ذلك الجدل سيظل قائماً، وسيظل حسمه صعباً ما دام الغموض والالتباس يلف نظرتنا لطبيعة العقل وطبيعة عمله وطبيعة علاقته بالخبرة والمعرفة. ومع أن كل هذا لم يتضح بالقدر الكافي الذي يتيح لنا الشعور بأننا نقف على أرض صُلبة إلا أنه من الممكن أن نبلور بعض العلامات التي تساعدنا على السير في هذا الطريق الشائك. ولعل منها الآتي:
1- ليس هناك خلاف معتبر في أن الإنجاز العالي والمتقدم جداً يفتقر إلى كل من الذكاء والعلم. الخيال الخصب ينقلنا إلى خارج حدود الخبرة، أو يضعنا -على الأقل- على حافتها. والقدرة العالية على التحليل والتركيب تمكننا من القيام بعملية (خض) واسعة النطاق للمعرفة المتحصلة لدينا. وذلك الخض هو الذي يمكننا من تنظيم تلك المعرفة واستثمارها في الوصول إلى شيء جديد.
الذكاء العالي والعقل المتوهج يصدر ومضات إبداعية فذة، تمكننا من التعرف على بداية طريق لم يُسلك من قبل، لكن السير المظفر حتى بلوغ الغاية لا يمكن أن يكون من غير بحث وعلم بالدقائق والتفاصيل. وهذا هو الذي يفسر الوضعية العالمية السائدة اليوم، فمع أن البارئ -عز وجل- وزع الذكاء على الأمم والشعوب -وليس الأفراد- بالتساوي إلا أن الأمم التي استطاعت توليد المعرفة الثرة هي التي تبدع، وتخترع اليوم.
الذكاء من غير معرفة ملائمة قليل الجدوى. وعقل متوسط في إمكاناته مع معرفة جيدة وبيئة علمية مناسبة -يمكن من غير شك- صاحبه من التفوق والنجاح والتميز.(1/242)
2- إن الاعتزاز بالدور الذي يمكن للعقل أن يقوم به نابع في جزء منه من انتشار الأمية وضآلة المعارف المطلوبة للتقدم الحضاري، فحين يتقارب الناس في محصلاتهم العلمية فإن الذي يلفت النظر آنذاك هو الذكاء الفطري، ولا سيما سرعة البديهة والخيال الخصيب؛ لكن الأمر يختلف على نحو كبير حين تتراكم المعارف والمعلومات وتنشط آليات صناعتها. والقاعدة العامة في هذا الشأن وفي كل شأن هي أنه كلما أوغل الناس في الحضارة صارت قيمة ما هو مكتسب أهم مما هو فطري حتى المواد الخام والموارد الطبيعية المختلفة تتراجع قيمتها الفعلية لصالح التقنية والتصنيع والتدريب والإدارة، ومما يذكر في هذا السياق أن اليابان تستورد من بعض الدول العربية (طن) الألمنيوم بما يعادل (800) دولار. وبعد تصنيعه وإدخال الخبرة المرموقة في إعادة تشكيله تبيع الطن الواحد بما قيمته (مائة ألف دولار). وهكذا مع مرور الأيام ستتراجع قيمة الذكاء المحض ليصبح أحد عناصر التفوق والنجاح عوضاً عن كونه العنصر الأهم فيه. ومن المهم جداً لنا جميعاً أن ندرك طبيعة هذه التحولات، وننسجم معها. وإن الاعتقاد الشعبي السائد بمطابقة الذكاء للإبداع زهّد الناس باكتساب العلوم والمعارف. وقد ورثنا تقاليد ثقافية سيئة، يقوم العديد منها على إعطاء دور مبالغ فيه للعقل في تصور المشكلات وإيجاد حلول لها من غير الشعور بأي حاجة لاستقراء الواقع والبحث في معطياته.
وليس لدينا إلى هذه اللحظة ما يشير على نحو حاسم إلى أننا اعتمدنا المعرفة المنظمة والدقيقة مدخلاً ضرورياً للفهم والتقدم والثراء، فقطاع التعليم وقطاع البحث العلمي هما في نظر الكثيرين من القطاعات الخدمية، التي تأخذ ولا تعطي. إن البلدان المتقدمة تنفق على البحث العلمي ما يزيد على 2% من ناتجها القومي الضخم، على حين أننا ننفق من النواتج القومية لدينا ما لا يزيد على 2 أو 3 بالألف مع ضآلة تلك النواتج! وليس السبب في هذه المفارقة أننا لا نملك القدرة على الإنفاق –كما ندعي دائماً- وإنما يكمن السبب في أننا لا نملك الإرادة. ونحن لا نملك الإرادة لأننا لا نعرف قيمة توجيه المال إلى الحقول المعرفية.
3- قد يكون من المفيد أن نعمق النظر إلى مجال عمل العقل وإلى المجال الذي تعد فيه مساندة المعرفة شيئاً جوهرياً. ومع أن المشهد لا يخلو من شيء من الغموض والتعقيد بسبب العلاقات المتدرجة بين المجالات المختلفة إلا أنه يمكن القول على نحو مجمل: إن العقل يرتبك ارتباكاً عظيماً حين يُطلب منه تحديد مبادئ كبرى أو غايات نهائية، فعلى مدار التاريخ اشتغلت عقول عملاقة على تحديد أسباب وجودنا على هذه الأرض، كما اشتغلت بالغاية النهائية للخلق، ولم تخرج من كل ذلك إلا بالمزيد من الأقوال المتضاربة والغارقة في الظن والوهم. بل إن العقل كثيراً ما يُبدي العجز عن تحديد بعض مفردات الخير والشر، والنافع والضار، والآمن والخطر، والمهم وغير المهم... والسبب في كل ذلك أن البارئ –جل وعلا- فطر العقل على العمل ضمن أطر ومحدِّدات معينة. كما أنه ليس في الدماغ (خانة) تقدم له المعونة في تحديد الأشياء التي أشرت إليها. إن الوحي هو الذي يحدد كثيراً من ذلك. وما هو في منطقة (العفو) أو الفراغ القانوني تحدده الثقافة والأعراف والتقاليد. وعقولنا ترتبك كثيراً في التعامل مع (الكيف) أو ما نسميه (الصفات) على حين أنها تنجز على نحو باهر في الأمور الكمية، وكل ما يمكن التعامل معه عن طريق القيم الرقمية.
لا أريد أن أعطي انطباعاً بانعدام وجود قيمة حقيقية للتأمل والنظر المجرد، فهذا غير صحيح؛ حيث إن للتفكير التجريدي دوره الأساسي في اكتشاف جميع الحقائق والقوانين الرياضية، وله دور مهم في فهم الأحداث التاريخية والإيحاء بإمكانات واحتمالات جديدة، لكن ذلك يتم على أنه من الأمور الظنية وغير المؤكدة. لكن العقل البشري لا يستطيع أن يخطو خطوة واحدة واثقة في (علم الاجتماع) دون أن تُجمع له المعلومات الملائمة حول أمور مثل وضعية التواصل الاجتماعي في بيئة ما، ومثل دور الثقافة الشعبية في استمرار المجتمع والعوامل الأكثر تأثيراً في تطوره... كما أنه لا يستطيع أن يحرز أي تقدم في (علم الاقتصاد) دون البحث في مسائل مثل إنتاج السلع وتوزيعها ومثل الندرة والبطالة والتضخم. وهو في كل هذا يفتقر افتقاراً كلياً إلى المعلومات والإحصاءات الفنية والدقيقة.
إني أعتقد أنه قد آن الأوان لتقرير مواد دراسية في المرحلة الثانوية والمرحلة الجامعية، تتيح لأبنائنا الطلاب المفاهيم التي تساعدهم على معرفة الدور الحقيقي للعقل في الاكتشاف، إلى جانب إسهامات المعارف والتجارب في ذلك، بالإضافة إلى الأخطاء والأوهام التي تقع نتيجة إعمال العقل وتشغيله، والأخطاء التي تقع بسبب تشغيل العقل من غير زاد كاف من المعرفة والخبرة.
إننا نقف على أعتاب عصر جديد يحتل فيه الفهم للسنن الربانية والفهم لطبائع الأشياء وانفتاح الذات على العلاقات –مكانة خطيرة وحاسمة- ويجب ألا نقف متفرجين إلى أن نجد أنفسنا في زاوية أكثر حرجاً وأشد ضيقاً. والله الموفق.
===============(1/243)
# الامتحان الصعب
د. عبد الكريم بكار
يحكم شؤوننا العامة والخاصة نوعان من النظم: نظم ثقافية تقوم على العقائد والأفكار والقيم والرمزيات والعادات والتقاليد، ونظم حضارية، تنبثق من مبادئ وحاجات الإنتاج والاستهلاك والتبادل المادي، وما يدور في فلك ذلك ويقتضيه. النظم الثقافية، تشكل روح الحضارة وعقلها المدبر، على حين توفر النظم الحضارية كل ما من شأنه الارتقاء بالهياكل والأوضاع المعيشية. وبين هذه وتلك من الجذب والنفور والتأثير والتأثر ما بين الشكل والمضمون والروح والجسم. ونحن نشهد اليوم دفقاً ثقافياً هائلاً، لم يسبق للبشرية عهد بمثله، وهذا الدفق مع أنه سيظل وثيق الصلة بالفلسفة العميقة للأمم التي تقود الحضارة اليوم إلا أننا عند التأمل نجد أنه يشكل ما يمكن أن نعده منتجاً ثقافياً ثانوياً للتقدم الحضاري المادي على صعيد الإنتاج والاستهلاك والتبادل. وقد أشار إلى هذه الوضعية مدير شركة (سوني) حين سئل: ألا تراعون في منتجاتكم الخصوصيات الثقافية للدول والشعوب التي تصدرون إليها؟ أشار بقوله: نحن هنا نصنع ثقافات، ولا نجد حاجة إلى مراعاة خصوصيات أو تنوعات ثقافية!
هذه الوضعية تكاد تكون فريدة في تاريخ البشرية؛ إذ إن بطء التطور الحضاري في الماضي كان يسمح بدور مؤثر للثقافة في توجيه النمو المادي، أو يسمح -على الأقل- بدرجة من التكيف والتلاؤم بينهما.
وفي اعتقادي أن كل الأيدلوجيات والقيم، وكل ما كان متصلاً بالرمز والمعنى والعادة يتعرض لامتحان هو الأصعب من نوعه، حيث ينفتح وعينا اليوم -كما لم يحدث من قبل- على تلمس ما هو من قبيل اللذة والمتعة والراحة والمنفعة، وما هو من قبيل المحسوس، والعاجل والسطحي؛ وتتقدم فنون التسويات الفكرية والحلول الوسطى وتذويب الثنائيات على نحو مدهش ومخيف. وصار ما كان يُعد من قبيل المحرمات والممنوعات الثقافية يتضاءل على نحو مستمر ومتصاعد، مما قد يعني في نهاية المطاف ضياع المرشدات العليا لحركة الحياة! وقد دلت الشواهد التاريخية على أن الحضارة تغلب الثقافة، وأحياناً تقتلها كما يقتل المكانُ الزمانَ، وكما يقتل الامتدادُ الاتجاه. ولا أدري لماذا يحدث ذلك؟ هل لأن الحضارة تعبر عن ذاتها بلغة أوضح من اللغة التي تعبر بها الثقافة؟ أو لأن المنتجات الحضارية على صلة بالملموس وعلى صلة بالأهواء والرغبات على حين تنزع الثقافات إلى المجرد والمتعالي؟ أو أن ذلك يحدث لأن تعميم المنتجات الحضارية أسهل من تعميم الرموز الثقافية؟ أو لأن المشتغلين بتنمية الحضارة يشكلون أضعاف المشتغلين بتنمية الثقافة؟ أو لهذه الأسباب كلها. وعلى كل حال فإن تجربتنا الحضارية الخاصة تدل على أن التقدم العمراني كان يقترن في معظم الأحيان بتراجع في سوية التدين والالتزام الخلقي العميق، وكأن الوعي البشري يرتبك حين يكلف بإدارة منتجات حضارية ضخمة من أفق أصوله وثوابته ورمزياته. وهذا يجعل التقدم الحضاري يشكل خطورة كخطورة هيكل وضعنا له محرك سيارة وكوابح دراجة. وإنها لمغامرة كبرى تلك التي نقوم بها اليوم حين نحفز على النجاح بكل وسيلة إلى درجة جعله غاية في حد ذاته، على حين يخفت الصوت الأخلاقي والقيمي إلى درجة الاستحياء من رفعه!
العربية التي سطرنا في بيان فضائلها وعظمتها الكثير من الصفحات تتراجع في كل يوم بوصفها شيئاً يتصل بالثقافة لصالح اللغات الأجنبية بوصفها شيئاً يتصل بالحضارة. والتربية بوصفها ناقلاً للقيم والعادات والتقاليد تتراجع هي الأخرى، ويترسخ (التدريب) بوصفه متطلباً للانخراط في سوق العمل. التجارة بوصفها هندسة التبادل المادي تكسب في كل يوم أرضاً ثابتة على حساب قيم النزاهة والصدق والنقاء والشفافية بوصفها مؤشرات أخلاقية...
القوانين والنظم السارية تشكل في الأصل منتجات حضارية تستهدف التقليل من ابتعاد المسار الحضاري عن مسار المدلولات الثقافية؛ وتشهد هذه كلها في بقاع كثيرة من عالمنا الإسلامي نوعاً من الانهيار بسبب انتشار الأنانية والفساد والرشوة والتهرب من الضرائب، مما يعني جمود القيم وانحسار فاعليتها عن توجيه المناشط الحضارية كافة!
مع إيماني العميق بأن لدى الآخرين أشياء كثيرة يجب أن نتعلمها منهم، إلا أنني أؤمن أيضاً أن العقل الغربي يقود العالم إلى الدمار، حيث حصر نفسه في البحث عن الوسائل بوصفها غايات في حد ذاتها.
وأخذت حكمة الغرب -بما هي بحث في الغايات- تتراجع في حياته على نحو مخيف؛ بل إن حكمة الغرب تظل محدودة النجاعة؛ لأنها لا تستطيع بوصفها منتجاً عقلياً بعيداً عن الاهتداء بنور الوحي -أن تهتدي إلى علة أولى أو إلى غاية نهائية. العلم يبحث في الأسباب والحكمة تبحث في الغايات، وهما معاً في حاجة إلى بعد ثالث هو (الإيمان) والإيمان يبدأ عند انتباه الوعي البشري إلى محدودية كل من العلم والحكمة، لأن الإيمان عقل بلا حدود، ينهل من علم غير محدود.(1/244)
ليس من اللائق إذا كانت لدينا عيوب وأخطاء وانكسارات، وإذا كنا في حاجة إلى كثير من المراجعات -ليس من اللائق أن نستسلم تجاه تراجع الثقافة أمام الحضارة؛ لأن الاستسلام سوف يعني خسارة لرأسمال فكري ومعنوي، قد لا نستطيع تعويضه على مدى قرون! وتبدأ المقاومة حين نتمكن من بلورة مرجعية فكرية ومعرفية وأخلاقية مستنبطة من مجموع أهدافنا النهائية وواجباتنا الكبرى.
والله الموفق.
==============
# لمن هذه الخيمة؟
د. عبد الكريم بكار
في عقول كثير من الناس أفكار لأعمال خيرية وإصلاحية كثيرة، لكن الذي يرى النور منها قليل جداً. والأقل من القليل هو ذاك الذي يحقق نجاحاً ملحوظاً! كلما نشبت أزمة اكتشف كثير من المفكرين والدعاة أن لدى الأمة قصوراً أو انحباساً أو مشكلة في جانب من جوانب حياتها. ويبدأ كل واحد منهم بالتعامل مع ذلك على طريقته الخاصة: واحد يلقي محاضرة وثان يصدر فتوى، وثالث يؤلف كتاباً، ورابع يشكِّل لجنة وهكذا... أصحاب الفتاوى والكتب والخطب يشعرون أن مهمتهم انتهت، وفعلوا ما عليهم أن يفعلوه.
ويبقى أولئك الذين يشكلون اللجان والمجموعات للبحث والتنظير ورسم الخطط.. إنهم كثيراً ما يشعرون أن مهمتهم كبيرة، وأن الرد على تلك الأزمة، أو معالجة ذلك القصور قد يتطلب ما هو أكثر من فتوى أو خطبة.
