قال الحافظ أبو القاسم اللالكائي: وجدتُ في بعض كتب أبي حاتم محمد بن إدريس... مما سمع منه، يقول: "مذهبنا واختيارنا اتِّباع رسول الله - صلى الله عليه وسلم – وأصحابه، والتابعين، ومن بعدهم بإحسان، وترك النظر في موضع بدعهم، والتمسك بمذهب أهل الأثر، مثل: أبي عبدالله أحمد بن حنبل، وإسحاق بن إبراهيم ... ولزوم الكتاب والسنَّة، والذبُّ عن الأئمة المتِّبعة لآثار السلف، واختيار ما اختاره أهل السنة من الأئمة في الأمصار.. وترك رأي الملبِّسين المموِّهين المزخرفين، المخرِّفين الكذَّابين، وترك النظر في كتب الكرابيسي[5]، ومجانبة من يناضل عنه من أصحابه.
والقرآن كلام الله وعلمه، وأسماؤه وصفاته، وأمره ونهيه، ليس بمخلوق بجهة من الجهات، ومن زعم أنه مخلوق مجهول؛ فهو كافر بالله، كفراً ينقل عن الملة.
واختيارنا: أن الإيمان قولٌ وعملٌ، إقرارٌ باللسان، وتصديقٌ بالقلب، وعملٌ بالأركان.
والإيمان يزيد وينقص، ونؤمن بعذاب القبر، وبالحوض المكرَّم به النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ونؤمن بالمساءلة في القبر، وبالكرام الكاتبين، وبالشفاعة المخصوص بها النبيّ - صلى الله عليه وسلم.
والصواب: نعتقد ونزعم أن الله على عرشه بائنٌ من خلقه؛ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى: 11]، ولا نرى الخروج على الأئمة، ولا نقاتل في الفتنة، ونسمع ونطيع لمَنْ وَلَّى اللهُ - عزَّ وجلَّ – أمرَنا.
وفَّقنا الله - وكلَّ مؤمن - لما يحب ويرضى من القول والعمل". [25، ج-1، ق1، ص ص 198 - 204].
وفاته:
أغلب المصادر تذكر أنه مات - رحمه الله - في شعبان سنة سبع وسبعين ومئتين بالرّي، [6، ج-1، ص ص 367 - 368]. وقد عاش ثنتين وثمانين، وقيل ثلاث وثمانين سنة [10، ج-2، ص 77؛ 23، ج-12، ص 285؛ 26، ج-2، ص 569؛ 1، ج-13، ص262؛ 12، ج-2، ص211؛ 11، ج-2، ص 183؛ 27، ج-2، ص 371؛ 14، ج-9، ص30].(/17)
وقال ابن يونس: "مات بالرّي سنة خمس، وقيل سنة سبع وسبعين ومئتين" [28، ص 259]، لكن الذي في "تهذيب التهذيب" - بعد أن أرَّخ وفاته في سنة (277هـ) - قال ابن حجر: "وقال ابن يونس في تاريخه: مات بالرّي سنة (279هـ)". قال ابن حجر: "والأول أصحُّ" [14، ج-9، ص30].
وقال ابن الجَزَري – أيضاً -: توفي سنة خمس وسبعين ومئتين [29، ج-2، ص97].
ويبدو أن الراجح - والله أعلم - في وفاته هو ما قاله الأكثرون، وهو القول الأول، وهو الذي رجَّحه ابن حجر، ومما يرجِّحه - أيضاً - أن الخطيب البغدادي روى ذلك بالإسناد إلى قائله، وهو ابن المنادي وأحمد بن محمد بن صبيح [10، ج-2، ص77].
القسم الثاني: ملامح كلية من منهج الحافظ أبي حاتم الرازي في الجرح والتعديل
أولاً: تشدُّده في الجرح والتعديل
يعدُّ أبو حاتم من الأئمة المتشدِّدين في الجرح والتعديل؛ فقد قال الذهبي: "وقد جُعل النُّقادُ على ثلاثة أقسام:
قسم منهم متعنِّتٌ في الجرح، متثبِّت في التعديل، يغمز الراوي بالغلطتين والثلاث، ويلِّين بذلك حديثه ... وابن معين، وأبو حاتم والجَوْزَجَاني متعنِّتون" [2، ص ص 71-72].
وقال الذهبي – أيضاً -: "ومنهم مَنْ نَفَسه حادٌّ في الجرح ... فالحادُّ فيهم: يحيى بن سعيد، وابن معين، وأبو حاتم، وابن خِرَاش، وغيرهم" [30، ص 83].
وقال السَّخاوي في ترجمة عبدالرحمن بن خراش بأنه قوي النفس في الجرح [31، ص108].
وقال السخاوي أيضاً: "إن كل طبقة من نقاد الرجال لا تخلو من متشدِّد ومتوسِّط .. ومن الرابعة: أبو حاتم والبخاري، وأبو حاتم أشدهما" [31، ص144].
وقد أطلق أبو حاتم على كثير من الرواة لفظ: "يُكتب حديثُه، ولا يُحْتَجُّ به"، أو: "لا يُحْتَجُّ به"، وقد قال له ابنه عبدالرحمن: ما معنى "لا يحتج به"؟ فقال: "كانوا قوماً لا يحفظون، فيحدِّثون بما لا يحفظون، فيغلطون، ترى في أحاديثهم اضطراباً ما شئت" [6، ج-2، ص 133].(/18)
وقد فسَّر ابن تيمية هذا اللفظ: " يُكتب حديثُه، ولا يُحْتَجُّ به" عند أبي حاتم، فقال: "يعني أنه يصلح حديثه للاعتبار والاستشهاد به، فإذا عضَّده آخرٌ مثله جاز أن يُحتجَّ به، ولا يُحتجُّ به على انفراده" [32، ص577].
ولو أن أبا حاتم اقتصر في استعمال هذا اللفظ على مَنْ كان بهذه المرتبة - مرتبة الاعتبار أو الضعف اليسير - لكان وجيهاً، لكنه أطلق هذا اللفظ على بعض الرواة الثقات، وقد يكونون من رواة "الصحيحين" أو أحدهما، مما جعل بعض العلماء يتعقَّبونه ويسمُّونه بالتشدُّد.
فهذا الذهبي يقول عنه: "إذا ليَّن رجلاً، أو قال فيه: لا يُحتجُّ به؛ فتوقف حتى ترى ما قال غيره فيه، فإن وثَّقه أحدٌ، فلا تبنِ على تجريح أبي حاتم؛ فإنه متعنِّتٌ في الرجال، قد قال في طائفة من رجال "الصحاح": ليس بحجَّة، ليس بقويٍّ، أو نحو ذلك" [1، ج-13، ص260].
وقال الذهبي - أيضاً - في ترجمة محمد بن عجلان: "وثَّقه أبو حاتم الرازي مع تعنُّته في نقد الرجال" [1، ج-6، ص 320].
وقال ابن تيمية: "وأما قول أبي حاتم في أبي صالح باذام: "يُكتب حديثه ولا يُحتجُّ به"؛ فأبو حاتم يقول مثل هذا في كثير من رجال "الصحيحين"، وذلك أنَّ شرطه في التعديل صعبٌ و"الحجة" في اصطلاحه ليس هو "الحجة" في اصطلاح جمهور أهل العلم" [33، ج-24، ص350].
وقال ابن عبدالهادي - فيما نقله عنه الزَّيْلَعِيُّ -: "قول أبي حاتم: "لا يحتجُّ به" غير قادح؛ فإنه لم يذكر السبب، وقد تكررت هذه اللفظة منه في رجال كثيرين من أصحاب "الصحيح" الثقات الأثبات، من غير بيان السبب؛ كخالد الحذَّاء وغيره" [34، ج-2، ص 439].
وقال الذهبي: "يعجبني كثيراً كلام أبي زُرْعَة في الجرح والتعديل، يبين عليه الورع والمخبرة، بخلاف رفيقه أبي حاتم؛ فإنَّه جرَّاح" [1، ج-13، ص7].(/19)
ومما تجدر الإشارة إليه هنا: أن وصف الحافظ أبي حاتم بالتشدُّد والعَنَت إنما هو أغلبي، وإلا فقد يكون حكمه موافقاً لحكم غيره من المعتدلين؛ بل قد يعدِّل رجلاً ويجرحه غيره، وقد يتوقف في الرواي أحياناً، وما هذا إلا دليلٌ على ورعه وتقواه - والله أعلم - وسيأتي أمثلةٌ على هذا في ثنايا البحث - إن شاء الله تعالى.
ثانيا: كثيرة أقواله في الرواة مع تنوعها وندرتها
فقد خلف ثروة من المصطلحات النقدية، وفي بعض ذلك ما هو من المصطلحات النادرة الاستعمال، والتي تحتاج إلى بيان معانيها ومعرفة دلالتها عنده، وسأقتصر هنا على ذكر بعض النماذج من ألفاظه، مع التمثيل لكلٍّ منها - ما أمكن - فمن ألفاظه – مثلاً -:
1- (مضطرب الحديث): وهي من ألفاظ الجرح القريب المحتمل عنده، في مرتبة الاعتبار، ومن أمثلته عنده:
- قال ابنه عبدالرحمن: سألت أبي عن بكَّار بن محمد السيريني، فدفعه وقال: لا يسكن القلب عليه، مضطرب [6، ج-2، ص410].
- وسأله عن بشار بن قيراط النيسابوري، فقال: مضطرب الحديث، يُكتب حديثه ولا يحتجُّ به [6، ج-2، ص ص 417 - 418].
- وقال في خارجة بن مصعب الخراساني: مضطرب الحديث، ليس بقوي، يُكتب حديثه ولا يحتج به، مثل مسلم بن خالد الزنجي، لم يكن محله محل الكذب [6، ج-3، ص ص 375 – 376].
2- (حلو)، أو (أحلى): ومن أمثلة استعمالاته عنده:
- زيد بن عوف أبو ربيعة القطعي قال فيه: ما رأيت بالبصرة أَكْيَس ولا أَحْلَى من أبي ربيعة. سُئل عنه – أيضاً - فقال: تعرف وتُنْكِر!! .. وحرَّك يده. [6، ج-3، ص 570].
- سليمان بن أحمد الدمشقي قال: كتبت عنه قديماً وكان حلواً... [6، ج-4، ص101].
شعيب بن الليث بن سعد قال: شعيب أحلى حديثاً - يعني من عبدالله بن الحكم [6، ج-4، ص 351].
- وانظر - أيضاً -: قيس بن الربيع الكوفي [6، ج-7، ص 98].
- وقيس بن عقبة السُّوائي [6، ج-7، ص 126].
- وقطبة بن عبدالعزيز الحمَّاني [6، ج-7، ص141].(/20)
قلتُ: وواضحٌ أن هذا اللفظ يستخدمه عند الموازنة بين شخصين للمفاضلة، أو يُسأل عن رجل مقروناً بآخر، فيقول: هو أحلى، ويعني به: أفضل أو أحسن،، والله أعلم.
3- لفظُ (في حديثه صنعة)، واستعمله في بعض التراجم منها:
- درَّاج بن سمعان أبو السَّمْح [6، ج-3، 441].
- رَوْح بن عبدالواحد الحرَّاني [6، ج-3، ص499].
- سعد بن طالب أبو غَيْلان الشَّيباني [6، ج-4، ص 88].
- عائذ بن شُرَيْح الحضرمي [6، ج-7، ص16].
- يزيد بن أبان الرقَّاشي [6، ج-9، ص ص 251 - 252].
ويعني بهذا اللفظ: أنه يتصرَّف في الأحاديث، ولا يأتي بها على الوجه، كما فسره المعلِّمي اليماني في تعليقه على ترجمة رَوْح بن عبد الواحد الحرَّاني المتقدِّم ذكره[6].
4- (على يَدَي عدل)، واستعمله في بعض التراجم، منها:
- جُبَارة بن المغلِّس [6، ج-2، ص 550].
- عمر بن حفص، أبو حفص العبدي [6، ج-6، ص 103].
- محمد بن خالد بن عبدالله الواسطي [6، ج-7، ص 243].
- يعقوب بن محمد بن عيسى الزهري [6، ج-9، ص 215].
وهو يعني بهذا اللفظ: "هالكٌ"، شديد الضعف.
5- (يؤدِّي)، أو (كان مؤدِّياً):
فسرها أبو محمد عبدالرحمن بن أبي حاتم قال: يعني أنه كان لا يحفظ، ولكن يؤدي ما سمع، ومن خلال التطبيقات تعني أنه صدوق، أو دون ثقة، ومن أمثلته عنده:
- سعد بن سعيد بن قيس الأنصاري [6، ج-4، ص84].
- محمد بن جعفر غندر البصري [6، ج-7، ص ص 221-223]، فال أبو حاتم: كان صدوقاً، وكان مؤدِّياً، وفي حديث شعبة ثقة.
6- يفتعل الحديث: يعني به يكذب في الحديث، واستعمله في رواه عديدين منهم:
- سهل بن عامر البجلي [6، ج-4، ص202].
- عبدالله بن عمر الرافعي [6، ج-5، ص 110].
- النَّضْر بن سلمة شَاذَان المروزي [6، ج-8، ص 480].
7- ليس بمشهور: يريد أنه لم يعرف بكبير رواية، ولم يرو عنه جماعة؛ بحيث تحصل له الشهرة، ولذا فهو غالباً يذكر في ترجمة مَنْ يقول فيه هذا اللفظ: له حديث أو حديثان. ونحوه. ومن أمثلة هؤلاء:(/21)
- جلاس بن عمرو [6، ج-2، ص546].
- حاجب، روى عن أبي الشعثاء [6، ج-3، ص 284].
- عبدالسلام بن صالح بن كثير [6، ج-6، ص 48].
- سعيد بن محمد الزهري [6، ج-4، ص 58].
8- مقارَب أو مقارِب الحديث: بفتح الراء أو بكسرها، وهما بمعنى واحد تقريباً، وهو لفظ تعديل، وهو وسط، يعني أنه يقارب أحاديث الثقات، أو أحاديث الثقات تقارب أحاديثه، واستعمله في عدد من الرواة منهم:
- عثمان بن أبي العاتكة أبو حفص الدمشقي [6، ج-2، ص 163].
- سليمان بن بلال أبو أيوب [6، ج-4، ص 103].
- عثمان بن أبي العاتكة [6، ج-6، ص 163].
9- تَعرف وتُنكر: وهو جرحٌ قريبٌ محتملٌ، يعني: تعرف بعض حديثه وتنكر بعضاً، وقد استعمله في بعض الرواة منهم:
- الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب [6، ج-3، ص53].
- عبدالله بن سلمة الهمداني [6، ج-5، ص ص 73-74].
- عبدالله بن نافع الصائغ [6، ج-5، ص 184].
وجاء في عبارته عند هذا الأخير ما يساعد على تفسير هذا اللفظ، فقال أبو حاتم: "ليس بالحافظ، هو ليِّنٌ، تعرف حفظه وتُنكر، وكتابه أصحُّ".
10- مستقيم الحديث: وهو عنده بمنزلةٍ (لا بأس به)، وقد قرنه - أحياناً - به، وأحياناً ب-(ثقة)، وقد استعمله في رواة منهم:
- زهرة بن معبد أبو عقيل [6، ج-3، ص 615].
- يحيى بن زكريا بن أبي زائدة أبو سعيد [6، ج-9، ص ص144 - 145].
ومثله أو أقوى منه لفظ.
مستقيم الأمر: واستعمله في رواة منهم:
- عبدالله بن نُمَيْر الهَمْداني [6، ج-5، ص 186].
- عثمان بن عبيد الرَّاسبي [6، ج-6، ص 158].
11- مستوي الحديث: وهو قريبٌ من مستقيم الحديث عنده، ومن أمثلته:
- سليمان بن عامر المروزي [6، ج-4، ص 133].
- عبدالعزيز بن المختار [6، ج-5، ص ص393- 394].
- عمران بن وهب الطائي [6، ج-6، ص 306].(/22)
12- مستور أو محله الستر ونحوهما: ومن قال فيه مثل هذا لا يكون بمنزلة من يُحتج بحديثه عنده؛ فهو لا ينفكُّ عن ضعفٍ، ولكن يُكتب حديثه، وممن قال فيهم مثل هذا:
- عبدالحكم بن ذاكون السدوسي [6، ج-6، ص 36].
- مُحِلّ بن مُحْرز الكوفي الضبِّي [6، ج-8، ص ص 413-414].
- يزيد بن كيسان اليشكري [6، ج-9، ص 285].
13- يذاكر بحديثه: يعني به - والله أعلم - أنه يشتغل به، ويتدارس به، ولا يبعد أن يكون حديثه مما يحتجُّ به عنده؛ ولذا قال أبو حاتم: "اكتبْ أحسن ما يُسمع، واحفظْ أحسن ما يُكتب، وذاكِرْ بأحسن ما يُحفظ" [27، ج-2، ص 371]. ومن أمثلة هذا اللفظ عنده:
- طارق بن عبدالعزيز بن طارق [6، ج-4، ص 488].
- عمرو بن شعيب بن محمد [6، ج-6، ص ص 238-239].
- يوسف بن مهران [6، ج-9، ص 229].
14- سكتوا عنه: وهو يعني به الترك، أو الجرح الشديد، ولعله أخذ هذا اللفظ، ولفظ (فيه نظرٌ) عن البخاري، وهو يعني بهما ما يعني بهما البخاري[7]، ومن أمثلته عنده:
- إبراهيم بن عثمان بن عبدالله أبو شيبة العبْسي [6، ج-2، ص 115].
- محمد بن شجاع بن نبهان [6، ج-7، ص 286].
15- فيه نظر: وهو - أيضاً - يطلقه ويريد به الجرح الشديد، وكأنه يتَّهم الراوي، أو يرميه بعدم الصدق، ومن أمثلته عنده:
- سعيد بن سليمان بن خالد [6، ج-4، ص 26].
- سعيد بن عَنْبَسَة أبو عثمان الخزَّاز [6، ج-4، ص 52].
- يحيى بن أَكْثَم التميمي. قال عبدالرحمن لأبيه: ما تقول فيه؟ قال: "فيه نظرٌ"، ثم قال له: فما ترى فيه؟ قال أبو حاتم: "نسأل الله السلامة" [6، ج-9، ص 129].(/23)
16- شيخ: وهذا اللفظ وإن كان من ألفاظ التعديل عند علماء النقد، إلا أنه من أدناها، وهو مُشْعرٌ إجمالاً بالضعف، ولكنه - أيضاً - من الألفاظ العامة، متسع المعنى، فقد يُطلق على حالات متعددة، ولم يطَّرد في معنى واحد معيَّن، وقد استعمله أبو حاتم كثيراً جدّاً، في مئات التراجم، سواء أكان مفرداً أو مقروناً بألفاظ أخرى، وقد حاول بعض العلماء تفسير معنى هذا اللفظ عند أبي حاتم؛ فقال الذهبي - في ترجمة العباس بن الفضل العدني -: "سمع منه أبو حاتم، وقال: شيخٌ".
فقوله: "هو شيخٌ" ليس هو عبارة جرح؛ ولهذا لم أذكر في كتابنا أحداً ممن قال فيه ذلك، ولكنها - أيضاً - ليست عبارة توثيق، وبالاستقراء؛ يلوح لك أنه ليس بحجَّة، ومن ذلك قوله: "يُكتب حديثه"؛ أي: ليس بحجَّة [35، ج-2، ص 385].
وقد فسَّر ابن القطان لفظ (شيخ) عند أبي حاتم؛ إذ قال: "وسئل عنه الرازيَّان – يعني: طالب بن حُجَيْر - فقالا: شيخٌ". قال ابن القطان: "يعنيان بذلك أنه ليس من طلبة العلم ومقتنيه، وإنما هو رجلٌ اتَّفقت له رواية الحديث، أو أحاديث أُخذت عنه" [36، ج-3، ص 482].
وقال ابن رجب: "إن الشيوخ - في اصطلاح أهل العلم - عبارة عمَّن دون الأئمة الحفَّاظ، وقد يكون فيهم الثقة وغيره "[37، ج-1، ص 461؛ 38، ص139].
وإليك بعض تراجم الذين حكم عليهم أبو حاتم بهذا اللفظ، ومنها يظهر اتساع معنى هذا اللفظ إلى حدٍّ ما عنده، والله أعلم:
- شبيب بن بشر البَجَلي، قال: "هو ليِّن الحديث، حديثه حديث الشيوخ" [6، ج-4، ص357].
- صالح بن حيَّان القرشي: "ليس بالقوي، هو شيخ" [6، ج-4، ص398].
- عبدالعزيز بن محمد الدراوردي، سئل أبو حاتم عنه وعن يوسف بن الماجشون؛ فقال: "عبدالعزيز محدِّث، ويوسف شيخٌ" [6، ج-5، ص 396].
فقد فرَّق أبو حاتم هنا بين شيخ ومحدِّث.(/24)
- عمر بن رديح، سئل عنه فقال: "شيخٌ"، فقيل له: قال يحيى بن معين هو صالح الحديث؟ فقال أبو حاتم: "بل هو ضعيف الحديث" [6، ج-6، ص ص108 - 109].
- محمد بن عمرو بن علقمة، قال: "صالح الحديث، يُكتب حديثه، وهو شيخٌ" [6، ج-8، ص ص30-31].
- يحيى بن مسلم البكَّاء. قال عبدالرحمن بن أبي حاتم: سألتُ أبي، قلت: يحيى البكاء أحبُّ إليك أو أبو جناب؟ قال: "لا هذا ولا هذا"! قلتُ: إذا لم يكن في الباب غيرهما، أيهما أكتب؟ قال: "لا تكتبْ منه شيئاً". قلت: ما قولك فيه؟ قال: "هو شيخٌ" [6، ج-9، ص ص186 - 187].
ومن الجدير بالذكر أنه قال في ترجمة أبي جناب يحيى بن أبي حية فيما ذكره عنه ابنه: ليس بالقوى [6، ج-9، ص ص 138 - 139].
وظاهر كلام أبي حاتم في أبي جناب، ويحيى البكَّاء هنا أنه لا يكتب حديثهما، وهذا جرحٌ شديدٌ عنده، في حين أنه يقول: "يُكتب حديث من هو دونهما بكثير"، ولعل المراد هنا: الكتابة مع قصد الاحتجاج، أو: في موطن الاحتجاج، والله أعلم.
- سليمان بن زياد الحضرمي، سأله ابنه عبدالرحمن عنه؛ فقال: "صحيح الحديث"، فقال له: ما حاله؟ قال: "شيخٌ" [6، ج-4، ص ص 117- 118].
- وقال أبو حاتم في ترجمة ناجية بن كعب العنزي: "شيخٌ" [6، ج-8، ص 486].
- وسأله ابنه عن ناجية بن المغيرة؛ فقال: "ثقةٌ"، ثم قال له ابنه: أيهما أوثق: ناجية بن كعب، أو ناجية بن المغيرة؟ فقال: "جميعاً ثقات" [6، ج-8، ص 487].
فهو هنا حكم على الراوي مرَّة بأنه (شيخٌ)، وفي أخرى بأنه (ثقةٌ).
17- المجهول: لقد وصف أبو حاتم آلاف التراجم بالجهالة، وعبَّر عن الجهالة بألفاظ عديدة مترادفة، منها: (مجهول)، وهو أكثرها شيوعاً عنده، ومنها:
- لا أعرفه:
كما في ترجمة كلٍّ من:
- رافد، روى عن عكرمة [6، ج-3، ص 523].
- نصر بن نجيح الأشعري [6، ج-8، ص 465].
- محمد بن ثابت بن عمرو [6، ج-7، ص 216].
- لا أفهمه، أو: لا نفهمه:
كما في ترجمة كلٍّ من:(/25)
- سليمان بن داود بن قيس الفرَّاء [6، ج-4، ص 111].
- محمد بن ثابت، روى عن أبي هريرة [6، ج-7، ص216].
- محمد بن عروة بن رويم [6، ج-8، ص 47].
- لا أخبره، أو: لا أخبر أمره:
ومثاله كما في ترجمة عبدالله بن عمرو بن أبي أمية [6، ج-5، ص120].
- لا معنى له:
وقد استعمله مع لفظ (مجهول)، ومثاله في ترجمة كلٍّ من:
- سعيد بن عَنْبَسَة [6، ج-4، ص52].
- حُمَيْد الأوزاعي [6، ج-3، ص 232].
- لا يُعرف:
ومن أمثلته - عنده - ما جاء في ترجمة كلٍّ من:
- أوفى بن دَلْهَم؛ إذ قال أبو حاتم فيه: "لا يُعرف، ولا أدري مَنْ هو" [6، ج-2، ص 349].
- نوح بن المختار [6، ج-8، ص483] [8].
18- صالح الحديث: وقد استعمله أبو حاتم كثيراً، وهذا اللفظ - وإن كان من أدنى ألفاظ التعديل عنده - إلا أنه استعمله استعمالات متباينة، وهو من الألفاظ المتسعة عنده أيضاً، يظهر ذلك من خلال وصفه رواة متفاوتي المراتب بهذا الوصف.
فهو عنده - أحياناً - تعديل قوي:
- فقد قال في جَبَلَة بن سُحَيْم التميمي: صالح الحديث، وقال مرة: هو ثقة [6، ج-2، ص ص 508 - 509].
- وقال في ذكوان أبي صالح السمَّان - المتَّفق على توثيقه -: "صالح الحديث، يُحتجُّ بحديثه" [6، ج-3، ص ص 450-451].
ويطلق هذا اللفظ على الرواي المتوسِّط:
- فقد قال في عبيدالله بن أبي زياد القدَّاح: "ليس بالقوى ولا بالمتين، وهو صالح الحديث، يُكتب حديثه" [6، ج-5، ص ص315 - 316].
- وقد سأله ابنه عبدالرحمن عن هُشَيْم بن أبي ساسان؛ فقال: "صالح الحديث". قال عبدالرحمن: قلتُ: لا بأس به؟ قال: "لا أقول هذا، ولكن هو صالح الحديث" [6، ج-9، ص116].
وهذا واضح في أن (صالح) هنا - عنده - أدنى من (لا بأس به).
وقد يُستعمل هذا اللفظ فيمن لا يحتج بحديثه؛ فيقول: "صالح الحديث، يُكتب حديثه، ولا يحتج به"، وممَّن وصفهم به:
- باذام أبو صالح [6، ج-2، ص ص 431 - 432].
- علي بن حفص المدائني [6، ج-6، ص 182].(/26)
وقد أشار الذهبي إلى ما يفيده هذا اللفظ - (صالح الحديث) - عند أبي حاتم، فقال: "قال أبو حاتم: صالح الحديث". قال الذهبي: "وهذه العبارة تدلُّ على أن غيره من رفقائه أثبت منه" [39، ص39].
وقال الذهبي في ترجمة ثابت بن عجلان: "وأما من وثق [و] مثل أحمد الإمام يتوقف فيه، ومثل أبي حاتم يقول: صالح الحديث، فلا نرقِّيه إلى رتبة الثقة، فتفرُّد هذا يعدُّ منكراً" [35، ج-1، ص ص364-365].
قلتُ: وهذا الذي أشار إليه الذهبي من معنى (صالح الحديث) عند أبي حاتم، لعله يكون غالباً، والله أعلم.
19- لا يكتب حديثه إلا زحفاً، أو: يكتب حديثه زحفاً، ونحوه: وهذا اللفظ من ألفاظ التجريح، وقد فسِّر المعلِّمي اليماني مرادَ أبي حاتم بهذا اللفظ؛ فقال: "يعني مَنْ أراد أن يتكلَّف الكتابة عنه فلا بأس، كالذي يمشي زحفاً"! [6، ج-3، ص 216].
واستعمل أبو حاتم هذا اللفظ في عدد من الرواة، منهم:
- عبدالحكم بن عبدالله القَسْمَلِيّ. قال ابن أبي حاتم: سمعت أبي يقول: "منكر الحديث، ضعيف الحديث". قلتُ: يُكتب حديثه؟ قال: "زحفاً" [6، ج-6، ص ص35-36].
- عبدالخالق بن زيد بن واقد. قال ابن أبي حاتم: سألت أبي عنه فقال: "ليس بقوي، منكر الحديث"، قلتُ: "يُكتب حديثه؟" قال: "زحفاً" [6، ج-6، ص 37].
- داود بن عطاء المُزَنِيّ. قال أبو حاتم: "ليس بالقوي، ضعيف الحديث، منكر الحديث". فسأله ابنه عبدالرحمن: يُكتب حديثه؟ فقال: "مَنْ شاء كتب حديثه زحفاً" [6،ج-3، ص 421].
20- لم يكن من أحلاس الحديث: أي لم يكن من المشتغلين بالحديث، الملازمين لأهله؛ فقد قال ابن حجر: "هم أحلاس الخيل: أي الذين يلزمون ركوبها، وحلس بكذا، أي: لزمه" [40، ص 95].
وممَّن قال فيهم أبو حاتم هذا اللفظ:(/27)
- محمد بن يزيد بن سنان الرَّهاوي. قال عبدالرحمن: سألتُ أبي عنه؛ فقال: "ليس بالمتين، هو أشدُّ غفلةً من أبيه، مع أنه كان رجلاً صالحاً، لم يكن من أحلاس الحديث، صدوقٌ، وكان يرجع إلى ستر وصلاح، وكان النُّفَيْلِيُّ يرضاه" [6، ج-8، ص ص 127-128؛ 41، ج-2، ص 54].
21- ليس بالمتين: وهو عنده أقل ضعفاً من (ليس بقوي)، والله أعلم، ومن الرواة الذين أطلق عليهم هذا اللفظ:
- بُرَيْد بن عبدالله بن أبي بُرْدَة، قال عندما سئل عنه: "مَنْ دونه يُكتب حديثه، وليس عندي بالمتين" [6، ج-2، ص 426].
- عبدالله بن عيَّاش بن عبدالله القَتَبَاني، قال أبو حاتم: "ليس بالمتين، صدوقٌ، يُكتب حديثه، وهو قريبٌ من ابن لهيعة" [6، ج-5، ص126].
22- ليس بشيء: وهو يريد به الضعف الشديد، فهو بمعنى لفظ (متروك)، أو (متَّهم)، وذلك من خلال استقراء التراجم التي قال في أصحابها هذا اللفظ، والوقوف على أقوال الآخرين فيهم، وممَّن قال فيهم هذا اللفظ:
- سليمان بن داود الشاذكوني، قال أبو حاتم: "ليس بشيء، متروك الحديث"، وترك حديثه، ولم يحدث عنه – يعني: أبا حاتم - [6، ج-4، ص115].
- نوح بن ذكوان. قال أبو حاتم: "ليس بشيءٍ، مجهول" [6، ج-8، ص485].
- النَّهَّاس بن قَهْم أبو الخطاب. قال أبو حاتم: "ليس بشيءٍ" [6، ج-8، ص 511].
- يعلى بن الأشدق العقيلي. قال أبو حاتم: "ليس بشيءٍ، ضعيف الحديث" [6، ج-9، ص303][9].
ثالثا: استعمال الحركات في الحكم على الرواة
لا يقتصر أبو حاتم على إصدار الحكم على الراوي بالنطق صراحةً؛ بل ربما استعمل بعض الحركات للدلالة على الحكم على الراوي، ومن هذه الحركات: تحريك اليد، أو تحريك الرأس، أو تقطيب الوجه، ومن أمثلة تحريك اليد:
- الحسين بن زيد بن علي بن الحسين، قال ابنه عبدالرحمن: قلتُ لأبي: ما تقولُ فيه؟ فحرَّك يده وقلبها – يعني: تَعرف وتُنكر. [6، ج-3، ص 53].(/28)
- زيد بن عوف، ولقبه: فهد بن عوف أبو ربيعة. قيل لأبي حاتم: ما تقولُ فيه؟ فقال: "تَعرف وتُنكر"، وحرَّك يده [6، ج-3، ص 570].
فاتَّضح من هذا: أن تحريك اليد وتقليبها عنده يعني: (تَعرف وتُنكر).
ومن أمثلة تحريك الرأس:
- ناصح بن العلاء أبو العلاء، مولى بني هاشم، سئل عنه أبو حاتم، فقال: "شيخٌ بصريٌّ"، وحرَّك رأسه، وهو منكر الحديث [6، ج-8، ص 503].
ومثال تقطيب الوجه:
- مصعب بن سعيد أبو خيثمة الضرير. سئل عنه أبو حاتم، فقطَّب وجهه، وقال: "عبدالله بن جعفر الرَّقِّي أحبُّ إليَّ منه، وكان صدوقاً" [6، ج-8، ص309].
رابعاً: اعتداده براوية الإمام عن الراوي غير المشهور
لقد اعتبر أبو حاتم رواية الإمام عن الراوي غير المشهور، مما يقوي حديث هذا الراوي عنده، فقد سأله ابنه عبدالرحمن عن رواية الثقات عن رجل غير ثقة؛ مما يقويه؟ فقال: "إذا كان معروفاً بالضعف لم تقوِّه روايته عنه، وإن كان مجهولاً نفعه رواية الثقة عنه".
وسأل عبدالرحمن صديق أبيه أبا زرعة الرازي عن رواية الثقات عن الرجل، مما يقوي حديثه؛ فقال: "إي لعمري" [37، ج-1، ص 381].
ومن أمثلة هذا عند أبي حاتم:
- الحارث بن حصيرة الأزدي. قال أبو حاتم: "لولا أن الثوري روى عن الحارث بن حصيرة؛ لتُركَ حديثه" [6، ج-3، ص ص72-73].
- داود بن الحصين مولى عمرو بن عثمان بن عفان. قال أبو حاتم: "ليس بقوي، ولولا أن مالكاً روى عنه؛ لتُركَ حديثه"؛ وفي نسخة من "الجرح": "لتركتُ حديثه". [6، ج-3، ص ص408-409].
- محمد بن أبي رَزِين. سئل عنه أبو حاتم فقال: "شيخٌ بصريٌّ، لا أعرفه، لا أعلم روى عنه غير سليمان بن حرب، وكان سليمان قلَّ مَنْ يرضى من المشايخ، فإذا رأيته قد روى عن شيخ، فاعلم: أنه ثقةٌ" [6، ج-7، ص255].(/29)
- مُشَاش أبو ساسان الخُرَاسَاني. ذكر أبو حاتم أن شعبة روى عنه، قال ابن أبي حاتم: سألتُ أبي عنه؛ فقال: "إذا رأيتَ شعبةُ يحدِّث عن رجل، فاعلم: أنه ثقة، إلا نفراً بأعيانهم". قلتُ: فما تقولُ أنت فيه؟ قال: "صدوقٌ، صالح الحديث" [6، ج-8، ص424].
- نجيح أبو مَعْشَر السندي. قال ابن أبي حاتم: سألتُ أبي عن أبي مَعْشَر؛ فقال: "ليس بقويٍّ في الحديث .. كنت أهابُ حديث أبي مَعْشَر، حتى رأيتُ أحمدَ بن حنبل يحدِّثُ عن رجلٍ، عنه، أحاديثَ، فتوسعت بعدُ في كتابة حديثه" [6، ج-8، ص ص493 - 495].
خامساً: التنبيه على البدعة
غالباً ما يذكر أبو حاتم الرواة الذين لهم رأي معين أو بدعة ما، وقد يذكر ما إذا كانت هذه البدعة مؤثِّرة أو غير مؤثِّرة، فيقول رأيه في ذلك صراحةً، وأحياناً يكتفي بالإشارة إلى البدعة مجرد الإشارة، ومن أمثلة ذلك:
- إسماعيل بن إبراهيم بن هود، قال أبو حاتم: "كان جهميّاً؛ فلا أحدِّث عنه". وقال – أيضاً -: "كان يقفُ في القرآن؛ فلا أحدِّث عنه" [6، ج-2، ص ص 157 - 158].
- إبراهيم بن خالد، أبو ثور الكلبي. قال أبو حاتم: "رجلٌ يتكلَّم بالرأي، يخطئ ويصيب، وليس محله محل المتَّسعين في الحديث، قد كتبتُ عنه" [6، ج-2، ص ص 97-98].
- علي بن أبي هاشم الليثي. قال ابن أبي حاتم: سمعتُ أبي يقول: "ما عَلِمْته إلا صدوقاً، وقف في القرآن، فترك الناس حديثه"، ولم يقرأ عليَّ أبي حديثه. فقال: "وقف في القرآن، فوقفنا عن الرواية عنه، فاضربوا على حديثه" [6، ج-2، ص ص194-195].
- مَعْبَد الجُهَنِيّ البصري. قال أبو حاتم: "كان صدوقاً في الحديث، وكان رأساً في القدر، قدم المدينة فأفسد بها ناساً" [6، ج-8، ص 280].
سادساً: الحكم على الراوي من خلال سبر أحاديثه واستقرائها:
كثيراً ما يحكم أبو حاتم الرازي على الرواة بعد تتبُّع أحاديثهم واستقرائها، ثم الحكم عليهم من خلال هذه الأحاديث، وقد لا يكتفي بقول الآخرين حتى يجرِّب بنفسه.(/30)
- فقد قال أبو حاتم في يوسف بن خالد السمتي - وقد قال فيه يحيى بن معين: "كذَّاب، زنديقٌ، لا يُكتب حديثه " - قال أبو حاتم: "أنكرتُ قول يحيى بن معين إنه زنديق، حتى حمل إليَّ كتابٌ قد وضعه في التجهم بابا باباً، ينكر الميزان في القيامة، فعلمت أن يحيى بن معين كان لا يتكلم إلا على بصيرة وفَهْم" [6، ج-9، ص ص 221-222].
ومن أمثلة ذلك – أيضاً -:
- أيوب بن سليمان بن أبي حجر، قال أبو حاتم: "لا أعرفه، هذه الأحاديث التي رواها صحاح" [6، ج-2، ص249].
- عيسى بن أبي عمران أبو عمرو البزَّار. قال ابن أبي حاتم: كتبتُ عنه بالرملة، فنظر أبي في حديثه؛ فقال: "يدل حديثه أنه غير صدوق فتركت الرواية عنه [6، ج-6، ص384].
- محمد بن عبدالله المقرئ المعروف بداهر، قال عبدالرحمن بن أبي حاتم: سألت أبي عن أحاديث رواها داهراً وعرضت عليه تلك الأحاديث، فقال: ليس تدل هذه الأحاديث على صدقه [6، ج-7، ص ص 310-311].
سابعاً: الموازنة بين الرواة والحكم على الراوي من خلال المفاضلة بينه وبين غيره
يحكم أبو حاتم على الراوي - أحياناً - باستعمال الموازنة والمفاضلة بينه وبين بعض أقرانه، كأن يقول مثلاً: هو أحبُّ إليَّ من فلان، أو: هو أحلى من فلان، أو: أَسْتَر من فلان، أو: ما أقربه من فلان، أو: قريبٌ من فلان، أو: أحسن من فلان، أو: أوثق من فلان، أو: أضعف من فلان، أو: شبه فلان، أو: نحو فلان، أو: مثل فلان، أو: نظير فلان، أو: بابة فلان، أو: محلُّه محلُّ فلان ... ونحوها.
وقد استخدم هذا الأسلوب في رواة كثيرين، من غير أن يُسأل عن الراوي مقروناً بغيره؛ بل هو الذي يبدأ الموازنة والمفاضلة من غير أن يكون السؤال مقتضياً لذلك.
ومن أمثلة هذا:(/31)
- رِشْدِين بن سعد أبو الحجَّاج. قال أبو حاتم: "رِشْدِين بن سعد منكر الحديث، وفيه غفلة، ويحدِّث بالمناكير عن الثقات، ضعيف الحديث، ما أقربه من داود بن المحبِّر، وابن لهيعة أَسْتَر، ورِشْدِين أَضْعَف" [6، ج-3، ص 513].
- عبَّاد بن كثير الرَّملي الفلسطيني. قال أبو حاتم: "ظننتُ أنَّه أحسن حالاً من عبَّاد بن كثير البصري؛ فإذا هو قريبٌ منه، ضعيف الحديث" [6، ج-6، ص85].
- صقر بن عبدالرحمن بن مالك بن مِغْوَل. قال عبدالرحمن: سألتُ أبي عنه، فقلتُ: ما حاله؟ فقال: "هو أحسن حالاً من أبيه" [6، ج-4، ص 452].
- سفيان بن حسين السلمي المعلم. قال أبو حاتم: "صالح الحديث، يُكتب حديثه، ولا يحتجُّ به، هو نحو محمد بن إسحاق، وهو أحب إليَّ من سليمان بن كثير" [6، ج-4، ص ص 227-228].
- أحمد بن عبدالملك بن واقد الحرَّاني. قال أبو حاتم: "كان نظير النُّفَيْلِي - يعني: في الصدق والإتقان". [6، ج-2، ص ص 61-62].
- محمد بن جُحَادة الأَوْدي. قال أبو حاتم: "ثقةٌ صدوقٌ، محلُّه محلُّ عمرو بن قيس المُلائي وأبي خالد الدَّالاني، وزيد بن أبي أُنَيْسَة" [6، ج-7، ص222].
- سعد بن عمران بن هند بن سعد. قال أبو حاتم: "هو شيخٌ مثل الواقدي في لين الحديث وكثرة عجائبه" [6، ج-4، ص ص 91-92].
- عمرو بن عمرو بن عبد الأحموسي. قال أبو حاتم: "لا بأس به، صالح الحديث، هو من ثقات الحِمْصِيِّين، بابة عتبة بن أبي حكيم وهشام بن الغاز" [6، ج-6، ص ص127-128].
- محمد بن إسماعيل بن رجاء الزبيدي. قال أبو حاتم: "شيخٌ صالح الحديث، لا بأس به، بابة جعفر الأحمر، وهُرَيْم" [6، ج-7، ص 188].
- يحيى بن السَّكَن البصري. قال أبو حاتم: "ليس بالقوي، بابة محمد بن مصعب القُرْقُسَاني" [6، ج-9، ص155].
- "أبو فاطمة: روى عن أبي مَعْشَر، شيخٌ، بابة الوصافي" [6، ج-9، ص 424].(/32)
قلتُ: وأما قوله في ترجمة محمد بن زياد الكلبي [6، ج-7، ص 258]: "كان شيخاً شاعراً، وقعدنا في دهليزه ننتظره، فلما نَظَرْنَا إلى قدِّه، علمنا أنه ليس من البابة؛ فذهبنا ولم نرجع إليه". فيريد بالبابة هنا - والله أعلم -: ليس من أهل الحديث المشتغلين به، الملازمين له.
ثامناً: ورعه، وعدم الكلام في الراوي إلا عن علم وبمستند
فهو لا يطلق فيه لسانه وإن جرحه الآخرون، ويظهر هذا من خلال سبر تراجم كثيرة، منها:
- سعيد بن واصل الحَرَشي. قال ابنه عبدالرحمن: سمعت أبي يقولُ: "تكلم علي بن المديني فيه، قال: ذهب حديثه". فقلتُ لأبي: ما قولك فيه؟ قال: "لا أتقنُ أمرَه، لا يمكنني فيه الكلام، البصريون يروون عنه، وليس بالقوي عندي ... ليِّن الحديث" [6، ج-4، ص70].
- سلمة بن الفضل الرازي الأَبْرَش الأزرق. قال أبو حاتم: "صالحٌ، محلُّه الصدق، في حديثه إنكار، ليس بالقوي، لا يمكن أن أطلق لساني فيه بأكثر من هذا، يُكتب حديثه ولا يحتجُّ به" [6، ج-4، ص ص168-169].
- سهل بن زياد القطَّان، قال أبو حاتم: "تكلَّموا فيه، وما رأيتُ فيه إلا خيراً" [6، ج-4، ص ص197-198].
- قُطْبَة بن العلاء بن المنهال. قال عبدالرحمن: سألتُ أبي عنه؛ فقال: "كتبنا عنه، ما بلغنا إلا خيراً". قلتُ له: إن البخاري أدخله في كتاب الضعفاء! قال: "ذلك ممَّا انفرد به". قلتُ: ما حاله؟ قال: "شيخٌ، يُكتبُ حديثُه، ولا يُحتجُّ به" [6، ج-7، ص ص 141-142].
تاسعاً: عدم استعمال الألفاظ المبالغ فيها جرحاً أو تعديلاً
فهو لا يطري كثيرا في التعديل، ولا يخسف أو يبالغ في استعمال ألفاظ الجرح الشديدة؛ بل يقتصر على المطلوب، وهذا لا يتنافى مع استعماله - أحياناً - ألفاظاًَ عالية - نوعاً ما - في التعديل، أو شديدة في التجريح، فهذا ليس كثيراً، والغالب عنده هو التوسُّط والاعتدال في ذكر الألفاظ.(/33)
فمن أعلى ألفاظ التوثيق - إن لم يكن أعلاها مطلقاً - عنده لفظ (ثقة، إمامٌ صدوقٌ)، قاله في كلٍّ من:
- موسى بن جعفر بن محمد بن علي [6، ج-8، ص 139].
- ويزيد بن هارون الواسطي [6، ج-9، ص 295].
وأطلق لفظ (إمام) فقط على بعض الرواة، منهم:
- إسحاق بن إبراهيم بن راهويه [6، ج-2، ص ص 209-210].
- وعبيد الله بن عبدالكريم أبو زُرْعة الرَّازي [6، ج-5، ص ص 324-326].
- وعبد الأعلى بن مُسْهِر الدمشقي [6، ج-6، ص 29].
- ويحيى بن معين [6، ج-5، ص 192].
وهؤلاء أئمةٌ في الحديث والنقد على حدٍّ سواء.
ومن أعلى ألفاظ التعديل عنده - أيضاً – قوله: (فلانٌ لا يُسأل عنه)، أو: (لا يُسأل عنه مثله)، فقد ذكره في رواة منهم:
- بُسْر بن سعيد مولى ابن الحضرمي [6، ج-2، ص423].
- سُلَيْم بن أسْوَد أبو الشَّعْثَاء [6، ج-4، ص 211].
- محمد بن عبدالرحمن بن ثَوْبان القرشي [6، ج-7، ص 321].
وقد يستعمل لفظ (ثقة)، وكثيراً ما يكتفي بلفظ (صدوق)، أو: (لا بأس به)، ويريد توثيقاً عالياً، والرفع من شأن من يقول فيه ذلك:
- فهذا زهير بن حرب أبو خيثمة - المتَّفَق على توثيقه - يقول فيه ابن معين: "يكفي قبيلة"! ولا يزيد أبو حاتم في القول فيه عن لفظ: "صدوق" [6، ج-3، ص 591].
- وقال ابنه عبدالرحمن: سمعتُ أبي يُجْمل القول في أبي زيد النحوي - هو سعيد بن أوس - ويرفع شأنه، ويقول: "هو صدوقٌ" [6، ج-4، ص ص4-5].
- وقد قال أبو حاتم - في ترجمة محمد بن عمران بن محمد بن عبدالرحمن بن أبي ليلى -: "أملى علينا كتاب الفرائض عن أبيه، عن ابن أبي ليلى، عن الشَّعبي، من حفظه، الكتاب كله! لا يقدِّم مسألةً على مسألة". ولما سُئل عنه أبو حاتم قال: "صدوقٌ" [6، ج-6، ص 41].
وقد قال أبو حاتم في الإمام الشافعي - وهو مَنْ هو - لفظ: (صدوق) فقط! [14، ج-9، ص30].
وأما بالنسبة للجرح:
فقد استعمل لفظ (كذَّاب)، و(يفتعل الحديث) ونحوهما، كما سبق في (ص498):(/34)
- وقال - أيضاً - في ترجمة سليمان بن عمرو النخعي: "كان في النَّخْع شيخان ضعيفان، يضعان الحديث ويفتعلان؛ أحدهما: سليمان بن عمرو النَّخْعي، وهو ذاهبُ الحديث، متروكُ الحديث، كان كذَّاباً، وامتنع - أي: أبو حاتم - عن قراءة حديثه" [6، ج-4، ص132]. قلت: لم يصرِّح أبو حاتم هنا باسم الوضَّاع الآخر.
وكثيراً ما يستعمل لفظ (منكر)، أو (ضعيف)، أو (ليس بقوي)، كما أنه كثيراً ما يجمع بين هذه الألفاظ، وهذا كثيرٌ جدّاً، مما لا يحتاج إلى تمثيل، على أنه سيأتي عليه بعض الأمثلة بعد قليل - إن شاء الله تعالى.
عاشراً: تفصيله أحوال الراوي حيث لا يكون حاله على وتيرة واحدة
كثيراً ما يكون الراوي في حاله تفصيل، مما يصعب الحكم عليه بحكم واحد مطَّرد، كأن يكون ثقةً أو قوياً في وقت - أو في حالات - ضعيفاً في وقت آخر - أو في حالات أُخَر - فهو لا يصفه - والحالة هذه - بوصف واحد مطَّرد، لكن يفصل في حاله، وهذا من الأمور الهامة في الجرح والتعديل، ومن أمثلة ذلك:
- زهير بن محمد المروروذي. قال أبو حاتم: "محلُّه الصدق، وفي حفظه سوء، وكان حديثه بالشام أنكر من حديثه بالعراق لسوء حفظه، وكان من أهل خُرَاسَان، سكن المدينة، وقديماً الشام، فما حدَّث من كتبه فهو صالح، وما حدَّث من حفظه ففيه أغاليطٌ" [6، ج-3، ص ص 589-590].
- محمد بن جابر الحنفي اليمامي. قال أبو حاتم: "ذهب كتبه في آخر عمره، وساء حفظه، وكان يلقَّن، وكان عبدالرحمن بن مهدي يحدِّث عنه، ثم تركه بعدُ، وكان يروي أحاديث مناكير، وهو معروفٌ بالسماع، جيد اللقاء، رأوا في كتبه لَحْقاً، وحديثه عن حماد فيه اضطراب، روى عنه عشرةٌ من الثقات".(/35)
وسُئل أبو حاتم - أيضاً - عن محمد بن جابر وابن لهيعة؛ فقال: "محلُّهما الصدق، ومحمد بن جابر أحبُّ إليَّ من ابن لهيعة"، وقال أبو حاتم - وأبو زُرْعة أيضاً -: "محمد بن جابر، يمامي الأصل، ومَنْ كتب عنه كتب عنه باليمامة وبمكة، وهو صدوقٌ، إلا أنَّ في حديثه تخاليط، وأما أصوله فهي صحاح" [6، ج-7، ص ص 219-220].
- محمد بن الفضل أبو النعمان، المعروف بعارم. قال ابن أبي حاتم: سمعت أبي يقول: "إذا حدَّثك عارم فاختم عليه، وعارم لا يتأخَّر عن عفان، وكان سليمان بن حرب يقدِّم عارماً على نفسه، إذا خالفه عارم في شيء رجع إلى ما يقول عارم، وهو أثبت أصحاب حماد بن زيد بعد عبدالرحمن بن مهدي.
وسئل أبو حاتم - أيضاً عن عارم وأبي سلمة؛ فقال: "عارم أحبُّ إليَّ، عارم ثقة". وقال أبو حاتم – أيضاً -: "اختلط عارم في آخر عمره، وزال عقله؛ فمن سمع منه قبل الاختلاط فسماعه صحيح، وكتبتُ عنه قبل الاختلاط سنة أربع عشرة، ولم أسمع منه بعدما اختلط، فمَنْ كتب عنه قبل سنة عشرين ومئتين فسماعه جيد، وأبو زرعة لقيه سنة اثنتين وعشرين" [6، ج-8، ص ص58-59].
حادي عشر: استدراكاته وتعقُّباته على النقاد الآخرين
ومن أمثلة هذا:
- عبدالرحمن بن ثابت بن الصامت. قال ابن أبي حاتم: سألتُ أبي عنه؛ فقال: "ليس عندي بمنكر الحديث".
قلتُ: أدخله البخاري في كتاب الضعفاء، قال: "يُكتب حديثه، ليس بحديثه بأس، ويحوَّل من هناك" [6، ج-5، ص 219].
- عمر بن راشد، أبو حفص المديني. قال أبو حاتم: "كتبتُ من حديثه ورقتين، ولم أسمع منه لما وجدته كذباً وزوراً، والعجب من يعقوب بن سفيان؛ كيف كتب عنه؟! وكيف روى عنه؟! لأني في ذلك الوقت - وأنا شابٌّ - علمت أن تلك الأحاديث موضوعة؛ فلم تطب نفسي أن أسمعها؛ فكيف خفي على يعقوب بن سفيان ذلك؟!!" [6، ج-6، ص 108].(/36)
- عثمان بن عبدالرحمن الطرائفي. قال أبو حاتم - وقد ذكر هو أن ابن معين قال: عثمان ثقة -: "صدوقٌ"، وأنكر على البخاري إدخال اسمه في كتاب الضعفاء، وقال: "يحوَّل منه"، وقال: "يروي عن الضعفاء، يشبه ببقية في روايته عن الضعفاء" [6، ج-7، ص ص 157-158].
- محمود بن لبيد الأشهلي. قال البخاري: "له صحبة"، قال عبدالرحمن بن أبي حاتم: فخطَّ أبي عليه، وقال: "لا يُعرف له صحبة" [6، ج-8، ص ص289-290]، وانظر – أيضاً -: ترجمة كلٍّ من علي بن علي الرفاعي [6، ج-6، ص 196]، وعمرو بن عبدالله [6، ج-6، ص 242]، ومحمد بن مصعب القُرقُساني [6، ج-8، ص ص102-103]، ومسلم النحَّات، وهو ابن صاعد [6، ج-8، ص ص 186-187].
ثاني عشر: تعدد موارده في الجرح والتعديل
لقد تعدَّدت موارده في الجرح والتعديل، وكذلك اعتماده أقوال بعض من سبقه ومن عاصره من مشاهير النقاد، وذلك إما بالرواية المباشرة عنهم، أو بالوسائط إليهم، مع التصريح بأسمائهم.
وقد يحيل إلى النقاد على الإبهام، دون تحديد الأسماء؛ كأن يقول: "تكلموا فيه"، أو "تكلم الناس فيه"، ونحوه.
كما أنه قد يذكر القول من تلقاء نفسه، لا ينسبه لأحد غيره، مع أنه مسبوقٌ إليه، وهو معروف من قول غيره، وكثيراً ما لاحظته يفعل هذا مع البخاري - رحمه الله.
ومن الأمثلة على كلِّ ما تقدم، ما يلي:
روى أقوالاً مباشرة عن كلٍّ من:
- دُحَيْم، كما في ترجمة سويد بن عبدالعزيز الدمشقي [6، ج-4، ص238].
- وسليمان بن حرب، كما في ترجمة محمد بن فضالة الأنصاري [6، ج-8، ص56].
- وأبي الوليد الطيالسي، ويحيى بن معين. كما في ترجمة موسى بن إسماعيل أبي سلمة التبوذكي [6، ج-8، ص 136].
- وعلي بن المديني، كما في ترجمة معلى بن هلال الجعفي الطحان [6، ج-1، ص 331].
كما أنه ذكر رأي الحُمَيْدي في الرواة؛ فكان يقول: "كان الحُمَيْدي يتكلم فيه، أو كان الحُمَيْدي يحمل عليه، ومن أمثلته على التوالي:(/37)
- محمد بن سليمان بن مسمول [6، ج-7، ص 267].
- ويسع بن طلحة بن أبزوذ المكي [6، ج-9، ص 309].
كما أنه كثيراً ما يقول في الراوي: "يتكلمون فيه"، أو: "تكلم الناس فيه"، ومن أمثلته ما جاء عنه في ترجمة كلٍّ من:
- أحمد بن عبدالله بن ميسرة الحرَّاني [6، ج-2، ص 58].
- أحمد بن عيسى المصري [6، ج-2، ص 64].
- أُسَيْد بن زيد بن نَجِيح الجمَّال [6، ج-2، ص 318].
- حاتم بن سالم القزَّاز [6، ج-3، ص 261].
- الحسين بن عبدالأوَّل النَّخْعي [6، ج-3، ص59].
وأما نقلة عن الأئمة بالوسائط، وذكر الإسناد إليهم، فهو كثير جداً، مما لا يكاد يخلو منه صفحة من صفحات "الجرح والتعديل"، ومن أمثلته:
- إبراهيم بن أبي حرَّة. قال عبدالرحمن ابنه: ذكره أبي، عن إسحاق بن منصور، عن يحيى بن معين، أنه قال: "إبراهيم بن أبي حرَّة ثقة" [6، ج-2، ص96].
- وانظر - أيضا - على التوالي ترجمةَ كلٍّ من: محمد بن عقبة الرفاعي، ومحمد بن عمارة بن عمرو بن حزم، ومحمد بن عجلان المديني [6، ج-8، ص ص 35- 44،49].
أما كونه يكون مسبوقاً باللفظ، ويأخذه عن غيره، ولا يشير إلى هذا - وهذا ما فعله مع البخاري - فمن أمثلته:
- قال في إبراهيم بن عثمان بن عبدالله، أبي شيبة العبسي: "سكتوا عنه" [6، ج-2، ص115]، وهذا ما قاله البخاري في هذا الراوي [42، ص 13؛ 35، ج-1، ص 48].
- وقال في محمد بن شجاع بن نبهان: "سكتوا عنه" [6، ج-7، ص 286]، وهذا ما قاله البخاري في هذا الرواي [43، ج-1، ص115].
- وقال في حصين - مولى عمرو بن عثمان القرشي، والد داود بن الحصين -: "ليس حديثه بالقائم [6، ج-3، ص199]، وهو نفس قول البخاري في حصين هذا [42، ص34].
- وقال في سويد بن عبدالعزيز الدمشقي: "في حديثه نظر" [6، ج-4، ص ص238-239]، وهو ما قاله البخاري في هذا الراوي [42، ص 55].
- وقال في النضر بن كثير أبي سهل السعدي: "فيه نظر" [6، ج-8، ص ص478-479]، وهو نفس قول البخاري فيه [43، ج-8، ص 91].(/38)
ثالث عشر: اتِّسام أقواله في بعض الأحيان بطابع العموم، أو اتساع المصطلحات عنده:
بحيث يطلق اللفظَ، ويريد به عدَّة معانٍ، أو يطلقه ويصدق على مراتب متعددة من مراتب التعديل أو التجريح، دون أن يعرِّف المراد أو يحدِّده بالقرائن والملابسات، وهذا معروفٌ عند المتقدِّمين بصورة عامة، فالأمر عندهم في هذا يختلف عمَّا هو عند المتأخرين؛ حيث كان تفريع المسائل، وتأصيل المصطلحات وتحديدها، وهذا لا ينافي بحال من الأحوال ما كان عليه المتقدِّمون من الدقَّة والأصالة.
وقد تقدم عند لفظ (شيخ) أنه يطلقه على حالات عديدة، وكذا عند لفظ (صالح الحديث) [ص500، 503] على التوالي.
ولأهمية هذا الموضوع ودقته؛ فسأذكر هنا - زيادة على ما ذُكر - بعض الأمثلة:
لفظ (صدوق):
قد سبق في [ص39] أن أبا حاتم وصف بعض الأئمة والحفَّاظ بهذا اللفظ، وقال - أيضاً - في الوليد بن الوليد العنسي القلانسي: "هو صدوقٌ، ما بحديثه بأسٌ، حديثه صحيحٌ" [6، ج-9، ص19].
في حين وصف آخرين بهذا الوصف "صدوق"، وقال عنهم "حسن الحديث"، منهم:
- عبيد الله بن موسى العبسي [6، ج-5، ص ص334- 335].
- وإبراهيم بن طهمان الهروي [6، ج-2، ص 107].
- محمد بن راشد المكحولي [6، ج-7، ص 454].
في حين وصف آخرين بلفظ: "صدوقٌ، يُكتب حديثه ولا يحتجُّ به"، منهم:
- أحمد بن هاشم [6، ج-2، ص 80].
- شبابة بن سوَّار الفزاري [6، ج-4، ص 392].
لفظ (لا بأس به)، أو (ليس به بأس):
وهو يشبه لفظ (صدوق) عنده؛ فقد استعمله فيمن يحتجُّ بهم من الثقات، منهم:
- صخر بن جَنْدَل، أبو المعلَّى الشامي. قال فيه: "ليس به بأس، هو من ثقات أهل الشام" [6، ج-4، ص427].
- عطاء بن أبي مسلم الخُرَاسَاني. قال فيه: "لا بأس به، صدوقٌ". وسأله ابنه قائلاً: يحتجُّ بحديثه؟ فقال: "نعم" [6، ج-6، ص ص334-335].(/39)
وقد فسر ابن حجر قول أبي حاتم في الراوي "لا بأس به" بأنه توثيق؛ إذ قال ابن حجر في ترجمة إبراهيم بن أبي حرة النصيبي: وثَّقة أبو حاتم؛ فقال: "لا بأس به" [44، ص15].
وأبو حاتم استعمل لفظ (لا بأس به) فيمن ليس بحجَّة عنده؛ فقال في ترجمة داود بن بكر بن أبي الفرات: "شيخٌ، لا بأس به، ليس بالمتين" [6، ج-3، ص ص 407-408].
وقال في عبدالحميد بن بهرام الفزاري، وقد قال له ابنه: ما تقول فيه؟ فقال: "ليس به بأسٌ، أحاديثه عن شَهْر بن حَوْشَب صحاح، لا أعلم روى عن شهر بن حوشب أحاديث أحسن منها ولا أكثر منها". ثم سأله ابنه: يحتجُّ به؟ قال: "لا، ولا بحديث شَهْر بن حَوْشب، ولكن يُكتب حديثه" [6، ج-6، ص ص 8-9].
لفظ (منكر الحديث)، و(ضعيف الحديث):
يُطلِق كلاًّ من هذين اللفظين ويريد بهما مرتبة الاعتبار، ويطلقهما في كثير من الأحيان ويريد بهما مرتبة التَرْك والاطِّراح، ويعرف ذلك بالقرائن، وكثيراً ما يجمع بينهما في الراوي الواحد؛ فيقول – مثلاً -: "منكرٌ ضعيف الحديث"، أو: "ضعيفٌ منكر الحديث".
ومن أمثلة استعماله للفظ (المنكر) في مرتبة الاعتبار:
- سئل عن زياد بن أبي حسان النَّبطي؛ فقال: "شيخٌ منكر الحديث، يُكتب حديثُه، ولا يحتجُّ به" [6، ج-3، ص 530].
- وقال في سليمان بن عطاء القرشي: "منكر الحديث، يُكتب حديثُه" [6، ج-4، ص133].
- وقد استعمل هذا اللفظ في مرتبة الترك والرَّد؛ فقال في ترجمة محمد بن عُثَيْم: "هو منكر الحديث، لا يُكتب حديثه" [6، ج-8، ص23].
ووصف عُفَيْر بن مَعْدَان بأنه "منكر الحديث"، وقال: "حدَّث عن سُلَيْم بن عامر، عن أبي أمامة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحاديث كثيرة، منها ما لا أصل لها، ومنها ما يرويه الثقات عن سُلَيْم" [41، ج-2، ص 172].(/40)
وأحياناً يجمع بين المنكر والضعيف في راوٍ واحد، ويصفه بالجرح الشديد؛ بحيث يردُّ حديثه؛ فقال في ترجمة ثابت بن زهير أبي زهير: "هو منكر الحديث، ضعيف الحديث، لا يُشتغَل به" [6، ج-4، ص ص 479-752].
وقال في ترجمة طلحة بن زيد الرَّقي: "منكر الحديث، ضعيف الحديث، لا يُكتب حديثُه" [6، ج-4، ص ص 479-480].
في حين أنه يصف الراوي بهذَيْن الوصفَيْن وأشد، ومع هذا يقول: "لا يُترك؛ بل يُكتب حديثُه"؛ فقال في عبدالله بن عبدالعزيز الليثي: "منكر الحديث، ضعيف الحديث، لا يُشتغَل بحديثه، ليس في وزن مَنْ يُشتغل بخطئه، عامَّة حديثه خطأ، لا أعلم له حديثاً مستقيماً، يُكتب حديثُه" [6، ج-5، ص103].
وقال في ترجمة مروان بن سالم الغفاري، عندما سأله عنه ابنه عبدالرحمن: "منكر الحديث جدّاً، ضعيف الحديث، ليس له حديثٌ قائمٌ". فقال عبدالرحمن - أيضاً -: قلتُ: يُترك حديثُه؟ قال: "لا؛ بل يُكتب حديثُه" [6، ج-8، ص ص 274-275؛ 41، ج-1، ص221].
وأمَّا لفظ (ضعيف الحديث)؛ فكذلك يطلقه ويريد به - أحياناً - الاعتبار - وأحياناً - التَّرْك والاطِّراح.
فمن أمثلته في مرتبة الاعتبار عنده:
- الحارث بن وجيه الراسبي، وصفة بأنه: "ضعيف الحديث، في حديثه بعض المناكير". [6، ج-3، ص92].
- ووصف محمد بن عبدالله بن عبيد بأنه: "ليس بذاك الثقة، ضعيف الحديث" [6، ج-7، ص300].
ومعروفٌ أن ما وصف به هذين الراويَيْن ليس من الجرح الشديد؛ بل هو من الجرح القريب المحتمل، ويُعتبر بمن قيل فيه ذلك.
- وقال في يحيى بن بُرَيْد بن عبدالله: "ضعيف الحديث، ليس بالمتروك، يُكتب حديثُه" [6، ج-9، ص132].
- وقال في يحيى بن المتوكل، أبي عقيل المكفوف: "ضعيف الحديث، يُكتب حديثُه" [6، ج-9، ص ص189-190].
ومن أمثلة الضعيف في مرتبة الترك والاطِّراح عنده:
- هو قوله في إسحاق بن يحيى بن طلحة: "ضعيف الحديث، ليس بقوي، ولا يمكننا أن نعتبر بحديثه" [6، ج-2، ص ص236-237].(/41)
- وقوله في رَوْح بن مُسَافِر، أبي بشر: "ضعيف الحديث، لا يُكتب حديثُه" [6، ج-3، ص 496].
ومما يدل على اتِّساع مصطلح (ضعيف) عند أبي حاتم - أيضاً -: أنه حكم على أحاديث كثيرة بالبطلان أو الوضع، وأعلها براوٍ "ضعيف"، مما يدل على أنه قد يطلق لفظ (ضعيف) على الراوي المتروك، أو المتَّهم، أو الكذَّاب.
- فقد قال فيما ذكره عنه ابنه: "هذا الحديث بهذا الإسناد باطل، بهلول ذاهب الحديث" [41، ج-1، ص390]، حديث رقم (1168). وذكر هذا الراوي (بهلول) في موضع آخر فقال: "هذا حديث موضوع، وبهلول ضعيف الحديث" [41، ج-2، ص 321]، حديث رقم (2480)، فدل هنا على أن (ضعيف الحديث) عنده بمعنى (ذاهب).
- وقال - أيضاً -: "هذا حديثٌ باطلٌ، وزرعة وعمران جميعاً ضعيفان". ثم ذكر طريقاً آخر للحديث، وقال: "هذا حديثٌ باطلٌ موضوعٌ، وكان ذلك من عمران" [41، ج-1، ص383]، حديث رقم (1144).
- وقال في حديث آخر: "هذا حديثٌ باطلٌ". ولما سئل عن أحد رواته - وهو سالم بن عبد الأعلى - قال: "ضعيف الحديث، وهذا من سالم" [41، ج-2، ص252]، حديث رقم (2347).
- وقال في حديث آخر: "هذا حديثٌ باطلٌ موضوعٌ"؛ فسأله ابنه عبدالرحمن: ممَّن هو؟ قال: "مسلمة بن علي ضعيف الحديث" [41، ج-2، ص315]، حديث رقم (2460).
وقال في حديث آخر: "هذا حديثٌ موضوعٌ بهذا الإسناد، ونوفل بن سليمان هذا - أحد رواته - ضعيف الحديث" [41، ج-2، ص120]، حديث رقم (1852).
(المجهول):
تقدم في (ص 502 وما بعدها)، من اللمحة الثانية - كثرة أقواله في الرواة - أن أبا حاتم وصف آلاف الرواة بالجهالة، وأنه استعمل ألفاظاً عددية للتعبير عن الجهالة، ومما لا شك فيه أن الجهالة عند هذا الإمام هي أعمُّ مما هي عند الآخرين، ومصطلح الجهالة عنده يتَّسع لأكثر من معنى، ويمكن إبراز هذا بما يلي:(/42)
1- قد يطلق الجهالة ويريد بها ما يريد بها باقي النقاد، وهو جهالة العين، أي أن الراوي لم يرو عنه سوى راوٍ واحد، ولم يعدَّل ولم يجرَّح.
2- قد يطلق الجهالة ويريد بها جهالة الحال، أو ما يسميه بعض العلماء ب- (المستور)، وهو من يروي عنه اثنان فأكثر، ولم يعدَّل ولم يجرَّح. وهذا خلافٌ لما عليه باقي النقاد؛ فإنهم إذا ما أرادوا مجهول الحال يُقيِّدون ولا يُطلِقون.
3- قد يطلق الجهالة على بعض الصحابة المعروفين عنده بالصحبة؛ فهو ينص على صحبة الواحد منهم، ويذكر أنه من أهل بدر أو أحد أو نحوه، ومع هذا يصفه بلفظ (مجهول) أو نحوه من الألفاظ المرادفة، وقد انفرد بهذا الصنيع، ولم يسبقه إليه أحد.
وهذه الأمور - وإن كانت كثيرة مبثوثة في تراجم كثيرة من كتاب "الجرح والتعديل" لابنه - إلا أنني سوف أدعمها بذكر بعض الأمثلة.
1- جهالة العين:
فقد وصف رواة كثيرين بالجهالة، وبعد النظر يتبين أنه لم يرو عن كل منهم إلا راوٍ واحدٍ؛ فيعلم بهذا أنه يريد جهالة العين، ومن أمثلة ذلك:
- زهير بن منقذ [6، ج-3، ص 586].
- زامل بن زياد الطائي [6، ج-3، ص617].
- قُرَّة العِجْلي [6، ج-7، ص 130].
- يحيى بن سليمان [6، ج-9، ص 154].
- أبو الأعين العَبْدي [6، ج-9، ص 335].
2- جهالة الحال، ومن أمثلته عنده:
- الحكم بن عبدالله البصري. قال أبو حاتم: "مجهول" [6، ج-3، ص122]، وقد تعقَّبه ابن حجر [45، ص398] - بعد أن أشار إلى أن هذا الرجل روى له البخاري، ومسلم، والترمذي، والنَّسائي، وذكر كلام أبي حاتم السابق - فقال – أي ابن حجر -: "ليس بمجهول مَنْ روى عنه أربعة ثقات، ووثَّقه الذهلي". أ هـ.(/43)
- عباس بن الحسين أبو الفضل القَنْطري. قال أبو حاتم: "مجهولٌ" [6، ج-6، ص 215]، وتعقبه ابن حجر قائلاً: "إن أراد العين - يعني جهالة العين - فقد روى عنه البخاري، وموسى بن هارون الجمَّال، والحسن بن علي المعمري، وغيرهم، وإن أراد الحال - يعني جهالة الحال - فقد وثَّقه عبدالله بن أحمد بن حنبل، قال: سألتُ أبي عنه؛ فذكره بخير، وله في الصحيح حديثان ..." [45، ص ص412-413].
- بيان بن عمرو أبو محمد المحاربي. قال أبو حاتم: "شيخٌ مجهولٌ" [6، ج-2، ص425]، وقد تعقبه الحافظ ابن حجر؛ فقال: روى عنه البخاري - يعني في "صحيحه" - وأبو زُرْعَة، وعبيدالله بن واصل، وغيرهم. وجهالة بيان قد ارتفعت برواية هؤلاء عنه، وعدالته ثبتت - أيضاً –"[14، ج-1، ص ص506-507].
3- تجهيله الصحابة:
وقد أطلق أبو حاتم الجهالة على حوالي أربعين[10] صحابياً، بعضهم من مشاهير الصحابة، من أهل بدر وأحد، وبعضهم له رواية عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وبعضهم قد لا يكون لهم رواية، وقد تعقَّبه بعض العلماء؛ لإطلاقه لفظ (الجهالة) على هؤلاء الصحابة - رضي الله عنهم - ومن أمثلة هذا النوع:
- حاطب بن عمرو بن عبد شمس، من المهاجرين الأولين. قال أبو حاتم: "هو مجهولٌ" [6، ج-3، ص303].
- خُلَيْدة بن قيس بن عثمان. قال أبو حاتم: "شهد بدراً"، وسئل عنه؛ فقال: "هو مجهولٌ" [6، ج-3، ص ص 400-401].
- مدلاج بن عمرو السلمي، حليف بني عبد شمس. قال أبو حاتم: "هو مجهولٌ" [6، ج-8، ص428].
وقد بيَّن ابن حجر [46، ج-6، ص ص12-13] في ترجمة مدلاج هذا مرادَ أبي حاتم في وصف الصحابي بالجهالة؛ فقال: "وكذا يصنع أبو حاتم في جماعة من الصحابة، يطلق عليهم اسم الجهالة، لا يريد جهالة العدالة، وإنما يريد أنه من الأعراب الذين لم يروِ عنهم أئمة التابعين .. وهذا رجلٌ من أهل بدر، ولم يتخلَّف عن ذكره أحد ممن صنف في الصحابة".
الخاتمة
أختم هذا البحث بذكر أهم النتائج التي توصلت إليها؛ وهي:(/44)
1- اهتمام الحافظ أبي حاتم الرازي بعلم الحديث روايةً ودرايةً، وحرصه الشديد على تتبُّع دقائق هذا العلم، مما جعله إماماً مجتهداً مبرزاً، على الرغم من قسوة الظروف وكثرة الصعاب، فهو بحقٍّ يعدُّ - بسيرته وعلمه – مدرسةً، ومثالاً يُحتذى، وأثراً يُقتفى.
2- الإمام أبو حاتم الرازي، وإن كان معدوداً في النقاد المتشدِّدين، إلا أنه يبدو على كلامه - أحياناً – الورع؛ فهو لا يطلق لسانه في الراوي بغير مُسْتَنَد، وإن كان الراوي مجرَّحاً عند غيره، كما أنه كثيراً ما يقتصر على ما يؤدِّي الغرض من الألفاظ - تعديلاً أو تجريحاً - دون مبالغة في الإطراء أو الطعن.
3- لقد تكلم هذا الإمام في كثير من الرواة، فخلَّف ثروةً كبيرةً من الألفاظ النقديَّة النادرة الاستعمال، التي تحتاج إلى شرح وتوضيح، إضافةً إلى بعض المصطلحات النقدية، التي تحتاج إلى بيان مدلولاتها عنده.
4- إن معرفة منهج مثل أبي حاتم الرازي في الجرح والتعديل - مع كثرة ألفاظه النقدية، وتنوُّعها، وتباينها - ليس بالأمر السهل؛ مما يجعل الباحث يحار، ويقع في شيء من الارتباك، من أين يبدأ، وإلام ينتهي؟
5- إن التخطيط لوضع أصول كليَّة، أو أُطُرٍ عامة، يُولَج من خلالها إلى جزئياتٍ تندرج تحتها، أو تنبثق عنها، أمرٌ ضروريٌّ لدراسة مثل هذه الموضوعات الدقيقة المتشعبة، وذلك للوصول إلى الهدف المنشود.
وإن من أبرز هذه الكليات لمنهج هذا الإمام في الجرح والتعديل مثلاً؛ اعتداده برواية الإمام عن الراوي غير المشهور، وسبر أحاديث الراوي واستقرائها بنفسه لمعرفة حالة، والموازنة بين الرواة عند الحكم عليهم، واتِّسام أقواله - أحياناً - بطابع العموم، أو اتساع المصطلحات عنده.
6- إن هذه الملامح الكليَّة ليست هي للاستقصاء، ولا هي نهاية المطاف في الدراسة؛ بل يمكن أن يزاد كليَّات أخرى، كما أن كل لمحة من هذه الملامح جديرة بأن تكون موضوع دراسة معمَّقة وحدها.(/45)
7- إن معرفة منهج إمام من أئمة النقد - باستقراء ألفاظه ودراستها، ووضع الأصول الكليَّة والضوابط النقديَّة عنده - مما يوسِّع مدارك الباحثين، ويولِّد لديهم ملكةً لتفسير صنيعه وتطبيقاته، التي قد تبدو متعارضة - أحياناً - ولولا هذه المعرفة لظهر الباحث حائراً، قاصر الفهم عن إدراك كُنْه هذه المسائل، ولذا فإني أوصي نفسي أولاً، ثم إخواني المهتمين بهذا الجانب ثانياً، بتكثيف هذه الدراسات وتفعيلها، لما لذلك من أهمية كبرى في خدمة التراث النبوي الشريف.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
المراجع
[1] الذهبي، محمد بن أحمد. سير أعلام النبلاء. ط2. بيروت: مؤسسة الرسالة، 1405هـ/ 1985م.
[2] الذهبي، محمد بن أحمد. ذكر من يُعتمد قوله في الجرح والتعديل. تحقيق: عبدالفتاح أبو غُدَّة. ط5. بيروت: دار البشائر الإسلامية، 1410هـ/ 1990م.
[3] ابن منظور، محمد بن مكي. لسان العرب. بيروت: دار صادر، د.ت.
[4] السمعاني، أبو سعيد عبدالكريم بن محمد. الأنساب. ط1. بيروت: دار الجنان، 1408هـ/ 1988م.
[5] الحموي، ياقوت بن عبدالله. معجم البلدان. بيروت: دار الكتاب العربي. د. ت.
[6] الرازي، عبدالرحمن بن أبي حاتم. الجرح والتعديل. تحقيق: المعلِّمي اليماني. ط1. حيدر آباد: دائرة المعارف العثمانية، 1371هـ/ 1952م.
[7] الإصطخري، إبراهيم بن محمد. المسالك والممالك. تحقيق: محمد الحيني. بيروت: دار القلم، 1381هـ/ 1961م.
[8] ابن الرفعة، أبو العباس نجم الدين. الإيضاح والتبيان، في معرفة المكيال والميزان. تحقيق: محمد الخاروف. ط1. دمشق دار الفكر، 1400هـ/ 1980م.
[9] الخليلي، الخيل بن عبدالله. الإرشاد في معرفة علماء الحديث. تحقيق: محمد سعيد. الرياض: مكتبة الرشد، 1409هـ/ 1989م.
[10] الخطيب، أبو بكر أحمد بن علي. تاريخ بغداد. المدينة المنورة: المكتبة السلفية، د.ت.(/46)
[11] الصَّفَدي، صلاح الدين خليل بن أيبك. الوافي بالوفيات. اعتناء: س. دبدرينغ. استانبول: مطبعة وزارة المعارف، 1949م.
[12] السبكي، عبدالوهاب بن علي. طبقات الشافعية الكبرى. تحقيق: عبدالفتاح الحلو ومحمود الطناحي. القاهرة: دار إحياء الكتاب العربي، 1396هـ/ 1976م.
[13] الخطيب، أبو بكر أحمد بن علي. السابق واللاحق، في تباعد ما بين وفاة راويَيْن عن شيخ واحد. تحقيق: محمد بن مطر الزهراني. ط1. الرياض: دار طيبة، 1402هـ/ 1982م.
[14] ابن حجر، أحمد بن علي. تهذيب التهذيب. ط1. حيدر آباد: دائرة المعارف العثمانية، 1325هـ.
[15] سزكين، فؤاد. تاريخ التراث. الرياض: جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، 1403هـ/ 1983م.
[16] ابن أبي يعلى، أبو الحسين محمد. طبقات الحنابلة. تصحيح: محمد الفقي. القاهرة: مطبعة السنة المحمدية، 1371هـ/ 1952م.
[17] الكتاني، م. ج. الرسالة المستطرفة. ط3. دمشق: دار الفكر، 1383هـ.
[18] الزِّرِكْلِي، خير الدين. الأعلام. ط6. بيروت: دار العلم للملايين، 1984م.
[19] كحالة، عمر رضا. معجم المؤلفين. بيروت: دار إحياء التراث العربي، 1376هـ/ 1957م.
[20] البغدادي، إسماعيل باشا. هدية العارفين. بيروت دار الفكر، 1402هـ/ 1982م.
[21] ابن النديم، محمد بن إسحاق. الفهرست. بيروت: دار المعرفة، 1398هـ/ 1978م.
[22] الأعظمي، محمد ضياء الرحمن. دراسات في الجرح والتعديل. ط1. الهند: بنارس، المطبعة السلفية، 1403هـ/ 1983م.
[23] ابن الجوزي، أبو الفرج عبدالرحمن بن علي. المنتظم في تاريخ الملوك والأمم. تحقيق: محمد ومصطفى عبدالقادر عطا. ط1. بيروت: دار الكتب العلمية، 1412هـ/ 1992م.
[24] الحنبلي ابن العماد، عبدالمحسن. شذرات الذهب. بيروت: المكتب التجاري، د. ت.
[25] اللالكائي، هبة الله بن الحسن. شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة. تحقيق: أحمد الغامدي. ط5. الرياض: دار طيبة، 1418هـ.(/47)
[26] الذهبي، محمد بن أحمد. تذكرة الحفاظ. ط2. بيروت: دار إحياء التراث العربي، 1385هـ.
[27] ابن مفلح، إبراهيم بن محمد. المقصد الأرشد، في ذكر أصحاب الإمام أحمد. تحقيق: عبدالرحمن بن عثيمين. ط1. الرياض: مكتبة الرشد، 1410هـ/ 1990م.
[28] السيوطي، جلال الدين عبدالرحمن. طبقات الحفاظ. ط1. القاهرة: مكتبة وهبة، 1393هـ/ 1973م.
[29] ابن الجزري، محمد بن محمد. غاية النهاية في طبقات القراء. نشر: ج برجستراسر. ط2. بيروت: دار الكتب العلمية، 1400هـ/ 1990م.
[30] الذهبي، محمد بن أحمد. الموقِظَة في علم مصطلح الحديث. تحقيق: عبدالفتاح أبو غدة. ط1. بيروت: دار البشائر الإسلامية، 1405هـ.
[31] السخاوي، محمد بن عبدالرحمن. المتكلمون في الرجال. تحقيق: عبدالفتاح أبو غُدَّة. ط5. بيروت: دار البشائر الإسلامية، 1410هـ/ 1990م.
[32] ابن تيمية، أبو العباس أحمد. الصارم المسلول، على شاتم الرسول. تحقيق: محمد محيي الدين. بيروت. دار الكتب العلمية. 1398هـ /1978م.
[33] ابن تيمية، أبو العباس أحمد. مجموعة الفتاوى. جمع وترتيب: عبدالرحمن النجدي. ط1. 1398هـ.
[34] الزيلعي، عبدالله بن يوسف. نصب الراية لأحاديث الهداية. ط2. حيدر آباد. المكتبة الإسلامية، 1393هـ/ 1973م.
[35] الذهبي، محمد بن أحمد. ميزان الاعتدال. ط1. بيروت: دار المعرفة، 1382هـ/ 1963م.
[36] ابن القطان الفاسي، علي بن محمد. بيان الوهم والإيهام، الواقعَيْن في كتاب الأحكام. تحقيق: الحسن آيت سعيد. ط1. الرياض: مكتبة طيبة، 1418هـ/ 1997م.
[37] ابن رجب الحنبلي، عبدالرحمن بن أحمد. شرح علل الترمذي. تحقيق: نور الدين عتر. ط1. دار الملاح للطباعة والنشر، 1398هـ/ 1978م.
[39] أبو الحسن مصطفى إسماعيل. شفاء العليل، بألفاظ وقواعد الجرح والتعديل. ط1. القاهرة، مكتبة ابن تيمية، 1411هـ/ 1991م.(/48)
[39] الذهبي، محمد بن أحمد. الرواة الثقات المتكلم فيهم بما لا يوجب ردهم. تحقيق: محمد الموصلي. ط1. بيروت: دار البشائر الإسلامية، 1412هـ/ 1992م.
[40] ابن حجر العسقلاني، أحمد بن علي. غراس الأساس. تحقيق: توفيق شاهين. ط1. مصر: مكتبة وهبة 1411هـ/ 1990م.
[41] الرازي، عبدالرحمن بن أبي حاتم. علل الحديث. القاهرة، 1343هـ.
[42] البخاري، محمد بن إسماعيل. الضعفاء الصغير. تحقيق: محمود إبراهيم. ط1. حلب: دار الوعي، 1396هـ.
[43] البخاري، محمد بن إسماعيل. التاريخ الكبير. تعليق: المعلِّمي اليماني. ط1. حيدر آبار، 1361هـ.
[44] ابن حجر العسقلاني، أحمد بن علي. تعجيل المنفعة، بزوائد رجال الأئمة الأربعة. تحقيق: السيد عبدالله هاشم. ط1. المدينة المنورة 1386هـ/ 1966م.
[45] ابن حجر العسقلاني، أحمد بن علي. هدي الساري، مقدمة فتح الباري. تصحيح: محب الدين الخطيب. ط1. القاهرة: المطبعة السلفية، 1380هـ.
[46] ابن حجر العسقلاني، أحمد بن علي. لسان الميزان. ط3. بيروت: مؤسسة الأعلمي، 1406هـ.
ـــــــــــــــــــــــــ
[1] ذكر أنه يوجد منه مختارات في الظاهرية مجموع 28/10 (138أ – 146ب) وقد حققه الدكتور عبدالرحمن الفريوائي مؤخراً.
[2] ذكر الزركلي أنه يوجد المجلد الثالث منه مخطوطات بالمكتبة المحمودية بالمدينة (الرقم 49 تفسير) كتب سنة 872هـ.
[3] وأفاد بأنه مخطوطٌ في مكتبة محسن الهمداني في ناربورة بالهند.
[4] لم أقف عليه فيما تيسر لي من كتب الذهبي.
[5] هو الحسين بن علي من تلاميذ الشافعي مات سنة 248هـ، وله تصانيف كثيرة في الفقه والأصول، تكلم فيه الإمام أحمد بسبب اللفظ، أو مسألة خلق القرآن، وقال: أظهر رأي جهم. ورماه بالبدعة، وتكلم هو في الإمام أحمد، فتجنب الناس الأخذ عنه لهذا السبب [10، جـ8، ص ص 64 - 67].(/49)
[6] وقد تصحَّف هذا اللفظ - (في حديثه صنعة) - في بعض الكتب التي ذكرته عن أبي حاتم، إلى لفظ (ضعيف)، مما يستدعي الانتباه؛ لأن هذا يغيِّر المعنى كثيراً.
[7] وسيأتي لهذا اللفظ "سكتوا عنه" ولفظ "فيه نظر" الذي بعده مزيد من الأمثلة في صفحة 515، إن شاء الله.
[8] وسيأتي في (ص519 وما بعدها) من هذا البحث الكلام على اتساع هذا المصطلح عنده؛ بحيث إنه يطلق الجهالة ويريد بها أكثر من معنى، كما سيأتي هناك مزيد من الأمثلة على الجهالة عنده.
[9] وسيأتي في ص 518 وما بعدها أن أبا حاتم يستعمل لفظ ضعيف الحديث ـ أيضاً ـ بمعنى متروك، وبمعنى متهم، أو أشد.
[10] أفردهم الدكتور ذيب فياض ببحث مستقل، نُشر في مجلة "الدراسات" في الجامعة الأردنية، 22/ أ، ع6، الملحق (1995م).(/50)
العنوان: ملحوظات على بعض الصائمين
رقم المقالة: 1230
صاحب المقالة: محمد الحمد
-----------------------------------------
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
فإنَّ الحديث في الأسطر التالية سيكون حول بعض الملحوظات على بعض الصائمين؛ كي يتجنبوها ويحذروها؛ ليكون صومهم صحيحًا تامًّا مقبولاً، وليحصلوا على الفوائد المرجوَّة والبركات المتعددة من شهرهم الكريم.
فمن الملحوظات على بعض الصائمين:
تَبَرُّمُهُم من قدوم شهر رمضان، وتمنيِّهم سرعة انقضائه؛ فلا تراهم يفرحون بقدومه، ولا يخطر ببالهم فضائله وبركاته؛ بل يستقبلونه بتوجُّع وتحسُّر؛ فكأن الواحد منهم يمنُّ الله وعلى الناس بالصيام.
ومَنْ كانت هذه حاله؛ تراه سريع الغضب، كثير السَّخَط لأدنى سبب؛ فلا يتحمل أدنى كلام أو مفاوضة.
وهذا الصَّنيع معاكسٌ لحكمة الصيام، منافٍ لهَدْي السَّلف الكرام، فقد كانوا يفرحون بمقدِم رمضان؛ بل كانوا يصومون في غير رمضان أيامًا في الأسبوع، أو أيامًا في الشهر؛ يهذِّبون بها أنفسهم، ويتقرَّبون بها إلى ربِّهم، ويتدرَّبون على أعباء حمل الرِّسالة، وتحقيق الحياة الكريمة الطيِّبة.
فأين حال أولئك المتبرِّمين من الشهر من حال سلفنا الصَّالح، الذين طهَّروا مشارق الأرض ومغاربها منَ الشِّرك والظُّلم تطهيرًا، وعمَّروها بالإيمان والعدل تعميرًا؟!
فحريٌّ بالمسلم أن يستقبل شهر رمضان بكلِّ فرحٍ وشوْقٍ، وأن يعقد العزم على صيامه وقيامه وملئه بالأعمال الصالحة؛ فإن أدرك الشهر وأتمَّه؛ أُعين على فعل ما عزم به، وإن وافته المنيَّة؛ كُتِب له الأجر بالنِّية؛ {قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58]، {وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ} [النساء: 100].(/1)
ومما يُلاحظ على بعض الصائمين أنهم يصومون عن تقليدٍ ومسايرةٍ؛ فلا يروْن في الصيام أكثر من هذا المعنى.
ولا ريب في خطأ هؤلاء، وقلَّة فقههم لمعنى الصيام؛ فواجبٌ عليهم أن يصوموا عن إيمانٍ واحتسابٍ، وتعظيمٍ لشعائر الله؛ قال النبي – صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتَّفق عليه: ((مَنْ صام رمضان إيمانًا واحتسابًا؛ غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه)).
ولهذا تَجِدِ الصائم عن إيمانٍ بالله وخشيةٍ وتعظيمٍ له، واحتسابٍ للأجر عنده - تجده راضيًا مرضيًّا، مطمئنَّ النَّفس، منشرح الصَّدر، مسرورًا بصيامه، شاكرًا لربِّه الذي فسح له في عمره حتى بلَّغه صيام هذا الشهر؛ فلا ترى من نفسه اضطرابًا، ولا في خُلُقه كَزازَة، ولا في صدره ضيقًا أو حرجًا؛ بل تجده من أوسع الناس أفقًا، وأشرحهم صدرًا، وأقواهم رُوحًا، وأحسنهم خُلُقًا.
ومما يُلاحظ على بعض الصائمين:
قلة حرصهم على تطبيق السُّنة حال الإفطار؛ فتراهم لا يبالون بالبداءة بالرُّطب أو التَّمر أو الماء، فتراهم يؤثرون غيرها عليها مع وجودها أمامهم.
وهذا - وإن كان مجزئًا - مخالفٌ للسُّنة؛ فالسُّنة أن يفطِر الصائم على رُطَبٍ، أو تمرٍ، فإن لم يجد؛ حسا حَسَوَاتٍ من ماءٍ؛ كما جاء ذلك عند الإمام أحمد، وأبو داود، والتِّرْمذي.
هذا؛ وللبداءة بالرُّطب أو التَّمر والماء أثرٌ عجيبٌ، وبركاتٌ كثيرةٌ، وتأثيرٌ على القلوب وتزكيتها، يدرك ذلك المتَّبعون المقتدون الموفَّقون.
مع ما في ذلك من الفائدة الطبية الصحيَّة؛ حيث ذكر الأطباء أن الجسم يمتص المواد السُّكَّريَّة في مدة خمس دقائق؛ فتزول أعراض نقص السُّكَّر والماء؛ لأن سكَّر الدَّم ينخفض أثناء الصوم؛ فيؤدِّي إلى الشعور بالجوع، والتوتُّر أحيانًا، وسرعان ما يزول ذلك بتناول الرُّطب أو التَّمر.(/2)
ومما يُلاحظ على بعض الصائمين تأخير الفِطْر بلا عُذْرٍ، وهذا مخالفٌ للسُّنة؛ إذ السُّنة تعجيله، و((لا يزال الناس بخيرٍ ما عجَّلوا الفطور، وأخَّروا السحور))؛ كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث المتَّفق عليه.
فإذا أخَّر النَّاس الفِطر؛ كان ذلك دليلاً على زوال الخير عنهم؛ لأنهم تركوا السُّنَّة التي تعوَّد عليهم بالنَّفع الدِّيني، وهو المتابعة، والدُّنيوي الذي هو حفظ أجسامهم بالطعام والشَّراب الذي تَتُوق إليه أنفسهم.
ثم إنَّ أحبَّ عباد الله إليه أعجلهم فِطرًا؛ كما جاء في "صحيح ابن خزيمة"، و"سنن التِّرمذي".
ثم إنَّ تعجيل الفِطر تمييزٌ لوقت العبادة عن غيره؛ قال عليه الصلاة والسلام: ((إذا أقبل الليل من هاهنا، وأدبر النهار من هاهنا؛ فقد أفطر الصائم}؛ رواه البخاري ومسلم.
فذلك هو وقت الإفطار الذي لا ينبغي تأخيره عنه؛ بل يُعاب بذلك التأخير.
فعلى الصائم أن يستحضر هذا المعنى، وأن يبادر إلى الإفطار إذا تحقق غروب الشمس؛ ليحصل على فضيلة الاتباع، وليدرك صلاة المغرب مع الجماعة.
ومن الصائمين من يذهب إلى البيت الحرام طيلة الشهر، أو نصفه، أو أقلّ، ويدع أهله وأولاده بلا حسيبٍ ولا رقيبٍ؛ فيؤدِّي بذلك مندوبًا ويترك مفروضًا!!
ومنهم مَنْ يصطحب معه أهله وأولاده إلى البيت الحرام؛ فيعتكف في المسجد أيَّامًا، ويدع أهله وأولاده يتجوَّلون في الأسواق في مكَّة، متعرِّضين للفتنة، ومعرِّضين غيرهم لها، مضيِّعين للفرائض، غير مبالين بحرمة المكان والزَّمان، فأوْلَى لأولئك الأولياء ثم أوْلَى أن يرعوا مَنْ تحت أيديهم، ولو أدَّى بهم ذلك إلى ترك العمرة والاعتكاف.
ومنَ الملحوظات على بعض الصائمين:
أنهم يغفلون تدريب أولادهم على الصيام؛ بل ربما منعوهم وهم قادرون؛ بل ربما منعوا البنت بحجَّة أنها صغيرةٌ بعدُ، ولم تبلغ بعدُ، مع أنها ربما تكون قد بَلَغَت؛ فعلامات البلوغ كثيرة، وليست مقتصرةً على السنِّ فحسب.(/3)
ومن أخطاء بعض الصائمين:
تفويته صلاة العشاء؛ لأجل إدراك الصلاة مع قارئٍ جيِّدٍ، والأوْلَى لهذا أن يبكِّر بالمجيء، وإذا خشيَ فوات صلاة العشاء؛ فليصلِّيها في أقرب مسجدٍ؛ فهي أوجب وأفرض من صلاة التَّراويح؛ بل إن صلاة التَّراويح نافلةٌ في حقِّه.
ومما يلاحظ على بعض الصائمات:
أنها تخرج إلى المسجد لأداء صلاة العشاء متعطِّرةً متجمِّلةً، مُبدِيَةً بعض زينتها؛ فتكون بذلك عُرْضَةً لفتنة المسلمين في أشرف البقاع، وأشرف الأزمنة.
فواجبٌ على المسلمة إذا أرادت الخروج إلى المسجد أن تخرج تَفِلَةً، بعيدةً عن الزِّينة والفتنة.
ومما يلاحظ على بعض المسلمات في هذا الشهر الكريم:
أن الواحدة منهنَّ تذهب إلى المسجد لأداء صلاة التَّراويح، وربما أتى بعضهنَّ والإمام يصلِّي العشاء أو التَّراويح، فلا تدخل معه؛ بل تنفرد وحدها، وتأتي بتحيَّة المسجد!
وربما أتى بعضهنَّ والإمام يصلِّي التراويح، وهي لم تصلِّ العشاء؛ فتدخل معه، وتكملِ الصلاة، وتنصرف دون أن تؤدِّي صلاة العشاء!!
كل هذه الأمور جهلٌ وخطأ؛ فعلى المرأة إذا دخلت والإمام يصلِّي وقد فاتها شيء من الصلاة - أن تدخل مع الإمام، وبعد أن يسلِّم تقوم هي وتأتي بما فاتها.
وإذا دخلت المسجد والصلاة مقامة أو تقام؛ فعليها أن تدخل في الصلاة، ولا يجوز لها أن تشرع في أداء تحية المسجد؛ لأنه إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة.
أما إذا حضرت والصلاة لم تَقُمْ بعد؛ فلا تجلس حتى تؤدِّي ركعتَيْن تحيَّة المسجد.
وإذا دخلت والإمام قد شرع في صلاة التَّراويح وهي لم تصلِّ العشاء؛ فلتدخل معه بنيَّة صلاة العشاء، فإذا سلَّم قامت وأتت بباقي الرَّكعات.
ومما يُلْحظ على بعض النِّسْوَة - أيضًا -:
أنهنَّ يُكْثِرْنَ الكلام داخل المسجد، وربما رفعنَ الأصوات، وآذيْنَ مَنْ بجوارهنَّ وأشغلنهنَّ عن الذِّكر، أو الدعاء، أو قراءة القرآن، أو سماع المواعظ.(/4)
فعلى المرأة إذا حضرت إلى المسجد أن تلزم الأدب والسَّكينة والحياء، وأن تَشْغَل نفسها بما ينفعها.
هذا ما تيسَّر من الملحوظات في هذه الورقات، فنسأل الله أن يبصِّرنا بعيوبنا، وأن يعيننا على تلافيها، والخلاص منها؛ إنه جوادٌ كريمٌ.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(/5)
العنوان: ملف فتح الإسلام والحسم السريع!!!
رقم المقالة: 1027
صاحب المقالة: محمد مصطفى علوش
-----------------------------------------
المطالب اللبنانية ضمن برنامج الدعم الأمريكي للجيش اللبناني؛ الذي أُقرّ بعد معارك (يوليو) الماضي، إذ يشمل البرنامج -الذي تقدر قيمته بـ40 مليون دولار- تقديم عربات من طراز (هامفي)، وشاحنات لنقل الجند، وقطع غيار للمروحيات.
وكان السفير الأميركي في لبنان (جيفري فيلتمان) عقب لقاء المدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء أشرف ريفي أكَّدَ دعم بلاده "لقوى الأمن الداخلي؛ بتقديم مساعدات قيمتها 60 ستون مليون دولار أمريكي؛ لتمكينها من القيام بدورها الوطني، على صعيد حفظ الأمن وتوطيد النظام".
وحين تسمع سفيرَ الولايات المتحدة الأمريكية لدى الأمم المتحدة (زلماي خليل زاد) يقول: "إن الحكومة اللبنانية طلبت مساعدة الأمم المتحدة، وأنا اعتقد أنه ليس من مصلحتنا أو مصلحة المجلس أن نخذلها"، أو تتأمل في الدعم الفرنسي للبنان، الذي عبَّر عنه وزير الخارجية الفرنسي (برنار كوشنر)، لدى وصوله بيروت، في أول زيارة له خارج أوروبا، منذ توليه منصبه الجديد؛ عن تضامنه الكامل مع لبنان، الذي قال إنه يمر بمرحلة صعبة؛ تتساءل: لمَ كلُّ هذا الدعمِ للحكومة اللبنانية بحجة حسم ملف "فتح الإسلام"؟! وهل في هذا التنظيم من الخطر ما يهدد بقاء الدولة اللبنانية؟!
لماذا تريد الدولة حسم الموضوع بسرعة؟
يبدو لي أن هذا الدعم الدولي، العربي عموماً، الفلسطيني خصوصاً، للحكومة اللبنانية لإنهاء ملف "فتح الإسلام" بأسرع ما يمكن، ولو عسكرياً؛ يعود لأسباب عديدة، منها ما هو مرتبط بالملفات الداخلية، ومنها ما هو أبعد من ذلك.
أولاً: ما هو مرتبط بالشأن الداخلي يمكن حصره في النقط التالية:(/1)
• الإحراج الذي تعرض له الجيش في الساعات الأولى من المواجهة كان وقعه شديداً على الجيش وسمعته وهيبته الردعية؛ فهو الذي يراهن على قدرته على حماية لبنان لدى مفاوضته حزب الله لنزع سلاحه. فضلاً عن التفلت الأمني الذي يعيشه البلد، والذي يعكس عجز الحكومة الحالية عن السيطرة على الأمور، بغض النظر عمَّن يعرقلها.
وقد بلغ الحنق لدى وزير الدفاع إلياس المر أنه -خلال حوار تلفزيوني- تعهد بأنه لن يكتفي إلا بقتل عشرة أشخاص من عناصر "فتح الإسلام" مقابلَ كل عسكري يقتلونه!
وقد زاد من هذا الإحراج فقرُ معلومات مخابرات الجيش اللبناني، وعدم دقة المعلومات عن تنظيم "فتح الإسلام"، وهو الذي يرصده منذ نشأته!! وقد ألمح إلى هذا الأمر أحد المراجع الأمنية اللبنانية بقوله: "(فتح الإسلام) أظهرت أنها أكبر مما كنا نتخيل بكثير، ولو كنا قد تأخرنا لكانت مهمةُ قوى الأمن الداخلي والجيش أصعب بكثير أيضاً".
• تخوف الحكومة اللبنانية -إذا طالت الفتنة، ولم يحسم الملف سريعاً -أن يتدهور الوضع الأمني في المخيمات الفلسطينية، المنتشرة في جميع أنحاء لبنان، فضلاً عن ردة فعل بعض الإسلاميين، الذين يقترب فكرهم من فكر الحركات الجهادية، لا سيما أن دوائر (دبلوماسية) عربية في بيروت تلقت تقارير أمنية، مصدرها جهات فلسطينية، من داخل مخيم نهر البارد، "تفيد أن تنظيم (فتح الإسلام) يقف وراء التفجيرات التي تحصل، وأنه يريد توجيه رسالة واضحة للسلطة اللبنانية: إننا لسنا أيتاماً؛ بل لنا امتدادات في أكثر من منطقة لبنانية، وهناك جهات أصولية تقف معنا.. تلميحاً غير مباشر إلى تنسيق مع تنظيم القاعدة، الذي عزّز بنيته اللبنانية، خاصة في أعقاب حرب (تموز)".(/2)
ولا سيما أن أي استخفاف في حسم الموضوع سريعاً يعني أن الخطر سيقترب من القوات الدولية، العاملة في جنوب لبنان. وقد لوحظ في هذا الشأن "نقلة نوعية في مستوى التدابير الوقائية للقوات الدولية في الجنوب، في الأيام الماضية، وشملت التحذيرات أيضاً بعض المؤسسات الدولية في بيروت، وبعض السفارات التي اتخذت إجراءات احترازية".
• توقع اللعب على الوتر المذهبي الطائفي إذا ما استمرت الفتنة؛ في ظرف يعيش فيه لبنان احتقاناً طائفياً مذهبياً كبيراً، ظهر في حنق متبادل بين حركات إسلامية سنية متشددة وحزب الله، وهو ما قد يحرك التيار السلفي الجهادي المرتبط أو المتعاطف مع تنظيم "القاعدة"، الذي تعلن "فتح الإسلام" الانتماء إليه، وهذا سيجعل الساحةَ اللبنانية ميداناً لعمليات تفجيرية، عراقية الطابع، مصدرُها داخلَ لبنان وخارجه.
وقد رُصد -في الأحداث الجارية- تأفف واضح لدى هذه الحركات من اتهام المعارضة -وحزب الله منها- "شبابَ أحداث الضنية"، من السلفيين عام 1999م، الذين شملهم قرار عفو عام؛ بأنهم متورطون في أحداث "فتح الإسلام".
وقد تجلى هذا التأفف لدى هؤلاء إثر مقتل أحد "شباب أحداث الضنية"، المدعو: بلال رياض المحمود، الملقب "بأبي جندل"، في أحد أحياء طرابلس، وهو ما دفع رئيس الوزراء فؤاد السنيورة إلى أن يطلب من المدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء أشرف ريفي؛ إعلامه بأسباب مقتله.
• تقديم رسالة قوية لكل من تصنِّفه الحكومة في حركاتٍ إسلاميةٍ متشددة؛ بأنَّ ضربتها من حديد، وأن الأمن خط أحمر، في بلد ينتشر فيه التسلح لدى الأحزاب والقوى السياسية على قدم وساق..
وعن هذا الحسم يقول أحد المراجع الأمنية: إن قراراً نهائياً "بإنهاء المجموعات المتطرفة؛ اتُّخذ، على المستويين العسكري والسياسي، وبات الجميع يدرك حجم الأخطار التي تمثّلها هذه المجموعات".(/3)
• رغبة شديدة لدى الحكومة اللبنانية في تطويق الفتنة المستحدثة؛ خوفاً من الزج بها في نزاعات إقليمية، لا ناقة لها فيها ولا جمل، ويَظهَرُ بجلاءٍ خوفُها من أن يتطور التنافس بين "حركة حماس" وحركة "فتح السلطة" على تمثيل الفلسطينيين في لبنان؛ إلى الصراع، كما هو حاصل في غزة، ولهذا فإن التعجيل بتهدئة الأوضاع يعني سحب البساط من تحت أقدام من يعتزمون إدخال لبنان في موجة جديدة من النزاعات؛ يختلط فيها المحلي بالإقليمي والخارجي!!
وفي هذا الصدد؛ تريد الحكومة زيادة رصيدها السياسي بتوفير الأمن؛ ليمضي -بأمن- موسمُ الاصطياف، الذي تعول عليه كثيراً في إنشاء رافعة للاقتصاد اللبناني المتداعي.
ثانياً: ما هو مرتبط بالاعتبارات الخارجية:
• القضاء على حركة "فتح الإسلام" هو -في الحقيقة- رغبة فلسطينية، لدى الفصائل الفلسطينية الأخرى، كما أنه رغبة لبنانية؛ حيث إن أي تفوق "لفتح الإسلام" على الجيش اللبناني ربما يكسبها شرعية على الأرض، وعطفاً وحباً من قبل سكان المخيمات، وهذا ما لا يروق -طبعاً- لحركة "فتح" التي لا تملك نفوذاً في مخيم البارد، قياساً على نفوذها في المخيمات الأخرى..
وهذا يظهر جلياً لدى حركة "فتح السلطة" أكثر من أي فصيل آخر، حيث ترددت أنباء عن تجنيد أكثر من 300 عنصر من حركة "فتح" تحت إمرة أمين سر الحركة سلطان أبو العينين؛ للدخول في حرب مع "فتح الإسلام" بدلاً من الجيش اللبناني، مقابل تسليم أمن المخيمات الفلسطينية في لبنان للواءٍ فلسطيني مقرب من حركة "فتح"، على أن ينسق مع القوى الأمنية اللبنانية، لذا دعا سلطان أبو العينين بشدة للحسم عسكرياً بقوله: "لا هدنة في مخيم نهر البارد، وإنما هي فرصة للبنانيين والفلسطينيين؛ من أجل إيجاد وسيلة لحل جذري لاجتثاث عصابة (فتح الإسلام)".(/4)
وهذا لم يرق لممثل حركة "حماس" في لبنان، أسامة حمدان، الذي حذر قائلاً: "إن أي فصيل فلسطيني يسعى إلى حسم الأمر بنفسه سيقود إلى مشكلة أكبر".
• رغبة أمريكية أوروبية عربية في القضاء على هذا التنظيم، أو إلقاء القبض على بعض قياداته -إن أمكن- إذا ثبت أن لهم ارتباطاً بتنظيم القاعدة؛ بغية الحصول منهم على معلومات، وهذا مما لا شك فيه؛ إذا صح التقرير الذي نشرته صحيفة "الوطن السعودية" عن بدايات (فتح الإسلام)؛ ففي 22/3/2007 صدرت معلومات من طه محيي الدين شريدي، المسؤول عن العمل الخاص الإداري لتنظيم "عصبة الأنصار": أنه منذ 17/3/2007 صدرت فتوى داخلية من الشيخ أيمن الظواهري -الذي يتولى شؤون تنظيم القاعدة العسكرية والسياسية، بسبب شبه غياب أسامة بن لادن- تفيد "أن تنظيم (فتح الإسلام) هو جزء من تنظيم القاعدة".
وتشير الصحيفة إلى أنه صدرت تعليمات بمساندة شاكر العبسي، قائد تنظيم "فتح الإسلام" في لبنان، على أن يتم تأمين الدعم المالي والبشري للمذكور، وكذلك ضم العناصر العسكرية في لبنان كافة تحت قيادة "فتح الإسلام".
• القضاء سريعاً على التنظيم مطلبٌ أمريكي ولا شك، وقد تمثل بالدعم (اللوجستي) السياسي لحكومة السنيورة ضد "فتح الإسلام" لسببين؛ أولهما: توجيه ضربة قاصمة لتنظيم القاعدة في لبنان، ونسف البيئة التي يتكاثر فها؛ لحفظ القوات الدولية الموجودة في الجنوب اللبناني. وثانيهما: قطع طريق عناصره الذين كانوا قاتلوا في العراق ضد القوات الأمريكية، أو لديهم النية للعودة مجدداً إليه؛ لأن ذلك يخفف الضغوط التي يتعرض لها الأمريكيون في العراق.(/5)
وقد كان مطلب تنظيم الإسلام -في المفاوضات الجارية بينه وبين الحكومة اللبنانية- هو تخلية سبيله في توجه أعضائه إلى العراق، مقابل الخروج من مخيم نهر البارد، وتسليم أسلحتهم، وهذا ما لا يمكن أن تقبل به الولايات المتحدة، وبالتالي ستكون المحرك الأساسي لما يدور على أرض الواقع، في تعامل الحكومة اللبنانية مع التنظيم المذكور.
• الهدف الأخير هو هدف لبناني عربي دولي مشترك، وهو توجيه رسالة إلى تنظيم القاعدة، الذي يحاول أن يوجِد بيئة صالحة له في لبنان؛ لتنشئة خلاياه وتنشيطها وقت الحاجة، محاولةً منه للوصول إلى القوات الدولية، أو الوصول إلى الحدود الشمالية لفلسطين..؛ مفاد الرسالة أن لبنان -برغم الانقسام السياسي الذي هو فيه، والوضع الأمني المكشوف له- إلا أنه ليس أرضاً صالحة للتنظيم، ولن يعجز عن الصمود في وجه مخططاته؛ مهما حاولت القاعدة تفريخ قواعد لها في لبنان الضعيف، عبر بوابته الأضعف، المخيماتِ الفلسطينية!!(/6)
العنوان: ملفُّ مسلمي الهند.. جرح ما زال ينزف
رقم المقالة: 1043
صاحب المقالة: أحمد أبو زيد
-----------------------------------------
تفجيرُ المساجد جريمةٌ تتكرَّر بين الحين والآخر
ملفُّ مسلمي الهند.. جرح ما زال ينزف
مسلسلُ تفجير المساجد بالهند يكاد يتكرر بين الحين والآخر، منذ وقعت الجريمةُ الكبري الممثلةُ في هدم المسجد البابري التاريخي عام 1992م، ففي مايو الماضي (2007م)، تعرض مسجد مكة التاريخي بولاية حيدر أباد لأعمال إرهابية استهدفت تفجيرَه بعدة قنابل، وذلك في أثناء تجمعِ نحوِ ثمانية آلاف من المصلين في المسجد لصلاة الجمعة، مما ترتب عليه استشهادُ 14 مسلما في هذا الحادث الأليم الذي تسبب في أعمال عنف ومصادمات بين المسلمين والهندوس.
وقد جاء هذا الحادث بعد وقوع انفجارين العام الماضي (2006م) بمساجد المسلمين، أحدهما في مسجد بغرب الهند، أسفر عن سقوط 32 شهيدا، والآخر في المسجد الجامع في نيودلهي.
وإذا كانت جريمة هدم المسجد البابري الواقع بمدينة "إيودهيا" في شمال الهند عام 1992م من أعظم الجرائم الهندوسية التي أثارت العالم الإسلامي، فإن هدم المساجد والاعتداء عليها ومحاولة تدنيسها مسلسل مستمر في أنحاء الهند المختلفة، فبعد تدمير المسجد البابري، ادعى المتطرفون الهندوس أن مسجدين آخرين فيهما مقابر هندوسية، وحاولوا الاستيلاءَ على مسجد آخر في نيودلهي، ومنعت الشرطة رجال حركة (فيشوا هندو باريشاد) ومنظمة الشباب التابعة لبارانج دال، من أداء شعائرَ هندوسيةٍ في مسجد "قوة الإسلام" في مجمع قطب، وتقول المجموعات الهندوسية: إنها تريد إعادة بناء معبد هندوسي يزعمون أن الحكام المسلمون دمروه وكان في مكان المسجد.(/1)
وفي جريمة مماثلة لهدم المسجد البابري الأثري، قام متطرفون هندوس بهدم مسجد أثري يعود إلى العهد المغولي في 27 من يوليو 2001م، وبناء معبد هندوسي مكانه في زمن قياسي.. وهو مسجد أثري يسمى بـ"مسجد سواي بهوج" ببلدة (أسيند) الواقعة بمديرية (بهيلوارا) التابعة لولاية راجاستان الهندية.
وقد أنشأ هذا المسجدَ جيشُ الإمبراطور المغولي، حين عسكر بهذه المنطقة في القرن السادس عشر الميلادي، وهو مسجد من الطراز "القلندري" الذي يقوم بدون سقف ويتضمن جدارا في ناحية الكعبة وقاعدة مرتفعة وثلاث منارات.. وهذا المسجد يتبع مجلس الأوقاف بالولاية، وهو تنظيم حكومي يرعى الأوقاف الإسلامية.
وتكتمت سلطاتُ المنطقة هذه الجريمةَ فلم تصل أخبارُها إلى عامة الناس إلا عندما خرجت صحيفة (هيندو) بهذا الخبر على صدر صفحتها الأولى.. وقالت الصحيفة وقتها: إن تكتم السلطات يعود إلى خوفها من تدهور الوضع الأمني نظراً لوجود توتر شديد في المنطقة بين الطائفتين المسلمة والهندوسية عقب هذا الحادث.
وقد وقع هذا الحادث الإجرامي عندما هجم نحو (300) هندوسي على المنطقة يوم جمعة، فحرقوا الخيام ثم اتجهوا إلى المسجد وأزالوه من الوجود، كما فعلوا عند هدم البابري، ثم أحضروا مواد البناء وأقاموا معبداً على أنقاضه، يتضمن قاعدةً من المرمر وتمثالاً لبعض آلهتهم المزعومة، وتم كل هذا قبل مجيء مساء الجمعة حسَب رواية الصحيفة، في حين شوهدت كوكبة من الشرطة بالمكان بدون حَراك.. ومن الواضح من سياق الأحداث وسرعة إنشاء المعبد أن العملية لم تكن عفوية بل كانت الخطة معدة سابقاً.(/2)
وقد تم الكشف عن الحادث عندما تقدم أحدُ المسلمين من مدينة أسيند بشكوى لمجلس الوقف الذي يشرف على المسجد في ولاية "راجاستان"، واتهم أمين مجلس الأوقاف (ناصر علي نقوي) سلطات المديرية بالتقصير في أداء واجبها وطالب بإعادة المسجد كما كان سابقاً، وقال بأن السرعة التي أقيم بها المعبد تدل على أن العملية كانت قد حبكت مسبقاً.
• برامج ضد المسلمين:
وعندما نقرأ المحاور الرئيسة لبرامج المرشحين من الحركة الهندوسية المتطرفة، وفي خطبهم الحماسية خلال الانتخابات البرلمانية، نجد أن مطالبهم الرئيسة تركز على حرب المسلمين والعداء للإسلام، وهي:
1. إعادة النظر في حقوق الأقليات للحد منها.
2. إلغاء قوانين الأحوال الشخصية للمسلمين، واستبدال قانون مدني بها.
3. إلغاء الوضع الخاص لكشمير المتمثل في حكم ذاتي.
4. هدم الكثير من المساجد العتيقة بزعم أنها بُنيت على أنقاض معابدهم.
فهذا هو ما يخطط له المتطرفون الهندوس، ويعملون ليل نهار لتنفيذه، إذ يسعون لمحو الوجود الإسلامي واستئصاله من الهند، وهدم المساجد والاعتداء على المقدسات.
وهذه الأفكار المتطرفة -التي يحملها المتعصبون الهندوس- كانت وراء عشرات المصادمات التي قادها المتطرفون الهندوس ضد المسلمين ومساجدهم، والتي ذهب ضحيتها آلافُ المسلمين الأبرياء، فإذا ما تجاوزنا عن أحداث انفصال الهند وباكستان التي أودت بحياة مليون مواطن فضلاً عن 17 مليون آخرين أجبروا على الهجرة، فإن المدة بين عامي 1954م و1963م شهدت وقوع 62 حادث مواجهة بين المسلمين والهندوس، أدى إلى سقوط 39 قتيلاً، و527 جريحاً.
وفي عام 1964م كانت الحصيلة 1070 حادث، و2000 قتيل، وأكثر من 2000 جريح.
وبين عامي 1965م و1984م وقع 310 حادث، والحصيلة 160 قتيل، و1685 جريح،
وبين عامي 1985م و1991م كانت الحصيلة 620 حادث، و660 قتيل، و6 آلاف و950 جريح.
• محارق لمسلمي الهند:(/3)
وفي فبراير 2002م تجددت أعمال العنف ضد المسلمين لتشهد حرق المئات في أسوأ مجازر بشرية شهدها العالم على أيدي المتطرفين الهندوس. وقد بدأت أحداثُ العنف هذه ضد المسلمين في مدن الهند المختلفة إثر اشتعال قطار يوم 27 فبراير 2002م، على أيدي مجهولين، وهو ما أدى إلى مقتل 57 هندوسيا، وكان القطار في طريقه إلى "أحمد أباد" عاصمة ولاية جوجارات قادما من مدينة "أيوديا" التي تضم موقع المسجد البابري الذي يسعى الهندوس لبناء معبد وثني على أنقاضه، واتهمت الأوساط الهندوسية المسلمين بتدبير الحريق.
وبالرغم من ظهور أدلة قاطعة تشير إلى أن الرجال الذين هاجموا القطار كانوا هندوسا من طائفة "واشرمين"، وذلك انتقاما لاعتداء "المتطوعين" الهندوس على سيدة من هذه الطائفة، إلا أن الشائعات انتشرت بأن المسلمين وراء هذا الحادث، واندلعت المواجهات بين الهندوس والمسلمين، وبدأ حصار المتطرفين الهندوس لمنازل ومساجد ومتاجر المسلمين في أحياء مدينة أحمد أباد، وإشعال النار على من فيها من المسلمين، وهو ما أدى إلى استشهاد 500 مسلم حرقا في أسوأ مجزرة بشرية، واندلعت المواجهات وأعمال العنف الهندوسي ضد المسلمين، وشارك فيها آلاف المتطرفين، وشملت عدة مدن وولايات منها ولاية جوجارات، وعاصمتها أحمد أباد ومدن سورات، وبافنجار، وفادودرا.
وفرضت السلطات الهندية حظر التَّجوال في 37 مدينة، ونشرت أعدادا من قوات الجيش؛ في محاولة للسيطرة على الموقف المتدهور، وصدرت التعليمات لهم بإطلاق النار على من أسموهم بالمشاغبين.
وقد جرت أحداثُ العنف ضد المسلمين على الوجه التالي:
1- الخميس 28-2-2002 تم إحراق 18 مسلما أحياء، وتعرضت متاجر ومطاعم ومنازل المسلمين ومساجدهم للتخريب على يد الهندوس.(/4)
2- الجمعة 1-3-2002 لقي أكثر من 122 مسلم مصرعهم حرقا على أيدي الهندوس في ثلاث مناطق متفرقة بمدينة أحمد أباد، وقريتين أخريين. ولقي ثلاثون مسلما مصرعهم حرقا وهم أحياء على أيدي متطرفين هندوس في ولاية جوجارات الهندية.
3- السبت 2-3-2002 كان نصيب مدينة "أحمد أباد" عاصمة ولاية جوجارات هو الأسوأ، إذ أشعلت حشود الهندوس النيران في متاجر المسلمين في ثلاث مناطق على الأقل، كما منعت عربات المطافئ من الاقتراب من هذه المتاجر لإطفاء النيران المشتعلة بها.
4- حسب ما أدلت به مصادر بالشرطة الهندية، لقي 7 مسلمين على الأقل يعملون بمخبز في مدينة فادودرا حتفهم حرقا، بعد اشتعال النيران فيهم أحياء.
5- نشر موقع "ياهو" على شبكة الإنترنت السبت 2-3-2002 تقريرا حول أحداث العنف، أكد فيه أن حشود الهندوس -التي وصفها "بالحقودة"- تواصل أعمالها الانتقامية بحرق منازل مسلمي الهند، وقتلهم بالجملة، وهو ما أدى إلى ارتفاع عدد الضحايا المسلمين إلى 408 شهيدا، من بينهم 40 رميا برصاص الشرطة، حسب سجلات الشرطة الهندية.
6- أكدت صحيفة تايمز البريطانية أن شرطة الهند تركت المسلمين يحترقون، وعبرت الصحيفة عن حالة الهندوس قائلة: "إن الآلاف من الهندوس تسلحوا بالمناجل، والسكاكين والهراوات، وتجمعوا على الطرق، وطوقوا بيوت القلة من المسلمين الهنود وأشعلوا فيها النيران.
وروت مراسلة "تايمز أون لاين" البريطانية تخاذل الشرطة فقالت: "بينما تحصن بعض المسلمين بمتاريس صنعوها لحماية أنفسهم، وصلت قوة من الشرطة مسلحة بالبنادق والهراوات، واستطاعت تفريق حشود الهندوس، ولكن الهندوس تجمعوا ثانية؛ وهو ما أصاب الشرطة بالضجر والملل، وقرروا ترك الساحة، ولما اعترض بعض المسلمين قائلين بأن الهندوس سوف يقتلوننا، رد عليه أفراد القوة شبه المسلحة بلا اكتراث: "ما من شي يمكننا عمله".
• قوانين جائرة:(/5)
وإلى جانب الاعتداءات المستمرة على مساجد المسلمين وأرواحهم وممتلكاتهم، تضيع حقوق المسلمين هناك وحرياتهم، في ظل قوانين جائرة فصّلت خصيصا للمسلمين، فقد استغلت الهند الحملة العالمية ضد الإرهاب، وشهرت الحكومة الهندية سلاحًا جديدًا في وجوه المسلمين، لكبتهم ومصادرة حقوقهم المشروعة، بدعوى مطاردة الإرهابيين، واجتثاث الإرهاب، مستغله حملة بوش وأحداث 11 سبتمبر.
وهذا السلاح الجديد يتمثل في قانون يصادر حريات المسلمين تقدمت به الحكومة، ويترتب عليه اضطهاد المسلمين والزج بهم في المعتقلات بتهمة الإرهاب، وحظي القانون بدعم وزير الداخلية "لال كرشنا أدفاني" وقتها، والذي كان ضالعًا في هدم المسجد البابري، وهو يكره الإسلام والمسلمين كرهًا شديدًا.
وهذا القانون الجديد يصادر أيسر حقوق الإنسان الحر، ومن المعروف أن القوانين السوداء التي تهضم حقوق الإنسان وحريته في الهند ليست جديدة في البلاد، ولا هي بدعًا من الأمر، وقد ذاقت الأقليات في الهند -وخاصة المسلمين- ويلات تلك القوانين الجائرة.
فقد وضعوا من قبل قانونا لمحاربة الإرهاب السيخي في البنجاب، ولمدة ستة أشهر فقط، إلا أنه بقي ساري المفعول عشر سنوات طوال، واعتقل بسببه وعُذِّب في السجون كثير من الأبرياء في كل أنحاء البلاد، وكان معظمهم من المسلمين. والغريب أنه برغم أن القانون وضع لمحاربة الإرهابيين في البنجاب فإن معظم المعتقلين كانوا من ولاية قجرات، لا من البنجاب، ومن المسلمين، لا من السيخ! وهذا الذي يجعل المسلمين يتوخون الشر كل الشر من أي قانون لمكافحة الإرهاب، حيث تلصق بهم تهم الإرهاب ويعتقلون ويعذبون، وهكذا، كان المسلمون دومًا، ضحية كل القوانين الجائرة في البلاد.(/6)
ولقد ظلَّت السلطات الهندية تتخذ مقاييس مقلوبة، تجعل البريء متهمًا والمجرم بريئًا. فالمسلمون الذين هُدّمت مساجدهم، وسُفكت دماؤهم، وذُبحوا بالآلاف، ونُهبت أموالهم، ودُمِّر اقتصادهم، وهُتِكت أعراضهم، ودُمِّرت مؤسساتهم التجارية نُعتوا بأنهم (إرهابيون)، بينما عُدَّ الهندوس الذين اقترفوا كل هذه الجرائم البشعة في حق المسلمين (وطنيين غيورين).
وعلى مدار السنوات الخمسين الماضية طُبقت في البلاد قوانين لمحاربة الإرهاب ومطاردة الإرهابيين، ولكن آثارها ذهبت أدراج الريح. وكلما استبدل بقانون أشد منه تضاعف الإرهاب وتفاقم أمره، والسبب أن أيًّا من تلك القوانين لم يكن يستهدف الإرهاب، ولم يوجه يومًا نحو الإرهابيين، وإنما كانت فئات من الأقليات دون غيرها هم الضحية، كما أن تلك القوانين لم تعالج السبب الحقيقي للإرهاب، الذي هو سوء معاملة الجهات المعنية للأقليات واضطهادها وهضم حقوقها المشروعة.
وعندما ننظر إلى فقرات القانون الجديد الذي بدأ العمل به بعد أحداث سبتمبر 2001م، نجد خطره البالغ على الحريات الفردية المضمونة في دستور الهند وقوانينها الجنائية ولوائح البينة.
فالقانون يسمح للسلطات الأمنية أن تعتقل أي شخص تظن أن له علاقة بالإرهاب، أو يمكن أن تكون له علاقة، أو يمكن أن يرهب أحدا من المواطنين! وليس شرطا التحقق من أن له يداً فيه، ولكن يكفي "عسى" و"يمكن".
ويسمح القانون الجديد للسلطات الأمنية أن تصادر أموال المتهم، بل وأموال أقربائه أيضا!، كما يسمح للسلطات المعنية أن تخفي أسماء الشهود، وهذا يمنع أولاً التحقيق مع الشهود، ويمكن السلطات المعنية ثانيا أن تدعي وجود شهود، ولا خطر عليها ما دام القانون يسمح بإخفاء أسمائهم.(/7)
ومن أخطر فقرات القانون الجديد أنه يتيح للسلطات الأمنية والقضائية حرية الاختيار، بمعنى أن لها أن توجه التهم أو لا توجهها، وتسجن أو لا تسجن، تدين أو لا تدين! ويمكن لكل مطلع على أوضاع الهند وتحيز السلطات للهندوس على حساب المسلمين والأقليات الأخرى أن يعرف كيف يكون اختيار هؤلاء؟
ومن أخطر جوانب القانون اعتداؤه السافر على حرية التعبير والعمل الصحفي؛ إذ يفرض على الصحفيين الإفصاح عن المصادر التي استقوا منها معلوماتهم. وإن لم يصرح الصحفي بها يحق للسلطات أن تعتقله وتسجنه لمدة 3 سنوات.
وخلاصة هذا القانون الجديد أنه يعارضه كل من يهمه العدل والإنصاف، ويهضم حقوق الأقليات، وخاصة المسلمة.
• أكبر أقلية إسلامية:
ويجب أن نعلم أن المسلمين في الهند، هم أكبر أقلية إسلامية في العالم، وثاني أكبر تجمع إسلامي على وجه الأرض، وقد كانوا يمثلون ربع السكان في شبه القارة الهندية قبل الاستقلال، وتقسيمها إلى دولتي الهند وباكستان، وقد وصل الإسلام إلى الهند في وقت مبكر وبالتحديد عام 92هـ على يد محمد بن القاسم في أثناء الفتوحات المعروفة في التاريخ الإسلامي بفتوحات السند أيام عهد الدولة الأموية، وقد أصبحت بلاد السند بعد دخولها في الإسلام أهم مركز حضاري في شبه القارة الهندية، حيث ترجمت فيها الكتب الهندية من السندية إلى العربية، وإلى اليوم يحتفل أهل السند بيوم الفتح الإسلامي سنويا.(/8)
وظلت بلاد الهند خاضعة للحكم الإسلامي إبان الخلافتين الأموية والعباسية زهاء أكثر من خمس مئة سنة، حتى غزاها الفاتح المغولي المسلم بابر العظيم عام 1526م، واستولى عليها ليستمر الحكم المغولي الإسلامي حوالي ثلاث مئة سنة أخرى، وكانت هذه الإمبراطورية المغولية الإسلامية تحكم آسيا الوسطى وأفغانستان وشمالي الهند، وعلى مدى قرون طويلة ظل المسلمون في شبه القارة الهندية أمة واحدة، وتكونت في شبه القارة الهندية إمبراطورية إسلامية، واجهت فيما بعد الجيوش البرتغالية والهولندية التي غزت الهند، ولقيت هزائم كبيرة على أيدي المسلمين الذين قضوا على تجارة الرقيق التي كان يمارسها البرتغاليون.
ثم دخلت بريطانيا منافسا استعماريا يبغي السيطرة على الهند، وتم لها ذلك في أوائل النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وقبل هذا الاستعمار كان المسلمون في الهند أغلبية، ولذلك عمل البريطانيون على محاصرة الإسلام في الهند، خاصة وأن المسلمين هم الذين بذلوا دماءهم في مقاومة الغزو الأجنبي الهولندي والبرتغالي ثم الإنجليزي، فعند دخول البريطانيين كان الإسلام هو القوة السائدة في شبه القارة، ولم يتصد للدفاع عن الهند إلا المسلمون.
وقد أعلن الحاكم البريطاني "اللورد النبرو" في بداية الاستعمار: أن العنصر الإسلامي في الهند عدو بريطانيا اللدود، وأن السياسة البريطانية يجب أن تهدف إلى تقريب العناصر الهندوكية إليها لتستعين بهم في القضاء على الخطر الذي يتهدد بريطانيا في هذه البلاد.(/9)
وما قاله اللورد كان بمثابة دستور التزمت به السياسة البريطانية في الهند، حيث عادت الإسلام، وشجعت غير المسلمين، وأخذوا يحرضون الهندوك على الإسلام، وحرموا المسلمين من الوظائف، ونشروا فكرة أن الدول الإسلامية في الهند ليست دولا هندية، بل هي دول غازية أو مستعمرة، واتبعوا سياستهم الاستعمارية المشهورة "فرق تسد"، فأوقعوا بين المسلمين والهندوس أبناء الوطن الواحد، برغم أن الإنجليز يعلمون أن 90% من مسلمي الهند، هم هنود اختاروا الإسلام بمحض إرادتهم، ولكنهم سعوا لنشر الفرقة والأحقاد بينهم في شبه القارة الهندية، حتى انتهى الأمر بتقسيم الهند.
فمع نهاية الاحتلال البريطاني الذي استمر حوالي مئتي عام، كان المسلمون أقلية نسبيا، وانقسمت الهند عام 1947م إلى دولتين إحداهما هندوسية هي الهند، والثانية مسلمة هي باكستان، التي كانت تضم آنذاك بنغلاديش، ونتيجة لذلك التقسيم ظهرت على مسرح الأحداث السياسية مشكلة إقليم "جامو وكشمير" المتنازع عليه بين الهند وباكستان حتى اليوم.
• سدس سكان العالم:
والهند مجتمع متعدد الأعراق واللغات، ويعيش فيها أكثر من مليار نسمة، يمثلون سدس سكان العالم، وتبلغ نسبة المسلمين فيها 14% من مجموع السكان، أي حوالي140 مليون نسمة، أكثر من نصفهم يعيش في ثلاثة ولايات شمالية هي (أوتربرادش) وولاية (بهار) وولاية (البنجال) الغربية، وطبقاً لذات الإحصاء فإنهم يمثلون الأغلبية في 15 مديرية، والغالبية في منطقتي (جامو)، (كشمير)، ويعمل في قطاع الزراعة منهم قرابة 70% والباقون موزعون على قطاعات الخدمات والتجارة والصناعة.
وينقسم مسلمو الهند إلى قسمين هما: مسلمو الشمال، ويتبعون المذهب الحنفي ويتكلمون اللغة الأردية والبنغالية، ومسلمو الجنوب، ويتبعون المذهب الشافعي ويتحدثون اللغة التاميلية، إضافة إلى وجود مسلمين شيعة في بعض الولايات وبالأخص في حيدر أباد.(/10)
وبرغم كبر حجم الأقلية المسلمة في الهند (14%)، فإن نسبة تمثيلهم في مؤسسات الدولة لا تتعدى 3%، وحسب بعض التقارير الرسمية فإن الأرقام تشير إلى أن تمثيل المسلمين في الوظائف الرسمية يتضاءل باستمرار.
• مجتمع مغلق:
وكأي أقلية في العالم بدأ مسلمو الهند في تنظيم شئون مجتمعهم الخاص -الذي حرصوا أن يكون مغلقا قدر استطاعتهم- وأنشؤوا لهذا الغرض عدة جمعيات تهتم بشؤون هذه الأقلية أهمها "مجلس المشاورة" الذي يتولى بحث القضايا التي تتعلق بهم وعلاقتهم بالمجتمع الهندي، وحل المشاكل الداخلية بينهم، ثم هناك "الجماعة الإسلامية الهندية"، وهي جماعة تقوم بدور دعوي وتثقيفي ونضالي لتثبيت أقدام الوجود الإسلامي في الهند، ثم "جمعية علماء الهند" التي ترعى شئون العلماء، وهناك كذلك "الجمعية التعليمية الإسلامية لعموم الهند"، وهي ترعى شئون المدارس الإسلامية.
كما يوجد لدى الأقلية المسلمة في الهند جامعات لتدريس العلوم الإسلامية وأخرى للعلوم المدنية، ومن أهمها: جامعة ديوبند، وندوة العلماء في لكنهؤ التي خرجت عددا كبيرا من كبار العلماء أمثال الشيخ أبي الحسن الندوي، وجامعة مظاهر العلوم، ومدرسة الإصلاح، والكلية الإسلامية في فانيا آبادي، والجامعة العثمانية في حيدر أباد، والجامعة الملية في دهلي. أما التعليم الأولي فتهتم بشؤونه مدارسُ ومكاتب منتشرة في أماكن وجود تلك الأقلية، ويعاني أغلبهم كثافة الفصول وقلة المتخصصين.
• أغلبية فقيرة:(/11)
وغالبية المسلمين في الهند هم عمال فقراء، أو فلاحون، أو حرفيون، وهم لا يتجهون إلى التجارة والصناعة نتيجة عدم حصولهم على قروض من البنوك، وهيئات التمويل الرسمية، ومنع السلطات قيام مؤسسات مالية غير ربوية. فالأكثرية الساحقة من المسلمين هم من الفقراء، ولكن هناك فئة محدودة من المسلمين المثقفين التي ظهرت خلال الأربعين سنة الأخيرة، وبعد أن هاجرت النخبة المسلمة المثقفة من البلاد إلى باكستان عقب التقسيم.
والمسلمون في الهند لا ينفتحون على النظام الجديد، ولا يقبلون أي جديد، خصوصاً إذا كان الغرب مصدره، والثقافة الغربية ليست شائعة بينهم، والمؤسسات الثقافية التي يديرها المسلمون هي بحالة مزرية، ولذلك فإن الطبقة المتوسطة التي ظهرت بين المسلمين لجأت إلى المؤسسات الهندوسية الدينية، حيث يمكن أن يجدوا مطلبهم من الثقافة الحديثة، والعلوم، والتكنولوجيا، والهندسة.
• فقدان القيادة الموحدة:
والتحدي الكبير بالنسبة للمسلمين في الهند هو فقدان القيادة، فليست لهم قيادة واحدة وموحدة، وهذه أكبر قضية منذ بداية عهد الاستقلال لأنه قبل الاستقلال كانت لهم منظمات وأحزاب وحركات وشخصيات، ولكن بعد التقسيم وظهور باكستان، وهجرة النخبة من الهند إلى باكستان خلت هذه البلاد، ثم لسبب أو لآخر قرر بعض الوجهاء المسلمين هناك حل التنظيمات السياسية.(/12)
هذا إلى جانب أن العوامل الداخلية والخارجية جعلتهم في حال دفاع مستمر عن أنفسهم ليظلوا دوماً طائفة فقيرة وأمية ومجهدة لا تقوى على الإبداع، فضلاً عن تغيير واقعها، فماذا يمكن أن يكون مستقبل المسلمين في ظل هذا الواقع الأليم الذي يعيشون فيه، وفي ظل تنامي التيار الهندوسي المتطرف؟ هذا التيار الذي يتبني أيديولوجية العداء للإسلام كمصدر مزعوم للإرهاب، لقد ذهب وفد من هذه الحركة المتطرفة إلى إسبانيا لدراسة كيف تم استئصال المسلمين من ديار الأندلس، وتقوم أدبياتها على اعتبار أن المسلمين في الهند هم المسؤولون عن كل مشاكلها، وأن عليهم الرحيل عن البلاد، وأن للمسلم فقط مكانين باكستان أو القبر، وعلى هذا الأساس تواصل حملتها المتشددة تجاه المسلمين، واستطاعت هذه الحركة أن تستجلب الدعم المادي من الجاليات الهندية في الخارج.
• مشكلات المسلمين:
وإذا نظرنا إلى المشكلات التي تواجه مسلمي الهند، نجدها تتمثل فيما يلي:
1- النزاعات التي تتكرر دائما بين الهندوس والمسلمين والتي كان من أعنفها أحداث أسام عام 1984 التي أسفرت عن مجازر راح ضحيتها آلاف المسلمين، وأحداث هدم المسجد البابري في 6 ديسمبر 1992م حيث وقعت اشتباكات بين المسلمين وأعضاء حزب شيوسينا الهندوسي المتعصب سقط فيها الآلاف من الجانبين.
2- الهوية الثقافية التي تشعر تلك الأقلية أنها مهددة بالذوبان في المجتمع الهندي الذي يغلب عليه الطابع الهندوسي، ويقول المسلمون الهنود: إن الحكومة تحاول تكريس هذا الطابع في المؤسسات التعليمية والثقافية والإعلامية، لذا فقد بذلوا جهودا كبيرة -خاصة في بناء المؤسسات التعليمية- من أجل الحفاظ على هويتهم الإسلامية، إلا أن ثمار هذه الجهود لا تصل إلى مستوى الطموح المطلوب لأسباب منها: قلة الإمكانيات في المؤسسات التعليمية الإسلامية، وضعف التنظيم والتنسيق بين المؤسسات والجماعات الإسلامية في الهند.(/13)
3- انخفاض متوسط الدخل السنوي لمعظم أفراد الأقلية المسلمة، وتصنيفهم ضمن الشرائح الاجتماعية الأكثر فقراً، إذ يعيش أكثر من 35% من سكانها تحت خط الفقر.
4- الممارسات التعسفية التي تقوم بها الحركة الهندوسية المتطرفة ضد المسلمين، إذ تسعى هذه الحركة إلى الحد من حقوق الأقلية المسلمة، وإلغاء قوانين الأحوال الشخصية للمسلمين، واستبدال قانون مدني به، وهدم الكثير من المساجد العتيقة بزعم أنها بُنيت على أنقاض معابدهم.
وفي مواجهة هذه المشكلات والتحديات يجب على المسلمين في الهند توحيد صفوفهم، والمحافظة على هويتهم الإسلامية، وتنمية أنفسهم والارتقاء بأحوالهم المادية والاجتماعية والاقتصادية، والتفاعل مع مؤسسات المجتمع الهندي والمشاركة السياسية، حتى يعلو صوتهم في ظل مجتمع لا يعترف إلا الأقوياء.
• المراجع:
1- محنة الأقليات المسلمة في العالم – محمد عبد الله السمان – دار الاعتصام – مصر 1989م.
2- المسلمون المنسيون – يسري عبد الغني البشري – مكتبة ابن سينا – القاهرة 1989م.
3- الأقليات المسلمة في العالم - محمد عبد العاطي - قناة الجزيرة على الإنترنت - 26/11/2000م.
4- الهند: قانون يصادر حريات المسلمين! - أبو بكر محمد - كيرالا – الهند 1/12/2001م.
5- حملة هندوسية لإنشاء معبد على أنقاض المسجد البابري – جريدة العالم الإسلامي – العدد 1730 – 25 يناير 2002م.
6- جريمة المسجد البابري تتكرر في الهند - جريدة الرياض - العدد 12092 - الخميس 12 جمادى الأولى 1422هـ.
7- تفجير المساجد بالهند - موقع العربية على الإنترنت - 19 من مايو 2007م.(/14)
العنوان: من إجلال الله
رقم المقالة: 1534
صاحب المقالة: مروان محمد أبو بكر
-----------------------------------------
يدعو للأسفِ أن تجدَ مُعلِّمَ القرآن في كثير من الأحيان منسيًا، ومن أقل الناس راتباً، وذلك يُحدث تناقضًا بين (ما نقولُه عن قدر حَمَلة القرآن وحث الناشئة على حفظ الكتاب الكريم والعناية به)، وبين (ما نعامِلُ به أهلَ القرآن ومعلميه)، ولقد كان سلفُ الأمة الصالحُ -رضي الله عنهم- يعظمون أهلَ القرآن ويُجلونهم، ويقدمونهم على أهل سائر العلوم والفنون، وذلك لتمكُّن الآخرةِ من قلوبهم والدينِ من نفوسهم.
ونجدُ في زماننا هذا عكسَ ذلك؛ إذ يُقدَّم أهلُ العلوم غير الشرعية ويُحترمون في كثير من المواقف أكثرَ من أهل القرآن، مما ينفِّر الجيلَ من الإقبال على حفظ القرآن وأن يكونوا من أهله. ولقد تواترت الأحاديثُ الدالة على مكانة أهل القرآن؛ من ذلك ما رواه عامر بن واثلة أن نافع بن عبد الحارث لقي عمر بعسفان وكان عمر يستعمله على مكة فقال: "من استعملت على أهل الوادي؟ فقال: ابن أبزى، قال: ومن ابن أبزى؟ قال: مولى من موالينا، قال: فاستخلفت عليهم مولى؟ قال: إنه قارئ لكتاب الله عز وجل، وإنه عالم بالفرائض، قال عمر: أما إن نبيكم -صلى الله عليه وسلم- قد قال: إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً، ويضع به آخرين"[1].
وعن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: قال: رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ من إجلال الله تعالى إكرامَ ذي الشيبة المسلم وحاملِ القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه، وإكرامَ ذي السلطان المقسط"[2].
وعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يجمعُ بين الرجلين من قتلى أحد، ثم يقول: أيهما أكثرُ أخذاً للقرآن، فإن أشير إلى أحدهما قدَّمه في اللحد"[3].
وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "خيركم من تعلَّم القرآنَ وعلَّمه"[4].(/1)
فهذه الآثارُ كلها تدل على توقير أهل القرآن، وأن إجلالهم من إجلال القرآن، بل من إجلال مُنزِل القرآن جل وعلا.
ولقد كان للمحتل الغاصب وأذنابه سعيٌ دائم وحثيث وخبيث من أجل تصوير أهل القرآن بما لا يليق بغيرهم فضلاً عنهم، كما سعوا ليكونَ قدرُ أهل القرآن ومعلميه مَهيناً في سلم الوظائف حتى ينفروا الأمة من كتاب ربها والتمسك به، فصار الجميعُ يحرصون أن يكون أبناؤهم من أهل العلوم الأخرى غير القرآن كي يعظم أمرُهم في المجتمع، إذ لا سبيل إلى المكانة الاجتماعية إلا بتلك العلوم التطبيقية، هكذا صوروا الأمر للناس، ولقد أعانهم كثيرٌ من الطيبين دون شعور منهم في تحقيق ذلك الهدف، وذلك بالإيحاء والتعامل مع أهل القرآن بما لا ينبغي.
فلابد من تغيير هذه النظرة؛ بتقديم أهل القرآن، وتعظيم شأنهم، وهو ما أوجبه الله –تعالى- لهم، وذلك من أجل أن نقوم بما أوجب الله علينا في حقهم أولاً، ثم من أجل أن ندفع بأبنائنا إلى القرآن والتمسك به ثانياً.
إننا نتوقُ لرؤية اليوم الذي يتمنى فيه كلُّ واحد من أبنائنا أن يكون معلماً للقرآن، مُتقناً له ضابطاً سلوكَه به، كما يتمنى الكثيرون اليوم أن يلتحقوا بكليات الطب والهندسة وغيرها.
بل إن بعض أهل القرآن أصيب بشيء من الانهزامية من جَرَّاء هذا الواقع المرير، فتجده ينظر بإعظام إلى أهل العلوم التطبيقية ويقدمهم لما عندهم من تلك المعارف على نفسه ناسيًا أو متناسيًا أنَّ في جوفه كلامَ رب العالمين، وأنه بذلك من خيار الأمة.
وقد تجد داء الانهزامية هذا في بعض طلاب كلية الشريعة فلا تراه يعتز بما معه من العلوم الشريفة، وربما اجتمع الشبابُ في مجلس فسأل بعضُهم بعضًا أين تدرس؟ فيجيب بعضهم معتزًا: في كلية الطب، ويقول الآخر: وأنا في كلية الهندسة، ويطأطأ ثالثُهم رأسه قائلا: لما كان معدلي ضعيفًا لم أجد غير كلية الشريعة!(/2)
إن هذه البلوى من واقعنا الذين نعيشُه، ولا بد أن نعترف بها؛ لأن ذلك أول طريق التصحيح ووضع الأمور في نصابها.
ومن المؤسف أن تجد بعضَ علماء الشريعة يزهو ويفتخر؛ لأن أبناءه يدرسون في كليات الطب وغيرها وتعرف في لحن قوله عدمَ اعتزازه بتخصصه كما اعتز بتخصصات أبنائه.
إنني أعتقد أن لا عاقلَ يدعو لمحاصرة العلوم التطبيقية وغيرها، كما أن ذلك ليس من مصلحة العلوم الشرعية التي في كثير من أبوابها ترتبطُ ارتباطا وثيقًا بهذه العلوم، ولا أحدَ –كما أتصور- يجهلُ عاملَ العلوم التطبيقية في رقي الأمة ورفعتها، ولكن الذي يُعاب أن تكون تلك المكانةُ المستحَقة للعلوم الدنيوية خصمًا للمكانة المستحقة والرفيعة للعلوم الشرعية.
إنها همسة في آذان القائمين على وزارات العمل، والتربية والتعليم والشؤون الدينية، وغيرهم ممن يعنيهم الأمرُ في عالمنا الإسلامي الكبير بأن تكون لهم خططُهم الواضحة لتغيير هذا النظرة القاصرة، وذلك بمزيد العناية والتقدير لأهل القرآن وعلومه.
ــــــــــــــــــــــــــ
[1] رواه مسلم، 1/559، (817).
[2] رواه أبوداود، 2/677، (4843).
[3] رواه البخاري، 1/450، (1278).
[4] رواه البخاري، 4/1919، (4739).(/3)
العنوان: من أحكام السفر وآدابه (1)
رقم المقالة: 970
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
السفر بين الطاعة والمعصية
الحمد لله؛ خلق البشر ليعبدوه، ورزقهم ليشكروه ولا يكفروه، نحمده على عظيم نعمه، ونشكره على تتابع مننه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ خزائن السماوات والأرض بيده، وكل شيء هالك إلا وجهه {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ الله بَاقٍ} [النحل:96] وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ بشر أمته وأنذرهم، وما من خير إلا دلهم عليه، ولا شر إلا حذرهم منه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وراقبوه فلا تعصوه، اتقوه في أنفسكم ورعاياكم، واتقوه في حلكم وترحالكم؛ فإنه سبحانه على كل شيء رقيب، وبكل شيء عليم، ولا تخفى عليه خافية من أقوالكم وأعمالكم ومقاصدكم {إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الأحزاب:54] {وَإِنْ تَجْهَرْ بِالقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى * اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى} [طه:7-8]
أيها الناس: للنفوس البشرية إقبالها وإدبارها، ولها ضروراتها وحاجاتها، وقد راعى الإسلام ما في النفس البشرية من حب للشهوات؛ فأباح من الشهوات ما ينفعها وينشطها، وحرم عليها ما يضرها ويوبقها، وما من شهوة محرمة في دين الله تعالى إلا ويغني عنها ما هو خير وأنفع منها.
إن الإسلام وإن كان دين الجد والعمل، ويربي أتباعه على الاقتصاد في اللهو والعبث، ويوجههم إلى الآخرة عوضا عن الدنيا وملاذاتها؛ فإنه كذلك أباح لهم من لذائذ الدنيا ما يكون عونا على الطاعة، وسببا لاجتناب المحرم.(/1)
وتكون هذه اللذات المباحة عبادات يؤجر عليها صاحبها إذا أحسن فيها النية؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم :(وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجرا) رواه مسلم.
ولما قال حنظلة الأسيدي رضي الله عنه: (يا رسول الله، نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة حتى كأنَّا رأيُ عين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيرا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده إنْ لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم ولكن يا حنظلة ساعة وساعة، ثلاث مرات) رواه مسلم.
ولما أراد عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن يأخذ نفسه بالجد، ويفرغها للعمل الصالح؛ رغبة في الآخرة، وإعراضا عن الدنيا؛ تعقبه النبي صلى الله عليه وسلم في سيرته تلك فقال عليه الصلاة والسلام: يا عبد الله، ألم أُخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل؟ قلت: بلى يا رسول الله، قال: فلا تفعل، صم وأفطر، وقم ونم؛ فإن لجسدك عليك حقا، وإن لعينك عليك حقا وإن لزوجك عليك حقا) رواه الشيخان.
فأخذ النفس بالجد دائما قد يؤدي إلى الملل والسأم، ومن ثم ترك كل العمل، وقد نقل عن علي رضي الله عنه قوله: (أجمُّوا هذه القلوب، والتمسوا لها طرائف الحكمة؛ فإنها تمل كما تمل الأبدان).
وكذلك الزيادة في اللهو والترويح، والانغماس في الملذات ولو كانت مباحة سبب لموت القلب، والإقبال على الدنيا، والإعراض عن الآخرة، والخيار في ذلك الموازنة بين حقوق الآخرة، وحظوظ النفس من الدنيا.
وللناس في الترويح والسعة مذاهب يتبعونها، وطرائق يسلكونها: من اتخاذ المزارع والضيعات، والخروج إلى المتنزهات والاستراحات، في أنواع من اللهو المباح وغير المباح.(/2)
ومن أشهر أنواع الترويح والتنفيس عن النفس البشرية : السفر من بلده إلى بلاد أخرى، إما لأنها مسقط رأسه، وبلد آبائه وأجداده، وإما لميزات أخرى دعته إليها، وجعلته يقدمها على غيرها.
وغالب البشر يُقَدِّمون السفر كنوع من أنواع التنفيس على غيره من أنواع الترفيه والترويح، ويجعلونه تاجها ورأسها، ولا بدَّ منه في كل عام عند أكثر الناس ممن يطيقونه ويجدون نفقاته.
والسفر إما أن يكون سفر طاعة، وإما أن يكون سفر معصية، والمباح منه يؤول بالنية والعمل إلى أحدهما ولا بد.
ومن سفر الطاعة: السفر للجهاد أو الرباط، أو طلب العلم، أو صلة الرحم، أو زيارة الإخوان في الله تعالى.
ومن سفر المعصية: السفر للسرقة، أو قطع الطريق، أو الزنا، أو القمار، أو الخمر، أو غير ذلك من أنواع المحرمات.
والسفر للترويح والترفيه هو من المباحات التي تؤول إلى الطاعة أو إلى المعصية.
فإن سافر إلى بلد يقام فيها دين الله تعالى، ويحكم فيه بين أهلها بشريعته، وأحكام الإسلام فيها ظاهرة، والدين فيها عزيز، مع قيامه في نفسه وأهله ورفقته بما أمر الله تعالى من فعل المأمورات، واجتناب المحظورات، فهذا سفر مباح لا ضير على العبد فيه، ولا فيما أنفقه من نفقات عليه.
فإن اقترن بذلك نية صالحة من قصد إدخال السرور على أهله وولده، وجَعْلهم تحت علمه وبصره، وحفظهم من الفراغ ورفقة السوء في بلده، أو أراد بسفره نشاط نفسه وأهله على طاعة الله تعالى، والتفكر في عجائب خلقه وقدرته؛ كان سفره سفر طاعة، وله من الأجر فيه على حسب نيته، ونفقته فيه مخلوفة عليه إن شاء الله تعالى.(/3)
وأما إن كانت وجهة سفره إلى بلاد كافرة، الكفر فيها عزيز، والإسلام فيها ضعيف، وحرمات الله تعالى تنتهك فيها جهارا نهارا ولا نكير، فهذا سفر معصية لا خير فيه، وإثمه أكبر من نفعه. وهكذا إن سافر إلى بلاد تتسمى بالإسلام وليس الإسلام فيها ظاهرا، بل الظاهر فيها الكفر والفسوق والعصيان.ولم يرخص العلماء في السفر إليها إلا لضرورة لا بد منها، أو حاجة ملحة، بشرط أن يكون عند هذا المسافر ومن معه من رفقته علم يدفع به الشبهات، وأن يكون عنده دين يمنعه من الشهوات.
فإن خشي على نفسه من الزيغ والضلال، أو كان ضعيفا أمام الشهوات، فالسلامة لا يعدلها شيء، ولعل ضرورته أو حاجته تندفع بغير هذا السفر، ومن يتق الله يجعل له مخرجا، ومن ترك شيئا لله تعالى عوضه الله تعالى خيرا منه.
إن السفر إلى بلاد تعج بأنواع الكفر والفسوق لمما يضر المسلم في دينه، فكيف إذا اصطحب معه أهله وولده، وهم أمانة في عنقه، وأضرار ذلك كثيرة، وآثامه عظيمة:
فمن اختار بلادا كافرة موطنا لسياحته، ومقرا لإجازته فقد أجاز لنفسه الإقامة بين ظهراني المشركين بلا ضرورة ولا حاجة، فيخشى عليه من براءة النبي صلى الله عليه وسلم منه؛ كما قال عليه الصلاة والسلام (أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين).
فإن وقعت له مشكلة اضطرته إلى محاكمهم فقد تحاكم إلى الطاغوت بلا اختيار منه، وقد كان في عافية من ذلك.
ولو لم يكن في السفر من الحرج والإثم إلى بلاد يظهر فيها الكفر والفجور، ويعلن الناس به إلا أن هذا المسافر المسلم يرى المنكر فلا ينكره، فضلا عن أن يغيره ويزيله؛ لكان كافيا في صرفه عنه، والاستعاضة بما هو خير منه. وكم يمر به في يومه وليلته من منكرات يأثم بحضورها وعدم إنكارها؟ ولازمٌ على من حضر منكرا أن ينكره، فإن لم يستطع وجب عليه أن يفارق مكانه.(/4)
بل إن إدمانه على مشاهدة المنكرات يكون سببا في تغير قلبه، ورقة دينه؛ فإن سلم هو من أكثر ذلك لعزلته في مسكنه أو منتجعه؛ لم يسلم من معه من أهل وولد ورفقة، وآثامهم على رقبته.
وإن تغير أخلاق كثير من نساء المجتمع وفتياته فيما يتعلق بالحجاب الشرعي حتى استبدل باللثام والنقاب واللباس الضيق، والتوسع في كشف الوجه، وإظهار الزينة، في أنواع من الغرور والاستعراض ما هو إلا من بلاء السفر والإعلام، فالمرأة الرحَّالة مع أهلها شرقا وغربا قد ألفت نزع الحجاب في غير بلدها، مع اختلاطها بالرجال، وبنزعها لحجابها نزع حياؤها، فثقل عليها أن تعيده كما كان إذا عادت إلى بلدها!! وكل هذه الآثام يتحملها وليها، مع بقاء إثمها عليها. نسأل الله تعالى أن يخفف عنا وعن المسلمين.
ومن أعظم ما يكون سببا للإعجاب بالكفار ومذاهبهم وأخلاقهم وطرائق عيشهم مثل هذه الأسفار المشئومة؛ حتى صارت المجاهرة بمديحهم علانية في الصحف وغيرها مع نهاية كل صيف، فكل كاتب معجب بهم، أقام صيفه في أحضانهم، يعود إلى بلده لينفث جهالاته وضلالاته على الناس، مدحا للكفار، وإعجابا بهم، وشتما في بلده وأهله وبغضا لهم، وهو يأكل من خيرهم، ويتفيأ ظلالهم، فما أجحده وما أنكره {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} [عبس:17].
وما علم هذا المسكين المعجب بما لا يُعجب العقلاء من بني آدم أن الكفر أعظم الذنوب، وأن المتلبس به مهما كانت أخلاقه عالية، وابتسامته عريضة، وتعامله حسنا؛ فإن ذلك لا يقربه عند الله تعالى طرفة عين، بل هو ممقوت عند الله تعالى، وإن عمل صالحا في الدنيا عجلت له حسنته فيها؛ حتى لا يبقى له شيء عند الله تعالى يحاججه به ، فيوافي يوم القيامة حين يوافي ولا حسنة له، وقد استحق النار خالدا فيها مخلدا إن مات على كفره، فمن يُعْجَب بمن كانت هذه حاله ومنزلته عند الله تعالى، وتلك نهايته في الدار الآخرة؟(/5)
والله لا يُعْجَب به، ولا يُثني عليه، ولا يرضى بحاله إلا مريض القلب، مغموص عليه في النفاق، أو جاهل أخرق لا يدري ما يقول.
وكل الذين ينادون بالمشاريع التغريبية في بلاد المسلمين ما هم إلا ضحايا لهذه الأسفار المحرمة حتى لُوثت عقولهم بالشبهات، وتملكهم حبُ الشهوات، فهي التي تسيرهم في دعواتهم التخريبية في بلاد المسلمين، نسأل الله تعالى لنا ولهم الهداية، وأن يكفي المسلمين شرور دعواتهم ومشاريعهم.
وإذا كانت هذه بعض أضرار السفر لبلاد الكفر والفجور فكيف يسوغ لعاقل أن يورد نفسه ومن يحب من أهله وولده هذه المهالك في الدين من أجل متعة عابرة، ولذة زائلة؟!
هذا إن سلم هو وأهله وولده من الوقوع في كبائر الذنوب، وعظائم الموبقات، وقلّ من الناس من يسلم؛ لغلبة الشهوة، وقوة الدافع، وغياب الرادع، إلا من عصمه الله تعالى، وقليل ما هم.
وكم نقل كثير من المسافرين أمراضا جنسية لأهلهم ومجتمعهم لا عافية منها إلا باجتناب ما حرم الله تعالى من الخبائث، والاكتفاء بالحلال الطيب.
ألا فاتقوا الله ربكم -أيها المسلمون- واجتنبوا ما حرم الله تعالى عليكم، وراقبوه في كل أحوالكم، واستعيضوا بالحلال الطيب عن الحرام الخبيث؛ فإن فيه الخير والبركة، وإن الحرام لا يُشبع منه، وعاقبته شقاء في الدنيا، وعذاب في الآخرة، واحفظوا أنفسكم ورعياكم من أهل وولد من موجبات غضب الله تعالى
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التَّحريم:6].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثانية(/6)
الحمد الله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، ولا أمن إلا للمؤمنين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله النبي الأمين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- وراقبوه، والزموا طاعته ولا تعصوه {وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَائِزُونَ} [النور:52].
أيها المسلمون: خلق الله تعالى الخلق لعبادته، وواجب على من رضي بالله تعالى ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا؛ أن يراقب الله تعالى في كل أحواله، وأن يصدر عن شريعته، وليس له أن يقدم هواه وهوى أهله وولده على أمر الله تعالى؛ فإن ذلك سبب الزيغ والضلال {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63] {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب:36].
وقد جعل الله تعالى في الترويح الحلال، والسفر المباح؛ مندوحة وغنى للمؤمن عن كل سفر محرم.
ومن عجيب أمر بعض المسافرين أنهم ينفقون مالا عظيما في أسفارهم، لا ينفقون عشره في مجالات الخير، ونفع الناس، والصدقة على الفقراء.(/7)
وأعجب من ذلك أن واحدهم يزعم محبة الله تعالى، ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو في كل سنة يقطع آلاف الأميال في سفر محرم، ويُصَبِّر نفسه على الرهق والعسر والزحام في المطارات وغيرها، ومكة والمدينة قريبتان منه، فيغيب عنهما سنة وسنتين، بل عشرا وعشرين، ولربما أنكر على ولده أو قرابته كثرة العمرة وزيارة المدينة، بحجة الزحام والحر ونحو ذلك، وهو لم يمنعه تكلف صعاب أعظم، ومسافات أطول، ونفقات أكثر من سفره المحرم، فأي حرمان وخذلان لمن كان هذا حاله؟ نسأل الله تعالى السلامة والهداية.
ومن أبى مع ذلك كله إلا أن يختار السفر المحرم، ولم يقدر على كبح جماح شهوته، فعليه أن يتقي الله تعالى في سفره، وأن يراقب أهله وولده، وأن يدعو إلى الإسلام من خالطه من أهل الكفر، أو إلى الطاعة من رآه من المسلمين على معصية؛ لعله بذلك أن يُكفِّر بعض سيئات سفره.
وأما تركه لأهله وولده يسرحون ويمرحون كيف شاءوا، ويأتون من المنكرات ما أرادوا؛ فذلك من تضييع الأمانة، وخيانة الديانة، وهم متعلقون في رقبته يوم القيامة لا محالة، وكلكم راع ومسئول عن رعيته.
كما يجب عليه أن يلزم زوجه وبناته بالحجاب الشرعي حتى لو كانوا في بلاد لا يلتزمه أهلها؛ إذ إن الوقوع في المحرم -وهو السفر إلى تلك البلاد- لا يسوغ المحرمات الأخرى.
ويجب عليه أن يلزم رفقته بإقامة الصلاة في وقتها، فكم تنسى الصلاة في بلاد لا تُرى فيها المساجد إلا قليلا، ولا يُعلن بالنداء للصلاة فيها، فلعل من حافظ على دينه أن يرزقه الله تعالى وأهله وولده خشية وصلاحا في قلوبهم، تجعلهم يستغنون عما حرم الله تعالى عليهم بما أحل لهم، فيُعتقون من أَسر هذه المعاصي والآثام.
ولا يحل لمسلم أن يبدي إعجابه بأحوال الكفار، وما هم عليه من حسن المعيشة والحال دون أن يقرن ذلك بالتحذير من كفرهم، وبيان سوء عاقبتهم؛ لئلا يغتر بمديحه ضعاف القلب والإيمان.(/8)
والثناء على الكفار ومدحهم بإطلاق سبب لمحبتهم ومودتهم، ومحبة مناهجهم وطرائق عيشهم؛ والله تعالى يقول: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِالله وَاليَوْمِ الآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ الله أَلَا إِنَّ حِزْبَ الله هُمُ المُفْلِحُونَ} [المجادلة:22].
كما أنه سبب لتوليهم والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا اليَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:51].
وهو كذلك سبب لتقليدهم، والتشبه بهم فيما أُعجب به منهم؛ والنبي صلى الله عليه وسلم يقول (من تشبه بقوم فهو منهم).
والواجب عليه إبراز قبائحهم، وإظهار معايبهم، وانتقاد طرائق عيشهم؛ تحذيرا لنفسه وأهله وللمسلمين من سلوك مسلكهم، وانتهاج نهجهم؛ لأنهم أهلُ النار إن لقوا الله تعالى على كفرهم، وأهلُ النار لا يمدحون بإطلاق، بل هم أهل المذمة والقدح، نسأل الله تعالى العافية من حالهم.
وصلوا وسلموا....(/9)
العنوان: من أحكام السفر وآدابه (2)
رقم المقالة: 971
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
بعض أحكام السفر
الحمد لله رب العالمين؛ هدانا صراطا مستقيما، وشرع لنا دينا قويما {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ} [الأنعام:161] نحمده على تتابع نعمه، وترادف آلائه ومننه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ لا رب لنا سواه، ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ أعلم الخلق بالله تعالى، وأتقاهم له، أعلى الله تعالى ذكره في العالمين، وجعله حجة على البشر إلى يوم الدين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أولي البر والهدى، وأصحاب الفضل والتقى، ومن تبعهم وسار على نهجهم واقتفى.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واعملوا صالحا لغدكم؛ فإنكم مفارقون دنياكم إلى أخراكم، ومرتحلون عن قصوركم إلى قبوركم، ومسئولون عن أعمالكم؛ فأعدوا للسؤال جوابا، ولا يغرنكم الشيطان بالدنيا، فإنها لا تزن عند الله تعالى جناح بعوضة {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الغَرُورُ * إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر:5-6].
أيها الناس: إذا وسع الله تعالى على عباده في الرزق، وفتح عليهم أبواب الدنيا؛ فإنهم يُفْتَنون بها، ويتفننون في متعها وملذاتها؛ حتى تتحول الوسائل عندهم إلى غايات، والكماليات إلى ضرورات.
وفي هذا العصر بلغت الرفاهية بالواجدين أوجها، وانتهت بهم إلى كمالها، في مآكلهم ومشاربهم ومراكبهم، وفي مساكنهم وملابسهم ومراقدهم، وفي حلهم وترحالهم.(/1)
وأضحت المتعة والرفاهية فنا من الفنون، وتجارة من التجارات؛ تدرس في المعاهد والجامعات، وتُخص بالتدريبات والدورات، ويتداعى لمشاريعها التجار والأغنياء:
فجامعات تمنح شهادات عليا في صنع الطعام، وأخرى في أنواع الرياضات، وغيرها في السفر والسياحة حتى غدت هذه الوسائل والكمالات فنونا يُنفق عليها طائل الأموال، وتُفنى في تعلمها وصناعتها الأعمار؛ وذلك للترفيه عن الأغنياء وإسعادهم، على حساب الفقراء وتعاستهم.
هذا غير وسائل الترفيه المحرم من الرقص والتمثيل والغناء وأنواع الصناعات السينمائية والمسرحية والفكاهية التي ينفق عليها ما يفوق موازنات دول كاملة.
والسفر من أقدم ما عرف الإنسان من وسائل الرفاهية والترويح عن النفس وإجمامها، وقد عرفه الإنسان منذ القدم، وفيه من المنافع ما لا يخفى، كما أنه ينطوي على مخاطر وأضرار لا تُنكر، وقد ذكر النبي عليه الصلاة والسلام أنه قطعة من العذاب؛ كما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (السفر قطعة من العذاب يمنع أحدكم طعامه وشرابه ونومه فإذا قضى نَهْمَته فليعجل إلى أهله) متفق عليه.
والشريعة الغراء قد جاءت بأحكام وآداب للمسافر قبل سفره وأثناءه وبعده، يؤجر من تمسك بها، ويحرم خيرا كثيرا من فرط فيها.
وواجب على المسلم وهو يريد سفرا قريبا أو بعيدا أن يستشعر ما منَّ الله تعالى به عليه من عظيم النعم، وجزيل العطاء؛ فهو يسافر لمجرد النزهة والرفاهية، وآخرون غيره يسافرون بلا اختيار منهم، بل الجأتهم إلى سفرهم الضرورة أو الحاجة:
فمنهم من يسافرون فرارا من الخوف والجوع، قد استبيحت أوطانهم، واحتلت ديارهم، ورفع أمنهم، واستحرَّ القتل فيهم، فالقادر منهم يفرُّ من بلده مهاجرا أو لاجئا قد خلَّف داره وأرضه وضيعته وراءه، لا يلوي على شيء إلا نجاة نفسه وأهله وولده.(/2)
وآخرون يَهْجُرون أوطانهم، ويفارقون أهلهم وأولادهم؛ ضربا في الأرض، وطلبا للرزق، قد شحت مواردهم في بلادهم، فبحثوا عن فضل الله تعالى في غيرها.
وآخرون قد أخذت الأمراض من أجسادهم حظها، فأطالت نهارهم، وأسهرت ليلهم، وحالت بينهم وبين لذة الطعام والشراب والنكاح، كلما سمعوا بطبيب شدَّوا رحالهم إليه، وإذا وصف لهم دواء جَدُّوا في تحصيله، يسافرون حين يسافرون لا للرفاهية والمتعة، وإنما للصحة والعافية التي لا يعرف قدرها كثير منا.
كل أولئك يسافرون حين يسافرون مكرهين، تحت سياط الضرورات والحاجات، فواجب على من أنعم الله تعالى عليه بالأمن والرزق والعافية أن يعرف فضل الله تعالى عليه إذ أعطاه وحرم غيره، وعافاه وابتلى سواه، فهو حين يسافر إنما يسافر لمتعة نفسه وأهله وولده، فليشكر الله تعالى على نعمه؛ فإن الشكر يزيدها، وإن كفرها يرفعها {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7].
ومن دلائل شكر نعم الله تعالى عليه أن يتقي الله تعالى في سفره، فلا يقصد بلادا الكفر فيها عزيز، والإيمان فيها ضعيف، وقد عجَّت بأنواع الشبه والانحرافات، وطفحت بعظائم المعاصي والموبقات، ومهما عظمت ميزاتها، واخضرت أرضها، وحسنت أجواؤها، فإن إعلان المعاصي فيها، مع عدم قدرته هو على إنكارها يلغي كل حسنة فيها، ويُحرِّم عليه البقاء فيها، وإذا كان المسلم مأمورا بمفارقة مجلس فيه منكر لا يستطيع تغييره ولو في وليمة يجب عليه حضورها فكيف إذا يسافر بأهله وولده إلى بلاد المنكرات والموبقات؟!
ويكره للمرء أن يسافر وحده، ولا يسافر الاثنان، بل لا بد من ثلاثة وهم الجماعة؛ اتباعا للسنة، وإبعادا للوحشة؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: (الراكب شيطان والراكبان شيطانان والثلاثة ركب) رواه الترمذي وقال: حسن صحيح.(/3)
والسنة أن يؤمروا أحدهم في سفرهم، والأولى أن يختاروا أحكمهم وأعلمهم، وأكثرهم دراية بالسفر وحاجاته؛ جمعا للقلوب، وقطعا للاختلاف؛ فإن الاختلاف والتباغض في السفر لا يطاق، ويزيد من عذابه ومشقته، وقد روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم) رواه أبو داود.
فإذا استوى على مركوبه أتى بما ورد من الذكر والدعاء مستحضرا نعمة الله تعالى عليه بما يسر له من المراكب، وسخر له من وسائل النقل التي حرمها غيره ممن لا يطيقون ثمنها، وهذا الدعاء الذي يقوله فيه نفعه وصلاحه لأنه يسأل الله تعالى أن يحفظه ويعينه في سفره، وأن لا يفجعه في نفسه أو أهله أو ماله، وحري به أن يستجاب له ما دام ممتثلا أوامر الله تعالى، مطبقا للسنة، روى ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا استوى على بعيره خارجا إلى سفر كبر ثلاثا ثم قال: سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون، اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى، ومن العمل ما ترضى، اللهم هون علينا سفرنا هذا واطو عنا بعده، اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل، اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر، وكآبة المنظر، وسوء المنقلب في المال والأهل، وإذا رجع قالهن وزاد فيهن آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون)رواه مسلم.
