أما بعد أيها الناس: اتقوا الله تعالى؛ وتخلقوا بمكارم الأخلاق، وتجنبوا أراذلها، فإنكم إن فعلتم ذلك هديتم إلى سنة نبيكم، ونلتم سعادة الدنيا والآخرة، أيها المسلمون: لقد جاء الإسلام آمراً، وداعياً، ومرغباً في مكارم الأخلاق، وناهياً، ومحذراً عن مساوئ الأخلاق، ألا وإن من مكارم الأخلاق لزوم الصدق في الأقوال والأفعال، فإن الصدق يهدي إلى البر، والبر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق، ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، ولقد أمر الله بالصدق، وأثنى على أهله فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} وقال: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}{لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} ولقد رفع الله للصادقين ذكرهم في حياتهم، وبعد مماتهم، فكانوا محل ثقة الناس، وبذكرهم تطيب المجالس، ويثنى عليهم. ألا وإن من مساوئ الأخلاق أن يكون الإنسان كاذباً في قوله وفعله، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب، ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً، ولقد أخبر الله تعالى في كتابه أن الكذب من صفات من لا يؤمنون بالله فقال تعالى: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} وقد جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - الكذب من علامات النفاق، فقال: ((آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان)) والله سبحانه وتعالى بحكمته وضع الكاذبين في الموضع اللائق بهم، فكانوا محلاً للقدح وعدم الثقة، وذلك جزاء الكاذبين. ألا وإن من مكارم الأخلاق أن يعامل الرجل الناس بالنصيحة والمعاملة الحسنة، يعاملهم بما يجب أن يعاملوه به يعاملهم بالصراحة، فلا يخون، ولا يغدر، ولا يغش، فالخيانة والغدر، والغش أخلاق ذميمة(/2)
يحذر منها الدين، ويستقبحها كل عقل سليم، وهي من الفساد في الأرض، وقد أخبر الله تعالى في كتابه أن الله لا يهدي كيد الخائنين، ولا يصلح عمل المفسدين، وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أن لكل غادر لواء يوم القيامة يعرف به، ويخزى به بين الناس يقال: هذه غدرة فلان ابن فلان))، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((من غشنا فليس منا)). وقال: ((ما من عبد يسترعيه الله عز وجل رعية يموت يوم يموت، وهو غاش رعيته، إلا حرم الله عليه الجنة)). أيها المسلمون: إن من المؤسف جداً أن يتخذ بعض المسلمين من هذه الأخلاق الذميمة أخلاقاً له، فيهلك نفسه، ويحط معنويته، وينقص إيمانه لقد كان بعض الناس يتخذ الكذب شطارة ومهارة، فيقابل هذا بوجه، وهذا بوجه، وشر الناس ذو الوجهين ثم يفتي نفسه بأن الكذب مباح إلا ما كان يتضمن أكلاً للمال، فيجمع بين الكذب على الناس، والكذب على الشريعة، وإن من أقبح الكذب أن يقرن الكاذب قوله باليمين الكاذبة، وأقبح من ذلك أن يتضمن كذبه أكلاً للمال بالباطل أيضاً، فيجتمع له ثلاث مساوئ الكذب، والحلف عليه، وأكل المال بغير حق، وفي الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من حلف على يمين يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان)) وهذا ربما يوجد عند البيع والشراء والخصومة تجده أنه يحلف أنها سميت كذا وكذا، وهو يكذب، ولكن قصده أن يأخذ من أموال الناس زيادة ثمن تجده يحلف عند القاضي أن ليس في ذمته لفلان كذا، وهو كاذب، ويرى بعض الناس أن الغش والخداع حذق وعقل وغنيمة وكسب، فيفرح إذا غش غيره، أو خدعه، ويرى أن ذلك منقبة له ورفعة، والواقع أن الغش سفه، وغرم ووضيعة وهلاك وخسارة، فاتقوا الله أيها المسلمون، والزموا الأخلاق الفاضلة، وتجنبوا الأخلاق السافلة، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين، وفقني الله وإياكم لمكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، ورزقنا الصدق في الأقوال والأعمال، وجنبنا(/3)
منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء والأدواء إنه جواد كريم. أقول قولي هذا... الخ.(/4)
العنوان: نماذج من أنواع الظلم
رقم المقالة: 770
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحمد لله الذي حرم على عباده الظلم والطغيان وأوعد الظالمين بالعقوبة والخسران وجعل دعوة المظلوم مستجابة لإقامة العدل والميزان وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الذي حرم الظلم على نفسه فأفعاله وأحكامه دائرة بين العدل والإحسان وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله المصطفى من بني عدنان صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليماً.
أما بعد، أيها المؤمنون: اتقوا الله تعالى وكونوا عباد الله إخواناً المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يكذبه ولا يحقره بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه أيها المؤمنون كونوا إخواناً كما جعلكم الله إخواناً لا يظلم بعضكم بعضاً ولا يحدث أحدكم الآخر حديثاً وهو فيه كاذب ولا يحقرن أحدكم صغيراً ولا كبيراً ليس لأحد على أحد فضل إلا بالتقوى فمن كان لله أتقى فهو عند الله أفضل وأكرم وأولى.(/1)
لا يظلم بعضكم بعضاً لا في المال ولا في العرض ولا في الدم ألا وإن من الظلم أن تأخذ مال أخيك بغير حق ومن الظلم أن تبيع على بيع أخيك المسلم مثل أن تقول لمن اشترى سلعة بثمن أنا أعطيك مثلها بأقل منه أو أعطيك أطيب منها بثمنها ومن الظلم أن تسوم على سوم أخيك مثل أن يسوم شخص من إنسان سلعة فيركن صاحبها إليه ويرضى بسومه فتزيد عليه وأما بيع المزاد العلني الذي في الأسواق فلا بأس به ومن الظلم أن تستأجر على إجارة أخيك مثل أن يكون في دار أو دكان وقد رضي صاحبه بالأجرة فتنغص عليه وتزيد في الأجرة وأما إذا كان صاحب الدار أو الدكان هو الذي يطلب الزيادة فلا بأس بالزيادة ومن الظلم أن يحل لك طلب على فقير معسر فتجبره على أن يتدين ويوفيك أو تتحيل على قلب الدين عليه فإن الله يقول: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} أي فيجب انظاره حتى يوسر الله عليه ومن الظلم أن تقرض إنساناً دراهم ثم تشترط عليه زيادة في وفائها أو تشترط عليه نفعاً تنتفع به ما دامت الدراهم في ذمته مثل أن تقول: أريد أن أقرضك ألفاً على أن أسكن بيتك حتى توفيني أو تعمل هذا العمل حتى قال العلماء رحمهم الله: لو أهدى له المستقرض هدية ما جرت بها العادة فإنه لايجوز له أن يقبلها إلا أن ينوي المقرض مكافأته عليها أو يسقط ما يقابلها من دينه.(/2)
ألا وإن الغيبة والنميمة من الظلم فأما الغيبة فهي ذكرك أخاك بما يكره سواء كان فيه ما تقول أو لم يكن فمن اغتاب أحداً فعليه أن يستغفر الله ويتوب إليه وأن لا يعود إلى الغيبة ثم إن كان صاحبه قد علم فعليه أن يستحله وإن كان لم يعلم فعليه أن يثني عليه بما فيه من الخصال الحميدة في مقابلة غيبته إياه وأما النميمة فهي أن تنقل كلام الناس من بعضهم في بعض لتفسد بينهم مثل أن تقول فلان يقول فيك كذا وكذا تحرش بينهما فإن هذا لا يحل ولا يجوز وهو سبب للعقوبة في الدنيا والعذاب في الآخرة وليحذر الإنسان من النمام فإن من نقل كلام الناس فيك إليك فإنه سينقل كلامك في الناس إليهم ((وقد مر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقبرين فقال: (إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير أما أحدهما فكان لا يستنزه من البول وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة)) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خيراً مِنْهُمْ وَلاَ نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خيراً مِنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كثيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ}. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.. الخ.(/3)
العنوان: نماذج من حقوق المسلم على أخيه
رقم المقالة: 672
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحمد لله الذي جعل المؤمنين إخوة في الإيمان، وشبههم في دعم بعضهم بعضاً وشد بعضهم بعضاً وقيام بعضهم ببعض بالبنيان، وشرع لهم من الأسباب ما تقوم به تلك الإخوة، وتستمر على مدى الزمان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في الألوهية والأسماء والصفات والسلطان، وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله المبعوث إلى جميع الإنس والجان صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليماً.(/1)
أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى، واعلموا أنكم في الدين إخوة، وأن هذه الإخوة والرابطة الدينية أقوى من كل رابطة وصلة، فيوم القيامة لا أنساب بينكم ولكن الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين، فحققوا أيها المؤمنون هذه الإخوة بالتحاب بينكم والتآلف ومحبة الخير بعضكم لبعض والتعاون على الخير وفعل الأسباب التي تقوي ذلك وتنميه واجتناب الأسباب التي تضعف ذلك وتنقصه، فالأمة لا تكون أمة، ولا يجتمع لها قوة حتى تكون كما وصفها نبيها - صلى الله عليه وسلم - بقوله: ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا)). أيها الإخوة: لقد شرع الله لكم ما يقوي اتحادكم، وينمي المحبة بينكم، ويزيل العداوة والفرقة، شرع لكم أن يسلم بعضكم على بعض، فالسلام يغرس المحبة والألفة، والهجر يوجب البغضاء والوحشة، فإذا لقي بعضكم بعضاً فليسلم عليه، وخيركم من يبدأ بالسلام، وليجبه المسلم عليه ببشاشة وانطلاق وجه بجواب يسمعه، ويكون مثل سلامه أو خيراً منه، وشرع لكم أن يعود بعضكم بعضاً إذا مرض، فعيادة المريض تجلب المودة، وترقق القلب، وتزيد في الإيمان، وتوجب الثواب. فمن عاد مريضاً ناداه مناد من السماء طبت، وطاب ممشاك، ومن عاد أخاه المسلم لم يزل في خرفة الجنة حتى يرجع قيل: يا رسول الله وما خرفة الجنة؟ قال جناها، وإذا عاد أحدكم المريض، فليوسع عليه الأمر، ويقول ما يفرحه من ذكر ثواب الصابرين وانتظار الفرج، وأنه طيب ولا بأس عليه، ويفتح له باب التوبة واغتنام الوقت بالذكر والقراءة والتسبيح والاستغفار وغيرها مما يقرب إلى الله، ويرشده كيف يتطهر بالماء أو التيمم وكيف يصلي وكيف يوصي لأن كثيراً من المرضى يجهل ذلك، وشرع لكم الإصلاح بين الناس، فقد قال الله تعالى: {لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ} وفي الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي أيوب:(/2)
((ألا أدلك على تجارة؟ قال: بلى يا رسول الله، قال: تسعى في إصلاح بين الناس إذا تفاسدوا، وتقارب بينهم إذا تباعدوا))، فالموفق إذا رأى بين اثنين عداوة وتباعداً سعى بينهما في إزالة تلك العداوة والتباعد حتى تنقلب العداوة صداقة والتباعد قرباً، وفي هذه الحال يحصل على خير كثير وأجر كبير، ولقد شرع النبي - صلى الله عليه وسلم - لكم إذا سمعتم العاطس المسلم يحمد الله أن تقولوا له: يرحمك الله، ويرد عليكم يهديكم ويصلح بالكم، وشرع لكم المهاداة فيما بينكم، وأخبر أن الهدية تذهب السخيمة، وتوجب الرحمة، وكل أمر يوجب ارتباط المسلمين واتحادهم فهو مشروع ومأمور به، ومن ذلك تشاور أهل الرأي في الأمور العامة التي تهم المسلمين، فإذا اجتمع المسلمون على أمورهم وتشاوروا بينهم فما أحراهم بالتوفيق إلى الصواب، وما أقربهم من النجاح.(/3)
وفي مقابلة ذلك نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن كل ما يوجب تفرق المسلمين وتباعدهم، فنهى أن يهجر الرجل أخاه فوق ثلاث يدبر هذا، ويدبر هذا، فلا يسلم أحدهما على الآخر، ولا يزيل الوحشة والعداوة التي بينهما، وهذا خلق ذميم لعب الشيطان فيه علي بعض الناس حتى أوقعهم فيه، فنجد الرجلين كل منهما يحب الخير، ويعمل ما يعمل منه ويعد من أهل الديانة، ولكن الشيطان قد خدعه، فكان يهجر أخاه لأغراض شخصية ومصالح دنيوية، ولم يعلم المسكين أن الإسلام أسمى من أن تؤثر الأغراض الشخصية أو المصالح الدنيوية في الصلة بين أبنائه. ولقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، فمن هجر فوق ثلاث، فمات دخل النار)) وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((تعرض الأعمال في كل يوم اثنين وخميس، فيغفر الله في ذلك اليوم لكل امرئ لا يشرك بالله شيئاً إلا امرأ كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقول: اتركوا هذين حتى يصطلحا)). فهجر المسلم حرام إلا أن يكون مجاهراً بمعصية، ويحصل بهجره ردع له عنها أو تخفيف أو ردع لغيره فيهجر تحصيلاً لهذه المصلحة.
ولقد جاء الشرع بتحريم النميمة والسعي بين الناس بالإفساد بينهم فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يدخل الجنة نمام)) ونهى عن السباب والشتم؛ لأن ذلك يحدث العداوة والبغضاء، فتآلفوا أيها المؤمنون بينكم، وأزيلوا العداوة والبغضاء بينكم، وكونوا عباد الله إخوانا أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.. الخ.(/4)
العنوان: نماذج من حقوق المسلم على أخيه
رقم المقالة: 675
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
لحمد لله الذي ربط بين المؤمنين بالأخوة الإيمانية، ونماها، وشرع لهم من الأسباب المتنوعة التي تثبت بها أركان تلك الإخوة، وتقوي عراها، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فأعظم به ربّاً وإلَها، وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله أكمل البرية، وأهداها صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين قاموا بما أوجب الله عليهم من حقوقه وحقوق عباده على أكمل الوجوه وأعلاها وعلى التابعين لهم بإحسان ما طلعت الشمس، وأشرق ضياها، وسلم تسليماً.
أما بعد: أيها المؤمنون اتقوا الله تعالى؛ وأدوا ما أوجب الله عليكم من حقوقه وحقوق إخوانكم المؤمنين، وتخلقوا بآداب الإسلام والدين، فإن التخلق بها سبب للخيرات والبركات، والإعراض عنها سبب للشرور والهلكات، واعلموا: أن للمسلم على المسلم حقوقاً كثيرة، فمن حقوق المسلم أن تسلم عليه إذا لقيته، فتقول: السلام عليكم. وإن كان بعيداً أو لا يسمع فاجمع بين السلام والإشارة ليعرف أنك تسلم عليه، والسنة أن يسلم الصغير على الكبير، والقليل على الكثير، والراكب على الماشي، والماشي على الواقف، وخير الرجلين من يبدأ صاحبه بالسلام، وإذا لم يسلم من يطلب منه ابتداء السلام؛ فليسلم الآخر، ولا يتركوا السنة.(/1)
كيف يليق بالمؤمن أن يقابل أخاه، فيعرض عنه، ولا يسلم عليه، وهو يعلم ما في ذلك من الفضل والاحسان، فإن السلام يزيل العداوة والبغضاء، يجلب الحب والمودة والإخاء، وليرد أحدكم السلام بقوله: وعليكم السلام، وإن زاد ورحمة الله وبركاته أهلاً وسهلاً كان أحسن، ولا يقتصر أحدكم في رد السلام على قوله: أهلاً وسهلاً. ومن حقوق المسلم على المسلم أن تنصحه إذا استنصحك، فتشير عليه بما تحبه لنفسك، فإن من غش فليس منا، فإذا شاورك في معاملة شخص أو في تزويجه أو غيره، فإن كنت تعلم منه خيراً فأرشده إليه، وإن كنت تعلم منه شراً، فحذره، وإن كنت لا تدري عنه، فقل له: لا أدري عنه، وإن طلب أن تبين له شيئاً من الأمور التي تقتضي البعد عنه، فبينه له ((فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - جاءته فاطمة بنت قيس تستشيره في نكاح رجلين خطباها من المسلمين، فقال لها: أما فلان فصعلوك لا مال له، وأما فلان فلا يضع العصا عن عاتقه)).وفي رواية: ((إنه كان ضراباً للنساء، ولكن انكحي أسامة بن زيد)) فبين النبي - صلى الله عليه وسلم - للمرأة ما في الرجلين من العيوب؛ لأن هذا من باب النصيحة. ومن حقوق المسلم على المسلم أن تقول له إذا عطس فحمد الله: يرحمك الله، فيرد: يهديكم ويصلح بالكم فأما إذا عطس، فلم يحمد الله، فلا تقل له: يرحمك الله. ومن حقوق المسلم على المسلم أن يعوده إذا مرض، فمن عاد أخاه المسلم لم يزل يجني ثمار الجنة حتى يرجع، وينبغي لمن عاد المريض أن يوسع له في أجله، ويدخل السرور عليه مثل أن يقول: أنت اليوم في خير، والشدة لا تدوم، والعافية قريبة إن شاء الله تعالى، وينبغي أن يذكره بفرصة الوقت يقول له: قد أعطاك الله فراغاً تستطيع أن تعمره بالتسبيح والتهليل والتحميد والتكبير والقراءة ونحو ذلك، وأن يذكره الوصية بما عليه من حقوق الله ومن حقوق الناس، فإن الوصية بما على الإنسان مطلوبة في حق الصحيح، فكيف في حق المريض، وينبغي لمن جلس عند(/2)
المريض أن لا يطيل الجلوس عنده إلا أن يراه منبسطاً به ومنشرحاً، فيتبع المصلحة، وإذا رأيت المريض يحب أن تقرأ عليه، فبادره بالقراءة عليه قبل أن يسألها، واعلموا أن البشاشة وطلاقة الوجه لإخوانكم من الأمور التي تثابون عليها، فمن كان متصفاً بها فليحمد الله، وليسأله المزيد من ذلك، ومن لم يكن متصفاً بها، فليمرن نفسه عليها، فإن الإنسان لا يزال يمرن نفسه على الأخلاق الفاضلة حتى تكون من سجاياه وطبائعه أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً}{يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً}. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم... إلى آخره.(/3)
العنوان: نماذج من شروط الصلاة وأركانها
رقم المقالة: 693
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحمد لله الذي شرع لعباده الشرائع، وأكملها، وبين لهم حدودها وفروضها وسننها، لم يترك عباده في حيرة من دينهم، ولا في نقص من عباداتهم بل بين لهم الدين، وأكمله فلم يمت نبيه حتى ترك أمته على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فلله الحمد، والنعمة، والفضل، والمنة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تابعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً.
أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى واعلموا أن الله فرض فرائض، فلا تضيعوها، وحد حدواً، فلا تعتدوها، فمن يتعد حدود الله، فقد ظلم نفسه. أيها الناس: لقد فرض الله عليكم في صلاتكم الطهارة من الأحداث والطهارة من الأنجاس، فمن صلى بغير وضوء، فلا صلاة له، ولو كان ناسياً لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ، ولو صلى وعلى بدنه نجاسة يعلم عنها أو على ثوبه نجاسة يعلم عنها، فلا صلاة له، فإن كان لا يعلم عنها، أو علم بها، ونسي أن يغسلها، فصلاته صحيحة)).(/1)
وفرض الله عليكم سترة العورة في الصلاة قال الله تعالى: {يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ}. فيجب على المصلي أن يستر عورته بثوب طاهر مباح لا يبين من ورائه لون الجلد، فإن صلى بثوب نجس عالماً بنجاسته، فلا صلاة له إلا أن يكون ناسياً، ومن صلى بثوب محرم عليه، فلا صلاة له، فإذا صلى أحد بثوب فيه صورة، فلا صلاة له، إلا إن كان لا يدري، ومن الثياب المحرمة ثياب الخيلاء، فمن جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه، ولا تصح له صلاة صلاها لابساً له، ومن نزل ثوبه عن كعبيه من الرجال، فهو في النار قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ما أسفل من الكعبين فهو في النار، ومن صلى في ثوب خفيف يرى من ورائه لون الجلد، فلا صلاة له)). فعلى الذين يلبسون السراويل القصار التي تسمى الهاف عليهم أن يلبسوا فوقها ثوباً ساتراً لا يصف البشرة؛ لأن الواجب عليهم أن يستروا ما بين السرة والركبة، وقد قسم فقهاؤنا رحمهم الله العورة في الصلاة إلى ثلاثة أقسام مخففة ومغلظة ومتوسطة، فالمخففة عورة الذكر من سبع سنين إلى عشر، فهذا يكفي ستر فرجيه القبل والدبر، والمغلظة عورة المرأة الحرة البالغة فيجب عليها أن تستر جميع بدنها، حتى يديها ورجليها في الصلاة، إلا الوجه، فلا يجب عليها ستره إلا أن يكون عندها رجال غير محارم لها، فيجب عليها أن تستر وجهها عنهم، أما العورة المتوسطة فهي عورة من سوى ذلك مثل عورة الذكر إذا تم له عشر سنين، فأكثر، ومثل عورة البنت الصغيرة، وحد هذا القسم من العورة هو ما بين السرة إلى الركبة، وكلما كان اللباس أكمل في هيئته وستره وحاله، فهو أفضل، ولذلك قال أهل العلم: الأفضل للرجل أن يصلي ساتراً رأسه. ومما فرض الله عليكم في الصلاة أن تطمئنوا بها، فمن صلى بلا طمأنينة، فلا صلاة له، وإن صلى مئة صلاة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لرجل صلى بلا طمأنينة: ((ارجع فصل، فإنك لم تصل)). ونقر الصلاة من أفعال(/2)
المنافقين الذين إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى، وإن كثيراً يخلون بالطمأنينة خصوصاً في القيام بعد الركوع، وفي الجلوس بين السجدتين، ولقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يطيل فيهما حتى يقول القائل: قد نسي.
فاتقوا الله أيها المسلمون، والزموا حدوده لعلكم تفلحون: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.. الخ.(/3)
العنوان: نماذج من شروط النكاح وكيفية طلاق السنة
رقم المقالة: 753
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحمد لله الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً، أبدع ما خلقه وأحكم ما شرعه وأعطى كل نفس هداها، نحمده حمداً كثيراً لا يتناهى ونشكره على نعم تفضل بها وأعطاها، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله أفضل البرية وأزكاها صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليماً.(/1)
أما بعد، أيها الناس: اتقو الله تعالى واعلموا أن الله سبحانه فرض فرائض فلا تضيعوها وحد حدوداً فلا تعتدوها، فاعرفوا حدود الله وأحكامه واعلموا بما تقتضيه شريعته الكاملة، إلا وأن مما أحكمه الله شرعاً وتنظيماً ذلك النكاح الذي جعله الله صلة بين بني آدم وسبباً للقربى بينهم، ورتب لعقده وفسخه أحكاماً معلومة وحدوداً معروفة. فهو عقد عظيم خطير يترتب عليه من أحكام الله شيء كثير، يترتب عليه النسب والإرث والمحرمية والنفقات وغيرها. فمن ثم اعتنى الشارع به اعتناء عظيماً بالغاً، فجعل له شروطاً وحرمات. ونحن نذكر هنا شيئاً من ذلك. فمن شروط عقد النكاح أن يكون بولي بالغ عاقل يعرف الكفؤ من الناس ومصالح النكاح لقوله - صلى الله عليه وسلم -: لا نكاح إلا بولي. فالمرأة لا تزوج نفسها ولا غيرها لا بطريق الأصالة ولا بطريق الوكالة، والولي هو العاصب، وأحق الناس بالولاية أقربهم، ولا ولاية لمن يدلي بالأم فقط كأبي الأم والخال والأخ من الأم لأن الولاية في النكاح للعصبة فقط، ويجب على الولي أن يتقي الله تعالى وأن يراعي مصلحة المرأة ويزوجها من هو كفؤ لها ديناً وخلقاً إذا رضيته، ولا يحل له أن يمنعها من الكفؤ فإن فعل فقد عصى الله ورسوله وسقطت ولايته عليها ويزوجها غيره من أوليائها. ومن شروط عقد النكاح رضا المرأة إذا كانت بالغة، فلا يجوز أن تزوج المرأة بغير رضاها سواء كانت بكراً أم ثيباً وسواء كان الذي يريد أن يزوجها أباها أو غيره لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تنكح البكر حتى تستأذن))، وفي رواية لمسلم: ((والبكر يستأمرها أبوها)). وقد كان بعض العلماء - رحمهم الله - يقولون لا بأس أن يجبر الأب بنته البكر، ولكن قولهم ضعيف لأنه يخالف الحديث ولأنه يترتب على ذلك مفاسد كثيرة غالباً، ولأن كثيراً من الناس قد يجبر ابنته لمصلحة نفسه، ولأنه إذا كان لا يملك أن يجبرها على بيع أقل شيء من مالها فكيف يملك أن يجبرها على بذل(/2)
نفسها لمن لا تهواه ولا ترضاه؟ إذن فلا بد من رضا المرأة بكراً كانت أم ثيباً. ولكن لو فرضنا أنها رغبت الزواج بشخص لا يرضى دينه فإنه يجب أن تمنع منه. ومن شروط النكاح أن تكون الزوجة والزوج خاليين من الموانع، فلا يصح النكاح في حال يحرم العقد فيها، فلا يصح من المحرم بحج أو عمرة ولا على المحرمة بحج أو عمرة، ولا يصح النكاح والمرأة في عدة من غيره؛ ولذلك لا يجوز للرجل أن يخطب المرأة المعتدة من غيره.
ومن اهتمام الشارع بعقد النكاح أن رتب للخروج منه حدوداً لا بد منها، فإذا أراد الرجل طلاق امرأته فليصبر وليتأن لعل الله أن يغير الأمور والأحوال، وربما غير البغض محبة لأن القلوب بيد الله يقلبها كيف يشاء {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شيئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خيراً كَثِيراً} [النساء:19] إذا كان لا بد من الطلاق فليطلقها على الوجه الشرعي، وهو أن يطلقها واحدة وهي حامل أو في طهر لم يجامعها فيه، ولا يحل له أن يطلقها وهي حائض ولا في طهر جامعها فيه إلا أن يتبين حملها، فإن طلقها وهي حائض فليراجعها ثم ليتركها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر وهو في ذلك لا يجامعها ثم ليطلقها بعد ذلك إن شاء. ففي الصحيحين عن عبد الله بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - أن عبد الله بن عمر طلق زوجته وهي حائض، فذكر ذلك عمر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتغيظ منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: ليراجعها ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض فتطهر، فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها قبل أن يمسها، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء. وإياكم والحمق في الطلاق، فلا تطلقوا أكثر من واحدة ولا تطلقوا اثنتين ولا تطلقوا ثلاثاً فإن ذلك خلاف الشرع، وإنه ليجب على الذين يكتبون الطلاق أن يكون عندهم علم من الشرع، وأن يتمشوا في كتابة الطلاق على الوجه الشرعي ويرشدوا الناس إلى ذلك. وإذا طلق الرجل امرأته طلاقاً له فيه رجعة(/3)
فإنه يجب أن تبقى المرأة في بيته حتى تنتهي عدتها، ولها أن تتزين له وأن تكلمه وأن لا تحتجب منه لأنها في حكم الزوجات.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم قال الله تعالى {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لاَ تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} [الطلاق:1].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم... إلخ.(/4)
العنوان: نماذج من محظورات الإحرام
رقم المقالة: 715
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحمد لله العظيم القهار القوي القدير الجبار فرض الفرائض، وحد الحدود، وربك يخلق ما يشاء، ويختار أمر بتعظيم شعائره، وجعل ذلك من تقوى القلوب، ورتب على ذلك الفوز بالمحبوب والنجاة من المرهوب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له المطلع على الظواهر والبواطن، وهو علام الغيوب، وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله المصطفى، وخليله المجتبى صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان، وسلم تسليماً.(/1)
أما بعد أيها الناس: اتقوا الله تعالى، وعظموا شعائره، فإن ذلك من تقوى القلوب، ومن يعظم حرمات الله، فهو خير له عند ربه يكفر عنه سيئاته، ويرفع درجاته، وينجيه من كل مكروب ألا وإن من شعائر الله مناسك الحج والعمرة، فعظموها، واحترموها، واجتنبوا محظوراتها لعلكم تفلحون، واعلموا أيها الناس أن من محظورات الإحرام حلق الشعر، أو قصه، أوإزالته بأي مزيل كان، فلا يجوز للمحرم رجلاً كان أو إمرأة أن يزيل شيئاً من شعره، ويجوز له أن يحك رأسه برفق، فإن سقط بذلك شعر من غير قصد، فلا حرج عليه، وإذا كان في عين الإنسان شعر يؤذيه، فلا بأس أن يأخذه بالمنقاش، ومن محظورات الإحرام إزالة الأظفار بتقليم أو قص، فلا يجوز للمحرم أن يقص شيئاً من أظفاره، فإن إنكسر من أظفاره شيء، وآذاه، فلا بأس أن يقص المنكسر الذي يؤذيه خاصة، ولا شيء عليه، ومن محظورات الإحرام الطيب، فلا يجوز للمحرم أن يتطيب لا بثوبه، ولا بدنه، ولا بما يأكل، أو يشرب أما الطيب عند عقد الإحرام قبل أن ينوي الإحرام، فهو سنة للرجال والنساء، ولا يضر بقاؤه بعد الإحرام، ومن محظورات الإحرام الرفث، وهو الجماع، وما يتصل به من مباشرة بشهوة، أو نظر بشهوة، أو تقبيل لشهوة، ونحوها، فلا يجوز للمحرم أن يفعل شيئاً من ذلك، ومن محظورات الإحرام عقد النكاح، فلا يجوز للمحرم عقده لنفسه، ولا لغيره، ومن محظورات الإحرام لبس القفازين، وهما شراب اليدين، فلا يجوز للمحرم أن يلبسهما، وهذه المحظورات عامة للرجال والنساء، وهنا محظورات خاصة، فمنها لبس الثياب والأكوات والمشالح والفنايل والصدرية والشراب والكنادر والسراويل والغتر والطواقي، كل هذه الملبوسات لا يجوز للرجل خاصة إذا أحرم أن يلبسها على صفة ما يلبسها عليه عادة، ومن محظورات الإحرام على الرجل خاصة تغطية رأسه بشيء ملاصق يقصد به الستر مثل الغترة والطاقية وغيرهما ممن يستر به الرأس متصلاً به، فأما الشيء الذي ليس متصلاً به مثل(/2)
الشمسية والخيمة وسقف السيارة، فلا بأس به، وكذلك لا بأس أن يحمل الرجل على رأسه فراشه وعفشه، وإذا خشي المحرم من الضرر ببرد، أو غيره إذا كشف رأسه، فإنه لا بأس أن يغطيه، ولكن يجب عليه أن يفدي، والفدية إما ذبح شاة يفرقها على المساكين، أو صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة فقراء لكل فقير ربع صاع من البر، أو نصف صاع من غيره، ويجوز للمحرم أن يلبس الساعة والسبتة والكمر الذي فيه النفقة والمناظر التي على العين، وأن يشبك رداءه بمشبك، ولا شيء عليه بذلك خصوصاً مع الحاجة أما المحظورات التي تختص بالمرأة، فهي تغطية الوجه، فلا تغطي المحرمة وجهها، إلا أن يمر الرجال قريباً منها، فإنه يجب أن تتغطى عنهم إذا لم يكونوا من محارمها، ويجوز أن تتغطى، ولو مس الغطاء وجهها، وتلبس ما شاءت من الثياب إذا لم يكن فيها تبرج عند من لا يجوز التبرج له، وهنا مسائل أحب أن أنبهكم عليها وهي:
أولاً: أنه يجوز للنساء وللرجال أن يلبسوا بدل الثوب الذي أحرموا به، فإذا أحب الرجل أن يغير إزاره بإزار آخر أو رداءه برداء آخر، فلا بأس، أو كذلك إذا أحبت المرأة أن تلبس غير ثيابها التي أحرمت بها فلا بأس.
ثانيًا: يجوز للمحرم أن يقلع الشجر الأخضر وغير الأخضر إلا إذا كان داخل الأميال، فإنه لا يجوز له قلع الشجر والحشيش، وعلى هذا يجوز قلع الشجر بعرفة، ولا يجوز في منى ومزدلفة؛ لأن عرفة خارج الأميال ومنى ومزدلفة داخل الأميال.
ثالثًا: يجوز للمرأة أن تلبس الشراب والكنادر، ولو كانت عند عقد الإحرام حافية، ولا يجوز للرجل أن يلبس الكنادر والشراب، وإنما يجوز له لبس النعال، ولو كان حافياً عند الإحرام.(/3)
يجوز للمرأة أن تعقد الإحرام وهي حائض، وتغتسل، وتتطيب عند الإحرام كما يفعل الناس، وتحرم بالعمرة، فإذا وصلت بمكة، فإن طهرت قبل الطلوع قضت عمرتها، وحلت من إحرامها، ثم أحرمت بالحج مع الناس، وإن جاء الطلوع قبل أن تطهر، فإنها تنوي بالحج وتكون قارنة، ويحصل لها حج وعمرة، فإذا طافت، وسعت نوت الطواف للحج والعمرة والسعي للحج والعمرة. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَاأُولِي الأَلْبَابِ}.[البقرة:197] بارك الله لي ولكم.. الخ.(/4)
العنوان: نماذج من نعم الله في شهر رمضان
رقم المقالة: 706
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحمد لله المتفضل بالجود والإحسان المنعم على عباده بنعم لا يحصيها العد والحسبان، أنعم علينا بإنزال هذا القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، ونصر نبينا محمداًً - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ببدر، وسماه يوم الفرقان، وأعزه بفتح مكة أم القرى وتطهيرها من الأصنام والأوثان فيا له من عز ارتفع به صرح الإسلام، واندك به بنيان الشرك والطغيان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الرحيم الرحمن، وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على جميع الأديان صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين نصروه، وأعانوه، فنعم الأنصار هم، ونعم الأعوان، وعلى التابعين لهم بإحسان ما توالت الدهور والأزمان، وسلم تسليماً.
أما بعد أيها الناس: اتقوا الله تعالى: واشكروه على ما أنعم به عليكم من نعم وافرة سابغة خصوصاً في هذا الشهر الكريم شهر رمضان، ففيه أنزل الله كتابه المبين رحمة للعالمين، ونورا للمستضيئين، وهدى للمتقين، وعبرة للمعتبرين، كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد فيه خبر ما قبلكم، ونبأ ما بعدكم، وحكم ما بينكم، من تمسك به نجا، ومن طلب الهدى منه اهتدى، ومن أعرض عنه وقع في الهلاك والردى، فبؤساً للمعرضين الهالكين.(/1)
وفي هذا الشهر غزوة بدر الكبرى التي نصر الله فيها عساكر الإيمان وجنود الرحمان، وهزم فيها جنود الشيطان وأنصار الشرك والطغيان، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما بلغه خروج أبي سفيان بعير قريش من الشام، ندب أصحابه إلى تلك العير، فخرجوا في ثلاث مئة وبضعة عشر رجلاً فقط لا يريدون إلا العير لا يريدون عدوهم، ولكن الله بحكمته جمع بينهم على غير ميعاد ليقضي سبحانه ما حكم به، وأراد، فإن أبا سفيان لما علم بخروج النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث صارخاً إلى أهل مكة يستنجدهم ليمنعوا عيرهم، فخرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس، ويصدون عن سبيل الله يقول قائلهم: والله لا نرجع حتى نقدم بدرا، ونقيم فيها ثلاثاً ننحر الجزور، ونطعم الطعام، ونسقى الخمور، وتسمع بنا العرب، فلا يزالون يهابوننا أبداً قالوا هذا، ولكن الله بما يعملون محيط، وعلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأنصاره حفيظ، فأوحى الله إلى ملائكته: {أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال:12،13]. فقيض الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من أسباب النصر ما به انتصروا، ولأعدائه وحربه كسروا، فقتلوا من صناديد قريش وفريقاً أسروا، ورجع فل قريش مهزومين موتورين خائبين، فلله الحمد رب السماوات والأرض رب العالمين.(/2)
وفي هذا الشهر المبارك فتح الله مكة البلد الأمين على يد خليله ونبيه محمد أفضل النبيين، وطهرها من الأصنام والمشركين، وذلك هو الفتح الذي استبشر به أهل السماء، وضربت أطناب عزه على مناكب الجوزاء، ودخل به الناس في دين الله أفواجاً، وأشرق به وجه الأرض ضياء وابتهاجاً، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج في عشرة آلاف من أصحابه لعشر مضين من رمضان في السنة الثامنة من الهجرة يريد غزو قريش حين نقضوا صلح الحديبية، فدخل مكة مؤزراً منصوراً على إحدى مجنبتيه حواريه الزبير بن العوام، وعلى الآخرى سيف الله خالد بن الوليد، فدخلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاضعاً لربه مطأطئاً رأسه تواضعاً، وتعظيما لله رب العالمين، وركزت رايته بالحجون، ثم نهض وأصحابه المهاجرون والأنصار بين يديه، وخلفه، وعن يمينه، وشماله رضي الله عنهم، فطاف بالبيت، وكان على البيت وحوله ثلاث مئة وستون صنماً، فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يطعنها بقوس في يده، ويقول: " جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا". فلما أكمل طوافه دخل الكعبة، فرأى فيها الصور، فأمر بها، فمحيت، ثم أخذ بباب الكعبة وقريش تحته ينتظرون ماذا يصنع، ثم قال: ((لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ثم قال: يا معشر قريش ما ترون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيراً أخ كريم، وابن أخ كريم، قال: فإني أقول لكم: كما قال يوسف لإخوته: لا تثريب عليكم اليوم، اذهبوا فأنتم الطلقاء)).
وفي هذا الشهر المبارك أنعم الله على عباده بفرض الصيام، وجعله أحد أركان الإسلام، وجعل ثواب من صامه إيماناً وإحتساباً أن يكفر عنه ما تقدم من الآثام.(/3)
وفي هذا الشهر المبارك أنعم الله على العباد بمشروعية القيام، فمن قامه إيماناً وإحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة. وفي هذا الشهر المبارك أنعم الله على هذه الأمة بليلة القدر التي هي خير من ألف شهر من قامها إيماناً واحتساباً غفر الله له ما تقدم من ذنبه.
وبركات هذا الشهر كثيرة وفيرة، فاحمدوا الله على ما أنعم به عليكم فيه، وإياكم أن تضيعوا فرص أيامه ولياليه، فلو علمتم ما فيها لتمنيتم أن يكون السنة كلها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم قال الله تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ}[البقرة:152].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.(/4)
العنوان: نهاية الأمم
رقم المقالة: 315
صاحب المقالة: عدنان الطرشة
-----------------------------------------
تعريف موجز بالكتاب:
لقد قص الله - عزَّ وجلَّ - في التوراة والإنجيل والقرآن قصص الأمم السابقة، وأمر نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم والمسلمين أن يقصوا القصص. وليس الغرض من ذلك هو الثقافة أو الترويح والتسلية، وإنما الغرض منه أن يتأمل الناس ويتفكروا في مصائر الأمم السابقة، كيف كانت نهاية كل أمة وكل دولة حاربت المؤمنين، أتباع رسول الله في ذلك الزمان. وأن يعلموا أن هذه هي سنة الله على الدوام مع حزب الرحمن وحزب الشيطان؛ ليتبين بعدها مَن من الفريقين هم المؤمنون وأهل الخير، ومَن هم الكافرون وأهل الشر؛ لعل الناس الخالفين لهم يحذرون أن يكونوا من حزب الشيطان؛ حتى لا ينالوا العقاب نفسه ويكونوا من الخاسرين. ويحرصون على أن يكونوا من حزب الرحمن لينالوا النجاة ويكونوا من المفلحين...!.
وهذا الكتاب ((نهاية الأمم))؛ فيه قصص نهاية الأمم والدول السابقة، وكذلك قصص نهاية الأمم والدول اللاحقة في المستقبل، يقدمه المؤلف عبرةً وذكرى لجميع الأمم والدول؛ المسلمة وغير المسلمة، للاعتبار بنهاية كل أمة أو دولة تشرك بالله أو تكفر به، أو تحارب دين الله أو أولياءه، أو تقتل المؤمنين بالله المسلمين له. وكذلك ليأخذ المسلمون العبرة من الحالة التي يكون فيها شأنهم ومصيرهم إذا تركوا دينهم وأقبلوا على الدنيا.
لقد كثر الحديث عن قوى الخير وقوى الشر، وسوف يستمر إلى آخر الزمان؛ وقد أبان هذا الكتاب، بل كشف كل فصل فيه، عمن هم قوى الخير الحقيقية، وعمن هم قوى الشر الحقيقية.
فلعل وعسى أن يستفيد من هذا الكتاب أمة أو قوم أو دولة أو جماعة أو حتى أفراد في الحاضر أو المستقبل، فيتركوا طرق الضلال والباطل المعوجة الشريرة المؤدية إلى جهنم وبئس المصير، ويسيروا في طريق الهدى والحق المستقيم المؤدي إلى جنات النعيم.(/1)
العنوان: نوازل الحج
رقم المقالة: 1695
صاحب المقالة: الدكتور عبدالله بن حمد السكاكر
-----------------------------------------
نوازل الحج
المقدمة:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد إلا اله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة: حديثنا في هذه المجالس عن بعضِ النوازل في الحج، وقبل أن نبدأ الحديث في النازلة الأولى من النوازل، أُحبُّ أن أنبِّه على أمرين:(/1)
الأمر الأول: هو أن النازلة في اصطلاح أهل العلم، هي القضية الفقهية الحادثة، التي لم تكن فيما سبق، بحيث إنها تحتاج إلى اجتهاد جديد، ونظر جديد، وإعمال ذهن، وتبيين لحُكْم الله - سبحانه وتعالى – فيها، وبموجب هذا التعريف للنازلة، فإن ما سأطرحه في المجالس ليس بالضرورة مما ينطبق علية هذا التعريف، فإن ثمة مسائل ليست من النوازل؛ ولكنها تحتاج إلى إعادة نظر، وتحتاج إلى إعادة بحث، وتحتاج إلى اجتهاد وَفْقَ ما استجد في هذه الأزمنة، فأنتم تعرفون أحوال الناس في الحج والمناسك والمشاعر قبل مائة سنة ومائتي سنة، وأحوال الناس في الحج في هذه الأيام، فما حصل من أحوال وظروف ومتغيرات، وسهولة في وسائل الاتصال ووسائل النقل، وما وسَّع الله - سبحانه وتعالى - به من الخيرات، جعل الأعداد التي تتدفق لهذا البيت الحرام أعدادًا يَضِيق عن استيعابها المسجدُ الحرام، والحَرَمُ، والمشاعر المقدسة، والمناسك؛ ولهذا كان لزامًا أن يُعاد بحث هذه المسائل وَفْق هذه الظروف الجديدة، ولهذا قد يقول قائل: هذه ليست بنازلة؛ هذه موجودة في كتب الفقه قبل ألف سنة! أقول: نعم؛ لكنها بحثت في زمن، ونحن الآن في زمن آخر، وظروف أخرى، وأحوال مستجدة؛ فتحتاج إلى إعادة نظر، وإلى تمعُّن، وأنتم تعرفون على مدى ثلاثين أو أربعين سنة أن أهل العلم تغيَّرت اجتهاداتُهم في مسائل فقهية، عما كانوا قبل مائة سنة أو ستين أو سبعين سنة، فهذا التغير هو بسبب هذه الظروف، وما سنبحثه من المسائل ربما يكون مثل هذه المسائل، تحتاج إلى نظر جديد وَفْق الظروف الجديدة.(/2)
أما الأمر الثاني - أيها الأخوة – فهو: أن المسائل التي تُعَدُّ من النوازل والوقائع الجديدة ليست من السهولة بمكان، بحيث أن أحد طلاب العلم يجلس فيها وينبري للإفتاء فيها والقطع، وبيان حُكْم الله - سبحانه وتعالى - والتوقيع عنه بمفرده! لا.. المسائل الجديدة تحتاج إلى إعمال نظر، وإلى جهد من عدد كبير من طلاب العلم، ومن العلماء ومن الفقهاء للنظر فيها، والإنسان لا شك قليل بنفسه، كثير بإخوانه وبأهل العلم، وربما يخفى على العالم الكبير شيء، يورده عليه أحد طلابه، وهذا معروف. ولهذا فإني أقول إن ما سنبحثه - إن شاء الله تعالى - في هذه المجالس إنما هو من المباحثات، ومِن طرح المسائل العلمية بين طلاب العلم وأهل العلم، وتداول النظر فيها والاجتهاد، ولا نزعم أن هذا إفتاء وقطعُ رأيٍ فيها؛ ولكننا ندلي فيها بدلونا، وأهل العلم في كل مكان يبحثونها، والمجامع الفقهية تبحث، وهيئة كبار العلماء تبحث، وطلبة العلم والأساتذة في الجامعات كلهم يشتغلون ويبحثون، وفي النهاية تتبين هذه النازلة، ويظهر فيها حُكْم الله - سبحانه وتعالى - الذي يوقع عنه، عز وجل.
بعد هذه المقدمة نبدأ بالنازلة الأولى من هذه النوازل، وهي:
النازلة الأولى: العجز عن الحصول على تصريح الحج:(/3)
أنتم تعرفون - أيها الإخوة - أن المشاعر المقدسة لها طاقة استيعابية محدودة، وأنتم تشاهدون الآن مِنًى قد استغلت بالكامل، ومزدلفة في ليلة جَمْعٍ تمتلئ بالكامل، وعرفات ليست منها ببعيد، والمسجد الحرام في يوم الثاني عشر والثالث عشر لا يحتمل المزيد، ومن أجل ذلك نظر الفقهاء والعلماء وولاة الأمر في تحديد نسب الحجيج في كل بلد إسلامي، وإلا فإن الذين يرغبون في تأدية الحج أضعافُ هذه الأعداد عشرات المرات، وكل الناس تهفو نفسه للوصول إلى بيت الله الحرام، والوفود على الله عز وجل، والطواف في بيته؛ ولكن هذه هي طاقة هذه المشاعر وتلك الأماكن، ومن رحمة الله - سبحانه وتعالى - أن هذا النسك، وهذه الشعيرة، وهذه الفريضة، أن الله - سبحانه وتعالى - ربطها بالاستطاعة فقال – عز وجل -: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران: 97]، فهذا الركن وهذه الشعيرة إنما هي فيمن يطيق ويستطيع، فأنتم تعرفون في البلاد الإسلامية أنها حددت نسبة، بنظر أهل العلم، وبنظر أهل الحل والعقد والرأي، نسبة معينة من كل بلد إسلامي، فمثلاً إذا قلنا إن النسبة واحد بالمائة، وكنت أنت مثلاً في مصر أو في نيجيريا أو في أندونيسيا أو في الباكستان أو في غيرها، وترغب في الحج، وعندك القدرة المالية والبدنية على حج بيت الله الحرام؛ ولكنك حينما تقدمت لطلب الحج فوجئت بأن التصريح لا يمكن أن يصل إليك؛ إلا بعد عشر سنوات أو عشرين سنة! فحينئذ ماذا نقول بالنسبة لك: هل أنت معذور أمام الله - عز وجل - بحيث أن الإنسان لو مات، ولم يحج بسبب عدم حصوله على التصريح، أنه لا يسأل أمام الله - عز وجل - ولا يجب أن يُحجَّ عنه مِن تَرِكَتِه وماله؟ أم أنه مؤاخذ ويجب أن يُحجَّ عنه من ماله وتركته؟ هذه هي المسائلة التي بين أيدينا، هذه المسألة والتصريح كما تعرفون أنها حادثة، وليست قديمة. لكن أهل العلم قبل ذلك بحثوا مسألة نظيرة هذه(/4)
المسألة. النظيرة هي: "تخلية الطريق"، فقد بحث أهل العلم في شروط وجوب الحج مسألةَ تخلية الطريق؛ هل هي شرط في وجوب الحج أم شرط للزوم أداء الحج؟
ومعنى تخلية الطريق، يعني أن الطريق إلى بيت الله الحرام يكون متاحًا مفتوحًا سائغًا، ليس هناك عدو يمنع، أو سلطان يحول بين الإنسان وبين بيت الله الحرام، هذا هو المقصود بتخلية الطريق، فعدم الحصول على التصريح لا شك أنه من عدم تخلية الطريق، فالطريق لم تكن خالية لمن لم يكن معه تصريح، فإذا لم يكن معك تصريح لن تستطيع أن تسجل في الحج، ولن تستطيع أن تركب الطائرة، ولن تستطيع أن تدخل إلى المشاعر المقدسة، ولا إلى هذه البلاد، فأهل العلم اختلفوا في مسألة تخلية الطريق على قولين:
فمن أهل العلم مَن قال: إن تخلية الطريق شرط لوجوب الحج. فما لم يكن الطريق خاليًا من الموانع والأعداء الذين يمنعون؛ فإن الحج لا يجب على هذا الإنسان، ولو وجد مالاً، ولو كان صحيحًا سليمًا معافًى، فإذا كان الطريق غير مخلى، ولم يحصل الإنسان على تصريح؛ فإنه عاجز عن الحج، ولذلك يقولون إن الحج غير واجب عليه؛ هذا هو القول الأول.
القول الثاني من أقوال أهل العلم، يقولون: إن تخلية الطريق ليست شرطًا في وجوب الحج؛ لكنها شرط في لزوم الأداء؛ بمعنى أن الإنسان إذا كان قادرًا ماليًّا وبدنيًّا؛ فإن الحج يجب عليه؛ لكن لا يجب عليه الأداء في الحال، حتى يخلى بينه وبين الطريق ويستطيع.(/5)
والفرق بين القولين - يا إخوة - هو أن القول الأول، الذي يقول إن تخلية الطريق شرط لوجوب الحج، يقول: إذا مات فإنه لا يُحج عنه من تركَتِه، ولا يسأله اللهُ - سبحانه وتعالى - عن ذلك؛ لأن الله - عز وجل – قال: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران: 97]، هذا الذي لم يُخَلَّ بينه وبين الطريق، ومُنع من الإتيان إلى المشاعر المقدسة، وإلى بيت الله الحرام، ولم يستطع الحصول على التصريح. هل استطاع إلى بيت الله الحرام سبيلاً؟ ما استطاع إلى بيت الله الحرام سبيلاً؛ ولهذا لا يجب عليه الحج، وإذا مات على هذه الحال، فإنه لا يُقضى عنه ولا يُحجج عنه مِن تَرِكَتِه.
أما الذين يقولون إنه شرط للأداء، فإنهم يقولون: إنه لا يأثم؛ ولكن الحج يبقى في ذمته، فإذا مات يُخرَج من تركته، ويُدفع لمن يحج عنه. فإذا مات يُحجج عنه مِن تركته؛ لأن الحج وجب عليه؛ لكن سقط عنه الأداء في الحال؛ لعدم القدرة على الوصول إلى بيت الله الحرام.
الذين قالوا إن الحج من شروط وجوبه تخليةُ الطريق، هؤلاء استدلوا بظاهر قول الله - سبحانه وتعالى -: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران: 97]، وقالوا هذا لم يستطع إلى بيت الله الحرام سبيلاً؛ وبالتالي فإنه عاجز، فلا يجب عليه الحج.(/6)
والذين قالوا إنه شرط للأداء، وإذا مات على هذه الحال يُحج عنه مِن تركته، استدلوا على ما يقولون بأنه لما نزل قول الله - سبحانه وتعالى -: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران: 97]، قال رجل: "يا رسول الله ما السبيل؟" - يعني ما السبيل في قول الله - عز وجل -: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} - قال - صلى الله علية وسلم -: ((الزاد والراحلة)). فهؤلاء يقولون: شروط الوجوب هي الزاد والراحلة، فإذا وُجدتْ وَجَبَ الحج، وما عدا ذلك فهي شروط أداء، فإذا مات ولم توجد، فإنه يُخرَج عنه مِن تركته. ولكن هذا القول يمكن مناقشة دليله، فإن هذا الحديث رواه الترمذي في جامعه، وابن ماجه، وهو حديث ضعيف عند أكثر أهل العلم بالحديث، هذا الحديث ضعيف، وممن ضعفه الحافظ الزيلعي، وابن حجر، والبيهقي، والألباني - رحمة الله تعالى عليهم جميعًا - بل إن الألباني _ رحمه الله تعالى _ قال: إن هذا الحديث ليس بحسن، ولا ضعيف ضعفًا يَنْجَبِر؛ وإنما هو ضعيف جدًّا. وبالتالي فالاستدلال به لا يستقيم، وإنما هو من الآثار المروية عن بعض التابعين؛ كالحسن وغيره، وإذا كان كذلك فإنه لا حجة فيه، وبناء على هذا فالراجح - إن شاء الله تعالى - هو القول الأول: بأن تصريح الحج شرط في وجوب الحج، وبناء على هذا الترجيح، الذي اختاره العلامة الشيخ عبدالعزيز بن باز - رحمة الله تعالى عليه - والعلامة الشيخ محمد العثيمين - رحمة الله تعالى عليه - بناء على هذا الترجيح فإننا نقول لعموم إخواننا المسلمين، الذين تهفو نفوسهم، وتتعلق أفئدتهم بهذا البيت العتيق، ويجدون الزاد والراحلة؛ ولكنهم لا يستطيعون الحصول على التصريح، نقول لهم: إن الله - سبحانه وتعالى - قد عذركم، ولم يوجب عليكم الحج، فمن حصل على التصريح بعد ذلك؛ وجب عليه الحج، ومن مات قبل أن يحصل على التصريح؛ فإنه(/7)
غير آثم عند الله - سبحانه وتعالى - وغير مسؤول عن ذلك، والله - عز وجل - أرحم مِن أن يكلف عباده ما لا يستطيعون.
النازلة الثانية: هل جدة ميقات:
أو لا؟وهذه المسألة قد تكون نازلة باعتبار أن جدة لم تكن على عهد النبي - صلى الله علية وسلم - كما هي الآن مدينة مأهولة وعامرة، وباعتبار أيضًا أن الناس إلى عهد قريب كان كثير منهم يأتي إلى الحج عن طريق البر، وحتى الذين يأتون عن طريق البحر، كانوا ربما ينزلون عن طريق "ينبع"، أو عن طريق الشعيبة، وهذه كلها لا إشكال، فالذي يأتي مِن ينبع يُحرِم من ذي الحُلَيْفة، أو من الجُحْفَة، والذي يأتي من الشعيبة يُحرِم من يَلَمْلَم. أما في هذه الأزمنة، فأنتم تعرفون أن أكثر من نصف الحجاج يأتي عن طريق جدة، إما عن طريق الطيران، أو عن طريق البحر، فبالنسبة إلى هؤلاء، هل نقول لهم: إن جدة ميقات بحيث إن الواحد منهم لا يُحرِم حتى يصل إلى جدة وينزل فيها، ثم بعد ذلك يُحرِم؟ أم نقول: إن الإحرام واجب عليهم قبل أن يصلوا إلى جدة؟
قبل أن نبحث هذه المسألة، يَحسُن بنا أن نحرر محل النزاع؛ حتى نعرف ما هو متفق علية، وما هو مختلف فيه من هذه المسألة. فنقول: إن أهل العلم أجمعوا على أن أهل جدة، والمقيمين في جدة، وحتى الطارئين على جدة؛ لكنهم ما أنشؤوا نية النسك من حجٍ أو عمرة إلا وهم في جدة، أن هؤلاء جدة بالنسبة لهم ميقات، فأهل جدة مثلاً إذا أراد الواحد منهم أن يعتمر، فبإجماع أهل العلم أنه يُحرِم من بيته في جدة، وحتى القادمين عليها من الآفاق. افترض أن إنسانًا من مصر وضيفته في جدة، فسكن جدة؛ فإنه إذا أراد أن يعتمر أو يحج يُحرِم من جدة. هذا يإجماع أهل العلم، حتى غير المقيم فيها إذا جاء إليها، ثم أنشأ النية في جدة؛ فإن ميقاته جدة بإجماع أهل العلم. إذًا هؤلاء لا يدخلون في محل النزاع، فجدة بالنسبة لهم ميقات بالإجماع.(/8)
إذًا محل النزاع الذي نريد أن نبحثه - أيها الإخوة - هو من يأتي إلى جدة، وهو في نيته أن يحج أو يعتمر قبل أن يصل إلى جدة؛ كمن يسافر مثلاً مِن بريدة إلى جدة وهو ينوي الحج أو العمرة، أو يأتي من مصر، أو يأتي من العراق، أو من الباكستان، أو من المغرب، أو من أي بلد، يأتي إلى جدة، وهو من حين أنشأ السفر ينوي الإحرام بالحج أو العمرة، فهذا مِن أين يُحرِم؟ وهل تعد جدة بالنسبة له ميقاتًا أو لا؟
الذي يأتي إلى جدة وهو في نيته الإحرام، إذا مر فوق أحد المواقيت؛ كأن يمر فوق قَرْنِ المَنَازِل أو السيل الكبير الآن، أو فوق ذي الحليفة، أو فوق الجحفة، أو فوق يلملم، فإذا أحرم فوق الميقات، أو من محاذاة الميقات الذي يمر عليه، فهذا لا شك أنه أبرأ لذمته وأسلم له؛ لأنه يكون قد خرج من الخلاف.
الذي يمر على ميقات من المواقيت، في الجو أو في البر أو في البحر، فيحرم من الميقات الذي يمر عليه قبل أن يصل إلى جدة، فإن هذا يخرج من خلاف أهل العلم، ومن النزاع، ويسلم من التأثُّم على قول بعض أهل العلم. لكن نأتي إلى أحد رجلين: إما شخص يأتي إلى جدة ولم يمر بميقات من المواقيت، ولا بما يحاذيه، أو أنه مرَّ بميقات؛ ولكنه أراد أن يحرم من جدة. افترض أن إنسانًا خرج من عندنا، من هنا من بريدة، وهو يريد أن يذهب إلى العمرة، وقال أنا أريد أن أحرم من جدة، فهل يجوز لي ذلك أم لا يجوز؟ هذه هي مسألتنا فهذا بالتأكيد أنه سيمر فوق ذي الحليفة، أو قرن المنازل، أو الجحفة؛ لكنه يريد أن لا يحرم إلا من جدة. فهل يجوز له أن يحرم من جدة أم لا؟ أهل العلم اختلفوا في هذه المسألة على أربعة أقوال:(/9)
* القول الأول: قالوا إن جدة ليست ميقاتًا لأحد. ليست ميقاتًا إلا لمن ذكرناهم في المسألة المُجمَع عليها قبل ذلك، وهم أهلها والمقيمون فيها، أو مَن لم ينوِ العمرة أو الحج إلا فيها. أما القادم عليها بنيَّة العمرة، فإنها ليست ميقاتًا له، وبالتالي فإن مَن تجاوز الميقات قبل أن يحرم؛ فإنه آثم، وهل عليه فدية أو لا؟ هذه مسألة خلافية بين أهل العلم، واستدلوا بأن جدة لم يوقِّتْها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليست محاذية لأقرب المواقيت إليها؛ فإن يَلَمْلَمَ أقرب المواقيت إليها، ويلملم تبعد عن مكة أكثر من تسعين كيلو متر، وجدة لا تبعد أكثر من سبعين كيلو متر.
* القول الثاني: قالوا إن جدة ميقات لمن يأتي من جهة الغرب عنها، وهم الذين يأتون من شمال السودان، أو من جنوب مصر، فهؤلاء الذين يأتون من هذا الاتجاه؛ يعني من جهة الغرب لا يمرون بميقات من المواقيت، وبالتالي فإن جدة تعتبر ميقاتًا لهم، أما من عدا هؤلاء فليست ميقاتًا له، وبالتالي إذا تجاوز الميقات ولم يحرم منه؛ فإنه آثم.
* القول الثالث: قالوا إن جدة ميقات لمن قَدِمَ إليها عن طريق الجو أو عن طريق البحر، أما من جاء عن طريق البر فليست ميقاتًا له؛ وإنما ميقاته ما قبلها من المواقيت، أما الذي يأتي من البحر أو من الجو فجدة تعتبر ميقاتًا له. هذا هو القول الثالث في هذه المسألة، وحُجة أصحابه أن جدة ليست محاذية؛ ولكن لمشقة إحرام الناس في الطائرة والباخرة، ولأن الحرج مرفوع؛ فيجوز لهم الإحرام من جدة.(/10)
* القول الرابع: يقول إن جدة ميقات فرعيٌّ لكل مَن أتى إليها من الجو أو البحر أو حتى من البر، فهي ميقات فرعي، وحينما نقول ميقات فرعي؛ لأن المواقيت التي وقَّتها النبي - صلى الله عليه وسلم - معروفة، أربعة، وزاد عمر - رضي الله عنه – خامسًا، وما عدا ذلك فهو ميقات فرعي، كما سنبيِّنه الآن. هذا هو القول الرابع في هذه المسألة، وهو أوسع هذه الأقوال، أن جدة ميقات لكل مَن أتى إليها. لو أردنا - أيها الإخوة - أن نستعرض أدلةَ كلِّ قولٍ من هذه الأقوال، لطال بنا المقام واتسع، ولكننا سننظر في هذه المسألة باعتبار أن ملايين من المسلمين يأتون إلى جدة عن طريق البحر، أو عن طريق الجو، وهؤلاء منهم الجاهل، ومنهم من له أحد يفتيه، ومنهم من لم يعلم حتى وصل. فهؤلاء إذا جاؤوا إلى جدة وأحرَمُوا منها، أو قيل لهم لا تحرِمُوا إلا من جدة، أو وصلوا إلى جدة وقيل لهم ليست ميقاتًا، أو نحو ذلك. هؤلاء ما حُكْمهم؟ الذين يقولون بأن جدة ميقات لكل من أتى إليها عن طريق البر أو البحر أو الجو، هؤلاء قالوا إن جدة تعتبر محاذية لميقات يلملم، وإذا كانت محاذية لهذا الميقات فإنها تكون ميقاتًا فرعيًّا، فمَن أتى إليها فإنها ميقاته؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((هن لهن، ولمن أتى عليهن من غير أهلهن))، فمن أتى عليها من غير أهلها أصبحت ميقاتًا له، وقبل أن نتبين هل جدة فعلاً محاذية ليلملم؟ نتبين بعض الأمور: أولها ما معنى المحاذاة؟ المحاذاة: هي التي وردت في حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في صحيح البخاري، فإن أهل العراق، لما فتح العراق، جاؤوا إلى عمر- رضي الله عنه – فقالوا: "يا أمير المؤمنين، إن قرنًا جور عن طريقنا - يعني قرن المنازل، الذي هو السيل الكبير الآن بعيد عن طريقنا، ويشق علينا - وإن ذهبنا إليه شق علينا"، فقال عمر - رضي الله تعالى عنه -: "انظروا حذوه من طريقكم - يعني انظروا ما يحاذي قرن المنازل من طريقكم –"، ثم(/11)
وقَّت لهم - رضي الله تعالى عنه - ذات عِرْقٍ. وذات عرق تقع تقريبًا إلى جهة الشمال من قرن المنازل على طريق الحاج العراقي قديمًا. أخذ من ذلك أهلُ العلم أن كل إنسان يأتي إلى الحرم من طريق، لا تمر بإحدى النقاط التي وقَّتها الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهي ذو الحليفة والجحفة ويلملم وقرن المنازل، أن كل من أتى من غير هذه الطرق، أنه يحرم إذا حاذى أقرب هذه المواقيت.
فما معنى المحاذاة؟ كثير من الناس يتبادر إلى ذهنه أن المحاذاة هي أن الإنسان يخط خطوطًا بين المواقيت الأربعة، ثم إذا وصل إلى هذا الخط يعتبر محاذيًا للميقات الذي يليه، ويكون هذا محل إحرامه؛ والحقيقة أن المحاذاة ليست بهذا المفهوم، فالمحاذاة عند عامة أهل العلم هي أن الإنسان إذا أتى من طريق، لا يمر على ميقات من المواقيت التي وقَّتها الرسول - صلى الله عليه وسلم - فإنه ينظر إلى أقرب ميقات من المواقيت التي وقَّتها الرسول - صلى الله علية وسلم - إليه، فإذا كان مثلاً أقربها ذا الحليفة ينتقل إلى الخطوة التالية، وهي أنه ينظر كم المسافة بين الميقات القريب، وهو ذو الحليفة، وبين الحرم؟ فإذا كان في نقطة بينه وبين الحرم مثلها، فإن هذا هو ميقاته، فإذا قلنا مثلاً إن ذا الحليفة بينه وبين مكة أربعمائة كيلو متر، فجاء إنسان مثلاً من جهة مهد الذهب، قلنا أقرب المواقيت إليك ما هو؟ قال أقرب المواقيت إليَّ هو ذو الحليفة، نقول له انظر إذا كنت في نقطة بينك وبين مكة أربعمائة كيلو، فهذا هو ميقاتك، هذا هو معنى المحاذاة. المحاذاة - كما قلت لكم - أن تنظر إلى أقرب المواقيت الأصلية، التي وقَّتها النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث إليك، فتنظر المسافة بين هذا الميقات وبين مكة، فإذا كنت أنت في مكان، بينك وبين مكة مثلُ المسافة التي بين هذا الميقات وبين مكة، فأنت حينئذ في المحاذاة، فلو نظرت مثلاً إلى ذات عرق لوجدت أن المسافةَ التي بينها وبين قرن المنازل أقربُ(/12)
من المسافة التي بينها وبين ذي الحليفة، إذًا هي محاذية لقرن المنازل. ثم تنظر المسافة بين قرن المنازل ومكة، هي المسافة نفسها التي بين ذات عرق وبين مكة، هذا معنى المحاذاة.
نرجع الآن إلى جدة. فنقول العملية الأولى: ما هي أقرب المواقيت إلى جدة؟ جدة بين ميقاتين بين الجحفة وبين يلملم. الجحفة ميقات أهل الشام ومصر، ويلملم ميقات أهل اليمن. فجدة بين هذين الميقاتين؛ لكنها كما هو معروف أقرب إلى يلملم، وإذًا إذا أردنا أن ننظر هل تكون جدة محاذية ليلملم؟ نقول يجب أن ننظر كم المسافة التي تكون بين يلملم وبين مكة؟ فإذا كانت المسافة بين جدة وبين مكة هي نفس المسافة، قلنا أن جدة ميقات. يلملم في موقع الميقات الموجود الآن الذي يسمى السعدية، أو الذي على طريق الساحل، المسافة بينه وبين الحرم مسافة كبيرة، المسافة بحدود ستة وتسعين كيلو متر (96 كم)، وجدة بينها وبين مكة ما يصل إلى ستين (60) أو خمسة وستين كيلو متر (65 كم)، إذًا كيف قال أصحاب هذا القول إن جدة ميقات، وأنها محاذية ليلملم؟! أقول لكم أولاً ما هي يلملم؟ ثبت كما في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقَّت لأهل اليمن يلملم، فما هي يلملم؟ اختلف أهل العلم في يلملم. قد رجعتُ إلى كثير من كتب البلدان والأماكن والبقاع واللغة، فوجدت أن مِن أهل اللغة مَن يقول إن يلملم جبل، ومنهم من يقول إنها وادٍ. والذي يظهر لي - والله سبحانه وتعالى أعلم - أن يلملم جبل ووادٍ جميعًا، ولهذا تجد بعض أهل العلم يقول إنها جبل، وبعضهم يقول إنها وادٍ، والذين قالوا إنها وادٍ كثيرون من أهل العلم، فقد ذُكِر ذلك في "معجم البلدان" وفي كتاب أُلِّف حديثًا، تكلم عن المواقع التي وردت في السيرة، كلهم قالوا يلملم عبارة عن وادٍ، فإذا نظرنا إلى هذا الوادي الذي هو يلملم، نجد أن هذا الوادي تمتد أصوله وأعاليه من أعلى جبال تهامة، أعلى جبال السروات، فهو في أعلاه يكون تقريبًا على شكل سبعة،(/13)
له أصلان أحدهما ينحدر تقريبًا من منطقة الشفا بالطائف.
والثاني يقع شمالاً عنه بحدود عشرة كيلو مترات في بلاد هذيل، ثم ينزل هذا الوادي، ثم يجتمع هذان الواديان في وادٍ واحد، فيمر في يلملم التي كانت ميقاتًا عصورًا طويلة، ثم تقريبًا بحدود الأربع مائة والألف هجرية خرج طريق الساحل مما يلي الليث والشعيبة تقريبًا، وكان قريبًا من الساحل، فنُقِل الميقات أو انتقل الناس وبدؤوا يُحرِمون من مسجدٍ أقيم على هذا الطريق في أسفل هذا الوادي. الوادي هذا ينطلق تقريبًا من الشمال الشرقي ويتجه إلى الجنوب الغربي بهذا الشكل، ولهذا حتى الذين نقلوا الميقات من موقعه الأول إلى موقعه الجديد على الطريق الساحلي نظروا إلى الوادي، فإنك لو تأملت الميقات الجديد وجدته أبعد من الميقات القديم، فلو كان في المحاذاة لوضعوه في موضعٍ تكون المسافة واحدة، لكنهم نظروا إلى الوادي، فالوادي ينزل حتى يقطع الطريق الجديد طريق الساحل، فجعلوا الميقات على تقاطع طريق الساحل مع هذا الوادي. وهذا الوادي ممتد؛ كأن النبي النبي - صلى الله عليه وسلم - جعله ميقاتًا لكل مَن أتى من أهل اليمن عن طريق تهامة؛ إن أتى من أسفل فهو من طريق الساحل الآن، أو من أعلى فمن الذي كان الناس يحرمون منه سابقًا، ومن أتى من أعلى فإنه يحرم من أصول هذا الوادي ومن أعاليه. فهذا الوادي الذي هو يلملم لا شك أنه أقرب المواقيت إلى جدة، فإذا نظرنا إلى أعالي هذا الوادي - كما قلت لكم - أعلى هذا الوادي واديان؛ أحدهما قريب من منطقة الشفا بالطائف، وهذه المنطقة التي هي طرف الوادي من هنا، بينها وبين مكة بحدود ستين كيلو متر(60 كم)، وإذا أتينا إلى الفرع الشمالي منه الذي في بلاد هذيل، فإن المسافة بينه وبين الحرم لا تزيد على خمسين كيلو متر(50 كم)، فأهل العلم الذين قالوا بأن جدة ميقات، وأنها محاذية ليلملم، نظروا إلى أقرب نقطة من يلملم وقاسوا المسافة بينها وبين الحرم، ثم نظروا إلى(/14)
المسافة بين جدة وبين الحرم، فوجدُوا أن المسافتين متساويتان؛ بل إن أوسط جدة وغرب جدة أبعد من أصول و أعالي وادي يلملم عن الحرم، وبناء على ذلك قالوا إنها تُعَدُّ محاذية ليلملم، وبالتالي فإنها ميقات من المواقيت. إذا قلنا إنها ميقات من المواقيت، وهذا القول هو الذي يظهر لي - والعلم عند الله سبحانه وتعالى - أنها ميقات فرعي؛ لمحاذاتها لوادي يلملم في أعاليه. فننتقل إلى مسألتين هما آخر المسألة.
* المسألة الأولى هي: إذا قلنا إن جدة ميقات فرعي، فالذي يأتي من جهة البحر مثلاً من السودان أو من مصر أو نحو ذلك، يأتي إلى جدة، هذا لا إشكال فيه؛ لأن هذا الميقات هو أول ميقات يصل إليه، فحينئذ يُحرِم منه، ولا خلاف بين مَن يقول هذا القول في أنه قد أحرم من الميقات، وأنه ليس عليه شيء أمام الله - سبحانه وتعالى - وأنه أحرم من الميقات الفرعي المقيس على الميقات الذي وقَّته رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لكن الإشكال هو في أمثالنا مثلاً، من يأتي مثلاً من القصيم أو من الرياض أو من الشام أو من اليمن، فيأتي عن طريق الطائرة مثلاً أو عن طريق السيارة، فيتجاوز قرن المنازل ويذهب إلى جدة، أو يتجاوز ذا الحليفة أو يتجاوز الجحفة ويذهب إلى جدة، ويقول لن أحرِم إلا من جدة، فما حكم هذا؟ أهل العلم يبحثون هذه المسألة في مسألة حُكْم تجاوز الميقات إلى ميقات آخر. يعني افترض أنك أنت مِن أهل المدينة، وأردت أن تعتمر، وقلت لن أحرم من ذي الحليفة ميقات أهل المدينة، وسأذهب إلى الجحفة فتعتمر من هناك، ما حكم هذا عند أهل العلم؟ المسألة فيها قولان عند أهل العلم: أكثر أهل العلم يقولون لا يجوز أن يتجاوز الإنسان ميقاتًا إلى ميقاتٍ آخر. وهذا يقول به كثير من أهل العلم، وعلى هذا مَن يذهب مِن هنا على الطائرة لا يجوز له أن يحرم من جدة؛ بل يجب عليه أن يحرم إذا حاذى السيل، أو حاذى ذا الحليفة، أو حاذى الجحفة، ولا يجوز له أن يتجاوز ذلك إلى(/15)
الميقات الآخر وهو جدة، هذا هو القول الأول. واستدلوا لذلك بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - عن هذه المواقيت: ((هن لهن، ولمن أتى عليهن من غير أهلهن))، فإن من يأتي على أي ميقات من المواقيت، سواء كان من أهله أو من غير أهله، فإنه لا يجوز له أن يتجاوز إلا بإحرام.
ومن أهل العلم، وهو منسوب إلى الإمام مالك وأبي حنيفة و أبي ثور، وهو قبل ذلك مروي عن عائشة - رضي الله عنها - مَن يقول إنه يجوز تجاوز الميقات إلى ميقات آخر. فإنه قد ذكر أهل العلم أن عائشة - رضي الله عنها -كانت مقيمة في المدينة، فكانت إذا أرادت أن تعتمر أحرمت من الجحفة، وإذا أرادت أن تحج أحرمت من ذي الحليفة، فإذا أرادت أن تعتمر فلا شك أنها تجاوزت ذا الحليفة إلى الجحفة، وثبت أيضًا في الصحيحين من حديث أبي قتادة - رضي الله عنه - أنه خرج مع المسلمين عام الحديبية، فالمسلمون أحرموا من ذي الحليفة، وأبو قتادة - رضي الله تعالى عنه - ما أحرم من ذي الحليفة، فالموفَّق بن قُدَامَة يقول إنه أحرم من الجحفة، فيكون أبو قتادة - رضي الله تعالى عنه - أيضًا مثل عائشة، تجاوز ميقاتًا إلى ميقاتٍ آخر. وأيضًا يمكن أن يُستدل لأصحاب هذا القول بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((هن لهن، ولمن أتى عليهن من غير أهلهن))، فإذا أتيت إلى جدة، وإن كانت جدة ليست ميقاتًا لك، إلا أنك إذا أتيت من جهتها تصبح ميقاتًا لك، والذي يظهر لي - والله سبحانه وتعالى أعلم - أن هذا القول هو الراجح؛ لأنه بالنظر إلى هذه المواقيت، نلاحظ أن هذه المواقيت جعلها الله - سبحانه وتعالى - حرمة للبيت الحرام، تعظيمًا لهذا البيت، فإن الله - عز وجل - جعل لبيته الحرام وللكعبة المشرفة ثلاث حرمات:(/16)
"حرمة المسجد، وحرمة الحرم، وحرمة المواقيت"، فأنت لو وضعت نقاطًا على كل منطقة - سواء كانت ميقاتًا أصليًّا أو فرعيًّا - لوجدت أنها تحيط بالحرم من كل جوانبه، فهي كما إذا أتيت هذا المسجد، فإذا دخلت مع هذا الباب، وتريد أن تخرج مع هذا الباب، ثم ترجع مرة أُخرى، هل نقول صلِّ تحية المسجد الآن أم إذا رجعت؟ نقول صلِّ تحية المسجد إذا أردت أن تجلس ولو مررت بالمسجد. فنحن نقول لمن دخل في حدود المواقيت ثم خرج أنه لم يُرِد الحج والعمرة في هذا الدخول، وبالتالي فإنه لا يجب عليه الإحرام؛ حتى يدخله مرة أُخرى بنيَّة الحج أو العمرة، تمامًا كما لو أن إنسانًا ذهب من هنا وهو يريد أن يمر بالمدينة، ويصطاف بالطائف لمدة أسبوع، ثم يرجع ويعتمر، ومن حين خرج من هنا وهو يريد العمرة؛ لكنه ما أرادها في الدخول الأول، دخل حدود المواقيت ثم خرج، ثم يريد أن يرجع مرة أُخرى، فهذا - والعلم عند الله سبحانه وتعالى - يجوز أن يتجاوز الميقات الأول إلى الميقات الثاني؛ لأنه لا يعتبر مُخلاًّ بهذا البيت إن دخل وخرج، ولا شك أن تأثيم ملايين المسلمين ليس من مقاصد الدين، ولا من أهداف الشريعة، فما دام أن الأمر يحتمل، وأن المسألة ليس فيها تجاوز لكتاب الله ولا لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تجاوزًا صريحًا، وأن هذا له مسوِّغ من كلام أهل العلم؛ فإنه لا معنى أن نذهب للقول الأشد، أو حتى الأحوط؛ لأن الأحوط أحيانًا يكون فيه حرج على مئات الملايين من المسلمين، الذين يأتون في كل عام للحج والعمرة.(/17)
* المسألة الثانية هي: هل جدة كلها ميقات أم لا؟ تعرفون أن جزءًا كبيرًا من الحجاج الآن ينزل في مطار الملك عبدالعزيز، فهل نقول إن مطار الملك عبدالعزيز ميقات؟ وجزء كبير ينزل في ميناء جدة الإسلامي. مدينة جدة واسعة جدًّا وطويلة، تمتد على البحر ما يقرب من سبعين كيلو متر، وبناء على هذا القول الذي أراه - والعلم عند الله سبحانه وتعالى – راجحًا؛ فإن جدة ليست كلها ميقاتًا، فمطار الملك عبدالعزيز ليس ميقاتًا، ولا يجوز لمن ذهب إلى جدة أن يحرِم من المطار؛ لأنه بالنظر إلى مطار جدة نجد أن بينه وبين الجحفة أقرب من المسافة بينه وبين يلملم، وقد قلنا في المحاذاة: إن المحاذاة أن تنظر إلى أقرب الميقاتين إليك، فبالنسبة إلى شمال جدة والمطار فإن الجحفة أقرب من يلملم، وبالتالي لا تكون محاذية حتى تكون المسافة بينها وبين الحرم كالمسافة بين الجحفة وبين الحرم، وإذًا فبناء على هذا القول الذي يعتبر ميقاتًا هو وسط وجنوب جدة، هذا هو الذي يعتبر ويعد ميقاتًا، بناء على هذا القول فالميناء الإسلامي وأوسط جدة وجنوب جدة وغرب جدة، هذا كله يعد ميقاتًا. وقبل أن أختم هذه المسألة فإني أقول إن هذه المسألة من المسائل الكبيرة والمهمة، التي تعم بها البلوى، والتي وردت فيها فتاوى كثيرة، ودرسها مَجمَع الفقه الإسلامي، وبحثها غير واحد من أهل العلم وطلابه، ومن أحسن من بحث هذه المسألة هو الشيخ عدنان العرعور -حفظه الله تعالى- في كتاب أو رسالة سماها "أدلة إثبات أن جدة ميقات"؛ لكني أقول إن هذه المسألة تحتاج إلى مزيد بحث، والذي أراه و أشير به وأدعو إليه، هو أن الجهات المختصة وولاة الأمر يُكلِّفون عددًا من طلبة العلم، ممن يرى هذا الرأي ويرى أن جدة ميقات، ويكلفون معهم عددًا من المختصين بعلم الجغرافيا، الذين عندهم القدرة والخبرة على قراءة الخرائط وقراءة الصور الجوية، وأن يجتمع هؤلاء ثم يبحثوا هذه المسألة بحثًا شرعيًّا، وينزلونها على(/18)
الواقع، ويضعون المعالم لما يُعدُّ من جدة ميقاتًا، وما لا يعد منها ميقاتًا، ثم تعرض هذه المسألة وهذا البحث على هيئة كبار العلماء للنظر فيه، فإذا أقر فإنه ينزل على الواقع، وتوضع علامات في جدة للمواقيت، وأيضًا يستحسن أن يوضع في جدة - كما وضع في سائر المواقيت - مسجدًا يكون علامة على الميقات، بحيث إن الناس يُحرِمون منه، مَن أتى من طريق المطار أو من البحر أو من غيره، فيكون هذا مَعْلَمًا وميقاتًا مثل المساجد التي أقامتها الدولة - بارك الله فيها - في بقية المواقيت، هذا ما يسر الله - سبحانه وتعالى - وفتح به في هذة المسألة، أسأل الله - سبحانه وتعالى - السداد والتوفيق.
المجلس الثاني
فهذا هو المجلس الثاني من المجالس التي تعقد من الدورة المباركة؛ للحديث عن بعض نوازل الحج، وكنا تكلمنا في المجلس السابق عن نازلتين، وفي هذا اليوم نتحدث عما ييسره الله من هذه النوازل.
النازلة الثالثة: الإحرام بالإزار المخيط، أو ما يسمى في اللغة بالنقبة:
الإزار المخيط هو ما ظهر في هذا الوقت، وأفتى به مجموعه من أهل العلم وطلابه، وهو الإزار الذي يخاط جانباه، ويوضع في أعلاه تكة؛ إما من خيط أو مطاط أو سير أو نحو ذلك، وفي اللغة يسمى النقبة، وهو يشبه تمامًا ما تلبسه النساء في هذا الزمن ويسمى التنورة، فهذا هو الإزار الذي نريد أن نتحدث عنه.
ما حكم لبس هذا الإزار بالنسبة للمُحرِم من الرجال؟ أولاً قبل الحديث عن حكم هذه النازلة، أو هذا الإزار، نريد أن نتحدث عن بعض الأمور التي هي مقدمة وتوطئة؛ حتى نصل إلى حكم لبس هذا الإزار.(/19)
فأولاً ماذا يلبس المحرم؟ فقد ورد في السُّنة عدد من الأحاديث كلها تتحدث عما يلبسه المحرِم في إحرامه، ففي الصحيحين عن ابن عمر- رضي الله تعالى عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض الروايات أنه كان في المدينة فسأله سائل فقال: "يا رسول الله، ما يَلبس المحرمُ؟"، فقال النبي- صلى الله عليه وسلم -: ((لا يلبس القُمُص، ولا البرانس، ولا العمائم، ولا السراويلات، ولا الخفاف)). في هذا الحديث سأل هذا الرجل عما يلبسه المحرم، فأجاب النبي - صلى الله عليه وسلم - بما لا يلبسه المحرم. قال ابن حجر: "وهذا قمة في البلاغة والجزالة فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما عَلِم أن الممنوع محدود، والمباح مطلق؛ أعرض عما سأل عنه السائل، وبين المحصور المحدود؛ فقال: ((لا يلبس القمص ولا البرانس ولا العمائم ولا السراويلات، ولا ثوبًا مسه ورس أو زعفران))....الحديث". فهذا هو الحديث الأول في مسألة ما يلبسه المحرم.
الحديث الثاني هو ما في الصحيحين أيضًا من حديث يعلى بن أمية - رضي الله تعالى عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان في الجعرانة في مرجعه من الطائف، فجاءه أعرابي فقال: "يا رسول الله، ما تقول في رجل أحرم في جبة، وتضمخ بطيب - يعني تلطخ بطيب –"، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أما الطيب فاغسله ثلاثًا، وأما الجبة فانزعها)). فأمره النبي -صلى الله عليه وسلم - أن ينزع الجبة.(/20)
الحديث الثالث الذي ورد في مسألة ما يلبسه المحرم حال إحرامه، هو ما رواه البخاري من حديث ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال وهو يخطب بعرفات: ((ومن لم يجد الإزار فليلبس السراويلات، ومن لم يجد النعلين فليلبس الخفين)). ففي هذا الحديث أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ورخص لمن لم يجد الإزار أن يلبس السراويلات، وبالمناسبة السراويل هذا هو المفرَد؛ لا على ما هو شائع في لهجتنا أنهم يسمونه السروال، لا؛ في اللغة العربية المفرَد السراويل. من خلال هذه الأحاديث الثلاثة قال أهل العلم إن المحرم ممنوع من لبس ما يُفَصَّل على قَدْرِ الأعضاء، وعبَّر بعض الأئمة عما يفصل على قدر الأعضاء بالمخيط، فقالوا لا يلبس المحرم المخيط، ومقصودهم بالمخيط ليس ما يخاط بالإبرة أو بالمكينة، أو نحو ذلك؛ لا وإنما قصدهم بالمخيط ما يخاط ويفصَّل على قدر أعضاء البدن؛ كالفنيلة والسراويل والثوب ونحوها، وهذه اللفظة لم تَرِد في السنة لا في حديث ابن عمر، ولا حديث يعلى، ولا حديث ابن عباس، ولا في شيء من كتب الحديث، كما أعلم. فالتعبير بأن المحرم لا يلبس المخيط إنما ورد عن بعض السلف، فانتشر وتداولته كتب الفقه، وتناقله الفقهاء بعضهم عن بعض، ومن خلال هذا النقل التبس هذا الأمر على كثير من الناس، فظن أن المقصود بالمخيط هو ما يخاط في الإبرة أو المكينة أو نحو ذلك. وهذا ليس مقصودًا للفقهاء على الإطلاق؛ فإنه بإجماع أهل العلم لو أن الإنسان عنده إزار، ثم شق هذا الإزار فخاطه ثم لبسه، أن ذلك جائز بإجماع أهل العلم. فليس المقصود بالمخيط هو الذي جرت به الإبرة أو المكينة أو نحو ذلك؛ وإنما المقصود بالمخيط هو ما يخاط ويفصل على قدر الأعضاء - كما قلت لكم – مثل: الفنيلة، والثوب، والمشلح، والبنطال، والسراويل...إلخ. هذا هو المقصود بالمخيط في لغة الفقهاء. ننتقل بعد ذلك إلى الحديث عن المسألة التي نحن بصددها، وهي حكم(/21)
لبس الإزار المخيط، الذي وُضع في أعلاه هذه التكة أو الربطة، وبعض الناس وضع له جيبًا يوضع فيه المال أو الجوال أو نحو ذلك. ما حُكْم لبس هذا الإزار؟ قبل أن ننتقل إلى الحكم، أحب أن أبيِّن أن اختلاف أهل العلم المعاصرين في حكم لبس هذا الإزار أو هذه النقبة، له سببان:
السبب الأول: هو أنه اختلفوا في ما يلبسه المحرم على أسفل بدنه؛ يعني من الحِقْوَيْن أو من الإزار أو من السرة. والذين اختلفوا في الإزار اختلفوا فيما يلبسه المحرم على أسفل بدنه: هل هو محدود أو غير محدود؟ فمن أهل العلم مَن قال إن ما يلبسه المحرم على أسفل بدنه غيرُ محدود؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما - لما سئل ما يلبس المحرم؟ أعرض عن سؤال السائل، وانتقل إلى ما لا يلبس، قال كثير من أهل العلم؛ كالحافظ ابن حجر وغيره، قالوا إن هذا النكتة البلاغية هي أن ما يلبسه المحرِم مطلقٌ واسع، لا حدَّ له؛ إنما الممنوع هو المقيَّد؛ فتَرَكَ النبي - صلى الله عليه وسلم – المطلقَ، الواسع، غير المحصور؛ لأنه لا مطمع في حده ولا حصره، وانتقل إلى ما يُمنع منه فذكره، وهو السراويلات. فما لا يُلبس على أسفل البدن هو السراويلات، فهؤلاء قالوا إن الممنوع محدود، وهو السراويلات وما كان في حكمها، وأما المباح المسموح فإنه غير محدود؛ فيَلبس المحرم إزارًا أو غيره مما شاء، المهم أن لا يكون من السراويل، ولا ما في حكمها. هذا هو القول الأول.(/22)
القول الثاني: الذين قالوا إن هذا الإزار، الذي قد خِيط طرفاه ووُضع فيه تُكة، إنه لا يجوز. قالوا العكس من ذلك، قالوا إن المباحَ في السنة لبسه على أسفل بدن المحرم محدودٌ؛ فقد حدده النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث ابن عباس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال وهو بعرفة: ((ومَن لم يجد الإزار فليلبس السراويل))، فقالوا هذا دليل على أن المباح فقط هو الإزار، وبالتالي فإنه لا يجوز أن يلبس على أسفل البدن إلا الإزار، وما كان في حكمه. واضح هذا الخلاف، القول الأول: يقول المحرَّم والممنوع محدودٌ، والمباح واسع. والقول الثاني: يقول بل المباح هو المحدود، والممنوع واسع؛ فالمباح فقط هو الإزار وما في حكمه. والحقيقة أن الذي يظهر لي رجحانه - والله سبحانه وتعالى أعلم - هو القول الأول؛ فإن الممنوع هو المحدودُ، والمباحَ مطلقٌ؛ فالممنوع هو السراويلات وما كان في حكمها. والدليل على أن هذا القول هو الراجح هو أن حديث ابن عمر - رضي الله تعالى عنهما - الذي سئل فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - عما يَلبس المحرِم، فأجاب بأنه: ((لا يلبس القمص و لا البرانس ولا العمائم ولا السراويلات)) أن هذا بالمدينة قبل أن يتلبس الناس في النسك.(/23)
قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم قبل أن يُحرِموا؛ أما حديث ابن عباس - رضي الله عنه - قي قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ومن لم يجد الإزار فليلبس السراويلات)) فهذا قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو بعرفات. وأنتم تعرفون أن الحاج في عرفات، إما أن يكون متمتِّعًا فيكون قد أحرم مرتين؛ أحرم بالعمرة ثم تحلل، ثم أحرم بالحج، وإما أن يكون مفرِدًا أو قارنًا ويكون قد أحرم منذ أيام، وأهل العلم يقولون إنه "لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة". فلو قلنا بأن المباح هو الإزار فقط وما كان في حكمه، فمعنى ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخَّر البيان حتى أحرم المتمتِّع مرتين، وأحرم المفرِد والقارن منذ أيام؛ ولكن يُحمَل حديث ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - في عرفات على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد أن يرخص للناس: مَن شقَّ عليه أن يجد ما يلبسه، أو يتَّزر به أن يلبس السراويل؛ لأن مَن عجز عن لبس الإزار جاز له أن يلبس السراويل. فهذا هو الذي يظهر لي رجحانه بهذا التعليل. هذا هو السبب الأول من الخلاف في هذه المسألة، وهو الخلاف في ما يلبسه المحرِم على أسفل بدنه: هل هو محدود أو مطلق؟(/24)
السبب الثاني من أسباب الخلاف في المسألة: هو اختلاف أهل العلم المعاصرين في هذا الإزار الذي نتكلم عنه، المخيط في جوانبه والذي عقد بتكة في أعلاه. اختلافهم هل هو مما يشبه المباح؛ فنقول مباح أو يشبه المحرَّم؛ فنقول محرَّم؟ فالذين قالوا إنه مباح قالوا يشبه المباحات. والذين قالوا إنه محرَّم قالوا إنه يشبه المحرَّم والممنوع، وهو السراويل. والحقيقة أن هذا السؤال قد صغته لكم كما هو في كثير من البحوث، التي بحثها طلاب العلم في هذا الزمان، فإنهم يقارنون هذا الإزار أو هذا اللباس الذي يسمى النقبة، يقارنونه بالإزار أو السراويل؛ فمن شبَّهه بالإزار أو قال إنه لا يزال يسمى إزارًا، قال إنه مباح. ومَن قال إنه يشبه السراويل، قال إنه محرَّم.
والذي يظهر لي أن هذا السؤال يجب أن يصاغ بطريقة أُخرى. فإننا رجحنا في المسألة السابقة أن المحرَّم محدود، وهو السراويل وما في حكمها، والمباح مطلق، ولهذا من يقول إنه مباح لا يحتاج أن يقيم الدليل على أنه إزار، أو على أنه يسمى في اللغة إزارًا؛ سُمي إزارًا أو لم يُسمَّ إزارًا، المهم أن لا يشبه الممنوع. ولهذا ينبغي أن نصوغ هذا السؤال بصيغة أُخرى فنقول: هذا الإزار الذي يسمى لغةً بالنقبة، هل يشبه الممنوع وهو السراويل، أو لا يشبهها؟ فإن أشبهها فهو ممنوع، وإن لم يشبهها فإنه مباح؛ سُمِّي إزارًا أو لم يُسمَّ، كان شبيهًا بالإزار أو ليس بشبيه؛ لأن المباح مطلق. والذي يظهر لي - والله سبحانه وتعالى أعلم - أن هذا اللباس لا يشبه السراويلات، التي منعها النبي - صلى الله عليه وسلم - فإننا لو تأملنا في جميع الألبسة، التي منعها النبي - صلى الله عليه وسلم - كالبرانس والقُمُص والسراويلات والجُبَّة؛ لوجدنا أنها كلها تجتمع في صفة واحدة: هي أنها فُصِّلَتْ على قَدْرِ الأعضاء، وحينما تتأمل هذا الإزار تجد وتلاحظ أنه ليس من هذا القبيل.(/25)
وبناء على ذلك نقول - والعلم عند الله سبحانه وتعالى - إن هذا الإزار يجوز لبسُه؛ لأنه ليس مما نصَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - على تحريمه ولا يُشبِهه، وقد كانت عائشة - رضي الله تعالى عنها - تذهب إلى الحج وإلى العمرة، فكان غلمانها إذا أرادوا أن يَحمِلوا هودجها على البعير أو ينزلوه، ربما بدا منهم شيء من عوراتهم؛ فأمرتهم عائشة - رضي الله عنها - أن يلبسوا تحت الإزار شيئًا يقال له التُّبَّان. والتبان هذا - باختصار شديد - هو الإزار المنتشر في هذا الزمن، إلا أنه قصير إلى حدود أنصاف الفخذين - يعني هو مثل السراويل القصيرة إلى نصف الفخذ؛ لكنه لا أكمام له وإنما له تكة في أعلاه - فكانت عائشة - رضي الله عنها - تأمر غلمانها بأن يلبسوا هذا التُّبان تحت أُزُرِهم؛ ليستر عوراتهم. فالذي يظهر لي - والله سبحانه وتعالى أعلم - أن الممنوع هو السراويل وما في حكمها، وأن هذا الإزار لا يشبه السراويل، وبتالي فإنه يجوز لبسه، سواء سمي إزارًا أو لم يُسمَّ.
بعض الباحثين وبعض طلبة العلم يقول إن هذا خرج عن مُسمَّى الإزار، وإن كتب اللغة لا تسمي هذا إزارًا، ونحن نقول إن المباح مطلق، ولم يحدد بالإزار؛ فالمباح سواء كان إزارًا أو غير إزار المهم ألا يكون سراويل، ولا ما في معناها، هذا هو الذي ظهر لي رجحانه في هذه المسألة، والعلم عند الله سبحانه وتعالى.
النازلة الرابعة: لبس الكمامات حال الإحرام:
والكمامات هي ما يُوضع على الأنف والفم من قطن أو قماش أو نحو ذلك؛ ليمنع دخول الدخان والغبار والروائح الكريهة وغيرها، وقد انتشر استعماله في هذه الأزمنة في أوقات الحج؛ بسبب كثرة السيارات وعوادمها والغبار وغير ذلك؛ فأصبح كثير من الناس - خاصة رجال الأمن، الذين يكثر وجودهم في الشوارع - أصبحوا يلبسونها بكثرة، فما حُكْم لبس هذه الكمامات على الوجه؟(/26)
قبل أن نجيب على هذا السؤال، ونبيِّن حُكْم لبس هذه الكمامات، لا بد أن نجيب على سؤالين:
السؤال الأول هو: هل الكمامات من جنس ما نُهي عنه من الألبسة في حال الإحرام؟ قد ذكرنا في المسألة السابقة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن القمص والسراويلات والعمائم والبرانس، ونهى عن الجبة؛ كما في مجموع الأحاديث: حديث ابن عباس، وحديث يعلى، وابن عمر - رضي الله تعالى عنهم أجمعين - وقلنا إن أهل العلم قالوا إن هذه الأحاديث بمجملها تدل على إن المحرَّم ممنوع ما فُصِّل على قَدْرِ الأعضاء. فهل الكمام الذي يوضع على الوجه من قماش أو نحوه، يأخذ حكم هذه الألبسة؛ مثل الفنيلة التي فُصِّلت على قدر الجسم واليدين، أو مثل السراويل الذي فُصِّل على قدر الرِّجْلين، أو مثل القميص، أو نحو ذلك؟
هذا الكمام لم يفصل على قدر الأعضاء، خاصة ما يكون منه على شكل قماش، فإن هذا إنما يوضع على الفم، ويُربط خلف العنق؛ فهذا لم يفصل على قدر أعضاء الوجه. وبالتالي فإننا نقول إن الكمامات ليست من الألبسة التي نصَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - على تحريمها، ولا من جنس هذه الألبسة التي نص النبي - صلى الله عليه وسلم - على تحريمها، هذا هو جواب السؤال الأول.(/27)
نأتي إلى سؤال آخر يتعلق بهذه المسألة، فإذا لم تكن من المخيط فهل يجوز لبسها؟ لا بد أن نجيب على السؤال الثاني، الذي يقول: هل المُحرِم ممنوع من تغطية وجهه؟ أنتم تعرفون أن المُحرِم ممنوع من تغطية رأسه، وتغطية الرأس لا يشترط فيها أن يكون ما يوضع على الرأس مما يلبس عادةً؛ فإذا غطى الإنسان رأسه بطاقية أو عمامة أو برنس، أو نحو ذلك؛ فإن ذلك كله ممنوع، فهل المحرِم ممنوع من تغطية وجهه أيضًا؟ لأننا إذا قلنا أن المحرِم ممنوع من تغطية وجهه، فالكمام تغطية وجه؛ فإنه يكون حينئذ ممنوعًا من لبس الكمامات؟ للجواب على هذا السؤال أقول روى الجماعة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - أن رجلاً كان واقفًا بعرفات، فوقع عن راحلته فمات، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه، ولا تُحنطوه ولا تُخمروا رأسه)) - ما العلة؟(/28)
قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((فإنه يُبعث يوم القيامة ملبِّيًا))، إذًا العلة فيما أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - وما نهى عنه في حقِّ هذا المحرِم الذي مات، هو أنه يبعث يوم القيامة ملبيًا، إذًا هو وإن مات، إلا أنه لا يزال باقيًا على إحرامه. فالنبي - صلى الله عليه وسلم – قال: ((ولا تخمروا رأسه))، ومعنى لا تخمروا رأسه: أي لا تغطوه، ومنه الخمار لغطاء الرأس، ((ولا تخمروا رأسه)) هذه رواية الجماعة. لكن ورد في رواية عند مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال: ((ولا تخمروا رأسه ولا وجهه)). وهذه الرواية - أيها الإخوة - هي التي من خلال ثبوتها وعدمه، يمكن أن نجيب على هذا السؤال. فنقول: هل يجوز للمحرِم أن يغطي وجهه أو لا؟ هذه الزيادة التي رواها مسلم في صحيحه، اختلف أهل العلم فيها؛ فذهب جماعة من أهل العلم؛ كالإمام البيهقي والحاكم وابن حجر، وجماعة من أهل العلم، إلى أن هذه الزيادة غيرُ محفوظةٍ وأنها شاذة؛ حتى وإن وردت في صحيح الإمام مسلم؛ فإن مَن رواها من الثقات خالفوا مَن هو أوثق منهم، وبالتالي فإنها شاذة معلولة، لا تصح، ولا يصلح الاحتجاج بها. وذهب فريق آخر من أهل العلم إلى أن هذه الرواية التي وردت في صحيح مسلم زيادةٌ مقبولة محفوظة، وأظن أن ممن قال بذلك الإمامَ النووي - رحمه الله تعالى - كما في شرحه لصحيح مسلم؛ فإنه ما أنكر هذه الرواية أو هذه الزيادة.(/29)
وممن أيضًا قال إنها محفوظة وصححها الشيخ الألباني؛ فإنه حكم عليها بالصحة. فهذه الزيادة هي مدار الخلاف، فإذا رجحنا ما ذهب إليه البيهقي والحاكم وابن حجر، من أنها شاذة غير محفوظة؛ فإننا نقول إن الحديث الصحيح هو ((ولا تخمروا رأسه))، ويبقى الوجه على الأصل؛ فيكون مما يُباح ويجوز تغطيته. وإذا رجحنا ما ذهب إليه النووي - رحمه الله تعالى - والألباني - عليه رحمة الله - فإننا نقول لا يجوز تغطية الوجه. وبناء على ذلك اختلف أهل العلم في تغطية الوجه؛ فذهب أبو حنيفة ومالك - عليهما رحمة الله - إلى أن المحرِم ممنوع من تغطية وجهه، وهو قول ابن عمر، رضي الله تعالى عنهما.
وذهب جمهور أهل العلم - وهو ما رواه ابن أبي شيبة عن عثمان بن عفان - رضي الله تعالى عنه - وعن جابر، وعن جمع من فقهاء التابعين مثل: عطاء وطاوس ومجاهد والنخعي وغيرهم - ذهبوا إلى أن المحرِم يجوز له أن يغطي وجهه، وعثمان - رضي الله عنه - تُوفي له ولدٌ وهو محرِم، فغطى وجهه وكفنه، ولم يغطِّ رأسه. وأيضًا روى ابن أبي شيبة أن عثمان - رضي الله عنه - خمَّر وجهه بقطيفة وهو محرم. والذي يظهر لي - والعلم عند الله سبحانه وتعالى - هو أن هذه الزيادة، وقد سألت بعض طلبة العلم المعاصرين المتخصصين في علم الحديث، فقال: إن هذه الزيادة الراجح فيها أنها شاذة غير محفوظة، وبالتالي لا تَثْبُتْ؛ فيبقى الوجه على الأصل، وحينئذٍ نقول إن المحرِم غير ممنوع من تغطية وجهه. إذا أجبنا على هذين السؤالين، فقلنا إن الكمام الذي يوضع على الوجه ليس من جنس المخيط، الذي نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأن المحرِم غير ممنوع من تغطية وجهه؛ فإننا نقول حينئذٍ إنه لا بأس على المحرِم أن يلبس الكمامات التي توضع على الأنف والفم؛ للوقاية من الغبار والدخان ونحو ذلك. وهذا هو القول الراجح - إن شاء الله تعالى - والعلم عند الله سبحانه وتعالى.(/30)
النازلة الخامسة: استعمال المنظفات المعطرة للمحرِم:
أنواع الصابون الموجود في السوق والشامبوهات ونحوها، أكثرُها يكون معطَّرًا، حتى إنه يُكتب عليه صابون معطر: معطَّر بالورد، معطر بالياسمين، إلى آخره. فما الحكم بالنسبة للمحرِم؟ هل يجوز له أن يستعمل هذه المنظفات في رأسه أو في يديه أو في جسمه أو نحو ذلك، حال إحرامه؟ وقبل أن نتحدث عن حكم استعمال هذه المنظفات نريد أن نقدم لذلك بأمور:
أولها: أن المحرِم ممنوع من استعمال الطِّيب، وقد وردت في ذلك أحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فمِن ذلك حديث ابن عمر في الصحيحين، الذي مر معنا، وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال: ((ولا ثوبًا مَسَّه وَرْسٌ أو زعفران))؛ والزعفران نوع من أنواع الطِّيب يوضع مع الطيب والخلوق ونحو ذلك. ومن ذلك حديث يعلى بن أمية في الصحيحين، الذي مر معنا قبل قليل أيضًا، وفيه أن ذلك الأعرابي قال: "يا رسول الله، ما تقول في رجلٍ أحرم في جبة، وتَضَمَّخَ بطِيب؟"، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أما الطِّيب فاغسله ثلاثًا)). ومن الأحاديث الدالة على أن المحرِم ممنوع من الطيب حديثُ ابن عباس في الصحيحين، في قصة الرجل الذي وَقَصَتْه راحلته وهو واقف بعرفات، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال: ((اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه، ولا تخمروا رأسه، ولا تحنطوه؛ فإنه يبعث يوم القيامة ملبيًا))؛ فقوله ((ولا تحنطوه)): يعني لا تضعوا فيه الحنوط، والحنوط هو أخلاط من الطِّيب توضع على أجزاء الميت ومنافذه ونحو ذلك. فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يُجنَّب الحنوط.(/31)
وعلَّل ذلك - صلى الله عليه وسلم - بأنه يبعث يوم القيامة ملبيًا، فمن خلال هذه الأحاديث قال أهل العلم: إن المحرِم ممنوع من الطيب، وهذا كله بعد الإحرام؛ أما قبل الإحرام فإن من السُّنة - كما هو معروف - أن يتطيب الإنسان في بدنه، لا في ثوبه؛ فإن عائشة -رضي الله عنها – تقول: "كنتُ أطيِّب رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - لإحرامه قبل أن يُحرِم، ولحِلِّه قبل أن يطوف بالبيت"، وكانت تقول - رضي الله عنها -: "كَأَنِّي أَنْظُرُ إلى وَبِيصِ الطِّيبِ في مَفَارِقِ رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وهو مُحْرِمٌ"؛ متفق عليه. يعني المسك الذي يذر، ترى لمعانه على مفارق النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى شعر رأسه، فقبْل الإحرام يُسنُّ أن يتطيب الإنسان في بدنه، حتى لو بقي الطِّيب إلى ما بعد الإحرام؛ لكن الممنوع هو أن يتطيب الإنسان بعد الإحرام بطيب، سواء في بدنه أو في ثوبه؛ لمجموع هذه الأحاديث.(/32)
الأمر الثاني الذي ينبغي أن نشير إليه قبل أن نصل إلى مسألتنا، هو: هل المحرِم ممنوع حال إحرامه من كل رائحة طيبة؟ أو أنه ممنوع من الطِّيب الذي يتخذه الناس طِيبًا؟ الأصل أن المحرِم يباح له كل شيء، ولا يمنع إلا بما وردت الأدلة بمنعه منه، هذا هو الأصل. فالأدلة وردت بمنع المحرِم من أشياء معينة من الطيب، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ثوب مسه الزعفران، وقال لمن تضمخ بطيب: ((اغسله ثلاثًا))، وقال في الميت المحرِم: ((ولا تُحنطوه))، وهذه كلها مما يتخذها الناس طِيبًا وعطرًا، فنتوقف عند النصوص ولا نتجاوزها، نقول إن المحرِم ممنوع من الطيب الذي يتخذه الناس طيبًا؛ وليس ممنوعًا من كل رائحة طيبة، لا يتخذها الناس طيبًا. فأنتم تعرفون مثلاً أن النعناع رائحته طيبة، والريحان رائحته طيبة، والفواكه رائحتها طبية، والأترج رائحته طيبة، أشياء كثيرة جدًّا لها راحة طيبة من المأكولات والمشروبات وغيرها، لها روائح طيبة، فالمحرِم ليس ممنوعًا من كل رائحة طيبة؛ إنما هو ممنوع بموجِب هذه الأحاديث من الطِّيب الذي يتخذه الناس طِيبًا. إذًا الآن عرفنا أن المحرِم ممنوع من الطيب؛ وليس ممنوعًا من الروائح الطيبة التي لا تعد طيبًا، ولا يتخذها الناس طيبًا.(/33)
الأمر الثالث الذي نريد أن نتحدث عنه، قبل أن نصل إلى المسألة التي نحن بصددها، هو: الحكمة من تحريم الطيب على المحرِم؟ ما الحكمة التي من أجلها حرَّم الشارعُ الطيبَ على المحرِم؟ الحكمة - والله سبحانه وتعالى أعلم - كما ذكر ذلك جَمْعٌ من أهل العلم، هي أن الطيب من دواعي النكاح، والمحرِم ممنوع من النكاح ودواعيه؛ فإن الله - سبحانه وتعالى – يقول: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 197]، قال أهل العلم: الرفث هو النكاح ومقدماته. كل ما يدعو إلى النكاح فإنه من الرفث، لو جلس اثنان يتكلمان في حال الإحرام في أمر النساء، قلنا قد رفثتما؛ الحديث في شأن النساء رفث، لو أن إنسانًا مسَّ زوجته حال الإحرام بشهوة، قلنا هذا من الرفث، لو قبَّلها قلنا هذا من الرفث، فالطيب من دواعي النكاح.(/34)
ولهذا نقول إنه من الرفث، ومما يدل على أن هذه هي الحكمة - والله سبحانه وتعالى أعلم - أن المرأة تُمنع من المرور على الرجال إذا تطيبت؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَصَابَتْ بَخُورًا فَلَا تَشْهَدْ مَعَنَا الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ))؛ رواه مسلم. فالمرأة إذا تطيبت مُنعتْ من المرور أو القرب من الرجال؛ لأن هذا مما يدعو أو يفتن الرجال بها. فالطيب في حال الإحرام هو مما يدعو للنكاح، ويُذكِّر به، ويهيج الشهوة، ويجعل الإنسان أقرب إلى طلب المتعة واللذة والحياة الدنيا، والإنسان في حال الحج مأمور بالانقطاع عن كل ما يدعوه إلى الدنيا، وبالإقبال على الله - سبحانه وتعالى - ومن المعروف أن من أعظم دواعي الدنيا وشهواتها النساءَ، ومن أجل ذلك فإن الجِمَاع هو أعظم محظورات الإحرام، ولا يُبطل الحجَّ و العمرة محظورٌ من المحظورات إلا الجماع؛ لأن الجماع يخالف تمامًا حال العبودية التي ينبغي أن يكون عليها الحاج في أثناء التلبس بالنسك كما أن الإنسان في حال الصلاة إذا ضحك قلنا بطلتْ صلاته، لماذا؟ لأن الضحك ينافي ما ينبغي أن يكون عليه المصلي تمامًا. فالمصلي مأمور بأن يكون خاشعًا مُقبِلاً على الله - عز وجل - متصلاً به، فإذا ضحك قلنا إن هذا أبعد ما يكون عن هذه الحالة، فحينئذ تبطل صلاته، فالجماع في حال الحج هو من أعظم الشهوات، التي تجعل الحاج أبعد ما يكون عن حال المتلبس بالنسك، ومن أجل ذلك حُرِّم الجماع وحرِّمت دواعيه، ومن دواعيه الطيب.(/35)
بعد ذلك نرجع إلى حكم هذه المسألة، وهي حكم استعمال المنظفات المعطرة؟ فنقول المنظفات المعطرة تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: منظفات معطرة بروائح طيبة؛ ولكن هذه الروائح ليست مما يتخذه الناس طِيبًا؛ مثل: الصابون بنكهة الليمون، أو التفاح، أو السفرجل، أو النعناع مثلاً، هذه كلها روائح طيبة؛ لكن هل الإنسان يذهب إلى دكان العُطُور، ويقول أُريد عطرًا برائحة التفاح، أو طيبًا برائحة الليمون، هذا ليس مما يتخذه الناس طيبًا، فالمنظفات التي تكون رائحتها من الروائح الطيبة الزكية، ولكنها ليست مما يتخذ طيبًا - كما قلت لكم في الفواكه والنعناع والليمون ونحو ذلك، أو حتى بعض الروائح المصنعة، المهم أنها ليست مما يتخذه الناس طيبًا - فهذه لا بأس باستعمالها، فقد قلنا قبل قليل أن المحرِم ليس ممنوعًا من الروائح الطيبة، التي لا تعد من العُطُور، ولا من الطيب؛ إنما هو ممنوع فقط من الطيب والعطور التي وردت في السنة، أو ما في حكمها؛ أما الروائح الطيبة التي لا تسمى طيبًا، فإنه غير ممنوع منها، وبالتالي فإننا نقول: لا بأس باستعمال الشامبو أو الصابون المعطر بالليمون، أو التفاح، أو بالفواكه، أو بالرائحة الأصلية مثلاً، أو ببعض الروائح المركبة، المهم أنها ليست من العطور، نقول هذا لا بأس به.(/36)
القسم الثاني: الصابون أو المنظفات المعطرة بروائح عطرية، مما يتخذه الناس طيبًا وعطرًا. هناك صابون برائحة الورد، و عند محل العطور دهن الورد هذا من أغلى العطور. إذًا معنى هذا أن هذا الصابون قد عُطِّر بما يتخذه الناس طيبًا، أو تجد صابونًا معطرًا برائحة العود، أو برائحة الياسمين، أو برائحة المسك، هذه كلها عطور يذهب الإنسان إلى محل العطور ويقول له: أعطني عودًا، أعطني بخورًا، أعطني مسكًا، أعطني عنبرًا، أعطني وردًا، هذه كلها عطور، فالمنظفات التي عطرت بهذا النوع من الروائح الطيبة، إذا قلنا إن المحرِم ممنوع من الطيب، وإن الطيب حُرِّم على المحرِم؛ لأنه من دواعي النكاح؛ فأي فرقٍ بين أن الإنسان يأخذ شيئًا من دهن الورد ويضعه في إزاره أو في لحيته، وبين أن يأخذ صابونًا أو منظفًا من المنظفات برائحة الورد فيغسل يديه، ثم يظل هذا الورد يعبق من يديه لمدة ساعة أو ساعتين أو أكثر؟! هل الأنف يُفرِّق بين الطيب الذي اشتري من بائع المسك، وبين الطيب الذي جاء عن طريق المنظف أو الصابون؟!(/37)
إن القول بأن هذه المنظفات أنها ليست مما يتخذ طيبًا، وبالتالي يجوز اتخاذها، لا شك أن هذه - والعلم عند الله - ظاهرية بعيدة، فإن الحكمة التي من أجلها مُنِع الطيب موجودة فيما أخذته من الطيب فوضعته في لحيتك أو في إزارك، أو في هذا الصابون أو المنظف أو الشامبو الذي تضعه في شعرك أو في بدنك، فيظل جسمك ينتعش ويعبق، وكلما مررت من عند أُناس شمُّوا رائحة الطيب، أنت أحيانًا يمر بك إنسان فتَشُم منه رائحة الطيب، ما تدري هذا الإنسان هل تطيب بالمسك أو بالعنبر أو بالورد أو بالعود، أو أنه استعمل صابونًا أو منظفًا أو شامبو معطرًا؟ أحدٌ منكم يفرق؟! ما يفرق, إذًا هل نقول إن الطيب يَحرُم على المحرِم، والمنظفات هذه تجوز للمحرِم؛ لأن الإنسان ما يذهب إلى محل العطور، ويقول أعطني صابونًا؟! نقول لا، ليس بشرط أن يكون الإنسان يتعطر بالصابون، لكن ما في الصابون هذا يتخذه الناس عطرًا. ولا شك أن هذا يحصل فيه ما يحصل في الطيب من النشوة والرغبة في النكاح، وتَذكُّر الحياة الزوجية، والمرأة ونحو ذلك. والمحرِم ممنوع من ذلك، ولهذا أقول - والعلم عند الله سبحانه وتعالى - إن المحرِم ممنوع من هذه المنظفات بهذه الروائح، وهذا القول هو الذي رجحه الشيخ محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله تعالى - وأنا أنقل لكم الآن نصَّ كلام الشيخ - رحمة الله تعالى عليه - فإنه قال في إحدى خطبه: "فلا يجوز للمحرِم أن يدَّهن بالطيب ويتبخر به، ويضعه في أكله أو شرابه، أو يتنظف بصابون فيه طيب يُعدُّ للتطيب"، إذًا هو يقول إذا كان الطيب الذي في الصابون يعد بمفرده للتطيب؛ فإنه ممنوع منه، فهذا القول هو الذي اختاره الشيخ محمد، وهو الذي أراه راجحًا، والعلم عند الله سبحانه وتعالى.
المجلس الثالث
هذا هو المجلس الثالث من هذه المجالس التي تنعقد؛ لبيان أحكام بعض النوازل المعاصرة في الحج.
النازلة السادسة: الطواف والسعي في الدورين الأول والسطح:(/38)
إن البيت الحرام - كما هو معلوم ومعروف - لم يكن يُرقى على سطحه أو من أدوار؛ إلا في هذا الزمن المتأخر، تقريبًا في البناية السعودية التي تمت في عهد الملك سعود في الثمانينيات الهجرية، فلما بني المسجد بهذه الطريقة حدثتْ هذه المسألة أو هذه النازلة، وعُرضت على هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية وبحثوها، وقد ذهبت هيئة كبار العلماء في هذه الدراسة وتلك الفتوى ،التي تمت بحدود سنة 1393ه- إلى جواز الطواف في الدور الأول أو في السطح، وكان هذا القرار بالأغلبية، مع تحفظ بعض الأعضاء، ومعارضة عضو واحد، وقد استدل مَن قال بجواز الطواف في الدور الأول أو في السطح بعدد من الأدلة، منها:
أولاً: أن الهواء تابع للأرض وللقرار - كما هو معروف عند الفقهاء - وأهل العلم يقولون لو أن الإنسان صلى إلى هواء الكعبة لصحَّت صلاته. لو كان الإنسان مثلاً فوق جبل أبي قُبَيْس، ثم استقبل الكعبة؛ فإنه لا يستقبل البناء، وإنما يستقبل الهواء، أو لو أن الكعبة مثلاً هدمت للبناء، فإن الإنسان إنما يستقبل هواءها، فالهواء تابع للقرار، فهواءُ المطاف وهواء المسعى تابعٌ لقراره ولأصله، ولهذا فالإنسان إذا طاف على الأرض، أو طاف في الدور الأول، أو طاف في السطح، فإنه يَصْدُق عليه أنه طاف في المسعى بين الصفا والمروة.(/39)
ومما احتجوا به على هذا الأمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثبت عنه أنه طاف وسعى على بعيره - صلى الله عليه وسلم - والطواف أو السعي على البعير، أو في الدور الثاني فوق البناء، الأمر فيهما سواء، فإن الإنسان سواء كان على البعير، أو على الدور الأول، أو الدور الثاني كله، قد ارتفع عن الأرض على شيء متصل بهذه الأرض، ثم إن من طاف في الدور الأول، أو سعى في الدور الأول أو في السطح، يصدق عليه أنه طاف أو سعى، طاف بالبيت أو سعى بين الصفا والمروة، و بناء على ذلك أفتى المجلس في جلسته تلك بأنه يجوز الطواف أو السعي في الدور الأول، أو في السطح، وقد تحفظ كما قلت لكم بعض الأعضاء، وعارض القرار شخص واحد، هو العلامة الشيخ: محمد الأمين الشنقيطي، عليه رحمة الله تعالى.
ثم إن هذا الأمر أصبح فيما بعد إجماعَ عملٍ من الأمة الإسلامية، فتلقاه الناس بالقبول، وأصبحوا يعملون به، ولا ينكره أحد من علمائهم ولا من طلاب العلم فيهم؛ فأصبح إجماع عمل بحمد الله - سبحانه وتعالى – وتوفيقه، ولا شك أن الأمة في هذا الزمن تحتاج إلى مثل هذه الحلول؛ حتى تتسع المشاعر - ومنها بيت الله الحرام - لعدد أكبر من المسلمين؛ حتى يؤدوا مناسكهم، والشعيرة العظيمة التي هي الركن الخامس من أركان الإسلام.
الحقيقة أن هذا الأمر أو هذه النازلة أصبحت - كما قلت لكم - إجماعَ عملٍ، وما كنتُ لأبحث هذه المسألة أو أعرض لها؛ فإن هذا إلى التشويش أقرب منه إلى بيان الحكم؛ فإن الناس لا يشكون فيه ولا يختلفون فيه، وإنما أردت أن أنتقل من هذه المسألة إلى المسألة التي تليها، وهي تابعة لها، ألا وهي: الطواف في المسعى. فما معنى الطواف في المسعى؟ أو ماذا نقصد بالطواف في المسعى؟(/40)
من المعروف أن الإنسان إذا أراد أن يطوف في الدور الأول أو في السطح، أن المطاف يكون متسعًا حتى يصل الإنسان إلى الناحية الشرقية من المطاف، فيقرب المسعى من المطاف، حتى يضيق المطاف جدًّا في الجهة الشرقية التي هي جهة المسعى من المطاف، إذا كان الإنسان يطوف في الدور الأول أو في السطح، فإنه إذا وصل إلى هذه الجهة، ضاق المطاف في الدور الأول أو في السطح، وقرب منه المسعى فضيق عليه، وأصبحت المسافة قليلة مع زحام الناس في رمضان أو في الحج أو نحو ذلك، يجد الناس حرجًا شديدًا في أن يدخلوا إلى المسعى، فيطوفوا جزءًا من الطواف داخل المسعى. فهذا محل حرج وكلفة ومشقة عند كثير من الناس: أنهم وهم يطوفون يضطرون إلى الدخول في المسعى، فهم يسألون ويقولون ما حُكْم أن يكون جزء من الطواف داخل المسعى؟ قبل أن أجيب على هذه المسألة، أو أذكر الحكم عليها، أحب أن أقدم بمسألة أخرى مهمة لها علاقة في الحكم على هذه المسألة، هذه المسألة: هي هل المسعى – ما بين الصفا والمروة - هل هو داخل المسجد الحرام، ويعتبر جزءًا من المسجد، أم أنه خارج المسجد؟(/41)
المسعى إلى بدايات الثمانينيات الهجرية كان خارج المسجد الحرام تمامًا، ولو أن بعضكم اطلع على بعض الصور القديمة للمسعى بين الصفا والمروة، لوجد أن الناس يسعون بين الصفا والمروة وعلى جنباتهم من اليمين والشمال الدكاكين المشرعة على المسعى، فكان المسعى مستقلاًّ وخارج المسجد الحرام تمامًا، ولهذا كان العلماء في كتب الفقه قديمًا يقولون إن المسعى خارج المسجد الحرام، ولا تتحرج المرأة إذا كانت حائضًا أن تجلس فيه؛ بسبب أنه خارج المسجد الحرام؛ لكن حينما قامت الدولة السعودية - وفقها الله لكل خير - في الثمانينيات الهجرية ببناء المسجد الحرام وتوسعته، أصبح المسجد كما تشاهدونه الآن بحيث أنه ألصق المسعى بالمسجد الحرام، وأصبح البناء واحدًا كما نشاهده الآن، هذا بحدود الثمانينيات الهجرية، فأصبح المسعى ملاصقًا، وجداره مع المسجد جدارًا واحدًا، وأبوابه مشرعة على المسجد الحرام، بعد ذلك وتقريبًا بعد الأربعمائة هجرية قامت الدولة السعودية في عهد الملك فهد - رحمه الله تعالى - بتوسعة أخرى للمسجد الحرام، فأضيف من الجهة الجنوبية الغربية أضيفت البناية والتوسعة المعروفة الآن بتوسعة الملك فهد، وفي المقابل في الجهة الشرقية أزيلت البنايات، وكان هناك شارع وجسر، فأزيل هذا الجسر وأزيلت البنايات التي في الجهة الشرقية، مما يكون خلف المسعى، فأزيلت هذه كلها، ثم وضعت ساحات و(بُلِّطَتْ) بإشكال دائرية متوافقة مع اتجاه القبلة، ووضعت عليها السياجات والجدران، وأدخلت في المسجد الحرام، وأصبح الناس يصلون خلف المسعى كما يشاهده كل أحد، ولهذا فمما يظهر لي أنه لا إشكال فيه أن المسعى الآن ما بين الصفا والمروة، أنه جزء من المسجد الحرام، فلا معنى لما كان يقوله الفقهاء قديمًا من أن المسعى خارج المسجد؛ فإن المسعى أُدخل في المسجد، ثم أدخل ما وراء المسعى في المسجد، فالمسعى كان ملصقًا بالمسجد، والآن يكاد يكون وسط المسجد أو قريبًا من ذلك،(/42)
فالآن لا معنى لأن نقول إن المسعى خارج المسجد الحرام؛كما هو موجود في كثير من كتب الفقه، هذا كان في الزمن السابق؛ أما الآن فهو جزء من المسجد.
نرجع الآن إلى بيان حكم المسألة، وهي حكم الطواف في المسعى؟ بمعنى أن الطائف - كما مر علينا - في الدور الأول أو في السطح، يطوف جزءًا من طوافه داخل المسعى، فأقول إن جماعة من أهل العلم وطلابه قد تحرجوا في هذا الأمر، ورأوا أن الإنسان لا يجوز أن يطوف داخل المسعى، وعللوا ذلك بأن المسعى خارج المسجد الحرام، و رخص بعضهم من أمثال سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز - رحمة الله عليه - والشيخ محمد بن عثيمين - رحمه الله تعالى - في أن الإنسان إذا اضطر اضطرارًا، وزحمه الناس وأخرجوه إلى المسعى، أنه يصح طوافه إن شاء الله. وبعض أهل لم يرخص ولا في حال ازدحام، وقال إنه إذا طاف جزءًا من الطواف داخل المسعى؛ فإن طوافه لا يصح. هذا هو قول عدد ليس بالقليل من أهل العلم وطلابه في هذا الزمن، وكما قلت لكم لم أطلع على تعليل لمن قال بهذا القول؛ إلا أنه قال إن المسعى خارج الحرم، وقد مر معنا قبل قليل أن المسعى كان خارج المسجد الحرام في الزمن السابق؛ أما الآن فأصبح داخل المسجد الحرام، وبالتالي فإن هذا التعليل لا يستقيم، والذي أراه - والله سبحانه وتعالى أعلم - هو أن طواف جزء من الطواف داخل المسعى أنه جائز، سواء كان هناك ضرورة بحيث أن الإنسان زحمه الناس، أو حتى لو لم يكن هناك ضرورة؛ فإن الإنسان إذا كان في السطح أو كان في الدور الأول، وكان يطوف فإذا جاء إلى جهة المسعى، لو أنه دخل من أحد أبوابه وخرج من الآخر بحيث إنه يكمل جزءًا من الطواف داخل المسعى، أن طوافه صحيح؛ وذلك لأنه لا يخرج عن كونه طاف بالبيت الحرام؛ فخروجه في هذا الجزء إلى جهة المسعى هل يخرجه عن أن يكون طاف بالكعبة، أو طاف بالبيت الحرام؟ هو لم يخرج من المسجد، هو داخل المسجد ويطوف على الكعبة المشرفة، وعلى بيت الله الحرام؛(/43)
فهو يسمى طائفًا. وما ذكره بعض أهل العلم من تعليل بأن المسعى خارج المسجد، قلنا عن هذا التعليل إنه لا يستقيم الآن بعد التوسعة الأولى والتوسعة الثانية، والذي أراه راجحًا أنه إذا طاف الطائف جزءًا من طوافه داخل المسعى، فإن طوافه صحيح ولا إشكال فيه؛ زحمه الناس أو لم يزحموه. هذا هو الذي ظهر لي رجحانه، والعلم عند الله سبحانه وتعالى.
النازلة السابعة: المبيت بعرفه ليلة عرفة:
فأولاً قبل أن نبحث هذه المسألة، من المشهور والمعروف والمتفق عليه بين مَن نقل صفة حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - أن النبي -صلى الله علية وسلم - بات ليلة التاسع بمِنى، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَدِمَ إلى مِنى من مكة يوم التروية يوم الثامن، وبات تلك الليلة بمنى، ولم يخرج من منى إلى عرفات إلا بعد أن طلعت الشمس يوم عرفة، فهذا هو هدي النبي - صلى الله علية وسلم - ولهذا فإن جماهير أهل العلم على أن المبيت ليلة التاسع أن السُّنة فيه أن يبيته الإنسان بمنى؛ لكن في هذه الأزمنه أنتم تعرفون أن الحجاج يصل عددهم أحيانًا إلى ما يقرب من ثلاثة ملايين، والحملات أحيانًا تكون عبارة عن سلسلة من السيارات الكبيرة والأتوبيسات، حتى إن بعض الحملات ربما يصل عددها إلى ثلاثين أو أربعين (باصًا).(/44)
فأصبح هؤلاء الحجاج والقائمون على العناية بأمورهم وترتيب أحوالهم، إذا طبَّقوا هذه السُّنة، وهي المبيت ليلة التاسع بمنى والانصراف أو الدفع من منى إلى عرفات بعد طلوع الشمس من يوم عرفة، يجدون مشقة وعسرًا شديدًا، وربما بعض الحملات - وقد مررت بشيء من ذلك - ربما ما يصلون إلى عرفات إلا بحدود الساعة الثانية أو الثالثة، أو حتى الرابعة ظهرًا أو بعد الظهر، فما يصل الحجاج إلى عرفات إلا وهم في حالة لا تخفى على أمثالكم من التعب والإجهاد والمشقة، ثم يصل إلى عرفات فإذا جاء وقت الدعاء والتضرع، الذي هو أعظم المواقف، التي يقول فيها النبي - صلى الله عله وسلم -: ((خير الدعاء دعاء يوم عرفة))، إذا جاء هذا الوقت وإذا بهذا الحاج في قمة الإنهاك والتعب والمشقة، وإذا هو يبحث عن الراحة، ولو أنه جاهد نفسه ودعا؛ فإنه لا يكون في حالة من الإقبال على الله - سبحانه وتعالى - واستحضار التضرع والخشوع، والإنابة إلى الله - عز وجل - والطمع فيما عنده؛ فمن أجل ذلك بدأت بعض الحملات يسألون عن مسألة لو أننا في اليوم الثامن انصرفنا عصرًا أو بعد العشاء إلى عرفات، وبتنا فيها، هل في ذلك حرج؟(/45)
فأقول لا أعلم أحدًا من أهل العلم قال إن المبيت بمنى ليلة التاسع واجب, فهم يقولون إن المبيت بمنى ليلة التاسع سُنة، وبالتالي فإن الذين يتركون هذا المبيت يتركون سُنة بحمد الله تعالى، على أن بعض الناس يقول إنا ذهبنا نطلب الخير، ونطلب ما عند الله - سبحانه وتعالى - ونقتفي آثار محمد - صلى الله عليه وسلم - فأقول وأنت على خير؛ ولكن إذا تعارضت سنة مع مجموعة من السنن، فلا شك أن الإتيان بمجموعة من السُّنن أولى من الإتيان بسنة واحدة، وإذا تعارضت سُنَّتان إحداهما آكد من الأُخرى؛ فإن ترجيح السُّنة الآكد من الفقه، فإذا كان الحاج إذا أتى ليلة عرفه وبات فيها، ثم قام الصبح وإذا هو بكامل الراحة، وحضور القلب والإقبال على الله - سبحانه وتعالى - فإنه إذا جاء وقت الدعاء - الذي هو من أعظم المواقف؛ فإن من أعظم المواقف هو موقف عرفة، ولهذا ما رُئي الشيطان أذل ولا أحقر منه في يوم عرفة؛ لما يرى من تنزل الرحمة من الله - سبحانه وتعالى - والتجاوز عن الذنوب العظام - فإن استغلال مثل هذه الساعات في حالة يكون الإنسان فيها في قمة النشاط والحيوية، والإقبال على الله - سبحانه وتعالى - لا شك أنها من أعظم وآكد سنن الحج، ولهذا الذي يظهر لي - والعلم عند الله سبحانه وتعالى - أنه إذا تعارض الأمران، فإن الأولى للإنسان أن يترك المبيت بمنى ليلة التاسع؛ من أجل أن يحصل الإقبال والدعاء والتضرع والإخبات إلى الله - سبحانه وتعالى - في يوم عرفة، وإذا كان الإنسان مثلاً يحج بسيارته، ويمكنه أن يجمع الأمرين جميعًا؛ فلا شك أن هذا نور على نور، وخير الهدي هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما لا يخفى على أحد؛ لكن مَن ذهب وأخذ بما ذكرناه؛ فإنه لا شك أنه لا يحرج عليه بأنه إنما ترك سُنة، وقد يكون هذا أفضل له، وهو الفقه بالنسبة له إذا كان سيحصِّل شيئًا أعظم مما تركه. هذه هي النازلة السابعة من نوازل الحج.(/46)
النازلة الثامنة: الإفاضة من عرفات قبل غروب الشمس لمن وقف نهارًا:
قبل أن نبحث حكم هذه النازلة، أحب أن أُنبه على أمور:
الأمر الأول: حُكْم حجِّ مَن وقف بعرفة نهارًا فقط؟ لو أن إنسانًا وقف بعرفة بعد الظهر أو بعد العصر، ثم انصرف إلى مزدلفة ولم يبقَ إلى غروب الشمس، ولم يرجع في الليل، فما حكم حجه؟ حكم حجه كما يقول الموفق بن قدامة - رحمه الله تعالى - أنه صحيح في قول جماعة العلماء، ولم يخالف من أهل العلم أحدٌ في صحة الحج؛ إلا الإمام مالك - رحمه الله تعالى - وقد قال ابن عبدالبر - وهو مالكي أيضًا - قال: "إنه لم يتابع مالكًا في هذا القول أحدٌ"؛ يعني أن مالكًا - رحمه الله تعالى - انفرد بهذا القول، ولا شك أن قول الإمام مالك - رحمه الله تعالى - في هذه المسألة شاذ؛ لأنه قول مخالف لحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث عروة بن مُضَرِّس عند الخمسة بسند صحيح، لما جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في صلاة الفجر بمزدلفة قال: "يا رسول الله، قدمت من جبلي طيئ، أتعبت راحلتي، وأنهكت بدني، وما تركت جبلاً إلا وقفت عليه، فهل لي من حج؟"، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من صلى صلاتنا هذه، ووقف معنا حتى ندفع، وكان قد وقف بعرفه ليلاً أو نهارًا؛ فقد تم حجُّه وقضى تفثَه))، فهذا نص صريح من النبي - صلى الله عليه وسلم - في أن مَن وقف بعرفة ليلاً أو نهارًا فقد تم حجُّه. وإذًا فقول الإمام مالك - رحمه الله تعالى - في هذه المسألة قول شاذ، عليه رحمة الله تعالى.(/47)
الأمر الثاني الذي أُريد أن أبحثه قبل أن نصل إلى مسألتنا هو: حكم حج مَن وقف بعرفة ليلاً فقط؟ إنسان لم يصلْ إلى عرفات إلا بعد العشاء أو في منتصف الليل، ثم وقف فيها ساعة، ثم انصرف إلى مزدلفة، فما حكم حجه؟ حجه صحيح، يقول الموفق بن قدامة - رحمه الله تعالى -: "لا أعلم في صحته خلافًا"، فهذا الحج حجٌّ صحيح، ولو لم يقف إلا في الليل؛ لحديث عروة ابن مضرس - رضي الله تعالى عنه - الذي مر معنا قبل قليل، وفيه قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((وكان قد وقف بعرفة ليلاً أو نهارًا)).(/48)
الأمر الثالث بين يدي نازلتنا هو: هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في وقوفه بعرفة. النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث جابر- رضي الله عنه - في صفة حجة النبي - صلى الله عليه وسلم – "أنه لما طلعت الشمس من اليوم التاسع أَمَرَ أن تُضرَب له قبةٌ بنَمِرَة، ثم ركب من مِنى حتى أتى نمرة - ونمرة هذه كانت قرية تقع تقريبًا إلى الجهة الشمالية الغربية من عرفات، تقريبًا قبلة المسجد الآن مسجد نمرة المعروف، وهي خارج عرفة - فلما وصل إليها نزل - صلى الله عليه وسلم - حتى زالت الشمس، فلما زالت الشمس ركب راحلته حتى أتى الوادي - الذي هو بطن عُرَنَة، وبطن عرنة أيضًا خارج عرفات - فنزل - صلى الله عليه وسلم -وخطب الناس خطبةً عظيمة، وصلى بهم الظهر والعصر جَمْعًا وقَصْرًا، ثم ركب راحلته - صلى الله عليه وسلم - وأتى الموقف ووقف عند الجبل المعروف بجبل (إيلال)، أو المعروف الآن بجبل الرحمة، ولم يَرْقَه - صلى الله عليه وسلم - أو يصعده؛ وإنما وقف أسفل الجبل، واستقبل القبلة ورفع يديه يتضرع ويدعو الله - سبحانه وتعالى - حتى غربت الشمس، فلما سقط قرص الشمس وذهبت الصفرة دفع - صلى الله عليه وسلم - مِن عرفات إلى مزدلفة". هذا هو هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا شك أن هذا هو أكمل الهدي وخير الهدي، وأن الإنسان إذا حرص على أن يقتفي آثار محمد - صلى الله عليه وسلم - أنه على خير عظيم، وأن هذه هي أكمل الأحوال. فأكمل الأحول أن يفعل الإنسان كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن يقف نهارًا، ويمكث حتى تغرب الشمس، ثم بعد ذلك ينصرف إلى مزدلفة ولا ينصرف حتى تغرب الشمس.
بعد هذه المقدمات، نرجع إلى نازلتنا، وهي مَن وقف نهارًا، فما حكم بقائه إلى أن تغرب الشمس بعرفات، بحيث إنه لا ينصرف من عرفات حتى تغرب الشمس؟ اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين:(/49)
القول الأول: هو قول جماهير أهل العلم؛ كما يقول الموفق بن قدامة - رحمه الله تعالى – وغيره، فقد قال بهذا القول أبو حنيفة، والشافعي في إحدى الروايتين، والإمام أحمد، وجَمْعٌ من الأئمة والعلماء قديمًا وحديثًا، قالوا: مَن وقف نهارًا يجب عليه أن يبقى بعرفات؛ حتى تغرب عليه الشمس، فإن خرج من عرفات قبل أن تغرب الشمس ولم يرجع إليها؛ فإنه آثم لأنه ترك واجبًا. وهل يجب عليه دم أو لا يجب؟ هذا فيه خلاف بين أهل العلم، بناء على اختلافهم فيمن ترك واجبًا: هل عليه دم أم عليه التوبة فقط؟ إذًا قول جماهير أهل العلم أن من وقف بعرفات نهارًا يجب عليه أن يبقى فيها حتى تغرب عليه الشمس.
القول الثاني: هو الرواية الثانية عن الإمام الشافعي، وهي المذهب عند الشافعية، واختارها الإمام النووي - رحمه الله تعالى - وهذا القول هو قول ابن حزم الظاهري، قال هؤلاء: إن من وقف نهارًا فإن البقاء إلى غروب الشمس سُنة في حقه. إن بقي حتى تغرب الشمس فقد أتى بهذه السُّنة واقتدى بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وإن تركها فليس عليه شيء؛ لأنه إنما ترك سُنة من السنن. نرجع إلى قول جماهير أهل العلم، الذين قالوا إن هذا واجب من واجبات الحج، فنذكر أدلتهم واحدًا واحدًا.
استدل هؤلاء بعدد من الأدلة.(/50)
الدليل الأول: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقف بعرفة نهارًا، واستمر واقفًا فيها حتى غربت الشمس، ولم يدفع حتى غربت الشمس، وكان - صلى الله عليه وسلم - يقول في حجه: ((لتأخذوا عني مناسككم))، فهذا أمر من النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن يقتدي الناس به في مناسك الحج، فنحن مأمورون بالاقتداء به، والأمر للوجوب؛ إذًا البقاء حتى تغرب الشمس واجب؛ لفعله - صلى الله عليه وسلم - ولأمره بالاقتداء به - صلى الله عليه وسلم - هذا هو الدليل الأول؛ ولكن هذا الدليل يمكن مناقشته فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان في كل أفعال الحج يقول: ((لتأخذوا عني مناسككم؛ فلعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا))، ومع هذا فإني لا أعلم أحدًا من أهل العلم يقول بأن كل ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجه أنه واجب؛ مع أن النبي - صلى الله عليه وسلم – فعله، وقال: ((لتأخذوا عني مناسككم))، وإذًا فمجرد هذا الدليل لا يكفي لإيجاب الوقوف بعرفة حتى تغرب الشمس، فالذين قالوا إنه واجب بهذا الدليل لم يقولوا بأن المبيت بمنى ليلة التاسع واجب، مع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بات فيها، وقال: ((لتأخذوا عني مناسككم)). ولم يقولوا بأن الدعاء عند الجمرات واجب، مع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا عند الجمرة الأولى والثانية، وقال: ((لتأخذوا عني مناسككم)). إذًا مجرد هذا الدليل بمفرده لا ينتج الوجوب؛ بإجماع عمل الأئمة بخلاف هذا الدليل؛ إذا هذا الدليل لا يستقيم.(/51)
الدليل الثاني: من أدلة أصحاب هذا القول: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقف بعرفة نهارًا، واستمر بها حتى غربت الشمس، وذلك منه - صلى الله عليه وسلم - مخالفة لهدي المشركين. فإن المشركين - عدا قريشًا - كانوا في الجاهلية يقفون بعرفات، وكان هديهم أنه إذا كانت الشمس على رؤوس الجبال؛ مثل العمائم على رؤوس الرجال، دفعوا من عرفة إلى مزدلفة، فأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يخالف هديُه هديَهم، فبقي - صلى الله عليه وسلم - حتى غربت الشمس، ولا شك أن من أعظم مقاصد حج النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يبطل عقائد الجاهلية وما كان عليه أهل الجاهلية في ذلك الزمان، ولهذا كان - صلى الله عليه وسلم - يخالف الجاهلية في أفعال كثيرة، كما خالفهم - صلى الله عليه وسلم - في الوقوف بعرفة، فإن قريشًا ما كانت تقف بعرفة، ويقولون نحن الحمس - يعني المتحمسون لدينهم - فكانوا يقفون بمزدلفة، وبقية الكفار يقفون بعرفات، فخالفهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأفاض من حيث أفاض الناس ووقف بعرفة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - خالفهم بمزدلفة؛ فإن المشركين في مزدلفة كانوا يقفون فيها حتى تطلع الشمس، فإذا طلعت الشمس دفعوا إلى منى، وكانوا يقولون: "أَشْرِقْ ثَبِير كي ما نغير"؛ ثبير: جبل مُطلٌّ على مزدلفة، فكانوا إذا رأوا الشمس في أعلى الجبل دفعوا من مزدلفة إلى منى، فخالفهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ودفع حين أسفر جدًّا قبل أن تطلع الشمس، وخالفهم النبي - صلى الله عليه وسلم - حينما مر بوادي مُحَسِّر؛ فإن المشركين كانوا إذا أتوا إلى وادي محسر، يقفون ويتفاخرون بشجعانهم وكرمائهم وشعرائهم إلى آخر ذلك، فأمر الله - سبحانه وتعالى - نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - في الحج وأمر المؤمنين أن يذكروه كذكرهم آباءهم أو أشد ذكرًا، فلما وصل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى وادي محسر أسرع؛ مخالفةً للمشركين. فالنبي - صلى الله عليه وسلم - في(/52)
بقائه في عرفات حتى غربت الشمس قَصَدَ مخالفة المشركين, ومخالفةُ المشركين واجبة؛ فعلى مَن وقف نهارًا أن يبقى حتى تغرب الشمس؛ مخالفةً للمشركين.
ولكن حتى هذا الدليل لا ينتج الوجوب في نظري؛ فقد ذكرت لكم آنفًا أن المشركين يبقون بمزدلفة حتى تطلع الشمس، ثم يدفعون منها إلى منى، فخالفهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ودفع قبل أن تطلع الشمس، ولم يقل أحد من أهل العلم أن الدفع من مزدلفة قبل طلوع الشمس واجبٌ؛ بل قالوا يُسنُّ للإنسان أن يدفع من مزدلفة قبل طلوع الشمس؛ لكنه ليس بواجب، مع أن هذا مخالف لهدي المشركين، وأيضًا الإسراع في وادي محسر، ما أعرف أحدًا من أهل العلم قال إن الإسراع في وادي محسر واجب؛ لكنه سُنة من السنن، لكنه في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - قد يكون متعيِّنًا من أجل أنه - صلى الله عليه وسلم - كان من مقاصد حجه أن يهدم ما كان عليه المشركون من عقائد فاسدة؛ لكن بالنسة للأمة من بعده، بعد أن انهدمت عقائد المشركين، فإن هذا الأمر لا يصل إلى درجة الوجوب، وإذًا الاستدلال بهذا الدليل في نظري أنه لا ينتج الوجوب.
الدليل الثالث: من أدلة الجمهور على أن مَن وقف نهارًا يجب عليه أن يبقى في عرفات حتى تغرب الشمس: أنه قد ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما؛ ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا كان أبعد الناس عنه - صلى الله عليه وسلم –"، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - حين وقف بعرفات، أيهما أيسر على المسلمين؟ أن يدفع من عرفات قبل غروب الشمس؛ حتى يصلوا إلى مزدلفة بنهار ووقت إسفار، أم أن يبقى في عرفات حتى تغرب الشمس.(/53)
ثم يدفعون بليل إلى أن يصلوا مزدلفة؟ وأنتم تعرفون في ذلك الوقت كان الناس ينتقلون على الإبل وعلى الحُمُر، وعلى أرجُلهم، والمسافة بين عرفات ومزدلفة تحتاج إلى وقت، فقد يمضي عامة الليل قبل أن يصل الإنسان إلى مزدلفة؛ بل إن الناس في ذلك الزمن كان الواحد منهم ربما خرج من عرفات، ولم يصل إلى مزدلفة ويتيه عنها، ولهذا كان الخلفاء وأُمراء الحج يوقدون نارًا في المشعر الحرام في مكان مرتفع يسمى (المِيقدة) من أجل ألا يضل الحجاج يمينًا أو شمالا. إذًا أيهما أيسر على المسلمين الذين حجُّوا مع محمد - صلى الله عليه وسلم - أن يدفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عرفات إلى مزدلفة نهارًا، أو ليلاً؟ لا شك أن الأيسر لهم - في نظرنا - هو أن يدفع نهارًا؛ حتى يصلوا إلى مزدلفة في وقت إسفار. قالوا فلما ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - الأمر الأيسر، وأخذ بالأمر الأشق؛ دل على أن الأمر الأيسر لا يجوز؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما؛ ما لم يكن إثمًا.(/54)
وفي نظري أيضًا أن هذا الدليل لا يستقيم، ولا ينتج الوجوب؛ فإن ثمة أكثر من احتمال لعلها هي التي حملت النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - على اختيار الآخر؛ بل قد يكون بقاء النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أن غربت الشمس هو الأرفق بالمسلمين. كيف يكون هذا؟ نقول قد يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - ما ترك الأيسر، وهو الدفع نهارًا، إلى الأشق وهو الدفع ليلاً؛ إلا ليهدم عقيدة من عقائد المشركين، وأنتم تعرفون أن من أعظم مقاصد حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - هدمَ عقائد المشركين، وإذا لم يهدمها النبي - صلى الله عليه وسلم - فمَن يهدمها؟! إذًا كان من المقاصد العظيمة للنبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك الوقت أن يهدم هذه العقيدة؛ فبقي لأنه لو لم يفعل ذلك ما انهدمت، فهذا يحتمل أنه هو الذي جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يختار هذا الأمر على الأيسر. أيضًا هناك احتمال آخر هو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما بقي حتى غربت الشمس؛ ليعلم الناس أن الوقوف بعرفة يصح ليلاً ويستمر حتى الليل، خاصة إذا عَلِمنا أن الليلة في الإسلام تَتْبَع اليوم الذي بعدها، وإذًا الأصل أن يوم عرفة ينتهي بغروب الشمس.(/55)
الأصل في الإسلام أن اليوم ينتهي بغروب الشمس، فإذا غربت الشمس دخل يوم جديد، فمعنى ذلك أن الوقوف في الليل يحتاج إلى دليل من النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى يعرف الناس أن ليلة العيد تابعة ليوم عرفة؛ وليست تابعة ليوم العيد. إذًا هذه مصلحة، و إذًا كون النبي - صلى الله عليه وسلم - يخبر الأمة، ويشرع لهم أن هذه الليلة، وإن كانت في الأصل تابعة لليوم الذي بعدها، إلا أنها في هذا اليوم تابعة لليوم الذي قبلها، هذا أرفق بالأُمة؛ لأن وقت الوقوف سيطول، وإذًا هناك أكثر من احتمال كلها يدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما ترك الأيسر على أُمته؛ إلا لمصالح عظيمة، هي أعظم من الرفق بهم في هذا الجانب، وإذًا فهذا الاستدلال - في نظري - لا يستقيم للقول بوجوب البقاء حتى تغرب الشمس.(/56)
ننتقل بعد ذلك إلى القول الثاني في هذه المسألة، وهو: قول الشافعية في أصح القولين عندهم، وهو اختيار الإمام النووي، وابن حزم الظاهري: أن مَن وقف نهارًا؛ فالبقاء إلى الليل سُنة في حقه، فإن تركه فليس عليه شيء. والشافعية يقولون إن تركه فإنه يُسنُّ له أن يذبح شاة، يسن له ويُستحب استحبابًا؛ لكنه لا يجب عليه؛ لأنه إنما ترك سُنةً، وهؤلاء يستدلون بما رواه الخمسة بسند صحيح عن عروة بن مُضَرِّس الطائي - رضي الله عنه – قال: جئت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في صلاة الفجر بمزدلفة، فقلت: "يا رسول الله، أتعبتُ راحلتي، وأجهدت بدني، وما تركت جبلاً - وفي بعض الروايات حبلاً - إلا وقفت عليه، هل لي مِن حج؟"، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن صلى صلاتنا هذه، ووقف معنا حتى ندفع، وكان قد وقف بعرفة ليلاً أو نهارًا، فقد تم حجُّه وقضى تفثَه))، قال أصحاب هذا القول: يا مَن تقولون إن الوقوف واجب، وإن مَن تركه عليه دم، هذا الدم من أجل ماذا؟ هذا الدم دم جبران لما حصل في النسك من النقص؛ لأن هذا الحاج قد ترك واجبًا، فيجبر هذا النقص الذي حصل في حجه بترك هذا الواجب، يجبره بالدم. الجبران يكون للنقص، أليس كذلك؟ حسنًا؛ النبي - صلى الله عليه وسلم – يقول: ((فقد تم حجه))، كيف تقولون إنه ناقص، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((فقد تم حجه))؟! وهل الحج التام يحتاج إلى جبران؟ لا يحتاج إلى جبران.(/57)
ثم إنه قد ورد في بعض روايات حديث عروة بن مضرس الطائي - رضي الله تعالى عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال: ((مَن صلى صلاتنا هذه، ووقفا معنا حتى ندفع، وكان قد أفاض من عرفات ليلاً أو نهارًا، فقد تم حجه وقضى تفثه)). فإذا كانت هذه الرواية - وهي عند النسائي والإمام أحمد – محفوظةً، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((كان قد أفاض من عرفات ليلاً أو نهارًا - يعني وقف، ثم دفع ليلاً أو نهارًا - فقد تم حجه وقضى تفثه))، وليس بعد التمام نقص، وليس مع التمام نقص. وهذا الدليل لا أعرف أن جمهور أهل العلم أجابوا عنه بإجابة تُبطِل الاستدلالَ به. ولهذا الذي يظهر لي - والعلم عند الله سبحانه وتعالى - هو القول الثاني في هذه المسألة، وأن مَن وقف بعرفة نهارًا يُسنُّ له أن يبقى فيها حتى تغرب الشمس؛ ولكن لو دفع منها قبل غروب الشمس، فهو إنما ترك سُنة من السنن، وليس عليه شيء، وحجه تام بنص حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي مر معنا في حديث عروة بن مضرس الطائي - رضي الله عنه - وهذا القول تلاحظون أنه يعضده دليل قوي ثابت، حتى يقول الترمذي: حديثُ عروة بن مضرس حديثٌ صحيح، والحاكم - رحمه الله تعالى – يقول: هذا الحديث على شرط الأئمة كافة. إذًا هذا القول يعضده الدليل، واستدلالات الجمهور الذين قالوا بالوجوب - كما مر معنا - فإنها مُناقَشة. فهذا هو الراجح - والعلم عند الله سبحانه وتعالى - وهذا هو المتوافق - بإذن الله عز وجل - مع حاجة المسلمين، وما يعانونه من مشقة وعسر وضيق؛ بسبب كثرة الأعداد، وتأخر وقت الانصراف. وأنتم تعرفون أنه قبل سنوات قريبة - وسنعرض لهذا - إن شاء الله - في نازلة قادمة - أن الناس لم يصلوا إلى مزدلفة إلا بعد طلوع الشمس! لماذا؟ لأنهم ما انصرفوا إلا بعد غروب الشمس، فحينما ينصرف ثلاثة ملايين حاج في وقت واحد، مع طرق محدودة، مسافة سبعة كيلو مترات، فمتى سيصل آخر الحجاج؟ وسنعرض(/58)
المسألة - إن شاء الله تعالى - في مجلس آخر. لم يصلوا إلى مزدلفة إلا بعد طلوع الشمس، وبعض أهل العلم يقول إن الوقوف بمزدلفة ركن من أركان الحج، فكيف نجبر الناس على أن يقفوا حتى تغرب الشمس، مع أن الأدلة التي استدل بها مَن قال بهذا القول - كما تلاحظون – ضعيفة، ومَن قال بأن الوقوف والبقاء إلى غروب الشمس سُنة، أدلتهم قوية. هذا الذي يظهر لي في هذه المسألة، والعلم عند الله.