ويمضي القوم في اجتماعاتهم الأسبوعية أو الشهرية أو الفصلية، ويستفرغون جهدهم وطاقتهم في إجراء الدراسات المطلوبة، وكلما فرغوا من دراسة جزئية، نسل البحث جزئية أخرى. وفي كثير من الأحيان يُنسى الهدف الأساسي الذي اجتمعوا من أجله، وتجد لديهم أهداف صغيرة يبحثون عن وسائل وأطر لبلوغها وهكذا.. ومع مرور الأيام تأتي الصوارف والشواغل، وتفتر العزائم، ويسود نوع من الشعور بانسداد الآفاق وبعدم وجود الأهلية لمعالجة ما تصدوا لمعالجته. وربما جاءت أزمة جديدة، أنستهم القديمة، ودفعتهم للانشغال بها! كثير من أولئك المجتمعين يبحثون في مسائل خارج اختصاصهم، ولذلك فإنهم يبذلون جهداً هائلاً ووقتاً طويلاً حتى يسبروا أغوار الأزمة أو القضية التي تصدوا لها، وحتى يوجدوا قاعدة للفهم المشترك بينهم. وكثيرون منهم يشعرون بأنهم يحملون الكثير من الأعباء، وأنه ليس لديهم أي طاقة لتحمل أعباء جديدة، ولذا فإنهم يفيضون ويطولون في المناقشات النظرية، وفي نفس كل واحد منهم توجس خفي من أن ينتهي البحث إلى تكليفه بشيء عملي. ولذا فإن تلك المناقشات تندفع بالغريزة بعيداً عن ميادين العمل. وإذا أفضت إلى شيء عملي، فينبغي أن يقوم به أشخاص من غير المجتمعين، فالمجتمعون خلقوا للتنظير، وعلى أشخاص أقل سوية أن يتولوا التنفيذ!
ثم لا يجدون أولئك المنفذين، وتنتهي العاصفة بمجموعة من الأمنيات والمقترحات التي ما تفتأ أن تسقط بالتقادم.
قد يكون من المفيد أن نوضح أن أهم ما يُطلب في هذه المبادرات الخيرة، هو أن يعتقد في كل مجموعة أو لجنة شخص واحد على الأقل أن الوصول إلى شيء عملي يُعد أولوية مطلقة بالنسبة إليه، وكأنه يقول: أنا صاحب هذه الخيمة والمسؤول عنها وحاميها، ومن أراد التعاون معي فأنا موجود، وإن لم أجد فسأتابع العمل وحدي. إنه بذلك يجعل من نفسه محوراً يجذب إليه كل أولئك الذين يشاركونه هموم ما تصدى إليه. أولوية واحدة تُخدم بشكل جيد خير من أولويات كثيرة، لا يجد صاحبها أي طاقة كافية لخدمة أي منها على الوجه الصحيح. والله الموفق.
==================
#"المرأة: نقطة مفصلية"
د. عبد الكريم بكار
كلما تفتح وعي الناس على واقعهم، وكلما تفتح وعيهم على ما بينهم من تباينات وتنوعات قفزت (قضية المرأة) لتكون أحد المحاور الأساسية في كل نقاش، بل إن كثيراً من الاتجاهات والأحزاب الإسلامية وغير الإسلامية يجعلون من موقفهم من المرأة أحد أهم الدلالات على طبيعة اتجاههم وطبيعة نظرتهم للمسائل الوطنية الكبرى، ولهذا فإن تناول مسائل إصلاح المرأة، يتسم بحساسية خاصة لدى الجميع، ولا يكاد يطرح حتى يثير العواصف والزوابع الإعلامية في كل اتجاه وعلى كل مستوى، ولهذا فإن التناول له يتسم دائماً بالحيطة والحذر، ويحتاج إلى الكثير من الاحترازات.
ومن وجه آخر فإن كل الأمم -على ما يبدو- تجعل من المرأة المناط الأساسي لشرفها، كما تجعل منها ما يشبه المؤتمن على تواصل الأجيال على المستوى الأسري، وكأن هزّ المرأة للمهد جعل منها القيّم الأول على عملية نقل التقاليد الشعبية واستمرارها عبر العصور.
لا أستطيع في هذا المقال أن أقول كل ما يجب قوله فلأقتصر إذاً على ما أراه أكثر أهمية، وذلك عبر الحروف الصغيرة الآتية:(1/245)
1) لا يستطيع أحد فينا أن يزعم أن أحوال المرأة المسلمة على خير ما يرام فنحن نشكو من سوء حال المرأة المسلمة، كما نشكو من سوء حال الرجل المسلم؛ بل إنه ليس في الغرب أو الشرق من يستطيع أن يدعي أن أحوال نسائه ورجاله مستغنية عن الإصلاح، وإذا كان في الدول الغربية من يتخذ من الحديث عن أوضاع المرأة المسلمة عامة والمرأة العربية خاصة وسيلة للضغط علينا ووسيلة للتدخل في شؤوننا، فإن هذا لا ينبغي أن يدفعنا إلى التباطؤ في تنمية المرأة المسلمة ودفعها نحو الأمام.
نحن من حيث المبدأ مع كل من يدعو إلى الإصلاح كائناً من كان، ولكل من يساعدنا عليه الشكر والعرفان.
2) من المهم أن نعترف أنه على مدار العقود الخمسة الماضية -ولك أن تقول القرون- كان جل اهتمامنا مصروفاً إلى صيانة المرأة المسلمة والتفكير في المحافظة عليها ومنعها من الاختلاط بالرجال. قد صرفنا 80% من جهودنا في ذلك، وصرفنا 20% منها على صعيد تنميتها وإعدادها للمهمات الملقاة على كاهلها.
وكان علينا أن نفعل العكس من ذلك. إننا لا نختلف في أهمية حجاب المرأة وأهمية إبعادها عن مواطن الفتن وإبعاد مواطن الفتن عنها، لكن هذا يجب أن يتساوق مع توفير البرامج والأطر والآليات التي تساعدها على أن تكون الزوجة والمربية والداعية والمواطنة الصالحة والمنتجة، ولو أننا تساءلنا عن المؤسسات التي توفر ذلك لم نجد إلا القليل والقليل جداً مما يمكن أن نتحدث عنه.
3) إن الغرب حين يطالب بإصلاح أوضاع المرأة المسلمة -وكذلك الذين يحتطبون بحباله- ينظر إلى واقع المرأة لدينا، وإلى ما يجب أن تكون عليه من أفق ثقافته ورؤاه الحضارية، وبما أن الغربيين يجعلون من ثقافتهم ومن منجزاتهم مرجعية كونية شاملة ومتفردة، فإنهم لا يستطيعون أن يدركوا أن العالم وإن كان يستظل بحضارة واحدة، هي حضارتهم إلا أنه يحتفظ لنفسه بتنوع ثقافي هائل. ونحن المسلمين لسنا راضين عن وضع المرأة الغربية، كما أن ما اقتبسته بعض الدول الإسلامية من الغرب على صعيد المرأة سبَّب لنا مشكلات كثيرة، ولم ننتفع منه بشيء ذي قيمة؛ ومن ثم فإننا لا نجد لدى الغرب النموذج المنشور للمرأة المسلمة.
إن أمة الإسلام وهي تحاول النهوض بأوضاع المرأة لديها لا تنطلق من فراغ تشريعي أو معرفي، كما أنها ليست الأمة الطارئة على التاريخ، ولا الأمة التي تشكو العوز على مستوى الأعراف والتقاليد والدلالات الرمزية. إننا بمعنى آخر نملك على مستوى الفلسفة وعلى مستوى التشريع منظومة من القيم والمفاهيم والأحكام التي توجه كل حركات النهوض والتقدم على الصعد كافة بما فيها صعيد المرأة. وإننا بالتالي نعتقد أن الإصلاح الذي يرمي إلى نزع قضية المرأة من تلك المنظومة ليس بإصلاح، وإنما هو تخريب. تحريم الله -تعالى- للزنا يستلزم بداهة تأسيس أوضاع، تساعد الرجال والنساء على العفاف من نحو البعد عن اختلاط الجنسين وستر المرأة لمفاتنها، والبعد عن كل ما يهيج الغرائز. وإن كون المرأة ترث نصف نصيب الرجل من الميراث في بعض الحالات -مرتبط بتشريعات أخرى مثل كون الرجل هو المكلف بالإنفاق على الأسرة، ومثل كونه هو الذي يدفع المهر وهكذا...، إن كثيراً من الذين يطالبون بإصلاح شؤون المرأة وفق ما هو سائد لدى العالم الصناعي لا يعيرون أي انتباه لمسألة مهمة، هي أن التقدم على النحو الممتاز يظل مرتهناً للانسجام بين معتقدات المرء وسلوكاته وأوضاعه العامة. كما أن التوجيهات والتشريعات الإسلامية تعمل مجتمعة في إطار منظومة واحدة، وإن إدخال أي تعديلات جوهرية على أي جزء من أجزاء المنظومة يعوق آداءها الكلي.
4) إذا تركنا الثوابت التي لدينا في القضايا المتعلقة بشؤون المرأة، فإننا سنغادرها إلى اجتهادات وتجارب بشرية قاصرة وصادرة من رؤى إقليمية وجانبية محدودة (والعقل لا يصدر دائماً إلا عن رؤى جزئية)، وتلك الاجتهادات متغيرة ومتجددة والارتباط بها لا يعني التبعية لما هو مرحلي ومتطور فحسب، لكنه يعني أيضاً إحداث تصدعات في البنى العميقة داخل مجتمعاتنا وتشتيت القوى الاجتماعية بين متمسك بالقديم ولاهث خلف الجديد، وليس في هذا مصلحة لأي أحد فينا.
حين غزا الأوربيون أفريقيا في القرن التاسع عشر أبدوا استهجانهم لتكشف المرأة الأفريقية وعدم اهتمامها بستر جسدها، حيث كانت المرأة الأوربية آنذاك تلبس ثياباً طويلة سابغة، كما كانت تضع شيئاً على رأسها، واليوم تجاوز العري الأوربي كل مقاييس الحشمة، وصار ما هو دارج حجة أخلاقية وقانونية يمكن الاتكاء عليها بعيداً عن أي نصوص دينية أو موروثات ثقافية. وتجاوز الأمر ذلك أيضاً إلى أنه يضيق بلد ذرعاً بقطعة قماش تضعها مسلمة على رأسها، وتصدر القوانين الحاظرة لذلك، مع أن ذلك البلد يوصف بأنه مركز التنوير والإشعاع الحضاري والديموقراطي الأول!!(1/246)
5) إن الاختلاف التشريحي والفزيولوجي بين الرجل والمرأة، حدد في الحقيقة إلى مدى بعيد الدور الأساسي لكل منهما في الحياة، فكون المرأة هي التي تحمل وتلد وتُرضع، جعل من الأمور الطبيعية أن تهتم هي بشؤون الأسرة وليس الرجل، كما جعل من الطبيعي أيضاً أن تمكث في البيت أكثر من مكوث الرجل، وهذا يؤثر على مجمل خبراتها الحياتية، ويجعل آراءها لكثير من الأعمال خارج المنزل لا يتم بالكفاءة التي تبدو في أداء الرجل، ولهذا فإن المرأة لم تستفد من تشريعات المساواة المطلقة مع الرجال في كثير من بلدان العالم سوى القليل، ولا سيما على صعيد الوظائف العليا؛ فنسبتهن بين رؤساء الدول والوزراء والأمناء والمدراء العامين متدنية جداً، ولا تقدم الدول المتقدمة شيئاً زائداً في هذا عما تقدمه الدول النامية. ثم إن كون المرأة أخف وزناً من الرجل وأصغر حجماً منه، جعلها غير قادرة على مباشرة الأعمال التي تتطلب درجة عالية من القوة البدنية. وهكذا فالدول التي جندت النساء في جيوشها تكل إليها القيام ببعض الأعمال الإدارية، ولا تكلفها في الغالب بمباشرة القتال. وفي الولايات المتحدة انتهت بعض الدراسات والإحصاءات إلى أن الشرطية الأمريكية تستخدم السلاح، وتقتل من المطاردين أكثر مما يفعله الشرطة الذكور بسبب ضعف القوة البدنية لدى النساء وتوفرها لدى الذكور. ولا يخفى أن بعضاً من سوء معاملة المرأة وبعضاً من الظلم الذي يقع عليها في كل أنحاء المعمورة، يعود إلى ضعفها البدني مقارنة بالرجل. وإن تأجج العاطفة لدى المرأة إلى حد السيطرة شبه الكاملة على القرار الشخصي وعلى المحاكمة العقلية –لا سيما في أوقات الغضب- يفسر حكمة إعطاء إدارة الأسرة والقوامة للرجل، وجعل الطلاق في يده على نحو عام وليس في يدها. إن كثيراً من الخديعة للنساء والكثير من التلاعب بهن وتوظيفهن من قبل بعض الرجال في أعمال لا أخلاقية، يتم بوصفه حصيلة نهائية لكل العوامل التي أشرت إليها. وقد أشارت أحصائية حديثة إلى أنه للمرة الأولى في التاريخ تتجاوز نسبة المواليد غير الشرعيين في بريطانيا نسبة المواليد الذين ولدوا داخل مؤسسة الزواج. وفي هذا عبرة لمن يستطيع أن يعتبر!
6) نحن ننظر إلى الاختلاف بين الرجل والمرأة على كل المستويات، وفي كل الملامح على أنه جزء من عملية التناسق الكبرى التي بثها البارئ –سبحانه- في هذا الكون، فكون قيام الأسرة يشكل أحد أبرز معالم الحياة الاجتماعية في الرؤية الإسلامية –اقتضى وجود الاختلاف بين الرجل والمرأة، حيث يأتي الانسجام هنا من التباين، وليس من التناظر على قاعدة:"نختلف لنأتلف" فزيادة العاطفة لدى المرأة ترطب أجواء الأسرة، وتلطف العلاقات داخلها، كما أنها ضرورية جداً لآداء الخدمة الشاقة في تربية الأطفال. وزيادة درجة المحاكمة العقلية لدى الرجل تساعد على ترشيد قرارات الأسرة، وتوجهها الوجهة الصحيحة. ويحدث الكثير من الخلل حين تتراجع العاطفة لدى المرأة، وحين تطغى لدى الرجل.
كما أننا ننظر من وجه آخر إلى الاختلاف بين الجنسين على أنه معقد الابتلاء في الحياة الاجتماعية، إذ على الرجل أن ينظر إلى التباين بينه وبين المرأة على أنه أداة اختبار له، وعلى المرأة أن تفعل مثل ذلك، وهذا هو البديل الجيد عن أن ينظر كل منهما لنفسه على أنه محور وعلى الآخر الدوران في فلكه.(1/247)
7) إن أحد أهم المنطلقات في مسألة النهوض بالمرأة المسلمة يتجسد في النظر إلى أن الأصل في واجبات الرجال والنساء واحتياجاتهم وحقوقهم وآفاق نموهم والفرص التي يجب أن تتاح لهم هو التوحد والتشابه، وليس الخصوصية والتباين إلا ما دلت النصوص الصحيحة الصريحة والأحكام المعتمدة على الاختلاف فيه. وهذه النظرة مخالفة على نحو جذري للنظرة التي تجعل من التباين بين الجنسين أصلاً، ومن ثم فإن على من يدعي التماثل الإثبات بالأدلة والبراهين. يقول الله تعالى:" وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً" [النساء:124]، وقال:"وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ" [الأحزاب:36]، وقال سبحانه:"إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً" [الأحزاب:35] وقال:" وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ" [التوبة:71].
إن حاجات المرأة البدنية والروحية والنفسية والترويحية والأدبية والمعيشية لا تختلف عن حاجات الرجل، وينبغي العمل على تلبيتها في إطار خصوصية المرأة ووفق حدود الشريعة الغراء. وللمرأة على الرجل حقوق كما أن للمرأة على الرجل حقوقاً، وقد قال –سبحانه-:"ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة" [البقرة:228]. وقد كان ترجمان القرآن ابن عباس –رضي الله عنهما- يقول انطلاقاً من هذه الآية:"إني لأحب أن أتزين لزوجتي كما أحب أن تتزين لي". وذُكر أنه قال في تفسير الآية:"أي لهن من حسن الصحبة والعشرة بالمعروف على أزواجهن مثل الذي عليهن من الطاعة فيما أوجبه الله عليهن لأزواجهن". وقد اختلف المفسرون في تفسير كلمة (الدرجة) على أقوال، وقد ذهب ابن عباس إلى أن الدرجة إشارة إلى حض الرجال على حسن العشرة، والتوسع للنساء في المال والخُلُق، أي أن الأفضل ينبغي أن يتحامل على نفسه. قال ابن عطية وهذا قول حسن بارع.
إن للمرأة المسلمة الحق في أن تتطلع إلى تحقيق ذاتها وإثبات وجودها والقيام بدور ريادي في المجتمع عن طريق الدعوة إلى الله –تعالى- وتثقيف الجيل، والمشاركة في الحركة الإصلاحية والمساهمة في تنمية الاقتصاد، ودفع عجلة التقدم بما لا يؤثر على وظائفها القائمة بها فعلاً من رعاية الأسرة وتنشئة الطفولة، وبما لا يتعارض مع الأطر الشرعية المعروفة في هذا الشأن. إننا لا نستطيع –كما لا يستطيع غيرنا- أن نفصل للنساء الأمور التي تتطلع إليها، أو تحقق ذاتها عن طريقها، فهذا شيء يشرطه الزمان الحاضر ونوعية الحالة الحضارية السائدة. ولا تختلف المرأة في هذا عن الرجل، المهم دائماً مشروعية الأهداف ومشروعية الوسائل بالنسبة إلى كل منهما.