وجاء في حديث عبد الله بن سرجس رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر يتعوذ من وعثاء السفر، وكآبة المنقلب، والحور بعد الكون، ودعوة المظلوم، وسوء المنظر في الأهل والمال) رواه مسلم
والسنة إذا علا شرفا من الأرض أن يكبر الله تعالى، وهكذا إذا أقلعت به الطائرة، وإذا هبط واديا أن يسبح الله تعالى، وهكذا إذا هبطت به الطائرة؛ لما روى جابر رضي الله عنه فقال: (كنا إذا صعدنا كبرنا، وإذا نزلنا سبحنا) رواه البخاري.(/4)
وروى أحمد عن أنس رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صعد أكمة أو نشزا قال: اللهم لك الشرف على كل شرف، ولك الحمد على كل حمد).
وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن رجلا قال: يا رسول الله، إني أريد أن أسافر فأوصني، قال: عليك بتقوى الله والتكبير على كل شرف، فلما أن ولى الرجل، قال عليه الصلاة والسلام: اللهم اطو له الأرض وهون عليه السفر) رواه الترمذي وقال: حديث حسن.
ولما كان المسافر إذا علا نشزا من الأرض، أو حلَّق في الهواء رأى من خلق الله تعالى ما رأى من جبال وبحار وغابات وعمران وغيره، وقد يعظم ذلك في نفسه ناسب أن يكبر الله تعالى، فيقر بأنه سبحانه أكبر مما يرى من عجائب خلقه.
وأيضا فإن الاستعلاء والارتفاع محبوب للنفوس؛ لما فيه من استشعار الكبرياء فشُرع لمن تلبس به أن يذكر كبرياء الله تعالى وأنه أكبر من كل شيء فيكبره ليشكر له ذلك، فيزيده من فضله.
وأما تسبيحه حال انخفاضه وهبوطه فهو تنزيه لله تعالى عن كل انخفاض وسفول.
وإذا انبلج عليه السَحَرُ وهو في سفره قال ما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا كان في سفر وأسحر يقول:سَمِع سامعٌ بحمد الله وحُسْن بلائه علينا، ربَّنَا صاحبْنَا وأَفْضِلْ علينا، عائذا بالله من النار)رواه مسلم. ومعناه: ليسمع سامع، ويشهد شاهد بحمدنا لربنا على نعمته، ثم يطلب حفظه وإعانته، ويتعوذ من النار.
فإذا نزل منزلا فاستعاذ بالله تعالى فإنه سبحانه يعيذه من شرور ذلك المكان وآفاته؛ كما قالت خولة السلمية رضي الله عنها: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من نزل منزلا ثم قال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك) رواه مسلم.(/5)
ويشرع للمسافر أن يكثر من الدعاء لنفسه وأهله وولده والمسلمين؛ لأن دعوة المسافر مرجوة الإجابة؛ كما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن: دعوة الوالد ودعوة المسافر ودعوة المظلوم) رواه أبو داود وصححه ابن حبان.
وعلى المسافر أن يتقي الله تعالى في سفره، فيلزم طاعته، ويجتنب معصيته، ويعتز بدينه، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويحفظ سمعه وبصره وجوارحه مما حرم الله تعالى عليه، فإنه إن كان غائبا عن أعين من يخافهم أو يستحي منهم فإن الله تعالى مطلع عليه، عالم بأقواله وأفعاله {إِنَّهُ يَعْلَمُ الجَهْرَ مِنَ القَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ} [الأنبياء:110] وفي أخرى {إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الأحزاب:54] وفي ثالثة {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19] والملائكة الكرام يحصون عليه أفعاله وأقواله {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار:12].
وليحفظ أهله وولده؛ فإنهم رعيته، وأمانة الله تعالى عنده، والله تعالى قد أمرنا بأداء الأمانات، وبحفظ الأهل مما يوجب عذابه سبحانه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التَّحريم:6]. أسأل الله تعالى أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن يرزقنا العمل بما علمنا، إنه سميع مجيب.
وأقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم...
الخطبة الثانية(/6)
الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:71].
أيها المسلمون: يشرع للمسافر إذا قفل من سفره أن يكبر الله تعالى ويهلله ويحمده؛ كما جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قفل من الجيوش أو السرايا أو الحج أو العمرة إذا أوفى على ثنية أو فَدْفَدٍ كبر ثلاثا، ثم قال: لا اله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، آيبون تائبون عابدون ساجدون لربنا حامدون، صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده) رواه الشيخان.
وهو منهي عن مفاجأة أهله ليلا بمجيئه؛ لئلا يقع بصره على ما يكره من شعث امرأته أو ولده، أو عدم نظافة منزله، أو عدم تهيئة فراشه؛ فإن من عادة المرأة تبسطها في بيتها إذا غاب زوجها، واستعدادها له إذا علمت بمقدمه، وهذا مما يؤلف بين الزوجين. ووقوع عين الزوج على ما يكره من بيته أو زوجه أو ولده قد يؤدي إلى النفرة بينهما؛ والشارع الحكيم قد سدَّ منافذ الشقاق بين الزوجين، ودعا إلى ما يؤلف بينهما.
عن أنس رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يطرق أهله ليلا، وكان يأتيهم غدوة أو عشية)رواه الشيخان.
وعن جابر رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطرق الرجل أهله ليلا يتخونهم أو يلتمس عثراتهم)(/7)
وفي لفظ قال جابر رضي الله عنه:كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة فلما قدمنا المدينة ذهبنا لندخل فقال: أمهلوا حتى ندخل ليلا، أي: عشاء؛ كي تمتشط الشعثة وتستحد المغيبة)رواه الشيخان.
ومن أعلم أهله بوقت وصوله فإن النهي لا يتناوله، ومن نعم الله تعالى على الناس ما يسر لهم من وسائل الاتصال التي تزيل كثيرا من الحرج في ذلك.
والسنة إذا عاد من سفره فبلغ بلده أن يبدأ بالمسجد قبل بيته فيصلي فيه ركعتين؛ لما روى كعب بن مالك رضي الله عنه فقال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فيركع فيه ركعتين) وروى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما فقال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فلما قدمنا المدينة قال لي: ادخل المسجد فصل ركعتين)رواه الشيخان.
ومن السنة أن يولم بعد عودته وليمة تسمى النقيعة، وهي وليمة يقيمها العائد من السفر، ويدعو الناس إليها، روى جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة نحر جزورا أو بقرة) وفي رواية قال جابر رضي الله عنه: فلما قدم صِرارا-وهو موضع بظاهر المدينة- أمر ببقرة فذبحت فأكلوا منها)رواه الشيخان. وكان ابن عمر رضي الله عنهما لا يصوم أول قدومه من السفر لأجل الذين يغشونه للسلام عليه والتهنئة بالقدوم.
أيها الإخوة: كانت تلك بعض أحكام السفر وآدابه، من أخذ بها كان ممتثلا للسنة، مأجورا في أسفاره، مع ما يحصل له من الأنس والمتعة المباحة، ومن أعرض عنها استهانة بها فقد حرم نفسه خيرا كثيرا، ومن تركها جهلا فقد قصر في تعلم ما ينفعه، ولا سيما إذا كانت أسفاره كثيرة.
فاعرفوا -عباد الله- ما ينفعكم، وتعلموا الضروري من أمور دينكم، والتزموا سنة نبيكم عليه الصلاة والسلام في كل شئونكم.
وصلوا وسلموا على نبيكم.....(/8)
العنوان: من إشكالات الوحدة
رقم المقالة: 999
صاحب المقالة: إبراهيم الأزرق
-----------------------------------------
منظِّرو الوحدة غير المنضبطة مع مختلف أهل المذاهب والأديان؛ كثيراً ما يعللون محاولاتهم جمع أقطاب متنافرة بنظرية تصويب المجتهدين، كيفما تباينت اجتهاداتهم!! ويجعلون كل مجتهد مصيباً! ولا يريدون بالمصيب صاحبَ الأجر المخالف للحق المعذورَ[1]؛ لكن مَن معه بعض الحق الذي هو نسبي لا يتمحض.
نعم! قد يكون الحق نسبياً بين جملة أهل السنة، لا يتمحض لطائفة من أهلها؛ غير أن هذا لا ينافي كون الحق واضحَ المعالم، تدلُّ عليه البراهينُ المبينة، وهو، وإن خفي بعضه على طائفة من أهل السنة؛ فقد هُدي إليه مجموعُهم، فالحق مع مجموع المنتسبين إليها، لا يخرج الحق عنهم، فإن أجمعوا على أمر؛ كان الحقُّ فيما اتفقوا عليه بغير مرية، وما لم يتفقوا عليه؛ فالحق مع بعضهم فيه، وقد يشركهم فيه غيرُهم، ولا يلزم من ذلك أن يكون كل الباطل مع من عداهم.
وإذا تقرر أن بعض الحق قد يكون مع من عداهم؛ فقد يلتقي أناس من مشارب مختلفة على حق وخير، وقد تتقاطع دائرة الحق بين أهل السنة مع بعض المبتدعة.
وتأمل الرسم التالي فهو يصوِّر المراد:
فمن الناحية النظرية يمكن أن يلتقي السني مع الرافضي والماتوريدي والمعتزلي في مسألةٍ هي (نقطة التقاء مشتركة)، ولتكن حبَّ علي -رضي الله تعالى عنه- بل قد يلتقي الرافضي مع سني في بعض الحق -المختلف فيه بين طوائف من أهل السنة وغيرهم- في (نقطة التقاء محدودة)، ولنمثل لها بنفي رؤية النبي -صلى الله عليه وسلم- لرب العزة في الدنيا بعيني رأسه. وهذا الكلام من الناحية النظرية مقبول في الجملة.
بيد أن التلبيس -أو اللبس- يحصل في البرامج العملية؛ عندما يؤخذ هذا التنظير، فَيُنَزل على إطار يراه المجتمعون المختلفون خارج إطار دائرة الحق المقرر عندهم.(/1)
فأما ما كان دائراً في فلك الحق، الذي تقول به طوائفُ من أهل السنة وطوائفُ ممن عداهم؛ فلا يقع الإشكال فيه أصلاً، إلاّ إشكالٌ من قبيل الدائر بين أهل السنة أنفسهم، ولهذا؛ فإن ثمة فرقاً بين مؤتمرات التقريب بين أهل السنة ومؤتمرات التقريب بين الطوائف المِلِّيَّةِ الأخرى، ومع ذلك -وللأسف- لا يكاد يكون وجود الأولى المرضي كالثانية، والعجيب أن بعضهم يتحمس للثانية، وقد يحجم عن الأولى!!
إن مثار الخلاف ومحل الإشكال بين هذين الفريقين، السنة والشيعة، على سبيل المثال، الذي يعطي خصوصية التسمية والتقييد بهذين؛ ليس هو المشترك بين أرباب المذاهب، فضلاً عن أهل السنة خاصة.
بل إن الحق المشترك -بهذا القدر- بين بعض أهل السنة، دون بعضهم، وبين بعض أهل البدعة؛ التقريبُ فيه حاصلٌ أصلاً؛ باعتباره قولاً معتبراً عند طوائف أهل السنة المخالفين لأهل الحق من أهل السنة في الجملة.
فلم يبق إلاّ تقريب من قبيل جعل عين الحق وعين الرَّفْض دائرة واحدة، وهذا ما لا يكون إلاّ إذا توحدت الرؤى واتفقت الحقائق المختلفة، إما بتغيير إحداهما، أو بتغيير كليهما؛ حتى تتشابها وتلتقيا في نقطةٍ وسط، لها خصائصُها الخالطة بين الحق والباطل!!
وهذا ما لا ينسجم إلاّ مع أصحاب نظرية الحق النسبي الذي لا يتمحض أبداً؛ فالحق عندهم لا معالمَ توضحه، ولا شريعة تحسم أمر بيانه، بل هو ملتبسٌ مختلطٌ، دائرتُه واسعة، تشمل أصحاب المذاهب المختلفة.
وإذا كان الحق كذلك؛ فلا عجب أن يوسِّع هؤلاء دائرة الحق النسبي؛ فيجعلوا الفِرَقَ الإسلامية البائدة والمعاصرة -جميعهم- من أهل هذا الاجتهاد المصيب قائلُه، وإن تناقضت الأقوال، ومن البدهي أن يكون حديثُ ((افتراق الأمة إلى بضع وسبعين فرقةً، كلُّها في النار إلاّ واحدة..)) -في فهم هؤلاء- عائدٌ إلى أمة الدعوة، لا أمة الإجابة.(/2)
وهم يحاولون -بذلك- الفرارَ من تخطئة مجتهدي الأمة؛ بحجة كونهم مجتهدين، ومن كان أعظمَ اطِّراداً نحا نحو منهج التقاربيين، القائلين بالملة الإبراهيمية، وتصويب الديانات السماوية!! فهؤلاء طرَّدوا القاعدة فجعلوا الاجتهادَ يتناول أصل الأصول، كما تناول الأصول، كما طرَّدها من تعداهم من مشركي الأمم الوثنية، القائلين بالتقارب مع أهل الأديان السماوية، فالكل مجتهد مريد للحق بزعمهم.
والحق أن هؤلاء سيقعون -ولابد- في ما فروا منه، أعني: تخطئة المجتهدين؛ فكثير من عقلاء أهل الباطل -على اختلاف مللهم- يخالفونهم؛ لعلمهم بأن جمع النقيضين والتأليف بين الضدين ممتنع! والأهم من هذا كله هو مخالفة أهل الحق لهم، فإن أهل الحق مجتمعون على مخالفتهم وتخطئتهم، فإن خالفوهم؛ جمعوا بين تخطئة الصواب وتصويب الخطأ مع التناقض، وإن صوبهم؛ صوَّبوا الحقَ وقالوا بقول أهله.
ــــــــــــــــــــــــــ
[1] انظر مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية (13/124-125).(/3)
العنوان: من أضاع زواج ليلى.. عرض ونقد
رقم المقالة: 1028
صاحب المقالة: شمس الدين درمش
-----------------------------------------
"مَنْ أَضَاعَ زَوَاجَ لَيْلَى" مجموعة قصصية، تتألف من إحدى عشرة قِصَّةً قَصِيرَةً، لمؤلفها (سميح سرحان)، نُشِرَتْ مُعْظَمُ قِصَصِهَا في الصُّحُفِ السُّعُودِيَّةِ ما بين عامَي 1977-1985م، ثُمَّ نُشِرَتْ في كتابٍ بَلَغَ مِئَةً وَسِتًّا وَأَرْبَعِينَ صفحةً منَ الحجم الصغير.
قصص هذه المجموعةِ اجتماعيةُ المضمون بالدرجة الأُولى، فَثَمَانِي قِصَصٍ مِنْهَا تَتَحَدَّثُ عنِ الزَّوَاجِ والأُسْرَةِ ومشاكِلِهَا، وَثَلاثُ قِصَصٍ ذَاتُ مضمونٍ وَطَنِيٍّ ممتزِج بِمُدَاخلاتٍ اجتماعيةٍ ثانويَّةٍ.
ويُمْكِنُ تقسيمُ المجموعة إلى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ حَسَبَ المضمون الموضوعيِّ كما يأتي:
- المجموعة الأولى: أرْبَعُ قِصصٍ تَدُور حوْلَ الزواج ومشاكِلِهِ، وَهِيَ: السُّقُوطُ عِنْدَ أوَّلِ مُنْعَطَفٍ، والقَهْر، ومُعَانَاةٌ، وَمَنْ أَضَاعَ زَوَاجَ لَيْلَى؟
ففي قِصَّتَيِ "السُّقُوط عند أول منعطف" و"القهر" نَجِدُ بناءَ الزواج على فكرة اجتماعية معروفة هي: إلزامُ الفتاةِ بالزواج منِ ابْنِ عَمِّهَا، مع اختلاف النِّهَايَتَيْنِ فيهما.
فتنتهي "انتصار" في القصة الأولى إلى الانحراف بعد مُعَانَاتِهَا بسبب ابْنِ عَمِّهَا "حامد" الَّذِي كَانَ يَضْرِبُهَا بِتَشْجِيعٍ من أُمِّ "انتصار" لتأديبها؛ لأَنَّهَا تَتَمَرَّدُ على أوامر أُمِّهَا، وترفُضُ الزَّوَاجَ من "حامد"! وأخو "انتصار" العاطل عنِ العمل لا حَوْلَ لَهُ ولا قُوَّةَ، بل يُسَاعِدُ "حامداً" في ضرب أُخْتِهِ أحياناً.
وعندما وجدت "انتصار" ثَغْرَةً في جدار "حامد" بعد الزواج، وهي عَدَمُ قُدْرَتِهِ على ممارسة الحياة الزوجية، انْدَفَعَتْ إلى الانحراف؛ انتقاماً منَ المُعَامَلَة السيئة التي تَلْقَاهَا منه، وتلد أربعة أطفال من الخطيئة!!(/1)
وتنتهي القِصَّةُ بانهزام "حامد" الذي لم تُحَقِّقْ له عَضَلاتُهُ المفتولةُ انتصاراً في ضرب زوجته "انتصار". ولكن "انتصار" لم تنتصر أيضاً!! فغاب "حامد" عن حياة أسرته، وَفَقَدَتِ الأُمُّ دَوْرَهَا، ورَضِيَ الأَخُ العَاطِلُ منِ العمل بالسكوت مُقَابِلَ حُصُولِهِ على مساعدة ماليَّةٍ، وإلغاءِ دَعْوَى قَضَائِيَّةٍ ضِدَّهُ بسبب ضربه لأخته.
وفي قصة "القهر" نجد "عائشة" تَتَحَمَّلُ الأذى من زوجها الضعيفِ الشخصية، ومن والد زَوْجِهَا وأُمِّهِ أيضاً، وهي البنتُ اليتيمة، لا لِسَبَبٍ إلا لأنها لم تلد بعد مُضِيِّ عام واحد فحسب على زَوَاجِهَا.
وتنتهي القصة بِطَلاقِهَا من زوجها وعودتها إلى أمها الأرملة.
قصة "المعاناة" أقلُّ إثارةً في أحداثها منَ القِصَّتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ، وهي مركبة النسيج؛ فالزوج الأديب يشجع زوجته على الكتابة، ويعبر عن حبِّه لها، ولكن الزوجة أول ما خطت قصة بقلمها كان عنوانها "معاناة"، اختزلت فيها قصة َلَيْلَى التي تَجِدُ زَوْجَهَا يَغِيبُ عَنِ البَيْتِ كثيراً بَعْدَ مُضِيِّ سَنَةٍ على زواجهما، وَلا يَهْتَمُّ بِطِفْلَتِهِمَا، ويأخذ التفكيرُ بِلَيْلَى في إحدى الليالي إلى الاقتناع بِضَرُورة الانْفِصَال عن زوجها، ولكنها في اللَّحْظَةِ الأخيرةِ تُرْجِئُ هذه الفكرةَ، وَتَتَوَافَقُ تلك اللَّحظةُ مع وصولِ زوجِهَا المُتَأَخِّرِ، وانْدِسَاسِهِ في الفراش إلى جانب زوجَتِهِ في نِهَايَةٍ سِلْمِيَّةٍ هادئةٍ للقصةِ.
فهل كتبت "جواهر" القصة لتوصل رسالة إلى زوجها وكل الأزواج؟ أو أن تلك قصتها هي؟!
أمَّا قِصَّةُ "مَنْ أَضَاعَ زَوَاجَ لَيْلَى؟" التي استبدَّت بعُنْوَانَ الكِتَاب على الغِلاف، فَتَحْكِي مُشْكِلَةَ العُنُوسَةِ، وهي مشكلةٌ اجتماعيَّةٌ بَاتَت مُجْتَمَعَاتُنَا تُعَانِيهَا، وَتُفْرِدُ لها وسائلُ الإعلام بَرَامِجَ لِمُنَاقَشَتِهَا.(/2)
تَمُرُّ ليلى بأربعِ مُحَاولاتِ زواجٍ أو خِطْبَةٍ تنتهي بعدم التوفيقِ، وَنَجِدُ مسوغات الإخفاق محلاًّ لِلاختلاف في الرأي.
فقد كانت ليلى في المرَّةِ الأولى والثانية طالبةً في الثانوية، رَفَضَتِ الزواجَ الأوَّلَ لأنَّهَا لا تَعْرِفُ الخاطبَ، وهو خارج وطنه لا يستطيع العودةَ إليه، وَرَفَضَتِ الزواج الثاني لأنَّ الخاطبَ شابٌّ تَسَبَّبَ في انْفِجَارِ أسطوانَةِ غَازٍ أدَّى إلى موت أُمٍّ وابْنَتِهَا!
وبِغَضِّ النَّظَرِ عن عَدَمِ ثبوت دليلٍ عليه إِلاَّ أنَّ الفكرةَ هي الشائعةُ في الحيِّ. وكان لِخِلافِ أُمِّ ليلى وأبيها حول الشَّابَّيْنِ الخاطِبَيْنِ أثرٌ آخَرُ في عدم الموافقةِ على الزواج.
ولكنَّ ليلى في المرة الثالثة كانَتْ منفردةً برأْيِهَا في اتِّخَاذ القرار وَهِيَ في الجامعة، فَرَفَضَتْ أَخاً لصديقَتِهَا بِنَاءً على مُعْطَيَاتٍ منطقيةٍ صحيحةٍ؛ لأنها لاحَظَتْ أنَّ هذا الخاطبَ الثالثَ غيرُ مستقيمِ السُّلُوكِ، وهو يَتَنَقَّلُ بين الفَتَيَات في الجامعة كثيراً مع أنَّهُ ليس طالباً! فَحَسَمَتِ الأمرَ بِرَفْضِهِ دُونَ أيَّةِ مُشكلةٍ ظاهرةٍ لِمَنْ حَوْلَهَا.
في المرَّةِ الرابعة كانت ليلى مُخْتَلِفَةً تماماً عندما تَقَدَّمَ لِخِطْبَتِهَا شابٌّ ذُو خُلُقٍ، وَمَكَانَةٍ اجتماعية، وَهُوَ مُوَظَّفٌ مَرْمُوقٌ، وَلَيْلَى مُوَافِقَةٌ عليه في دَاخِلِ نفسِهَا. لكنَّها لم تكن مُوَفَّقَةً في مُفَاوَضَاتِ الخِطْبَةِ، فَقَدْ تَشَدَّدَتْ في الشُّرُوطِ، وَأَثْقَلَتْ بالمطالِبِ على مُوَظَّفٍ لا يَقُومُ راتبُهُ بِتَلْبِيَتِهَا، فَانْسَحَبَ الرَّجُلُ مِنَ السَّاحَةِ بِهُدُوءٍ. ولكنَّ ليلى بَقِيَتْ تَنْتَظِرُ عَوْدَتَهُ!! فَكَانَتْ تَقِفُ بين الوقت والآخر أمامَ المِرْآةِ لِتَقْرَأَ مَلامِحَ السِّنِين على وَجْهِهَا وَشَعَرِهَا بِأَسىً بَالِغٍ، وَهُنَا يَقْفِزُ السؤال أَمَامَنَا: مَنْ أَضَاعَ زَوَاجَ لَيْلَى؟!(/3)
- المجموعة الثانية: تَتَأَلَّفُ مِنْ قِصَّتَيْنِ؛ هُمَا "الهجرة إلى لَحَظات الحزن" و"التحقيق". وتدور حول حياة الأسر الفقيرة في المجتمع.
ففي القِصَّة الأولى "الهجرة إلى لحظات الحزن" يعرض القاصُّ حياةَ طالبٍ جامعيٍّ في كلية الفنون الجميلة قَدِمَ من مدينَتِهِ "حماة" إلى "دِمَشْقَ" وتَمُرُّ به ساعاتٌ لا يَجِدُ فيها ما يَشْتَرِي بِهِ "فَطِيرةً" يَسُدُّ بها جُوعَهُ، فَيَتَوَسَّلُ إلى امرأةٍ لتشتريَ له ذلك!!
ولَكِنَّهُ في هَذِهِ الظروف يتزوَّجُ طالبةً جامعيَّةً في كلية الحقوق هي أيضاً من مدينته، وكان يَعْرِفُهَا وتعرفه منذ الطفولة، ويعيشان في غُرْفَةٍ صغيرة هي كل شيء عندهما، وتحمل منه وتلد طِفْلَهُمَا في ليلة مظلمة، ولكنَّ الطفلَ الذي وُلِدَ في ظلام الليل "الْتَهَمَهُ ظَلامُ القبْرِ؛ إِذْ دَفَنَهُ والِدُهُ الفنَّان قبل أذان الفجر، لأنه وُلِدَ مَيِّتاً!.
أما "التحقيق" فتحكي لنا حياة مُعَلِّمِ مادة "الموسيقا" الفقير، الذي يتأخَّرُ عن دَوَامِهِ كثيراً، ويُحَاسِبُهُ المديرُ كُلَّ مَرَّةٍ، ويستقطع منه ساعاتِ تَأَخُّرِهِ، وعندما حضر يوماً متأخراً، وعلى عادة المدير سأله عن سبب تأخُّرِه، وعاتَبَهُ لأنَّ التَّأَخُّرَ صارَ عادَتَهُ، ففَتَحَ الأستاذُ كيساً مِنَ الورق وهو يَرْتَعِشُ لِيَجِدَ المديرُ نفسَهُ أمامَ منظرٍ غير مُتَوَقَّعٍ؛ "جنين غير مُكْتَمِل"، وأخبره المعلم أن زوجته تَنْزِف دماً في البيت، وَلا أَحَدَ يَمُدُّ يَدَ العَوْنِ. فأعادَ المديرُ كُلَّ ما استقطعه إلى المعلِّم، واعتذر إليه من غفلته عن ظروفِهُ.
هذا موقِفٌ من ثلاثةٍ في هذه القِصَّةِ، أمَّا الموقِفَانِ الآخَرَانِ فَيَحْكِيَانِ مُعَانَاةَ المُوَاطنينَ في ظل أحكام الطوارئِ بسبب الحرب، وَتَعَسُّفَ رجالِ الأمنِ مع المواطنين إذ تَعَرَّضَ الأستاذُ نفسُه للضرب المُبَرِّح؛ لأنَّهُ وَقَفَ قُربَ سيارة أمن.(/4)
- في المجموعة الثالثة يعرض القاصُّ صورةً من تطور العلاقة الاجتماعية والأُسْرِيَّةِ تَطَوُّراً حسناً في البداية، ولكنها تنحرف بغير مسوغات للانحراف، إِلاَّ أَنْ تَكُونَ الشخصياتُ نفسُها تَحْمِلُ مُقَوِّمَاتِ الاستجابة للانحراف، إذ لا نعرف ما يكفي عن نشأتها التربوية!.
فقصة "العلاقة" تحكي حياةَ أسرة فقيرة تتألف من أُمٍّ وابْنٍ وابْنَتَيْن، لا تلبثُ الأُمُّ أن تموت، فَيَحْزَنُ الأولادُ عليها حُزْناً شديداً، وَلَكِنَّهُمْ يَشُقُّونَ طَرِيقَهُمْ فِي الحياةِ؛ فَشِهَاب يعمل في تهيئة (الكتالوجات) اللازمة لِلْمَعَامِلِ، وَأُخْتُهُ هَيْفَاءُ تَشْتَغِلُ في المعمل نفسِه، ثُمَّ تَتَزَوَّجُ بأَحَدِ الشركاء، ويُقِيمَانِ معملاً خاصّاً. أمَّا سميرة فَتَفْتَحُ مَحَلَّ تجميل للنساء، ومن خلال عملها تَتَعَرَّفُ زوجةَ (نائبٍ في البرلمان)، وتقيم علاقةً مع الأسرة، ويدخل أخوها شهاب إلى الخط مرة أخرى، ويتطور الأمْرُ بسرعة لِيَصِلَ إلى مكانةٍ مرموقة بِدُخُولِهِ نادياً سياسياً في باريس، ويصير من خلال علاقته بالنائبِ المستورِدَ الأوَّلَ لأدَوَاتِ التجميل، ويوماً تدخل امرأةٌ إلى مكتبه ويُتِمُّ صفقةً ..... ويُسْدَلُ الستار على القصة، ونبقى متسائلين: ما نوع الصفقة التي تمت؟!
وقصة "العيون الحزينة" من المجتمع السعودي، تبدأ بداية فاترةً وعاديةً جداً؛ إذْ يقوم صاحب بستان بتزويج ابنتِهِ الصغيرةِ بالعامل "عبد الله" ويكون عبد الله نِعْمَ الزوج، إلى أن يصيرَ لهما عَدَدٌ مِنَ الأولاد، نَعْرِفُ اسمَ ابنته "هند"، وإلى هنا كل شيء عادي.
ثم تبرز مشكلة في زواج "هند" بسبب الخلاف بين الأُمِّ والأب مَن تَتَزَوَّجُ هند، ابْنَ خالِها أو ابْنَ عمِّها؟ ويتأجل الأمر إلى حين.(/5)
وتخرُجُ مفاجأةٌ أُخْرَى هي أَنَّ عبدَ الله نفسَهُ يريد الزواج، وأمام دهشة الأسرة واعتراضِهَا، نَجِدُ مفاجأةً ناجمةً عن هذا الزواج؛ إذ يَقُومُ أبو فهد أخو عبد الله بالخِطْبَةِ لنفسه بدلاً من أنْ يخطُبَ الفتاةَ لأخيه، فَيَتَحَوَّلُ الوسيطُ إلى طرف في القضيَّة، ولا شكَّ أنَّ مثلَ هذا الأمر له دَوِيٌّ كبيرٌ في المجتمع، وفي هذه الأزمةِ الجديدة يحدث شيئان: عَوْدَةُ هند للزواج بابْنِ عمِّهَا الذي يُطَلِّقُهَا بعد شهر، وإصرار أبي هند على الزواج برَغْم الكارثةِ التي حَصَلَتْ لَهُ مِنْ أخيهِ.
- المجموعة الرابعة تَتَأَلَّفُ من ثلاث قصص هي: "حبيبتي قتلها الفانتوم"، و"من قتل شلومو؟"، و"الطين والاحتلال الآخر"، وهي القصة الأخيرة في المجموعة، وهذه القصصُ وطنية أخذت موضوعَاتها مِنَ الصراع مع اليهود.
تقع أحداثَ القِصَّةِ الأولى "حبيبتي قتلها الفانتوم" في دمشق خلال حرب 1973م بما عُرِفَ بِحَرْبِ رَمَضَانَ أو تِشْرِين (أكتوبر)، إذ تَقَعُ غادة فَرِيسَةَ إحدى الغارات لطائرات الفانتوم الإسرائيلية على الأحياء السكنية في دمشق، وبذلك تتلاشى أحلامُ مشروع زواجٍ كانت تنتَظِرُهُ غادة مع (القاصِّ) نفسِه أو (البطل) الذي نَسِيَ القاصُّ اسمه.
وقصة "مَنْ قَتَلَ شلومو؟" تأخذ أحداثها من بدايات الاحتلال اليهودي لفلسطين؛ إذ كان الصراع محتدماً ومباشراً بين أهلنا في فلسطين واليهود الغاصبين، وفي قرية كوكبة يتحامل مريض على فراشه ويحمِلُ بندقيته التي ورثها عن أبيه، وَيَتَرَصَّدُ قافلةً يهوديةً، وبطلقةٍ واحدةٍ قَتَلَ شلومو وسائقَ سيارته، وشلومو ضابطٌ يهوديٌّ برتبةِ جنرال، كان للحادث وَقْعٌ كبيرٌ بين المجاهدين، وبين اليهود الذين لم يعرفوا قاتل شلومو، وبقي السؤال قائماً: من قتل شلومو؟! ومع مرور الزمن فإنَّ القاصَّ لم يُعَرِّفْنا اسم (البطل) برَغْم أنَّهُ صديقُهُ ويُهْدِي إليه التحيَّةَ حيّاً وميتاً؟!(/6)
أما القصةُ الأخيرة "الطين والاحتلال الآخر" فهي حكاية مستَمِرَّةٌ مُتَجَدِّدَةٌ، معاناة الشعب الفلسطيني المجاهد كُلَّمَا عَبَرَ الحدود لزيارة الأهل والوطن، ومعاناة الأهلِ في الداخل مِنَ الاعتقالِ والسجْنِ والتعذيب. فنبيل الذي يعود منَ القرية لا يجد أحداً يستقبله في منزله لأَنَّ "عُمَرَ" أخا زوجته دون الخامسةَ عشرةَ اعْتُقِلَ بعدَّةِ تُهَم، ومع أن الجَدَّةَ تُصِرُّ على أنَّ التُّهَمَ أُلْصِقَتْ بِهِ، فَإِنَّ نبيلاً يرى أنَّ الدفاع عنِ الوطن لا يقف عند السنِّ والزمان، وكَأَنَّهُ بذلك يرشح الفتى عُمَر لِوِسامِ الاستحقاق في الدفاع عنِ الوطن ومقاومة الاحتلال.
نظرات نقدية في المجموعة
المجموعة القصصية (من أضاع زواج ليلى).. والأدب الإسلامي:
هذه المجموعة القصصية لم تكتب لتكون نموذجاً من نماذج الأدب الإسلامي في القصة، ولكن يمكن أن نعدها نموذجاً واقعاً في دائرة الأدب الإسلامي بالمنهج العام الذي اتبعه القاصُّ في سرده للقصص.
فمن الناحية الموضوعية تعد القصص الاجتماعية والوطنية التي تعانق البعد الإنساني في مضامينها ودلالاتها من أبرز مضامين القصة الإسلامية المعاصرة.
فمعظم قصص هذه المجموعة طرحت قضايا الظلم الاجتماعي في الحياة الأسرية (قصة القهر والسقوط عند أول منعطف)، وكانت المرأة مدارها، وخصوصاً عادات التزويج، وضرب المرأة، كما أن بعض القصص أظهرت الدور الإيجابي للمرأة من خلال قيامها بالعمل بعد فقد كافل الأسرة (قصة العلاقة). والقيم الوطنية في القصص التي عبرت عن الصراع مع اليهود في فلسطين وهي (حبيبتي قتلها الفانتوم، ومن قتل شلومو؟، والطين والاحتلال).(/7)
وقد وجدنا الكاتب يلمس بعض القيم الدينية لمساً عابراً عفوياً في حياة شخصياته، كما في قصة من أضاع زواج ليلى (ص 46): "لكنها أدركت أن النصيب واقع لا محالة، ولا يمكن للإنسان أن يتحدى القدر، ثم تساءلت بينها وبين نفسها: هل سيعوض الله خطيبا لَبِقاً ذا مكانة اجتماعية مرموقة كالذي فقدته قبل أيام؟"
فليلى متعلقة بالله سبحانه في سير أحداث خِطبتها، وتبدو راضيةً بما يجري به القدر، وآمِلَةً أن يعوضها الله عما فات بأحسن منه.
ونقرأ في الفقرة الأول من قصة العلاقة (ص 86) وصفاً لحالة أسرة شهاب قبل العيد وهو يحادث صاحب العمل فيقول: "يا سيدي! لي أم عجوز وأختان صبيتان وأخرى تتخطى سني الطفولة، مات والدي وخلفني لهن، وكتب علي الشقاء منذ الصغر، أسترحمك الله بهن أن تساعدني، قبل أن يأتي العيد، بزيادة راتبي، ربما أتمكن أن أدخل السرور عليهن، علني أستطيع أن أتبسم يوما قبل أن يأكلني الإرهاق".
فاللجوء إلى الله سبحانه في مواقف الضعف وعند الحاجة من القيم الإيمانية التي تظهر عند الإنسان المسلم ولو لم يكن ملتزماً في حياته بالمفهوم المتعارف عليه للالتزام.
ومثل ذلك نهاية قصة القهر (ص 36) عندما ترجع عائشة البنت اليتيمة التي يطلقها زوجها بعد معاناتها الظلم: "لملمت عائشة أغراضها، وخرجت من بيتها حزينة مكسورة القلب دامعة العينين، ولم تجد مأوى لها سوى صدر أمها الفقيرة التي رفعت يدها إلى السماء شاكرة ربها الذي أنقذ ابنتها من ظلم كاد يقضي عليها".
والموقف هنا واضح تماماً، فالأم بدلاً من أن تسبَّ وتشتم، وتشكو حظها وتتسخَّط لما يجري به القدر – تشكر ربها أن أنقذ ابنتها من الظلم.
النجاة من شَرَك التعابير الجنسية:(/8)
ومن ناحية أخرى فقد تجنب القاصُّ الوقوعَ في شرك التعابير الجنسية عن المرأة برغم الوجود الواضح لشخصيات النساء في القصة، ودواعي مثل تلك التعابير؛ خصوصاً في قصة "السقوط عند أول منعطف"، وقصة "العيون الحزينة"، وقصة "من أضاع زواج ليلى"، وقصة "معاناة".
فقد لمس القاص تلك المواقف لمساً خفيفاً وسريعاً بغير أن يثير الغرائز الجنسية؛ فمثلاً عندما يكشف عجز حامد عن المعاشرة الزوجية في "السقوط عند أول منعطف" (ص 23–24) يقول: "كان حامد رجلاً أمام الحاضرين، لكنه عكس ذلك عندما انفرد بعروسه، لم يستطع أن يسيطر عليها في أيامه الأولى.. شعرت أن هناك منفذاً لها، بدأت تلعب لعبتها، وتراودها نفسها أن تغطي ساعات الفراغ، بدأ الزوج يساوره الشكُّ من بعض التصرفات التي كانت تبدو على ملامح زوجته، لكنه لم يكترث في البداية، إلا أن الأمور أصبحت مكشوفة.." .
وعندما يصور أصعب لحظة في موقف الفضيحة فإنه يمر سريعاً كذلك، ويكتفي بالتلميح دون التصريح (ص 25) يقول: "في يوم من الأيام عاد الزوج باكراً كعادته، فتح غرفة النوم، تسمَّرت قدماه، وقف شعر رأسه، ارتجفت جميع أوصاله، لم يقوَ على الحركة، إنها تخونه، نظرت إليه ببلاهة، أزاحت من علا فوقها، لبست، هددته ألا يتكلم، .." وهذه القصة مجال خصب للإيغال في وصف اللحظات المحرمة؛ إذ إن الشخصية الرئيسة في القصة وهي "انتصار" عاشت حياةً منحرفة وهي في عصمة زوجها "حامد" حتى أنجبت أربعة أولاد!!
فالقاصُّ إذن كان يهدف إلى إظهار خطورة الظلم في الحياة الأسرية، وأنها قد تؤدي إلى نتائج سيئة.(/9)
وقصة "من أضاع زواج ليلى" أيضاً مغرية بالدخول إلى عالم الغريزة الجنسية من خلال وصف حياة فتاة فقدت فرص الزواج وصارت عانساً، ولكننا نجد القاص يبقى متحفظاً؛ لأنه يريد التنبيه على ظاهرة اجتماعية بوضع المشكلة أمام الأنظار، لا إيجاد مشكلة أخرى من خلال الترويج للجنس؛ فيقول في (ص 47-48): "تعددت معارفها من الشباب والشابات، كما تعددت هواياتها، فقد أصبحت مرحةً تحب الضحك والرحلات والرياضة، واشتركت في العديد من الندوات الأدبية، ومثَّلت دورين لها على مسرح الجامعة، شدت إليها كثيراً من الطلبة الذين تهافتوا على صداقتها، ومع ذلك كانت تخشى الإيغال في الصداقة المختلطة، وتتجنب العديد من المشاركات في سَهَرات المناسبات التي كانت تُدعى إليها؛ حرصاً منها على عدم التمادي والإحراج والانسياق إلا ضمن الحدود المطلوبة لفتاة تحترم نفسها وتجبر الآخرين على تقديرها..".
فالقاصُّ يقدم "ليلى" نموذجاً للفتاة المسلمة العادية في البيئات العربية، فهي ليست نموذج الالتزام، ولكنها ليست نموذج الانحلال كذلك!!
وهكذا نجد القاص يبتعد بوعي عن الانزلاق في وهدة الوصف الحسي للمرأة، ويتجنب لحظات الإغراء الجنسي، وبذلك يقدم لنا قصصاً تدور في دائرة الأدب الإسلامي بشكل عفوي، وهذا بحد ذاته نقطة مهمة في سياق الإبداع الأدبي.
أساليب السرد في قصص المجموعة:(/10)
سلك القاصُّ (سميح سرحان) أساليبَ مختلفةً في قِصَصِهِ؛ فمن أسلوب السرد الذاتي بضمير المتكلم في قِصَّتَيْ "حبيتي قتلها الفانتوم" و"معاناة"، مع إدخال أسلوب ما يشبه الرسائل في "معاناة"؛ إذ جعل قِصَّة ليلى ومعاناتَها بمنزلة الوَسَطِ في القصة، نراه تَغْلِبُ عليه طريقةُ القَصِّ بضمير الغائب، ويروي الأحداثَ مِنَ الخارِجِ، وَقَلَّمَا نَجِدُ شَخْصِيَّاتِهِ تَتَحَاوَرُ إلا حِواراتٍ مقتضبةً وقصيرةً جِدّاً كما في قصة "التحقيق" بين مُعَلِّمِ الموسيقا (محمود) والمدير بسب تَأَخُّرِهِ المتكرر، وبينه وبين رجالِ الأمنِ الذين فاجؤوه بالضرب، ونجد مثلَ هذا الحوارِ القصير في قصة "الطين والاحتلال الآخر" في مشهد التفتيش عندما يدْخُلُ نبيل نُقطة الحدود إلى فلسطين، وهذه اللقطاتُ الحوارية اقْتَضَتْهَا ضرورةُ الموْقِفِ؛ فَكُلُّهَا كانت تحقيقاتٍ، حتَّى حوار نبيل مع والدته عندما وصل إلى منزله ولم يجد زوجته كان تحقيقاً من نوع آخر؛ لأنه تساءل عن عدم حضور أحد من أقارب زوجته!!
وفي القصص الأخرى يُجِيدُ (سميح سرحان) اقتناص لقطاتٍ وصفيّةً رائعة، سواء في تصوير ظروف الحادثة أو الشخصية أو في وصف الشخصية ذاتها، فهو يعطينا وصفاً دقيقاً لجزئيات المكان والملامح وكأن القارئ يرى المشهد رَأْيَ العَيْنِ!!(/11)
من ذلك لقطاته في "الهجرة إلى لحظات الحزن" في وصف مرسم الفنان عبد اللطيف، ولحظات تَوَسُّلِهِ لامرأةٍ أن تشتريَ له فَطِيرَةً، وبعض جلساته مع زملائه في الغوطة. وعندما يرجع بالذاكرة إلى الخلف، فيصور كيف كان عبد اللطيف يسبح في نهر العاصي عند النواعير، ويغطِس في الماء من ارتفاع كبير ليجْذِبَ انْتِبَاهَ فَتَاةِ الحيِّ التي صارت زَوْجَتَهُ فيما بعد. ويعمِدُ إلى تقديم مفاجآتٍ غيرِ مُتوَقَّعَةٍ عن شخصياته مثيرة للتساؤل ومشكِّكة في الوقت نفسه، مثل مشهد تَبَوُّل الطالب الجامعي الفنَّان أمامَ شركة مُحْتَرَمَةٍ على مرأى مِنَ الناس!! وكذلك حمل المعلم محمود السِّقْط إلى المدرسة ملفوفاً بورقة.
فهل مثل هذا يحدث فعلاً؟ أَو أَنَّ رغبةَ المؤلف في إخراج فكرة "الفنون جنون" أو "الجنون فنون" إلى حيِّزِ الواقع دَفَعَتهُ إلى جعل شخصيَّة الفنَّان يَتَصَرَّفُ هكذا، وإظهار فقر المعلم محمود إلى درجة السحق جعله يحمل سقط الجنين إلى المدرسة؟!
قصص قصيرة في الشكل طويلة في المضمون:(/12)
بعض هذه القصصِ القصيرة تتجاوز في مساحتها وأحداثها القصةَ القصيرةَ، فهي تأخذ مضمون الرواية بامتداد زمان أحداثها وكثرة شخصياتها، وهذا جعل القاص يضغط الأحداث والشخصيات بما يشبه شريط الأخبار السريعة، كما في قصة "العيون الحزينة" المأخوذة مِنَ البيئة السعودية، وكان بإمكانه أن يجعل العنوان "العيون السعيدة" لو عمل على نجاح زواج العامل عبد الله منِ ابْنَةِ صاحب النخل بمبادرةٍ مِنْ والد العَرُوسِ، وبمهر رمزي، وعندما اكتشف عبد الله أنَّ عروسَهُ صغيرةٌ جِدّاً عامَلَهَا بكل أدب ورعاية حتى كبِرَتْ وتَزَوَّجها فعلاً بعد سنتيْنِ دُونَ أَنْ يُحِسَّ أَحَدٌ مِمَّن حولهم بأي مشكلة، فلو أنه ركَّز على وصف مشاعِرِ عبد الله والعروس الصغيرة ووالدِهَا ووالدَتِهَا، مع وصف شيء مِنَ التصرُّفَات في مثل هذه الحالةِ وَأَنْهَى الْقِصَّةَ لَضَرَبَ لنا مثلاً رائعاً في الزواج الناجح والبذل والتضحية من قِبَلِ والد العروس، مُقَدِّماً حلاً عمليّاً لمشكلاتٍ كثيرةٍ في قِصَصِهِ الأخرى مثل: "السقوط عند أول منعطف"، و"القهر"، و"من أضاع زواج ليلى؟!".
ويمكننا أن نقول مثل هذا في قصة "العلاقة" فَلِمَاذَا لم يَقْصُرِ القِصَّةَ على نجاح الأولاد الثلاثة شهاب وأختيه في حياتهم؟ عندما صار شهاب في إيطاليا، وأختاه إحداهما في معمل الجوارب قرب بيتها، والأخرى في "صالون تجميل النساء".
ويبدو لي هُنا أنَّ مَشَاعرَ الحُزْنِ التي يعيشها القاصُّ نفسُه مُسَيْطِرَةٌ عليه إلى درجة عدم مقدرته على الوقوف عند لحظات السعادة، وإنهاء قِصَّةٍ واحدة بها.
وَأَنَا أعذِرُهُ في ذلك لأنه يَعِيشُ الحزن فعلاً، فهو أحد ضحايا العُدْوَانِ اليهودي على أرضنا الحبيبة فلسطين، ومنَ الطبقة التي تَكْدَحُ في سَبِيلِ لقمة العيش بشرف وكرامة.(/13)
ومن ذلك خطر لي أنَّ عنوان قصةٍ أخرى كان أجدر بهذه المجموعةِ وهي "الهجرة إلى لحظات الحزن" أو "العيون الحزينة" نظراً لخيط الحزن الذي انْتَظَمَ معظمَ القصص بشكل أو بآخر، ولكن عنوان (مَنْ أَضَاعَ زَوَاجَ لَيْلَى) قد يكون أَكْثَرَ جاذبيَّة للقُرَّاءِ وترويجاً للمجموعة.
ملحوظات تعبيرية سريعة من المجموعة:
وردت في القصة بعضُ العبارات أو الكلمات التي تحتاج إلى مراجعة، منها:
- كأس أزرق .. موضوع على صفحة خشبية (ص10-11) - والكأس مؤنث.
- بعض آثارات (ص11) - آثارات جمع الجموع لا يناسب كلمة بعض، والصواب آثار جمع قلة.
- مد يده إلى جيبه وإذ بها تخرج بيضاءَ فارغة (ص12) - الاقتباس (بيضاء) غير موفَّقٍ وفي غير محله، وفارغة تكفي.
- السندوتش وسندويشة (ص12) - يستبدل بها فطيرة وشطيرة وخصوصاً أنَّ القاصَّ مدرسُ لغة عربية.
- أعطاها الربيع لمسات السحر الإلهيَّة (ص13) - إضافة السحر إلى الإلهية غير مناسبة، ولو قال: الإبداع لكان أنسب.
- ثم يقفز بالنهر (ص17) - والصواب في النهر، أو إلى النهر.
وأطرح بعض التساؤلات في قصة (الهجرة إلى لحظات الحزن):
الأول: كيف يكون عبد اللطيف الطالب بكلية الفنون الجميلة شابّاً مُدَللاً من والديه لا يحبان أن ترفَّ جانبَ جفنه ذبابةٌ، ويرسلان إليه بالأطعمة من بلدته حماة وهو في دمشق (ص 16) ثم يصل الأمر به أنه لا يملك ثمنَ فطيرة يسدُّ بها جوعه؟!
والثاني: هيفاء التي تدرس في كلية الحقوق سنة ثالثة، وفي الصفحة (17) ورد أنها "عادت من عملها الوظيفي يوماً مُتْعَبَة"، ومنَ المعلوم أنه لا أحد يرسل ابنته للدراسة الجامعية من مدينة إلى أخرى إلا إذا كانت الحالة المادية ميسورة، ثم إنَّها تقيم في المدينة الجامعية غالباً، ومع هذا فدراسة الحقوقِ لا تتطلب الإقامةَ في دمشق لأنَّ مُعْظَمَ طلابها يدرسون انتساباً؟!.(/14)
والثالث: كيف تزوَّجا سِرّاً وشرعيّاً!! (ص 15) وفي سنة واحدة تحمل هيفاء وتضع حملها!! أين أهلها؟ هل يُعقل أنْ ترميَ أسرةٌ ابنَتَهَا سنةً كاملةً لا يسألون عنها؟!
وعموماً يمتلك القاصُّ أدواتِ القصة القصيرة مِنَ العبارات المركزة القويَّة، واقتناص الصُّوَر المعبِّرَةِ مِنَ الحياة، ولكنَّهُ يعرضها بأسلوب المخرج المسرحي، فتبدو قِصَصُه للقارئ وصفاً لفصول مسرحية، في عدة مشاهد. أو لمشاهد تمثيلية في فصل واحد.(/15)
العنوان: من اعترافات مشاهير الغرب في رمضان
رقم المقالة: 1231
صاحب المقالة: عبدالله بن عيسى
-----------------------------------------
مُفكر سويدي بهره وأخذه بمجامع قلبه إيمان المسلمين، وصبرهم في تلك القرية الباكستانيَّة، عندما رآهم يمتنعون عن الأكل والشرب في ساعة مُحَدَّدة، ويقبلون عليها في ساعة مُحَدَّدة، وليس عليهم من رقيب أو ناظر يلاحقهم.
عندها قال ذلك المفكر: "حقًّا إن تعاليم هذا الدين ليست من صنع بَشَر ..إنها تنزلت من إلهٍ، يُدْرك المؤمنون به أنه يراهم وإن لم يروه".
ويقول طبيبي فرنسي مشهور: "لو لم يكن في الإسلام إلا الصوم، ومنع الخمور، لكفى ذلك سبباً في اتباعه؛ نظرًا لما لذلك من أثر يحمي المَعِدَة، والكَبِد، وبقية الجسم من مصائب فَتَّاكة".
من كتاب / اعترافات متأخرة المشاهير(/1)
العنوان: من الأجزاء المخطوطة النادرة
رقم المقالة: 512
صاحب المقالة: د. جمال عزون
-----------------------------------------
من الأجزاء المخطوطة النادرة
كتابٌ فيه:
(ما جاء من الحديث في النظر إلى الله تبارك وتعالى)
تأليف
محمّد بن وضّاح القرطبيّ (199 هـ - 287 هـ)
يعدُّ محمّد بن وضّاح القرطبيّ من كبار الحفّاظ الذين نشروا الحديث في ربوع الأندلس، وكان له ولصاحبه بقيّ بن مخلد أثرٌ كبيرٌ في اهتمام رجال الأندلس بالرّواية، وقد قام ابنُ وضّاح برحلتين مبكّرتين إلى المشرق لقي فيهما كبار الأئمّة أمثال: أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وأبي عبيد القاسم بن سلاّم وغيرهم، وتحمّل عنهم علماً جمّاً بثّه في الأندلس بعد عودته من رحلته.
ويعد ابنُ وضّاح من نوابغ المحدّثين الذين تيسّر لهم الجمع بين العلم والزّهد، فكان عالماً زاهداً خيّراً ورعاً.
كما كان له مشاركة في التّأليف، حيث كتب مصنّفات منها: الزّهد والرّقائق، والقطعان في الحديث، والإملاء فيه، ومكنون السّرّ ومستخرج العلم في فقه المالكيّة، وهي على قلّتها في عداد ما فُقد من تراث هذا العلم، ولم يتبقّ من تراثه سوى كتابين،
أحدهما: البدع والنّهي عنها.
والآخر - موضوع هذا المقال - جزءٌ نادرٌ للغاية جمع فيه ابنُ وضّاح الأحاديث المرفوعة والآثار الموقوفة والأقوال المأثورة الواردة في نظر المؤمنين إلى ربّهم عزّ وجلّ يوم القيامة.
وصل إلينا الكتابُ في نسخة عتيقة جدّا كتبها المؤرّخ المغربي أبو العرب محمّد بن أحمد بن تميم التّميميّ (251 هـ - 333 هـ)، وهو يروي الكتاب عن ابن وضّاح من طريق سعيد بن سفيان الخولانيّ[1] كما قيّد ذلك بخطّه في أوّل النّسخة.(/1)
والكتابُ كان في حوزة الشّيخ حسن حسني عبد الوهّاب الصّمادحي التّونسيّ رحمه الله، وأوّل من لفت الأنظار - فيما أعلم - إلى هذا الكتاب هو الزّركليّ في كتابه (الأعلام)، وقد وقف عليه في رحلته إلى تونس وعرض في كتابه المذكور[2] صفحته الأولى الذي جاء فيها ما يلي: "كتاب فيه ما جاء من الحديث في النّظر إلى الله تبارك وتعالى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه والتّابعين بإحسان من تأليف أبي عبد الله محمّد بن وضّاح حدّثني بجميعه سعيد بن سفيان بن قرة الخولانيّ". وأفاد الزّركليُّ في موطن آخر[3] أنّ الشّيخ حسن حسني عبد الوهّاب علّق على المخطوطة المحفوظة في خزانته من كتاب (النّظر إلى الله تعالى) بكلمة عن ابن وضّاح جاء فيها أنّ عدد شيوخه الذين سمع منهم 175 شيخ، وأنّه روى القراءات عن عبد الصّمد بن القاسم عن ورش، ومن وقته اعتمد أهلُ الأندلس رواية ورش، وبابن وضّاح وببقيّ بن مخلد صارت الأندلس دارَ حديثٍ.
وبعد، فنحن أمام جزء نادر لابن وضّاح القرطبيّ كانت تحتفظ به خزانة الشّيخ حسن حسني عبد الوهّاب، ورآه الزّركليّ واحتفظ لنا بصورة عن صفحته الأولى، والغريبُ حقّاً أنّ هذا الأثر على ندرته العلميّة لا يُرى له الآن أثر، ولا يُسمع عنه خبر، ولا ندري إلى أين آل أمرُه!(/2)
وقد سألتُ عنه - قبل بضع سنوات - القائمين على شؤون المكتبة الوطنيّة بتونس التي آلت إليها مكتبةُ الشّيخ حسن حسني عبد الوهّاب، ولم يظفروا بالكتاب أو يسمعوا له رِكْزاً. وكم تمنّيتُ حينئذ أن يكون الزّركليُّ احتفظ لنا بصورة عن كتاب ابن وضّاح، فراجعتُ فهرس مكتبته الخاصّة التي آلت إلى جامعة الملك سعود بالرّياض، فلم أرجع منها إلا بخفّي حنين؛ ولا نملك بعد هذا إلاّ أن نناشد -من خلال موقع الألوكة- القائمين على المكتبة الوطنيّة بتونس البحث بحثاً جاداً دؤوباً عن هذا الجزء في المجاميع أو (الدّشت) أو غير ذلك، كما نرجو ممّن علم خبراً عن هذا الجزء الإفادة عنه، حتّى يتمكّن عشّاق التّراث من دراسة محتواه، وإدراك مدى الإضافة العلميّة التي يحتاج إليها الدّارسون لتراث أعلام الأندلس والله وليُّ التّوفيق.
الصفحة الأولى من مخطوطة : (ما جاء من الحديث في النظر إلى الله تبارك وتعالى)
لمحمد بن وضاح القرطبي،
بخط: محمد بن أحمد بن تميم أبو العرب.
ـــــــــــــــــــــ
[1] يبدو أنّه المترجم عند الخشني في أخبار الفقهاء والمحدّثين ص 325، وابن الفرضي في تاريخه 1/199 وذكرا وفاته سنة 329هـ.
[2] الأعلام 5/309 - ط التّاسعة، ترجمة أبي العرب التّميميّ.
[3] الأعلام 7/133 - ترجمة ابن وضّاح.(/3)
العنوان: من الأخطاء عن زيارة المسجد النبوي
رقم المقالة: 1715
صاحب المقالة:
-----------------------------------------
من الأخطاء عن زيارة المسجد النبوي
1- قَصْدُ قبره - صلَّى الله عليه وسلَّم - عند شدِّ الرِّحال والسَّفر:
والصواب: أن يكون القَصْدُ عند شدِّ الرِّحال والسَّفر زيارةَ المسجد نفسه، ثم إذا أتيت المسجد وصلَّيْت فيه شُرِعَ لله زيارة قبره - صلَّى الله عليه وسلَّم - فليس لك أن تزور القبر عند أوَّل دخولك المسجد، وكأنك ما أتيت إلا لذلك؛ بل الصواب ما ذُكِرَ.
2- وقوف بعض الزائرين أمام القبر في غاية الخشوع، واضعًا يده اليمنى على اليسرى كهيئته في الصلاة.
3- استقبال القبر عند الدُّعاء والتوسُّل والاستغاثة به - صلَّى الله عليه وسلَّم.
4- التمسُّح بالجدران وقضبان الحديد، وتقبيل القبر ... وكلُّ ذلك.
5- قَصْد القبر بالزيارة بعد كلِّ صلاةٍ؛ لنَهْيه - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن ذلك: ((لا تتخذوا قبري عيدًا، وصلُّوا عليَّ حيثما كنتم؛ فإن صلاتكم تبلغني)).
6- الخروج من المسجد النبوي القَهْقَرَى عند الانصراف.
7- قَصْدُ بعض الناس الذهاب إلى بعض المزارات؛ كالمغارات في جبل أُحُد، ومثلها في غار حراء وغار ثَوْر بمكة، وربط الخِرَق عندها.
8- زيارة بعض الأماكن التي يزعمون أنها من آثار النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - كمَبْرَك النَّاقة، وبئر الخاتم أو بئر عثمان، وأخذ التراب من هذه الأماكن للتبرُّك بها، وكلُّ ذلك لا يجوز.
9- دعاء الأموات عند زيارة مقابر البَقيع ومقابر شهداء أُحُد، ورمي النقود عندها؛ تقرُّبًا للمقبورين، وتبرُّكًا بأهلها.(/1)
العنوان: من الأخطاء عند الذبح والحلق
رقم المقالة: 1714
صاحب المقالة:
-----------------------------------------
من الأخطاء عند الذبح والحلق
الخطأ الأوَّل:
ترك الذَّبح الواجب من الهَدْي والتصدُّق بثمنه:
وهذا خطأٌ، ويفعله الحاجُّ بزَعْم أنَّ لحم الهَدْي يذهب في التراب، وذلك لكثرة الهَدْي ولا يُستفاد منها إلا بالقليل.
الخطأ الثَّاني:
ذبح بعض الحجَّاج هدي التمتُّع بمكة قبل يوم النَّحْر.
الخطأ الثَّالث:
تَرْك بعض الحجَّاج الهَدْي بعد أن وجب عليهم بتمتُّعهم أو قرانهم مع قدرتهم عليه، وإتيانهم بالصيام بدلاً منه، مع أن الصيام لا يُشرَع لهم إلاَّ عند عدم إيجادهم للهَدْي.
الخطأ الرَّابع:
اعتقاد بعض الحجَّاج أنَّ الذَّبح للهَدْي لا يكون إلا في المَنْحَر من مِنى:
والصواب: أنَّ النَّحر يكون في أيِّ مكانٍ من مِنى أو مكة؛ لقول الرسول – صلَّى الله عليه وسلَّم - حينما ذبح في المَنْحَر من مِنى: ((نَحَرْتُ هاهنا، وكلُّ فجاج مكة طريقٌ ومَنْحَر))؛ أحمد وأبو داود.
الخطأ الخامس:
اعتقاد بعض الحجَّاج أنَّ كلَّ أنواع الحجِّ يجب عليها هَدْيٌ، حتى ولو كان مُفْرِدًا بالحج:
والصواب: أن المُفْرِد ليس عليه هَدْيٌ واجبٌ، وإنما يتطوَّع بإهداءٍ إن أراد، وأمَّا الذي عليه هَدْيٌ واجبٌ هو المتمتِّع بالحج، وهو الذي أتى أعمال العمرة أوَّلاً، ثم تحلَّل منها وأحرم يوم التَّرْوية بالحج، وكذلك القارِن، وهو الذي أتى بأفعال الحج والعمرة معًا بإحرامٍ واحد، فهذان يجب عليهما هَدْيٌ؛ لكونهما أتيا بنُسُكَيْن اثنين في سفرٍ واحد، وأما المُفْرِد بالحج - كما قلتُ - فليس عليه هَدْيٌ واجبٌ بإجماع العلماء.
وأما الأخطاء عند الحَلْق:
الخطأ الأوَّل:
البَدْء بالحَلْق بالشِّقِّ الأيسر من الرأس، مع أنَّ السُّنة البَدْء بالشِّقِّ الأيمن عند الحَلْق.
الخطأ الثَّاني:(/1)
الاقتصار على حَلْق ربع الرَّأس أو بعض الرَّأس بالنسبة للرِّجال. أما المرأة فالصحيح أنها تأخذ بقدر الأنملة من أطراف شعرها.
الخطأ الثَّالث:
استقبال بعضهم القِبْلَة عند الحَلْق، وكذا اختلاق بعضهم أذكار معيَّنة عند ذلك.(/2)
العنوان: من القلب.. إلى كل مُقبِلَين على الزواج
رقم المقالة: 1083
صاحب المقالة: هيفاء الوتيد
-----------------------------------------
في يوم تبتهجُ فيه الدنيا عليهما.. يسطّران تاريخَه على قلبيهما.. ليكونَ أجملَ يوم..!!
يوم.. يتحول فيه كلٌّ منهما إلى حياة أخرى.. يجهل مستقبلَها..!!
حياة.. بِحَجم الحب والفرح الذي يغمرها.. إلا أنها لا تخلو من رَجَفات خوف تدق قلبيهما دقا..!
إنها ليلة العمر.. ومسيرة العمر.. حين يأخذ الزوج زوجته.. وينفردان تحت سقف واحد..!
فيا كلَّ مُقبلين على الزواج! "بارك الإله لكما، وبارك عليكما، وجمع بينكما في خير" وجعل حياتكما مغمورةً بالفرح.. يُمطرها الحب.. ويعمرها الإيمان..
وهديتي إليكما بعد الدعاء.. همسات من القلب لا بد من معرفتها.. لتكون حياتكما -بإذن الله- تحفة براقة.. لا يخبو بريقها..!
- ابدأا حياتكما بركعتين تحمدان فيهما الله أن جمع بينكا ويسر أمركما، واسألاه التوفيق وأن يهيء كلا منكما للآخر.. وذلك في أول ليلة تخلوان فيها.
- ولتعلما أنكما مهما أحببتما بعضكما.. لن تخلو حياتُكما من المشاكل والخلافات اليسيرة، والاختلاف في الرأي، وليس معنى ذلك أن حبكما بدأ يخبو، فالأمر كما قيل: الخلاف هو ملح الحياة، وقد يستمر اختلافكما سنة أو سنتين إلى أن يعتاد كلٌّ منكما الآخرَ، ويفهم احتياجاته، فلا تستعجلا، أو تُفكِّرا في أمور يبغضها الله عز وجل.
- ثقافةُ الاعتذار قاعدةٌ يومية اجعلاها في حياتكما.. فمن يخطئ عليه أن يعتذر بشجاعة، وعلى الآخر تقبل الاعتذار.
- التنازلات في الحياة اليومية لا تعني الضعف، بل تعني أن الإنسان أكثر واقعية وتسامحا.
- ليحترم كل منكما اهتمامات الآخر، ولا يقلل من شأنها، شاركها اهتماماتها، وشاركيه اهتماماته.. ليزيد التقارب والود بينكما.
- لا يقتحم أحدكما خصوصيات الآخر إلا بعد أخذ الإذن منه.(/1)
- العبارات الجارحة ولغة التهديد والنقد المستمر تطفئ وهج الحب والود.
- ليُحَلِّ كل منكما لسانه بعبارات الثناء والإعجاب فالقلب يبتهج لذلك.
- الكذب حباله قصيرة، فلا تبدأا حياتكما بالكذب، فليس شيء أجمل من الصراحة، حتى يعيش كل منكما مرتاح البال غير قلق ولا خائف.
- للمرأة عوارض تعصف بها كل شهر، فتتغير حالتها النفسية تبعا لذلك.. وعليك أيها الزوج أن تتنبه لهذا الأمر فتراعيها حتى تنتهي أزمتها؛ إذ هو شيء خارج عن إرادتها، وعليك أن تتفهم ذلك، لا سيما إن مَنَّ الله عليكما بطفل، فهو جسم غريب، ومخلوق جديد في رحمها يضطرب له الجسم كاملا، فيتغير لذلك كل شيء، وقد تتغير مشاعر حبها تجاهك، لكن ثق أن ذلك لن يدوم، هي مدة معينة يتوافق حينها الجسم مع هذا المخلوق الجديد، ثم تعود المياه إلى مجاريها، فلا تتعجل الأمر وراعها، راعها فالأمر ليس سهلا عليها.
- لا يُظهر كل منكما عيوب الآخر بشكل مباشر، وليمتدح الزوج زوجته أمام أهلها، وهي كذلك.
- ليكن لكما صندوق مقفل تضعا فيه أسراركما ومشكلاتكما وخلافاتكما، وحذار حذار أن تفتحا هذا الصندوق لأحد، فلا تشركا أحدا في خلافاتكما وحياتكما مالم تتأزم الأمور، عندها توجها إلى من ترون فيه الحكمة والرأي السديد.
- ليناد كل منكما الآخر باسم يحبه، ولا تنسيا الهدية؛ فإن لها مفعولا كالسحر.
- وأخيرا عروستنا الغالية.. استقبلي زوجك دائما بالترحيب وبث الأشواق، وودعيه بالدعاء له بالتوفيق وأن يحفظه الإله.
- ثم لا تكوني ندا لزوجك فترادّيه أو تستفزيه.
- كوني نظيفة دائما ومرتبة، وتطيبي بأجمل العطور، واجعلي بيتك كذلك.. فهو يعكس شخصيتك.
- اعملي له الطبخات التي يحبها، ولا تنسي لمساتك على سفرتك فتقدميها له بأجمل شكل.
بارك الإله في حياتكما..(/2)
العنوان: من أنت؟.. قصة في فنّ التواصل مع النفس
رقم المقالة: 1993
صاحب المقالة: نوفل عبدالهادي المصارع
-----------------------------------------
كانت النظرة الأخيرة للمِرآة قبل خروجه من المنزل قاصدًا العمل، فأراد أن يكون ختام لقائه معها بابتسامة عريضة لعلها تنشط عقله باستدعاء ما يحب ويرضى ويجلب السعادة، ولكن ما حدث غريب وأمره عجيب ولا يخطر بباله ولو في الأحلام!
فمهما اجتهد بالابتسامة فلا يراها كذلك من خلال المرآة، وكأن لسان الحال يقول بأنها تعكس صورته بحذافيرها ماعدا الابتسامة، فدار الحديث التالي:
- هو: من أنت؟
- الصورة: من أنا؟ وهل هذا سؤال يحتمل إجابة؟
- هو: لكل سؤال جواب ولكل موقف سبب.
- الصورة: هدئ من روعك فأنا أنت، وأنت أنا.
- هو: وكيف يخاطب العاقل صورته بالمرآة؟ وكيف أعلم من أن ما يحدث الآن حقيقة واقعة.
- الصورة: دعك عن هذا، ولنحل الخلاف الذي بيننا.
- هو: خلاف! ... هات ما عندك.
- الصورة: يا أنا العزيز خلافي معك سهل وبسيط وصعب ومعقد في آن واحد، وحتى لا أطيل دعني أقول بأنك قد قمت منذ فترة طويلة بتنمية مهارات التواصل لديك مع الناس وأصبحت شغلك الشاغل في الآونة الأخيرة.
- هو: دعني أقاطعك هنا، وما الضرر في ذلك؟ وهل أصبح التدريب والتطوير والتغيير عيبًا؟ وهل الاهتمام بعلاقاتي مع الناس وتحسينها أمسى أمرًا هامشيًا.
- الصورة: هكذا رد دليل قاطع وبرهان ساطع على ما يصول بخاطري ويجول بعقلي.
- هو: أي دليل؟ وعن ماذا تتحدث؟
- الصورة: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولاً}.
- هو: يبدو أن الموضوع يتصف بالجدية والخطورة، سوف ألتزم الصمت ما دمت تتحدث.(/1)
- الصورة: أنصت وافهم بدلا من أن تسمع فقط، وركز معي ولا تشطح بخيالك، لا بد أن تعلم علم اليقين بأن ليس كل ما يبدو ويظهر يعكسه سبب واضح وجلي، وليس كل ما نراه بأعيننا نستطيع أن نفهمه ونقدر على تفسيره، فإن كان هدفك النهائي والأخير هو القبول عند عامة الناس وأن تكون محبوبًا من الجميع فطريقك ليس بالطريق ودربك لا يصل إلى ما تتمنى وترغب وتحب وتشتهي.
فالتواصل مع الناس ما هو إلى محور من ثلاث فإن كان هو الأول فالثاني بلا شك التواصل مع النفس والذات، أما المحور الثالث والأخير فهو الأهم والأرقى هو الأعظم والأسمى وهو الذي يحدد الفوز من عدمه، وهو الركن الأكبر وهو الهدف الذي يجب أن تسعى له، فأن أصبته أصبت المحور الأول والثاني من دون شك ولا ريب.
- هو: أكاد لا أستطيع أن أصبر حتى أسمع عن هذا المحور العجيب وكيف يكون هناك أمر أهم من التواصل مع النفس والناس.
- الصورة: المنهج واضح ومعروف ولكن السير عليه متعب والجزاء مجزٍ، محبة الله لك هي التي تجعلك مقبولاً ومحبوبًا ما بين الناس بل، على الأرض، وهنا يكمن السر.
- هو: لقد اتسعت مداركي بهذا الجملة القصيرة وأصبح الهدف معروفًا والطريق مألوفًا.
- الصورة: الآن، والآن فقط أستطيع أن أبتسم معك وأسايرك لهذا المحور العظيم وهو محبة الله.
ـــــــــــــــــــ
تعليق حضارة الكلمة:
الأستاذ الفاضل/ نوفل المصارع..
نشكر لكم تواصلكم الكريم مع موقعكم (الألوكة)، من خلال نشر هذه القصة، التربوية المؤصَّلة، في فن التواصل مع النفس، والتي تبع من خبراتكم السابقة، وتشير إلى أمرٍ تربوي مهم يغفل عنه الناس..
وكم أفادت القصص وضرب الأمثال في توصيل المعنى التربوي المراد، وربما كان ذلك أدعى إلى الفهم وأقرب إلى أنفس الكثيرين ممن يصعب عليهم فهم طروحات أهل الاختصاص والأكاديميين مباشرة.. ولنا في قَصص القرآن الكريم وسيرة خاتم الرسل عليه السلام قدوة حسنة.(/2)
نشكركم مرة أخرى.. وننتظر من إبداعكم المزيد.. في (حضارة الكلمة) وغيره من الأقسام التي هي بأمسّ الحاجة إلى أقلام أمثالكم من أصحاب الخبرات العميقة والقلم الهادف.
وفقكم الله ورعاكم.(/3)
العنوان: من جديد كتب السنة
رقم المقالة: 360
صاحب المقالة: د. محمد بن تركي التركي
-----------------------------------------
1- علل الدارقطني ( الأجزاء 12 ـ 15 ) وبها كمل الكتاب ، تحقيق محمد الدباسي ، دار ابن الجوزي .
2- مسند البزار ( البحر الزخار ) ، الأجزاء 14 ، 15 ، تحقيق عادل بن سعد ، مكتبة العلوم والحكم .
3- الأحاديث المعلة في كتاب الحلية لأبي نعيم ( من أول الكتاب إلى نهاية ترجمة الزهري ) ، تأليف د. ناصر البابطين ، مطبوعات مركز سعود البابطين للتراث والثقافة ، ( رسالة دكتوراه ) ، 2 ج .
4- شيوخ عبدالله بن وهب القرشي الذين روى عنهم وسمع منهم، وذكر تخريج من جرح منهم وتعديله مما وقع في كتاب أبي عبدالله محمد بن وضاح ، مع أخبار ابن وهب وفضله وزهده وسبب وفاته ، تصنيف الإمام الحافظ أبي القاسم ابن بشكوال ، تحقيق أ.د. عامر حسن صبري ، دار البشائر .
5- ذيل تاريخ بغداد ، لابن الدبيثي ، طبعة جديدة بتحقيق بشار عواد ، دار الغرب ، 5 ج .
6- الإيماء إلى زوائد الأمالي والأجزاء والفوائد والمشيخات والمعاجم على الكتب الستة وأحمد ومالك ، تأليف نبيل جرار ، أضواء السلف ، 8 ج .
7- تنقيح التحقيق ، لابن عبدالهادي ، طبعة جديدة بتحقيق سامي جاد الله ، أضواء السلف ، 5 ج .
8- التمييز في تلخيص أحاديث شرح الوجيز ، المشهور بالتلخيص الحبير ، لابن حجر ، تحقيق د. محمد الثاني عمر بن موسى ، تقديم د. محمد مطر الزهراي ـ رحمه الله ـ ، أضواء السلف ، 7 ج .
9- أخبار عمرو بن عبيد ، للدارقطني ، تحقيق محمد عبدالله آل عامر ، دار التوحيد .
10- ضوابط الجرح والتعديل ، للدكتور عبدالعزيز العبداللطيف - رحمه الله - طبعة جديدة في مجلد ، العبيكان .
11- كشف الإيهام لما تضمنه ( تحرير التقريب ) من الأوهام ، تأليف د. ماهر الفحل ، دار الميمان .(/1)
12- أسس الحكم على الرجال حتى نهاية القرن الثالث الهجري ، د عزيز الدايني ، دار الكتب العلمية .
13- لقاء العشر الأوخر ، المجموعة الثامنة ، دار البشائر .
14- تاريخ نيسابور ( طبقة شيوخ الحاكم )، جمع وتحقيق مازن البيروتي، اعتمد على مخطوطة فارسية مختصرة، البشائر .
15- الجامع لترجمة أبي عبدالله الحاكم ، تأليف أبي معاوية مازن البيروتي ، دار البشائر .
16- نيل الأوطار ، للشوكاني ، تحقيق صبحي حلاق ، دار ابن الجوزي ، 16 ج .(/2)
العنوان: مِنْ جَنَى الشِّعرِ وَحِكَمِ الشُّعَرِاء
رقم المقالة: 1271
صاحب المقالة: د. أسامة عثمان
-----------------------------------------
لا يمكن أن نتحدث عن حكمة الشعراء دون أن يقفز المتنبي إلى مطلع الحديث، كما تقفز أبياته الحِكْميّةُ إلى ذَوّاقة الشعر العربي، ومواطن الاستدلال، على مرّ الأيام، وتجدد المواقف.
ونقف مع قوله الذي ما زال يتردد صداه مذ صاغه وأطلقه، ولم تسقط قيمته بالتقادم:
وَوَضْعُ النَّدَى فِي مَوْضِعِ السَّيْفِ بِالعُلا مُضِرٌّ كَوَضْعِ السَّيْفِ في مَوْضِعِ النَّدَى
وهو من قصيدته المشهورة التي يمدح فيها سيفَ الدولة الحمْداني، وهي من أعذب قصائده، وأغناها بالحكمة، ومطلعها:
لِكُلِّ امْرِىءٍ مِنْ دَهْرِهِ مَا تَعَوَّدَا وَعَاداتُ سَيْفِ الدَوْلَةِ الطَّعْنُ فِي العِدَا
يخبر البيتُ عن معنى دقيق، خلاصتُه أنّ الأفعال لا تُمدح أو تُذم مجردةً عن ظروفها وملابساتها؛ فلِلشدة مواطنُها التي لا ينفع فيها الرفقُ واللين، والعكس صحيحٌ أيضاً.
وهو معنى قد قالته الحكماءُ مِنْ قبل؛ فليس أبو الطيب أبا عُذره؛ إذ قالوا: إنّ مَنْ جعل الفكرَ في موضع البديهة فقد أضَرَّ بخاطره، وكذلك من جعل البديهةََ في موضع الفكر..
والبيتُ يحمل معنى كلياً؛ يتمثل بضرورة وضع كل شيء في موضعه المناسب؛ وهذا يستدعي -بالضد- معنى الظلم؛ إذ هو وضع الشيءِ في غير موضعه.
قد يتساءل المرءُ عن سرِّ اقتران الحكمة الشعرية بالمتنبي أكثر من غيره مِن الشعراء! وقد يأتي في معرض الإجابة أنّ من أسباب ذلك إكثارَه منها، ومَنْ أكثر من شيء عُرف به..
غير أنّ المدقق يلحظ سبباً أعمق، ولعله قدرتُه اللغوية الفائقة، والخبرة بمتطلبات الصياغة التي جعلت أبياته تتردد على الألسنة؛ فتكتسب سيرورتها واسستمرارها، وهي لغة صقيلة حاسمة واضحة؛ تقنع المتلقي وتدهشه معاً.(/1)
فهو في هذا البيت قد سكب هذه الحكمة المستمرةَ الثابتة في قالب الجملة الاسمية الدالة على الثبوت والرسوخ والدوام، واللافتُ أنه لم يستخدم في البيت فعلاً قطُّ! وهذا الاختيار -أعني الاقتصار على الأسماء في أبيات الحكمة- هو اختيار واعٍ من الشاعر للغته، ويكاد يكون مَلمحاً أسلوبياً في شعر الحكمة؛ إذ له نظائر كثيرة، منها قولُه:
الرَّأْيُ قَبْلَ شَجَاعِةِ الشُّجْعَانِ هُوَ أَوَّلٌ، وَهِيَ فِي المَحَلِّ الثَّانِي
وقوله:
فَطَعْمُ المَوْتِ فِي أَمْرٍ صَغِيرٍ كَطَعْمِ المَوْتِ فِي أَمْرٍ عَظِيمِ
ومثله كذلك -في أسلوبه- بيتُ شوقي المشهور:
دَقّاتُ قَلْبِ المَرْءِ قَائِلَةٌ لَهُ: إِنَّ الحَياةَ دَقَائِقٌ وَثَوانِي!
وثمةَ أسلوبٌ لغويٌ آخر أَكثرَ منه المتنبي لغرض الحكمة، وهو أسلوب الشرط، ولنأخذ مثالاً عليه من القصيدة نفسها، وهو قوله:
إِذَا أَنْتَ أَكْرَمْتَ الكَرِيمَ مَلَكْتَهُ وَإِنْ أَنْتَ أَكْرَمْتَ الَلَّئِيمَ تَمَرَدا
الذي لا يبعد كثيراً عن معنى بيتنا السابق؛ غير أنه -هنا- قد آثر أسلوبَ الشرط الذي يربط جملةَ الشرط بجملة الجواب ربطاً منطقياً؛ ويُحدِث تلازماً بينهما؛ فيجعل الأول سبباً، والثاني نتيجةً، أو مُسبَّباً؛ وبهذا يكون هذا الأسلوبُ من أنسب الأساليب لأداء معاني الحكمة؛ التي تستهدف -في المقام الأول- الإقناعَ، ولا أدل على ذلك من تلك الأبيات المشهورة في الحكمة، التي خَتم بها الشاعرُ الجاهليُّ زهير بن أبي سُلمى معلقته، ومنها:
وَمَنْ هَابَ أَسْبابَ المَنَايَا يَنَلْنَهُ وَلَوْ رَامَ أَسْبَابَ السَّمَاءَ بِسُلَمِ!
وكلُّّها التزمت أسلوبَ الشرط؛ لِما يتمتع به من خصائص لغوية تناسب المعنى.(/2)
ولابد في الخاتمة من كلمة تتصل بشعر المتنبي؛ فبالرغم من اللغة العالية الرصينة، والأسلوب المفعم بالبلاغة والتأثير؛ غير أن العذوبة الشعرية والغنائية في شعر غيره -أمثال البحتري- أكثر منها في شعره؛ ففي لغة البحتري عفوية، وسلاسة، ورقَّة، وماويَّة، وطَلاوة؛ ليست في شعر أبي الطيب، وقد اعترف المتنبي نفسُه بذلك حين قال: "أنا وأبو تمام حكيمان، والشاعرُ البحتريُّ!".(/3)
العنوان: من حديث الحافظ أَبِي طاهرٍ السِّلَفِيِّ عن بعضِ الأبْهرِيين
رقم المقالة: 1339
صاحب المقالة: د. جمال عزون
-----------------------------------------
من حديث الحافظ الإمام
أبي طاهر أحمد بن محمد بن أحمد السِّلَفِيِّ
المتوفى سنة 576هـ عن بعض الأَبْهَرِيِّين
إنّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبدُه ورسوله.
أمّا بعد:
فهذا جزء لطيف من أجزاء الحافظ الكبير، والمُسْنِد الشَّهير، أبي طاهر أحمد بن محمّد السِّلَفي[1] (475- 576هـ)؛ جمع فيه تراجم عدد من المشايخ الذين التقى بهم في مدينة أَبْهَر، متبوعةً بحكايات وأخبار درج على أمثالها في تآليفه؛ خاصّة: "مشيخته البغداديّة"، و"معجم السّفر"، و"الوجيز في ذكر المجاز والمجيز" وغيرها.
ومدينة أَبْهَر ضبطها البُلدانيّون[2] بفتح الهمزة، وإسكان الباء، وفتح الحاء، آخرها راء مهملة، قال ابن أحمر:
أبا سالمٍ، إن كنتَ وُلِّيتَ ما تَرى فَأَسْجِحْ؛ فقد لاقيتَ سُكْنَى بأَبْهَرَا
وفي اشتقاقها أقوال:
الأوّل: أنّها من "الأَبْهَر"، وهو عَجْسُ القَوْسِ، أي مَقْبِضُهُ الذي يقبضه الرّامي منها، وهو أجلُّ موضع فيها وأغلظُه.
الثّاني: أنّها من "البَهْر"، وهو الغَلَبَة؛ قال عمر بن أبي ربيعة:
ثمّ قالوا: تحبُّها؟ قلتُ: بَهْراً عَدَدَ القَطْر والحصى والتُّرابِ
الثّالث: من "الابْتِهار"، وهو الاشتهار، يقال: ابْتَهَرَ فلانٌ بفلانة؛ أي: اشتهر؛ قال الشّاعر:
تَهيمُ حِينَ تختلفُ العَوالي وما بي إن مَدَحتُهَمُ ابْتِهَارُ
الرّابع: من "بُهْرَةِ الشّيء"، كبُهْرَةِ الوادي، أي: وسطه.(/1)
الخامس: ذكر بعضهم أنّ "أَبْهَر" مركَّبة من كلمتين؛ الأولى: "أَبْ"، وهو الماء، والثّانية: "هَرْ"، وهي الرَّحى؛ فكأنّ عند هؤلاء المعنى: ماء الرّحى[3].
ويبدو أنّ هذه الاشتقاقات تنطبق على مدينة أَبْهَر؛ باعتبار شهرتها، وإنجابها لعدد كبير من الأعلام، وتوسُّطها بين مدن أخرى شهيرة؛ هي: قَزْوينَ، وزَنْجَانَ، وهَمَذانَ.
والجدير بالذِّكْر أنّ "أَبْهَر" -أيضاً- يطلق على اسم جبل بالحجاز؛ قال القَتَّالُ الكِلابيُّ:
فإنّا بنو أُمَّيْنِ أُخْتَيْنِ حَلَّتَا بيوتهما في نَجْوَةٍ فوق أَبْهَرَا
ولا شكّ أنّ أَبْهَر الحجاز ليس هو المقصود بجزئنا هذا؛ لأنّه لا يُعلم خروجُ أعلام أبهريّين شيوخٍ للسِّلَفي من هذا الجبل، وانحصر الأمر في أَبْهَر؛ المدينة العامرة بالمحدّثين والفقهاء؛ الذين استفاد منهم المؤلِّف، ونثر لنا أخباراً من مَرويَّاتهم، وشوارد من حكاياتهم.
بقي أن يُذكر أنّ المحدِّثين ميّزوا بين "أَبْهَر" الكائنة بأصبهان، و"أَبْهَر" الواقعة بزَنجان؛ وإليك نصوصاً يتجلّى فيها هذا التّمييز، الذي اهتمّ به العلماء الأعلام؛ حرصاً منهم -رحمهم الله- على البيان والإفهام، وحذراً من التّداخل والإبهام:
1. قال السّمعاني: (وأبو عليّ: أحمد بن عثمان بن أحمد، الأبهري الخَصِيبُ، من أبهر أصبهان، كثير الحديث عن العراقيّين والأصبهانيّين، له مصنّفات..)[4].
2. وقال الذّهبي: (فيها توفِّي أبو جعفر أحمد بن المرزبان الأبهري، أبهر أصبهان، سمع جزء لُوَيْن من محمّد بن إبراهيم الحَزَوَّرِي سنة خمس وثلاث مئة، وكان دَيِّناً فاضلاً)[5].
3. قال ابن الدُّبَيثيُّ: (عبدالمحسن بن أبي العميد فرامرز بن خالد بن عبدالغفّار الخُفَيْفي، الفقيه، أبو طالب، الصّوفي، الأبهري، من أبهر زَنجان)[6].
فواضح من هاتين الإضافتين اختلاف "أبهر زنجان" عن "أبهر أصبهان"، ويقطع الشّكَّ باليقين النّصوص الآتية:(/2)
1. قال ابن طاهر المقدسي: (الأبهري والأبهري؛ الأوّل: منسوب إلى بلدة أبهر بالقرب من زَنْجان، خرج منها جماعةٌ من الفقهاء المالكيّة والمحدّثين والصّوفية والأدباء، وفيهم كثرة.
الثّاني: منسوب إلى قرية من قرى أصبهان اسمها أبهر أيضاً، حدّث منها جماعةٌ، منهم إبراهيم بن الحجّاج الأبهري...)[7].
2. وقال السّمعاني: (الأَبْهَري بفتح الألف وسكون الباء المنقوطة بواحدة وفتح الهاء وفي آخرها الرّاء المهملة؛ هذه النّسبة إلى موضعين:
أحدهما: إلى أبهر، وهي بلدة بالقرب من زنجان، خرج منها جماعةٌ كثيرة من الفقهاء المالكيّة والمحدّثين والصّوفية والأدباء، وفيهم كثرة... والثّاني: منسوب إلى قرية من قرى أصبهان، اسمها أبهر، خرج منها جماعةٌ من المحدّثين)[8].
3. وقال الذّهبي أيضاً: (وابن ماجه الأبهري: أبو بكر محمّد بن أحمد بن محمّد بن الحسن الأصبهاني. وأبهر أصبهان قريةٌ، وأمّا أبهر زنجان فمدينةٌ)[9].
4. وقال أيضاً: (عبدالله بن أحمد بن جُولَهْ أبو محمّد، الأصبهاني الأبهري، ومن قرى أصبهان، وأكثر العلماء من أبهر زنجان)[10].
5. وقال الزَّبِيدي: (و"أَبْهَرُ" بلا لامٍ: مُعَرَّبُ "آبْ هَرْ"؛ أَي: ماءُ الرَّحْى عظيمٌ، بين قَزْوِينَ وزَنْجَانَ، منها إِلى قَزْوِينَ اثنا عشر فَرْسَخاً، ومنها إِلى زَنْجَانَ خمسةَ عشر فَرْسَخاً، ذكره ابنُ خُرْدَاذْبَه.
و"أَبْهَرُ": بُلَيْدَةٌ بنواحِي أَصْبَهانَ، ذكره أَبو سعيد المالِينيُّ، ونُسب إِليها أَبو بكرٍ محمّد بن عبدالله بنِ صالحٍ التّميميُّ، الفقيه المقرِئ، توفّي سنة 375هـ، ونُسب إِليها -أيضاً- أَبو بكرٍ محمّد بن أحمد بنِ الحسنِ بنِ ماجَه الأَبْهَرِيُّ)[11].
والحاصل من هذه النّقول جملة أمور هي:
1- أنّ أبهر أصبهان قريةٌ صغيرة، وأمّا أبهر زنجان؛ فمدينةٌ كبيرة، وليست قريةً.(/3)
2- أنّ أبهر زنجان تميّزت بظهور أعلامٍ أهلِ ذكاءٍ ونبوغ في العلم، وذلك يجعلها مقصداً لزيارة العلماء لها، ويشير إلى هذا -أيضاً- قول الشّريف الإدريسي (ت 560هـ): (وأما مدينتا أبهر وزنجان؛ فصغيرتان، حصينتان، كثيرتا المياه والأشجار والزّروع، وزنجان أكبر من أبهر، وأهل أبهر أحذق وأنبل طباعاً، وأهل زنجان تدركهم غفلة وجهل)[12].
3- أنّ الفقهاء الذين خرجوا من أبهر زنجان هم غالباً من فقهاء المالكيّة.
4- أكثر العلماء خرجوا من أبهر زنجان، وهم أكثر شهرة، وأبعد صيتاً، أمّا الذين من أبهر أصبهان؛ فأقلّ منهم، وفي الشّهرة دونهم.
وإذا علمنا أنّ الذين يتحدّث عنهم السِّلفي في جزئه هذا هم أعلام المالكيّة؛ تأكّد لنا أنّ المقصود بأبهر -التي دخلها وأخذ عن أعلامها- هي أبهر زنجان، لا أبهر أصبهان، وهذه الأخيرة قريبة من موطنه الأصلي، وليس بعيداً أن يكون دخلها قديماً واستفاد ممّن وجده فيها من محدِّثين قلائل وفقهاء معدودين، بخلاف الأولى؛ فهي عامرة بالمحدّثين والفقهاء والأدباء وأضرابهم من أهل العلم والمعرفة.
وانظر إلى السّمعاني حين ذكر أحد شيوخ السّلفي الأبهريّين؛ قال: (وأبو بكر مكّي بن محمّد بن مكّي بن محمّد بن مكّي بن حرب الأبهري الحربي، خطيب الجامع العتيق بأبهر زنجان)[13].
إذا ثبت هذا؛ فيجدر البيان أنّ أبهر زنجان المقصودة بجزئنا هذا مدينة أو بلدة تقع بين قَزْوِين وزَنجان، تبعد عن الأولى 12 فرسخاً، وعن الثّانية 15 فرسخاً. وهي الآن من مدن إيران، في الجهة الغربيّة من مدينة قزوين[14]، ردّها الله وسائرَ تلك المدن -كما كانت في عهد المحدِّثين- إلى دائرة السُّنَّة، وأيقظ المغترِّين بالرَّوافض من النّوم والسِّنَة.
رحلةُ هذا الجزء
من الإسكندريّة بمصر إلى دمشق بالشّام(/4)
في يوم الخميس الثّالث من شهر رمضان المبارك من عام 573هـ في مدينة الإسكندريّة السّاحليّة؛ قصد جماعةٌ من كبار أهل العلم شيخَهم الإمام الحافظ المعمَّر أبا طاهر السِّلفي؛ ليسمعوا عليه هذا الجزء، وكان ذلك قبيل وفاته بثلاث سنوات، قارب فيها مئة عام، وبلغ عندها من الكِبَرِ عِتِيّاً، يعلوه شيب الوقار، وتتدثَّره آثار السّنين، صائماً محتسباً، مستقبلاً قاصديه، بشوشاً في وجوه طالبيه، فطِناً لما يُقرأ عليه، منتبهاً لما يسمع بين يديه.
وكان في جملة السّامعين المجتمعين عند شيخهم أعلامٌ؛ أشهرهم:
1. الإمام المحدّث الفقيه العدل، وجيه الدِّين، أبو محمّد، عبدالعزيز بن عيسى اللَّخمي[15] الأندلسي، الشَّريشي الأصل، الإسكندراني المولد والدّار (525- 596هـ):
مقرئ مدينة الإسكندريّة، وهو عَلَمٌ كانت تربطه بالسِّلفي علاقة علميّة خاصّة؛ حيث كان -غالباً- هو القارئ الذي يتولّى قراءةَ الكتب والأجزاء بين يدي السِّلفي، ونعته بذلك الذَّهبي؛ حيث قال: (قارئ الحافظ السِّلفي)[16]، قرأ عليه كثيراً من الكتب، وقد لازم السّلفيَّ إلى وفاته وحكى تمام ضبطِ شيخِه إلى آخر لحظة من حياته:
(لم يزل -أي السّلفي- يُقرأ عليه الحديث يوم الخميس، إلى أن غربت الشّمس من ليلة وفاته، وهو يردّ على القارئ اللَّحن الخفيَّ، وصلّى يوم الجمعة الصُّبح عند انفجار الفجر، وتوفِّي بعدها فُجاءةً)[17].
2. الإمام المحدِّث المؤرّخ الصّادق السَّفَّار التّاجر، أبو الثّناء، حمّاد بن هبة الله بن حمّاد الحرّاني الحنبليّ، (511- 598هـ):
سمع من السِّلفي بالإسكندريّة، جمع تاريخاً لحرَّان، وجزءاً فيمن اسمه حمّاد، وله شعر جيّد، ومن ذلك قوله:
تَنَقُّلُ المرءِ في الآفاق يُكْسِبُهُ محاسناً لم يكن منها ببلدته[18].
3. الشّيخ المقرئ، أبو محمّد، عبدالكريم بن عتيق بن عبدالكريم الرّبعي الإسكندري، المعروف بابن الشَّرَابي:
سمع الحروف على السِّلفي[19].(/5)
4. المحدِّث أبو محمّد، عبدالله بن عبدالجبّار بن عبدالله، العثماني، الشّاطبي الأصل، الإسكندراني، التّاجر البزّاز، الكارمي، (544- 614هـ):
مكثر عن الحافظ السِّلفي، وهو الأخ من الرّضاعة لأبي عليّ الحسين بن يوسف بن الحسن الصّنهاجي الشّاطبي الكتبيّ النّاسخ، المعروف بالنَّظَّام (561- 637هـ)، وكلاهما سمع من السِّلفي.
كان لأبي محمّد العثماني أُنس بالحديث، وكان الحافظ عليّ بن المفضَّل المقدسي -تلميذُ السِّلفي، وقارئ هذا الجزء- يثني عليه ويعظِّمه، أدركه أجلُه بمكّة[20].
فهؤلاء الأعلام أشهر من سمع الجزء على السِّلفي.
والذي تولّى القراءةَ وكتابةَ طبقة السّماع هو:
5. الإمام الحافظ الفقيه البارع الورع، أبو الحسن، شرف الدّين عليّ بن المفضّل اللَّخمي، المقدسي الأصل، الإسكندراني، المالكي، القاضي، (544- 611هـ):
سمع بالإسكندريّة من السِّلفي، فأكثر عنه، وانقطع إليه، وتخرّج به[21].
والحاصل:
أنّ ابن المفضّل كان يقرأ من نسخةٍ كتب بنفسه طبقةَ سماعها على المؤلِّف، وغالباً ما تكون هي نسختُه، وهذه الطّبقة التي دوّن فيها ابنُ المفضّل بخطِّه أسماءَ زملائه الأعلام؛ قد شاهدها ونقل لنا بخطِّه ملخَّصها عَلَمٌ؛ اسمُه: منكبا بن عمر بن منكبا الأسدي، المدعو تركنشاه، ومعنى هذا النّقل والتّلخيص حصولُ تركنشاه هذا على نسخة أخرى فرع عن نسخة عليّ بن المفضّل المقدسي، وغيرُ بعيد أن تكون هي الأخرى نسخته الخاصّة به.
ومن الجميل أن نرى لتركنشاه هذا ترجمة عند الذّهبي؛ فهو أبو المنهال، منكبا بن عمر بن منكبا، الأسدي، المصري، المحدّث، الأديب، الشّاعر، كثير الفضائل، حدّث، وله شعر حسن، توفّي سنة 676هـ[22]. وهو يعرف بالاسمين: تركنشاه، ومنكبا، والحافظ الذّهبي عقد له ترجمة في حرف التّاء، وأعادها في الميم.(/6)
وقد أدرك منكبا هذا عدداً من تلاميذ السِّلفي؛ نذكر منهم أبا الفضل، يوسف بن عبدالمعطي الغسّاني الإسكندراني المالكي، المعروف بابن المَخِيلي، (568- 642هـ)، روى عن الحافظ السّلفي، وكان من أكابر أهل بلده[23]. كما أدرك محدّثَ الإسكندريّة، الشّيخَ الإمام أبا محمّد عبدالوهّاب بن رواج، واسم رواج: ظافر بن عليّ الأزدي القرشي الإسكندراني المالكي، (554- 648هـ)، طلب بنفسه، فأكثر عن الحافظ السّلفي[24].
والحاصل:
أنّ هؤلاء الخمسة: أبو محمّد عبدالعزيز بن عيسى اللَّخمي الأندلسي الشّريشي الإسكندراني (596هـ)، وأبو الثّناء حمّاد ابن هبة الله بن حمّاد الحرّاني الحنبليّ (598هـ)، وأبو محمّد عبدالكريم بن عتيق بن عبدالكريم الرّبعي الإسكندري المعروف بابن الشَّرَابي، وأبو محمّد عبدالله بن عبدالجبّار بن عبدالله العثماني الشّاطبي الإسكندراني التّاجر البزّاز الكارمي (614هـ)، وأبو الحسن شرف الدّين عليّ بن المفضّل اللّخمي المقدسي الإسكندراني المالكي القاضي (611هـ)، وغيرهم؛ حظوا بحقّ رواية الجزء عن شيخهم أبي طاهر السِّلفي. غير أنّ النّاظر لا يرى لهم أثراً في سائر السّماعات؛ سوى رابعهم؛ أعني: أبا محمّد عبدالله بن عبدالجبّار بن عبدالله العثماني الشّاطبي الإسكندراني التّاجر البزّاز الكارمي (614هـ)؛ فقد نشط لإسماع الجزء، ونرى ذلك من طبقة سماعٍ تلي الأولى؛ شاهدها أيضاً ولخّصها المحدّث الأديب أبو المنهال، منكبا بن عمر بن منكبا الأسدي المصري (676هـ).
وكان مجلس سماع الجزء على أبي محمّد العثماني يومَ الثّلاثاء، الرّابع عشر من شهر ذي القعدة عام 611هـ، أي بعد 38 سنة من سماعه على السِّلفي؛ الذي جدّدوا ذِكْرَه بهذا المجلس وقد مضى على وفاته 35 سنة. وقد حضر سماعَ الجزء جماعةٌ من الأعلام أشهرهم:(/7)
1- مالكُ الجزء -الذي شاهده ولخّص لنا ما في طبقتي السّماع منكبا الأسدي- الشّيخُ العالمُ، نجمُ الدِّين، أبو الرّبيع، سليمان بن عبدالله بن الحسن، المكّي، التّميمي، الدّارمي، نزيل القاهرة، المعروف بابن الرَّيحاني، المتوفّى نحو 617هـ:
صاحب فصاحة وأخلاق حسنة، سمع بالموصل ودمشق ومصر من جماعة، التقى به الحافظ الصّابوني بالإسكندريّة -مدينة السّلفي- واستفاد منه، وذكر أنّه ثقة صدوق[25].
2- القاضي، الأديب، الكاتب، ضياء الدّين، أبو الحسين، محمّد بن إسماعيل بن عبدالجبّار، المقدسي، ثمّ المصري، (574- 647هـ):
عني بالحديث، وخرّج لجماعة وكتب، وهو من بيت رئاسة وفضيلة، طعنه الإفرنج بالمنصورة طعنة فحمل إلى القاهرة، وأدركه أجلُه بسَنْهُور، وكان صاحب ديوان الجيش الصّالحي، وهو يروي عن والده عن الحافظ أبي طاهر السِّلفي[26].
3- المحدّث، أبو جعفر، محمّد بن عبدالعزيز بن عبدالرّحيم، الهاشمي، العلوي، الحسني، الإدريسي، المصري، (568- 649هـ):
اشتغل وحصّل الأدب والتّاريخ، وعني بالحديث، وخرّج لجماعة. روى عن عدد من تلاميذ السّلفي؛ كمسند ديار مصر في وقته أبي القاسم، هبة الله بن عليّ بن مسعود، الأنصاري، الخزرجي، المنستيري، البوصيري، المتوفّى عام 598هـ[27].
4- شيخ الإسلام، الحافظ الكبير، الإمام الثَّبت، أبو محمّد، عبدالعظيم بن عبدالقويّ بن عبدالله، المنذري، الشّامي، ثمّ المصري، (581- 656هـ):
وقد وصل إلى المجلس متأخّراً؛ فسمع بعض فقرات من آخر الجزء، ثمّ استدرك الفائت بعد فراغ المجلس، وتولّى بنفسه قراءة ما فاته على شيخه المُسَمِّع أبي محمّد العثماني متصدِّر المجلس.
والحافظ المنذري قد أدرك تلامذة السِّلفي، وفي مقدّمتهم شيخه الذي لازمه، وبه تخرّج: أبو الحسن عليّ بن المفضّل المقدسي[28]، وهذا الأخير سبق لنا القول أنّه تولّى قراءة الجزء على السّلفي عام 573هـ.(/8)
فهؤلاء أشهر من كان في هذا المجلس، والذي تولّى كتابة أسمائهم في طبقة السّماع عَلَمٌ؛ اسمه: محمّد بن عبدالله بن عليّ بن عثمان القرشي، ومنه نقل الطّبقة منكبا بن عمر بن منكبا الأسدي.
والحاصل:
أنّ هذا الأسديّ شاهد في الأصل طبقتي سماع:
إحداهما: بخطّ أبي الحسن عليّ بن المفضّل المقدسي، وكانت عام 573هـ.
والثّانية: بخطّ محمّد بن عبدالله بن عليّ بن عثمان القرشي، وكانت عام 611هـ.
كما شاهد الطّبقتين عَلَمٌ آخر؛ آلت إليه النّسخةُ، ودخلت ملكَه، وعليها خطّ الأسدي المذكور، وهذا العَلَمُ هو المقرئ المحدّث الفقيه الشّافعي أبو القاسم موسى بن محمّد بن موسى بن إسماعيل، الأنصاري النَّفْرِي، سمع من طائفة، وكتب الأجزاء والطِّباق، وأفاد، وكان كثيراً ما يكتب قبل اسمه: "عبيد الله"[29]، وكذلك فعل في طبقة سماع جزئنا هذا.
ولم يقنع النَّفْرِيُّ بامتلاك الجزء فقط؛ بل سعى إلى سماعه مع عَلَمٍ مشهور، وقصدا أحد الشّيوخ الذين امتلكوا حقّ روايته، وهو الشّريف النّسّابة العلاّمة شرف الدّين أبو عبدالله محمّد بن عبدالرّحمن بن عليّ الحسيني؛ الذي سبق له سماعه على شيخه أبي محمّد عبدالله بن عبدالجبّار العثماني عام 611هـ.
انعقد المجلس بمنزل النّسّابة الحسيني المذكور في 11 محرّم من سنة 660هـ بحارة الدّيلم[30] من القاهرة وذلك بعد مضيّ 49 عاما على السّماع السّابق، وكان رفيق النَّفْرِيِّ في السّماع الفقيهُ المحدّث أمين الدّين أبو محمّد عبدالقادر بن محمّد بن عليّ بن عثمان الصَّعْبي[31]، المتوفّى بعد 700هـ، والذي تولّى قراءة الجزء على الشّيخ المسمِّع: ولدُه السّيّد الشّريف المحدّث الفاضل الرّئيس عزّ الدّين أبو القاسم أحمد بن محمّد الحسيني (636- 695هـ)، المحدّث المشهور، صاحب كتاب (صلة التّكملة لوفيّات النَّقَلَة)[32]؛ الذي ذيّل به (التّكملة) لشيخه الحافظ المنذري.(/9)
ولم يقنع أبو القاسم النَّفْرِي بالسّماع الأوّل؛ حتّى قصد شيخه الشّريف الحسيني في منزله بِحَارَة الدَّيلم بالقاهرة، في الأربعاء منتصف شهر ربيع الآخر من 660هـ؛ ليسمع الجزء مرّة أخرى، ومعه -أبضاً- ولدُه أبو القاسم الحسيني -صاحب (الصّلة)- وعَلَمَان آخَران مشهوران:
أحدهما: قدم من الأندلس، وهو الإمام الحافظ المتقن ضياء الدّين أبو جعفر أحمد بن محمّد بن صابر القيسي الأندلسي المالقي (625- 662هـ)، وآثره على نفسه حتّى تولّى هو القراءة على الشّيخ المسمِّع.
وضياء الدّين هذا ذكر عنه الذّهبيُّ أنّه كتب بخطّه الكثير من الكتب والأجزاء، وكان سريع الكتابة والقراءة، شديد العناية بالطّلب، كثير الفوائد، دَيِّناً فاضلاً، جيّد المشاركة في العلوم، كتب عنه الشّريف عزّ الدّين وآحاد الطّلبة، ومات شابّاً بالقاهرة[33].
والشّريف الذي ذكره الذّهبي هو صاحبنا أبو القاسم الحسيني ولد الشّيخ المسمِّع.
والثّاني: جمال الدّين أبو الفضائل محمّد بن أبي الفتوح نصر بن غازي بن هلال الأنصاري المصري المقرئ المحدِّث الجريري (588- 667هـ)، سمع كثيراً من أصحاب تلميذ السّلفي، مسند ديار مصر في وقته، أبي القاسم هبة الله بن عليّ بن مسعود الأنصاري الخزرجي المُنَسْتِيري البوصيري، المتوفّى عام 598هـ، وكان يمكنه السّماع من البوصيري نفسه؛ لكن لم يتيسّر له الأمر، كما يقول الذّهبي[34].
فهذه هي قصّة جزئنا هذا؛ الذي تداولته مجالس المحدّثين الميامين، ابتداء من مؤلِّفه الحافظ السّلفي الذي عقد له مجلس سماع عام 573هـ، وتلاه تلميذه أبو محمّد العثماني عام 611هـ، ثمّ النّسّابة الحسيني مرّتين عام 660هـ، وقد عَمَرَتْ تلك المجالسُ بعدد من أعلام المحدّثين، مصريّين وأندلسيّين ومقادسة وغيرهم، تقدّمت لنا لمحةٌ من أخبارهم، وإطلالةٌ عن علومهم وفضائلهم.(/10)
والملاحظ أنّ الجزء كان يُتَدَاوَل بين الإسكندريّة والقاهرة، ولا يستبعد -كما جرت به العادة- أن يكون سامعوه حملوا معهم نسخاً أخرى إلى بلدانهم بعد الفراغ من الحظوة بسماعه على الشّيوخ المسندين. غير أنّا لا نعلم سوى نسخة فريدة؛ هي هذه التي بين أيدينا، وهي منقولة عن أصل، ومقابلة به، ومن المحتمل جدّاً أن يكون هذا الأصل المنقول عنه هو نسخة الحافظ عليّ بن المفضّل المقدسي؛ الذي تولّى قراءة الجزء بنفسه على شيخه السّلفي.
ومهما كان الأمر؛ فالمجزوم به أنّ هذه النّسخة امتلكها المحدّث الأديب الشّاعر أبو المنهال، منكبا بن عمر بن منكبا الأسدي المصري، المتوفّى سنة 676هـ، ولا شكّ أنّ امتلاكه لها كان قبل هذا التّاريخ؛ بل قبل عام 660هـ، وهي السّنة التي كانت فيه النّسخة في ملك المقرئ المحدّث الفقيه الشّافعي أبي القاسم موسى بن محمّد بن موسى بن إسماعيل الأنصاري النَّفْرِي، وكانت -تحديداً- موجودة في حارة الدّيلم بالقاهرة في تلك السّنة.
نلاحظ -أيضاً- قيداً بمطالعة الجزء والنّظر فيه؛ كتبه عَلَمٌ اسمه: أبو بكر، ابن سيف الدّين بلبان الحلبي، وهذا الرّسم من الأسماء متداول كثيراً في أمراء مصر أيّام دولة المماليك، وصورة الخطّ تشير إلى أنّه من أواخر القرن السّابع الهجري.
والمقصود:
أنّ هذه النّسخة بقيت في مصر، تحت ملك أبي القاسم النَّفْرِي؛ إلى أن انتقلتْ إلى ملك عَلَمٍ شابّ مصريّ مشهور جدّاً، نقلها معه إلى الشّام، وهو الإمام الحافظ المفيد البارع أبو عبدالله محمّد بن عليّ بن أيبك السُّروجي المصري الحنفي (710- 744هـ).(/11)
وقد ذكر الحافظ الذّهبي أنّ السُّروجيَّ قدم عليهم الشّام عام 736هـ، وسمع من عدد من محدّثيها، وخرّج لنفسه تسعين حديثاً متباينة الإسناد، وسمعها المحدّثون منه، ثمّ كمّلها مئة، وله فهم ومعرفة وبصر بالرّجال، ثمّ توفّي -وعمره 34 سنة- في مدينة حلب، وتأسّفوا على حفظه وذكائه، والجميع يُثنون على معرفته وكثرة اطّلاعه، وكانت فيه شهامة وقوّة نفس.
كما التقى به الصَّفَدي، وأعجب باستحضاره للرّجال:
(ما رأيتُ بعد ابن سيّد النّاس مثلَه! ما سألته عن شيء من تراجم النّاس، ووفياتهم، وأعصارهم، وتصانيفهم؛ إلاّ وجدتُّه فيه حُفَظَةً، لا يغيب عنه شيءٌ!!).
وقال ابن حجر: (وفي الجملة؛ هو معدودٌ في زمرة الحفّاظ، ولو علتْ سنُّه؛ لكان أعجوبة الزّمان، شرع في جمع الثّقات، لو تمّ لكان عشرين مجلّدةً)[35].
وقد اهتمّ السّروجي باقتناء الكتب، وأوقفها قبل وفاته على المكتبة الضّيائيّة التي أنشأها الحافظ الإمام ضياء الدّين المقدسي -صاحب (الأحاديث المختارة) وغيرها- الكائنة بسفح جبل قاسيون المطلّ على مدينة دمشق، وكثيراً ما رأيتُ اسمه على ظهور الكتب والأجزاء التي كانت في الضّيائيّة وآلت إلى المكتبة الظّاهريّة، وجزؤنا هذا -من هذه السّيرة- دبّج السّروجيُّ على ظهر عنوانه قيدَ وقف: (وَقْفٌ من السُّرُوجيّ). وقد جُلِّدَ معه أجزاء أخرى نفيسة؛ فصّل الحديث عنها الأستاذ ياسين السّوّاس[36].(/12)
كُتب الجزء بخطّ قديم متقن قوبل على أصله المنقول منه، وقد خلا من التّصحيف والتّحريف، يجزم المتأمّل فيه والنّاظر في خوافيه أنّ صاحبه عالم، وقد تعذّرت معرفته لعدم التّصريح باسمه عند الخاتمة، كما جرتْ به العادة؛ إلاّ أن يكون مالكُه -كما في طبقة السّماع- الشّيخُ العالمُ نجمُ الدِّين، أبو الرّبيع، سليمان بن عبدالله بن الحسن، المكّي التّميمي الدّارمي، نزيل القاهرة، المعروف بابن الرّيحاني، المتوفّى نحو 617هـ، وهو صاحب فصاحة وأخلاق حسنة، سمع بالموصل ودمشق ومصر من جماعة، التقى به الحافظ الصّابوني بالإسكندريّة -مدينة السّلفي- واستفاد منه، وذكر أنّه ثقة صدوق[37].
والجدير بالتّنبيه أنّ عنوان الجزء وبدايته كتبا بقلم قديم مغاير للقلم الأوّل، ولا يوجب ذلك ريبةً؛ لأنّه أمر شائع في انتساخ الكتب، ويبدو لي أنّ عنوان الجزء وبدايته سقطا من الأصل، واستكملهما أحدهم من أصل آخر، وفي بداية الانتساخ ترك بياضاً:
(أخبرنا أبو...... عن أبي عمرو عثمان بن عليّ بن عبدالواحد القُرَشي؛ أنّ أبا طاهر أحمد بن محمّد بن أحمد السِّلفي..).
إنّ سبب هذا البياض مجهول؛ إلاّ أنْ يكون بياضاً قديماً في الأصل، أو تآكلاً ذهب معه رسم الرّاوي، أو تعذّر على النّاسخ قراءة الاسم؛ وهذا بعيد.
وهذا العَلَمُ -أبو عمرو عثمان بن عليّ بن عبدالواحد القُرَشي- المذكورُ في بداية الجزء -المُبَيَّضُ لمن قبله- هو المشهور بابن خطيب القرافة (572- 656هـ)، له إجازة خاصّة من الحافظ السِّلفي روى بها الكثير، وقد حدّث عنه كثيرون؛ لا يمكن للباحث -أيضاً- الجزم بمن روى منهم جزء السّلفي هذا عنه.
غير أنّي رأيتُ عَلَماً من الرُّواة روى عنه عن السِّلفي جزء ابن عَمْشَلِيقَ، ورواية أخرى ذكرها بإسناده الحافظُ ابن حجر العسقلاني[38].(/13)
وهذا العَلَمُ هو مسند الشّام المُعَمَّر، بدر الدّين، عبدالله بن الحسين بن أبي التّائب الأنصاري، المولود عام 642هـ، (أو 643هـ، أو 644هـ)، والمتوفّى عام 735هـ؛ حدّث بالكثير، وانتُقِد في أشياء رجع عنها في آخر حياته.
ويلاحَظ اهتمامه بما له علاقة بالحافظ السّلفي؛ فمن جملة مسموعاته من كتبه: "المنتخب من السّفينة البغداديّة"، و"شرط القراءة على الشّيوخ"[39].
ثمّ رأيتُ الحافظ ابن حجر ذكر عدداً من الأجزاء؛ سمعها ابنُ أبي التّائب من ابن خطيب القرافة:
(ومن عثمان ابن خطيب القَرَافة جزء سفيان، وجزء الذُّهَلي، وجزء ابن عَمْشَلِيقَ، وجزء ابن رِزقويه رواية جعفر، وجزء ابن السّماك ودَعْلَج، وانتخاب الصُّوْري على العَلَوي)[40]. فلعلّ هذا يُستأنَس به في معرفة العَلَمِ المُبَيَّضِ له في بداية الجزء[41].
غاشية الجزء
أحد السّماعات الموجودة آخر النّسخة
ـــــــــــــــــــــــــــ
[1] تعدّ الدّراسة التي كتبها د. حسن عبدالحميد صالح -رحمه الله تعالى- (الحافظ أبو طاهر السِّلَفِيّ) أمتع شيء كُتب عن المؤلّف، وثمّة دراسات أخرى حَفَلت بفوائد؛ ليس المقام مجال استقصاء لها.
[2] البكري: معجم ما استعجم 1/102، ياقوت: معجم البلدان 1/82.
[3] معجم البلدان 1/82.
[4] الأنساب 1/79.
[5] العبر 3/56.
[6] المختصر المحتاج إليه 15/282.
[7] المؤتلف والمختلف 26.
[8] الأنساب 1/77.
[9] العبر 3/300.
[10] تاريخ الإسلام، وفيات 405هـ، ص 114.
[11] تاج العروس 10/264.
[12] نزهة المشتاق في اخترق الآفاق 678، للإدريسي.
[13] انظر نزهة المشتاق 678، والمؤتلف والمختلف 26، لابن طاهر، ومعجم البلدان 3/116 لياقوت.
[14] الأنساب 2/198، وانظر الفقرة 59، ملحق.
[15] انظر ترجمته في تاريخ الإسلام، وفياتها، ص 252.
[16] سير أعلام النّبلاء 21/39.
[17] انظر سير أعلام النّبلاء 21/385.
[18] سير أعلام النّبلاء 21/39.(/14)
[19] غاية النّهاية في طبقات القرّاء 1/402- 403.
[20] انظر تاريخ الإسلام، وفيات 614هـ، ص199، والوافي بالوفيات، للصّفدي 13/55.
[21] انظر تاريخ الإسلام، وفيات 611هـ، ص 79، وشذرات الذّهب 5/47.
[22] انظر تاريخ الإسلام، وفياتها، ص 220، 244، وشذرات الذّهب 5/47.
[23] انظر سير أعلام النّبلاء 23/117.
[24] المصدر السّابق 23/237- 238.
[25] انظر تكملة الإكمال 2/752، وتاريخ إربل 1/141.
[26] انظر بغية الطّلب 4/1670، وتاريخ الإسلام، وفياتها، ص367.
[27] انظر تاريخ الإسلام، وفيات 649هـ، ص430.
[28] انظر سير أعلام النّبلاء 23/320- 322.
[29] انظر توضيح المشتبه 9/108.
[30] انظر عن هذه الحارة: صبح الأعشى 3/403.
[31] ثمّة سماع لكتاب طبقات الفقهاء، 185، للشّيرازي؛ اجتمع فيه النّفري بصاحبه الصّعبي؛ لقراءة الكتاب على الحسيني، صاحب صلة التّكملة، وكان ذلك في مجالس؛ آخرها يوم الأحد 12 جمادى الآخرة، من عام 661هـ. وأبو محمّد الصّعبي من شيوخ الإمام الذّهبي، وقد ترجم له في المعجم المختصّ 149، وتصحّفت فيه النّسبة إلى (الصّبحي). وللصّعبي كتاب في رجال عمدة الأحكام؛ يعمل على تحقيقه الأخ الفاضل الباحث أبو قتيبة نظر محمّد الفاريابي، وفّقه الله تعالى.
[32] حقّقه أبو يحيى عبدالله الكندري، ونشرته دار ابن حزم عام 1426هـ.
[33] عن 37 عاماً، وقد توفّي بعد هذا المجلس بسنتين، رحمة الله عليه. انظر تاريخ الإسلام، وفيات 662هـ، ص 95.
[34] انظر تاريخ الإسلام، وفيات 667هـ، ص 249.
[35] انظر عن السُّروجي: المعجم المختصّ 244، وذيل تذكرة الحفّاظ 63، وطبقات الحفّاظ 536.
[36] فهرس مجاميع المدرسة العمريّة 371- 378، المجموع رقم: 73.
[37] انظر تكملة الإكمال 2/752، وتاريخ إربل 1/141.
[38] نشر الأوّل الزّميل الفاضل د. رضا بن خالد بو شامة الجزائري، ويعمل على الثّاني الصّديق العزيز د. عبداللّطيف بن محمّد الجيلاني.(/15)
[39] انظر جزء ابن عَمْشليق 15، وتغليق التّعليق 2/165، 455.
[40] الدّرر الكامنة 3/30- 31.
[41] جزؤنا هذا تهيِّؤُه للطّبع دار الصّميعي للنّشر والتّوزيع، يسّر الله ذلك بمنّه وكرمه.(/16)
العنوان: من حقوق البنات على آبائهن
رقم المقالة: 261
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
الحمد لله؛ أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، وألزم عباده بما أنزل من الهدى، أحمده على ما أرشد وهدى، وأشكره على ما أسدى وأعطى، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ إليه ترفع النجوى، وهو منتهى كل شكوى، وإليه المآب والرجعى، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، العبد المجتبى، والنبي المصطفى، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، ومن تبع هديهم واقتفى0
أما بعد: فاتقوا الله - عباد الله - وأطيعوه، وأدوا ما عليكم من الأمانات، وتخلصوا من الحقوق؛ فإنكم عند ربكم موقوفون، وعلى أعمالكم محاسبون، وعن أماناتكم مسئولون (يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية)0
أيها الناس: من حكمة الله تعالى في خلقه أن جعل تناسلهم وتكاثرهم بالمزاوجة بين ذكورهم وإناثهم، وتلك سنة عامة في الإنسان والحيوان والطير والحشرات وغيرها، ولو شاء سبحانه لكاثرهم بغير هذه الطريقة، ولكن إرادته سبحانه اقتضت المزاوجة بين النوعين، وفي ذلك من الحكم ما نعلمه وما لا نعلمه (ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون) (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير) (وخلق كل شيء فقدره تقديرا)0
والنوع الأقوى دائما هو الذكر، والأنثى هي الأضعف في كل مخلوقات الله تعالى، وكل نوع منهما محتاج إلى الآخر، ولا تستقيم الحياة على الأرض إلا باتفاقهما وتزاوجهما0(/1)
ولما كانت المرأة أضعف من الرجل كانت مستضامة عند كل الأمم الضالة من فجر التاريخ إلى يومنا هذا، وكان العرب في جاهليتهم يئدون البنات؛ لأنهن لا يمتطين الجياد، ولا يقاتلن الأعداء، ولا يكتسبن المال، ولا يدفعن عن أنفسهن أي اعتداء؛ فرآهن أهل الجاهلية عبئا وعارا (وإذا الموؤدة سئلت، بأي ذنب قتلت) وإزاء هذا الضعف في المرأة الذي اتسمت به خلقتها، واستبيح بسببه حماها، وسلب منها حقها؛ جاء الإسلام بما يعزز موقفها، ويعلي مكانتها، ويحفظ لها حقها0فعاب الله تعالى على أهل الجاهلية نظرتهم للبنات، وشؤمهم منهن (وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم، يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون)0
وأفضل الخلق، وأزكى البشر، وخاتم الرسل عليه الصلاة والسلام ما عاش له من الولد إلا البنات، وذلك من أعظم الفخر للبنات، وفيه تسلية لمن لم يرزق من الولد إلا هن0(/2)
ولما كان البنات هن الأضعف، وأكثر الناس يستبشرون بالأبناء أكثر من استبشارهم بالبنات؛ فإن الشريعة الغراء رتبت من الأجور العظيمة على رعاية البنات، ورحمتهن والإحسان إليهن أكثر مما جاء في حق الأبناء، واختصت البنات بنصوص كثيرة في ذلك؛ فمن رزق بنات وأحسن تربيتهن، والقيام عليهن، نجي من النار بسببهن بعد رحمة الله تعالى، وحشر مع النبي صلى الله عليه وسلم، وأدخله بناته الجنة، وفي ذلك أحاديث كثيرة، قال النبي صلى الله عليه وسلم (من ابتلي من هذه البنات بشيء كن له سترا من النار) وفي حديث آخر (من كان له ثلاث بنات وصبر عليهن وكساهن من جدته كن له حجابا من النار) وفي حديث ثالث (ما من مسلم تدركه ابنتان فيحسن صحبتهما إلا أدخلتاه الجنة) وفي رابع (من كان له ثلاث بنات يؤويهن ويكفيهن ويرحمهن فقد وجبت له الجنة البتة، فقال رجل من بعض القوم: وثنتين يا رسول الله ؟ قال:وثنتين) وفي خامس (من عال جاريتين حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو وضم أصابعه) وكلها أحاديث ثابتة وبعضها في الصحيحين0
وكثير من الناس يحصر الإعالة والإحسان للبنات في الجوانب الحسية من المأكل والمشرب والملبس ونحوه، ويغفل جوانب العطف والحنان، والحاجات القلبية والنفسية، من الجلوس معهن، والتبسم لهن، والحديث إليهن، والإنصات لحديثهن، وتلمس حاجاتهن، ومعالجة مشاكلهن، حتى تسربت إلى بعض الناس عادات أهل الجاهلية فلا يأكل مع نسائه وبناته، ويرى أن ذلك مناف لرجولته، قادح في شخصيته، ولا يحظى بمجالسته ومواكلته ومباسطته إلا الذكور من ولده دون الإناث، وهذا من التفرقة بين الأولاد، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم) رواه البخاري0
والعدل في هذا واجب مثل العدل في النفقة إن لم يكن أهم وأولى من العدل في النفقة؛ لمسيس حاجات البنات لمثل هذا النوع من الإحسان والرعاية0(/3)
وما ضُحك على كثير من بنات المسلمين حتى وقعن في المعصية والعار إلا بعد خلو بيوتهن من تلك الرعاية، فبحثن عنها في غير بيوت آبائهن، فاصطادهن ذئاب لا يرقبون في حرمات المسلمين إلاًّ ولا ذمة، فكان من أمرهن ما كان0
ومن الخطل في الرأي، والخطأ في الفهم، أن يظن ظان أن هذا الأجر العظيم في رعاية البنات وإعالتهن الذي أخبرت به الأحاديث يناله من قصَّر في تربية بناته على أحكام الشريعة، أو فتح لهن أبواب المعصية، فلا علمهن أحكام الحيض والطهارة، ولا أمرهن بالصلاة والطاعة، ولا بين لهن أهمية العفاف والطهر والحصانة، ولم يراقب حجابهن، ولا يبالي أي لباس يلبسن، ولا يسأل: مع من كن وأين ذهبن؟ وقد ملأ بيته بأنواع من الموبقات التي توبق بناته وتهلكهن، من فضائيات ساقطة، وأشرطة ماجنة، ومجلات هابطة، تثير الشهوات ولا تشبع العواطف، وتحرك الغرائز ولا تنمي العقول، وتدعو إلى المعاصي، بل تؤصل للمعصية والكفر بشعارات براقة، وعناوين خادعة من الحرية الشخصية، والحب خارج إطار الزوجية، وغير ذلك مما غزا أكثر البيوت، وفتك بقلوب كثير من بنات المسلمين0
أَوَيظن مسلم أن يحظى بهذا الأجر في إعالة بناته وقد أشبع بطونهن وأهمل عقولهن، وألهب غرائزهن ولم يشبع عواطفهن، قد اهتم بأمور دنياهن ولم يبال بأعمال أخراهن!!(/4)
كيف يظن مسلم ذلك وهو يرى أن هذه الأحاديث ذكرت أوصافا لمن يستحق ذلك من أولياء البنات، ففي حديث قال عليه الصلاة والسلام (فيحسن صحبتهما) وفي الحديث الآخر (يؤويهن ويكفيهن ويرحمهن) فهل أحسن صحبتهن من ضيع عليهن الدين واكتفى لهن بالدنيا، وهل رحمهن من جلب لهن أسباب العذاب والنار في الآخرة؟! وتأملوا قوله عليه الصلاة والسلام (يؤويهن ويكفيهن) والإيواء والكفاية لها قدر محدد، لا ينزل عنه فيحتجن إلى غيره وهو أبوهن وراعيهن، ولا يتعداه فيفسدهن ويبطرهن، فإن قصر عن هذا الحد ما كان مؤويا لهن ولا كافيا، وإن تجاوزه إلى السرف والترف مما يحل وما يحرم فقد انتقل من الإيواء والكفاية إلى الطغيان والإفساد، وكلا الوجهين مذموم0
فإذا عمل فيهن بشرع الله تعالى، وقام عليهن خير قيام حتى يزوجهن بالأكفاء فقد أدى الأمانة، والتزم الديانة، واستحق بإذن الله تعالى ما رتب على رعاية البنات من أجور عظيمة0
ومن أعظم الظلم، وأكبر البغي، وأشد أنواع القسوة أن يحرم بناته من حق قد قضاه الله تعالى لهن كما يفعله من يفعله من جهلة الناس، وجفاة الرجال بحرمان بناتهم من الميراث، أو التحايل لإسقاطه قبل موته بأن يسجل أملاكه باسم أبنائه دون بناته، ومن فعل ذلك فقد ختم حياته بخاتمة السوء، ولقي الله تعالى بظلم عظيم لبناته، وقد خلقهن الله تعالى ضعافا، وأوصى بهن، فضيع بجهله وعصبيته وصية الله تعالى فيهن، وانحاز إلى الأقوياء من ولده وأعطاهم حق الضعفاء، ولعله لا يحسن إليه في كبره وضعفه، ولا يدعو له في قبره إلا بناته0
وأعظم ظلما من ذلك أن يعضل بناته، فلا يزوجهن الأكفاء من الرجال إما عصبية لعشيرته؛ فبناتهم لا تُزوج من غير أبناء العشيرة، وليس في عصبته كفؤ يرضاه عاقل لابنته، فإما زوجها بغير كفء لها فظلمها، أو تربص إلى أن تنتج عشيرته كفئا لها وقد يأتي وقد لا يأتي حتى يشيب رأسها 0(/5)
أو كان أبوها مريضا بالعظمة فيرد عنها الخاطبين لأنهم لم يملئوا عينه، ولا أحد يملأ عينه؛ لأن العلة فيه لا فيهم، والرجل العاقل لا يطلب المعالي في تزويج بناته، بل ينشد سترهن وسعادتهن 0
أو يمنعها الزواج لأنه أهداها في صغرها لأحد أبناء عمه وهي لا تريده، فيركب رأسه لئلا يقال: قد رضخ لرأي النساء، فيعذب نفسه وابنته لعزة يتوهمها وهي عين الذل والإهانة؛ إذ كيف يبتزه الآخرون في بناته، فلا رأي له فيهن بل الرأي رأيهم 0
أو يمنعها الزواج يريد بيعها لذوي المال والجاه كما تباع السلع، حتى إذا قبض ثمنها، وقضى الغني حاجته منها؛ رمى بها مهانة ذليلة حزينة، فهل هذا أب يرحم ؟! كيف ومهرها مهما بلغ حق لها لا لأبيها، ولها أن تتنازل عما شاءت منه لزوجها؟!
أو كانت تعمل ويأخذ أبوها أجرها فيحبسها، ويرد الأكفاء عنها لأجل ذلك0وربما كان صفيق الوجه، قليل الحياء، يعلل فعلته الشنيعة في بناته بما مضى من نفقتهن، ويمن عليهن بحق أوجبه الله تعالى لهن، فيحرم بناته أعظم لذة في الدنيا وهي الزواج وطلب الولد، وقد تمتع هو من قبل بهذه النعمة، فأي أنانية تلك، وأي قلوب قدت من حجر قلوب هؤلاء الآباء0
وإذا خطبها خاطب وجب على أبيها أن يتحرى عنه، ويسأل عن دينه وأخلاقه، ثم يعرض الأمر عليها إن كان الخاطب مما يرضى دينه وأخلاقه، ولا يكرهها عليه، فالحق لها، والقول قولها، وهي من تتحمل نتيجة اختيارها، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (لا تنكح الأيم حتى تستأمر ولا تنكح البكر حتى تستأذن قالوا: يا رسول الله، وكيف إذنها؟ قال: أن تسكت) متفق عليه0
وقد ذكر الفقهاء أن البنت إن رغبت في كفء بعينه، وأراد أبوها تزويجها بغيره من أكفائها , وأبى تزويجها من الذي أرادته كان عاضلا لها، فأما إن طلبت التزويج بغير كفئها في دين أو خلق فله منعها من ذلك , ولا يكون عاضلا لها بهذا0(/6)
وإذا رأى الرجل عزوفا من بناته عن الزواج لأجل الدراسة أو الوظيفة ذكرهن بالله تعالى، ووعظهن بكتابه، وبين لهن خطورة رد الأكفاء من الرجال، وأخبرهن أن الواحدة منهن إن ردت كفئا يرضى دينه وخلقه فقد تعاقب بالحرمان من مثله؛ حتى لا يأتيها مستقبلا إلا غير كفء، وإذا عرف عند الناس أن آل فلان يردون الأكفاء عن بناتهم أحجموا عنهم، وهذا واقع مشاهد، وكم راح ضحيته كثير ممن يرغب الشباب في مثلهن من بنات الناس لولا هذا التصرف الخاطئ؟!
وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض) فمن يرضى من الآباء، ومن يرضى من البنات أن تكون سببا من أسباب الفتنة في الأرض والفساد العريض0
والوظيفة والدراسة ليست تمنع من الزواج؛ إذ ستجد من يقبلها مع وظيفتها ودراستها، ولو قدر التعارض في ذلك قدمت مصلحة زواجها على وظيفتها ودراستها؛ لأنه بزواجها ينفق عليها زوجها فلا تحتاج إلى الوظيفة، لكن إن فاتها الزواج لكبرها، ورغبة الرجال عنها، لم تهب لها وظيفتها زوجا وولدا0(/7)
وإذا طلقت البنت وعادت إلى بيت أبيها فلا يحلُّ له أن يعيرها بطلاقها، ويجب عليه أن يحسن إليها؛ حتى يجعل الله تعالى لها سبيلا برجل آخر، فإن خرجت من عدتها، وعاد إليها مطلقها يريد نكاحها مرة أخرى فالقول قولها، فإن أرادته فليس لأبيها أن يمنعها منه بحجة أنه طلقها المرة الأولى، وفي مثل هذه الصورة نزلت آية العضل؛ كما روى البخاري عن الحسن البصري رحمه الله تعالى في قول الله تعالى (فلا تعضُلُوهن) قال: حدثني معقل بن يسار أنها نزلت فيه قال: زوجت أختا لي من رجل فطلقها حتى إذا انقضت عدتها جاء يخطبها فقلت له زوجتك وأفْرَشْتُك وأكرمتك فطلقتها ثم جئت تخطبها، لا والله لا تعود إليك أبدا، وكان رجلا لا بأس به وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه فأنزل الله هذه الآية (فلا تعضُلُوهن) فقلت:الآن أفعل يا رسول الله، قال: فزوجها إياه) وفي رواية قال معقل رضي الله عنه (سمعا لربي وطاعة، فدعا زوجها فزوجها إياه) وفي هذه الحادثة يقول الحسن رحمه الله تعالى (علم الله تعالى حاجة الرجل إلى امرأته، وحاجة المرأة إلى زوجها فأنزل الله هذه الآية)0
نسأل الله تعالى أن يحفظنا والمسلمين بحفظه، وأن يسبغ على نساء المسلمين وبناتهم ستره، وأن يجنبهن طرق الهلاك والردى، إنه سميع قريب 0
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم0000
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ويرضى،وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين0
أما بعد: فاتقوا الله - عباد الله - وأطيعوه (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون)(/8)
أيها المسلمون: ليس من العيب في شيء أن يعرض الرجل بناته على الأكفاء تصريحا أو تلميحا، أو يوصي بذلك من يثق به؛ فإن الأكفاء من الرجال إن رغبوا فيهن حصل له ما أراد، وكان ذلك من تمام إحسانه لبناته، وإن رغبوا عنهن منعهم دينهم وأخلاقهم من الكلام والثرثرة، وإفشاء سره0وقد فعل ذلك خيار هذه الأمة من الصحابة والتابعين؛ فعمر رضي الله عنه عرض ابنته حفصة على أبي بكر ثم على عثمان رضي الله عنهم، فتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم 0وعثمان عرض ابنته على ابن مسعود وهو كبير وهي صغيرة مع ما بينهما رضي الله عنهما من خلاف في بعض المسائل0وسعيد ابن المسيب رحمه الله تعالى رفض ابن الخليفة وقد خطب ابنته، وزوجها من رجل صالح فقير كان يطلب العلم على يديه0
وإن طلقت البنت أكثر من مرة، أو كان أزواجها يموتون عنها، فليس لأبيها أن يعاقبها بمنعها من الزواج؛ حرجا من كلام الناس، أو خوفا من شماتتهم، فحق ابنته عليه أولى من مراعاة الناس، ولو أرادت الزواج ولها أولاد فلها ذلك، وليس لأحد أن يمنعها حقها ولو كانت كبيرة السن، فهي أدرى بنفسها، وأعرف بحاجتها، وقد كان الصحابيات رضي الله عنهن لا تنقضي عدة الواحدة منهن إلا وتخطب على الفور، وقد تزوجت أسماء بنت عميس رضي الله عنها جعفرا ثم أبا بكر ثم عليا رضي الله عنهم0 وكونها تكون زوجة ثانية أو ثالثة أو رابعة خيرا لها من بقائها بلا زوج0 وما انتشر رفض هذه المبادئ الأصيلة التي جاءت بها الشريعة، وطبقتها الصحابة، إلا لما سادت ثقافة المسلسلات الهابطة، والمجلات الساقطة بين الناس، حتى حاربوا تعدد الزوجات وهو خير للنساء وللمجتمع، وألقوا في رُوْعِ المطلقة عدم الزواج مرة أخرى، وعليها أن تبحث عن ذاتها ولذتها في طريق آخر غير طريق الزواج، يعني في الحرام نسأل الله العافية، حتى وئدت الفضيلة، وانتشرت الرذيلة، وإن صبرت فهي على جمر يحرق قلبها0(/9)
ومن إحسان الرجل إلى بناته أن يحسن إلى أزواجهن؛ فيبتسم لهم، ويظهر حفاوته بهم، ويحضر ولائمهم، ويدعوهم هو إلى بيته؛ فإنه وإن كان ذا فضل عليهم بتزويجهم، فلهم فضل عليه بحفظ عورة له، وإحسانه إليهم ينتج عنه ولا بد إحسان الأزواج إلى بناته، وهذا ما يطلبه لهن0
وينبغي لمن رزقه الله تعالى أولادا وحفدة ألا يظهر احتفاءه بأولاد بنيه أكثر من احتفائه بأولاد بناته؛ لأن ذلك مما ينكأ في قلوب بناته، ويكون سببا للعداوة والبغضاء بين أولاده وأحفاده0
ألا فاتقوا الله ربكم أيها المسلمون، وأدوا أماناتكم، وأحسنوا إلى بناتكم كما تحسنون إلى أبنائكم، وخذوا في ذلك بآداب الإسلام؛ ففي ذلك خيري الدنيا والآخرة0
وصلوا وسلموا 000(/10)
العنوان: من حقوق الجار – قصة للأطفال
رقم المقالة: 1604
صاحب المقالة: حضارة الكلمة
-----------------------------------------
من حقوق الجار
أتحفنا الأستاذ محمد عدنان غنام بهذا النص الطفلي عن حقوق الجار، في مجموعته القصصية (مُثُلٌ عُليا)..
وقصته هذه موجّهة للأطفال وتحمل معاني المُثُل العليا..
نتمنّى من الزوّار قراءة أمثال هذه القصص لأطفالهم ومناقشتها معهم..
لتنوّر لهم دربهم منهجاً وأدباً ولغةً
النص
كان سالم رجلاً كريمًا طيّب القلب.. وكان له جار فقير اسمه أحمد.
وفي يومٍ منَ الأَيَّام احتاج أحمد للمال كثيرًا..
ولمَّا لم يجد مَن يعطيه المال، قرَّر أن يبيع داره.
قال أحد المشترين: كم تريد ثمنًا للدار يا أحمد؟
قال أحمد: أريد ثمنها ألف دينار.
قال المشتري: ولكنها لا تساوي هذا المبلغ الكبير .. إنها تساوي خمسمائة دينار فقط!
قال أحمد: هذا صحيح.. إنها لا تساوي هذا المبلغ؛ ولكن لهذه الدار جار طيب كريم، اسمه سالم يزورني إذا مرضتُ.. ويسأل عني إذا عوفيتُ.. يفرح لفرحي ويحزن لحزني..
لم أسمع منه كلمة سيّئة طوال سكني في هذه الدار!
سمع المشتري كلام أحمد فقال: إنَّ مَن له جار كسالم عليه أن لا يبيع داره.
وسمع سالم ما دار بين جاره أحمد والمشتري فحزن؛ لأن جاره أخفى عنه حاجته للمال، وقام بسرعة إلى أحمد، وقال له: لا تَبِعْ دارك يا أخي، وخذ ما أنت بحاجة إليه من المال؛ فإني أريدك أن تبقى جارًا لي.
سمع أهل المدينة بقِصَّة أحمد وسالم ففرحوا..
وكم تمنَّوْا لو أنَّ كل الجيران مثل أحمد وسالم.(/1)
العنوان: من حقوق القرآن الكريم
رقم المقالة: 1183
صاحب المقالة: مروان محمد أبو بكر
-----------------------------------------
إنّ أعظمَ نعمة امتنّ الله بها على أمة الإسلام إنزال القرآن؛ ذلك الكتاب الذي لا غموض فيه ولا التباس، قال الله تعالى ممتناً: {لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم أفلا تعقلون} [الأنبياء: 10]، وقال الله تعالى لنبيه الكريم صلى الله عليه وسلم: {وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون} [الزخرف: 44].
فإنزال الكتاب على هذه الأمة هو أكبر النعم، والنعمُ بعده موازنةً به مزيدُ فضل وإحسان من الغني الكريم.
ولا أدلَّ علي ذلك من حسد الأمم السابقة هذه الأمةَ على تلك النعمة العظيمة، فقد جاء عمرَ بن الخطاب رجلٌ من اليهود فقال له: يا أمير المؤمنين آية في كتابكم تقرؤونها، لو علينا معشرَ اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً، قال: أي آية؟ قال: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً} [المائدة: 3]، قال عمر: "قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه، نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو قائم بعرفة يوم جمعة"[1].
والقرآن هو حبل الله المتين الذي من تمسك به نجا وأفلح في الدنيا والآخرة، قال الله تعالى {واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا} [آل عمران: 103]، وفي الطبري وابن كثير والقرطبي، "حبل الله: القرآن"[2].
ورحم الله الإمام الشاطبي إذ يقول في حرز الأماني:
وبعدُ فحَبلُ الله فينا كتابُه فجاهِد به حِبلَ العِدا مُتحبِّلا
وأخلِق به إذ ليس يخلُق جِدّة ... جديدًا مُوالِيه على الجِد مُقبلا(/1)
وما مثلنا إلا كقوم في أرض تعج بالسباع، ولا سبيل للأمان فيها إلا بالدخول في حصن وحيد بها، فالحصن كتاب الله، والسباع ما نرى من الفتن التي تدع الحليم حيراناً، فعن الحارث قال: "دخلت المسجد فإذا أناس يخوضون في أحاديث، فدخلت على علي فقلت: ألا ترى أن أناسًا يخوضون في الأحاديث في المسجد؟ فقال: قد فعلوها؟ قلت: نعم قال: أما إني سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ستكون فتن، قلت: وما المخرج منها؟ قال: كتاب الله، كتاب الله، فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل، ليس بالهزل، هو الذي من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، فهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق عن كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، وهو الذي لم ينته الجن إذ سمعته أن قالوا: {إنا سمعنا قرآناً عجباً}، هو الذي من قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن عمل به أجر، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم"[3].
وأنَّى لهذه الأمة التي أعزها الله بالإسلام والقرآن أن تجد عزة في سواه، وأن تتبوأ ذرى المجد بغيره.
ولهذا الحصن الحصين والدرع المتين، وكلام رب العالمين، حقوقٌ يجب أداؤها، وواجباتٌ لا بد من القيام بها، وفي ما يلي بيانُ بعضها:
* حق الإيمان والتصديق:(/2)
وهذا الحق لا يكون العبد مسلماً إلا بأدائه، وهو الذي من أجله قام سوقُ الجنة والنار، وجردت سيوف الجهاد، وسالت دماء الأطهار والكفار، وقد تكررت الأوامر الإلهية به، مبينة أنه من أوجب الواجبات؛ قال تعالى: {يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم فآمنوا خيراً لكم وإن تكفروا فإن لله ما في السموات والأرض وكان الله عليماً حكيماً} [النساء: 170]، وقال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالاً بعيدًا} [النساء: 136]، قال القرطبي والبغوي والشوكاني والواحدي وغيرهم: "الكتاب الذي نزل على رسوله هو القرآن"[4].(/3)
وقد قال الله تعالى في صفة عباده المؤمنين: {الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون} [القصص: 52]، وقال مادحًا لهم أيضًا: {وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فكتبنا مع الشاهدين} [المائدة: 83]، وقد ذم الله المكذبين بهذا الكتاب العظيم فقال: {ومن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين} [الزمر: 32]، وأنكر الله تعالى على المكذبين تكذيبَهم بالقرآن إذ لا مسوغ له مع ظهور بركة هذا الكتاب العزيز فقال: {وهذا ذكر مبارك أنزلناه أفأنتم له منكرون} [الأنبياء: 50]، وما كذَّب المكذبون بهذا الكتاب إلا جحودًا وعناداً، وهم في أنفسهم يعلمون أنه الحق، وكم استخفى المشركون ليلاً ليستمعوا إلى النبي صلي الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن في تهجده، ولقد سجدوا مع النبي صلي الله عليه وسلم يوم قرأ سورة النجم لما أخذ القرآنُ منهم كلَّ مأخذ، قال الأستاذ سيد قطب رحمة الله: "كنت بين رفقة نسمر حينما طرق أسماعَنا صوتُ قارئ للقرآن من قريب يتلو سورة النجم، فانقطع بيننا الحديث لنستمع وننصت للقرآن الكريم، وكان صوت القارئ مؤثرًا وهو يرتل القرآن ترتيلاً حسناً، وشيئاً فشيئاً عشت معه فيما يتلوه، عشت مع قلب محمد صلي الله عليه وسلم في رحلته إلى الملأ الأعلى، عشت معه وهو يشهد جبريل عليه السلام في صورته الملائكية التي خلقه الله عليها، ذلك الحادث العجيب المدهش حين يتدبره الإنسان ويحاول تخيله، وعشت معه وهو في رحلته العلوية الطليقة عند سدرة المنتهى وجنة المأوى، عشت معه بقدر ما يسعفني خيالي وتحلق بي رؤاي، وبقدر ما تطيق مشاعري، وتابعته في الإحساس بتهافت أساطير المشركين حول الملائكة وعبادتها وبنوتها وأنوثتها... إلى آخر هذه الأوهام النخرة المضحكة التي تهاوت عند اللمسة الأولى، ووقفت أمام الكائن البشري ينشأ من الأرض، وأمام الأجنة في بطون أمهاتها وعلم(/4)
الله يتابعها ويحيط بها، والعمل المكتوب لا يغيب عن الحساب والجزاء، والمنتهى إلى الله في نهاية كل طريق يسلكه العبيد، والحشود الضاحكة والحشود الباكية، وحشود الموتى وحشود الأحياء، والنطفة تهتدي في الظلمات إلى طريقها وتخطو خطواتها وتبرز أسرارها فإذا هي ذكر أو أنثى، والنشأة الأخرى، ومصارع الغابرين والمؤتفكة أهوى فغشاها ما غشى، واستمعت إلي صوت النذير الأخير قبل الكارثة الداهمة، {هذا نذير من النذر الأولى أزفت الآزفة ليس لها من دون الله كاشفة} [النجم: 56]، ثم جاءت الصيحة الأخيرة، واهتز كياني كله من التبكيت، {أفمن هذا الحديث تعجبون وتضحكون ولا تبكون وأنتم سامدون} [النجم: 60-66]، فلما سمعت {فاسجدوا لله واعبدوا} [النجم: 62] كانت الرجفة قد سرت من قلبي حقاً إلى أوصالي، واستحالت رجفة عضلية مادية ذات مظهر مادي لم أملك احتباسها مع الجهد والمحاولة"[5].
ومما لا شك فيه أن العبد لا يمكن أن يؤدي حق الإيمان بالقرآن ما لم ينفِ الأقوالَ الباطلة والعقائد الفاسدة من القول بخلق القرآن ونحوه، قال الإمام الطحاوي رحمه الله: "وإن القرآن كلام الله، منه بدا بلا كيفية قولاً، وأنزله على رسوله وحياً، وصدقه المؤمنون على ذلك حقا،ً وأيقنوا أنه كلام الله تعالى بالحقيقة، ليس بمخلوق ككلام البرية، فمن سمعه فزعم أنه كلام البشر فقد كفر، وقد ذمه الله وعابه وأوعده بسقر، حيث قال تعالى: {سأصليه سقر} [المدثر: 26]، فلما أوعد الله بسقر لمن قال: {إن هذا إلا قول البشر} [المدثر: 25]، علمنا وأيقنا أنه قول خالق البشر، ولا يشبه قول البشر"[6].
* حق تلاوته:(/5)
تلاوة القرآن من الحقوق الجليلة التي أمر الله بها نبيه والأمةَ بعده؛ فقال تعالى لنبيه: {ورتل القرآن ترتيلاً} [المزمل: 4]، وأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يدلنا على هذا الحق بطريقة فريدة في القرآن، إذ قال: {قل إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شيء وأمرت أن أكون من المسلمين وأن أتلو القرآن} [النمل: 91-92]، وقد مدح الله تعالى الذين يتلون القرآن حق التلاوة فقال: {الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به} [البقرة: 121]، وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أن الماهر بالقرآن في معيَّة الملائكة الكرام فعن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مثل الذي يقرأ القرآن وهو حافظ له مع السفرة الكرام البررة، ومثل الذي يقرأ وهو يتعاهده وهو عليه شديد فله أجران"[7].
وأي فضل أجل وأعظم من بذل الجهد في قراءة القرآن وإمتاع النظر بآياته، وقد أوضح النبي صلى الله عليه وسلم ثواب التلاوة؛ فعن عبد الله بن مسعود يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول (آلم) حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف"[8].
ويومَ يقوم الناس لرب العالمين يأتي القرآنُ شفيعاً لأصحابه؛ فعن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيامُ: أيْ ربِّ منعتُه الطعامَ والشهوات بالنهار فشفِّعني فيه، ويقول القرآن: منعتُه النوم بالليل فشفعني فيه قال: فيشفعان"[9].
وعن أبي أمامة الباهلى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقرؤوا القرآن فإنه يأتي شفيعًا يوم القيامة لصاحبه، اقرؤوا الزهراوين البقرة وآل عمران فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غيايتان أو كأنهما غمامتان أو كأنهما فرقان من طير صواف يحاجان عن أصحابهما"[10].
ومما يعين على أداء حق التلاوة ما يلى:(/6)
* تعلم اللغة العربية، وإذا كان المسلم من الأعاجم فإن عليه أن يعرف من اللغة العربية ما يؤهله للقيام بحق التلاوة.
*طلب علم التجويد، وهو العلم الذي موضوعُه كيفية قراءة القرآن الكريم على الوجه الصحيح.
* الورد، فإن المسلم ينبغي أن يكون له ورد من القرآن يداوم عليه كل يوم، ويرجى لمن يقرأ كل يوم جزءاً من القرآن ألا يكون مفرطاً، ولكن لا يختمه في أقل من ثلاث لحديث عبد الله بن عمرو أنه قال: "يا رسول الله في كم أقرأ القرآن؟ قال: في شهر، قال: إني أقوى من ذلك،" ردد الكلام أبو موسى وتناقصه حتى قال: "اقرأه في سبع"، قال: إني أقوى من ذلك، قال: "لا يفقه من قرأه في أقل من ثلاث"[11].
* حق حفظه:
وحافظ القرآن أولى بهذا الفضل المذكور في حق التلاوة؛ لأن الحفظ يشمل التلاوة، ولما في الحفظ من مشقة ولما يتميز به الحافظ من كون الوحي في صدره يقرأه متى شاء، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يقال لصاحب القرآن اقرأ وارتَقِ ورتل كما كنت ترتل في الدنيا؛ فإن منزلك عند آخر آية تقرؤها"[12].
فتخيل أخي نفسك في الجنة تقرأ الآية فتعلو بها درجة، واسأل نفسك الآن كم درجة تريد أن ترتقي؟ وليكن جوابك عملاً فالدرجة في الجنة بآية من القرآن، الثمن معروف والجزاء كذلك.
تنبيه:
* وعلى المسلم أن يعلم أن الله تعالى لم يكلفه حفظ القرآن كاملاً، وأن الواجب عليه من ذلك ما يؤدي به صلاته، ويستشفي به إذا مرض، والصحابة لم يكن جميعهم يحفظ القرآن كاملاً، وكذلك لم يكن منهم من لا يحفظ منه شيئا.
* على المسلم أن يعلم كذلك أن حق الحفظ يشمل التعهد والمراجعة، وقد روي مرفوعا: "عرضت علي أجورُ أمتي حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد، وعرضت علي ذنوب أمتي فلم أر ذنبًا أعظم من سورة من القرآن أو آية أوتيها رجل ثم نسيها"[13].
* أما طريقة حفظ القرآن فالطريقة التي تناقلها المسلمون جيلاً جيلاً؛ حفظ الجديد، ومراجعة القديم.
* حق التدبر:(/7)
قال الله تعالى: {ولقد ويسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر} [القمر: 17]، قال ابن كثير: "أي سهلنا لفظه ويسرنا معناه لمن أراده ليتذكر الناس"[14]، فهو كتاب سهل الله ألفاظه فهي سهلة عذبة تدعو قارئها للتأمل والتدبر والاعتبار والاتعاظ، قال تعالى: {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر ألو الألباب} [ص: 29]، قال الطبري: "يعني ليتدبر هذا القرآن من أرسلناك إليه من قومك يا محمد"[15].
وقد جاء التوبيخ والتبكيت لمن غفل عن التدبر؛ فقال الله تعالى: {أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً} [النساء: 82]، قال الشوكاني: "دلت هذه الآية على وجوب التدبر للقرآن ليعرف معناه"[16].
وقوله تعالى: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً}، قال الشوكاني: "المعنى: أنهم لو تدبروه حق تدبره لوجدوه مؤتلفاً غير مختلف، صحيح المعاني قوي المباني بالغاً في البلاغة إلى أعلى درجاتها (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً) أي: تفاوتاً وتناقضاً"[17].
فالله تعالى كما سهل ألفاظه للقارئين فقد سهل معناه للمتدبرين، فلا اختلاف في أحكامه، ولا تضارب في أخباره، بل يصدق بعضه بعضاً، ويوافق بعضه بعضاً.
وقد بين الله عز وجل سبب إعراض المعرضين عن تدبر كتابه الكريم فقال: {أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها}[محمد: 24]، فسبب انصراف المنصرفين عن كتاب رب العالمين ما في قلوبهم من الأقفال، فمن وجد في نفسه انصرافاً عن تدبر القرآن، فليعلم أنه مبتلى ابتلاءً عظيماً وليستعن بفالق الإصباح ليزيل ما بقلبه من غشاوة لينعم بضياء القرآن.(/8)
ولقد حفظ ابن عمر سورة البقرة في سنين ذوات عدد، إذ كان يقف عند كل آية منها متدبرًا متفكرًا، قال مجاهد بن جبر :"عرضت المصحف علي ابن عباس ثلاث عرضات، من فاتحته إلي خاتمته، أوقفه عند كل آية منه وأسأله عنها"[18] وقال ابن أبي مليكة: "رأيت مجاهدا سأل ابن عباس عن تفسير القرآن ومعه ألواحه، ويقول له ابن عباس: اكتب حتى سأله عن التفسير كله"[19].
وقد كان اهتمام السلف بالقرآن تدبراً وتفسيراً اقتداء منهم بالنبي صلي الله عليه وسلم، الذي كان لا يمر على القرآن إلا متفهماً متدبراً، وقد سمع عليه الصلاة والسلام امرأة ذات ليلة تقرأ {هل أتاك حديث الغاشية} [الغاشية: 1]، فقام يستمع ويقول: "نعم قد جاءني"[20].
وقد ثبت أنه عليه الصلاة والسلام "كان إذا مر بآية رحمة سأل، وإذا مر بآية عذاب تعوذ"[21].
وقد نبغ في معرفة معاني القرآن من الصحابة جماعةٌ منهم ابنُ عباس، قال الأعمش عن أبي وائل: "استخلف عليٌ عبدَ الله بن عباس على الموسم، فخطب الناس فقرأ في خطبته سورة البقرة، وفي رواية سورة النور، ففسرها تفسيراً لو سمعته الروم والترك والديلم لأسلموا"[22].
أقسام تدبر القرآن:
1- تدبر مُفصّل؛ بمعنى أن يفهم القاري أو السامع معاني ما يقرأ، ويقف مع عظات القرآن وأحكامه، قال الألوسي في روح المعاني عند قوله تعالى: {إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب}[ق: 37]، (لذكرى) لتذكرة وعظة لمن كان له قلب واعٍ يدرك الحقائق، فإن الذي لا يعي ولا يفهم بمنزلة العدم[23].
2- تدبر مُجمَل؛ بمعنى استحضار القلب أن ما يقرأ أو يسمع هو كلام الله تعالى العظيم، فلا ينصرف الذهن حينئذ إلى غيره، قال تعالى: {أو ألقى السمع وهو شهيد} [ق: 37]، قال الألوسي: "أو ألقى السمع وهو شهيد أي أصغى إلى ما يتلى عليه من الوحي وهو شهيد أي حاضر، على أنه من الشهود بمعني الحضور، والمراد به المتفطن؛ لأن غير المتفطن بمنزلة الغائب"[24].
* حق العمل:(/9)
والعمل بالقرآن من أهم غايات إنزاله، والحقوق الأخرى تبع لهذا الحق، إذ لا يمكن أن يعمل بالقرآن إلا من تلاه وتدبره وعظّمه، وقد كان السلف يقرؤون القرآن قراءة من وطن نفسه على العمل به، والقيام بأوامره، والانتهاء عن نواهيه، قال ابن مسعود رضي الله عنه: "إذا سمعت قول الله تعالى (يا أيها الذين امنوا) فأرعها سمعك، فإنها خير يأمر به، أو شر ينهى عنه"[25].
ولما نزلت آية الحجاب بادر نساء الصحابة إلى الالتزام بها، ولما قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون * إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون} [المائدة: 91]، قال عمر رضي الله عنه: "انتهينا انتهينا"[26].
ولما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى حرم الخمر؛ فمن أدركته هذه الآية وعنده منها شيء فلا يشرب ولا يبع"[27].
فلبث المسلمون زماناً يجدون ريحها في طرق المدينة لكثرة ما أهرقوا منها.
فانظر إلى سرعة استجابتهم للعمل بكتاب الله تعالى، وكذا في تحويل القبلة من بيت المقدس إلى البيت الحرام، كيف تلقوا الأمر بالقبول؟ وما كان تحويل القبلة إلا امتحانا لهم قال سبحانه: {وما جعلنا القبلة التى كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبية} [البقرة: 143]، فنجحوا في ذلك الامتحان، فمن حديث البراء: "كان أول ما قدم المدينة نزل على أجداده -أو قال أخواله- من الأنصار، وأنه صلى قِبَل بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا، وكان يعجبه أن تكون قبلتُه قِبَل البيت، وأنه صلى أول صلاة صلاها صلاة العصر وصلى معه قوم، فخرج ممن صلى معه فمر على أهل مسجد وهم راكعون، فقال: أشهد بالله لقد صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قِبَل مكة، فداروا كما هم قِبَل البيت"[28].
تنبيه:(/10)
- حق العمل يعني العمل بالأوامر واجتناب النواهي كذلك، فما عمل بالقرآن من لم يجتنب نواهيه.
- العمل بالقرآن معنى شامل، فالقرآن جاءنا بالعقيدة التي لا يصح اعتقاد غيرها، والشريعة التي لا يصح الاحتكام لسواها، فالعمل بالقرآن ينبغي أن يكون عقيدة وسلوكاً.
- حق العمل بالقرآن إنما يؤدى شيئاً فشيئاً، ويسدد المسلم فيه ويقارب، فالقرآن شامل للحياة كلها عقيدة وعبادة وأخلاقاً ومعاملات وآداباً، وقد كان النبي صلي الله عليه وسلم يعمل به في ذلك كله، قالت عنه عائشة رضي الله عنها :"كان خلقه القرآن"[29] أي يأتمر بأوامره، وينتهي عن نواهيه، ويتخلق بأخلاقه، ويتأدب بآدابه.
* حق التحاكم إلى القرآن:
وهو ضرب من ضروب العمل بالقرآن، وإنما خُص هنا بالذكر لأهميته ولما تواتر فيه من نصوص دالة على عظمه ومكانته؛ قال الله تعالى: {أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون} [المائدة: 50].
فالعجب كل العجب ممن قرأ هذا القرآن وعرَف ما فيه من صدق الأخبار وعدل الأحكام ثم يسعى لغير هذا المنهج المعصوم المحفوظ من التبديل والتحريف المنزل من اللطيف الخبير إلى غيره من المناهج التي وضعها القاصرون عن معرفة أسرار التشريع التي اختص بها الرب جل وعلا؟! فما أكثرَ ما يتناقض هؤلاء فيُحلون اليوم ما حرّموه بالأمس.
والله هو خالق الإنسان، العالم بما يصلحه وما يضره؛ قال الله تعالى: {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير} [الملك: 14].
ولما كان الله تعالى هو الخالق وحده فهو كذلك الحاكم وحده، ولذا يعرف علماء الأصول الحكم بأنه خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين طلبًا أو وضعًا، فحكم غير الله تعالى لا يعد في الحقيقة حكمًا؛ قال الله تعالى: {ألا له الخلق والأمر} [الأعراف: 54].(/11)
ولقد جاءت الشريعة جامعة لما فيه الخير، قائمة بما يحتاجه الناس في دنياهم وأخراهم، فما أحرى بالمسلم أن يجعل الشريعة إمامه وقائده، ليسعد في الدنيا وينجو في الآخرة؛ قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون} [الجاثية: 18].
* حق التعظيم والإجلال:
لا أحد ينازع في أن الكلام يشرُف بشرف قائله، فكلما كان القائلُ عظيم القدر كانت كلماته كذلك، ولذا قيل في منثور الأدب: كلامُ الملوك ملوكُ الكلام، فإن كان هذا في حق البشر (ولله المثل الأعلى) فكيف بكلام خالق البشر؟ وإن تعظيم القرآن من تعظيم الله تعالى؛ فمن كان يرجو لله وقارًا عظم كتابه وأجلّه ومجّده، ولقد كان عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه يأخذ المصحف فيضعه في وجهه ويقبله ويبكي ويقول: "كلام ربي كلام ربي"[30].
من صور تعظيم القرآن:
* الإنصات عند تلاوته، لقوله تعالى: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون} [الأعراف: 204].
* الإخبات عند تلاوة القرآن، فقد مدح الله تعالى المخبتين إذا قرئ القرآن الكريم فقال: {وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق} [المائدة: 83]، وقال تعالى: {إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدًا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون} [السجدة: 15].(/12)
وقال تعالى: {إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجداً ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعًا} [الإسراء: 107-109]، وقال تعالى: {أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدًا وبكيًا} [مريم: 58]، وقال تعالى: {الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله} [الزمر: 23].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن مسعود: "اقرأ علي"، قال: "أقرأ عليك وعليك أنزل"؟ قال: "إني أحب أن أسمعه من غيري" قال: "فقرأت عليه من أول سورة النساء إلى قوله: {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدًا} [النساء: 41]، فبكى"[31].
ولما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت عائشة في مرضه قال: "مروا أبا بكر فليصل بالناس"، قالت فقلت: "يا رسول الله إن أبا بكر رجل رقيق إذا قرأ القرآن لا يملك دمعه"[32].
والله تعالى يقول: {لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعًا متصدعًا من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون} [الحشر: 21].
* لا يمسه إلا طاهر فلا يصح لغير المتطهر أن يمس القرآن الكريم؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يمس القرآن إلا طاهر"[33].
* عدم تعريضه للامتهان؛ فالمسلم يجب عليه أن يصون المصحف الشريف عن مظنة امتهانه، وأن يحرص كل الحرص ألا يكون سببًا في ذلك، ولقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو خوفاً من أن ينالوه بأذى.
وما وقع منهم في هذا الزمان وإن كان يحدث في النفس ما لا تطيقه الجبال إلا أنه أذان بقرب انتقام الله تعالى منهم، قال تعالى: {فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين} [الزخرف: 55].
* حق التبليغ:(/13)
ومن حقوق القرآن التي دل عليها الشرع حق تبليغه للآخرين وتعليمه لهم، وإن في ذلك الأجر العظيم والخير العميم والثواب الجزيل، ويحصل ذلك لمن علم ولو شيئاً قليلاً من القرآن، والقرآن لا يقال فيه قليل، وقد حض عليه النبي صلى الله عليه وسلم على تبليغه بقوله: "بلغوا عني ولو آية"[34] ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن قام بهذا الحق فقال: "نضر الله امرأ سمع منا شيئا فبلغه كما سمع فرب مبلَّغ أوعى"[35] وقد سمع من النبي صلي الله عليه وسلم ما أنزل إليه رب العز والجلال من القرآن والسنة.
وبيَّن النبي صلى الله عليه وسلم فضل معلِّم القرآن فقال: "خيرُكم من تعلم القرآن وعلمه"[36].
فلا أحد أولى من أهل القرآن الذين تعلموه وعلموه بالخيرية، فإنَّ شرَفهم مِن شرف القرآن، ورفعتَهم بسبب ما في صدورهم من الذكر الحكيم، وهي نعمة حق لغيرهم أن يغبطهم عليها، فعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالا فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار"[37].
* حق الاستشفاء:(/14)
قال الله تعالى: {وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خساراً} [الإسراء: 82]، وقال الله تعالى: {قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى} [فصلت: 44]، فهذا بيان من الله ليس بعده بيان، فمن لم يستشف بالقرآن فلا شفاه الله، ومن لم يستغن بالقرآن فلا أغناه الله، وقد أنزل الله تعالى المعوذتين يستشفي بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم من السحر الذي أصابه، وقد كان الصحابة الكرام يستشفون بالقرآن هم وغيرهم، فعن أبي سعيد الخدري قال: نزلنا منزلا فأتتنا امرأة فقالت: إن سيد الحي سليم لدغ فهل فيكم من راق؟ فقام معها رجل منا ما كنا نظنه يحسن رقية فرقاه بفاتحة الكتاب فبرأ، فأعطوه غنمًا وسقونا لبناً، فقلنا: "أكنت تحسن رقية"؟ فقال: "ما رقيته إلا بفاتحة الكتاب"، قال: فقلت: "لا تحركوها حتى نأتي النبي صلى الله عليه وسلم"، فأتينا النبي صلى الله عليه وسلم فذكرنا له ذلك فقال: "ما كان يدريه أنها رقية؟ اقسموا واضربوا لي بسهم معكم"[38] وعن خارجة بن الصلت عن عمه أنه مر بقوم وعندهم رجل مجنون موثق في الحديد فقالوا: إنك جئت من عند هذا الرجل بخير، فارْقِ لنا هذا الرجل، فأتوه برجل معتوه في القيود فرقاه بأم القرآن ثلاثة أيام غدوة وعشية وكلما ختمها جمع بزاقه ثم تفل فكأنما أُنشِط من عقال (أي حُل من وَثاق) فأعطوه شيئاً، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكره له فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كُلْ فلعمري ما أكل برقية باطل لقد أكلت برقية حق"[39].(/15)
قال ابن قيم الجوزية: "ولو أحسن العبد التداوي بالفاتحة لرأى لها تأثيراً عجيبًا في الشفاء، ومكثت بمكة مدة تعتريني أدواء ولا أجد طبيبًا ولا دواء فكنت أعالج نفسي بالفاتحة فأرى لها تأثيرًا عجيباً، فكنت أصف ذلك لمن يشتكي ألماً، وكان كثير منهم يبرأ سريعاً، ولكن ههنا أمر ينبغي التفطن له، وهو أن الأذكار والآيات والأدعية التي يستشفى بها ويرقى بها هي في نفسها نافعة شافية ولكن تستدعى قبول المحل وقوة همة الفاعل وتأثيره، فمتى تخلف الشفاء كان لضعف تأثير الفاعل أو لعدم قبول المنفعل أو لمانع قوي فيه يمنع أن ينجع فيه الدواء، كما يكون ذلك في الأدوية والأدواء الحسية فإن عدم تأثيرها قد يكون لعدم قبول الطبيعة لذلك الدواء وقد يكون لمانع قوي يمنع من اقتضائه أثره، فإن الطبيعة إذا أخذت الدواء بقبول تام كان انتفاع البدن به بحسب ذلك القبول، وكذلك القلب إذا أخذ الرقى والتعاويذ بقبول تام وكان للراقى نفس فعالة وهمة مؤثرة في إزالة الداء"[40].
فهذه بعض حقوق القرآن، ولا أزعم أن هذا غايتها فإن حقوق القرآن أعظم وأجل، وهذه بعضها، والقرآن لا يوفيه العبد حقًا لأنه أعظم النعم، والعبد يعجز أن يقوم بواجبه تجاه نعم هي أقل شأناً من هذه النعمة العظيمة، ولكن ينبغي التسديد والمقاربة والاستغفار عن التقصير وطلب العفو من الله على التفريط، فهو المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ــــــــــــــــــــــــــ
[1] رواه البخاري، 1/25، (45).
[2] جامع البيان، 3/378، تفسير القرآن العظيم، 1/514، الجامع لأحكام القرآن، 4/155.
[3] رواه الترمذي، 5/172، (2906)، والدارمي، 2/526، (3331).
[4] الجامع لأحكام القرآن، 5/394، معالم التنزيل، 1/299، فتح القدير، 1/791، الوجير، 1/295.
[5] في ظلال القرآن بقليل من التصرف، 6/3421.
[6] متن العقيدة الطحاوية للإمام أبي جعفر الطحاوي.
[7] البخاري، 4/1882، (4653)، ومسلم، 1/549، (798).(/16)
[8] الترمذي، 5/175، (2910)، وصححه الألباني.
[9] مسند أحمد، 2/174، (6626)، والمستدرك، 1/740، (2036)، قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.
[10] رواه مسلم، 1/553، (804).
[11] رواه أبو داود، 1/442، (1390)، وصححه الألباني.
[12] رواه أبو داود، 1/463، (1464).
[13] رواه أبو داود، 1/179، (461)، والترمذي، 5/178، (2916).
[14] تفسير القرآن العظيم، 4/337.
[15] جامع البيان، 10/576.
[16] فتح القدير، 1/741.
[17] المصدر السابق، الصفحة نفسها.
[18] جامع البيان، 1/65، تفسير القرآن العظيم، 2/404.
[19] تفسير القرآن العظيم، 1/5.
[20] تفسير القرآن العظيم، 4/648.
[21] رواه أحمد، 5/384، وابن خزيمة، 1/272، (542).
[22] تفسير القرآن العظيم، 1/5.
[23] روح المعاني، 26، 191.
[24] روح المعاني، 26، 191.
[25] تفسير القرآن العظيم، 1/91.
[26] رواه الترمذي، 5/253، (3049)، والنسائي، 8/286، (5540).
[27] رواه مسلم، 3/1205، (1578).
[28] رواه البخاري، 4/1631، (4216)، ومسلم، 1/374، (525).
[29] رواه أحمد، 6/91، (24645).
[30] المعجم الكبير، 17/371، (1018).
[31] البخاري، 4/1925، (4763)، ومسلم، 1/551، (800).
[32] البخاري، 1/240، (646)، ومسلم، 1/311، (418).
[33] الموطأ، 1/199، (469).
[34] رواه البخاري، 3/1275، (3274).
[35] الترمذي، 5/34، (2657)، وصححه الألباني.
[36] رواه البخاري،4/1919، (4739).
[37] رواه البخاري، 6/2643، (6805).
[38] رواه مسلم، 4/1727، (2201).
[39] رواه أبو داود، 2/286، (3420)، وصححه الألباني.