النازلة التاسعة: العجز عن المبيت بمزدلفة:
أعداد الحجيج في هذه السنوات تصل إلى ما يقرب من ثلاثة ملايين، والسيارات الكبيرة والصغيرة تصل إلى الآلاف، و الطرق محدودة، ولهذا يظهر بعض المشاكل في خطة السير، فيتعرقل جزء كبير من الحجيج، وفي بعض السنوات تعرقل بعض الحجاج فلم يبلغُوا مزدلفة إلا بعد طلوع الشمس، وهذه لا شك أنها نازلة، وكثير من الحجاج أقلقهم هذا الأمر، وسألوا عنه كثيرًا، ولذلك كان من المناسب أن نبحثها في هذا المجلس، خاصةً أن الأمر ليس نادرًا أو شاذًّا، فمع كثرة الحجيج وكثرة السيارات ربما هذا يحصل كل سَنة؛ لكنه في سنة واحدة ظهر واستفاض لوجود مشكلة كبيرة؛ لكن في بعض السنوات ربما يكون العدد أقل، ولهذا ما تظهر على السطح، فنريد أن نتحدث عن هذه النازلة.
وقبل أن نبحث الحكم فيمَن فاته الوقوف بمزدلفة بهذا السبب ونحوه، نقدم ببعض المقدمات المهمة في هذا الباب.(/59)
أول هذه المقدمات هي بيان هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في مزدلفة، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث جابر، وغيره من الأحاديث التي نقلتْ صفةَ حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - لما غربت الشمس من يوم عرفة، وسقط قرص الشمس وذهبت الصفرة، دفع - صلى الله عليه وسلم - من عرفات إلى مزدلفة، وكان يسير وعليه السكينة والوقار، ويقول: ((أيها الناس، السكينةَ السكينةَ؛ فإن البر ليس بإيجاف الخيل والإبل))، وما زال - صلى الله عليه وسلم - في طريقه عليه السكينة؛ حتى بلغ جَمْعًا؛ يعني بلغ مزدلفة. ومزدلفة تُسمى مزدلفة، وتسمى جَمْعًا، وتسمى المَشعَر الحرام، هذه كلها أسماء لبقعة واحدة، ومنسك واحد من مناسك الحج، وهي المزدلفة، فلما بلغها النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يبدأ بشيء قبل الصلاة.
حتى إن الأحمال ما أُنزلت من على ظهور الإبل، فأمر المؤذن فأذَّن ثم أقام ثم صلى - صلى الله عليه وسلم - بالناس صلاة المغرب، ثم أناخ كل إنسان بعيرَه، ثم أقيمت الصلاة وصلى بهم - صلى الله عليه وسلم - صلاة العشاء ركعتين، ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - اضطجع أو رقد في تلك الليلة، ولما كان من آخر الليل أمَرَ ضعفةَ أهلِه - صلى الله عليه وسلم - فدفعوا إلى منى، وكان معهم عدد من الشباب من بني عبدالمطلب من أمثال ابن عباس ونحوه في السِّن، فدفعوا من آخر الليل إلى منى، وأما النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه بقي في مزدلفة، حتى إذا بزغ الفجر، قائل يقول إنه طلع الفجر، وقائل يقول إنه لم يطلع، أُذِّن لصلاة الفجر ثم أقيمت الصلاة ثم صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمسلمين صلاة الفجر في المزدلفة، فلما صلى صلاة الفجر ركب بعيره وأتى إلى المشعر الحرام.(/60)
والمشعر الحرام اسم لكل مزدلفة، واسم لجبل في مزدلفة يسمى جبل المشعر الحرام، هذا الجبل أزيل الآن وأقيم عليه المسجد المعروف الآن بمسجد المشعر الحرام، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى وقف عند المشعر الحرام، فقال: ((وقفتُ هاهنا، وجَمْع كلها موقف، وارفعوا عن بطن مُحَسِّر))، ثم استقبل القبلة - صلى الله عليه وسلم - فوحَّد الله، وهلَّله، وكبَّره، ورفع يديه يدعو ويتضرع - صلى الله عليه وسلم - حتى أسفر جدًّا؛ يعني قبيل شروق الشمس، ثم ركب ناقته ودفع إلى منى - عليه الصلاة والسلام - عليه السكينة والوقار. هذا هو هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في مزدلفة، وكان المشركون لا يدفعون من مزدلفة حتى تطلع الشمس، وكانوا يقولون "أَشْرِقْ ثَبِير كي ما نغير"؛ ثبير جبل يطل على مزدلفة، هو أرفع الجبال، كانوا ما ينصرفون من مزدلفة حتى تطلع الشمس على هذا الجبل، فخالفهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ودفع قبل طلوع الشمس، هذا هو هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في مزدلفة، ولا شك أن خير الهدي وأكمل الهدي هو هدي رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
بعد ذلك ننتقل إلى المقدمة الثانية، قبل الحديث عن مسألتنا التي بين أيدينا، هذه المقدمة هي:(/61)
ما حكم المبيت بمزدلفة ليلة العيد؟ فأقول إن أهل العلم اختلفوا في ذلك على ثلاثة أقوال: فمن أهل العلم مَن قال إن المبيت بمزدلفة ليلة العيد ركنٌ من أركان الحج، لا يتم الحج إلا به؛ فمن فاته فقد فاته الحج. ومن أهل العلم مَن قال إن المبيت بمزدلفة واجبٌ من واجبات الحج، وليس ركنًا، وهذا القول هو قول جماهير أهل العلم، بما فيهم الأئمة الأربعة. والقول الثالث من أقوال أهل العلم أن المبيت بمزدلفة ليلة العيد سُنةٌ. والذي لا ريب فيه ولا شك - والعلم عند الله - هو رجحان قول مَن قال إن المبيت بمزدلفة واجبٌ من واجبات الحج؛ يجب على الحاج لكنه لو فاته فإن حجه صحيح. والذين قالوا بأنه واجب من واجبات الحج استدلوا بعدد من الأدلة، لكن من أظهر هذه الأدلة قول الله - سبحانه وتعالى -: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 198].(/62)
والمشعر الحرام - كما قلت لكم قبل قليل - هو اسم من أسماء مزدلفة، كما أن مما استدل به هؤلاء على وجوب المبيت بمزدلفة حديثَ عروة بن مضرس، الذي مر معنا في المجلس الماضي، وقد رواه الخمسة، وهو حديث صحيح، وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعروة بن مضرس: ((مَن صلى صلاتنا هذه، ووقف معنا حتى ندفع، وكان قد وقف بعرفة ليلاً أو نهارًا؛ فقد تم حجُّه، وقضى تفثه))، فقيد النبي - صلى الله عليه وسلم - تمام الحج بالوقوف بمزدلفة؛ يعني قال: ((من صلى صلاتنا هذه ووقف معنا حتى ندفع))، ومن أدلتهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقف بجمع أو بات بمزدلفة، وقال: ((لتأخذوا عني مناسككم)). هذا هو ما استدل به أصحاب هذا القول على أن المبيت بمزدلفة واجب من واجبات الحج، كما أن مما استدل به أصحاب هذا القول أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخَّص للضعفة من آخر الليل...إلخ، والرخصة لا تكون إلا في مقابل الواجب؛ فإنه لا يقال رخص لهم في ترك السُّنة؛ وإنما يقال رخص لهم في ترك الواجب، أو جزء من الواجب.(/63)
أما مَن قال إن المبيت بمزدلفة ركنٌ في الحج، فإن هؤلاء أظهرُ دليلٍ لهم هو ما ورد في بعض روايات حديث عروة بن مضرس الطائي - رضي الله تعالى عنه - كما عند النسائي، فإنه ورد في رواية عند النسائي أن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال: ((مَن أدرك الإمام والناس، وأفاض معنا فقد أدرك، ومن فاته الناس والإمام فلم يدرك))؛ يعني مَن أدرك الوقوف مع الإمام والناس، وأفاض معهم؛ فقد أدرك الحج، ومَن فاته الوقوف مع الناس، والإفاضة معهم؛ فقد فاته الحج. لكن هذه الرواية كما عليه أكثر أهل العلم أنها رواية غير محفوظة، لا تصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما قرر ذلك الحافظ ابن حجر - رحمه الله تعالى - والشِّنْقِيطِي كما في "أضواء البيان". فهذه الرواية لا تصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما حديث عروة بن مضرس روايتُه المحفوظة هي الرواية التي كررناها مرارًا، أن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال: ((من صلى صلاتنا هذه، ووقف معنا حتى ندفع، وكان قد وقف بعرفة ليلاً أو نهارًا؛ فقد تم حجه وقضى تفثه))، أيضًا مما يدل على أن المبيت بمزدلفة ليس ركنًا في الحج حديثُ عبدالرحمن بن يعمر- رضي الله تعالى عنه - الذي رواه أصحاب السنن، والإمام أحمد بسند صحيح، أن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال: ((الحج عرفة؛ فمن أدرك عرفة قبل طلوع الفجر من ليلة جَمْعٍ فقد أدرك - وفي بعض الروايات - فقد تم حجه))، في هذا الحديث يخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن مَن أدرك الوقوف بعرفة، ولو لحظة قبل طلوع الفجر من ليلة مزدلفة؛ فقد تم حجُّه، وأدرك الحج، فالإنسان الذي لا يقف بعرفة إلا في آخر لحظة من ليلة مزدلفة، متى سيقف في مزدلفة؟ إذًا كان جمهور أهل العلم يقولون إن الوقوف قبل طلوع الفجر، فهذا بالتأكيد سيفوته الوقوف بمزدلفة، ولو كان إذا فاته الوقوف بمزدلفة لا يصح حجُّه لأخبر بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - لكنه قال: ((فقد تم حجه))، فهذه(/64)
الأدلة بمجموعها تدل على أن المبيت بمزدلفة واجبٌ من واجبات الحج، يأثم الإنسان بتركه متعمدًا؛ ولكنه لا يبطل حجه؛ بل حجه صحيح، هذا هو أعدل الأقوال في مسألة حكم المبيت بمزدلفة. أما قول مَن يقول إنه سنة فهذا قول ضعيف، ومستنده ضعيف؛ فإنهم يقيسونه على المبيت بمنى ليلة التاسع، ولا شك أن هذا قياس فاسد الاعتبار؛ لأنه في مقابل النص.
المقدمة الثالثة: المقدار الواجب من المبيت في مزدلفة:
قلنا إن المبيت بمزدلفة واجب على الصحيح من أقوال أهل العلم، وهو الذي عليه جماهير أهل العلم، فما هو المقدار الواجب من هذا المبيت؟ يعني كم يجزئ الإنسان من هذا المبيت؛ بحيث يقال له قد أتيت بالواجب؟ في مسألة الوقوف بعرفة من حديث عروة بن مضرس الطائي، ومن حديث عبدالرحمن بن يعمر، عرفنا أن الوقوف بعرفة يكفي فيه لو دقيقة واحدة، وكان قد وقف بعرفة ليلاً أو نهارًا؛ أيُّ وقوفٍ بعرفة حتى ولو مرور، فإنه يكفي ويَصدُق على هذا الإنسان أنه وقف بعرفة، وأنه أدرك الحج. فالمبيت بمزدلفة الذي أمر الله - سبحانه وتعالى - به وأمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث عروة بن مضرس وغيره، ما هو المقدار الذي نقول إن الإنسان إذا أتى به فقد أتى بالواجب، وما زاد على ذلك فهو سُنة؟ لا شك أن أكمل الهدي وخيره هو هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأن أكمل ما يفعله الحاج أنه إذا جاء إلى مزدلفة يصلي بها المغرب والعشاء، ويبيت بها ويصلى الفجر ويقف الموقف، ويدعو حتى يسفر جدًّا، ثم يدفع منها، هذا لا شك أنه هو الكمال بالنسبة لهذه الشعيرة. لكن ما نريد أن نتحدث عنه هو المقدار الواجب، الذي إذا أتى به الإنسان فقد بَرِئَتْ ذمتُه، وخرج من العهدة، وإذا لم يأتِ به أَثِمَ لتفريطه وتركه واجبًا من واجبات الحج. وعلى الخلاف فيما يترتب عليه بعد ذلك. فما هو هذا المقدار؟
اختلف أهل العلم في المقدار الواجب من المبيت بمزدلفة على أقوال:(/65)
القول الأول: فذهب الإمام مالك - رحمه الله تعالى - إلى أنه يكفي الحاجَّ أن يقف بمزدلفة بمقدار ما يصلي المغرب والعشاء ويتعشى، فإذا وقف بمزدلفة هذا المقدار؛ فإنه قد أتى بالواجب. يعني إذا قلنا مثلاً صلاة المغرب والعشاء تحتاج إلى ربع ساعة، والعشاء يحتاج مثلاً إلى ربع ساعة، فمعنى ذلك أن الإمام مالك - رحمه الله تعالى - يقول إنه إذا وقف بمزدلفة مقدار نصف ساعة، فإنه يجزئه ذلك ولو دفع بعد ذلك، فلو وصلتَ إلى مزدلفة الساعة التاسعة مساءً، ثم بقيتَ فيها نصف ساعة ثم انصرفت؛ فإنك عند الإمام مالك تكون قد أتيت بالواجب. وما زاد على ذلك فهو تطوع وهو سُنة؛ بل إن من المالكية من قال يكفي من الوقوف بمقدار ما يُنزل الإنسانُ رَحْلَه. هذا هو القول الأول في هذه المسألة.
القول الثاني: وهو الذي ذهب إليه الشافعي، والإمام أحمد، وجماعة من أهل العلم، قالوا إن المقدار الواجب لمن وقف قبل منتصف الليل أن يقف حتى منتصف الليل، ومَن وقف بعد منتصف الليل فإنه يجزئه أيُّ وقوف، فإذا أردنا أن ننصف الليل إلى نصفين، فإنا نحسب المسافة الزمنية من غروب الشمس إلى طلوع الفجر؛ وليس كما يتبادر للأذهان أنه من غروب الشمس إلى طلوعها. الليل من غروب الشمس إلى طلوع الفجر، فإننا إذا قلنا هذا المقدار ثماني ساعات مثلاً، فالمنتصف هو أربع ساعات من غروب الشمس، فعند الشافعي وأحمد - عليهما رحمة الله - يجب من الوقوف بمزدلفة إذا وقف الإنسان قبل منتصف الليل، أن يبقى فيها حتى ينتصف الليل، وإن وقف بعد منتصف الليل أجزأه أيُّ وقوف. هذا هو قول الشافعي، وأحمد، وجماعة من أهل العلم.(/66)
القول الثالث: قول أبي حنيفة - عليه رحمة الله تعالى - والإمام أبو حنيفة يختلف عن الأئمة الثلاثة، فإنه يرى أن الوقوف بمزدلفة من بعد طلوع الفجر، فمن وقف أول الليل فإنه يجب عليه أن يبقى - عند الإمام أبي حنيفة - حتى يطلع الفجر؛ لأن الوقوف عنده من بعد طلوع الفجر. هذه هي أقوال أهل العلم في هذه المسألة.
أما أبو حنيفة - رحمه الله تعالى - الذي يقول يجب الوقوف إلى طلوع الفجر، وإن الوقوف المشروع بعد الصلاة، فإنه يستدل على ذلك بحديث عروة بن مضرس الطائي - رضي الله عنه - وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال: ((من صلى صلاتنا هذه، ووقف معنا حتى ندفع، وكان قد وقف بعرفة ساعة من ليل أو نهار؛ فقد تم حجه وقضى تفثه)). هذا هو مستند الإمام أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - في أن الوقوف بعد صلاة الفجر؛ ولكن الحقيقة أن هذا الحديث ليس على ظاهره في أن الوقوف الواجب بعد صلاة الفجر، بدليل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما ثبت في الصحيحين من حديث أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنهما - ومن حديث ابن عمر، وحديث ابن عباس، وحديث عائشة - رضي الله عنهم - أنه - صلى الله عليه وسلم - قدَّم ضعفةَ أهله بليلٍ للدفع إلى منى، ولا يمكن أن يرخص لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في ترك الواجب، فهذه الأدلة تدل على أن هؤلاء الضعفة مِن النساء ومَن يرافقهم، أنهم أتوا بجزء من الواجب، ثم رخص لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في باقيه، وفي الدفع إلى منى، فهذا دليل على أن الوقوف يجب قبل طلوع الفجر، لا كما يقول أبو حنيفة - رحمة الله تعالى عليه - إن الوقوف الواجب بعد صلاة الفجر، هذا هو قول أبي حنيفة - رحمة الله تعالى عليه - في هذه المسألة.(/67)
أما قول الأئمة الشافعي وأحمد في أن المقدار الواجب إلى منتصف الليل، فإذا انتصف الليل فإن الباقي سُنة ولا يجب، فإنهم يستدلون على ذلك بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما ثبت في أحاديث كثيرة، أَذِنَ للضعفة من أهله أن يدفعوا بليلٍ؛ كما في حديث ابن عمر، وحديث ابن عباس، وحديث عائشة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أَذِنَ لهم أن يدفعُوا بليلٍ، فقالوا إذا رخص للضعفة ومَن يرافقهم؛ فهذا دليل على أنه قد أُتي بالواجب، فإذا انتصف الليل وذهب أول الليل وأتى آخره، جاز للضعفة أن يدفعُوا، وهذا دليل على أن الواجب قد أُتي به، وما عدا ذلك فإنه ليس بواجب، فنقول إن هذا المقدار هو الواجب إلى منتصف الليل، وما زاد على ذلك فهو غير واجب، ولهذا الشافعي وأحمد - عليهما رحمة الله - يرخصان بعد منتصف الليل للضعفة وللأقوياء جميعًا، فمَن بقي إلى منتصف الليل فقد أتى بالواجب، وما بقي فهو سُنة في حقه.(/68)
أما القول الأول، وهو قول الإمام مالك - رحمه الله تعالى - وهو أن الواجب من المبيت بمزدلفة بمقدار ما يصلي الحاج المغرب والعشاء ويتعشى، أو قول بعض أصحابه إنه يكفي بمقدار ما ينزل الإنسان رحله، فإن حُجة هؤلاء هي ظاهر الآية، فإن الله - سبحانه وتعالى – يقول: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ } [البقرة: 198]، فإذا وقف الإنسان بمزدلفة، وصلى المغرب والعشاء وذكر الله؛ فقد وقف عند المشعر الحرام. وأنتم تعرفون أن الصلاة من أعظم الذكر، كما قال الله - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } [الجمعة: 9]؛ يعني اسعوا إلى الصلاة، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } [التغابن: 9]، قال الضحاك - رحمه الله -: "ذكر الله: الصلوات الخمس". فإذا أتى بهذا فقد أتى بالمأمور به في كتاب الله - سبحانه وتعالى - وما زاد على ذلك فإنه مستحب وكمال؛ ولكنه غير واجب. وما استدل به الشافعية والحنابلة في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث عروة بن مضرس: ((مَن صلى صلاتنا هذه، ووقف معنا حتى ندفع، وكان قد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهارًا؛ فقد تم حجه، وقضى تفثه))، فإن هذا كما يقول الموفق بن قدامة - رحمه الله تعالى - بإجماع أهل العلم، إن الحاج لو أنه وقف حتى طلع الفجر، ولم يُصلِّ الفجر بمزدلفة، ولم يذكر الله - سبحانه وتعالى - في مزدلفة، ودفع قبل ذلك أن وقوفه صحيح، وإذا كان المأمور به صريحًا في الحديث ليس بواجب، فلازِمُه غير واجب من باب أولى.(/69)
والذي يظهر - والعلم عند الله سبحانه وتعالى - في هذه المسألة، هو وجاهة ما ذهب إليه الإمام مالك - رحمه الله تعالى - في هذه المسألة، وأن هذا هو المقدار الواجب من المبيت، وما ورد من أدلة في هذا الباب؛ كقول النبي - صلى الله علبه وسلم - كما في حديث عروة بن مضرس: ((مَن صلى صلاتنا هذه، ووقف معنا حتى ندفع))، أو أنه أذن للضعفة آخر الليل، أو بليل..إلخ. فإن هذه كلها تدل على أن المبيت بمزدلفة منه قَدْرٌ واجب، ومنه قدر كمال واستحباب. فالواجب هو ما أُمر به في كتاب الله - سبحانه وتعالى - وما زاد على ذلك يكون كمالاً، ولا شك أن هذا القول له وجاهته؛ إلا أن قول أكثر أهل العلم في هذه المسألة له أدلة قوية، وهو محل اعتبار؛ ولكن بالنظر إلى أحوال الناس في هذه الأزمنة، فالازدحام الشديد، وكثرة الحجاج، وكثرة السيارات، وكثير من الناس ربما يأتي إلى مزدلفة فيدخل من طرف ويخرج من الطرف الآخر ما يستطيع أن ينزل بها، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - راعى الضعفاء مِن أهله ومَن كان معهم، وأن الناس في مثل هذه الأزمنة في حاجه شديدة، ولا تقوم الأدلة قيامًا وجيهًا؛ بحيث لا يتوجه عليها مناقشة، بأنه يجب المبيت إلى طلوع الفجر، أو إلى آخر الليل، أو إلى منتصف الليل. فالذي يظهر - والعلم عند الله سبحانه وتعالى - أن قول الإمام مالك - رحمه الله تعالى - في هذه المسألة، له وجاهة، وله حظ من النظر. الأَوْلى بالإنسان ألا يتعرض لخلاف أهل العلم، ويدخل بمسألة هل أتى بالواجب أو لم يأتِ به، ويحتاط لنفسه، لكن لو أن الإنسان حصل له مثل ما يحصل كثيرًا في أيامنا هذه، من أنه دخل متأخرًا في مزدلفة، وما استطاع أن يبقى فيها بعد امتلاء مواقفها وساحاتها ونحو ذلك، أننا نقول: مجرد دخوله إلى مزدلفة من طريق وخروجه من الطريق الآخر، وبقائه فيها مدة من الزمن أنه يَصدُق عليه أنه أتى بما أوجبه الله - سبحانه وتعالى – عليه، وأن هذا القدر يكفي في رفع(/70)
الإثم عنه؛ ولكن كما قلت قبل ذلك الأكمل ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته الكرام.
نأتي الآن إلى المسألة التي بين أيدينا وهي: حكم مَن عجز عن المبيت الواجب بمزدلفة؟
حصل في بعض السنوات أن بعض الحجاج ما وصل إلى مزدلفة إلا بعد طلوع الشمس، وانتهاء وقت الوقوف بمزدلفة تمامًا.
فأولاً على ما رجحناه في حُكْم المبيت بمزدلفة، وأنه واجب وليس بركن؛ فإننا نقول إن حجه صحيح؛ لأن الراجح من أقوال أهل العلم أن المبيت بمزدلفة ليلة العيد واجبٌ من واجبات الحج، والواجب إذا تركه الحاج، فإن حجه صحيح، ومسألة ماذا يترتب على ذلك نبحثها الآن، المهم أن نعرف أن الحاج الذي يفوته الوقوف بمزدلفة، ويعجز عنه أن حجه صحيح.
نأتي بعد ذلك إلى حكم المسألة التي بين أيدينا في جزئها الثاني: إذا كان الحج صحيحًا، فماذا يلزمه؟ الكلام عمن عجز عن المبيت بمزدلفة، لا عمن ترك المبيت بمزدلفة مختارًا. يعني إنسان خرج من عرفات، وذهب إلى منى مباشرةً، وجلس فيها بدون عذر، هذا ما نتكلم عنه، هذا ترك الواجب مختارًا، ويلزمه ما يلزم مَن ترك الواجب مختارًا مِن الإثم ووجوب التوبة، والجبران عند مَن يقول به. نحن نتكلم عما يحصل لبعض الحجاج في هذه الأزمنة، وهي أنه ربما عجز عن الوصول إلى مزدلفة حتى يفوت وقتها أحيانًا؛ كأن يكون في سيارة مثلاً وفي الطريق يتوقف السير، ما يستطيع أن يذهب لأن أهله معه في السيارة، وإذا جلس انتهى وقت الوقوف بمزدلفة قبل أن يصل إليها، إذًا هذا عاجز عن الوقوف بها، وتركه الوقوف بها عُذْرُه العجز. فماذا يلزم هذا العاجزَ؟(/71)
ذهب بعض أهل العلم إلى أن مَن أُحصِر عن الواجب فإن عليه دمًا. من أحصر يعني مُنع، حيل بينه وبين الواجب؛ مثل مَن حيل بينه وبين الوقوف بمزدلفة، أن عليه دمًا؛ يعني يجبره بدم، وجبران الدم مبني على أثر ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - وهو قوله - رضي الله عنه -: "مَن ترك نسكًا من غير الفريضة؛ فليهرق دمًا". هذا قولٌ في هذه المسألة.
القول الثاني في هذه المسألة: وهو الذي أفتى به سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز، والشيخ محمد العثيمين - رحمهما الله تعالى - أفتيا به الحجاج الذين عجزوا عن المبيت بمزدلفة، وأنه لا يلزمهم شيء، فما دام أنهم تركوا المبيت عجزًا؛ فإنه لا يلزمهم شيء.
ما حُجة مَن قال بهذا القول؟
استدلوا بدليلين:
الأول: حديث عبدالرحمن بن يعمر الديلي - رضي الله تعالى عنه - وقد رواه الخمسة، وهو حديث صحيح، وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال: ((الحج عرفة؛ فمن جاء قبل طلوع الفجر من ليلة جَمْع؛ فقد تم حجه))، هذا هو الشاهد، فمَن وقف ولو للحظة قبل طلوع الفجر بعرفات؛ فقد تم حجه. ومن المعروف أن مَن وقف في هذا الوقت لن يقف في مزدلفة؛ يعني في آخر لحظة من الليل، فإنه عند جمهور أهل العلم قد انتهى؛ لأن وقت المبيت الواجب عندهم ينتهي بطلوع الفجر. فمن وقف في آخر لحظة في عرفة وهو طلوع الفجر، فإنه بالتأكيد لن يستطيع أن يقف بمزدلفة. والنبي - صلى الله عليه وسلم – يقول: ((فقد تم حجه))، وهذا دَلالته أن مَن وقف بآخر لحظة من "وقت الوقوف بعرفة" بعرفة، ففاته الوقوف بمزدلفة، وفواته ذلك بعذر؛ لأنه ما وقف بعرفة إلا في آخر وقتها؛ فقد تم حجه، وما على مَن تم حجه من شيء. هذا هو الحُجة الأولى لمن قال بهذا القول.(/72)
الدليل الثاني: قالوا إن كل ما عجز عنه المكلَّف من الواجبات ومن شرائط العبادات، فإنه يسقط؛ كما قرر هذه القاعدة شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره، في أن ما عجز عنه المكلَّف من شرائط العبادات ومن واجباتها، فإنه يسقط. كما لو أن الإنسان مثلاً عجز عن ستر العورة، أو غير ذلك؛ كالسجود ونحوه، فإن من عجز عن شيء من الواجبات وشرائط العبادات، فإنه يسقط عنه بالعجز؛ لعموم الأدلة الدالة على أن الله - سبحانه وتعالى - لا يكلف الإنسان إلا وسعه: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، وهذا القول هو اختيار الشيخين ابن باز والعثيمين - رحمهما الله تعالى - كما سبق، وهذا هو الذي يظهر لي رجحانه في هذه المسألة، والعلم عند الله.
بقية مسألة ليس من النازلة التي نريد أن نتحدث عنها؛ لكن من المهم أن ننبه عليها؛ لأن الترجيح في المسألة السابقة قد يترتب علية إشكال، فقد ذكرت لكم قبل قليل في مسألة المقدار الواجب من الوقوف بمزدلفة أن قول الإمام مالك - رحمه الله تعالى - في هذه المسألة وجيهٌ، وأن الإنسان لو وقف في مزدلفة ربع ساعة أو نصف ساعة، أو مرَّ بها مرورًا؛ فإن هذا يجزئه على قول الإمام مالك - رحمه الله تعالى - وهو قول وجيه، له حظ من النظر. لكن قد يترتب على هذا أمر آخر، وهو أن يأتي إنسان مثلاً من عرفات، فيصل إلى مزدلفة الساعة التاسعة، ثم يقف فيها لمدة ساعة، ثم يركب سيارته ويذهب إلى جمرة العقبة ويرميها، فحتى لا نقع في هذا الإشكال؛ أردت أن أنبه على هذه المسألة التي أمامكم، وهي مسألة - حتى لو قلنا بقول الإمام مالك - رحمه الله تعالى - ووقف الإنسان بمزدلفة مقدار الواجب، ثم دفع قبل منتصف الليل.
متى يبدأ وقت رمي جمرة العقبة؟(/73)
لا شك أن رمي جمرة العقبة بعد طلوع الشمس، هو هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو أكمل الأحوال، وهو صحيح بإجماع أهل العلم؛ لكن قبل هذا الوقت، متى يجوز له أن يرمي جمرة العقبة؟ متى يبدأ وقتها؟ لا أعلم أحدًا من أهل العلم قال يجوز أن ترمي جمرة العقبة قبل منتصف الليل؛ حتى الإمام مالك - رحمه الله تعالى - الذي يقول إنه يجزئه أن يقف بمزدلفة بمقدار ما يصلي بها المغرب والعشاء ويتعشى، يقول لا يجوز له أن يرمي جمرة العقبة؛ حتى تطلع الشمس. وإنما اختلفوا فيما بين منتصف الليل إلى طلوع الشمس، فقال الشافعي وأحمد: إذا انتصف الليل جاز لمن بمزدلفة أن يدفع، وجاز له أن يرمي جمرة العقبة، وقال بعض أهل العلم: لا يرميها حتى يطلع الفجر، وقال بعض أهل العلم: لا يرميها حتى تطلع الشمس. هذه ثلاثة أقوال في هذه المسألة، وهي بداية وقت رمي جمرة العقبة، مَن قال بأن وقت الرمي يبدأ بعد منتصف الليل هم الشافعي وأحمد ومَن قال بقولهم.(/74)
وهؤلاء استدلوا بأدلةٍ من أظهرها وأقواها ما رواه أبو داود عن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أرسل أم سلمة بليلٍ، فرمت جمرة العقبة قبل الفجر، ثم أفاضت إلى البيت وصلَّت الصبح في مكة"، فأم سلمة - رضي الله تعالى عنها - رخَّص لها النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تدفع بليلٍ، فذهبت ورمت جمرة العقبة قبل الفجر، ثم ذهبت من جمرة العقبة إلى المسجد الحرام، وأفاضت وصلت الفجر هناك؛ فهذا نص صريح أنها رمت قبل الفجر. ومن أدلة أصحاب هذا القول ما في صحيح البخاري وغيره من حديث عبدالله مولى أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنها -: "أنها وقفت بمزدلفة، ثم أخذت تصلي، ثم قالت لمولاها: "يا بني هل غاب القمر؟"، قال: لا، فرجعتْ فصلَّت، ثم قالت: "هل غاب القمر؟"، قال: نعم، فأمرتْ أن يرتحلوا، فارتحلوا حتى أتوا منى، ثم رموا جمرة العقبة، قال مولاها: فرجعنا إلى منزلها - يعني بمنى - ثم صلَّت الصبح فقلتُ: يا هَنْتَاهْ لقد غلَّسنا - يعني صلينا الفجر بغلس - فقالت: "يا بني قد أَذِن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – للظُّعُن".
والظعن جمع ظعينة، وهي: المرأة التي تركب على البعير، فالشاهد في هذا أن سياق الدليل يدل على أنها رمت قبل طلوع الفجر؛ لأنها رمت ثم رجعت إلى منزلها، ثم صلت الفجر بغلس. هذا حُجة مَن قال إنه يجوز الرمي بعد منتصف الليل، إذا جاز الدفع جاز الرمي. وأما الذين قالوا إنه لا يجوز الرمي إلا بعد طلوع الفجر فقد احتجوا بحديث أسماء نفسه! وقالوا إن حديث أسماء ظاهرُه أنها ما رمت حتى طلع الفجر. والذي يظهر لي - والعلم عند الله سبحانه وتعالى - أن أسماء رمت قبل طلوع الفجر؛ لأنها رمت ثم ذهبت إلى منزلها فصلَّت، فقال مولاها: "يا هَنْتَاهْ لقد غلسنا". فبعد رميها ذهبت إلى بيتها ثم صلت الفجر.(/75)
فالذي يظهر لي - والله سبحانه وتعالى أعلم - أن حديث أسماء يدل على أن الرمي قبل طلوع الفجر. أما الذين قالوا إن الرمي لا يجوز إلا بعد صلاة الفجر وبعد طلوع الشمس، فاستدلوا بما رواه أهل السنن عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: "قدَّمنا رسولُ الله - صلى لله عله وسلم - ليلة جَمْع أُغيلمة بني عبدالمطلب، فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَلْطَحُ أفخاذنا ويقول: ((أُبَيْنِيَّ لا ترموا حتى تطلع الشمس))؛ أبيني: بمعني أي أبنائي، وهذا نوع من الملاطفة لهم منه - صلى الله عليه وسلم - لا ترموا حتى تطلع الشمس، والحديث صحيح. وهذا قد يُشْكِل فعلاً، كيف تقولون يرمي بعد منتصف الليل.
والنبي - صلى الله عليه وسلم – يقول لهؤلاء: ((لا ترموا حتى تطلع الشمس))؟! لكن أقول لكم إن حديث ابن عباس يدل على عدم الرمي حتى تطلع الشمس، وحديث أسماء يدل على الرمي قبل طلوع الفجر في الدَّلالة الصحيحة، وحديث عائشة دلالته أكيدة، وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أم سلمة أن تدفع فدفعت، قالت عائشة: "فرمت جمرة العقبة قبل الفجر". فهذا فيه ((لا ترموا حتى تطلع الشمس))، وهذا فيه "أن أم سلمة - رضي الله تعالى عنها - رمت قبل الفجر"؛ فهذه متعارضة، وأحسن ما يقال في الجمع بينها هو ما قاله الشِّنْقِيطِيُّ - رحمه الله تعالى - أن حديث أسماء وحديث عائشة في قصة أم سلمة يُحمَل على الجواز، وحديث ابن عباس يُحمَل على الاستحباب. والذي يظهر - والله سبحانه وتعالى أعلم - هو قول الشافعي وأحمد في هذه المسألة، وهو أنه إذا انتصف الليل فقد جاز رمي جمرة العقبة.(/76)
تنبيه يسير قبل أن نختم هذا، وهو أن الأحاديث كثيرة في أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخَّص لضعفة أهله وللنساء وللظُّعُن من آخر الليل، فأقول إن هذه الرخصة التي ثبتت لهؤلاء في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - تَثْبُتُ لأكثر الناس؛ أو لكل الناس مع هذه الأعداد الهائلة؛ فإنهم يستحقون مثل هذه الرخصة، والعلم عند الله سبحانه وتعالى.(/77)
العنوان: نورة وإرادة التغير
رقم المقالة: 1902
صاحب المقالة: مها عبدالرحمن سالم
-----------------------------------------
أَلْفَيتُها على غير عادتِها الصاخبة المرحة المتجاهلة ما حولها، فقد كانت في ذلك اليوم هادئةَ المِزاج، مستقِرةَ الملامح.
فاجأتْني فِعلاً تلك الفتاةُ العنيدة بقولها: أريد أن أتغير!
قالتْها باقتناع تامّ، وسرّ المفاجأة أن (نورة) رأيها هو الصواب مهما يقال لها من حُجج، ومن براهين، وهي على حقّ دومًا، على استعداد بأن تتجاهل أيَّ شخص يُدلِي لها برأي يخالف أفكارها الشبابية!!
لا يُحلِّق بكمُ الفِكر بعيدًا جدًّا، فنورة فتاة طيِّبة، ولكنها تمرُّ بمرحلةٍ حادَّة؛ وهي مرحلة جهاد حقيقيّ مع النفس؛ فقد لاحظتْ على نفسها بعض القسوة في التعامُل مع مَن حولها، وأرَّقها أنها لا تُحِسُّ بالآخرين، على حدِّ ظنِّها.
يُعجبني في نورة انطلاقَتُها، وهِمَّتُها، ومَوْهبتُها في الإنشاد، والإبداع، والتصميم، والإلقاء، وأشدُّ ما يعجبني (عنادُها)، و(صراحتُها)!!
فأمَّا صراحتها فهذا يعني بالتأكيد شجاعتَها الأدبية، ويعني كذلك أنها لا تحمل الحِقْد، فهذه نقطةٌ تُحْسَب لها؛ ولكن ربما يَتَسَلَّلُ شَيْءٌ منَ القسوة في أُسلوبها، مما قد يَجْرَح الآخَرَ دون قَصْد منها.
وأمَّا عِنادها ورغبتها في الاقتناع قبل أن (تفعل) أو (لا تفعل) ما يُطلَب منها؛ فهذا يؤكد أنها ليست صَيْدًا سهلاً لصاحبات السُّوء، أو لأيِّ فكرة أو مبدأ يغدو ويروح!!
ما لم أَقُلْه بعدُ: أن نورة نشأتْ في أكناف القرآن؛ فهي حافظة لكتاب الله تعالى ولم تتجاوز الخامسةَ عَشْرَةَ مِن عُمْرها!(/1)
كذلك نورة قارئةٌ نَهِمَةٌ، تقرأ في كل فنٍّ مفيد، تلتقط روائع المكتبة الإسلامية، وتتجوَّل في روابي الأدب الهادف السليم، فتبحث عن كتابات الرافعيّ والمنفلوطيّ والطنطاويّ، وتسأل عن كل كتاب نافع مفيد، وتتخيَّر منَ الأدب ما يضيف لها متعةً وفائدة، وهذا البُعد في شخصيتها يُضفِي عليها هالة مِنَ التَّميُّز بفضل الله تعالى، وهذا مما يساعد على التغيِير نحوَ الأفضل دومًا، فكم من كتاب كان نقطة تحول في حياة إنسان!
يا نورة، أُؤمِن تمامًا بسُنَّةِ التغيِير؛ وبأنَّ الإنسان يمكن أن يتبدَّل حالُهُ؛ مِثْلَما أُوقِن رأيَ العَيْن أن الليل يتحوَّل فيَعْقُبُهُ النهار، وأنَّ البذرة تستحيل إلى شجرةٍ؛ بل إلى حديقة وارفة (أليست الحَبَّةُ تُنبِت سَبْعَ سنابلَ، وفي كل سنبلة مائة حبة؟!!)، وكلّ ما في كتاب الكون يقول بسُنَّة التغيير ويُثبِتُه!
ويؤسفني أن كثيرًا من الناس لا يقتنعون بالتغيير، فهم يؤكدون ويردِّدون (جَبَل يزول، وطَبْع لا يَزول)!
وعن قناعة أرفض التعلُّق بهذه العبارة؛ لأنَّ كلَّ إنسان يحمل في جَوْفِهِ صفاتِ خيرٍ وصفاتِ شرّ، وهذا هو الميدان، ويشهد الواقع لأُناس عاشوا بيننا بَدَّل الله أحوالهم، وإن الله لا يُغيِّر ما بقوم حتى يغيِّروا ما بأنفسهم.
فيا نورةُ، وكلَّ نورة، في جَوْفِكِ جوهرة نادرة فاصْقُلِيها بتجديد إيمانِكِ، وبإدراكِ ما فيها من خير فاستَثْمِرِيه، وفتِّشي عمَّا فيها من سلبيات، قفي معها وتفكري في أسباب التخلُّص منها، وكما أنتِ صريحة مع الناس، كوني صريحةً مع نفسكِ.
حَسْبُكِ يا نورةُ أنَّ مُحمَّدًا - صلى الله عليه وسلم - كان صريحًا في الحقّ؛ (فكان لا تأخذه في الحق لومةُ لائمٍ)، وكان (صادقًا لا تجري على لسانه الكِذْبَةُ أبدًا) بأبي وأمي، وقد كانت له مواقفُهُ الواضحة.(/2)
لكنه عندما كان (يُصرِّح) فإنه لا (يُجرِّح)، وكان (يعاتب) و(ينصح) دون أن (ينتقص)، و(يتسامح) دون أن (يَذِلَّ)، و(يَمْزَحُ) دون أن (يَصْخَب)، ولعلِّي أَدَعُكِ تعيشينَ مع بعض ما قاله علي بن أبي طالب - رضي الله عنه – ولِتقتدي، وكفى:
"كان - صلى الله عليه وسلم - أوسَعَ الناس صدرًا، وأصدقَ الناس لهجةً، وأَلْيَنَهم عَرِيكةً، وأكرمَهُم عِشْرة، وكان يتألَّف قلوبهم، ويُكرِم كريمهم، ويتفقَّدهم شؤونَهم، ويعطي كُلاًّ من جُلسائه نصيبَه من التكريم، حتى يَحْسَبُ جليسُهُ أنه ليس أحدٌ أكرَمَ عليه منه، مَن جالَسَه أو قاربه لحاجة صابَرَهُ حتى يكون هو المنصرفَ عنه، ومَن سأله حاجة لم يَرُدَّهُ إلاَّ بها، أو بميسورٍ منَ القول، قد وَسِعَ الناسَ بَسْطُه وخُلُقه، فصار لهم أبًا، وصاروا عنده في الحق سواء، دائم البِشْر، سهل الخُلُق، لَيِّن الجانب، ليس بفظٍّ ولا غليظ، ولا صخَّاب ولا فحَّاش، ولا عَيَّاب ولا مَدَّاح، يتغفَّل عما لا يُحِبّ، ولا يُقابِلُ أحدًا بما يَكرَه، إلا أنَّه في الحقِّ من أشدّ النَّاس غَيْرةً على حُرمات الله".(/3)
العنوان: هجرة العقول الإسلامية ... متى يتوقف النزيف ؟
رقم المقالة: 312
صاحب المقالة: محمد مسعد ياقوت
-----------------------------------------
إن الشباب المسلم هم عصب هذه الأمة، ودرعها، وسواعدها، التي تَبني ولا تبدد، وهم أولى الناس بتحديد واقع هذه الأمة ومصيرها، فإذا فسدوا فسدت الأمة، وإذا صلحوا صلحت الأمة، ومن ثم انتصرت وحُررت مقدساتها وطُهرّت أعراضها، وحُفظت دماؤها.. ولكن الواقع الذي تحياه الأمة في هذه الأيام.. يكشف عن مدى الأزمة الكبيرة التي يعيشها الشباب، من تدهور أخلاقي، إلى اضمحلال ثقافي، إلى ضيق في العيش، وتفش للبطالة وعدم الكفاية والعدالة في توزيع الوظائف العامة والخاصة في المجتمع.. ولما استفحلت الأزمة أخذ كل شاب يفكر في الهجرة إلى الدول الأجنبية، ويخطط للخروج وهو لا يزال يدرس في المرحلة الجامعية أو الثانوية..
لقد صارت ظاهرت الهجرة والاغتراب في الوقت الحاضر حديث الساعة، وحلم الشباب المتعلم وغير المتعلم وهاجسهم، وصارت فكرة الاغتراب سائدة عند كل من تأتيه فرصة الخروج من الوطن وخاصة بين الباحثين والموهوبين الذين تدهورت لديهم فرص المعيشة وفرص البحث العلمي على حد سواء.
وهذه الظاهرة تلقي بآثارها السلبية على قطاعات التعليم المختلفة وخصوصاً قطاع التعليم العالي و الجامعي و البحث العلمي.
وفي كل يوم تطلع فيه شمسه، يعاني العالم الإسلامي من هجرة لعقول وكفايات وخبرات شابة فضلاً عن تلك الخبرات والكفايات التي هاجرت منذ عقود واستقرت في دول الغرب، وراحت ثمراتها وجهودها ابتغاء حضارة الغرب ومدنيته..!
استمرار النزيف:(/1)
هذا، ولا تزال ظاهرة هروب العقول الإسلامية، مستمرة من العالم النامي إلى العالم الصناعي، ومن القلب العربي إلى المركز الصناعي الغربي. فهناك أكثر من مليون طالب من البلدان العربية يتابعون دراستهم في الخارج، لاسيما الخريجين الذين حصلوا على درجة الدكتوراه.. لا يعودون إلي بلادهم، إذ يعتقدون أن الفرص هناك قليلة والأجر منخفض، كما أنهم يشعرون بعدم الأمن والعدالة في بلادهم، إذ يرون أن المؤسسات البحثية والجامعية يسودها الاستبداد والمحسوبية، إلى جانب ضعف الإنفاق على البحث العلمي..
إن من أهم المشكلات التي تعبر عن واقع الأمة في مختلف المجتمعات الإسلامية، وتُعيق بناء مستقبل أفضل لها ؛ مشكلة "هروب النخب العلمية"- التي تحمل العقول والخبرات والمهارات - إلى دول الغرب، مما يؤثر في قوة الأمة الإسلامية - عموماً - فكرياً وحضارياً وتربوياً وعلمياً، علماً بأن ظاهرة "هروب النخب العلمية " قد استفحلت في العقود الأخيرة، بسبب عدة أسباب سياسية واقتصادية واجتماعية وشخصية..
ثم إن أضرار " هروب النخب العلمية " تفوق بكثير المنافع والماديات القليلة التي تحصل عليها الأنظمة والحكومات - من عمولات وتحويل أموال - جراء هجرة العقول والنخب الشابة المسلمة..
وإن من الواجب الشرعي والوطني على الأنظمة الحاكمة العمل على استرداد هذه النخب وهؤلاء الباحثين المسلمين، من خلال إغرائهم بزيادة تمويل أبحاثهم، وتوفير الحرية الأكاديمية لهم، وتكريمهم وتقديرهم مادياً ومعنوياً.. هذا إلى جانب صنع قنوات اتصال بين هذه النخب المهاجرة ـ أو الهاربة ـ و المؤسسات البحثية والجامعية في البلدان الإسلامية..!
أرقام مفزعة:(/2)
تشير العديد من النتائج المبنية على الدراسات الميدانية والتقارير الرسمية أن نسبة "النخب الهاربة" أو "العقول المهاجرة" وخاصة من الشباب قد ازدادت بدرجات متباينة.. فقد أشارت بعض هذه الدراسات إلى أن 45 بالمئة من الطلاب العرب الذين يدرسون في الخارج لا يعودون إلى بلدانهم.. وأن 34 بالمئة من الأطباء الأكفياء في بريطانيا هم من العرب.. كما أشارت دراسة أخرى إلى أن مصر خسرت خلال السنوات الأخيرة 450 ألف شاب من حملة المؤهلات العليا من الماجستير والدكتوراه.. ودراسات أخرى تقول : إن هناك 4102 عالم مسلم في مختلف علوم المعرفة في مراكز بحوث غربية مهمة..! وأن العالم العربي خسر 200 مليار دولار، خلال عام ( 2001)، بسبب هجرة الكفايات العلمية والعقول العربية للدول الغربية..! وأن 54% من الطلاب العرب الذين يدرسون بالخارج لا يعودون إلى بلدانهم!!...الخ.. الخ
إن المشكلة جد خطيرة.. وخطيرة جداً..
ولكن نقول.. لو أنفقت الحكومات والأنظمة العربية على البحث العلمي ربع ما تنفقه على الراقصات والفنانين وألوان الترف لدى الفئات الحاكمة؛ ما اضطر آلاف الشباب والنخب العلمية والفكرية إلى الهرب، من جحيم الأنظمة العربية إلى جنة الحرية الأكاديمية في بلاد الغرب!
على الأمراء والحكام العرب أن يحترموا العقول والنخب العلمية، على الأقل كما يحترمون الفنانات وبغايا (الفيديو كليب).
وتبقى الخسارة الحضارية:
إن ظاهرة "هجرة العقول الإسلامية".. تمثل كبرى الأزمات التي تشخص واقع المجتمعات الإسلامية القائمة. كما تعبر هذه الظاهرة عن مدى الأزمة الحضارية التي تُعاني منها الشعوب الإسلامية في هذا العصر..
فهذه العقول المهاجرة، تؤثر سلباً في مدنية المجتمعات الإسلامية، وفي تقنياتها ومستوى تحضرها.. كما تؤثر سلباً على مستوى الثقافة العلمية لدى المسلمين في هذا العصر..(/3)
ومن ثم تتحول المجتمعات الإسلامية إلى مجتمعات مستوردة لأفكار الغرب وثقافاته، بشكل تلقائي، بحيث تسد الفجوة الفكرية والثقافية التي سببتها العقول المهاجرة..
ومع أن الحكومات والأنظمة العربية تستفيد ببعض الفتات من وراء هذه الهجرة. إلا أن "العقول الإسلامية " لا يمكن أن تقدَّر بمال، وإن جنت الحكومات والأنظمة العربية ملايين الدولارات ربحاً من وراء العقول والنخب الهاربة؛ من خلال عمليات تحويل الأموال وخلافه..
فهذه العقول الإسلامية التي هربت، لو وجهت جهودها إلى خدمة المجتمعات الإسلامية، لتغير وضعها من حال التخلف التقني إلى درجات التقدم العلمي الذي يحفظ ماء وجهها كخير أمة أخرجت للناس.
يجب أن تكون أمتنا أسوة وقدوة لغيرها من الأمم والحضارات الأخرى..
لا أمة تابعة في ذيل الأمم(/4)
العنوان: هدي خير العباد في أيام الأعياد
رقم المقالة: 1827
صاحب المقالة: الشيخ حسين مسعود القحطاني
-----------------------------------------
هناك عُظماء كثيرون حَفروا أسماءَهُمْ في صفحة التاريخ, لن يَنْسَى الناس حياتَهُم الخالدة, ومآثِرَهم العظيمة، وما قَدَّموه للبشرية من بُطولاتٍ، وتضحيَات، وأعمال جليلة, إلا أن عظمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تقصر دونها عظمة كلّ عظيم, فهي أصيلةٌ في أصوله, ممثَّلة في شخصه، وخلقه، ودينه؛ بل إنَّ عباقرة الأرض تلاشَوْا في سناه, وآثارهم تَضَاءَلتْ أمام هُداه. قال -تعالى-: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21].
القادة: يتعلمون منه الحَزْم والعَزْم.
الدُّعاة إلى الله: ينْهَلون من مَعِين دعوته الرحمةَ والحكمة.
الحاكم: يأخذ من هَدْيِه الأحكام العادلة.
القاضي: يقْتَبِس منه العَدْل والفصل في الخُصومات.
الآباء: يقتدون به في التربية والتَّنْشِئة.
التاجر: ينهج طريق الصدق، والأمانة، والسَّماحَة.
إنه لجديرٌ بالمسلمينَ أن يتأمَّلُوا في سيرته العَطِرة - عليه الصلاة والسلام - فينظروا كيف كان اجتهادُه في العبادة؛ للتَّأَسِّي والاقتداء, كيف كان زُهْده في الدنيا؛ فيُقلِّلوا من جَرْيهِم وراء الشهوات والملذَّات. كيف كان تعامله في المواقف والمناسبات؛ فيعرفوا طريقة التعامل المُثْلَى, كيف كان ثباتُه على الدعوة في وَجْه التحَدّيات؛ فيتعلموا الصُّمُود وقت المِحَن، وشدة الابتلاء؛ وهكذا.(/1)
ودَعُونا - أيها الأكارم - نُسَلِّط الضوء على هَدْيه المبارك - صلى الله عليه وسلم - في الأعياد؛ فإنَّ الأعياد في الإسلام لها شأنٌ عظيم, ومما يدل على ذلك؛ أن الإسلام قرن كلّ واحدٍ من عيدَيْه العظيمينِ بشَعيرةٍ من شَعائره العامَّة، التي لها جلالها ومكانتُها, هاتان الشَّعِيرَتان هما: شهر رمضان: الذي جاء عيد الفِطْر مِسْك ختامه, وكلمة الشكر على تمامه؛ والحج: الذي كان عيد الأضْحَى بعض أيامِه, والوقت المبين لمُعْظم أحكامه.
إن أكْمَل هَدْي هو هَدْي نبينا الكريم, وأعظم منهجٍ هو منهجه القَوِيم, تَرَكَنَا على المَحَجَّة البيضاء؛ ليلها كنهارها لا يَزِيغ عنها إلا هالك. فالمتأمِّل في هَدْيه المبارك خلال أيام الأعياد يجد أن فيها منَ اللَّهْو المُباح, والفرح والانْشِرَاح, والتَّوْسِعَة على الأهل, ونشر المحبة والسلام, الشيء الكثير، والمواقف النبوية العظيمة تشْهَد بذلك؛ فقد جاء في الصحيحَيْنِ عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: إن أبا بكر دخل عليها، والنبي - صلى الله عليه وسلم - عندها في يوم فطر أو أَضْحى، وعندها جاريتان تُغنيان بما تقاولت به الأنصار في يوم حرب بُعَاث، فقال أبو بكر: "أَمِزْمَارُ الشيطان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؟"، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((دَعْهُما يا أبا بكر، فإنَّ لكل قوم عيدًا، وإنَّ عيدنا هذا اليوم)).
فكيف وبعض المسلمينَ في يوم عيدهم العظيم, في حُزن وعبوس وتجنُّب إظهار أي فرح؛ بحجة أنه لا يليقُ أن يفرحَ المسلمون وهم يرَوْنَ "القُدْس الشريف" ما زال يغتصبه اليهود, والأمة في حال ضَعْف وهَوَان, وجراحاتها الدَّامية لا تكاد تنتهي, مع العلم أنَّ النَّبِيَّ - عليه الصلاة والسلام - لم يمنع الفرح، حتى والقدس ومكة كلاهما في يد الكُفَّار على عهده, فما أروع هَدْيَهُ الكريم، عليه مِنَّا أزكى صلاة، وأعطر تسليم!!(/2)
إِذَا نَحْنُ أَدْلَجْنَا وَأَنْتَ إِمَامُنَا كَفَى بِالْمَطَايَا طِيبُ ذِكْرَاكَ حَادِيَا
مَنْ فهِمَ هذا الدينَ على حقيقته, والسُّنَّة في صورتها المُثْلى, عَرَف أنَّ ديننا دين تسامُح وفرح، لا دين تَزَمُّت وانْغِلاق، نَعَم إنه يُستَحَبُّ للمسلم التوسعة على أهله في أيام العيد بأنواع ما يحصل لهم من بَسْط النفس، والترويح عنهم، وأَخْذهم للرحلات الترفيهية. ولو تأملنا مُراعاة النبي - صلى الله عليه وسلم – لعائشة، وحرصه على أن تَلْهو وتفرح؛ كما جاء في حديث: "لعب الأحباش"، تقول عائشة: "رأيتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - يَسْتُرني بردَائه، وأنا أنْظُر إلى الحبشة، يلعبون في المسجد حتى أكون أنا التي أسْأَم، فاقْدُروا قَدْر الجارية الحديثة السن، الحريصة على اللهو"؛ مُتَّفق عليه. وأيضًا في مُسْنَد أحمد بسند صحيح، ورد عن عائشة أنها قالت أن الرسول - صلوات ربي وسلامه عليه - قال عند لعب الأحباش في المسجد: ((لتَعْلَم يهود أنَّ في ديننا فُسْحَة، وأني بُعثْتُ بحنيفية سَمْحَة))، وجاء في الأثر: "رَوِّحوا القلوب ساعة بعد ساعة؛ فإن القلوب تكل".
فأين إخوتنا الرافضون لأي نافذة فرح من تلك السيرة العَطِرة؟، ولماذا لا يجعلونها نِبْراسًا لهم في حياتهم؟(/3)
وعمومًا لئن كان من حق العيد أن نبهج به ونفرح، وكان من حَقِّنا أن نتبادلَ التهاني، ونطرح الهموم، ونتهادى فيما بيننا, فإنَّ كُلَّ هذا لا يُنسينا أبدًا حُقُوقَ إخواننا المَكْلُومينَ والمشرَّدِينَ شرقًا وغربًا؛ بل نقف معهم في مِحْنتهم؛ كالجسد الواحد، نشحذ هِمَمهم، ونقوي عزائمهم، ونبسط الأيدي بالبَذْل لهم، ونطلق ألسنتنا بالدعاء لهم، فهذا هو الشعور المُجْدِي، الذي يُترجم إلى عملٍ واقعي، لا يُراد من ذلك تذراف الدموع، ولبس ثياب الحِداد في العيد، وإنما يُراد من ذلك أن تَظهرَ أمَّتُنا في أعيادها؛ كما أراد محمد - عليه الصلاة والسلام - بمظهر الأمة الواعية، التي تلزم الاعتدال في سَرَّائها وضَرَّائها، فلا يحول احتفاؤها بالعيد دون الشعور بمصائبها التي يرزح تحتها فريقٌ من أبنائها، وهو القائل - عليه الصلاة والسلام -: ((مَنْ نفَّس عن مؤمن كُرْبة من كُرَبِ الدنيا، نفَّس الله عنه كُرْبةً من كُرَب يوم القيامة، والله في عَوْن العبد ما كان العبد في عَوْن أخيه))؛ رواه مسلم.
وباختصار: فإن العيد الذي ترجَمَهُ لنا رسول الهُدَى - عليه الصلاة والسلام - هو مناسبة غالية، ومظهر من مظاهر الفخر تتجَلّى فيه الشعائر الدينية، والنفحات المُحمدية، وصورة حيَّة تجسد أعظم المعاني الحسنة. إن العيد بحق هو ربيع حياة الإنسان، فكما أنَّ للأرض ربيعًا تزخر فيه بأنواع النبات: صِنْوان، وغير صِنْوان، وفي ربيع الأرض تظهر ألوانُ الأرض على سطحها، وقد أخذت الأرض زُخرفها، وازَّيَّنَت، واهْتَزَّت، وَرَبَتْ، فإن ربيع الحياة الإنسانية هذا العيد الذي هو بمثابة فُسحة إلهية، يتحقق من خلالها تناسي الآلام البشرية، والابتسام لنعمة الله، وإشعال النشاط؛ لاقتحام الصعاب؛ والانتصار على الأهوال؛ وتحصيل ما تطلب الأمة من أسباب الكمال.(/4)
العيد فُرصة طيّبة؛ لتتوجه الأمة نحو روافد الخير، وجعل كل فردٍ يستشعر عِظَم المسؤولية المُلْقاة على عاتقه؛ ليُجَسِّد لدى الأفراد السمو الروحي، والسمو الأخلاقي؛ بل أستطيعُ القول: إنَّ العيدَ صفحة أخيرة في خِتام العام، يقرأ المؤمن من خلالها حالَه مع ربه، ونفسه، ومن حوله، فهل نحن فاعلون؟!
بارك الله للمُسلمينَ في أعيادهم، ومكَّن لهم دينهم الذي ارْتَضَى لهم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين.(/5)
العنوان: هذا أبي
رقم المقالة: 1111
صاحب المقالة: د. محمد حسان الطيان
-----------------------------------------
أبي .. أبي..
سلامُ الله عليك أبي ..
رحمك الله يا أبي ..
كلما حاولت أن أكتبَ عنك خانتني كلُّ الكلمات، وجفَّت بيدي كلُّ الأقلام، وتسرَّبت من ذهني كلُّ الأفكار، وتعطَّلت على لساني لغةُ الكلام..
ولست أدري لهذا سرًّا أو سببا! أهو القُرب الشديد؟ - وشدةُ القُرب حجاب - أم هو البُعد الشديد؟ بُعد عالمي عن عالمك، ودُنياي عن آخرتك، ولَهوي عن سموِّك ورِفعتك.
أنت الذي علمتَني مسكَ القلمْ
أنت الذي لقَّنتَني طَعمَ الكَلِمْ
أنت الذي أعطيتَني ومنحتَني
أنت الذي روَّيتَني من كل يَمّ
أنت الذي أرشدتَني وحَبَوتَني
و زقَقتَني زقَّ الطيور بكلِّ فَمْ
أنت الذي أقرأتَني نصَّ السُّوَر
فَجَرى الكلامُ على لساني كالنَّغَم
علَّمتَني فنَّ القراءة جاهداً
من مَنهَل الكَلِم الفَصيح الملتَزِم
* * * * *
إي وربِّي علمني والدي القراءة.. يوم لم أكُن أعرف القراءة.. وسما بي إلى كلام ربي يوم لم أكُن أعرف إلا لَهوي ولعبي.
فقد كان يأخذُني بالقرآن أخذاً حازماً لا يعرف اللين أو الرأفَة، وإنما هو وِرد يومي لا بدَّ منه على المنشَط والمكرَه.. في البيت والمسجد.. في الطريق والدُّكان.. في النزهة والزيارة.. لا ينفكُّ يُقرئني و يقوِّمني، و يلقِّيني و يقوِّيني، يُسمعني و يَسمعني، وقد يغتالني أحياناً من أحلى الساعات إلى قلبي وأهنأ المسرَّات إلى عُمُري وأسعد اللحَظات في حياتي .. ليأطِِرَني على القراءة أطراً، ويزجُرني عن اللَّهو زجراً، فأجدني وقد جرى الدمعُ من عينيَّ وانعقد لساني فما ينبِس ببنت شَفة، وجفَّ حلقي، وامتلأت نفسي غَيظاً، وتُخطِّفتُ من دُنياي لأجدَ نفسي في دنيا أخرى!(/1)
وما إن أقرأ حتى أرتقي، وتسكُن نفسي، ويبتلّ حلقي، وتهدأ جوارحي، وتسمو روحي، وأحلِّق في دنيا القرآن.. مع البلاغة والبيان.. مع النَّغَم الشجيِّ والسحر الحلال .. مع الله سبحانه في كلامه.. في أمره ونهيه.. في قَصِّه وإخباره.. في نعيمه وعذابه.. في جنَّته وناره..
وأعود إلى نفسي فأدركُ أن القسوةَ رحمة.. والزَّجر حَنان.. والعقوبة عَطف.. والنهيَ رأفة.. والأمرَ زُلفى.. وأن مع العُسر يسرا.. وأن الخَضْم لا يُدرَك إلا بالقَضْم.. والدعةَ لا تُنال إلا بالعنَت والمعاناة.
وأن الشاعرَ صادق حيثُ يقول:
بصُرتَ بالرَّاحةِ الكُبرى فلم تَرَها تُنالُ إلا على جِسرٍ منَ التَّعَبِ
والآخَر أصدق حيثُ يقول:
فقَسا ليَزْدَجِروا ومَن يَكُ راحِماً فليَقسُ أَحياناً على مَن يَرحمُ
* * * * *
الآن أدركتُ بعد أن عانيت همَّ الولد.. ولهوَ الولد.. وعزوفَ الولد عن كلِّ ما ينفعُه.. أدركتُ كم كان والدي رحيماً في قسوته.. رؤوفاً في سَطوته.. عَطوفاً في تقريعه وعقوبته.. أدركتُ كم كان يُعاني ويُكابد.. كم كان يُجاهد ويُجالد، لا تأخذُه فينا لومةُ لائم، ولا تَثنيه عن تربيتنا رغبةُ راغب ولا رهبةُ راهب، وإنما هي طريقةٌ اختطَّها ودرب سلكها، يستشرف من ورائها الوصولَ إلى غاية نبيلة، وهدف سامٍ يَهون عليه في سبيل تحقيقه كلُّ ما يلقى من مَصاعبَ ونوائب، وكلُّ ما يعترضه من عُزوف وإهمال أو نفور وإعراض. فكان يقف وحدَه جَلْداً مَلْداً لا تَلين له قناةٌ ولا ينعطِف له سبيل، ولا تَحول دون إمضائه ما يُريد حوائلُ الدنيا بما فيها من لذائذَ أو رغائبَ أو أطايب أو أعاجب. ولسانُ حاله ومقاله يردِّد:
قفْ دونَ رأيكَ في الحياةِ مُجاهِداً إن الحياةَ عَقيدةٌ وجِهادُ
رحمك الله يا أبي .. رحمك الله يا أبي
هذا أبي ... هذا أبي ... فليُرني أحدكُم أباه!
* * * * *
و إذا كان يُحكَم على المرء بنتاجه فإليك نتاجَ أبي...(/2)
إنهم ثمانيةُ أولاد ما منهم إلا ناجحٌ في دنياه يرجو النجاحَ والفَلاح في آخرته.
فالأولُ وهو كبيرُهم أستاذ في العلوم الفيزيائية والكيميائية والرياضية تخرَّج في جامعة دمشق ودرَّس في كثير من مدارسها ومعاهدها، وترحَّل في نشر علمه فدرَّس في الجزائر، كما أنه أستاذٌ في التجويد وبعض العلوم الشرعية، وله فيها مشاركةٌ ومدارَسة، وهو إلى ذلك صاحبُ تجارة وصناعة تدرُّ عليه من الرِّزق ما يكفيه ويُغنيه.
والثاني - وهو كاتب هذه السطور - ما زال يشقُّ طريقَه في خدمة العربية وتحت رايتها، وهو اليومَ رئيسٌ لمقرَّراتها في الجامعة العربية المفتوحة بالكويت وعضوٌ مراسل لمجمعها في دمشق، وله فيها نِتاجٌ يسأل الله أن يكونَ صالحاً، وأعمالٌ يرجو الله أن تكونَ مقبولة.
والثالث مهندسٌ في وزارة الكهرباء بدمشق، ومديرٌ لإدارة النقل فيها، وله مشاركةٌ في بعض العلوم الشرعية، إلى أعمال حرَّة في مجال التجارة والصناعة.
والرابعة أستاذةٌ في معهد الفتح الإسلامي بدمشق؛ مجازة بالقرآن وتجويده، تدرِّس التجويدَ والفقه، وقد انتفع بعلمها وفضلها جيلٌ من المعلِّمات والمدرِّسات، بل تعدَّى ذلك إلى نساءٍ فُضلَيات فيهن القاضيةُ والمحامية والطبيبة والمهندسة، وهي إلى ذلك ربَّةُ بيت ناجحةٌ وزوجةٌ صالحة.
والخامسة أستاذةٌ أيضاً بمعهد الفتح الإسلامي بدمشق تدرِّس العلومَ الشرعية .. وهي إلى ذلك خيَّاطة ماهرةٌ وزوجةٌ صالحة ولا أزكِّي على الله أحداً.
والسادس حقوقيٌّ يحمل الإجازةَ في القانون، ومحامٍ بارعٌ يصول ويجول.
والسابع مهندسٌ قدير في مركز الدراسات والبحوث العلمية بدمشق، وهو إلى ذلك صيدلاني ماهر.
والثامن وهو صغيرُهم يكاد يُطاول كبيرَهم بما حباه الله من حفظٍ لكتابه وتعليم له بين أصحابه، وهو يقطع نهارَه وليله متعلِّماً ومعلِّماً، منهومٌ لا يشبع من علم، وكريمٌ لا يَضَن بتعليم، وهو إلى هذا وريثُ محلِّ أبيه يقوم به وعليه.(/3)
أسأل الله سبحانه أن يجعل أعمالَهم الصالحة ونفعهم لأمَّتهم في صحيفة والدهم، الذي غرسَ في نفوسهم أعظمَ المبادئ وأكرمَ القيم.
* * * * *
أما أوليةُ أبي ونشأته فقد كانت فقيرة معدمة، إذ نشأ يتيماً لم تَكتحِل له عينٌ برؤية أب. كفله خالُه فعاش في كنفه، حتى عُرف بالعطَّار نسبة إلى أمِّه وخاله، وما إن شبَّ عن الطَّوق حتى حُبِّب إليه طلبُ العلم ومجالسةُ أهله، فحضر مجالسَ الشيخ أبي الخير الميداني، وقرأ على شيخ القرَّاء المقرئ الجامع الشيخ محمود فايز الديرعطاني، ولزم الشيخَ سهيل الخطيب الحسني مع ثُلَّة من أصحابه ولِداته، وكانت له معه دروسٌ ورحلات ومجالسُ ونزهات. إلى أن سَنَحَت له سانحةُ العمر، فشارك مع نَفَر من أصحابه في أسبوع المتنبي الذي انعقد بدمشقَ في أوائل الثلاثينيات من القرن الماضي، وتسنَّى لهم حينئذٍ أن يلقَوا شيخَ المحقِّقين في ذاك الزمن الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد (أبو رجاء) فأعربوا عن رغبتهم في الالتحاق بالأزهر في أرض الكِنانة، فوعدهم خيراً، ولم يلبَث أن أرسلَ لهم بعد أن كلَّم بشأنهم شيخَ الأزهر وكان عديلَه، فارتحلوا إلى مصر، وقابلوا شيخَ الأزهر وقُبلوا فيه، وراحوا يَعبُّون من علومه، وينهلون من آدابه و فنونه، على قلَّة ذات اليد وبُعد الدار وفرقة الأحباب...(/4)
وكان حظُّ والدي من ذلك أن نالَ الشهادةَ الأهلية من الأزهر الشريف عام 1357هـ مطرَّزة بعشرة علوم درسها ثَمَّة، أذكر منها: النحو والصرف والبلاغة والعَروض والفقه والتفسير والتجويد، ليعودَ بعدها إلى بلده حاملاً علماً في قلبه وعلماً في كتُبه، ينفق منهما أينما حلَّ وارتحل، ويتعهَّد بهما أهله وولده ومن يليه من أصحابه وجيرانه وأحبابه، بل لا يكاد يَضَنُّ بهما على أحد من خلق الله، فقد كان رحمه الله مثالاً للمسلم الملتزم، صدَّاعاً بالحق، أمَّاراً بالمعروف، نهَّاءًً عن المنكر، قوَّاماً بحدود الله، لا تأخذه في دين الله لومةُ لائم. يتمثَّل قولَ الرسول صلى الله عليه وسلم: ((ألا لا يَمْنَعَنَّ أحدَكُم هَيبةُ الناس أن يقولَ بحقٍّ إذا رآهُ، أو شَهِدَهُ، أو سَمِعَهُ))[1]، فما كان يهابُ في دين الله أحداً، ولا كان يرضى أن تُنتَهَك حرمةٌ من حرمات الله سبحانه، أو يقصِّر في أداء شَعيرة من شعائر الإسلام.
* * * * *
عاش ما عاش طالباً للعلم، محبًّا للعلماء، كَلِفاً بمجالسهم، حَفِيًّا بصُحبتهم، وقد انتفع بالجمِّ الغَفير ممن عاصر منهم في الشآم والقاهرة، أذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر: الشيخ الأديب علي الطنطاوي، والشيخ الطبيب أبو اليسر عابدين، والشيخ المحدث محمد ناصر الدين الألباني، والشيخ حمدي عبيد، والشيخ العلامة عبد الرزاق الحلبي...وغيرهم كثير.
* * * * *
رحمك الله يا أبي بقَدر ما كنت حريصاً على تربيتنا.
رحمك الله يا أبي بقَدر ما كان قلبُك معلَّقاً ببيوت الله.
رحمك الله يا أبي بقَدر ما كنت مقيماً لشعائر الله.
رحمك الله يا أبي بقَدر ما كنت صدَّاعاً بالحق.
رحمك الله يا أبي بقَدر ما كنت أباً.. نِعمَ الأبُ.(/5)
أسأل الله سبحانه أن يَجزيَك عنا وعن تربيتنا وتعليمنا وهدايتنا خيرَ ما جزى والداً عن ولده، وراعياً عن رعيَّته، ومعلِّماً عن تلامذته، وهادياً عن أمَّته. وأن يجعلَ ذلك كلَّه في صحائف عملك يوم تَجد كلُّ نفس ما عملت من خيرٍ مُحضَراً.
والحمد لله الذي بنعمته تتمُّ الصالحات.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] أخرجه الإمام أحمد في ((المسند)) 3/5 الحديث رَقْم (11017) بإسناد صحيح، من حديث أبي سعيد الخُدْري رضي الله عنه.(/6)
العنوان: "هذا اجتهادي" عقيدة أم عقدة
رقم المقالة: 852
صاحب المقالة: إبراهيم بن محمد السعوي
-----------------------------------------
إن مما يعتقدُه الإنسان في جنانه أنه متى ما بذل جهده، واستفرغ طاقته في مواطنِ الاجتهاد، واستعمل ما أتيح له من الطرق للتوصل إلى الحق المنشود - وهذا هو بغيته -؛ فإن أصاب فله أجران، وإن مال عنه فله أجر واحد؛ لبذله وحرصه للوصول إلى الصواب مع العقد الجازم أنه متى ما تبين له الحق جنح إليه بلا تردد أو تأخير مع انشراح صدره وبهجته لتوفيق الله له.
وكلمة "هذا اجتهادي" أو ما يشابهها في بابها لها ثقلها ومكانتها في الشريعة الغراء؛ إذ لا يحق لأحد أن ينطق بها أو يدخل تحت لوائها إلا من توفرت فيه شروط الاجتهاد الموضحة في مظانها التي تدل على أنه يصعب توفرها في كثير ممن يدعي الاجتهاد لنوع من الشدة فيها؛ لتبرهن على عظم الاجتهاد في ديننا الحنيف.
ومع هذه المكانة لهذه الكلمة وما تحتويها، وثقلها في الشريعة؛ إلا أننا كثيرا ما نقرأ أو نسمع أو نشاهد من دخل تحت لوائها، أو اندس في صفوفها، أو يزعم أنه من أهلها؛ مع عدم توفر أسهل وأقل شروط الاتصاف بها لا سيما في هذا العصر الذي اتصف بالتطوير حتى في علوم الشريعة؛ بحجة أنه ليس في ديننا رجال دين أو كهنوت! وأنه ليس هناك مرجعية بعد رسول.....!
وأن مسائل الاجتهاد ليست حكر على أحد...!
وأن هذا فيه إثراء الساحة الإسلامية بالطرح والرأي....!
حتى تكلم في مسائل العلم كل ما هب ودب...... وليس لهم من العلم سوى "القلم والدواة"......
وتكلم طبيب الأبدان باختصاص طبيب القلوب...!
وظهرت الزيادة على أنصباء أهل العلم كواو عمرو، ونون الإلحاق....!
وشُوهد من لا يعرف كوعه من كرسوعه يُنازل الجهبذ من العلماء...!(/1)
قال ابن حزم: "لا آفةَ على العلوم وأهلها أضرُّ من الدخلاء فيها وهم من غير أهلها؛ فإنهم يجهلون ويظنون أنهم يعلمون، ويفسدون ويُقَدِّرُون أنهم يُصلِحُون".
وانبرى البعض لمسائلَ لو عرضت على عمر لجمع لها أهل بدر......!
وانتشر في أوساط المثقفين من تَزَبَّبَ قبل أن يتحصرم....!
وابتُلي العالم الإسلامي بالخنفشاريين......!
وظهر جلياً في الساحة اجتهاد "ابن الرومي"......!
وباسم الاجتهاد له في كل فن مضرب...... وبكل طرح مشاركة......
ولإدلاء بدلوه في كل فكرة...... ونال العلم شرفاً بطرحه........
وعليه تحقق قول ابن حجر: "من تكلم في غير فنه أتى بالعجائب"......
والتَّذَبذُب والانفصام، والتبدد والانقسام.....
وتُذكرنا هذه المناداة ببعض الشعارات لتحقيق بعض الأمنيات.......
ومن أجل تطوير باب الاجتهاد أقحم فيه ثوابت ومبادئ ليس فيها حظ للاجتهاد......
وأبرزت آراء وأفكار ومناهج..... محفوفة مكرمة تناهض وتخالف قول الحق بحجة عدم الانحياز والميل إلى أحد....... ومن باب سماع الرأي الآخر..... والاتصاف بالحياد ؟!.
أو ألم يعلموا أن الميل والجنوح إلى قول الحق هو ملة إبراهيم حنيفاً.....؟!.
وعلى إثر هذه المكانة لكلمة "هذا اجتهادي" أو "هذا الذي أدين الله به" أو..... يطرب لها قلب كل من ولجت إليه، وعليه يتعين على كل من رأى أنه من أهل هذه الكلمة أن يعرف متى وأين ينطق بها!.
قال الشافعي: "فالواجب على العالمين أن لا يقولوا إلا من حيث علموا، وقد تكلم في العلم من لو أمسك عن بعض ما تكلم فيه منه لكان الإمساك أولى به، وأقربَ من السلامة له إن شاء الله".
وقال الغزالي: "لو سكت من لا يعلم لسقط الخلاف"!.....
وليُتمعَّن في قول سفيان الثوري: "إذا كثر الملاّحون غَرِقت السفينة"......
وإلى الله المشتكى في زمن كثر فيه "المتعالمون" حتى سامَوا باعة البُقُوْل عَدَداً...(/2)
إلا أن هذه العقيدة تحولت - أيضاً - عند البعض منا إلى عُقدة شعرنا بهذا أو لم نشعر. ولهذا كثيراً ما تُسمع عندما يُراجع أو يكاشف قائلها عن رأي ما، أو فكرة طُرحت محاولاً تغيير وجهة طرحه أو رأيه مع تبين أسباب هذا التغير من حجة وبرهان...
وما أن تُبْذل هذه الأسباب للوصول إلى الحق الذي هو أمنية الجميع؛ إلا ويلج إلى مسامعك كلمة الفصل في هذا المضمار "هذا اجتهادي" أو "هذا هو نتيجة بذل وسعي" أو ما شابه ذلك.
وعلى إثر هذه الكلمة ينتهي هذا الفصام بكل يسر وسهولة على نتيجة لم تُفصل بعد لضعف الحجة والبرهان، والاتصاف بالإفلاس؛ التي تجعل الطرف الآخر لا يرضى بهذه النتيجة بلا شك ولا ريب.
وهذه العقيدة إذا صارت عُقدة فهي تشابه أختها التي في أوساط العوام إلى حد كبير وهي "ولو" بجامع أن كلا الكلمتين يراد منهما إنهاء النقاش مع عدم رضى وقبول الوجه الآخر.
وهذا المنهج في إنهاء الحوار الهادئ غير مرضي لدى أوساط العقلاء، ولا يُجتنى منه أي ثمرة.
ولهذا نناشد من هو أهلٌ لهذه الكلمة أن يعرف متى وأين يتلفظ بها علمياً وعملياً، وأن يستعملها في حيزها، وأن يعلم علم اليقين أنه لا يلزم من هذا الوسام الذي شَرُف به وهو الدخول تحت لواء هذا الكلمة عدم قبول آراء الآخرين إذا كان لها حظ من الصواب.....
أو عدم الإصغاء إلى وجهة نظر الآخرين......
وكذلك ليس من لوازم هذا الوسام وحده فقط أن يضفي على رأيه أو طرحه الصبغة الشرعية.
ورحم الله امرأً عرف قدر نفسه.....
فهذه كلمات من مكنون الفؤاد بعضُها آخذٌ برقاب بعض، بقوالبَ متعاضِدة، أشكالها محيطة بمعانيها، عسى أن تكون علاجاً لهذه الظاهرة، سالمة من الفهوم المتعددة.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(/3)
العنوان: هذه أمي
رقم المقالة: 291
صاحب المقالة: بدر بن محمد عيد الحسين
-----------------------------------------
أماني فتاةٌ بِعمر الزهور.... تتميز بين زميلاتها بضفائرها الطويلة التي تبدو كأغصان مكللة بالزهر.... حيث تتناثر منهما روائح الطيب...... وحقيبتها الجميلة ذات الألوان الزاهية فهي صندوق الدنيا .... فما إن تفتحها حتى تشاهد الدفاتر المزيَّنة والكتب النظيفة ولا تخلو الحقيبة من بعض أشياء أمها...
وعندما يحين وقت الفسحة، تجتمع بنات الفصل، ويبدأن بالحديث عن إخوانهن وأمهاتهن.... فسارةُ تتحدث عن أمها الطبيبة وعيادتها الفاخرة... ونورة تحكي عن نوادر أمها المعلمة.... أما ميسون فإنها تقصُّ عليهن حكايات جدّتها فتتلون ساحة المدرسة بصدى ابتساماتهن البريئة..
ولكنَّ حديث أماني عن أمها كان هو الأعذب والأطيب والأندى... فتتحدَّث وكأنها تروي قصة شائقة عن ملاك ......
أحبَّت الفتيات أم أماني وكذلك معلمة الصف......
فاتَّفقت البنات على زيارة أماني للتعرُّف على أمها التي طالما اشتقن لرؤيتها..
بدا الإرباك يبدو على وجه أماني ... فاعتذرت متذرعةً بمرض أمها.....
وفي المرة الثانية.. تذرَّعت بانشغالها الشديد في اختبار الطالبات في الجامعة....
وفي المرَّة الثالثة وجدت نفسها مضطرة لاستقبال زميلاتها عندما انضمَّت المعلمة هناء لهن....
هيَّأت أماني المنزل، وأحضر والدها الهدايا ...........
هاقد وصلت البنات برفقة المعلمة..... رحَّبت المُضيفة الصغيرة بالزائرات... اللواتي تفاجأن بعدم وجود الأم باستقبالهن..... فقالت البنات جميعاً: ..... أين أمك ؟ قالت أماني: هي في الداخل.... أهلاً وسهلاً بكن.
لقد عاد الفرح من جديد يداعب أخيلة الزميلات والمعلمة لأنهن سيلتقين بالأم المثالية... قدَّمت أماني الحليب والحلويات .........(/1)
وسؤال مُلحٌّ يسكن أحداق الزميلات، وهكذا حتى مضى كثير من الوقت... إلى أن قالت المعلمة:يا أماني نادي أمك حالاً نحن بشوق كبير لرؤيتها.
فقالت: حسناً ..... سأحضرها الآن.
غابت أماني لبعض الوقت ....
وعندما عادت كانت تحمل في عينيها كؤوساً من الدموع، وفي يدها صورة أمها التي فارقت الحياة منذ ولادتها.......
تمالكت نفسها للحظة وقالت بصوت مليء بالحزن ...هذه أمي وأجهش الجميع بالبكاء.......... ترحَّموا عليها(/2)
العنوان: هروب
رقم المقالة: 869
صاحب المقالة: محمد بن ظافر الشهري
-----------------------------------------
رأى الناسُ فيما يَرى النائمونْ
وقد يَلبَسُ النومُ ثوبَ الجُنونْْ
كأنَّ اليهودَ غدًا يَجنَحونْ
لِسِلمٍ وبعدَ غَدٍ يُسلِمونْ
وأنَّ اليَهودَ إذا ما جَلَوا
سيَخلُفُهُم عَربٌ صالحونْ
وأنْ سيُعادُ الأُلى شُرِّدوا
وأنْ سَوف يُطْلَقُ مَن في السُّجونْ
فلمَّا صَحا الناسُ واستَيقَنوا
بأنَّ مَناماتهم لن تَكونْ
وما مِن سَلامٍ ولا مُسلِمٍ
وما مِن صَلاحٍ ولايَحزَنونْ
تَداعَوا إلى النَّومِ أُنسًا بهِ
فقد وجَدوا فيهِ مايَشتَهونْ(/1)
العنوان: هكذا كانوا يصنعون
رقم المقالة: 1234
صاحب المقالة: خالد الشايع
-----------------------------------------
قد علم أهل الإسلام ما في تفطير الصائم من الأجر؛ لقول النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: ((مَنْ فَطَّر صَائِمًا فَلَهُ مِثْل أَجْرِه، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيءٌ))؛ أخرجه الإمام أحمد والنسائي والترمذيُّ وابن ماجة.
ومعرفة ما كان عليه السلف في هذا المجال تشحذ الهمم لفعل ما كانوا يفعلون.
فقد كان كثير من السلف يواسون مِنْ إفطارهم، أو يؤثرون به، ويبيتون جَوعَى طَاوِين.
ومن أمثلة ذلك:
- كان ابن عمر - رضي الله عنهما - يصوم، ولا يفطر إلا مع المساكين، فإذا منعهم أهلُه عنه، لم يتعَشَّ تلك الليلة.
- وكان إذا جاءه سائلٌ - وهو على طعامه أخذ نصيبه من الطعام - وقام فأعطاه السائل، فيرجع وقد أكل أهله ما بقي في الجفنة، فيصبح صائمًا، ولم يأكل شيئًا.
- وجاء سائلٌ إلى الإمام أحمد - رحمه الله - فدفع إليه رغيفين كان يُعِدُّهما لفطره، ثم طوى، وأصبح صائمًا.
- وكان الإمام الزُّهْرِيّ - رحمه الله - إذا دخل رمضان قال: "إنما هو تلاوة القرآن، وإطعام الطعام".
- وكان الحسن البصري - رحمه الله - يُطعم إخوانه وهو صائم تَطَوُّعًا، ويجلس يروِّحُهم وهم يأكلون.
- وكان عبد الله بن المبارك - رحمه الله - يُطعم إخوانه في السفر الألوان من الحلواء وغيرها، وهو صائم.
- قال الإمام الشافعي - رحمه الله -: "أُحِبُّ للرجل الزيادة بالجُود في شهر رمضان، اقتداءً برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولحاجة الناس فيه إلى مصالحهم، ولتشاغل كثيرٍ منهم بالصوم والصلاة عن مكاسبهم.
نسأل الله تعالى أن يَهَبَ لنا من لَدُنه رحمةَ، إنه هو الوهاب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(/1)
العنوان: هكذا يمارسون المتعة...
رقم المقالة: 1665
صاحب المقالة: حامد الإدريسي
-----------------------------------------
هكذا يمارسون المتعة...
لعلَّ كثيرًا من المشتغلين بموضوع التشيع يعرفون أن الشيعةَ يعتقدون بالمتعة، ولكنَّ الكثير منهم، لا يتصورون طبيعةَ هذه العَلاقة وصورتَها في المجتمعات الشيعية القديمة والمعاصرة، لذا فإن هذا الموضوع يناقشُ الظاهرةَ؛ ليس من الجهة العقدية فقط، وإنما يعرِّج على الظاهرة من خلال جوانبها الاجتماعية، بحيث يعطي تصورًا عمليًا عن هذه العقيدة الماجنة...
إن الصورة التي يعرضها الفكرُ الشيعي عن زواج المتعة تجعلُ منه علاقةً جنسية محضة، تربط رجلاً بامرأة، دون أن تكفل لها أيَّ حق من الحقوق التي يكفلها لها الزواجُ، كالإرث والسكنى والنفقة، وتجعل المرأة وسيلة مجردة للمتعة وقضاء الوطر، تنال بذلك قدرًا من المال أسموه مهرًا.
وليس لهذا الزواج شرطٌ سوى صيغة العقد، وذكر المهر والمدة، وصورتُه: أن يلقى رجلٌ امرأةً فيعرض عليها التمتع، ويذكر الصيغة بأن يقول لها: أريد التمتع بك، وتقول: متعتك بنفسي، أو نحوها، ويتفقان على المهر، ويحددان المدة ولو يومًا واحدًا.
وهذه صورة دينية للزنى الصريح، ودعوة مباشرة إلى الفساد، ونشر عريض للفاحشة، بل نص علماؤهم -ومنهم الخميني في كتابه "تحرير الوسيلة"- على جواز التمتع حتى بالزانية العاهرة المحترفة للزنى؛ قال: ((يجوز التمتع بالزانية على كراهية، خصوصًا لو كانت من العواهر والمشهورات بالزنى))[1]، وماذا تريد هذه العاهرة غير ما تكسبه من الدراهم، سواء أكان الموردُ من متعة أم من زنى؟، فالفرق بين الذي قصَدَها للزنى والذي قصَدَها للمتعة هو الصيغة، فهذا يذكر المتعة، وهذا لا يذكرها!!! وهذا له الويل والثبور، وهذا له الأجر والحبور!!(/1)
وإليك قصةَ أحدهم يرويها صاحبُ الكافي؛ يقول: ((لما كان غداة الجمعة وأنا جالس بالباب، إذ مرت بي جارية فأعجبتني فأمرت غلامي فردها، ثم أدخلها داري فتمتعت بها، فأحسَّت بي وبها أهلي، فدخلت علينا البيت، فبادرت الجارية نحو الباب وبقيت أنا، فمزَّقت علي ثيابًا جددًا كنت ألبسُها في الأعياد))[2] بلا شهود وبلا كتابة وبلا إعلان، وما الفرقُ بين هذه الصورة وما نراه في مجتمعاتنا من صور الزنى، لا شيء إلا هاتين الكلمتين "متعتك نفسي".
وآخر يسأل إمامه عن أمر يؤرقه؛ قال: ((قلت لأبي عبد الله عليه السلام: جارية بكر بين أبويها، تدعوني إلى نفسها سرًا من أبويها أفأفعل ذلك؟ قال: نعم، واتق موضع الفرج، قال: قلت: فإن رضيت بذلك؟ قال: وإن رضيت؛ فإنه عار على الأبكار))[3]، فانظر إلى أي حد انتشر هذا الفسادُ، حتى بين صغيرات السن، وحتى وهي عند والديها، والإمامُ جوَّز له أن يضاجعها دون علم أبويها، وأقرها على ما تفعل من دعوة هذا الرجل إلى نفسها سرًا.
ونص شيخُهم المفيد على جواز التمتع بالبكر دون إذن أبيها، وروى في ذلك حديثين، قال: ((قال أبو عبد الله عليه السلام: لا بأس بتزويج البكر إذا رضيت من غير إذن أبيها))، وقال: ((وجميل بن دراج حيث سأل الصادق عليه السلام: عن التمتع بالبكر؟ قال: لا بأس أن يتمتع بالبكر ما لم يفض إليها، كراهية العيب على أهلها))[4].
ولا أدري: أي زواج هذا الذي يُباح فيه موضعٌ من المرأة ويحرم موضعٌ، لكن الشيعة جعلت لأتباعها مناصًا عن الفرج، وأباحت لهم إتيان النساء من حيث لم يأمرنا الله.
فقد سأل أحدُهم أبا عبد الله عن إتيان النساء في أدبارهن، فقال: ((هي لعبتك لا تؤذها))[5].
وقال أحدهم للرضا: ((إن رجلا من مواليك أمرني أن أسالك عن مسألة هابك واستحيى منك أن يسألك، قال: وما هي؟ قلت: الرجل يأتي امرأته في دبرها؟ قال: ذلك له))[6].(/2)
ومع هذه الفتوى تتضح لك الصورةُ، ويصبح الحكم بجواز نكاح البكر من غير الفرج معقولا وعمليًا، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ومن الطريف أن عندهم خلافًا فيما إذا أتى الصائمُ امرأته في دبرها بغير إنزال، هل يفطر أم لا، واستدل المجيزون بهذه الرواية: عن أبي عبد الله قال: ((إذا أتى الرجلُ المرأة في الدبر وهي صائمة، لم ينقض صومها وليس عليها غسل))[7].
أما المهر فيكفي فيه سواك يعض عليه، كما نصت عليه الرواية[8].
ولا بأس بالتمتع حتى بالصغيرة التي لم تبلغ، فعن محمد بن مسلم أنه سأل المهدي المنتظر عن الجارية يتمتع منها الرجل؟ قال: ((نعم، إلا أن تكون صبية تخدع، قلت: أصلحك الله وكم الحد الذي إذا بلغته لم تخدع؟ قال: ابنة عشر سنين))[9].
وعلق في الحاشية بقوله: ((يدل على جواز التمتع بالبكر بعد عشر سنين بدون إذن الأبوين، وعلى كراهته قبله))[10] أما مع الإذن فلا كراهة قبل العشر.
وقد نقل أحدُ علماءهم عن الخميني أنه تمتع ببنت عمرها سبع سنوات، لكن بإذن أبيها[11].
وهذا دينهم، كما قال إمامُهم: ((المتعة ديني ودين آبائي؛ من عمل بها عمل بديننا، ومن أنكرها أنكر ديننا واعتقد بغير عقيدتنا))[12].
وقد كان يكفي في الدعوة إلى هذه الفاحشة إباحتُها، لكنهم رتبوا عليها الثوابَ العظيم، والمغفرةَ في الدنيا والآخرة، رغبةً في أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، ولكي يسهلوا على هذه الفتاة المؤمنة ما ينتابُها من الخوف عندما تفكر في تمكين رجل من نفسها، وأخذ مقابل لما تبيعه لهذا المتمتع من جسدها، فإنهم يرغبونها في هذا العمل بمثل هذه النصوص:
فعن إمامهم الباقر أنه سئل: ألِلتَّمتُّع ثواب؟ قال: ((إن كان يريد بذلك الله عز وجل...لم يكلمها كلمة إلا كتب الله له حسنة، وإذا دنا منها غفر الله له بذلك ذنبًا، فإذا اغتسل غفر الله له بعدد ما مر الماء على شعره، قال: قلت: بعدد الشعر؟ قال: نعم بعدد الشعر))، يريد بذلك الله عز وجل!!!(/3)
وعن الصادق قال: ((إن الله عز وجل حرم على شيعتنا المسكر من كل شراب، وعوضهم عن ذلك المتعة)).
وعن الباقر أيضا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لما أسري بي إلى السماء لحقني جبرئيل فقال: يا محمد إن الله عز وجل يقول: إني قد غفرت للمتمتعين من النساء))، وحاشا لرسول الله أن يقول وهو أفصح العرب: ((المتمتعين من النساء))، ولو قالها لسخرت منه جزيرةُ العرب كلها، ولأصبح أضحوكة بينهم، وهذا يدلك على عجمة واضع هذه الأخبار، وجهله باللغة العربية كأتم ما يكون الجهل.
وعن أبي عبد الله قال: ((ما من رجل تمتع ثم اغتسل، إلا خلق الله من كل قطرة تقطر منه سبعين ملكا يستغفرون له إلى يوم القيامة، ويلعنون متجنبها إلى أن تقوم الساعة))، نسأل الله أن نتجنبها إلى يوم القيامة، قال الشيخ المفيد بعد أن ساق هذه الأخبار ((وهذا قليل من كثير في هذا المعنى))[13].
وقد عانى المجتمعُ الشيعي هذه الرذيلةَ، وانهدَّت بنيتُه الاجتماعية، فبعد أن كان الزنى سبة وعارًا، أصبح شرفًا وثوابًا، ولم يعد الفتى يخشى وعيدًا أو عقابًا، بل سيغفر له بكل قطرة من ماء غسله، ويستغفر له آلاف الملائكة، وقبل هذا كله، نار في أحشائه ستطفأ، وشهوة تؤرقه ستبرد، ووطر في نفسه سيقضى.
وقد بلغ من انتشارها في مجتمعهم أن تذمر من ذلك بعض رؤسائهم، فقد ذكرت مجلة الشراع الشيعية أن الرئيس رفسنجاني أشار في حديث له، إلى وجود ربع مليون لقيط في إيران بسبب زواج المتعة، وقد وصفت الصحيفة مدينة مشهد المقدسة عندهم، بأنها تكثر فيها المتعة، وأنها المدينة الأكثر انحلالا على الصعيد الأخلاقي في آسيا[14].(/4)
وذكرت صحيفة يو إس إي توداي الأمريكية، بعد استطلاع أجرته في العراق، بعد سقوط النظام أنه: ((بعد انتخابات 31 يناير، وتكوين الشيعة أكبر كتلة في الجمعية الوطنية العراقية، انتشر العملُ بالمتعة في المدن الشيعية انتشارًا كبيرًا))، ونقلت عن رجل شيعي يدعى الزبيدي من مدينة الصدر الشيعية قوله: ((إنه كان خائفا تحت حكم صدام، إنهم كانوا يعاقبون الناس على زواج المتعة، والآن الجميع يمارسونه))، وأضاف أحد رجال الدين يدعى سيد كريم قال: ((إن هناك الآن الكثير من الفنادق في المدن الشيعية كالنجف وكربلاء والكاظمية، يرعاها الشيعة وتبارك هذا الزواج))[15].
وهكذا يستغل هذا الزواج لدعوة الشباب إلى التشيع، بدعوى أنه دين يسر، ولا تضييق فيه على الشباب، خصوصًا من لا يستطيع منهم الزواج، وأعجبني تسمية أحد الباحثين[16] لهؤلاء المتشيعين بسبب زواج المتعة، بـ(المؤلفة فروجهم) في مقابل المؤلفة قلوبهم الذين كانوا في بداية الإسلام.
وأحيلك إلى كتابي الذي اقتطفتُ منه هذا المبحث إن أردت الاستزادة "الفاضح لمذهب الشيعة الاثني عشرية".
أعاذنا الله وإياك من مضلات الفتن، وجعلنا من المتمسكين بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] تحرير الوسيلة ج2 ص288.
[2] شرح أصول الكافي - مولي محمد صالح المازندراني - ج 12 - ص 408.
[3] تهذيب الأحكام: ج 7 ص 2.
[4] خلاصة الإيجاز – الشيخ المفيد- ص47.
[5] الكافي - الشيخ الكليني - ج 5 - ص 540.
[6] المصدر السابق.
[7] تهذيب الأحكام للطوسي ج7 ص 460.
[8] مستدرك الوسائل ج14 ص463.
[9] من لا يحضره الفقيه - الشيخ الصدوق - ج 3 - ص 461.
[10] الحاشية رقم 2 من نفس المصدر.
[11] ذكرها الموسوي في كتابه (لله ثم للتاريخ) ص 36.
[12] عزاه الموسوي في كتابه (لله ثم للتاريخ)، إلى من لا يحضره الفقيه ج3ص366.
[13] رسالة المتعة - الشيخ المفيد - ص 8 – 9.(/5)
[14] مجلة الشراع، العدد 684 السنة الرابعة، الصفحة 4 انظر موقع المجلة على الإنترنت:
www.alshiraa.com
[15] صحيفة يو إس إي توداي، الخميس 5-6 - 2005م.
[16] هو الأخ الباحث الزبير دحان في كتابه الاستنساخ الفكري.(/6)
العنوان: هل ارتد أحد من الصحابة؟
رقم المقالة: 292
صاحب المقالة: د. سعد بن عبدالله الحميد
-----------------------------------------
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
فإنه لا يصح أن أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ارتدّ بعد حادثة الإسراء، ولم يرد ذلك صراحة إلا في حديث منكر أخرجه الحاكم (3/62و63) وغيره من طريق محمد بن كثير الصنعاني، عن معمر بن راشد، عن ابن شهاب الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت : لمّا أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى، أصبح يتحدث الناس بذلك، فارتدّ ناس ممن كانوا آمنوا به وصدّقوه … الحديث قال الحاكم : (هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه؛ فإن محمد بن كثير صدوق)، والحاكم كما هو معلوم انتُقد كثيراً على أحكامه على الأحاديث في "المستدرك"، ويظهر انتقاده هنا بوضوح. فإن محمد بن كثير هذا لم يخرج له أحد الشيخين شيئاً، ومع هذا فهو مضَعف من قبل حفظه، ويشتد ضعفه إذا روى عن معمر، وهذا من روايته عنه. قال عبد الله بن الإمام أحمد: ذكر أبي محمد بن كثير فضعّفه جداً، وضعّف حديثه عن معمر جداً، وقال : هو منكر الحديث، وقال: يروي أشياء منكره. أ.هـ من "تهذيب الكمال" (26/331). والصواب في هذا الحديث: رواية ابن جرير له في تفسيره (17/335) عن ابن شهاب الزهري، عن ابن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن مرسلاً، والمرسل من أنواع الضعيف، ومع ذلك فذكر الارتداد لم يرد من قولهما، وإنما ذكره عبد الله بن وهب من قوله، وابن وهب هو الرواي للحديث عن يونس بن يزيد، عن الزهري.
فإن قيل : ورد خبر الارتداد أيضاً في حديث ابن عباس عند الإمام أحمد (1/374 رقم 3546)، والنسائي في "الكبرى" (11383)، وغيرهما، وصححه ابن جرير الطبري في "تهذيب الآثار" (17)، وابن كثير في "التفسير" (5/26 ).(/1)
فالجواب: أن هذا الحديث ليس فيه دلالة على أنهم كانوا مؤمنين، ولفظه عند هؤلاء : "فقال ناس: نحن لا نصدق محمداً بما يقول ، فارتدّوا كفاراً، فضرب الله أعناقهم مع أبي جهل. . " الحديث .
فقوله: "فارتدوا كفاراً" لا يدل على أنهم كانوا مؤمنين، وإنما يدل على أنهم بعد أن رأوا هذه الآية العجيبة؛ وهي أنهم تحدّوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يثبت صدقه في أنه أسري به إلى بيت المقدس، ثم رجع في ليلة ، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم يصف لهم بيت المقدس وصفاً دقيقاً، وهم يعلمون أنه لم يره، وأخبرهم بعيرهم التي في الطريق، وهذه آية عظيمة تستوجب من كفار مكة الإيمان بصدق نبوته صلى الله عليه وسلم، ولكنهم مع هذا كله قالوا: نحن لا نصدق محمداً بما يقول، فبدلاً من الإيمان ارتدّوا إلى كفرهم، وباقي الروايات التي ذكرت في هذه الحادثة من غير هذا الطريق تدل على ما ذكرته، فليس فيها ذكر الارتداد، فضلاً عن التصريح بردة بعض من كان آمن، على أن سند الحديث يحتاج إلى تأمل، يشعر به قول ابن جرير الطبري في الموضع السابق من "تهذيب الآثار" : "وهذا خبر عندنا صحيح سنده، وقد يجب أن يكون على مذهب الآخرين سقيماً غير صحيح؛ لعلل : إحداها : أنه خبر لا يعرف له مخرج يصح عن ابن عباس - على ما روي عن هلال بن خباب، عن عكرمة، عنه - إلا من هذا الوجه، وإن كان قد روى بعض ذلك عن عكرمة، من غير حديث هلال بن خباب . . )) الخ ما قال ، والمهم منه ذكر العلة الأولى هذه فالحديث يرويه هلال بن خبّاب، عن عكرمة، عن ابن عباس. وأحاديث الإسراء وردت عن جمع من الصحابة رضي الله عنهم استوعب ذكرهم الحافظ ابن كثير في أول سورة الإسراء، ومنهم ابن عباس رضي الله عنهما، ولم يرد في حديث أي منهم ذكر الردّة إلا في طريق عائشة الذي تقدم الكلام عنه، أو في هذه الرواية . وقد روي الحديث عن ابن عباس من خمس طرق - على ما ذكر ابن كثير - ، وبعضها في الصحيح، وليس في شيء منه هذه الطرق(/2)
ذكر الردّة، إلا في رواية عكرمة. ولم نجد هذه الرواية مروية عن عكرمة إلا من طريق هلال بن خبّاب، وتلاميذ عكرمة الذين رووا عنه السنّة كثر، ولم يرو أحد منهم هذا الذي رواه هلال بن خبّاب، وهم أكثر ملازمة لعكرمة من هلال، وأحاديثهم مخرّجة في الصحيح عنه، وأما هلال بن خبّاب فأعرض صاحبا الصحيح عن إخراج حديثه بالمرة، لأنه تغيّر قبل موته بسبب كبر سنّه، ومثله لا يحتمل منه التفرُّد بهذه الرواية، وفيها ما تقدم ذكره مما ينكر عليه من لفظها.
فهذا ما يتعلق بالرواية من حيث السند، أمن نقدها من حيث المتن فهي منكرة للأسباب التالية:
(1) حديث أبي سفيان مع هرقل، وفيه سؤال هرقل لأبي سفيان - وكان حين ذلك مشركا - هل يرتد أحدٌ منهم - يعني أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - سخطة لدينه بعد أن يدخلة قال أبو سفيان : لا ، فلو كانت حادثة الارتداد عن الإيمان صحيحة لما أقرّ أبو سفيان بذلك، بل كان يقول له : نعم هناك من ارتدّ عن الإيمان به لما حصل كذا وكذا.
(2) في متن هذا الحديث من هذا الطريق ألفاظ أخرى منكرة تدل على عدم ثبوته؛ كقوله: "ورأى الدجال في صورته رؤيا عين، ليس رؤيا منام. . " ، وذكر صفته، فلو كان صلى الله عليه وسلم رآه في تلك الليلة؛ لما التبس الأمر عليه بابن صيّاد بعد أن هاجر إلى المدينة، بل كان يعرفه بعد أن رآه رأي العين، وبالأخص ما ذكر في الحديث من علاماته التي لا تخفي، ومنها قوله : "رأيته فيلمانيَّاً أقمر هِجَاناً إحدى عينيه قائمة كأنها كوكب دُرِّيّ، كأن شعر رأسه أغصان شجرة" ، وبعض هذه الأوصاف من أنها لم تكن في ابن صياد، كذكر العين؛ فإن عينه كانت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم سليمة، وإنما نَفَرت بعد ذلك كما يدلّ عليه حديث ابن عمر عند مسلم في "صحيحه" (2932).(/3)
(3) إن الصحابة كانوا وقت حادثة الإسراء قلة قليلة معروفون بأسمائهم وأسماء آبائهم وحفظت لنا كل الحوادث التي مرت بهم في تلك الفترة، فنقل إلينا خبر إسلامهم وتعذيبهم وهجرتهم الأولى والثانية إلى الحبشة ومن مات منهم ومن ولد له كل ذلك باسم كلٍ منهم، فلا يعقل أن يحدث لأحد منهم هذا الحدث وهو الردة عن الإسلام، ثم لا ينقل لنا اسم أحد من هؤلاء المرتدين، فلم يسمي لنا من طريق صحيح أو ضعيف، أسم شخص على أنه ممن ارتد بعد حادثة الإسراء . ومعلوم أنه لا يمكن أن تنقل لنا أحدثٌ أقل من هذا شأناً ويترك ذكر ذلك .
(4) أن كل مؤمن برسالة محمد صلى الله عليه وسلم يؤمن بأن جبرائيل ينزل من السماء على قلب محمد صلى الله عليه وسلم في لحظة، فكيف يستبعد أن يُسرى بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس في ليلة. ولذلك نقل هذا المعنى عن أبي بكر - رضى الله عنه - في محاجته للمشركين، وأنه قال لهم أنا أصدقه فيما هو أعظم من ذلك بخبر السماء يأتيه في لحظة. فعُلِمَ من ذلك كله عدم صحة هذه الحادثة، ولشهرتها أطلنا القول فيها تصحيحاً لأحداث السيرة وبياناً للحق والله أعلم.(/4)
العنوان: هل أنت ذكية عاطفياً
رقم المقالة: 1301
صاحب المقالة: مها عبدالرحمن سالم
-----------------------------------------
ما الذكاء العاطفي (الوجداني)..؟
وماذا يعطيكِ أيتها الفتاة..؟
وما صفات الأذكياء عاطفيا..؟
إن العلاقة بين الذكاء العقلي والذكاء الوجداني تتضح عندما نتصور ذاك الشخصَ المحبَط الغارقَ في حزنه؛ كيف له أن يتخذ قرارًا بطريقة سليم في لحظات اكتئابه؟!
وليست العلاقة طردية حتمًا؛ ففي الضفة الأخرى -وحتى يكون الحديث منصفا- لنا أن نستحضر صورة الإنسان الإيجابي المتزن والذي -وإن كان متوسط الذكاء أو أقل من المتوسط دراسيًا- نجده متميزًا، اجتماعيًا، يشق طريقه بإنتاجية، ويكون محبوبا ممن حوله.
• الذكاء العاطفي: هو تقبل الذات، ومهارة التفاعل مع الآخرين.. هكذا باختصار!
فهذه المهارة تتيح لكِ الاستمتاع مع ذاتك، وسرعة تفادي المواقف الحرجة مع الآخرين بأقل خسائر ممكنة من مشاعرك.
• الأذكياء عاطفياً: هم أشخاص يتميزون بأن منسوب عواطفهم متوازن مع دائرة الواقع، وغير مسرفين في بذل عواطفهم.
لا تكوني حساسة أكثر مما ينبغي؛ فالموازين الدقيقة سريعة العطب، وكذلك المفرطو الحساسية سريعو الثأثر .. يضخمون الأقوال والأفعال، مما قد يوقعهم في المزيد من القلق!
وهذا لا يعني إهمال المشاعر ولكن التحكم بالسلوك وتقدير المواقف.
• حاولي فهم من حولك وقراءة مشاعر الآخرين والتواصل معهم.
تدربي على مهارات الاتصال مع الآخرين؛ سواء البصري منها والخطابي، واقرئي في هذا الفن كثيرًا، ولا يغني ذلك عن التدريب وخوض التجربة وتجاوز الاخفاقات.
• تعلمي نطق كلمة (لا) عندما لا تستطيعين، أو عندما يخلّ ذلك بخططك وجدولك ؛ فالمجاملة الزائدة تعيقكِ.
وهذا يقود للإشارة إلى (تقدير الذات) الذي يعد الصفة الهامة ؛ إذ يُقصد به مقدار رؤيتك لنفسك، وكيف تشعرين تجاهها.(/1)
الشخص الذي يفتقد هذه المهارة ينقصه الكثير؛ بسبب شعوره الدائم بالنقص، وبأنه الأقل، مع أن الواقع يقول غير ذلك؛ فهو بشر لديه من المعطيات ما يميزه عن غيره، لكن الصورة الذاتية التي يحملها عن نفسه تجعله في حالة: اعتذار مستمر - شعور بعدم الكفاءة - تبديل الرأي خوفا من رفض الآخرين - احتقار الذات..
فإن كنتِ تعانين من هذا الأمر، فعليك أن تكوني شجاعة مع نفسكِ، وتفكري فيما وهبكِ الله وميزكِ به واسعدي بكونكِ إنسانة فريدة، وامنحي نفسكِ الفرصة لصنع أشياء جديدة وأبدعي.
• القدرة على الإقناع من أهمّ صفات الأذكياء عاطفيا؛ لأنهم واضحون في مبادئهم، صريحون في الإفصاح عنها، لا يخجلون من قناعاتهم وإبدائها.
كذلك هم يتحملون المسؤولية، ولا يلقون بتبعات أخطائهم على الآخرين.
• الأذكياء عاطفياً يتحلَّون بسرعة تخطي الأزمات والمواقف الصعبة واستعادة اتزانهم في مدة مناسبة.
حاولي اكتساب هذه المهارة؛ فمن حسن الحظ أن أغلب مشاكلنا ليست مسألة حياة أو موت!
وتفكري في قول المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: ((المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله، وما شاء فعل؛ فإن لو تفتح عمل الشيطان))، رواه مسلم.
فهذا كفيل بأن يعلمك كيف يكون تخطّي مشاعر الإخفاق وصناعة الذات الإنتاجية المبدعة.(/2)
العنوان: هل بدأ مشهد التمكين في فلسطين؟
رقم المقالة: 958
صاحب المقالة: زياد بن عابد المشوخي
-----------------------------------------
الاقتتالُ الذي وقع في قطاع غزة حاولت وسائلُ الإعلام أن تُظهره كصراعٍ بين حركة (حماس) وحركة (فتح)، ولم تستطع وسائلُ الإعلام أن تظهر حقيقةَ الأمر، وأن القتال بين (حماس) وبين اليهود الذين يساندُهم تيارٌ تَغَطَّى باسم حركة (فتح)، واستطاع أن يستولي على قيادتها السياسية، ويحرفها عن مسيرتها، ويسرق اسمها وجهاد أبنائها ومجاهديها، هذا التيار سُمي بعد الأحداث الأخيرة بجيش (لحد)، ويعتمد أساساً على بعض قادة الأجهزة الأمنية الذين يتقاضون الأموال والعطايا، ويخشون من ضياع الرُّتَب والمناصب، أو فتح ملفات الفساد الذي مارسوه طوال الحِقبة الماضية والبدء بمحاسبتهم، ولم تستطعْ تلك الوسائلُ المنصفة أن تنقُل لنا مشهد إطلاقِ عناصرَ من الأمن الوقائي الرصاصَ على شاب، ومنع الإسعاف من أخذه وتركه ينزف وذنبه أن أعفى لحيته، كما لم تستطع وسائل الإعلام أن تنقل مشاهد الاعتداء على النساء المحجبات، أو مشاهد إحراق مباني الجامعة الإسلامية ومكتبتها بالأسلحة الأمريكية، ولا إجراء مقابلات مع الجرحى من الملتحين، أو حرق بعض المساجد، ولم تنقل لنا صور الجرحى من حرس الرياسة والأمن الوقائي الذين يعالجون في مستشفى "برزيلاي" الصهيوني في مدينة عسقلان كما ظهر في القناة الثانية للتلفزيون الصهيوني، وعندما تمت محاصرة الصِّحافيين من قبل حرس الرياسة و(تنفيذية فتح) وجاءت كتائب القَسَّام لفك الحصار عنهم قال المراسلون بأنهم محاصَرون في وسط اشتباك بين (حماس) و(فتح)! خشية أن يصيبهم ما أصاب عدداً من الصِّحافيين على يد حرس الرياسة والأمن الوقائي... وهكذا تقلب الأمور، وتخفى الحقائق!(/1)
ها هو ذا الشعب الفِلَسطيني لا يزال يمارَس ضده العقابُ الجماعي الدولي بسبب اختيار حركة المقاومة الإسلامية (حماس) لقيادته بعد سنين عجاف كان يمثل الشعبَ ويتكلم باسمه من لا يمثله حقيقةً، ويشارك في الحصار دِوَل الجوار، ويضاف لكل هؤلاء آخرون من دونهم ولكننا اليوم نعلمهم.. وظلمُ ذوي القربى أشدُّ مضاضةً على النفس من وقع الأباتشي.
ليس من التجني القولُ بأن تياراً في حركة (فتح) حددت له الأهداف والخطوات من قِبل الولايات المتحدة الأمريكية والكِيان الصهيوني، وهو يقوم بتنفيذها بتعاون وتنسيق ظاهر، بل ويتقاضى في مقابل ذلك المساعدات المتنوعة والمعلنة، لم تكتفِ الولاياتُ الأمريكية والكيان الصهيوني بالإعلان عن دعم هذا التيار وحرس الرياسة بل قام بدَكِّ مواقع القوة التنفيذية في تزامن ظاهر ومريب مع اعتداءات حرس الرياسة والأمن الوقائي على مواقع أخرى للقوة التنفيذية ولكتائب القسام، ورعايةً لحق الجوار فقد قامت بعض دول الجوار بتدريب 450 عنصراً حتى الآن من جهاز جديد سموه (تنفيذية فتح) ليقابل المجاهدين من أبناء الشعب الفلسطيني في القوة التنفيذية، وسمحت قواتُ الاحتلال بعبورهم بعد اندلاع الأحداث مباشرة، وهي التي تمنع النساءَ والأطفال من الدخول من معبر (رفح) الحدودي إلا بعد ساعات أو أيام من الانتظار والمعاناة والإذلال.(/2)
وهكذا كلما هدأت الأمورُ عاد العملاء والخونة إلى إشعال الفتنة من جديد، وأمام كل هذه العقبات والصعوبات السياسية والعسكرية والاقتصادية وغيرها والتي وُضِعت في طريق الحكومة الفلسطينية وحركة (حماس)، فإن الشعوب المسلمة في كل مكان تقف حائرة، بل قد لا يرى البعض أي حل أو مخرج يلوح في الأفق، لذلك فإن علينا جميعاً أن نعود بالذاكرة إلى الوراء وتحديداً إلى سنة 1991م عندما عقد مؤتمر السلام في (مدريد) وقامت المفاوضات بين المنظمة والكيان الصهيوني بحضور الدول العربية ومباركتها، ليكون المؤتمر الأول الذي يشارك فيه العرب مع الكيان الصهيوني، برعايةٍ أمريكية وأوربية، وانطلق الإعلام للترويج للسلام، وها هي ذي حركة حماس تصدر بيانها لتوضح فيه موقفها من المؤتمر ورفضها له لما يترتب عليه من نتائجَ خطيرة على مسيرة القضية الفلسطينية، ولا أنسى ذلك البيان الذي تصدرته آية كريمة وهي قوله – تعالى -: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص: 5-6].
وبعد ما يزيد عن عشر سنين من حكم للسلطة التي جيء بها أساساً لإيقاف تطور الانتفاضة الأولى، ولتكون سيفاً مسلطاً على رقاب المجاهدين من أبناء حماس والجهاد، بعد كل تلك السنين العجاف، مروراً بأعنف مراحلها وهي سنة 1996م وما كان فيها من ملاحقة واعتقال وتعذيب، بل وقتل للمجاهدين، والتنسيق الأمني مع العدو الصهيوني الذي لم يتوقف إلا بعد أشهر من اندلاع انتفاضة الأقصى، وبعد فوز (حماس) في الانتخابات الأخيرة سنة 2006م، فإن علينا أن نطرح هذه التساؤلات:(/3)
من جاء بالسلطة أساساً للقضاء على (حماس) هل كان يتوقع أن يؤول أمرها لتصير لـ(حماس)؟ هل تحقق وعد الله بأن يَمُنَّ على المستضعفين بجعلهم أئمة وجعلهم الوارثين؟ وهل مكن لهم في الأرض؟ وهل رأى فرعون وجنوده منهم ما كانوا يحذرونه؟ ومَن الطرفُ الأضعف اليوم؟ ... لن يدرك حجمَ التغيير إلا من عاش في تلك المدة ثم أدرك هذه الأيام، وإن كانت حَلَقات التمكين لم تكتمل بعد، ولكن علينا أن نتذكر تلك المرحلة، كما ذكر الله عز وجل صحابة رسوله - صلى الله عليه وسلم - بنعمته عليهم وصدق وعده لهم بقوله سبحانه: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الأنفال: 26]، علينا أن نتذكر لكي لا نقعد عن مقارعة الظلم في كل صوره وأشكاله، علينا أن نتذكر أيام الضعف والخوف، قبل أن ينعم الله علينا بالقوة السياسية والعسكرية، وغداً الاقتصادية بإذن الله، علينا أن نتذكر انتصارنا في غزة وغداً في الضفة والقدس بإذن الله، علينا أن نتذكر لنشكر المنعم عز وجل، وإن كان الصحابةُ رضي الله عنهم عاشوا مشهدَ الاستضعاف ومشهدَ التمكين، فإننا اليوم نرى بأن الستار قد بدأ يُسدَل على مشهد الاستضعاف.(/4)
وها هي ذي أمريكا والكيان الصهيوني وأعوانُهم في الداخل وفي الجوار يعجزون عن إسقاط حكومة (حماس) فكان اللجوء إلى هؤلاء المرتزِقة لكون الجيش الصهيوني عاجزاً عن المواجهة الحقيقة ويخشى المزيد من الهزائم وسقوط هيبته لا سيما بعد حربه الأخيرة في لبنان، وهو بحاجة ماسة لتشويه صورة المجاهدين في فلسطين، الذين بدأت الشعوب تلتف حولهم وحول خيارهم الجهادي، وينبغي أن نشير هنا إلى أن حركة (حماس) استطاعت أن تفضح هذا التيار وأن تكشف مؤامراته، كما وجهت النداء إلى الشباب الأحرار في جهاز الأمن الوقائي لأن يعي جيداً المؤامرةَ التي خطط لها قادتهم، وأنها تنظر إلى هؤلاء الشباب على أنهم شركاء للحركة في هذا الوطن وشركاء في المصير، كما دعت (حماس) كل الأحرار في فلسطين، وكل الإخوة الأحرار في حركة (فتح) إلى تدارك ذلك ومنع رؤوس الفتنة من تنفيذ مخططاتهم قبل فوات الأوان.(/5)
وقد بلغ الضعفُ بهذا التيار إلى حدٍّ جعَلَ بعض المحللين السياسيين الصهاينة يصرِّحُ بأنهم اعتمدوا على تيار ضعيفٍ ليس له قَبولٌ في الشارع أو قاعدة جماهيرية، حتى إن بعض القادة العسكريين "الإسرائيليين" يعارضون إمداد (فتح) بأسلحة كثيرة خشية أن تقع هذه الأسلحة في يد (حماس) كما حصل للشاحنات التي دخلت من معبر (رفح)، بل إن المجاهدين من (حماس) حاصروا هؤلاء المرتزقة في الأحداث الأخيرة في المربع الأمني الذي يسيطرون عليه في تل الهوى، وسيطروا على أبراج سكنية تتبعهم بعد أن طردوا عناصرَ تيار الخيانة منها، وأما الخطوطُ الحمراء التي تحدَّث عنها (دحلان) سابقاً فقد سقطت؛ فبيوت ومقرات قادة هذا التيار هوجمت، وتمت السيطرة عليها، وبدأت تدرك جميعُ الفصائل الفلسطينية بأن النَّيل من (حماس) ما هو إلا مقدمة للمسِّ بكل من يرفع راية المقاومة والجهاد، ووجهت قيادات سياسية وعسكرية في (فتح) الاتهامات لـ(دحلان) بتحريك هذا التيار للقضاء على المقاومة، وأعلنت كتائبُ الأقصى بأن حركة (فتح) اختُطفت من غلمان (دحلان)، وأن تصريحات نزال تسوغ للاحتلال القتل، وناشدت كتائبُ شهداء الأقصى - الجناح العسكري لحركة (فتح) - أبناءَ الحركة بأن يرفضوا الانخراط في "مؤامرة تصفية المقاومة وشركاء الدم والسلاح"، قائلة: "لا للعملاء وأدعياء الانتماء لفتح في صفوفنا، ولنعلنها مجلجلة: فلتعد فتح إلى أحضان أبنائها الحقيقيين والشرعيين"، وقالت: "في الوقت الذي نرى فيه قوات البغي الصهيونية تفتك بإخواننا ورفاق سلاحنا وشركائنا في خندق المقاومة في غزة الراسخة، لا يتورعُ شرذمةٌ ممن ربطوا أسماءهم، زوراً وبهتاناً، بحركة فتح العظيمة عن مد يد العون لعصابات الاحتلال في حربهم المعلنة على قوى المقاومة، بل ولا يخجل الدّعي (جمال نزّال) من نفسه، ويجاهر على رؤوس الأشهاد باتهام المقاومة بأنها هي من تستدرج عصابات الاحتلال إلى غزة، وكأن المجرم (رئيس الوزراء(/6)
الصهيوني (أولمرت) الذي يعاني سكرات الموت جراء تقرير (فينوجراد)) بحاجة إلى مبررات لقتل أبناء شعبنا".
وقد استطاعت حركة (حماس) وبذكاء وحنكة سياسية أن توجه الأنظار والأفعال إلى العدو الصهيوني مصدر الفتنة، كما استطاعت أن تخرج الكيان الصهيوني وقيادته عن طوره وتفكيره ودهائه ومكره ليشارك مباشرة مع بعض الخونة من عناصر الأمن الوقائي وحرس الرياسة في ضرب مواقع التنفيذية والقسام ليسقط ما تبقى من أوراق تستر بها هؤلاء الخونة.
القضية الفلسطينية اليوم تمر بمرحلة جديدة، والكيان الصهيوني تعصف به الأزماتُ من كل جانب، وفقد الثقة في أولئك العملاء الذين كان قد عول عليهم الكثير، وقد نقلت صحيفة (هآرتس) الصهيونية عن جهات أمنية عليا تأكيدَها بأن حركة (فتح) هزمت وستخسر دورها الأمني قريبا، وبأن مسئولين كباراً في أجهزة أمن السلطة أخرجوا عائلاتهم من القطاع.
وبالرغم من كل الصعوبات والتعقيدات فإننا نرمق النصر من بعيد، وقد هبت رياحُه ولاحت بوادرُه ومقدماته، ولن تعود الأمور إلى الوراء - بإذن الله- وما تلك الممارساتُ والجرائم التي يقوم بها بعضُ المنتسبين إلى الأجهزة الأمنية إلا علامة على حالة العجز التي وصل إليها أولئك الخونة، والحال نفسه لدى الكيان الصهيوني، وما النصر إلا صبر ساعة، ولن تقبل الجماهير المسلمة في فلسطين بأن يحكمها أو يمثلها من يتنازل عن حقوقها ولو كان سيوفر لها الرواتب.(/7)
وأخيراً فإن علينا جميعاً أن نشارك في صناعة مشهد التمكين كل بحسبه، والخاسر هو من تتاح له فرصة المشاركة في صناعة مشهد التمكين ويتوانى عن ذلك، وتلك المؤامرات مهما كانت نتائجها فإننا نعلم بأن أرضنا المقدسة الطاهرة فلسطين ستبقى محفوظة محروسة برعاية الله وملائكته وجنده المجاهدين الأخيار، فقد أخرج الترمذي وأحمدُ وصححه الطبراني والحاكم ووافقه الذهبي من حديث زيد بن ثابت الأنصاري - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "يا طوبى للشام! يا طوبى للشام! يا طوبي للشام!، قالوا: يا رسول الله وبم ذاك؟ قال: تلك ملائكة الله باسطو أجنحتها على الشام". قال العز بن عبد السلام - رحمه الله -: أشار رسول الله إلى أن الله - سبحانه وتعالى- وكل بها الملائكة، يحرسونها، ويحفظونها.
وأما أولئك المتآمرين فلن يموتوا إلا هماً أو غيظاً أو حُزناًً، فعن خُرَيْمِ بْنِ فَاتِكٍ الْأَسَدِيِّ قال: "أَهْلُ الشَّامِ سَوْطُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ؛ يَنْتَقِمُ بِهِمْ مِمَّنْ يَشَاءُ كَيْفَ يَشَاءُ وَحَرَامٌ عَلَى مُنَافِقِيهِمْ أَنْ يَظْهَرُوا عَلَى مُؤْمِنِيهِمْ وَلَنْ يَمُوتُوا إِلَّا هَمّاً أَوْ غَيْظاً أَوْ حُزْناً"، انفرد به أحمد وإسناده صحيح وهو موقوف.(/8)
العنوان: هل بنى الصحابة مسجداً على قبر أبي بصير؟
رقم المقالة: 416
صاحب المقالة: د. سعد بن عبدالله الحميد
-----------------------------------------
السؤال: اطلعت في بعض المواقع على حديث منسوب إلى مغازي موسى بن عقبة، أن أبا بصير - رضي الله عنه - لما توفي دُفن بسيف البحر، وبني على قبره مسجد، فما درجة صحة هذا الحديث؟ وهل يصلح دليلاً على جواز بناء المساجد على القبور؟ أفيدونا أفادكم الله، وجزاكم الله خيراً.
الجواب: الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فهذا الحديث المشار إليه رواه موسى بن عقبة، كما في "الاستيعاب" لابن عبد البر (1614 - 1613/4)، و"الاكتفاء" للكلاعي (2/184)، و"تاريخ الإسلام" للذهبي (2/400)، و"فتح الباري" لابن حجر (5/351).
ومن طريق موسى بن عقبة أخرجه البيهقي في "دلائل النبوة" (4/172 - 175) فقال: أخبرنا أبو الحسين بن الفضل القطان، قال: أخبرنا أبو بكر بن عتَّاب العَبْدي، قال: حدثنا القاسم بن عبد الله بن المغيرة، قال: حدثنا إسماعيل بن أبي أويس، قال: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة، عن موسى بن عقبة.(/1)
(ح)، وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ، قال: أخبرنا إسماعيل بن محمد بن الفضل الشعراني، قال: حدثنا جَدِّي، قال: حدثنا إبراهيم بن المنذر، قال: حدثنا محمد بن فُلَيح، عن موسى بن عقبة، عن ابن شهاب - وهذا لفظ حديث القطان - ، قال: ولما رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة انفلت رجل من أهل الإسلام من ثقيف - يقال له: أبو بصير بن أسيد بن جارية الثقفي - من المشركين...، فذكر قصة أبي جندل وأبي بصير - رضي الله عنهما - المشهورة، وكيف قتل أبو بصير أحد الرجلين اللذين أخذاه من النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ثم خرج حتى أتى سيف البحر، وكيف انفلت أبو جندل بن سهيل من قريش، فلحق بأبي بصير، فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير، حتى اجتمعت منهم عصابة، فما سمعوا بِعِيرٍ خرجت لقريشٍ إلى الشام إلا اعترضوا لها فقتلوهم وأخذوا أموالهم، فأرسلت قريش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - تناشده أن يرسل إلى أبي بصير وأصحابه...، وفي آخره قال: "وكتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أبي جندل وأبي بصير يأمرهم أن يقدموا عليه، ويأمر من معهما ممن اتبعهما من المسلمين أن يرجعوا إلى بلادهم وأهليهم، ولا يعترضوا لأحدٍ مرَّ بهم من قريشٍ وعيرانها، فقدم كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زعموا - على أبي جندل وأبي بصير، وأبو بصير يموت، فمات وكتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في يده يقرؤه، فدفنه أبو جندل مكانه، وجعل عند قبره مسجدًا".
وأخرجه ابن عساكر في "تاريخ مدينة دمشق" (25/299 - 300) من طريق البيهقي السابق، ومن طريق الخطيب البغدادي، عن أبي الحسين بن الفضل القطان شيخ البيهقي، به.
والشاهد من هذه القصة: قوله: "وجعل عند قبره مسجدًا".
وهذا ليس فيه دلالة على جواز بناء المساجد على القبور؛ لأمرين:(/2)
الأول: أن هناك فرقًا بين قوله: ((على قبره))، وقوله: ((عند قبره))، فالمنهي عنه هو: ((بناء المساجد على القبور))، وليس ((عند القبور)) ؛ لما جاء في حديث عائشة - رضي الله عنها - : أن أم حبيبة وأم سلمة - رضي الله عنها - ذكرتا كنيسة رأينها بالحبشة فيها تصاوير، فذكرتا للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال: "إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدًا، وصوَّروا فيه تلك الصور، فأولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة". أخرجه البخاري (427)، ومسلم (528).
ومن المعلوم أن قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وصاحبيه - رضي الله عنهما - عند مسجده، ولو كان ذلك غير جائز لما قُبِروا هناك، فكان الأولى بهذا الْمُسْتَدِلِّ أن يستدِلَّ بهذا الذي هو أقوى وأصرح!!
ولكن الذي يظهر لي أنه وقع على خطأ جاء في الموضع السابق من "الاستيعاب" لابن عبد البر، فإن اللفظ عنده هناك جاء هكذا: ((فدفنه أبو جندل مكانه، وصلى عليه، وبنى على قبره مسجدًا)).
وطريقة أهل السنة في مثل هذه المواضع أنهم يأخذون بالمحكم، ويردون إليه المتشابه، فقد نقل هذا النص عن موسى بن عقبة عدد من أهل العلم، وكلهم قالوا: ((عند قبره))، ومنهم الكلاعي، والذهبي، وابن حجر، وكذا رواه عنه البيهقي وابن عساكر بإسناديهما كما سبق، ولم أجد من ذكر أن موسى بن عقبة قال في روايته: ((على قبره))، سوى ما جاء في كتاب ابن عبد البر، وهذا يحتمل أن يكون خطأً من الطباعة، فلا بُدَّ من مراجعة نسخ الكتاب الخطِّيَّة، فإن وجد فيها كذلك فلَعَلَّه تصحيف من النُّسَّاخ، وربما كان من ابن عبد البر نفسه ؛ فإنه ليس معصومًا من الزلل، وقد ذكر هو في "كتاب الاستذكار" (1/521): حديث سهو النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة، ثم قال: ((وفي هذا الحديث بيانُ أن أحدًا لا يسلم من الوهم والنسيان؛ لأنه إذا اعتَرَى ذلك الأنبياء، فغيرُهم بذلك أحرى)).(/3)
ونبَّه في "كتاب التمهيد" (1/366) على خطأ وقع فيه ابن شهاب الزهري بقوله: ((لا أعلم أحدًا من أهل العلم والحديث المصنِّفين فيه عوَّل على حديث ابن شهاب في قصة ذي اليدين ؛ لاضطرابه فيه، وأنه لم يُتِمَّ له إسنادًا ولا متنًا، وإن كان إمامًا عظيمًا في هذا الشأن، فالغلط لا يسلم منه أحدٌ، والكمال ليس لمخلوق، وكلُّ أحد يؤخذ من قوله ويُترَك، إلا النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -)).
الأمر الثاني: أن موسى بن عقبة رواه عن الزهري مرسلاً، والمرسل ضعيف كما هو مقرر عند أهل الحديث، فلا تقوم بهذه الرواية حجة
ويزداد ضعف هذه الرواية بكونها من مراسيل ابن شهاب الزهري، فإنها رديئة عند طائفة من أهل العلم بالحديث .
قال ابن أبي حاتم في "المراسيل" (ص3): "حدثنا أحمد بن سنان ؛ قال: كان يحيى بن سعيد القطان لا يرى إرسال الزهري وقتادة شيئًا، ويقول: هو بمنزلة الريح".
وقال أيضًا: ((قرئ على عباس الدوري، عن يحيى بن معين قال: مراسيل الزهري ليس بشيء)).
وروى ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (55/368) عن أبي قدامة عبيد الله بن سعيد قال: سمعت يحيى بن سعيد [يعني: القطان] يقول: ((مرسل الزهري شرٌّ من مرسل غيره ؛ لأنه حافظ، وكلما قدر أن يُسَمِّيَ سَمَّى، وإنما يترك من لا يحسن أو يستجيز أن يُسَمِّيَه)).
وروى أيضًا هو والخطيب البغدادي في "الكفاية" (ص386) من طريق أحمد بن أبي شريح الرازي، قال: سمعت أبا عبد الله محمد بن إدريس الشافعي الذَّابَّ عن أهل السنة، والمنكر على أهل البدعة - رضوان الله عليه ورحمته - يقول: ((إرسال الزهري عندنا ليس بشيء، وذلك أنَّا نجده يروي عن سليمان بن أرقم)).
وفي لفظ؛ قال: سمعت الشافعي يقول: ((يقولون: نُحابي، ولو حابَيْنا لحابينا الزهري! وإرسال الزهري ليس بشيء، وذاك أنا نجده يروي عن سليمان بن أرقم)).(/4)
وسليمان بن أرقم هذا متروك الحديث، كما قال أبو داود وأبو حاتم والترمذي وأبو أحمد الحاكم والدارقطني وغيرهم، وقال البخاري: تركوه. انظر "تهذيب التهذيب"(148/4).
وروى ابن عساكر أيضًا (55/369) عن علي بن المديني ويعقوب بن شيبة أنهما قالا: ((مرسلات الزهري رديئة)).
ولما أورد الحافظ الذهبي في "سير أعلام النبلاء"(339/5) بعض هذه الأقوال ؛ قال: ((قلت: مراسيل الزهري كالمعضل؛ لأنه يكون قد سقط منه اثنان، ولا يسوغ أن نظن به أنه أسقط الصحابي فقط، ولو كان عنده عن صحابي لأوضحه، ولما عجز عن وصله، ولو أنه يقول: عن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن عَدَّ مرسل الزهري كمرسل سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير ونحوهما، فإنه لم يَدْرِ ما يقول، نعم مرسله كمرسل قتادة ونحوه)).(/5)
هذا، وقد روى البخاري في "صحيحه" (2731 و2732) أصل قصة أبي بصير وأبي جندل ومن معهم رضي الله عنهم، ولم يذكر هذه اللفظة أصلاً، لا بلفظ ((عند قبره))، ولا غيره، ورواه متصلاً، فقال: حدثني عبد الله بن محمد، حدثنا عبد الرزاق. أخبرنا معمر، قال: أخبرني الزهري، قال: أخبرني عروة بن الزبير، عن المسور بن مخرمة ومروان - يُصَدِّقُ كُلُّ واحد منهما حديثَ صاحبه - قالا: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زمن الحديبية...، فذكر حديث صلح الحديبية بطوله، وفيه قصة أبي جندل وأبي بصير - رضي الله عنهما - المشهورة، وكيف قتل أبو بصير أحد الرجلين اللذين أخذاه من النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ثم خرج حتى أتى سيف البحر، وكيف انفلت أبو جندل بن سهيل من قريش، فلحق بأبي بصير، فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير، حتى اجتمعت منهم عصابة، فما سمعوا بِعِيرٍ خرجت لقريشٍ إلى الشام إلا اعترضوا لها فقتلوهم وأخذوا أموالهم، فأرسلت قريش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - تناشده بالله والرحم أن يرسل إلى أبي بصير وأصحابه: فمن أتاه فهو آمن، فأرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم، فأنزل الله تعالى: (وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم) حتى بلغ: (الحمية حمية الجاهلية) [الفتح: 26]، وكانت حميتهم أنهم لم يقروا أنه نبي الله، ولم يقروا ببسم الله الرحمن الرحيم، وحالوا بينهم وبين البيت.
هكذا رويت هذه القصة بالإسناد المتصل، ولم تذكر فيها وفاة أبي بصير - رضي الله عنه - ولا أنه بني على قبره مسجد.(/6)
ثم إن البخاري روى الحديث (2733) عقب هذه الرواية تعليقًا، فقال: وقال عقيل عن الزهري. قال عروة: فأخبرتني عائشة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يمتحنهن، وبلغنا أنه لما أنزل الله - تعالى - أن يردوا إلى المشركين ما أنفقوا على من هاجر من أزواجهم، وحكم على المسلمين أن لا يمسكوا بعصم الكوافر: أن عمر طلق امرأتين.وما نعلم أحدًا من المهاجرات ارتدَّت بعد إيمانها، وبلغنا أن أبا بصير بن أسيد الثقفي قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - مؤمنًا مهاجرًا في المدَّة، فكتب الأخنس بن شريق إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يسأله أبا بصير، فذكر الحديث. اهـ، وانظر (4182).
وأوضح الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (5/351) مراد البخاري بصنيعه هذا فقال: ((قوله: "قال عقيل، عن الزهري" تقدم موصولاً بتمامه في أول الشروط. وأراد المصنف بإيراده: بيان ما وقع في رواية معمر من الإدراج. قوله: "وبلغنا" هو مقول الزهري، وصله ابن مردويه في تفسيره من طريق عقيل. وقوله: "وبلغنا أن أبا بصير..." إلخ، هو من قول الزهري أيضًا، والمراد به: أن قصة أبي بصير في رواية عقيل من مرسل الزهري، وفي رواية معمر موصولة إلى المسور، لكن قد تابع معمرًا على وصلها ابن إسحاق كما تقدَّم، وتابع عقيلاً الأوزاعي على إرسالها، فلعل الزهري كان يرسلها تارة، ويوصلها أخرى، والله أعلم)). وانظر "فتح الباري" (7/455) أيضًا.
وخلاصة ما تقدَّم: أنه لم يثبت في شيء من طرق هذا الحديث الصحيحة ذكر وفاة أبي بصير - واسمه: عُتْبَة بن أَسيد بن جارية - رضي الله عنه بسيف البحر، وأنه بُني عند قبره مسجد، وورد في طريق مرسلة ضعيفة أرسلها الزهري - وانفرد بها عن الزهري موسى بن عقبة -: ((فدفنه أبو جندل مكانه، وجعل عند قبره مسجدًا))، وهذه اللفظة لو ثبتت لم يكن فيها حُجَّة، فالمنهي عنه هو: ((بناء المساجد على القبور))، وليس ((عند القبور))، فكيف وهي لم تثبت ؟!! والله أعلم.(/7)
العنوان: هل تعود الحرب الباردة؟
رقم المقالة: 949
صاحب المقالة: معمر الخليل
-----------------------------------------
حربُ الصواريخِ الباردةُ بين موسكو وواشنطن
تنذرُ التحركاتُ والتصريحات الأمريكية والروسية الأخيرة باحتمال إطلاق حرب باردة جديدة بين البلدين، تحمل طابَع "التصعيد الصاروخي" بعد أن أعلنت واشنطن قبل أشهر عن نيتها في نشر نظام درع صاروخي في أوروبا، بهدف اعتراض الصواريخ العابرة للقارات، التي قد تمر من فوق رؤوس الأوروبيين!
وإذا كان ثمةَ جهةٌ وحيدة قادرة على إرسال صواريخ باتجاه أمريكا، عبوراً من أوروبا، فهي روسيا فقط. إلا أن ذلك ليس ما يقلق القيادة الأمريكية، التي باتت لديها "فوبيا" الهجمات المحتملة على أراضيها.
فبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001م، وبعد تنامي العداء العالمي لكل ما هو أمريكي، وظهور جماعات مسلحة هدفها ضرب أمريكا، حتى لو عبْر استخدام تقنيات رديئة في إنتاج أسلحة دمار شامل، فإن أمريكا تحاولُ جاهدةً حمايةَ أراضيها، عبر خطوط دفاعية متقدمة، لا ضير أن تكون في أراضٍ أوروبية، ما دامت أوروبا توالي أمريكا، وتذعن لها باستمرار.
وربما على غرار الدائرة الصغيرة التي تفرضُها الولايات المتحدة على واشنطن، عبر منطقة "آمنة" يُحظر فيها الطيرانُ، أو مرورُ أي شيء عبر السماء، وإسقاطه بأنظمة صاروخية مضادة، تأمُل أمريكا أن تجعل من حلفائها أراضيَ دفاعية لنشر منظومتها الصاروخية.
وهذا الأمر لم يثر إلا حفيظة روسيا، التي تعتبر الدولة الوحيدة العدوة والقادرة على إطلاق صواريخ عابرة للقارات باتجاه أمريكا، وذلك ما حدا بالقادة الروس لاعتبار ما يحدث "إهانة" لموسكو، وإعلان "حرب باردة" جديدة مع واشنطن.. قد تنتهي باشتعال حرب باردة حقيقية مجدداً.
المنظومة الأمريكية الجديدة:(/1)
تقوم المنظومة الأمريكية الجديدة على نشر قاعدتين عسكريتين تضم الأولى (راداراً) مبكراً في جمهورية التشيك، والأخرى نظاماً صاروخياً اعتراضياً في بولندا. وبهذين النظامين، تريد واشنطن أن تجعل من النظام الراداري في التشيك خطَّ الدفاع الأول الذي ينذر بوجود أي صاروخ باليستي عابر للقارات، في حين يتولى النظام الموجود في بولندا إطلاقَ صواريخ اعتراضية تستهدفُ هذه الصواريخَ الباليستية المفترضة، قبل وصولها إلى أمريكا، أو حلفائها في أوروبا.
التسويغ الذي قدمته الإدارةُ الأمريكية لنشر منظومة الصواريخ مثيرٌ للغاية، إذ تقول بأن هذه الصواريخ باتت ضرورية لمواجهة احتمال حدوث حرب مع إيران، مدعيةً أن هذه المنظومة الهدف الأساسي منها هو حماية أوروبا من الصواريخ الإيرانية المحتملة، التي قد تستخدمها في ضرب أهداف أوروبية، إذا ما حدثت مواجهة مسلحة بين الدولتين (أمريكا وإيران)!.
ولا يبدو هذا التسويغ مقنعاً للكثيرين، ومن بينهم روسيا.
وبهدف تليين الجانب الروسي الذي اعترض منذ البداية على هذا النظام الصاروخي، التقى عدد من القادة السياسيين الأمريكيين ونظراؤهم الروس عدة مرات، وكان من أهمها اللقاء الذي جمع روبرت غيتس (وزير الدفاع الأمريكي) مع الرئيس الروسي في أواخر شهر مايو الماضي.
وقد عرض غيتس على موسكو المشاركة في بيانات أجهزة الإنذار المبكر من إطلاق صواريخ باليستية، والتعاون المشترك في أبحاث الصواريخ الدفاعية، وإجراء تجارب مشتركة.
إلا أن الإدارة الروسية لا تزال تتخذ موقفاً معادياً من الخطة الأمريكية.
التحذير الروسي الأخير:
بعد سلسلة من التحذيرات السابقة، أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأن موسكو قد تتخذ خطوات انتقامية إذا واصلت واشنطن خططها لبناء نظام الدفاع الصاروخي في أوروبا، ومن بين الخيارات التي قد تتخذها موسكو: تصويب أسلحة نووية باتجاه أهداف في القارة الأوروبية.(/2)
ويتبين من الإعلان الروسي، الموقفُ المتشدد الذي تتخذه روسيا تُِجاه الخطط الأمريكية في أوروبا.
وجاء الإعلان الروسي الأخير خلال مؤتمر صحفي عقده بوتين قبل أيام قليلة من سفره إلى ألمانيا، لحضور القمة السنوية لدول الثمانية، والتي سيحضرها الرئيس الأمريكي جورج بوش، وقادة الدول الثمانية.
وفيما تدعي واشنطن أن النظام بات ضرورياً لمواجهة احتمال حدوث تهديد من إيران، إلا أن بوتين يرى أن النظام الجديد موجه بالدرجة الأولى إلى روسيا.
وأعلن بوتين في مقابلة تم نشرها يوم الاثنين 4 يونيو، أن روسيا قد ترد على التهديد الأمريكي، بتوجيه أسلحتها النووية إلى أوروبا.
وقال: "إذا ظهر جزء من القدرات النووية الاستراتيجية الأمريكية في أوروبا، فإن هذا يعد تهديداً لنا، حسَبما يؤكده المتخصصون العسكريون لدينا، وعندها، ينبغي لنا اتخاذ خطوات مناسبة للرد".
وفي رده على سؤال حول نوع الخطوات التي قد يتخذها بوتين، أجاب بالقول: "ينبغي لي اتخاذ أهداف جديدة في أوروبا"، وأضاف: "إنه يمكن استهدافها (للأهداف الأوروبية الجديدة) بصواريخ بالستية أو صواريخ كروز أو ربما نظام جديد تماماً".
وأعلن بوتين أيضاً أنه يأمُل أن يغير المسئولون الأمريكيون آراءهم حول خطة الدرع الصاروخي الجديد، محذراً من أن موسكو تعد الرد!
وقال في إشارة إلى إمكانية تغيير الخطة الأمريكية الجديدة: "إذا لم يحدث هذا، سنتخلى عن مسئوليتنا تجاه خطواتنا الانتقامية؛ لأننا بالتأكيد لسنا من بدأ سباق التسلح الجديد في أوروبا".
وأضاف قائلاً: "إن التوازن الاستراتيجي في العالم مقلوب الآن، ولاستعادة هذا التوازن فإننا سنقيم نظاماً يتصدى لهذا النظام المضاد للقذائف، وهو ما نقوم به الآن".
الموقف الإيراني:(/3)
على الجانب الإيراني، سَخِرَ المتحدث الرسمي للحكومة الإيرانية، في طهران، من أن الخطط الأمريكية لدرع الدفاع الصاروخي جاء خوفاً من إيران. مضيفاً بالقول: "إنه ليس لدى إيران أية صواريخ يمكنها الوصول إلى أوروبا".
وقال علي لاريجاني (سكرتير المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني) في تصريح نقلته وكالة الأنباء الإيرانية الاثنين: "إن مزاعم المسئولين الأمريكيين بأن تركيب نظام الدفاع الصاروخي في أوروبا، تحسباً لمواجهة الصواريخ الإيرانية وحماية أوروبا من إيران تعد نكتة هذا العام".
ونقلت وكالة (إيرنا) الرسمية الإيرانية عن لاريجاني قوله - في أول رد فعل علني لإيران على الخطط الأمريكية -: "إن مدى الصواريخ الإيرانية لا يصل إلى أوروبا على الإطلاق".
يذكر أن إيران تمتلك صاروخ باليستي متوسط المدى يدعى (شهاب 3)، والذي يبلغ مداه 800 ميل تقريباً.
وتدعي إيران أن صاروخ (شهاب 3) يستطيع الوصول إلى المدن الإسرائيلية في فلسطين المحتلة، مدعية بالقول عام 2005م، بأن "إيران طورت من مدى شهاب 3 إلى نحو 1200 ميل، للوصول إلى أهداف إسرائيلية"!
الخبراء الغربيون العسكريون يعتقدون أن إيران طورت صاروخ (شهاب 4)، والذي يعتقد أن مداه يصل ما بين 1200 و1900 ميلاً، الأمر الذي يتيح لطهران الإضرار بأوروبا.
وتبدو هذه التوقعات كتلك التي أطلقتها الإدارة الأمريكية قبل احتلال العراق، من أن النظام العراقي يمتلك أسلحة نووية، وبالتالي، يمكن للبيت الأبيض اتخاذ هذه التوقعات ذريعة لنشر النظام الصاروخي في أوروبا.
طهران التي لم تؤكد وجود صواريخ بعيدة المدى إلى هذا الحد، كانت قد أعلنت عام 1999م، أنها طورت صاروخ (شهاب 4) الذي قالت عنه وقتها: "إنه مخصص لإطلاق أقمار صناعية تجارية للفضاء".
الإجراءات الروسية:(/4)
في الأسبوع الماضي، قامت روسيا باختبار صاروخ باليستي جديد قادر على حمل رؤوس نووية متعددة، بالإضافة إلى صاروخ كروز جديد. الذي وصفه بوتن بأنه "جزء من رد موسكو على الخطة الأمريكية للدرع المضادة للصواريخ".
وعلَّق مجموعة من الخبراء الغربيين على التجربة الروسية، بأن هذا النظام ربما كان تحت التطوير لعدة سنوات خلت.
وقبل ذلك بأشهر قليلة، أعلنت موسكو أنها ستزيد من ترسانة جيشها الصاروخية الباليستية العابرة للقارات، التي وصفها وزير الدفاع سيرغي إيفانوف بأنها "خطة طموحة تهدف إلى تحديث ترسانته العسكرية".
وقال إيفانوف في مارس الماضي أمام البرلمان الروسي: "إن الجيش سيحصل على 17 صاروخاً باليستياً إضافياً"، في زيادة حادة مقارنة بأربعة صواريخ سنوياً خلال الأعوام القليلة الماضية.
وقد جاءت التحذيرات الروسية في وقت تشهد فيه موازنة الدفاع الروسية مضاعفة كبيرة، حيث ارتفعت من 8.1 مليار دولار عام 2001م إلى 31 مليار دولار لهذا العام. وهو ما ينذر بأن حرباً باردة جديدة قد تنشأ بفضل منظومة الصواريخ الأمريكية.
كما أشار وزير الدفاع الروسي خلال كلمته إلى أن موسكو ستخصص 5.4 مليار دولار هذا العام لتجديد ترسانتها من المقاتلات والدبابات والعربات المدرعة وأربعة أقمار صناعية جديدة.
العلاقات المتهالكة:
بطبيعة الحال، فإن عدو الأمس من الصعب أن يكون صديق اليوم، وإذا كان الرئيسان الأمريكي والروسي دأبا على الظهور مع بعضهما بابتسامات عريضة، إلا أن كلا منهما يعمل على أنظمة دفاعية وهجومية تقيه في يوم من الأيام من الآخر، في حال ما إذا نشبت حرب أو مواجهة عسكرية أو سياسية.
فلا تزال موسكو تحتفظ بولاء بعض الدول القريبة من أمريكا، خاصة بعد الحلف الأخير الذي كوَّنه العام الماضي الرئيسُ الكوبي فيديل كاسترو مع كل من الرئيس الفنزويلي هوجو شافيز، والرئيس البوليفي كارلوس ميسا.(/5)
كما شهدت العلاقات بين موسكو وواشنطن هزة عنيفة منذ العام الماضي. أما اليوم، فيبدو أعداء الحرب الباردة السابقة مختلفين تماماً حول خطط النظام الصاروخي المضاد في أوروبا، فضلاً عن الخلاف حول نزاعات روسيا المسلحة أو السياسية مع الدول السوفييتية السابقة، من بينها أوكرانيا وجورجيا وأستونيا. أما في الشيشان المسلمة، فإن العدوين اللدودين يبدوان متفقين على ضرب المسلمين كلما أتاحت الفرصة لهما بذلك!(/6)
العنوان: هل تفعلها تركيا في شمال العراق؟
رقم المقالة: 1068
صاحب المقالة: معمر الخليل
-----------------------------------------
لا يُساوِرُ الأكرادَ في شمالي العراق اليومَ مخاوفُ أكثر من مخاوفِ حدوثِ هجومٍ عسكري ضخم من قِبَل الجيش التركي، الذي يبدو مستعدًا للتوغل أكثرَ من الأمس.. لدرجة تغيّرت فيها صيغةُ الخطاب الرسمي العراقي من تحذير إلى استعطاف.
فمنذ أيام قليلة خلت ناشدَ وزيرُ الخارجية العراقي (هوشيار زيباري) أنقرةَ للتروي ومنح الوقت الكافي للسلطات الكردية لإيجاد حل لمشكلة وجود متمردي حزب العمال الكردستاني في الإقليم الذي تديره شمالي العراق، موضحاً في الوقت نفسه أن تركيا حشدت أكثر من 140 ألفاً من جنودها على الحدود مع العراق.