والحقيقة أن الأمة اليوم -بما تعانيه من ضعف في كل المجالات- بحاجة ماسة إلى جهود كل أبنائها وبناتها، مما يجعل كثيراً مما أشرت إليه على أنه حقوق نوعاً من الواجبات الحضارية التي ينبغي إعداد المرأة للقيام بها والنهوض إليها.(1/248)
8) يقول علماؤنا: الخير المحض نادر والشر المحض نادر، ومعظم الأمور عبارة عن خير يشوبه بعض الشر، وشر يشوبه بعض الخير. وإننا انطلاقاً من هذا سنجدد دائماً بعض الميزات والإيجابيات لكثير من الأنشطة النسائية، كما سنجد أيضاً بعض المثالب والسلبيات لكثير من ذلك. وعلينا من خلال معرفتنا بموازين الشريعة السمحة ومعرفتنا بسنن الله –تعالى- في الخلق بالإضافة إلى فهمنا لطبائع الأشياء ومنطقها أن نقوم بـ (تقييم) الإيجابيات والسلبيات لكل عمل من الأعمال وكل نشاط من الأنشطة التي تحتاج إليها المرأة، وينبغي أن تساهم هي على نحو فاعل وواسع في توضيح الحاجات وتقييم الأنشطة، فما غلبت إيجابياته على سلبياته صارت سلبياته في حكم العدم، وما غلبت سلبياته إيجابياته، صارت إيجابياته كذلك مع الأخذ بعين الاعتبار أن تقديرنا للمزايا والنقائص كثيراً ما يكون اجتهادياً يقبل الخلاف والجدل والرؤية المتعددة. وإذا كان هذا صحيحاً فإن على الأمة أن توحد كلمتها، وتتعاون على تطهير المجتمع من السلوكات والأوضاع المتفق على تجريمها والمتفق على سلبياتها وضآلة إيجابياتها، كما أن عليها أن تُبقي الباب مفتوحاً للحوار في الأمور المختلف فيها، وأن تتعلم مع ذلك كيف تتسامح فيما يحتمل تعدد الرؤية وتباين النظر والتقدير من أفق الحكم الشرعي أولاً ومن أفق النظر العقلي والخبرة المتراكمة ثانياً.
ومن الملاحظ في هذا الإطار أن كثيرين منا لا يُظهرون أي استعداد للمناقشة في المزايا والعيوب، ولا ينفتحون على أي رأي مغاير لآرائهم في قضايا (المرأة) وقد استسهلوا حظر أي نشاط أو عمل أو إطار لمحوا فيه سلبية من السلبيات غير مدركين للأضرار الخلقية والنفسية والاجتماعية التي تتعرض لها المرأة بسبب كبح روح المبادرة لديها وتضييق المجال الحيوي لنشاطها وحركتها. إن على أهل الخير والغيرة على المرأة المسلمة أن يدركوا أن الزمان ليس ممتداً أمامهم إلى ما لانهاية، وأنهم إذا لم يسعوا على نحو جاد لإصلاح شأن المرأة من أفق مبادئهم ومنطلقاتهم ورؤاهم، فإن غيرهم سينجز المهمة وفق ما يراه، وعليهم آنذاك ألا يلوموا إلا أنفسهم.
9) من المهم في كل مشروعات الإصلاح العامة وتلك الخاصة بالمرأة أن نركز على التثقيف والتربية بوصفهما المورد الأكبر لبناء الإنسان من الداخل، وبوصفهما الأداة الأكثر فاعلية لتأسيس ذات حرة كريمة، تحركها المبادئ والقناعات الذاتية، ويكبح جماحها الوجدان والضمير والوازع الداخلي. وقد بات هذا الأمر اليوم أكثر إلحاحاً؛ حيث أخذت العولمة تهمش كل السلطات: سلطة الدولة والمجتمع والأسرة والمدرسة، وسينتج عن كل ذلك تدهور في سلطة الأعراف والعادات والتقاليد، مما يعني أهمية استثنائية للرقابة الذاتية والمبادرة الخاصة، والتثقيف الجيد القائم على الحوار وتوسيع الأفق وقبول النقد والنظر إلى الأشياء من زوايا متعددة، يساعد الأجيال الجديدة على الشعور بالمسؤولية من خلال شعورها بحرية الاختيار. ومن الشعور بالمسؤولية تنبثق الشخصية، ويبزغ فجر الإنسان المبادر والمنضبط ذاتياً. وإن من المؤسف أننا على مدار التاريخ لم نكن نواجه انحرافات المجتمع وأمراضه وأشكال قصوره بتحسين مستوى التثقيف أو تطوير البنية التربوية، وإنما كنا نواجه ذلك بالإفراط في استخدام القوة وسن المزيد من النظم والقوانين الكابتة للنشاط والمقيدة للحركة، وقد عبر عن هذه الوضعية عمر بن عبدالعزيز –رحمه الله- حين قال:"يحدث للناس من الأقضية على مقدار ما يُحدثون من الفجور". ولم نحصل من وراء كل ذلك إلى على أقل القليل من الصلاح والاستقامة والتقدم، لكننا خرجنا أجيالاً من الإمعات والمهمشين وأجيالاً من ذوي السلوكات المتناقضة والنفوس الناقمة والتطلعات المرتبكة.
إن التثقيف الجيد يحتاج إلى وقت وإلى جهد وصبر لكن نتائجه مذهلة! وإن طبيعة التدين الحق والالتزام الصحيح تتأبى على القسر والإكراه، وتنمو وتنتعش مع التحفيز والتشجيع والعناية الفائقة.
10) تواجه المرأة المسلمة العديد من المشكلات النفسية والاجتماعية والاقتصادية، وهذه المشكلات منها ما هو خاص بها، ومنها ما هو مشترك بين النساء جميعاً. وإن من سنة الله –تعالى- في الابتلاء أن الذي يتحرك في إطار مبادئه وقيمه يجد نفسه تتحرك في مدى أضيق من المدى الذي يتحرك فيه من يمضي وفق رغباته وشهواته المطلقة. وهذه القيود والتكاليف تثقل كاهل الإنسان؛ لكنها في الوقت نفسه تشكل وسائله وسبله إلى الرقى والسمو والنجاة. ومثلها في ذلك مثل جناحي النسر يثقلانه حين يكون على الأرض، لكن بهما يبلغ طبقات الجو العليا. وأنا أشعر أن إحساس الرجال بحجم معاناة النساء ضعيف؛ وقد تعودنا إصدار الأحكام العامة دون الدخول في التفاصيل، مع أن الشياطين –كما يقولون- تكمن في التفاصيل، وهذا بعض ما أعتقد أنه يشكل أزمات عامة للمرأة المسلمة؛ على نسب متفاوتة:(1/249)
- كثير من النساء يعانين من السأم والملل والفراغ بسبب أن لديهن في البيت من يخدمهن ويحمل عنهن عناء رعاية المنزل. وهناك عدد كبير آخر من نساء المدن والأرياف يجدن أوقاتاً كثيرة في المساء لا يعرفن كيف يملأنها. ونظرت المرأة إلى نفسها فوجدت أنه ليس لديها رسالة سامية تسعى إلى نشرها وليس لها اهتمام بخدمة اجتماعية، تقوم بتأديتها، كما أنه ليس لها هواية نافعة تقوم بممارستها.. وكانت النتيجة ضيق الصدر وتراكم الهم. وكان الملاذ في الخلاص من الفراغ هو الجلوس أمام الفضائيات ومتابعة ما فيها من غث وسمين، واللجوء إلى التسوق والتجول في الأسواق وقد نمت النزعة الاستهلاكية لدى المرأة المسلمة والنزعة نحو التزين على نحو سبقت به المرأة الأوربية! إن المرأة عندنا تتعامل مع المنتجات الاستهلاكية كما يتعامل السجين مع الطعام، حيث لا يجد ما يمارس حريته تجاهه سواه!
- كثيراً ما نقول: إن الوظيفة الأساسية للمرأة هو رعاية شؤون الأسرة وتربية الأطفال. وهذا حق لا جدال فيه، لكن ماذا تعمل العوانس اللواتي لم يتزوجن؟ وماذا تعمل امرأة لم تنجب؟ وماذا تعمل امرأة كبر أولادها ووجدت نفسها وحيدة بين أربعة جدران؟ وماذا تعمل امرأة تزوجت وطلقت؟ إن هذه الفئات تشكل نسبة لا يستهان بها بين النساء.
هذه الوضعية تحتاج إلى حلول مركبة، قد يكون أولها حفز المرأة على تكوين رسالة دعوية أو اجتماعية أو خدمية تحاول تأديتها والعمل من أجلها. وهذه مهمة وسائل الإعلام في المقام الأول.
ومن تلك الحلول إيجاد أماكن للتسوق خاصة بالنساء، ويمكن داخل تلك الأماكن إيجاد أنشطة تربوية وتعليمية وترفيهية في إطار المباح، فذلك يساعد على شغل الوقت بشيء نافع بعيداً عن مواطن الفتن. ويظل الحل الأكثر نفعاً، والأكثر إمكاناً هو إنشاء ما لا يحصى من المؤسسات والأطر الخيرية والتدريبية والتعليمية التي تساعد المرأة على تنمية ذاتها وعلى أداء دورها في خدمة الأمة. ونحن مقصرون في هذا تقصيراً كبيراً، وإن من المؤسف أن المرأة تكاد تكون المرأة الوحيدة بين نساء الديانات المختلفة التي لا تذهب إلى مكان العبادة مع صريح قوله –صلى الله عليه وسلم-:"لا تمنعوا إماء الله مساجد الله" وقوله:"إذا استأذنت أحدكم امرأته إلى المسجد فلا يمنعها" أخرج الحديثين مسلم في صحيحه. ولا خلاف في أن على المرأة المسلمة إذا خرجت إلى المسجد أن تترك التزين والتطيب، وأن تلبس اللباس الساتر. إن معظم مساجدنا ليس فيها أي مكان مخصص للنساء، والأماكن المخصصة في بعضها كثيراً ما تكون ضيقة ومهملة. والعجيب أن كثيرين ممن يخشون من وقوع نسائهم في الفتنة إذا ذهبت إلى المسجد لا يجدون حرجاً في تجول نسائهم في الأسواق الساعات الطوال من غير رجل يرافقهن، ولا يجدون حرجاً في الذهاب مع أهليهم إلى الحدائق العامة والسفر بهن إلى البلاد الأجنبية!!
إن حضور المرأة إلى المسجد ليس من أجل الصلاة فحسب، وإنما من أجل الانتفاع بالموعظة وممارسة نشاط دعوي وتربوي وتعليمي، يمكن أن ينشأ في دوائر النساء إذا ما نحن ملكنا الرؤية الصحيحة لتنمية المرأة المسلمة.
- إن كثيرات من النساء يعانين الأمرين من مشكلة الاختلاط في الدوائر والشركات والمؤسسات، ويتعرضن للكثير من الأذى والتحرش الجنسي، ولا أحد يهتم بهذا، ولا يسلط الضوء عليه. وبعض النساء يعانين من انحراف أزواجهن وسلوكهم طريق الرذيلة واستسهال الخيانة الزوجية، كما أن بعضهن يعانين من زوج مدمن على المسكرات أو المخدرات. وبعضهن يعانين من الزوج الذي يسهر مع شلته إلى الفجر، ثم يعود إلى البيت لينام سويعات ثم يذهب بعدها إلى عمله، ثم يعود لينام ويأكل، ثم ينصرف إلى أصدقائه وهكذا..!
هناك نساء كثيرات يعانين من ضرب أزواجهن لهن، والاعتداء على أموالهن ورواتبهن، وهناك وهناك.. إن كثيراً من هذه المشكلات جاءت به أو زادت في تفاقمه الظروف الحضارية الراهنة، وإن كل هذا يحتاج إلى مواجهة شجاعة وحلول ناجعة. وأتصور أن علينا أن نقلل من الاختلاط إلى الحد الأدنى وأن ننشئ أعداداً كبيرة من الجمعيات والمؤسسات واللجان التي تسعى إلى تثقيف الرجال والنساء بأصول الحياة الأسرية وآدابها، كما تقوم بإصلاح ذات البين وحل المشكلات المتفاقمة بين الزوجين. كما أن علينا أن ننشئ محاكم مستعجلة جداً أو ذات شفافية عالية من أجل الأخذ على أيدي الأزواج الظالمين والفاسدين والمهملين.(1/250)
- لا بد أن ننشئ المزيد من الأطر لتوظيف المرأة للاستفادة من مؤهلاتها. ونحن نقول منذ البداية: إن الوظيفة الأساسية للمرأة هي الأمومة والقيام بأعباء البيت والأسرة، لكن هناك نساء تعلمن ونلن أعلى الشهادات والأمة في حاجة إلى علمهن وخبراتهن، وهناك نساء لم يتزوجن والوظيفة بالنسبة إليهن باب للرزق وملء للفراغ. وفي ظل تراجع دخل الفرد في معظم الدول الإسلامية صار معظم الموظفين غير قادرين على توفير المال المطلوب لحياة أسرية كريمة، ويحتاجون إلى مشاركة زوجاتهم في تغطية نفقات الأسرة وهناك وهناك.. إن الارتقاء بالحياة يوفر دائماً المزيد من فرص العمل، وإن بعض الدول خاض في تجارب ناجحة في توفير أعمال كريمة من خلال مشروعات (الأسر المنتجة) كما أن بعض الشعوب الإسلامية تتبع تقليداً حميداً في توفير معلمين ومعلمات ومؤدبين ومؤدبات على مستوى عالٍ من الاستقامة والمعرفة؛ من أجل تهذيب وإرشاد الأولاد والبنات في البيوت. وأتصور أن سن تشريعات -في المدن على الأقل- لجعل الذهاب إلى رياض الأطفال منذ سن الرابعة إلزامياً سوف يقدم خدمة كبيرة للأسر وللنساء الباحثات عن عمل.
إننا حين نملك ما يكفي من العزيمة والوعي، فسنجد الكثير من الحلول، وسننجز إنجازات ضخمة للمرأة المسلمة والمجتمع المسلم، ومن الله الحول والطول.
================
#في كل الأحوال (1/2)
أ.د. عبد الكريم بكار 5/9/1424
30/10/2003
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فإن إنجازاتنا وعطاءاتنا تخضع لثلاثة عوامل أساسية، هي:
1- ما ورثناه عن آبائنا وأجدادنا من خصائص عقلية ونفسية وجسمية.
2- البيئة التي نعيش فيها بما تشتمل عليه من مفاهيم وأعراف وتقاليد وبنى تحتية ومرافق عامة...
3- الجهود الشخصية والخاصة التي نبذلها في تثقيف عقولنا، وتزكية نفوسنا وصقل مهاراتنا، واستثمار الفرص المتاحة لنا.
ولا يخفى أن بين هذه العوامل الثلاثة علاقة جدلية مستمرة، فالذكاء المتفوق والقدرات الذهنية الممتازة تساعد المرء على أن يستفيد على أحسن وجه من المعطيات التي توفرها البيئة، كما أنها تجعله يدرك بسرعة حدود إمكاناته الحقيقية وطبيعة التحديات التي يلاقيها والطريقة المثلى لمواجهتها والتصرف حيالها.
البيئة الجيدة تجعل عمل الناس أسهل، وتوفر لهم الظروف التي تساعدهم على التفوق والارتقاء وهكذا..
والذي نستفيده من هذا هو أن التفوق في الجهد أو البيئة أو الموروث الجيني، سوف يخفف من أضرار القصور في الجانبين الآخرين. وأن أي قصور في أي جانب أو عامل من هذه الثلاثة سيؤثر سلباً في أداء العاملين الآخرين، وأعتقد أن التكامل والتفاعل بين ما ذكرنا يشكّل مظهراً من مظاهر ابتلاء الله -جل وعلا- لنا في هذه الحياة؛ حيث إن إمكانات الارتقاء والتقدم ستظل موجودة مهما كان الموروث الجيني سلبياً وضعيفاً، أو كانت البيئة صعبة وغير مواتية؛ وذلك من خلال تنمية الإمكانات الشخصية وبرمجة الوقت وتحديد الأهداف واكتساب المهارات، وقبل ذلك كله العبودية الحقة لله -تعالى- والاستعانة به، والتأهل لتوفيقه وفيوضاته غير المحدودة.
ولو أننا تأملنا في سير أولئك الذين صاغوا أمجاد هذه الأمة، وشيّدوا صرح حضارتها لوجدنا صدق ما نقول.