[40] الداء والدواء، 1/3.(/17)
العنوان: من حكم الصوم وفوائده
رقم المقالة: 1232
صاحب المقالة: فهد بن مبارك الوهبي
-----------------------------------------
أولاً: الطبية:
تنبيه: الصيام عبادة يجب الامتثال بها لأمر الله - عز وجل - ولا يجوز تعليقها بما يكشفه لنا العلم، فمجال العلم مهما ارتقى محدود، ولا يمكن له أن يستوعب كامل حكمة الله تعالى. ولكن هذا لا يمنع من التحدث عما تكشف منه الملاحظة، أو يكشف عنها العلم من فوائد التوجيهات الإلهية.
ومن فوائد الصيام الطبية:
أ- علاقته بالجهاز الهضمي: يعتبر الجهاز الهضمي أكثر الأجهزة تأثرًا بالصوم، فإنه يشترك فيه الفَم وغدده اللُّعابيَّة، والمعدة وغددها ومفرزاتها والكبد، والبنكرياس ومفرزاتها الهضمية والصفراوية، والأمعاء ومفرزاتها المعوية، تشترك كلها في عملية الهضم.. والجهاز الهضمي أكثر الأجهزة عملاً وتحمُّلاً لأعباء الهضم الكبيرة، فإذا أمكن إراحة أعضاء الجسم كافَّة، والجهاز الهضمي خاصة بنظام ثابت، طيلة شهر كامل لحصلنا على فوائدَ عديدة لا يمكن إنكارها ومنها:
1 - تخليص البدن من شحومه المتراكمة التي تشكل عبئًا ثقيلاً عليه، والتي تغدو مرضًا صعبًا عندما تزداد، وذلك المرض هو داء السمنة، فالجوع هو أحسن الوسائل الغريزية المجدية في معالجة السمنة، وإذابة الشحوم المتراكمة، وتصحيح استقلاب الدسم؛ ككل، كما تقي الإنسان من مضار الأدوية المخففة للشهية، أو الهرمونات المختلفة التي قد يلجأ لها لمعالجة البدانة.
2 - طرح الفضلات والسموم المتراكمة.
3 - إتاحة الفرصة لخلايا الجسم وغدده، لأن تقوم بوظائفها على الوجه الأكمل، وخاصة المعدة والكبد والأمعاء.
4 - إراحة الكليتين والجهاز البولي بعض الوقت من طرح الفَضَلات المستمر.
5 - تخفيف وارد الدسم على الشرايين، والوقاية من إصابتها بالتصلب.(/1)
6- الجوع يولد في الجسم رد فعل بعد الصيام، يتجلى برغبة في الطعام، وبشعور بالنشاط والحيوية، بعد أن اعتاد على تناول الطعام بشكل مُمِلّ.
ب- علاقة الصوم بالوظيفة الجنسية: فتعتمد على تقوية الإرادة النفسية للإنسان بمجاهدة نفسه، والعزوف عن المعاصي التي تثير الوظيفة الجنسية؛ كالنظر والتفكير بالمعاصي؛ والرذيلة؛ والتي تسبب زيادة إفراز الهرمونات الجنسية، ولذلك فقد كان الصيام الدواء الناجح الذي وجه إليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - الشاب الذي لا يستطيع الزواج إذ قال: ((يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ البَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ)) ولا شك أن انحراف الشباب في الحياة الجنسية سواء بتفكيرهم أو بأعمالهم، يعود بالأساس لعدم تهذيب عواطفهم، وغريزتهم وهذا هو السبب الأساس في فشل معظم شبابنا في أن يكونوا بقدر المسؤولية التي تواجه أمتهم، والتي تتطلب منهم عطاء أكيدًا في ميادين العلم والعمل، وإيمانًا أقوى من كل المغريات ومن كل الخطوب والمِحَن.
ج- علاج الصوم للأمراض:
ثبت تأثير الصيام الجيد على كثير من الأمراض وأهمها:
1- أمراض جهاز الهضم: كما في التهاب المَعِدَة الحاد، حيث إن أساس المعالجة فيه هو الصيام لمدة 24 ساعة. كما يفيد الصيام في تهيج القولون، وأمراض الكبد، وسوء الهضم.
2- البدانة.
3- تصلب الشرايين، وارتفاع ضغط الدم، وخناق الصدر.
4- التهاب الكلية المزمن الحابس للصوديوم، أو المسبب للوذمة.
5- الربو القصبي.
6- الاضطرابات النفسية والعاطفية.
س/ الواضح في رمضان هو زيادة بعض الناس في السمنة والتخمة!! فما السبب؟
لكي نحصل على فائدة الصيام المثلى يجب الالتزام الصحيح بآدابه التي منها:(/2)
تأخير السحور، وتعجيل الفطور، وعدم الإسراف في الطعام كمًّا وكيفًا.. واهتمام الناس اليوم بالصيام هو اهتمام بالأسماء والمظاهر، وإهمال لروح تلك العبادة، فأصبح الإسراف في الطعام كمًّا وكيفًا في رمضان، هو من لوازم رمضان فإهمال هذه الآداب يجعل من رمضان شهر التخمة، والبطنة، والتنعم بعد أن كان شهر الصبر، والتقشف، والإيمان، والجهاد.
ثانياً: الأخلاقية:
للصوم انعكاسات نفسية حميدة يتجلى ذلك برقة المشاعر، ونبل العواطف، وحب الخير، والابتعاد عن الجدل والمشاركة والميول العدوانية، ويحس الصائم بسمو روحه وأفكاره قال - صلى الله عليه وسلم -: ((والصِّيَامُ جُنَّةٌ، فإِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ صَائِمًا فَلا يَرْفُث وَلا يَصْخَب، فإنْ سَابَّه أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي صَائِمٌ)).
ثالثاً: الاجتماعية:
منها: شعور الناس بأنهم أمة واحدة، يأكلون في وقت واحد، ويصومون في وقت واحد، ويشعر الغني بنعمة الله، ويعطف على الفقير، ويقلل من مزالق الشيطان لابن آدم، وفيه تقوى الله، وتقوِّي الأواصر بين أفراد المجتمع.
رابعاً: - وهي من أهمها – الإيمانية والتربوية:
• الحكمة الأصلية في التكاليف هي إعداد هذا الكائن البشري لدوره في الأرض، وتهيئته للكمال المقدر له في الحياة الآخرة.
• إن الغاية الكبيرة من الصوم، هي التقوى، فالتقوى هي التي تستيقظ في القلوب، وهي تؤدي هذه الفريضة طاعة لله وإيثارًا لرضاه، والتقوى هي التي تحرس هذه القلوب من إفساد الصوم بالمعصية، ولو تلك التي تحدث في البال. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.(/3)
• الصوم هو مجال تقرير الإرادة العازمة الحازمة، ومجال اتصال الإنسان بربه اتصال طاعة وانقياد؛ كما أنه مجال الاستعلاء على ضرورات الجسد كلها، واحتمال ضغطها وثقلها إيثارًا لما عند الله من الرضى والمتاع، وهذه كلها عناصر لازمة في إعداد النفوس؛ لاحتمال مشقات الطريق المفروش بالعقبات والأشواك، الذي تتناثر على جوانبه الرقاب والشهوات، والذي تهتف بسالكيه آلاف المغريات.
• أن يشعر الذين آمنوا بقيمة الهدى الذي يسره الله لهم، وهم يجدون هذا في أنفسهم في فترة الصيام أكثر من كل فترة، وهم مكفوفو القلوب عن التفكير في المعصية، ومكفوفو الجوارح عن إتيانها، وهم شاعرون بالهدى ملموسًا محسوسًا؛ ليكبروا الله على ما هداهم وليشكروه على هذه النعمة، ولتفيء قلوبهم إليه بهذه الطاعة {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:185].
• الصبر وقوة الإرادة والرجولة.
• تحقيق مبدأ المراقبة والابتعاد من الرياء والسمعة.
• تهذيب الأخلاق بتعلم الصدق، والأمانة، واجتناب الكذب، وقول الزور، واللغو، والسفه: ((إِذَا كَانَ صَوْمُ أَحَدِكُمْ فَلا يَصْخَب وَلا يَرْفُث، وإِنْ سَابَّه أحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي صَائِمٌ)).
• إشعار المؤمن بإمكان تغيير الواقع السيئ إلى واقع أحسن.(/4)
العنوان: من دلائل الربوبية: إنزال المطر
رقم المقالة: 1556
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70- 71].
أما بعد: فإنَّ عظمة الله – تعالى - وإنعامَه على عباده، ظاهر في كل ما يمر بالناس في حياتهم.
عظمةٌ في خلق السموات وما فيها من أبراج وأفلاك، وشمس وقمر، وعظمةٌ في خلق الأرض وما فيها من جبال وسهول، وأوديةٍ وبطاح، وبحار وأنهار، وأنواع الشجر والثمار، والزروعِ والحيوان. مخلوقاتٌ في البر، وكائناتٌ في البحر، لا يعلمها ولا يحصيها ولا يرزقها إلا خالقها، تبارك اسمه، وتعالى جَدُّه، ولا إله غيره، سبحانه وبحمده!!
ومن مظاهر قدرته العظيمة، ودلائل نعمته على عباده: هذه المياهُ التي يرزقها عباده. يأمرُ السحاب فيجتمع، ثم يسيرُ بأمر الله – تعالى - إلى ما أراد من أرضه، ثم ينزله غيثًا مباركًا.(/1)
ومن أجمل لحظات عيش الإنسان في الدنيا: لحظاتُ نزول المطر، بل لا تكاد توجد صورة في الدنيا أجمل من نزول الغيث من السماء، لا سيما مع حاجة الناس والحيوان والأرض إلى الماء.
عمليات تتم لنزول هذا الغيث المبارك، من إنشاء السحاب، وإضاءة البرق، وتسبيح الرعد {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ البَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ * وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللهِ وَهُوَ شَدِيدُ المِحَالِ} [الرعد: 12-13].(/2)
وإن من طرق القرآن في الاستدلال على ربوبية الله – تعالى - وتوحيده: لفت الأنظار إلى قيمة هذا الماء، واحتياج الخلق إليه، وامتنانِ الخالق بإنزاله، ومن ثم تقرير ربوبيته ولزوم توحيده {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا للهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 22]، {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ المَاءَ إِلَى الأَرْضِ الجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ} [السجدة: 27]، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الحَمْدُ للهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [العنكبوت: 63]، {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} [النمل: 60]، {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ * هَذَا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [لقمان: 10-11] فالملاحظ في الآيات السابقات أن الامتنان بنعمة الغيث يعقبه التذكير بلزوم التوحيد لله تعالى.(/3)
وغذاءُ الإنسان طيلة حياته إنما كان من ثمرات هذا الماء الذي أنعم الله به على العباد ليتمتعوا ويؤمنوا {فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا المَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [عبس: 24-32].
والحياة على الأرض لا تكون بلا ماء؛ فالبشر والحيوان والنبات لا يحيون إلا بالماء {وَجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ} [الأنبياء: 30]، {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى * كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى} [طه: 53-54]، {وَأَنْزَلْنَا مِنَ المُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا * لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا * وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا} [النَّبأ: 14-16]، {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا * لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا} [الفرقان: 48-49].
والأرض تحيا بالماء، وتموت إذا فقدت الماء، وكذلك من عليها من الخلق، {وَاللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} [النحل: 65].(/4)
وإذا كان الله – تعالى - قادرًا على إحياء الأرض بالماء بعد موتها فهو كذلك قادر على بعث العباد ومحاسبتهم؛ لذا كان الإخبار في القرآن عن إحياء الأرض مثلاً مضروبًا لبعث العباد يوم القيامة {وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا المَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي المَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي القُبُورِ} [الحج: 5-7]، {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ المَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ المَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 57]، {وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا المَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي المَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فصِّلت: 39]، {وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ} [فاطر: 9].(/5)
وما يُحدثه المطر من جمالٍ في الأرض - بإذن الله تعالى - مظنة للفخر وغرور البشر لما رأوا من خضرتها وزينتها؛ ولضعفهم فإنهم ينسون موتها قبل الخضرة وبعدها، وكذلك الدنيا ينخدع البشر بزينتها وخضرتها فلربما ألهتهم عن الآخرة؛ فتزول الدنيا كما زالت الخضرة عن الأرض. فالدنيا هي الأرض المزدانة أوقات الأمطار والربيع؛ لكن هذه الزينة في الحياة ليست أبدية وإن طالت، فصاحبها قد يفتقر من بعد الغنى، ويضعف من بعد القوة، ويهرم من بعد الشباب، ولسوف يموت كما مات ذلك النبات الخضر الطيب {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا} [الكهف: 45]، {اعْلَمُوا أَنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الغُرُورِ} [الحديد: 20]، {إِنَّمَا مَثَلُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [يونس: 24].(/6)
فمادام الأمر كذلك فلا بد إذًا من توحيد الله – تعالى - وطاعته، والحذر من الشرك والعصيان اغترارًا بالدنيا. وفي الآيات القرآنية، وأحوال الأرض قبل المطر وبعده آيات للمدكرين، وعبرة للمعتبرين، ومن لم يعتبر بكلام الله – تعالى - فليس له مُعتَبر.
جعلنا الله من أهل الاعتبار والادكار، وأعاذنا من الغفلة والذهول والنسيان، وأقول ما تسمعون واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله النبي الأمين، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله ربكم، واشكروه على ما أنعم به عليكم؛ فإن الشكر يزيد في النعم، والكفر مع النعم استدراج للعباد، فإياكم إياكم أن تكفروا نعمه؛ فإنه شديد الأخذ والمحال.
أيها الإخوة: إن نعم الله – تعالى - على عباده تزداد وتتكامل؛ فهو - سبحانه وتعالى - يرزقهم الماء، ويخزنه لهم في الأرض؛ حتى ينتفعوا به دهرًا طويلاً، مع أنه – تعالى - قادر على إذهابه {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} [المؤمنون: 18].(/7)
والعباد أضعف من أن يستطيعوا تخزينه إلا بأمر الله – تعالى - وإذنه، وما وهبه لهم من وسائل التخزين والحفظ، وعلمهم من صنع السدود ونحوها {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ} [الحجر: 22]. قال ابن كثير - رحمه الله -: "وما أنتم له بحافظين؛ بل نحن ننزله ونحفظه عليكم، ونجعله معينًا وينابيع في الأرض، ولو شاء – تعالى - لأغاره وذهب به؛ ولكن من رحمته أنزله وجعله عذبًا، وحفظه في العيون والآبار والأنهار وغير ذلك؛ ليبقى لهم طول السنة يشربون ويسقون أنعامهم وزروعهم وثمارهم"[1]. اهـ
ومن رحمته بعباده ونعمته عليهم أنه ينزل ماءً عذبًا فراتًا، عظيم النفع، طيب المذاق، ولو شاء لجعله ملحًا أجاجًا لا يطيقه الناس {أَفَرَأَيْتُمُ المَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ المُزْنِ أَمْ نَحْنُ المُنْزِلُونَ * لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ} [الواقعة: 68-70].
نعم والله! إن هذه النعمة لحقيقة بالشكر، ليس شكرًا باللسان فقط، وإنما شكرٌ بالأفعال أيضًا.(/8)
إن من مظاهر كفر هذه النعمة: الإسراف في المياه {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ المُسْرِفِينَ} [الأنعام: 141]. ومما يندى له الجبين ما تسخر فيه هذه النعمة من معصية الله تعالى!! نعم والله! إن كثيرًا من الناس ليسخرونها في معصية الله – تعالى - فإذا ما أُمطِروا واخضرت أرضهم وازدانت؛ خرجوا إلى المنتزهات والصحارى مصطحبين منكراتهم ومعاصيهم، من أنواع آلات اللهو المحرَّم؛ ليستمتعوا بها في نزهتهم. يعصون الله في أرضه، ويستمتعون بنعمته! فأي كفران هذا؟! وكثير منهم يضيعون الصلاة، ويؤخرونها عن وقتها؛ بل إن شهواتِ البعض بالغت في العصيان حتى أخذوا يجرون معهم في رحلاتهم أطباق الفضائيات، ينصبونها في الصحارى والبراري؛ ليستمتعوا بما فيها من حفلات ماجنة، وغناء صاخب. وبعضهم لا يحفظ نساءه وبناته في هذه الرحلات؛ بل ربما خرجن وحدهن بلباس فيه من التهتك ما فيه، وفي ذلك عصيان للمولى، وافتتان لعباد الله، فهل هذا من شكر النعم؟!
فاتقوا الله ربكم، وخذوا على أيدي السفهاء منكم، ومروا بالمعروف وانهوا عن المنكر {وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالعُدْوَانِ} [المائدة: 2]. فهذا من الشكر، وإلا كانت النعم استدراجًا، والعاقبة عذابًا وهلاكًا. ألا وصلوا وسلموا على خير خلق الله كما أمركم بذلك ربكم.
---
[1] تفسير ابن كثير (2/851) عند تفسير الآية (22) من سورة الحجر.(/9)
العنوان: من ذاكرة التاريخ
رقم المقالة: 1968
صاحب المقالة: محمد علي الخطيب
-----------------------------------------
• حقد الباطنية على شعيرة الحج سافرٌ لئيم، وحُلمهم بصرف الحج عن البيت العتيق قديم كحلم أبرهة.
• حبذا تلك القتلة وتلك الضجعة، وذلك المدفن والمكان، في البيت الحرام، وفي البلد الحرام، وفي الشهر الحرام، وهم في ثياب الإحرام!
• قتل في سكك مكة وما حولها زهاء ثلاثين ألفاً، وجافت مكة بالقتلى، وسبيت الذرية، ولم يقف أحد في عرفة تلك السنة.
• ظل الحجر الأسود عند القرامطة مدة اثنتين وعشرين سنة إلا أربعة أيام.
• القرامطة شر من اليهود والنصارى والمجوس، بل ومن عبدة الأصنام، وفعلوا بمكة ما لم يفعله أحد.
• من واجبنا الشكر لله تعالى على ما أظل به البقاع المقدسة اليوم من الأمن والسلام، ليبقى البيت مثابة الأمن لكل خائف.
• • • • •
في ذاكرة الحج:
في ذاكرة الحج صور كثيرة، فقد تعاورته الأحداث، وتداولته الأيام، وتقلب بين أمن وخوف، ويسر وعسر، وصفو وكدر، والأيام دول، فيوم نُساءُ، ويوم نُسَرُّ، غير أن أشد أيام الحج كان يوم الاثنين لسبع خلون من ذي الحجة سنة سبع عشرة وثلاثمائة، وعشرة أيام تلته. فما الذي وقع فيهن؟ وماذا حل بالبيت العتيق وتلك الأرض المباركة؟
في سنة سبع عشرة وثلاثمائة المذكورة سيَّر الخليفةُ العباسي المقتدر ركبَ حجاج العراق وأميرهم منصورًا الديلمي، فوصلوا إلى مكة سالمين، وتوافد الحجاج هناك من كل مكان وجانب، وجاؤوا رجالاً وعلى كل ضامرٍ من كل فج عميق، ليشهدوا منافع لهم، ويذكروا اسم الله في أيام معلومات، فما شعروا إلا بعدو الله القرمطي قد خرج عليهم في جماعته يوم التروية!.
من القرمطي هذا؟
هو عدو الله ملك البحرين، الزنديق، أبو طاهر سليمان بن أبي سعيد الحسن الجنابي الهجري القرمطي، رئيس القرامطة، قبحه الله.
ومن القرامطة؟(/1)
القرامطة فرقة من فرق الإسماعيلية، والذي خبث لا يخرج إلا نكداً، والإسماعيلية امتازت بإثبات الإمامة لإسماعيل بن جعفر. وأشهر ألقابهم (الباطنية)، لحكمهم بأن لكل ظاهر باطناً ولكل تنزيل تأويلاً. ولهم ألقاب كثيرة؛ فبالعراق: يُسمَّون الباطنية والقرامطة والمزدكية، وبخراسان: التعليمية والملحدة. وهؤلاء الباطنية قد خلطوا كلامهم ببعض كلام الفلاسفة، وصنفوا كتبهم على هذا المنهاج، فقالوا في الباري تعالى: إنا لا نقول هو موجود ولا غير موجود، ولا عالم ولا جاهل، ولا قادر ولا عاجز. وكذلك في جميع الصفات. ويعتقدون بأنه يأتي على الناس دور ترتفع فيه التكاليف وتضمحل السنن والشرائع[1].
سلسلة من الاعتداءات على وفود الرحمن:
وليست هذه هي المرة الأولى التي تعرَّض فيها القرامطةُ للحج والحجيج، فإن حقدهم على هذه الشعيرة سافرٌ قديم، فقد قطعوا الطريق، وأخافوا الناس، ومنعوا الحج لسنوات عدة، ففي سنة اثنتي عشرة وثلاثمائة في المحرم عارض القرمطي الركب العراقي ومعه ألف فارس وألف راجل فوضعوا السيف في رقابهم، واستباحوا الحجيج، وساقوا الجمال بالأموال والحريم، وهلك الناس جوعاً وعطشاً، ونجا من نجا بأسوأ حال، ووقع النوح والبكاء ببغداد وغيرها، وامتنع الناس من الصلوات في المساجد.
وفي سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة سار الركب العراقي ومعهم ألف فارس فاعترضهم القرمطي أيضاً، وناوشهم القتال فردوا الناس، ولم يحجوا، ونزل القرمطي على الكوفة فقاتلوه، فغلب على البلد فنهبه.
وفي سنة أربع عشرة وثلاثمائة لم يحج أحد من العراق خوفاً من القرامطة، ونزح أهل مكة عنها خوفاً منهم. ولكن هذه الغارات والاعتداءات كلها لا تكاد تذكر مع ما ارتكبه القرمطي من جرائم وقبائح في هذه المرة، فماذا صنع –تبت يداه وتب- يوم الاثنين لسبع خلون من ذي الحجة سنة سبع عشرة وثلاثمائة؟.
حقد باطني لا يطفئه إلا سفك الدماء:(/2)
زحف عدو الله القرمطي، إلى مكة، بجيشه، فوافى مكة لسبع خلون من ذي الحجة، عند اجتماع الموسم وإهلال الناس بالحج، فانتهب أموالهم واستباح قتالهم، فقتل في رحاب مكة وشعابها وفي المسجد الحرام وفي جوف الكعبة من الحجاج خلقاً كثيراً، فكان الناس يفرون منهم فيتعلقون بأستار الكعبة فلا يجدي ذلك عنهم، فقتلوا في المسجد الحرام نحو ألف وسبعمائة من الرجال والنساء وهم يتعلقون بأستار الكعبة، وردم بئر زمزم، وصعد أميرهم أبو طاهر لعنه الله على باب الكعبة، وهو يصيح: أنا الله وبالله، أنا أخلق الخلق وأفنيهم، أنا، أنا....!!. والرجال تصرع حوله، والسيوف تعمل في الناس في المسجد الحرام في الشهر الحرام في البلد الحرام في يوم التروية، الذي هو من أشرف الأيام، والناس يطوفون فيقتلون في الطواف.
مقتل بعض أهل الحديث في تلك الوقعة:
وممن قتله القرامطة: عبد الرحمن بن عبد الله بن الزبير، أبو بكر الرهاوي. ممن سكن دمشق، روى عن أبيه، وغيره، وروى عنه أبو الحسين الرازي، وغيره.
وكان علي بن بابويه الصوفي وهو عالم، فقيه، من أهل الحديث، يطوف بالبيت والسيوف تنوشه، وهو ينشد:
ترى المحبين صرعى في ديارهم كفتية الكهف لا يدرون كم لبثوا
شهداء الحرم:
ثم لما قضى القرمطي -لعنه الله- أمره، وفعل ما فعل بالحجيج من الأفاعيل القبيحة، أمر أن تدفن القتلى في بئر زمزم، ودفن كثيراً منهم في أماكنهم من الحرم، وفي المسجد الحرام.
ويا حبذا تلك القتلة وتلك الضجعة، وذلك المدفن والمكان، في البيت الحرام، وفي البلد الحرام، وفي الشهر الحرام، وهم في ثياب الإحرام يطوفون ملبين ذاكرين قانتين، ولم يغسلوا، ولم يكفنوا، ولم يصل عليهم؛ لأنهم محرمون شهداء، ويبعثون على هيئاتهم يوم يبعثون، ويبعث عدوهم القرمطي تحت لواء الغدر على رؤوس الأشهاد.
تخريب الكعبة وسرقة أموالها وآثارها:(/3)
وهدم الخبيث القرمطي قبة زمزم، وأمر بقلع باب الكعبة ونزع كسوتها عنها، وشققها بين أصحابه، ونهب حليها، وأخذ جميع ما كان فيها من آثار الخلفاء والأنبياء، ثم أمر الباطني الخبيث رجلاً أن يصعد إلى ميزاب الكعبة فيقتلعه، فسقط على أم رأسه، فمات إلى النار، وبئس القرار، فعند ذلك انكف الخبيث عن الميزاب!.
محنة الحجر الأسود:
قيل: دخل قرمطي سكران على فرس، فصفر له، فبال عند البيت، وضرب الحجر بمثقل من حديد فهشمه ثم اقتلعه، وصاح الأحمق الزنديق قبحه الله: أين الطير الأبابيل، أين الحجارة من سجيل؟.
أعظم الجهاد كلمة عدل!.
روى محمد بن علي بن رازم الطائي الكوفي، وكان ممن شهد تلك الوقعة، فقال: كنت في المسجد الحرام يوم التروية في مكان الطواف، فحمل قرمطي على رجل كان إلى جانبي فقتله، ثم صاح بأعلى صوته، وقال: يا حمير!! أليس قلتم في بيتكم هذا: {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} [آل عمران: 97]، فأين الأمن؟.
قال الطائي: فاستسلمت لله، فقلت له: اسمع جوابك!.
قال: نعم.
قلت: إنما أراد الله: فأمِّنوه[2].
فلوى القرمطي رأسه فرسه، وانصرف، وما كلمني!.
كلمة حق في وجه مجرم فاتك في موطن خوف وسفك دم. ما أثقلَها في الميزان من كلمة!.
إحصاء القتلى في تلك المذبحة:
وأحصي من قتل في سكك مكة وما حولها فكانوا زهاء ثلاثين ألفاً، وأقام القرمطي، قبحه الله، وجيشه، بمكة أحد عشر يوماً، يعيثون فيها فساداً، وجافت مكة بالقتلى، وسبى الذرية، ولم يقف أحد بعرفة تلك السنة ثم رجع القرامطة إلى بلاد هجر، وأخذوا معهم الحجر الأسود.
مقتل أمير مكة وأهل بيته:(/4)
لما رجع القرمطي إلى بلاده، ومعه الحجر الأسود، تبعه أمير مكة ابن محلب هو وأهل بيته وجنده، وسأله وتشفع إليه أن يرد الحجر الأسود ليوضع في مكانه، وبذل له جميع ما عنده من الأموال، فلم يلتفت إليه، فقاتله أمير مكة، فقتله القرمطي وقتل أكثر أهل بيته، وقتل أكثر جنده وشتتهم، رحمهم الله، وجزاهم عن بيته ودينه خير الجزاء.
وسار القرمطي بالحجر الأسود إلى بلاده، ويقال: هلك تحته إلى هجر أربعون جملاً، فلما أعيد كان على قَعُود ضعيف، فسَمِن. قلت: ربما صح ذلك، فيكون من آيات الله في هذا الحجر، وهي كثيرة مشتهرة، وربما كان هذا مما تخيله الناس وتناقلوه، ولعله عز عليهم أن يأخذ أعداء الله الحجر، ويذهبوا به سالمين، فشفوا غيظهم في هلاك تلك الدواب، والله أعلم.
نصب الحجر الأسود في الكوفة:
حمل القرامطة الحجر الأسود إلى الكوفة، ونصبوه فيها على الأسطوانة بالجامع، وأرادوا أن يستميلوا به الناس، ويصرفوا الحج إليها، وهو حلم الباطنية من قديم، فشابهوا بذلك أبرهة الحبشي الذي بنى القليس بصنعاء، وهي كنيسة لم ير مثلها في زمانها بشيء من الأرض، بناها، ليصرف إليها حج العرب، {تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} [البقرة: 118].
الصلح مع أبي طاهر القرمطي، ورد الحجر إلى البيت:
وحاول المسلمون استرداد الحجر الأسود من القرامطة، منهم (بجكم التركي) أمير الأمراء في بغداد زمن الراضي بالله والمتقي، دفع لهم فيه خمسين ألف دينار، فأبوا، وقالوا: أخذناه بأمر، وما نرده إلا بأمر.
ثم جرت لأبي طاهر مع المسلمين حروب أوهنته، وقتل أكثر جنده، لا رحمهم الله، وطلب الأمان على أن يرد الحجر، وأن يأخذ عن كل حاج ديناراً ويخفرهم، وأن لا يتعرض للحجاج أبداً، فطابت قلوب الناس، وحجوا آمنين.(/5)
ثم قدم به سنبر بن الحسن وهو كاتب أبي طاهر ووزيره إلى مكة، وخرج أمير مكة معه وجماعة من حجبة البيت، فلما صار بفناء البيت أظهر الحجر من سفط كان به مصوناً، وعلى الحجر ضِباب فضة قد عملت عليه، تأخذه طولاً وعرضاً، تضبط شقوقاً حدثت فيه بعد انقلاعه ؛ فوضعه سنبر بيده في موضعه، وقال: أخذناه بقدرة الله، ورددناه بمشيئته. وشده الصانع بالجص بعد وضعه، ونظر الناس إليه وقبلوه والتمسوه.
مدة حبسه عند القرامطة في البحرين:
وكان قلع الحجر من ركن البيت يوم الاثنين لأربع عشرة خلت من ذي الحجة سنة سبع عشرة وثلاثمائة. وكان رده يوم الثلاثاء لعشر خلون من ذي الحجة يوم النحر سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة. فكانت مدة بقائه عند الجنابي وأصحابه اثنين وعشرين سنة إلا أربعة أيام.
القرامطة والعبيديون من رحم واحدة!.
والسؤال الذي يطرح نفسه كما يقولون: ما الذي حمل القرامطة على ارتكاب هذه المجازر البشعة؟ وهل كانوا مسلمين أم ماذا؟
أجاب ابن كثير بقوله: "وإنما حمل هؤلاء على هذا الصنيع أنهم كفار زنادقة، وقد كانوا ممالئين للعبيديين الذين نبغوا في هذه السنة ببلاد إفريقية من أرض المغرب، ويلقب أميرهم بالمهدي، وهو أبو محمد عبيد الله بن ميمون القداح. وقد كان هذا صباغاً بسلمية، وقيل: إنه كان يهودياً ونسبه مُعرِقٌ في اليهوديّة، فادعى الإسلام، ثم سافر من سلمية فدخل بلاد إفريقية، فادعى أنه شريف فاطمي، فصدقه على ذلك طائفة كثيرة من الجهلة، وصارت له دولة، فملك مدينة سجلماسة، ثم ابتنى مدينة وسماها المهدية، واستقر ملكه بها، وكان هؤلاء القرامطة يراسلونه ويدعون إليه، ويترامون عليه.(/6)
وذكر ابن الأثير أن المهدي هذا كتب إلى أبي طاهر ينكر عليه ذلك، ويلومه على ما فعل بمكة حيث سلط الناس على الكلام فيهم، وانكشفت أسرارهم التي كانوا يبطنونها بما ظهر من صنيعهم هذا القبيح، ويقول له: قد حققتَ على أتباعنا ودعاة دولتنا اسم الكفر والإلحاد بما فعلتَ!. وأمره برد الحجر الأسود إلى مكانه ورد ما أخذه من مكة. اهـ.
ولكن المشهور الثابت أنه لم يرده إلا بعد اثنتين وعشرين سنة.
إشكالٌ وجوابه:
سؤال يجول في الخاطر، أجاب عنه ابن كثير، وجلاه، فقال: وقد سأل بعضهم ههنا سؤالاً، فقال: قد أحل الله سبحانه بأصحاب الفيل -وكانوا نصارى- ما ذكره في كتابه، ولم يفعلوا بمكة شيئاً مما فعله هؤلاء، ومعلوم أن القرامطة شر من اليهود والنصارى والمجوس، بل ومن عبدة الأصنام ومن أبي جهل وأبي لهب، فقد بقيت حرمة هذا البيت سارية عند أهل الجاهلية، كما قال الحسن البصري وغيره: ((كان الرجل يقتل فيضع في عنقه صوفة، ويدخل الحرم، فيلقاه ابن المقتول، فلا يهيجه حتى يخرج)). أما القرامطة فقد فعلوا بمكة ما لم يفعله أحد، فهلا عوجل هؤلاء الزنادقة بالعذاب والعقوبة، كما عوجل أصحاب الفيل؟(/7)
قال: وقد أجيب عن ذلك بأن أصحاب الفيل إنما عوقبوا إظهاراً لشرف البيت، ولما يراد به من التشريف العظيم بإرسال النبي الكريم، من البلد الذي فيه البيت الحرام، فلما أرادوا إهانة هذه البقعة التي يراد تشريفها وإرسال الرسول منها أهلكهم سريعاً عاجلاً، ولم يكن شرائع مقررة تدل على فضله، فلو دخلوه وخربوه لأنكرت القلوب فضله. وأما هؤلاء القرامطة فإنما فعلوا ما فعلوا بعد تقرير الشرائع وتمهيد القواعد، والعلم بالضرورة من دين الله بشرف مكة والكعبة، وكل مؤمن يعلم أن هؤلاء قد ألحدوا في الحرام إلحاداً بالغاً عظيماً، وأنهم من أعظم الملحدين الكافرين، بما تبين من كتاب الله وسنة رسوله، فلهذا لم يحتج الحال إلى معاجلتهم بالعقوبة، بل أخرهم الرب تعالى ليوم تشخص فيه الأبصار، والله سبحانه يمهل ويملي ويستدرج ثم يأخذ أخذ عزيز مقتدر، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ" [رواه البخاري]. قَالَ: ثُمَّ قَرَأَ {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102]، وقال: {لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ} [آل عمران: 196]، وقال: {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ} [لقمان: 24]، وقال: {مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ} [يونس: 70] اهـ كلام ابن كثير.
وليست هذه هي المرة الأولى التي خربت فيها الكعبة، وأزيل الحجر فيها عن مكانه، فقد وقع ذلك من جرهم وإياد والعماليق وخزاعة ثم رده الله إلى مكانه، وعُد ذلك من آياته، حرسه الله.
هلاك الزنديق الملعون القرمطي، قبحه الله:(/8)
طالت أيام هذا الملعون الزنديق، أبي طاهر الجنابي الهجري، رئيس القرامطة، وكان بلاءً عظيماً على الإسلام وأهله، ثم هلك عدو الله، رأس هذه الفتنة، قبحه الله، هلك بالجدري -لا رحمه الله- في رمضان سنة اثنتين وثلاثمائة بهجر كهلا.
دروس وعبر:
هذه صفحات سوداء مظلمة من التاريخ، حافلة بالفجائع التي يذوب لها القلب كمداً، ولا أبغي من وراء استدعائها وعرضها أن أنكأ الجراح ولا أن أزيد الأمة أسى، لكثرة مآسيها، وما فيها يكفيها، لكن الغرض من تصفح التاريخ والقراءة في أوراقه هو الاستفادة من دروسه، وفي التاريخ عبر، كما قال تعالى: {.... فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2]، وقال أيضاً في قصص النبيين: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ} [يوسف: 111]. ولكي لا نلدغ من جحر مرتين، والتاريخ يعيد نفسه كما يقولون، وشواهده في التاريخ المعاصر ماثلة للعيان، ولا تزال بعض الجهات المشبوهة إلى يومنا هذا تدرج حركة القرامطة في الحركات التقدمية والثورية في التاريخ، وتملي على طلابها في مؤسساتها التعليمية هذا الهذيان!. ولا غرو فإنها أوقعت بالمسلمين أفظع مما فعله أسلافهم من القرامطة الزنادقة والباطنية الملاحدة، ونسأل الله العافية من هذه الهاوية.(/9)
إن المرء المسلم لتأخذ الدهشة بلُبه كل مأخذ، حين يرى البشرية تنتكس بين حين وآخر وترجع إلى جاهليتها، وترتكس في وحلها وتغيب في ظلامها الطاغي! ظلام التصورات الفاسدة والشهوات الجامحة وظلام الطغيان الدامي، وهذه هي ((الرجعية)) البائسة المرذولة التي يعيشها هؤلاء الثوريون التقدميون، ويستمرئون الانغماس في أوحالها، ولذلك عندما يتحرك الإسلام، لاستنقاذ البشرية من مستنقع الجاهلية وانتشالها من هذه ((الرجعية))؛ والأخذ بيدها في طريق التقدم والحضارة؛ فإنه لا بد أن يتعرض حامل دعوته إلى الأذى والاضطهاد والتعويق كالذي تعرض له الداعية الأول صلى الله عليه وسلم، فلا ملجأ إلا الصبر والثبات حتى يأتي الله بأمره.
هذا ومن أعظم الاعتبار بهذه الصفحة من تاريخ الحج القيام بواجب الشكر لله تعالى على ما أظل به تلك البقاع المقدسة اليوم من الأمن والسلام، وأن نحرص على دوام هذه النعمة، ونحرس بيته من كيد الفجار ومكر الليل والنهار، ليبقى مثابة الأمن لكل خائف، ونظل بالمرصاد لكل من أراد فيه بظلم بإلحاد.
المراجع:
- البداية والنهاية - ابن كثير - دار إحياء التراث العربي - ط1 - 1408هـ - 1988م - أحداث سنة سبع عشرة وثلاثمائة - ذكر أخذ القرامطة الحجر الأسود إلى بلادهم.
- الكامل في التاريخ - ابن الأثير - انظر: ذكر مسير القرامطة إلى مكّة وما فعلوه بأهلها وبالحجّاج وأخذهم الحجر الأسود.
- تاريخ مكة المشرفة والمسجد الحرام - ابن الضياء - فصل في ذكر آيات البيت الحرام زاده الله تشريفاً وتعظيماً.
ــــــــــــــــــــــــــــ
[1] الملل والنحل – الشهرستاني - دار المعرفة - بيروت، 1404- تحقيق: محمد سيد كيلاني - جزء 1 - صفحة 190 – ( انظر: الإسماعيلية).
[2] معنى قوله تعالى:{وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} [آل عمران: 97]، هذا خرج في صورة الخبر والمراد به الأمر؛ أي ومن دخله فأمنوه.(/10)
العنوان: من ذكرياتي مع الألباني للشيخ بو خبزة
رقم المقالة: 1004
صاحب المقالة: د. جمال عزون
-----------------------------------------
من ذكرياتي مع الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله
بقلم الشيخ العلامة الفقيه أبي أويس محمد بن الأمين بو خبزة الحسني
قرأها وقدم لها د. جمال عَزُّون
الحمدُ لله ربّ العالمين، والصّلاةُ والسّلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
فإنَّ تراجم العلماء مجال خصب يستفيد منه الدَّارسون شتّى الفوائد، وقد حفِظت لنا كتبُ السّير والتّراجم والتّاريخ وغيرها أخبارَ عدد هائل لا يكاد يُحصى من تراجم أهل العلم على اختلاف تخصُّصاتهم، واعتمد المترجِمون على مصادرَ عدَّة في صياغة التّرجمة، يأتي في مقدمتها التراجم الذّاتيّة التي يتحدّث فيها العَلَمُ عن حياته الشّخصيّة والعلميّة، يلي ذلك - فيما أحسب - كتابةُ أقرب النّاس للعَلَم كالولد والأخ والقريب ونحوهم مِمَّن أتيحت لهم المخالطةُ والمعرفة الدّقيقة بحكم النّسب والقرابة.
ويقارِبُ ذلك ما يكتبُه المعاصرون للمترجَم مثل أصحابه وتلاميذه ونحوهم مِمّن تكثر مجالستُهم للعَلَم، وتتيسّر لهم الكتابةُ الدّقيقةُ عن أحواله وأخباره. وثمّة نوعٌ من مصادر التّرجمة تتمثّل في الذّكريات والمشاهدات التي يحتفظ بها من يُتاح له لقاء عابر أو سماع عاجل، ولا تخلو هذه من أخبار علميّة وشواردَ أدبيّة لها قيمتُها في صياغة التّرجمة، وأحسب أنّ ما كتبه الشّيخ الفقيه أبو أويس محمّد بو خبزة الحسني التطواني المغربي يُعَدُّ وثيقةً هامّةً تمثّل رأي أحد المغاربة المعجبين بالمحدّث العلاّمة الشّيخ محمّد ناصر الدّين الألبانيّ رحمه الله، الذي طار صيتُه في الآفاق، وبلغت مصنّفاته الحافلة مشارقَ الأرض ومغاربها.(/1)
وشيخُنا أبو خبزة الحسني عالمٌ فقيهٌ أديبٌ خطيبٌ معتنٍ بالحديث النّبوي وبارع في قراءة المخطوطات، ولد عام 1351هـ - 1932م بتطوان[1]، وقد بلغ من العمر حال كتابته هذه الذّكريات عن الشّيخ الألبانيّ سبعين عاماً، ممّا يضفي عليها قيمة علميّة؛ إذ دبّجها عالمٌ عُمِّر هذه السّنين الطّويلة.
وكنتُ قد طلبتُ منه - حفظه الله وأطال في عمره - في خطاب سابق كتابةَ ما يحضُره من ذكريات مع العلاّمة الألباني فتكرّم - رعاه الله - وأجابني إلى ذلك بما تراه أخي القارئ في هذه الذّكريات التي مرّ على كتابتها سبعُ سنوات[2].
من ذكرياتي
مع الشّيخ ناصر الألباني رحمه الله
الحمد لله!
عرفتُه - طيّب الله ثراه - قبل أن ألقاه فيما بعد السّبعين وثلاث مئة وألف بقراءتي لكتابه "حجاب المرأة المسلمة" الطّبعة المصريّة الأولى بتقديم محبّ الدّين الخطيب، الذي وجدتُّ فيه نَفَساً جديداً غير مألوفٍ عندنا، ومنهجاً توثيقيّاً لم أعرفه إلاّ في صورةٍ قاصرةٍ عند الشّيخ أحمد شاكر المصري، وبعد سفر شيخي أبي الفيض أحمد بن الصّدّيق الغُماري إلى مصر وسُورية كتب إليَّ يخبرني بلقائه للشّيخ ناصر بالمكتبة الظّاهريّة - وقد أشار إلى هذا اللّقاء في كتابه "تحذير السّاجد" أعني الشّيخ ناصراً - ويثني عليه وعلى اطّلاعه النّادر، وتمكّنه من علوم الحديث، كما كرّر هذا الثّناء بأوفرَ منه في كتاب آخر، وأشار الشّيخ ناصر إلى هذا الثّناء والتّقريظ في أوّل الجزء الثّالث أو الرّابع[3] من سلسلته في الأحاديث الضّعيفة.(/2)
كما عرفتُ الشّيخ قبل لقائه بواسطة مقالاته التي كان ينشرها بمجلّة التّمدّن الإسلاميّ[4] التي كانت تصدر بدمشق، وكانت تصل إلى تِطوان بحكم المبادلة الصّحافية مع صاحب مجلّة "الأنيس" التي كانت تصدر بتطوان، وكنتُ على صلةٍ به وبأحد أصدقائه الذي كان يأتيني بها كلّما وصلتْ، فأجد فيها ابتداءَ الشّيخ في نشر "سلسلة الأحاديث الصّحيحة" مع أجوبته لأسئلة حديثيّة، وتحقيقه لبعض البحوث بنَفَسِه ومنهجه المتميّز المشار إليه.
وفي سنة 1382 حججتُ برّاً مع جماعةٍ من أهل تطوان منهم الفقيه القاضي الشّيخ أحمد بن تاوَيْت رحمه الله، وفي إحدى اللّيالي ونحن بالمدينة النّبويّة تأخّر الفقيهُ عن الرّجوع إلى البيت إلى ما بعد منتصف اللّيل، فسألتُه عن السّبب، فحكى لي عن احتفال بختم الدّراسة بالجامعة الإسلاميّة وكانت في أوّل عهدها، وجاء في حديثه ذِكْرُ الشّيخ ناصر وإقبال الطّلبة عليه، فلَفَتَ نظري اسمُه، وذكرتُه، وأخبرتُ الفقيه بمعرفتي بعلم الرّجل وإعجابي بتحقيقه ورغبتي الملحّة في لقياه، فأخبرني بأنّه يصلّي باستمرار بالحرم، فذهبتُ معه من الغد لصلاة العشاء بالحرم، وبعد الفراغ لقيناه بباب عبد المجيد، فسلّمتُ عليه وتعرّفتُ إليه، فأخَذَنا بسيّارته إلى بيته بناحية البقيع حيث سهِرتُ معه ساعاتٍ مشهودةً كان لها أحسنُ الأثر في حياتي، وناولني خلالَها من مؤلّفاته وكانت في طبعاتها الأولى: صفة الصّلاة، وصلاة التّراويح، وصلاة العيد في المصلّى، وتسديد الإصابة، وفهرسة كتب الحديث بالظّاهريّة الذي طبع منتخبُه، واستأذنتُه في الرّواية فأذن، وأخبرني بأنّه لا يعُدُّها ذات فائدةٍ أعني الإجازة بأنواعها، وأنّ العبرة عنده بالدّراية والبحث والتّحقيق، وأخبرني أنّه لا إجازة له إلاّ من الشّيخ راغب الطّبّاخ الحلبي الذي أجازه دون طلب منه، وتناولتُ مع الشّيخ أحاديثَ شتّى؛ منها:(/3)
أنّه سألني عن الغُماريّين فأخبرتُه - وأنا من أعرَف النّاس بهم لمصاهرتي لهم - بتأييد الشّيخ أحمد لابن تيمية وابن القيّم في معتقدهما السّلفي، فسُرّ بذلك إلاّ أنّه سألني عن عمل الشّيخ في كتابه "مطابقة الاختراعات العصريّة" حيث يحتجُّ بالموضوعات والواهيات وهو يعرفُها، فأخبرتُه بانتهاجه مسلَك من يُحيل على السّند وهو يذكر الأحاديث بأسانيدها، وردّ الشّيخ ناصر هذه الفكرة بقوّة، كما أشار إلى حَلِفِ الشّيخ أحمد على أنّ مراد الله من الآيات النّازلة في المنافقين في أوائل سورة البقرة هم الوطنيّون العصريّون، فلم أدرِ ما أقول إلاّ أنّني قلتُ له بأنّه مسبوقٌ ببعض هذا من يوسف النّبهاني.
وسأل الشّيخ ناصر عن زعم الشّيخ أحمد بأنّ جمال عبد النّاصر وأصحابه هم المبشّر بهم في حديث "لا تزال طائفةٌ من أمّتي"، وأنّ الزّعيم المغربي فلاناً هو المعنيُّ بحديث "وكان زعيمُ القوم أرذلَهم"[5]، فكان جوابي أنّ ذلك كان من الشّيخ ردَّ جميلٍ؛ لأنّ الثّورة المصريّة آوته وحمته بعد لجوئه إليها من المغرب.
فقال الشّيخ ناصر: كيف يكون ردُّ الجميل بالكذب والتّحريف في الحديث النّبويّ؟ ولطول العهد نسيتُ مسائل أخرى تتعلّق ببعض أقوال الشّيخ الغُماريّ.
وبعد سنواتٍ كثيرة زارنا الشّيخ ناصر في تطوان وطنجة مرّتين أملى في إحداهما ترجمته موسّعةً نُشر ملخّصها في جريدة "النّور" التي تصدر بتطوان، وأطلعتُه على بعض النّوادر بخزانة تطوان، وكنتُ يومئذ مسؤولاً عنها، وصوّرتُ له بعض الرّسائل.(/4)
وفي الزّيارة الثّانية - وكان معه إخوةٌ من مرّاكُش، وهي المرّةُ التي زار فيها طنجة، وناظر الشّيخ الزّمزميّ ابن الصّدّيق الغُماريّ في توحيد الأسماء والصّفات - سألني عمّا يُقال من وجود "صحيح ابن حبّان" بتطوان فأجبتُه بالنّفي، وأخبرتُه بوجود النّصف الأوّل من نسخة دمشقيّة عتيقة من "السّنن الكبرى" للنّسائيّ، فرغب في الاطّلاع عليها، فذهبنا معاً لخزانة الجامع الكبير، ووقف على النّسخة وهي بخطّ شرقيّ جميل نُسخت في القرن السّادس، وأمرني أن أقرأ عليه أبواباً منها في العبادات، ففعلتُ مسروراً وعلّق بخطّه في دفترٍ أسانيدَ.
وبعد سنواتٍ من هذه الزّيارة اعتمرتُ سنة 1404، وفي رجوعي عرّجتُ على دمشق واتّصلتُ بولده الأخ عبد اللّطيف، وسألتُه عنه فأخبرني بأنّه خرج من دمشق فارّاً بدينه وأنّه استقرّ الآن بعَمّان، ودلّني على عنوانه، فذهبتُ إليه، واهتديتُ لمنزله الجديد الذي شارك في بنائه بنفسه، فرحّب بي وأخبرني أنّه قدم يومَه من الإمارات، وأنّه أُجريت له عمليّة جراحيّة، وأنّه متعبٌ، ولولا معرفتُه ورغبتُه في الاجتماع ما سمح به، ولأنّه مُراقَبٌ، فجالستُه رحمه الله ساعةً أعُدُّها من أبرك ساعات العمر، وأهدى إليَّ الجزء الرّابع من "السّلسلة الصّحيحة"، وكان حديثَ الصّدور وفي تجليد فاخر، وكتب الإهداء بخطّه[6]، فاستأذنتُه في الرّواية مناولةً فقال: وما معنى الإهداء لأهل العلم إلاّ ذلك؟ ونزل بي من منزله بأعلى جبل الهملان إلى المسجد الحسيني بسيّارته التي انطلق بها في سرعة بالغة.
وممّا أفدتُّه منه قولُه: إنّ المسلمين كانوا وما زالوا يعانون أزمة عقيدة وقد أضيفت إليها أزمةُ أخلاقٍ، وهما أزمتان حادّتان خطيرتان لا تطيب الحياةُ معهما[7].
وكان الشّيخ رحمه الله قبل هذا وبعده منذ أن توطّدت الصّلةُ بيننا لا يفتأ يهاديني، فأرسل إليّ مع الحجّاج والمعتمرين عدداً من رسائله.(/5)
وأذكر من شواهد ورع الشّيخ وتوقّفه أنّه في الزّيارة الأولى لتطوان مررنا على حيّ تِجاري وفيه دكّان لبيع الطُّيوب والعطور، فوقف على بعض أنواعها التي تُقَصَّرُ بالمغرب وأُعجب به وسأل عن ثمنها وخرجنا، ثمّ جلسنا مع بعض الإخوان في دكّانه، فلحقنا بعضُ من كان معنا مِمّن حضر وقوفَ الشّيخ على العطور، وناول الشّيخَ قارورةً من ذلك العطر الذي أعجبه فأبى أن يأخذه، فرغب الرّجلُ إليه أن يعده هديّةً فأبى.
وكان بلغني أنّ بعض دَجاجلة طنجة زار دمشق مع مريديه وفي نيّته أن يرزأ الشّيخَ بعضَ مالِه، فذهب إلى منزل الشّيخ وأمر مريديه أن يخلعوا المسابح من أعناقهم لأنّ الشّيخ وهّابيٌّ لا يقبل هذا، ففعلوا ودخلوا على الشّيخ وتذاكروا ونافقوه بالتّقيّة، ثمّ طلب منه شيخُهم الدّجّال القرمطيّ أن يُسْلِفَه نحو أربع مئة ليرة دَيْناً مردوداً لأنّهم نفدت نفقتهُم، فأسلفهم الشّيخُ وزار المغرب مرّتين ولم يأته الدّجّالُ حتّى للسّلام عليه والاعتذار، بل أضرب عن الزّيارة والسّؤال، فلذلك سألتُ الشّيخ بتطوان: هل زارك فلانٌ بطنجة وردَّ عليكَ مالَك الذي أسلفتَه؟ فأجاب بالنّفي وأنّه لم يسأل عنه وهو بطنجة حتّى لا يحرجه. فانظر إلى أخلاق هذا الوهّابيّ كما يلمزونه، وأخلاق هذا القطب الصّوفيّ كما يدّعي؟!(/6)
وممّا سمعتُه منه رحمه الله وأثابه أنّه لمّا لقي الشّيخَ أحمد بن الصّدّيق بظاهريّة دمشق وتذاكرا، وكان الشّيخُ ناصر يأتيه بنوادر المخطوطات الحديثيّة التي لم يرها الشّيخُ الغماريُّ وربّما لم يسمع بكثير منها، وفيها أعلاقٌ بخطوط مؤلّفيها أو سُمعت على كبار الحفّاظ، وفي أثناء المذاكرة والمناقشة احتدَّ الغُماريُّ وصاح، وكان في خُلُقه حدّةٌ، خصوصاً إذا نُوقش في معتقده وحدة الوجود والقائلين بها، وهو من الغُلاة في هذا الباب، فردّ عليه الشّيخ ناصر بهدوءٍ: كيف تفعل هذا يا شيخ أحمد وأنتَ عربيٌّ وشريفٌ هاشميٌّ كما تقول، وأنا عجميٌّ ومع هذا أحتفظ بهدوئي وأدبي؟!
وبالجملة فذكرياتي مع الشّيخ ناصر الدّين بحقٍّ طويلةٌ ولا أذكر السّاعة منها إلاّ هذا.
وقد أُثيرت في زيارتي الأخيرة للمدينة المنوّرة الموسم الماضي مسألةُ روايتي عن الشّيخ مناولةً، وكأنّ بعض الإخوان من تلامذته تشكّكوا وتوقّفوا قائلين: إنّنا طلبنا من الشّيخ مراراً أن يجيزنا فأبى قائلاً: أنا لا أفتح على نفسي هذا الباب. فكان جوابي أنّ هذا رزقٌ معنويٌّ يسّره الله لي، على أنّ هذا كان منذ ما يقربُ من أربعين سنةً، وربّما كان معظمُ هؤلاء لم يُولَدوا بعدُ والشّيخُ يومئذ فتى مكتهلٌ صحيحُ البنية يتوقّدُ نشاطاً، وصادف أن زاره طالبٌ مغربيٌّ لمس من مذاكرته صدقَه وحرصَه على العلم وتعلّقَه بالحديث وعلومه وأهله، فقدّم إليه الشّيخُ مع القِرى - وكان قطعاً من الحَبْحَب؛ البطّيخ الأحمر كما أذكر - رسائلَ ممّا طُبع له يومئذ هديّةً، فاستأذنه الطّالبُ في الرّواية بالمناولة فأذن جبراً لخاطره وإتماماً معنويّاً لقِراه.(/7)
وأذكر أنّ الشّيخ أبا إسحاق الحويني المصري - وهو من أنجب وألمع تلاميذ الشّيخ - لم يسألني هذا السّؤال وقد زرتُه بكفر الشّيخ منذ نحو سنة ونصف وأضافني وأكرمني وأهداني كتابه "تنبيه الهاجد"[8] فأخبرتهُ - وأنا معه بمكتبته العامرة - أنَّ لي روايةً عن كبار مشايخ المغرب المعاصرين، وعن شيخنا معاً الشّيخ ناصر، فرغب حفظه الله في الإجازة فكتبتُها له مجلساً في دفتر له كبير.
وعلى كلّ حال فمن المعلوم أنّ زمن الرّواية انقضى على رأس الثّلاث مئة، وأنّ السّنّة جُمعت ولم يبق منها شيءٌ مجهولاً، وأنّ مقصود الرّواية بالإجازة إنّما هو التّبرّكُ بربط الاتّصال بأولئك العلماء وأصولهم الحديثيّة، تقليدٌ علميٌّ جرى به العملُ منذ قرونٍ، فمن تبنّاه وحرَص عليه بحسن نيّةٍ فقد أحسن، وأولى وأحقُّ بالعناية منه: حفظُ المتون والتّفقّه فيها والاستنباط بشروطه بعد نقد الأسانيد والبحث عن العلل وما يتعلّق بذلك، وهذا مجالٌ فسيحٌ جدّا تنقطع الأعمارُ دون استقصائه؛ ولذلك أشهدُ بمنتهى الصّدق والنّزاهة - والله على ما أقول وكيلٌ - أنّني ما رأيتُ فيمن لقيتُ من العلماء - وهم كثير - وأخذتُ عنهم مثل الشّيخ محمّد ناصر الدّين محمّد بن نوح نجاتي الألباني الأرناؤوطيّ في علمه وإخلاصه واطّلاعه على علوم الحديث ودقائقه، وإنصافه في البحث والمناظرة، علاوةً على سلوكٍ أشبه بسلوك السّلف الصّالح، أقول هذا ولا أزكّي على الله أحداً.(/8)
وسائرُ من عرفتُ من المشايخ لا يخرجون عن صنفين: فقهاء مقلّدين متصوّفين غارقين إلى أذقانهم في البدع، لا يَطمَعُ في الاستفادة منهم مَنْ يناقشهم في مصائبهم، ويحاول تنبيههم على ما هم عليه من انحراف وضلال، وعلماء مُحدّثين مقلّدين يترسّمون خُطا من سبقهم دون بحث ولا تجديد، على اتِّضاعٍ في السّلوك، وانحراف في العقيدة، وتورّط في السّياسة واكتواء بنارها، وهؤلاء مشايخي وهم كبار علماء الحديث بالمغرب في العصر الحديث أَجَلُّهم وأعلمُهم وأتقنُهم الشّيخُ أحمد بن الصّدّيق، ولكنّه صوفيٌّ أسيرُ بدع؛ وحدة الوجود، والقول باكتساب النّبوّة، والدّفاع عن إيمان فرعون ... إلخ القائمة السّوداء التي يَبْصُقُ عليها العلم والإيمان والتّاريخ.
يليه الشّيخ عبد الحيّ الكتّاني، وهو صوفيٌّ غريقٌ صاحب طريقةٍ، وموقفُه من الملك محمّد الخامس شهيرٌ. وابنُ خالته الشّيخ عبد الحفيظ الفهري وهو أعدلُهم سلوكاً أنفقَ من عمره ربعَه في التّاريخ لفروع الشّاذليّة، وهي طريقةٌ صوفيّةٌ بالمغرب. وهذا أخونا الكبير الشّيخ محمّد المنوني[9] وفضائلُه جمّةٌ، وقد تدبّجتُ معه، وهو كتَّانيُّ الطّريقة؛ يتهيّبُ الكلامَ فيها وانتقادَ أصحابها لفرط اعتقاده. وهكذا يَفْتِكُ سلطانُ البيئة بالمغرب بسلامة العقول والأديان، ولله في خلقه شؤونٌ.
كتب هذه الذّكريات يومَ الأربعاء 6 من صفر 1421هـ عُبَيدُ ربّه أبو أويس محمّد بو خبزة الحسني عفا عنه.
بداية النّسخة
بخطّ الشّيخ أبي أويس محمّد بن الأمين بو خبزة الحسني
ـــــــــــــــــــــــــــ
[1] للشّيخ أبي خبزة سيرة ذاتية كتبها بقلمه وقد نشرها الأخُ الباحثُ والزّميل الفاضل د. عبد اللّطيف بن محمّد الجيلاني في ملحق التّراث بجريدة البلاد بالمدينة النّبويّة، العدد رقم: (15901 – 15902).
[2] كتب الشّيخ أبو خبزة ذكرياته هذه يوم الأربعاء 6 من صفر عام 1421هـ.
[3] هو في الرّابع جزماً (ص 5 - 6)، ط المعارف .(/9)
[4] جمع هذه المقالات ونشرها في كتاب مفرد الباحث نور الدّين طالب.
[5] أخرجه التّرمذي (2/33) وفي إسناده الفرج بن فضالة الشّامي ضعّفه غير واحد. انظر سلسلة الأحاديث الضّعيفة (3/312).
[6] هذا من نوادر الإهداءات التي كتبها الشّيخ الألباني إلى غيره من الأعلام، أمّا إهداءات الأعلام إليه فهي من الكثرة بمكان وقد يسّر الله لكاتبه جمعها في كتاب اسمه: حصول التّهاني بالكتب المهداة إلى محدّث الشّام محمّد ناصر الدّين الألباني، طبع في ثلاث مجلّدات عن مكتبة المعارف بالرّياض.
[7] حرص الشّيخ الألباني - رحمه الله - في دعوته على التّصفية والتّربية وهما كلمتان تلخّصان مساره الدّعوي القائم على تصفية الإسلام ممّا علق به من بدع وخرافات وعقائد باطلة وأخلاق منحرفة وأحاديث موضوعة، وكلّ هذه الرّزايا قد شوّهت جمال الإسلام النّقيّ الذي بُعث به النّبيّ الكريم محمّد -صلّى الله عليه وسلّم - ويرافق هذه التّصفية تربية جادّة للنّشء على الدّين الصّحيح تربية تعيد للأمّة مجد سلفها الرّبّاني الصّالح وما ذلك على الله بعزيز.
[8] تنبيه الهاجد إلى ما وقع من النّظر في كتب الأماجد، وهو طليعة الجزء الرّابع من كتاب الثّمر الدّاني في الذّبّ عن الألباني، نشر في مكتبة البلاغ - دبي، ط الأولى، 1418هـ - 1998م.
[9] الشّيخ المنوني رحمه الله ممّن أثنى على شيخنا أبي خبزة وممّا قال فيه ضمن إجازة تدبّج فيها معه: "خادم الحديث النّبوي الشّريف العالم السّلفي الخطيب، المعتني بالتّراث المخطوط قراءةً وتعليقاً ونسخاً وتصحيحاً". وقال عنه في كتابه تاريخ الوراقة المغربية: "حيٌّ في عمر مديد، عامرٌ بالحسنات، موفورُ المنتسخات بخطّه المجوهر المرونق، مع تصحيح وتثبّت، فضلاً عن متابعته لأعماله بالتّعليقات والتّنبيهات على مواقع الإفادات المهمّة ... ".(/10)
العنوان: من روائع الحكمة: في الحب والمحبين
رقم المقالة: 836
صاحب المقالة: خاص: الألوكة
-----------------------------------------
مصطفى صادق الرافعي:
• لا تَغْضَبْ من حماقةِ امرأةٍ تحبُّها، ولا تَغْضَبي من حماقةِ رجلٍ تحبِّيْنَهُ، وإلا فأينَ تَدُسُّ الحياةُ سَمَّها إلا في ألذِّ أطعِمَتِها؟
• النّاسُ يزاحِمونَ في الدنيا لأَجسامِهِم، فإما بؤسٌ وإما سعادةٌ، والحكماءُ والمحبُّونَ يزاحِمونَ لأرواحِهِم، فإما بؤسان وإما سعادتان.
• إنْ رَضِيَ المْحِبُّ قال في الحبيبِ أَحَسْنَ ما يَعْرِف، وما لا يَعْرِف، وإنْ غَضِبَ قال فيه أسوأَ ما يَعْرِف، وما لا يَعْرِفُ، وما لا يُمْكِنُ أَنْ يَعْرِفَ.
• يَنْفِرُ الإنسانُ من الكَلِمةِ التي تحْكُمُه، ولكنَّهُ في الحبِّ لا يَبْحَثُ إلا عن الكلمةِ التي تحكُمُه.
• يَنْظُرُ الحُبُّ دائمًا بعينٍ واحدةٍ، فيرى جانبًا، ويَعمَى عن جانبٍ، ولا ينظرُ بِعَيْنَيْهِ معًا إلا حينَ يريدُ أنْ يَتَبَيَّنَ طريقَهُ لِيَنْصَرِفَ...
• متى نظرتِ المرأةُ إلى رَجُلٍ تُعجَبُ بهِ كانتْ نظراتُها الأولى متحيرةً قلقةً غيرَ مُطْمَئِنَّةٍ؛ معناها: هَلْ هُوَ أَنْتَ؟ فإذا داخَلَها الحبُّ، واطمأَنَّتْ، جاءَتْ نظراتُها مُسْتَرْسِلةً، متدلِّلَةً، مُتَأَنِّثَةً، معناها: هُوَ أَنْتَ.
• يولَدُ المولودُ مِنْ رجلٍ وامرأةٍ، ولنْ يكُوْنَ مِنْ ثلاثةٍ، ولهذا لَنْ يكونَ في الحبِّ الصحيح ثلاثةٌ أبدًا.
• الذَّليلُ في رأي الحُبِّ مَنْ إذا هجرتْهُ المرأةُ، كان هَجْرُها إيَّاهُ عقوبتَهُ، والعزيزُ في رأي الحبِّ مَنْ إذا هَجَرَتْهُ المرأةُ كانَ هَجْرُها إيَّاهُ عقوبتَها.
• اليومُ الَّذي يكونُ قَلْبِيًّا مَحْضًا يَبْقَى له دائمًا باقٍ لا يَنْتَهِي، ولهذا لا يزالُ الحُبُّ الطاهِرُ كأنَّهُ في بقيةٍ مِنْ أَوَّلِهِ مَهَمَا تَقَادَمَ.
• المودةُ القويةُ تتحمَّلُ العتابَ والمحاسبةَ لتثبِتَ أنَّها قويةٌ.(/1)
• ما أَضْيَعَ النُّصْحَ في الحُبِّ وفي الخَمْرِ، لأنَّ العاشقَ والمدمنَ كلاهما أشدُّ افتقارًا لِسُرُوْرِهِ مِنْهُ إلى عَقلِهِ.
• إذا طالَ هَجْرُكَ بِمَن تحبُّهَا كانَ أَثَرُ مرورِ الزَّمَنِ عَلَيْهَا كأثَرهِ في الحَرِيْرِ المَصْبُوْغِ، إنْ لَمْ يَبْدُ في العَيْنِ ذَلِيْلَ النَّسْجِ، بَدَا فِيْهَا ذليلَ اللَّوْنِ.
• ما أَعْجَبَ هذا! أَرادَتْ حَبِيْبَةٌ ظَرِيْفَةٌ أَنْ تَكُونَ مَرَّةً سَخِيْفَةً عِنْدَ مُحِبِّها، فَلَمْ تَسْتطِعْ أَنْ تَكُوْنَ سَخِيْفَةً إلا كما يُحِبُّ.
• أكْثَرُ صَبْرِ العُشَّاقِ مِنْ قِلَّةِ الحِيْلَةِ.
• كَذِبُ الحَبِيْبِ كَذِبٌ مُرٌّ، لأَنَّهُ خَرَجَ مِنَ الفَمِ الحُلْوِ.
• احْتَرِس في العَداوَةِ ممّا تَبْدَأُ بهِ العَدَاوَةُ، واحْتَرِسْ فِي الحُبِّ مما يَنْتَهِيْ بِهِ الحُبُّ.
• أبلغُ ما في السياسَةِ والحبِّ معًا: أَنْ تُقالَ الكلِمَةُ، وفي معناها الكلمةُ التي لا تُقَالُ..
د. مصطفى السباعي:
• بالحقِّ خُلقت السمواتُ والأرضُ، وبالحبِّ قامَتا.
• محبَّةُ الله تُورث السلامةَ، ومحبَّةُ الناسِ تُورث النَّدامةَ، ومحبَّةُ الزوجة تُورث الجُنون.
• الحبُّ وَلَهُ القَلب، فإن تَعَلَّقَ بحقيرٍ كان وَلَهَ الأطفال، وإن تَعَلَّقَ بإثمٍ كان وَلَهَ الحَمقى، وإن تَعَلَّقَ بفانٍ كان وَلَهَ المرضى، وإن تَعَلَّقَ بباقٍ عَظيمٍ كان وَلَهَ الأنبياء والصِّدِّيقين.
• الحبُّ من غير اتِّباعٍ دَعوى، ومن غَير إخلاصٍ بَلوى، ومن غَير نَجوى حَسرة وعَبرة.
• الحبُّ ثلاثة: حبٌّ إلهيٌّ (هو حبُّ المؤمنِ لربِّه), وحبٌّ إنسانيٌّ (هو حبُّ الإنسانِ لأخيهِ ولصَديقِه)، وحبٌّ حَيَوانيٌّ (هو العِشقُ الجِنسيُّ).
فالحب الإلهيُّ فيه ضراعةُ المحبِّ وشُكر المحبوب.
والحب الإنسانيُّ فيه وفاءُ المحبِّ وتقديرُ المحبوب.
والحب الحَيَوانيُّ فيه مُراوَغَة المحبِّ ولُؤمُ المحبوب.
د. عبدالمعطي الدالاتي:(/2)
• الحبُّ إيمانٌ صغير .. والإيمانُ حبٌّ كبير ..
• يبدأُ الحبُّ بحبِّ الجَمال .. ويستمرُّ بجَمال الحب ..
• الجمالُ دعوةٌ إلى الحب، والحبُّ دعوةٌ إلى الخير، والخيرُ دعوةٌ إلى الإيمان ..
• أينما وُجِد الجَمالُ وُجِدت الدهشةُ..أعني الحب ..
• ما أظلمَ من يُبغِضكَ لأنك أحبَبته !..وما أشدَّ وَخزَ الأشواك الليِّنة إن كانت بيدِ حبيب!
• لو كان في قلبكَ محبَّةٌ، لَبانَ أثَرُها في عَينَيك ..
• هوَ لم يَغفِرْ لي ذَنبَ الحبِّ، فهل أَقدِرُ على أن أَغفِرَ له ذَنبَ الجَمال ؟!
• عن جَنَّةِ الحبِّ.. سألتُ القلبَ فقال:
أنا حبَّةُ رَملٍ على شاطِئ الجَمال .. فلن يَفِيَ بالحبِّ مَقال ..
نوال السِّباعي:
• سألتُ الليلَ عن أجملِ ساعاتِه، فقال: ساعة يهرُب فيها المحبُّونَ من العَلائقِ والخلائق، ويتسَلَّلونَ عندَ السَّحَر لمُلاقاة الحَبيب الأعظَم الذي غَفا عنهُ المحرومون.
• قال القلمُ: سأكتُبُ عن حبِّي لكَ حتى أَفنى فيه!
وقالت الأوراقُ: أحبَبتُ الأَيدي التي زَيَّنَتني بسُطور النُّور من ذِكرك.
وقالت الأيدي: سأصنعُ من أجلك ما يَزرعُ السلامَ في النفوس.
وأما النفوسُ فلم تَقُل شيئًا؛ لأن احتِراقَها بلَهيبِ الحبِّ، جَعَلَها تَعزِفُ عن الأقوالِ إلى الأفعال الزَّكيَّةِ الطيِّبة.
• الحبُّ.. عاطفةٌ إن تجرَّدَت عن العَقل صارت جُنوناً، وكم منَ الناس بحاجةٍ إلى ذلك الجُنون!!، فيثير فيهم روحَ الحياة، وثَورةَ الوجدان، وإرادةَ العمَل، لجَدْبٍ في قُلوبهم، وقَحطٍ في أرواحِهم!
• الحبُّ لا يَسقُطُ عند الامتحانِ الأوَّل، ولا الثَّاني، ولا المئة؛ لأنَّ الحبَّ يدعو إلى التسامُحِ ثم التعَقُّلِ لإعادة الحسابِ مرَّةً أُخرى قبل أن يَهدِمَ المرءُ في لحظاتٍ ما بَناهُ في سَنَوات.(/3)
• الحبُّ سموُّ الروحِ إلى عَوالم الصَّفاء التي تتَرفَّع عن مادِّيَّةِ البَشَر، واعتناقٌ للفِكرة بالعمَل في مَيادين العَطاء التي لا تَنفَد وإن نُفِّذ بالجِسم حُكمُ الإعدام.
• الحبُّ هو الأصلُ الذي ينشأُ منه الأمَل، والأمَلُ هو الشجرةُ الباسقةُ التي يُورِقُ على أغصانها العَمَل.
ملك الحافظ:
• الحبُ خيمةٌ تتقاذَفُها الرِّيح، يدخُلُ إليها كلُّ مَطرود علَّهُ يجدُ في كَنَفِها لمسةَ حَنان أو دَفقَةَ نُور؛ لكنَّه يخرُج ويَرجع إلى مملكةِ الألَم، ومعه قَبْضُ الرِّيح.
(كلمة وكليمة) لمصطفى صادق الرافعي، جمع وعناية: حسن السماحي سويدان، دار ابن كثير دمشق، ط1/ 1423هـ. و(هكذا علمتني الحياة) للدكتور مصطفى السباعي، دار الوراق، ط1/ 1420هـ. وصفحة د. عبدالمعطي الدالاتي على موقع (صيد الفوائد). و(خواطر في زمن المحنة) لنوال السِّباعي، دار القلم دمشق، ط5/ 1423هـ. و(ومضات) لملك الحافظ، دار غار حراء دمشق، ط1/ 1424هـ.(/4)
العنوان: من روائع الكلم: في الحكمة والحكماء
رقم المقالة: 621
صاحب المقالة: خاص: الألوكة
-----------------------------------------
مصطفى صادق الرافعي:
• أربعةُ آلافِ كَلِمةٍ في الثَّرْثَرَةِ، أَقَلُّ من أربعِ كلِمَاتٍ في الحِكْمَة.
• النّاسُ يُزاحِمونَ في الدنيا لأَجسامِهِمِ، فإما بؤسٌ وإما سعادةٌ، والحكماءُ والمحبُّونَ يزاحِمون لأرواحِهِم، فإما بُؤسان وإما سَعادَتان.
• الرأسُ الفارغُ من الحِكمَةِ لا يُوازِنُه في صاحِبِه إلا فَمٌ مُمتلئٌ منَ الثَّرثَرَة.
• يَقُولُ لكَ الزَّاهِدُ العابِدُ: اخْرُجْ منَ الدُّنيا وادْخُلْ في نَفْسِكَ. ويَقُولُ لكَ الماجِنُ الخَلِيعُ: اخْرُجْ مِن نَفْسِكَ وادْخُلْ في الدُّنيا، ويَقُولُ لكَ الحَكِيمُ العاقِلُ: كُنْ في الإنسانيَّةِ تكُنْ في نَفْسِكَ وفي الدُّنيا.
• الفَيْلَسُوفُ الحَقُّ هو الَّذِي يَنْتَهِي مِن نَفسِهِ إلى مَوضِعٍ عقليٍّ يكونُ فيه معَ الحياةِ كما يكونُ القاضي في مَوضِعِهِ العَقليِّ مع الحَوادِثِ: تأتِيهِ لِيَحْكُمَ عَلَيها لا لِتَحْكُمَ عَلَيه.
• أَعظَمُ الشُّعَراءِ، وَأَعظَمُ الفَلاسِفَةِ مَن بَلَغَ دَرَجَةَ الطِّفْلِ في جَعْلِ حُكمِهِ على الدُّنيا مِنَ الشُّعُورِ لا مِنَ الفِكْر...
د. مصطفى السباعي:
• الحكيمُ مَن يَعيشُ يَومَهُ وغَدَهُ، والجاهِلُ مَن يَعيشُ فَحَسْب.
• مُعاشَرَةُ الناسِ لإرشادِهِم، مِن عَمَل الأنبياء، واعتِزالُهُم للتفكيرِ في أُمورِهِم، مِن شأنِ الحُكَماء، فاحرِص على ألا تَفوتَكَ معَ خُلُقِ النبوَّةِ خَصائصُ الحِكمَة.(/1)
العنوان: من روائع الكلم: في العلم والمعلمين
رقم المقالة: 1029
صاحب المقالة: خاص: الألوكة
-----------------------------------------
مصطفى صادق الرافعي:
• المُعَلِّمُ ثَالِثُ الأَبَوَيْنِ، فَلْيَنْظُرْ كيفَ يأبُوْ حِينَ يَنظُرُ كَيفَ يُعَلِّمُ.
• عِلْمُ الجَاهِلِ في شَيْئَيْنِ: في سُكُوتِهِ، وفي السُّكُوتِ عَنهُ.
د. مصطفى السباعي:
• إذا لم يمنع العلمُ صاحبَه من الانحدار كان جهلُ ابن البادية علماً خيراً من علمه.
• ليس العلمُ أن تعرفَ المجهول .. ولكنْ .. أن تستفيدَ من معرفته.
• كلُّ مؤلِّف تقرأُ له، يتركُ في تفكيركَ مساربَ وأخاديد، فلا تقرأ إلا لمن تَعرفُه بعُمق التَّفكير، وصِدق التعبير، وحَرارة القلم، واستقامة الضَّمير.
• ثلاثةُ أشياء لا يتمُّ علمُ العالم إلا بها: قلبٌ تقي، وفؤادٌ ذكي، وخُلُق رضي.
• لا يَصلُح العلمُ إلا بثلاث: تعهُّد ما تحفظ، وتعلُّم ما تجهل، ونشر ما تعلم.
د. عبدالمعطي الدالاتي:
• القراءةُ سبيلُ الرقيِّ في الدنيا، وسبيلُ الرقيِّ في الآخِرَة .. " اقرأ وارقَ "..
• مَن يقرأ بتذوُّق ، يكتُب بتفَوُّق ..
• أعلمُ الناس ، هُم مَجموعُ الناس..
ألم ترَ إلى الهُدهُد وقد أحاطَ بما لم يُحِط به النبيُّ سليمان ؟!
• هاهُم يقتسمونَ ميراثَه في المسجد ..
ألا تحبُّ أن تكون من أهل بيته ؟!
• أتعجَبُ من ارتفاعِ أصواتهم في الدَّرس؟!
فهل عهدتَ الصوتَ يُخفَض عند تقاسُم الميراث ؟!
• سأل الأعرابيُّ: متى الساعةُ ؟ فأجابه الرسول: وما أعددتَ لها ؟
جوابٌ نبويٌّ بسؤال؛ يردُّ السائلَ إلى علم يُفيد..
• على طالبِ العلم أن يكونَ أشدَّ طلباً له من طالبِ الدَّم ..
• رُبَّ لحظةٍ من إنسان , أثمنُ من عُمرِ إنسانٍ آخر..
مع أن الزمنَ الذي يمرُّ على العالِم, هو نفسُ الزمن الذي يمرُّ على الجاهل ..
نوال السباعي:(/1)
• لا تكونُ المدرسةُ دارَ تربيةٍ وتعليم، إلا عندما تربي إنساناً حراً، وتعلِّمه كيف يبحثُ عن الحقيقة، وكيف يستخدمُ عِلمَه في عمله، وكيف يقول (لا).(/2)
العنوان: من شروط الخطبة: النية
رقم المقالة: 1286
صاحب المقالة: د. عبدالعزيز بن محمد بن عبدالله الحجيلان
-----------------------------------------
اختلف الفقهاء في اشتراط النية لخطبة الجمعة، أي نية الخطيب، وذلك على قولين:
القول الأول: أنها شرط لصحة الخطبة.
وبهذا قال بعض الشافعية [1] وبه قال الحنابلة [2].
القول الثاني: أنها ليست بشرط، فتصح الخطبة بدون نية. وهذا هو القول المعتمد عند الشافعية [3].
الأدلة:
أدله أصحاب القول الأول:
استدلوا بالسنة، والمعقول:
أولا: من السنة:
ما رواه عمر بن الخطاب – رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى...)) [4] الحديث [5].
فهو شامل بعمومه لخطبة الجمعة، لأنها عبادة من العبادات [6].
ثانيا: من المعقول:
القياس على الصلاة، بجامع أن كلاً منهما فرض يشترط فيه الطهارة، والستر، والموالاة [7].
مناقشة هذا الدليل: يناقش بأنه قياس مع الفارق، فليس كل ما يشترط للصلاة يشترط للخطبة، ومن ذلك الطهارة، وستر العورة - كما سيأتي إن شاء الله تعالى -.
دليل أصحاب القول الثاني:
أن خطة الجمعة أذكار، وأمر بمعروف، ونهي عن المنكر، ودعاء، وقراءة، ولا تشترط النية في شيء من ذلك، لأنه ممتاز بصورته منصرف إلى الله - تعالى - بحقيقته، فلا يفتقر إلى نية تصرفه إليه [8].
مناقشة هذا الدليل: يناقش بأن هذه الأشياء وإن كانت لا تشترط النية لكل منها بانفراده إلا أنها تكون بمجموعها عبادة متكاملة، وهي خطبة الجمعة، فتشترط لها النية، كالصلاة مثلاً فإنها أقوال وأفعال تكون بمجموعها عبادة، وأما القول بأنه ممتاز بصورته منصرف إلى الله بحقيقته فلا يحتاج إلى نية، فإنه لو قيل به لسرى في بقيه العبادات، وهذا لا قائل به.
الترجيح:(/1)
الراجح في هذه المسألة - والله أعلم بالصواب - هو القول الأول، القائل باشتراط النية لخطبة الجمعة؛ لما استدلوا به من عموم حديث عمر – رضي الله عنه.
---
[1] ينظر فتح العزيز من المجموع 4/595 ، ومغني المحتاج 1/288.
[2] ينظر: الفروع 2/113 ، والإنصاف 2/389 ، والمبدع 2/159 ، وكشاف القناع 2/33.
[3] ينظر مغني المحتاج 1/288.
[4] البخاري بدء الوحي (1) ، مسلم الإمارة (1907) ، الترمذي فضائل الجهاد (1647) ، النسائي الطهارة (75) ، أبو داود الطلاق (2201) ، ابن ماجه الزهد (4227) ، أحمد (1/43).
[5] أخرجه البخاري في صحيحه - باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله. 1/2 ، وفي كتاب العتق - باب الخطأ والنسيان في العتاقة والطلاق ونحوه 3/119 ، وفي كتاب الأيمان - باب النية في الأيمان 7/231 ، ومسلم في صحيحه في كتاب الإمارة باب قوله "إنما الأعمال بالنيات" 3/1515 - 1516 .
[6] وممن صرح بالاستدلال به على هذه المسألة البهوتي في كشاف القناع 2/33.
[7] مغني المحتاج 1/288.
[8] المرجع السابق.(/2)
العنوان: من شروط الخطبة: أن تكون بعد دخول وقت الجمعة
رقم المقالة: 1329
صاحب المقالة: د. عبدالعزيز بن محمد بن عبدالله الحجيلان
-----------------------------------------
ذهب أصحاب المذاهب الأربعة إلى أنه يشترط في خطبة الجمعة، أن تكون بعد دخول وقت صلاة الجمعة، فإن وقعت أو جزء منها قبله لم تجزئ.
فقد قال بذلك الحنفية [1]، والمالكية [2] ، والشافعية [3] ، والحنابلة [4].
وقال به ابن حزم [5] ، أيضًا.
وبناء على ذلك لابد من تفصيل القول في أول وقت صلاة الجمعة، وخلاف الفقهاء فيه؛ حتى يتبين المراد.
وقد اختلف الفقهاء في ذلك على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنه يبدأ بعد زوال الشمس؛ كوقت الظهر.
وبهذا قال الحنفية [6] والمالكية [7] والشافعية [8] والإمام أحمد في رواية عنه [9] وابن حزم [10].
القول الثاني: إنه يبدأ من ارتفاع الشمس قيد رُمْح.
وبهذا قال الإمام أحمد في الرواية المشهورة عنه، وهي المذهب عند أصحابه، وعليها أكثرهم [11].
القول الثالث: أنه يبدأ في الساعة السادسة قبل الزوال؛ أي في الجزء السادس من الزمن الواقع بين طلوع الشمس إلى الزوال.
وبهذا قال الإمام أحمد في رواية عنه، واختارها بعض أصحابه [12].
الأدلة:
أدلة أصحاب القول الأول:
استدلوا بأدلة من السنة، وآثار الصحابة، والمعقول:
أولاً: من السنة:
ما رواه أنس [13] بن مالك - رضي الله عنه –: "أن النبي – صلى الله عليه وسلم - كان يصلي الجمعة حين - تميل الشمس". [14] [15].
ما رواه سلمة [16] بن الأكوع – رضي الله عنه - قال: "كنا نجمع مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم - نصلي الليل إذا زالت الشمس)) [17] [18].
وكل من الحديثين واضح الدلالة.
ما روته عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كان الناس مهنة أنفسهم [19] وكانوا إذا راحوا إلى الجمعة راحوا في هيئتهم، فقيل لهم: لو اغتسلتم" [20].(/1)
وجه الدلالة: أن المقصود بالرواح في الحديث ما بعد الزوال، ودليل ذلك أنهم كان يصيبهم العرق والغبار ونحوهما، وذلك بعد اشتداد الحر في وقت مجيئهم من العَوَالي [21] [22] وذلك لا يكون إلا بعد الزوال.
ما رواه جابر [23] بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: " كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم - إذا زالت الشمس صلى الجمعة، فنرجع وما نجد فيئًا [24] نستظل به "[25]. وهذا الحديث واضح الدلالة.
مناقشة هذا الدليل: يناقش بأنه ضعيف؛ كما في تخريجه.
ثانيا: من آثار الصحابة:
ما رُوِي أن أبا بكر - رضي الله عنه - كان يصلي إذا زالت الشمس [26].
ما رُوِي أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كان يصلي الجمعة إذا زالت الشمس [27].
ما رُوِي أن علي بن أبي طالب- رضي الله عنه - كان يصلي الجمعة بعد ما تزول الشمس [28].
ما رُوِي عن النعمان [29] بن بشير - رضي الله عنه - أنه كان يصلي الجمعة بعدما تزول الشمس [30].
ما روي أن عمرو [31] بن حريث - رضي الله عنه - كان يصلي الجمعة إذا زالت الشمس [32].
ثالثا: من المعقول:
أن صلاة الجمعة بدل عن صلاة الظهر، والبدل له حكم المبدل [33].
أدلة أصحاب القول الثاني:
استدلوا بأدلة من السنة، وآثار الصحابة.
أولاً: من السنة:
ما رواه سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه - قال: "كنا نصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم ننصرف وليس للحيطان ظل يستظل به" [34] [35].
وجه الدلالة: أن الحديث دل على أن صلاتهم كانت قبل الزوال؛ لأنها لو كانت بعده لما انصرفوا إلا وللحيطان ظل؛ يستظل به [36].
مناقشة هذا الدليل: نوقش بأنه دليل على أن صلاتهم بعد الزوال؛ لأن النفي للظل الذي يستظل به لا لأصل الظل، بدليل قوله: (ثم نرجع نتتبع الفيء) [37] فهذا صريح بوجود الفيء لكنه قليل؛ لأن حيطانهم قصيرة، وبلادهم متوسطة من الشمس، فلا يظهر الفيء الذي يستظل به إلا بعد الزوال بزمنٍ طويلٍ [38].(/2)
ما رواه جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي الجمعة، ثم نذهب إلى جمالنا فنريحها حين تزول الشمس" [39] [40].
وجه الدلالة: أن جابرًا - رضي الله عنه - ذكر أنهم يصلون الجمعة، ثم يذهبون إلى جمالهم فيريحونها عند الزوال، فدل على أنهم يصلون قبله [41].
مناقشة هذا الدليل: نُوقش من وجهين:
الوجه الأول: أن في الحديث إخبارًا بأن الصلاة والرواح كانا حين الزوال [42].
وأجيب عنه: بأنه - أي الحديث - يدل على أن إراحة الجمال فقط عند الزوال، وأما الصلاة فهي قبل ذلك بدليل قوله: (ثم نذهب إلى جمالنا...) [43].
ورُدَّ ذلك: بأن المراد بقوله: (حين الزوال) الزوال وما يدانيه، كما في قوله - صلى الله عليه وسلم -: {صلى بي العصر حين صار ظل كل شيء مثله} [44] [45].
الوجه الثاني: أن ذلك محمول على شدة المبالغة في التبكير بعد الزوال [46] بدليل ما سبق من أدلة القول الأول.
ما رواه سهل [47] بن سعد - رضي الله عنه - قال: "ما كنَّا نقيل ولا نتغدَّى إلى بعد الجمعة على عهد رسول الله، صلى الله عليه وسلم". [48] [49].
وجه الدلالة: أن الغداء والقيلولة محلهما قبل الزوال، والحديث يدل على أنهم كانوا يصلون الجمعة قبلهما [50].
مناقشة هذا الدليل: نُوقِشَ بأنهم كانوا يُؤَخِّرُون القيلولة، والغداء في هذا اليوم إلى ما بعد الصلاة؛ لأنهم نُدِبوا إلى التبكير، فلو اشتغلوا بذلك خافوا التبكير أو الصلاة [51].
هذه أبرز أدلتهم من السنة.
ثانيا: من آثار الصحابة، رضي الله عنهم.
ما رواه عبد الله [52] بن سيدان قال: " شهدت الجمعة مع أبي بكر فكانت صلاته وخطبته قبل نصف النهار، ثم شهدتها مع عمر فكانت صلاته وخطبته إلى أن أقول: انتصف النهار، ثم شهدتها مع عثمان فكانت صلاته وخطبته إلى أن أقول: زال النهار، فما رأيت أحدًا عاب ذلك، ولا أنكره [53].(/3)
ما رُوِيَ أن عبد الله [54] بن مسعود - رضي الله عنه - صلى الجمعة ضحى وقال: " خشيتُ عليكم الحر" [55].
ما رُوِيَ عن مُعَاوية [56] بن أبي سفيان - رضي الله عنه - أنه صلى الجمعة ضحى [57].
مناقشة هذه الآثار: تناقش بأنها ضعيفة الأسانيد؛ كما في تخريجها، فلا تصلح للاحتجاج.
دليل أصحاب القول الثالث:
استُدل له بما رواه أبو هريرة [58] - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة، ثم راح فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قَرّب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قَرّب كبشًا أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرَّب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قَرّب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر)) [59] [60].
وجه الدلالة: دل الحديث على أن أول وقت الجمعة من السادسة، إذ بانتهاء الخامسة يدخل الإمام، وهذا قبل الزوال؛ لأن الزوال لا يكون إلا بعد تمام السادسة.
مناقشة هذا الدليل: نوقش من وجهين:
الوجه الأول: أن الساعة الأولى جُعِلَتْ للتأهب بالاغتسال وغيره، فيكون المجيء من أول الثانية، فتكون أولى بالنسبة للمجيء وثانية بالنسبة للنهار، وعلى هذا يكون آخر الخامسة أول الزوال [61].
وأجيب: بأن هذا مخالف لظاهر الحديث، ولا دليل عليه.
الوجه الثاني: أن الساعات ست، بدليل ما جاء في رواية ((أن في الرابعة بطة، وفي الخامسة دجاجة، وفي السادسة بيضة))، وفي رواية أخرى ((أن في الرابعة دجاجة، وفي الخامسة عصفورًا، وفي السادسة بيضة)) [62].
وأجيب: بأنهما شاذتان؛ لمخالفتهما سائر الروايات في الصحيحين وغيرهما [63].
الترجيح:(/4)
الذي يظهر رجحانه في هذه المسألة - والله أعلم بالصواب - هو القول الأول؛ لقوة أدلتهم، وضعف أدلة المخالفين من حيث الدلالة، وبعضها من حيث الثبوت أيضًا، ولأنه أحوط، خاصة بالنسبة للنساء فإنهن قد يصلين عند سماع الأذان، فتكون صلاتهن قبل دخول وقت الظهر، لكن إن فُعِلت في بعض الأحيان في الساعة الخامسة أو السادسة فلا بأس، وخاصة عند الحاجة لما استدل به أصحاب القول الثالث.
فبناءً على ذلك لا تجزئ الخطبة عند الحنفية، والمالكية، والشافعية، والإمام أحمد في رواية، وابن حزم إلا بعد الزوال، فإن خطب قبله أو ابتدأ الخطبة لم تجزئ ولو كانت الصلاة بعده، وتجزئ على المشهور عند الحنابلة، ولو كانت في أول النهار بعد ارتفاع الشمس قيد رمح، وتجزئ على الرواية الثالثة عن الإمام أحمد إذا كانت في آخر الضحى في الساعة السادسة، وقد ذكرتُ الراجح في ذلك، والله أعلم.
---
[1] ينظر: "بدائع الصنائع" 1/262 ، و"الهداية للمرغيناني" 1/83 ، و"مجمع الأنهر" 1/166 ، و"الفتاوي الهندية" 1/146.
[2] ينظر: "الفواكه الدواني" 1/305 - 306 ، و"الشرح الكبير" للدردير 1/372 ، و"الشرح الصغير" له 1/178.
[3] ينظر: "الوجيز" 1/64 ، و"المجموع" 4/514 ، 522 ، و"روضة الطالبين" 2/62 ، و"مغني المحتاج" 1/278.
[4] ينظر: "شرح الزركشي" 2/180 ، و"الفرع" 2/109 ، و"الإنصاف" 2/387 ، و"المبدع" 2/157 ، و"كشاف القناع" 2/31.
[5] ينظر: "المحلى" 5/85.
[6] ينظر: "المبسوط" 2/42 ، و"تبيين الحقائق" 1/219 ، و"الفتاوى الهندية" 1/146.
[7] ينظر: "الإشراف" 1/134 ، و"الكافي" لابن عبد البر 1/250 ، و"الفواكه الدواني" 1/305.
[8] ينظر: "الأم" 1/223 ، و"حلية العلماء" 2/272 ، و"روضة الطالبين" 2/3 ، و"المجموع" 4/509 ، 511.
[9] ينظر: "الفروع" 2/96 ، و"الإنصاف" 2/376 ، و"المبدع" 2/147.
[10] ينظر: "المحلى" 5/65.(/5)
[11] ينظر: "الهداية" لأبي خطاب 1/52 ، و"المغني" 3/239 ، و"المحرر" 1/143 ، و"الفروع" 2/96 ، و"الإنصاف" 2/375 ، و"المبدع" 2/147.
[12] ينظر: "الفروع" 2/96 ، و"الإنصاف" 2/375 ، و"المبدع" 2/148.
[13] هو أنس بن مالك بن النضر بن ضمضم الخزرجي، الأنصاري، النجاري، يُكَنَّى بأبي حمزة، خادم رسول الله، ومن المكثرين من الرواية عنه، نزل البصرة، وتُوفِّيَ فيها سنة 91، وقيل: 92 هـ. (ينظر: "أسد الغابة" 1/127 ، و"الإصابة" 1/71).
[14] "البخاري" الجمعة (862) ، "الترمذي" الجمعة (503) ، "أبو داود" الصلاة (1084) ، "أحمد" (3/228).
[15] أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الجمعة - باب وقت الجمعة إذا زالت الشمس 1/217.
[16] هو سلمة بن الأكوع ، واسم الأكوع: سنان بن عبد الله الأسلمي، يُكَنَّى بأبي مسلم، كان ممن يبايع تحت الشجرة، سكن المدينة ثم انتقل إلى الربذة، وغزا مع الرسول سبع غزوات، وتوفي سنة 64، وقيل: 74 هـ. (ينظر: "أُسْد الغابة" 2/333 ، و"الإصابة" 3/118).
[17] "البخاري" المغازي (3935)، "مسلم" الجمعة (860)، "النسائي" الجمعة (1391)، "أبو داود" الصلاة (1085)، "ابن ماجه" إقامة الصلاة، والسنة فيها (1100)، "أحمد" (4/46)، "الدارمي" الصلاة (1546).
[18] أخرجه بهذا اللفظ مسلم في صحيحه في كتاب الجمعة - باب صلاة الجمعة حين تزول الشمس 2/589 ، حديث رقم (860).
[19] يعني خدم أنفسهم. (يُنْظر: "النهاية" ، مادة " مهن " ، و"فتح الباري" 2/388).
[20] أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الجمعة - باب وقت الجمعة إذا زالت الشمس 1/217 ، معلقا بصيغة الجزم.
[21] العوالي أماكن بأعلى أراضي المدينة، والنسب إليها عَلَوِيّ، على غير قياس، وأدناها على أربعة أميال من المدينة، وأبعدها من جهة نجد ثمانية. (ينظر: "النهاية في غريب الحديث والأثر"، مادة " علا " 3/295).
[22] ينظر: "فتح الباري" 2/387.(/6)
[23] هو جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري، يُكَنَّى بأبي عبد الله ، وقيل بأبي عبد الرحمن، شهد العقبة الثانية مع أبيه وهو صبي، قيل: شهد بدرًا وأحدًا، وقيل: لا، وشهد ما بعدهما، وتوفي سنة 74 هـ، وقيل: 77 هـ بالمدينة. (ينظر: "أسد الغابة" 1/256 ، و"الإصابة" 1/212).
[24] قال الفيومي: " فاء الظل يفيء فيئًا: رجع من جانب المغرب إلى جانب المشرق ". (ينظر: "المصباح المنير" 2/486).
[25] ذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 2/184، وعزاه للطبراني في "الأوسط"، وقال: " في إسناده يحيى بن سليمان ضعفه ابن خراش ".
[26] ذكره ابن حجر في "فتح الباري" 2/387، وعزاه لابن أبي شيبة، ولم أعثر عليه في مصنفه - حسب اطلاعي - وقال - أي ابن حجر -: " إسناده قوي ".
[27] أخرجه البخاري في صحيحه معلقًا بصيغة التمريض في كتاب الجمعة - باب وقت الجمعة إذا زالت الشمس 1/217.
[28] أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" في كتاب الصلوات - باب من كان يقول: وقتها زوال الشمس 2/108 ، وقال ابن حجر في "الفتح" 2/387: " إسناده صحيح ".
[29] هو النعمان بن بشير بن سعد بن ثعلبة الأنصاري ، الخزرجي ، قيل: إنه أول مولود في الإسلام من الأنصار، ولم يصحح أكثر أهل العلم بالحديث سماعه من النبي، وصححه ابن عبد البر ، كان أميرًا لمعاوية على الكوفة، وتوفي سنة 64 هـ. (ينظر: "الاستيعاب" 3/550 ، و"الإصابة" 3/559).
[30] أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" في الكتاب، والباب السابقين 2/108، وقال ابن حجر في "فتح الباري" 2/387: " إسناده صحيح ".
[31] هو عمرو بن حريث بن عمرو بن عثمان بن عبد الله القرشي، المخزومي، يكنى بأبي سعيد، الكوفي، صحابي صغير، توفي النبي وهو ابن اثنتي عشرة سنة، وتولى إمرة الكوفة وتوفي سنة 85 هـ. (ينظر: "الإصابة" 4/292 ، "أسد الغابة" 4/98).(/7)
[32] أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه في الكتاب، والباب السابقين 2/108، وقال ابن حجر في "الفتح" 2/387: " إسناده صحيح ".
[33] ينظر: "منهاج الطالبين" 1/116 ، و"حاشية قليوبي" 1/116.
[34] "البخاري" المغازي (3935)، "مسلم" الجمعة (860)، "النسائي" الجمعة (1391)، "أبو داود" الصلاة (1085)، "ابن ماجه" إقامة الصلاة، والسنة فيها (1100)، "أحمد" (4/46)، "الدارمي" الصلاة (1546).
[35] أخرجه البخاري بهذا اللفظ في صحيحه في "كتاب المغازي" - باب غزوة الحديبية 5/65، و"مسلم" في صحيحه في كتاب الجمعة - باب صلاة الجمعة حيت تزول الشمس 2/589 ، حديث رقم (860).
[36] ينظر: "نيل الأوطار" 3/361.
[37] أخرجها مسلم في صحيحه في الكتاب والباب السابقين 2/589.
[38] ينظر: "المجموع" 4/512.
[39] مسلم الجمعة (858)، النسائي الجمعة (1390)، أحمد (3/331).
[40] أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الجمعة - باب صلاة الجمعة حين تزول الشمس 2/588، الحديث رقم (858).
[41] ينظر: "نيل الأوطار" 3/261.
[42] ينظر: "المجموع" 4/512.
[43] المرجع السابق.
[44] الترمذي الصلاة (149)، أبو داود الصلاة (393)، أحمد (1/333).
[45] هذا جزء من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - في إمامة جبريل للنبي، والذي أخرجه الإمام أحمد في مسنده 1/333، وأبو داود في سننه في كتاب الصلاة - باب ما جاء في المواقيت 1/107، الحديث رقم (393)، والترمذي في سننه في أبواب الصلاة - باب ما جاء في المواقيت عن النبي 1/100، الحديث (149)، وقال: " حسن صحيح " ، كما صححه النووي في "المجموع" 3/23 وغيره.
[46] ينظر: "شرح النووي" على مسلم 6/149.
[47] هو سهل بن سعد بن مالك بن خالد الأنصاري، الساعدي، يكنى بأبي العباس، قيل: كان اسمه حزنا فسماه النبي سهلاً، وكان عمره حين توفي النبي خمس عشرة سنة، وعاش حتى أدرك الحجاج، وتوفي سنة 88 هـ، وقيل: 91 هـ. (ينظر: "أسد الغابة" 2/366 ، و"الإصابة" 3/140).(/8)
[48] البخاري الجمعة (897)، مسلم الجمعة (859)، الترمذي الجمعة (525)، ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1099).
[49] أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الجمعة - باب {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ} 1/225 ، ومسلم في صحيحه في كتاب الجمعة - باب الجمعة حين تزول الشمس 1/588 ، الحديث رقم (859).
[50] ينظر: "الشرح الكبير" لابن قدامة 1/466.
[51] ينظر: "شرح النووي" على مسلم 6/149.
[52] هو عبد الله بن سيدان السلمي المطرود، الرقي، مولى بني سليم، قال عنه البخاري: لا يتابع على حديثه ، وقال اللالكائي: مجهول لا حجة فيه. (ينظر: "الجرح والتعديل" 5/68، و"طبقات" ابن سعد 7/438 ، و"ميزان الاعتدال" 2/437).
[53] أخرجه ابن أبي شيبة في كتاب الصلوات - باب من كان يقيل بعد الجمعة، ويقول هي أول النهار 2/107، وعبد الرزاق في كتاب الجمعة - باب وقت الجمعة 3/175 دون ذكر لفعل عثمان، الدارقطني في كتاب الجمعة - باب صلاة الجمعة قبل نصف النهار 2/17، وقال العظيم آبادي في "التعليق المغني" عليه بهامشه: " الحديث رواته ثقات إلا عبد الله بن سيدان فَمُتَكَلَّمٌ فيه ". قال النووي في "المجموع" 4/512 عن هذا الحديث: " ضعيف باتفاقهم ، لأن ابن سيدان ضعيف عندهم " ، كما ضعفه الألباني في "إرواء الغليل" 3/61.
[54] هو عبد الله بن مسعود بن غافل بن حبيب الهذلي، يكنى بأبي عبد الرحمن، أسلم قديمًا ، وشهد المشاهد كلها، ولازم النبي وروى عنه كثيرًا، وتوفي سنة 32 هـ. (ينظر: "أسد الغابة" 3/256 ، و"الإصابة" 4/129).
[55] أخرجه ابن أبي شيبة في كتاب الصلوات - باب من كان يقيل بعد الجمعة 2/107، وقال ابن حجر في "الفتح" 2/387: " عبد الله بن سلمة صدوق إلا أنه ممن تغير لما كبر". وينظر أيضا "تقريب التهذيب" 2/420.(/9)
[56] هو مُعَاوية بن صخر بن حرب بن أمية القرشي، الأموي، يكنى بأبي عبد الرحمن، أسلم في فتح مكة، وولاه عمر على الشام بعد وفاة أخيه يزيد، ثم أقره عثمان، ثم انفرد بها في خلافة علي، ثم تولى الخلافة بعد تنازل الحسن، ولم يزل خليفة حتى توفي سنة 59، وقيل: 60 هـ. (ينظر:" أسد الغابة" 4/385 ، و"الإصابة" 6/112).
[57] أخرج ابن أبي شيبة في الكتاب والباب السابقين 2/107، وقال ابن حجر في "الفتح" 2/387: " سعيد بن سويد ذكره ابن عَدِيّ في الضعفاء "، وقال الذهبي في "ميزان الاعتدال" 2/145: " قال البخاري: لا يُتابع في حديثه ".
[58] اختُلف في اسمه ، وقد صحح النووي في كتابه " تهذيب الأسماء واللغات " أن اسمه: عبد الرحمن بن صخر الدوسي، وكُني بأبي هريرة، واشتهر بذلك؛ لأنه كان يحمل هرة معه، لَزِمَ النبي وأكثر من الرواية عنه، وولي إمرة المدينة، ثم البحرين، وتوفي سنة 57 هـ. (ينظر: "الإصابة" 7/199 ، و"تهذيب الأسماء واللغات" 2/270).
[59] البخاري الجمعة (841)، مسلم الجمعة (850)، الترمذي الجمعة (499)، النسائي الجمعة (1388)، أبو داود الطهارة (351)، ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1092)، أحمد (2/460)، مالك النداء للصلاة (227)، الدارمي الصلاة (1543).
[60] أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الجمعة - باب فضل الجمعة 1/212 - 213، ومسلم في صحيحه في كتاب الجمعة - باب الطيب والسواك يوم الجمعة 2/582، الحديث رقم (850).
[61] ينظر: "فتح الباري" 2/368.
[62] أحرجهما النسائي في سننه في كتاب الجمعة - باب التبكير إلى الجمعة 1/100، وقال النووي في "المجموع" 4/539: " وإسناد الروايتين صحيحان ".
[63] ينظر: "المجموع" 4/539.(/10)
العنوان: من شروط خطبة الجمعة: حضور العدد الذي تنعقد به الجمعة
رقم المقالة: 1308
صاحب المقالة: د. عبدالعزيز بن محمد بن عبدالله الحجيلان
-----------------------------------------
وفيه تمهيد، ومطلبان
التمهيد: في أقوال الفقهاء في العدد الذي تنعقد به الجمعة إجمالاً.
المطلب الأول: اشتراط حضور العدد الذي تنعقد به الجمعة للخطبة.
المطلب الثاني: استمرار الحضور حتى نهاية الخطبة.
التمهيد
أقوال الفقهاء في العدد الذي تنعقد به الجمعة إجمالاً
الكلام على شرط حضور العدد، الذي تنعقد به الجمعة للخطبة، يتطلب التمهيد له بأقوال الفقهاء في أقل عدد، تنعقد به الجمعة على سبيل الإجمال.
وقد اختلفوا في ذلك - بعد إجماعهم على اشتراط الجماعة لها[1] - على أقوال أهمها ثلاثة، وهي:
الأول: أنها تنعقد بثلاثة، وهذا هو قول الحنفية[2] وهو رواية عن الإمام أحمد[3] واختارها شيخ الإسلام ابن تيمية[4] [5].
الثاني: أنها لا تنعقد إلا بأربعين، وهذا هو قول الشافعية[6] وهو الرواية المشهورة عن الإمام أحمد، والمذهب عند أصحابه، وعليه أكثرهم[7]. الثالث: أنها لا تنعقد إلا بعدد تتقرَّى بهم القرية، ولا تنعقد بالثلاثة والأربعة ونحوهم، وهو المشهور عند المالكية[8].
وليست هذه المسألة مقصودة بالبحث، فلا أرى الإطالة بتفصيل الأدلة والمناقشات فيها، والأظهر - حسب ما تبين لي - هو القول الأول، والله أعلم.
المطلب الأول
اشتراط حضور العدد الذي تنعقد به الجمعة للخطبة
اختلف الفقهاء في اشتراط حضور العدد، الذي تنعقد به الجمعة للخطبة، وذلك على قولين:
القول الأول: يشترط حضور العدد الذي تنعقد به الجمعة للخطبة.
وبهذا قال المالكية[9] والشافعية[10] والحنابلة[11].
القول الثاني: لا يشترط حضور العدد الذي تنعقد به الجمعة للخطبة.
وهذا القول منسوب إلى الإمام أبي حنيفة[12].
الأدلة:
أدلة أصحاب القول الأول:
استدلوا بأدلة من السنة، والمعقول:
أولاً: من السنة:(/1)
ما رواه مالك بن الحويرث – رضي الله عنه - أن النبي – صلى الله عليه وسلم - قال: ((صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي))[13] [14].
وجه الدلالة: أن النبي – صلى الله عليه وسلم - أمر بالصلاة كما صلى، ولم يخطب وحده، وإنما خطب بحضرة العدد الذين تنعقد بهم الجمعة[15].
مناقشة هذا الدليل: يناقش من وجهين:
الأول: أن هذا استدلال بالفعل، والفعل المجرد لا يدل على الوجوب.
الثاني: أن هذا الدليل - على تقدير القول بأنه يدل على الوجوب - لا يقتضي اكتمال العدد الذي تنعقد به الجمعة، وإنما يتحقق بحضور عدد يستمع الخطبة.
ثانيا: من المعقول:
1- أن الغرض من خطبة الجمعة الوعظ والتذكير، وذلك ينافي كون الخطيب وحده[16].
مناقشة هذا الدليل: يناقش بالوجه الثاني من وجهي مناقشة الدليل السابق، من أن ذلك لا يتطلب اكتمال العدد الذي تنعقد به الجمعة، فيتحقق غرض الوعظ والتذكير بحضور أيّ عدد.
2- أن الخطبة ذكر جُعل شرطًا في صحة الجمعة وانعقادها، فوجب أن يكون من شرطه اجتماع العدد، كتكبيرة الإحرام[17].
مناقشة هذا الدليل: يناقش من وجهين:
الأول: أن اعتبار الخطبة شرطًا في صحة الجمعة محل خلاف بين الفقهاء، فمنهم من لا يعتبرها شرطًا - كما تقدم - فلا يلزمه هذا الدليل.
الثاني: أنه قياس مع الفارق، فإن تكبيرة الإحرام جزء من الصلاة، وقد ثبت اشتراط العدد فيها - أي الصلاة - بأدلة خاصة، بخلاف الخطبة فليست جزءًا من الصلاة، والله أعلم.
دليل صاحب القول الثاني:
أن الخطبة ذكر يتقدم الصلاة، فلم يشترط له العدد، كالأذان[18].
مناقشة هذا الدليل: نوقش بأنه قياس مع الفارق؛ لأن الأذان ليس بشرط، وإنما مقصوده الإعلام، والإعلام للغائبين، والخطبة مقصودها التذكير والموعظة، وذلك يكون للحاضرين، كما أنها مشتقة من الخطاب، والخطاب إنما يكون للحاضرين[19].
الترجيح:(/2)
بعد التأمل في أدلة القولين في المسألة اتضح أنها جميعًا محل للمناقشة كما هو مبين، ولكن الذي يظهر - والله أعلم بالصواب - هو أنه يجب أن يحضر الخطبة جماعة، يتحقق بهم مقصودها من الوعظ والتذكير، لكن لا يجب اكتمال العدد الذي تنعقد به الجمعة.
المطلب الثاني
استمرار حضور العدد حتى نهاية الخطبة
اختلف القائلون في المطلب السابق باشتراط حضور العدد للخطبة، هل يجب أن يكون الحضور لجميع الخطبة، أو يكفي حضور بعضها، فلو انفضوا أو بعضهم في أثنائها لم تصح؟ وذلك على قولين:
القول الأول: يشترط حضور القدر الواجب منها، فإن انفضوا في أثنائها، لم يعتد بالركن المفعول حال غيبتهم.
وبهذا قال الشافعية[20] والحنابلة[21].
على اختلاف بينهم في وجوب توافر أركان في الخطبتين جميعًا - كما سيأتي - إن شاء الله في المسألة المتعلقة بذلك، وما سيأتي من باقي الشروط.
القول الثاني: يشترط حضور جميع الخطبة.
وهذا هو الظاهر من قول المالكية؛ حيث أطلقوا القول باشتراط حضور العدد، الذي تنعقد به الجمعة للخطبة[22].
ولم أطلع على أدلة صريحة لأصحاب القولين، ولعل أصحاب القول الأول يستدلون بأن القدر الواجب من الخطبة - وهي شروطها - هي التي لا تصح إلا بها، فلو أخلّ الخطيب بشيء منها لم تصح، فيكون استماع العدد الذي تنعقد به الجمعة إليها واجبًا؛ ليتحقق المقصود من هذا الواجب، وهو الاستماع للتذكر والاتعاظ.
وأما القول الثاني فلم يتبين لي الوجه فيه.
وأما الترجيح فإن القول باشتراط حضور العدد للقدر الواجب من الخطبة هو الأظهر، ولكن لا يلزم اكتمال العدد الذي تنعقد به الجمعة -كما تقدم في المطلب السابق- والله تعالى أعلم بالصواب.
---
[1] وممن نقل هذا الإجماع: النووي في "المجموع" 4/504، 508، وابن حجر في "فتح الباري"2/308، والشوكاني في "نيل الأوطار" 3/226، 230.(/3)
[2] على خلاف بينهم هل يعتبر الإمام منهم؟ فقال أبو حنيفة ومحمد: ثلاثة سوى الإمام، وقال أبو يوسف: اثنان سوى الإمام، ينظر: "مختصر الطحاوي" ص (35)، و"بدائع الصنائع" 2/268، و"الهداية" للمرغيناني 1/83.
[3] وهناك روايات أخرى عن الإمام أحمد، حيث بلغت الروايات عنه في هذه المسألة سبع روايات، ينظر: "الفروع" 2/99، و"الإنصاف" 2/378، و"المبدع" 2/152.
[4] هو شيخ الإسلام أحمد بن عبدالحليم بن عبدالسلام بن عبدالله الحراني، ثم الدمشقي، تقي الدين، أبو العباس، قدم مع والده من حران إلى دمشق في صغره، وأخذ عنه وعن غيره من علمائها، وبرع في مختلف العلوم، وامتحن وأوذي وحبس عدة مرات، وصنف مصنفات كثيرة وجليلة منها: "منهاج السنة"، و"السياسية الشرعية"، وتوفي سنة 728 هـ (ينظر: "ذيل طبقات الحنابلة" لابن رجب 2/387، و"المقصد الأرشد" 1/132).
[5] "الاختيارات" ص (79).
[6] ينظر: "الأم" 1/190، و"المجموع" 4/502، و"روضة الطالبين" 2/7.
[7] ينظر: "المغني" 2/204، و"الفروع" 2/99، و"المحرر" 1/142، و"الإنصاف" 2/378.
[8] ينظر: "بداية المجتهد" 1/158، و"الكافي" لابن عبدالبر 1/149، و"القوانين الفقهية" ص (85).
[9] ينظر: "الإشراف" 1/134، و"مواهب الجليل" 2/165 - 166، و"الفواكه الدواني" 1/306.
[10] ينظر: "الوجيز" 1/62، و"المجموع" 4/507، و"روضة الطالبين" 2/27، و"مغني المحتاج" 1/283، 287.
[11] ينظر: "الهداية" لأبي الخطاب 1/52، و"المغني" 3/210، و"الفروع" 2/111، و"المحرر" 1/148، و"الإنصاف" 2/390.
[12] لم أطلع على قول للحنفية فيما بين يدي من كتبهم، وقد نسب هذا القول لأبي حنيفة القاضي عبدالوهاب في "الإشراف" 1/134، وابن قدامة في "المغني" 3/210 رواية.
[13] البخاري الأذان (605)، مسلم المساجد ومواضع الصلاة (674)، الترمذي الصلاة (205)، النسائي الأذان (635)، ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (979)، أحمد (5/53)، الدارمي الصلاة (1253).(/4)
[14] تقدم تخريجه ص (32).
[15] ينظر: "الإشراف" 1/134، و"مواهب الجليل" 2/166.
[16] ينظر: المرجعان السابقان.
[17] ينظر: "الإشراف" 1/134، و"المغني" 3/210، و"البدع" 2/159، و"كشاف القناع" 2/34.
[18] ينظر: "المغني" 3/210.
[19] ينظر المرجع السابق.
[20] ينظر: "المجموع" 4/507، و"روضة الطالبين" 2/7 - 8، و"مغني المحتاج" 1/283.
[21] ينظر: "المغني" 3/210، و"الفروع" 2/111، و"الإنصاف" 2/390، و"كشاف القناع" 2/34.
[22] ينظر: "الإشراف" 1/134، و"مواهب الجليل" 2/165.(/5)
العنوان: من شمائل المصطفى صلَّى الله عليه وسلَّم
رقم المقالة: 2009
صاحب المقالة: الشيخ أحمد فريد
-----------------------------------------
من شمائل المصطفى صلَّى الله عليه وسلَّم
ملخَّص الخطبة:
1- الأمر بالتأسِّي بالنبيِّ – صلَّى الله عليه وسلَّم.
2- جمال خِلْقَتِه.
3- نَسَبُه وبلاده.
4- الضرورات الخمس التي بُعِثَ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم - لصيانتها.
5- عفو النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم - عمَّن أساء إليه.
6- تواضعه - صلَّى الله عليه وسلَّم.
-------------------------
الخطبة الأولى
اعلموا - عباد الله - أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان أكمل النَّاس خلالاً، وأفضلهم حالاً، وأفصحهم مقالاً، وقد امتنَّ الله - عزَّ وجلَّ - علينا ببَعْثَتِه؛ فقال - عزَّ وجلَّ -: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]، وزكَّاه الله - عزَّ وجلَّ -: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4].
ثم أمرنا الله - عزَّ وجلَّ - بالاقتداء به عليه الصَّلاة والسَّلام، والاهتداء بهَدْيه، والتخلُّق بأخلاقه؛ فقال عزَّ وجلَّ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب :21].
أمَّا كمالُ خِلْقَتِه وجمالُ صورته:(/1)
فشيءٌ معلومٌ لا يُجهَل، معروفٌ لا يُنكَر؛ فقد كان أَزْهَر اللَّوْن، أبيض، مستنير، مشوب بحُمْرَة، واسع الجبين، أَدْعَج العينَيْن - الدَّعَجُ: شدَّة سواد العينَيْن، مع سَعَتِهما - وقيل: أَكْحَل، أهدب الأشْفَار[1]، مفلَّج الأسنان، كثّ اللِّحية تملأ صدرَه، عظيم المَنْكِبَيْن، رَحْب الكفَّيْن والقدمَيْن، ليس بالطَّويل البائن، ولا بالقصير المتردِّد، رَجْل الشَّعْر[2]، إذا تكلَّم رؤيَ كالنُّور يخرج من ثناياه.
روى البخاريُّ – رحمه الله - عن البَرَاء بن عازِب – رضيَ الله عنه - أنه سئل: أكان رسول الله مثل السَّيْف؟ قال: "لا؛ بل مثل القمر"[3].
وروى يعقوب بن سفيان، عن محمد بن عمَّار بن ياسر قال: قلتُ للرُّبَيِّع بنت مُعَوِّذ: "صِفِي لي رسولَ الله". قالت: "يا بنيَّ، لو رأيتَه رأيتَ الشَّمسَ طالعةً".
وثَبَتَ في "الصَّحيحَيْن" عن أنسٍ – رضيَ الله عنه - أنَّ رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم - كان يضرب شعره إلى مِنْكَبَيْه[4].
قال ناعِتُهُ: "ما رأيتُ أحدًا في حُلَّةٍ حمراءَ مرجَّلاً أحسنَ منه، كأنَّ الشَّمس تجري في وجهه، وإذا ضحك يتلألأ في الجدِّ، وأجمل النَّاس من بعيد، وأحسنه من قريب، مَنْ رآه بديهةً هابَهُ، ومَنْ خالَطَهُ معرفةً أحبَّهُ".
قال ناعِتُهُ: "لم أَرَ قبله ولا بعده، طيِّبُ الرَّائحة والعَرَق، ولقد كان يُعرَفُ برائحته وإنْ لم يُرَ، ولقد كان يضع يده على رأس الطِّفل - رحمةً له - فكانت تُشَمُّ عليه رائحةً طيِّبةً".
وأمَّا فصاحة لِسانه:
فقد أطلَّ من الفصاحة على كلِّ نهاية، وبَلَغَ من البلاغة كلَّ غاية، فقد أوتيَ جوامعَ الكَلِم وبدائع الحكم؛ فلقد كان يُخاطِب كلَّ حيٍّ من أحياء العرب بلُغتهم، مع أنَّه إنَّما نشأ على لغة بني سعدٍ وقريش، وكان يعرفُ لغاتِ غيرهم، حتى كانوا يتعجَّبون منه ويقولون: ما رأينا بالذي هو أفصحُ منكَ".
وأمَّا نَسَبُهُ:(/2)
فمعلومٌ لا يُجهَل، ومشهودٌ لا يُنكَر، جدُّه الأعلى إبراهيم، والأقرب عبد المطَّلِب، كابرًا عن كابرٍ، وشريفًا عن شريفٍ؛ فهم بين أنبياء فضلاء، وبين شرفاء وحكماء؛ فهو من خير قرون بني آدم. وذلك أنَّ الله اصطفى من ولد آدم إبراهيم، ومن ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من ولد إسماعيل بني كِنانة، واصطفى من بني كِنانة قريشًا، واصطفى من قريشٍ بني هاشم، واصطفاه من بني هاشم؛ فهو خيارٌ من خيارٍ من خيارٍ، وكذلك الرُّسل تُبْعَثُ في أشرف أنساب قومها؛ ليكون أَمْيَلَ لقلوب الخَلْق إليهم.
وأمَّا عِزَّةُ قومه:
فقد كانوا في جاهليَّتهم لم يَنَلْهُم سباءٌ، ولا ظَفَرَتْ بهم أعداءٌ، ولا دخلوا في أغلب أزمانهم تحت قهر غيرهم؛ بل كانوا قد حازوا الشَّرَف الباهِر والمَفاخِر والمآثِر، هم أوْفَرُ النَّاس عقولاً، وأقلُّهم فضولاً، وأفصحُ النَّاس مقالاً، وأكرمهم فِعالاً، الشُّجعان الكُرماء، والحُكَماء الأُدباء.
وأمَّا أرضه:
فناهيكَ عن أرضٍ أسَّس بقيَّتها إبراهيمُ الخليل، وأَمَرَه بأن يدعو النَّاس إليها المَلَكُ الجليل، وتولَّى عمارتها والمقامَ بها النبيُّ إسماعيل، وتوارثها الأشراف جيلاً بعد جيل، وكفى بلدته شرفًا: ما فعل الله بمَلِك الحبشة الذي جاء لهدمها، فلما قَرُبَ منها وعزم على هدمها ووجَّه فِيَلَهُ عليها؛ أرسل الله عليهم طيرًا أَبَابِيل.
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [سورة الفيل].
وأمَّا شريعته:(/3)
فانقسمت إلى أمورٍ تعبُّديَّة؛ مثل الصَّلاة والصَّوم والحَجّ، وأمورٍ مَصْلَحِيَّة؛ وهي التي يُعبَّر عنها بالقوانين التشريعيَّة، ويقضي العقلاء منها العَجَب، وقد أطل منها على أعلى المراتب والرُّتَب؛ فقد اعتبرَ أصولَ مصالح العالَم فأوجبها، واعتبرَ أصولَ مفاسد العالَم وحرَّمها.
وأصول المصالح إنما هي خمسةٌ:
المحافظة على صيانة الدِّماء في أُهُبِها، والأموال على ملاَّكها، والأنساب على أهليها والعقول على المتَّصِفين بها، والأديان التي بها حياة النفوس وزكاتها.
فأصول الشريعة وإن تعدَّدت صورها؛ فهي راجعةٌ إلى هذه الخمسة.
أمَّا الدِّماء: فحَقَنَها بأن شَرَعَ أنَّ مَنْ قَتَلَ يُقْتَل، ومَنْ جَرَحَ يُجْرَح، ومَنْ فَقَأَ عينَ إنسانٍ فُقِئَتْ عينُه. فإذا علم القاتل أنه يفعل به مثل ما فعل انكفَّ عن القتل؛ فحصلت حياة النُّفوس، وصيانة الدِّماء، ولأجل ذلك قال الله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:179].
وأمَّا الأموال: فصانها على ملاَّكها بأن شَرَعَ قَطْعَ يدِ السَّارق للنِّصاب، وقتل المُحارِب، وغُرْمُ مثلِ المُتْلَف أو المغصوب، إذا كان ممَّا له مِثْلَ، فإذا علم السَّارق والمحارِب أنهما يُعاقَبان بما يناسب جنايتهما ارتدعا وانكفَّا؛ فانْحَفَظَتِ الأموال.
وأما العقول: فحرَّم استعمال ما يؤدِّي إلى تَلَفِها وذهابها كالخمر، وذلك أنَّ مناطُ التَّكليف العقلَ، فإذا أذهبه الإنسان بالخمر - وما في معناه - فقد تعرَّض لإسقاط التَّكليف، وللكفر بالله تعالى؛ بل لكلِّ المفاسد.(/4)
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة:90-91].
وأمَّا حفظ الأنساب وصيانة اختلاط المياه في الأرحام: فشَرَعَ النِّكاح وحرَّم السِّفاح؛ ليَنْتَسِبَ كلُّ وَلَدٍ لوالِده، ويتميَّز الوليُّ عن مضادِّه، ولينْضاف كلٌّ إلى شِيعَتِه، ويتحقَّق نِسبَتُهُ بقبيلته، ولأجل هذا قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات: 13].
ولو لم يكن هذا؛ لارتفع التَّعارفُ ولم يُسْمَع، ولاتَّسع الخَرْقُ ولم يُرْقَع.
وأمَّا المحافظة على الأديان وصيانتها: فهو المقصود الأعظم، والمستَنَد الأعصم، فحرَّم الكفر والفسوق والعصيان، وأوجب الطَّاعات والإيمان، وأَوْجَبَ قتلَ المرتدِّ وتوعَّده بالعذاب الدَّائم والهوان.
ولا يخفى على مَنْ معه أدنى مسكة، إذا تأمَّل بأدنى فكرة، أنَّ الإيمان بالله رأسُ المصالح والخيرات، والكفر رأس المقابح والمهلِكات، ولأجل وجوب الإيمان وتحريم الكفران أرسل الله الرُّسل وأنزل الكتب، ولأجل ذلك قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 56-58].
وأما صبره وحِلْمُه:(/5)
فيكفيكَ من ذلك أنَّه كُسِرَتْ رباعيَّته يوم أُحُدٍ وشُجَّ وجهه؛ فشقَّ ذلك على أصحابه؛ فقالوا له: لو دعوتَ اللهَ عليهم! فقال: ((إنِّي لم أُبْعَث لعَّانًا، وإنَّما بُعِثْتُ رحمةً))[5]، ثم قال: ((اللَّهمَّ اهْدِ قومي؛ فإنَّهم لا يعلمون))!!.
فانظروا - عباد الله – لما في هذا القول من جماع الفضل ودرجات الإحسان وحُسْنِ الخلق، إذ لم يقتصر على السُّكوت عنهم حتى عفا، ثم أشفق عليهم ورحمهم ودعا، وشفع لهم، ثم أظهر سبب الشَّفقة والرَّحمة بقوله: ((قومي))، ثم اعتذر عنهم لجهلهم فقال: ((فإنَّهم لا يعلمون)) .
وكذلك جاء أعرابيٌّ جِلْفٌ جافٍ، وكان على النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم - بُرْدٌ غليظُ الحاشية، فجذبه الأعرابي بردائه جَبْذًا شديدًا، حتى أثَّرَ حاشيةُ البُرْدِ في صَفْحَة عُنُقِه، ثم قال: يا محمَّد، احملني على بعيرٍ من مال الله الذي بيدكَ؛ فإنَّكَ لا تحملني من مالكَ ولا من مال أبيكَ!. فسكت النبيُّ – صلَّى الله عليه وسلَّم - وقال: ((المال مالُ الله، وأنا عبده)). ثم قال له: ((لم فعلتَ بي ما فعلتَ؟!)). قال: لأنَّكَ لا تكافئ بالسَّيئة السَّيئةَ. فضحك رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم - ثم أمر أن يُحمَل له على بعيرٍ شعيرٌ وعلى آخَر تمرٌ)).
وكذلك قال له آخَر: اعْدِلْ يا محمَّد؛ فإنَّ هذه قسمةٌ ما أُريِدَ بها وجهُ الله!. فقال النبيُّ – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ويلُكَ، إنْ لم أعْدِلْ أنا فمَنْ يَعْدِل؟ أيأمنني اللهُ على خزائنه ولا تأمنوني)؟!)[6].
قال بعض الصَّحابة: "ما رأيتُ رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم - منتصرًا من مظلمةٍ ظُلِمَها قطُّ، ما لم يكن حرمة من محارم الله تَعالى، ولا ضرب بيده شيئًا قطُّ إلاَّ أن يُجاهِد في سبيل الله، وما ضرب خادمًا ولا امرأةً".(/6)
لقد كان أحلم النَّاس عند مقدرته، وأصبرهم على مَكْرَهَتِه، وامتثل أمر الله حيث قال له: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199].
وأمَّا تواضُعُه:
فعلى علوِّ منصبه ورفعة رتبته؛ فكان أشدَّ النَّاس تواضعًا، وأبعدهم عن الكِبْر، وحسبُكَ أنَّ الله خيَّره أن يكون نبيًّا مَلِكًا أو نبيًّا عبدًا؛ فاختار أن يكون نبيًّا عبدًا!.
قال أبو أُمامَة – رضيَ الله عنه -: خرج علينا رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - متوكِّئًا على عصا، فقمنا له؛ فقال: ((لا تقوموا كما تقوم الأعاجم، يعظِّمُ بعضُهم بعضًا))[7]. وقال: ((إنَّما أنا عبدٌ آكلُ كما يأكلُ العبدُ، وأجلِس كما يجلسُ العَبْدُ))[8].
وكان يركب الحمار ويُرْدِفُ خلفَه، ويعود المساكين، ويُجالس الفقراء، ويجيب دعوة العبيد، ويجلس بين أصحابه مختلطًا بهم حيث انتهى به المجلس.
وقال عليه الصَّلاة والسَّلام: ((لا تُطروني كما أَطْرَتِ النَّصارى ابنَ مريم، إنَّما أنا عبدٌ؛ فقولوا: عبدُ الله ورسولُه))[9].
وكان يُدعَى إلى خبز الشَّعير والإهالة السَّخِنَة فيجيبُ[10]، وقد حجَّ عليه الصَّلاة والسَّلام وكان عليه قطيفةٌ ما تساوي أربعةَ دراهم[11].
هذا كلُّه وقد أقبلت عليه الدُّنيا بحذافيرها، وألقت إليه أفلاذ كبدها، فلم يلتفتِ إليها ولا عبأ بها.
وكان في بيته في مهنةِ أهلِه؛ يُفلِّي ثوبَه، ويَحْلِب شاتَه، ويُرقِّع ثوبَه، ويَخْصِفُ نعلَه، ويَخدم نفسَه، ويَعْلِفُ ناضِحَه، ويَقُمُّ البيتَ، ويَعْقِل البعير، ويأكل مع الخادم.
أما خُلُقُهُ:
فيكفيه قول الله - عزَّ وجلَّ -: {وَإنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظَيِمٍ} [القلم: 4].
عن سعد بن هشام – رضيَ الله عنه - قال: سألتُ عائشة أمِّ المؤمنين فقلتً: أخبريني عن خُلُقِ رسول الله. فقالت: "أمَا تَقْرأُ القرآنَ؟ فقلتُ: بلى. فقالت: كان خُلُقُه القرآنَ"[12].(/7)
ومعنى هذا أنَّه كان - عليه الصَّلاة والسَّلام - مهما أَمَرَهُ القرآنُ امتثله، ومهما نهاه عن شيءٍ تركه، هذا مع ما جَبَلَه الله عليه من الأخلاق العظيمة التي لم يكن أحدٌ من البشر اتَّصف بها، ولا يكون مَنِ اتَّصف بأجمل منها، وشَرَعَ له الدِّين العظيم الذي لم يشرع لأحدٍ قبله، وهو مع ذلك خاتم النبيِّين، فلا رسول لله بعده ولا نبيّ.
فكان فيه من الحياء، والكََرَم، والشَّجاعة، والحِلْم، والصَّفْح، والرَّحمة، وسائر الأخلاق الكاملة - ما لا يُحَدُّ ولا يمكن وصفه.
روى البخاريُّ – رحمه الله - عن البَرَاء بن عازِب – رضيَ الله عنه - قال: ((كان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أحسنَ النَّاس وجهًا، وأحسنَ النَّاس خُلُقًا))[13]، ورواه الإمام مسلمٌ بلفظ: ((كان رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم - أحسنَ النَّاس خُلُقًا))[14].
وروى مسلمٌ عن عائشة - رضيَ الله عنها - قالت: "ما ضرب رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم - بيده شيئًا قطُّ، لا عبدًا ولا امرأةً ولا خادمًا، إلاَّ أن يجاهِد في سبيل الله، ولا نِيلَ منه شيءٌ فينتقمَ من صاحبه، إلاَّ أن يُنتَهَك شيءٌ من محارِم الله؛ فينتقمَ لله - عزَّ وجلَّ -))[15].
وروى البخاريُّ ومسلم عن عبدالله بن عمرو – رضيَ الله عنهما - قال: ((لم يكنِ النبيُّ – صلَّى الله عليه وسلَّم - فاحشًا ولا متفحِّشًا، وكان يقول: ((إن من خياركم أحسنكم أخلاقًا))"[16].
وفي "صحيح مسلم" عن أنسٍ – رضيَ الله عنه - قال: "لمَّا قَدِمَ رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم - المدينة أخذَ أبو طلحة بيدي فانطلق بنا إلى رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: يا رسول الله، إنَّ أنسًا غلامٌ كيِّسٌ؛ فليخدِمْكَ. قال: فخدمتُهُ في السَّفَر والحَضَر، والله ما قال لي لشيءٍ صنعتُه: لمَ صَنَعْتَ هذا هكذا؟ ولا لشيءٍ لم أصنعه: لِمَ لَمْ تصنع هذا هكذا؟"[17].
الخطبة الثَّانية(/8)
إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونستهديه ونستنصره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَنْ يَهْدِ الله فلا مُضلَّ له، ومَنْ يُضلل فلا هاديَ له، وأشهد أنَّ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمَّدا عبده ورسوله، مَنْ يُطِعِ الله ورسوله فقد رَشَد، ومَنْ يَعْصِ الله ورسوله فقد غوى، ولا يضرُّ إلا نفسه ولا يضرُّ الله شيئًا.
أما بعد: فإنَّ خير الكلام كلام الله، وخير الهَدْي هَدْيُ محمَّد – صلَّى الله عليه وسلَّم - وشرَّ الأمور مُحْدثاتها، وكلَّ مُحْدَثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، وكلَّ ضلالةٍ في النَّار.
وعليكم - أيها المسلمون – بالجماعة؛ فإنَّ يَدَ الله على الجماعة، ومَنْ شَذَّ شَذَّ في النَّار.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70-71].
وصلُّوا على خاتم النبيِّين وإمام المرسلين، فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين، فقال جلَّ مِن قائلٍ: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56].
وقال رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَنْ صلَّى عليَّ واحدةً؛ صلَّى الله عليه بها عَشْرًا))[18].
اللَّهمَّ صلِّ على محمَّدٍ وعلى آل محمَّد، كما صلَّيْتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنَّك حميدٌ مجيدٌ. وبارِك على محمَّد وعلى آل محمَّد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنَّك حميدٌ مجيدٌ.(/9)
وارضَ اللَّهمَّ عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء؛ أبي بكر الصدِّيق، وعمر الفاروق، وذي النورَيْن عثمان، وأبي السِّبْطَيْن علىَّ، وعن آل بيت نبيِّك الطيِّبين الطَّاهرين، وعن أزواجه أمَّهات المؤمنين، وعن الصَّحابة أجمعين، والتَّابعين ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين، وعنَّا معهم بمنِّك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
ــــــــــــــــــــــــ
[1] أي: طويل الأشفار.
[2] في شعره حجونة؛ أي: تثنٍّ قليل.
[3] البخاري في صفة النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم - والتِّرمذي في المناقب برقم 3640. قال الألبانيُّ: "وكذا الدرامي (1/32) والطيالسي (2411) وأحمد (4/281)، وقال التّرمذي: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ"؛ مختصر الشمائل (27).
[4] البخاري (10/356) اللباس: باب الجعد، ومسلم (15/92) الفضائل: باب صفة شعر النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم.
[5] وقال الألباني – رحمه الله -: "وكَسْرُ رُباعيَّته وشجُّ رأسه ثابتٌ في مسلم (5/179)، من حديث أنس، ورواه البخاري معلَّقًا"؛ فقه السيرة (275) بتحقيق الألباني.
[6] رواه البخاري (6/617، 618) المناقب: علامات النبوَّة في الإسلام، وفي فضائل القرآن، وفي استتابة المرتدِّين، ومسلم (7/159) الزكاة: باب ذكر الخوارج وصفاتهم.
[7] رواه أبو داود (5208) الأدب وضعَّفه الألباني – رحمه الله - لكنَّ المعنى صحيحٌ، وقد ثبت النَّهي في صحيح مسلم (413).
[8] رواه ابن سعد عن يحي بن أبي كثير مرسلاً، وصحَّحه الألبانيُّ في صحيح الجامع (1/61) رقم 8.
[9] البخاري (1/478)الأنبياء: باب قول الله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا} [مريم: 16]، والإطراء: مجاوزة الحدِّ في المدح والكذب فيه، وذلك أنَّ النصارى أفرطوا في مدح عيسى وإطرائه بالباطل، وجعلوه ولدًا لله سبحانه، فمنعهم النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - من أن يطروه بالباطل.(/10)
[10] رواه البخاري في البيوع برقم 1046، والنَّسائي في البيوع، وابن ماجه في الأحكام، والتِّرمذيُّ في البيوع برقم 1215- مختصر الشمائل (رقم 287)، والإهالة السَّخِنَة: الدُّهن التي تغيَّر رِيحُها من طول المكث.
[11] رواه الضياء في المختارة من طريق أنس، وله شاهد عن ابن عباس، ورواه البخاري من طريقٍ أخرى عن أنس مختصرًا – مختصر الشمائل (288).
[12] رواه أحمد (6/91،163) والبخاري في الأدب المفرد (1/407) رقم 307، وصحَّحه الألبانيُّ في صحيح الجامع (4/238).
[13] الذي في صحيح البخاري عن البراء بن عازب – رضيَ الله عنه - قال : "كان رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم - أحسن النَّاس وجهًا، وأحسنهم خُلُقًا، ليس بالطويل البائن ولا بالقصير" (6/564) المناقب: باب صفة النبيِّ – صلَّى الله عليه وسلَّم.
[14] مسلم (15/71) الفضائل: باب حسن خُلُقِه – صلَّى الله عليه وسلَّم.
[15] مسلم (15/84،85) الفضائل: باب مباعدته – صلَّى الله عليه وسلَّم - للآثام، واختياره من المباح أسهله.
[16] مسلم (15/78) الفضائل : كثره حيائه – صلَّى الله عليه وسلَّم - البخاري (6/566) المناقب: يباب صفة النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم.
[17] مسلم (15/70) الفضائل: باب حسن خُلُقِهِ – صلَّى الله عليه وسلَّم.
[18] أخرجه مسلم في صحيحه في الصلاة (17) باب الصلاة على النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - في التشهُّد (1/306) رقم (408).(/11)
العنوان: من صفات المنافقين (1)
رقم المقالة: 1414
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله..
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70-71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله - تعالى - وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.(/1)
أيها المسلمون: أراد الله - سبحانه وتعالى - بالبشرية خيرًا حينما بعث محمدًا - صلى الله عليه وسلم - إلى الناس كافَّة بالدين الحقّ الذي ارتضاه لعباده، وجاءت شريعته موضحة ما يحتاج إلى إيضاح في عبادة ربهم، فلم يتركهم خالقهم يتعبدونه بمحض عقولهم القاصرة، أو أهوائهم الضالة، ولم يسلمهم لبشر ضعاف مثلهم يشرعون لهم ما يريدون، ويمنعونهم مما لا يريدون. فمن رحمة أرحم الراحمين بعباده أنه تولى هذه القضية بذاته المقدسة؛ فشرع لعباده ما يقربهم إليه، وارتضى لهم من الأحكام ما به سعادتهم في الدنيا والآخرة، فلا خير إلا هدتنا شريعة الله - تعالى - إليه، ولا شرَّ إلا حذرتنا منه، وكمُل الدين على ذلك، وختمت النبوات به، فلا نبي بعد محمد - صلى الله عليه وسلم – ولا شريعة توصل إلى رضوان الله - تعالى - إلا شريعته، من تمسك بها نجا، ومن حاد عنها فإنه يضرُّ نفسه ولا يضرّ اللهَ شيئًا.
ومقتضى حكمة العليم الحكيم -سبحانه وتعالى - في ابتلاء عباده المؤمنين أن جعل على طريق الخير أناسًا يصدّون الناس عنها، ويدعونهم إلى غيرها، كما جعل على طريق الشر دعاة إليها، يرغبون الناس فيها، فمن أطاعهم قذفوه في النار، ومن عصاهم كان من أهل الجنة.
والجماعة التي تصد عن الخير، وتدعو إلى الشر، منها طائفة بينةٌ واضحةٌ، تعلن محادتَها لله - تعالى - ولشريعته، وتصرّح بدعوتها دون تلوّن ولا التواء، وهي الطائفة الأكثر من ضُلاّل البشر، وهي الأقوى شوكة، والأمضى عزيمة في معسكر الكفر والضلال.
والطائفة الأخرى طائِفة هي أقلُّ منها عددًا، وأضعف قوة، ولكنها أشدّ فتكًا وخطرًا من الأولى، رغم قلَّتها وضعفها؛ لأنها خفية لا تبين، ومستترة لا تظهر.
إنها طائفة المنافقين، التي انتدبت نفسها لمهمة خسيسة حقيرة، تجمعُ الرذائل كلَّها من الكفر والجبنِ والكذبِ والغشِّ والخداعِ والفسادِ والإفساد.(/2)
طائفة تعيش في صفوف المؤمنين، وتأكلُ من زادهم، وتنعم بحمايتهم، وتتبادل المصالح معهم؛ ولكن قلوب أصحابها مع الكافرين، وإخلاصهم لهم، وعملهم من أجلهم.
ولخطورة هذه الطائفة على المسلمين؛ فإن القرآن بادر على الفور إلى التحذير منها أشد من تحذيره من الكافرين؛ وذلك لئلا يغتر المؤمنون بظاهر أمرهم، فيقع بذلك فساد عريض من عدم الاحتراز منهم، ومن اعتقاد إيمانهم وهم كفار[1].
والنفاق في تاريخ المسلمين ابتدأ بعد غزوة بدر، وسيبقى ما بقي صراع بين حق وباطل.
ولو نظرنا إلى القرآن لوجدنا أن الآيات المكية لا ذكر للنفاق فيها؛ لأن المشركين ما كانوا يسترون كفرهم، فلما هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، لم يكن هناك نفاق في أول الأمر؛ بل كفر ظاهر أو إيمان باطن وظاهر؛ لأنه لم يكن للمسلمين شوكة تخاف، أو قوةٌ تهاب، فلما عزَّ الإسلام، وقويت شوكة المسلمين بعد بدر الكبرى قال عبدالله بن أبي بن سلول وكان على الكفر آنذاك: "هذا أمر قد توجه". فأظهر الدخول في الإسلام، ودخل معه في النفاق طوائف من عرب المدينة وأعرابها المجاورين لها، ومن اليهود، فأظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر[2].
وصُدِّرت أطول سورة مدنية بذكر صفاتهم، والتحذير من خطرهم بعد ذكر المؤمنين وذكر الكافرين، إنها سورة البقرة، بدأها الله - تعالى - بذكر المؤمنين في أربع آيات، ثم ثنى بذكر الكفار في آيتين، ثم ثلث بذكر المنافقين في ثلاث عشرة آية، وهذا دليل على أن الاهتمام بدفع شرهم أشدُّ من الاهتمام بدفع شر الكفار، كما يدل على أنهم أعظم جرمًا وأشدُّ خطرًا من الكفار[3].
إنها طائفةٌ يصعب التعامل معها؛ لأنها تظهر الخير للمسلمين، وتضمرُ الشر لهم، فيشتبه أمرها على كثير من الناس، وينخدع بأفرادها جمهور المسلمين إلا من وفقه الله - تعالى - لمعرفة حقيقتها.(/3)
إن المنافقين يتسللون إلى قلوب الغافلين بإظهار النصح للأمة، والتباكي على ما قد يلحقها من أذى ومصيبة، وتدبيج ذلك بلحن القول، وجميل العبارة، وادعاء الخبرة بالأمور، ومعرفة الأحوال، ومن قرأ ما تكتبه أقلامهم، وسمع ما تنطق به ألسنتهم، وهو من أهل الإيمان والفراسة، أيقن أن الشيطان يجري في مداد أقلامهم، ويسري في جنبات أفواههم، وقد أطبق بكليته على قلوبهم.
وقد حذر النبي - صلى الله عليه وسلم - من منافق عليم اللسان[4]، وأخبر الله - تعالى - عن المنافقين بأنهم إذا رأيتهم أعجبتك أجسامهم، وإذا قالوا استمعت لأقوالهم.
ووالله إن هذا الوصف لينطبق تمام الانطباق على كثير من أهل السوء والشر، الداعين إلى الكفر والفجور، الناشرين للرذيلة والفاحشة، من كتاب الصحف، وضيوف الفضائيات.
تراهم فتعجبك أجسامهم، وإذا تكلموا شدك كلامهم، وجذبك أسلوبهم، وسمعت زفراتهم وآهاتهم على واقع الأمة، وليست زفرات على ضعفها وذلها وتأخرها، وإنما هو تباكٍ على بقاء ثلة من أفرادها على دينهم، وظهور شيء من أحكام الشريعة معروفًا فيما بينهم.
إنهم يريدون من الأمة أن تنبذ الإسلام وراءها ظهريًّا، وأن تكون ذيلاً لأمة المغضوب عليهم والضالين، ولن يهدأ لهم قرار، ولن تلين لهم عزيمة حتى يدفنوا إسلامنا الذي عرفناه، وتلقيناه جيلاً بعد جيل حتى وصل إلينا نقيًّا محفوظًا؛ ليستبدلوه بإسلام آخر صُنع في معامل أسيادهم رؤوس الكفر والضلال.
يقضي هذا الإسلام الجديد على كل مظاهر القوة والعزة التي تميزت بها شخصية المسلم؛ ليحوله إلى حقير ذليل تابع مقلد لغيره، لا هَمَّ له إلا إشباعُ شهواته، واللهاث وراء نزواته.(/4)
لقد كانوا طيلة عقود مضت يلحون وبإصرار على فصل الدين عن السياسة، وتم فصل الدين عن السياسة فصلاً كاملاً منذ نصف قرن أو أكثر، وصار المبدأ السياسي في العالم مؤسسًا على النفاق الأكبر، أليسوا يقولون في عالم السياسة: لا صداقة دائمة، ولا عداوة دائمة، وإنما هي مصالح مشتركة، تبنى مع القوي مهما كان مذهبه ودينه، وهكذا كان حال المنافقين قبل ظهور السياسات المعاصرة.. منذ أن ظهروا في الإسلام وإلى يومنا هذا، فإن رأوا في المسلمين قوة استتروا بالإسلام، وانقلبوا إلى وعاظ، وإن رأوا في المسلمين ضعفًا انقلبوا عليهم، وانتقدوا شريعتهم، واستمعوا رحمكم الله - تعالى - إلى قول الله - تعالى - فيهم، فإنه منطبق عليهم في هذا العصر، يقول – سبحانه -: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ المُؤْمِنِينَ} [النساء: 141]، وفي آية أخرى يقول – سبحانه -: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا * وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا} [النساء: 72-73]، إنهم مع القوي، ومع المصلحة الآنية، كما تقول السياسة المعاصرة.(/5)
ولما كان المسلمون ضعفاء في هذا العصر صار المنافقون يتكلمون بلسان العدو؛ بل إنهم يسابقون العدو فيما يريد، لعنهم الله، وكفى المسلمين شرورهم، أعاذنا الله من النفاق والمنافقين، اللهم إنا ندرأ بك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم، اللهم افضحهم على رؤوس الأشهاد، اللهم اكشف أمرهم، واهتك سترهم، وأحبط كيدهم، وأرِهم ما يسوؤهم من عزِّ الإسلام والمسلمين، إنك على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله، حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه، ومن سار على نهجهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله - عباد الله - واحذروا النفاق، واستعيذوا بالله من شره، فإن من أمن النفاق أوشك أن يقع فيه، ولقد كان كبار الصحابة - رضي الله عنهم - يخافونه على أنفسهم، فعمر - رضي الله عنه - يعزم على حذيفة بن اليمان - رضي الله عنهما - أن يخبره: "هل سماه النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنافقين"[5]! وهو فاروق هذه الأمة الذي فرق الله به بين الحق والباطل، وكان عمر إذا قدمت جنازة ليُصلى عليها رمق حذيفة، فإن صلَّى عليها حذيفةُ صلَّى عمرُ عليها، وإن لم يصلِّ عليها حذيفة ترك عمر الصلاة عليها[6]؛ لأن حذيفة كان أعرف الصحابة بالمنافقين، وهو أمين سر الرسول - صلى الله عليه وسلم – فيهم.
وإذا كان أمر المنافقين قد خفي على بعض كبار الصحابة، وهم مَنْ هم في الفضل والدين والفراسة، فكيف بنا مع ضعفنا وعجزنا؟! أسأل الله أن يتولانا بعفوه ورحمته.(/6)
أيها المؤمنون: جرت سنة الله - تعالى - في المنافقين بالإملاء لهم، وإمدادهم في طغيانهم، وإنظارهم إلى حين؛ ولذا فإن نجاحهم في بعض الأزمان والأعمال، ووصولهم إلى ما يريدون ليس نهاية المطاف، ولا هو محل غرابة عند من يقرأ القرآن ويفهمه، وقد قال الله - تعالى - في شأنهم:{اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة: 15]، وهذا الإمداد لهم، وزيادة طغيانهم، ووصولهم إلى بعض ما يريدون، في حال غفلة من الغافلين؛ ما هو إلا ابتلاء للمؤمنين الصادقين، وتنبيهٌ لهم ليواجهوا باطلهم،ويكشفوا للناس زيفهم.
ومعركةُ المؤمنين مع النفاق والمنافقين طويلة الأمد، ابتدأت بعد بدر الكبرى، وستبقى ما بقي كفر وإيمان، وحصل للمسلمين من العظائم والمصائب على أيديهم ما لا يخفى. وما تمكنوا من دولة إلا كانوا السبب في سقوطها وفنائها، وسقوط دولة بني العباس التي عاشت قرونًا طوالاً، وامتدت في طول العالم وعرضه ما كان إلا بتدبير من منافقيها، كان يحمل لواء النفاق في تلك المؤامرة الدنيئة ابنُ العلقمي الرافضي.
وأخْذُ الصليبيين لبيت المقدس في القرن الخامس الهجري، ما كان إلا بسبب بني عبيد الباطنيين المنافقين.
وسقوط الدولة العثمانية التي حكمت أكثر من نصف الأرض ثمانية قرون، ما كان إلا على أيدي يهود الدونمة الذين أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر، وكادوا المكائد بالرجل المريض حتى قتلوه وقبروه.
وما سُلبت فِلَسطين في القرن الماضي واستحلتها يهود إلا بمعونة المنافقين، وما بقي اليهود فيها أكثر من نصف قرن إلا لأن المنافقين أبعدوا الإسلام عن المعركة، وأداروا الصراع تحت الرايات القومية والوطنية الجاهلية، ومن خلال الأحزاب اليمينية واليسارية العلمانية.(/7)
فمعركة المسلمين مع النفاق والمنافقين معركة طويلة وشديدة، وتحتاج إلى صبر وثبات وعزيمة، لا يلينها نصرٌ حققوه، أو هدف حصلوه، وما يقتل الأمة مثلُ اليأس والقنوط، فأمِّلوا - عباد الله - خيرًا، وارجوا خيرًا، وجِدُّوا في خدمة هذا الدين، والذود عن حياضه، والدفاع عن حرماته، وتحلَّوْا في ذلك بالصبر والحكمة والعزيمة، فذلك طريق النصر والفلاح في الدنيا والآخرة.
ألا وصلوا وسلموا على نبينا محمد كما أمركم بذلك ربكم.
---
[1] انظر: تفسير ابن كثير (1/74).
[2] المصدر السابق (1/74).
[3] "التفسير الكبير" للرازي (2/55).
[4] وذلك في قوله - عليه الصلاة والسلام -: ((أخوف ما أخاف عليكم جدال المنافق عليم اللسان))، وفي لفظ: ((إن أخوف ما أخاف على أمتي كل منافق عليم اللسان)). أخرجه من حديث عمر - رضي الله عنه - أحمد (1/22)، والبزار (168ـ 169)، وعزاه الهيثمي في الزوائد إلى أبي يعلى وقال: ورجاله موثوقون (1/187)، وصححه الألباني في الصحيحة (1013)، ومن حديث عمران بن حصين - رضي الله عنه - أخرجه البزار (170)، والطبراني في الكبير (18/237)، برقم: (593)، وقال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح (1/187)، وصححه ابن حبان (80)، وعزاه الألباني في صحيح الجامع للبيهقي وصححه (1556).
[5] تفسير الطبري (11/11)، و"البداية والنهاية" (5/19).(/8)
[6] تفسير ابن كثير (2/590)، عند تفسير الآية (84) من سورة التوبة، وذكر أبو عبيد في "غريب الحديث" (2/36) أن عمر أراد أن يصلي على جنازة رجل فمرزه حذيفة، كأنه أراد أن يصده عن الصلاة عليها. والمرز هو القرص الرفيق ليس بالأظافر، فإذا اشتد فأوجع فهو قرص؛ كما في "الفائق" للزمخشري (3/359)، وذكر ابن كثير في تفسيره (2/591) أنه القرص بأطراف الأصابع بلغة أهل اليمامة. وفي "السيرة الحلبية" (3/122) أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إذا مات رجل ممن يظن أنه من المنافقين أخذ بيد حذيفة - رضي الله تعالى عنه - فقاده إلى الصلاة عليه، فإن مشى معه حذيفة صلَّى عليه عمرُ - رضي الله تعالى عنه -، وإن انتزع يده من يده ترك الصلاة عليه.(/9)
العنوان: من صفات المنافقين (2)
رقم المقالة: 1415
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
{الحَمْدُ للهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا} [الكهف: 1]، و{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان: 1-2]. أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ بلّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، فجزاه الله خير ما جزى نبيًّا عن أمته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه؛ أقاموا دين الله - تعالى - في أنفسهم وأهليهم، وحملوا لواءه إلى غيرهم، فمنهم من قضى نحبه تحت رايته، ومنهم من عاش حينًا من دهره، يبلغ أمر الله - تعالى - في أرضه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فأوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله عز وجل؛ فلا منجاة للعبد من عذاب الله - تعالى - إلا بها، ولا مخرج له من الفتن إلا مخرجُها {وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الزُّمر: 61].
أيها المسلمون: أنزل الله - تعالى - القرآن هاديًا للبشر، ونورًا لقلوبهم، وفيه ما يحتاجون إلى العلم به من أمور دينهم وآخرتهم.
لقد ساق لنا القرآن أخبارَ المرسلين، وأحوال المكذبين، وذكر الإيمان والمؤمنين، والشرك والمشركين، والنفاق والمنافقين، وأوصاف كل طائفة منهم، وأخلاقهم التي يتخلقون بها، ومصيرهم الذي ينتهون إليه.(/1)
وعلى الرغم من تطاوُل السنين، وتعاقب الأجيال، وترادف الأمم؛ فإننا ما رأينا أوصافًا ذكرت في القرآن لطائفة من الطوائف كانت في زمان دون زمان، أو اختص بها مكانٌ دون مكان.
إن القرآن حدثنا عن استكبار المشركين، وعلوهم على الناس، وفسادهم في الأرض، وقرأنا ذلك في السيرة النبوية، ثم طالعناه في القرون التالية مع الأمم الرومانية والفارسية والتترية وغيرها، وها نحن نشاهدُه في الحضارة المعاصرة بشقيها الشيوعي البائد، والرأسمالي المتساقط. ورأينا أن الكفر هو الكفر، والكافرين هم الكافرون، واستكبارهم هو استكبارُهم، وفسادهم هو فسادُهم، ما تغير وقد مضت السنون، ولا اختلف على الرغم من تطاول القرون.
وحدثنا القرآن عن النفاق والمنافقين، وأوصافهم وأخلاقهم، ومكائدهم ودسائسهم، فما رأيناها تغيرت عبر الأزمان، ولا اختلفت باختلاف الأوطان؛ لأن الذي وصفهم في القرآن هو خالقُهم، وهو - تبارك وتعالى - أعلمُ بدخائل نفوسهم، وأوصاف قلوبهم؛ فكان وصفه – سبحانه - لهم متوافقًا مع ما نقرؤه عنهم، وما نشاهده اليوم من أفعالهم، واقرؤوا إن شئتم أوائل سورة البقرة في ذكر المنافقين تجدوا أن الآيات لا تعدوا وصفهم وأفعالهم، التي نشاهدها في عصرنا هذا، مع أنها آيات نزلت في أوصاف منافقين كانوا قبل أربعة عشر قرنًا وزيادة !
فما اختلف وصفُهم في الحاضر عن وصفهم في الماضي، ولا تطورت أخلاق المعاصرين منهم عن أخلاق سابقيهم إلا أنها ازدادت خسة ومكرًا وضغينة على الإسلام وأهله.
يقول الله - تعالى -: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللهِ وَبِاليَوْمِ الآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 8]. قال قتادة - رحمه الله تعالى -: "هذا نعتُ المنافقِ. نَعَتَ عبدًا خائن السريرة، كثير الإخلاف، يعرفُ بلسانه، ويُنكر بقلبه، ويصدق بلسانه، ويُخالف بعمله، ويصبح على حال، ويمسي على غيره، ويتكفأ تكفُّؤ السفينة، كلما هبت ريح هب فيها"[1].(/2)
فهم يظهرون إيمانهم، ويبطنون كفرهم، ويعيشون في مجتمعات المسلمين معصومي الدم والمال بما أظهروه من كلمة التوحيد، التي بها تعصم الدماء والأموال؛ وتلك هي مخادعتهم التي ذكرها الله - تعالى - بقوله: {يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا} [البقرة: 9].
ظنوا أن نفاقهم لما راج على المؤمنين؛ فأخذوا بظواهرهم، وأوكلوا سرائرهم لله - تعالى - ظنوا أن ذلك يجري على الله - تعالى - كما جرى على المؤمنين. وتالله إن الله - تعالى - ليعلم ما تكنه صدورهم وما يعلنون؛ ولذلك قابلهم الله - تعالى - بالمخادعة {إِنَّ المُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142]. وأخبر – سبحانه - أنهم بمخادعتهم إنما يخدعون أنفسهم وما يشعرون.
ومخادعة الله - تعالى - لهم في الدنيا هي معاملتهم كمعاملة المسلمين من حقن دمائهم وأموالهم بحكم الشريعة فيهم، ما داموا يبطنون نفاقهم ولا يظهرونه، وأما في الآخرة فيظن المنافقون أنهم من ضمن المؤمنين؛ لأنهم عوملوا في الدنيا معاملتهم، فيعطيهم الله - تعالى - نورًا مخادعًا لهم على الصراط؛ ليفرحوا به، ثم يطفئ الله نورهم، ويقذفُ بهم إلى جهنم {يَوْمَ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آَمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ العَذَابُ } [الحديد: 13] ويظنون أنهم كما خدعوا المؤمنين في الدنيا سيخدعون الله - تعالى - في الآخرة ولكن هيهات {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الكَاذِبُونَ}[المجادلة: 18].(/3)
وما كانت منهم هذه الخلال السيئة، والصفات القبيحة من المكر والتآمر والمخادعة، إلا لأن قلوبهم مريضةٌ بالكفر، مليئة بالحقد، فاسدة بالشبهات والشهوات، وهذا ما جعلها مردت على النفاق {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة: 10].
ينهاهم النبيون والعلماء، والدعاة والمصلحون عن الإفساد في الأرض، فيزعمون الصلاح والإصلاح {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة: 11].
إنها والله آية معجزة، نزلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - تخبر عن صفة من صفات المنافقين، نراها اليوم ماثلة أمام أعيننا، وكأن القرآن يحدثنا عن منافقي هذا العصر، الذين يُنهون عن الفساد في الأرض فيزعمون الصلاح والإصلاح مصلحون {قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة: 11].
أليس المنافقون في هذا العصر يظاهرون الكافرين على المؤمنين، ويرفضون من أحكام الشريعة ما لا يوافق أهواءهم وأهواء الذين كفروا؟
أليسوا يريدون إفساد المرأة، وتفكيك الأسرة، واختلاط الرجال بالنساء؟
أليسوا باسم الحريات يطالبون بإباحة الزنا والخمور وسائر المحرمات؟
أليسوا ينادون بتغريب المجتمعات المسلمة، ويطالبونها بالتخلي عن دينها وثقافتها وأخلاقها، ويجعلون ذلك عنوان التقدم والرقي والحضارة؟!
وكل ذلك وغيره من الفساد والإفساد يفعلونه، ويدعون إليه، ويطالبون به تحت مسمى الإصلاح، ويزعمون أنهم مصلحون، وأنهم وطنيون مخلصون لأوطانهم، وأنهم ما أرادوا إلا سعادة أمتهم ورقيّها ورفاهيتها! تلك هي أقوالهم وكتاباتهم!!(/4)
ثم لما كانتْ لهم الغلبة في كثير من بلاد المسلمين، وبدعم مباشر وغير مباشر من إخوانهم الذين كفروا، وتسلَّموا زمام الأمور، ما رأينا شعوبهم تطوَّرت ولا تقدمت؛ بل زادوها فقرًا إلى فقرها، وبؤسًا إلى بؤسها، ونشروا فيها الإلحاد والأفكار الهدامة، والفساد الأخلاقي مع الفساد المالي والإداري، فلا هم ضمِنوا لهم عيشًا كريمًا في الدنيا، ولا تركوا لهم دينهم الذي فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة؛ فأفسدوا عليهم دنياهم وآخرتهم.
انظروا إليهم ماذا فعلوا بأحزابهم وأفكارهم اليمينية واليسارية، من بعثية وشيوعية وقومية وناصرية وليبرالية في كثير من بلاد المسلمين، لقد أفسدوا المسلمين وأفقروهم، وقهروهم على أفكارهم الضالة، ومبادئهم المنحرفة، وما أغنوهم من الفقر، ولا انتشلوهم من الجهل.
كفى الله المسلمين شرهم، وأحبط كيدهم ومكرهم، وأذلهم في الدنيا والآخرة، إنه سميع مجيب. وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله، حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله - تعالى - واحذروا النفاق والمنافقين؛ فإن من أمِنَ النفاق يوشك أن يقع فيه، وقد كان جمع من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كل واحد منهم يخشى على نفسه النفاق، وهم مَنْ هم في الفضل والصحبة والإخلاص! واحذروا المنافقين فإن فتكهم بالأمم شديد، وشرهم مستطير، وما كانت لهم الغلبة في بلد إلا أفسدوه ودمروه.
أيها الإخوة المؤمنون: من طبيعة المنافقين رفضهم لأحكام الشريعة، وعدم قبولها؛ لأنها عامة لكل المسلمين، وهم يرون أن لهم من النظر والفكر والعقل ما يجعلهم لا يقبلون بإيمان كإيمان سائر الناس.(/5)
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا كَمَا آَمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آَمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 13].
وهذا واقع فيهم في هذا العصر، فإذا دعاهم المؤمنون إلى الإيمان الذي جاء من عند الله - تعالى - وبلغه لنا رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - رفضوه واستهزؤوا به، وحاربوا الدعاة إليه.
أليسوا في هذا العصر يُدعون إلى ما في الكتاب والسنة، وإلى ما قررته النصوص الشرعية في السياسة والاقتصاد، والمعاملات وأحكام الأسرة، وأحكام التعامل مع الآخرين؛ فيرفضون ذلك، ويتهمون من دعاهم إلى الكتاب والسنة بالسذاجة والسطحية، والسفه والعاطفية، وعدم إدراك الواقع وفهم الحقائق، ثم يكون البديل الذي يدعون الناس إليه في شؤون المسلمين إنما هو نتاج نظريات إلحادية بائدة، أو أفكار ضالة، أو أهواء منحرفة، وليس من العقل في شيء، ولا له من حقيقة الواقع أي نصيب.
ومع كل هذا الضلال عن الجادَّة، والانحراف عن الطريق السوية - طريق الكتاب والسنة - تجدهم يصفون أنفسهم ويصفهم أتباعُهم ومريدوهم، والمخدوعون بهم بالمفكرين والمثقفين، وأصحاب الرأي الحرّ، والنظرة البعيدة، والفهم الثاقب للأحداث والمستجدات، وهم في واقع الأمر أُسارى لأفكار ضالَّة، ومذاهب منحرفة، يوحي بها إليهم شياطين الصِّهْيَوْنِيَّة والإلحاد، ودعاة الفوضى والانحلال.(/6)
وهل ضاعت الأمة وفقدت ريادتها وصدارتها، وعزتها وقوتها إلا لما صار لهؤلاء النكرات المنحرفين رأي وقول، وسُلِّموا منابر الإعلام، ومصادر صنع القرار؛ فكان من أمر المسلمين ما كان من الذلة والهزيمة، والتقليد والتبعية. فهم ما أرادوا إيمان الناس الذي ارتضاه الله - تعالى - لهم، واعتبروه إيمان السفهاء؛ فكان لهم إيمان آخر، وهو إيمانهم المطلق بالأعداء ولو ظلموهم وأهانوهم وأذلّوهم، وسلبوهم حقوقهم، ومنعوهم مما هو لهم ولأمتهم! وإيمانهم المطلق بالأعداء هو الذي ضيع فِلَسطين، وضيع غيرها من بلاد المسلمين؛ إذ استخدمهم الصهاينة والصليبيون والملاحدة، دعايةً إعلامية لمشاريعهم الاستعمارية في المنطقة الإسلامية، فإذا ما قضوا غرضهم منهم تنكروا لهم، وتخلوا عنهم، ورموهم في مزابل التاريخ.
إن المنافقين ظلوا طوال السنين - ولا يزالون - يُظهرون النصح للأمة في أثواب قومية، أو شعارات وطنية، فلما كان الجدّ والمواجهة وجدناهم أول من تخلى عن الأوطان، وباعها بثمن بخس للأعداء؛ وهم في هذا كله يخدعون الذين آمنوا، ويظهرون أنهم معهم وهم مع أعدائهم {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة: 14]. وشياطينهم هم أعداء الذين آمنوا من أي دين ومذهب. وهذا من مخادعتهم للمؤمنين، ومن خيانتهم العظمى للأمة {اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة: 15]. والله - تعالى - يملي لهم، فيحققون بعض ما يريدون من السوء والشر؛ حتى يستدرجهم بذلك، فيرديهم ويهلكهم.
ومن رفض شيئًا من شريعة الله - تعالى - من أجل هواه، أو رأيٍ رآه فإنه يخشى عليه من النفاق ولو كان من المصلِّين؛ لأن من سمات المنافقين رفضهم لشريعة الله سبحانه.(/7)
ألا فاتقوا الله ربكم، وجانبوا سبل المنافقين، واحذروهم؛ فإنهم في خسران دائم {إِنَّ المُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ للهِ فَأُولَئِكَ مَعَ المُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ المُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 145-146].
وصلّوا وسلموا على نبيكم كما أمركم بذلك ربكم.
---
[1] تفسير ابن كثير (1/49) وانظر: "زاد المسير" لابن الجوزي (1/29).(/8)
العنوان: من قواعد التأويل في النقد العربي
رقم المقالة: 394
صاحب المقالة: د. وليد قصّاب
-----------------------------------------
أدرك النقد العربي منذ وقت مبكر - ومن قبل أن يصبح ذلك تقليعة يتناقلها اليوم نقاد الحداثة وما بعد الحداثة – أن النص الأدبي غنيّ بالدلالات، وأنه من أجل ذلك قد يحتمل وجوهاً متعدّدة من التأويل، وقد يتسع فيه مجال التفسير والقراءة، وإبداء الرأي.
جاء في الوساطة في نقد علي بن عبدالعزيز الجرجاني لبيت أبي الطيب المتنبي:
ما بقومي شَرُفتُ بل شَرُفوا بي وبنفسي فَخَرتُ لا بجُدودي
قوله: ((فختم القول بأنه لا شرف له بآبائه. وهذا هجو صريح. وقد رأيت من يعتذر له فيزعم أنه أراد: ما شرفت فقط بآبائي، أي لي مفاخر غير الأبوة، وفِيّ مناقب سوى الحسب. وباب التأويل واسع، والمقاصد مغيبة. وإنما يُسْتَشهد بالظاهر، ويتّبع موقع اللفظ..[1])).
وأورد ابنُ رشيق بيتَ امرئ القيس في وصف فرسه:
مكرٍّ مفرٍّ مقبلٍ، مدبر معاً كجُلمود صخرٍ حطَّه السيلُ من عَلِ
تحت ما سماه ((باب الاتساع)) فذكر أكثر من تفسير له، ثم عقّب على ذلك هذا التعقيب الذكيّ، فقال: ((يقول الشاعر بيتاً يتسع فيه التأويل، فيأتي كل واحد بمعنى، وإنما يقع ذلك لاحتمال اللفظ، وقوته، واتساع المعنى..[2])).
وزاد البغدادي في خزانة الأدب على ما أثبته ابن رشيق من توجيهات لبيت امرئ القيس، ثم علَّق على ذلك قائلاً: ((هذا ولم تخطر هذه المعاني بخاطر الشاعر في وقت العمل. وإنما الكلام إذا كان قوياً من مثل هذا الفحل احتمل لقوته وجوهاً من التأويل بحسب ما تحتمل ألفاظه، وعلى مقدار قوى المتكلمين فيه..[3])).
التأويل وقصد المتكلّم:
ولكن النقد العربي – كما هو واضح – يحترم النص ودلالاته اللغوية، وذلك مقدَّم عنده على ما يُسمّى بـ((مقصدية المؤلف)).(/1)
ردّ الآمدي – صاحب كتاب الموازنة بين الطائيين: أبي تمام والبحتريّ – على تهمة وجّهها إليه أنصار أبي تمام، بأنه لم يفهم ما قصده شاعرهم من كلامه، بهذه العبارة النقدية المهمة، التي تضع قاعدة موضوعية دقيقة للتأويل:
قال الآمدي: ((ليس العمل على نية المتكلّم، وإنما العمل على ما توجبه معاني ألفاظه..[4])).
وهي عبارة تُستنبط منها – على وجازتها – مجموعةٌ من الأحكام التي تتعلّق بتأويل الكلام أو تفسيره، منها:
1 – أن النص وحده هو المخوَّل بإعطاء الدلالة، وفرز المعنى المراد، ومنه وحده تُستنبط الأحكام، وتُستخرج المفاهيم، وبذلك يحتفظ النص – بما تعطيه معاني ألفاظه – بهيبته ومكانته وسلطانه، ولا يعتدي عليه معتدٍ.
2 – أن فكرة ((المعنى في بطن القائل)) – كما يقول بعضهم – غير صحيحة، لأن الناقد لا يعوِّل على نيات المتكلِّم، وهو غير قادر على ذلك أصلاً: لا شرعاً ولا عقلاً؛ فالنيات لا يعلمها إلا علاَّم السَّرائر، والناقد ليس عرَّافاً ولا قارئ فنجان، وإنما هو متلقٍّ يقوم بنشاط عقلي منطقي تمليه لغة النص الذي أمامه، وطبيعة ألفاظه وعباراته.