كما أعرب عدنان مفتي (رئيس برلمان كردستان العراق) عن تخوفه من هجوم تركي محتمل على شمالي العراق، معربا عن استعداد حكومة كردستان للحوار مع الجانب التركي بشأن القضية الكردية.
فهل تقوم تركيا بالفعل بتوغل عسكري شمالي العراق؟
بغض النظر عن العدد الذي أعلنته بغداد، وقللت من شأنه واشنطن، فإن الاستعدادات داخل أنقرة قد تشير إلى أكثر من سبب يجعل الحكومة التركية تفكر فعلياً في دخول الأراضي العراقية، وضرب الأكراد الذين يتخذون منذ الثمانينيات الجبالَ والسهولَ المتاخمة للحدود المشتركة مكاناً آمناً، بعيداً عن يد القوات التركية.
فمنذ بدايات الصراع المسلح بين الجانبين في 15 من أغسطس 1984، قُتل ما لا يقل عن 30 ألف تركي، خلال هجَمات مسلحة للأكراد، داخل الأراضي التركية، في حين قتل عشرات الآلاف من الأكراد.
داخلياً:
يوجد احتقان متزايد من قبل الأتراك الذين لا يزالون يتعرضون لهجمات الأكراد بين الحين والآخر، وسط مخاوف -من قبل الحكومة الحالية- من تزايد الاتهامات لها بانتهاج الأسلوب الإسلامي لا العلماني، فيما يتعلق بالصراع مع الأكراد.(/1)
فحكومة العدالة والتنمية ذات التوجه الإسلامي، أخفقت في إيصال أحد أبرز قادتها (عبد الله غول وزير الخارجية) إلى منصب رئيس تركيا، مطالبة بإجراء انتخابات مبكرة، وإجراء استفتاء على جعل انتخاب الرئيس من قبل الشعب لا من قبل البرلمان.
والانتخابات القريبة التي ستحصل في تركيا، يريد فيها حزبُ العدالة أن يحصد أكبر قدر ممكن من أصوات الأتراك، لذلك يحاول الإمعان في حشد القوات على الحدود، والتهديد بتنفيذ هجوم عسكري ضد الأكراد، لكي يقدم نفسه في البلاد على أنه حامل لواء المصالح الوطنية، وحامل السيف نفسه الذي حمله (مصطفى كمال أتاتورك) ومن بعده المؤسسة العسكرية التركية، ضد الأكراد، منذ نحو 100 عام، عندما قام مصطفى كمال بقتل عشرات الآلاف من الأكراد، وتدمير مئات القرى الكردية منذ تسلمه للحكم عام 1923م.
أما إقليمياً:(/2)
فإن أنقرة لا ترغب في أن تترك العراق بيد الأمريكيين والإيرانيين فقط، فبعد الموقف الذي اتخذته من احتلال العراق، والدور المتنامي الذي أدته إيران في صياغة المنطقة كما تشاء، باتت تركيا (إحدى الدول المتضررة مما يحدث هناك) بعيدة تماماً عن اللعبة الداخلية، وبعيدة عن الحصول على أي مكاسب. وعلى العكس تماماً، أتاح الاحتلال الأمريكي للأكراد إقامة إقليم مستقل، وهو وإن كان موجوداً منذ عام 1991، إلا أن وجوده بات ذا أهمية متزايدة بعد الاحتلال، عبر إقامة نظام فيدرالي مرتبط مع بغداد، ووجود قيادات كردية على مستوى الدولة (كجلال طالباني الذي صار رئيساً للعراق، وهوشي زيباري وزير الخارجية وغيرهما في الحكومة والبرلمان)، كما أن قوات البشمركة باتت أكثر تنظيماً، وأكثر قدرة وتسلحاً، وهو ما وجد طريقاً إلى قوات حزب العمال الكردستاني، فخلال الأسبوع الماضي، أعلن وزير الخارجية التركي أن أنقرة تطلب توضيحات من الولايات المتحدة بشأن تسليمها أسلحة أمريكية إلى حزب العمال. بعد أن استسلم أحد ناشطي الحزب إلى السلطات التركية، وأكد أنه شاهد آليتين مدرعتين أمريكيتين تسلمان أسلحة في أحد معسكرات الكردستاني في العراق عند الحدود مع إيران. وقال الوزير: "إن للجيش التركي أيضا شكوكًا، ولديه بعض الوثائق التي تدل على ذلك".
وقد استدعت الخارجية التركية السفير الأمريكي وقدمت له الوثائق، فرد السفير بأن ذلك "مستحيل" لكنه أعلن أنه سيطلب من واشنطن التحقيق!
وكان السفير التركي في واشنطن (نبي سنسوي) قد أعلن أيضاً قبل ذلك بأيام قليلة بالقول: "إننا نعلم أن الولايات المتحدة تزود بالأسلحة الإدارة التي تدير شمالي العراق، ومن الممكن جدا أن تنتهي تلك الأسلحة بين أيدي منظمات إرهابية" في إشارة إلى حزب العمال الكردستاني.(/3)
وقد سبق أن تدخلت القوات الإيرانية في العراق بأكثر من مناسبة، وقدمت أسلحة للميليشيات الشيعية، وساعدت بوصول قادة موالين لها إلى مناصب قيادية، في حين تقوم واشنطن بإجراء مفاوضات معها بين الحين والآخر، كعضو رئيس في العراق، وكل ذلك مما لا تتمتع به تركيا في العراق.
عالمياً:
تطالب تركيا منذ سنوات بدعم جهودها للقضاء على الأكراد، وخاصة حزب العمال الكردستاني. وقد سبق أن وقفت معها دول أخرى، كالولايات المتحدة والكيان الصهيوني، خلال عملية القبض على عبد الله أوجلان (زعيم التمرد الكردي) في عملية خطف استخباراتية.
ولا ترى الحكومة بأساً في ملاحقة الأكراد برغم مفاوضات الانضمام للاتحاد الأوروبي، ذلك أن تنظيم العمال الكردستاني يعد أمريكياً –ومن ثم عالمياً!- تنظيماً إرهابياً. بعد أن وضعته واشنطن على اللائحة السوداء.
وقضية ملاحقة الأكراد تبدو مرتبطة بالأمريكيين أكثر من أي دولة أخرى، خاصة وأن واشنطن حاولت خلال الأيام القليلة الماضية، ثَنْيَ أنقرة عن قيامها باجتياح المنطقة الشمالية، إلا أنها أخفقت، حسب تكهنات بعض المراقبين السياسيين.
على سبيل المثال، فإن وزيرة الخارجية الأمريكية (كوندوليزا رايس)، التي زارت أنقرة قبل أسابيع (في 27 من مايو الماضي) أكدت أن واشنطن لا تدعم قيام تركيا باجتياح شمالي العراق؛ لأن الوقت الآن غير مناسب، وأيضاً لأنهم سيواجهون مقاومة عنيفة من قبل الأكراد، قد تؤدي إلى المزيد من الخسائر التركية.
إلا أن غول أكد أن الأولوية لدى تركيا الآن، أن تقوم بالقضاء على حزب العمال الكردستاني، وتوقف أي مشروع قد يؤدي إلى إقامة دولة كردية، كما تريد منع الأكراد من السيطرة على عائدات النفط في شمالي العراق، عبر تنفيذ مخطط ضم منطقة كركوك الغنية بالنفط إلى إقليم كردستان العراق.(/4)
وبعد هذا اللقاء، وقعت بعض الأحداث ذات الدلالات المشيرة إلى ذهاب أنقرة باتجاه الحل العسكري، إذ ارتفع عدد القوات التركية الموجودة على المناطق الحدودية مع العراق، من نحو 80 ألفاً قبل زيارة رايس، إلى أكثر من 140 ألف، حسب تقديرات الحكومة العراقية، وربما إلى نحو 200 ألف، حسب الخبر الذي نقلته وكالة رويترز يوم الجمعة الماضية، عن مصدر أمني تركي، طلب عدم الكشف عن اسمه.
كما قام روبرت غيتس (وزير الدفاع الأمريكي) بزيارة لأنقرة، وصفت بأنها "محاولة أخيرة لثني الأتراك عن اجتياح شمالي العراق".
وأبرز حدث في ذلك، هو قيام قيادة الاحتلال الأمريكية بنقل مسؤولية الأمن والدفاع في المدن الكردية الشمالية، للحكومة الكردستانية الإقليمية، في 30 من مايو الماضي، والمدن الثلاث هي: (أربيل) و(الدهوك) و(السلميانية)، في حين أبقت سيطرتها على مدينة (كركوك) الغنية بالنفط.
ويرى بعض المحللين السياسيين أن نقل المسؤولية الأمنية للمدن الثلاثة إلى حكومة كردستان العراق، مؤشر على إخلاء الأمريكيين مسؤوليتهم عن حمايته هذه المدن، في حال اجتياح القوات التركية لها، ومن ثم إفساح الفرصة أمام واشنطن لأداء دور "وسيط" بعد ذلك، لتكون عضوا فاعلاً في إنهاء الصراع المسلح بين الجبهتين، بعد أن تكون أنقرة قد أقدمت على ما تريد القيام به.
وكانت واشنطن قد تملصت في وقت سابق من مسؤوليتها المباشرة، عندما أعلنت أنها "تتفهَّم موقف تركيا"، لكنها تعد "طاقات قواتها مستنفدة في مواجهة عمليات المقاومة المسلحة في العراق". أي أنها غير قادرة على القيام بدور تركيا في شمالي العراق!(/5)
وأمام هذا الموقف الأمريكي المتهاون، صعّدت تركيا من تصريحاتها حول اجتياح المنطقة، خاصة على لسان وزير الخارجية غول، الذي قال: "إنَّ بلاده أعدَّت خططا مفصلة لعملية عسكرية عبر الحدود داخل العراق ضد المقاتلين الأكراد"، وأضاف في مقابلة مع صحيفة (راديكال) التركية "إن تركيا ستتحرك إذا لم تقم القوات الأمريكية أو العراق بمواجهة مقاتلي حزب العمال الكردستاني".
وهذا الأمر ينظر إليه الأكراد هناك كأمر واقع، على الأقل كما تشير مصادر إعلام تركية، كالخبر الذي نشرته وكالة أنباء الأناضول التركية الرسمية يوم الأحد الماضي، قالت فيه: "إن أعضاء سابقين في حزب العمال الكردستاني، سلموا أنفسهم للقوات التركية، وأكدوا أن المسلحين الأكراد الأتراك يهجرون معسكراتهم في شمالي العراق خوفاً من احتمال توغُّل القوات التركية في المنطقة".
ملخص الوضع أن هناك عدة سيناريوهات محتملة، أكبرها، أن تقوم القوات التركية باجتياح سريع للمنطقة، لفرض سيطرتها، وإظهار قوتها وإمكانية تدخلها في الوقت الذي تراه مناسباً. أو تصعيد لهجة التهديدات لكي تجعل الحكومة العراقية وحكومة كردستان العراق مجبرة على التفاوض معها، لوقف أي تدخل عسكري، ومن ثم تضييق الخناق على عناصر حزب العمال الكردستاني في المناطق الحدودية.
وفي كلتا الحالتين، فإن المسلحين من حزب العمال، سيجدون أنفسهم في النهاية، فريسة لخيارات سياسية وعسكرية، تقوّض بعض النتائج الإيجابية التي جنوها منذ احتلال العراق، ومنذ أن تحوّلت أرضه إلى ساحة للعب الدول الخارجية، وعلى رأسها أمريكا وإيران.. ومن جديد تركيا.(/6)
العنوان: هل تنازلت السلطة عن غزة لحماس؟
رقم المقالة: 1074
صاحب المقالة: د. أسامة عثمان
-----------------------------------------
تؤكد تصريحاتُ سعيد صيام -القيادي في حماس- بخصوص سيطرة (حماس) على غزة بعدم وجود خطة معدة مسبقا لذلك، وإنما قرار ميداني ضد بعض الأجهزة مثل الأمن الوقائي وبعض حواجز الأمن الوطني التي كانت تمارس الإرهاب بقرار من محمد دحلان، وقال: إن الجميع فوجئ بانهيار الأجهزة الأمنية، ووجود استدراجٍ أرادته قيادة السلطة لحماس حتى تحشر الأخيرة في غزة وتواجه جملة مشاكل وأزمات طبيعية ومصطنعة في الوقت الذي تكون فيه قيادة السلطة في موقف آخر؛ فلا ضغوط قوية عليها بعد أن مارست حملة إعلامية مكثفة ومركزة اتخذت أسلوب الهجوم، فقد ضربت وهدد مشروع الشعب الفلسطيني الوطني؛ فوجب حماية هذا المشروع.
قد يظن بعضهم أن السلطة وافقت فرصةً للتنصل من عبء غزة ومسؤلياتها، فهي لا تحكم سيطرتها عليها، ولا تملك التأييد الشعبي الكافي لحكمها، فلا أسف عليها، فهي معضلة تستعصي على الحل، ويتذكرون قول رابين: "أتمنى أن أستيقظ وأجد غزة وقد ابتلعها البحر" فحماس بتشددها لغزة، وغزة بصعوبة أوضاعها وانغلاقها لحماس.
غير أن هذا يبدو مستبعدا لعدة أسباب:
1- أن المعلن من المواقف الفلسطينية والتعامل الفلسطيني الرسمي معها يدل على استبقاء الارتباط بغزة، فالمتابعة للشؤون المعيشية ما زالت بيد السلطة، والتعهدات المالية وغيرها ما زالت أيضا.
2- أنه لا يعقل أن تترك غزة هكذا باستمرار، ولا حتى لمدة طويلة؛ لأنها وأهلها جزء لا يتجزأ من القضية الفلسطينية التي ستبقى بؤرة توتر في المنطقة ما لم تحل حلا فيه قدر من الإقناع.(/1)
3- أنّ الاستعصاء السياسي والتعنت الإسرائيلي في الضفة لا في غزة ، فما انسحبت (إسرائيل) منها إلا وهي تراها عبئا لا مغنما، أما نظرة (إسرائيل) -وخاصة المتدينيين منهم- إلى الضفة فمختلفة؛ إذ هي في معتقدهم جزء مما يسمونه (أرض يهودا والسامرة)؛ ففي مقالة لأكيفا ألدار المتخصص في الشؤون السياسية الإسرائيلية نشر في صحيفة (هآرتس) الإسرائيلية: "تأملتُ كلمة رئيس الوزراء إيهود أولمرت في قمة شرم الشيخ بوضوح... فيما يتعلق بالمطالب المتكررة لسكان "يهودا والسامرة" (الضفة الغربية). لم يكن أولمرت يتحدث إلى المستوطنين، وإنما وعد الفلسطينيين "سكان يهودا والسامرة" بأن يمنحهم دولة في "سكان يهودا والسامرة" إذا ما تصرفوا بالحسنى. والمشكلة تكمن في أن الكثيرين منهم لم يسمعوا بعبارة "يهودا والسامرة". أما أولئك الذين سمعوا عنها، فإنهم يعتقدون بأن "يهودا والسامرة" هي جزء من أرض إسرائيل الكبرى، أرض المستوطنين"، ويضيف: "إن أولمرت ليس هو الوحيد الذي يستخدم هذه المصطلحات، إذ تشير وثائق الاستخبارات العسكرية الداخلية -حتى بعد أوسلو وفك الارتباط- إلى سكان المناطق الفلسطينية من اليهود والعرب على أنهم "سكان منطقة يهودا والسامرة وقطاع غزة". ولا يتعلق ذلك فقط بعلم الألفاظ والدلالات، وإنما هو نظرة عالمية. وفي كامب ديفيد، قبل 28 سنة، كان (مناحيم بيغن) قد طالب بأن تشتمل الاتفاقية مع مصر على عبارة "عرب يهودا والسامرة ومنطقة غزة".
ومعنى ذلك أن الراسخ في عقلية الإسرائيليين هو الاحتفاظ بالضفة الغربية، مع عدم الممانعة في إعطاء السكان حكما ذاتيا موسعا؛ وليطلق عليه اسم دولة.
4- أنه قد تركز في وعي الجميع وحدة الشعب الفلسطيني، في الداخل والخارج، وفي الضفة وغزة على نحو أوثق؛ لأنهم فعليا يمثلون الشعب الفلسطيني على الأرض الفلسطينية، وهذا ما ترتضيه الدول الفاعلة، وتعمل على أساسه.(/2)
5- أن الجهد الإعلامي الذي رافق التغير الذي حصل في غزة وسيطرة حماس على مقاليد الأمور هناك سُلط على إدانة ما فعلته حماس وتجريمها، أو تجريم التيار المتشدد فيها، بوصفه بالتيار الانقلابي الخارج على الشرعية، واتهامه بإلحاق ضرر بالغ بالقضية الوطنية الفلسطينية، ومستقبل الشعب الفلسطيني، وأنه بذلك قدم خدمة جليلة للحكومة الإسرائيلية المحتلة التي طالما سعت إلى فصل الضفة عن غزة.
وقد تفرع من هذا الخطاب الإعلامي -أو كان مصاحبا له- خطابٌ فكري، نعت (كيان) حماس في غزة بـ(إمارة الظلام) والتخلف والسواد والطالبانية وغير ذلك مما يستهدف تحريض فئة من الشعب الفلسطيني تخشى حصول ذلك بالفعل، وربما استهدف الرأي العام العالمي الذي يتوجس خيفة من أي خطاب إسلامي متشدد؛ الأمر الذي دعا قادة حماس إلى الإسراع في نفي تلك الدعاوى بشكل صريح وقاطع، والتأكيد على وطنية وفلسطينية حركة حماس، وأن المشكلة أمنية لا فكرية، ولا حتى سياسية؛ فهي ضد تيار محدد من فتح، وهم الذين خطفوا الحركة لصالح الأجندة الأمريكية والفلسطينية. وقد اختزل محمد دحلان كل تلك الاتهامات بوصفه أقوى رجل أمني في غزة.
في السياسة المعاصرة لا توجد قطيعة، ومواقف ميتة، بل هي في الأغلب مساومات وتجاذبات وصفقات، والأخبار عن قرب عودة الوفد الأمني المصري يدل على حرص مصر على البقاء في الميدان لرعاية الوضع نحو التقريب الجديد بين الموقفين.(/3)
6- هذا وحماس تمثل ثقلا وامتدادا عميقا وواسعا على الساحة الفلسطينية؛ فلا يمكن إلغاؤها، إنما المأمول (تهذيبها) واستبقاء حماس ضروري لفئة واسعة من الشعب الفلسطيني لم تعد تؤمن بأطروحات حركة فتح الفكرية والسياسية المعلنة والصريحة، ولا سيما بعد أن ظهر فيها أو عليها (الواقعيون المعتدلون) أمثال محمود عباس الذي كان صريحا منذ عهد عرفات بالدعوة إلى عدم عسكرة الانتفاضة، مما عرضه للاتقاد من بعض الأوساط على مبالغته في السير مع أمريكا وإسرائيل حتى من أوساط حركة فتح، وما زال.
وما دام الخط العريض الذي تريده الولايات المتحدة للقضية الفلسطينية هو حل قابل للتطبيق؛ وذلك لا يمكن أن يكون بالاستجابة التامة للمطالب الإسرائيلية؛ فلا بد من أن تقبل الدولة العبرية بما تعتبره تنازلات مؤلمة، صرح بضرورة القبول بها مرارا زعماء إسرائيليون ولم يكن شارون أولهم في ذلك ولا آخرهم، فالساسة الإسرائيليون مقتنعون بذلك، ولكن المشكلة في شعبهم الذي ما زال قسم كبير منهم يحملون اعتقادات دينية بـ(أرض إسرائيل) ووحدتها، وبضرورة بقاء القدس موحدة، ورفض حق العودة؛ ولدى هؤلاء وغيرهم اعتقاد آخر عن تفوق الجيش الإسرائيلي، وتصور عن العرب وجيوشهم يتمثل بالضعف حتى الاستهانة والاستخفاف.(/4)
ولكن على الأرض شهدت الأحوال العربية مؤخرا تحولا ملحوظا في تلك العلاقة النمطية بين العرب والكيان الإسرائيلي؛ فقد استطاع حزب الله أن يزعزع تلك القناعة؛ بالرغم من تمويه إسرائيل بتحميل المسؤولية للطاقم السياسي والقيادي دون أن يتطرق أحد إلى كفاءة الجيش نفسه الذي يحمل في الحقيقة الدور المباشر، وظهر هذا التحول أيضا في تنامي قوة حماس العسكرية من حيث العتاد والسلاح ومن حيث الكفاءة القتالية التي وطدتها عبر عمليات نوعية أحدثت صدمة في الجيش الإسرائيلي، اضطرَّ الجانب السياسي إلى التراجع عن موقفه المعهود بعدم التفاوض مع (الإرهابيين) في موضوع تبادل الأسرى، ولا سيما في فلسطين؛ فقد كانت تصر في المحاولات السابقة على إنهاء هذه الحالة وسدل الستار على ذلك الحرج الماثل للجيش والدولة بسرعة.
وإذا ما قامت حرب بين إسرائيل وسوريا فليس من المؤكد أن الأخيرة ستهزم دون أن تلحق أضرارا موجعة بالطرف الآخر؛ حتى يلين الشعب الإسرائيلي لاستحقاقات السلام.(/5)
وأما بالنسية للحوار فإن الشروط التي تشترطها قيادة السلطة تبدو صعبة على حماس؛ فالذي تأمله قيادة السلطة أن يستمر وضع حماس في غزة في ظروف غير مريحة، إلى أن يظهر حرجها، وتخبو جذوتها، وهي في أثناء ذلك قد تجد نفسها مضطرة للتعامل مع المشاكل اليومية للمواطنين، الأمر الذي يقربها من الواقعية السياسية بالفعل قبل القول، وفي هذا الإطار يورد توماس فريدمان في مقالة له في نيويورك تايمز في شهر يونيو (حزيران) الماضي خبرا عن استراتيجي إسرائيلي في هذا الموضوع: "وحسب الاستراتيجي الإسرائيلي (جيدي جرينشتاين)، تبقى أفضل وسيلة لكبح نفوذ (حماس)، أو دفعها على الأقل إلى الاعتدال هو السماح لها بتحمل المسؤولية، حينها ما عليك سوى أن تسألها: "هل تريد للفلسطينيين أن يتمكنوا من دخول إسرائيل للعمل؟ إذن فلنجلس معاً لننظر في التفاصيل". ويضيف (جرينشتاين) قائلاً: "إننا في حاجة إلى إرغام حماس على الدخول في دهاليز اتخاذ القرارات الصعبة". وإذا ما أبدت الولايات المتحدة استعدادها للحديث مع إيران، فإن إسرائيل أيضاً ستجلس مع (حماس). وربما أحدثت (حماس) بعد ذلك تغييرا أكبر يسمح بإرساء أسس مشتركة بين الطرفين، ويتأكد ذلك باندماجها في منظمة التحرير الفلسطينية، على أسس الشراكة الوطنية الديمقراطية.(/6)
العنوان: هل تنتهي مشكلتنا مع الغرب بتأمين مصالحه في منطقتنا؟
رقم المقالة: 158
صاحب المقالة: د. عبدالله فهد عبدالعزيز النفيسي
-----------------------------------------
دعوى هذه الورقة:
- أدَعي في هذه الورقة أن عدوانات الغرب على أمتنا الإسلامية عبر القرون لم يكن منطلقها يتوقف عند حدود السيطرة على المواد الخام التي تزخر بها جغرافية العالم الإسلامي (نفط، أخشاب، مطاط، ذهب، نحاس، مايكا، يورانيوم، معادن نفيسة) ولا السيطرة على الممرات والمضائق المائية الإستراتيجية (قناة السويس، باب المندب، مضيق هرمز) وأزعم بأن عدوانات الغرب على أمتنا الإسلامية سبق التكالب على النفط وسبق ظهور النفط وسبق انتعاش التجارة الدولية عاملان يساعدان على تفسير الظاهرة العدوانية التاريخية ضد أمتنا الإسلامية التي طبعت سلوك الغرب الأمريكي والأوروبي في تعاطيه للعلاقات مع العالم الإسلامي.
إذًا:
- هذا محور مهم في الموضوع إذ لو كان العدوان الغربي على أمتنا منطلقه النهائي يتوقف عند حدود المصالح المادية للغرب في منطقتنا لكان علينا لزامًا – لوقف العدوان – أن نفكر ونبتكر أساليب عملية التأمين مصالحه في منطقتنا لرفع العدوان عن أمتنا وإعطائها ومنحها فرصة تاريخية لاستعادة أنفاسها والخطى نحو المستقبل والتنمية الراشدة.
لكن الأمر – في رأينا – ليس كذلك، لا بل نزيد فنقول بأنه حتى لو ضمن الغرب مصالحه المادية في العالم الإسلامي فمشواره معنا لا يتوقف عند هذا الحد.(/1)
إذ نرى – من خلال قراءة سريعة لملف العلاقات بيننا والغرب أن الأخير يروم الهيمنة الكاملة والشاملة علينا بما فيها الهيمنة الروحية والدينية مما يتطلب – من جانبه – التوغل في إعادة صياغتها التاريخية وإلغاء نظام "القيم" لدينا ونسخ نظام "المفاهيم" المرتبطة بمقرراتنا العقائدية والشرعية. وإذ كان الأمر كذلك – وهذا ما سنثبته إن شاء الله تعالى في هذه الورقة – فهذا يستدعي من جانبنا التمعن في هذا الأمر وابتكار قراءات جديدة للوضع الإقليمي والدولي والتوصل إلى استراتيجيات مضادة تكون مهمتها ضد الهيمنة ومقاومتها والمحافظة على المبادرة الإسلامية في الفعل الدولي.
ونقولها بكل صراحة بأنه على الحركة الإسلامية – بشتى راياتها ومسمياتها – أن تعي بأن الغرب يستهدفها جميعًا: تلك التي تركب مراكب العنف والقوة المادية وتلك التي تلوح ليلاً ونهارًا بأغصان الزيتون، إذ أن المستهدف هو الإسلام: كتابه ورسوله وشريعته ولغته وحركته وتجمعه البشري ومقدراته المادية والأدبية.
إن تتبع ما يحصل في دوائر صناعة القرار الغربي الأمريكي والأوروبي – وبعد 11 سبتمبر خصوصًا – يقودنا إلى هذه القناعة مصداقًا لقوله تعالى: {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم، قل إن هدى الله هو الهدى ولأنِ اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير} البقرة 120.
الغرب السياسي:(/2)
لابد أن نلاحظ أن الغرب ذو وجهين: وجه سياسي وهو الظاهر للحضارة الغربية والوجه الآخر فكري يمثل القاعدة العلمية للحضارة الغربية وموقفها الفعلي من الإسلام والمسلمين. والغرب السياسي كان عبر التاريخ ولا يزال في تعامله مع العالم الإسلامي يروم الهيمنة والسيطرة على المقدرات المادية للمسلمين. ونظرًا لأن النظام الدولي الحالي له قلب (Center ) يمثل الولايات المتحدة وأوروبا الغربية وله أطراف (Periphery ) حيث تقع بلاد المسلمين بشتى ألوانهم وعناصرهم ألسنتهم ومواقعهم في جغرافيا العالم فإن القلب يتحكم بالأطراف عبر أربعة أضلاع:
1 – احتكار ثقافة السلاح وتجارته (التقليدي والنووي).
2 – احتكار النفط والخامات الأخرى (بالذات الإستراتيجية).
3 – احتكار الشرعية الدولية (عبر الأمم المتحدة ومجلس الأمن).
4 – احتكار التجارة العالمية والثقافة والإعلام (العولمة).
الغرب الفكري:
- أما الغرب الفكري والذي يتمثل في منهج الخطاب المعرفي الغربي في رؤيته وفهمه للإسلام فهو يرتكز إلى أربعة مفاصل:
1 – الموقف من الوحي.
2 – الموقف من النبوة وشخص النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
3 – الموقف من الإنجازات الحضارية للمسلمين (في ميدان الطب والفلك والرياضيات والجغرافيا وغيره).
4 – الموقف من مسألة تخلف المسلمين الحالي وسببه.
(انظر تفاصيل ذلك في كتاب مفيد للدكتور سمير سليمان موسوم بالإسلام والغرب – بيروت 1995).(/3)
سنلاحظ من خلال الاستعراض التاريخي لتأويلات الغرب وتفسيراته لهذه المواضيع الأربعة متمثلة بكتابات دوزيه (Doze ) ولامانس (Lamans ) وسورديل (Sordell ) ووات (Watt ) ورودنسون وحاليًا جيري فالويل (Falwell ) وبات روبرتسون (Rebertson. P ) وبيل غراهام (Graham Bill ) الأب الروحي والديني للرئيس الأمريكي الحالي جورج بوش) وبات بوكنان (Buchanan. P ) وغيرهم كثير في عواصم ومدن الغرب سنلاحظ أن هؤلاء جميعًا أنكروا الوحي وأنكروا النبوة وتطاولوا إلى سب النبي صلى الله عليه وسلم وأنكروا دور المسلمين في الإنجازات الحضارية وأكدوا أن سبب تخلف المسلمين هو الإسلام ذاته ومعظم كتاباتهم في حقيقتها اتجهت نحو محاولة تقويض أساس العقيدة الإسلامية المتمثل بالكتاب والسنة الشريفة. وهذا الموقع التاريخي للغرب (سياسيًا وفكريًا) من الصعب شطبه من ذاكرة الأمة الإسلامية ونخبها ومفكريها ولذلك على الغرب مسؤولية أدبية كبيرة إزاء الأمة الإسلامية إذا أراد أن يحافظ على مكانته الأدبية بين المسلمين. ومثلما يطالبنا الغرب بتحسين صورتنا لديه فهو مطالب في ذات الوقت – وربما أكثر منا بتحسين صورته لدينا خاصة ونحن نرقب منذ خمسين عامًا وحتى الآن تأييده المريب إزاء العربدة الإسرائيلية في المنطقة.
الحركة الإسلامية وقادتها:(/4)
- يسوق الغرب علينا – إعلاميًا – بأن قيادات الحركة الإسلامية وكوادرها لا يفهمون الغرب. فالإنسان عدو ما يجعل وسبب جهل الحركة الإسلامية قادة كوادر للغرب هو تشبعهم بالثقافة الشرعية الإسلامية الذي يعيق بدوره أي تلاقح فكري ومعرفي مع الثقافة الغربية وأنه لا سبيل – يقول الغرب – لكي تتخلص الحركة الإسلامية من صدمة الثقافة هذه (Cultural Shock ) إلا من خلال إعادة صياغتها منهجيًا ومعرفيًا وفق المناهج المعرفية الغربية. لذلك يطرح الغرب فكرة إعادة النظر في المناهج التعليمية الدينية المعمول بها في العالم الإسلامي والتي – حسب المقولة الغربية سالفة الذكر – هي السبب في هذا (الفصام النكد) بين الحركة الإسلامية والغرب.
- وهذه فكرة غير صحيحة وغير دقيقة ودوائر الغرب السياسية وأجهزة القرار الغربي تعرف ذلك تمامًا. لا نشك بأن معظم قيادات الحركة الإسلامية في العالم يفهمون الغرب جيدًا ذلك لأن معظمهم قد درس في الغرب وتلقى تعليمه وتدريبه العلمي في جامعات ومعاهد ومختبرات وحتى مصانع الغرب للحديد والصلب والصناعات الثقيلة. فالدكتور حسن الترابي – على سبيل المثال – يتكلم الإنجليزية والفرنسية وتلقى دراساته العليا في السوربون في فرنسا ودرس القانون هناك وأصبح فيما بعد عميدًا لكلية الحقوق في الخرطوم. ود.نجم الدين أربكان مهندس يتقن اللغة الألمانية لأنه تلقى تعليمه في ألمانيا وتخصص في مكائن الديزل وكان كذلك وزيرًا للصناعة في بلدة تركيا. وراشد الغنوشي يتقن الفرنسية لأنه درس في فرنسا الفلسفة الغربية وأكمل بعد ذلك تعليمه في جامعة دمشق أيضًا في موضوع الفلسفة. وسيد قطب رحمه الله حصل على الماجستير في الإدارة التربوية من جامعة أمريكية ويتكلم الإنجليزية ويقرأها ويكتبها. وعباسي مدني (الجزائر) من قيادات الحركة الإسلامية في الجزائر يتحدث ويكتب بالفرنسية.(/5)
وأنور إبراهيم (ماليزيا) الناشط الإسلامي في ماليزيا تلقى تعليمه في الولايات المتحدة وكان زميلنا في الاتحاد العالمي للطلبة المسلمين وكان من خلال محاضراته وتدخلاته الفكرية منذ كان طالبًا عميق الفهم للغرب ومنظوماته الفكرية وآلياته السياسية.
لذلك يخطئ من يظن بأن قيادات التنظيمات الإسلامية في العالم هم من طلبة العلوم الشرعية أو الذين يعانون من صدمة ثقافية في تعاملهم مع الغرب ولذا يعادونه ويحرضون عليه في المساجد والمنتديات فهذا غير صحيح. بل نزيد فنقول بأن معظم قيادات التنظيمات الإسلامية لم يتلقوا تعليمًا (شرعيًا) وأن معظمهم تلقوا تعليمًا (علمانيًا) وفي الغرب نفسه وهو تعليم بعيد تمامًا عن الدين وأجوائه، لا بل إن تعمق بعضهم في القراءات الفلسفية كاد يورد بعضهم في مرحلة من المراحل إلى الشك والإلحاد. نقول ذلك لكي نبرهن أن قيادات التنظيمات الإسلامية في العالم وخاصة في الأقطار المركزية (مصر، الجزائر، السودان، تركيا، اندونيسيا، ماليزيا، باكستان) قد احتكوا احتكاكًا جيدًا بلغات وعلوم الغرب وثقافاته ومعاهده وجامعاته ولذا فمن السطحية اتهام البعض لهم بأنهم (لا يفهمون الغرب) بل هم يفهمون الغرب ويتكلمون بلسانه (الإنجليزي والفرنسي والألماني) ويدركون الأبعاد الجيوسياسية لاستراتيجياته في العالم الإسلامي وما يترتب عليها ويتفرع عنها من أوضاع، ولأن قيادات هذه التنظيمات ترى بأن المشروع الغربي (الأمريكي والأوروبي) في منطقتنا هو مشروع هيمنة شاملة علينا لذا سنلاحظ هذه المعارضة البارزة للتنظيمات الإسلامية إزاء المشروع الغربي.
تحريض غربي ضد الإسلاميين:(/6)
- تقول هيلين دانكوس Helene d’Encause الباحثة الفرنسية عندما كانت تحلل الأزمة الأفغانية بأن الاستراتيجيات الأمريكية والأوروبية ينبغي أن يعاد تصميمها من جديد لمواجهة ظاهرة الصحوة الإسلامية التي ظهرت كقوة على الأرض من الممكن أن تؤثر على ما تسميه دانكوس بالمجال النفطي الإسلامي (I’espace Islamo-pétrolier ) ويشمل هذا المجال – حسب تعريفها إقليم الخليج والجزيرة العربية. لقد حذرت دانكوس من ظهور الإسلاميين في هذا المجال النفطي الإسلامي الذي يشكل إقليم الخليج والجزيرة العربية (قلبه) حيث مكة والبيت العتيق وقبر رسول الله صلى الله عليه وسلم كمصدر روحي لاستقطاب هذا العالم الإسلامي مترامي الأطراف ما بين نواكشوط وجاكرتا. تقول دانكوس ذلك وتحذر الغرب منه وتذكر الغرب بأن وصول الإسلاميين للسلطة في إيران والسودان وأفغانستان والبوسنة وأدائهم القتالي اللافت في الشيشان ومواجهتهم مع جيش روسيا الاتحادية لفترة طالت واستطالت دليل على (موجه استراتيجية Wave Strategic ) من المحتمل أن تؤثر على موازين القوى وبالتالي قد تمتد لمناطق أخرى كثيرة تربك تدفق النفط من المجال النفطي الإسلامي نحو الأسواق الغربية الاستراتيجية.
- عبّر الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون عن قلقه من الإسلام والمسلمين من خلال كتابين نشرهما. أولهما عنوانه (نصر بلا حرب Victory without war ) وثانيهما عنوانه: (انتهزوا الفرصة Seize the moment ) يقول نيكسون في هذين الكتابين أنه بعد سقوط الاتحاد السوفيتي 1992م سيواجه الغرب والولايات المتحدة خصوصًا (ماردًا آخر) هو الإسلام فينبغي على الولايات المتحدة أن تعمل وبسرعة على الإمساك بما أسماه بِـ(الريادة الروحية Spiritual Leadership ) في العالم قبل أن "يفيق المارد الأخضر من نومه" حسب تعبيره.(/7)
- ويرى ستيفن بيلليتيير (Stephen Pelletiere ) وهو بروفيسور يعمل خبيرًا ومستشارًا في كلية الحرب التابعة لرئاسة الأركان في الجيش الأمريكي American Army War College ) أن العقبة الكأداء أمام الإسلام في الشرق الأوسط لا تتمثل بالحكومات العربية ولا بالشعوب العربية إنما تتمثل بحركة حماس الإسلامية في فلسطين وبحزب الله في لبنان وكلاهما يقول بيلليتيير (أحزاب إسلامية) انظر دراسة بيلليتيير: (حزب الله وحماس: تحديات للسلام Hezballah & Hamas-Challenges to peace: ).
- مارتن كريمر Martin Kramer مدير مركزز موشى دايان في جامعة تل أبيب سابقًا وأحد أخطر المفكرين الاستراتيجيين الصهاينة الأمريكان وحاصل على جنسية مزدوجة أمريكية وإسرائيلية وكثير الحضور في الأوساط الجامعية الأمريكية. يؤكد كريمر بأن على الولايات المتحدة أن تعمل على استئصال الحركة الإسلامية بكل أطيافها من الوجود حتى لو وصلت إلى الحكم عن طريق الاقتراع السري والمنهج الديموقراطي كما حصل في الجزائر وفي تركيا أيضًا. ويقول كريمر في ورقة نشرها معهد أسبن The Institute Aspen في واشنطن 1998م بأنه يتوجب على الإدارة الأمريكية والبيت الأبيض عدم إضاعة الوقت في فتح حوار مع الحركات الإسلامية بل يحث الإدارة الأمريكية على دعم الأنظمة العربية بكل الوسائل الضرورية لقمع واستئصال تلك الحركات. ويقول كريمر إنه لا يجد صعوبة كبيرة في (تفهم) الإدارات الأمريكية الجمهورية والديموقراطية لذلك.
هذه أمثلة فقط وعينات عن التصورات الغربية للإسلام والمسلمين.
هل ثمة نفط في القدس؟(/8)
- إن أهم انتصار عسكري حققته الحملة الصليبية الأولى (وهي حملة غربية/ أوروبية/ مسيحية) هو استيلاؤها في 1099م على مدينة القدس. لقد ارتكب الصليبيون The Crusaders بحق سكان القدس المسلمين في ذلك العام أسوأ مجازر التاريخ لم يقفوا عند هذا الحد بل جمعوا أعضاء الجالية اليهودية (وقد كانت جالية صغيرة) في كنيستهم وأضرموا النار فماتوا حرقًا وأصبحت القدس منذ ذلك العام عاصمة الدولة الصليبية التي عرفت باسم مملكة القدس الصليبية. (انظر تفاصيل ذلك في كتاب د.سمير سليمان مشار إليه سابقًا).
- لقد كان واضحًا (البعد المسيحي) من احتلال القدس. فليس في القدس نفط ولا معادن ثمينة ولا حبوب الشرق الإسلامي وبهاراته وتوابله ولا هي تقع على ممر بحري للتجارة الدولية وليس فيها شيء يذكر سوى أهميتها الروحية للمسلمين فكان من المهم بالنسبة للصليبيين تجريد المسلمين من هذه الرمزية الروحية التي تعنيها لهم القدس. وفي هذا دليل تاريخي بأن الغرب ينظر للإسلام على أنه يمثل خطرًا جيو-استراتيجيًا كما أن فيه دليلاً على أن الغرب ليس علمانيًا بالمعنى الذي يحاول أن يشيعه بيننا وأن ثمة بعدًا دينيًا حادًا لسياساته وحملاته العسكرية. هذا التقاطب التاريخي بين المسلمين والغرب القادم من أوروبا على موضوع القدس دليل مادي على توجس الغرب من الإسلام ومراكزه الروحية. كما أن الموقع الغربي الحالي من استيلاء الصهاينة على القدس وتهويدها والتحالف الاستراتيجي القائم حاليًا بين الغرب والصهاينة (وهو تحالف استمر أكثر من خمسين عامًا ولا زال قائمًا) دليل آخر في هذا السياق. ألا يفصح ذلك عن بعد ديني لدى الغرب المسيحي في سياساته تجاه موضوع فلسطين والقدس خاصة؟.
لم ينقذوا المسلمين في البوسنة والهرسك:(/9)
- وفي محور مواز سنلاحظ أيضًا أن هناك نشاطًا غربيًا بارزًا لإبعاد الإسلام تمامًا من منطقة (القلب) في النظام الدولي وخاصة في أوروبا لذا فالتدخل الأطلسي الناشط في البوسنة والهرسك وكوسوفا واتفاقية دايتون Dayton (نوفمبر 1995م) جاءت جميعها في توقيتها ومضمونها مستهدفة إبعاد المسلمين من هناك عن مركز القرار في البلقان.
لقد أعطى حلف شمال الأطلسي الصرب كل الوقت لذبح المسلمين وجَز رؤوسهم وأعناقهم وبقر بطون حوامل النساء فيهم بينما وبقرار دولي حظر السلاح على المسلمين في البوسنة والهرسك وكوسوفا، ومنع تدخل منظمة المؤتمر الإسلامي في الموضوع بأي شكل من الأشكال، وعندما أثخن الصرب بالمسلمين هناك وافتضح الأمر تمامًا لمن كان له قلب تدخل حلف شمال الأطلسي وكانت إتفاقية دايتون (ورقة التين)، تلك الاتفاقية التي قال عنها الأستاذ المجاهد علي عزت بيغوفيتش: (سلام ظالم خير من حرب عادلة).
أما تدخلهم الفاضح في تيمور الشرقية وتهديدهم العسكري لإندونسيا وتشجيعهم إقامة كيان مسيحي كاثوليكي مرتبط بالفاتيكان مباشرة وسط الأرخبيل الأندونيسي المسلم فيرد على حجتهم باستمالة قيام كيان إسلامي في البوسنة والهرسك وكوسوفا. لماذا حلال في تيمور الشرقية لهم وحرام علينا في البوسنة والهرسك وكوسوفا؟.
يجب أن نعيد النظر بأولوياتنا:
حيث أن الأمر بلغ هذا المدى فعلينا نحن المسلمين أن نعيد النظر بسلم أولياتنا، لابد:
أولاً: أن ندرس المشهد العالمي واتجاهات الغرب الإستراتيجية الذي يروم الهيمنة الشاملة والكاملة على العالم الإسلامي.
ثانيًا: نحصر دائرة الصراع ونقطة التركيز وبؤرة الفعل فيما سبق، ولا نبدد الطاقة والوقت والمقدرات في معارك ثانوية لا جدوى منها.(/10)
ثالثًا: بل أن نجتهد في موضوع الحوار الإسلامي المسيحي ينبغي أن نجتهد في موضوع الحوار الإسلامي الإسلامي وكما نطير إلى روما وبروكسيل ولندن للتباحث مع المطارنة والكرادلة والقسس في كيفيات التعاون الإسلامي المسيحي حري بنا أن نطير إلى المدينة المنورة والقاهرة وطهران وجاكرتا وكوالالمبور ودمشق وغيرها من عواصم الإسلام للتوصل إلى صيغة وفاق وتفعيل لمنظماتنا العالمية الضخمة.
رابعًا: الاشتغال فورًا في بلورة إستراتيجية شاملة تستهدف المقاومة والصد لرياح الهيمنة الغربية على كل صعيد. ليس هذا طلبًا للمواجهة غير المتكافئة، فليس إلى هذا ندعو الآن، لكن لابد من المقاومة والصد. إن مقاومة الهيمنة – بالذات الأمريكية كما تتبدى في العراق وأفغانستان – فريضة شرعية وهي كذلك ضرورة إستراتيجية للأمة.
خامسًا: لأن الولايات المتحدة الأمريكية تمثل (مركز الثقل) بالنسبة للغرب. وهي الوريث لمشروع للهيمنة الأوروبي وبالذات البريطاني وهو الذي يمد المشروع الصهيوني بأسباب البقاء والتفوق العسكري فلا يمكن تحقيق النقلة النوعية للأمة الإسلامية من هذه المرحلة الغثائية (كما وصفها رسول الله صلى الله عليه وسلم) إلا من خلال التركيز على مقاومة (مركز ثقل) الغرب الذي تمثله الولايات المتحدة. وينبغي التوضيح دائمًا أننا لا نقاوم إلا لحماية أنفسنا من عدوان الإدارات الأمريكية. هدف إستراتيجية المقاومة – كما يرسمها العقل الإستراتيجي المسلم د.حامد عبدالماجد قويسي – هو "إحداث خلخلة في النظام الدولي الآسر للأمة الإسلامية بالتصدي والمقاومة لمركز الثقل الغربي الذي تمثله الولايات المتحدة".
لابد من ابتكار الوسائل الجديدة لمقاومة الهيمنة الأمريكية وصد رياح السيطرة الغربية وعدم الاستسلام لها في هذه المرحلة.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين(/11)
العنوان: هل جميع الصحابة عدول؟
رقم المقالة: 321
صاحب المقالة: د. سعد بن عبدالله الحميد
-----------------------------------------
السؤال: كيف نجيب على من قال: كيف تعدّلون جميع الصحابة وتقبلون روايتهم مع أنهم يقعون في الكبائر والصغائر، وهذا قادح في العدالة، والصحيح أن يُتوقف في تعديلهم حتى تثبت العدالة أو نثبت العدالة، ومن ظهر منه الفسق جرحناه؟
الجواب: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فأنصح السائل أولاً وكل من قرأ هذا الجواب، أو اهتم بهذا الأمر بالرجوع لما كتبه العلماء، ولا يقفوا عند حد الشبهة التي قد تورد من مغرض يعلم أن أكثر الناس لا تتسع صدورهم للبحث والقراءة فيسهل اقتناصهم، ومن الكتب التي أنصح بالرجوع إليها:
(الكفاية للخطيب البغدادي)، و(منهاج السنة) لشيخ الإسلام ابن تيمية، و(تطهير الجنان) لابن حجر الهيتمي، كما أن هناك كتباً ورسائل وبحوثاً صدرت في العصر الحديث لا بد من الرجوع لها، ومنها: (السنة ومكانتها في التشريع) لمصطفى السباعي، و(دفاع عن السنة لمحمد أبو شهبة ) و(السنة حجيتها ومكانتها في الإسلام) لمحمد لقمان السلفي، و(صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم) لعيادة الكبيسي، و(إسلام آخر زمن)، و(براءة الصحابة من النفاق) كلاهما لمنذر الأسعد، و(رسائل العدل والإنصاف) لسعود بن محمد العقيلي، وإنما ذكرت هذه المراجع؛ لأن الأخ السائل سيجد فيها بغيته، ويصعب في جواب مختصر كهذا الإتيان على أطراف الموضوع.
ومع هذا ألخص الجواب في النقاط الآتية:(/1)
(1) هناك فرق بين من يناقش هذه القضية وهو مسيء للظن بأولئك الصحب الكرام؛ بسبب رواسب عقدية معروفة، وبين من ينظر إليهم نظرة محبة وإجلال؛ بسبب مواقفهم المشرَّفة في نصرة هذا الدين، والدفاع عنه، وصبرهم على الأذى فيه، وبذلهم المهج والأرواح والأموال في سبيله، أو لست ترى عجب عروة بن مسعود الثقفي –حين كان مشركاً - من الصحابة في الحديبية، وذلك حين رجع إلى قومه، فقال: "أي قوم! والله! لقد وفدت على الملوك، ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله! إن رأيت ملكاً قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمدٍ محمداً - صلى الله عليه وسلم -! والله إن تنخّم نخامة إلا وقعت في كفّ رجل منهم فَدَلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده وما يحدّون إليه النظر تعظيماً له... إلخ ما قال " البخاري (2731-2732).
(2) تأمل قوله - تعالى-: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيماً} [الفتح: 29].
و قوله - تعالى-: {وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين * وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألَّف بينهم إنه عزيز حكيم} [الأنفال:62-63].
وقوله - تعالى-: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله } [آل عمران:110].
وقوله - تعالى -: {وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً} [البقرة:143].
ثم انظر ماذا ترى؟ أو لست ترى تعديلهم في الجملة؟(/2)
فإن أشكل عليك العموم، فخذ الخصوص: {لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم} [التوبة:117].
وهذه كانت عقب غزوة العسرة (تبوك)، وكانت في آخر حياته - صلى الله عليه وسلم -.
وقال تعالى: {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحاً قريباً * ومغانم كثيرة يأخذونها وكان الله عزيزاً حكيماً} [الفتح:18-19].
وهذه تزكية عظيمة لأهل بيعة الرضوان .
وقال - تعالى: - {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم} [التوبة:100].
وهذا نص قاطع في تزكية عموم المهاجرين والأنصار، بل ومن تبعهم بإحسان.
وقريب منه قوله - تعالى -: {للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون * والذين تبؤوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} [الحشر:8-9].
وتأمل الآية بعدها: {والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم} [الحشر:10].
وقال - تعالى-: {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلاً وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير} [الحديد:10].
فكم سيكون عدد هؤلاء الصحابة الذين زكاهم الله - تعالى- وعدَّلهم ممن شملتهم الآيات؟ ومن الذي سيبقى؟ أهم الذين أنفقوا من بعد الفتح وقاتلوا؟ أو ليس الله - تعالى - يقول: {وكلاً وعد الله الحسنى}؟(/3)
(3) فإن كان القصد من إيراد هذه الشبه إقصاء بني أمية عن شرف الصحبة، فمن الذي يستطيع أن يقصي عثمان - رضي الله عنه -؟ أو ليس دون ذلك خرط القتاد؟
وأما معاوية وعمرو بن العاص - رضي الله عنهما - فهل كان يخفى على النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرهما حين أمّر عَمْراً على جيش ذات السلاسل وفيهم أبو بكر وعمر - رضي الله عنهما - [البخاري (3662) ومسلم (2384)]؟ أو ليس هو ممن أسلم طوعاً وهاجر قبل الفتح؟ فماذا يريد من ذلك؟
ومثله معاوية - رضي الله عنه - كيف ائتمنه النبي - صلى الله عليه وسلم - على كتابة الوحي إن لم يكن عدلاً ؟ وكيف وثق به عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وولاه إمرة جيش الشام مع ما عرف من شدة عمر - رضي الله عنه - في الولاية حتى إنه عزل عنها سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -؟ وكيف سكت باقي الصحابة عن ذلك لو لم يكن عدلاً عندهم؟ وكيف زكاه بعض الصحابة كابن عباس وغيره؟ ولماذا لم يتهمه خصومه كعلي - رضي الله عنه - ومن معه من الصحابة في دينه إذا لم يكن عدلاً؟ وكيف قَبِلَ الحسن بن علي - رضي الله عنهما - بالتنازل عن الخلافة له مع كثرة أتباعه وأعوانه إذا كان مشكوكاً في عدالته ؟ وكيف قبل باقي الصحابة ذلك؟
(4) فإن ارتضيت المهاجرين والأنصار وأهل بيعة الرضوان وبيعة العقبة والذين أسلموا قبل الفتح وأنفقوا وقاتلوا، وظهر لك ما تقدم عن معاوية وعمرو بن العاص - رضي الله عنهما - فمن بقي؟ فليكن السؤال محصوراً إذاً في: هل ثبتت صحبة فلان وفلان؟ ممن يرى مثير الشبهة أنهم خارجون عن الأدلة السابقة.
(5) ليس المراد بعدالة الصحابة - رضي الله عنهم - عصمتهم من الخطأ والنسيان والذنوب والعصيان، فالعصمة لم تثبت لأحد بعد الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام، وإنما المراد بعدالتهم - رضي الله عنهم - براءتهم من النفاق، وصدق محبتهم لله ورسوله، وأنهم لا يتعمدون الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.(/4)
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في ( منهاج السنة ) ( 1/306-307): "الصحابة يقع من أحدهم هنات، ولهم ذنوب، وليسوا معصومين، لكنهم لا يتعمدون الكذب، ولم يتعمد أحد الكذب على النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا هتك الله ستره" ا.هـ، والدليل على ذلك: ما جاء في (صحيح البخاري (6780) في قصة الرجل الذي جيء به عدة مرات وهو يشرب الخمر ويجلد، فلما لعنه أحد الصحابة نهاه النبي - صلى الله عليه وسلم-، وقال: "لا تلعنوه، فو الله ما علمت إنه يحب الله ورسوله".
وقصة حاطب بن أبي بلتعة - وهي مخرجة في الصحيحين [البخاري (4890) ومسلم (2494)] - معروفة، فإنه اتهم بالتجسس على المسلمين، ومع ذلك نفى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - الكفر، وقال: "وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم".
(6) المتتبع لسيرة الصحابة - رضي الله عنهم - يجد أن من نُقل عنه اقترافه شيئاً من الآثام قلة قليلة، وبعض هذه القلة لا يثبت عنه ذلك، ومن ثبت عنه اعتُذر عنه ببعض الأعذار التي لو أعرضنا عنها وافترضنا ثبوت ذلك عنه لما كان له أثر في أصل القضية التي نتحدث عنها؛ لأن القصد حماية جناب السنة بحماية جناب نقلتها وحامليها، ومن نظر بعين الإنصاف وجد حَمَلَةَ السنة من الصحابة - رضي الله عنهم - لم يرد عنهم شيء مما ذُكر، وإنما ورد ذلك عن أناس اختلف في صحبتهم كالوليد بن عقبة، ومع ذلك فليس لهم رواية - بحمد الله -، وأعني بذلك بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم -، وأما حال حياته فقد كانت تقع من بعضهم تلك الأمور لمصلحة التشريع كما لا يخفى.(/5)
يقول الألوسي - رحمه الله - في (الأجوبة العراقية) (ص 23-24): "ليس مرادنا من كون الصحابة - رضي الله عنهم - جميعهم عدولاً: أنهم لم يصدر عن واحد منهم مفسَّق أصلاً، ولا ارتكب ذنباً قط، فإن دون إثبات ذلك خرط القتاد، فقد كانت تصدر منهم الهفوات ...." إلى أن قال: " ثم إن مما تجدر الإشارة إليه، وأن يكون الإنسان على علم منه: هو أن الذين قارفوا إثماً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم حُدّوا هم قلة نادرة جداً، لا ينبغي أن يُغَلَّب شأنهم وحالهم على الألوف المؤلفة من الصحابة - رضي الله عنهم - الذين ثبتوا على الجادة والصراط المستقيم، وحفظهم الله - تبارك وتعالى - من المآثم والمعاصي، ما كبُر منها وما صغر، وما ظهر منها وما بطن، والتاريخ الصادق أكبر شاهد على هذا".
ويقول الغزالي في (المستصفى) (ص 189-190): "والذي عليه سلف الأمة وجماهير الخلف: أن عدالتهم معلومة بتعديل الله - عز وجل - إياهم، وثنائه عليهم في كتابه، فهو معتقدنا فيهم إلا أن يثبت بطريق قاطع ارتكاب واحد لفسق مع علمه به، وذلك لا يثبت، فلا حاجة لهم إلى تعديل".
(7) والمقصود بالمفسَّقات التي نتحدث عنها : ما عدا الفتن التي نشبت بينهم - رضي الله عنهم - فمع كون قتل المسلم يُعد مفسَّقاً إلا أن ما كان منه بتأويل يخرج عما نحن بصدده، والأدلة على هذا كثيرة، ومن أهمها:
قوله - تعالى -: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما} [الحجرات:10]، فوصفهم- سبحانه - بالإيمان مع وجود الاقتتال.
وأخرج البخاري (2704) عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال عن الحسن بن علي - رضي الله عنهما -: "إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين".
ولذا عذر أهل السنة كلتا الطائفتين، وتولّوهما، وإن كانت واحدة أقرب إلى الحق من الأخرى.(/6)
(8) مما لا شك فيه أنه لا يمكن العمل بالقرآن إلا بالأخذ بالسنة، ولا تصح السنة ولا تثبت إلا بطريقة أهل الحديث، وأهمها جذر الإسناد، وهم الصحابة - رضي الله عنهم-، ولذا يقول أبو زرعة الرازي - رحمه الله -: "إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاعلم أنه زنديق؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - عندنا حق، والقرآن حق، وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسنن أصحابُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة، والجرح بهم أولى، فهم زنادقة" أخرجه الخطيب البغدادي في (الكفاية) (ص 66-67)، وكان قد قال قبله: "على أنه لو لم يَرِد من الله - عز وجل - ورسوله فيهم - أي الصحابة - شيء مما ذكرناه، لأوجبت الحال التي كانوا عليها من الهجرة والجهاد والنصرة وبذل المهَج والأموال، وقتل الآباء والأولاد، والمناصحة في الدين، وقوة الإيمان واليقين، القطع بعدالتهم والاعتقاد لنزاهتهم، وأنهم أفضل من جميع المعدَّلين والمزكين الذين يجيئون من بعدهم أبد الآبدين" ا.هـ.
(9) هناك سؤال عكسي نوجهه لمن يثير هذه الشبهة، فنقول: ما هو البديل في نظرك؟
أ. فهل ترى أن الإسلام يؤخذ من القرآن فقط؟.
فقل لي: من الذي نقل إلينا القرآن؟ ومن الذي جمعه؟ وهل تستطيع أن تقيم الإسلام بالقرآن فقط؟ وماذا نصنع بالآيات الكثيرة الدالة على وجوب الأخذ بالسنة، كقوله - تعالى -: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} [الحشر:7]، وقوله - تعالى-: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} [النحل:44].
ب. أو ترى أنه يؤخذ بالسنة، ولكن من طريق صحابة بأعيانهم ثبتت لديك عدالتهم، ومن عداهم فلا ؟ فسمَّهم لنا وبيَّن لنا موقفك من البقية الباقية بكل وضوح، وسترى من الذي تنتقض دعواه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(/7)
العنوان: هل لإبليس زوجة؟!
رقم المقالة: 1011
صاحب المقالة: مروان محمد أبو بكر
-----------------------------------------
تَرِدُ على الباحثين الشرعيين أسئلةٌ لا يستطيعون البحث عن جوابها مدةً من الزمن، لا للتفكير في المراجع مَظَنَّةَ الإجابة، أو النظرِ في مقصد السائل، أو التفكير لمعرفة الباب - من أبواب الدين - الذي إليه يُنسَبُ هذا السؤال: الفقهُ، أم العقيدةُ، أم الآدابُ والسلوك؟ ولا ليطلبَ توضيحاً من السائل؛ لكونه أغفل بعض الجوانب المهمة التي تتوقف عليها الإجابة؛ لا ليفعل شيئاً من ذلك؛ ولكنه في حاجة ماسة لا يستطيع دفعها إلى تلكم المدة الزمنية، التي قد تطول أو تقصر، حسب السؤال، والتي يحتاجها الباحث فقط ليضحك!
فبعض الناس لهم قدرة خارقة على التفكير في أسئلة ما سبقهم إليها أحد من العالمين! ولا فائدة تعود عليهم من معرفة جوابها، ولا ضرر يلحقهم من الجهل بها.
وكنت أظن أن هذا داءٌ حديثٌ، حتى وجدت المتقدمين يشكون من ذلك الداء، فعرفت أن وجودَه قديمٌ.
قال الإمامُ الشَّعْبِيُّ: "إني لَجَالسٌ يوماً، إذ أقبلَ حَمَّالٌ معه دَنٌّ حتى وضَعَهُ، ثم جاءني فقال: أنتَ الشَّعْبِيُّ؟ قلت: نعم! قال: أخبرني عن إبليس؛ هل له زوجة؟!! قلت: إنَّ ذاك لَعُرْسٌ ما شَهِدْتُهُ!"[1].
ونحوُ هذا سؤالُ بعضِهم عن اسمِ كلبِ أهلِ الكهف!! أو أنواع الطير المذكورةِ في قوله تعالى لإبراهيم عليه السلام: {فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ} [البقرة:260]!!
ومثل هذا ما وقع من بني إسرائيل، لمّا قال لهم موسى عليه السلام: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة:67]، فسألوا عن أوصافها..(/1)
إن العلم ليس كلُّه نافعاً مفيداً، بل من العلم ما لا نفعَ فيه، والمسلمُ ينبغي أن ينأى عنه ويجتنبَه؛ قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((اللهُمَّ! إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لاَ يَنْفَعُ، وَمِنْ قَلْبٍ لاَ يَخْشَعُ، وَمِنْ نَفْسٍ لاَ تَشْبَعُ، وَمِنْ دَعْوَةٍ لاَ يُسْتَجَابُ لَهَا))[2].
ومن العلم ما لا يصلحُ أن يَطَّلِعَ عليه كلُّ الناسِ؛ إذ قد يكون اطِّلاعُهُم عليه وَبَالاً عليهم، قال شيخ الاسلام ابن تيمية: "ومن المعلوم ما لو عَلِمَه كثيرٌ من الناس لَضَرَّهُم عِلْمُه، ونعوذ بالله من علمٍ لا ينفعُ، وليس اطِّلاعُ كثيرٍ من الناس - بل أكثرهم - على حكم الله في كل شيء؛ نافعاً لهم، بل قد يكون ضارّاً، قال تعالى: {لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة:101]"[3].
وإن كثيراً من تلكُمُ الأسئلةِ المُتَقَعِّرَةِ لم تَلْقَ من الشارع جواباً؛ لأنها لا تفيد عملاً، فلما سأل سائلٌ عن الهلال: لِمَ يَبْدُو صغيراً ثم يَكْبُرُ؟ تجاوزَ الشارعُ الجوابَ عن هذا التساؤل، الذي لا يفيد عملاً، وقصد إلى ما يفيد، فأجاب إجابةً لم يُرِدْها السائلُ، ولكنها أنفعُ له وأحسن، فقال تعالى: {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة:189].
ولما جاء رجلٌ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يسألُه: متى الساعةُ؟ أَعْرَضَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن الإجابةِ عن هذا السؤال، الذي لا نفعَ في جوابِهِ للسائلِ، ووَجَّهَهُ للبحثِ في الأنفعِ غير الذي عَنَاه، فقال: ((وَمَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟)) قَالَ: مَا أَعْدَدْتُ لَهَا إِلاَّ أَنِّي أُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ، قَالَ: ((إِنَّكَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ))"[4].(/2)
فلقد لَفَتَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - السائلَ عن أمر لا يَدَ له فيه - وقتِ قيامِ الساعةِ - إلى أمر يستطيع أن يفعل فيه شيئاً ينفعُه، وهو الإعدادُ للساعة، والتزودُ لها، بالأعمال الصالحة.
وقد وقف عمرُ - رضي الله عنه - يوماً على المنبر، فقرأ: {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا *وَعِنَبًا وَقَضْبًا، وَزَيْتُونًا وَنَخْلاً *وَحَدَائِقَ غُلْبًا، وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس:27-31]، فقال: فَكُلُّ هَذَا قَدْ عَرَفْنَاهُ، فَمَا الأَبُّ؟ ثَمَّ نَقَضَ عَصَاً كانتْ في يَدِهِ، فَقالَ: "هَذَا لَعَمْرُ اللهِ التَّكَلُّفُ! اتَّبِعُوا مَا تَبَيَّنَ لَكُم مِن هَذَا الكِتَابِ"[5].
وَلَمَّا سَأَلَ ابنُ الكَوَّاءِ عَليّاً - رضيَ الله عنه - عنِ السَّوَادِ الذي في القَمَرِ! قالَ له عليٌّ رضي الله عنه: (عَمِيٌّ سَأَلَ عَن عَمْيَاءَ!!)[6].
إنَّ عليّاً - رضي الله عنه - يَصِفُ سائلَه عمّا لا يفيدُ بالعَمَى، مع أنَّ السائلَ يريد - في الظاهر - الاستبصارَ بنور العلم؛ ولكن، ليس كلُّ علم يُسْتَبْصَرُ به؛ فالسِّحْرُ عِلْمٌ، قال الله تعالى: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة:102]، ولكنه علمٌ لا يُسْتَبْصَرُ به.
إن آثار هذه الأسئلة - العمياءِ - وخيمةٌ على سائلِها، وقد بَيَّن الأمامُ الشاطِبِيُّ في (الموافقات)[7] بعضَ تلك الآثار، وإليك تلخيصَ شيءٍ مما ذكرَه:
• تَشْغَلُ هذه الأسئلةُ غيرُ المفيدة المكلَّفَ عما كُلِّفَ به من الأوامر الشرعية، التي يجب عليه تعلُّمُها والعملُ بها.
• إن المنشغل بهذه الأسئلة قد يخرجُ عن الصراط المستقيمِ، ويقعُ في الفتنِ والأهواءِ والضلالات.
• تؤدي هذه الأسئلة إلى التنازعِ، والتفرقِ، والخلافِ، والتقاطعِ، والتدابرِ، والتعصبِ، ومتى بلغتْ بالناس ذلك أخرجتْهم من السُّنَّةِ، ولم يكن أصلُ التفرقِ إلا بهذا السبب.(/3)
• في هذه الأسئلة إهدارٌ للزمن، في غير طائلٍ ولا فائدةٍ تُرجَى، وقد أَمَرَتِ الشريعةُ باستثمار الوقت والعنايةِ به.
• تَتَبُّعُ النظرِ في كل شيء وتَطَلُّبُ علمِه من شأن الفلاسفة، ولم يكونوا كذلك إلا لتعلقهم بما يخالف السُّنَّةَ، فاتِّباعُهم في أمرٍ هذا شأنُه خطأٌ عظيمٌ، وانحرافٌ عن الجادة.
إن علماءَ الأمة قد فَطِنوا لهذا الداء، وألَّفوا ما يشفي النفوسَ في بيان كيفية طلب العلم، وما العلمُ الذي يُطلَب، وما هي أولوياتُ طلبِ العلم، فَكَفُوا وشَفُوا، ومِن أنفعِ ما يُقرَأُ للتخلصِ من هذا الداءِ كتابُ الإمامِ ابنِ رجبٍ الحنبلي: (فضلُ علم السَّلَف على علم الخلف).
ـــــــــــــــــــــــــــ
[1] تهذيب الكمال، 14/37.
[2] رواه مسلم، 4/2088، (2722).
[3] منهاج السنة النبوية، 3/39.
[4] رواه البخاري، 5/2282، (5815)، ومسلم، 4/2032،(2639)، واللفظ للبخاري.
[5] المستدرك، 2/559، (3897)، والبيهقي في السنن الكبرى، 7/116، (13444)، قال الذهبي في التلخيص: على شرط الصحيحين، ولم يخرجاه.
[6] تفسير الصنعاني، 1/241.
[7] راجع الموافقات، 1/51.(/4)
العنوان: هل للقنوات الفضائية مكانٌ في جدولك الرمضاني؟
رقم المقالة: 1477
صاحب المقالة: وسمية سليمان
-----------------------------------------
استطلاعُ رأي
هل للقنوات الفضائية مكانٌ في جدولك الرمضاني؟
لصوصُ رمضان.. من هم يا تُرى؟ هم القنواتُ الفضائيةُ، وما أدراكَ ما القنواتُ الفضائية؟
القنواتُ الفضائية هي التي تعملُ ليلَ نهارٍ، على قدم وساق، دائماً وأبداً؛ لصرف الناس عن الهدف الذين خلقوا من أجله، وخصوصًا في الشهر الكريم، لصرف الناس عن الهدف من الصيام، ألا وهو التقوى، وهو الثمرة التي من أجلها شرع الصيام؛ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]
كانت القنواتُ -وما زالت- تبذل أقصى جهدها في هذا الشهر، موسمِ الخيرات والصدقات والأفعال الخيرية. لذا أصبح فئة من الناس -إن لم تكن أغلبية- تضيع وقتها أمام الشاشة بدل أن تصل رحماً أو تعود مريضاً.
فرمضان بدل أن يكون فرصة للتزود من الطاعات وطلب المغفرات هم جعلوه (أي القنوات) فرصة لعرض المسلسلات والمعاصي. ولكن ما رأي الآخرين حول هذا الموضوع؟ ألا وهو ما تعرضه القنوات الفضائية من المسلسلات الرمضانية؟
وهل لها نصيب من وقتهم في جدولهم الرمضاني؟
كان لنا لقاء مع (م-هـ) التي تقول: ليس لها مكان في جدولي السنوي كله، باختصار هو ضياع وقت، وقبل كل شيء مشاهدته من المعاصي والعياذ بالله.
أروى (20 سنة) تقول: كنت أتابعُها، ولها نصيب في جدولي، لكن منذ سنة مضت لم أتابع شيئاً، وأحسست بالفرق، فرمضان بغير مسلسلات أفضل، يكون هناك إحساس بالروحانية والله يهدي بنات المسلمين.(/1)
أم معاذ تقول: تظن القنوات أن رمضان فرصة لعرض الجديد، وجذب الناس للتلفزيون، وهدفهم الأساسي شغل الناس عن الطاعة، وهي فعلا تأخذ مني وقتا، ولكن من الممكن تركها في رمضان ورؤيتها في وقت آخر؛ لأن القنوات تقوم بإعادة المسلسلات مستقبلاً، حتى لا يضيع عليكِ الأجر في هذا الشهر الكريم.
واتفقت معها شروق و( ح-م ) بالقول: على أن هذا الشهر يمكن التفرغ للعبادة لأنها تعاد لاحقاً.
ريما (27 سنة) تقول: رمضانُ شهر عبادة، ومن العقل عدم تضييع هذه الفرصة التي ربما لا تتكرر علينا في العام القادم.
وعلينا أن نستفيد من كل ثانية من رمضان بالدعاء والصلاة وقراءة القرآن والسجود لرب العالمين وترك التلفاز والأسواق، ولنجعل كل همنا في هذا الشهر هو طاعة الله.
أمل ج تقول: لا أرى المسلسلات، ولكن أكثر ما يستهويني الأفلام الأجنبية؛ لأن موضوعها واحد ينتهي في حلقة واحدة.
أسماء تقول: تركت متابعة المسلسلات من 4 رمضانات مضت لسبين:
1- عقلية المرء تصبح أكثر انفتاحا بالبعد عن القنوات.
2- جميع ما يعرض أصبح مستهلكاً، أي إعادة لما سبق طرحه من أفكار مع اختلاف الممثلين، وأيام المسلسلات قد ولت، وهمهم الآن هو الربح المادي البحت، والدليل على ذلك الإعلانات التي تصرف من أجلها.
أما وفاء فتقول: هناك قنوات تقدم تلاوات لكثير من المشايخ، يمكن متابعتها في هذا الشهر.
اختلفت آراءُ الناس بين مؤيد لرؤية المسلسلات، وأنها لا بد منها، ولها نصيب من الوقت، وبين معارض لها تمامًا، لا في رمضان ولا في غيره؛ فرَبُّ رمضان هو رب الشهور كلها. وآخرين ليس لها نصيب من وقتهم، ولكن استبدلوا بها المسلسلات الهادفة التي تعرض في قنوات موجهة (مع عدم وجود النساء)؛ لأنها على حد قولهم تعرض في أوقات الراحة ولا تأخذ وقتا طويلا.
ختاماً:
ينقسم الناس إلى 3 أقسام:(/2)
1- قسم هم فيه بعد رمضان خير من رمضان، وهذا هو الأفضل؛ لأنه بذلك قد تحقق الهدف من الصوم ودلالة على قبول العمل بإذن الله.
2- وقسم هم في رمضان خير من بقية الشهور، وهؤلاء كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً.
3- وقسم هم في رمضان كغيره من الشهور سيان لا تأثير.
فأي الأقسام نريد؟(/3)
العنوان: هل من حق الزوج التعرف على ماضي زوجته؟
رقم المقالة: 1864
صاحب المقالة: تحقيق: إيمان الحلواني
-----------------------------------------
قتل زوجته لأنها لم تخبره بخطوبتها السابقة!
هل من حق الزوج التعرف على ماضي زوجته؟
• الدكتور إسماعيل الدفتار: الستر على الفتاة "التائبة" واجب شرعي.
• الشيخ عطية صقر: راقب سلوك زوجتك وحاسبها على الحاضر فقط.
• الدكتورة عبلة الكحلاوي: تحريات الزوج لابد أن تكون قبل الزواج.
• الدكتور عبد العظيم المطعني: إخفاء الماضي.. غش وتدليس يرفضه الإسلام.
• الدكتور عادل مدني: من كان منا بلا خطيئة فليحاسب زوجته.
• الدكتورة عزة كريم: من حقه معرفة الارتباطات المعلنة لزوجته.
• • • • •
ظل الطبيب الشاب يبحث عن شريكة حياته، حتى تعرف على فتاة على قدر كبير من الجمال والأنوثة؛ فتقدَّم لخطبتها، ورحبت به الأسرة، وتم الزواج، وعاشا حياة سعيدة أنجبا خلالها طفلين جميلين، لم يعكر صفوها إلا غيرة الزوج الشديدة على زوجته.
وذات يوم عاد الزوج ليزف لزوجته خبرًا سارًّا، وهو رحلة ترفيهية مع صديق عمره، الذي سافر إلى الخارج منذ 7 سنوات، رحَّبتِ الزوجة على الفور، واستعدَّت للسفر، وما هي إلا أيام وكانا في طريقهما إلى القرية السياحية التي سيقضيان فيها الإجازة، وما إن رأت الزوجة صديق زوجها حتى ارتبكت بشدة، لاحظ الزوج ارتباك زوجته وصديقه معًا، وعندما سأل زوجته عما إذا كانت قد سبق لها أن تعرَّفت عليه؛ فأنكرتْ، لكنَّ الشَّكَّ داخل الزوج لم يخمد؛ فسأل صديقه عن سبب تغيّر وجهه عندما رأى زوجته؛ فقال: لا شيء، لكني لم أكن أعلم أن زوجتك هي خطيبة أخي السابقة التي انفصلتْ عنه قبل الزفاف بأيام.
جن جنون الزوج، وعاد إلى زوجته وانفجر في وجهها فكيف لم تخبره عن خطوبتها السابقة؟(/1)
فقالت له: ليس من حقك أن تحاسبني على حياتي التي عشتُها قبل أن أعرفك، ثار الزوج حتى وصل إلى قمة غضبه؛ فخنقها ولم يتركها إلا جثة هامدة وهرب، وبعد أيام قبضت عليه الشرطة وروى تفاصيل ما حدث.
هذا الحادث المؤلم الذي شهدته مدينة الإسكندرية مؤخَّرًا يفجِّر قضية: ماضي الزوجة، وهل من حقّ الزَّوج التَّعرّف على الماضي العاطفيّ لزوجته؟ وهل الفتاة ملزمة بكشف كل أسرار حياتها لمن يرغب في الزواج منها؟ وهل يجوز للزوجة أن تكذب على زوجها إذا ما أصرَّ على معرفة تفاصيل علاقاتها السابقة؟
• جدل غير مُبِرَّر:
الدكتور إسماعيل الدفتار - أستاذ الحديث وعضو مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر - يرى أنه لا يحق للزوج معرفة ماضي زوجته، حتى لو كان هذا الماضي يحتوي على تجاوُزات أخلاقية، ما دامت قد تابت عنها توبة نصوحًا، وكذلك لا يحق للزوجة أن تسأل زوجها عن ماضيه، وعلاقاته السابقة، ما دامت قد قُطِعَت ولم يعد لها وجود، ويقول: هذه القضية لا يجب أن تكون موضع جدل ونقاش، بدليل أنَّ الرسول- صلى الله عليه وسلم- ردَّ المقرّ بالزّنا أربع مرات، وفي كل مرة يقول له: لعلك كذا، لعلك كذا، ليصرفه عن الإقرار والاعتراف.
وبالنسبة للفتاة المخطوبة فإنه يجب أولاً الستر عليها، وعدم إظهار أسرارها، التي قد تضرّها في حياتها المستقبلية، أو تكشف مستورًا قد لا يكون في صالحها.(/2)
واعتراف الفتاةِ بأسرارها له نوعان: إذا كانتْ قدِ ارْتَكَبَتْ بعض التجاوزات على سبيل الخطأ دونَ قَصْدٍ منها، كأن خدعها شخصٌ وغرَّر بها وهي فتاة من أصل طيب ومن أسرة معروف عنها الستر والخلق الكريم؛ فلا داعيَ لكشف هذا المستور، ولا يكون هناك غشّ وتدليس، لأن الإسلام أباح الكذب في بعض الأحيان إذا كان في هذا رفعٌ لضرر جسيم يترتب عليه شر لمستقبلها، لأننا نضمن في هذه الحال أن السر لن ينكشف، ولن يُعرَف، ما دامت هذه الفتاة لم يعهد فيها مثل هذا، وفي هذه الحالة يكون الستر واجبًا، ولا تكون آثمة شرعًا.
أما إذا كانت الفتاة - والكلام لا يزال على لسان الدكتور إسماعيل الدفتار - قد نشأت في مناخ سيئ، ويشاع عنها وعن بعض أفراد أسرتها هذا اللون من الانحراف؛ فيجب أن تُفصِح عمَّا حدث لها؛ لأنها إذا لم تكن صريحة ولم تُظهِر ما حدث لها من أشياء سابقة، مثل الإجهاض، وإعادة "ترقيع" غشاء البكارة، فإنَّ هذا المتقدم لها سيعرف من أطراف وأشخاص آخرين، ومن الممكن أن يعود عليها إخفاؤها لهذه المعلومات بالضرر، وفي هذه الحالة تكون الفتاة آثمة شرعًا إذا لم تكشف عما تخفيه.
ويضيف الدكتور الدفتار: أنا أفضِّل الميل إلى الستر قبل العقد؛ إلا إذا كانت الفتاة تخشى من تسرّب الخبر، أما بعد العقد فيجب عليها ألا تفشي أسرارها وألا تندفع في كلام عن تلك الأسرار وإذا استحلفها الزوج تحلِفُ كاذبةً ولا تكون آثمة، لأنه يجوز الكذب في هذه الحالة لبقاء عش الزوجية واستقرار حياتهما الأسرية، وعلى الزوج ألا يطلب منها كشف أسرارها.
• من حقه الحاضر فقط:(/3)
الشيخ عطية صقر - الرئيس الأسبق للجنة الفتوى بالأزهر - يؤكد أنه ليس للزوج حق في ماضي زوجته، مادام قد انتهى، وما دام قد ارتضاها زوجة له، ويقول: الزوجة ليست ملزمة بالكشف عن ماضيها لزوجها، فمِن المسلَّم به أنَّ الرَّجُلَ مسؤولٌ عنِ المُحافَظَةِ على سُمْعَتِه، وسُمْعَة الأُسرة كلّها، وسمعة زوجته التي اختارها شريكة لحياته، والحديث الشريف يقول: "والرجل راع في أهله ومسؤول عن رعيته"، ومن الرعاية أن يراقب سلوكها كما يراقب سلوك أولاده.
لكن هذه المراقبة لها حدود حتى لا تنتج أثارًا سلبية، فالمرأة إن لم تكن عندها حصانة من الدين والخلق؛ يمكنها أن تتفلت من هذه المراقبة بوسائلَ قد تتفنَّن فيها، وقد قالها عزيز مصر منذ آلاف السنين وسجَّلها القرآنُ الكريم في قوله تعالى: {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [يوسف:28].
ويضيف: إن كان الحديث الصحيح قد حذَّر من التهاون في سلوكها، ومن ترك الحبل لها على الغارب، بقوله- صلى الله عليه وسلم-: "ثلاثة لا يدخلونَ الجَنَّة، العاقّ لِوالِدَيْهِ والدَّيوث ورجلة النساء"، فإنه- صلى الله عليه وسلم- قد وجه إلى الاعتدال والتوسط في ذلك؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "إن من الغيرة غيرةً يبغضها الله عز وجل، وهي غيرة الرجل على أهله من غير ريبة"، ذلك أنَّ شدَّة الغيرة تجلب على المرأة سبة فسيقول الناس - إنْ صدقًا وإنْ كذبًا -: ما اشتد عليها زوجُها إلا لعلمه بأنها غير شريفة أو فيها ريبة، وعندما ينشغل الزوج بالتحري عن سلوكيات وماضي زوجته قبل الارتباط بها؛ فإنه يفعل ذلك بدافع الغيرة الشديدة على زوجته، وهذا قد يسبب لها ضيقًا ونفرًا من الزوج، كما أنَّه قد يُسيءُ إليها إساءةً بالغةً بين كل من يعرف ذلك من الناس.
• ليس من حقه:(/4)
الدكتورة عبلة الكحلاوي - الداعية الإسلامية المعروفة وأستاذة الشريعة الإسلامية بجامعة الأزهر - ترى أنه لا يجب على الزوجة أن تُصارح زوجها بهذه العلاقات طالما أنها كانت بعيدة عن المحرمات، لأنَّ هناك العديد من الأزواج لديهم وسواس قهري، فإذا ما صارحته بهذه العلاقات فقد يتربَّص بها عند كل مكالمة تليفونية، أو عند كل خروج من المنزل، فلا داعيَ لهذه المصارحة التي قد تكون سببًا في انهيار الأسرة، لأنَّ غالبية الأزواج ليست طبائعهم واحدة.. فقد يتقبل زوج الأمر، ولا يتقبل زوج آخر، والأمر كذلك بالنسبة للزوجة إزاء زوجها.
وتضيف: إن الأصل في هذه الأمور هو قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من أصاب من هذه القاذورات شيئًا فَسَتَرَهُ اللَّهُ فهو في ستر الله فلا يكشف ستر الله عليه".
والقاعدة الأساسية عِندَنا أنَّهُ من تاب تاب الله عليه، وأن الإنسان إن أقلع عن المعصية وندم عليها واستقام على الفضيلة وحاوَلَ أَنْ يجاهد نفسه في سبيل الله، فَمِنَ الخَيْرِ أن تكون صِلَتُه بالله غيرَ مفضوحةٍ للناس، ومن هنا فلا ينبغي لأحد أن يخوض في معاصيه السابقة ويكشفها للآخرين مهما كانت.
أما إذا استمرت الانحرافات خلال الحياة الزوجية فهذه نقطة أخرى لابد أن نتعامل معها بحزم، فلا يرضى عن الحياة مع زوجة منحرفة إلا رجل ديوث وهذا النوع من الرجال ملعون من الله عز وجل، ولا ترضى زوجة صالحة أن تعيش مع زوج منحرف، يمارس الرذيلة ويرتكب الفواحش؛ لأنه بذلك يكون قدوة سيئة لأبنائه.
• المصارحة.. أفضل:(/5)
أما الدكتور عبد العظيم المطعني - الأستاذ بجامعة الأزهر - فيعترض بشدة على كتم الفتاة لأسرارها لمن يتقدم لخطبتها ويقول: إخفاء الماضي غش بيّن، وخداع من طرف الفتاة، التي لابد أن تكشف كُلَّ الأمور قبل الزواج لخطيبها؛ لأن ما بني على باطل فهو باطل، فكيف يتزوَّج الرَّجُل من فتاةٍ على أنها بكر وإذا بها تكون فاقدة لعذريتها؟! بل تخدعه وتوهمه بأنه الرجل الأول في حياتها.
ويضيف: لذا يجب أن يكون الزوج على بينة بماضي زوجته حتى لا تستفحل الأمور.
ويستشهد الدكتور المطعني بواقعة حدثت في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب حين تقدَّم رجل لخطبة فتاة صغيرة، فصبغ شعره بصبغة سوداء حتى يبدو في سن الشباب، وعند اكتشاف الأمور مع مرور الأيام، كرهت الزوجة خداع زوجها وغشه لها، واشتكت إلى عمر ففرَّق بينهما.
ويتساءل الدكتور المطعني: كيف يمكن أن نقبل أن تخدع الفتاة مَنْ يتقدم لخطبتها وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: "من غشنا فليس منا"؟
• حملات توعية:
الدكتور عادل مدني - أستاذ ورئيس قسم الطب النفسي بجامعة الأزهر - يرى ضرورة تحرّي الحكمة في مثل هذه القضايا التي تمس سمعة الفتيات، وبالتالي سمعة أسرهن، ويقول: على الزوج ألا يبدأ حياته الزوجية بالبحث عن القضايا والأمور والخبايا التي قد تهدم سعادته الزوجية، وعلى الزوجين أنْ يعلما أنَّ الماضيَ ملك لكل شخص، والبحث فيه قد يزرع الشكوك والخلافات التي يصعب علاجها.
ويضيف: ولكنّي مع عدم الخداع والغش، فإذا كان هناك مشكلة تمس الشرف، أو عيبًا خلقيًا في الجسد، أو مرضًا موروثًا، أو ما شابه ذلك؛ فلابد هنا من المصارحة لإنقاذ الزيجة من البداية.
ويطالب الدكتور عادل مدني بحملة توعية للشباب؛ ليعرف كيف يحمي نفسه من مزالق الانحراف، ومن الإغراءات التي تحوم حوله من كافة الاتجاهات.(/6)
وينصح كل شاب ألا يعلّق المشانق للفتاة التي يتقدم للزواج منها إذا ما اكتشف أن لها علاقة سابقة، فليس من العدل أن يخطئ الرجل كما يشاء ولا يعتبر أن ذلك عيبٌ، وبالتالي لا يخفيه، معتقدًا أنه لا يستحق أن يُحاسَب عليه، في حين يتصيد الأخطاء لزوجته، لأن نتيجة ذلك غالبًا لا تُحمد عقباها.
وينبه الدكتور مدني الزوجات أيضًا إلى ضرورة تجنُّب مواضع الشبهات، خاصَّةً إذا كان الزوج من النوع الشَّكَّاك الذي يبحث دائمًا عن تجاوزات ليعاقبها عليها.
ويفسر زيادة الجرائم التي تُرتَكَب ضد السيدات - بسبب الشك في سلوكهن - إلى أن الرجل الشرقي - والعربي بالتحديد - أصبح كثير المغامرات والنزوات؛ لذلك فهو دائم الشك ويرفض أن يكون لشريكته علاقاتٌ قبل الزواج، بل يطلب منها أن تكون ملاكًا منذ مولدها إلى أن تموت، وأن تكون بلا أي خبرات، في حين يتباهى هو بأنه كان شيطانًا؛ فيحكي لها مغامراته، وأنه كان مطلوبًا ومرغوبًا من الجنس الآخر.
• العلاقات الرسمية فقط:
من جانبها تشدّد الدكتورة عزة كريم - أستاذة علم الاجتماع بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية - على الفتاة المقبلة على الزواج ألا تصارح المتقدم لخطبتها في البدايةثم تفسخ هذه الخطبة، فإن هذا الرجل الذي تركها سيكون على علم بأسرارها ولا يعلم أحدٌ ماذا سيفعل بهذه الأسرار، خاصَّةً إذا فَسخ خطبته وهو كاره لهذه الفتاة أو لأسرتها.
وتضيف: إذا كانت هذه العلاقات السابقة للزوجة أو للزوج علاقات رسمية - مثل عقد زواج أو خطبة - ثم فُسِخَت؛ فعلى الزوجة أن تُصارح زوجها أو خطيبها الجديد بها، لأن جميع الناس يعلمون بها، فإذا لم تُعلِم الفتاةُ زوجَها بذلك فربما يعلم من أناس آخرين، وقد يؤدي ذلك إلى وجود مشاكل داخل نطاق الأسرة لا يعلم مداها إلا الله تعالى.(/7)
وتشدّدُ الدكتورة عزَّة على أهمية المصارحة - بصفة عامة - بين الزوجين، وتقول إنها واجبة منذ البداية؛ حتى لا تتأثَّر العلاقة الزوجية بشيء من الوشايات، التي قد تأتي من الحاقدين، لكن المصارحة يجب أن تكون مقصورة على العلاقات الرسمية التي يعرفها الناس.
وتنصح الدكتورة عزة الأزواج بعدم الاكتراث بماضي الزوجة أو الاهتمام به، وتقول: حاسب زوجتك منذ عرفتها وارتبطت بها، وكذلك الأمر بالنسبة للزوجة، عليها ألا تحاسب زوجها عن ماضيه لأن فترة المراهقة لا تخلو في الغالب من علاقات تكون في معظمها وهمية.
وتتعجب الدكتورة عزة من الأزواج والزوجات الذين ينبشون في الماضي، وكأنهم يبحثون عن المتاعب وتعكير صفو الحياة الزوجية.(/8)
العنوان: هل هانت القدس في أعين المسلمين؟
رقم المقالة: 1006
صاحب المقالة: خباب بن مروان الحمد
-----------------------------------------
هل هانت القدس في أعين المسلمين بعد 70 عاماً؟
هناك كثيرٌ من أبناء هذه الأمَّة المسلمة ينظرون لهذه الاعتداءات الصهيونيَّة الآثمة على أرض الله المقدَّسة (المسجد الأقصى) ومدينةِ القدس بعين الأسى، ومن لم يتحشرج صدرُه، وتغرورق عيناه بالدموع، وهو يرى هذه الاعتداءات على هذه البقعة المقدَّسة من أرضنا المباركة (فلسطين)؛ فهو - مع الأسف - لم يحمل همَّ الأرض المقدَّسة.
ومن المؤكَّد أنَّ الحزن والأسى لا يفيدان شيئاً، ولا يقطعان دابراً لعدو، بل قد يورثان الهم والغم الذي يقعد بالمسلم عن العمل لهذا الدين.
غير أن المهم أن نستقريَ مقاصدَ اليهود العتاة ومآربَهم تُِجاه حَمَلاتهم المتتابعة والمتكرِّرة على مدينة القدس الشريف. ومن خلال الرصد والمتابعة لحال اليهود في هَجَمَاتهم المتتابعة على القدس الشريفة وأهلها يتأكَّد للمسلم أنَّ الإفسادَ في الأرض عادتٌهم؛ كما قال تعالى: {ويسعون في الأرض فساداً} [المائدة: 64] وهي عادة اليهود في كل زمان ومكان، بل لا يستحيون من تلك الأفعال، وهم يفعلونها أمام العالم بكل صراحة استخفافاً بالمسلمين وبحرماتهم ومقدَّساتهم، وإهانة لهذه المقدَّسات التي قلَّ من يغضب لها في زمننا المعاصر.(/1)
وهناك ملامحُ في الأفق؛ إذ إنَّ لدى الصهاينة خطَّةً مرسومة لتهويد القدس، فالتهديدُ الديموغرافي (السكاني) والعمراني بات واضحاً من قِبَلِ الصهاينة؛ إذ أعلنوا عن بناء أكثر من 20 ألف وحدة سكنيَّة موزعة على ثلاثة أحياء استعماريَّة (تخريبيَّة) جديدة، وكل هذا وراءَه دعمٌ صهيوني بما يقارب 6 مليارات (شيكل) لهذا الغرض، وفي هذا تهديد خطير للوجود الفلسطيني في الأراضي المقدَّسة، بل ومحاولة لتخويفهم من المد الصهيوني المتتابع، وذلك قد يؤدي إلى دفعهم نحو الخروج من القدس، وهذا أمر خطير يسعى اليهودُ بقدر الإمكان إلى القيام به لأجل أن يهاجر الفلسطينيون من أراضيهم المقدسة، وبهذا يتضحُ جزءٌ من المسلسل الصهيوني المتكامل للسيطرة وبسط النفوذ على القدس وتهويدها شيئاً فشيئاً.
ثمَّ إنَّ اليهود كلَّما رأوا مداً متنامياً ومتزايداً من الفصائل المقاتلة للكيان الصهيوني في غزَّة، سواء عن طريق قوَّتهم العسكريَّة التي تتزايد، أو من خلال استهدافهم للمستعمرات الصهيونيَّة، فإنَّهم بالمقابل يحاولون أن ينتقموا من أهالي الضفة، أو ينقلوا انتقامهم لعمل مستهجن كما يحدث الآن في المدينة المقدسة.
كما أنَّ اليهود كلَّما شعروا بتزايد انصراف القادة العرب خاصَّة؛ فإنَّهم يتابعون عملية التهويد والاستيطان والتخريب، والاغتصاب لمقدَّرات المسلمين في فلسطين، فكأن انصراف القادة السياسيين مجرِّئ لليهود على ركوب هذه الموجات العاتية الإفساديَّة في الأراضي المقدَّسة.
ومن خلال ما بان لنا من مآربِ الصهاينة تجاه مدينة القدس وأهلها، فإنَّ من المؤكد - وجوباً شرعياً وواقعياً - أن يكون لدى المسلمين وقفةٌ تجاه هذه الهجمات السيئة، فالأمَّة - إلى الآن - مقصِّرة في نصرة هذه القضيَّة.(/2)
صحيح أنَّه قد تكون هناك مواقفُ مباركة وطيبة من بعض العلماء أو المفكرين أو الإعلاميين وغيرهم، لكن الوضع يحتاج إلى الكثير والكثير من الجهود المدافعة، والأفعال المواجهة للعمليات التخريبيَّة التي يقوم بها الصهاينة، ونحن – إلى الآن - لم نلحظ توقفاً من الصهاينة عن عملهم الدؤوب لإضعاف الأسس التحتيَّة للأقصى، ولم نجدهم يرتدعون عن مساعيهم في تهويد القدس؛ ولأجل ذلك فإنَّ الجهود الإسلاميَّة يتحتَّم الزيادةُ في بذلها، وضخُّ كل قوى الطاقة البشريَّة المسلمة لنصرة هذه القضيَّة.
والأمَّة - إلى الآن - تتحرك بعواطفها، وليس من شك في أهميَّة وجود العاطفة لدى الأمَّة، ولكن العاطفة إن لم تكن مدروسة ومبنيَّة على أسسٍ وقواعدَ شرعيَّةٍ واستراتيجية، فسيكون مآلُها كفقاعة صابون أو بالونات تنتفخ شيئاً فشيئاً إلى أن نأنتنفجر، حتَّى يصح وصفُ كثير من تحركات أمَّتِنا بأنَّها (ظاهرة صوتيَّة)؛ إذ يتحمَّسون لقضيَّة معيَّنة، وخلال ثلاثة أيام تخبو جذوةُ الحماس وتنتهي!
الأمَّة جدير بها أن تعلم أنَّ ارتفاع أصواتنا بالهتافات والشعارات والمظاهرات؛ كلُّ ذلك محمود وَفق المصلحة والمقاصد الشرعيَّة، لكنَّها بحاجة إلى أن تعلم أنَّه من الخطأ، بل من الجرم الكبير أن تقف عند هذا الحد فحينئذٍ تخبو جذوتها شيئاً فشيئاً، حتَّى تكون قاعاً صفصفاً.
ولنأخذ مثالاً واضحاً في ذلك: فأين الأمَّة المسلمة وصيحاتها من مقاطعة بضائع المحتل الأمريكي والبريطاني؟ وهل حماستها لمقاطعة بضائع الدنمارك في هذا الوقت هو نفسه كما كان يوم سخونة الأحداث أم انخفض وتغيرت وتيرتُه؟ الجواب واضح! فهناك إذاً نوع من الخلل في تعامل الأمَّة المسلمة مع الأحداث الكبرى التي تمر بها.(/3)
فأمَّتنا - إلى الآن - تتحرك بغير قيادة موحدة، أو على الأقل لم ينسّق بعضها مع بعض، بل هناك أحياناً تضارب في الخطوات، والارتجال الذي إن نفع فإنَّ نفعه محدود، وهذا أمر غالب في التعامل مع قضايا الأمَّة.
الأمَّة تحتاج - في الحقيقة - إلى بثِّ روح الفاعليَّة، والابتعاد عن العشوائيَّة الانفعاليَّة، وتحتاج إلى أن تكون على قدر المواجهة، واستشعار روح المسؤوليَّة، وأن تعلم أن فلسطين ملك للمسلمين عموماً وليس لأهل فلسطين.
ليس ذلك تشاؤماً؛ لأن الاعترافَ بالحقيقة نصفُ العلاج، وذلك ليكون لنا خطوات مدروسة وأعمال مرسومة. وأرى أنَّ من أهم المهمات أن يعلم كلُّ فرد منَّا أنَّه عبد لله، وأنَّ الله خلقه لعبادته، ولم يخلقه عبثاً، وأنَّ كل عبد مسؤول بين يدي الله تعالى، وأنَّ المسلمين في هذه الحقبة الزمنيَّة يعيشون في معركة من أكبر المعارك التي يمرُّون بها في حَلَقات سِنِيهم، وكما يقول أحد الخبراء الاستراتيجيين: "لو لاحظنا معيار قوَّة الأمَّة المسلمة فسنجده في مقدَّساتها؛ فإن كانت مقدساتُها تحت أيدي المسلمين فإنَّ الأمَّة بخير، وإذا كانت مقدَّساتها أو واحد منها تحت يد العدو الكافر المحتل فلنعلم أنَّ الأمَّة مريضة، ويجب عليها فوراً أن تعالج مرضها".
والقدسُ ترزح تحت نِير الاحتلال الصهيوني منذ ما يقارب 70 سنة، وهي في كل يوم تشتكي من تصاعد الهجمات الإجراميَّة عليها وعلى أهلها المسلمين، وهي إلى الآن تحت قبضة الطاغوت الصهيوني المحتل، وينبغي أن يكون لدى المسلمين ذلك الحنانُ الديني الإسلامي على هذه الأرض عامَّة والقدس السليبة خاصَّة، وأن يكون لهم نِعْم الدور لاسترداد مجدها وعزها التليد.
كيف السكوت وفي الأقصى أرى عجباً زخُّ الرصاص على الأطفال ينهمر؟!(/4)
ومن أولى أولويات المسلمين في هذا الزمان أن يعلموا أنَّ واجبَهم نصرةُ هذه القضيَّة التي هي من أغلى قضاياهم المعاصرة، وألاَّ يظنَّ أحدُهم أنَّه إذا قام يوماً ما بدعاء الله تعالى، أو تبرع لنصرة إخوانه؛ أنَّه فعل كلَّ شيء، أو أنَّه فعله تفضلاً وتكرماً منه على هذه الأرض المباركة وأهلها؛ فالقدس للمسلمين.. جميع المسلمين، ولو تصورنا جدلاً أنَّ أهل فلسطين تخاذلوا عن نصرة هذه القضية الإسلاميَّة، فإنَّ المسلمين يجب عليهم أن يتحركوا لنصرة هذه الأرض، حيث إنَّها احتُلت من قِبَلِ يهودي غازٍ ظالم سافك للدماء، مغتصب للأراضي والأعراض، فليس الحلُّ أمامه إلا الجلاد والجهاد، وما دامت أرضُ فلسطين باقية تحت الاحتلال فإنَّ المسلمين ينالهم الإثمُ بسبب تقصيرهم في نصرة هذه الأرض المباركة، وكل على قدر مسؤوليته وطاقته، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، ومن قام بنصرة هذه القضيَّة فإنَّ الله - تعالى - سيرفع ذكره في الدنيا، ويجزل له الأجر والمثوبة في الآخرة، وإن لم يقم بنصرة هذه الأرض فإنَّه متوعَّد بالإثم والعقوبة من عند الله، ومع الأسف! إنَّ غالب المسلمين اليوم غافلون أو متغافلون عن نصرة هذه الأرض، وهو أمر ينبغي ألاَّ يكون المسلمون عليه بتاتاً، فهذه هي الحقيقة، ولنكن صرحاء ولا نغالط الحقائق أو أن نسبح في القاع، ظانين أنَّنا حينها قد استخفينا عن الوجود، وصرنا بلا وجود.
نعم ليس مِن كاشف لمآزقنا إلاَّ الله، ولن نشك قِيدَ أَنْمَلة بأنَّ الله ناصر المستضعفين، ونحن المسلمين وإن كنَّا بإمكانيات ضعيفة، ونعلم أنَّ عدونا يمتلك أدوات متقدمة لا تمنحنا فرصة فرض الحلول، إلا أنه ينبغي على الأقل أن يكون لنا موقف عملي في ذلك، ومنه ما يلي:
1- تقوى الله أولاً ومراقبته، واستشعار التقصير في حق قدسنا وأراضينا وأهلنا في فلسطين.(/5)
2- التعريف بالقضيَّة الفلسطينيَّة والتأكيد على إسلاميَّتها، وأنَّ أرض فلسطين إسلاميَّة، وأنَّ صراعنا مع اليهود صراع عَقَدي إسلامي، ومعركة دين واعتقاد، كما أنَّ صراعنا معهم لأنَّهم احتلُّوا أرضَنا، فنحن نجاهدهم جهادَ الدفع حتى يخرجوا من أراضينا ولا يبقوا مغتصبين لشبر منها، كما أنَّ اليهود أنفسهم يَعُدون صراعهم معنا صراعاً عقدياً، ولهم عقيدة في الوعد بفلسطين، ومن أفضل من كتب عنها وفصَّلها وعرضها ناقداً لها، الأستاذ (محمد بن علي آل عمر) في كتابه: (عقيدة اليهود في الوعد بفلسطين: عرض ونقد).
3- رسم استراتيجية في كل بلد من قادة العمل الإسلامي، ومحاولة دراسة أنفع وأنجع الحلول في مواجهة جرائم الكيان الصهيوني، كلٌ حسب استطاعته وقدرته.
4- الاهتمام بالدعاء، والعمل بـ(قنوت النوازل) لتكون هناك ظاهرةٌ شرعيَّة في الرفض لتلك التحركات الصهيونيَّة الآثمة، ودعاء الله – تعالى - قضيَّة شرعيَّة يجدر بنا ألاَّ ننساها أو نغفُل عنها البتة، وألاَّ نستعجل إجابة الدعاء في أن نرى النصر بسرعة ومباشرة؛ ولو تأمَّلنا في قصَّة موسى - عليه السلام - ودعوته لفرعون وقومه، حين لم يستجيبوا بل آذوه جاءت النصوص أنَّ كليم الله موسى - عليه الصلاة والسلام - قال عن كفرة بني إسرائيل: {ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم} [يونس: 88] وبعدها جاء الخطاب من الله تعالى له ولأخيه هارون عليهما السلام: {قال قد أجيبت دعوتكما} [يونس: 89] فقد ذكر بعض المفسرين نقلاً عن مجاهد وكذلك ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - أنَّهما قالا: لقد جلس فرعون بعد دعوة موسى تلك أربعين سنة، ثمَّ استجاب الله الدعاء فقال: (قد أجيبت دعوتكما)!(/6)
وليس القصد من هذا التحديد أنَّ النصر يكون بعد أربعين عاماً، غير أنَّ طلب الدعاء من الله تعالى والإلحاح عليه في ذلك، وعدم استعجال الإجابة، سيقود إلى استجابة الله تعالى، بعد بذل الجهد في الدعاء والمناجاة لرب الأرض والسماء، مع أنَّ قارئ الآية يظن أنَّ الله استجاب دعوة موسى مباشرة بعد أن طلب منه أن ينتقم من كفرة بني إسرائيل، ولكن النواميس الكونيَّة أخذت مجراها ووقتها، إلى أن استجاب الله الدعاء وحقَّ الإزهاق للقوم الكافرين.
5- من المهم جداً للذين يعيشون في أراضي (48) أن يلتفوا حول قادة الحركة الإسلاميَّة، وأن يكون لهم دور فاعل في كبح جماح تلك المخطَّطات الصهيونيَّة ولو بالرفض.
6- تصاعد العمل الجهادي والبطولي في فلسطين سيثير خوف الصهاينة، وسيكون بهذا الفعل إيجاعاً للعدو لثَنْيِه عن بعض تصرفاته، وقد يؤدي إلى توقيف أعمالهم ولو مؤقتاً، وهذا مكسب لنا، بوصفنا أمَّة لا ترضى أن تقابل الله – تعالى - بالهوان والذل وعدم فعل أي شيء يدفع كيد الكائدين، والله تعالى يقول: {ولا يطؤون موطئاً يغيط الكفَّار ولا ينالون من عدو نيلاً إلاَّ كتب لهم به عمل صالح} [التوبة: 120].
7- وسائل الإعلام لها دورها الأكيد في تجلية الحقائق وعدم تغطيتها، بل ينبغي أن تكون الساعد الرئيس في نصرة المقدَّسات الإسلاميَّة؛ لأنَّ هذه ثوابت من المهم أن يقوم بها الإعلاميُّون والصحافيون خير قيام.
8- فضح المخطَّطات الصهيونيَّة تجاه منطقة القدس، وإبراز خططهم الاستراتيجية القائمة في ذلك، ومناقشة ادِّعاءاتهم بالروح الشرعيَّة والعقليَّة، وخطأ تصوراتهم المزعومة بأنَّ لهم الإرث التاريخي في هذه الأرض.(/7)
9- دعم الفلسطينين داخل منطقة القدس، ومحاولة التأكيد على ثباتهم هناك، وعدم الهجرة أو الخروج من تلك الأرض المقدَّسة، بل يتأكَّد بالمقابل زيادة النسل وتكثيره، والتشجيع على الزواج، وفي هذا مباهاة من رسول الله للأمم يوم القيامة، وإغاظة لأعداء الدين بكثرة تَعدادهم وعدم تأثرهم بالوضع الجاري في عمليَّة التهويد.
10- دعم جميع المؤسسات الفلسطينية داخل منطقة القدس بكل أنواع الدعم، ووضع آلية خاصة لمساعدة الفلسطينيين الذين يواجهون خطر الترحيل أو ما يسمى سحب الهويات تحت طائلة الضرائب.
11- على الدعاة والعلماء والسياسيين المهتمين بمصلحة أمَّتهم ودينهم التحذير من مكر اليهود وخبثهم وأساليبهم في التعامل بكيد مع قضيَّتنا في فلسطين المسلمة، وعقد المجالس والمحاضرات لبيان هذا الخطر.
12- ضرورة الحفاظ على حالة العداء مع ذاك الكيان الغاصب بالوقوف ضد أي مساعٍ تدعو إلى التطبيع معه، أو التصالح الدائم.
13- سعي الفلسطينيين - من الأثرياء والأغنياء خارج فلسطين - لخدمة إخوانهم في الداخل، وتسهيل أمورهم ومصالحهم، وتقديم المساعدات المالية للمنكوبين منهم، وكفالة أيتامهم وأراملهم، والسعي على حاجات الثكالى، فإنَّ وجوب نصرة الفلسطينيين بعضهم لبعض أمر واجب، وكما يقال: الأقربون أولى بالمعروف، وإذا كان أهل فلسطين ممَّن يعيشون في خارجها مقصِّرين في حقوق إخوانهم داخل هذه الأراضي؛ فكيف سيكون نظر الشعوب الأخرى لهؤلاء الفلسطينين الذين يعيشون خارج فلسطين، وهم غير مهتمين بأوضاع إخوانهم في هذه الأراضي المباركة؟!
كما أنَّه من المهم أن يقوم المخلصون لهذه القضيَّة بتربية الشباب الفلسطيني المسلم في خارج فلسطين ليتحملوا مسئوليتهم تجاه قضية فلسطين.(/8)
14- التأكيد من علماء فلسطين ودعاتها الأخيار على تثبيت وجود الفلسطينيين في أراضيهم، واحتساب أجر الرباط في سبيل الله، وتبيين خطورة الهجرة من فلسطين، بسبب الحصار الاقتصادي، وترك هذه الأرض على الإطلاق، فإنَّ هذا الأمر من أمنيات اليهود ومقاصدهم الخبيثة لتهجير الفلسطينيين من بلادهم.
15- بيان عمالة العملاء وخيانة المنافقين، وتبيين سبلهم في ذلك وطرقهم، وفضحهم بعد التثبُّت من ذلك على رؤوس الأشهاد، ليهلِك من هلك عن بيِّنة ويحيا من حيَّ عن بينة، كما أنَّ من المهم معرفة عامة الشعب الفلسطيني الطرقَ الخفيَّة التي يستخدمها اليهودُ لتجنيد بعض المهزوزين ليقوموا بالعمالة لهم وخدمتهم.
16- خطورة عمل الفلسطينيين في المغتصبات أو ما يسميها اليهود المستوطنات اليهوديَّة، وأنَّ عمل العمَّال الفلسطينيين في منشآت اليهود، يعني زيادة تثبيت وجودهم على هذه الأرض المقدَّسة، وهم ظلمة في اغتصابهم لأراضينا، وليس لهم حق بأن نسعى لبناء بيوتهم أو خدمتهم، هذا عدا محاولات اليهود لمن يعمل معهم من الفلسطينيين بإسقاطهم في الفساد الأخلاقي، أو الخيانة لدينهم وأرضهم.
17- من المهم ألاَّ يجد اليأسُ طريقاً للوصول لأنفسنا وقلوبنا، فإنَّه علامة الانهيار النفسي، وعدم مواصلة واستكمال الجهد والجهاد في طرد المحتل، وإثارة روح التفاؤل بدلا من ذلك، والاستبشار بقرب نصر المسلمين على اليهود، وأنَّ كثرة هجراتهم إلى أرض فلسطين لا يعني سوى أن يقعوا في أتون المحرقة التي تنتظرهم، بل إنَّ كثيراً من اليهود يعلم ذلك جيداً.
18- ذكر هذه القضيَّة في المجامع، ونشرها في أوساط الناس، واستضافة الخبراء بها، ليتحدَّثوا عن هموم هذه الأرض المقدسَّة وهموم أهلها.(/9)
وكلَّما قرأتُ في سيرة الشيخ المجاهد عبد الله عزَّام - رحمه الله - ينالني العجب من هذا الرجل أيَّما عجب؛ فلقد أقسم على نفسه ما من جلسة يجلس فيها إلاَّ ويتحدَّث فيها عن أحوال المجاهدين الأفغان وقتالهم للمحتل الشيوعي السوفييتي، ووجوب دعمهم، والاهتمام بقضيَّتهم، ومعلوم كيف أثمرت جَلَساتُه وأحاديثه حباً ونصرة لهذه القضيَّة.
لقد علَّمنا رسول الله - صلى الله عليه وسلَّم - أنَّ (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً)، وشبَّك بين أصابعه، وبيَّن لنا - صلى الله عليه وسلم - أنَّ (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ولا يخذله ولا يحقره)، وقال - عليه الصلاة والسلام -: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر). وكل هذه الأحاديث من الجدير بنا أن ننشرها بين الناس، وأن يحفظها الجيل إثر الجيل ليكون حاملاً لقضيته، رافعاً للواء نصرة دين الله، حتَّى لا يلقى الله بلا همٍّ يحمله تجاه قضيَّة من قضايا الإسلام والمسلمين.(/10)
وأختتم المقالَ بالتذكير بقصَّة القائد البطل، صلاح الدين الأيوبي - رحمه الله - الذي تحنُّ القدس لجهاده العظيم، حين حرَّرها من أيدي الصليبيين، وتأمُل في الجيل القادم أن يكون له الدور المأمول في فك أسرها من قيد الاحتلال الصهيوني، ؛ فقد ذكر المترجمون لصلاح الدين - ومنهم القاضي ابنُ شدَّاد - أنَّ صلاح الدين كان يبكي كلَّما تذكر ذلَّ المسلمين تحت حكم الصليب في القدس والسواحل، وحين أراد أن يفتح مدينة القدس كان لا يطيق النوم ولا يبتسم، ولا يأكل إلاَّ بعد اليوم واليومين بسبب التفكير الطويل في السبيل لتحرير هذه الأرض المقدَّسة، وكان ينظر إلى عكَّا من مكان بعيد ثمَّ يطلق زفرة ألم يعتلج في قلبه، وكان يلتفت كالأم الثكلى التي فقدت وليدها في وجوه قادته ذات اليمين وذات الشمال، ثمَّ يقول: يا للإسلام! يا للإسلام! ثمَّ يقوم بنفسه على صهوة جواده، ينتقل من بلد إلى بلد، ومن مملكة إلى مملكة، يجمع الرجال بنفسه، ويجهز السلاح، ويعد للقتال.
يقول القاضي ابن شدَّاد: إنِّي أراه وهو ينظر إلى الأساطيل الصليبية وأنا أَعُدُّها أمامه من صلاة العصر إلى غروب الشمس أسطولاً أسطولاً، وقد رُفع عليها الصليب فبلغت أكثر من إحدى وسبعين مركبة، عليها الرجال مدجَّجين بالحديد، يرفعون الصلبان والأناجيل، ومع ذلك فإنَّ صلاح الدين كان لا يزداد إلاَّ قوَّة نفس، وأملاً كبيراً في استرداد الأرض المحتلة من غاصبيها؛ مع قوَّتهم وضعف المسلمين آنذاك، ولكن:
وقلَّ من جد في أمر يحاوله واستصحب الصبر إلاَّ فاز بالظَّفَرِ
وكان - رحمه الله - يعبئ الصفوف، ويجند الجنود، ولم يصلِّ على ولده عندما مات صلاة الجنازة؛ لأنَّ المسجد الأقصى أحقُّ من ولده؛ لأنَّه في يد الصليبيين وقد ذبحوا فيه أكثر من سبعين ألف مسلم، وهذا أحرى بالاهتمام منه بولده.(/11)
تلك هي النفس العصاميَّة، وهي النفس التي كانت لا تطيق أن ترى الذل والهوان والهزيمة وقت حياتها، إنَّها النفس العصاميَّة المسلمة وكفى.
نفسُ عصامٍ سَوَّدت عصاما وعلَّمته الكرَّ والإقداما
وجعلته ملكا هماما
تلك هي نفحة من سيرة صلاح الدين، الذي كان يحمل الهمَّ، ويصبو لتحقيق الهدف، فأكرَمَ الله مقلتيه ليرى أبواب القدس تفتح ذراعيها له، وتحتضنه هو وجيشه المغوار، الذي غار على القدس أن يدوسها عُبَّاد الصليب، فهل نستفيد من سيرة صلاح الدين في تحريره بيتَ المقدس؛ وأنَّ تحريره لهذه الأرض سبقها بأعمال جسيمة علمياً وسياسياً؛ حين وحد مصر والشام، ثم انطلق بهم موحِّدين مؤمنين نحو جهاد الصليبيين؟
ولنعلم أنَّه لو كان المسلمون في ضعف، فإنَّه يمكنُهم أن يستردوا مجدَهم متى وُجدت الإرادة والعقيدة والقيادة الراشدة والجند الصادقون المخلصون لدينهم وقضيَّتهم، فإذا حصل هذا فلنستبشر بأن يعز الله - تعالى - دينه ويرفع رايته على يد ولي من أوليائه الصادقين، وجنده الميامين.
وأمَّا زمننا هذا فللمرء أن يتساءل: هل هانت القدسُ في أعين قادة ورؤساء المسلمين في هذا الزمان؟ فأين أموالهم، وأين قواهم، ليستخدموها أداة لحماية أهل فلسطين؟! أم انعدمت الغيرة من قلوبهم على هذه الأرض المقدَّسة؟
وإذا هانت القدس في أعينهم، فهل تهون القدس في أعين القيادات المسلمة المقصِّرة إلى الآن في هذه الأرض المقدَّسة؟
فالله المستعان، ولا حول ولا قوَّة إلاَّ به، وحسبنا الله ونعم الوكيل!
ولله درُّ الشاعر إذ يقول:
يا أمّتي إن قسوتُ اليوم معذرةً فإن كَفِّيَ في النيران تلتهبُ
فَكَمْ يَحُزُّ بقلبي أن أرى أُمَمَاً طارتْ إلى المجد والعُرْبانُ قد رَسَبُوا!
ونحنُ كنا بهذا الكون أَلْوِيَةً ونحن كنا لِعِزِّ الشَمْسِ نَنْتَسِبُ
مَهْمَا دَجَا الليلُ فالتاريخُ أَنْبَأَني أنَّ النهارَ بَأَحْشَاءِ الدُّجى يَثِبُ(/12)
إني لأَسْمَعُ وَقْعَ الخيلِ في أُذُني وأُبْصِرُ الزمنَ الموعودَ يقتربُ
وفِتْيَةً في رياضِ الذِّكرِ مَرْتَعُهُمْ للهِ ما جَمَعوا، للهِ ما وَهَبوا
جاؤوا على قَدَرٍ واللهُ يَحْرُسُهمْ وشِرْعَةُ اللهِ نِعْمَ الغَايُ والنَّسَبُ
وصدق الله إذ يقول: {ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيراً لهم وأشدَّ تثبيتاً * وإذاً لآتيناهم من لدنَّا أجراً عظيماً * ولهديناهم صراطاً مستقيماً} [النساء: 66-67].(/13)
العنوان: هل يحرقُ بوش ورقةَ المالكي في العراق؟
رقم المقالة: 1321
صاحب المقالة: فايز السيد علي
-----------------------------------------
ليس من قبيل الصدفة أن تنشر وكالةُ الاستخبارات الأمريكية تقريرَها حول الحكومة العراقية وقوات الأمن الحكومية متزامنةً مع الموقف الجديد المعلَن للرئيس الأمريكي (جورج بوش) من رئيس الوزراء العراقي (نوري المالكي)، ذلك الموقف الذي يشير إلى بداية سحب الثقة الأمريكية من السياسي العراقي، الذي لم يشهد العراق -في ظل حكومته- إلا مزيداً من الخراب والدمار، ومزيداً من القتل الطائفي المسيّس ضد المسلمين من السنة.
التقريرُ الذي جاء بعد إجراء دراسة أمريكية للأوضاع السياسية والعسكرية في العراق، أكد أن الحكومة العراقية ستكون في خطر حقيقي خلال الستة إلى الاثني عشر شهراً المقبلة، كما أن القوات العراقية لم تتحسن بالشكل المطلوب لتسلّم زمام الأمور الأمنية في العراق دون مساعدات خارجية.
وقال التقرير الأمريكي الذي نشرته وكالة (الأسوشيتدبرس) مساء الخميس 23 من أغسطس: "إنه؛ وعلى الرغم من التحسّن المتفاوت حول الأمور الأمنية في العراق -حسب زعم التقرير- إلا أن مستوى العنف لا يزال مرتفعاً هناك، ولا يزال العراق يرزح تحت نير الاضطرابات الطائفية، ولا يزال تنظيم القاعدة قادراً على تنفيذ المزيد من الهجمات الشديدة هناك، في حين لا يزال الحكام يقومون بعملهم بلا فاعلية".(/1)
بطبيعة الحال لا يمكن فصلُ التقرير الاستخباراتي الجديد -الذي شارك في إعداده 16 جهازَ استخبارات أمريكيا بما فيهم وكالة الاستخبارات المركزية واستخبارات وزارة الدفاع- عن الموقف الأمريكي الآخذ في الظهور أكثر فأكثر من حكومة نور المالكي، يزيد من وضوحه موقفُ المرشحة للرئاسة الأمريكية الأوفر حظاً (هيلاري كلينتون)، والتي عبرت عن موقفها المعادي للحكومة العراقية بإشارتها إلى أنّ على العراقيين إسقاطَ حكومة المالكي التي لم تعد تجدي نفعاً.
توقعات إعلامية:
قبل إعلان التقرير الاستخباراتي الجديد، الذي جاء في 10 صفحات، نشرت الصحفُ الأمريكية والبريطانية تقاريرَ تحليلية حول الشرخ الذي بدا واضحاً بين البيت الأبيض وحكومة المالكي؛ دفعت صحيفة (الإندبندنت) البريطانية لنشر تقرير يوم الأربعاء 22 من أغسطس، تحت عنوان "بوش يدير ظهره للحكومة العراقية"، قالت فيه: "إن الرئيس الأمريكي أعلن عدم رضاه عن أداء نوري المالكي، لكنه أيضاً أشار بوضوح إلى أن هذا الأمر هو بيد الشعب العراقي ليقرر ما إذا كان يريد الاستمرار بدعم هذه الحكومة". وهي إشارة واضحة إلى أن الأمر لو كان بيد بوش، لعزله، ولكن الأمر بيد الشعب العراقي.. حسب ادعاءاته.
وإن كان أمر دعم بوش للمالكي وصولاً إلى وضعه على سلم الحكومة العراقية لا يخفى على أحد، فإن الموقف الجديد لبوش وإدارته ضد المالكي لم يعد خافياً على أحد أيضاً، إذ نشرت صحيفة الإندبندنت -في اليوم نفسه- مادة رأي عن الموقف الأمريكي الجديد، انتقدت فيه السياسة الأمريكية في العراق، خاصة تلك المتعلقة بالموقف من الحكومة، مشيرة إلى التوصية التي أعلنها كارل ليفين (رئيس لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ الأمريكي)، حول ضرورة تغيير الحكومة العراقية من قبل البرلمان العراقي. مع العلم أن هذه التوصية جاءت بعد زيارة قام بها (ليفين) إلى كل من العراق والأردن.(/2)
بعض الصحف والوسائل الإعلامية رأت في الموقف الأمريكي من المالكي، محاولةً من قبل بوش لكسب المزيد من الوقت، في وقت تتزايد فيه الانتقادات الداخلية ضد حرب العراق، وفي وقت تزداد فيه المقارنات ما بين حرب العراق وفيتنام.
على سبيل المثال، نشرت صحيفة التايمز البريطانية يوم الخميس ، 23 أغسطس تقريراً تناول الموازنة ما بين حرب العراق وفيتنام.
وحول هذا الموضوع كتبت صحيفة الديلي تلغراف يوم الأربعاء 22 أغسطس تقول: "إن بوش يبدو وكأنه يريد الحصول على المزيد من الوقت من خلال تسليط ضوء النقاش على إمكانية إجراء تغيير سياسي داخلي داخل العراق"!.
ولمزيد من الوضوح للموقف الأمريكي الجديد من المالكي، قال ريان كروكر (السفير الأمريكي في بغداد): "إن المالكي أخفق في إطلاق عملية مصالحة سياسية داخل البلاد" مؤكداً أن الحكومة العراقية تتعامل مع الكثير من القضايا الحساسة في ذات الوقت، وأن المالكي وأربع سياسيين عراقيين يجتمعون يومياً لمحاولة التوصل لتكوين حكومة وحدة وطنية. وأضاف في تصريح لاحق بالقول: "إن التقدم الذي أحرزه الزعماء العراقيون في سبيل الوصول للمصالحة الوطنية كان محبطاً جداً"، مهدداً المالكي بالقول: "إن دعمنا لحكومة المالكي ليست شيكاً على بياض"!!.(/3)
البعض يذهب إلى أنّ انسحاب الكتلة السنية من الحكومة العراقية أفقدت الحكومة توازنها الأخير، والذي لم يشهد التوازن كثيراً، في ظل تسلم الشيعة المناصب السيادية فيها. خاصة وأن الأنباء التي سربتها جهات من داخل الحكومة قبل أيام، تشير إلى قرب التوصل لتكوين أكثرية نيابية في البرلمان، عبر تحالف شيعي كردي، قد يقصي السنة عن العملية السياسية الفاعلة هناك. وبطبيعة الحال فإن الأمريكيين لا يهمهم إن كان السنة سيكون لهم دور فاعل سياسياً أو لا، ولكنهم مرغمون على ذلك، فالغالبية العظمى من المقاومة العراقية هي مقاومة سنية، والضربات الأكثر إيلاماً للأمريكيين هناك تأتي من قبل المقاومة السنية ذات الفصائل المتعددة.
لذلك، تجد الولايات المتحدة نفسها مرغمة على ترتيب العراق سياسياً بما يضمن حصول السنة على القدر المعقول من المقاعد الحكومية، أملاً في التوصل لتسوية سياسية وربما أمنية، تقلل من العنف داخل العراق إلى القدر الكافي لانسحاب الأمريكيين. خاصة في ظل الإعلان الأمريكي عن سحب قوات من العراق في منتصف شهر سبتمبر المقبل، وإعلان هيلاري كلينتون عن نيتها سحب قوات أمريكية من العراق في حال فوزها في الانتخابات الرئاسية المقبلة بعد عام ونصف تقريباً.
التقرير الاستخباراتي:
وجد التقرير الاستخباراتي الجديد حول العراق أصداءً فورية من قبل السياسيين الأمريكيين، من بينهم التصريح الذي أطلقه هاري ريد (زعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ)، والذي قال فيه: "إن التقرير يؤكد ما سبق قوله من أن معظم الأمريكيين يعرفون أن قواتنا غارقة في حرب أهلية عراقية، في حين يعمل الرئيس بوش على استراتيجية لم تؤد إلى نتائج سياسية" مؤكداً أن بوش لا يزال متمسكاً بتلك الاستراتيجية التي يعيبها عليه منتقدوه، وأن أمريكا ليست آمنة بالقدر الذي يدعيه بوش، على خلفية تلك الاستراتيجية.(/4)
وإن كان التقرير يفيد توجهات بوش من جهة، إلا أنه يعبر من جهة أخرى عن أن الوجود الأمريكي في العراق ليس دفاعاً عن أمريكا، كما يزعم بوش مراراً، ولكنه وجود في بلد يرزح تحت الفتنة الطائفية.
ولا يُخفي التقرير الاستخباراتي عن العراق، عدمَ أهلية قوات الأمن العراقية في مواجهة المقاومة المنتشرة في كل مكان، وعلى تسلم زمام الأمور في كثير من المدن والبلدات العراقية؛ إذ يقول: "إن قوات الأمن العراقية تعمل جنباً إلى جنب مع القوات الأمريكية، وقد أنجزت التدريب بشكل جيد، ولكنها لا تكفي لتنفيذ سير العمليات الأمنية دون مساعدة الولايات المتحدة أو قوات التحالف".
وفي حين تبدو نتائجُ التقرير الأمريكي الجديد وسيلةً إيجابية أمام سياسة بوش التي تطالب بإبقاء القوات الأمريكية لمزيد من الوقت في العراق، إلا أنها تزيد الضغط على بوش، الذي وصلت شعبيته إلى مستويات متدنية جداً بسبب موقفه من العراق، لذلك فمن غير المستبعد أن يضغط باتجاه إحداث حكومة جديدة في العراق، بعد أن فقدت حكومة المالكي حتى الدعم الشيعي الكافي لبقائها، أو على الأقل هذا ما يقوله التقرير الاستخباراتي الجديد، والذي جاء فيه -حسب ما ذكرت الأسوشيتدبرس- أن الأشهر القادمة سوف تشهد المزيد من الخطورة ضد الحكومة الحالية، بسبب تزايد الانتقادات من قبل أعضاء الأحزاب الشيعية العراقية، وكذلك تزايد الانتقادات السنية والكردية.
ويشكك التقرير في قدرة المالكي على الوصول إلى تسوية سياسية تعزز الوحدة الوطنية، وتلغي الانقسامات الطائفية، على الأقل في الحكومة!
إلا أن التقرير يعترف بأن البديل سيكون شيعياً أيضاً، إذ يقول: "إن التقييم يشير إلى أن المالكي سوف يواصل الاستفادة من القادة الشيعة، في البحث عن بديل للحكومة"!
تراجع أو فرصة أخيرة:(/5)
توقعت بعض المصادر السياسية أن يبدي بوش بعض اللين تجاه المالكي وحكومته، حتى وإن كان لا يؤيد بقاءها في السلطة، على الأقل كي لا يبدو بصورته الحقيقية التي تقول: "إنه يدير دفة السلطة هناك كما يشاء"، لذلك فقد توقع جوردون جوندرو (الناطق باسم مجلس الأمن القومي الأمريكي) أن يتراجع بوش عن تصريحاته، ويعلن دعمه للمالكي.
وتنقل وكالة الأسوشيتدبرس عن جوندرو قوله: "إنه وبسبب التغطية الإعلامية الكثيفة لتصريحات بوش ضد المالكي، فإن بوش قد يجدد تأييده لرئيس الحكومة العراقي".
وهو ما حدث بالفعل مساء الخميس، إذ اغتنم بوش حضوره لمؤتمر المحاربين القدامى في مدينة كنساس سيتي، ليقول: "إن المالكي رجل جيد، وهو يقوم بمهمة صعبة، وأنا أؤيده". ولمحاولة الاستمرار في ادعاء أن ما يحدث في العراق هو عملية ديمقراطية، تابع بوش بالقول: "إن الأمر يرجع للشعب العراقي فيما إذا كان يرغب في استمرار المالكي في منصبه أو لا"!!
ربما وصل الحال ببوش إلى حد التململ الكافي من رئيس الحكومة الشيعي، الذي لم يستطع أن ينجز أيًّا من الوعود السابقة، حول الوصول بالبلاد إلى دائرة السلم والمصالحة. فعلى العكس، لا يزال المالكي يدعم القوات الميليشية الشيعية، وحدثت خلال حكمه فضائح وفضائع كبيرة بحق المسلمين من السنة، خاصة تلك التي وقعت في الجامعات، والاحتجاز والتعذيب في المراكز الحكومية التابعة لميليشيات بدر، وتعذيب وقتل الفلسطينيين، وتهجير أهل السنة من بعض مناطق العاصمة بغداد، ونشر جدار عازل حول أهل السنة في الأعظمية، وغيرها.
فهل يحرق بوش ورقة المالكي خلال الأشهر القليلة القادمة؟ سؤال لا يعدو أن يكون محاولة لمعرفة كيفية إقالة رئيس حكومة سقط عراقياً وأمريكياً، أو لانتظار عرض المشهد الأخير له سياسياً على الساحة العراقية المتصدعة!(/6)
العنوان: هل يدخل الحجاب إلى القصر الرئاسي في تركيا؟!
رقم المقالة: 732
صاحب المقالة: معمر الخليل
-----------------------------------------
تتميز العديد من المتناقضات في المجتمعات البشرية عندما تصبح على محك الرأي الشعبي، أو بتعبير آخر: "الانتخابات"؛ ذلك أن هذه الانتخابات ستقرر ما يمكن أن يكون مستمراً، أو متغيراً.
يمكن القول: إن الكثير من الانتخابات السابقة حددت سياسات واستراتيجيات ونظماً.. على سبيل المثال: إن الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة كانت تمثّل مفترق طرق لسياسة آرييل شارون (شبه الميت)، بعد أن انسحب من حزب الليكود، وأسس حزباً جديداً اسمه (كاديما)، وكانت الخيارات أمام الإسرائيليين: إما سياسة شارون المعتدلة (على تطرفها!)، أو سياسة بنيامين نتنياهو (المتطرفة جداً)، أو سياسة حزب العمل المتنازلة.
في الولايات المتحدة؛ كانت الانتخابات الرئاسية الأخيرة مفترق طرق، ليس للرئيس الحالي جورج بوش، أو المرشح الانتخابي جيم كيري؛: بل لعدد من السياسات، على رأسها ما يعرف باسم: (مكافحة الإرهاب)، وكذلك احتلال العراق.. وحين أعطى الأمريكيون الفرصة تلو الأخرى لبوش؛ قرروا - خلال الانتخابات التشريعية الأخيرة - الانتقام منه لتأرجحه السلبي في العراق، لذلك انتخبوا أغلبية ديمقراطية في الكونغرس.
وفي إسبانيا - كمثال أيضاً - كان أمام الناخبين أحد قرارين: إما التصويت لخوسيه ماريا أزنار (الذي دعم الاحتلال الأمريكي البريطاني للعراق)، أو خوسيه ماثابيرو (الذي كان مصراً على سحب الجنود الإسبان من العراق)، فصوّت الإسبان صبيحة تفجيرات مارس الشهيرة، ضد أزنار، أو بالتحديد ضد قضية استمرار الوجود الإسباني غير المشرف في العراق.
الأمثلة كثيرة وعديدة.. يحدث آخرها اليوم في تركيا.
عبدالله غول في المواجهة:(/1)
قرر رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان - أخيراً - عدم قبوله الترشح للانتخابات الرئاسية القادمة في تركيا، وبدلاً من ذلك؛ قرر فسح المجال أمام وزير خارجيته عبدالله غول لدخول هذا المضمار، بعد تردد استمر عدة أيام.
ولا يبدو أردوغان أنه قد ابتعد كثيراً عن المواجهة مع الدولة العلمانية؛ فهو من جهة، قدّم أحد أكبر معاونيه من الحزب ذاته لهذا المنصب، فيما قرر هو الاحتفاظ برئاسة الحكومة التركية، وهو ما سيجعل تركيا - في حال جرت الأمور دون حدوث مفاجآت - تشهد اعتلاء أول مسلم لمنصب الرئاسة، فضلاً عن رئاسة الحكومة.
كلا الاثنين - أردوغان وغول - يأملان أن تنتهي الطريق بمرشح حزب العدالة والتنمية إلى القصر الرئاسي دون حدوث مشكلات كبيرة تؤدي إلى تدخل الجيش العلماني ضده، خاصة أن تركيا اشتهرت بتدخل الجيش ضد أي مسعى إسلامي لتولي مناصب رفيعة، ليس في القصر الرئاسي؛ بل في الحكومة ذاتها، وهو ما حدث أربع مرات خلال تاريخ الدولة التركية العلمانية، كان أولها وأقساها الانقلاب العسكري في 27 مايو 1960م، عندما انقلب الجيش ضد حكومة عدنان مندريس، الذي اتهم بفسح المجال أمام القوى الدينية للعمل بحرية، بعد منعها منعاً باتاً من قبل الحكومة العلمانية السابقة، رغم أن مندريس نفسه لم يكن إسلامياً!
أما الانقلاب الثاني فحدث في مارس 1971م، فيما وقع الثالث في سبتمبر 1980م، وأسفر عن تفرّد قائد الانقلاب العسكري كنعان أيفرين بحكم البلاد مدة 7 سنوات، صاغ خلالها دستوراً أكثر علمانية، ضَمِنَ لقادة الانقلاب العلمانيين حصانة دستورية إلى الأبد!
أما الانقلاب الأخير فوقع في فبراير 1997م، وكان انقلابا "نظرياً"، اكتفى فيه الجيش التركي بنشر الدبابات في شوارع العاصمة أنقرة، لإجبار رئيس الوزراء آنذاك نجم الدين أربكان على تقديم استقالته، قبل أن يصل الجيش إلى مقر رئاسة الحكومة.(/2)
غول بات يحلم اليوم أن يكون أول مسلم يصل إلى القصر الرئاسي، ويثبّت -تبعاً لذلك- حكماً ذا نفوذ كبير لحزب العدالة والتنمية الذي يتزعمه، والذي يتمتع الآن بأغلبية برلمانية كافية لترشيحه لهذا المنصب، ومن ثم الموافقة عليه...
الكثير من التصريحات المتناقضة أطلقها أردوغان أخيراً حول قبوله الترشح لهذا المنصب، جعلت السياسيين يحتارون حول القرار النهائي له، فمحلل يرى أنه سيعلن موافقته استجابة للعديد من التسهيلات والإغراءات التي عرضت عليه، وآخر يرى أنه سينأى بنفسه عن هذا المعترك، الذي قد يفقد الحزب كل ما وصل إليه، خاصة إذا قام الجيش بانقلاب عليه، ولو كان انقلاباً سلمياً.
هذا التناقض كان فرصة مواتية لبعض خصوم أردوغان الذين اتهموه بالتلاعب والتقلب وعدم الوضوح، منهم أمين جولاسان (المحلل السياسي في صحيفة حريات)، حيث يقول: "إن أسلوبه في إدارة هذه العملية عار على أي دولة مثل تركيا! لماذا لا يقول بكل وضوح: أسيترشح هو أم لا؟"
ويبدو التيار العلماني متكاتفاً في الوقوف في وجه أي من الأطراف الساعية إلى الحكم، والتي باتت قاب قوسين أو أدنى من ذلك، لدرجة أن البعض بدأ بإطلاق تسميات (كالتطرف) و(الأصولية) عليهم، كتصريح الرئيس التركي ذاته قبل أيام قائلاً: "لقد بلغ التهديد الأصولي حداً مقلقاً".. مضيفاً: "إن الكوادر الإسلامية تحاول التغلغل في جهاز الدولة، وتعمل بطريقة منهجية على تفتيت القيم الجمهورية الأساسية"!!
الحجاب.. مفترق الطرق:
الواضح فيما يجري داخل تركيا اليوم، هو أن مفترق الطرق الذي يقف عنده مؤيدو أو معارضو حزب العدالة والتنمية - باعتباره حزباً سياسياً إسلامياً - هو مسألة الحجاب الإسلامي ذاتها، التي باتت إحدى أهم القضايا التي تناقَش، ليس في داخل تركيا وحسب، بل في خارجها أيضاً، حيث انبرى عدد كبير من الكتاب والسياسيين والمحللين للحديث عن هذا الموضوع.(/3)
إذ من شأن ترشح غول، وبالتالي ترجح فوزه؛ أن يؤدي إلى دخول أول سيدة مسلمة متحجبة إلى القصر الرئاسي في تركيا، بعد أكثر من أربعة وثمانين عاماً من حظر هذا الدخول إلى هناك. ولا يقتصر الأمر بالنسبة لخير النساء (زوجة غول)، على دخول القصر الرئاسي، بل ستتمتع باسم "السيدة الأولى في تركيا"، وهو ما يراه العلمانيون "إهانة بالغة للعلمانية التركية"!!
كما يشكّل هذا الدخول أيضاً أول كسر لقرار الرئيس التركي الحالي أحمد نجدت سيزر -أحد أبرز العلمانيين في تركيا- منع ارتداء الحجاب داخل القصر؛ وأول انتصار حقيقي وكبير لملايين المسلمين الذين يدعمون انتشار الحجاب في تركيا.
فبعد سنوات من الحظر والحصار المفروض على الحجاب الإسلامي؛ يأمل المسلمون هناك أن يعود الحجاب ليأخذ دوره ومكانته الطبيعية، كحق شخصي بداية، وانتصاراً للشعائر الإسلامية، التي بقيت محظورة ومحارَبة سنوات طويلة. وهذا الأمر بدأ يجد صداه سريعاً؛ إذ إن مؤسسة (تي.اي.اس.اي.في) في تركيا، أجرت دراسة موسعة حول الحجاب؛ وجدت خلاله أن 60% من نساء تركيا متحجبات، وأن 59% من الأتراك يرون أنه يجب على المسلمات أن يرتدين الحجاب الإسلامي.
وذهبت المناوشات السياسية ذات البعد الاجتماعي، أبعد من ذلك بين الطرفين، ففي حين يؤكد المسلمون أن الحجاب هو شعيرة إسلامية؛ يكرر العلمانيون إطلاق اسم "عمامة نسائية" (تيوربون) على الحجاب، أو اسم "غطاء الرأس" محاولةً لترسيخ مفهوم أن الحجاب ليس إلا عادة اجتماعية تكرر ظهورها على مر الزمان!
العلمانيون الذين يوجهون الاتهامات لحكومة أردوغان (وفيها وزير الخارجية غول)؛ يقولون: "إنها تساهلت (!) بشأن مسألة حجاب الموظفات والطالبات، مع العلم أن الحجاب محظور في الوظائف العامة والجامعات"!(/4)
لذلك؛ فإن الكثيرين يرون ترشح عول "تعزيزاً للحجاب الإسلامي"، الذي شهد خلال السنوات القليلة الماضية في تركيا وبعض الدول العالمية جدلاً واسعاً، خاصة إذا علمنا أن خير النساء غول (زوجة غول)، كانت قد رفعت دعوى قضائية ضد الدولة التركية عام 1998م، أمام المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، شكت فيها رفض الحكومة الموافقة على دخولها جامعة الآداب بكلية أنقرة، بسبب حجابها، الذي لا تزال متمسكة به حتى الآن.
إذن، فوز غول ووصول خير النساء إلى القصر الرئاسي، سيكون نجاحاً عظيماً للحجاب الإسلامي، ودعماً لموقفها الثابت تجاه هذه المسألة.
إلى جانب من يقف الاتحاد الأوروبي.!؟
من بين أهم القضايا التي تثير الاهتمام في تركيا حالياً مسألة الانضمام إلى الاتحاد الأوربي، الذي يأمل كل من التيار الإسلامي والعلماني أن يقف هذه الاتحاد في صفه على حساب الآخر.
ففي حين استطاع الإسلاميون الحصول على بعض المكاسب بعد إلزام تركيا بالتعددية الدينية، وإثبات حق البعض في ممارسة شعائرهم على النحو الذي يرونه، فأصبح المسلمون قادرين على الصلاة في المساجد، والأذان باللغة العربية (بعد اقتصارها على اللغة التركية لسنوات طويلة!)؛ إلا أن العلمانيين يبدون أكثر ثقة بهذا الاتحاد، الذي من شأنه أن يلغي الثقافة الإٍسلامية على المدى الطويل، عبر تقديم بعض المزايا؛ في الوقت الذي يقف فيه بشدة ضد تميز الثقافة الإسلامية بخصوصياتها، لتنصهر يوماً ما مع الثقافات الأخرى، بدون صراع!(/5)
المسألة بدت واضحة في العديد من الأحداث السابقة، منها على سبيل المثال، عندما قدّم الأوروبيون جائزة (أفضل أغنية) -في مسابقة الأغنية الأوروبية العام الماضي- لتركيا، ونالت هذه الجائزة إحدى المطربات التركيات، وقد ارتدت ملابس عارية، لتصبح أول تركية تفوز بهذه الجائزة. وقد أشار العديد من المحللين السياسيين آنذاك إلى أن هذا الفوز يعبّر عن دعم الاتحاد الأوربي لهذه الصورة النمطية التركية، والتي تبتعد فيها تماماً عن القيم والثقافة الإسلامية.
كذلك يبدو المثال أكثر وضوحاً في القرار القضائي الذي أصدرته المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، والذي قالت فيه: "إن من حق تركيا حظر ارتداء الحجاب في الجامعات"!
بعض الطالبات اللواتي يعانين من التمييز في الجامعات بحظر دخولهن وهن يرتدين الحجاب، أملن أن يحصلن من خلال المحكمة الأوروبية -على اعتبار أن تركيا تطمح لدخول الاتحاد، وبالتالي يجب أن تلتزم بقراراته- على حكم يمنحهن الحق في ارتداء الحجاب؛ لذلك تقدمت أكثر من 1000 طالبة وامرأة بدعاوى ضد القوانين التركية في المحكمة الأوروبية، لكن خابت مساعيهن مع أول حكم صدر في نوفمبر 2005م، على الدعوى التي قدمتها ليلى شاهين، منذ عام 1998م، وقالت فيها: "إن الدولة تعدّت على حقها الإنساني في التعلم، وميزت ضدها بسبب الحجاب".
لذلك؛ فإنه ليس من أمل كبير يحدو المسلمين الأتراك في الاعتماد على الاتحاد الأوروبي في حربهم ضد تمييز الدولة العلمانية للحجاب. بل إن البعض يرى أن الحرب ضد الحجاب قد تتحول من حظر مفروض من قبل الدولة، إلى حظر مفروض من قبل الاتحاد الأوروبي، وهو ما قد يضع غول وأردوغان على مفترق طرق جديد، أمام الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.. الراعي لحقوق الإنسان!!!(/6)
على أية حال؛ فإن من أهم المواضيع اليوم على الساحة السياسية التركية: هل سيدخل الحجاب إلى القصر الرئاسي أم لا؟ وعلى الرغم أن جوابه معروف سلفاً - فيما لو سارت الأمور من دون تدخل عسكري من قبل الجيش العلماني - إلا أن الإجابة الحقيقية ستظهر خلال الأيام القليلة القادمة.(/7)
العنوان: هل يمكن معرفة جنس المولود في الرحم؟
رقم المقالة: 843
صاحب المقالة: د. سعد بن عبدالله الحميد
-----------------------------------------
الحمدلله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقد اطلعت على المقالة التي نشرت على هذا الموقع ((الألوكة)) مما خطَّته يراعة الشيخ الدكتور تقي الدين الهلالي رحمه الله بعنوان ((منقبة للملك فيصل قدس الله روحه))، وهي مقالة كانت نُشرت في العدد الحادي عشر من مجلة البحوث الإسلامية، وتتحدَّث عن موقف الدكتور موريس بوكاي من الدين الإسلامي، وقد ورد فيها أمرٌ أحببت التنبيه عليه، وهو معرفة جنس الجنين في بطن أمِّه هل هو ذكر أو أنثى؟ الذي ربما كان في ذاك الوقت غيرَ مقدور على معرفته كما قال الدكتور موريس بوكاي.
ومع هذا التطور المعرفي - وبخاصة في مجال الطب - رأينا من مستجدَّات هذا العصر: إمكانية معرفة هل الجنين ذكر أو أنثى بواسطة الأشعة الصوتية، وربما غيرها.
ولا شك أن هذا قد يلتبس على كثير من الناس، مع قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَْرْحَامِ...} الآية.
ودرءًا للَّبْس أحببت الجواب عن هذا الإشكال، فأقول:
من أجود ما رأيته من الأجوبة التي يمكن أن يُجاب بها عن هذا الإشكال جوابان:
1) أن الآية وما في معناها من الأدلة الشرعية الأخرى إنما تتحدَّث عن الغيب، ولا تتحدث عن المشاهدة، فمن زعم أنه يستطيع معرفةَ جنس الجنين في بطن أمه رجماً بالغيب، فهذا الذي لا يستطيع ذلك، أما من لجأ إلى وسيلة من الوسائل التي تجعله يبصر ذلك بعينيه أو ما في حُكمهما، فيكون قد انتقل من عالم الغيب إلى عالم المشاهدة، كما هو الحال في لحظة خروج الجنين من بطن أمِّه، ولعله يتضح بالمثال الآتي:(/1)
لو أن أحد المعاندين للوحي من كفَّار مكة أو غيرهم قام متحدِّياً رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أنا أستطيع معرفة ما في الرحم، ثم عمد إلى امرأة حُبلى، فبقر بطنها، ونظر إلى جنينها، وقال: هو ذكر، هل يكون هذا واقعًا موقع التحدِّي؟
أنا لا أشك أن هذا لو وقع فَرَضاً، لكان أول من يسخر منه أصحابه؛ لأن سياق الآية يتحدَّث عن عالم الغيب، ولا يتحدَّث عن عالم المشاهدة.
فإذا قبلنا هذا، فما الفرق إذًا بين أن يُبْقَرَ بطنُ المرأة، وبين أن يُدخل في رحمها آلة تصوير، تصوِّر الجنين وهو في الرحم، أو ما هو بديل عن آلة التصوير كالأشعة التي تخترق جدارَ البطن وتنفُذُ إلى الرحم؟!
لقد عاد الأمر إلى عالم المشاهدة، ولم يعُد غيباً، وهذا وحدَه كافٍ في إزالة اللبس عن هذه القضية، والله أعلم.
2) أما الجوابُ الآخَر: فبالنظر إلى صيغة (ما) في قوله تعالى: {مَا فِي الأَْرْحَامِ}، وهي عند أهل اللغة من صيغ العموم، فليست معرفة هل الجنين ذكرٌ أو أنثى هي المرادة في الآية فقط، بل المقصود معرفة ما في الرحم من النواحي كافَّة، ومن ذلك على سبيل المثال:
أ) هل هو ذكر أو أنثى؟
ب) وهل هو جميل أو قبيح؟
ت) وكم سيعيش؟
ث) وهل سيكون غنيّاً أو فقيراً؟
ج) وهل سيكون مسلماً أو كافراً؟
ح) وهل هو شقي أو سعيد؟
خ) وهل هو طويل أو قصير،... أسود أو أبيض، يسكن في شرق الأرض أو غربها، يتزوج أو لا، يكون له أولاد أو لا، وكم عددهم؟..... وقل ما شئت من هذه الأوصاف التي تعتري جميع البشر.
فهل معرفة واحدة من هذه القضايا تدلُّ على ما تعنيه صيغة (ما)؟!!(/2)
وقد أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: حدَّثنا رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وهو الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ قال: ((إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ في بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذلك، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذلك، ثُمَّ يَبْعَثُ الله مَلَكًا فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ وَيُقَالُ له: اكْتُبْ عَمَلَهُ وَرِزْقَهُ وَأَجَلَهُ وَشَقِيٌّ أو سَعِيدٌ، ثُمَّ يُنْفَخُ فيه الرُّوحُ، فإن الرَّجُلَ مِنْكُمْ لَيَعْمَلُ حتى ما يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ إلا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عليه كِتَابُهُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، وَيَعْمَلُ حتى ما يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّارِ إلا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عليه الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ)).
فهذا الحديث مما يؤكد أن أحوال الجنين في بطن أمِّه ليست مقصورة على كونه ذكراً أو أنثى فقط، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.(/3)
العنوان: هَمْسُ المشاعِرِ
رقم المقالة: 1039
صاحب المقالة: وسمية سليمان
-----------------------------------------
أُحِسُّ إحساسا غريبا!
السكون والدَّعة.. الهدوء إلا من ذلك الصوت.. صوت بعض الأشياء حولي يحركها الهواءُ.. صوت غصون تلك النخلة الباسقة التي وصلت للأعالي تتحرك يمنة ويسرة حركة خفيفة جداً. الله أكبر!
ما أجملَ العزلةَ.. ما أجملها من جلسة مع النفس هادئة.. لقد التقيتُ نفسي بعد طول فراق.. أخذت أحدثها وتحدثني.. تُسِرّ إلي بأسرارها وأنا كذلك.. بعدها بدأت أحاسبها لِمَ استاءَ بعضُ الناس منك يوم كذا وكذا؟
ولم فترتِ عن الطاعات؟
ولم أصبحتِ تتكلمين دون وزن للكلام؟ تتكلمين بكلمة تنطلق كالصاروخ في قلب الأعزاء حولك.
لم تنظرين إليهم بتلك النظرة؟ لم أسأت الأدب بسوء ظنك؟
لم اغتبت؟ لم رفعت صوتك عند الحوار؟ وأنت تعلمين بأن الله نهى عن ذلك وقال: {إن أنكر الأصوات لصوت الحمير}[لقمان: 19] فما هكذا يكون المسلم!
هكذا أخذت أحادثها، وخلوت معها في ذلك الجو العليل الساكن حتى أستطيع معالجة مشكلتها التي بدأت أعراضُها منذ مدة.
أخذنا نتناقش؛ قالت:كل ما حصل لي من سوء تعامل مع الناس والفتور عن الطاعات يرجع لسبب واحد.
قلت: الحمد لله! هذا يعني أنك تشعرين بالخطأ؛ فالاعتراف بالخطأ أساس العلاج، وخطوة جريئة وفعالة لحل المشكلة، بل هي نصف الحل؟ ولكن ما ذلك السبب؟
قالت: هو كثرة الخلطة مع الناس وعدم الخلوة بالنفس.
قلت: لا بأس للإنسان أن يخالط، فالإنسان مدني بطبعه، اجتماعي بتركيبته؛ ولكن لا بد أن يصاحب ذلك خلوة، أو يحاسبها كل ليلة قبل أن ينام عن فعل المعاصي والاستغفار والتوبة منها (فخير الخطائين التوابون).
قالت: نعم، ولكن كثر اختلاطي بالناس، ولم أكن أحاسبها وأخلو بها.(/1)
قلت: لذلك كدت تسقطين، وحتى ترجعي لا بد من العزلة؛ فالعزلة ترقيك درجة درجة نحو السمو بالذات.. الطهارة.. الصفاء.. ما أجملها من كلمات، وإنا لنفتقدها مع كثرة المشاكل العصرية، أصبحنا ننام دون أن نخلو بأنفسنا من شدة التعب وعدم الشعور بالتقصير.
لذا يحس الإنسان بتراكم الأدخنة على قلبه، لا بد من مسحه بالعزلة إن كنت تريد السمو.. الترقي.. المعالي.. فاصعد للسماء بسلم العزلة.
العزلة تشعرك بعالم الأعالي، تحس بمن وصلوا للقمة وتلذذوا بها.. ما أجمل العزلة التي تمنحك تاج الصمت الذي هو أساس كل خير.
ث.. ثبات ضد الزوابع والمصائب.
م.. ملاذ إلى الله من الانقياد وراء نزغ الشيطان وفورته عند الغيبة والنميمة والكذب والغضب.
ت.. تحكم بالنفس وكبح جماحها من التهور وإطلاق الصواريخ المهلكة لمن حولك.