وأحب هنا أن أبلور المفهومات الثلاث الآتية:
أولاً: ما دامت المحصلات النهائية لكل جهودنا الدعوية والإصلاحية والتعليمية خاضعة لموروثاتنا عن الآباء والأجداد، وخاضعة للبيئة التي نعيش فيها وللجهد اليومي الذي نبذله، وما دامت كل هذه الأمور لا تكون أبداً حدِّية وكاملة؛ فإن المتوقع آنذاك أن تكون النتائج التي نحصل عليها مشوبة دائماً بالنقص والقصور، وستظل دائماً أقل مما نريد؛ فأنت لا تستطيع أن تصل إلى حلول كاملة في وسط غير كامل، وستظل هناك فجوة بين طموحاتنا وبين ما يتحقق على الأرض. هذا يعني أيضاً أننا سنظل نشكو ونشكو، وكأن الوعي البشري اخترع الشكوى من سوء الأحوال، ليتخذ منها محرضاً على التقدم.
وإذا تتبعنا هذه السلسلة من الإحالات والاستنتاجات فسنصل إلى الاعتقاد بأنه لن يكون في هذه الدنيا لأي أمة من الأمم أو جماعة من الجماعات أو فرد من الأفراد - نصر حاسم ونهائي- لا يقبل الجدل ولا الشك والنقد. ولهذا فإن الذين يحلمون بانتصارات نقية وتامة سيظلون يصابون بصدمات الإحباط وخيبات الآمال!.
ثانياً: إذا كان الأمر على هذه الصورة؛ فهذا يعني أننا لن نصل أبداً إلى اليوم الذي نعتقد فيه أننا قد حصلنا على البيئة المثلى للعمل والإنجاز، ولا على الأدوات التي نحتاجها لتحقيق أقصى الطموحات، وسنظل نشعر بوجود درجة من المجازفة والمخاطرة عند اتخاذ أي قرار حاسم في أي اتجاه. وهذا يجعلنا نبلور مفهوماً جوهرياً، هو:" اعمل ما هو ممكن الآن، ولا تنتظر تحسن الظروف".
وهذا المفهوم يقوم على مسلّمتين هما:
1- هناك دائماً إمكانية لعمل شيء جيد لأنفسنا وديننا والناس من حولنا.
2- مهما تحسنت الظروف؛ فإنه سيظل هناك من يمكنه أن يظن أن الظرف المطلوب توفره من أجل الإنجاز لم يتهيأ بعد.(1/251)
ثالثاً: هناك مسلمون كثيرون مصابون بفقر شديد في الخيال، فهم خاضعون لمقولات مستعجلة أطلقها أعلام ومشاهير لم تنضج رؤيتهم لفيزياء التقدم ولا لطبيعة العلاقات التي تحكم قوى التحدي والاستجابة، ومن ثم فإنهم قد صاروا أشبه بمن وضع القيد بنفسه في رجليه في أجواء عاصفة وخطرة!.
إن الخيال نعمة كبرى من الله -جل وعلا-، وقد كان نابليون يقول: "إن مؤسساتنا مصابة بمحدودية الخيال، ولولا الخيال لكان الإنسان بهيمة". ويكفيني هنا لفت النظر إلى مسألة تتجلى فيها محدودية الخيال وعقمه الشديد:
من الواضح أن جمهرة غير قليلة من أبناء الجماعات والدعوات الإسلامية يعتقدون أن تطورات مذهلة سوف تطرأ على الحياة الإسلامية إذا قامت الدولة (الحلم) التي تسيّر شؤون الناس، ولهذا فإنهم عطلوا الكثير من الجهود، وأضاعوا الكثير من الفرص، وعلّقوا توازن أعداد هائلة من الناس على تحقيق ما يتطلّعون إليه!؛ بل إن الأمر تجاوز ذلك إلى ما هو أسوأ، وهو الاعتقاد بأنهم لا يستطيعون إنجاز أي شيء ذي قيمة إلا في ظل دولة إسلامية راشدة. وتلك الدولة ينبغي أن تكون من الطراز العمري، فإذا كانت من مستوى الحكومات الأموية أو العباسية، فربما كانت لا تستحق أقل من الثورة!.
هؤلاء الناس يتخيلون أن الحكومة الراشدة التي يحلمون بها سوف تكون على درجة عالية من الإخلاص والخلق والعلم وحسن التدبير والحنكة في تحفيز الجماهير على الكدح والعطاء، وعلى درجة عالية من الخبرة في حل المشكلات الداخلية ومواجهة التحديات الخارجية، مع أنهم لا يقولون لنا: أين ستكتسب (الدولة الحلم) هذه الخبرات الخطيرة؟ وفي أي بيئة ستتكون لدى أعمدتها هذه الصفات والأخلاق والمهارات الفذة والعجيبة؟ وهم ما فتئوا يشكون من سوء الأحوال وتدهور الزمان!.
في ظل هذه الدولة سوف يحدث ما يشبه الزلزال في النفوس والمجتمعات والعلاقات والتوجهات السائدة: في ظل تلك الدولة العجيبة سوف ينشط الكسول ويتعلم الجاهل، ويبذل الشحيح، ويقلع بذيء اللسان عن التفوه بالألفاظ القبيحة، ويكفّ مدمنو المخدرات والمكيفات عن تناولها، وسوف يحاول المدرس غير الكفء صقل مهاراته وإثراء ثقافته... كما أن العلمانيين والليبراليين وأصحاب المصالح المضادة سوف يسلمون لتلك الدولة (المعجزة) بالنزاهة والكفاءة معاً، ولذا فإنهم سوف يسلمون لها القيادة. والدول المناوئة في الخارج سترى أنه لا فائدة ترتجى من وراء مقارعة تلك الدولة؛ ولذا فإنها سوف تتجاهلها أو تهادنها...
وهكذا ستحدث تغيرات كونية هائلة لم تحدث في أي مرحلة من مراحل التاريخ! وحتى يحدث كل ذلك؛ فإن مما لا شك فيه أن طينة تلك الدولة ينبغي أن تكون خاصة، ولا مثيل لها ما دامت ستحقق إنجازات عديمة المثيل!.
وأنا أجزم أن تلك الجمهرة من الحالمين ستنقسم تجاه أفضل دولة إسلامية يمكن أن تقوم في أي مكان من الأرض إلى أقسام عدة: قسم يعمل معها بكفاءة وإخلاص؛ وهذا القسم قليل في أي زمان وأي مكان. وقسم يتمتع بالكفاءة؛ لكن ينقصه الإخلاص والاستقامة. وقسم ثالث يخلص؛ لكنه لانعدام خبرته لا يعرف كيف يخدم الدولة والأمة. أما القسم الرابع؛ فهو قسم منتفع وصولي، ليس من هؤلاء ولا أولئك. والقسم الخامس قسم معارض يرى أن الدولة التي سعى إلى إقامتها قد خانت رسالتها، وانحرفت عن مبادئها؛ فهو منهمك في ردها إلى المسار الصحيح.
أما القسم الأخير؛ فهو القسم الثائر الذي صارت أمنيته التخلص من تلك الدولة بأي وسيلة من الوسائل، ولو كانت استخدام الصنف وإشعال الحرب الأهلية!!.
هذه الأقسام لم نأت بها من نسج الخيال؛ بل هي مما عرفناه من سنن الله -جل وعلا- في الخلق، ومما فهمناه من طبائع الأشياء، وما وجدناه ونجده عند قراءة أي ثورة من الثورات التي تمكنت من الوصول إلى الحكم في بلاد إسلامية أو غير إسلامية.
ولعلي في المقال القادم أشرح شيئاً مما يمكن القيام به "في كل الأحوال"، ومن الله تعالى الحول والطول
في كل الأحوال (1/2)
أ.د. عبد الكريم بكار 5/9/1424
30/10/2003
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فإن إنجازاتنا وعطاءاتنا تخضع لثلاثة عوامل أساسية، هي:
1- ما ورثناه عن آبائنا وأجدادنا من خصائص عقلية ونفسية وجسمية.
2- البيئة التي نعيش فيها بما تشتمل عليه من مفاهيم وأعراف وتقاليد وبنى تحتية ومرافق عامة...
3- الجهود الشخصية والخاصة التي نبذلها في تثقيف عقولنا، وتزكية نفوسنا وصقل مهاراتنا، واستثمار الفرص المتاحة لنا.
ولا يخفى أن بين هذه العوامل الثلاثة علاقة جدلية مستمرة، فالذكاء المتفوق والقدرات الذهنية الممتازة تساعد المرء على أن يستفيد على أحسن وجه من المعطيات التي توفرها البيئة، كما أنها تجعله يدرك بسرعة حدود إمكاناته الحقيقية وطبيعة التحديات التي يلاقيها والطريقة المثلى لمواجهتها والتصرف حيالها.
البيئة الجيدة تجعل عمل الناس أسهل، وتوفر لهم الظروف التي تساعدهم على التفوق والارتقاء وهكذا..(1/252)
والذي نستفيده من هذا هو أن التفوق في الجهد أو البيئة أو الموروث الجيني، سوف يخفف من أضرار القصور في الجانبين الآخرين. وأن أي قصور في أي جانب أو عامل من هذه الثلاثة سيؤثر سلباً في أداء العاملين الآخرين، وأعتقد أن التكامل والتفاعل بين ما ذكرنا يشكّل مظهراً من مظاهر ابتلاء الله –جل وعلا- لنا في هذه الحياة؛ حيث إن إمكانات الارتقاء والتقدم ستظل موجودة مهما كان الموروث الجيني سلبياً وضعيفاً، أو كانت البيئة صعبة وغير مواتية؛ وذلك من خلال تنمية الإمكانات الشخصية وبرمجة الوقت وتحديد الأهداف واكتساب المهارات، وقبل ذلك كله العبودية الحقة لله –تعالى- والاستعانة به، والتأهل لتوفيقه وفيوضاته غير المحدودة.
ولو أننا تأملنا في سير أولئك الذين صاغوا أمجاد هذه الأمة، وشيّدوا صرح حضارتها لوجدنا صدق ما نقول.
وأحب هنا أن أبلور المفهومات الثلاث الآتية:
أولاً: ما دامت المحصلات النهائية لكل جهودنا الدعوية والإصلاحية والتعليمية خاضعة لموروثاتنا عن الآباء والأجداد، وخاضعة للبيئة التي نعيش فيها وللجهد اليومي الذي نبذله، وما دامت كل هذه الأمور لا تكون أبداً حدِّية وكاملة؛ فإن المتوقع آنذاك أن تكون النتائج التي نحصل عليها مشوبة دائماً بالنقص والقصور، وستظل دائماً أقل مما نريد؛ فأنت لا تستطيع أن تصل إلى حلول كاملة في وسط غير كامل، وستظل هناك فجوة بين طموحاتنا وبين ما يتحقق على الأرض. هذا يعني أيضاً أننا سنظل نشكو ونشكو، وكأن الوعي البشري اخترع الشكوى من سوء الأحوال، ليتخذ منها محرضاً على التقدم.
وإذا تتبعنا هذه السلسلة من الإحالات والاستنتاجات فسنصل إلى الاعتقاد بأنه لن يكون في هذه الدنيا لأي أمة من الأمم أو جماعة من الجماعات أو فرد من الأفراد – نصر حاسم ونهائي- لا يقبل الجدل ولا الشك والنقد. ولهذا فإن الذين يحلمون بانتصارات نقية وتامة سيظلون يصابون بصدمات الإحباط وخيبات الآمال!.
ثانياً: إذا كان الأمر على هذه الصورة؛ فهذا يعني أننا لن نصل أبداً إلى اليوم الذي نعتقد فيه أننا قد حصلنا على البيئة المثلى للعمل والإنجاز، ولا على الأدوات التي نحتاجها لتحقيق أقصى الطموحات، وسنظل نشعر بوجود درجة من المجازفة والمخاطرة عند اتخاذ أي قرار حاسم في أي اتجاه. وهذا يجعلنا نبلور مفهوماً جوهرياً، هو:" اعمل ما هو ممكن الآن، ولا تنتظر تحسن الظروف".
وهذا المفهوم يقوم على مسلّمتين هما:
1- هناك دائماً إمكانية لعمل شيء جيد لأنفسنا وديننا والناس من حولنا.
2- مهما تحسنت الظروف؛ فإنه سيظل هناك من يمكنه أن يظن أن الظرف المطلوب توفره من أجل الإنجاز لم يتهيأ بعد.
ثالثاً: هناك مسلمون كثيرون مصابون بفقر شديد في الخيال، فهم خاضعون لمقولات مستعجلة أطلقها أعلام ومشاهير لم تنضج رؤيتهم لفيزياء التقدم ولا لطبيعة العلاقات التي تحكم قوى التحدي والاستجابة، ومن ثم فإنهم قد صاروا أشبه بمن وضع القيد بنفسه في رجليه في أجواء عاصفة وخطرة!.
إن الخيال نعمة كبرى من الله –جل وعلا-، وقد كان نابليون يقول: "إن مؤسساتنا مصابة بمحدودية الخيال، ولولا الخيال لكان الإنسان بهيمة". ويكفيني هنا لفت النظر إلى مسألة تتجلى فيها محدودية الخيال وعقمه الشديد:
من الواضح أن جمهرة غير قليلة من أبناء الجماعات والدعوات الإسلامية يعتقدون أن تطورات مذهلة سوف تطرأ على الحياة الإسلامية إذا قامت الدولة (الحلم) التي تسيّر شؤون الناس، ولهذا فإنهم عطلوا الكثير من الجهود، وأضاعوا الكثير من الفرص، وعلّقوا توازن أعداد هائلة من الناس على تحقيق ما يتطلّعون إليه!؛ بل إن الأمر تجاوز ذلك إلى ما هو أسوأ، وهو الاعتقاد بأنهم لا يستطيعون إنجاز أي شيء ذي قيمة إلا في ظل دولة إسلامية راشدة. وتلك الدولة ينبغي أن تكون من الطراز العمري، فإذا كانت من مستوى الحكومات الأموية أو العباسية، فربما كانت لا تستحق أقل من الثورة!.
هؤلاء الناس يتخيلون أن الحكومة الراشدة التي يحلمون بها سوف تكون على درجة عالية من الإخلاص والخلق والعلم وحسن التدبير والحنكة في تحفيز الجماهير على الكدح والعطاء، وعلى درجة عالية من الخبرة في حل المشكلات الداخلية ومواجهة التحديات الخارجية، مع أنهم لا يقولون لنا: أين ستكتسب (الدولة الحلم) هذه الخبرات الخطيرة؟ وفي أي بيئة ستتكون لدى أعمدتها هذه الصفات والأخلاق والمهارات الفذة والعجيبة؟ وهم ما فتئوا يشكون من سوء الأحوال وتدهور الزمان!.(1/253)
في ظل هذه الدولة سوف يحدث ما يشبه الزلزال في النفوس والمجتمعات والعلاقات والتوجهات السائدة: في ظل تلك الدولة العجيبة سوف ينشط الكسول ويتعلم الجاهل، ويبذل الشحيح، ويقلع بذيء اللسان عن التفوه بالألفاظ القبيحة، ويكفّ مدمنو المخدرات والمكيفات عن تناولها، وسوف يحاول المدرس غير الكفء صقل مهاراته وإثراء ثقافته... كما أن العلمانيين والليبراليين وأصحاب المصالح المضادة سوف يسلمون لتلك الدولة (المعجزة) بالنزاهة والكفاءة معاً، ولذا فإنهم سوف يسلمون لها القيادة. والدول المناوئة في الخارج سترى أنه لا فائدة ترتجى من وراء مقارعة تلك الدولة؛ ولذا فإنها سوف تتجاهلها أو تهادنها...
وهكذا ستحدث تغيرات كونية هائلة لم تحدث في أي مرحلة من مراحل التاريخ! وحتى يحدث كل ذلك؛ فإن مما لا شك فيه أن طينة تلك الدولة ينبغي أن تكون خاصة، ولا مثيل لها ما دامت ستحقق إنجازات عديمة المثيل!.
وأنا أجزم أن تلك الجمهرة من الحالمين ستنقسم تجاه أفضل دولة إسلامية يمكن أن تقوم في أي مكان من الأرض إلى أقسام عدة: قسم يعمل معها بكفاءة وإخلاص؛ وهذا القسم قليل في أي زمان وأي مكان. وقسم يتمتع بالكفاءة؛ لكن ينقصه الإخلاص والاستقامة. وقسم ثالث يخلص؛ لكنه لانعدام خبرته لا يعرف كيف يخدم الدولة والأمة. أما القسم الرابع؛ فهو قسم منتفع وصولي، ليس من هؤلاء ولا أولئك. والقسم الخامس قسم معارض يرى أن الدولة التي سعى إلى إقامتها قد خانت رسالتها، وانحرفت عن مبادئها؛ فهو منهمك في ردها إلى المسار الصحيح.
أما القسم الأخير؛ فهو القسم الثائر الذي صارت أمنيته التخلص من تلك الدولة بأي وسيلة من الوسائل، ولو كانت استخدام الصنف وإشعال الحرب الأهلية!!.