وهذا عندئذٍ يلغي فكرة ((مقصدية المتكلِّم)) ويحيل على مقصدية النص، ويعطيه السلطان على نحو ما فعلت البنيوية بعد ذلك بقرون.
3 – أن سلطان القارئ، أو سلطان المتلقي – خلافاً لما يقوله التفكيكيون وأصحاب نظرية التلقي – منضبطٌ بالنص المقروء، محكوم بدلالة ألفاظه، ومعاني عباراته، وليس سلطاناً مطلقاً، يجعل هذا القارئ يؤوِّل النص كما يشاء، أو يقرؤه على هواه، حتى ليقوِّله ما لم يقل، أو ينطقه بما لم ينطق.(/2)
4 – عبارة الآمدي النقدية البليغة لا تُنكر ما يمكن أن يحمله النص من دلالات متعدِّدة، أو توجيهات مختلفة، ولكنها – مرة أخرى– تجعل ذلك نابعاً من النص ذاته بما فيه من إمكانات، وبما يفرزه من المعاني والأفكار، وليس بما يُحمَل عليه حملاً، أو يُكره عليه إكراهاً، استجابة لسلطان زُعِم أن القارئ وحده هو الذي يمتلكه.
إن الصيد في جوف النص، والقارئ هو من يستخرجه، ولن يستطيع أن يستخرجه – دائماً – أي قارئ، بل القارئ الدّرِبُ المتمرس، وبذلك نحترم طرفين من أطراف معادلة العملية الأدبية، هما النص والقارئ، ولا نستهين بأحدهما أو نسقطه انحيازاً للطرف الآخر.
5 – وأخيراً، إن الاحتكام إلى النص لا يعني تجريده – كما يفعل البنيويون – من كلّ خارج: كالمجتمع، أو التاريخ، أو السيرة، أو ما شاكل ذلك، لأن هذا الخارج قد يكون في أحيان غير قليلة جزءاً من الداخل، وقد تكون ((معاني ألفاظه)) التي يحيل عليها الآمدي محكومة بهذا الخارج، بل آخذةً أبعادَها الحقيقية من خلاله، فقد يكون – وما أكثر الأمثلة على ذلك – هذا الخارجُ هو الذي شكَّلها على هذا النحو أو ذاك، فأصبح جزءاً من دلالتها.
وهاهو الآمدي نفسه الذي يحيل على سلطان النص، وما توجبه معاني ألفاظه يحيل في شعر أبي تمام نفسه إلى هذا الخارج، ويوضح أن التقاط معاني الألفاظ قد لا يتضح إلا بمعرفة هذا الخارج.
يورد الآمدي بيت أبي تمام:
تسعونَ ألفاً كآسادِ الشَّرى نَضِجَت جُلودُهُم قبلَ نُضجِ التينِ والعِنَبِ
وهو بيت عابه بعض النقاد، ومنهم أبو العباس المبرِّد، واستنكروا إيرادَ هاتين الفاكهتين، فيقول الآمدي مدافعاً عن البيت، مبيِّناً ارتباط اللفظين المعيبين بخارجٍ معيَّن: ((لهذا البيت خبرٌ لو انتهى إلى أبي العباس لما عابه..[5])).
______________________________
[1] الوساطة بين المتنبي وخصومه: 374.
[2] العمدة: 2/94.
[3] خزانة الأدب: 2/94.
[4] الموازنة: 1/179.(/3)
[5] النظام: لابن المستوفي: 2/64.(/4)
العنوان: من كمل عقلُه حسن لفظُه
رقم المقالة: 1250
صاحب المقالة: إبراهيم الأزرق
-----------------------------------------
إذا وُجِد طريقان مُوصّلان إلى مطلوب، فمن الحكمة أن يسلُك المرءُ الطريق السابلة السهلة، أما الذي ينعرج إلى الطريق الوعرة، كثيرة الأخطار والعقبات، فأحدُ رجلين: إما جاهل، وإما أحمق متهور، إلاّ أن يمنعَ مانعٌ عن سلوك السبيل الأولى، أو يأطِر آطِرٌ إلى سلوك الثانية؛ فإن الراكب طريق القحمة المنيعة، والعقبة الكؤود، فوق ما يلقاه من جهد وعنت، قد يصل إلى مراده وقد ينقطع.
وهكذا الشأنُ في كل مطلوب يريد المرءُ تحصيلَه أو تأديته.
فإن كان طريق الأداء هو الكلام، فليس من الحكمة أن يلجأ المتكلم إلى الألفاظ الخشنة الوعرة، والسهلة اللطيفة متيسرةٌ، اللهم إلاّ أن يضطره مقتضٍ خارجي إلى الإغلاظ؛ فإن القول الحسن أبعد لنزغ الشيطان، وأقرب لقبول الحق، بل لقبول المَقُولِ مطلقاً، وكم من باطل يزينه الرجلُ بحسن لفظه، وحلاوة منطقه، وتنميق عبارته، والتلطف في مقصده، فيُبرزه في صورة الحق فيُقبل، وكم من حق يخرجه بتهجينه وسوء تعبيره في صورة مشوهة قبيحة فيُرَد، "ومن تأمل المقالات الباطلة، والبدع كلها، وجدها قد أخرجها أصحابها في قوالب مستحسنة، وكسوها ألفاظاً يقبلها بها من لم يعرف حقيقتها، ولقد أحسن القائل:
تقول هذا جناءُ النحل تمدحُه وإن تشأ قلتَ ذا قيءُ الزنابيرِ
مدحاً وذماً وما جاوزتَ وصفَهما والحقُّ قد يعتريه سوءُ تعبيرِ
ورأى بعض الملوك كأن أسنانه قد سقطت، فعبرها له معبر بموت أهله وأقاربه، فأقصاه وطرده، واستدعى آخر فقال له: لا عليك، تكون أطول أهلك عمراً، فأعطاه وأكرمه وقربه، فاستوفى المعنى، وغير له العبارة، وأخرج المعنى في قالب حسن"[1].(/1)
وقد ذكر هذا الخبر السَرَخْسيُّ، ثم قال: "وهما في المعنى سواء، ليعلم أنه ينبغي للمرء أن يراعي عبارته" ثم قال: "وإذا أسر الأسير وابنه من المسلمين، فأرادوا قتلهما فقال الأب: قدموا ابني بين يدي حتى أحتسبه. فهو آثم في مقالته فعلوا ذلك أو لم يفعلوا؛ لأنه أمرهم بمعصية الله تعالى، ولو قال: إني أريد أن أحتسب ابني فلا تقتلوني قبله. رجوت ألا يأثم".
ولهذا كان تحسين الألفاظ بابا عظيما اعتنى به أصحاب العقول الراجحة من الأكابر والعلماء، قال ابن القيم -رحمه الله- بعد أن ذكر خبر بعض الخلفاء وقد سأل ولده -وفي يده مِسْواك- ما جَمْعُ هذا؟ فقال: (محاسنك) يا أمير المؤمنين. قال: "وهذا من الفراسة في تحسين اللفظ، وهو باب عظيم, اعتنى به الأكابر والعلماء، وله شواهد كثيرة في السنة، وهو من خاصية العقل والفطنة، فقد روينا عن عمر -رضي الله عنه- أنه خرج يعس المدينة بالليل, فرأى ناراً موقدة في خباء, فوقف وقال: (يا أهل الضوء). وكره أن يقول: يا أهل النار. وسأل رجلاً عن شيء: (هل كان)؟ قال: لا، أطال الله بقاءك, فقال: (قد علمتم فلم تتعلموا, هلا قلت: لا, وأطال الله بقاءك)؟ وسئل العباس: أنت أكبر أم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ فقال: هو أكبر مني, وأنا ولدت قبله. وسئل عن ذلك قباث بن أشيم؟ فقال: رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أكبر مني, وأنا أسن منه. وكان لبعض القضاة جليس أعمى, وكان إذا أراد أن ينهض يقول: يا غلام, اذهب مع أبي محمد, ولا يقول: خذ بيده, قال: والله ما أخلَّ بها مرة. ومن ألطف ما يحكى في ذلك: أن بعض الخلفاء سأل رجلا عن اسمه؟ فقال: سعد يا أمير المؤمنين. فقال: أي السعود أنت؟ قال: سعد السعود لك يا أمير المؤمنين, وسعد الذابح لأعدائك, وسعد بلع على سماطك, وسعد الأخبية لسرك, فأعجبه ذلك. ويشبه هذا: أن معن بن زائدة دخل على المنصور, فقارب في خطوه. فقال له المنصور: كبرت سنك يا معن, قال: في طاعتك يا أمير المؤمنين.(/2)
قال: إنك لجلد. قال: على أعدائك, قال: وإن فيك لبقية, قال: هي لك. وأصل هذا الباب: قوله تعالى: {وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم} [الإسراء: 53]، فالشيطان ينزغ بينهم إذا كلم بعضهم بعضاً بغير التي هي أحسن, فرب حرب وقودها جثث وهام, أهاجها القبيح من الكلام، وفي الصحيحين من حديث سهل بن حنيف, قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لا يقولن أحدكم: خبثت نفسي, ولكن ليقل: لقست نفسي)، و(خبثت) و(لقست) و(غثت) متقاربة المعنى؛ فكره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لفظ (الخبث) لبشاعته, وأرشدهم إلى العدول إلى لفظ هو أحسن منه, وإن كان بمعناه تعليما للأدب في المنطق, وإرشاداً إلى استعمال الحسن, وهجر القبيح من الأقوال, كما أرشدهم إلى ذلك في الأخلاق والأفعال"[2].
ومن هذا الباب أيضاً الكنايات التي تذكر تحسيناً للفظ وإكراماً للمذكور، وفي القرآن من ذلك طرف مأثور مثلوا له بقوله تعالى: {ولكن لا تواعدوهن سراً} [البقرة: 235]، وقوله: {أو جاء أحد منكم من الغائط} [النساء: 43]، وقوله: {ما المسيح ابن مريم إلاّ رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام} [المائدة: 75]، وقد كان من هديه -صلى الله عليه وسلم- الكناية عما يقبح التصريح به، والأمثلة في السنة كثيرة، ومن قبيل هذا الباب باب آخر كان عليه الصلاة والسلام يستعمله، وهو ميله إلى التعريض عوضاً عن التصريح في بعض مقامات الإنكار.
يا صاحب الحق! إن رمت لما تحمله قبولاً فلا تكن فظاً غليظاً، فما كان الرفق في شيء إلاّ زانه، وما نزع من شيء إلاّ شانه.
مرَّ بصلة بن أَشْيَمْ وأصحابه فتى يجر ثوبه، فهمَّ أصحاب صلة أن يأخذوه بألسنتهم أخذاً شديداً، فقال صلة: دعوني أكفكم أمره. فقال: يا ابن أخي إن لي إليك حاجة!
قال: وما حاجتك؟
قال: أحب أن ترفع إزارك.(/3)
قال: نعم ونعمى عين. فرفع إزاره، فقال صلة لأصحابه: هذا كان أمثل مما أردتم لو شتمتموه وآذيتموه لشتمكم[3].
وهذا من فقهه رحمه الله، ومِلكِه لنفسه، وبعد نظره، أما طلابه فقد أخذتهم بادي الأمر الحمية، فكاد يذهب مقصودهم، فلا هم هدوا الرجل، ولا كان معهم سلطان يزجره عما هو فيه، فلو أغلظوا له لأغلظ لهم، واستمر المنكر، واستمرأه صاحبه، ولكنه عقل صلة أرشده لتحسين لفظه فحصل مقصوده.
والقصص والأخبار عن السلف في هذا الباب كثيرة، ومع ذلك يُعرض عنها بعضنا، ويلتمس ما ندّ وشرد من الألفاظ، فيستعمل ألفاظاً خشنة، ويجعل ذلك ديدنه وهِجِّيراه مع المخالفين، بحجة أن أبا بكر -رضي الله عنه- استعمل تلك الكلمة، وفلان استعمل الأخرى، وثالث الثالثة...- مع أن أبا بكر -رضي الله عنه- والثاني والثالث قد يكون ما قالها غير مرة في كل ما أسند إليه! فيتصيد بعضُ من لم يوفّق للحكمة تلك الكلمات، وربما استخدامها في غير موضعها مع إخوته من أهل السنة! ودون فقه يوصل إلى مقصوده، بل بدافع الحمية والقوة الغضبية التي تفسد في كثير من الأحيان أكثر مما تصلح.
وحري بأصحاب المقاصد الحسنة، والغايات المحمودة أن يتوسلوا إليها بطرق محمودة مشروعة، لا تثير فتنة، ولا تُحْفِظ مخاطباً، ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، فهذا أقرب لحصول المقصود، وأوفق لقواعد الشريعة، وأقرب لعامة هدي السلف.
واللهَ نسألُ أن يهدينا إلى الطيب من القول، وأين يهدينا إلى صراط الحميد، وأن يقينا شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا وأقوالنا.
ــــــــــــــــــــــــــــ
[1] إعلام الموقعين 4/229-230.
[2] الطرق الحكمية، ص40-41.
[3] انظر حلية الأولياء 2/238، وطبقات ابن سعد 7/135، والأثر مشهور أسنايده صحاح إلى راويه.(/4)
العنوان: من لآلئ القلوب: التسامح
رقم المقالة: 984
صاحب المقالة: بدر بن محمد عيد الحسين
-----------------------------------------
التسامحُ دُرَّة السَّجايا الحميدة، وشعاعُ الخير الذي ينيرُ جوانبَ القلوب العاتبة فتسمو وتصفَح، وبسمةُ الرِّضا التي ترسُمُ ملامح النُّبل على الوجوه الشاحبة فتُشرق.
التسامحُ مادة إنسانيّة معجونة بأزكى الطُّيُوب.
ما أشبهَه بمُزنة سخيَّة تعقُبُ عاصفة فتَهمِي بغيثها لتغسلَ وجهَ الأفق المغبرِّ فيصفو.
ما أشبهَه ببشارةِ مباركٍ تلامسُ مسامعَ يائسٍ قانِط، فتنشر الأملَ في ثنايا مواجعه، فيحلِّق الفرحُ في محيَّاه.
في لحظةٍ من لحظات الصَّفاء والمصالحة مع الجبلَّة يُحسُّ المرءُ بدفءِ التسامح الذي إنما هو عَلَمٌ مُشرق من معالم النفوس الرضيَّة.
المتسامحُ كالشجرة التي لا تبخلُ بالظلِّ حتى على من يَنوي تكسيرَ أغصانها، وقطفَ ثمارها، والنَّيل من قامتها الشمَّاء التي تزيِّن وجهَ المعمورة.
هل تتصوَّرون الحياةَ من غير تسامح؟
هل تتخيَّلون الصَّباحَ من غير أمل، والصَّحراءَ من غير نخل، والعيونَ من غير أهداب، والأمومةَ من غير حنان؟
أنا مثلكم لا أتصوَّر الحياةَ من غير تسامح؛ لأنها لو خَلَت من التسامح لأصبحت أشدَّ ضراوةً من حياة الغاب.
المتسامحُ لا يَحقِِِِد على إنسان، ولا يُبغضه، أو يَنال من شخصه، أو يجرِّح هيئتَه، ولكنه ينبِذُ ما نَبا من فعاله، وشذَّ من سلوكه، متعهِّداً إياه بالنُّصح، مقترباً منه؛ لأنَّ القلوب إذا ما تباعدَت تنافَرَت، ومن ثَمَّ خسِرَ بعضُها محبةَ بعض.
يقول بوبليليوس سيروس: ((سامح عدواً واحداً تكسِب أصدقاءَ كثيرين))[1].
التسامح.. تلكمُ القوَّة الخفيَّة والمنسيَّة في قِيعان نفوسنا، والتي إذا ما أُبرزَت عمَّت الدنيا المحبَّةُ والسلام. ولربَّ لحظة من لحظات التسامح أوقفت حرباً، وحقنَت دماً، وجلبت خيراً عَميماً، وولَّدت حبّاً عظيماً.(/1)
وعَفا الله عن الشاعر الكفيف بشار بن بُرد الذي قال:
إذا كنتَ في كلِّ الأُمورِ مُعاتباً صديقكَ لم تلقَ الذي لا تُعاتبُهْ
إذا أنتَ لم تشرَب مِراراً على القَذى ظَمئتَ وأيُّ الناسِ تَصفو مشاربُهْ
والشاعر الذي قال:
يا ما أُحيلى بسمةً من صاحبٍ لو كانَ باطِنُُه شَريكَ الظاهرِ
الأطفالُ أكثر تسامحاً لأن نفوسهم بريئةٌ وقلوبهم نقيَّة، وأرواحهم عَذبة رضيَّة، ففي قمَّة ثورتهم وانهمار دموعهم يرتمون بأحضان من زجَرَهم وحال بينهم وبين ما يحبُّون، وسرعان ما يبتسمون لقطعة الحلوى.
والمؤمنون كالأطفال في نقاء نفوسهم وصفاء جبِلَّتهم؛ فهم متسامحون لأنهم تبطَّنوا قيمةَ التسامح العُلوي، وقَدروه حقَّ قَدره.
قال تعالى: {قُل يا عباديَ الذينَ أَسرَفوا على أَنفُسِهم لا تَقنَطوا مِن رَحمةِ الله إنَّ الله يَغفرُ الذُّنوبَ جَميعاً إنَّه هوَ الغَفورُ الرَّحيم} [الزمر: 53].
التسامح رحيقٌ أفضَت به الحكمة إلى قلب الإنسان العامر بحبِّ الإنسان وبارئه.
فترفَّع عن الشعور بالانتقام أو الحقد لئلا ينالَ هذا الشعورُ من بلَّورِه النقي، فيتكدَّر، أو يُخالطَ نسائمَ روحه العاطرة شيءٌ من دُخان الحقد فيتعكَّر..
لذلك تراه يواجه سهامَ اللَّمز والمكر البشرية بابتسامٍ ورضاً وترفُّع؛ لأنه متبطِّنٌ للنوازع، مُدركٌ لهشاشة النفوس..
المتسامح وافرُ الفَضل، عالي الهمَّة،كثير الصَّفح، ينظرُ إلى القِفار بعينٍ مُحبَّة فيرى فيها الواحات الخُضر والغُدران الجارية والوديان التي تحتضن الماء، وينظرُ إلى الليل الحالك فيرى فيه أَلْقَ الكواكب وحُسنَ القمر.
يقول غاندي: ((نحن لا نُعادي الأشخاص بل أخطاءَهم))[2].
التسامحُ بلسَمٌ للرُّوح وراحة للجسم؛ لأن الحقدَ والغضب يوقعان النفسَ في الأمراض الفاتكة والعلل المفسدة.
ثم أليسَ الحاقدون معرَّضين للزَّلل بِحكم بشريَّتهم؟
فإذا لم يصفحوا فكيف سيصفح الناسُ عن أغلاطهم ويغضُّوا الطَّرفَ عن هَفَواتهم؟!(/2)
ورحم الله الشيخ مصطفى الغلاييني إذ يقول[3]: [موسوعة روائع الحكمة]
سامح صديقك إن زلّت به قدمُ فليسَ يسلمُ إنسانٌ من الزَّلل
ورحم الله الشافعي إذ يقول:
لما عَفَوتُ ولم أحقِد على أحدٍ أرَحْتُ نفسي من همِّ العَداواتِ
كُن كالشمس التي تُشرق في كلِّ يوم متألِّقة متزيِّنة تنشر سناها الفضيَّ في الأفُق الممتدِّ كما لو كانت تُشرق أول مرَّة على الكون، فتبادر الرُّبا بالدِّفء، وتلامس شَعَفاتِ الجبال فتزرعُ الأملَ والتفاؤل.
وكن كيَقَظة الفجر التي تداعبُ العيون الوَسنى، وتبدِّدُ الأحلامَ التي أرْخَت أجنحتَها فوق الأذهان الحالمة لتُعلن بدءَ يومٍ جديد.
ولو تأمَّل الناس قليلاً في حِلم الخالق عزَّ وجلَّ على المخلوقين وصَفحه عن زلاتهم لرفعوا التسامحَ شعاراً، ولاتَّخذوه مبدءاً.
فأيُّ تسامح أعظم من تسامح الخالق عزَّ وجلَّ عندما يقول: {وَلْيَعفوا ولْيَصفَحوا ألا تحبُّونَ أن يَغفرَ الله لكُم} [النور: 22].
وما أحسنَ قولَ المبعوث رحمةً للعالمين سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - عندما قال محبِّباً العفوَ والصفحَ، ومرغِّباً في التسامح فيما رواه أبو هريرة: ((ما نَقَصَت صَدَقةٌ مِن مال، وما زادَ الله عَبداً بعَفوٍ إلا عِزّاً، وما تواضَعَ أحدٌ لله إلا رفَعَه الله)) [مسلم (2588)].
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قلتُ: يا رسول الله، أرأيتَ إن علمتُ أيَّ ليلةٍ ليلةُ القدر، ما أقولُ فيها؟ قال: ((قولي: اللهم إنكَ عفوٌّ كريم تحبُّ العفوَ فاعفُ عني)). [الترمذي (3515)].
اقرؤوا التسامحَ في عيون الأمهات، وفي قُلوب الآباء، وفي مودَّة الزوجات، وفي وفاء الأصدقاء؛ إذ إنه يُخرجُهم من زوايا بشريَّتهم إلى آفاق ملائكيَّتهم؛ فيملؤون الدنيا روعة، ويَنشرون المحبَّة بين الناس انتشارَ الأرَج في نسيم الصَّبا.
ــــــــــــــــــــــــــ
[1] موسوعة (روائع الحكمة والأقوال الخالدة)، د. روحي البعلبكي.
[2] موسوعة (روائع الحكمة).(/3)
[3] موسوعة (روائع الحكمة).(/4)
العنوان: من لآلئ القلوب: التواضُع
رقم المقالة: 946
صاحب المقالة: بدر بن محمد عيد الحسين
-----------------------------------------
يا حبذا المزيةُ الطيِّبة ! ونِعْمَ الخصيصةُ المحبَّبة في القلوب النبيلة!
تلك القلوب التي فتَّشت عن جميل السَّجايا في ذَواتها، فسقَتها، ونمَّتها حتى تَرَعرَعَت في خميلة نفسِها، ففاحَت عطراً جذبَ إليه الفراشات المزركَشَة التي تعشَق الجمال، واستقطَبَت البلابلَ التي تبحثُ عن الأمان والسَّلام.
إن بَذرةَ التَّواضُع في النفس أشبهُ بالدالية التي تتقدَّم فِناء منزل عَتيق تغطِّي باخضِرارها ونُضارة أوراقها الممتدَّة ملامحَ هذا المنزل ليبدوَ للناظر لوحةً فنيةً ساحرة.
فما بالُكَ إذا تقدَّمت هذه الدَّاليةُ إطلالةَ بيتٍ جميل مَتين البناء، عالي الأسوار؟
فلا جَرمَ أنَّ منظرَهُ سيكون فاتناً، وكذلك فإنَّ جَمال مَظهر الإنسان عندما يَلتقي مع مَخبَره فإنه يَغدو يَنبوعاً متدفِّقاً يُفيض من جَنباته النَّفع والصَّلاح.
التواضعُ مزية تدلُّ على النبل والكرم ونقاء السَّريرة وصفاء الطويَّة؛ لأنها لمسةٌ من لمسات الخالق أودَعَها في نُفوس عباده فتمثَّلها الأنبياء والرسُل والصالحون، والنبلاء والمفكِّرون من البشر، الذين عَرَفوا قُدرة الخالق، وضَعف المخلوق، ووَعَوا رسالةَ الحياة الغَرورة القصيرة.
تأمَّلوا قولَ الخالق -عزَّ وجلَّ- في حثِّه على التواضُع: {واخْفِض جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المؤمِنين}[1].
المتواضع قمرٌ يَهَبُ النور، وشمسٌ تَمنحُ الدِّفْء، وابتسامةٌ تَتَكَلَّل بالفَرَح، وعَندليبٌ يُطرب الأَيك.
والمتواضع رسالةُ سلام تَمشي على الأرض، وقلبٌ مِعطاء يُقدِّم للآخَرين إنسانيته ومعروفَه على طَبَق من ذَهَب، فيَسعدون بلُقياه؛ لأنهم يَجدون فيه جانباً آمناً وطريقاً سهلةً مَحفوفة بالزَّهر خاليةً من الأشواك.
وقديماً قالت العرب: ((لا حَسَبَ كالتَّواضُع، ولا شَرَفَ كالعِلم))[2].(/1)
قرأتُ التواضعَ قصيدةً مباركة في حياة الأنبياء، ورأيتُه مَنظراً بديعاً في انحِناء السَّنابل، وفِطرةً نقيَّة في سُجود الكائنات لله.
عِشتُه فَرَحاً في أعيُن التلاميذ عندما يُبادرهم معلِّموهم بالسَّلام والابتسامة.
وأجمل ما رأيتُه في نفوس المتخاصِمين عندما يبدأُ خَيرُهم بالسَّلام على أخيه فيَخرُج دخانُ الحِقد، ويَصفو بلَّور النفس، ويحلُّ الوِصالُ بعد الهَجر، والحبُّ بعد الكُره.
التواضع دليلٌ صريح على ازدِهار الصحَّة النفسية عند الإنسان؛ لأن غِيابَه ينمُّ عن اضطِراب في تَكوين الشخصيَّة.
وحسبُ المتواضع فَخراً أنَّ الله يُحبُّه والملائكةُ ومن ثَمَّ جميع الناس.
ولو استَنطَقنا التاريخَ عن خاتمة المتواضِعين من العُلماء والملوك والأُمَراء والقادَة وعامَّة الناس لأجاب بإكبار، ولأدَّى التحيةَ لهم.
أما أولئك المتكبِّرون فقد حَصَدوا ما زَرَعوا، وخلَّفوا سِيَراً مَشؤومَة تَفوح بالكراهية.
وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلَّم قال: ((ما نَقَصَت صَدَقةٌ مِن مال، وما زادَ اللهُ عَبداً بعَفوٍ إلا عِزّاً، وما تواضعَ أحدٌ لله إلا رَفَعَه الله)) [رواه مسلم].
وهذا ابن المعتزِّ يقول : "أشدُّ العلماء تواضعاً أكثرُهم علماً، كما أنَّ المكانَ المنخفِضَ أكثرُ البِقاع ماءً"[3].
ومَن ظنَّ أن التواضعَ ضعفٌ فقد أخطأَ الفهم، وجانبَ الصواب؛ لأنَّ التواضعَ ثمرةُ الإيمان، والإيمانُ لا يسكنُ في القلوب الخرِبَة ذات الشرايين المتقطِّعة والجوانب المتصدِّعة، وإنما يسكنُ القلوب القويَّة الراسية، ويألَفُ النفوسَ المتسامحة الزكيّة.
فعن أبي هريرةَ رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلَّم قال: ((لو دُعيتُ إلى كُراعٍ أو ذِراعٍ لأَجَبتُ، ولو أُهدِيَ إليَّ ذِراعٌ أو كُراعٌ لأَجَبتُ)) [رواه البخاري].(/2)
وما أروعَ هذا القولَ من رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحد الرجال : ((هَوِّن عليكَ، فإنِّي لستُ بمَلِكٍ، إنما أنا ابنُ امرَأَةٍ مِن قُرَيش كانت تأكُلُ القَديدَ بمَكَّة)).
فيا أيها الآباءُ والأمَّهات والمربونَ أعينوا أبناءكم على تنميةِ هذه البَذرَة في نُفوسِهِم، وخيرُ وسيلة لتنميتها أن تكونوا مُتواضِعين معهم تَنبِذون ما نَبا من سُلوكهم وألفاظهم، وما خالفَ الفِطرةَ السليمة، رغِّبوهم بالتواضع ونفِّروهم من التكبُّر، وأَنعِشوا أَسماعَهُم بالقصص التي تُبرزُ قيمةَ التواضع.
ودونَكم بعضَ الأقوال في التواضُع:
- ليس للمَرءِ سوى مَجدٍ واحدٍ حَقيقي، هو التواضُع[4].
- التواضعُ اكتسابُ المجد، واجتلابُ المجد[5].
- أَلِن جانِبَكَ لقَومِكَ يُحبُّوك، وتواضَع لهم يَرفَعوك، وابسُط لهم يَدَك يُطيعوك[6].
ورحم الله الشعراءَ الذين قالوا:
- مَلأَى السَّنابلِ تَنحَني بتَواضُعٍ والفارِغاتُ رُؤوسُهنَّ شَوامِخُ
- تَواضَعْ تَكُنْ كالبَدرِ لاحَ لناظِرٍ عَلا طَبَقاتِ الجَوِّ وهوَ رَفيعُ
- تَواضَعْ إذا مانِلتَ في الناسِ رِفعةً فإنَّ رَفيعَ القَومِ مَن يَتَواضَعُ
ولتَعلَموا أيها الإخوةُ أنَّ التواضعَ مَجلبَةٌ للسَّعادة والاطمئنان، ومَدعاةٌ لحُصول المحبَّة، وطريقةٌ مَأنوسَةٌ لنشر ثقافةِ السلام، وإعلانِ الصُّلح بين الإنسان ونفسِه، وبينه وبين خالقِه، وبينه وبين البَشَر كافَّة.
وقد قال ألفرد دو موسِّيه: "التواضعُ الحقيقيُّ أبو كلِّ الفَضائل".
ولا أُغالي إن قلت: إنَّ التواضعَ أحدُ أهمِّ الأسلحة في نشر العِلم والسلام والمحبَّة في أرجاء المعمورَة.
ـــــــــــــــــــــــــــ
[1] سورة الشعراء، الآية: 215.
[2] موسوعة روائع الحكمة ص 172.
[3] المصدر السابق.
[4] ألفرد دو موسِّيه.
[5] قول يوناني.
[6] العماد الأصبهاني.(/3)
العنوان: من لآلئ القلوب: الحنان
رقم المقالة: 1340
صاحب المقالة: بدر بن محمد عيد الحسين
-----------------------------------------
الحنانُ قِرْبَةُ ماءٍ في صحراءَ واسعة، وظلٌّ وارفٌ تأنَسُ إليه الروحُ الظَّمأى عندما تنالُ الرَّمضاءُ من رقَّتها وعذوبتها وقتَ الهاجرة ما تنال، وعندما تسومُ الأحاسيسَ الرقيقةَ أعاصيرُ الهجرِ العاتية، وعندما تُزَجُّ المشاعرُ في قفصٍ ضيِّق يسدُّ المهاربَ عليها، ويَكبتُ تغريدها، ويحبسُ بوحَها.
الحنانُ أنشودةُ الأملِ على أوتارِ النفس، وقطراتُ الندى على خميلةِ الفكر، وامتدادُ الأفقِ في بؤبؤ العيون الحالمة.
وهو أثرٌ من آثارِ الخالقِ حيث أودعهُ في صدرِ الأم لبناً خالصاً، وفي راحتَيها دفئاً، وفي قلبها واحةً من الأمان، فعندما يُذكرُ الحنان يقفِز إلى الذهنِ صورةُ الأمِّ التي أعلى الإسلام قَدرَها، وعظَّم شأنها..
جاء رجلٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسولَ الله، من أحقُّ الناس بحسن صحابتي ؟ قال: ((أمّك)) قال: ثمّ من ؟ قال: ((أمّك)) قال: ثمَّ من ؟ قال: ((أمّك)).
قال: ثمّ من ؟ قال: ((ثمَّ أبوك))[1].
ومما قيل في الأمِّ التي هي يَنبوع الحنان الثّرُّ وقمرُ الكون المضيءُ:
- قال شكسبير: "ليس في العالم وسادة أنعمُ من حِضْن الأم".
- وقال لي شيبي: "الأمُّ شمعة مقدّسة تُضيءُ ليل الحياة بتواضع ورقّة وفائدة".
- وقال سقراط: "لم أطمئنَّ قطُّ إلا وأنا في حجر أمي".
- وقال نابليون بونابرت: "الأمُّ التي تهزُّ السَّريرَ بيمينها تهزُّ العالمَ بشمالها".
- ومما يُستحسن ذكرُه في هذا المقام هذا الحوار المؤثّر بين أم وولدها حيث يعبّر عن أرقى درجات المحبَّة والحنان والتضحية والنُّبل:
أغرى امرؤٌ يوماً غُلاماً جاهلاً بنُقودِه حتى ينالَ به الوَطَر
قال: اِئْتِني بفؤاد أمّكَ يافتى ولكَ الدّراهمُ والجواهرُ والدّرَر
فمضى وأَغْمَدَ خَنجراً في صَدرها والقلبَ أخرجه وعادَ على الأثَر(/1)
لكنَّهُ من فَرْطِ سُرعته هَوى فتدَحرَجَ القلبُ المضرَّجُ إذ عَثَر
ناداهُ قلبُ الأمِّ وهو مُعفَّرٌ ولَدي حَبيبي هل أصابَكَ من خَطَر؟
فكأنَّ هذا الصوتَ رغمَ حُنوِّه غَضَبُ السَّماء بهِ على الوَلَد انْهَمَر
فاستَلَّ خَنجَرَه ليَطعَنَ نفسَه طَعْناً ليَبقى عِبرةً لِمَنِ اعْتَبَر
ناداهُ قلبُ الأمِّ: كُفَّ يداً، ولا تَطعَن فؤادي مرَّتَين على الأثَر
الحنان بحرٌ من الحبِّ يحملُ في طيَّاتِ أمواجِهِ تباشيرَ الغَيث، وفي قعرهِ يسكنُ اللؤلؤ والألماس والمرجان.
ومن رحمة الله الواسعة إيداعُ الحنانِ ليس في قلوب البشَر فحسب بل في قلوبِ البهائم أيضاً؛ إذْ تحنو على أولادِها، وتُرضعُهم اللبن، وتحرسُهم وتوفِّرُ لهم أسبابَ الحماية..
وأودعَهُ في نُسوغ الأغصان التي تُمدُّ ثمارَها بالغذاء حتى ترتويَ وتَنضَج..
وأودعه في الزهور التي تمنحُ الرحيقَ للنحل ليقدِّمه عسلاً نافعاً لبني البشَر.
الحنانُ مفتاحُ النَّفس فإذا ما هَمَس إليها، ودغدغَ أحاسيسَها، وحرَّك أوراقَ زهورِها فإنها تسعدُ، وتستفيقُ، ثم تتوقَّد وتبتسم، فتضوعُ عطراً يملأُ الآفاق، فيداعبُ خيوطَ الشمس الفضيّة تارةً، ويرتمي في أحضان النسيم تارةً أخرى، ليرسلَه هديَّة جميلةً للخمائلِ والأفنان، فتصحو البلابلُ والعصافيرُ من طيبِ الأريج، وتغرِّدُ فرحةً جَذلى فيطربُ الكونُ وتبتسمُ السُّحب البيض.
الحنانُ يتمثَّل في كلمة حقٍّ، ونُصرةِ مظلوم، ومواساةِ مُبتلى، ولمسةٍ حانية على رأس مَعوق، وهمسةِ حبٍّ في أذن مجروح.
الحنانُ يتمخَّض عن الحق تمخُّضَ العسل عن الرحيق، وتمخُّضَ النُّبلِ عن الأخلاق.
الحنانُ تضحيةٌ كتضحيةِ الأبِ العَطوف في سبيل الأبناء، وتفاني المعلمِ المخلص في الصفِّ من أجل التلاميذ، وتضحيةِ الأحرار ذَوداً عن دينهم وأوطانهم.(/2)
الحنانُ يولِّدُ الأخوَّة بين الناس، لأنه إذا ما حطَّ رحالَه المباركة على ضفَّتَي قلب طيِّب، فإنه يُسخِّنُ ماء هاتين الضفَّتَين بدفئه، فيعلو نُبلهما، ليُشكِّل سحائبَ الخير التي تَهمي على الدنيا فُيوضاً من العَطاء.
الحنانُ دواءٌ لكثيرٍ من الأدواء فإنِ استُخدِم في وقته، وبقدرِ الحاجةِ إليه، نفعَ وأجدى، وإن استُخدِمَ بعشوائية ومن غيرِ ضوابطَ فإنه يُضرُّ، فهو سلاحٌ ذو حدَّين.. فما أكثرَ الآباء والأمهات الذين كانوا سبباً في تضييعِ أبنائهم لإغراقهم إياهُم بالحنان الجارف الذي غمرَ شخصياتهم فأضرَّ بها، كما يُضرُّ الماءُ النبتةَ إذا ما غمرها كلَّها؛ لأن النبتةَ تحتاجُ إلى الماءِ في أوقاتٍ محدَّدة، كما تحتاج إلى الشمسِ في أحايينَ أخرى، وفي مرَّة ثالثة قد لا تحتاج إلى هذا أو إلى ذاك، بل تحتاجُ إلى رطوبة وهواء. وهذه هي حال الإنسان.
كلُّ واحدٍ منَّا بحاجةٍ إلى الحنان، لأن حاجةَ النفوسِ إلى الحنان كحاجةِ الأرض إلى المطر، وحاجةِ الشِّفاه إلى الابتسامة، والعينِ إلى الكُحل، والأغصان إلى زقزقة العصافير، والجداول إلى همسِ النجوم.
وتأمَّلوا هذه اللمسةَ الحانية من نبيِّ الرحمةِ والهداية محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم وهو يمسحُ على رؤوسِ الأيتامِ في يومِ العيد، ويتفقَّدُ الحزانى والثكالى والمجروحين.
عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: ((خيرُ بيتٍ في المسلمين بيتٌ فيه يتيمٌ يُحسَنُ إليه، وشرُّ بيتٍ في المسلمين بيتٌ فيه يتيمٌ يُساءُ إليه))[2].
فالحنانُ وديعةُ اللهِ في النفوس الطيبة، ولمسةٌ نديَّةٌ من لمسات الخالق بثَّها في القُلوب الصافية، فلا تبخَلوا بها على أرحامكم وجواركم، وعلى الغُرباء من الناس والمبتلين، وعلى الأيتام الذين طارَ بريقُ الفرح من عيونهم، وتلاشى حسُّ الأمان في نُفوسهم.(/3)
قال تعالى: ((فأمَّا اليتيمَ فلا تَقهَر، وأمَّا السائلَ فلا تَنهَر)). [الضحى: 9-10].
ولرُبَّ همسةِ حنان واحدة فتحَتِ الآفاقَ أمامَ موهبةِ طالبٍ كامنة، ورسمت الأملَ على شفاهِ مَكروبٍ يعتصرُه الألم، ويُقِضُّ مضجعَه الحزنُ، وغيَّرت مسيرةَ إنسانٍ من دروبِ الضَّياع إلى دروبِ الحقِّ والهدى.
فيا أيها الزوجُ الكريم، إذا وَجدتَ في نفسك الحاجةَ إلى لمسةِ حنانٍ من مديركِ في العمل، أومن والدَيك، فامنَحْ زوجَتَك تلك الهمسةَ؛ لأنَّ أفضلَ طريقةٍ للحصول على الحبِّ مبادرَتُك الآخرين بالمحبَّة. فالعطاء قيمةٌ وشجاعة وسعادة.
قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((الراحمونَ يرحمهُم الرحمن، ارحَموا مَن في الأرضِ يرحَمكم مَن في السماء، الرَّحِمُ شُجنةٌ من الرَّحمن، فمَن وصَلَها وصلهُ الله، ومَن قطعَها قطعَهُ الله))[3].
هَبُوا الحنانَ للآخرين تُوهَب لكم المحبَّة، وارحموا الآخرين تُظلّكم غمامة الرِّضا العلويَّة، وبوحوا بالكلام الطيِّب، تحصدون محبَّة الناس وخالق الناس، وعامِلوا الناس بخُلُقٍ حَسن يُقرِّبكم نبيُّ الرحمة والهداية إليه في جنات النعيم.
قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أحبَّكُم إليَّ، وأقربَكُم منِّي في الآخِرة، أحاسِنُكم أخلاقاً))[4].
ــــــــــــــــــــــــــ
[1] صحيح البخاري، الحديث رقم (5971).
[2] سنن ابن ماجه، الحديث رقم (3679).
[3] سنن الترمذي، الحديث رقم (1924).
[4] صحيح ابن حبَّان، الحديث رقم (5557).(/4)
العنوان: من لآلئ القلوب: الصِّدق
رقم المقالة: 879
صاحب المقالة: بدر بن محمد عيد الحسين
-----------------------------------------
الصِّدقُ يتصدَّر مكارم الأخلاق كما تتصدَّر الشمس مجموعةَ الكواكب، فهو روضةُ القلوب الغنَّاء، وزهرةُ المروءةِ الفيحاء، وابتسامةُ الضَّمائر الواعدة.
الصِّدق بساطُ المحبَّة الناعم، وعُرى الألفة المتماسكة، وظلُّ السِّدرة المتراخي في وقت الهاجرة.
وُلِد معَ أول إطلالةٍ للشمس على ربوعِ البريَّة، وهمى مع أول سحابةٍ ماطرة بثَّت ظماءَ التلال أشواقَها البِكر، وفاح مع أول نسمةٍ شذيَّة هبَّت على أرجاء المعمورة، فعانقت حِمى البيت العتيق، وتعطَّرت - وهي معطَّرة - من أَرَجِ السماء الزكيِّ.
تكتنفُ سَمْتَهُ طلعةٌ رائقة ذاتُ مهابة ووَقار، وتعلو جبينَه مسحةٌ لطيفةٌ من الوَسامة.
هو درَّة في ليلٍ تدجَّى، وبريقٌ في جوهرة لم يحجُبْ سَناها طينُ القيعان أو زَبَدُ الموج الثائر.
قرأتُ عنه في الكتب فوجدته في أروع السُّطور، وأٍسمى المقامات، وأرفع الدرجات.
ونشدتُه في الناس فوجدتُه في أزكاهم نَفساً، وأطيبهم مَحتداً، وأحاسنهم أخلاقاً، وأنقاهم قلباً.
بحثتُ عنه في الشعر فوجدتُه وقد استحوذَ على أبلَغ الصُّور البيانيَّة، وأعذب التعابير وأرقِّها.
ما أشبهَه بالكلأ الزاهي الذي يحرِّكه نسيمُ الصَّبا المندَّى من صدى عشق الفجر المبارك، في الوقت الذي يَعجِز فيه دَويُّ الرَّعد الغاضب وثورةُ الزلازل المهتاجة عن تحريكه.
لكم جرَّبت من الأصدقاء فكان الصدقُ هو الأوفى، ولكم عاشرتُ من الصُّلَحاء فكان الأصلحَ..
كيف لا ؟! وهو صوت الحقِّ، ولغة البيان، وثمرةُ الإيمان.. قال تعالى: {يا أيُّها الَّذينَ آمَنوا اتَّقُوا الله وكُونُوا معَ الصَّادِقين}[1].
فما أبلغَها من آيةٍ أبرَزت قيمةَ الصِّدق، وجعلته أشبهَ بجذرِ الشَّجرة الذي تتغذَّى منه الأغصان، فالأوراق، فالبراعم، ثمَّ الثمار اليانعة.(/1)
وأما إذا عَقِمَ الجَذرُ، وأصابه المرضُ فأنَّى لأغصان الشَّجرة أن تتجمَّل بالأوراق الزَّاهية، أو تُعطي الثَّمر اللذيذ؟
عن ابن مسعودٍ رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلَّم قال: ((إنَّ الصِّدقَ يَهْدي إلى البِرِّ، وإنَّ البِرَّ يَهدي إلى الجنَّة، وإنَّ الرَّجُل ليَصدُقُ حتَّى يُكتبَ عند الله صِدِّيقاً، وإنَّ الكَذِبَ يَهْدي إلى الفُجُور، وإنَّ الفُجُورَ يَهْدي إلى النَّار، وإنَّ الرَّجُلَ ليَكذِبُ حتَّى يُكتَبَ عندَ اللهِ كَذَّاباً))[2] متّفق عليه.
نعم هذا هو الصِّدق المثمرُ الذي تشكَّلت ملامحُ روعته في نفس الصادق الأمين والمبعوث رحمة للعالمين محمد صلى الله عليه وسلَّم، فاقتدى به محبُّوه، وأنصفه حسَّادُه الكفرة ومبغضوه، وذاك الذي عرفه أبو بكر جِبِلَّةً فعُرف به منارةً، و سكنَ قلبَ رِبْعِيِّ بن عامر فواجه به أكاسرةَ الباطل، وترعرع في صوت عمر، فوصل بإذن الله إلى جبال العراق ليُلامِسَ أذن سارية..
ماشى بلالاً فتحدَّى به زعماءَ الكفر والطُّغيان، وراح ينثُر إشراقات كلمة التوحيد عبرَ صوته الحاني غَماماتٍ تُظلُّ الحَزانى واليَتامى، وبيارقَ من المجد تُؤجِّج في النفوس جَذوةَ الإيمان، وترسمُ ملامحَ دروبِ الهداية التي تَخِِِذَت من غارِ حِراء نُقطة الانطلاق.
لعمري إنَّ شُعاع الصِّدق نفَّاذ، ومعانيه كثيرةُ الامتِداد، وأينما حلَّ فهو محبَّب ومنعَّم، فما أنداه في قُلوب الآباء وعلى ألسنتهم، وهو يتحدَّر سَلسبيلاً عذبَ المذاق يتلقَّفه الأبناء، ويُسكِنونَه قُلوبَهم ومحاجرَ عيونهم.
وما أعذَبَه حينما يتدفَّق مع حنان الأم، تلكم المربيةُ العظيمة التي تصنعُ أمجادَ الأمم، وتَحوكُ بَيارق العزَّة.. وأنعِم به من خصيصة في شخصية المعلِّم، فيشجِّع الطلابَ الصادقين، ويقوِّم مَن لم يأخذ الصِّدق مأخذَه فيه.(/2)
فمَن كان الصِّدق مَبدأه فليَهنَأ عَيشاً، وليَطمئنَّ بالاً؛ لأنه مُمسكٌ بسَنام الحقِّ وحِبال التوفيق.
وورَدَ في صحيح مسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((مَن سألَ اللهَ سبحانه وتعالى الشَّهادةَ بصِدقٍ بلَّغَه الله منازلَ الشُّهداء، وإن ماتَ على فِراشِه)) رواه مسلم[3].
ولسموِّ مَقصِد الصِّدق ونُبل مَكانتِه تناوله الكُتَّاب أجملَ تناول، فأودعوا في ثنايا حُروفه السنيَّة أحسنَ الكَلِم، يقول أمين الرَّيحاني: "ازرَع الصِّدقَ والرَّصانَة تَحصُدِ الثِّقَةَ والأمانَة"[4].
ويقول إبراهيم اليازجي: "الصِّدق عَمود الدِّين، ورُكن الأدَب، وأصلُ المروءة"[5].
ويقول الكاتب العالمي ديوجين: "الصادقُ مَن يَصْدُقُ في أَفعالِهِ صِدقَه في أَقواله"[6].
ورحمَ الله شوقي إذ قال:
والمرءُ ليسَ بصادقٍ في قَولِهِ حتَّى يُؤَيِّدَ قَولَه بفِعالِ
ورحم الله الشاعرَ الذي قال:
الصِّدقُ أفضلُ شَيءٍ أنتَ فاعِلُهُ لاشَيءَ كالصِّدقِ، لا فَخرٌ ولا حَسَبُ
ورحم الله القائل:
ما أَحسنَ الصِّدقَ في الدُّنيا لقائِلِه وأقبحَ الكِذْبَ عِندَ اللهِ والنَّاسِ
ما أقواهُ من وشيجةٍ، وأمتنه من مُرتكَز في علاقات الناس ومعاملاتهم، فحسبُ المرء أن يقولَ عنه الناس إنه صادق، لأنَّ وَهجَ الصِّدق المتألِّق إذا ما خَبا في سماء صاحبه فإنَّ إنسانيَّته ستُطعَن في الوَريد، وحديثُه سيكون أشبهَ بتُرابٍ على صَفوان في يومٍ عاصف، وأشبهَ بسحابةٍ من الدُّخان لا تَلبَثَ أن تتشكَّل حتى تَتلاشى في فضاء الكون الفَسيح دون أن يبقى لها أيُّ أثر.
وعندما يسكنُ الصدقُ قلبَ التاجر، ويدَ الصانع، وعينَ الحائك، ولسانَ المحدِّث، وقلمَ الكاتب، ومخطَّطَ المهندس، ووصفة الطبيب، عندئذٍ تبتسمُ قوافي الأوطان، وتتلألأُ مشاعلُ الضياء في سماء الأمَّة.(/3)
وليس كلُّ ما نقوله ونحن صادقون هو صدقٌ محمود، فليس من الصِّدق أن يقولَ المعلِّم لطالبه المقصِّر: أنت كسولٌ جداً. ويقولَ المقرئ لتلميذٍ له يُتأتِىء في القراءة: أنت قارىءٌ مُتلَعثِم. ولا أن يقولَ الزوج لزوجته القَصيرة: أنت قَزمَة...
فالصدق لا يَتنافى مع مُداراة المشاعر ذاتِ المقاصِد النَّبيلَة التي تُعنى بأحاسيسِ الإنسان ونَفسِه الشَّفيفة.
الصدق الجميلُ والنافعُ هو الصدقُ الذي يكون ثمرةً للدِّين والإيمان، وهو الذي يُجزى عليه المرءُ خيرَ الجزاء، قال تعالى: {مَن عَمِلَ صالحاً من ذَكَرٍ أو أُنثى وهُوَ مُؤمِنٌ فلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَة ولنَجزِينَّهُم أجرَهُم بأَحسن ماكانوا يَعمَلون}[7].
ويقول الفيلسوفُ الألمانيُّ فيخته: "الأخلاقُ مِن غَير دينٍ عَبَثٌ"[8].
ويصرِّح الفيلسوفُ كانت قائلاً: "لا وجودَ للأخلاقِ دون اعتِقاداتٍ ثلاث: وجود الإله، وخُلود الروح، والحساب بعد الموت"[9].
فأعطَرُ التَّحايا وأعطرُ الأشواق لأُولئك الصادقينَ الذين رسَموا في البريَّةِ خريطةَ العزَّة والمروءة والرُّجولة والصِّدق مع الله في الأقوال والأفعال..
وأجمل الشُّكر والتقدير للصَّادقين الذين يعيشون بين ظَهرانَينا، ويَبرُقُون في سمائنا الغائمة، ونحن في زمنٍ خَوى فيه نجمُ السَّجايا الحميدة، وزُهِد في لسان الصِّدق..
ووافرُ الثناء لِمَن ترسَّموا نهجَ أولئك الأحرار المتحرِّرين من عُبوديَّة النفس وأَسر الهوى وقُيود الباطل، فصَدَقوا مع أنفُسهم؛ لأنهم عرفوا نَفاسَة جَوهرها الرَّفيع الذي خلقَه الله سبحانه وتعالى، وصَدقوا مع خالقهم لأنهم عرَفوا قَدرَه وتبطَّنوا أسرارَ حِكمته في خَلقِه، وصَدقوا مع أَوطانهم فذادوا عنها بالغالي والنَّفيس.
أسألُ الله أن يجعلَنا من الصادقينَ في الأقوال والأفعال، إنه وليُّ ذلك والقادرُ عليه..
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.
ـــــــــــــــــــــــــ
[1] سورة التوبة الآية 119.(/4)
[2] كتاب رياض الصالحين، الإمام النووي، باب الصدق ص 34، رقم الحديث 55.
[3] كتاب رياض الصاحين، باب الصدق ص 35.
[4] موسوعة روائع الحكمة، لروحي البعلبكي ص 389.
[5] موسوعة روائع الحكمة، لروحي البعلبكي ص 389.
[6] موسوعة روائع الحِكَم، حسين الطويل ص: 275.
[7] سورة النحل الآية 97.
[8] كتاب تربية الأولاد في الإسلام، عبدالله علوان ص 135.
[9] كتاب تربية الأولاد في الإسلام، عبدالله علوان ص135-136.(/5)
العنوان: من لآلئ القلوب: الوفاء
رقم المقالة: 1065
صاحب المقالة: بدر بن محمد عيد الحسين
-----------------------------------------
الوفاء استتمامٌ لما يُقْطعُ على النفس[1]، وبرٌّ بالوَعد، واستكمالٌ للعمل، وصدقٌ مع الخِلِّ وغيره.
وحُسنُ الوفاء يتبدَّى في قُبح نقيضه من إخلافٍ للوَعد، ونقضٍ للعهد، وخيانةٍ للصَّديق، وحِنثٍ بالقَسَم.
الوفاء كنزٌ عظيم، وخُلقٌ كريم، وسَجيةٌ نبيلة تتقلَّدها النفسُ الطيبةُ عِقداً، وتحتضنُها شُعوراً فيَّاضاً يزدحم في ذاتِها، فتُرسلهُ تارةً على شكلِ عطرٍ يفوح، وأُخرى على شكل أمَلٍ يُلامسُ المشاعرَ الإنسانيَّة الصافية ليَفتَرَّ عنها ضياءُ التفاؤل.
الحسناتُ يُذهبنَ السيئات، والفضائلُ تُعمي عيونَ الرَّذائل؛ إذْ تنبهرُ الأخيرةُ من ضِيائها، وتصغُر، ثم تنكمشُ على نفسها، وتتلاشى أمامَ بهائها وجَلالها؛ لأن الحقَّ أبلج، والباطل لجلج.
الوفاء نجومٌ تتلألأ وربيعٌ يُزهرُ، وأغصانٌ تثمر، أما الغدرُ فعتمٌ دامِس، وريحٌ صَرصَر عاتية.
قال تعالى: {بَلى مَن أَوفى بعَهدِه واتَّقى فإنَّ اللهَ يُحبُّ المتَّقين}[آل عمران: 76].
وقال تعالى: {وأَوفُوا بعَهدِ اللهِ إذا تَعاهَدتُّم} [النحل:91].
رَفرَفَ الوفاء بجناحَيه الجميلَين فوق البساتين النَّاضِرة، يبحث عن غُصنٍ يَحطُّ عليه، فما وجدَ أزهى ولا أندى، ولا أدفأَ من حِضن الأم.
نعم لقد سكنَ قلبَ الأمِّ الحنون فوجدَ عندها ضالَّته؛ إذ احتضنَه قلبُها، ومسحَت يَداها على جَناحَيه الزَّاهِيَين، فهذَّبت الريشَ ومشَطَتْهُ، وسقَتْه من وَريدها، وغطَّتْه بشَغافِها، وعندما تروَّى من الأمان، وتعطَّر من الحب، أرسلَتْهُ حمامةَ سلامٍ تهدِلُ بألحانها، وتترنَّم بكلماتها حاملةً رسالةَ المحبَّة والوئام، وبلبلاً يُغرِّدُ فوقَ الخمائل، فتطرَبُ الفراشاتُ لصوته، وتنسكبُ السعادةُ في أنسامِ المدى ليتصبَّب طَلاًّ يُكلِّلُ البراعمَ المشتاقة.(/1)
الوفاء يكسو وجهَ صاحبهِ مهابةً ونُضرة، ويورثُ حياةَ القلب، لأنه رحيقٌ تُنتجه زهرةُ الإيمانِ المتفتِّحةِ والمُشرقَة في النفوس الرَّضيَّة.
ولكَم نشعرُ بالسَّعادةِ عندما يَهمِسُ لنا صديقٌ بكلمةِ حُبّ، ويبوحُ طالبٌ من طلابنا بهمسةِ احترام، وجارٌ من جيراننا بلمسةِ حنان.
الوفاءُ كالسَّحاب الذي إذا ما تماسَكَت عُراه، وانتَظمت ذرَّاته، وتورَّدت وَجَناتُه فإنه لابدَّ أن ينهمرَ بالغَيث الذي هو مادةُ الحياة الأساسية.
قال تعالى: {أوَلَم يَرَ الَّذينَ كَفَروا أنَّ السَّمواتِ والأرضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وجَعَلنا مِنَ الماءِ كُلَّ شَيءٍ حَيٍّ أفَلا يُؤمِنون} [الأنبياء:30].
إذا تمكَّن الوفاءُ من نفس طيِّبة فإنَّ خُيوطَ ضيائِه ستخترقُ جُدرانَ القلب، لِتُفيضَ من يَنْبوع الأُبُوَّة حِرصاً ومَبدءاً، ومن حَنان الأم تضحيةً، ومنَ الأبناء بِرّاً وطاعة، ومن خَندَقِ الجنود إيماناً وذَوداً عن الدِّين والوطن.
ومن صُورِ الوفاءِ الرائعة وفاءُ الزوجِ لزوجته، والزوجةُ لزوجها، فقد سطَّر نبيُّ الرحمةِ محمدٌ صلى الله عليه وسلّم أصدقَ معاني الوفاء لزوجهِ خديجةَ رضي اللهُ عنها فكان لا ينفكُّ يذكرُ محاسنَها وفضائلَها، ويدعو لها بالمغفرة، وهي المبشَّرة بالجنَّة، فعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: أتى جبريلُ النبيَّ صلى الله عليه وسلَّم فقال: يارسول الله، هذه خديجةُ قد أتَت معها إناءٌ فيه إدامٌ أو طعامٌ أو شَراب، فإذا هي أتَتْك فاقرأ عليها السلامَ مِن ربِّها ومنِّي، وبَشِّرها ببيتٍ في الجنَّةِ من قَصَب لا صَخَبَ فيه ولانَصَب[2].(/2)
الوفاءُ بالنَّذرِ واجبٌ على المسلم، وهذه لمسةٌ بيانيَّةٌ قرآنيَّة رائعة تدلُّ على مكانة الكلمةِ عند المسلم وأهميَّتها.. قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((النَّذرُ نَذرانِ فَما كانَ مِن نَذرٍ في طاعَةِِ اللهِ فذَلِكَ للهِ وفيهِ الوَفاء، وما كانَ مِن نَذرٍ في مَعصِيةِ الله فذَلِكَ للشَّيطان، ولا وَفاءَ فيهِ، ويُكَفِّرُه ما يُكفِّرُ اليَمين))[3].
وقال تعالى: {يُوفُونَ بالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوماً كانَ شَرُّهُ مُستَطِيرا} [الإنسان: 7].
ودونَكُم بعضَ الروائع التي قيلت في الوَفاء[4]:
وَفاءُ الفَتى يُغني ومَن عُدِمَ الوَفا فَلَم يَكْفِهِ أنْ يَملِكَ الغَربَ والشَّرقا
لا تركُنَنَّ إلى مَنْ لا وَفاءَ لهُ فالذِّئبُ مِن طَبعِه إِنْ يَقْتَدِر يَثِبِ
عُودوا لما كُنتُم عَلَيهِ منَ الوَفا كَرَماً فإنِّي ذَلكَ الخِلُّ الوَفِيّ
وقيلَ أيضاً:
- الجُودُ بَذلُ الموجُود، والوَفاءُ تَحقيقُ الموعود.
- الكريمُ إذا وعَدَ وفى.
- أمْهِلِ الوعدَ وعَجِّل بالوَفاء.
الوفاء يتَّخذُ أشكالاً وألواناً، وكلُّها أخَّاذة فتَّانة، فهو أشبهُ بأنواع الزُّهور، فعبيرُ كلِّ واحدةٍ منها يختلفُ عن عَبير الأُخرَيات.
وأجملُ الوفاءِ ما كان للخالق عزَّ وجلَّ؛ الذي خلق فسوَّى، والذي قدَّر فهَدى، والذي أخرجَ المَرعى.. الوفاءُ للخالق يتمثَّل في توحيدهِ وعِبادتِه وشُكره بالأقوال والأفعال، وحُسنِ معاملةِ عيالِه والصِّدق معهم.
ـــــــــــــــــــــــــــ
[1] المكنز الكبير، للدكتور أحمد مختار عمر. الطبعة الأولى 2000م.
[2] صحيح البخاري، الحديث رقم (3609).
[3] صحيح البخاري، الحديث رقم: 3845.
[4] موسوعة روائع الحكمة، د. روحي البعلبكي.(/3)
العنوان: من محاسن الإسلام الإيمان بجميع الكتب والرسل
رقم المقالة: 668
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحمد لله الذي بعث النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه نحمده على إحسانه الكامل ونشكره على فضله الوافر وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وإن رغم أنف الكافر وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله أفضل من دعا إلى الله وجاهد في سبيله وصابر صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم يجمع الله فيه بين الأول والآخر وسلم تسليماً.(/1)
أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى واعرفوا نعمته على خلقه بإرسال الرسل وإنزال الكتب فإن حاجة الناس بل ضرورتهم إلى ذلك أعظم من حاجتهم وضرورتهم إلى الطعام والشراب والهواء فإن الله خلقهم أول ما خلقهم على الفطرة وأوحى إلى أبيهم آدم بما تتوقف عليه مصلحتهم في ذلك الوقت ثم لما طال الزمن وكثر بنو آدم اختلفوا فيما بينهم فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه فأول رسول بعثه الله نوح عليه الصلاة والسلام وما زال الله تعالى يبعث الرسل من حين لآخر بحسب ما تتطلبه مصلحة عباده حتى ختم الله أنبياءه ورسله بخاتم النبيين محمد - صلى الله عليه وسلم - وكان عدة الأنبياء مئة وعشرين ألفاً منهم ثلاث مئة وبضعة عشر رسولا فآمنوا بهذه الكتب وآمنوا بهؤلاء الرسل وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون فالإيمان بالكتب أن تؤمنوا بما سمى الله لكم وعينه باسمه فتؤمنوا بالصحف التي أنزلها على إبراهيم وبالتوراة التي أنزلها الله على موسى وبالزبور الذي آتاه الله داود وبالإنجيل الذي أنزله الله على عيسى وبالفرقان وهو القرآن الذي أنزله الله على محمد - صلى الله عليه وسلم - وعليهم أجمعين وأما ما لم يعينه الله لكم من الكتب فتؤمنون به على وجه الإجمال أي تؤمنون بكل كتاب أنزله الله على كل نبي من الأنبياء ومن الإيمان بالكتب الإيمان بأن هذا القرآن الذي أنزله الله على محمد - صلى الله عليه وسلم - كلام الله تكلم به حقيقة وألقاه إلى جبريل القوي الأمين ثم نزل به جبريل على قلب محمد - صلى الله عليه وسلم - فوعاه لفظاً ومعنى وبلغه إلى أمته بلغه الصحابة رضي الله عنهم الذين هم أكمل هذه الأمة إيماناً وأحفظهم أمانة فلم يمض بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - زمن الخلفاء الراشدين(/2)
حتى جمعوه وحفظوه وأدوه إليكم كاملاً من غير زيادة ولا نقص على الوجه الذي تقرأونه حفظوه وجمعوه قبل زمن التفرق والأهواء وهذا من عناية الله بكتابه المبين فإنه تكفل بحفظه حيث قال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}.
أما الإيمان بالرسل والأنبياء فالواجب أن يؤمن العبد بكل نبي وبكل رسول أرسله الله فمن سماه الله لنا منهم آمنا به بعينه ومن لم يسمه آمنا به عموماً قال الله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} فالذين قص الله علينا محمد وإبراهيم وموسى وعيسى ونوح وداود وسليمان وأيوب ويوسف وهارون وزكريا ويحيي وعيسى وإلياس وإسماعيل واليسع ويونس ولوط وهود وصالح وشعيب وإدريس وإسحق ويعقوب ومن الإيمان بالرسل والكتب أن تصدق بأخبارها وتعتقد أنها حق وأن تعمل بما أوجب الله عليك العمل به من أحكامها وتعتقد أنها أحسن الأحكام وأنفعها للخلق في دينهم ودنياهم. فمن كذب رسولاً أو كتاباً أو كفر به فهو كافر بالجميع ومن رفض الأحكام التي شرعها الله لعباده وحكم بغير ما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ومن حقق قول الله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} من حقق ذلك كان من المؤمنين بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.. الخ.(/3)
العنوان: من محاسن الإسلام العدل في التصرفات
رقم المقالة: 670
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحمد لله اللطيف المنان المتفضل علىعباده بأنواع الإحسان علم حال الإنسان فرحمه وشرع الشرع فيسره ولم يكلف الإنسان إلا ما أطاق وهذا غاية الفضل والامتنان وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليماً.(/1)
أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى واعرفوا نعمته عليكم بما شرع لكم من العبادات التي تصلون بها إلى أعلى الدرجات وأكمل المقامات فلقد شرع الله لنا عبادات ميسرة مصلحة للقلب والبدن والدنيا والدين ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها لو تأملنا العبادات البدنية لوجدناها لا تستغرق من أوقاتنا وأعمالنا إلا القليل ولو نظرنا إلى العبادات لرأيناها لا تطلب من مالنا إلا القليل ومع ذلك فإن ثمرات هذه الأعمال القليلة والأموال المبذولة اليسيرة ثمراتها كثيرة كبيرة لأن ثمراتها صلاح الدنيا والآخرة ولك مع هذا كله إذا فكرنا في أمرنا وجدنا أننا نفرط في هذه العبادات ونبالغ في طلب اللذائذ والشهوات. أعمال الدنيا نحرص على إدراكها وتحصيلها ونتأنى ونتمهل في تنميتها وتكميلها مع أننا نعلم أننا لن نخلد فيها ولن تخلد لنا وأن الأعمال الصالحة هي التي ستبقى لنا ونخلد لها عند حصول ثوابها تجد الكثير يتوانى عن القيام إلى صلاته وإذا قام إليها أداها بسرعة مخلة بها لا يطمئن ولا يتمهل ولا يتدبر ما يقول وربما كان بدنه حاضراً وقلبه غائب يتجول في دنياه فيخرج من صلاته لا يعقل منها شيئاً ولو طلب منه أن يعمل عملاً لدنياه لتمهل فيه وتأنى وحرص على تكميله وتنميقه وأشغل فكره وبدنه لذلك ولو أضاع من أجله الوقت الكثير فهل من العدل والعقل أن يجحف الإنسان بعمل الآخرة ويؤدي عمل الدنيا كاملا مكملا مع أن عمل الدنيا زائل وعمل الآخرة هو الباقي قال الله تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً}. يطلب من الإنسان أن يؤدي زكاة ماله فيبخل في ذلك ويشح عليه وإذا أخرجها فربما يخرجها على وجه ناقص لا تبرأ به الذمة ولكنه مع ذلك يسهل عليه غاية السهولة أن يبذل المال في أمور دنياه التي ربما كانت وبالا عليه ونقصا في دينه فما أكثر ما يبذل من ماله في الأمور(/2)
الكماليات التي يترفه بها ويتنعم وما أقل ما يبذله من ماله فيما يجب عليه من زكاة وكفارات ونفقات الأهل والأقارب فهل هذا من العدل والإنصاف.
كثير من الناس يصعب عليه أن يبذل ماله وبدنه في الحج إلى بيت الله ولكنه يسهل عليه أن يبذل ماله وجهده وبدنه في السياحة إلى البلاد يميناً وشمالاً وربما كانت سياحة يغيب بها عن أهله وولده فيضيع عليهم فرصة وجوده عندهم وتأديبه لهم وهكذا كلما نظرنا في أمرنا وجدنا أننا أو الكثير منا مجحفون في أعمال الآخرة مقصرون فيها ومسرفون في أعمال الدنيا ومغالون فيها وليس هذا من العدل قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى}{وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا}{فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى}{وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى}{فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى}. وقال تعالى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا}{وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى}.
أيها الناس إنه لم يطلب منكم أن تتركوا أعمال الدنيا كلها ولا يمكن أن يطلب ذلك لأن من ضرورة بقاء الإنسان في الدنيا أن يعمل لها ولكن المطلوب منكم ألا تؤثروها على الآخرة وألا تكون هي أكبر همكم وكأنما خلقتم لها وكأنها دار المقر ولكن خذوا منها بنصيب واعملوا للآخرة على الوجه المطلوب وإذا عملتم لها فأجيدوا العمل وأتقنوه كما كنتم تجيدون العمل للدنيا وتتقنونه فإن لم تفعلوا فقد آثرتم الدنيا على الآخرة وبؤتم بالإثم والخسارة الفادحة اللهم وفقنا لما تحب وترضى وهيئ لنا من أمرنا رشداً واغفر لنا وللمسلمين إنك أنت الغفور الرحيم.(/3)
العنوان: من مزايا اللغة العربية (1)
رقم المقالة: 919
صاحب المقالة: د. محمد بن لطفي الصباغ
-----------------------------------------
إخواني وأخواتي
أبنائي وبناتي
قبل أن أذكر مزايا أخرى غير التي مرَّت بنا في حديثي السابق أودُّ أن أكملَ ما جاء في حديثي عن تدريس العلوم التجريبية لأولادنا باللغة العربية فأقول: إنَّ تدريس العلوم كلِّها باللغة العربية في بلادنا العربية هو الأمرُ الطبيعي؛ ذلك لأنَّ غرضَنا من التعليم هو إفهامُ الطالب المادة العلمية المقررة وجعلُه يستوعبها تمام الاستيعاب، وهذا لا يتحقق على الوجه الأكمل إلاَّ إذا قررناها له بلغته الأم، وهذا ما درجَت عليه أممُ الأرض إلاَّ من شذَّ مثل واقعنا المؤلم.
وقد ذكرتُ هناك بعض المقولات الباطلة والادِّعاءات التافهة التي يُثيرها بعضُهم، ومن هذه الادِّعاءات مشكلة المصطلحات، وقد بيَّنت أنَّ هذه ليست مشكلة، بل لا مانعَ من أن تَبقى المصطلحات باللغة الأجنبية على أن يكونَ الشرح والبيان للمادة العلمية باللغة العربية، والمصطلحاتُ لا تشكِّل حيِّزًا كبيرًا، وقد ذكرتُ أنَّ عددًا من العلماء المعاصرين من بُلدان عربية متعدِّدة وضعوا معجمًا قيِّمًا للمصطلحات الطبيَّة، ذكروا فيه المصطلح بالإنكليزية والفرنسية والعربية.
وقد ذكر العلماء طرائقَ كثيرة جدًّا تُعين على وضع المصطلح:
• ومن ذلك الاشتقاق، وهو أنواع وقد فصَّل القولَ فيها علماء اللغة من قدماء ومعاصرين، وأكتفي هنا بذكر هذه الأنواع دون تفصيلٍ ولا شرح، وهي: الاشتقاق الصغير، والاشتقاق الكبير، والاشتقاق الأكبر، ولاشتقاق الكُبَّار.
قال أستاذنا سعيد الأفغاني رحمه الله (ت 1417هـ = 1997م) في آخر بحثه في الاشتقاق: ((للغتنا غنًى وافر، وطبيعةٌ مسعفة، يحسدها عليها كثير من اللغات، فهي كنزٌ يطلب من يكتشفه ويحسن استخدامَه والإفادة منه))[1].(/1)
• ومن ذلك المجاز، وهو استعمالُ كلمة في غير معناها الأصليِّ لعلاقة مع قرينةٍ مانعة من إرادة المعنى الأصلي.
• ومن ذلك النَّحْت، وهو طريقةٌ من طرائق توليد الألفاظ، وهو قليلُ الاستعمال في اللغة العربية شائعٌ في غيرها من اللغات الهندية الأوربية. ومن أمثلته: البَسْمَلَة، والحَمْدَلَة، والحَوْقَلَة. وبعض العلماء يسمُّون النحت الاشتقاقَ الكُبَّار ويعدُّونه نوعًا من أنواع الاشتقاق. وهو أيضًا أنواع.
• ومن ذلك التعريب، وهو نقلُ المفردَة الأعجميَّة بلفظها مع إدخال بعض التعديل عليها، لتكونَ وَفق طبيعة اللغة العربية، وقد عرَّب اللغويون المتقدِّمون كثيرًا من الكلمات الأعجمية والأعلام الأعجمية. فمن ذلك كلمة (هندزة) عرَّبوها إلى (هَندَسة).. وهكذا.
• ومن ذلك الاختِزال الذي اخترعه علماءُ الحديث، وأخذَه عنهم علماء العلوم الأخرى كعلماء الرضيات والكيمياء والفيزياء، وهو استخدامُ حرف أو حرفين من الكلمة الأصل للدَّلالة على الكلمة المختَزَلَة، ومن ذلك الرُّموز الدالَّة على المواد التي نُريد الحديث عنها[2].
• ومن ذلك استعمالُ كلمةٍ مهجورةِ الاستعمال وهي موجودةٌ في كتب اللغة، استعمالُها في معنى جديد، وهذه الطريقة أخذ بها المجمع العلميُّ العربي في دمشق كما حدثني بذلك أستاذنا العلاَّمة اللغوي (وهو من أعضاء المجمع المؤسِّسين) عز الدين علم الدين التَّنوخي رحمه الله (ت 1386هـ = 1966م)، وضرب لذلك مثلاً كلمة (الإِضْبارَة) التي اقترحها لتكون محلَّ (الدُّوسيه) وسادت هذه الكلمةُ على صعوبة نطقها.
وذهب كثيرٌ من علماء فقه اللغة إلى أنَّ اللغة العربية تنفرد بمزايا لا توجد مجتمعةً في لغة أخرى من لغات البشر، أي قد توجد بعضُ هذه المزايا في لغة من اللغات. أما أن تجتمعَ كل هذه المزايا في لغة غير العربية فهذا غيرُ موجود. ولذلك تفصيلٌ أفاض فيه هؤلاء العلماء.(/2)
قال الأستاذ محمد الخضر حسين: ((كانت الفارسيةُ في الشرق هي التي يمكن بما لها من فصاحةٍ وحسن بيان أن يُوازَنَ بينها وبين اللغة العربية، وقد شهد بعضُ الأعاجم الذين عرفوا اللغتين بأنَّ العربيةَ أرقى مكانةً وألطفُ مسالك. قال ابن جني في "الخصائص": إنا نسأل علماءَ العربية مِمَّن أصله أعجمي وقد تدرَّب قبل استعرابه عن حال اللغتين فلا يجمعُ بينهما، بل لا يكاد يقبَل السؤال عن ذلك لبُعده في نفسه، وتقدُّم لطف العربية في رأيه وحِسِّه. سألتُ غير مرَّة أبا عليٍّ عن ذلك، فكان جوابه نحوًا مِمَّا حكيته)).
وإليك شهادات من لا يؤمنون بالقرآن، وإنما ينظرون إلى اللغة من ناحية حُسن البيان. قال المستشرق (ارنست رينان) في كتابه: "تاريخ اللغات السامية": ((من أغرب المدهشات أن تنبُتَ تلك اللغة القوية، وتصلَ إلى أعلى درجة الكمال وسط الصحارى عند أمَّة من الرُّحَّل، تلك اللغة التي فاقت أخواتها بكثرة مفرداتها، ودقَّة معانيها، وحسن نظام مبانيها، وكانت هذه اللغةُ مجهولةً عند الأمم، ومن يوم عُلمت ظهرت لنا في حلل الكمال إلى درجة أنَّها لم تتغيَّر أيَّ تغيُّر يذكر، حتى إنها لم يُعرف لها في كلِّ أطوار حياتها لا طفولة ولا شيخوخة، لا نكاد نعلمُ من شأنها إلا فتوحاتها وانتصاراتها التي لا تُبارى، ولا نعلم شبيهًا لهذه اللغة التي ظهرَت للباحثين كاملةً من غير تدَرُّج، وبقيَت حافظةً لكيانها من كلَّ شائبة)).
وقال ابن فارس في كتابه "فقه اللغة": ((لغةُ العرب أفضل اللغات وأوسعُها. قال الله تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 192-195]، فوصفه -سبحانه- بأبلغ ما يوصَف به الكلام وهو البيان... فإن قال قائلٌ: فقد يقع البيانُ بغير اللسان العربي، لأن كلَّ من أفهَم بكلامه على شرط لغته فقد بيَّن.(/3)
قيل له: إن كنت تريد أن المتكلمَ بغير اللغة العربية قد يُعرب عن نفسه حتى يفهَمَ السامعُ مرادَه؛ فهذا أخسُّ مراتب البيان؛ لأن الأبكَمَ قد يدلُّ بإشارات وحركات له على أكثر مُراده، ثم لا يُسمَّى متكلمًا فضلاً عن أن يُسمَّى بيّنًا أو بليغًا.
وإن أردت أنَّ سائر اللغات تُبين إبانةَ اللغة العربية فهذا غَلَط، لأنَّا لو احتَجنا إلى أن نعبِّر عن السيف وأوصافه باللغة الفارسية لما أمكَنَنا ذلك إلا باسمٍ واحد، ونحن نذكُر للسيف بالعربية صفات كثيرة.. وكذلك الأَسَد والفَرَس... فأين هذا من ذاك؟ وأين لسائر اللغات من السَّعة ما للغة العرب؟ هذا ما لا خَفاء به على ذي نُهية)).
هذا ابن فارس وابن جني وأبو علي الفارسي وكانوا محيطينَ باللغة الفارسية يشهدونَ شهادةَ الحقِّ كما رأيتم.
يتبع
ـــــــــــــــــــــــ
[1] في "أصول النحو" (ص158).
[2] انظر كتابنا "الحديث النبوي" الطبعة الثامنة (ص216).(/4)
العنوان: من مزايا اللغة العربية (2)
رقم المقالة: 963
صاحب المقالة: د. محمد بن لطفي الصباغ
-----------------------------------------
أما أنا فإن اطِّلاعي على اللغات محدودٌ، فقد درستُ اللغةَ الفرنسية من المرحلة الابتدائية إلى نهاية المرحلة الجامعية، ودرستُ إلى جانبها اللغةَ الإنكليزية في المرحلة الثانوية، ودرستُ في المرحلة الجامعية اللغةَ الفارسية دراسة على نحوٍ مكَّنني من إحراز النجاح في امتحاناتها، فوجدتُ في حدود علمي أن اللغة العربيةَ لغةٌ منطقية، وكنت وقفتُ على بحثٍ رائع لأحد العلماء المعاصرين يعالجُ هذه القضية معالجةً واسعة، وقد قرَّر في بحثه أن اللغة العربية هي اللغةُ التي تتفق مع الاعتبارات العقلية، وأنها اللغةُ التي تتفق مع المنطق السليم في التعبير عمَّا يتردَّد في الذهن من معان. وقد أشار ذاك الباحثُ إلى أن طريقةَ النطق في العربية تُعين على إدراك المعنى، وجاء بأمثلةٍ كثيرة تؤيِّد ما ذهب إليه.
وهناك من لم يُتَحْ له إدراكُ فضل العربية وتميُّزها عن غيرها من اللغات، فذهب يقول: إنه ليس هناك لغةٌ أفضلُ من لغة، وقد أشار إلى ذلك ابن فارس في النصِّ الذي أوردناه آنفاً.
وقائل هذا:
- إما جاهلٌ، ولا حيلة لنا مع الجاهل إلَّا بالإعراض عن مقولته، ومحاولة تعليمه وتوضيح الأمر له.
- وإما مصابٌ بالتقليد الأعمى للغرب، فهو لم يَجد في كلام سادته في أوروبا وأمريكا مَن يقرِّر تفوُّق العربية؛ لجهلهم بهذه اللغة الشريفة.. ولذلك لا يريد أن يعترفَ بفضل ولا مزية لشيء إذا لم يقُله سادته. وهذه هي العبوديةُ العقلية التي نعاني شرورَها هذه الأيام، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
- وإما صاحبُ هوًى من الأعاجم الذين يتكلَّمون العربية، وقلوبُهم تتميَّز من الغيظ أن لغتَهم الأصلية مهجورة.
- وإما إنسانٌ مولَع بمخالفة المألوف المقرَّر لدى جَمهرة العلماء، فهو يخالف لوجه المخالفة ليظهر ويُعرَف.(/1)
- وإما إنسانٌ غير متَّهم، ولكنه اجتهد فأخطأ في الرأي ولم يُوافق الصواب. والمؤسفُ أن تُعرَض هذه الأباطيلُ على الناس دون ترجيح الحقِّ وبيان الباطل في تلك الدعاوى.
ومن مزايا اللغة العربية (الإعراب) الذي هو الفارق بين المعاني المتكافئة في اللفظ، وبه يُعرف مراد المتكلِّم من الكلام، ولولاه ما مُيِّز بين فاعل ومفعول، ولا عُرف تعجُّب من استفهام.
فالإعرابُ به تتميَّز المعاني، ويوقَف على أغراض المتكلِّمين. ولنَضرِب مثلاً يوضِّح هذه المزية:
لو أن قائلاً قال: (ما أحسنْ زيدْ) غيرَ مُعربٍ، أي سَكَّن أواخرَ الكلمات، لم يُعرف مراده.
فإذا قال: (ما أحسنَ زيدًا!) وأظهر علامات الإعراب عرفنا أنه يتعجَّب.
وإذا قال: (ما أحسنُ زيدٍ؟) وأظهر علامات الإعراب عرفنا أنه يستفهم عن أحسن شيء في زيد.
وإذا قال: (ما أحسنَ زيدٌ) بالإعراب عرفنا أنه ينفي الإحسانَ عن زيد.
ومن مزايا اللغة العربية أنَّ للأبنية (الصيغ) دلالاتٍ تجعل السامعَ يدرك من معرفته للصيغة المرادَ. وللأوزان في هذه اللغة معانٍ، ومن ذلك ما هو معروفٌ ومشهور كالأسماء المشتقَّة من نحو اسم الفاعل واسم المفعول والصفة المشبَّهة واسم الزمان واسم المكان وأفعل التفضيل واسم الآلة، والمصدر الدالِّ على المرَّة والمصدر الدالِّ على الهيئة.
ولأوزان الأفعال وتصاريفها دلالاتٌ معينة:
فمثلاً (فاعَلَ) تدلُّ على تعلُّق الفعل بمتعدِّد، وعلى المنافسة، مثل: قابَلَ وزاحَمَ ونافَسَ. وهكذا.
و(تفاعل) تدلُّ على المشاركة وتعدُّد الفاعلية، وقد تدلُّ على التظاهُر بالشيء، مثل: تَجاهَلَ، وتَغابَى، وتَمارَضَ.
ولأوزان الكلمات معانٍ معينة:
فمثلاً (فُعال) تدلُّ على الأصوات، مثل: رُغاء، وثُغاء، وعُواء.
و(فُعالَة) تدلُّ على البَقايا، مثل: حُثالَة، نُخالَة.
و(فِعالَة) تدلُّ على الحِرفَة، مثل: زِراعَة، حِياكَة.(/2)
إنَّ وجود هذه القوالبِ الفكرية العامَّة في اللغة العربية توفِّر على المتكلِّم والمتعلِّم كثيراً من الجهد في التعبير والفَهم والإدراك.
وهذه الطريقةُ في اشتقاق الألفاظ من مَواردها الأصلية، وتصريفها في أشكالٍ متنوِّعة، واستخدام هذه الأبنية، تختلفُ عن طريقة التركيب الإلحاقي المعروفة في لغاتٍ أخرى والتي تقوم على زيادة أحرُف مخصوصة في أول الكلمة أو في آخرها لتدلَّ على معنًى خاص.
وعددُ الأبنية في العربية كبيرٌ، وقد بالغ ابن القطَّاع المتوفى سنة 515 هـ فذكر في كتابه "الأبنية" أنها تبلغ 1210 بناء.
وكذلك فإن عدد تصاريف الكلمة الواحدة ومشتقَّاتها ومصادرها تصلُ إلى أكثرَ من مئة وخمسين كلمة.
أقول: ما أغنى هذه اللغةَ.
ومن مزايا هذه اللغةِ أنها تمتاز في مجموع أصواتِ حروفها بسَعَة مَدرَجها الصَّوتي سَعَةً تُقابل أصواتَ الطبيعة في تنوُّعها وسَعَتها.
وتمتاز من جهةٍ أخرى بتوزُّعها في هذا المَدرَج توزُّعاً عادلاً يؤدِّي إلى التوازن والانسجام. وقد أشار ابنُ جني في "الخصائص" إلى أن العربَ تجنَّبت بعضَ الكلمات لتقارُب مخارج حروفها، مثل اجتماع السين والصاد، أو الطاء والتاء.
ومن مزايا هذه اللغةِ أن أصواتَ الحروف العربية يُنطَقُ بها الآنَ كما كان يَنطِقُ بها أهلُها قبل خمسةَ عشرَ قرناً، والفضل في ذلك يعود إلى القرآن الكريم.
ومن مزايا هذه اللغةِ ثباتُها على مرِّ الزمان ومحافظتُها على خصائصها ومفرداتها، فما قاله زهير وعنترة والحطيئة قبل خمسةَ عشرَ قرنًا يقرؤه العربيُّ المعاصر اليومَ فيفهم مَعناه.
انظر قولَ زهير:
ومَنْ لا يَذُدْ عن حَوضِهِ بسِلاحِهِ يُهَدَّمْ ومَنْ لا يَظلمِ الناسَ يُظْلَمِ
ومَن يَغترِبْ يَحسِبْ عدوّاً صَديقَهُ ومَن لا يُكرِّمْ نفسَه لا يُكَرَّمِ
وقول عنترة:
أَثْني عليَّ بما عَلِمْتِ فإنني سَمحٌ مخالفَتي إذَا لم أُظلَمِ(/3)
فإذا ظُلِمْتُ فإنَّ ظُلمِيَ باسِلٌ مُرٌّ مذَاقَتهُ كَطَعمِ العَلْقَمِ
وقول الحطيئة
أقِلُّوا عَلَيْهِمْ لا أبَا لأبِيكُمُ منَ اللَّومِ أو سُدُّوا المكانَ الذي سَدُّوا
أُولئكَ قَومٌ إِنْ بَنَوا أَحْسَنُوا البِنَى وإن عاهَدُوا أَوْفَوْا وإن عَقَدُوا شَدُّوا
إلى غير ذلك من الأمثلة..
إن هذه الأبياتِ كأنها نُظمت الآن، وهذا إنما كان بسبب ارتباط اللغة بالقرآن، وقد كان هذا سبباً في أن يجعلَ أجيالَ الأمة المتعاقبة يستفيدون من تُراث أمَّتهم الثقافي ومن أفكار عباقرتهم على مرِّ العصور، وكان سبباً في جعلِ أبناء أقطارٍ متباعدة يتكلَّمون لغةً واحدة من شواطئ الأطلسيِّ إلى حُدود فارس.. وجعلِ هذه اللغةِ إطاراً استوعَبَ ثمرات عقول ضَخمة وعبقريات فذَّة.. وذلك من فضل الله علينا وعلى الناس.
وبالموازنة مع الإنكليزية نجد أن ما كتبه شكسبير (1564-1616م) يحتاج اليومَ الراغبون في فهمه من الإنكليز إلى مُترجم يُترجمه لهم.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وآله.(/4)
العنوان: من ملامح الرواية التاريخية عند باكثير الثائر الأحمر.. وفشل المشروع القرمطي
رقم المقالة: 473
صاحب المقالة: د. حلمي محمد القاعود
-----------------------------------------
(1)
"على أحمد باكثير"[1] واحد من بناة الأدب العربي الحديث في معظم ألوانه وفروعه، وهو في مجال الرواية يقف الصف الذي يضم "نجيب محفوظ" و"محمد عبد الحليم عبد الله" و"عبد الحميد جودة السحار" و"أمين يوسف غراب"وغيرهم، وقد آثر أن يتجه في كتاباته الروائية والمسرحية إلى التاريخ، معيناً ثرا يغترف منه الحوادث والظروف المشابهة لما تمر به الأمة العربية الإسلامية في العصر الحديث، فيجد هناك الرحابة والقدرة على التعبير الحر الطليق الذي يتيح له أن يسكب على الورق ما يعتمل في نفسه من هموم وأشجان، وآمال وطموحات، يفرزها عصره وواقعه، وإذا عرفنا أن الفترة التي عاشها "باكثير" ونضج فيها، كاتبًا مبدعًا، وشاعراً متمرسًا، كان تحالفة ومثيرة، فضلا عن مناخ عام كان يقف بالمرصاد لمحاولات التعبير التي تخالف ما هو سائد في الساحة الإعلامية، عرفنا لماذا جنح "باكثير إلى التاريخ يلبسه قناعًا يتحدث من ورائه بما يريد أو عما يريد، ففي التاريخ – على كل حال – مساحة آمنة، وأكثر رحابة، يستطيع الكاتب على أرضها أن يصول ويجول، دون أن تعترضه مخاوف أو محاذير، كذلك فإن التاريخ حافل بالنماذج الساطعة التي يمكن أن تحتذي في الواقع المعاصر الذي يخلو منها، وتصميه الهزائم والمحن فلا يجد مفراً من الهروب إلى التاريخ كي يجد فيه السلوى والتئام الجراح ويستعد مرة أخرى للمواجهة واتخاذ زمام المبادرة.(/1)
ولقد ألف "باكثير" أكثر من رواية تاريخية أبرزها "سلامة القس" و"واإسلاماه"، وقد حولتها السينما المصرية إلى فيلمين شهيرين، ثم كتب "باكثير" روايته "الثائر الأحمر[2]" التي تعد أنضج رواياته فنيا، من وجهة نظري، وهي رواية ذات طابع فكري وعقدي، وللأسف، فإنها لم تلق اهتماماً من الدارسين، وربما بسبب موضوعها الذي كان يشكل حساسية من نوع ما أيام كتابتها.
وتعالج الرواية، ثورة "القرمطة" التي ترافقت – إلى حد ما- قيامًا وسقوطًا، مع "ثورة الزنج" في دولة الخلافة العباسية على مدى عقود عديدة في القرنين الثالث والرابع الهجريين.. وتحكي قصة حمدان قرمط وابن عمه عبدان عندما تحولا من شخصين من عامة الناس الفقراء أو البسطاء إلى ثائرين يقودان الجموع ضد دولة الخلافة سعياً لما سمي "بالعدل الشامل"، وانتهت ثورتهما بالفضل الذريع بعد الإخفاق في تحقيق أي نوع من العدل (!)، وانهيار دولتهما التي أقيمت في جنوب العراق.
وواضح أن الكاتب لم يسع إلى سرد القصة التاريخية للقرامطة فسحب، بل إنه كان يريد أن يحذر من تجارب مماثلة في الواقع الذي يعيشه، وهي تجارب انتهت أيضاً إلى الفشل الكامل، والهزيمة المريرة.. وهذا ما تبينه القراءة المتأنية للرواية ومعرفة حوادثها وشخوصها.. ويبدو أن باكثير كان على موعد ليشهد نهاية هذه التجارب الفاشلة في عصره، وليتأكد من صدق حدسه وسلامة موقفه، فمات كمداً بعد هزيمة 1967م الساحقة، بعد أن رأى القدس تسقط، وعسكر العدو يقفون على ضفة القناة، وبالرغم من كمده وحزنه، فقد هتف بقصيدته الطويلة الشهيرة، "إما أن نكون أبداً أو لا نكون"، ليزرع الأمل في نفوس الأمة، ويوقد جذوة المقاومة في قلوب الناس، ويحرض على الثأر والانتقام.
(2)(/2)
يوحي عنوان الرواية "الثائر الأحمر" بأننا أمام شخص خارج على المألوف، يوصف الحمرة، وهذا الوصف يحمل في ذاته أكثر من دلالة، يرجع بعضها إلى الحقيقة باعتبار حمرة عينية، ويرجع بعضها الآخر إلى ما ترمز إليه الحمرة من معاني الثورة الدموية أو الصراع الدموي الذي نشأ عن حركة القرامطة ومن حولها، وفي كل حال، فإن دلالة العنوان وضاحة، وتشي بمضمون الرواية في إيجاز شديد.. وبخاصة حين نقارن هذه الدلالة بما نراه في الثورات المعاصرة والتي امتدت على رقعة كبيرة من العالم تبشر بالعدل والحرية والمساواة، مثل ثورة البلاشفة في روسيا 1917م، وثورة الصين الاشتراكية 1948، وثورات العالم الثالث وبخاصة في أمريكا اللاتينية (كوبا وأخواتها)..
يقسم "على أحمد باكثير" رواية "الثائر الأحمر" إلى أسفار أربعة، كل سفر يضم عدداً من الفصول تطول وتقصر بحسب المكان والأحداث، فلكل سفر في الرواية طبيعته أو تكوينه الذي يسهم به في بنائها، من حيث نمو الأحداث والشخصيات، وبيان مسرح الصراع الروائي.. فالسفر الأول يضم أحد عشر فصلا، تشغل ثلث الرواية تقريبا، ويقدم فيه الكاتب المسرح الأساس، والشخوص الرئيسيين، ويستغرق طويلاً في وصف البيئة والأفراد والحياة، كما يشير إلى زمن الرواية، ويهيئنا في كل الأحوال لتوالي الأحداث، وصراع الشخصيات في بقية الأسفار، في السفر الثاني خمسة فصول، تتحدث عن البيئة الجديدة "بغداد التي انتقل إليها" "عبدان" الشخصية الثانية المهمة في لحركة القرمطية، وتوضح كيف انتقلت من مرحلة إلى مرحلة وتحولت فكرياً بمساعدة الحركة السرية الباطنية إلى عضو فعال يتهيأ للعمل من أجل ما سمي بمملكة "العدل الشامل"، أو مملكة القرامطة.(/3)
في السفر الثالث اثنا عشر فصلا، وتشغل ربع الرواية تقريباً، وتظهر فيها ذروة الصراع بتحقق مملكة القرامطة في جنوب العراق (الكوفة ما يليها من قرى وسواد)، وتطبيق المذهب الذي دعا إليه الباطنيون من أتباع "القداحيين" الذين تمركزوا في بلاد الشام.
أما السفر الرابع والأخير، فهو أكبر الأسفار حيث يضم ثلاثة وعشرين فصلاً، تشغل ثلث الرواية الباقي أو أكثر قليلاً، وتتلاحق فيه الأحداث والصراعات، حيث تنجلي مصائر الأطراف المعنية، والأفكار المتعارضة، والشخصيات المتصارعة.. وتنتهي الرواية بنهاية مأساوية للمشروع القرمطي، وانتصار المشروع الإسلامي دون قتال أو سيف.
في بداية كل سفر من هذه الأسفار، يثبت الكاتب آية قرآنية أو أكثر ذات دلالة قوية على المضمون الذي حمل السفر، ويهيئ له.. مما يجعل النص القرآني ذا صلة وثيقة بالبناء الروائي فالسفر الأول تتصدره الآية الكريمة: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً}[3].
وهذه الآية تطرح القانون الإلهي الذي ينطبق على المجتمعات التي يسري فيها الفسق بواسطة المترفين، فتستحق الدمار لأنها تتحلل وتتخلي عن أداء رسالتها الإنسانية كما ينبغي، وهو ما رأيناه من خلال ترف الإقطاعيين الذين انغمسوا في الفساد، فكانت المظالم، وكان الصراع الذي تمخض عن دمار وهلاك أصاب جميع الأطراف.(/4)
وفي السفر الثاني، يضع الكاتب قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}[4]، ويشير بذلك إلى ما جرى لعبدان القرمطي حين ذهب إلى بغداد وتفوق في مجال العلم وتفقه، ولكن غواية الحركة السرية الباطنية من خلال الجنس ممثلا في امرأة اسمها "شهر"، جعلته ينسى ربه ودينه وقيمه وينحدر إلى الهاوية، ويعمل مع القداحيين لهدم دولة الإسلام تحت لافتة البحث عن "العدل الشامل"، وكان من المأمول أن يكون تفوق عبدان وفقهه، طريقا إلى الإصلاح الحقيقي الذي يخدم الإسلام ويخدم المسلمين، ولكنه أخلد إلى الأرض – رمز السقوط والانحطاط – واتبع هواه فصار كالكلب لاهثا في كل الأحوال، لا يرجى منه خير ولا ينعقد عليه أمل.
وقد صدّر المؤلف السفر الثالث بالآية الكريمة: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ...}[5] مشيرا إلى المشروع الإسلامي في صفائه ونقائه كما قدمه عالم الدين "أبو البقاء البغدادي"، وأصر عليه، لإنقاذ الدولة من الخراب والدمار، على يد أبنائها، فهذا المشروع يحقق العدالة للفقراء، والمظلومين،وينصف الشريعة بنهي الأغنياء والظالمين عن الجشع والاستغلال، وإنشاء الدواوين التي تكفل إنصاف الجميع دون صراع أو مظالم حادة، كما حدث على جبهة القرامطة الذين أقاموا في ذات الوقت مملكة العدل الشامل، ولم يتحقق فيها شيء من ذلك العدل، بل كانت فحشاء، وكان منكر، وكان بغي...(/5)
يتصدر السفر الرابع أكثر من آية تشي بالنتائج والنهايات لكل من المشروعين، المشروع القرمطي والمشروع الإسلامي الآية الأولى: {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}[6].
والآيتان الأخريان: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرّاً وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ * وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[7].
والآيات هنا ترمز إلى النظرية والتطبيق، ثم النتيجة، النظرية القرمطية وتطبيقاتها التي تفترض أو تفرض المساواة على الجميع، ولكنها لا تستطيع، فقد تحول المجتمع إلى طبقتين أولاهما، طبقة الحكام وتتمتع بكل شيء، بل سعت إلى مزيد من النهب والتهريب للأموال إلى خارج المملكة،وثانيتهما، الطبقة الكادحة نفسها، التي كانت تحلم بشيء من الإنصاف، ولكنها وجدت نفسها تكدح وغيرها يأخذ عرقها دون أن يكون لها حق الحلم في العدل، ففقدت الحافز، وانتهت النظرية والتطبيق إلى الأنهيار.
أما النظرية القائمة على أساس الدين الإسلامي، فهي تحقق العدل، وتنتصر دائما على كل السلبيات التي تؤدي إلى الإخفاق.. والأمثلة واضحة المملوك والحر هل يستويان؟ الأبكم والناطق هل يستويان؟ فكأن العبد الأخرس يمثل الدعوة القرمطية، والحر المبين يمثل حقيقة الإسلام،وهو ما انتهت إليه أحداث الرواية وبرهنت على صدقة في السفر الرابع.
(3)(/6)
تعتمد الرواية على أسلوب السرد،واستخدام ضمير الغائب المعتمد على الفعل الماضي، وهو يتناسب مع القص التاريخي من ناحية، ويتيح الكاتب فرصة تقديم الأشخاص والبيئة والأحداث من خلال حرية كبيرة، وهندسة دقيقة، بحيث نرى عناصر الرواية، كلا في موضعه، دون زيادة أو نقصان.
ولعل ذلك يظهر جليا في بناء الشخصيات الروائية التي تتحرك عبر سطور "الثائر الأحمر"، وقد بناها الكاتب على أساس أن كل مجموعة من الشخوص تمثل تيارا فكريا أو عقديا يؤدي دوره في الصراع الروائي القائم بين هذه التيارات، نستطيع إذن أن نقول: إن الشخصيات الروائية مرسومة بدقة لغاية فنية يسعى إليها الكاتب، ومع ذلك فهي شخصيات إنسانية على المستوى الذاتي تتمتع كل منها بملامح خاصة وسمات متميزة.
تمثل المجموعة الأولى من الشخصيات تيار "القرمطة" أو صناع "الدولة القرمطية" وأبزرهم: "حمدان قرمط" وابن عمه "عبدان" وشقيقته "راجية" وابنته "فاختة" وأعوانه "ذكرويه" و"عطيف النيلي".
ويمثل "حمدان" الشخصية الأولى أو الشخصية المحور التي صنعت الأحداث أو دفعت بها إلى الذروة من خلال إحساسه بالظلم كفلاح أجبر، يتعب كثيرا ولا يحصد من عائد تعبه إلا الفتات بينما يذهب معظم جهده إلى السادة المترفين في قصورهم، ويتضاعف إحساسه بالظلم عندما تخطف أخته "عالية" قبيل زفافها إلى ابن عمه "عبدان" ويكتشف بعد حين أن الذي خطفها هو الإقطاعي الفاسد "ابن الحطيم" مالك الأرض، والذي يعيش في قصوره مشيدة داخل ضياعه وفى الكوفة، ويطوع لإرادته والى الكوفة، ويقوم على رغباته رجال أشداء اصطفاهم لحمايته وتنفيذ أوامره.(/7)
تبدو شخصية حمدان بالرغم من الإحساس بالظلم المضاعف شخصية خيرة أو أقرب إلى الخير بطبيعتها.. ومع أن هذه الشخصية قد انخرطت في أتون الغضب والثورة إلا أننا نستشعر مدى شوقها إلى السلام والوداعة عندما يتوفر لها الإحساس بالتغلب على الظلم، أو عندما تجرفها أحداث الحياة فتنسى الظلم مؤقتا، تتحول حينئذ إلى شخصية طيبة باحثة عن الهدوء الاستقرار، عائدة إلى رحاب التدين والصفاء.. ويبدو هذا واضحا بعد وفاة زوجته التي كان يحبها حبا جماً.. ولكن ضراوة الظلم مع الإحساس به والتي يؤججها في نفسه، دعاة الباطنية، تدفع به إلى حيث لا عودة، فيتنكر لدينه وقيمه وفطرته، ويؤسس مع ابن عمه "مملكة العدل الشامل" التي تزعم تحقيق المساواة والقضاء على الظلم، ومنح الحرية للجميع... وعند انهيار هذه المملكة تطفو على صفحة نفسه علائم الندم مرة أخرى اعترافاً بخطأ المنهج الذي سار إليه وأدى به إلى هذه النهاية المأساوية، ويبدو كما لو كان يتمنى ألا يحدث كل ذلك، فطبيعته منذ نشأته تميل إلى الصبر والتحمل، ولكنها قسوة الظلم، مع الاستغلال الناجح والسريع من جانب "الباطنية" وأعوانها في توظيف هذه "القسوة" لتجنيد الضحايا، وتحطي الدولة الإسلامية بإثارة الفتن والقلافل..(/8)
ولا شك أن "حمدان" قد تأثر بما وقع عليه وعلى شقيقته "عالية" إلى حد كبير، ولكن هذا ما كان ليدفعه إلى ذلك العنف الجامع الذي أشعل نار الثورة ضد الدولة، فالذي أشعل هذه النار وصول رسل القداحيين "الباطنية" وتهيئتهم الجو النفسي والفكري لديه ليقوم بدوره، صحيح أن خطف "عالية" دفع "حمدان" إلى الانخراط في سلك "العيارين" للقيام بعمليات انتقامية محدودة ضد "ابن الحطيم" وممتلكاته، حتى استطاع ذات يوم أن يعثر على أخته في أحد قصور هذا الإقطاعي الظالم في صورة أذهلته، كجارية تقدم المتعة لسيدها، ولكن الدعوة "الباطنية" كان لها القول الفصل في توجيهه نحو مواجهة دولة الخلافة كلها، لقد أوشك حمدان – بعد هرب أخته أو اختفائها مرة ثانية- أن يتوب ويخلد إلى العبادة والصلاة والعمل الشريف، ولكن وصول داعية "الباطنية" حسن الأهوازي، قلب الموازين وأعاده مرة أخرى إلى واقعه السابق المضطرم بصورة أشد ضراوة وقسوة عن طريق الخداع، والتظاهر بالتقوى والورع، حتى كسب ثقته، وجعله سره ومأمنه، ولقنه المنهج ورسالة الإمام أو المهدي المنتظر، وترك "حمدن" بعد أن أخرجه عن عقيدته، يتحرق شوقا من أجل الثورة ثم ترك جنينا يتحرك في أحشاء أخته "راجية"، لا يثير حفيظة "حمدان" وغيرته بقدر ما يصير تطبيقاً للمنهج "القداحي" الذي يبشر به "الباطنيون" أتباع المهدي المنتظر أو الإمام المعصوم!...(/9)
إن الكاتب يطلعنا بامتداد الرواية، على أعماق شخصية "حمدان" وتفاعلها مع الأحداث، فنرى شخصية تتنازعها رغبة الخير والعدل والسلام من ناحية، والغضب الانتقام من ناحية أخرى، ويعلل الكاتب لذلك بوجوب الظلم الفاحش الذي يولد الانفجار ويدفع إلى العنف وسفك الدماء بعد التخلي عن الدين والقيم والأعراف، أي إن شخصية حمدان كان يمكن أن تكون عامل خير في بناء المجتمع لو توفر العدل أو شيء منه، ولكن الإسراف في الظلم، حول الشخصية الخيرة بطبيعتها إلى شخصية شريرة، خالفت سيرتها الأولى، وميراثها عن الأب والأم الصالحين، بل والزوجة الصالحة المحبوبة، يصور الكاتب "حمدان" في بداية الرواية فيقول: "كان حمدان في نحو الخامسة والثلاثين من عمره قوي البنية جلداً على العمل، بشوشاً لا تكاد الابتسامة تفارق شفتيه في أحلك الساعات وأهوال الخطوب؛ ولكنه يحمل وراء هذا الخلق الرضي، وهذا الثغر البسام، قلبا يضطرم بالثورة على تلك الأوضاع التي يراها جائرة لا يجوز لبني جلدته أن يتحملوها صابرين، ولا يعتبرها إلا فترة من فترات الظلم والاضطراب لا يمكن أن تستقيم عليها حياة الناس، فلا ينبغي أن تستمر طويلاً كان يعتقد أن ما بناه المال والنفوذ لا يمكن أن يهدمه إلا المال والنفوذ، فأنى له هذا وهو لا يكاد يملك عيشة الكفاف لنفسه ولعياله إلا بمشقة وجهد، وبعد أن يقدم لسيده "ابن الحطيم" أضعاف ذلك من كد عامهم".(/10)
وبالرغم من كل الأحداث الدامية التي مر بها حمدان، أو مرت بها دولة القرامطة، فإننا نراه في نهاية الرواية يبدو وقد عاد إلى طبيعته الأولى التي يصنع الخير نسيجها، ولكن بعد فوات الأوان، وبعد وصوله إلى مرحلة مأساوية.. فها هو يفرج عن أخته عالية، ويبيح لها أن تفتن نساء العاصمة عن مذهبهن كما تشاء... ثم يبطل "ليلة الإمام" ولم تستطع "شهر" تلك المرأة التي تستخدم جسدها في الغواية والدعوة إلى المذهب الباطني، أن تؤثر في "حمدان" أو تعيده إلى حظيرة المذهب، بل إنها وأخته راجية تفاجآن به يعلن براءته من المذهب وعودته إلى الدين الحنيف، وعندما تسمع بذلك أخته "عالية" تسر سرورا عظيما، وتنطلق إلى قصره لتهنئه فتجده "قائما يصلي في خشوع فما ملكت دمعها من الفرح"[8].(/11)
وهكذا يصور "باكثير" شخصية "حمدان" في صورته الإنسانية الطبيعية التي تتأثر بالظلم وتثور عليه لدرجة الخروج عن الدين الحنيف، ولكن التجارب التي مرت بها هذه الشخصية تكشف كيف صنع المتآمرون على الدين من هذه الشخصية وأمثالها، وسائل لتحقيق أغراضهم في التدمير والتخريب والقتل.. إن المذهب الذي يدعو إليه الباطنيون "القداحيون" يبدو في ظاهره دعوة إلى العدل والحرية، ولكن هذه الدعوة لا تتحقق أبداً، بل تخلف وراءها المزيد من الدمار والأحزان والمتاعب، وتتجاوز ذلك إلى تلويث الفطرة الإنسانية بسلوكيات تأباها هذه الفطرة وترفضها، وهو ما نراه ينعكس في رد الفعل لدى شخصيات الرواية، وعلى رأسها شخصية "حمدان" رئيس الدولة، من ذلك مثلا موقفه في "ليلة الإمام" وهي من ليالي المشهد الأعظم، حيث يجتمع الرجال والنساء في ليلة مخصوصة من العام فيشربون ويطربون، ثم تطفأ عليهم المصابيح فيقع كل على من يليه في ذلك الظلام الدامس، فاتفق أن وقع حمدان على ابنته "فاختة" فلما وقعت يدها على لحيته لم تملك أن قالت: "يا سوء حظي" وقع من نصيبي الليلة شيخ كبير فعرف حمدان صوتها، فجرها وخرج بها من المشهد، وغضب غضباً شديداً وعزم على إبطال المشهد الأعظم ومنعه البتة لولا أن شهراً اعترضته، وما زالت به حتى عدل عن عزمه، ولكنه حرم على ابنته أن تشهده، حتى غلبته شهر على أمره[9]، وهذا الموقف يبين لنا أن غيمان حمدان بالمذهب، كان إيماناً سطحيا لم يتجاوز إلى القلب، وكان الدافع إليه في كل الأحوال الإحساس بالظلم والرغبة في القضاء عليه، وهو ما أشار إليه المؤلف في أكثر من موضع، منها على سبيل المثال، وصفه لموقف حمدان من الإمام المعصوم، يقول: "لم يؤمن حمدان بالإمام المعصوم الذي يدعو إليه الأهوازي ولم يكلف نفسه عناء التثبيت في أمره ليتحقق وجوده أو عدم وجوده، وإنما آمن بالهدف الذي ترمي إليه هذه الدعوة الجديدة إذ كان هو هدفه من قبل، هؤلاء قوم يدعون إلى هدم(/12)
سلطان المال على هدى وبصيرة، ويسيرون في ذلك على خطة عامة لا تقتصر على بلد دون بلد، وقد أدركوا أن ذلك لا يتم إلا بهدم هذه الدولة التي يقوم عليه أو تقوم عليه، فليكونوا من يكونون وليكن مذهبهم ما يكون فحسبه أنه سيعمل على تقويض سلطان المال وكفى، وقد انضم قديما إلى العيارين من أجل هذا الأمر فلن يكون العيارون خيراً من هؤلاء ولا أهدى سبيلاً[10].
ولكن الانخراط في صفوف الدعوة جعل حمدان وغيره يفرط في كل دينه كما تقضي بذلك تعاليم المذهب، وبعد هذا التفريط، فللقرمطي أبو الباطني أو القداحي أن يفعل ما يشاء، ويستحل ما يشاء، وإن كانت الفطرة السليمة عند تطبيق المذهب ترفضه، وتستشعر مدى ضراوة الظلم الذي جاء معه، وهو على كل حال، ظلم يفوق الظلم الذي صنعه الإقطاعيون من أمثال "ابن الحطيم".
لقد عاش حمدان مع المذهب في حالتي المد ولجزر، فتعامل معها بمشاعر الإنسان الفطري الذي تتآمر عليه جهة ما، بالظلم، فيقع في أحضان جهة أخرى أشد ظلماً، ويبدو كمن يستجير من النار بالرمضاء، حتى يصل إلى نهايته المأساوية، إنه إذاً شخصية واقعية طبيعية لها محاسنها ومثالهبا.(/13)
في نفس الإطار تبدو شخصية "عبدان" ابن عم "حمدان قرمط"، فقد كان إنساناً عاديا يمارس التجارة، لكن خطف "عالية شقيقة "حمدان"، وخطيبته، يزرع في نفسه الحقد على طبقة الإقطاعيين التي يمثها ابن الحطيم" خاطف خطيبته، ثم تدركه التحولات التي مرت على حمدان، ولكن من طريق آخر، حيث يتخفي بعد ارتكاب جريمة قتل الشرطة في داره بالاشتراك مع حمدان، ويستقر به المطاف في بغداد عاصمة الخلافة، يقدم نفسه كطالب علم نابه يناقش شيوخه وأساتذته في قضايا العدل والظلم وموقف العلماء منهما ومن السلطة، ويجد فيه دعاة الباطنية القداحية من خلال شخصية "جعفر الكرماني" ورفيقته "شهر" صيدا ثمينا يساعد على نشر المذهب، باعتباره حاقدًا على الدولة وناقماً على الظلم، عن طريق الغواية يتخلي عن دينه وقيمه باعتبارها ميراثا متخلفاً، ويسقط في حمأة الدعوة الباطنية القداحية، وشيئاً فشيئاً يتحول إلى فيلسوف ينظر للدعوة، ويرجع إليه في أمورها، ويصبح مستشاراً للدولة القرمطية القائمة على مذهب الباطني القداحي، وتتحدد مهمته في الدفاع عن المذهب وتبرير أخطاء التطبيق حتى ما قبل النهاية المأساوية التي حاقت به عندما اكتشف حقيقة الإمام المعصوم أو المهدي المنتظر، حيث يجده حفيد القداحي نفسه (!) فيتمرد عليه، بيد أن أعوان القداحي يتولون – بالخداع – أمر القضاء عليه بعد تعذيبه، واستخدامه كورقة ضغط على حمدان حاكم دولة القرامطة، المتمرد على الإمام!.(/14)
وشخصية "عبدان" بتكوينها أقرب إلى المزاج المنحرف، وأسرع استجابة للانحراف من شخصية حمدان، وقد بدا ذلك في مواقف كثيرة، أهمها موقفه من العلاقات الجنسية الفوضوية التي يجندها المذهب ثم تبريره للأخطاء والنكسات التي أصابت المذهب عند التطبيق بمنطق جدلي سفسطائي، يسعى إلى الدفاع عن وجهة نظره بأية وسيلة.. المهم أن يثبت صحة ما يذهب إليه، ولعل موقفه من تبرير ضعف الحافز أو الإنتاج لدى الفلاحين في مملكة العدل الشامل خير مثال على ذلك، فقد تحدث الفلاحون إلى حمدان بالصدق عن الأمر، وأرجعوا ضعف الحافز إلى شدة الظلم، واستمتاع الغير بثمرة جهدهم وعرقهم، ثم- وهو الأخطر- يأسهم من الإنصاف في يوم ما.. قال حمدان لعبدان ذات يوم: " ما تقول في هذا الذي تراه؟"..
- هؤلاء يحنون إلى الظلم من طول ما عاشوا فيه، وهم يجتوون العدل لأنهم ما ألفوه.
- ولكنهم كانوا مبتهجين في بداية الأمر.
- إنما كانت تلك لذة الانتقال من حال إلى حال، ولا يطول أمدها، وقد أخبر النبي عن قوم يقادون إلى الجنة بالسلاسل.
- أو تذكر النبي يا فقيه الدعوة وأنتم لا تؤمنون به؟
- لا ضير أن نذكره حين نحتاج إليه، وإننا لا نستغني عنه.
- فقل إذن: صلى الله عليه وسلم.
- فسكت عبدان قليلا واصفر وجهه وظهر عليه التخاذل ثم ابتلع ريقه وقال: صلى الله عليه وسلم وعلى الإمام المعصوم.. هذا حديث ينطبق على حال هؤلاء، وما أخال النبي إلا يعنيهم.
- ألا تدع حديث النبي يشرحه من يؤمنون به، وتأخذ أنت في شرح أقوال إمامكم؟
- ويحك يا حمدان إنك قائد الدعوة، وما ينبغي لمثلك أن يرتاب في إمامها الحق.
- إنكم قوم لا تعدلون.
- فيم يا ابن عمي؟
- لقد كنا نؤمن بنبينا والأنبياء من قبله فشككتمونا فيهم فما قلنا شيء، وجئتم بإمامكم الجديد فيغضبكم أن نشك ولو بعض الشك فيه، أفهذا من العدل؟
- ولكنك تعلم يا حمدان أن الناس إذا بلغهم أنك تشك في إمامك فسينفضون عنه وعنك.(/15)
فهز حمدان رأسه وهو يقول: "دعنا من حديث الإمام فليس يشغلني أن يكون حقا أو باطلاً.
- إني أريد جنة لا يقاد الناس إليها بالسلاسل.
- ذلك مطلب بعيد المنال، فهذه طبيعة البشر لا تغلب.
- فما يمنعنا أن نجاري هذه الطبيعة في نظامنا؟
- كلا، لابد من كبح جماحها لصلاح الناس وسعادتهم.
- ففيم إذن أبطلتم الحدود في الشهوات وأطلقتم للناس فيها العنان؟
- ما يكون لنا أن نمنعهم من لذة تهفو إليه طبيعتهم.
- فهؤلاء كما رأيت وسمعت قد فقدوا لذة العيش في هذا النظام.
- دع عنك هذه الوساوس يا ابن عمي فلا ريب أنك قضيت على الظلم، وحققت العدل إذا أقمت نظاماً جديداً لا سلطان للمال فيه، وإن هذا لهو الذي كنت تصبو إليه من زمن بعيد، فما عدا مما بدا.
تنهد حمدان ولم يجب"[11].
وهذا المثال على طوله، يوضح كيف يلعب "عبدان" بالكلمات ليبرر سلامة مذهبه الفاسد،ويقنع ابن عمه حمدان قائد الدولة بصواب موقفه، ويقم حججا ومبررات لا يقبلها العقل السليم، مثل إيلاف الظلم، أو الحنين إليه لدى الفلاحين، واستشهاده بالنبي- صلى الله عليه وسلم- وهو لا يؤمن به، وحرصه على عدم الإساءة للإمام المعصوم، وتبريره لإطلاق العنان لشهوات الناس.. إلخ، كل هذا يؤكد انحراف شخصية "عبدان" أو استجابتها للانحراف بصورة أكبر من استجابة شخصية حمدان..
ولكن شخصية عبدان في كل الأحوال تبقى رمزاً للمنهج في صورتيه النظرية والتطبيقية، وهذا الرمز يؤكد على فساد المنهج أو المذهب، وقيامه على أسس من المغالطة والأكاذيب لإشباع رغبة عارمة في الانحراف والتمرد لدى أبطاله أو رواده.(/16)
والأمر نفسه ينطبق على "راجية" شقيقة "حمدان" قائد الدولة، فقد كشف لنا المؤلف عن طبيعتها الميالة للانحراف، حيث نفست على أختها خطيبها "عبدان" وتطلعت إلى "ثمامة" العيار بالرغم من علمها بأخلاقه وطباعه الفاجرة، ثم سقطت مع "حسين الأهوازي" داعية المذهب القداحي، وحملت منه سفاحاً، وانتعشت بتطبيق المذهب، في جانبه المتعلق بإشاعة الفوضى الجنسية، لدرجة الشذوذ، والرغبة في ابن أخيها – الغيث – وهو محرم عليها – واتفاقها مع "شهر" رائدة "الغواية" في المذهب على الدفاع عن "القرمطة" حتى آخر لحظة في حياة الدولة.
كذلك فإن شخصيات الصف الثاني في دولة القرامطة من أمثال ذكرويه وعطيف النيلي وجلندر الرازي، تمثل صوراً للانحراف، والانتهازية، والبحث عن الغنائم، والمهمة الرئيسية لهذه الشخصيات، إثبات فشل المذهب وعدم قدرته على الاستجابة لمطالب الناس، فضلا عن فشله في تحقيق العدل والحرية، لأن الحرية كانت حريتهم وحدهم، والعدل مكفولاً لهم وحدهم، أما غيرهم فلا يملك حرية ولا ينال عدلاً، ولا يستطيع أن يشكو، لأنه لو فعل، فإن التهمة الجاهزة بالنسبة له، هي: سب المذهب، وتلك خيانة عظمى جزاؤها القتل!.
(4)
في مقابل الشخصيات السابقة التي قامت بالثورة وصنعت لدولة نجد فريقا آخر يعتبر الأب الشرعي لهذه الشخصيات، ويضم هذا الفريق نوعين من الشخصيات.
النوع الأول: يمثل دعاة الباطنية أو القداحية أو المحرضين على الثورة.
النوع الثاني: يضم اليهود أو ممولي الدعوة.(/17)
من النوع الأول شخصيات "جعفر الكرماني"، و"شهر"، و" أبو هاشم بن صدقة" الكاتب، و"حسن الأهوازي" والقداحي الحفيد الذي كان يسمى نائب الإمام ثم كشف عن نفسه بأنه الإمام المعصوم وهذه الشخصية اعتمدت على العمل السري، واستثمار موقف الدولة لصالحها، واستغلال نقاط الضعف فهيا لدرجة أن أبا هاشم بن صدقة الكاتب، كان يعد بمثابة الوزير الأول أو رئيس الوزراء، في دولة الخلافة ولم يعلن عن نفسه كواحد من زعماء المذهب وظل يعمل سراً لحساب دعاة الباطنية حتى انكشف أمره بعد حين.
أما النوع الثاني من شخصيات هذا الفريق، فتتمثل في عزرا بن صمويل، وإسرائيل بن إسحق، ويوشع بن موسى، ومهمتهما تتضح من خلال تمويل النوع الأول للقيام بدوره في تجنيد الأتباع للدولة الجديدة والاستفادة بجو الاطمئنان الذي تتيحه الدولة العباسية لليهود وأهل الكتاب بصفة عامة، فيتاجرون، ويكسبون، ويثرون ثراء عريضاً لدرجة إقراض الدولة ذاتها.. كل هذا ييسر لهم سبل السيطرة على المراكز الحساسة في دولة الخلافة، والاقتراب من تحقيق أهدافهم.
وواضح أن شخصيات هذا الفريق بنوعيه تبدو كشخصيات ثانوية لم يحتفل الكاتب برسم ملامحها الداخلية وأعماقها الشعورية، واكتفى ببيان دورها في الأحداث باعتبارها شخصيات جاهزة.. ويمكننا على كل حال، أن نراها شخصيات غامضة، وهو ما يتفق مع دورها في العمل السري الذي يحرص على الكتمان والاختفاء، وتحريك الأحداث من وراء ستار، وينطبق ذلك على الدعاة من شخوص النوع الأول، واليهود من شخوص النوع الثاني.(/18)
إننا لا نعرف طبيعة أو أعماق شخصية "جعفر الكرماني" مثلاً، ولكننا نجده شخصية جاهزة للعمل،تتميز بالذكاء والوعي الحاد، ومهمتها التقاط الأنصار وتجنيدهم، كما فعل بالنسبة لعبدان وهو لا يتحدث عن نفسه، ولا نعرف عنه إلا القليل.. والأمر كذلك بالنسبة للمرأة التي ترافقه تعمل معه وهي "شهر"، فهي غانية، تتفنن في أداء دورها لغواية من يجندهم "الكرماني" وتبذل كل ما في طاقة الأنثي لخدمة المذهب مع الأنصار والأتباع، ويمكن القول إن شخصيات
هذا النوع من الدعاة للمذهب الباطني يظهرون من خلال أقنعة، ومن خلال شخصيات مزدوجة، تظهر أمام الناس بشخصية تختلف عن الشخصية الحقيقة، وربما كانت مزدوجة، تظهر أمام الناس بشخصية تختلف عن الشخصية الحقيقية، وربما كانت شخصية "حسن الأهوازي" أصدق مثال على ذلك، فعندما ذهب إلى منطقة القرامطة، ظهر في صورة شيخ خواص من أهل الصلاح والتقوى، يتبرك به الناس، يلتمسون منه الدعاء، وعندما يصطفي "حمدان" لدعوته، تبدو شخصيته الحقيقة، حيث يكشف عن نفسه، ويعلن عن غايته وهدفه، ويدعو للإمام المعصوم، ويتحدث عن الرخاء والعدل..[12].(/19)
وكذلك الحال بالنسبة لليهود، فشخصياتهم جاهزة، ولا يبدو منها إلا ما يحرك الأحداث، كما نرى عندما انفضح سرهم، وظهرت مؤامرتهم الخبيثة ضد الدين والدولة، وإن كنا نرى من خلال استجوابهم مدى ما تكنه جوانحهم من مكر وخداع ومخاتلة، وحرصهم على أن يكون له سرهم الذي لا يعرفه أحد غيرهم، ولذا نجد الكاتب يحرص على كشف سلوكهم السري من خلال دفاترهم كتجار، ومن بينها وثيقة تحدد غايتهم بالنسبة للدولة الإسلامية، ويحسن هنا أن نورد ما كتبه المؤلف.. يقول: "ثم أخذت دفاتر الوكلاء اليهود وأوراقهم التي طلبها المعتضد تصل إليه من الآفاق، حيث تمت عنده في خلال شهرين، وفحصوها فوجدت كلها مؤيدة لما في دفاتر عزراً وأوراقه، وعثر بينها على رسالة صغيرة في حجم الوصية المكتوبة بالعبرية فجيء بمن يفك رمزها فتبين أنها سجل شركة خطيرة أسسها جماعة من كبار تجار اليهود بمدينة الموصل في أواخر عهد الخليفة المأمون، على أن تبقى قائمة طوال العصور يديرها أبناؤهم، وإذا لها دستور عجيب ينص على وجوب تشجيع الفتن في بلاد الدولة وإمداد القائمين بها، والسعي لإثارة الحروب بين أمراء المسلمين، وبينهم وبين الروم، وتأريث نار الخلاف بني الطوائف والمذاهب والنحل، والإفادة من كل ذلك في تجميع الأموال وتكثير الأرباح لشركتهم، وظهر من الأوراق الملحقة بالسجل الأصلي أن والد عزرا كان رئيس الشركة في عهده، وأن رئيسها الآن يوشع بن موسى في "الطالقان"، هو الذي وجد السجل عنده، وأن هذه الجماعة كان لها يد في حركة بابك الخرمي، وأثر في حركة الساميين والطاهريين وغيرهم، وأنهم اتصلوا بعبد الله بن ميمون القدح وشجعوه...[13](/20)
وكما نرى فإن اليهود، مع دعاة الباطنية يمثلون شخصيات مساعدة تحرك الأحداث وتصنعها من وراء ستار،وإن كان النسيج القصصي لا يسمح لها أن تظهر بصورة أبعد من ذلك لتكشف أعماقها الإنسانية وأغوارها البشرية، لأنها تخدم الشخصية الأساسية وهي شخصية "حمدان قرمط" بطل الرواية.
ونستطيع أن نلحق بالشخصيات السابقة (الثائرين والمحرضين) مجموعة من الشخصيات الهامشية، التي تسهم في الأحداث بصورة ما أن أو تلعب دوراً ما، وبالرغم من تواضع هذا الدور، فإن مهمته تكمن في توضيح ملامح الصورة الروائية أو البيئة الروائية التي تجري على مسرح الأحداث، هذه المجموع تمثل شخصيات العيارين والشطار،وهم فئة من الناس هالهم ما يرون من الظلم الذي يلحقه الإقطاعيون المترفون بالناس وبخاصة الفلاحين الأجراء فليس لهم من ثمار كدهم وكدحهم إلا ما يمسك الرمق، فضلاً عن ظهور الإقطاعيين بمظهر الانحلال الفاجر، الذي لا يحفظ حرمة ولا يصون شعوراً، ومن أبرز هؤلاء الإقطاعيين "ابن الحطيم وابن أبي الهيصم"، وقد استعانوا على انحلالهم الفاجر وفسادهم الداعر، بكل ما يحفظ عليهم سلوكهم المشين، فعملوا على احتواء الولاة بالرشاوي حتى يسكتوا عن جرائمهم، واصطفوا لأنفسهم من الحراس والرجال الأشداء ما يمنعهم من المظلومين والموتورين، وشيدوا القصور التي تحجبهم عن عامة الناس ويمارسون فهيا الرذيلة، وينعمون بالترف الزائد عن الحد... كان لابد من رد فعل يقوم به العيارون ضد الفساد الإقطاعي، ويتمثل في قيامهم بغارات سلب ونهب ضد ممتلكات الإقطاعيين، والعودة بما سلب ونهب على الفقراء والمساكين، فضلاً عن إيمانهم بالنجدة والشهامة، واعتقادهم بأن ما يقومون به تجاه الملاك الظالمين هو نوع من العدل يحققونه بأنفسهم بعد أن تأخر عدل الدولة كثيراً لدرجة اليأس..(/21)
وشخصية العيار ذات وجهين، وجه يظهر به أمام الناس، وهو الوجه الحقيقي، أما الوجه الثاني، فهو مرتبط بالليل، واللثام، والشراسة، وذلك عند الإغارة على قصور الإقطاعيين وممتلكاتهم.. فقد تجد أحدهم في صورة شيخ جليل مهيب يتحلق حوله الناس في المسجد، ليعظهم ويعلمهم ويفقههم في دينهم ودنياهم، وعندما يهبط الظلام يتحول إلى شخصية أخرى عنيفة وحادة وشرسة، وهي تغير على أحد قصور ابن الحطيم أو ابن أبي الهيصم.. كذلك فإن العيارين يعيشون حياة مزدوجة، حيث يظهرون أمام الناس في صورة متقشفة بسيطة، بينما يعيشون داخل بيوتهم حياة متفرقة رغيدة، صنعتها عمليات الإغارة وما تعود به من غنائم وأسلاب، ولعل الصورة التي رسمها الكاتب لمنزل عبد الرؤوف العيار خير مثال على ذلك، إذ يبدو المنزل من الخارج منزلاً عاديا متواضعًا، بيد أنه في الداخل يرتفع إلى مستوى عظيم من الترف[14].
ومن أبرز الشخصيات العيارين: بهلول، وعبد الرؤوف، وسلام الشواف، وثمامة.. ثم حمدان قرمط نفسه...
ويمكن اعتبار العيارين، مرحلة تمرد محدودة ضد الدولة، أو هي المرحلة الأولى التي احتضنت التمرد الأوسع ضد السلطة الشرعية، فقد عرف "حمدان قرمط" الطريق إليها بعد اختطاف أخته "عالية" ويأسه من الوصول إليها، أو مساعدة ابن الحطيم الإقطاعي له في الوصول إليها.. وقد نجح "حمدان" بالفعل عن طريق العيارين في الوصول إلى "عالية"، كما كشف لنا وصوله إلى "عالية" عن كثير من الفساد والفجور الذي يحتوي عليه قصر ابن الحطيم..(/22)
إن شخصيات العيارين تكشف كثيرا من مظالم الإقطاعيين ومفاسدهم، وفي الوقت نفسه تعبر عن شوق الناس إلى العدل والحرية والسلام الاجتماعي.. كذلك، فإن ظهور هذه الشخصيات يوضح مدى تقصير السلطة المركزية والسلطة المحلية في تحقيق العدل والأمن بالنسبة لجموع الناس، كأفراد ومجتمع.. مما يعني أن الخلفاء والأمراء – وهو ما صورته الرواية – كانوا في واد آخر، بعيد عن عناء الأمة وهمومها، وإن ظهر بينهم أخيرا من يأخذ زمام المبادرة، ويعيد الأمور إلى نصابها.
(5)
هناك مجموعة من الشخصيات نستطيع أن نطلق عليها مجموعة "الأمل والمقاومة"، باعتبار أفرادها ممن احتفظوا - رغماً عن كل عناء - بفطرتهم الطبيعية النقية، وبحثوا عن الحق في أصول الدين الصحيح، ورفضوا ما حولهم من الزيف والباطل، كل حسب مقدرته وإمكاناته.
وعلى رأس هذه المجموعة شخصية عالم الدين "أبي البقاء البغدادي" الذي رفض الصمت إزاء ما يجري في الدولة من اضطراب وخلل، وقام بواجبه على الوجه الصحيح في نصح الخليفة بما يمليه عليه الشرع الحنيف لإنصاف المظلومين، وتوفير الحياة الكريمة للمحتاجين،، مما عرضه للسجن، ومع ذلك لم يتراجع أو يتزلزل إيمانه بضرورة التصحيح والتقويم، ومن خلال المقارنة بينه وبين علماء الدين الآخرين، الذين آثروا الصمت والتخلي عن دورهم، تبدو شخصيته قوية جسورة تواجه المحنة بشجاعة وثبات، ومع ما أصابه من عناء ظلم وتغييب في السجن، فإنه ينهض لمواجهة مسؤولياته والقيام بواجبه، من أجل الفقراء والمظلومين عند الخليفة، أو أمم الخطر الزاحف الذي يتمثل في ثورتي الزنج والقرامطة، ونستطيع أن نستشف بعض ملامح أبي البقاء من خلال الحوار التالي مع الخليفة المعتضد، وكان قد اقترب منه إلى حد ما:(/23)
ليأمر أمير المؤمنين بإنشاء ديوان الزكاة، وديوان الفضول، وديوان الفقراء والمساكين، وديوان الفلاحين، وديوان الصناعة والعمل، وأمير المؤمنين يعلم أني قد وضعت لكل هؤلاء كتاباً ليسترشد به القائمون عليه.
- أجل لقد قرأت منها كتاب الفضول؛ فشهدت فيه فضلك وعلمك، وأشهد أن أبي- رحمه الله- كان يعجب به.
- غفر الله لأبي أحمد كنت أنتظر منه التنفيذ لا الإعجاب.
- قد كان يرى صعوبة تنفيذه.
- بل كان يخشى ثورة الأغنياء، وكان الله أحق أن يخشاه.
- لا تنس يا أبا البقاء أن هؤلاء كانوا يجدون من العلماء من يفتيهم بأن ذلك ليس في كتاب الله ولا في سنة رسوله.
- أولئك قوم اتخذوا العلم حرفة وتجارة، وقد بينت في كتابي بطلان رأيهم.
- وكان مشغولاً بفتن الخارجين على الدولة.
- ما كان دعاة الفتنة لينجحوا لو أنه بسط العدل في رعيته، وقد خالفني حتى في ديوان الزكاة حيث لا مجال لاختلاف الرأي.
- ما قرأت كتابك في الزكاة، ولكني أذكر أنكما إنما اختلفتما بصدد إنشاء الديوان.
- نعم كان يريد أن يضم ديوان الزكاة إلى بيت المال العالم، فأبيت إلا أن يكون مستقلاً يصرف منه على مستحقيها وحدهم، لا على المصالح العامة كلها، إن الله لا يرضى أن يصرف حق الفقير والمسكين في كنس الدروب وكرى الترع، وإعاشة الشرطة حيث يفيد الأغنياء من ذلك أكثر مما يفيد الفقراء[15].(/24)
ومن خلال هذا الحوار تبدو شخصية "أبي البقاء البغدادي" في قوتها وجسارتها، وهي تجهر بكلمة الحق، ولا تتردد في النطق بما ينبغي أن يكون، منطلقاً من تصور الدين لحل المشكلات التي تواجه المسلمين، فهو في حضرة الخليفة لا يخافت ولا يتلعثهم بل إنه يتحدث عما يراه صواباً، ولا يتردد في الحديث عن والد الخليفة الراحل ويشير إلى سلبياته وأبزرها خوفه من الأغنياء، ويحمل على علماء السوء الذين اتخذوا العلم حرفة وتجارة وكانوا يزينون الباطل للخليفة الراحل، بل إنه ذهب إلى أبعد من ذلك حين يراه عاملاً مهماً في نجاح دعاة الفتنة لأنه لم يبسط العدل بين الرعية....
وهكذا تبدو قوة شخصية أبي البقاء في الإصرار على الحق وما يراه صواباً، ويلاحظ أن الكاتب اكتفى بتقديم شخصية أبي البقاء من خلال سلوكها وكلامها، ولم يشر إليه بوصف أكثر من كونه "عالم دين" ولكنه يقدمه في صورة الناصح الواعي والسند القوي الذي يقف إلى جوار الخليفة حتى تنقشع الغمة، وتنتهي المحنة، فإنه بلا شك رمز للأمل، والمقاومة أيضاً.(/25)
وفي الاتجاه نفسه نجد شخصيات "عالية" و"مهجورة" و"الغيث"، فهذه الشخصيات تعرضت لظروف مؤلمة أو غير طبيعية، ولكنها تواجه هذه الظروف بالصبر والاحتمال والرفض، فعالية أخت حمدان، تعرضت للخطف على يد رجال "ابن الحطيم"، وتحولت في قصره إلى جارية يستمتمع بها ورجاله، وعندما يخلصه أخوها تستشعر شيئا من الغربة، فتخرج هائمة على وجهها حتى تعثر على مستقر لها لدى إحدى السيدات التي تشفق عليها، وتتزوج – كامرأة فقيرة- تحت اسم جديد من رجل فقير اسمه "عيسى بن ميمون" الخواص، وتربي معه ابنتها "مهجورة" التي حملتها سفاحا في قصر "ابن الحطيم". وعندنا تعود إلى أخيها "حمدان" قائد دولة القرامطة في عاصمته "مهيما باذ"، ترفض المذهب القرمطي، وتعارض ما يجري باسمه من حولها، وتواجه شقيقها وأختها برأيها، بل تصر على أن تعيش مع ابنتها في مكان منعزل عن القوم، ويكون لآرائها تأثير ما في تهيئة الأذهان، وبخاصة عند النساء، لرفض المذهب وانهياره.
ونجد أيضاً الابنة "مهجور ة" بالرغم من كونها "بنت سفاح" ترفض الأوضاع من حولها، ولا تقبل الدعوات إلى حفلات القرامطة وليالي "المشهد الأعظم" بما فيها من فجور داعر.
أما الغيث ابن حمدان قرمط، فإنه يجد لدى ابنة عمته "مهجورة" فرصته الذهبية ليتخلص من طقوس المذهب الباطني الذي يحكم دولة أبيه، ويستجيب لرغبة عمته وابنتها بأن تكون علاقته مع مهجورة وفقا للشريعة الإسلامية..
إذاً، فإن هذه الشخصيات تمثل أنموذجاً للرفض الذي دلل على عدم صلاحية المذهب ومخالفته للفطرة الإنسانية، مما آذن بزواله وانهياره.
(6)(/26)
يمكن القول إن شخصيات الرواية من خلال المجموعات التي ظهرت ملامحها في الصفحات الماضية، تصنع مفارقة كبيرة ومتشعبة، تظهر من خلالها دلالات عديدة تربط ما بين الماضي أو التاريخ الذي يعالجه الكاتب في روايته، والحاضر أو الواقع الذي يعيشه قراء هذه الرواية، ولعل هذه الدلالات تكمن في قضايا الصراع بين الإقطاعيين والمعدمين من الأجراء، والحركات السرية الهدامة، والعلاقات الجنسية من منظور الشريعة ومن خلال الدين.. فالصراع بين الإقطاعيين الظالمين والأجراء المعدمين،نتج من خلال المفارقة بين حياة الطبقة الأولى التي يمثلها ابن الحطيم وابن أبي الهيصم، وهي حياة الترف والفساد، وبين حياة المعدمين الذي ينتجون ليغتني غيرهم ويحرمهم من ثمار ما زرعوه وحصدوه، وهم الطبقة الثانية التي مثلها حمدان قرمط وسواد الفلاحين، فقد أدت المفارقة إلى صراع مستمر أزهقت فيه الأرواح وسالت فيه الدماء، وتبدل فيه الدين، وجرت بسبب ذلك حوادث جسام على مستوى الدولة تجاوزت إقامة دولة القرامطة، وإن كان الكاتب لم يشر إليها مثل الاعتداء على الكعبة المشرفة في مكة المكرمة، ونزع الحجر الأسود ونقله إلى البحرين[16]. المهم أن هذا الصراع استعر بين الفريقين، ولم يسفر في النهاية عن شيء لأي منهما، اللهم إلا المزيد من الآلام والجراح والأرواح التي أزهقت وذهبت هدراً، والوحيد الذي استفاد من هذا الصراع اليهود باعتبارهم ممولي الحركة السرية، والرابحين في كل الأحوال، فقد كان الإمام المعصوم يهوديًا، وليس "علويّاً" ثم إن المذهب قد فشل ولم يحقق العدل الشامل كما زعم، وبعد هذا فإن قائد الدعوة القرمطية قد رجع عن المذهب علنا، ويصور لنا الكاتب حقيقة الإمام المعصوم من خلال حورا بين عبدان وبين الحسين القداحي الذي أسفر عن وجهه باعتباره الإمام، تقول الرواية:
- نعم فأين هو؟.
- أغمض عينيك!
- فأغمض عبدان عينيه، ثم قال له الحسين: "افتحهما".(/27)
- ففتح عينيه، وقال: "أين هو"؟
- عجبا أتقول أين وهو أنت الساعة بين يديه؟
- إني لا أرى أحداً سواك.
- فإني الإمام!
- أنت!
- بعد وفاة أبي انتقلت الإمامة إلى.
- كان أبوك رحمه الله نائب الإمام لا الإمام.
- فمن كان الإمام؟
- رجل مستور من أهل البيت من ولد محمد بن إسماعيل.
- فأنا هو.
- كلا لست من ولد محمد بن إسماعيل ولا من أهل البيت، وإنما جدكم عبد الله ميمون القداح؟!
- ماذا تقول في جدي عبد الله بن ميمون القداح؟!
- ماذا أقول في مؤسس دعوتنا وخادم الإمام؟
- بل كان هو الإمام عينه، وقد توراثنا الإمامة عنه.
- لكنه ما ادعى هذا لنفسه.
- كان ذلك تقية منه، وما كشف عن حقيقته إلا لصفوة أصحابه، وقد ظننتك من الصفوة فكشفت لك أمري، فإذا أنت كالدهماء ما تزال مفتونا بالنسب العلوي! فسكت عبدان قليلاً وقد تغر وجهه وجعل يهلث، ثم قال: "إن كنت تريد أن تكون الإمام فأي شيء يميزك عن غيرك؟".
- علمي ومعرفتي بالمذهب.
- أنا أعلم منك وأفقه..
- كان والدي أعلم منك وأفقه وقد ورثت الإمامة.
- نحن في مذهب العدل الشامل لا نورث المال فكيف نورث المواهب والصفات؟...[17]
وواضح من هذا الحوار أن اليهود القداحين استغلوا عاطفة الناس نحو العلويين، واستطاعوا أن يجمعوا حولهم تلك الأعداد الغفيرة تحت دعاوى "العدل الشامل" و"رجعة الإمام"... إلخ، ولكن في لحظة المصارحة يكشف الحسين القداحي عن نفسه، وأنه الإمام المعصوم (!) وأنه ليس علويّاً. بل يهودي يسعى لتحصيل المال من الأتباع تحت ستار الدعوة والمذهب، فضلا عن تمزيق الدولة وإخراج الناس عن دينهم، أما الفقراء الكادحون، فلم ينالوا شيئا بل خسروا دينهم وأخلاقهم[18].(/28)
ولعل موقف حمدان آخر الأمر حين اكتشف حقيقة المذهب خير تعبير عن هذه الخديعة اليهودية، فقد فكر في التسليم لسلطان الخليفة والرجوع إلى طاعته، ولكنه خشي من رجاله، وفاجأ الناس بإعلان براءته من دين الإمام الكاذب ومذهبه القائم على التضليل الإلحاد والإباحة، وتوبته إلى الله من كل ذلك ورجوعه إلى الدين الحنيف[19]، وهكذا يأتي إعلان فشل المشروع القرمطي على يد منفذه وقائده، بينما المشروع الإسلامي الصحيح من خلال صورته التي قدمها أبو البقاء البغدادي للخليفة كان يزدهر وسينتصر ويحقق الأمل للفقراء والكادحين والصناع والمظلومين، بلا عنف ولا د ماء، ولا ريب أن "باكثير" كان يشير أو يتنبأ بفشل مشروعات معاصرة مشابهة كما فشل المشروع القرمطي، بينما يرى المشروع الإسلامي هو البديل الذي لا مفر منه.(/29)
إن مجموعات الشخصيات في الرواية تظهر بالمقارنة.. كما أشرنا دور الحركات الهدامة في استغلال عناء الفقراء والكادحين وتسعى إلى تحقيق غايتها الشريرة تجاه الإسلام، فقد رأينا المجموعة الكادحة وعلى رأسها حمدان قرمط، تواجه المجموعة الظالمة وعلى رأسها "ابن الحطيم" وأمثاله، ومن هنا تنتعش الحركات الهدامة على تفاوت في مستوياتها.. فبينما نجد مجموعة "حمدان" تمثل الثورة المباشرة من خلال آمال مشروعة، نجد مجموعة "العيارين" تمثل الثورة غير المباشرة أو المحدودة، التي تعمل في الظلام وتظهر في النهار بمظهرها الاجتماعي العادي، ويلاحظ أن هذه المجموعة تبدو من الناحية المادية أو الاقتصادية أفضل حالا من مجموعة حمدان،وهم أقرب إلى التجار ومستوري الحال، ولكنهم في كل الأحوال يعانون من أضرار وقعت عليهم من جانب الإقطاعيين الفاسدين، كذلك نجد مجموعة الدعاة للمذهب وعلى رأسهم الكرماني وهم يعملون في صمت، ويبحثون في صبر عمن يستخدمونهم أو يجندونهم للدعوة، مستعينين في ذلك بالغواية والإغراء والمال، أما مجموعة "اليهود" فيبدو تأثيرها قوياً ومضاعفاً لأنها تتعامل مع جميع القوى، مستخدمة المال وسلاح الإقراض؛ لإشعال الثورة وتغذيتها، والربح من جانب الثائرين الذين يدفعون الجزية للإمام المعصوم، والربح من جانب الدولة بصمتها عنهم نتيجة إقراضهم لها.. وتستثمر المواقف المختلفة لتدعيم وجودها.. فقد استطاعت أن تزرع المزيد من الحركات الهدامة في جنبات الدولة: ثورة الزنج، القرامطة، الصفرية، إخوان الصفا... إلخ.(/30)
وتبدو قضية الجنس من خلال صراع الشخصيات قضية حيوية ومهمة تعزف عليها الحركات الثورية في الرواية، وفى الواقع المعاصر أيضاً، فهذه الحركات ومن خلال منظريها تطرق المسألة طرقا معكوسًا، بهدف كسب الأنصار وتجنيد الأتباع، فتبيح العلاقة بين الجنسين طالما كانت قائمة على رضاهما، والشيء الذي تستنكره هو الاغتصاب، أو عدم موافقة أحد الطرفين، ومن خلال التطبيق في الرواية نجد أن الفطرة السليمة لدى الشخصيات تأبى هذا النهج، وبخاصة عندما يقع حمدان على ابنته "فاختة" والغيث على عمته راجية، وفي المقابل نجد رفضاً باتاً لدى عاليه ومهجورة للإباحية التي يفرضها المذهب.. ثم نرى في أكثر من موضع في الرواية إحساسا طبيعياً وفطريا يرفض أن تكون الإباحية هي النهج السائد، وذلك بما نراه من غيره أو إحساس بعد الرضا أو شعور بالتذمر[20].
ويلاحظ أن الكاتب عبر عن العلاقة الجنسية على مدى صفحات الرواية بأسلوب راق، لم يهبط أبدا إلى مستوى الإثارة الرخيص الذي عالج به بعض الكتاب هذه القضية، ولعله كان متأثرا في ذلك بمنهج القرآن الكريم، كما نرى في سورة يوسف على سبيل المثال.
إن شخصيات الرواية في كل الأحوال تصنع عالماً يتصارع فيه الخير ممثلاً في الإسلام وشريعته، مع الشر ممثلاً في الإقطاعيين والثائرين والباطنيين.. ما جعل الصراع حيويًا، ومثيراً أيضاً، وعن طريق المفارقة بين الشخصيات تعرفنا على ملامح كل فريق من فرقاء الصراع.
(7)
وبالإضافة إلى المفارقة بين الشخصيات، وعالمها الروائي الحيوي، فإن الكاتب استعان بعدد من العناصر التي أثرت هذا العالم الروائي الحي، ومنها: التطابق بين الطبيعة الخارجية والحالة النفسية للشخصيات، والتشويق بالغموض تلو الغموض، ولمونولوج الداخلي، والحوار، والتأثير القرآني.(/31)
ولا ريب أن الحالة النفسية للأفراد تلقي بظلالها على الطبيعة، وتتأثر بها في الوقت نفسه، وعملية التفاعل بين النفس والطبيعة مسألة حيوية في البناء الروائي، فهي تشبه الموسيقى التي تعطى نوعاً من الانطباع أو التصوير للأحداث، أو بلغة السينما "موسيقى تصويرية"، ومن هنا تكتسب قيمتها الجمالية مع إضفاء مسحة من الجمال الفني في عملية السرد الروائي،وبخاصة أن الكاتب قد اعتمد على الضمير الثالث أو ضمير الغائب ليحكي الأحداث ويرويها، وهو ما يتناسب مع طبيعة الرواية التاريخية.(/32)
فإذا أخذنا مثالاً على ذلك يوضح مدى التفاعل بين النفس والطبيعة في حال السرور والبهجة، فسنجد الطبيعة تبدو في أحلى مناظرها وأبهاها، والعكس صحيح أيضاً، فعندما يذهب "عبدان" لرؤية خطيبته "عالية" والسمر عند أخيها حمدان نجد الطبيعة من حوله كأنها في عرس "... وكان بدر التمام مطلا من علياء سمائه بكل روائه،وكامل ضيائه على ذلك الكون المسحور حيث استحال كل حقيقة إلى خيال، وكل خيال إلى حقيقة، فالرمل البيض الناعم قد أمسى ذروراً من الفضة تغوص حوافر البغلة فيه، وظلال الأشجار على جانبي الطريق كأنها شخوص من الجن أدركها النعاس وهي تهيم في تلك البطاح فتمددت حيثما حلا لها من الأرض، وقد ارتفع حجاب وشف حتى أوشك عبدان ان يرى خواطره تتمثل أمامه في صورة شتى قوامها من ضوء القمر"[21]، هذه هي الطبيعة التي تحولت إلى عالم مسحور جميل لأن "عبدان" في نشوة لزيارة من يحب ولكن هذه النشوة تتحول إلى شيء آخر، ومعها الطبيعة أيضاً، فها هو "عبدان يبدو مهموما حزيناً لاختطاف خطبيته "عالية" فنرى الطبيعة تبدو شيئا كئيباً موحشاً يحاول الهرب منه"... وكان النسيم عليلاً يوسوس بين الغصون كما كان عند خروجه من قريته على بغلته ولكنه يحس الآن قشعريرة تسري في ظهره، وكأن حفيفه أنين خفي ما زالت تردده الثواكل حتى بحت به حناجرها، وهذا القمر مازال مشرقاً في مسائه يرسل خيوطه الفضية على ما حوله من فضاء وشجر، ولكن عبدان لا يرتاح لنوره الساطع فيلوذ منه بأكناف الشجر وظلال الأيك...[22]، ها قد تحول حفيف النسيم العليل إلى أنين الثكالى، وأصبح ضوء القمر الساطع ثقيلاً يهرب منه "عبدان" ولا يرتاح إليه.. وذلك بسبب الشعور الحزين الذي يسيطر على "عبدان" من أجل خطيبته المخطوفة. هكذا تؤدي الطبيعة دورها المتناسق مع النفس البشرية للأشخاص.(/33)
وإذا كانت الطبيعة الخارجية تقوم بدور الموسيقى التصويرية في الرواية، وإضفاء لمسة جمالية على النص الروائي، فإن الكاتب يعمد إلى تشويق القارئ بصورة تحقق التفاعل بينه وبين الأحداث في تصاعد مستمر، وذلك من خلال الغموض الذي يتلو غموضا سابقاً يحله الكاتب على طريقته الخاصة، ولكنه في كل الأحوال يحدث نوعا من الجذب يسعى فيه القارئ لمعرفة سر الأحداث وتفسيرها.. وهو ما يجعل القارئ حريصاً على المتابعة حتى يصل إلى الذروة، ولعلنا لو تابعنا الفصل السابع من السطر الأول مثلاً، لوجدنا عملية التشويق تتحرك من نقطة عادية تعرف فيها حمدان على شيخ بالمسجد، ثم تتصاعد شيئا فشيئا حتى يكتشف حمدان أن الشَّيخ زعيم من زعماء العيارين، يعيش كما صاحبه العيار "عبد الرءوف" في ترف محجوب عن العيون، ويشرب الخمر، وله فلسفة في منهجه كعيار تفسر سلوكه، وتضعه – كما يزعم – في مصاف المحتسبين...(/34)
ويمكن أن نعتبر الرواية كلها قائمة على التشويق المعتمد على إثارة الغموض، ثم جلائه، والانتقال إلى غموض آخر ثم جلائه.. وهكذا. وقد استخدم الكاتب المونولوج الداخلين أو الحوار بين الشخصية ونفسها، أو الاسترجاع ليفسر أحداثا مضت، أو يهيئ لأحداث قادمة، أو يعطي دلالات معينة حول الشخصية ذاتها، أو شخضيات أخرى،ويبدو هذا العنصر عامل توازن يحكم حركة الشخصيات والأحداث في الرواية، ويمنع من حدوث الخلل الفني في بنائها، ويمكن أن نلمس أمثلة كثيرة على مدى الرواية، ونكتفي بالإشارة إلى صدر حديث أم حمدان وزوجه في نفس راجية، وانشاغلها بأمور أخرى بينمنا عبدان يخرج من البيت ليواصل البحث عن عالية: "وكان صدى حديثهما يبلغ سمع راجية لولا أنها كانت في شغل عنهم بما يضطرب في قلبها من الخواطر، ويدور في رأسها من الأفكار، لقد قلقت كما قلق سائر أهلها لفقد عالية، ولكنها لا تستطيع أن تكذب نفسها، فهي تشعر بشيء من الارتياح لغيابها لا تدري على وجه التحديد ما سببه، فلعله الحسد الذي تبطنه لأختها، أو الطمع في أن يخلو وجه عبدان لها، ولكنها لا تكاد تذكر ما قد تتعرض له أختها من ألوان السوء والابتذال على أيدي أولئك الأئمة الفجرة حتى يقشعر بدنها إشقاقا على أختها من هول ما تلقى، ويستيقظ ضميرها فيوبخها على ما حدث كأن لها يداً في حدوثه أو كأن ما كان في وسعها أن تحول دون وقوعه فلم تفعل، ويتعاظم شعورها بالذنب حين تذكر ما قالت في حق أختها أمام عبدان.. إلخ[23].(/35)
بيد أن أبرز وسيلة فنية في الرواية هي الحوار، والكاتب يستخدمه استخداما فذاً ورائعًا، ولعل ذلك يرجع إلى تفوقه في مجال الكتابة المسرحية، وهي تعتمد أساسا على الحوار، ومن هنا نجد الحوار الروائي في "الثائر الأحمر" يبدو تلقائياً وعفوياً، ليحقق أكثر من غاية، وبالرغم من أن الرواية تاريخية، فإن الكاتب لم يسقط في قاع الخشونة أو الجفاف أو البرودة التي تطبع حوارات الأعمال التاريخية غالباً، ولكه هنا يقدم حواراً اقتصاديا – إن صح التعبير – كل كلمة فيه ذات دلالة، أو تهدف إلى مضمون، أو تبلور موقفاً، ويلاحظ أن الحوار مبثوث في كثير من فصول الرواية، وكثرته تهدف فيما أرى إلى كسر حدة السرد وجذب القارئ لمتابعة الأحداث، وفي النموذج التالي، يقوم الحوار بالكشف عن جانب فشل المشروع القرمطي، أعني فقدان الحافز الفردي لدى أتباع المشروع من الفلاحين الأجراء أو الكادحين.
- ألم أكسكم من عري وأجعل لكم سكناً صالحاً تأوون إليه بلى؟
- ففيم تتكاسلون في أعمالكم؟ ألا تعلمون أن ذلك ضار بمصلحتكم؟
- بل نحن مجتهدون في عملنا ولا نقدر على أكثر مما نعمل.
- أصدقني الحديث ويلك.
- أتعطي لي الأمان من غضبك؟
- نعم.
- إننا يا سيدي لا نجد في أنفسنا ميلاً إلى العمل لأننا لا نعمل لأنفسنا.
- ألا تعلمون أن عملكم هذا هو الذي منه تنالون رزقكم؟
- بلى، ولكن أحدنا لا يشعر بأنه يعمل لنفسه ويأخذ كفاء عمله.
- فهل كنتم تأخذون كفاء عملكم إذ تعملون أجراء لملاك الأرض؟
- لا يا سيدي.
- فما كنتم تتكاسلون إذ ذاك هذا التكاسل!(/36)
- إن أردت الحق يا سيدي، فإن أحدنا كان يعمل أجيرا لمالك الأرض يأخذ منه أجره كل يوم، فإذا تكاسل كان لمالك الأرض أن يطرده من العمل جزاء تقصيره، فيذهب هو ليبحث عن عمل آخر يحرص على ألا يتكاسل فيه، فكان يشعر بأن في وسعه أن ينتقل من العمل عند سيد إلى العمل عند سيد آخر، أما هنا، فإن الأرض التي نعمل فيها كلها لمالك كبير واحد لا نقدر أن نجد عند غيره عملاً، ولا هو يقدر أن يجد قوماً غيرنا عنده يعملون، وقد كنا نشعر أن السلطان هو الحكم بيننا وبين سادتنا إن ظلمونا، أما هنا فإن السلطان وهو لخصم والحكم.
- فهل كان السلطان ينصفكم من ظالميكم؟
- قلما كان السلطان ينصفنا منهم، ولكنا كنا نشعر دائماً بأن لنا مطمعاً في ذلك.
- فأنتم اليوم في غنى عن ذلك الإنصاف لأن أحداً لا يظلمكم أو يغمطكم حقاً.
- بل نشعر بالظلم والغبن حين نرى كثيرا من الناس غيرنا يشاركونا في ثمرة عملنا، بل يأخذون معظمها منا، دون أن يشتركوا في العمل.
- أما كان سادتكم الملاك يفعلون هذا معكم.
- بلى، ولكنا كنا نحسد مالك الأرض على ما تخوله أرضه من الريع وإن لم يشترك معنا في العمل، أما هنا فقد قيل لنا إن الأرض أرضنا والعمل عملنا، فيعز علينا أن يتمتع بثمرة جهدنا سوانا ممن لا يملكون الأرض ولا يعملون...[24].(/37)
- ومع طول هذا الحوار، إلا أنه يكشف لنا كثيراً من جوانب الواقع القائم في "مملكة العدل الشامل" حيث أصبح الظلم أو الغبن سمة هذا الواقع، وهو ظلم أشد من ظلم الملاك الإقطاعيين من أمثال "ابن الحطيم"، لأن الناس فقدت الأمل تماما في الإنصاف والعدل، وضاع جهدهم وعرقهم بأيدي من لا يملكون ولا يعملون من الطبقة الحاكمة... ولذا كان طبيعيا أن ينعدم الحافز للإنتاج، كما رأينا عبر الحوار بين الفلاح الذي كان يتصف بصلاح الحال ورجاحة العقل والرأي، وبين قائد المملكة "حمدان قرمط"، وهكذا يؤدي الحوار دوره في البناء الروائي بتوضيح الأحداث، وتشويق القارئ لمتابعتها، فضلاً عن كسر حدة السرد التي اعتمد عليها الكاتب في بناء روايته.
وإذا كان الكاتب قد استخدم الحوار بذكاء وتفوق لخدمة البناء الفني، فإنه في سرده الروائي لجأ في صياغة ناصعة ذات طابع جمالي متميز، وهذه الصيغة تنتسب بصلة كبيرة إلى مدرسة البيان التي ازدهرت في نثرنا الحديث، وجعلت من الأسلوب مجالاً للتفوق التعبيري والرقي البياني، وهو اجعل الكاتب يسمو بأسلوبه فوق الابتذال والركاكة، ويرقى إلى مستويات تعبيرية تستلهم البيان القرآني، وتقتبس التعبير الشعري في صورته المضيئة[25]. ولا ريب أن التأثير القرآني واضح على امتدد الرواية، ويمكن أن نحصر كثيراً من لجمل التي اقتبسها الكاتب من القرآن الكريم، في سياق تعبيري متناغم يجعل منها نسيجا محكما، ومبهجاً في الوقت نفسه، ويمكن أن نأخذ على سبيل المثال هذه العبارات "سار بها في أزقة القرية حتى خرج من بابها الجنوبي المتهدم فوكزها بعصاه وانطلق بها في الخلاء الواسع... [26][27][28]، أو "فحاول حمدان أن يعتذر بأخذ عبد الرءوف بطرف كمه يجره إليه... " [29]، أو" ويصوم الشهر على خوف من أبيه وملئه أن ينكروا فعله[30]
وبعد...(/38)
فإن "على أحمد باكثير" من خلال "الثائر الأحمر" عالج موضوعاً مهما نحن في أمس الحاجة للاستفادة من معطياته ودروسه في مرحلتنا الراهنة، حيث يشتد الصراع بين الوافد والموروث من مشروعات حضارية.. كذلك فإن التجربة الفنية التي قدمها "باكثير" تستحق الاهتمام والتأمل، باعتبارها من أنجح التجارب للتعبير عن المستقبل من خلال وعي حاد بالحاضر، وعاطفة مشبوبة تهفو إلى تجاوز الواقع ومآسيه إلى غد أكثر إشراقاً وأملاً واخضرارا.
ـــــــــــــــــــــ
[1] على أحمد باكثير (1910 – 1969م) من حضر موت في جنوب اليمن، ولد بإندونيسيا، وأقام فترة في الحجاز، ثم انتقل إلى مصر حيث تخرج في كلية الأداب عام 1939، وكان له نشاط أدبي كبير، ويعتبر من بناة المسرح الشعري والنثرى في مصر، له أربع مسرحيات شعرية، منها: همام أو في بلاد الأحقاف، وإخناتون ونفرتيتي، وله شعر مخطوط نشر بعضه في الصحف والمجلات، فضلا عن العديد من الروايات والمسرحيات النثرية، والملحمة الإسلامية الكبرى: عمر بن الخطاب (انظر شعراء الدعوة ج9، ص7).
[2] صدرت عن مكتبة مصر، القاهرة، د.ت.
[3] سورة الإسراء آية: 16.
[4] سورة الأعراف آية: 175، 176.
[5] سورة النحل آية: 90.
[6] سورة النحل آية: 71.
[7] سورة النحل آية: 75، 76.
[8] الثائر الأحمر، 277.
[9] الثائر الأحمر، 223 وما بعدها.
[10] السابق، 142.
[11] الثائر الأحمر، 246 وما بعدها ويعتبر "عبدان" فيلسوف المذهب في الدولة القرمطية، ومستشار قائدها "حمدان".
[12] السابق، 135 – 138.
[13] الثائر الأحمر، 191، ويلاحظ أيضاً أن لهؤلاء اليهود دورًا رئيساً في ثورة الزنج التي ترافقت أو سبقت بقليل حركة القرامطة.
[14] الثائر الأحمر، 59 ما بعدها.
[15] الثائر الأحمر، 179، وانظر أيضاً صفحة 93 لترى جانبا من جهود أبي البقاء البغدادي للمطالبة بحق الفقراء وإنصافهم وفقا للتشريع الإسلامي، مما جعل الموفق أخا الخليفة يحبسه.(/39)
[16] راجع على سبيل المثال ما ذكره الطبري في تاريخه (الجزء العاشر – ط دار المعارف) تجد كثيرا من الأحداث الدامية، وانظر أحداث سنة 317هـ في البداية والنهاية لابن كثير وفيها ارتكب القرامطة جرائم القتل والغدر والسلب والنهب في الحرم الشريف، كما نقلوا الحجر الأسود، ويلاحظ أن "باكثير" توقف بروايته عند انهيار "مهيماباذ" وخروج حمدان قرمط، فلم يصل إلى عام 317هـ، ويمكن مراجعة ما كتبه عبد القاهر البغدادي بعنوان "الفرق بين الفرق". والقلقشندي في "صبح الأعشى".. حول القرامطة وموقف المسلمين منهم.
[17] الثائر الأحمر، 259 ما بعدها.
[18] الثائر الأحمر 262.
[19] السابق 274.
[20] انظر على سبيل المثال صفحات: 98، 99، 100، 101، 102، 106، 153، 237، 238، 277، من الرواية لترى الصرع بين الفطرة ما يقرضه المذهب من شيوعية جنسية.
[21] الثائر الأحمر، 23، ويقصد بكلمة ذروراً التراب الناعم المسحوق.
[22] الثائر الأحمر، 37.
[23] الثائر الأحمر، 31 وما بعدها، ويمكن أن نرى أنموذجًا لاستخدام "تيار الشعور" ف صفحة 20.
[24] الثائر الأحمر، 244 وما بعدها.
[25] استخدم الكاتب عددا من الألفاظ أو المفردات غير الشائعة، واستخدام هذه المفردات في حد ذاته كان دليلاً على قوة استيعاب اللغة لدى البيانيين في العصر الحديث، وقد أحصيت عددًا كبيرا من المفردات، لابد من الرجوع إلى المعجم لمعرفة معانيها، مثل: بعل بمعنى: تحير، وأفغم رداعها أي: ملأ طيبها، أديل: سقط، ارتج: اهتز واضطرب، جلواز: شرطي، منها نفا: متضاحكاً، ليلة نابغية: ليلة هم وأرق، البرداء: الحمى الباردة، وبيصة: النار... إلخ.
[26] الثائر الأحمر، 22، ويشير إلى قوله تعالى: {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} (سورة القصص آية 15).
[27] السابق: ويشير إلى قوله تعالى: {تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} (سورة القمر آية 20).(/40)
[28] السابق، 49، يشير إلى قوله تعالى: {فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً..} (سورة طه آية 86).
[29] السابق، 58، ويشير إلى قوله: {وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُهُ إِلَيْهِ..} (سورة الأعراف آية 150).
[30] السابق، 239، ويشير إلى قوله تعالى: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَأِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ} (سورة يونس آية 83).(/41)
العنوان: من مهام إدارة الموارد البشرية
رقم المقالة: 1528
صاحب المقالة: محمود حسين عيسى
-----------------------------------------
من مهامّ إدارةِ الموارد البشرية
"هيكلةُ الأعمال والوظائف"
مقدمة:
إنَّ لكلِّ منظمةٍ رسالةً، ورؤيةً، وغاياتٍ، وأهدافًا، تسعى إلى تحقيقها داخلَ بيئتها العملية، وداخل محيطِها الإقليمي، فضلاً عن محيطها الدولي.
ولكي تتمكنَ المنظمةُ من تحقيق رسالتها، عليها أن تُنظِّم وتُعرّف أعمالَها ووظائفها الداخلية، أي تبني هرمَها الوظيفي.
فعملُ المنظمة الكلي يُجزَّأ إلى أعمالٍ ووظائفَ من قمة الهرم التنظيمي، ويمر بمستويات إدارية متعارف عليها.
فالمستوى الإداري الأول في الهيكل التنظيمي يشتمل على أعمال ووظائف إدارية رئيسة؛ كإدارة المشتريات، وإدارة المخازن، وإدارة الإنتاج، وإدارة التسويق، وإدارة المبيعات، وإدارة الموارد البشرية، والإدارة المالية... إلخ.
أما المستوى الإداري الثاني من الهيكل التنظيمي فيتضمن أعمالاً ووظائفَ منبثقةً من الوظائف والأعمال الرئيسة، إذ يكوّن مجموعُ الوظائف والأعمال المتفرعة هذه وحداتٍ إداريةً يُطلق عليها (الإدارة الوسطى)، التي تُقسم أعمالُها ووظائفها إلى أعمال ووظائف فرعية أصغر، ليكوّن مجموعُها (الإدارة التنفيذية) أو الإدارة المباشرة، وهي تمثل المستوى الإداري الثالث في الهيكل التنظيمي للمنظمة.
ومن خلال استعراض الهيكل التنظيمي للمنظمة نجدُ عملَ المنظمة يمثل نظاماً شاملاً ومتناسقاً، يشتمل على وظائف وأعمال رئيسة وفرعية تتكامل فيما بينها بهدف تحقيق رسالة المنظمة، وغاياتها، وأهدافها الحالية والمستقبلية.(/1)
وهنا يبرزُ الدورُ الهام لإدارة الموارد البشرية في تحقيق المنظمة لرسالتها، إذ يجب على إدارة الموارد البشرية أن تصمِّم لكل عمل أو وظيفة داخل المنظمة –بصرف النظر عن كونها رئيسة أو فرعية– الدورَ المناسب لها الذي يجبُ أن تقوم به داخل منظومة العمل في المنظمة، والذي يتم من خلال الموارد البشرية المكلفة بالقيام بأداء هذا العمل أو تلك الوظيفة، وذلك بفاعلية تامة، وعلى أسس علمية مدروسة، وطرق عملية حديثة ومتقدمة، لكي تتمكن هذه المواردُ البشرية من أداء أعمالها بكفاءة عالية، ومن ثم يؤثر ذلك في الأداء العام ككلٍ بالإيجابية والفاعلية والتقدم.
إن عملية تصميم "هيكلة الأعمال والوظائف" تقع في الأساس على عاتق جميع إدارات المنظمة، وفي القلب منها (إدارة الموارد البشرية)، وتعد مشاركةُ إدارة الموارد البشرية في هذه العملية من أهم أعمالها، بل من صميم عملها.
فما معنى هيكلة الأعمال والوظائف؟
وما مردود وانعكاسات هيكلة الأعمال والوظائف على الموارد البشرية، الممارسة لهذه الأعمال، والقائمة بتلك الوظائف؟
وما مراحل تطورها ومداخلها التاريخية؟
وما المدخل أو الاتجاه المعاصر لهيكلة الأعمال والوظائف؟
هيكلةُ الأعمال والوظائف:
يمكننا تعريفُ الهيكلة بأنها تصميم لوظائف وأعمال المنظمة.
والهيكلة عملية فنية إدارية تشارك فيها إدارةُ الموارد البشرية بجانب الإدارات الأخرى المكونة للهيكل التنظيمي داخل المنظمة، وتشرف إدارةُ الموارد البشرية على تطبيق نتائج عملية الهيكلة.
وخلال عملية الهيكلة تُوضع الأطرُ العامة والتفصيلية لجميع الأعمال والوظائف التي ستؤدَّى داخل المنظمة، وتشتمل هذه الأطر على تحديد الآتي:
1- تحديد نوع وعدد الأعمال والوظائف الهامة والرئيسة التي يتطلبها العملُ داخل المنظمة، والتي تمكّن المنظمة من تحقيق أهدافها.
2- تحديد أهداف الأعمال والوظائف التي توضح النتائج والإنجازات المطلوب تحقيقها من كل عمل ووظيفة.(/2)
3- تحديد واضح ودقيق لطبيعة وخصائص الأعمال والوظائف.
4- تحديد الخطوات والمراحل التي يمر بها العملُ من بدايته حتى نهايته، أي مرحلة تحقيق الهدف المراد تحقيقه من وراء أداء هذا العمل.
5- تحديد ووضع معايير أداء الأعمال والوظائف، بحيث تتمكن المنظمةُ من تقدير إنجازات هذه الأعمال وتلك الوظائف.
6- تحديد واضح لحجم الواجبات، والمسؤوليات، والمهام الخاصة بكل عمل ووظيفة.
7- تحديد أسلوب أداء الأعمال داخل المنظمة، وهل ستطبق أسلوب العمل الجماعي، أو ستطبق أسلوب العمل الفردي؟
8- تحديد احتياجات المنظمة من الآلات والمعدات، والأجهزة، والمباني، والأثاث، التي ستستخدم في الأعمال والوظائف داخل المنظمة.
9- تحديد شكل بيئة العمل المستقبلية داخل المنظمة، وذلك من الناحية المادية، ومن الناحية المعنوية، والتي ستؤدى من خلالها الأعمالُ والوظائف.
ويجب على الإدارات المنوط بها عملية تصميم مهام وأطر وأدوار وشكل وماهية الأعمال والوظائف داخل المنظمة، أن تأخذ في الاعتبار أن يحقِّقَ هذا التصميمُ الأهدافَ المنشودة من ورائه، وهي:
1- تحقيق الانسجام والتنسيق التام، والتعاون بين المسؤوليات والواجبات، والسلطات والصلاحيات لتعمل مع بعضها في بوتقة واحدة هي العمل أو الوظيفة الواحدة.
2- تحقيق التعاون والانسجام بين الوظيفة أو العمل الواحد وباقي الأعمال والوظائف داخل منظمة الأعمال، وذلك لتحقيق رسالة، وغايات، وأهداف المنظمة العامة.(/3)
وإن كان هناك من معيار يمكن المنظمةَ أن تحكم من خلاله على نجاح أو عدم نجاح عملية تصميم هيكلة الأعمال والوظائف، فلن يكون إلا المعيار الذي تتمكنُ المنظمة عن طريقه من قياس مدى نجاح عملية تصميم هيكلة الأعمال والوظائف في إتاحة الفرصة كاملةً أمام الموارد البشرية داخل المنظمة والشاغلين للأعمال والوظائف، أن يُظهروا إمكانياتهم وقدراتِهم الإبداعية والابتكارية، ويتمكنوا من الاستخدام الأمثل لطاقاتِهم من خلال انسيابية وسلاسة هيكل الأعمال والوظائف، فضلاً عن أن تحقيق التعاون والانسجام بين الموارد البشرية وبعضها يؤدي إلى تحقيق الفاعلية التنظيمية التي تتمكن عن طريقها المنظمةُ من تحقيق أهدافها المحددة والمنشودة.