فالصمت.. يدعوك لحسن الخلق، وحسن التعامل مع الناس، وبذل الخير للغير.. تشحذ همتك للطاعات.. لقراءة القرآن.. وحفظه.. والعمل به؛ لأنه وقود طلب العلم، فهو سفينة النجاة؛ ليصل مركبك سليمًا في ذلك البحر المتلاطم الأمواج، تجعلك تصبح كالنخلة الباسقة بحول من الله وقوة، تأتي المصائب من اليمين فلا تزيدها إلا ثباتاً، وتهب الرزايا من اليسار فلا تزيدها إلا قوة فيكون أمرك عجباً حقاً كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((عجباً لأمر المؤمن؛ إن أمره كله له خير، ولا يكون ذلك إلا للمؤمن؛ إن أصابته سراء شكر فكان خيراًً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له)) هكذا تكونين قد تمسكت بأسباب الثبات من الله عزوجل ولا تزالين تسألين الله الثبات في الأمور كلها.(/2)
العنوان: همسات السَّحر
رقم المقالة: 101
صاحب المقالة: د. عبدالناصر مصطفى البَشْعان
-----------------------------------------
أهاجتْكَ يومًا رياحُ السحرْ وناجيتَ في الليل ربَّ البشرْ
وسبَّحتَ باسمِ العليِّ القدير لترجوه كشفَ الأذى والضررْ
تراءى لقلبيَ هذا الجمال ولاحت لعيني طُيوف أُخرْ
ورُحْتُ أفتِّش في الذكريات وكم من خيالٍ جميلٍ عبرْ
وحلَّقتُ بالروح فوق السحاب كذاك تطوف بروحي الفِكَرُ
فردَّ الصدى في الظلام البعيد ينبئ روحي بحلمٍ أغرْ
هو العمر حلم سريع الزوال وعند إله الورى المستقرْ
وما تشتهي النفسُ قد لا يكون وهيهات تحظى بنيل الوطرْ
سئمت صروف الحياة الثِّقال وعانيت منها الشديد الأمرْ
ويممت وجهي إلى عالم أخوض غمار الحياة الوعرْ
أسائلُ هل من صباحٍ جديدْ يزيل الظلامَ ويجلو البصرْ
ألا فلنفقْ من هجودٍ طويل وننفضْ غبارَ الونى بالظفر
فإن الجهادَ سبيل الفلاح بنورِ المثاني ووحي السور
وإن أنتَ كنتَ مع الله لا تَهَبْ في الحياة أذًى أو خطر(/1)
العنوان: همسة في أذن صائم
رقم المقالة: 1235
صاحب المقالة: الشيخ عبيدالله بن أحمد القحطاني
-----------------------------------------
أخي يا مَن سره دخول رمضان
أهنيك بشهر المغفرة والرضوان
أهنيك بشهر العتق من النيران
فرصة لا تعوض على مر الأزمان
وموسم خير فاحذر الحرمان
ما من ليلة ينقشع ظلامها من ليالي رمضان إلا وقد سطرت فيها قائمة تحمل أسماء (عتقاء الله من النار) وذلك كل ليلة، ألا يحدوك الأمل أن تكون أحدهم؟
أذًا فدعني أسألك في أي شيء ستمضي ليالي رمضان؟!
ما من يوم من أيام رمضان إلا وفتحت أبواب السماء فيه لدعوة لا تُرَدُّ، فللصائم عند فطره دعوة لا ترد..
فهلا كنت من الداعين!!
ادع لنفسك، لأهلك، لإخوانك، لأمتك، للمجاهدين، للمستضعفين... إلخ
ولكن كل يوم..
أخي الحبيب: ما أعظم المغفرة، فلولا المغفرة لما ارتفعت الدرجات، ولما علت المنازل في الجنات.
ها قد هبت نسائم المغفرة بدخول شهر الغفران..
فمن صامه إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه..
ومن قامه إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه..
ومن قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه..
ولكن العجب الذي لا ينقضي أن يطمع طامع في هذه المغفرة، وهو لم يفارق من ذنوبه ما يرجو صفح الله عنه..
فلنقلع عن ذنوبنا ومعاصينا، ولنندم على فعلها، ولنعزم على ألا نعود إليها، ونطمع في المغفرة، التي إن حرم العبد منها في رمضان فمتى؟!
بل إن الحرمان سبيل إلى أمر خطير يبينه هذا المقطع من حديث صحيح.
يقول جبريل - عليه السلام -: "يا محمد، مَن أدرك رمضان فلم يغفر له فأبعده الله!" ((فقلت: آمِين)).
احرص على ما ينفعك في شهرك؛ فأعمال الخير أكثر من أن تحصر.
اللهم كما بلغتنا بداية رمضان فبلغنا تمامه..
واجعلنا فيه من الصائمين القائمين..(/1)
العنوان: هوس تأمين المستقبل
رقم المقالة: 1602
صاحب المقالة: طارق حسن السقا
-----------------------------------------
من المفاهيم التي يجبُ أن تدخل في مهمات التغيير عند الكثيرين منا اليوم -وأنا وأنت منهم- تغييرُ مفهومنا ونظرتنا للمستقبل؛ فكثيرٌ منا ينشغل بتأمين هذا المستقبل انشغالاً لا حدود له، نصرف له جل وقتنا وجهدنا، بل ونستهلك حاضرنا كله لتأمين هذا المستقبل الذي ربما لا يأتي، وربما لا نصل إليه.
إن تأمين المستقبل تحول إلى هوس، هوس شغَلَ الناسَ جميعًا، شغل الكبير والصغير، شغل الغني والفقير، شغل العالم والجاهل، شغلنا جميعا؛ هوس تحول إلى داء، داء تكمن خطورتُه في كونه عطّل أمورًا كثيرة عند من ابتلاهم الله به. وأكثر من ابتلاهم الله بهوس تأمين هذا المستقبل تجدهم دائما قلقين، حائرين، مضطربين، متسرعين، خائفين. وغالبًا ما تجد أكثرهم يتنازلون، يفرطون، يقصرون، يذلون تارة ويداهنون تارة أخرى؛ باختصار تجدهم ممن يستبدلون الذي هو أدني بالذي هو خير.(/1)
إن هذا المستقبل الذي يشغلنا، ويقلقنا، ونخافه هو ذلك المستقبل الذي ربما لا تخرج ملامحه عن صور ذلك اليوم الذي سيداهمنا فيه العمر بأمراضه، وأعراضه، وعدم القدرة فيه على الحركة أو العمل؛ أو ذلك اليوم الذي سيصدر فيه قرار إحالتنا إلى المعاش، أو إلى التقاعد؛ أو ذلك اليوم الذي فيه سيتزوج (آخر العنقود) وينصرف -مثل بقية إخوانه- لبيته، وأسرته الجديدة، ويتركنا فيما بين الوحدة والشيخوخة؛ أو ذلك اليوم الذي نصبح فيه بالنسبة لأبنائنا أشياء جانبية خارج حدود الدائرة؛ أو ذلك اليوم الذي سنفاجأ فيه بوفاة شريك الحياة ويعيش الواحد منا فيه بين تبعات الوحدة وجحود الأبناء. هذه الموروثات -وغيرها- أمور ورثناها وتسربت إلى حياتنا وساعدت بقدر كبير في جعلنا نخشى ذلك المجهول ونهابه، بل ونسعى مبكرين لتأمينه، ليس قدر استطاعتنا فحسب، بل بما هو فوق القدر وفوق الاستطاعة. فيترتب على هذا من المخاطر ما لا ندرك عواقبه إلا بعد فوات الأوان.
إن المستقبل الحقيقي الذي يجب أن يشغلنا ليس هو ذلك اليوم الذي نعتقد. إن المستقبل الحقيقي للإنسان يبدأ من لحظة إغلاق قبره عليه، من لحظة مفارقة أهله وأحبابه له، من لحظة عودتهم إلى دورهم وأعمالهم وتركه بلا أنيس ولا رفيق، وحيدًا تحت التراب، أنيسُه الدود، في وحشة الليل، في ظلمة اللحود، يوم يحال بينه وبين العمل، أو يحال بينه وبين إدراك أو استدراك ما مضى وفات. إن المستقبل الحقيقي الذي يجب أن يشغلنا هو ما بعد الموت: يوم لا ينفع مال، ولا بنون، ولا حسب، ولا نسب، ولا أملاك، ولا ألقاب؛ {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس: 34-37].(/2)
إن تأمين ذلك المستقبل -الذي سنلاقيه حتمًا- لا يكون إلا بأمور يجري ثوابها على الإنسان في قبره بعد موته، وهي كثيرة؛ منها: ما رواه البزار في مسنده من حديث أنس بن مالك أن النبي قال: (سبع يجري للعبد أجرهن وهو في قبره بعد موته: من عَلّم علماً، أو أجرى نهراً، أو حفر بئراً، أو غرس نخلاً، أو بنى مسجدا، أو ورّث مصحفاً، أو ترك ولداً يستغفر له بعد موته) (حسّنه الألباني في صحيح الجامع :3596).
إنك إذا ما نظرت إلى هذه الوسائل السبعة - التي تضمنها حديثُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والتي تساعد في تأمين مستقبل الإنسان الحقيقي بعد موته- ستجد أن جزءًا كبيرًا من مستقبل الإنسان بعد موته مرهون باجتهاده في أثناء حياته في خدمة مجتمعه، لا بالانكباب على همه الشخصي؛ ستجد أنها تحمل دعوة لكل مسلم بأن يتحلى بالإيجابية، ويتخلى عن السلبية تجاه أهله، ومجتمعه، ودائرته التي يعيش فيها؛ ستجد أنها تحمل دعوة بأن يعيد كل إنسان نظرته إلى الحياة. فليس من مصلحة الإنسان في المجتمع أن يكسب بمفرده، بل يكسب ويكسب معه الآخرون؛ وليس من مصلحته أن يأكل بمفرده، بل يأكل ويأكل معه الآخرون؛ وليس من مصلحته أن يعلم بمفرده، بل يعلم ويعلم معه الآخرون؛ وليس من مصلحته أن يأمن بمفرده، بل يأمن ويأمن معه الآخرون. هنا يأمن المجتمع على حاضره ومستقبله، ومن ثم يأمن أفراده أيضا على مستقبلهم في الدنيا والآخرة.
هذا الفهم هو الذي جعل عثمان بن عفان -رضي الله عنه- يلبي نداء الواقع على لسان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما وقف ينادي في الناس: من يشتري لنا بئر معونة، ويجعلها صدقة للمسلمين، سقاه الله يوم القيامة من العطش.(/3)
وبغير تأخير قام عثمان بن عفان -رضي الله عنه- بشرائها وجعلها صدقة للمسلمين يشربون منها وينتفعون بها. ولما فعل هذا لم يكن -رضي الله عنه- منشغلا بالمستقبل الوهمي الذي يشغلنا اليوم، إنما كان مهمومًا بتأمين مستقبله الحقيقي. كان مهمومًا بفعل ما يعود عليه نفعه ومردوده بعد موته.
الفهم نفسه هو الذي جعل أبا هريرة -رضي الله عنه- لما دخل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يقسم الغنائم على أصحابه يجلس غير مكترث لهذه القسمة، ولا بهذه الغنائم. فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: "يا أبا هريرة، ألا تسألني من هذه الغنائم التي يسألني أصحابك؟" فرد عليه أبو هريرة رد المهموم بتأمين مستقبله الحقيقي: يا رسول الله، أسالك أن تعلمني مما علمك الله. يقول أبو هريرة: فنزع رسول الله رداءه وفرشه، وجلسنا، وحدثني حتى استوعبت حديثه، ثم قال لي: "اجمعها فصرها إليك". فما أسمى همتَك يا أبا هريرة!. فلو طلب المال لحازه، ولو طلب نصيبه من الغنائم لناله، ولو فكر في تأمين مستقبله الوهمي لأمَّنه. ولكنه طلب ما يبقي على ما يفنى. فلقد ذهب المال، وذهبت الغنائم، وبقي علم أبي هريرة الذي نقله للأمة تتعلم منه وتنهل حتى قيام الساعة. وهذا مما يصب في رصيده -رضي الله عنه- إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.(/4)
هذا الفهم أيضا هو الذي يجعل العقلاء في الأمة لا يكلون ولا يملون من الحديث عن حسن تربية الأبناء والاهتمام بهم. فحسنُ تربية الأبناء وتنشئتُهم التنشئةَ الإسلامية الصحيحة أحدُ أهم مراحل تأمين المستقبل الحقيقي للإنسان بعد موته. فلقمان الحكيم لما ذكره الله تعالى بأحسن الذكر، وامتن الله عليه بأنفع العلم، تجلت لنا هذه الحكمة، وهذا العلم من بوابة مواعظه ووصاياه التربوية لابنه، وحرصه الكبير على تنشئة الولد الصالح الذي هو أحد أهم روافد تأمين مستقبل الإنسان، بنص حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي قال فيه: (إذا مات ابن ادم انقطع عمله إلا من ثلاث:
صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)، رواه مسلم.
وكان من كرم الله علينا أن قص علينا حكمة ذلك الرجل الصالح (لقمان) ليكون لنا فيها الأسوة والمثل، ولنسير على نهجه في عدم الكلل أو الملل في نصح أبنائنا، ووعظهم بما يفيدهم، وتربيتهم على القيم النبيلة والفضائل السامية التي تسمو بهم، وبمجتمعاتهم. تربيةً نحوز بها رضا الله أولاً، ثم الفوز باستحسان المجتمع الذي نعيش فيه ثانيا. وهذا مما يساهم في تأمين مستقبل الإنسان بعد موته.
إن تأمين مستقبلنا الحقيقي مهمة تتطلب منا استنفاد كل الجهد، وبذل كل الوسع في كل ما نستجمعه من طاقات، ومواهب، ورغبات، ورؤى، وقدرات. إنها مهمة يجب أن تبرز إلى بؤرة اهتمامنا وتحظى بعنايتنا، ووقتنا، وتفكيرنا، وتخطيطنا. فيجب أن نقدر لهذا الأمر قدره. وليس معنى هذا إغفال تأمين مستقبلنا القريب -الذي ذكرنا بعض صوره- بل نقدر لكل أمر قدره، ولا ننشغل بالذي هو أدنى عن الذي هو خير. ولا ينسينا هوسُ تأمين مستقبلنا الوهمي تأمينَ مستقبلنا الحقيقي، وليكن ذلك بفعل كل ما يرضي الله ورسوله، وفعل ما يعود نفعه على الناس في مجتمعاتنا التي نعيش فيها.(/5)
العنوان: هيبة المنبر
رقم المقالة: 1323
صاحب المقالة: أبي يزن حمزة بن فايع الفتحي
-----------------------------------------
سمعت بعض الخطباء يقول: "إنني برغم مدتي الطويلة في الخطابة إلا أنني أشعر بتهيّب بالغ له، وباحترام كبير، وأخشى نقد الناقدين، وتعقب المتعقبين" أو كلمة نحوها.
كذا فليكن الاهتمام والاستعظام لأمر المنبر! إنه موضع مَهيب، ومنزل موقَّر، يشحن المتقي الزكي بنفسية الهم والجد والاهتمام، فلا يغدو لمسجده إلا وهو خائف وَجِل، مهتم حريص، مستعد بصير، يخشى الخطأ، ويرتعب التقصير، وبقدر الهم يكبر العزم.
ليس الخوف من المنبر هو نقد الناقدين وتهكم الناقمين فحسب... كلا! بل هو شرفُ هذه المهنة، واستعلاؤها في قلوب المسلمين ومدى جاذبيتها في الأذهان والأبصار {فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ}.
إن هيبة منبر الجمعة تكمن في علائه الديني، وسموه الأدبي، وإجلال الناس له، واصطفاء النخبة لأدائه، وكونه مشعل الأسبوع الوضاء، وكلمته المتجددة، وأمانته الناصحة، وموعظته البليغة، التي هي بإذكاء الهم أجدر، وبإيقاد البذل أحكم وأوفر.
وبقدر الجد والهم والاعتبار، تكون فاعلية الخطبة وتأخذ حجمها التأثيري والتوجيهي والتربوي في حياة الناس والمتلقين.
إن المساحة واسعة بين خطبة مرقعة هزيلة، وأخرى منظمة محضرة، محكمة، والناس شهود الله في الأرض! من أحسن فله الحسنى، ومن أساء فعليها، وقد عبر عن مستوى عقله، وحدّه، ومدى اهتمامه الشرعي وحسه الإسلامي، وحِراكه الدعوي، فليستكثر أو ليستقل!
أيها الخطيب المقدام، ازرع الهيبة في نفسك من هيبة المنبر، ومحله الرفيع في قلبك، وتذكر أمانته الخطيرة، ومسئوليته الجسيمة، التي تجعلك تتوخى بتوجيهه مكامن الإفادة والإحسان والإتقان، المخضوبة برياحين الإخلاص والرهبة والإخبات، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً.
مواضع الهيبة في المنبر:(/1)
الإحساس الشرعي بأهميته وعلوه، وأنه من أزكى الطاعات وأعلا المقامات.
مخافة الزلل فيه، والتقصير في أدائه، وخشية التغافل عنه.
إجلال الجماهير له، واحترامهم لمرتاديه والمتسنمين ذروته وقامته.
انفصام العمل عن ثرثرة القول، وطول المواعظ الغاصة، والنصائح المتوالية! وهذه زلة شنيعة، ومزلق قبيح. قال تعالى: {كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ} [الصف: 3].
صعود الفضلاء له من الأنبياء وأتباعهم من العلماء المصلحين والمؤثرين، وليس كل من اشتهاه ارتقاه!
توالي التبعات بالكلمات المرصوفة، والحجج الدامغة على نفسية الخطيب، لأنه من أكثر الناس نصحاً، ومن أوائلهم باستحقاق التبعة، وإقامة الحجة. قال تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}. [البقرة: 44]
الانبهار بمجيديه ومتقنيه، وكثرة ثناء الناس عليهم، مما يخشى فساد النية، والتحول إلى مثوى الغرور والعجب.
كشف المستوى العلمي والفكري لدى الخطيب، حيث إنه يعرض عقله كل جمعة، ويقدم بضاعته كل أسبوع، مما يمكن الناس من معرفة قدراته، والإحاطة بمحاسنه ومساوئه.
محك اختبار المنطق وسيلانه، أو تعقده وانقباضه كما قد حصل لغير واحد، انشلت قدراته الكلامية، وتعطلت مداركه الفكرية.
كما قد نقل عن بعض أمراء خُراسان واسمه ثابت قطنه. أنه صعد المنبر فارتج عليه، فنزل وقال:
فَإِنْ لَمْ أَكُنْ فِيكُم خَطِيبًا فَإِنَّنِي بِسَيْفِي إِذَا جَدَّ الْوَغَى لَخَطِيْبُ
فقال له الناس:
" لو قلتها على المنبر لكنت أخطب الناس".(/2)
العنوان: واجب العالم: نظرة في توزيع الأدوار!
رقم المقالة: 961
صاحب المقالة: إبراهيم الأزرق
-----------------------------------------
بعض الحادبين على هذا الدين، وللأسف، يريد من كل فاضلٍ - ولا سيما العالِم والداعية - أن يقوم بكل عبء؛ بحجة عدم التقاعس في نصرة الدين، وعليه؛ فهو يُحمِّل كلَّ عامل وقاعد مسؤولية تدهور حال الأمة! وإذا نظرت في حال هذا الحادب المسكين، وماذا يقدم لهذا الدين؛ وجدته كالمُنْبَتِّ.. لا أرضاً قَطَعَ، ولا ظهراً أبقى!
أخي الكريم!
إن مما يَحسُن استحضاره قبل إلقاء المسؤولية أن كثيراً مما ينزِل بالأمة أعباءٌ؛ رفعُها يجب على قطاع عريض من الأمة، بدءاً بعلماء الشريعة، ثم الرؤساء والوزراء والملوك والأمراء، وانتهاء بأدنى الناس منزلة في المجتمع.
غير أن الأعباء تتفاوت؛ فإن أولى ما يجب على علماء الشريعة الدعوةُ والبيان، وأولى من يجب عليهم العمل لإصلاح الواقع هم الحكام وأصحاب الولايات.
والذي يتأمل في تاريخ الإسلام - ولاسيما في العصور المتأخرة - يجد أن الفاقرة إنما نزلت بالأمم المسلمة من قبل أرباب الولايات، وإلاّ فأهل الحق باقون في كل عصر، يبينون ويرشدون، ولا يجتمعون على ضلالة، بيد أن من بيدهم الأمر - ترغيباً وترهيباً، وأطراً ومنعاً - هم أرباب الولايات، وقد فرَّط كثير منهم في أولى واجباتهم التي نُصِّبوا لأجلها، وبويعوا عليها، وعُقِدَت لهمُ الطاعة بناء عليها، ومما ساعدهم على ذلك أحبار سوء يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون! وقديماً قال العالم المجاهد الإمام ابن المبارك رحمه الله:
رَأَيتُ الذُّنُوبَ تُمِيتُ القُلُوبَ وَقَدْ يُورِثُ الذُّلَّ إِدْمَانُهَا
وَتَرْكُ الذُّنُوبَ حَيَاةُ القُلُوبِ وَخَيْرٌ لِنَفْسِك عِصْيَانُهَا
وَهَلْ أَفْسَدَ الدِّيْنَ إِلَّا المُلُوكُ وَأَحبَارُ سُوءٍ وَرُهْبَانُهَا(/1)
إن العمل المنوط بأصحاب الولايات عظيم، والواجب الملقى على عواتقهم أعظم مما يجب على غيرهم، فإن من أهم مقاصد توليتهم، وإعطائهم حقوق الولاية الشرعية، من سمع وطاعة؛ إقامةُ مصالح العباد دنيا وآخرة، قال الإمام ابن تيمية:
(فالمقصود الواجب بالولايات:
(1) إصلاح دين الخلق؛ الذي متى فاتهم خسروا خسراناً مبيناً، ولم ينفعهم ما نعموا به في الدنيا.
(2) وإصلاح ما لا يقوم الدين إلى به من أمر دنياهم).
ويزداد الواجب وجوباً في حق العلماء الذين لهم من المناصب ما يؤهلهم للإصلاح، سواء أكانوا مستشارين، أم قضاةً، أم (برلمانيين)، أم ممن لهم رأي ونظر عند أصحاب الولايات.
وأما عامة أهل العلم الصادقين فليس في أيديهم - في كثير من الأحيان هذه الأزمان - أكثر مما في أيدي عامة الناس، ولا يجب عليهم غير ما يجب على عامتهم وأفرادهم، اللهم إلاّ في مسألتين، هما من الأهمية بمكان، يمكن أن تلخصا في: القيام بواجب البيان، والأمر والنهي الشرعيين.(/2)
وقد كانت تلك وظيفة العلماءِ ورثةُ الأنبياءِ: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران:20]. {فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ} [المائدة:92]. {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ} [المائدة:99]. {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} [الرعد:40]. {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ} [النحل:35]. {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ} [النحل:82]. {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ} [النور:54]. {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ} [العنكبوت:18]. {وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ} [يس:17]. {إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاَغُ} [الشورى:48]. {فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ} [التغابن:12].
ألا فلا يُحَمِّلَنَّ أحدٌ أهلَ العلم والدعوة أكثر مما حملهم الله تعالى!
اللهم إلاّ من جهة أخرى؛ ليست من جهة كونهم علماء أو دعاة؛ فقد يجب على آحادهم جانب عملي شخصي من جهة كونهم أناساً مكلفين؛ عليهم واجبات ومسؤوليات، ولهم تخصصات، فليس رئيس هيئة شرعية مكلفة من قبل الدولة - مثلاً - كغيره، ولا يُطلَب من الداعية المهندس - مثلاً - ما يطلب من الداعية الطبيب.
المهم هو عملهم بما يدعون الناس إليه؛ مادام في مقدورهم.(/3)
فإن قلتَ: فما يجب على كل فئة من الدعاة والعلماء، باعتبار أنهم بشر مكلفون؟ وما الذي ينبغي أن يصنعوه للأمة؟ قلتُ: أخي الكريم.. لا تكلفني ما لا أطيق! وأعدْ قراءة ما كتبتُ لتفهم ما أُريد! لا يمكن لمثلي أن يجيب جواباً شافياً عن نحو هذا السؤال، بل كل فئة من أولئك ينبغي أن تجلس وتبحث وتنظر فيما يَسَعُها أن تقدِّم؛ بعد أن تتبصَّر في واقعها كما تبصرتْ في العلم الشرعي وفي تخصصاتها.
والمهم الذي يدور عليه عملُك هو: ماذا قدمت؟ وماذا تحسن؟ وما تطيق أنت؟ وهل نظرت فيه؟؟(/4)
العنوان: واجبنا تجاه تقارير مؤسسة (راند)؟
رقم المقالة: 685
صاحب المقالة: د. سعد بن مطر العتيبي
-----------------------------------------
واجبنا تجاه التقارير الراندية
(مناقشة لطرح د. حمزة المزيني)
كتب د. حمزة بن قبلان المزيني مقالاً في جريدة الوطن، بعنوان (الثرثرة الراندية) وأود شكر د. حمزة على طرح هذا الموضوع، إذ إنَّه من الموضوعات التي يُعرِض عنها عددٌ لا بأس به ممن ينتمون أو يُنمَوْن إلى الثقافة، بل وربما التمس بعضهم الأعذار لصائغيه!
1) ومؤسسة (راند) هي إحدى المؤسسات المعنية بالدراسات المستقبلية والخطط الاستراتيجية، ومقرّها في الولايات المتحدة، ولها مكتب في دولة قطر. وقد اتجه تقريرها السابق إلى تغيير الإسلام ذاته، فعنوانه: (الإسلام الديمقراطي المدني: الشركاء والمصادر والاستراتيجياّت)، وأشارت المشرفة عليه شاريل بينارد إلى صعوبة هذه المهمّة في قولها: "إنَّ تحويل ديانة عَالَم بكامله ليس بالأمر السهل. إذا كانت عملية بناء أمّة مهمّة خطيرة، فإنَّ بناء الدِّين مسألة أكثر خطورة وتعقيداً منها".(/1)
2) وحيث إن هذه التقارير مادة معلومات منشورة ومؤامرات مخطوطة مُعلنة، فإنَّها تُعد في علم (استشراف المستقبل) غنائم باردة، تختصر الكثير من الجهود. ولا سيما أنَّنا نشاهد تطبيقا لعدد من توصيات هذه الدراسات في عالمنا العربي والإسلامي، كالتقرير المشار إليه آنفا، ولا يحتاج التأكد من تطبيقه في واقعنا العربي كثير جهد.. ومن أمثلة ذلك مما يخصنا: الحرب التي تشن على ما يعرف بـ(الوهابية) - بغض النظر عن علم من يشنها بالتقرير أو عدم علمه – فمما جاء في التقرير على سبيل المثال: ما عبّر عنه التقرير بمواجهة المتشددين ومعارضتهم، وهم من يسميهم التقرير ذاته بـ(الوهابيين)، وقد عُرِّف (الوهابي) في التقرير بأنَّه: " نموذج متطرف ومتزمِّت وعدواني من الإسلام المتشدِّد، تأسس في القرن الثامن عشر الميلادي، وقد تبناه آل سعود دون غيره من أشكال الإسلام الأخرى، مثل الإسلام الصوفي والإسلام الشيعي، والإسلام المعتدل بشكل عام، باعتبارها انحرافات غير صحيحة عن الدين الحقيقي " (الإسلام الديمقراطي المدني: الشركاء والمصادر والاستراتيجياّت: ((مسرد الكلمات)). ومما ذكر في التقرير من أساليب مواجهة الوهابيين!: تحدي تفسيرهم للإسلام والكشف عن أخطائهم.. تشجيع الصحفيين لعمل تحقيقات صحفية في دوائر المتشددين حول الفساد والنفاق والأعمال غير الأخلاقية.. تشجيع الانقسامات بين المتشددين.. تشجيع وجهة النظر القائلة بفصل الدين عن الدولة إلخ.. ولذلك فإنَّ من واجبنا الإسلامي الوطني أن نعرف ما يقال عنَّا على أقلّ تقدير، وأنَّ نتولَّى مناقشة ما يوجه ضدنا من تهم وافتراءات؛ ومن هنا فإنني أخالف د. حمزة في دعوته إلى إهمال تقرير (راند)، وأرى أن متابعة هذه التقارير ورصد تطبيقاتها أمر في غاية الأهمية، فهو يوضح آلية فهم الآخرين لنا، وآليات سريان الخطط التي تستهدف مجتمعاتنا الإسلامية، كان أوضحها التقرير الذي أشرت إليه آنفا، وكان أفضحها التقرير(/2)
الأخير 2007م الذي صرح بأسماء وميزانيات وقنوات فضائية ومعلومات في غاية الأهمية لكل من يعنيه الحفاظ على الثقافة الإسلامية لمجتمعاتنا، ولكل من يهمه أمننا الوطني على المدى القريب والبعيد.
3) أشكر د. حمزة على ذكره لجملة من الأسباب الخارجية للصراع مع السياسات الأمريكية تجاه المسلمين، وهو أمر نفتقده في طرح عدد من أصحاب المقالات الثابتة؛ وإن كنت لا أوافق د. حمزة في بعض ما ذكره في توصيف تلك الأسباب. وثمة ملحوظات: أولها: أن الأسباب التي ذكرها د. حمزة لا تختص بفكر اليمينيين المتطرفين الذين يقودون السياسة الخارجية الأمريكية ضد أمتنا، فهي تمتد زمانا إلى ما يقارب القرن كما ذكر الدكتور، لتشمل الجمهوريين والديمقراطيين ما بين صقور وحمائم إن صح التعبير، ومن تلك الأسباب المتوارثة حكوميا: غرس الكيان الصهيوني في المنطقة ودعمه له بدءا بالاعتراف الرسمي به ومرورا بالدعم العسكري والسياسي وانتهاء بترويجه كسبب من أسباب البحث عن الحلول السلمية، وكأنه في حد ذاته ليس مشكلا.
وثانيها: عدم ذكر د. حمزة لأسباب أخرى أكثر أهمية، منها على سبيل المثال: ما أكَّده Michel Bugnon - Mordont بقوله: "إن تبني الليبرالية المتطرفة كعقيدة تجارية واقتصادية هو الذي فرض هذه السياسات التي تهدف إلى محو ذاكرة الشعوب... وكل الوسائل يُسمح باستخدامها لتحقيق هذا الهدف دون أي رادع. وخلال صعود الليبرالية الجنوني أدركت الولايات المتحدة أن التنوع السياسي والجغرافي والتاريخي في العادات والتقاليد والمعتقدات والقوانين والثقافات يشكل حواجز وروادع إنسانية وأخلاقية أمام انتشارها فكان لابد من وضع خطط تفرض الرأي الواحد وتمحو هوية الآخرين" (أمريكا المستبدة: الولايات المتحدة وسياسة السيطرة على العالم:13)، وهو نص يكشف لنا بعض خلفيات وضع الخطط، التي تُعد مؤسسة (راند) من أهم جهات تنظيرها إن لم تكن الأهم.(/3)
ومنها: ما أكَّده الخبير الفرنسي المتخصص في الحركات الإسلامية في الغرب أوليفيه روي من: أن إصلاح البرامج التعليمية والضغوطات الأمنية لن تؤدي إلى القضاء على التنظيمات المتشددة، فالنظم العلمانية الشمولية هي التي راقبت الدين وحاصرت التدين، وهي التي مثلت قشة النجاة للأفكار المتشدِّدة لتعود بغلو أكبر إلى العالم الإسلامي.
(http://www.islamonline.net/arabic/politics/2003/08/article10.shtml).
4) قال د. حمزة المزيني: "وتناسى مؤلفو التقرير أن عداء الشعوب العربية والإسلامية للولايات المتحدة ليس جديدا، فقد كانت الحركات الليبرالية والتقدمية هي التي تحمل لواء ذلك العداء للأسباب نفسها التي تكمن وراء العداء الحالي لها. وكانت الولايات المتحدة هي التي دفعت بتصرفاتها غير المسؤولة هذه التيارات لعدائها. كما كانت السبب في إخفاق تلك التيارات وتحطيم مشاريعها". وهنا ثمة ملاحظات، أولاها: أنَّ الحديث عن الشعوب شيء، والحديث عن التيارات شيء آخر، فالشعوب لم يزل مطلبها: ترك الحرية لها في اتباع دينها والحكم بشريعة ربها، وهو ما تشهد به الانتخابات الديموقراطية في عالمنا العربي والإسلامي، وهذا ما جعل التقرير الأخير ينظر لنشر الديموقراطية نظرة أخرى تختلف عن الشعارات المعلنة. وثانيها: أنَّ التيارات التي أخفقت لم تكن مطالبها مطالب الأمة، بل كانت هي ذاتها سببا مهماً من أسباب نكباتها ونكساتها ومؤثراً مهماً في تخلفها، ولا غرو فهي ما بين غرس للمستعمر أو سلاح في يد خصومه ما بين شرق وغرب آنذاك.. ولولا طلب الجريدة للاختصار لذكرت بعض البراهين.(/4)
نعم ربما كان هذا صادقا في بعض القوميين ممن بقوا على الخط.. ولكن الواقع أثبت أن عدداً من رموز تلك التيارات ركب موجة المحافظين الجدد ذاتها ففرح بغزو العراق وسقوط بغداد، واستبشر بالوعود الأمريكية المبشرة بما سموه: الشرق الأوسط الكبير وانضوى تحت مصطلح الليبرالية – ولا أقول الليبرالية – وأعلن انتماءه إليها، بعد أن كان ماركسي الهوى وشيوعي الفكر!
5) قال د. حمزة: "وكان الأحرى بالتقرير أن يشير... إلى ما تقوم به عناصر متطرفة كثيرة ممن يسمون بالمحافظين الجدد في الولايات المتحدة، والعناصر اليمينية المتطرفة في أوروبا، من تشويه للثقافة العربية الإسلامية وللمقدسات الإسلامية ونعتها بأبشع النعوت والسخرية منها".
وهذا كلام حسن يشكر عليه د. حمزة؛ ولكن كيف لنا أن ننتقد الأمريكيين اليمينيين وهم أصحاب فكر ورؤية تناقض مسلماتنا، في الوقت الذي يقوم بعض كتابنا بجهد أخطر مما يقوم به أولئك، كالهجوم الذي يوجهه بعض أبناء جلدتنا إلى مناهج تعليمنا ومؤسساتنا وأنظمتنا وسياساتنا الشرعية؟!
6) قال د. حمزة: "ولا يبعد أن يكون القصد من هذا التقرير وسابقه زرعَ الفتنة بين التيارات المتعددة في البلدان العربية والإسلامية لتنشغل بتبادل الاتهامات، وأهمها الاتهام بالولاء للولايات المتحدة والعمالة لها".
وهو وإن كان يحتمل التسريب لأكثر من هدف، إلا أنَّ نشر التقارير آليةٌ من آليات المؤسسة في طرح رؤيتها أمام الناس ولا سيما أنها أبحاثها ممولة من مؤسسات خاصة على ما يظهر..
ثم إنَّ الفتنة وجدت من قبل هذا التقرير؛ وكان أهم أسبابها: النقد والقدح في ثوابت الدين الإسلامي، وتشكيك عامة المسلمين بطروحات بعض المسلمين من غير المختصين ليقولوا في الإسلام ما يوافق أهواءهم تحت مسميات جملة من الأفكار الوافدة بعلَّاتها.. فنحن نقرأ لبعض كتاب صحفنا نقدا جائراً متتابعا، لمرجعياتنا العلمية ومؤسساتنا الشرعية وأنظمتنا المرعية.(/5)
7) وقال د. حمزة: "ولابد أن نتذكر الفرح العارم الذي اجتاح بعض المتسرِّعين عند صدور التقرير الأول... وقد بدأ المتسرعون في التعبير عن الفرح به واستخدامه أداة في حربهم المتخيلة ضد المثقفين والكتّاب والمعتدلين المسلمين عموما.".
وهنا أقول يا د. حمزة! ألا تراك هنا قد سرت في ركاب مصطلحات (الثرثرة الراندية)! فمن الذي يحدِّد الإسلام المعتدل أو المعتدلين المسلمين؟ أهي معايير التقرير التي وضعها في قالب أسئلة؟ أم هي المرجعية الإسلامية المتمثلة في أولي العلم بالشريعة الذين أحالنا الله تعالى إليهم في قوله سبحانه: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون}؟ أم هي فئة من تسميهم بالمثقفين؟ وهو مصطلح أتمنى أن تحرِّر لنا مدلوله.
ومن هم المتسرعون الذين تعنيهم؟ لقد تصدى لهذا التقرير ثلة من كبار المثقفين في عالمنا الإسلامي وفي الولايات المتحدة ذاتها.. بينما لم نجد من الآخرين إلا مخذِّلاً عن كشف التقرير وخفايا المؤامرات المكتوبة - لا عقدة المؤامرات المزعومة - التي طالما رُمي بها المثقفون الوسطيون الملتزمون بالوسطية الإسلامية الأصيلة.
هذا ما تيسر ذكره تعقيبا على رأي الدكتور بشأن طلبه إهمال هذا التقرير. والله الموفق.(/6)
العنوان: واقعُ المسلمين.. بين الوهن والتبعية
رقم المقالة: 1809
صاحب المقالة: د. عدنان علي رضا النحوي
-----------------------------------------
لا ننكرُ أنَّ ضغطَ الغرب على العالم الإسلامي كله أصبح ضغطاً رهيباً، ضغطاً امتدَّ على الساحة الإسلامية كلها، ضغطًا فكريًّا وسياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، يمضي به الغربُ كلّه على نهج وتخطيط بعيد عن الارتجال وردود الفعل، ولكنْ ينطلق من تصميم إلى أهداف محدّدة وبوسائل عديدة، مدروسة ومتنوّعة.
ولا ننكر أن هذا الضغط حقَّق -بالنسبة إلى الغرب- نجاحاً كبيراً في معظم الساحات، وانتقل إلى مرحلة جديدة هامة يُنفِّذ فيها مخططاتِه وأهدافَه بعناصر من الأمة نفسها. ولا ننكر أن النتائج التي وصل إليها أورثت الناسَ كثيراً من الصدمة أو اليأس أو الإخفاق أو الاستسلام.
حين نعلن في الشعارات أننا نحاربُ الغربَ أو أمريكا أو إنكلترا أو غيرهما، فإننا في الوقت نفسه نفتح حياتنا كلها للغرب بفضائياته وملابسه ومأكله وشرابه وفكره وأدبه ومناهجه التربوية، سواءً أشعرنا بذلك أم لم نشعر.
لا يُريد الغربُ لنا أن نبني قوةً حقيقية من صناعة وسلاح وعقيدة، ولا أن نوجد لها الحماية اللازمة من قوة وعتاد. وكلما بدرت بادرةٌ من محاولة بناء قوة دمّرها الغرب وهي في أول مراحل بنائها.
لا تجد بلداً إسلامياً يصنع السياراتِ أو الطائراتِ أو الصواريخَ أو ما شابه ذلك، فإن وُجِدَ شيءٌ منه مهما كان يسيرًا حُورِبَ في أوله وحوصِرَ أو أُبيد.(/1)
ولا يبلغُ الغربُ هذه الدرجةَ من الظلم بطاقته البشرية وحدها، بل بطاقة بشرية من الشعوب التي يظلمها، وأعجبُ ما في ذلك أنه يمضي إلى أهدافه الإجرامية بما أُسميه "اللعبة الماكرة"، اللعبة التي يستفيد فيها من قوى خصومه الظاهرين ومن الموالين. فكأنه يمسك القوى جميعها بخيوط في يديه، يحرّك بها هذه القوى كما يشاء، دون أن يكون ذلك ظاهراً. ولا يكتفي بإضعاف العالم الإسلامي بعدم إعطائه الفرصة لبناء سلاح وعتاد حقيقي، ولكن بأن يشغل العالم الإسلامي بقضايا وفتن يُشعلها ليهلك بها هؤلاء وهؤلاء، وليدور القتالُ بين فئات الشعب الواحد نفسه وبين شعبٍ وشعب في صراع يستهلكُ كلَّ طاقتهم من ناحية، ويشغلهم عن قضاياهم الرئيسة، ويفرح المنتصر منهم ظاهراً بانتصاره المزيَّف، ولكنه هو وَمن يُعَدُّ خصمَه من شعبه وأُمَّته، في خسارة كبيرة.
انظر إلى كثير من أقطار العالم الإسلامي؛ كيف يقتل المسلمُ المسلمَ، ويحارب فريقٌ من الشعبِ فريقاً آخر، بعد أن تمزّق الشعبُ فِرقاً شتَّى وأحزاباً شتَّى ومصالح شتَّى أدارها الغربُ ببراعة، وجميعهم في دُوارٍ وسَكَر!
ندَّعي محاربةَ الغرب الذي احتلَّنا وقتل منا الآلاف وارتكب من الجرائم ما لا حصر له، ثم نَخْضَعُ لكلِّ أساليبه السياسية والفكرية ونتبَنَّى الديمقراطية التي أَذلَّتنا وأخرجتنا من ديارنا، وسلَّمت فلسطين لليهود، ومزَّقت العالم الإسلامي إرْباً إرْباً وما زالت تمزِّقه، وامتدتْ جرائمها إلى حّدٍ يصعب حصرُه هنا.(/2)
ندّعي محاربته، ثم ننساق في النظام الديمقراطي من: تعدِّد أحزاب تتشاجر على حساب مصلحة الأمة، ومن انتخابات تدور على أسوأ الأساليب؛ من شراء الضمائر، واستدعاء مراقبين أجانب ليدَّعوا أنهم يؤمِّنون نزاهتها، فنحن لسنا أهلاً لتوفير النزاهة في انتخاباتنا، ويَفْرَح المنتصر وهو يدري أنه يسير في نهج مغاير لدينه، مخالفٍ لشرع الله. وبعد مداومة العمل به يعتاده الكثيرون ويألفونه ثم يصبحون دعاةً له. يفرح بعضُهم لأنه أذلَّ فريقاً من قومه لا على أساس إيماني وإنما على أسس جاهلية دنيوية.
وفي أحيان كثيرة يُحدّد الغربُ لنا أهدافَنا، كما حصل في جميع مراحل قضية فلسطين، وخاصة في المرحلة الأخيرة؛ إذ طرح بطريقة أو أخرى فكرةَ الدولة الفلسطينية، فأقبل عليها الفلسطينيون يحسبونها خيراً لهم، فإذا هي بابُ فتنة مدروسة ومحددة، أكلت جهودَهم، وألهتهم عن قضيتهم الأساسية، وتنازل الجميعُ صراحة عن شعاراتهم السابقة، وأصبح غاية مطالبهم جميعاً هذه الدولة التي لا تملك أي مقومات للدولة أو الحياة، دولة حتى حدود سنة 1967م، بتنازلٍ صريح أو ملتوٍ عن تحرير فلسطين كلها، واعترافٍ جليٍّ بعجزهم وعدم قدرتهم على تحقيق ما أعلنوه من شعارات، أقبل الجميع فصيلاً فصيلاً وحركة حركة على الصراع من أجل هذه الدولة الميِّتة، بعضهم يجهر بوضوح، وبعضهم يدور ويواري، فيصارح حينًا ويستحي حينًا آخر، أو يُعلن شيئاً يكسب به الجماهير ويعمل سرًّا ما يُرْضِي به خصمه.(/3)
المضحك في ذلك أننا نريد إقامة دوله فلسطينية، نحن غير قادرين على إقامتها، ونريد من عدوِّنا الذي نقاتله أن يقيمها لنا أو يسمح لغيرنا بإقامتها. مهزلة وأَيّ مهزلة. هل ضاعت العقولُ وماتت المبادئ في شهوة دولة ميتة ستكون في أحسن حالاتها تابعة لإسرائيل؟ فتحوَّل الصراع ضد إسرائيل إلى تجارة دنيوية يسعى كلُّ فريق فيها إلى إثبات وجوده في الساحة، أو كسب نصر دنيوي بالشعارات فحسب، معزول عن أي عقيدة أو قيم أو مبدأ، فامتدّ الوهمُ وسقطت الشعارات، ونشطت التجارة بالوطن وبالشعب وبالقضية كلها. نريد من عدوّنا أن يقيم لنا دولة، وأن يمنحنا وسائل معيشتها وأسباب حياتها! نريد منه أن يعطينا الماء والكهرباء والبترول والطعام والماء! وأن يعطينا المال!
وحين يشعر بعضُ المسلمين بضعفهم وعجزهم فإلى من يلتجئون؟! هل يلتجئون إلى الله، إلى ربهم وخالقهم الذي يملك وحده نصرهم أو خذلانهم؟! كلاّ! بل يلتجئون إلى روسيا، وإلى غيرها، إلى كل من لا يتبنى الإسلام الحقَّ أو يحرص عليه أو يرغب في نصرته.
وقد وصل ضغطُ الغرب بوسائله الشيطانية ومكره البعيد إلى أن دفع أكبر جماعة إسلامية في تركيا إلى أن تقدم تصريحات بعد تصريحات بتمسُّكهم بالعلمانية وبحمايتها والدفاع عنها.
وصَرّح بعضهم: "لا تقولوا عنا إسلاميين، نحن علمانيون"! وذهب رئيسهم السابق (أربكان) مع وفد من حزبه ليضع إكليلاً من الزهور على قبر "مصطفى كمال أتاتورك" الذي ألغى في حياته الإسلامَ من تركيا، وأسقط الخلافة وأَلغاها، وألغى الأَذان بالعربية، وألغى اللغة العربية كلها، وألغى الشريعة الإسلامية، وأقام حكماً علمانيّاً واضحاً، وبطش بكل صوت إسلامي. مع كل ذلك ترى الحشدَ الكبير من الدعاة المسلمين يتعهّدون بحماية العلمانية ويعاهدون على ذلك، بغية دنيا أو سلطة أو منصب. ويمكن أن يسوّغ بعضهم هذا السلوك بأنه "تكتيك" مرحلي!.(/4)
إن المجرمين الذين دفعوا هؤلاء إِلى هذه المرحلة، واعون وحريصون على أن يدفعوهم إلى مرحلة أبعد عن الإسلام وأشد، وإلى تنازل أخطر وأكبر. وحسبُنا أن نعلم أن الإسلام مهما سمح من تصرف تحت الضرورات فليس ادِّعاءُ العلمانية مما يُسمح به أبداً إِلا من رجل فرد ينقِذ حياته بهذا الادعاء، وليس من دعاة وليس من جماعة أو حركة، ولا من أمة! لا يسمح الإسلام أبداً للأمة كلها أن تتبنى الإلحادَ والكفر بأيّ صورة من صوره. ولا للجماعة أو حشد الدعاة، تحت أي ادعاء أو مسوّغات باطلة.
ولقد سلك هذا السبيلَ عددٌ من المسلمين أو الحركات الإسلامية بغية إرضاء الغرب، والظهور بمظهر المتحضر بحضارة الغرب، فتبنَّوا الديمقراطية أولاً، ثم ما تلاها. ولقد تأثر عددٌ من المسلمين في الغرب بنمط الحياة الغربية، والفكر الغربي، والعلمانية، والحياة الاجتماعية المختلطة، هذا فضلا عن الذين تفلّتوا في الغرب من الإسلام كليّةً، وبهرتهم الحياةُ الغربية بإباحيتها والنظم الإداريَّة فيها، النظم التي تسهّل أعمال المواطنين، والتفلّت الجنسي الذي يحميه النظامُ، ليكون ذلك كله تخديراً.
ونتيجة لهذا الضغط الرهيب للغرب ازدادت الجرأةُ لدى بعض المسلمين أو المنتسبين إلى الإسلام بتأويل بعض الآيات الكريمة تأويلاً فاسداً خارجاً عن حدود الشريعة وعن حدود اللغة العربية، وازدادت الجرأةُ على أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيفسدون تأويلها أو يحذفون منها ويغيرون نصوصها.(/5)
ففي مقالة لأحد الدعاة المسؤولين، وفي كتاب صدر بعنوان "وثيقة المدينة"، وفي ندوة ظهرت على إحدى القنوات تردَّدَ نصٌّ ينسبونه كذباً إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن حقوق غير المسلمين: "لهم ما لنا وعليهم ما علينا"! وواضح أن هذا افتراء كبير وجرأة على تحريف الإسلام. وأصل ذلك حديث صحيح لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- يرويه أنس رضي الله عنه عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال: "أُمِرْتُ أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمّداً رسول الله، فإن شهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، واستقبلوا قبلتنا، وأكلوا ذبيحتنا، وصلَّوا صلاتَنا، فقد حرُمت علينا دماؤهم وأموالُهم، لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم"[1].
فهؤلاء: الداعية، والكتاب، والندوة، أهملوا جلَّ الحديث، أخذوا السطر الأخير منه: "لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم". فأي إثم أكبر من هذا؟ وأي انحراف أشد؟ خاصة حين يتردد هذا الكذبُ والافتراء على الله ورسوله في مصادر متعدِّدة، أخذت تردِّده وتعيده بغية إثبات حقٍّ لما يدعون أنه "الآخر"! والإسلام أعطى لكل إنسان حقه وللآخر ولغير الآخر، للمسلم، ولأهل الكتاب، فصّل في حقوق كلِّ إنسان من هؤلاء على أُسسٍ ربّانيّة، حتى لا يَلتَبِسَ الأمرُ على أحد، وليقدّم أعظم مستوى من العدالة.
ويقول أحد الدعاة المسؤولين: "إن مبدأ حزبهم يقوم على مبدأ المواطنة، مشيراً إلى أن الشريعة الإسلامية تتفق مع مبدأ المواطنة الذي لا يُفرّق بين المواطنين"! ويقول آخر: "إن أخوة الإيمان كانت عندما كان للإسلام دولة، واليوم لا يوجد للإسلام دولة، ولذلك نأخذ بمبدأ المواطنة".
أعجب من الداعية المسلم أن يتورَّط في مثل هذا القول المخالف لنصُوص القرآن ونصوص السنة، والممارسة الممتدة من أكثر من خمسة عشر قرناً.(/6)
الإسلام يحترم حقوق الفئات كلها في مجتمعه وحقوق أهل الكتاب الذين هم في ذمة المسلمين مصونة كما شرعها الإسلام في مستوى عالٍ من العدالة، ولكن الإسلام لم يُشَرِّعْ "أن حقوق أهل الكتاب في وظائف الدولة كاملة مساوية لحقوق المسلم، وأنّ لهم الحق في تولّي المناصب الوزارية والإدارية العليا، إلا أنه استبعد حقهم في الولاية العظمى" كما زعم بعض الدعاة على قناة دعوية فضائية.
هذه مبادئ بشريّة لم يأت بها الإسلام لا في الكتاب ولا في السنة ولا في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- ولا في عهد الخلفاء الراشدين الذين أُمِرْنا باتباع سنّتهم، ولا في ممارسات الحكم الإسلامي الملتزم بالإسلام.
هذا التصور الذي يعرضه الأخ الكريم تصور متفلّت من الإسلام، أقرب إلى العلمانية، حيث تكون القضية الأولى للموازنة بين الناس هي المصالح الدنيوية وحدها. والإسلام له نظرة أُخرى، نظرة تقوم على إِيثار الدار الآخرة على الدنيا، وتفضيل المؤمنين بالله ورسوله على العالمين، وأن شرع الله هو الأعلى.
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ َخَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} [البيّنة: 7،6].
وفي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يرويه ابن عمر رضي الله عنه: "لَزوالُ الدنيا أهونُ على الله من قتل رجل مسلم"[2].
وعندما لا يكون للإسلام دولةٌ، فالواجب على المسلمين أن يجاهدوا لإقامتها لا التخلّي عن فكرتها إِلى ما يخالفها، إنها تكاليف ربانيّة! والدولة تقوم عندما يكون هنالك أمة مسلمة واحدة.(/7)
الحق الأول لأهل الكتاب هو أن يُدْعَوْا إلى الإسلام، وهو الواجب الأول على المسلمين نحو أهل الكتاب وغيرهم، حتى يُنقَذوا من عذاب جهنم. وليس من حقوق أهل الكتاب، ولا من واجب المسلمين دعم الباطل في أيِّ صورة أو واقع. ولنستمع إلى قوله سبحانه وتعالى يخاطب أهل الكتاب لنعرف من ذلك ما حقوقهم وما واجباتنا:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً * إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} [النساء: 48،47]
وللإيجاز نقول: فليَرجع الأخ الكريم إلى كتاب الله وما فيه من آيات بينات تبين منزلة أهل الكتاب وحقوقهم المصونة، وذلك في سورة البقرة وآل عمران والنساء، وسور أخرى كثيرة تؤكد هذه المعاني التي تقوم عليها الحقوق والواجبات. مع ذلك فلقد جعل الإسلام لأهل الكتاب منزلةً خاصة ما داموا يحترمون الإسلام ويخضعون إلى شرعه، ولا يوالون أعداءه، منزلة لم يجدوها في نظمهم العلمانية.
وأستاذ آخر يكتب في كلمة له في إحدى الصحف: "إن الإسلام أعطى للناس حرّيةً كاملة للمعتقد، مستشهداً كذلك بجزء من آية: {.... فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ...} [الكهف: 29] تاركاً ما قبلها وما بعدها فاختلّ المعنى. وكذلك استشهد بقوله سبحانه وتعالى أو بجزء منه: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ...} [البقرة: 256]، لقد أساء كثيراً حين أفسد معاني الآيات حين حذف معظمها وأخذ بجزءٍ منها، فاختل المعني والفقه والتصور.(/8)
لقد كثر هذا الاتجاهُ في هذه اللحظات من حياة المسلمين كثرة واضحة. وكثر الذين يحاولون أن يُظهروا للغرب أنهم متحضرون، وأنهم قادرون على تحريف الآيات والأحاديث، والخروج بنتائج ديمقراطية أو اشتراكية أو علمانية أو حداثية، مطليّة بطلاء خادع من الإسلام. أو أنهم فُتِنوا عن دينهم واتبعوا الباطل.
إن هذه المحاولات منكرة لا تجلب إلا غضب الله وعقابه على الأمة التي تتفَلّت من دينه وشرعه وأحكامه.
لا شكّ أن هذا كله يُرضي الغرب، ولكنّ الغرب يظلّ يطلب المزيد المزيد، وستظل الفتاوى تظهر من بعض العلماء والدعاة بما يُرضي الغرب وبما يغضب الله والمسلمين. وأكثر من ذلك فإن الغرب يبذلُ جهودَه ليدعم من يسميهم بالمعتدلين من المسلمين.
ويقول نيكسون رئيس الولايات المتحدة سابقاً: "المعتدلون هم حصَّتُنا من المسلمين، فهم بحاجة إلينا، ونحن بحاجة إليهم. هم بحاجة إلينا لنقدّم لهم فكراً غير فكر الأصوليين، ولندعمهم بكل الوسائل...". ولقد أخذ هذا الفكرُ يظهر ويزداد بروزاً.
بعضُ أصحاب التصورات الجديدة كالتي عرضناها في كلمتنا هم من حركات إسلامية مضى على نشوئها عشراتُ السنين، ولم يظهر في تاريخهم هذا الاعتدالُ كما يظهر هذه الأيام، ولا هذا الانحراف.
يضافُ إلى ذلك موضوعُ المرأة التي يُراد دفعُها إلى المحافل السياسية وإلى أجواء التمثيل، وجميع أجواء الاختلاط. ولقد تحقق ذلك بصورة موازية للغرب ومساوية له في بعض الأقطار المنتسبة إلى الإسلام، حتى صرت ترى من النساء المنتسبات إلى الإسلام من تخرج شبه عارية، وتظهر كذلك في مواقع متعددة.
المؤلم أن هناك أناساً يريدون أن يصبغوا هذه الانحرافات بطلاءٍ إسلامي، فيتضاعف بذلك إِثمُهم حين يحرّفون شرع الله، ويبدِّلون و يؤوِّلون ويحذفون!(/9)
نودُّ أن نقول لهؤلاء جميعاً: مهما تودَّدتم للمجرمين في الأرض أو لأهل الكتاب، فإنهم لن يرضوا عنكم، ولن تلين قلوبُهم، وسيغْتَنمون كلَّ فرصة للإساءة والظلم والعدوان بأقسى ما عُرِف في تاريخ الإنسان من وحشية. ألا يكفي قولُ الله سبحانه وتعالى ومن أصدق من الله قيلا:
{وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [البقرة:120]
انظر ماذا فعلوا بالمسلمين في الأندلس، وما فعلوا بالمسلمين في الحروب الصليبية، وما فعلوا حين احتلوا بعض ديار المسلمين. انظر ماذا فعل الإنجليز في الهند بالمسلمين، وما فعلت فرنسا في الجزائر وغيرها، وما فعلت إيطاليا بليبيا وغيرها، وارجع إلى التاريخ يحدثك بالعجب.
إن واقع الإنسان على الأرض اليوم، قد امتلأ فتنا وفجوراً وحروباً وظلماً وعدواناً وفواجع، إن هذا الواقع يتطلب أن تظهر دعوةُ الله كما أُنْزِلتْ على محمد -صلى الله عليه وسلم- أن تظهر واضحة جريئة صادقة لا تحريف فيها ولا تأويل. ولا نجاة للناس مما هم فيه إلا بدين الله الإسلام، وبشرعه حين يحكم في الأرض، ويصدق العاملون بالالتزام الأمين بمنهاج الله، إيماناً صافياً، وعلماً صادقاً، وإيثاراً للدار الآخرة على الدنيا، في رهبة وخشوع لله، وتوبة وإنابة قبل أن يُنزِل الله علينا عذاباً شديداً.
آيتان تعرضان حالتين مختلفتين حين يسود الظلم والانحراف. أما الأولى ففي سورة الأنفال:
{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال:25]
فهذه الآية الكريمة تعرض الحالة التي يسكت فيها الصالحون ولا ينصحون، ولا يدْعون ولا يعالجون، فينزل عذاب الله يأخذ الصالح والطالح.(/10)
وآية أخرى في سورة الأعراف تعرض حالة أخرى:
{فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف:165].
ففي هذه الحالة كان هناك فئة تنهى عن السوء، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فحين يُنزل الله عذابه فإنه يمسّ الفاسقين الذين ظلموا وفسقوا، ويُنجي الله الذين كانوا ينهون عن السوء، ويدعون إلى الله ورسوله، ويدعون إِلى الإسلام، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويبلغون رسالة الله كما أنزلت على محمد صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة ويتعهدونهم عليها.
هذه سنَّة ربّانيّة ماضية في الحياة، ثابتة لا تتبدل. َفْلَيعِ المسلمون ذلك، عسى الله أن يلطف بنا وينجي الصالحين دون أن يعمَّ الجميعَ بعذابٍ شديد. إن محور ذلك كله وأساسه هو "الذين ينهون عن السوء..."! والنهي عن السوء أو النهي عن المنكر والأمر بالمعروف يعني تبليغ رسالة الله كما أُنْزِلتْ على محمد -صلى الله عليه وسلم- إلى الناس كافّة وتعهُّدهم عليها حتى تكونَ كلمة الله هي العليا في الأرض على نهج واعٍ وخطة مدروسة. وهذه هي المهمة الرئيسة التي لا يجوز أن تتوقف أو يُشْغَل المؤمنون عنها أو أن تُنسى، بل يجب أن تبقى مهمّةً حيّة ممتدَّة مع الزمن كُلِّه. إنها هي المهمة التي تجمع جوهر العبادة والأمانة والخلافة والعمارة، وهي التي توفِّر -بامتدادها والمداومة عليها- العلاجَ الأصلح لما قد يظهر في واقع المسلمين من خلل أو أمراض أو وهن.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] صحيح ابن حبان: ج 13ص:215، حديث رقم5895.
[2] صحيح الجامع الصغير وزيادته رقم 5077.(/11)
العنوان: واقع مُتَأَزِّم بعيد عن القرآن
رقم المقالة: 1351
صاحب المقالة: د. محمد الروكي
-----------------------------------------
بسم الله الرحمن الرحيم
إنَّ الأمة الإسلاميَّة اليوم - كما يَعْلم جميع من يعيشون هُمُومها - تعيش واقعًا متردِّيًا مُتَأزِّمًا خانقًا، تعيش وَضْعًا حضاريًّا مُخْتنقًا، وُضِعَ لها، وصُنِعَ لها صُنْعًا من قِبَل الطَّرف الآخر، هذا الوضع يَتَجَلَّى في مظاهر كثيرة:
1 - أولاً: ما نلحظه بشكل واضِح في ضعف انتماء أبنائها الحضاري للإسلام، وعلى عِدَّة مستويات:
• على مُسْتوى المرجعيَّة الإسلامية: حيث نرى فئات عريضة من أبناء هذه الأمة تَعْتَزُّ بمرجعيَّات أُخْرَى مع ضعف صِلَتِها بالمرجعيَّة الإسلاميَّة، وضعف اعتزازها بها، وتعميق الصِّلَة بها.
• على مُسْتَوى اللُّغة: حيث نلاحظ أنَّ هنالك ضَعْفًا خطيرًا في الاعتزاز باللُّغة العربية التي هي لغة الإسلام، واللغة التي جمعت تراثنا الإسلامي، وبها يمكن فقط أن نُعَبِّر بأن ذاتنا إسلامية، وأن نجلي مضاميننا الإسلامية، وحقيقتنا، وحضارتنا، وهُويَّتنا الإسلاميَّة، فلا سبيل إلى بَلْورة ذاتنا إلا عن طريق لغتنا.
• على مُسْتَوى العادات: فَقَدْ أصبح هناك ضَعْفٌ وخَلْخَلَة في انتماء الأُمَّة الحضاري إلى دائرة الإسلام من جهة عاداته وتقاليده التي تعكس فِكْرة الإسلام، وتعكس مضمون الإسلام وقيمه، فللأمَّة الإسلاميَّة مَوْروثٌ حضاريٌّ، وعادات وتقاليد، وأنماطٌ حياتيَّة عاشتها في فترات الإشراق، لكن نجد أن أبناء الأمة في واقعنا المعاصِر ليس لهم ارتباطٌ وثيقٌ بهذه العادات، ولا اعتزازَ لهم بالأساليب الحياتيَّة الأصيلة، والثقافة الإسلاميَّة البنَّاءَة التي ورثْنَاها.(/1)
• على مُسْتَوى النُّظم الحياتية: سواء على مُسْتوى النِّظَام السياسي، أو الاقتصادي، أو التربوي، أو التعليمي، أو على مُسْتوى النِّظام الاجتماعي، أو الخلقي؛ فعلى مُسْتَوى هذه النُّظُم الحياتيَّة كلها نلاحظ ضَعْفًا في الانتماء، والاعتزاز الحضاري إلى النظم الإسلامية، فأصول الشريعة الإسلامية ودُستور هذه الشريعة يتضمَّن التَّشْريعات السامية الراقية لهذه النظم، ولا يُعْجِزُ الإسْلامَ أبدًا شيءٌ من المُسْتَجَدَّات مما يَتَعَلَّق بهذه النُّظُم، ولكن نَجِد كما قُلْت في واقِعِنا المُعاصِر من مَظَاهر هذا التَّدَنِّي، ومن مظاهر ما تعرفه الأُمَّة من ذُلٍّ وهَوانٍ، ومن ضَعْف الثِّقَة بأن للإسلام نُظُمًا حياتيَّةً متينةً، ونُظُمًا تشريعيَّة قويَّة يمكن أن نَسْتَوْعِب بها كافَّة قضايا تنظيم واقعنا المعاصر.
2- ثانيًا: هنالك ما نلاحظه مِنْ كَثْرَةِ التَّصَدُّعات، والتَّمَزُّقَات، والخِلافات داخل بناء الأمة، فالأمة الإسلاميَّة مُتَصَدِّعَة من داخلها، حُصُونها الداخليَّة فيها كثير من التَّمَزُّقَاتِ.(/2)
3- كما نلاحظ من ناحية ثالثة: أنَّ قاعدة الوَلاء والبراء قد انْكَسَرَتْ، فالقاعدة الشَّرعيَّة أن الأمة لها ذاتها، ولها سيادتها، ولها وضعها المتميز، وتحكمه هذه القاعدة وهي: أنَّ الأمة الإسلامية إنما تُعْطِي ولاءَها الكامل للإسلام والمسلمين - لله ورسوله وللمؤمنين - وأن عَلاقتها بمن يُعَادي الإسلام، وبمن يُحَارِب الإسلام، وبمن يريد أن يَقْتَلِع جذوره، عَلاقة واضِحَة أيضًا حَدَّدَها القرآن، فإذًا هنالك ولاءٌ لله ولرسوله وللمؤمنين، وبراءٌ من كل من يُعَادِي هذه الوِجْهَة. لكن نلاحظ أنَّ هذه القاعدة قدِ اخْتَلَّتْ، وأصابها ما أصابها من التَّصَدُّع والتَّمَزُّق أدَّى إلى تنازُلات كثيرة، وخطيرة في هذا المجال. فكل هذه الظواهر تُؤَكِّد أنَّ واقِعَ الأمَّة الإسلامية اليوم واقعٌ مُتَضَعْضِعٌ، واقعٌ مُسَوّسٌ من داخله، فالبناء لم يعد كما كان، ونحن نعيش واقعًا هو امتداد لما قبله، ونعيش واقعًا صُنِعَ لنا صُنْعًا، بُنِيَ لنا في أرض غير أرضنا، بفكر غير فكرنا، وبناسٍ غير رِجَالنا.
والسبب في هذا الوضع المُتَأَزِّم هو ما وقع لبناء الأمة من تَغَيُّر، وما وقع في بنائها من تَلاشٍ وزَعْزَعَة؛ لأننا حينما ندرس تاريخ هذه الأمة، نجد أنها مَرَّت بمراحل تطور متباينة:
• المرحلة الأولى: هي مرحلة البناء القَوِيّ المُحْكَم يوم كانت هذه الأمة أمة بحق وحقيق، حينما بناها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالقرآن؛ فبناء هذه الأمة كان على يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبإشرافه وبرعايته، وعلى عينه حينما بناها بالقرآن، وبقِيَم القرآن، وبمُحْتَوَى القُرْآن، وبأخْلاق القُرْآن.(/3)
فإذًا لما بُنِيَتْ هذه الأمة أُحْكِمَ بناؤُها، يوم صيغت هذه الأمة صياغة شرعية إسلامية أُحْكِمَتْ صياغتها، لأنَّ البانيَ كان هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم- بناها بالقرآن، وظلَّ فيها نحو 23 سنة، وهو يبني ويصوغ ويؤسِّس، فبناها أفرادًا وجماعات، بناها دولةً ومُجْتَمعًا، بناها على القِيَم الإسلامية، وعلى المُسْتَوى العالي، فكانت هذه الأمة - حينما خرجت لهذه الدنيا بهذا البناء المُحْكَم - قويَّة سَيِّدة، لها الشهادة على الناس، لها الإمامة على غيرها.
وحينما اندفعت إلى رسالتها أَدَّتْها بأمانة وقُوَّة، واستطاعت أن تُوَصِّل الإسلام إلى أقصى الشرق والغرب، وأن تُعَمِّمه في هذه الدنيا، كل ذلك؛ لأنها انطلقت ببنائها المُحْكَم، وانطلقت مُنْضَبِطَة بكتاب الله - عز وجل-، فهي أمة القرآن، وحينما كانت تنطلق بالقرآن كانت تُحْدِثُ العَجَب العُجَاب، ولكن حينما تَخَلَّتْ عنه وقع لها ما وَقَع.
• المرحلة الثانية: ظلَّتِ الأُمَّة الإسلامية قرونًا وهي قويَّة مُتَماسِكَة، تُعْطِي وتنتج عطاءً إسلاميًّا ما زال بين أظهرنا إلى الآن، لكن نجد أنها قد مَرَّتْ بمرحلة أخرى هي مَرْحلة الضَّعْف الذي كان بسبب هجمة العدو الصَّليبي عليها، بحيث حينما تَفَرَّقَتْ كلماتُها، وانْسَاقَتْ وراء الدنيا، وتَقَسَّمَتْ، وانْشَقَّتْ - فكانت وِلايات وإمارات وجماعات؛ ظَنَّ – حينئذ - الغَرْب الصَّليبي ومن ورائه الصِّهْيَوْنِيَّة، أنَّ وضع الأمة الإسلاميَّة يومئذ صار فُرْصة للانْقِضَاض عليها، وإنهاء وجودها من التاريخ، واجْتِثَاث حضارتها بالمَرَّة، فَشَنَّ عليها حربه - التي أعلنها - مُقَدَّسة.(/4)
لكن الأمة حينما رَأَتْ الخطر يَتَهَدَّدها، ويحيط بها كلها، وأن القصد منه هو اجتثاث أصول هذه الأمة، واقتلاع جذورها من أرض التاريخ، طبعًا كان لابد من أن ترجع إلى رُشْدِها، وتستعيد وَعْيها، وأدركت أنها لا يُمْكِنُ أنْ تُوَاجِهَ هذا الخطر إلا إذا رجَعَتْ إلى مَصادِرِ قُوَّتها، وليس لهذه الأمة قوةٌ إلا في الرُّجوع للقرآن وشريعته، وقِيَمِه، وحضارته، وبهذا اسْتَطَاعت أن تَصُدَّ تلك الهجمات الشَّرِسَة، فدامت المُؤامَرَات، والحروب مُدَّة طويلة انتهت بانتصار المسلمين، وبسبب وحدتهم، ورجوعهم إلى رُشْدِهم الإسلامي، وإلى وَعْيِهِم الإيماني.
يومها علم العدو الصليبي أن هذه الأمة ما دامت تنطلق - في أمرها، وفي تخطيطها، وفي تدبيرها - من القرآن، وقيم القرآن، وشريعته، وأحكامه فإنها لن تُقْهَر. هذا دَرْس أخذه العدو الصليبي يومئذ، فوضع السِّلاح المادي، وراح يبحث عن سلاح آخر، وكان ذلك هو العُكُوف على تراث هذه الأمة- تراثها الحضاري، والوقوف عليه، والتعرف فيه على مواطن القوة والضعف، والمَدِّ والجَزْرِ - فكانت النتيجة بعد قرون من الدراسة، والبحث، والعكوف أن أُعِيدَ أسلوب الحرب والغزو، فانقلبت الحرب العَسْكريَّة حربًا فكريَّة، وحربًا عَقَدِيَّة، القصد منها إحداث خَلْخَلَة، وقطيعة بين الفكر الإسلامي وبين الواقع، بين المسلمين وبين كتاب الله - عز وجل-، هذه القطيعة هي التي من شأنها أن تُضْعِف، وتفشل العزائم، وتُضْعِفُ الهِمَمَ في هذه الأمة.(/5)
فانْبَرَتْ هذه الحرب على أشكال، وأنماط، وأساليب كثيرة، فظهرت الحركات الاستشراقيَّة بألوانها الكثيرة، وظهرت الحركة التَّنصيريَّة، وظهرت تيَّارات كثيرة من ورائها الحركة الصِّهْيَوْنِيَّة، واتجاهات وحركات كثيرة مُعادِيَة، ومُنَاهِضَة للإسلام في أشكال، وأساليب مُتَعَدِّدَة، فكانت النتيجة من وراء ذلك كله أن وَصَل الغرب الصليبي إلى ما عَجَز عنه من قَبْلُ، وذلك عن طريق إحداثه ما أراد من الزَّعْزَعَة في بناء هذه الأمة، وبذلك استطاع أن يَصِلَ إلى ما لم يَصِل إليه من قبْلُ، مِنْ غَزْوٍ للبلدان الإسلامية بالسلاح.
فجاء الاحتلال الأجنبي، وأقام في بُلْدان الإسلام، جاء بفِكْره، وبقوانينه، وبحضارته، ومدنيَّته، وجاء بعِلْمانيَّته، وبقَضِّه وقَضِيضِه، فعاثَ في البُلْدان الإسلاميَّة، وفَعَل فيها الأفاعيل، ولكن - هو طبعًا - كان يستحضر الدرس - ولم يَغِبْ عن هذا الدرس أبدًا - أنَّ الأمة الإسلاميَّة لا يُمْكِن أن تُمَسَّ، ولا يُمْكِن أن تُدْرَك، ولا يُمْكِن أن يُتَغَلَّب عليها إلاَّ إذا فُصِلَ بينها، وبين دينها، وعقيدتها، وبين كتاب ربها.
كان الاستعمار والاحتلال يَسْتَحْضِر هذا الدرس الذي لم يَنْسَهُ إلى الآن، فلم يُقَصِّر أبدًا في إحداث خَلْخَلَة في بناء هذه الأمة، وإحداث تَمَزُّق في بنائها، والحيلولة والإبعاد بينها وبين مصادر قوتها، ومقومات ذاتها، وأصول حضارتها الإسلامية القَوِيمة الرَّاشِدَة، ولذلك نلاحظ أن الاحتلال مَهَّدَ لمجيئه بتمهيداته التي ذكرنا، ثم حينما جاء، جاء بكل ما له وما عليه، فَغَيَّر بناء الأمة، وغَيَّر تفكيرَ أفرادِها، وشُعُوبِها، ومؤسساتها بما فيها طريقة التفكير، وطريقة التربية، وطريقة العَيْش، غَيَّر ذلك كله؛ لأنه كان يَقْصِد إليه قَصْدًا.(/6)
• المرحلة الثالثة: ثم بعد ذلك، حتى بعد أنْ رَحَل الاستعمار، استطاع أن يَتْرك بذرته، حقيقةً أنه قد رَحَل ووَلَّى؛ ولكنه لم يَرْحَل إلا بشبحه وبشكله، تاركًا فِكْرَهُ، وأصوله، ومَدَنيَّته، وما تُحَافِظُ به على شخصيته، ووجوده في البُلْدان المُسْتَعْمَرَة، تاركًا أتباعه، وخُدَّامه، وكثيرًا من جُنْدِه الذين يحمون فكره ووجوده.
فلذلك جاءت مَرْحَلَة التَّغْريب بعد الاحتلال، وأصبحت الأُمَّة الإسلامية تَنْظر إلى دينها بنظر الآخر، وتعيش دينها بالطريقة التي تُمْلى عليها، وتعيش ذاتها وحضارتها بالطريقة التي تُفْرَض عليها، فهذا إذًا في الحقيقة واقعٌ مَصْنوعٌ لها، والأمة الإسلامية التي تعاني هذا الوضع الذي هو مصنوع والذي هو مخطط له من قرون، لا خلاص لها منه - إن هي أرادت أن تَتَخَلَّص منه - لا سبيل إلى ذلك إلا عن طريق الوعي به، فالوعي بهذا الواقع وبمُكَوِّنات هذا الواقع، وبجذور هذا الواقع، وبالأصول التي انْبَنَى عليها هذا الواقع، وبالذين بَنَوْهُ، الوعي بهذا كله هو الخُطْوة الأولى إلى إعادة بناء الذَّات، وإلى استرجاع ما ضَاعَ من هذه الذَّات.
فربنا عز وجل يقول: {نَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11]، ولا يمكن لهذه الأمة أن تَسْتَرْجِع ما ضاع منها بين عَشِيَّة وضُحَاها، ولا بكلمة تُقَال باللِّسان، ولا بالأماني. يقول عز وجل: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 165]، ويقول عَزَّ من قائل: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ* إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ* وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات: 171 – 173].(/7)
فينبغي لهذه الأمة أن تَرْجع إلى تكوين عنصر الجنديَّة الذي ضاع منها، لا يمكن أن ترجع هذه الأمة إلى سَالِفِ مجدها مِنْ غَيْر أن يكون فيها، ومِنْ غَيْر أن يكون بناؤُها بجنود يجعل الله على يَدِهم النَّصْرَ والغَلَبة، وذلك مَشْروط بقوله - جل وعلا-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ } [محمد:7]، وقوله سبحانه: {إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 160].
فهذه الآيات ومثلها تُحَدِّد القاعدة التي يمكن للأمة أن تُرْجِع - على ضَوْئها - مجدها، فلا يمكن إطلاقًا لهذه الأمة أن تَتَخَلَّص مما هي فيه، وأن تسترجع عزتها وقوتها إلاَّ إذا أعادت بناءها، وإلا بقيت حيث كانت. فهذه الأمة لم تكن قوية إلاَّ بالقرآن، وبالبناء القرآني، ويوم تعود إلى القرآن وإلى البناء القرآني، فإنها تعود إلى قُوَّتها ومَجْدِها.
فقد أَكَّدَتِ التَّجارِب أنَّه لا يمكن أن نجد حقيقتنا الآدَميَّة، وذاتنا الإسلامية إلاَّ إذا كان يوجهنا القرآن، وتوجهنا الرُّؤيا القُرآنيَّة، والمنهج القرآني، والقِيَم القُرْآنيَّة. لذلك لا يمكن لهذه الأمة أن تَتَخَلَّص مما هي فيه ما لم تراجع ذاتها في ضَوْء القرآن، وضوء قِيَم القرآن، وضوء الحضارة القُرْآنيَّة.(/8)
العنوان: والله ذو الفضل العظيم
رقم المقالة: 1676
صاحب المقالة: إبراهيم الأزرق
-----------------------------------------
كرمُ الله تعالى يتجاوز طمعَ الأنبياء فيه مع عظيم علمهم به، فهذا زكريا قد لهج بالدعاء ونادى، وفي التنزيل: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} [الأنبياء: 89]، فاستجاب الله له وجاءته البشرى الملائكية: {فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران: 39]، ومع هذا لم يملك عليه السلام أن قال: {رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا}! [مريم: 8]، فلله! ما أعظمَ إحسانَ ربنا وما أوسعَ كرمَه! أسأل الله أن يبلغني وإياكم برحمته وفضله فوق ما نرجو فيه ونؤمل...(/1)
والمتأملُ في الآيات التي جاء فيها خبرُ زكريا هذا يلمح أنَّ من سبب عجبه –عليه السلام- سرعةَ استجابة الله له، فدعاء زكريا جاء متأخراً، وتأملْ قولَ الله تعالى في آل عمران: (هُنَالِكَ).. {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء} [آل عمران: 38]، ثم عقب بعدها بالفاء مع ذكر المحراب، وكان قد دخل على مريم فيه، {فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران: 39]. وهذه الدعوة المستجابة منه عليه السلام إنما كانت بعد أن رق عظمه وشاب رأسه وذهبت شبيبته، ولهذا ذكر في سورة مريم دعاءه بعد أن تملق مولاه بشيبته وضعفه، {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا * وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا} [مريم: 4-5]، وفي سورة الأنبياء ذُكر إصلاح الزوج بعد الدعوة وكل ذلك يشعر بأن هذه الدعوة إنما كانت بعد أن تقدمت سنه، فكأنه عجب من قرب ربه، وسرعة إجابته، وكان عجبه عظيماً فجاء سؤاله: (أنى يكون لي غلام) مع أن المبشرين جمع من الملائكة وليس ملكاً واحداً.(/2)
ولعله عليه السلام كان يأمُل في إجابة الله له بطريق آخر، إما من زوجة أخرى أو سُرِّية ولم يكن يحسب أن تجيء الإجابة عجلة بكرامة لزوجه ومعجزة له إذ أولد الله له المرأة العاقر كما قال: (وكانت امرأتي عاقراً)، (وأصلحنا له زوجه)، وقد علم عَقْرَها إما بوحي خاص، أو لأن الأنبياء مبرؤون من العيوب والآفات التي قد تكون محل نقيصة، بل هم مجبولون على أكمل الصفات الخلقية والخلقية. ولمّا كان الأنبياء هم أعلم الناس بالله، كانوا أبعد الناس عن الاعتداء في دعائه، ومن فضل الله أنْ هدى زكريا –عليه السلام- إلى هذه الدعوة المطلقة لم تقيد الإجابة بسبب أو تعلقه بطريق، فكان فضل الله عليه عظيماً.
وقد كان فضل الله على أبيه إبراهيم أعظم؛ فقد قال: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات: 100]، ويبدو أن دعوة إبراهيم هذه كانت أيام الشبيبة بعد حادثة الإلقاء في النار، وتأمل سياق الخبر في الصافات، {قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ * فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ * وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} [الصافات: 97-101].
فكانت البشرى بالحليم إسماعيل بعد هذه الدعوة، غير أنها تحققت على كبر كما قال: {الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء} [إبراهيم: 39].
ولم ينقل عنه عليه السلام عجب من مَقْدَم إسماعيل؛ فقد كان يترقب إجابة الدعوة ويتربص حلول البشرى.(/3)
لكنه عجب من البشرى بإسحاق بعده كما في خبره مع نذر قوم لوط: {قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ * قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ * قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ} [الحجر: 54-56]، وهذا عجب منه عليه السلام من سعة فضل الله ورحمته وإكرامه لهم بما تستبعده العقول وتحيله العادة، كما أنه لما قال: رب هب لي من الصالحين سدَّ طمعَه في ربه واحدٌ، غير أن الله بإحسانه وفضله وكرمه منّ عليه بالثاني، وبنبوة الابنين فوق الصلاح! فتأمل كيف هداه الله لأن يدعو فيقول: رب هب لي من الصالحين، فصلوات الله على زكريا لو أطلق الدعوة كما أطلقها إبراهيم فربما زاد الكريم غنمه، ووهبه من الصالحين من شاء بفضله.
إنّ ما سبق يبين لنا بعضَ لطف الله بعباده، وشيئًا من عظيم فضله، وطرفًا من واسع رحمته، وأنَّ من جملة رحمته رزقَ المرء الولد الصالح، وتأمل قوله سبحانه في أول مريم: {ذكر رحمة ربك عبده زكريا}، فانظر كيف سمى استجابةَ دعائه ورزقه يحيى رحمةً، وهذا ما استنبطه الخليلُ عليه السلام بثاقب نظره؛ فقال للمبشرين بالولد من الملائكة: (ومن يقنط من رحمة ربه إلاّ الضالون).
فاعلم أخي الكريم كرم الرب سبحانه، واعتقد عظيم أفضاله، وثق في سعة رحمته، ولا تقنط، وتهيأ لذلك ببذل الأسباب؛ ومن أجَلِّها إصلاح النفس والمسارعة في الخيرات والدعاء على وجهه؛ فقَمَنٌ لمن كان هذا دأبه أن يجاب؛ قال الله تعالى: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} ثم عقب: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90].(/4)
العنوان: واللهِ لينتقمَنَّ اللهُ لرسوله
رقم المقالة: 1495
صاحب المقالة: إبراهيم الأزرق
-----------------------------------------
كثيرٌ من الحادِبِين على الدين وعلى شأن نبينا الكريم -صلى الله عليه وسلم- يؤذيهم ما يذاعُ بين فينة وأخرى -ولا سيما من قبل الكفرة الفجرة الطاعنين- في جنابه صلى الله عليه وسلم، وحق لهم؛ فأنت إذا رأيت رجلاً تافهاً يقع في مُعظَّم لديك -كوالدٍ أو والدة- فسوف تغضب وتنتصر، وحق لك أن تغضب وتنتصر.
غير أن الأسى يزيد إذا لم يكن لك يدٌ بمعاقبةِ الظالم المعتدي العقابَ الذي يستحقُّه.
وتخفيفاً عن هؤلاء الطيبين الذين ساءهم ما فعله السويدي –سود الله دربَه- من إساءةٍ لجناب النبي -صلى الله عليه وسلم- أقول، والله لينتقمَنَّ الله لرسوله -صلى الله عليه وسلم- أقسم على هذا يميناً غير حانثة؛ إيماناً بنصوص الشريعة المتظاهرة، ومن جملتها قولُ الله تعالى: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} [الحجر: 95]، وقوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا} [الأحزاب: 57]، فما ظنُّك برجل مطرود من رحمة الله في الدنيا قبل الآخرة؟ فكيف إذا كان محارَباً من قِبَلِ الله؟ قال الله تعالى: (من آذى لي ولياً فقد آذنتُه بالحرب) كما في الحديث القدسي عن أبي هريرة في الصحيح[1]، فكيف بمن عادى لله نبيًا؟
وقد صح في البخاري ومسلم قولُه -صلى الله عليه وسلم-: (لا أحدَ أغيرُ من الله)[2]، بل عقد البخاري في صحيحه باباً: (لا شخص أغير من الله)[3]. فالله أغيرُ على محارمه وعِرْض نبيه -صلى الله عليه وسلم- منا، فالله تعالى –كما قال شيخ الإسلام-: "منتقمٌ لرسوله ممن طعن عليه وسبَّه، ومظهرٌ لدينِه، ولكذبِ الكاذب، إذا لم يمكنِ الناسَ أن يقيموا عليه الحد"[4]، وهذا من جملة براهين صحة رسالته -صلى الله عليه وسلم-.(/1)
وإذا تقرَّر هذا عُلِم أن عذاب المنتقص للنبي -صلى الله عليه وسلم- متحققٌ حتماً؛ إما بأيدي المؤمنين، وإما بأيدي غيرهم إن لم يمكنهم ذلك.
وقد جاءت السننُ الحسان بإثبات شيء من ذلك؛ فمن ذلك حديثُ ابن مسعود في دعائه -صلى الله عليه وسلم- على أولئك النفر السبعة الذين أحدُهم أبو جهل بن هشام، وأصحابه حين طرحوا على ظهره -عليه السلام- سلى الجزور، وألقته عنه ابنتُه فاطمة -رضي الله عنها- فلما انصرف قال: "اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بأبي جهل، وشيبة بن ربيعة، وعتبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة"، ثم سمى بقية السبعة. قال ابنُ مسعود: فوالذي بعثه بالحق، لقد رأيتُهم صرعَى في القليبِ قليبِ بدرٍ.. الحديث، وهو متفق عليه[5].
ومن ذلك أيضاً حديثُ أنس بن مالك قال: كان رجلٌ نصراني، فأسلم، وقرأ البقرة وآل عمران، وكان يكتب للنبي -صلى الله عليه وسلم- فعاد نصرانيًا، وكان يقول: لا يدري محمد إلا ما كتبتُ له، فأماته الله فدفنوه، فأصبح وقد لفظته الأرض، فقالوا: هذا فعل محمد وأصحابه لما هرب منهم نبشوا عن صاحبنا فألقوه، فحفروا له فأعمقوا له في الأرض ما استطاعوا، فأصبحوا وقد لفظته الأرض، فعلموا أنه ليس من الناس فألقوه، وهذا حديث صحيح ثابت[6].
قال الإمام ابن تيمية معلقاً على الخبر: "وهذا أمرٌ خارج عن العادة يدلُّ كلَّ أحد على أن هذه عقوبةٌ لما قاله، وأنه كان كاذباً، إذ كان عامةُ الموتى لا يصيبُهم مثلُ هذا، وأن هذا الجرم أعظم من مجرد الارتداد؛ إذ كان عامةُ المرتدين لا يصيبهم مثل هذا، وأن الله منتقمٌ لرسوله ممن طعن عليه وسبه، ومظهر لدينه وكَذِبِ الكاذبِ إذا لم يمكن الناسَ أن يقيموا عليه الحد.(/2)
ونظيرُ هذا ما حدثناه أعدادٌ من المسلمين العدول أهل الفقه والخبرة عما جربوه مراتٍ متعددة في حصر الحصون والمدائن التي بالسواحل الشامية، لما حَصَر المسلمون فيها بني الأصفر في زماننا؛ قالوا: كنا نحن نحصر الحصن أو المدينة الشهر أو أكثر من الشهر، وهو ممتنع علينا، حتى نكاد نيأس منه، حتى إذا تعرض أهلُه لسب رسول الله والوقيعة في عرضه تعجَّلنا فتحَه وتيسَّرَ، ولم يكد يتأخر إلاّ يوماً أو يومين، أو نحو ذلك، ثم يُفتح المكان عَنوة، ويكون فيهم ملحمة عظيمة. قالوا: حتى إن كنا لنتباشَرُ بتعجيل الفتح إذا سمعناهم يقعون فيه، مع امتلاء القلوبِ غيظاً عليهم بما قالوا فيه. وهكذا حدثني بعضُ أصحابنا الثقات؛ أن المسلمين من أهل المغرب حالُهم مع النصارى كذلك، ومن سنة الله أن يعذب أعداءه تارة بعذاب من عنده وتارة بأيدي عباده المؤمنين"[7].
وفيما نزل باليهود الذين آذَوُا الله ورسوله من الجلاء والعذاب مصداقُ ذلك. والأخبارُ في كتب السير وغيرها أكثرُ من أن يتسع لها هذا المقالُ؛ ومن ذلك على سبيل المثال ما ذكره بعض أهل السير في غزوة تبوك أنه مرَّ بين أيديهم وهم يصلون غلامٌ؛ فدعا عليه -صلى الله عليه وسلم- فأقعد فلم يقم بعدها[8]. وقال ابن كثير: جاء من طرق أوردها البيهقي أن رجلاً حاكى النبي -صلى الله عليه وسلم- في كلام، واختلج بوجهه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: كن كذلك، فلم يزل يختلج ويرتعش مدة عمره حتى مات[9].
وقد رأينا بعيوننا ما قد شفى صدورَ قومٍ مؤمنين، وكم من كاتبٍ استطال وعدى قدرَه، فوقع في عرض النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- فسرعان ما أخذه اللهُ أخذةَ جبارٍ؛ فاعتبروا يا أولي الأبصار.(/3)
فإنْ بان لك أن هذه سنةٌ ماضية، فاعلم أنه سوف ينال المستهزئين في السويد والدنمارك وغيرهما جزاؤهم، إما بقارعة من ربك -وربك عزيز ذو انتقام- وإما بيد عبد من عبيده ينذر نفسَه لله فيقصد بعض هؤلاء المستهزئين ويمسهم بعذاب الله الذي أوجبه لأمثالهم في الدنيا، غير أن هذا الصنيع ينبغي أن يقصر على المستهزئين دون غيرهم، والواجب أن نعلم -إن وقع أمرٌ كهذا على وجه لا يتعدى ضرره المقصود من المستهزئين والقاصد من المسلمين- أنه صنيع من جملة الجهاد، بل من أفضل الجهاد، وقد أثبت أهلُ العلم في دواوين الإسلام نظائرَ لا تزال تُذكر في مناقب أصحابها من الصحابة -رضي الله عنهم- فَمَن بعدهم، ومن قرأ (الصارم المسلول على شاتم الرسول صلى الله عليه وسلم) لشيخ الإسلام ابن تيمية وجد من ذلك طرَفاً.
وأما إن عجز المسلمون، فلا يكلف الله نفساً إلاّ وسعها، والله ناصر دينه، منتقم لنبيه، شافٍ صدورَ أوليائه عاجلاً أو آجلاً، فثِق بنصر الله رسوله وترقَّبْ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] البخاري (6137).
[2] البخاري (4358) وغير موضع، ومسلم (901) وغير موضع.
[3] البخاري 6/2697.
[4] الصارم المسلول لابن تيمية 1/122.
[5] البخاري (237)، وغير موضع، ومسلم (1794).
[6] صحيح البخاري (3421).
[7] الصارم المسلول 1/122-123.
[8] انظر البداية والنهاية 6/169.
[9] السابق.(/4)
العنوان: والله يعصمك من الناس
رقم المقالة: 2046
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
عصمته صلى الله عليه وسلم من المشركين
الحمد لله الولي الحميد؛ ابتلى عباده بالدين، وهداهم إلى الحق المبين، نحمده على نعمه العظيمة، وآلائه الجزيلة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ اتسعت رحمته فشملت من شاء من خلقه، وعظم حلمه فلم يعاجل بالعقوبة عباده {وَرَبُّكَ الغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ العَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا} [الكهف:58] وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ بلغ رسالة ربه، ونصح لأمته، واحتمل في ذات الله تعالى جفوة القريب والبعيد، وصبر على أذى المشركين واليهود والمنافقين، حتى أقام الله تعالى به الدين، وأظهر الحنيفية، ودحر الكفر والكافرين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه؛ فَدَوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنفسهم وأولادهم وأموالهم، فَسِهروا في الحراسة لينام، وجاعوا في المخمصة ليشبع، وبذلوا ما يملكون لنصرة دعوته، وأعانوه على تبليغ رسالة ربه، وقد قيل للصديق: ما أبقيت لأهلك؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله؛ فرضي الله عنهم وأرضاهم، وجزاهم عن المسلمين خير الجزاء، ونبرأ إلى الله تعالى ممن تنقصهم وآذاهم من الملاحدة والرافضة والمنافقين، ورضي الله تعالى عن أتباعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله ربكم، واستمسكوا بدينكم، والزموا سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم {وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا البَلَاغُ المُبِينُ} [المائدة:92].(/1)
أيها الناس: من طبيعة الباطل أنه لا يقف أمام الحق، ومن شأن أهل الضلال أذيتهم لأهل الهدى؛ خوفا على باطلهم من كشف أهل الحق له. وما من سبيل في غواية الناس وإضلالهم إلا سلكوه، فإن جادلوا عن باطلهم لم يكونوا من أهل الصدق والعدل، بل يلبسون الحق بالباطل، ويفترون الكذب، ويخفون الحق، وتلك هي طبيعة الكفار والمنافقين قديما وحديثا {وَمَا نُرْسِلُ المُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الحَقَّ} [الكهف:56]. وفي الآية الأخرى {وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الحَقَّ} [غافر:5].
وما من أهل هدى وحق من النبيين وأتباعهم إلا حوربوا وأوذوا في ذات الله تعالى من لدن نوح عليه السلام إلى يومنا هذا، وقد قتل عدد كبير من الأنبياء والمصلحين لا لشيء إلا لدعوتهم للحق، ووقوفهم ضد الباطل وأهله.
ورسولنا محمد صلى الله عليه وسلم هو إمام أهل الحق والهدى، وأكبر من جاهد الباطل وأهله قديما وحديثا، فاحتمل في سبيل الله تعالى أذية المشركين في مكة، ثم أذية اليهود والمنافقين في المدينة، ثم أذية النصارى خارج الجزيرة، وقد حاول الأعداء قتله غير مرة، فعصمه الله تعالى منهم إلى أن اختاره إلى جواره.
كيف؟! وقد خاطبه ربه عز وجل فقال سبحانه {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67] وفي آية أخرى {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ} [البقرة:137].
لقد أحاط الله تعالى نبيه محمدا عليه الصلاة والسلام بحفظه ورعايته، وعصمه من مكر المشركين أفرادا وجماعات، رجالا ونساء، قبل الهجرة وبعدها، ورد كيدهم عليهم فانقلبوا خاسرين خائبين.(/2)
كان رأس الكفر أبو جهل أكثر الناس عداوة للنبي عليه الصلاة والسلام، وحاول قتله غير مرة، فحال الله تعالى بينه وبين نيته الخبيثة، وذات مرة قال أبو جَهْلٍ: (هل يُعَفِّرُ مُحَمَّدٌ وَجْهَهُ بين أَظْهُرِكُمْ؟ فَقِيلَ: نعم، فقال: وَاللَّاتِ وَالْعُزَّى لَئِنْ رَأَيْتُهُ يَفْعَلُ ذلك لَأَطَأَنَّ على رَقَبَتِهِ أو لَأُعَفِّرَنَّ وَجْهَهُ في التُّرَابِ قال فَأَتَى رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم وهو يُصَلِّي زَعَمَ لِيَطَأَ على رَقَبَتِهِ، قال: فما فَجِئَهُمْ منه إلا وهو يَنْكُصُ على عَقِبَيْهِ وَيَتَّقِي بِيَدَيْهِ، فَقِيلَ له: مالك؟ فقال: إِنَّ بَيْنِي وَبَيْنَهُ لَخَنْدَقًا من نَارٍ وَهَوْلًا وَأَجْنِحَةً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو دَنَا مِنِّي لَاخْتَطَفَتْهُ الْمَلَائِكَةُ عُضْوًا عُضْوًا) رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وكان أبو جهل يَعتزُّ بعصبته، ويهدد النبي عليه الصلاة والسلام بعزوته من المشركين، ولكن الله تعالى أقوى وأعز، روى ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي فَجَاءَ أبو جَهْلٍ فقال: أَلَمْ أَنْهَكَ عن هذا؟ أَلَمْ أَنْهَكَ عن هذا؟ فَانْصَرَفَ النبي صلى الله عليه وسلم فَزَبَرَهُ، فقال أبو جَهْلٍ: إِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما بها نَادٍ أَكْثَرُ مِنِّي، فَأَنْزَلَ الله تعالى {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ * سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} [العلق:17-18] فقال ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: فَوَالله لو دَعَا نَادِيَهُ لَأَخَذَتْهُ زَبَانِيَةُ الله تعالى) رواه الترمذي وصححه.(/3)
وكان من عصمة الله تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام، وكفايته له حفظه إياه من سلاطة لسان امرأة أبي لهب، حمالة الحطب، وكانت خبيثة بذيئة؛ كما روى ابن عباس رضي الله عنهما قال: (لما نزلت تبت يدا أبي لهب جاءت امرأة أبي لهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر، فلما رآها أبو بكر قال: يا رسول الله، إنها امرأة بذيئة وأخاف أن تؤذيك فلو قمت، قال: إنها لن تراني، فجاءت فقالت: يا أبا بكر، إن صاحبك هجاني، قال: لا وما يقول الشعر قالت: أنت عندي مصدق، وانصرفت، فقلت: يا رسول الله، لم ترك؟ قال: لا، لم يزل ملك يسترني عنها بجناحه) رواه أبو يعلى وصححه ابن حبان.(/4)
وعلى مستوى الجماعة يتذاكر الرهط من قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدون أذيته، وصده عن دعوته، ويتنادون على عمل شيء ضده فما أن يراهم ويكلمهم حتى يقذف الله تعالى الرعب في قلوبهم، فلا ينطقون بما عزموا عليه من أمرهم؛ كما روى عبد الله بنُ عَمْرِوٍ رضي الله عنهما: أن قريشا اجْتَمَعَ أَشْرَافُهُمْ يَوْماً في الْحِجْرِ فَذَكَرُوا رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: ما رَأَيْنَا مِثْلَ ما صَبَرْنَا عليه من هذا الرَّجُلِ قَطُّ: سَفَّهَ أَحْلاَمَنَا وَشَتَمَ آبَاءَنَا وَعَابَ دِينَنَا وَفَرَّقَ جَمَاعَتَنَا وَسَبَّ آلِهَتَنَا، لقد صَبَرْنَا منه على أَمْرٍ عَظِيمٍ أو كما قالوا قال: فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إذا طَلَعَ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فَأَقْبَلَ يمشي حتى اسْتَلَمَ الرُّكْنَ، ثُمَّ مَرَّ بِهِمْ طَائِفاً بِالْبَيْتِ فلما أَنْ مَرَّ بِهِمْ غَمَزُوهُ بِبَعْضِ ما يقول، قال: فَعَرَفْتُ ذلك في وَجْهِهِ ثُمَّ مَضَى، فلما مَرَّ بِهِمْ الثَّانِيَةَ غَمَزُوهُ بِمِثْلِهَا، فَعَرَفْتُ ذلك في وَجْهِهِ ثُمَّ مَضَى، ثُمَّ مَرَّ بِهِمْ الثَّالِثَةَ فَغَمَزُوهُ بِمِثْلِهَا فقال: تَسْمَعُونَ يا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، أَمَا والذي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بيده لقد جِئْتُكُمْ بِالذَّبْحِ، فَأَخَذَتِ الْقَوْمَ كَلِمَتُهُ حتى ما منهم رجلا إلا كَأَنَّمَا على رَأْسِهِ طَائِرٌ وَاقِعٌ، حتى إن أَشَدَّهُمْ فيه وصاةً قَبْلَ ذلك ليرفأه بِأَحْسَنِ ما يَجِدُ مِنَ الْقَوْلِ حتى إنه لَيَقُولُ: انْصَرِفْ يا أَبَا الْقَاسِمِ، انْصَرِفْ رَاشِداً؛ فَوَالله ما كُنْتَ جَهُولاً) رواه أحمد وصححه ابن حبان.(/5)
وذات مرة تآمر جمع من المشركين على النبي عليه الصلاة والسلام، وتواصوا فيما بينهم على قتله، وبيتوا الغدر به، ولكن الله تعالى عصمه منهم؛ كما روى ابنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قال: (إِنَّ الْمَلأَ من قُرَيْشٍ اجْتَمَعُوا في الْحِجْرِ فَتَعَاقَدُوا بِاللاَّتِ وَالْعُزَّى ومنات الثَّالِثَةِ الأُخْرَى وَنَائِلَةَ وَإِسَافٍ لو قد رَأَيْنَا مُحَمَّداً لقد قُمْنَا إليه قِيَامَ رَجُلٍ وَاحِدٍ فلم نُفَارِقْهُ حتى نَقْتُلَهُ فَأَقْبَلَتِ ابْنَتُهُ فَاطِمَةُ رضي الله عنها تبكي حتى دَخَلَتْ على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: هَؤُلاَءِ الْمَلأُ من قُرَيْشٍ قد تَعَاقَدُوا عَلَيْكَ لو قد رَأَوْكَ لقد قَامُوا إِلَيْكَ فَقَتَلُوكَ فَلَيْسَ منهم رَجُلٌ إلا قد عَرَفَ نَصِيبَهُ من دَمِكَ، فقال: يا بُنَيَّةُ، أريني وضوءً، فَتَوَضَّأَ ثُمَّ دخل عَلَيْهِمُ الْمَسْجِدَ فلما رَأَوْهُ قالوا: هَا هو ذَا، وَخَفَضُوا أَبْصَارَهُمْ، وَسَقَطَتْ أَذْقَانُهُمْ، في صُدُورِهِمْ وَعُقِرُوا في مَجَالِسِهِمْ فلم يَرْفَعُوا إليه بَصَراً، ولم يَقُمْ إليه منهم رَجُلٌ فَأَقْبَلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قام على رؤوسهم فَأَخَذَ قَبْضَةً مِنَ التُّرَابِ فقال: شَاهَتِ الْوُجُوهُ، ثُمَّ حَصَبَهُمْ بها، فما أَصَابَ رَجُلاً منهم من ذلك الْحَصَى حَصَاةٌ إلا قُتِلَ يوم بَدْرٍ كَافِراً) رواه أحمد وصححه ابن حبان.(/6)
ولما هاجر عليه الصلاة والسلام، واختبأ في الغار، واشتد طلب المشركين له؛ خاف أبو بكر رضي الله عنه أن يدركوه، ولكن عصمه الله تعالى منهم، قال أبو بكر رضي الله عنهما: (نَظَرْتُ إلى أَقْدَامِ الْمُشْرِكِينَ على رُءُوسِنَا وَنَحْنُ في الْغَارِ فقلت: يا رَسُولَ الله، لو أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ إلى قَدَمَيْهِ أَبْصَرَنَا تَحْتَ قَدَمَيْهِ، فقال: يا أَبَا بَكْرٍ، ما ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ الله ثَالِثُهُمَا) رواه الشيخان، فأنزل الله تعالى خبر ذلك في كتابه العزيز {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا} [التوبة:40].
وفي هجرتهما إلى المدينة اشتدَّ الطلب عليهما، قال أبو بكر رضي الله عنه: (وَاتَّبَعَنَا سُرَاقَةُ بنُ مَالِكٍ فقلت: أُتِينَا يا رَسُولَ الله، فقال: لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَدَعَا عليه النبي صلى الله عليه وسلم فَارْتَطَمَتْ بِهِ فَرَسُهُ إلى بَطْنِهَا أُرَى في جَلَدٍ من الأرض فقال: إني أُرَاكُمَا قد دَعَوْتُمَا عَلَيّ،َ فَادْعُوَا لي فَاللَّهُ لَكُمَا أَنْ أَرُدَّ عَنْكُمَا الطَّلَبَ، فَدَعَا له النبي صلى الله عليه وسلم فَنَجَا فَجَعَلَ لَا يَلْقَى أَحَدًا إلا قال: كَفَيْتُكُمْ ما هُنَا فلا يَلْقَى أَحَدًا إلا رَدَّهُ، قال: وَوَفَى لنا) رواه الشيخان.
وهذا من المعجزات العظيمة، الدالة على عصمة الله تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام؛ إذ ساخت قوائم الفرس إلى بطنها حتى لا تتحرك في أرض صلبة لم تجر العادة أن الدواب تسيخ فيها.(/7)
فالحمد الله الذي حفظ نبيه صلى الله عليه وسلم من كيد المشركين، والحمد لله الذي هدانا على يديه لدينه العظيم {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ وَلَا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشُّورى:52].
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم.....
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما ينبغي لجلاله وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله ربكم -أيها المسلمون- واعرفوا للنبي عليه الصلاة والسلام حقه، واتبعوا دينه، وادعوا بدعوته، وادرؤوا عنه أذى الكافرين والمنافقين والمرتدين؛ فإن اتباعه عليه الصلاة والسلام وتوقيره وتبجيله من أسباب الفلاح {فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} [الأعراف:157].
أيها المسلمون: تشتد في هذا الزمن حملات الكفار والمنافقين على النبي عليه الصلاة والسلام، وعلى ما بلَّغ من القرآن والدين.. لقد دنسوا القرآن ومزقوه وأهانوه، ورفضوا أحكام الشريعة ونفَّروا الناس منها، وصدوا عن سبيل الله تعالى، وسخروا بالنبي عليه الصلاة والسلام.(/8)
لقد أعلن أئمة الكفر في هذا العصر عداءَهم للإسلام، وأظهروا ما كانوا يبطنون من شدة عداوتهم لأهل الإيمان، واستوى في ذلك ساستهم ورهبانهم، وقبل عامين من الآن نظمت إحدى المجلات الدانمركية مسابقة في رسم النبي عليه الصلاة والسلام، وتصويره للناس في أبشع صورة، ونشرت صورا عدة، فانتفضت الشعوب الإسلامية غضبا لله تعالى أن ينتقص نبيه عليه الصلاة والسلام، وتمايزت حينها صفوف المؤمنين من المخذلين والمنافقين الذين كانوا يقللون من أهمية الحدث، وعملت الشعوب ما تستطيع من مقاطعة بضائع الظالمين حتى كسدت تجارتهم في بلاد المسلمين، فوقفت بعض دول الكفر معهم تعينهم على إثمهم، وتستقبل بضائعهم، وتنشر رسومهم الآثمة في صحفهم، وما اعتذروا عن فعلتهم الفاجرة، ولا أبدوا ندما عليها. ولكن طائفة من المسلمين ذهبوا إليهم في ديارهم لعقد مؤتمر عن النبي عليه الصلاة والسلام، وفي نهايته نشروا بيانا يدعون فيه إلى إنهاء المقاطعة، ففتوا في عضد المسلمين، وتبعهم فيما قرروا كثير من الناس، فهدأ هذا الحدث سنتين، وكاد الناس أن ينسوا تلك الجريمة البشعة، فعاد النصارى الحاقدون إلى توسيع فعلتهم النكراء إذ تناقل الإعلام بالأمس أن الرسوم الساخرة بالنبي عليه الصلاة والسلام قد نُشرت في سبع عشرة صحيفة دنمركية، وهذا يدل على شدة عداوتهم للإسلام وأهله، وأنهم لن يرضوا عن المسلمين حتى يخرجوهم من إسلامهم.(/9)
لقد دلت هذه الحادثة النكراء -كما دلت أحداث كثيرة غيرها- دلت على أن دعاة السلام وحملة الشعارات الإنسانية والتعايش السلمي ما هم إلا جهلة واهمون حالمون، قد أعرضوا عن كتاب الله تعالى، وجهلوا التاريخ، ولم يبصروا الواقع، وأن ذِلتهم واستجداءهم للكفار والمنافقين، وتسولهم على أبوابهم وصحفهم قد حجب أبصارهم، وطبع على قلوبهم، فلم يدركوا الحقائق كما هي، بل نظروا إليها بأبصار الأعداء، وهاهم أولاء أعداء النبي عليه الصلاة والسلام ينشرون جريمتهم في نطاق أوسع، فماذا سيقول الحالمون بالشعارات الإنسانية؟ وبأي وجه يقابل المخذلون أمتهم؟ وماذا سيقولون لربهم يوم القيامة؟
إن هذه المصائب العظيمة من إزارء الكافرين والمنافقين بربنا جل جلاله، وبقرآننا الكريم، وبرسولنا محمد عليه الصلاة والسلام، وسخريتهم بالشريعة الربانية؛ باتت تتكرر وتتنوع، ويقتسم الكفار والمنافقون والمخذلون أدوارها وفصولها؛ ليخدروا الأمة المسلمة، ويُمِيتوا قلوب المسلمين عن الشعور بفداحة ما يفعلون؛ فيألف المسلمون التعدي على مقدساتهم، وانتهاك حرمات دينهم، فلا تتحرك قلوبهم بشيء.
إن الله تعالى قد انتصر لنبيه عليه الصلاة والسلام من المشركين ومن اليهود ومن المنافقين، وعصمه من دسائسهم ومكرهم، وجعلهم الأذلين الأرذلين المهزومين، ورفع رسوله صلى الله عليه وسلم مكانا عليا، وهو سبحانه قادر على أن ينتصر له في هذا العصر من كفرة أهل الكتاب الذين تنقصوه، ولكنه الابتلاء والامتحان لعباده المؤمنين، وكم على وجه الأرض من مسلم يؤمن بالنبي عليه الصلاة والسلام؟! أفلا ينتصرون له؟!(/10)
إن من قرأ التاريخ وعرفه لن يجد حقبة من الزمن استطال فيها الكفار والمنافقون على مقدسات المسلمين كهذا الزمن الذي نعيشه، فويلٌ للمسلمين وقد تجاوزا المليار مسلم من أقلام التاريخ وتدوينه لهذه الأحداث العظيمة، ولولا تخاذل المسلمين حكاما ومحكومين عن النصرة لما أحدث الكفار والمنافقون كل حين قارعة أخرى.
إن الكفار والمنافقين في زمننا هذا لم يروا النبي عليه الصلاة والسلام، وليس بينهم وبينه عداوة شخصية، وإنما نقموا منه ما جاء به من الدين الذي ندين به، والقرآن الذي نقرؤه، والشريعة التي نلتزمها، أفلا يكون فينا -عباد الله- غيرة لله تعالى على نبينا محمد عليه الصلاة والسلام وقد كان الناصح لنا، المشفق علينا، الرحيم بنا؟ كيف!! وأعظم خير نلناه وهو الإيمان إنما كان عن طريقه عليه الصلاة والسلام، وأعظم شرٍ نجانا الله تعالى منه وهو الكفر إنما نجينا منه بتحذيره عليه الصلاة والسلام.
إن أعظم شيء أغاظ الكفار والمنافقين هو التزام الإسلام، وانتشار مظاهره وشعائره بين الناس، وإن أعظم شيء ننصر به نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم التزام سنته، ونشر هديه، والدعوة إلى دينه، وإن أكبر المظاهر التي تغيظ الكفار والمنافقين في هذا العصر اللحى للرجال، والحجاب للنساء، ومن نظر إلى سخرية الكفار والمنافقين وجد أنها ترتكز على هاتين الشعيرتين كرمزين عظيمين يدلان على تمسك المسلم بدينه، وإغاظته لمن يعارض الدين، ويقدح فيه، وما معركةُ الحجاب في أوربة ثم في تركيا قبل أيام إلا من أبين الأدلة على ذلك. فأغيظوا أعداء الملة والدين بهاتين الشعيرتين العظيمتين، وانشروهما في الناس، وأحيوا سنة النبي عليه الصلاة والسلام في بيوتكم ومساجدكم وأسواقكم وأعمالكم، وعلموها نساءكم وأولادكم، وانتصروا لنبيكم عليه الصلاة والسلام بما تستطيعون من مجالات النصرة..
وصلوا وسلموا عليه كما أمركم بذلك ربكم.....(/11)
العنوان: وأن تصوموا خير لكم
رقم المقالة: 1236
صاحب المقالة: د. عبدالكريم بكار
-----------------------------------------
كان من منَّة الله تعالى على هذه الأمة أن شرع لها من الدين ما يصلح أمر دنياها وآخرتها، وكان من أهم ما شرعه صوم شهر رمضان المبارك. والعبادات في الإسلام تكاليف وابتلاء، ومقياس يكشف عن مدى تمكن الإيمان وألقه في نفس المسلم، وهي في الوقت ذاته وسائل لتمكين ذلك الإيمان، إنها له بمثابة الماء للشجر والنبات.
وآيات الصيام لم تعدد لنا أنواع الخيرات التي سنحصل عليها من وراء هذه العبادة؛ ليظل عطاء هذه العبادة مفتوحًا متنوعًا تظهره التجرِبة التاريخية الاجتماعية، والواقع المعاش.
ونستطيع الآن من خلالهما أن نتلمس وجوهًا من ذلك الخير في المفردات التالية:
1 - إن الصيام وسيلة فعالة لتربية الإرادة الحرة: حيث لا توجد عبادة من العبادات تكف المسلم عن شهواته وملذاته مدة متصلة من الزمان كهذه العبادة، فهي تدريب لإرادة المسلم على مقاومة الأهواء والملذات ومغريات الحياة.(/1)
والمتأمل فيما يتفاوت فيه الناس في هذا الوجود يجد أن محور التفاوت هو الإرادة لا القدرة، فالقدرات الفطرية لدى الناس متقاربة، لكن تفاوتهم الأساس يكون في مدى صلابة الإرادة التي تُسخِّر القدرة وتوجهها، والتي تعين على ضبط الوقت، وتكبح جماح الهوى والركون إلى الدعة وسفاسف الأمور، ومن هنا فإن الصيام جاء لينمي تلك الإرادة وليعودها التوجه إلى الخير ومقاومة نزوات النفس؛ ولذا فإن تفريط المسلم في أداء هذه الشعيرة صار لدى العامة من المسلمين مؤشرًا إلى نقص في رجولته، وهذا هو تفسير قيام كثير من المسلمين بالصيام مع تفريطهم في الصلاة، مع أن أهميتها في الإسلام أعظم! ويذكر لنا ابن الجوزي (ت 597 هـ) أن هناك صنفًا من الناس لو ضرب بالسياط على أن يفطر رمضان ما أفطره، ولو ضرب على أن يصلي ما صلى! وما ذلك إلا لأن الناس عدُّوا الإفطار نقصًا في الرجولة، ولم يعدوا الصلاة كذلك، وقوله سبحانه: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:184] في أعقاب ذكر الرخصة للمريض والمسافر بالفطر إيماءة للمسلم بأنه من الأفضل له أن يصوم مع المرض المحتمل والسفر غير الشاق، ليكون في تحقيق إرادته نوعٌ من المكابدة والمعاناة في سبيل الله عز وجل، وحتى لا يصير بعض الناس إلى إيجاد الرخص والتذرع بها للفرار من الواجبات.(/2)
2 - الصيام عبادة سلبية. كيف؟ فهو امتناع عن أنواع المفطرات، ومن ثم فإنه بعيد عن الرياء، وخرق تلك العبادة أمر ميسور في السر لمن أراد ذلك، ومن هنا فإن صيام رمضان فرصة لتنمية الوازع الداخلي لدى المسلم، هذا الوازع الذي تعد تنميته محور التربية الفردية الناجحة، والملموس أن تعاظم هذا الوازع لا يتم إلا من خلال الثقة به، والاعتماد عليه في شؤون عديدة، فهو في ذلك أشبه شيء بعضلات الجسم في أن نموها في استخدامها وتحريكها والاعتماد عليها؛ ولذا فإننا نرى ضعف الوازع الداخلي لدى أولئك الذين يأتون الفضائل، ويقومون بالواجبات من خلال قسر الأبوين أو المجتمع، فهم يفعلون ما يفعلونه نتيجة ضغط خارجي، فإذا ما ضَعُف ذلك الضغط أو تلاشى؛ أتوا من الرذائل والقبائح وأنواع التحلل ما يتناسب طردًا مع حجم الضغوط، التي تعرضوا لها فيما مضى؛ وهذا يجعلنا نساوق بين الرقابة الاجتماعية وتنمية الوازع الداخلي من خلال التربية البيتية القويمة.
3 - في الصيام فوائد طبية واقتصادية واضحة: فهو يخلص الجسم من بعض ما تراكم فيه من الدهون، ويريح المعدة من العمل الشاق الذي تقوم به على مدار السنة، مع فوائد طبية أخرى معروفة.. وفي الصيام توفير إجباري لنحو 40 % من استهلاك الأطعمة والأشربة، الذي تعوده الناس في أيام الفطر، وفي هذا نوع من التعظيم للمالية الإسلامية، ونوع من المحافظة على الموارد الغذائية للأمة المسلمة.(/3)
4 - من خيرات رمضان أنه أضحى ظرفًا لأداء أنواع من القربات لله: فقد تجاوز صيام هذا الشهر مفهومَ التلبس بعبادة من العبادات، ليصبح نوعًا من الامتثال لمفردات كثيرة في المنهج الرباني، ففيه قيام الليل والإكثار من قراءة القرآن، والاعتكاف في المساجد ولزوم الجماعات من قِبَل كثير من المسلمين، وإخراج صدقة الفطر، والاستبشار بعفو الله وكرمه بما تظهر الأمة من البهجة والسرور في يوم عيدها، فكأن شهر رمضان مناسبة لازدحام العبادات والقربات في حياة المسلم، على نحو لا يتوفر في أي وقت آخر.
5 - يمثل الصيام نوعًا من الاتصال والتواصل الاجتماعي: حيث ترسم الظروف اليومية، والمصالح والأوضاع الاجتماعية، والطموحات الخاصة مجموعةً من الأطياف العازلة لكل إنسان عن غيره؛ مما يؤدي إلى فقد الاتصال أو ضعفه. وفقد الاتصال في مجتمع ما من أكبر المعوقات له عن النمو والتجانس والصمود في وجه الكوارث، وألوان العدوان الخارجي، ومن ثَمَّ فإن امتناع أبناء المجتمع المسلم عن الطعام في وقت واحد - مهما كانت أوضاعهم الاجتماعية - وتناولهم له في وقت آخر محدد، إلى جانب الشعائر الجماعية الأخرى، التي تعودها المسلمون في هذا الشهر المبارك، من أهم ما يوحد الشعور بالتجانس، ومن أهم ما يزيل الحواجز، التي تولدها الظروف المختلفة.
6 - الصيام اليوم: إن مهمة المبادئ العليا أن تكيف حياة الناس وتوجهها وَفْقَ مضامينها ومعطياتها، لكن تلك المباديء لا تعمل في فراغ، وإنما تشتبك مع أمور عديدة من جملتها: العادات الموروثة، والظروف الضاغطة، والأهواء والشهوات الجامحة، والتأويلات والأفهام الخاطئة للمنهج والمباديء، وهذا كله ينتهي إلى شأن اجتماعي مُعاشٍ يلخصه ميل الناس بصورة دائمة إلى جعل النهج الرباني جزءًا من ثقافتهم، وقد يكون جزءًا صُلبًا، وقد يكون جزءًا رخوًا على مقدار إقبال الناس على الإسلام، وهي التي تجعل من المنهج موجهًا للثقافة، ومهيمنًا عليها.(/4)
ومن هنا فإن أخطر علل التدين، هي تلك التي تصيب الأمة في مكانة منهجها ومبادئها من ثقافتها العامة، فتكف المبادئ عن توجيه الفعل، أو تنحرف عن غاياتها ومقاصدها، فلا تحقق الحكم المقصودة في تشريعها، ويكون الجهاد الدائم هو محاولة الإبقاء على المنهج الرباني، ساطعًا متألقًا، متميزًا عما تواطأ عليه الناس من عادات وتقاليد. ومازال - بحمد الله - في مجتمعنا المسلم من يحرص على الصيام على الوجه الأكمل، وهم في تزايد مستمر لكن الأكثرية الكاثرة من هذه الأمة، انحرفت بالصيام عن مقاصده التي ذكرنا أهمها آنفًا، فعلى حين كان السلف يعدون رمضان فرصة سانحة يغتنمونها في صنوف الطاعات، نجد كثيرًا من المسلمين يسهرون الليل في ضروب من اللهو المختلفة، حتى إذا اقترب وقت السحر تناولوا ما لذ وطاب من الأطعمة، ثم ناموا قبل أداء صلاة الفجر، وإذا كان هذا النائم موظفًا، فإن وقت بداية العمل في رمضان يكون متأخرًا، فيقوم متثاقلاً إلى عمله ليكمل نومه هناك! وإن كان غير موظف فإن رمضان هو شهر النوم عنده فيستغرق في نومه إلى قبيل المغرب، فيفوت عليه أكثر من فريضة صلاة!! ومع هذا فإن الشعار المرفوع لدى كثير من الموظفين، هو أن رمضان شهر عبادة، وليس شهر عمل (العبادة التي قدمنا صورة منها)!.
أما تهذيب النفس من خلال الجوع فحدث عن هذا ولا حرج، حيث إن التجار يشرعون في الإعداد لمستلزمات رمضان قبل مجيئه بنحو شهرين، وتقدر بعض الجهات أن ما يستهلكه كثير من المسلمين في رمضان، يصل إلى ثلاثة أمثال ما يستهلكونه في غير رمضان!! وقد صار رمضان عبئًا ثقيلاً على الحكومات التي توفر السلع المدعومة لمواطنيها! وقد كان السلف يدعون الله – تعالى - ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، فإذا انصرم دعوا الله ستة أشهر أخرى، أن يتقبل منهم أعمالهم في رمضان!(/5)
أما اليوم؛ فإن كل وسائل الإعلام في العالم الإسلامي تشعر الناس، بأن رمضان ضيف ثقيل فكأنه شر لابد منه، ومن ثَمَّ فإن كثيرًا من البرامج ينصرف إلى الترفيه عن الناس بما يجوز وما لا يجوز، وانقلب الشهر المبارك إلى موسم للهو واللعب! وما يحدث لكثير من المسلمين في هذا الشهر المبارك أمر مفهوم، حيث إن الأمة حين تمر بحالة من الركود الحضاري، تكف مبادئها عن الفعل وتسيطر عليها الشكليات والعادات، فجيوشها لا تقاتل، ومبدعوها لا يعرفون، والفضائل فيها شعارات، والعبادات عادات. . وتستمر في ذلك حتى تندثر باعتبارها أمة متميزة، أو يبعثها الله بعثًا جديدًا يحيي ما اندرس من سابق عهدها، وما ذلك على الله بعزيز.(/6)
العنوان: وجئتكم من غزة بنبأ يقين...
رقم المقالة: 2039
صاحب المقالة: زياد آل سليمان
-----------------------------------------
سلك شائك وآخرُ إلكتروني وكهربائي، وإنذار، وشارع للدوريات، يليه سلك شائك، وبين هذه الحواجز نقاط وأبراج تكشف أي تحرك، مجهزة بأحدث الأجهزة والكاميرات الليلية، وإن حصل أي اختراق في الليل فإن القنابل الضوئية كفيلة بتحويل الظلام إلى نهار، أما الأسلحة الفتاكة التي بحوزة الصهاينة فطالما قتلت الأبرياءَ لمجرد الشك، أو التحرك بجوار تلك الحدود، وطالت في أحيان كثيرة جنوداً في الجانب المصري من الحدود، وكلما تطورت المقاومةُ تطورت الجدرُ لتضاف لها الجدرُ الإسمنتية والحديدية، وتصبح طريق الدوريات طريقاً للدبابات، بالإضافة لعمليات هدم لكل البيوت المجاورة للحدود، وإطلاق الرصاص اليومي عليها حتى غدت كأنها غربال، لا تسل عن حياة السكان ولا عن لحظات الرعب اليومية، ولا عمن سقط من الأحبة أو أصيب بإعاقة مدى الحياة أو غيرها من الآلام والجراح.
الأسطر الماضية ليست كافية لبيان حجم المأساة على الشريط الحدودي بين مصر وقطاع غزة، كانت بداية المأساة لأهالي قطاع غزة عندما احتل الصهاينة كلا من قطاع غزة وشبه جزيرة سيناء المصرية عام 1967م ولم يكن يفصل بين رفح المصرية والفلسطينية أي حدود، وتكونت علاقات اجتماعية كبيرة بين سكان رفح المصرية والفلسطينية. وبعد توقيع اتفاق كامب ديفيد عام 1978م جاءت تلك الاتفاقية –كعادة الاتفاقات مع الصهاينة– بمصائب وكوارث على مختلف الأصعدة سواء على مصر أو على فلسطين والعالم الإسلامي، وبعد أن تم تنفيذ الشق الخاص برسم الحدود فصلت رفح المصرية عن رفح الفلسطينية، وشتتت العائلات وفصلت عن بعض، وذلك أدى إلى خلق كارثة إنسانية وخاصة بعد أن تحكم الصهاينة في الحدود وفقاً للصورة المذكورة.(/1)
ويقابل تلك الصورة المؤلمة صفحات مشرقة من البطولات كانت السبب في انسحاب الاحتلال وتفكيك مواقعه عام 2005م.
رجاءً أيها القارئ الكريم لا تذكّرني بالدوريات المشتركة مع السلطة البائدة، ولا عمليات الكشف عن الأنفاق التي يدخل من خلالها السلاح للمقاومة، في مقابل غض الطرف عن أنفاق تهريب المخدرات إذ كانت لتلك الأجهزة حصة منها.
آه من تلك الصفحات السوداء، ها هي ذي الجدر تنهار ولو مؤقتاً، ولكنها –ولله الحمد- لم تعد صالحة لاستخدامها في القتل والتدمير والاجتياح من جديد.
المعبر الذي كان يتحكم فيه الصهاينة والأوربيون من بعدهم، صار بلا قيمة؛ فقد فتحت الحدود، وغدا التنقل بكل حرية بين قطاع غزة ومصر، بل يدخل إليها من لم يدخل فلسطين من قبل ومن كان الأمر بالنسبة إليه حلماً بعيد المنال.
لا تسل عن مشاعرهم وقد التقوا أقاربهم وإخوانهم على أرض مصر الكنانة وعلى أرض فلسطين المباركة، فالروابط بين الشعوب المسلمة أقوى بكثير وأكبر وأعظم من أن تشوهها أقلام ووسائل إعلام مشبوهة، قال تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 92]، فلا يمكن أن يقطع جدار أو سلك شائك بناه العدوُّ الصلاتِ بين أبناء الأمة الواحدة.
لقد غدت تلك المحلاتُ والبضائع المحدودة في سيناء متنفساً كبيراً لهم، ومع تلك المشاعر الجياشة من قبل البعض من فتح للمطاعم بالمجان، وعلاج بالمجان، إلى صور من الجشع والاستغلال ورفع للأسعار، ولا عجب؛ فإنا نشاهدها حتى في موسم الحج.
ولك أن تتخيل أن (أسطوانة الغاز) تباع في سيناء بـ(3) جنيهات، في حين تصدر السلطات المصرية الغاز والوقود للصهاينة لتباع تلك (الأسطوانة) في غزة بـ(60) جنيهاً، بل إن الصهاينة يمنعونه عن غزة اليوم، هلا باعته السلطات المصرية إلى إخواننا بغزة مباشرة!(/2)
بمجرد أن تطأ أرضك ثرى تلك البقاع اعلم أن الخوف قد دُفِن على حدودها، وستحدثك الجدران والشوارع والأزقة والشجر والحجر عن البطولات والتضحيات، كل شيء ينطق ويعبر وهو صامت، انظر إلى تلك البيوت وقد خرقها الرصاص في كل زاوية وحجر، وانظر إلى ركام البيوت التي هدمت، وانظر إلى نعي الشهداء الأبطال على الجداران، وإلى بقايا الحجارة التي كانوا يتترسون بها للتصدي للاجتياحات، وانظر إلى الأعلام الخضراء التي ترفرف وتخفق بالعزة والكرامة، وإلى الأعلام الصفراء التي ترفرف وتفضح زمرة رام الله التي ألزمت الناس برفعها لئلا تقطع عنهم الرواتب، انظر إلى المساجد وقد امتلأت بالمصلين، انظر إلى حلقات تحفيظ القرآن الكريم، وانظر إلى النشاطات الثقافية والتربوية، انظر إلى الأطفال وقد أصبح لعبهم تدريباً على القتال في الطرقات، انظر لهم وهم يرددون عبارات رئيس وزرائهم إسماعيل هنية: "لن نعترف بإسرائيل".
في كل زاوية قصة، وفي كل بيت شهيد أو جريح أو أسير، في كل بيت يتيم أو أرملة أو مسكين، ربما فقدوا الكثير من مظاهر الحياة التي نحرص عليها ولا يمكننا العيشُ بدونها، إلا أنهم ملكوا الدنيا كلها؛ فقد أسروا هواهم، وأصروا على البقاء في أرض الأنبياء برغم كل الصعاب، برغم القتل والتدمير والحصار، ملكوا العزة والكرامة والبطولة والشجاعة والثبات والإقدام والتضحية في سبيل دين الله.
أما في الليل فما هنالك أروع أو أعظم من مشهد المرابطين وهم واقفون في حلكة الظلام ممتشقين السلاح متربصين بالعدو وأعوانه، تاركين لذة النوم ودفء الفراش، ولا تسل عن أمهاتهم أو زوجاتهم وهن يجهزن للمرابط السلاح ويودعنه، فإن عاد سالماً فسيذهب في الصباح إلى عمله طبيباً كان أو مدرساً أو موظفاً.(/3)
أما إن ذهبت إلى بيت العزاء فكن حذراً من ردة فعل ذوي الشهيد إن عزيتهم، فسرعان ما علا صوت والد الشهيد وهو يقول لأحد المعزين: لا تعزِّ الحمد لله هذه كرامات من الله.. مَن مِن الناس اثنان من أبنائه شهداء؟! الحمد لله.. هذه كرامات يا بني كرامات...
وإن شئت السؤال عمن تغتالهم طائراتُ العدو فسيخبرك رفاقُهم بأن الشهيد فلان لم يكن يوماً نشيطاً مثل يوم استشهاده، وأما تلاميذه فلا يزالون يذكرونه وهو يمر بين أزقة المخيم عند أذان الفجر ليوقظهم لصلاة الفجر، فكانت الثمار قادة مباركين في أرض مباركة.
أما البرد القارس أو تحليق الطائرات الصهيونية فلا يزيدهم إلا قوة، ورؤية دماء إخوانهم وقادتهم تزيدهم إصراراً؛ فقد رأوا من الكرامة على سيماهم ووجوههم ومحياهم ما يدفعهم دفعاً إلى المضي في هذا الطريق.
أما إن شاهدت (فيلاَّ) أو بيتاً كبيراً فستعلم مباشرة أنه بيت أحد رموز السلطة البائدة، ويمكنك التحقق بمجرد سؤال أي طفل يمشي هناك، وأما إن سألت عن منزل الياسين أو هنية أو غيره من قادة المقاومة فيلزمك أن تذهب إلى مخيمات اللاجئين وتدخل الأزقة حتى تصل إليه، إن تلك المعاني والمشاهد اليومية التي يراها أهل غزة لا يمكن تغطيتها بالأكاذيب، فالشمس لا تغطى بالغربال، وغزة فيها اليقين.
ومع كل تلك المآسي فصور الثبات عجيبة، إن من أسرار ثبات إخواننا ما يرونه من أحداث يومية لا تنقل لنا ولا نسمع عنها، لعلي أكتفي بذكر أحدها:(/4)
مبنى للشرطة كان مقراً للسلطة السابقة يقابله مبنى منهار، وبالسؤال عنه سيجيبك الجميع بأنه كان مقراً للقوة التنفيذية فقصفته طائرات الاحتلال في حين لم تطلق رصاصة واحدة على مبنى الشرطة الذي يقابله ويفصل بينهما خمسة أمتار فقط، أما نتيجة القصف فهي شهيدان فقط، والسبب أن الصاروخ الأول لم ينفجر فكان رسالة إنذار للمجاهدين، أما الثاني ففجر السور الخلفي ففتح مخرجاً لهم هربوا من خلاله للمزرعة الواقعة خلف المبنى، أما الثالث والرابع فقضى على كل ما تبقى من المبنى، لتكون الحصيلة نجاة أكثر من 60 من رجال التنفيذية وقادتها، أرأيتم كيف أنها تتحدث في كل زاوية من الزوايا بقصة تزيدك إيماناً ويقيناً وسكينة وثباتاً.
أما إن أردت المزيد فعليك بزيارتها فمهما نُقل لنا من أحاديث وقصص وأخبار سيبقى قول رسولنا- صلى الله عليه وسلم- واضحاً حين قال: "الشَّاهِدُ يَرَى مَا لَا يَرَى الْغَائِبُ" (أخرجه الإمام أحمد، وصححه الألباني).
ولأن الأصل أصبح في زماننا استثناءً، وجدنا محاولة لإعادة إغلاق الحدود من جديد، فقد منعت السلطات دخول البضائع من جسر السلام إلى سيناء، ومنعت أصحاب المحلات في المدن المصرية من فتحها، حتى غدا الحصار على قطاع غزة وشمال سيناء!
وفي الختام ينبغي أن نتذكر ونذكر بأن الحصار ما زال قائماً، وأن التبضع من سيناء لمدة أيام لا يكفي لكسر الحصار، وأن على الأمة كلها حكاماً ومحكومين السعي بكل الوسائل والطرق لفك الحصار وإنهاء معاناة إخواننا في قطاع غزة بشكل نهائي، ولنعلم أنهم يقفون في الخندق الأول دفاعاً عن الأمة جميعاً، فعلينا أن نشد على أيديهم ونقويهم لا أن نكسر أقدامهم!(/5)
قال تعالى: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38].(/6)
العنوان: وجدت ساعة
رقم المقالة: 123
صاحب المقالة: عبير الطاهر
-----------------------------------------
جَلَسَتْ سُعادُ على دَرَجَاتِ السلَّم، تُفَكِّر في طريقةٍ لإِقناعِ أُمِّها بِشِراءِ سَاعَةٍ لَهَا. ثُمَّ خَبطت على رِجْلِها وقَالَتْ: ((مُعظمُ الأَولادِ الكبار يلبَسونَ ساعاتٍ، وأَنا الآنَ كبيرة، لقد وَعَدَتْني أُمي بشراءِ ساعةٍ لي حِيْنَما أُتقِنُ قِرَاءةَ الوقت، لكن هذا معناهُ أَنْ أَنتظِرَ طويلاً وأَنا لا أُحِبُّ الانتِظَارَ)).
ثُمَّ نَظَرَتْ سُعادُ إلى يدِهَا الخاليةِ فَرَفَعَتْها إلى فَمِها وعَضَّتْها بِقُوَّةٍ، وحينما رَأَت الدَّائرةَ المرسُومَةَ عَلَيْها ابتَسَمَتْ وَقَالت: ((هِه، لقد حَصَلتُ على سَاعَتِي!)).
قَرَّرَتْ سُعادُ الذَّهابَ للَّعِبِ مع صَدِيْقَتِها نُور، وبينما هي تَمْشِي، رَأَتْ على الأَرْضِ شيئًا يَلْمَعُ.
((سَاعَة! سَاعَة فَخْمَة! فَخْمَة جدًّا هل من المَعْقولِ أن يَتَحَقَّقَ حُلُمِي بهذِهِ السُّرعَة!)).
لَبِسَت سُعَادُ السَّاعةَ، وعادَتْ راكضةً إلى البيتِ.
كانَ حَمْزَة يَلعبُ على الدَّرَّاجةِ حِيْنَمَا شاهدَ سُعَادَ وهي تَرْكُضُ.
((سُعادُ، ما بِكِ؟ لماذا تَرْكُضينَ؟)).
((انْظُرْ، انْظُرْ ماذا وجدتُ على الأَرض))!
((أَنتِ مَحْظُوظَةٌ، إِنّها ساعةٌ فخمةٌ! مِن الآنَ فصاعدًا سأَظلُّ أَنظُرُ إلى الأَرْضِ، رُبَّما يُحالِفُني الحَظُّ مِثْلَكِ)).
ضَحِكَتْ سُعادُ وقالت: ((رُبَّما)).
((أُمِّي)). صاحَتْ سُعادُ. ((انظُرِي مَاذَا وَجَدتُ!)).
((نَعَم، وماذا وَجَدْتِ هَذهِ المَرَّةَ))؟ سأَلَتْ أُمُّها.
((لقد وجدتُ سَاعَةً، سَاعَةً جميلةً جِدًّا. انْظُرِي.. أَلَسْتُ مَحْظُوظَةً؟ لقد أَصْبَحَ عِنْدِي أَجْمَلُ سَاعَة)).(/1)
((إِنَّها حَقًّا جَمِيْلَةٌ جِدًّا)). أجابَت الأُمُّ. ((ولكِنَّها لَيْسَت لكِ، لابُدَّ أَنَّها لِفَتَاةٍ من عُمْرِكِ وهيَ الآنَ حَزِيْنةٌ لفُقدَانِها)).
((ماذا؟! تُرِيدينَ مِنِّي أَنْ أُرجِعَهَا؟! مُستَحِيْل.. لقد وَجَدْتُها وأَصبَحَتِ الآنَ ملكي)).
دَخَلَتْ سُعادُ غُرفَتَها، وجَلَسَتْ على سَرِيْرِهَا، وأَخَذَتْ تتأمَّلُ السَّاعةَ في يَدِهَا.
((إِنَّها سَاعَتِي لقد وَجَدْتُها، لن يُرغِمَنِي أَحدٌ على إرجَاعِها)).
أَخَذَتْ سُعادُ تتأَمَّلُ السَّاعَةَ.. وكم هي جميلةٌ في يَدِهَا، فَجأَةً رأَتْ داخلَ السَّاعَةِ مَخْلُوقًا مُخيفًا يَنظُرُ إليها نَظراتٍ مُرعِبة. خَافَتْ سُعادُ وخَلَعَتِ السَّاعَةَ من يدِهَا بسُرعة ورَمَتها على الأَرضِ، وأَخَذَتْ تَركُضُ والمخلوقُ المُخِيفُ يركضُ خَلْفَها ويَصيحُ: ((إنَّها لَيْسَت لكِ، إنّها لَيْسَت لكِ)). ثُمَّ اقتربَ المخلوقُ من سُعادَ، وأَمْسَكَ بِهَا، فَصَرَخَتْ سُعَادُ بِصَوتٍ عَالٍ: ((لا... لا... لا)). فاستَيْقَظَتْ ووجَدَتْ نَفْسَها مُتمدِّدةً على السَّرِيْرِ والسَّاعةُ في يَدِها.
في اليومِ التَّالي أَخبرت سُعادُ صدِيقَتَها نُورَ بما حَدَثَ.
((يا للخَسَارَة)). قَالَتْ نُورُ. ((سَوْفَ تُعِيْدِين السَّاعَةَ إذًا)).
((نَعَم)). قالَتْ سُعَادُ بحسرةٍ ((يجبُ أَنْ أُرْجِعَ السَّاعَةَ إلى صاحِبَتِها، ولكن المُشكِلَةَ أنني لا أَدرِي مَنْ هِيَ)).
((لِنذْهَبْ إلى الشُّرْطَة، ونُعطِيْهِمُ السَّاعَةَ ونُنهي الأَمْرَ)). قالت نور.
((لا، عِنْدِي فِكْرَةٌ أَفضلُ، لِمَ لا نَقومُ بوضع مُلصَقَاتٍ على جميعِ المحلاَّت في الحيِّ، مكتوبٍ فيها: (هَل فَقَدْتَ ساعةً؟ اتَّصِل بالرَّقم 586378)).
((حَقًّا، إنها فِكْرةٌ رائِعَةٌ)).(/2)
قَامَتْ سُعادُ ونُورُ بوضعِ المُلصَقَاتِ عندَ بائعِ الخَضْراواتِ أبي حَسَن، وعندَ بقالةِ الانْشِرَاحِ، ومكتبةِ الدُّنيا، ومَلْحَمةِ الأَمانَةِ، ومَصبغةِ عَنْترَة، ووضَعَتا مُلصَقًا على بابِ محلِّ الأَلعابِ، ومُلصَقًا على بابِ محلِّ (الفيديو) وَصَيْدَلِيَّةِ الأَمَل. ولم تَنْسَيا وضع مُلصَقٍ كَبِيرٍ على واجهَةِ مَحَلِّ بَيْعِ المثلوجات (البُوظَة).
ابتَسَمَتْ نورُ وقالَت: ((حتمًا إنها ستأتي إلى هُنا)).
وبعدَما انتهت سُعادُ ونورُ من تَوزِيْعِ جَمِيْعِ المُلصَقَاتِ قالَتْ سُعادُ: ((لِنَعُدْ إلى البيت سَرِيعًا، ونَجْلِس قُربَ الهاتِفِ، ونَنْتَظِر)).
غيرَ أَنَّ الهاتِفَ لم يَرِنَّ سوى مرَّةٍ واحِدَة، وكَانَت المكالمةُ خَطأ.
((مَا العَمَلُ الآن؟)) قالتْ نُورُ بِخَيْبَةِ أَمَل.
((انتظري أَنتِ قُربَ الهاتِفِ، وسأَذهبُ أنا إلى الشُّرَطةِ، وأُسلِّمهُم السَّاعَةَ)).
في الطَّرِيْقِ شاهَدَتْ سُعادُ بِنْتًا تتفحَّصُ الأَرضَ، كَأنَّها تَبْحَثُ عَنْ شَيءٍ ما.
((هل تَبْحَثينَ عن شيء؟)).
((نَعَم)). قالَتِ الفَتَاةُ بِصَوتٍ خَافِتٍ: ((لقد فَقَدْتُ سَاعَتِي التي أَهدَتْها إليَّ جَدَّتي)).
ابتسَمَتْ سُعادُ وقالتْ: ((أنتِ صَاحِبَةُ السَّاعةِ إذًا)) وببُطْءٍ مَدَّتْ يَدَهَا إلى جَيْبِهَا، وأخْرَجَت السّاعَةَ وقالَتْ: ((هل هذهِ لكِ؟)).
عادَتْ سُعادُ إلى البَيْتِ، وجَلَسَتْ على سَريرِهَا وهي تَشعرُ بِالرِّضَا، فقد عَمِلَتِ اليومَ عَمَلاً جَيِّدًا، وأَقامَتْ صَدَاقةً جَدِيدةً. ثُمَّ نَظَرَتْ إلى يَدِهَا الخَالِيَةِ، فابتَسَمَتْ، ورَفَعَتْهَا إلى فَمِهَا، وعَضَّتْهَا بقوَّةٍ، ونَظَرَتْ إليها وقَالَتْ: ((أعتقدُ بأنني سأَكتفي بِهذِهِ السَّاعةِ الآنَ)).(/3)
العنوان: وجوب إعداد القوة للأعداء
رقم المقالة: 729
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحمد لله الذي أرسل رسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله والحمد لله الذي له مقاليد السماوات والأرض وبيده ملكوت كل شيء، فكل العالم العلوي والسفلي خاضع لأمره وحكمه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك كله وله الحمد كله وله الثناء وهو أهله، وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله خاتم رسله وخيرته من خلقه وحجته على عباده، أرسله بشريعة من تمسك بها وسار على نهجها فهو المنصور الظافر، ومن أعرض وتولى فهو الذليل الخاسر، أرسله الله بشريعته وأمده بملائكته وأيده بنصره وبالمؤمنين فصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.(/1)
أما بعد أيها الناس: اتقوا الله تعالى واستجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم، واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه فيقلبه سبحانه وتعالى كما يشاء بحكمته، فاسألوا الله الثبات على الإيمان والصبر في شرائع الإسلام، ألا وإن مما دعاكم الله ورسوله إليه أن تعدوا ما استطعتم من قوة لأعداء الإسلام الذين يريدون أن تكون كلمة الله هي السفلى وكلمتهم الباطلة هي العليا، ولكن سيأبى الله ذلك بقوته وحوله وسينصر دينه بأوليائه وحزبه. أعدوا لهم ما استطعتم من قوة في الجهاد باللسان والمال والعتاد فإنكم بذلك ترضون ربكم وتذبون عن دينكم وتحمون أنفسكم وأهليكم ودياركم {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} تذبون عن دينكم من يريد القضاء عليه ومن يدعو إلى التحلل والتخلص منه، فإن الدين رأس الفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة، أعدوا لهم ما استطعتم من قوة الحجة والبرهان ورد شبههم الباطلة بالتفنيد وهدم الأركان، وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة بالتدريب والتمرن على المعدات الحربية والتعلم لطرق الأساليب الحربية التي تلائم العصر الحاضر، وعن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على المنبر يقول: ((وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة، ألا إن القوة الرمي ألا إن القوة الرمي ألا إن القوة الرمي)) وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((ارموا واركبوا، وأن ترموا أحب إلي من أن تركبوا، ومن ترك الرمي بعدما علمه رغبة عنه فإنها نعمة تركها، أو قال كفرها)) وعن سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه - قال: مر النبي - صلى الله عليه وسلم - على قوم ينتضلون أي يترامون أيهم يغلب فقال: ((ارموا بني إسماعيل، وإسماعيل أبو العرب فإن أباكم كان رامياً، وأنا مع بني فلان، فأمسك أحد الفريقين بأيديهم فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ما لكم لا ترمون؟ قالوا: كيف نرمي وأنت معهم؟ فقال النبي صلوات(/2)
الله وسلامه عليه: ارموا وأنا معكم كلكم)) وقال: ((ستفتح عليكم أرضون ويكفيكم الله " فلا يعجز أحدكم أن يلهو بأسهمه))، فبين النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث أنه لا ينبغي ترك الرمي حتى ولو لم يكن إليه حاجة وقال: ((من بلغ بسهم في سبيل الله يعني من رمى فأصاب فهو له درجة في الجنة)) والرمي الذي فسر به النبي - صلى الله عليه وسلم - الآية يشمل كل رمي في كل زمان ومكان بحسبه، فكما أن الرمي في وقته بالنبل والنشاب والمنجنيق، فالرمي المناسب في هذا الوقت يكون بالبارود والمدافع على اختلاف أنواعها والقنابل والصواريخ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أطلق الرمي ولم يعين ما يرمى به، وإن مما جاء به الإسلام من الحث على تعلم الرمي أن أباح أخذ الرهان عليه، فيجوز للإنسان أن يرامي صاحبه بالسلاح على عوض من الدراهم أو نحوها لما في ذلك من الحث والإغراء على تعلم الرمي، ولقد أحسنت حكومتنا - وفقها الله - حيث أمرت بفتح مراكز للتدريب على الفنون الحربية في المملكة، وإننا لنرجو أن يكون هذا عاماً في جميع البلدان ليتكون من هذه البلاد شبابها وكهولها أمة حاملة للسلاح تقوى على الدفاع عن دينها وحماية أوطانها، كما نسأل الله تعالى أن يوفق المواطنين للتسارع والتنافس في هذا الميدان النافع، وأن يلهبوا شعور الأمة للتسابق إليه امتثالاً لأمر الله تعالى وتمشياً مع رغبة ولاة الأمور، ونسأل الله تعالى أن ينصر دينه ويعلي كلمته ويوفق ولاة أمورنا للقيام بما أوجب الله عليهم من رعاية من ولاهم الله عليهم رعاية تامة، يأمرونهم بالمعروف وينهونهم عن المنكر ويوجهونهم لما فيه صلاح دينهم ودنياهم.(/3)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم قال الله تعالى: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ * وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ} [الأنفال:59،60].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.. إلخ.(/4)
العنوان: وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
رقم المقالة: 757
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحمد لله العلي العظيم المدبر لخلقه كما يشاء وهو الحكيم العليم حرم على عباده كل ما يضرهم في دينهم أو دنياهم رحمة بهم وهو الغفور الرحيم، وجعل تعاطي ما حرمه عليهم سبباً للخسران في الدنيا والدين، وأوجب على المؤمنين أن يتعاونوا على البر والتقوى وأن يأخذوا على أيدي السفهاء فيأطروهم على الحق أطراً، فإن فعلوا ذلك استقامت أمورهم وصلحت أحوالهم في الدنيا والأخرى، وإن هم أضاعوا ذلك وأهملوا ذلك خسروا الصفقة ووقعوا في الهلاك والردى، نحمده على نعمه التي لا تحصى ونشكره على فضائله العظمى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يوم يجمع الخلائق في صعيد واحد ويجزي كل نفس بما تسعى، وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله الصابر لله وبالله وفي الله حتى أقام الله به الدين وأعلى، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن بهداهم اقتدى وسلم تسليماً.(/1)
أما بعد، أيها الناس: اتقوا الله تعالى واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب، أقيموا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن ذلك دعامة المجتمع. فلا يقوم المجتمع إلا إذا شعر كل فرد من أفراده أنه جزء من كل وأن فساد جزء من هذا الكل فساد للجميع، وأنه كما تحب لنفسك أن تكون صالحاً فكذلك يجب أن تحب لأخيك أن يكون صالحاً لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)) وإذا شعر الإنسان بهذا الشعور النبيل، وإن هذا هو ما يقتضيه الإيمان ويفرضه عليه، فإنه لا بد أن يسعى في إصلاح المجتمع بشتى الوسائل بالطرق التي تضمن المصلحة وتزول بها المفسدة، فيأمر بالمعروف بالرفق واللين والإقناع، وليصبر على ما يحصل له من الأذى القولي والفعلي فإنه لا بد من ذلك لكل داع كما جرى ذلك لسيد المصلحين وخاتم النبيين، وليجعل الأمل والنجاح نصب عينيه فإن ذلك أكبر عون له على سيره في مهمته، ولا يجعل لليأس عليه سبيلاً فتفتر همته وتضعف عزيمته. وإن على المؤمنين كلهم أن يتعانوا في هذا الأمر الجليل العظيم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن يساعدوا من رأوه قائماً به ويقوموا معه نصرة للحق وقضاء على الباطل، وأن لا يخذلوا الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أو يرجفوا به، فإن في ذلك نصراً للباطل وإذلالاً للحق. لقد اتخذ بعض الناس عادة توجب توهين عزائم الدعاة إلى الله وتضعف همم الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، فتجدهم إذا سمعوا واعظاً يقولون، وأقولها باللغة العامية (هو عاد يبى ينفع كلامه. هم الناس يبى يطيعون) إلى نحو هذه الكلمات التي يوهنون بها عزائم الدعاة إلى الخير. وكان الأجدر بهؤلاء أن يشجعوا ويقولوا للداعي والآمر إنك على خير وقد حصلت أجراً أو أبرأت ذمتك وسينفع الله بذلك إن شاء الله. فلقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من(/2)
حمر النعم)). أيها المسلمون، إن الواجب علينا أن نتعاون تعاوناً حقيقياً فعالاً في إصلاح المجتمع بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن نكون كلنا جنداً وهيئة في هذا الأمر العظيم كما جعلنا نبينا - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان)) وإن علينا أن نعرف أن الذمة لا تبرأ ونحن نعلم بالمنكر ولا نغيره أو نبلغه لمن يغيره إذا لم نستطع تغييره. أيها المسلمون، إننا لو علمنا أن في بيت من بيوت هذا البلد مرضاً فتاكاً لأخذنا القلق والفزع ولاستنفدنا الأدوية وأجهدنا الأطباء للقضاء عليه، هذا وهو مرض جسمي فكيف بأمراض القلوب التي تفتك بديننا وأخلاقنا؟ إن الواجب علينا إذا أحسسنا بمرض ديني أو خلقي يفتك بالمجتمع ويحرف اتجاهه الصحيح أن نبحث بصدق عن سبب هذا الداء، وأن نقضي عليه وعلى أسبابه قضاء مبرماً من أي جهة كانت لا تأخذنا في ذلك لومة لائم قبل أن ينتشر الداء ويستفحل أمره، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((مثل المداهن في حدود الله والواقع فيها مثل قوم استهموا سفينة فصار بعضهم في أسفلها وبعضهم في أعلاها، فكان الذي في أسفلها يمر بالماء على الذين في أعلاها فتأذوا به، فأخذ فأسا فجعل ينقر أسفل السفينة فأتوه فقالوا: ما لك؟ فقال: تأذيتم بي ولا بد لي من الماء، فإن أخذوا على يديه أنجوه ونجوا أنفسهم وإن تركوه أهلكوه وأهلكوا أنفسهم)). وإننا لنشكر بهذه المناسبة لقوم يظهر منهم الغيرة وحب الإصلاح بما يكتبونه من النشرات التي يوجهونها إلى من يوجهونها إليه، نشكرهم على هذه النشرات بقدر ما تنفع وتثمر وهم مأجورون على حسب نيتهم وعملهم، ولعل الأولى أن يتصلوا بمن يظنون بهم المساعدة والعون بأنفسهم ويحققوا في الأمور التي يكتبون فيها ويتساعدوا جميعاً على إزالتها ولا ينقص ذلك من إخلاصهم شيئاً إن شاء الله. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (بسم(/3)
الله الرحمن الرحيم) {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1-3].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم... إلخ.(/4)
العنوان: وجوب التناصح بين الرعية والرعاة
رقم المقالة: 736
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحمد لله الملك القهار القوي العزيز الجبار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو العظمة والمجد والاقتدار، وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله المختار صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان ما تعاقب الليل والنهار وسلم تسليماً.
أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى واعلموا أن الله قد شرع لعباده على لسان أفضل رسله أكمل شريعة وأتمها وأقومها بمصالح العباد وأعمها، وقد جاءت تلك الشريعة الكاملة مبينة ما يجب على الرعاة من الحقوق لرعيتهم، وما يجب على الرعية من الحقوق لرعاتهم.(/1)
أما حقوق الرعاة على رعيتهم فهي السمع والطاعة بامتثال ما أمروا به وترك ما نهوا عنه ما لم يكن في ذلك معصية لله ورسوله، فإن كان في طاعة الولاة معصية لله ورسوله فلا سمع لهم ولا طاعة. لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. وفي الصحيحين عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: ((بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - سرية واستعمل عليهم رجلاً من الأنصار، فلما خرجوا وجد عليهم في شيء فقال لهم: أليس قد أمركم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تطيعوني؟ قالوا: بلى، قال: فاجمعوا لي حطباً، ثم دعا بنار فأضرمها فيه ثم قال: عزمت عليكم لتدخلنها، فقال لهم شاب منهم: إنما فررتم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من النار فلا تعجلوا حتى تلقوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن أمركم أن تدخلوها فادخلوها، فرجعوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبروه، فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لو دخلتموها ما خرجتم منها أبداً، إنما الطاعة في المعروف))، وقد ((أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بطاعة من له الأمر وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك))، وقال: ((من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر فإنه من فارق الجماعة شبرا فمات فميتته جاهلية)).(/2)
عباد الله، إن من حقوق الرعاة على رعيتهم أن يناصحوهم ويرشدوهم، وأن لا يجعلوا من خطئهم إذا أخطئوا سلما للقدح فيهم ونشر عيوبهم بين الناس، فإن ذلك يوجب التنفير عنهم وكراهتهم وكراهة ما يقومون به من أعمال وإن كانت حقاً، ويوجب عدم السمع والطاعة لهم، وإن من الواجب على كل ناصح وخصوصاً من ينصح ولاة الأمور أن يستعمل الحكمة في نصيحته ويدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، فإن رأى ممن ينصحه من ولاة الأمور قبولاً للحق وانقياداً له فذلك، وإلا فليتثبت في الأمر وليتحقق من وقوع الخطأ منه وإصراره عليه ثم ليرفعه إلى من فوقه إن كان في ذلك مصلحة وإزالة للظلم، كما كان السلف الصالح يشكون ولاتهم إلى من فوقهم إذا رأوهم قد سلكوا ما لا ينبغي أن يسلكوه.
أيها المسلمون: هذا ما نراه واجبا على الرعية من حقوق رعاتهم وولاتهم. أما ما يجب على الرعاة والولاة للرعية فأمر عظيم ومسؤولية كبرى، يجب عليهم أولا إخلاص النية لله، بأن يقصدوا بتصرفاتهم وتدبيراتهم تنفيذ أحكام الله وإقامة العدل وإزالة الظلم وتطبيق ذلك بحسب استطاعتهم، ويجب عليهم أيضاًً أن لا يظلموا الناس لا في دمائهم ولا في أموالهم ولا في أعراضهم، وأن لا يستعملوا سلطتهم في تنفيذ أهوائهم وإشباع رغباتهم بلا حق فإنهم مسؤولون عن ذلك، وما يدريهم لعل سلطتهم تزول في الدنيا قبل الموت فيلحقهم من الذل والإهانة بسبب ظلمهم واستطالتهم على الخلق ما هم به جديرون وله مستحقون، ويجب على الولاة أيضاًً أن يسووا بين الخلق في إقامة الحق، فلا يحابوا قريبا لقرابته ولا وجيها لجاهه ولا صاحب دنيا لدنياه، فإن الناس في الحق سواء، فلقد ((أقسم محمد - صلى الله عليه وسلم - وهو الصادق المصدوق أنه لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطع يدها)).(/3)
أيها الولاة، وأيها الرعية، اتقوا الله تعالى في أنفسكم وفي مجتمعكم وأدوا ما أوجب الله عليكم، فإنكم إذا فعلتم ذلك استتب الأمن وحصل التجاوب والاتحاد والمحبة، وإن فرطتم في ذلك سلط الله بعضكم على بعض، فتسلط الولاة على الرعية بأنواع الظلم وإهمال الحقوق، وتسلطت الرعية على الولاة بالمخالفة والعصيان والسب والبغض وانتشار الفوضى واعتزاز كل ذي رأي برأيه وإعجابه به، فلا ينضبط للناس أمر ولا يصلح لهم حال.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء:59].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم... إلخ.(/4)
العنوان: وجوب التوبة إلى الله
رقم المقالة: 863
صاحب المقالة: سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز
-----------------------------------------
وجوب التوبة إلى الله
والضراعة إليه عند نزول المصائب
من عبدالعزيز بن عبدالله بن باز إلى من يطَّلِع عليه من المسلمين، وفقني الله وإياكم للتذكر والاعتبار والاتعاظ بما تجري به الأقدار. والمبادرة بالتوبة النصوح من جميع الذنوب والأوزار. آمين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أما بعد:(/1)
فإن الله عز وجل بحكمته البالغة، وحجته القاطعة، وعلمه المحيط بكل شيء، يبتلي عباده بالسراء والضراء، والشدة والرخاء، وبالنعم والنقم؛ ليمتحن صبرهم وشكرهم، فمن صبر عند البلاء وشكر عند الرخاء وضرع إلى الله سبحانه عند حصول المصائب يشكو إليه ذنوبه وتقصيره ويسأله رحمته وعفوه أفلح كل الفلاح وفاز بالعاقبة الحميدة. قال الله جل وعلا في كتابه العظيم: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}[1] والمقصود بالفتنة في هذه الآية الاختبار والامتحان حتى يتبين الصادق من الكاذب والصابر والشاكر. كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا}[2] وقال عز وجل {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}[3] وقال سبحانه {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}[4] والحسنات هنا هي النِّعَم من الخصب والرخاء والصحة والعزة، والنصر على الأعداء ونحو ذلك والسيئات هنا هي المصائب. كالأمراض وتسليط الأعداء والزلازل والرياح العاصفة والسيول الجارفة المدمرة نحو ذلك وقال عز وجل {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}[5] والمعنى أنه سبحانه قدر ما قدر من الحسنات والسيئات وما ظهر من الفساد ليرجع الناس إلى الحق ويبادروا بالتوبة مما حرم الله عليهم ويسارعوا إلى طاعة الله ورسوله لأن الكفر والمعاصي هما سبب كل بلاء وشر في الدنيا والآخرة وأما توحيد الله والإيمان به وبرسله وطاعته وطاعة رسله والتمسك بشريعته والدعوة إليها والإنكار على من خالفها فذلك هو سبب كل خير(/2)
في الدنيا والآخرة وفي الثبات على ذلك والتواصي به والتعاون عليه عز الدنيا والآخرة والنجاة من كل مكروه والعافية من كل فتنة كما قال سبحانه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}[6] وقال سبحانه {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}[7] وقال تعالى {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}[8] وقال سبحانه {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}[9] وقد بين سبحانه في آيات كثيرات أن الذين أصاب الأمم السابقة من العذاب والنكال بالطوفان والريح العقيم والصيحة والغرق والخسف وغير ذلك كله بأسباب كفرهم وذنوبهم كما قال عز وجل {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}[10] وقال سبحانه وتعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ(/3)
كَثِيرٍ}[11] وأمر عباده بالتوبة إليه والضراعة إليه عند وقع المصائب فقال سبحانه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}[12] وقال سبحانه {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[13] وقال سبحانه {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[14] وفي هذه الآية الكريمة حث من الله سبحانه لعباده وترغيب لهم غذ حلت بهم المصائب من الأمراض والجراح والقتال والزلازل والريح العاصفة وغير ذلك من المصائب، أن يتضرعوا إليه ويفتقروا إليه فيسألوه العون وهذا هو معنى قوله سبحانه {فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا}[15] والمعنى هلا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا. ثم بين سبحانه أن قسوة قلوبهم وتزين الشيطان لهم أعمالهم السيئة كل ذلك صدهم عن التوبة والضراعة والاستغفار فقال عز وجل {وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [16].(/4)
وقد ثبت عن الخليفة الراشد - رحمه الله - أمير المؤمنين عمر بن عبدالعزيز أنه لما وقع الزلزال في زمانه كتب إلى عماله في البلدان وأمرهم أن يأمروا المسلمين بالتوبة إلى الله والضراعة إليه والاستغفار من ذنوبهم وقد علمتهم أيها المسلمون ما وقع في عصرنا هذا من أنواع الفتن والمصائب ومن ذلك تسليط الكفار على المسلمين في أفغانستان والفلبين والهند وفلسطين ولبنان وأثيوبيا وغيرها ومن ذلك ما وقع من الزلزال في اليمن وبلدان كثيرة ومن ذلك ما وقع من فيضانات مدمرة والريح العاصفة المدمرة لكثير من الأموال والأشجار والمراكب البحرية وغير ذلك وأنواع الثلوج التي حصل بها مالا يحصى من الضرر ومن ذلك المجاعة والجدب والقحط في كثير من البلدان وكل هذا وأشباهه من أنواع العقوبات والمصائب التي ابتلى الله بها العباد بأسباب الكفر والمعاصي والانحراف عن طاعته سبحانه والإقبال على الدنيا وشهواتها العاجلة والإعراض عن الآخرة وعدم الإعداد لها إلا من رحم الله من عباده ولا شك أن هذه المصائب وغيرها توجب على العباد البدار بالتوبة إلى الله سبحانه من جميع ما حرم عليهم والبدار إلى طاعته وتحكيم شريعته والتعاون على البر والتقوى والتواصي بالحق والصبر عليه ومتى تاب العباد إلى ربهم وتضرعوا إليه وسارعوا إلى ما يرضيه وتعاونوا على البر والتقوى وتآمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر أصلح الله أحوالهم وكفاهم شر أعدائهم ومكَّن لهم في الأرض ونصرهم على عدوهم وأسبغ عليهم نعمه وصرف عنهم نقمه كما قال سبحانه وهو أصدق القائلين: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}[17] وقال عز وجل {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}[18] وقال عز وجل {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ(/5)
ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ}[19] وقال سبحانه {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا}[20] الآية. وقال عز وجل {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[21] فأوضح عز وجل في هذه الآيات أن رحمته وإحسانه وأمنه وسائر أنواع نعمه إنما تحصل على الكمال الموصول بنعيم الآخرة لمن اتقاه وآمن به وأطاع رسله واستقام على شرعه وتاب إليه من ذنوبه. أما من أعرض عن طاعته وتكبر عن أداء حقه وأصر على كفره وعصيانه فقد توعده سبحانه بأنواع العقوبات في الدنيا والآخرة وعجل له من ذلك ما اقتضته حكمته ليكون عبرة وعظة لغيره كما قال سبحانه {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[22].(/6)
فيا معشر المسلمين حاسبوا أنفسكم وتوبوا إلى ربكم واستغفروه وبادروا إلى طاعته واحذروا معصيته وتعاونوا على البر والتقوى وأحسنوا إن الله يحب المحسنين وأقسطوا إن الله يحب المقسطين وأعدوا العدة الصالحة قبل نزول الموت وارحموا ضعفاءكم وواسوا فقراءكم وأكثروا من ذكر الله واستغفاره وتآمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر لعلكم ترحمون واعتبروا بما أصاب غيركم من المصائب بأسباب الذنوب والمعاصي والله يتوب على التائبين ويرحم المحسنين ويحسن العاقبة للمتقين كما قال سبحانه {فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ}[23] وقال تعالى {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ}[24] والله المسؤول بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يرحم عباده المسلمين وأن يفقههم في الدين وينصرهم على أعدائه وأعدائهم من الكفار والمنافقين وأن ينزل بأسه بهم الذي لا يرد عن القوم المجرمين إنه ولي ذلك والقادر عليه وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
ــــــــــــــــــــــ
[1] الآيات 1، 2، 3 من سورة العنكبوت.
[2] من الآية 20 من سورة الفرقان.
[3] من الآية 35 من سورة الأنبياء.
[4] من الآية 168 من سورة الأعراف.
[5] الآية 41 من سورة الروم.
[6] الآية 7 من سورة محمد.
[7] من الآية 40 والآية 41 من سورة الحج.
[8] الآية 55 من سورة النور.
[9] الآية 96 من سورة الأعراف.
[10] الآية 40 من سورة العنكبوت.
[11] الآية 30 من سورة الشورى.
[12] من الآية 8 من سورة التحريم.
[13] من الآية 31 من سورة النور.
[14] الآيتان 42، 43 من سورة الأنعام.
[15] من الآية 43 من سورة الأنعام.
[16] من الآية 43 من سورة الأنعام.
[17] من الآية 47 من سورة الروم.
[18] الآيتان 55، 56 من سورة الأعراف.(/7)
[19] الآية 3 من سورة هود.
[20] من الآية 55 من سورة النور.
[21] الآية 71 من سورة التوبة.
[22] الآيتان 44، 45 من سورة الأنعام.
[23] من الآية 49 من سورة هود.
[24] الآية 128 من سورة النحل.(/8)
العنوان: وجوب الصيام وفضله
رقم المقالة: 1431
صاحب المقالة: موقع الألوكة
-----------------------------------------
أولاً: القرآن الكريم
سورة البقرة
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 183-185].
{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [البقرة: 187].(/1)
{وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [البقرة: 196].
سورة النساء
{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللّهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً} [النساء: 92].
سورة المائدة(/2)
{لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 89].
سورة مريم
{فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً} [مريم: 26].
سورة الأحزاب
{إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [الأحزاب: 35].
سورة المجادلة
{فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المجادلة: 4].
ثانيًا: الحديث الشريف(/3)
- عن أَبي هريرة - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((قَالَ اللهُ - عز وجل -: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلاَّ الصِّيَام، فَإنَّهُ لِي وَأنَا أجْزِي بِهِ، وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ[1]، فَإذَا كَانَ يَومُ صَوْمِ أحَدِكُمْ فَلاَ يَرْفُثْ[2] وَلاَ يَصْخَب[3] فإنْ سَابَّهُ أحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ: إنِّي صَائِمٌ. وَالذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَخُلُوفُ[4] فَمِ الصَّائِمِ أطْيَبُ عِنْدَ اللهِ مِنْ رِيحِ المِسْكِ. لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا: إِذَا أفْطَرَ فَرِحَ بفطره، وَإذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ))[5]؛ متفقٌ عَلَيْهِ، وهذا لفظ روايةِ البُخَارِي.
وفي روايةٍ لَهُ: ((يَتْرُكُ طَعَامَهُ، وَشَرَابَهُ، وَشَهْوَتَهُ مِنْ أجْلِي، الصِّيَامُ لي وَأنَا أجْزِي بِهِ، وَالحَسَنَةُ بِعَشْرِ أمْثَالِهَا)).
وفي رواية لمسلم: ((كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يضاعَفُ، الحسنةُ بِعَشْرِ أمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِئَةِ ضِعْفٍ. قَالَ الله تَعَالَى: إِلاَّ الصَّوْمَ فَإنَّهُ لِي وَأنَا أجْزِي بِهِ؛ يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أجْلِي. للصَّائِمِ فَرْحَتَانِ: فَرْحَةٌ عِنْدَ فِطْرِهِ، وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ. وَلَخُلُوفُ فِيهِ أطْيَبُ عِنْدَ اللهِ مِنْ رِيحِ المِسْكِ)).(/4)
- وعنه: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: ((مَنْ أنْفَقَ زَوْجَيْنِ[6] في سَبِيلِ اللهِ نُودِيَ مِنْ أبْوَابِ الجَنَّةِ، يَا عَبْدَ اللهِ هَذَا خَيرٌ، فَمَنْ كَانَ مِنْ أهْلِ الصَّلاَةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّلاَةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أهْلِ الجِهَادِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الجِهَادِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أهْلِ الصِّيَامِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أهْلِ الصَّدَقَةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّدَقَةِ )) قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رضي الله عنه -: بِأبي أنْتَ وَأُمِّي يَا رسولَ اللهِ! مَا عَلَى مَنْ دُعِيَ مِنْ تِلْكَ الأَبْوَابِ مِنْ ضَرورةٍ، فهل يُدْعى أحَدٌ مِنْ تِلْكَ الأبوَابِ كُلِّهَا؟ فَقَالَ: ((نَعَمْ، وَأرْجُو أنْ تَكُونَ مِنْهُمْ)) [7] متفقٌ عَلَيْهِ.
- وعن سهل بن سعد - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: (( إنَّ في الجَنَّةِ بَاباً يُقَالُ لَهُ: الرَّيَّانُ، يَدْخُلُ مِنْهُ الصَّائِمُونَ يَومَ القِيَامَةِ، لاَ يَدْخُلُ مِنْهُ أحدٌ غَيْرُهُمْ، يقال: أيْنَ الصَّائِمُونَ؟ فَيَقُومُونَ لاَ يَدخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، فَإذَا دَخَلُوا أُغْلِقَ فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ أَحَدٌ))؛[8] متفقٌ عَلَيْهِ.
- وعن أَبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَا مِنْ عَبْدٍ يَصُومُ يَوْماً في سَبِيلِ اللهِ إِلاَّ بَاعَدَ اللهُ بِذَلِكَ اليَوْمِ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفَاً[9])) [10] متفقٌ عَلَيْهِ.
- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: ((مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إيمَاناً وَاحْتِسَاباً، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)) [11] متفقٌ عَلَيْهِ.(/5)
- وعنه - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: ((إِذَا جَاءَ رَمَضَانُ، فُتِحَتْ أبْوَاب الجَنَّةِ، وَغُلِّقَتْ أبْوَابُ النَّارِ، وَصفِّدَتِ[12] الشَّيَاطِينُ)) [13] متفقٌ عَلَيْهِ.
- وعنه: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: ((صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأفْطِرُوا لِرُؤيَتِهِ، فَإنْ غَبِيَ عَلَيْكُمْ، فَأكمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلاَثِينَ)) [14] متفقٌ عَلَيْهِ، وهذا لفظ البخاري.
وفي رواية لمسلم: ((فَإنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَصُومُوا ثَلاَثِينَ يَوْمًا)).
ثالثًا: الشعر
قال شاعر:
جَاءَ الصِّيَامُ فَصُمْتُهُ مُتَعَبِّدًا أَرْجُو رَجَاءَ الصَّائِمِ المُتَعَبِّدِ
وقال آخر:
شَهْرُ الصِّيَامِ قَدْ جَلَوْتَ فُؤَادِي وَهَدَيْتَنِي لِلْمُرْتَقَى بِسَدَادِ
فِيكَ الْمَلَائِكَةُ الْكِرَامُ تَجَنَّدُوا وَتَقَيَّدَ الشَّيْطَانُ بِالْأَصْفَادِ
نَزَلَ الْأَمِينُ بِوَحْي رَبِّي قَائِلًا لِلْمُصْطَفَى اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّي الْهَادِي
فِي لَيلَةِ الْقَدْرِ الْعَظِيمِ وَإِنَّهَا جَاءَتْ بِكُلِّ الْخَيْرِ وَالْإِسْعَادِ
رَمَضَانُ أَنْتَ النُّورُ مِنْ وَحْي السَّمَا قَدْ جِئْتَنَا بِالنُّورِ والْإِرْشَادِ
قَدْ كَانَ فِيْكَ النَّصْرَ مِنْ رَبِّ السَّمَا فَأَزَلْتَ كُلَّ الشَّرِّ وَالْإِفْسَادِ
فِيكَ الْمَلَائِكَةُ الْكِرَامُ تَجَنَّدُوا لِيُثَبِّتُوا مَنْ آمَنُوا بِنجَادِ
أَوْحَى إِلَيْهُمْ رَبُّهُمْ أَنْ أيِّدُوا مَنْ آمَنُوا بِالْحَقِّ وَالْإِعْدَادِ
نْورٌ أَتَانَا فِيكَ يَا شَهْرَ الرِّضَى لَا يُنْكِرُ الْأَنْوَارَ إِلَّا عَادِي
وقال آخر
أَهْلاً وَسَهْلاً بِشَهْرِ الصَّوْمِ وَالذِّكْرِ وَمَرْحَبًا بِوَحِيدِ الدَّهْرِ فِي الأَجْرِ
شَهْرُ التَّرَاويْحِ يَا بُشْرَى بِطَلْعَتِهِ فَالْكَوْنُ مِنْ طَرَبٍ قَدْضَاعَ بِالنَّشْرِ(/6)
كَمَ رَاكِعٍ بِخُشُوْعٍ للإِلَهِ وَكَمْ مِنْ سَاجِدٍ وَدُمُوْعُ العَيْنِ كَالنَّهْرِ
فَاسْتَقْبِلُوا شَهْرَكُمْ يَاقَوْمُ وَاسْتَبِقُوا إِلَى السَّعَادَةِ وَالْخَيْرَاتِ لاَالوِزْرِ
إِحْيُوا لَيَالِيهِ بِالأَذْكَارِ وَاغْتَنِمُوا فَلَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ فِيهِ مِنْ دَهْرِ
فِيْهَا تَنَزَّلُ أَمْلاَكُ السَّمَاءِ إِلَى فَجْرِ النَّهَارِ وَهَذِيْ فُرْصَةُ الْعُمْرِ
وقال آخر
هَلاَ رَمَضَانُ يَاشَهْرَ الدُّعَاءِ وَشَهْرَ الصَّوْمِ شَهْرَ الأَوْلِيَاءِ
وَمَرْحًا يَاحَبِيبَ الْقَلْبِ مَرْحًا سَأُهْدِيكُمْ نَشِيْدِي بِاالثَّنَاءِ
قِيَامُكَ لَمْ يَجِدْ فِي اللَّيْلِ نِدًّا وَصَوْمُكَ تَاجُهُ نُورُ الْبَهَاءِ
وَكَمْ لِلَّهِ مِنْ نَفَحَاتِ خَيْرٍ بِمَقْدَمِكَ السَّعِيْدِ أَخَا السَّنَاءِ
وَرَحْمَتُهُ تُحِيطُ بِكُلِّ عَبْدٍ يَتُوْبُ وَيَرْتَدِي ثَوْبَ الدُّعَاءِ
وَفِيْكَ الْعِتْقُ مِنْ نَارٍ تَلَظَّى إِذَا تَابَتْ قُلُوْبُ الأَشْقِيَاءِ
وَغُفْرَانٌ يُلاَحِقُ ذَا ذُنُوْبٍ إِذَا مَا تَابَ مِنْ فِعْلِ الْوَبَاءِ
ومِيْضُ النُّورِ يَدْخُلُ فِي قُلُوبٍ وَتَزْدَهِرُ الْخَوَاطِرُ بِالْهُدَاءِ
فَكَمْ خَشَعَتْ قُلُوبُ ذَوِي صَلاَحٍ وَكَمْ دَمَعَتْ عُيُونُ الأَتْقِيَاءِ
نَظَرْتُ مَسَاجِدًا تَزْهُوْا بِنُوْرٍ فَسُرَّ الْقَلْبُ مِنْ وَهَجِ الصَّفَاءِ
وَفِيْكَ تَنَزَّلُ الأَمْلاَكُ حَتَّى طُلُوعِ الْفَجْرِ يَا لَكَ مِنْ ضِيَاءِ
وقال آخر:
يَا خَيَالاً مَرَّ بِالْخَاطِرِ يَا سَنَاءً هَبَّ كَالْغَائِرِ
يَا جَمَالاً يَا هَوَى مُهْجَتِي يَا ضِيَاءَ الْقَلْبِ وَالظَّاهِرِ
زَادَ وُجْدِي وَاسْتَبَدَّ الْهَوَى هَزَّنِي شَوْقٌ إِلَى الطَّاهِرِ
طَاهِرِ الرُّوحِ سَخِيِّ الْعَطَا مَا رَأى مِثْلاً لَهُ نَاظِرِي
ذَاكَ شَهْرُ الصَّوْمِ شَهْرُ الدُّعَا ذَاكَ شَهْرُ الذِّكْرِ وَالذَّاكِرِ(/7)
جَاءَنِي فِي حُلَّةٍ يَزْدَهِي يَا هَلاََ بِالسَّيِّدِ الزَّائِرِ
---
[1] أي يقي صاحبه ما يؤذيه من الشهوات، والجنة: الوقاية. النهاية 1/308.
[2] الرفث: كلمة جامعة لكل ما يريده الرجل من المرأة. النهاية 2/241.
[3] الصخب والسخب: الضجة، واضطراب الأصوات للخصام. وفعول وفعَّال للمبالغة. النهاية 3/140.
[4] تغير رائحة الفم. النهاية 2/67.
[5] أخرجه: البخاري 3/31 (1894) و34 (1904)، ومسلم3/157-158 (1151) (163) و(164).
[6] قال النووي في شرح صحيح مسلم 4/121 عقيب (1028) في تفسير هذا الحديث: "قيل: وما زوجان ؟ قال: فرسان أو عبدان أو بعيران. وقال ابن عرفة: كل شيء قرن بصاحبه فهو زوج، يقال: زوجت بين الإبل إذا قرنت بعيراً ببعير، وقيل: درهم ودينار، أو درهم وثوب. قال: والزوج يقع على الاثنين ويقع على الواحد، وقيل: إنما يقع على الواحد إذا كان معه آخر، ويقع الزوج أيضاً على الصنف، وفسر بقوله تعالى: {وَكُنْتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاثَةً}، وقيل: يحتمل أنْ يكون هذا الحديث في جميع أعمال البر من صلاتين أو صيام يومين، والمطلوب تشفيع صدقة بأخرى، والتنبيه على فضل الصدقة والنفقة في الطاعة والاستكثار منها".
[7] أخرجه: البخاري 3/32 (1897)، ومسلم 3/91 (1027) (85).
[8] أخرجه: البخاري 3/32 (1896)، ومسلم 3/158-159 (1152) (166).
[9] قال النووي في شرح صحيح مسلم 4/251 عقيب (1153): "الخريف: السنة. والمراد: سبعين سنة".
[10] أخرجه: البخاري 4/31 (2840)، ومسلم 3/159 (1153) (167).
[11] أخرجه: البخاري 1/16 (38)، ومسلم 2/177 (175).
[12] قال النووي في شرح صحيح مسلم 4/181 عقيب (1079): "معنى صفدت: غللت. والصفد: بفتح الفاء ( الغل ) بضم الغين".
[13] أخرجه: البخاري 3/32 (1899)، ومسلم 3/121 (1079) (1).
[14] أخرجه: البخاري 3/34 (1909)، ومسلم 3/124 (1081) (17).(/8)
العنوان: وجوب سلوك الحكمة في المعاملات وغيرها
رقم المقالة: 740
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحمد لله الذي من علينا بدين هو أكمل الأديان في العبادات والمعاملات وأقومها بمصالح الخلق الدينية والدنيوية الفردية والجماعية في جميع الحالات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له فاطر الأرض والسماوات، وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله الهادي إلى أعلى المقامات صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ما توالت الدهور والأوقات وسلم تسليماً.
أما بعد، أيها الناس: اتقوا الله تعالى، واحمدوا ربكم على ما أنعم به عليكم من نعمة الدنيا والدين، وقوموا بما أوجب الله عليكم من التحاب والتعاون والاجتماع على المصالح لتكونوا من الفائزين، اجتمعوا ولا تفرقوا وتعاونوا ولا تخاذلوا وتآلفوا ولا تنافروا وكونوا في جميع أعمالكم مخلصين. إن بالاجتماع تتفق الكلمة وتتبادل الآراء وتتم المصالح، إن المصالح العامة لا ينبغي أن تكون هدفاً للأغراض الشخصية والعلو الفردي، إن المصالح العامة يجب أن تكون فوق جميع المستويات التي دونها يجب أن تكون مقصودة بذاتها ولذاتها، يجب أن تدرس من جميع النواحي وأن تستخلص فيها جميع الآراء، ثم ينظر فيما يمكن من الطرق الموصلة إليها فيتفق عليها ويمشي عليها، وإن الإنسان متى خلصت نيته وصلح عمله بالاجتهاد والنظر في المصالح وسلوك أقرب الطرق الموصلة إليها متى اتصف بهذين الأمرين: الإخلاص والاجتهاد في الإصلاح صلحت الأشياء وقامت الأمور، ومتى نقص أحد الأمرين إما الإخلاص وإما الاجتهاد فإنه يفوت من المصلحة بقدر ذلك. إن بعض الناس إذا نظر إلى الأمور نظر إليها نظرة قاصرة من جانب واحد وبذلك تختل الأمور وتفوت المصالح.(/1)
أيها الناس: إن الواجب علينا كأبناء أمة واحدة أن نسعى لهدف واحد هو إصلاح هذه الأمة إصلاحاً دينيا ودنيوياً بقدر ما يمكن، ولن يمكن ذلك حتى تتفق كلمتنا ونترك المنازعات بيننا والمعارضات التي لا تحقق هدفاً بل ربما تفوت مقصوداً وتعدم موجوداً، إن الكلمة إذا تفرقت دخلت الأمور الأهواء والضغائن وصار كل واحد يسعى لتنفيذ كلمته، وإن تبين أن الحق والعدل في خلافها، ولكن إذا اجتمعنا من أول الأمر ودرسنا الموضوع من جميع جهاته واتفقنا على ما نراه ممكنا نافعاً من غير أن ننظر إلى مصالحنا الخاصة حصل لنا بذلك خير كثير، وثقوا أيها الناس أنكم متى أخلصتم النية وسلكتم الحكمة في الحصول على المطلوب فإن الله سييسر لكم الأمور ويصلح لكم الأعمال قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:71،72].
أيها المؤمنون: لقد مثل النبي - صلى الله عليه وسلم - المؤمن للمؤمن بالبنيان يشد بعضه بعضاً، وهذا هو المثال الصحيح لكل شعب مؤمن أن تتعاون أفراده في إقامة بنائه بحيث يكون الغرض تشييد هذا البناء وتماسكه وتراصه بحيث يكمل بعضه بعضاً ويقوم بعضه بعضاً، فلا إيمان كامل مع التفرق ولا بناء محكم مع التفكك. أرأيتم لو أخذ من البناء لبنة ألا ينقص هذا البناء؟ فكيف إذا كانت اللبنات متناثرة متنافرة بل كل واحدة تهدم الأخرى وتزلزلها؟ فيا أيها الناس اجتمعوا على الحق وتعاونوا عليه ولا تبعدوا شططاً ولا تقولوا باطلاً وتناصحوا فيما بينكم واتقوا الله لعلكم ترحمون.
أقول قولي هذا وأسأل الله تعالى أن يجمعنا على ما فيه الخير والصلاح في ديننا ودنيانا إنه جواد كريم وأستغفر الله لي ولكم... إلخ.(/2)
العنوان: وحدة الهدف لاتمنع الاختلاف
رقم المقالة: 830
صاحب المقالة: إبراهيم الأزرق
-----------------------------------------
قد لا يتأتى أن تتوحد طائفتان، ولاسيما إن كان الاختلاف بينهما اختلافاً لا يمكن الجمع بينه، فما تراه إحداهما عين الصواب تراه الأخرى خطأ صراحاً، بيد أن هذا لا يمنع من أن يتفق المختلفون المتعارضون - في الجملة - على بعض المشاريع المشتركة، غير أن هذا ليس بلازم.
وههنا إشكال قد لا يُتَفطن إليه في بعض الأحيان، وهو أن بعض مشاريع التوحد في كثير من القضايا لا تناسب كل أحد، ولا يمكن أن تكون على أيدي بعض المجتمعين؛ وإن كان مضمون المشروع وهدفه محل اتفاق في الجملة.
ولعل من أهم أسباب ذلك أن اختلاف التضاد، الذي يجعل من أحدهم يرى هدفاً ما نبيلاً، بينما يراه الآخر بخلافه؛ هذا الاختلاف ليس هو وحده الحائل دون الالتقاء على مشروع؛ بل قد يكون اختلاف التنوع حائلاً دونه، فقد لا يتأتى أن تتوحد مجموعتان أو مؤسستان؛ وإن كان الاختلاف فيما بينهما اختلاف تنوع، لأن كل مجموعة اختارت طريقها وفقاً لواقعها، وإمكانياتها، وما ترى أن الحاجة إليه أمس، وغيرها من العناصر التي لا تتفق فيها مع الأخرى.
ومن هذا القبيل اجتماع بعض المختلفين لتحقيق مشاريع لا تعارض أياً منهم.
فحتى يتم ذلك لابد مِنْ تضافر شخصيات تجتمع على تنفيذ مشاريع يهدفون إليها حقاً، ويريدون إنفاذها صادقين، ولهم من القدرة ما يخولهم القيام بها.
وقد يكون الهدف مقبولاً عند الجميع، لكن ليس كل هدف جدير بأن يحققه كل أحد، وقد ترى مشروعاً دنيوياً قام به فلان، ومع أن نجاح المشروع هدف له، وهو جاد في تحقيقه إلاّ أنك قد تحكم عليه بالفشل؛ لمعرفتك بأن طاقة الرجل لا تناسب الهدف الذي وضعه، وحينها يكون تأييد مثل هذا في المضي قدماً بالمشروع إهداراً لطاقته وتضييعاً لوقته وغشاً له.(/1)
أما إن كان الهدف غير واحد، والأولويات متباينة؛ فمن العبث اجتماع هؤلاء على المشروع.
ومن العبث كذلك اجتماعهم؛ إن كان أحد الأطراف لا تؤهله أحواله للإسهام فيه.
ويزداد هذا الأمر في مسائل الخلاف الظاهرة، التي تتعارض فيها الآراء تعارضاً بيناً، فلا يمكن أن يثمر اجتماع لمسلم مع كاثوليكي - مثلاً - الغرضُ منه الدعوة إلى تقرير عقيدة عبودية المسيح أو ألوهيته، فالأول لا يساعد الاشتراك مع كاثوليكي على إنفاذه، والثاني لا يساعد الاجتماع مع مسلم على إقراره.
وقل مثل هذا في حوار بين سني ورافضي؛ يرى الأول أن الثاني أخذ فوق ما له من حقوق، ويريد الثاني المزيد من الحقوق.
وسبب الإشكال في الصورتين تباين - بل تعارض - أهداف كل من المتحاورين أو المشتركين.
والمحصلة: ليس كل هدف حسن تحسن المشاركة مع كل أحد في سبيل تحصيله؛ ما لم يكن:
1- هدفاً للآخر.
2- يتأتى للمجتمعين إنجازه.
وإلاّ فإنك لا تجني من الشوك العنب!
ومُكَلِّفُ الأشياءِ ضِدَّ طباعِها مُتَطَلِّبٌ في الماء جُذْوةَ نارِ
وإذا رجوتَ المستحيلَ فإنما تبني الرجاءَ على شَفيرٍ هارِ(/2)
العنوان: وخير جليس في الأنام كتاب
رقم المقالة: 219
صاحب المقالة: د. خالد بن عبدالرحمن الجريسي
-----------------------------------------
باعد بيني وبين نشوة تواصل المحب لكتابه تكاثف مشاغل وتوالي سَفَرات وتزاحم مسؤوليات ، حتى كأنه لم يكن بيني وبين الكتاب مودة غامرة ، ولم تجمعنا مراراً لقاءات أحبة ، وجلسات شغف معرفي ونهم علمي ، حتى وجدت ضالتي المنشودة مؤخراً بين أسطر كتاب سنحت فرصة للاطلاع عليه ، فكأني بلسان حاله يقول أما يسرّك صلة بي ؟ ألم يشقيك بعدك عني ؟ أيترك المرء أهله وأحبابه ؟ عندها عاودني ذلك الشعور الذي كان ينتابني دوماً بحلاوة الاستغراق بين دفتي كتاب ، والشَّوْر من صافي رحيقه .
عدت بعدها أتساءل : هل تملّك هذا الشعور أفئدة كثير من القراء ؟ هل تذوقت الأسر في مجتمعاتنا حلاوة هذا المفهوم للقراءة ؟ أم تراها قد أخضعت رقاب قدراتها الفكرية لطاقات الآلة المطورة ، فتملّك التلفاز عليها لبابها ، وصارت المنافسة في الألعاب الرقمية منتهى آمال صغارها ، وخسر الجميع إثراء ثقافياً طالما أحيا أمما من مواتها .
ولقد أجدني مضطراً – والحال كذلك – إلى إطلاق نداء من الروح الثقافية التي تكاد تختنق في مجتمعنا، أبثه إلى مسامع التربويين أسألهم فيه الإشفاق على الناشئة من طغيان الآلة وضحالة إثرائها الثقافي ، واستنفاد الطاقات بذلك ، والعودَ بهم إلى واحة المطالعة النافعة ، إلى الكتاب – موطن الثقافة – ليكون ذلك الرافد الأساس والعنصر الموازي الأهم لعملية التعليم ، بعد أن تغيرت معالم الثقافة ، واكتسبت وجوهاً متعددة قد تكون في غالبها بعيدة عن معنى بناء فكر الإنسان وصقل روح المعرفة لديه .(/1)
وقد يقول قائل : ألا يكفي ويزيد ما يحصله المرء عبر الشبكة العنكبوتية الهائلة من توسع غير محدود لأفق المعرفة لديه ؟ وله أقول : للكتاب روح خاص لا يمكنه التلبس بآلة مهما تطورت ، وللآلة المعرفية توسع قد لا يحويه كتاب . إلا أنه – وللأسف – لقد حوت الآلة الغث والسمين ، فتاه الناشئ بقاربه المتواضع في عباب بحرها ، ولم يجد في الغالب رباناً مرشداً ، وصار الكتاب بالمقابل عند البعض زينة في المنزل يتباهى بغلافه الفاخر وورقه الصقيل .
ولا أخفيك سراً – أخي القارئ – إن أعلمتك بأن الإدمان الثقافي الآلي لم يحرز تقدماً يلحظ في تثقيف الأمة ، بيد أن سابقَهُ الكتاب أنتج ثلة مباركة من أهل الفكر الثقافي ، وأثلج صدورنا بنوابغ مشهود لهم في المعرفة والرأي .(/2)
العنوان: وداع العام
رقم المقالة: 779
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحمد لله الذي جعل الشمس ضياء والقمر نوراً وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب والحمد لله الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً من ذوي الألباب وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد ومنه المبتدأ وإليه المنتهى والمآب وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله أفضل من تعبد لله وأناب صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الحساب وسلم تسليماً.
أما بعد أيها الناس: اتقوا الله تعالى وتبصروا في هذه الأيام والليال فإنها مراحل تقطعونها إلى الدار الآخرة حتى تنتهوا إلى آخر سفركم وكل يوم يمر بكم فإنه يبعدكم من الدنيا ويقربكم من الآخرة فطوبى لعبد اغتنم فرصها بما يقرب إلى مولاه طوبى لعبد شغلها بالطاعات وتجنب العصيان طوبى لعبد اتعظ بما فيها من تقلبات الأمور والأحوال طوبى لعبد استدل بتقلباتها على ما لله فيها من الحكم البالغة والأسرار: {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الأَبْصَارِ} [النور:44] إخواني: ألم تروا إلى هذه الشمس كل يوم تطلع من مشرقها وتغرب في مغربها وفي ذلك أعظم الاعتبار فإن طلوعها ثم غيوبها إيذان بأن هذه الدنيا ليست دار قرار وإنما هي طلوع ثم غيوب وزوال.
ألم تروا إلى هذه الشهور تهل فيها الأهلة صغيرة كما يولد الأطفال ثم تنمو رويداً رويداً كما تنمو الأجسام حتى إذا تكامل نموها أخذت بالنقص والاضمحلال وهكذا عمر الإنسان سواء فاعتبروا يا أولي الأبصار.(/1)
ألم تروا إلى هذه الأعوام تتجدد عاماً بعد عام فإذا دخل العام الجديد نظر الإنسان إلى آخره نظر البعيد ثم تمر به الأيام سراعاً فينصرم العام كلمح البصر فإذا هو في آخر العام وهكذا عمر الإنسان يتطلع إلى آخره تطلع البعيد فإذا به قد هجم عليه الموت: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} ربما يؤمل الإنسان بطول العمر ويتسلى بالأماني فإذا بحبل الأمل قد انصرم وببناء الأماني قد انهدم.
أيها الناس: إنكم في هذه الأيام تودعون عاماً ماضياً شهيداً وتستقبلون عاماً مقبلاً جديداً فليت شعري ماذا أودعتم في العام الماضي وماذا تستقبلون به العام الجديد فليحاسب العاقل نفسه ولينظر في أمره فإن كان قد فرط في شيء من الواجبات فليتب إلى الله وليتدارك ما فات وإن كان ظالماً لنفسه بفعل المعاصي والمحرمات فليقلع عنها قبل حلول الأجل والفوات وإن كان ممن من الله عليه بالاستقامة فليحمد الله على ذلك وليسأله الثبات عليها إلى الممات.
إخواني: ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي وليست التوبة مجرد قول باللسان من غير تخلي إنما الإيمان ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال وإنما التوبة ندم على ما مضى من العيوب وإقلاع عما كان عليه من الذنوب وإنابة إلى الله بإصلاح العمل ومراقبة علام الغيوب فحققوا أيها المسلمون الإيمان والتوبة فإنكم في زمن الإمكان.
وعظ النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلاً فقال: ((اغتنم خمساً قبل خمس شبابك قبل هرمك وصحتك قبل سقمك وغناك قبل فقرك وفراغك قبل شغلك وحياتك قبل موتك)) ففي الشباب قوة وعزيمة فإذا هرم الإنسان وشاب ضعفت القوة وفترت العزيمة وفي الصحة نشاط وانبساط فإذا مرض الإنسان انحط نشاطه وضاقت نفسه وثقلت عليه الأعمال وفي الغنى راحة وفراغ فإذا افتقر الإنسان اشتغل بطلب العيش لنفسه والعيال وفي الحياة ميدان فسيح لصالح الأعمال فإذا مات العبد انقطعت عنه أوقات الإمكان.(/2)
عباد الله: اعتبروا ما بقي من أعماركم بما مضى منها واعلموا أن كل آت قريب وأن كل موجود منكم زائل فقيد فابتدروا الأعمال قبل الزوال.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلاَ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ * إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ * هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلاَ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * إِنَّ فِي اخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ} [يونس:3-6].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.. الخ.(/3)
العنوان: وداع رمضان
رقم المقالة: 262
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
الحمد لله؛ يقلب الليل والنهار، ويمضي الشهور والأعوام؛ لتعلموا عدد السنين والحساب، نحمده على ما منَّ به علينا من إدراك رمضان، والمعونة على الصيام والقيام، ونسأله أن يختم لنا شهرنا بالقبول والرضوان، والعتق من النار، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، ولا يتعاظمه شيء أعطاه، فمنذ خلق الخلق وهو يغدق النعم عليهم، ويدفع النقم عنهم، وما نفدت خزائنه، ولا حُبِس عطاؤه (يده ملأى لا تغيضها نفقة سحاءُ الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماء والأرض فإنه لم يغض ما في يده) سبحانه وبحمده، وتبارك اسمه وتعالى جده، ولا إله غيره، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله؛ بعثه الله تعالى رسولا إلى الناس ليخرجهم من عبودية الخلق إلى عبودية الخالق، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، فبلغ رسالة ربه، وأدى أمانته، ونصح لأمته، فجزاه الله عنا وعن المسلمين خير ما جزى رسولا عن أمته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أهل البر والتقى، ودعاة الخير والهدى، ومن تبعهم بإحسان واقتفى.
أما بعد: فاتقوا الله - عباد الله - وأطيعوه، فهاهو شهر التقوى قد آذن بصرم، وأزف رحيله بما أودع العباد فيه من أعمالهم، فهنيئا لمن عمره بذكر الله تعالى، ويا خسارة من مضى عليه ولم يكتسب فيه أعمالا صالحة.(/1)
أيها الناس: تنقضي الدنيا كما ينقضي عمر الإنسان، ويمضي عمر الإنسان كما يمضي رمضان، فبالأمس القريب كان الناس يستقبلون شهرهم، وهم الآن يودعونه، وهكذا يولد الإنسان كما يولد هلال الشهر، ومهما طال عمره في الدنيا فإنه نسي ما فات، ويؤمل فيما هو آتٍ، وليس دون أمل الإنسان إلا الموت؛ فإنه قاصم الأعمار، وقاطع الآمال، قال النبي عليه الصلاة والسلام (قلب الشيخ شاب على حب اثنتين: حب العيش والمال) وفي لفظ (يهرم بن آدم وتشب منه اثنتان: الحرص على المال والحرص على العمر) رواه مسلم.
والدنيا كلها مثل عمر الإنسان لها بداية أذن الله تعالى بها، ولها نهاية قدرها سبحانه وتعالى، وهو عز وجل من يعلم نهايتها (يسألك الناس عن الساعة قل إنما علمها عند الله وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا).
أعلمتم خبر آلاف السنين التي مضت من عمر الدنيا، وقرأتم أو سمعتم تاريخ الأمم المتعاقبة من لدن آدم عليه السلام؛ فإنه لم يبق منها إلا بعض ذكرها، وليس لأفرادها إلا ما استودعوا صحائف أعمالهم، منهم أمم عاشت آلاف السنين، وأفراد تجاوزوا المئين، ونوح عليه السلام قضى من السنين في دعوة قومه ألف سنة إلا خمسين عاما، والله تعالى أعلم كم كان عمره كاملا، فأين تلك الأمم ؟ وأين من عمروا فيها طويلا؟ لقد مضوا إلى ربهم، وكأنهم ما عاشوا في الدنيا إلا قليلا!!
إن عمر الإنسان لا قيمة إلا بما كان فيه من عمل؛ فالشيخ الذي يعمر في طاعة الله تعالى حتى احدودب ظهره، وسقط حاجباه على عينيه من الكبر، يكون طول عيشه حجة له، وسببا في زيادة حسناته، ورفع درجاته، فيحظى بالمنازل العالية عند الله تعالى؛ ولذا كان من إجلال الله تعالى: إكرام ذي الشيبة المسلم.(/2)
وأما من عمر طويلا فقضى عمره في معصية الله تعالى، فيا حسرة له على ما فرط وضيع، ذهبت الملذات والشهوات، وبقي الندم والحسرات، وكيف يقابل الله تعالى من كان هذا حاله ؟! وقد جاء في الحديث أن خير الناس من طال عمره وحسن عمله، وأن شر الناس من طال عمره وساء عمله.
إن الدنيا مثل رمضان، تمضي بلذائذها وشهواتها، وتعبها ونصبها، وينسى العباد ذلك، ولكنهم يجدون ما قدموا مدخرا لهم، إنْ خيرا فخير، وإن شرا فشر، ونحن في أخريات شهرنا سلوا من جاهدوا نفوسهم، واصطبروها على طاعة الله تعالى في الأيام الماضية، فأضنوا أجسادهم، وأمضوا نهارهم في أعمالهم، وفي بر والديهم، وصلة أرحامهم، ونفع إخوانهم رغم صيامهم، وأسهروا ليلهم في التهجد والمناجاة، والدعاء والاستغفار، سلوهم الآن عن تعبهم وسهرهم، وعن جوعهم وعطشهم، تجدوا أنهم قد نسوا ذلك، ولكن كتب في صحائفهم أنهم صاموا فحفظوا الصيام، وقاموا فأحسنوا القيام، وعملوا أعمالا صالحة كثيرة امتلأت بها صحفهم في رمضان، ولسوف يجدون عقبى ذلك غدا في قبورهم وعند نشرهم، نسأل الله تعالى أن يجعلنا منهم.
وسلوا الذين قضوا رمضان في النوم والبطالة، ورفهوا عن أنفسهم بأنواع المحرمات، وتفكهوا بما يعرض في الفضائيات، وضحكوا كثيرا من مشاهد السخرية بدين الله تعالى، وإنْ صلى أحدهم صلى ثقيلا، وإن قرأ القرآن ملّ منه سريعا، وما مضت عليهم الليالي السالفة إلا وقد أخذوا من الرفاهية أكثرها، ومن الضحك والمتعة أنواعها، سلوهم الآن عن أنواع الرفاهية والمتع التي تمتعوا بها لن تجدوا عندهم منها شيئا يذكر، وبقيت الأوزار تثقل كواهلهم، وتسود صحائفهم، ولا نجاة لهم إلا بتوبة عاجلة قبل أن يحال بينهم وبين التوبة.(/3)
إن الدنيا يا عباد الله هي مثل تلك الأيام التي مضت بحرها وعطشها وجوعها وسهرها وتعبها، ينسى المعمرون فيها ما أصابوه من أنواع الخير والسراء، وألوان الرفاهية والنعماء، كما ينسون ما لحقهم فيها من أصناف البلاء والضراء، ويبقى المحسن فيها محسنا يجني في الآخرة ثمرة إحسانه، كما يجد المسيء عاقبة سوءه يوم القيامة، ومصداق ذلك ما روى أنس بن مالك رضي الله عنه فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة فيصبغ في النار صبغة، ثم يقال: يا ابن آدم هل رأيت خيرا قط ؟ هل مر بك نعيم قط ؟ فيقول: لا والله يا رب، ويؤتى بأشدِّ الناس بؤسا في الدنيا من أهل الجنة فيصبغ صبغة في الجنة، فيقال له: يا ابن آدم هل رأيت بؤسا قط ؟ هل مر بك شدة قط ؟فيقول: لا والله يا رب ما مر بي بؤس قط، ولا رأيت شدة قط) رواه مسلم.
نسي المؤمن المعذب في الدنيا كل ما أصابه فيها بغمسة واحدة في الجنة، ونسي الكافر الفاجر كل النعيم الذي عاشه سنين طويلة في الدنيا بغمسة واحدة في النار.
إنها عبرة لمن اعتبر، وموعظة لمن اتعظ، من فهمها فأخذ بها نجا برحمة الله تعالى، ومن أعرض عنها فلا يلومن إلا نفسه، ويوم القيامة يجد نتيجة ذلك.(/4)
والقرآن مليء بهذا المعنى الذي دلَّ عليه الحديث، ففي سياق الآيات التي تخبر عن أحوال أهل الجنة نجد أنهم فرحون برحمة الله تعالى لهم، ومغتبطون بما نالوه من الثواب العظيم على أعمالهم الصالحة التي عملوها في الدنيا، وقد نسوا ما أصابهم في الدنيا من أكدارها وآلامها ومصائبها؛ ولذلك يحمدون الله تعالى على هدايته لهم إلى الإيمان والعمل الصالح الذي كان سببا في دخولهم الجنة (وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون) وفي آية أخرى بعد أن ذكر الله سبحانه حمدهم له تعالى أثنى على عملهم الذي استحقوا به هذا الأجر الكبير (وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العاملين) وقد جاء النص على أن هذا الجزاء العظيم لهم إنما كان على عملهم الصالح في الدنيا (إن هذا كان لكم جزاءً وكان سعيكم مشكوراً) وفي آية أخرى (كلوا واشربوا بما أسلفتم في الأيام الخالية)
وفي مقابل ذلك يخبر القرآن عن ندم أهل النار يوم القيامة حين يرون أنواع العذاب والنكال، وأنهم يتمنون الرجوع للدنيا للعمل الصالح ولكن هيهات قد حيل بينهم وبين ذلك، وما هي إلا فرصة واحدة لا تتكرر، فما أشد بؤسهم حين يقولون (ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمونا) وما أعظم خسارتهم حين يبعثون من قبورهم للحساب (حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها) ويقول قائلهم عند الموت (رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت) ولكن لا يجابون إلى ذلك ، قال قتادة رحمه الله تعالى:(والله ما تمنى أن يرجع إلى أهل ولا إلى عشيرة، ولا بأن يجمع الدنيا، ويقضي الشهوات، ولكن تمنى أن يرجع فيعمل بطاعة الله عز وجل، فرحم الله امرءاً عمل فيما يتمناه الكافر إذا رأى العذاب) (وترى الظالمين لما رأوا العذاب يقولون هل إلى مرد من سبيل)(/5)
ولو أن الله تعالى أجابهم إلى ما أرادوا من إعادتهم إلى الدنيا ليعملوا صالحا لعادوا إلى أعمالهم السيئة؛ إذ لو كانوا صادقين في دعواهم لأخذوا العبرة مما حلَّ بالمكذبين قبلهم، ولم يسيروا سيرتهم، وهم يعلمون عاقبتهم (ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين، بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون).
يقفون أمام ربهم وهم في غاية الذل والانكسار، والخزيِّ والعار مما صنعوا واكتسبوا في الدنيا (ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رءوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون) فلا رجوع حينئذ، إنما حساب وعذاب،فخذوا - رحمكم الله تعالى - من حالهم أبلغ العبرة، وأحسن الموعظة؛ فقد قرأتم كتاب الله تعالى في الأيام الخوالي، واستمعتم إلى آياته في تلك الليالي، وعلمتم كثيرا من أوصافهم وأحوالهم، فحذار حذار أن تسلكوا مسلكهم؛ فإن دنياهم زالت عنهم، وبقي عذابهم بأعمالهم، وما أغنت عنهم أموالهم ولا أولادهم ولا نعيمهم في الدنيا من عذاب الله تعالى شيئا. فمن أحسن فيما مضى من رمضان فليحمد الله تعالى، وليختم شهره بكثرة الاستغفار، وليثبت عقب رمضان على العمل الصالح، وليعلم أن انتهاء العمر سيكون كانتهاء رمضان، يمر سريعا ولا يبقى له إلا ما عمل فيه.
ومن أساء في رمضان، وفاته الخير والإحسان، فليبادر بتوبة صادقة يختم بها شهره، وليستغفر لما مضى من ذنبه، وليأخذ من سرعة دخول الشهر وخروجه عبرة بسرعة زوال الدنيا، وقرب رحيله هو عنها، وله عوض فيما بقي من عمره عما فاته من تحصيل الخير، وليحذر من تضييع عمره كما ضيع رمضان، فتكون عاقبته الندم والخسران.(/6)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون، ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون، لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون). بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، ولا أمن إلا للمؤمنين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله النبي الأمين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واعبدوه في رمضان وفي غير رمضان، وإياكم وهجران المساجد والمصاحف بعد الصيام والقيام؛ فبئس القوم قوم لا يعرفون الله تعالى إلا في رمضان.
أيها المسلمون: شرع الله تعالى لكم في ختام شهركم أعمالا صالحة تزكي نفوسكم، وتتمم طاعتكم، وتجبر نقص صيامكم، ومن ذلكم: زكاة الفطر التي فرضها الله تعالى طهرة للصائمين، وطعمة للمساكين، وأوجبها على الواجدين من المسلمين، من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات كما ثبت ذلك عن نبيكم صلى الله عليه وسلم.
يخرجها الرجل عن نفسه وعمن تلزمه نفقته من زوج وولد ونحوهم، والأفضل للمكتسب الواجد أن يخرجها عن نفسه، وتخرج من الأصناف المنصوص عليها في الأحاديث النبوية؛ كما جاء في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (كنا نخرج زكاة الفطر صاعا من طعام أو صاعا من شعير أو صاعا من تمر أو صاعا من أقط أو صاعا من زبيب) متفق عليه.
والأفضل أن يخرجها المسلم بين صلاة الفجر وصلاة العيد يوم العيد، وله أن يقدم إخراجها قبل العيد بيوم أو يومين كما جاء ذلك عن الصحابة رضي الله عنهم.(/7)
كما شرع الله تعالى لكم في ختام شهركم تكبيره عز وجل على ما هداكم للإيمان، وشكره على ما وفقكم للصيام (ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون) ويبدأ التكبير من غروب شمس آخر يوم من رمضان إلى صلاة العيد.
واحذروا منكرات العيد من المعازف والغناء، والإسراف في اللباس والطعام، وتضييع الصلوات، وغير ذلك من الآثام، وأتبعوا رمضان بصيام ست من شوال؛ فإن من صامها مع رمضان كان كمن صام الدهر كله كما جاء في الحديث.
واختموا شهركم بصالح أعمالكم، وأكثروا من الاستغفار، وسلوا الله تعالى القبول؛ فإن المعول عليه في الأعمال قبولها، ولا تغتروا بعملكم، ولا تسيئوا الظن بربكم، وكونوا بين الخوف والرجاء، ترجون ربكم، وتخافون تقصيركم.
وصلوا وسلموا على ربكم كما أمركم بذلك ربكم ....(/8)
العنوان: وداعاً لمشكلات مطبخك
رقم المقالة: 827
صاحب المقالة: حوار: أروى محمد
-----------------------------------------
الدكتور سمير الحلو يضع النقاط على الحروف
"حواء والمطبخ معاناة لا تنتهي" هذا ما صرحت به معظم النساء اللاتي سألناهن عن علاقتهن بالمطبخ، فهناك العديد من المشكلات تواجهها حواء في المطبخ سواء في التخزين أو عند الطهي أو غيرها، لذا أجرينا هذا الحوار مع الدكتور" سمير إسماعيل الحلو" رئيس الجمعية الأردنية للنباتات الطبية، وهو من الأطباء المهتمين بأحدث ما وصل إليه العلم الحديث في التغذية الصحية السليمة وربطها بالمنبع الطاهر (الطب النبوي)، وله مؤلفات كثيرة في هذا المجال، ليقدم لكِ بعضَ الإرشادات التي تساعدك في أداء مهامكِ في المطبخ على الوجه الأفضل..
• هل استخدام حلة الضغط يعتبر جيداً من الناحية الصحية؟
نعم، إن حلة الضغط تسارع في نُضج الطعام في وقت أقصر من الطبخ في الحلة العادية ؛ ولذا فهي تقلل الخسارة النسبية في القيمة الغذائية للطعام.
• هل لاستخدام البيكربونات في الطبخ محاذير صحية؟
إن بيكربونات الطبخ عبارةٌ عن مادة قلوية تساعد في المحافظة على اللون الأخضر للخضار أثناء الطبخ، كما أنها تعمل على سرعة إنضاج الطعام. وآثارها السلبية تنحصر في أنها تعادل أحماض المعدة وهذا ما يؤخر عملية الهضم، ثم إنها تؤثر على الاستفادة من فيتامين (سي).
• ما هي الطريقة الصحية لاستخدام زيوت القلي؟
لقد كثر الحديث عن كيفية استخدام زيت القلي بين متشدد ومتساهل، ونستطيع تلخيص مجمل تلك الأقوال في النِّقاط التالية:
تَكرار استعمال زيت القلي يعرضه إلى تغيرات جزئية تسمى (البلمرة)، هذه الجزيئات تُعزَى إليها بعضُ المشكلاتِ الصحيةِ مثل التلبك المعوي، والحساسية والتسمم، وبعضُ الأطباء قالوا: إنها تسبب السرطان مع أن ذلك لم يثبت علمياً.(/1)
الآراء المتشددة وصَّت باستخدام زيت القلي مرةً واحدةً فقط، ثم يُجدَّدُ بعد ذلك لكل قلية جديدة.
ونحن نقول: إذا أردت أن تطاع فأمر بما يستطاع؛ إذ إن تغيرَ زيتِ القليِ بَعْدَ كلِّ قليةٍ عمليةٌ مكلفةٌ لا يستطيعها ثلاثة أرباع سكان الأرض لظروفهم المعيشية الصعبة، ثم إن الزيت لا يفسد بهذه السرعة.
يفضل عدم السماح للزيت بالغليان لفترة أطول قبل وضع الغذاء المطلوب قليه، بل يفضل وضع قطعة صغيرة من الطعام المراد قليه مسبقاً، ثم ملاحظته حتى يسخن الزيت فحين إذٍ تضاف بقية الكمية إلى القلي
وبعد إزالة الطعام المقلي وبقاء الزيت في حالةٍ صافيةٍ نقيةٍ إلى حد كبير، فلا بأس باستخدام الزيت أكثر من مرة، أما في حال تغير لونه إلى السواد فمن الأفضل تغييرُه في الحال.
ينبغي لأصحاب المطاعم تغير الزيت يومياً بعد استخدامه ليلةً كاملةً، وعدم استعمال الزيت لعدة أيام فهم مسؤولون أمام الله عن أيِّ ضررٍ يلحقُ بالعباد.
• هل يعتبر استخدام الأواني البلاستكية آمناً لحفظ الطعام؟
ينقسم البلاستيك إلى نوعين:
- البلاستيك الحراري وهو شائع الاستعمال، والذي يتغير شكله ويتميع في حال تعرضه للحرارة الشديدة ويمكن صهره وإعادة تشكيله.
- البلاستيك الذي لا يتأثر بالحرارة إلا إذا ارتفعت حرارته إلى درجاتٍ عاليةٍ فحينئذٍ يحترق ويتفتت ولا يمكن الاستفادة منه مرة أخرى مثل الميلامين.
والمشكلة في البلاستيك هي أن بعض أجزائه الصغيرة قد تختلط وتذوب في الطعام وتدخل في أمعاء الإنسان وهذا ما يولد حساسية عند بعض الناس إضافةً إلى أن البلاستيك قد يغير من نكهة بعض الأطعمة. وبوجه عام فإن نوعية البلاستيك تحدد استعماله، فالنوع الثاني أفضل وأسلم من النوع الأول لحفظ الطعام،في حين أن النوع الأول أرخص ويأتي بكافة الوجوه التي تحتاجها ربة البيت.
• ما هي أفضل الطرق للتجميد؟(/2)
أما اللحوم والدجاج والأسماك فتُلفُّ الكمية المراد حفظها بعد تقطيعها و غسلها داخل أكياس نظيفة من (البولي إيتلين) أو علب البلاستيك، و ترص داخل المجمِّد بطريقة مرتبة ويستخرج ما يراد استهلاكه مرةً واحدةً.. أما الخضار مثل: (الفاصوليا) و(البازيلاء) و (البامية) وكذلك الرطب فيتم تقطيعها وتنظيفها ثم تحفظ مرتبة في أكياس النايلون أو علب البلاستيك المحكمة، و هذه الأنواع لا يتغير حالها مع التجميد إلا قليلاً فهي غير الطماطم و الخيار و البطيخ و الشمام الذي يتميع بعد تجمده ثم ذوبانه.
• ماذا يعني فساد الأطعمة؟
يعرف الطعام بأنه فاسد إذا تغير وأصبح غير مرغوب فيه بحدَثٍ يحدُثُ لأية صفة من صفات الغذاء سواءٌ كان ذلك في الصفات الغذائية أم الشكلية (التجارية)، وهناك أغذية تتلف بسرعة مثل التي تحتوي نسبةً عاليةً من الرطوبة كالخضار الورقية، واللحوم، والأسماك، والخوخ، والفراولة، والتين، والحليب. ومدة صلاحيتها تُراوِح من ساعاتٍ إلى بضعة أيام حسب الظروف المحفوظة فيها و هناك أيضاً أغذيةٌ متوسطةُ سرعةِ الفسادِ مثل:
البطاطس، والتفاح، والمكسرات، والبصل. وهذه تستمر صلاحيتها من عدة أسابيع إلى عدة أشهر. والأغذية غير المعرضة للتلف السريع مثل:
الحبوب، والبقول الجافة، والسكر، وملح الطعام، وذلك لانخفاض مستوى الرطوبة فيها فيمكنها البقاء صالحة من بضعة أشهر إلى بضع سنوات.
• كيف يمكن الوقاية من حوادث التسمم الغذائي؟
هناك مجموعة من النصائح التي تساعد على اجتناب حوادث التسمم الغذائي انطلاقاً من المبدأ الشهير(درهم وقاية خير من قنطار علاج). نذكر منها:
- اتباع الوسائل والأساليب الصحية في شراء وتنظيف وتحضير وحفظ الطعام.
- وضع الأطعمة المراد حفظها لمدة طويلة مباشرة في المجمِّد (الفريزر)، وعدم تركها مدة طويلة في المطبخ دون إعداد.
- إبعاد الأشخاص الذين يحملون مرضاً معدياً عن تحضير الطعام ومعالجتهم أولاً بأول.(/3)
- عدم شرب الحليب الطازج قبل غليه لبضع دقائق.
- عدم تناول أي غذاء يشتبه في فساده.
- عدم تناول البيض الذي يظهر عليه كسر أو شرخ في القشرة، كما يجب عدم غسل البيض قبل وضعه في الثلاجة لأن ذلك يؤدي إلى تلوثه من الداخل.
- تجنب الأكل من المطاعم والمقاهي التي لا تتوفر فيها الشروط الصحية.
- ليس كل ما يسبب سوء هضم، وتلبك، أو قيء فساد الطعام، بل هناك أمور دقيقة ربما لا يكترث لها الإنسان وتؤدي إلى هذه الأعراض التي قام بتلخيصها لنا الطبيب الشهير "أبو بكر الرازي" في كتابه ((منافع الأغذية ودفع مضارها)) حين قال: إن الطعام قد يعرض له بأن يضر، وإن كان جيد الغذاء، وذلك لأحدٍ أو أكثر من الأسباب التالية:
- لكثرة كميته أو لقلتها - وإما لتناوله قبل وجوب تناوله أو بعده - أو لسوء ترتيبه ((أي يدخُل حلوٌ على حامض ونحو ذلك)) - وإما لاستعمال الحركة أو السكون، أو النوم، أو الجماع، أو ما يحتاج قبله أو بعده - وإما لرداءة المراقد والمساكن التي تواليه، أو يكون فيه قبل الطعام وبعده - وإما لكثرة اختلاف ألوانه - وإما لطول الوقت منذ ابتدائه إلى الفراغ منه - وإما لحدوث بعض العوارض النفسية كالغم، والغضب، ونحوهما - وإما أنه غير موافق للمتغذي في مزاجه وحاله في ذلك الوقت - وإما أنه غير معتاد ولا مألوف - وإما أنه غير مشتهى ولا مستلذ - وإما أنه غير موافق لذلك السن - وإما أنه خارج عن الاعتدال في حره أو برده بالفعل.
• ما هي النصائح التي تقدمونها للمرأة حتى تقل مشكلاتها في المطبخ؟
نصيحتي لكل ربة بيت هي:
- شراء الأغذية الطازجة من خضار وفواكه ولحوم والتي هي من نتاج بلدهم أو البلدان الإسلامية فقط.
- القيام بتخزين الأنواع القابلة للتخزين من هذه الأطعمة بالطرق التي تعلمناها من آبائنا وأجدادنا فيما يخص الأجبان، والزيتون، والزيت، والمخللات، والعسل، والطماطم والتي توفر على رب الأسرة المصاريف الكثيرة.(/4)
- في حال وجود حديقة للبيت، تزرع هذه الحديقة بالخضر الورقية المفيدة مثل: البصل، والثوم، والطماطم، والخس، والسبانخ، وبعض الأشجار المثمرة مثل: العنب، والتفاح، والرمَّان، وغيرها حسب مساحة الحديقة.
- كذلك يفضل زراعة بعض أنواع الأشجار المستخدمة في العلاجات الطبية مثل: شجر الخروع، وشجر البيلسان، والحناء والرمان، والشمر، والبقدونس، والغار، والزعتر، والبابونج، والمريمية، وغيرها، حيث يمكن استخدامها للوعكات الشائعة المختلفة للكبار والصغار.
- إذا كان في المكان فسحة فيفضل عمل قفص للدجاج أو للحمام فيستفاد منه في عدة نواحي:
- الحصول على اللحم الطازج المغذي الذي يتفوق على لحم دجاج المزارع أو الدجاج المستورد.
- الحصول على البيض الطازج.
- تعليم الأولاد كيفية التعامل والمحافظة على مخلوقات الله،كما أنه يفيدهم في اللهو المفيد بدلاً من الجلوس أمام التلفزيون مع ما يؤدي إليه من تشتيت لقدراتهم وعقولهم.
- التخلص من بقايا الطعام والخضار بطريقة مفيدة إذ يتناولها الدجاج أو الحمام بكل سرور بدلاً من رميها في القمامة، و السؤال عنها يوم القيامة.(/5)
العنوان: ورحل حسن الكرمي
رقم المقالة: 860
صاحب المقالة: أحمد العلاونة
-----------------------------------------
ورحل حسن الكرمي
صاحب أشهر برنامج إذاعي أدبي، وصاحب أوسع معجم إنكليزي عربي
غيَّب الموت في عمَّان يوم الأحد 6/5/2007م الإعلاميَّ والأديبَ واللغوي والمفكر حسن الكرمي عن 102سنة ، وهو صاحب أشهر برنامج إذاعي أدبي (قول على قول) الذي كانت تبثُّه هيئة الإذاعة البريطانية الـ(BBC)، وهو مبني على الإجابة عن أسئلة المستمعين، يسألون عن قائل بعض الأبيات الشعرية، وعن مناسبة الأبيات، فيجيب عن ذلك، ويضيف إليه ما شابهه أو ناقضه.
وأراد به الكرمي أن يعرِّف العرب بلغتهم وشعرهم وأدبهم وأن يوقفهم على الدرر الثمينة في تراثهم الأدبي الراقي.
ولم تكن الصعوبة في تعرُّف قائل البيت أو أبيات الشعر التي يُسأل عنها فقط، ولكن الصعوبة في معرفة المناسبة التي قيلت فيها، وسرد أبيات شعر أخرى مناسبة للمقام.
وقد ذلل تلك الصعوبات ذاكرتُه القوية وقراءته الواسعة في الأدب والشعر، وحسُّه الموروث الذي مكَّنه من التمييز بين شعر جاهلي أو إسلامي أو أموي أو عباسي ... ومن ثَمَّ تضييق الشقة في عملية البحث.
وقد اتسم إلقاؤه الشعر بوضوح مخارج الحروف وسلامتها وجودة الإلقاء القائم على تلوين مقاطع الكلمة بطريقة تسهِّل على المستمع فهم الشعر القديم.
وكان البرنامج يُذاع مرة في الأسبوع، بدأ به عام 1953واستمرَّ حتى عام 1987م، وكان برنامجاً خالداً أحبَّه السامعون العرب وغير العرب، وكان من المستمعين إليه الملك فيصل بن عبدالعزيز، وإدريس السنوسي ملك ليبيا، وجمال عبدالناصر الذي طلب من المسؤولين في الإذاعة المصرية إعداد برنامج مماثل ولكنهم أخفقوا.(/1)
تعرفت الأستاذ الكرمي بعد أن استقرَّ بعمان عام 1989م، وكنت أزوره باستمرار سواءً أكان ذلك في فندق القصر حيث كان يقيم في أول سنة من استقراره بعمان أم في شقته التي كانت في مقابل أشهر سوق تجاري بعمان (safewey)، وكنت أستمع إليه وأستفيد من جلساته، وكان يسترسل في حديثه وفي الإجابة عما يُسأل عنه، وكان دائم القراءة والكتابة على تقدُّمه بالسن، وقد زرته قبل موته بشهرين فكان على عهدي به، ويمنِّي نفسه في طبع كتبه التي لم تطبع، وإعادة طبع الكتب التي نَفِدَت، وكان الناس يحسدونه على صحته وقوة ذاكرته.
لعل الكثيرين لا يعرفون أن الكرمي كان في الأصل ذا ميل إلى العلوم والرياضيات، وكان مبرِّزاً فيهما ولا سيما الرياضيات، وهذا على عكس ما نشأ عليه والدُه وإخوته وكلهم شعراء أو أدباء ، فوالده الشيخ سعيد (1852-1935) كان أديباً وشاعراً وقاضياً شرعياً، وإخوته: أحمد شاكر (1894-1927) الأديب الكاتب الذي أنشأ مجلة الميزان التي كانت من خيار المجلات أدباً وبحثاً، ومحمود (1889-1939) كان صحفياً ومعلماً، وعبدالكريم (أبو سلمى) (1909-1980) الشاعر الأديب، وهو أشهرهم لنبوغه الشعري. وانصراف الأستاذ حسن الكرمي إلى الأدب بدأ بعمله في هيئة الإذاعة البريطانية.(/2)
ولد حسن الكرمي في طولكرم عام 1905، وهو التاريخ الذي كان يذكره في أول حياته، ثم أصبح يميل إلى سنة 1907 أو 1908، ودرس في طولكرم حتى الصفِّ الرابع الابتدائي، ثم انتقل إلى دمشق ودرس في مكتب عنبر إلى الصفِّ العاشر، ثم ترك دمشق وأتى إلى القدس وأتم دراسته الثانوية والجامعية في الكلية الإنكليزية، ثم ذهب إلى لندن ودرس التربية والتعليم 1937-1938، والإحصائيات التعليمية 1945-1946، واشتغل بالتدريس في مدرسة البكرية في القدس1930، وفي المدرسة الرشيدية في القدس 1931، وفي مدرسة الرملة الثانوية 1933، وفي الكلية العربية بالقدس 1936، فمدرساً بالرشيدية مرة أُخرى 1937، ثم أصبح مساعد مفتش في إدارة المعارف بالقدس 1938، فمفتشاً إداريّاً في إدارة المعارف 1948، وبعد نكبة فلسطين 1948عمل في القسم العربي بهيئة الإذاعة البريطانية مراقباً للغة حتى أحيل على التقاعد 1968، ولكنه بقي يعمل بعد ذلك بعقد، وألقى عصى التَّرحال في عمان حتى وفاته فيها.
ألَّف: (قول على قول) في 14مجلداً، بقي منه اثنان لم يُطبعا، و(هامش قول على قول) 4 مجلدات طُبع منه اثنان، و(الهادي إلى لغة العرب) معجم لغوي 4 مجلدات كبار، و(المنار) معجم إنكليزي - عربي، و(المغني) معجم إنكليزي - عربي، و(المغني الوجيز) إنكليزي - عربي، و(المغني الوسيط) إنكليزي - عربي، و(المغني الكبير) إنكليزي - عربي، و(المغني الأكبر) إنكليزي - عربي، وهو أضخم وأدقُّ معجم في هذا المجال، و(المغني الفريد) إنكليزي - عربي ، و(المغني الفريد) عربي - إنكليزي. و(اللغة نشأتها وتطوُّرها في الفكر والاستعمال)، و(العلم والتعليم والكلية العربية في القدس)، و(الثنوية في التفكير)، و(التفكير المستقيم والتفكير الأعوج)، و(خروج العرب من إسبانيا) مترجَم، وقال لي: ترجمتُه ليتَّعظ العرب، ولكنَّ العربَ لا يتعظون. و(سيرة حياتي) مخطوط، عندي نسخة منه، و(سيرة قِط) مخطوط.(/3)
وألَّف بالإنكليزية: (قداسة فلسطين عند المسلمين)، و(الصلاة في الإسلام)، و(الإسلام والغرب)، و(التعريف بالإسلام).
له من الأولاد: سهام (من مواليد 1931) تخرجت كيميائية في جامعة لندن، وزياد (من مواليد 1936) تخرج مهندساً في جامعة غلاسكو في اسكتلندا، وغادة (من مواليد 1939) تخرجت طبيبة في جامعة برستول.
للكرمي شعرٌ قليل، منه الأبيات التي نظمها في بريطانيا وفيها تذكُّر لفلسطين موطنه المغصوب:
أنا على العهدِ مهما شَتَّ نائينا وأوسعَ الدهرُ حبلَ الوَصل تَوهينا
وأَمعَنَت صُوَرُ الأَحداثِ ضاربةً أَطنابَها لتزيدَ الخَطبَ تَوهِينا
فلا البِعادُ مُزيلٌ ما بأنفُسِنا ولا التَّداني بماحٍ بعضَ ما فِينا
نحن شَوقاً إلى تلكَ الرُّبوع كما يَحنُّ إِلفٌ لإِلفٍ فاتَهُ حِينا
ونبعثُ الرَّسمَ تَخييلاً عَسى أَثَرٌ في الذِّهنِ عن رُؤيةِ الأَعيانِ يَكفِينا
حتَّى الحقيقةُ ما أَشفَت لَنا غُلَلاً فكيفَ أَخْيِلةٌ تَروي وتَشفينا
فلا الجبالُ جبالُ النارِ نَعهَدُها ولا الأَراضِي بها شِبهٌ لِوادِينا
ولا الملامِحُ في الأَشخاصِ نَعرِفُها كأنَّما الناسُ ليسُوا مِن أَناسِينا
بقي أن أشيرَ إلى أن أصل الكرمي من اليمن فهو من بقايا القادمين مع عمرو بن العاص رضي الله عنه لفتح مصر، ولما فُتحت مصر وقُسِّمت أراضيها على الغانمين بأمرٍ من عمر بن الخطاب رضي الله عنه، خرج سهمُهم في إقليم الشرقية، ثم جاء أحدُ جدود الكرمي إلى طولكرم واستقرَّ فيها. رحم الله الكرمي وأسكنه فسيح جِنانه.(/4)
العنوان: وسائل الإعلام وإفساد الذوق اللغوي
رقم المقالة: 936
صاحب المقالة: يوسف عز الدين
-----------------------------------------
أثر وسائل الإعلام
في إفساد الذوق اللغوي
مما لا جدال فيه وجود صراع واضح الأثر بين العاميَّة والفصحى في مختلف مضامين الحياة اليومية، ونجد ذلك في المدارس والجامعات، ووسائل الإعلام، وهي ساحات لحماية الفصحى والذَّود عنها؛ لأن العامية داء استشرى بين العرب.
بدأت الظاهرة منذ بداية عصر النهضة، وأحس بها الغيارى، ودافعوا عن الفصحى مثل الرافعي وحافظ إبراهيم وغيرهم، وقد عرف من دعاة العامية وليم سبيتا الذي أراد إثبات رأيه فوضع كتابه "قواعد اللغة العاميّة في مصر"، وطالب بأن تكون العامية لغة الآداب، والعلوم، والفنون، ورأى الفصحى محدودة في المفردات، وظن أن هناك اختلافاً كبيراً بينها وبين العاميّة، وقال بأن الفصحى تؤخر الحضارة. وفاته أنها اللغة التي دامت طوال القرون الطويلة، واستوعبت ثقافات الأمم وحضارات العالم، وازدهرت بها، وما نزال نفهم الكثير من الأدب الجاهلي والإسلامي والأموي بيُسر وسهولة، وأن الإنجليز اليوم لا يفهمون لغة جوسر CHAUCHR ولا لغة شكسبير، ولغة كتابهم إلا بواسطة المعاجم على الرغم من قصر عمر الإنجليزية واللغات الأخرى، واضطرت الشعوب الغربية إلى التخلص من اللاتينية، واستعمال الشعبية؛ للبعد الكبير بينها وبين الإيطالية والفرنسية والأسبانية.
دعاة العامية:(/1)
وجاء ولكوكس WILCOKS الذي كان في دعوته يهاجم الفصحى ويسخف اللغة العربية، ويزعم أنها عاجزة عن مسايرة ركب الحياة الحديثة، وادعى أن الشعب المصري تأخر؛ لأنه لم يستعمل العامية، وعاقته الفصحى عن الابتكار والاختراع، ونشر إعلاناً في "مجلة الأزهر" يغري فيه باتخاذ العاميّة لغة للكتابة والأدب قال فيه: "من قدم لنا هذه الخطبة باللغة الدراجة المصرية وكانت موافقة جداً يكافأ بإعطائه أربعة جنيهات (إفرنكية)، وإن كثر المتقدمون فيعطى هذا المبلغ لمن يحوز الأولية"[1].
والدعوة إلى العاميّة انتشرت في كتابات الغربيين والعرب. ومن الغربيين كارل فولرس الألماني FULLERS (ت 1909م) الذي هاجم الفصحى؛ لأنها جامدة، فلم تساعد المصريين على النهضة الفكرية والتقدم الحضاري، وحسبها كاللاتينية التي ماتت، فألف كتاب "اللهجة العامية في مصر" 1890م، كما ألف سلدن ولمور الإنجليزي كتاباً سماه "العربية المحلية في مصر"، وحسب أن اللغة الإنجليزية ستسيطر على مصر، واتفق هؤلاء على ضرورة جعل العامية لغة العلوم والآداب والفنون، ولعلي أستغرب من الأستاذ أحمد لطفي السيد تساهله في قبول المسميات الأجنبية ورأيه بأن العربية فقيرة، وأن لغة الجمهور ستخرج الفصحى من جمودها، وأن يكون الصلح بين العامية والفصحى، وعندها تستعمل مفردات العامية وإن وضع شرط عدم الابتذال ولكنه يعود فيقول: "يجب أن نتذرع إلى إحياء العربية باستعمال العامية ومتى استعملناها في الكتابة اضطررنا إلى تخليصها من الضعف، وجعلنا العامَّة يتابعون الكُتّاب في كتاباتهم، والخطباء في خطاباتهم، والممثلين في رواياتهم"[2].
وأعمال مجمع اللغة العربية في مصر دليل على أن الفصحى قادرة على استيعاب الجديد عندما وضع عدداً كبيراً من معجمات متعددة في كل العلوم الحديثة، وما زال يوالي عمله ومعه مجامع اللغة العربية في دمشق والأردن وبغداد والمغرب.
الدعاة في الوطن العربي:(/2)
أما دعاة العامية من أبناء العرب فمنهم الأموات والأحياء، فكان منهم سلامة موسى (ت 1958م)، ومارون غصن (ت 1940م) وسعيد عقل، وكان قبلهم يعقوب سنوا الذي سمى نفسه يعقوب صنُّوع (ت 1912م).
والخطر الكبير من الذين عاشوا في البلاد العربية وكانوا من أبنائها، وكان هؤلاء أشد ضراوة عليها من الأجانب، وآزرتهم وسائل الإعلام التي تدخل في كل مكان من المسلسلات والروايات، والندوات والمحاضرات التي تذاع في هذه الوسائل، ومن الطريف أن جاءني أحد دعاة العامية لتسجيل حوار معي، وعلى الرغم من البراهين التي سقتها على أن كاتب العربية أكثر شهرة في العالم العربي وأكثر فائدة مالية بانتشار آرائه فلم يقنعوا، فاضطررت أن أضعهم أمام الواقع، قلت لهم: سوف أتفق معكم إذا فهمتم عبارة واحدة بالعامية في العراق. فنظروا إلي وكأنهم انتصروا عليَّ، قلت: سآتيكم بقرينة. دخل جائع إلى المطعم في بغداد فقال للنادل: الذي تسمونه جرسون بالفرنسية ونسميه في العراق (بوي) بالإنجليزية، أريد نص ماعون باجلا، ونص ماعون تمن، ونص صمونة. فنظروا إلي بدهشة، وقال أحدهم: أعد الجملة. وبالطبع لم يفهموا، فما كانوا فاعلين لو قلت لهم: الطوز فوك الجرباية!.
الإعلام اليوم:
وهذه المشكلة أخذت حيزاًَ من الكتاب في الصحافة اليوم، فقد كتب فهمي هويدي[3] مقالاً بعنوان: "دعوة إلى تعريب لسان العرب" يذكر ما حاق باللغة العربية من إهمال وعبث، وسماه كارثة في العالم العربي؛ لأنه رأى طلاب الأزهر في المرحلة الابتدائية ملزمين بتعلم الفرنسية، مع أن فرنسا تحرم تعليم أي لغة أجنبية في تلك المرحلة المبكرة، ولما رأى تفاقم الحال قال بصراحة: "آن الأوان لرفع الصوت عالياً بالدعوة إلى تعريب لسان العرب".(/3)
وقال: إنه كان يلح طوال سنوات على الدفاع عن لغة القرآن في الدول الإسلامية في آسيا وأفريقيا حيث يطلق على الحرف العربي اسم الحرف الشريف، ولكن لم تبق غير دول محدودة تستعمله مثل إيران وباكستان وأفغانستان، وقال: إن حجم الكارثة جعل صوتي أكثر اختناقاً بعد أن حلت الكارثة باللغة العربية، وأشاد بقرار تونس جعل عام 2000م عام اللغة العربية، وتألم للتراجع المستمر عن العربية التي تمثل شخصية الأمة القومية، وألا يكون تعلم لغات أجنبية على حساب اللغة العربية، وقال بمرارة: "لنعترف بأن اللغة العربية هُزمت في بلادها، وأنها تتلقى كل ضربة موجعة ومهينة".
وأشار إلى أن موريتانيا تخلت عن العربية في مدارسها وكانت إحدى قلاع العربية ومناراتها التي وصلت إشعاعاتها إلى أرجاء غرب إفريقيا، وقال: إن أحد الرؤساء العرب يدير المؤتمرات باللغة الفرنسية، وإنه كان يجيب عن أسئلة الصحافة العربية بالفرنسية.
وفي بعض دول الخليج أصبحت الأوردية اللغة الثانية بعد العربية، وأشار إلى انتشار خطر قائم في الخليج من كثرة المدارس التي تدرس باللغة الإنجليزية، وغدت اللغة العربية لغة هامشية.
أما الأردن فقال: إن الإنجليزية أصبحت من لغات الخطاب، وكادت أن تتحول إلى لغة رسمية.
وعن مصر قال: "شيء محزن حقاً أن يصل تراجع اللغة العربية في أكبر دولة عربية، حيث أصبح تعلم الأجنبية هدفاً قومياً، وأصبح الدخول إلى المدارس الأجنبية هدفاً، وأن الرطانة هي المعتمدة في أواسط كثيرة منها وقال: نشرت بعض الصحف أن إجادة اللغة الأجنبية كانت إحدى شروط الدخول في الوزارة في مصر. ومن الطريف أني قابلت رئيس وزراء الصين شون لاي وكان يتحدث معي باللغة الصينية، فقلت يا سيادة الرئيس أنت تعرف الفرنسية والإنجليزية فلماذا لا تتحدث معي بالإنجليزية؟ فكان رده علي باللغة الصينية، وتجاهل قولي.(/4)
وكتبت زينب حفني مقالاً[4]: "حتى لا توءد لغتنا على يد أبنائها"، وعَزَت انتشار العامية إلى الإعلام، وتساءلت عن الكيفية التي من الممكن اتباعها لإيجاد توازن بين الفصحى والعامية؛ حتى نحافظ على لغتنا من الاندثار.
وقد رأت عدة عوامل هدمت اللغة العربية؛ أهمها: مجال الفن المتمثل في السينما والمسرح، الزاخر بالإسفاف، والإعلام بجميع وسائله، والفضائيات العربية التي تتسابق في إذاعة الغث من المضامين، ودور الأسرة، ومناهج التعليم، كما صرفت الشابكة والحاسوب الشباب عن لغتهم، وألقت اللوم على النوادي والجمعيات الأدبية التي لا تتحمل مسؤولياتها، وإلى كتاب يستعملون العامية واللغات الأجنبية، وودَّت أن تسعى المجامع اللغوية في رفع مستوى العربية، وأشارت إلى توصيات الدورة الخامسة والستين، وهاجمت المحال والشركات والفنادق التي لها أسماء أجنبية، ورأت وجوب منع هذا الأمر بتاتاً، إلا أن هذا لم يطبق حتى الآن وأصبح نسياً منسياً"، وفات الكاتبة الفاضلة أن المجمع ليس سلطةً تنفيذية، وأن قراراته طالما حُفِظت في أدراج الوزارات المسؤولة.
من الهند:
ومن الغيارى على اللغة العربية كاتبٌ من الهند، فقد قرأت مقالة في مجلة الداعي بتوقيع: أبو أسامة. بعنوان "اللغة العربية تتطلب اليوم اهتماماً أكبر من العرب"؛ لأن لسان العربية ليس للعرب والمسلمين، كعامة اللغات، وإنما هي جزء من حقيقة الإسلام، فقد كانت لغة الوحي ومعجزة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ولسان دعوته، وخلَّدها القرآن الكريم بخلوده، وأكرم بها المسلمين أن ينطقوا باللغة التي نطق بها الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأن يخطبوا ويكتبوا باللغة التي اختارها رب العالمين[5].
وسائل الإعلام:(/5)
إن وسائل الإعلام بصورة عامة تخرب اللغة العربية، وقد رأينا بعض هذه الوسائل وهي الصحافة نموذجاً للشعور المؤلم عن الكتاب، فالأغاني بلهجات متعددة والمسرحيات والمسلسلات والقصص. فقد نشرت جريدة الأهرام في الملحق قصة باللغة العامية[6].
إن التناحر السياسي وحب الذات والإقليمية والبلدانية فرضت على الإعلام لتكون هناك لغات متعددة ولهجات متباينة، وأخذ بعض الكتاب العرب ينخرون في جسمها؛ فكثرت الأشعار النبطية في الجرائد، وأخذ بعض المسؤولين، وقادة السياسة ينظمون باللغة النبطية أو العامية التي سميت الشعبية، وكثرت دقات الطبول والزلفى لها، فهل يحس هؤلاء بمقدار الضرر الذي يعود على أمتهم المسلمة إذا ابتعدوا عن الفصحى، بعد أن بدأت وَحدة الفكر والعقيدة تتأكَّل، وغُرست العادات الفردية بيننا، وخُلقت دول ومناطق لها حدودها السياسية، حتى لا تستفيد الأمة من خبرات شعوبها.
هل انهزمت الفصحى؟
إن الواجب القومي والإسلامي أن تقوم حملةٌ كبيرة للتوعية بضرورة العودة إلى الفصحى، بعد أن انتشرت العامية هذا الانتشار السريع، وبخاصة في البيت والمدرسة والجامعة، وتخطط لوقف هذه المؤامرة وبدراسة عميقة للطرق التي توصل إلى حب اللغة العربية لأبنائها؛ لأن لها قدرة قوية على الوقوف ضد هذه التيارات، ولا لوم علينا فالغرب شديد المحافظة على لغته والتخلص من اللغات الأخرى، ففي ولاية تكساس قرية صغيرة عدد سكانها 7800 اختارت الأسبانية لغة لها، فثارت طبول طواحين الإعلام على مدينة (السنزو) الأمريكية، ورأوا الخطر المحدق بأمريكا، وعلى اللغة الأمريكية من هذه الظاهرة، وهي قرية صغيرة في ولاية تكساس، وبدأ العلماء والباحثون يدرسون خطر اللغة الأسبانية التي اتخذتها قرية السنزو على أمريكا، وعُدَّت القرية خطراً على لغة أمريكا القومية، وقورنت بما صنعت كيوبك في كندا التي تستعمل الفرنسية بالرغم من اتساع اللغة الإنجليزية وسيطرتها العالمية[7].(/6)
وفي فرنسا صدرت مذكرة عن تعليم العامية للعرب وكتابة العربية بالحروف اللاتينية[8]، وحجتهم أن العرب الذين في فرنسا يتكلمون العامية، ولا يعرفون الكتابة، والنص المكتوب باللاتينية يسهل عليهم الفهم، ويساعدهم على النجاح في تعليمهم الجامعي، والواقع أن البعد السياسي والتعصب الديني ضد العربية من أهم دواعي هذه الحملة.
إن وسائل الإعلام العربي المرئية والمسموعة أخذت تمعن في استعمال العامية، والعامية المحلية، فهناك في لبنان مثل هذه الوسيلة واضحة. وإذا أرسل قارئ رسالة بالفصحى تقرأ باللهجة اللبنانية العامية، إنها خطة مدروسة لتحدي الفصحى.
أقول بصراحة: إن دعاة العامية أو النبطية أو الشعبية يدارون ضعفهم في ركوب موجة العامية؛ مدعين بأنها أقرب إلى فهم العامة، وأتساءل لماذا يهبطون إلى العامية ولا يرتفعون على الفصحى؟ وهذه المسلسلات التراثية يقبل عليها الناس بلهفة ويفهمون أحداثها فهماً واضحاً.
ومما نشر في الصحافة رأي لعائدة أبو فرح تقول لتلفزيون (M T V) ترد على دعاة العامية في لبنان وتقول: "إن الفصحى توحد اللهجات في لبنان لوجود اللهجات التي يتحدث بها أهل بيروت غير التي يتحدث بها أهل الشَّمال، إذ أن بعض سكان الشمال مثلاً لا يفهمون اللهجة التي يتحدث بها أهل بيروت؛ لذلك فالفصحى تكون حلاً وحيداً لإيصال الخبر الصحيح بالصورة الصحيحة.(/7)
وقد نشرت إحدى الجرائد[9] مقالاً تحت هذا العنوان "انكفاء الفصحى في البرامج الإذاعية والتلفزيونية في لبنان" وقالت: "المذيعون يجنحون إلى العامية بامتياز المرئي والمسموع"، وتحدثت عن انقسام أبناء لبنان بسبب انتشار العامية في معظم وسائل الإعلام، وابتعاد عدد كبير منهم عن الفصحى، ومن حسن الحظ هناك من يقاوم هذا التحدي، فقال بعضهم: إنّ تراجع العربية الفصحى عن مجالات المشافهة يؤدي إلى عواقب وخيمة، وردَّ آخرون بأن العامية هي أقرب إلى أذن المواطن والأيسر للاستيعاب، بعد أن تخلى المنتجون عن مسلسلات الفصحى، ولا أدري هل هناك عامية لبنانية سليمة، وهي مشحونة بالإنجليزية والفرنسية، وتدخل الآن السرلنكية؟! كما قالت ليليان حداد في مقالها، وقد وجدت اختلافاً بين المذيعات في لبنان، وكان مع الفصحى عدد من المذيعات، ونسي هؤلاء أن الفصحى تجمع العرب والعامية تفرقهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] الفصحى في مواجهة التحديات - نذير محمد مكتبي، 121.
[2] المصدر السابق، 127.
[3] جريدة الشرق الأوسط 24/2/2000.
[4] الشرق الأوسط، واكتفيت بنماذج الشرق الأوسط.
[5] الداعي مجلة تصدر في الهند، العدد 8/13 ديسمبر 1999م، كاتب المقال نور عالم أميني.
[6] جريدة الأهرام، العدد الصادر في 7/1/2000م.
[7] جريدة الشرق الأوسط 27/2/2000م.
[8] الشرق الأوسط 27/2/2000م.
[9] الشرق الأوسط 4/1/2000م، وفي المقال آراء المذيعات في إذاعة لبنان مثل: نورا خوري مع العامية، وغادة أبو فرح مع الفصحى، والدكتور أحمد بيضون، وبعض آراء أخرى عن العامية والفصحى أجرته ليليان حداد.(/8)
العنوان: وسام الأمومة تكريم إسلامي للمرأة
رقم المقالة: 1808
صاحب المقالة: د. محمد داود
-----------------------------------------
خَصَّ اللهُ المرأةَ بامتياز عظيم لم يَحْظَ به رجل قط، ونالت المرأة تكريمًا من ربها في الدنيا والآخرة بسبب هذا الامتياز، إنه امتياز الأمومة.
وإذ نقدم التهنئة للأم بهذا الامتياز، فإننا نذكِّرها بدور الأمومة حيث تحتضن الأم أبناء الأمة، ومستقبل الأمة.. فالأمومة عطاء نبيل أعلى اللهُ من شأنه ورفع من قدره فجعل الجنة تحت أقدام الأمهات، وجعل البر بالأم من أسباب تفريج الكُرُبات، كما ظهر من حديث الثلاثة الذين آواهُمُ المبيت إلى غار فوقعت صخرة أغلقت عليهم باب الغار، فكان مما توسلوا به "البر بالوالدين"، ففرج الله كربهم وكتب لهم النجاة.
إن الأمومة وسام على رؤوس الأمهات، استحقت به المرأة الجنة والمقدمة في منازل التكريم الإلهي.
ولا تنال الأم وسام الأمومة بالإنجاب وحده، وإنما الأُمُّ أمٌّ بالتربية والعطاء والتضحية، ولذلك فإنَّ من ترضع وتربِّي تكون أمًّا من الرضاعة، ويكون لها من الحقوق والرعاية ما يكون للأم التي حَمَلَتْ، وذلك لدعم الكيف قبل الكم، ولتنجب الأم خير أمة أخرجت للناس، وكي لا نكون أكثرية كغثاء السيل كما أخبر النبي، صلى الله عليه وسلم.
ولقد أوْصَى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالأرملة التي آثرت رعاية أولادها على حظ نفسها؛ تقديرًا لدور الأمومة التربوي، وجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأعمال الصالحة الباقية للإنسان بعد موته ولدًا صالحًا يدعو له.(/1)
ووافدة النساء التي جاءت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسأله عن مصير النساء من الثواب والأجر عند الله، وليس لهن من أعمال البر العظيم ما يتيسر للرجال كالجهاد والنفقة والصدقة... إلخ، وأُعْجِبَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - بِسُؤالها، ولفت أنظار صحابته الكرام - رِضْوَانُ الله عليهم – إلى ذلك قائلاً - صلى الله عليه وسلم -: ((ألا ترون إلى حسن مَنْطِقِهَا؟!))، ثُمَّ أَجَابَها - صلى الله عليه وسلم - بِأَنَّ حُسْنَ التَّرْبِيةِ لأَوْلادِهَا، والرّعاية لِزَوْجِها عَمَلٌ عَظِيمٌ عِنْدَ اللَّه يَعْدِلُ ويُساوِي الأعمال المجيدةَ التي يَقُومُ بِها الرّجال، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((حُسْنُ تَبَعُّل المرأة في بيت زوجها يعدل ذلك كله)).
ولكنَّ طُغْيَانَ الجانِبِ المادّيّ الحِسّيّ في الحضارة الحديثة والانبهار بها والتقليد الأعمى لها، نقل إلى مجتمعنا في مجال الأسرة عاداتٍ سَيِّئَةً من أَبْرَزِها تنازل كثير من النساء عن دَوْر الأمومة، حيث تلقي بأطفالها الرّضَّع إلى الخدم أو في دُور الحضانة، فينشأ الطفل محرومًا يفتقد حنان الأم ومشاعر الأمومة، ولم يصبح للطفل من الوالدين إلا رعاية المأكل والمشرب والملبس ونفقات المدرسة، أمَّا الجانب التربوي الإيماني والأخلاقي فيقوم به غير الآباء.
وماذا نَنْتَظِرُ منَ الأبناء بعد أنْ تَرَبَّوْا على القِيَمِ المادّيَّة الاستهلاكيَّة وحَرَمْنَاهُمْ من التربية على موائد القرآن والسنة؟!
ماذا ننتظِرُ منهم بعد أن غَرَسْنا فيهِمُ الجحودَ والنُّكران؟!
ماذا ننتظر منهم بعد أنِ انْتَقَصْناهُم من نعمة الأمومة؟!
فإذا غربتْ شَمْسُ العمر وأدرَكَتْنَا الشَّيْخُوخَةُ، أَوْدَعُونا في دور المسنين نجلس فيها ننتظر لحظة النهاية.. لحظة الموت.
وهكذا: عَقَقْناهُمْ صِغارًا فَجَحَدُونا كِبارًا. ولا غرابة، فهذا حصاد ما غرست أيدينا!!
{وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الأَلْبَابِ}(/2)
العنوان: وصايا إلى المتخرجين والمتخرجات
ممّن سيكونون معلمين ومعلمات
رقم المقالة: 1000
صاحب المقالة: د. محمد بن لطفي الصباغ
-----------------------------------------
يا أبنائي ويا بناتي
السلام عليكم ورحمة الله، وبعد
فإنّي أبدأ هذه الكلمة بالتهنئة لكم بالتخرّج، وباختياركم مهنة التعليم، وهي أشرف مهنة على الإِطلاق، ويكفيها شرفاً أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان معلّماً، كما جاء في الأحاديث الصحيحة:
جاء في ((صحيح مسلم)) 1478: ((إنّ الله لم يبعثني معنّتاً ولا متعنّتاً ولكن بعثني معلّماً ميسّراً)). وهي مهنة شريفة أيضاً لآثارها الضخمة في بناء العقول ونشر الحقّ الذي أكرم الله به هذه الأمّة وهو الإسلام {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ} [آل عمران: 19].
وهو الدين الذي لا يقبل الله ديناً غيره {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85]. وأودّ أن أوجز وصيتي لكم بما يأتي:(/1)
1 - يجب أن يكون عملكم – يا أبنائي ويا بناتي – خالصاً لله؛ ذلك لأنّ الإخلاص في العمل يعطي صاحبه قوة وصبراً، ويجعل تأثيره في الآخرين تأثيراً كبيراً، يقول فيُسمع كلامه، ويدعو إلى الحق فيستجيب الناس لدعوته. وإذا تحقق هذا منكم تحقّق لكم النجاح الكبير في العمل، والثواب الجزيل من الله تبارك وتعالى. وقد جاء في الصحيحين عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنّه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنّما الأعمال بالنيّات وإنّما لكلّ امرئ ما نوى)) إنّ النيّة الصالحة تحّول العمل إلى عبادة يؤجر عليها صاحبها. يجب أن يكون العمل لخدمة العلم، ولإيصال حقائقه إلى الأجيال الناشئة.. لا لقبض الراتب.. يجب أن يكون هذا حقيقة قائمة في نفوسكم، تصدر عن هذه الحقيقة تصرّفاتكم، وستهون في أعينكم العقبات التي تعترض المعلمين والمعلمات ولاسيّما في هذا الزمان الذي انحدرت فيه أخلاق كثير من أبنائنا وبناتنا انحداراً عظيماً وإنّا لله وإنّا إليه راجعون.
2 - إذا أردتم أن تسعدوا في عملكم فعليكم أن تُحبّوا عملكم وأن تتعلّقوا به تعلّقاً شديداً.
إنّ الذي يحبّ عمله ينجح فيه ويسعد ويجد في عمله متعة وسروراً، أما الذي يكره عمله فسيخفق فيه وسيشقى في عمله، ويتضجر منه ويتألم.
إنّ حبّكم لعملكم سيجعلكم محبوبين من قبل طلابكم وطالباتكم وهذا أمر مهم جداً في العملية التربويّة.
3 - يجب أن يستمر كلّ واحد وكلّ واحدة منكم في متابعة دراسته، ويجب أن تكون القراءة دأب كلّ واحد وكلّ واحدة منكم. واليوم الذي لا يقرأ فيه المعلم يكون قد كتب على نفسه الإخفاق، وكذا المعلمة. إنّ العلم يحتاج إلى متابعة مستمرّة.(/2)
يا أبنائي ويا بناتي إنّ المكتبة الخاصة شيء مهم، فإذا توافرت فعليكم ملازمتها وسكناها، وإن لم تتوافر لكم مكتبة خاصة فلابُدّ من زيارة لمكتبة عامة يومياً سواء كانت في المدرسة أو في أي مؤسسة أخرى. وجدير بالمعلم الناجح والمعلمة الناجحة أن تكون لكلّ منهما مكتبة.. وتنشأ المكتبة بالتدرج. وعلى كلّ منكما أن يخصص جزءاً من راتبه لشراء الكتب والمصادر. وينبغي أن تكون القراءة وفق مخطط مدروس، ومن النافع جداً أن تكون قراءة المعلم مع زميل له جادّ، وكذا أن تكون قراءة المعلمة مع زميلة لها جادّة، ذلك لأن المدارسة المشتركة أنفع من الانفراد.
4 - يجب على المعلّم والمعلّمة أن يهتم كلّ منهما بتحضير الدروس، ولا يجوز أن يلقي المعلم درساً معتمداً على معلوماته السابقة وكذا المعلمة. ويحسن أن يرجع إلى مراجع غير الكتاب المدرسي ويكتب ما وقف عليه من معلومات، وعليهما أن يقوما بالواجبات المدرسية بكلّ دقة وأمانة.
5 - يجب أن يكون المعلّم والمعلّمة في المدرسة في أول الوقت.. وعليهما الحذر من الغياب دون عذر قاهر والحذر من التأخر. إن ذلك سيجلب لكما احترام الطلاب والطالبات والإدارة وتقديرهم.
6 - على المعلّم والمعلّمة أن ينظرا إلى هؤلاء الطلاب والطالبات على أنهم أولادهما وعندئذ يحتملون تصرفاتهم التي قد تؤذي؛ ذلك يا أبنائي ويا بناتي لأن كثيراً من الناس يعيشون في بيئات معقّدة زاخرة بالمشاكل والعقد الاجتماعية، فقد تكون طالبة مضطهدة في بيتها تعاني من ظلم أبيها لها ولأمّها، أو من ظلم زوجة أبيها الشيء الكثير، فعلى المعلمة الفاضلة أن تصفح عنها إن أخطأت وتعالجها بالحكمة.
7 - وينبغي أن يغضّ الطرف كلٌّ من المعلّم والمعلّمة من كثير من المخالفات التي تصدر من بعض الطلاب والطالبات، وأن يتظاهرا بأنهما لم يسمعا الكلمات المسيئة التي قد يتفوّه بها بعضهم، فقد قيل: من لم يصبر على كلمة سمع كلمات.(/3)
8 - وينبغي أن يحلّ كلٌّ منهما مشاكله مع الطلاب والطالبات مباشرة، دون إدخال الإدارة، وأن يسلك كلٌّ منهما مسلك الترغيب والترهيب. وليكن نصيب الترغيب أكثر.
9 - احرص على أن تكون علاقتك بأولياء أمور الطلاب علاقة حسنة إن أمكن ذلك وكذلك على المعلمة أن تكون علاقتها بأمّهات الطالبات علاقة جيدة للتعرّف على أوضاعهنّ. إنّ مشاركة البيت المدرسة في العملية التعليمية والتربوية أمر مهم وذو أثر كبير في النجاح.
10 - إنّ التطوع بتدريس الطلاب والطالبات دون مقابل دروساً إضافية إن كانوا بحاجة إلى مساعدة أمر مهم، وليكن ذلك بمعرفة إدارة المدرسة وأولياء الطلاب والطالبات.
11 - يجب أن تكونا قدوة لطلابكما في الخلق الحسن وفي أداء العبادات والواجبات التي فرضها الله تعالى، واحذر أن يكون في تصرفاتك مخالفة لما تأمر به طلابك وكذا المعلمة، وقد أنكر الله على بني إسرائيل هذا الموقف فقال سبحانه: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [البقرة: 44]، وقال سبحانه مخاطباً المؤمنين: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ} [الصف: 2-3]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يؤتى بالرجل يوم القيامة، فيلقى في النار، فتندلق أقتاب بطنه، فيدور بها كما يدور الحمار في الرحى، فيجتمع إليه أهل النار فيقولون: يا فلان ما لك؟ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: بلى. كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه)) رواه البخاري برقم 3265 ومسلم برقم 2989 وقال الشاعر:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله = عار عليك إذا فعلت عظيم(/4)
12 - واحذر أيها المعلم الفاضل واحذري أيتها المعلمة الفاضلة من أن يهزأ أحد منكما بطالب أو طالبة في أي حال من الأحوال. بل عليكما أن تحترما جميع الطلاب المجيدين منهم والمقصرين والهادئين والمشاغبين.
إن ذلك يقربكما من طلابكما ويجعل استفادتهم منكم أكثر وأوفر. قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلاَ نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ} [الحجرات: 11].
13 - الحرص على ضبط الفصل أمر مهم جداً لاعتبارين اثنين:
أما أولهما فليستفيد الطلاب والطالبات من تقرير المعلم والمعلمة لمسائل العلم وأما ثانيهما فليحظى المعلم والمعلمة باحترام الطلاب والطالبات.
14 - اسلكا معهم مسلك الحوار سواء في تقرير حقائق العلم أو في توجيهكما ونصحكما لهم.
15 - اعملا على تنمية شخصيات طلابكما، وذلك بالثناء على المحسن منهم وبتكليفهم بكتابة بحوث معينة وبالقيام بخدمات اجتماعية وخيرية وإنسانية.
16 - احرصا على أدائكما الدروس باللغة العربية الفصحى، وتجنبا العامية وشجعا طلابكما على ذلك، وقوّما لغتهم أداءً ونطقاً، وبيّنا عظمة هذه اللغة التي أنزل الله بها كتابه، وأوضحا لهم أن العدوان على اللغة العربية عدوان على الإسلام، وأن أعداءنا حريصون على إبعاد أولادنا بنين وبنات عن إتقان هذه اللغة التي هي وعاء الكتاب والسنة.
17 - إن المعلم صاحب الرسالة يجب ألّا ينسى رسالته. لقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بلغوا عني ولو آية)) رواه البخاري برقم 3461.(/5)
فعلينا القيام بهذا التبليغ كلما وجدنا فرصة له، والكلمة الصادقة إن قيلت بالأسلوب المناسب في الوقت المناسب كان لها الأثر الكبير. والطلاب والطالبات يرون في معلميهم المثل الأعلى، وقد يكون تأثير المعلم والمعلمة أقوى من تأثير الوالدين. فاعرف قدرك واعرفي قدرك، ولنذكر قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم)) رواه البخاري برقم 2942 ومسلم برقم 2406 وأبو داود برقم 3661.
إن هؤلاء الأولاد من بنين وبنات الذين هم تحت أيديكما الآن سيكونون آباء المستقبل وأمهاته، وبناة هذا المستقبل أو هادميه.
ولا نجاح لهذه الأمة إلّا بالتمسك بهذا الدين كما قال ذلك أمير المؤمنين سيدنا عمر رضي الله عنه: (نحن العرب قومٌ أعزّنا الله بالإسلام، فمهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله) عليكما بتوعية الطلاب والطالبات بحقيقة الدين وحقيقة خطط أعداء الله.
18 - وأوصيكما بتقوى الله ومراقبته وأذكركما بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)) رواه مسلم برقم 8.
19 - يا أبنائي ويا بناتي:
لقد قضيتم عدة سنوات في رحاب الجامعة، تعلمتم الكثير، وحفظتم الكثير، وأصبح عندكم زاد من المعرفة كبير، أسأل الله أن ينفعكم به وأن ينفع بكم الناشئين والناشئات.
تلك مدرسة الجامعة، وقد دخلتم اليوم مدرسة جديدة هي مدرسة الحياة. إنكم ستجدون في عملكم المقبل واقعاً يختلف عن عالم المعلومات والكتب والمحاضرات، وستجدون مدرسة تتعلمون منها كلّ يوم معلومة واقعية جديدة لم تكونوا تعرفونها.. بل إنّكم في كلّ درس تلقونه ستكسبون خبرة من واقع الحياة، فالسعيد من فتح عينه وقلبه لدروس هذه المدرسة وأفاد منها، ولا مانع من أن تتعلموا من تلامذتكم.
وممّا أنصح به أن تقولوا لما لا تعلمون: لا أعلم.(/6)
إن ذلك يرفع قدركم عند المنصفين من السائلين ويحميكم من الحرج إن كانت إجابتكم خطأ. وهذه صفة علمائنا الأقدمين. وقد روي عن سيدنا أبي بكر أنه قال: أيُّ سماء تظلّني وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله بغير علم. وسئل ابن عمر عن شيء فقال: لا أدري. فلما ولّى الرجل قال: نِعم ما قال عبدالله بن عمر، سئل عما لا يعلم فقال: لا علم لي به.
وبالله التوفيق، وصلّى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.(/7)
العنوان: وَصيّةُ مُجاهِد.. مقطوعة شعرية
رقم المقالة: 1966
صاحب المقالة: أغيد الطباع
-----------------------------------------
مع بزوغ فجر كل عام هجريّ.. يجدّد الشعراء الإسلاميون تفاؤلهم باقتراب فجر الأمة الإسلامية الذي تتحطم فيه القيود، ويسود العدل، ويجني فيه المصلحون قطافهم..
.. من هؤلاء الشعراء، الأخ/ أغيد الطباع..
وقد أتحفنا بهذه القطعة الجميلة التي تصوّر موت الشهيد ليحيا دينه وتنهض أمّته، والتي تخبرنا بما كان يفكر فيه الشهيد قبل موته، في رسالة يبعثها إلى والدته من عوالم الأرواح، حيث يحيا هناك حياةً خاصة {بل أحياءٌ عندَ ربّهمْ يُرزقونَ}..
أخانا أغيد..
يستمرّ شكرنا لكم على هذا التواصل، وعلى هذا التطور الملموس في شعركم.. وفقكم الله.
وصية مجاهد
إذا أشرقتْ شمسُ فجرٍ جديدْ وفَلَّ الظلامُ وفُكَّ الحديدْ
وأمطرَ غيمُ السماءِ الأراضيْ فأينعَ ذاكَ القِطافُ الفريدْ
وغابَ الطُّغاةُ على أيدي قومي وقادَ الجموعَ رشيدٌ جديدْ
ولاحَتْ معَ الصبْحِ راياتُ نصرٍ إلى القدسِ تمضيْ بعَزمٍ أكيدْ
وسارَ الدُّعاةُ إلى كُلِّ فَجٍّ يُنيرونَ بالحقِّ ليلَ العبيدْ
فلا تذرفي الدمعَ أمّاهُ إنّْي -وإن كنتُ تحتَ الثرى- كالوليدْ(/1)
العنوان: وظائف ذي الحجة
رقم المقالة: 1682
صاحب المقالة: الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ
-----------------------------------------
ملخَّص الخطبة:
فضل عشر ذي الحجة.
استحباب الإكثار من ذكر الله تعالى فيها.
فضل صيام عشر ذي الحجة.
فضل الأُضحية.
من أحكام الأُضحية.
وقت الأُضحية وشروطها.
صفة الحج.
الخطبة الأولى
أما بعد:
فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عباد الله، إنَّ من رحمة الله لعباده أن جعلَ لهم مواسمَ للطاعات، يتنافسُ المسلمون فيها بصالح الأعمال، فضلًا من الله ورحمة، والله ذو الفضل العظيم.
أيُّها المسلم، من هذه الأيام أيامُ عَشْر ذي الحجَّة، فهي أيامٌ معظَّمة في شرع الله، لها خصوصيَّة في مزيد الطاعة والإحسان، وقد نوَّه الله بها في كتابه العزيز؛ قال تعالى: {وَالْفَجْرِ * وَلَيالٍ عَشْرٍ} [الفجر: 1-2]، والمراد بها عشرُ ذي الحجة، وقال تعالى: {وَيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ الأنْعَامِ} [الحج: 28]، والمراد بالأيام المعلومات: هي عشرُ ذي الحجَّة.
ودلَّت سنَّة رسول الله على فضلها، وأنَّه يُشرع التنافس فيها في صالح العمل، يقول صلَّى الله عليه وسلَّم: ((ما من أيَّامٍ العملُ الصالح فيهنَّ أحبُّ إلى الله من هذِه العَشْر)). قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟! قال: ((ولا الجهادُ في سبيل الله، إلا رجلٌ خرج بنفسه وماله، فلم يرجع من ذلك بشيءٍ))[1].
وقال صلَّى الله عليه وسلَّم: ((ما من أيَّامٍ العملُ فيها أعظم عند الله سبحانه ولا أحبُّ إليه من العمل في هذه الأيام - يعني: عَشْر ذي الحجَّة - فأكثِروا فيهنَّ من التهليل والتكبير والتحميد))[2].(/1)
قال البخاري - رحمه الله -: "كان ابن عمر وأبو هريرة يخرجان إلى السوق في أيام العَشْر يكبِّران، ويكبِّر الناس بتكبيرهما"[3]؛ بمعنى: أنَّهما يحيِيان هذه السنَّة، فيذكرون الله جلَّ وعلا، يقومان - رضيَ الله عنهما - بذكر الله، فيقتدي النَّاس بهما، فيذكرُ الجميع ربَّ العالمين.
وكان عمر بن الخطاب أمير المؤمنين - رضيَ الله عنه - بمنى يكبِّر عقِب الصلوات، ويكبِّر في فُسْطاطِه وعلى فراشِه وفي مجلسه، ماشيًا وقاعدًا، وهكذا كانوا يُحيون هذه السنَّة ويعظِّمونها، فيذكرون الله جلَّ وعلا.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أيُّها المسلم:
في هذه الأيّام المباركة يُشرَع لك التزوُّد من صالح العمل؛ والتوبة إلى الله ممَّا سلف وكان من سيِّئات الأقوال والأعمال.
أيُّها المسلم:
إنَّ هذه الأيامَ العشر اجتمعت فيها أنواعٌ من العبادة؛ الصلاة والصوم والصدقة والحجّ، فاجتمعت أنواع هذه الطاعة؛ الصلاة والصدقة والصوم والحج، فأكثِر من فعل الطَّاعة، وبادِر إلى الفرائض، وأكثِر من النوافل، وفي حديث ثوبان - رضيَ الله عنه -: ((عليك بكثرة السُّجود، فإنَّك لا تسجُد لله سجدة إلا حطَّ الله بها عنك خطيئة، ورفع لك بها درجة))[4].
ويُسنُّ صيامُ هذه التِّسع لمَنْ قدر على ذلك، ففي مسند الإمام أحمد - رحمه الله - أنَّ النبيَّ كان يصوم تسعَ ذي الحجة ويومَ عاشوراء وثلاثةَ أيام من كلِّ شهر[5].
وأفضلها وآكدُها صومُ يوم عرفة لمَنْ لم يكن حاجًّا، يقول – صلَّى الله عليه وسلَّم - في صيام يوم عرفة: ((أحتسبُ على الله أن يكفِّر سنةً قبله وسنةً بعده))[6].
فعظِّموا هذه الأيامَ، فإنَّها أيّامٌ عظيمة عند الله، شُرِع لكم فيها أنواعٌ من الطاعة، فتزوَّدوا من صالح العمل.
أيُّها المسلم:(/2)
شُرِع لنا أيضًا في يوم النَّحر أن نتقرَّب إلى الله بذبح الأضاحي عبادةً لله، وقربةً نتقرَّب بها إلى الله، والله - جلَّ وعلا - قد حثَّنا على ذلك، قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ} [الأنعام: 162-163]، وقال جلَّ وعلا: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [التكاثر: 2].
وكان نبيُّكم – صلَّى الله عليه وسلَّم - كثيرَ الصلاة، كثيرَ النَّحْر، وقد حثَّ على الأضاحي ورغَّب فيها بقوله وفعله؛ فمن قوله: ما ثبت عنه أنَّه قال: ((ما عمل ابنُ آدم يومَ النَّحر أحبُّ إلى الله من إراقة دمٍ، وإنَّه يأتي يومَ القيامة بقرونها وأظلافها وأشعارها، وإنَّ الدَّم ليقع من الله بمكانٍ قبلَ أن يقَع على الأرض، فطيبوا بها نفسًا))[7]. وقال لمَّا سُئل: ما هذه الأضاحي؟ قال: ((سنَّةُ أبيكم إبراهيم)). قالوا: ما لنا منها؟ قال: ((بكلِّ شعرةٍ حسنة)). قالوا: الصوف؟ قال: ((وبكلِّ شعرةٍ من الصوف حسَنة))[8].
ونبيُّكم حافَظ عليها مدَّةَ بقائِه في المدينة، فما أخَلَّ بها سنَةً من السنين كلَّ مدةِ بقائِه في المدينة، منذ هاجَر إلى أن توُفِّيَ، وكان يُعلِن هذه السنَّة ويظهرها للملأ؛ قال أنسٌ - رضيَ الله عنه -: "كان رسول الله إذا صلَّى يومَ النَّحر أُتيَ بكبشَيْن أقرنَيْن أملحَيْن، فرأيتُه واضعًا قدمَه على صفاحهما، يسمِّي ويكبِّر، فيذبحهما بيده، صلوات الله وسلامه عليه"[9]، ممَّا يدلُّ على عظيم هذه السنَّة.
أيُّها المسلم:
ليس الهدفُ منها اللَّحم، ولكنَّها قربةٌ تتقرَّب بها إلى الله، قال الله - جلَّ وعلا -: {لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ} [الحج: 37]، إذًا فذبحُها أفضلُ من الصَّدقة بثمنها.(/3)
والمسلم يضحِّي عن نفسه وعن أهل بيته، أحيائهم وأمواتهم، فإنَّ نبيَّنا كان يضحِّي بكبشَيْن؛ أحدُ الكبشين عن محمَّد وآل محمَّد، والثاني عمَّن لم يضَحِّ من أمَّة محمَّدٍ صلوات الله وسلامه عليه[10]. فضحِّ عن نفسك، وضحِّ عن أهل بيتك، قليلٍ وكثير.
وسنَّة محمَّدٍ دلَّت على أنَّ الشاةَ الواحدة تغني الرجلَ وأهلَ بيته؛ قال أبو أيوب الأنصاري - رضيَ الله عنه - لمَّا سُئل عن الأضاحي في عهد رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: "كان الرَّجل منَّا يضحِّي بشاةٍ واحدةٍ عنه وعن أهل بيته، حتى تباهى الناس فكانوا كما ترى"[11]. بمعنى: أنَّ الرجلَ إذا ذبح أضحيةً واحدةً عنه وعن أهل بيته، الأحياء منهم والأموات، وأشركهم جميعًا في ثوابها؛ نالهم ذلك الثوابُ بفضل الله، فليس الهدف التعدُّد، إنّما الهدفُ التقرُّب إلى الله تعالى.
أيُّها المسلم:
وأمّا الوصايا التي أوصى بها الأمواتُ؛ فينفِّذها المسلم كما كانت، لا يزيد ولا يُنْقِص، لا يُدخِل فيها ما ليس منها، ولا يُخرج منها من هو فيها، وإذا عجز ريع الأوقاف عن الأضحية في عام فأخِّرها ولو عامًا آتيًا، وإذا كان الرجلُ قد أوصَى بعدّة أضاحي وعجز في ثلثه عن القيام بها كلِّها؛ فلا بأسَ أن تجعلها في شاةٍ واحدةٍ، وتُشرك الجميع، إذا كان الموصي واحدًا أوصى بعدَّة أضاحي فلم يكن غلَّة ذلك الوقف تغطِّي الجميع.
أيُّها المسلم:
إنَّ نبيَّنا جعل للأضاحي وقتَ ابتداء، فابتداءُ ذبحها من بعد نهاية صلاة عيد النَّحر، يقول – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَنْ صلَّى صلاتَنا ونسك نسكنا؛ فقد أصاب السنَّة، ومَنْ ذبَح قبل الصلاة؛ فليُعِد مكانها أخرى))[12].
وبيَّن السِّنَّ المعتبَر في الأضاحي، وأنَّها الثني أو الجذع من الضأن، وفي الإبل خمس سنين، وفي البقر سنتان، وفي المَعز سنة، وفي الجذع من الضأن ستَّة أشهر، فلا يجزئ الأضاحي إلا من بهيمة الأنعام؛ من الإبل والبقر والغنم.(/4)
ولابدَّ من سلامتها من العيوب التي تمنَع الإجزاء؛ لأن المقصدَ التقرُّبُ إلى الله بالطيِّب؛ قال تعالى: {وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلا أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ} [البقرة: 267]؛ فنهى أن يُضحَّى بالعوراء البيِّن عَوَرُها، وهي التي انخسفت عينُها أو برزت، فلا تبصِر بها ولو كانت قائمة، ونهى أن يضحَّى بالمريضة البيِّن مرضُها، والتي ظهر أثر المرض عليها في مشيها وفي أكلها وفي شربها، ونهى بأن يضحَّى بالعرجاء البيِّن ضَلْعُها، ونهى أن يضحَّى بالعَجْفاء الهزيلة التي لا تُنْقِي.
وجاء أيضًا النهيُ عن أعضَب القرن والأُذُن؛ ما كان القَطْع في الأُذُن أو القَرْن أكثر من النِّصف، وكُره نقصٌ فيها، قال عليٌّ - رضيَ الله عنه -: "أمرنا رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم - أن نستشرف العينَ والأذن".
فكلُّ ذلك مكروهٌ التضحيةُ به، أمَّا العيوب الأربعة من العرَج والعوَر والمرَض والهُزال؛ فتلك لا تجزئ مطلقًا، وما كان أشدَّ منها كذلك.
أيُّها المسلم:
تقرَّب إلى الله بها، وتولَّ ذبحَها إن كنت تقدر على ذلك اقتداءً بنبيِّك، واحضُر ذبحَها؛ فإنَّها من شعائر الدين، وعظِّموها - رحمكم الله - كما أمركم بذلك ربُّكم، واذبحوا أضاحيكم في بلادكم، ولا تكِلوها إلى مَنْ لا تعلمون أمانته ونزاهته، من أولئك الذين يطلبون إخراجها والتبرُّع بها، ليتولَّوا ذبحَها في غير بلادكم، وكثيرٌ منهم ليسُوا على مستوى المسؤولية في ذلك، فتولُّوا بأنفسكم الإشرافَ على هذه السنَّة، الإشرافَ على هذه العبادة ومباشرتها، فإنَّها طاعةٌ لله وقُرُبةٌ تتقرَّبون بها إلى الله.
يُروى في الحديث - وإن كان فيه مقالٌ - أنَّ النبيَّ – صلَّى الله عليه وسلَّم - قال لفاطمة – رضيَ الله عنها -: ((قُومي إلى أُضحيتِكِ فاشهديها، فإنّه يُغفَر لكِ بأوَّل قطرةٍ من دمها))[13].(/5)
لا شكَّ أنَّها طاعةٌ لله، وقربةٌ يتقرَّب بها العبادُ إلى الله، يُحيون سنَّة نبيِّهم وسنَّة أبيهم إبراهيم، يتقرَّبون بذلك إلى الله، ليس الهدفُ اللَّحْم، ولكن الهدف العبادة لله، ليرغموا أعداءَ الإسلام الذين يتقرَّبون إلى قبور الأموات، ويذبَحون لهم وينذرون لهم، والمسلمُ يتقرَّب بذبحه إلى الله طاعةً لله: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذالِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162-163].
ليس الهدفُ غلاء الثمَن مطلقًا، إنّما الهدفُ السلامة من العيوب، وخيرُ الأمور أوساطُها، ولا يلزَم التقصِّي في أغلى الثمَن وفي نحو ذلك، فإنَّ الهدفَ الطاعةُ، والمهمُّ السلامةُ من العيوب، وخلوِّها من العيوب التي تمنَع الإجزاءَ أو التي تنقص الثوابَ، فاتقوا الله يا عباد الله، وتقرَّبوا إلى الله بما يُرضيه.
أسأل اللهَ لي ولكم التوفيق والسَّداد لما يحبُّه ويرضى، إنَّه على كلِّ شيءٍ قديرٌ.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنَّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله، حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، كما يحبُّ ربُّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.(/6)
حجاجَ بيتِ الله الحرام، أتَيتم لهذا البلد الكريم من أقطار الدنيا، وتجشَّمتم المشاقَّ، وفارقتُهم البلد والولدَ والوالد والأهل والمال، وأنفقتم في سبيل ذلك ما استطعتم، استجابةً لأمر الله؛ حيث يقول: {وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97]، وإجابةً لنداء الخليل – عليه السَّلام - حيث قال الله عنه: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ * لّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج: 27-28]، ويقينًا ببشرى محمَّدٍ – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَنْ حجَّ هذا البيتَ فلم يرفث ولم يفسق؛ خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمُّه))[14].
فاحرِصوا على الإخلاص لله في القول والعمل، وأن يكونَ العمل موافقًا لشرع الله، فإنَّ الله لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصًا لوجهه، يَبتغي به عامله وجهَ الله والدَّار الآخرة: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَا} [الكهف: 110].
يا أخي الحاجُّ:
اعلَم أن نبيَّنا جعل للبيت مواقيتَ أربعة، أمَر كلَّ حاجٍّ أو معتمرٍ أن ينوي الحجَّ أو العمرة من هذه المواقيت الأربعة التي جعلها الله حمًى للحرم، كما جعل الحرم حمًى لمكة، وجعل مكة حمًى لبيته العتيق. ونبيُّنا وقَّت هذه المواقيت، وأمر المسلمين أن يُهلُّوا بالنسك منها، فقال: ((يهلُّ أهلُ المدينة من ذي الحُلَيْفَة، وأهل الشام ومصر من الجُحْفة، وأهل اليمن من يَلملَم، وأهلُ نجد من قَرْن، هنَّ لهنَّ ولمن أتى عليهنَّ من غير أهلهنَّ ممَّن أراد الحجَّ والعمرة، ومن كان دونَ ذلك فمهلَّه منذ أنشأ، حتَّى أهل مكَّة يُحرِمون من مكَّة))[15].
أخي الحاجُّ المسلم:(/7)
إذا أتيتَ عند واحدٍ من هذه المواقيت فانوِ النسكَ الذي تريد، وأنتَ مخيَّر بين أنساكٍ ثلاثة، بين أن تقول: "لبَّيك اللهمّ حجًّا"، فهذا حجّ مفرد، وبين أن تقول: "لبَّيك اللهمَّ حجًّا وعمرة"، فهذا قِرانٌ بين نُسكين، وبين أن تقول: "لبّيك اللهمّ عمرة متمتعًا بها إلى الحج"، فهذا يسمَّى تمتّعًا. وهذه النّسك بإجماع المسلمين أنَّ كلَّ واحدٍ منها مجزئ، ولكنَّ المحقِّقين قالوا: إنَّ أفضلَها لمن ساق الهديَ أن يقرِن، ومن لم يسُق الهديَ أن يتمتَّع، وإن أفرد فلا شيءَ عليه، الكلّ جائزٌ ومؤدٍّ للواجِب.
فإذا قلتَ: "لبّيك اللهمَّ حجًا"، وأتيتَ بيتَ الله الحرام، فإن شِئت فطُف بالبيت واسعَ بين الصفا والمروة، ولكن يبقى عليك إحرامُك إلى يومِ النحر، فتذَهب إلى عرفة ومزدلفة، فإذا رميتَ جمرةَ العقبة وحلقتَ أو قصَّرت من رأسك حللتَ من إحرامِك، ويبقى عليك طوافُ الإفاضة والسعي، هذا إن لم تسعَ مع طوافِ القدوم، وإن سعيتَ مع طوافٍ قبلَ الحجّ سَقَط عنك السعي، لكن طواف الإفاضة لابدَّ منه.
والقارنُ بين الحجِّ والعمرة، القائل: "لبَّيك اللهمَّ حجًّا وعمرةً" هو كالمُفرِد، له أن يسعى مع طوافه للقدوم، وله أن يؤخِّر السعيَ إلى أن يَسعى مع طواف الإفاضة يوم النَّحْر.
أمَّا المتمتِّع؛ فإنَّ عليه طوافًا وسعيًا لعمرته؛ لأنَّه يتحلَّل بعد ذلك، وعليه طوافٌ وسعيٌ آخَر لحجِّه، هكذا سنَّة محمَّد – صلَّى الله عليه وسلَّم.
أخي الحاجُّ المسلم:(/8)
فإذا دخل اليومُ الثامن من ذي الحجة، إن كنت متمتِّعًا فأحرِم للحج، وإن كنتَ قارنًا أو مُفرِدًا باقيًا على إحرامك فاذهب مع الحجَّاج جميعًا إلى منى، ويصلِّي بها المسلمون الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، كل صلاةٍ في وقتِها، يصلُّون الظهر في وقتها ركعتين، والعصر في وقتها ركعتين، والمغرب ثلاثًا في وقتها، والعشاء في وقتها ركعتين، والفجر بلا شكٍّ غير مقصورة ركعتين؛ لأنَّه لا جمع إلا في عرفة ومُزْدَلِفَة.
ثمَّ يتوجَّه الحجَّاج يومَ التاسع بعدَ طلوع الشمس إلى عرفة، يقِفون في ذلك الموقِف العظيم وفي هذا اليوم العظيم طاعةً لله، واقتداءً بنبيِّهم ، يُكثِرون من ذكر الله والثناء عليه، ودعائه ورجائه، والتضرُّع بين يديه، فما رُئي الشيطان في موضعٍ هو أصغَر ولا أحقَر ولا أغيَظ منه ما رُئي يومَ عرفة.
ثم بعد غروب الشمس ينصرِف الحاجُّ إلى مُزْدَلِفَة، فيصلُّون بها المغرب والعشاء إذا وصلوا إليها جمعًا وقصرًا، كما يصلُّون الظهر والعصر بعرفَة جمعًا وقَصْرًا في وقت الظهر، ويبيتون بها، وللعَجَزَة من النساء والضعفاء الانصرافُ من بعد نصف الليل، والأقوياء يبقون حتى يصلُّوا بها الفجر، فيذكرون الله ويُثنون عليه.
وقبل طلوع الشمس يفيضون إلى منى، فيرمي المسلم جمرةَ العقبة بسبع حصيات، ثمَّ يحلق أو يقصِّر من رأسه، ثمَّ قد حلَّ له كلُّ شيءٍ حرم عليه بالإحرام من الطِّيب ولبس المَخِيط وتقليم الأظافر وقصِّ الشَّعر وغير ذلك، ما عدا النساء؛ فلا يحصل له إلا بعدما يكمل نسكَه، ثمَّ يطوف بالبيت، ويسعَى بين الصَّفا والمروة، وقد حلَّ من كلِّ نسكه.
يبيت الحاجُّ بمنًى ليلةَ الحادي عشر والثاني عشر، يرمُون الجمارَ بعد زوال الشمس، ويمتدُّ الرميُ إلى طلوع الفجر من اليوم الثاني، ومَنْ تعجَّل في يومين خرج من منًى قبل غروب الشمس، ومن تأخَّر باتَ بها ورمَى بعد زوال الشمس.(/9)
فاتَّقوا الله في نسككم، وأدُّوه كما أمركم بذلك ربُّكم، والزموا السكينة والوقار في كلِّ أحوالكم، واعلموا أنَّ لهذا البيت حرمته وأمنه، قال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا} [العنكبوت: 67]، وقد توعَّد الله مَنْ همَّ بسوءٍ في الحرم أن يعاقبَه بمجرَّد نيَّته، وإن لم يفعل: {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25].
فالزَموا السكينة في أحوالكم كلِّها، وتدرَّعوا بالصبر والحلم والأناءة، وكونوا أعوانًا على الخير والتقوى، جمع الله القلوب على طاعته، وتقبَّل من الحجَّاج حجَّهم، وردَّهم سالمين آمنين، إنَّه على كلِّ شيءٍ قدير.
واعلموا - رحمكم الله -: أن أحسن الحديث كتابُ الله، وخير الهَدْي هَدْي محمَّدٍ ، وشرَّ الأمور محدثاتها، وكلَّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنَّ يد الله على الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار.
وصلُّوا - رحمكم الله - على عبد الله ورسوله محمَّد، امتثالاً لأمر ربِّكم، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين...
---
[1] أخرجه البخاري في الجمعة (969) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما بنحوه.
[2] أخرجه أحمد (2/75)، والبيهقي في الشعب (3750) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما بنحوه، قال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على المسند (5446): "إسناده صحيح"، وله شاهد من حديث ابن عباس عند الطبراني في الكبير (3/110)، جوَّد إسناده المنذري في الترغيب (2/24)، وقال الهيثمي في المجمع (4/17): "رجاله رجال الصحيح". وأورد الألباني الحديث في ضعيف الترغيب والترهيب (733، 735).(/10)
[3] صحيح البخاري: كتاب العيدين، باب: فضل العمل في أيام التشريق. وقد وصله أبو بكر عبد العزيز بن جعفر في الشافي، والقاضي أبو بكر المروزي في العيدين. كما في فتح الباري لابن رجب (9/8).
[4] أخرجه مسلم في الصلاة (488).
[5] أخرجه أحمد (5/271، 6/248، 423)، وأبو داود في الصوم (2437)، والنسائي في الصيام (2372)، والبيهقي في الكبرى (4/284) عن بعض أزواج النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم - وقد اختلف في إسناده، وصححه الألباني صحيح أبي داود (2129).
[6] أخرجه مسلم في الصيام (1162) من حديث أبي قتادة - رضيَ الله عنه.
[7] أخرجه الترمذي في الأضاحي (1493)، وابن ماجه في الأضاحي (3126) من حديث عائشة رضي الله عنها، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"، وصححه الحاكم (4/222)، وتعقبه الذهبي والمنذري، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (526).
[8] أخرجه أحمد (4/368)، وعبد بن حميد (259)، وابن ماجه في الأضاحي (3127)، والطبراني في الكبير (5/197)، والبيهقي في الكبرى (9/261) من طريق عائذ الله عن أبي داود عن زيد بن أرقم رضي الله عنه، وصححه الحاكم (3467) لكن في السند أبو داود قال البوصيري في الزوائد (3/223): "اسمه نفيع بن الحارث وهو متروك"، وقال البخاري ـ كما في سنن البيهقي ـ: "عائذ الله المجاشعي عن أبي داود روى عنه سلام بن مسكين لا يصح حديثه"، وانظر تخريجه في السلسلة الضعيفة (527).
[9] أخرجه البخاري في الأضاحي (5554، 5558، 5564، 5565)، ومسلم في الأضاحي (1966) بمعناه.(/11)
[10] أخرج أبو داود في الضحايا، باب: في الشاة يضحى بها عن جماعة (2810)، والترمذي في الأضاحي، باب: العقيقة بشاة (1521)، وابن ماجه في الأضاحي، باب: أضاحي رسول الله صلى الله عليه وسلم (3121) عن جابر رضي الله عنهما قال: شهدت مع رسول الله الأضحى بالمصلى، فلما قضى خطبته نزل من منبره وأتي بكبش فذبحه رسول الله بيده وقال: ((بسم الله والله أكبر، هذا عني وعمن لم يضحِّ من أمتي))، قال الترمذي: "هذا حديث غريب من هذا الوجه، والعمل على هذا عند أهل العلم"، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (2436).
[11] أخرجه مالك في الضحايا (1050)، والترمذي في الأضاحي، باب: ما جاء أن الشاة الواحدة تجزئ عن أهل البيت (1505)، وابن ماجه في الأضاحي، باب: من ضحى بشاة عن أهله (3147)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (1216).
[12] أخرجه البخاري في الجمعة (955، 983)، ومسلم في الأضاحي (1961) من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه، ولفظه: ((من صلى صلاتنا ونسك نسكنا فقد أصاب النسك، ومن نسك قبل الصلاة فتلك شاة لحم)).
[13] أخرجه أحمد (1/95، 105، 108، 125، 128، 132، 149، 152)، وأبو داود في الضحايا (2804)، والترمذي في الأضاحي (1498)، والنسائي في الضحايا (4372، 4373، 4376)، وابن ماجه في الأضاحي (3143)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن خزيمة (2914)، وابن حبان (5920)، والحاكم (1720)، وهو في صحيح سنن ابن ماجه (2544).
[14] أخرجه الحاكم (4/222) من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه وصححه، وتعقبه الذهبي، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (528).
[15] أخرجه البخاري في الحج (955، 983)، ومسلم في الحج (1961) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(16) أخرجه البخاري في الحج (1524)، ومسلم في الحج (1181) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما بمعناه.(/12)
العنوان: وفاةُ الشيخ بكر أبو زيد "ابنِ قيِّم العصر"
رقم المقالة: 2018
صاحب المقالة: صهيب بن محمد خير يوسف
-----------------------------------------
وفاةُ الشيخ بكر أبو زيد "ابنِ قيِّم العصر".. ومؤلَّفاتُه وطرَفٌ من سيرته
الأرضُ تَحيا إذا ما عاشَ عالمُها متى يَمُتْ عالمٌ منها يَمُت طرَفُ
كالأرض تحيا إذا ما الغيثُ حلَّ بها وإنْ أبى عاد في أكنافها التَّلَفُ
وروي عن الحسن -رحمه الله-: "موتُ العالم ثُلمة في الإسلام، لا يسدُّها شيءٌ ما اختلف الليل والنهار".
.. وإنّ المصاب ليعظم إذا كان المتوفى فذًّا متميزَ المنهج، كالشيخ الدكتور/ بكر بن عبد الله أبو زيد، رئيس مجمع الفقه الإسلامي الدولي، عضو هيئة كبار العلماء بالمملكة وعضو اللجنة الدائمة للإفتاء سابقاً.. الذي فقدته الأوساطُ الإسلامية العلمية والفقهية، يوم الثلاثاء 27/1/1429هـ، الموافق 6/2/2008، بعد أن عُمِّر ما ناهز 64 عامًا.
وقد أدّيتْ صلاةُ الميت عليه عقب صلاة العشاء يوم الثلاثاء بمسجده بجوار مسكنه في حي العقيق بمدينة الرياض، وقد أمَّ المصلين زوجُ ابنته الشيخُ أحمد الريس، تنفيذاً لوصيّتة، وتقدم المصلين مفتي المملكة، الشيخ عبد العزيز آل الشيخ.
.. ثم دُفن بمقبرة الدرعية.. يرحمه الله... وقد حضر، للصلاة عليه ولدفنه، جموعٌ غفيرة.
أمّا عن سيرة هذا العالم وأخبارِه العلمية، فقد سجّل ابنُه، القاضي عبد الله بن بكر أبو زيد، بعضَ جوانبها، ونقتطف هنا بعضَ ما قال:
"هو بكر بن عبد الله أبو زيد بن محمد بن عبد الله بن بكر بن عثمان بن يحيى بن غيهب بن محمد، ينتهي نسبه إلى بني زيد الأعلى، وهو زيد بن سويد بن زيد بن سويد بن زيد بن حرام بن سويد بن زيد القضاعي، من قبيلة بني زيد القضاعية المشهورة في حاضرة الوشم، وعالية نجد، وفيها ولد عام 1365هـ.(/1)
درَس في الكُتّاب حتى السنة الثانية الابتدائية، ثم انتقل إلى الرياض عام 1375هـ، وفيه واصل دراسته الابتدائية، ثم المعهد العلمي، ثم كلية الشريعة، حتى تخرج عام 87هـ / 88هـ في كلية الشريعة بالرياض منتسباً.
وفي عام 1384هـ انتقل إلى المدينة المنورة فعمل أمينًا للمكتبة العامة بالجامعة الإسلامية.
وكان بجانب دراسته النظامية يلازم حِلَقَ عددٍ من المشايخ في الرياض ومكة المكرمة والمدينة المنورة.
ففي الرياض أخذ عِلم الميقات من الشيخ القاضي صالح بن مطلق، وقرأ عليه خمساً وعشرين مقامة من مقامات الحريري، وكان- رحمه الله- يحفظها، وفي الفقه: زاد المستقنع للحجاوي، كتاب البيوع فقط. وفي مكة قرأ على سماحة شيخه، الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز كتاب الحج، من [المنتقى] للمجد ابن تيمية، في حج عام 1385هـ بالمسجد الحرام. واستجاز المدرسَ بالمسجد الحرام الشيخ: سليمان بن عبد الرحمن بن حمدان، فأجازه إجازة مكتوبة بخطه لجميع كتب السنة، وإجازة في المُدّ النبوي. وفي المدينة قرأ على سماحة شيخه الشيخ ابن باز في [فتح الباري] و[بلوغ المرام]، وعددًا من الرسائل في الفقه والتوحيد والحديث في بيته، إذ لازمه نحوَ سنتين وأجازه. ولازم سماحة شيخه الشيخ محمد الأمين الشنقيطي نحو عشر سنين، منذ انتقل إلى المدينة المنورة، حتى توفي الشيخ في حج عام 1393هـ- رحمه الله تعالى- فقرأ عليه في تفسيره [أضواء البيان] ورسالته [آداب البحث والمناظرة]، وانفرد بأخذ علم النسب عنه، فقرأ عليه [القصد والأمم] لابن عبد البر، وبعض [الإنباه] لابن عبد البَرّ أيضًا. وقرأ عليه بعض الرسائل، وله معه مباحثات واستفادات، ولديه نحو عشرين إجازة من علماء الحرمين والرياض والمغرب والشام والهند وإفريقيا وغيرها، وقد جمعها في ثبت مستقل.(/2)
.. ودرَس في المعهد العالي للقضاء منتسبًا، فنال شهادة العالمية (الماجستير)، وفي عام 1403هـ، تحصل على شهادة العالمية العالية (الدكتوراه). وقد اختير للقضاء في مدينة النبي -صلى الله عليه وسلم-، واستمر في قضائها حتى عام 1400هـ، كما عيّن مدرسًا في المسجد النبوي الشريف، فاستقر حتى عام 1400هـ.
كما عُين إمامًا وخطيبًا في المسجد النبوي الشريف، فاستمر حتى مطلع عام 1396هـ، وفي عام 1400هـ، اختير وكيلاً عامًّا لوَزارة العدل، واستمرَّ حتى نهاية عام 1412هـ.
وفي عام 1405 هـ صدر أمر ملكي بتعيينه ممثلاً للمملكة العربية السعودية في مجمع الفقه الإسلامي الدولي، المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي، واختير رئيسًا للمجمع.
وعام 1406هـ عين عضوًا في المجمع الفقهي برابطة العالم الإسلامي، وكانت له في أثناء ذلك مشاركةٌ في عدد من اللجان والمؤتمرات داخل المملكة وخارجها، ودرّس في المعهد العالي للقضاء، وفي الدراسات العليا في كلية الشريعة بالرياض". ا.هـ.
.. الشيخ بكر أبو زيد تربطه علاقةُ أخوة وزمالة حميمة بكبار العلماء من مختلف الدول، ومن أهمّهم الشيخ الدكتور/ يوسف القرضاوي، الذي أشاد به حين نعيه، باعتباره علمًا من أعلام هذه الأمة.
كما عدّد الشيخ الدكتور/ علي القَرَه داغِي، نائب رئيس جمعية البلاغ والخبير بمجمع الفقه الإسلامي الدولي، مناقبَ الفقيد وجهودَه في خدمة الإسلام، وقال: "عرفتُ الفقيد طوال عدة سنوات، ووجدتُ فيه العلم والصدق والصفاء والإخلاص، لمست فيه الجدّية والخوف من الله سبحانه وتعالى، ووجدت فيه مثلاً حقيقيًّا للعالم العامل القدوة".
وقد كان الشيخ يعدُّ قراراتِ مجمع الفقه الإسلامي توقيعًا عن رب العالمين، بحكم أن المجمع يضم صفوةَ علماء الأمّة. فقد كان يدقق في البيانات والقرارات والفتاوى التي يصدرها المجمعُ، ويقول لزملائه: نحن مسؤولون أمام الله عن كل حرف وكلمة نقولها للأمة.(/3)
وإليك –أخي القارئ- قائمة بعناوين مؤلفاته وتحقيقاته.. والمتأمل في هذه العناوين يرى تبحّرَه في التأليف بخاصّة، وتميّزَه في الدقيق من المسائل، وتركيزَه على المعاصر منها..
أمّا لغته في التأليف فهي لغة الفقيه العالِم، واللغويِّ المتمكن، والأديبِ المتضلّع، فهو يمزُج فيها بين كل ذلك بنفَسٍ خاصّ جميل..
وقد جمعت هذه العناوين من مصادر متفرقة، أهمها فهارسُ مكتبة الملك فهد الوطنية بالرياض، وترجمةُ ابنه له..
وقد يكون بينها ما هو مكرر نظراً لتعدد الطبعات وتغير التسميات، ثم أضفت بعض الملحوظات مما لمحته في أثناء البحث، وأشرت إلى بعض أرقام الكتب في القائمة؛ لأهمية مراجعتها:
1- التقنين والإلزام.
2- المواضعة في الاصطلاح على خلاف الشريعة وأفصح اللغى.
3- أجهزة الإنعاش وحقيقة الوفاة بين الفقهاء والأطباء.
4- طفل الأنابيب.
5- خطاب الضمان البنكي.
6- الحساب الفلكي.
7- البوصلة.
8- التأمين.
9- التشريع وزراعة الأعضاء.
10- تغريب الألقاب العلمية.
11- بطاقة الائتمان حقيقتها البنكية التجارية وأحكامها الشرعية.
12- بطاقة التخفيض حقيقتها التجارية وأحكامها الشرعية.
13- عيد اليوبيل بدعة في الإسلام.
14- المثامنة في العقار - نزع ملكيته للمصلحة العامة.
15- التمثيل: حقيقته، تاريخه، حكمه.
16- التقريب لفقه ابن قيم الجوزية.
17- الحدود والتعزيرات عند ابن القيم:دراسة ومقارنة. [وهي رسالته للماجستير عام 1400هـ من المعهد العالي للقضاء. وقد طبعت في دار العاصمة. 1مج].
18- أحكام الجناية على النفس وما دونها عند ابن قيم الجوزية: دراسة وموازنة (مجلد واحد). [وهي رسالته للدكتوراة عام 1402هـ من المعهد العالي للقضاء، وقد طبعت عند مؤسسة الرسالة].
19- اختيارات ابن تيمية للبرهان ابن القيم، تحقيق.
20- حكم الانتماء إلى الفرق والأحزاب والجماعات الإسلامية.(/4)
*[ملحوظة: صدر أيضاً كتاب: مهذّب حكم الانتماء إلى الفرق والأحزاب والجماعات الإسلامية/ كتب الأصل بكر بن عبد الله أبو زيد؛ تهذيب عبد الله عبد الرحمن التميمي].
21- معجم المناهي اللفظية: يختص بالمنهي عنها شرعًا في نحو 800 لفظ.
* [ملحوظة: صدر حول "معجم المناهي اللفظية":
أ- المستدرك على معجم المناهي اللفظية/ سليمان بن صالح الخراشي.
ب- نظرات في معجم المناهي اللفظية/ علي رضا بن عبد الله علي رضا].
22- لا جديد في أحكام الصلاة، بزيادة عدم مشروعية ضم العقبين في السجود.
23- تصنيف الناس بين الظن واليقين.
24- التعالم وأثره على الفكر والكتاب.
25- حلية طالب العلم. (راجع رقم 85).
26- أذكار طرفي النهار . [كتيّب جيب].
27- الرقابة على التراث.
28- تسمية المولود.
29- أدب الهاتف.
30- حد الثوب والأزرة وتحريم الإسبال ولباس الشهرة.
31- آداب طالب الحديث من "الجامع للخطيب" (انتقائي).
32- المدخل المفصل إلى فقه الإمام أحمد بن حنبل وتخريجات الأصحاب، تقديم محمد الحبيب ابن الخوجة.
33- البلغة في فقه الإمام أحمد بن حنبل للفخر ابن تيمية؛ تحقيق.
34- فتوى السن، عن مهمات المسائل.
35- التأصيل لأصول التخريج وقواعد الجرح والتعديل.
36- معرفة النسخ والصحف الحديثية.
37- التحديث بما قيل: لا يصح فيه حديث.
38- الجدّ الحثيث في بيان ما ليس بحديث/ تأليف أحمد بن عبد الكريم العامري الغزي (تحقيق).
39- مرويات دعاء ختم القرآن الكريم، وحكمه داخل الصلاة وخارجها جزء.
40- نصوص الحوالة - جزء.
41- جزء في زيارة النساء للقبور.
42- مسح الوجه باليدين بعد رفعهما بالدعاء جزء.
43- جزء في كيفية النهوض في الصلاة، وضعف حديث العجن.
44- العزاب من العلماء وغيرهم. (راجع رقم 87).
45- التحول المذهبي. راجع رقم (88).
46- التراجم الذاتية. (راجع رقم 86).
47- لطائف الكلم في العلم.
48- طبقات النسابين.
49- ابن قيم الجوزية: حياته وآثاره.(/5)
50- الرد على المخالف: شروطه وآدابه. (ضمن كتاب: الردود).
51- تحريف النصوص من مآخذ أهل الأهواء في الاستدلال. (ضمن: الردود).
52- براءة أهل السنة من الوقيعة في علماء الأمة. (ضمن: الردود) - وهو رد على مجموعة من أقوال محمد زاهد الكوثري، قدم له الشيخ عبد العزيز ابن باز.
53- عقيدة ابن أبي زيد القيرواني وعبث بعض المعاصرين بها. (ضمن: الردود).
54- التحذير من مختصرات الصابوني في التفسير. (ضمن: الردود).
55- بدع القراء القديمة والمعاصرة - رسالة.
56- خصائص جزيرة العرب.
57- السحب الوابلة على ضرائح الحنابلة/ تأليف محمد بن عبد الله بن حميد؛ حققه وقدم له وعلق علية بكر بن عبد الله أبو زيد، عبد الرحمن بن سليمان العثيمين .
58- تسهيل السابلة إلى معرفة علماء الحنابلة للشيخ صالح بن عبد العزيز بن علي آل عثيمين، (تحقيق في مجلدين).
59- علماء الحنابلة من الإمام أحمد إلى وفيات القرن الخامس عشر الهجري، مجلد على طريقة: الأعلام للزركلي. (راجع رقم 82).
60- دعاء القنوت.
61- فتح الله الحميد المجيد في شرح كتاب التوحيد/ للشيخ حامد بن محمد الشارقي؛ (تحقيق).
62- الإبطال لنظرية الخلط بين دين الإسلام وغيره من الأديان.
63- تقريب آداب البحث والمناظرة.
64- جبل إلال بعرفات، تحقيقات تاريخية وشرعية.
65- مدينة النبي -صلى الله عليه وسلم- رأي العين.
66- قبة الصخرة، تحقيقات في تاريخ عمارتها وترميمها.
67- تصحيح الدعاء (مجلد)، وطبع جزء من هذا الكتاب مستقل باسم: السبحة: تاريخها وحكمها. (راجع رقم 77).
68- موارد ابن قيم الجوزية.
69- المجموعة العلمية.