هذه الأقسام لم نأت بها من نسج الخيال؛ بل هي مما عرفناه من سنن الله -جل وعلا- في الخلق، ومما فهمناه من طبائع الأشياء، وما وجدناه ونجده عند قراءة أي ثورة من الثورات التي تمكنت من الوصول إلى الحكم في بلاد إسلامية أو غير إسلامية.
ولعلي في المقال القادم أشرح شيئاً مما يمكن القيام به "في كل الأحوال"، ومن الله تعالى الحول والطول
=============
#على المدى البعيد (1)
أ.د. عبد الكريم بكار 10/10/1424
04/12/2003
كنت قد تحدثت في مقالين سابقين عما يجب عمله في كل الأحوال والظروف إيماناً مني بأن هناك شيئاً ما يمكن القيام به من أجل نجاح العبد وفلاحه في أمور دنياه وآخرته. وأود في هذا المقال وما يليه من مقالات أن أتحدث عن نوعية الوسط أو البيئة التي يجب العمل على المدى الطويل من أجل بنائها؛ كي يتوفر للإنسان المسلم الجو الملائم لأفضل عطاء وأفضل إنجاز ممكن. والحقيقة أن أية أمة لا تستطيع استنفار طاقاتها والسيطرة على أوقاتها على وجه مقبول من غير رؤية (استراتيجية) لماهية البيئة التي يجب أن تحيا فيها أجيالها القادمة. ونحن بوصفنا أمة مسلمة لها منهجيتها ورؤيتها وتطلعاتها الخاصة، نعتقد على نحو جازم أن كل أشكال التنمية وكل أشكال التغيير والتطوير يجب أن تستهدف شيئاً واحداً هو توفير بيئة تساعد الإنسان المسلم على القيام بأمر الله -تعالى- على أفضل وجه ممكن، وهذه الرؤية نهائية وواضحة، وهي مستمدة من مجموعة العقائد والمفاهيم الكبرى التي نحملها، وهي رؤية متفردة، ليست لأي أمة من أمم الأرض اليوم، وهي إحدى سنن الله علينا.
إذا كان من غير الممكن -في عالم الأسباب- توقع حصول مستقبل مغاير مغايرة كبيرة للواقع؛ فإن علنا - إذا ما أردنا تكوين البيئة التي نريد - أن نحسَّن ونرشَّد القرارات اليومية التي نتخذها في كل صعيد وعلى المستويات كافة؛ إذ إن تشييد البنيات الثقافية والأخلاقية والاجتماعية يحتاج إلى أزمنة متطاولة وهو لا يتم على النحو الصحيح إلا من خلال العمل الحكيم والجذري والمتدرج.
البيئة تعني مجموعة المفاهيم والأخلاقيات والتقاليد والظروف والمعطيات والنظم المتوفرة والسائدة في بلد من البلدان .
وإن البيئة ذات دوائر متسعة منفتحة، والدائرة الأضيق بالنسبة إلى كل واحد منا هي الأكثر تأثيراً في حياته؛ فالأم هي أكثر من يؤثر في الطفل ثم الأسرة عامة، ثم الأقرباء وأهل الحي وهكذا...
والبيئة من وجه آخر أشبه بحبل غليظ مكوَّن من ألوف الخيوط والشعيرات الدقيقة، وكل عدد من تلك الخيوط والشعيرات ينتمي إلى مجال من المجالات الروحية والمعنوية والمادية. وقد دخل في نسيج ذلك الحبل في مرحلة من مراحل تكوّن ثقافة الأمة والأوضاع العامة التي تحيا فيها. وهناك تقريب للفكرة وإشارة إلى بعض تلك الخيوط والشعيرات في عدد من الأحاديث النبوية، منها قوله صلى الله عليه وسلم: "كل سُلامى من الناس عليه صدقة، كل يوم تطلع في الشمس تعدل بين الاثنين صدقة، و تعين الرجل في دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة"، وقوله : " الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة، فأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان" وقوله: "كل معروف صدقة".(1/254)
إن قول الله - جل وعلا -: (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره * ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره) يدل على رؤية الناس لجزاء أعمالهم في الآخرة، ويمكن أن نهتدي به في القول: إن ما يفعله الناس من خير وصلاح ومعروف وتنمية جيدة - إن كل ذلك يرونه في نوعية الأوضاع والظروف العامة التي يعيشون فيها، والتي ستعيش فيها ذراريهم من بعدهم؛ كما أنهم جميعاً سيرون آثار ما يصدر عنهم من شرور وآثام وأخطاء وخطايا على شكل صعوبات ومشكلات ومعوقات في وجه الحياة الطيبة التي يسعون إليها.
وإني أعترف هنا -وقبل كل شيء- أنني لا أملك الإمكانية الذهنية ولا المعرفة الكافية لرسم ملامح خطة شاملة وبعيدة المدى تستهدف توفير بيئة تساعد الفرد المسلم والدولة المسلمة على النهوض بأعباء الاستخلاف في الأرض، لكني سأبذل جهدي في وضع بعض النقاط على بعض الحروف الكبيرة، ومن الله - تعالى- الحول والطول.
1-قلما وجّه الدعاة والمصلحون لدينا اهتمامهم إلى نوعية البيئة التي يحتاج إليها المسلم كي يحيا زمانه بفاعلية ودرجة من الراحة في إطار العقيدة والقيم والآداب التي يؤمن بها، فقد كان الاهتمام - وما زال- بما يجب قوله أو بشروط الداعية الناجح دون النظر إلى الشروط التي تجعل المدعوين أقرب إلى التفاعل والاستجابة مع أن تأثير الظروف والمعطيات السائدة في توفير خيارات الحركة، وفي حفز الناس على تحديد اتجاهاتهم ومواقفهم تأثير هائل، وأكبر بكثير مما نظن.
إن الفرق بين البيئة المعاكسة والبيئة المواتية للاستقامة والرشاد والعطاء كالفرق بين من يسبح عكس التيار، ومن يسبح مع التيار؛ حين نطلب من شاب أن يبدع ويصبح باحثاً متميزاً في فرع من فروع العلم، ونجد أنه يعيش مع خمسة من إخوته في حجرة واحدة، وليس معه ثمن مرجع يشتريه، ولا تكاليف تجربه يجريها، كما أنه ليس في البلد الذي يقيم فيه مكتبة عامة ولا مركز تدريب ولا جمعية خيرية تمد يد العون في شيء.. حين نطلب ذلك؛ فإن الاستجابة ستكون في منتهى الصعوبة، وستكون في معظم الأحيان هزيلة، وسيكون المستجيبون من الشباب للتحفيز على البحث والإبداع قلة قليلة، أما الباقون فإنهم سيرضخون للظروف وسيرضون بأقل القليل من الإنجاز. وهذا ما هو حاصل فعلاً الآن في كل أنحاء العالم، وفي كل مجالات الحياة. البيئات المحطَّمة والهشة والجاهلة تحطم قوى من يعيش فيها، وتحطم تطلعاته وطموحاته، وتجعل آفاقه محدودة. ولهذه القاعدة شذوذات ملموسة ، لكن الذي يمنح الحياة ملامحها ليست الأمور الشاذة والنادرة وإنما الأمور الغالبة والكثيرة.
إن بلداً صغيراً مثل هولندا أو بلجيكا يسجل من براءات الاختراع ما يعادل نصف ما يسجله العالم الإسلامي بطوله وعرضه!، وإن براءات الاختراع التي تسجل في (إسرائيل) سنوياً يزيد على ما يسجل في الوطن العربي ذي الثلاثمائة مليون!!، وإن ما تنشره جامعة (هارفارد) من بحوث سنوياً يعادل ما تنشره كل الجامعات العربية مجتمعة!!.
2-إذا تأملنا في ردود أفعال الأمة على جملة الانحرافات التي كانت تحدث فيها لوجدنا أننا على مدار التاريخ - مع استثناءات مقدَّرة - كنا نعالج مشكلاتنا بوسيلتين؛ هما: سنّ المزيد من النظم والقوانين التي تقيّد حركة الناس وتحدّ من اندفاعاتهم، وقد عبّر عن هذا عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- حين قال: " يحدث للناس من الأقضية على مقدار ما يُحدثون من الفجور" أي يحدث نوع من التشديد في الأقضية والجزاءات على مقدار ما يصدر منهم من تصاعد في الانحراف.
والوسيلة الثانية هي: (القوة) بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى، وقد أشار إلى ذلك عثمان - رضي الله عنه - حين أطلق مقولته الشهيرة: "إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن"، ولو أن أبا بكر - رضي الله عنه- قال ذلك لما قُبل منه ولما كان دقيقاً؛ لأن الردع في زمانه كان بالقرآن (وهو ما نعبر عنه اليوم بالثقافة) أكثر من الردع بالسلطان (وهو ما نعبر عنه القوة)، ومع اضمحلال دور الثقافة والوازع الداخلي كان اللجوء إلى استخدام الشدة في إدارة الحياة العامة يتعاظم وينتشر، وقد نقل ابن حجر في فتح الباري عن الشعبي قوله: " كان عمر فمن بعده إذا أخذوا العاصي أقاموه للناس ونزعوا عمامته، فلما كان زياد ضرب في الجنايات بالسياط، ثم زاد مصعب بن الزبير حلق اللحية، فلما كان بشر بن مروان سمر كفَّ الجاني بمسمار، فلما قدم الحجاج قال: هذا كله لعب فقتل بالسيف".(1/255)
النتيجة النهائية لهذه وتلك هي إخراج المسلم الخائف والخانع والسلبي والإمعة وإخراج المجتمع الذي يُظهر ضروباً من الامتثال للنظم السارية في الوقت الذي يضمر فيها روح التمرد والتبرم، كما يضمر الكثير من السلوكات والأعمال السيئة. ومع إيماننا بأنه لا يمكن لمجتمع أن يعيش من غير نظم وقوانين توجه الحركة الاجتماعية وتشكل المرجعية الأخلاقية والتنظيمية للناس، ومع إيماننا بأن الدولة مهما كانت عادلة وفاضلة وناجحة لا تستغني عن استخدام شيء من السلطة والقوة؛ إلا أن علينا أن ندرك أن هذا الأسلوب في معالجة الأخطاء ليس هو الأسلوب الصحيح من وجهة النظر الإسلامية، ولا هو بالأسلوب العملي والمنتج والملائم لبلوغ الأهداف التي نسعى إليها.
على المدى البعيد لابد من العمل على توسيع مجال عمل (الثقافة) في تحديد مسارات المجتمع وفي كبحه عن الانحراف والرذيلة . فجوهر الإيمان والإسلام لا يقوم على الإكراه ولا على الامتثال للضغط الخارجي، وإنما يقوم على الاختيار والمبادرة الشخصية والشعور بالمسؤولية. والدولة الفاضلة هي التي تدير شؤون مجتمعها بأقل قدر من القوانين ومن أدوات القهر والإكراه، والفضيلة لا تكون لذلك إلا بتعشق الناس لها واستعدادهم للتضحية من أجلها.
إن كثرة السجون وتصاعد الرقابة الصارمة، وسن المزيد من القوانين؛ هو دليل على قصور التنشئة الاجتماعية، كما أنه دليل على ضعف الإيمان وأدبيات التدين السائد في تشكيل مواقف الناس وسلوكاتهم، ودليل على ضعف جاذبية الدولة في كسب ولاء الناس وتجاوبهم. وقد آن الأوان للتفكير العميق والعمل الجاد من أجل تشكيل بيئة يمتنع فيها الناس عن الانحراف والفساد بدافع من إيمانهم وخوفهم من الله –تعالى- وليس بدافع من خوف الدولة أو كلام الناس. ومداخل مثل هذا الاتجاه واضحة لدى أهل البصيرة والخبرة.
على المدى البعيد (2)
أ.د. عبد الكريم بكار 24/10/1424
18/12/2003
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فإن وضع الأمة في بيئة تساعدها على تحسين إنتاجيتها وتحرير طاقاتها واكتشاف إمكاناتها الحضارية الكامنة؛ يتطلب أن نعطي لمسائل الأمن والاستقرار والسلام والوئام الاجتماعي جلَّ اهتمامنا وعنايتنا.
حين يضطرب حبل الأمن فإن الفرصة تصبح متاحة لظهور كل أشكال التوحش والهمجية التي اختفت تحت قشرة رقيقة من طلاء الحضارة. وقد دلت شواهد التاريخ ومعطيات الواقع أن أشد الحاجات إلحاحاً تتمثل في اهتداء الناس إلى طريقة ناجعة لإدارة العنف والتوتر الذي ينشأ نتيجة تصادم رغباتهم ومصالحهم؛ حيث إن اجتماع الناس بعضهم مع بعض على مقدار ما يوفر من المباهج والمسرات والمشاعر الحميمة يوفر إمكانات التناحر والتحارب.
حاجة الناس إلى أن يتعايشوا في إطار نظم وقوانين توضح مبادئ حقوقهم وواجباتهم حاجة ماسَّة؛ لكن هذه الحاجة لا يمكن تلبيتها في أجواء الحرب الأهلية والتطاحن الاجتماعي.
إن القانون السائد مهما كان غير عادل وغير مكتمل فإنه يظل خيراً من الوضعيات التي لا يحكم فيها أي قانون حيث يتحول المجتمع إلى غابة ليس فيها إلا مفترِس ومفترَس وظالم ومظلوم!.
ليست إدارة العنف داخل المجتمعات بالأمر السلس واليسير، فهذه القضية دوَّخت العالم من أدناه إلى أقصاه، والتقدم الذي تحقق على صعيدها نسبي وغير مرضٍ في معظم الحالات، ولعلي أقف مع هذه المسألة الوقفات التالية:(1/256)
1-هناك تشوق إنساني عميق إلى ما يمكن أن نسميه (تحقيق الذات) حيث يتطلع الإنسان إلى أن يؤكد لنفسه وللآخرين قدرته على القيادة والتأثير واستحقاقه للريادة والتسامي نحو المعالي. وهو في سبيل ذلك مستعد للتضحية والبذل كما أنه مستعد عند الحاجة لتجاوز كل المبادئ والقيم؛ بل ارتكاب الجرائم إذا اقتضت الضرورة ذلك!. الأنشطة الروحية والأدبية والتطوعية والاجتماعية تساعد المرء على تحقيق ذاته والكشف عن إمكاناته؛ فهذا يحقق ما يتطلع إليه عن طريق تأسيس رابطة، وذاك يحققه عن طريق رئاسة جمعية، وثالث يحققه عن طريق الانخراط في حركة لحماية البيئة وهكذا..، لكن بما أن كل جماعي يؤسس لسلطة جديدة، ويثير حساسية معينة لدى بعض الجهات؛ فإن هناك رغبة قوية في ابتعاد الناس عن كل الأنشطة الجماعية والحرة مهما كانت نبيلة الأهداف وعظيمة الفوائد والنتائج. ومن هنا فإن انسداد الآفاق أمام الأنشطة المشار إليها أو تضييقها وانحسارها إلى حد كبير؛ دفع بالناس إلى أن يجعلوا تحقيق ذواتهم يتم عن طريق جمع الأموال والثروات واقتناص الوجاهة وإظهار السيطرة عن طريق التفنن في إنفاقها واستخدامها. وبما أن المعروض من (المال) هو دائماً أقل من المطلوب –حيث لا يملأ فم ابن آدم إلا التراب- فإن منافسة ضارية قد اشتعلت في كل مكان من ديار المسلمين وعلى كل المستويات، وعلى مدار التاريخ كانت المنافسة متصلة بانحطاط المدنية وسوء الأخلاق، حيث يدفع الحرص على جمع المزيد من المال نحو الكذب والغش والخداع والرشوة والتضحية بالكرامة وارتهان الذات.. وقد صرتَ تلتقي بأشخاص كثيرين لا ترى فيهم أبداً ما يدل على أنهم يرجون الله والدار الآخرة، أو يقيمون أي اعتبار لمبادئ الإسلام وقيمه! وفقدت الحياة بذلك أجمل معانيها!. إن إطلاق الأنشطة الروحية والأدبية والتطوعية المختلفة والتحفيز عليها وتيسير سبلها، يخفف إلى حد كبير من الطلب على المال، ويخفف بالتالي من حدة التعانف الأهلي والتوتر الاجتماعي.
وأعتقد أن علينا أن نبتكر في إيجاد الأطر والأوعية والنظم التي تتيح للناس الشعور بتحقيق الذات وإشباع التطلعات على نحو لا يتصل بالمال أو أي اعتبار آخر.