وتكون عملية هيكلة الأعمال والوظائف داخل المنظمة على مستويين رئيسين:
المستوى الأول: تصميم عام وشامل للمنظمة ككل، وفيه تحدد الأطر العامة لأعمال ووظائف المنظمة الرئيسة.
المستوى الثاني: تصميم تفصيلي، وفيه تحدد وتصمم الأعمال الفرعية التي تضمها، وتشتمل عليها الأعمالُ والوظائف الرئيسة، إذ تصمم كل وظيفة، وكل عمل بطريقة منفصلة ومفصلة.
المردودات الإيجابية لعملية تصميم هيكلة الأعمال والوظائف على الموارد البشرية داخل المنظمة:
إن هيكلة الأعمال والوظائف الفعالة والناجحة هي التي تعمل على رفع معنويات العاملين الممارسين لها، وتعمل أيضاً على إيجاد الدافعية الإيجابية، والرغبة في إنجاز الأعمال بجودة عالية.. فهيكلة الأعمال والوظائف في هذه الحالة سيكون لها مردودات وانعكاسات هامة على الموارد البشرية المنوط بها القيام بهذه الأعمال والوظائف وممارستها، ومن ثم مردود إيجابي مباشر على المنظمة كلها.
مداخل هيكلة الأعمال والوظائف:(/4)
لقد تنوعت وتطورت مداخلُ هيكلة الأعمال والوظائف على مر العقود، إذ طبقت الشركاتُ ومنظمات الأعمال الغربية واليابانية الكثيرَ من هذه المداخل. ولا يزال هذا التنوع مأخوذًا به حتى وقتنا الحالي، وبناءً على هذا التنوع والتطور لعملية هيكلة الأعمال والوظائف، ذهب الكثيرُ من المتخصصين إلى التفرقة بين هيكلة الأعمال والوظائف التي كان يُعْمَلُ بها في الماضي (الهيكلة التقليدية للأعمال والوظائف) –منذ صمّمَ "آدم سميث" العمل في إحدى المصانع عام 1776م على أساس أعمال رئيسة، إذ قام بتخصيص أقسام رئيسة يقوم كل قسم بأداء مهمة رئيسة معينة، وقسَّم الأعمال داخل القسم الواحد إلى وظائفَ محددةٍ مسؤول عنها موظف أو عامل محدد– وهيكلة الأعمال والوظائف المعاصرة.
وسوف نتناولُ –بإيجاز– عرضَ المداخل التقليدية، وسنتناول بالتفصيل المداخلَ أو الاتجاهات المعاصر لهيكلة الأعمال والوظائف..
المداخل التقليدية لعملية هيكلة الوظائف والأعمال:
المدخل العلمي:
ينسب هذا المدخلُ إلى المدرسة العلمية في الإدارة، ورائدُها "فريدريك تايلور" الذي وضع المدخلَ العلمي في هيكلة وتصميم الأعمال والوظائف، لغاية هامة وهي: تحقيق طريقة فعالة لأداء العمال لأعمالهم.
وقد سعى المدخلُ العلمي لتحقيق عدد من الأهداف.. منها:
1- تجزئة وتيسير الأعمال، بهدف تسهيل أدائها، ومن ثم عدم حاجة المنظمة إلى عمال مهرة، وتسهيل عملية الرقابة على هذه العمالة.
2- تخفيض تكلفة العمل من خلال اختصار وقت تنفيذه من قبل العاملين.
3- رفع إنتاجية العمل عن طريق تسريع وانسيابية أدائه، من خلال التركيز على التخصص وتقسيم وتجزئة الأعمال.
مدخل توسيع العمل أفقياً:(/5)
بموجب هذا المدخل صُمِّمت هيكلة الأعمال والوظائف بطريقة ساعدت العامل على القيام بعدة مهام داخل القسم، أو الوحدة الإدارية، أو المرحلة الإنتاجية التي يعمل فيها مع محافظته على تخصصه الأصلي، وهذا يؤدي بالتأكيد إلى تسريع حركة دوران العمل، ومن ثم انخفاض معدلات دوران العمل، وما لذلك من أثر إيجابي في النهاية على أرباح المنظمة، فعندما تدمج خطوات في العمل، وتسند إلى شخص أو قسم واحد ليقوم بها –وهو مؤهل لذلك من حيث المهارة والخبرة- يؤدي ذلك إلى القضاء على –أو تقليل- أوقات الانتظار، ومن ثم عدم هدر الوقت من خلال الاستغناء عن أوقات التسليم والتسلّم من شخص لآخر أو من قسم لآخر لمرحلة إنتاجية معينة.
مدخل العلاقات الإنسانية:
وقد ركّز هذا المدخل على الجوانب المعنوية والاجتماعية للموارد البشرية، ومن ثم فإن عملية تصميم هيكلة الأعمال والوظائف في المنظمة يجب أن تحقق هذه الجوانب للموارد البشرية، لكي تحقق معدلات عالية من الدافعية الإيجابية، فضلا عن تحفيز هذه الموارد البشرية، وجعلها تؤدي الأعمال والوظائف المكلفة بها بكفاءة وفاعلية، وما لذلك من مردود إيجابي على المنظمة.
مدخل المدرسة السلوكية:
سعى هذا المدخلُ إلى هدف محدد، وهو أن تحقق عملية تصميم هيكلة الأعمال والوظائف تحسينًا وتطويرًا ماديًا ملموسًا في نوعية الحياة في مكان العمل داخل المنظمة.
وركزّ هذا المدخل على خمسة مبادئ في عملية تصميم هيكلة الأعمال والوظائف.. وهي:
1– إنهاء العملية الإنتاجية أو المهمة: إذا كلف عامل، أو فريق عمل، أو قسم من الأقسام بعملية ما فعليه أن يقوم بها من البداية إلى النهاية.(/6)
2- الرقابة من الداخل: أن تصبح مسؤولية الرقابة على أداء العمل، وجودة العملية الإنتاجية من مهام القائم أو القائمين بالعمل، وذلك بهدف إشعار العنصر البشري (العامل) بمدى ثقة رؤسائه فيه، وتكون عملية الرقابة الخارجية من قبل الرؤساء عن بُعد، ولا يتدخلون في العملية الإنتاجية إلا عند الضرورة.
3- ممارسة أكثر من عمل: إذ يؤكد هذا المدخل أهميةَ أن يمارس العنصرُ البشري داخل المنظمة أكثرَ من مهمة، ويكتسب أكثر من مهارة، وذلك عن طريق تنقله بين الوظائف داخل المنظمة، وهذا يشبع العنصر البشري معنوياً، ويولد فيه روح الإثارة والتحدي، وتحقيقاً لذلك يجب أن تصمم هيكلة الأعمال والوظائف بشكل يتيح لكل موظف أو عامل أن يمارس مهامَّ متنوعة وكثيرة داخل المنظمة.
4- الاستقلالية في الأداء: يجب أن تتيح هيكلةُ الوظائف والأعمال قدرًا كبيرًا من حرية التصرف للعنصر البشري في أثناء قيامه بمهامه المكلف بها، وذلك يحقق له بلا شك حافزاً معنوياً إيجابياً، يدفعه إلى الابتكار والإبداع.
5- تحقيق التفاعل والانسجام بين الأعمال والوظائف: فمن المهام الرئيسة المنوطة بعملية هيكلة الأعمال والوظائف تحقيق التفاعل والانسجام بين الأعمال والوظائف، بهدف تحقيق قدر كبير من حرية الاتصال، والانسيابية بين الأعمال والوظائف، فضلا عن إقامة علاقات اجتماعية مطلوبة بين العناصر البشرية الشاغلة لهذه الأعمال وتلك الوظائف.
مدخل توسيع العمل عمودياً (إثراء الأعمال والوظائف):
يركز هذا المدخل على الجوانب المادية والمعنوية في أداء الأعمال، بهدف إيجاد وزيادة الدافعية لدى العناصر البشرية نحو العمل بفاعلية ونشاط.
وقد ذهب Hackman ,Oldman في عام 1985م إلى وضع نموذج توضيحي عن هذا المدخل اشتمل على خمسة قواعد أساسية، يمكن عن طريقها إثراءُ الأعمال والوظائف، وتفعيل الدافعية والإثارة والرغبة في نفوس العناصر البشرية عند ممارستها للأعمال.. ونوجز هذه القواعد فيما يلي:(/7)
1- تحديد هوية ومضمون العمل أو الوظيفة: يجب عند تصميم هيكلة الأعمال والوظائف أن تحدد الخطواتُ أو المراحل التي يتكون منها العملُ الواحد، وكيفية تنفيذه من البداية إلى النهاية.
2- تنوع المهارات: يجب عند تصميم هيكلة الأعمال والوظائف أن يحدد نوع وعدد المهارات التي يجب أن تتوفر في الموارد البشرية التي ستؤدي الأعمال والوظائف داخل المنظمة.
3- تحديد مدى أهمية العمل أو الوظيفة: يجب عند تصميم هيكلة الأعمال والوظائف أن تحدد درجةُ أهمية العمل أو الوظيفة التي يمارسها العنصر البشري، وجعله يشعر بمدى أهميته داخل المنظمة، وبمدى أهمية العمل أو الوظيفة التي يقوم بها ويمارسها.
4- تحقيق مبدأ الاستقلالية: يجب عند تصميم هيكلة الأعمال والوظائف أن يصمم مضمون الأعمال والوظائف بطريقة توفر للعناصر البشرية التي تؤديها درجةً عالية من الاستقلالية والمرونة في أداء أعمالها ومهامها داخل المنظمة، وتفعيل مسؤولية الرقابة من الداخل، وأن تكون الرقابة الخارجية غير مباشرة، وأن تكون المساءلةُ والمحاسبة بعد انتهاء العنصر أو العناصر البشرية من أداء أعمالها، وتحديد مدى نجاحها أو إخفاقها في تحقيق الأهداف المحددة سلفاً.
5- التغذية العكسية: يجب عند تصميم هيكلة الأعمال والوظائف أن يعمل التصميم على توفير أكبر قدر من البيانات والمعلومات الواضحة والكافية عن أداء جميع الأعمال والوظائف، حتى تتمكن المواردُ البشرية الممارسة والقائمة على هذه الأعمال من معرفة نتيجة أعمالها، وهذه المعرفةُ تساعدُها على كشف جوانب القوة في أدائها، ومن ثم تعمل على تنميتها وزيادتها، كما تساعدها على كشف جوانب الضعف في أدائها، ومن ثم تعمل على التخلص منها وتلافيها، وتجنبها عند ممارسة أعمالها مستقبلاً.
مدخل الإدارة بالأهداف: Management By Objectives (MBO)(/8)
ركز هذا المدخلُ في عملية تصميم هيكلة الأعمال والوظائف على وضع أهداف محددة وواضحة المعالم، ومتفقٍ عليها بين الرؤساء والمرؤوسين في المنظمة.. بحيث يقوم المرؤوسون بإنجاز هذه الأهداف في مدة زمنية محددة، عن طريق عمل مجموعة من الأعمال والمهام المحددة والمتفق عليها أيضاً بين الرؤساء والمرؤوسين. وفي نهاية المدة الزمنية المحددة والمتفق عليها، يراجعُ الرؤساءُ والمرؤوسون الأداءَ ويقدرونه، ويحددون مدى النجاح أو الإخفاق في تحقيق الأهداف المطلوبة، وهذه الأهداف تعد بمثابة المعايير التي تستخدم في عملية تقدير أداء المرؤوسين للأعمال والوظائف التي يمارسونها، والتي يشرف عليها رؤسائهم.
ويرتكز مدخل الإدارة بالأهداف على عدة ركائز أساسية.. أهمها:
1- المشاركة بين الرؤساء والمرؤوسين في تحديد الأهداف والأعمال والمهام التي سيقومون بها، والمدة الزمنية اللازمة لتحقيق هذه الأهداف.
2- الاستقلالية في العمل، إذ يتمتع المرؤوسون بحرية التصرف، والمرونة الكافية في تنفيذ مهامهم، فضلاً عن القدر الكبير من تفويض السلطات، الذي يساعدهم ويمكنهم من تحقيق الأهداف المتفق عليها.
3- اعتماد المرؤوسين على أنفسهم؛ فمسؤولية الرقابة من الداخل تقع عليهم، وعملية التحسينات والتطوير في الأداء تقع عليهم أيضاً، فهم مسؤولون أمام رؤسائهم عن تحقيق الأهداف المتفق عليها في المدة الزمنية المحددة، وبالجودة المطلوبة.
4- الإشراف والرقابة غير المباشرة من قبل الرؤساء على أداء وتنفيذ مرؤوسيهم للعمل.
5- العمل على رفع الروح المعنوية للمرؤوسين، والدافعية المستمرة لهم نحو الابتكار والتجديد، والإبداع والتطوير.
مدخل إعادة هيكلة خطوط الإنتاج:
يعتمد تصميم هيكلة الأعمال والوظائف طبقاً لهذا المدخل على مبدأ المرونة في جميع أعمال ووظائف المنظمة.
ويرتكز هذا المدخل على عدة مرتكزات.. أهمها:(/9)
1- زيادة الاستفادة من المكونات الأساسية داخل المنظمة من آلات، ومعدات، وموارد بشرية، بحيث تتمكن المنظمةُ من استعمالها في أداء عدة أعمال إنتاجية ووظيفية.
2- زيادة معدل دوران العمل ورفع الإنتاجية، باستخدام موارد بشرية ذات كفاءة عالية، ومهارات متميزة، فضلاً عن استخدام آلات ومعدات حديثة ذات تكنولوجيا متقدمة، مع توفير قدر كبير من المرونة والانسيابية في أداء وممارسة الأعمال والوظائف.
3- القيام بخطوات ومراحل العمل على خط الإنتاج من خلال فرق عمل، على أن يوفرَ تصميمُ هيكلة الأعمال والوظائف للعنصر البشري داخلَ فريق العمل التنقلَ بحرية، والمرونةَ لأداء عدة أعمال أو مهام متنوعة.
المداخل أو الاتجاهات المعاصرة لهيكلة الأعمال والوظائف:-
أولاً: مدخل فريق العمل: Work Team Design Approach
كانت اليابان من أوائل الدول التي اعتمدت على مدخل فريق العمل كجزء أساسي في عملية هيكلة الأعمال والوظائف، وسبقت في ذلك الدول الغربية (أمريكا وأوروبا) التي أخذت به بعد أن أثبت الكثير من البحوث والدراسات الميدانية فائدةَ تطبيق هذا المدخل، التي تمثلت في تحقيق معدلات عالية من رفع الروح المعنوية للموارد البشرية في العمل، وجعلت هذه الموارد البشرية أكثرَ إيجابية وفاعلية، ودافعيةً نحو العمل، وساعد (مدخل فريق العمل) أيضاً في رفع درجات استجابة الموارد البشرية لكل جديد، وحديث، ومتطور من فكر، أو آلات ومعدات تدخلها المنظمةُ لمكان العمل لتطوير وتحديث منتجاتها لمواجهة تحديات المنافسة.
وتستطيع منظمة الأعمال -باتباع آلية مدخل فريق العمل- أن تصمم هيكلة الأعمال والوظائف لديها على أساس جماعي، من خلال فرق عمل، يتشابه أعضاؤها في كثير من الخصائص والسمات، فضلاً عن تجانسهم وتعاونهم مع بعضهم، ويرأس كلَّ فريق عمل قائدٌ هو عضو في هذا الفريق، ويعمل معهم، ولكنه يتميز عنهم بالخبرة والمهارة العالية، وسمات القيادة... إلخ.(/10)
إن الهدف الرئيس لمدخل فريق العمل إنما يتمثل في إيجاد ودمج مكونات وعناصر أساسية مع بعضها في تنفيذ الأعمال أو المهام، ليتكون من هذه العناصر نظام محكم يساعد على إنجاز العمل بفاعلية وكفاءة عالية..
ومن أهم هذه المكونات والعناصر ما يلي:
1- توفير بيئة عمل صحية ومناسبة لتؤدى فيها الأعمال والوظائف كما خطط لها، ويجب أن يتوفر في هذه البيئة ما يرسخُ الشعورَ بالأمان المادي والمعنوي للموارد البشرية، وذلك من خلال الرعاية الصحية، والاجتماعية، والحوافر المالية، وبرامج الوقاية من إصابات العمل... إلخ.
2- تهيئة الموارد البشرية نفسياً في أثناء ممارساتهم لأعمالهم داخل المنظمة، وذلك بالعمل على تشجيع وتفعيل قنوات الاتصال بين بعضهم، وتنمية الروابط الاجتماعية فيما بينهم.
3- توفير التقنية الحديثة والمعاصرة، وبرامج التدريب المتقدمة لتمكين فرق العمل من أداء مهامها بفاعلية ونشاط، وكفاءة.
ولمدخل فريق العمل الكثير من الأسس التي يقوم عليها في تصميم هيكلة الأعمال والوظائف.. أهمها:
1- منح فريق العمل السلطةَ الكافية التي تمكنه من أداء عملية التخطيط، والتنظيم، والتنفيذ، والرقابة للعمل الذي يقوم بأدائه، فضلاً عن تحديد وتوزيع المهام على أعضائه، كل حسب إمكاناته وكفاءاته، ومدى قدرته على إنجاز ما سيكلف به من عمل بنجاح وفاعلية.
2- تحديد وتهيئة الوسائل التقنية التي سيستخدمها فريقُ العمل في إنجاز عمله أو مهمته.
3- يتحمل فريق العمل المسؤولية كاملة وجماعية –في مقابل الصلاحيات الكاملة– عن إنجاز العمل المكلف به وتحقيق النتائج المطلوبة من قبل المنظمة التي تساعدها على تحقيق رسالتها وأهدافها.
4- تقوم الجهات العليا -في الهيكل التنظيمي داخل المنظمة– المشرفة على فريق العمل باستخدام أسلوب الرقابة غير المباشرة، ولا تتدخل إلا عند الضرورة.
5- المساءلة والمحاسبة لفريق العمل تكون على ضوء ما حققه من نتائج فعلية.(/11)
6- استخدام أسلوب التحفيز الجماعي لتحفيز فريق العمل يكون على أساس الجهد الجماعي المشترك، والإنجاز الجماعي المحقق.
7- آلية اتخاذ القرار داخل فريق العمل آلية جماعية بعيدة عن الفردية تماماً.
8- يتخذ فريق العمل من المرونة مبدأ له، ومن ثم يكون عدد أعضائه قليلاً في غالب الأحيان؛ إذ يعتمد الفريق على مهارة أعضائه وقدرتهم على أداء أعمال بعضهم.
9- توفير قاعدة معلومات كبيرة، تمكن فريق العمل من إنجاز عمله المخطط، وبالنتائج المنشودة، وفي الوقت المحدد.
10- يتوفر في قائد فريق العمل مهارات وخبرات أكبرُ تميزُه عن باقي أعضاء الفريق، فضلاً عن توفر سمات شخصية، وصفات إدارية تمكنه من قيادة الفريق نحو تحقيقِ معدلاتِ أداءٍ عالية، ومن ثم إنجازٍ أفضل وذي جودة للعمل أو المهمة المكلف بها.
وهناك الكثير من الواجبات التي يجب على فريق العمل أن يلتزم بها كي يتمكن من أداء وإنجاز الأعمال والمهام المنوطة به.. ومن هذه الواجبات:
1- إكساب أعضاء الفريق مهاراتٍ كثيرة ومتنوعة، بتوفير البرامج التعليمية والتدريبية المتقدمة والمواكبة لمتطلبات العصر، وتمكينهم من الإتقان المأمول للكثير من أدوار بعضهم العملية، وذلك يساعد في تنقلهم بين مهام بعضهم دون إحداث خلل في منظومة عملهم، ومن ناحية أخرى تتولد عملية المساعدة المتبادلة بين أعضاء الفريق الواحد من تضامنهم في المسؤولية عن إنجاز هذا العمل، ولعملية المساعدة المتبادلة هذه الكثير من الفوائد على أعضاء الفريق، منها ما هو معنوي، ومنها ما هو اجتماعي، ومنها ما هو مادي بإيجاد روح التعاون والانسجام بين أعضاء الفريق مما يؤثر مباشرة في قدرتهم على إنجاز العمل.
2- غرس قيمة الاعتماد على النفس في نفوس أعضاء الفريق، مما يدفعهم إلى المزيد من طلب العلم في مجالهم لتعرُّف كل جديد، دون انتظار توفره عن طريق البرامج التعليمية أو التدريبية التي قد تقررها أو لا تقررها الجهات العليا في منظمتهم.(/12)
3- إكساب أعضاء الفريق مهارات التفكير، والتخطيط، والتنظيم، والرقابة من الداخل، ليتمكنوا من تخطيط، وتنظيم، وتنفيذ الأعمال والمهام التي يكلفون بها، والرقابة من الداخل على تلك الأعمال.
4- غرس قيمة نقد الذات، والاعتراف بالخطأ في نفوس أعضاء الفريق، وذلك في أثناء تدريب أعضاء الفريق على معايير ومبادئ تقدير الأداء.
ثانياً: مدخل هندسة الأعمال:
نادى بهذا المدخل كل من James Champy و Mickel Hammer في عام 1993م، إذ عرَّفا من خلاله عمليةَ إعادة هندسة الأعمال بأنها عملية إعادة تفكير جديد لإحداث تغييرات جذرية، وليست إصلاحات تتعلق بأعمال المنظمة وفقط. والهدف من وراء ذلك هو تمكين الأعمال –التي خضعت لعملية إعادة هندسة– من تحقيق النتائج المنشودة والمطلوبة منها، وذلك من خلال إدخال عمليات تطويرية، وتحسينات جوهرية على مضمون هذه الأعمال، وأيضاً على أسلوب تنفيذها في ظل عدة معايير أساسية.. منها :
1- تخفيض تكلفة أداء وإنجاز الأعمال.
2- تحقيق أعلى معدلات الجودة في أداء الأعمال.
3- تحقيق معدلات عالية من حيث السرعة في إنجاز الأعمال.
فعملية إعادة هندسة الأعمال تهدف إلى إحداث تغييرات جذرية أساسية تدخل على عملية تصميم وهيكلة الأعمال والوظائف داخل المنظمة، لجعلها أكثر كفاءة وفاعلية وقدرة على التماشي والتكيف مع متغيرات البيئة المتنوعة، ذات الإيقاع المتسارع في حركتها، لجعل هذه الأعمال وتلك الوظائف أكثر تجدداً وحداثة في مواجهة تحديات البيئة الداخلية والخارجية.
ويمكننا أن نوجز أهم مميزات مدخل إعادة هندسة الأعمال فيما يأتي:(/13)
1- إن مدخل إعادة هندسة الأعمال أدى إلى جعل الأعمال والوظائف أكثرَ فاعلية داخل المنظمة، وذلك من خلال زيادة قدرة هذه الأعمال على إيجاد مناخ من التنافس الحقيقي، والدافعية الإيجابية، والحماسة والإثارة في نفوس الموارد البشرية داخل المنظمة، فضلاً عن ترسيخ الشعور بالاستقلالية والمرونة في العمل، مع توفير قدر كبير من إمكانية تطوير الموارد البشرية لأنفسهم في أثناء وجودهم ومزاولتهم لأعمالهم في المنظمة.
2- إن مدخل إعادة هندسة الأعمال أدى إلى إحداث نوع من التكامل الأفقي والرأسي بين مهام الأعمال والوظائف التي تؤدى داخل المنظمة، بهدف جعل هذه الأعمال والوظائف تعمل كوحدة واحدة متكاملة، ومتعاونة ومتصلة ببعضها في تناسق وانسجام، بما يؤدي إلى تحقيق رسالة وأهداف المنظمة العامة والخاصة.
المرتكزات والأسس التي يقوم عليها مدخلُ إعادة الهندسة:
1- إعادة تصميم الهيكل التنظيمي في المنظمة، وتحويله من هيكله الرأسي (العمودي) إلى هيكل أفقي، بهدف تفعيل عملية التنسيق بين أعمال المنظمة، واختصار قنوات الاتصال فيها، ومن ثم زيادة سرعة نقل وتداول البيانات والمعلومات بين جميع مستويات الهيكل التنظيمي في المنظمة.
2- إعادة تصميم أدوار، ومهام، ومسؤوليات، وصلاحيات الأعمال والوظائف وتحويلها من أدوار فردية إلى أدوار جماعية على شكل فرقِ عملٍ يتاحُ لأعضائها المزيدُ من الاستقلالية، والحرية، والمرونة، والتطوير في أدائها.
3- ضرورة إعطاء فرق العمل في المنظمة قدرًا من السلطة يتيحُ لها مزاولةَ وممارسةَ أعمالها بمرونة وحرية، وهذا يستلزمُ دفع تفويض السلطات من أعلى إلى قاعدة الهرم التنظيمي داخل المنظمة. ويحقق هذا التفويض –بلا ريب– جودةً عالية في أداء الرؤساء والمرؤوسين، فضلاً عن إنجاز الأعمال في الوقت المحدد لها.(/14)
4- إعادة تصميم دور الإدارة الوسطى بتقليص عدد وظائفها بحيث يكون الهيكل التنظيمي أفقياً وليس عمودياً، ومن تغيير آلية متابعتها، وإشرافها، ورقابتها من المباشرة إلى غير المباشرة –أي الرقابة عن بُعد– وعدم التدخل في الأعمال الذي تشرف عليها الإدارة الوسطى إلا عند الحاجة إلى هذا التدخل، وذلك لتوفير الفرصة كاملة للإدارة التنفيذية (المباشرة) المتصلة مباشرة مع قاعدة الهرم التنظيمي للعمل بمرونة وحرية كاملة.
5- إعادة تصميم أساليب ونماذج التحفيز داخل المنظمة، فما دام أسلوب العمل في المنظمة قد تحول من الأسلوب الفردي إلى الأسلوب الجماعي، كان لزاماً على المنظمة أن تغير من أساليب التحفيز الفردية إلى أساليب تحفيز جماعية، أي تعطي الحوافز على أساس ما ينجزه فريقُ العمل.
6- إعادة تصميم معايير الأداء بما يتفق مع أسلوب العمل الجماعي في المنظمة (بدلاً من أسلوب العمل الفردي)، وهذا يتطلب من المنظمة أن تقرّ معايير الأداء التالية:
أ – مدة إنجاز المهام والأعمال.
ب- سرعة أداء الأعمال.
ج- تكلفة أداء الأعمال.
د- جودة الأداء وكميته.
هـ- الإنجاز.. أي تحقيق الهدف من الأعمال والوظائف، وهو رضى عملاء المنظمة عن جودة منتجاتها وخدماتها.
7- إدخال تقنية المعلومات على العمل في المنظمة، وذلك لتحقيق معدلات أداء وجودة عالية، فضلاً توفر الدقة وخفض التكاليف.
8- إعادة خطوات ومراحل تنفيذ الأعمال من بدايتها إلى نهايتها.. وفق المبادئ الآتية:
أ- دمج المهام والأعمال في مهمة واحدة أو عمل واحد.
ب- تصميم الوظيفة الواحدة بطريقة تمكنها من أداء أكثر من عمل واحد.
ج- إلغاء الأعمال والوظائف غير الضرورية من تصميم هيكلة الأعمال والوظائف القديم، فلا مجال للإصلاح لغير الضروري طبقاً لمدخل إعادة الهندسة الذي يعتمد على التجديد الجذري.(/15)
د- تقليل تكلفة الأعمال والوظائف إلى الحدود الدنيا، والتي لا تؤثر تأثيرًا مباشرًا أو غير مباشر على جودة الأعمال والوظائف.
هـ- تحقيق جودة عالية في أداء الأعمال بين خطوات ومراحل التنفيذ.
9- ضرورة تبني القيادات الإدارية داخل المنظمة مبدأ التجديد والتغيير بحذر وعدم اندفاع.
10- تقدير انسياب العمل كأسلوب لإعادة هندسة العمليات، إذ يقدر مستوى وجودة الأداء الذي تحققه خطوات أو مراحل العملية لبعضها، وذلك من أجل تحقيق هدف العملية وهو: القيمة المضافة التي تقدمها للمنظمة.
ثالثاً: مدخل الجودة الشاملة:
إن إدارة الجودة الشاملة عملية إدارية تأخذُ شكلَ نظامٍ إداري متكامل وشامل ومتناسق، يتبنى إحداثَ تغييرات جذرية شاملة لكل مكونات المنظمة من أعمال ووظائف، وفكر تنظيمي، ومفاهيم وتطبيقات إدارية، وإجراءات العمل، والطرق والأساليب الإدارية المتبعة من قبل القيادة داخل المنظمة... إلخ بهدف تحسين وتطوير هذه المكونات، وجعلها تحقق أعلى معدلات الجودة، وبأقل التكاليف، ومن ثم يتحققُ الهدفُ الذي تسعى إليه المنظمة وهو: رضا العملاء، بما يضمن لها المنافسة والبقاء والاستمرار.
وترتكز عمليةُ هيكلة الأعمال والوظائف طبقاً لمدخل الجودة الشاملة على الكثير من الركائز.. أهمها:
1- العمل على تحقيق التميز الشامل داخل المنظمة، وذلك من خلال إدخال التطوير والتحسين المستمر على مكونات المنظمة.
2- ترسيخ الشعور لدى كل من يعمل في المنظمة بمسؤوليته تجاه تحقيق أعلى معدلات الجودة في العمل.
3- تأصيل الشعور في نفوس الموارد البشرية بأن جودة الأعمال والوظائف في المنظمة هي أهم الوسيلة لكسب رضا عملاء المنظمة، فضلاً عن كسب عملاء جدد، وذلك يؤدي إلى زيادة المبيعات ومن ثم زيادة الربحية وزيادة فرص الاستثمار في أعمال المنظمة وفي تنمية مواردها البشرية، ويحقق للمنظمة مكانة تنافسية كبيرة، وحصة سوقية أكبر.(/16)
ولكي تحقق إدارة الجودة الشاملة هذه المرتكزات يجب عليها تصميم عملية هيكلة الأعمال والوظائف في إطار يتضمن الآتي:
1- تحديد أهداف الأعمال والوظائف بما يتماشى مع رسالة وغايات وأهداف المنظمة –الحالية والمستقبلية- ككل.
2- توحيد سلوكيات العناصر البشرية في أثناء ممارستها لأعمالها داخل المنظمة، وذلك من خلال إيجاد ثقافة تنظيمية خاصة بالمنظمة.
3- العمل على التوجيه الدائم والمستمر لأداء جميع الأعمال والوظائف نحو تحقيق رضا عملاء المنظمة.
4- تصميم أسلوب تنفيذ الأعمال والوظائف بما يتوافق مع فرق العمل.
5- تهيئة بيئة ومناخ عمل صالح داخل المنظمة.
6- توفير المرونة الكافية، وحرية اتخاذ القرارات داخل الأعمال والوظائف، فضلاً عن توفرهما في أعمال المنظمة ككل.
7- نهج أسلوب التطوير والتحسين المستمر لأداء الموارد البشرية، وذلك من خلال توفير برامج تعليمية وتدريبية عالية المستوى.
8- تأصيل فكرة الابتكار والإبداع في نفوس الموارد البشرية الممارسة للأعمال والوظائف داخل المنظمة.
رابعاً: المدخل (النمط) الياباني:
يعد المدخل الياباني من أهم وأحدث مداخل تصميم هيكلة الأعمال والوظائف، ويعتمد هذا المدخل على أربعة ركائز هي:
1- أساليب التصنيع:
أ- ترتيب الآلات في مجموعات على شكل حرف (U) على خط الإنتاج، إذ تعد كل مرحلة مسؤولة عن إنجاز جزء من العملية الإنتاجية، ويؤديها فريق عمل واحد.
ويكون العمل طبقاً لهذا الأسلوب في ترتيب الآلات أكثر مرونة وانسيابية، ويُسهل من انتقال العمال والمشرفين، مما يقلل من المشاكل المترتبة على إهدار الوقت.
ب- أسلوب مرونة رقابة الجودة: وطبقاً لهذا الأسلوب فإن مسؤولية تحقيق الجودة مسؤولية جماعية، أي مسؤولية جميع من يعمل في المنظمة، وتقابل هذه المسؤولية صلاحيات تعطى للجميع لتحسين ما يرونه مناسباً في الأعمال التي يمارسونها.(/17)
ج- أسلوب الوقت المحدد: ويهدف هذا الأسلوب إلى تفادي أو التقليل من الهدر الإنتاجي، ويحدد للعملية الإنتاجية طبقاً لهذا الأسلوب وقت للبداية ووقت للنهاية.
2- العلاقات الاعتمادية (التبادلية):
وجد اليابانيون أنهم في حاجة إلى إيجاد علاقات تبادلية اعتمادية بجانب هيكلة أو أساليب وطرق العمل التي صمّموها، وذلك في الجوانب الآتية:
1) تحقيق علاقات اعتمادية تبادلية بين المنظمة والموردين لها.. تشتمل على:
- تخطيط التعامل معهم على المدى البعيد.
- تحقيق مستويات عالية من الثقة لدى الموردين المتعاملين مع المنظمة.
- دعم الموردين فنياً، ودعمهم مالياً إن تطلب الأمر، وذلك لتوفير مستلزمات العمل في المنظمة بالكميات المطلوبة، وبالجودة المرغوبة، وفي الوقت المحدد.
2) تحقيق علاقات تبادلية بين المنظمة والعاملين فيها.. تشتمل على:
- توظيف موارد أو عناصر بشرية منتقاة ومختارة على أسس علمية ومهارية عالية.
- وضع برامج تأهيلية، ونظم تدريبية عالية المستوى، لتأهيل وتنمية الموارد البشرية بصفة مستمرة.
- وضع سياسة تحفيزية، ونظم تعويضية مناسبة وفعالة.
3) تحقيق علاقات اعتمادية بين العاملين وبعضهم ضمن مراحل العمل: فهذه العلاقات تؤثر بشكل مباشر وكبير في مستوى جودة كل مرحلة وفي مستوى أداء وجودة المرحلة التالية، فكل مرحلة تتوقع أن يأتي لها المنتج وهو في أعلى معدلات جودته.
3- موفقات:
تعبر الموفقات عن منهجية الإدارة التي سوف تستخدمها المنظمة في إدارة أعمالها، وتشتمل هذه الموفقات على الجوانب الآتية:
- المنظمة ككل، وجميع الأعمال والوظائف الموجودة فيها أنظمة متكاملة مع بعضها.
- تصميم الأعمال والوظائف وتنفذ طبقاً لمنظومة ثقافية تشتمل على قيم، وسلوكيات تلتزم بها الموارد البشرية في أثناء العمل.(/18)
- رضا الموارد البشرية داخل المنظمة عن أعمالها ووظائفها يتوقف عليه جودة المنتجات التي تنتجها المنظمة، أو الخدمات التي تقدمها، والتي يتوقف عليها رضا عملاء المنظمة الحاليين، وتعمل على كسب عملاء جدد.
- التركيز على الرقابة غير المباشرة (من الداخل).
- إحلال أسلوب العمل الجماعي بدلاً عن أسلوب العمل الفردي، من خلال فرق العمل.
4- النتائج:
- مرونة قوة العمل: وتتحقق بإكساب الموارد البشرية داخل المنظمة مهارات متنوعة تمكنها من القيام بأعمال متنوعة.
- مرونة العمل: إتاحة الفرصة للعاملين بأن يعملوا في أكثر من وظيفة أو مهمة داخل المنظمة.
- تخفيض الفاقد، ومن ثم التكاليف إلى أقل حد ممكن.
- تحقيق معدلات جودة عالية.
- تحقيق رضا عملاء المنظمة.
- تحقيق رضا المجتمع ككل.
المراجع:
1- د. عمر وصفي عقيلي "إدارة الموارد البشرية المعاصرة بعد استراتيجي" ط 1، 2005م، دار وائل للنشر –عمان– الأردن.
2- Robert Levering, one hundred best company to work for, 2nd ed., Random House, New york, 1992.
3- James Champy, Beyoned Re- engineering, Happer Business, New york, 1997.(/19)
العنوان: من نحن؟!
رقم المقالة: 974
صاحب المقالة: د. عدنان علي رضا النحوي
-----------------------------------------
مَنْ نحنُ؟! نحن المسلمون المؤمنو نَ إذا تساءلَ جاهلٌ أو ظالمُ
نَحْنُ الذين نُريدُ شَرْع الله أَعْ لى في الحياة! ودينُه هو حَاكمُ
نَمْضي على هذا الصِّرَاطِ المُسْتَقي م يَقُودُنَا نُورٌ سَرَى وعَزائِمُ
نَدْعُو الخَلائِقَ كُلَّها لرسالةٍ حَقٍّ وَهَدْيٍ للنُّفوسِ يُلازِمُ
وبها نَنَالُ العزَّ في الدنيا هُدىً وتُشَدُّ فينا عَزْمَةٌ ودَعَائمُ
وَنَنَالُ في الأُخْرى النَّجاةَ وَرَحْمَةً وَرُؤى الجِنانِ بها نعيمٌ دائمُ
* * * *
نَحْنُ الدُّعاةُ إلى لقاءِ المُؤْ مِنيْنَ! وَفَاؤُنَا عَهدٌ بَذلك قَائِمُ
نَهْجٌ أَبَرُّ وَلُحْمةٌ مَوْصُولةٌ وبِنَاءُ أَجْيَالٍ عَلَيه تَزَاحَمُ
كُلٌّ عَلى آمالِهِ مُتَواثِبٌ لله يَدْفَعُهُ تُقىً وَعَزائمُ
والله يَعلَمُ ما تُكِنُّ صُدورُنا كُلٌّ على نيّاتِهِ هُو قَادِمُ
* * * *
مَنْ نَحْنُ؟! مَدْرَسةٌ يقومُ بِها الدُّعَا ةُ فَرَاكِضٌ أَوْ سَابِقٌ أو عَازِمُ
سَعْياً إلى دَار الجِنَانِ! وَرَحْمَةٌ تَغْشَى! وفَوْزٌ عِنْدَها وَمَغَانِمُ
نهجٌ أَبرُّ على الصِّراط المُسْتَقي م مُبَيَّنٌ! وأُخُوَّةٌ وتَراحُمُ
وَرِسَالةٌ لله نَحْمِلُها إلى الدُّ دنْيا نُجاهِدُ دُونَها ونُسَالِمُ
نهجٌ وَمَدْرَسَةٌ! وأَهْدافٌ عَلى هذا الصّراطِ المُسْتقيم مَعَالِمُ
هَدَفٌ لنا أَسْمى يَشُقُّ سَبيلَنا سَعْياً إليه من النُّفوسِ عَظائِمُ
بَذْلٌ لِمَنْ يَبْغي الجِنانَ ووَثْبَةٌ لله صادقةُ الهوى ومَلاحِمُ
* * * *
نَهْجٌ يقوم على الكِتَابِ وسُنّةٍ غَرَّاءَ يَجْلُوهَا رَسُولٌ خَاتَمُ
نَهْجٌ يُجَمِّعُ كُلَّ قَلْبٍ صَادقٍ لله يَدْفَعُهُ يَقِيْنٌ حَازمُ
صَفٌّ كَبُنْيَانٍ يُشَدُّ بِنَاؤُه وَتُرَصُّ أَرْكَانٌ لَهُ ودَعَائِمُ(/1)
هَذا سَبيل النَّصْرِ! نَصْرٌ صَادِقٌ وَعْدٌ لِمَنْ أَوْفَى الأمانةَ دائمُ
وَعْدٌ مِنَ الرّحْمنِ حَقٌّ بَالغٌ وَسِواهُ وَهْمٌ خَادِعٌ ومَزَاعِمُ
وَعْدٌ لأمّةِ أَحْمَدٍ إنْ أَقْبَلَتْ صَفَّاً يُرَصُّ وَأُمَّةً تَتَرََاحَمُ
* * * *
المسلمونَ تَفَرَّقوا شِيعَاً وأَحْ زَاباً وكُلٌّ في هواهُ هائمُ
فَتَفَتَّحَتْ للمشْركين مَنافِذٌ يتسلّلون! فمجرمٌ أو ظالمُ
وَتسَلَّلْتْ بين التُّخُومِ ثَعالِبٌ وكواسرٌ هاجَتْ هُنا وَأَراقمُ
فِتَنٌ تُدَار مع الفَواجِع والنَّوا زِل والمجازِر! والأسى يَتَفاقمُ
فإذا الهوانُ هوى بنا والقهْرُ والأ خْطارُ والإذْلالُ لَيْلٌ فَاحِمُ
غَضَبٌ مِن الجبَّار حلَّ بساحنا فإذا عذابُ الله فينا داهمُ
هذا بما كسبته أيدينا وما تُخْفِيه أنْفُسُنا وما هو رَاغِمُ
والنَّاسُ وَيْحَهم! فهذا تائهٌ لا يَستجيبُ وذاك عَبْدٌ نَائِمُ
* * * *
مَنْ للمؤمنين إذا تَفرَّقَ جمعهم وَطَغَتْ عليهم فتْنة وسَخائمُ
لا مَلْجأٌ أَبَداً ولا منجى لنا ما دام يُشْغلنا هوىً وتخاصُمُ
ما داَمَت الدُّنْيا هَوانا والهَوى طَاغٍ وأَحْلام النُّفوسِ غَواشِمُ
* * * *
هَذا سبيل الله نورٌ مُشْرِقٌ وصِراطُه لله دَرْبٌ قَائِمُ
وعليه صفٌّ المؤمنين! لقاؤهمُ دَرْبُ النَّجاة! سِواهُ دربٌ قَاتِمُ
هذا لقاء المؤمنين! فَمَنْ يَهُب بُّ إلى اللقاءِ؟! ومَنْ تَراهُ يُسَاهِمُ
* * * *(/2)
العنوان: من هدايات السنة النبوية: حديث العلم والهدى
رقم المقالة: 1372
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادِيَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} {الأحزاب: 70 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله - تعالى -، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وشر الأمور مُحْدَثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.(/1)
أيها المؤمنون: طريقُ الكتاب والسنة لا يضلُّ سالكها، ولا يهلك ضاربُها، طريقُ الأمنِ والسعادة في الدنيا، والفوز والفلاح في الآخرة، ضلت بأهل الأهواء أهواؤهم، وحادت بالعقلانيين عن الحق عقولهم، وهام بأهل الوجدان في أَوْدِيَة الضَّلال وجدانهم، ولم يسلم من غوائل الأهواء، وأشواك الضلال، إلا أهلُ الحق والإيمان، الذين اعتصموا بالكتاب والسنة، وأحسنوا التلقي عن سلف الأمة، فحينما كان لأهل الأهواء في كل ضلال مسلك، ومن كل مذهب مَنْزَع، وفي كل هوًى مشرب؛ بقي أهل السُّنَّةِ على الأَمْرِ الأوَّل، والطريق الأوحد، المُوَصِّل إلى رِضْوَان الله - تعالى – والجنَّة.
أيها الإخوة: وهذا حديث من السنة يُظهر فيه المصطفى - صلى الله عليه وسلم - شيئًا من قيمة النور الذي أنزل عليه، ويذكر أقسام الناس تُجاه ذلك النور، من منتفع به وغير منتفع، ومُقْبِل عليه ومُعْرِض عنه، وداعٍ إليه وصادٍّ عنه، إنه حديث العلم والغيث، والهدى والنور، الذي يرويه أبو مُوسى الأشْعَرِيّ - رَضِيَ الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إنَّ مَثَلَ ما بَعَثَنِي الله - عزَّ وجلَّ - به من الهُدَى والعلم؛ كَمَثَلِ غَيْثٍ أصابَ أَرْضًا؛ فكانت منها طائفة طيبة، قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أَجادِبُ أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس فشربوا منها وسقوا ورعوا، وأصاب طائفةً منها أخرى، إنما هي قيعان لا تُمْسِكُ ماءً ولا تنبت كلأً، فذلك مَثَل من فَقُه في دين الله، وَنَفَعَهُ بِما بَعَثَنِي اللَّهُ، فعَلِم وعلَّم، ومَثَل من لم يرفع بذلك رأسًا، ولم يقبل هُدَى الله الذي أرسلت به))؛ أخرجه الشيخان واللفظ لمسلم[1].(/2)
شَبَّه - صلى الله عليه وسلم - ما بُعِثَ به من الهُدَى والعِلْم بالغَيْث الذي يغيث العِبَاد، ويُحْيِي البلاد، ولقد كان الناس قبل بعثته - صلى الله عليه وسلم - أمواتًا وإن كانوا يتحركون، وأشقياء وإن كانوا يتنعمون، لَهُمْ أَعْيُنٌ ولكنهم لا يبصرون، ولهم آذان ولكنهم لا يسمعون، ولهم عقول ولكنهم لا يعقلون: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان: 44]، {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الغَافِلُونَ} [الأعراف: 179].
فكان لابُدَّ لهذه الآذان الصُّمِّ، والأعْيُنِ العُمْيِ، والقُلُوبِ الغُلْفِ مِنْ عِلْمٍ يَفْتَحُهَا ويُنَوِّرُها، وكان من المُتَحَتِّم لإحياء النفوس الميتة من غَيْثٍ يَبْعَثُها وينهض بها؛ إذ إن حال الناس بلا هدى؛ كحال الأرض بلا غيث؛ فكان ذلك ما بعث الله به مُحَمَّدًا - صلى الله عليه وسلم-.
ولم يُعَبّر عنه في الحديث بالمطر؛ لأن المطر قد ينزل ولا حاجة مُلِحَّة، أما الغيث فمطر مُحْتَاج إليه يغيث الناس عند قِلَّة المياه، وقد كان النَّاسُ مُتَحَيِّرِينَ قَبْلَ بَعْثَتِهِ - صلى الله عليه وسلم - حتَّى أَغَاثَهُمُ الله بِالوَحْيِ[2]؛ فاخْتَلَفَتْ مَوَاقِفُ النَّاسِ مِنْهُ؛ كما تَخْتَلِفُ طوائِفُ الأَرْضِ في استقبالِ غَيْثِ السَّماءِ: ((فكانت منها طائِفَةٌ طَيِّبَةٌ - وفي رِوَاية البخاري (نقية) - قَبِلَتِ الماءَ فَأَنْبَتَتِ الكلأ، والعُشْب الكثير))، وهكذا تنتفع الأرض الطيبة، يصيبها الغيثُ فَتَسْتَقْبِلُه ثم تنتجُ العشب والكلأ؛ لينتفع به أهل الأرض.(/3)
وأهلُ العلم والإيمان يَتَعَلَّمُونَ عُلوم الشريعة فيحفظونها ويفقهونها، ويعملون بها ويبلغونها أرض طيبة، وعلماء عاملون لهم دروس ومحاضرات، وفَتَاوى ومصنفات علموا فعملوا، وتعلموا فعلَّموا. يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويقولون الحق لا يخافون في الله لَوْمَة لائم. يهدون الضال، ويفتون السائل، ويرشدون المسترشد مع عبادة في الخلوات، وتدبر للآيات، وتفكر في عجائب المخلوقات، أولئك نتاجهم ونفعهم؛ كنتاج الأرض الطيبة، أخضر طيب، ينتفع به سائر الأحياء، ويغذي جميع الأبدان؛ بل نتاجهم أكثر طيبًا، وأعظم نفعًا؛ إذ هو غِذَاء القُلُوب، وما حياة الأبدان إذا ماتت القلوب!! ((فذلك مثل من فَقُه في دين الله، ونفعه بما بَعَثَنِي الله به فعلم وعلم)).
وأما الطائفة الثانية من الأرض فاختزنت الغيث؛ لينتفع به الغير وإن لم يظهر أثره عليها: ((وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا منها وسقوا ورعوا)) شُبِّهت بها طائفة من العلماء تعلمت لكنها ما عملت، وحفظت لكنها ما فقهت، فمهمتها تنحصر في حفظ هذا العلم حتى يأتي من ينتفع به، أراض أجادب تمسك الماء ولا تنتفع به، والأجادب من أهل العلم يحفظونه ولا يظهر أثره عليهم لا في ورع ولا تقوى، ولا عمل ولا دعوة، أو لا يفقهون ما حفظوا؛ ولكنهم ينقلونه إلى غيرهم فيفقهونه، فمنفعتهم في حفظ العلم؛ كما حفظت الأرض الجدباء الماء.
قال النووي - رحمه الله تعالى -: "والنوع الثاني من الأرض: ما لا تقبل الانتفاع في نفسها؛ لكن فيها فائدة وهي إمساك الماء لغيرها فينتفع بها الناس والدواب، وكذا النوع الثاني من الناس: لهم قلوب حافظة؛ لكن ليست لهم أفهام ثاقبة، ولا رسوخ لهم في العقل يستنبطون به المعاني والأحكام، وليس عندهم اجتهاد في الطاعة والعمل؛ فهم يحفظونه حتى يأتي طالب محتاج متعطش لما عندهم من العلم، أهلٌ للنفع والانتفاع؛ فيأخذه منهم فينتفع به"[3]. ا هـ.(/4)
((وأصاب طائفة منها أخرى، إنما هي قيعان لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأً)) إنه مَثَلُ الطائفة التي لا تعلم فتعمل، ولا تحفظ فتُؤَدِّي، فلا نفع فيها ولا خير بلغها النور والهدى فما حفلت به، وربما أعرضت عنه، قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله تعالى - : "ومثالها من الأرض: السباخ، وأشير إليها بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ لم يرفع بذلك رأسًا"؛ أي أَعْرَضَ عنه فلم ينتفع به ولا نفع، والثانية: من لم يدخل في الدين أصلاً؛ بل بلغه فكفر به، ومثالها من الأرض: الصماء الملساء المستوية التي يمر عليها الماء فلا ينتفع به، وأشير إليه بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ولم يقبل هدى الله الذي جئت به"[4] ا.هـ.
فكان في الحديث: حافظ فقيه عامل داعية؛ فهو خير الناس، وأقل منه حافظ فقيه عامل؛ لكنه غير معلم ولا داعية فاقتصر بالنفع على نفسه دون غيره، وبعده حافظ غير فقيه أو غير منتفع بِعِلمه، ثم أسوأ الناس غير مبال بالهدى والعلم، وأسوأ منه معرض عن الدين كله[5].
أسأل الله - تعالى - أن ينفعنا بما نقول ونسمع، وأن يرزقنا العلم النافع، والعمل الصالح، وأن يتوفَّانا على الإيمان والسنة، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمُتَّقِين، ولا عُدْوَان إلا على الظَّالِمِين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وَليّ الصالحين، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله النبي الأمين - صلى الله وسلم وبارك عليه -، وعلى آله وأصحابه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أمَّا بعد: فاتقوا الله - عباد الله - لعلكم تفلحون: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} {الحشر:18].(/5)
أيها الإخوة المؤمنون: كلما تقادم زمن البعثة النبوية ازداد السوء في الأرض، ولا يأتي على الناس زمان إلا والذي بعده شر منه؛ كما هو ثابت في أخبار الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم -، وفي أزمنة انتشار الشر والفساد، فإن الطائفة الأولى الطيبة من العلماء العاملين يندرُ وجودها في الأمة حتى لا تكادُ توجد؛ إذ يشوبُ العلم مايشوبه من حبِ الدنيا، وضعف الإخلاص، وقلةِ التورع، وخشية الناس.
وتكون الطائفة الثانية أكثر في الناس من الأولى؛ فتبصرُ حفَّاظًا لا يفقهون، وفقهاء لا يعملون؛ فيأخذ العلم عنهم من ينتفع في نفسه، وينفع به الناس، فهم كأجادب الأرض، أمسكت الماء حتى انتفعت به الأحياء، وهذه الطائفة وإن كانت أكثر من الأولى إلا أنها تبقى قليلة في الناس.
ومع تحول جمهور الأمة إلى الغثائية فإن طائفة القيعان تمثل الغالبية العُظْمَى من الناس، ونماذجها في الناس متعددة؛ فالمنحرفون في عقيدتهم، المُتَرَدُّونَ في هُوَّةِ الشرك، أوِ المُقَيَّدون بأغلال البدعة والضلالة، يظنُّونَ أنَّهم على صواب، ويحسبون أنهم على شيء وهم في ظلمات الباطل والخطأ يهيمون، هؤلاء على قائمة القيعان التي ما انتفعت بهدى الله - تعالى - ونوره، وتبلغ هذه القيعان نسبة مخيفة؛ إذ إن غالبية أمة الإسلام في هذا الزمن هي من هذا الصنف في شتى البلاد والبقاع.
والمنحرفون في فكرهم، المنافقون في عقيدتهم، الذين يريدون تغريب الأُمَّة وعلْمنتها، واستبدال دينها بفلسفات الشرق والغرب ما هم إلا أنموذج سيئ لهذه القيعان في الأمة؛ جاءهم العلم والهدى فرفضوه وأعرضوا عنه، واتهموه بالرجعية والظلامية. وكيف لا يكون من القيعان السيئة من يجعل النور ظلامًا، والهدى ضلالاً؟!(/6)
وحسبك من انحرافهم أنه كلما أخفقت فلسفة أو نظرية عند أصحابها، ركبوا أختًا لها أشدَّ شذوذًا وانحرافًا، ويكفيك من خبثهم وضررهم طول نفسهم واستماتتهم في حرب الإسلام وأهله، كفى الله المسلمين شرورهم، وَرَدَّ كيدهم إلى نحورهم.
وقطاع عريض من الأمة يُمَثّلون درجاتٍ متفاوتة من هذه القيعان المتنوعة، منهم من قصروا في الفرائض، وارتكبوا الموبقات، وجهِلوا كثيرًا من أحكام الدين، وآخرون برعوا في كثير من علوم الدنيا؛ لكنَّهم جهِلوا الضَّرورِيَّ من علوم الشريعة: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الرُّوم: 7]، ومِنْ هؤلاءِ وأولئك قيعان استنكفت أن تتعلم الضروري من الدين بحجة التخصص، واستعظمت نفوسها أن تنتظم في حلقة لتحْفَظَ آيةً أوْ سُورةً مِنَ القرآن، واستكبرت أن تحضر درسًا لتتعلم فريضة أو تُتقِنَ عبادة، وارتأت أن ذلك يَمَسُّ كرامتها، ويَحُطُّ من قدرها؛ مع أن كثيرًا من أفراد هذه الطائفة لا يحسن قراءة الفاتحة، أو لا يعرف كيفية الوضوء أو الصلاة على وفق السنة.
وقيعان أخرى لا يستهان بعددها جهلت أخبار الإسلام والمسلمين؛ لكنها أتقنت أخبار السياسة، وأنباء الإذاعة، وطائفة الشباب من هذه القيعان لا تعرف شيئًا عن ملاحم المسلمين وبطولاتهم وأعلامهم وتاريخهم؛ لكنها تعرف الكثير عن تاريخ السفلة والمنحطين من أهل الرياضة والتمثيل، والغناء، والرقص.
إنها قيعان استبدلت الذي هو أدنى بالذي هو خير، اهتمت بما لا ينفع في الدنيا والآخرة، وغفلت عن النفع الدائم الذي لا ينقطع.
وبعد أيها الإخوة: فهذه أقسام الناس تجاه الهدى والنور الذي أنزل على - محمد صلى الله عليه وسلم -، فلينظر كل عاقل موقعه من هذه الطوائف، وليحذر أن يكون من القيعان التي لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأ، ولم لا يحرص ويجاهد نفسه على أن يكون من الطائفة الطيبة التي أمسكت الماء، وأنبتت الكلأ، ونفعت الناس؟(/7)
ثم ليحاسب كل عبد نفسه قبل أن يحاسب، ويزن أعماله قبل أن توزن؛ فإن الموعد قريب، والحساب عسير، ألا وصلوا وسلموا على محمد بن عبدالله؛ كما أمركم بذلك رب العزة والجلال...
---
[1] أخرجه أحمد (4/399)، والبخاري في العلم؛ باب فضل من عَلِم وعلَّم (79)، ومسلم في الفضائل؛ باب بيان مثل ما بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - من الهدى (2282)، والبغوي في "شرح السنة" (135).
[2] انظر: "فتح الباري" لابن حجر ( 1/211)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (1/265)، و"عمدة القاري" للعيني (2/80)، و"دليل الفالحين شرح رياض الصالحين" لابن عِلاَّن (2/212).
[3] شرح النووي على صحيح مسلم (15/69) وانظر: "شرح الأبي" (8/215).
[4] فتح الباري لابن حجر (1/212-213).
[5] اختلف العلماء في عدد الطوائف التي احتواها الحديث: فالنووي في "شرح مسلم" جعلها ثلاث طوائف من الأرض، وثلاث طوائف من الناس (15/69)، وتبعه في ذلك العيني في "عمدة القاري" (2/79)، والشيخ العثيمين في "شرحه على رياض الصالحين" (3/352)، والحافظ في الفتح: يرى أن في كل مثل طائفتين فالمثل الأول فيه الحافظ الفقيه المعلم، والحافظ فقط. والمثل الثاني فيه من دخل في الدين ولم يسمع العلم أو سمعه فلم يعمل به ولم يعلمه وهو؛ كالأرض السباخ، والطائفة الثانية من المثل الثاني من لم يدخل في الدين أصلاً انظر: "الفتح" (1/212-213)، وكلامه - رحمه الله - أكثر دِقَّة وفقهًا.(/8)
العنوان: من هدايات السنة النبوية: حديث الفتن
رقم المقالة: 1376
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
الحمد لله، نحمده ونستعينُه ونستغْفِرُه، ونعوذُ بِالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ مُحمدًا عبده ورسوله - صلى الله وسلم وبارك عليه - وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين..
أما بعد: فأوصيكم - أيها الناس - ونَفْسي بتقوى الله - تعالى -؛ فإن التقوى مَنْجَاة من الفتن وغلوائها، وعاصم من الشيطان وحبائله. من اتقى الله - تعالى - في سره وعلانيته، وفي سرائه وضرائه نجا في الدنيا من أكدارها، وفاز في الآخرة بسرائها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70 – 71].
وطاعة الله - تعالى - لا تكون إلا بطاعة الرسولِ - صلى الله عليه وسلم -: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [النساء: 80].(/1)
والنبي - صلى الله عليه وسلم - أبان الدين، وأوْضَح المَحَجَّة، وذكر الفتن وما يكون سببًا للوقوع فيها، وما يَعصِمُ منها: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال: 42].
فقد روى حُذَيْفَة بن اليَمَان - رضي الله عنهما - قال: "كنَّا عند عمر، فقال: أيكم سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكر الفتن؟ فقال قومٌ: نحن سمعناه، فقال: لعلكم تعْنُونَ فِتنة الرجل في أهله وجاره؟ قالوا: أجل، قال: تلك تكفرها الصلاة والصيام والصدقة؛ ولكن أيكم سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يذكر الفتن التي تموجُ موج البحر؟ قال حذيفة: فأسكت القومُ، فقلت: أنا، قال: أنت، لله أبوك! قال حذيفة: سمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((تُعْرَضُ الفتن على القلوب؛ كالحصير عودًا عودًا، فأيُّ قلبٍ أُشْرِبَها نُكِتَ فيه نكتةٌ سوداء، وأيُّ قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء حتى تصير على قلبين، على أبيض مثل الصفا، فلا تضره فتنةٌ ما دامت السموات والأرض، والآخر أسود مُرْبَادًّا؛كالكوز مُجَخِّيًا، لا يعرف معروفًا، ولا ينكر منكرًا، إلا ما أُشْرِبَ من هواه))، قال حذيفة: "وحدَّثته أنَّ بينك وبينها بابًا مغلقًا يوشك أن يُكسر، قال عمر: أكسرًا لا أبا لك، فلو فُتح لعله كان يعاد، قلت: لا، بل يكسر، وحدثته أن ذلك الباب رجلٌ يُقتل أو يموت، حديثًا ليس بالأغاليط"؛ أخرجه مسلم[1].
لقد حرص عمر - رضي الله عنه - على معرفة أخبار الفتن حتى يتوقاها، وأخبرهم أنه لا يريد معرفة فتنة الرجل الخاصة في أهله؛ وإنما يريد معرفة الفتنة العامة.(/2)
وقد أثبت الحديث أن أهل الرجل فتنةٌ له، وفتنته في أهله وماله وولده على ضروب عدة: من فرط محبته لهم، وشحه عليهم، وشغله بهم عن كثير من الخير، وفي هذه المعاني قال الله - تعالى -: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن: 15]، وفي الحديث الصحيح قال النبي - عليه الصلاة والسلام -: ((الولد مبخلة مجبنة))؛ أخرجه أحمد[2]، فهذا وجه من الفِتْنَة بهم.
ووجه آخر: وهو تفريطه بما يلزم من القيام بحقوقهم، وتأديبهم وتعليمهم؛ فإنه راعٍ لهم ومسؤول عن رعيته، وكذلك فتنة الرجل في جاره من هذا.
فهذه كلها فتن تقتضي المحاسبة، ومنها ذنوب يرجى تكفيرها بالحسنات والأعمال الصالحة[3]؛ كما قال الله - تعالى -: {إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114]، وقال عمر عن هذا النوع من الفتن: "تلك تكفرها الصلاة والصيام والصدقة".
إن عمر - رضي الله عنه - كان يريد معرفة الفتن الكبرى التي تموج موج البحر؛ فأخبره حذيفة - رضي الله عنه -. وحذيفة هو أحفظ الصحابة لحديث الفتن، وهو أمين سِرِّ النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنافقين؛ فأخبره حذيفة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((تعرض الفتن على القلوب؛ كالحصير عودًا عودًا))؛ أي: كما ينسج الحصير عودًا عودًا، وشطبة بعد أخرى؛ ذلك أن ناسج الحصير عند العرب كلما صنع عودًا أخذ آخر ونسجه، فشبه عرض الفتن على القلوب واحدة بعد أخرى بعرض قضبان الحصير على صانعها واحدًا بعد واحد[4].
إذًا فالفتن تَرِدُ على القلب شيئًا شيئًا، وبما أن الإنسان قابل للخير والشر؛ إذ فيه عقلٌ وشهوة، فإنَّ شهوته إذا غَلَبَتْ عَقْلَهُ وَلِجَتِ الفِتْنَةُ قلبه، وإذا غلب عقله شهوته رفض الفتنة وأنكرها.(/3)
قال: ((فأيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَها))؛ أي: أيُّ قلب تَمَكَّنَتِ الفِتْنَةُ منه، وحلَّتْ مَحَلَّ الشراب من مَحَبَّتِها وتعلُّقه بها كما قال الله - تعالى - عن بني إسرائيل: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ العِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} [البقرة: 93][5]، فَمَنْ كان كذلك ((نُكِتَ في قلبه نُكْتة سوداء)) قال ابن دُرَيْد: "كلُّ نُقْطة في شيء بخلاف لونه فهو نكت"[6]، وهذا هو القلب الذي يخشى عليه من الفساد، ويخشى على صاحبه الهلاك.
وأمَّا القلب الآخر فهو المنكر لها، المعرض عنها، الذي يرفضها ويأباها: ((وأي قلب أُنْكِرَها نُكِتَ فيه نكتة بيضاء)) وهذا هو القلب الصالح السليمُ، الذي سلم من أوضار الشرك والبدعة، وأدران الموبقات والكبائر.
وحينئذ ((تَصيرُ على قَلْبَيْنِ)): قلب صالح سليم طيب ((أبيض مثل الصفا)) والصفا: هو الحجر الأملس الذي لا يَعْلَقُ به شَيْءٌ، وكذلك القلب السليم لا تَعْلَقُ به فِتْنَةٌ[7]؛ ولذا قال: ((فلا تَضُرُّه فِتنةٌ ما دامت السموات والأرض)).
وأما الآخر فداخلته الفتنة وأُشربها؛ حتى امتلأ بها، وتراكمت عليه فسودته آثارها، قال: ((والآخر أسود مُرْبَادًّا؛ كالكوز مُجَخيًا))؛ أي: كالكأس المائل أو المنكوس[8]، يسكب ما في داخله من الإيمان بقدر ميوله إلى الهوى، وانتكاسه عن الحق، كما يسكب الكأس ما فيه من ماء بقدر ميوله وانتكاسه.
قال المنذري - رحمه الله تعالى -: "ومعنى الحديث: أن القلب إذا افتتن وخرجت منه حرمة المعاصي والمنكرات خرج منه نور الإيمان؛ كما يخرج الماء من الكوز إذا مال وانتكس"[9].
وصاحب هذا القلب المائل عن الحق المنتكس عن الفطرة تجده: ((لا يعرف معروفًا، ولا ينكر منكرًا، إلا ما أشرب من هواه)) الذي يَهواه قلبه الفاسد.(/4)
ورضي الله عن عمر وأرضاه، لقد كان بابًا دون الفتنة مغلقًا، وسدًّا يمنعها حصينًا، ففي رواية أخرى لما سمِع عمر حديث الفتنة رفع يديه وقال: "اللهم لا تدركني" فقال حذيفة: "لا تخف"[10]، إن عمر - رضي الله عنه - ما أدرك الفتن؛ لأنه كان بابها الذي يُكسر، قال حذيفة: "إن بينك وبينها بابًا مغلقًا يوشك أن يكسر، قال عُمَر: أكسرًا لا أبا لك، فلو أنه فتح لعله كان يُعاد، قلت: بل يكسر، وحدثته أن ذلك الباب رجل يُقتل أو يموت، حديثًا ليس بالأغاليط"؛ أي: حدثته حديثًا صدقًا محققًا ليس من صحف الكتابيين، ولا من اجتهاد ذي رأي؛ بل من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[11].
والمعنى: أن الحائل بين الفتن والإسلام عمر - رضي الله عنه -، وهو الباب، فما دام حيًّا لا تدخل الفتن، فإذا ماتَ دخلتِ الفِتَنُ، وكذا كان[12]؛ إذ قتل عمر - رضي الله عنه -، فانكسر الباب، وانثلم الإسلام ثلمة بقتله، صار من جرائها الاختلاف والاقتتال بين أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - ولذلك عبر بكسر الباب ولم يعبر بالفتح؛ لأن الباب المفتوح يُرجى إغلاقه بخلاف الباب المنكسر[13].
وقد كان بعض الصحابة يعلم أن عمرَ هو الباب الذي بينهم وبين الفتنة؛ فقد لقي عمرُ أبا ذر فأخذ بيده فغمزها وكان عمر رجلاً شديدًا، فقال له أبو ذر: "أرسل يدي يا قفل الفتنة"، فقال عمر: وما قفل الفتنة؟ قال: جئت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم ورسول الله جالس وقدِ اجتمع عليه الناس، فجلست في آخرهم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يصيبكم فتنة ما دام هذا فيكم))[14]، ومرة قال عثمان بن مظعون مخاطبًا عمر: "يا غُلْق الفتنة"[15]، وصدقوا فيما قالوا إذ قتل عمر؛ فظهرت الفتن وتفشت، فصار بعض الأمة يلعن بعضًا، ويقتل بعضها بعضًا.(/5)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {قُلْ هُوَ القَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} [الأنعام: 65].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عُدْوَان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله النبي الأمين، - صلى الله وسلم وبارك عليه -، وعلى آله وأصحابه والتابعين، ومن سار على نهجهم واقتفى آثرهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله ـ أيها المؤمنون ـ واحذروا الفتن؛ فإنها فساد القلوب، وسبب الهلاك. تعرض على القلب فتنة فتنة، فإذا قبل القلب الأولى تبعتها أختها؛ حتى يصير القلب أسود مظلمًا.
ومن أعظم الفتن: الذنوب والمعاصي، وهي ترد على القلوب شيئًا شيئًا، نعم والله ـ أيها الإخوة ـ إن الذنوب تَتَسَلَّلُ إلى القلوب فَأَوَّلُ ما تداخله يَجِدُ العَبْدُ ضِيقًا حتَّى يأتي ذنبٌ آخر، فيرق الأول، ويُنسي ويستمر صاحبه عليه، وهكذا الذنب الثاني والثالث، وإنها ذنوب وفتن يُرقِّق بعضها بعضًا، ويدعو الأول منها إلى فعل الآخر؛ حتى يكون القلب فاسدًا لا يعرف معروفًا، ولا ينكر منكرًا.
إن الميزان الذي يجب أن توزن به القلوب صلاحًا وفسادًا هو مدى معرفتها للمعروف، وإنكارها للمنكر، إنَّ من الناس من صار لا يأبه بالمنكرات، يراها فلا يتحرك قلبه لها؛ بل يواقعها، ورُبَّما دعا إليها، وقد وصف القلب الفاسد الأسود بأنه لا ينكر منكرًا، وكم في الناس من لا يتحرك قلبه من جرَّاء المنكرات؛ بل ألفوها واعتادوا عليها؛ حتى ماتت قلوب كثير منهم فلم يعودوا ينكرونها إلا من رحم الله - تعالى -، وقليل ما هم!!.(/6)
وكل من أراد أن يعرف نسبة الصلاح في قلبه من نسبة الفساد فيه فلينظر إلى موقفه حينما يرى حرمةً لله - تعالى - انتهكت، أو فريضة عطلت. لينظر إلى مدى اضطراب قلبه إذا رأى منكرًا لا يستطيع تغييره. إنَّ العبد إذا كان معفيًّا من تغيير منكر لا يستطيع تغييره بيده، ولا إنكاره بلسانه؛ فليس معفيًّا من إنكاره بقلبه، وحزنه لأجل وجوده.
إنَّ المنكراتِ تَقَعُ، ويراها مسلمون ثم لا يُنْكِرُونها؛ بل لا تتحرك قلوبهم، فتراهم لا يغتمّون ولا يَهْتَمُّون؛ بل يضحكون ويفرحون، ويأكلون ويشربون ويأنسون، فأين هو إنكار القلب الذي ليس وراءه من الإيمان حبة خردل؟! لقد كان سفيان الثوري - رحمه الله تعالى - يقول: "إني لأرى المنكر فلا أتكلم فأبول دمًا"[16].
إنَّ قلبه - رحمه الله تعالى - اشتغل بإنكاره، واهتم له، فصاحبه في أكله وشربه، ونومه وقعوده، وفي كل شؤونه؛ حتى بال الدم من شدة الهَمِّ والغَمِّ لوجود هذا المنكر.
إن الحديث وصفٌ صاحب القلب الأسود بأنه لا يعرف معروفًا، ولا ينكر منكرًا، ولم يُحدد نوع هذا الإنكار مما يدل على أن أقلَّ درجاته الإنكار بالقلب، فهل نعجز عن ذلك؟! فاتَّقوا الله ربكم، وأصلحوا قلوبكم، واحذروا الفتن والمعاصي؛ فإنها سببُ موتِ القلوب وفسادها وهلاك أصحابها. وصلوا وسلموا على محمد بن عبدالله؛ كما أمركم بذلك ربكم.
---
[1] أخرجه أحمد (5/386 ـ 405)، ومسلم في الإيمان؛ باب بيان أن الإسلام بدأ غريبًا وسيعود غريبًا، وأنه يأرز بين المسجدين (144)، والبغوي في "شرح السنة" (4218)، وذكر الحُمَيْدِيّ أن هذا الحديث رِوايةً من حديث حذيفة المتفق عليه، ولو ذكر في المتفق عليه لكان أولى، انظر: "جامع الأصول" (10/22)، وحديث حذيفة بلفظ قريب عند البخاري في المناقب؛ باب علامات النبوة في الإسلام (3586).(/7)
[2] أخرجه أحمد (4/172)، وابن ماجه في الأدب؛ باب بر الوالد والإحسان إلى البنات (3666)، وصححه البوصيري في "زوائد ابن ماجه" (3/160).
[3] شرح النووي على مسلم (2/225)، وشرح الأبي على مسلم (1/421).
[4] شرح النووي على مسلم (2/225)، وقد اختلفوا في ضبط (عودًا عودًا) على ثلاثة أوجه لكل منها معنى يخصه:
أ ـ ضبطه القاضي الشهيد: بفتح العين المهملة والذال المعجمة (عَوْذًَا عَوْذًَا) كقوله: غفرًا غفرًا، وغفرانك فمعناه على هذا: سؤال الاستعاذة منها، أي نسألك أن تعيذنا من ذلك وأن تغفر لنا.
ب ـ وضبطه أبو الحسين ابن سراج: بفتح العين والدال المهملة (عَوْدًا عَوْدًا)، ومعناه: أن الفتنة كلما مضت عادت كما يفعل ناسج الحصير كلما فرغ من موضع شطبة أو عود عاد إلى مثله.
ج ـ والأظهر وهو الأشهر وعليه الأكثر ضبطه بضم العين وفتح الدال المهملة (عُودًا عُودًا)، ومعناه: أن الفتن تتوالى واحدة بعد أخرى؛ كنسج الحصير عودًا بإزاء عود، وشطبة بإزاء شطبة أو كما يناول مهيئ القضبان للناسج عودًا بعد عود، ورجح هذا المعنى القاضي عياض. وانظر: "شرح النووي على مسلم" (2/226) و"المفهم لما أشكل من تلخيص مسلم" (1/358 ـ 354)، و"شرح الأبي على مسلم" (1/423).
[5] المفهم لم أشكل من تلخيص مسلم (1/359).
[6] شرح النووي على مسلم (3/227)، وشرح الأبي (1/423).
[7] المفهم لما أشكل من تلخيص مسلم (1/359).
[8] المفهم (1/360)، وشرح النووي (2/227).
[9] الترغيب والترهيب (3/186) عند شرح حديث رقم (3420).
[10] فتح الباري لابن حجر (13/54).
[11] شرح النووي على مسلم (2/229).
[12] شرح النووي على مسلم (2/229).
[13] المفهم (10/361)، و"شرح النووي" (2/229)، و"فتح الباري" (6/701).(/8)
[14] أخرجه الطبراني في الأوسط من حديث الحسن البصري عن أبي ذر - رَضِيَ الله عنه -، وقال الحافظ في "الفتح": رجاله ثقات (6/701)، وقال الهيثمي في "الزوائد": "ورجاله رجال الصحيح غير السري بن يحى وهو ثبت ثقة. ولكن الحسن لم يسمع من أبي ذر فيما أظن" (9/72)
[15] أخرجه البزار كما في "كشف الأستار" (2506)، و"مختصر زوائد البزار" للحافظ ابن حجر (1885)، والطبراني في "الكبير" (9/26) برقم (8321)، وانظر: "فتح الباري" (6/701).
[16] سير أعلام النبلاء (7/243 ـ 259).(/9)
العنوان: من هدايات السنة النبوية: حديث القوة
رقم المقالة: 1375
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يَهْدِه الله فلا مُضِلّ له ومن يُضْلِل فلا هادِيَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله - تعالى -، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها المؤمنون: الكتاب والسنة هاديان يهديان العباد للطريق الأقوم، ولن يضل عبد تمسَّكَ بِهِمَا أبدًا، وحينما يضل أهل العقلانيات بعقولهم، وينحرف أهل السلوك بوجدانهم وأوهامهم؛ فإن أتباع الكتاب والسنة على طريق الحقِّ يَسيرون، وفي مَرْضَاة الله يجتهدون، وبما عندهم من النصوص مُطْمَئِنُّون؛ إلى أن يلقَوُا الله - عَزَّ وَجَلّ - وقد حازوا أمن الدنيا والآخرة.(/1)
أيها الإخوة: وهذا حديث نَبَويّ جامع نافع، نعيش معه بعض الوقت، ننهل جملاً من فوائده، ونستنير بنوره، ونسترشد بمعانيه؛ في وقت ادْلَهَمَّتْ فيه الظلم، وتاه عن الحق كثير من طلابه، وأضل الطريق كثير من رواده.
إنه حديث القوة في الدِّين، والحرص على النفع، والتغلب على الشيطان، والرِّضَى بالقَدَر، أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احْرِصْ على ما يَنْفَعُكَ واسْتَعِنْ بِالله ولا تَعْجِزْ، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قَدَّرَ الله وما شاء فَعَلَ، فإنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشيطان))[1].
فالحديث يُفَضِّل المؤمِنَ القَوِيَّ على المُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وإنْ كانَ في الضَّعِيفِ خير؛ وهو وصف الإيمان؛ لكن الإيمان يحتاج إلى إذاعة بين الناس، ودعوة إليه، ومحاجَّةٍ له، وجهادٍ لأعدائِهِ، ولا يَقْدر على ذلك إلا المُؤْمِنُ القَوِيّ.
وكُلَّمَا كان المؤمِنُ أقوى كان أقدر وأنفع للإسلام قوة في الإيمان، وقوة في العبادة، وقوة في الحق وفي الحجة، وفي كُلِّ ما تخدم فيه القوة دين الله - تعالى -[2].
والقوة مَمْدُوحةٌ في كتاب الله - تعالى -: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ} [ص: 45] فالأيدي: القُوَّةُ والعزائم في تنفيذِ أَمْرِ اللهِ - تَعالَى -[3]، وقد أَمَرَ الله المؤمنين باتخاذها في قوله - تعالى -: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60]، {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ القَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص: 26].
فالله - سُبْحَانَهُ وَتَعالَى - يحب مُقْتَضَى أسمائه وصفاته، وما يوافقها؛ فهو القَوِيّ ويحب المؤمن القوي[4]؛ لأن قوته تنفع الإسلام والمسلمين.(/2)
والقوة التي يشيد بها النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويخبر أنها مناط التفضيل هي: القوة المنبعثة من الإيمان، والمؤسسة على القاعدة التي تعصمها من الشَّطَطِ والتَّهَوُّر؛ فتشيع الأمن في النفوس، والاطمئنان في المجتمعات، وليست القوة التي تنطلق من عِقَالها لِتُهْلِكَ الحَرْثَ والنَّسْلَ، وَتَبُثُّ الرُّعْبَ، وتركب مراكب التدمير؛ لتُعَبِّدَ النَّاس لذات مصالحها. وحينما يستشعر المؤمن هذا المعنى تكبر نفسه فلا يكتفي بكلمة الإيمان يقولها بينه وبين نفسه؛ بل يعمل بمقتضاها ولوازمها ويحملها للعالمين غير هيَّاب ولا وَجِل. ومن وجد في نفسه ضعفًا موروثًا أو مكتسبًا فعليه أن يُحَاوِلَ جاهدًا التخلص منه بالتدرب على التحمل والمُعَاناة[5].
ثم يَرْسِم النبي - صلى الله عليه وسلَّم - الخُطَّة العملية من أجل تحقيق معنى القوة بقوله: ((احرص على ما ينفعك)) قال ابْنُ القَيِّمِ - رَحِمَهُ اللهُ -: "سعادةُ الإنسانِ في حِرْصِهِ على ما يَنْفَعُهُ في مَعاشِه وَمَعَادِهِ" [6]، وما يَنْفَعُ تُحَدِّدُهُ الغايةُ الأُولَى وَهِيَ الإيمان، فَكُلُّ ما يَعُودُ بِالنَّفْعِ على الإيمانِ فَالحِرْصُ عَلَيْهِ مَطْلُوبٌ، والبحث عن نَيْلِه مَرْغُوبٌ[7]، وَمِنْ أجل أن لا يَتَّكِلَ المُؤْمِنُ على نَفْسِهِ، ولا يَغْتَرَّ بِقُوَّتِهِ، ذَكَّرَه النبي - صلى الله عليه وسلم - بخالقه ورازقه في قوله: ((واسْتَعِنْ بِالله)) والمؤمن يقرأ في كل ركعة من صلاته {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]، ومِنْ دُعاءِ عُمَرَ في قُنُوتِهِ: ((اللَّهُمَّ إنَّا نَسْتَعِينُكَ ونَسْتَهْدِيكَ" [8]، وأَوْصَى النبي - صلى الله عليه وسلم - مُعَاذًا أن لا يَدَعَ في دُبُرِ كُلِّ صلاةٍ هذا الدعاءَ: ((اللهُمَّ أَعِنّي على ذكرك وشكرك وحُسْنِ عبادتك)) [9] وكان من دعائه - صلى الله عليه وسلم – ((اللَّهُمَّ أعنّي ولا تُعِنْ عَلَيَّ))[10].(/3)
وكلُّ عَمَلٍ لا يُسْتَعَانُ بالله عليه لا يُبَارك فيه؛ لأنه يكون مصروفًا إلى غير مَرْضَاة الله من الغايات النفسية؛ كالأثرة؛ وحب الجاه؛ وإشباع الرغبات، فلابد للمؤمن من الاستعانة بالله في الأمور كلها، والتبرؤ من الحول والطَّوْلِ والقُوَّةِ إلا بالله – سبحانه - [11]، وحتَّى لا يَظُنُّ ظانٌّ أنَّ التَّوَاكُلَ يَكْفِي عَنِ التَّوَكُّل، وأنَّ الاستعانة بالله تقتضي عدم العمل والأخذ بالأسباب قال الحديث: ((ولا تَعْجِزْ)) فلا تكفي الاستعانة باللسان دون الأخذ بالأسباب؛ بَلْ إِنَّ الاستعانة بالله - تعالى - تقتضي العمل، كما يقتضي التوكل الأخذ بالأسباب، قال ابن القَيِّمِ: "العَجْزُ يُنافِي حِرْصَهُ على ما يَنْفَعُهُ، ويُنافِي اسْتِعانَتَهُ بالله، فالحريصُ على ما يَنْفَعُهُ المستعينُ بالله ضِدّ العاجِزِ" [12]·
ومع ذلك فَكَمْ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَحْرِصُ على ما يَنْفَعُهُ دُونَ الاستِعانَةِ بِاللهِ - تعالى - فينحرف بعمله عن غايته المطلوبة إلى غايةٍ قصيرةِ المَدَى كَحُبِّ الذَّاتِ؛ فَيَقَعُ في دائِرَةِ الطَّمَعِ والطُّغْيَانِ.
وكم من المسلمين مَنِ اسْتَحَالَ بِهِ الأَمْرُ إلى العَجْزِ عَنْ مُقَابَلَةِ مُتَطَلَّبَاتِ الدَّعْوَةِ إلى اللَّهِ - تعالى - بِغَيْرِ الدُّعاء دُونَ العَمَلِ، بَلْ دُونَ التَّفْكِيرِ بِالعَمَلِ، ولا يُقَابِلُ الكَوَارِثَ النَّازِلَةَ بِالمسلِمِينَ بِغَيْرِ الحَوْقَلَةِ وَالاسْتِرْجَاعِ ولا شيء غير ذلك. فينبغي أن تفهم هذه الجمل الثلاث في الحديث على أنها معنًى واحدٌ متَّصلٌ لا أنها ثلاث جمل منفصلة؛ فطلب ما ينفع، والحرص عليه يجب أن يكون مُحَاطًا بالاستعانة بالله مع العمل الجاد الدؤوب بعيدًا عن العجز والخَوَر والضَّعْف.(/4)
وإذا حرص العبد على ما ينفعه واستعان بالله ولم يعجز، ثم أصابه بلاء، أو لم تتحقق النتائج التي كان يرجوها، فإنه مأمور بالصبر والاحتساب وعدم اللوم على ما مضى: ((وإنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فلا تَقُلْ: لَوْ أَنّي فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قَدَّرَ الله وما شاء فعل فإنَّ لَوْ تفتح عمل الشيطان".
والعبد إذا صَحَّتْ غايته، وخَلُصَتْ نيته، وأتى بالأسباب؛ فليس ضروريًّا أن تترتب النتائج بناءً على ما قَدَّمَ من مُقَدِّمَات؛ لأن تقدير الله غالب ومشيئته ماضية، وحكمه نافذ، والأسف واللوم لا يفيد شيئًا مع ما فيه من اعتراض على قدر الله - تعالى -؛ إذ ينظر العبد إلى الفعل؛ كأنه جهد شخصي معزول لا علاقة لمشيئة الله - تعالى - به، وهذا فيه تألٍ على الله - سبحانه وتعالى -، فأمر العبد أن ينأى بنفسه عن ذلك، ويسلم الأمر لله بتمام القبول والرضى [13]، ذلك أنَّ العبد إذا أصابه السوء أو فاته ما لم يقدر له فله حالتان:
حالة عجز وهي مفتاح عمل الشيطان؛ فيلقيه العجز إلى (لو) التي هي مفتاح اللوم والجزع والسخط والأسف والحزن. وذلك كله من عمل الشيطان فنهاه - صلى الله عليه وسلم - عن افتتاح عمله بهذا المفتاح، وأمره بالحالة الثانية وهي: النظر إلى القَدَر وملاحظته، وأنه لو قُدِّرَ له لم يَفُتْه، ولم يغلبه عليه أحد فلم يبق ههنا أنفع من شهود القدر، ومشيئة الرب النافذة التي توجب وجوب المَقْدُور، وإذا انتفت امتنع وجوده؛ فأرشده الحديث إلى ما ينفعه في الحالتين، حالة حصول مطلوبه، وحالة فواته؛ فلهذا كان هذا الحديث مما لا يستغني عنه العبد أبدًا، بل هو أشد شيء إليه ضرورة، وهو يتضمن إثبات القدر والكسب والاختيار، والقيام بالعبودية ظاهِرًا وباطنًا في حالتي حصول المطلوب وعدمه" انتهى مُلَخَّصًا من كلام ابن القيم [14].(/5)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ * لِكَيْ لا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد: 22 – 23]، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده وأشكره وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله - أيها المؤمنون - لعلكم تفلحون: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [آل عمران: 186].
أيها الإخوة: إن الناظر في أحوال الناس يجد بعدًا بينهم وبين مشكاة النبوة في الفهم والعمل، وهذا الحديث العظيم يبرز بوضوح مدى البعد بينهم وبين السنة وتطبيقها؛ إذ دَبَّ الضعفُ في كثير من المسلمين، وهو ضعف متنوع ومتغلغل: ضعف في الإيمان واليقين، وضعف في العبادة والعمل، وضعف في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وضعف في فَهْم العقيدة الصحيحة والتزامها، وضعف أمام الدنيا وزخرفها، وأمام الشبهات؛ حتى داخلت القلوب، وأمام الشهوات؛ حتى تمت مواقعتها، كل هذا من الضعف، وغيره كثير، ظاهر في جماعات المسلمين وأفرادهم. ((والمؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف)).
ومن مظاهر الضَّعْف: حصر النفع في أمور الدنيا مع الغفلة أو التغافل عن الدار الآخرة؛ فتجد العبد يحزن لفوات أمر من أمور الدنيا، ولا يحزن على كثير من أعمال الآخرة التي أضاعها أو فرط فيها.(/6)
ومن أمارات ضعف الإيمان في الناس: قِلَّة الاستعانة بالله - تعالى - في الأمور كلها، وصار اعتماد كثير من الناس على الحَوْل، والطَّوْل، والقُوَّة، والبأس، والنجاح في أمر من الأمور لا ينسب إلى فضل الله - تعالى – وتوفيقه؛ وإنما يعزى إلى المجهود البشري الضعيف، وما أكثر ما تُرَدَّدُ عبارة: الثقة بالنفس، والثقة بقدرات فلان، والاعتماد على ذلك اعتمادًا كليًّا، دون الثقة بالله - سبحانه وتعالى -، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لمَّا بَعَثَ قومًا من أصحابه على أقدامهم؛ ليغنموا فرجعوا ولم يغنموا وعرف الجهد في وجوههم قام فيهم فقال: ((اللهم لا تكلهم إلي فأضعف عنهم، ولا تكلهم إلى أنفسهم فيعجزوا عنها، ولا تَكِلْهم إلى الناس فيستأثروا عليهم))[15]، وأوصى ابنته فاطمة أن تقول في الصباح والمساء: ((يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث أصلح لي شأني كله ولا تَكِلْنِي إلى نفسي طرفة عين))[16]، وهم يقولون: الثقة في النفس، والثقة في فلان وفلان.
وحَدِّثْ ولا حرج عن العجز الذي أصاب المسلمين، يريدون التطور والتقدم وبناء الحضارة وهم لا يعملون، أو يعملون قليلا، ويريدون عز الأمة ومجدها ونصرتها بأقوال خالية من الأفعال وذلك ما لا يكون.
وكثيرًا ما يستخدم الناس (لو) في التحسر على فوات شيء يطلبونه، أو وقوع أمر لا يريدونه مع جمع التفكير كله في الماضي وترك الحاضر والمستقبل، وكم من الأبواب التي يلج من خلالها الشيطان إلى القلب بسبب مفتاح (لو) ليعمل أعمالاً ليست في صالح العبد من الاعتراض على القدر، والاتصاف بالجزع والتَّسَخُّط، إلى استحكام اليأس، وقتل الأمل، وترك العمل، وانطفاء شعلة النشاط، مع ضعف الإيمان وقلة العبادة.(/7)
أيها الإخوة: انظروا إلى بُعْد الهُوَّة بين هذا الحديث النبوي العظيم وبين واقع المسلمين، وما ضَعُفَ المسلمون ولا ذلُّوا إلا بسبب ابتعادهم عن الكتاب والسنة، وعلى قدر ابتعادهم تكون ذلتهم ازديادًا أو نقصًا؛ ولن تخرج الأمة من ضعفها وذلتها حتى تعود إلى الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها. وصلوا وسلموا على خير خلق الله؛ كما أمركم بذلك ربكم.
---
[1] أخرجه مسلم في القدر؛ باب في الأمر بالقوة وترك العجز والاستعانة بالله، وتفويض المقادير لله (2664).
[2] الذي يظهر من عموم الشريعة أنه لا عبرة بقوة البدن، وليست وحدها مما يقرب إلى الله ما لم تسخر تلك القوة في خدمة دين الله - تعالى -؛ إذ القوة البدنية هبة من الله - تعالى - لا يتعلق بها مدح ولا ذم ما لم تستثمر فإن سخرت للخير فهي محمودة، وإن سخرت للشر فهي مذمومة، وهكذا يقال أيضًا في قُوَّتَي المال والجاه وغيرها من أنواع القوة، وانظر: "شرح النووي على مسلم" (16/329)، "وإكمال إكمال المعلم" للأبي (9/42)، و "المفيد على كتاب التوحيد" (3/127).
[3] انظر: "تفسير ابن كثير" (4/61) الآية (45) من سورة [ص].
[4] تيسير العزيز الحميد (676).
[5] بتصرف من مقال لمنصور الأحمد بعُنْوَان "من مشكاة النبوة" مجلة البيان العدد (7) ص (15).
[6] شفاء العليل (19)، وانظر: تيسير العزيز الحميد (676).
[7] بتصرف من مشكاة النبوة.
[8] أخرجه البيهقي في الكبرى مرفوعًا مرسلاً وموقوفًا على عمر، وقال: وقد رُوِيَ عن عُمَر - رضي الله عنه - صحيحًا موصولاً (2/210)، وصححه الحافظ في "التلخيص الحبير" (2/26).
[9] أخرجه أبو داود في الصلاة؛ باب الاستغفار (1522)، والنسائي في السهو؛ باب نوع آخر من الدعاء (3/53)، وصححه ابن حبان (2354)، والنووي في "رياض الصالحين" (384).(/8)
[10] أخرجه أبو داود في الصلاة؛ باب "ما يقول الرجل إذا سلم" (1510)، والترمذي في الدعوات؛ باب في دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: هذا حديث حسن صحيح (3551)، وابن ماجه في الدعاء؛ باب دعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (3830)، والبخاري في "الأدب المفرد" (665).
[11] بتصرف من مشكاة النبوة
[12] انظر: "شفاء العليل" (19) و"تيسير العزيز الحميد" (667).
[13] بتصرف من مشكاة النبوة.
[14] انظر: "شفاء العليل" (19)، و"تيسير العزيز الحميد" (678).
[15] أخرجه أحمد (5/288)، وأبو داود في الجهاد؛ باب في الرجل يغزو يلتمس الأجر والغنيمة (2535)، والبخاري في التاريخ الكبير (8/436)، والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي (4/425).
[16] أخرجه الحاكم وصححه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي من حديث أنس ابن مالك - رضي الله عنه - (1/545). وأما حديث ابن عمر - رضي الله عنه - ما قال: كان من دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين ولا تنزع مني صالح ما أعطيتني))؛ فأخرجه البزار كما في "كشف الأستار" (3188)، و"كشف الخفا ومزيل الإلباس" (564)، وفي سنده إبراهيم بن يزيد الخوزي، وهو متروك؛ كما قال الحافظ ابن حجر في "مختصر زوائد مسند البزار" (2179) والهيثمي في "مجمع الزوائد" (10/181) ويكفي عنه الحديثان الصحيحان.
ولمزيد شرح هذا الحديث العظيم، واستخراج فوائد أخرى انظر: "شرح النووي على مسلم" (16/329)، و"المفهم لما أشكل من تلخيص مسلم" (6/682)، و"شرح الأبي على مسلم" (9/41)، و"تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد" (675)، و"فتح المجيد شرح كتاب التوحيد" (671)، و"حاشية كتاب التوحيد" لابن قاسم (353)، و"القول المفيد على كتاب التوحيد" لابن عثيمين (3/126)، و"مجلة البيان" عدد (7) ص: (15).(/9)
العنوان: من هِدَايات السنة النبوية: حديث الولي
رقم المقالة: 1374
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
الحمد لله، نَحْمَدُهُ ونَسْتَعِينُه وَنَسْتَغْفِرُه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضِلَّ له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70-71].
أمَّا بَعْدُ: فإنَّ الاهْتِداءَ بالوحي، والسير في ضَوْءِ النَّصِّ مسلك المُوَفَّقِين من عباد الله، الذينَ اطْمَأَنَّتْ قلوبُهم في الدنيا، ولسوف يفوزون في الآخرة، لا كمن جعلوا السلطان لعقولهم على وحي الله - تعالى -، فما لم تفهمه وتستوعبه عقولهم طرحوه وتركوه؛ بل وكذبوه، ولو كان في ثبوته مثل الشمس في رائعة النهار، فهم أهل الحيرة والشك والارتياب، ولا كأهل الوجْدِ والحِسِّ، الذين عبدوا أَهْواءَهُمْ وشياطِينَهُمْ، وأضلُّوا أتباعَهُمْ مِنَ العامَّةِ ودهماءِ النَّاس بخرافاتهم وأكاذيبهم وشعوذاتهم.(/1)
إنَّ أَهْلَ الإيمان والحق يسيرون على طريق واضِحَة، يتبعون المُحْكَم من كتاب الله - تعالى -، والصحيح من سُنَّةِ نَبِيِّه - صلى الله عليه وسلم -، ويؤمنون بالمتشابه منهما ويقولون: {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7].
أيها الإخوة: وهذه وقفة مع نصٍّ من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي هو أعذبُ الحديث وأبلُغه، وأجمعُه وأنفعه بعد كلام الله - تعالى -، نأخذ من هذا الحديث العِبْرةَ والمَوْعِظَةَ الحسنة، والطريق الصحيحة التي تأخذ بنا نحو التسديد والتوفيق، في الدنيا والآخرة ومن منا لايريد ذلك؟!
حديث قدسي عظيم مخرج في الصحيح[1] يرويه أبو هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويرويه النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ربه - تبارك وتعالى - أنه قال: ((مَنْ عادى لي وليًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحرب، وما تَقَرَّبَ إليّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أحبَّ إليَّ مما افترضت عليه، ومايزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصرَهُ الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه، وما تَرَدَّدْتُ عن شيءٍ أنا فاعله تَرَدُّدِي عن نفس المؤمن يكره الموْتُ وأنا أكره مساءَته"؛ قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة عن هذا الحديث: "هو أَشْرَفُ حديثٍ رُوِيَ في صِفَة الأولياء"[2]·(/2)
لقد بيَّن هذا الحديثُ منزلةَ أولياءِ الله عنده - تعالى -، وولي الله هو: العالم بالله، المواظب على طاعته، المخلص في عبادته[3]. جمع بين الإيمان والتقوى، فجمع الله له البشرى في الدنيا والآخرة، وأذهب عنه الخوف والحزن: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ البُشْرَى فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ} [يونس: 62 – 64].
وجاء عن ابن مسعود وابن عباس وغيرهما أنَّ أولياءَ الله هُمُ الذين إذا رُؤوا ذُكِرَ الله - تعالى - .[4]
وما ذاك إلا لأنَّ ذِكْرَ اللهِ في قُلُوبِهِمْ وأَلْسِنَتِهِمْ، وأثره ظاهر على جوارحهم فهم يُذَكِّرون النَّاسَ رَبَّهُمْ؛ فمن رآهم ذكر الله - تعالى -.
ما أَعْظَمَ مَنْزِلَةَ أَوْلِياءِ اللهِ - تَعالى - حينما يُنْذِرُ اللهُ - تَعالَى - مَنْ عادَاهُمْ بِالحَرْبِ!! عاداهم بسبب صلاحهم أو عبادتهم أو دعوتهم أو جهادهم، وما أكثر الذين يعادون أولياء الله ويظلمونهم، فويل لهم! كيف يقابلون الله وقد عادَوْا أولياءه؟!(/3)
قال ابْنُ رَجَبٍ - رَحِمَهُ الله تعالى -: "فقد آذَنْتُهُ بالحرب: فقد أعلمته بأني مُحَارِب له حيث كان محاربًا لي بمعاداة أوليائي"، ولهذا جاء في حديث عائشة: "فقد استحل محاربتي"[5] وفي حديث أبي أمامة: "فقد بارزني بالمحاربة"[6] إلى أن قال: "واعلم أن جميع المعاصي محاربةٌ لله - عز وجل -، قال الحسن: "يابن آدم هل لك بمحاربة الله من طاقة؟ فإن من عصى الله فقد حاربه، وكلما كان الذنبُ أقبح كان أشد محاربة لله، ولهذا سمى الله - تعالى - أكلة الربا، وقطّاع الطريق محاربين لله - تعالى - ورسوله؛ لعظيم ظلمهم لعباده؛ وسعيهم بالفساد في بلاده، وكذلك معاداة أوليائه؛ فإنه - تعالى - يتولى نصرة أوليائه ويحبهم ويؤيدهم فمن عاداهم فقد عادى الله وحاربه"ا. هـ .[7].
وقال الفاكهاني: "في هذا تَهْدِيدٌ شديد؛ لأنَّ من حاربه الله أهلكه، ومن كره من أحب الله خالف الله، ومن خالف الله عانده، ومن عانده أهلكه، وإذا ثبت هذا في جانب المعاداة ثبت في جانب الموالاة، فمن والى أولياء الله أكرمه الله" ا. هـ [8]·
"وما تقرَّبَ إليَّ عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه" نعم، ما تقرب المتقربون بشيء أحب عند الله من فرائضه التي فرضها، ولولا عظمةُ تلك الفرائض لما جعل العباد يتعبدونه بها، يقول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "أفضل الأعمال أداء ما افترض الله، والوَرَعُ عمَّا حَرَّمَ الله، وصدق النية عند الله – عز وجل –" ا. هـ [9]، وهذه الدرجة هي درجة المقتصدين أصحاب اليمين.
أمَّا السابقون المقرَّبُون: فإنهم تقرَّبُوا إلى الله بعد الفرائض بالاجتهاد في نوافل الطاعات، والانكفاف عن دقائق المكروهات بِالوَرَعِ؛ وذلك يوجب للعبد محبة الله؛ كما قال: "ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتَّى أُحِبَّه" فمن أحبه الله رزقه محبته وطاعته، والاشتغال بذكره وخدمته؛ فأوجب له ذلك القرب منه، والزُّلْفَى لديه، والحظوة عنده[10]·(/4)
ومحبَّةُ اللهِ ومحبَّةُ ما يُحِبُّ الله من أعظم المقامات وأرفعها؛ لذلك علّم الله - تعالى - رسوله - صلى الله عليه وسلم - سؤال ذلك، قال - عليه الصلاة والسلام -: ((... إني قمت من الليل فتوضأت وصليت ما قدّر لي، فنعست في صلاتي حتى استثقلت فإذا بربي - تبارك وتعالى - في أحسن صورة... إلى أن قال: يا محمد: قل... اللهم إني أسألك حبَّك وحبَّ من يحبك وحبّ عملٍ يقرب إلى حبك..))؛ صححه البخاري والترمذي[11]، وكان من دعائه - صلى الله عليه وسلم -: ((اللهم ارزقني حبّك وحبَّ من ينفعني حبُّهُ عندك، اللهم ما رزقتني مما أحبُّ فاجعله قوة لي فيما تحب، اللهم ما زويت عني مما أحبُّ فاجعله فراغًا لي فيما تحب))؛ أخرجه الترمذي وحسنه[12]، فمتى امتلأ القلب بعظمة الله - تعالى -، محا ذلك من القلب كلَّ ماسواه، ولم يبق للعبد شيء من نفسه وهواه، ولا إرادة إلا لما يريده منه مولاه؛ فحينئذ لا ينطق العبد إلا بذكره، ولا يتحرك إلا بأمره، فإن نطق نطق بالله، وإن سمع سمع به، وإن نظر نظر به، وإن بطش بطش به؛ فهذا هو المراد من قوله - تعالى - في الحديث: "فإذا أَحْبَبْتُه كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها"... ومن هذا المعنى قَوْلُ عَلِيّ - رضي الله عنه -: "إن كنا لنرى أنَّ شيطان عمر ليهابُه أن يأمره بالخطيئة"[13].
فيا لها من منزلة عظيمة حينما يسدّد الله العبد ويوفقه لطاعته حتى لا تعمل جوارحه إلا ما يرضي الله - تعالى -، وتباعدُ كلّ البعد عما لا يرضيه، هذه والله هي السعادة في الدنيا والآخرة، ومن كان كذلك كان جديرًا أن يُعْطِيَهُ الله سؤله، ويعيذه إذا استعاذه، وينصره إذا استنصره، ويجيبه إذا دعاه، كيف وقد قال: "وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه" فمع تسديد الله وتوفيقِه لهذا العبد الصالح يجعله مجاب الدعوة؛ لكرامته عليه – عز وجل -.(/5)
عن أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((كم من ضعيف متضعِّف ذي طِمْرَيْنِ لو أقسم على الله لأَبَرَّهُ، منهم البراء ابن مالك))[14]. لاحظوا قوله في الحديث: "ضعيف متضعف"؛ أي يتضعفه الناس ويتجبرون عليه في الدنيا للفقر ورثاثة الحال، منهم البراء بن مالك، والبراء بن مالك المذكور في الحديث لقي زحفًا من المشركين فقال له المسلمون: أقسم على ربك، فقال: أقسمت عليك يا رب لما منحتنا أكتافهم؛ فمنحهم أكتافهم، ثم التقوا مرة أخرى فقالوا: أقسم على ربك، فقال: أقسمت عليك يا رب لما منحتنا أكتافهم وألحقتني بنبيك - صلى الله عليه وسلم -، فمنحوا أكتافهم وقتل البراء - رضي الله عنه -[15]·
وعن ثَوْبان - رَضِيَ الله عنه - عن النَّبِيّ - صلَّى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ من أمتي من لوجاء أحدكم يسأله دينارًا لم يعطه، ولو سأله درهمًا لم يعطه، ولو سأله فلسًا لم يعطه، ولو سأل الله الجنة لأعطاه إياها، ذو طِمْرَيْن، لا يُؤْبَهُ به، لو أقسم على الله لأبَرَّهُ"[16]، وربما دعا المؤمن الولي المُجابُ الدعوة بما يعلمُ اللهُ الخِيَرة له في غيره، فلا يجيبه إلى سؤاله، ويعوضُه عنه ما هو خير له في الدنيا أو في الآخرة، وفي حديث أنس المرفوع أن الله يقول: "إن من عبادي من يسألني بابًا من العبادة، فأكفه عنه؛ كيلا يدخله العُجْب"؛ أخرجه الطبراني وصححه العراقي[17]، وتعظم منزلة هذا الولي حتى إن الله - تعالى - يكره أذاه ومساءته، فالموت حق كتبه الله على البشر، والبشر يكرهون الموت لما فيه من الشدة والكرب؛ فيرحم الله أولياءه ويلطف بهم، ويشفق عليهم، ويحسن لهم الختام، وهذا معنى قوله في الحديث: "وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته" فسبحان الله ما أعظم شأن أوليائه عنده!(/6)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ البُشْرَى فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ} [يونس: 62- 64]. نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وسنة نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم...
الخطبة الثانية
الحمد لله، حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده وأشكره على نعمه التي لا تُعَدّ ولا تُحْصَى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له، خلق فسَوَّى، وقَدَّرَ فَهَدَى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، النبي المصطفى، والرسول المجتبى - صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه أولي النهى -، وأعلام التقى، والتابعين لهم بإحسان، ومن سار على نهجهم واقتفى.
أما بعد: فاتقوا الله - عباد الله - فإن ولاية الله - تعالى - لا تُنَال إلا بالتقوى، والمتقون هم أولياء الله - تعالى -: {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللهُ وَلِيُّ المُتَّقِينَ} [الجاثية: 19].
أيها المؤمنون: يُظْهِر هذا الحديث الفرق العظيم بين الطاعة والمعصية، فالطاعة تقرب إلى الله - تعالى - حتى تجعل صاحبها من أوليائه الذين يتولاهم بعنايته ورعايته، ويحفظهم من شياطين الجن والإنس، ويعلن الحرب على من عاداهم من أهل المعاصي والفجور.
قال أبو الفضل ابن عطاء: "في هذا الحديث عظم قدر الولي؛ لكونه خرج عن تدبيره إلى تدبير ربه، وعن انتصاره لنفسه إلى انتصار الله له، وعن حوله وقوته بصدق توكله، ويؤخذ منه أن لا يحكم لإنسان آذى وليًّا ثم لم يُعَاجَل بمصيبة في نفسه، أو ماله، أو ولده بأنه سَلِم من انتقام الله؛ فقد تكون مصيبته في غير ذلك مما هو أشد عليه؛ كالمصيبة في الدين مثلاً" ا. هـ[18].(/7)
وهذا يفسر لنا تردي أحوال الذين يؤذون أولياء الله - تعالى - خاصة في جوانب الدين والأوامر والنواهي؛ فكم من عدو لله - تعالى - آذى أولياءَه بيده أو لسانه أو قلمه، من علماء ودعاةٍ وصالحين، ومع ذلك تراه يتقلب في مَلَذَّات الدنيا، لم يُؤْذَ في نفسه أو ماله أو ولده؛ بل ربما يزيده الله من ذلك؛ لكن لو فتشت عن دينه لوجدت أنه ينحدر من معصية إلى أعظم منها؛ حتى يقترف أنواع الفجور والآثام؛ بل ربما ارتكس في الكُفْر والإلحاد والزَّنْدَقَة، فيكون انتقامُ الله منه لأوليائه الذين آذاهم أن سهل عليه أَمْرَ الكفر والفجور حتى يخلد في العذاب، ويكون حسابه في الآخرة أشد وأنكى.
ويبيِّنُ هذا الحديث بجلاء خطأ من يهمل الفرائض ويجتهدُ في النوافل، تجده يحافظ على قيام الليل في رمضان، ويتنفل بالحج والعمرة؛ لكنه يهمل الصلوات المفروضة بقية العام؛ ربما يتصدق على الفقير والمسكين، ويبذل ماله وجاهه لمساعدة المحتاجين، ويحرص على بناء مسجد قبل أن يموت لكنه لا يخرج زكاة ماله، أو لا يجتنب الطرق المحرمة في كسبه من ربًا وغيره، فهذا وأمثاله حافظوا على أنواع من النوافل؛ لكنهم أهملوا الفرائض فخرجوا عن ولاية الله تعالى.
كما يبين الحديث ضلال المُبْتَدِعَة، الذين شرعوا لهم عبادات لم تفرض، وأهملوا العبادات المفروضة؛ فما تَعَبَّدَ مُتَعَبِّدٌ لله - تعالى - بأفضل ولا أحبَّ إليه مما افترضه على عباده.(/8)
وهذه الفرائض: إما أن تكون ظاهرة يفعلها العبدُ؛ كالصلاة والزكاة وغيرهما، أو يتركها؛ كترك الزنا والخمر وسائر المعاصي، وإما أن تكون باطنة؛ كالعلم بالله - تعالى -، والحبِّ له، والتوكل عليه، والخوف منه، وغير ذلك[19]، ومن هِدَايات هذا الحديث: الإلماح إلى ما يحتاجه العبد من تسديد الله وتوفيقه. كم نحتاج إلى أن نسدد في أقوالنا وأفعالنا؛ فالمعاصي تكثر فينا، والفتن تحيط بنا من كل جانب، واحتمالُ الوقوع في الإثم أقرب إلينا من شراك نَعْلِنا؛ فكيف يكون إبصارُ الحق، والثباتُ عليه، ومجانبةُ الإثم والحرام إلا بتسديد الله لأسماعنا وأبصارنا وسائر جوارحنا. يا تُرَى كيف سيكون حال العبد إذا فقد توفيق الله وتسديده؟! وكم سيكون تخبطه في الإثم والفتن إذا تخلى الله عنه؟! بل إن التسديد والتوفيق نحتاجه حتى في أمور دنيانا من بيع وشراءٍ، وذهاب ومجيء، ووظائف وأعمال.
ونحتاج إلى التَّسْدِيد في بُيوتنا وفي تعاملنا مع أهلنا وأولادنا وقراباتنا، فَكَمْ مِنْ عَبْدٍ لم يُسدَّدْ يخطئ الاختيار في عمله ووظيفته، ويسيء التصرف في بيته ومع أهله؛ فاستحالت حياته شقاءً، ولو كان مُسَدَّدًا لكان أسعد الناس: "فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها". وهذا هو التوفيق والتسديد فالزموا محبة الله، ومحبة ما يحبه الله - تعالى -، وتقربوا إليه بالفرائض ثُمَّ بِالنَّوَافِلِ، وجانبوا سخطه ومعاصيه، ووالُوا أولياءه، وعادُوا أعداءه؛ حتى تكونوا من أوليائه، ثم صَلوا وسلموا على نبي الرحمة والهدى؛ كما أمركم بذلك ربكم...
---
[1] أخرجه البخاري في الرقاق باب التواضع (6502)، والبيهقي في الكبرى (3/346)، وأبو نُعَيْم في الحلية (1/4)، والبغوي في شرح السنه (248).
[2] مجموع الفتاوى (18/129).
[3] فتح الباري لابن حجر (11/350).(/9)
[4] انظر الروايات في تفسير ابن كثير (2/655)، والدر المنثور للسيوطي (3/556)، وقد جاء مرفوعًا عند ابن المبارك، والحكيم، الترمذي، والبزار، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، وابن مردويه؛ كما في "الدر المنثور".
[5] أخرجه أحمد (6/256)، وأبو نُعَيْم في الحِلْيَة (1/5).
[6] أخرجه الطبراني في الكبير (8/264) برقم (7880)، قال الهيثمي: وفيه علي بن يزيد وهو ضعيف. انظر: "مجمع الزوائد" (2/251).
[7] جامع العلوم والحكم لابن رجب (2/334).
[8] فتح الباري لابن حجر (11/350).
[9] جامع العلوم والحكم (2/336).
[10] جامع العلوم والحكم (2/337).
[11] كما في حديث معاذ بن جبل، وهو حديث عظيم طويل أخرجه أحمد (5/243)، وابن خزيمة في التوحيد (218)، والترمذي في تفسير القرآن؛ باب من سورة ص (3235)، والحاكم وصححه الذهبي (1/702) والطبراني في الكبير (20/108)، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث فقال: هذا حديث حسن صحيح، انظر: جامع الترمذي (5/344).
[12] أخرجه ابن المبارك في الزهد (430)، والترمذي في الدعوات؛ باب (74) من حديث عبدالله بن يزيد الخطمي الأنصاري، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب (3491).
[13] جامع العلوم والحكم (2/347).
[14] أخرجه الترمذي من حديث أنس بن مالك في المناقب؛ باب مناقب البراء بن مالك - رضي الله عنه - وقال: هذا حديث صحيح حسن من هذا الوجه (3854)، والحاكم من وجه آخر عن أنس، واللفظ له وصححه ووافقه الذهبي (3/292).
[15] مستدرك الحاكم وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه" (3/292).
[16] أخرجه الطبراني في الأوسط (7548) قال الهيثمي: "ورجاله رجال الصحيح" (10/264).
[17] أخرجه الطبراني في الأوسط قال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح (10/264)، وكذا قال المنذري في الترغيب والترهيب (4/152)، وصححه العراقي في تخريجه للإحْيَاءِ (3/277).
[18] فتح الباري لابن حجر (11/354).(/10)
[19] انظر: فتح الباري (11/354).(/11)
العنوان: من هي؟؟
رقم المقالة: 290
صاحب المقالة: ظلال عدنان
-----------------------------------------
ترقرق الدمع في عينيه الخضراوين الذابلتين, وانطفأ لونهما الذي كان يمنح الدنيا خضرتها في خريفها الذابل وشتائها القاسي....
حمل حقيبته المهترئة - التي أثقلها حملها - على كتفيه, وسار مطأطئا.. يئن.. ويتألم.. من ثقلها. ليتها كانت كحقيبته, ينزعها متى أثقله حملها, وأوهنه تذكرها, وأنى له بالنأي عن هموم أرقت مضجعه, وأسهرت عينه, وأضعفت قلبه, هموم لم ترحم ضعفه, ورقة أحاسيسه...
في طريقه إلى البيت - ذاك الطريق الذي سئم المسير فيه, كم يمقته, ويمقت تلك العيون التي ترمقه - خلف النوافذ, وفي مداخل البيوت, والمحال التجارية والبقالات, عيون تتهامس عنه بصمت.. صمت جارح, يغرس برده الثلجي في أوصاله المرتعشة, فيتهاوى أوراقاً بعثرتها ريح الأيام, وداستها أحذية المارة, فالتصقت أجزاؤها بتلك الأرض الطينية المبللة بدمع السماء, حذاء خلف حذاء يدوسها, ومنهم من يترنم بالطرق عليها.. وربما نالها بصاق ذاك النزق.. أو شرر من دخان أحدهم يطفؤه في تلك الأرض.. يدوسه.. يسحقه... ويمضي لاينظر خلفه....
في لحظات من الزمن كان يحن إليها... يشتاقها.. ويشتاق عطرها... كم أحبها.. وكم أحبته.. كم داعبته ولاعبته.. هو لايذكرها إلا كخيال عابر أو طيف رقيق أبيض يعود به لذكرى عابرة تمرُّ مر السحاب لاتلبث أن تخنقها أدخنة سوداء, حمراء, فتتلاشى... ولا يبقى إلا الرماد... رماد أسود.. وياعجبي فقد كانت بيضاء.. جميلة رقيقة وديعة وادعة... تفتَّحت كأجمل ما تكون وردة قرمزية يشوبها البياض تنشر عطر أريجها في الدنا..تتنسَّم عطراً وتشرب زلالاً.. لا تعلم من الحياة شيئاً.. بريئة براءة الطفولة... آه من تلك الطفولة... وأي طفولة...(/1)
كانوا يتهامسون بينهم.. ويتغامزون.. منهم من يصوب نظره إليه,كأفواه البنادق... وآخرون يزرعونها ألغاماً في تلك الخنادق.. جميعها تعذبه, تقتله, تحبس روحه... ما أضيق الدنيا... ولعل قبراً أرحب منها.. وأنى له بذلك.. كم يحب ذاك القبر... قبر لم يحو جسدها, بل بخارها, رمادها.. رائحة وردها المحترق, وسواد قلوبهم.... يجالسه ساعات طوال... يتنسم ترابه.. يلثم أرضه.. يروي أحجاره.. بدمع تحجَّر في المقلتين... وانتزع منها حجراً ينام معه... يشعره بدفئها.. بأنفاسها الحارة تلامس رقبته..ويدها الرقيقة تعبث بخصلات من شعره الذهبي.. وبنغمات هادئة يشوبها حزن خفي دفين، كانت تغني له لينام... يحتضنها بيديه يغرق رأسه في صدرها.. يسمع نبض قلبها.. يخبره بحبها.. فيذوب بها عشقاً وغراماً وهياماً...
كم كان يحب شروق الشمس لتشرق ابتسامتها... توقظه بمداعبات لطيفة.. وتغمره ظلال عينيها الوادعتين ببحر من زرقتها.. ليبحر فيها.. ويعود منها بقبلة على الوجنتين.. تقطر شعراً ونثراً يعجز عنه أبلغ الأدباء.. كانت تحبه... بل حبه هو حياتها, أنفاسها, نبضها, حلمها, كانت ترى فيه آمالها.. غدها.. مستقبلها... جنتها... لكنهم أحرقوا أرضها وسماءها وحتى جنتها.... سقوها كدراً.. وأطعموها زعافاً... فغدت يباباً... جرداء.. تنعق فيها الغربان... وتسكنها الأفاعي..
غابت شمسها وأشرق ظلام حزني... فوا لهفَ قلبي.. لماذا رحلت... لمن تركت قلبا معذبا مضنى.. أشقاه الوجد... وشفَّه الحنين... أوَ تتركينني هكذا؟؟ بلا مؤنس ولا رفيق أو حبيب؟؟(/2)
في طريقه... ترنو عيناه للأفق البعيد... ويتساءل: أين هي؟ أفي الجنة؟ كما يقال لكل من يرحل عن دنيانا... لعلها هناك تأكل الفراولة.. فقد كانت تحبها كثيراً.. لكنها كانت تؤثرني بالمال لتجعلني سعيداً.. وتلبِّي حاجاتي ورغباتي... أو لعلها في الجنة قد اشترت ذاك الفستان الأخضر البديع, كم أعجبها بديع صنعه, وجمال زركشته.. وكنت قد وعدتها أن أشتريه لها عندما أكبر.... عندما ماذا؟؟ هل تريد أن تكبر؟ هل تريد أن تنسى؟ أن تبتعد؟؟ لا.. لا... أبقَي ياحبيبتي في جنتك.. وأنا هنا في أرضهم.... فلن أكبر... وسأبقى ذاك الصغير المدلَّل.. المشاغب.. سأبقى ألعب أمام بيتنا... أتسلَّق الأشجار وألاحق الأطيار... وحين ينالني التعب أغفو في مقلتيك...
وترتد خضرته المبلَّلة.. تصطدم برمال من لهيب محرقة.. ويتنهَّد عجوز يرتب دكانه ويقول: لاحول ولا قوة إلا بالله... الله المستعان.., ويتعالى صوت أحدهم بين مجموعته في القهوة: يا أخي الله يستر على ولايانا..., وهناك على كرسيه المعتاد جانب الطريق أخرج لفافته وهو يقول: (الله أعلم ما بنحط في ذمتنا..), وضعها في فمه... امتصَّها... نفثها دخاناً أسود كريهاً...كذاك الذي أحرقها... وصنع حوله غمامة قاتمة... وشرد بنظراته بعيداً.. بعيداً... يردد: الله أعلم..إيه... الله يغفر لنا....
أحرقته كلماتهم.. أشعلت فيه ناراً.. قادته لقبر يطفئ فيه لهيبه... تهاوى عنده... أراد أن يقلِّبه..يبعثره ليخرجها.. ليكلِّمها.. ليحضنها... لتخفيه في ثوبها كما كانت تفعل دوماً حين يعبث بشقاوته المعهودة.. فيتلف بعض أشجار الجيران.. أويضرب هرّاً فتخطئُه وتصيب أحد المارة... أما اليوم فسهامهم لا تخطئُه...
أحقّاً أحرقوك ليخففوا عنك؟ وهل كان في تلك النار راحة لك؟ كيف أحرقوك؟ وبأي ذنب؟ وبأي حق؟(/3)
هم لم يروا شيئاً..لم يشهدوا شيئاً... بل كان كلاماً.. شرراً... انتشر كالنار في الهشيم.... أحرقك وأحرقني... كان حديثاً وحادثاً كحادثة الإفك... كل أدلى بدلوه... أحضروا الحطب.. كل حسب إمكانياته اللغوية وقدراته التخيلية وإبداعاته الوصفية... وقبل أن تحرقك نارهم أحرقتك عيونهم.. نظراتهم.. وأجمعوا أنك مذنبة.. وقرروا أنك مخطئة بل غارقة في وحل الخطيئة, ولا بد من تطهيرك.. هم بقذاراتهم أرادوا تطهيرك ويا للعجب!!.
في ذاك اليوم.. بل في تلك الليلة.. أخذوني من حضنك.. من جنتي.. أذكر طيفك حينها.. بكاءك.. استنجادك.. استرحامك استعطافك... كلماتك حفرت في قلبي أخدوداً.. من الحزن والأسى.. قلت بدمع القلب: (والله بريئة, حرام عليكم لاتظلموني... والله لا أعرف الحرام.. ولا عمري اقتربت منه.. حرام)... ويتعالى نحيبك.. وهم يسحبونك سحباً.. وأمك تركلك برجليها.. وأنت تستعطفينها: (أماه أنا ابنتك.. أنت ربيتني... أمي ألا تعرفينني؟! أنت تحرقينني؟).
وأبوك يبصق في وجهك, ذاك الذي كنت أستقي منه النور مشرقاً باسماً... ويقول: أنت تستحقين أكثر من ذلك يا....... لطَّخت سمعتنا في الطين...(/4)
قيَّدوك بحبال غليظة كقلوبهم.. قاسية كأحكامهم.. بجانب ذلك الجدار أجلسوك.. سكبوا فوقك البنزين.. وأشعل أخوك النار ليوقدها فيك.. حينها.. صرخت: (الله يخليكم بس أشوف ابني... بس أبوسه.. أحضنه.. أشم ريحته.. أشوف عيونه.. الله يخليكم.. بس ابني..), صفعك أخوك, شتمك, نعتك بأرذل الكلمات وأقبح الصفات... وأضرم نار حقده وكرهه وغبائه فيك.. في جسدك.. في عينيك.. في يديك.. أحرق صدرك الحنون فمن سيدفئُني.. من يحضنني؟؟ أحرق شفتيك الرقيقتين الصغيرتين فكيف ستغنين لي؟ أحرقوا قلبك.. قتلوا نبضك.. جفَّفوا دمك... ثم نثروك رماداً... لكنهم لم يحرقوا روحك التي تسكنني.. هم لم يتنسموا عطرك المنبعث مع ذاك الرماد.. مع ذاك اللحم المحترق.., قلبك الصادق احترق.. عشقي.. غرامي.. حبي.. وهيامي احترق.. وتغلغلت أنفاسك المحترقة خلايا جسدي.. فبت أعشق رائحة الرماد.. وأحترم كل رماد.. ويبكيني أي رماد... وبقي آخر أنفاسك يجوب المكان يردد: (بس ابني).... وروحك تبحث عني...
وبقي أثرك المحترق على ذلك الجدار... شاهداً لا يغيب.. أحرقوك.. حوَّلوك رماداً أسود.. لكن لم يعلموا أنك تركت خلفك جداراً أبيض... وابناً يحترق....(/5)
العنوان: من وحي الهجرة
رقم المقالة: 1910
صاحب المقالة: الشيخ محمد أحمد حسين
-----------------------------------------
من وحي الهجرة
ملخَّص الخطبة:
1- عمر يؤرِّخ للمسلمين بتاريخ هجرة النبيِّ – صلَّى الله عليه وسلَّم.
2- المشروع الاستعماري الجديد للعالم الإسلامي.
3- دروسٌ من الهجرة النبويَّة.
4- وثيقةُ المدينة المنورة، وكفالتها لحقوق الإنسان.
5- ممارسات يهوديَّة بغيضة على ثَرَى فِلَسْطِين.
6- النَّظرة اليهوديَّة الحاقدة على الإسلام والمسلمين.
-------------------------
الخطبة الأولى
أيها المسلمون، أيها المُرابِطونَ في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، أيُّها الصَّامدون في رحاب المسجد الأقصى تفدونه بالمُهَجِ والأرواح رغم كيد المحاصِرِينَ لهذا المسجد، ورغم إجراءاتهم التعسُّفية للحيلولة بين عباد الله وبيوت الله.
مرَّ بالمسلمين خلال الأسبوع الماضي ذكرى الهجرة النبويَّة الشَّريفة، التي جعل منها الفاروقُ عمر مبدأً للتَّاريخ الهجري للأمَّة الإسلاميَّة، لما لهذه المناسَبة من أَثَرٍ واضحٍ في مجرى الأحداث ومسار الدَّعوة الإسلاميَّة؛ فهل استوعب المحتَفُونَ دروسَ الهجرة، ووقفوا على أهدافها ومراميها، وحقَّقوا التأسِّي بصاحبها عليه الصَّلاة والسَّلام؟! هل أخذوا منها ما يعينُهم على إصلاح أحوالهم وتغيير واقعهم وتحسين أوضاعهم؟!
هذه الأوضاع والأحوال التي نَفَذَ من خلالها أعداء الأمَّة لبسط السَّيطرة على ديار المسلمين، وفرض ثقافة المحتلِّ على شعوبهم، تحت شعارات: تحرير الشعوب، ورعاية حقوق الإنسان، ونشر العدالة السِّياسيَّة والاجتماعيَّة بين هذه الشعوب المقهورة! وكأنَّ قهرَ الاحتلال يقلُّ عن قهر السُّلطان والاستبداد!! إلى غير ذلك من الدَّعاوى العريضة التي تخفي وراءها الأهداف الحقيقيَّة لهذه الحملة الاستعمارية التي تستهدف ديار المسلمين.(/1)
ولعلَّ ما تروِّج له أمريكا بما يسمَّى "مشروع الشَّرق الأوسط الكبير للإصلاح" يأتي ضمن هذه الحملة؛ لبثِّ المزيد من السَّيطرة والنُّفوذ الأجنبي، وتعزيز الوجود الاستعماري الذي انتشرت جيوشه المحتلَّة في أقطارٍ كثيرةٍ من دنيا العروبة والإسلام؛ لتنفيذ سياسات المحتلِّين، والتَّمكين للغزو الثقافي الذي يستهدف عقيدة الأمَّة وفكرها ومقوِّمات نهضتها.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كلِّ مكان:
لو تمثَّلَتْ أمَّتكم روحَ الهجرة وتضحياتها؛ لما وصلت إلى هذا الحدِّ من استهانة الأمم بها، فروح الهجرة تعني اليقين الجازم بأنَّ الله ينصر دينه ويؤيِّد رسوله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: {إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} [التوبة: 40].
ولذلك عاد مَنْ كان يطارِد رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم - في الصَّباح، عاد حارسًا له في المساء! بعد أن رأى بأمِّ عينَيْه أنَّ الله يمنع رسوله، ولكنَّه عاد بجائزةٍ عظيمةٍ، إنها سِوَارَيْ كسرى، عاد بسِوَارَيْ كسرى، ليتسلَّمها سُراقَة بن مالك في عهد الفاروق عمر، يوم وصل المسلمون إلى مدائن كسرى، وبادت دولة الأكاسرة.
إنَّها الثِّقة بالله واليقين بنصره، حين لا يتوجَّه المرءُ إلا لله، فلا ضعيفَ مع الله، ولا قويّ بسواه: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة: 56].
أيُّها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كلِّ مكان:(/2)
ونقرأ في كتاب الله العزيز قولَه تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر: 51]، ومَنْ يتابع مراحل الدَّعوة الإسلاميَّة يرى المسلمين في مكَّة وقد تعرَّضوا لكلِّ أصناف البلاء والاضطهاد من قِبَل كفار مكَّة، ولم يَسْلَم من أذى المشركين رسولُ الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – نفسه، فصبر هو وأصحابه، وتحمَّل الأذى، وتَسَامَتْ هِمَمُهُم فوق كلِّ بلاءٍ في سبيل الله ونصرة دينه والثَّبات على الإيمان، حتى ضاق المشركون بهم ذَرْعًا، وراحوا يبطشون بأصحاب النبيِّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – ويخطِّطون لقتل النبيِّ نفسه: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ} [الأنفال: 30].
فأذن النبيُّ - عليه الصَّلاة والسَّلام - لأصحابه بالهجرة إلى المدينة المنوَّرة حيث دار الهجرة: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9].
إنَّ المهاجرين في هذه الأيام غرباءُ في ديار الإسلام.
أيُّها المسلمون:
وبالمهاجرين والأنصار قامت دولة الإسلام الأولى في المدينة المنوَّرة، على أُسُس الإيمان والمؤاخاة، وتربية المسجد الذي بناه النبيُّ - عليه الصَّلاة والسَّلام - أوَّل ما نزل المدينة، وهذا يؤكِّد على دور المسجد في إعداد الأجيال الربَّانية وحَمَلَة الدَّعوة الإسلاميَّة.(/3)
وقد نظَّم نبيُّنا - عليه الصَّلاة والسَّلام - حياةَ مجتمع المدينة في وثيقةٍ دستوريَّةٍ تحفظ حقوق المسلمين وغير المسلمين، في سماحةٍ وعدالة لم تعرفها أحدث القوانين الوضعيَّة، ولم تقترب منها، وكيف لا والرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - يُشَرِّعُ من وحي ربِّه، والبَشَر يُشرِّعون من هوى أنفسهم، وينحرفون مع مصالحهم؟!
أيُّها المسلمون:
ولم يَمْضِ طويلُ وقتٍ حتى عاد المهاجرون الذين تركوا الأوطان والأهل والأموال في سبيل الله نصرة لدينه واتِّباعًا لرسوله، عادوا براية الحقِّ التي هاجروا تحت لوائها فاتحين منتصرين، ليعلو نداء التَّوْحيد فوق البيت الحرام، وتنتهي عبادةُ الأوثان والأصنام، وإذا بمكَّة ومَنْ حولها من جزيرة العرب تُذْعِنُ لراية الهجرة، راية الحقِّ، ويُهدي الله - جلَّ في علاه - نصرَهُ لرسوله والذين آمنوا في الحياة الدُّنيا، {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 10].
فهلاَّ حقَّق المسلمون في هذه الأيام - وهم يعيشون ذكرى الهجرة النبويَّة - وصفَ الإيمان الذي ينصر الله أهله، كما نصر الصَّحابة الكرام بقيادة النبيِّ - عليه الصَّلاة والسَّلام - ومَنْ سار على نَهْجِه من الخلفاء الرَّاشدين والأئمَّة المهديِّين؟!.
لقد علَّمَتْنا الهجرةُ الشريفة أنَّ الثِّقة واليقين بالله يقودان إلى نصره الموعود لعبادِه المؤمنين، وصدق الله العظيم: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47]، جاء في الحديث الشريف عن عبدالله بن عمرو بن العاص - رضيَ الله عنهما - قال: قال رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((المسلم مَنْ سَلِمَ المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر مَنْ هَجَرَ ما نهى الله عنه))، أو كما قال.
((التَّائب من الذَّنب كمَنْ لا ذنب له))؛ فيا فوز المستغفرين. استغفروا الله، وادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.
الخطبة الثَّانية(/4)
الحمد الله الهادي إلى الصِّراط المستقيم، والصَّلاة والسَّلام على سيِّدنا محمد المبعوث رحمةً للعالمين، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومَنِ اقتدى واهتدى بهداه إلى يوم الدِّين.
وبعد:
أيُّها المسلمون، يا أبناء ديار الإسراء والمعراج، لم تَكْتَفِ سلطات الاحتلال الإسرائيلي بما يقوم به جيشُها من اجتياحٍ للمدن والقرى وقتلٍ للأبرياء وفَرْضٍ للحصار على سائر الأرض الفلسطينيَّة، وترويعِ الآمِنِينَ بهَدْم البيوت وتجريف الأراضي، وقطعِ الأشجار لمواصلة بناء جدار الفَصْل العنصري، إمعانا في تكريس الاحتلال وتقطيع أوصال الأرض الفلسطينيَّة لإعاقة الحياة العاديَّة للمواطن الفلسطيني، بعَزْل المُزارِع عن مزرعته، والطَّالب عن مدرسته وجامعته، والطَّبيب عن عيادته، وأبناء الأسرة والبلدة الواحدة عن بعضهم بعضًا.
لم تكتَفِ هذه السُّلطات بكلِّ هذه الممارسات الظَّالمة؛ بل أضافت إليها سَطْوًا وقرصنةً على أموال البنوك العربية، والعبث في محتوياتها وحساباتها، ومصادرة أموالها؛ مُرَهِّبَةً الموظَّفين والمراجعين، في سابقةٍ خطيرةٍ تستهدف زعزعة الحياة الاقتصاديَّة لأبناء شعبنا التي تزداد حرجًا يومًا بعد يوم؛ جرَّاء الممارسات الإسرائيليَّة، مع أنَّ كلَّ هذه الممارسات التي تهدف إلى إذلال شعبنا والتَّضييق عليه لن تزيد هذا الشعب المُرابِط إلاَّ إصرارًا على البقاء، وتمسُّكا بحقوقه الثَّابتة، مواصلا حياته في رباطٍ وثباتٍ فوق تراب وطنه الطَّهُور.
يا أبناء ديار الإسراء والمعراج:
ومن الممارسات الظالمة: ما تفوَّه به نائب وزير الدِّفاع الإسرائيلي، بوصفه الفِلَسْطِينِيِّين والعرب بأنهم يعانون خللاً في صفاتهم الوراثية، يدفعهم هذا الخلل إلى قتل الآخَرين! إنَّ أقلَّ ما تُوصَف به هذه التفوُّهات: العنصريَّة، والاعتداء على حكمة الله في خَلْقِه وتكريمه لبني الإنسان.(/5)
وقريبٌ من هذه التفوُّهات، وفي نفس السِّياق: ما تفوَّه به أحد الحاخاميين اليهود، بوصفه للدِّين الإسلامي بأنَّه دينٌ متخلِّفٌ، ودعا إلى فَصْل المواطنين العرب عن الإسرائيليين؛ لعدم إمكانيَّة التَّعايش بين الإسرائيليين والعرب في الدولة العبرية - على حدِّ قوله وزَعْمه.
إنَّ هذه التفوُّهات التي سبقتها تفوُّهات كثيرة بوصف العرب بالصراصير أو الأفاعي أو الذئاب - تدلُّ بوضوح على العقليَّة السوداويَّة تجاه الدِّين الإسلاميِّ، والعنصريَّة البغيضة ضدَّ المواطنين العرب من أبناء فِلَسْطِين المحتلَّة.
لقد ترك الدِّينُ الإسلاميُّ يهودَ المدينة على دينهم، وحفظ حقوقهم في الوثيقة التي وضعها النبيُّ – صلَّى الله عليه وسلَّم - لتنظيم حياة مجتمع المدينة في ظلِّ دولة الإسلام الأولى، وعاش غير المسلمين على امتداد التَّاريخ الإسلاميِّ في ظل دولة الإسلام يتمتَّعون بكامل حقوقهم الدينيَّة والمدنيَّة، ولكنها عدالة الإسلام وسماحة المؤمنين.
إنَّه الإسلام - أيُّها النَّاس - الذي كَفَلَ كرامةَ الإنسان دون النَّظر إلى دينه وجِنْسه؛ فلا عزَّة للمسلمين بغير الإسلام، ولا سعادةَ للبشريَّة المنكوبة بعيدًا عن سلطانه وأحكامه.
{رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [الممتحنة: 4]، ولا حول ولا قوَّة إلا بالله العليِّ العظيم.(/6)
العنوان: من وراء حجاب
رقم المقالة: 2035
صاحب المقالة: محمود محمد شاكر
-----------------------------------------
من وراء حجاب
أخي الأستاذ الزيات:
السلام عليكم ورحمة الله، وبعدُ، فقد أكرمْتَنِي ودعوتني لكتابة مقالتي لعدد الهجرة من الرسالة، فجعلتُ أُماطل الساعات كعادتي حتى تضطرني إلى مأزق أجد عنده مفرًّا من حمل القلم، والإكباب على الورق، وترك الزمن يعدو عليَّ، وأنا قارٌّ في مكان لا يتغير، وزمان لا يتحول. فلما كارب الوقت وأزفت الساعة، فزعت إلى ذلك الكتاب القديم الذي طال عهد "الرسالة" به، وهو "مذكَّرات عمر بن أبي ربيعة" حملت الكتاب حريصًا عليه، ووضعته على المكتب بين يدي، وترفقت بصفحاته وأنا أقلبه، كما يقلب العاشق المهجور تاريخًا مضى من آلام قلبه، ووقعت على ورقة حائلة اللون قد تخرمها البلى، وإذا فيها هذه الأبيات الثلاثة، لم ينل منها شيء، لا تزال ظاهرة السواد بينة المقاطع:
فَصُرُوفُ الدَّهْرِ فِي أَطْبَاقِهِ خِلْفَةٌ فِيهَا ارْتِفَاعٌ وَانْحِدَارُ[1]
بَيْنَمَا النَّاسُ عَلَى عَلْيَائِهَا إِذْ هَوَوْا فِي هُوَّةٍ مِنْهَا فَغَارُوا
إِنَّمَا نَعْمَةُ قَوْمٍ مُتْعَةٌ وَحَيَاةُ الْمَرْءِ ثَوْبٌ مُسْتَعَارُ(/1)
لَمْ أدر لِمَ نقل "عمر بن أبي ربيعة" هذه الأبيات في مذكراته، فإنها قائمة وحدها ليس قبلها ولا بعدها شيء يدل على ما أراد من ذكرها، فجعلت أداور الأوراق لعلّي أبلغ مبلغًا من توهّم خبرها الذي سيقت من أجله، وجعل معناها يداوِرُ قلبي ويساوره حتى كفَّت يدي عن الحركة، وسكن بصري على مكانها، وأحسست كأن القدر قد نام في ظلالها؛ كالمارد الثمل طرحه طغيان السكر حيث اسْتقرَّ، وأطاف بنفسي جو من السكون والرهبة والجلال، وأخذت أستغرق في تأمّل هذه الحياة المُتكررة المتطاولة الدائبة منذ عهد أبينا الشيخ آدم - رحمه الله - إلى يوم الناس هذا. فآنستُ فترة[2] تأخذني، ثم نعسة تتغشاني، وسبحت في غمرة طويلة لذيذة لا عهد لي بمثلها منذ عقلتُ.
وإذا أنا أفْضِي من غَمْرَتي إلى ميدان فسيحٍ أخضرِ الجوانب، متراحب الأرجاء، وإذا مسجد بعيد يستقبلني كأحسنِ ما رأيت من مسجدٍ بناءً وبهاء، قد تباعدت أركانه وتسامت في جو السماء مآذنه، ويبرق بابه ويتلألأ شعاع الشمس عليه، فقصدت قصده، ولم أكد أدنو حتى رأيت جموعًا غفيرة من الخلق يستقبلون الباب خارجين، في ثياب بيض وعمائم بيض؛ كأنها غمام تزجيه الرياح[3].
فوقفتُ وسألتُ أوَّلَ مَن لقيتُ: ما الذي جمع الناس؟ قال: إنه الشيخ أيها الفتى: قلت: فمن الشيخ يرحمك الله؟ قال: غريبٌ واللَّهِ، إنَّه الشيخ أبو جعفر الطبري إمامُ أهل السنة، وشيخ المفسّرين، وعُمدة المُحدّثين، وثقة المؤرخين، ردَّ الله غربتك يا فتى. قلت له: جزاك الله خيرًا ورضيَ عنك وأرضاك، أتراني أُدْرِكه الساعة؟ قال: هو رهين هذا المسجد لا يبرحه، فادخل تلقَهُ.(/2)
ولم أَزَلْ أحتال للدخول وأمواج الناس تتقاذَفُنِي عن الباب حتى كِدْتُ أيأس من لقاء الشيخ، وظننت أني لو بقيت دهرًا لم تنقطع هذه الأمواج المُتدفّقة من باب المسجد. وظللت أزاحم حتى بلغ مني الجهد، وانتهيتُ إلى صحن في المسجد وقدِ انفض جمع الناس، ولم يبق فيه غيري، وجعلتُ أسير أتلفَّت وأنظر في مقصورة بعد مقصورة حتى رأيت بصيصًا من ضوء في مقصورة بعيدة، فلمَّا وافيْتُها، وكانت الشمس قد آذنتْ بغروب، رأيت مسرجة معلَّقة وحجرة واسعة، وآلافًا مُؤَلَّفة من الكتب قد غطت الجدران. فاستأذنت ثم سلمت فلم أسمع مجيبًا، فدخلتُ، وإذا في جانبٍ منها شيخٌ ضافي اللحية أبيضُها، جميل الوجه، قد اتكأ وأخذته سنة من نوم، وقد مالت عمامته عن جبين يلمع؛ كأنه سنة مصقولة من ذهب، وبين يديه كُتُب وأوراق مبعثرة أو مركومة ومحابرُ وأقلام.
سرقت الخطو حتى قُمْت بين يدي هذا الشيخ النائم، ثم جلسْتُ وجعلت أُقدِم ثم أحجم؛ أريد أن أمسك شيئًا من ورقه لأقرأه، ثم عزمت فأخذت ما وقعتْ عليه يدي، فإذا هو تتمة تاريخ أبي جعفر الطبري الذي سمَّاه "تاريخ الأمم والملوك"، وكان الجزء الذي فيه يبدأ من سنة خمسٍ وستّين وثلاثِمائة بعد الألف من الهجرة (سنة 1365 هجرية، الموافق 1946م) فانطلقت أقرأ تاريخ هذا الزمن وما بعده. وعسيرٌ أن أنقل لك كُلَّ ما قَرَأْتُ، فسأختار لك منها نُتفًا تُغْنِي، كما كتبها الإمامُ أبو جعفر، وبعضُها منقولٌ بِتَمامه، وبعضها اختصرْتُ منه حتى لا أطيل عليك. قال أبو جعفر:
[ثم دخلت سنة خمس وستين وثلاثمائة بعد الألف]
ذكر ما كان فيها من الأحداث:(/3)
فمن ذلك ما كان من إجماع المجلسَيْنِ الأمريكيّيْنِ على فتح أبواب فلسطين لشُذَّاذ المهاجرين من اليهود. وكتب إليَّ السدي، وهو مقيم هناك في أمريكا، أنَّ موقف الرئيس ترومان الذي كان ادَّعاه من إيثاره العقل على الهوى في هذا الأمر، إنَّما كان حيلة مخبوءة أراد بها أن يُغرّر بالبلاد العربية والإسلامية، ثم يفاجئها بحقيقته، وهو في ذلك إنما يعمل للظفر بمعونة اليهود في الانتخاب الآتي للرياسة، ولما كان هواه هو الذي يصرفه، فقد علم أنه طامِع في الرياسة حريص عليها، وأن اليهود في أمريكا هم أهل المال، أي أهل السلطان، أي هم الأنصار الذين إذا خذلوه فقد ضاع.
قال السدي: وقد سمعت بعض أهل العقل والرأي في أمريكا يستَنْكِرُون ما كان منه ومن قرار مَجلسَيْهِ، ويرون أن الديمقراطية اليوم قد صارت كلمة يراد بها التدليس على عقول البشر، ليبلغ به القوي مأربه من الضعيف المغرور بهذه الرقية الساحرة، التي يدندنون بها في الآذان، وقد أخبرني الثقة أنَّ الرئيس ترومان قد أوحى إليه بعض بطانة السوء أن العرب والمسلمين قوم أهل غفلة، وأن دينَهُم يأمرهم بالصبر ويلح فيه، فهم لا يلبثون أن يستكينوا للأمر إذا وقع، ولا يجدون في أنفسهم قوة على تغييره أو الانتقاض عليه، وأن الزمن إذا تطاول عليهم في شيء ألِفُوه، ولم ينكروه. فإذا دام دخول اليهود فلسطين، وبقي الأمر مسندًا إلى الدولة المنتدبة (وهي بريطانيا)، وانفَسَحَ لِحَمقى اليهودِ مجال الدعوة والعمل والتبجح، وألحَّ على العرب دائمًا إجماع الدنيا كلّها (أي الديمقراطية) بأنَّ الدولة اليهودية في فلسطين حقيقة ينبغي أن تكون، وأن تتم كما أراد الله، فيومئذ يلقي العربُ السَّلَم، ولا يزالون مختلفين حتى ينشأ ناشئهم على إلف شيء قد صبر عليه آباؤه، فلا يكون لأحد منهم أدنى هِمَّة في تغيير ما أراد الله أن يكون، مما صبر عليهم آباؤهم وأسلافهم – وهم عند العرب والمسلمين – أهل القدوة.(/4)
وفي هذه السنة كتب إلَيَّ السدي أيضًا يقول: إنه لقي أحد كبار الدعاة من اليهود، وكان لا يعرفه، فحدَّثَهُ عن أمر اليهود في فلسطين، فقال له الداعي اليهودي: لا تُرَع، فنحن لا بد منتهون إلى ما أردنا، رضِيَ العرب أم أَبَوْا، وما ظنُّك بقوم كالعرب خير الحياة عندهم النساء، وقد قال نبيهم: ((حبب إلي من دنياكم النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة))، ولقد سلطنا عليهم بنات صهيون، وهن من تعلم جمالاً ورقة وأبدانًا تجري الحياة فيها؛ كأنَّها نبعٌ صافٍ يتَفَجَّرُ من صفاة شفَّافة كالبلَّور، وهُن بنات صهيون دلال وفتنة، وعطر يساور القلوب فيسكرها ويذهلها، ثم يغرقها في لذة يَضَنّ المرء بنفسه أن يصحو من خمارها أو نشوتها، منصرفًا عن أمر الدنيا كله لا عن الصلاة وحدها التِي جُعِلَت قُرَّة لعين نبيهم، فهن في فلسطين، وهن في الشام، وهن في مصر والعراق وتونس والجزائر ومراكش، ولولا تلك البقعة العصية التي لا تزال نَخْشى بأسها على ضعفها وقلتها وفقرها - أعني الحجاز وما جاوره - لقلت لك: لقد قضينا على هذه العرب، وعلى هذا الدين الدخيل الذي سرق منا التوحيد وادعاه لنفسه.
[ثم دخلت سنة ست وستين وثلاثمائة بعد الألف]
ذكر ما كان فيها من الأحداث:
فمن ذلك ما كان من اجتماع ملوك العرب، وأُمَرائِهم، ووزرائهم بعد الحج من السنة التي قبلها، اجتمعوا في مدينة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقرَّ قرارُهم على أن يعلنوا للناس جميعًا، وينذروهم بما رأوا وبما أجمعوا عليه:
الأول: أنَّ ميثاق الأطلسي، ومواثيق الدول الكبرى كلها تغرير بالضعفاء، وتلعب بعقولهم.
الثاني: أنَّ فِلسطين ستجاهد، ومن ورائها من بلاد العرب والمسلمين جميعًا؛ تظاهرها بالمال والولد.(/5)
الثالث: أنَّ الفَتْكَ والغَدْرَ والاغتيال ليس من شيمة العرب ولا من دين المسلمين، وأنَّ حوادث الاغتيال الشنيعة المنكرة التي اقترفها اليهود، ينبغي أن تقابل بالصدق والصراحة لا بالغيلة والغدر.
الرابع: أنَّ الأمم العربيَّة والإسلاميَّة تعلم أن ليس لديها اليوم من السلاح ما يكفي لقتال الأمم المعتدية، التي تظاهر اليهود بالمال والسلاح، ولكنَّها ستقف كلها على بكرة أبيها صفًّا واحدًا تقاتل بما تصل إليه يدها في مقاطعة ومُنابذة وكبرياء، وأنها تفعل ذلك ما استطاعت، ولكنها لن تظلم يهوديًّا ولا نصرانيًّا ولا أحدًا من أهل الأديان، ولن تضطهد بريئًا ولا لاجئًا، وأنها لن تقنع بشيء بعد اليوم إلا بجلاء المُعتدين والمستعمرين من بلادها، وجلاء اليهود عن أرض فلسطين، ومن شاء أن يبقى فيها من يهود، فله ما لنا، وعليه ما علينا.
الخامس: أنَّ الأُمَمَ العربيَّة الإسلامية قد عزمت على أن تبدأ منذ هذا اليوم في انتخاب مجلس عام تمثّل فيه جميعًا، وهذا المجلس هو الذي سيضع الدستور العام للدول العربية والإسلامية، حتى إذا تَمّ، وحدت هذه الدول سياستها الداخلية والخارجية، وصارت يدًا واحدة في العمل، لتقاوم بذلك اتحاد الأمم الديمقراطية الغربية، التي لم تزل تريد أن تجعل الشرق سوقًا، وأهله عبيدًا.
[ثم دخلت سنة ثمان وستين وثلاثمائة بعد الألف]
ذكر ما كان فيها من الأحداث:
ففيها أراد اليهود في بعض البلاد العربية أن يُظاهروا إخوانهم في فلسطين فأجمعوا على جعل يوم السبت كله منذ الصباح يوم عطلة فأغلقوا دكاكينهم، ورفعوا عليها أعلام الدولة الصهيونية المجترئة، واجتمعوا في بِيَعِهِم، وجمعوا مالاً كثيرًا بلغ عشرين مليونًا من الجنيهات؛ لمساعدة المصانع التي كادَتْ تُغلق أبوابَها من جرَّاء المقاطعة التامَّة التي أحسنت الأمم العربية توجيهها وتدبيرها.(/6)
ومِمَّا كان من ذلك في هذه السنة اجتماع المؤتمر العام لنساء العرب في دمشق، وقد قرَّرن أن تعود المرأة إلى بيتها عاملة على إنشاء جيل من البنين والبنات لم تفسده الشهوة التي استبدَّت بالناس في تقليد ذلك الفجور القبيح، الذي عملتْ يهودُ على نَشْرِه في بلادِهِن من زينة وتبرّج ورقص وتحلّل من أخلاق السلف، وذلك لكثرة ما وقع من حوادث هدمت بيوتًا عزيزة وأسرًا كريمة، وأفضت إلى ضروب من المآسي لم يطق أحدٌ عليها صبرًا.
وفيها أيضًا أجمعتِ الصحف العربية والهندية الإسلامية والتركية والفارسية مقاطعة الإعلان اليهودي، وكل صحيفة تخالف هذا الإجماع يُمْحَى اسمها، واسم رئيس تحريرها ومحرّريها من سجل نقابة الصحافة، ولا تُفْسَح لأحدٍ منهم فرصة حتَّى يعمل في صحيفة أخرى بعد هذه المخالفة.
[ثم دخلت سنة سبعين وثلاثمائة بعد الألف]
ذكر ما كان فيها من الأحداث:
اشتعلتْ نيران الحروب في الشرق كله، واجتمع رؤساء الدول العربية والإسلامية في مكة المكرَّمة ووحَّدوا قيادة الجيوش العربية، ولكن لم يلبث سفير بريطانيا في مصر وسفير أمريكا أن أرسلا برقية إلى المجتمعين في مكَّة؛ يطلبون وقف الحركات الحربية التي سموها (ثورة)، ورغبوا إلى ملوك العرب ووزرائهم أن يتمهَّلوا حتى يصدر تصريح مشترك من الدولتين الكبيرتين، على شريطة أن تمتنع البلاد العربية من متابعة السياسة الروسية التي تتظاهر بمُؤازرة العرب والمسلمين.
وبعد أيام صدر هذا التصريح، وهو ينصّ على أنَّ للعرب ما أرادوا من وقف الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وعلى العرب أن يتولَّوْا بأنفسهم مفاوضة يهود فلسطين على السياسة التي يُرِيدونَها، وأنَّ بريطانيا وأمريكا لن تتدخَّلا في الخلاف الناشب بين الفريقيْنِ، وأنَّ الدولَتَيْنِ الكبيرتين ستمْنَعَانِ كلَّ مساعدة ترسل من بلادهما إلى فلسطين من مال أو سلاح.
[ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة بعد الألف]
ذكر ما كان فيها من الأحداث:(/7)
تمَّ استخدام الذَرَّة وانفلاقها في كل شيء، وحدث في زراعة البلاد انقلابٌ عظيم، إذ أصبح من اليسير استنباتُ نبات الصيف في الشتاء، ونبات الشتاء في الصيف، وقد بدأ ملوك العرب أعظم عمل في التاريخ، وهو استخدام أسلوب جديد يُحَوّل الرمال العاقرة إلى أرض خصب وافرة الزرع، وقد نفّذ هذا في جزء كبير من صحراء جزيرة العرب، أمَّا في مصر والسودان، فقد تَمَّ توزيع ماء النيل، وضبطه، حتى لا يضيع من مائه إلا أقل قدر، وبذلك أُتِيح لمصر أن تُنْشِئَ ثلاثة فروع جديدة شقَّتها في الصحراء الشرقية، حتى أفْضَتْ إلى بحر القلزم (البحر الأحمر)، وصار ما بينها أرضًا مريعة ذات خصب، وبذلك سيتاح لمصر أن يَبْلُغ عدد سكانها أربعين مليونًا من الأنفس في أقلَّ من عشرين سنة.
ومِمَّا كان من ذلك نهضة عامَّة في سياسة البلاد العربية، جعلت الرأي العام العالمي يناصر القضية العربية مناصرة تامَّة في أكثر بقاع الأرض.
[ثم دخلت سنة خمس وسبعين وثلاثمائة بعد الألف]
ذكر ما كان فيها من الأحداث:
كثُرَتْ حوادث الاغتيال والفَتْكِ في كثير من البلاد العربية والأجنبيَّة، وقتل من العرب وأنصار العرب من سائر الأمم خلقٌ كثير، واستَفْحَل الشَّرّ استفحالاً عظيمًا، حتى ثارتِ الصحف الإنجيزيَّة والأمريكيَّة وطالبتْ حكوماتِها بإعلان قرار واحد بأن الرأي العام والسياسة العامة في سبيل السلام تقتضي أن تبذل النّصرة الكاملة للعرب وللقضية العربية، وأن تتعاون الدول على ردّ العدوان الصهيوني الذي صار طغيانًا شديدًا في جميع بلاد الأرض، وأنَّه ينبغي على الدول جميعًا أن تضحي في سبيل ذلك بكثير من المصالح المالية، وهي قيود اليهودية التي جعلت كل الأمم ترسف في أغلالها.
[ثم دخلت سنة ثمانين وثلاثمائة بعد الألف]
ذكر ما كان فيها من الأحداث:(/8)
كتب إليَّ السّدّي يقول: إنَّ أمريكا قد قرَّرت إجلاء اليهود من أرضها كلها، وأن تستصفي أموالهم، ولا يبقى فيها إلا علماء اليهود وحْدَهُم إن شاؤوا، ومن المنتظر أن تفعل بريطانيا وسواها من الدول مثل ما فعلت أمريكا.
وفيها ثار العمَّال اليهود في فلسطين على أصحاب المصانع اليهودية، وذلك من جرَّاء بوار أكثر التّجارة اليهودية التي نَهَكَتْها المقاطعة العامَّة في بلاد العرب والمسلمين، ولقلة الأجور، ولكن الحكومة اليهودية ضبطت الأمر وبذلتِ الأموال، وجنَّدت جيوشًا عظيمة العدة والعدد. وحدثت أحداث عظيمة في أكثر بقاع الأرض، حتى وقع التنابُذ بين الدول الكبيرة التي لا يزال لليهود فيها سلطان عظيم.
وأخوف ما يُخاف أن تقع في هذه السنة حربٌ عالميَّة تستخدم فيها جميع الأسلحة الجديدة، التي يخشى أن تكون على العالم دمارًا وخرابًا.
• • • • • • • •
واستيقظ الشيخ من غفوته، ونظر إلي نظرة المُتعجّب، وقال مَنْ أنت؟ وما تفعل؟ فانتبهتُ فزِعًا، وإذا أنا أقرأ في تفسير الشيخ أبي جعفر الطبري تفسيرَ قولِه تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [المائدة: 64].
---
[1] أطباقه: أحواله المختلفة، خلفة: يخلف بعضها بعضًا، يتعاقب فيها الخير والشر، والغنى والفقر، والصحة والمرض.
[2] فترة: ضعف وفُتُور.
[3] تزجيه: تدفعه وتسوقه.(/9)
العنوان: من يصفد شياطين الإنس في رمضان
رقم المقالة: 1510
صاحب المقالة: د. عبدالرزاق مرزوكَ
-----------------------------------------
الحمدُ لله الذي يزكي من يشاءُ من عباده، والصلاةُ والسلام على أطيبِ خلقه وأحراهم بفضلِه وودادِه، وعلى آله الماجدين، وصحابته المتقين، وتابعيهم إلى يوم الدين.
وبعدُ
فقد شرع الله –تعالى- الصيامَ ليكون تخليةً للأرواح وتحليةً، وتنقيةً للأبدان وتقوية، وجعل فيه للقلوب رياضًا بهيجة ونعيمًا؛ فهي ترتعُ فيها مرحة مسرورة مشرقة، وتعرج في سماء نسائمها لطيفة مسرورة متألقة.
ورفع عن عباده فيه العنت؛ ففتح لهم أبواب رحمته وجنته ليتوبوا إليه ويؤوبوا، ويسارعوا إلى نيل مرضاته ومغفرته؛ كما قال –تعالى-: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا * يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً} [النساء: 26-28].
فهذا مرادُ الله تعالى ومقصده مما شرع؛ يجب على العبد أن يصل مرادَه به، ويجعله له تابعًا، ولا يليق به مخالفتُه أو معارضتُه؛ لاشتماله على غاية العلم والحكمة من وجهين:
الأول: ما فيه من مصلحة العباد الراجحة التي لو تركت لعلمهم وتدبيرهم ما أدركوها.
الثاني: ما في صبغة التشريع الإلهي ومنهج تنزل الشعائر من مراعاة ضعف العباد والرفق بهم ورحمتهم.
والآية الكريمة أعمُّ من أن يُراد بمضمونها شعيرةٌ إسلامية دون أخرى؛ بل كل الشعائر طُهْرة للعبد من الخطايا، وسبيل توبته إلى الله تعالى، كما أن اتباع الشهوات مانع من أدائها جميعًا، وحائل دون الإقبال على الله بما شرع، وتقديم مراده، وإيثار محبته.(/1)
فالله –تعالى- إنما يمهد لنا طريقَ مرضاته، ويعيننا على السير فيه، وهذا جلي لمن تأمل صنوف فضل الله وإحسانه التي اشتملت عليها شعيرةُ الصيام، وما ألقى خلال أيام رمضان ولياليه من منحه الوافرة وهباته الزاخرة؛ فحثنا على إحرازها بالتزلف إليه وخشيته سبحانه وتقواه؛ كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ فِي الْجَنَّةِ بَاباً يُقَالُ لَهُ الرَّيَّانُ؛ يَدْخُلُ مِنْهُ الصَّائِمُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لاَ يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، فَإِذَا دَخَلُوا أُغْلِقَ؛ فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ أَحَدٌ). [صحيح الترغيب والترهيب (رقم 979)].
وقال الإمام ابن القيم -رحمه الله– مُنوِّهًا بشعيرة الصيام ومُبرِزًا مقاصدَه في كتابه (مفتاح دار السعادة 2/3–4): "وأما الصومُ فناهيك به من عبادةٍ تكفُّ النفسَ عن شهواتها، وتخرجها عن شبه البهائم إلى شبه الملائكة المقربين، فإن النفس إذا خليت ودواعي شهواتها التحقت بعالم البهائم، فإذا كفت شهواتها لله ضيقت مجاري الشيطان، وصارت قريبة من الله بترك عادتها وشهواتها محبة له، وإيثارًا لمرضاته، وتقربا إليه".
ثم قال: "فهو شاهد –يعني الصوم– لمن شرعه وأمر به بأنه أحكمُ الحاكمين وأرحمُ الراحمين، وأنه إنما شرعه إحسانًا إلى عباده ورحمة بهم ولطفا بهم؛ لا بخلا عليهم برزقه، ولا مجردَ تكليفٍ وتعذيب خالٍ من الحكمة والمصلحة؛ بل هو غاية الحكمة والرحمة والمصلحة".(/2)
ولما كان مرادُ إبليس وأعوانه من الجن مخالفًا لمراد الله -تعالى- بعباده أتم فضلَه على الصائمين خاصة بتصفيد الشياطين، ومنعهم من صد عباده عما أعد لهم من خير الصيام طوال الشهر المبارك؛ كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: (إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِن شَهْرِ رَمَضَانَ صُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ وَمَرَدَةُ الْجِنِّ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ؛ فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ، وَفُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ؛ فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ، وَيُنَادِي مُنَادٍ: يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ، وَللَّهِ عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ، وَذَلِكَ كُلَّ لَيْلَةٍ) [صحيح الترغيب والترهيب: رقم 998).
فأعان الله –تعالى- كل صائم على دفع ما يكدر صفوَ تقواه، ويفسد عليه لذةَ نجواه، ويحولُ بينه وبين كمال التزلف إلى ربه والتودد إليه بفعل مَحابِّه وترك مساخطه وإيثار مرضاته؛ كي لا يمضي رمضانُ إلا وقد طهر قلبه مما يحجبه عن نور هدايته، ويقطع سيره إليه.
بيد أن هذا لا يعني إسقاطَ التكليف عن العبد، ولا الترخيص له في التهاون والتواكل، وإلا فإن لوقوع الشر والمعصية أسبابًا أخرى؛ كما قال الإمام القرطبي -رحمه الله-: ".. إذ لا يلزم من تصفيد جميعهم –يعني الشياطين– أن لا يقع شر ولا معصية؛ لأن لذلك أسبابًا غير الشياطين؛ كالنفوس الخبيثة، والعادات القبيحة، والشياطين الإنسية" [نقله الحافظ في الفتح 4/114].
بل يعني ما قاله الحافظُ ابنُ حجر -رحمه الله- في شرح الحديث: "في تصفيد الشياطين في رمضان إشارةٌ إلى رفع عذر المكلف؛ كأنه يقال له: قد كفت الشياطين عنك فلا تعتل بهم في ترك الطاعة، ولا فعل المعصية" [فتح الباري 4/114].(/3)
إنَّ إعانةَ اللهِ الصائمَ على طاعته بتصفيد الشياطين يعني -في تصور كل عاقل- أنه فرصةُ العمر السانحة، وذريعة اللبيب أن يحرز حُنْكَةَ الاستقامة طَوالَ العام كله بدُرْبَةِ شهر واحد؛ فيستأنف سيره إلى ربه –بعد انقضاء رمضان– وقد أبصر نور الطريق، وخبر مسالكها المنجية، وسبلها المردية، وعالج قاطعَ طريقه الشيطانَ، وعرَف حِيَلَه وأنواع مكايِدِه، وشراسته وعلامات مصايِدِه، وأنه لن يألوَ جهدًا -إذا خرج رمضان وحلت أصفاده– في استئناف عداوته وحربه، والحرص على استرداد قلاعه ومواقعه، وتعويض خسائره، والطمع في استرجاع سبيه القديم، وضم ما استطاع من سبي جديد.
فهي حال أشبه بنصر مؤزر يحرزه العبدُ طوال شهر رمضان؛ فعليه الحفاظ على غنيمته الثمينة، والحذر من الاسترخاء والغفلة عن سلاح المجاهدة والمصابرة؛ فإن إبليسَ لا تُعيِيه الهزائم، وهو لا محالة راجع إلى تلك السَّاحِ؛ فساعٍ فيما أقسم بعزة الله على تنفيذه بعد أن أخرج من الجنة مذؤومًا مدحورًا؛ {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ..} [الأعراف: 16].
وممن يجب حذرهم ممن خالفوا مراد الله تعالى بعباده أيضا (الذين يتبعون الشهوات) كما في الآية الكريمة، فهؤلاء يريدون أن يميل العبادُ عن طاعة ربهم، وعما وراء اتباع شرعه الحنيف من الخير لهم، والآية أعم من أن يراد بها طاعةٌ دون طاعة كما سبق؛ بل إن تعلقها بالصيام أظهر لأنه من وجهٍ أنجعُ الطاعات في كف الشهوات؛ كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنِ اسْتَطَاعَ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ؛ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَن لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ؛ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ) [أخرجه البخاري في كتاب الصوم من صحيحه؛ باب الصوم لمن خاف على نفسه العُزْبة (4/119-فتح)].(/4)
ومن وجهٍ آخرَ لكون السر في إضافة الله –تعالى- الصيام إلى نفسه دون سائر العبادات أن الصائم إنما يدع شهوته من أجله تعالى؛ كما في الحديث القدسي الصحيح: (الصِّيَامُ جُنَّةٌ، فَلاَ يَرْفُثْ وَلاَ يَجْهَلْ، وَإِنِ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ –مرتين– وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِندَ اللَّهِ مِن رِيحِ الْمِسْكِ، يَتْرُكُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِي، الصِّيَامُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا) [أخرجه البخاري في صحيحه (رقم 1894)].
فهؤلاء يتبعون الشهوات من دون الله، ويريدون أن يصرفوا الطائعين عن الهدى ليصيروا مثلهم فيلقوا مصيرهم.
وفي جعل الفاعلِ موصولاً مبهمًا في قوله: {ويريد الذين يتبعون الشهوات} فوائد:
- منها تعليقُ الحكم بالصلة دون الاسم الجامد –فلم يقل مثلا: (ويريد الفاسقون)- إشعارًا بصفتهم وما اختصوا به لمن يحذر موافقةَ مرادهم ولم يعرفهم؛ فاتباع الشهوات صفتهم.
- ومنها تبصير القلب بأن اتباع الشهوات علامة الميل العظيم عن سبيل الله ؛ فإذا عرف ذلك حذر وخاف، وهذا من الأدلة على أن الإخبار عن مراد الذين يتبعون الشهوات ليس مرادًا لذاته؛ ولكن المراد الأمر باجتناب طريقهم صيانة لشرط الإخلاص.
- ومنها أن الوصف مستغرق لكل الذين يتبعون الشهوات على اختلاف أصنافهم ومراتبهم كي يكون مرادُ الله مرادًا خالصًا للعبد نفيا وإثباتا؛ فلا تشوبه شائبة الموافقة لمن خالف مراده على أي وجه، وفي قوله -تعالى-: {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28] إشارةٌ إلى أن الشهوة تضعفُه؛ لأن مداخلَها من نفسه عديدة دقيقة خفية؛ كالنظر والكلام والطعام وغيرها، ولكل مدخل فريقٌ يدعو إليه.(/5)
إن الذين يتبعون الشهوات يريدون أن لا يكون على النزوات سلطانٌ من دينٍ أو عُرْفٍ أو قانون، وأن لا يَكُفَّ هيجانَ الغرائز وازعٌ؛ فتصير هممُ البشر في بطونهم وفروجهم، وسعيهم في إشاعة الفواحش، وتدنيس الأعراض، وإظهار أنواع الفساد.
ومن عرَف حِرْصَ كثير من الفضائيات على الاستمرار في بث ما يحض على اتباع الشهوات من اللهو والفجور خلال شهر رمضان علم أن للشياطين المسلسلين نُوَّابًا وجندًا قاعدين صراطَ الله المستقيم للعباد؛ لا يفترون عن إغوائهم وصدهم عما أراد الله لهم من الخير بصيامهم.
فليعلمِ الصائمُ أن خطر شياطين الإنس وحربهم أشد، وليستعذ بالله من شرهم كما يستعيذ به من شر شياطين الجن، وليهجر رفثهم وفحشهم حفظا لصيامه أن يحبط؛ فيصير جوعًا محضًا، وعطشا بحتًا، وشقاء خالصًا، ولا يغرنه لبوس "الفن" الذي لفوا فيه لهوهم وخَناهم؛ إذ لو كان فنا نظيفًا وعملا صالحًا لأعان الصائم على تطهير جوارحه من فضول النظر، وإطلاق الشهوات، وركوب الفواحش ما ظهر منها وما بطن.
لو كان فنًا نظيفًا وعملا صالحا لأعان الصائم على البر والتقوى والخشية والحياء، فنهاره إمساك لا يصلح ولا يتم إلا بإمساك الجوارح، وليله قيام ودعاء، وتضرع وابتهال لا ينفع ولا يصل إلى الله إلا إذا صفا جوُّه من اللغو.
فهل ترى في تلك المسلسلات والأفلام والمسرحيات ما يدعو إلى عفاف وحشمة وتعظيم لحرمات الله جل وعلا؟..
هل ترى فيها ما يقرب من الله، ويعظم في نفس الصائم شأنَه عز وجل، ويعينه على ذكره وشكره وحسن عبادته؟..
هل ترى فيها ما يعين على الزهد في الدنيا ورجاء الآخرة؟..
هل ترى فيها ما يشرح صدر العبد لدين الله، ويبصره بميثاق عبوديته ومنشور ولايته؟..
هل ترى فيها ما يدخله في رحمته ومرضاته، ويخوفه من الوقوع في موجبات سخطه وعقوبته؟..(/6)
هل ترى فيها ما يعرفه بنبيه صلى الله عليه وسلم، ويبصره بجلال قدره، ويذكره بحقوقه الجمة عليه، ويعدد فضائله ومناقبه، ويحصي شمائله وخصائصه؟..
هل ترى فيها ما يعلمه آداب تقديره صلى الله عليه وسلم ونصرته وتعزيره، وشروط محبته والتعلق به وتوقيره؟..
هل ترى فيها ما يعلم الناس شعب الإيمان، ويربيهم بالتقوى والإحسان، ويحبب إليهم الإيمان ويكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان؟..
هل ترى فيها ما يهذب النفوس ويرقيها، ويصلحها ويعليها، ويزرع فيها العزة والإباء، ويقيها سوء التردي في درك الهوان؟..
هل ترى فيها ما يسمو بالأرواح في معارج الفضيلة، ويرقى بها في مدراج الكمال، ويصفيها من أكدار الإثم والسوء، ويعصمها من أخلاط الرذيلة؟..
هل ترى فيها ما يثبت المؤمنين، وينصر الطائعين، ويعزر العابدين، ويهدي العاصين، ويشد على أيدي التائبين، ويرشد الحائرين، ويعيد اليقين إلى قلوب المترددين؟..
هل ترى فيها ما يهدي للتي هي أقوم من التصورات والتصرفات، ويبصر بأعراض الفكر المنحرف وأسبابه، ومزالقه ومخاطره؟...
هل ترى فيها ما يرفع شأن أهل العلم الأحياء والأموات، ويبرزهم ويفشي علمهم أينما كانوا، وما يحث على الفرح بوجودهم والأسف على فقدهم؟...
هل ترى فيها ما يغرس في النفوس الطيبات، ويغري بطلبها وإيثارها، ويباعد بينها وبين الخبائث ويكره إليها إتيانها؟...
كلا!..
وإن شهر رمضان أعظمُ فاضحٍ لحقيقة هذه الفضائيات وحقيقة أهلها، وخيرُ كاشفٍ لما يريد أعداءُ هذه الأمة بها ويبيتون لها من الشر، ويصرفون فيه ما لا يحصى من الأموال كي يبدل دينها، وتبطل أعمالها، وتهدر قيمها وتدمر؛ فلا يبقى لها من الديانة إلا مشاعر باردة جامدة لا مظاهر لها من الأفعال، ولا أثر لها في السلوك، ولا يسندها في الواقع قوة أو دعم.(/7)
وتأمل حال الصائم الساعي وراء تلك الأفلام والمسلسلات والأغاني؛ يقضي أوقات ليله ونهاره أو بعضها في تتبعها..؛ بالله هل يبقى له من صيامه شيء؟ وهل يكسب ثوابا أو إثما ؟ وهل يجد ثَمَّةَ التقوى أو البلوى؟...