70- العلاَمَةُ الشرعية لبداية الطواف ونهايته.
71- حراسة الفضيلة.
72- درء الفتنة عن أهل السنة – تقديم الشيخ عبد العزيز ابن باز.
73- فتوى جامعة في العقار.
74- المدارس العالمية الأجنبية – الاستعمارية.. تاريخها ومخاطرها.(/6)
75- فتوى جامعة في التنبيه على بعض العادات والأعراف القبلية المخالفة للشرع المطهر. 76- هجر المبتدع.
77- السبحة: تاريخها وحكمها.
78- هداية الأريب الأمجد لمعرفة أصحاب الرواية عن أحمد/ لسليمان بن عبد الرحمن بن حمدان؛ ( تحقيق).
79- بلْغة الساغب وبغية الراغب/ تأليف فخر الدين أبي عبدالله محمد بن أبي القاسم محمد بن الخضر ابن تيمية، تقديم محمد الحبيب ابن الخوجة؛ (تحقيق).
80- النظام العالمي الجديد والعولمة: التكتلات الإقليمية وآثارها: العرض والمناقشة/ شوقي دنيا، بكر بن عبد الله أبو زيد، وآخرون.
81- تراجم لمتأخري الحنابلة، جمع وتأليف الشيخ سليمان بن حمدان؛ (تحقيق).
82- علماء الحنابلة: من الإمام أحمد المتوفى سنة 241هـ إلى وفيات عام 1420 هـ رحمهم الله تعالى.
83- أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، المؤلف: محمد الأمين بن محمد المختار الجكني الشنقيطي، نشره مجمع الفقه الإسلامي بجدة - بإشراف العلامة بكر بن عبد الله أبو زيد - دار عالم الفوائد.
84- حكم إثبات أول الشهر القمري وتوحيد الرؤية.
85- شرح كتاب حلية طالب العلم لبكر بن عبد الله أبو زيد/ شرح الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين؛ تحقيق أبي مالك محمد بن حامد بن عبد الوهاب؛ اعتنت به ترتيبًا وجمعًا: دار البصيرة.
* [ملحوظة: شرحَ "حلية طالب العلم" الشيخُ محمد ابن عثيمين في عدة دروس، وقد سجلتْ ووزّعت في أشرطة صوتية، وكان الشيخ يثني على الكتاب ويشير إلى أهميتة لطالبي العلم. ثم صدرت تلكم الدروس مطبوعة].
86- العلماء الذين ترجموا لأنفسهم "السيرة الذاتية".
87- الذين لم يتزوجوا من العلماء وغيرهم وأسباب ذلك والنقض على من وحد السبب.
88- العلماء الذين تحولوا من مذهب إلى آخر وأسباب التحول.
89- المرابحة للأمر بالشراء (بيع المواعدة): (المرابحة في المصارف الإسلامية) وحديث (لا تبع ما ليس عندك).
90- طرق الإنجاب في الطب الحديث وحكمها الشرعي.(/7)
ولمعرفة أسلوب د. بكر أبو زيد وطريقته في الكتابة؛ ننقل لكم أُنموذجين من كتابين من كتبه:
مِن كتابه القيّم: (حِرَاسَةُ الْفَضِيلَةِ):
".. فهذه رسالة نُخرجها للناس لِتَثْبيتِ نساء المؤمنين على الفضيلة، وكشف دعاوى المستغربين إلى الرذيلة، إذ حياة المسلمين المتمسكين بدينهم اليوم، المبنية على إقامة العبودية لله تعالى، وعلى الطهر والعفاف، والحياء، والغيرة، حياةٌ محفوفة بالأخطار من كل جانب، بجلب أمراض الشبهات في الاعتقادات والعبادات، وأمراض الشهوات في السلوك والاجتماعيات، وتعميقها في حياة المسلمين في أسوأ مخطط مسخّر لحرب الإسلام، وأسوأ مؤامرة على الأمة الإسلامية، تبناها: ((النظام العالمي الجديد)) في إطار نظرية الخلط - وهي المسماة في عصرنا: العولمة، أو الشوملة، أو الكوكبة - بين الحق والباطل، والمعروف والمنكر، والصالح والطالح، والسنة والبدعة، والسني والبدعي، والقرآن والكتب المنسوخة المحرفة كالتوراة والإنجيل، والمسجد والكنيسة، والمسلم والكافر، ووحدة الأديان، ونظرية الخلط هذه أنكى مكيدة، لتذويب الدِّين في نفوس المؤمنين، وتحويل جماعة المسلمين إلى سائمة تُسَام، وقطيع مهزوزٍ اعتقادُه، غارق في شهواته، مستغرق في ملذّاته، متبلد في إحساسه، لا يعرف معروفاً ولا يُنكر منكراً، حتى ينقلب منهم من غلبت عليه الشقاوة على عقبيه خاسراً، ويرتدّ منهم من يرتد عن دينه بالتدريج.
كل هذا يجري باقتحام الولاء والبراء، وتَسريب الحب والبغض في الله، وإلجام الأقلام، وكفّ الألسنة عن قول كلمة الحق، وصناعة الاتهامات لمن بقيت عنده بقية من خير، ورميه بلباس: الإرهاب والتطرف والغلو والرجعية، إلى آخر ألقاب الذين كفروا للذين أسلموا، والذين استغربوا للذين آمنوا وثبتوا، والذين غلبوا على أمرهم للذين استُضعفوا....".
ومن كتابه: (دعاء القنوت):
الفصل الأول: (تنبيهات في بيان مَا يُجْتَنَب في القنوت):(/8)
* التنبيه الرابع: وَيُجْتَنَبُ قَصْدُ السَّجع في الدعاء، والبحث عن غرائب الأَدعية المسجوعة على حرف واحد. وقد ثبت في صحيح البخاري -رحمه الله تعالى- عن عكرمة عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال له: (فانظر السجع في الدعاء، فاجتنبه، فإني عهدت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأَصحابه لا يفعلونَ إلا ذلك الاجتناب).
ومن الأَدعية المخترعة المسجوعة: (اللهم ارحمنا فوق الأرض، وارحمنا تحت الأرض، وارحمنا يوم العرض). ولا يرِد على ذلك ما جاءَ في بعض الأدعية النبوية من أَلْفَاظ مُتَوَاليَة، فهي غير مقصودة ولا متكلفة، ولهذا فهي في غاية الانسجام.
* التنبيه الخامس: وَيُجْتَنَبُ اختراع أَدعية فيها تفصيل أَو تشقيق في العبارة، لِمَا تُحْدِثُهُ مِنْ تحريك العواطف، وإِزعاج الأَعضاء، والبكاء، والشهيق، والضجيج، والصَّعَق، إِلى غير ذلك مِمَّا يَحْدُثُ لِبَعْضِ النَّاسِ حَسَبَ أَحوالهم، وقُدُرَاتِهِم، وطاقاتهم، قُوَّةً، وَضَعفاً.
ومنه: تضمين الاستعاذة بالله من عذاب القبر، ومن أَهوال يوم القيامة، أَوصافاً وتفصيلات، ورَصَّ كلمات مترادفات، يُخْرجُ عن مقصود الاستعاذة والدُّعاء، إِلى الوعظ والتخويف والترهيب. وكل هذا خروج عن حدِّ المشروع، واعتداء على الدعاء المشروع، وهجر له، واستدراك عليه، وأَخشى أَن تكون ظاهرة ملل، وربما كان له حكم الكلام المتعمد غير المشروع في الصلاة فيُبْطِلُها.....".روى الشيخان عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبق عالماً اتّخذ الناسُ رؤوساً جُهّالاً، فسُئلوا، فأفتوا بغير عِلمٍ، فضلُّوا وأضلُّوا".(/9)
العنوان: وفاة العالم النحوي محمد علي طه الدرة
رقم المقالة: 1821
صاحب المقالة: صهيب بن محمد خير يوسف
-----------------------------------------
وفاةُ العالِم النحْويّ مُحمّد علي طه الدُّرّة.. وشيءٌ مِن الذكرى
"إلى الرجل الذي حبّبني بالنّحْوِ وأهلهِ بعْدَ أنْ كان في فمي مُرًّا علقماً..
إلى الرجل الذي أقام اعوِجاجَ ألسُنِ الطلَبة بعد أن تمكنتْ منهم العُجْمَةُ..
إلى الرجل الذي غرس أحسنَ الزرع ليُدركَ مِن طيِّبِ الثمار إن شاء الله تعالى:
شيخي وأستاذي ومعلمي، الفاضلُ النبيل، النحويُّ البارع، أبو بشير محمد علي بن طه الدُّرَّة، حفظه الله تعالى ورضي عنه وكتب له الصحة والعافية، وما كاتب هذه السطور إلا ثمرة من سَقْيِ يده الطاهرة، فإنه أثابه الله تعالى ما برح يعلمني النحو في الليل والنهار، في البيت والشارع والحديقة، ولو نطقت أشجارها وكراسيها لشهدت على أجزاء تلوتها وهو يسمع، وأعربتُها وهو يصحِّح! فإن كان في المسألة وجهانِ ولمْ أستوعِبِ الصوابَ أشار إليَّ أنْ هكذا -ورفع إصبعيه السبابة والوسطى- وقال كلمته المشهورة: اذكر كافة وجوه الإعراب حتى لا يبقى عليك اعتراض.
وأوّلُ حبّي لهذا العلم الشريف: أني عندما أتيته أطلب القراءة عليه حفِظَه الله تعالى، نظر إليَّ بعين الفِراسة وقال: هل تطلب العلمَ الشرعيَّ؟ قلتُ: نعم، قال حفظه الله: يا بُني من لم يعرف النحو لا يُوثَقُ بعلمِه! وإياك ولحن الفقهاء. ثُم ذكرَ لي حكاية سيبويه.. عليه شآبيب الرحمة والرضوان".
بهذه الكلمات التي امتزج فيها احترامُ العلماءِ بحبِّهم والشغفُ بالعلم بالإخلاصِ، بدأ الأستاذ/ أبو بكر ماهر بن عبد الوهاب علوش، كتابَهُ (الدُّرَر السَّنِيَّة في دِراسَةِ المُقَدِّمةِ الآجُرُّوْمِيَّة؛ مصنِّفُها ومذْهَبُه في النحو، شروحُها، منظوماتها، أعاريبها، طبعاتها، ما لَها وما عليها). الذي ألّفه سنة 1425هـ.(/1)
فليت شِعريْ ماذا سيكتبُ هذا المحبُّ بَعْدَ وفاةِ شيخهِ اليوم؟!
.. في مسجد خالد بن الوليد -رضي الله عنه- في مدينة حمص بسوريا، كانت الصلاةُ على الشيخ محمد علي بن طه الدرة، بعد أن انتقلَ إلى جوار ربه، يومَ الخميس 26/11/1428هـ، الموافق 5/12/2007، والشيخ مِن أعلام اللغة العربية في هذا الزمن، وأحدُ جهابذة النحْو، ومن البقيَّة الذين نذروا أنفسهم للغة القرآن الكريم واهتموا بإعراب كتاب الله العظيم..
يقول أحدُ محبّي الشيخ محمد علي الدُّرّة:
"لستُ أنسى منظره وهو يغوصُ بين كتبه التي أخذتْ حيّزاً لا بأس به من جامع العنابة في حي بني السباعي. كان يحجبها بستارة كبيرة، وما إن ينتهي من صلاته حتى يعودَ إليها.
كنا في بداية الأمر صغاراً ولم نكن نعرف شيئاً عن مشروع إعراب القرآن الذي أخذ جزءًا كبيراً من اهتمامه. بعد ذلك عرفناه شيخا ونحويًّا...
وأنا أذكر أني اشتريت كتبه من دكان (محمد أتماز السباعي) الذي كان يبيع القرطاسية وبعضَ الخردوات في محلٍّ قريبٍ من حيّ بني السباعي، وكان الشيخ يوْدِعُ عنده نُسخاً من كتبه للبيع.. وكانت له لهجة خاصة تتميز بالإمالة. وأذكر هنا أنه في نهاية الثمانينيّات سرى خبرٌ بأن الشيخ قد توفي، وأنا سمعت نعيه في مسجدَين بحمص! ثم تبين أنّ الخبرَ عارٍ عن الصحة. رحمه الله وجزاه عمّا قام به في خدمة الدين واللغة العربية.
بقي أن أذكّر أخي.. أن هناك شيخاً حمصيًّا اسمه (حسين دحلة) كان قد أنجز إعراب القرآن، وأذكر أني سمعت أنه سعى إلى طبعه في المملكة العربية السعودية، ولكني لا أعرف إذا كان هذا الأمرُ قد تمّ أم لا؟وكان الشيخ حسين دحلة والشيخ محمد علي الدرة يدرّسان معًا في إعداية عزة الجندي في باب الدريب".
وإليك -أخي القارئ- أهمَّ مؤلفات الشيخ محمد علي الدرة، وقد تعددت طبعاتها:
1- فتحُ ربِّ البَرِيّة إعراب شواهد جامع الدروس العربية للغلاييني/ جزءان في مجلد واحد.(/2)
2- فتحُ الكبير المتَعالِ إعراب المعلقات العشر الطوال/ طُبع في مجلدين، ورأيته مطبوعاً في أجزاء متفرقة، ثم اقتنيته مطبوعاً في مجلد ضخم من طبع دار الرازي بدمشق.
3- فتحُ القريبِ المُجيب إعراب شواهد مُغْني اللبيب/ طبع في أربعة أجزاء، بمطبعة الأندلس بدمشق.
4- قواعد اللغة العربية/ تأليف: حفني بك ناصف, محمد بك دياب, الشيخ مصطفى طموم, محمود أفندي عمر, سلطان محمد. شرَحه و علّق عليه و أعرب أمثلته وشواهده: الشيخ محمد علي طه الدرة. طبع بمكتبة الغزالي بدمشق.
5- تفسيرُ القرآن الكريم وإعرابُه وبيانُه/ وهو أنفَسُ كتبه وأضخمها، طُبع في دمشق، في خمسة عشر مجلداً.
وللفائدة، أذكر هنا أبرز من أعربوا القرآن الكريم كاملاً وطُبع لهم، من المعاصرين:
أ-الأستاذ محيي الدين الدرويش، مؤلِّف (إعراب القرآن الكريم وبيانه).
ب-الأستاذ محمود صافي، مؤلف (الجدول في إعراب القرآن وصرْفِه وبيانه، مع فوائد نحويّة هامّة). والمذكوران من مدينة حمص.
ج-ومن دمشق: الأستاذ الدكتور محمد الطيب الإبراهيم، صاحب الكتاب المختصر (إعراب القرآن الكريم) الذي انتشر بين طلبة العلم في جامعات دمشق ومعاهدها، وطبعته دار النفائس، في مجلد واحد ضخم، و608 صفحات. وقد طبع غير مرة.
يَرحمُ اللهُ هذا العالِمَ النحويَّ المخلص.. فقد ترك لنا ذِكراً باقياً وعِلماً غزيراً نافعاً، يصلُه من ثوابه كلّما أفدنا منه وأذَعْناهُ.. وبوركَ في محبٍّ ظلّ يدعوْ لمعلّميهِ ويذكُرُهم في حياتهم وبعد وفاتهم بخير.
ولِتكتملَ الفائدةُ، وكشيءٍ مِن الذكرى، أعرضُ لكَ شيئاً من طريقته وأسلوبه في الإعراب.. في هذا الاختيار مِن إعراب معلقة طَرَفَة بن العبد، في كتابه (فتح الكبيرِ المتَعالِ إعراب المعلقات العشر الطوال):
أرى الموتَ يعتادُ النفوسَ، ولا أرى بعيداً غداً، ما أقربَ اليومَ مِن غَدِ!(/3)
... المعنى: يقول إني أرى الموتَ قد تعوّد أخْذَ النفوس، وإني لا أرى اليوم الذي بعد يومي بعيداً، ما أشدَّ قُرب يومي من اليوم الذي يأتي بعده.
الإعراب:
(أرى الموت يعتادُ النفوس) إعراب هذه الجملة مثل إعراب (أرى الموت يعتاد الكرام) في البيت السابق: الواو: حرف عطف.
[ولا أرى]: لا: نافية. أرى: فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والفاعل ضمير مستتر فيه وجوباً تقديره أنا. بعيداً: مفعول به ثانٍ تقدم على الأول. غداً: مفعول به أول، وجملة (لا أرى... إلخ) معطوفة على الجملة السابقة لا محل لها مثلها، الأولى بالاستئناف والثانية بالاتباع.
(ما أقرب اليوم من غدِ) ما: نكرة تامة مبنية على السكون في محل رفع مبتدأ. أقربَ: فعل ماضٍ جامدٌ دالٌّ على التعجب مبنيٌّ على الفتح، والفاعل ضمير مستتر فيه وجوباً تقديره هو، يعود إلى (ما). اليوم: مفعول به لأقرب، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ الذي هو (ما) التعجبية، خذ هذا الإعراب، وهو المشهور عن سيبويه.
وقال الأخفش: ما: نكرة موصوفة والجملة التي بعدها صفة لها، وقال أيضاً هي موصولة، والجملة التي بعدها صلتها، فله قولان، وعلى هذين القولين فالخبر محذوف، والتقدير على الأول: شيء قرب من اليوم عظيم، وعلى الثاني الذي قرب من اليوم شيء عظيم، وقال الفراء وابن دُرُسْتُوَيهِ: هي استفهامية مشوبة بتعجب، والجملة التي بعدها خبر عنها، والتقدير: أي شيء أقرب من غد؟
مِن غدٍ: جارّ ومجرور متعلقان بمضمون الجملة قبلهما، وجملة (ما أقرب... إلخ) مستأنَفة لا محل لها من الإعراب.(/4)
العنوان: وقاية الإنسان من تسلط الشيطان
رقم المقالة: 1925
صاحب المقالة: صالح بن صبحي القيم
-----------------------------------------
بسم الله الرحمن الرحيم، وبه أستعين وهو حسبي ونعم الوكيل.
مقدمة:-
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 10].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70-71].
أما بعد،
فإن أصدقَ الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمد –صلى الله عليه وسلم- وشرَّ الأمور محدثاتُها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار[1].
اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختُلِف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم[2].(/1)
يعاني كثيرٌ من الناس مشكلةً كبيرة قد تكون لها علاقة بجهلهم بدين الله عز وجل من جهة، وقد تكونُ حاصلةً من جهة تفريطهم وتضييعهم لسنة نبينا –صلى الله عليه وسلم- التي أصبحت مهجورة في هذه الأيام، بل العاملون بها قليل، قليل جدًا، مع هذا السواد الكثير من المسلمين (ولكنهم كغثاء السيل) ولا حول ولا قوة إلا بالله، بل يعد هؤلاء الأشخاصُ الذين يعملون بالسنة من الغرباء في هذا العصر، المستَنكَرين، المنظورَ إليهم نظرة المبدلين لدين الآباء (ولو كان مبنيًا على ضلالٍ من شرك وعبادة قبور ودعاء أولياء وصالحين وأنبياء وغيرهم من دون الله تعالى).
وهذا دأب من يدعو لدين الله الحق، وهو الذي بعث به الرسل، وأنزل فيه الكتب، فإنه يكون منبوذًا مطرودًا من قومه، محارَبًا من أهله، وحيدًا في توحيده وعبادته، ولكن هذا النكير الذي يجدونه من قومهم وأهل زمانهم لا يصدهم عن دعوتهم ولا يسد أمامهم الدروب، ولا يؤذيهم الشوك الذي يجدونه في طريقهم، فهم لهم أسوة حسنة، بل أسوتهم خير من مشى على وجه الأرض، بل خير أهل الأرض والسماء، وهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فهم يعلمون أن الأنبياء قد ابتُلُوا بمعاداة قومهم، وطردهم لهم من أوطانهم، بل قد يصدُّ عنهم من هو أقرب الناس لهم من زوجةٍ وولدٍ وأبٍ، وهم كما قال –صلى الله عليه وسلم-: (لا تزال طائفة من أمتي قوامة على أمر الله، لا يضرها من خالفها)[3].(/2)
إن هؤلاء يعبرون عن النبي –صلى الله عليه وسلم-: (أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل)[4]، إذًا فالبلاء كما أصاب الأنبياءَ من قبلهم -وهم خير منهم وأحب إلى الله عز وجل- فهو لا محالة قادم إليهم، ما داموا على طريقتهم وهديهم، فهم ورثتُهم وحاملو لوائهم، ومُحيُو سننهم وهديهم وأخلاقهم، كما قال –صلى الله عليه وسلم- مبينًا ذلك وموضحًا: (إن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، إنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر)[5].
فمن يكون العلماء غير أصحاب سنته وهديه –صلى الله عليه وسلم-؟ هم الطائفة المنصورة والفرقة الناجية الذين يصلحون إذا فسد الناس، على الحق ظاهرون، لا يضرهم من خالفهم وخذلهم، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك الظهور، فلله درهم من قوم اصطفاهم الله تعالى على جميع الناس بعد الرسل.
فهم الذين ينصر الله بهم هذا الدينَ، ويقوّم بهم اعوجاجَ المنحرفين، فهاتِ يدك يا أخي، وضعها في يدي، وتعالَ لنكون من هؤلاء القوم، ونفوز بمحبة الله -عز وجل- باتباع نبيه –صلى الله عليه وسلم- كما قال في كتابه: {قلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [آل عمران: 31].(/3)
بعد هذا الذكر العطر لهؤلاء الثلّة نعود لنتكلم عن تلك المشكلة التي هي إحدى الحفر التي يقع فيها المبتعدون عن السنة، وهي مشكلة تسلط الشياطين على بني آدم، سواء كان ذلك في النوم أو في اليقظة، فكثير من بيوت المسلمين تعاني آثارًا نفسية ومشاكل عصبية وروحية بل وجسدية من جراء تسلط أعدائهم الذين لا ينامون ولا يرقبون فيهم إلاً ولا ذمة من الشياطين (شياطين الإنس والجن)، فتجد الآباء يعانون مشاكلَ مع أطفالهم إثر نومهم؛ إذ يصحو الطفل فزعًا وصارخًا من نومه خائفًا لأنه يرى شبحًا على قوله أو حيوانًا مفترسًا أو لصًا أو غيره مما يخوفه ويجعله لا يستطيع النوم طوال الليل ، فيجهش هذا الطفل المسكين بالبكاء ليوقظ من في البيت لينجدوه ويخلصوه من تلك الكوابيس التي يراها.
ومن جهة أخرى تجد الكبار الذين يعانون القلق والأرق والتفكير قبل النوم، وإذا ناموا فإنهم ينتقلون إلى عالم مليء بالكوابيس والأحلام المزعجة التي تقض مضجعهم، وتوقعهم في أمراض نفسية وعصبية كثيرة، حتى إن بعضهم يبدأ في الذهاب إلى الأطباء إن عصمه الله تعالى وكان من الذين أنعم عليهم، ولم يذهب إلى السحرة والمشعوذين، أو إلى غيرهم من الضالّين المضلين عن دين الله، ظانًا أن الخلاص من تلك الأمراض النفسية بيدهم (كالمستجير من الرمضاء بالنار) فيوقعونه -والعياذ بالله- في السحر والشرك والاستغاثة بغير الله من الشياطين، وهذا ما يريده الشيطان؛ يريد غواية البشر وصدهم عن الصراط المستقيم كما قال الله في كتابه {قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الحجر: 39-40]
ولكن،(/4)
إخواني وأحبائي، شرعُنا الحنيف لم يتركنا هكذا مكتوفي الأيدي، لا يدلنا على الخلاص والوقاية من تلك المشاكل، بل إذا سألت وفتشت في كتاب الله وسنة رسوله –صلى الله عليه وسلم- وسيرة سلفنا الصالح ستجد الجواب الكافي والدواء الشافي من تلك الابتلاءات والمصائب.
فهاهو هدي نبينا –صلى الله عليه وسلم- يدلنا ويوجهنا إلى الخلاص والنجاة والسلامة، فهل من متعظ؟ فهل من مقتدٍ؟ فهل من آخذ بسبيل الرشاد والسلامة، مستعصم ومستمسك بحبل الله المتين؟ {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً} [الإسراء: 65].
وقاية الإنسان من تسلط الشيطان:
فهذي أخي القارئ بعضُ وسائل تسلط أعداء المؤمنين من الشياطين عليهم والدلالة على طرق معالجتها وصدها من هدي خير الأنام عليه أفضل الصلاة والسلام.
أولاً- اتخاذ الصور والتماثيل في كثير من بيوت المسلمين:
ابتُلِي أكثرُ المسلمين اليوم باتخاذ الصور والتماثيل وجلبها إلى بيوتهم بحجة الزينة، فعندما تدخل إلى أحد تلك البيوت تجد العجب وكأنك داخل إلى أحد المعارض التي تضم أنواع اللوحات والصور، فعندما تنظر إلى الحائط تجد اللوحات المعلقة فيها صور من بشر وحيوانات وغيرها من ذوات الأرواح، ولو صرفت بصرك تجاه الطاولات فتجد أنواع التماثيل من الأحجار والأخشاب المنحوتة مجسمة، وعند جلوسك على الفرش والوسائد تجدها منقوشًا عليها الطيور والفراشات وغيرها مما له روح.
إنّ هذه الصور والتماثيل تطرد الملائكة من البيت، وهي سبب رئيس لعدم دخولهم فيه، إذًا بيت ليس فيه ملائكة ماذا فيه؟ الشياطين بالتأكيد، بل الأفظع هو حال الأطفال المساكين، فتجد غرفَهم مليئةً بالصور لشخصيات كرتونية مجسمة ذات أرواح، وألعابهم أكثر فأكثر.(/5)
فكيف أخي الكريم تخاف على أطفالك من تسلط الشياطين عليهم وفزعهم من نومهم في الليل، وأنت تجلب لهم الشياطين لغرفهم، وتطرد عنهم ملائكة الرحمن التي تحميهم وتحفظهم؟ فتنبه يا أخي لهذه المسألة الخطيرة، فكلكم راعٍ وكلكم مسئولٌ عن رعيته[6] ولقد جاء النص الصريح منه -صلى الله عليه وسلم- بعدم دخول الملائكة البيت الذي يوجد فيه صور وتماثيل، ففي الحديث (لا تدخل الملائكة بيتًا فيه كلب أو صورة)[7]، وفي رواية أخرى (لا تدخل الملائكة بيتًا فيه كلب ولا تماثيل)[8]، وجاء في حديث آخر (واعَدَ رسول الله –صلى الله عليه وسلم- جبريل عليه الصلاة والسلام أن يأتيه، فراث عليه –أي تأخر عنه– حتى اشتدَّ على رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، فخرج، فلقيه جبريل، فشكا إليه فقال: (إنا لا ندخل بيتًا فيه كلب ولا صورة)[9]، فقد كانت الصورة على ستارة في البيت، فانظر يا أخي راعيَ البيتِ المسلم هذه الأحاديث والنصوص الصريحة بعدم دخول الملائكة بيتًا فيه من تلك التصاوير، وهناك غيرها الكثير مما فيه الوعيد الشديد لمن يصور هذه الصور والتماثيل فتنبه واتعظ وكن من السابقين في فعل الخيرات، وعليك بإزالتها لتجلب ملائكة الرحمن إلى بيتك لتنعم وعائلتك بالأمن والسعادة والتحصين من الأعداء من الشياطين.
ثانيًا- عدم صلاة النافلة في البيت:
لقد حثنا –صلى الله عليه وسلم- على الصلاة في البيت (أقصد صلاة النافلة، فصلاة الفريضة يجب أن تكون جماعة في المساجد حيث ينادى بها، ولها أيضًا أثر كبير في الوقاية من تسليط الشياطين كما سيأتي في الفقرة التالية إن شاء الله تعالى).(/6)
لقد جاء في الحديث عنه –صلى الله عليه وسلم- (عليكم بالصلاة في بيوتكم؛ فإن خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة)[10]، فأرشد –صلى الله عليه وسلم- أن أفضل الصلاة بعد الفريضة هي صلاة الرجل في بيته، كما أرشد أيضًا إلى فضل تطوع الرجل في بيته؛ فقال: (تطوع الرجل في بيته يزيد على تطوعه عند الناس، كفضل صلاة الرجل في جماعة على صلاته وحده)[11] أي خمسًا وعشرين درجة كما جاء مصرحًا به في الحديث التالي: (صلاة الرجل تطوعًا حيث لا يراه الناس تعدل صلاته على أعين الناس خمسًا وعشرين)[12].
قال النووي -رحمه الله تعالى- في شرحه على مسلم بعد ذكره للحديث: (أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة) قال النووي: الصواب أن المراد النافلة، وجميع أحاديث الباب تقتضيه، ولا يجوز حمله على الفريضة، وإنما حثّ على النافلة في البيت لكونه أخفى وأبعد عن الرياء، وأَصْوَن من المحبطات، وليتبرك البيت بذلك وتنزل فيه الرحمة والملائكة وينفر منه الشيطان، كما جاء في الحديث الآخر، وهو معنى قوله –صلى الله عليه وسلم- في الرواية الأخرى: (فإن الله جاعل في بيته من صلاته خيرًا). انتهى كلامه رحمه الله تعالى.
ثالثًا- ترك صلاة الفريضة في المسجد:
لقد حثنا شرعنا الحنيف على صلاة الفريضة في المسجد، وفضلها على صلاة الرجل منفردًا وحده بخمس وعشرين درجة (صلاة الرجل في جماعة تزيد على صلاته في بيته وصلاته في سوقه خمسًا وعشرين درجة)[13]، وجاء في رواية أخرى سبعًا وعشرين درجة، (صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة)[14].(/7)
إلى غير ذلك من الفضل الكبير، كما جاء في فضل الخطى إلى المساجد والوضوء وانتظار الصلاة بعد الصلاة والمشي في الظلمات وغيرها من الفضائل العظيمة، والذي نريده منها في هذا الموضوع هو فضلها في وقاية العبد من تسلط الشياطين عليه، لما ورد في الأحاديث من الدلالة على حفظ الله -عز وجل- لفاعلها ودخوله في رعايته وأمنه، كما قال –صلى الله عليه وسلم-: (من صلى صلاة الصبح فهو في ذمة الله، فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء؛ فإنه من يطلبه من ذمته بشيء يدركه ثم يكبه على وجهه في نار جهنم)[15] وفي الحديث الآخر (من صلى الغداة كان في ذمة الله حتى يمسي)[16]، ولقد جاء في السنة ما يدل على أن تارك الجماعة معرض لاستحواذ الشياطين، بل شبه الشيطان بالذئب والتارك للجماعة بالغنم القاصية كما ذكره ابن القيم -رحمه الله تعالى- في كتابه (الصلاة وحكم تاركها) وهو يبسط الأدلة على وجوب الصلاة في جماعة، قال رحمه الله تعالى: (الدليل العاشر ما رواه أبو داود في سننه -رقم (547)- والإمام أحمد في مسنده -(5/196)- من حديث أبي الدرداء قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (ما من ثلاثة في قرية لا يؤذّن ولا تُقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان، فعليك بالجماعة؛ فإنما يأكل الذئب القاصية)، فوجه الاستدلال منه أنه أخبر باستحواذ الشيطان عليهم بترك الجماعة التي شعارها الأذان وإقامة الصلاة، ولو كانت الجماعة ندبًا يخيّر الرجل بين فعلها وبين تركها لما استحوذ الشيطان على تاركها وتارك شعارها).
رابعًا- ترك قراءة القرآن في المنزل:(/8)
إنَّ من الأمور التي تعين الشياطين وتقويهم في تسلطهم على بني آدم تركَ قراءة القرآن وتعاهده، وترك تدبر معانيه، فإنك اليوم تدخل بيوت المسلمين فترى القرآن الكريم الذي أنزله الله عز وجل لعباده المؤمنين ليتَّبعوا ما فيه وليتدبروا آياته وليتخلقوا بأخلاقه كما أمرهم بقوله تعالى ذِكْره: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} [ص: 29] ، تجد هذا الكتاب العظيم،كلام الله عز وجل معلقًا على الجدران، أو أنه وضع في علبة عليها نقوش وألوان وزخارف وموضوعة على الطاولة للزينة والمظهر الجميل، وإذا ركبت في سياراتهم تجده معلقًا فيها للبركة وللسلامة، أو منقوشة آياته على قطع من الذهب على صدور الأطفال حفظًا من العين كما يزعمون، وهذا كله من الأمور التي تخالف الحكمة في تنزيل القرآن، وتدخل ضمن هجر القرآن الذي ذكره الله -عز وجل- في كتابه وهجر العمل به كما قال تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يا ربِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان: 30].
وإن من هجر القرآن الكريم كما ذكره العلامة ابن القيم في كتابه المفيد (الفوائد) بعد أن عدد أنواعًا من هجر القرآن قال -رحمه الله تعالى-: والخامس هجر الاستشفاء والتداوي به في جميع أمراض القلب وأدوائها، فيطلب شفاء دائه من غيره، ويهجر التداوي به، وكل هذا داخل في قول الرسول: يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورًا. انتهى.
فصل- ومن الاستشفاء بالقرآن:
1- قراءة سورة البقرة في البيت:(/9)
فإنها تطرد الشياطين من ذلك البيت ما دامت تقرأ فيه، وإن البيت الذي لا يقرأ فيه القرآن يكون كالمقبرة، كما قال –صلى الله عليه وسلم-: (لا تجعلوا بيوتكم مقابر؛ إن الشيطان ينفر من البيت الذي يقرأ فيه سورة البقرة)[17]، ومن فوائد سورة البقرة أيضًا وبركة قراءتها في البيت أنها بإذن الله تعالى تطرد السحر وتمنعه وتبطل كيد السحرة والمشعوذين عن أهل ذلك البيت الذي تقرأ فيه، كما قال –صلى الله عليه وسلم-: (اقرءوا سورة البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا تستطيعها البطلة)[18]، ويكفي قراءة سورة البقرة مرة في اليوم ولا بأس بالاستعانة بالوسائل الحديثة من مسجل وكمبيوتر لتسهيل ذلك أو حتى الجوالات، وهذا أمر ميسر والحمد لله، واستغلال هذه الوسائل وتسخيرها لطاعة الله عز وجل أمر محمود، بدلاً من وضع الأغاني والأفلام الهابطة فيها التي تزيد القلب قساوة وبعدًا عن الله والله أعلم.
2- قراءة آية الكرسي: مرةً صباحًا ومرةً مساءً وبعد الفرائض وعند النوم:
فعن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: (وكلني رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بحفظ زكاة رمضان فأتاني آت فجعل يحثو من الطعام) فذكر الحديث وقال في آخره: (إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي فإنه لا يزال معك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح)، فقال النبي –صلى الله عليه وسلم-: (صدقك وهو كذوب؛ ذاك شيطان)[19].(/10)
وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله تعالى عنه- قال: لقي رجل من أصحاب النبي –صلى الله عليه وسلم- رجلاً من الجن فصارعه فصرعه الإنسي، فقال له الجني: عاودني، فعاوده فصرعه الإنسي، فقال له الإنسي: إني لأراك ضئيلاً شحيبًا كأن ذريعتيك ذريعتا كلب قال: فكذلك أنتم معاشر الجن –أو أنت منهم كذلك– قال: لا والله إني منهم لضليع، ولكن عاودني الثالثة فإن صرعتني علمتك شيئًا ينفعك، فعاوده فصرعه فقال: هات علمني قال: هل تقرأ آية الكرسي؟ قال نعم، قال إنك لن تقرأها في بيت إلا خرج منه الشيطان له خبج كخبج الحمار (أي ضراط) لا يدخله حتى يصبح.
قال رجل من القوم يا أبا عبد الرحمن من ذاك الرجل من أصحاب النبي –صلى الله عليه وسلم-؟ قال فعبس عبد الله وأقبل عليه وقال: من يكون هو إلا عمر -رضي الله عنه-[20].
3- الآيتان من آخر سورة البقرة:
قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: (الآيتان من آخر سورة البقرة من قرأهما في ليلة كفتاه)[21].
قال النووي -رحمه الله تعالى-: (قيل معناه كفتاه من قيام الليل، وقيل من الشيطان، وقيل من الآفات، ويحتمل من الجميع) انتهى كلامه.
وفي الحديث الآخر عنه –صلى الله عليه وسلم-: (أعطيت هذه الآيات من آخر سورة البقرة من كنز تحت العرش لم يعطَها نبي قبلي)[22].
4- قراءة سورة الإخلاص والمعوذتين:
لقد جاء فيهم من الفضل الكثير: قال –صلى الله عليه وسلم-: (يا عقبة بن عامر ألا أعلمك سورًا ما أنزلت في التوراة ولا في الزبور ولا في الإنجيل ولا في الفرقان مثلهن، لا يأتين عليك ليلة إلا قرأتهن فيها، (قل هو الله أحد) و(قل أعوذ برب الفلق) و(قل أعوذ برب الناس)[23]، وفي رواية عند النسائي وغيره (فقرأت معه حتى خَتَمَها، ثم قال: ما تعوذ بمثلهن أحد)[24].(/11)
وعن عائشة -رضي الله تعالى عنها-: (أن النبي –صلى الله عليه وسلم- كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه ثم نفث فيهما وقرأ فيهما قل هو الله أحد وقل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس، ثم مسح بهما ما استطاع من جسده يبدأ بهما على رأسه ووجهه وما أقبل من جسده يفعل ذلك ثلاث مرات)[25].
خامسًا- اقتناء الكلاب في البيوت للتربية:
ترى كثيرًا من بيوت المسلمين هذه الأيام -مع الأسف!- يقتنى فيها الكلاب بحجة أنها من الحيوانات الأليفة والوفية لصاحبها، وينفقون الأموال الكثيرة على إطعامها والعناية بها، حتى إنّ بعضها تستورد من الغرب ولا يدخل إلاّ بجواز سفر!!! وهذا كله تقليدًا للغرب من اليهود والنصارى ومن التشبه بهم، وكل هذا سببه الابتعاد عن الإسلام، وهذا من الأسباب التي تعين الشياطين في تسلطهم على بني آدم وخصوصًا ذلك البيت الذي يحوي ذلك الكلب، فإنه لا تدخله الملائكة بسبب وجوده فيه كما جاء في السنة الصحيحة عنه –صلى الله عليه وسلم- قال: (أتاني جبريل فقال: إني كنت أتيتك البارحة فلم يمنعني أن أكون دخلت عليك البيت الذي كنت فيه إلا أنه كان على الباب تماثيل وكان في البيت قرام ستر فيه تماثيل وكان في البيت كلب، فمُرْ برأس التمثال الذي في البيت فليقطع فيصير كهيئة الشجرة، ومر بالستر فليقطع فيجعل وسادتين منبذتين توطئان، ومر بالكلب فليخرج)[26] فهذا -إخواني وأحبابي- دليلٌ صريح على عدم دخول الملائكة بيتًا فيه كلب أو صورة، وجاء أيضًا في الترهيب من اقتناء الكلاب في البيوت لغير الزرع والماشية والصيد، الوعيد بنقصان الأجر كل يوم قيراطين لمقتني هذا الكلب لغير الأمور الثلاثة المذكورة آنفًا.
قال -صلى الله عليه وسلم-: (من اقتنى كلبًا ليس بكلب صيد، ولا ماشية، ولا أرض، فإنه ينقص من أجره قيراطان كل يوم)[27].(/12)
فانظر يا أخي هداني الله وإيّاك إلى هذه الخسارة الكبيرة في الدنيا والآخرة، فأجر ينقص كل يوم، وبيت لا تدخله الملائكة فهل من متعظ؟
سادسًا- ترك الأولاد يلعبون خارج البيت في الوقت الذي تنتشر فيه الشياطين:
ترى كثيرًا من الأولاد يخرجون من بيوتهم للعب خارج البيت ليختلطوا مع أصدقائهم وجيرانهم ممن هم غالبًا في سنّهم، وهذا لا بأس فيه إذا كان مضبوطًا بضوابط ومقيدًا بقيود سليمة، فيجب أن نكون منتبهين أشدَّ الانتباه إلى صحبة أبنائنا وبناتنا؛ فإن هذه الصحبة هي التي تحدد مستقبلهم وشخصيتهم، إن كانت هذه الصحبة صالحة وذات منشأ طيب فبها ونعمت، وإن كانت العكس فهذا أمر خطير يجب تداركه.
فإذا أرسلنا أولادنا وسمحنا لهم بالخروج من البيت للعب مع صحبتهم الصالحة ذات النشأة الطيبة فلنحذر من خروجهم في وقت نهى عنه الشرعُ الحكيم، وسبب نهيه هو انتشار الشياطين في ذلك الوقت خوفًا من تسلطهم على أبنائنا وإيذائهم لهم، فلقد حذرنا –صلى الله عليه وسلم- من هذا الأمر فقال: (لا ترسلوا فواشيكم وصبيانكم إذا غابت الشمس حتى تذهب فحمة العشاء فإن الشياطين تبعث إذا غابت الشمس حتى تذهب فحمة العشاء)[28]. قال ابن الجوزي: (إنما خيف على الصبيان في تلك الساعة لأن النجاسة التي تكون بها الشياطين موجودة معهم غالبًا، والذكر الذي يحرز منهم مفقود من الصبيان في ذلك الوقت، والحكمة في انتشارهم حينئذ أن حركتهم في الليل أمكن منها لهم في النهار؛ لأن الظلام أجمع للقوى الشيطانية من غيره وكذلك كل سواد، ولهذا قال في حديث أبي ذر (فما يقطع الصلاة؟ قال الكلب الأسود شيطان) أخرجه مسلم انتهى.
فينبغي حبس الأطفال عند غروب الشمس وعدم تعريضهم لتفلت الشياطين في هذا الوقت، والله الموفق.
سابعًا- عدم رقية الأولاد بالرقية الشرعية الواردة عنه –صلى الله عليه وسلم- في الأحاديث الصحيحة:(/13)
عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- قال: كان النبي –صلى الله عليه وسلم- يعوّذ الحسن والحسين: (أعيذكما بكلمات الله التامّة، من كل شيطان وهامّة، ومن كل عين لامّة، ثم يقول: كان أبوكم يعوّذ بهما إسماعيل وإسحاق)[29].
قوله: (كان أبوكم) يريد إبراهيم عليه السلام لكونه جدًّا أعلى.
قوله: (بكلمات الله التامّة) قيل المراد بها كلامه على الإطلاق، وقيل أقضيته، وقيل ما وعد به كما قال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الأعراف: 137]، والمراد بها قوله تعالى: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ} [القصص: 5]، المراد بالتامّة الكاملة، وقيل النافعة، وقيل الشافية، وقيل المباركة، وقيل القاضية التي تمضي وتستمر ولا يردها شيء ولا يدخلها نقص ولا عيب.
قال الخطابي: كان أحمد يستدل بهذا الحديث على أن كلام الله غير مخلوق، ويحتج بأن النبي –صلى الله عليه وسلم- لا يستعيذ بمخلوق.
قوله: (من كل شيطان) يدخل تحته شياطين الإنس والجن.
قوله: (وهامّة) بالتشديد واحدة الهوام ذوات السموم، وقيل كل ما له سم يقتل، فأمّا ما لا يقتل سمّه فيقال له السَّوام، وقيل المراد كل نسمة تهم بسوء.
قوله: (من كل عين لامّة) قال الخطابي: المراد به كل داء وآفة تُلِمُّ بالإنسان من جنون وخبل، وقال أبو عبيد: أصله من ألممت إلمامًا، وإنما قال (لامّة) لأنه أراد ذات لمم، وقال ابن الأنباري: يعني أنها تأتي في وقت بعد وقت، وقال (لامّة) ليؤاخي لفظ (هامّة) لكونه أخف على اللسان.
ثامنًا- عدم إغلاق الأبواب عند النوم وذكر اسم الله عليها وإطفاء المصابيح وعدم تخمير الآنية:(/14)
لقد أرشدنا –صلى الله عليه وسلم- إلى أمور قد يؤدي إهمالها إلى تسلط الشياطين وإيذائهم فقال: (إذا كان جنح الليل أو أمسيتم فكفوا صبيانكم فإن الشياطين تنتشر حينئذ، فإذا ذهب ساعة من الليل فخلّوهم فأغلقوا الأبواب واذكروا اسم الله فإن الشيطان لا يفتح بابًا مغلقًا، وأوكوا قربكم واذكروا اسم الله، وخمرّوا آنيتكم واذكروا اسم الله، ولو أن تعرُضوا عليها شيئًا، وأطفئوا مصابيحكم)[30]. وفي رواية أخرى عن جابر -رضي الله تعالى عنه- قال: (خمروا الآنية، وأوكوا الأسقية، وأجيفوا الأبواب، واكفتوا صبيانكم عند العشاء؛ فإن للجن انتشارًا وخطفةً، وأطفئوا المصابيح عند الرقاد؛ فإن الفويسقة ربما اجتَّرت الفتيلة فأحرقت أهل البيت)[31] قال ابن جريج وحبيب عن عطاء: فإن للشياطين.
1- إغلاق الأبواب:(/15)
قال ابن حجر في الفتح: قوله (وأغلقوا الأبواب) في رواية المستملي والسرخسي (وغَلِّقُوا) بتشديد اللام، وتقدم في الباب الذي قبله بلفظ (أجيفوا) بالجيم والفاء وهي بمعنى أغلقوا وتقدم شرحها في باب ذكر الجن وكذا بقية الحديث. قال ابن دقيق العيد: في الأمر بإغلاق الأبواب من المصالح الدينية والدنيوية حراسة الأنفس والأموال من أهل العبث والفساد ولا سيّما الشياطين، وأما قوله (فإن الشيطان لا يفتح بابًا مغلقًا) فإشارة إلى أن الأمر بالإغلاق لمصلحة إبعاد الشيطان عن الاختلاط بالإنسان، وخصَّهُ بالتعليل تنبيهًا على ما يخفى مما لا يطلّعُ عليه إلاّ مِن جانِبِ النبوة، قال: واللام في الشيطان للجنس إذ ليس المراد فردًا بعينه. وقال ابن دقيق العيد في شرح الإمام: ويحتمل أن يؤخذ قوله: (فإن الشيطان لا يفتح بابًا مغلقًا) على عمومه ويحتمل أن يخصُّ بما ذكر اسم الله عليه، ويحتمل أن يكون المنع لأمر يتعلق بجسمه، ويحتمل أن يكون لمانع من الله بأمر خارج عن جسمه، قال: والحديث يدل على منع دخول الشيطان الخارج، فأما الشيطان الذي كان داخلاً فلا يدل الخبر على خروجه، قال فيكون ذلك لتخفيف المفسدة لا لرفعها، ويحتمل أن تكون التسمية عند الإغلاق تقتضي طرد من في البيت من الشياطين، وعلى هذا فينبغي أن تكون التسمية من ابتداء الإغلاق إلى تمامه، واستنبط منه بعضهم مشروعية غلق الفم عند التثاؤب لدخوله في عموم الأبواب مجازًا. انتهى.
2- إكفاء الآنية أو تخميرها وذكر اسم الله عليها:
عن جابر -رضي الله تعالى عنه- قال سمعت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يقول: (غطوا الإناء وأوكوا السقاء؛ فإن في السنة ليلة ينزل فيها وباء لا يَمُرُّ بإناء ليس عليه غطاء، أو سقاء ليس عليه وكاء إلا نزل فيه من ذلك الوباء)[32].(/16)
قال النووي -رحمه الله تعالى-: قوله –صلى الله عليه وسلم- (فإن في السنة ليلة ينزل فيها وباء) وفي الراوية الأخرى (يومًا) بدل (ليلة)، قال الليث: فالأعاجم عندنا يتقون ذلك في كانون الأول.
(الوباء) يمدّ ويقصر، لغتان حكاهما الجوهري وغيره، القصر أشهر، قال الجوهري: جمع المقصور: أوباء، وجمع الممدود أوبية، قالوا: والوباء مرض عام يفضي إلى الموت غالبًا).
وجاء في الحديث عن أبي حُميَد الساعدي -رضي الله تعالى عنه- قال: أتيت النبي –صلى الله عليه وسلم- بقدح من لبن من النقيع ليس مخمرًا فقال: (ألا خمرته ولو تعرُضُ عليه عودًا)، قال أبو حميد: إنما أمر بالأسقية أن توكأ ليلاً، وبالأبواب أن تغلق ليلاً[33].
قال النووي: قوله (أبو حميد) وهو الساعدي راوي هذا الحديث: (إنما أمر بالأسقية أن توكأ ليلاً وبالأبواب أن تغلق ليلاً) هذا الذي قال أبو حميد من تخصيصهما بالليل، ليس في اللفظ ما يدل عليه، والمختار عند الأكثرين من الأصوليين وهو مذهب الشافعي وغيره -رضي الله عنهم- أن تفسير الصحابي إذا كان خلافَ ظاهر اللفظ ليس بحجة، ولا يلزم غيرَه من المجتهدين موافقتُه على تفسيره، وأما إذا لم يكن في ظاهر الحديث ما يخالفُه بأن كان مجملاً فيرجع إلى تأويله، ويجب الحملُ عليه؛ لأنه إذا كان مجملاً لا يحلّ له حملُه على شيء إلا بتوقيف، وكذا لا يجوز تخصيصُ العموم بمذهب الراوي عند الشافعي والأكثرين، والأمرُ بتغطية الإناء عام فلا يقبل تخصيصه بمذهب الراوي، بل يتمسك بالعموم.(/17)
وقال في فيض القدير: (وأوكئوا قربكم) سدوا أفواهها بنحو خيط، (واذكروا اسم الله) على ذلك؛ فإنه السور العظيم والحجاب المنيع الدافع للشيطان والوباء والحشرات والهوام، والأولى أن يقال ما ورد: بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء، و(خمروا) غطوا (آنيتكم) جمع قلّة وجمع الكثرة (أواني)، (واذكروا اسم الله) عليها؛ فإنه السور العظيم والحجاب المنيع بين الشيطان والإنسان، ولو شاء ربك لكان الغطاء كافيًا أو ذكر اسم الله كافيًا، لكنه قرن بينهما ليُعلم كيفية فعل الأسباب في دارها، وليبين أنها إنما تفعل بذكر الله عليها لا بذاتها (ولو أن تعرضوا) بفتح أوله وضم الراء وكسرها، والأول كما قاله العيني أصح، والمذكور بعد (لو) فاعل مقدر، أي ولو ثبت أن تعرضوا أي تضعوا (عليه) الإناء (شيئًا) أي على رأسه. قال الطيبي: جواب (لو) محذوف أي لو خمرتموها عرضًا بشيء كعود وذكرتم اسم الله عليه كان كافيًا، والمقصود أن يجعل نحو عود على عرضه، فإن كان مستدير الفم فهو كله عرض وإن كان مربعًا فقد يكون له عرض وطول فيجعله عليه عرضًا لا طولاً، والمراد وإن لم يغطه فلا أقل من ذلك أو إن فقدتم ما يغطيه فافعلوا المقدور ولو أن تجعل عليه عودًا بالعرض، وقيل المعنى: اجعلوا بين الشيطان وبين آنيتكم حاجزًا، ولو من علامة تدل على القصد إليه، وإن لم يتول الستر عليه، فإنها كافية مع ذكره عاصمة بقضاء الله وأمره، وقد عمل بعضهم بالسنة فأصبح والأفعى ملتفة على العود انتهى[34].(/18)
وفي المنتقى شرح الموطأ: وقوله –صلى الله عليه وسلم-: (وأوكئوا السقاء) اربطوه، وقوله –صلى الله عليه وسلم-: (وأكفئوا الإناء) معناه اقلبوه، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: (أو خمروا الإناء) يحتمل أن يكون شكًا من الراوي، والأظهر أنه لفظ النبي -صلى الله عليه وسلم- وأن معناه أكفئوه إن كان فارغًا، أو خمروه إن كان فيه شيء؛ فإن ذلك يمنع الشيطان أن يتناول شيئًا مما في المملوء أو يتبع شيئًا مما في الفارغ من بقية أو رائحة، وقد روي عن جابر بن عبد الله: جاء رجل يقال له أبو حميد بقدح من لبن من البقيع، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ألا خمّرته ولو أن تعرض عليه عودًا، وروى القعقاع بن حكيم عن جابر هذا الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: غطوا الإناء فإن في السنة ليلةً ينزل فيها وباءٌ لا يمر بإناء ليس عليه غطاء، أو سقاء ليس عليه وكاء إلا نزل به من ذلك الوباء، قال الليث: والأعاجم عندنا يتقون ذلك في كانون الأول. انتهى[35].
3- إطفاء المصابيح عند النوم:(/19)
جاء الأمر منه –صلى الله عليه وسلم- بإطفاء المصابيح عند النوم؛ فقال: (وأطفئوا مصابيحكم)[36]، وفي رواية (إذا نمتم فأطفئوا سُرُجكم)[37]، وإذا قال قائل ما عَلاقةُ إطفاء المصابيح والسرج بتسلط الشياطين؟ فنجيب عن هذا بتعليله –صلى الله عليه وسلم- عندما أمر أهلَ بيتٍ كان عندهم بإطفاء السراج؛ فعن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- قال: جاءت فأرةٌ فأخذت تجر الفتيلة فجاءت بها فألقتها بين يدي رسول الله–صلى الله عليه وسلم- على الخمرة التي كان قاعدًا عليها، فأحرقت منها مثل موضع الدرهم فقال: (إذا نمتم فأطفئوا سرجكم؛ فإن الشيطان يدل مثل هذه على هذا فتحرقكم)[38]، فهذا تعليل واضح منه –صلى الله عليه وسلم- لحكمة إطفاء المصابيح والسرج عند النوم، لحماية بيوت المسلمين من احتراقها بالنار، وهناك كلام لأهل العلم يجب ذكرُه ولا يسعنا إهمالُه فيما يخصُّ أنواع المصابيح التي جاء الأمر بإطفائها قبل النوم أو عنده:
قال النووي -رحمه الله تعالى-: هذا عام يدخل فيه نار السراج وغيره، وأما القناديل المعلقة فإن خيف بسببها حريق دخلت في ذلك، وإن حصل الأمنُ منها كما هو الغالب فلا بأس بها لانتفاء العلّة.
وقال ابن دقيق العيد -رحمه الله تعالى-: إذا كانت العلّة من إطفاء السراج الحذر من جر الفويسقة الفتيلة فمقتضاه أن السراج إذا كان على هيئة لا تصل إليها الفأرة لا يمنع إيقاده، كما لو كان على منارة من نحاس أملس لا يمكن للفأرة الصعود إليه، أو يكون مكانه بعيدًا عن موضع يمكنها أن تثب منه إلى السراج، قال: وأما ورود إطفاء النار مطلقًا كما في حديثي ابن عمر وأبي موسى وهو أعم من نار السراج– فقد يتطرق منه مفسدةٌ أخرى غير جر الفتيلة؛ كسقوط شيء من السراج على بعض متاع البيت، وكسقوط المنارة فينتشر السراج إلى شيء من المتاع فيحرقه، فيحتاج إلى الاستيثاق من ذلك، فإذا استوثق بحيث يؤمن الإحراق فيزول الحكم بزوال علته. انتهى(/20)
قلت: وهذه الأشياء التي فيها نار، يدخل فيها ما هو موجود في عصرنا من أسطوانات للغاز، والمجمرة التي تستعمل للبخور، وآلات كي الملابس، والسخانات الحرارية، والمدافئ التي تستعمل في الشتاء، ومنها ما يشتعل بالوقود (الديزل) في بعض الدول، ومنها توقد بالخشب ومنها كهربائية، وكل شيء يدخل في هذا الباب فيجبُ إطفاؤه قبل النوم تجنبًا للحرائق.
قال الطبري -رحمه الله تعالى-: في هذا الحديث الإبانة على أن من الحق على من أراد المبيت في بيت ليس فيه غيره وفيه نار أو مصباح ألا يبيت حتى يطفئه أو يحرزه بما يأمن به إحراقه وضره، وكذلك إن كان في البيت جماعة، فالحق عليهم إذا أرادوا النوم ألا ينام آخرُهم حتى يفعل ما ذكرت؛ لأمر النبي –صلى الله عليه وسلم- بذلك، فإن فرط في ذلك مفرط فلحقه ضرر في نفس أو مال، كان لوصية النبي لأمته مخالفًا ولأدبه تاركًا. انتهى[39]. والله تعالى أعلم وأحكم.
تاسعًا- سفر الرجل والرجلين وحدهما، ومبيت الرجل في بيت ليس فيه غيره (الوحدة):
إن من الأمور التي تساعد الشياطين وتقويهم في تسلطهم على العباد (الوحدة) وابتعاد المؤمن عن الجماعة، فإن الجماعة تقوي وتصد أي عدوان سواء كان من شياطين الجن أو شياطين الإنس، لذلك يحرص أعداءُ الله على تفرقة المسلمين وتحزبهم ليتمكنوا من السيطرة والسيادة عليهم.
ولقد حذر –صلى الله عليه وسلم- أصحابه من الوحدة والتفرقة، وأمرهم بلزوم الجماعة فقال: (يد الله على الجماعة)[40]، وجاء عن ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما-: (نهى عن الوحدة: أن يبيت الرجل وحده)[41]، وقال –صلى الله عليه وسلم-: (لو يعلم الناس ما في الوحدة ما أعلم، ما سار راكبٌ بليل وحده)[42]، وليس ذاك فحسب؛ فقد حذر –صلى الله عليه وسلم- من خلو الرجل بالمرأة وحدهما، وعلل ذلك بكون الشيطان ثالثهما، وهو مظنّة وقوع الفاحشة بينهما فقال: (ألا لا يخلوَنَّ رجلٌ بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان)[43].(/21)
وأما بالنسبة للسفر فقد جاء تقييد الوحدة بالرجلين بدل الواحد والبيان أن المسافر المنفرد والمسافرين المنفردين هما بنفس الحكم إلاّ أن ينضم إليهما ثالث فيخرجان من دائرة النهي، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (الراكب شيطان والراكبان شيطانان والثلاثة رَكْب).
قال الشيخ الألباني -رحمه الله تعالى- في سلسلته الصحيحة 1/92: بعد أن ذكر طرق تخريج الحديث والحكم عليه:
وفي هذه الأحاديث تحريم سفر المسلم وحده، وكذلك لو كان معه آخر لظاهر النهي وفي الحديث الذي قبل هذا، ولقوله فيه (شيطان) أي عاصٍ، كقوله تعالى: {شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ} فإن معناه عصاتهم كما قال المنذري.
وقال الطبري: هذا زجرُ أدب وإرشاد لما يخاف على الواحد من الوحشة، وليس بحرام، فالسائر وحده بفلاة والبائت في البيت وحده لا يأمن من الاستيحاش، لا سيما إن كان ذا فكرة رديئة وقلب ضعيف، والحق أن الناس يتفاوتون في ذلك، فوقع الزجر لحسم المادة، فيكره الانفراد سدًا للباب، الكراهة في الاثنين أخف منها في الواحد (ذكره المناوي في الفيض).
قال الألباني: ولعل الحديث أراد السفر في الصحاري والفلوات التي قلما يرى المسافر فيها أحدًا من الناس، فلا يدخل فيها السفر اليوم في الطرق المعبدة الكثيرة المواصلات والله أعلم، ثم إن فيه ردًا صريحًا على خروج بعض الصوفية إلى الفلاة وحده للسياحة وتهذيب النفس زعموا!! وكثيرًا ما تعرضوا في أثناء ذلك للموت عطشًا وجوعًا، أو لتكفّف أيدي الناس كما ذكروا في الحكايات عنهم، وخيرُ الهدي هدي محمد –صلى الله عليه وسلم-.
عاشرًا - عدم التحصن بالأذكار لدفع تسلط الشيطان:(/22)
لقد حثنا شرعُنا الحنيف على ذكر الله -عز وجل- في كل الأحيان، وجاء في ذلك الأحاديث والآيات والوصايا الكثيرة فقد كان –صلى الله عليه وسلم- يذكر الله تعالى على كل أحيانه، كما ورد عن عائشة -رضي الله عنها- ولقد أوصى –صلى الله عليه وسلم- أصحابه بذكر الله تعالى، وحثهم عليه في حياتهم وحتى عند الموت فقال: (خير العمل أن تفارق الدنيا ولسانك رطب من ذكر الله)[44] لما يعلم –صلى الله عليه وسلم- من أهمية الذكر في وقاية المسلم من الشياطين، وماله من الأثر الكبير في إبطال حيلهم وكيدهم، وأن الذي لا يذكر الله -عز وجل- ويغفل عن ذلك ويعرض، يقيض الله عز وجل له شيطانًا، فيصبح له قرينًا كما قال تعالى: {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف: 36]، فعلى المسلم أن يحافظ على الأذكار؛ لأنها هي الحصن المنيع الذي يحميه من الشياطين ومن كل مكروه، كما جاء في الخبر: (وآمركم بذكر الله كثيرًا، ومثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو سراعًا في أثره حتى أتى حصنًا حصينًا فأحرز نفسه فيه، وكذلك العبد لا ينجو من الشيطان إلا بذكر الله)[45].
فإذًا يا أخي الكريم قد علمت مما ذكر آنفًا من الأدلة أن خلاصك وأهل بيتك من تسلط الشياطين سواء كانوا من الإنس أو الجن والوقاية من شرهم وأذاهم، يكون بتحصنك بذكر الله -عز وجل- والمداومة على ذلك، وها نحن أولاء ندلك على بعض تلك الأذكار، وننصحك بالتوسع في ذلك بالرجوع إلى الكتب المختصة بها وقراءتها أنت وأهل بيتك.
فصل - فمن الأذكار الواقية بإذن الله تعالى:
1- أذكار الصباح والمساء:(/23)
ومنها قوله –صلى الله عليه وسلم-: (من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب، وكتب له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزًا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأتِ أحدٌ بأفضلَ مما جاء به إلا رجلٌ عمل أكثر منه)[46].
2- أذكار الدخول للمنزل والخروج منه:
ومنها عن أنس -رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: (إذا خرج الرجل من بيته فقال: بسم الله توكلت على الله ولا حول ولا قوة إلا بالله، يقال له حسبك؛ هُديت وكُفيت ووُقيت، وتنحى عنه الشيطان)[47]، ورواه أبو داود ولفظه قال: (إذا خرج من بيته فقال: بسم الله توكلت على الله لا حول ولا قوة إلا بالله يقال له حينئذ هديت وكفيت ووقيت وتنحى عنه الشيطان فيقول له شيطان آخر كيف لك برجل هدي وكفي ووقي).
ومنها قوله: (إذا دخل الرجل بيته فذكر اسم الله تعالى حين يدخل وحين يطعم قال الشيطان: لا مبيتَ لكم ولا عشاء هاهنا، وإن دخل فلم يذكر اسم الله عند دخوله قال الشيطان: أدركتم المبيت وإن لم يذكر اسم الله عند مطعمه قال: أدركتم المبيت والعشاء)[48].
3- الذكر عند دخول المسجد وعند الخروج منه:
-عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه-: مرفوعا: (إذا دخل أحدكم المسجد فليسلم على النبي وليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك وإذا خرج فليسلم على النبي وليقل: اللهم اعصمني من الشيطان)[49].
-وعن حيوة بن شريح قال: لقيت عقبة بن مسلم فقلت له: بلغني أنك حدثت عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- كان يقول إذا دخل المسجد: (أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم) قال: أقط؟ قلت: نعم، قال: فإذا قال ذلك قال الشيطان: حفظ مني سائر ذلك اليوم[50].
4- التسمية عند الأكل والشرب واللباس والجماع وعند فعل كل أمر مستحب:(/24)
- عن حذيفة -وهو ابن اليمان رضي الله تعالى عنه- قال: كنا إذا حضرنا مع النبي –صلى الله عليه وسلم- طعامًا لم نضع أيدينا حتى يبدأ رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فيضع يده، وإنّا حضرنا معه مرّة طعامًا، فجاءت جارية كأنها تدفع، فذهبت لتضع يدها في الطعام، فأخذ رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بيدها، ثم جاء أعرابي كأنما يدفع، فأخذ بيده، فقال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: (إن الشيطان يستحل الطعام أن لاّ يذكر اسمُ الله عليه، وإنه جاء بهذه الجارية ليستحل بها، فأخذت بيدها، فجاء بهذا الأعرابي ليستحل به، فأخذت بيده، والذي نفسي بيده إنّ يده في يدي مع يدها)[51].
- وعن ابن عباس -رضي الله تعالى عنه-: (لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال: بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، فإنه إن قضي بينهما ولدٌ من ذلك لم يضره الشيطانُ أبدًا)[52].
- وفي الثياب: (ستر ما بين أعين الجن وعورات بني آدم إذا وضع أحدُهم ثوبه أن يقول: بسم الله)[53].
5- الذكر عند دخول الخلاء والخروج منه:
- (إن هذه الحشوش محتضَرة؛ فإذا أتى أحدكم الخلاء فليقل: أعوذ بالله من الخبث والخبائث)[54].
- (سترُ ما بين أعين الجن وعورات بني آدم إذا دخل أحدهم الخلاء أن يقول: بسم الله)[55].
- كان إذا خرج من الغائط قال: (غفرانك)[56].
6-الذكر عند النوم والاستيقاظ منه:
ومن أذكار النوم ما مرّ معنا سابقًا من قراءة آية الكرسي وسورة الإخلاص والمعوذتين والآيتين الأخيرتين من سورة البقرة.
وللنوم آداب وسنن من أراد معرفتها فليراجع الكتب التي تتكلم عن هديه –صلى الله عليه وسلم- في النوم وغيره. فإن فيها فوائدَ جمة وخيرًا كثيرًا يغفُل عنه كثيرٌ من المسلمين.
ونحن في هذا الموضوع سنذكر إن شاء الله فضيلةَ بعضها وعلاقتَه بدفع أذى الشيطان، ومن أراد التوسع فليرجع إلى ما أشرنا إليه آنفًا والله الموفق.(/25)
-عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: (يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاثَ عقد؛ يضرب مكانَ كل عقدة: عليكَ ليلٌ طويل فارقد، فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدةٌ، فإن توضأ انحلت عقدة، فإن صلى انحلت عقدُه كلها فأصبح نشيطًا طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان)[57].
- (إذا فزع أحدُكم من النوم فليقل: أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه وشر عباده، ومن هَمَزات الشياطين وأن يحضرون؛ فإنها لن تضره)[58].
- عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: (إذا استيقظ أحدكم من منامه فتوضأ فليستنثر ثلاث مرات؛ فإن الشيطان يبيت على خيشومه)[59].
فصل - حالات أمرنا رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فيها بمخالفة الشيطان:
1- في الأكل والشرب والأخذ والعطية:
(إذا أكل أحدُكم فليأكل بيمينه، وليشرب بيمينه، وليأخذ بيمينه، وليعط بيمينه؛ فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله ويأخذ بشماله ويعطي بشماله)[60].
2- في المشي ولُبس النعل:
(لا يمشِ أحدُكم في نعل واحدة ولا خف واحد، لينعلهما جميعًا أو ليخلعهما جميعًا)[61].
(إن الشيطان يمشي في النعل الواحدة)[62].
وعلة النهي عن المشي في النعل الواحدة هي التشبه بالشيطان؛ فإنها مشيته كما جاء في الحديث والله أعلم.
3- في الجلوس:
(نهى أن يجلس بين الضِحّ والظل وقال: مجلس الشيطان)[63].
معنى الحديث: يكره أن يجلس الرجل بين الظل والشمس؛ لأنه مقعد الشيطان، كما أنَّ له مضارَّ طبيةً أخرى.
4- في وقت النوم:
(قيلوا فإن الشياطين لا تقيل)[64].
والقيلولة هي الاستراحة نصف النهار بعد الظهر.
فصل - إرشاد النبي الكريم لكيفية هزم الشيطان الرجيم:(/26)
(إذا طعم أحدُكم فسقطت لقمتُه من يده فليُمِط ما رابه منها وليَطْعَمْها، ولا يدَعْها للشيطان، ولا يمسح يده بالمنديل حتى يلعَقَ يده، فإن الرجل لا يدري في أيِّ طعامه يُباركُ الله، فإن الشيطانَ يرصد الناس أو الإنسان على كل شيء حتى عند مطعمه أو طعامه، ولا يرفع الصحفة حتى يلعقَها أو يُلعقها، فإنَّ في آخر الطعام البركةَ)[65].
-عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: (إذا نودي بالصلاة أدبر الشيطانُ وله ضراط حتى لا يسمع التأذين، فإذا قضي الأذان أقبل، فإذا ثُوِّب أدبر، فإذا قضي التثويب أقبل، حتى يخطُِر بين المرء ونفسه، ويقول: اذكر كذا، اذكر كذا؛ لما لم يكن يذكر من قبل حتى يظل الرجلُ ما يدري كم صلى)[66].
- عن ابن مسعود -رضي الله تعالى عنه- قال: ذكر عند النبي –صلى الله عليه وسلم- رجلٌ نام ليلة حتى أصبح، قال: (ذاك رجل بال الشيطانُ في أذنيه، أو قال في أذنه)[67].
- عن عثمان بين أبي العاص أتى النبي –صلى الله عليه وسلم- فقال يا رسول إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي يَلْبِسُهَا علي، فقال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: (ذاك شيطان يقال له خِنْزَبٌ فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه واتفل على يسارك ثلاثًا)، قال: ففعلت ذلك فأذهبه الله عني[68].
- (إن الله وملائكته يصلون على الصف الأول، سووا صفوفكم، وحاذوا بين مناكبكم، وَلِينُوا في أيدي إخوانكم، وسدوا الخلل؛ فإن الشيطان يدخل فيما بينكم مثل الْحَذَف)[69].
الْحَذَف: يعني أولاد الضأن الصغار.
- عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: (إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد، اعتزل الشيطانُ يبكي يقول: يا ويله -وفي رواية: يا ويلي– أُمِِر ابنُ آدم بالسجود فسجد؛ فله الجنة، وأمرت بالسجود فأبيت؛ فلي النار)[70].(/27)
- عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: (لا يُشير أحدكم إلى أخيه بالسلاح؛ فإنه لا يدري لعل الشيطان يَنْزِع في يده فيقع في حفرة من النار)[71].
هذا ما تيسر جمعُه وبسطه في هذا الموضوع، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، أسأل الله الكريم رب العرش العظيم، أن يجعله خالصًا لوجهه، وأن ينفعني به والمسلمين فهو ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،،،
ــــــــــــــــــــــــــــ
[1] صحيح سنن النسائي (1578) عن جابر رضي الله تعالى عنه.
[2] رواه مسلم (1289) عن عائشة رضي الله تعالى عنها.
[3] السلسلة الصحيحة (1962) وهو حديث حسن كما قال الألباني رحمه الله تعالى.
[4] صحيح الجامع (992) عن سعد رضي الله تعالى عنه.
[5] صحيح الجامع (6297) عن أبي الدرداء – رضي الله تعالى عنه.
[6] صحيح الجامع (4569) عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما.
[7] البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه.
[8] صحيح أبي داود (4153) عن أبي طلحة.
[9] رواه البخاري عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما (5615).
[10] رواه البخاري ومسلم وغيرهما من حديث زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه.
[11] صحيح الجامع ( 2953).
[12] صحيح الجامع (3821) عن صهيب رضي الله تعالى عنه.
[13] صحيح الجامع (3823) عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه.
[14] متفق عليه من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما.
[15] صحيح مسلم عن جندب القسري (657-262).
[16] صحيح الجامع (6343) عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما.
[17] صحيح الجامع (7227) عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه.
[18] صحيح الجامع (4465) عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه.
[19] رواه البخاري (2311).
[20] مجمع الزوائد للهيثمي (13636) وقال رجاله رجال الصحيح إلا أن الشعبي لم يسمع من ابن مسعود ولكنه أدركه.
[21] صحيح الجامع (2756) عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه.(/28)
[22] صحيح الجامع (1060) عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه.
[23] السلسلة الصحيحة للألباني (2861).
[24] صحيح سنن النسائي (5430) صحيح أبي داود ( 1315).
[25] صحيح أبي داود ( 5056).
[26] صحيح الجامع (68) عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه.
[27] صحيح الجامع (6078) عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه.
[28] صحيح الجامع عن جابر رضي الله تعالى عنه (7278).
[29] رواه البخاري (3191) والترمذي (2138) وأبو داود (4737) وابن ماجه (3525) وغيرهم واللفظ لأبي داود.
[30] رواه البخاري (5300) عن جابر رضي الله تعالى عنه.
[31] البخاري (3138).
[32] رواه مسلم (2014).
[33] رواه مسلم ( 2010).
[34] الجزء الأول ص 542.
[35] جامع ما جاء في الطعام والشراب الجزء الرابع ص 333.
[36] تقدم تخريجه.
[37] صحيح أبي داود (5247).
[38] صحيح الجامع (816).
[39] شرح ابن بطال.
[40] صحيح الجامع (1848) عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما.
[41] صحيح الجامع (6919).
[42] البخاري (2836) عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما.
[43] صحيح الجامع (2546) عن عمر رضي الله تعالى عنه.
[44] السلسلة الصحيحة عن عبد الله بن بسر رضي الله تعالى عنه.
[45] رواه الترمذي والنسائي وابن خزيمة في صحيحه واللفظ له وابن حيان في صحيحه والحاكم وقال صحيح على شرط البخاري ومسلم.
[46] رواه البخاري (6040) ومسلم (2691) عن أبي هريرة واللفظ للبخاري.
[47] رواه الترمذي وحسنه (3426).
[48] صحيح الجامع (519) عن جابر رضي الله تعالى عنه.
[49] صحيح الجامع (514).
[50] صحيح أبي داود (466).
[51] رواه مسلم (3761).
[52] صحيح الجامع (5241) عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.
[53] صحيح الجامع (3610) عن أنس رضي الله تعالى عنه.
[54] صحيح الجامع (2263) عن زيد بن أرقم رضي الله تعالى عنه.
[55] صحيح الجامع (3611) عن علي رضي الله تعالى عنه.
[56] صحيح الجامع (4717) عن عائشة رضي الله تعالى عنها وعن أبيها.(/29)
[57] صحيح الجامع (8107).
[58] حسن، صحيح الجامع (701) عن ابن عمرو رضي الله تعالى عنهما.
[59] صحيح الجامع (330).
[60] صحيح الجامع (384) عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه.
[61] صحيح الجامع (7782) عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه.
[62] السلسلة الصحيحة ( 348).
[63] صحيح الجامع (6823) عن رجل من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام.
[64] حسن، صحيح الجامع (4431) عن أنس رضي الله تعالى عنه.
[65] السلسلة الصحيحة (1404) ويليه تعليق للشيخ الألباني رحمه الله تعالى مهم ومفيد فمن شاء فليطلع عليه.
[66] صحيح الترغيب والترهيب للألباني (240).
[67] رواه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه وقال في أذنيه على التثنية من غير شك.
[68] مسلم ( 4083).
[69] صحيح الجامع (1840) عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه.
[70] رواه مسلم (81).
[71] رواه البخاري (6661) ومسلم (2617).(/30)
العنوان: وقرأتُ فيهنَّ بُكائي !
رقم المقالة: 118
صاحب المقالة: لبابة أبو صالح
-----------------------------------------
" الحبُّ غيثٌ غائبٌ .. و الأرواحُ هلكتْ جوعًا "
نزلتُ من جنتي , و كأنني أرتدُّ أعوامًا إلى الماضي السحيق , و لكن بجسدٍ مختلفٍ و رأسٍ أحملهُ معي جميعه أينما ذهبت ..
بدتْ الأشياءُ صغيرةً على غير عهدي بها ؛
فالمدرسةُ ضيقة و الفتياتُ صغيراتٌ , و بعضي يحملني لأسير بينهن و يتأملنني و كأنني من المريخِ ..
سرتُ في الأروقةِ و الوجوهُ تسحبني إلى وجهٍ كنتُ ألبَسُهُ أيامَ كنتُ مثلهن ..
و بدتْ دمعتي تنبتُ في وجدانٍ قديمٍ , و قدْ تحوَّلتُ إلى كبيرةٍ !!
لستُ أحكي قصتي مع هذا العالمِ , فقدْ كانتْ عادية جدًّا ,
الصباحُ و التأنق ثمَّ التأملُ في وجوههن الشاحبة ..
كان كل هذا عاديًّا إلى درجةٍ جعلت دمعتي تنمو كشوكةٍ في حلقي .. وأبتلعها مع كلِّ شهيق جديد !
بدأ البكاءُ فعلا حين دخلتُ الفصل للتعرف على الطالباتِ ..
لا أذكر أنني تعبتُ في ذبِّ الفوضى خارجًا ,
و لكن عيونهن المحملقة بلا استحياءٍ في وجهي ,
و ابتساماتهن المشرعَة المخبئة نكاتٍ و عباراتٍ ساخرة,
كانت صعبةً علي لعِظَمِ خوائها !..
بعد دقائق قلةٍ أحببتهن برغم كلِّ الشغبِ الذي مارسنه , و كلِّ الأسئلةِ الوقحةِ التي طرحنها,
و برغم أصواتِهنَّ الصاخبةِ و ثرثرتهن الشقية ..
أحببتهن لِسرٍّ فيهن إلى حدِّ أني أشفقت على نفسي من هذا الحبِّ !
دار بيننا حديثٌ عن القراءةِ و العقل، و أن الإنسانَ يعبر عن نفسه وعليه أن يحسن في هذا التعبير ,
و أن خلف ملامحهن المشاغبة عملقةً مُشرقة ..
سكتنَ و كأنهن ينبشن معي عن أنفسهن , و قد أحببنَ هذه اللعبةَ ..
حاورنني .. حتى لمعتْ في عيونهن أنوارُ التأملِ فيما أقول ,
و تقلصتْ ابتساماتهن .. و أصغينَ ببراءةٍ بدأتْ تطفو على ملامحَ كانت باهتةً شاحبة !(/1)
انتهى زمن الحصة , ولوَّحتُ بابتسامةٍ مُحبَّةٍ لهنَّ أني سأخرج ..
لكنَّ الكلمةَ البيضاءَ كانت قد تحوَّلت إلى سنابل قمحٍ ذهبيةٍ في أرواحهن ..
فهمسن معاً و كأنهن مُتفقات :
" ابقي يا أستاذة .. نريدك .. فكلامك حلو جدّاً " ..
و انفجرَت ذاتي تبكي , إذ أثمر حُبي حُبًّا ذهبيا .. ويلاهُ و ويلي من فتنته !
و خلوتُ بعدها أقرعُ صمتي بسؤالٍ مُتعبٍ :
" أين يخبئ الكبار الحبَّ عن هذه الأرواح الغضة ,
لنقابلَها و كأنها أشباحُ طفولةٍ مسروقة .. لا براءةً تستوجبها الطفولة .. "
محزنٌ هذا العالَمُ .. جِدًّا .. جِدًّا !!(/2)
العنوان: الرجل الصغير
رقم المقالة: 119
صاحب المقالة: أحمد صوان
-----------------------------------------
تَنَفَّسَ الصَّباحُ، وَأَشْرَقَتِ الْحارَةُ الْقَدِيمَةُ الَّتِي يَقْطُنُ فِيهَا هَمَّام...
تَهَيَّأ للْخُرُوجِ إِلَى الْمَدْرَسَةِ، وبَدَأَ يَأْكُلُ بِبُطْءٍ، ثُمَّ أَخَذَ يَلْبَسُ بِكَسَلٍ، وَهُوَ شَارِدُ الذِّهْنِ...
قَالَ لَهُ أَبُوهُ: مَا بِكَ يَا هَمَّامُ؟ أَأَنْتَ مَرِيضٌ؟ هَلْ تَشْكُو مِنْ شَيءٍ لا قَدَّرَ الله؟
هَمَّام: لا يَا أَبِي، لا أَشْكُو مِنْ شَيءٍ وَالْحَمْدُ للهِ، وَلَكِنْ...
الأَبُ: مَالَكَ إِذَنْ يَا بُنَيَّ؟
هَمَّام: (مُتَرَدِّدًا) سَأُخْبِرُكَ عِنْدَمَا أَعُودُ مِنَ الْمَدْرَسَةِ.
الأبُ: يَجِبُ أَنْ تُخْبِرَنِي بِوُضُوحٍ، فَأَنْتَ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ مُنْذُ أَيَّامٍ.
هَمَّام: كَمَا تُرِيدُ يَا أَبَتِ.
الأبُ: حَسَنًا، وَفَّقَكَ اللهُ يَا بُنَيَّ، انْتَبِهْ فَي طَرِيقِكَ وَفِي دُرُوسِكَ، مَعَ السَّلامَة.
خَرَجَ هَمَّامٌ مِنَ الْبَيتِ مُسْرِعًا بَعْدَ أَنْ ودَّع أَبَوَيهِ، وَطَلَبَ الدُّعَاءَ مِنْهُمَا. وَفِي أَثْنَاءِ عَودَتِهِ أَخَذَ يَتَسَاءَلُ فِي نَفْسِهِ (عَمَّ أُحَدِّثُ وَالِدِي؟ عَنْ أُسْتَاذِ التَّارِيخِ الْجَدِيدِ؟ أَمْ عنْ جَارِنَا الْجَدِيدِ الَّذِي اشْتَرَى مَحَلاًّ مِنْ مُخْتَارِ مَحَلَّتِنَا؟ أَمْ عَنْ صَدِيقِي عِمْرَانَ فِي الصَّفِّ؟).
وَصَلَ الْبَيتَ، وَبَعْدَ أَن ارْتَاحَ قَلِيلاً، دَخَلَ وَالِدُهُ عَلَيهِ...
الأبُ: كَيفَ أُمُورُكَ فِي الْمَدْرَسَةِ يَا هَمَّامُ؟
همّام: الْحَمْدُ للهِ، جَيِّدَةٌ. وَلَكنْ...
الأب: وَلَكِنْ مَاذَا؟ تَابِعْ يَا بُنَيَّ، وَعَدْتَنِي أَنْ تُخْبِرَنِي بالأمرِ الَّذي يُزْعِجُكَ.
الابن: كَثُرَتِ الأُمُورُ الْمُزْعِجَةُ يَا أَبَتِ.(/1)
الأب: أَخْبِرْنِي بِهَا وَاحدَةً وَاحِدَةً، فَلَيسَ مِنْ عَادَتكَ أَنْ تَكْتُمَ عَنِّي مَا يُزْعِجُكَ، فَالْخُطُوطُ الْهَاتِفِيَّةُ فِيمَا بَينَنَا مُتَّصلةٌ دائمًا! أَلَيسَ كَذَلِكَ؟ أَخْبِرْنِي بِهَا فَكُلِّي آذَانٌ مُصْغِيَةٌ.
الابن: مَا تَقُولُهُ صَحِيحٌ يَا أَبَتِ. أُسْتَاذُ التَّارِيخِ فِي إِجَازَةٍ طَوِيلَةٍ؛ لأَنَّهُ مَرِيضٌ – عَافَاهُ اللهُ – فَجِيءَ بِأُسْتَاذٍ بَدِيلٍ مُنْذُ مُدَّةٍ، وَهُوَ لا يَشْرَحُ الدَّرْسَ جَيِّدًا، وَلا يَسْمَعُ مِنَ الطُّلاَّبِ، وَلا يُجْرِي اخْتِبَارَاتٍ الْبَتَّةَ، وَهُوَ يَتَأَخَّرُ عَنْ دُرُوسِهِ، بَلْ هُنَاكَ أَمْرٌ هُوَ أَسْوَأُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ!
الأب (مُتَعَجِّبًا): مَاهُوَ؟
الابن: أُسْتَاذُنَا السَّابِقُ كَانَ يحملُنا فِي دُرُوسِهِ علَى الاعتِزازِ والفَخار بِمَا قَدَّمَهُ أَجْدَادُنَا لِبِلادِهِم، وَلِلْعَالَمِ أَجْمَعَ، وَبِمَا وَصَلُوا إِلَيهِ مِنَ الرُّقِيِّ وَالْحضَارَةِ، وَكُنَّا نَشْعُرُ أَنَّنَا حَفَدَةُ رِجَالٍ عُظَمَاءَ نَرْجُو أَنْ نَكُونَ مِثْلَهُمْ، وَيَحُثُّنَا عَلَى ذَلِكَ، أَمَّا هَذَا الأُسْتَاذُ الشَّابُّ فَلا يُشْعِرُنَا بِشَيءٍ مِنْ هَذَا، بَلْ يَقُولُ: "إِنَّهُمْ أُنَاسٌ عَادِيُّونَ، وَهُمْ رِجَالٌ وَنَحْنُ رِجَال...". وَكُنْتُ أُحِبُّ مَادَّةَ التَّارِيخِ لِمَا تُشْعِرُنِي بِهِ مِنَ الاعْتِزَازِ وَالافْتِخَارِ بِأَجْدَادِي، وَالآنَ أَمْسَيتُ لا أُطِيقُ دَرْسَ التَّارِيخِ!
سُرَّ وَالِدُ هَمَّامٍ بِابْنِهِ غَايَةَ السُّرُورِ، لَكِنَّهُ لَمْ يُظْهِرْ لَهُ ذَلِك تَمَامًا، وَشَعَرَ بِمَدَى حُبِّ هَمَّامٍ لأَجْدَادِهِ وَلِمَا صَنَعُوا، وَأَعْجَبَهُ هَذَا التَّحَرُّقُ وَهَذِهِ الْغَيرَةُ عَلَيهِم.(/2)
وَقَبْلَ أَنْ يُعَالِجَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ بِحِكْمَتِهِ الْمَعْرُوفَةِ مَعَ ابْنِهِ وَمَعَ الْمُدِيرِ وَالأُسْتَاذِ؛ أَحَبَّ أَنْ يَسْمَعَ سَائِرَ الأُمُورِ الَّتِي تُزْعِجُ وَلَدَهُ.
قَالَ الأَبُ وَقَد انْفَرَجَتْ أَسَارِيرُهُ: بَارَكَ اللهُ فِيكَ يَا بُنَيَّ، أَحْسَنْتَ، إِنَّ مَا تَقُولُهُ عَنْ أَجْدَادِكَ حَقٌّ، وَمَا قَالَهُ لَكَ الأُسْتَاذُ السَّابِقُ حَقٌّ أَيضًا، وَيَحِقُّ لَكَ أَنْ تَفْخَرَ وَتَزْهُوَ بِهِمْ، نَعَم يَحِقُّ لَكَ... وَلَكِنْ مَاذَا عِنْدَكَ أَيضًا؟ أَخْبِرْنِي.
همّام: جَارُنَا الْجدِيدُ يَا أَبِي.
الأَبُ: الْجَزَّارُ؟ مَا بِهِ؟
همام: أَنْتَ تَعْلَمُ – يَا أَبِي – أَنَّ مُخْتَارَ مَحَلَّتِنَا بَاعَ أَحَدَ مَحَلَّيهِ لِرَجُلٍ غَرِيبٍ قَبْلَ شَهْرَينِ، وَهَذَا الرَّجُلُ الْجَدِيدُ يَبِيعُ اللَّحْمَ، وَهُوَ الْوَحِيدُ فِي حَارَتِنَا الَّذِي يَبِيعُ اللَّحْمَ، وَكُنْتُ فِي السَّابِقِ أَشْتَرِي اللَّحْمَ مِنَ الْحَارَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْعَمِّ أَبِي أَمِين، وَهُوَ اسْمٌ عَلَى مُسَمًّى، فَلا يُغَالِي فِي السِّعْرِ، وَيَعْتَنِي بالنَّظَافَةِ اعْتِنَاءً فَائِقًا! وَلَكِنَّ مَحَلَّهُ بَعِيد...
وَهَذا الْجَزَّارُ الْجَدِيدُ مِنَ المُطَفِّفِينَ، فَهُوَ يَنْقُصُ الْوَزْنَ، وَلَحْمُهُ سَيِّئٌ، بالإِضَافَةِ إِلَى تَصَرُّفَاتِهِ الطَّائِشَةِ وَكَلامِهِ الْبَذِيءِ، وَالْبَارِحَةُ تَشَاجَرْتُ مَعَهُ، بَعْدَ أَنْ كَلَّمْتُهُ بِأَدَبٍ وَاحْتِرَام؛ لأَنَّنِي وَزَنْتُ اللَّحْمَ الَّذِي بَاعَنِي إِيَّاهُ عَلَى أَنَّهُ كِيْلٌ[1] فَلَمْ يَصِلْ إِلَى الْكِيْل، وَفَوقَ هَذَا كَانَ السِّعْرُ زَائِدًا عَلَى الْحَقِّ.
الأب: لا حَولَ وَلا قُوَّةَ إِلاَّ بِالله، أَصْلَحَهُ اللهُ، وَمَاذَا يُزْعِجُكَ أَيضًا؟(/3)
همّام: صَدِيقِي عِمْرَانُ. لكنَّ هَذَا الْمَوضُوعَ قَدْ حُلَّ الْيَومَ وَانْتَهَى.
الأب: عِمْرَانُ؟ ما قِصَّتُهُ؟ وَكَيف حُلَّ مَوضُوعُهُ؟
همّام: أَوقَعَ عِمْرَانُ بَينِي وبَينَ صَدِيقِي عَلِيٍّ، وَعِنْدَمَا وَجَدْتُ تَغَيُّرًا مِنْ عَلِيٍّ ناحيتي تَحَدَّثْتُ مَعَهُ، فَأَخْبَرَنِي عَمَّا قَالَهُ عِمْرَانُ عَلَى لِسَانِي مِنْ كَلامٍ لَمْ أَقُلْهُ، وَلَكِنَّ هَذَا الْمَوضُوعَ قَد انْتَهَى؛ لأَنَّنِي كَلَّمْتُ عِمْرَانَ، وَاعْتَذَرَ عَمَّا فَعَلَهُ، وَتَصَافَتِ الْقُلُوبُ، وَالْحَمْدُ لله...
الأب: يَا بُنَيَّ! إِنَّ الْخَيرَ فِي النَّاسِ كَثِيرٌ كَثِير، وَإِنْ لَمْ تَرَهُ عَينَاكَ فَلا تَحْزَنْ، وَقَدْ تُصَادِفُ فِي حَيَاتِكَ مُشْكِلاتٍ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ الَّذِي ذَكَرْتَهُ، بَلْ أَكْبَرَ مِنْهَا، فَوَطِّنْ نَفْسَكَ أَنْ تُحْسِنَ إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ وَإِنْ أَسَاؤُوا...
نَثَرَ الأَبُ كَلِمَاتِهِ هَذِهِ بَينَ يَدَي وَلَدِه وَانْصَرَفَ... انْصَرَفَ وَهُوَ يُفَكِّرُ كَيفَ سَيَلْتَقِي الْمُدَرِّسَ الشَّابَّ وَيَتَحَدَّثُ مَعَهُ بِأُسْلُوبٍ مُحَبَّبٍ يَسْتَجِيبُ فِيهِ لِلْحَقِّ، وَكَانَ يُفَكِّرُ بِالْجَزَّارِ كَذَلِكَ...
تَوَقَّعَ هَمَّامٌ مِنْ أَبِيهِ أَنْ يُطِيلَ الْكَلامَ، وَأَنْ يُعَالِجَ مَا يُزْعِجُهُ مُعَالَجةً تُرْضِيهِ، وَقَالَ فِي نَفْسِهِ: هُنَاكَ أَمْرٌ مَا يُفَكِّرُ فِيهِ والِدِي...
وَبَعْدَ مُدَّةٍ شَعَرَ هَمَّامٌ أَنَّ مُدَرِّسَ التَّارِيخِ الْجَدِيدَ أَصْبَحَ يَتَكَلَّمُ بِطَرِيقَةٍ تُشْبِهُ طَرِيقَةَ الأُسْتَاذِ السَّابِقِ، وَكَانَ مِمَّا قَالَهُ فِي بِدَايَةِ الدَّرْسِ:(/4)
((الرُّجُولَةُ – يَا أَبْنَائِي – صفَةٌ جَامِعَةٌ لِكُلِّ صِفَاتِ الشَّرَفِ، وَالْعَالِمُ الرَّجُلُ مَنْ أَدَّى رِسَالَتَهُ لِقَومِهِ، مِنْ طَرِيقِ عِلْمِهِ، لاَ يُبَالِي بِالْعَنَاءِ الَّذِي يَنَالُهُ فِي سَبِيلِ الْحَقِيقَةِ؛ لأَنَّهُ أَمِينٌ عَلَى الْحَقِّ...)).
وَرَأَى هَمَّامٌ أَنَّ الْجَزَّارَ قَدْ تَحَسَّنَتْ مُعَامَلَتُهُ وَاعتدَلَ مِيزَانُهُ، وَسَمِعَ مِنْهُ كَلامًا جَمِيلاً عَنِ الصِّدْقِ وَالأَمَانَةِ وَالْعَدْل.
عَادَ هَمَّامٌ إِلَى نَشَاطِهِ وَتَفَاؤُلِهِ بِعَزِيمَةٍ أَقْوَى مِنَ السَّابِقِ، وَلَمْ يَنْسَ مَعْرُوفَ أَبِيهِ الْحَكِيم...
____________________________
[1] الْكِيلُ: هو الكيلو.(/5)
العنوان: وَقَفاتٌ للتواصي على أعتاب العام الهجري الجديد
رقم المقالة: 1950
صاحب المقالة: مريم قول آغاسي
-----------------------------------------
وقفة للتواصي..
معَ إشراقةِ العام الجديد.. وعبرَ الكلمة المؤمنة الهادفة، والفكرة التي يُراد لها -بعونه سبحانه- أن تساعد على البناء وتوضح الرؤية، نود أن نراجع مع الإخوة والأخوات رصيدَ الكلمة المؤمنة في كِيان هذه الأمة..
لنقف وقفة التواصي... لنتبين مواقع أقدامنا من الطريق الطويل الذي يُفترض أن يكون دائمًا على هدي من ميراث النبوة، مما أكرم الله به أمتنا المحمدية، وأرسى بهداه قواعدَ خيرتها في العالمين..
علَّ هذه الوقفة تكون سببًا في تحريك الهمم واستنهاض العزائم للتمسك الجاد بكتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- مصدرِ العزة والقوة والتوفيق في الدارين، والخير والسعادة في الحياتين.......
وعلَّها تكون محركاً فاعلاً لمراجعة الذات، وتدقيق الحسابات، وتحديد الرؤى والمواقف، وتقويم المسيرة لتستعيد الأمة تاريخها المجيد ومجدها التليد، وما امتازت به من عالمية فريدة، وحضارة عريقة، بوأتها الطليعةَ بين أمم الأرض قاطبة، والإنسانية جمعاء.
وقفة للتواصي..
وحتى نكون -كما أراد لنا رسول الله- استمرارًا للقافلة الخيّرة التي تحمل عبءَ الدعوة بكل شُعَبِها قولاً وعملاً وسلوكًا... بالبيان.. بالكلمة.. بحسن الأسوة عملاً بقول الله تبارك وتعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 104]، وإذا سرنا مع الجمهور القائل بأن (مِن) هنا بيانية؛ فمعنى ذلك أن القيام بشان الدعوة واجب على هذه الأمة بمجموعها وجوبًا كفائيا؛ إذا لم تقم به كان كلُّ فرد منها آثمًا مقصرًا في الاستجابة لكلمة الله.. كما أنَّ فرضَ عين على الأمة أن يكون منها طائفةٌ مخصصة للقيام بشؤون هذه الدعوة...(/1)
إن الرسول -عليه الصلاة والسلام- قام بأمر الدعوة بالكلمة والعمل... وفتح لها مغاليقَ النفوس بالسلوك وحسن الأسوة.. ومكن لها في الأرض بالجهاد في سبيل الله... ولم يقف عند هذا الحد.. فسيرتُه عليه الصلاة والسلام بين ظهراني الناس دعوةٌ عملية واضحة المعالم مشرقة الأفاق... بدءًا من عهده بالرسالة وما قبل ذلك... ومرورًا بحياة حافلة بالعمل والصبر والمصابرة وممارسة الحياة بشتى ألوانها الاجتماعية والسياسية، وهجرته صلى الله عليه وسلم، وانتهاءً بإرساء القواعد التي تكفُل لهذه الأمة -لو التزمت بها وعملت بمقتضاها- سعادةَ الدنيا والآخرة وقيادةَ العالمين.. إذ تملك ما به تنقذ البشرية من وَهْدةٍ لا يعلم آمادَها إلا الله.
ولذا فإن ذكرى الهجرة تكون تحفيزا لمتابعة الطريق..
لعلَّ من أهم القضايا الجديرة بالتواصي على صعيد البناء الفكري ضرورةَ الرؤية عند المسلم، كما يجب أن نستبين أبعادَ الأمور في هذا العصر الذي اختلطت فيه المفاهيمُ والتبس الفكرُ المطروح بالمصالح القريبة أو البعيدة لأصحابه، وانتشرت على أرض الواقع عناوينُ دعية النسب لما تحتها من مضمونات، وأخذت كثيرٌ من المضمونات عناوينَ بعيدةً عن مدلولها ومحتواها؛ ومن يدري!! آلمصادفةُ جعلتها كذلك، أم أن ذلك قد كان لحاجة في النفس تُوجِّه الفكرة والأسلوب.. دعاوى يجفوها الواقعُ، وأوهام تلبس لبوس الحقائق، ودنيا تموج بذلك كله.. والليالي مُثقَلات.. مثقلاتٌ يلِدْن كلَّ جديد.(/2)
وإذا كان الأمرُ كذلك فإن وضوحَ الرؤية يجعل المسلم على بينة من أمره فيما يتعلق بالفكر الإسلامي نفسه، معرفةً بحدوده وأبعاده، وإدراكا لأصوله ومنطلقاته، وعوامل التأثر والتأثير وما يترتب على ذلك، كما يقف على الحقيقة فيما يتعلق بالأفكار الأخرى، وما يكون هنالك من التقاء أو افتراق أو اختلاف في بعض النقاط... وإنما يتم ذلك حين يكون الانطلاقُ من قواعد فكرنا ومفهوماته، ثم تبيُّن ما عداه من خلال مدلولاته ومؤشراته، لأنه فكر متميز يرتبط بعقيدة لا بد أن تكون بما ينبثق عنها من نظم هي الموجه لمساره اليوم كما كانت في الماضي وحين نستهدي بهذا المحور من الحركة الفكرية تكون أقرب إلى الدقة دائما في إعطاء القيم للواقع في الأعمال، والأشخاص الذين يمارسون تلك الأعمال، وفي الحوادث التي تظهر في دنيا عالمنا الكبير.
وهذا كله يتنافى مع الذي يبتغيه العدو الذي يقف لنا بالمرصاد، وإذًا.. فلا بد من إصاخة السمع إلى خطاب القرآن وهدي النبي الكريم بقلوب مفتحة وبصائر مستنيرة، وإلا أدركتنا الطامةُ وهزأت بنا قافلة التاريخ.
ذلك أن الإسلام بربانيته -كما أوحى الله به إلى نبيه محمد عليه الصلاة والسلام- فيه كلُّ عوامل الخير، ومقومات الاستمرار والعطاء، وما تلك النكَسات التي أصابت وتصيب العالمَ المُعرضَ عن الله في القديم والحديث، إلا بعض الشواهد على أن هذا الدين هو الهدية الربانية التي كانت من رحمة الله بالإنسان، وأن الرسالة المحمدية، هي المثابة التي لا غنى عنها للإنسانية عن الفيئة إليها بعد متاهات الضياع وظلام النكسات.(/3)
وإذا كان الأمرُ كذلك؛ فمن أولى بهذه الأمة من يقظة جديدة تصلها بحبل تلك الرسالة المتين، ولقد يكون لزامًا بدل أن تندب حظها العاثر، في عتب مرير على الأقدار، أن تتبين موقعَها من هذا الإسلام، وأن تنظر فيما منحها الله من ثروات معنوية ومادية، وما مكن لها من أسباب القوة والمنعة، فتضع ذلك على طريق التغيير المنهجي، والتخطيط المدروس في حياتها من أجل تحقيق الهدف الكبير، في بناء مجتمع تظلله هداية محمد عليه الصلاة والسلام.
ثم أين هي من سمات القوافل الخيِّرة التي عبَّدت سُبل الفلاح، ومن الصفات التي يتميز بها طلابُ الآخرة في كل ما يأتون وما يدعون، بل أين هي في سلوكها من مدلول العبودية الذي يشمل -مع التوجه إلى الله بالعبادة وإقامة الشعائر- اعتقادَ أن الحاكمية له سبحانه، والعمل على أن يكون ذلك واقع الحياة.
ولقد يكون من صواب القول والعمل، أن يذكر الروادُ دائمًا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد ترك هذه الأمة على بيضاء نقية ليلها كنهارها، لا يزيغُ عنها إلا هالك، والمتقلب في غمار الحياة بين طريقين: فإما أن يكون من طلاب الدنيا، الذين همهم التطواف حولها، ونشدان مطالبها...
وإما أن يكون من أبناء الآخرة المسارعين إلى مرضاة الله، السالكين صراطه السوي، لا يرضون به بديلا، ولا يبغون عنه حولا، فهم يتحركون ونصب أعينهم قولُ الله جلت حكمته: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا، وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء: 18].(/4)
ولتجدن هؤلاء البررة يغدون ويروحون -في طلب الآخرة- وهم في ساحة من الإيجابية والبناء والتفتح على كل ما هو خيّر ونافع، وتراهم يقطعون أشواطَ الرحلة إلى الله واثقين راضين بأمره، مطمئنةً قلوبُهم بذكره يحملون صفات البشر، ويظللهم طهرُ الملائكة، وهم.. هم وحدهم الذين يصدقُ فيهم أنهم أملُ الأمة المرتجى، وعدتها يوم يعزم الأمر ويجدُّ الجد {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف: 13].
إنهم يتجاوزون مرمى الغاية عند أهل الدنيا، وينظرون ببصائرهم إلى حيث منازل السابقين وأهل اليمين يوم ينادى أصحاب الجنة: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر: 73]، {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد: 24].
وقفة مع حصيلة العام الماضي...
مع بداية العام الجديد يحق لنا أن نسلط الأضواء على العام المنصرم... وأن نتساءل: ما مقدار ما أحرزته البشرية خلال عام بأكمله؟
وإذا كان بعضُ الناس يقيسون التقدم الإنساني بما حققته التكنولوجيا الحديثةُ من رفاهية للإنسان؛ إذ أوجدت له الكثيرَ من الآلات التي تساعده على حل مشاكله، أو بعدد المصانع والمنشآت التي شيدت، أو بعدد السفن الفضائية التي أطلقت باتجاه القمر والمريخ، فإن التقدم كما نفهمه نحن.. هو ذلك الكفاح المرير الذي يتيح لنا في النهاية أن نفهم أنفسنا، ونعي جيدًا ما تعنيه هذه الكلمة (نحن البشر) والتقدم كما نريده أيضًا أن تحقق العدالة الإنسانية في جميع أنحاء المعمورة، وأن تستيقظ الضمائر من سباتها العميق، ويقل عددُ الحروب والوحوش البشرية التي تدمن شرب الدماء...(/5)
إن التقدم الذي نطمح في الوصول إليه لا يتحقق عن طريق اقتناء السيارات الفخمة، والإقامة في القصور وناطحات السحاب، وارتداء أحدث (الموضات)، واقتناء احدث الجوالات والأجهزة الإلكترونية، وهو أيضًا لا يتحقق عن طريق إقامة الحفلات والمآدب وإصدار التصريحات والبيانات ورفع الشعارات، ولكنه يأتي عن طريق السعي المتواصل لاقتلاع جذور النفاق من حياتنا، وتدمير كل ما يعوق نمونا الروحي، وأن نتخلص من عبودية التقاليد.. والبدع.. والمظاهر البالية، إننا نؤمن بالتقدم الذي يشق طريقه إلى قلب الشجاعة لمجابهة عيوبنا ونقاط ضعفنا ومعالجتها، وأن نستأصل من قلوبنا الحقد والكراهية، يجب أن نكافح ضد أنفسنا.. ضد وساوس الشيطان والنفس الأمارة بالسوء، حتى يصبح ذلك الإنسان الذي يعرف جيدًا كيف يعيش فلا يكون عبدًا إلا لله، ولن يكون ذلك إلا بالعودة إلى النبع الأصيل.. نبع الإسلام الصافي في عقيدته وشريعته وأخلاقه..
وقفة مع القراء الكرام...
إن جانبًا من رسالة هذا الموقع المبارك يهدف إلى إيقاظ الهمم، ووضع الأمور في نصابها وفتح الأعين على الإسلام كما هو، وكما أراده الله للإنسانية عقيدةً ومنهجَ حياة، ورفع به أمتنا إلى مقام الريادة قرونًا متطاولة من الزمان، وهو قادر على ذلك دائمًا إن هي واصلت طريقها من جديد.
ومن هنا تأتي ضرورة وقفات التواصي التي تمثل مراجعة الرصيد لما مضى، ورسم المنهج لما يأتي، والحكم على الواقع من خلال التصوير السليم، لمنطلقات الأحداث وأبعادها، وذلك مما يفرض مزيدًا من التخطيط والعمل والبناء -وتلك سمات أصحاب الرسالة- خصوصًا والوقائع الصارخة تغمر العالم الإسلامي، وأعداء هذه الأمة لها بالمرصاد، مما يحفر في تاريخنا ندوبًا، وصورًا ينبغي أن نكون لها بالحسبان.(/6)
فالله المسئول أن يجعله أقدر على أداء رسالته بأمانة ووعي، وأن يثبتنا جميعا على النهج السوي لا نساوم ولا نحيد.. وهو -جل جلاله- المستعان على كل حال؛ وجزى الله خير جزائه إخواننا وأخواتنا الكتَّاب والعاملين في حقل الدعوة، وكلَّ من يساعد على أن تأخذ صفحاته المباركة -إن شاء الله- طريقها إلى النور...
ولنا من وعي القراء وسلامة تقديرهم لكل الأبعاد، ووضع ظروفها في الحسبان، وتعاونهم المعنوي... ما يحفزنا على المزيد من تفاؤل المؤمن الواثق بنصر الله وتأييده مهما طالت الطريق، واشتدت حلكة الليل...
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين..(/7)
العنوان: وقفات مع قضايا المرأة المعاصرة (1/4)
رقم المقالة: 600
صاحب المقالة: أسماء عبدالرازق
-----------------------------------------
قضية التمييز ضد المرأة والصبغة الدولية:
أول اهتمام أخذ الطابع الدولي للمساواة بين الرجال والنساء كان في ميثاق الأمم المتحدة، الذي أبرم في سان فرانسيسكو في 26/6/1945م، والذي نص على عدم التفرقة بين الناس، بسبب الجنس[1]. وفي عام 1948م صدر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والذي تنص المادة الثانية منه على أن: (لكل إنسان حق التمتع بجميع الحقوق والحريات المذكورة في هذا الإعلان، دونما تمييز من أي نوع، ولاسيما التمييز بسبب العنصر، أو اللون، أو الجنس، أو اللغة، أو الدين، أو الرأي؛ سياسياً وغير سياسي، أو الأصل الوطني، أو الاجتماعي، أو الثروة، أو المولد، أو أي وضع آخر)[2].
وفي عام 1951م أُبرمت اتفاقية المساواة في الأجور بين العمال والعاملات، ثم الاتفاقية الخاصة بالحقوق السياسية للمرأة عام 1952م، ثم جاء العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية عام 1966م، فالعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية في نفس العام، وتلاهما الإعلان الخاص بالقضاء على التمييز ضد المرأة سنة 1967م، ثم جاء إعلان طهران لحقوق الإنسان عام 1968م؛ وجميع هذه الاتفاقيات والمعاهدات لم تكن ملزمة، كما أنها لم تُخصص للمرأة.
ومنذ عام 1975م بدأ عقد المؤتمرات المتخصصة في قضايا المرأة، كما بدأت مقرراتها تأخذ منحى إلزامياً، فكان أول هذه المؤتمرات:
• 1975: المؤتمر العالمي الأول للمرأة (مؤتمر مكسيكو لعقد الأمم المتحدة للمرأة: المساواة والتنمية والسلم)، واعتمدت فيه خطة عمل للأعوام 1976- 1985م، واعتبرت الجمعية العامة للأمم المتحدة ذلك العام عام المرأة الدولي.(/1)
• 1979م: اتفاقية القضاء على كافة أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو)[3]: خرج المؤتمرون بما يعرف باتفاقية سيداو، والتي تتضمن ثلاثين مادة، وردت في ستة أجزاء، للقضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، على أن يبدأ نفاذها في 3 سبتمبر 1981م. وجاءت هذه الاتفاقية لأول مرة بصيغة ملزمة قانونياً للدول التي توافق عليها؛ إما بتصديقها أو بالانضمام إليها. وحددت الأمم المتحدة العام2000م موعداً نهائياً لتوقيع جميع الدول عليها.
وتعد هذه الاتفاقية من أخطر الاتفاقيات المتعلقة بالمرأة لعدة أسباب منها:
- أنها تعد الدين شكلاً من أشكال التحيز ضد المرأة.
- أن فيها رسماً لنمط الحياة في مجالاتها المختلفة سياسياً، واقتصادياً، واجتماعياً، وغير ذلك؛ بناء على الثقافة الغربية القائمة على المساواة المطلقة بين الجنسين، دون اعتبار لخصوصية أي منهما، والحرية التامة للأفراد دون مراعاة لأي قيمة خلقية، أو إنسانية.
• 1983م: المؤتمر العالمي لعقد الأمم المتحدة للمرأة: المساواة والتنمية والسلم في كوبنهاجن- الدنمرك.
• 1985م: المؤتمر العالمي لاستعراض وتقييم منجزات عقد الأمم المتحدة للمرأة: المساواة والتنمية والسلم في نيروبي- كينيا، والذي عرف باسم: استراتيجيات نيروبي المرتقبة للنهوض بالمرأة من 1986م إلى 2000م.
• 1995م: المؤتمر العالمي الرابع المعني بالمرأة في بكين- الصين، والذي تميز عن غيره من المؤتمرات بجرأته على الأخلاق، ودعوته الصريحة للحرية الجنسية (بما فيها ما يسمى زواج المثلين)، والتنفير من الزواج المبكر، والعمل على نشر وسائل منع الحمل، والحد من خصوبة الرجال، وتحديد النسل، والسماح بالإجهاض المأمون، والتركيز على التعليم المختلط بين الجنسين وتطويره، وكذلك التركيز على تقديم الثقافة الجنسية للجنسين في سن مبكرة حتى اضطرت إحدى الدول الغربية وهي السويد للتحفظ على بعض البنود.(/2)
أما المرأة المسلمة فقد خصت بعدة مؤتمرات لتسريع تفعيل تغريبها منها:
1 - عقد مؤتمرات قمة للمرأة على مستوى قرينات رؤساء وملوك الدول العربية: وقد عقدت ثلاث قمم الأولى في القاهرة بمصر، والثانية في عمان بالأردن، والثالثة ببيروت. وقد انبثق عنها عدة مؤتمرات إقليمية ناقشت كل منها موضوعاً خاصاً، كالمرأة والإعلام، والمرأة والتعليم، والمرأة والتنمية،...إلخ.
2 - إنشاء مؤسسات خاصة بشئون المرأة على مستوى أعلى مثل: المجلس القومي للمرأة بمصر، المجلس الأعلى لشؤون المرأة في بعض دول الخليج كالبحرين وقطر.
3 - إنشاء مكتب كبير منسقي قضايا المرأة الدولية بوزارة الخارجية الأمريكية والذي تقول رئيسته إبريل بالمرلي في كلمة لها بعنوان (النساء في مجتمع عالمي): "حدد مكتبي ثلاثة مجالات عامة للسياسة سوف نستهدفها في جهودنا القادمة، وهذه المجالات هي:
- المشاركة السياسية للمرأة.
- المشاركة الاقتصادية للمرأة.
- الاتصال والتواصل مع النساء في الدول التي يشكل المسلمون غالبية سكانها."
وتلخص أهداف المكتب فيما يلي:
- دفع عجلة مفهومات حقوق المرأة الإنسانية، وتمكين النساء ومنحهن سلطة؛ كعنصرين مهمين في السياسة الخارجية للولايات المتحدة.
- دمج هذا الهدف في السياسات، وتحويله إلى جزء من مؤسساتها عن طريق الدبلوماسية العامة، وبرامج التبادل المحلية والدولية، وتدريب العاملين في السلك الخارجي( الدبلوماسي).
- تشجيع الحرية، والأسواق الحرة، عبر برامج تروج لقضايا المرأة.
- إنشاء تحالفات مع الحكومات الأخرى، والمؤسسات الدولية، والمنظمات غير الحكومية المحلية والخارجية، والقطاع الخاص؛ لصيانة هذه المصالح.(/3)
وتعدد بعض إنجازاتهم فتقول: "وقد كان بعض أهم ما قمنا به حتى الآن دورنا القيادي في قضايا المرأة الأفغانية البالغة الأهمية، والتي تحظى باهتمام واسع عن طريق العمل مع الحكومة الأفغانية، وإنشاء المجلس النسائي الأمريكي - الأفغاني. وعلاوة على ذلك؛ زودنا المشرعين الأمريكيين بمعلومات حيوية - تقريرنا الشامل للكونغرس - عن دعم الولايات المتحدة للنساء والأطفال واللاجئين الأفغان"[4].
بجانب هذه المؤتمرات التي تخصصت في قضايا المرأة فقد عقدت الأمم المتحدة مؤتمرات خاصة بالسكان، غير أنها ناقشت بعض القضايا المتعلقة بالمرأة، وبالعقد الأممي الخاص بها، وهي:-
• "19-30 أغسطس 1974م: المؤتمر العالمي الأول للسكان ببخارست – رومانيا، وقد اعتمدت في هذا المؤتمر خطة عمل عالمية، جاء فيها:-
- الدعوة إلى تحسين دور المرأة ودمجها الكامل في المجتمع.
- الدعوة إلى مساواة المرأة بالرجل.
- الدعوة إلى تحديد النسل، وتخفيض المرأة لمستوى خصوبتها.
• 6-14 أغسطس 1984م: المؤتمر الدولي المعني بالسكان في مكسيكو سيتي - المكسيك، وقد جاء في هذا المؤتمر:
- الدعوة إلى إعطاء المرأة حقوقها المساوية لحقوق الرجل في جميع مجالات الحياة.
- الدعوة إلى رفع سن الزواج، وتشجيع التأخر في الإنجاب.
- إشراك الأب في الأعباء المنزلية، وإشراك المرأة في المسؤولية على الأسرة!
- الإقرار بالأشكال المختلفة والمتعددة للأسرة[5].
- الدعوة إلى التثقيف الجنسي للمراهقين والمراهقات.
- الإقرار بالعلاقات الجنسية خارج نطاق الأسرة.
- تقديم الدعم للزناة والزواني، بتقديم الدعم المالي، وتوفير السكن المناسب لهم!(/4)
ويبدو أن المؤتمرين لم يسمعوا بالملايين من اللاجئين والنازحين والمشردين والمرضى المعوزين ومن هم تحت خط الفقر، لذا لم يجدوا حرجاً في إحداث مصرف لدولارات المنظمات الدولية، فجعلوها في جيوب الساقطين والساقطات، الذين لا يستحقون غير الضرب، والرجم؛ دون رأفة، بعد أن كفلوا لهم من التشريعات ما يجعلهم في عداد الآدميين، الذين تصح لهم الصدقات!
ثم عقد في:
• 5-13 سبتمبر 1994م: المؤتمر الدولي للسكان والتنمية، في القاهرة - بمصر. وقد نوقشت في هذا المؤتمر قضايا شبيهة تماماً بالقضايا التي سبق ذكرها في المؤتمر الرابع للمرأة ببكين، الذي عقد بعده بعام.
كما عقدت مؤتمرات أخرى للأمم المتحدة نوقشت فيها بعض قضايا المرأة، ومنها:
• 1990م: المؤتمر العالمي لتوفير التعليم للجميع في جومتيان-تايلند، والذي تم فيه الإعلان العالمي لتوفير التعليم للجميع، وأشار هذا المؤتمر إلى أن هناك 60 مليون بنت (من بين 100مليون) محرومة من التعليم الابتدائي. كما أن ما يزيد على ثلثي الأميين بين البالغين في العالم (وعددهم 960 مليون) من النساء، وهن من سكان الدول النامية، لاسيما في أفريقيا، وبعض الدول العربية.
• 1990م: مؤتمر القمة العالمي من أجل الطفل في نيويورك - الولايات المتحدة الأمريكية، والذي أكد على ما ورد في اتفاقية حقوق الطفل، والتي اعتمدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1989م، ومن ذلك: حق الطفل في حرية الفكر والوجدان والدين، والدعوة إلى سلب ولاية الآباء على الأبناء، وذلك من خلال الدعوة إلى تمكين الطفل من الحصول على المعلومات والمواد من شتى المصادر الوطنية والدولية، ولاسيما تلك التي تستهدف تعزيز رفاهيته الاجتماعية، والروحية، والمعنوية، وصحته الجسدية والعقلية. كما أكد المؤتمر على أهمية حضانة الطفل لتيسير عمل المرأة.
• 1992م: المؤتمر العالمي للبيئة والتنمية في ريودي جانيرو- البرازيل، والذي دعي فيه إلى:(/5)
- حقوق النساء في التحكم في قدرتهن على الإنجاب.
- تحديد النسل.
- إنشاء مرافق صحية وقائية وعلاجية لرعاية صحية تناسلية مأمونة وفعالة.
- تحسين مركز النساء الاجتماعي والاقتصادي، ومن ذلك وضع استراتيجيات للقضاء على العقبات الدستورية، والقانونية، والإدارية، والثقافية، والسلوكية، والاجتماعية، والاقتصادية، التي تحول دون مساواة المرأة بالرجل.
- مشاركة المرأة بصورة كاملة في التنمية المستدامة، وفي الحياة العامة.
• 1993م: المؤتمر العالمي لحقوق الإنسان في فيينا - النمسا، أو ما يسمى إعلان وبرنامج عمل فينا، والذي حث على تمكين المرأة من التمتع الكامل- وعلى قدم المساواة - بجميع حقوق الإنسان السياسية، والاقتصادية، والقانونية، والاجتماعية، والثقافية، وغيرها من الحقوق، وأن يكون هذا الأمر أولوية من أولويات الحكومات والأمم المتحدة. كما طالب المؤتمرُ الأمم المتحدة بالتصديق العالمي من قبل جميع الدول على اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة بحلول عام 2000م.
• 1993م: إعلان الجمعية العامة للأمم المتحدة بشأن القضاء على العنف ضد النساء.
• 1995م: مؤتمر القمة العالمي للتنمية الاجتماعية في كوبنهاجن - الدنمرك، والذي اعترف فيه بأشكال الأسرة المختلفة، والدعوة إلى الإنصاف والمساواة بين المرأة والرجل؛ ومن ذلك إسقاط قوامة الرجل على المرأة داخل مؤسسة الأسرة، ودعوة الرجل لتحمل الأعباء المنزلية، ودعوة المرأة للخروج للمساهمة في سوق العمل، وكذلك إزالة القيود المفروضة على المرأة في وراثة الممتلكات.(/6)
• 1996م: مؤتمر الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية (الموئل الثاني ) في استنبول - تركيا، والذي دعا إلى كفالة مشاركة النساء - مشاركة تامة وعلى قدم المساواة مع الرجال - في الحياة السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية. والالتزام بالمساواة بين الجنسين في تنمية المستوطنات البشرية، وبإدماج الاعتبارات المتعلقة بنوع الجنس (Gender)[6] في التشريعات، والسياسات، والبرامج والمشاريع المتصلة بالمستوطنات البشرية، عن طريق التحليل الذي يراعي نوع الجنس.كما اعترف بالأشكال المختلفة للأسرة. ودعا المؤتمر إلى إجراء إصلاحات تشريعية وإدارية؛ من أجل الحصول الكامل - وعلى قدم المساواة - على الموارد الاقتصادية، بما في ذلك الميراث، والائتمان. وأكد على تنفيذ توصيات المؤتمر الرابع للمرأة في بكين 1995م.
• 2000م: مؤتمر الأمم المتحدة للمرأة: المساواة والتنمية والسلام في القرن الحادي والعشرين، في نيويورك - الولايات المتحدة الأمريكية، وقد تضمنت وثيقته التحضيرية ما يلي:
- الدعوة إلى الحرية الجنسية والإباحية للمراهقين والمراهقات.
- تشجيع جميع أنواع العلاقات الجنسية[7].
- تهميش دور الزواج في بناء الأسرة.
- إباحة الإجهاض.
- تشجيع المرأة على رفض الأعمال المنزلية، بحجة أنها أعمال بغير أجر!
- المطالبة بإنشاء محاكم أسرية لمحاكمة الأزواج الذين يغتصبون زوجاتهم!
- إباحة الشذوذ الجنسي والدعوة إلى مراجعة ونقض القوانين التي تجرمه.
- محاولة فرض مفهوم المساواة المطلقة في العمل، وحضانة الأطفال، والأعمال المنزلية، والحقوق، وغير ذلك.
- المطالبة بإلغاء التحفظات التي أبدتها بعض الدول الإسلامية على وثيقة مؤتمر بكين 1995م.
- وأهم هدف للمؤتمر هو: الوصول إلى صيغة نهائية ملزمة للدول بشأن القضايا المطروحة على أجندته، والتي صدرت بحقها توصيات ومقررات في المؤتمرات الدولية السابقة، تحت إشراف الأمم المتحدة.(/7)
عقدت عدة مؤتمرات إقليمية لمتابعة توصيات مؤتمر بكين، والتمهيد للمؤتمر التنسيقي الدولي لمتابعة تطبيق قرارات المؤتمرات الدولية للمرأة، وقد عقدت عدة مؤتمرات إقليمية لتحقيق هذا الهدف:-
• نوفمبر 1999م: مؤتمر تونس، لدول المغرب العربي.
• نوفمبر 1999م: المؤتمر النسائي الأفريقي السادس في أديس أبابا- إثيوبيا، نظمه المركز الأفريقي التابع للجنة الأمم المتحدة الاقتصادية.
• مارس 2000م: مؤتمر المرأة الخليجية في البحرين والذي نظمته جمعية فتاة البحرين تحت شعار (الفرص، والمعوقات، والأدوار المطلوبة).
• مارس 2000م: بكين+5[8] في نيويورك- الولايات المتحدة، وقد أدخلت فيه بعض التعديلات على وثيقة مؤتمر بكين"[9].
• 8-10يوليو 2004م: المنتدى الإقليمي العربي: دعوة للسلام في بيروت- لبنان، وقد نظمته المفوضية الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (إسكوا)[10] التابعة للأمم المتحدة، ودعت له أكثر من 400 امرأة عربية بين وزيرة، وبرلمانية، وعضوات في مجالس الشورى، وممثلات لجهات غير حكومية، بالإضافة لبعض الشخصيات الدولية التي من شأنها إثراء الحوار، والاتحادات المتخصصة، والمنظمات غير الحكومية التي تنتمي للجنة الاستشارية للإسكوا، والمانحين، ومراكز البحوث، والمتخصصين في قضايا المرأة، وقد نظمت فيه أربع سمنارات:
- سمنار للبرلمانيات لمناقشة دور المرأة في التشريع والحياة السياسية.
- سمنار للوزيرات والتنفيذيات لمناقشة دور المرأة في الحياة العامة.
- سمنار للمفكرات والإعلاميات لمناقشة دور المرأة في التعليم والإعلام.
- سمنار لممثلي المنظمات المدنية بما فيها الاتحادات والروابط والأحزاب السياسية لمناقشة دور المرأة السياسي والاقتصادي والاجتماعي في المجتمع المدني.
وقد ضمنت توصيات هذه السمنارات ضمن مقررات إعلان بيروت[11].(/8)
• أغسطس 2005م: بكين+10[12] للتضامن من أجل المساواة بين الجنسين، والتنمية، والسلام في بكين- الصين، والذي أمه ممثلون للحكومات، والمنظمات غير الحكومية، ومنظمات المجتمع المدني. خرج المجتمعون بإعلان بكين + 10 الذي شدد على ضرورة الإسراع في تنفيذ إعلان بكين وبرنامج العمل المصاحب له، وإعلان الألفية، والأهداف التنموية للألفية، وسيداو[13].
بعد كل هذا لعاقل أن يسأل: أحقٌّ ما يزعمه هؤلاء من أن الانتصاف للمرأة، وانتزاع حقوقها، ومحاربة العادات والتقاليد التي تجور عليها، هو الدافع وراء كل هذه المؤتمرات والندوات، وورش العمل والسمنارات، والمنظمات، والمفوضيات أم أن قضيتها مجرد (ساتر) لتحقيق مآرب أخرى؟
ولم تتعامى هذه المؤتمرات عن النتائج الوبيلة لدعاوى التحرير في كثير من بلاد الله؟
ولم تسعى لفرض نمط واحد على كل المجتمعات، رغم اختلاف مشكلات النساء فيها؟
ولم لا تراعي الفروق الثقافية والدينية بين المجتمعات، في تحديد ما يعتبر ظلماً، وما يعتبر واجباً دينياً، ما دامت نساء ذلك المجتمع يدنَّ بذلك الدين؟
ألا يعد فرض ثقافة واحدة على كل العالم إرهاباً حضارياً، وتمييزاً ثقافياً؟
بإمكاننا أن نقول: إن كل مؤتمر من هذه المؤتمرات، وما يترتب عليه من مقررات ما هو إلا خطوات في طريق تغريب المجتمعات كافة، وحملها على تبني الثقافة الغربية في شتى مناحي الحياة بالترغيب تارة، وبالترهيب تارات. وهي بذلك غزو صريح يستهدف الدين والثقافة، وأقل ما يجب على المسلم والمسلمة تجاهه أن يعرفا ما يراد بهما، ويسعيا لصده بتوعية أبناء أمتهما ما استطاعا إلى ذلك سبيلا، وبث الثقافة الإسلامية في صفوف المجتمع ليستمسك بدينه على هدى وبصيرة فلا تصده عنه شبهة، وتربية الأجيال على الاستمساك بحبل الله فلا ترضى بالحياة إلا في ظل الإسلام.
ـــــــــــــــــــــ
[1] ينظر دستور الأمم المتحدة، على الرابط:
http:\\www.un.org\arabic\aboutun\charter\charter(/9)
[2] اعتمد هذا الإعلان ونشر بقرار الجمعية العامة 217 أ (د-3) المؤرخ في 10 كانون الأول/ ديسمبر 1948م. انظر: لمحمد الزحيلي، حقوق الإنسان في الإسلام 393.
[3] CEDAW وهي مأخوذة من تجميع الحروف الأولى لـ Convention on Elimination of All forms of Discrimination Against Women.
[4] د. فؤاد بن عبد الكريم آل عبد الكريم: المرأة المسلمة بين موضات التغيير وموجات التغرير، ص16-17 بتصرف، وقد نقل عن الشبكة العنكبوتية، موقع وزارة الخارجية-مكتب برامج الإعلام الخارجي، على الرابط http://usinfo.state.gov/arabic/wfsub.htm.
[5] بعبارة أكثر وضوحاً: من الممكن أن تتكون الأسرة من رجل وامرأة (أسرة تقليدية كما يسميها كوفي عنان الأمين العام للأمم المتحدة)، أو من رجلين، أو من امرأتين (طبعاً يمكن أن تسمى الأسرة التقدمية أو العصرية كما يفهم من تعبير المسئول الأممي).
[6] Gender كانت حتى منتصف القرن الميلادي الماضي مرادف للفظة sex والتي تعني جنس أو نوع، إلا أن الواقع الجديد الذي أفلحت أن تفرضه الجمعيات النسوية ودعاة الحقوق المدنية اضطر الأكاديميين لاسيما الباحثين في القضايا الاجتماعية والثقافية إلى التفرقة بين اللفظين، ثم صارت الحركة النسوية تدعو لتجاهل كلمة sex والاقتصار على gender لأنه لا داعي للتمييز بين الجنسين! ثم دخلت كلمة جندر المعجم الإعلامي العربي وابتدعت لها اشتقاقات مثل الجندرة، ويجندر..الخ. حسب الدراسة التي نشرتها الأكاديمية القومية الأمريكية في أبريل 2001م، sex: قاسم ثنائي على أساس الفروق العضوية، فالمرء إما ذكر أو أنثى. Gender: نوع مستمر التغير تؤثر فيه التنشئة الاجتماعية، فالمرء قد تكون فيه ذكورة عارمة، أو أنوثة خالصة، وقد يكون مزيجاً منهما.
[7] ابتدعوا اسماً جديداً للداعرات وهو: عاملات الجنس!
[8] هذا رمز مصلح عليه لمثل هذه المؤتمرات.(/10)
[9] د. فؤاد بن عبد الكريم العبد الكريم: ورقة عمل بعنوان: العولمة الاجتماعية للمرأة والأسرة، بتصرف.
[10] United Nations Economic and Social Commission for Western Asia)UNESCWA)
[11] ملخص خبر بعنوان النساء العربيات يدعون للسلام في مؤتمر بكين+10 الإقليمي ببيروت منشور بموقع الأمم المتحدة الالكتروني، وهو موجود على الرابط:
http://www.un.org/News/Press/docs/2004/rec169.doc.htm
[12] هذا رمز مصلح عليه لمثل هذه المؤتمرات.
[13] لمزيد من التفاصيل يمكن الرجوع لموقع رابطة المرأة الدولية للسلام والحرية، والموضوعات المتعلقة بإعلان بكين على الرابط: http://www.peacewomen.org/un/Beijing10/beijing10index.html(/11)
العنوان: وقفات مع قضايا المرأة المعاصرة (2/4)
رقم المقالة: 634
صاحب المقالة: أسماء عبدالرازق
-----------------------------------------
هل تدفع المساواة المطلقة مع الرجل الظلم عن المرأة (1-2)؟
هل تقتضي المساواة العدل؟
قامت دعوة مناهضة التمييز بين الجنسين باعتبار أن الإخلال بالمساواة التامة بين النساء والرجال ظلم للمرأة، وكل ما يمكن اعتباره امتيازاً يناله الرجل هو بالضرورة امتهان للمرأة، وحط من قيمتها، وتمييز يجب التصدي له؛ وهذا ما لا يسلم به نظار الشريعة.
"أخطأ على الإسلام من قال: إن الدين الإسلامي دين المساواة. بل دين الإسلام دين العدل، وهو الجمع بين المتساويين، والتفريق بين المتفرقين، ومن أراد بالمساواة العدل فقد أصاب في المعنى وأخطأ في اللفظ. ولهذا كان أكثر ما جاء في القرآن نفي المساواة {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} [الزمر:9]، {هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور} [الرعد:16]، {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا} [الحديد: 10]، {لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله} [النساء:95]، ولم يأت حرف واحد في القرآن يأمر بالمساواة أبداً، إنما يأمر بالعدل"[1].(/1)
فالإسلام يساوي بين المتساويين فـ"لا فضل لعربي على عجمي، ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى"[2]، ويساوي بين ما بينهما اختلاف في الجملة لكن استويا في مواضع في محل التساوي بينهما، كما سوى بين الرجل والمرأة في ثواب العمل الصالح المشترك بينهما، كقراءة القرآن مثلاً، قال الله تعالى: {من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} [النحل: 97]، وبالمقابل يفرق الإسلام بين ما بينهما شبه في الجملة واختلاف في أمور في محل الاختلاف، كالتفريق بين الذكر والأنثى في كثير من التكاليف كالجهاد والإمامة الكبرى ونحوهما.
قال ابن القيم رحمه الله: "وأحكام الله الأمرية الشرعية كلها هكذا، تجدها مشتملة على التسوية بين المتماثلين وإلحاق النظير بنظيره، واعتبار الشيء بمثله، والتفريق بين المختلفين، وعدم تسوية أحدهما بالآخر"[3].
"وقد فطر الله سبحانه عباده على أن حكم النظير حكم نظيره، وحكم الشيء حكم مثله، وعلى إنكار التفريق بين المتماثلين، وعلى إنكار الجمع بين المختلفين، والعقل والميزان الذي أنزله الله سبحانه شرعاً وقدراً يأبى ذلك... وشرع الله، وقدره، ووحيه، وثوابه، وعقابه كله قائم بهذا الأصل؛ وهو إلحاق النظير بالنظير واعتبار المثل بالمثل"[4].
وبالمقابل مهما وجدت شيئين مختلفين سَوَّت الشريعة بينهما في حكم من الأحكام وجدت المتعلق والمعتبر الذي أنيط به ذلك الحكم مستوياً في ذينك المختلفين، فيكون حكم الشريعة حينها من قبيل التسوية بين المختلفين في محل التساوي.(/2)
قال ابن القيم رحمه الله: "وما امتازت صورة من تلك الصور بحكمها دون الصورة الأخرى إلا لمعنى قام بها أوجب اختصاصها بذلك الحكم، ولا اشتركت صورتان في حكم لاشتراكهما في المعنى المقتضى لذلك الحكم، ولا يضر افتراقهما في غيره كما لا ينفع اشتراك المختلفين في معنى لا يوجب الحكم، فالاعتبار في الجمع والفرق إنما هو بالمعاني التي لأجلها شرعت تلك الأحكام وجوداً وعدماً"[5].
"وأما التسوية بينهما فى الحكم مع افتراقهما فيما يوجب الحكم ويمنعه، فهذا قياس فاسد، والشرع دائماً يبطل القياس الفاسد"[6]، فإذا نُزِّل هذا القياس الفاسد في الأحكام بين الناس كان ظلماً، وهذا مما ينزه رب العزة تبارك وتعالى عنه، قال شيخ الإسلام: "فقوله تعالى: {أفنجعل المسلمين كالمجرمين} [القلم: 35]، وقوله تعالى: {أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار} [ص: 28]، وقوله: {أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون} [الجاثية: 21]، إلى غير ذلك يدل على أن التسوية بين هذين المختلفين من الحكم السيء الذي ينزه عنه، وأن ذلك منكر لا يجوز نسبته إلى الله تعالى، وأن من جوز ذلك فقد جوز منكراً لا يصلح أن يضاف إلى الله تعالى؛ فإن قوله: {أفنجعل المسلمين كالمجرمين} استفهام إنكار، فعلم أن جعل هؤلاء مثل هؤلاء منكر لا يجوز أن يُظن بالله أنه يفعله، فلو كان هذا وضده بالنسبة إليه سواء جاز أن يفعل هذا وهذا. وقوله: {ساء ما يحكمون} [الأنعام: 136] دل على أن هذا حكم سيء والحكم السيء هو الظلم الذي لا يجوز، فعلم أن الله تعالى منزه عن هذا. ومن قال إنه يسوي بين المختلفين فقد نسب إليه الحكم السيء، وكذلك تفضيل أحد المتماثلين. بل التسوية بين المتماثلين، والتفضيل بين المختلفين هو من العدل والحكم الحسن الذي يوصف به الرب سبحانه وتعالى، والظلم وضع الشيء في غير موضعه.(/3)
فإذا جعل النور كالظلمة، والمحسن كالمسيء، والمسلم كالمجرم، كان هذا ظلماً وحكماً سيئاً يقدس وينزه عنه سبحانه وتعالى"[7].
من نتائج المساواة:
في أواخر القرن التاسع عشر ظهرت حركات التحرير النسائية في أوروبا وأمريكا ولم تكتف بالمطالبة برفع الظلم الواقع على المرأة بل طالبت بالمساواة الكاملة مع الرجل والاستقلال بشأن معاشها، وبعد طول كفاح وشغب سُنت القوانين والتشريعات التي ترمي للمساواة التامة بين الرجل والمرأة، ومما ساعد على ذلك النظام الرأسمالي الذي يمجد الحرية الفردية العارية من كل شرط أو قيد.
فكانت ثمرة الكفاح والتحرير فظلم من نوع جديد!
لقد تخلصت المرأة الغربية من قبضة الحرمان لتقع في هوة الانفلات.
وها هي اليوم إما "بنت تتقاذفها أيدي الذئاب البشرية، أو زوجة كادحة لا تكاد تأوي إلى بيتها إلا كالّة مرهقة لتشارك الرجل حتى في دفع أقساط السيارة والبيت وإلا فلا قيمة لها، أو أم يقذفها أولادها في النهاية في إحدى دور الرعاية الاجتماعية"[8].
إن الأضرار الصحية، والخلقية، والنفسية، والاجتماعية، والأسرية التي لحقت بالمجتمعات المتحررة[9] كثيرة لا يكاد يخفى أمرها على أحد، والشبكة العنكبوتية تطفح بمواقع المؤسسات الأكاديمية، ومراكز الدراسات والبحوث، والمؤسسات العدلية التي تبين حجم المشكلات التي تصبحهم وتمسيهم.
بل تطفح بمواقع المنظمات الغربية المضادة لمنظمات الحركات النسوية والتي أصبحت تعرف بـ"Antifeminism "، فقد أدرك بعض العقلاء آثار المساواة، وعلموا أن تكليف المرأة بواجبات الرجل هو الظلم العظيم الذي ينبغي أن يرفع عن المرأة.
ــــــــــــــــــــــ
[1] ابن عثيمين: شرح العقيدة الواسطية، 189، بتصرف يسير.
[2] مسند أحمد: 5/411(23536)، الألباني: السلسلة الصحيحة، 6/203 (2700).
[3] ابن القيم: إعلام الموقعين،1/195، بتصرف يسر.(/4)
[4] ابن القيم: المصدر السابق،1/196، باختصار وتصرف يسير، وينظر كذلك في هذه المعاني زاد المعاد 4/269.
[5] ابن القيم: إعلام الموقعين، 2/75.
[6] ابن تيمية: الفتاوى 20/539.
[7] ابن تيمية: منهاج السنة النبوية 5/106-107، بتصرف يسير، وينظر في نفس المعنى كلام ابن القيم في مفتاح دار السعادة 2/11-12.
[8] د. زيد بن محمد الرماني: المرأة المسلمة بين الغزو والتغريب، ص16.
[9] سواء الغربية أو العربية، والتناسب طردي بين الضنك والشقاء، والإعراض عن دين الله تعالى.(/5)
العنوان: وقفات مع قضايا المرأة المعاصرة (3/4)
رقم المقالة: 724
صاحب المقالة: أسماء عبدالرازق
-----------------------------------------
هل تدفع المساواة المطلقة مع الرجل الظلم عن المرأة (2-2)؟
شهادة امرأة غربية:
قد تعكس الإحصاءات حجم المشكلة التي وقعت فيها المرأة الغربية بسبب مساواتها بمن لا يشبهها، وتكليفها بأعبائه، وتكليفه بأعبائها، لكنها لا تبين فداحة الخسارة التي تشعر بها نساء تلك المجتمعات، لذا لابد من الاهتمام بتقييم عقلائهن للواقع الذي يعشنه، وحقيقة الثمرة التي قطفنها.
ودعيني أنقل إليك أخت الإسلام كلام امرأة غربية؛ ممرضة بريطانية ولدت عام 1959م. عاشت طفولتها وصباها في مدينة صغيرة جنوب انجلترا تدعى (قوسبورت) كان أهلها محافظون إلى حد كبير، ثم انتقلت إلى لندن لإكمال الدراسة وعملت فيها.
قدر لهذه المرأة عام 1978م زيارة إحدى الدول العربية المحافظة في ذلك الزمان، وقدر لها أن تتعامل مع بعض المسلمات المتدينات اللاتي لا يخالطن الرجال، ولا يبدين من أجسادهن شيئاً عندما يخرجن. لقد كانت تعتقد جازمة أنهن متخلفات بلا ريب، وأنهن من مخلفات العصور المظلمة بلا شك.
ثم قدر لها النزول عند عائلة مكونة من زوج وزوجة وستة أطفال، فكان مما أعجبها أدب الأبناء واحترامهم لأمهم، مع ما لحظته من عفة المرأة وكرمها، وذكرت مواقف لها تنم عن هذا. ثم علمت الممرضة أن مضيفتها ليست مجرد لبقة مثقفة، بل تحمل شهادات عليا في الفيزياء.
وبعد مدة عرضت عليها أن تذهب معها إلى السوق فوافقت، فما لثبت المضيفة أن جاءت، وهنا عقدت الدهشة لسان صاحبتنا، فقد جاءت المضيفة وقد ارتدت نفس تلك الثياب التي كانت صاحبتنا تظنها من مخلفات العصور الوسطى! وهنا بدأت تلك النظرة السطحية تتغير...(/1)
بعد نهاية تلك الزيارة القصيرة للبلد أحست الزائرة بالفرق الهائل بين واقع المرأة في الإمبراطورية العظمى، وواقعها في ذلك البلد العربي، لقد أدركت الفرق بين قيمة المرأة في المجتمع الذي يعد تحرير المرأة من أعظم إنجازاته، وقيمتها في ما يسميه الإنجليز بالمجتمعات البربرية حال كونها أُمّاً موقرة، أو زوجاً مصونة، أو أختاً محترمة. كما عرفت الفرق بين مكانة المرأة في دين الإسلام، ومكانتها في الجاهليات المعاصرة المختلفة على اختلاف مسمياتها، فما كان منها إلا أن بحثت عن نسخة من ترجمة معاني القرآن وقرأتها في ليلة واحدة من الدفة إلى الدفة، ثم قررت أن تدين بالإسلام وذكرت أنها لم تندم أبداً على هذا القرار كما تكرر دائماً، بل تركت عملها الذي يلزمها بترك الحجاب وتفرغت للدعوة إلى الدين الحق، وتسمت سمية.. سمية جيمس.
عملت سمية في منظمة فيرنون الإسلامية، وترأست الحركة الإسلامية في ساوثامبتون 1992-1996م، مثلت بعض المنظمات في عدد من المؤتمرات الدولية الخاصة بالمرأة، وشاركت في مؤتمر بكين سنة 1995م.
وإليك الآن موضع العبرة من حديثها، تقول سمية جيمس: "صحيح أننا تخلصنا من كثير من العادات السيئة، إلا أننا فقدنا كثيراً من القيم العالية. صارت العلاقات الجنسية قبل الزواج هي الوضع الطبيعي في المجتمع، الزنا في ازدياد، أما التعفف فهو أمر مثير للسخرية"!(/2)
وأستأذن القارئة هنا للخروج عن نص كلامها قليلاً بتنبيه لابد منه: إن ما تقوله سمية هنا ليس مجرد كناية عن انتشار الفساد بل هو حقيقة واقعة. أؤكد هذا بما ساقه الدكتور ليونارد ساكس[1] في بعض كتبه من قصة فتاة في الصف الثالث المتوسط شهدت حفلاً نظمه زملاؤها وزميلاتها، اضطرت فيه أن تستجيب لأحد الفتيان المخمورين رغم بغضها له وخوفها الشديد من التجربة لئلا يتندر بها الحاضرون إن اكتشفوا أنها لا تزال غرة! يقول ساكس معلقاً في آخرها: "الإحصاءات والدراسات تبين أن أحد الأسباب الرئيسة لممارسة الفتيات الجنس في سنوات المراهقة الأولى هو الخوف من العزلة وسخرية الزملاء والزميلات"[2].
ولنعد الآن لما تقوله سمية، قالت: "كلنا يرى بوضح نتائج التنازل عن القيم: النِسب العالية للأمهات غير المتزوجات، معدلات الطلاق، معدلات الإجهاض، وقبول المجتمع التدريجي للوطيين والمساحقات، وانتشار الإيدز.
إن الضرر الأعظم يقع على البنات والنساء، فهن اللاتي يحملن، وهن اللاتي يجهضن، وهن اللاتي يربين الأولاد وينفقن عليهم في ظل دخول متدنية"!.
وهنا أجدني –أيتها القارئة الكريمة- محتاجة لتكرار المقاطعة فأستميحك عذراً فيها فلتتجملي، أما الضرر الأول الذي أشارت إليها سمية، فليس أبلغ من وصف القرآن: (حملته أمه وهنا على وهن) [لقمان: 14]، والمرأة تحتاج خلاله وبعده - كما هو معروف طبياً- لكثير من الرعاية البدنية والعون النفسي، فكيف بمن تفقد كل ذلك إضافة لشعورها بالإثم حتى ولو لم تكن تدين بدين يحرم الزنا؟(/3)
وأما عبء تربية الأولاد والثمرة المرة للاستقلال الاقتصادي فيكفي لبيان خطره تصور موت الأب، ونشأة اليتم. فإن الاستقلال الاقتصادي للمرأة ومناهضة التبعية للرجل -ونحو ذلك مما تنعق به تلك المجتمعات- يقضي بتخلص الرجال من عبء الإنفاق على النساء، ثم المرأة مخيرة بين الإنفاق على الأولاد، أو الإجهاض ما دامت غير متزوجة، أما تدني دخول النساء فغالباً لأنهن يكن في بداية حياتهن، مع وجود أسباب أخرى يطول المقام بذكرها.
والآن عوداً إلى سمية إذ تقول: "ربما نالت النساء مزيداً من الحقوق والاستقلال الاقتصادي، أما اجتماعياً فكثير من النساء يعانين أشد المعاناة. وعليّ أن أقول - كذلك -: إن النساء بدأن يتعمدن أن يربين الطفل دون مساعدة من أبيه، بل يقصين الأب تماماً من حياة طفله فيتعرض الرجال بدورهم لنوع من الضرر.
الإنسان مجبول على الرغبة في رفيق يسكن إليه، ويقيم معه أسرة، ولا يوجد نظام محدد [في المجتمع الغربي] يمكن المرء من ذلك....في سنوات المراهقة الأولى كان الفوز بالفتى المناسب هو الشغل الشاغل لي ولكل الفتيات في مثل سني. وفي سبيل ذلك أهدرنا كثيراً من الأموال والأوقات: شراء أحدث الأزياء، الملابس الجذابة، أدوات التجميل، العطور، أدوات تزيين الشعر، والحرص على القوام الرشيق لتكون الواحدة منا أكثر إثارة للانتباه. كنا نكثر من ارتياد الأماكن التي يرتادها الشباب بحثاً عن السيد المناسب 'Mr. Right' ؛ صالات الديسكو، الحفلات، الحانات، أماكن اللقاءات التي تعزف فيها الموسيقى الصاخبة، وتقدم فيها الخمور، وترقص فيها الفتيات سوياً، بينما يتفرج الشباب ثم يحددوا أكثرهن جاذبية وإثارة. وفي أوائل العشرينات من أعمارنا مللنا ذلك وصرنا نسمي تلك الأماكن: أسواق الماشية.(/4)
قد يبدو الأمر ممتعاً للمراهقات، لكنها لعبة خطيرة لاسيما للفتيات الصغيرات. قليل من الفتيات يعثرن على السيد المطلوب[3]، أما الأكثرية فتصدق عليهن الحالة المروية: (عليكِ تقبيل الكثير من الضفادع قبل أن تعثري على الأمير)[4]، وتقبيل الضفادع هذا هو الذي يوردهن الموارد.... بالرغم من أن القانون البريطاني يمنع الفتيات من العلاقات الجنسية دون سن السادسة عشر[5]، إلا أن كثيراً من الفتيات الصغيرات يدخلن ساحة المقامرة بحثاً عن شريك بسبب بلوغهن المبكر[6]، والنتيجة الطبيعية هي ظاهرة حمل المراهقات وطالبات المدارس. ولما كنت ممرضة كنت أرى كثيراً من الفتيات دون الرابعة عشرة يأتين ليجهضن حملهن.
كذلك يجب ألا نتجاهل التوتر العاطفي. لما كنت أدرس التمريض كنت أسكن مع عشرة زميلات، ثلاث منهن كن لي صديقات وقد تناولن جميعاً جرعة زائدة من المخدرات بسبب ما يشعرن به من توتر بعد أن هجرهن أخدانهن[7]. ولما كنت أعمل في الوحدة النفسية كنت مسئولة عن رعاية عدد من الفتيات المصابات بالانهيار النفسي لذات السبب...
أحياناً يتسبب تراكم مثل هذه المواقف في تعمد القسوة عند التعامل مع الجنس الآخر. بعض النساء صرن يفعلن بالرجال مثلما يفعلون بهن؛ تتعامل المرأة مع أحد الشباب حتى إذا ما استوثقت من تعلقه بها تركته ولم تلتفت إليه.
قابلت بعض النساء المساحقات اللائي يبغضن الرجال ولا يتعاملن معهم بسبب بعض التجارب السيئة التي تعرضن لها. كانت إحدى جاراتي من هذا النوع، وكانت تسكن هي وابنتها السداسية مع امرأة أخرى. قالت لي ذات مرة أنها صارت تساحق بعدما ضربها زوجها ووالد ابنتها في بطنها وهي حامل في شهرها السابع حتى سبب لها تمزقاً في الرحم، وأن ابنتها نجت من الموت بأعجوبة، أما هي فلن تستطع الإنجاب مرة أخرى"[8].(/5)
يحدث كل هذا للشابة التي قد تستغني عمن حولها فتعمل لتطعم وتكتسي، وقد (تبرمج) نفسها على استبدال عشيق بعشيق، ورفيق برفيق، أو حتى عشيق بعشيقة؛ أما من خطت نحو الشيخوخة فلن تجد أنيساً غير كلبها أو قطتها، ولا كفيلاً غير نظام الضمان الاجتماعي، حتى إذا ما أسنت واحتاجت لمن يخدمها ذهبت لدار المسنين، فإن لم تجد مكاناً انتظرت في أحد أقسام المسنين في المستشفى[9] حتى تموت أو يموت أحد نزلاء الدار. والمرأة نفسها قد تكون سبباً في هذه العاقبة، لأنها في شبابها رمت أبناءها في دور الحضانة لتتفرغ للعمل، وتحقق الاستقلال الاقتصادي عن الرجل، وربما تخلت عنهم كلياً لتربيهم الدولة في أحد دور الرعاية، هذا إن لم تقرر إسقاطهم، والقانون في بريطانيا يسمح بإسقاط الجنين حتى الأسبوع الرابع والعشرين من الحمل، مع علمها بأن الطفل يمكن أن يعيش بعد الأسبوع السادس والعشرين إن وجد عناية مناسبة، بل إن الطفل قد يخرج حياً بعد عملية الإسقاط لكنه يموت بعد ذلك لأنه ببساطة يوضع مع بقية مخلفات العمليات لحرقها جميعاً في الجزء المخصص لذلك في المستشفى، والجزاء من جنس العمل، وكما تدين تدان.
قالت سمية جيمس: "كثيراً ما يعثر على جثة أحد المسنين في بيته بعد موته بأيام، وربما أسابيع. وقد كانت هناك امرأة تحب تربية القطط، وبعد عدة أسابيع من موتها عثر على نصف جثتها في بيتها بعدما ما أكلت قططها نصفها الآخر"[10].
وبعد: لو لم تكن للمساواة بين الجنسين عاقبة سوى ما ذكر لكفى بذلك شقاء. ولو عذرنا المرأة الغربية المسكينة لأنها ما طالبت بالمساواة إلا فراراً من الاضطهاد، فما بال المسلمة التي تغتر بمثل هذه الدعاوى؟
وإذا سلمنا بأن بعض المجتمعات المسلمة قد تسلب المرأة بعض حقوقها –وهو كذلك- لأنها لم تلتزم بشريعة الله، أفيحل المشكلة استبدالها بمشكلة أخرى أعظم خطراً، وأشد ضرراً؟(/6)
ما بال بنت الإسلام تخلِّف شريعة ربها وراءها ظِهريَّا، ثم تتلقف مقررات مؤتمرات الساقطين والفاسقين والشواذ وتدعو لتطبيقها في بلاد المسلمين؟
أنى للمسلمة المصونة أن ترضى لنفسها بتقليد الغربية المبتذلة، فتستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير؟
لاشك أن التي تغتر بزخرف الحضارة الغربية وبهرجها، وتصدق الدعاية الموجهة التي تبثها وسائل الإعلام لا تعرف شيئاً عن حقيقة ما جنته المرأة الغربية من دعوات التحرير والمساواة والاستقلال بشأن المعاش.
تقول سمية جيمس إنها لما زارت إحدى الدول العربية، التقت بأربع أخوات، ثلاث منهن محتجبات والرابعة حاسرة فسألتها: ما بالك غير محتجبة كأخواتك؟
فأجابت: أريد أن أكون مثلك حرة أفعل ما أشاء، أذهب حيث أريد، وأشهد الحفلات. أخواتي متخلفات.