2-لن يتحقق السلام في مجتمعاتنا ولا الأمن ولا الاستقرار ولا الشعور بالانتماء للوطن ما لم يسد العدل وتكافؤ الفرص ونفاذ القوانين عل الناس دون استثناء ودون اعتبار خصوصية لأي كان. والحقيقة أن الإسلام عانى طويلاً مع العرب ومع كل المجتمعات التي تقوم فيها الروابط على أساس العرف والنسب؛ وكان الهمُّ المسيطر خلال تاريخنا الطويل – على المستوى السياسي والقانوني- هو نقل المجتمعات الإسلامية من مرحلة القبيلة إلى مرحلة الدولة، أي من مرحلة الولاءات والتكتلات وتبادل المنافع على أساس الولادة ومعطيات التاريخ إلى مرحلة الخضوع للأحكام الشرعية والقوانين والنظم السارية. ويجب أن نعترف أنه لم تسجل اختراقات ذات شأن على هذا الصعيد. وعلى نحو عام فإن النجاحات كانت محدودة جداً وهذا الإخفاق في الانتقال من مرحلة الدولة كان السبب الجوهري وراء كثير من الفتن والثورات التي كانت تجتاح الأمة في العديد من فتراتها التاريخية. وهو نفسه السبب الكامن خلف سلبية الإنسان المسلم عامة والعربي خاصة تجاه المخاطر المحدقة التي تتعرض لها بعض الأوطان الإسلامية إلى درجة أن يقوم الناس ويحتجوا في الغرب ضد ممارسة حكوماتهم تجاهنا، ونحن سادرون غافلون ومنهمكون في همومنا الشخصية، وكأن الأمر لا يعنينا من قريب أو بعيد!!.
حين سرقت امرأة من بني مخزوم – فخذٌ من أنبل أفخاذ قريش- أهمّ ذلك قريشاً: كيف تُقطع يدُ مخزومية ؟! وقالوا: من يكلَّم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلا أسامة بن زيد حبُّ رسول الله؟ فكلّمه أسامة في ذلك، فقال الرسول: " أتشفع في حد من حدود الله ؟! ثم قام – عليه الصلاة والسلام – خطيباً في الناس ليعلن لهم مبدأ من أهم المبادئ التي تقوم عليها الأمم والحضارات العظيمة حيث قال: " إنما أهلك من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد!. وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها".(1/257)
ربما نكون قد قدَّمنا نموذجاً واحداً ثابتاً وشاملاً في مسألة تكافؤ الفرص وإشاعة العدل والتعامل على أساس الكفاءة الشخصية وليس على أي أساس آخر؛ ذلك النموذج هو ما يتم في تشكيل المنتخبات الوطنية التي تمثل بلاد المسلمين في الألعاب الرياضية الدولية. هنا يتم تحري الأكفأ والأليق دون حساسيات ودون حسابات خاصة ودون اعتبار لمنافع جانبية؛ في الأعم الأغلب. وأنت تلاحظ ما يثيره هذا السلوك الجيد من حمية الناس وحماستهم وتعاطفهم حيث ينقلب الشخص غير المكترث بذهاب وطن إلى إنسان مشتعل حماساً إلى درجة لا تُصدَّق بسبب دخول كرة فريقه الوطني في شباك مرمى المنافس!، وإني لا أشك أن الناس سوف يتفاعلون ويبذلون ويهبّون تجاه كل المسائل الكبرى إذا شعروا أن الأمور تجري فيها على ما ينبغي، ووجدوا الإطار الذي يعبرون من خلاله عن ذلك؛ فالخير متأصل في النفوس والولاء لأمة الإسلام وللمجتمع الإسلامي ضارب أطنابه في أعماق شخصية المسلم.
الوطنية في جوهرها شعور بشرف الانتماء لبقعة من الأرض تحكمها نظم وقوانين واحدة، ويجمع الناس الذين يعيشون عليها الالتزام بمبادئ وقيم موحدة، والسعي إلى أهداف متقاربة ولا معنى للانتماء إلى أرض لا تتوفر فيها هذه المعاني. وقد قال أحدهم : لماذا أدافع عن وطن لم يؤمّني من خوف، ولم يُطعمني من جوع، ولم يساعدني على ارتجاع حقي المغتصب؟!.
3-يتطلب استتباب الأمن والشعور بالسلام والاستقرار إحساس الناس بأن لهم نوعاً من المشاركة في إدارة الشأن العام. أما في الأمور اللصيقة بهم؛ فلا يُتخذ قرار دون موافقة أغلبيتهم عليه. وإن قول ا لله – جل وعلا- ( وأمرهم شورى بينهم) يوضح أن بعد الشورى ليس سياسياً فحسب؛ وإنما لها أبعاد أخرى: أخلاقية وتربوية واجتماعية.
على المستوى السياسي من المهم جداً أن يعرف الناس أنهم من خلال الشورى يستطيعون تحقيق ولايتهم على أنفسهم ، ويستطيعون أن يثقوا أنهم إذا ابتلوا بحكومة سيئة، فإنهم قادرون على التخلص منها من غير إراقة دماء أو تخريب للمرافق والممتلكات العامة؛ فالسلم الاجتماعي لا يأتي من خلال الدعوة إليه، وإنما من خلال فتح طرق للتغيير والتطوير والتحسين، تبتعد عن التآمر والقتل والتخريب. إننا أحياناً نمتنع عن استشارة الناس خوفاً من أن يأتوا بعناصر سيئة تسيء للدين والمصلحة العامة، وهذا الخوف مقدَّر ومعتبر وقد يحدث هذا فعلاً في بعض الأحيان ولاسيما في البدايات أو عند فساد التربية، لكن هذا لا يشكل القاعدة، فالولاء للدين وللصلاح والكفاءة قوي جداً في الأمة؛ وفي الإمكان وضع ضوابط تحد من مخاطر هذا الأمر. وعلى كل حال فلن نستطيع أبداً العثور على صيغة في إدارة العنف وتسيير الشأن العام، تخلو من السلبيات أو الأخطاء. ولا بد في سبيل أن تنال بعض الأشياء من أن تخسر أشياء أخرى. هذا هو حال الإنسان الذي يجد نفسه أبداً عاجزاً عن الصدور عن رؤى كلية وبناء تنظيمات وترتيبات كاملة.
إننا في حاجة ماسَّة حتى ننهض ونتخلص من أشكال العنف إلى أن نجعل الشورى تقليداً محترماً في بيوتنا ومدارسنا ودوائرنا ومؤسساتنا وكل مناشط حياتنا؛ فالقضايا الكبرى تظل قضايا خاسرة ما لم تتصد الأمة لحملها والمساهمة في إنجاحها. وكل حمل يتم خارج رحم الأمة هو أشبه بالحمل الكاذب. لكن الأمة غير مستعدة للتضحية ما لم تشعر أنها تشارك في صنع القرار، وأنها ليست عبارة عن أدوات للتنفيذ فقط. وعلى علمائنا ومفكرينا وخبراء التشريع والقانون فينا أن يبدعوا في إيجاد صيغ تنظيمية تجعل الشورى أسلوب حياة، كما تجعل منها أداة للإصلاح والارتقاء في إطار الأصول والثوابت التي نؤمن بها.
4-إنني أتساءل دائماً: هل يمكن للأمن والنظام والسلام والاستقرار والتعايش السلمي أن يتم في أي مجتمع من المجتمعات دون وجود تنظيم جيد للنقد والمعارضة وتضارب الرؤى والآراء والاتجاهات؟
ليس من المقبول في اعتبار العقل والشرع أن يقول من شاء ما شاء دون خوف المساءلة القضائية عن صحة ما يقول، ولا أن يفعل الناس ما يعنّ لهم ولو كان ضاراً بالمصلحة العامة. كما أنه ليس من المقبول أن تكمم الأفواه، فلا يتمكن أي أحد من إبداء وجهة نظره في شأن عام، مهما كان رأيه سديداً ورشيداً، فالقرآن الكريم شجّع الناس على ممارسة النقد من خلال معاتبة النبي – صلى الله عليه وسلم- على بعض اجتهاداته ومعاتبة الصحابة – رضوان الله عليهم- على بعض ما وقع منهم؛ حيث يُعد التستر على الأخطاء أكبر مشجع على تكرارها واستمرارها، وحيث يُعدّ النقد والبحث عن أشكال القصور وأنواع الأخطاء والخطايا من أفضل الوسائل المساعدة على الإصلاح وتخليص الناس من كثير من المشكلات والأزمات ومحاصرة المفاسد والشرور.(1/258)
إن تراثنا الفقهي لم يستوف التنظير والتعقيد لضوابط النقد والمعارضة وتضارب الآراء على نحو يغنينا عن النظر والاجتهاد، بل إن كثيراً من التفاصيل والحيثيات ما زالت غامضة، وأعتقد أن كثيراً من الاضطرابات الهوجاء والأزمات الخانقة التي مرت بها الأمة كان بسبب التطرف في التعامل مع هذه المسألة؛ فالحريصون على بقاء كل شيء على ما هو عليه مهما كان غير ملائم وغير صحيح ضيقوا أبواب النقد إلى حد إسكات الناس عن قول أي شيء. والذين كانوا يشكون من سوء الأحوال كانوا يريدون قلب كل شيء رأساً على عقب بعيداً عن الرفق والتدرج والمجادلة بالتي هي أحسن. وقد آن الأوان لأن تتلاحم الصفوف، وتتشابك الأيدي بين الجميع ومن كل المستويات والمجالات من أجل العمل الدؤوب على إرساء التقاليد وسنّ القوانين وتشييد المؤسسات وإبداع الأفكار التي تنشر الأمن والسلام وحب النظام والالتزام بالأحكام الشرعية والأعراف الصالحة والقوانين السارية، وتساعد في الوقت نفسه على نبذ التعانف والتقاتل واللجوء إلى القوة بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى.
على المدى البعيد 3
د. عبد الكريم بكار 9/11/1424
01/01/2004
فإن لدى كثير من أهل الخير حساسية خاصة نحو الحديث عن الاقتصاد والتنمية والزيادة السكانية والبطالة؛ فهم يشعرون أن الاهتمام بهذه الأمور لا يخلو من نزوع نحو الدنيوية والمادية، وإعطاء الاعتبارات المعيشية أكثر مما تستحق من العناية والانتباه. وفي تصوري أن هذه الحساسية لم تعد سائغة اليوم، فأنا مع اعتقادي بضرورة توخي الحذر من الوقوع في شرك الحسابات والاعتبارات المادية البحتة بعيداً عن المبادئ والأهداف الإسلامية إلا أنني أعتقد أن من شأن التقدم الحضاري أن يضعف إرادة المقاومة لدى الناس تجاه المغريات، ومن ثم فإنهم يُظهرون المزيد من الاستجابة لضغوط البيئة ومتطلبات العيش، وكثيراً ما يكون ذلك على حساب مبادئهم وقيمهم؛ مما يعني أن تحسين شروط العيش إلى حدود مقبولة، سيساعد الناس على أن يحققوا مصالحهم في إطار مبادئهم وأخلاقياتهم؛ والعكس صحيح.
إن كثيراً من سقم التفكير وتخلف الخطط والمناهج الإصلاحية يأتي من خلال الانغلاق وصرف الاهتمام عن التطورات المتسارعة فيما يتعلق بحاجات الناس وضرورات وجودهم، ومن خلال عدم الاكتراث بالتحولات في ذائقتهم الثقافية ونظرتهم إلى الضغوط والمرفهات والحقوق والواجبات، وإن مفتاح فهم كل ذلك يكمن في شيء واحد هو الانفتاح على الواقع والتأمل في تداعياته وإحالاته واتجاهاته؛ إذ ما فتئ فهم الواقع واستكشافه بإيجابية مصدراً لتطوير الذهنية وتوجيه المعرفة ومصدراً لإعادة ترتيب الأولويات.
لا بد من هذه اللحظة وعلى المدى البعيد من العمل على إيجاد تنمية اقتصادية تكافئ الزيادة السكانية في العالم الإسلامي. ومن المهم أن ندرك أن كل الأمم التي اعتمدت في معيشتها على الزراعة والرعي خلال القرنين الماضيين تواجه مشكلات اقتصادية متفاقمة؛ فالناس يزيدون، لكن الأرض لا تزيد، فهي مع كل جيل تشهد نقلة في التفتت والتضاؤل؛ وعلى سبيل المثال فإذا قلنا: إن زيداً من الناس يملك مئة فدان من الأرض، وله خمسة من الولد، فإنه بعد وفاته ستقسّم ليكون لكل واحد عشرون فداناً. فإذا توفي أولئك الخمسة، وترك كل واحد منهم أيضاً خمسة (فيكون المجموع خمسة وعشرين ولداً) فإن نصيب الواحد منهم سيكون أربعة أفدنة. فإذا قلنا إن أولئك الخمسة والعشرين من الأحفاد توفوا، وترك كل واحد منهم أيضاً خمسة من الولد، فإن عددهم سيكون مئة وخمسة وعشرين، وسيكون نصيب الواحد منهم من تلك الأرض 80% من الفدان. وعليه أن يأكل من هذا القدر الضئيل وأن يبيع على نحو يمكنه من شراء كل حاجاته المتسعة ودفع تكاليف تعليم أبنائه وتطبيبهم وكسوتهم، حيث إن العولمة تدفع الحكومات نحو التخلص من كل الخدمات المجانية التي تقدمها؛ ليواجه كل واحد مصيره على نحو منفرد!.
وهكذا فعبر قرن من الزمان تنخفض حصة الشخص من الأرض إلى أقل من 1%! وليس هذا من صنع الخيال، بل هو الواقع المشهور والملموس وليس الذين يعملون في الرعي بأحسن حالاً؛ فالأرضي المخصصة للرعي هي الأخرى تتفتت وتزدحم فيها الماشية، ويزحف عليها العمران، ويقل عطاؤها بسبب تراجع كمية الأمطار في معظم أنحاء الوطن العربي.
إن نسبة الزيادة السكانية في العالم الإسلامي بشكل عام مرتفعة إذا ما قسناها بما لدى الدول الأخرى، فعلى سبيل المثال يزيد السكان في الدول العربية سنوياً بنسبة 3% في الحد الأوسط على حين أن الزيادة في بريطانيا تبلغ 1.% وفي فرنسا 6.% . أما بلد مثل روسيا؛ فإنه يعاني من نقص في السكان يصل إلى نحو مليون إنسان في السنة، وينقص عدد سكان ألمانيا نحواً من مئة ألف شخص في السنة. وحتى نعرف حجم الزيادة السكانية، وتطورها السريع؛ فإن من المفيد أن نعلم أن إجمالي سكان الوطن العربي كان عام 1400هـ نحو من 160 مليون نسمة. ويتوقع أن يكون وصل عام 1420هـ إلى 300 مليون نسمة، وإن بلداً مثل الجزائر يتضاعف سكانه كل 25 سنة، ومن المتوقع أن يرتفع إلى 285 مليون نسمة خلال قرن!.(1/259)
ويجب أن نأخذ بعين الاعتبار أن الشعوب الإسلامية شعوب فتيّة، حيث إن حوالي نصف السكان هم من الأطفال والأشبال دون سن الخامسة عشرة. وهذا يعني أن لدينا أعداداً هائلة تحتاج إلى تربية وتعليم واستيعاب نفسي واجتماعي، ثم إلى فرص عمل وخدمات عامة كثيرة.
ليست الزيادة السكانية في حد ذاتها مشكلة .. على العكس إنها ميزة؛ حيث لا يمكن اليوم لدولة أن تصبح دولة عظمى إذا لم يصل سكانها إلى الخمسين مليوناً على الأقل . لكن علينا أن ندرك من وجه آخر أن الازدحام على موارد محدودة وعدم القدرة على تأمين الحد الأدنى من الحاجات الضرورية، وتأمين تعليم وتدريب جيدين؛ سيجعل من هذه الأعداد الغفيرة من الفتيان والشباب أشبه بجيش جرار لم يتلقَّ من التدريب ولم يجد من التنظيم ولا من التسليح ما يكفيه؛ إنه في هذه الحالة يصبح هدفاً سهلاً للعدو، إنه يصبح أرقاماً غير ذات معنى، وبعض العنصريين من الغربيين يقولون باستخفاف: إن في العالم خمسة مليارات من البشر، منهم مليار – أي أبناء العالم الصناعي- مواطنون والباقون سكان.
في حديث القصعة وصف واضح للكثرة العددية الفاقدة للكيف والمضمون. فقد قال صلى الله عليه وسلم: "يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. قالوا: أو من قلة نحن يومئذٍ يا رسول الله؟! قال: لا. أنتم يومئذٍ كثيرون ولكنكم غثاء كغثاء السيل...".
إذاً مشكلة المسلمين في آخر الزمان ليست مشكلة (كم) ولكن مشكلة (كيف) و (نوعية).
عدم وجود تنمية جيدة في معظم أنحاء العالم الإسلامي دفع بأبنائنا وإخواننا إلى الهجرة إلى الغرب، حيث يشتغل معظمهم في مهن وضيعة يترفع الأوروبي عن العمل فيها. وهناك يضيع نصف الجيل الثاني ومعظم الجيل الثالث، حيث الانسلاخ شبه الكامل عن العقيدة والهوية. وعيش أبنائهم في الغرب على هامش المجتمع، دفع بهم إلى الجريمة والرذيلة وإدمان المخدرات، فصاروا يشكلون نسبة مخيفة من نزلاء السجون هناك!