إن من خصائص الصيام إشعارَ العبد بلزوم تعظيم الله -سبحانه وتعالى- وتوقيره، وتعظيم شعائره وحرماته؛ والحياء منه، والخوف من مواقعة ما حرم، والحرص على فعل ما رغب فيه؛ فيصير المعرضُ عن إجلاله وطاعته في سائر الشهور مجلا له مقبلا على طاعته إذا صام، سهلا لينا سلس القياد لمن يدله على الله؛ سريع الخشوع لذكره، سريع التأثر بما يحثه على الإقبال عليه، ويحمله على خشيته وتقواه، فكيف يحفظُ هذه المشاعرَ القدسية وينميها، ويرفع قواعدَها ويبنيها مع إقامته -بما يرى من مشاهد الخنا- على هدمها ودكها؟!..(/8)
وإنك لتعجب حين تقرأ أو تسمع أن الفضائيات العربية تعد البرامج والأفلام والمسلسلات الخاصة بشهر رمضان قبل حلوله بشهور؛ فتظن أن في إضافتها إلى شهر الصيام اعتبارًا لقدسية هذه الشعيرة العظيمة، وإجلالا لحرمتها، وتقديرًا لمقاصد تشريع الصيام الإيمانية والتربوية والدعوية، وتعظيمًا لمراد الله -جل وعلا- من فرضه على عباده {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]..؛ فإذا خبرتها وجدتها لاعبة لاهية؛ هازئة بتلك الحرمة المقدسة؛ عابثة بتلك المقاصد العالية؛ مائلة عن مراد الله العلي العظيم؛ حاضة على اتباع الشهوات؛ قد اتخذت شهر الصيام ذريعة إلى ترويج سلعة "الفن" الخبيثة، وتربصت بمن يُغبَنون في فراغهم من ضعاف النفوس؛ فيُبتَلون خلال هذا الشهر بهدر الأوقات وسحقها بما ينسي ويلهي استثقالا للإمساك نهارًا، وفرحًا بالأكل والشرب ليلا، فما كان لدى تلك الفضائيات من الملهيات الصادة عن سبيل الله ألقته في سوق الغفلة عن ذكر الله آمنةً مطمئنة أن سلعتَها -على عفونتها وقذارتها- مَبِيعةٌ نافدة، وأن "رسالتها الفنية" –في تلك الأذهان الخاوية- أيضا نافذة، وأن دعاتها -على تلبسهم بوظيفة إبليس- مصدوقون مُصدَّقون!...
فإذا جئت إلى الأفلام والمسلسلات المسماة "دينية" وجدت العجب العجاب مما يؤسف وينفر، ويكدر صفو الأذواق، ويقدح في القيم والأخلاق..؛ وجدت من "يلعب دور" صحابي جليل مجاهد؛ قويًا على الكافرين في ساح القتال؛ ضعيفًا مهزومًا إذا بارزته امرأةٌ بفتنتها، مأسورًا لحسنها الباهر وجمالها؛ لا يتورع من الخلوة والمداعبة والملامسة والتغزل والمعانقة، وقد صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قوله من حديث أبي مسعود عقبة بن عمرو: (إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِن كَلاَمِ النُّبُوَّةِ الأُولَى: إِذَا لَمْ تَسْتَحْيِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ). [صحيح البخاري (رقم 6120)].(/9)
فمن يصفِّد شياطينَ الإنس القاعدين للصائمين صراطَ الله المستقيم، ومن يسلسلهم ليُمنعوا من إغوائهم وصدهم باتباع الشهوات عن سبيل الله؟..
إنهم كشياطين الجن في الحمل على الطائعين طمعًا في إضلالهم وضمهم إلى حزبهم وشيعتهم، أو سَبْيهم لكفهم عن إرادة الله والدار الآخرة.
إنهم أعداء الأنبياء والرسل والدعاة إلى الله؛ كما قال –تعالى-: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام: 112].
وفي الحديث الصحيح عن أبي ذر الغفاري -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له: (هَلْ تَعَوَّذْتَ بِاللَّهِ مِن شَيَاطِينِ الْجِنِّ وَالْإِنسِ؟)، قال: قلت: لا يا رسول الله!، وهل للإنس من شياطين؟ قال: (نَعَمْ، هُمْ شَرٌّ مِن شَيَاطِينِ الْجِنِّ!). [عمدة التفسير للشيخ المحدث أحمد شاكر رحمه الله -1/56- وأشار إلى صحته].
وقد ظهرت بحمد الله فضائياتٌ صالحات نافعات مباركات -على قلتها- تبصر المسلمين بدينهم، وتعينهم على البر والتقوى، والدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة؛ فلله در أهلها الصالحين القائمين على رعايتها.(/10)
فهي المرشحة بإذن الله لأداء الرسالة الإعلامية السامية النقية، وإقامة بديل الخير الكفيل بحفظ دين الصائم والمفطر، وإعانتهما على البر والتقوى، فإذا عمت وكثرت، وفشت كلمتُها وانتشرت، وعاين الناسُ فضلها ونفعها، وخيرَها وصلاحها، وصدقها وإخلاصها أيقنوا أن شأنها وشأن الفضائيات الأخرى كقوله -تعالى–: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا} [الأعراف: 58]؛ فإذا بزخرفها قد ذهب، وباطلها قد زال وزهق؛ كما قال –تعالى-: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} [الرعد: 17]، وإذا بها مسلسلة قد أمن المسلمون فتنتها، بل ما يدريك لعل تلك الفضائيات نفسها تعي فتفيق وتفيء، وتهتدي كما يهتدي المخطئ والمسيء ؛ فيبدل الله سيئاتها حسنات، وباطلها حقًا يشرفها ويزكيها ويرفع لها الدرجات.
ولعمري إن هذا المدى لهو خير حال ومآل، وأحسن مرغوب يطلبه اللبيب الماجد، وأفضل أمنية يتطلع إليها العاقل الراشد.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(/11)
العنوان: من ينقذُ الجنودَ العالقين في العراق؟!
رقم المقالة: 1458
صاحب المقالة: فايز السيد علي
-----------------------------------------
لم يبقَ أمام الكونغرس الأمريكي إلا انتظارُ وصول الرئيس الجديد إلى البيت الأبيض، بعد 16 شهراً تقريباً، من أجل حل مشكلة بقاء الجنود الأمريكيين في العراق، بعد الرفض المتعنت الذي أبداه بوش مراراً، أمام أي خيار لإعادة الجنود إلى ديارهم.
فالرئيسُ الأمريكي جورج بوش -الذي ذهب إلى حد إجراء موازنة لأول مرة، بين الوضع في العراق وفيتنام- لا يزال يُصر على إبقاء القوات الأمريكية في العراق، في سبيل الحفاظ على ماء الوجه لآخر يوم في حكمه، مستغلاً عدم وجود أغلبية كافية في مجلسي الكونغرس الأمريكي (الشيوخ والنواب) لإرغامه على جدولة انسحاب أمريكي كامل من العراق. وأمام هذا التعنت المستمر، لا يمتلك الكونغرس اليوم أي رد قانونيّ كافٍ لإجراء هذا التغيير.
مدة رئاسة واحدة لا تكفي!(/1)
الشعبُ الأمريكيّ الذي يقفُ إلى جانب الأغلبية الديمقراطية، استطاع إيصالَ الحزب إلى الفوز بمعظم مقاعد الكونغرس، وحسب استطلاعات الرأي الأخيرة، التي أجرتها وكالةُ الأسوشيتدبرس، ونشرتها يوم السبت 16 من سبتمبر الحالي، فإن 57% من الشعب الأمريكي يرون أن الحرب على العراق كانت خاطئة، مقابل 33% يرون أنها كانت صائبة. لذلك فإن أي تحرك باتجاه إخراج القوات الأمريكية من العراق سيحظى بقبول شعبي واسع. وهو أمر يعرفه بوش جيداً، ويعلم أن سياسته في الحرب على العراق ستُربِك خَلَفَه في البيت الأبيض، وستكون معضلة أمام الأمريكيين لسنوات عدة. لذلك فقد أشار في خطابه الذي ألقاه يوم الخميس 14 من سبتمبر الحالي، إلى أن القادةَ العراقيين يجبُ عليهم قبولُ دور أمريكي سياسي واقتصادي وأمني طويل المدى، قائلاً: "إن القادة العراقيين يدركون أن نجاحهم يتطلب دوراً أمريكياً سياسياً واقتصادياً وأمنياً يتخطى رئاستي". مضيفاًَ بالقول: "إن هؤلاء القادة العراقيين طلبوا علاقة مستمرة مع أمريكا، ونحن مستعدون لبناء هذه العلاقة، بطريقة تحمي مصالِحَنا في المنطقة، وتتطلب عددًا أقل من الجنود"!!(/2)
بوش لا يزال متمسكاً بخيار إبقاء قوات بلاده في العراق، وهو يرفض أي تهديد قانوني في أمريكا لتغيير خياره، ومن ثم فإن فكرة إعادة الجنود الأمريكيين إلى العراق تبدو فكرة "غير ممكنة" في ظل قيادته الحالية لشؤون البلاد الخارجية. وقد شهد الخطابُ الذي ألقاه أمام المحاربين القدامى في (كنساس سيتي) أواخر شهر أغسطس الماضي، أول موازنة بين الوضع في العراق وفيتنام، بعد أربع سنوات من الرفض الصارخ لهذه الموازنة. وأمام الجنود الذين لا يفهمون إلا لغة القتال والحرب، يعتقدُ كثيرٌ منهم أن خروجَهم من فيتنام مخذولين كان بسبب قرار السياسيين في واشنطن؛ أطلق بوش موازنته البليغة (!!) بين الوضعين، فذكر أن خروج قوات بلاده من فيتنام كان سبباً في ارتكاب المذابح الكثيرة والكبيرة في ذلك البلد الأسيوي الصغير، وسبباً أيضاً في حدوث موجات العنف في كمبوديا، وتهجير مئات الآلاف من منازلهم وأرضهم. وذكر أنّ قرارَ سحب الجنود الأمريكيين من فيتنام، أنتج مصطلحاتٍ مأساوية جديدة لم يعهدها التاريخُ، مثل "لاجئي القوارب" (نسبة للاجئين الذين فروا من الحرب)، و"حقول القتل" (نسبة لما حدث على يد الخمير الحمر في كمبوديا)، مطالباً بأن تبقى القوات الأمريكية في العراق مدةً أطول، لمنع حدوث مثل تلك المجازر وعمليات التهجير.
اللافت للنظر حول خطاب بوش ذاك، أنه وبرغم التصفيق الذي لقيه من المحاربين القدامى الذين لم يبق لهم سوى الأسى على ما حدث في فيتنام، فإن الحقائق التاريخية تؤكد أن كل ما حدث في فيتنام، لم يكن ليحدث لولا تدخل أمريكا، وأن الاقتتال الذي حدث هناك، كان بسبب وقوف أمريكا إلى جانب حفنة من السياسيين الموالين لها، لإيصالهم للحكم، وأن المذابح في كمبوديا لم تكن لتحدث، لسبب واحد، هو أن كمبوديا حافظت على وقوفها في الحياد حتى النهاية، إلى أن أرغمتها واشنطن إرغاماً على دخول الحرب السياسية، ثم العسكرية.(/3)
وإذا كان ثمة تفسير موضوعي لأهم خطأ في موازنة بوش، فإنه يظهر في حقيقةٍ يراها الجميعُ، وهو أن خوف بوش المزعوم، من حدوث مجازر وعمليات نزوح في العراق في حال خروج القوات الأمريكية منه، لن يحدث مستقبلاً، لأنه يحدث الآن بالفعل!
انسحاب مذل.. لا محالة:
وبالنظر إلى التعهد الذي أطلقه بوش أخيرًا، حول جدولة انسحاب جزئي للقوات الأمريكية من العراق -بعد الضغوط المستمرة من الكونغرس، وصدور تقرير أو أكثر حول العراق- فإن اللافت للنظر، هو أن الانسحاب لن يقلل عدد الجنود الأمريكيين هناك، وإنما سيعيدهم إلى عددهم السابق فقط.
فالقواتُ الأمريكيةُ التي ارتفع عددُها في يناير الماضي إلى 168 ألف جندي (بعد وصول 31500 جندي جديد وَفقاً لخطة أمنية أمريكية)، سوف ينخفض عددُها إلى 162300 جندي، مع نهاية العام الحالي؛ إذ وعد بوش بإرسال 5700 جندي إلى منازلهم قبيل أعياد رأس السنة الميلادية. في حين وعد وزيرُ الحرب الأمريكي (روبرت غيتس) أن يصل عدد الجنود الأمريكيين في نهاية عام 2008 إلى 100 ألف جندي. وهو رقم أقل بقليل من عدد الجنود الأمريكيين الذين انتشروا في العراق في بداية احتلال البلاد، قبل أكثر من أربع سنوات.
ويأتي إعلان غيتس بناءاً على خطة قدمها الجنرالُ ديفيد بتريوس (قائد قوات الاحتلال الأمريكية في العراق)، تقضي بسحب خمسة ألوية مقاتلة وعدة وحدات لمشاة البحرية الأمريكية بحلول منتصف يوليو القادم، ويضم اللواء المقاتل ما بين ثلاثة آلاف وخمسة آلاف فرد.
ولا يُخفي غيتس أملَه في تخفيض أكثر للجنود الأمريكيين هناك، قائلاً: "إنه يأمُل أن يتمكن بتريوس من التوصية بسحب خمسة ألوية مقاتلة أخرى -أي نحو 20 ألف جندي- في النصف الثاني من العام القادم". واصفاً خطة خفض القوات بأنها "بداية تحول في المهمة الأمريكية في العراق".(/4)
ويعترف غيتس أن أي انسحاب من العراق، سيكون تأكيداً لهزيمة الأمريكيين هناك، إذ يقول: "إن الخطوات المقبلة في العراق لا بد وأن تكون تفادي ظهور الإخفاق الأمريكي أو الهزيمة في العراق" مضيفاً بالقول: "إذا تسنى للقاعدة إعلانُ النصر في العراق فإن ذلك سيعززهم في شتى أنحاء العالم تعزيزًا أكبر بكثير من انتصارهم على السوفيت" في أفغانستان في الثمانينات.
أبو ريشة:
ويدافع بوش عن بقاء القوات الأمريكية في العراق، بحجة أن الزيادة في عددهم، أدى إلى انخفاض نسبة عمليات القتل والمواجهات المسلحة في الأنبار (التي تعد معقلاً للمقاومة السنية ضد الاحتلال الأمريكي)، إلا أن المفارقة الحقيقية لهذا المعيار، هو أن إعلان بوش تزامَنَ مع مقتل عبد الستار أبو ريشة؛ الزعيم القبلي العراقي، الذي تعاون مع الأمريكيين، وأعلنت القاعدة في العراق مسؤوليتَها عن اغتياله.
ولم يُخفِ الرئيس الأمريكي علاقة بلاده بأبي ريشة، واصفاً إياه "بالشجاع!"، ومؤكداً أنه التقاه في العراق، خلال رحلته إلى أستراليا الشهر الماضي، لحضور قمة الدول الصناعية الكبرى.
كما لم ينس بوش أن ينسب إلى دول الجوار (سوريا وإيران) مسؤوليتها عما يحدث في العراق، في محاولة جديدة وصفتها الصحافة الغربية بأنها "إلقاء اللوم حول ما يحدث في العراق من أخطاء، لدول عدوة" لأمريكا.
المعارضة الأمريكية:(/5)
وأهمُّ من هذا الموقفِ موقفُ المعارضة الأمريكية لهذا التزمّت والإصرار لإبقاء الجنود الأمريكيين رهينة للسياسة في العراق. وهو وصف أطلقه السناتور الديمقراطي (إدوارد كينيدي)، الذي قال في معرض رده على قرار بوش إبقاءَ القوات الأمريكية في العراق: "إن استراتيجية بوش جعلت القواتِ الأمريكيةَ رهينةً لدى القادة العراقيين، الذين ليس لديهم أي نية في القيام بخيارات صعبة لإنهاء الحرب الأهلية" هناك. وأضاف بالقول: "علينا أن نغير سياستنا الآن، وإلا سوف تستمر إراقةُ دماء جنودنا في شوارع بغداد، وسيبقى أمننا القومي مهدداً".
ويشير كينيدي هنا، إلى أن الأمن القومي الذي يتذرّع به بوش باستمرار، لا علاقة له بالعراق. خاصة بعد ثبوت كذبة "وجود أسلحة دمار شاملة في العراق"، وثبوت كذبة "وجود علاقة بين قيادة الرئيس العراقي السابق صدام حسين، وتنظيم القاعدة".
ولا يقف السيناتور الديمقراطي وحيداً في وجه بوش.. بل هناك جبهة كاملة في مجلس الشيوخ والبرلمان الأمريكي.. من أهمهم المرشحة الأوفر حظاً لرئاسة الولايات المتحدة (هيلاري كلينتون)، التي تغتنم كل مناسبة لإظهار "تعاطفها!" مع الجنود الأمريكيين في العراق. إذ عبرت أخيرًا عن نيتها في إعادة الجنود إلى ديارهم في حال فوزها في الانتخابات القادمة، وقالت منتقدة بوش: "ما زلت أناشدُ الرئيس أن يغير خطه ويعيد قواتنا بسرعة إلى البلاد وينهي هذه الحرب بطريقة مسئولة في أسرع وقت ممكن".
في حين يتهم هاري ريد (زعيم الغالبية الديمقراطية في مجلس الشيوخ) بوش بأنه "يهدر ما تبقى من ولايته في استراتيجية فاسدة" في العراق. كما نعت جوزف بيدن (الرئيس الديمقراطي للجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ) خطابَ بوش الأخير حول إبقاء القوات الأمريكية في العراق، بأنه خطاب "معيب" و"غريب"، مؤكداً أن مزاعمَ بوش -بأن القادةَ العراقيين طالبوا بـ"علاقة دائمة" مع الولايات المتحدة- غيرُ صحيحة.(/6)
وتقول وكالة فرانس برس في تقرير لها نشرته يوم السبت الماضي: "إن جون إدواردز (منافس هيلاري كلنتون في انتخابات الرئاسة)، اضطر إلى دفع بدل مالي للظهور على شبكة "إم إس إن بي سي" التلفزيونية، حتى يتسنى له الرد على خطاب بوش. وقال: "إن قواتنا عالقة بين رئيس لا يملك خطة للنجاح، وكونغرس لا يملك الشجاعة لإعادتهم إلى البلاد".
من تكتب له الحياة؟
كل المؤشرات الحالية تدل على أن بوش لا يزال مصراً على إبقاء القوات الأمريكية في العراق، برغم الخسائر المتلاحقة، التي رفعت عدد القتلى الأمريكيين إلى نحو 4 آلاف (وفقاً للإحصائيات الرسمية التي تؤكد الكثيرُ من المصادر عدمَ دقتها)، مع وجود عدد كبير جداً من الجرحى والمعاقين، فضلاً عن الخسائر المادية، وتنامي المعارضة السياسية والشعبية لسياسة بوش الحالية في العراق.
وبذلك.. يبقى أكثرُ من 168 ألف جندي أمريكي هناك، تحت رحمة العمليات المسلحة للمقاومة العراقية. دون أن يدري أحد من الأمريكيين: هل يكتب له العودة لدياره سالماً، أو لا؟!(/7)
العنوان: مناسك المرأة.. بحثٌ مفصّل شامل
رقم المقالة: 1795
صاحب المقالة: د. صالح بن محمد الحسن
-----------------------------------------
مناسك المرأة
المقدمة
الحمد لله الذي خلق الزوجين الذكر والأنثى، وخص منهما بالتشريف والتكريم آدم وذريته رجالاً، ونساء.
والصلاة والسلام على المبعوث إلى كافة الثقلين بشيراً ونذيراً، وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيلهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن حج بيت الله الحرام أحد أركان الإسلام. ومبانيه العظام، أوجبه الله على المكلفين القادرين، رجالاً كانوا أو نساء.
{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً}[1].
وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح - من رواية عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما: ((بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان)) متفق عليه[2].
وهو إنما يجب في العمر مرة، وما زاد بعد ذلك فهو تطوع، وإقامة موسم الحج في كل عام فرض من فروض الكفاية على الأمة[3] تقوم به طائفة من الأمة كل عام.
والمرأة كالرجل من حيث أصل وجوب الحج عليها كما دلت عليه الآية والحديث السابق إلا أنها تخالفه في بعض أحكامه نظراً للاختلاف بين الرجل والمرأة في بعض صفات الخلق، وفي بعض وظائف التكليف الشرعية.
ولما كانت مسائل الاختلاف بين الرجل والمرأة في أحكام الحج والعمرة كثيرة ومتفرقة في أبواب المناسك فقد رأيت أن أكتب بحثاً متخصصا في تلك المسائل، وهي مسائل تنطلق من فروق ثابتة تؤثر في سائر العبادات لا في المناسك وحدها وقد أسميته "مناسك المرأة"[4].
ولأنه يعالج موضوعاً هاماً، ومتكرراً في كل عام – مع كونه ركنا من أركان الإسلام وهو – أيضاً – بحث متخصص في موضوعه مما يجعله أكثر فائدة وتشويقاً.
وسيكون منهجي في هذا البحث – بعون الله تعالى – كالآتي:(/1)
1 – بحث المسائل الخاصة بالنساء من أحكام المناسك مكتفيا بذكر ما أراه ضروريا من أحكام الرجال، كتمهيد لبعض المسائل الخاصة بالمرأة يظهر من خلاله أصل التشريع في الحكم الذي استثنيت منه المرأة لأمر آكد منه وليتبين للقارئ الكريم توجيه الدليل الذي قد يستدل به – خطأ – على مشروعيته للمرأة.
2 – جمع المسائل تندرج تحت كل باب من أبواب البحث، وتقسيم هذه المسائل إلى فصول وتقسيم مسائل كل فصل إلى عدة مباحث إن وجد ما يدعو لذلك.
3 – ذكر آراء مذاهب الأئمة الأربعة في كل مسألة من مسائل البحث، والموازنة بينها، فإن وجد لأهل الظاهر قولاً قوياً مخالفاً للأقوال المشهورة عن الأئمة الأربعة، أثبته وناقشته.
4 – أقدم في عرض الأقوال: القول الراجح منها وأتبعه بأدلته، ثم أذكر بعده بقية الأقوال متبعاً كل قول بأدلته، ثم أصرح بترجيح القول الراجح منها ذاكراً وجه الترجيح، والرد على أدلة المخالفين.
5 – أمهد لبعض الأبواب والفصول التي تحتاج إلى تمهيد.
6 – أترجم بتراجم موجزة – لغير المشهورين – أتعرض فيها لاسم المترجم له. وولادته ووفاته وأهم المعلومات التي تتصل بسبب ذكره.
7 – أبين في الهامش أرقام الآيات وسورها.
8 – أخرج الأحاديث التي يرد ذكرها في البحث بعزوها إلى اشهر مصادرها، ونقل ما تيسر – في الهامش – من أقوال العلماء في الحكم عليها إذا لم ترد في الصحيحين أو أحدهما.
9 – ذيلت البحث بخاتمة وفهرسين، أحدهما: للمراجع التي رجعت إليها في البحث مرتبة بحسب حروف الهجاء، والفهرس الآخر للموضوعات.
وقسمت البحث إلى تمهيد، وثلاث أبواب.
خصصت التمهيد للإشارة إلى طبيعة المرأة التي خلقها الله عزَّ وجلَّ عليها، وما في هذه الطبيعة من فروق بينها وبين الرجل جعلتها تكلف تكليفاً شرعياً يناسب تلك الطبيعة، فتوافق الرجل فيما يتفقان فيه، وتخالفه فيما خصها الله عزَّ وجلَّ من صفات تناسب وظيفتها في هذه الحياة.(/2)
وخصصت الباب الأول لبيان الأحكام التي تخالف فيها المرأة الرجل من أحكام المناسك بسبب القوامة التي جعلها الله عزَّ وجلَّ للرجال على النساء.
وفي الباب الثاني: عرضت المسائل التي تخالف فيها المرأة الرجل بسبب ما يعتريها من حيض، أو نفاس.
وفي الباب الثالث: عرضت أحكام المناسك التي تخالف فيها المرأة الرجل بسبب ما شرعه الله لها من الحجاب والستر.
أسأل الله عزَّ وجلَّ أن يجعل عملي هذا خالصاً لوجهه، وأن ينفع به إنه سميع مجيب وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
((التمهيد))
أسباب الاختلاف بين الرجل والمرأة في بعض الأحكام الشرعية
خلق الله عزَّ وجلَّ آدم عليه السلام أباً للبشرية، وخلق منه زوجه حواء، ليسكن إليها، ويأنس بها، وليخلق – سبحانه – منها ذريتهما
{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا}[5].
وأسكنهما رب العزة والجلال في دار العزة، والكرامة، والأمن، والنعيم:
{وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ}[6].
ولحكمة يعلمها الله عزَّ وجلَّ، وقضاء قدره لم يدم ذلك النعيم، والخلد، فقد سلط عليهما عدوهما الشقي:
{إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى}[7]، فغرهما الشيطان، وأغراهما بما نهيا عنه.(/3)
{فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ(21) فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ}[8].
فأهبطهما الله عزَّ وجلَّ إلى الأرض التي خلقا من مادتها.
{قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ}[9].
وكلف الله عزَّ وجلَّ آدم وحواء عليهما السلام وذريتهما بالخلافة في الأرض لعمارتها، وإتباع هدى الله فيها.
{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ}[10].
وقال تعالى: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [11].
تلك هي بداية الخلق، وقصة التكريم والامتحان، والتكليف والابتلاء.
خلق آدم عليه السلام أولاً، ثم خلقت منه وله زوجة حواء، نعمت بما نعم به، وشقيت بما شقي به، وكلفت بما كلف به، فهي منه في مادتها، ومساوية له في تكليفها.(/4)
ويلاحظ في سياق الآيات السابقة. والآيات الأخرى التي نزلت في شأنهما أن الخطاب – في الغالب – لآدم عليه السلام. وزوجه تبع له في ذلك، كما أنه قد تقدم عليها في الخلق، وفضل عليها بأمر الله ملائكته بالسجود له.
{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ}[12].
وهذه الأمور لها دلالتها في تفضيل جنس الرجال على جنس النساء. تفضيلاً ميز الرجال عن النساء ببعض وظائف الخلافة في هذه الأرض، فجعلت القوامة للرجال على النساء، ولم يترك الله عزَّ وجلَّ هذا الأمر للشورى بينهما لتعيين أحدهما، أو بالاشتراك بينهما.
{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ}[13] .
وقوامة الرجال على النساء: أحد العوامل المؤثرة في فوارق التكاليف الشرعية بين الرجل، والمرأة.
وإذا شرف الله الرجل بوظيفة القوامة: فإن المرأة تشرف بوظيفة الحمل، والولادة للرجال، والنساء، وبوظيفة الإرضاع لهما، والمشاركة مع الرجل في الحضانة والتربية.
ومع اختلاف هذه الوظائف بين الرجال والنساء فقد خلق الله عزَّ وجلَّ كلاً منهما يناسب وظائفه من حيث بنائه الجسمي، والنفسي.
يقول العلامة أبو الأعلى المودودي – رحمه الله -: أثبتت بحوث علم الأحياء وتحقيقاته أن المرأة تختلف عن الرجل في كل شيء، من الصورة، والسمت، والأعضاء الخارجية إلى ذرات الجسم والجواهر الهيولينية (البروتينية) لخلاياه النسيجية.
فمن لدن حصول التكوين الجنسي في الجنين يرتقي التركيب الجسدي في الصنفين في صورة مختلفة، فهيكل المرأة، ونظام جسمها يركب كله تركيباً تستعد به لولادة الولد، وتربيته، ومن التكوين البدائي في الرحم إلى سن البلوغ ينمو جسم المرأة، وينشأ لتكميل ذلك الاستعداد فيها. وهذا هو الذي يحدد لها طريقها في أيامها المستقبلة.(/5)
ومع سن البلوغ يعروها الحيض الذي تتأثر به أفعال كل أعضائها، وجوارحه[14] أ. هـ.
ويقول العقاد في كتابه المرأة[15] في القرآن: ومن الاختلافات الجسدية التي لها صلة باختلاف الاستعداد بين الجنسين: أن بنية المرأة يعتريها الفصد كل شهر، ويشغلها الحمل تسعة أشهر، وإدرار لبن الرضاع حولين قد تتصل بما بعدها في حمل آخر.
ومن الطبيعي أن تشغل هذه الوظائف جانباً من قوى البنية، فلا تساوي الرجل في أعماله التي يوجه إليها بنية غير مشغولة بهذه الوظائف الأنثوية. أ. هـ.
فقد خلق الله عزَّ وجلَّ المرأة جسمياً ونفسيا على صفة تؤهلها للقيام بوظيقة الحمل، والولادة، والإرضاع، والرعاية والعناية. ولهذه الأمور أثرها في وجود فروق بين النساء، والرجال في بعض الأحكام الشرعية، ومن أجل عمارة هذا الكون، وإقامة بناء الأسرة التي يتكون منها بناء المجتمع خلق الله عز وجلَّ في الرجال الميل إلى النساء. وفي النساء الميل إلى الرجال.
{فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}[16].
ومن الضوابط لهذا النظام منع المرأة من التبرج، والاختلاط بالرجال الأجانب، ومن ذلك أيضاً أمرها بالحجاب، والستر، والبقاء في البيت لأداء رسالتها في استقبال الأولاد، ورعايتهم حملاً، ووضعا، وتنشئة. يقول الله عزَّ وجلَّ:
{وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُوْلَى}[17] .
وهذه الآية وإن كانت تخاطب نساء النبي عليه الصلاة والسلام فإن عموم لفظها يشمل جميع بنات جنسهن لاشتراكهن في وصف الأنوثة الذي يدعو إلى القرار في البيت.(/6)
ويقول الله عزَّ وجلَّ: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ} الآية [18].
فالمرأة مأمورة بغض البصر، وحفظ الفرج، وستر الجسم، إلا عن الزوج والمحارم.
ويقول النبي الكريم عليه الصلاة والسلام: ((... ولا يخلون رجل بامرأة فإن ثالثهما الشيطان.. الحديث))[19].
فالخلوة بالأجنبية محرمة، وسبب من أسباب اللقاء المحرم الذي يؤدي إلى فساد المجتمع وضياع النسب، والتنصل من الواجبات تجاه النشء من بنين وبنات.
فهذه النصوص وغيرها تضع الضوابط التي تضمن نجاح عقد الزواج بين الرجل وزوجته ليتحمل كل واحد منهما دوره في بناء الأسرة المسلمة.
وهذا الأمر: أعني أمر النساء بالحجاب، والستر، ونهيهن عن التبرج، والسفور والاختلاط بالرجال الأجانب له أثره – أيضاً – في وجود بعض الفروق في الأحكام الشرعية بين الرجال والنساء.
وخلاصة القول: أن الفروق بين الرجال والنساء في الأحكام الشرعية ترجع على الأمور الثلاثة السابقة وهي:
1 – قوامة الرجال على النساء.
2 – حيض المرأة، ونفاسها.
3 – أمر المرأة بالحجاب والستر ونهيها عن التبرج والاختلاط بالرجال الأجانب.
فما كان من الفوارق بين الرجال، والنساء، في الأحكام الشرعية: فإن مرده إلى أحد هذه الضوابط الثلاثة.
وفيما عدا ذلك فالمرأة كالرجل في التشريف، والتكليف والحقوق والواجبات.
ولما كان لهذه الضوابط الثلاثة أثرها في وجود بعض الفروق في أحكام المناسك بين الرجل، والنساء. ناسب أن يفرد ما يخص المرأة من أحكام المناسك في بحث مستقل.
الباب الأول
القوامة وأثرها في مناسك المرأة
ويشتمل على تمهيد وثلاثة فصول(/7)
التمهيد: مفهوم القوامة، وحدودها
الفصل الأول: استئذان المرأة زوجها في أداء المناسك.
الفصل الثاني: حكم قضاء ما أحرمت به الزوجة إذا حللها الزوجه وصفة التحلل.
الفصل الثالث: حج المعتدة.
الباب الأول
القوامة وأثرها في مناسك المرأة
التمهيد: مفهوم القوامة، وحدودها
القوامة في اللغة: القيام على الشيء، يقال قوام، وقيم، وقيم المرأة من يقوم بأمرها، ويصلح شأنها[20].
والمراد بها في الشرع: إمرة الرجال على النساء يأخذون على أيديهن فيما يحب الله ويطعنهم فيما أمر الله. ويحسنون إليهن ويقومون بشؤونهن كما أمر الله[21].
فمن سنة الله عزَّ وجلَّ في خلقه أن كل جماعة تشترك في مكان تعيش فيه لابد لها من إمرة ترجع إليها في التزام حدودها، وطلب حقوقها، سواء صغرت هذه الجماعة أم كبرت، وإذا كانت الإمامة العظمى: تمثل قمة الولاية على الأمة بكاملها، فإن قوامة الرجل وإمرته على أهل بيته: تمثل ولاية من الولايات الشرعية التي لابد منها لصلاح المجتمع واستقامة أموره.
والإمامة العظمة يتوصل إليها بطرق عدة أفضلها تنصيب الإمام عن طريق أهل الحل والعقد.
وأما الأمير في الأسرة والقيم عليها، فإن الله عزَّ وجلَّ قد بينه بقوله: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ}[22] .
قال ابن العربي عند تفسير هذه الآية: المعنى أني جعلت القوامة على المرأة للرجل، لأجل تفضيلي له عليها، وذلك لثلاثة أشياء:
الأول: كمال العقل والتمييز.
الثاني: كمال الدين والطاعة في الجهاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر على العموم، وغير ذلك.
وهذا الذي بين الرسول صلى الله عليه وسلم: ((ما رأيت من ناقصات عقل ودين أسلب للب الرجل الحازم منكن، قلن وما ذاك يا رسول الله ؟ قال: أليس إحداكن تمكث الليالي لا تصلي ولا تصوم، فذلك من نقصان دينها، وشهادة إحداكن على النصف من شهادة الرجل، فذلك من نقصان عقلها))[23] .(/8)
وقد نص الله سبحانه على ذلك بالنقص – هكذا ولعل صوابها النقص – فقال: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى}[24] .
الثالث: بذله لها المال من الصداق، والنفقة. وقد نص الله عليه ها هنا[25]. أ هـ. ولهذه القوامة أثرها في أحكام عبادات المرأة، في الصوم، والحج، وغيرهما. ففي الصوم مثلاً لا يجوز لها التطوع به – وزوجها حاضر – إلا بإذنه، لأن ذلك قد يؤدي إلى تفويت حق من حقوقه التي يرغب فيها.
لما في الصحيحين[26] عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يحل للمرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه، ولا تأذن في بيته إلا بإذنه..الحديث)).
وأما أثر ذلك على الحج وهو موضوع البحث في هذا الباب، ففيه الفصول الآتية:-
الفصل الأول: استئذان المرأة زوجها في أداء النسك.
الفصل الثاني: حكم قضاء ما أحرمت به الزوجة إذا حللها الزوج.
الفصل الثالث: حج المعتدة.
الفصل الأول
استئذان المرأة زوجها في أداء النسك
يجب على الزوجة أن تستأذن زوجها في حج النافلة، ويستحب لها ذلك في حج الفريضة[27].
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – ويستحب لها – أي المرأة – أن تستأذنه أي الزوج – إن كان حاضراً، وتراسله إن كان غائباً تطييبا لنفسه.. لأن ذلك أدعى إلى الألفة، وصلاح ذات البين، وأبعد عن الشقاق، وكل ما فيه صلاح ذات البين فإنه مستحب. أ. هـ[28].
فإن أذن الزوج لزوجته حجت، واعتمرت، وإن منعها من ذلك فلا يخلو الأمر من حالتين:
الحالة الأولى: أن تكون قد حجت الفريضة، وتريد النافلة، وفي هذه الحالة: لا يجوز لها الخروج لذلك ما لم يأذن لها بإجماع العلماء[29].
قال ابن المنذر: أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم أن له منعها من الخروج إلى الحج[30] التطوع[31]. أ. هـ.
وذلك لأن حق الزوج واجب فليس لها تفويته بما ليس بواجب[32].
فإن أحرمت الزوجة في حج التطوع بدون إذن الزوج فهل له تحليلها ؟(/9)
اختلف العلماء في ذلك على قولين:
الأول: له تحليلها وتكون في حكم المحصر وعليه هدى التحلل، ثم تقصر من شعرها وتحل بذلك.
وهذا قول الحنفية والمالكية وأصح الطريقين عند الشافعية، والحنابلة في المشهور عنهم[33].
واستدلوا بما يلي:
1 – لأنه تطوع يفوت حق الزوج وهو واجب. فإذا أحرمت بغير إذنه ملك تحليلها، لأن الواجب مقدم على المندوب[34].
2 – ولأنها ممنوعة من المضي بغير إذن الزوج[35].
القول الثاني: ليس له تحليلها، وهو قول في مذهب الشافعية، والحنابلة[36].
واستدلوا بما يلي:
1 - لأن الحج يلزم بالشروع فيه، فلا يملك الزوج تحليلها كالحج المنذور[37].
والراجح – والله أعلم القول الأول أن للزوج أن يحللها، لأنه تطوع عارض واجب وهو حق الزوج فقدم عليه.
وأما دليل أهل القول الثاني فيرد عليه بأن الحج يلزم بالشروع ما لم يكن هناك مانع من إتمامه من حصر، أو مرض فإن وجد المانع وهو تحليل الزوج فإنها تكون كالمحصر لها التحلل من هذا الحج وعليها ما على المحصر. وسيأتي بيان صفة التحلل وبيان ما يلزمها عقب المسألة بعدها.
الحالة الثانية: أن يمنعها من حج الفرض أو المنذور، وقد اختلف العلماء في جواز منعه لها، ووجوب طاعتها في ذلك على قولين:
القول الأول: أنه لا يجوز له منعها من حج الفريضة، وأن منعها لم يجب عليها طاعته في ذلك.
وهذا قول جمهور العلماء؛ الحنفية، والمالكية، والحنابلة، وأحد قولي الشافعية[38].
واستدلوا بما يأتي:
1 – أن حق الزوج لا يقدم على أداء الفرائض إذ ليس له حق في وقت أدائها، وإنما حقه خارج وقت أداء الفرائض فمنافعها مستثناة عن ملك الزوج في الفرائض كما في الصلوات الخمس وصوم رمضان ونحو ذلك.
2 – عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم ((لا تمنعوا إماء الله مساجد الله)). رواه البخاري ومسلم[39].(/10)
فإذا كان لا يجوز للزوج منع زوجته من الخروج للمسجد، وهو غير واجب عليها فأن لا يكون له المنع من الخروج إلى بيت الله الحرام لأداء مناسك الحج الواجب أولى.
3 – ولأن الحج واجب[40] على الفور، فيجب عليها المسارعة لأدائه في أول وقت الإمكان فتكون مفرطة وآثمة بتأخيره عن وقت الإمكان. بخلاف حق الزوج فإنه لا يفوت. ولا يتعارض أداء الحج مع أداء حق الزوج، لأنه ليس له حقا في وقت أداء الفرائض وإنما حقه فيما عدا ذلك، والله أعلم.
القول الثاني: أن للزوج أن يمنعها من حجة الإسلام، وأنه لا يجوز لها أن تحج فرضاً، أو نفلاً إلا بإذنه فإن أحرمت بغير إذنه فله تحليلها. وهذا قول لبعض الحنفية وهو الصحيح في قولي الشافعية[41].
قال النووي: اتفقوا – أي فقهاء الشافعية – على أن الصحيح من هذين القولين أن له منعها، وبه قطع الشيخ أبو حامد[42]، والمحاملي[43]، وآخرون. قال القاضي أبو الطيب[44] في كتابه المجرد[45]، والروياني[46] وغيرهما هذا القول هو الصحيح المشهور[47]. أ هـ.
واستدلوا لذلك بما يأتي:
1 – حديث ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأة لها زوج، ولها مال، ولا يأذن لها في الحج: ((ليس لها أن تنطلق إلى الحج إلا بإذن زوجها)). رواه الدارقطني والبيهقي[48] .
2 – ولأن حق الزوج على الفور، والحج على التراخي، فقدم ما كان على الفور كما تقدم العدة على الحج بلا خلاف[49] .
الترجيح:
والراجح – والله أعلم – القول الأول وهو أنه لا يجوز للزوج أن يمنع زوجته من الحج الواجب عليها، وإن منعها لم تلزمها طاعته بذلك. لقوة أدلة هذا القول، وسلامتها من المعارض القوي.
وأما أدلة القول الثاني فيمكن الجواب عنها بما يأتي:
1 - حديث ابن عمر الذي استدلوا به: حديث ضعيف للجهالة بحال أحد رواته العباس بن محمد بن مجاشع[50].
وفي طريق البيهقي: حسان بن إبراهيم قال النسائي: ليس بالقوي، وقال العقيلي: في حديثه وهم، وقال ابن الجوزي: لا يحتج به[51].(/11)
ولو صح الحديث أمكن حمله على حج النفل دون الفريضة، لأنه هو الذي يمكن الزوج منعها منه بالاتفاق، والله أعلم.
2 – وأما قولهم: إن الحج واجب على التراخي، وحق الزوج على الفور، والفور مقدم على التراخي.
فالجواب عنه من وجوه[52]:
أحدها: أنا لا نسلم بأن وجوب الحج على التراخي، بل هو واجب على الفور وذلك لما يأتي:
1 – أن الله عزَّ وجلَّ أمر بحج بيته أمراً مطلقاً بقوله تعالى:
{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً}
والأمر المطلق يقتضي فعل المأمور به على الفور[53] وإذا كان كذلك فالحج واجب على الفور.
2 – وردت أحاديث تأمر بتعجيل أداء الحج، والأمر يقتضي الوجوب فدل ذلك على أن التعجل إلى أداء الحج واجب ومن هذه الأحاديث: حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((تعجلوا إلى الحج – يعني الفريضة – فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له)). رواه أحمد[54].
وحديث ابن عباس أيضاً – ((من أراد الحج فليتعجل)). أخرجه الإمام أحمد وأبو داود وغيرهما[55].
3 – أن قضاء الحج إذا فسد يجب على الفور بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم ((من كسر، أو عرج فقل حل، وعليه الحج من قابل))[56]. وهذا لا خلاف فيه، فإذا كان القضاء يجب على الفور فأن تجب حجة الإسلام الأداء – على الفور – بطريق أولى.
الوجه الثاني: أنا لو سلمنا بأن الحج على التراخي فالأفضل لها أن تسارع إليه لتبرئ ذمتها، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بالمسارعة إليه، وهو لا يكون إلا في يوم من السنة فإذا فات هذا اليوم فات حج هذا العام فيصير كالعبادة المؤقتة من بعض الوجوه، وفي تأخيره للعام الثاني تعريض لتفويته لكثرة العوارض، والصوارف المحتملة فأداء الحج في أول سني الإمكان أولى من طاعة الزوج في القعود.(/12)
الثالث: أن بعض القائلين بجواز التأخير يقولون: إذا أخره حتى مات فهو آثم بالتأخير[57]. وإذا كانت المرأة تأثم بالتأخير فهي مدعوة إلى المسارعة في أول سني الإمكان لئلا تتعرض للإثم وذلك أولى من طاعة الزوج في التأخير.
الفصل الثاني
حكم قضاء ما أحرمت به الزوجة إذا حللها الزوج
وصفة التحليل
إذا أحرمت الزوجة – بغير إذن زوجها – بحج نفل فحللها الزوج فهل يلزمها القضاء ؟
أختلف العلماء في ذلك على قولين:
القول الأول: لا يلزمها قضاء لما حللها الزوج عنه سواء كان ذلك حجاً، أو عمرة – إلا ما كان واجباً عليها قبل الإحرام -، وإنما عليها التقصير، والهدى وتتحلل وهذا قول الشافعية، والحنابلة، وبعض المالكية إلا أن الإمام مالكاً – رحمه الله – لا يرى وجوب الهدى عليها كالمحصر عنده[58]. وذلك لما يأتي:
1 – لأنها التزمت شيئا معينا فمنعت من إتمامه إجباراً فهي كالمحصر.
2 – أنها في ذلك كالمحصر والله عزَّ وجلَّ يقول:
{ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ...}[59].
فأوجب عليه الهدى دون القضاء وهي في حكمه.
3 – ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه في الحديبية[60] أن ينحروا ويحلقوا ويحلوا. ولم يأمرهم بالقضاء معه في عمرة القضاء. فدل ذلك على أن الواجب في حقهم الحلق والنحر دون القضاء. والمرأة إذا منعها زوجها من إتمام نسكها وكان له ذلك فهي في حكم المحصر لا يجب عليها إلا النحر والحلق[61].
القول الثاني: يلزمها قضاء ما أحرمت به؛ حجاً كان أو عمرة أو هما معاًَ؛ وهذا قول الحنفية، وقول في مذهب المالكية، ورواية في مذهب الحنابلة[62].
واستدلوا بما يأتي:
1 – صحة شروعها في الحج وما صح الشروع فيه وجب إتمامه[63].
2 – ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما تحلل زمن الحديبية قضي من قابل، وسميت عمرة القضية[64].(/13)
والراجح – والله أعلم – هو القول الأول فإذا حللها الزوج فهي كالمحصر تتحلل بعد الهدى والحلق ولا قضاء عليها، وإن اشترطت في ابتداء حرامها فقالت: إن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني[65] فإنها تحل ولا شيء عليها؛ وذلك لقوة أدلتهم التي استدلوا بها من القرآن، والمعقول، فهي صريحة في الدلالة على عدم وجوب القضاء. وأما أدلة القول الثاني: فيجاب عنها بما يأتي:
1 – قولهم يجب إتمام ما أحرم به... إلخ يجاب عنه: بأن دليل الإتمام دليل عام، ودليل الحصر دليل خاص، والخاص مقدم على العام[66]، فيبقى وجوب الإتمام في حق غير المحصر.
2 – وأما قولهم: بأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما تحلل زمن الحديبية قضي من قابل، ولذلك سميت عمرة القضية.
فالجواب عنه: أن الذي وقع من النبي صلى الله عليه وسلم – في عمرة القضاء – إنما هو مقاضاة للمشركين عن العمرة التي صدوه فيها عن البيت لا قضاء لتلك العمرة، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأمر من اعتمر معه عمرة الحديبية – وعددهم ألف وأربعمائة – أن يقضوا معه في عمرة القضية، وإنما اعتمر معه في عمرة القضية نفر يسير، فدل ذلك على أن القضاء غير واجب[67].
صفة التحليل
إذا أحرمت المرأة في نفل حج، أو عمرة، وأراد زوجها تحليلها ففيم يحصل ذلك ؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين:
القول الأول: يحصل تحليلها بمجرد القول، فإذا قال: حللت زوجتي، أو فسخت إحرامها، فعند ذلك تصير كالمحصر تنوي التحلل، ثم تقصر وتنحر، وتحل ولا يجوز لها ذلك إلا إذا أمرها بالفسخ، أو أعلمها به، وهذا قول المالكية والشافعية والحنابلة، إلا أن المالكية والشافعية قالوا: يجوز له مباشرتها إذا امتنعت عن التحلل ويكون ذلك تحليلاً لها. [68]
واستدلوا بما يأتي:(/14)
- أنها كالمحصر بعدو وقول الزوج لها حللتك، أو فسخت إحرامك: هو بمثابة تحقق الإحصار لمن أحصر بعدو، ثم لابد للخروج من الإحرام من فعل ما أمر به المحصر، وهو النحر، والتقصير وبذلك يحصل التحليل.
القول الثاني: أن التحليل يكون بالفعل، أي فعل ما ينافي الإحرام فقط؛ وذلك مثل قص شعرها، أو تقليم ظفرها، أو جماعها أما القول فقط فلا تتحلل به، وهذا قول الحنفية[69].
وعللوا بما يأتي:
- أن عقد الإحرام قد صح، فلا يصح الخروج منه إلا بارتكاب محظور.
والراجح – والله أعلم – القول الأول: لأن ما أحرم به لا يتحلل منه إلا بنية الخروج بعد فعل ما يجب فعله للتحلل. فإذا أحرمت المرأة لم يجز لها الخروج إلا بإتمام ما أحرمت، أو بتحقق المنع. فإذا منعها زوجها وأمرها بالتحلل أو أخبرها بأنه حللها. فإنها تكون كالمحصر تنوي التحلل، ثم تنحر هديها وتقصر شعرها فتحل بذلك.
فإن حملها الزوج على فعل ما ينافي الإحرام فإنه حينئذ قد تسبب في ارتكابها محظوراً من محظورات الإحرام فعليه جزاؤه[70].
والتحلل في حال الإحصار يحصل: بالنحر، والحلق أو التقصير، مع النية كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم في عمرة الحديبية.
الفصل الثالث
حج المعتدة
المعتدة إما أن تكون من وفاة، أو طلاق، والمطلقة إما أن تكون بائنة، أو رجعية وإليك التفصيل: -
1 - المعتدة عن وفاة:
المعتدة عن وفاة لا يجوز لها الخروج للحج فرضه، ونفله؛ لأنه يجب عليها الإحداد، ومنه لزوم بيت الزوج وعدم الخروج منه حتى تنتهي عدتها.[71]
ودليل ذلك:(/15)
1 – حديث فريعة[72] بنت مالك بن سنان: " أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأله أن ترجع إلى أهلها في بني خدرة[73] فإن زوجها خرج في طلب أعبد له أبقوا[74] حتى إذا كانوا بطرف القدوم [75] لحقهم فقتلوه قالت: فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أرجع إلى أهلي في بني خدرة فإن زوجي لم يتركني في مسكن يملكه، ولا نفقة. قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم، قالت فانصرفت حتى إذا كنت في الحجرة ناداني رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أمر بي فنوديت له فقال: كيف قلت؟ فرددت عليه القصة التي ذكرت له من شأن زوجي فقال: امكثي في بيت زوجك حتى يبلغ الكتاب أجله. قالت: فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشراً، قالت: فلما كان عثمان بن عفان أرسل إلى فسألني عن ذلك فأخبرته فاتبعه وقضي به". أخرجه الإمام مالك في الموطأ، والنسائي وابن حبان، والحاكم [76].
2- وأيضاً أخرج[77] مالك في الموطأ عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب: "كان يرد المتوفى عنهن أزواجهن من البيداء يمنعهن الحج" فدل ذلك على وجوب لزوم البيت.
3 – ولأن المقام في منزلها واجب لا يمكن تداركه بعد انقضاء العدة، وسفر الحج واجب يمكن تداركه بعد إنقضاء العدة، فكان تقديم واجب لا يمكن تداركه بعد الفوت – جمعاً بين الواجبين – أولى[78].
فإذا خرجت قبل الوفاة ثم توفي فقد اختلف العلماء في حكم رجوعها على أقوال: -
القول الأول: أنها ترجع ما لم تحرم فإن أحرمت قبل الوفاة مضت في إحرامها. وقول المالكية[79]، واستدلوا بما يأتي:
1 - قالوا: لأن الإحرام سابق للعدة وإذا سبق مع استوائه في الوجوب كان أولى بالإتمام[80].
2 – ولأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يرد المتوفى عنها زوجها من البيداء يمنعن من الحج في الميقات قبل الإحرام، أما بعد الإحرام فلم يكن يردهن.(/16)
فقد روى ابن القاسم عن الإمام مالك – في تفسير هذا الأثر: إنما ذلك لمن كانت من أهل المدينة، وما قرب منها لم يحرمن، فإذا أحرمن نفدن وبئس ما صنعن[81].
القول الثاني: إذا خرجت دون مسافة القصر رجعت ولزمت بيتها للعدة إذا لم تكن أحرمت فإن أحرمت لزمها المضي، فإن خرجت أكثر من مسافة[82] القصر مضت في حجها إن شاءت ما لم تحرم فإن أحرمت لزمها الحج، وهو قول الحنابلة[83].
واستدلوا بما يأتي:
1 - القريبة يلزمها الرجوع لأنها في حكم المقيمة، والمقيمة يلزمها البقاء، لأنه أمكنها الجمع بين الحقين من غير ضرر بالرجوع فلم يلزم إسقاط أحدها.
2 – إذا تباعدت إلى مسافة القصر كان في إرجاعها مضرة بها ومشقة عليها.
3 – ولأنها إذا ردت احتاجت إلى سفر للرجوع كالسفر للمضي، والمضي أرفق بها، وأشبهت من بلغت مقصدها.
4 – يلزمها المضي في حال الإحرام لأنهما عبادتان استوتا في الوجوب وضيق الوقت فوجب تقديم الأسبق والحج آكد وبتفويته مشقة عظيمة فوجب تقديمه.
القول الثالث: يستحب لها الرجوع ما لم تتباعد ولا يلزمها، فإذا تباعدت مضت في حجها، فإن أحرمت لزمها الإحرام ولم يجز لها التحليل، لكن لو أمكنها أن تلزم المكان الذي بلغها خبر الوفاة فيه حتى تنقضي عدتها، ثم تحج لزمها ذلك وهو قول الشافعية[84].
واستدلوا بما يأتي:
1 – يلزمها المضي في حالة الإحرام، لأنه سابق على العدة، وقد استويا في الوجوب وضيق الوقت والحج أسبق فقدم.
2 – تمضي في سفرها متى تباعدت، ولو لم تحرم لأن في قطعها عن السفر مشقة.(/17)
القول الرابع: أنها إن خرجت دون مسافة القصر لزمها الرجوع لتعتد في منزلها ولو أحرمت، وتكون كالمحصرة، وإن تجاوزت مسافة[85] القصر مضت أحرمت أو لم تحرم، وإذا كان من الجانبين أقل من مدة السفر: فهي بالخيار إن شاءت مضت وإن شاءت رجعت إلى منزلها وهو قول الحنفية ورواية في مذهب الحنابلة، وأما إن كانت تجاوزت مسافة القصر، وبقي أكثر من مسافة القصر: فإنها تلزم موضعها إذا كان مصراً وتعتد فيه، وإن كان في مغارة، أو في بعض القرى بحيث لا تأمن على نفسها ومالها: فلها أن تمضي حتى تصل مكاناً تأمن فيه، ثم لا تخرج منه حتى تنتهي عدتها. [86]
واستدلوا بما يأتي:
- لأنها إذا لم تبلغ مسافة القصر لا تحتاج في عودتها إلى إنشاء سفر وصارت كأنها في بلدها فتلزمه حتى تنتهي عدتها،ومثل ذلك إذا بلغها الخبر وبينها وبين مكة أقل من مسافة القصر تمضي لأنها لا تحتاج إلى سفر وفي الرجوع إنشاء سفر والمعتدة ممنوعة من إنشاء السفر.
وكذلك إذا بلغتها الوفاة وبينها وبين بلدها مسافة قصر وكذا بينها وبين مقصدها مسافة قصر أقامت في موضعها حتى تنتهي العدة لأنها ممنوعة من السفر.
والراجح – والله أعلم – هو القول الأول: قول المالكية رحمهم الله لما يأتي:
1 - لأن الحالة التي يقدم فيها الحج عندهم قدر مجمع عليه بين الفقهاء باستثناء حالة أن تحرم وبينها وبين بلدها دون مسافة القصر وبينها وبين مكة أكثر من مسافة القصر عند الحنفية فقط وما كان كذلك فهو أولى للعمل به.
2 – ولأنه عمل الصحابة رضي الله عنهم كما روى عن عمر رضي الله عنه أنه كان يرد المتوفى عنها زوجها من الميقات من أجل العدة.
3 – أن العدة حق واجب لله تعالى وهي – أيضاً – من حقوق الزوج بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً))، متفق عليه[87].
والحج حق لله تعالى وما اجتمع فيه حقان كان أولى بالتقديم.(/18)
4 – أن الحج وإن كان يجب على الفور فإنه يمكن أداؤه في أي عام إذا توفرت الشروط بخلاف العدة فإنها تفوت بفوات وقتها وما كان كذلك فهو أولى بالتقديم.
5 – وأما قول الشافعية والحنابلة: بأن يلحقها مضرة ومشقة فإنما ذاك في سبيل عبادة وطاعة الله عزَّ وجلَّ تؤديها كما أن في الحج نفسه مشقة على من بلده بعيد ولم يمنع ذلك وجوبه.
وأما قول الحنفية بأن الأمر مترتب على السفر فليس بصحيح وإنما هو مترتب على الخروج من بيت الزوجية كما في حديث فريعة السابق، فقد أمرها الرسول صلى الله عليه وسلم بأن تلزم بيت الزوج تعتد به حتى يبلغ الكتاب أجله، ولم يذكر أن المانع من خروجها السفر. فإذا أمكن عودة الزوجة إلى بيت الزوجية تقضي العدة فيه كان ذلك واجباً عليها ما لم تحرم لأنها إذا أحرمت فقد التزمت بالحج في وقت يجوز لها ذلك وما أحرم به فقد أمر الله عزَّ وجلَّ بإتمامه ولم يستثن أحدا إلا المحصر الممنوع من دخول الحرم.
2- المعتدة عن طلاق:
المطلقة لا تخلو من حالين: أ – مطلقة رجعية. ب – مطلقة بائن.
أ – المطلقة الرجعية، اختلف العلماء فيها على قولين.
القول الأول: أنه يجب عليها لزوم بيت الزوجية مدة العدة لا تخرج منه حتى تنتهي العدة وهو قول الحنفية، والمالكية، ورواية في مذهب الحنابلة[88].
واستدلوا بما يأتي:
1 - أن لزوم البيت وعدم الخروج منه لسفر، أو غيره من حقوق العدة، وهي حق لله تعالى، ولا يمكن تداركه إذا فات بخلاف الحج. فلا يملك الزوج، ولا غيره إسقاط شيء من حقوق العدة كما لا يملك إسقاطها[89].
2 – لعموم قوله تعالى: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ}[90] فذلك عام لكل خروج[91].
القول الثاني: أنها كالزوجة في حكمها، فإن أذن لها الزوج خرجت للحج، وإن لم يأذن لم تخرج إلا في حج الفريضة، وهذا قول الشافعية والحنابلة إلا أن الشافعية قالوا: إذا أحرمت فلا يحللها، وإنما له منعها من الخروج[92].
واستدلوا بما يأتي:(/19)
1 - أنها زوجة لها حكم الزوجات لها عليه النفقة والسكنى ويتوارثان، فلا تخرج لحج، أو غيره إلا بإذنه.
والراجح – والله أعلم – القول الأول؛ لقوة أدلته وبخاصة الآية الكريمة التي أمرت بلزوم البيت فلا تخرج، ولا تخرج منه حتى تنتهي العدة؛ استبراء لرحمها، وقياما بحق الاعتداد.
وأما قولهم: إنها في حكم الزوجات فيقال هي في حكم الزوجات إلا ما جعل الله لها فيه حكماً يخصها؛ وهو الاعتداد، ووجوب لزوم البيت في حال العدة. والله أعلم.
الحالة الثانية: المعتدة من طلاق بائن.
وقد اختلف العلماء في جواز خروجها على قولين: -
القول الأول: لا يجوز لها الخروج للحج، ويلزمها المكث في بيت زوجها، لا يجوز له أن يخرجها، ولا يجوز لها أن تخرج حتى تنتهي العدة؛ وهذا قول الحنفية، والمالكية، والشافعية، ورواية في مذهب الحنابلة[93].
واستدلوا بما يأتي:
1 - قوله تعالى: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ}[94] فقد نهى الله عزَّ وجلَّ في هذه الآية عن خروج المعتدة، وعن اخراجها، فدل ذلك أنه لا يجوز لها الخروج للسفر للحج، وغيره.
2 - ولأن العدة واجب محدد بوقت ينتهي بنهايته، والحج واجب يمكن إدراكه بعد ذلك. فوجب تقديم ما لا يمكن تداركه جمعاً بين الحقين.
3- ولأن عبدالله بن عمر رد المعتدات من ذي الحليفة، وعبد الله بن مسعود ردهن من الجحفة[95][96].
القول الثاني: يجوز لها الخروج، لأنه لا سلطان للزوج عليها، ولا يلزمها المكث في مكان معين، وهو قول في مذهب الحنابلة[97].
واستدلوا بما يأتي:(/20)
- أنها خرجت من عصمة الزوجية، ولا يجب عليها احداد فجاز لها الخروج. والراجح – والله أعلم – القول الأول، وذلك لقوة أدلته، وسلامتها من المعارض. وأما قولهم: أنه لا سلطان للزوج عليها، ولا احداد عليها، فيجاب عنه بأن سلطان العدة لازال باقيا عليها بنص القرآن، وفعل السلف، وهو من حقوق الزوج عليها، ومن حقوق الله تعالى؛ فيجب عليها القيام به، وأن لا تسافر لحج ولا غيره حتى تنتهي العدة ، والله أعلم.
الباب الثاني
أثر الحيض والنفاس في مناسك الحج والعمرة
وفيه فصلان:
الفصل الأول: أثر الحيض والنفاس في الإحرام وسننه.
الفصل الثاني: أثر الحيض والنفاس في دخول المسجد
الحرام، والطواف فيه.
الفصل الأول
أثر الحيض والنفاس في الإحرام وسننه
تمهيد:
خلق الله عزَّ وجلَّ في المرأة بعض الأعضاء، والوظائف على غير صفتها في الرجل لاختلاف طبيعة وظيفة كل منهما في الحياة – فقد خص الله عزَّ وجلَّ المرأة برحم يخلق الله عزَّ وجلَّ فيه النسل، ويكون مسكناً له وقرارا طيلة مدة الحمل، وخلق الله عزَّ وجلَّ الحيض والنفاس، وكتبه على بنات آدم لحكمة يعلمها عزَّ وجلَّ، ولعل – منها أنه ينقي الرحم إذا كان خالياً من الحمل، ويغذي الولد في فترة الحمل، وتعلم به العدة. ولهذا الدم الذي خلقه الله عزَّ وجلَّ في المرأة أحكام خاصة به في العبادات، والطلاق، والعدد، ومن تلك العبادات المناسك " الحج والعمرة " وهو موضوع [98] هذا الفصل.
وليس للحيض، والنفاس من أثر على الإحرام الذي هو عقد النسك بالحج أو العمرة، والمرأة في ذلك كالرجل، ولو كانت حائضاً أو نفساء فإحرامها ينعقد بما أحرمت به من حج أو عمرة، أو بهما معا. ولكن اختلف العلماء في انتظار المرأة الحائض الطهر قبل الإهلال أهو الأفضل أم لا. وكذا سنن الإحرام ليس للحيض والنفاس أثر عليها إلا الاغتسال للإحرام وقع خلاف بين العلماء في بعض مسائله وهي كما يأتي:
أ - حكم تأخير الإهلال للحائض والنفساء حتى تطهر.(/21)
ب - حكم الاغتسال عند الإحرام للحائض والنفساء.
جـ- حكم اغتسال الحائض والنفساء لدخول مكة.
أ – حكم تأخير الإهلال للحائض والنفساء حتى تطهر:
لا يجب على الحائض والنفساء أن تؤخر الإهلال حتى تطهر بإجماع[99] أهل العلم؛ لكن اختلفوا في الأفضل لها على قولين: -
القول الأول: أن الأفضل للحائض والنفساء الإحرام بالنسك، ولا تنتظر الطهر، وهذا قول المالكية والظاهر من عبارات الحنفية وإن لم يصرحوا بذلك[100].
واستدلوا بما يأتي:
- لأن التعجيل في الدخول في العبادة أولى من الانتظار لتحصيل طهر لا يشترط لها، ولأن المقصود من إقامة سنة الغسل النظافة، فيستوي فيه الرجل والمرأة، وسواء كانت طاهراً، أو حائضاً[101].
القول الثاني: أن الأفضل للحائض، والنفساء الانتظار في الميقات حتى تطهرا؛ لتحرما طاهرتين إذا أمكنهما ذلك. وهذا قول الشافعية، والحنابلة[102] إلا أن عبارة الحنابلة في المغني، وغيره: إن رجت الحائض الطهر قبل الخروج من الميقات أو النفساء: أستحب لها تأخير الاغتسال حتى تطهر[103]. أ هـ.
وعللوا: بأن الإحرام بعد الاغتسال وهي طاهرة أكمل لها.
والراجح – والله أعلم – أن الأفضل لها المبادرة في الدخول إلى العبادة، وأن لا تؤخر الإحرام حتى تطهر لتحصل ثواب عبادة الإحرام، وتبدأ في سننه، ولأنه أرفق بها غالباً، ولو كان فيه فضل لبينه الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته.
ب – حكم الاغتسال عند الإحرام للحائض والنفساء:
اختلف العلماء في حكم الاغتسال عند الإحرام للحائض والنفساء على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن الاغتسال عند الإحرام سنة في حق الرجال والنساء وسواء كانت المرأة طاهراً، أو حائضاً، أو نفساء وهذا قول الحنفية، والمالكية، والحنابلة، والقول الصحيح في مذهب الشافعية[104].
واستدلوا بما يأتي:(/22)
1 – حديث جابر بن عبد الله: ((في قصة أسماء بنت عميس حين نفست بذي الحليفة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أبا بكر فأمرها أن تغتسل وتهل)). أخرجه الإمام مسلم وغيره[105].
2 – حديث عائشة رضي الله عنها قالت: ((نفست أسماء بنت عميس بمحمد بن أبي بكر بالشجرة[106] فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر يأمرها أن تغتسل وتهل)). أخرجه الإمام مسلم وغيره[107].
قالوا: والأمر في الحديثين للاستحباب، لأن الاغتسال عن الحيض، والنفاس لا يجب حال قيام الحيض والنفاس، فلم يبق إلا حكم الاغتسال للإحرام وذلك مستحب لجميع الحاج[108].
3 – واستدلوا بالإجماع على أن الإحرام جائز بغير اغتسال[109].
القول الثاني: أن الاغتسال للحائض والنفساء غير مستحب ذكره النووي في المجموع لبعض الشافعية وقال: حكاه الرافعي[110].
القول الثالث: أن الاغتسال للإحرام فرض على النفساء خاصة وهذا قول أهل الظاهر[111].
واستدلوا: بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديثين السابقين لأسماء بالاغتسال وهي نفساء والأمر للوجوب فدل ذلك على أن اغتسال النفساء للإحرام واجب[112].
والراجح – والله أعلم – هو القول الأول، أن الاغتسال للحائض والنفساء عند الإحرام مستحب لا واجب.
أما القائلون بأنه لا يستحب فهم محجوجون بالإجماع على استحبابه للحائض والنفساء مثل غيرهما، ومحجوجون بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم لأسماء بالاغتسال للإحرام وهي نفساء والحائض مثلها.
وأما قول أهل الظاهر بوجوبه على النفساء دون غيرها، فقد انعقد الإجماع على خلافه وأن الأمر في الحديث للاستحباب لا للوجوب إذ لا معنى تختص به النفساء وحدها دون الحائض وهي تماثلها، ودون الطاهر وهي أولى منها.
ج – حكم اغتسال الحائض والنفساء لدخول مكة:
يشرع للحاج والمعتمر الاغتسال لدخول مكة رجلا كان، أو مرأة عند جميع الأئمة الأربعة[113].(/23)
ودليل ذلك ما رواه نافع قال: ((كان ابن عمر رضي الله عنهما إذا دخل أدنى الحرم أمسك عن التلبية، ثم يبيت بذي طوى[114]، ثم يصلي به الصبح ويغتسل ويحدث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك)) متفق عليه[115].
وقد اختلف العلماء في استحباب هذا الغسل للحائض والنفساء على قولين:
القول الأول: أنه يستحب لهما الاغتسال كما لو كانت طاهرتين وهذا قول الحنفية، والشافعية، والحنابلة، وقول في مذهب المالكية[116].
واستدلوا بما يأتي:
1 – لأن الحديث عام في بيان سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يستثن منه أحد، فدل على مشروعيته لكل داخل محرم.
2 – ولأنه غسل يراد به التنظيف؛ وهذا يحصل مع الحيض.
3 – ولأنه غسل يراد لدخول مكة؛ والحائض والنفساء وغيرهما في ذلك سواء.
4 – ولقول الرسول صلى الله عليه وسلم لعائشة وهي حائض بسرف[117] ((افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري))[118] متفق عليه، ولم يستثن من ذلك غسل دخول مكة.
القول الثاني: أنه لا يستحب للحائض. والنفساء الاغتسال لدخول مكة، وهو قول المالكية[119].
واستدلوا بقولهم: أن الاغتسال إنما هو للطواف، والحائض والنفساء لا يجزؤهما الاغتسال للطواف قبل الطهر، بل لابد من الاغتسال للطواف بعد الطهر، ولهذا لا يستحب لهما هذا الاغتسال حال الحيض والنفاس.
والراجح – والله أعلم – القول باستحباب الغسل للحائض، والنفساء لدخول مكة كغيرهما من الحجاج والعمار؛ لقوة الأدلة التي استدل بها أهل هذا القول، وسلامتها من المعارض.
ويجاب عن دليل أهل القول الثاني: بأنه لا دليل على دعواكم أن المراد بهذا الاغتسال: الطواف، بل الظاهر أن المراد به الاستعداد بالنظافة لدخول مكة حيث يلتقي جموع الحجاج فيها؛ فيلتقوا على أحسن حال من النظافة، أما الطواف وحده فلا يسن له الاغتسال، ولهذا لم يغتسل له الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في طواف الإفاضة[120].
الفصل الثاني(/24)
أثر الحيض والنفاس على الدخول في المسجد الحرام
والطواف فيه
للحيض والنفاس أثرهما في دخول المسجد الحرام، والطواف والسعي، فقد شرع الله لهما في هذه العبادات أحكاما تخصهما سأوردها في هذا الفصل على النحو الأتي:
المبحث الأول: حكم دخول المرأة الحائض والنفساء إلى المسجد الحرام.
المبحث الثاني: حكم طواف المرأة الحائض النفساء.
المبحث الثالث: حكم سعي المرأة الحائض والنفساء.
المبحث الرابع: حكم طواف الوداع للمرأة الحائض والنفساء.
المبحث الأول: حكم دخولهما المسجد:
اختلف العلماء في حكم دخولهما المسجد على ثلاثة أقوال:
منع الدخول والعبور، ومنع الدخول دون العبور، وجواز الدخول والعبور، وتفصيلهما كما يأتي:
القول الأول: لا يجوز للحائض، والنفساء دخول المسجد؛ سواء كان المسجد الحرام، أو غيره، ولا العبور فيه إلا أن لا يجدا منه بدا فيتوضأ[121]، ويعبرا. وهو قول الحنفية ووجه في مذهب الشافعية، ورواية في مذهب الحنابلة[122].
واستدلوا بما يأتي:
1 – حديث عائشة رضي الله عنها قالت: جاء النبي صلى الله عليه وسلم، وبيوت أصحابه شارعة في المسجد، فقال: ((وجهوا هذه البيوت عند المسجد، ثم دخل النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يصنع القوم شيئاً رجاء أن تنزل فيهم رخصة، فخرج إليهم بعد فقال: فإني لا أحلها لحائض ولا جنب)) أخرجه أبو داود وغيره[123]. فقد حرمها الرسول صلى الله عليه وسلم على الحائض والجنب تحريماً مطلقاً، والنفساء في معنى الحائض.
2 – واستدلوا بحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: ((يا علي لا يحل لأحد يجنب في هذا المسجد غيري وغيرك)) رواه الترمذي[124].
3 – وقالوا: لأنه موضع لا يجوز المكث فيه، فكذا العبور كالدار المغصوبة[125].(/25)
القول الثاني: يحرم على المرأة الحائض والنفساء: المكث في المسجد، وأما العبول فيه فلا يحرم إذا استوثقت من عدم تلويثه، وهو قول المالكية، والشافعية، والحنابلة إلا أن الحنابلة اشترطوا الحاجة[126] في العبور.
واستدلوا بما يأتي:
1 – قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} الآية[127].
قالوا: المعنى لا تقربوا مواضع الصلاة لأنه ليس في الصلاة عبور سبيل إنما عبور السبيل في مواضعها، وهو المسجد، وهذا التفسير مروي عن ابن عباس، والحيض والنفاس في معنى الجنابة[128].
2 – واستدلوا بما روي عن جابر قال: ((كان أحدنا يمر في المسجد مجتازاً وهو جنب))[129].
قالوا: فهذا دليل على جواز المرور دون الجلوس.
3 – أن هذا قول كثير من الصحابة والتابعين كابن مسعود، وابن عباس، وسعيد بن المسيب، والحسن البصري، وسعيد بن جبير[130].
القول الثالث: أن المرأة الحائض والنفساء لا تمنعان من الدخول إلى المسجد، والمكث فيه؛ وهو قول الظاهرية ورواية في مذهب الحنابلة إذا توضأت[131].
واستدلوا بما يأتي:
1 – قول الرسول صلى الله عليه وسلم ((المؤمن لا ينجس))[132]. متفق عليه.
2 – ولأن أهل الصفة يبيتون في المسجد بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم وهم جماعة كثير ولا شك أن فيهم من يحتلم وما نهو قط.
3 – قالوا: وأما الآية فالنهي فيها عن الصلاة لا عن مواضع الصلاة[133].
المناقشة والترجيح:
بالنظر في أدلة الأقوال الثلاثة يظهر أنها تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: أحاديث ضعيفة؛ وهي التي تنص على تحريم لبث الحائض، والنفساء، والجنب في المسجد.
القسم الثاني: أحاديث صحيحة، ولكنها غير صريحة في الدلالة على جواز المكث في المسجد كحديث ((المؤمن لا ينجس)) إذ أنه لا يلزم من عدم نجاسته جواز لبثه في المسجد.(/26)
القسم الثالث: الآية الكريمة، وهي أقوى الأدلة في هذا الموضوع ولكنها غير صريحة – أيضاً – إلا أن حملها على ما حملها عليه أهل القول الثاني، وهو النهي عن قربان مواضع الصلاة حال الجنابة – والحيض والنفاس مثلها – أولى؛ لأن ذلك أبلغ في النهي عن الصلاة على تلك الحال، ولأن بيان حكم التيمم للمسافر الذي حمل الآية عليه أهل القولين الآخرين: قد بين صريحاً في آية أخرى وهي قول الله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[134].
وهو حكم يعم المسافر والمقيم.
فحمل الآية الأولى على مواضع الصلاة، وتقدير المجاز: أولى؛ ليكون لها دلالة خاصة. وترجيل عائشة رضي الله عنها رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي حائض وهو في المسجد وهي في حجرتها[135] مؤيد لذلك، فلو كان دخولها للمسجد جائز لدخلته لذلك؛ لأنه أرفق برسول الله صلى الله عليه وسلم، لكنها لم تفعل لأنه لا يجوز لها المكث في المسجد.
وبهذا يتبين رجحان قول القائلين بأنه لا يجوز للحائض، والنفساء والجنب أن يمكثوا في المسجد. أما العبور فجائز إذا أمنت تلويثه.
وأما قول القائلين بجواز المكث: إن أهل الصفة يبيتون في المسجد بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم وهم جماعة كثير، ولا شك أن فيهم من يحتلم، وما نهو عنه قط.(/27)
فالجواب عنه: أن النهي في الآية عن المكث في المسجد: مع تحقق الجنابة لا مع احتمالها، ولذلك جاز لهم النوم، أما إذا تحققت فيجب عليهم الخروج للاغتسال، ويكون حكمهم في ذلك حكم عابر السبيل في المسجد[136]. ويحتمل أيضاً: أن مبيتهم في مكان منعزل عن المسجد ليه منه وإن كان متصلا به. والله أعلم.
المبحث الثاني: حكم طواف المرأة الحائض، أو النفساء:
الحيض، والنفاس، ومثلهما الجنابة حدث أكبر[137] يوجب الغسل، وقد تبينا في الفصل السابق أثر هذه الأحداث في دخول المسجد، وأن الراجح من الأقوال الثلاثة جواز العبور لهم في المسجد دون المكث فيه إذا أمنت الحائض والنفساء تلويث المسجد.
وهذا الحكم يؤثر على الطواف بالبيت الحرام؛ لأن البيت داخل المسجد الحرام فلا يمكن الطواف به إلا بدخول المسجد الحرام فيمنعون من ذلك لذلك.
وقد اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في تأثير الحدث – وأعظمه الحيض والنفاس والجنابة – على صحة الطواف.
فالخلاف في هذه المسألة هو في بيان حكم الطهارة من الحدث للطواف. ومنشأ الخلاف: هو تردد الطواف بين إلحاقة بالصلاة التي يشترط لها الطهارة من جميع الأحداث، أو إلحاقه بالسعي بين الصفا والمروة في جوازه من غير طهارة وكذا سائر المناسك[138].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله: فنهيه الحائض عن الطواف بالبيت إما أن يكون لأجل المسجد لكونها منهية عن اللبث فيه، وفي الطواف لبث، أو عن الدخول إليه مطلقاً لمرور أو لبث، وإما أن يكون لكون الطواف نفسه يحرم مع الحيض كما يحرم على الحائض الصلاة، والصيام بالنص والإجماع[139]. أ هـ.
وقد اختلف العلماء في حكم طواف الحائض، والنفساء على أربعة أقوال: -(/28)
القول الأول: أن الطهارة من الحيض والنفاس، وكذا من سائر الأحداث شرط في صحة الطواف، فلا يصح من الحائض، والنفساء طواف، ولا يجوز لهما ذلك، وتنتظرا في الطواف الركن حتى تطهرا، ويسقط عنهما طواف الوداع، فلا يلزمهما الانتظار حتى تطهرا.
وهذا قول المالكية، والشافعية، والحنابلة [140].
واستدلوا بما يأتي:
1 – قول الرسول صلى الله عليه وسلم – في حديث ابن عباس – ((الطواف بالبيت صلاة إلا أنكم تتكلمون فيه)) أخرجه الترمذي، والحاكم وصححه. [141]
وجه الاستدلال: أن أحكام الطواف بالبيت كأحكام الصلاة إلا في جواز الكلام في الطواف دون الصلاة. ومعلوم أن الطهارة شرط في صحة الصلاة بالإجماع. فكذلك تكون شرطاً في صحة الطواف. [142]
2 – حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن النفساء والحائض تغتسل وتحرم وتقضي المناسك كلها غير أن لا تطوف بالبيت)) أخرجه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن غريب من هذا الوجه. [143]
وجده الاستدلال: أن الرسول صلى الله عليه وسلم جوز لها أن تفعل جميع المناسك وهي حائض، أو نفساء إلا الطواف بالبيت فإنه لا يجوز لها فعله وهي حائض، أو نفساء، وإنما تفعله بعد الطهر. [144]
3 – حديث عائشة رضي الله عنها قالت: ((خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم لا نذكر إلا الحج فلما جئنا سرف فطمثت [145] فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا أبكي فقال ما يبكيك ؟ قلت: لوددت – والله – أني لم أحج العام، قال: لعلك نفست ؟ قالت نعم قال: فإن ذلك شيء كتبه الله على بنات آدم فافعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي البيت حتى تطهري)) متفق عليه. [146]
وجه الاستدلال: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أذن لها – وهي حائض – في فعل جميع مناسك الحج إلا الطواف بالبيت فقد نهاها النبي صلى الله عليه وسلم عن الطواف حتى تغتسل والنهي يقتضي الفساد في العبادة. [147](/29)
4 – واستدلوا بحديث عائشة رضي الله عنها وفيه: ((فقالت صفية [148] ما أراني إلا حابستهم. قال: عقري [149] حلقي أو ما طفت يوم النحر قالت قلت: بلى، قال لا بأس انفري.. الحديث)) متفق عليه. [150]
وجه الاستدلال: أن صفية رضي الله عنها لما حاضت أظهرت حزنها على ذلك؛ لأنها تخشى أن تتسبب في حبس الرسول صلى الله عليه وسلم عن السفر؛ لأنها لم تطف طواف الوداع، وأقرها الرسول صلى الله عليه وسلم على أن الحيض قبل الطواف يمنع منه، ويتسبب في الحبس، والتأخير لكن ذلك إنما يكون في الطواف الركن، أما الواجب: فإنه يسقط عن الحائط والنفساء ولا يلزمهما، فدل ذلك على أن الطهارة شرط في صحة الطواف.
5 – حديث عائشة رضي الله عنها قالت: ((إن أول شيء بدأ به حين قدم النبي صلى الله عليه وسلم أنه توضأ، ثم طاف.. الحديث)) متفق عليه. [151]
وجه الاستدلال: أن الرسول صلى الله عليه وسلم توضأ للطواف، وقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأخذ المناسك عنه بقوله صلى الله عليه وسلم ((لتأخذوا مناسككم فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه)). [152]
القول الثاني: أن الطهارة من الحدث ليست شرطاً في صحة الطواف وإنما هي واجبة، فيصح الطواف مع الحدث، فلو طافت الحائض، والنفساء صح طوافهما، فإن أمكنهما إعادته بعد الطهر أعادتاه، وإلا لزمهما الفدية، [153] وهذا قول الحنفية ورواية في مذهب الحنابلة، وفي القول الآخر عند الحنفية أن الطهارة من الحدث سنة لا واجب. [154]
واستدلوا بما يأتي:
1 – قول الله تعالى: { وليطوفوا بالبيت العتيق }. [155]
وجه الاستدلال: أن الله تعالى أمر بالطواف أمراً مطلقا عن شرط الطهارة، ولا يجوز تقييد مطلق الكتاب بخبر الواحد؛ [156] فالركنية لا تثبت بخبر الواحد لأنه لا يوجب علم اليقين والركنية لا يوجبها إلا ما يثبت علم اليقين.(/30)
القول الثالث: أن الطهارة من الحديث ليست شرطاً في صحة الطواف، وإنما هي واجبة من الحدث الأكبر، مستحبة من الحدث الأصغر، ويسقط الواجب في حال العجز عنه. فإذا اضطرت الحائض أو النفساء إلى الطواف حال الحيض والنفاس لعدم إمكان البقاء حتى الطهر أجزأهما ولا شيء عليهما، وهذا قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله. [157]
واستدل بما يأتي:
1 – أنه لم ينقل أحد عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه أمر بالطهارة للطواف ولا نهى المحدث أن يطوف، لكنه طاف طاهراً وهذا دليل على أنه سنة لا واجب.
2 – أن النصوص التي تدل على وجوب الطهارة للطواف من الحيض والنفاس إنما تدل على الوجوب مطلقا؛ والوجوب المطلق مشروط بالقدرة عليه لقوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم }[158]. فإذا لم يمكنهما المقام لانتظار الطهر لما يلحقهما من مشقة الانتظار، والضرر عليهما في أنفسهما، ودينهما، ومالهما: جاز لهما الطواف مع الحيض والنفاس وأجزأهما للضرورة.
القول الرابع: أن الطواف بالبيت على غير طهارة جائز إلا المرأة الحائض، فإنه لا يجوز لها أن تطوف حتى تطهر. وهذا قول الظاهرية. [159]
واستدلوا بما يأتي:
- أن الرسول صلى الله عليه وسلم منع أم المؤمنين – إذ حاضت من الطواف بالبيت، وولدت أسماء بنت عميس بذي الحليفة فأمرها عليه السلام بأن تغتسل، وتهل، ولم ينهها عن الطواف؛ فلو كانت الطهارة من شروط الطواف لبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم كما بين أمر الحائض، وكذلك لم ينه الجنب عن الطواف.
والراجح – والله أعلم – القول الأول؛ أن الطهارة شرط لصحة الطواف، فلا يجوز للحائض والنفساء الطواف على غير طهارة، ولو طافتا لم يجزهما، وذلك لقوة أدلته، وصراحتها، ووضوحها في الدلالة على حكمها.
وأما أدلة الأقوال الأخرى فيجاب عنها بما يأتي:
1 – استدل الحنفية بعموم الآية، فالجواب عنه من وجوه:(/31)
الأول: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بأخذ المناسك عنه صلى الله عليه وسلم بقوله ((لتأخذوا مناسككم فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه)) [160]، فطوافه عليه الصلاة والسلام بيان للطواف المجمل في الآية الكريمة؛ والسنة تبين مجمل القرآن [161]، وهو عليه الصلاة والسلام توضأ ثم طاف كما سبق بيانه. [162]
الثاني: أنا لا نسلم بعدم جواز تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد، بل الصحيح جوازه[163] فإذا كانت الآية عامة ينظر ماجاءت به السنة لتكون السنة هي الدليل على ظاهر الآية.
وذلك مثل آية المواريث
{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [164]
فهي عامة لكل من يقع عليه اسم الولد؛ وإن كان يهوديا أو نصرانيا، فلما جاءت السنة بأن لا يرث مسلم كافرا ولا كافر مسلما، [165] خصصت الأولاد بما عدا هؤلاء، وانعقد الإجماع على ذلك. [166]
الثالث: أن الطواف بغير طهارة مكروه عند الحنفية، ولا يجوز حمل الآية على طواف مكروه، لأن الله تعالى لا يأمر بالمكروه. [167]
وقول شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – لم ينقل الأمر بالطهارة.. إلخ فقد ذكر الجمهور من أدلة الأمر بالطهارة ما يكفي لبيان وجوب الطهارة من الحدثين الأصغر والكبر.
وقوله: أن النصوص التي تدل على وجوب الطهارة للطواف من الحيض والنفاس إنما تدل على الوجوب مطلقاً، والوجوب المطلق مشروط بالقدرة عليه... إلخ.
يجاب عنه بأن انتظار المرأة للطواف حتى تطهر ليس من باب الضرورات المبيحة لترك هذا الواجب بدليل انتظار الرسول صلى الله عليه وسلم لعائشة حتى طهرت، وعزمه على انتظار صفية لو لم تكن طافت للإفاضة حيث قال: ((أحابستنا هي)).(/32)
لكن فيما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – وفي رواية الحنابلة – رحمهم الله – أن الطواف مع الحدث يصح من الناسي والمعذور في هذا، مخرج لعلماء الإسلام في الفتوى بذلك في الحالات التي يرون فيها العنت والمشقة والضرر، لاعتماد هذه الأقوال على أصول ثابتة، وقواعد مقررة في الشريعة الإسلامية ترفع الحرج والمشقة والعنت والضيق، وتعفو عن الخطأ والنسيان، والله أعلم.
وأما قول أهل الظاهر بالتفريق بين الحيض والنفاس، فإنه لا وجه لذلك، لاتحادهما في نوع العذر، وفي الأحكام المترتبة عليهما، وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم لعائشة، وأمثالها بالانتظار حتى تطهر يشمل النفساء، وهو زيادة على الحكم السابق الذي بينه الرسول صلى الله عليه وسلم لها في الميقات؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم بين أن العلة في الأمر بالانتظار عدم الطهر، وأن جواز الطواف منها مرهون بالطهر ((حتى تطهري))، وكذلك النفساء، لا يجوز لها الطواف إلا بعد الطهر.
كما أن تطهره صلى الله عليه وسلم من الحدثين قبل الطواف مع قوله ((لتأخذوا مناسككم)) دليل على وجوب التطهر من الحدثين قبل الطواف، والله أعلم.
المبحث الثالث: حكم سعي المرأة الحائض والنفساء:
اختلف العلماء في حكم سعي المرأة الحائض والنساء على قولين:
القول الأول: أن الطهارة من الحيض، والنفاس، ومن سائر الأحداث ليست شرطاً في صحة السعي، فإذا طافت المرأة الحاجة، أو المعتمرة، وهي طاهر ثم حاضت، أو نفست فإنها تسعى، ولا تنتظر الطهر ولا شيء عليها، وهو قول جمهور العلماء، ومنهم الأئمة الأربعة [168] وقد نص بعضهم على استحباب الطهارة فيه من جميع الأحداث. [169]
واستدلوا بما يأتي:
1 – حديث عائشة رضي الله عنها، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: ((لعلك نفست ؟ قلت: نعم قال: فإن ذلك شيء كتبه الله على بنات آدم فافعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري)) متفق عليه. [170](/33)
وجه الاستشهاد: أن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لم يمنعها من السعي – وهي حائض – فدل ذلك على جواز سعي الحائض، والنفساء مثلها.
2 – ولأن السعي نسك غير متعلق بالمسجد فلا تشترط له الطهارة عن الحيض، والجنابة كالوقوف بعرفة. [171]
3 – وقد حكى ابن المنذر الإجماع على أن من سعي بين الصفا والمروة على غير طهارة أن ذلك يجزئه وانفرد الحسن فقال: إن ذكره قبل أن يحلق فليعد الطواف. أ هـ. [172]
القول الثاني: أن الطهارة من الحيض والنفاس، ومن سائر الأحداث شرط في صحة السعي. وهو رواية في مذهب الحنابلة. وذكر بعض علماء المالكية أن المالكية يشترطون الطهارة من الحيض للسعي كالطواف. [173]
واستدلوا بما يأتي:
1 - حديث عائشة رضي الله عنها – السابق – فقد ورد في إحدى رواياته بلفظ ((افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت و لا بين الصفا والمروة حتى تطهري)) أخرجه الإمام مالك في الموطأ. [174]
والراجح – والله أعلم – القول الأول:
وذلك لصحة الرواية التي استدلوا بها واشتهارها، وهي لم تشترط الطهارة للسعي، وأما الرواية التي استدل بها أهل القول الثاني: فإن الزيادة فيها وهي قوله: ((ولا بين الصفا والمروة)) قد انفرد بها يحيى بن يحيى التميمي النيسابوري [175] عن الإمام مالك دون بقية الرواية فهي رواية شاذة. [176]
يقول العلامة ابن عبد البر – بعد أن ذكر الحديث: هكذا قال يحيى عن مالك في هذا الحديث ((غير أن لا تطوفي بالبيت ولا بين الصفا والمروة)).
وقال غيره من رواة الموطأ: ((غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري)) لم يذكروا ((ولا بين الصفا والمروة))، ولا ذكر أحد من رواة الموطأ – في هذا الحديث – ((ولا بين الصفا والمروة)) – غير يحيى – فيما علمت، وهو عندي وهم منه – والله أعلم. أ هـ [177](/34)
ومما يؤيد ذلك: أن الإمام مالك – رحمه الله وهو الذي روى عنه يحيى بن يحيى هذه الرواية يقول: والمرأة الحائض إذا كانت قد طافت بالبيت وصلت فإنها تسعى بين الصفا والمروة، وتقف بعرفة والمزدلفة. وترمي الجمار غير أنها لا تفيض حتى تطهر من حيضتها. أ هـ [178]
وعلى فرض صحة رواية الإمام يحيى بن يحيى فإنها لا تدل على اشتراط الطهارة للسعي وإنما تدل: على إشتراط تقدم طواف صحيح قبله.
يقول العلامة ابن حجر في فتح الباري: [179] فإن كان يحيى حفظه فلا يدل على اشتراط الوضوء للسعي؛ لأن السعي يتوقف على تقدم طواف قبله، فإذا كان الطواف ممتنعاً: امتنع لذلك لا لاشتراط الطهارة له. أ هـ.
وقد ضعف بعض علماء الحنابلة – رواية المذهب التي تشترط الطهارة للسعي.
يقول القاضي أبو يعلي – بعد أن ذكر الرواية التي تشترط الطهارة للسعي: المذهب الصحيح أن الطهارة لا تجب في ذلك. أ هـ [180]
ويقول ابن قدامة: وقد ذكر بعض أصحابنا رواية عن الإمام أحمد: أن الطهارة في السعي كالطهارة في الطواف. ولا يعول عليه. أ هـ [181]
والدليل على استحباب الطهارة في السعي: أن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم توضأ، ثم طاف، وعسي كما سبق [182] ذلك في حديث عائشة رضي الله عنها. [183]
المبحث الرابع: حكم طواف الوداع للمرأة الحائض والنفساء:
ذهب كثير [184] من العلماء إلى أن طواف الوداع [185] واجب من واجبات الحج؛ فإذا انتهت أعمال الحج، وأراد الحاج الرجوع إلى بلده: وجب عليه أن يطوف للوداع قبل سفره رجلاً كان، أو امرأة إلا الحائض، والنفساء، فقد خفف الله عنهما وعن رفقتهما فلا تحتبس المرأة الحائض أو النفساء من أجل طواف الوداع، بل تسافر مع رفقتها ولو لم تطف هذا الطواف؛ هذا هو مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم، لكن إن طهرت قبل الخروج من مكة وجب عليها الوداع – عند من يقول بوجوبه – لأنها في حكم المقيمة، فإن لم تطف مع طهرها وهي في مكة وجب عليها دم. [186]
ودليل ذلك:(/35)
1 – قول ابن عباس رضي الله عنهما: ((أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن الحائض)) متفق عليه. [187]
2 – حديث ابن عباس رضي الله عنهما: ((أنه كان يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للحائض أن تصدر قبل أن تطوف إذا كانت قد طافت في الإفاضة)) رواه أحمد. [188]
3 – حديث عائشة رضي الله عنها قالت: ((لما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينفر إذا صفية على باب خبائها [189] كئيبة حزينة قال: عقري حلقي إنك لحابستنا، ثم قال لها: أكنت أفضت يوم النحر، قالت: نعم قال فانفري)) متفق عليه. [190]
مسألة:
ومن المسائل المتعلقة بطواف الوداع بيان حكم وقول المرأة الحائض، والنفساء بباب المسجد عند الوداع؛ فقد ذكر بعض فقهاء الشافعية والحنابلة: أنه يستحب للمرأة الحائض والنفساء: الوقوف بباب المسجد الحرام عند الوداع والدعاء عنده، [191] ومن نصوصهم في ذلك قول: النووي في مناسكه: ولا يجب طواف الوداع على الحائض والنفساء، ولا دم عليهما لتركه؛ لأنها ليست مخاطبة به لكن يستحب لها أن تقف على باب المسجد الحرام. وتدعو [192] أ هـ.
وقال المجد في المحرر: ولا وداع عليها – أي المراة – مع حيض ونفاس ولا دم بسبب ذلك لكن يسن لها أن تقف عند باب المسجد فتدعو. [193] أ هـ.
وقال ابن قدامة في العمدة: إلا الحائض والنفساء فلا وداع عليهما ويستحب لهما الوقوف عند باب المسجد والدعاء. [194] أ هـ.
وقال البهوتي: والحائض والنفساء تقف على باب المسجد الحرام، وتدعو بذلك الدعاء[195] استحباباً لتعذر دخولها. [196] أ هـ.(/36)
لكن هؤلاء الفقهاء – رحمهم الله – لم يذكروا دليلاً على مشروعية هذا الوقوف للحائض والنفساء، بل إن الدليل الثابت على خلافه كما مر [197] في حديث صفية حيث لم يأمرها الرسول صلى الله عليه وسلم – وقد حاضت – بهذا الوقوف؛ فلو كان مشروعا لبين لها ذلك النبي صلى الله عليه سلم، وهو عليه الصلاة والسلام إنما أمرها بالخروج فقط، ولم يأمرها بالوقوف بباب المسجد، والدعاء عنده، والله أعلم.
الباب الثالث
الحجاب والستر وأثرهما على المناسك
وفيه الفصول التالية
الفصل الأول: حكم المحرم للمرأة في سفرها للحج والعمرة.
مسألة: أثر وفاة المحرم في أداء النسك.
الفصل الثاني: أثر الستر والحجاب في ملابس الإحرام.
الفصل الثالث: أثر الحجاب والستر في سنن الأقوال.
الفصل الرابع: أثر الحجاب والستر في سنن الأفعال.
الفصل الخامس: تقصير المرأة شعر رأسها للتحلل من النسك.
الباب الثالث
الحجاب والستر وأثرهما على المناسك
تمهيد:
دعا الله عزَّ وجلَّ المرأة – في الإسلام – إلى التستر، والحجاب، وعدم الاختلاط بالرجال. يقول الله عزَّ وجلَّ:
{وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى}. [198]
ويقول سبحانه وتعالى:
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً}. [199]
ويقول سبحانه وتعالى:
{وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ... } الآية. [200](/37)
وقد أخرج [201] البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ((يرحم الله نساء المهاجرات الأول؛ لما أنزل الله وليضربن بخمرهن على جيوبهن شققن مروطهن [202] فاختمرن بها)).
((ولقد كانت عائشة رضي الله عنها، وغيرها من أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونساء المؤمنين محرمات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته فإذا مر بهن الركبان سدلت كل واحدة منهن جلبابها على وجهها فإذا فارقوهن كشفن وجوههن)) [203].
وعن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما قالت: ((كنا نغطي وجوهنا من الرجال، وكنا نمتشط قبل ذلك في الإحرام)) أخرجه الحاكم وقال حديث صحيح على شرط الشيخين)) [204]
ولهذا الستر والحجاب الذي أمرت به المرأة أثره على أحكام المناسك من حج أو عمرة يظهر ذلك من خلال المسائل التي سيتناولها البحث في هذا الباب.
الفصل الأول
حكم المحرم للمرأة في سفرها للحج
اختلف العلماء في حكم سفر المرأة للحج بلا محرم [205] على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن المحرم شرط في وجوب الحج على المرأة، ولا يجوز لها أن تحج من غير محرم، وهذا مذهب الحنابلة. فلا يجب عليها أن تحج حتى تجد محرما، ولا يجوز لها الخروج للحج إلا مع محرم. وفي رواية أخرى في مذهب الحنابلة أن المحرم شرط لأدائها للحج بنفسها لا لوجوبه عليها، فإذا لم تجد محرما وقد وجدت الزاد والراحلة، وجب عليها أن تحج – غيرها – عن نفسها. [206]
قال الإمام أحمد – رحمه الله تعالى – وقد سئل – عن حديث ابن عباس فيمن واقع اهله وهو محرم: يحجان من قابل، فإذا بلغ الموضع الذي واقعها فيه – تفرقا – قيل: أليست قد صارت بغير محرم ؟ ! فقال: نعم لا يعجبني هذا إلا أن يكون معها محرم غير الزوج إذا فارقها، قال: والسفر عندي ولو كان ساعة، ابن عباس يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم ((ولا تسافر سفراً)). [207]
وقد استدلوا لمذهبهم بما يأتي:(/38)
1 - حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة ليس معها حرمة)) أخرجه البخاري.[208]
فقد نهى النبي – صلى الله عليه وسلم – في هذا الحديث عن سفر المرأة مسيرة يوم وليلة من غير محرم والنهي يقتضي التحريم.
2 – حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعهما ذو محرم، ولا تسافر المراة إلا مع ذي محرم، فقام رجل فقال: يا رسول الله إن امرأتي خرجت حاجة، وإني اكتتبت في غزوة كذا وكذا قال: انطلق فحج مع امرأتك)). متفق عليه. [209]
فقد نهى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث المرأة عن السفر – مطلقاً – من غير محرم، فلا يجوز لها أن تسافر لحج، أو لغيره من غير محرم. وقد أكد ذلك سؤال المجاهد عن حكم خروج زوجته للحج – من غير محرم – فأمره الرسول صلى الله عليه وسلم أن يترك الجهاد وأن يخرج مع امرأته للحج. فجاء الحديث صريحاً في تحريم خروج المرأة للحج من غير محرم. وهو عام في كل سفرة. [210]
3 – واستدلوا – أيضاً – بحديث ابن عباس رضي الله عنهما – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تحجن امراة إلا ومعها محرم)). أخرجه الدارقطني [211]
والحديث صريح في النهي عن السفر للحج من غير محرم والنهي يقتضي التحريم.
فدل على عدم جواز الخروج للحج من غير محرم من غير تحديد مسافة فكيف بغيره من الأسفار؟ !
4 – أن المرأة عورة يجب عليها التستر، ويحرم عليها التبرج وهي معرضة في السفر إلى الصعود والنزول محتاجة إلى من يعالجها ويمس بدنها وغير المحرم لا يؤمن على ذلك. [212]
القول الثاني: أن المحرم شرط في وجوب الحج على المرأة إذا كان بينها وبين مكة مسيرة ثلاثة أيام ولا يجوز لها في هذه الحالة السفر للحج من غير محرم.(/39)
فإن كان بينها وبين مكة أقل من ذلك لم يشترط لها المحرم، ووجب عليها أن تخرج ولو من غير محرم. فالعبرة بمسافة السفر المحددة – عندهم – بثلاثة أيام، وما قل عنها فليس بسفر فلا يشترط فيها المحرم وهذا قول الحنفية.
ورواية في مذهب الحنابلة إلا أن المسافة عندهم يوم وليلة. [213]
واستدلوا بما يأتي:
1 – حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا تسافرن أمرأة إلا مع ذي محرم ولا يدخل عليها رجل.. الحديث)) وقد سق.
قالوا: والحديث دليل على وجوب المحرم في السفر بدليل أمر النبي صلى الله عليه وسلم لزوجها بالخروج معها وترك الجهاد من أجل ذلك.
2 – حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تسافر المرأة ثلاثا إلا مع ذي محرم)) متفق عليه. [214]
قالوا: دل الحديث على تحديد السفر الذي يشترط له المحرم وأنه مسيرة ثلاثة أيام فما كان دون فليس بسفر ولا يشترط له المحرم. [215]
القول الثالث: أن المحرم لا يشترط لوجوب الحج، وأدائه على المرأة بل يجب عليها الخروج للحج – إذا استطاعت إليه سبيلا – ولو من غير محرم، إذا أمنت على نفسها بالخروج مع نساء ثقات، أو مع امرأ’ ثقة، أو رفقة مأمونة، وهذا قول المالكية، والشافعية، والظاهرية، ورواية في مذهب الحنابلة. [216]
واستدلوا بما يأتي:
1 – قوله تعالى: {وَللهِ عَلَى النَّاْسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [217].
قالوا: فقد أوجب الله عزَّ وجلَّ – في هذه الآية – على الناس جميعا الرجال والنساء: حج بيته، وعلق وجوب ذلك على استطاعة السبيل – وهو الزاد والراحلة – فمن وجدها فقد استطاع إليه سبيلا، ومن حاله كذلك: وجب عليه أداء الحج رجلا كان، أو امرأة؛ فتخرج المرأة للحج إذا وجدت الزاد والراحلة ولو من غير محرم لتؤدي ما وجب عليها.(/40)
2 – حديث عدى بن حاتم [218] - رضي الله عنه – وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((فإن طالت بك حياة لترين الظعينة [219] ترتحل من الحيرة [220] حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحداً إلا الله... الحديث)). أخرجه البخاري [221]
قالوا: فقد أخبر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أن المرأة ستأمن على نفسها، وتخرج للحج من غير محرم، فدل ذلك على وجوب خروج المرأة للحج الواجب ولو من غير محرم إذا أمنت على نفسها.
2 – واستدلوا – أيضاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم – فيما رواه ابن عمر رضي الله عنهما -: ((لا تمنعوا اماء الله مساجد الله)) متفق عليه. [222]
قالوا: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن منع النساء من الخروج إلى المساجد – والنهي يقتضي التحريم – وأشرف المساجد وأولاها بذلك المسجد الحرام. فيجوز لها أن تخرج إليه من غير محرم، فإذا وجب عليها الحج: وجب أن تخرج إليه ولو من غير محرم.
4 – واستدلوا – أيضاً – بالقياس على وجوب انتقال المرأة إلى دار الإسلام إذا أسلمت في دار الحرب ولو من غير محرم قالوا: فكذلك يجوز لها إذا وجب عليها الحج أن تخرج إليه ولو من غير محرم.
والراجح – والله أعلم – هو القول الأول، وهو أن المحرم شرط في وجوب الحج على المرأة، ولا يجوز لها أن تحج من غير محرم.
وذلك لوضوح أدلته، وصراحتها في الدلالة على المراد مع صحتها متنا، وإسناداً، وأما أدلة القولين الآخرين فقد أجيب عنها بما يأتي:
1 – استدلال الحنفية بحديث ابن عباس رضي الله عنهما استدلال سليم فقد دل على وجوب المحرم في سفر المرأة للحج وأنه آكد من الجهاد. لكن ليس في الحديث ما يدل على تحديد مسافة لهذا السفر، بل هو مطلق في كل حج من غير تحديد مسافة.(/41)
2 – وأما استدلالهم بحديث ابن عمر فالجواب عنه: أن للحديث روايات أخر ومنها ما أخرجه مسلم [223] بلفظ ((مسيرة يوم)) وما أخرجه أبو داود [224] بلفظ ((مسيرة بريد)) [225]. وقد ورد فيها تحديد المسافة بيوم، وبليلة، وببريد، وهي كلها روايات صحيحة، فدل ذلك على أن المسافة غير معتبرة، وإنما هي أجوبة لحالات مختلفة من حيث المسافة. وفي جميعها وجب المحرم لخروج المرأة للحج فإذا ضم إليها الأحاديث المطلقة عن تحديد مسافة: دل ذلك على شمول جميع الحالات سواء كانت مسيرتها ثلاثة أيام، أو يوم، أو أقل من ذلك، وفي جميعها يجب المحرم لسفر المرأة.
ثم أن تحديد مسافة السفر بثلاثة أيام لم يرد به دليل شرعي. فتنصرف الأحاديث المطلقة إلى كل سفر، بل إن الروايات التي حددت بأقل من ذلك دليل على أن لا مسافة محددة للسفر، وإنما مرجع ذلك إلى العرف. [226]
والجواب عن أدلة القائلين بأن المحرم لا يشترط لوجوب الحج وأدائه على المرأة كما يأتي: -
1 – استدلالهم بالآية الكريمة: يجاب عنه بأن الآية الكريمة دلت على وجوب الحج على الرجال والنساء وجوباً عاماً، ثم نهي الشارع عن سفر المرأة من غير محرم وهو خاص بها، والخاص مقدم على العام، ويجاب عنه – أيضاً – بأن المحرم للمرأة من السبيل المذكور في الآية فلا يجب عليها الخروج إليه حتى تجد محرما.
2 – وأما حديث عدي بن حاتم فالجواب عنه: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أراد من ذلك بيان سعة الدولة الإسلامية وأمنها، وليس للدلالة على جواز سفر المرأة من غير محرم.
3 – وأما استدلالهم بحديث ابن عمر فالجواب عنه: أن الحديث دليل على جواز خروج المرأة للمسجد إذا لم يحتج إلى سفر. وأما إذا احتاج إلى سفر فإنه لا يجوز لها ذلك من غير محرم بدليل الأحاديث الصحيحة الصريحة – التي استدل بها أهل القول الأول – في النهي عن السفر مطلقا من غير محرم.(/42)
4 – وأما استدلالهم بالقياس على من أسلمت في دار الحرب. فالجواب عنه من وجهين: الأول: أن السفر إلى الحج أصل بنفسه لا يقاس على غيره لورود الدليل الصحيح الصريح في النهي عن الحج من غير محرم فقد ورد في النهي عن السفر إليه من غير محرم حديث ابن عباس وغيره.
الثاني: لو سلمنا بجواز القياس، فإنه قياس مع الفارق، لأن المهاجرة تسافر هربا بنفسها من الفتنة – الذي لأجله شرع المحرم. وأما المسافرة للحج فإنها تسافر من الأمان، وتعرض نفسها للفتنة لهذا فالقياس غير صحيح لوجود الفارق.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى – في كتابه شرح العمدة [227]: - بعد أن ذكر أدلة القائلين بجواز خروجها من غير محرم – فاشتراط ما اشترطه الله ورسوله أحق وأوثق، وحكمته ظاهرة فإن النساء لحم على وضم إلا ما ذب عنه والمرأة معرضة في سفرها للصعود والنزول والبروز محتاجة إلى من يعالجها، ويمس بدنها، تحتاج هي، ومن معها من النساء إلى قيم يقوم عليهن، وغير المحرم لا يؤمن ولو كان أتقى الناس، فإن القلوب سريعة التقلب، والشيطان بالمرصاد. أ هـ
أثر وفاة محرم المرأة في أداء النسك
إذا سافرت المرأة للحج، أو العمرة، ثم توفي محرمها أثناء السفر، فلا يخلو الأمر من أحدى حالتين: -
الحالة الأولى: أن يكون المحرم الذي توفي زوجها، وفي هذه الحالة يرجع حكم هذه المسألة إلى مسألة: حكم حج المعتدة من وفاة. وقد سبقت.
ومجمل البحث فيها: أنه إن أمكنها أن تأتي بالعدة في المكان الذي توفي فيه زوجها، ثم تكمل النسك بعد ذلك لزمها ذلك.
وأن لم يمكنها الأتيان بهما جميعا، لضيق الوقت، فلا يخلو الحال، إما أن تكون أحرمت بالنسك أولا.
فإن كانت قد أحرمت بالنسك، فإنها تكمل نسكها، ولا يجوز لها التحلل قبل إكماله كما هو القول الراجح في هذه المسألة. [228](/43)
وإن لم تكن أحرمت بالنسك، فإنها تجلس للعدة إن كان المكان الذي توفي فيه زوجها يصلح للإعتداد به، وإلا انتقلت عنه إلى اقرب مكان يمكنها الاعتداد فيه.
وأما إذا كان المحرم غير الزوج: فلا يخلو إما أن تكون الزوجة قد أحرمت، ولم تحرم، فإن كانت أحرمت قبل الوفاة، فقد أختلف العلماء فيه على قولين:
القول الأول: أنها تكمل حجمها، ولا تصير في حكم المحصرة – فتحلل منه قبل الإتمام – وهذا قول المالكية، والحنابلة، وللشافعية في حج التطوع خاصة. [229]
قالوا: لأنها لا تستفيد بالتحلل زوال ما بها كالمريض. [230]
القول الثاني: إنها أن كانت دون مسافة القصر من بلدها وبينها وبين مكة أكثر من مسافة القصر فإنها تصير كالمحصرة تتحلل وتبعث بدم إلى الحرم. أما إن كانت على أكثر من مسافة القصر من بلدها فإنها تتم ما أحرمت به، وهو قول الحنفية. [231]
قالوا: لأنها ممنوعة شرعاً من المضي في موجب الإحرام بلا زوج ولا محرم [232].
فإن كانت بينها وبين مكة أقل من مسافة القصر، أو كان بينها وبين بلدها أكثر من مسافة القصر وبينها وبين مكة أقل أو أكثر فإنها تمضي في حجها وتتم ما أحرمت به.
ولعل العلة في ذلك: أنها تحتاج في العودة إلى إنشاء سفر فاستوى الأمران في إنشاء السفر، وتأكد المضي بالإحرام، وقد عللوا بمثل ذلك في مسألة وفاة الزوج بعد سفرها. [233]
والراجح – والله أعلم – القول الأول: لأن الله – عزَّ وجلَّ – أمر بإتمام النسك – بعد الشروع فيه. في قوله تعالى: { وَأَتِمُّوْا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للهِ } الآية [234].
ولأنها لم تمنع من إتمام نسكها بعدو، أو مرض يمنعها فيجوز لها التحلل، ولأنها لو تحللت لم يزل ما بها.(/44)
وإن مات محرمها قبل أن تحرم فقد نص فقهاء المالكية والشافعية – في حج التطوع – والحنابلة أنها إن بعدت – أي تجاوزت مسافة القصر عند كل منهم – خيرت بين المضي، والرجوع؛ لأنها تحتاج في كل منهما إلى سفر، وليس أحدهما بأولى من الآخر، وإن لم تكن بعدت لزمها الرجوع، لأنها لا تحتاج في عودتها إلى إنشاء سفر. [235].
ويفهم عن الحنفية مثل قول الجمهور من نصهم على مسألة وفاة الزوج ومن تحديدهم لمسافة السفر. [236]
الفصل الثاني
اثر الحجاب والستر في ملابس الإحرام
إذا أحرم الرجل بحج، أو عمرة حرم عليه لبس المخيط، وتغطية رأسه، ليظهر متجرداً من مظاهر الزينة، لابساً ما يشبه ملابس الموتى؛ إزاراً، ورداءً ليكون ذلك أدعى لرقة قلبه، وتأثره بهذا المنسك العظيم، وليظهر الحجاج – الذكور – بمظهر واحد متعبدين بذلك لله عزَّ وجلَّ.
أخرج الإمام [237] أحمد بسنده إلى ابن عمر رضي الله عنهما أن رجلاً نادى، فقال: يا رسول الله ما يجتنب المحرم من الثياب، فقال: ((لا يلبس السراويل، ولا القميص، ولا البرنس، ولا العمامة، ولا ثوباً مسه زعفران ولا ورس، وليحرم أحدكم في ازار ورداء ونعلين... الحديث)).
وأخرج البخاري وغيره بسنده إلى ابن عمر رضي الله عنهما قال: قام رجل فقال: يا رسول الله ما يلبس المحرم من الثياب؟، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يلبس القمص،
ولا العمائم، ولا السراويلات، ولا البرانس، ولا الخفاف إلا أحد لا يجد نعلين فليلبس خفين وليقطعهما أسفل من الكعبين، ولا تلبسوا من الثياب شيئاً مسه زعفران أو ورس)).[238]
فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم المحرم الذكر: عن لبس القميص والسراويلات مما خيط لستر البدن كله أو بعضه ونهاه عن تغطية رأسه بالعمامة والبرنس وما أشبه ذلك.
وأما المرأة المحرمة: فلم تؤمر بذلك خوفاً عليها من التكشف، وظهور العورة، ولأنه يلحقها عنت ومشقة لو أمرت بلباس الرجل في الإحرام مع أمرها بالتستر والحجاب.(/45)
ولهذا فإن المرأة تحرم فيما شاءت من الثياب الساترة، ولا تنهى إلا عن ثياب الزينة، أو ما تشابه فيه الرجال، كما تنهى عن البرقع على وجهها، والقفازين في يديها.
جاء في كتاب بدائع الصنائع: ولا بأس أن تغطي المرأة سائر جسدها وهي محرمة بما شاءت من الثياب المخيطة وغيرها، وأن تلبس الخفين غير أنها لا تغطي وجهها، أما سائر بدنها فلأن بدنها عورة، وستر العورة بما ليس بمخيط متعذر، فدعت الضرورة إلى لبس المخيط، وأما كشف وجهها فلما روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إحرام المرأة في وجهها)) [239] وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ((كان الركبان يمرون بنا ونحن محرمات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا حاذونا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها، فإذا جاوزنا رفعنا)) [240] فدل الحديث على أنه ليس للمرأة أن تغطي وجهها، وأنها لو أسدلت على وجهها شيئاً وجافته عنه فلا بأس بذلك. أ هـ [241]
وفي كتاب الكافي لابن عبد البر: والمرأة تلبس ما شاءت من الثياب غير القفازين والبرقع والنقاب، ولا تغطي وجهها، وإحرامها في وجهها وكفيها، ولا بأس بسدل ثوبها على وجهها لتستره من غيرها، ولتسدله من فوق رأسها ولا ترفعه من تحت ذقنها، ولا تشده على رأسها بإبرة ولا غيرها. [242]
وفي كتاب المجموع: أما المرأة فالوجه في حقها كرأس الرجل فيحرم ستره بكل ساتر.. ويجوز لها ستر رأسها وسائر بدنها بالمخيط وغيره كالقميص، والخف والسراويل، وتستر من الوجه القدر اليسير الذي يلي الرأس، لأن ستر الرأس واجب لكونه عورة، ولا يمكن استيعابه إلا بذلك. قال أصحابنا: والمحافظة على ستر الرأس بكماله – لكونه عورة – أولى من المحافظة على كشف – ذلك الجزء من الوجه.(/46)
قال أصحابنا: ولها أن تسدل على وجهها ثوباً متجافياً عنه بخشبة ونحوها سواء فعلته لحاجة كحر أو برد، أو خوف فتنة، أم لغير حاجة، فإن وقعت الخشبة فأصاب الثوب بغير اختيارها ورفعته في الحال فلا فدية، وإن كان عمداً، أو استدامته لزمها الفدية، وهل يحرم عليها لبس القفازين فيه قولان مشهوران. [243] أ هـ
وفي كتاب شرح العمدة: لا يحرم عليها لبس المخيط، ولا تخمير الرأس، فلها أن تلبس الخفين والقميص لما تقدم؛ وذلك لأنها محتاجة إلى ستر ذلك لأنها عورة، ولا يحصل ستره في العادة إلا ما صنع على قدره. ولو كلفت الستر بغير المخيط لشق عليها مشقة شديدة. ولما كان الستر واجباً، وهو مصلحة عامة لم يكن محظوراً في الإحرام، وسقط عنهن التجرد.
قال أصحابنا: وستر رأسها واجب... فإن احتاجت إلى ستر الوجه. مثل أن يمر بها الرجال وتخاف أن يرووا وجهها، فإنها ترسل من فوق رأسها على وجهها ثوبا [244]. أ. هـ
وبما سبق يتبين إجماع [245] العلماء على أن المشروع في حق المرأة: أن تلبس في إحرامها المخيط الساتر لبدنها، وأنه يجب عليها تغطية رأسها، كما يجب عليها كشف وجهها ويديها إلا في حال الحاجة إلى ستر الوجه فإن ذلك جائز لها، وفي حال مرور الرجال الأجانب بقربها فإنه يجب عليها ذلك لستر عورتها كما فعلته أمهات المؤمنين رضي الله عنهن، وغيرهن المبين في حديث [246] عائشة: ((كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم محرمات فإذا حاذوا بنا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها فإذا جاوزونا كشفناه)).
ويكون ستر الوجه بسدل الجلباب من فوق كما في الحديث، وهو ما نص عليه الفقهاء كما سبق.(/47)
أما قول الشافعية رحمهم الله: بأنها تجافي الجلباب عن وجهها بخشبة أو نحوها، وأنها إذا سقطت الخشبة وتركتها متعمدة وجب عليها الفدية فلا دليل عليه، بل الدليل على خلافه حيث لم تذكر عائشة رضي الله عنها أنهن كن يجافين الجلباب بخشبة ولا غيرها، وفي اشتراط مثل ذلك مشقة وعنت لا يناسب التكليف بالستر والحجاب.
يقول سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز في كتابه التحقيق والإيضاح: يباح لها سدل خمارها على وجهها إذا احتاجت إلى ذلك بلا عصابة، وإن مس الخمار وجهها فلا شيء عليها لحديث عائشة رضي الله عنها... إلى أن قال: ويجب عليها تغطية وجهها وكفيها إذا كانت بحضرة الرجال الأجانب لأنها عورة لقول الله سبحانه وتعالى:
{وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ} الآية. [247]
ولا ريب أن الوجه والكفين من أعظم الزينة والوجه في ذلك أشد وأعظم.. وأما ما اعتاده كثير من النساء من جعل عصابة تحت الخمار لترفعه عن وجهها فلا أصل له في الشرع فيما نعلم، ولو كان مشروعا لبينه الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته، ولم يجز له السكوت عنه. أ هـ [248]
ومن مسائل اللباس التي اختلفوا فيها المباحث الآتية:
المبحث الأول: حكم تغطية المحرمة وجهها.
المبحث الثاني: حكم طواف المرأة غير المحرمة بالنقاب والبرقع.
المبحث الثالث: حكم لباس القفازين للمرأة المحرمة.
المبحث الرابع: حكم الحلي ولباس الزينة في الإحرام.
المبحث الخامس: حكم الحناء والاختضاب في الإحرام.
مسألة: ستر المرأة وجهها بالحناء وما أشبه.
المبحث الأول: حكم تغطية المحرمة وجهها:(/48)
اتفق العلماء [249] على أنه لا يجوز للمرأة المحرمة أن تتنقب [250]، أو تتبرقع [251]، وتلزمها الفدية إذا غطته لغير ستره عن الرجال الأجانب، إلا أن الشافعية، ساووا بين البرقع والنقاب، وغيرهما من الأغطية للوجه؛ فمنعوها جميعاً، أما غيرهم فيرون جواز تغطية الوجه – عند الحاجة – بسدل جلبابها من رأسها على وجهها لما سبق بيانه.
واستدلوا بما يأتي:
1 – قول الرسول صلى الله عليه وسلم- في حديث ابن عمر رضي الله عنهما – لما سئل عن لباس الإحرام: ((ولا تنتقب المرأة، ولا تلبس القفازين)) رواه الإمام أحمد والبخاري وغيرهما. [252]
2 – حديث ابن عمر رضي الله عنها ((أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى النساء في إحرامهن عن النقاب، وليلبسن بعد ذلك ما أحببن من ألوان الثياب معصفراً، أو خزاً، أو حلياً، أو سراويل، أو قميصاً، أو خفاً)). رواه الإمام أحمد وأبو داود. [253]
قال الإمام أحمد – رحمه الله – إحرام المرأة في وجهها. لا تتنقب، ولا تتبرقع، وتسدل الثوب على رأسها من فوق أ. هـ [254]
وبالنظر في هذين النصين الصحيحين الصريحين، يتبين أنه لا يجوز للمرأة المحرمة لبس النقاب والبرقع، فإن احتاجت إلى تغطية الوجه؛ لستره عن الرجال الأجانب فإنها تغطية من جلبابها، فتسدله عليه من رأسها كما فعلت عائشة رضي الله عنها، وغيرها من نساء المسلمين وهن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم محرمات ((كان الركبان يمرون بنا ونحن محرمات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا حاذونا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها، فإذا جاوزنا كشفناه)). أخرجه الإمام أحمد، وأبو داود، والحاكم وصححه. [255]
وأخرج البيهقي [256] بسند صحيح [257] من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: ((المحرمة تلبس من الثياب ما شاءت إلا ثوبا مسه ورس أو زعفران، ولا تتبرقع ولا تتلثم، وتسدل الثوب على وجهها إن شاءت)).
المبحث الثاني: حكم طواف المرأة غير المحرمة بالنقاب والبرقع:(/49)
إذا كانت المرأة غير محرمة، وأرادت الطواف بالبيت واجباً كان، أو تطوعاً، فقد اختلف العلماء في حكم لبسها للنقاب، والبرقع على قولين:
القول الأول: يباح للمرأة الطواف إذا لم تكن محرمة، وهي متنقبة، أو متبرقعة. وهذا قول الحنابلة، ولم أر عن الحنفية، والمالكية، ما يعارضه. [258]
واستدلوا بما يأتي:
1 – فعل عائشة رضي الله عنها فقد طافت وهي منتقبة. [259]
القول الثاني: يكره للمرأة غير المحرمة أن تطوف وهي منتقبة. وهذا قول الشافعية. [260]
واستدلوا: بالقياس على الصلاة، قالوا: كما يكره لها أن تصلي وهي منتقبة فكذلك يكره أن تطوف وهي منتقبة.
والراجح – والله أعلم – القول الأول، وأنه لا بأس بطواف المرأة غير المحرمة وعليها نقاب، أو برقع، ويجاب عن قول الشافعية بأن العمل بفعل الصحابة أولى من القياس. [261] وبخاصة إذا لم ينقل عن غيرهم خلافهم، فيكون كالإجماع، فقد كان عطاء [262] - رحمة الله – يكره لغير المحرمة أن تطوف منتقبة، ولما بلغه أن عائشة رضي الله عنها طافت وهي منتقبة رجع عن قوله؛ وأخذ بفعل عائشة رضي الله عنها.
المبحث الثالث: حكم لبس القفازين للمرأة المحرمة:
اختلف العلماء في حكم لبس القفازين للمرأة المحرمة على قولين:
القول الأول: يحرم على المرأة المحرمة لبس القفازين، وتلزمها الفدية بلبسهما، وهو قول المالكية، والحنابلة، والصحيح من قولي الشافعية [263]
واستدلوا بما يأتي:
1 - حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قام رجل فقال يا رسول الله: ماذا تأمرنا أن نلبس من الثياب في الإحرام ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم ((لا تلبسوا القميص، ولا السراويلات، ولا العمائم، ولا البرانس إلا أن يكون أحد ليست له نعلان فليلبس الخفين، وليقطعهما أسفل من الكعبين. ولا تلبسوا شيئا مسه الزعفران والورس، ولا تنتقب المرأة المحرمة، ولا تلبس القفازين)) أخرجه الإمام أحمد والبخاري وغيرهما. [264](/50)
وجه الاستدلال: ((أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى المرأة أن تلبس القفازين والنهي للتحريم. وهو نهي معطوف على الانتقاب، والانتقاب مجمع على تحريمه فيساويه في الحرمة.
2 – ولأن المحرم لا يلبس شيئاً من اللباس المصنوع للبدن إلا ما دعت إليه الحاجة كبدن المرأة، ولا حاجة بها إلى ستر يديها بذلك حيث يمكن سترهما بالكم ونحوه. [265]
القول الثاني: أنه لا يحرم على المرأة المحرمة لبس القفازين، ولا فدية عليها بلبسهما؛ وهو قول الحنفية وقول في مذهب الشافعية. [266]
واستدلوا بما يأتي:
1 – ما روي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه ((أنه كان يلبس بناته وهن محرمات القفازين)) [267].
2 – ما روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال ((إحرام المرأة في وجهها)). [268] فمكان الإحرام الذي يمنع تغطيته الوجه دون الكفين.
3 – ولأنه يجوز لها بالإجماع تغطيتهما بكمها، ولحافها، وما أشبه ذلك مما لم يصنع لليدين، فكذلك ما يصنع لهما لاشتراكهما في التغطية.
والراجح – والله أعلم – القول الأول.
وذلك لصراحة أدلته، وقوتها في الدلالة على تحريم لبس القفازين، وما اشبههما مما صنع لتغطية اليدين.
والجواب عن أدلة أهل القول الثاني كما يأتي:
1 – الأثر عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه يعارضه ما روي عن عائشة رضي الله عنها، وعن علي، وابن عمر رضي الله عنهم من النهي عن لبس القفازين [269] فينبغي الحكم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم الصريح في النهي عن ذلك.
2 – وأما استدلالهم بقوله عليه الصلاة والسلام ((إحرام المرأة في وجهها)) على تخصيص المنع بالتغطية بالوجه دون الكفين.
فالجواب عنه: أن الحديث ضعيف كما سبق بيانه، وعلى فرض صحته يقال: قولهم: إحرام المرأة في وجهها صحيح في تخصيص المنع من التغطية للوجه إذا كان الغطاء لليدين بالكم واللحاف. أما تغطية اليدين بالقفازين فذلك منهي عنه – أيضاً – في حديث صحيح صريح.[270](/51)
3 – قياسهم التغطية بالقفازين على التغطية بغيرهما غير صحيح لوجود الفارق وهو النهي في أحدهما دون الآخر. فيبقى المنهي عنه محرما دون غيره.
المبحث الرابع: حكم الحلي ولباس الزينة في الإحرام:
يباح للمرأة المحرمة لباس الحلي، وأدوات الزينة، وما أشبه ذلك مما لا طيب فيه إذا لم تتعرض للرجال الأجانب، ولم تختلط بهم؛ [271] وذلك لحديث ابن عمر رضي الله عنهما ((أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم ينهي النساء في إحرامهن عن القفازين والنقاب. وما مس الورس والزعفران من الثياب، ولتلبس بعد ذلك ما شاءت من ألوان الثياب من معصفر، أو خز، أو حلي، أو سراويل، أو قميص، أو خف)) رواه أبو داود. [272]
وينبغي عليها حفظ هذه الزينة عن الرجال الأجانب، وسترها عن أنظارهم امتثالاً لقول الله عزَّ وجلَّ:
{ وَلاَ يُبْدِيْنَ زِيْنَتِهِنَّ إِلاَّ لِبُعُوْلَتِهِنَّ }. الآية [273]
المبحث الخامس: حكم الحناء والاختصاب في الإحرام:
الحناء والاختصاب به في اليدين والرجلين من زينة النساء، وقد اختلف العلماء في حكمه لهن حال الإحرام على قولين:
القول الأول: أن ذلك مستحب للمرأة عند إحرامها وهو قول الشافعية، والحنابلة. [274]
واستدلوا بما يأتي:
1 – قول ابن عمر رضي الله عنهما ((من السنة أن تدلك المرأة يديها في حناء)) [275]. وإذا قال الصحابي من السنة كذا: فهو في حكم المرفوع، [276] فدل ذلك على استحباب الحناء والاختضاب به عند الإحرام.
2 – ما روي عكرمة [277] قال ((كانت عائشة وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم يختضبن بالحناء وهن حرم)) [278]فدل ذلك على أن الاختضاب بالحناء عند الإحرام مشروع للمرأة.
3 – ولأن الحناء من زينة النساء، فاستحب عند الإحرام كالطيب وترجيب الشعر.
القول الثاني: أنه لا يجوز للمرأة المحرمة أن تختضب بالحناء، فإن اختضبت فعليها دم وهو قول الحنفية، والمالكية. [279]
واستدلوا بما يأتي:(/52)
1 – أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى المعتدة أن تختضب بالحناء، وقال ((الحناء طيب)). رواه البيهقي وغيره. [280]
2 – ولأن له رائحة مستلذة فكان طيبا.
والراجح – والله أعلم – أن الحناء من الزينة المشروعة للنساء في كل وقت، ولا يختض بالإحرام فإن اختضبت للإحرام فلا حرج من استدامته أثناء الإحرام إلا أنها لا تظهر هذه الزينة للرجال، وإن أرادت الاختضاب حال الإحرام بما ليس فيه طيب فلا حرج أيضاً، والله أعلم.
وحيث تبين ضعف الأحاديث والآثار التي استدل بها أهل القولين فإن المعول عليه هنا على دليل آخر وهو ما ورد في المسألة قبلها؛ حيث لا حرج على المرأة أن تحرم فيما شاءت من اللباس والزينة إلا ما استثناه الشارع مع حفظ هذه الزينة عن الرجال الأجانب.
مسألة: حكم ستر المرأة وجهها بالحناء وما اشبهه:
ومما يلحق بالمسألة السابقة قول بعض الشافعية: يستحب للمرأة عند الإحرام أن تدلك وجهها بالحناء لتستره به عن الرجال الأجانب.
قال النووي في المجموع: قال أصحابنا: ويستحب للمرأة عند الإحرام أن تمسح وجهها – أيضاً - بشيء من الحناء؛ قال والحكمة في ذلك، وفي خضاب كفها أن تستر لون البشرة، لأنها تؤمر بكشف الوجه. وقد ينكشف الكفان – أيضاً – أ. هـ [281]
وفي موضع آخر قال – في سياق ذكر ما تخالف فيه المرأة الرجل في المناسك -: السابع: وهو أنه يستحب لها مس وجهها عند إرادة الإحرام بشيء من الحناء لتستر بشرته عن الأعين. أ هـ.
ولم يذكر الإمام النووي – رحمه الله – دليلاً لذلك، وإنما اكتفي بما ذكره من علة الستر، وقد علمنا فيما سبق أن الستر إنما يكون بالحجاب كما في حديث عائشة رضي الله عنها السابق ((كان الركبان يمرون بنا ونحن محرمات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا حاذونا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها فإذا جاوزونا كشفناه)) أخرجه الإمام أحمد وأبو داود وغيرهما. [282](/53)
فهذا الحديث: دليل على وجوب ستر الوجه من الرجال الأجانب، وأنه يستر بالحجاب لا بالحناء؛ لأن الحناء وما أشبهه من الأصباغ التي توضع على الوجه تزيد الوجه جمالاً، وربما تشوهه ولا تستره وكلاهما غير مشروع، إذ المشروع ما في حديث عائشة رضي الله عنها والله أعلم.
الفصل الثالث
أثر الحجاب والستر في سنن الأقوال
يشرع للحاج، والمعتمر رجلاً كان، أو امرأة سنن أقوال يتلفظ بها؛ سواء كانت هذه السنن من سنن الإحرام كالتلبية، أو من سنن الطواف كالتكبير عند محاذاة الحجر، والدعاء فيه، أو من سنن السعي، أو الوقوف بعرفة ومزدلفة.
ويشرع للرجل رفع الصوت في بعضها، ولا حرج أن يسمع غيره في البعض الآخر. أما المراة فإنه لا يشرع لها رفع الصوت في شيء منها، ولا أن تسمع الرجال في البعض الآخر. والسنة التي يشرع للرجال فيها رفع الصوت: التلبية.
فإنه يشرع للحاج، والمعتمر رجلا كان أو امرأة الإكثار من التلبية عقب الإحرام. إلى أن يشرع في الطواف بالبيت في العمرة، أو يبدأ برمي جمرة العقبة في الحج، يلبى على كل أحواله؛ قاعداً، وقائماً، ومضطجعاً، وسائراً، ونازلاً، وطاهراً، ومحدثاً إلى غير ذلك من الأحوال.
وذلك لحديث السائب [283] بن خلاد: ((أن جبريل عليه السلام أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كن عجاجاً ثجاجاً)) ((والعج التلبية، والثج نحر البدن)) أخرجه الإمام أحمد في مسنده. [284]
ولحديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل أي الأعمال أفضل ؟ قال: العج والثج)) أخرجه الترمذي، وابن ماجة والحاكم وصححه.[285]
وقد اتفق الأئمة الأربعة على ذلك. [286]
والسنة في التلبية للرجال رفع الصوت بها؛ فهي شعار الحاج والمعتمر فشرع له إظهاره، وذلك لحديث السائب بن خلاد قال قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أتاني جبريل عليه السلام، فقال مر أصحابك فليرفعوا أصواتهم بالإهلال)).(/54)
وفي رواية ((فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال)) أخرجه الإمام أحمد وأصحاب السنن [287]. ويرفع صوته حسب طاقته، وهذا متفق عليه أيضاً. [288]
أما النساء: فالمشروع في حقهن الإسرار فيها؛ بقدر ما تسمع نفسها، وجارتها، ولا يجوز لها رفع الصوت بالتلبية، ولا غيرها من الأدعية والأذكار، لأن صوتها مظنة الافتتان بها وقد سد الشارع كل ما يوصل إلى الفتنة.
قال الإمام أحمد – رحمه الله – تجهر المرأة بالتلبية ما تسمع زميلتها. [289]
ودليل ذلك:
1 – قول سليمان [290] بن يسار: ((السنة عندهم أن المرأة لا ترفع صوتها بالإهلال)) رواه سعيد بن منصور. [291]
وهذا الأمر أعنى مشروعية خفض المرأة صوتها بالتلبية مما اتفق عليه الأئمة الأربعة.[292]
وإذا كان يشرع للمرأة خفض صوتها فيما يشرع للرجال رفع الصوت فيه: فأن يشرع لها الخفض أيضاً فيما لا يشرع للرجال الرفع فيه أولى؛ كالدعاء في الطواف، والسعي. وفي عرفة ومزدلفة وعند رمي الجمار.
إذا عرفت هذا: عرفت أن ما يفعله كثير من النساء؛ من رفع أصواتهن بالتلبية أو التكبير – وهن بحضرة الرجال الأجانب، وكذا رفع الأصوات في الدعاء أثناء الطواف بالبيت الحرام، أو في المشاعر: أن كل هذا مخالف للسنة التي نقلها لنا التابعي الفقيه سليمان بن يسار رضي الله عنه في قوله السابق. السنة عندهم – أي عند الصحابة رضوان الله تعالى – عليهم أن لا ترفع المرأة صوتها بالإهلال.
وإذا كانت لا ترفع صوتها بالإهلال مع أنها قد تكون بعيدة عن الرجال ومع أنه سنة في حق الرجال، فإنه أولى بها أن لا ترفع صوتها في الدعاء، والذكر في المسجد الحرام، وفي عرفات، والمزدلفة، ومنى، وفي المسجد النبوي فإن ذلك من تمام عبادتها، ومن عوامل قبول هذه العبادة، والثواب عليها، والانتفاع بها.(/55)
فعلى المسلمة أن تتحرى في حجها، وعمرتها، وفي جميع عباداتها هدى المصطفى صلى الله عليه وسلم لنساء أمته، فقد تركنا عليه الصلاة والسلام على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.
الفصل الرابع
أثر الحجاب والستر في سنن الأفعال
وهذه السنن هي:
1 – الرمل والاضطباع في طواف القدوم.
2 – الطواف في حاشية المطاف.
3 – استلام الركن اليماني وتقبيل الحجر الأسود.
4 – سنن السعي.
5 – الركوب أثناء الوقوف بعرفة.
6 – ذبح الحاج هديه بنفسه.
الفصل الرابع
أثر الحجاب والستر في سنن الأفعال
تخالف المرأة الرجل في بعض سنن الأفعال في المناسك فما كان السنة فيه للرجال لا يناسب حجاب المرأة، وسترها: فإنه لا يشرع لها ذلك لمنافاته للستر والحجاب الذي أمرت به، فلا تؤمر به ويشرع لها ما ينافيه. وهذه السنن هي:
1 – الرمل والاضطباع في طواف القدوم.
2 – الطواف في حاشية المطاف.
3 – استلام الركن اليماني وتقبيل الحجر الأسود.
4 – سنن السعي.
5 – الركوب أثناء الوقوف بعرفة.
6 – ذبح الحاج هديه بنفسه.
1 – الرمل والاضطباع في طواف القدوم:
يشرع للحاج، والمعتمر إذا كان رجلاً أن يرمل [293] في الأشواط الثلاثة الأولى من الحجر الأسود إلى الركن اليماني في طواف القدوم. وأن يضطبع [294] في هذا الطواف – أيضاً -.
وقد دل على مشروعية ذلك في حق الرجال أدلة كثيرة منها:
حديث ابن عباس رضي الله عنهما: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم اضطبع فاستلم وكبر، ثم رمل ثلاثة أطواف، وكانوا إذا بلغوا الركن اليماني وتغيبوا من قريش مشوا، ثم يطلعون عليهم يرملون، تقول قريش كأنهم الغزلان)).
قال ابن عباس: ((فكانت سنة)) أخرجه أبو داود. [295](/56)
وهاتان السنتان: الرمل، والاضطباع خاصتان بالذكور دون الإناث؛ فلا يشرع للمرأة في حجها، وعمرتها رمل، ولا اضطباع، بل لا يجوز لها ذلك لمنافاته للستر، والحجاب، ولأن الرمل، والاضطباع لإظهار الجلد والقوة، والمرأة ليست من أهل القتال لتظهر الجلاة من نفسها،
وقد اتفق العلماء رحمهم الله على ذلك. [296]
قال ابن المنذر في كتابه الإجماع: وأجمعوا أن لا رمل على النساء حول البيت، ولا في السعي بين الصفا والمروة. [297]
وقال النووي في المجموع: الرمل، والاضطباع يشرعان للرجال دونها – أي المرأة – قال الماوردي: هي منهية عنهما، بل تمشي على هيئتها وتستر جميع بدنها [298]. أ هـ
2- الطواف في حاشية المطاف:
السنة للمرأة: أن تطوف بالبيت في حاشية المطاف، وأن لا تدنوا من البيت وتزاحم الرجال.
وذلك لأن الصفوف المتأخرة أفضل في حق المرأة من الصفوف المتقدمة في حالة الصلاة، فكذلك الطواف.
ودليل الأصل حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((خير صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها..)) أخرجه مسلم في صحيحه[299].
ولأن حاشية المطاف أبعد لها عن مزاحمة الرجال، ومخالطتهم.
فإن كان المطاف خالياً من الرجال، فإن القرب من البيت في هذه الحالة أولى لتتمكن من استلام الركنين، وتقبل الحجر الأسود.
وكذا يستحب لها اختيار الأوقات التي يقل ازدحام الرجال فيها ما أمكنها ذلك. حتى لا تتعرض لمزاحمتهم، والاحتكاك بهم، لأن ذلك مظنة الافتتان بها[300].
3- استلام الركن اليماني، وتقبيل الحجر الأسود:
ومن السنن الفعلية في الحج – والعمرة، استلام الركن اليماني، وتقبيل الحجر الأسود، أو استلامه باليد، أو الإشارة إليه أثناء الطواف في كل شوط من أشواطه. وهو سنة في حق الرجال، والنساء.
ومن الأدلة على مشروعية ذلك:(/57)
1 - حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: ((لم أر النبي صلى الله عليه وسلم، يمس من الأركان إلا اليمانيين)).
وفي لفظ ((إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يستلم إلا الحجر والركن اليماني)) متفق عليه [301].
2 – حديث زيد [302] بن أسلم عن أبيه [303] قال: ((رأيت عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – قبل الحجر الأسود وقال: لولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلك ما قبلتك)). متفق عليه [304].
إلا أن هذه السنة: إنما تشرع في حق النساء إذا كان العمل بها لا يؤدي إلى الاختلاط بالرجال، ومزاحمتهم، وملامستهم لبدنها.
فإن كان في المطاف رجال، ولا يمكن التقبيل والاستلام إلا بمزاحمتهم والاحتكاك بهم، وملامستهم فإنه لا يشرع لها ذلك، بل يشرع له صون بدنها عن ملامسة الرجال الأجانب، وحفظه عن التكشف، وظهور شيء من بدنها؛ لأنه عورة، وقد يؤدي إلى الافتتان به.
جاء في كتاب المبسوط للسرخسي: وكذلك – أي مما تمنع منه المرأة – لا تستلم الحجر إذا كان هناك جمع، لأنها ممنوعة من ملامسة الرجال، والزحمة معهم، فلا تستلم الحجر إلا إذا وجدت ذلك الموضع خالياً عن الرجال. [305] أ هـ.
وقال النووي في المجموع: فرع: قال أصحابنا: لا يستحب للنساء تقبيل الحجر الأسود، ولا استلامه إلا عند خلو المطاف في الليل، أو غيره، لما فيه من ضررهن، وضرر الرجال بهن. [306] أ هـ.
وقال ابن قدامة في المغنى: ولا يستحب لها مزاحمة الرجال لاستلام الحجر، لكن تشير بيدها إليه كالذي لا يمكنها الوصول إليه، كما روى عطاء. [307] قال: ((كانت عائشة تطوف حجزة [308] من النساء لا تخالطهم فقالت امرأة: انطلقي نستلم يا أم المؤمنين قالت: انطلقي عنك وأبت)). [309](/58)
وعمل أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها – وهي من كبار فقهاء الصحابة، وعلمائهم، وقد حجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، واعتمرت: دليل ظاهر على أن المرأة لا يجوز لها أن تعمل بالسنة إذا كان العمل بها يؤدي إلى ارتكاب محرم كمزاحمة الرجال، والاحتكاك بهم، وأن الواجب على كل مسلمة تؤدي الحج، أو العمرة: أن تتقي الله في ذلك، وأن تؤدي هذه العبادة على الوجه الشرعي الصحيح، مقتفية بذلك أثر أمهات المؤمنين اللاتي أخذن العلم والعمل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
4- سنن السعي الفعلية:
ومن السنن الفعلية في السعي بين الصفا والمروة للحاج والمعتمر: الرقي على الصفا، والمروة في كل شوك من أشواط السعي؛ فيرقى في جبل الصفا، وجبل المروة، حتى يرى البيت إن أمكنه ذلك.
ومن أدلة مشروعية ذلك:
حديث جابر بن عبد الله – في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم – وفيه: ((ثم خرج – أي النبي صلى الله عليه وسلم – من الباب إلى الصفاء، فلما دنا من الصفا قرأ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ}، أبدأ بما بدأ الله به، فرقى عليه حتى رأي البيت... إلى أن قال: حتى أتى المروة ففعل على المروة كما فعل على الصفا)) أخرجه مسلم. [310]
والرقي على الصفا والمروة في السعي سنة في حق الرجال باتفاق العلماء. [311]
أما النساء: فقد نص كثير من الفقهاء على أنه لا يشرع في حقهن صعود على الصفا والمروة، لأن في صعودهن تعرض للتكشف، وإظهار المفاتن، كما أن عليهن فيه مشقة.
والذي يظهر لي أن ذلك كان قبل تبليط المسعى، وجزء من الصفا والمروة، أما بعد ذلك: فإنه يمكن للمرأة الصعود على جزء من الصفا، والمروة، بحيث ترى البيت وهي في الصفا من غير مشقة [312] ولا تعرض للتكشف، وظهور المفاتن. فإذا أمكنها ذلك على هذه الصفة فإن الرقي على الصفا، والمروة يكون سنة في حقها كالرجال والله أعلم.
ومن السنن – للرجال -: شدة السعي بين العلمين [313] أثناء السعي.(/59)
ومن أدلة مشروعية هذه السنة:
حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا طاف بالبيت الطواف الأول خب ثلاثاً ومشي أربعاً، وكان يسعى ببطن المسيل إذا طاف بين الصفا والمروة... الحديث)) متفق عليه. [314]
وهذه – السنة – خاصة بالرجال غير مشروعة للنساء؛ لأن في سعيهن في هذا الموضع – كالرجال – تعرض للتكشف، وظهور العورة، ويشق على المرأة، مع حشمتها وسترها، والمرأة مأمورة بالستر والحجاب بدليل قوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ}. [315]
وقوله تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ}.. الآية [316].
ولا يمكنها المحافظة على هذا الواجب مع الإتيان بسنة السعي فيقدم الواجب على السنة، وهذا محل اتفاق بين العلماء. [317]
قال ابن قدامة في المغني: قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أنه لا رمل على النساء حول البيت، ولا بين الصفا والمروة، وليس عليهن اضطباع؛ وذلك لأن الأصل فيهما إظهار الجلد، ولا يقصد ذلك في حق النساء، ولأن النساء يقصد فيهن الستر، وفي الرمل والاضطباع تعرض للتكشف. أ هـ [318]
وقد ذكر النووي – رحمه الله – في كتابه المجموع [319] وجها في مذهب الشافعية أن المرأة إن سعت ليلاً حال خلو المسعى: استحب لها السعي في موضع السعي كالرجل. لكن الصحيح في مذهب الشافعية هو ما ذكر أولاً. كما أشار إلى ذلك في المجموع فالمشروع في حقها المشي سواء سعت ليلاً، أو نهاراً خلا السعي أو لم يخل؛ لأنها عورة، وأمرها مبني على الستر، والمسعى ليس خاصا بها بل هو مكان عام لجميع المسلمين. والله أعلم.(/60)
5- الركوب أثناء الوقوف بعرفة:
ذهب أكثر العلماء؛ وهم المالكية والشافعية والحنابلة – إلى أن الركوب أثناء الوقوف بعرفات على الدابة، أو السيارة، وما أشبه ذلك سنة، لأن الركوب أجمع لأمر الإنسان، وأدعى لانقطاعه عما يشغله عن التفرغ لعبادة الوقف في عرفات. [320]
ومن أدلة ذلك:
1 – حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: ((كنت ردف النبي صلى الله عليه وسلم بعرفات، فرفع يديه يدعو، فمالت به ناقته، فسقط خطامها[321] قال: فتناول الخطام بإحدى يديه وهو رافع يده الأخرى[322]))؛ أخرجه الإمام أحمد والنسائي.
والركوب سنة في حق الرجال، والنساء عند المالكية والحنابلة، فهم أطلقوا القول بأنه مستحب ولم يفرقوا بين الرجال والنساء.
وذهب الشافعية إلى أن سنة الركوب خاصة بالرجال، أما النساء فإنهن يقفن بعرفة جالسات على الأرض؛ لأنه أصون لهن وأستر.
وهذا هو الراجح – والله أعلم – فمتى كان وقوفها على حالة يكون أصون لها، واستر فهي أفضل من غيرها. لكن ذلك يختلف بحسب المركوب فإذا كانت راحلة عليها هودج خاص بالمرأة يكنها ويسترها، أو كانت راكبة على سيارة مستورة وما أشبه ذلك فهو أفضل، أما إن كان الركوب على قتب الدابة، أو سطح السيارة، وما أشبه ذلك مما يؤدي إلى ظهورها وتكشفها – فالجلوس أفضل في هذه الحالة والله أعلم.
6 – ذبح الحاج هديه بنفسه:
ومن السنن الفعلية – في حق الرجال – في الحج: أن يذبح الحاج هديه بنفسه؛ سواء كان الهدى واجباً، أو تطوعا، وذلك باتفاق الأئمة الأربعة.
ومن أدلة مشروعية ذلك:
حديث جابر بن عبد الله في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه ((ثم انصرف – أي النبي صلى الله عليه وسلم _ إلى المنحر، فنحر ثلاثاً وستين بيده، ثم أعطى علياً، فنحر ماغبر، وأشركه في هديه.. الحديث)) أخرجه مسلم. [323](/61)
أما المرأة: فلا يستحب لها ذلك، لأن ذلك قد يؤدي إلى تكشفها، وظهور العورة منها، وهي في مجمع عظيم، وموقف كريم فالحشمة والوقار والستر: جعل ذلك أمراً غير مطلوب منها وإنما توكل غيرها.
ودليل ذلك: حديث عائشة رضي الله عنها قال: ((خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لخمس بقين من ذي القعدة لا نرى إلا الحج، فلما دنونا من مكة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من لم يكن معه هدى إذا طاف وسعى بين الصفا، والمروة أن يحل قالت: فدخل علينا يوم النحر بلحم بقر فقلت ما هذا: قال: نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أزواجه)) أخرجه البخاري. [324]
بحيث ذبح رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أزواجه، ولم يحثهن على تولي ذلك بأنفسهن: فقد دل ذلك على أنه لا يستحب للمرأة أن تتولى ذبح هديها بنفسها، لمظنة التكشف، والاختلاط بالرجال، فإن تحقق ذلك فإنه لا يجوز لهن حينئذ نحر هديهن. والله أعلم.
وممن صرح بذلك من العلماء الشافعية، [325] ويفهم ذلك مما جاء في المدونة. [326]
قلت: فهل يكره مالك للرجل أن ينحر هديه غيره ؟ قال: نعم كراهية شديدة، وكان يقول: لا ينحر هديه إلا هو بنفسه. أ هـ
حيث خص الكراهية بالرجل دون المرأة. والله أعلم.
الفصل الخامس
تقصير المرأة شعر رأسها
من الواجبات [327] - على النساء – في الحج، والعمرة التقصير من شعرهن؛ فإذا طافت – في العمرة – وسعت، قصرت، ثم حلت، وإذا كانت حاجة وجب عليها التقصير في يوم النحر، والسنة أن ترمي، ثم تنحر هديها، ثم تقصر، ثم تطوف طواف الإفاضة، وإذا فعلت اثنين من ثلاثة حلت التحلل الأول، فإذا فعلت الثلاثة حلت التحلل الآخر، والثلاثة هي: الرمي، والتقصير، والطواف.
وأما الرجال فالواجب في حقهم الحلق، أو التقصير، والحلق أفضل. [328]
والحلق لا يشرع للنساء، بل المشروع في حقهن التقصير فقط وعبارات الفقهاء – في الحلق – تدور بين الكراهية، وعدم الجواز والتصريح بعدم الجواز أولى. [329](/62)
وقد استدلوا بما يأتي:
1 – حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس على النساء حلق إنما على النساء التقصير)). [330]
2 – حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد)) متفق عليه. [331]
وعموم هذا الحديث دليل على النهي عن حلق المرأة رأسها في النسك إذ العمل المأمور به التقصير. [332]
3 – حديث ابن عباس رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((أنه لعن المتشبهات من النساء بالرجال، والمتشبهين من الرجال بالنساء)) أخرجه البخاري وأبو داود وغيرهما.[333]
وفي اختيار المرأة للحلق، وترك التقصير المشروع لها: تشبه بالرجال فيما شرع لهم وندبوا إليه. [334]
4 – حديث عائشة رضي الله عنها: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم – نهى المرأة أن تحلق رأسها)) أخرجه الترمذي. [335]
كيفية تقصير المرأة رأسها:
تقصر المرأة من رأسها في الحج، والعمرة قدر أنملة. [336] من جميع رأسها فإن كان مضفراً أخذت من كل ضفيرة هذا القدر وإلا يكن كذلك جمعته إلى مقدم رأسها، ثم أخذت منه قدر أنملة. [337]
قال أبو داود [338]: سمعت أحمد سئل عن المرأة تقصر من كل رأسها قال: نعم تجمع شعرها إلى مقدم رأسها، ثم تأخذ من أطراف شعرها قدر أنملة.
وقال – أيضاً – قال أحمد: تأخذ من أطراف شعرها قدر أنملة. أ هـ
وقد سئل عمر رضي الله عنه كم تقصر المرأة ؟ فقال: مثل هذا، وأشار إلى أنملته.[339]
خاتمة البحث
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات. وأسأله حسن الخاتمة، وصلاح العاقبة، وأشكره سبحانه على ما يسر لي من بداية هذا البحث وختامه. وأصلى وأسلم على أشرف رسله وخاتم أنبيائه وعلى آله وصحابته أجمعين.
وبعد:
فإنه يتضح لقارئ هذا الموضوع، والباحث فيه. وفي امثاله من أركان الإسلام وشرائعه الأمور الآتية:(/63)
أولاً: أنه لا فرق بين الرجال، والنساء في أمور العقيدة، كالتوحيد والإيمان بالله سبحانه وتعالى. وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، وما يجب اعتقاده في كل ركن من هذه الأركان. وما يجب اعتقاده في أمور دار البرزخ، ودار الآخرة وما فيهما من الثواب والعقاب، فما يجب على الرجال يجب بعينه على النساء؛ لأنه لا أثر للفرق بين الرجال والنساء – في صفة الخلق، ووظائف الحياة – على القيام بالإيمان، وما يتبعه من أمور العقيدة.
ثانياً: أنه لا فرق بين الرجال والنساء في أصل العبادة، فكل من الرجال والنساء خلق لعبادة الله وحده لا شريك له، وقد خاطبهم الله جميعاً. يقول الله سبحانه وتعالى:
{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}. [340]
ويقول سبحانه: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَاباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ}. [341]
ويشترط في قبول هذه العبادة – من الرجال والنساء – شرطان: الإخلاص لله – عزَّ وجلَّ – في هذه العبادة وحده دون سواه.
{وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}. [342]
والشرط الثاني: المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم في أداء هذه العبادة من غير زيادة أو نقصان. يقول الله سبحانه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}. [343](/64)
ثالثاً:أن الله عزَّ وجلَّ خلق هذين الجنسين وجعلهما يشتركان في بعض صفات الخلق ويختلفان في أخرى، وشرع لهما وظائف في هذه الحياة يشتركان في بعضها ويختلفان في أخرى، فلم يخلقا على صفة واحدة، ولم يكلفا بعمل واحد.
رابعاً: أن الله عزَّ وجلَّ شرع للنساء عبادات خاصة كالستر والحجاب، واشتراط المحرمية في السفر، وغيرها مما يساعدهن ويؤهلهن للقيام بوظائفهن. كما أن الله عزَّ وجلَّ خفف عنهن – مقابل ذلك – بعض العبادات التي تشق عليهن مع قيامهن بوظيفتهن؛ كالجهاد، وطواف الوداع، وقضاء الصلاة في فترة الحيض وغيرها.
خامساً: أن المرأة تختلف عن الرجل في بعض أحكام المناسك بسبب اختلافها عن الرجل في بعض صفات الخلق، ووظائف الحياة.
سادساً: أن المرأة لا تختلف عن الرجل في شيء من أركان الحج والعمرة – إلا الطواف الركن أثناء الحيض والنفاس فإنها تمنع منه؛ لأنه يمكن للمرأة أن تؤدي الأركان كما يؤديها الرجل بلا مشقة، ولا حرج وإنما تخالفه في بعض شروطهما وواجباتهما وسننهما.
سابعاً: أن واجبات الحج التي لا تخالف فيها المرأة الرجل: لا تسقط عنها؛ ولكنها تجب عليها بما لا يشق عليها، وبما لا ينافي ما أوجبه الله عليها من الستر والحجاب إلا طواف الوداع فإنه يسقط عنها حال الحيض والنفاس.
ثامناً: أن سنن الحج التي لا تتمكن المرأة من أدائها مع المحافظة على سترها وحجابها فإنها لا تشرع لها. بل قد تأثم بفعلها؛ لأن واجب الستر والحجاب مقدم على تلك السنن.
هذا والله أسأل أن ينفع بهذا البحث، وأن يثيب كاتبه، وقارئه، والمعين على نشره أنه سميع مجيب.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ونبيه محمد وعلى آله وصحبه أجميعن.
فهرس المراجع
وهي مرتبة بحسب حروف الهجاء
(أ)
- الإجماع: تأليف أبي بكر بن محمد بن المنذر (ت 318هـ) تحقيق أبو حماد صغير أحمد، الطبعة الأولى (1403هـ)، الناشر / دار طيبة للنشر والتوزيع بالرياض.(/65)
- أحكام القرآن: تأليف القاضي أبي بكر محمد بن عبد الله المعروف بابن العربي (ت 543 هـ) تحقيق على محمد البجاوي، الطبعة الثالثة (1392هـ)، الناشر / إدارة المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت.
- أخبار مكة: تأليف أبي الوليد محمد بن عبد الله الأزرقي (ت 204هـ)، تحقيق رشدي ملحس، الطبعة الثالثة 1399هـ، الناشر / دار الثقافة – بيروت.
- ارواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، تأليف / محمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الأولى 1399هـ، الناشر / المكتب الإسلامي.
- الاستيعاب في أسماء الأصحاب: تأليف / أبي عمر يوسف بن عبد البر (ت 463 هـ)، الطبعة الأولى 1328 هـ، الناشر / مكتبة المثنى بهامش كتاب الإصابة.
- أسهل المدارك شرح إرشاد السالك: تأليف أبي بكر بن حسن الكشناوي، الطبعة الأولى، الناشر / دار الكتاب الجديد ببيروت.
- الإصابة في تمييز الصحابة: تأليف / الحافظ ابن حجر العسقلاني (ت 852 هـ) الطبعة الأولى 1328 هـ، الناشر / مكتبة المثنى ببيروت.
- الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام المبجل أحمد ابن حنبل: تأليف / أبي الحسن علي بن سليمان المرادوي (ت 885 هـ)، الطبعة الثانية (1400هـ)، الناشر م دار إحياء التراث العربي ببيروت.
- أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك: تأليف / أبي محمد عبد الله بن يوسف بن هشام (761 هـ)، مطبوع معه كتاب إرشاد السالك إلى تحقيق أوضح المسالك، تأليف محمد محي الدين عبد الحميد.
- الإيضاح والتبيان في معرفة المكيال والميزان: تأليف / أبي العباس نجم الدين بن الرفعة الأنصاري (ت 710 هـ)، حققه وقدم له الدكتور / محمد أحمد إسماعيل الخاروف، الطبعة الأولى 1400هـ، الناشر / مركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي في كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بمكة.
(ب)(/66)
- بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع: تأليف / علاء الدين أبي بكر بن مسعود الكاساني (ت 587 هـ) الطبعة الثانية 1402 هـ، الناشر / دار الكتاب العربي ببيروت.
- بداية المجتهد ونهاية المقتصد: تأليف / أبي الوليد محمد بن أحمد بن رشد القرطبي (ت 595 هـ) الطبعة الثالثة 1379هـ، الناشر / شركة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر.
- بلغة السالك لأقرب المسالك إلى مذهب الإمام مالك: تأليف / أحمد بن محمد الصاوي (ت1241 هـ)، الناشر / دار إحياء الكتب العربية.
(ت)
- تاريخ بغداد: تأليف / أبي بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي (ت 463 هـ) الناشر / دار الكتاب العربي ببيروت.
- التاج والأكليل لمختصر خليل: تأليف / أبي عبد الله محمد بن يوسف بن أبي القاسم الشهير بالمواق (ت 897 هـ)، الطبعة الثانية، مطبوع بهامش كتاب مواهب الجليل.
- التأريخ: تأليف الإمام يحي بن معين (ت 233 هـ) دراسة وترتيب وتحقيق الدكتور / أحد محمد نور سيف، الناشر / مركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي في كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بمكة.
- تحفة المحتاج بشرح المنهاج: تأليف الشيخ أحمد بن محمد بن حجر الهيتمي (ت 973 هـ)، الناشر / مطبعة مصطفى محمد صاحب المكتبة التجارية الكبرى بمصر.
- التحقيق والإيضاح لكثير من مسائل الحج والعمرة والزيارة: تأليف / سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز، الطبعة الثانية والعشرون، الناشر / الشؤون الدينية للقوات المسلحة.
- التعليق: تأليف / القاضي أبي يعلى محمد بن الحسين _(ت 458 هـ)، مخطوط ضمن مخطوطات المكتبة المركزية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية برقم (1946/ق).
- التعليق المغنى على سنن الدارقطني: تأليف / محمد شمس الحق العظيم أبادي (ولد عام 1273)، مطبوع بهامش سنن الدارقطني. الناشر / عالم الكتب ببيروت.
- تنوير الحوالك شرح على موطأ مالك: تأليف / جال الدين عبد الرحمن السيوطي (ت 911 هـ) الناشر / مكتبة الثقافة ببيروت.(/67)
- تدريب الراوي، تأليف: جلال الدين عبد الرحمن السيوطي (ت 911 هـ) حققه وراجعه عبد الوهاب عبد اللطيف، الطبعة الثانية (1399هـ)، الناشر / دار إحياء السنة النبوية.
- تذكرة الحفاظ: تأليف / الحافظ أبي عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي (ت 748 هـ)، الناشر / دار إحياء التراث العربي.
- التلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير: تأليف / الحافظ أبي الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (ت 852 هـ)، تحقيق وتعليق الدكتور / شعبان محمد إسماعيل. الناشر / مكتبة الكليات الأزهرية بالقاهرة سنة 1399 هـ.
- تلخيص المستدرك: تأليف / الحافظ أبي عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي (ت748هـ)، مطبوع بهامش المستدرك، الناشر / مكتبة النصر الحديثة بالرياض.
- التنمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد: تأليف / أبي عمر يوسف بن عبد البر (ت 463 هـ)، تحقيق مجموعة من الباحثين، الطبعة الثانية (1402هـ) الناشر / وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في المملكة المغربية.
- التمهيد في أصول الفقه: تأليف / أبي الخطاب محفوظ بن أحمد الكلوذاني (ت 510هـ)، دراسة وتحقيق الدكتور مفيد محمد ابو عمشة، والدكتور محمد بن علي بن إبراهيم، الطبعة الأولى (1406 هـ) الناشر / مركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي في كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بمكة.
- تهذيب التهذيب: تأليف الحافظ أبي الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (ت 852هـ)، الطبعة الأولى (1325هـ)، الناشر / مطبعة مجلس دائرة المعارف النظامية في الهند.
(ث)
- الثقات: تأليف / أبي حاتم محمد بن حبان البستي (ت 354 هـ)، الناشر / مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية بالهند.
(ج)
- جامع البيان عن تأويل آي القرآن: تأليف / أبي جعفر محمد بن جرير الطبري (ت 310 هـ) حققه وعلق حواشيه محمود محمد شاكر، وراجعه وخرج أحاديثه أحمد محمد شاكر، الطبعة الثانية، الناشر / دار المعارف بمصر.(/68)
- الجامع الصحيح المسمى: سنن الترمذي: تأليف / أبي عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي (ت 279 هـ) تحقيق وشرح إبراهيم عطوة عوض الناشر / دار إحياء التراث العربي ببيروت.
- جمهرة أنساب العرب: تأليف أبي محمد علي بن أحمد بن حزم (ت 456 هـ) الطبعة الأولى 1304هـ، الناشر دار الكتب العلمية ببيروت.
- جواهر الأكليل: تأليف صالح بن عبد السميع الأزهري. الناشر / دار المعرفة للطباعة والنشر ببيروت.
- الجوهر النقي: تأليف علي بن عثمان المارديني المعروف بابن التركماني (ت 745هـ) مطبوع بحاشية سنن البيهقي، الطبعة الأولى، الناشر / دار المعرفة للطباعة والنشر ببيروت.
(ح)
- حاشية تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق: تأليف أحمد الشلبي (ت 1021هـ) الناشر / دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت.
- حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: تأليف / محمد بن عرفة الدسوقي (ت 1230هـ)، الناشر / دار إحياء الكتب العربية، عيسى البابي الحلبي وشركاه.
- حاشية ابن عابدين المسماة رد المحتار على الدر المختار، تأليف محمد أمين الشهير بابن عابدين (ت 1252هـ)، الطبعة الثانية 1386 هـ، الناشر / شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر.
- الحجاب: تأليف أبي الأعلى المودودي (1398هـ)، الناشر / دار الأنصار بالقاهرة.
- حجية السنة: تأليف / الدكتور عبد الغني عبد الخالق (ت 1403هـ)، الطبعة الأولى (1407 هـ)، الناشر / المعهد العالي للفكر الإسلامي بواشنطن.
- حلية العلماء في معرفة مذاهب الفقهاء: تأليف / أبي بكر محمد بن أحمد القفال (ت 507 هـ)، تحقيق الدكتور / ياسين أحمد داردكه، الطبعة الأولى 1988م، الناشر / مكتبة الرسالة الحديثة.
(ر)
- رسالة في الدماء الطبيعية: تأليف / فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين الطبعة الثانية 1398 هـ، الناشر / شركة المدينة للطباعة، بجدة.(/69)
- الروض المربع شرح زاد المستنقع: تأليف / منصور بن يونس البهوتي (ت 1051هـ)، الطبعة الأولى 1397 هـ، ومعه حاشية عبد الرحمن بن قاسم على الروض المربع.
- روضة الطالبين: تأليف / أبي زكريا يحي بن شرف النووي (ت 676هـ)، الناشر/ المكتب الإسلامي بدمشق.
- زاد المحتاج بشرح المنهاج: تأليف / الشيخ عبد الله بن الشيخ حسن الحسن الكوهجي، عني بطبعه ومراجعته الشيخ عبد الله بن إبراهيم الأنصاري، الطبعة الأولى، الناشر / الشؤون الدينية بدولة قطر.
(س)
- سنن أبي داود: تأليف الحافظ أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني (ت 275 هـ) إعداد وتعليق عزت عبيد الدعاس، الطبعة الأولى 1388 هـ، الناشر / محمد على السيد. حمص.
- السنن الكبرى: تأليف / أبي بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي (ت 458 هـ) الناشر / دار المعرفة للطباعة والنشر ببيروت.
- سنن ابن ماجة: تأليف / الحافظ أبي عبد الله محمد بن يزيد القزويني ابن ماجة (ت 275 هـ)، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، الناشر / دار إحياء التراث العربي 1395 هـ.
- سنن النسائي: تأليف / أبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي (ت 303 هـ) الناشر / دار الفكر للطباعة والنشر ببيروت.
- سنن الدارقطني: تأليف الإمام علي بن عمر الدارقطني (ت 385هـ)، الناشر / عالم الكتب ببيروت، وبذيله التعليق المغنى على الدارقطني.
(ش)
- شرح العمدة: تأليف شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية (ت 748هـ) تحقيق الدكتور / صالح بن محمد الحسن، الطبعة الأولى (1409هـ)، الناشر / مكتبة الحرمين بالرياض.
- شرح العناية على الهداية: تأليف / محمد بن محمود البابرتي (ت 786 هـ) الطبعة الأولى 1389 هـ، مطبوع بحاشية كتاب فتح القدير، الناشر / شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر.
- شرح النووي على صحيح الإمام مسلم: تأليف / أبي زكريا يحيى بن شرف النووي (ت676هـ) الناشر / دار إحياء التراث العربي ببيروت.
(ص)(/70)
- الصحاح: تأليف / أبي نصر إسماعيل بن حماد الجوهري (ت 393هـ) تحقيق أحمد عبد الغفور عطار.
- صحيح البخاري: تأليف الإمام محمد بن إسماعيل البخاري (ت 256هـ) مع شرحه فتح الباري، قرأ أصله تصحيحاً وتحقيقاً سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، الناشر / رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بالمملكة العربية السعودية.
- صحيح مسلم: تأليف الإمام مسلم بن الحجاج القشيري (ت 261 هـ) مع شرحه للإمام النووي، الطبعة الثانية 1392هـ. الناشر / دار إحياء التراث العربي ببيروت.
(ط)
- طبقات الشافعية الكبرى: تأليف أبي نصر عبد الوهاب السبكي (ت 771 هـ) الطبعة الثانية، الناشر / دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع ببيروت.
- طبقات الشافعية للحسيني: تأليف أبي بكر بن هداية الله الحسيني (ت 1014هـ) – تحقيق عادل نوهيض، الطبعة الثانية 1979م، الناشر / دار الآفاق الجديدة ببيروت.
- طرح التثريب في شرح التقريب تأليف أبي الفضل عبد الرحيم ابن الحسين العراقي (ت 806 هـ)، وولده القاضي أبي زرعة العراقي (ت 826 هـ)، الناشر / دار إحياء التراث العربي.
(ع)
- العمدة في أصول الفقه: تأليف القاضي أبي يعلي محمد بن الحسين (ت 458 هـ) تحقيق الدكتور أحمد سير مباركي، الطبعة الأولى 1400 هـ الناشر / مؤسسة الرسالة.
- العمدة: تأليف أبي محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي (ت 621 هـ) خرج أحاديثه عبد الله بن سفر الغامدي ومحمود غيليب العتيبي، الطبعة الأولى 1409 هـ، الناشر / مكتبة الطرفين بالطائف.
(ف)
- الفتاوى الهندية المسماة (بالفتاوى العالمكيرية) تأليف جماعة من علماء الهند، الطبعة الرابعة، الناشر / دار إحياء التراث العربي للنشر والتوزيع ببيروت.
- الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد، تأليف أحمد عبد الرحمن البناء الشهير ((بالساعاتي)). الناشر / دار الشهاب بالقاهرة.(/71)
- الفروع: تأليف الإمام إبي عبد الله محمد بن مفلح المقدسي (ت 763هـ). أشرف على مراجعتها وضبطها الشيخ عبد اللطيف محمد السبكي، الطبعة الثالثة 1379 هـ، الناشر / عالم الكتب ببيروت.
- فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت: تأليف الشيخ محب الله بن عبد الشكور، (ت 1119 هـ)، الطبعة الأولى بالمطبعة الأميرية، ببولاق مصر، 1324 هـ مطبوع مع المستصفى للغزالي، الناشر / مؤسسة الحلبي وشركاه للنشر والتوزيع بالقاهرة.
(ق)
- القاموس المحيط: تأليف العلامة محمد بن يعقوب. الفيروزبادي (ت 817 هـ) كتب حواشيه نصر الهوريني، وصححه محمد محمود الشنقيطي.
- القرى لقاصد أم القرى: تأليف الحافظ أبي العباس أحمد بن عبد الله بن محمد بن أبي بكر محب الدين الطبري (ت 694 هـ) عارضه بمخطوطات مكة والقاهرة مصطفى السقا الطبعة الثانية 1390 هـ، الناشر / شركة ومكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر.
(ك)
- الكافي، تأليف الحافظ أبي عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النميري القرطبي (ت 463) تحقيق وتقويم الدكتور محمد محمد أحيد ولد ماديك الموريتاني، الطبعة الأولى 1398هـ، الناشر / مكتبة الرياض الحديثة بالرياض.
- الكافي في فقه الإمام المبجل أحمد بن حنبل: تأليف أبي محمد عبد الله بن قدامة المقدسي) ت 631 هـ)، تحقيق زهير الشاويش، الطبعة الثانية 1399 هـ، الناشر م المكتب الإسلامي.
- كشاف القناع عن متن الإقناع، تأليف الشيخ منصور بن يونس بن إدريس البهوتي (ت 1051هـ) طبع بمطبعة الحكومة بمكة 1394 هـ، أمر بطبعه المغفور له الملك فيصل بن عبد العزيز آل سعود.
(ل)
- لسان العرب: تأليف العلامة أبي الفضل محمد بن مكرم بن منظور (ت 711 هـ) الناشر / دار صادر بيروت.