تقول: حدقت في وجهها وقلت في نفسي: لابد أنها تظن أن حياتي حفلة طويلة، إنها لا تعرف حقيقة حياة المرأة الغربية؛ الألم، المشكلات، المكافحة من أجل الحياة...
قلت لها: بل أنا التي تتمنى أن تكون مثلكن[11].
وأخيراً أختي المسلمة:
أعيذها نظرات منك صادقة أن تحسبي الشحم فيمن شحمه ورم
وما انتفاع أخي الدنيا بناظره إذا استوت عنده الأنوار والظُلَم
ــــــــــــــــــــــــ
[1] شخصية أكاديمية أمريكية نشطة، أنشأ منظمة هدفها فصل الجنسين في العملية التعليمة، وكان لجهودها أثر في حمل الحكومة الأمريكية على دعم مؤسسات التعليم غير المختلط، ملغية بذلك قانوناً سابق يحظر على الدولة مساعدتها بدعوى كونها مؤسسات عنصرية.
[2] عن كتابه: Why Gender Matters? p.125
[3] وتقول في موضع آخر الزواج ليس نهاية المطاف، فمعدلات الطلاق عالية جداً، وهذا يعني أن هؤلاء المحظوظات قد يجدن أنفسهن مرة أخرى مضطرات للعب الدور السابق، وقد لا يكون لهذا المسلسل من نهاية.(/7)
[4] إشارة إلى القصة الخيالية المعروفة في التراث الإنجليزي –ولعجائز الإنجليز خرافاتهن- يُزعم فيها أن أميراً سُحر ومُسخ ضفدعاً، وكان شفاؤه الوحيد أن تشفق عليه أميرة وتقبله، فكان يطارد إحدى الأميرات ويتوسل إليها لتقبله وبعد محاولات كثيرة قبلته فتحول إلى أمير وسيم أحبها وأحبته ثم تزوجا وعاشا سعيدين.
[5] طبعا ليس من مهام الشرطة هناك إيقاف كل مراهق ومراهقة للتأكد من بلوغهما العمر القانوني لارتكاب الموبقات، ولكن يبدو أن الغرض من القانون هو إرضاء ضمير الحكومة، وإن كانت تجارب المراهقين من الجنسين تبدأ في مدارسها المختلطة الابتدائية والمتوسطة حتى يسمح لهم بارتياد الحانات والمراقص.
[6] في موضع آخر من الكتاب تشير إلى أنها أخبرت في بداية مراهقتها إلى أن اتخاذ الأخدان والصواحب دليل على نضج الفتاة والفتى. ثم تقول: ومما لاشك فيه أن الإعلام لعب دوراً مهماً في الترويج لهذا السلوك، فدور البطولة في الأفلام والروايات والمسلسلات محجوز في الغالب لفتى وفتاة، والنهاية دائماً لقاؤهما وحياتهما معاً في سعادة وهناء.
[7] ثم ذكرت قصة ممرضة تسمى كارن كانت تقيم في ذات المسكن نامت يومين كاملين بتأثير جرعة عالية من الحبوب المنومة بعد تكرار مفارقة أخدانها لها رغم طيبتها ولطفها وكرمها، ورغم ما كانت تبذله لهم من هدايا غالية. ثم تعلق: قصة كارن ليست بالغريبة بل هي أمر مألوف في سن الشباب وكارن من المحظوظات لأنها في النهاية تزوجت، وقد فرحت لها لأنها أخيراً وجدت من يرعاها!
[8] Summayya James: My Journey To Islam, English woman's story, p.20-29.
[9] السابق 39.
[10] السابق 41-42.
[11] السابق 60-61.(/8)
العنوان: وقفات مع قضايا المرأة المعاصرة (4/4)
رقم المقالة: 793
صاحب المقالة: أسماء عبدالرازق
-----------------------------------------
وقفات مع سيداو:
يعرف التمييز –بين الرجال والنساء- في اتفاقية القضاء على كافة أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو[1]) بأنه: "أي تفرقة، أو استبعاد، أو تقييد يتم على أساس الجنس ويكون من آثاره أو أغراضه توهين، أو إحباط الاعتراف للمرأة بحقوق الإنسان والحريات الأساسية في الميادين السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والمدنية أو في أي ميدان آخر، أو توهين، أو إحباط تمتعها بهذه الحقوق أو ممارستها لها، بصرف النظر عن حالتها الزوجية، وعلى أساس المساواة بينها وبين الرجل"[2]. ثم فصلت الاتفاقية في كيفية التسوية بين الجنسين في الميادين السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والمدنية، والصحية. والملاحظ أن هذه الاتفاقية خالفت الشرع في أمور عدة منها[3]:
الاتفاقية قائمة على المساواة المطلقة بين الرجل والمرأة في جميع المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والرياضية والقانونية وغيرها. وهذا مبدأ تأباه الشريعة، وترفضه الفطرة السليمة، لأن الله تعالى يقول: (وليس الذكر كالأنثى)، [آل عمران:36]. والمساواة بين المختلفين في مواضع الاختلاف ظلم لأحد الطرفين، والتمييز الإيجابي بين الرجل والمرأة الذي ينتهجه الإسلام يحفظ حقوق الأفراد، ويراعي مصلحة المجتمع.
الاتفاقية تجللها روح الرأسمالية التي لا تنظر إلا إلى الفرد، ولا تعبأ إلا بحاجاته المادية، وذلك واضح في اعتبار المرأة كياناً مستقلاً، لا ركناً في الأسرة ولبنة في المجتمع.(/1)
الاتفاقية تطالب بـ"تغيير الأنماط الاجتماعية والثقافية لسلوك الرجل والمرأة، بهدف تحقيق القضاء على التحيزات والعادات العرفية وكل الممارسات الأخرى القائمة على الاعتقاد بكون أي من الجنسين أدنى أو أعلى من الآخر، أو على أدوار نمطية للرجل والمرأة"[4]. وليس المقصود بالأدوار النمطية انصراف المرأة لرعاية الأبناء وتفرغ الرجل لكسب المعاش وحسب، بل فيه دعوة مبطنة لرفع الحرج عن الشذاذ والشاذات، واعتبار ذلك الفجور نوع من أنواع الزواج المعترف به قانونياً على الأقل.
تدعو الاتفاقية للمساواة التامة بين الرجل والمرأة في التمثيل الحكومي الدولي، والاشتراك في أعمال المنظمات الدولية.[5] وكما هو معلوم فتمثيل الحكومات نوع من الولاية العامة التي خص بها الرجل في الإسلام.
تدعو الاتفاقية للتساوي في المناهج الدراسية، وفى الامتحانات، وفى نوعية المرافق والمعدات الدراسية، ولتشجيع التعليم المختلط[6]، وقد أثبت العلم الحديث أن الفروقات بين الجنسين، ليست مجرد فروق عضوية بل هي أبعد من ذلك بكثير. فاختلاف الجنسين يؤثر في تركيب العقول وآلية عملها، وذلك ينعكس بطبيعة الحال على طريقة التعلم والتفكير ونوعية الخطاب المناسب لكل جنس في مراحله العمرية المختلفة([7]) . بالإضافة إلى أن الاختلاط بين الرجال والنساء آفة وبلية حذر منها الشرع المطهر وحرص السابقون الأولون إلى الإسلام -رضوان الله عليهم- على التحرز منها.(/2)
فكانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أعلم نساء هذه الأمة تتحرج من ذلك في أطهر البقاع، ففي البخاري: "قال ابن جريج أخبرني عطاء إذ منع ابن هشام النساء الطواف مع الرجال قال كيف يمنعهن وقد طاف نساء النبي صلى الله عليه وسلم مع الرجال! قلت: أبعد الحجاب أو قبل؟ قال: إي لعمري لقد أدركته بعد الحجاب. قلت: كيف يخالطن الرجال؟ قال: لم يكن يخالطن. كانت عائشة رضي الله عنها تطوف حَجْرة[8] من الرجال لا تخالطهم، فقالت امرأة: انطلقي نستلم يا أم المؤمنين قالت انطلقي عنك وأبت.."[9] .
هذا كما أن مخالفات الاشتراك في الأنشطة الترويحية والألعاب الرياضية([10]) ظاهرة المخالفة.
والخلاصة: هي أن الاتفاقية تدعو لرفض كافة أنواع التمييز، بينما التمييز بين المرأة والرجل في الإسلام نوعان:
تمييز بينهما فيما استويا فيه كعموم العبادات من حيث الجملة، وكالجزاء والثواب على العمل، وكجواز التصرف في ملكها ونحو ذلك، فهذا تمييز يمقته الإسلام ولا يرضاه، وهو من جملة الظلم الذي جاء الإسلام برفعه.
وتمييز بينهما فيما لا يستويان فيه، كإلزام المرأة بالإنفاق على نفسها، والقوامة، والحجاب، وغيرها مما أملته طبيعتها التي جبلت عليها، وهو مقتضى العدل ولذا جاء الإسلام به.
وبهذا كان الإسلام وسطاً بين الجاهلية القديمة الداعية لسلب المرأة حقوقها، والجاهلية الحديثة المبتذلة للمرأة والمتذرعة بإناطة أعباء الرجال بها.
هذا ولا يخفى أن في الاتفاقية مخالفة للشريعة في غير ما ذكر، وإنما اقتصرت هنا على الأظهر الذي يخص المرأة.
ـــــــــــــــــــــ
[1] سيداو CEADAW مأخوذة من تجميع الحروف الأولى لـ Convention on Elimination of All forms of Discrimination Against Women
[2] الجزء الأول، المادة (1).(/3)
[3] ينظر كتاب الأستاذة عواطف عبدالماجد، رؤية تأصيلية لاتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، وللأستاذ محمد إبراهيم محمد اتفاقية القضاء على كافة أشكال التمييز ضد المرأة المعيار الفقهي.
[4] سيداو: الجزء الأول، المادة (5).
[5] سيداو: الجزء الثاني، المادة الثامنة.
[6] سيداو: الجزء الثالث، المادة العاشرة.
[7] وفي ذلك عدة دراسات وبحوث، يجد الباحث في موقع منظمة NASSPE بعضها ورابط موقعهم.
[8] ممتنعة عن مخالطتهم، ناحية بعيدة عنهم.
[9] صحيح البخاري 2/585 وغيره.
[10] سيداو الجزء الثالث المادة العاشرة والثالثة عشر.(/4)
العنوان: وقفات مع محمد أَرْكُون من خلال إنتاجه وفِكْره (2)
رقم المقالة: 1486
صاحب المقالة: د. محمد بريش
-----------------------------------------
دراسة وقفات مع محمد أركون من خلال إنتاجه
يُواصِل الأستاذ محمد بريش في هذا العدد وقفاته مع الدُّكتور محمد أَرْكون من خلال إنتاجه وفِكْره. وقد نَشَرْنَا في العدد السَّابق مدخل هذه الوَقَفَات الذي تناول بكيفيَّة مُوجَزة ما تَشْهده الثَّقافة العربيَّة الإسلاميَّة من مَخاض حَثِّ أهل اليسار، للخُروج من الأزْمَة، على تقديم مشاريع لإعادة القراءة للتُّراث بما فيه الوَحْي والسُّنَّة من منظور مادِّيٍّ عِلْمَانِيٍّ؛ لقطع الطريق على كل رجوع سليم للشُّعوب العربيَّة الإسلاميَّة إلى أصول دينها وشريعة ربها.
وفي هذا العدد، ننشر الفصل الأول من الدراسة/ الوَقَفَات الخاص بالتَّعريف بصاحب مشروع إعادة القراءة للقرآن الدكتور مُحَمَّد أركون على أنْ نُواصِلَ نشر بقيَّة الفُصُول في الأعداد المقبلة إن شاء الله.
{مِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ* ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ} (الحج: 8 ، 9).
الفصل الأول "مَنْ هو مُحَمَّد أركون؟"(/1)
الأستاذ محمد أركون مُفَكِّر جزائري، ازداد في تاوريرت ميمون بمِنْطَقة القبائل الكبرى بالجزائر سنة 1928 م. قَضَى فترة التعليم الثانوي بوهران والعالي بالجزائر العاصمة[1]، ثم أَتَمَّ تعليمه العالي بباريس حيث حَصَل سنة 1955 على شهادة التبريز في اللُّغة العربيَّة والأدب العربيّ، عمل مُدَرِّسًا بثانويَّات ستراسبورغ كما كان يُعْطِي دُروسًا بكُلِّيَة الآداب بنَفْسِ المدينة ما بين 1956 م، و 1959 م. ثم عمل أستاذًا مُساعِداً جامعة السُّوربون ما بين 1960 و 1969 حيث كان يَحْضُر في نفس الوقت دكتوراه الدَّوْلَة حول موضوع الأنسية العربيَّة في القرن الرابع الهجري، وتَرَكَّزت على النِتَاج الفِكْرِيّ للمؤرخ والفيلسوف مسكويه. وقد حصل أركون على دكتوراه الدولة هذه في الآداب من نفس الجامِعَة المذكورة سنة 1969م، أصبح بعدها أُسْتاذًا مُحاضِرًا بجامِعَة لِيُون الثانية ما بين 1969 و 1972، وأستاذًا للُّغة العربيَّة والحضارة الإسلاميَّة بجامعة باريس الثامنة ما بين 1972 م و 1977 م، وأستاذًا بالجامعة الكَاثُوليكيَّة بلوفان لانوف ما بين 1978 م و 1979 م. ألقى عِدَّة دروس ومُحَاضَرَات بعديد من المدن والجامعات غربيَّة وعربيَّة؛ كالرِّباط، وفَاس، والجزائر، وتونس، ودِمَشق، وبيروت، وطهران، وبرلين، وأمستردام، وهارفاد، وبرانستون، وكولومبيا، ولوس، أنجلز، ودفنر، وغيرها. يشغل حاليًا كُرْسي تاريخ الفِكْر الإسلامي بجامعة السُّوربون الجديدة ومدير لمعهد الدِّراسات العربيَّة والإسلاميَّة بها.
جُلُّ مؤلفاته باللُّغة الفِرنسيَّة، وقد تُرْجِم البعض منها مؤخراً إلى العَربيَّة وكذلك بعض نصوص مُحاضراته التي نشرتها بعض المجلات العربيَّة. أهم هذه المؤلفات:
1- مُساهمة في دراسة الأنسية العربيَّة في القرن الرابع. الهجري: مسكويه، فيلسوفًا ومُؤرِّخًا (1970).(/2)
Contribution a l'etude de l'humanisme areabe au IVe/xe siècle: Miskawayh philosophe et historien" Editionas Librairie Philosophique. J.Vrin> Paris, 2eme edition 1982.
2- وقد قامت مَجَلَّة "الفِكْر العَرَبي المُعاصِر" بنشر الفصْل الرَّابع من الكتاب مُترجَمًا إلى العربيَّة بقلم الكاتب هاشم صالح[2].
3- تَرْجمة كتاب "تهذيب الأخلاق" لمسكويه إلى الفِرنسيَّة مع مُقَدِّمة ودراسة، دمشق 1969.
4- "مُحاولات في الفِكْر الإسلامِيّ"، الطَّبعة الأولى سنة 1973 م، وقد أُعِيد طبعه للمَرَّة الثالثة مُؤخرًا في يونيو 1984م، "Essais sur la pensee islamique"> Editions Maisonneuve et Larose 1ere edition 1973, 3eme 1894,
وهو عِبَارة عن مَجْموعة مقالات ونُصوص مُحاضَرَات نُشِرَت في مَجَلاَّت استِشْراقِيَّة أو حَوْليَّات تَهْتَمُّ بالعالم الإسلامِيّ أو مَوْسُوعات فِرنسيَّة تاريخيَّة أو أكاديميَّة ما بين 1964 و 1969، تَطَرَّق فيها أركون إلى بعض أفكار مسكويه، وأبي الحسن العامري، والغزالي، والماوَرْدِيّ مع مدخل لدراسَة الفِكْر الإسْلامِيّ "التَّقليدي".
5- "الفِكْر العربي" طبع ضمن سلسلة "ماذا أعرف؟" "Que sais je?" الفِرنسيَّة سنة 1975، وأُعِيد طبعه سنة 1979. تُرْجِمَ إلى العربيَّة على يد الدكتور عادل العوا وطبع ضمن سلسلة " زِدْني علمًا " التي تنشرها " دار عُوَيْدات " ببيروت سنة 1982م.
6- "الإسلام: الأمس والغد" بالمُشَاركَة مع لويس غاردي بالفِرنسيَّة، الطَّبعة الأولى سنة 1978 وأُعِيد طبعه سنة 1983 (انظر المُلْحَق الخاص بهذه التَّرجمة بعد الفَصْل الرّابع من هذه الدراسة).(/3)
7- "الإسلام: دين ودنيا" بالمُشاركة مع ماريو أروزيو والمسْتَشْرق موريس بورمانس، المستشار لدى الكتابة الإيطاليَّة لغير المسيحيِّين "L'Islam: Religion et Societe, Editions du cerf Rencontres Islam", 1982" وهو عِبَارة عن حَلَقة إذاعيَّة من برنامج "الثَّقافة الدينيَّة" في إذاعة الجمهورية الإيطاليَّة "راديوطر" "Radiotre" تحت عُنوان "الزَّمن والأيام"، كان موضوع الحلقة هو "الإسلام: الدِّين والمُجْتَمَع" تحت إشراف المُذيع الإيطاليّ ماريو أروزيو، وهي الحَلَقة الافْتتاحِيَّة للبَرْنامَج. ولقد قدم محمد أركون للكتاب سواء في طبعته الإيطاليَّة أو طبعته الفرنسيَّة بمقدمة على شكل تنبيه، أشار فيها إلى أن الحِوَار الذي أُجْرِيَ معه لم يُحَضِّر له مُسْبقًا وإنما كان تلقائيّا، وبذلك فالحوار ومُخْتَلف الأجْوِبَة اكتُفِيَ فيهما بِطَرْح الأفْكَارِ وتَوْضيح المفاهيم. كما أشار في المقَدِّمة الفرنسيَّة إلى أنه من أجل ذلك اضْطَرَّ إلى إعادة صِيَاغة بعض الفقرات من حواره بالإيطاليَّة مع زيادة بعض الإضَافات.
كان يقوم بالتَّرجمة من الفِرنسيَّة إلى الإيطاليَّة حين إذاعة البرنامج المُذِيع م. أروزيو. ودار الحديث مع أركون حول : "التَّوتُّرات النَّبويَّة والحقائق التَّاريخية في الإسْلام" (Tensions prophetiques et realites historiques de l'Islam)، ومع المستشرق موريس بورمانس حول: "الإسلام بين المُطالَبَة بالرُّجوع إلى الأُصول وضرورة الإسْراع بالجديد" (l'Islam entre le reappel des origins et l'urgence du nouveau). وتجدر الإشارة إلى أنَّ الكتاب طُبِع بالإيطاليَّة سنة 1980، وبالفرنسيَّة سنة 1982، وقام بترجمته موريس بورمانس.
7- "قراءات للقرآن" بالفرنسيَّة (دجنبر 1982)، والكتاب يَتَضَمَّن سبعة بحوث مُتَفَرِّقَة سبق لمحمد أركون أن نَشَرَها في السَّنوات الماضية ضمن كتب ومَجَلاَّت غربيَّة اسْتِشْراقيَّة، هذه البحوث هي:(/4)
• "كيف نقرأ القرآن"، وهذا الفصل عبارة عن "بحث" قدم به أركون ترجمة معاني القرآن بالفرنسيَّة التي قام بها المُسْتشرِق كازيميرسكي (1808 – 1887)، دار كارنيي فلاماريون – 1970، باريس. وهي ترجمة تعوزها الأمانة العلميَّة، والفَهْم الصحيح لمعاني القرآن ومقاصده، علاوة على التَّحريف الواضِح في بعض الآيات. طبعت إلى ما يناهز ثلاثين طبعة ذكر أغلبها الدكتور صالح البنداق في كتابه "المسْتَشْرِقُون وترجمة القُرآن"، ص171، والجديد في الطَّبعة التي تَتَصَدَّرها مقدمة أركون في الدِّيباجة أنها تَجَنَّبَتْ الحلة القشيبة التي امْتازت بها سابقاتها فصدرت في شكل بسيط مَكَّن من يُسْر تناولها في السُّوق وزاد من مبيعاتها. وإذا كان كازيميرسكي بتحريفاته وخلطه للكلمات قد أشار إلى أنَّ القرآن تَتَناقَضُ بعض آياته، فإنَّ أركون قد ألمح لقارئ المُقدِّمة أنَّ القرآن لا يعدو أن يكون خطابًا ذا بنية أُسطوريَّة..
وقد قامت مجلة الثقافة الجديدة في عددها المُزْدَوَج 26/27، الصادِر في أواخر مارس 1983، بنشر هذه المقدمة تحت عُنوان "الوحي، الحقيقة التاريخ (نحو قراءة جديدة للقرآن)" ، وقام بالتَّرجمة إلى اللُّغة العربيَّة الكاتب المغربي العَرَبي الوافي.
• "مسألة صحة نسبة القرآن إلى الله"، وهو بحث نشر سنة 1977،
• "قراءة الفاتحة"، وهو بحث نشر بليدن سنة 1974،
• "قراءة سورة الكهف"، وهو بحث نشر سنة 1980،
• "هل يمكن الكلام عن العجيب في القرآن؟". وهو نَصُّ مُحاضَرَة ألقاها أركون ضمن النَّدوة التي نَظَّمَتْها الجمعية الفرنسيَّة لازدهار الدِّراسات الإسلاميَّة في مارس 1974 تحت شِعَار "الغريب والعجيب في الإسلام"، وقد نشرت دار "جون أفريك" سنة 1978 أعمال النَّدوة بأتمها ومن ضمنها بحث محمد أركون مع المناقشة الكاملة التي تلته، وأحسن الدكتور محمد أركون بإضافتها إلى نَصِّ محاضرته في كتابه المذكور.(/5)
• "مدخل لدراسة العَلاقة بين الإسلام والسِّياسة"، وهو بَحْث قدم من طرف أركون في إطار المُنَاظَرَة الدوليَّة لعلوم الاجتماع الدينيَّة المُنْعَقِدَة بإيطاليا سنة 1979. وقد قامت بنشرة بعد التَّرجمة إلى العربيَّة مَجَلَّتان عربيَّتان، الأولى مجلة "الباحث" في عددها السادس، يوليوز – غشت 1980، ص 9 – 2 والثانية مجلة "مَواقِف"، عدد 37 - 38، بترجمة وملاحظات هاشم صالح، ص 154 – 173، والتَّرجمة الأولى بمجلة "الباحث" تَنْقُصها الأمانة العلميَّة حيث أن أَغْلب الآيات القُرآنيَّة التي يحتويها البَحْث مليئة بالأخطاء. * "الحج في الفِكْر الإسلامِيّ"، وهو بحث نشر لأركون ضمن كتاب طُبِع بتونس سنة 1977 تحت عُنوان: "الحج إلى مَكَّة".
وأضاف مُحَمَّد أركون لبحوثه القديمة هذه بحثًا جديدًا عنوانه "حصيلة الدِّراسات القُرآنيَّة وآفاقها"، انتقد فيه مناهج القدماء في الدِّراسات الإسلاميَّة وارْتَكَز فيه خاصَّة على كتاب "الإتقان في عُلُوم القرآن" للسُّيوطي، وقد قامت مجلة 15 – 21 التُّونسيَّة بترجمة ونشر الجزء الأخير من هذا الفصل تحت عنوان "آفاق الدِّراسات القُرآنيَّة"، بتقديم وترجمة الدكتور عبد المجيد الشرفي في عددها الخامس – ماي 1983 – ص26 – 29.
8- "نحو نقد للعقل الإسلامي"، على غرار "نقد العقل الخالص" لايمانويل كانط، أو "نقد العقل الجدلي" لجان بول سارتر، وهو آخر كتب الدكتور محمد أركون (يونيو 1984)، ضمنه مقالات سَبَق نشرها في كتب ومجَلاَّت وحَوْليَّات مُتَفَرِّقَة وقدمه بمقدمة فيها عصارة فكره بعُنوان "كيف نَدْرس الفِكْر الإسلامِيّ"، قامت بنشرها مجَلَّة "الفِكْر العربي المعاصر"، عدد 32 – أكتوبر 1984 – تحت عُنوان "المنهجيَّة المُعاصِرَة والفِكْر الإسْلامِيّ" بترجمة هاشم صالح. وأهم البحوث المدرجة في الكتاب هي:(/6)
• "نحو إسلاميَّات تطبيقيَّة"، وهو الفصل الأول من الكتاب، وموضوعه نَصُّ مُحاضَرَة ألقاها مُحَمَّد أركون في مؤتمر الدِّراسات الشَّرقِيَّة الذي انْعَقَد في باريس سنة 1976، قَامَتْ مجلَّة "الفكر العربي المعاصر" بنشرها في عددها المزدوج 6/7 – أكتوبر – نوفنبر 1980، ص 27 – 35 ترجمة هاشم صالح بعنوان "حول الانتروبولوجيا الدينيَّة – نحو إسلاميَّات تطبيقيَّة".
• "مفهوم العقل الإسلامِيّ" وهو الفصل الثاني، نشر ضمن حَوْلِيَّة إفريقيا الشَّماليَّة لسنة 1979، المجلد الثامن عشر، وأُعِيد نشره ضمن كتاب "المغرب العربي المسلم سنة 1979" الذي نشره "مركز الأبحاث والدِّراسات لمُجْتَمَعات البَحْر الأبيض المتوسط" سنة 1981، ص305 – 339. وقد قامت مجلَّة "الزمان المغربي" في عددها الثاني عشر الخاص عن الدِّين والدَّولة بنشره مُتَرْجَمًا إلى العربيَّة، دون أن تشير إلى أصل المقال ولا الكتاب الذي اقتبس منه، كما أنَّ المُتَرْجِم تنقُصُه الخِبْرة وسِعَة الاطِّلاع، وهو أمر يُسْتَخْلَص بسهولة من ركَاكة الأُسلوب والتَّرجمة الحَرْفِيَّة لعديد من الكَلِمَات مما مَسَّ بالمعنى المقصود في النص[3].
• "ملامح الوعي الإسْلامِيّ"، وهو الفصل الثالث، نشر سنة 1977 ضمن كتاب أصدرته مُنَظَّمة اليُونِسْكو بعُنوان "فكر وقيم الإسلام"، ص 67 – 93، وقد تحامل فيه أركون على أنور الجندي مُعْتَمِدًا على كتابه "الإسلام والدَّعَوَات الهَدَّامَة".
• "السُّلْطَة والسِّيادة في الإسلام" وهو الفصل الخامِس، نُشِر هذا البحث ضمن كتاب مُعَنْوَن "السلطة والحق" سنة 1981، ص 145 – 182، وقامت بنشره مُتَرجمًا إلى العربيَّة مجلَّة "الفِكْر العربي المعاصر" – عدد 12 – ماي 1981، ص 46 – 56، تحت عُنوان "السِّيادة العُلْيا والسُّلُطات السياسيَّة في الإسلام"، ترجمة هاشم صالح.(/7)
وقبل أن نقدم على طبع هذا الفصل من مقالنا بالمجلَّة، علمنا أن مركز الإنماء القَوْمي ببيروت والمُشْرِف على إصدار مجلَّة الفِكْر العربي المعاصر قد أَقْدَم على إصدار الطَّبعة العربيَّة للكتاب المذكور تحت عنوان: "تاريخية الفكر العربي الإسلامي" بترجمة هاشم صالح. وهذه الطبعة العربيَّة تثير من جانبنا ملاحَظَتَيْن:
• الأولى عدم ذكر اسم المترجم هاشم صالح على واجِهَة غِلاف الكتاب رغم الجُهْد الذي بَذَله في التَّرجَمَة وتوضيح بعض أفكار أستاذه مُحَمَّد أركون، وهو إجحاف في حقه من طرف الناشر (مركز الإنماء القومي).
• الثانية أنَّ الطَّبعة العربيَّة تَخْتَلِف عن نَصِّ الكتاب بالفرنسيَّة، فالفصول الستة هي هي في كلا الكتابين إلاَّ أنَّه ابتداء من الفصل السابع استبدل أركون الفصول الستة الباقِيَة من كتابه بالفرنسيَّة بفصلَيْنِ آخرين هما:
- "الخطابات الإسلاميَّة، الخطابات الاستشراقيَّة والفكر العِلْمِيّ"[4]، "الإسلام والعلْمَنَة"[5].
وبهذا يُصْبِح الكتاب المُتَرْجَم كتابًا آخر مُخالِفًا للكتاب الأصل بالفرنسيَّة. وقد أشار محمد أركون في مقدمة كتابه بالفرنسيَّة أنه قد رَضَخَ لرغبة النَّاشر في عدم إدراج عديد من نصوص مُحاضراته ومَقالاته، ومن ضِمْنِها المقالَيْنِ المُشار إليهما، ولعل الرَّغْبَة الأكيدة والمُلِحَّة في إدخال العلْمَنَة إلى صفوف مُثَقَّفِي الشعوب الإسلاميَّة، وجعل من كانوا يَسْتَتِرون منهم بِتَبَنِّيها يَجْهرون بها ويدعون إليها، هي التي حدت بكاتبنا إلى إدراج فصل "الإسلام والعلمنة" في الطبعة العربيَّة للكتاب والذي أعادت نشره مجلة "دراسات عربية" في عددها الخامس، مارس 1986؛ لتُوَسِّع بذلك شبكة قرائه. ولن يفوتنا أن نَقْتَبِسَ منه في دراسَتِنَا هذه حول الفِكْر الأركوني بعض اللَّقطات للدَّلالة على عَلْمَنة هذا الفكر ودعوته للعِلْمانيَّة.(/8)
ورغم أن القارئ لهذا المقال سيتمكَّن من تكوين نظرة حول فكر الدُّكتور مُحَمَّد أركون من خلال إطلاقه على حديثنا في الفصل الثاني المُخَصَّص للدَّوافع التي دَعَتْنا إلى تناول مشروع محمد أركون بالدِّراسة والبحث، وكذلك الفصل الرَّابع المُتَعَلِّق بعرض آراء وأفكار مُفَكِّرِنا نقلاً عن نصوص مُحاضَراتِه وكتبه، فإننا ارْتَأَيْنَا هنا، ونحن بصدد التَّعريف به أن نَعْرِضَ مُوجزًا لفِكْره ونظرته للفِكْر الإسلاميّ، ولهذا سنفسح المجال له؛ ليُحَدِّثنا بنفسه عن فِكْره وأهدافه، ثم نَنْتَقِل إلى استضافة بعض مؤيديه أو تلامذته من العالم العَربي؛ ليُدْلُوا لنا بآرائهم نحوه، دون أن نَمْنع أنفسنا من حَقِّ المشاركة في الحوار الصَّامت الهادئ.
ونَوَدُّ أن نُشِيرَ إلى أننا مَهْما غُصْنا في بحر آراء وأفكار الدكتور محمد أركون، ومهما درسنا كتبه ونصوص مُحَاضَراته، ومهما أَنْصَتْنا لتَصْريحاته واستِجْواباته، فإنَّنا لن نستطيع أن نعرف معرفة شامِلَة جميع الأهداف والغايات التي يصبوا إلى تحقيقها من خلال نِتَاجه الفِكْرِيّ وتحركه الثَّقافي. ذلك أنَّ أركون صَرَّح شخصيًّا أنه يحتفظ لنفسه بمجموعة من الآراء في الفِكْرِ الإسلامِيّ والثَّقافة العربيَّة الإسلاميَّة وعدم توضيح الأهداف المُتَوَخَّاة من خلالها إلى أن تنضج الثَّقافة العربيَّة، وتستعد الشعوب الإسلاميَّة لتقبلها. يقول محمد أركون:(/9)
"... فالحُرِّية السياسيَّة غير مَوْجُودة للأسف في الدول المعاصرة؛ كما أنَّه لا يسمح للمُثَقَّفين العرب بأن يكتبوا بحرِّيَّة في صحف أوطانهم، وأقصد هنا الكتابة العلميَّة لا الكتابة السياسيَّة. وإذا كتبت شيئًا عن هذه الموضوعات فلابُدَّ أن تُراقِبَ نفسك، لذلك لا يمكن أن تقول كل ما يجب أن يقال، ولا يمكن أيضًا أنْ نَطْرَح بعض المسائل بسبب الرِّقابة وهي أحيانًا ذاتيَّة. أنا مثلاً كأستاذ وباحث أَوَدُّ أن أَطْرَح بعض الأسئلة، لكني لا أستطيع أن أفعل ذلك كما يقتضي العلم، لأنِّي أريد أن أبْقى في اتِّصال مع العَرَب؛ كي نَتَقَدَّم في حَلِّ بعض المشاكل دون أن تَنْقَطع الصِّلَة بين الباحث وسائر الناس. لهذا أقبل بالرغم من أني أتمتع بكل حريتي هنا كأستاذ في السُّوربون أن أفرض على نفسي هذا النوع من الرِّقابة، لأنِّي أفهم أن الباحث لا يحق له أن يَجْرَح نفوس الذين لا يَزَالُون غير مُسْتَعَدِّين ليفهموا ويُدْركوا بعض المشاكل التي يمكن أن تُطْرَح. هذه الأمور كلها تجعل الفكر العربي لا يقدم على طرح المشاكل التي لابد من طرحها في هذه الفترة. وعلى التَّخَلِّي عن هذه المواقف الأيديولوجية التي يفرضها نوع من الإجماع الاجتماعيّ والسِّياسِيّ السَّائد عندنا. هذه هي العَرَاقيل وهي كما تَرَى نفسيَّة وابستمولوجية ... هناك محرمات"[6].
وفيما يلي مَجْمُوعة من مقالات وتَصْريحات مُحَمَّد أركون مُقْتَبَسَة من بعض مُحَاضَراته وكتبه واستجوابات له مع بعض المجلاَّت العربيَّة، عمدنا إلى نقلها بشكل يجعل منها حوارا مُنَسَّقًا يُقَدِّم من خلاله محمد أركون أفكاره وآراءه دون تَعَسُّف أو اخْتِزَال، مُجْتَنِبِين كُلَّ حذف مقصود أو تضخيم مُفْتَعَل لما تحمله الفقَرات من مَعَانٍ وأَفْكارٍ إلاَّ ما يقتضيه الاخْتصار ويَدعُو إليه التَّركيزُ.(/10)
وكما سيلاحظ القارئ، فإن الفقرات الأولى تجلب الباحث وتستهويه وتثير فضوله؛ ليطلع على إمكانيَّة توظيف الاتِّجاهات الجديدة للعُلُوم الإنسانيَّة في الفِكْرِ الإسلاميّ عامَّة، وفي الدِّراسات القُرآنيَّة خاصَّة. وقد حَرصْنَا على إدراجها نَظرًا لما تَقْتضيه الأمانة في البحث، وما يستلزمه التَّنبيه لما يحتويه الخِطَاب الأركوني من استهلاك للأُسْلُوب الجاذِب المُغْرِي من خلال الدَّعوة إلى التَّحديث والتَّجديد في مَجَال الفِكْر والبَحْث.
يقول الدكتور محمد أركون:
".. أعود إلى التُّراثِ لأنَّ المُجْتَمَعات العربيَّة تعود إليه وتطالب به. إذن الأمر لا يتعلق بي شَخْصِيًّا ولكنه يتعلق بالمجتمع العَرَبي. أسمع في جميع البيئات العربيَّة جميع الناس يطالبون بالرجوع إلى التُّراث ويستخدمون التُّراث؛ كوسيلة إيديولوجية ووسيلة للكفاح، ويزعمون أنهم يستخدمونه؛ كوسيلة ثقافية علميَّة من أجل مُكَافَحَة الغرب الذي تَغَلَّب ثقافيًّا على المجتَمَعَات العَربيَّة[7].(/11)
• ".. أنا أنتمي في فرنسا، إلى جَامِعَة مَعْروفة جدًّا بالحُرِّيَّة الوَاسِعَة التي تَمْنحها لكل أعضائها؛ لتوجيه أبحاثهم في السُّبُل التي (يرونها) أفضل، أفضل علميًّا، وأفضل من حيث ما يمكن أن يَعْتبره كلُّ فرد على حدة بمثابة التزامه الشَّخْصِيّ، في عالم المعرفة وفي المُجْتَمَع الذي يعمل فيه، والمجموعة التي ينتمي إليها في الآن عينه. والشيء الثاني الذي يَرُوق لي، وأنا مُبْتَهِج بذكرك له وهو كوني صاعِدًا من ثقافة أقول إنَّها إسلاميَّة، وأتردد بأنْ أقول عربيَّة؛ لأن المشكل مطروح في الجزائر كما تعلم، لنَقُل (إنها الثَّقافة العربيَّة الإسلاميَّة)، أَجَل هذا يُنَاسِبُنِي، وقد أَحْسَسْتُ دائمًا بِتَضَامُن تاريخيّ مع المَجْموعة الإسلاميَّة، في التَّاريخ، في القِيَم في التَّدريس، والتي طبعتني في أسرتي الصَّغيرة حيث كان الإسلام يَتَمَتَّع دَوْمًا بحُضُور حيّ وفَعَّال، ولأنَّني أَحس بهذا التَّضامن مع هذا المجموع التَّاريخي، فإنَّ أبحاثي وأعمالي الجامعيَّة ارتَبَطَتْ وتَلَبَّسَتْ بها. وقد عَبَّرَتْ منذ بعيد، عن هذا الموقف الذي يقوم على البحث عن مسائل؛ كباحث ومدرس، ليس فقط في المِضْمَار الجامِعِيّ وبالخضوع إلى مُقْتَضَيات جامعيَّة، ولكن انطلاقًا من حقل مُحَدَّد، هو حقل المُجْتَمَعات الإسلاميَّة. وكمثال على هذا فإن كل المشاكل التي عِشْتها في الجزائر شخصيًّا حين كنت طالبًا، وقت الحضور الفِرنسيّ، وفي جامعة كانت خاضعة لوزارة فرنسيَّة، أذكر أنني عِشْت احتدادات قَوِيَّة شأن كل جيلي في الجزائر بين تعليم يجيئنا من فرنسا وبين مشاكلنا؛ كجزائريين تتعلق بالعصريَّة، والتي لم نكن نجد من يجيب عنها في الجامعة. وقد أَحْسَسْت بهذا عميقًا وطبعني، ورسبت في نفسي قناعة، هي، في آن واحد، ثقافية وتاريخية، بأن أجيب وبكَيْفِيَّة مَنْهجيَّة على أسئلة مطروحة من قِبَل المُجْتَمَعات، ومنها مُجْتَمَعي، ولكن عوض تقديم(/12)
إجابات إيديولوجية، وبطريقة نِضَاليَّة، أي بالانتماء إلى حِزْب سياسي، أقول عوض ذلك اخترت شخصيًّا الطريق العلمي، وهو اختيار عمدي، ولم أتَخَلّ عنه أبداً لقد اخترت الرد على تلك الأسئلة على الصَّعيد الثقافي والعِلْمي، وبمنهج البحث العلمي هذا هو ما أَتَبَنَّاه قويًا بالنِّسبة لموقفي الشَّخصي، ... إن هذا يجعلني أحارب على جَبْهَتَيْن، أحارب داخل المجتمع العربي الإسلامي اتجاهًا ذا سيطرة وتوسع، وهو الاتجاه الذي يريد إعطاء الأَوْلَويَّة للحَلِّ الإيديولوجي لمشاكِلِنا بدل حل قائم على البحث العِلْمِيّ. وفي نفس الوقت أُحَارِب ضد نَوْع من الاسْتشراق يزعم المراكمة المعرفية، ومُرَاكمة مَعلومات تقنيَّة عن هذه المرحلة من التَّاريخ حول تلك المسألة إلخ.. دون الاهتمام بربط نشاط الباحث بالمُتَطَلِّبات القائمة والمُلِحَّة لمُجْتَمعاتِنَا . إنَّ هذا واضح تمامًا، ويعرفه طلابي في ما أدرسه، وهو بَيِّن ، كذلك، في ما أنشره ...(/13)
إنَّ أحد ميادين تطبيق هذا المسار الذي اخترت، والذي فرضته علي الأحداث كذلك، هو دِرَاسة القرآن. ولكنها دِراسة بمثابة إعادة قراءة مُسْتَنِدَة، في آنٍ واحِد، على كل التَّجارِب الثَّقافيَّة التي بَلْوَرَها الفِكْر الإسلاميّ على قاعدة القرآن في المرحلة الكِلاسِيكيَّة، وكذا على الاستعمال الحالي للنَّصِّ القُرْآني من قِبَل المسلمين في مُخْتَلَف المُجْتَمَعات الإسلاميَّة. وهو استعمالٌ مُغايِر لما كان عند مُفَكِّرينا القُدامى، وهذا من النَّاحية الثَّقافِيَّة. وبالطبع فإنَّ المسلمين أَحَسُّوا أنَّهم يعيدون إحياء القَوْل القُرآني، إنهم يعيشون بالقول القرآني، ولكنهم لا يحسُّون، وهذا بسب غياب مَسْعى ثقافي ملائم، إنهم يعشون القرآن إيديولوجيا بكثافة؛ لأنَّ القرآن يَشْغَل وظيفة سيكولوجية مهمة، إنَّ هذا لا جِدَال فيه، ولكن هذا أيضا يعمي المسلمين عن أن يعيشوا القرآن ثقافيًّا؛ كما عاشه فقهاء وفلاسفة المرحلة الكلاسيكيَّة. إن هذا يشغلني ويسكنني وجوديًّا وثقافيًّا، وهو ما أعنيه بإعادة قراءة القرآن، وهو مثال يُبَيِّن تَجَذُّر البحث والتأمل، فيما يجري حاليًا في الاستعمالات التي نقوم بها نحن المُسْلِمين، بصرف النَّظر عن استشراق أو غَرْبنة، استعمالات بل مُناورات نقوم بها لأهداف وحاجات عاجلة، هي ليست حاجات ثقافيَّة، ولكنها سياسيَّة، اجتماعيَّة، سيكولوجيَّة، وبصنيعنا هذا نقيم عوائق أمام دخول حقيقي للثَّقافة الإسلاميَّة، وللصُّعوبات الرَّاهِنَة لاستعمال هذه الثَّقافة. وبالطَّبع، فمن أجل إكمال هذا العمل، أي دراسة الماضي بتاريخ، وبمنهج تاريخي نقدي، لا يتنازل في شيء لا للتَّمجيد أو الزَّهْو ولا للسُّهولة التي تَتَواتر عند العديد ممن يبحثون في هذا الميدان، ويتحدثون عن العَصْر الذَّهَبِيّ (1)، للوصول إلى هذا الفِكْر الكِلاسيكيّ وإلى غناه، والنَّظَر في كَيْفِيَّة ترابطه مع المُتَطَلَّبات الحاليَة، فإنني(/14)
أَعْمَد إلى الاستمداد مما أسْمَيْته الفِكْر العِلْمِيّ المُعاصِر"[8].
• "... إنَّ البحث العِلْمِيّ المعاصر لم يُعْنَ -حتى الآن إلا قليلاً، وفي جامِعَات مَعْدودة ومُحَدَّدة-، بالتَّاريخ المقارن للآداب والأدْيَان، والنُّظم السياسيَّة، وطُرُق الإنتاج ودراسة اللُّغات. إن الفِكْر العَرَبي في حاجة ماسَّة إلى هذا الاتجاه في البَحْث العِلْمِيّ. وهو كان قد استَغَلّ ثقافاتٍ عدة في عصره الكلاسيكي الذَّهبي، ثم يُجَابِه الآن ومنذ القرن التاسع عشر تَفَوُّق الثقافة الغربيَّة التي يَتَلَقَّاها؛ كغزو فِكْريٍّ أكثر مما يُجَابِه تحدياته بوسائل علمية فكريَّة منفتحة على الإشكاليَّة الحديثة.
إني مُرْتَبِط بالمُعْطيات الوَاقعيَّة المُسْتمَدَّة من مُشاركتي في التَّطوُّر التَّاريخي للمجتمع الجزائري والمغربي بشكل عام، كما أني أحاول متابعة التَّيارات العلميَّة في مَيْدان العلوم الإنسانيَّة والاجتماعيَّة، وأَخُصُّ بالذِّكر منها علم الألسنيات الذي يختلف كثيرًا عما يسمى بعِلْم اللُّغة أو فِقْه اللُّغة. كما أني مُهَتَمٌّ بعلم التاريخ؛ كما تمارسه مدرسة الحَوْليَّات منذ الثلاثينات. ثم إني أُتَابِع ما ينتجه علم الأنتروبولوجيا، وعلم النفس التاريخي، والسويولوجيا التاريخية، وفلسفة العلوم.(/15)
كل هذه الاتِّجاهات العلميَّة في البَحْث كانت قد ظهرت بعد سني الخمسينات والستينات، وهي تُصاحِب اليوم الانْتقالات الحضاريَّة، والثورات السياسيَّة، والاجتماعيَّة التي تتابع في العالم منذ حوالي ثلاثين سنة. إنه لابُدَّ للفِكْر العَرَبيّ الإسْلاميّ إذا ما أراد أن يَنْهَض من مُتابَعَة هذه التَّيَّارات. لا ليخْضَع لها خضوع المُتَعَلِّم المُقَلِّد، وإنما لكي يُشَارِك في تطويرها وتوجيهها، ويشارك في المناقشة الخَلاَّقة التي تدور الآن حول صِحَّتِها العِلْمِيَّة ووظائفها التاريخيَّة . بهذه المشاركة العلمية وبها وحدها يمكن أن ننتقل من مرحلة التَّلَقي والتأثر والتقليد (الذي يمتزج بالرَّفض، وعُقَد النَّقص، والمُماحَكَة الأيديولوجية العقيمة) إلى مرحلة الإنتاج، والخلق، والسِّيادة الفِكْريَّة"[9].(/16)
"... لم يَزَل قَصْدي الأول في البحث والنَّشْر توجيه عامَّة المسلمين نحو الطرق المُسْتحدثَة في التَّفكير والاتِّصال بالتاريخ، وتفهم ما يجري في مُجتمعاتنا المُعاصِرَة.. إنَّ المشكلة أَعْوص مما يتصوَّره معظم الناس بل المُتَخَصِّصون بمهمة التَّعريب ، إنَّ الباحث العربي في مَيْدان العلوم الإنسانيَّة بعد الخمسينات، يقف لا مَحَالة حاشرًا بين اثنين: إمَّا أن يعتني بإحياء التُّراث مُفَتِّشًا عن المخْطُوطاتِ القَديمة، جامعًا لها، مُحَقِّقًا لبعْضِها على الطَّريقة الفيلولوجية السليمة، معلِّقًا عليها على الطَّريقة التاريخيَّة المستوعبة للأسماء والأخبار والأماكن والأفكار، وإمَّا أن يميل إلى تأليف الكتب التاريخيَّة النَّقديَّة مُسْتَخْرِجًا من الوثائق القديمة ما تَحْتَويه من معلومات وسير وتأويلات ونَظَرِيَّات. وإذا اختار عمل التأليف والاستنباط الانتقادي، فلابد له أن يجتهد اجْتِهَادَيْنِ مُخْتَلِفَيْن: يجب عليه أن يتبع الإنتاج العِلْمِي الضَّخم في جميع اللُّغات، وسائل الميادين من ألسنية (أو اللسانيات)، وأنتروبولوجيا، وأتنولوجية وسوسيولجية، وعلم النَّفس، والنَّقد الأدبي، والتاريخ طبعًا (يكاد علم التاريخ؛ كما يمارسه المُتَخَصِّصون اليوم يجمع بين العُلُوم الإنسانيَّة كلها)، ثُمَّ على الباحث العربي أن يُلِمَّ في نفس الوقت بكل ما أَبْدَع القدماء من نَظَرِيَّات، واصطلاحات، ومناهج، وما جمعوا من أخبار ومعلومات لا لينقلوا ذلك إلى لغتنا العصريَّة مع شيء من التَّعديل والتَّرتيب والتَّسهيل للمَوَاد؛ بل ليُبْرِزوا رُوح كُلِّ عصر من العُصُور، وأسرار كل علم من العُلُوم، ووظائف كل مذهب، وكل تَيَّار إيديولوجي، وانْحِيازات كل شَخْصِيَّة من الشَّخْصِيَّات التاريخيَّة.(/17)
يعني هذا أنَّ الباحث المعاصر قد انتقل، أو يجب عليه أن ينتقل من التاريخ الراوي المؤكد للأيديولوجيَّة الصريحة أو الضمنية التي لا يخلو منها أي إنتاج بشري، إلى التاريخ المثير لمشاكل التفهم والانتقاد لجميع ما وَصَل إلينا مما نُسَمِّيه تُراث"[10].
وكما كان بِوِدِّنا أن نَسْمَع ونَتَّبع ما يقول أركون، ونحقق معه الهدف المنشود بإعادة تدوين التَّاريخ العربي الإسلامِيّ الاجتماعِيّ، والسِّياسِيّ، والثقافي مُستفيدِين من إيجابيَّات العلوم الإنسانيَّة والاجتماعيَّة الحديثة، لولا تصريحات أخرى عَبَّر عنها جعلتنا نتحفظ عن كل مساندة لمشروعه، ونأخذ حَذْرنا من كل دعوة يدعو إليها أو هدف يَصْبُو إليه.
من هذه التَّصريحات:
• "إنَّ الغرب بشكل عام، وفرنسا بشكل خاص قد وقعا في موقف مُتَطَرِّف ضد الدين يقابل الموقف المُتَطَرِّف السائد في المُجْتَمَعات الإسْلامِيَّة، والذي يستبعد كل حُرِّيَّة فكْرِيَّة أو نَقْديَّة باسم الدِّين. وبقدر ما يمد المسلمون من سلطة الدين؛ لكي تشمل مجالات الوجود والمجتمع من أجل ضبطها والسَّيْطَرة عليها بقدر ما نجد المُتَطَرِّفين العِلْمَانيين في فرنسا يخلون ساحة الحياة العامة من كل ما هو ديني. أنا مع العلْمَنَة وبقوة، ولكنِّي أرفض أن يمنع المتطرفون العِلْمَانيُّون دراسة الأديان بصفتها ظواهر ثقافيَّة كبرى، عاشتها البشريَّة خلال قرون وقرون. إني أعرف مُثَقَّفين فرنسيين يخجلون من التَّحدث أمام جمهور ما عن القضايا الدينيَّة خَوْفًا من أن يُنْعَتُوا بأنهم رَجْعِيُّون أو مُتَخَلِّفُون.. ينبغي أن لا ننتقل من موقع مُتَطَرِّف إلى موقع آخر. وينبغي أن نَتَّفق على مفهوم العلْمَنَة فلسفيًّا. ما العلْمَنَة؟ إنَّ العلمنة هي موقف للفِكْر أمام مُشْكِلَتَيْن(/18)
- الأولى: مُشْكِلَة المعرفة. كيف يمكن أن نَعْرف الظَّواهر؟ كيف يمكن أن نَفْهَم العالم بشكل دقيق ومطابق؟ لا يجوز حرمان الإنسان من حق الفَهْم بحُجَّة أي شيء كان..
- الثانية: كيف يمكن إيصال هذه المعرفة بعد اكتشافها وبلورتها إلى الآخرين؟ عندما نتوصل إلى نتائج جديدة ومُحَدَّدة في مجال عِلْمِيّ، ما تبقى علينا مَسْؤولية لا تَقِل أهميَّة عن الاكتشاف هي مسؤولية التَّوصيل أي توصيل هذه النتائج إلى الآخرين، إلى الجمهور.لقد عانَيْتُ من هذه النَّاحية كثيرًا ولا أزال فيما يخص بحوثي المُتَعَلِّقَة بالفِكْرِ الإسْلامِيّ، والفكر العربي إنها مُشْكِلَة شاقَّة..."[11].(/19)
• "... إنَّ الكائن الإنساني مُرَكَّب من العَقْل والعاطِفَة أو الخيال معًا، وليس من أحدهما فقط. ولكننا نجد في بعض الأوساط التقليديَّة التي تسودها العلوم النَّقليَّة أن الجانب العاطِفِيّ، والخياليّ يتغلب على المعرفة النَّقديَّة. فمثلاً نجد أنَّ ممارسة كتابة التَّاريخ لم تُؤَثِّر مُطْلقًا على العلماء المسلمين المُعَاصرين الذي يَسْتمرُّون في التَّكلُّم عن الحديث النَّبوي على طريقة الحِلِّي وابن تيميَّة. إنهم لا يعرفون المناهج الحديثة التي يطْرَحُها المؤرِّخون اليوم[12]. وهم يجهلون بعد الخيال أو "المخيال؟" جَهْلاً تمامًّا. بمعنى آخر، إنهم يعيشون داخل ذِهْنِيَّة خياليَّة ولكنهم يتوهمون أنهم يتحلون بعقلانيَّة عميقة وحقيقيَّة.. هذه هي المشكلة العَويصَة. إنهم يعيشون داخل الخيال الجمَاعِيّ (الذي يمثل قُوَّة اجتماعيَّة ضَخْمَة) ويعبرون عنه؛ وكأنه يمثل عقلانيَّة عُلْيَا مُتَفَوِّقة لا تَقْبَل النِّقاش (يعني أركون بهؤلاء؛ كما أشار الدكتور هاشم صالح الذي أجرى معه الحوار والذي اقتبسنا منه هذه الفقرة- السادة: أنور الجندي، ومحمد سعيد رمضان البوطي، ومحمد الغزالي وغيرهم ممن تلقى كتاباتهم نجاحاً في الأوساط الإسلاميَّة). ولذلك فمن الصَّعْب أن نُبَيِّن لهم أن ما يعيشونه ويفهمونه؛ وكأنه عقلانيَّة كاملة لا يعتريها النَّقص ليس في الحقيقة إلا عبارة عن تَصوُّرات مَنْقولة تقليديًّا عن طريق المخيال الاجتماعي. هكذا تنعكس الأمور تمامًا. وبدلاً من أن يكون الديالكتيك واقفًا على رأسه يصبح واقفًا على قدميه. هذا ما ينبغي تبيانه عن طريق التحليل التاريخيّ.(/20)
إنَّ التُّراث الثَّقافيّ المُسَيْطِر في بلد ما لا يمكن تغييره، أو مَحْوه بين عَشِيَّة وضحاها. لا يمكن إدخال العقلانيَّة التاريخيَّة إلى البُلدان الإسلاميَّة بين يوم وليلة. بدون شك، يمكن بسهولة استيراد الغَسَّالات والبرادات وحتى السَّيَّارات وإدخالها إلى أرياف العربيَّة السعوديَّة، والعراق، ومصر، وسوريا، إلخ.. دون أن تتغير عقليَّات الناس بشكل جذري . إن تغيير الحساسيَّة صعب جدًّا. أَقْصُد بالحساسيَّة هنا طِرَاز إدراك العالم، والواقع ونَوعِيَّة النَّظْرَة إليهما. ينبغي أن ينال التَّغيير المنشود طريقة التَّغيير عن هذا الواقع في اللُّغة، ومن خلال اللغة. ينبغي تغيير اللُّغة أيضًا: أي عَلْمنتها، وعقلنتها كل هذا يحتاج إلى زمن طويل. هذا هو الشيء الذي يضغط بشكل هائل على مصير المُجْتَمَعات العربيَّة والإسلاميَّة. لهذا السبب بالذَّات فإنِّي أُوَلِّي مكانة مهمة لتغيير العامل الثَّقافي والفِكْري"[13].
• ".. في الإسلام، حول التَّفسير التَّقليدي، والممارسة الأخلاقيَّة الشرعيَّة السياسيَّة بسرعة القرآن وتَجْرِبَة النَّبِيِّ الدينيَّة إلى جملة من التَّعاريف، ومن القواعد الجامدة، ومن السُّلُوكيَّات الضَّاغِطَة، هذا الانتقال من القوى إلى الأشكال – الظاهر في كل الأديان – لم يُثِر اهتمام المفكِّرين المسلمين المعاصِرين. ولهذا من المفيد أن نَطْرَح مواضيع البحث والتَّأَمُّل التَّالية:(/21)
أ- يستعمل القرآن شَكْلاً لُغويًّا. ونماذج ثقافيَّة. ومراجع أُسْطوريَّة وكونيَّة، ومؤسساتيَّة، وتاريخية يدركها الجمهور العربي من أهل القرن السابع الميلادي لِحَضِّ الإنسان على أن يَعِي أوضاعه المحدودة؛ ككائن حي ، ميت، متكلِّم، ذكي ، سياسِيّ ، تاريخيّ . هناك إذن عَزْم قرآني ديناميكي. القرآن لا يفرض حلولاً نهائية للمشاكل العمليَّة للوجود الإنساني إنَّه يعمل على بَعْث نَوْع من نَظَر الإنسان إلى ذاته. إلى العالم إلى الآيات التي تُشَكِّل بالنِّسبة لكل الناس، وليس فقط بالنِّسبة للمسلمين بالمعنى الضَّيِّق للشَّهادة – أفقاً ميتافيزيقيا. إلى هذا المُسْتَوى العميق من الدَّلالة يهدف نشاط الدين – القوى . ولكن من أجل الوصول إلى هذا المستوى، يجب تجاوز الطَّبقات المُتَرسِّبة عبر التاريخ التَّفسيري، وعبر العادات الأُسْطوريَّة والأيديولوجيَّة في الأوساط الاجتماعيَّة المتنوعة. هكذا تَمَكَّنَّا من أن نميز بين الحدث القرآني، والحدث الإسلامي.
ب- من النَّاحية الأنتروبولوجيا الدينيَّة، يعتبر الحدث القرآني كما حددناه الشبه العربي (المنتقل والمنقول فعلاً إلى لغات أخرى) للحدث التوراتي، والحدث الإنجيلي. والدِّراسة المُعَمَّقة للأحداث الثلاث ستتيح تعميق فكرة الدين – القَوي في المجال السامي. وحدها هذه الدراسة ستمكن من مواجهة مشكل معاصر وأولي: إلى أيَّة حقيقة إيجابيَّة، منظورة، مُحَدَّدة، ترجع تعابير الدين – القوي، والعزم الدينين. والأفق الميتافيزيقي، والحدث القرآني، والتوراتي، والإنجيلي، التي استعملناها آنفا. وكيف تختلف هذه الحقيقة عن التي تغطيها الإيديولوجية. حول هذه النقطة بالذات، يتجابه ويختلف؛ كما هو معلوم وبشكل قاطع، التَّحليل الماركسي الموصوف بالعلمي، والنظرة الدينيَّة الموصوفة بالمثاليَّة...(/22)
جـ- إلى دخول العقل مجال الشَّكِّ، فإنَّ الحدث القرآني ؛ كالحدث التَّوراتي؛ والحدث الإنجيلي – يمكن وصفه بأنه عبر التاريخ : لقد مر بالفعل من كل المراحل التاريخيَّة دون أن يفقد من قوته الاستجوابيَّة حول الكائن في العالم المخلوق المتسائل عن أصوله، عن معنى حياته وموته، عن موقعه في العالم، عن علاقته بالكائن الأسمى، وبالآخرين...
د- نفهم إذن، ضمن هذه الظروف، لماذا إعادة قراءة القرآن ضَروريَّة تاريخيًّا وأنتروبولجيا وأبستيمولوجيا. ليس القصد "استرداد" نص اعتبر حيويًّا من قبل أو لصالح الأمة، بألاعيب ماهرة. المُهِمُّ هو إعادة الاتِّصال بالحركة الفِكْرِيَّة والرُّوحيَّة لدى كبار المفكِّرين المسلمين الذين أخضعوا القرآن لامتحان التاريخانية[14]. صحيح أن وضعنا التاريخي يضطرنا لأول مرة إلى طرح أسئلة أكثر جذريَّة من الأسئلة التي طرحت في عالم تمثل فيه الأسطورة والطُّقوس، والفَنّ، والكلام ، والنُّظم ، والعمل، والإنتاج ، والتَّبادل، ... حقائق مُتجانِسَة منتظمة مع القصد الديني ...
إن الفِكْر الإسلامي لا يمكنه أن يَتَهَرَّب طويلاً. إن فعل الإيمان "الأرثوذوكسي" المُحْتَسَب دَوْمًا، يقوم على التَّأكيد بأنَّ الدين يَرْتَكِز على الوَحْي الذي أنزله الله للناس بواسطة الأنبياء. وبالتَّالي فإن الدِّين فوق المجتمع. لكن الواقع العلمي الحديث ينزع إلى فرض فكرة أنَّ الدين كله في المُجْتَمَع. الله بذاته بحاجة إلى شهادة الإنسان له"[15].
• "... إنَّ مُراجعة نقديَّة لتاريخ الإسلام وللتُّراث الإسلامِيّ تفرض نفسها بإلحاح اليوم. وهذا الأمر يَتَطَلَّب عملاً ضخماً وهائلاً. يجب الاعتراف هنا بالتَّقَدُّم السَّاحِق للغَرْب الذي كان قد أنتج مئات الأعمال النَّقديَّة في هذا المجال.(/23)
نحن نشهد اليوم، وللمرة الأولى في تاريخ الإسلام، أسئلة من هذا النوع تُطْرَح في هذا الاتجاه اتِّجاه الشَّكِّ المستمر. يذكرنا هذا التعبير الأخير بذلك العصر الكبير للشَّكِّ الذي افتتح في القرن التاسع عشر من قبل ماركس ونيتشه ، لم يشهد الإسلام في تاريخه أبدًا شيئًا من هذا القبيل. لاشكَّ في أن هناك تطبيقات سلبيَّة "للشك نضرب مثلاً على ذلك الاستخدام النضالي والسياسي للماركسيَّة، بصورتها السَّطحيَّة المثيرة للجَماهير؛ لكي تنهض ضد الطغيان (طغيان حقيقي وموجود) وهذا شيء مشروع ومطلوب . ولكن هذا العمل قد أَدَّى في الوقت ذاته وفي أماكن كثيرة إلى تجميد الماركسيَّة، وتحويلها إلى قوالب "فِكْريَّة" مُهْترئة أو جامدة.
نلاحظ بالإضافة إلى ذلك أنَّ الماركسيَّة لم تعرف بصورتها الإيجابيَّة حتى الآن لا في الفكر العربي المعاصر، ولا في الفكر الإسلامي بشكل عام. نفس الشيء يمكن أن يقال بخصوص نقد القِيَم الذي قام به نيتشه تُجاه المسيحيَّة. وهذا النقد قابل تمامًا للتَّطبيق على الإسلام.
إذا ما نظرنا للتَّاريخ بكلَّيته ضمن هذا المنظور فإنه يصبح مُمْكنًا تعبيد (أو تعزيل) الطريق وتمهيده نحو ممارسة عِلْمانيَّة للإسلام، وذلك على ضَوْء التَّحديد الذي أعْطَيْناه للعلمَنَة سابقًا، يمكن للعلْمَنَة عندئذ (لكن متى؟) أن تنتشر في المجتمعات التي اتخذت الإسلام ديناً[16].
ـــــــــــــــــــــــــــــــ(/24)
[1] يقول محمد أركون عن نفسه: "... لقد مررت بجميع مراحل الدراسة بالجزائر في مناطق مختلفة إذ لازمت المدرسة الابتدائية ببني ياني (ولاة تيزي أوزو)، ثم بعين الأربعاء (ولاية وهران) ثم الثانوية بوهران، ثم الجامعة بالعاصمة. وقد انغمست بإحساسي وفكري في المجتمع الجزائر أثناء المراحل الثلاث الأساسية التي مر بها منذ الأربعينات: أي مرحلة الاستعمار، ثم مرحلة حرب التحرير ثم مرحلة الاستقلال"، مجلة مواقف ، عدد 40 شتاء 1981، ص56، ضمن حوار مع المجلة بعنوان "التراث والموقف النقدي التساؤلي" شارك في طرح أسئلته كل من أدونيس وعباس طربيه وهاشم صالح.
[2] الفكر العربي المعاصر، عدد 13، يونيو – يوليوز 1981، ص 14 – 22، تحت عنوان "مشكلة الأصول"، أما مسكويه فهو أحمد بن يعقوب مسكويه، تُوفِّي سنة 421هـ مؤرخ بحاث، أصله من الري وسكن أصفهان وتوفي بها، اشتغل بالفلسفة والكيمياء والمنطق مدة، ثم أولع بالتاريخ والأدب والإنشاء. قال فيه أبو حيان: "لطيف الألفاظ، سهل المأخذ ، مشهور المعاني شددي التوقي، ضعيف الترقي، يتطاول جهده ثم يقصر، وله مآخذ وغرائب من الكذب – كذا – وهو حائل العقل لشغفه بالكيمياء . من كتبه:
- تجارب الأمم وتعاقب الهدم،
- تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق، ( وقد قام بترجمته للفرنسية محمد أركون سنة 1969/ دمشق)،
- طهارة النفس،
- آداب العرب والفرس،
- الفوز الأصغر ، (علم النفس)،
- ترتيب السعادات (الأخلاق)،
- رسالة في ماهية العدل،
- نديم الأحباب وجليس الأصحاب،
- الحكمة الخالدة: جاويدان خرد (الفصل التاسع من كتاب أركون " نحو نقد للعقل الإسلامي عنونه "كيف نقرأ جاويدان خرد").
- الأدوية المفردة،
- الأشربة، وغير ذلك....
انظر ترجتمه كاملة في الأعلام للزركلي، المجلد الأول ، ص 211 و 212).
[3] الزمان المغربي، عدد 18 – 1983، ص 38 – 81.(/25)
[4] "Discours islamiques, discours orientalistes et pensee scientifieque" In Mutual perceptions: East and West, ed. B. Lewis, Princeton, 1984.
[5] "l'Islam et la laicite" in Bulletin du centre Thomas More, 1978, No24.
[6] الوطن العربي، عدد 385 بتاريخ 29 يونيو إلى 5 يوليوز 1984، ص 55. والفقرة من استجواب أجرته المجلة مع محمد أركون ونشر بعنوان "محمد أركون يتهم: غارودي يجهل الإسلام".
[7] مجلة "مواقف"، عدد 40، شتاء 1981، حوار مع محمد أركون بعنوان: "التراث والموقف النقدي التساؤلي"، ص40.
[8] "التأمل الأبستمولوجي غائب عند العرب"، الفكر العربي المعاصر، العدد 20 – 21 – 22، صيف 1982، من ص 80 إلى ص 82، ضمن حوار أجراه مع الكاتب المغربي أحمد المديني.
[9] "التراث والموقف النقدي التساؤلي"، ص 56 و 57.
[10] "الفكر العربي"، محمد أركون ترجمة الدكتور عادل العوا، منشورات عويدات ، الطبعة الأولى 1982، ص 6 و 7، والفقرة جزء من مقدمة أركون لطبعة كتابه المذكور بالعربية.
[11] "من الموقف الثيولوجي إلى الموقف المعرفي"، حوار أجراه أركون مع الدكتور هاشم صالح ونشرته مجلة الوحدة، عدد 3 ، دجنبر 1984، ص 130.(/26)
[12] يشرح أركون في مكان آخر ما يقصده من ممارسة كتابة التاريخ والعمل بمناهج علم التاريخ الحديثة فيقول: "هذا لا يعني أني ينبغي أن نهجر، لكي نتموضع في مهب التاريخ، مفهوم كلام الله الموحى به في القرآن. لكن الفكر الإسلامي لا يمكن بعد الآن أن يتحاشى الدروس الجديدة، حتى بالنسبة للوعي الغربي، لتاريخ الأديان المقارنة، وعلم الاجتماع والانتروبولوجيا الدينية. والسيكولوجيا الاجتماعية، والتحليل النفسي والألسنيات: أي باختصار كل علم يتعذر الوصول إليه الآن عن طريق اللغات الإسلامية الأساسية. إن الأمر يتعلق بطرح مفهوم كلام الله طرحاً إشكاليًّا ضمن التوجهات التي فتحها العلم المعاصر، ثم طرح مفهوم الكتابات المقدسة، للمرة الأولى في تاريخ الأديان، خارج نطاق أية أسبقية تيولوجية (يعني بمفردات واضحة: الانطلاق من منظور علماني – بريش). إن هذا الرفض للأسبقية التيولوجية سوف يدان من قبل التيولوجيين (أي علماء الدين)، وذلك لأنهم يرون فيه موقفاً يقود، بالضرورة، إلى تفسيرات اختزالية للدين. يمكن لهذا الاعتراض أن يكون صحيحا لو أنه لم يكن هناك إلا تيولوجية واحدة للأديان كلها. لكننا نعرف جيداً أن هناك تيولوجيات مختلفة حتى داخل الدين الواحد نفسه..." (مواقف، عدد 40 ، ص 18).
كما إنه أشار في موضع آخر إلى مفهوم العلم التاريخي والسوسيولوجي كما يراه هو: "المعتقد التقليدي المشترك فيما بين الكتاب (يعني بها أركون المجتمعات اليهودية والمسيحية والإسلامية) يقضي بأن الدين هو تعليم منزل (موحى به من السماء) بحسب ما ورد في التصور القرآني. إن العلم التاريخي والسوسيولوجي يعتبر، بعكس ذلك، أن الدين هو "نظام من المعتقدات والمحظورات" يتلاقي مع الشأن الثقافي، والاقتصادي، والسياسي من أجل "خلق المجتمع". ويقول آخر، الدين في المجتمع والتاريخ، وليس فوقهما" (الإسلام: الأمس والغد – الطبعة العربية ، ص 189).(/27)
[13] مجلة الوحدة، عدد 3، ص 128 و 129.
[14] يذكر أركون في موضع آخر بعض هؤلاء المفكرين كمسكويه وأبي حيان التوحيدي وغيرهما. (يراجع في هذا الصدد كتاب أركون "محاولات في الفكر الإسلامي" وكذلك الحوار الذي أجرته جريدة "الرأي" المغربية وأعادت نشره بعد الترجمة زميلتها "العلم" في ملحقها الثقافي ليوم السب 16 صفر 1405 – 10 نوفنبر 1984).
14 الإسلام: الأمس والغد، الطبعة الفرنسية 1978، ص 140 – 145 ويمكن الرجوع إلى الترجمة العربية ص 116 – 122، إلا أن الترجمة كثيرًا ما تخالف النص الفرنسي ، وقد أشرنا إلى بعض عيوبها في الملحق).
[15] "الإسلام والعلمنة" من كتاب أركون الجديد: "تاريخية الفكر العربي الإسلامي"، نقلاً عن مجلة "دراسات عربية"، العدد 5، مارس 1986، ص 37.
[16] "جولة في فكر محمد أركون، نحو أركيولوجيا جذرية للفكر الإسلامي"، هاشم صالح مع تقديم لمحمد أركون بنفسه، مجلة "المعرفة" السورية، العدد 216 فبراير 1980، ص 62 – 85.(/28)
العنوان: وقفة .. أمام قبر
رقم المقالة: 2023
صاحب المقالة: خاص: الألوكة
-----------------------------------------
• الحسن البصْرِي: إمامٌ في الزُّهْد والوَعْظ، سريع البُكاء مِنْ خشية الله، وأَحَد البُلغاء المَعْدُودين.
• الفَرَزْدَق بن غَالب: زَعِيم شُعراء بني أُمَيَّة، وصاحب النقائض الشهيرة.
اجتَمَع الاثنان في جنازة .. فقال الفَرَزْدَق للحسن البصري:
يا أبا سعيد، تدري ما يقول الناسُ؟! يقولون: اجتمع في هذه الجنازة، خيرُ الناس وشرُّ الناس.
قال: لستُ بخيرهم، ولستَ بشرِّهم؛ ولكن ما أعْدَدتَ لهذا اليوم؟
فقال: شهادة أن لا إله إلا الله منذ ستين عامًا..
ثُمَّ اطَّلع الفَرَزْدَق في القَبْر اطلاعةً؛ فأنشأ يقول:
أَخَافُ وَرَاءَ الْقَبْرِ إِنْ لَمْ يُعَافِنِي أَشَدَّ مِنَ الْقَبْرِ الْتِهَابًا وَأَضْيَقَا
إِذَا جَاءَنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَائِدٌ عَنِيفٌ وَسَوَّاقٌ يَسُوقُ الْفَرَزْدَقَا
لَقَدْ خَابَ مِنْ أَوْلادِ آدَمَ مَنْ مَشَى إِلَى النَّارِ مَغْلُولَ الْقِلادَةِ أَزْرَقَا
يُسَاقُ إِلَى نَارِ الْجَحِيمِ مُسَرْبَلاً سَرَابِيلَ قَطْرانٍ شَرَابًا مُحَرِّقًا
إِذَا شَرِبُوا مِنْهَا الصَّديدَ رَأَيْتَهُمْ يَذُوبُون مِنْ حَرِّ الصَّدِيدِ تَمَزُّقَا
إضاءتان:
• يعافني: يبرئنِ من العلل، وقد يُفهَم منها -هنا- معنى "العفو" عن الذنوب.
• أزرقا: من قوله تعالى: {يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا}.. وفي تفسيرها أقوال.
مصدر الأبيات:
المُجالسة وجواهر العلم/ أبو بكر أحمد بن مراون بن محمد الدينوري، القاضي المالكي؛ تحقيق أبي عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان، مج 5، ص 71 – 72.(/1)
العنوان: وقفة على ميناء "إيلات"
رقم المقالة: 1985
صاحب المقالة: زياد بن عابد المشوخي
-----------------------------------------
أرضٌ مباركة.. تعبق برائحة الدماء الزكية التي سالت وتسيلُ على ثراها، وها هي ذي تتحدثُ لتكشفَ عن المزيدِ من التضحيات التي قدمها أبناءُ الأمة للذود عنها، فقد أعلنت مؤسسةُ الأقصى لإعمار المقدسات الإسلامية عن عثورها على مقبرة جماعية للمئات من المسلمين قتلوا شنقاً أو رمياً بالرصاص. كما عثر في جيوبهم على مصاحف وأسلحة بيضاء، جاء الاكتشافُ بعدما كان الصهاينة يقومون بعمليات حفر لتوسيع مقبرة يُدفن فيها اليهود، ويحاولون طمس معالم تلك المقبرة الجماعية، وذلك في مدينة "أم الرشراش" التي يسميها الصهاينة اليوم بـ"إيلات" وهو اسم قديم لها.
وللمدينة تاريخ عريق، وهي تقع على خليج العقبة – الفرع الشرقي للبحر الأحمر – حيث تقع مدينة حقل السعودية، ويجاورها مدينة العقبة الأردنية، ثم أم الرشراش، ثم طابا المصرية، هنالك حيث تلتقي المدنُ الأربع، هذا الموقع الاستراتيجي للمدينة أكسبَها مكانتَها الخاصة، فصارت تعرف بـ(مدينة الحجاج)، ويمكن مشاهدةُ القلاع التي أنشأها صلاح الدين الأيوبي -رحمه الله-، إذ كانت تحت سيطرة الصليبيين قبل أن يفتحها، ثم عاد التتار للسيطرة عليها ففتحها الظاهر بيبرس -رحمه الله-.(/1)
وعاد الصهاينة واحتلوها سنة 1949م غدراً، وذلك بعد ساعات من توقيع اتفاق الهدنة بين مصر والصهاينة وانسحاب الحامية الأردنية التي كانت تحت إمرة قائد إنجليزي، لتدخل العصاباتُ الصهيونية تحت قيادة العقيد "إسحاق رابين"، الذي أصبح رئيسًا لوزراء الكيان الصهيوني، وتقتل جميع أفراد وضباط الشرطة المصرية في المدينة، وعددهم 350 شهيدًا، وأطلق على العملية اسم "عوفيدا"، مع أن عصابات "رابين" دخلت المدينة دون أي مواجهة من قوة الشرطة المصرية لالتزامها بأوامر القيادة بوقف إطلاق النار، وبذلك أصبح للصهاينة منفذٌ هام على البحر الأحمر، تمثلُ الصادراتُ والواردات التي تأتي من خلاله للكيان أكثر من 40%.
وفي الوقت الذي كان ينبغي على الحكومة المصرية إثارة هذه القضية في المحافل الدولية وتفعيلها إعلامياً وشعبياً، والمطالبة بفتح تحقيق دولي حول هذه المجزرة، وأن تطالب أُسر الضحايا بمحاكمة عادلة لكل من شارك في تلك الجريمة، إلا أن شيئاً من ذلك لم يقع!! بل على العكس سرعان ما تناقلت وسائل الإعلام خبر الدعوى القضائية التي أقامتها عشر عائلات من سكان مغتصبة "سديروت" الصهيونية، رفعت تلك الدعوى إلى المحكمة المركزية في بئر السبع لمطالبة الحكومة المصرية بتعويض قدره 260 مليون شيكل أي ما يوازي 68 مليون دولار كتعويض عن الأضرار التي لحقت بهم وبأهلهم، من جراء إطلاق صواريخ فلسطينية عليهم من قطاع غزة. وأفادت صحيفة "يديعوت أحرنوت" أن رافعي الدعوى اتهموا في عريضةِ دعواهم السلطاتِ المصريةَ بالسماح بتهريب المتفجرات والأسلحة لقطاع غزة التي تستخدمها حركتا "حماس" و"الجهاد الإسلامي" في صناعة الصواريخ التي تطلقها على مغتصبة "سديروت" المتاخمة لقطاع غزة.
وسبق تلك الدعوى تصريحاتٌ استفزازية لكل من وزير الحرب الإسرائيلي "إيهود باراك"، ووزيرة الخارجية الإسرائيلية "تسيبني ليفني"، ضد مصر وحكومتها، حول ملف الحدود.(/2)
من الضروري عدم تجاوز تلك المجازر والجرائم الصهيونية، وألا يطويها النسيان لتضاف مع سابقاتها من المذابح التي ارتكبت ضد الأسرى المصريين وغيرهم في حربي 1956م و1967م واعترفت بها القيادات العسكرية الصهيونية نفسها.
الصهاينة الذين يحاصرون قطاع غزة، ويهددون حياة مليون ونصف مليون مسلم بالموت المباشر أو غير المباشر، وفي الوقت نفسه يفاوضون على رفات جنودهم القتلى في الستينيات والسبعينيات، بل في الحرب العالمية الثانية، ويقيمون نصباً اسمه (باد فاشيم) في القدس للتذكير بضحايا ما يسمى بالمحرقة اليهودية المزعومة، حتى أصبح مزاراً لكل زائر يزور الكيان، كان آخرهم الرئيس الأمريكي جورج بوش الذي ارتدى القلنسوة اليهودية السوداء مثل أولمرت وبيريز، وبدا حزينا.. دامع العينين.. مطرق الرأس..، وفي احتفال أقيم داخل "قاعة الذكرى" أضاء بوش شمعة.. ووضع إكليلاً من الزهور عند أسماء ضحايا المعسكرات النازية المحفورة على أرضية من الرخام، وقال بوش: "آمُل أن يأتي الناس من شتى أنحاء العالم إلى هذا المكان"، وأضاف "سيكون ذلك تذكرة بأن الشر موجود وبأننا مدعوون لمقاومته حين نجده"!!
لكننا نجد الشر هذا يومياً في فلسطين، وفي العراق، وأفغانستان والصومال ولبنان، وحيث حلت القواتُ الأمريكية والصهيونية. إن علينا أن نقيم المعارض وننشر صور الضحايا الذين سقطوا، وصدقاً ستكون معارضنا أكبر حجماً!
نَمشي فَتُدمينا الجِراحُ على دُروبِكِ يا مَنازِلْ
وَنخوضُ في بَحْرِ الدِّما واللَّيلُ يَعتقِلُ المَشاعِلْ
لَمْ يَبْقَ مِنْ وَطني سِوى أشلاء في أَيدي القَبائِلْ
وَحُطامُ أَشْرِعَةٍ على ميناءِ هاتيكَ السَّواحِلْ
وقبل أن أنهي هذا المقال، فقد طالعت خبر عثور السلطات المصرية على رفات نحو 30 جنديًا مصريًا يعتقد أنهم قتلوا في حرب عام 1967م في مقبرة جماعية في شمال سيناء، وذلك بالقرب من الحدود مع فلسطين المحتلة وتحديداً بجوار مدينة الشيخ زويد.(/3)
الصهاينة لم يكتفوا بإقامة المعارض لقتلاهم وتضخيم حجم خسائرهم واستغلال ذلك، بل هم ماضون بسياسات القتل والبطش في الأبرياء، والتجاهل تجاه الحقوق العربية، والاعتداء على المقدسات وعلى رأسها المسجد الأقصى المبارك، أما نحن فحتى المعارض –وهي جزء من المعركة الإعلامية مع العدو- لم نستطع إقامتها.
ويبدو أن أبطال المقاومة الإسلامية في فلسطين هم من سيرسم صور المعارض ويترك وسائل الإعلام تلتقط ما تشاء، لتكون معارضنا معارض النصر لا البكاء، أما من مضوا من الشهداء فرحمهم الله وأسكنهم فسيح الجنان، ودماؤهم الزكية تستحثنا للمضي قدماً في طريق الجهاد في سيبل الله، وتذكرنا بألا نثق بعهود ووعود اليهود، وأولئك الأبطال ليسوا بحاجة للمزيد من الصور ليعرفوا عدوهم؛ لأنهم قرؤوا وفقهوا قول ربهم عز وجل: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا...} [المائدة:82].(/4)
العنوان: وكيف لا أحب أفضل الخلق...
رقم المقالة: 141
صاحب المقالة: عمر الصالحي
-----------------------------------------
أنا طفل مسلم أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكيف لا أفعل وهو الذي أرسله الله ليعلم الناس الخير.
و إذا كنت أشعر بالأمان مع أسرتي المسلمة، فلأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغ للمسلمين رسالة الحق بعد أن تعب في ذلك كثيرًا، إذ عذبه الكفار واحتقروه وأهانوه، ثم طردوه من بلده مكة لأنه بلَّغهم رسالة الله... فنهاهم عن أشياء كثيرة تضرهم كشرب الخمر والسرقة و الغش،و أمرهم أن يفكروا بعقولهم فلا يعبدوا الأصنام التي صنعوها هم من الحجارة أو حتى من الحلوى في بعض الأحيان بأيديهم، فهي لا تضر ولا تنفع...فكيف تستجيب لهم وتعطيهم ما يطلبونه منها؟؟
و بفضل الله تعالى و عونه بلَّغ الرسول الكريم الرسالة...و أمرنا عز وجل أن نتبعه صلى الله عليه وسلم و نقتدي به لكي نكون مسلمين...
وبهذا الاتباع أنعم بالأمان في ظلِّ أسرتي... فوالداي متحابان متوادَّان،و لا يشربان الخمر و لا يسهران خارج البيت، ويقومان بتربيتي بنفسيهما...يحبانني كثيرًا... يعلمانني مبادئ الدين... و يحدثانني كثيرًا عن الله وعن رسوله...
يقولان إنه أمر بحفظ حقوق الأبناء حتى قبل الزواج...فأبي المتدين حين اختار امرأة صالحة متعلمة مؤمنة لتكون زوجة له، و بعد ذلك أما لي فقد أحسن إلي، فأنا أعتز بكوني ابنا لها، وأفتخر بذلك أمام أصدقائي...
ثم إن والدي يحرص على أن يعلِّمني القرآن، لأن كتاب الله هو الكتاب الذي يحتوي على كل التوجيهات التي يجب علينا اتباعها حتى نعيش بسلام في الدنيا، وندخل الجنة بعد ذلك بإذن الله.(/1)
و والداي يحرصان على دراستي، ويعينانني على القيام بواجباتي المدرسية، ويقولان بأن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم هو الذي أمر بطلب العلم من المهد إلى اللحد، لأن العلم يجعلنا نعرف الله و الرسول و نتبع أوامرهما، ثم إن العلم يمكننا من أن نصبح علماء...و نصنع كل ما نحتاج إليه بأنفسنا فلا نكون متخلفين و محتقرين.
والرسول أمر بعدم تفضيل الأولاد بعضهم على بعض ...فأنا وإخوتي نحصل على نفس القدر من المحبة والاهتمام...
ثم إن والديَّ يحرصان على تغذيتي وصحتي... يطعمانني أطعمة طيبة ليس فيها مواد مؤذية كالخمر...و يأمرانني بالاهتمام بتنظيف أسناني، ويقولان: إن الرسول الكريم هو الذي أمر بذلك...
رأيت في التلفاز برنامجًا يتحدث عن انحراف الأطفال والشباب في أوروبا... وكيف أنهم يشترون الخمور والسجائر ويستهلكونها بحرية لكون آبائهم وأمهاتهم مشغولين عنهم بأشياء أخرى تهمُّهم...
فحمدت الله على أن وفَّق والديَّ لدين الإسلام ، ولاتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال عنهما إنهما راعيان لي، ومسؤولان عني، إذ هما كما يقولان لي سيُسألان عن الجهود التي بذلاها في سبيل حمايتي من كل سوء.
و هذا السوء قد يصيبني إذا أنا لم أحرص على حسن الخلق مع الناس كلهم...ولذلك فهم يعلمانني الصدق والأمانة والشجاعة والرفق حتى مع الحيوان اتباعًا لسيد الخلق أجمعين.
أملي أن يعرف أطفال الغرب هذا الدين العظيم، وأن يقرؤوا عن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، حتى يتعرفوا عليه وعلى أخلاقه و صفاته ...وأنا متأكد من أنهم سيعجبون به و سيحترمونه وسيحبونه...(/2)
العنوان: ولا تأخذكم بهما رأفة
رقم المقالة: 857
صاحب المقالة: أسماء عبدالرازق
-----------------------------------------
جاء في تقرير المؤتمر الدولي المعني بالسكان، الذي عقد في (مكسيكو) عام 1404هـ -1984م: "ينبغي أن تكون السياسات الأسرية - التي تدعمها أو تشجعها الحكومات - حساسة للحاجة إلى ما يلي:
• تقديم الدعم المالي، أو أي دعم آخر للوالدين - ويشمل ذلك الوالد غير المتزوج أو الوالدة غير المتزوجة - في المدة التي تسبق أو تلي ميلاد الطفل، وكذلك في المدة التي يتولى فيها الوالدان مسؤولية رعاية الأولاد المباشرة وتعليمهم.
• مساعدة الزوجين والوالدين الشابين - ويشمل ذلك الوالد غير المتزوج، أو الوالدة غير المتزوجة - في الحصول على سكن مناسب"[1].
ولا يظنن ظانٌّ أن الأم أو الأب غير المتزوجين هما من افترقا بسبب الموت أو الطلاق، فهؤلاء الأنذال لا يرون بأساً بأن تأتي المرأة غير المتزوجة بالذي اسمه "الأب" من الشارع، وتلقي بالذي اسمه "الابن" إلى الشارع!
وهم لفرط شفقتهم على هذا النوع من الأمهات، وشدة حدبهم على المجتمع المكون من أمثال هؤلاء الأطفال؛ يرون أن من أوجب واجبات الحكومات: بذلَ الأموال، وتشييد الدور للساقطين والفواجر؛ ليتمكنوا من تعهد نبتهم الفاسد. وفي هذا دعوة صريحة لمساواة العاهر الفاجرة بالحَصَان الطاهرة، والساقطين الفجار بالعفيفين الأطهار، ليرتفع الحرج عن هؤلاء، وليتجاسر على الريبة من كان يصده عنها الحياءُ من الناس.(/1)
إن إبليس الملعون لما أكل الحسدُ قلبَه جاء إلى آدم، وقد تسربل بلباس الناصح الأمين! وما زال يوسوس له حتى عصى ربه فغوى. وهؤلاء الأبالسة - قبحهم الله - يدّعون الحَدَبَ على الإنسانية، ومحض النصح للحكومات والشعوب، لتتحرر وتتقدم وتترقي، وهم في حقيقة أمرهم حفنة من المفسدين في الأرض، لا يرضيهم إلا أن يَرَوُا الناس كل الناس سائرين في ركابهم، مقتفين لآثارهم، هاوين معهم في قعر جهنم، ولو كانوا ناصحين كما يزعمون، عارفين بما يصلح الإنسانية كما يدعون؛ لحملوا الناس على الفضائل حملاً.
لقد أخذتْ كثيراً من المجتمعات الغربية بالزواني الرأفةُ، قبل عقدين من انعقاد هذا المؤتمر، فشملوهن بنظام الضمان الاجتماعي، ووفروا لهن المسكن، فكانت النتيجة شيوع الفاحشة في المجتمع، حتى غدت هي الأصل، وأمسى التعفف عادة بائدة من عوائد العهد (الفكتوري).
تقول (سمية جيمس)[2]: "بعض الفتيات يتعمدن أن يحملن سفاحاً لعدة أسباب: فمثلاً هناك إحساس عام بالإثم، تجاه المعاملة القاسية، التي كانت تتلقاها الأم غير المتزوجة في الماضي! لذلك تُتجاوز كثير من الإجراءات الحكومية لمساعدتهن! وُفرت مساكن حكومية لمساعدة اللاتي لا يستطعن شراء منازل.
بعض الناس يُعطَون أولويةً عند تخصيص المنازل، فقائمة انتظار المنازل في العادة طويلة، وقد يستغرق الأمر سنوات ليُعطى المرءُ منزلاً، والأمهات غير المتزوجات يُعتبرن حالة خاصة، لذا تنفذ طلباتهن بسرعة.
بالطبع السكن السريع لهؤلاء الأمهات يكون على حساب المتزوجين، فتزيد مدة انتظارهم التي قد تصل لعدة سنوات. ولما كان من المتوقع أن تكون الأم غير المتزوجة غير قادرة على العمل، وليس لها من يعولها؛ أُتيح لها الاستفادةُ من (برنامج) الضمان الاجتماعي.(/2)
آخر رقم سمعته هو أن 23% من الأطفال يولدون خارج بيت الزوجية[3]! لذلك يُظن أن كثيراً من النساء يتعمدن وضع أنفسهن في هذا الموقف ليحصلن على مسكن، وليستفدن من الضمان الاجتماعي، وهذا بالطبع ما سبب كثيراً من الحنق بسبب زيادة الضرائب، والضغط على الاقتصاد"[4].
ولما كان طريق الفواحش ممهداً؛ زهد الرجال في الزواج، حتى صارت المرأة تحتال على الرجل ليتزوجها، تقول سمية: "كذلك من المعروف - وإن كان من الصعب برهان مثل هذا - أن كثيراً من الفتيات يحملن سفاحاً ليضمنّ بقاء الرجل، فالرجال عادة لا يستعجلون الزواج لأنه يقيد حريتهم، وبعض الفتيات يرون أن هذا هو الطريق الوحيد الذي يجعلهم يتزوجون منهن"[5]!
إلا أن الرجال - إن كان ثمة رجولة - كانوا يفعلون ذلك ستراً للفضيحة، ثم تغير الحال لما لم تعد هناك فضيحة! تقول سمية: "لما صارت المرأة غير المتزوجة مقبولة اجتماعياً، وزال الخجل من مثل هذا؛ لم يعد الرجال يحسون بأنهم مضطرون لإنقاذ الموقف، لذا ربما يتركها الرجل لما يكتشف أنها قد حبلت منه"[6]. وبهذا تفجع المسكينة في النكبة الواحدة ثلاث فجائع: في كرامتها التي ابتذلت، وفي الخبيث الذي كانت تظنه خير أنيس ورفيق فتبرَّأ منها، وفي المسكين الذي ستقتطعه من لحمها ودمها، ثم تلقيه ليلاقي ما كتب عليه.
كل الأمهات مهما لَفَحَهن هجير الحياة، وأظلمت عليهن الدنيا؛ يرين أولادهن فيرين فيهم النسيم الذي يعبق، والمستقبل المشرق الذي يبدد كل ظلام الدنيا، أما هي فمهما أغناها نظام الضمان الاجتماعي؛ فلا ترى في ابنها إلا مصيبة ألقاها على ظهرها خائن، تلهى بها زماناً، ثم رماها كما يرمى الثوب الخَلق.(/3)
أما أشباه الرجال من أبناء تلك المجتمعات، الذين يفكرون في تكوين أسرة، فلم يعودوا يرون أن الزواج هو السبيل الوحيد لذلك، بل يكفي أن يتفق رجل وامرأة على العيش سوياً، ومن البدهي أنه ليس لأي منهما أي مسؤولية تجاه الآخر، وقد يترك أحدهما الآخر لمجرد أنه وجد عرضاً أفضل. تقول سمية: "كذلك العيش معاً صار أمراً مألوفاً لا يتردد فيه أحد! أخي الأكبر عاش مع صديقته اثني عشر عاماً، وأنجبا طفلين قبل أن يتزوجا. وأخي الأصغر أمضى مع صديقته خمس سنوات حتى الآن، وعند إعداد هذا الكتاب كانا في انتظار طفلهما الأول، ودت أمي لو تزوجا.. لكن أخي قال لها: إنه لن يتزوجها لمجرد أنهما أنجبا، وعقد الزواج ما هو إلا ورقة لا قيمة لها عنده!"[7].
هكذا زعم! ولو صدق في دعواه لكتب الورقة وأثبتها! فماذا يكلفه هذا؟ غير أنه يعلم أن لتلك الورقة قيمة، فهي إثبات مسؤولية، وتحمل تبعات، وواجبات وحقوق، بل هي برهان ميثاق غليظ كما وصفه ربنا جل وعلا، تترتب عليه حقوق وواجبات، وتثبت به الأنساب، ويُحفَظ به حق الأطفال، حتى بعد الطلاق, هذا غير الطمأنينة التي تغشى كل الأسرة، ورباط الرحمة والمودة الذي يجعل من الأسرة بنياناً متيناً يشد بعضه بعضاً.
أما مجرد الاتفاق فهو القلق بعينه، إذ يتوقع كل طرف منهما أن يعود إلى البيت ليجد أن رفيقه قد استبدل به غيره، كما لا يأمن الطفل الذي يعيش اليوم معهما، أن يجد نفسه غداً مع أحدهما، وبعد غد مع موظفات الدولة في دور الرعاية!! والمبتلون بمثل هذا يشهدون بذلك، تقول سمية: "الزواج لم تعد فيه نفس المعاني التي كانت موجودة فيه في الماضي، إلا أن الناس لا يزالون يتزوجون[8]، ربما لأن الناس لم يفارقهم الإحساس بأن الزواج هو العلاقة الوحيدة التي يحس فيها الطرفان بالأمن، وهذا ما لا يجده اللذان يعيشان سوياً. فقدان الالتزام يجعل مثل هذا الاتفاق غير آمن، وجديراً بالتداعي، وبالطبع، الضحية هم الأطفال"[9].(/4)
لاشك أن تلك المجتمعات تعرف أن أم المشكلات هي ما يسمونه "الحرية الجنسية"، وتعرف أيضاً أنه لا سبيل للاستقرار إلا بالعودة إلى الحياة النظيفة، وأطر المجتمع كله على ذلك، لكنهم لا يجرؤن على ذلك، بل يحاولون علاج أعراضِ المرض، كلٍّ على حدة، وأصل الداء لا يُتعرَّض له، فالمرض يشد وطأته عليهم عاماً بعد عام، ويضعف مناعتهم الأخلاقية، فتهاجمهم أمراض أخرى، تزيد من ضعف مجتمعاتهم، حتى ربما يئس العقلاء من إمكانية علاج هذا الداء العضال فيهم. تقول سمية: إنها كثيراً ما كانت تفكر في هذه المشكلة قبل إسلامها، لكنها لم تكن تملك إلا أن تتساءل: "أوَ ما علينا إلا أن نقبل هذا الواقع على ما هو عليه، ونستيئس من إمكانية تغيير المجتمع؟ أنسمح للناس أن يفعلوا ما يشاءون، ثم نتعامل مع النتائج بعد ذلك كيفما كانت، مجهدين بذلك الأسر والاقتصاد؟ أم نكون شجعاناً ونتعامل مع جذور المشكلة؟
لم أجد إجابة لتساؤلاتي في ذلك الوقت، لكنني لما عرفت الإسلام وجدت إجابات لكل تساؤلاتي"[10].
وبعد كل هذا يحض هؤلاء المؤتمرون - بل المتآمرون - الحكومات على توفير المساكن لهؤلاء المجرمين، وأن تقدم لهم الدعم المالي، أو أي دعم آخر. وأول أنواع هذا الدعم الآخر هو العدول عن الصفة التي يستحقونها، إلى وصفهم بأنهم "آباء!.. غير متزوجين!! وهذه أولى خطوات قَبول المجتمع لمثل هذا الصنيع، وأولى خطواته كذلك في طريق الغواية، الذي يوصل إلى هوة الشقاء، التي لا مخرج منها إلا إلى نار السعير، وبئس المصير.(/5)
وحتى لا تصل المجتمعات المسلمةُ إلى هذا الدرك؛ فإن اللطيف الخبير، الحكيم البصير- جل جلاله - خص حدَّ الزنا، دون غيره من الحدود، بأمر المؤمنين - صراحاً - ألا تأخذهم بالزانِيَيْنِ رأفةٌ؛ إن كانوا يؤمنون بالله واليوم الآخر، ثم أمر بأن يشهد عذابهما طائفةٌ من المؤمنين؛ إمعاناً في التنكيل بهما، وردعاً وزجراً لغيرهما، وحماية للمجتمع من أن يتحول إلى حفنة من أبناء الخطيئة والجرأة على الله سبحانه.
ــــــــــــــــــــــــ
[1] الفصل الأول (ب) ثالثاً- د/ 3- الفقرة (26)- التوصية 34 (أ-د)، ص 32.
[2] ممرضة بريطانية، ولدت سنة 1959م، واعتنقت الإسلام سنة 1983م، ومثلت بعض المنظمات، في عدد من المؤتمرات الدولية، التي ناقشت قضية المرأة، ومنها مؤتمر (بكين).
[3] ألفت كتابها سنة 1999م.
[4] Sumayya James: My Journey to Islam, English Woman's Story, pp.50-51.
[5] Ibid, p.51.
[6] Ibid, p.52.
[7] Ibid, p.52.
[8] بسبب المساواة التامة بين الجنسين.
[9] Ibid, pp.52-53.
[10] Ibid, p.54.(/6)
العنوان: ولادة الصبح
رقم المقالة: 173
صاحب المقالة: بدر بن محمد عيد الحسين
-----------------------------------------
سُكونٌ ووُجومٌ يَلُفَّان أُفُقَ الكوْنِ بِمائِهِ ويابِسِهِ،
وَشَبَحُ الظَّلامِ يقترب من الأشياء، ويلامِسُها، وَيَتَغَلْغَلُ فيها،
ويزداد سواداً فَتَتَّحِدُ طبقاتُهُ، وتَتَماسَكُ خُيوطه ليسْدِلَ سِتارَةً سَميكَةً على الكوْن،
إنه ملعبُ الليل حيث يَصولُ وَيَجُولُ،
إنها النَّشْوَةُ والذُّرْوَة.
ومن بين ذلك الرُّكام طَفِقَ الجنينُ الصَّغير - على قِلَّةِ عَزْمِهِ وضعف حاله - يَتَمَلْمَلُ في رَحِمِ الكون لِيَطْرُدَ ما غَشِيَهُ ببُطءٍ شديد.
أجنِحَةُ الفارس بدأت تضعُف،
وخيوطُ الظلام هاهي تَنْجابُ عن جَبْهَةِ الوَليدِ المُنيرَةِ،
وها هي امتداداتُ العَتْم بدأت بالانكِماش.
في خِضَمِّ هذا الْمَخاضِ المُتَداخِل يَتَجَرَّأُ ضِياءُ الصُّبحِ فَيََنْسَلُّ من غِمْدِ اللَّيْل،
وتَصيحُ الدِّيَكَةُ مُعلنةً بَدْءَ الولادة،
وتخترق المآذنُ جُدرانَ الصَّمت،
فيستأنِسُ الجنينُ ويَتَشَجَّعُ ويصرخُ ويَتنَفَّسُ تنفُّساً ينشرُ الضِّياءَ والعَبيرَ إلى أَعالي الرُّبا،
وإلى دُروبِ الحقول و أعشاش الطُّيور..
إنها ولادة الصُّبح المنير...
إنها ساعةٌ من السَّحَرِ وَالتَّأَمُّلِ ما أروَعَها.
ساعَةٌ عَذراءُ يُكَلِّلُها الطُّهْرُ، ويَلُفُّها الصفاء، ويُزَيِّنُها النَّقاء.
ساعَةٌ هي أَشْبَهُ ما تكونُ بلقاء الأحِبَّة،
حيثُ يغازلُ الصُّبْحُ فيها أزرارَ الياسمين فَتَتفَتَّحُ، وأكْوامَ القشِّ فَتَلين، وسنابلَ القمح فتنحَني، وأوراقَ الأغصان فتطرَبُ وتتمايل.
إنه جَمالٌ رَبَّانِيٌّ صَاغَهُ الخالق عَزَّ وجلَّ.
جمالٌ تتحرَّك لأجلهِ الشمسُ من مَكانها فتشرقُ، وتُثَارُ الطيورُ من وُكناتها فَتنطلِقُ، ويَنْسابُ الظِّلُّ من رُقادِهِ فيمْتَدُّ.(/1)
إطلالَة ٌيتحوَّل فيها الشَّذا إلى ندى، والرِّياحُ إلى صَبا، والبراعمُ إلى زُهور، والهواءُ إلى عِطْرٍ تَعجِزُ أن تأتيَ بمثله مَصانعُ الغَربِ وأشجارُ بَخُورِ الشَّرْقِ.
ذلك العِطرُ خَضَّبَتْهُ تَراتيلُ الأَذانِ، وهَمساتُ الإيمان، وتَدَفُّقُ مياهِ الغُدران.
عِطرٌ يعرفُه المشَّاؤونَ في الظُّلُمات، والفَلاَّحونَ في الرَّبوات.
هذا الصباحُ هو اليُسْرُ والفَرَجُ، هو الرَّحمَةُ والرضا.
فمهما طال ليلُكَ يا أيها المهموم، فلا بُدَّ من أن يأتيَ الصباحُ النَّديُّ ببشائرِ الخير.
ومهما تأخَّرَ شِفاؤُكَ يا أيها المريضُ فاعلم أنَّ كفَّ الرَّحمة تحملهُ إليك.
فلا تتَعَجَّل - يا أُخَيَّ - مَجيءَ الفَرَجِ وقدومَ البَشائِرِ؛ لأن الله عادلٌ ورحيمٌ.
وثِقْ أنه جَلَّ جَلالُهُ لن يحرمَكَ من ساعةِ فَرَحٍ تغسلُ شُحُوبَ الحزنِ، ورُكامَ الألَمِ،
وتحوِّلُ الدموعَ الساخنةَ التي ألهبَتْ صَفَحاتِ خَدَّيكَ إلى قَطَراتِ غَيْثٍ تُنْبِتُ الكلأَ في رياض نفسك،
ليتحوَّلَ خَريفُ قَلبِكَ إلى ربيعٍ يَنشُرُ الفَرَحَ والجَمالَ على امتِدادِ خَريطَةِ رُوحِكَ الزَّكِيَّة.
واعلَم يا من أَدارَ ظَهْرَهُ للأمَلِ أنَّ مع العُسر يُسْرَين،
واعلَم أن أَعْذبَ المياه تلك التي تَنْبَجِسُ من أصْلَبِ الحجارَة،
وأن الصَّخْرَ الأصَمَّ هُوَ خيرُ مكانٍ لزراعة أَلَذِّ وأشهى الأشجار ثمراً.
وَرَحِمَ اللهُ الشاعرَ الذي قالَ:
ما بين غَمْضَةِ عين وانتباهتها يُغَيِّرُ الله من حالٍ إلى حالِ
والآخَرَ الذي قالَ (1) :
فلا الغَيمُ يَبقى طَوالَ الفُصولِ ولا البَدرُ دَوماً يُنيرُ الفَضاءْ
فبِالصَّبرِ كُنتُ أُداوي الجرُوحَ وبالأمَلِ العَذْبِ أُخْفي البُكاءْ
فالصَّبْرُ دَأبُ الحكماء، ودَيدَنُ الأنبياء.
والأَناةُ مَركَبُ العُقَلاء، وسَبيلُ الحُصَفاء.
وعَدَم الشَّكوى لغير الله مَنهَجُ الأتقِياء،
والتسليم لله خَيرُ سُلْوان، وراحةٌ للأبدان.(/2)
إنَّ معَ العُسر يُسراً، إنَّ مع العُسْر يُسْراً.
______________________
(1) البيتان من شعر كاتب المقالة.(/3)
العنوان: ولما قضينا من مِنى كلّ حاجة.. تذوقٌ أدبي
رقم المقالة: 1852
صاحب المقالة: خاص: الألوكة
-----------------------------------------
أبو الفتح، ضياء الدين، نصر الله بن محمد بن محمد بن عبد الكريم، ابن الأثير، الكاتب..
ولد في جزيرة ابن عمر سنة 558هـ، وتعلم بالموصل أنواعاً من العلوم، حيث نشأ أخواه المؤرخ (علي)، والمحدث (المبارك). وحفظ أشعار أبي تمام، والمتنبي، والبحتري، ومن كتبه: الوشي المرقوم في حل المنظوم، المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر، والجامع الكبير في صناعة المنظوم والمنثور، توفي في بغداد سنة 637هـ.. يرحمه الله.
في كتابه (المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر)، يحلّق بنا ابن الأثير في أجوائه الخاصّة، ويتذوق أبياتاً تنسب إلى كثيّر عزّة[1]، نذكرها هنا لمناسبة الحج.
يقول ابن الأثير الكاتب:
اعلم أن العرب كما كانت تعتني بالألفاظ فتصلحها وتهذبها، فإن المعاني أقوى عندها وأكرم عليها وأشرف قدراً في نفوسها، فأول ذلك عنايتها بألفاظها لأنها لمّا كانت عنوان معانيها وطريقها إلى إظهار أغراضها؛ أصلحوها وزيَّنوها وبالَغوا في تحسينها، ليكون ذلك أوقع لها في النفس وأذهب بها في الدلالة على القصد.
ألا ترى أنّ الكلام إذا كان مسجوعًا لذّ لسامعِه فحفِظه، وإذا لم يكن مسجوعاً لم يأنس به أُنسه في حالة السجع، فإذا رأيت العرب قد أصلحوا ألفاظهم وحسّنوها ورققوا حواشيها وصقلوا أطرافها؛ فلا تظن أنّ العناية إذ ذاك إنما هي بألفاظ فقط؛ بل هي خدمة منهم للمعاني. ونظير ذلك إبرازُ صورة الحسناء في الحلَل المَوْشيّة والأثواب المحبّرة، فإنا قد نجد من المعاني الفاخرة ما يشوِّه من حسنه بذاءةُ لفظه وسوءُ العبارة عنه.
فإن قيل: إنا نرى من ألفاظ العرب ما قد حسّنوه وزخرفوه، ولسنا نرى تحته مع ذلك معنى شريفاً، فمما جاء منه قولُ بعضِهم:
ولمّا قضَينا مِن مِنى كلَّ حاجةٍ ومسَّحَ بالأركانِ مَن هوَ ماسحُ(/1)
أخذنا بأطرافِ الأحاديث بيننا وسالتْ بأعناقِ المَطِيِّ الأباطحُ
ألا ترى إلى حُسن هذا اللفظ وصقالته وتدبيج أجزائه ومعناهُ؟ مع ذلك ليس مدانياً له ولا مُقارباً، فإنه إنما هو لمّا فرغنا من الحج ركِبنا الطريقَ راجعين وتحدثنا على ظهور الإبل.. ولهذا نظائر شريفة الألفاظ خسيسة المعاني؟
فالجواب عن ذلك أنّا نقول: هذا الموضع قد سبق إلى التشبث به من لم يُنعم النظر فيه ولا رأى ما رآه القوم، وإنما ذلك لجفاء طبع الناظر وعدمِ معرفته، وهو أن في قول هذا الشاعر كل حاجة مما يستفيد منه أهل النسيب والرقة والأهواء والمِقة[2] ما لا يستفيد غيرهم ولا يشاركهم فيه من ليس منهم، ألا ترى أن حوائجَ مِنى أشياءُ كثيرةٌ، فمنها التلاقي ومنها التشاكي ومنها التخلي للاجتماع.. إلى غير ذلك مما هو تالٍ له ومعقودُ الكونِ به. فكأن الشاعر صانع عن هذا الموضع الذي أومأ له وعقد غرضه عليه بقوله في آخر البيت "ومسّح بالأركان ما هو ماسحُ" أي إنما كانت حوائجنا التي قضيناها وآرابنا التي بلغناها من هذا النحو الذي هو مسْح الأركان وما هو لاحقٌ به وجارٍ في القُربة من الله مجراه، أي لم نتعد هذا القدر المذكور إلى ما يحتمله أول البيت من التعريض الجاري مجرى التصريح.
وأما البيت الثاني فإن فيه أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا، وفي هذا ما نذكره لتعجبَ به وبمن عجب منه ووضع من معناه، وذلك أنه لو قال: أخذنا في أحاديثنا أو نحو ذلك؛ لكان فيه ما يكبره أهل النسيب فإنه قد شاع عنهم واتسع في محاوراتهم علوّ قدر الحديث بين الإلفين والجذل بجمع شمل المتواصلين.(/2)
.. فإذا كان قدرُ الحديث عندهم على ما ترى، فكيف به إذا قيده بقوله: "أخذنا بأطراف الأحاديث"؟! فإن في ذلك وحيًا خفيًّا ورمزاً حُلواً. ألا ترى أنه قد يريد بأطرافها ما يتعاطاه المحبون ويتفاوضه ذوو الصبابة من التعريض والتلويح والإيماء دون التصريح وذلك أحلى وأطيب وأغزل وأنسب من أن يكون كشفاً ومصارحةً وجهراً، وإن كان الأمرُ كذلك فمعنى هذين البيتين أعلى عندَهم وأشدُّ تقدماً في نفوسهم من لفظهما، وإن عذب ولذ مستمعه.. نعم، في قول الشاعر: "وسالت بأعناق المطي الأباطح" مِن لطافة المعنى وحسْنِه ما لا خفاء به، وسأنبّه على ذلك، فأقول: إن هؤلاء القوم لما تحدثوا وهم سائرون على المطايا شغلتهم لذة الحديث عن إمساك الأزمة، فاسترخَتْ عن أيديهم، وكذلك شأن من يشره وتغلبه الشهوة في أمر من الأمور، ولما كان الأمر كذلك وارتخت الأزمة عن الأيدي أسرعَت المطايا في المسير، فشبهت أعناقها بمرور السيل على وجه الأرض في سرعته، وهذا موضعٌ كريم حسَن لا مزيد على حسنه، والذي لا ينعم نظره فيه لا يعلم ما اشتمل عليه من المعنى، فالعرب إنما تحسّن ألفاظها وتزخرفها عنايةً منها بالمعاني التي تحتها، فالألفاظ إذًا خَدَمُ المعاني، والمخدومُ لا شكَّ أشرفُ مِن الخادم. فاعرف ذلك وقس عليه[3].
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] هو أبو صخر كثير بن عبد الرحمن بن الأسود الخزاعي المدني، ولد سنة 40هـ، وتوفي (150) هـ. شاعرٌ تتيم بـ"عَزّة" واشتهر بها، وهي عزة بنت حُميل بن حفص من بني حاجب بن غفار كنانية النسب.
[2] المِقَة: المحبة، وقد ومِقَه يمِقه، أحبه فهو وامق.
[3] المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر. ج1، ص 340 – 342.(/3)
العنوان: وله الكبرياءُ في السماوات والأرض!
رقم المقالة: 1538
صاحب المقالة: د. حيدر عيدروس علي
-----------------------------------------
تملَّك عمرُ زمامَ الأدب، وكان من عشاقه، فكانت الكلماتُ تنثال من لسانه جَزْلة عذبةً رصينة، تمامًا كما كان يُخرجُها قُسُّ بنُ ساعدةَ الإياديُّ، لم يحجُبْه تخصصُه في العلوم العسكرية عن مناهلِ اللغة العربية، فهو وإن كان ركنًا ركينا في المؤسسة العسكرية السودانية، إلا أنه كان فارسًا من فرسان البيان. ولهذه الكفاءة فقد اختاره الرئيسُ جعفر النميري ليتولى وزارة الثقافة والإعلام، فكانت خطبُه السياسية مستطابة ذاتَ أثر بليغ في جماهير الشعب، وما أحسبُه كان يطلقُها تزلفًا وملقًا، فقد كان للرجل أثرٌ بارز في أحداث ثورة أكتوبر، وكان من موازين الاعتدال.
كان العميدُ المتقاعد (عمر الحاج موسى) يصوغ خطبه ويدبجها في كرم أهل السودان ونبلهم، فيذكر العلماء، ومن اهتموا بالعلم، ويذكر الزُّهاد، ومن اعتنوا بالزهد، ويتكلم عن حب الشعب للمعالي، فيتحدث عن مكارم شعبه في الشرق والجنوب والغرب والشمال، ويطنب في ذلك، فيُرعي الناسُ سمعَهم لأحاديثه، وتتخطى كلماتُه الآذان لتستقر في القلوب.
وقد تحدث عن جمال الأمكنة والنفوس، فصاغ خطباً راقية المعنى، عالية المبنى، ومن ذلك خطبة ألقاها في مدينة كسلا، وفي أهل كسلا، قال فيها: ((نعود ونجد الرَّبع قد تغير، إلا أن أربعاً لم تتغير، لم تستطع الأيام إلا أن تزيدها حسناً على حسنها، وإلا جمالاً على جمالها:-
أولها: جبال التاكا؛ حلية كسلا وعقدها، والمطل عليها من علٍ من الطائرة يخالها لكسلا كنهود الحسناء للحسناء، مشرئبة للحراسة، عالية كأنها تُرضِع القمر.
وثانيها: القاش[1]؛ وقد لفَّ بالساعد خَصْرَ كسلا، عفيفاً عنيفاً، زرع أهلي على فخذيه حدائقَ
غلبًا، وفاكهةً وأبا، متاعا لهم ولأنعامهم.(/1)
وثالثها: أهل كسلا، رجالها؛ سماحتهم غيث، ونجدتهم غوث، كلامهم كله ظريف، كأنه يضحك، حديثهم كله عفيف، كأنهم يغسلونه قبل الحديث به.
ونساؤها وبناتها؛ يستقبلن الضيف بوجه نونه[2] غريقة بالسرور، يلبسن الثوب، والثوب في كسلا يتثاءب عند الخصر، ما اقترب منهن الغريب، إلا وجفلت العيون، واحتمت بالأهداب، واعتصمت بالمعاصم، حياء وخفراً، يزدن في بهجة كسلا الفاتحة صدرها أبداً لكل عزيز وزائر.
ورابع الأربعة: محافظهم؛ أخي محمد عبد القادر، بصدقه، ودفئه، وحبه لكسلا، وحب أهل كسلا له...)).اهـ.
ومع هذه العذوبة إلا أن عمر قد كبا، والكبوة لا ينجو منها جوادٌ مهما تصدر، وإن لم يُرَ مُصَلِّياً قط في المضمار[3].
استمعتُ إلى بعض خطبه، فأدهشتني آخرُ خطبة ألقاها، سمعتها على الأثير غضة طرية، فثملت من رصانتها، بيد أنني انتبهت في آخِرها لمَّا سمعتُه يستشهد بشعر فُتِن به الناس على عمى، ذكر منه:
الوحشُ يقتل ثائراً والأرضُ تُنبِت ألفَ ثائرْ
يا كبرياء الجرح لو متنا لحاربت المقابرْ
وختمها بقوله:
((عاش الشعب السوداني؛ الجبار المتكبر، اللطيف الخبير))، فظللت متعجباً دهشاً مرعوباً.
وما انقضى عجبي ورعبي حتى أُعلن عن نَقْل العميد عمر إلى المستشفى، إذ خرَّ مغشياً عليه عند خاتمتها المذكورة، فجاءه الموتُ وهو على المنبر، ولكن قومي لا يعلمون.
ولأنه كان وزيراً ومن كبار قادة الجيش فلا بد أنه قد نُقل إلى أفضل المستشفيات تأهيلاً في البلاد، حيث التخصصات الطبية الدقيقة، والأجهزة المتطورة، ومع ذلك فما استطاعوا فعل شيء، فقد قضى الجبارُ المتكبر، بالموت على عمر، والتفَّت الساق منه بالساق؛ لأن الله لا يرضى أن ينازَع في الكبرياء، كما جاء في الحديث المرفوع عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: (العز إزاره، والكبرياءُ رداؤه، فمن ينازعني عذبته)[4].
ولم ألبث إلا قليلا حتى أعلنت رئاسة الجمهورية نعي العميد المتقاعد عمر الحاج موسى وزير الثقافة والإعلام.(/2)
مَن مِن الناس لا يحب أن يوصف شعبه بالمكارم؟!!!
أما أن يوصف الشعب السوداني بـ(الجبار المتكبر) فهذا خطأ مركب! فالكبرياء لله الواحد القهار، والشعب السوداني ظل ديدنه التواضع، والسماحة، ولكن لتكن لنا العبرة في عواقب التعدي على حدود الله.
فقد أذاق الله عمرَ الموت على هذا الوجه، وكأنه إجابة لقول الشاعر المتعدي: (لو متنا لحاربت المقابر).
لا أدعي علم الغيب، فالرجل قد أفضى إلى الله تبارك تعالى، فلعله كان متأولاً لمعاني هذه الأسماء الكريمة العظيمة، ولا أتألى على الله العفو الكريم الرحيم، لأحجب عفوه وكرمه ورحمته الواسعة عن رجل شغفني بيانُه، وخير من هذا كله أن نحسن الظن بعمر. ونستبشر لأهل عمر، بما رواه الشيخان عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أنه قال: جاء رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله كيف تقول في رجل أحب قوما ولم يلحق بهم؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: المرء مع من أحب[5].(/3)
فأقول بأن (عمر الحاج موسى) كان يحب الصالحين، وكان يحب الخير، ولم يكن من الملاحدة، ومما يدل على ذلك: إشادته السابقة برفيق السلاح اللواء (محمد عبد القادر عمر) محافظ كسلا، فقد عده عمرُ رابعَ المحاسن في كسلا؛ لأن اللواء (محمد عبد القادر عمر) كان في المسلمين رجلا رشيداً، وركناً شديداً، فهو أول من حرَّم صناعةَ الخمور وبيعها في محافظة كسلا، وحارب الفساد، ومهد للخير، وقد أعان بفعله هذا الرئيس جعفر النميري في سن القوانين الإسلامية في أقاليم البلاد كافة، وأطلق اللواء محمد عبد القادر عمر لحيته يوم كان البعض يرى اللحية قبحًا للرجال، كان صريحًا قويًا في تحكيم شرع الله في محافظة كسلا، فلهذا أحبه الصالحون من أهل كسلا، وكان شوكةً في حلوق أهل البغي والفساد منهم، ولا عجب في ذلك، فقد أنجب لنا شرق السودان، أبطالاً كبارًا نشم في أخبارهم غبار الجهاد، وروائح المسك من أمثال المجاهد (عثمان دقنة) ورفاقه البواسل.
وقد أشاد عمر بالعفاف والحياء، في خطبته المتقدمة، والعفاف والحياء من مكارم الأخلاق، كما كان يشيد بحفظة القرآن، ويرفع من قدرهم، وبأماكن تحفيظ القرآن، وبالزهاد، والعلماء؛ في خطب أخرى، فلولا أنه كان يحبهم لما أشاد بهم، ولولا أنه كان يحب القرآن لما اقتبس منه في وصفه لنهر القاش فقال: (زرع أهلي على فخذيه حدائق غلبا، وفاكهة وأبا، متاعا لهم ولأنعامهم)
فاللهم لو لم يكن لعمر الحاج موسى من الحسنات إلا ما ذكرت، فنسألك أن تجعل موته وما قاساه من كرب الموت كفارة لزلة كبيرة، وكبوة عظيمة منه، نظن أنه قد وقع فيها متأولاً للمعاني، فإنك تعلم أن الملاحدة يبغضون مكارم الأخلاق، ويبغضون حراس المكارم من أمثال اللواء محمد عبد القادر عمر، ورفاقه من القادة النبلاء، ويبغضون القرآن، ولا يقتبسون منه شيئًا.(/4)
وأقول لذوي عمر: كونوا له كما كان مُطَرِّف بن عبد الله بن الشِّخِّير لأبيه، فقد قال أبو سليمان الداراني: لبس مُطَرِّف بن عبد الله الصوف، وجلس مع المساكين، فقيل له في ذلك، فقال: إن أبي كان جبارًا فأحب أن أتواضع لربي عز وجل، ولعله يخفف عن أبي تجبره[6].
ولا يعني هذا أن عمر كان جبارًا، وإنما هو رجل أخذ بلبه البيانُ، فزل به اللسان، وأن ما وقع فيه من خطأ -وإن لم يكن يقصده- يمكن أن يقع فيه كثيرٌ من الناس من حيث لا يشعرون، فأحببت أن أنبه عليه، ليحذر أهل الأدب وعشاقه أن تسكرهم سلافة البيان فتصرعهم.
ــــــــــــــــــــــــــ
[1] القاش: نهر غشوم لا تثنيه التروس، كثيرًا ما يغرق بعض قرى كسلا في موسم الأمطار.
[2] النون: هي شبه حفرة على الخد تظهر عند التبسم أو الإجهاش، وربما تظهر أيضا مع حركة الفم، وهي لفظ في العامية السودانية.
[3] المُصَلِّي من الخيل: الذي يجيء بعد السابق؛ِ لأَن رأْسَه يَلِي صَلا المتقدِّم، وهو تالي السابق، وقال اللحياني: إِنما سُمِّيَ مُصَلِّياً لأَنه يجيء ورأْسُه على صَلا السابقِ، وهو مأْخوذ من الصَّلَوَيْن لا مَحالة، وهما مُكْتَنِفا ذَنَبِ الفَرَس، فكأَنه يأْتي ورأْسُه مع ذلك المكانِ. يقال: صَلَّى الفَرَسُ إِذا جاء مُصَلِّياً (لسان العرب – صلى 14/466).
[4] أخرجه مسلم في الصحيح برقم (2620).
[5] متفق عليه؛ أخرجه البخاري (6169)، و مسلم (2640).
[6] أخرجه أبو نعيم في الحلية (2/200).(/5)
العنوان: وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين
رقم المقالة: 1867
صاحب المقالة: أ.د. زيد العيص
-----------------------------------------
منارات قرآنية
"وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين"
تعددت أقوال المفسرين في بيان المراد بالعالمين حيث وردت في القرآن الكريم، فقيل: هم الإنس والجن، وقيل: جميع المخلوقات والكائنات الحية، وقيل: العالمون ما سوى الله تعالى.
ورد عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في بيان العالمين في هذه الآية قوله: كان محمد - صلى الله عليه وسلم - رحمة لجميع الناس؛ فمَن آمن به سعد، ومن لم يؤمن به أَمِن وسلم من الخسف والغرَق والاستئصال، الذي كان يلحق بالأمم التي كذَّبتْ أنبياءَها السابقين، فكان بهذا الاعتبار رحمةً لهم. وقال آخرون: المراد بالعالمين المؤمنون خاصة حين أنقذهم الله – تعالى - برسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - من الكفر وتوابعه في الدنيا، وكان سببًا للسعادة التي وعدهم الله – تعالى - بها في الآخرة، وهذه الرحمة ومظاهرها لا تتحقَّق إلا للمؤمنين.
قال الإمام الطبري المفسّر بعد أن استعرض هذه الأقوال: "وأولى القولين في ذلك بالصواب عندي القول الذي روي عن ابن عباس".(/1)
يَبدو لي - واللَّه أعلم - أنَّ معنى الآية أبعد مما ذكر وأشمل، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - بُعِث في زمن كان العالم كله يعاني فيه من أزمة ظاهرة في القيم، وأبرزها قيمة الرحمة، فإن هذا الخُلُق كاد يكون معدومًا في العالم آنذاك، ومظاهر هذا كثيرة؛ فعند العرب كان وأد البنات، والقتل لأسباب تافهة، وربما قتل أحدهم الآخر دونما سبب. وفي المحيط الخارجي كانت ثقافة الرومان التي تقوم على القوَّة والبطش ولم يكن للرحمة فيها مكان، وكانت بلاد الفرس ترزح تحت وطأة الطبقيَّة المَقيتة الَّتي حطَّمت الضعفاء والفقراء، وفي الهند كانت المرأة تُحرَق حية مع زوجها بعد وفاته، وكانت الحروب بين الشعوب مدمرة طاحنة تستمر عدة سنوات لا يرقب فيها فريق رحمًا ولا خلقًا.
في هذه الأجواء التي تفتقد الرحمة بِكُلّ معانيها ومظاهرها أرسل اللَّه – تعالى - النبيَّ مُحمَّدًا - صلى الله عليه وسلَّم - ليَنْشُرَ ثقافة الرحمة في العالم كله، ومن أجل أن يضع أُسُسًا للتَّعامُلِ تكون فيها الرحمة غالبةً لِلخصومة، ويكون فيها العدل مضبوطًا بالرحمة؛ بل تكون فيها الحرب غير خالية من الرحمة.
وقد ظهرتْ هذه الثقافة في سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - قولاً وفعلاً، فقد حثَّ على الرحمة، ورغَّب فيها، وذمَّ مَن قلَّل مِن شأنها، وبيَّن للنَّاس جميعًا سَعَة هذه الرَّحْمة، وتعدّد مظاهِرِها حتَّى شمِلَت - إلى جانب الإنسان صديقًا كان أو عدوًّا - الحيوانات والطيور.
فكانَتْ رِسالة النَّبيّ محمد - صلى الله عليه وسلم - مؤشرًا على انتشار ثقافة جديدة في العالم كله، هي ثقافة الرحمة، وحق له بهذا أن يكون رحمة للعالمين.(/2)
العنوان: وماذا بعد الاختبارات؟
رقم المقالة: 960
صاحب المقالة: بدر بن محمد عيد الحسين
-----------------------------------------
أبنائي الطلاب: اسمحوا لي أن أباركَ لكم نجاحكم، مثمّناً إكبابكم على الكتب وانقطاعكم للدراسة فترةً ليست بالقصيرة.. وتحيّة خاصّة للمتفوّقين، أنسجُها من أشواق قلبي، ثمّ أعطّرها، وأودعها بين أحضان نسائم الصباح وأشعّة الشمس الذهبيّة وأجنحة الفراش الملّون والبلابل المغرّدة لتصلكم ناضرةً حانية ومشتاقة.. فتنتزعُ ابتساماتكم الغالية، وتبثُّ الأمل والطموح من جديد في ثنايا نفوسكم الحالمة وأذهانكم الغضّة.
أحبابي الطّلاب! ثمّة سؤالٌ لاينفكُّ يلاحقني باحثاً عن إجابة هو: وماذا بعد الاختبارات؟
أبنائي الطلاب سأُجيبكم لأنني أحبّكم، لقد أحببتكم عندما كنتم زملائي في الصف، وأحببتكم أكثر عندما أصبحتم طلاباً وأنا المعلم، وتُوِّجَ حبي لكم عندما أصبحتم أبناءً وفِلْذاتِ أكبادً.
أحبائي.. إنّ نهاية الاختبارات لاتعني نهاية التعلّم.. فحياة الإنسان رحلة علمية شائقة يتعلّم منها الإنسان في كل يوم أشياء جديدة. قال تعالى: {وقُل ربّ زدني علماً} (سورة طه الآية: 114).
أمّا وقد وضعت الاختبارات أوزارها، وزال معها القلق والأرق، وفتحت العطلة الصيفيّة ذراعيها لكم فأجدني مضطراً لإسداء بعض النّصائح لكم، متمنيا أن تأخذوا بها، لتحصلوا على النّفع والمتعة في آن معاً:
أولاًً: الكتاب المدرسي صديق عزيز، ورفيق مؤنس ومخلص.. نهلتُم منه الكثير من المعارف والعلوم.. فأنزلوه منزلته، وضعوه في مكتبة المنزل ذكرى غالية.
ورحم الله المتنبي عندما قال:
أعزُّ مكانٍ في الدّنى سرجُ سابحٍ وخيرُ جليس في الأنام كتابُ
وقال فنسنت ستاريت: "عندما نجمع الكتب نجمع السّعادة".
وقال هنري دايفيد ثورو: "الكتب هي ثروة العالم المخزونة".(/1)
ثانياً: بادروا بالالتزام بإحدى حِلق تحفيظ ، ما حفظتموه من القرآن الكريم، ولتستزيدوا من حفظه.. فالقرآن الكريم يجلب الأجر والسعادة والطمأنينة لكم، ويساعدكم على التمكّن من اللغة العربية.
ثالثاً: نّمُّوا مواهبكم فالوقت سلاحٌ بين أيديكم..فمن كانت لديه موهبة في استخدام الحاسوب أو في البرمجة أو في الرسم أو الخطّ فليتعهّد موهبته بالرعاية، وليبادر بالتسجيل في المراكز التي تنمي المواهب.
قال هتلر: "العلم بلا موهبة يبقى عقيماً وعاجزاً عن العطاء".
رابعاً: من يعاني من تقصير في مادة من المواد الدراسية كالرياضيات واللغة الإنجليزية والإملاء فليستغل الوقت ليتلافى هذا التقصير...
خامساً: زوروا محلات الألعاب واشتروا الألعاب التي تنّمي القدرات العقليّة، وتنشّط الذّهن وخاصة تلك التي تُعنى بالتركيبات، وتشكيل الكلمات، وحلّ الألغاز وما شابه ذلك.
سادساًً: أنصحكم أبنائي بالتسجيل في دورات نوعيّة ( الإلقاء - الحوار الفعّال - الإنصات الجيّد - الخطّ العربي - المبتكر الصّغير-) يقول شاتوبريان: "الفنّ هو الأسلوب والأسلوب هو الإنسان"، ويقول غوته: "الحرفيّ يعمل بيديه، والمهنيّ بعقله، والموهوب بقلبه وعقله ويديه".
سابعاً: وثّقوا العلاقة بينكم وبين المكتبات، فاشتروا القصص المفيدة والشائقة، واقرؤوا في كلّ يوم قصّة على الأقل لأنّ القراءة تمرّن أذهانكم، وتنشّط عقولكم، وتزيد من ثقافتكم ومعرفتكم.فقد قال ستيل: "القراءة رياضة العقل". وقال درايدن: "بقراءة الكتب تزور العالم وأنت جالس في بيتك".
ثامناًً: لا تُضَيّعوا الوقت في مشاهدة التلفاز، وخصصوا في كلّ يوم ساعة ونصف لمشاهدة البرامج.(/2)
تاسعاً: السّهر عادة ذميمة تؤثّر بشكل سلبي على صحّتكم.. لذا أنصحكم بالنّوم المبكّر فأجسامكم بحاجة إلى ساعات نوم كثيرة..يقول بنيامين فرانكلين: "إذا كنت تحبّ الحياة فلا تضيّع الوقت سُدىً لأنّ الوقت هو مادّة الحياة". ويقول المثل الروسي: "إذا لم نعرف قيمة الوقت،لم نعرف قيمة الانتصار".
عاشراً: الإفراط في تناول المثلّجات والمشروبات الغازيّة مضرٌّ بصحّتكم، وتسبب التهابات في الحلق واللوزتين والأمعاء، وفَقْد الشهيّة.. إذا فعليكم بتناول الحليب والعصائر الطبيعيّة والفواكه والخضراوات واللحوم لتبقى أجسامكم قويّة وتنمو نموا طبيعيا.
الحادي عشر: في السياحة مُتعة، وفي السّفر ثقافة واطّلاع، فإذا سافرتم فأعطوا صورة حسنة عن أنفسكم لدى الآخرين وذلك بالمحافظة على المرافق العامة التي تزورونها وحُسن التخاطب والمعاملة مع الآخرين لتتركوا انطباعات طيبة عن أنفسكم.
الثاني عشر: وأهمس بأذن أبنائي الذين يعانون من زيادة في الوزن وأنصحهم بممارسة الرياضة بشكل يومي وإتباع نظام غذائي.
الثالث عشر: زوروا أقاربكم وتواصلوا مع أصدقائكم فصلة الرحم تجلب السعادة وتجلب رضا الخالق سبحانه وتعالى.
الرابع عشر: أولياء الأمور الكرام أتمنى عليكم أن تساعدوا أبناءكم في قضاء الإجازة بشكل يوفّر لهم الترفيه والنّّفع فهم أرضٌ خصبة مهيّأة لإنبات كلّ ما يُغرس فيها.. فبادروا لغرس ماطاب من البذور في نفوسهم وتعهّدوها بالرعاية لتُؤتي أكلاً طيبة بإذن الله. فكلّكم راع وكلّكم مسؤول عن رعيّته. ورحم الله الشاعر الذي قال:
والنّفس كالطّفل إن تُهمله شبّ على حبّ الرّضاع وإن تَفطمه يَنفَطِمِ
والشاعر الآخر الذي قال:
إنّ الغصون إذا قوّمتها اعتدلت ولا يلينُ، ولو قوّمته، الخشبُ
وقال آرسطو: "جذور التربية مُرّة ولكنّ ثمارها حُلوة".(/3)
وفي الختام أتمنى لكم أبنائي الطلاب قضاء عطلة مليئة بالمرح والفائدة والسلامة، مودعاً إياكم على أمل اللقاء بكم في العام القادم.. وإلى ذلك الحين أستودعكم الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(/4)
العنوان: وماذا سنخفي وراء الحجاب؟
رقم المقالة: 399
صاحب المقالة: أحمد دعدوش
-----------------------------------------
الفاتيكان يصرح بأن الحجاب يُظهر قلة احترام للثقافات والحساسيات المحلية، وهولندا تعلن أنها ستمنع الحجاب في الأماكن العامة، أما ألمانيا فتحضّر لمعاقبة المعلمات اللاتي أصررن على تحدي "حظر شهر مايو" الصادر في إحدى ولاياتها، في حين يدق جاك سترو ناقوس الخطر معلناً أن "النقاب يفصل بين الناس"، وأن رؤية الوجه ضرورية للتواصل بين الناس، في الوقت الذي لم يشرح فيه كيف أمكن لزميله في الحكومة ديفيد بلانكيت - وزير الداخلية البريطاني السابق - أن يتواصل معه ومع بقية زملائه وموظفيه بالرغم من كونه ضريراً منذ الولادة!
أمام هذه الأمثلة التي توضح مدى الرعب الذي تسببه فوبيا الحجاب في أوربا، تتساءل الكاتبة البريطانية "فارينا علم" عن ذلك السر الخطير الذي يكتنف قطعة من القماش لا تزيد مساحتها عن عشرين سنتميتراً مربعاً أرادت بعض مسلمات أوربا أن يغطين بها وجوههن.
تقول "علم" في مقالها الافتتاحي لملف "ما وراء الحجاب" الذي نشرته نيوزويك- في عددها الصادر بتاريخ 28 نوفمبر 2006- تقول: "أنا شابة متعلمة وعاملة ومندمجة بشكل جيد في المجتمع البريطاني، ولدت في لندن، وترعرعت في سنغافورة، حيث كانت عائلتي تنبذ كل مظاهر التدين، اخترت الحجاب لأعبر عن إيماني تعبيراً علنياً". ويبدو أن حجابها لم يشكل أي عائق في وجه اندماجها بالمجتمع البريطاني الذي تنتمي إليه، في حين يصر مواطنوها على أن قطعة القماش هذه تحمل في طياتها من الخطر ما ينذر بانهيار محتوم للحضارة الغربية بأسرها.(/1)
على الضفة الأخرى تقف "أيان هيرسي علي"، فتاة أفريقية بائسة، لم تجد وسيلة للفرار من جحيم الفقر والقتال الذي خلَّفه الاحتلال الأوربي في القارة السمراء سوى اختلاق قصة تزويجها القسري من ابن عمها في الصومال، وتعرضها لتعذيب مقيت على أيدي الذكور المسلمين المتوحشين.
هذه القصة- التي بلغت حد الملل لكثرة التكرار- جعلت من صاحبتها إحدى أشهر وجوه المجتمع الهولندي، والذي سرعان ما تكرم عليها بشرف الجنسية الهولندية، ثم انتخبها لتصبح عضواً في البرلمان الهولندي، لتصبح بين عشية وضحاها إحدى أكثر الوجوه حضوراً في وسائل الإعلام، ليس لشيء إلا لقدرتها الفائقة على تعريف الهولنديين بوحشية الإسلام واضطهاده للمرأة.
ومع تزايد استغلال قصتها الخيالية الفاضح في وسائل الإعلام والأوساط السياسية الهولندية، توجه صحفي هولندي إلى موطن "أيان" في أفريقيا، وأنتج فلماً وثائقياً يحكي بالصوت والصورة فضيحة هذه المرأة، بناء على شهادات عائلتها وأصدقائها الذين أجمعوا على اختلاقها قصة لا نصيب لها من الصحة، لتقوم الحكومة الهولندية بسحب الجنسية منها وطردها من البلاد، وتحتضنها الولايات المتحدة من جديد في إحدى معاهدها المهتمة بالبحث العلمي النظيف!
المضحك في الأمر أن الشعوب سرعان ما تنسى، فالتعاطف الساذج الذي أبداه المجتمع الهولندي إزاء قصة "أيان" لم يلبث أن صُعِّد مرة أخرى ضد العدو الأوحد: الإسلام، فحادثة قتل المخرج الهولندي فان غوخ في إبان تصويره أحد الأفلام المأخوذة عن "أيان" كافية لتغطية كل جرائمها بحق هذه الشعب، إذ لا ضير في احتمال كذبة كهذه ما دام المتضرر الوحيد هو الإسلام.(/2)
المهم في الأمر هو أن "أيان" أطلت علينا من جديد في الملف المذكور من مجلة نيوزويك، لكي تشرح لقارئاتها المسلمات حجم الجريمة التي ينتهكنها في حق المجتمع الأوربي الذي منَّ عليهن بكرم الضيافة، وبدت أكثر تطرفاً من البابا أوريان نفسه، فهي ترى في الحجاب استئثاراً بالمجال العام للمجتمع الغربي الذي يجب علينا أن نفهم ضرورة فصله التام عن الدين، ثم تختم بنصيحة غالية: "أقول لكل امرأة تقرر الخروج من بيتها مرتدية الحجاب مثل الرجل الوطواط، ومن ثم تتذمر من كونها محط سخرية الجميع، أقول لها: إنك تتسببين بذلك، تحملي الحجاب أو اخلعيه".
وبوصفي مسلماً مهتماً بإحلال السلام في المجتمع الأوربي المهدد بذلك الخطر، أتساءل عن السبب المقنع الذي يسمح لأيان وأمثالها من جعل العلمانية موقفاً حيادياً من الدين، فإذا اعتقدنا بأن الدين عقيدة تؤمن بها طائفة من الناس وتتشبث بقيمها ومناسكها، فكيف أمكن لهؤلاء "اللادينيين" الذين انخلعوا من ربقة الدين أن يدَّعوا عدم وقوعهم في مستنقع الطائفية؟!
إن العلمانيَّة دين بحد ذاته، دين له مناسك وقيم، وعقيدة شاملة تنطلق منها تفسيراتهم لكل مظاهر الحياة، وإن استئثار هذا الدين بالسلطة والقانون والعلم والقيم في أي مجتمع، ثم فرضه على رقاب الناس، هو لعمري أشد بشاعة من تطرف المتدينين أنفسهم.
ولفهم المنطق الذي تتعامل فيه العقيدة العلمانية مع الدين- والإسلام على نحو الخصوص- يجدر بنا أن نقارن بين إلقاء "أيان" مسؤولية عدم الاندماج والتطرف وإثارة القلق في نفوس الأوربيين على عاتق بعض النساء الأوربيات اللاتي يغطين شعورهن، مع قيام أحد الأئمة في سيدني الأسترالية بتحميل بعض النساء مسؤولية اندفاع عدد من الشبان لاغتصاب إحداهن اغتصاباً جماعياً، موضحاً ما يتسبب به ذلك المظهر المزري للحم المكشوف على مدار الساعة.(/3)
هذه الكلمات التي تفوَّه بها الرجل في أثناء خطبة الجمعة دون أن يخرج بها إلى ما وراء أسوار المسجد، أقامت الدنيا ولم تقعدها في أستراليا، إذ لم تكفِ لإطفاء جحيمها اعتذارات الرجل المتكررة، ولا بيانات تبرؤ المنظمات والجمعيات الإسلامية منه (!)، بل وقف رئيس وزراء أستراليا بكل هيبته ليعلن أنها كلمات لا يمكن التغاضي عما تحمله من إساءة بأي مسوِّغ !
هذا هو موقف الغرب اليوم من قطعة القماش التي تضعها نساؤنا على رؤوسهن، ذلك الغطاء الذي تنزلق عليه كل دعاوى الديمقراطية والعقلانية التي رفعها فلاسفة التنوير، وهو الذي آلينا على أنفسنا ألا نتنازل عن حقنا في التشبث به قيد أنملة.
نحن لسنا دعاة عنف ولا تمييز، وخطابنا الواعي لضرورة تعايش المسلمين مع المجتمع الذي يعيشون فيه لا يستبطن في المقابل تقديم أي تنازلات عن الثوابت الدينية والأخلاقية.
هذه هي رسالتنا بكل إيجاز، العيش بسلام مع كل البشر، والاحترام المتبادل الذي يضمن للجميع حق التمسك بقناعتهم، وفقاً للقاعدة التي نؤمن بها وندعو إليها: "حريتي تقف عند حدود حرية الآخرين".(/4)
العنوان: ومن قال إن هؤلاء لا يحبون الله ورسوله؟
رقم المقالة: 1476
صاحب المقالة: د. سعد بن مطر العتيبي
-----------------------------------------
ومن قال إن هؤلاء لا يحبون الله ورسوله؟
(مفهومُ الاستقامة بين المظاهر والمخابر والتصورات)
تكاثرت صفوفُ المصلين في الصلوات.. وهذه هي الليلةُ الثانيةُ من ليالي هذا الشهر المبارك شهرِ القرآن، وهو أمرٌ يشهدُه المصلون كلَّ عام.. وفي صلاة التراويح هذه الليلة كانت هذه الواقعةُ التي لا أظنّها غريبةً على كثير منّا رجالاً ونساءً، ولا سيما في مثل هذه الأيام؛ ففي أثناء قراءة الإمام لآيات من الكتاب العزيز، بصوت ندي يتبين فيه معاني ما يقرأ، كان بجانبي شاب مصري، ليس على محياه ولا في مظهره ما يكشف رُوحَ التدين لديه لو لم يكن موجوداً في المسجد.. لكنّه لم يستطعْ إخفاءَ موجة بكاء كان يكتمُها، حتى نطق بها اضطرابُ بدنه، مع أزيزٍ كأزيز المرجل.. وبقي تأثرُه ظاهراً حتى بعد انصرافنا من الصلاة..
هذه الحادثة أرجعتني لمسوّدة مقال له صلةٌ بالموضوع كتبتُه منذ مدّة ولم أنشره، ولكن الواقعة أعلاه شجعتني على وضعه الآن بين يدي القراء الكرام، وإن كان جُلّه وصفاً لا تعليقا ولا تحليلا.. وهذا نصه:
قال أحدُ الأشخاص في مجلس عام: ما شاء الله! مظاهرُ الصحوة في فلسطين تبشرُ بخير ولله الحمد..
فقاطعه آخرُ: لو كان فيهم خيرٌ ما رأيتَ نساءهم كاشفاتٍ!
انتهت الواقعة! لكنني لم أستطع الصمت إزاءها..
وقبل الدخول فيما جرى، وقراءة هذه الواقعة، ينبغي أن أُبيِّن ثلاثة أمور، أحدُها عام، والآخران مرتبطان بقصة الحجاب:
الأول: ينبغي التنبيهُ على الفرق بين وصف الواقع وبيان كيفية التعامل معه، وبين الإقرار بمشروعيته وقبوله بخطئه.(/1)
وأنا هنا لا أتكلمُ عن واقع مُسْلمٍ قد ذاب تمامًا حتى خرج من دينه، ولكنني أتحدث عن المسلم الذي ما زال ينتمي لإسلامه ويفخر به، ويحافظُ على ما بلغه علمُه من الواجبات، ويتحفّظ عما بلغه علمُه وقناعته من المنهيات..
الثاني: أنَّ مراد المعترض بكلمة (كاشفات): أي كاشفات عن وجوههن، لا أنهن متبرجات تبرج الجاهلية..
الثالث: أنَّ الخلاف في كشف الوجه بين العلماء ليس على إطلاقه كما قد يفهم بعضُ الأفاضل من كلام المفتين به، أو كما يريد أن يروِّج أهلُ التهوين من أدعياء تحرير المرأة.. والكلام في هذه المسألة مفصّل في مظانّه وما كتب فيه بخصوصه، وقد وضحتُ ذلك في جواب محرّر لسؤال طرحتْه بعضُ الأخوات الفاضلات في أحد البلاد الغربية منذ بضع سنين.
1) وعوداً على بدء؛ فإنَّ هذه الواقعة التي ذكرتُ، تكشفُ لنا أن مفهومَ الاستقامة وصدقَ التديّن لدى بعضنا، صار مرتبطًا بالهيئة الظاهرة ارتباطًا لا يتردّد بعضُنا في جعله معياراً للحكم على مدى تديّن الأشخاص ذكوراً أو إناثاً! ولربما بلغ الأمرُ ببعض المتعجلين إلى درجة القذف أو السب والشتم، كأنْ يصف امرأةً كاشفة الوجه بأنها فاجرة! أو حليقَ لحيةٍ بأنَّه ليس متدينًا أو لا يهتم بالدين!
من هنا وفي أجواء هذه الإشكالية، استشعرتُ أنّني أمام حالة لا يسعني فيها السكوتُ، ولا سيما أنَّها تتضمنُ جهلاً بالحال من جهة، وقدحاً في الصالحين والصالحات من جهة أخرى، فبدأتُ بتحرير محلِّ الإشكال بين الشخصين، وإثبات قوَّة الصحوة الإسلامية في فلسطين الرباط، بل وفي العالم كلِّه، وجعلتُ ذلك دليلا على حسن القصد وصدق مشاعر الانتماء، ولِم لا؟ وهي الصحوةُ العابرة للقارّات بأكثرَ من خمسين مليون مسلم يتكاثرون في بلاد الكفر بلْه غيرها.. تلك الصحوة التي أقضّت مضاجعَ حماة الكفر وآخرين من دونهم من أهل النفاق والشقاق ومن اغترّ بهم من السذّج ومن خدعهم الأجنبيُّ جسداً أو فكراً بوصف مثقف أو خبير!!(/2)
2) ثم عرّجت على تصحيح فهم المعترض ومن حوله مستشهداً ببعض الأحاديث، وبعض الشواهد والوقائع التي مرّت عليَّ في هذا الموضوع في مواقع مختلفة.. فكم من رجلٍ وامرأةٍ وفتى وفتاة، يُرى في مظهر أحدهم ما قد يُحقَر به ظنا بأنَّه إلى قلّة الديانة أو عدمها أقربُ، فلا يُمْهِلكُ لإسداء واجب النصيحة -إن اقتضاها الحالُ- حتى ترى منه ما يجعلك تستبعد سوء الظنّ به..
- ذات يوم كنت أنتظرُ أحدَ الزملاء في مكان عام أمام أحد جوامع مدينة الرياض -وكنت قد سبقتُ الموعد بما يقارب عشرين دقيقة احتياطًا للطريق- لننطلق معاً في زيارة أحد كبار علمائنا -حفظهم الله- وقد مضى على أداء صلاة الظهر جماعةً نحوُ ساعة؛ وإذْ بسيارة رياضية شبابية تأتي مسرعةً لتقف بالقرب من سيارتي، وما إن وقَفَتْ حتى نزل منها شابَّان، لا تبعد سِنُّهما عن العشرين عامًا تزيد سنة أو سنتين أو تنقص نحوها تقريبا، وكان لباسَ كلٍ منهما: قميصٌ تنحسر يداه عن العضد ولكنه يستر المنكب، وتوحي صبغته بأحدث ما يتلقَّفه الشباب من (الموضة)، وعلى كلٍ منهما بنطال (جِنْز) مُنْحَسِرٍ عن الساقين، يقارب ما يُعرف بالـ(برمودا)، ويستر عورة الرجل.. نزلا مُسرِعَين واتجها نحو مصلى النساء! توقفتُ عن قراءة كُتَيِّبٍ كان بين يديّ، لِما رابني من هذا التصرّف! ولكنهما لم يمهلاني لاستعراض احتمالات ما أرى في لحظة خاطفة.. إذ سرعان ما خرجا واتجها نحو أماكن الوضوء!.. ثم لم يلبثا طويلاً حتى خرجا واتجها نحو باب المسجد.. رأيتُ أن أكمل انتظاري داخل المسجد وكنت أظنّه مغلقًا قبل أن يدفعا الباب.. دخلته بعد بضع دقائق، وإذا كل منهما قد انفرد يصلي! ورفع أحدُهما يديه داعيًا، ثم انطلقا متماسكين بيديهما، ولوح أحدُهما بيده اليمنى وتبعه الآخر مسلِّمين مبتسمين! فبادلتُهما التحية والابتسامةَ بأحسنَ منها وأزيد.. ابتسامة مقابل ابتسامة، وأزيد منها من فرط فرحتي بهذا المشهد الذي قلَّ أن يعدله مثلُه فيما(/3)
رأته العين وهو غير ما تعبِّر عنه الحروف.. لقد كان ما شهدته هو الفصل الأخير من المشهد حيث كانا -حين دخولي- يصليان الراتبة..
وأصدقكم أنني لم أستغرب هذا المشهد تماما.. ولولا المكانُ، لما كان مُستغربا أصلا.. فقد رأيت أمثالَه في بلدان إسلامية وغير إسلامية من إخوة وأخوات محلّ ثقة في تدينهم وحبِّهم للخير، بل ورأيت تَبَنِّي بعضِهم لمشاريعَ دعويةٍ تتسم بالإبداع لا الابتداع..
- وهذا شاب قد عبثت بمظهره الموضةُ إلى حدّ التشويه، يتقدّم إليّ مع بعض الإخوة لينطق بكلمات هامسة: بالله سَمّعنا إيمانياتٍ! وهذه الكلمةُ ربما يستغربها من لم يعش في مجتمعات اعتادتها عند رؤية من يظنون به خيراً.. وآخر من مثله رأيته في الصيف الماضي إذْ جاء يسأل: أين أجدُ تسجيلا للقرآن الكريم كاملا بقراءة الشيخ حسين آل الشيخ!
- وهذه فتاةٌ لم تلتزم بحجابٍ تامٍّ تسأل سؤال تديّن: لو لم أصم يوم الخميس بسبب الامتحان هل أكون آثمة لتركي عملا كنت أداوم عليه؟!
- وأخرى تلبس قميصاً وبنطالاً، وتلف ما اعتادته من حجابٍ على رأسها، تسأل بحسرة: أخي يستمع للموسيقى فكيف أقنعه بتركها؟!
- وهذه طبيبة لم تلتزم بالحجاب مطلقا، لكنها تُلحّ عليك بإحضار بعض الكتيبات التي تتحدث عن الإسلام، بغية إهدائها لزميلتها الكافرة التي ما زالت تسعى في إسلامها وتتحاور معها عن فضل الإسلام ومحاسنه.. وتتمنى أن تسلم على يديها!
- وهذا كهل يلتف حوله أبناؤه في بلدٍ من بلاد الكفر، وقد خِلته وخِلتهم من غير المسلمين لما تراه من مظاهر، لولا أنه سلّم عليك مبتسماً وحيّاك، ثم سألك: أيجوز لي أن أقصر الصلاة مع أني سأجلس في هذا النُزُل (الفندق) أكثر من أربعة أيام؟!(/4)
- وأغرب من ذلك كلِّه ما تجده في أجواء الجاليات الإسلامية، فمن المعقول أن تسمع فتاة من أسرة مسلمة! تسألك سؤالاً جاداً لا هازلاً: لماذا يجوزُ لأخي أن يتخذَ صديقةً ولا يجوزُ لي أن أتخذ صديقاً!! وهي قصة قد أشرت إليها من قبل في مقال بعنوان: مسلسل الخَور اللعين.
- وأما ما يدعو للاستغراب بحق فهو أن تقف على لقاء مع مغنية، تثني فيه على الله وتبتهل إليه بدعاء! من نحو: الحمد لله! سيخرج ألبومي الجديد هذا العام إن شاء الله! يا رب!.. كنت أظن هذا ونحوه ضربًا من التعوّد أو السخرية، حتى علمت من بعض الدعاة في تلك الأجواء بأنَّ الأمر ليس كذلك على كل حال، وأن من تلك الغافلات من عاشت في بيئة جهلٍ، ولبّس عليها غيرُها حتى ظنَّتْ حسناً ما ليس بالحسن!