وتوجُّه فرنسا إلى منع الحجاب يشكّل نوعاً من التعبير القانوني عن الضيق من جاليات باتت تشكل عبئاً على المجتمع، وهي بادرة خطيرة، وربما تحدو دول غربية أخرى حذوها، ويصبح الملتزمون من المسلمين في الغرب في وضعية أشبه بوضعية من وجد نفسه بين المطرقة والسندان.
ومن واجبنا جميعاً أن نحول دون ذلك بكل وسيلة ممكنة.
لا أريد أن أتحدث أكثر من هذا عن الحاجة إلى تنمية اقتصادية تعتمد على أسس ومنطلقات جديدة، وإنما أحب أن أركّز على نقطتين هنا:
الأولى:حتى يتحسن وضع فرص العمل، وحتى تفتح حقول جديدة لكسب الرزق، فإنه لا بد من الارتقاء بالتعليم وتشجيع الناس على أن يتخذوا من التدريب المنهجي مدخلاً لاكتساب المهارات وتنمية الشخصية.
إن التعليم في معظم أنحاء العالم الإسلامي يعد بالمعايير العالمية قاصراً عن الوفاء بحاجات العصر؛ فالفصول مكدسّة بالطلاب، وأسلوب التدريس مبني على أن يقوم المدرس بكل شيء، ويظل الطالب في موقع المتفرج وليس المشارك والمتفاعل. والتجهيزات المدرسية معدومة أو عند حدها الأدنى. والأهم من هذا وذاك فقد المدرسين والطلاب للحماسة المطلوبة لنجاح العمل التعليمي . ولا يختلف التعليم الجامعي في هذا كثيراً عن التعليم الأساسي، مع استثناءات قليلة.
ولا شك أن هناك الكثير من الاقتراحات والحلول المطروحة للنهوض بالتعليم، لكن ستظل الأمور تزداد سوءًا ما لم تحدث تحولات جذرية في أوضاع المدارس وفي العلاقة بين البيت والمدرسة. وقد آن الأوان ليساهم الآباء في تأمين تعليم جيد لأبنائهم من خلال تشكيل عدد كبير من مجالس التعليم في الأحياء والقرى، ويكون لها صلاحيات واسعة جداً في بحث أوضاع المدارس وتوجيهها ومحاولة النهوض بها، ولا بد من الآن فصاعداً من أن يخصص كل واحد منا جزءاً من ميزانيته الخاصة لمؤازرة المدارس في القيام برسالتها من خلال التوسع في مبانيها وتدعيم مختبراتها وتجهيزاتها المختلفة.
التعليم الجيد وحده هو الذي يوجد في نفس الطالب الولاء لمدرسته ومن خلالها لوطنه وأمته. والتعليم السيئ يجعل الطالب زاهداً في كل ذلك، وإلى جانب تطوير التعليم لا بد من إرساء تقاليد ثقافية تمجد التدريب على اكتساب المهارات والطرق الجديدة في إدارة الأعمال وتنفيذ المهام، فالتطور السريع الحاصل الآن في كل مجالات الحياة سيجعل كل ما لدى الواحد منا من مفاهيم وخبرات ومهارات محدود مدة الصلاحية، حيث تتسارع إليه الشيخوخة، وهو ما يزال في طور الصبا. وقد أدركت الأمم المتقدمة، وصارت تنفق بسخاء بالغ على التدريب انطلاقاً من هذه الحقيقة. إن مجمل ما تنفقه اليابان على التدريب يزيد على 80 مليار دولار في السنة . أما الولايات المتحدة فإنها تنفق ما يتراوح بين 120 مليار دولار و 180 مليار. ولا بد من الآن فصاعداً من أن نسلك كل سبيل لإقناع الناس بأهمية التدريب لدخول سوق العمل ثم الاستمرار فيه. ولا بد أن يكون واضحاً في العقود الجديدة تحديد ما ستقدمه المؤسسة أو الشركة أو المصنع أو الجامعة من تدريب وتعليم لمن سيعمل فيها.(1/260)
الثانية: من المهم أن ندرك أننا في زمان فريد، بات ارتقاء الإنسان فيه منوطاً إلى حد بعيد بنوعية المهنة التي يعمل والتخصص الذي تعمق فيه، فنظراً للتنظيم والتصنيف المتنامي للأعمال والمهن، ونظراً لتحسّن وعي الناس بواجباتهم الوظيفية، صار الناس يبذلون جهوداً كبرى للوفاء بمتطلبات الوظيفة والمهنة، وما تفرضه من تعليم وتدريب وتنظيم للحياة الشخصية. ونستفيد من هذا أن تحسين البيئة ورفع مستوى الناس يتطلب تأسيس توجهٍ إلى الأعمال المتصلة بالمعرفة الرفيعة والجهد الذهني المركّز. ولك أن تقارن بين العاملين في القطاعات المهنية التي لا تتطلب أي جهد ذهني أو معرفة راقية مثل قطاع بيع التجزئة وقطاع الزراعة وقطاع الإنشاء... وبين العاملين في قطاع التعليم الجامعي والبحث العلمي وتقنية المعلومات والتدريب... وستجد صدق ما أريد توضيحه.
إن المجال الواعد اليوم هو مجال (تقنية المعلومات) وكل ما يتصل بمجال الحاسب الآلي وتطبيقاته المتسعة، وهذا المجال بات اليوم القطاع الصناعي الأول حيث تزيد قيمة الأعمال فيه على (التريليون) دولار. ونحن أمة غنية بالموارد البشرية. وهذا المجال يحتاج أساساً إلى العنصر البشري المتعلم وإلى البيئة المنظمة تنظيماً جيداً. ولا يحتاج هذا وذاك إلى أموال طائلة.
إن العالم كله اليوم يخوض سباقاً محموماً نحو ترسيخ أقدامه في هذا المجال، وقد وضعت بريطانيا خطة لتطوير البلد تقنياً، قيمتها خمسون مليار جنيهاً. وعلى ضخامتها فقد ذكر أحد الباحثين أنها غير كافية وجاءت متأخرة !.
ووصفت إحدى المنظمات الدولية الدول العربية بأنها جائعة معلوماتيًا على حين أنها وصفت (إسرائيل) بأنها دولة نَهِمَة معلوماتيًا. وقد أضحت (إسرائيل) اليوم الدولة الأولى في أمن المعلومات، وهي تصدر منتجات معلوماتية إلى أوروبا وأمريكا والصين في غاية التطور والتعقيد، وتقبض أثماناً عالية لها.
إن من المهم جداً ألا نتأخر أكثر مما حدث عن الاستثمار في قطاع المعلومات والتقنية المتقدمة من أجل الارتقاء بالمسلم المعاصر ومن أجل إيجاد فرص عمل للأجيال الجديدة في مجال هو الأسرع نمواً بين مجالات العمل المختلفة. وإذا لم نفعل ذلك فإن الأعداد المتزايدة من هؤلاء الذين تدفع بهم الأرحام سوف تتحول إلى قنابل موقوتة تدمر نفسها وبيئتها في آن واحد.
ومسؤولية التقدم في هذا الشأن ملقاة على عاتق الأسرة والمدرسة والدولة ورجال الأعمال. وعلى كل راشد فينا أن يحاول مساعدة نفسه والارتقاء بذاته حيث أعرض الآخرون عن مساعدته
على المدى البعيد (4/4)
د. عبد الكريم بكار 23/11/1424
15/01/2004
فقد كان مالك بن نبي – رحمه الله- لاحظ أن المجتمعات الإسلامية تعاني من (فرط تسييس)، حيث إن هناك ميلاً عارماً إلى مطالبة الدول بأن تقوم بكل شيء على حين يظل معظم الناس غافلين عاطلين. وملاحظته – في ظني- في مكانها حيث إن كثيراً من الإصلاحيين على اختلاف مشاربهم يركزون باستمرار على ما على الحكومات أن تقوم به من إصلاح نفسها، وإصلاح غيرها، على حين أن كثيراً منهم لم يستطيعوا المساهمة العملية في نهضة الأمة؛ وكأن اعتقادنا بأن كلام المرء جزء من عمله، جعلنا نظن أننا بالخطب الرنانة والمقالات البليغة والكتب ذوات المئين من الصفحات نستطيع أن نحل مشكلاتنا المستطيلة في الزمان والمستعرضة في المكان!.
في البداية أحب أن أؤكد أن من المهم أن يشتغل بعض الناس في العمل السياسي من خلال نشر الوعي بطبيعة هذا المجال ومن خلال ممارسة النقد ودخول الانتخابات وتشكيل الأحزاب؛ إنني لست ضد هذا، ولا أهوّن أبداً من شأنه، ولكن الشيء الذي لا أرى أنه صواب هو الظن بأنه حين تقوم دولة حسب المواصفات المطلوبة سوف نتخلص من كثير الأزمات والمشكلات الموجودة.
إن هذا أحد أكثر الأوهام انتشاراً. وكثير من الجماعات الإسلامية المشتغلة بالسياسة علقت كل توازنها على الحكومة العظيمة التي ستشكلها في المستقبل حين تصل إلى الحكم. وبما أن المجال السياسي، لا يتسع لكل الناس، ولا يستطيع كثيرون العمل فيه، فإن أعداداً كبيرة من شبابها عاطلون عن أي عمل دعوي أو اجتماعي نافع!.
وجود الدولة في الأصل شيء مكروه من النفوس؛ لأنها تمثل سلطة وقوة، وهي - على المستوى الوظيفي – أميل إلى أن تكون كابحة وضابطة أكثر من أن تكون بانية أو مُصْلحة. وإذا استطاعت الدولة حماية النظم السارية وتطبيقها دون تحيز إلى جانب دعم استقلالية القضاء وتسهيل حركة الفرد مع حد مقبول من المرافق العامة؛ فإنها تكون قد قامت بأشياء عظيمة جداً. ومعظم دول العالم ما زالت تخفق في تحقيق ذلك.(1/261)
العمل الأساسي الذي يُنْتَظر من الجميع المساهمة فيه هو العمل الاجتماعي - بأوسع ما تحمله هذه الكلمة من دلالة –. في العالم اليوم قطاع يسمونه (القطاع الثالث) أو (القطاع اللاربحي) إنه شيء غير القطاع العام الذي تكون مؤسساته ملكاً للدولة وغير القطاع الخاص المملوك للأفراد، إنه القطاع الذي تملكه الأمة. مهام هذا القطاع أوسع بكثير مما نتصوره وإن الأمم من خلاله تستدرك على قصور النظم المختلفة، إنه يشكّل كرة أخرى على طريق العدالة الاجتماعية وإيصال الحقوق لأصحابها. إن أنشطته تغطي حاجات أولئك الناس الذين لا يقع الاهتمام بهم تحت مسؤولية أي وزارة أو مؤسسة حكومية، وإنه يهتم بالقضايا التي لا تهتم بها أي جهة حكومية. وأستطيع أن أقول دون أن أشعر بالحرج: إن اتساع هذا القطاع يدل على نحوٍ قاطع على خيرية المجتمع وتضامنه وفاعليته واستحقاقه باسم (مجتمع). وعلى مقدار ضيق هذا القطاع وضعفه يكون ضعف المجتمع وتفككه وخموله. وقد لا يستحق لاسم (مجتمع) ويكون جديراً باسم (تجمع)!
إن ما ينشر من إحصاءات عن هذا القطاع يدل دلالة واضحة على أن العالم الصناعي يتمتع بمجتمعات غنية بالمؤسسات والأنشطة اللاربحية. وقد استطاع هذا القطاع أن يجمع من الناس في الولايات المتحدة الأمريكية عام (2002) مبلغاً قدره (212) مليار دولار. وهو رقم فلكي لا يمكن جمع نصفه أو ثلثه في أي دولة من العالم. في أمريكا مليون ونصف مؤسسة لاربحية وثلاثة وعشرون ألف مؤسسة وقفية. وفي فرنسا ستمئة ألف مؤسسة لاربحية. وفي (إسرائيل) ثلاثون ألف مؤسسة لا ربحية ويستوعب القطاع اللاربحي 11% من القوة العاملة هناك في العالم الغربي لكل ثلاثمائة شخص تقريباً مؤسسة لاربحية من نوع ما وعندنا في العالم العربي لا يحصل الـ (5000) شخص على أكثر من مؤسسة، أي إن الفارق يتمثل في خمسة عشر ضعفاً. ويجب أن نأخذ بعين الاعتبار إلى جانب هذا أن الذين يحتاجون إلى العون في مجتمعاتنا أكثر بكثير من المحتاجين في مجتمعاتهم.
إن هناك أشياء مشتركة بين الأمم، وهناك أيضاً خصوصيات لكل أمة. إن المجتمعات الإسلامية بحاجة إلى الكثير الكثير من المؤسسات اللاربحية وسأذكر منها هنا نماذج فقط:
- مؤسسات ومشروعات لدعم الالتزام والمحافظة على الأخلاق والوقوف في وجه التحلل الخلقي عن طريق الاتصال المباشر والحوار مع الناس ووضع لوحات في الطرق وإعلانات في الصحف. بل إن القطاع اللاربحي يحتاج في الحقيقية إلى فضائية وإذاعات خاصة حتى نؤصل حب العمل الخيري في نفوس الناس. أضف إلى هذا تأسيس جمعيات لمحاربة العادات السيئة مثل الإدمان على التدخين والخمور والمخدرات ومثل عادات الإسراف والتبذير في المأكل والمشرب والملبس والمسكن وإرشاد الناس إلى بعض الطرق الاقتصادية في كل ذلك، كما هو الشأن في كثير من الدول.
- مؤسسات للاهتمام بالأسرة وتوجيهها في مسائل التربية ومساعدتها على حل المشكلات التي تواجهها وتوفير مرشدين تربويين ومرشدات تربويات لإصلاح العلاقات الأسرية وتنمية وعي الناس بأهمية التضامن الأسري، وتوضيح مسؤولية كل طرف في ذلك، ونشر عدد كبير من الكتيبات والنشرات التي تعلم الناس أصول التربية الجيدة، كما توضح لهم الأخطاء التربوية التي يقعون فيها.
- مؤسسات وجمعيات وروابط لدعم العلم والتعليم، حيث إن الدول ما عادت تستطيع توفير ما يكفي من المدارس والتجهيزات المدرسية لهذه الأعداد المتدفقة من الأطفال والفتيان. والتعليم الخاص الحالي هو أقل في كثير من الأحيان من المستوى المطلوب، وهو إلى جانب ذلك ينشر الطبقية الاجتماعية والمعرفية، فأبناء الأغنياء يجدون مدارس ممتازة لأنهم قادرون على الدفع، وأبناء الفقراء لا يجدون في بعض الأحيان حتى المدارس السيئة. وبعض الدول الإسلامية – مثل باكستان- لم تستطع إلى الآن إصدار تشريعات لجعل التعليم الابتدائي إلزامياً بسبب عدم قدرة الدولة على توفير المدارس الكافية. وهناك دول لا تستطيع توفير الكتب المدرسية لأبنائها – كما هو الشأن في بلاد عديدة مثل إندونيسيا – وهكذا..
قد آن الأوان ليقوم الناس بدعم التعليم الحكومي والمساهمة في توجيه أنشطته وممارسة نوع من الرقابة عليه بما يخدم التقدم العلمي في البلد. كما آن الأوان لتأسيس عدد كبير من المدارس الخيرية التي يجد فيها أبناء الفقراء فرصاً للتعلم. وفي بعض الدول – مثل تركيا- أنشئت مجالس كثيرة جداً لدعم التعليم الجامعي وتوفير منح للطلاب الفقراء، حيث إن الجامعات الحكومية لا تستوعب سوى 10% من المحتاجين للتعليم الجامعي.
إن من المهم أن تنظم حملات واسعة من أجل قيام الأثرياء بتأسيس شبكات من المدارس والمعاهد العلمية والتقنية لأبناء الفقراء والمعدمين والإنفاق عليها عوضاً عن تبذير المال في السياحة في الغرب أو إنفاقه على مظاهر كاذبة لا تزيد صاحبها إلا خبالاً وسأماً!.(1/262)
- في الأمة اليوم مظالم كثيرة، ولا يكاد يخلو مجلس من المجالس من ذكر مظلمة من المظالم! وقد صارت مهمة المحامين في كثير من الدول الإسلامية- مع الأسف الشديد- طمس الحقيقة وإضاعة الحقوق والعمل على تأجيل المحاكمات إلى ما لا نهاية وتسربت الرشوة إلى سلك القضاء مع استثناءات مقدرة! إن هذه الوضعية تستلزم قيام مؤسسات وروابط ومنظمات لنصرة الضعيف ورفع الظلم عن المظلوم ومؤازرة المضطهد وفضح أشكال الحيف. وقد أثنى - صلى الله عليه وسلم- على حلف الفضول الذي أقامته قريش في الجاهلية، وحضره - عليه الصلاة والسلام- وقال: " ولو دعيت إلى مثله لأجبت". وقال أيضاً في حديث صحيح: " إنه لا قُدَّست أمة لا يأخذ الضعيف حقه فيها غير متعتع".