(م)
- المبسوط: تأليف أبي بكر محمد بن أحمد السرخسي (ت 490 هـ)، الطبعة الثالثة (1398هـ)، الناشر / دار المعرفة للطباعة والنشر ببيروت.(/72)
- مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: تأليف علي بن أبي بكر بن سليمان الهيثمي (ت 807هـ)، الناشر / دار الكتاب بيروت.
- المجموع شرح المهذب: تأليف الإمام أبي زكريا يحي بن شرف النووي (ت 676هـ) وبهامشه كتاب فتح العزيز للرافعي، وكتاب التلخيص الحبير لابن حجر الناشر / دار الفكر.
- مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية جمع وترتيب عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، تصوير الطبعة الأولى 1398 هـ.
- المحرر في الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل: تأليف أبي البركات عبد السلام بن تيمية (ت 652 هـ) الطبعة الثانية 1404 هـ، الناشر / مكتبة المعارف بالرياض، ومعه كتاب النكت والفوائد السنية لابن مفلح الحنبلي.
- المحصول في علم أصول الفقه: تأليف محمد بن عمر بن الحسين الرازي (ت 606 هـ) تحقيق الدكتور طه جابر العلواني، الطبعة الأولى 1399هـ الناشر / لجنة البحوث والتأليف والترجمة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
- المحلى: تأليف أبي محمد علي بن أحمد بن حزم (ت 456 هـ)، تحقيق أحمد محمد شاكر، الناشر دار الفكر.
- مختصر خليل: تأليف العلامة خليل بن إسحاق المالكي (ت 767 هـ)، الناشر / مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر 1341 هـ.
- مختصر سنن أبي داود: تأليف عبد العظيم بن عبد القوي المنذري (ت 656 هـ) تحقيق أحمد محمد شاكر، ومحمد حامد الفقي، الناشر / دار المعرفة ببيروت 1400 هـ مطبوع معه كتابي معالم السنن للخطابي، وتهذيب السنة لابن القيم.
المدونة الكبرى للإمام مالك رواها سحنون بن سعيد التنوخي عن عبدالرحمن بن القاسم العتقي عن الإمام مالك، مصورة عن الطبعة الأولى، الناشر / دار صادر بيروت.
- المرأة في القرآن: تأليف عباس محمود العقاد (ت 1384هـ) الطبعة الثالثة 1969م، دار الكتاب العربي، بيروت.(/73)
- المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز: تأليف أبي محمد عبد الحق بن عطية الأندلسي (ت54هـ) حققه مجموعة من العلماء، الطبعة الأولى 1398هـ، طبع على نفقة الشيخ خليفة بن حمد آل ثاني أمير دولة قطر.
- مسائل الإمام أحمد: رواية أبي داود، تأليف أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني، الناشر / دار الباز للنشر والتوزيع بمكة.
- المستدرك على الصحيحين: تأليف الحاكم أبي عبد الله بن اليبع النيسابوري (ت 405هـ) الناشر مكتبة ومطابع النصر الحديثة بالرياض.
- مسند الإمام أحمد: تأليف الإمام أحمد بن حنبل (ت 241 هـ) الناشر / دار صادر ببيروت.
- المسند شرح وتعليق أحمد شاكر. الناشر / دار المعارف بمصر.
- المسودة في أصول الفقه، تأليف الجد، والأب، والحفيد من آل تيمية. جمعها وبيضها أبو العباس أحمد بن محمد بن أحمد بن عبد الغني الغزالي (ت 745 هـ)، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد. أمر بطبعه الشيخ علي بن عبد الله آل ثاني
- المصف في الأحاديث والآثار، تأليف الحافظ عبد الله بن محمد بن أبي شيبة (ت 235 هـ). الناشر الدار السلفية بالهند.
- المصنف: تأليف الحافظ عبد الرزاق بن همام الصنعاني (ت 211 هـ)، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي. الطبعة الأولى 1390 هـ، الناشر / المجلس العلمي.
- معالم السنن: تأليف الإمام أبي سليمان حمد بن محمد الخطابي (ت 388 هـ) الطبعة الثانية 1401هـ، الناشر / المكتبة العلمية ببيروت.
- معجم البلدان: تأليف ياقوت بن عبد الله الحموي (ت 626 هـ).
المغني: تأليف أبي محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي (ت 621 هـ) الناشر مكتب الرياض الحديثة 1401 هـ.
- مناسك المرأة: تأليف أبي زكريا يحي بن شرف النووي (ت 676 هـ) تحقيق الدكتور صالح بن عبد الرحمن الأطرم، طبع ضمن بحوث العدد الخامس عشر من أعداد مجلة أضواء الشريعة التي تصدرها كلية الشريعة بالرياض.(/74)
- مناسك النووي: تأليف أبي زكريا يحيى بن شرف النووي (ت 676 هـ). الناشر / المكتبة السلفية بالمدينة.
- المناسك وأماكن طرق الحج ومعالم الجزيرة: تأليف إبراهيم بن إسحاق الحربي (ت 214 هـ) تحقيق الإستاذ حمد الجاسر، الطبعة الثانية 1401 هـ، الناشر / دار اليمامة للبحث والترجمة والنشر بالمملكة العربية السعودية.
- المنتقى شرح موطأ الإمام مالك: تأليف القاضي أبي الوليد سليمان بن خلف الباجي (ت 494هـ) الطبعة الثالثة 1403 هـ، الناشر / مطبعة دار السعادة بمصر.
- منتهى الإرادات: تأليف محمد بن أحمد الفتوحي (ت 920)، الناشر / مكتبة دار العروبة 1381 هـ.
- مواهب الجليل لشرح مختصر خليل: تأليف أبي عبد الله محمد بن محمد بن عبد الرحمن الطرابلسي المعروف ((بالخطاب)) (ت 954 هـ)، الناشر مكتب النجاح بليبيا، مطبوع بهامشه التاج والأكليل لمختصر خليل للمواق.
- الموطأ: تأليف الإمام أبي عبد الله مالك بن أنس (ت 179 هـ)، الناشر / المكتبة الثقافية ببيروت، مطبوع معه كتاب تنوير الحوالك شرح موطأ مالك للسيوطي.
- ميزان الاعتدال: تأليف الحافظ أبي عبد الله محمد بن أحمد عثمان الذهبي (ت 748هـ)، الناشر / دار إحياء الكتب العربية.
(ن)
- نصب الراية لأحاديث الهداية: تأليف عبد الله بن يوسف الزيلعي، (ت 672هـ)، الطبعة الثانية، الناشر / المجلس العلمي بالهند.
- النهاية في غريب الحديث: تأليف أبي السعادات المبارك بن محمد الجزري المعروف بابن الأثير (ت 606هـ)، تحقيق طاهر أحمد الزاوي ومحمود محمد الطناحي، الناشر المكتبة الإسلامية لصاحبها الحاج رياض الشيخ.
- نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج: تأليف محمد بن أبي العباس أحمد بن حمزة الرملي الشهير بالشافعي الصغير (ت 1004 هـ)، الناشر / المكتبة الإسلامية، مطبوع معه حاشية أبي الضياء الشبراملي وحاشية المغربي الرشيدي.(/75)
- نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار: تأليف القاضي محمد بن علي الشوكاني، (ت 1250هـ) الناشر شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر.
- هداية السالك: تأليف أبي عمر عبد العزيز بن محمد بن جماعة الكناني (ت 767هـ) تحقيق الدكتور صالح بن ناصر الخزيم، مضروب على الآلة الكاتبة.
- الهداية: تأليف أبي الخطاب محفوظ بن أحمد الكلوذاني (ت 510 هـ). الناشر / مطابع القصيم.
- الهداية شرح بداية المبتدي: تأليف علي بن أبي بكر المرغيناني (ت 593) الطبعة الأولى 1389هـ، الناشر شركة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، مطبوع مع شرحه فتح القدير لابن الهمام.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] من (الآية:97) من سورة آل عمران.
[2] أخرجه البخاري في صحيحه – واللفظ له – في كتاب الإيمان – باب دعاؤكم إيمانكم 1/49 ح 8.
[3] انظر: كتاب شرح العمدة 1/218، ومنتهى الأرادات 1/234.
[4] سبقني إلى هذا الاسم الإمام محي الدين النووي في كتابه "مناسك المرأة " وهو كتاب مختصر جداً ولم يلتزم فيه المؤلف بالمسائل الخاصة بالمرأة، وقد حققه فضيلة شيخنا الفاضل الدكتور / صالح بن عبد الرحمن الأطرم، وطبع ضمن مواضيع العدد الخامس عشر من أعداد مجلة كلية الشريعة بالرياض "أضواء الشريعة".
[5] من الآية: 189 من سورة الأعراف.
[6] الآية: 35 من سورة البقرة.
[7] الآية: 117 من سورة طه.
[8] الآيات: 20-22 من سورة الأعراف.
[9] الآية: 24 من سورة الأعراف.
[10] الآية: 30 من سورة البقرة.
[11] الآية: 38 من سورة البقرة.
[12] الآية: 34 من سورة البقرة.
[13] الآية: 34 من سورة النساء.
[14] الحجاب:ص 158
[15] ص / 18
[16] الآية: 30 من سورة الروم.
[17] الآية: 33 من سورة الأحزاب.
[18] الآية: 31 من سورة النور.(/76)
[19] هذا جزء من حديث أخرجه الإمام أحمد في مسنده – واللفظ له – من رواية عبدالله بن عمر 1/26، والترمذي في سننه في أبواب الفتن – باب ماجاء في لزوم الجماعة 4/465ح 2165 وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه.
[20] انظر كتاب القاموس المحيط فصل القاف باب الميم، ولسان العرب، باب الميم فصل القاف، وأحكام القرآن لابن العربي 1/415.
[21] انظر كتاب تقسير الطبري 8/290 وأحكام القرآن لابن العربي 1/415. وعرفها ابن عطية – رحمه الله – تعريفاً عاماً فقال: هو من القيام على الشيء والاستبداد بالنظر فيه، وحفظه بالاجتهاد. المحرر الوجيز 4/40.
[22] الآية: 34 من سورة النساء.
[23] هذا جزء من حديث أخرجه – مع اختلاف يسير في اللفظ – البخاري في صحيحه – من رواية أبي سعيد الخدري – في كتاب الحيض – باب ترك الحائض الصوم – 1/405 ح 304، ومسلم في صحيحه – أيضاً – من رواية عبد الله بن عمر في كتاب الإيمان – باب بيان نقصان الإيمان بنقص الطاعات 2/65.
[24] من الآية: 282 من سورة البقرة.
[25] أحكام القرآن 1/416.
[26] أخرجه الإمام البخاري في صحيحه – واللفظ له – في كتاب النكاح – باب لا تأذن المرأة في بيت زوجها إلا بإذنه 9/295 ح 5195، ومسلم في صحيحه في كتاب الزكاة – باب أجر الخازن الأمين والمرأة إذا تصدقت من بيت زوجها 7/115.
[27] انظر: كتاب المجموع 8/325 ونهاية المحتاج 3/357، والمغنى 5/35.
[28] شرح العمدة 1/285.
[29] انظر: كتاب المبسوط 4/165، وبدائع الصنائع 2/124، وفتح القدير 2/422، والكافي لابن عبد البر 1/413، ومواهب الجليل 3/205، وبلغة السالك 1/553، وروضة الطالبين 3/179، والمغنى 3/240، وشرح العمدة 3/285.
[30] هكذا وردت في المطبوع من كتاب الإجماع، والصواب إلى حج التطوع، لأن أل لا تدخل على المضاف في الإضافة المحضة. انظر: كتاب أوضح المسالك ص /379.
[31] الإجماع ص /54.
[32] المغني لابن قدامة – 3/240.(/77)
[33] انظر كتاب بدائع الصنائع 2/176، وفتح القدير 2/422، 3/176، والكافي لابن عبد البر 1/413، وأسهل المدارك 1/509، ونهاية المحتاج 3/356، والمعني 3/531، والكافي لابن قدامة 1/463.
[34] انظر كتاب بدائع الصنائع 2/181، والمعنى 3/532.
[35] انظر كتاب بدائع الصنائع 2/176، والمعنى 3/532.
[36] انظر: كتاب المجموع 8/333، والمعني 3/532.
[37] انظر: كتاب المجموع 8/333، والمغني 3/532.
[38] انظر: كتاب المبسوط 4/163، والعناية على الهداية 2/422، وفتح القدير 2/422، والكافي لابن عبد البر 1/413، ومواهب الجليل 3/205، وبلغة السالك 1/553، والمجموع 8/329، والمغني 3/240، وشرح العمدة 2/285.
[39] أخرجه البخاري – وذكر فيه قصة صلاة إمرأة عمر في المسجد – في كتاب الجمعة – باب هل على من يشهد الجمعة غسل من النساء والصبيان وغيرهم 2/382ح 900، ومسلم في صحيحه في كتاب الصلاة – باب خروج النساء إلى المساجد - 4/161.
[40] وجوب الحج على الفور هو قول الحنفية، والمالكية، والحنابلة، وأهل الظاهر، والقول الثاني: أن الحج يجب على التراخي لا ياثم من أخره عن أول سني الإمكان هو مذهب الشافعية وقول في مذهب الحنفية والمالكية، ورواية في مذهب الحنابلة، وستأتي الإشارة إليه عند ذكر أدلة أهل القول الثاني.
انظر كتاب بدائع الصنائع 2/119، وفتح القدير 2/132، والكافي لابن عبد البر 1/358، والمجموع 7/102-108، والمغنى 3/241، والإنصاف 3/403.
[41] انظر كتاب: المجموع 8/327 - 331
[42] هو الشيخ أبو حامد أحمد بن محمد بن أحمد الاسفراييني من أئمة المذهب الشافعي في بغداد، ولد سنة 344 هـ، تميز بجودة الفقه، وحسن النظر، ونظافة العلم، توفي رحمه الله سنة 406 هـ.
انظر: كتاب طبقات الشافعية الكبرى 3/24، وطبقات الشافعية للحسيني ص / 127.
[43] هو أحمد بن محمد بن أحمد بن القاسم بن إسماعيل الضبي المحاملي، ولد سنة 368 هـ، كان فقيهاً ورعاً، له مصنفات منها تحرير الأدلة.(/78)
انظر: كتاب طبقات الشافعية الكبرى 3/42، وطبقات الشافعية للحسيني ص 132.
[44] هو القاضي أبو الطيب طاهر بن عبد الله بن طاهر الطبري. ولد سنة 348، تفقه في مذهب الشافعي وبرع فيه، وولي القضاء وكان ذا ورع وعفة، وله مصنفات عدة في الجدل والخلاف، وشرح مختصر المزني، مات رحمه الله سنة 450 هـ.
انظر: كتاب طبقات الشافعية الكبرى 3/176، وطبقات الشافعية للحسيني ص / 150 هـ.
[45] لم أجده بهذا الاسم عند ترجمته في تاريخ الأدب العربي المجلد الأول الجزء الثالث ص / 213 ولم يذكر من كتبه الفقهية إلا شرح مختصر المزني، وقد ذكر أماكن وجود مخطوط ص / 195 من المجلد الأول الجزء الثالث فلعله هو.
[46] هو أبو المحاسن القاضي عبد الواحد بن إسماعيل بن أحمد الروياني. أخذ العلم عن والده وتفقه على جده، له كتاب بحر المذهب، وحلية المؤمن وغيرهما، ولد سنة 415 هـ وتوفي سنة 502 هـ.
انظر: كتاب طبقات الشافعية الكبرى 4/264، وطبقات الشافعية للحسيني ص / 190.
[47] المجموع 8/327، 328.
[48] رواه الدارقطني في سننه – واللفظ له – في كتاب الحج 2/223، والبيهقي في سننه في كتاب الحج – باب حظر المرأة أن تحرم بغير إذن زوجها 5/223 وفيه حسان بن إبراهيم ليس بالقوي. انظر: الجوهر النقي 5/223.
[49] انظر: كتاب المجموع 8/328، 329.
[50] انظر: كتاب التعليق المغني علي الدارقطني 2/223.
[51] انظر: كتاب الجوهر النقي بهامش سنن البيهقي 5/223.
[52] انظر: كتاب المبسوط 4/163، وشرح العمدة 1/198-229.
[53] انظر: كتاب العدة 1/281، والمسودة ص /24.(/79)
[54] أخرجه الإمام أحمد في مسنده 1/314، وفي إسناده إسماعيل بن خليفة أبو إسرائيل الملائي. قال ابن حجر في التقريب 1/69 صدوق سيئ الحفظ وبقية رجاله ثقات. وكلام الأئمة كما في التهذيب 1/263 متردد بين التوسط فيه، وأن حديثه يقبل وهم الأقل وبين تضعيفه ورد حديثه وهم الأكثر ورماه كثير منهم بالتشيع. فالحديث ضعيف. ويعضده الحديث الذي بعده فيكون حسناً لغيره. والله أعلم. وقال الألباني في الأرواء 4/168، في تخريج هذا الحديث – حسن أخرجه أحمد. أ هـ.
[55] أخرجه الإمام أحمد في مسنده 1/225، وأبو داود في سننه في كتاب المناسك 2/350 ح 1732، والحاكم في المستدرك في كتاب المناسك 1/448، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. أ. هـ. ووافقه الذهبي.
[56] أخرجه الإمام أحمد في مسنده بلفظ قريب 3/450، وأبو داود في سننه – وهذا لفظه – في كتاب المناسك، باب الإحصار 2/433ح1862، والترمذي في سننه في كتاب الحجج – باب ما جاء في الذي يهل بالحج فيكسر أو يعرج 3/277ح 940، وقال: هذا حديث حسن صحيح. أ هـ.
[57] انظر: كتاب المجموع 7/108.
[58] انظر كتاب الكافي لابن عبد البر 1/400، 413، ومواهب الجليل 3/205 وحاشية الدسوقي 2/98، والمجموع 8/303، 306، 353 والمغني 3/356، 357، 360، وكشاف القناع 2/527.
[59] من الآية: 196 من سورة البقرة.
[60] الحديبية: موضع بالقرب من مكة، بعضه في الحل، وبعضه في الحرم، والموضع الذي نحر فيه النبي صلى الله عليه وسلم هديه وتحلل فيه – في عمرة الحديبية – من الحل لقول الله تعالى: {وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} والحرم كله محله عند أهل العلم. انظر: كتاب الأم للإمام الشافعي 2/159،218، والتعليق للقاضي خ ق / 170.(/80)
وقصة الحديبية أخرجها الإمام البخاري بطولها في صحيحه في كتاب الشروط باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط – 5/329 ح 1/273، 2732 من رواية المسور بن مخرمة رضي الله عنه، وفيه يقول: "فلما فرغ من قضية الكتاب قال لأصحابه قوموا، فانحروا، ثم احلقوا، قال: فوالله ما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة، فذكر لها ما لقي من الناس فقالت: أم سلمة: يا نبي الله أتحب ذلك؟ أخرج، ثم لا تكلم أحداً منهم كلمة حتى تنحر بدنك، وتدعو حالقك فيحلقك، فخرج، ثم لم يكلم أحداً منهم حتى فعل ذلك: نحر بدنه ودعا حالقه فحلقه فلما رأوا ذلك قاموا. فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضا حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً... الحديث".
[61] انظر: كتاب الكافي لابن عبد البر 1/413، والمجموع 8/306، 353، والمغني 3/356، 357.
[62] انظر: كتاب المبسوط 4/113، وحاشية ابن عابدين 2/591، والكافي لابن البر 1/413، ومواهب الجليل 3/205، والمغني 3/357.
[63] انظر: كتاب المبسوط 4/113، وحاشية ابن عابدين 2/591، والمغني 3/357.
[64] انظر: كتاب المغني 3/357.
[65] وذلك لحديث ضباعة بنت الزبير رضي الله عنها فقد روت عائشة رضي الله عنها قالت: ((دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على ضباعة بنت الزبير، فقال لها: أردت الحج؟ قالت: والله ما أجدني إلا وجعة، وفي رواية "إني أريد الحج وأنا شاكية فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: حجي واشترطي وقولي: اللهم محلي حيث حبستني))؛ أخرجه البخاري في كتاب النكاح باب الأكفاء في الدين 9/132 ح 5089، ومسلم – واللفظ له – في كتاب الحج – باب جواز اشتراط المحرم التحلل بعذر، أو مرض 8/167، زاد النسائي في سننه في كتاب الحجج – باب كيف يقول إذا اشترط 5/167 " فإن لك على ربك ما استثنيت"(/81)
قال الإمام أحمد – رحمه الله – في رواية مهنا – إذا قال عند الإحرام: ((محلي حيث حبستني فأصابه شيء، أو أحصر، أو مرض، أو ذهبت نفقته، وبقي فأحل لا شيء عليه)) أ. هـ.
(1) انظر: كتاب التعليق للقاضي خ/ق/178.
[66] انظر: كتاب المحصول الجزء الأول القسم الثالث ص 161-164والتمهيد لأبي الخطاب 2/150 -158.
[67] انظر: كتاب المغني 3/357، وشرح العمدة 2/381.
[68] انظر كتاب: حاشية الدسوقي 2/97، 98، والمجموع 8/334، وشرح العمدة 1/267.
[69] انظر كتاب: المبسوط 4/112، وبدائع الصنائع 2/182، وحاشية ابن عابدين 2/620.
[70] انظر كتاب: المجموع 8/334، 335.
[71] انظر: كتاب بدائع الصنائع 2/124، والكافي لابن عبد البر 2/623، والمجموع 8/339، والمغني 5/35، 7/521، ومجموع الفتاوي 34/29، وكشف القناع 5/501.
[72] هي فريعة، وقيل الفارعة بنت مالك بن سنان الخدرية أخت أبي سعيد الخدري. وأمها حبيبة بنت عبد الله بن أبي بن سلول صحابية شهدت بيعة الرضوان.
انظر كتاب الاستيعاب 4/387، والإصابة 4/386
[73] بنو خدرة: هم فخذ من الخزرج من ولد عوف بن الحارث بن الخزرج وخدرة هو الأبجر. ومن بني خدره مالك بن سنان بن عبيد بن ثعلبة بن عبيد بن الأبحر، صحابي جليل، استشهد في أحد، وأبنه سعد بن مالك بن سنان أبو سعيد الخدري رضي الله عنه.
انظر كتاب جهرة أنساب العرب ص / 362
[74] ابقوا: أي هربوا منه وخرجوا عن طاعته. انظر كتاب: النهاية في غريب الحديث، باب الهمزة مع الباء.
[75] طرف القدوم: موضع على ستة أميال من المدينة، والقدوم: اسم جبل بالحجاز قرب المدينة. وقيل: قناة وادٍ يمر على طرف القدوم في أصل قبور الشهداء بأحد.
انظر: كتاب معجم البلدان، باب القاف والجيم وما يليهما، وكتاب تنوير الحوالك 2/106. وكتاب المناسك وأماكن طرق الحج ومعالم الجزيرة ص8 ب4(/82)
[76] أخرجه الإمام مالك في الموطأ واللفظ له – تنوير الحوالك – في كتاب جامع الطلاق – باب الاحداد 2/106، والحاكم في المستدرك في كتاب الطلاق – عدة المتوفى عنها زوجها في بيت زوجها 2/208 وقال: هذا حديث صحيح الإسناد من الوجهين جميعا ولم يخرجاه. أ. هـ ووافقه الذهبي في التلخيص على المستدرك.
[77] أخرجه الإمام مالك في الموطأ واللفظ له – تنوير الحوالك – في كتاب جامع الطلاق باب مقام المرأة المتوفى عنها زوجها في بيتها حتى تحل 2/107.
[78] انظر: كتاب بدائع الصنائع 3/206.
[79] انظر: كتاب مختصر خليل ص /145، وحاشية الدسوقي 2/486، والتاج والأكليل 4/163.
[80] انظر: كتاب حاشية الدسوقي 2/486.
[81] انظر: المدونة 2/469، والمنتقى شرح الموطأ 4/138.
[82] مسافر القصر عند الحنابلة مسيرة يومين قاصدين على الرواحل، وقد قدره العلماء بستة عشر فرسخاً وهي ثمانية وأربعون ميلاً، والميل 1848 متراً فتكون المسافة بالكيلو متر 88 كيلو متر و 704 متراً. انظر: كتاب المغني 2/255، وكتاب الإيضاح والتبيان في معرفة المكيال والميزان ص/77، 89.
[83] انظر: كتاب المغني 7/531، 532، والإنصاف 9/310، وكشاف القناع 5/501.
[84] انظر كتاب المجموع 8/399، وزاد المحتاج 3/526.
[85] مسافة القصر عند الحنفية مسيرة ثلاثة أيام سير الإبل، ومشي الأقدام. وعن أبي يوسف يومان وأكثر الثالث.
انظر: كتاب بدائع الصنائع 1/193.
[86] انظر: كتاب بدائع الصنائع 2/124، 3/206، 207،. وكشاف القناع 5/501، 502
[87] أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الجنائز – باب إحداد المرأة على غير زوجها 3/146 ح 1281، 1282، ومسلم في صحيحه في كتاب الرضاع – باب وجوب الإحداد في عدة الوفاة 10/111.
[88] انظر: كتاب بدائع الصنائع 3/206، والكافي لابن عبد البر 2/623، والمغني 7/526، وكشاف القناع 5/503.
[89] انظر: كتاب بدائع الصنائع 3/206، وكشاف القناع 5/503.
[90] من الآية: 1 من سورة الطلاق.(/83)
[91] انظر: كتاب بدائع الصنائع 3/206، وكشاف القناع 5/503.
[92] انظر كتاب: المجموع 18/164، والمغنى 3/241، وكشاف القناع 2/449.
[93] انظر كتاب: بدائع الصنائع 2/124، 3/206، والكافي لابن عبد البر 2/623، والمجموع 18/174، والمغني 7/526.
[94] من الآية 1، من سورة الطلاق.
[95] أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه عن عمر، وعثمان، وابن مسعود، وابن عمر رضي الله عنهم في كتاب الطلاق – باب ما قالوا في المطلقة لها أن تحج في عدتها من كرهه 5/182.
[96] انظر: كتاب بدائع الصنائع 2/124، 3/206، والمجموع 8/174.
[97] انظر: كتاب المغني 3/240، 240.
[98] انظر: كتاب الروض المربع 1/370، ورسالة الدماء في الطبيعية للنساء ص /5، 6.
[99] انظر: كتاب حاشية ابن عابدين 2/480، ومواهب الجليل 3/48، والمجموع 7/212، والمغني 3/294.
[100] انظر كتاب بدائع الصنائع 2/143، وحاشية ابن عابدين 2/480، ومواهب الجليل 3/38.
[101] انظر كتاب بدائع الصنائع 2/143، ومواهب الجليل 3/38.
[102] انظر كتاب مناسك النووي ص 145، والمجموع 7/212، والمغنى 3/294، وشرح العمدة 1/405.
[103] 3/294.
[104] انظر: كتاب المبسوط 4/3، وبدائع الصنائع 2/143، ومواهب الجليل 3/101، والمجموع 7/212، ومناسك المرأة ص /64، والمغني 3/272، وشرح العمدة 1/401.
[105] أخرجه الإمام مسلم في صحيحه في كتاب الحج – واللفظ له – باب إحرام النفساء واستحباب اغتسالها للإحرام وكذا الحائض 8/133، وأخرجه – أيضاً – ابن ماجة في سننه في كتاب المناسك – باب النفساء والحائض تهل بالحج 2/971، 972، ح 2911 – 2913.
[106] الشجرة موضع بذي الحليفة ميقات أهل المدينة. انظر: شرح صحيح الإمام مسلم للنووي 8/133.
[107] أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الحج – واللفظ له – الباب السابق – 9/133، وأبو داود في سننه في كتاب المناسك، باب الحائض تهل بالحج 2/357 ح 1343(/84)
[108] انظر: كتاب المبسوط 4/3، وكتاب بدائع الصنائع 2/144، والمجموع 7/312.
[109] انظر: كتاب الإجماع ص / 55، والمغني 3/272.
[110] انظر: المجموع 7/112.
[111] انظر: كتاب المحلي 7/82.
[112] انظر: المجوع 7/82.
[113] انظر: كتاب فتح القدير 2/447، وجواهر الأكليل 1/177، وحاشية الدسوقي 2/38، والمجموع 7/266، والمغني 1/368، وشرح العمدة 2/11/4.
[114] ذي طوى: موضع لا يزال معروفاً حتى الأن في محلة جرول داخل مكة.
انظر: هامش كتاب المناسك وأماكن طرق الحج ومعالم الجزيرة ص /468
[115] أخرجه البخاري في صحيحه – واللفظ له – في كتاب الحج – باب الاغتسال عند دخول مكة 3/435 ح 1573، ومسلم في صحيحه في كتاب الحج – باب استحباب المبيت بذي طوى عند إرادة دخول مكة 9/5.
[116] انظر: كتاب فتح القدير 2/447، ومواهب الجليل 3/104، والمجموع 7/213، 8/4، والمعني 3/368.
[117] سرف: موضع بالقرب من مكة يقع بين التنعيم ووادي فاطمة، وهو على ستة أميال، أو سبعة من مكة، وفيه تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة بنت الحارث وبه بني فيها، وبه توفيت رضي الله عنها، ويسمى اليوم بالنوارية. انظر: كتاب معجم البلدان، باب السين والراء وما يليهما، وكتاب أخبار مكة 2/218
[118] هذا جزء من حديث أخرجه البخاري – من رواية عائشة رضي الله عنها – في كتاب الحيض – باب الأمر بالنفساء إذا نفس – 1/400 ح ب 294، ومسلم في صحيحه في كتاب الحج – باب بيان وجوه الإحرام 8/147.
[119] انظر المجموع 7/213، 8/4 والمغني 3/368
[120] انظر كتاب مواهب الجليل 3/104، وحاشية الدسوقي2/38
[121] عند الحنفية يكتفي بالتيمم عن الوضوء. انظر: كتاب بدائع الصنائع 1/38، والفتاوى الهندية 1/38.
[122] انظر: كتاب بدائع الصنائع 1/38، 44 والفتاوى الهندية 1/38، والمجموع 2/358، والفروع 1/261، والمبدع 1/260، والإنصاف 1/347.(/85)
[123] أخرجه أبو داود في سننه – واللفظ له – في كتاب الطهارة – باب في الجنب يدخل المسجد 1/157 ح 232 وسكت عنده فهو عنده حسن. والبيهقي في سننه في كتاب المناسك. وقال الخطابي في معالم السنن 1/78: ضعفوا هذا الحديث وقالوا: أفلت: راوية مجهول لا يصح الاحتجاج بحديثه. أ هـ.
وقال النووي في المجموع 2/160: ليس هو بقوي. أ هـ، وقال الألباني:في الإرواء 1/210: ضعيف.
[124] أخرجه الترمذي في سننه في كتاب المناقب – باب مناقب علي بن أبي طالب رضي الله عنه 5/639 ح 3727، وقال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وسمع مني محمد بن إسماعيل هذا الحديث فاستغربه. أ هـ.
قال النووي في المجموع 2/162 ضعيف لأن مداره على سالم بن أبي حفصة، وعطية، وهما ضعيفان جداً، شيعيان، متهمان في رواية هذا الحديث وقد أجمع العلماء على تضعيف سالم وغلوه في التشيع، ويكفي في رده بعض ما ذكرناه. أ هـ.
[125] انظر: كتاب المجموع 2/161.
[126] انظر: كتاب المجموع 28160، والمغنى 1/307، والإنصاف 1/347.
[127] من الآية: 43 من سورة النساء.
[128] انظر: كتاب المجموع 2/160.
[129] أورده النووي في المجموع 2/160، وقال: رواه البيهقي في معرفة السنن والأثار أ. هـ، وابن قدامة في المعني 1/145، وقال: رواه ابن المنذر. أ هـ.
وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف أن علياً كان يمر في المسجد وهو جنب، وأثاراً أخرى عن التابعين في جواز المرور بالمسجد دون المكث فيه – في كتاب الطهارات – باب الجنب يمر في المسجد قبل أن يغتسل 1/146.
[130] انظر: كتاب المجموع 2/160، والمغني 1/145.
[131] انظر: كتاب بداية المجتهد 1/48، والإنصاف 1/347، والمحلي 2/184.(/86)
[132] أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الغسل – باب عرق الجنب، أن المسلم لا ينجس 1/390 ح 283، ولفظه: ((عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقيه في بعض طريق المدينة وهو جنب، فانخنس منه فذهب فاغتسل، ثم جاء فقال: أين كنت يا أبا هريرة ؟ قال: كنت جنبا فكرهت أن أجالسك وأنا على غير طهارة، فقال سبحان الله إن المسلم لا ينجس)).
وأخرجه أيضاً – مسلم في صحيحه في كتاب الحيض – باب الدليل على أن المسلم لا ينجس 4/65.
[133] انظر: كتاب بداية المجتهد 1/48، والمحلي 2/184.
[134] الآية: 6 من سورة المائدة.
[135] أخرج الحديث البخاري في صحيحه في كتاب الحيض – باب غسل الحائض رأس زوجها وترجيله – 1/401 ح 295، 296 ومسلم في صحيحه أيضاً في كتاب الحيض – باب جواز غسل الحائض رأس زوجها وترجيله 3/208.
[136] انظر كتاب المجموع 2/172.
[137] انظر: كتاب بداية المجتهد 1/46، وحلية العلماء 1/215، 216
[138] انظر: كتاب بداية المجتهد 1/343.
[139] مجموع الفتاوى 26/176.
[140] انظر: كتاب الكافي لابن عبد البر 1/367، وبداية المجتهد 1/343، وحاشية الدسوقي 3/67، والمجموع 8/15 – 18، والمغني 3/377، وشرح العمدة 2/582، والفروع 3/501.
[141] أخرجه الترمذي في سننه في كتاب الحج – باب ما جاء في الكلام في الطواف 3/293 ح 960، والحاكم في المستدرك في كتاب المناسك 459، وقال هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه وقد أوقفه جماعة، أ هـ، ووافقه الذهبي، وقال ابن حجر في التلخيص الحبير 1/138: صححه ابن السكن وابن خزيمة، وابن حبان. أ هـ.
[142] انظر: كتاب شرح العمدة 2/585.
[143] أخرجه أبو داود في سننه – بلفظ قريب – في كتاب المناسك – باب الحائض تهل بالحج 2/357ح 1744 والترمذي في سننه في كتاب الحج – باب ما جاء ما تقضي الحائض من المناسك 3/282 ح 2945.(/87)
وقال المنذري في مختصر سنن أبي داود 2/286: في إسناده خصيف وهو ابن عبد الرحمن الحراني وكنيته أبو عون وقد ضعفه غير واحد. أ. هـ.
وعده الألباني في الإرواء 1/206 شاهداً لحديث عائشة الآتي بعده، وقال – في خصيف – سيئ الحفظ.
[144] انظر: كتاب شرح العمدة 2/584.
[145] طمثت: أي حاضت، والطمث: الدم، والنكاح. وكذا نفست بمعنى حاضت.
انظر: النهاية في غريب الحديث – باب الطاء مع الميم – وشرح النووي على صحيح مسلم 8/147.
[146] هذا جزء من حديث أخرجه البخاري في صحيحه – واللفظ له – في كتاب الحيض – باب تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف بالبيت 1/407 ح 305، ومسلم في صحيحه في كتاب الحج، باب بيان وجوه الإحرام 8/147.
[147] انظر: كتاب المحصول الجزء الأول القسم الثاني ص /486، والعدة 1/333، والتمهيد لأبي الخطاب 1/369.
[148] هي أم المؤمنين صفية بنت حييى بن أخطب من بني النضير من بني إسرائيل، وأمها برة بنت سمئول. قتل زوجها الأول سلام بن مكشم يوم خيبر، وأسرت صفية مع سبي هذه الغزوة، فاستضفاها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصارت في سهمه ثم أعتقها، وجعل عتقها صداقها، وذلك سنة سبع وتوفيت رضي الله عنها سنة 50 هـ.
انظر: كتاب الاستيعاب 4/346، والإصابة 4/346.
[149] عقري حلقي: دعاء عليها أن يصيبها وجع في حلقها كأنه قال: عقرها الله، وقيل معناه: جعلها الله عاقرا لا تلد، ومشؤومة على أهلها.
انظر: كتاب النهاية في غريب الحديث، باب الحاء مع اللام.
[150] أخرجه البخاري في صحيحه واللفظ له – في كتاب الحج – باب التمتع والقرآن والإفراد بالحج وفسخ الحج لمن لم يكن معه هدى 3/421/ ح 1561، ومسلم في صحيحه في كتاب الحج – باب بيان وجوه الإحرام 8/153.(/88)
[151] هذا جزء من حديث أخرجه البخاري في صحيحه – واللفظ له – في كتاب الحج – باب من طاف بالبيت إذا قدم مكة قبل أن يرجع إلى بيته ثم يصلي ركعتين، ثم خرج إلى الصفا 3/477 ح 1614، ومسلم في صحيحه في كتاب الحج – باب أن المحرم بعمرة لا يتحلل بالطواف قبل السعي 8/22.
[152] هذا جزء من حديث جابر رضي الله عنه، وقد أخرجه الإمام مسلم - واللفظ له – في كتاب الحج – باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر – 9/44، وأبو داود في سننه في كتاب المناسك – باب رمي الجمار 2/495 ح 1970.
[153] يفرق بعض الحنفية بين طواف الركن، وهو طواف الإفاضة، وبين طواف الواجب وهو طواف الوداع، والسنة وهو طواف القدوم والتطوع: فيوجبون الجزاء في طواف الركن محدثاً دون الطواف المسنون وبعضهم قال يخفف الجزاء.
انظر: المبسوط 4/38 – 41، وفتح القدير 3/50، 54.
[154] انظر: كتاب المبسوط 4/38، وبدائع الصنائع 2/129، وفتح القدير 3/49، والمغني 3/377، ومجموع الفتاوى 26/231والإنصاف 4/16، وقال في الإنصاف: وعنه يصح من ناس ومعذور فقط، وعنه: يصح منهما فقط مع جبران بدم، وعنه يصح من الحائض وتجبره بدم وهو ظاهر كلام القاضي. أ هـ.
[155] من الآية: 29 من سورة الحج.
[156] انظر: كتاب كشف الأسرار 1/294، وفواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت 1/349.
[157] انظر: مجموع الفتاوى 26/123 – 128، 176 – 218، 221 – 241.
[158] من الآية: 16 من سورة التغابن.
[159] انظر: كتاب المحلى 7/179.
[160] سبق تخريجه.
[161] انظر كتاب التمهيد لأبي الخطاب 2/287، 288، وحجية السنة ص /295.
[162] انظر كتاب المجموع 8/18.
[163] انظر كتاب المحصول الجزء الأول القسم الثالث ص /131، والتمهيد لأبي الخطاب 2/105.
[164] من الآية /11 من سورة النساء.(/89)
[165] أخرج الإمام البخاري في صحيحه حديث أسامة بن زيد ولفظه ((لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم، في كتاب الفرائض – باب لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم – 12/50 ح 6764، وأخرجه أيضاً الإمام مسلم. في صحيحه في كتاب الفرائض 11/51.
[166] انظر: كتاب التمهيد في أصول الفقه 2/105 – 111.
[167] انظر: كتاب المجموع 8/18.
[168] انظر كتاب بدائع الصنائع 2/135، وفتح القدير 3/57، والمنتقى شرح الموطأ 2/224،290، ومواهب الجليل 3/69، والمجموع 8/74، والمغنى 3/394، وشرح العمدة 4/640، والإنصاف 4/21.
[169] انظر: كتاب المنتقى شرح الموطأ 3/58، والمجموع 8/74، والمغني 3/394، وشرح العمدة 2/640، والإنصاف 4/21والتحقيق والإيضاح ص 32.
[170] سبق تخريجه
[171] انظر: كتاب المبسوط 4/51، وبدائع الصنائع 2/135، والمنتقى شرح الموطأ 2/290، 3/58، والمغنى 3/394.
[172] انظر: كتاب الإجماع ص/63.
[173] انظر: كتاب بداية المجتهد 1/46، ومواهب الجليل 3/69، ومسائل الإمام أحمد رواية إسحاق بن إبراهيم 1/140، والتعليق خ ق/88، والمغني 3/395، والإنصاف 4/21.
[174] أخرجه الإمام مالك في الموطأ كما في تنوير الحوالك في كتاب الحج – دخول الحائض مكة – 2/362.
[175] هو أبو زكريا يحيى بن يحيى التميمي النيسابوري، روى عن الإمام مالك والليث وغيرهما وعنه البخاري ومسلم وغيرهما ثقة ثبت إمام ولد سنة 142، ومات سنة 226 هـ رحمه الله.
انظر: كتاب ميزان الاعتدال 2/415، وتقريب التهذيب 2/360.
[176] انظر في تعريف الشاذ كتاب تدريب الراوي 1/65، وكتاب اختصار علوم الحديث ص /56.
[177] التمهيد 19/261
[178] تنوير الحوالك شرح على موطأ الإمام مالك 1/362.
[179] 3/504، وانظر – أيضاً – كتاب المنتقي شرح موطأ الإمام مالك 2/224.
[180] التعليق خ ق / 88
[181] المغنى 3/395.
[182] سبق ذلك ص / 63
[183] انظر كتاب: المجموع 8/74، والمغنى 3/394.(/90)
[184] القائلون بالوجوب هم الحنفية، والحنابلة، والقول الصحيح في مذهب الشافعية. ويرى المالكية والشافعية في أحد القولين أن هذا الطواف سنة وليس بواجب، لكن بعض المالكية قالوا: هو سنة ويجبر عند تركه بالدم.
انظر كتاب بدائع الصنائع 2/142، الهداية للمرغيناني مع شرحها 2/504، والكافي لابن عبد البر 1/378وبداية المجتهد 1/343، والمجموع 8/254، والمغنى 3/458، وشرح العمدة 2/651.
[185] ويسمى أيضاً: طواف الصدر، وطواف الخروج. انظر كتاب شرح العمدة 2/651.
[186] انظر كتاب المبسوط 4/35، وبدائع الصنائع 2/142، والكافي لابن عبد البر 1/378، وحاشية الدسوقي 3/138، والمجموع 8/255،284، وشرح العمدة 2/569.
[187] أخرجه البخاري في صحيحه – واللفظ له – في كتاب الحج – باب طواف الوداع 3/585 ح 1755، ومسلم في صحيحه في كتاب الحج – باب وجوب طواف الوداع وسقوطه عن الحائض 9/79.
[188] أخرجه الإمام أحمد في مسنده 1/370، وقال الساعاتي في الفتح الرباني 12/234: سنده جيد، ومعناه في الصحيحين. أ هـ.
[189] الخباء: بيت من بيوت العرب يصنع من الوبر والصوف، وينصب على عمودين أو ثلاثة، وجمعه أخبية.
انظر: كتاب النهاية في غريب الحديث باب الخاء مع الباء.
[190] أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الحج – باب إذا حاضت المرأة بعد ما أفاضت 3/586ح 1762، ومسلم في كتاب الحج – واللفظ له – باب وجوب طواف الوداع وسقوطه عن الحائض 9/82.
[191] انظر كتاب مناسك النووي ص 445، والعمدة ص /44.
[192] ص 445،446
[193] 1/349.
[194] ص 44.
[195] يشير إلى الدعاء الذي يقال عند الوداع ويمكن الرجوع إليه في كتب الفقه والمناسك عند مبحث طواف الوداع.
[196] كشاف القناع 2/598.
[197] انظر ص /63.
[198] من الآية /33 من سورة الأحزاب.
[199] الآية / 59 من سورة الأحزاب.
[200] من الآية: 31 من سورة النور.(/91)
[201] أخرجه الإمام البخاري في صحيحه في كتاب التفسير – باب ((وليضربن بخمرهن على جيبوهن)) 8/489 ح 4758
[202] المروط: جمع مرط كساء من خز، أو صوف، أو كتان، أو غيره يؤتزر به. انظر: كتاب لسان العرب، باب الطاء فصل الميم.
[203] أخرج الحديث الإمام أحمد في مسنده 6/30، وأبو داود في سننه في كتاب المناسك باب في المحرمة تغطي وجهها 2/416 ح 1833، وابن ماجة في كتاب المناسك – باب المحرمة تسدل ثوبها على وجهها 2/979 ح 2935.
وفي الحديث: يزيد بن أبي زياد فيه ضعف. لكن أخرجه الحاكم – بلفظ قريب – من طريق آخر من رواية أسماء بنت أبي بكر في كتاب المناسك 1/454، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. أ هـ ووافقه الذهبي.
[204] أخرجه الحاكم في المستدرك في كتاب المناسك – باب تغطية الوجه للمحرمة، 1/454.
[205] المحرم: هو زوج المرأة، ومن تحرم عليه على التأبيد بنسب، أو سبب مباح. ومن تحرم عليه بالنسب هم: أبناؤها، وآباؤها، وأخوتها، وبنوهم، وبنو أخواتها، وبنوهم، وبنو أخواتها، وأعمامها وأخوالها.
ومحرمها بالسبب: نوعان: بالرضاع، أو بالمصاهرة.
فأما الرضاع فيحرم عليها بسببه ما يحرم من النسب وقد سبق ذكرهم.
وأما الصهر فيحرم عليها بسببه أربعة: زوج أمها، وزوج ابنتها وأب زوجها، وابن زوجها. فهؤلاء كلهم محارم يجوز لها أن تحج مع أحدهم.
انظر: كتاب شرح العمدة 1/180، 181.
[206] انظر: كتاب المغنى 3/236، وشرح العمدة 1/172.
[207] انظر: كتاب التعليق. خ ق / 181.
[208] أخرجه الإمام البخاري في صحيحه في كتاب تقصير الصلاة – باب في كم يقصر الصلاة 2/566 ح 1088
[209] أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب جزاء الصيد – باب حج النساء 4/72 ح 1862، ومسلم في صحيحه واللفظ له في كتاب الحج – الباب السابق 9/109.
[210] انظر: كتاب شرح العمدة 1/174.(/92)
[211] أخرجه الدارقطني في سننه في كتاب الحج 2/222 ح 30 قال ابن مفلح فغي الفروع في 3/235 الظاهر أنه خبر حسن، ورواه أبو بكر في الشافي. أ.هـ
[212] انظر: كتاب شرح العمدة 1/176.
[213] انظر: كتاب بدائع الصنائع 2/123، وفتح القدير 2/420، والإنصاف 4/411.
[214] أخرجه البخاري في صحيحه – واللفظ له – في كتاب تقصير الصلاة – باب في كم يقصر الصلاة 2/566 ح 1087، ومسلم في صحيحه في كتاب الحج – باب سفر المرأة مع محرم للحج وغيره 9/102.
[215] انظر: كتاب بدائع الصنائع 2/123، وفتح القدير 2/420.
[216] انظر كتاب بداية المجتهد 1/322، ومواهب الجليل 2/521، 522، والمجموع 7/86، 8/34، والمغني 3/237، والإنصاف 3/411، والمحلي 7/23.
[217] من الآية: 97 من سورة آل عمران.
[218] هو أبو طريف عدي بن حاتم الطائي، صحابي قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في شعبان سنة سبع. وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وروى عنه خيثمة بن عبد الرحمن وغيره. وهو من المعمرين في الإسلام فقيل أنه عاش مئة وثمانين سنة، مات بالكوفة سنة 68 هـ.
انظر: كتاب الاستيعاب 3/141، والإصابة 2/468.
[219] الظعينة: الراحلة التي يرحل عليها ويظعن عليها أي يسار، وتطلق على المرأة لأنها ترحل مع زوجها حيثما رحل، أو لأنها تحمل على الراحلة.
انظر: كتاب النهاية في غريب الحديث باب الظاء مع العين.
[220] الحيرة – بسكر الحاء وسكون الياء، وفتح الراء – مدينة كانت على ثلاثة أميال من الكوفة كان يسكنها ملوك العرب في الجاهلية.
انظر: كتاب معجم البلدان باب الحاء والباء وما يليهما.
[221] أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب المناقب – باب علامات النبوة في الإسلام – 6/610 ح 3595.(/93)
[222] أخرجه البخاري في صحيحه – واللفظ له – كتاب الجمعة – باب هل على من يشهد الجمعة غسل من النساء والصبيان 2/382 ح 900، ومسلم في صحيحه في كتاب الصلاة – باب خروج النساء إلى المساجد 4/161.
[223] أخرجها الإمام مسلم في صحيحه في كتاب الحج – باب سفر المرأة مع محرم إلى الحج وغيره – 9/107.
[224] أخرجها أبو داود في سننه في كتاب المناسك – باب في المرأة تحج بغير محرم 2/347ح 1725 وقد صحح هذه الرواية ابن حبان، والحاكم كما في نصب الراية 3/11.
[225] البريد: كلمة فارسية يراد بها في الأصل البغل الذي يحمل البريد، ثم أطلق على المسافة بين السكنين بريداً، ومقدارها أربعة فراسخ، والفرسخ: ثلاثة أميال، والميل: ألف وثمنمائة وثمانية وأربعون متراً، فتكون مسافة البريد (22176) متراً. انظر كتاب: النهاية في غريب الحديث، باب الباء مع الراء، وكتاب الإيضاح والتبيان في معرفة المكيال والميزان ص 77.
[226] انظر: كتاب شرح النووي على صحيح الإمام مسلم 9/103.
[227] 1/176.
[228] انظر: المسألة والقول الراجح فيها ص 34.
[229] انظر: كتاب مواهب الجليل 2/526، وتحفة المحتاج بشرح المنهاج 4/25، كشاف القناع 2/356.
[230] انظر: كتاب كشاف القناع 2/356.
[231] انظر: كتاب بدائع الصنائع 2/176، وحاشية رد المحتار على الدر المختار 2/590.
[232] بدائع الصنائع 2/176.
[233] انظر: كتاب المبسوط 4/111، وفتح القدير 2/419.
[234] من الآية / 195 من سورة البقرة.
[235] انظر: كتاب مواهب الجليل 2/526، وتحفة المحتاج 4/25، وكشاف القناع 2/356.
[236] انظر: كتاب المبسوط 4/111، وفتح القدير 2/419، وحاشية رد المحتار على الدر المختار 2/465.
[237] أخرجه الإمام أحمد في مسنده بلفظ أطول 2/34، وقال أحمد شاكر في تحقيق المسند 7/169، إسناده صحيح. أ هـ.(/94)
[238] أخرجه الإمام البخاري في صحيحه – واللفظ له – في كتاب الحجج – باب ما لا يلبس المحرم من الثياب 3/401 ح 1542. وأخرجه أيضاً الإمام أحمد في مسنده 2/119.
[239] أخرج الحديث الدارقطني في سننه في كتاب الحج – باب المواقيت 2/294ح 260، والبيهقي في سننه في كتاب الحج، باب المرأة لا تنتقب في إحرامها 5/47. قال الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير 2/292 بعد أن ذكر الحديث: في إسناده أيوب بن محمد أبو الجمل وهو ضعيف، قال ابن عدي: تفرد برفعه، وقال العقيلي: لا يتابع على رفعه، إنما يروى موقوفاً، وقال الدارقطني في العلل الصواب وقفه. أ هـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى 26/112، ولم ينقل أحد من أهل العلة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إحرام المرأة في وجهها)) وإنما هو قول بعض السلف.
[240] سبق تخريجه ص: 79
[241] 2/186.
[242] 1/388.
[243] 7/261.
[244] 2/267، 268.
[245] وانظر: كتاب الإجماع ص / 57، ونقله ابن قدامة في المغني 3/328.
[246] سبق تخريجه ص / 79
[247] من الآية: 31 من سورة النور.
[248] ص / 25، 26.
[249] انظر: كتاب المبسوط 4/128، وبدائع الصنائع 2/185، وفتح القدير 3/30، ومواهب الجليل 3/140، وفتح العزيز مع المجموع 7/448، والمجموع 7/261، 262، والمغنى 3/326، وشرح العمدة 2/268 – 271.
[250] النقاب: هو القناع على مارن الأنف فقط، وجمعه نقب، وقيل: هو ما بدت منه محاجر العينين، وما على مارن الأنف يسمى لثاما، انظر كتاب النهاية في غريب الحديث، باب النون مع القاف، ولسان العرب، فصل النون حرف الباء.
[251] البرقع: هو قناع تضعه المرأة على وجهها، وتبدو منه عيناها فقط، ويسمى الوصوصة. انظر كتاب النهاية في غريب الحديث، باب النون مع القاف ولسان العرب فصل النون حرف الباء.(/95)
[252] أخرج الحديث الإمام أحمد في مسنده 2/119، والبخاري في صحيحه، في كتاب جزاء الصيد – باب ما ينهى من الطيب للمحرم والمحرمة 4/52 ح 1838.
[253] أخرجه الإمام أحمد في مسنده إلى قوله من الثياب 2/22، وأبو داود في سننه في كتب المناسك – باب ما يلبس المحرم 2/412 ح 1827. وقال أحمد شاكر في تحقيق المسند 6/332 ح 4740 إسناده صحيح. أ هـ، وكذا قال الألباني في إرواء الغليل 4/192.
[254] شرح العمدة 2/54.
[255] سبق تخريجه ص: 79 وقد صححه الحاكم، ووافقه الذهبي.
[256] أخرجه البيهقي في سننه في كتاب المناسك 5/47.
[257] انظر: كتاب إرواء الغليل 4/212.
[258] انظر: كتاب المغنى 3/327، وشرح العمدة 2/268، وانظر: كتاب بدائع الصنائع 2/158، ومواهب الجليل 3/140.
[259] أورده الإمام أحمد، واحتج به. انظر: كتاب المغنى 3/327.
[260] انظر: كتاب المجموع 8/60.
[261] انظر: كتاب التمهيد لأبي الخطاب 3/332، والمسودة ص: 336.
[262] هو أبو محمد عطاء بن أبي رباح القرشي – بالولاء – تابعي، ثقة، مات سنة 114 هـ.
انظر: كتاب الثقات لابن حبان 5/198، وتذكرة الحفاظ 1/98، وتهذيب التهذيب 7/199.
[263] انظر كتاب الكافي لابن عبد البر 1/388، ومواهب الجليل 3/140، والمجموع 7/263، والمغني 3/329، وشرح العمدة 2/271.
[264] أخرجه الإمام أحمد في مسنده 2/119، والبخاري في صحيحه – واللفظ له – في كتاب جزاء الصيد – باب ما ينهى من الطيب للمحرم والمحرمة 4/52 ح 1838، وأبو داود في سننه في كتاب المناسك – باب ما يلبس المحرم 2/11 ح 1825، والترمذي في سننه في كتاب الحج – باب ما جاء فيما لا يجوز للمحرم لبسه 3/194 ح 833.
[265] انظر: كتاب المجموع 7 / 220، والمغني 3 / 329، وشرح العمدة 2 / 272.
[266] انظر: كتاب المبسوط 4/128، وبدائع الصنائع 2/186، وفتح القدير 2/514، والمجموع 7/263، والمغني 3/329.(/96)
[267] أورده الإمام الشافعي في كتابه الأم 2/203، والسرخسي في المبسوط 4/128.
[268] سبق تخريجه ص / 95.
[269] انظر: كتاب المحلي 7/82.
[270] انظر: كتاب شرح العمدة 2/272.
[271] انظر: كتاب المبسوط 4/128، وبدائع الصنائع 2/186، والكافي لابن عبد البر 1/388، ومواهب الجليل 3/159، والمجموع 7/219، والمغنى 3/303، وشرح العمدة 2/94، 1: 1.
[272] سبق تخريجه ص: 100، وإسناده صحيح.
[273] من الآية: 31 من سورة النور.
[274] انظر: كتاب المجموع 7/219، ومناسب المرأة ص/64، والمغنى 3/331، وشرح العمدة 2/107.
[275] أخرجه الإمام الشافعي في كتابه الأم 2/150، عن عبد الله بن دينار، والدارقطني في سننه في كتاب الحج – باب المواقيت 2/272 ح 168، والبيهقي في سننه عن عبد الله بن عمر، وعن عبد الله بن دينار – في كتاب الحج – باب المرأة تختصب قبل إحرامها 5/48، وقال: وليس ذلك بمحفوظ. أ هـ.
قال ابن حجر في التلخيص الحبير 2/252 في إسناده موسى بن عبيدة الربدي وهو واهي الحديث. أ هـ.
[276] انظر: كتاب تدريب الراوي 1/188.
[277] هو مولى ابن عباس عكرمة البربري المدني الهاشمي – بالولاء – تابعي. ثقة ثبت عالم بالتفسير. مات سنة 107هـ.
انظر كتاب: تذكرة الحفاظ 1/95، وتقريب التهذيب 2/30.
[278] أورده ابن حجر في التلخيص الحبير 2/302 ثم قال: الطبراني في الكبير من طريق يعقوب بن عطاء عن عمرو بن دينار عن ابن عباس.. ويعقوب مختلف فيه، وذكره البيهقي بغير إسناد. أ هـ.
[279] انظر: كتاب المبسوط 4/125، وبدائع الصنائع 2/192، وفتح القدير 3/26، والمغني 3/331.
[280] أخرجه البيهقي في كتاب معرفة السنن والآثار – انظر: كتاب الجهر النقي بذيل سنن البيهقي وقال ذكره ابن عبد البر في التمهيد. أ هـ. وفي سنده عبد الله بن لهيعة ضعيف انظر: كتاب فتح القدير 3/26، وقال ابن حجر في التلخيص 2/303: أخرجه البيهقي في المعرفة بسند ضعيف. أ هـ.
[281] المجموع 7/219، 360.(/97)
[282] سبق تخريجه ص: 79، وقد صححه الحاكم، ووافقه الذهبي.
[283] هو أبو خلاد السائب بن خلاد بن سويد الخزرجي الأنصاري أبو سهلة، أحد الصحابة. مات سنة 71 هـ. انظر: كتاب الاستيعاب - /103، والإصابة 2/10.
[284] 4/56، وقال الهيشمي في مجمع الزوائد 3/224 في إسناده محمد بن إسحاق ثقة، ولكنه مدلس وقد عنعن. أ هـ.
[285] أخرجه الترمذي في سننه في كتاب الحج – باب ما جاء في فضل التلبية والنحر – 3/189 ح 827، وابن ماجة في سننه في كتاب المناسك باب رفع الصوت بالتلبية 2/975 ح 2924، والحاكم في المستدرك على الصحيحين في كتاب الحج 1/450 وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. أ هـ، ووافقه الذهبي
[286] انظر: كتاب بدائع الصنائع 2/145، وجواهر الإكليل 1/177، والمجموع 7/240، والمغنى 3/291 وشرح العمدة 1/599-606.
[287] أخرجه الإمام أحمد في مسنده – واللفظ له – 4/55، وأبو داود في سننه في كتابه المناسك – باب كيفية التلبية 2/404 ح 1814، والترمذي في سننه في كتاب الحج – باب ما جاء في رفع الصوت بالتلبية 3/191 ح 829، والنسائي في سننه في كتاب الحج – باب رفع الصوت بالإهلال 5/162، وابن ماجة في سننه في كتاب المناسك – باب رفع الصوت بالتلبية 2/975 ح 2922، وقد صحح الحديث الترمذي، وابن خزيمة والحاكم، وابن حبان، انظر كتاب الفتح الرباني 11/180.
[288] انظر: كتاب المبسوط 4/6، وجواهر الأكليل 1/177، والمجموع 7/240، 245، وهداية السالك ص / 615، والمغنى 3/289، وشرح العمدة 1/592.
[289] انظر قول الإمام أحمد في كتاب شرح العمدة 1/597.
[290] هو أبو أيوب سليمان بن يسار الهلالي المدني، من التابعين، وأحد الفقهاء السبعة. ثقة مأمون مات سنة 107، وقيل غير ذلك.
انظر: كتاب تذكرة الحفاظ 1/91، وتهذيب التهذيب 4/228.
[291] أورده المحب الطبري في كتابه القرى ص /173، وابن تيمية في كتابه شرح العمدة 1/597 وقالا: أخرجه سعيد بن منصور.(/98)
[292] انظر كتاب فتح القدير 2/514، والكافي لابن عبد البر 1/365، وفتح العزيز مع المجموع 7/263، والمجموع 7/359، وشرح العمدة 1/597.
[293] الرمل: الإسراع في المشي مع تقارب الخطا. انظر: كتاب المجموع 8 / 40، وهداية السالك ص / 1000، والمغنى 3 / 373، وشرح العمدة 2 /439.
[294] الاضطباع – مأخوذ من الضبع وهو العضد، وصفته الشرعية: أن يجعل الحاج والمعتمر وسط ردائه تحت منكبه الأيمن ويطرح طرفيه على منكبه الأيسر ويترك الأيمن مكشوفاً.
انظر: كتاب شرح العمدة 2 / 420، والمجموع 8 / 13، وهداية السالك ص / 1008 /.
[295] أخرجه أبو داود في سننه في كتاب المناسك – باب الرمل 2/447 ح 1889 وقد سكت عنه أبو داود، فهو عنده حديث حسن.
[296] انظر: كتاب المبسوط 4/33، والهداية للمرغيناني 2/514، والكافي لابن عبد البر 1/368، ومناسك النووي ص/258، 259، والمغنى 3/394، وشرح العمدة 2/466.
[297] ص / 61، وانظر: المغنى 3 / 394.
[298] 7 / 360.
[299] أخرجه الإمام مسلم في صحيحه في كتاب الصلاة – باب تسوية الصفوف وإقامتها 4/159.
[300] انظر كتاب حاشية تبيين الحقائق 2/16، ومواهب الجليل 3/140، والمجموع 8/38، والمغنى 3/375، وكشاف القناع 2/559.
[301] أخرجه البخاري في صحيحه – واللفظ له – في كتاب الوضوء – باب غسل الرجلين في النعلين، ولا يمسح على النعلين 1/267 ح 166، وفي كتاب الحج باب من لم يستلم إلا الركنين اليمانيين 3/473 ح 1609، ومسلم في كتاب الحج – باب استحباب استلام الركنين اليمانيين في الطواف 9/13، 14.
[302] هو زيد بن أسلم العدوي المدني، تابعي، ثقة، روى عن أبيه، وابن عمر وأبي هريرة وغيرهم. وروى عنه أولاده، أسامة، وعبد الله، وعبد الرحمن، وابن جريج، وغيرهم. مات سنة 136 هـ.
انظر: كتاب التأريخ لأبن معين 2/181، وميزان الاعتدال 2/98.(/99)
[303] هو أسلم العدوي – مولاهم. أدرك النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عن أبي بكر، وعمر، وعثمان رضي الله عنهم. وغيرهم، وروى عنه ابنه زيد، والقاسم بن محمد، ونافع وغيرهم. مات سنة 80 هـ وهو ابن مئة وأربع عشرة سنة. انظر كتاب التاريخ لابن معين 2/209، وتهذيب التهذيب 1/266.
[304] أخرجه البخاري في صحيحه – واللفظ له – في كتاب الحج – باب تقبيل الحجر الأسود 3/475 ح 1910م، ومسلم في كتاب الحج – باب استحباب تقبيل الحجر الأسود في الطواف 9/16.
[305] 4 / 34.
[306] 8/ 34.
[307] أخرجه البخاري – معلقا – بلفظ أطول في كتاب الحج – باب طواف النساء مع الرجال 3/479. وعبد الرزاق في مصنفه في كتاب الحج باب طواف الرجال والنساء معا – 5/66 ح 9018.
[308] حجزة: أي محجوز بينها وبين الرجال بثوب. انظر كتاب فتح الباري 3/481.
[309] 3/372.
[310] أخرج الإمام مسلم في صحيحة في كتاب الحج – صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم 8/170.
[311] انظر: كتاب شرح الإمام النووي على صحيح الإمام مسلم 8/178.
[312] انظر: كتاب الكافي لابن عبد البر 1/367، والمجموع 7/362، والمغنى 3/386، وشرح العمدة 2/466، 478.
[313] العلمان: هما الميلان الأخضران على جانبي المسعى صبغا بلون الخضرة ليميزها الساعي، فيجري بينهما جريا شديداً، ومقدار هذه المسافة مئة واثنا عشر ذراعاً، وبين بدايته وبين الصفا: مئة واثنان وأربعون ونصف ذراع.
انظر: كتاب أخبر مكة للأزرقي 2/119.
[314] أخرجه البخاري في صحيحه – واللفظ له – في كتاب الحج – باب ما جاء في السعي بين الصفا والمروة 3/502ح 1644، ومسلم في صحيحه في كتاب الحج – باب استحباب الرمل في الطواف والعمرة 9/6.
[315] من الآية / 59 من سورة الأحزاب.
[316] من الآية / 31 من سورة النور(/100)
[317] انظر: كتاب المبسوط 4/33، والهداية للمرغيناني 2/514، والكافي لابن عبد البر 1/68ظ، والمجموع 7/362، والمغنى 3/394، وشرح العمدة 2/466، 478، والإجماع ص /61.
[318] 3/394، وانظر قول ابن المنذر في كتابه الإجماع ص /61.
[319] 8/75.
[320] انظر: كتاب الكافي لابن عبد البر 1/372، وحلية العلماء 2/339، والمجموع 7/363، 8/111، وهداية السالك ص /1246، والمغنى 3/410، وشرح العمدة 2/502.
[321] الخطام: هو حبل من ليف، أو شعر، أو قطن، أو غير ذلك يجعل في أحد طرفيه حلقة، ثم يشد فيه الطرف الآخر حتى يصير كالحلقة، ثم يقاد به البعير. ثم يثنى على مخطمه.
انظر: كتاب النهاية في غريب الحديث باب الخاء مع الطاء.
[322] أخرجه الإمام أحمد في مسنده – واللفظ له – 5/209، والنسائي في سننه في كتاب الحج، باب رفع اليدين في الدعاء بعرفة 5/254.
[323] سبق تخريجه.
[324] أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الحج – باب ذبح الرجل البقر عن نسائه من غير أمرهن 3/551 ح 1709.
[325] انظر كتاب المجموع 7/364، ومناسك المرأة ص 69.
[326] 1/485.
[327] انظر: كتاب بدائع الصنائع 2/133، ومواهب الجليل 3/127، والمجموع 8/205، والمغنى 3/439، وشرح العمدة 2/560، وفي مذهب الشافعية قول بأنه ركن من أركان الحج والعمرة وصوبه النووي في المجموع.
[328] انظر: كتاب بدائع الصنائع 2/140،158، والكافي لابن عبد البر 1/375، وجواهر الأكليل 1/182، والمجموع 8/199، والمغنى 3/434، وشرح العمدة 2/534.
[329] ومن عبارات الحنفية قول الكاساني في بدائع الصنائع 2/141، ولا حلق على المرأة لما روى ابن عباس، ولأن الحلق في النساء مثله، ولهذا لم تفعله واحدة من نساء النبي صلى الله عليه وسلم. ولكنها تقصر. أ هـ.(/101)
ومن عبارات المالكية قول الحطاب في مواهب الجليل 3/129 قال: في التوضيح. ويكره لها الحلاقة هكذا حكى البلشي في شرح الرسالة، وحكى اللخمي أن الحلق للمرأة ممنوع، لأنه مثله بها... وقال ابن عرفة: وليس على النساء إلا التقصير. أ هـ.
ومن عبارات الشافعية قول الإمام النووي في المجموع 8/24، أجمع العلماء على أنه لا تؤمر المرأة بالحلق، بل وظيفتها التقصير من شعر رأسها، قال الشيخ أبو حامد، والدارمي، والماوردي وغيرهم يكره لها الحلق. وقال القاضي أبو الطيب، والقاضي حسين في تعليقهما: لا يجوز لها الحلق. أ هـ.
من عبارات الحنابلة قول ابن قدامة في المغنى 3/439، والمشروع للمرأة التقصير دون الحلق لا خلاف في ذلك. أ هـ.
[330] أخرجه أبو داود في سننه في كتاب المناسك – باب الحلق والتقصير 2/502ح 1984، 1985، وقد سكت عنه أبو داود فهو عنده حسن. وكذا قال الإمام النووي في المجموع 8/197 رواه أبو داود بإسناد حسن. أ هـ.
[331] أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الصلح – باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود – 5/301 ح 2697، ومسلم في كتاب الأقضية – باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور – 12/16.
انظر: كتاب المجموع 8/204، وطرح التثريب 5/115.
[333] أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب اللباس – باب المتشبهين بالنساء والمتشبهات بالرجال 10/332ح 5885، وأبو داود في سننه في كتاب اللباس – باب في لباس النساء 4/354 ح /4097
[334] انظر: كتاب المجموع 8/204، وطرح التثريب 5/115
[335] أخرجه الترمذي في سننه في كتاب الحج –باب ما جاء في كراهية الحلق للنساء 3/257 ح 914-915، وقال النووي في المجموع 8/204، ولا دلالة في هذا الحديث لضعفه. أ هـ
[336] الأنملة: رأس الأصبع من المفصل الأعلى. انظر: كتاب الصحاح، فصل النون باب اللام.(/102)
[337] انظر: كتاب بدائع الصنائع 2/141، ومواهب الجليل 3/129، والمجموع 8/204، والمغنى 3/129، والمجموع 8/204، والمغنى 3/439، والتحقيق والإيضاح ص/44.
[338] مسائل الإمام أحمد رؤية أبي داود ص /136، والمغنى 3/440.
[339] أورده الكاساني في البدائع 2/141، وأشار إليه البابرتي في شرح العناية على الهداية 2/490.
[340] الآية: 56 من سورة الذاريات.
[341] الآية: 195 من سورة آل عمران.
[342] من الآية: 5 من سورة البينة.
[343] الآية: 78 من سورة الحشر.(/103)
العنوان: مناسك المرأة
رقم المقالة: 564
صاحب المقالة: د. صالح بن محمد الحسن
-----------------------------------------
الحمدلله الذي خلق الزوجين الذكر والأنثى، وخص منهما بالتشريف والتكريم آدم وذريته رجالاً، ونساء.
والصلاة والسلام على المبعوث إلى كافة الثقلين بشيراً ونذيراً، وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيلهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن حج بيت الله الحرام أحد أركان الإسلام. ومبانيه العظام، أوجبه الله على المكلفين القادرين، رجالاً كانوا أو نساء.
{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً}[1].
وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح - من رواية عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما: ((بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان)) متفق عليه[2].
وهو إنما يجب في العمر مرة، وما زاد بعد ذلك فهو تطوع، وإقامة موسم الحج في كل عام فرض من فروض الكفاية على الأمة[3] تقوم به طائفة من الأمة كل عام.
والمرأة كالرجل من حيث أصل وجوب الحج عليها كما دلت عليه الآية والحديث السابق إلا أنها تخالفه في بعض أحكامه نظراً للاختلاف بين الرجل والمرأة في بعض صفات الخلق، وفي بعض وظائف التكليف الشرعية.
ولما كانت مسائل الاختلاف بين الرجل والمرأة في أحكام الحج والعمرة كثيرة ومتفرقة في أبواب المناسك فقد رأيت أن أكتب بحثاً متخصصا في تلك المسائل، وهي مسائل تنطلق من فروق ثابتة تؤثر في سائر العبادات لا في المناسك وحدها وقد أسميته "مناسك المرأة" [4]
ولأنه يعالج موضوعاً هاماً، ومتكرراً في كل عام – مع كونه ركنا من أركان الإسلام وهو – أيضاً – بحث متخصص في موضوعه مما يجعله أكثر فائدة وتشويقاً.
وسيكون منهجي في هذا البحث – بعون الله تعالى – كالآتي:(/1)
1 – بحث المسائل الخاصة بالنساء من أحكام المناسك مكتفيا بذكر ما أراه ضروريا من أحكام الرجال، كتمهيد لبعض المسائل الخاصة بالمرأة يظهر من خلاله أصل التشريع في الحكم الذي استثنيت منه المرأة لأمر آكد منه وليتبين للقارئ الكريم توجيه الدليل الذي قد يستدل به – خطأ – على مشروعيته للمرأة.
2 – جمع المسائل تندرج تحت كل باب من أبواب البحث، وتقسيم هذه المسائل إلى فصول وتقسيم مسائل كل فصل إلى عدة مباحث إن وجد ما يدعو لذلك.
3 – ذكر آراء مذاهب الأئمة الأربعة في كل مسألة من مسائل البحث، والموازنة بينها، فإن وجد لأهل الظاهر قولاً قوياً مخالفاً للأقوال المشهورة عن الأئمة الأربعة، أثبته وناقشته.
4 – أقدم في عرض الأقوال: القول الراجح منها وأتبعه بأدلته، ثم أذكر بعده بقية الأقوال متبعاً كل قول بأدلته، ثم أصرح بترجيح القول الراجح منها ذاكراً وجه الترجيح، والرد على أدلة المخالفين.
5 – أمهد لبعض الأبواب والفصول التي تحتاج إلى تمهيد.
6 – أترجم بتراجم موجزة – لغير المشهورين – أتعرض فيها لاسم المترجم له. وولادته ووفاته وأهم المعلومات التي تتصل بسبب ذكره.
7 – أبين في الهامش أرقام الآيات وسورها.
8 – أخرج الأحاديث التي يرد ذكرها في البحث بعزوها إلى اشهر مصادرها، ونقل ما تيسر – في الهامش – من أقوال العلماء في الحكم عليها إذا لم ترد في الصحيحين أو أحدهما.
9 – ذيلت البحث بخاتمة وفهرسين، أحدهما: للمراجع التي رجعت إليها في البحث مرتبة بحسب حروف الهجاء، والفهرس الآخر للموضوعات.
وقسمت البحث إلى تمهيد، وثلاثة أبواب.
خصصت التمهيد للإشارة إلى طبيعة المرأة التي خلقها الله عزَّ وجلَّ عليها، وما في هذه الطبيعة من فروق بينها وبين الرجل جعلتها تكلف تكليفاً شرعياً يناسب تلك الطبيعة، فتوافق الرجل فيما يتفقان فيه، وتخالفه فيما خصها الله عزَّ وجلَّ من صفات تناسب وظيفتها في هذه الحياة.(/2)
وخصصت الباب الأول لبيان الأحكام التي تخالف فيها المرأة الرجل من أحكام المناسك بسبب القوامة التي جعلها الله عزَّ وجلَّ للرجال على النساء.
وفي الباب الثاني: عرضت المسائل التي تخالف فيها المرأة الرجل بسبب ما يعتريها من حيض، أو نفاس.
وفي الباب الثالث: عرضت أحكام المناسك التي تخالف فيها المرأة الرجل بسبب ما شرعه الله لها من الحجاب والستر.
أسأل الله عزَّ وجلَّ أن يجعل عملي هذا خالصاً لوجهه، وأن ينفع به إنه سميع مجيب وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
((التمهيد))
أسباب الاختلاف بين الرجل والمرأة في بعض الأحكام الشرعية
خلق الله عزَّ وجلَّ آدم عليه السلام أباً للبشرية، وخلق منه زوجه حواء، ليسكن إليها، ويأنس بها، وليخلق – سبحانه – منها ذريتهما
{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا}1.
وأسكنهما رب العزة والجلال في دار العزة، والكرامة، والأمن، والنعيم:
{وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ}2.
ولحكمة يعلمها الله عزَّ وجلَّ، وقضاء قدره لم يدم ذلك النعيم، والخلد، فقد سلط عليهما عدوهما الشقي:
{إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى}3، فغرهما الشيطان، وأغراهما بما نهيا عنه.(/3)
{فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ، وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ(21) فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ}4.
فأهبطهما الله عزَّ وجلَّ إلى الأرض التي خلقا من مادتها.
{قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ}5.
وكلف الله عزَّ وجلَّ آدم وحواء عليهما السلام وذريتهما بالخلافة في الأرض لعمارتها، وإتباع هدى الله فيها.
{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ}6.
وقال تعالى: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}[5].
تلك هي بداية الخلق، وقصة التكريم والامتحان، والتكليف والابتلاء.
خلق آدم عليه السلام أولاً، ثم خلقت منه وله زوجة حواء، نعمت بما نعم به، وشقيت بما شقي به، وكلفت بما كلف به، فهي منه في مادتها، ومساوية له في تكليفها.(/4)
ويلاحظ في سياق الآيات السابقة. والآيات الأخرى التي نزلت في شأنهما أن الخطاب – في الغالب – لآدم عليه السلام. وزوجه تبع له في ذلك، كما أنه قد تقدم عليها في الخلق، وفضل عليها بأمر الله ملائكته بالسجود له.
{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ}[6].
وهذه الأمور لها دلالتها في تفضيل جنس الرجال على جنس النساء. تفضيلاً ميز الرجال عن النساء ببعض وظائف الخلافة في هذه الأرض، فجعلت القوامة للرجال على النساء، ولم يترك الله عزَّ وجلَّ هذا الأمر للشورى بينهما لتعيين أحدهما، أو بالاشتراك بينهما.
{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ}[7].
وقوامة الرجال على النساء: أحد العوامل المؤثرة في فوارق التكاليف الشرعية بين الرجل، والمرأة.
وإذا شرف الله الرجل بوظيفة القوامة: فإن المرأة تشرف بوظيفة الحمل، والولادة للرجال، والنساء، وبوظيفة الإرضاع لهما، والمشاركة مع الرجل في الحضانة والتربية.
ومع اختلاف هذه الوظائف بين الرجال والنساء فقد خلق الله عزَّ وجلَّ كلاً منهما يناسب وظائفه من حيث بنائه الجسمي، والنفسي.
يقول العلامة أبو الأعلى المودودي – رحمه الله -: أثبتت بحوث علم الأحياء وتحقيقاته أن المرأة تختلف عن الرجل في كل شيء، من الصورة، والسمت، والأعضاء الخارجية إلى ذرات الجسم والجواهر الهيولينية (البروتينية) لخلاياه النسيجية.
فمن لدن حصول التكوين الجنسي في الجنين يرتقي التركيب الجسدي في الصنفين في صورة مختلفة، فهيكل المرأة، ونظام جسمها يركب كله تركيباً تستعد به لولادة الولد، وتربيته، ومن التكوين البدائي في الرحم إلى سن البلوغ ينمو جسم المرأة، وينشأ لتكميل ذلك الاستعداد فيها. وهذا هو الذي يحدد لها طريقها في أيامها المستقبلة.(/5)
ومع سن البلوغ يعروها الحيض الذي تتأثر به أفعال كل أعضائها، وجوارحه [8] أ.هـ.
ويقول العقاد في كتابه المرأة [9] في القرآن: ومن الاختلافات الجسدية التي لها صلة باختلاف الاستعداد بين الجنسين: أن بنية المرأة يعتريها الفصد كل شهر، ويشغلها الحمل تسعة أشهر، وإدرار لبن الرضاع حولين قد تتصل بما بعدها في حمل آخر.
ومن الطبيعي أن تشغل هذه الوظائف جانباً من قوى البنية، فلا تساوي الرجل في أعماله التي يوجه إليها بنية غير مشغولة بهذه الوظائف الأنثوية. أ.هـ.
فقد خلق الله عزَّ وجلَّ المرأة جسمياً ونفسيا على صفة تؤهلها للقيام بوظيقة الحمل، والولادة، والإرضاع، والرعاية والعناية. ولهذه الأمور أثرها في وجود فروق بين النساء، والرجال في بعض الأحكام الشرعية، ومن أجل عمارة هذا الكون، وإقامة بناء الأسرة التي يتكون منها بناء المجتمع خلق الله عز وجلَّ في الرجال الميل إلى النساء. وفي النساء الميل إلى الرجال.
{فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}[10].
ومن الضوابط لهذا النظام منع المرأة من التبرج، والاختلاط بالرجال الأجانب، ومن ذلك أيضاً أمرها بالحجاب، والستر، والبقاء في البيت لأداء رسالتها في استقبال الأولاد، ورعايتهم حملاً، ووضعا، وتنشئة. يقول الله عزَّ وجلَّ:
{وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُوْلَى}[11].
وهذه الآية وإن كانت تخاطب نساء النبي عليه الصلاة والسلام فإن عموم لفظها يشمل جميع بنات جنسهن لاشتراكهن في وصف الأنوثة الذي يدعو إلى القرار في البيت.(/6)
ويقول الله عزَّ وجلَّ: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ} الآية[12].
فالمرأة مأمورة بغض البصر، وحفظ الفرج، وستر الجسم، إلا عن الزوج والمحارم.
ويقول النبي الكريم عليه الصلاة والسلام: ((... ولا يخلون رجل بامرأة فإن ثالثهما الشيطان.. الحديث))[13].
فالخلوة بالأجنبية محرمة، وسبب من أسباب اللقاء المحرم الذي يؤدي إلى فساد المجتمع وضياع النسب، والتنصل من الواجبات تجاه النشء من بنين وبنات.
فهذه النصوص وغيرها تضع الضوابط التي تضمن نجاح عقد الزواج بين الرجل وزوجته ليتحمل كل واحد منهما دوره في بناء الأسرة المسلمة.
وهذا الأمر: أعني أمر النساء بالحجاب، والستر، ونهيهن عن التبرج، والسفور والاختلاط بالرجال الأجانب له أثره – أيضاً – في وجود بعض الفروق في الأحكام الشرعية بين الرجال والنساء.
وخلاصة القول: أن الفروق بين الرجال والنساء في الأحكام الشرعية ترجع على الأمور الثلاثة السابقة وهي:
1 – قوامة الرجال على النساء.
2 – حيض المرأة، ونفاسها.
3 – أمر المرأة بالحجاب والستر ونهيها عن التبرج والاختلاط بالرجال الأجانب.
فما كان من الفوارق بين الرجال، والنساء، في الأحكام الشرعية: فإن مرده إلى أحد هذه الضوابط الثلاثة.
وفيما عدا ذلك فالمرأة كالرجل في التشريف، والتكليف والحقوق والواجبات.
ولما كان لهذه الضوابط الثلاثة أثرها في وجود بعض الفروق في أحكام المناسك بين الرجل، والنساء. ناسب أن يفرد ما يخص المرأة من أحكام المناسك في بحث مستقل.
الباب الأول
القوامة وأثرها في مناسك المرأة
ويشتمل على تمهيد وثلاثة فصول(/7)
التمهيد: مفهوم القوامة، وحدودها
الفصل الأول: استئذان المرأة زوجها في أداء المناسك.
الفصل الثاني: حكم قضاء ما أحرمت به الزوجة إذا حللها الزوجه وصفة التحلل.
الفصل الثالث: حج المعتدة.
الباب الأول
القوامة وأثرها في مناسك المرأة
التمهيد: مفهوم القوامة، وحدودها
القوامة في اللغة: القيام على الشيء، يقال قوام، وقيم، وقيم المرأة من يقوم بأمرها، ويصلح شأنها[14].
والمراد بها في الشرع: إمرة الرجال على النساء يأخذون على أيديهن فيما يحب الله ويطعنهم فيما أمر الله. ويحسنون إليهن ويقومون بشؤونهن كما أمر الله[15].
فمن سنة الله عزَّ وجلَّ في خلقه أن كل جماعة تشترك في مكان تعيش فيه لابد لها من إمرة ترجع إليها في التزام حدودها، وطلب حقوقها، سواء صغرت هذه الجماعة أم كبرت، وإذا كانت الإمامة العظمى: تمثل قمة الولاية على الأمة بكاملها، فإن قوامة الرجل وإمرته على أهل بيته: تمثل ولاية من الولايات الشرعية التي لابد منها لصلاح المجتمع واستقامة أموره.
والإمامة العظمة يتوصل إليها بطرق عدة أفضلها تنصيب الإمام عن طريق أهل الحل والعقد.
وأما الأمير في الأسرة والقيم عليها، فإن الله عزَّ وجلَّ قد بينه بقوله: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ}[16].
قال ابن العربي عند تفسير هذه الآية: المعنى أني جعلت القوامة على المرأة للرجل، لأجل تفضيلي له عليها، وذلك لثلاثة أشياء:
الأول: كمال العقل والتمييز.
الثاني: كمال الدين والطاعة في الجهاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر على العموم، وغير ذلك.
وهذا الذي بين الرسول صلى الله عليه وسلم: ((ما رأيت من ناقصات عقل ودين أسلب للب الرجل الحازم منكن، قلن وما ذاك يا رسول الله ؟ قال: أليس إحداكن تمكث الليالي لا تصلي ولا تصوم، فذلك من نقصان دينها، وشهادة إحداكن على النصف من شهادة الرجل، فذلك من نقصان عقلها))[17].(/8)
وقد نص الله سبحانه على ذلك بالنقص – هكذا ولعل صوابها النقص – فقال: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى}[18].
الثالث: بذله لها المال من الصداق، والنفقة. وقد نص الله عليه ها هنا[19]. أ.هـ. ولهذه القوامة أثرها في أحكام عبادات المرأة، في الصوم، والحج، وغيرهما. ففي الصوم مثلاً لا يجوز لها التطوع به – وزوجها حاضر – إلا بإذنه، لأن ذلك قد يؤدي إلى تفويت حق من حقوقه التي يرغب فيها.
لما في الصحيحين[20] عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يحل للمرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه، ولا تأذن في بيته إلا بإذنه..الحديث)).
وأما أثر ذلك على الحج وهو موضوع البحث في هذا الباب، ففيه الفصول الآتية:-
الفصل الأول: استئذان المرأة زوجها في أداء النسك.
الفصل الثاني: حكم قضاء ما أحرمت به الزوجة إذا حللها الزوج.
الفصل الثالث: حج المعتدة.
الفصل الأول
استئذان المرأة زوجها في أداء النسك
يجب على الزوجة أن تستأذن زوجها في حج النافلة، ويستحب لها ذلك في حج الفريضة[21].
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – ويستحب لها – أي المرأة – أن تستأذنه أي الزوج – إن كان حاضراً، وتراسله إن كان غائباً تطييبا لنفسه.. لأن ذلك أدعى إلى الألفة، وصلاح ذات البين، وأبعد عن الشقاق، وكل ما فيه صلاح ذات البين فإنه مستحب. أ.هـ[22].
فإن أذن الزوج لزوجته حجت، واعتمرت، وإن منعها من ذلك فلا يخلو الأمر من حالتين:
الحالة الأولى: أن تكون قد حجت الفريضة، وتريد النافلة، وفي هذه الحالة: لا يجوز لها الخروج لذلك ما لم يأذن لها بإجماع العلماء[23].
قال ابن المنذر: أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم أن له منعها من الخروج إلى الحج[24] التطوع. أ. هـ[25].
وذلك لأن حق الزوج واجب فليس لها تفويته بما ليس بواجب[26].
فإن أحرمت الزوجة في حج التطوع بدون إذن الزوج فهل له تحليلها ؟(/9)
اختلف العلماء في ذلك على قولين:
الأول: له تحليلها وتكون في حكم المحصر وعليه هدى التحلل، ثم تقصر من شعرها وتحل بذلك.
وهذا قول الحنفية والمالكية وأصح الطريقين عند الشافعية، والحنابلة في المشهور عنهم[27].
واستدلوا بما يلي :
1 – لأنه تطوع يفوت حق الزوج وهو واجب. فإذا أحرمت بغير إذنه ملك تحليلها، لأن الواجب مقدم على المندوب[28].
2 – ولأنها ممنوعة من المضي بغير إذن الزوج[29].
القول الثاني: ليس له تحليلها، وهو قول في مذهب الشافعية، والحنابلة[30].
واستدلوا بما يلي:
1 - لأن الحج يلزم بالشروع فيه، فلا يملك الزوج تحليلها كالحج المنذور[31].
والراجح – والله أعلم القول الأول أن للزوج أن يحللها، لأنه تطوع عارض واجب وهو حق الزوج فقدم عليه.
وأما دليل أهل القول الثاني فيرد عليه بأن الحج يلزم بالشروع ما لم يكن هناك مانع من إتمامه من حصر، أو مرض فإن وجد المانع وهو تحليل الزوج فإنها تكون كالمحصر لها التحلل من هذا الحج وعليها ما على المحصر. وسيأتي بيان صفة التحلل وبيان ما يلزمها عقب المسألة بعدها.
الحالة الثانية: أن يمنعها من حج الفرض أو المنذور، وقد اختلف العلماء في جواز منعه لها، ووجوب طاعتها في ذلك على قولين:
القول الأول: أنه لا يجوز له منعها من حج الفريضة، وأن منعها لم يجب عليها طاعته في ذلك.
وهذا قول جمهور العلماء؛ الحنفية، والمالكية، والحنابلة، وأحد قولي الشافعية. [32]
واستدلوا بما يأتي:
1 – أن حق الزوج لا يقدم على أداء الفرائض إذ ليس له حق في وقت أدائها، وإنما حقه خارج وقت أداء الفرائض فمنافعها مستثناة عن ملك الزوج في الفرائض كما في الصلوات الخمس وصوم رمضان ونحو ذلك.
2 – عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم ((لا تمنعوا إماء الله مساجد الله)). رواه البخاري ومسلم. [33](/10)
فإذا كان لا يجوز للزوج منع زوجته من الخروج للمسجد، وهو غير واجب عليها فأن لا يكون له المنع من الخروج إلى بيت الله الحرام لأداء مناسك الحج الواجب أولى.
3 – ولأن الحج واجب [34] على الفور، فيجب عليها المسارعة لأدائه في أول وقت الإمكان فتكون مفرطة وآثمة بتأخيره عن وقت الإمكان. بخلاف حق الزوج فإنه لا يفوت. ولا يتعارض أداء الحج مع أداء حق الزوج، لأنه ليس له حقا في وقت أداء الفرائض وإنما حقه فيما عدا ذلك، والله أعلم.
القول الثاني: أن للزوج أن يمنعها من حجة الإسلام، وأنه لا يجوز لها أن تحج فرضاً، أو نفلاً إلا بإذنه فإن أحرمت بغير إذنه فله تحليلها. وهذا قول لبعض الحنفية وهو الصحيح في قولي الشافعية[35].
قال النووي: اتفقوا – أي فقهاء الشافعية – على أن الصحيح من هذين القولين أن له منعها، وبه قطع الشيخ أبو حامد[36]، والمحاملي[37]، وآخرون. قال القاضي أبو الطيب[38] في كتابه المجرد[39]، والروياني[40] وغيرهما هذا القول هو الصحيح المشهور[41]. أ هـ.
واستدلوا لذلك بما يأتي:
1 – حديث ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأة لها زوج، ولها مال، ولا يأذن لها في الحج: ((ليس لها أن تنطلق إلى الحج إلا بإذن زوجها)). رواه الدارقطني والبيهقي[42].
2 – ولأن حق الزوج على الفور، والحج على التراخي، فقدم ما كان على الفور كما تقدم العدة على الحج بلا خلاف[43].
الترجيح:
والراجح – والله أعلم – القول الأول وهو أنه لا يجوز للزوج أن يمنع زوجته من الحج الواجب عليها، وإن منعها لم تلزمها طاعته بذلك. لقوة أدلة هذا القول، وسلامتها من المعارض القوي.
وأما أدلة القول الثاني فيمكن الجواب عنها بما يأتي:
1 - حديث ابن عمر الذي استدلوا به: حديث ضعيف للجهالة بحال أحد رواته العباس بن محمد بن مجاشع[44].
وفي طريق البيهقي: حسان بن إبراهيم قال النسائي: ليس بالقوي، وقال العقيلي: في حديثه وهم، وقال ابن الجوزي: لا يحتج به[45].(/11)
ولو صح الحديث أمكن حمله على حج النفل دون الفريضة، لأنه هو الذي يمكن الزوج منعها منه بالاتفاق، والله أعلم.
2 – وأما قولهم: إن الحج واجب على التراخي، وحق الزوج على الفور، والفور مقدم على التراخي.
فالجواب عنه من وجوه[46]:
أحدها: أنا لا نسلم بأن وجوب الحج على التراخي، بل هو واجب على الفور وذلك لما يأتي:
1 – أن الله عزَّ وجلَّ أمر بحج بيته أمراً مطلقاً بقوله تعالى:
{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً}
والأمر المطلق يقتضي فعل المأمور به على الفور[47] وإذا كان كذلك فالحج واجب على الفور.
2 – وردت أحاديث تأمر بتعجيل أداء الحج، والأمر يقتضي الوجوب فدل ذلك على أن التعجل إلى أداء الحج واجب ومن هذه الأحاديث: حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((تعجلوا إلى الحج – يعني الفريضة – فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له)). رواه أحمد[48].
وحديث ابن عباس أيضاً – ((من أراد الحج فليتعجل)). أخرجه الإمام أحمد وأبو داود وغيرهما[49].
3 – أن قضاء الحج إذا فسد يجب على الفور بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم ((من كسر، أو عرج فقل حل، وعليه الحج من قابل))[50]. وهذا لا خلاف فيه، فإذا كان القضاء يجب على الفور فأن تجب حجة الإسلام الأداء – على الفور – بطريق أولى.
الوجه الثاني: أنا لو سلمنا بأن الحج على التراخي فالأفضل لها أن تسارع إليه لتبرئ ذمتها، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بالمسارعة إليه، وهو لا يكون إلا في يوم من السنة فإذا فات هذا اليوم فات حج هذا العام فيصير كالعبادة المؤقتة من بعض الوجوه، وفي تأخيره للعام الثاني تعريض لتفويته لكثرة العوارض، والصوارف المحتملة فأداء الحج في أول سني الإمكان أولى من طاعة الزوج في القعود.(/12)
الثالث: أن بعض القائلين بجواز التأخير يقولون: إذا أخره حتى مات فهو آثم بالتأخير[51]. وإذا كانت المرأة تأثم بالتأخير فهي مدعوة إلى المسارعة في أول سني الإمكان لئلا تتعرض للإثم وذلك أولى من طاعة الزوج في التأخير.
الفصل الثاني
حكم قضاء ما أحرمت به الزوجة إذا حللها الزوج
وصفة التحليل:
إذا أحرمت الزوجة – بغير إذن زوجها – بحج نفل فحللها الزوج فهل يلزمها القضاء ؟
أختلف العلماء في ذلك على قولين:
القول الأول: لا يلزمها قضاء لما حللها الزوج عنه سواء كان ذلك حجاً، أو عمرة – إلا ما كان واجباً عليها قبل الإحرام -، وإنما عليها التقصير، والهدى وتتحلل وهذا قول الشافعية، والحنابلة، وبعض المالكية إلا أن الإمام مالكاً – رحمه الله – لا يرى وجوب الهدى عليها كالمحصر عنده[52] وذلك لما يأتي:
1 – لأنها التزمت شيئا معينا فمنعت من إتمامه إجباراً فهي كالمحصر.
2 – أنها في ذلك كالمحصر والله عزَّ وجلَّ يقول:
{ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ...}[53].
فأوجب عليه الهدى دون القضاء وهي في حكمه.
3 – ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه في الحديبية[54] أن ينحروا ويحلقوا ويحلوا. ولم يأمرهم بالقضاء معه في عمرة القضاء. فدل ذلك على أن الواجب في حقهم الحلق والنحر دون القضاء. والمرأة إذا منعها زوجها من إتمام نسكها وكان له ذلك فهي في حكم المحصر لا يجب عليها إلا النحر والحلق[55].
القول الثاني: يلزمها قضاء ما أحرمت به؛ حجاً كان أو عمرة أو هما معاًَ؛ وهذا قول الحنفية، وقول في مذهب المالكية، ورواية في مذهب الحنابلة[56].
واستدلوا بما يأتي:
1 – صحة شروعها في الحج وما صح الشروع فيه وجب إتمامه[57].
2 – ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما تحلل زمن الحديبية قضي من قابل، وسميت عمرة القضية[58].(/13)
والراجح – والله أعلم – هو القول الأول فإذا حللها الزوج فهي كالمحصر تتحلل بعد الهدى والحلق ولا قضاء عليها، وإن اشترطت في ابتداء حرامها فقالت: إن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني[59] فإنها تحل ولا شيء عليها؛ وذلك لقوة أدلتهم التي استدلوا بها من القرآن، والمعقول، فهي صريحة في الدلالة على عدم وجوب القضاء. وأما أدلة القول الثاني: فيجاب عنها بما يأتي:
1 – قولهم يجب إتمام ما أحرم به... إلخ يجاب عنه: بأن دليل الإتمام دليل عام، ودليل الحصر دليل خاص، والخاص مقدم على العام[60]، فيبقى وجوب الإتمام في حق غير المحصر.
2 – وأما قولهم: بأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما تحلل زمن الحديبية قضي من قابل، ولذلك سميت عمرة القضية.
فالجواب عنه: أن الذي وقع من النبي صلى الله عليه وسلم – في عمرة القضاء – إنما هو مقاضاة للمشركين عن العمرة التي صدوه فيها عن البيت لا قضاء لتلك العمرة، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأمر من اعتمر معه عمرة الحديبية – وعددهم ألف وأربعمائة – أن يقضوا معه في عمرة القضية، وإنما اعتمر معه في عمرة القضية نفر يسير، فدل ذلك على أن القضاء غير واجب[61].
صفة التحليل:
إذا أحرمت المرأة في نفل حج، أو عمرة، وأراد زوجها تحليلها ففيم يحصل ذلك ؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين:
القول الأول: يحصل تحليلها بمجرد القول، فإذا قال: حللت زوجتي، أو فسخت إحرامها، فعند ذلك تصير كالمحصر تنوي التحلل، ثم تقصر وتنحر، وتحل ولا يجوز لها ذلك إلا إذا أمرها بالفسخ، أو أعلمها به، وهذا قول المالكية والشافعية والحنابلة، إلا أن المالكية والشافعية قالوا: يجوز له مباشرتها إذا امتنعت عن التحلل ويكون ذلك تحليلاً لها[62].
واستدلوا بما يأتي:(/14)
- أنها كالمحصر بعدو وقول الزوج لها حللتك، أو فسخت إحرامك: هو بمثابة تحقق الإحصار لمن أحصر بعدو، ثم لابد للخروج من الإحرام من فعل ما أمر به المحصر، وهو النحر، والتقصير وبذلك يحصل التحليل.
القول الثاني: أن التحليل يكون بالفعل، أي فعل ما ينافي الإحرام فقط؛ وذلك مثل قص شعرها، أو تقليم ظفرها، أو جماعها أما القول فقط فلا تتحلل به، وهذا قول الحنفية[63].
وعللوا بما يأتي:
- أن عقد الإحرام قد صح، فلا يصح الخروج منه إلا بارتكاب محظور.
والراجح – والله أعلم – القول الأول: لأن ما أحرم به لا يتحلل منه إلا بنية الخروج بعد فعل ما يجب فعله للتحلل. فإذا أحرمت المرأة لم يجز لها الخروج إلا بإتمام ما أحرمت، أو بتحقق المنع. فإذا منعها زوجها وأمرها بالتحلل أو أخبرها بأنه حللها. فإنها تكون كالمحصر تنوي التحلل، ثم تنحر هديها وتقصر شعرها فتحل بذلك.
فإن حملها الزوج على فعل ما ينافي الإحرام فإنه حينئذ قد تسبب في ارتكابها محظوراً من محظورات الإحرام فعليه جزاؤه[64].
والتحلل في حال الإحصار يحصل: بالنحر، والحلق أو التقصير، مع النية كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم في عمرة الحديبية.
الفصل الثالث
حج المعتدة
المعتدة إما أن تكون من وفاة، أو طلاق، والمطلقة إما أن تكون بائنة، أو رجعية وإليك التفصيل: -
1 - المعتدة عن وفاة:
المعتدة عن وفاة لا يجوز لها الخروج للحج فرضه، ونفله؛ لأنه يجب عليها الإحداد، ومنه لزوم بيت الزوج وعدم الخروج منه حتى تنتهي عدتها[65].
ودليل ذلك:(/15)
1 – حديث فريعة[66] بنت مالك بن سنان: " أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأله أن ترجع إلى أهلها في بني خدرة[67] فإن زوجها خرج في طلب أعبد له أبقوا[68] حتى إذا كانوا بطرف القدوم[69] لحقهم فقتلوه قالت: فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أرجع إلى أهلي في بني خدرة فإن زوجي لم يتركني في مسكن يملكه، ولا نفقة. قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم، قالت فانصرفت حتى إذا كنت في الحجرة ناداني رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أمر بي فنوديت له فقال: كيف قلت ؟ فرددت عليه القصة التي ذكرت له من شأن زوجي فقال: امكثي في بيت زوجك حتى يبلغ الكتاب أجله. قالت: فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشراً، قالت: فلما كان عثمان بن عفان أرسل إلى فسألني عن ذلك فأخبرته فاتبعه وقضي به". أخرجه الإمام مالك في الموطأ، والنسائي وابن حبان، والحاكم[70].
2- وأيضاً أخرج[71] مالك في الموطأ عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب: "كان يرد المتوفى عنهن أزواجهن من البيداء يمنعهن الحج" فدل ذلك على وجوب لزوم البيت.
3 – ولأن المقام في منزلها واجب لا يمكن تداركه بعد انقضاء العدة، وسفر الحج واجب يمكن تداركه بعد إنقضاء العدة، فكان تقديم واجب لا يمكن تداركه بعد الفوت – جمعاً بين الواجبين – أولى[72].
فإذا خرجت قبل الوفاة ثم توفي فقد اختلف العلماء في حكم رجوعها على أقوال:-
القول الأول: أنها ترجع ما لم تحرم فإن أحرمت قبل الوفاة مضت في إحرامها. وقول المالكية[73]، واستدلوا بما يأتي:
1 - قالوا: لأن الإحرام سابق للعدة وإذا سبق مع استوائه في الوجوب كان أولى بالإتمام[74].
2 - ولأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يرد المتوفى عنها زوجها من البيداء يمنعن من الحج في الميقات قبل الإحرام، أما بعد الإحرام فلم يكن يردهن.(/16)
فقد روى ابن القاسم عن الإمام مالك – في تفسير هذا الأثر: إنما ذلك لمن كانت من أهل المدينة، وما قرب منها لم يحرمن، فإذا أحرمن نفدن وبئس ما صنعن[75].
القول الثاني: إذا خرجت دون مسافة القصر رجعت ولزمت بيتها للعدة إذا لم تكن أحرمت فإن أحرمت لزمها المضي، فإن خرجت أكثر من مسافة[76] القصر مضت في حجها إن شاءت ما لم تحرم فإن أحرمت لزمها الحج، وهو قول الحنابلة[77].
واستدلوا بما يأتي:
1 - القريبة يلزمها الرجوع لأنها في حكم المقيمة، والمقيمة يلزمها البقاء، لأنه أمكنها الجمع بين الحقين من غير ضرر بالرجوع فلم يلزم إسقاط أحدها.
2 – إذا تباعدت إلى مسافة القصر كان في إرجاعها مضرة بها ومشقة عليها.
3 – ولأنها إذا ردت احتاجت إلى سفر للرجوع كالسفر للمضي، والمضي أرفق بها، وأشبهت من بلغت مقصدها.
4 – يلزمها المضي في حال الإحرام لأنهما عبادتان استوتا في الوجوب وضيق الوقت فوجب تقديم الأسبق والحج آكد وبتفويته مشقة عظيمة فوجب تقديمه.
القول الثالث: يستحب لها الرجوع ما لم تتباعد ولا يلزمها، فإذا تباعدت مضت في حجها، فإن أحرمت لزمها الإحرام ولم يجز لها التحليل، لكن لو أمكنها أن تلزم المكان الذي بلغها خبر الوفاة فيه حتى تنقضي عدتها، ثم تحج لزمها ذلك وهو قول الشافعية[78].
واستدلوا بما يأتي:
1 – يلزمها المضي في حالة الإحرام، لأنه سابق على العدة، وقد استويا في الوجوب وضيق الوقت والحج أسبق فقدم.
2 – تمضي في سفرها متى تباعدت، ولو لم تحرم لأن في قطعها عن السفر مشقة.(/17)
القول الرابع: أنها إن خرجت دون مسافة القصر لزمها الرجوع لتعتد في منزلها ولو أحرمت، وتكون كالمحصرة، وإن تجاوزت مسافة[79] القصر مضت أحرمت أو لم تحرم، وإذا كان من الجانبين أقل من مدة السفر: فهي بالخيار إن شاءت مضت وإن شاءت رجعت إلى منزلها وهو قول الحنفية ورواية في مذهب الحنابلة، وأما إن كانت تجاوزت مسافة القصر، وبقي أكثر من مسافة القصر: فإنها تلزم موضعها إذا كان مصراً وتعتد فيه، وإن كان في مغارة، أو في بعض القرى بحيث لا تأمن على نفسها ومالها: فلها أن تمضي حتى تصل مكاناً تأمن فيه، ثم لا تخرج منه حتى تنتهي عدتها[80].
واستدلوا بما يأتي:
- لأنها إذا لم تبلغ مسافة القصر لا تحتاج في عودتها إلى إنشاء سفر وصارت كأنها في بلدها فتلزمه حتى تنتهي عدتها،ومثل ذلك إذا بلغها الخبر وبينها وبين مكة أقل من مسافة القصر تمضي لأنها لا تحتاج إلى سفر وفي الرجوع إنشاء سفر والمعتدة ممنوعة من إنشاء السفر.
وكذلك إذا بلغتها الوفاة وبينها وبين بلدها مسافة قصر وكذا بينها وبين مقصدها مسافة قصر أقامت في موضعها حتى تنتهي العدة لأنها ممنوعة من السفر.
والراجح – والله أعلم – هو القول الأول: قول المالكية رحمهم الله لما يأتي:
1 - لأن الحالة التي يقدم فيها الحج عندهم قدر مجمع عليه بين الفقهاء باستثناء حالة أن تحرم وبينها وبين بلدها دون مسافة القصر وبينها وبين مكة أكثر من مسافة القصر عند الحنفية فقط وما كان كذلك فهو أولى للعمل به.
2 – ولأنه عمل الصحابة رضي الله عنهم كما روى عن عمر رضي الله عنه أنه كان يرد المتوفى عنها زوجها من الميقات من أجل العدة.
3 – أن العدة حق واجب لله تعالى وهي – أيضاً – من حقوق الزوج بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً))، متفق عليه[81].
والحج حق لله تعالى وما اجتمع فيه حقان كان أولى بالتقديم.(/18)
4 – أن الحج وإن كان يجب على الفور فإنه يمكن أداؤه في أي عام إذا توفرت الشروط بخلاف العدة فإنها تفوت بفوات وقتها وما كان كذلك فهو أولى بالتقديم.
5 – وأما قول الشافعية والحنابلة: بأن يلحقها مضرة ومشقة فإنما ذاك في سبيل عبادة وطاعة الله عزَّ وجلَّ تؤديها كما أن في الحج نفسه مشقة على من بلده بعيد ولم يمنع ذلك وجوبه.
وأما قول الحنفية بأن الأمر مترتب على السفر فليس بصحيح وإنما هو مترتب على الخروج من بيت الزوجية كما في حديث فريعة السابق، فقد أمرها الرسول صلى الله عليه وسلم بأن تلزم بيت الزوج تعتد به حتى يبلغ الكتاب أجله، ولم يذكر أن المانع من خروجها السفر. فإذا أمكن عودة الزوجة إلى بيت الزوجية تقضي العدة فيه كان ذلك واجباً عليها ما لم تحرم لأنها إذا أحرمت فقد التزمت بالحج في وقت يجوز لها ذلك وما أحرم به فقد أمر الله عزَّ وجلَّ بإتمامه ولم يستثن أحدا إلا المحصر الممنوع من دخول الحرم.
2- المعتدة عن طلاق:
المطلقة لا تخلو من حالين:
أ – مطلقة رجعية.
ب – مطلقة بائن.
أ – المطلقة الرجعية، اختلف العلماء فيها على قولين.
القول الأول: أنه يجب عليها لزوم بيت الزوجية مدة العدة لا تخرج منه حتى تنتهي العدة وهو قول الحنفية، والمالكية، ورواية في مذهب الحنابلة[82].
واستدلوا بما يأتي:
1 - أن لزوم البيت وعدم الخروج منه لسفر، أو غيره من حقوق العدة، وهي حق لله تعالى، ولا يمكن تداركه إذا فات بخلاف الحج. فلا يملك الزوج، ولا غيره إسقاط شيء من حقوق العدة كما لا يملك إسقاطها[83].
2 – لعموم قوله تعالى: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ}[84] فذلك عام لكل خروج[85].
القول الثاني: أنها كالزوجة في حكمها، فإن أذن لها الزوج خرجت للحج، وإن لم يأذن لم تخرج إلا في حج الفريضة، وهذا قول الشافعية والحنابلة إلا أن الشافعية قالوا: إذا أحرمت فلا يحللها، وإنما له منعها من الخروج[86].
واستدلوا بما يأتي:(/19)
1 - أنها زوجة لها حكم الزوجات لها عليه النفقة والسكنى ويتوارثان، فلا تخرج لحج، أو غيره إلا بإذنه.
والراجح – والله أعلم – القول الأول؛ لقوة أدلته وبخاصة الآية الكريمة التي أمرت بلزوم البيت فلا تخرج، ولا تخرج منه حتى تنتهي العدة؛ استبراء لرحمها، وقياما بحق الاعتداد.
وأما قولهم: إنها في حكم الزوجات فيقال هي في حكم الزوجات إلا ما جعل الله تها فيه حكماً يخصها؛ وهو الاعتداد، ووجوب لزوم البيت في حال العدة. والله أعلم.
الحالة الثانية: المعتدة من طلاق بائن.
وقد اختلف العلماء في جواز خروجها على قولين:-
القول الأول: لا يجوز لها الخروج للحج، ويلزمها المكث في بيت زوجها، لا يجوز له أن يخرجها، ولا يجوز لها أن تخرج حتى تنتهي العدة؛ وهذا قول الحنفية، والمالكية، والشافعية، ورواية في مذهب الحنابلة[87].
واستدلوا بما يأتي:
1 - قوله تعالى: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ}[88] فقد نهى الله عزَّ وجلَّ في هذه الآية عن خروج المعتدة، وعن اخراجها، فدل ذلك أنه لا يجوز لها الخروج للسفر للحج، وغيره.
2 - ولأن العدة واجب محدد بوقت ينتهي بنهايته، والحج واجب يمكن إدراكه بعد ذلك. فوجب تقديم ما لا يمكن تداركه جمعاً بين الحقين.
3- ولأن عبدالله بن عمر رد المعتدات من ذي الحليفة، وعبد الله بن مسعود ردهن من الجحفة[89]، [90].
القول الثاني: يجوز لها الخروج، لأنه لا سلطان للزوج عليها، ولا يلزمها المكث في مكان معين، وهو قول في مذهب الحنابلة[91].
واستدلوا بما يأتي:(/20)
- أنها خرجت من عصمة الزوجية، ولا يجب عليها احداد فجاز لها الخروج. والراجح – والله أعلم – القول الأول، وذلك لقوة أدلته، وسلامتها من المعارض. وأما قولهم: أنه لا سلطان للزوج عليها، ولا احداد عليها، فيجاب عنه بأن سلطان العدة لازال باقيا عليها بنص القرآن، وفعل السلف، وهو من حقوق الزوج عليها، ومن حقوق الله تعالى؛ فيجب عليها القيام به، وأن لا تسافر لحج ولا غيره حتى تنتهي العدة، والله أعلم.
الباب الثاني
أثر الحيض والنفاس في مناسك الحج والعمرة
وفيه فصلان:
الفصل الأول: أثر الحيض والنفاس في الإحرام وسننه.
الفصل الثاني: أثر الحيض والنفاس في دخول المسجد.
الحرام، والطواف فيه.
الفصل الأول
أثر الحيض والنفاس في الإحرام وسننه
تمهيد:
خلق الله عزَّ وجلَّ في المرأة بعض الأعضاء، والوظائف على غير صفتها في الرجل لاختلاف طبيعة وظيفة كل منهما في الحياة - فقد خص الله عزَّ وجلَّ المرأة برحم يخلق الله عزَّ وجلَّ فيه النسل، ويكون مسكناً له وقرارا طيلة مدة الحمل، وخلق الله عزَّ وجلَّ الحيض والنفاس، وكتبه على بنات آدم لحكمة يعلمها عزَّ وجلَّ، ولعل - منها أنه ينقي الرحم إذا كان خالياً من الحمل، ويغذي الولد في فترة الحمل، وتعلم به العدة. ولهذا الدم الذي خلقه الله عزَّ وجلَّ في المرأة أحكام خاصة به في العبادات، والطلاق، والعدد، ومن تلك العبادات المناسك "الحج والعمرة " وهو موضوع[92] هذا الفصل.
وليس للحيض، والنفاس من أثر على الإحرام الذي هو عقد النسك بالحج أو العمرة، والمرأة في ذلك كالرجل، ولو كانت حائضاً أو نفساء فإحرامها ينعقد بما أحرمت به من حج أو عمرة، أو بهما معا. ولكن اختلف العلماء في انتظار المرأة الحائض الطهر قبل الإهلال أهو الأفضل أم لا. وكذا سنن الإحرام ليس للحيض والنفاس أثر عليها إلا الاغتسال للإحرام وقع خلاف بين العلماء في بعض مسائله وهي كما يأتي:
أ- حكم تأخير الإهلال للحائض والنفساء حتى تطهر.(/21)
ب- حكم الاغتسال عند الإحرام للحائض والنفساء.
جـ- حكم اغتسال الحائض والنفساء لدخول مكة.
أ – حكم تأخير الإهلال للحائض والنفساء حتى تطهر:
لا يجب على الحائض والنفساء أن تؤخر الإهلال حتى تطهر بإجماع[93] أهل العلم؛ لكن اختلفوا في الأفضل لها على قولين:-
القول الأول: أن الأفضل للحائض والنفساء الإحرام بالنسك، ولا تنتظر الطهر، وهذا قول المالكية والظاهر من عبارات الحنفية وإن لم يصرحوا بذلك[94].
واستدلوا بما يأتي:
- لأن التعجيل في الدخول في العبادة أولى من الانتظار لتحصيل طهر لا يشترط لها، ولأن المقصود من إقامة سنة الغسل النظافة، فيستوي فيه الرجل والمرأة، وسواء كانت طاهراً، أو حائضاً[95].
القول الثاني: أن الأفضل للحائض، والنفساء الانتظار في الميقات حتى تطهرا؛ لتحرما طاهرتين إذا أمكنهما ذلك. وهذا قول الشافعية، والحنابلة[96] إلا أن عبارة الحنابلة في المغني، وغيره: إن رجت الحائض الطهر قبل الخروج من الميقات أو النفساء: أستحب لها تأخير الاغتسال حتى تطهر. أ.هـ[97].
وعللوا: بأن الإحرام بعد الاغتسال وهي طاهرة أكمل لها.
والراجح – والله أعلم – أن الأفضل لها المبادرة في الدخول إلى العبادة، وأن لا تؤخر الإحرام حتى تطهر لتحصل ثواب عبادة الإحرام، وتبدأ في سننه، ولأنه أرفق بها غالباً، ولو كان فيه فضل لبينه الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته.
ب – حكم الاغتسال عند الإحرام للحائض والنفساء:
اختلف العلماء في حكم الاغتسال عند الإحرام للحائض والنفساء على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن الاغتسال عند الإحرام سنة في حق الرجال والنساء وسواء كانت المرأة طاهراً، أو حائضاً، أو نفساء وهذا قول الحنفية، والمالكية، والحنابلة، والقول الصحيح في مذهب الشافعية[98] مشترك.
واستدلوا بما يأتي:(/22)
1 – حديث جابر بن عبد الله: ((في قصة أسماء بنت عميس حين نفست بذي الحليفة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أبا بكر فأمرها أن تغتسل وتهل)). أخرجه الإمام مسلم وغيره[99].
2 – حديث عائشة رضي الله عنها قالت: ((نفست أسماء بنت عميس بمحمد بن أبي بكر بالشجرة[100] فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر يأمرها أن تغتسل وتهل)). أخرجه الإمام مسلم وغيره[101].
قالوا: والأمر في الحديثين للاستحباب، لأن الاغتسال عن الحيض، والنفاس لا يجب حال قيام الحيض والنفاس، فلم يبق إلا حكم الاغتسال للإحرام وذلك مستحب لجميع الحاج[102].
3 – واستدلوا بالإجماع على أن الإحرام جائز بغير اغتسال[103]
القول الثاني: أن الاغتسال للحائض والنفساء غير مستحب ذكره النووي في المجموع لبعض الشافعية وقال: حكاه الرافعي. [104]
القول الثالث: أن الاغتسال للإحرام فرض على النفساء خاصة وهذا قول أهل الظاهر[105]
واستدلوا: بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديثين السابقين لأسماء بالاغتسال وهي نفساء والأمر للوجوب فدل ذلك على أن اغتسال النفساء للإحرام واجب[106]
والراجح – والله أعلم – هو القول الأول، أن الاغتسال للحائض والنفساء عند الإحرام مستحب لا واجب.
أما القائلون بأنه لا يستحب فهم محجوجون بالإجماع على استحبابه للحائض والنفساء مثل غيرهما، ومحجوجون بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم لأسماء بالاغتسال للإحرام وهي نفساء والحائض مثلها.
وأما قول أهل الظاهر بوجوبه على النفساء دون غيرها، فقد انعقد الإجماع على خلافه وأن الأمر في الحديث للاستحباب لا للوجوب إذ لا معنى تختص به النفساء وحدها دون الحائض وهي تماثلها، ودون الطاهر وهي أولى منها.
ج – حكم اغتسال الحائض والنفساء لدخول مكة:
يشرع للحاج والمعتمر الاغتسال لدخول مكة رجلا كان، أو مرأة عند جميع الأئمة الأربعة[107](/23)
ودليل ذلك ما رواه نافع قال: ((كان ابن عمر رضي الله عنهما إذا دخل أدنى الحرم أمسك عن التلبية، ثم يبيت بذي طوى [108]، ثم يصلي به الصبح ويغتسل ويحدث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك)) متفق عليه[109]
وقد اختلف العلماء في استحباب هذا الغسل للحائض والنفساء على قولين:
القول الأول: أنه يستحب لهما الاغتسال كما لو كانت طاهرتين وهذا قول الحنفية، والشافعية، والحنابلة، وقول في مذهب المالكية[110].
واستدلوا بما يأتي:
1 – لأن الحديث عام في بيان سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يستثن منه أحد، فدل على مشروعيته لكل داخل محرم.
2 – ولأنه غسل يراد به التنظيف؛ وهذا يحصل مع الحيض.
3 – ولأنه غسل يراد لدخول مكة؛ والحائض والنفساء وغيرهما في ذلك سواء.
4 – ولقول الرسول صلى الله عليه وسلم لعائشة وهي حائض بسرف [111] ((افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري))[112] متفق عليه، ولم يستثن من ذلك غسل دخول مكة.
القول الثاني: أنه لا يستحب للحائض. والنفساء الاغتسال لدخول مكة، وهو قول المالكية.[113]
واستدلوا بقولهم: أن الاغتسال إنما هو للطواف، والحائض والنفساء لا يجزؤهما الاغتسال للطواف قبل الطهر، بل لابد من الاغتسال للطواف بعد الطهر، ولهذا لا يستحب لهما هذا الاغتسال حال الحيض والنفاس.
والراجح – والله أعلم – القول باستحباب الغسل للحائض، والنفساء لدخول مكة كغيرهما من الحجاج والعمار؛ لقوة الأدلة التي استدل بها أهل هذا القول، وسلامتها من المعارض.
ويجاب عن دليل أهل القول الثاني: بأنه لا دليل على دعواكم أن المراد بهذا الاغتسال: الطواف، بل الظاهر أن المراد به الاستعداد بالنظافة لدخول مكة حيث يلتقي جموع الحجاج فيها؛ فيلتقوا على أحسن حال من النظافة، أما الطواف وحده فلا يسن له الاغتسال، ولهذا لم يغتسل له الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في طواف الإفاضة[114]
الفصل الثاني(/24)
أثر الحيض والنفاس على الدخول في المسجد الحرام والطواف فيه
للحيض والنفاس أثرهما في دخول المسجد الحرام، والطواف والسعي، فقد شرع الله لهما في هذه العبادات أحكاما تخصهما سأوردها في هذا الفصل على النحو الأتي:
المبحث الأول: حكم دخول المرأة الحائض والنفساء إلى المسجد الحرام.
المبحث الثاني: حكم طواف المرأة الحائض النفساء.
المبحث الثالث: حكم سعي المرأة الحائض والنفساء.
المبحث الرابع: حكم طواف الوداع للمرأة الحائض والنفساء.
المبحث الأول: حكم دخولهما المسجد:
اختلف العلماء في حكم دخولهما المسجد على ثلاثة أقوال:
منع الدخول والعبور، ومنع الدخول دون العبور، وجواز الدخول والعبور، وتفصيلهما كما يأتي:
القول الأول: لا يجوز للحائض، والنفساء دخول المسجد؛ سواء كان المسجد الحرام، أو غيره، ولا العبور فيه إلا أن لا يجدا منه بدا فيتوضأ [115]، ويعبرا. وهو قول الحنفية ووجه في مذهب الشافعية، ورواية في مذهب الحنابلة[116].
واستدلوا بما يأتي:
1 – حديث عائشة رضي الله عنها قالت: جاء النبي صلى الله عليه وسلم، وبيوت أصحابه شارعة في المسجد، فقال: ((وجهوا هذه البيوت عند المسجد، ثم دخل النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يصنع القوم شيئاً رجاء أن تنزل فيهم رخصة، فخرج إليهم بعد فقال: فإني لا أحلها لحائض ولا جنب)) أخرجه أبو داود وغيره[117]فقد حرمها الرسول صلى الله عليه وسلم على الحائض والجنب تحريماً مطلقاً، والنفساء في معنى الحائض.
2 – واستدلوا بحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: ((يا علي لا يحل لأحد يجنب في هذا المسجد غيري وغيرك)) رواه الترمذي[118]
3 – وقالوا: لأنه موضع لا يجوز المكث فيه، فكذا العبور كالدار المغصوبة[119](/25)
القول الثاني: يحرم على المرأة الحائض والنفساء: المكث في المسجد، وأما العبول فيه فلا يحرم إذا استوثقت من عدم تلويثه، وهو قول المالكية، والشافعية، والحنابلة إلا أن الحنابلة اشترطوا الحاجة [120] في العبور.
واستدلوا بما يأتي:
1 – قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} الآية[121]
قالوا: المعنى لا تقربوا مواضع الصلاة لأنه ليس في الصلاة عبور سبيل إنما عبور السبيل في مواضعها، وهو المسجد، وهذا التفسير مروي عن ابن عباس، والحيض والنفاس في معنى الجنابة.[122]
2 – واستدلوا بما روي عن جابر قال: ((كان أحدنا يمر في المسجد مجتازاً وهو جنب)).[123]
قالوا: فهذا دليل على جواز المرور دون الجلوس.
3 – أن هذا قول كثير من الصحابة والتابعين كابن مسعود، وابن عباس، وسعيد بن المسيب، والحسن البصري، وسعيد بن جبير[124]
القول الثالث: أن المرأة الحائض والنفساء لا تمنعان من الدخول إلى المسجد، والمكث فيه؛ وهو قول الظاهرية ورواية في مذهب الحنابلة إذا توضأت[125]
واستدلوا بما يأتي:
1 – قول الرسول صلى الله عليه وسلم ((المؤمن لا ينجس))[126] متفق عليه.
2 – ولأن أهل الصفة يبيتون في المسجد بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم وهم جماعة كثير ولا شك أن فيهم من يحتلم وما نهو قط.
3 – قالوا: وأما الآية فالنهي فيها عن الصلاة لا عن مواضع الصلاة[127]
المناقشة والترجيح:
بالنظر في أدلة الأقوال الثلاثة يظهر أنها تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: أحاديث ضعيفة؛ وهي التي تنص على تحريم لبث الحائض، والنفساء، والجنب في المسجد.
القسم الثاني: أحاديث صحيحة، ولكنها غير صريحة في الدلالة على جواز المكث في المسجد كحديث ((المؤمن لا ينجس)) إذ أنه لا يلزم من عدم نجاسته جواز لبثه في المسجد.(/26)
القسم الثالث: الآية الكريمة، وهي أقوى الأدلة في هذا الموضوع ولكنها غير صريحة – أيضاً – إلا أن حملها على ما حملها عليه أهل القول الثاني، وهو النهي عن قربان مواضع الصلاة حال الجنابة – والحيض والنفاس مثلها – أولى؛ لأن ذلك أبلغ في النهي عن الصلاة على تلك الحال، ولأن بيان حكم التيمم للمسافر الذي حمل الآية عليه أهل القولين الآخرين: قد بين صريحاً في آية أخرى وهي قول الله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[128]
وهو حكم يعم المسافر والمقيم.
فحمل الآية الأولى على مواضع الصلاة، وتقدير المجاز: أولى؛ ليكون لها دلالة خاصة. وترجيل عائشة رضي الله عنها رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي حائض وهو في المسجد وهي في حجرتها [129] مؤيد لذلك، فلو كان دخولها للمسجد جائز لدخلته لذلك؛ لأنه أرفق برسول الله صلى الله عليه وسلم، لكنها لم تفعل لأنه لا يجوز لها المكث في المسجد.
وبهذا يتبين رجحان قول القائلين بأنه لا يجوز للحائض، والنفساء والجنب أن يمكثوا في المسجد. أما العبور فجائز إذا أمنت تلويثه.
وأما قول القائلين بجواز المكث: إن أهل الصفة يبيتون في المسجد بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم وهم جماعة كثير، ولا شك أن فيهم من يحتلم، وما نهو عنه قط.(/27)
فالجواب عنه: أن النهي في الآية عن المكث في المسجد: مع تحقق الجنابة لا مع احتمالها، ولذلك جاز لهم النوم، أما إذا تحققت فيجب عليهم الخروج للاغتسال، ويكون حكمهم في ذلك حكم عابر السبيل في المسجد[130] ويحتمل أيضاً: أن مبيتهم في مكان منعزل عن المسجد ليه منه وإن كان متصلا به. والله أعلم.
المبحث الثاني: حكم طواف المرأة الحائض، أو النفساء:
الحيض، والنفاس، ومثلهما الجنابة حدث أكبر [131] يوجب الغسل، وقد تبينا في الفصل السابق أثر هذه الأحداث في دخول المسجد، وأن الراجح من الأقوال الثلاثة جواز العبور لهم في المسجد دون المكث فيه إذا أمنت الحائض والنفساء تلويث المسجد.
وهذا الحكم يؤثر على الطواف بالبيت الحرام؛ لأن البيت داخل المسجد الحرام فلا يمكن الطواف به إلا بدخول المسجد الحرام فيمنعون من ذلك لذلك.
وقد اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في تأثير الحدث – وأعظمه الحيض والنفاس والجنابة – على صحة الطواف.
فالخلاف في هذه المسألة هو في بيان حكم الطهارة من الحدث للطواف. ومنشأ الخلاف: هو تردد الطواف بين إلحاقة بالصلاة التي يشترط لها الطهارة من جميع الأحداث، أو إلحاقه بالسعي بين الصفا والمروة في جوازه من غير طهارة وكذا سائر المناسك[132]
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله: فنهيه الحائض عن الطواف بالبيت إما أن يكون لأجل المسجد لكونها منهية عن اللبث فيه، وفي الطواف لبث، أو عن الدخول إليه مطلقاً لمرور أو لبث، وإما أن يكون لكون الطواف نفسه يحرم مع الحيض كما يحرم على الحائض الصلاة، والصيام بالنص والإجماع. أ هـ [133]
وقد اختلف العلماء في حكم طواف الحائض، والنفساء على أربعة أقوال: -
القول الأول: أن الطهارة من الحيض والنفاس، وكذا من سائر الأحداث شرط في صحة الطواف، فلا يصح من الحائض، والنفساء طواف، ولا يجوز لهما ذلك، وتنتظرا في الطواف الركن حتى تطهرا، ويسقط عنهما طواف الوداع، فلا يلزمهما الانتظار حتى تطهرا.(/28)
وهذا قول المالكية، والشافعية، والحنابلة [134].
واستدلوا بما يأتي:
1 – قول الرسول صلى الله عليه وسلم – في حديث ابن عباس – ((الطواف بالبيت صلاة إلا أنكم تتكلمون فيه)) أخرجه الترمذي، والحاكم وصححه[135]
وجه الاستدلال: أن أحكام الطواف بالبيت كأحكام الصلاة إلا في جواز الكلام في الطواف دون الصلاة. ومعلوم أن الطهارة شرط في صحة الصلاة بالإجماع. فكذلك تكون شرطاً في صحة الطواف[136]
2 – حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن النفساء والحائض تغتسل وتحرم وتقضي المناسك كلها غير أن لا تطوف بالبيت)) أخرجه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن غريب من هذا الوجه[137]
وجده الاستدلال: أن الرسول صلى الله عليه وسلم جوز لها أن تفعل جميع المناسك وهي حائض، أو نفساء إلا الطواف بالبيت فإنه لا يجوز لها فعله وهي حائض، أو نفساء، وإنما تفعله بعد الطهر[138]
3 – حديث عائشة رضي الله عنها قالت: ((خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم لا نذكر إلا الحج فلما جئنا سرف فطمثت [139] فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا أبكي فقال ما يبكيك ؟ قلت: لوددت – والله – أني لم أحج العام، قال: لعلك نفست ؟ قالت نعم قال: فإن ذلك شيء كتبه الله على بنات آدم فافعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي البيت حتى تطهري)) متفق عليه[140]
وجه الاستدلال: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أذن لها – وهي حائض – في فعل جميع مناسك الحج إلا الطواف بالبيت فقد نهاها النبي صلى الله عليه وسلم عن الطواف حتى تغتسل والنهي يقتضي الفساد في العبادة[141]
4 – واستدلوا بحديث عائشة رضي الله عنها وفيه: ((فقالت صفية [142] ما أراني إلا حابستهم. قال: عقري [143] حلقي أو ما طفت يوم النحر قالت قلت: بلى، قال لا بأس انفري.. الحديث)) متفق عليه[144](/29)
وجه الاستدلال: أن صفية رضي الله عنها لما حاضت أظهرت حزنها على ذلك؛ لأنها تخشى أن تتسبب في حبس الرسول صلى الله عليه وسلم عن السفر؛ لأنها لم تطف طواف الوداع، وأقرها الرسول صلى الله عليه وسلم على أن الحيض قبل الطواف يمنع منه، ويتسبب في الحبس، والتأخير لكن ذلك إنما يكون في الطواف الركن، أما الواجب: فإنه يسقط عن الحائط والنفساء ولا يلزمهما، فدل ذلك على أن الطهارة شرط في صحة الطواف.
5 – حديث عائشة رضي الله عنها قالت: ((إن أول شيء بدأ به حين قدم النبي صلى الله عليه وسلم أنه توضأ، ثم طاف.. الحديث)) متفق عليه[145]
وجه الاستدلال: أن الرسول صلى الله عليه وسلم توضأ للطواف، وقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأخذ المناسك عنه بقوله صلى الله عليه وسلم ((لتأخذوا مناسككم فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه))[146]
القول الثاني: أن الطهارة من الحدث ليست شرطاً في صحة الطواف وإنما هي واجبة، فيصح الطواف مع الحدث، فلو طافت الحائض، والنفساء صح طوافهما، فإن أمكنهما إعادته بعد الطهر أعادتاه، وإلا لزمهما الفدية، [147] وهذا قول الحنفية ورواية في مذهب الحنابلة، وفي القول الآخر عند الحنفية أن الطهارة من الحدث سنة لا واجب[148]
واستدلوا بما يأتي:
1 – قول الله تعالى: { وليطوفوا بالبيت العتيق }[149]
وجه الاستدلال: أن الله تعالى أمر بالطواف أمراً مطلقا عن شرط الطهارة، ولا يجوز تقييد مطلق الكتاب بخبر الواحد؛ [150] فالركنية لا تثبت بخبر الواحد لأنه لا يوجب علم اليقين والركنية لا يوجبها إلا ما يثبت علم اليقين.
القول الثالث: أن الطهارة من الحديث ليست شرطاً في صحة الطواف، وإنما هي واجبة من الحدث الأكبر، مستحبة من الحدث الأصغر، ويسقط الواجب في حال العجز عنه. فإذا اضطرت الحائض أو النفساء إلى الطواف حال الحيض والنفاس لعدم إمكان البقاء حتى الطهر أجزأهما ولا شيء عليهما، وهذا قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله[151](/30)
واستدل بما يأتي:
1 – أنه لم ينقل أحد عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه أمر بالطهارة للطواف ولا نهى المحدث أن يطوف، لكنه طاف طاهراً وهذا دليل على أنه سنة لا واجب.
2 – أن النصوص التي تدل على وجوب الطهارة للطواف من الحيض والنفاس إنما تدل على الوجوب مطلقا؛ والوجوب المطلق مشروط بالقدرة عليه لقوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم }[152]. فإذا لم يمكنهما المقام لانتظار الطهر لما يلحقهما من مشقة الانتظار، والضرر عليهما في أنفسهما، ودينهما، ومالهما: جاز لهما الطواف مع الحيض والنفاس وأجزأهما للضرورة.
القول الرابع: أن الطواف بالبيت على غير طهارة جائز إلا المرأة الحائض، فإنه لا يجوز لها أن تطوف حتى تطهر. وهذا قول الظاهرية[153]
واستدلوا بما يأتي:
- أن الرسول صلى الله عليه وسلم منع أم المؤمنين – إذ حاضت من الطواف بالبيت، وولدت أسماء بنت عميس بذي الحليفة فأمرها عليه السلام بأن تغتسل، وتهل، ولم ينهها عن الطواف؛ فلو كانت الطهارة من شروط الطواف لبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم كما بين أمر الحائض، وكذلك لم ينه الجنب عن الطواف.
والراجح – والله أعلم – القول الأول؛ أن الطهارة شرط لصحة الطواف، فلا يجوز للحائض والنفساء الطواف على غير طهارة، ولو طافتا لم يجزهما، وذلك لقوة أدلته، وصراحتها، ووضوحها في الدلالة على حكمها.
وأما أدلة الأقوال الأخرى فيجاب عنها بما يأتي:
1 – استدل الحنفية بعموم الآية، فالجواب عنه من وجوه:
الأول: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بأخذ المناسك عنه صلى الله عليه وسلم بقوله ((لتأخذوا مناسككم فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه)) [154]، فطوافه عليه الصلاة والسلام بيان للطواف المجمل في الآية الكريمة؛ والسنة تبين مجمل القرآن [155]، وهو عليه الصلاة والسلام توضأ ثم طاف كما سبق بيانه[156](/31)
الثاني: أنا لا نسلم بعدم جواز تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد، بل الصحيح جوازه[157] فإذا كانت الآية عامة ينظر ماجاءت به السنة لتكون السنة هي الدليل على ظاهر الآية.
وذلك مثل آية المواريث:
{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [158]
فهي عامة لكل من يقع عليه اسم الولد؛ وإن كان يهوديا أو نصرانيا، فلما جاءت السنة بأن لا يرث مسلم كافرا ولا كافر مسلما، [159] خصصت الأولاد بما عدا هؤلاء، وانعقد الإجماع على ذلك[160]
الثالث: أن الطواف بغير طهارة مكروه عند الحنفية، ولا يجوز حمل الآية على طواف مكروه، لأن الله تعالى لا يأمر بالمكروه[161]
وقول شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – لم ينقل الأمر بالطهارة.. إلخ فقد ذكر الجمهور من أدلة الأمر بالطهارة ما يكفي لبيان وجوب الطهارة من الحدثين الأصغر والكبر.
وقوله: أن النصوص التي تدل على وجوب الطهارة للطواف من الحيض والنفاس إنما تدل على الوجوب مطلقاً، والوجوب المطلق مشروط بالقدرة عليه... إلخ.
يجاب عنه بأن انتظار المرأة للطواف حتى تطهر ليس من باب الضرورات المبيحة لترك هذا الواجب بدليل انتظار الرسول صلى الله عليه وسلم لعائشة حتى طهرت، وعزمه على انتظار صفية لو لم تكن طافت للإفاضة حيث قال: ((أحابستنا هي)).
لكن فيما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – وفي رواية الحنابلة – رحمهم الله – أن الطواف مع الحدث يصح من الناسي والمعذور في هذا، مخرج لعلماء الإسلام في الفتوى بذلك في الحالات التي يرون فيها العنت والمشقة والضرر، لاعتماد هذه الأقوال على أصول ثابتة، وقواعد مقررة في الشريعة الإسلامية ترفع الحرج والمشقة والعنت والضيق، وتعفو عن الخطأ والنسيان، والله أعلم.(/32)
وأما قول أهل الظاهر بالتفريق بين الحيض والنفاس، فإنه لا وجه لذلك، لاتحادهما في نوع العذر، وفي الأحكام المترتبة عليهما، وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم لعائشة، وأمثالها بالانتظار حتى تطهر يشمل النفساء، وهو زيادة على الحكم السابق الذي بينه الرسول صلى الله عليه وسلم لها في الميقات؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم بين أن العلة في الأمر بالانتظار عدم الطهر، وأن جواز الطواف منها مرهون بالطهر ((حتى تطهري))، وكذلك النفساء، لا يجوز لها الطواف إلا بعد الطهر.
كما أن تطهره صلى الله عليه وسلم من الحدثين قبل الطواف مع قوله ((لتأخذوا مناسككم)) دليل على وجوب التطهر من الحدثين قبل الطواف، والله أعلم.
المبحث الثالث: حكم سعي المرأة الحائض والنفساء:
اختلف العلماء في حكم سعي المرأة الحائض والنساء على قولين:
القول الأول: أن الطهارة من الحيض، والنفاس، ومن سائر الأحداث ليست شرطاً في صحة السعي، فإذا طافت المرأة الحاجة، أو المعتمرة، وهي طاهر ثم حاضت، أو نفست فإنها تسعى، ولا تنتظر الطهر ولا شيء عليها، وهو قول جمهور العلماء، ومنهم الأئمة الأربعة [162] وقد نص بعضهم على استحباب الطهارة فيه من جميع الأحداث[163]
واستدلوا بما يأتي:
1 – حديث عائشة رضي الله عنها، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: ((لعلك نفست ؟ قلت: نعم قال: فإن ذلك شيء كتبه الله على بنات آدم فافعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري)) متفق عليه[164]
وجه الاستشهاد: أن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لم يمنعها من السعي – وهي حائض – فدل ذلك على جواز سعي الحائض، والنفساء مثلها.
2 – ولأن السعي نسك غير متعلق بالمسجد فلا تشترط له الطهارة عن الحيض، والجنابة كالوقوف بعرفة[165]
3 – وقد حكى ابن المنذر الإجماع على أن من سعي بين الصفا والمروة على غير طهارة أن ذلك يجزئه وانفرد الحسن فقال: إن ذكره قبل أن يحلق فليعد الطواف. أ هـ[166](/33)
القول الثاني: أن الطهارة من الحيض والنفاس، ومن سائر الأحداث شرط في صحة السعي. وهو رواية في مذهب الحنابلة. وذكر بعض علماء المالكية أن المالكية يشترطون الطهارة من الحيض للسعي كالطواف[167]
واستدلوا بما يأتي:
1 - حديث عائشة رضي الله عنها – السابق – فقد ورد في إحدى رواياته بلفظ ((افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت و لا بين الصفا والمروة حتى تطهري)) أخرجه الإمام مالك في الموطأ[168]
والراجح – والله أعلم – القول الأول:
وذلك لصحة الرواية التي استدلوا بها واشتهارها، وهي لم تشترط الطهارة للسعي، وأما الرواية التي استدل بها أهل القول الثاني: فإن الزيادة فيها وهي قوله: ((ولا بين الصفا والمروة)) قد انفرد بها يحيى بن يحيى التميمي النيسابوري [169] عن الإمام مالك دون بقية الرواية فهي رواية شاذة[170]
يقول العلامة ابن عبد البر – بعد أن ذكر الحديث: هكذا قال يحيى عن مالك في هذا الحديث ((غير أن لا تطوفي بالبيت ولا بين الصفا والمروة)).
وقال غيره من رواة الموطأ: ((غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري)) لم يذكروا ((ولا بين الصفا والمروة))، ولا ذكر أحد من رواة الموطأ – في هذا الحديث – ((ولا بين الصفا والمروة)) – غير يحيى – فيما علمت، وهو عندي وهم منه – والله أعلم. أ هـ [171]
ومما يؤيد ذلك: أن الإمام مالك – رحمه الله وهو الذي روى عنه يحيى بن يحيى هذه الرواية يقول: والمرأة الحائض إذا كانت قد طافت بالبيت وصلت فإنها تسعى بين الصفا والمروة، وتقف بعرفة والمزدلفة. وترمي الجمار غير أنها لا تفيض حتى تطهر من حيضتها. أ هـ [172]
وعلى فرض صحة رواية الإمام يحيى بن يحيى فإنها لا تدل على اشتراط الطهارة للسعي وإنما تدل: على إشتراط تقدم طواف صحيح قبله.(/34)
يقول العلامة ابن حجر في فتح الباري: [173] فإن كان يحيى حفظه فلا يدل على اشتراط الوضوء للسعي؛ لأن السعي يتوقف على تقدم طواف قبله، فإذا كان الطواف ممتنعاً: امتنع لذلك لا لاشتراط الطهارة له. أ هـ.
وقد ضعف بعض علماء الحنابلة – رواية المذهب التي تشترط الطهارة للسعي.
يقول القاضي أبو يعلي – بعد أن ذكر الرواية التي تشترط الطهارة للسعي: المذهب الصحيح أن الطهارة لا تجب في ذلك. أ هـ [174]
ويقول ابن قدامة: وقد ذكر بعض أصحابنا رواية عن الإمام أحمد: أن الطهارة في السعي كالطهارة في الطواف. ولا يعول عليه. أ هـ [175]
والدليل على استحباب الطهارة في السعي: أن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم توضأ، ثم طاف، وعسي كما سبق [176] ذلك في حديث عائشة رضي الله عنها[177]
المبحث الرابع: حكم طواف الوداع للمرأة الحائض والنفساء:
ذهب كثير [178] من العلماء إلى أن طواف الوداع [179] واجب من واجبات الحج؛ فإذا انتهت أعمال الحج، وأراد الحاج الرجوع إلى بلده: وجب عليه أن يطوف للوداع قبل سفره رجلاً كان، أو امرأة إلا الحائض، والنفساء، فقد خفف الله عنهما وعن رفقتهما فلا تحتبس المرأة الحائض أو النفساء من أجل طواف الوداع، بل تسافر مع رفقتها ولو لم تطف هذا الطواف؛ هذا هو مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم، لكن إن طهرت قبل الخروج من مكة وجب عليها الوداع – عند من يقول بوجوبه – لأنها في حكم المقيمة، فإن لم تطف مع طهرها وهي في مكة وجب عليها دم[180]
ودليل ذلك:
1 – قول ابن عباس رضي الله عنهما: ((أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن الحائض)) متفق عليه[181]
2 – حديث ابن عباس رضي الله عنهما: ((أنه كان يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للحائض أن تصدر قبل أن تطوف إذا كانت قد طافت في الإفاضة)) رواه أحمد[182](/35)
3 – حديث عائشة رضي الله عنها قالت: ((لما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينفر إذا صفية على باب خبائها [183] كئيبة حزينة قال: عقري حلقي إنك لحابستنا، ثم قال لها: أكنت أفضت يوم النحر، قالت: نعم قال فانفري)) متفق عليه[184]
مسألة:
ومن المسائل المتعلقة بطواف الوداع بيان حكم وقول المرأة الحائض، والنفساء بباب المسجد عند الوداع؛ فقد ذكر بعض فقهاء الشافعية والحنابلة: أنه يستحب للمرأة الحائض والنفساء: الوقوف بباب المسجد الحرام عند الوداع والدعاء عنده، [185] ومن نصوصهم في ذلك قول: النووي في مناسكه: ولا يجب طواف الوداع على الحائض والنفساء، ولا دم عليهما لتركه؛ لأنها ليست مخاطبة به لكن يستحب لها أن تقف على باب المسجد الحرام. وتدعو [186] أ هـ.
وقال المجد في المحرر: ولا وداع عليها – أي المراة – مع حيض ونفاس ولا دم بسبب ذلك لكن يسن لها أن تقف عند باب المسجد فتدعو[187] أ.هـ.
وقال ابن قدامة في العمدة: إلا الحائض والنفساء فلا وداع عليهما ويستحب لهما الوقوف عند باب المسجد والدعاء[188] أ هـ.
وقال البهوتي: والحائض والنفساء تقف على باب المسجد الحرام، وتدعو بذلك الدعاء[189] استحباباً لتعذر دخولها[190] أ هـ.
لكن هؤلاء الفقهاء – رحمهم الله – لم يذكروا دليلاً على مشروعية هذا الوقوف للحائض والنفساء، بل إن الدليل الثابت على خلافه كما مر [191] في حديث صفية حيث لم يأمرها الرسول صلى الله عليه وسلم – وقد حاضت – بهذا الوقوف؛ فلو كان مشروعا لبين لها ذلك النبي صلى الله عليه سلم، وهو عليه الصلاة والسلام إنما أمرها بالخروج فقط، ولم يأمرها بالوقوف بباب المسجد، والدعاء عنده، والله أعلم.
الباب الثالث
الحجاب والستر وأثرهما على المناسك
وفيه الفصول التالية
الفصل الأول: حكم المحرم للمرأة في سفرها للحج والعمرة.
مسألة: أثر وفاة المحرم في أداء النسك.
الفصل الثاني: أثر الستر والحجاب في ملابس الإحرام.(/36)
الفصل الثالث: أثر الحجاب والستر في سنن الأقوال.
الفصل الرابع: أثر الحجاب والستر في سنن الأفعال.
الفصل الخامس: تقصير المرأة شعر رأسها للتحلل من النسك.
تمهيد:
دعا الله عزَّ وجلَّ المرأة – في الإسلام – إلى التستر، والحجاب، وعدم الاختلاط بالرجال. يقول الله عزَّ وجلَّ:
{وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى}[192]
ويقول سبحانه وتعالى:
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً}[193]
ويقول سبحانه وتعالى:
{وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ... } الآية[194]
وقد أخرج [195] البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ((يرحم الله نساء المهاجرات الأول؛ لما أنزل الله وليضربن بخمرهن على جيوبهن شققن مروطهن [196] فاختمرن بها)).
((ولقد كانت عائشة رضي الله عنها، وغيرها من أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونساء المؤمنين محرمات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته فإذا مر بهن الركبان سدلت كل واحدة منهن جلبابها على وجهها فإذا فارقوهن كشفن وجوههن)) [197].
وعن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما قالت: ((كنا نغطي وجوهنا من الرجال، وكنا نمتشط قبل ذلك في الإحرام)) أخرجه الحاكم وقال حديث صحيح على شرط الشيخين)) [198]
ولهذا الستر والحجاب الذي أمرت به المرأة أثره على أحكام المناسك من حج أو عمرة يظهر ذلك من خلال المسائل التي سيتناولها البحث في هذا الباب.
الفصل الأول(/37)
حكم المحرم للمرأة في سفرها للحج
اختلف العلماء في حكم سفر المرأة للحج بلا محرم [199] على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن المحرم شرط في وجوب الحج على المرأة، ولا يجوز لها أن تحج من غير محرم، وهذا مذهب الحنابلة. فلا يجب عليها أن تحج حتى تجد محرما، ولا يجوز لها الخروج للحج إلا مع محرم. وفي رواية أخرى في مذهب الحنابلة أن المحرم شرط لأدائها للحج بنفسها لا لوجوبه عليها، فإذا لم تجد محرما وقد وجدت الزاد والراحلة، وجب عليها أن تحج – غيرها – عن نفسها[200]
قال الإمام أحمد – رحمه الله تعالى – وقد سئل – عن حديث ابن عباس فيمن واقع اهله وهو محرم: يحجان من قابل، فإذا بلغ الموضع الذي واقعها فيه – تفرقا – قيل: أليست قد صارت بغير محرم ؟ ! فقال: نعم لا يعجبني هذا إلا أن يكون معها محرم غير الزوج إذا فارقها، قال: والسفر عندي ولو كان ساعة، ابن عباس يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم ((ولا تسافر سفراً))[201]
وقد استدلوا لمذهبهم بما يأتي:
1 - حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة ليس معها حرمة)) أخرجه البخاري.[202]
فقد نهى النبي – صلى الله عليه وسلم – في هذا الحديث عن سفر المرأة مسيرة يوم وليلة من غير محرم والنهي يقتضي التحريم.
2 – حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعهما ذو محرم، ولا تسافر المراة إلا مع ذي محرم، فقام رجل فقال: يا رسول الله إن امرأتي خرجت حاجة، وإني اكتتبت في غزوة كذا وكذا قال: انطلق فحج مع امرأتك)). متفق عليه[203](/38)
فقد نهى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث المرأة عن السفر – مطلقاً – من غير محرم، فلا يجوز لها أن تسافر لحج، أو لغيره من غير محرم. وقد أكد ذلك سؤال المجاهد عن حكم خروج زوجته للحج – من غير محرم – فأمره الرسول صلى الله عليه وسلم أن يترك الجهاد وأن يخرج مع امرأته للحج. فجاء الحديث صريحاً في تحريم خروج المرأة للحج من غير محرم. وهو عام في كل سفرة[204]
3 – واستدلوا – أيضاً – بحديث ابن عباس رضي الله عنهما – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تحجن امراة إلا ومعها محرم)). أخرجه الدارقطني [205]
والحديث صريح في النهي عن السفر للحج من غير محرم والنهي يقتضي التحريم.
فدل على عدم جواز الخروج للحج من غير محرم من غير تحديد مسافة فكيف بغيره من الأسفار؟ !
4 – أن المرأة عورة يجب عليها التستر، ويحرم عليها التبرج وهي معرضة في السفر إلى الصعود والنزول محتاجة إلى من يعالجها ويمس بدنها وغير المحرم لا يؤمن على ذلك[206]
القول الثاني: أن المحرم شرط في وجوب الحج على المرأة إذا كان بينها وبين مكة مسيرة ثلاثة أيام ولا يجوز لها في هذه الحالة السفر للحج من غير محرم.
فإن كان بينها وبين مكة أقل من ذلك لم يشترط لها المحرم، ووجب عليها أن تخرج ولو من غير محرم. فالعبرة بمسافة السفر المحددة – عندهم – بثلاثة أيام، وما قل عنها فليس بسفر فلا يشترط فيها المحرم وهذا قول الحنفية.
ورواية في مذهب الحنابلة إلا أن المسافة عندهم يوم وليلة[207]
واستدلوا بما يأتي:
1 – حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا تسافرن أمرأة إلا مع ذي محرم ولا يدخل عليها رجل.. الحديث)) وقد سق.
قالوا: والحديث دليل على وجوب المحرم في السفر بدليل أمر النبي صلى الله عليه وسلم لزوجها بالخروج معها وترك الجهاد من أجل ذلك.(/39)
2 – حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تسافر المرأة ثلاثا إلا مع ذي محرم)) متفق عليه[208]
قالوا: دل الحديث على تحديد السفر الذي يشترط له المحرم وأنه مسيرة ثلاثة أيام فما كان دون فليس بسفر ولا يشترط له المحرم[209]
القول الثالث: أن المحرم لا يشترط لوجوب الحج، وأدائه على المرأة بل يجب عليها الخروج للحج – إذا استطاعت إليه سبيلا – ولو من غير محرم، إذا أمنت على نفسها بالخروج مع نساء ثقات، أو مع امرأ’ ثقة، أو رفقة مأمونة، وهذا قول المالكية، والشافعية، والظاهرية، ورواية في مذهب الحنابلة[210]
واستدلوا بما يأتي:
1 – قوله تعالى: {وَللهِ عَلَى النَّاْسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [211].
قالوا: فقد أوجب الله عزَّ وجلَّ – في هذه الآية – على الناس جميعا الرجال والنساء: حج بيته، وعلق وجوب ذلك على استطاعة السبيل – وهو الزاد والراحلة – فمن وجدها فقد استطاع إليه سبيلا، ومن حاله كذلك: وجب عليه أداء الحج رجلا كان، أو امرأة؛ فتخرج المرأة للحج إذا وجدت الزاد والراحلة ولو من غير محرم لتؤدي ما وجب عليها.
2 – حديث عدى بن حاتم [212] - رضي الله عنه – وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((فإن طالت بك حياة لترين الظعينة [213] ترتحل من الحيرة [214] حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحداً إلا الله... الحديث)). أخرجه البخاري [215]
قالوا: فقد أخبر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أن المرأة ستأمن على نفسها، وتخرج للحج من غير محرم، فدل ذلك على وجوب خروج المرأة للحج الواجب ولو من غير محرم إذا أمنت على نفسها.
2 – واستدلوا – أيضاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم – فيما رواه ابن عمر رضي الله عنهما -: ((لا تمنعوا اماء الله مساجد الله)) متفق عليه[216](/40)
قالوا: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن منع النساء من الخروج إلى المساجد – والنهي يقتضي التحريم – وأشرف المساجد وأولاها بذلك المسجد الحرام. فيجوز لها أن تخرج إليه من غير محرم، فإذا وجب عليها الحج: وجب أن تخرج إليه ولو من غير محرم.
4 – واستدلوا – أيضاً – بالقياس على وجوب انتقال المرأة إلى دار الإسلام إذا أسلمت في دار الحرب ولو من غير محرم قالوا: فكذلك يجوز لها إذا وجب عليها الحج أن تخرج إليه ولو من غير محرم.
والراجح – والله أعلم – هو القول الأول، وهو أن المحرم شرط في وجوب الحج على المرأة، ولا يجوز لها أن تحج من غير محرم.
وذلك لوضوح أدلته، وصراحتها في الدلالة على المراد مع صحتها متنا، وإسناداً، وأما أدلة القولين الآخرين فقد أجيب عنها بما يأتي:
1 – استدلال الحنفية بحديث ابن عباس رضي الله عنهما استدلال سليم فقد دل على وجوب المحرم في سفر المرأة للحج وأنه آكد من الجهاد. لكن ليس في الحديث ما يدل على تحديد مسافة لهذا السفر، بل هو مطلق في كل حج من غير تحديد مسافة.
2 – وأما استدلالهم بحديث ابن عمر فالجواب عنه: أن للحديث روايات أخر ومنها ما أخرجه مسلم [217] بلفظ ((مسيرة يوم)) وما أخرجه أبو داود [218] بلفظ ((مسيرة بريد)) [219]. وقد ورد فيها تحديد المسافة بيوم، وبليلة، وببريد، وهي كلها روايات صحيحة، فدل ذلك على أن المسافة غير معتبرة، وإنما هي أجوبة لحالات مختلفة من حيث المسافة. وفي جميعها وجب المحرم لخروج المرأة للحج فإذا ضم إليها الأحاديث المطلقة عن تحديد مسافة: دل ذلك على شمول جميع الحالات سواء كانت مسيرتها ثلاثة أيام، أو يوم، أو أقل من ذلك، وفي جميعها يجب المحرم لسفر المرأة.
ثم أن تحديد مسافة السفر بثلاثة أيام لم يرد به دليل شرعي. فتنصرف الأحاديث المطلقة إلى كل سفر، بل إن الروايات التي حددت بأقل من ذلك دليل على أن لا مسافة محددة للسفر، وإنما مرجع ذلك إلى العرف[220](/41)
والجواب عن أدلة القائلين بأن المحرم لا يشترط لوجوب الحج وأدائه على المرأة كما يأتي: -
1 – استدلالهم بالآية الكريمة: يجاب عنه بأن الآية الكريمة دلت على وجوب الحج على الرجال والنساء وجوباً عاماً، ثم نهي الشارع عن سفر المرأة من غير محرم وهو خاص بها، والخاص مقدم على العام، ويجاب عنه – أيضاً – بأن المحرم للمرأة من السبيل المذكور في الآية فلا يجب عليها الخروج إليه حتى تجد محرما.
2 – وأما حديث عدي بن حاتم فالجواب عنه: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أراد من ذلك بيان سعة الدولة الإسلامية وأمنها، وليس للدلالة على جواز سفر المرأة من غير محرم.
3 – وأما استدلالهم بحديث ابن عمر فالجواب عنه: أن الحديث دليل على جواز خروج المرأة للمسجد إذا لم يحتج إلى سفر. وأما إذا احتاج إلى سفر فإنه لا يجوز لها ذلك من غير محرم بدليل الأحاديث الصحيحة الصريحة – التي استدل بها أهل القول الأول – في النهي عن السفر مطلقا من غير محرم.
4 – وأما استدلالهم بالقياس على من أسلمت في دار الحرب. فالجواب عنه من وجهين: الأول: أن السفر إلى الحج أصل بنفسه لا يقاس على غيره لورود الدليل الصحيح الصريح في النهي عن الحج من غير محرم فقد ورد في النهي عن السفر إليه من غير محرم حديث ابن عباس وغيره.
الثاني: لو سلمنا بجواز القياس، فإنه قياس مع الفارق، لأن المهاجرة تسافر هربا بنفسها من الفتنة – الذي لأجله شرع المحرم. وأما المسافرة للحج فإنها تسافر من الأمان، وتعرض نفسها للفتنة لهذا فالقياس غير صحيح لوجود الفارق.(/42)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى – في كتابه شرح العمدة [221]: - بعد أن ذكر أدلة القائلين بجواز خروجها من غير محرم – فاشتراط ما اشترطه الله ورسوله أحق وأوثق، وحكمته ظاهرة فإن النساء لحم على وضم إلا ما ذب عنه والمرأة معرضة في سفرها للصعود والنزول والبروز محتاجة إلى من يعالجها، ويمس بدنها، تحتاج هي، ومن معها من النساء إلى قيم يقوم عليهن، وغير المحرم لا يؤمن ولو كان أتقى الناس، فإن القلوب سريعة التقلب، والشيطان بالمرصاد. أ.هـ.
أثر وفاة محرم المرأة في أداء النسك
إذا سافرت المرأة للحج، أو العمرة، ثم توفي محرمها أثناء السفر، فلا يخلو الأمر من أحدى حالتين: -
الحالة الأولى: أن يكون المحرم الذي توفي زوجها، وفي هذه الحالة يرجع حكم هذه المسألة إلى مسألة: حكم حج المعتدة من وفاة. وقد سبقت.
ومجمل البحث فيها: أنه إن أمكنها أن تأتي بالعدة في المكان الذي توفي فيه زوجها، ثم تكمل النسك بعد ذلك لزمها ذلك.
وأن لم يمكنها الأتيان بهما جميعا، لضيق الوقت، فلا يخلو الحال، إما أن تكون أحرمت بالنسك أولا.
فإن كانت قد أحرمت بالنسك، فإنها تكمل نسكها، ولا يجوز لها التحلل قبل إكماله كما هو القول الراجح في هذه المسألة[222]
وإن لم تكن أحرمت بالنسك، فإنها تجلس للعدة إن كان المكان الذي توفي فيه زوجها يصلح للإعتداد به، وإلا انتقلت عنه إلى اقرب مكان يمكنها الاعتداد فيه.
وأما إذا كان المحرم غير الزوج: فلا يخلو إما أن تكون الزوجة قد أحرمت، ولم تحرم، فإن كانت أحرمت قبل الوفاة، فقد أختلف العلماء فيه على قولين :
القول الأول: أنها تكمل حجمها، ولا تصير في حكم المحصرة – فتحلل منه قبل الإتمام – وهذا قول المالكية، والحنابلة، وللشافعية في حج التطوع خاصة[223]
قالوا: لأنها لا تستفيد بالتحلل زوال ما بها كالمريض[224](/43)
القول الثاني: إنها أن كانت دون مسافة القصر من بلدها وبينها وبين مكة أكثر من مسافة القصر فإنها تصير كالمحصرة تتحلل وتبعث بدم إلى الحرم. أما إن كانت على أكثر من مسافة القصر من بلدها فإنها تتم ما أحرمت به، وهو قول الحنفية[225]
قالوا: لأنها ممنوعة شرعاً من المضي في موجب الإحرام بلا زوج ولا محرم [226].
فإن كانت بينها وبين مكة أقل من مسافة القصر، أو كان بينها وبين بلدها أكثر من مسافة القصر وبينها وبين مكة أقل أو أكثر فإنها تمضي في حجها وتتم ما أحرمت به.
ولعل العلة في ذلك: أنها تحتاج في العودة إلى إنشاء سفر فاستوى الأمران في إنشاء السفر، وتأكد المضي بالإحرام، وقد عللوا بمثل ذلك في مسألة وفاة الزوج بعد سفرها[227]
والراجح – والله أعلم – القول الأول: لأن الله – عزَّ وجلَّ – أمر بإتمام النسك – بعد الشروع فيه. في قوله تعالى: { وَأَتِمُّوْا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للهِ } الآية [228].
ولأنها لم تمنع من إتمام نسكها بعدو، أو مرض يمنعها فيجوز لها التحلل، ولأنها لو تحللت لم يزل ما بها.
وإن مات محرمها قبل أن تحرم فقد نص فقهاء المالكية والشافعية – في حج التطوع – والحنابلة أنها إن بعدت – أي تجاوزت مسافة القصر عند كل منهم – خيرت بين المضي، والرجوع؛ لأنها تحتاج في كل منهما إلى سفر، وليس أحدهما بأولى من الآخر، وإن لم تكن بعدت لزمها الرجوع، لأنها لا تحتاج في عودتها إلى إنشاء سفر[229].
ويفهم عن الحنفية مثل قول الجمهور من نصهم على مسألة وفاة الزوج ومن تحديدهم لمسافة السفر[230]
الفصل الثاني
اثر الحجاب والستر في ملابس الإحرام
إذا أحرم الرجل بحج، أو عمرة حرم عليه لبس المخيط، وتغطية رأسه، ليظهر متجرداً من مظاهر الزينة، لابساً ما يشبه ملابس الموتى؛ إزاراً، ورداءً ليكون ذلك أدعى لرقة قلبه، وتأثره بهذا المنسك العظيم، وليظهر الحجاج – الذكور – بمظهر واحد متعبدين بذلك لله عزَّ وجلَّ.(/44)
أخرج الإمام [231] أحمد بسنده إلى ابن عمر رضي الله عنهما أن رجلاً نادى، فقال: يا رسول الله ما يجتنب المحرم من الثياب، فقال: ((لا يلبس السراويل، ولا القميص، ولا البرنس، ولا العمامة، ولا ثوباً مسه زعفران ولا ورس، وليحرم أحدكم في ازار ورداء ونعلين... الحديث)).
وأخرج البخاري وغيره بسنده إلى ابن عمر رضي الله عنهما قال: قام رجل فقال: يا رسول الله ما يلبس المحرم من الثياب؟، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يلبس القمص،
ولا العمائم، ولا السراويلات، ولا البرانس، ولا الخفاف إلا أحد لا يجد نعلين فليلبس خفين وليقطعهما أسفل من الكعبين، ولا تلبسوا من الثياب شيئاً مسه زعفران أو ورس)).[232]
فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم المحرم الذكر: عن لبس القميص والسراويلات مما خيط لستر البدن كله أو بعضه ونهاه عن تغطية رأسه بالعمامة والبرنس وما أشبه ذلك.
وأما المرأة المحرمة: فلم تؤمر بذلك خوفاً عليها من التكشف، وظهور العورة، ولأنه يلحقها عنت ومشقة لو أمرت بلباس الرجل في الإحرام مع أمرها بالتستر والحجاب.
ولهذا فإن المرأة تحرم فيما شاءت من الثياب الساترة، ولا تنهى إلا عن ثياب الزينة، أو ما تشابه فيه الرجال، كما تنهى عن البرقع على وجهها، والقفازين في يديها.(/45)
جاء في كتاب بدائع الصنائع: ولا بأس أن تغطي المرأة سائر جسدها وهي محرمة بما شاءت من الثياب المخيطة وغيرها، وأن تلبس الخفين غير أنها لا تغطي وجهها، أما سائر بدنها فلأن بدنها عورة، وستر العورة بما ليس بمخيط متعذر، فدعت الضرورة إلى لبس المخيط، وأما كشف وجهها فلما روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إحرام المرأة في وجهها)) [233] وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ((كان الركبان يمرون بنا ونحن محرمات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا حاذونا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها، فإذا جاوزنا رفعنا)) [234] فدل الحديث على أنه ليس للمرأة أن تغطي وجهها، وأنها لو أسدلت على وجهها شيئاً وجافته عنه فلا بأس بذلك. أ.هـ [235]
وفي كتاب الكافي لابن عبد البر: والمرأة تلبس ما شاءت من الثياب غير القفازين والبرقع والنقاب، ولا تغطي وجهها، وإحرامها في وجهها وكفيها، ولا بأس بسدل ثوبها على وجهها لتستره من غيرها، ولتسدله من فوق رأسها ولا ترفعه من تحت ذقنها، ولا تشده على رأسها بإبرة ولا غيرها[236]
وفي كتاب المجموع: أما المرأة فالوجه في حقها كرأس الرجل فيحرم ستره بكل ساتر.. ويجوز لها ستر رأسها وسائر بدنها بالمخيط وغيره كالقميص، والخف والسراويل، وتستر من الوجه القدر اليسير الذي يلي الرأس، لأن ستر الرأس واجب لكونه عورة، ولا يمكن استيعابه إلا بذلك. قال أصحابنا: والمحافظة على ستر الرأس بكماله – لكونه عورة – أولى من المحافظة على كشف – ذلك الجزء من الوجه.
قال أصحابنا: ولها أن تسدل على وجهها ثوباً متجافياً عنه بخشبة ونحوها سواء فعلته لحاجة كحر أو برد، أو خوف فتنة، أم لغير حاجة، فإن وقعت الخشبة فأصاب الثوب بغير اختيارها ورفعته في الحال فلا فدية، وإن كان عمداً، أو استدامته لزمها الفدية، وهل يحرم عليها لبس القفازين فيه قولان مشهوران[237] أ هـ(/46)
وفي كتاب شرح العمدة: لا يحرم عليها لبس المخيط، ولا تخمير الرأس، فلها أن تلبس الخفين والقميص لما تقدم؛ وذلك لأنها محتاجة إلى ستر ذلك لأنها عورة، ولا يحصل ستره في العادة إلا ما صنع على قدره. ولو كلفت الستر بغير المخيط لشق عليها مشقة شديدة. ولما كان الستر واجباً، وهو مصلحة عامة لم يكن محظوراً في الإحرام، وسقط عنهن التجرد.
الفصل الثالث
إن إحرامها في وجهها؛ فلا يجوز لها أن تلبس النقاب والبرقع وهذا إجماع
قال أصحابنا: وستر رأسها واجب... فإن احتاجت إلى ستر الوجه. مثل أن يمر بها الرجال وتخاف أن يرووا وجهها، فإنها ترسل من فوق رأسها على وجهها ثوبا [238]. أ. هـ
وبما سبق يتبين إجماع [239] العلماء على أن المشروع في حق المرأة: أن تلبس في إحرامها المخيط الساتر لبدنها، وأنه يجب عليها تغطية رأسها، كما يجب عليها كشف وجهها ويديها إلا في حال الحاجة إلى ستر الوجه فإن ذلك جائز لها، وفي حال مرور الرجال الأجانب بقربها فإنه يجب عليها ذلك لستر عورتها كما فعلته أمهات المؤمنين رضي الله عنهن، وغيرهن المبين في حديث [240] عائشة: ((كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم محرمات فإذا حاذوا بنا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها فإذا جاوزونا كشفناه)).
ويكون ستر الوجه بسدل الجلباب من فوق كما في الحديث، وهو ما نص عليه الفقهاء كما سبق.
أما قول الشافعية رحمهم الله: بأنها تجافي الجلباب عن وجهها بخشبة أو نحوها، وأنها إذا سقطت الخشبة وتركتها متعمدة وجب عليها الفدية فلا دليل عليه، بل الدليل على خلافه حيث لم تذكر عائشة رضي الله عنها أنهن كن يجافين الجلباب بخشبة ولا غيرها، وفي اشتراط مثل ذلك مشقة وعنت لا يناسب التكليف بالستر والحجاب.(/47)
يقول سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز في كتابه التحقيق والإيضاح: يباح لها سدل خمارها على وجهها إذا احتاجت إلى ذلك بلا عصابة، وإن مس الخمار وجهها فلا شيء عليها لحديث عائشة رضي الله عنها... إلى أن قال: ويجب عليها تغطية وجهها وكفيها إذا كانت بحضرة الرجال الأجانب لأنها عورة لقول الله سبحانه وتعالى:
{وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ} الآية[241]
ولا ريب أن الوجه والكفين من أعظم الزينة والوجه في ذلك أشد وأعظم.. وأما ما اعتاده كثير من النساء من جعل عصابة تحت الخمار لترفعه عن وجهها فلا أصل له في الشرع فيما نعلم، ولو كان مشروعا لبينه الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته، ولم يجز له السكوت عنه. أ هـ [242]
ومن مسائل اللباس التي اختلفوا فيها المباحث الآتية:
المبحث الأول: حكم تغطية المحرمة وجهها.
المبحث الثاني: حكم طواف المرأة غير المحرمة بالنقاب والبرقع.
المبحث الثالث: حكم لباس القفازين للمرأة المحرمة.
المبحث الرابع: حكم الحلي ولباس الزينة في الإحرام.
المبحث الخامس: حكم الحناء والاختضاب في الإحرام.
مسألة: ستر المرأة وجهها بالحناء وما أشبه.
المبحث الأول: حكم تغطية المحرمة وجهها:
اتفق العلماء [243] على أنه لا يجوز للمرأة المحرمة أن تتنقب [244]، أو تتبرقع [245]، وتلزمها الفدية إذا غطته لغير ستره عن الرجال الأجانب، إلا أن الشافعية، ساووا بين البرقع والنقاب، وغيرهما من الأغطية للوجه؛ فمنعوها جميعاً، أما غيرهم فيرون جواز تغطية الوجه – عند الحاجة – بسدل جلبابها من رأسها على وجهها لما سبق بيانه.
واستدلوا بما يأتي:
1 – قول الرسول صلى الله عليه وسلم- في حديث ابن عمر رضي الله عنهما – لما سئل عن لباس الإحرام: ((ولا تنتقب المرأة، ولا تلبس القفازين)) رواه الإمام أحمد والبخاري وغيرهما[246](/48)
2 – حديث ابن عمر رضي الله عنها ((أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى النساء في إحرامهن عن النقاب، وليلبسن بعد ذلك ما أحببن من ألوان الثياب معصفراً، أو خزاً، أو حلياً، أو سراويل، أو قميصاً، أو خفاً)). رواه الإمام أحمد وأبو داود[247]
قال الإمام أحمد – رحمه الله – إحرام المرأة في وجهها. لا تتنقب، ولا تتبرقع، وتسدل الثوب على رأسها من فوق أ.هـ[248].
وبالنظر في هذين النصين الصحيحين الصريحين، يتبين أنه لا يجوز للمرأة المحرمة لبس النقاب والبرقع، فإن احتاجت إلى تغطية الوجه؛ لستره عن الرجال الأجانب فإنها تغطية من جلبابها، فتسدله عليه من رأسها كما فعلت عائشة رضي الله عنها، وغيرها من نساء المسلمين وهن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم محرمات ((كان الركبان يمرون بنا ونحن محرمات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا حاذونا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها، فإذا جاوزنا كشفناه)). أخرجه الإمام أحمد، وأبو داود، والحاكم وصححه[249]
وأخرج البيهقي [250] بسند صحيح [251] من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: ((المحرمة تلبس من الثياب ما شاءت إلا ثوبا مسه ورس أو زعفران، ولا تتبرقع ولا تتلثم، وتسدل الثوب على وجهها إن شاءت)).