- وصدق، فقد كنتُ قرأتُ مقابلةً مع إحدى الفنانات التائبات من أرض مصر -بلاد الأزهر- فوجدتها تصرِّح فيها بأنها لم تعلم أن الحجاب واجب شرعًا إلا بعد توبتها بسنتين!! وأن سبب علمها بوجوبه من غير إلزام الزوج به كما كانت تظن! هو أنشودةٌ في الحجاب ردَّدتها بعضُ الصغيرات احتفاءً بها في بيت إحدى الداعيات بالمدينة النبوية قبل أن تعود لبلادها من رحلة عمرة وزيارة للمسجد النبوي..
- ولعلّ بعضكم يتذكر تلك المشاهد التي تكررت في شوارع مدن بلاد الإسلام.. شباب لا يظهر عليهم من أثر المحافظة ما يُميزهم عن غيرهم، لكنهم كانوا يوزِّعون الملصقات التي تبيّن حقوق المصطفى -صلى الله عليه وسلم- والملصقات التي تطلب من المسلمين مقاطعة المنتجات الدنمركية..(/5)
- ولعل بعضكم أيضاً قرأ أو سمع بتلك المرأة المتبرجة التي كانت مكشوفة الرأس والشعر والعنق وشيء من الصدر، قد انحسر لباسُها عن ساقيها في مظهر بلغ من التفرنج غايتَه، في عاصمة من عواصم الفرنج الكبيرة، ولكنّها مع هذا المظهر المزري لم تحتمِل كلمات عِدَاءٍ صليبيٍ في حق نبينا محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- من قسيس بلغ منه الحقدُ مداه فوقف يصرخ بها بين مقاعد الحافلة التي كانت المرأةُ تجلس في الصف الأخير من مقاعدها، فما إن سمعته حتى اتجهت إليه لتصفعه وهي تردد: إلا محمد! إلا محمد! وبدنها يرتجف من شدّة الغيظ وحرارة الغيرة! في حين عاد القس لمقعده في حالة من الذهول ووقع الصفعة غير المتوقعة!
وها هي ذي مظاهرات المسلمين والمسلمات، تخترقُ طرقَ العواصم التي يُذكر فيها نبيُّ الرحمة بسوء، أو يُستهدف بإهانة، فتنقلب المكيدة على أهلها، وينضم إلى ركب الإيمان بنبوة محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- أقوامٌ كثر؛ صحوةً من غفوة أو إسلامًا بعد كفر!
3) أيها الكرام إنَّ تحت المظاهر التي قد يتقالّ البعضُ أصحابَها مخابرَ لو علمها المتقالّ لربما احتقر نفسَه أمامها.. وإنَّ انتشار بعض الآراء الفقهية –وإن كانت لا تنهضها أدلتها وفق الأصول– في بلاد دون أخرى وتكوُّنها جزءاً من الثقافة الإسلامية لمجتمع ما، لا يعني أن أتباعَه محادّون لله في شرعه، أو متنكِّبون عن قصدٍ سنة نبيه -صلى الله عليه وآله وسلم- فرسوخُ الآراء الفقهية مع الزمن يجعلُ الأتباع -حتى من بعض طلبة العلم- لا يتوقفون كثيراً عند المراجعة الشرعية التأصيلية للمسلّمات المتوارثة في المجتمع، ولا سيما إذا تلقاها علماءُ بلدٍ أو غيره عن آخرين ممن يثقون في تدينهم.. فيرقى الأمرُ عند بعضهم حتى يبلغ طالبُ العلم مرتبة المشيخة وهو يتلبّس مخالفةً يشير إليها عيباً قادحاً عوامُّ بلدٍ ساد فيه القولُ الراجح وَفق أصول الترجيح المعتبرة.(/6)
4) إنَّي لأنظر إلى هذه المشاهد التي ذكرتُ بعضَها ونبّهتُ على غيرها، بوصفها بعضَ المباهج التي تظهر في أوقات التمايز.. ولكن بعض أحبتنا يتشاءمون.. وليس ثم داعٍ لذلك لمن عرف تطور الصحوة؛ فليبشروا بالخير، وليسألوا كبار السنِّ عن الشباب في زمن شبابهم وعن الشباب زمن كهولتهم ليعرفوا أنَّ مجتمعاتِ أمتنا تقترب من دينها وتأوي إليه شيئاً فشيئاً، وإن ظهر منها ما يوحي بخلاف ذلك، لجهلٍ أو غفلة أو صبوة شباب أو غيره.. فشبابنا مهما ساروا خلف الموضة، ووقعوا فيما لا يزينهم شرعًا من مخالفة، فهم منا وقلوبهم منعقدة على حب الله ورسوله، وإن نال منها الإعلامُ، ووطَّأ لهم سنُّ المراهقة وصبوة الشباب..
إن التوبة في صفوف الغافلين، وما يعرف (بأهل الفن) مثلا، أو الشعور بالإثم في عبارات بعضهم مع تمني التوبة، لهو رحمةٌ من الله لهم، تتمثل في بقايا ضميرٍ حيٍ لم تُفلح في اجتثاثه جرعاتُ السوء المتتالية، فلا أمن لأهل الباطل من عودة ضالٍ إلى الهدى، ولا فرحة لهم في غواية فتاةٍ ولا صبوة شاب..
إنَّ لحظات الإيمان لتتجدّد في ظروف؛ منها ما يمكن تفسيره، ومنها ما لا يعلم سرّه إلا الله تعالى.. فمن ذا الذي كان يظن إسلام عمر رضي الله عنه وعظيم جهده في نصرة الحق، بلْه خلافته في أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- وعبقريته في فهم الإسلام؟!
5) وهي رسالة للمتربصين بشبابنا: على رسلكم! فمهما كانت مظاهرُ شبابنا ذكوراً وإناثاً، ومهما سَرّكم من مناظرهم، فهم ليسوا منكم في شيء ولستم منهم في شيء، وإن أصررتم، فمصيرُ جهدكم، قد بيّنه الله تعالى في كتابه: {ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون} [الأنفال: 36].. حماهم الله شرَّه وشرَّ كلِّ من فيه شرّ من أهل الباطل من غلاة وجفاة.(/7)
وهذه الحسرة رأيناها رأيَ العين في تصرفات القوم ومقالاتهم.. فهذا أحدُ منظري العلمانية -المرجعيين عند كتابها- في العالم العربي يقولُ متحسراً على العمر الذي أمضاه بين المسلمين في حوارات الترويج لفكر غيره -أو كما يعبّر الأستاذ (فهمي هويدي): في الدفاع عن (القبيلة العلمانية)!- يقول هذا المنظِّر المسكينُ العجوز متحسراً: إنَّ الجمهور في تلك الحوارات كان "مغلقاً أمام تأثيري وتأثير أمثالي، لأنَّ له ثقافتَه الخاصة التي لا تريد من حيث المبدأ أن تنفتح على نوع الثقافة الذي أمثله... الهدف الحقيقي لنشاطنا، لا يصل إليهم حرفٌ واحد مما نقول"! ويقول: إنَّ رفع أحد الحاضرين صوتَه بطريقة خطابية "يمحو تماما تأثيرَ كل ما أجهدت نفسي فيه"! فسبحان من أنطقه!!
د) يا أهل الإسلام ودعاته.. إنَّ الوقائع أعلاه حقائقُ تذكرني بقول الله عزّ وجل: {ولا تمنن تستكثر} [المدثر: 6].. فمهما قدّم المنسوبون للدعوة على اختلاف مناشطهم، فالمطلوبُ أكبر وأكثر.. ومهما ظننا أن الجميع قد علم وأنَّ البلاغ قد حصل، فإنَّ الواقع يكشفُ لنا الكثيرَ من القصور، ويطالبنا بالمزيد والمزيد.. فقبل أحداث (منهاتن) كان بعضُ المسلمين لا يعرف من الإسلام إلا يوم العيد! وكان بعضُ الأمريكيين ممن سمعوا بالإسلام يظنونه نادياً رياضياً! واليوم تنفد الكتب العربية من مكتباتهم حتى كتب الطبخ بحثاً عن الإسلام!! كما يقول الداعية الأمريكي المسلم (يوسف أستس) حفظه الله!
هـ) يا إخوة الدين والعقيدة في البلاد أو المجتمعات التي منّ الله على أهلها أو جلّهم أو كثير منهم بالعلم والمناهج الشرعية والمحافظة السلوكية: على رسلكم! فلا تحملوا نياتِ من ترون على ما ترون من مخالفات، فكم بين المظاهر والمخابر من خفايا تصرخ بضدِّها، وكم في أمة الإسلام من خير، وكم تحت المناظر المكروهة من مخابر محبوبة..(/8)
ويا إخواننا وأخواتنا ممن تأذى من غَيرةِ بعض الغيورين ممن عاشوا في بلادٍ أو مجتمعاتٍ محافظة حتى وقع الإنكارُ منهم على ما اعتادوا، ظناً منهم أنَّ مَن أمامَهم ممن عرفوا الحق وأعرضوا عنه.. رفقاً بإخوانكم فقد سمعنا نقداً يشكو من الإشكالية نفسها لكنها من الطرف الآخر.. لتعذروا من عاش في أجواء الفضيلة وحماها، حين يرى لبّها يُستنقَص ممن ينتمي للإسلام، فإنَّهم ربما لا يتصورون عدم بلوغ الحق لكم كما بلغهم، ولا أثر الحياة التي تعيشونها في تلك الديار على أجيالكم.
وأخيراً أختم بهذا الحديث الذي كان مستندي النبوي في أهمية طرح هذا الموضوع وإن كان ثمة مستندات أخر: فعن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنَّ رجلاً على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- كان اسمه عبد الله، وكان يُلقَّب حِماراً، وكان يُضحِك رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- قد جلده في الشَّرَاب، فأُتي به يوماً فأِمرَ به فجُلد، فقال رجل من القوم: اللهم العنه! ما أكثرَ ما يُؤتَى به؟! فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لا تلعنوه، فوالله ما علمتُ إلا إنَّه يُحبّ الله ورسوله) رواه البخاري.
هذه بعضُ التأملات التي رأيتُ تدوينها لما فيها من فوائد دعوية -وإن لم أقتنع بكمال صورتها– ورأيتُ أن أُظهرها للمتأملين قبل أن تُؤخِّر تدوينها الأولوياتُ..
وصلِّ اللهم وسلِّم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.(/9)
العنوان: وهبة الزحيلي.. العالم الفقيه المفسِّر
رقم المقالة: 1851
صاحب المقالة: إعداد: أحمد بن محمود الداهن
-----------------------------------------
لمحاتٌ من حياته:
ولادته ونشأته:
ولد وهبة مصطفى الزُّحيلي في بلدة دير عطية من ريف دمشق عام 1351هـ-1932م لأبوين كريمين موصوفين بالصَّلاح والتَّقوى.
فوالده الحاج مصطفى الزُّحيلي كان حافظاً لكتاب الله تعالى، شديد التَّمسك بالسُّنة النَّبوية، كثير العبادة والصِّيام، ذا همَّةٍ عالية، وكان له الأثر الأكبر في توجيه أولاده لمتابعة التَّحصيل العلمي، وفي إطار الدِّراسات الشَّرعية بخاصَّة.
أما والدتُه فسيدةٌ فاضلة، شديدة الورع، متمسِّكةٌ بالشَّريعة عاملةٌ بها.
اتَّجه المترجَم في بداياته الأولى إلى تعلُّم القرآن الكريم، فأتقنه تجويداً في أحد كتاتيب البلدة عند امرأةٍ حافظةٍ صالحة، وأُدخل بعدها المدرسة الابتدائية الرَّسمية وأتَمَّها في بلدته أيضاً.
دراسته وشهاداته:
بعد أن أنهى دراستَه الابتدائية قدم المتَرجم مدينةَ دمشق سنة 1946م وعمرُه 14 عاماً لمتابعة دراسته في معاهدها.
التحق في دمشق بالثانوية الشَّرعية التي كانت تُسمَّى كلِّية الشَّريعة، وأمضى فيها ستَّ سنوات، نال بعدها شهادة الثانوية الشَّرعية عام 1952م وكان ترتيبه الأولَ على جميع المتقدِّمين.
توجَّه بعدها إلى مصر ليكمل مسيرته العلمية، وتحصيله العلمي العالي، فالتحق بعددٍ من الكلِّيات في آنٍ واحد، فقد درس في الجامعة الأزهرية في كلِّيتي الشَّريعة واللُّغة العربية، كما درس في كلِّية الحقوق بجامعة عين شمس، وكانت حصيلة تلك الدِّراسة أن نال الشَّهادات الآتية:
1- الشَّهادة العالية في الشَّريعة الإسلامية من كلية الشَّريعة بالأزهر بتقدير ممتاز عام 1956م.
2- إجازة التَّخصص بالتَّدريس من كلية اللُّغة العربية بالأزهر عام 1957م.
3- إجازة في الحقوق من جامعة عين شمس بتقدير جيد عام 1957م.(/1)
ولم يكن الأستاذ وهبة الزُّحيلي قد قضى نهمته في طلب العلم بعد، فتقدَّم إلى كلٍّ من جامعتي الأزهر والقاهرة للدِّراسات التَّخصصية العليا، وتابع دراسته في كلِّية الحقوق في جامعة القاهرة بقسم الشَّريعة، ونال سنة 1959م درجة الماجستير في الشَّريعة الإسلامية، وبعد ذلك سجل أطروحته في الدكتوراه في الكلية نفسها بعنوان (آثار الحرب في الفقه الإسلامي –دراسة مقارنة)، ومنحته لجنة المناقشة الدرجة العلمية مع مرتبة الشَّرف الأولى سنة 1963م.
أساتذته وشيوخه:
هيأ الله -عز وجل- للمترجَم مجموعةً من أساتذة العلم وشيوخه في الشَّام ومصر قلَّ نظيرُها، ويندر أن تجتمع لإنسانٍ واحد، فكان بعضُ أفراد هذه الطَّبقة من العلماء أساتذة جيل، كما أن بعضهم كان صاحب نهضةٍ علميةٍ مباركةٍ جدَّدت معالم الدِّين في بداية هذا القرن.
فمن أساتذته وشيوخه في الشَّام أذكر:
1- الشيخ محمد هاشم الخطيب الرِّفاعي: خطيب الجامع الأموي، ومؤسِّس جمعية التَّهذيب والتَّعليم، وقد قرأ عليه المترجَم في الفقه، وتأثَّر به في التَّوجيه وتبيان المعايير الصحيحة للإسلام.
2- الشيخ عبد الرِّزاق الحمصي: كان فقيهاً وتولى الإفتاء في الجمهورية السُّورية بين عامي 1963م -1969م، وقد قرأ عليه الشيخ الزحيلي في الفقه.
3- الشيخ محمود ياسين: أحد مؤسسي (جمعية النهضة الأدبية) و(جمعية العلماء) و(رابطة العلماء) و(جمعية الهداية الإسلامية) التي تولَّى رئاستها، وله عنايةٌ خاصَّةٌ بعلوم اللُّغة، واشتغالٌ بالحديث النَّبوي وعلومه، وقرأ عليه في الحديث.
4- الشيخ حسن الشَّطِّي: فقيهٌ حنبليٌّ فَرَضيُّ، كان أوَّلَ مديرٍ للكلِّية الشَّرعية بدمشق، تلقَّى عليه المترجَم علومَ الفرائض والأحوال الشَّخصية.(/2)
5- الشيخ حسن حبنَّكة الميداني: أحد أفذاذ دمشق المعدودين، صاحب نهضةٍ علميةٍ متميِّزة، شارك بتأسيس (مدرسة الجمعية الغرَّاء)، و(المدرسة الرَّيحانية)، و(المعهد الشَّرعي)، و(جمعية التَّوجيه الإسلامي)، كما شارك في تأسيس (رابطة العالم الإسلامي ) في مكة المكرمة. حضر الأستاذ الزحيلي دروسه في التَّفسير.
6- الشيخ صادق حبنكة: أخو الشيخ حسن حبنكة، وقد حضر الشيخ الزُّحيلي دروسه في التَّفسير.
7- الشيخ صالح الفرفور: مؤسس (جمعية الفتح الإسلامي) ومعهدها، وهو من رجال التَّربية والتَّعليم البارزين، وقد قرأ عليه المترجَم في علوم اللغة العربية (البلاغة والأدب).
8- الشيخ محمد لطفي الفيومي: فقيهٌ حنبليٌّ، ومدرِّسٌ بارعٌ، قرأ عليه الزُّحيلي في أصول الفقه ومصطلح الحديث.
9- الشيخ محمود الرنكوسي: العالم العامل الفاضل، مدير (دار الحديث الأشرفية)، ورئيس رابطة العلماء، قرأ عليه الزُّحيلي في علوم العقائد والكلام.
ومن أساتذته وشيوخه في مصر أذكر:
1- الشيخ محمد أبو زهرة: الفقيه الإمام وعلم العصر، ولعلَّ الأستاذ الزَّحيلي قد تأثَّر بأسلوبه في الكتابة.
2- الشيخ محمود شلتوت: الفقيه المصلح، ومؤسس (مجمع البحوث الإسلامية).
3- الشيخ الدكتور عبد الرحمن التَّاج: شيخ الأزهر بين عامي 1954م – 1958م، وله بحوث متميَّزة.
4- الشيخ عيسى منّون: درَّس في الأزهر، ونال عضوية جماعة كبار العلماء، عُيِّن عميداً لكلية أصول الدِّين، ثم شيخاً لكلية الشَّريعة.
5- الشيخ محمد علي الخفيف: أحد أعلام القضاء والفقه في مصر، خلَّف أكثر من عشرة كتب فقهية وأصولية وعدداً كبيراً من البحوث.
وفي ذكر مشايخه وأساتذته يقول الدكتور الزحيلي: "أخذت عن شيوخ مصر العلم، وتعلَّمت من شيوخ الشَّام العمل بالعلم والورع".
أعماله وومناصبه:(/3)
التَّدريس الجامعي كان أول أعمال المترجَم بعد حصوله على درجة الدكتوراه، إذ عُيِّن مدرِّساً في كلية الشَّريعة بجامعة دمشق عام 1963م، ثم رقي إلى درجة أستاذ مساعد سنة 1969م، وأستاذاً عام 1975م.
وتنقَّل بعدها بين عددٍ من الجامعات العربية بصفة أستاذٍ زائر، فدرَّس في كلية الشَّريعة والقانون بجامعة بنغازي، وفي قسم الشَّريعة بجامعة الخرطوم بالسُّودان، والمركز العربي للدِّراسات الأمنية بالرِّياض، وأمضى خمس سنوات في جامعة الإمارات العربية في العين.
وخلال السَّنوات السَّابقة -وما يزال- شغل الدكتور الزَّحيلي عدداً من المناصب الإدارية في الجامعات التي درَّس بها؛ فقد عُيِّن وكيلاً لكلية الشريعة بجامعة دمشق عام 1967م، ثم عميداً للكلَّية بالنَّيابة بين عامي 1967م – 1969م.
وعُيِّن رئيساً لقسم الشَّريعة في كلية الشَّريعة والقانون في جامعة الإمارات العربية المتحدة، ثمَّ عميداً للكلِّية بالنيابة حتى نهاية مدة إعارته سنة 1989م.
ويشغل حالياً منصب رئيس قسم الفقه الإسلامي ومذاهبه بجامعة دمشق.
وللأستاذ الدكتور الزُّحيلي عضويةٌ في عددٍ من المجامع العلمية والبحثية الإسلامية، ويرأس بعض الهيئات الشَّرعية الإسلامية، ومنها:
- عضوٌ خبيرٌ في كلٍّ من مجمع الفقه الإسلامي بجدة، والمجمع الفقهي بمكة المكرمة، ومجمع الفقه الإسلامي بالهند والسودان وأمريكة.
- عضوٌ في المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية –آل البيت- في الأردن.
- عضو الموسوعة العربية بدمشق.
- أحد أعضاء هيئة التَّحرير في مجلَّة نهج الإسلام التي تصدر عن وزارة الأوقاف السورية.
- رئيس هيئة الرَّقابة الشَّرعية لشركة المضاربة والمقاصَّة الإسلامية في البحرين.
- رئيس هيئة الرَّقابة الشَّرعية للبنك الإسلامي الدَّولي في المؤسسة العربية المصرفية في البحرين.
- رئيس قسم الدِّراسات الشَّرعية في المجلس الشَّرعي للمصارف الإسلامية في البحرين.(/4)
- عضو هيئة الإفتاء الأعلى بالجمهورية العربية السورية.
- عضو الهيئة الاستشارية لموسوعة دار الفكر للحضارة الإسلامية.
- عضو لجنة البحوث والشؤون الإسلامية بوزارة الأوقاف السورية.
وله أيضاً مشاركاتٍ فاعلةٍ في المؤتمرات والنَّدوات الدَّولية الإسلامية التي تعقد في مختلف العواصم والمدن العربية والإسلامية، ومنها:
- دورات مجمع الفقه الإسلامي التَّابع لمنظَّمة العمل الإسلامي.
- دورات المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية –آل البيت- في عمَّان.
- ندوات هيئة الزكاة المعاصرة في الكويت والمنامة.
- النَّدوات الإسلامية الطِّبية التي تقيمها منظمة العلوم الإسلامية والطِّبية بالكويت.
- أسبوع الفقه الإسلامي في الرِّياض.
أوصافه وأخلاقه:
لقد حبا الله الأستاذ الزُّحيلي بسطةً في العلم والجسم، فهو طويل القامة، حنطيُّ اللَّون، خفيف العارضين، سريع المشي والحركة، ذو همَّة عالية.
يمتاز بحسن الخلق وطيب المعاملة، وهو لطيف المعشر، دائم البِشْر، يألف ويُؤلف.
وهو محبٌّ لطلابه وإخوانه،حريصٌ على أوقاتهم، نصوحٌ لهم، يؤثر خدمتهم، ويستجيب لدعواتهم، ويشاركهم في مناسباتهم بطيب خاطر.
وهو متواضعٌ في عزَّة، لا يرفعه علمه على الناس كبراً، ولا يضعه تواضعاً، بل هو مهيب محترم، يعرف للآخرين حقَّهم، كما يعرف حقَّ نفسه.
وهو وفيٌّ محبٌّ لأشياخه، لا يذكر أحداً منهم إلا بخير، ويكره التَّعصب المذهبي كرهاً شديداً.
ولعل من أبرز المواهب التي أفاضها الله عز وجل عليه حافظته القوية، وربما أتى إلى مناقشة بعض الرَّسائل الجامعية دون أن يصطحب معه المذكرة، ومع ذلك تراه يبرز محاسنها، ويشير إلى ملاحظاته عليها، ويملي ذلك على المناقش من ذاكرته محدداً له مواقع النَّقد من رسالته.
وقد أوتي من الصَّبر والجلد والمحافظة على الوقت وعدم إضاعته، ما يجعله في ذلك مثلاً يُحتذى.(/5)
وهو محبٌّ للسكينة والهدوء، سريع القراءة، ويعزو ذلك إلى صلته المستمرة بالكتاب، فهو لا يكاد يضيع دقيقةً واحدةً من غير قراءةً أو كتابة، وربما أمضى أكثر من ثلثي يومه بين الكتب دون أن يشعر بأدنى ملل.
أما حكمته التي تنتظم بها حياته فهي قول الله عز وجل: {واتقوا الله ويعلمكم الله} [البقرة: 282]، ويقول في ذلك: "إن سرَّ النَّجاح في الحياة إحسان الصِّلة بالله عز وجل".
وأختم بذكر شهادة أحد أساتذته فيه، يقول الأستاذ الشيخ صادق حبنَّكة: "إن الشيخ وهبة الزُّحيلي –حفظه الله وزاده بالشُّكر من خير ما أعطاه- له في قلبي مكانة مكينة ملَّكه إياها –وهو أحقُّ بها- تواضعه بلا مذلة، واستقامته بغير انحراف، ودأبه على العلم الناصح والعمل الصَّالح، وما عملت يداه من الكتب المجيدة في المواضع المفيدة".
تعريف بمؤلَّفاته:
يُعدُّ الأستاذ الدكتور وهبة الزُّحيلي من أغزر المعاصرين تأليفاً وأكثرهم إنتاجاً فكرياً، وهو يَعُد العمل بالتَّأليف بقصد نفع الآخرين وتبصيرهم بحقائق دينهم ودعوتهم إلى دين الله من آكد الواجبات، وأهم العبادات بعد أداء ما افترضه المولى عز وجلَّ.
وقد بلغت كتبه وبحوثه ومقالاته نحواً من خمس مئة، وله موقع على الشابكة يجيب فيه عن مختلف الأسئلة من بلدان العالم.
وأهمُّ مؤلفاته وآثاره:
أ- في مجال التأليف العلمي المتخصص:
للمترجَم في هذا الميدان إلى الآن أكثر من ثلاثين ومئة كتابٍ ورسالةٍ ظهرت إلى عالم الطِّباعة، أهمها:
1- آثار الحرب في الفقه الإسلامي.
2- الفقه الإسلامي وأدلته.
3- نظرية الضَّرورة الشَّرعية؛ دراسة مقارنة.
4- التَّفسير المنير في العقيدة والشَّريعة والمنهج.
5- التَّفسير الوجيز.
6- التَّفسير الوسيط.
7- الفقه الإسلامي في أسلوبه الجديد.
8- أصول الفقه الإسلامي.
9- الذَّرائع في السِّياسة الشَّرعية،والفقه الإسلامي.
10- العلاقات الدولية في الإسلام مقارنة بالقانون الدولي الحديث.(/6)
11- نظرية الضَّمان أو (حكم المسؤولية المدنية والجنائية) في الفقه الإسلامي.
12- العقود المسمَّاة في قانون المعاملات المدنية الإماراتي والقانون المدني الأردني.
13- العقوبات الشَّرعية وأسبابها، بالاشتراك مع الدكتور رمضان الشرنباصي.
14- الأصول العامة لوحدة الدَّين الحق (مترجم إلى الإنجليزية).
15- القرآن الكريم، البنية التَّشريعية والخصائص الحضارية (مترجم إلى الإنجليزية والفرنسية).
16- جهود تقنين الفقه الإسلامي.
17- فقه السُّنة النَّبوية.
18- نظام الإسلام - ثلاثة أقسام (نظام العقيدة، نظام الحكم والعلاقات الدولية، مشكلات العالم الإسلامي المعاصر).
19- الوجيز في أصول الفقه.
20- شرعة حقوق الإنسان في الإسلام، بالمشاركة.
21- الضَّوابط الشَّرعية للأخذ بأيسر المذاهب.
22- الرُّخص الشَّرعية؛ أحكامها وضوابطها.
23- الإسلام دين الجهاد لا العدوان.
24- الإسلام دين الشُّورى والدِّيمقراطية.
25- القصَّة القرآنية، هدايةٌ وبيانٌ.
26- الموازنة بين القرآن والسُّنة في الأحكام.
27- الفقه الحنبلي الميسر (بأدلته وتطبيقاته المعاصرة).
28- الخليفة الرَّاشد العادل عمر بن عبد العزيز.
29- سعيد بن المسيب (ضمن سلسلة أعلام المسلمين).
30- أسامة بن زيد (ضمن سلسلة أعلام المسلمين).
31- عبادة بن الصامت (ضمن سلسلة أعلام المسلمين).
32- المذاهب الإسلامية الخمسة، بالمشاركة.
ب- في مجال العناية بالتراث الإسلامي:
1- تخريج وتحقيق أحاديث (تحفة الفقهاء) لعلاء الدين السمرقندي.
2- النُّصوص الفقهية المختارة.
3- تخريج وتحقيق أحاديث وآثار (جامع العلوم والحكم لابن رجب الحنبلي) مع التَّعليق عليها.
4- تخريج وتحقيق واختصار (مختصر الأنوار في شمائل النبي المختار) للبغوي.
5- تحقيق وترتيب (طريق الهجرتين وباب السعادتين) لابن القيم.
جـ- بحوث مقدمة إلى الموسوعات العربية والإسلامية:
1- التَّمثيل السِّياسي في الإسلام (25صفحة) الكويت.(/7)
2- أموال الحربيين (27صفحة) الكويت.
3- الأشربة (25صفحة) الكويت.
4- المرابحة (15صفحة) الكويت.
5- الوصية (40صفحة) الكويت.
6- الضرورة (20صفحة) الكويت.
7- المزارعة (20صفحة) جدة.
8- الاستصناع (17صفحة) جدة.
9- عائد الاستثمار (29صفحة) جدة.
10- الدَّعوة الإسلامية - الوسيلة - المنهج - الهدف (31صفحة) عمَّان.
11- العلم والإيمان وقضايا الشباب (14صفحة) عمَّان.
12- تبصير المسلمين لغيرهم بالإسلام - أحكامه وضوابطه وآدابه (32صفحة) عمَّان.
13- الشُّورى في العصور العباسية فكراً وممارسة (38 صفحة) عمَّان.
14- متى يجنح إلى السَّلم (40 صفحة) عمَّان.
15- الاجتهاد (5 صفحات) دمشق.
16- الإسلام والإيمان والإحسان (50 صفحة) دمشق.
17- الأصولية (10صفحات) دمشق.
18- الإفتاء (3 صفحات) دمشق.
19- أهل الذمة (15صفحة) دمشق.
20- أهل الكتاب (15صفحة) دمشق.
21- ترجمة الأستاذ عبد الوهاب خلاف (5 صفحات) دمشق.
د- البحوث التي تقدم بها إلى المؤتمرات الدولية والندوات العلمية والفكرية:
1- أثر الباعث والنية في العقود والفسوخ والتروك.
2- إسقاط الدين عن الزكاة.
3- إقليمية الشريعة والقضاء في ديار الإسلام.
4- أهمية الحفاظ على الحكومة الإسلامية.
5- زكاة الأسهم في الشركات.
6- السُّوق المالية.
7- الضرورة والحاجة وأثرهما في الأحكام الشَّرعية.
8- فلسفة العقوبة في الإسلام.
9- المصلحة المرسلة.
10- مصرف الزكاة.
11- نظام التوبة وأثرها في إسقاط العقوبات.
هـ- المقالات:
ناف عددُ المقالات التي نشرت للمترجم على المئة، معظمها توزَّع على ثلاث مجلاتٍ هي:
1- مجلَّة حضارة الإسلام الدِّمشقية، ونشرت للأستاذ ما بين سنتي 1963م – 1968م.
2- مجلَّة الوعي الإسلامي الكويتية، ونشرت للأستاذ ما بين سنتي 1966م – 1981م.
3- مجلَّة نهج الإسلام الدِّمشقية، وتنشر للأستاذ منذ سنة 1981م وحتى الآن.
المرجع:(/8)
كتاب (وهبة الزحيلي، العالم الفقيه المفسِّر)، تأليف: الدكتور بديع السَّيد اللَّحام، وهو الكتاب رقم (12) في سلسلة: (علماء ومفكرون معاصرون، لمحات من حياتهم وتعريف بمؤلفاتهم) التي تصدرها دار القلم بدمشق، الطبعة الأولى، 1422هـ - 2001م.(/9)
العنوان: وينزل الغيث (1) الغيث رحمة
رقم المقالة: 260
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم؛ وسعت رحمته كل شيء، وعم فضله كل الخلق، فما من مخلوق إلا وناله من رحمة الله تعالى وفضله ما ناله (هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم) نحمده على فضله المتتابع، ونشكره على غيثه المبارك، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له (خلق السماوات بغير عمد ترونها وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وبث فيها من كل دآبة وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم، هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه بل الظالمون في ضلل مبين)
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، خاتم النبيين، وإمام المرسلين، وسيد ولد آدم أجمعين، كأن أكثر الناس استبشارا برحمة الله تعالى، وأشدهم فرقا من عذابه، إن رأى سحابا خاف أن يكون عذابا، فإذا مَطَرت سُرِّي عنه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه خير صحب وآل، والتابعين لهم بإحسان.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واشكروه على نعمه العظيمة، واعلموا أنكم لن تبلغوا شكره مهما عملتم؛ فإن إحسان الله تعالى إليكم كثير، وفضله عليكم عظيم، وما شكركم بجانب نعمه (الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجرى في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار وسخر لكم الشمس والقمر دآئبين وسخر لكم الليل والنهار وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار).
أيها الناس: من أسماء الله تعالى الحسنى: الرحيم، ومن صفاته العلى: الرحمة، ومظاهر رحمته سبحانه في خلقه كثيرة في خلقهم ورزقهم، وهدايتهم وإعانتهم. وفي كل أزمانهم وأحوالهم تحيط بهم رحمة الله تعالى وعنايته ورعايته .(/1)
والغيث رحمة يرحم الله تعالى بها العباد والبلاد، والبهائم والطير والحشرات، ويحيي به الله تعالى الأرض بعد موتها، فتهتز الأرض بالغيث المبارك بعد سكونها، وتخضر بعد اصفرارها، وتثمر بعد جدبها، فتنتفع بذلك كل المخلوقات في البر والبحر.
وللرب جل جلاله في تقدير الغيث وإنزاله تدبير عجيب لطيف، يدل على حكمة باهرة، ورحمة واسعة، لا يحيط بها العباد وصفا ولا عدا.
ومن أعظم مظاهر تلك الحكمة في التقدير، والرحمة بالعبيد: أن الله تعالى جعل إنزال الغيث من خصائص ربوبيته سبحانه، ولم يكل ذلك إلى أحد من خلقه (إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير) وقال الرسول صلى الله عليه وسلم:(مفتاح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله ....) فذكر الخمس المذكورة في الآية رواه البخاري، وفي لفظ لأحمد قال عليه الصلاة والسلام: (أوتيت مفاتيح كل شيء إلا الخمس).
وهذه الخمس استأثر الله تعالى بها، وإن كان كل ما يجري في الكون هو بتقدير الله تعالى ومشيئته، وتحت حكمه وأمره ولكن هذه الخمس استأثر الله تعالى بها فلم يعهد بها لمخلوق.
إن الغيث لو كان بيد البشر، يملكون إنزاله ومنعه لحصل فساد عريض في الأرض، ولوقع الخلاف بين الناس حول إنزال المطر وعدم إنزاله؛ فحاجة أهل السائمة والزرع إلى الغيث ليست كحاجة غيرهم، فهم يستبطئونه ويريدونه، وغيرهم يستعجلونه ويؤخرونه، ولربما حصل اقتتال بين بني آدم بسبب ذلك .(/2)
والناس كذلك يظلم بعضهم بعضا، وفيهم من الأثرة وحب الذات ما يجعلهم يمنعون الرزق عن غيرهم، ولو كانوا يملكون المطر لاستأثر به الأقوياء دون الضعفاء، ولأهلكوهم بالعطش والجدب والجوع، أو بالأعاصير والغرق والفيضان، وقد عايشنا أحدثا اقتصادية كُسرت فيها أُسَرٌ، وأُفقرت بيوت، وأفلس رجال فيما يعرف بخسائر الأسهم، وما هي إلا من ظلم أباطرة المال لغيرهم، وأكل أموالهم بالباطل، ورأينا دولا مستكبرة تحبس مياه الأنهار عن جيرانها للإضرار بها، وإهلاك شعوبها، وسمعنا عن دول ترمي فائض الإنتاج في البحار للحفاظ على ثبات الأسعار في الوقت الذي يموت فيه آلاف البشر من الجوع والمرض والبرد، وشاهدنا دولا تغزو أخرى فتدمرها، وتقتل بشرها، وتهلك حرثها ونسلها من أجل شيء من ثرواتها، وإحكام السيطرة على غيرها، فماذا سيفعل هؤلاء وأولئك بالناس لو كانوا يملكون قطر السماء. فاعرفوا حكمة الله تعالى في تقديره، وتأملوا رحمته بعباده؛ إذ جعل تقدير الغيث ونزوله إليه سبحانه، ولم يكل ذلك إلى خلقه، وهو سبحانه من يقسمه بين عباده، وهذا أعظم أثر من آثار رحمة الله تعالى في الغيث فنحمده سبحانه حمدا يليق بجلاله وسلطانه (وهو الذي أرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته وأنزلنا من السماء ماء طهورا، لنحيي به بلدة ميتا ونُسْقيه مما خلقنا أنعاما وأناسي كثيرا، ولقد صرفناه بينهم ليذكروا فأبى أكثر الناس إلا كفورا).(/3)
وإذا كان تقدير الغيث إلى الله تعالى رحمة منه بعباده؛ فإن الله سبحانه قد جعل الغيث ذاته رحمة من رحماته، كما جعل وقته وقت رحمة، وجعل ما قبله من الرياح والسحب مبشرات بتلك الرحمة العظيمة (وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون) وفي آية أخرى بين سبحانه أن ذلك آية من آياته الدالة على قدرته وحكمه، فوجب على العباد أن يشكروه على نعمه (ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات وليذيقكم من رحمته ولتجرى الفلك بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون).
وكثيرا ما يبتلي الله تعالى العباد بالقحط والجفاف، فتمسك السماء بأمره سبحانه ماءها، وتمنع الأرض نباتها؛ ليرجع العباد إلى ربهم، ويضطروا إليه، ويوقنوا بحاجتهم له، وأنهم لا غنى لهم عنه، فلا يزالون يسألون ربهم سؤال المضطرين، ويستغفرونه استغفار المذنبين التائبين، حتى إذا ما عظمت محنتهم، واشتدت حاجتهم، ونفدت مواردهم، وهلكت أنعامهم، وماتت أشجارهم، وأقحلت مزارعهم، ويأسوا من المطر عاجلهم الله تعالى برحمته، فأنزل عليهم غيثا مباركا يزيل يأسهم، ويبهج نفوسهم، ويحيي به أرضهم، ويسد حاجتهم. ولا يأتي على الناس عسر شديد، وجدب ممحل إلا أعقبه الله تعالى بيسر وفرج يكون رحمة منه سبحانه لعباده (فإن مع العسر يسرا، إن مع العسر يسرا).(/4)
وهذا المعنى العظيم في رحمة الله تعالى لعباده بالغيث عقب الشفقة والقنوط واليأس جاء النص عليه في القرآن (الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجعله كسفا فترى الودق يخرج من خلاله فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون، وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبله لمبلسين، فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحيي الموتى وهو على كل شيء قدير) وفي الآية الأخرى (وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته وهو الولي الحميد) وجاء في حديث أبي رزين العقيلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(ضحك ربنا من قنوط عباده وقرب غيره) رواه ابن ماجه، وفي حديث لقيط بن عامر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (وعَلِمَ سبحانه يوم الغيث يشرف عليكم آزلين آزلين مشفقين فيظل يضحك قد علم أن غيَرَكُم إلى قرب، قال لقيط: لن نعدم من رب يضحك خيرا) رواه أحمد وصححه الحاكم وابن القيم.
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى: والمعنى أنه سبحانه يعجب من قنوط عباده عند احتباس القطر عنهم، وقنوطهم ويأسهم من الرحمة، وقد اقترب وقت فرجه ورحمته لعباده بإنزال الغيث عليهم، وتغيره لحالهم وهم لا يشعرون.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:ولهذا استقر في عقول الناس أنه عند الجدب يكون نزول المطر لهم رحمة.
وقال رجل لعمر رضي الله عنه:يا أمير المؤمنين، قحط المطر، وقنط الناس، فقال عمر رضي الله عنه: مطرتم، ثم قرأ (وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته).(/5)
والغيث كذلك رحمة وقت تنزله، وكم في قلوب البشر من الفرح به بعد الانقطاع، والتبشير به بعد اليأس؛ ولهذا سماه النبي صلى الله عليه وسلم رحمة؛ كما روى مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت:(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم الريح والغيم عرف ذلك في وجهه وأقبل وأدبر فإذا مَطَرَت سُرَّ به وذهب عنه ذلك قالت عائشة: فسألته فقال إني خشيت أن يكون عذابا سلط على أمتي ويقول إذا رأى المطر رحمة) أي: هذا رحمة.
ولأن الغيث رحمة من الله تعالى شرع للمسلم التعرض له ليصيبه شيء من تلك الرحمة؛ كما روى أنس رضي الله عنه فقال:(أصابنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مطر، قال: فحسر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثوبه حتى أصابه من المطر. فقلنا: يا رسول الله،لم صنعت هذا ؟ قال: لأنه حديث عهد بربه تعالى) رواه مسلم.
كما شرع الدعاء حال نزوله؛ لأن وقت تنزله وقت رحمة، وأوقات الرحمة مرجوة الإجابة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: والدعاء مستجاب عند نزول المطر.
ومن الأدعية الواردة في ذلك: الدعاء ببركة الغيث، وانتفاع الناس به؛ ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى المطر قال:اللهم صيبا نافعا) وفي رواية (اللهم اجعله صيبا هنيئا).
كما يشرع للمسلم أن يقر بافتقاره إلى الله تعالى، وحاجته إلى رحمته وغوثه، فينسب الفضل إليه سبحانه، لا إلى غيره؛ ولذلك أثنى الله تعالى في الحديث القدسي على من قال (مطرنا برحمة الله، وبرزق الله، وبفضل الله) وعد من قال ذلك مؤمنا به، كافرا بالكوكب، وذم من نسب المطر إلى النوء، وعده كافرا به، مؤمنا بالكوكب.(/6)
ومن الرحمة في الغيث: أنه سبب لتخفيف التكاليف الشرعية؛ لأن وقت نزوله مظنة مشقة على الناس؛ فإن كان يشق على الناس بلوغ المساجد جاز لهم الصلاة في بيوتهم، وشرع للمؤذنين أن يؤذنوا فيهم بالصلاة في بيوتهم؛ كما روى ابن عمر رضي الله عنهما:(أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر المؤذن إذا كانت ليلة ذات برد ومطر يقول: ألا صلوا في الرحال) متفق عليه.
فإن كان الناس في المسجد أثناء المطر فقد خفف عنهم بالجمع بين الصلاتين.
وكل هذا التخفيف من رحمة الله تعالى بعباده؛ فهو سبحانه رحم عباده بالغيث المبارك، ثم رحمهم برفع ما قد يسببه المطر من حرج ومشقة عليهم.
وبهذا تظهر رحمة الله تعالى لعباده في الغيث بأن جعل إنزاله من خصائصه، وقسمه بين عباده، فأروى به عطشهم، وأحيا أرضهم، وأكمل نقصهم، وسد حاجتهم، وجعله بركة لهم، فشرع لهم التعرض له والدعاء عند نزوله، ورفع عنهم الحرج، وخفف المشقة (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) (وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم....
الخطبة الثانية
الحمد لله؛ خلق فسوى، وقدر فهدى، وأخرج المرعى، فجعله غثاء أحوى، أحمده حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ويرضى، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله - عباد الله - واشكروه على نعمه؛ فإنه سبحانه قد أمر العباد أن يستغيثوا به، وأن يطلبوا الرزق منه؛ لأنه الباسط القابض، المعطي المانع،كما أمرهم أن يشكروه على ما منَّ به عليهم من أنواع الرزق الطيب الحلال المبارك (فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون).(/7)
أيها المسلمون: حاجة الناس إلى الماء ليست تخفى على العقلاء؛ ولذا بالغت كثير من الدول في الاهتمام بمسألة المياه، وحثت الناس على الاقتصاد فيه، وخصته بوزارات تتولى استخراجه وتنقيته وإيصاله إلى الناس تسمى وزارات المياه، وكم تعقد من مؤتمرات وندوات لإيجاد حلول في الدول التي تعاني من مشاكل نقص المياه. بل أضحى الماء سلاحا تلوح به بعض الدول في وجوه جيرانها لتحجز عنهم مياه الأنهار والسيول بإنشاء الحواجز والسدود، وفي الحروب تضرب السدود لإغراق المدن والقرى، وإفساد الزروع، وإهلاك الماشية، كما تضرب خزانات المياه ومحطات تحليته لحمل المضروبين على الاستسلام.
ولو قطع الماء عن البيوت يوما أو يومين لرأيتم شدة الزحام والخصام على وسائل نقل المياه، ولو طال ذلك أسبوعا أو أسبوعين لأنتن الناس في أجسادهم وثيابهم وبيوتهم، فكيف لو امتد أشهرا أو سنوات، نسأل الله تعالى الرحمة والعافية.
وإذا كان الأمر كذلك فإن علاج مشكلة نقص المياه يكون بطاعة الله تعالى، والانتهاء عن المعاصي؛ لأن الغيث بيد الله سبحانه، وهو من رزقه (وينزل لكم من السماء رزقا) ورزق الله تعالى يطلب بطاعته وشكره (يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون).
فكيف يريد الناس علاج مشاكل المياه بحوارات وندوات وتوعية وإجراءات، ليس فيها حث على طاعة الله تعالى، والانتهاء عن معاصيه، والماء ماء الله تعالى، والغيث غيثه.
بل لا يزال أهل النفاق يبثون سمومهم في المجتمعات، ويعلنون رفضهم لشريعة الله تعالى، ويودون نشر الشهوات، وقسر الناس عليها، والإعلام المفسد بقنواته وصحفه يبارز الله تعالى جهارا نهارا، والساكت في الناس كثير، والمنكر قليل.(/8)
بل إن كثيرا من الناس يقابلون الغيث المبارك الذي أنعم الله تعالى عليهم بعد شدة الحاجة بأنواع المعاصي والمحرمات، فيسيحون في أرض الله تعالى للتمتع بما أنزل عليهم من رزق السماء، ومعهم آلات لهوهم وطربهم، ولا يبالون بحجاب نسائهم وبناتهم، فيقع من جراء ذلك فتنة وفساد عريض.
فأين شكر الله تعالى على نعمه، وأين أهم علاج لقلة المياه وازدياد التصحر، وهو الاستقامة على أمر الله تعالى، والانتهاء عن معاصيه، والله تعالى يقول (وألو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا) وفي الآية الأخرى (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون).
إن أعظم مشكلة تجر إلى مشاكل عدة هي ضعف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واجتراء المنافقين والأراذل على شريعة الله تعالى، وانتهاكهم لحرماته، ونشر الفسوق والعصيان في الناس، حتى لا يبقى من ينكر منكرا،فيستوجب العباد سخط الله تعالى ونقمته وعقوبته، وقد عذب الله تعالى الأمم السابقة بسبب كفرهم وعصيانهم، وقص الله سبحانه أخبارهم في القرآن، فخذوا العبرة منهم، وإياكم أن تسيروا سيرتهم، بل ائتمروا بالمعروف،وتناهوا عن المنكر، وخذوا على أيدي السفهاء منكم، وأطروهم على الحق أطرا، واقصروهم على الحق قصرا، فإنكم إن فعلتم ذلك رضي الله تعالى عملكم، وشكر سعيكم، وأفاض عليكم من خيرات السماء، وأخرج لكم من بركات الأرض ورزقكم من حيث لا تحتسبون، وبارك لكم فيما رزقكم، ودفع عنكم النقم والمصائب. وصلوا وسلموا على نبيكم...(/9)
العنوان: يا أهل الفن والإعلام: أقصروا فقد جاء رمضان!
رقم المقالة: 1237
صاحب المقالة: محمد المقدم
-----------------------------------------
إن رمضان فرصة ثمينة للتوبة والإنابة إلى الله - عزَّ وجلَّ -، وأنتم تحولونه إلى فرصة لنشر الفساد، وإشاعة الفواحش! فانضموا إلى صفوف أولياء الله المتقين، وسخروا الإعلام في خدمة الدين، وإشاعة المعروف والنهي عن المنكر، وذكِّروهم بالقرآن والسُّنَّة، ولا تشغلوهم بالأغاني والمسلسلات، والفوازير، والقصص.
قبيح بكم أن تبارزوا ربكم بالحرب في شهره الكريم، وتكثفوا حربكم على الدين والأخلاق، كأنكم تشفقون من بوار تجارتكم الشيطانية في هذا الشهر المُبارك، فتضاعفون من مجهودكم لتصدوا الناس عن سبيل الله - عز وجل - وتبغوها عوجًا.
إن المنادي يناديكم من أول ليلة في رمضان... أقصروا يا بغاة الشر، فإن أصررتم فإن ربكم لبالمرصاد، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [النور: 19].
ويا أيها المسلمون الصائمون:(/1)
فِرُّوا من الفيديو والتلفاز والصحف الفاسدة فراركم من الأسد، إن الفنانين هم قطاع الطريق إلى الله، إنهم ممن قال الله فيهم: {أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللّهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ} [البقرة:221]، وقال: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28]، وقال تعالى: {إِنَّ السَّاعَةَ ءاَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى * فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لاَ يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} [طه: 15 – 16]، وقال تعالى: {وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلًا عَظِيمًا * يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 27 – 28].
فتذكر يا عبد الله الصائم قوله تبارك وتعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء: 36].(/2)
وأهل الفن يدعونك إلى زنا العين، وزنا الأذن، فكيف تطاوعهم وأنت مسلم؟! وكيف تشاركهم وأنت صائم؟! وكيف لا تقول إذا دعاك الشياطين إلى هذه المعاصي: "إني صائم، إني صائم"؟! وإذا كنت في الصيام تحرم الحلال من الطعام والشراب والشهوة؛ امتثالاً لأمر الله، فكيف تستبيح ما هو حرام قطعًا من إطلاق البصر إلى النساء الفاجرات؟! ألا ما أصدق قول الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم -: ((مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ للهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ))، وقوله - صلى الله عليه وسلم -:(( رُبَّ قَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ قِيَامِهِ السَّهَرُ، وَرُبَّ صَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ صِيَامِهِ الجُوعُ وَالعَطَشُ))، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((الصِّيَامُ جُنَّةٌ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلاَ يَرْفُثْ وَلاَ يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ)).
فيا عاكفين أمام الممثلات والراقصات: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء: 52]، وأين أنتم من عباد الرحمن الذين: {لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان: 72]، و{وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون: 3]!!
لقد بيَّن الله - سبحانه وتعالى - الحكمة من تشريع الصيام في قوله - جل وعلا -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]. ولقد سأل أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه - أُبَيَّ بن كعب - رضي الله عنه -: "ما التقوى؟" فقال أُبَيٌّ: "يا أمير المؤمنين أما سلكتَ طريقًا ذات شوك؟"، قال: "بلى"، قال: "فماذا صنعت؟"، قال: شمَّرتُ واجتهدتُ، قال: "فذلك التقوى".(/3)
وسئل أمير المؤمنين عليٌّ - رضي الله عنه - عن معنى التقوى، فقال: "هي الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والقناعة بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل."
خَلِّ الذُّنُوبَ صَغِيرَهَا وَكَبِيرَهَا ذَاكَ التُّقَى
وَاصْنَعْ كَمَاشٍ فَوْقَ أَرْضِ الشَّوْكِ يَحْذَرُ مَا يَرَى
لاَ تَحْقِرَنَّ صَغِيرَةً إِنَّ الجَبَالَ مِنَ الحَصَى
ولقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الصِّيَامُ جُنَّةٌ)) أي وقاية نتقي بها كل ما نخشاه، وننال به كل ما نتمناه، فالصوم وقاية للسان في نطقه، وللعين في بصرها، وللأذن في سماعها، وهكذا كل الجوارح تتقي ما نُهِي عنه، قال جابر بن عبدالله - رضي الله عنهما -: "إذا صُمْتَ فليصم سمعُك وبصرك ولسانُك عن الكذب والمآثم، ودع أذى الجار، وليكن عليك وقارٌ وسكينة يوم صومك، ولا تجعل يوم فطرك ويوم صومِك سواء".(/4)
العنوان: يا حبيبي يا محمد
رقم المقالة: 149
صاحب المقالة: عبدالله ربيع أبو السعود
-----------------------------------------
أحبك يا رسول الله يا حبيبي يا محمد
فأنت خير من مشى على الأرض و خير من أظلته السماء.
وقد أخبر الله تعالى عنك في توراة موسى وفي إنجيل عيسى، وبشَّر بك،
ولا ينكر ذلك إلا كل جاحد و حسود.
كلما علَّمتني أمي خيرًا قالت لي: هكذا قال رسول الله.
كل بيمينك، كما قال حبيب الله محمد.
سلِّم على أهلك كما أمر.
واعطف على الحيوانات كي تدخل الجنة.
لا تؤذ جيرانك؛ لأنه صلى الله عليه و سلم أوصانا بحسن الجوار.
فلم يترك خلقًا حسنًا إلا أوصانا به، و لم يترك خلقًا سيئًا إلا نهانا عنه.
فقد أحس بآلام المساكين؛ لأنه ذاق مرارة اليتم منذ ولادته.
وعاش فقيرًا فرعى الغنم.
ورباه الله فلم يسجد لصنم قط.
وعُرف بحسن خلقه وأمانته في قومه، فسمَّوه الصادق الأمين.
كان حسن الخلق و الخلق، متلألئ الوجه، مشرق الجبين.
كأنه البدر يُستضاء بوجهه الكريم.
يحبُّه كل من رآه.
يعطف على قُبَّرَة شكت له خطفَ صغيرها، ويُنصف جملاً أضناه صاحبُه.
ولم يخاصم خادمه قط.
لقد ربى ابن عمه علي في بيته، وحنا على بنات زوجته وكان لهم نعم الأبُ.
و ربى بناته الأربع خير تربية.
وعاد جارَه اليهوديَّ حين مرض.
وكان رؤوفًا بالأسرى، فلا عذَّب اسيرًا ولا قتل امرأة ولا طفلاً،
وأوصى أصحابه بالرحمة .
محمد شجاع.....لم يخف من أعدائه.
محمد كريم .....يعطي ولا يخاف الفقر.
محمد عطوف.....يحنو على الصغير والفقير.
محمد أمين.....يرد الأمانات إلى أهلها.
محمد حكيم..... عنده لكل موقف حكم مناسب.
محمد مخلص.....أحب زوجته خديجة التي كانت في عمر أمِّه.
ولم يتزوج إلا بعد وفاتها بخمس سنوات.
محمد صبور.....صبر على تعذيب من خالفه من قريش.
من آمن به وصدَّق كسب الدنيا و الآخرة.
ومن كذَّبه خسر الدنيا و الآخرة.
وصلى الله على سيدنا و حبيبنا محمد.(/1)
العنوان: يا مرتع الغراس، أوَتحملين ما أحمل؟
رقم المقالة: 1794
صاحب المقالة: سارة السويعد
-----------------------------------------
نبت داخلي فسقطت من عيني ألف دمعة ، تحرك فثارت مشاعري كبركان حارق.
كالحلم كان.. وما أروع الأحلام حين تتحقق، نما وارتوت عروقه من شراييني، جنين عانقني أشهٌراً عِدّة..
كان معي في كل همسي وإحساسي.. وحين نما وارتوى ناديته: يا بسمتي، يا إشراقتي، يا أملي، ويا قرة عيني.. ستملأ القلب بشراً وبهجة وسروراً
أسعد لحظة حين بُشرت بك ، حين جالت بي الأحلام نحو حياة تركض بها إليّ "ماما ماما"
نحو قدمين صغيرتين تصُفهما أمامي "لقد حفظت آية اسمعيها مني أمي"، حين تهفو وقد سابقت أقرانك إلى مصلاّك تترنم بحديث وأدب، بفقه وبلاغة، حين تتعلم من الخطأ وتفتش عن الخيرية، حين تعلم أن النفس لا تقود صاحبها إلى الخير مالم يدفعها هو إلى ما فيه نجاته وسعادته، وحين تتقن ضحكات الإنجاز والبراعة لما تسمو إليه ليرضى الله عنك.
بُنيّ حبيبي ..
هل تعرفُ ما أريدُ منك؟ هل تُدركُ ما أرجو منك ؟!
أريدك صالحاً مقداماً .
أريدك حافظاً معيناً .
أريدك طائعاً هماماً .
تسابق إلى الصلاة وإلى الحفظ والمراجعة، ليس ذلك فحسب بل مفكراً وكاتباً، قارئاً ودارساً، ربانيًّا يتفجر من عقلك وقلبك العلمُ والتقوى.
أيِّ بُنيّ ، أنت بُنيّ ...
أناديك بقلب أمٍّ تجرعت همَّ دنياً قاسيةٍ بقسوة الحطّاب على أشجارها.
أناديك ببسمة أمٍّ كادت أن تختفي في دنيا تمزقت صفحاتها.
همٌّ كبيرٌ أحمله .. وحلمٌ عظيمٌ أرسُمه
إيهٍ بُنيّ ...
يرتجف قلبي في حملك ، تغذيك عروقي وتحضِنك يداي.. وبين هذا وذاك تُسابقُني أدمُعي إليك!
كيف لا .. وفي صدري مرسمك وأقلامك، كتابك وألعابك، أمالي وآمالك.
فهمك يحدوك للعطاء والسباق، لا ترضى العيش مع الرُّعاع، وتناديني: أمي، هل صنعت ما يعلو بي للإبداع فأنا لا أرضى بالقليل من الزاد.(/1)
ماما.. قلبي بما وعى كما نذرتِه لله، قد قبله الله وما كنتُ لأحيا إلا لله وبالله.
فلا تخافي على جسدي ونُحولي لأن الله كساني شغف العلم والعبادة، وإن نقص من عمري أشهرٌ في رحمك فالله عجل بي لإرضائه..
أمي، ما ربّيتني إلا لله، ولن تسمعي إلا آياتٍ أتلوها وعلوماً أتقنها. مُصحفي في جيبي، وقرآني في صدري، ولساني في ذِكر الله: "يا مولى الموالي ".
ياااه ! أوَتحمل الأمهات ما أحمل؟!
أوَيرجونَ ما أرجو ؟
إخالُ أن كلّ أمٍّ قاست ما قاسيتُ، بل ربما أشد، رأتِ الموت واستسلمت له، ولربّما أوصتْ بوليدها مَن حولَها كما فعلتُ..
إلا أن الأقسى والأمّر.. حين تبكي الأم من الألم ولا تبكي من المؤمل!
حين تهتف: بُنيّ.. ولا تنادي أملي!
حين لا ترجو من أبناءها إلا همومًا دنيئة وأحلامًا بئيسة!
مهلاً أيتها الأمهات..
كم سمَت بي الآمال بعيدًا نحو مستقبلٍ أرجوه نقياً لأبنائنا، نحو براعةٍ وتقوى تسكن فلذات أكبادنا..
أوليس مَن قبْلَهم غيرتْهم أنفاسُ المدنية وأحرقت كل الرسومات، وزجت بهم في الترهات وبراثن الشهوات؟
أوليس من قبلهم تشبعوا بالفتن لتقذف بهم في مكان سحيق ، وتصرفهم عن روعة الحِلق وثَنْي الرُّكب؟!
أوَنعجزُ أن نربي أبناءنا عُبادًا لله، قِمةُ سعادتهم ركعةٌ في جوف ليل ودعوة في ثنايا اليوم؟
أوَنقدرُ أن ندفعهم للصلاة والعلم على الرُّغم من دِقة سُوْقِهم، وعلى الرغم مما تخبئ لهم (الحضارة المنتنة)؟
• هل نجعلهم أفضل منا وأقرب إلى الله؟
• هل نصبرُ على بكائهم حين نمنعهم ما لا يرقى بهم نحو ما نريد؟
• هل نطيق عليهم تعب الحفظ والمدارسة ؟
• هل نحفظ ألسنتنا عن الدعاء إلا لهم ؟
• هل نرضعهم الهمة والسمو ؟
هل.. وهل..!
وهل تحمل الأمهات ما أحمل؟؟
لربما آمالي كبيرة ينوء بحملها من أنجبته صغيراً ضعيفاً، ولا يقوى عليها من احتضن صدر أمه تداريه ولو كان سمينا صحيحاً.(/2)
ويا حسرة أُمٍّ تجرعت غُصص الحمل والوضع ولم تجنِ قُبلة ودعوة وصلةً وإشفاقاً، بل ضيع أحلامها بفلاحه وصلاحه ونسي ما رجت به دنياها وآخرتها.
.. حدثوني بالله عليكم كيف السبيل إلى ذلك؟
فأدمعي تشق طريقها إلى وجنتَي صغيري كلما نظرت إليه ،لتنبيه حلمٍ طالما هتفت به قلوب الأمهات وانتهت إليه غاية الأمنيات وأمل المربيات.
أمي كانت تناديني كل ظهيرة وقت الإرهاق والتعب
"سارة .. هل ستلبسينني ووالدك تاج القرآن"
لقد أخذت تلك الفترة توقيتاً لشحذ همتي فكان المصحف بين يديها تسألني عن الآيات وتعد الصفحات رغم أمّيتها "كم بقي؟ لا تكوني كسولة".
مضت الأيام ولم تزل تلك الكلمات في صدري لأتعلم أقوى درس وافهم أعظم فن: بأن الكلمات الصغيرة التي يبثها قلب الأم كفيلة بإعداد جيل يتنفس الهمة ويجري في عروقه السباق.
عفواً أيتها الأمهات:
ابنٌ واحدٌ أنطقني وأبكاني! فكيف بمن رُزقت كثيراً ولم يكن لهم في ركب الصالحين مكان؟! فتلك والله الحالقة.
أسأل المولى أن يبارك في ذرياتنا، ويقر أعيننا بصلاحهم، وأن يُصبّرنا على لجج الزمان لندفعهم نحو مرضاة الواحد الديان.
ختاماً:
"نداءات الإشراقة وابتسامات الإتقان حين تتقنها الأمهات فيا لهناء الأمم".
تعليق (حضارة الكلمة):
الأستاذة الفاضلة / سارة السويعد،
يشرفنا أن نرحب بقلمك المؤمن التربوي، الذي عُرف وتميز في مختلف المواقع..
وتذكّرنا هذه المقالة الأدبية بقصيدة في الموضوع نفسه لإحدى الشاعرات، تقول في مطلعها:
إذا ما تَكوّرتَ في داخِليْ وأثقلتَ جسماً خفيفاً خَلِيْ ..
وسندرج مقاطع من هذه القصيدة قريباً في (أدب المؤمنات) بمشيئة الله.
فمرحباً بك مع (كاتبات الألوكة).. وننتظر المزيد المفيد.(/3)
العنوان: يا (هييه)!!
رقم المقالة: 818
صاحب المقالة: حسين بن رشود العفنان
-----------------------------------------
أضاءَ وجهُ الأستاذِ (سالم) مدرسِ اللغةِ العربيةِ، حينَ هاتفَه المديرُ وطلبَه إلى مكتبِه، فأوقفَ درسَه وخرجَ من فصله وهو يقول لنفسِه في ثقةٍ:
من حقكَ أنْ تتباهى!! مَنْ في مرتبتك؟!
أنتَ تُدعى بلا واسطةٍ وتُخصَّصُ لكَ المكالماتُ، وغيركَ ترسلُ إليهِ قُصاصةٌ معَ صغارِ الطلبة...
لا عجبَ فأنتَ الوحيدُ الذي لم تتأخرْ مذُ فجرِ الفصلِ الدراسيِّ، ولم تحتجبْ ساعةً عن حصةٍ من حصصِه، ولم تكنْ تتسربُ من الفصلِ لتتلذَّذَ بشربةِ قهوة أو شاي، والبطولةُ الرياضيةُ والمسابقةُ الثقافيةُ كانتا من تدبيري، أجهدتُ فيهما نفسي، توقعتُ أن يُذكر اسمي ويشكر! لم أشأ - والله - أنْ أُحدثَ تنغيصًا، حسبي أنّه كان حفلاً بهيجاً، وأنَّ اسمَ المدرسةِ ظهرَ وتصدر.
وضعافُ الطلابِ أصبحوا يفرِّقونَ بين الاسمِ والفعلِ، ويُعربونَ جُملاً تقفُ عندها عقولُ بعضِ الكبار، حتى المسائلُ المشكلةُ في الإملاءِ بدأتْ تغيبُ عن أقلامِهم، وكم امتلأ وجهُ المشرفِ غرابةً من جودة قراءةِ الطلابِ وسرعتِها، ودقةِ خطوطِهم وجمالها، حتى إنّه استحلفَ أحدَهم هل تلقَّى مساعدة في الحلِّ؟! فهو لم يصدِّقْ أنّ هذهِ خطوطُ طالبٍ في الخامسِ!
وكم كدتُ أطيرُ من المسرةِ حينَ رفعَ (نايف) - الذي أتعبَ المدرسينَ وأشقاهم - كتابَ الدّكتور حسين علي محمد (مذكرات فيل مغرور) ونحنُ وقوفٌ في الصباحِ ليخبرني أنّه ابتاعَه وقرأه كلَّه!
و(خالد) - وابتسمَ حينَ ذكرَ خالدًا - كم سحرني بخلقِه وحرصه، فقد فاجأني أنّه حفظَ أبياتَ ابنِ مالكٍ التي أستشهدُ بها في حصصِ القواعدِ!!(/1)
ياااه أصبحَ قلبي مرعًى لهذهِ المدرسةِ، أحببتُ أهلها..جِدَّها..هزلها..صخبها..كلَّ شيء فيها، لذا لم أرفضِ الإذاعةَ بل جددتُ فيها وأبدعتُ، حتى أصبحتْ أفكارها تُثار بينَ المدرسينَ والطلاب، وكم أخرجتُ منها خطباءَ بارعينَ، حصدوا جوائزَ جليلةً في مسابقةِ الإلقاءِ.
ربما سيعطيني مستندًا بكلّ مستحقاتي!!
فقد أنفقتُ آلافَ الريالاتِ على المكتبةِ، وافقتُ حين طلبَ مني المديرُ أن أهتمَّ بها، ماذا أفعل ؟! آلمني حالها، وهالني أمرها، كأنّ قواعدَها رُفعت في قلبِ النفود، تلالٌ من الأتربة، وجبالٌ من القَذَر، وكتبٌ بعضها فوقَ بعض، فنفضتُ رهجَها وقذرها، وانتقيتُ لها عناوينَ جديدةً مسليةً، وابتعتُ لها حاسوبًا صنفتُ كتبَها عليهِ، ونسقتُ للفصولِ ساعاتِ الزيارةِ والاستعارةِ.
وساعةُ التكريم...؟! ربما سيخبرني بها!
هل ستكونُ مقصورةً على المدرسةِ أم ستعممُ على جميعِ المدارسِ؟
ربما تكونُ عامةً ويحضرها الإعلامُ، وينتشرُ اسمي في أرجاء الوزارةِ، ويعرفني المسؤولونَ، وأُصبحُ من أعلامِ المربينَ، نعم...نعم فقلبُ المديرُ لا ينبضُ إلا بحبي!
فوقفَ في منتصفِ السُّلم ثائرًا: لا..!! لا..!!
احذر أن تستخفَّكَ هذه المظاهرُ! فتسفُل همتُك ويضعف عقلك! جدد نيتك، أ تريدُ أن يكونَ عملكَ هباءً منثورًا؟!
* * *
كانَ الأستاذُ (سالم) - وهو يشاهدُ هذه النجاحاتِ - كالشيخِ الهِمِّ الذي يرى شبابه المنصرمَ، في وجه ابنه الفتيِّ،فيزيدُه ذلكَ صلابةً وقوةً.
استمرَّ في طريقه والآمالُ تُنعشُ كبدَه وقد امتلأتْ نفسُه ثقةً وأملاً ومسرة وأخذَ يضاحكُ كلَّ وجه يقابله، حتى وقفَ على عتبةِ المديرِ، وطرقَ بابَه مبتسمًا...
لكنْ تلونتْ ابتسامتُه وتشتَّتتْ سعادتُه!!
فقد رأى جو الإدارةِ قاتماً، ووجهَ المديرِ كالحًا، وزادتِ الطحينَ ماءً رؤيتُه للطالبِ المدللِ (فيصل) ووالدِه عابسَينِ مقطبَينِ، قالَ في نفسِه وهو يصافحُهما: اللهم اجعله صباحًا بهيجًا!!(/2)
فلما جلسَ قُبالتهما، التفتَ إليه المديرُ قائلاً: هذا أبو (فيصل) يقول: إنّ ابنه لم ينمِ الليلةَ السالفةَ، فنفسُه ضاقتْ، وصحتُه تهاوتْ!
ففزعَ (سالم)! وكانَ أبًا ودودًا لطلابِه:
لا أراهُ اللهُ مكروهًا، واللهِ لمْ أكنْ أعـ...!!
فقطعَه والدُ (فيصل) فائرًا: أنتَ سببُ ألمِه وضرِّه!
صُدمَ الأستاذ (سالم) وشَخَصَ بصرُه وارتدت ذاكرتُه مباشرةً إلى أحداثِ أمسِ يقلِّبها: لم آتهم إلا الحصةَ الرابعةَ، وشرحتُ لهم إعرابَ (المفعولِ بهِ) ولمْ أراجعْ لهم، ولم أطلبْ منهم الكشفَ عن الواجبِ، ولم أتثبّت من حفظِهم...لم أحتكَّ بهم...لم أحتكَّ بهم..!!
ثم قالَ بألمٍ: مني أنا؟!
فانتصبَ والدُ (فيصل) والغضبُ يملأ وجهَه: ابني يقولُ: إنك لا تعرفُ اسمَه!!
تعجبتُ - واللهِ - وقلتُ: متى سيعرفُ هذا المدرسُ أسماءَ طلابِه والاختباراتُ قد قربت ساعتُها؟!
لمَ قلتَ له: يا (هييه) انتبه للدرس؟! هذا التصرفُ الارتجاليُّ أحرجَه أمامَ زملائِه، أرجوكَ ولدي اسمه (فيصل)، وأتمنى ألا تتكرَّر (هييه) في قادمِ الأيامِ!
* * *
بعثرتْ هذهِ الكلماتُ وقارَ الأستاذِ (سالم) واستشاطَ غضبًا، وارتعدت أطرافه، واحتقنتْ أوداجه، والتفتَ بعينينِ محمرَّتينِ إلى المديرِ، كأنه يستجديه أنْ ينطِقَ...أنْ يدفعَ هذا السخفَ... لكنّه تشاغلَ بأزرارِ جوَّالهِ وانسلَّ من الحادثةِ..!!
فهمَّ أنْ يصرخَ في هذا الأب الجاهلِ، أنْ يطبعَ على وجهِه القبيحِ صفعةً، لكنّه كظمَ غيظَه، وطوى ألمَه، حتى لا يُطلَّ دمُه، وتُهانَ كرامتُه، ويُجعلَ أحاديثَ للصحف،فحملَ نفسَه بنفسِه وخرجَ...!!(/3)
العنوان: يا ورثة الأنبياء هذه فرصتكم (إنه رمضان)
رقم المقالة: 1238
صاحب المقالة: محمد المقدم
-----------------------------------------
هذه وصايا مجملة للدعاة إلى الله - عزَّ وجلَّ - في هذا الموسم المبارك الذي هو فرصة ثمينة للتجارة الرابحة مع الله - عزَّ وجلَّ -:
• حث الناس على أن لا ينشغلوا بفرصة رمضان، التي لم تَحَن مع الذهول عن فرصة شعبان، الذي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصوم أكثره.
• عليكم أن تدعوا المسلمين لتوثيق روابطهم مع القرآن الكريم؛ ختمًا ومراجعة وحفظًا وتفسيرًا وتجويدًا.
• حذروا الناس من قُطَّاع الطريق إلى الله من أهل الفن والإعلام والصحافة.
• حرضوهم على الكسب الطيب الحلال ، وتوقي الحرام والشبهة.
• ذكروهم بأحكام الصوم والقيام والاعتكاف، وآداب ذلك كله.
• حث الناس على الصدقة الجارية، من توزيع المصاحف والكتبيات والأشرطة النافعة.
• عقد حلقة يومية لمدة عشر دقائق عقب صلاتَيِ العصر والفجر، يُدرَّس فيها واحد أو اثنان من الكتب الآتية لعموم المصلين: [رياض الصالحين – الأذكار النووية – زاد المعاد].
• تحذير المسلمين من فتور الهمة بعد الشِّرَّة، التي تكون في أول رمضان، ثم لا تلبث أن تتلاشى وتخور العزائم، فتخلو المساجد من عُمَّارها، خاصة في صلاتي الفجر والعشاء، أثقل صلاتين على المنافقين.
• لفت نظر المسلمين إلى سهولة تطبيق نظم الحياة طبقًا للشريعة الإسلامية إذا صدقت النيات، وآية ذلك أن رمضان يُحدِث - في ساعات قلائل بمجرد رؤية هلال - ثورة شاملة في دولاب حياة المجتمع كله، وتغييرًا عميقًا على كل صعيد، فهذا يوضح قدرة الإسلام على إعادة صياغة نظم الحياة كلها في سلاسة وطواعية مدهشة، وهذا كله دليل رائع على حيوية هذا الدين، وبقاء الخير في أمة محمد صلى الله عليه وسلم.(/1)
• حض المسلمين على تذكر إخوانهم في الدين، في البوسنة والهرسك والصومال وبورما وتايلاند وفِلَسطين والشيشان وأفغانستان، وغيرهم ممن يتعرضون للمجاعات والحروب والظلم، والدعاء لهم، مع التداعي لنصرتهم ونجدتهم، فإذا رأيت أطفالك على مائدة الإفطار تذكَّرْ أطفال ويتامى المسلمين الجوعى والعراة.
• لا تقصر نشاطك على رواد المساجد، بل انتقل إلى أهل الحي في مجامعهم ومنازلهم ونواديهم، فإن المفرِّط المقصِّر هو ضالة الداعية.
• تهيئة المساجد لاستقبال المصلين، بتنظيفها وتطيبها وعمارتها وصيانة مرافقها.
• إذا صلى القائم لنفسه فليطوِّل ما شاء، وكذلك إذا كان المأمومون يوافقونه على التطويل، وكلما أطال فهو أفضل. أما إذا كان إمامًا لقوم لا يرضون بالتطويل؛ فعليه أن لا يشق عليهم، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ للنَّاسِ فَلْيُخَفِّفِ الصَّلاَةَ؛ فَإِنَّ فِيهِمُ الصَّغِيرَ وَالكَبِيرَ، وَفِيهِمُ الضَّعِيفَ وَالمَرِيضَ، وَذَا الحَاجَةِ، وَإِذَا قَامَ وَحْدَهُ فَلْيُطِلْ صَلاَتَهُ مَا شَاءَ))؛ متفق عليه واللفظ لمسلم.(/2)
العنوان: ياذكي اتق الله
رقم المقالة: 1015
صاحب المقالة: إبراهيم الأزرق
-----------------------------------------
ما أقبح التشقيق والتقسيم يومَ يصدر من ذكي فطن، قد أعمل قِواه العقلية، لهدف ليس وراءه كبيرُ طائلٍ يُحمَد.
وللأسف؛ فإن هذا إشكالٌ يقع فيه بعضُ الفضلاءِ الذين حباهم الله معارف وعلوماً، وذكاء وبديهة! ولابد من الضميمتين الأخيرتين؛ وإلاّ لبدا التشقيق تلفيقاً سمْجاً، ليس وراءه كبير خطر، فالغبي البليد قل أن يُلَبِّسَ على عموم الأمة، بل دعوته مفضوحة، وحجته مدحوضة.
وإنما الإشكال في الأذكياء، الذين ضربوا بسهام في الفضل وأخرى في العلم، ونحن نحسن الظن -من منطلق شرعي- بكثير من الفضلاء، الذين نحسبهم قد زلوا في المزلق المذكور، ولا نزعم قصدهم محض الانتصار للباطل. ولعل لكثير منهم تجاربَ خاصَّةً؛ لمسوا فيها نوع نجاح، فخرجوا من حيزها إلى التنظير العام، لكن قد يغيب عن بعضهم أن سبب نجاح التجارب الخاصة هو ما حباهم الله - سبحانه - من حُسن نظرٍ، وعقولٍ، ومعرفةٍ بالعلوم، فاستطاعوا -بتوفيق الله - أن يدخلوا مخاطرة، أو مشروعاً؛ لا يَصلُحُ أن يُقَرَّرَ لعموم الأمة الدخولُ فيه؛ نظراً لتباين الظروف، وانعدام المُناخ الذي توفر لهم هم خاصة، فساعد في إنجاحه.
فالإشكال ربما وقع يومَ حاول بعض هؤلاء تعميمَ تجربتهم، ودعوة الناس إلى ركوب خطرهم، وسلوك سبيلهم الوعرة.
وأنت تجد المتحدث من هؤلاء متحمساً - وقد يكون صادقاً - ليس دافعه إلى التشقيق المُسَوِّغِ، والتقسيم النظري المُبِيحِ؛ مجردَ تبرئة النفس من التهمة، أو دفع اللائمة؛ غير أن تجربته المحدودة التي يراها ناجحة غلبت على مخيلته، وأغلقت ذهنه عن رؤية آثار ما يقرر في المجتمع، وعلى عموم المؤمنين الغافلين والغافلات.(/1)
وبما أن صاحبنا منح ذكاءً وحسنَ بيان؛ فقد يلتبس تشقيقُه وما يقولُ على بادي الرأي، بيدَ أنه متى عَرَضَ قِيلَه على من هو مثلُه أو فوقه؛ بدا مكمنَ الخلل ومحل الإشكال جلياً، غير أن كثيراً من الأذكياء - وإن لم ترسخ في العلم قدمه - قد يغترُّ بعقله، وبما حَصَّل، ولاسيما إن كان مبرزاً في علم من العلوم، فلا تراه يراجع أحداً، إلاّ بعد أن يصدر رأياً، فتثور بسببه زوبعة.
وبعضهم لا يزيده الإنكار بعدها إلاّ إصراراً؛ لأن بعض المنكرين الأفاضل لم يبلغوا من العلم والذكاء ما بلغ، بيد أنهم يتبعون الراسخين من العلماء المرضيين، فيجد هذا في أجوبة أولئك المنكرين مفاصل ضعيفة، يشغل نفسه بإبانتها، والموفق من أولئك الأذكياء مَن نظر إلى الصواب في قول الرادِّ، فراجع نفسه، ورد الأمر إلى الراسخين.
ولعل من أنجع السبل التي يُمَيَّز بها طرحُ أولئك الأذكياء؛ ترك التعني بتتبع تشقيقاتهم، وإلقاءُ نظرةٍ كلية على ما تخدمه المادة من المقاصد والأهداف العملية في واقع الناس – لا ما يزعمونه ويصورن أنهم يهدفون إليه - بعيداً عن كل تهويل ليس عليه مُعَوَّل.
فإن النظرة الفاحصة الكلية تبين الهدف الواقعي، الذي يخدمه ذلك الضجيج، إن كان له حقاً هدف!
وإذا تبين الهدف أمكن الحكم عليه انحطاطاً وسمواً، وضوحاً وغموضاً.
وإذا شئت أن تُكفَى عناءَ هذا كلِّه؛ فاعرضِ المسألة على أهل العلم الراسخين، والأئمة المَرضِيِّين، وانظر قولهم، وردَّ الأمر إليهم، كما أمر ربنا تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [النحل:43،الأنبياء:7].
فإذا رأيت العلماء المرضيين على غير ما يقرره الأذكياء المتفيهقون؛ فاعلم أن هذا مؤشرٌ كافٍ يشير إلى محل الصواب! فإن صدق فذاك، وإن خاب مرة فلن تخسر كثيراً ما دمت في صف الراسخين من أهل العلم، والمرضيين من علماء الأمة، الذين لن يجتمعوا على نكرٍ، ولن يذهب جمهورُهم - غالباً – شططاً، نحو رأي مأفون.(/2)
أخي الكريم!
لا أريد التطويل بالتمثيل، خاصة أن الذكي المُمَثَّلَ به لن يعجز عن الخروج بتقسيم أو تشقيق يُسوَّغُ به كلامه، ولن يُعْوِزَه كذلك العثورُ على ركن ضعيف من كلامي يلقي بثقله عليه! لكن تأمل حال كثير من المقالات التي أخرجها فضلاءُ، أذكياءُ، ضربوا في العلم بِسهمٍ.. جاءت بغرائب، مخالفةً لما يقرره عامة العلماء الراسخين! وانظر هل ترى فيها ما أقول؟
أما أنت يا ذكي! فاتق الله، ولا تغتر بما حباك اللهً، وراجعْ من أَمَرَك بالرد إليهم؛ من الراسخين، ثم لِتَرَ رأيك.
هذا، والله أسأل أن يزكيني ويزكيك.(/3)
العنوان: يحكى أن ...
رقم المقالة: 354
صاحب المقالة: عبادة بن رضوان الزوادي
-----------------------------------------
يحكى أن رجلاً سار في ليل بارد ! مظلم ! موحش !!...
وقد التصقت الأقدام ...واصطكت الأسنان ...والتفت الساق بالساق ...
فرأى على بعد مئتي متر قصراً.. ملؤه النور ..قد عكس ذهبه أنواره فبدا كالعروس ليلة زفافها!!
فأخذ يجري مسرعاً ..وبعد مئة متر رأى رجلا ً ضخماً يلتفت يمنة ويسرة .. فقال:
أحسبه حارس القصر ..
فذهب إليه وقال له: أيها الحارس ..أسعدت مساءً ..لمن هذا القصر ؟؟
وماذا فيه ؟؟ ولماذا لم ...
فقاطعه الحارس قائلاً : هذا القصر.. لمن أراد دخوله!!
نعم .. كل من أراد دخوله يدخله .
وإن فيه النور والبهجة والسرور..
وفيه تسكن الأسنان ...وتفترق الأقدام ...
وفيه من أطايب الطعام ... والحور الحسان ...
ومن دخله ...فقد أمن ..
فقال الرجل :وهل تطردون من دخله إذا مللتم منه ؟؟
فقال الحارس : ما هذا الهراء!! من دخله ..فهو الحاكم !!
يأمر ..فنطيع ، وينهى .. فننتهي ، والكل يبتغي رضاه .. و...
فقاطعه الرجل بقوله: شكراً لك أيها الحارس ، شكراً لك .
سأدخل وأرى الأمر بنفسي ، فليس من رأى كمن سمع !!
ومضى يمشي إلى الأمام .. رافع الرأس.. باسم الثغر..مستقيم القامة ..وهدفه الوحيد..
دخول القصر..
فارتطم وجهه بشيء أوجع أنفه.. ظن لوهلة أنه حائط لشدة صلابته ..
ففتح عينيه فإذا هو صدر الحارس يسد الأفق .. وفوقه عينا رأسه تنظران إليه شزراً..
وفمه مفتوح يقول له : إلى أين؟؟
فقال الرجل بعدما اعتدل : إلى القصر .. أليس كل من أراد دخوله دخله ؟!
فقال الحارس : نعم ..ولكن حتى تحضر البطاقة .
فقال الرجل : البطاقة !! أي بطاقة ؟!
فقال الحارس : بطاقة الدخول التي ستعطيها البواب ليدخلك .
فقال الرجل : يا ويلي.. إني لا أملكها ...كيف أحضرها؟؟
ضحك الحارس ضحكة قوية ثم قال : هوِّن عليك ..أنا أعطيك إياها .(/1)
فقال الرجل بعدما تهلل وجهه: أنت تعطيني إياها.. شكراً لك .. شكراً لك.
فقال الحارس : ولكن تذكر !!
عليك أن تسير في هذا الطريق.. وبعد مئة متر سيكون القصر أمامك
حاول أن تتحمل هذا الليل البارد المظلم الموحش و.. .
فقال الرجل في دهشة : مئة متر فقط !! مئة متر فقط !!
ونظر أمامه وهو يقول : مئة متر لن تبعدني أبداً عن هذا القصر الجميل..
فليس بيني وبينه إلا أن أطبع على الرمل ما تمحوه الرياح .
فمشى في الطريق ..فرأى حطباً محروقاً، فيه نار خفيفة ، يتصاعد منه دخان دافئ..كريه الرائحة .
فقال: الجو بارد..سأمكث قليلا أتدفأ بالدخان ولو كانت رائحته كريهة ..ثم أكمل طريقي ..
القصر أمامي وليس ببعيد..
وبعد مدة قام ليكمل طريقه ..مشى خطوتين ..لكنه قال : إن الجو بارد ..
سأمكث قليلاً ثم أذهب ...
وما بقي للقصر إلا عشرة أمتار...فها هو البواب أمامي ينتظرني لأسلمه البطاقة ...
وبعد مدة أخرى ..حاول القيام ...فما استطاع ...
فقال ماذا أريد بالقصر ؟! هنا الدفء والراحة ...والقصر بعيد !!
ولكن ما هي إلا ساعة
وإذا بباب القصر يغلق ...وبالنار تطفأ ...وبالحطب يعود رماداً ...
فازداد الليل برداً وظلاماً ووحشة ...وضاع القصر ...
فيا للخسارة !!..يا للخسارة!!..(/2)
العنوان: يريدونك هدفا فهل تستسلمين ؟
رقم المقالة: 113
صاحب المقالة: جمال سالم
-----------------------------------------
* الحركات النسوية الغربية تشن علينا حربا ولن نرفع الراية البيضاء.
* المهندسة كاميليا حلمي: الغرب يريد اتخاذ المرأة رأس حربة لضرب ثوابت الإسلام.
* الدكتورة نبيلة لوبيز: بعض الدول الإسلامية استسلمت وغيرت قوانين الأحوال الشخصية فيها حتى حرمت الحلال والعكس.
* الدكتور جعفر عبدالسلام: الحياة بين الجنسين في الغرب صراع أما عندنا فهي تعاون بناء لتربية الأجيال.
* * *
"هناك خطط أخرى غير الهجوم المباشر على الإسلام والضرب العشوائي على حائطه الصخري ولهذا فنحن عرفنا أن الثغرة تقع في قلوب نساء الإسلام لأنهن يضعن ويربين أولا المسلمين" هذا ما أوضحه المبشر الشهير زويمر في كتابه أشعة الشمس في الحرمين، وقال الدكتور هنري ماكو المؤلف للعديد من الكتب عن الحركات النسوية الغربية (هدفنا اقتلاع المسلمين - وخاصة المرأة - من دينهم وثقافتهم بكل الوسائل المشروعة وغير المشروعة).
العداء الغربي للإسلام ليس وليد اليوم بل له جذور قديمة ومتواصلة للهيمنة على الأمة الإسلامية ولم يجدوا طريقا أقصر للوصول إلى هدفهم من المرأة باعتبارها مربية الأجيال. فهم يتخذونها رأس حربة لضرب ثوابت الدين وللأسف وصل الأمر إلى تغيير قوانين الأحوال الشخصية في بعض الدول الإسلامية بما يتماشى مع مخططات الغرب.
لذا يحذر العلماء من انخداع المرأة المسلمة بالمفاهيم البراقة التي يحاول الغرب بها اقتلاع المسلمة من دينها عن طريق الترويج للحرية والتحضر وإلصاق بعض المفاهيم المغلوطة بالإسلام لدرجة اتهام تعاليمه وتشريعاته بأنها رجعية ومتخلفة وتلعب وسائل الأعلام دوراً كبيراً في بث هذه الأكاذيب.
* مفاهيم خادعة:(/1)
المهندسة كاميليا حلمي مدير عام اللجنة الإسلامية العالمية للمرأة والطفل تقول: هناك خلط للمفاهيم الخادعة للمسلمة والتي ازدادت في عصر العولمة الذي اهتم بتعميم وتوسيع ونشر ثقافة الغرب على البلاد الإسلامية بهدف تفكيك مجتمعاتها وتحويلها إلى جماعات متناحرة ولهذا لابد أن نكون على وعي بما يقصده الغربيون من مفاهيم مثل الجندر والثقافة الجنسية وتمكين المرأة وإباحة زواج الشواذ وتقرير حقوق لهم واستقطاب بعض الجمعيات النسائية العلمانية بالإغراءات المادية والمعنوية بهدف تحويلها إلى رأس حربة لضرب الإسلام.
* غزو ثقافي:
الدكتورة نبيلة لوبيز رئيس مجلس العالمات المسلمات بإندونيسيا تدق ناقوس الخطر لتسرب بعض المفاهيم الغربية المغلوطة في قوانين الأحوال الشخصية في بعض البلاد الإسلامية ومنها إندونيسيا حيث تمت المساواة بين الرجال والنساء في الميراث وتم مؤخرا تقديم مشروع قانون يبيح للمسلمة الزواج باليهودي أو المسيحي وأن تكون العدة واجبة على الرجل مثل المرأة تماما بل إنه يمكن الاستغناء عن عدة المرأة عن طريق الوسائل الطبية الحديثة التي تثبت براءة الرحم وإباحة زواج المتعة ومنع تعدد الزوجات بحجة أن ذلك يؤذي مشاعر المرأة وأن تدفع المرأة مهرا مثل الرجل تماما ويستخدم في تأسيس منزل الزوجية وأن الحجاب ليس فريضة وإنما هو خاص بزوجات النبي صلى الله عليه وسلم وضرورة قيام العلماء المسلمين في البلاد غير الناطقة بالعربية بصياغة فقه جديد يتناسب مع ظروف كل مجتمع والاستغناء عن فقه عرب الصحراء الذي لم يعد متناسب مع متغيرات العصر.
* بين التكريم والإهانة:(/2)
يقول الدكتور جعفر عبدالسلام أستاذ القانون الدولي والأمين العام لرابطة الجامعات الإسلامية: إن التكريم الحقيقي للمرأة منذ بدء الخليقة حتى يوم القيامة جاء في الإسلام الذي رفع مكانتها وحدد لها من الحقوق وكلفها بالواجبات بما يصلح به حال المجتمع ويجعلها تكمل مع الرجل مسيرة إعمار الأرض وعبادة الله.
وعن الشخصية القانونية للمرأة في ظل الإسلام والتشريعات الوضعية يقول: في الوقت الذي أسس فيه الإسلام قواعد وأسس الشخصية القانونية للمرأة وحقها في ممارسة كل الأنشطة الإنسانية التي تتلاءم مع طبيعتها وأن تبيع وتشترى وتهب وترث وتتصرف في أموالها كيفما تشاء حيث لها ذمتها المالية المستقلة عن الرجل نجد أن المرأة الغربية في العصور الوسطى في أوربا لم تكن تختلف كثيراً عن الحيوان لدرجة وصفها بأن فيها روحا شيطانية خبيثة، ولهذا يجب امتهانها بكل الوسائل، وليس لها أي حقوق تطالب بها، واستمر هذا الوضع المتردي حتى منتصف القرن العشرين حيث كانت محرومة من حقها في الانتخاب أو الترشيح أو التصرف في مالها إلا بإذن والدها أو زوجها ومازالت حتى الآن تحمل اسم زوجها بعد الزواج وهذا ما دفع المنظمات النسوية إلى السعي للانتقام من الرجل وتحريرها منه بل وإذلاله، وهذا ما جعل الحياة بين الجنسين في الغرب صراعا ومعركة، أما عندنا فهو تعاون بناء لتربية الأجيال في ظل الأسرة التي تفككت عندهم وأصبحت في ذمة التاريخ.
* شاهد من أهلها:(/3)
في مقال للباحثة أرزو ميرالي رئيسة هيئة الأبحاث لحقوق المرأة المسلمة المنشور بصحيفة الجارديان تقول: الهجوم المكثف على المرأة المسلمة من قبل الإعلام الغربي يتسم بالمبالغة والطرح المتشدد الذي يفتقد الموضوعية بتصويره تلك المرأة ضحية لما يسمى بالإرهاب الإسلامي، وتستطرد بقولها: "إن المرأة المسلمة في نظر هؤلاء يجب أن تُخلّص من هذا الدين وعندما تتخلص منه فسوف تتخلص من الحجاب الذي يغطيها من رأسها إلى قدميها"، وتختتم الباحثة مقالها بتقرير أن هذا الهجوم من قبل الغرب في الإعلام على المرأة المسلمة غير مبرر، وذلك كون المرأة الغربية تعاني الكثير من المشكلات، وتتساءل: لماذا لا توجه الأقلام الغربية لحل مشاكل المرأة الغربية بدلاً من توجيه النقد والهجوم إلى المرأة المسلمة؟
* المسلمات يرفضن النموذج الغربي للمرأة:
إذا كان تكريس النموذج الغربي للمرأة وأنه النموذج الذي يحتذى هو الهدف الذي يسعى إليه الغرب لاقتلاع المسلمة من جذورها فثمة شبه إجماع من النساء المسلمات على رفض هذا النموذج والتحذير من النتائج الوخيمة حين تدفع الأمور باتجاهه. ففي تحقيق مطول في صحيفة كريستيان ساينس مونيتور أجرته نيكول جاوتي مع عدد من المسلمات في كل من: أفغانستان وإيران والمملكة العربية السعودية، أكدن جميعاً أن الدين والثقافة والتراث شكلت حياتهن، وإن كان لديهن أي مشاكل فإن الحجاب بالتأكيد ليس واحداً منها.
ولا عجب أن تؤكد المحررة أن هؤلاء النسوة يفخرن بطبيعة الإسلام ومكانة المرأة فيه لاسيما وأن مجموعة من الطبيبات والمعلمات الأفغانيات أكدن أنهن وبعد ذهاب الطالبان لم يتخلين عن حجابهن، وما تناقلته وسائل الإعلام الغربية وينضوي تحت تخليهن عن الحجاب غير صحيح، وأن أحكام الإسلام يتبعها المسلمون في أفغانستان طوعاً رجالاً ونساءً، ولم تفرض بحد السيف كما يصورها الإعلام الغربي.(/4)
ويعزز ذلك مقابلة نيكول كريستوف في صحيفة نيويورك تايمز لعدد من الأكاديميات السعوديات عبرن عن رفضهن للنموذج الغربي وتبين له إحداهن تمسكها بالحجاب بقولها: " نعم إنني لست ممتهنة، أنا أغطي جسدي ووجهي وأنا سعيدة بكوني فتاة تطيع أوامر ربها"، وتؤكد له أخرى أنه يعبر عن ثقافتها: "إنك لا تستطيع الذهاب إلى الهندية وتسألها لماذا تلبس الساري، ولا تستطيع أن تسأل الغربية لماذا تلبس الفستان القصير، إذن هذه هي عباءتنا وهي جزء من ثقافتنا، ولم تكن مصدر إزعاج لنا على الإطلاق" وتتساءل أخرى: "أنا ألبس ما أريد ولكن ليس أمام الرجال غير المحارم، لماذا يفرض عليّ أن أكشف ساقي وصدري؟ هل هذه هي الحرية؟".
ويذكر المحرر أن العديد من النساء السعوديات يؤيدن هذا التوجه ويؤكدن أنهن من ينعمن بالحرية، فهن المتحررات من التحرش الجنسي، والمتحررات من الاغتصاب والمتحررات من مشاهدة أجسادهن تستخدم في تسويق الكوكاكولا، وأن المرأة الغربية هي التي استغلت لتصبح دمية للرجل.(/5)
العنوان: يغالطون بقولهم
رقم المقالة: 1091
صاحب المقالة: مروان محمد أبو بكر
-----------------------------------------
يغالطون بقولهم: (ليس في الإسلام نظامٌ اقتصادي واضح المعالم بيِّن القسمات)، وإن وجد فهو لا يكاد يَبِين منفردًا، وإنما تبدو معالِمُه من خلال اختلافه مع النظريات الأخرى، فيجعل من تلك الاختلافات دعامات يستند عليها ليثبت وجوداً كاملاً غير واقعي في عالم الاقتصاد.
وهذا زعم لا ينمُّ عن جهل بالإسلام، شريعةً وعقيدةً فحسبُ، بل يدل على أن قائلَه لا يعي ما يقول! إذ كيف للإسلام أن يختلف أو يتفق مع النظريات الأخرى وهو يفتقرُ إلى نظام واضح المعالم ابتداءً؟!
فالاختلافُ يعني وجود قولين متباينين، ولذا فإن من أقر بأن الإسلام اختلف اقتصادياً مع غيره فقد أقر ضمناً -شعر أو لم يشعر- بنظام اقتصادي إسلامي.
والذي قاد أولئك الأدعياءَ لهذا الزعم -فيما أرى- مرونةُ الاقتصاد الإسلامي في قَبول ما يتفق وأهدافه السامية وقيمه النبيلة، واختلافه مع ما يتعارض وتلك المبادئ، وهذه ميزة تحسب للإسلام لا عليه، وبهذه الصفة نستدل على أن الإسلام صالح لكل زمان ومكان؛ لأنه وضع قواعد عامة وضوابط إجمالية مستوعبة لكل أشكال المعاملات؛ فمهما يستجد من نشاطات اقتصادية، تبرز تلك الضوابط والأسس لتقول كلمتها في ما يستجد.
ولهذا نقول: إن الإسلام ليس له نظام اقتصادي فحسب، بل إن نظامه الاقتصادي هو أشمل نظام عرفه تاريخ الاقتصاد، ولن يأتي نظام أشمل منه، وذلك لأنه قابل -وَفْقَ تلك الضوابط- للتفاعل مع كل ما ينتجه العقل البشري في هذا المجال، وتكييف كل نشاط يطرأ.(/1)
ولا يحسبن أحد أن الاقتصاد الإسلامي قاصر على إصدار الأحكام فيما يدلي به الآخرون، وأنه يفتقر إلى روح المبادرة، إذ لو كان كذلك لما قوي شأن الدولة الإسلامية في بضعة عقود حتى جاء اليوم الذي نادى فيه المنادى: هل من غارم فيقضى دينه)، أو من أعزب فيزوج، أو من صاحب حاجة فتقضى.. فلا يجد مجيباً، ولم تكن تلك الرفاهية الاقتصادية ضربة حظ، وإنما نتيجة حتمية لمنهج قويم متكامل، أيقن من علَّمه وبلَّغه -صلى الله عليه وسلم- أن هذه هي نتيجته في مرحلة من مراحله كما ورد في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- لعدي بن حاتم وهو يدعوه إلى الإسلام فكان مما قال: "ما يمنعك أن تسلم؟.. خصاصة تراها من حولي.... وليفيضن المال - أو ليفيض - حتى يهم الرجل من يقبل منه ماله صدقة"[1].
إذاً فقد كانت الرؤية واضحة أمام النبي -صلى الله عليه وسلم- أن في الإسلام من الفكر الاقتصادي ما يكفي للوصول إلى أعلى قمم الاكتفاء والرفاهية التامة لجميع أفراد المجتمع، كما أن في رقي الدولة الإسلامية عقوداً وتقدمها على غيرها حقباً، في وقت تمسكها بالإسلام وعملها وفق مبادئه دليلاً آخرَ على تطور النظرية الاقتصادية الإسلامية ومواكبتها.
وربما دَفَعَ أولئك الأدعياءَ إلى ما قالوا كونُ الاقتصاد الإسلامي لا ينفك عن إطار الشريعة العام، فالشريعة الإسلامية متكاملة متجانسة غير متباينة أو مجزأة فللاقتصاد صلته الوثيقة بالسياسية الشرعية والقضاء وغيره ولذا فهو متداخل مع غيره من جوانب الدين غير بائن عنها، وهذه ميزة أخرى من ميزات الدين وهي التجانس والتوافق والتوائم بين كل جوانبه؛ فالسياسة الشرعية تبرز الاقتصاد الإسلامي، والقضاء يبرز السياسة، وهكذا تجانس لن تجده في غير تنزيل الحكيم الحميد.(/2)
وهذا التداخل ليس فيه نفي جانب على حساب الآخر، ولا تعني تلك الصلات بين جوانب الدين ذوبان بعض جوانبه في بعضها فنقول مثلاً: في الإسلام قضاء، ولكن ليس فيه سياسة، أو ليس فيه اقتصاد.
فقط نريد من هؤلاء الأدعياء أن يعيدوا قراءة الاقتصاد الإسلامي بعمق دون النظر إلى حالة المسلمين اليوم، ثم لا بأس أن ينظروا في حال المسلمين بعد ذلك ليزدادوا يقيناً أن ما وصل إليه المسلمون من انحطاط إنما هو لتركهم ما بأيديهم من شريعة متكاملة جمعت بين أسباب فوز الدنيا ونجاة الآخرة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[1] رواه ابن حبان، 15/71، 6679.(/3)
العنوان: يغالطونك إذ يقولون
رقم المقالة: 945
صاحب المقالة: مروان محمد أبو بكر
-----------------------------------------
يغالطونك إذ يقولون: إن الاقتصاد الإسلامي اقتصادُ توزيع لا اقتصاد إنتاج! ومما لا شك أن هذا زعم فيه جهل، أو تجاهل للحقائق، ودرس لها؛ لأنه اختزال للاقتصاد الإسلامي في قول الله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ}[سورة التوبة:60]، وإغفال لكثير من الآيات والأحاديث التي توضح معالم ذلك الجانب الهام من الشريعة الإسلامية، والتي نصرُّ على أنها سبقت كل ما أتت به النظريات الحديثة – بزعمهم - رقياً وتقدماً وشمولاً فإن كان في تلك النظريات ثمة خير فهو مقتبس من الشريعة، والسوء فيها إنما هو لمخالفة الإسلام ومبادئه.
ونذكر أولئك الزاعمين قصر الاقتصاد الإسلامي على التوزيع بسورة الأنعام؛ التي تلفت النظر إلى الثروة الحيوانية وتدعو بذلك إلى إنمائها؛ قال الله تعالى:
{ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُْنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُْنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ *وَمِنَ الإِْبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُْنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُْنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:143-144].(/1)
وسورة (الإِنعام) أو (الامتنان) المشهورة بسورة النحل أغنت أولئك الباحثين عن الموارد اللاهثين خلفها مئونة البحث؛ فأشارت إلى أصول تلك الثروات التي يحتاجها البشر، فما ترك الله تعالى ثروة إلا أشار إلى أصلها في تلك السورة العظيمة. وقد ختم الله تعالى سورة السجدة بذكر الثروة المائية، فقال: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الأَْرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلاَ يُبْصِرُونَ} [السجدة:27].
ثم يذكر الله – سبحانه - أولئك الوجلين من نفاد الموارد ويصحح لهم نظريتهم المتشائمة بقوله: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَْرْضَ كِفَاتًا *أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا} [المرسلات:25].
أما الثروة البشرية فللإسلام معها شأن آخر، فلن تتعب كثيراً في البحث عن الآيات التي تحض على العمل، ولا الأحاديث التي تنهى عن البطالة، وتقدم الحلول العملية الناجعة لتلك المشكلة، بل تتجاوز ذلك إلى الاستفادة من الطاقة البشرية، والنظر إليها على أنها مصدر قوة، وليست مشكلة وكارثة يجب مواجهتها بقوانين تحديد النسل؛ كما في كثير من النظريات الأرضية الخرقاء.
وقد ذم الله تعالى العاطلين عن العمل، الذين أهدروا أغلى ثروة عندهم، وهي الثروة البشرية؛ ففي قصة ذي القرنين وصف الله – تعالى - ذلكم الصنف من الناس بالتخلف، فقال: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً} [الكهف:93]، وهو وصف نكتشف حيثياته من قولهم كما أخبر الله عنهم: {قَالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَْرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا} [الكهف:94].(/2)
ولا إشكال في وصف القرآن لهم بأنهم لا يفقهون (حديثاً)، وقد فهموا كلام ذي القرنين وتحدثوا معه، ذلك لأنهم وإن كانوا يحسنون الكلام؛ فهم لا يحسنون الفهم والعمل! فكلامهم عندئذ في حكم البَكَم، فهم أمة مقتنعة بالتخلف، راضية به، ترجو أن يقوم غيرها بما تحتاج إليه، وأن يسد الآخرون حاجاتها! ولذا بقيت على ذلك ظلم يأجوج ومأجوج زماناً طويلاً! منتظرة يوماً كيوم اجتماعها مع ذي القرنين؛ لا لتتعلم منه أو تعمل معه، وإنما لتتواكل عليه، وتلقي إليه بمشاكلها، راغبة إليه في حلها!!
ولكنه لم يشأ أن يصلح أعراض تلك المشكلة؛ التي يزعم أهل ذلك المجتمع أنهم يعانون منها، وهي عدوان غيرهم عليهم، ولكنه أراد أن يحل أصل مشكلتهم، الكامنة في طاقاتهم البشرية المجمدة، مع قدرة تلك الطاقة - بإذنه تعالى - على الدفاع عنهم، بل ورفعتهم ورفاهيتهم، فقال؛ كما أخبر الله تعالى عنه: {مَا مَكَّنْنِي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ} [الكهف:95]، فقد منَّ عليّ بعقلية إدارية، وقد منَّ عليكم بسواعد فتية، {فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا} [الكهف:95].
فقضى - عليه السلام - على ذلك التبلد الذهني، والخمول البدني في مجتمعهم، الذي أدى إلى تخلفهم! ولعلك لو أجريت دراسة اجتماعية لذلك المجتمع - بعد بناء السد - لوجدت أنه قد تحول تحولاً جذرياً، وانتقل نقلة يمكن أن تمحو عنه وصف { لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً} [الكهف:93]، ويكون وصفهم بالتخلف خاصاً بساعة قدوم ذي القرنين عليهم.(/3)
وللثروة العقلية الإدارية شأن آخر في اقتصاد الإسلام؛ فكما نلحظها في قول ذي القرنين عليه السلام: {مَا مَكَّنْنِي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ} [الكهف:95]؛ فإنها كذلك تبدو واضحة في قصة يوسف - عليه السلام - وهو يدير وزارة للاقتصاد والمالية! وفي تاريخ الإسلام بدءاً من حياة خاتم الرسل - صلى الله عليه وسلم - مروراً بالخلفاء الراشدين، ومن بعدهم من السلف.. تجد هذه الثروة الإدارية قد تبلورت إسلامياً نظرياً وعملياً.(/4)
العنوان: يوسف في الجُب
رقم المقالة: 1294
صاحب المقالة: الشيخ عائض بن عبدالله القرني
-----------------------------------------
إنَّ الحمد لله، نحمدهُ ونستعينهُ ونستغفرهُ، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا ومن سيِّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومن يضللْ فلا هاديَ له، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70-71].
أما بعد:
فإن أصدقَ الحديثِ كتابُ الله، وأحسنَ الهديِ هديُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ محدثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعة ضلالةٌ، وكلَّ ضلالةٍ في النار.(/1)
* يقول الله - تبارك وتعالى - في كتابه: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ * إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ * قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ} [يوسف: 3-7].
يدخل عمر - رضي الله عنه وأرضاه - مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيجد قاصًّا يقص على الناس، وواعظًا يعظهم بأخبار الجاهلية، فيسألُ عمر: مَنْ هذا؟
قالوا: هذا قاصٌّ يقص علينا، فيعلوه عمر بالدّرة – وهي عصًا غليظة – ويضربه ويقول: أتقصُّ يا عدوَّ الله، والله يقول: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} [يوسف: 3]؟! ومن أحسن القصص قصة يوسف عليه السلام، وبطلها يوسف عليه السلام، يمر بأربعة مشاهد:
مشهد الفراق من أبيه ومن ذويه أربعون سنة؛ لا يرى أباه، ولا يرى إخوانه، ولا أهله، ولا بيته، ولا جيرانه.
ومشهد الفتنة؛ امرأة العزيز تتعرض له، وهي من أجمل خلق الله!!
ومشهد السجن؛ يُسجن في ذاتِ الله، ويُمَحَّصُ ليخرج برضوان الله.
ومشهد مُلْكِ مصر؛ يملك الدولة بأسرها، ويتحدث من مركز القوة، بعد الفراق والسجن والعناء.(/2)
يقول الله في أول السورة: {الر} [يوسف: 1] من هذه الحروف نتكلم، ومن هذه الحروف نصوغ قرآننا، ون هذه الحروف تتكلمون، وتكتبون الشعر والنثر والبلاغة؛ فيا أيها الفصحاء، يا أهل البلاغة والبيان، يا قريش العربية والفصاحة، إني أتحداكم أن تأتوا بسورة واحدة من مثل هذا القرآن!! والتحدي ماضٍ إلى يوم القيامة!!
المادة موجودة، والخام معروف، والحروف لم تتغير، ولكن أنَّى لكم أن تصوغوا قرآنًا كهذا القرآن!!
{الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} [يوسف: 1].
كتاب مبين جليٌّ واضح، ولكن ماذا يحوي؟ أي شيء فيه؟ {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف: 2].
فيا من نام وما استيقظَ، اسْتَيقظْ بهذا القرآن، ويا من غفل ولم يتذكر، تذكر بهذا القرآن، ويا من فقد عقله، اعقل بهذا القرآن، وتدبر هذا القرآن، وابحث في أسرار هذا القرآن.
ثم يقول الله - تبارك وتعالى - مقدمًا للقصة المذهلة المرعبة، التي ما سمع الناس بمثلها، وممهدًا لأحداثها بخطوط عريضة، في وصف القصص القرآني: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} [يوسف: 3]. أصدق القصص، وأروع القصص، وأطيبُ القصص.
{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [يوسف: 3].
كنت أميًّا لا تقرأ ولا تكتب، كنت في صحراء مع أمة جاهلية تعبد الصنم والحجر، ما عندها قصص، ما عندهم علم، ما لديها كتاب، فاستمع إلى قصصنا، فإن فيه العبرة، والعظة، والذكرى.
ثم ينتقل بنا القرآن إلى يوسف عليه السلام، وإلى أبيه يعقوب، إلى الأنبياء المطهرين المشرفين، إلى الأسرة العريقة في الكرم، وفي الجود، وفي التقوى، وفي الورع.
وَمَا كَانَ مِنْ خَيْرٍ أَتُوهُ فَإِنَّمَا تَوَارَثَهُ آبَاءُ آبَائِهِمْ قَبْلُ(/3)
وَهَلْ يُنْبِتُ الخَطِّيُّ إلاَّ وَشِيجُهُ وتُغْرَسُ إلاَّ في مَغَارِسِهَا النَّخْلُ
يصحو يوسف عليه السلام ذات يوم، وهو غلام فيما يقارب العاشرة، وفي الصباح يجلس أمام أبيه، ومن أعجب الأعاجيب عند الطفل، أن يرى في النوم ما يرى، ولذلك تجدُ الأطفالَ يرتاحون أيما ارتياح، إذا ما رأوا في نومهم شيئًا يقصونه على آبائهم، لو رأى أحدهم خيالاً، أو طائرًا، أو جبلاً، لزاد عليه، ولزخرف فيه ونمَّق، حتى يخبر أهله بذلك في الصباح.
وأما يوسف عليه السلام، فما زخرف وما زاد، يجلس أمام أبيه ويقول: يا أبتاه، {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} [يوسف: 4].
رأيت أحد عشر نجمًا في السماء، والشمس والقمر، ولو سكت لما كان في القصة عجب، كلٌّ يرى أحد عشر كوكبًا، وكل يرى الشمس والقمر، لكن ما هو المذهل يا ترى؟ إن سرَّ الحلم والرؤيا: {رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف: 4].
رأيت أحد عشر كوكبًا والشمس والقمر هبطوا من السماء، وسجدوا لي في الأرض.
ولمحَ يعقوب عليه السلام، وهو نبي أعطاه الله من العلم، ومن الإدراك، ومن الفطنة والفهم، أن ابنه هذا سوف يكون له شأن عظيم، وأنه سوف يكون وارثه في النبوة، فخاف أن يخبر إخوته بهذه الرؤيا، فيأتي الشيطان، فيحول بينهم وبينه، وهذا ما حدث فقال: {يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ} [يوسف: 5]. حذارِ حذارِ أن يسمعوا منك هذه القصة، لا تخبرهم بذلك أبدًا.
ولكنه ما حفظ وصية أبيه، وما نفذها، لأنه كان يحب إخوته، وما شك فيهم طرفة عين.
فالإخوان، الأشقاء، الرحماء، الأصفياء، المتحابون، كيف ينقم بعضهم على بعض، وكيف يحسد بعضهم بعضًا، وكيف يبغي بعضهم على بعض، ولذلك علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في "الصحيح"؛ أن إذا رأى أحدنا رؤيا طيبة، ألا يقصها إلا على مَنْ يحب[1].(/4)
فأتى يوسف عليه السلام إلى إخوته، وجلس معهم، وهو من أصغرهم، وقص عليهم القصة، فثار الحقد في قلوبهم، والحسد في نفوسهم، وأصبح الخلاص من يوسف عليه السلام أمرًا مؤكدًا لا حيدة عنه، ولا مفر منه، وعلم يعقوبُ - عليه السلام - أن الإخوة علموا بأمر الرؤيا، فسقط في يديه، وأيقن أن المؤامرة سوف تدبَّر، وأن المكيدة أوشكت.
{وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ} [يوسف: 6] بهذه الرؤية وبغيرها {وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ} [يوسف: 6] تفسر للناس الرؤى وتعبرها لهم، فضلاً من ربك {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} [يوسف: 6] نعمة الرسالة، نعمة الاستقامة، نعمة الولاية، {وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ} وبدأ به لأنه أفضل، وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [يوسف: 6].
وينتهي هذا المشهد، ثم ينتقل بنا القرآن إلى مشهد آخر، ينتقل بنا إلى أصل القضية، والباعث على المؤامرة التي سوف تدبر، والجريمة التي سوف تنفذ.
يقول الله – عز وجل -: {لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ} [يوسف: 7]. عظات وعبر للمعتبرين، إخوانٌ ينقمون على أخيهم!! إخوان يريدون قتل أخيهم!! ينفونه من بيته!! يحرمونه من أبيه!!
اجتمع إخوة يوسف، وهو ليس معهم؛ بل معهم الشيطان، فقال قائلهم: {لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} [يوسف: 8]. ونحن جماعة في بيت واحد، ومن أبٍ واحد {إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [يوسف: 8].(/5)
لقد أخطأ أبونا، حيث قدم أخانا علينا، لماذا يفضله علينا ونحن أكثر منه؟ لماذا يقبله أكثر مما يقبلنا؟ لماذا يجلسه بجانبه ولا يجلسنا بجانبه؟ وهذا مما توهموه وإن كانت الحقيقة غير ذلك. وهذا أيضًا درس في التربية لمن كان عنده أبناء، فلا يجب أن يَميِّز أحدهم على الآخر، فإن هذا يورث الضغينة، والحقد، والتحاسد بينهم، إلا أن يكون طفلاً صغيرًا، فله أن يميزه، لأنه ضعيف، وإخوانه أقوياء. {إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [يوسف: 8] فما الحل يا ترى عند هؤلاء الإخوة؟
{اقْتُلُواْ يُوسُفَ} [يوسف: 9]. مكيدة ما سمع التاريخ بمثلها، فتىً بريء، طفل صغير تقيٌّ وَرِع، يتآمر عليه إخوانه، وينقم عليه أحبابه، ويكيد له من تربوا معه في بيت النبوة.
{اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا} [يوسف: 9] أو اذهبوا به إلى أرض بعيدة بعيدة، وألقوه فيها {يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ} [يوسف: 9] سوف تستأثرون بأبيكم، وتنفردون بحبه، وظنوا أن هذا سوف يحدث، {يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ} [يوسف: 9] ثم تتوبون من هذا الخطأ، وتستغفرون من تلك الجريمة، وسوف يتوب الله عليكم لأنه غفور رحيم!!
قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: نوَوْا بالتوبة قبل الذنب. {قَالَ قَآئِلٌ مَّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ} [يوسف: 10]. والقائل أكبرهم على قول بعض المفسرين، رأى أن القتل شديد، وأنه من أكبر الكبائر، وأنه جريمة نكراء، فتحركت في قلبه بعض الرحمة، وبعض الشفقة، وقال: لا تقتلوه، وإنما {وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ} [يوسف: 10] أي في بئر مغيبة {إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ} [يوسف: 10] مصممين على هذه الفعلة.(/6)
واجتمعوا على هذا الرأي، وأجمعوا أمرهم على تلك المكيدة، ولكن كيف يأخذون يوسف من بين يدي يعقوب - عليه السلام - ما الحيلة التي يحتالون بها على يعقوب؛ لإخراج يوسف من بيته؟
لقد جاؤوا إلى أبيهم متوسلين؛ يا أبانا، لماذا لا تستأمنا على أخينا يوسف؟ هل صدر منا شيء تجاهه؟ ألا تعرف أننا نحبه كثيرًا!! هل ضربناه؟ هل أسأنا إليه؟ هل حسدناه على شيء!! {قَالُواْ يَا أَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ} [يوسف: 11]. نحن نحبه والله، وننصح له، ولا نريد له إلا الخير، {أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [يوسف: 12].
دعه لنا غدًا يرعى معنا الغنم، وسوف نتركه يلعب، ويجري، ويمرح، إلا أن أعيننا سوف تكون عليه، {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [يوسف: 12]. فأجابهم يعقوب – عليه السلام – بلسان الأب الحنون، وبقلب مطمئن بصير: {قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ} [يوسف: 13].
لقد شكَّكُوه في أنفسهم، فبين لهم أن ذهابهم بيوسف يُحزنه، وأنه يجد لفراقه وحشة، لأنه صغير، ولأنه يرى فيه النبوة والاصطفاء.
ثم أضاف يعقوب عليه السلام سببًا آخر فقال: {وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ} [يوسف: 13].
قال ابن عباس رضي الله عنهما: لو لم يقل لهم: أخاف أن يأكله الذئب، ما كانوا قالوا في الأخير: لقد أكله الذئب، لأن هذا الأمر لم يكن في أذهانهم، ففتح لهم يعقوب عليه السلام طريقًا، وأوجد لهم عذرًا لم يدر بخلدهم، دون أن يدري.
ولذلك ففي بعض الآثار أن الله عاقب يعقوب عليه السلام، بسبب هذه الكلمة، ففقد ابنه أربعين سنة، وأوحى إليه، قال: يا يعقوبُ خفتَ الذئبَ ولم تذكرْ حفظي!!
قلت: "أخاف أن يأكله الذئب" وما قلتَ كما قلتَ في الأخير: {فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف: 64].(/7)
ثم بدؤوا في تنفيذ جريمتهم، ذهبوا بيوسف إلى المرعى في الصحراء، ذهبوا به والسعادة تملأ قلبه؛ لأنه سوف يلعب مع إخوته، وسوف يقضي معهم وقتًا طيبًا، ذهبوا وقلوبهم تغلي حقدًا، وتتفطر حسدًا لهذا الأخ الحبيب القريب الصغير، فأخذوه أول ما وصلوا، ما تركوه يرتع كما قالوا، ويلعب كما زعموا، وإنما قيدوه بحبل، وأنزلوه في البئر، فأخذ يستغيث ويظن أنهم يمزحون، وقد خيروه بين القتل وبين أن يلقى في البئر.
كَفَى بِكَ دَاءً أَنْ تَرَى الْمَوْتَ شَافِيا وَحَسْبُ الْمَنَايَا أَنْ يَكُنَّ أَمَانِيَا
تَمَنَّيْتَهَا لّمَّا تَمَنَّيْتَ أَنْ تَرَى صَدِيقًا فَأَعْيَا أَوْ عَدُوًّا مُدَاوِيَا
فأنزلوه وهو يتشبث ويبكي، فيقول له أخوه وهو يستهزئ به، ويتهكم عليه كما في بعض الآثار: هذه أحد عشر كوكبًا، وهذه الشمس والقمر يسجدون لك!! فأخذوا ينزلونه بالحبل، وذكر ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" أنه لما نزل أخذ يقول: حسبي الله ونعم الوكيل، وأخذ يقول: سبحان الله، سبحان الذي بيده ملكوت كل شيء، وهو على كل شيء قدير.
قال ابن عباس وهو يبكي حينما قرأ سورة يوسف: "هدأت الحيتان في البحر من التسبيح، ولم يهدأ يوسف عليه السلام من التسبيح، فأنزلوه، ولما نزل قطعوا عنه حبالهم، فبقي في حفظ الله، وفي رعاية الله وفي أمن الله".
وَإِذَا الْعِنَايَةُ لاحَظَتْكَ عُيُونُهَا نَمْ فَالْحَوَادِثُ كُلُّهنَّ أَمَانُ
يَا وَاهِبَ الآمَالِ أَنْ تَ حَفَظْتَنِي وَمَنَعْتَنِي
وَعَدَا الظَّلُومُ عَلَيَّ كَيْ يَجْتَاحَنِي فَحَمَيْتَنِي
فَانْقَادَ لِي مُتَخَشِّعًا لمَّا رَآكَ نَصَرْتَنِي
قطعوا الحبل وتركوه في البئر، وهو يلهج بذكر الله، في صحراء شاسعة، وحيدًا ليس معه إلا الله، لا خبز، ولا ماء ولا طعام، ولا أهل لا جيران ولا أحبة، لا أحد يمر، ولا مؤنس يؤنس، وإنما الذئب يعوي في صحراء مدوية، ثم رجعوا إلى أبيهم باكين!!
سَبَارِيتُهُ مُغَبَّرَةٌ وَسَبَاِسِبُهْ.(/8)
عَوىَ الذِّئْبُ فَاسْتَأْنَسْتُ بِالذِّئْبِ إِذْ عَوَى وَصَوَّت إِنْسانٌ فَكِدتُ أطيرُ
ولم يكن الشرُّ متأصلاً في إخوة يوسف عليه السلام، ولذلك نجدهم أخطؤوا في حَبْكِ هذه القصة من أوجه ثلاثة:
الوجه الأول: لو أرادوا مكيدة لتركوه إلى غير هذا اليوم ولعادوا به سالمًا، ليطمئن أبوه إليهم، ولكن هكذا في أول يوم يأكله الذئب!! ما هذا الذئب إلى ينتظر يوسف في الصحراء، وكأنه يرقب متى يخرج حتى يأكله؟!
الأمر الثاني: إنهم أتوا بثوبه فخلعوا قميصه ولم يمزقوه، والذئب لا يعرف خلع القميص، الذئب لا يفك الأزرار، وإنما يمزق الثياب تمزيقًا، وهم فكوا الأزرة، وخلعوا الثوب بهدوء، ثم جعلوه في دم شاة ليحتالوا على أبيهم.
والأمر الثالث: جاؤوا إلى أبيهم وقالوا: {وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف: 17].
كاد المريب أن يقول خذوني، يقولون: إنك لا تصدقنا وهذا علامة على أن في الأمر شيئًا.
ولكن ماذا فعل يوسف عليه السلام؟
أظلم عليه الليل، قال أهل العلم: أنزل الله عليه جبريل يسكّنه تلك الليلة، وأخبره ربه أني معك أسمع وأرى، فلا تفتر لسانك من ذكري، فإني جليسُ من ذكرني، فبدأ يوسف عليه السلام يذكر الله سبحانه وتعالى، فلما استأنس قال يا جبريل، استأنستُ بجلوسي مع الله، فإن شئت فاذهب، فأوحى الله إلى يوسف: {لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} [يوسف: 15]. سوف تمر الأيام وتخبرهم بصنيعهم هذا وهم يشعرون!!
{وَجَاؤُواْ أَبَاهُمْ عِشَاء يَبْكُونَ} [يوسف: 16]. رجعوا إلى أبيهم في العشاء، لماذا لم يأتوا في المغرب، أو في العصر؟
أولاً: ليُظِهرُوا أنهم تأخروا في مصارعة الذئب، وفي ملاحقته، حتى يخلصوا أخاهم من بين أنيابه!! ولذلك تأخروا إلى العشاء.(/9)
والأمر الثاني: حتى لا يرى أبوهم الدمَ في الثوب فيميز بين دم يوسف ودم الشاة. وانظر إلى المكيدة .. أتوا يتباكون!! {وَجَاؤُواْ أَبَاهُمْ عِشَاء يَبْكُونَ} [يوسف: 16]. لقد تركوا كل شيء، وعمدوا إلى أبيهم يعقوب عليه السلام، وهم في حالة سيئة من البكاء والنحيب!! ماذا حدث؟ يا لهذه الرحمة التي أبكتهم! ما هذه الدموع الساخنة الحارة على فرقة يوسف عليه السلام، فسألهم أبوهم: ما الخبر؟ قالوا: {إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ} [يوسف: 17]. {ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ} [يوسف: 17] تجارينا وتسابقنا {وَتَرَكْنَا يُوسُفَ} [يوسف: 17] إشفاقً عليه {عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ} [يوسف: 17] لأنه أخبرهم قبل ذلك أنه يخاف أن يأكله الذئب، ثم قالوا: {وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف: 17]. أنت لا تصدقنا مع أننا صادقون، {وَجَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} [يوسف: 18]. إن كنت لا تصدقنا، فهذا دليل صدقنا، هذا قميصه ملطخًا بالدماء، هذا ثوبه جئنا به؛ لتعلم أننا صادقون!!
أخذ - يعقوب عليه السلام - الثوب، وضمه إليه، وسالت عينه بالدموع، {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف: 18]. لقد كدتم مكيدة، ودبرتم مؤامرة، والله المستعان على ما تصفون.
قال ابن تيمية – رحمه الله -: "الصبر الجميل؛ الذي لا شكوى فيه، والصبر الجميل أن لا تُظْهِر الفقر ولا المسكنة لغير الله، والصبر الجميل أن تتجمل أمام خلق الله.
قيل لأحد العبَّاد: ما هو الصبر الجميل؟ قال: أن يتقطع جسمك قطعة قطعة، وأنت تتبسم!! وقال آخر: الصبر الجميل أن تبتلى وقلبك يقول: الحمد لله".
ثم تولى يعقوب يبكي حتى ابيضَّت عيناه على ما سوف يأتي، وفي بعض الآثار، أن الملائكة بكت على بكاء يعقوب - عليه السلام.(/10)
وكان أبو بكر – رضي الله عنه وأرضاه – يقرأ سورة يوسف في صلاة الفجر، فإذا بلغ قوله تعالى: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} [يوسف: 18]. بكى وبكى الناس معه.
وحُرم يوسف من أبيه يعقوب - عليه السلام - أربعين سنة واستوحش يعقوب، وخلت الدار، وأظلم كل شيء، وبكى يعقوب حتى ذهبت عيناه، ولسان حاله يقول:
بِنْتُم وبِنَّا فما ابتَلَّتْ جوانحُنا شوقًا إليكم ولا جفَّت مآقينا
تكادُ حين تناجيكُم ضَمائِرُنا يقضي علينا الأسى لولا تأسِّينا
إن كان قد عَزَّ في الدنيا اللقاءُ ففي مواقِفِ الحشرِ نلقاكم ويكفينا
وللحديث بقية.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وإمام المتقين، وحجة الله على الناس أجمعين، ومحجة السالكين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
ففي هذا المقطع السابق من سورة يوسف عليه السلام فوائد ودروس، منها:
الأمر الأول: أن هذا القرآن مُعْجِزٌ وأنه معجزةُ رسولنا صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88].
الأمر الثاني: في الرؤيا حقٌّ وباطلٌ؛ فإن كانت من رجل صالح، وكانت صالحة، ولم تكن في أمر مستحيل، فإنها من المبشرات.
الأمر الثالث: على المسلم إذا رأى رؤيا صالحة ألا يخبر بها إلا من يحب، لا يخبر بها كل أحد، أما إذا رأى رؤيا سوء فلا يخبر بها أحدًا، سواء يحبه أو لا يحبه. فرؤيا السوء لا يُخبر بها أحد.(/11)
وبعض الناس إذا رأى رؤيا مؤذية، مضرة، مكروهة، أخبر بها، فتقع عليه! وفي حديث عنه صلى الله عليه وسلم - وهو صحيح: ((الرؤيا على رِجْل طائر ما لم تعبَّر، فإذا عُبِّرت وقعت))[2].
والأمر الرابع: أن الحسد مركوزٌ في فطر الناس، قال الحسن – رحمه الله -: "ما خلا جسد من حسد، ولكن المؤمن يدفعه، ويعتقد أن الحسد من أكبر الخطايا والذنوب، وأنه من أقبح السيئات، وأنه يأكل الحسنات، وأنه ينحل الجسم، وأنه يذهب بالتقوى والورع، وأنه يغضب الربَّ على العبد".
أَلا قُلْ لمَنْ بَاتَ لي حاسدا أتدري على مَنْ أَسَأْتَ الأدبْ
أَسَأْتَ على الله سبحانه لأنَّك لم تَرْضَ لي ما وهبْ
فمن حسد فقد أساء الأدب مع الله، وقد اعترض على القضاء والقدر، وقد ضيع نفسه، وقد كره فضل ربه على الناس. {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ} [النساء: 54].
فالحسد مقيت، وهو أول ما عُصِيَ به الله في الأرض، نعوذ بالله منه.
وواجب الحاسد أن يتوب إلى الله، وأن يراجع حسابه مع الله، وأن يتعوَّذ بالله من الشيطان الرجيم، وأن يحسن إلى المحسود، وأن يهدي له، وأن يستغفر له، وأن يدعو له، وأن يعلم أنه ارتكب خطيئةً ما بعدها خطيئة.(/12)
والأمر الخامس: أن المحن تقع بين الإخوة، إذا فُضل بعضهم على بعض، فمن حسن التربية أن يساوَوْا في القسمة، وفي الحب، وفي التقبيل، وفي الجوائز، فلا يقدَّم أحدهم على الآخر، ولو كان أحدهم متفوقًا، أو ناجحًا، أو قدَّم عملاً، فلا يجب أن يفضّل على إخوانه. قال النعمان بن بشير: ذهب بي أبي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم - وقد ميزني بشيء من القسمة فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((أفعلت هذا بولدك كلهم؟)) قال: لا يا رسول الله، قال: ((فلا تشهدني إذًا فإني لا أشهد على جور))[3]، أو قال: ((فأشهد على هذا غيري))[4]، أو قال - عليه الصلاة والسلام -: ((اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم))[5] فمن الظلم كل الظلم أن يُقدم أحد الأبناء، وأن يؤخَّر الباقون، إنه سبيل إلى الإحباط، وإلى البغض، وإلى الانتحار، وإلى المكيدة والعداوة بين الأبناء - نسأل الله العافية - فهذا من الأدب في التربية.
والأمر السادس: أن الحافظ هو الله، وأن المانع من السوء هو الله، وأن الرقيب والحسيب هو الله الحي القيوم، فيوسف - عليه السلام - لما ألقي في الجب نسي كل شيء إلا الله، فذكر مولاه، فحفظه، ورعاه وتولاه وأيده وسدَّده وآواه، وأصبح ملكًا على مصر، وآتاه النبوة، وشرَّفه بالرسالة، ومنحه العلم والدعوة.
وكذلك يحفظ الله من يحفظه؛ {فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف: 64].
وهكذا تستمر سورة يوسف، بمشاهدها التي سوف - تأتي إن شاء الله - وبحديثها الشائق، وبروعتها في الأداء، وأخذها بأطناب القلوب.
نسأل الله فقهًا في كتابه، وتدبرًا لآياته، وعملاً بمواعظه وأحكامه، إنه على كل شيء قدير.
عباد الله:
وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56].(/13)
* وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((من صلَّى عليَّ صلاة صلَّى الله عليه بها عشرًا))[6].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبيك وحبيبك محمد, واعرض عليه صلاتنا في هذه الساعة المباركة يا رب العالمين، وارض اللهم عن أصحابه الأطهار من المهاجرين والأنصار، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
---
[1] البخاري (8/83)، ومسلم (4/1772) رقم: (2261).
[2] أخرجه ابن ماجه (2/1288) رقم: (3914)، وأحمد (4/10).
[3] أخرج هذه الألفاظ جميعًا مسلم في "الصحيح" (3/1243، 1244) رقم: (1623).
[4] أخرج هذه الألفاظ جميعًا مسلم في "الصحيح" (3/1243، 1244) رقم: (1623).
[5] أخرج هذه الألفاظ جميعًا مسلم في "الصحيح" (3/1243، 1244) رقم: (1623).
[6] أخرجه مسلم (1/288) رقم (384).(/14)
العنوان: يوسف في بيت العزيز
رقم المقالة: 1295
صاحب المقالة: الشيخ عائض بن عبدالله القرني
-----------------------------------------
إنَّ الحمد لله، نحمدهُ ونستعينهُ ونستغفرهُ، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا، وسيِّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومن يضللْ فلا هاديَ له، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70-71].
أما بعد:
فإن أصدقَ الحديثِ كتابُ الله، وأحسنَ الهديِ هديُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ محدثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعة ضلالةٌ، وكلَّ ضلالةٍ في النار.
أيها الناس:
فلنستمع إلى القرآن وهو يواصل معنا عرض قصة يوسف عليه السلام، في إبداع عجيب، وفي تصوير مشرق رائع، بعد أن تركناه في الجب وحيدًا، ولكن الله معه، غريبًا؛ ولكن الله يؤنسه فالله - سبحانه وتعالى - يقول: ((أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني))[1] فمن ذكره فهو معه - سبحانه وتعالى - كما قال: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152].
اذْكُرونا مثل ذِكْرانا لكمْ رُبَّ ذكرى قَرَّبتْ مَنْ نَزَحَ
بك استجيرُ ومن يجير سواكَ فأجِرْ غريبًا يحتمي بحماكَ(/1)
إني ضعيفٌ استعينُ على قِوى جهلي ومَعْصِيتي ببعض قِواكَ
* يقول الله سبحانه وتعالى تكملةً للقصة المذهلة المدهشة: {وَجَاءتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلاَمٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ * وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ * وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ * وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ * وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف: 19-24].
تُرِكَ في البئر وحيدًا، وعاد إخوته يبكون بكاء الكذب، ويعرضون دم الكذب على قميصه، تركوه وحيدًا، ولكن من كان الله جليسه فلا يستوحش أبدًا. قال أهل العلم: لما أُنزل يوسف عليه السلام في الجب، أخذ يذكر الله، ويكبر الله، ويهلل الله، قال عزَّ مَنْ قائل: {وَجَاءتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ} [يوسف: 19]. إنه في صحراء مدوية، في بيداء شاسعة لا يجرؤ أحدٌ على خوض غمارها، لكنَّ الله أتى بقافلة، بموكب عظيم ليخلص يوسف عليه السلام من الجب.(/2)
ضلت القافلة طريقها، أتت من الشام تريد فلسطين، فضلَّت، وسوف تعترض مصر في طريقها، ذهبت إلى تلكم الصحراء؛ لحكمة أرادها الله.
وعناية الله تحفظ من يريد الله حفظه، ورعاية الله تحفظ العبد في كل طرفة عين، وفي كل لحظة، وفي كل مكان، وفي كل زمان.
يقول ابن الجوزي في "صِفَةِ الصَّفوةِ"، وهو يتحدث عن رعاية الله وعنايته: "يقول أحد الصالحين: رأيت عصفورًا يأتي بلحم، ويذهب به إلى نخلةٍ في الصحراء، فتتبعتُه، فوجدته كل يوم يأخذ من المزبلة لحمًا وخبزًا، ويذهب به فيضعه في تلكم النخلة، قال: فصعدت لأرى، وعهدي بالعصفور أنه لا يعشعش في النخل، فرأيت حيةً عمياء، كلما أتاها هذا العصفور بهذا اللحم، فتحت فاها وأكلت"!!
فمن ذا الذي سخَّر لها العصفور، إنه الذي سخَّر تلك القافلة ليوسف عليه السلام؛ لتأخذه من البئر.
وأدلى واردهم دلوه في البئر، والقرآن عجيب في العرض، رائع في الأداء، بديع في التصوير، لم يقل: أدلى دلوه، ثم تعلق يوسف بالدلو، ثم سحب الوارد الدلو، ثم أخرجه، فقال: مَنْ أنت؟ ثم ذهب به إلى أصحابه. بل جاء بالفاء التعقيبية؛ لأن عنصر المفاجأة في الآية يقتضي ذلك {فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ} [يوسف: 19]. فأتى بالفاء {فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلاَمٌ} [يوسف: 19]. أدلى دلوه، فتعلق يوسف عليه السلام بالدلو، ثم سحبه الوارد، فرأى يوسف عليه السلام، غلامًا صبيحًا، أوتي شطر الحسن، فقال لأصحابه {يَا بُشْرَى} - وقرأ أهل الشام ((يا بشرايَ)) - {هَذَا غُلاَمٌ} أي: خادم وعبدٌ أبيعه وأنتفع بثمنه.
{وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً} [يوسف: 19] قيل: أخفاه بعضهم عن بعض، وجعلوه بضاعة، وقيل: أخفَوهُ عن الناس، خوفًا من أن يجدوا أباه، أو أهله، أو إخوانه، وما علموا أن إخوانه هم الذين تركوه، وهم الذين طرحوه، وهم الذين هجروه وأبعدوه، {وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [يوسف: 19].(/3)
الله يتابع سيرة هذا النبي، وقصة هذا الرسول الكريم - عليه الصلاة والسلام - ذهبوا به {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} [يوسف: 20]. وشرى هنا بمعنى باع، باعوه بثمن بخس، ولو دفعت الدنيا وما فيها في مثل يوسف عليه السلام لكانت ثمنًا بخسًا، ولكانت غبنًا، ولكانت خسارة.
{وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} [يوسف: 20] لم يقل موزونة، وإنما قال معدودة؛ لأن المعدود دائمًا أقل من الموزون، فلو قال: موزونة، لكانت كثيرة، وإنما قال معدودة؛ ليبين أنها دراهم قليلة.
{وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} [يوسف: 20] لا يرغبون فيه، لا يريدون أن يكون معهم، ومن الذي اشتراه يا ترى؟ إن الذي اشتراه هو عزيز مصر!! {وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ} [يوسف: 21] ولم يذكر سبحانه وتعالى العزيز باسمه هنا لأمرين، الأول: لأن بطل القصة يوسف عليه السلام، فما كان لعنصر ثانٍ أن يتدخل في القصة.
ثانيًا: لأن كلمة العزيز لا يستحقها؛ لأن العزيز مَنْ أعزه الله بطاعته، والشريف من دخل عبودية الله.
وَمِمَّا زَادَنِي شَرَفًا وَفَخْرًا وَكِدْتُ بِأَخْمصِي أَطَأْ الثُّرَيَّا
دُخُولِي تَحْتَ قَوْلِكَ يَا عِبَادِي وَأَنْ صَيَّرْتَ أَحْمَدَ لِي نَبِيًّا
فقال لأمرته {أَكْرِمِي مَثْوَاهُ} [يوسف: 21]. وهذا مبالغة في الإِكرام، أي: أحسني طعامه، وشرابه، وكسوته، ونومته؛ {عَسَى أَن يَنفَعَنَا} [يوسف: 21]، فيخدمنا في أغراضنا، ويقرب لنا بعض حوائجنا، {أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} [يوسف: 21].(/4)
كان العزيز حصورًا لا يأتي النساء، وكانت امرأته عقيمًا، فأراد أن يتخذ هذا الغلام ولدًا، يترعرع بينهما، وينشأ في بيتهما، وما علما أن الله قد قضى شيئًا آخر، وأنه سوف يكون نبيًّ من الأنبياء، ورسولاً يحمل رسالة السماء، وداعية إصلاح يحرر الشعوب، ويقود الأجيال إلى الله، فكيف يباع الحر في مصر؟! وكيف يسود العبد هناك؟! أيباع الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم!!
عجبتُ لمصرَ تَهْضمُ الليث حقَّهُ وتفخَرُ بالسِّنَّوْرِ ويحَكِ يا مصرُ!!
سلامٌ على الدنيا سلامٌ على الوَرَى إذا ارتفع العصفورُ وانخَفَضَ النسرُ
بيع عليه السلام، ومكث في قصر العزيز، تقيًّا، عابدًا، متألهًا، متصلاً بالحي القيوم.
وتمر الأيام، ويزداد حسنًا إلى حسنه، وجمالاً إلى جماله، وتأتي الطامَّة الكبرى، تراوده المرأة عن نفسه فيا للفتنة العظيمة، ويا للمحنة الأليمة.
شاب أعزب غريب، شاب فيه هيجان الشهوة، وأعزب ليس له أهل يعود إليهم، وغريب لا يخشى على نفسه من السمعة القبيحة، كما يخشى المقيم وسط أهله وجيرانه.(/5)
{وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ} [يوسف: 23]. تعرضت له كثيرًا، وتجملت له دائمًا؛ لأنها ذات منصب وجمال، ملكة في قصر ملك، ولكن الله معه يحفظه ويسدده. وفي يوم من الأيام؛ غَلَّقت الأبواب، وكانت سبعة أبواب، {وَغَلَّقَتِ} [يوسف: 23] كل باب، ولم يقل: أغلقت، وإنما {وَغَلَّقَتِ} [يوسف: 23] زيادة في المبنى، ليزيد المعنى، {وَغَلَّقَتِ} للتكثير، فلما غَلَّقَت الأبواب، خلت هي وإياه، ولكن الله - سبحانه وتعالى يراهما - {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ } [الشعراء: 218-219]. راودته المرأة، {وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ} [يوسف: 23]. تهيأت لك، تجمَّلت لك تزينت لك!! {قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [يوسف: 23]. ولكن المرأة أصرت على الفاحشة، ولم تعد ترى إلا جمال يوسف.
{وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ} [يوسف: 24]. اقتربت منه وتعرضت له {وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف: 24]. لولا أن أدركه الله بعنايته وحفظه ورعايته لهلك، ولارتكب الفاحشة.
وإذا خلوتَ برِيبَةٍ في ظُلْمةٍ والنفسُ داعيةٌ إلى الطُّغيانِ
فاستحي من نظر الإِلهِ وقُلْ لها إن الذي خلق الظلام يراني
يا مَنْ سَتَرْتَ مثالبيِ ومعايبي وجعلتَ كلَّ الناسِ كالإخوانِ
والله لو عَلموا قبيحَ سريرتي لأَبَى السَّلامَ عليَّ مَنْ يلقاني
{وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف: 24]. أصابه شيء من حظ النفس البشرية، انتابه من النقص البشري، دارت بخلده المعصية، ولمَّا يفعل؛ لأنه من عباد الله المخلصين {لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف: 24]. فما هو هذا البرهان؟ استمعوا إلى أقوال المفسرين، وأعرضها عليكم ثم نخرج بالصحيح الراجح إن شاء الله.(/6)
* قال ابن عباس – رضي الله عنهما -: لما همَّ يوسف بها، سمع هاتفًا يهتف يقول: يا يوسف، إني كتبتك في ديوان الأنبياء فلا تفعل فعل السفهاء.
* قال السُّدي: سمع هاتفًا يهتف يقول: يا يوسف اتق الله، فإنك كالطائر الذي يزينه ريشه، فإذا فعلت الفاحشة نتفت ريشك.
وقال بعض المفسرين كما أورد ابن جرير الطبري: رأى لوحة في القصر مكتوب عليها: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً} [الإسراء: 32]. وقال غيرهم: رأى كفًّا قد كُتب عليه. {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ} [الانفطار: 10]. إننا نحفظ حركاتكم، وسكناتكم، وتصرفاتكم، إننا نراكم، إننا نشاهدكم.
* وفي رواية عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: لما همَّ يوسف عليه السلام رأى يعقوب أباه في طرف الدار، قد عضَّ على أصبعه ويقول: يا يوسف اتقِ الله. أوردها ابن جرير وابن كثير.
* وقال بعض أهل العلم من المفسرين أيضًا: لما همَّت به وهمَّ بها، قالت: انتظر، قال: ماذا؟ فقامت إلى صنم في طرف البيت، فسترته بجلباب على وجهه. صنم لا يتكلم، لا يسمع، ولا يبصر، لا يأكل، ولا يشرب، قال: ما لك؟ قالت: هذا إلهي، أستحي أن يراني!! فدمعت عيناه وقال: أتستحين من صنم لا يسمع ولا يبصر، ولا يملك ضرًّا ولا نفعًا، ولا موتًا ولا حياةً ولا نشورًا، ولا أستحي من الله الذي بيده مقاليد الأمور؟!
* والصحيح في ذلك ما قاله ابن تيمية - شيخ الإسلام - وغيره من أهل العلم؛ أن برهان ربه الذي رآه: واعظ الله في قلب كل مؤمن، تحرك واعظ الله، والحياء من الله، والخجل من الحي القيوم، في قلب يوسف عليه السلام، فارتد عن المعصية وعاد منيبًا إلى الله. {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} ][النازعات: 40-41]. تذكر الوقوف بين يدي الله يوم يحشر الناس حفاةً عراة.(/7)
فبرهان ربه؛ واعظ الله في قلبه يعظه بالتوحيد ويناديه بالتقوى.
فهل آن لشباب الإسلام أن يتحرك واعظ الله في قلوبهم؟ وهل آن للمسلمين أن يجعلوا من يوسف عليه السلام قدوة لهم؟ فيا من يطلع على عورات المسلمين، أليس لك في يوسف عليه السلام قدوة؟! ويا من يعامل ربه بالمعاصي، ويرتكب الجرائم، ويحرص على الزنا، أما رأيت يوسف، وقد خلا بامرأة جميلة ذات منصب، فتذكر واعظ الله في قلبه؟ ويا من يدعو إلى تبرج المرأة، وإلى الاختلاط، أرأيت ماذا تفعل الخلطة والتبرج؟!
يوسف نبي معصوم، كاد أن يزل، وأن يهلك، وأنت تنادي المرأة أن تتبرج، وتسفر عن وجهها، وتخالط الرجال، فأين الواعظ إذن؟ وأين التقوى إذن؟ وأين مراقبة الله؟
* يقول عليه الصلاة والسلام: ((ألا لا يخلونَّ رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان))[2] ويقول: ((النظرة سهم مسموم من سهام إبليس))[3].
ويقول عليه الصلاة والسلام: ((لا تتبع النظرة النظرة؛ فإن لك الأولى وليست لك الثانية))[4].
فيا شباب الإسلام، أما رأيتم ماذا فعل يوسف - عليه السلام؟
ثم قال الله له: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء} [يوسف: 24] لنعمر مستقبله باليقين، لنجعله من ورثة جنة رب العالمين، مع المؤمنين الخالدين الصالحين، {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف: 24]. وإذا أخلص العبد لله، حماه الله من الفتن، ووقاه المحن، وجنبه الشرور.
يقول سعيد بن المسيب – رحمه الله -: إن الناس في كنف الله، تحت كنفه وظلِّه، فإذا أراد أن يفضح أحدهم، رفع ستره سبحانه وتعالى عنه.
فيا شباب الإسلام، ويا معاشر المسلمين، انظروا إلى هذا التقي النقي الورع، انظروا إلى من راقب الله فأسعده الله، ونجَّاه الله، وحفظه الله.
يَا وَاهِبَ الآمَالِ أَنْ تَ حَفِظْتَنِي فَمَنَعْتَني
وعَدَا الظَّلُومُ عليَّ كَي يجتَاحَني فَمَنَعْتَني
فانْقَادَ لِي مُتَخَشِّعًا لمَّا رَآكَ نَصَرْتَنِي(/8)
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم، ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، رسول رب العالمين، وقدوة الناس أجمعين، وهداية السالكين، صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
ثم كان من أمر يوسف وامرأة العزيز أن قال الله تعالى: {وَاسُتَبَقَا الْبَابَ} [يوسف: 25]. هو يهرب من الفاحشة، وهي تلاحقه، ويا للفتنة، يهرب إلى الله، يفر إلى الحي القيوم، وهي تلاحقه {وَاسُتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ} [يوسف: 25]. شقت قميصه وهي تلاحقه، وتدعوه إلى نفسها، وهو يلتجئ إلى الله، ويصيح بأعلى صوته، وصوته يدوي في القصر: {مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} [يوسف: 23]. {مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} قال جمٌّ غفير من المفسرين {إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ}: أي إنه سيدي زوجك، أحسن استقبالي وضيافتي، فكيف يكون جزاء معروفه، ورد جميله أن أخونه في أهله.
وقال السُّدِّيّ: {إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} إنه إلهي الحيُّ القيوم، اجتباني ورباني وعلمني وحفظني وحماني وكفاني وآواني، فكيف أخون الله في أرضه؟ وكيف أعصي الله؟! وكيف أنتهك حرمات الله؟! فيا من أراد أن يفعل المحرمات، ويتعدى الحرمات، تذكر معروف الله عليك، وقل: {مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} [يوسف: 23] قل معاذ الله، لا أعصي الله؛ فإنه رباني ورزقني وكفاني وآواني: {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [يوسف: 23]، {وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} [يوسف: 25].(/9)
إن هذه القصة مذهلة، إنها مدهشة، كلها مفاجآت وقضايا، ولفتات ومباغتات، {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} [يوسف: 25] وإذا بسيدها، برجلها، بزوجها عند الباب، فتح الباب، فإذا بيوسف وامرأته واقفان عند الباب، في وضع مريب، وانظر إلى كيد النساء، وانظر إلى مكر المرأة، تسبق يوسف بالكلام، تضرب وتبكي، وتظلم وتشتكي، تقول: {مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [يوسف: 25] هذا أراد بي السوء وغلق عليَّ الأبواب، ودعاني لنفسه، فما هو جزاؤه عندك؟ لا بد أن يسجن، أو يعذب عذابًا أليمًا.
قال ابن عباس: يضرب بالسياط، فقال يوسف بلسان الصادق، الناصح، الأمين، التقي، الورع، الزاهد، العابد: {قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي}، وصدق والله {هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا} [يوسف: 26]. فمن هو هذا الشاهد يا ترى؟
قيل: رجل من أبناء عمومتها شهد عليها، وقيل: ابن خالها، وقيل: رجل من الخدام. وقيل الشاهد: طفل صغير، كان بالغرفة، لا يتكلم، فأنطقه الله الذي أنطق كل شيء.
أتَوا إلى الطفل في المهد، لا يتكلم ولا ينطق، فقال: صدق يوسف، وكذبت المرأة، هي التي همَّت به، هي التي راودته، هي التي دعته إلى نفسها. ولذلك في ((مسند أحمد))، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((تكلم أربعة صغار: عيسى ابن مريم عليه السلام، وصاحب جريج، وشاهد يوسف، وابن ماشطة ابنة فرعون))[5]؛ وهذا سندٌ جيدٌ.
فشهد هذا الشاهد، وعرض أمرًا يستطيعون به تعرفَ الصادق منهما.(/10)
قال: {إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ} [يوسف: 26]. وبدأ بتصديقها؛ لأنها ملكة؛ ولأنها صاحبة منصب؛ ولأن التهمة بعيدة عنها، {وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ} [يوسف: 27]. فلما عاينوا قميصه، واطَّلعوا عليه، رأوه قد قُدَّ من دبرٍ، فصدقوه، وأعلنوا براءته، واستخلصوه، ووفوه حقه من التبجيل والإكرام إلا في بعض الأمور التي سوف تأتي بإذن الله تعالى.
ثم قال الله – عز وجل -: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} [يوسف: 29]. لا تتكلم بذلك في المجالس، لا تتحدث به، لا تنشره.
وكثير من الناس يتبجح في المجالس بالمعصية، قال بعض المفسرين: إن العزيز هو القائل: {أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} [يوسف: 29] يعني لا تتحدث إلى الناس بهذه الواقعة.
ثم قال لامرأته: {وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ} [يوسف: 29] إنه انتصار ما بعده انتصار، انتصار على النفس الأمارة بالسوء، وهل النصر العجيب إلا أن ينصرك الله على نفسك!! وأن يعلي حظك، وألا يخيب ظنك، وأن يحفظك من الفتن، ومن المحن ومن المعاصي؛ {فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف: 64].
فيا مَنْ حفظ يوسف عليه السلام، احفظنا بحفظك، ويا من رعاه ارعنا برعايتك، يا رب العالمين، ويا من حرسه بعينه، احرسنا بعينك التي لا تنام. ويا من آواه إلى كنفه، آوِنا إلى كنفك الذي لا يضام، إنك على كل شيء قدير.
* عباد الله:
وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56].
* وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((من صلَّى عليَّ صلاة صلَّى الله عليه بها عشرًا))[6].(/11)
اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبيك وحبيبك محمد، واعرض صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة يا رب العالمين، وارض اللهم عن أصحابه الأطهار، من المهاجرين والأنصار، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
---
[1] أخرجه البخاري (8/171)، ومسلم (4/2102) رقم: (2675).
[2] أخرجه الترمذي (4/404) رقم: (2165)، وقال: حسن صحيح غريب.
وصححه الحاكم على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي.
[3] قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (8/66): رواه الطبراني، وفيه عبد الله بن عيد المقبري، وهو متروك.
[4] أخرجه أبو داود (2/246) رقم: (2149)، والترمذي (5/94) رقم: (2777) وقال: حسن صحيح غريب، وحسنه الألباني كما في ((صحيح الجامع)) رقم: (7953).
[5] أخرجه أحمد (1/310) موقوفًا. قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (1/70)، رواه أحمد والبزار والطبراني في ((الكبير)) و((الأوسط))، وفيه عطاء بن السائب وهو ثقة، ولكنه اختلط.
[6] أخرجه مسلم (1/288) رقم (384).(/12)