إن التعليم والقضاء يشكلان محورين أساسين في حياة أي أمة وإن في فسادهما فساد الحياة كلها، فعلينا أن نصلح من شأنهما قدر الاستطاعة ولن يكون ذلك إلا من خلال توفير رقابة شعبية واسعة، ولن تكون تلك الرقابة فعالة إذا لم تنظم وتؤطر على نحو جيد.
- الأمية في العالم الإسلامي ضاربة أطنابها، ومازال المعدل الوسطي لها يدور في فلك الـ(40%) وهذا شيء مخيف في زماننا فقد احتفلت اليابان بتعليم آخر أمي في أواخر القرن التاسع عشر. ولدينا أناس يعرفون القراءة والكتابة لكنهم لا يقرؤون. وكما قال أحدهم: ما الفرق بين الأمي وبين من يحسن القراءة والكتابة لكنه لا يقرأ؟! إن حالة القراءة وطلب العلم والحرص على معرفة الجديد في حالة من التردي المستمر في عالمنا الإسلامي. والكتاب يفقد في كل يوم جزءاً من أرضه لصالح ما يمكن أن نسميه (اللهو المطلي بالمعرفة) وهذا يلقي علينا مسؤولية هائلة. إني أفترض أن يكون لدينا في كل حي من الأحياء مكتبة عامة يضعها أحد الأثرياء في زاوية من داره ليرتادها أهل الحي وتكون مكاناً لالتقائهم ومناقشة أمور حيهم. وأتعشم أن يكون هناك برامج لدعم الكتاب الجيد وأن يكون هناك من حانات للقراءة ومكتبات متنقلة لنشر العلم وإعارة الكتاب. وقد سبقتنا دول كثيرة إلى هذا، ولم يعد لدينا وقت لإضاعته. إن من غير شغف حقيقي بالعلم واتخاذه أساساً للتطوير لن نستطيع أن نتجاوز الأوضاع الصعبة التي نعيش فيها.
- العولمة تشجع الحكومات على أن تنفض يديها من كل الخدمات المجانية والرخيصة التي تقدمها، ومنها (العلاج الصحي). والخدمات الصحية الحكومية في كثير من بلدان العالم الإسلامي في حالة من التدهور حيث يلجأ الناس إلى الطب الخاص، وهناك تجد أشكالاً من التحايل والابتزاز مما يوجب قيام مؤسسات طبية لا ربحية يعمل فيها الأخيار من الأطباء وتتقاضى أجوراً تكفي فقط لتشغيلها. وقد قامت تجارب رائدة في بعض البلدان الإسلامية في هذا المجال، إنها تقدم أفضل علاج، لكن بسعر لا يزيد على 30% مما لدى غيرها. إني أتصور أن يكون هناك جمعيات للعناية بأصحاب الأمراض المزمنة والمستعصية وجمعيات لتوفير الدواء لمن لا يجد ثمنه وجمعيات لدعم المستشفيات الحكومية بالأجهزة وهكذا.
ولا أريد هنا أن أتحدث عن قضية الفقر لأنني سأفرد لها حديثاً خاصاً في المستقبل بإذن الله.
إن العمل الخيري التطوعي يستهدف أولاً الارتقاء بنفوس فئة كبيرة من المجتمع وربطهم بالله - تعالى- وهذه الفئة هي العاملون والمحتسبون في المجال اللاربحي. ويستهدف ثانياً سد حاجات العناصر الضعيفة في المجتمع، وهي في عالمنا الإسلامي كثيرة جداً بل تشكل النسبة الأكبر من الناس. وسنظل نعيش على هامش العالم ما لم نبدع في إيجاد الحلول للمشكلات التي جاءت بها الحضارة المعاصرة . والله ولي التوفيق.
=============
#مقابلة مع مجلة المنار
د. عبد الكريم بكار
*
ثمة قطيعة معرفية في البنيان الثقافي للعقلية الإسلامية بين مواد تكوينها والراهن المعاش. كيف نؤسس لثقافة واعية ناضجة تهتم بالتراث ولا تخاصم العصر والواقع؟
*
دعنا في البداية نحاول العثور على تعريف للعقلية حتى نوجد محوراً للحديث عنها. في تصوري أنه يمكن تعريف العقلية بأنها "مجموعة المفاهيم المترابطة التي ندرك من خلالها الواقع، ونتعامل في ضوئها مع الأحداث، كما تتبلور من خلالها ردود أفعالنا على التحديات المختلفة. وهذه المفاهيم مرتبطة بمجموعة المبادئ التي تشكل العقل الفطري أو الأول لدى الإنسان. ولا يخفى أن جوهر العقلية يتكون من أمور مكتسبة، تفد إلى الإنسان عن طريق التربية الأسرية والمعايشة الاجتماعية، وعن طريق التعليم في المدارس والمطالعة الخاصة، وما تبثه وسائل الإعلام المختلفة...
هذا يعني أن التربية والتثقيف يشكلان الوسيلة الأساسية لبناء العقلية. أما كيف نحصل على العقلية التي تجمع بين الأصالة والمعاصرة، فحديث هذا الموضوع يطول، لكن يمكن أن نذكر بصدده عدداً من الملاحظات:(1/263)
1- بمجرد أن تتحدث عن الجمع بين أمرين مختلفين، فإن عليك أن تتوقع حدوث خلل بالميل إلى أحدهما على حساب الآخر. وكأني أشعر أن التطرف شيء راسخ في التراث الجيني للبشرية. وفي ضوء هذا فإننا نجد اليوم من جعل المعلومات التراثية المكون الرئيس لعقليته. واطلاعه على تيارات الثقافة المعاصرة ضحل ومحدود جداً. ونرى إلى جانب هذا الصنف من تشبع بالثقافة والأفكار المعاصرة، لكن حظه من الثقافة الإسلامية الأصيلة ضعيف أو شبه معدوم. وقليل أولئك الذين يجمعون بينهما على نحو متوازن.
2- أعتقد أن التثقف بطريقة مشوهة هو الذي يولِّد القطيعة بين الأصالة والمعاصرة. وقل مثل ذلك في أساليب التربية التي تستخدم في تنشئة الأجيال.
إن تلقي المرء لكل مفردات الثقافة الإسلامية على أنها مسائل قطعية يقينية انقطع حولها الجدل، ينمي لديه عقلية البعد الواحد. وفي المقابل فإن الذي يُفتن بالمعارف والأفكار المعاصرة، ويتعامل معها على أنها مسلّمات لا يسعه إلا الانصياع لها، سوف يزهد بكل ما هو قديم، وينصرف بالتالي عنه.
3- ليس من السهل تكوين عقلية تجمع بين الأصالة والمعاصرة على نحو معتدل ومتوازن، ولن يكون هناك كمال في هذا الشأن، نستحوذ عليه، ثم نرتاح، وإنما نحتاج إلى نوع من المجاهدة الدائمة.
إذا عرفنا ما نريد من الثقافة الإسلامية بالضبط، وما نريده من علوم العصر بالتحديد أمكننا الجمع بينهما على نحو جيد. وفي هذا الإطار أظن أن مساهمة الثقافة الإسلامية سوف تكون حاسمة في تكوين الذهنية الحديثة في مجال العقائد والمبادئ الكبرى التي تشكل رؤية المسلم للحياة، كما أنها حاسمة في مسائل الحلال والحرام والسنن والآداب الفردية والاجتماعية.
أما الثقافة المعاصرة فإننا بحاجة إلى أن نتزود منها بما يساعدنا على فهم الواقع الذي نعيش فيه وفهم الفرص والإمكانات المتاحة، بالإضافة إلى التحديات التي يجابهها كل من يعيش في عصر بالغ التعقيد كعصرنا. التشبع بالثقافة المعاصرة، يساعدنا على فهم محاور الصراع والمنافسة بين الأمم، كما يساعدنا على التسلح بالأساليب والأدوات التي تساعدنا على كسب لقمة العيش، وحل المشكلات الإدارية والاجتماعية التي تجابهنا.
4- إن علينا أن نشرح للأجيال بوضوح أن ماضينا ليس مجموعة من الأمجاد والانتصارات، وأن تراثنا ليس مجموعة من الأقوال والنظريات المعصومة.
إنه فيه الأمجاد والانكسارات، وعلى مقدار ما فيه من أعمال ومواقف تجسد أوامر الشريعة السمحة، فيه أعمال ومواقف أملاها الهوى، أو قامت على اجتهاد خاطئ. حين نتجاوز الكتاب والسنة إلى باقي المعطيات التراثية فإننا سنجد أقوالاً وآراء لرجال بذلوا جهدهم في إدراك الحق، لكن ليس هناك أي ضمان لإصابته في كل مرة. وفي المقابل فإن المعلومات والمعطيات المعاصرة، هي الأخرى عبارة عن اجتهادات لا نشك في أن بعضها صحيح، كما أننا لا نشك أن بعضها فاسد أو خاطئ، وبعضها غامض لم يستبن وجه الحق فيه. وبعضها بعيد عن الحق لدخول عنصر التجارة في ترويجه وإشاعته. ومن هنا فإنه لا ينبغي أن نزهد في شيء بسبب قدامته أو حداثته. ولا أن نحترم شيئاً بسبب شيء من ذلك. ما وافق قطعيات الشريعة الغراء أخذنا به، وما حقق مصلحة للأمة دون أن يخالف مبادئها أخذنا به سواء أكان قديماً أم حديثاً. وعلينا بعد هذا وذاك أن نبدي مرونة وتسامحاً في الأمور الخلافية والظنية، فالقطعيات هي التي تشكل ثوابت الحياة الإسلامية.
ونحن مع كل ذلك نعرف أننا نعيش في مرحلة تخلف وضعف، وأننا بحاجة إلى أن نستفيد مما لدى الآخرين، ولا غضاضة في ذلك ما دام ما نقتبسه ينسجم مع البنية الأساسية للشخصية والحياة الإسلامية.
*
الإفقار الروحي للمجموع الإنساني يتطلب ملطفات وجدانية وتربوية وسلوكية إسلامية معاصرة. ما أولوياته حسب رؤيتك؟
*
يطرح هذا السؤال قضية في غاية الأهمية، حيث إننا في عالمنا الإسلامي بدأنا في السنوات العشر الأخيرة ننجذب على نحو سريع في اتجاه الوضعية الغربية على مستوى الاهتمام وعلى مستوى السلوك والعلاقات.
ومن الواضح في هذا الإطار أن لدينا اليوم ميلاً عاماً إلى التنظير العقلاني والاشتغال بمسائل الفكر، إلى جانب سيطرة الاهتمام بشؤون المال والترفيه، والعيش على أحاديثنا في البيت والشارع والمدرسة... ومن المؤسف أن الحديث عن الذكر والاستغفار والتوبة ونقاء السرائر صار مستغرباً في كثير من الأوساط لدينا. وربما أثار الإشفاق على صاحبه. وهذا تغيير سيئ جداً في حساسيات المسلم نحو عالم الروح، والقضية في نظري تحتاج إلى أكثر مما يمكن أن نسميه بالمنعشات والملطفات... فتصحر الروح وقسوة القلب وتبلد المشاعر وتدني مستوى الاهتمامات والانغماس في المادة، ليست أموراً صغيرة، وإنما هي من المسائل الكبرى في الرؤية الإسلامية.(1/264)
الوضعية التي أشرنا إليها هي نتيجة طبيعية للنفوذ الهائل الذي تمارسه الحضارة الغربية في العالم الإسلامي. وهي حضارة لا تقيم أي وزن للحياة الروحية والوجدانية من المنظور الإسلامي. كما أنها تساوي على نحو متزايد بين الثروة المادية والقيمة الشخصية للإنسان. وتوهم الصغار والكبار بأن السعادة شيء يمكن الحصول عليه من خلال المال.
أما علاج هذه المشكلة الكبرى، فإنه يجب أن يتم على المستوى النظري والمستوى العملي.
أما على المستوى النظري فإن على المربين والموجهين والإعلاميين أن يثروا الساحة بالأفكار والمفاهيم التي تشجع على إثراء الذات وتنمية الشخصية، عوضاً عن المفاهيم التي تحث الناس على التملك والتمتع والاستهلاك والترفيه.
ويأتي في قمة تلك المفاهيم مفهوم الارتباط بالهدف الأسمى الذي نعيش من أجله؛ إذ إن كثرة مشاغلنا قد تنسينا المهم، وتجعلنا ننهمك في حاجات مؤقتة وتافهة. والهدف الأسمى لوجود كل مسلم هو الفوز برضوان الله –تعالى- وإن كل تحركاتنا وأنشطتنا اليومية وأهدافنا المرحلية يجب أن تساعد على نحو ما على بلوغ ذلك الهدف. وآنذاك فقط سوف نشعر أن لوجودنا قيمة ومعنى؛ كما أن طاقات إضافية سوف تنفجر في أعماقنا مع الأمل ببلوغ النهاية بأمان وسلام.
ومما ينفع في ترسيخ مفاهيم إنعاش الروح وتصحيح مسار المشاعر –صحبة الصالحين الذين لا تسيطر على مجالسهم الأحاديث الدنيوية وهموم العيش.
كما أن من المفيد في هذا الدخول إلى عالم عظماء هذه الأمة من العلماء الربانيين والعابدين المتبتلين من خلال قراءة سيرهم وأخبارهم والتأسي بهم، والتفاعل مع المفاهيم التي كانت توجه سلوكهم.
أما على الصعيد العملي فإنه مما لا خلاف فيه أنه لا شيء ينعش الروح، وينمي مشاعر الإنابة والورع والإقبال على الله –جل وعلا- مثل الأنشطة التعبدية. والمسلم حين يكثر من النوافل بأنواعها لا يدعم الناحية الروحية لديه فحسب، وإنما يرتقي بكيانه كله؛ فالصلة بالله –تعالى- والتي هي الثمرة المباشرة للعبادة لا تغير من مزاج الإنسان فحسب، وإنما تنير له طريق الهداية أيضاً. والشرط الوحيد الذي لا بد منه هو انضباط كل أشكال القربات بهدي النبي –صلى الله عليه وسلم-؛ إذ من طبيعة الأنشطة الروحية أنها تغري صاحبها بنوع من الاندفاع والحماسة وجيشان العاطفة الذي قد يحرفها عن سنيتها، ويدخلها في باب الابتداع، وأحياناً فيما هو أسوأ!
ما يمكن أن يثري مشاعرنا ووجداننا، ويحرر الطاقات الروحية الكامنة، كثير منه الدعاء والاستيقاظ في السحر شعار الصالحين. وقد ورد في حديث الشيخين أنه إذا كان الثلث الأخير من الليل قال الله –جل وعلا- من يدعوني فأستجيب له،من يسألني فأعطيه، من يستغفر لي فأغفر له. وهذه الفرصة العظيمة لا يضيعها إلا محروم.
ومنه الذكر والاستغفار والتهليل والتحميد والتكبير، حيث إن أثر الذكر في جلاء القلوب عظيم جداً. وقد فتح الله –تعالى- للذاكرين أبواباً من الخير العظيم ترغيباً للناس في الإكثار من ذكره؛ فقد أخرج مسلم في صحيحه عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أنه خرج من عند جويرية بكرة حين صلى الصبح، وهي في مسجدها، ثم رجع بعد أن أضحى وهي جالسة، فقال:" ما زلت على الحال التي فارقتك عليها؟ قالت: نعم. فقال: والله لقد قلت بعدك كلمات ثلاث مرات، ولو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن: سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته".
وهناك إلى جانب هذا الصدقة وصلاة النافلة وخدمة المسلمين وطلب العلم ونصح الناس وتعليمهم... والمهم دائماً هو الانتظام في ذلك وشعور المرء أنه لا يشكو من جفاف روحي، ولا من بعد عن خالقه؛ سبحانه.
إن من واجب الجماعات والمجموعات أن تولي هذا الجانب الحي من شخصية المسلم الاهتمام الذي يستحقه، وأن تساعد أفرادها بكل وسيلة على صقله وتنميته، حتى يجدوا موارد من الطاقة والعزيمة لأداء الواجبات والكف عن المحارم والاندفاع في أعمال الخير والإحسان.
*
ثمة ثلاثية خادعة تسيطر على مناحي ومساحات كبيرة من الخارطة الفكرية العربية والإسلامية، وهي (نافق، فارق، وافق).
كيف نؤسس لعقلية تستوعب الآخر دون تهميشه ودون الاندماج فيه؟
*
موقف الناس بعضهم من بعض أشخاصاً وأفكاراً، تحدده البنية الثقافية السائدة ويمكنني أن أقول: إن الثلاثية التي ذكرتها –وهي بالطبع ثلاثية مريضة- هي سمة عامة لكل الأمم والشعوب النامية، الإسلامية منها وغير الإسلامية، وذلك لأسباب جلية في أذهان علماء الإنسان والمهتمين بالشأن الثقافي.(1/265)