المبحث الثاني: حكم طواف المرأة غير المحرمة بالنقاب والبرقع:
إذا كانت المرأة غير محرمة، وأرادت الطواف بالبيت واجباً كان، أو تطوعاً، فقد اختلف العلماء في حكم لبسها للنقاب، والبرقع على قولين:
القول الأول: يباح للمرأة الطواف إذا لم تكن محرمة، وهي متنقبة، أو متبرقعة. وهذا قول الحنابلة، ولم أر عن الحنفية، والمالكية، ما يعارضه[252]
واستدلوا بما يأتي:
1 – فعل عائشة رضي الله عنها فقد طافت وهي منتقبة[253]
القول الثاني: يكره للمرأة غير المحرمة أن تطوف وهي منتقبة. وهذا قول الشافعية[254]
واستدلوا: بالقياس على الصلاة، قالوا: كما يكره لها أن تصلي وهي منتقبة فكذلك يكره أن تطوف وهي منتقبة.(/49)
والراجح – والله أعلم – القول الأول، وأنه لا بأس بطواف المرأة غير المحرمة وعليها نقاب، أو برقع، ويجاب عن قول الشافعية بأن العمل بفعل الصحابة أولى من القياس[255] وبخاصة إذا لم ينقل عن غيرهم خلافهم، فيكون كالإجماع، فقد كان عطاء [256] - رحمة الله – يكره لغير المحرمة أن تطوف منتقبة، ولما بلغه أن عائشة رضي الله عنها طافت وهي منتقبة رجع عن قوله؛ وأخذ بفعل عائشة رضي الله عنها.
المبحث الثالث: حكم لبس القفازين للمرأة المحرمة:
اختلف العلماء في حكم لبس القفازين للمرأة المحرمة على قولين:
القول الأول: يحرم على المرأة المحرمة لبس القفازين، وتلزمها الفدية بلبسهما، وهو قول المالكية، والحنابلة، والصحيح من قولي الشافعية [257]
واستدلوا بما يأتي:
1 - حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قام رجل فقال يا رسول الله: ماذا تأمرنا أن نلبس من الثياب في الإحرام ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم ((لا تلبسوا القميص، ولا السراويلات، ولا العمائم، ولا البرانس إلا أن يكون أحد ليست له نعلان فليلبس الخفين، وليقطعهما أسفل من الكعبين. ولا تلبسوا شيئا مسه الزعفران والورس، ولا تنتقب المرأة المحرمة، ولا تلبس القفازين)) أخرجه الإمام أحمد والبخاري وغيرهما[258]
وجه الاستدلال: ((أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى المرأة أن تلبس القفازين والنهي للتحريم. وهو نهي معطوف على الانتقاب، والانتقاب مجمع على تحريمه فيساويه في الحرمة.
2 – ولأن المحرم لا يلبس شيئاً من اللباس المصنوع للبدن إلا ما دعت إليه الحاجة كبدن المرأة، ولا حاجة بها إلى ستر يديها بذلك حيث يمكن سترهما بالكم ونحوه[259]
القول الثاني: أنه لا يحرم على المرأة المحرمة لبس القفازين، ولا فدية عليها بلبسهما؛ وهو قول الحنفية وقول في مذهب الشافعية[260]
واستدلوا بما يأتي:
1 – ما روي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه ((أنه كان يلبس بناته وهن محرمات القفازين))[261].(/50)
2 – ما روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال ((إحرام المرأة في وجهها)). [262] فمكان الإحرام الذي يمنع تغطيته الوجه دون الكفين.
3 – ولأنه يجوز لها بالإجماع تغطيتهما بكمها، ولحافها، وما أشبه ذلك مما لم يصنع لليدين، فكذلك ما يصنع لهما لاشتراكهما في التغطية.
والراجح – والله أعلم – القول الأول.
وذلك لصراحة أدلته، وقوتها في الدلالة على تحريم لبس القفازين، وما اشبههما مما صنع لتغطية اليدين.
والجواب عن أدلة أهل القول الثاني كما يأتي:
1 – الأثر عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه يعارضه ما روي عن عائشة رضي الله عنها، وعن علي، وابن عمر رضي الله عنهم من النهي عن لبس القفازين [263] فينبغي الحكم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم الصريح في النهي عن ذلك.
2 – وأما استدلالهم بقوله عليه الصلاة والسلام ((إحرام المرأة في وجهها)) على تخصيص المنع بالتغطية بالوجه دون الكفين.
فالجواب عنه: أن الحديث ضعيف كما سبق بيانه، وعلى فرض صحته يقال: قولهم: إحرام المرأة في وجهها صحيح في تخصيص المنع من التغطية للوجه إذا كان الغطاء لليدين بالكم واللحاف. أما تغطية اليدين بالقفازين فذلك منهي عنه – أيضاً – في حديث صحيح صريح.[264]
3 – قياسهم التغطية بالقفازين على التغطية بغيرهما غير صحيح لوجود الفارق وهو النهي في أحدهما دون الآخر. فيبقى المنهي عنه محرما دون غيره.
المبحث الرابع: حكم الحلي ولباس الزينة في الإحرام:
يباح للمرأة المحرمة لباس الحلي، وأدوات الزينة، وما أشبه ذلك مما لا طيب فيه إذا لم تتعرض للرجال الأجانب، ولم تختلط بهم؛ [265] وذلك لحديث ابن عمر رضي الله عنهما ((أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم ينهي النساء في إحرامهن عن القفازين والنقاب. وما مس الورس والزعفران من الثياب، ولتلبس بعد ذلك ما شاءت من ألوان الثياب من معصفر، أو خز، أو حلي، أو سراويل، أو قميص، أو خف)) رواه أبو داود[266](/51)
وينبغي عليها حفظ هذه الزينة عن الرجال الأجانب، وسترها عن أنظارهم امتثالاً لقول الله عزَّ وجلَّ:
{ وَلاَ يُبْدِيْنَ زِيْنَتِهِنَّ إِلاَّ لِبُعُوْلَتِهِنَّ }. الآية [267]
المبحث الخامس: حكم الحناء والاختصاب في الإحرام:
الحناء والاختصاب به في اليدين والرجلين من زينة النساء، وقد اختلف العلماء في حكمه لهن حال الإحرام على قولين:
القول الأول: أن ذلك مستحب للمرأة عند إحرامها وهو قول الشافعية، والحنابلة[268]
واستدلوا بما يأتي:
1 – قول ابن عمر رضي الله عنهما ((من السنة أن تدلك المرأة يديها في حناء)) [269]. وإذا قال الصحابي من السنة كذا: فهو في حكم المرفوع، [270] فدل ذلك على استحباب الحناء والاختضاب به عند الإحرام.
2 – ما روي عكرمة [271] قال ((كانت عائشة وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم يختضبن بالحناء وهن حرم)) [272]فدل ذلك على أن الاختضاب بالحناء عند الإحرام مشروع للمرأة.
3 – ولأن الحناء من زينة النساء، فاستحب عند الإحرام كالطيب وترجيب الشعر.
القول الثاني: أنه لا يجوز للمرأة المحرمة أن تختضب بالحناء، فإن اختضبت فعليها دم وهو قول الحنفية، والمالكية[273]
واستدلوا بما يأتي:
1 – أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى المعتدة أن تختضب بالحناء، وقال ((الحناء طيب)). رواه البيهقي وغيره[274]
2 – ولأن له رائحة مستلذة فكان طيبا.
والراجح – والله أعلم – أن الحناء من الزينة المشروعة للنساء في كل وقت، ولا يختض بالإحرام فإن اختضبت للإحرام فلا حرج من استدامته أثناء الإحرام إلا أنها لا تظهر هذه الزينة للرجال، وإن أرادت الاختضاب حال الإحرام بما ليس فيه طيب فلا حرج أيضاً، والله أعلم.(/52)
وحيث تبين ضعف الأحاديث والآثار التي استدل بها أهل القولين فإن المعول عليه هنا على دليل آخر وهو ما ورد في المسألة قبلها؛ حيث لا حرج على المرأة أن تحرم فيما شاءت من اللباس والزينة إلا ما استثناه الشارع مع حفظ هذه الزينة عن الرجال الأجانب.
مسألة: حكم ستر المرأة وجهها بالحناء وما اشبهه:
ومما يلحق بالمسألة السابقة قول بعض الشافعية: يستحب للمرأة عند الإحرام أن تدلك وجهها بالحناء لتستره به عن الرجال الأجانب.
قال النووي في المجموع: قال أصحابنا: ويستحب للمرأة عند الإحرام أن تمسح وجهها – أيضاً - بشيء من الحناء؛ قال والحكمة في ذلك، وفي خضاب كفها أن تستر لون البشرة، لأنها تؤمر بكشف الوجه. وقد ينكشف الكفان – أيضاً – أ. هـ [275]
وفي موضع آخر قال – في سياق ذكر ما تخالف فيه المرأة الرجل في المناسك -: السابع: وهو أنه يستحب لها مس وجهها عند إرادة الإحرام بشيء من الحناء لتستر بشرته عن الأعين. أ هـ.
ولم يذكر الإمام النووي – رحمه الله – دليلاً لذلك، وإنما اكتفي بما ذكره من علة الستر، وقد علمنا فيما سبق أن الستر إنما يكون بالحجاب كما في حديث عائشة رضي الله عنها السابق ((كان الركبان يمرون بنا ونحن محرمات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا حاذونا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها فإذا جاوزونا كشفناه)) أخرجه الإمام أحمد وأبو داود وغيرهما[276]
فهذا الحديث: دليل على وجوب ستر الوجه من الرجال الأجانب، وأنه يستر بالحجاب لا بالحناء؛ لأن الحناء وما أشبهه من الأصباغ التي توضع على الوجه تزيد الوجه جمالاً، وربما تشوهه ولا تستره وكلاهما غير مشروع، إذ المشروع ما في حديث عائشة رضي الله عنها والله أعلم.
الفصل الرابع
أثر الحجاب والستر في سنن الأقوال(/53)
يشرع للحاج، والمعتمر رجلاً كان، أو امرأة سنن أقوال يتلفظ بها؛ سواء كانت هذه السنن من سنن الإحرام كالتلبية، أو من سنن الطواف كالتكبير عند محاذاة الحجر، والدعاء فيه، أو من سنن السعي، أو الوقوف بعرفة ومزدلفة.
ويشرع للرجل رفع الصوت في بعضها، ولا حرج أن يسمع غيره في البعض الآخر. أما المراة فإنه لا يشرع لها رفع الصوت في شيء منها، ولا أن تسمع الرجال في البعض الآخر. والسنة التي يشرع للرجال فيها رفع الصوت: التلبية.
فإنه يشرع للحاج، والمعتمر رجلا كان أو امرأة الإكثار من التلبية عقب الإحرام. إلى أن يشرع في الطواف بالبيت في العمرة، أو يبدأ برمي جمرة العقبة في الحج، يلبى على كل أحواله؛ قاعداً، وقائماً، ومضطجعاً، وسائراً، ونازلاً، وطاهراً، ومحدثاً إلى غير ذلك من الأحوال.
وذلك لحديث السائب [277] بن خلاد: ((أن جبريل عليه السلام أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كن عجاجاً ثجاجاً)) ((والعج التلبية، والثج نحر البدن)) أخرجه الإمام أحمد في مسنده[278]
ولحديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل أي الأعمال أفضل ؟ قال: العج والثج)) أخرجه الترمذي، وابن ماجة والحاكم وصححه.[279]
وقد اتفق الأئمة الأربعة على ذلك[280]
والسنة في التلبية للرجال رفع الصوت بها؛ فهي شعار الحاج والمعتمر فشرع له إظهاره، وذلك لحديث السائب بن خلاد قال قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أتاني جبريل عليه السلام، فقال مر أصحابك فليرفعوا أصواتهم بالإهلال)).
وفي رواية ((فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال)) أخرجه الإمام أحمد وأصحاب السنن[281]. ويرفع صوته حسب طاقته، وهذا متفق عليه أيضاً[282]
أما النساء: فالمشروع في حقهن الإسرار فيها؛ بقدر ما تسمع نفسها، وجارتها، ولا يجوز لها رفع الصوت بالتلبية، ولا غيرها من الأدعية والأذكار، لأن صوتها مظنة الافتتان بها وقد سد الشارع كل ما يوصل إلى الفتنة.(/54)
قال الإمام أحمد – رحمه الله – تجهر المرأة بالتلبية ما تسمع زميلتها[283]
ودليل ذلك:
1 – قول سليمان [284] بن يسار: ((السنة عندهم أن المرأة لا ترفع صوتها بالإهلال)) رواه سعيد بن منصور[285]
وهذا الأمر أعنى مشروعية خفض المرأة صوتها بالتلبية مما اتفق عليه الأئمة الأربعة.[286]
وإذا كان يشرع للمرأة خفض صوتها فيما يشرع للرجال رفع الصوت فيه: فأن يشرع لها الخفض أيضاً فيما لا يشرع للرجال الرفع فيه أولى؛ كالدعاء في الطواف، والسعي. وفي عرفة ومزدلفة وعند رمي الجمار.
إذا عرفت هذا: عرفت أن ما يفعله كثير من النساء؛ من رفع أصواتهن بالتلبية أو التكبير – وهن بحضرة الرجال الأجانب، وكذا رفع الأصوات في الدعاء أثناء الطواف بالبيت الحرام، أو في المشاعر: أن كل هذا مخالف للسنة التي نقلها لنا التابعي الفقيه سليمان بن يسار رضي الله عنه في قوله السابق. السنة عندهم – أي عند الصحابة رضوان الله تعالى – عليهم أن لا ترفع المرأة صوتها بالإهلال.
وإذا كانت لا ترفع صوتها بالإهلال مع أنها قد تكون بعيدة عن الرجال ومع أنه سنة في حق الرجال، فإنه أولى بها أن لا ترفع صوتها في الدعاء، والذكر في المسجد الحرام، وفي عرفات، والمزدلفة، ومنى، وفي المسجد النبوي فإن ذلك من تمام عبادتها، ومن عوامل قبول هذه العبادة، والثواب عليها، والانتفاع بها.
فعلى المسلمة أن تتحرى في حجها، وعمرتها، وفي جميع عباداتها هدى المصطفى صلى الله عليه وسلم لنساء أمته، فقد تركنا عليه الصلاة والسلام على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.
الفصل الرابع
أثر الحجاب والستر في سنن الأفعال
وهذه السنن هي:
1 – الرمل والاضطباع في طواف القدوم.
2 – الطواف في حاشية المطاف.
3 – استلام الركن اليماني وتقبيل الحجر الأسود.
4 – سنن السعي.
5 – الركوب أثناء الوقوف بعرفة.
6 – ذبح الحاج هديه بنفسه.
الفصل الرابع
أثر الحجاب والستر في سنن الأفعال(/55)
تخالف المرأة الرجل في بعض سنن الأفعال في المناسك فما كان السنة فيه للرجال لا يناسب حجاب المرأة، وسترها: فإنه لا يشرع لها ذلك لمنافاته للستر والحجاب الذي أمرت به، فلا تؤمر به ويشرع لها ما ينافيه. وهذه السنن هي:
1 – الرمل والاضطباع في طواف القدوم.
2 – الطواف في حاشية المطاف.
3 – استلام الركن اليماني وتقبيل الحجر الأسود.
4 – سنن السعي.
5 – الركوب أثناء الوقوف بعرفة.
6 – ذبح الحاج هديه بنفسه.
1 – الرمل والاضطباع في طواف القدوم:
يشرع للحاج، والمعتمر إذا كان رجلاً أن يرمل[287] في الأشواط الثلاثة الأولى من الحجر الأسود إلى الركن اليماني في طواف القدوم. وأن يضطبع[288] في هذا الطواف – أيضاً -.
وقد دل على مشروعية ذلك في حق الرجال أدلة كثيرة منها:
حديث ابن عباس رضي الله عنهما: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم اضطبع فاستلم وكبر، ثم رمل ثلاثة أطواف، وكانوا إذا بلغوا الركن اليماني وتغيبوا من قريش مشوا، ثم يطلعون عليهم يرملون، تقول قريش كأنهم الغزلان)).
قال ابن عباس: ((فكانت سنة)) أخرجه أبو داود[289]
وهاتان السنتان: الرمل، والاضطباع خاصتان بالذكور دون الإناث؛ فلا يشرع للمرأة في حجها، وعمرتها رمل، ولا اضطباع، بل لا يجوز لها ذلك لمنافاته للستر، والحجاب، ولأن الرمل، والاضطباع لإظهار الجلد والقوة، والمرأة ليست من أهل القتال لتظهر الجلاة من نفسها،
وقد اتفق العلماء رحمهم الله على ذلك[290]
قال ابن المنذر في كتابه الإجماع: وأجمعوا أن لا رمل على النساء حول البيت، ولا في السعي بين الصفا والمروة[291]
وقال النووي في المجموع: الرمل، والاضطباع يشرعان للرجال دونها – أي المرأة – قال الماوردي: هي منهية عنهما، بل تمشي على هيئتها وتستر جميع بدنها [292]. أ هـ
2- الطواف في حاشية المطاف:
السنة للمرأة: أن تطوف بالبيت في حاشية المطاف، وأن لا تدنوا من البيت وتزاحم الرجال.(/56)
وذلك لأن الصفوف المتأخرة أفضل في حق المرأة من الصفوف المتقدمة في حالة الصلاة، فكذلك الطواف.
ودليل الأصل حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((خير صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها..)) أخرجه مسلم في صحيحه[293]
ولأن حاشية المطاف أبعد لها عن مزاحمة الرجال، ومخالطتهم.
فإن كان المطاف خالياً من الرجال، فإن القرب من البيت في هذه الحالة أولى لتتمكن من استلام الركنين، وتقبل الحجر الأسود.
وكذا يستحب لها اختيار الأوقات التي يقل ازدحام الرجال فيها ما أمكنها ذلك. حتى لا تتعرض لمزاحمتهم، والاحتكاك بهم، لأن ذلك مظنة الافتتان بها[294]
3- استلام الركن اليماني، وتقبيل الحجر الأسود:
ومن السنن الفعلية في الحج – والعمرة، استلام الركن اليماني، وتقبيل الحجر الأسود، أو استلامه باليد، أو الإشارة إليه أثناء الطواف في كل شوط من أشواطه. وهو سنة في حق الرجال، والنساء.
ومن الأدلة على مشروعية ذلك:
1 - حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: ((لم أر النبي صلى الله عليه وسلم، يمس من الأركان إلا اليمانيين)).
وفي لفظ ((إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يستلم إلا الحجر والركن اليماني)) متفق عليه[295].
2 – حديث زيد[296] بن أسلم عن أبيه[297] قال: ((رأيت عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – قبل الحجر الأسود وقال: لولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلك ما قبلتك)). متفق عليه[298].
إلا أن هذه السنة: إنما تشرع في حق النساء إذا كان العمل بها لا يؤدي إلى الاختلاط بالرجال، ومزاحمتهم، وملامستهم لبدنها.
فإن كان في المطاف رجال، ولا يمكن التقبيل والاستلام إلا بمزاحمتهم والاحتكاك بهم، وملامستهم فإنه لا يشرع لها ذلك، بل يشرع له صون بدنها عن ملامسة الرجال الأجانب، وحفظه عن التكشف، وظهور شيء من بدنها؛ لأنه عورة، وقد يؤدي إلى الافتتان به.(/57)
جاء في كتاب المبسوط للسرخسي: وكذلك – أي مما تمنع منه المرأة – لا تستلم الحجر إذا كان هناك جمع، لأنها ممنوعة من ملامسة الرجال، والزحمة معهم، فلا تستلم الحجر إلا إذا وجدت ذلك الموضع خالياً عن الرجال[299] أ هـ.
وقال النووي في المجموع: فرع: قال أصحابنا: لا يستحب للنساء تقبيل الحجر الأسود، ولا استلامه إلا عند خلو المطاف في الليل، أو غيره، لما فيه من ضررهن، وضرر الرجال بهن[300] أ هـ.
وقال ابن قدامة في المغنى: ولا يستحب لها مزاحمة الرجال لاستلام الحجر، لكن تشير بيدها إليه كالذي لا يمكنها الوصول إليه، كما روى عطاء[301] قال: ((كانت عائشة تطوف حجزة [302] من النساء لا تخالطهم فقالت امرأة: انطلقي نستلم يا أم المؤمنين قالت: انطلقي عنك وأبت))[303]
وعمل أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها – وهي من كبار فقهاء الصحابة، وعلمائهم، وقد حجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، واعتمرت: دليل ظاهر على أن المرأة لا يجوز لها أن تعمل بالسنة إذا كان العمل بها يؤدي إلى ارتكاب محرم كمزاحمة الرجال، والاحتكاك بهم، وأن الواجب على كل مسلمة تؤدي الحج، أو العمرة: أن تتقي الله في ذلك، وأن تؤدي هذه العبادة على الوجه الشرعي الصحيح، مقتفية بذلك أثر أمهات المؤمنين اللاتي أخذن العلم والعمل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
4- سنن السعي الفعلية:
ومن السنن الفعلية في السعي بين الصفا والمروة للحاج والمعتمر: الرقي على الصفا، والمروة في كل شوك من أشواط السعي؛ فيرقى في جبل الصفا، وجبل المروة، حتى يرى البيت إن أمكنه ذلك.
ومن أدلة مشروعية ذلك:(/58)
حديث جابر بن عبد الله – في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم – وفيه: ((ثم خرج – أي النبي صلى الله عليه وسلم – من الباب إلى الصفاء، فلما دنا من الصفا قرأ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ}، أبدأ بما بدأ الله به، فرقى عليه حتى رأي البيت... إلى أن قال: حتى أتى المروة ففعل على المروة كما فعل على الصفا)) أخرجه مسلم[304]
والرقي على الصفا والمروة في السعي سنة في حق الرجال باتفاق العلماء[305]
أما النساء: فقد نص كثير من الفقهاء على أنه لا يشرع في حقهن صعود على الصفا والمروة، لأن في صعودهن تعرض للتكشف، وإظهار المفاتن، كما أن عليهن فيه مشقة.
والذي يظهر لي أن ذلك كان قبل تبليط المسعى، وجزء من الصفا والمروة، أما بعد ذلك: فإنه يمكن للمرأة الصعود على جزء من الصفا، والمروة، بحيث ترى البيت وهي في الصفا من غير مشقة [306] ولا تعرض للتكشف، وظهور المفاتن. فإذا أمكنها ذلك على هذه الصفة فإن الرقي على الصفا، والمروة يكون سنة في حقها كالرجال والله أعلم.
ومن السنن – للرجال -: شدة السعي بين العلمين [307] أثناء السعي.
ومن أدلة مشروعية هذه السنة:
حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا طاف بالبيت الطواف الأول خب ثلاثاً ومشي أربعاً، وكان يسعى ببطن المسيل إذا طاف بين الصفا والمروة... الحديث)) متفق عليه[308]
وهذه – السنة – خاصة بالرجال غير مشروعة للنساء؛ لأن في سعيهن في هذا الموضع – كالرجال – تعرض للتكشف، وظهور العورة، ويشق على المرأة، مع حشمتها وسترها، والمرأة مأمورة بالستر والحجاب بدليل قوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ}[309](/59)
وقوله تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ}.. الآية [310] .
ولا يمكنها المحافظة على هذا الواجب مع الإتيان بسنة السعي فيقدم الواجب على السنة، وهذا محل اتفاق بين العلماء[311]
قال ابن قدامة في المغني: قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أنه لا رمل على النساء حول البيت، ولا بين الصفا والمروة، وليس عليهن اضطباع؛ وذلك لأن الأصل فيهما إظهار الجلد، ولا يقصد ذلك في حق النساء، ولأن النساء يقصد فيهن الستر، وفي الرمل والاضطباع تعرض للتكشف. أ هـ [312]
وقد ذكر النووي – رحمه الله – في كتابه المجموع [313] وجها في مذهب الشافعية أن المرأة إن سعت ليلاً حال خلو المسعى: استحب لها السعي في موضع السعي كالرجل. لكن الصحيح في مذهب الشافعية هو ما ذكر أولاً. كما أشار إلى ذلك في المجموع فالمشروع في حقها المشي سواء سعت ليلاً، أو نهاراً خلا السعي أو لم يخل؛ لأنها عورة، وأمرها مبني على الستر، والمسعى ليس خاصا بها بل هو مكان عام لجميع المسلمين. والله أعلم.
5- الركوب أثناء الوقوف بعرفة:
ذهب أكثر العلماء؛ وهم المالكية والشافعية والحنابلة – إلى أن الركوب أثناء الوقوف بعرفات على الدابة، أو السيارة، وما أشبه ذلك سنة، لأن الركوب أجمع لأمر الإنسان، وأدعى لانقطاعه عما يشغله عن التفرغ لعبادة الوقف في عرفات[314]
ومن أدلة ذلك:
1 – حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: ((كنت ردف النبي صلى الله عليه وسلم بعرفات، فرفع يديه يدعو، فمالت به ناقته، فسقط خطامها [315] قال: فتناول الخطام بإحدى يديه وهو رافع يده الأخرى [316]))؛ أخرجه الإمام أحمد والنسائي.(/60)
والركوب سنة في حق الرجال، والنساء عند المالكية والحنابلة، فهم أطلقوا القول بأنه مستحب ولم يفرقوا بين الرجال والنساء.
وذهب الشافعية إلى أن سنة الركوب خاصة بالرجال، أما النساء فإنهن يقفن بعرفة جالسات على الأرض؛ لأنه أصون لهن وأستر.
وهذا هو الراجح – والله أعلم – فمتى كان وقوفها على حالة يكون أصون لها، واستر فهي أفضل من غيرها. لكن ذلك يختلف بحسب المركوب فإذا كانت راحلة عليها هودج خاص بالمرأة يكنها ويسترها، أو كانت راكبة على سيارة مستورة وما أشبه ذلك فهو أفضل، أما إن كان الركوب على قتب الدابة، أو سطح السيارة، وما أشبه ذلك مما يؤدي إلى ظهورها وتكشفها – فالجلوس أفضل في هذه الحالة والله أعلم.
6 – ذبح الحاج هديه بنفسه:
ومن السنن الفعلية – في حق الرجال – في الحج: أن يذبح الحاج هديه بنفسه؛ سواء كان الهدى واجباً، أو تطوعا، وذلك باتفاق الأئمة الأربعة.
ومن أدلة مشروعية ذلك:
حديث جابر بن عبد الله في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه ((ثم انصرف – أي النبي صلى الله عليه وسلم _ إلى المنحر، فنحر ثلاثاً وستين بيده، ثم أعطى علياً، فنحر ماغبر، وأشركه في هديه.. الحديث)) أخرجه مسلم[317]
أما المرأة: فلا يستحب لها ذلك، لأن ذلك قد يؤدي إلى تكشفها، وظهور العورة منها، وهي في مجمع عظيم، وموقف كريم فالحشمة والوقار والستر: جعل ذلك أمراً غير مطلوب منها وإنما توكل غيرها.
ودليل ذلك: حديث عائشة رضي الله عنها قال: ((خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لخمس بقين من ذي القعدة لا نرى إلا الحج، فلما دنونا من مكة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من لم يكن معه هدى إذا طاف وسعى بين الصفا، والمروة أن يحل قالت: فدخل علينا يوم النحر بلحم بقر فقلت ما هذا: قال: نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أزواجه)) أخرجه البخاري[318](/61)
بحيث ذبح رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أزواجه، ولم يحثهن على تولي ذلك بأنفسهن: فقد دل ذلك على أنه لا يستحب للمرأة أن تتولى ذبح هديها بنفسها، لمظنة التكشف، والاختلاط بالرجال، فإن تحقق ذلك فإنه لا يجوز لهن حينئذ نحر هديهن. والله أعلم.
وممن صرح بذلك من العلماء الشافعية، [319] ويفهم ذلك مما جاء في المدونة[320]
قلت: فهل يكره مالك للرجل أن ينحر هديه غيره ؟ قال: نعم كراهية شديدة، وكان يقول: لا ينحر هديه إلا هو بنفسه. أ هـ
حيث خص الكراهية بالرجل دون المرأة. والله أعلم.
الفصل الخامس
تقصير المرأة شعر رأسها
من الواجبات [321] - على النساء – في الحج، والعمرة التقصير من شعرهن؛ فإذا طافت – في العمرة – وسعت، قصرت، ثم حلت، وإذا كانت حاجة وجب عليها التقصير في يوم النحر، والسنة أن ترمي، ثم تنحر هديها، ثم تقصر، ثم تطوف طواف الإفاضة، وإذا فعلت اثنين من ثلاثة حلت التحلل الأول، فإذا فعلت الثلاثة حلت التحلل الآخر، والثلاثة هي: الرمي، والتقصير، والطواف.
وأما الرجال فالواجب في حقهم الحلق، أو التقصير، والحلق أفضل[322]
والحلق لا يشرع للنساء، بل المشروع في حقهن التقصير فقط وعبارات الفقهاء – في الحلق – تدور بين الكراهية، وعدم الجواز والتصريح بعدم الجواز أولى[323]
وقد استدلوا بما يأتي:
1 – حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس على النساء حلق إنما على النساء التقصير))[324]
2 – حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد)) متفق عليه[325]
وعموم هذا الحديث دليل على النهي عن حلق المرأة رأسها في النسك إذ العمل المأمور به التقصير[326]
3 – حديث ابن عباس رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((أنه لعن المتشبهات من النساء بالرجال، والمتشبهين من الرجال بالنساء)) أخرجه البخاري وأبو داود وغيرهما.[327](/62)
وفي اختيار المرأة للحلق، وترك التقصير المشروع لها: تشبه بالرجال فيما شرع لهم وندبوا إليه[328]
4 – حديث عائشة رضي الله عنها: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم – نهى المرأة أن تحلق رأسها)) أخرجه الترمذي[329]
كيفية تقصير المرأة رأسها:
تقصر المرأة من رأسها في الحج، والعمرة قدر أنملة[330] من جميع رأسها فإن كان مضفراً أخذت من كل ضفيرة هذا القدر وإلا يكن كذلك جمعته إلى مقدم رأسها، ثم أخذت منه قدر أنملة[331]
قال أبو داود [332]: سمعت أحمد سئل عن المرأة تقصر من كل رأسها قال: نعم تجمع شعرها إلى مقدم رأسها، ثم تأخذ من أطراف شعرها قدر أنملة.
وقال – أيضاً – قال أحمد: تأخذ من أطراف شعرها قدر أنملة. أ هـ
وقد سئل عمر رضي الله عنه كم تقصر المرأة ؟ فقال: مثل هذا، وأشار إلى أنملته.[333]
خاتمة البحث
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات. وأسأله حسن الخاتمة، وصلاح العاقبة، وأشكره سبحانه على ما يسر لي من بداية هذا البحث وختامه. وأصلى وأسلم على أشرف رسله وخاتم أنبيائه وعلى آله وصحابته أجمعين.
وبعد:
فإنه يتضح لقارئ هذا الموضوع، والباحث فيه. وفي امثاله من أركان الإسلام وشرائعه الأمور الآتية:
أولاً: أنه لا فرق بين الرجال، والنساء في أمور العقيدة، كالتوحيد والإيمان بالله سبحانه وتعالى. وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، وما يجب اعتقاده في كل ركن من هذه الأركان. وما يجب اعتقاده في أمور دار البرزخ، ودار الآخرة وما فيهما من الثواب والعقاب، فما يجب على الرجال يجب بعينه على النساء؛ لأنه لا أثر للفرق بين الرجال والنساء – في صفة الخلق، ووظائف الحياة – على القيام بالإيمان، وما يتبعه من أمور العقيدة.
ثانياً: أنه لا فرق بين الرجال والنساء في أصل العبادة، فكل من الرجال والنساء خلق لعبادة الله وحده لا شريك له، وقد خاطبهم الله جميعاً. يقول الله سبحانه وتعالى:(/63)
{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}[334]
ويقول سبحانه: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَاباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ}[335] .
ويشترط في قبول هذه العبادة – من الرجال والنساء – شرطان: الإخلاص لله – عزَّ وجلَّ – في هذه العبادة وحده دون سواه.
{وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}[336] .
والشرط الثاني: المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم في أداء هذه العبادة من غير زيادة أو نقصان. يقول الله سبحانه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}[337].
ثالثاً:أن الله عزَّ وجلَّ خلق هذين الجنسين وجعلهما يشتركان في بعض صفات الخلق ويختلفان في أخرى، وشرع لهما وظائف في هذه الحياة يشتركان في بعضها ويختلفان في أخرى، فلم يخلقا على صفة واحدة، ولم يكلفا بعمل واحد.
رابعاً: أن الله عزَّ وجلَّ شرع للنساء عبادات خاصة كالستر والحجاب، واشتراط المحرمية في السفر، وغيرها مما يساعدهن ويؤهلهن للقيام بوظائفهن. كما أن الله عزَّ وجلَّ خفف عنهن – مقابل ذلك – بعض العبادات التي تشق عليهن مع قيامهن بوظيفتهن؛ كالجهاد، وطواف الوداع، وقضاء الصلاة في فترة الحيض وغيرها.
خامساً: أن المرأة تختلف عن الرجل في بعض أحكام المناسك بسبب اختلافها عن الرجل في بعض صفات الخلق، ووظائف الحياة.(/64)
سادساً: أن المرأة لا تختلف عن الرجل في شيء من أركان الحج والعمرة – إلا الطواف الركن أثناء الحيض والنفاس فإنها تمنع منه؛ لأنه يمكن للمرأة أن تؤدي الأركان كما يؤديها الرجل بلا مشقة، ولا حرج وإنما تخالفه في بعض شروطهما وواجباتهما وسننهما.
سابعاً: أن واجبات الحج التي لا تخالف فيها المرأة الرجل: لا تسقط عنها؛ ولكنها تجب عليها بما لا يشق عليها، وبما لا ينافي ما أوجبه الله عليها من الستر والحجاب إلا طواف الوداع فإنه يسقط عنها حال الحيض والنفاس.
ثامناً: أن سنن الحج التي لا تتمكن المرأة من أدائها مع المحافظة على سترها وحجابها فإنها لا تشرع لها. بل قد تأثم بفعلها؛ لأن واجب الستر والحجاب مقدم على تلك السنن.
هذا والله أسأل أن ينفع بهذا البحث، وأن يثيب كاتبه، وقارئه، والمعين على نشره أنه سميع مجيب.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ونبيه محمد وعلى آله وصحبه أجميعن.
فهرس المراجع
وهي مرتبة بحسب حروف الهجاء
(أ)
- الإجماع: تأليف أبي بكر بن محمد بن المنذر (ت 318هـ) تحقيق أبو حماد صغير أحمد، الطبعة الأولى (1403هـ)، الناشر / دار طيبة للنشر والتوزيع بالرياض.
- أحكام القرآن: تأليف القاضي أبي بكر محمد بن عبد الله المعروف بابن العربي (ت 543 هـ) تحقيق على محمد البجاوي، الطبعة الثالثة (1392هـ)، الناشر / إدارة المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت.
- أخبار مكة: تأليف أبي الوليد محمد بن عبد الله الأزرقي (ت 204هـ)، تحقيق رشدي ملحس، الطبعة الثالثة 1399هـ، الناشر / دار الثقافة – بيروت.
- ارواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، تأليف / محمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الأولى 1399هـ، الناشر / المكتب الإسلامي.
- الاستيعاب في أسماء الأصحاب: تأليف / أبي عمر يوسف بن عبد البر (ت 463 هـ)، الطبعة الأولى 1328 هـ، الناشر / مكتبة المثنى بهامش كتاب الإصابة.(/65)
- أسهل المدارك شرح إرشاد السالك: تأليف أبي بكر بن حسن الكشناوي، الطبعة الأولى، الناشر / دار الكتاب الجديد ببيروت.
- الإصابة في تمييز الصحابة: تأليف / الحافظ ابن حجر العسقلاني (ت 852 هـ) الطبعة الأولى 1328 هـ، الناشر / مكتبة المثنى ببيروت.
- الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام المبجل أحمد ابن حنبل: تأليف / أبي الحسن علي بن سليمان المرادوي (ت 885 هـ)، الطبعة الثانية (1400هـ)، الناشر م دار إحياء التراث العربي ببيروت.
- أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك: تأليف / أبي محمد عبد الله بن يوسف بن هشام (761 هـ)، مطبوع معه كتاب إرشاد السالك إلى تحقيق أوضح المسالك، تأليف محمد محي الدين عبد الحميد.
- الإيضاح والتبيان في معرفة المكيال والميزان: تأليف / أبي العباس نجم الدين بن الرفعة الأنصاري (ت 710 هـ)، حققه وقدم له الدكتور / محمد أحمد إسماعيل الخاروف، الطبعة الأولى 1400هـ، الناشر / مركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي في كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بمكة.
(ب)
- بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع : تأليف / علاء الدين أبي بكر بن مسعود الكاساني (ت 587 هـ) الطبعة الثانية 1402 هـ، الناشر / دار الكتاب العربي ببيروت.
- بداية المجتهد ونهاية المقتصد: تأليف / أبي الوليد محمد بن أحمد بن رشد القرطبي (ت 595 هـ) الطبعة الثالثة 1379هـ، الناشر / شركة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر.
- بلغة السالك لأقرب المسالك إلى مذهب الإمام مالك: تأليف / أحمد بن محمد الصاوي (ت1241 هـ)، الناشر / دار إحياء الكتب العربية.
(ت)
- تاريخ بغداد: تأليف / أبي بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي (ت 463 هـ) الناشر / دار الكتاب العربي ببيروت.
- التاج والأكليل لمختصر خليل: تأليف / أبي عبد الله محمد بن يوسف بن أبي القاسم الشهير بالمواق (ت 897 هـ)، الطبعة الثانية، مطبوع بهامش كتاب مواهب الجليل.(/66)
- التأريخ: تأليف الإمام يحي بن معين (ت 233 هـ) دراسة وترتيب وتحقيق الدكتور / أحد محمد نور سيف، الناشر / مركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي في كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بمكة.
- تحفة المحتاج بشرح المنهاج: تأليف الشيخ أحمد بن محمد بن حجر الهيتمي (ت 973 هـ)، الناشر / مطبعة مصطفى محمد صاحب المكتبة التجارية الكبرى بمصر.
- التحقيق والإيضاح لكثير من مسائل الحج والعمرة والزيارة: تأليف / سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز، الطبعة الثانية والعشرون، الناشر / الشؤون الدينية للقوات المسلحة.
- التعليق: تأليف / القاضي أبي يعلى محمد بن الحسين _(ت 458 هـ)، مخطوط ضمن مخطوطات المكتبة المركزية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية برقم (1946/ق).
- التعليق المغنى على سنن الدارقطني: تأليف / محمد شمس الحق العظيم أبادي (ولد عام 1273)، مطبوع بهامش سنن الدارقطني. الناشر / عالم الكتب ببيروت.
- تنوير الحوالك شرح على موطأ مالك: تأليف / جال الدين عبد الرحمن السيوطي (ت 911 هـ) الناشر / مكتبة الثقافة ببيروت.
- تدريب الراوي، تأليف: جلال الدين عبد الرحمن السيوطي (ت 911 هـ) حققه وراجعه عبد الوهاب عبد اللطيف، الطبعة الثانية (1399هـ)، الناشر / دار إحياء السنة النبوية.
- تذكرة الحفاظ: تأليف / الحافظ أبي عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي (ت 748 هـ)، الناشر / دار إحياء التراث العربي.
- التلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير: تأليف / الحافظ أبي الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (ت 852 هـ)، تحقيق وتعليق الدكتور / شعبان محمد إسماعيل. الناشر / مكتبة الكليات الأزهرية بالقاهرة سنة 1399 هـ.
- تلخيص المستدرك: تأليف / الحافظ أبي عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي (ت748هـ)، مطبوع بهامش المستدرك، الناشر / مكتبة النصر الحديثة بالرياض.(/67)
- التنمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد: تأليف / أبي عمر يوسف بن عبد البر (ت 463 هـ)، تحقيق مجموعة من الباحثين، الطبعة الثانية (1402هـ) الناشر / وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في المملكة المغربية.
- التمهيد في أصول الفقه: تأليف / أبي الخطاب محفوظ بن أحمد الكلوذاني (ت 510هـ)، دراسة وتحقيق الدكتور مفيد محمد ابو عمشة، والدكتور محمد بن علي بن إبراهيم، الطبعة الأولى (1406 هـ) الناشر / مركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي في كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بمكة.
- تهذيب التهذيب: تأليف الحافظ أبي الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (ت 852هـ)، الطبعة الأولى (1325هـ)، الناشر / مطبعة مجلس دائرة المعارف النظامية في الهند.
(ث)
- الثقات: تأليف / أبي حاتم محمد بن حبان البستي (ت 354 هـ)، الناشر / مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية بالهند.
(ج)
- جامع البيان عن تأويل آي القرآن: تأليف / أبي جعفر محمد بن جرير الطبري (ت 310 هـ) حققه وعلق حواشيه محمود محمد شاكر، وراجعه وخرج أحاديثه أحمد محمد شاكر، الطبعة الثانية، الناشر / دار المعارف بمصر.
- الجامع الصحيح المسمى: سنن الترمذي: تأليف / أبي عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي (ت 279 هـ) تحقيق وشرح إبراهيم عطوة عوض الناشر / دار إحياء التراث العربي ببيروت.
- جمهرة أنساب العرب: تأليف أبي محمد علي بن أحمد بن حزم (ت 456 هـ) الطبعة الأولى 1304هـ، الناشر دار الكتب العلمية ببيروت.
- جواهر الأكليل: تأليف صالح بن عبد السميع الأزهري. الناشر / دار المعرفة للطباعة والنشر ببيروت.
- الجوهر النقي: تأليف علي بن عثمان المارديني المعروف بابن التركماني (ت 745هـ) مطبوع بحاشية سنن البيهقي، الطبعة الأولى، الناشر / دار المعرفة للطباعة والنشر ببيروت.
(ح)(/68)
- حاشية تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق: تأليف أحمد الشلبي (ت 1021هـ) الناشر / دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت.
- حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: تأليف / محمد بن عرفة الدسوقي (ت 1230هـ)، الناشر / دار إحياء الكتب العربية، عيسى البابي الحلبي وشركاه.
- حاشية ابن عابدين المسماة رد المحتار على الدر المختار، تأليف محمد أمين الشهير بابن عابدين (ت 1252هـ)، الطبعة الثانية 1386 هـ، الناشر / شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر.
- الحجاب: تأليف أبي الأعلى المودودي (1398هـ)، الناشر / دار الأنصار بالقاهرة.
- حجية السنة: تأليف / الدكتور عبد الغني عبد الخالق (ت 1403هـ)، الطبعة الأولى (1407 هـ)، الناشر / المعهد العالي للفكر الإسلامي بواشنطن.
- حلية العلماء في معرفة مذاهب الفقهاء: تأليف / أبي بكر محمد بن أحمد القفال (ت 507 هـ)، تحقيق الدكتور / ياسين أحمد داردكه، الطبعة الأولى 1988م، الناشر / مكتبة الرسالة الحديثة.
(ر)
- رسالة في الدماء الطبيعية: تأليف / فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين الطبعة الثانية 1398 هـ، الناشر / شركة المدينة للطباعة، بجدة.
- الروض المربع شرح زاد المستنقع: تأليف / منصور بن يونس البهوتي (ت 1051هـ)، الطبعة الأولى 1397 هـ، ومعه حاشية عبد الرحمن بن قاسم على الروض المربع.
- روضة الطالبين: تأليف / أبي زكريا يحي بن شرف النووي (ت 676هـ)، الناشر/ المكتب الإسلامي بدمشق.
- زاد المحتاج بشرح المنهاج: تأليف / الشيخ عبد الله بن الشيخ حسن الحسن الكوهجي، عني بطبعه ومراجعته الشيخ عبد الله بن إبراهيم الأنصاري، الطبعة الأولى، الناشر / الشؤون الدينية بدولة قطر.
(س)
- سنن أبي داود: تأليف الحافظ أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني (ت 275 هـ) إعداد وتعليق عزت عبيد الدعاس، الطبعة الأولى 1388 هـ، الناشر / محمد على السيد. حمص.(/69)
- السنن الكبرى: تأليف / أبي بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي (ت 458 هـ) الناشر / دار المعرفة للطباعة والنشر ببيروت.
- سنن ابن ماجة: تأليف / الحافظ أبي عبد الله محمد بن يزيد القزويني ابن ماجة (ت 275 هـ)، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، الناشر / دار إحياء التراث العربي 1395 هـ.
- سنن النسائي: تأليف / أبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي (ت 303 هـ) الناشر / دار الفكر للطباعة والنشر ببيروت.
- سنن الدارقطني: تأليف الإمام علي بن عمر الدارقطني (ت 385هـ)، الناشر / عالم الكتب ببيروت، وبذيله التعليق المغنى على الدارقطني.
(ش)
- شرح العمدة: تأليف شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية (ت 748هـ) تحقيق الدكتور / صالح بن محمد الحسن، الطبعة الأولى (1409هـ)، الناشر / مكتبة الحرمين بالرياض.
- شرح العناية على الهداية: تأليف / محمد بن محمود البابرتي (ت 786 هـ) الطبعة الأولى 1389 هـ، مطبوع بحاشية كتاب فتح القدير، الناشر / شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر.
- شرح النووي على صحيح الإمام مسلم: تأليف / أبي زكريا يحيى بن شرف النووي (ت676هـ) الناشر / دار إحياء التراث العربي ببيروت.
(ص)
- الصحاح: تأليف / أبي نصر إسماعيل بن حماد الجوهري (ت 393هـ) تحقيق أحمد عبد الغفور عطار.
- صحيح البخاري: تأليف الإمام محمد بن إسماعيل البخاري (ت 256هـ) مع شرحه فتح الباري، قرأ أصله تصحيحاً وتحقيقاً سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، الناشر / رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بالمملكة العربية السعودية.
- صحيح مسلم: تأليف الإمام مسلم بن الحجاج القشيري (ت 261 هـ) مع شرحه للإمام النووي، الطبعة الثانية 1392هـ. الناشر / دار إحياء التراث العربي ببيروت.
(ط)(/70)
- طبقات الشافعية الكبرى: تأليف أبي نصر عبد الوهاب السبكي (ت 771 هـ) الطبعة الثانية، الناشر / دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع ببيروت.
- طبقات الشافعية للحسيني: تأليف أبي بكر بن هداية الله الحسيني (ت 1014هـ) – تحقيق عادل نوهيض، الطبعة الثانية 1979م، الناشر / دار الآفاق الجديدة ببيروت.
- طرح التثريب في شرح التقريب تأليف أبي الفضل عبد الرحيم ابن الحسين العراقي (ت 806 هـ)، وولده القاضي أبي زرعة العراقي (ت 826 هـ)، الناشر / دار إحياء التراث العربي.
(ع)
- العمدة في أصول الفقه: تأليف القاضي أبي يعلي محمد بن الحسين (ت 458 هـ) تحقيق الدكتور أحمد سير مباركي، الطبعة الأولى 1400 هـ الناشر / مؤسسة الرسالة.
- العمدة: تأليف أبي محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي (ت 621 هـ) خرج أحاديثه عبد الله بن سفر الغامدي ومحمود غيليب العتيبي، الطبعة الأولى 1409 هـ، الناشر / مكتبة الطرفين بالطائف.
(ف)
- الفتاوى الهندية المسماة (بالفتاوى العالمكيرية) تأليف جماعة من علماء الهند، الطبعة الرابعة، الناشر / دار إحياء التراث العربي للنشر والتوزيع ببيروت.
- الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد، تأليف أحمد عبد الرحمن البناء الشهير ((بالساعاتي)). الناشر / دار الشهاب بالقاهرة.
- الفروع: تأليف الإمام إبي عبد الله محمد بن مفلح المقدسي (ت 763هـ). أشرف على مراجعتها وضبطها الشيخ عبد اللطيف محمد السبكي، الطبعة الثالثة 1379 هـ، الناشر / عالم الكتب ببيروت.
- فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت: تأليف الشيخ محب الله بن عبد الشكور، (ت 1119 هـ)، الطبعة الأولى بالمطبعة الأميرية، ببولاق مصر، 1324 هـ مطبوع مع المستصفى للغزالي، الناشر / مؤسسة الحلبي وشركاه للنشر والتوزيع بالقاهرة.
(ق)
- القاموس المحيط: تأليف العلامة محمد بن يعقوب. الفيروزبادي (ت 817 هـ) كتب حواشيه نصر الهوريني، وصححه محمد محمود الشنقيطي.(/71)
- القرى لقاصد أم القرى: تأليف الحافظ أبي العباس أحمد بن عبد الله بن محمد بن أبي بكر محب الدين الطبري (ت 694 هـ) عارضه بمخطوطات مكة والقاهرة مصطفى السقا الطبعة الثانية 1390 هـ، الناشر / شركة ومكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر.
(ك)
- الكافي، تأليف الحافظ أبي عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النميري القرطبي (ت 463) تحقيق وتقويم الدكتور محمد محمد أحيد ولد ماديك الموريتاني، الطبعة الأولى 1398هـ، الناشر / مكتبة الرياض الحديثة بالرياض.
- الكافي في فقه الإمام المبجل أحمد بن حنبل: تأليف أبي محمد عبد الله بن قدامة المقدسي) ت 631 هـ)، تحقيق زهير الشاويش، الطبعة الثانية 1399 هـ، الناشر م المكتب الإسلامي.
- كشاف القناع عن متن الإقناع، تأليف الشيخ منصور بن يونس بن إدريس البهوتي (ت 1051هـ) طبع بمطبعة الحكومة بمكة 1394 هـ، أمر بطبعه المغفور له الملك فيصل بن عبد العزيز آل سعود.
(ل)
- لسان العرب: تأليف العلامة أبي الفضل محمد بن مكرم بن منظور (ت 711 هـ) الناشر / دار صادر بيروت.
(م)
- المبسوط: تأليف أبي بكر محمد بن أحمد السرخسي (ت 490 هـ)، الطبعة الثالثة (1398هـ)، الناشر / دار المعرفة للطباعة والنشر ببيروت.
- مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: تأليف علي بن أبي بكر بن سليمان الهيثمي (ت 807هـ)، الناشر / دار الكتاب بيروت.
- المجموع شرح المهذب: تأليف الإمام أبي زكريا يحي بن شرف النووي (ت 676هـ) وبهامشه كتاب فتح العزيز للرافعي، وكتاب التلخيص الحبير لابن حجر الناشر / دار الفكر.
- مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية جمع وترتيب عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، تصوير الطبعة الأولى 1398 هـ.
- المحرر في الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل: تأليف أبي البركات عبد السلام بن تيمية (ت 652 هـ) الطبعة الثانية 1404 هـ، الناشر / مكتبة المعارف بالرياض، ومعه كتاب النكت والفوائد السنية لابن مفلح الحنبلي.(/72)
- المحصول في علم أصول الفقه: تأليف محمد بن عمر بن الحسين الرازي (ت 606 هـ) تحقيق الدكتور طه جابر العلواني، الطبعة الأولى 1399هـ الناشر / لجنة البحوث والتأليف والترجمة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
- المحلى: تأليف أبي محمد علي بن أحمد بن حزم (ت 456 هـ)، تحقيق أحمد محمد شاكر، الناشر دار الفكر.
- مختصر خليل: تأليف العلامة خليل بن إسحاق المالكي (ت 767 هـ)، الناشر / مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر 1341 هـ.
- مختصر سنن أبي داود: تأليف عبد العظيم بن عبد القوي المنذري (ت 656 هـ) تحقيق أحمد محمد شاكر، ومحمد حامد الفقي، الناشر / دار المعرفة ببيروت 1400 هـ مطبوع معه كتابي معالم السنن للخطابي، وتهذيب السنة لابن القيم.
المدونة الكبرى للإمام مالك رواها سحنون بن سعيد التنوخي عن عبدالرحمن بن القاسم العتقي عن الإمام مالك، مصورة عن الطبعة الأولى، الناشر / دار صادر بيروت.
- المرأة في القرآن: تأليف عباس محمود العقاد (ت 1384هـ) الطبعة الثالثة 1969م، دار الكتاب العربي، بيروت.
- المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز: تأليف أبي محمد عبد الحق بن عطية الأندلسي (ت54هـ) حققه مجموعة من العلماء، الطبعة الأولى 1398هـ، طبع على نفقة الشيخ خليفة بن حمد آل ثاني أمير دولة قطر.
- مسائل الإمام أحمد: رواية أبي داود، تأليف أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني، الناشر / دار الباز للنشر والتوزيع بمكة.
- المستدرك على الصحيحين: تأليف الحاكم أبي عبد الله بن اليبع النيسابوري (ت 405هـ) الناشر مكتبة ومطابع النصر الحديثة بالرياض.
- مسند الإمام أحمد: تأليف الإمام أحمد بن حنبل (ت 241 هـ) الناشر / دار صادر ببيروت.
- المسند شرح وتعليق أحمد شاكر. الناشر / دار المعارف بمصر.(/73)
- المسودة في أصول الفقه، تأليف الجد، والأب، والحفيد من آل تيمية. جمعها وبيضها أبو العباس أحمد بن محمد بن أحمد بن عبد الغني الغزالي (ت 745 هـ)، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد. أمر بطبعه الشيخ علي بن عبد الله آل ثاني
- المصف في الأحاديث والآثار، تأليف الحافظ عبد الله بن محمد بن أبي شيبة (ت 235 هـ). الناشر الدار السلفية بالهند.
- المصنف: تأليف الحافظ عبد الرزاق بن همام الصنعاني (ت 211 هـ)، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي. الطبعة الأولى 1390 هـ، الناشر / المجلس العلمي.
- معالم السنن: تأليف الإمام أبي سليمان حمد بن محمد الخطابي (ت 388 هـ) الطبعة الثانية 1401هـ، الناشر / المكتبة العلمية ببيروت.
- معجم البلدان: تأليف ياقوت بن عبد الله الحموي (ت 626 هـ).
المغني: تأليف أبي محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي (ت 621 هـ) الناشر مكتب الرياض الحديثة 1401 هـ.
- مناسك المرأة: تأليف أبي زكريا يحي بن شرف النووي (ت 676 هـ) تحقيق الدكتور صالح بن عبد الرحمن الأطرم، طبع ضمن بحوث العدد الخامس عشر من أعداد مجلة أضواء الشريعة التي تصدرها كلية الشريعة بالرياض.
- مناسك النووي: تأليف أبي زكريا يحيى بن شرف النووي (ت 676 هـ). الناشر / المكتبة السلفية بالمدينة.
- المناسك وأماكن طرق الحج ومعالم الجزيرة: تأليف إبراهيم بن إسحاق الحربي (ت 214 هـ) تحقيق الإستاذ حمد الجاسر، الطبعة الثانية 1401 هـ، الناشر / دار اليمامة للبحث والترجمة والنشر بالمملكة العربية السعودية.
- المنتقى شرح موطأ الإمام مالك: تأليف القاضي أبي الوليد سليمان بن خلف الباجي (ت 494هـ) الطبعة الثالثة 1403 هـ، الناشر / مطبعة دار السعادة بمصر.
- منتهى الإرادات: تأليف محمد بن أحمد الفتوحي (ت 920)، الناشر / مكتبة دار العروبة 1381 هـ.(/74)
- مواهب الجليل لشرح مختصر خليل: تأليف أبي عبد الله محمد بن محمد بن عبد الرحمن الطرابلسي المعروف ((بالخطاب)) (ت 954 هـ)، الناشر مكتب النجاح بليبيا، مطبوع بهامشه التاج والأكليل لمختصر خليل للمواق.
- الموطأ: تأليف الإمام أبي عبد الله مالك بن أنس (ت 179 هـ)، الناشر / المكتبة الثقافية ببيروت، مطبوع معه كتاب تنوير الحوالك شرح موطأ مالك للسيوطي.
- ميزان الاعتدال: تأليف الحافظ أبي عبد الله محمد بن أحمد عثمان الذهبي (ت 748هـ)، الناشر / دار إحياء الكتب العربية.
(ن)
- نصب الراية لأحاديث الهداية: تأليف عبد الله بن يوسف الزيلعي، (ت 672هـ)، الطبعة الثانية، الناشر / المجلس العلمي بالهند.
- النهاية في غريب الحديث: تأليف أبي السعادات المبارك بن محمد الجزري المعروف بابن الأثير (ت 606هـ)، تحقيق طاهر أحمد الزاوي ومحمود محمد الطناحي، الناشر المكتبة الإسلامية لصاحبها الحاج رياض الشيخ.
- نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج: تأليف محمد بن أبي العباس أحمد بن حمزة الرملي الشهير بالشافعي الصغير (ت 1004هـ)، الناشر / المكتبة الإسلامية، مطبوع معه حاشية أبي الضياء الشبراملي وحاشية المغربي الرشيدي.
- نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار: تأليف القاضي محمد بن علي الشوكاني، (ت 1250هـ) الناشر شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر.
- هداية السالك: تأليف أبي عمر عبد العزيز بن محمد بن جماعة الكناني (ت 767هـ) تحقيق الدكتور صالح بن ناصر الخزيم، مضروب على الآلة الكاتبة.
- الهداية: تأليف أبي الخطاب محفوظ به أحمد الكلوذاني (ت 510هـ). الناشر / مطابع القصيم.
- الهداية شرح بداية المبتدي: تأليف علي بن أبي بكر المرغيناني (ت 593) الطبعة الأولى 1389هـ، الناشر شركة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، مطبوع مع شرحه فتح القدير لابن الهمام.
---
[1] من (الآية:97) من سورة آل عمران.(/75)
[2] أخرجه البخاري في صحيحه – واللفظ له – في كتاب الإيمان – باب دعاؤكم إيمانكم 1/49 ح 8.
ومسلم في صحيحه في كتاب الإيمان – باب أركان الإسلام ودعائمه العظام 1/176.
[3] انظر: كتاب شرح العمدة 1/218، ومنتهى الأرادات 1/234.
[4] سبقني إلى هذا الاسم الإمام محي الدين النووي في كتابه "مناسك المرأة " وهو كتاب مختصر جداً ولم يلتزم فيه المؤلف بالمسائل الخاصة بالمرأة، وقد حققه فضيلة شيخنا الفاضل الدكتور / صالح بن عبد الرحمن الأطرم، وطبع ضمن مواضيع العدد الخامس عشر من أعداد مجلة كلية الشريعة بالرياض "أضواء الشريعة".
1 من الآية: 189 من سورة الأعراف.
2 الآية: 35 من سورة البقرة.
3 الآية: 117 من سورة طه.
4 الآيات: 20-22 من سورة الأعراف.
5 الآية: 24 من سورة الأعراف.
6 الآية: 30 من سورة البقرة.
[5] الآية: 38 من سورة البقرة.
[6] الآية: 34 من سورة البقرة.
[7] الآية: 34 من سورة النساء.
[8] الحجاب:ص 158
[9] ص / 18
[10] الآية: 30 من سورة الروم.
[11] الآية: 33 من سورة الأحزاب.
[12] الآية: 31 من سورة النور.
[13] هذا جزء من حديث أخرجه الإمام أحمد في مسنده – واللفظ له – من رواية عبدالله بن عمر 1/26، والترمذي في سننه في أبواب الفتن – باب ماجاء في لزوم الجماعة 4/465ح 2165 وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه.
[14] انظر كتاب القاموس المحيط فصل القاف باب الميم، ولسان العرب، باب الميم فصل القاف، وأحكام القرآن لابن العربي 1/415.
[15] انظر كتاب تقسير الطبري 8/290 وأحكام القرآن لابن العربي 1/415. وعرفها ابن عطية – رحمه الله – تعريفاً عاماً فقال: هو من القيام على الشيء والاستبداد بالنظر فيه، وحفظه بالاجتهاد. المحرر الوجيز 4/40.
[16] الآية: 34 من سورة النساء.(/76)
[17] هذا جزء من حديث أخرجه – مع اختلاف يسير في اللفظ – البخاري في صحيحه – من رواية أبي سعيد الخدري – في كتاب الحيض – باب ترك الحائض الصوم – 1/405 ح 304، ومسلم في صحيحه – أيضاً – من رواية عبد الله بن عمر في كتاب الإيمان – باب بيان نقصان الإيمان بنقص الطاعات 2/65.
[18] من الآية: 282 من سورة البقرة.
[19] أحكام القرآن 1/416.
[20] أخرجه الإمام البخاري في صحيحه – واللفظ له – في كتاب النكاح – باب لا تأذن المرأة في بيت زوجها إلا بإذنه 9/295 ح 5195، ومسلم في صحيحه في كتاب الزكاة – باب أجر الخازن الأمين والمرأة إذا تصدقت من بيت زوجها 7/115.
[21] انظر: كتاب المجموع 8/325 ونهاية المحتاج 3/357، والمغنى 5/35.
[22] شرح العمدة 1/285.
[23] انظر: كتاب المبسوط 4/165، وبدائع الصنائع 2/124، وفتح القدير 2/422، والكافي لابن عبد البر 1/413، ومواهب الجليل 3/205، وبلغة السالك 1/553، وروضة الطالبين 3/179، والمغنى 3/240، وشرح العمدة 3/285.
[24] هكذا وردت في المطبوع من كتاب الإجماع، والصواب إلى حج التطوع، لأن أل لا تدخل على المضاف في الإضافة المحضة. انظر: كتاب أوضح المسالك ص /379.
[25] الإجماع ص /54.
[26] المغني لابن قدامة – 3/240.
[27] انظر كتاب بدائع الصنائع 2/176، وفتح القدير 2/422، 3/176، والكافي لابن عبد البر 1/413، وأسهل المدارك 1/509، ونهاية المحتاج 3/356، والمعني 3/531، والكافي لابن قدامة 1/463.
[28] انظر كتاب بدائع الصنائع 2/181، والمعنى 3/532.
[29] انظر كتاب بدائع الصنائع 2/176، والمعنى 3/532.
[30] انظر: كتاب المجموع 8/333، والمعني 3/532.
[31] انظر: كتاب المجموع 8/333، والمغني 3/532.
[32] انظر: كتاب المبسوط 4/163، والعناية على الهداية 2/422، وفتح القدير 2/422، والكافي لابن عبد البر 1/413، ومواهب الجليل 3/205، وبلغة السالك 1/553، والمجموع 8/329، والمغني 3/240، وشرح العمدة 2/285.(/77)
[33] أخرجه البخاري – وذكر فيه قصة صلاة إمرأة عمر في المسجد – في كتاب الجمعة – باب هل على من يشهد الجمعة غسل من النساء والصبيان وغيرهم 2/382ح 900، ومسلم في صحيحه في كتاب الصلاة – باب خروج النساء إلى المساجد - 4/161.
[34] وجوب الحج على الفور هو قول الحنفية، والمالكية، والحنابلة، وأهل الظاهر، والقول الثاني: أن الحج يجب على التراخي لا ياثم من أخره عن أول سني الإمكان هو مذهب الشافعية وقول في مذهب الحنفية والمالكية، ورواية في مذهب الحنابلة، وستأتي الإشارة إليه عند ذكر أدلة أهل القول الثاني.
انظر كتاب بدائع الصنائع 2/119، وفتح القدير 2/132، والكافي لابن عبد البر 1/358، والمجموع 7/102-108، والمغنى 3/241، والإنصاف 3/403.
[35] انظر كتاب: المجموع 8/327 - 331
[36] هو الشيخ أبو حامد أحمد بن محمد بن أحمد الاسفراييني من أئمة المذهب الشافعي في بغداد، ولد سنة 344 هـ، تميز بجودة الفقه، وحسن النظر، ونظافة العلم، توفي رحمه الله سنة 406 هـ.
انظر: كتاب طبقات الشافعية الكبرى 3/24، وطبقات الشافعية للحسيني ص / 127.
[37] هو أحمد بن محمد بن أحمد بن القاسم بن إسماعيل الضبي المحاملي، ولد سنة 368 هـ، كان فقيهاً ورعاً، له مصنفات منها تحرير الأدلة.
انظر: كتاب طبقات الشافعية الكبرى 3/42، وطبقات الشافعية للحسيني ص 132.
[38] هو القاضي أبو الطيب طاهر بن عبد الله بن طاهر الطبري. ولد سنة 348، تفقه في مذهب الشافعي وبرع فيه، وولي القضاء وكان ذا ورع وعفة، وله مصنفات عدة في الجدل والخلاف، وشرح مختصر المزني، مات رحمه الله سنة 450 هـ.
انظر: كتاب طبقات الشافعية الكبرى 3/176، وطبقات الشافعية للحسيني ص / 150 هـ .(/78)
[39] لم أجده بهذا الاسم عند ترجمته في تاريخ الأدب العربي المجلد الأول الجزء الثالث ص / 213 ولم يذكر من كتبه الفقهية إلا شرح مختصر المزني، وقد ذكر أماكن وجود مخطوطا ص / 195 من المجلد الأول الجزء الثالث فلعله هو.
[40] هو أبو المحاسن القاضي عبد الواحد بن إسماعيل بن أحمد الروياني. أخذ العلم عن والده وتفقه على جده، له كتاب بحر المذهب، وحلية المؤمن وغيرهما، ولد سنة 415 هـ وتوفي سنة 502 هـ.
انظر: كتاب طبقات الشافعية الكبرى 4/264، وطبقات الشافعية للحسيني ص / 190.
[41] المجموع 8/327، 328.
[42] رواه الدارقطني في سننه – واللفظ له – في كتاب الحج 2/223، والبيهقي في سننه في كتاب الحج – باب حظر المرأة أن تحرم بغير إذن زوجها 5/223 وفيه حسان بن إبراهيم ليس بالقوي. انظر: الجوهر النقي 5/223.
[43] انظر: كتاب المجموع 8/328، 329.
[44] انظر: كتاب التعليق المغني علي الدارقطني 2/223.
[45] انظر: كتاب الجوهر النقي بهامش سنن البيهقي 5/223.
[46] انظر: كتاب المبسوط 4/163، وشرح العمدة 1/198-229.
[47] انظر: كتاب العدة 1/281، والمسودة ص /24.
[48] أخرجه الإمام أحمد في مسنده 1/314، وفي إسناده إسماعيل بن خليفة أبو إسرائيل الملائي. قال ابن حجر في التقريب 1/69 صدوق سيئ الحفظ وبقية رجاله ثقات. وكلام الأئمة كما في التهذيب 1/263 متردد بين التوسط فيه، وأن حديثه يقبل وهم الأقل وبين تضعيفه ورد حديثه وهم الأكثر ورماه كثير منهم بالتشيع. فالحديث ضعيف. ويعضده الحديث الذي بعده فيكون حسناً لغيره. والله أعلم. وقال الألباني في الأرواء 4/168، في تخريج هذا الحديث – حسن أخرجه أحمد. أ هـ.
[49] أخرجه الإمام أحمد في مسنده 1/225، وأبو داود في سننه في كتاب المناسك 2/350 ح 1732، والحاكم في المستدرك في كتاب المناسك 1/448، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. أ. هـ. ووافقه الذهبي.(/79)
[50] أخرجه الإمام أحمد في مسنده بلفظ قريب 3/450، وأبو داود في سننه – وهذا لفظه – في كتاب المناسك، باب الإحصار 2/433ح1862، والترمذي في سننه في كتاب الحجج – باب ما جاء في الذي يهل بالحج فيكسر أو يعرج 3/277ح 940، وقال: هذا حديث حسن صحيح. أ هـ.
[51] انظر: كتاب المجموع 7/108.
[52] انظر كتاب الكافي لابن عبد البر 1/400، 413، ومواهب الجليل 3/205 وحاشية الدسوقي 2/98، والمجموع 8/303، 306، 353 والمغني 3/356، 357، 360، وكشاف القناع 2/527.
[53] من الآية: 196 من سورة البقرة.
[54] الحديبية: موضع بالقرب من مكة، بعضه في الحل، وبعضه في الحرم، والموضع الذي نحر فيه النبي صلى الله عليه وسلم هديه وتحلل فيه – في عمرة الحديبية – من الحل لقول الله تعالى: {وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} والحرم كله محله عند أهل العلم. انظر: كتاب الأم للإمام الشافعي 2/159،218، والتعليق للقاضي خ ق / 170.
وقصة الحديبية أخرجها الإمام البخاري بطولها في صحيحه في كتاب الشروط باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط – 5/329 ح 1/273، 2732 من رواية المسور بن مخرمة رضي الله عنه، وفيه يقول: "فلما فرغ من قضية الكتاب قال لأصحابه قوموا، فانحروا، ثم احلقوا، قال: فوالله ما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة، فذكر لها ما لقي من الناس فقالت: أم سلمة: يا نبي الله أتحب ذلك؟ أخرج، ثم لا تكلم أحداً منهم كلمة حتى تنحر بدنك، وتدعو حالقك فيحلقك، فخرج، ثم لم يكلم أحداً منهم حتى فعل ذلك: نحر بدنه ودعا حالقه فحلقه فلما رأوا ذلك قاموا. فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضا حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً... الحديث".
[55] انظر: كتاب الكافي لابن عبد البر 1/413، والمجموع 8/306، 353، والمغني 3/356، 357.(/80)
[56] انظر: كتاب المبسوط 4/113، وحاشية ابن عابدين 2/591، والكافي لابن البر 1/413، ومواهب الجليل 3/205، والمغني 3/357.
[57] انظر: كتاب المبسوط 4/113، وحاشية ابن عابدين 2/591، والمغني 3/357.
[58] انظر: كتاب المغني 3/357.
[59] وذلك لحديث ضباعة بنت الزبير رضي الله عنها فقد روت عائشة رضي الله عنها قالت: ((دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على ضباعة بنت الزبير، فقال لها: أردت الحج؟ قالت: والله ما أجدني إلا وجعة، وفي رواية "إني أريد الحج وأنا شاكية فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: حجي واشترطي وقولي: اللهم محلي حيث حبستني))؛ أخرجه البخاري في كتاب النكاح باب الأكفاء في الدين 9/132 ح 5089، ومسلم – واللفظ له – في كتاب الحج – باب جواز اشتراط المحرم التحلل بعذر، أو مرض 8/167، زاد النسائي في سننه في كتاب الحجج – باب كيف يقول إذا اشترط 5/167 " فإن لك على ربك ما استثنيت"
قال الإمام أحمد – رحمه الله – في رواية مهنا – إذا قال عند الإحرام: ((محلي حيث حبستني فأصابه شيء، أو أحصر، أو مرض، أو ذهبت نفقته، وبقي فأحل لا شيء عليه)) أ. هـ.
(1) انظر: كتاب التعليق للقاضي خ/ق/178.
[60] انظر: كتاب المحصول الجزء الأول القسم الثالث ص 161-164والتمهيد لأبي الخطاب 2/150 -158.
[61] انظر: كتاب المغني 3/357، وشرح العمدة 2/381.
[62] انظر كتاب: حاشية الدسوقي 2/97، 98، والمجموع 8/334، وشرح العمدة 1/267.
[63] انظر كتاب: المبسوط 4/112، وبدائع الصنائع 2/182، وحاشية ابن عابدين 2/620.
[64] انظر كتاب: المجموع 8/334، 335.
[65] انظر: كتاب بدائع الصنائع 2/124، والكافي لابن عبد البر 2/623، والمجموع 8/339، والمغني 5/35، 7/521، ومجموع الفتاوي 34/29، وكشف القناع 5/501.
[66] هي فريعة، وقيل الفارعة بنت مالك بن سنان الخدرية أخت أبي سعيد الخدري. وأمها حبيبة بنت عبد الله بن أبي بن سلول صحابية شهدت بيعة الرضوان.(/81)
انظر كتاب الاستيعاب 4/387، والإصابة 4/386
[67] بنو خدرة: هم فخذ من الخزرج من ولد عوف بن الحارث بن الخزرج وخدرة هو الأبجر. ومن بني خدره مالك بن سنان بن عبيد بن ثعلبة بن عبيد بن الأبحر، صحابي جليل، استشهد في أحد، وأبنه سعد بن مالك بن سنان أبو سعيد الخدري رضي الله عنه.
انظر كتاب جهرة أنساب العرب ص / 362
[68] ابقوا: أي هربوا منه وخرجوا عن طاعته. انظر كتاب: النهاية في غريب الحديث، باب الهمزة مع الباء.
[69] طرف القدوم: موضع على ستة أميال من المدينة، والقدوم: اسم جبل بالحجاز قرب المدينة. وقيل: قناة وادٍ يمر على طرف القدوم في أصل قبور الشهداء بأحد.
انظر: كتاب معجم البلدان، باب القاف والجيم وما يليهما، وكتاب تنوير الحوالك 2/106. وكتاب المناسك وأماكن طرق الحج ومعالم الجزيرة ص8 ب4
[70] أخرجه الإمام مالك في الموطأ واللفظ له – تنوير الحوالك – في كتاب جامع الطلاق – باب الاحداد 2/106، والحاكم في المستدرك في كتاب الطلاق – عدة المتوفى عنها زوجها في بيت زوجها 2/208 وقال: هذا حديث صحيح الإسناد من الوجهين جميعا ولم يخرجاه. أ. هـ ووافقه الذهبي في التلخيص على المستدرك.
[71] أخرجه الإمام مالك في الموطأ واللفظ له – تنوير الحوالك – في كتاب جامع الطلاق باب مقام المرأة المتوفى عنها زوجها في بيتها حتى تحل 2/107.
[72] انظر: كتاب بدائع الصنائع 3/206.
[73] انظر: كتاب مختصر خليل ص /145، وحاشية الدسوقي 2/486، والتاج والأكليل 4/163.
[74] انظر: كتاب حاشية الدسوقي 2/486.
[75] انظر: المدونة 2/469، والمنتقى شرح الموطأ 4/138.
[76] مسافر القصر عند الحنابلة مسيرة يومين قاصدين على الرواحل، وقد قدره العلماء بستة عشر فرسخاً وهي ثمانية وأربعون ميلاً، والميل 1848 متراً فتكون المسافة بالكيلو متر 88 كيلو متر و 704 متراً. انظر: كتاب المغني 2/255، وكتاب الإيضاح والتبيان في معرفة المكيال والميزان ص/77، 89.(/82)
[77] انظر: كتاب المغني 7/531، 532، والإنصاف 9/310، وكشاف القناع 5/501.
[78] انظر كتاب المجموع 8/399، وزاد المحتاج 3/526.
[79] مسافة القصر عند الحنفية مسيرة ثلاثة أيام سير الإبل، ومشي الأقدام. وعن أبي يوسف يومان وأكثر الثالث.
انظر: كتاب بدائع الصنائع 1/193.
[80] انظر: كتاب بدائع الصنائع 2/124، 3/206، 207،. وكشاف القناع 5/501، 502
[81] أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الجنائز – باب إحداد المرأة على غير زوجها 3/146 ح 1281، 1282، ومسلم في صحيحه في كتاب الرضاع – باب وجوب الإحداد في عدة الوفاة 10/111.
[82] انظر: كتاب بدائع الصنائع 3/206، والكافي لابن عبد البر 2/623، والمغني 7/526، وكشاف القناع 5/503.
[83] انظر: كتاب بدائع الصنائع 3/206، وكشاف القناع 5/503.
[84] من الآية: 1 من سورة الطلاق.
[85] انظر: كتاب بدائع الصنائع 3/206، وكشاف القناع 5/503.
[86] انظر كتاب: المجموع 18/164، والمغنى 3/241، وكشاف القناع 2/449.
[87] انظر كتاب: بدائع الصنائع 2/124، 3/206، والكافي لابن عبد البر 2/623، والمجموع 18/174، والمغني 7/526.
[88] من الآية 1، من سورة الطلاق.
[89] أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه عن عمر، وعثمان، وابن مسعود، وابن عمر رضي الله عنهم في كتاب الطلاق – باب ما قالوا في المطلقة لها أن تحج في عدتها؟ من كرهه 5/182.
[90] انظر: كتاب بدائع الصنائع 2/124، 3/206، والمجموع 8/174.
[91] انظر: كتاب المغني 3/240، 240.
[92] انظر: كتاب الروض المربع 1/370، ورسالة الدماء في الطبيعية للنساء ص /5، 6.
[93] انظر: كتاب حاشية ابن عابدين 2/480، ومواهب الجليل 3/48، والمجموع 7/212، والمغني 3/294.
[94] انظر كتاب بدائع الصنائع 2/143، وحاشية ابن عابدين 2/480، ومواهب الجليل 3/38.
[95] انظر كتاب بدائع الصنائع 2/143، ومواهب الجليل 3/38.
[96] انظر كتاب مناسك النووي ص 145، والمجموع 7/212، والمغنى 3/294، وشرح العمدة 1/405.(/83)
[97] 3/294.
[98] انظر: كتاب المبسوط 4/3، وبدائع الصنائع 2/143، ومواهب الجليل 3/101، والمجموع 7/212، ومناسك المرأة ص /64، والمغني 3/272، وشرح العمدة 1/401.
[99] أخرجه الإمام مسلم في صحيحه في كتاب الحج – واللفظ له – باب إحرام النفساء واستحباب اغتسالها للإحرام وكذا الحائض 8/133، وأخرجه – أيضاً – ابن ماجة في سننه في كتاب المناسك – باب النفساء والحائض تهل بالحج 2/971، 972، ح 2911 – 2913.
[100] الشجرة موضع بذي الحليفة ميقات أهل المدينة. انظر: شرح صحيح الإمام مسلم للنووي 8/133.
[101] أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الحج – واللفظ له – الباب السابق – 9/133، وأبو داود في سننه في كتاب المناسك، باب الحائض تهل بالحج 2/357 ح 1343
[102] انظر: كتاب المبسوط 4/3، وكتاب بدائع الصنائع 2/144، والمجموع 7/312.
[103] انظر: كتاب الإجماع ص / 55، والمغني 3/272.
[104] انظر: المجموع 7/112.
[105] انظر: كتاب المحلي 7/82.
[106] انظر: المجوع 7/82.
[107] انظر: كتاب فتح القدير 2/447، وجواهر الأكليل 1/177، وحاشية الدسوقي 2/38، والمجموع 7/266، والمغني 1/368، وشرح العمدة 2/11/4.
[108] ذي طوى: موضع لا يزال معروفاً حتى الأن في محلة جرول داخل مكة.
انظر: هامش كتاب المناسك وأماكن طرق الحج ومعالم الجزيرة ص /468
[109] أخرجه البخاري في صحيحه – واللفظ له – في كتاب الحج – باب الاغتسال عند دخول مكة 3/435 ح 1573، ومسلم في صحيحه في كتاب الحج – باب استحباب المبيت بذي طوى عند إرادة دخول مكة 9/5.
[110] انظر: كتاب فتح القدير 2/447، ومواهب الجليل 3/104، والمجموع 7/213، 8/4، والمعني 3/368.(/84)
[111] سرف: موضع بالقرب من مكة يقع بين التنعيم ووادي فاطمة، وهو على ستة أميال، أو سبعة من مكة، وفيه تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة بنت الحارث وبه بني فيها، وبه توفيت رضي الله عنها، ويسمى اليوم بالنوارية. انظر: كتاب معجم البلدان، باب السين والراء وما يليهما، وكتاب أخبار مكة 2/218
[112] هذا جزء من حديث أخرجه البخاري – من رواية عائشة رضي الله عنها – في كتاب الحيض – باب الأمر بالنفساء إذا نفس – 1/400 ح ب 294، ومسلم في صحيحه في كتاب الحج – باب بيان وجوه الإحرام 8/147.
[113] انظر المجموع 7/213 ، 8/4 والمغني 3/368
[114] انظر كتاب مواهب الجليل 3/104 ، وحاشية الدسوقي2/38
[115] عند الحنفية يكتفي بالتيمم عن الوضوء. انظر: كتاب بدائع الصنائع 1/38، والفتاوى الهندية 1/38.
[116] انظر: كتاب بدائع الصنائع 1/38، 44 والفتاوى الهندية 1/38، والمجموع 2/358، والفروع 1/261، والمبدع 1/260، والإنصاف 1/347.
[117] أخرجه أبو داود في سننه – واللفظ له – في كتاب الطهارة – باب في الجنب يدخل المسجد 1/157 ح 232 وسكت عنده فهو عنده حسن. والبيهقي في سننه في كتاب المناسك. وقال الخطابي في معالم السنن 1/78: ضعفوا هذا الحديث وقالوا: أفلت: راوية مجهول لا يصح الاحتجاج بحديثه. أ هـ.
وقال النووي في المجموع 2/160: ليس هو بقوي. أ هـ، وقال الألباني:في الإرواء 1/210: ضعيف.
[118] أخرجه الترمذي في سننه في كتاب المناقب – باب مناقب علي بن أبي طالب رضي الله عنه 5/639 ح 3727، وقال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وسمع مني محمد بن إسماعيل هذا الحديث فاستغربه. أ هـ.
قال النووي في المجموع 2/162 ضعيف لأن مداره على سالم بن أبي حفصة، وعطية، وهما ضعيفان جداً، شيعيان، متهمان في رواية هذا الحديث وقد أجمع العلماء على تضعيف سالم وغلوه في التشيع، ويكفي في رده بعض ما ذكرناه. أ هـ.
[119] انظر: كتاب المجموع 2/161.(/85)
[120] انظر: كتاب المجموع 28160، والمغنى 1/307، والإنصاف 1/347.
[121] من الآية: 43 من سورة النساء.
[122] انظر: كتاب المجموع 2/160.
[123] أورده النووي في المجموع 2/160، وقال: رواه البيهقي في معرفة السنن والأثار أ. هـ، وابن قدامة في المعني 1/145، وقال: رواه ابن المنذر. أ هـ.
وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف أن علياً كان يمر في المسجد وهو جنب، وأثاراً أخرى عن التابعين في جواز المرور بالمسجد دون المكث فيه – في كتاب الطهارات – باب الجنب يمر في المسجد قبل أن يغتسل 1/146.
[124] انظر: كتاب المجموع 2/160، والمغني 1/145.
[125] انظر: كتاب بداية المجتهد 1/48، والإنصاف 1/347، والمحلي 2/184.
[126] أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الغسل – باب عرق الجنب، أن المسلم لا ينجس 1/390 ح 283، ولفظه: ((عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقيه في بعض طريق المدينة وهو جنب، فانخنس منه فذهب فاغتسل، ثم جاء فقال: أين كنت يا أبا هريرة ؟ قال: كنت جنبا فكرهت أن أجالسك وأنا على غير طهارة، فقال سبحان الله إن المسلم لا ينجس)).
وأخرجه أيضاً – مسلم في صحيحه في كتاب الحيض – باب الدليل على أن المسلم لا ينجس 4/65.
[127] انظر: كتاب بداية المجتهد 1/48، والمحلي 2/184.
[128] الآية: 6 من سورة المائدة.
[129] أخرج الحديث البخاري في صحيحه في كتاب الحيض – باب غسل الحائض رأس زوجها وترجيله – 1/401 ح 295، 296 ومسلم في صحيحه أيضاً في كتاب الحيض – باب جواز غسل الحائض رأس زوجها وترجيله 3/208.
[130] انظر كتاب المجموع 2/172.
[131] انظر: كتاب بداية المجتهد 1/46، وحلية العلماء 1/215، 216
[132] انظر: كتاب بداية المجتهد 1/343.
[133] مجموع الفتاوى 26/176.
[134] انظر: كتاب الكافي لابن عبد البر 1/367، وبداية المجتهد 1/343، وحاشية الدسوقي 3/67، والمجموع 8/15 – 18، والمغني 3/377، وشرح العمدة 2/582، والفروع 3/501.(/86)
[135] أخرجه الترمذي في سننه في كتاب الحج – باب ما جاء في الكلام في الطواف 3/293 ح 960، والحاكم في المستدرك في كتاب المناسك ؟؟/459، وقال هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه وقد أوقفه جماعة، أ هـ، ووافقه الذهبي، وقال ابن حجر في التلخيص الحبير 1/138: صححه ابن السكن وابن خزيمة، وابن حبان. أ هـ.
[136] انظر: كتاب شرح العمدة 2/585.
[137] أخرجه أبو داود في سننه – بلفظ قريب – في كتاب المناسم – باب الحائض تهل بالحج 2/357ح 1744 والترمذي في سننه في كتاب الحج – باب ما جاء ما تقضي الحائض من المناسك 3/282 ح 2945.
وقال المنذري في مختصر سنن أبي داود 2/286: في إسناده خصيف وهو ابن عبد الرحمن الحراني وكنيته أبو عون وقد ضعفه غير واحد. أ. هـ.
وعده الألباني في الإرواء 1/206 شاهداً لحديث عائشة الآتي بعده، وقال – في خصيف – سيئ الحفظ.
[138] انظر: كتاب شرح العمدة 2/584.
[139] طمثت: أي حاضت، والطمث: الدم، والنكاح. وكذا نفست بمعنى حاضت.
انظر: النهاية في غريب الحديث – باب الطاء مع الميم – وشرح النووي على صحيح مسلم 8/147.
[140] هذا جزء من حديث أخرجه البخاري في صحيحه – واللفظ له – في كتاب الحيض – باب تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف بالبيت 1/407 ح 305، ومسلم في صحيحه في كتاب الحج، باب بيان وجوه الإحرام 8/147.
[141] انظر: كتاب المحصول الجزء الأول القسم الثاني ص /486، والعدة 1/333، والتمهيد لأبي الخطاب 1/369.
[142] هي أم المؤمنين صفية بنت حييى بن أخطب من بني النضير من بني إسرائيل، وأمها برة بنت سمئول. قتل زوجها الأول سلام بن مكشم يوم خيبر، وأسرت صفية مع سبي هذه الغزوة، فاستضفاها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصارت في سهمه ثم أعتقها، وجعل عتقها صداقها، وذلك سنة سبع وتوفيت رضي الله عنها سنة 50 هـ.
انظر: كتاب الاستيعاب 4/346، والإصابة 4/346.(/87)
[143] عقري حلقي: دعاء عليها أن يصيبها وجع في حلقها كأنه قال: عقرها الله، وقيل معناه: جعلها الله عاقرا لا تلد، ومشؤومة على أهلها.
انظر: كتاب النهاية في غريب الحديث، باب الحاء مع اللام.
[144] أخرجه البخاري في صحيحه واللفظ له – في كتاب الحج – باب التمتع والقرآن والإفراد بالحج وفسخ الحج لمن لم يكن معه هدى 3/421/ ح 1561، ومسلم في صحيحه في كتاب الحج – باب بيان وجوه الإحرام 8/153.
[145] هذا جزء من حديث أخرجه البخاري في صحيحه – واللفظ له – في كتاب الحج – باب من طاف بالبيت إذا قدم مكة قبل أن يرجع إلى بيته ثم يصلي ركعتين، ثم خرج إلى الصفا 3/477 ح 1614، ومسلم في صحيحه في كتاب الحج – باب أن المحرم بعمرة لا يتحلل بالطواف قبل السعي 8/22.
[146] هذا جزء من حديث جابر رضي الله عنه، وقد أخرجه الإمام مسلم - واللفظ له – في كتاب الحج – باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر – 9/44، وأبو داود في سننه في كتاب المناسك – باب رمي الجمار 2/495 ح 1970.
[147] يفرق بعض الحنفية بين طواف الركن، وهو طواف الإفاضة، وبين طواف الواجب وهو طواف الوداع، والسنة وهو طواف القدوم والتطوع: فيوجبون الجزاء في طواف الركن محدثاً دون الطواف المسنون وبعضهم قال يخفف الجزاء.
انظر: المبسوط 4/38 – 41، وفتح القدير 3/50، 54.
[148] انظر: كتاب المبسوط 4/38، وبدائع الصنائع 2/129، وفتح القدير 3/49، والمغني 3/377، ومجموع الفتاوى 26/231والإنصاف 4/16، وقال في الإنصاف: وعنه يصح من ناس ومعذور فقط، وعنه: يصح منهما فقط مع جبران بدم، وعنه يصح من الحائض وتجبره بدم وهو ظاهر كلام القاضي. أ هـ.
[149] من الآية: 29 من سورة الحج.
[150] انظر: كتاب كشف الأسرار 1/294، وفواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت 1/349.
[151] انظر: مجموع الفتاوى 26/123 – 128، 176 – 218 ، 221 – 241.
[152] من الآية: 16 من سورة التغابن.
[153] انظر: كتاب المحلى 7/179.
[154] سبق تخريجه.(/88)
[155] انظر كتاب التمهيد لأبي الخطاب 2/287، 288، وحجية السنة ص /295.
[156] انظر كتاب المجموع 8/18.
[157] انظر كتاب المحصول الجزء الأول القسم الثالث ص /131، والتمهيد لأبي الخطاب 2/105.
[158] من الآية /11 من سورة النساء.
[159] أخرج الإمام البخاري في صحيحه حديث أسامة بن زيد ولفظه ((لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم، في كتاب الفرائض – باب لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم – 12/50 ح 6764، وأخرجه أيضاً الإمام مسلم. في صحيحه في كتاب الفرائض 11/51.
[160] انظر: كتاب التمهيد في أصول الفقه 2/105 – 111.
[161] انظر: كتاب المجموع 8/18.
[162] انظر كتاب بدائع الصنائع 2/135، وفتح القدير 3/57، والمنتقى شرح الموطأ 2/224،290، ومواهب الجليل 3/69، والمجموع 8/74، والمغنى 3/394، وشرح العمدة 4/640، والإنصاف 4/21.
[163] انظر: كتاب المنتقى شرح الموطأ 3/58، والمجموع 8/74، والمغني 3/394، وشرح العمدة 2/640، والإنصاف 4/21والتحقيق والإيضاح ص 32.
[164] سبق تخريجه
[165] انظر: كتاب المبسوط 4/51، وبدائع الصنائع 2/135، والمنتقى شرح الموطأ 2/290، 3/58، والمغنى 3/394.
[166] انظر: كتاب الإجماع ص/63.
[167] انظر: كتاب بداية المجتهد 1/46، ومواهب الجليل 3/69، ومسائل الإمام أحمد رواية إسحاق بن إبراهيم 1/140، والتعليق خ ق/88، والمغني 3/395، والإنصاف 4/21.
[168] أخرجه الإمام مالك في الموطأ كما في تنوير الحوالك في كتاب الحج – دخول الحائض مكة – 2/362.
[169] هو أبو زكريا يحيى بن يحيى التميمي النيسابوري، روى عن الإمام مالك والليث وغيرهما وعنه البخاري ومسلم وغيرهما ثقة ثبت إمام ولد سنة 142، ومات سنة 226 هـ رحمه الله.
انظر: كتاب ميزان الاعتدال 2/415، وتقريب التهذيب 2/360.
[170] انظر في تعريف الشاذ كتاب تدريب الراوي 1/65، وكتاب اختصار علوم الحديث ص /56.
[171] التمهيد 19/261(/89)
[172] تنوير الحوالك شرح على موطأ الإمام مالك 1/362.
[173] 3/504، وانظر – أيضاً – كتاب المنتقي شرح موطأ الإمام مالك 2/224.
[174] التعليق خ ق / 88
[175] المغنى 3/395.
[176] سبق ذلك ص / 63
[177] انظر كتاب: المجموع 8/74، والمغنى 3/394.
[178] القائلون بالوجوب هم الحنفية، والحنابلة، والقول الصحيح في مذهب الشافعية. ويرى المالكية والشافعية في أحد القولين أن هذا الطواف سنة وليس بواجب، لكن بعض المالكية قالوا: هو سنة ويجبر عند تركه بالدم.
انظر كتاب بدائع الصنائع 2/142، الهداية للمرغيناني مع شرحها 2/504، والكافي لابن عبد البر 1/378وبداية المجتهد 1/343، والمجموع 8/254، والمغنى 3/458، وشرح العمدة 2/651.
[179] ويسمى أيضاً: طواف الصدر، وطواف الخروج. انظر كتاب شرح العمدة 2/651.
[180] انظر كتاب المبسوط 4/35، وبدائع الصنائع 2/142، والكافي لابن عبد البر 1/378، وحاشية الدسوقي 3/138، والمجموع 8/255،284، وشرح العمدة 2/569.
[181] أخرجه البخاري في صحيحه – واللفظ له – في كتاب الحج – باب طواف الوداع 3/585 ح 1755، ومسلم في صحيحه في كتاب الحج – باب وجوب طواف الوداع وسقوطه عن الحائض 9/79.
[182] أخرجه الإمام أحمد في مسنده 1/370، وقال الساعاتي في الفتح الرباني 12/234: سنده جيد، ومعناه في الصحيحين. أ هـ.
[183] الخباء: بيت من بيوت العرب يصنع من الوبر والصوف، وينصب على عمودين أو ثلاثة، وجمعه أخبية.
انظر: كتاب النهاية في غريب الحديث باب الخاء مع الباء.
[184] أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الحج – باب إذا حاضت المرأة بعد ما أفاضت 3/586ح 1762، ومسلم في كتاب الحج – واللفظ له – باب وجوب طواف الوداع وسقوطه عن الحائض 9/82.
[185] انظر كتاب مناسك النووي ص 445، والعمدة ص /44.
[186] ص 445،446
[187] 1/349.
[188] ص 44.(/90)
[189] يشير إلى الدعاء الذي يقال عند الوداع ويمكن الرجوع إليه في كتب الفقه والمناسك عند مبحث طواف الوداع.
[190] كشاف القناع 2/598.
[191] انظر ص /63.
[192] من الآية /33 من سورة الأحزاب.
[193] الآية / 59 من سورة الأحزاب.
[194] من الآية: 31 من سورة النور.
[195] أخرجه الإمام البخاري في صحيحه في كتاب التفسير – باب ((وليضربن بخمرهن على جيبوهن)) 8/489 ح 4758
[196] المروط: جمع مرط كساء من خز، أو صوف، أو كتان، أو غيره يؤتزر به. انظر: كتاب لسان العرب، باب الطاء فصل الميم.
[197] أخرج الحديث الإمام أحمد في مسنده 6/30، وأبو داود في سننه في كتاب المناسك باب في المحرمة تغطي وجهها 2/416 ح 1833، وابن ماجة في كتاب المناسك – باب المحرمة تسدل ثوبها على وجهها 2/979 ح 2935.
وفي الحديث: يزيد بن أبي زياد فيه ضعف. لكن أخرجه الحاكم – بلفظ قريب – من طريق آخر من رواية أسماء بنت أبي بكر في كتاب المناسك 1/454، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. أ هـ ووافقه الذهبي.
[198] أخرجه الحاكم في المستدرك في كتاب المناسك – باب تغطية الوجه للمحرمة، 1/454.
[199] المحرم: هو زوج المرأة، ومن تحرم عليه على التأبيد بنسب، أو سبب مباح. ومن تحرم عليه بالنسب هم: أبناؤها، وآباؤها، وأخوتها، وبنوهم، وبنو أخواتها، وبنوهم، وبنو أخواتها، وأعمامها وأخوالها.
ومحرمها بالسبب: نوعان: بالرضاع، أو بالمصاهرة.
فأما الرضاع فيحرم عليها بسببه ما يحرم من النسب وقد سبق ذكرهم.
وأما الصهر فيحرم عليها بسببه أربعة: زوج أمها، وزوج ابنتها وأب زوجها، وابن زوجها. فهؤلاء كلهم محارم يجوز لها أن تحج مع أحدهم.
انظر: كتاب شرح العمدة 1/180، 181.
[200] انظر: كتاب المغنى 3/236، وشرح العمدة 1/172.
[201] انظر: كتاب التعليق. خ ق / 181.
[202] أخرجه الإمام البخاري في صحيحه في كتاب تقصير الصلاة – باب في كم يقصر الصلاة 2/566 ح 1088(/91)
[203] أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب جزاء الصيد – باب حج النساء 4/72 ح 1862، ومسلم في صحيحه واللفظ له في كتاب الحج – الباب السابق 9/109.
[204] انظر: كتاب شرح العمدة 1/174.
[205] أخرجه الدارقطني في سننه في كتاب الحج 2/222 ح 30 قال ابن مفلح فغي الفروع في 3/235 الظاهر أنه خبر حسن، ورواه أبو بكر في الشافي. أ.هـ
[206] انظر: كتاب شرح العمدة 1/176.
[207] انظر: كتاب بدائع الصنائع 2/123، وفتح القدير 2/420، والإنصاف 4/411.
[208] أخرجه البخاري في صحيحه – واللفظ له – في كتاب تقصير الصلاة – باب في كم يقصر الصلاة 2/566 ح 1087، ومسلم في صحيحه في كتاب الحج – باب سفر المرأة مع محرم للحج وغيره 9/102.
[209] انظر: كتاب بدائع الصنائع 2/123، وفتح القدير 2/420.
[210] انظر كتاب بداية المجتهد 1/322، ومواهب الجليل 2/521، 522، والمجموع 7/86، 8/34، والمغني 3/237، والإنصاف 3/411، والمحلي 7/23.
[211] من الآية: 97 من سورة آل عمران.
[212] هو أبو طريف عدي بن حاتم الطائي، صحابي قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في شعبان سنة سبع. وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وروى عنه خيثمة بن عبد الرحمن وغيره. وهو من المعمرين في الإسلام فقيل أنه عاش مئة وثمانين سنة، مات بالكوفة سنة 68 هـ.
انظر: كتاب الاستيعاب 3/141، والإصابة 2/468.
[213] الظعينة: الراحلة التي يرحل عليها ويظعن عليها أي يسار، وتطلق على المرأة لأنها ترحل مع زوجها حيثما رحل، أو لأنها تحمل على الراحلة.
انظر: كتاب النهاية في غريب الحديث باب الظاء مع العين.
[214] الحيرة – بسكر الحاء وسكون الياء، وفتح الراء – مدينة كانت على ثلاثة أميال من الكوفة كان يسكنها ملوك العرب في الجاهلية.
انظر: كتاب معجم البلدان باب الحاء والباء وما يليهما.
[215] أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب المناقب – باب علامات النبوة في الإسلام – 6/610 ح 3595.(/92)
[216] أخرجه البخاري في صحيحه – واللفظ له – كتاب الجمعة – باب هل على من يشهد الجمعة غسل من النساء والصبيان 2/382 ح 900، ومسلم في صحيحه في كتاب الصلاة – باب خروج النساء إلى المساجد 4/161.
[217] أخرجها الإمام مسلم في صحيحه في كتاب الحج – باب سفر المرأة مع محرم إلى الحج وغيره – 9/107.
[218] أخرجها أبو داود في سننه في كتاب المناسك – باب في المرأة تحج بغير محرم 2/347ح 1725 وقد صحح هذه الرواية ابن حبان، والحاكم كما في نصب الراية 3/11.
[219] البريد: كلمة فارسية يراد بها في الأصل البغل الذي يحمل البريد، ثم أطلق على المسافة بين السكنين بريداً، ومقدارها أربعة فراسخ، والفرسخ: ثلاثة أميال، والميل: ألف وثمنمائة وثمانية وأربعون متراً، فتكون مسافة البريد (22176) متراً. انظر كتاب: النهاية في غريب الحديث، باب الباء مع الراء، وكتاب الإيضاح والتبيان في معرفة المكيال والميزان ص 77.
[220] انظر: كتاب شرح النووي على صحيح الإمام مسلم 9/103.
[221] 1/176.
[222] انظر: المسألة والقول الراجح فيها ص 34.
[223] انظر: كتاب مواهب الجليل 2/526، وتحفة المحتاج بشرح المنهاج 4/25، كشاف القناع 2/356.
[224] انظر: كتاب كشاف القناع 2/356.
[225] انظر: كتاب بدائع الصنائع 2/176، وحاشية رد المحتار على الدر المختار 2/590.
[226] بدائع الصنائع 2/176.
[227] انظر: كتاب المبسوط 4/111، وفتح القدير 2/419.
[228] من الآية / 195 من سورة البقرة.
[229] انظر: كتاب مواهب الجليل 2/526، وتحفة المحتاج 4/25، وكشاف القناع 2/356.
[230] انظر: كتاب المبسوط 4/111، وفتح القدير 2/419، وحاشية رد المحتار على الدر المختار 2/465.
[231] أخرجه الإمام أحمد في مسنده بلفظ أطول 2/34، وقال أحمد شاكر في تحقيق المسند 7/169، إسناده صحيح. أ هـ.(/93)
[232] أخرجه الإمام البخاري في صحيحه – واللفظ له – في كتاب الحجج – باب ما لا يلبس المحرم من الثياب 3/401 ح 1542. وأخرجه أيضاً الإمام أحمد في مسنده 2/119.
[233] أخرج الحديث الدارقطني في سننه في كتاب الحج – باب المواقيت 2/294ح 260، والبيهقي في سننه في كتاب الحج، باب المرأة لا تنتقب في إحرامها 5/47. قال الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير 2/292 بعد أن ذكر الحديث: في إسناده أيوب بن محمد أبو الجمل وهو ضعيف، قال ابن عدي: تفرد برفعه، وقال العقيلي: لا يتابع على رفعه، إنما يروى موقوفاً، وقال الدارقطني في العلل الصواب وقفه. أ هـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى 26/112، ولم ينقل أحد من أهل العلة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إحرام المرأة في وجهها)) وإنما هو قول بعض السلف.
[234] سبق تخريجه ص: 79
[235] 2/186.
[236] 1/388.
[237] 7/261.
[238] 2/267، 268.
[239] وانظر: كتاب الإجماع ص / 57، ونقله ابن قدامة في المغني 3/328.
[240] سبق تخريجه ص / 79
[241] من الآية: 31 من سورة النور.
[242] ص / 25، 26.
[243] انظر: كتاب المبسوط 4/128، وبدائع الصنائع 2/185، وفتح القدير 3/30، ومواهب الجليل 3/140، وفتح العزيز مع المجموع 7/448، والمجموع 7/261، 262، والمغنى 3/326، وشرح العمدة 2/268 – 271.
[244] النقاب: هو القناع على مارن الأنف فقط، وجمعه نقب، وقيل: هو ما بدت منه محاجر العينين، وما على مارن الأنف يسمى لثاما، انظر كتاب النهاية في غريب الحديث، باب النون مع القاف، ولسان العرب، فصل النون حرف الباء.
[245] البرقع: هو قناع تضعه المرأة على وجهها، وتبدو منه عيناها فقط، ويسمى الوصوصة. انظر كتاب النهاية في غريب الحديث، باب النون مع القاف ولسان العرب فصل النون حرف الباء.(/94)
[246] أخرج الحديث الإمام أحمد في مسنده 2/119، والبخاري في صحيحه، في كتاب جزاء الصيد – باب ما ينهى من الطيب للمحرم والمحرمة 4/52 ح 1838.
[247] أخرجه الإمام أحمد في مسنده إلى قوله من الثياب 2/22، وأبو داود في سننه في كتب المناسك – باب ما يلبس المحرم 2/412 ح 1827. وقال أحمد شاكر في تحقيق المسند 6/332 ح 4740 إسناده صحيح. أ هـ، وكذا قال الألباني في إرواء الغليل 4/192.
[248] شرح العمدة 2/54.
[249] سبق تخريجه ص: 79 وقد صححه الحاكم، ووافقه الذهبي.
[250] أخرجه البيهقي في سننه في كتاب المناسك 5/47.
[251] انظر: كتاب إرواء الغليل 4/212.
[252] انظر: كتاب المغنى 3/327، وشرح العمدة 2/268، وانظر: كتاب بدائع الصنائع 2/158، ومواهب الجليل 3/140.
[253] أورده الإمام أحمد، واحتج به. انظر: كتاب المغنى 3/327.
[254] انظر: كتاب المجموع 8/60.
[255] انظر: كتاب التمهيد لأبي الخطاب 3/332، والمسودة ص: 336.
[256] هو أبو محمد عطاء بن أبي رباح القرشي – بالولاء – تابعي، ثقة، مات سنة 114 هـ.
انظر: كتاب الثقات لابن حبان 5/198، وتذكرة الحفاظ 1/98، وتهذيب التهذيب 7/199.
[257] انظر كتاب الكافي لابن عبد البر 1/388، ومواهب الجليل 3/140، والمجموع 7/263، والمغني 3/329، وشرح العمدة 2/271.
[258] أخرجه الإمام أحمد في مسنده 2/119، والبخاري في صحيحه – واللفظ له – في كتاب جزاء الصيد – باب ما ينهى من الطيب للمحرم والمحرمة 4/52 ح 1838، وأبو داود في سننه في كتاب المناسك – باب ما يلبس المحرم 2/11 ح 1825، والترمذي في سننه في كتاب الحج – باب ما جاء فيما لا يجوز للمحرم لبسه 3/194 ح 833.
[259] انظر: كتاب المجموع 7 / 220، والمغني 3 / 329، وشرح العمدة 2 / 272.
[260] انظر: كتاب المبسوط 4/128، وبدائع الصنائع 2/186، وفتح القدير 2/514، والمجموع 7/263، والمغني 3/329.(/95)
[261] أورده الإمام الشافعي في كتابه الأم 2/203، والسرخسي في المبسوط 4/128.
[262] سبق تخريجه ص / 95.
[263] انظر: كتاب المحلي 7/82.
[264] انظر: كتاب شرح العمدة 2/272.
[265] انظر: كتاب المبسوط 4/128، وبدائع الصنائع 2/186، والكافي لابن عبد البر 1/388، ومواهب الجليل 3/159، والمجموع 7/219، والمغنى 3/303، وشرح العمدة 2/94، 1: 1.
[266] سبق تخريجه ص: 100، وإسناده صحيح.
[267] من الآية: 31 من سورة النور.
[268] انظر: كتاب المجموع 7/219، ومناسب المرأة ص/64، والمغنى 3/331، وشرح العمدة 2/107.
[269] أخرجه الإمام الشافعي في كتابه الأم 2/150، عن عبد الله بن دينار، والدارقطني في سننه في كتاب الحج – باب المواقيت 2/272 ح 168، والبيهقي في سننه عن عبد الله بن عمر، وعن عبد الله بن دينار – في كتاب الحج – باب المرأة تختصب قبل إحرامها 5/48، وقال: وليس ذلك بمحفوظ. أ هـ.
قال ابن حجر في التلخيص الحبير 2/252 في إسناده موسى بن عبيدة الربدي وهو واهي الحديث. أ هـ.
[270] انظر: كتاب تدريب الراوي 1/188.
[271] هو مولى ابن عباس عكرمة البربري المدني الهاشمي – بالولاء – تابعي . ثقة ثبت عالم بالتفسير. مات سنة 107هـ.
انظر كتاب: تذكرة الحفاظ 1/95، وتقريب التهذيب 2/30.
[272] أورده ابن حجر في التلخيص الحبير 2/302 ثم قال: الطبراني في الكبير من طريق يعقوب بن عطاء عن عمرو بن دينار عن ابن عباس.. ويعقوب مختلف فيه، وذكره البيهقي بغير إسناد. أ هـ.
[273] انظر: كتاب المبسوط 4/125، وبدائع الصنائع 2/192، وفتح القدير 3/26، والمغني 3/331.
[274] أخرجه البيهقي في كتاب معرفة السنن والآثار – انظر: كتاب الجهر النقي بذيل سنن البيهقي وقال ذكره ابن عبد البر في التمهيد. أ هـ. وفي سنده عبد الله بن لهيعة ضعيف انظر: كتاب فتح القدير 3/26، وقال ابن حجر في التلخيص 2/303: أخرجه البيهقي في المعرفة بسند ضعيف. أ هـ.
[275] المجموع 7/219، 360.(/96)
[276] سبق تخريجه ص: 79، وقد صححه الحاكم، ووافقه الذهبي.
[277] هو أبو خلاد السائب بن خلاد بن سويد الخزرجي الأنصاري أبو سهلة، أحد الصحابة. مات سنة 71 هـ. انظر: كتاب الاستيعاب - /103، والإصابة 2/10.
[278] 4/56، وقال الهيشمي في مجمع الزوائد 3/224 في إسناده محمد بن إسحاق ثقة، ولكنه مدلس وقد عنعن. أ هـ.
[279] أخرجه الترمذي في سننه في كتاب الحج – باب ما جاء في فضل التلبية والنحر – 3/189 ح 827، وابن ماجة في سننه في كتاب المناسك باب رفع الصوت بالتلبية 2/975 ح 2924، والحاكم في المستدرك على الصحيحين في كتاب الحج 1/450 وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. أ هـ، ووافقه الذهبي
[280] انظر: كتاب بدائع الصنائع 2/145، وجواهر الإكليل 1/177 ، والمجموع 7/240، والمغنى 3/291 وشرح العمدة 1/599-606.
[281] أخرجه الإمام أحمد في مسنده – واللفظ له – 4/55، وأبو داود في سننه في كتابه المناسك – باب كيفية التلبية 2/404 ح 1814، والترمذي في سننه في كتاب الحج – باب ما جاء في رفع الصوت بالتلبية 3/191 ح 829، والنسائي في سننه في كتاب الحج – باب رفع الصوت بالإهلال 5/162، وابن ماجة في سننه في كتاب المناسك – باب رفع الصوت بالتلبية 2/975 ح 2922، وقد صحح الحديث الترمذي، وابن خزيمة والحاكم، وابن حبان، انظر كتاب الفتح الرباني 11/180.
[282] انظر: كتاب المبسوط 4/6، وجواهر الأكليل 1/177، والمجموع 7/240، 245، وهداية السالك ص / 615، والمغنى 3/289، وشرح العمدة 1/592.
[283] انظر قول الإمام أحمد في كتاب شرح العمدة 1/597.
[284] هو أبو أيوب سليمان بن يسار الهلالي المدني، من التابعين، وأحد الفقهاء السبعة. ثقة مأمون مات سنة 107، وقيل غير ذلك.
انظر: كتاب تذكرة الحفاظ 1/91، وتهذيب التهذيب 4/228.
[285] أورده المحب الطبري في كتابه القرى ص /173، وابن تيمية في كتابه شرح العمدة 1/597 وقالا: أخرجه سعيد بن منصور.(/97)
[286] انظر كتاب فتح القدير 2/514، والكافي لابن عبد البر 1/365، وفتح العزيز مع المجموع 7/263، والمجموع 7/359، وشرح العمدة 1/597.
[287] الرمل: الإسراع في المشي مع تقارب الخطا. انظر: كتاب المجموع 8 / 40، وهداية السالك ص / 1000، والمغنى 3 / 373، وشرح العمدة 2 /439.
[288] الاضطباع – مأخوذ من الضبع وهو العضد، وصفته الشرعية: أن يجعل الحاج والمعتمر وسط ردائه تحت منكبه الأيمن ويطرح طرفيه على منكبه الأيسر ويترك الأيمن مكشوفاً.
انظر: كتاب شرح العمدة 2 / 420، والمجموع 8 / 13، وهداية السالك ص / 1008 /.
[289] أخرجه أبو داود في سننه في كتاب المناسك – باب الرمل 2/447 ح 1889 وقد سكت عنه أبو داود، فهو عنده حديث حسن.
[290] انظر: كتاب المبسوط 4/33، والهداية للمرغيناني 2/514، والكافي لابن عبد البر 1/368، ومناسك النووي ص/258، 259، والمغنى 3/394، وشرح العمدة 2/466.
[291] ص / 61، وانظر: المغنى 3 / 394.
[292] 7 / 360.
[293] أخرجه الإمام مسلم في صحيحه في كتاب الصلاة – باب تسوية الصفوف وإقامتها 4/159.
[294] انظر كتاب حاشية تبيين الحقائق 2/16، ومواهب الجليل 3/140، والمجموع 8/38، والمغنى 3/375، وكشاف القناع 2/559.
[295] أخرجه البخاري في صحيحه – واللفظ له – في كتاب الوضوء – باب غسل الرجلين في النعلين، ولا يمسح على النعلين 1/267 ح 166، وفي كتاب الحج باب من لم يستلم إلا الركنين اليمانيين 3/473 ح 1609، ومسلم في كتاب الحج – باب استحباب استلام الركنين اليمانيين في الطواف 9/13، 14.
[296] هو زيد بن أسلم العدوي المدني، تابعي، ثقة، روى عن أبيه، وابن عمر وأبي هريرة وغيرهم. وروى عنه أولاده، أسامة، وعبد الله، وعبد الرحمن، وابن جريج، وغيرهم. مات سنة 136 هـ.
انظر: كتاب التأريخ لأبن معين 2/181، وميزان الاعتدال 2/98.(/98)
[297] هو أسلم العدوي – مولاهم. أدرك النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عن أبي بكر، وعمر، وعثمان رضي الله عنهم. وغيرهم، وروى عنه ابنه زيد، والقاسم بن محمد، ونافع وغيرهم. مات سنة 80 هـ وهو ابن مئة وأربع عشرة سنة. انظر كتاب التاريخ لابن معين 2/209، وتهذيب التهذيب 1/266.
[298] أخرجه البخاري في صحيحه – واللفظ له – في كتاب الحج – باب تقبيل الحجر الأسود 3/475 ح 1910م، ومسلم في كتاب الحج – باب استحباب تقبيل الحجر الأسود في الطواف 9/16.
[299] 4 / 34.
[300] 8/ 34.
[301] أخرجه البخاري – معلقا – بلفظ أطول في كتاب الحج – باب طواف النساء مع الرجال 3/479. وعبد الرزاق في مصنفه في كتاب الحج باب طواف الرجال والنساء معا – 5/66 ح 9018.
[302] حجزة: أي محجوز بينها وبين الرجال بثوب. انظر كتاب فتح الباري 3/481.
[303] 3/372.
[304] أخرج الإمام مسلم في صحيحة في كتاب الحج – صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم 8/170.
[305] انظر: كتاب شرح الإمام النووي على صحيح الإمام مسلم 8/178.
[306] انظر: كتاب الكافي لابن عبد البر 1/367، والمجموع 7/362، والمغنى 3/386، وشرح العمدة 2/466، 478.
[307] العلمان: هما الميلان الأخضران على جانبي المسعى صبغا بلون الخضرة ليميزها الساعي، فيجري بينهما جريا شديداً، ومقدار هذه المسافة مئة واثنا عشر ذراعاً، وبين بدايته وبين الصفا: مئة واثنان وأربعون ونصف ذراع.
انظر: كتاب أخبر مكة للأزرقي 2/119.
[308] أخرجه البخاري في صحيحه – واللفظ له – في كتاب الحج – باب ما جاء في السعي بين الصفا والمروة 3/502ح 1644، ومسلم في صحيحه في كتاب الحج – باب استحباب الرمل في الطواف والعمرة 9/6.
[309] من الآية / 59 من سورة الأحزاب.
[310] من الآية / 31 من سورة النور(/99)
[311] انظر: كتاب المبسوط 4/33، والهداية للمرغيناني 2/514، والكافي لابن عبد البر 1/68ظ، والمجموع 7/362، والمغنى 3/394، وشرح العمدة 2/466، 478، والإجماع ص /61.
[312] 3/394، وانظر قول ابن المنذر في كتابه الإجماع ص /61.
[313] 8/75.
[314] انظر: كتاب الكافي لابن عبد البر 1/372، وحلية العلماء 2/339، والمجموع 7/363، 8/111، وهداية السالك ص /1246، والمغنى 3/410، وشرح العمدة 2/502.
[315] الخطام: هو حبل من ليف، أو شعر، أو قطن، أو غير ذلك يجعل في أحد طرفيه حلقة، ثم يشد فيه الطرف الآخر حتى يصير كالحلقة، ثم يقاد به البعير. ثم يثنى على مخطمه.
انظر: كتاب النهاية في غريب الحديث باب الخاء مع الطاء.
[316] أخرجه الإمام أحمد في مسنده – واللفظ له – 5/209، والنسائي في سننه في كتاب الحج، باب رفع اليدين في الدعاء بعرفة 5/254.
[317] سبق تخريجه.
[318] أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الحج – باب ذبح الرجل البقر عن نسائه من غير أمرهن 3/551 ح 1709.
[319] انظر كتاب المجموع 7/364، ومناسك المرأة ص 69.
[320] 1/485.
[321] انظر: كتاب بدائع الصنائع 2/133، ومواهب الجليل 3/127، والمجموع 8/205، والمغنى 3/439، وشرح العمدة 2/560، وفي مذهب الشافعية قول بأنه ركن من أركان الحج والعمرة وصوبه النووي في المجموع.
[322] انظر: كتاب بدائع الصنائع 2/140،158، والكافي لابن عبد البر 1/375، وجواهر الأكليل 1/182، والمجموع 8/199، والمغنى 3/434، وشرح العمدة 2/534.
[323] ومن عبارات الحنفية قول الكاساني في بدائع الصنائع 2/141، ولا حلق على المرأة لما روى ابن عباس، ولأن الحلق في النساء مثله، ولهذا لم تفعله واحدة من نساء النبي صلى الله عليه وسلم. ولكنها تقصر. أ هـ.(/100)
ومن عبارات المالكية قول الحطاب في مواهب الجليل 3/129 قال: في التوضيح. ويكره لها الحلاقة هكذا حكى البلشي في شرح الرسالة، وحكى اللخمي أن الحلق للمرأة ممنوع، لأنه مثله بها... وقال ابن عرفة: وليس على النساء إلا التقصير. أ هـ.
ومن عبارات الشافعية قول الإمام النووي في المجموع 8/24، أجمع العلماء على أنه لا تؤمر المرأة بالحلق، بل وظيفتها التقصير من شعر رأسها، قال الشيخ أبو حامد، والدارمي، والماوردي وغيرهم يكره لها الحلق. وقال القاضي أبو الطيب، والقاضي حسين في تعليقهما: لا يجوز لها الحلق. أ هـ.
من عبارات الحنابلة قول ابن قدامة في المغنى 3/439، والمشروع للمرأة التقصير دون الحلق لا خلاف في ذلك. أ هـ.
[324] أخرجه أبو داود في سننه في كتاب المناسك – باب الحلق والتقصير 2/502ح 1984، 1985، وقد سكت عنه أبو داود فهو عنده حسن. وكذا قال الإمام النووي في المجموع 8/197 رواه أبو داود بإسناد حسن. أ هـ.
[325] أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الصلح – باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود – 5/301 ح 2697، ومسلم في كتاب الأقضية – باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور – 12/16.
انظر: كتاب المجموع 8/204، وطرح التثريب 5/115.
[327] أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب اللباس – باب المتشبهين بالنساء والمتشبهات بالرجال 10/332ح 5885، وأبو داود في سننه في كتاب اللباس – باب في لباس النساء 4/354 ح /4097
[328] انظر: كتاب المجموع 8/204، وطرح التثريب 5/115
[329] أخرجه الترمذي في سننه في كتاب الحج –باب ما جاء في كراهية الحلق للنساء 3/257 ح 914-915، وقال النووي في المجموع 8/204، ولا دلالة في هذا الحديث لضعفه. أ هـ
[330] الأنملة: رأس الأصبع من المفصل الأعلى. انظر: كتاب الصحاح، فصل النون باب اللام.(/101)
[331] انظر: كتاب بدائع الصنائع 2/141، ومواهب الجليل 3/129، والمجموع 8/204، والمغنى 3/129، والمجموع 8/204، والمغنى 3/439، والتحقيق والإيضاح ص/44.
[332] مسائل الإمام أحمد رؤية أبي داود ص /136، والمغنى 3/440.
[333] أورده الكاساني في البدائع 2/141، وأشار إليه البابرتي في شرح العناية على الهداية 2/490.
[334] الآية: 56 من سورة الذاريات.
[335] الآية: 195 من سورة آل عمران.
[336] من الآية: 5 من سورة البينة.
[337] الآية: 78 من سورة الحشر.(/102)
العنوان: مناظرة بين فرعون وموسى
رقم المقالة: 1159
صاحب المقالة: الشيخ عائض بن عبدالله القرني
-----------------------------------------
إنَّ الحمد لله، نحمدهُ ونستعينهُ ونستغفرهُ، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مُضِلَّ له، ومن يضللْ فلا هاديَ له، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء: 1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب: 70-71].
أما بعد:
فإن أصدقَ الحديثِ كتابُ الله، وأحسنَ الهديِ هديُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ محدثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعة ضلالةٌ، وكلَّ ضلالةٍ في النار.
أيها الناس:
نحن مع موسى بن عمران في هذا اليوم، وموسى بن عمران - عليه الصلاة والسلام - شخصية لامعة في عالم الدعوة، بل هو بطل القصص القرآني، الذي أنزله الله على قلب النبي - صلى الله عليه وسلم - تسلية له ولأصحابه - صلى الله عليه وسلم - وأخذاً للعبر والعظات {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى} [يوسف: 111].(/1)
وكما يقول بعض المفكرين: إن المناظرة بين موسى وفرعون كانت جدلية، تنظيرية، عسكرية، اقتصادية، تربوية في نفس الوقت.
فحيا الله موسى بن عمران، وأهلاً وسهلاً ببطل الدعوة، الذي خاض غمارها، أكثر من خمسين عاماً.
فتعالوا نستمع إلى القرآن وهو يقصُّ علينا من نبأ هذا النبي الكريم، فمن القرآن نأخذ القصص، ومنه نأخذ طرق الدعوة وأساليبها، ومنه نأخذ الأحكام والعقائد والسلوك.
موسى في الصحراء، عصاه في يمينه، يجلس في ظل شجرة بعد أن أعياه هشُّه على غنمه، فتأتيه عناية الله، وفضل الله، ووحي الله، يأتيه الأمر الإلهي بالذهاب إلى طاغية الأرض، السفاك المجرم، والإرهابي العميل، إلى فرعون الضال، الذي قتل النساء، الذي ذبح الأطفال، الذي دمر الأجيال، الذي استعبد الشعوب، الذي عاث في الأرض فساداً.
يقول الله - تعالى -: {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ رَأَى نَاراً فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى} [طه: 9-10] ثم كانت المفاجأة التي لم يكن ينتظرها، {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى * وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} [طه: 11-13] وكأن موسى - عليه السلام - يتساءل: من أنت؟ ما حقيقتك؟ دُلني عليك؟ فيقول الله - عزَّ وجلَّ -: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14].(/2)
هذا هو رب العالمين، هذه حقيقته عند أهل السنة والجماعة، إذا قال لك أحدٌ: من هو الله؟ فقل: هو الله، الذي لا إله إلا هو. فالله يعرف نفسه لموسى - عليه السلام - كأنه يقول له: اعرفني قبل أن تعرف بي، وقبل أن تنطلق بالدعوة إليَّ {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي * إِنَّ السَّاعَةَ ءاَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} [طه: 14-15].
فهذه ثلاث قضايا ينبغي أن يعرفها كل من يتصدر للدعوة إلى الله - عزَّ وجلَّ.
القضية الأولى: قضية التوحيد والعبودية {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي} فلا بد أن تعلم هذه القضية، قولاً وعملاً، وقد أمر الله نبيه محمداً - صلى الله عليه وسلم - أن يعلمها، {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ} [محمد: 19]. فلا معبود بحق إلا الله، ولا متصرف إلا الله، ولا خالق، ولا مدبر، ولا حاكم، ولا مسيطر، ولا مرجوّ، ولا مقصود إلا الله - تبارك وتعالى.
القضية الثانية: قضية الصلاة، فلا دين لمن لا صلاة له، ولا امتثال لمعالم العقيدة بغير صلاة.
والقضية الثالثة: قضية الإيمان باليوم الآخر، وهي قضية كبرى، ركز عليها القرآن في مواضع كثيرة، وأبطل زعم الذين أنكروا هذا اليوم {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [التغابن: 7].
فعقيدة لا تبنى على اليوم الآخر عقيدة مهزوزة، وأدب وفن وجمال وتصوير، لا يؤسّسُ على الإيمان باليوم الآخر، جهالة وعمالة ولعنة من الله - تعالى.
ويوم سخر الكتبة أقلامهم في خدمة الإلحاد، وفي الاستهزاء باليوم الآخر، ضاعوا، وضلوا، ولعنوا في الدنيا والآخرة.(/3)
{إِنَّ السَّاعَةَ ءاَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى * فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لاَ يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} [طه: 15-16].
ثم يتحدث الله بعد ذلك مع موسى حديثاً شيقاً، حديث الأنس واللطف؛ ليزيل الدهشة عنه، وليطرد الرعب من نفسه، لأنه موقف صعب، لا يتحمله أي إنسان، تصور أنك تكلم الله - تعالى - وتستمع إلى خطاب ملك الملوك، موسى كاد يطير قلبه من بين جوانحه، فألقى الله عليه خطاب المؤانسة والملاطفة، حتى لا يستوحش، وحتى لا تسيطر عليه الأوهام، والعرب كانت تعرف ذلك فهذا الأزدي يقول في قصيدته:
أُحَادِثُ ضَيْفِي قَبْلَ إِنْزَالِ رَحْلِهِ وَيَخْصَبُ عِنْدِي وَالْمَكَانُ جَدِيبُ
وَمَا الخَصْبُ للأضْيَافِ أَنْ يَكْثُرَ الْقِرَى وَلَكِنَّمَا وَجْهُ الْكَرِيمِ خَصِيبُ
فيقول الله لموسى - عليه السلام -: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} [طه: 17]، ليلاطفه، وليؤانسه.
وفهم موسى ذلك، فلم يقل: هي عصاً وسكت، وإنما لما لذّ له الخطاب زاد في الجواب؛ ليستمر الحوار بينه وبين رب العزة {قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} [طه: 18].
قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: رحم الله موسى، إنما كان يكفيه أن يقول عصاً ولكن ارتاح لخطاب ربه فزاد في الكلام.
والله يسأله عن العصا، لأنها سوف تكون تاريخاً، وسوف تكون درساً للأجيال، وسوف تكون قروناً من العبر.
{قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى * فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى} [طه: 19-20] يا سبحان الله! إن موسى - عليه السلام - لا يعرف الخوارق، ولا هذه المفاجآت، إنه يعرف أن السماء هي السماء، لا تتغير ولا تتبدل، ويعرف أن الأرض هي هذه الأرض التي يسير عليها، وأن العصا هيا العصا، وأن الحية هي الحية.(/4)
اللَّيْلُ لَيْلٌ وَالنَّهَارُ نَهَارُ وَالأَرْضُ فِيهَا المَاءُ وَالأَشْجَارُ
فلماذا تنقلب العصا إلى حية تسعى؟! ففر موسى خائفاً، وتصور موسى وهو يفر خائفاً من رب العالمين، فيطمئنه ربه، ويهدئه {قَالَ خُذْهَا وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى} [طه: 21] فعاد فأخذها، فإذا هي عصا.
موسى - عليه السلام - فر خائفاً من عصاه، ومع ذلك أرسله الله - عزَّ وجلَّ - إلى ذاك الطاغية المجرم، الدكتاتوري السفاك، الذي كان يلقي المحاضرات، على العملاء الأغبياء البلداء، ويقول لهم: {مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38]، فيصفقون له، ويقول لهم: { أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي} [الزخرف: 51]، فيهزون رؤوسهم طرباً، ويسجدون له تذللاً.
قال بعض المفسرين: كان على قصر فرعون، ستة وثلاثون ألفاً من الحرس، كل واحد منهم يرى أن فرعون إلهه، وخالقه، ورازقه ومحييه، ومميته والعياذ بالله.
ثم قال الله لموسى: {وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} [طه: 22].
فهذه آية أخرى من آيات الله - عزَّ وجلَّ - أدخل يدك يا موسى في إبطك، ثم أخرجها، تخرج بيضاء من غير برص ولا بهق {آيَةً أُخْرَى * لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى} [طه: 22-23].
ثم بدأ التكليف بالدعوة، بدأت الرحلة الشقة المضنية، {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه: 24]، وتَصَوَّرْ موسى - عليه السلام - وهو يستمع إلى هذا الأمر الإلهي، لقد فرّ موسى من فرعون؛ لأنه تمرد عليه، وقتل شخصاً من رعيته، وقد حكم عليه فرعون بالإعدام غيابيّاً، ثم يأتي الأمر الإلهي: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه: 24].(/5)
لم يقل له اذهب إلى حاشية فرعون، أو جنود فرعون، أو أرسل إليه رسالة، وإنما أمره بالتوجه مباشرة إلى هذا المجرم الطاغية، {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ} [طه: 24] لماذا؟ {إِنَّهُ طَغَى} [طه: 24].
لقد تجاوز الحد؛ سفك دماء الأبرياء، قتل الأطفال، نشر الفساد، أرهب العباد، دمر البلاد، داس الأجيال تحت قدميه.
فماذا طلب موسى من ربه؟
وعلى الدعاة أن يتنبَّهُوا إلى هذا الطلب: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي} [طه: 25-28].
فموسى - عليه السلام - ما كان يبين في حديثه، بل كان يأكل بعض الحروف إذا تكلم، فليس في استطاعته أن يبلغ الدعوة، وسوف يضحك عليه هذا المجرم العتل، وقد فعل ذلك بالفعل، حيث عقد مقارنة بينه وبين موسى - عليه السلام - وفضل نفسه على نبي من أنبياء الله، ورسول من أولي العزم، قال في سورة الزخرف: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف: 51-52].
يقول: إنني أغنى منه مالاً، وأعظم منه سلطاناً، وأصح منه لساناً، فأنا ألقي المحاضرات، وأعقد الندوات، وموسى لا يستطيع ذلك، مع أن هذا بعد أن طلب موسى من ربه أ يحلل عقدة من لسانه، فكيف لو ذهب موسى قبل ذلك؟!
إن موسى - عليه السلام - ما طلب أن يكون أفصح الخلق، ولا أخطب الناس، وإنما طلب أن يكون كلامه مفهوماً، لتقوم بذلك الحجة على فرعون، وقد قامت، إلا أن هذا هو شأن المفسدين، يتصيدون الأخطاء للدعاة الصادقين، ولا يتورعون عن رميهم بالتهم والافتراءات التي هم منها برآء.(/6)
وطلب موسى من ربه أيضاً نصيراً، ومعاوناً له على تلك المواقف الصعبة {وَاجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي} [طه: 29-30]. سماه وعينه لربه ليختاره له، وعلل لذلك بقوله: {اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} [طه: 31-32] فإن الواجبات كثيرة، وإن التبعات جسيمة، فأريد أخي ليكون على ميمنتي فيقويني ويثبتني عند ذاك الطاغية الجبار {كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً * وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً} [طه: 33-34] فالاثنان يسبحان ويذكران أكثر من الواحد، والأخ الصالح يذكِّر أخاه إذا نسى، ويقويه إذا فتر {إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً} [طه: 35] فأنت الذي أرسلتنا، وتعلم ضعفنا، فأعنا على تلك المهمة الصعبة، وكن معنا بالتأييد والنصرة.
ثم كان الجواب من الله الواحد الأحد: {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} [طه: 36]، ولم يقل سؤالاتك، أو طلباتك، لأن المطالب مهما كثرت، ومهما عظمت فهي هينة في ميزان الله - عزَّ وجلَّ - {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82]، ثم ذكره الله - عزَّ وجلَّ - بتاريخه وماضيه، وإنعامه عليه في كل وقت، أعاد عليه ذكريات الطفولة والصبا، {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى * إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى * أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه: 37-39].
وهذه الآيات فيها قضايا أربع:
أولها: كأن الله يقول لموسى - عليه السلام -: لا تخف من فرعون، ولا تتهيب منه، فقد عصمناك منه وأنت طفل رضيع، وقد ربيناك في قصره وفي بلاطه، كنت تضربه على وجهه وأنت طفل صغير، أتخاف منه الآن وأنت في الأربعين، لا تخف منه فإنه أحقر وأهون من أن تخاف منه.(/7)
فموسى الذي ربَّاهُ فرعونُ مؤمنٌ وموسى الذي ربَّاه جبريلُ كافرُ
موسى الذي تربى في قصر فرعون، هذا القصر الذي فيه الإلحاد والقهر وشرب الخمر وعبودية غير الله، موسى هذا مؤمن ونبي من أنبياء بني إسرائيل.
وهناك موسى آخر، موسى السامري، رباه جبريل على الوحي والتوحيد والنور والعبادة، لكنه خرج كافراً مارداً بعيداً عن الله.
فلا تستغرب أن ترى شاباً من بيت متهتك، بيت منحل، بيت يعادي شرع الله، وهذا الشاب ولي من أولياء الله، كأنه من شباب الصحابة.
ولا تتعجب كذلك إذا رأيت شابّاً من يبت من بيوت العبودية، بيت ينام على القرآن، ويستيقظ على القرآن بيت يعظم تعاليم الإسلام، وهذا الشاب ينشأ شيطاناً ضالاً، فهذه حكمة بالغة، وقدرة نافذة.
ثم يستمر القرآن في تعديد نعم الله - عزَّ وجلَّ - على موسى: {إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَن يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ} [طه: 40]، ثم يذكره الله بفعلته التي فعلها {وَقَتَلْتَ نَفْساً} [طه: 40]، ولا تظن أننا نسينا النفس التي قتلتها، فإن ذلك مكتوب في كتاب، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، ولكننا غفرنا لك وفرجنا همك {وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى * وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} [طه: 40-41].(/8)
هذا تاريخ موسى أمام عينيه، وكأن الله تبارك وتعالى - يقول له: هذا تاريخك يا موسى، وتلك هي الأحداث التي مررت بها، كانت عنايتنا معك في كل حدث منها، وكان حفظنا يلاحقك في كل مكان حللت فيه {اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي * اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه: 42-43]، ولنقف الآن عند هذا الحد، لننتقل إلى قصر فرعون، نستمع إلى ذاك الحوار الساخن الذي دار بين موسى وفرعون، على موسى السلام، وعلى فرعون اللعنة، وهذا موضوع الخطبة الثانية إن شاء الله.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله. الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وإمام المتقين، وقدوة الناس أجمعين، صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيصل بنا الخطاب إلى قول الله - تعالى -: {اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي} [طه: 42]. لقد أجبت سؤالك يا موسى، فجعلت أخاك معك، وجعلته نبيّاً من الأنبياء المصطفين {وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي} [طه: 42] وهذا على معنيين، الأول لا تضعفا في الدعوة، ولا تخافا أحداً مهما بلغ عتوه وجبروته، وابذلوا ما استطعتم في سبيل تبليغ الدعوة إلى الناس.
الثاني: قيل إن قوله - تعالى -: {وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي} [طه: 42] أي لا تفترا على ذكري؛ من التسبيح، والتهليل، والتكبير، والتحميد؛ لأن موسى عندما طلب أخاه وزيراً معه قال: {كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً * وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً} [طه: 33-34]، فلا ينبغي أن تنسى يا موسى ما قطعته على نفسك من كثرة التسبيح والذكر.
فَزَادُ الرُّوحِ أَرْوَاحُ الْمَعَانِي وَلَيْسَ بِأَنْ طَعِمْتَ وَلا شَرِبْتَ(/9)
فَأَكْثِرْ ذِكْرَهُ فِي الأَرْضِ دَأْباً لِتُذْكَرَ فِي السَّمَاءِ إِذَا ذَكَرْتَ
وَنَادِ إِذَا سَجَدْتَ لَهُ اعْتِرَافاً بِمَا نَادَاهُ ذو النُّونِ بنُ مَتَّى
فزاد القلوب هو التسبيح والتكبير، وزاد الأرواح هو التحميد والتهليل، فالله يقول لموسى وهارون: أكثرا من الذكر، فإنكما ستمران بمواقف صعبة، وتكاليف ضخمة، لا تستطيعان خوض غمارها إلا بأن تكونا على قرب مني، وأن تكونا دائماً في ذكر وثناء وافتقار لجلالي {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه: 43] عاد الخطاب كما كان أول السورة. في أول السورة قال الله لموسى: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه: 24]، وهنا يقول لموسى: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى } [طه: 43] اذهبا إليه، واعلما بأنه طاغية جبار، ولكن كيف يخاطب موسى وهارون هذا الجبار؟ ما الوسيلة التي يستخدمها موسى في عرض الدعوة عليه؟ فيبين الله أن الوسيلة الناجحة في مخاطبة هؤلاء الجبابرة، هي اللين، وعدم العنف، وذلك بأن تعرض عليه الدعة بأسلوب هين لين حسن، فلعل الله أن يهديه، ولعل الله أن يشرح صدره، فلا ينبغي أن نحكم على الناس، بأن الله ختم على قلوبهم، فلا يهتدون، ولا يعقلون، ولا يفهمون، قال - تعالى -: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 43-44] ما أحسن هذا الكلام، وما أعجب هذا الخطاب، يقول عن فرعون: إنه طاغية، جبار، سفاك للدماء، ملحد، عنيد، ومع ذلك، يأمر أنبياءه باللين معه، وعدم تعنيفه وتوبيخه، لعله يستحسن الخطاب، فيستجيب إلى الحق. قال ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله - تعالى - {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً} قال: يُمنياه بالملك.(/10)
فلما دخل عليه موسى قال له: إذا أجبتنا، أبقى الله عليك ملكك، ومكنك أكثر من ذلك {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44] لعله يتذكر نعم الله عليه، وتمكينه إياه، فبعض الناس لا يأتي إلا من باب الرغبة، وبعضهم لا يستجيب إلا بالترهيب، والداعية لا بد أن يكون بصيراً بالقلوب، عالماً بطبائع النفوس، حتى يدخل على كل إنسان من الباب الذي ترجى إجابته منه.
فقال موسى وهارون: {رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى} [طه: 45]، والله يدري أنه يطغى، والله يعلم أنه جبار {قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46]، وإذا كان الله معك فلماذا تخاف؟ وإذا كان الله ناصرك فممن تخشى؟ فانطلقا بهذا المبدأ لا تخافا أحداً، ما دام الله معكما، وناصركما، ومؤيدكما.
وموسى - عليه السلام - خاف ثلاث مرات؛ مرة لما رأى العصا وقد انقلبت حية، فقال الله له: {خُذْهَا وَلا تَخَفْ} [طه: 21]، وهذه المرة، حين دخل البلاط الفرعوني {قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46]، ومرة ثالثة يوم أن نازل فرعون في الميدان أمام الجماهير {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى * قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الأعْلَى} [طه: 67-68]، {قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى * فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} [طه: 46-47].(/11)
دخل موسى عليه، ووقف هارون بجانبه، موسى يتكلم، وهارون يثبت ويساعد، والمجرم ينظر إليهما بعلو وعتو وجبروت، لأنه صور نفسه أنه ربٌّ، وأنه صانع، أنكر توحيد الربوبية، وادعى ذلك لنفسه؛ كبراً وعتوّا، وإن كان في الباطن يوقن بربوبية الله للكون، كما قال له موسى - عليه السلام -: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ وَإِنِّي لاظُنُّكَ يَا فِرْعَونُ مَثْبُوراً} [الإسراء: 102]، فلما تكلم موسى، ودعاه إلى الله- عزَّ وجلَّ - ضحك فرعون منهما، ضِحْك استهزاء واستهتار؛ لأنه مستخف بالقيم، يدوس التاريخ بقدميه يجعل المروءات خلف ظهره لا يقيم للمثل وزناً ولا قيمة.
أخذ ينظر إلى موسى على أنه راعي غنم، يحمل عصاه على كتفه، وأنه أتى من الصحراء، حيث لا حضارة ولا تقدم، ثم ينظر إلى نفسه فيرى الدنيا تحت قدميه، فيزداد كبراً وصلفاً.
وهكذا يفعل الطغاة، يوم لا يؤمنون بالله واليوم الآخر، يوم لا يصلون، ولا يخافون من الواحد الأحد، هكذا يفعل كل فرعون إلى أن تقوم الساعة.
فانبرى الخسيس من على كرسيه وسأل موسى سؤالاً تافهاً حقيراً مثله {قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى} [طه: 49]، فهو لا يعرف ربّاً ولا يؤمن بإله، فماذا كان جواب موسى: {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 50]، فإن كنت تستطيع ذلك فأنت رب، وإن كنت لا تستطيع فلست برب، وأنى لك ذلك!
قال الزمخشري: لله دره من جواب.
وقال أحدهم: والله لقد تناوله موسى بكفٍّ على وجهه، وتحت كلمة (خَلْقه)) مجلدات من العبر، وتحت كلمة (هدى) مجلدات من الصور. هدى كل شيء، هدى الطفل يوم أن وضعته أمه، لا يعرف شيئاً، ولا يبصر شيئاً، فهداه إلى ثدي أمه ليجر منه اللبن.
وهدى النحلة أن طير آلاف الأميال، لتأخذ الرحيق، وتعود مرة ثانية إلى خليتها.(/12)
وهدى الحمام الزاجل، يوم ينقل الرسائل، من مكان إلى مكان، ومن بلد إلى بلد، ثم يعود إلى مكانه لا يضل ولا يضيع.
يقول العالم الأمريكي (كيرسي ميرسون) في كتاب "الإنسان لا يقوم وحده": إنني أتعجب من النحل، وأقول: لعل النحلة معها جهاز (إريال) تكتشف به خليتها ولكن الله – عزَّ وجلَّ – يقول: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً} [النحل: 68-69]، إنه الله {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 50]، فهزم فرعون وبهت، وظهر فشله وعجزه، ولكنه أتى بسؤال آخر كالذي قبله أو أتفه منه {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى} [طه: 51]، أين ذهب أجدادنا وآباؤنا؟ {قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى} [طه: 52]، ما شأنك أنت بهذا؟ ما أهمية هذه المسألة عندك؟ أنت ذرة من الذرات، وأنت حشرة من الحشرات.
أَنْتَ لا تَعْرِفُ مَنْ أَنْتَ وَلاَ أَنْتَ لا تَدْرِي بِمَاذَا قَدْ تَؤولُ
أَنْتَ مَخْلُوقٌ حَقِيرٌ بَائِسٌ أَنْتَ لا تَدْرِي إِلَى أَيْنَ الرَّحِيلُ
{قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى} [طه: 52]
فهزمه موسى مرة ثانية، وانتصر عليه، وفضحه أمام الجماهير، وبين عجزه أمام الأجيال. وبقي موسى إلى قيام الساعة يذكر في مواكب الأنبياء المخلصين، وفي مواكب الدعاة الخالدين.
أيها المؤمنون:
في هذه القصة دروس وعبر:
أولها: الاعتصام بلا إله إلا الله.
فهذه الكلمة من أجلها أنزلت الكتب، وأرسلت الرسل، وخلقت السماوات والأرض، وأقيمت المعالم، وبذلت الأموال، وشهرت السيوف.(/13)
فلا بد أن نعتصم بهذه الكلمة، ولا بد أن نفتخر بهذه الكلمة، ولا بد أن تسيطر على حياة كل واحد منا؛ على الأمير، على الوزير، على القاضي، على المسؤول، على الصحفي حين يكتب، على الشاعر حين ينظم، على الأديب حين يبدع.
ثانياً: قضية الصلاة، فالدين يقوم على الصلاة، فلا دين بغير صلاة، ولا صلاة بغير دين.
ثالثاً: قضية الإيمان باليوم الآخر، فإذا لم نجعل هذه القضية أمامنا، وفي أذهاننا، فلا سلام، ولا أمن، ولا استقرار، ولا طمأنينة، لأن الذين نسوا اليوم الآخر، تقاتلوا، وتحاسدوا، ودمر بعضهم مدن بعض، وأطلقوا صواريخهم، وقتلوا الآمنين، كل ذلك لأنهم لا يؤمنون باليوم الآخر.
رابعاً: قضية النصرة، ينبغي أن نعلم أن الله - عزَّ وجلَّ - ينصر أولياءه، ويدافع عن أحبابه، ولو ظهروا على الساحة أنهم هم المهزومون، هم القليلون، هم المضطهدون، فالعاقبة لهم، والنصر حليفهم.
{إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا الذينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ} [غافر: 51].
خامساً: قضية الشكر، فالله - عزَّ وجلَّ - يطلب من العبد أن يتذكر المعروف، وأن يشكر النعم، وأن يحفظ الأيادي.
سادساً: على الداعية أن يعرف مداخل القلوب، وألا يكون عنيفاً في أسلوبه، مجرّحاً للشعور {وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159].
دخل أحد الأعراب على هارون الرشيد، الخليفة العباسي الكبير، فقال الأعرابي: يا هارون. قال: نعم. قال: إن عندي كلاماً شديداً قاسياً فاستمع له. قال هارون: والله لا أسمع، والله لا أسمع، والله لا أسمع. قال: ولم؟ قال: لأن الله أرسل من هو خير منك، إلى من هو شر مني، ثم قال له: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44].
فاللين في الدعوة مطلوب، وأدب الحوار مطلوب، وإنزال الناس منازلهم مطلوب، ومراعاة شعور الآخرين مطلوب.(/14)
سابعاً: لا خوف على المسلم، فإن النفوس بيد الله، والأرزاق في خزائن الله، فهو الذي يحيى ويميت، ويغني ويعدم، وينفع ويضر، بيده مقاليد كل شيء، لا إله إلا هو، ولا رب سواه.
هذه بعض دروس قصة موسى - عليه السلام - وأكثر سور القرآن، تحلق بنا دائماً مع موسى - عليه السلام.
فقصته طويلة، وأحداثها متعددة، فيها العبرة، وفيها العظة، وفيها السلوى، وفيها الثبات على المبدأ.
فسلام الله على موسى في الأولين، وسلام على موسى في الآخرين، وشكر الله سعيه.
أما فرعون وأتباعه فـ {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 46].
عباد الله:
صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ على نبيك وحبيبك محمد - صلى الله عليه وسلم - واعرض صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة يا رب العالمين، وارض اللهم عن الصحابة الأطهار، من المهاجرين والأنصار، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين.(/15)
العنوان: منطق العولمة في اغتيال الشيخ ياسين!!
رقم المقالة: 597
صاحب المقالة: خليل محمود الصمادي
-----------------------------------------
قبل ثلاثة أعوام قامت إسرائيل بجريمة نكراء، استقوت فيها على شيخ مقعد، بقصفه بالطائرات وهو عائد من أداء صلاة الفجر بالمسجد القريب من بيته، إنه الشيخ أحمد ياسين تقبله الله، وجعله مع الشهداء والصديقين، في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
لقد ظن منفذو الجريمة أنهم - باغتيال الشيخ وبعدها اغتيال الدكتور عبد العزيز الرنتيسي، - قصموا ظهر حماس أو كادوا، ولم يبقَ إلا أيام معدودة لنعي الحركة!!
سارعت إسرائيل بالابتهاج بقصف موكب الشيخ العائد إلى قواعده بعد جريمة صلاة الفجر جماعةً في المسجد واختفى منطق الإدانة منذ اللحظات الأولى من قبل العالم المتمدن أو الحضاري أو الإنساني أو الراقي - قل ما شئت فليس كل ما يلمع ذهباً - لا بل سارعت كثير من هذه الدول إلى إدانة الشيخ، يرحمه الله.
بعد استشهاده بساعات أدانت واشنطن خروجه لصلاة الفجر في المسجد!! فهي لا تمانع الصلاة ولكن تريد من الفلسطينيين أن يطبقوا السنة بما ورد في الحديث الشريف: ((صلوا في رحالكم))[1]؛ لأن في خروج الشيخ في ساعات مبكرة من الليل يؤدي إلى التهلكة، وهذا ما نهى عنه الشرع الحكبم!!
وأضافت: إنَّ من حق إسرائيل الدفاع عن نفسها ضد الشيخ وأمثاله، وعلى الفلسطينيين أن يراعوا ضبط النفس!!
أما الموقف الأوروبي - ولاسيما بعد هذه الجريمة النكراء التي لا يختلف اثنان في إدانتها - فقد آثر الصمت، لا بل وصل الحد إلى أنَّ السفير اليوناني في دولة خليجية سحب تعزية سفارته باستشهاد الشيخ أحمد ياسين التي قُدمت للسفارة الفلسطينية - ربما على عجالة فاليونانييون عاطفيون شرقيون أمثالنا نحن العرب - فقد وصلته تعليمات من بلاده بهذا الخصوص؛ لأن الموقف الأوروبي يعتبر حركة حماس منظمة إرهابية وأن الشيخ ياسين لم يكن منتخباً من الشعب الفلسطيني.(/1)
وانتظر الناس قرارات مجلس الأمن، التي توقع الطيبون أنها ستكون هذه المرة عادلة؛ فالقضية لا يتجادل اثنان في وضوحها، ولكن جاءت القرارات مخيبة للآمال، إذ استخدمت دولة الحرية والديمقراطية حقها في استخدام الفيتو!!
ماذا نقول بعد كل هذه الإدانات في حق الشيخ الإرهابي، من منظور العولمة، الذي يبدو كأنه قصفَ طائراتِ شارون من كرسيه المتحرك!!
هل الشيخ ياسين - رحمه الله - كان منتخبا من الشعب الفلسطيني أم لا؟ وما هي آلية الانتخاب في منطق العولمة؟ وكيف يصبح الزعيم منتخباً ومحبوباً من شعبه في نظرهم؟
أيظنون أن المقعد المتحرك الذي لازم الشيخ ياسين منذ مطلع شبابه هو دبابة أمريكية أو روسية الصنع ومن خلالها احتل قطاع غزة وفرض الأحكام العرفية ثم أشرف على انتخابات هزلية جاءت به على السلطة بنسبة 99،99%!!
ربما اختلطت الأمور على الأمريكيين والأوروبيين وعلى السفير اليوناني وبلاده، فالديمقراطية الأوربية والأمريكية لم تفرق بين الدبابة وكرسي الشلل، أو بين عصا المقعد وطائرات الأباتشي!!
هل تعاموا عن الشعبية التي حظي بها الشيخ قبل استشهاده وبعده؟!! أم أن وسائل الإعلام عندهم تديرها أيادٍ لا تنقل إلا رأياً واحداً، كما في البلدان الديكتاتورية.(/2)
لقد عرف الناس الشيخ في قطاع غزة منذ عقود طويلة، عرفه الصغير والكبير، والصديق والعدو، لقد استولى على قلوب الناس بأسلحة الحبِّ القوية، لقد فرض احترامه على الجميع بقوانين العدل والهمة العالية، لم يترك أهله في محنهم الشديدة، ساعد الجميع بكل ما استطاع من قوة، أسَّس البنية التحتية لأهل قطاع غزة، ساهم في إنشاء الجمعيات الخيرية التي كانت تواسي آلاف العائلات المشردة، فتح المشافي والمدارس والصيدليات ومشاغل الخياطة، وافتتح دوراً لحضانة الأطفال ومدارس عديدة، وحتى الجامعة الإسلامية، كان من مؤسسيها، ورعى الأرامل والأيتام، لقد انتخبه الشعب الفلسطيني بقلبه وعقله ووجدانه، وكيف لا ينتخب من لا يضمد جراحه في مآسيه الكثيرة.
وهل الذي يحظى بهذا الحب بحاجة لصناديق اقتراع مزيفة وإذاعة مأجورة وصحافة صفراء؛ ليبرهن للعالم أن الشعب يهتف باسمه صباح مساء وليل نهار؟!!
عاش الشيخ في غزة معلماً ومرشداً ومصلحاً وقاضياً بعيداً عن الأضواء، يفض النزاع بين الناس بالحق والعدل كانت أحكامه - في أغلب الأحيان - مبرمة، غير قابلة للطعن أو الاستئناف؛ لأن المتخاصمين رضوا بحكمه، وذلك قبل قدوم السلطة وبعدها.
احترمه الجميع بل أحبوه، كان - رحمه الله - صِمام أمان للوحدة الوطنية؛ حرَّم الاقتتال بين الفلسطينيين تحت أي ظرف من الظروف، كان حليماً تحمَّل كثيراً من التصرفات الحمقاء والقرارات الجائرة التي اتخذت بحقه من قبل ذوي القربى، تحمل ذلك وصرَّح أكثر من مرة بأنه لا يريد أن يفرِّح أعداءنا بإراقة دمائنا، وكثيراً ما كان يردد الآية الكريمة {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [المائدة:28].
بهذه الأخلاق الرفيعة والأفعال الحميدة وصل الشيخ إلى الناس فانتخبته قلوبهم وعقولهم.(/3)
يبدو أن الإعلام الأوروبي والأمريكي ومن يدور في قطبهم لم يكن على اطلاع بما يحظى به الشيخ من محبة وشعبية، قلما تحدث لزعيم في العصر الحديث!!
ألم يشاهدوا الملايين التي خرجت في غزة وغيرها من دول العالم الإسلامي منددة باغتيال الشيخ؟
هل سيقت هذه الشعوب بالعصا والتهديد من الطرد من الوظيفة إن لم يشاركوا في تأبين الشيخ، أم أن مخابرات الشيخ كانت ترصد من لا يخرج في الجنازة؟
وها هم اليوم يشاهدون بأمهات أعينهم ما زرعه الشيخ بين شعبه، فالبذور الصغيرة التي زرعها في غزة والضفة تحولت إلى أشجار باسقة ولم تجتث من الأرض، برغم قوة الرياح والأعاصير؛ لأنها من أصل طيب ومن بذرة طاهرة، أتت أكلها بعد استشهاد الشيخ وها هي صناديق الانتخابات التي راهن عليها كثيرون أثبت طيب هذا الثمر وبرهنت على مكانة الشيخ في قلوب الناس حتى بعد استشهاده.
في ديمقراطية العولمة تحول كرسي الشيخ إلى دبابة، استولى بها على البلاد والعباد، وأذاقهم الذل والهوان، وتحولت عصاه الخشبية إلى بندقية حربية من العيار الثقيل، وتحولت دبابات شارون إلى كراسٍ متحركة تحمل منطق العولمة المشلول!!
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((سيأتي على الناس سنوات خدَّاعات، يُصَدَّق فيها الكاذب، ويُكَذَّب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويُخَوَّن فيها الأمين، وينطق فيها الرويْبِضَة، قيل: وما الرويْبِضَة يا رسول الله؟ قال: الرجل التافه الحقير ينطق في أمر العامة))؛ ابن ماجه: (أشراط الساعة/24).
---
[1]هذا جزء من حديث متفق عليه عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يأمر المؤذن إذا كانت ليلة باردة أو ذات مطر في السفر أن يقول: ((ألا صلوا في رحالكم)).(/4)
العنوان: منقبة للملك فيصل - قدس الله روحه
رقم المقالة: 838
صاحب المقالة: د.محمد تقي الدين الهلالي
-----------------------------------------
قبل بضع سنين كنت مقيماً في باريس، عند أحد الإخوان من الموحدين. وكنت قد سمعت أن الطبيب الجراح الشهير الدكتور موريس بوكاي، ألف كتاباً بين فيه أن القرآن العظيم هو الكتاب الوحيد الذي يستطيع المثقف ثقافة علمية عصرية، أن يعتقد أنه حق منزل من الله - تعالى - ليس فيه حرف زائد، ولا ناقص، وقلت للأخ الذي أنا مقيم عنده، أريد أن أزور الدكتور موريس بوكاي؛ لأعرف سبب نصرته لكتاب الله، ولرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يجبني بل ذهب إلى الهاتف "التليفون"، وتكلم مع الدكتور موريس بوكاي، وقال له: إن عندي الدكتور محمد تقي الدين الهلالي البالغ من العمر سبعاً وثمانين سنة، يريد أن يزورك، ويتحدث معك.(/1)
فقال له: أنا أزوره الآن، وبعد قليل طرق الباب، فذهب صاحب البيت وفتح الباب، فإذا الدكتور موريس بوكاي قد جاء، فدخل علينا؛ ففرحنا بزيارته، وقلت له: أرجو من فضلك أن تحدثنا عن سبب تأليفك لكتابك: "التوراة والإنجيل والقرآن، في نظر العلم العصري" فشرع يتكلم، فقال لي: إنه كان من أشد أعداء القرآن والرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - وكان كلما جاءه مريض مسلم محتاج إلى علاج جراحي يعالجه، فإذا تم علاجه وشفي يقول له: ماذا تقول في القرآن هل هو من الله - تعالى - أنزله على محمد، أم هو من كلام محمد نسبه إلى الله افتراء عليه؟ قال: فيجيبني هو من الله، ومحمد صادق، قال فأقول له: أنا أعتقد أنه ليس من الله، وأن محمداً ليس صادقاً، فيسكت، ومضيت على ذلك زماناً حتى جاءني الملك فيصل بن عبد العزيز، ملك المملكة العربية السعودية. فعالجته علاجاً جراحياً حتى شفي، فألقيت عليه السؤال المتقدم الذكر، فأجابني: بأن القرآن حق، وأن محمداً رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صادق. قال: فقلت له: أنا لا أعتقد صدقه. فقال لي الملك فيصل: هل قرأت القرآن؟. فقلت: نعم قرأته مراراً وتأملته. فقال لي الملك فيصل: هل قرأته بلغته، أم بغير لغته، أي بالترجمة فقلت: أنا ما قرأته بلغته، بل قرأته بالترجمة فقط، فقال لي: إذن أنت تقلد المترجِم، والمقلد لا علم له، إذ لم يطلع على الحقيقة، لكنه أُخْبِر بشيء فصدقه، والمترجِم ليس معصوماً من الخطأ والتحريف عمداً، فعاهدني أن تتعلم اللغة العربية، وتقرأه بها، وأنا أرجو أن يتبدل اعتقادك هذا الخاطئ.
قال: فتعجبت من جوابه، فقلت له: سألت كثيراً قبلك من المسلمين، فلم أجد الجواب إلا عندك.
ووضعت يدي في يده، وعاهدته على أن لا أتكلم في القرآن، ولا في محمد إلا إذا تعلمت اللغة العربية، وقرأت القرآن بلغته، وأمعنت النظر فيه، حتى تظهر لي النتيجة بالتصديق، أو بالتكذيب.(/2)
فذهبت من يومي ذلك إلى الجامعة الكبرى بباريس، إلى قسم اللغة العربية، واتفقت مع أستاذ بالأجرة أن يأتيني كل يوم إلى بيتي، ويعلمني اللغة العربية ساعة واحدة، كل يوم، حتى يوم الأحد الذي هو يوم الراحة، ومضيت على ذلك سنتين كاملتين لم تفتني ساعة واحدة، فتلقيت منه سبع مئة وثلاثين درساً، وقرأت القرآن بإمعان، ووجدته هو الكتاب الوحيد، الذي يضطر المثقف بالعلوم العصرية أن يؤمن بأنه من الله، لا يزيد حرف ولا ينقص، أما التوراة، والأناجيل الأربعة ففيها كذب كثير لا يستطيع علم عصري أن يصدقها. انتهى ما دار بيني وبينه من الحديث في هذا الشأن.
وكان في الحاضرين شاب مغربي، تعلم الطب في المغرب، وبُعِث إلى فرنسا ليتدَّرب، فقال للدكتور موريس بوكاي: إن القرآن يقول في آخر سورة لقمان: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ}[1] ويقول علماء المسلمين إن هذه الخمس لا يعلمها إلا الله، وعلماء هذا العصر يعلمون ما في الأرحام، فغضب الدكتور موريس بوكاي، وقال: هذا كذب، ها أنت تدعي أنك طبيب، فتعال معي إلى المستشفى الخاص بي، وأعرض عليك نساءً حوامل، فأخبرني بما في بطونهن، بدليل علمي. فأسقط في يد الشباب[2].
للمزيد حول هذا الموضوع انقر على الرابط التالي: (هل يمكن معرفة جنس المولود في الرحم؟)
وقال الدكتور موريس بوكاي: لو علمت أن مثل هذا الشباب موجود في هذا المجلس ما زرتكم.
والآن أذكر شيئاً قليلاً مما في التوراة مِن الكذب الواضح، الذي لا يعتقده مَن يؤمن بالأنبياء ويصدقهم.(/3)
فمن ذلك أن يعقوب - عليه السلام - سمع أن زوجة ابنه، قاعدة بجانب الطريق تزني بالأجرة، فبعث إليها فجيء بها فأمر برجمها بعدما اعترفت، فقالت له: مهلاً، وأخرجت ثوباً، وناولته إياه قائلة: لمن هذا الثوب؟ فقال: هذا ثوبي. فقالت له: أنت زنيت بي، وأعطيتني هذا الثوب أجرة، فارجم نفسك أولاً، ثم ارجمني.
الكذبة الثانية: أن لوطاً - عليه السلام - كان يسكن في جبل في فلسطين، وكانت له ابنتان بالغتان، ولم يكن له ولد ذكر، فقالت الكبرى للصغرى نحن نسكن في هذا الجبل وحدنا، وقد بدأ والدنا يتقدم في السن، فلو مات لم نستطع أن نبقى وحدنا هنا، فتعالي نسقى والدنا خمراً في ليلة، فإذا سكر أنام معه أنا، وبعد عدة ليال إذا حملت أنا، نسقيه خمراً أخرى فتنامين أنت؛ لعل الله يرزقنا ولدين ذكرين، يقومان بحمايتنا، فسقتاه خمراً فسكِر، فنامت معه الصغرى، فحملت وولدت كل واحدة منهما ولداً ذكراً، فكان كل واحد من الولدين حبراً لقبيلة من قبائل بني إسرائيل.
الكذبة الثالثة: أن نوحاً - عليه السلام - شرب الخمر فسكر فانكشفت عورته - وكان له ثلاثة من الأولاد: سام، ويافث، وحام - فذهب حام ووجد أباه نوحاً سكران مستلقياً على ظهره، مكشوف العورة، فرجع وأخبر أخويه ساماً، ويافث، فأخذا غطاء، وجعلا يمشيان إلى الوراء؛ حتى لا يريا عورة أبيهما، فلما وصلا إليه، ألقيا عليه الغطاء، ثم انصرفا، فلما أفاق أبوهما نوح - عليه السلام - وعلم بذلك، دعا على حام أن يجعل الله ذريته عبيداً لذرية أخويه، فصار أبناؤه كلهم سوداً يباعون في الأسواق عبيداً، وأبناء سام ويافث بيضاً سادة.
قرأت هذا في التوراة باللغة العبرانية، لما كنت أدرسها في ألمانيا، واسمها العربي في كتاب "تخطيط البلدان"، لابن الفقيه البغدادي المتوفى في آخر القرن الثالث الهجري "جرمانية".(/4)
والمراد بكتابة هذا المقال تنبيه القراء إلى ما خص الله به الملك فيصل - رحمه الله - من الذكاء الذي كان سبباً في انقلاب الدكتور موريس بوكاي من عدو لدود للنبي محمد - صلى الله عليه وسلم - ولدينه الحق اليقين إلى صديق حميم يدافع عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن القرآن، بكل ما عنده من القوة، وقد أخبرني في ذلك المجلس أن كتابه المذكور ترجم باثنتي عشرة لغةً، منها العربية والإنجليزية، وقد حضر مؤتمرات كثيرةً في جميع أنحاء العالم، وألقى أحاديث طويلة في إقامة الحجة على صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - وأن القرآن من الله - تعالى - ليس فيه زيادة ولا نقصان، وقد أخبرني - لما اجتمعت به - أن وزير الإعلام المغربي دعاه ليلقي محاضرات في المغرب، ووعده خيراً، ثم جاء إلى المغرب وألقى محاضرات عديدة.
وهذا الرجل وأمثاله حجة في هذا العصر على المرتدين من أبناء المسلمين، الذين يزعمون أن العلم العصري هو سبب كفرهم، وقد أقمت الحجة في كتابي: "دواء الشاكي، وقامع المشككين" على كذبهم وأن كفرهم ناشئ عن الجهل بالعلوم القديمة والجديدة، وأقمت عليهم الحجة القاطعة. المذكورة في ذلك الكتاب بأن زرت جميع السفارات، بل أكثرها التي دولها (ديموقراطية) يستطيع كل واحد من أهلها أن يصرح بعقيدته. فسألت الملحق الثقافي في كل سفارة: كم عدد الملحدين في دولتكم؟ فوجدت أكثر الملحدين في الولايات المتحدة الأمريكية، وهو ثلاثة في المئة، وقال لي الملحق الثقافي في سفارة الولايات المتحدة الأمريكية في الرباط: إن الثلاثة في المئة ليس كلهم يجحدون ربوبية الله - تعالى - بل كثير منهم يكفرون بالكنيسة فقط؛ لأن الكنيسة الكاثوليكية، إذا خطب رجل تابع للكنيسة البروستانتية امرأة كاثوليكية يحرمونها عليه، فيكفر بالكنيسة، وتكفر المرأة بها فيتزوجان زواجاً مدنياً.(/5)
أما ضلال النصارى وكذبهم على عيسى، وزعمهم أن الله - تعالى - ثلاثة أقانيم: الأول: هو الأب. الأقنوم الثاني: الابن. الأقنوم الثالث: روح القدس. وغير ذلك من أكاذيبهم وتناقضهم، يشتمل عليه كتابي "البراهين الإنجيلية على أن عيسى داخل في العبودية، ولاحظ له في الألوهية" وقد طبع منه صاحب السماحة والمعالي رئيسنا الجليل الأستاذ الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز - أطال الله بقاءه، وأدام عزه وارتقاءه - عشرين ألف نسخة، وكتب إلي الإخوان من المملكة الأردنية، راجين الإذن في إعادة طبعه، وقالوا لي فيه: لم نزل نناظر النصارى فلم نتغلب عليهم إلا بهذا الكتاب، لما ناظرناهم به انهزموا شر هزيمة، وكتب إلي شخص من البلاد الفارسية، التي بدَّل أهلُها اسمها بكلمة إيران التي لا وجود لها في التاريخ.
وسبب إملاء هذا الحديث أني سمعت هذه القصة في إذاعة المملكة العربية السعودية بالرياض، فظهر لي أن الأستاذ الذي ألقاها إنما اعتمد على رأيه في الكتاب فقط، ولم يجتمع بالدكتور موريس بوكاي، ولا أخبره بسبب تأليفه الكتاب، فأردت إفادة المستمعين لإذاعة المملكة العربية السعودية وغيرها، أن يعرفوا السبب ويزيدوا علماً بما خص الله به الملك فيصل بن عبد العزيز - قدس الله روحه - من الفضائل والمناقب. والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
ـــــــــــــــــــــ
[1] لقمان، من الآية 34.
[2] كذا كانت حجة الدكتور موريس بوكاي آنذاك، ولعل هذا كان هو الفهم السائد في ذلك الوقت، والآن وبعد ظهور الموجات الصوتية، وغيرها من أجهزة الكشف الطبي قد يتوصل الطبيب لمعرفة نوع الجنين، وتبقى بعض المعلومات غائبة عنه مهما ادعى، كلون البشرة مثلا، ونوع الشعر، ولون العيون، وما إلى ذلك، مما لم تستطع أجهزة الكشف تحديده، كما أشار إلى ذلك بعض المفسرين المعاصرين.(/6)
العنوان: منكرو السنة.. تاريخ حافل بالزندقة والعمالة والجهل والضلال
رقم المقالة: 1078
صاحب المقالة: أحمد أبو زيد
-----------------------------------------
منكرو السنة.. تاريخ حافل بالزندقة والعمالة والجهل والضلال
ملاحقة أمنية وقضائية لهم في مصر على مدى 20 عاما
• زعيم المنكرين للسنة في مصر فصل من جامعة الأزهر بسبب عدائه للسنة، وقد احتضنته أمريكا، وجعلته مفكرا إسلاميا يستحق الرعاية.
• الذين ينكرون السنة ويكذبون بها زنادقة مرتدون ملحدون بإجماع العلماء لإنكارهم معلوماً من الدين بالضرورة، ومن الخطأ تسميتهم بالقرآنيين.
• صبحي منصور تربطه صداقة برشاد خليفة الذي ادعى النبوة، وسعد الدين إبراهيم مدير مركز ابن خلدون المشبوه والذي يخضع بالتبعية للأمريكان واليهود.
• أنشأ المكذبون موقعا على شبكة الإنترنت تحت اسم "أهل القرآن" لنشر أفكارهم الضالة ضد الإسلام والسنة المطهرة.
• أحدهم طالب لجنة الحريات الدينية الأميركية بضرورة إلغاء الأحاديث النبوية ومنع تدريسها في المدارس المصرية، بزعم أنها تمثل نوعاً من القيود الدينية على حرية ممارسة العقيدة.
• معاقبة ثمانية متهمين منهم بالسجن ثلاث سنوات مع الشغل والنفاذ عام 2002م بعد أن اعترفوا بترويجهم لفكر متطرف منحرف، ينكر السنة والإسراء والمعراج والشفاعة.
• أجمعت الأمة على وجوب العمل بالسنة، واعتبارها أصلا من أصول التشريع، والمصدر الثاني له بعد القرآن الكريم.
• شيخ الأزهر: من ينادي بالاعتماد على القرآن الكريم فقط وإغفال السنة جاهل لا يفقه الدين ولا يعرف أركانه والثوابت والأسس التي يقوم عليها.
• • • •(/1)
بين الحين والآخر تظهر في مصر شرذمة قليلون من أولئك النفر المأجورين الذين ينكرون السنة النبوية المطهرة ويكذبون بها، ويطلقون على أنفسهم لقب "القرآنيين"، وهم في الحقيقة أبعد ما يكونون عن جوهر هذا اللقب، فهم زنادقة مرتدون ملحدون بإجماع العلماء، ومن الخطأ والخطر تسميتهم بالقرآنيين، فما هم بقرآنيين، ولكنهم أعداء القرآن، والقرآن منهم براء، ولو كانوا قرآنيين حقا لما أنكروا ما أوجب الله اتباعه في القرآن، بل هم كما سماهم أئمة الإسلام "أهل الزيغ والزندقة والضلال"؛ لأن الذي يؤمن بالقرآن الكريم حقا، هو الذي يطيع الرسول محمدا –صلى الله عليه وسلم– ويتبع سنته الفعلية والقولية والتقريرية، أما الذي ينكر السنة ويكذب بها، فهو بإجماع العلماء مرتد خارج عن ملة الإسلام، فكيف يكون قرآنيا؟!!
تاريخ إنكار السنة:
وإذا نظرنا إلى تاريخ هذه الفرق الضالة المكذبة بالسنة، نجد أنها بدعة ضالة قديمة، ظهرت في القرن الثاني الهجري، ثم وئدت في بعض حالاتها بالحجة والحوار بين علماء الأمة وبين أهل هذه البدعة، لكن حالات أخرى اقتضت المواجهة، عندما استفحلت الفتنة، وأراد أصحابها أن يستبدلوا بشريعة الله شريعة الأهواء.
وارتبط ظهور هذه الفرقة وتاريخها، بظهور فرقة الشيعة وموقفهم العدائي من صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد بيعتهم لأبي بكر الصديق إماماً وخليفة للمسلمين، إذ أرادوا ألا يؤم المسلمين أحد من غير بيت النبوة إلى يوم القيامة، ورفضوا كل ما يأتي من أخبار وروايات وأحاديث عن طريقهم، بعد أن حكموا عليهم بالكفر والخروج من ملة الإسلام!!.(/2)
ومنذ بدايات القرن الثالث، لم يسمع أحد عن هذه البدعة، ولم يأت ذكرها في كتب التاريخ أو الملل والنحل، حتى أتى الإنجليز إلى واحدة من مراكز الإمبراطوريات الإسلامية منذ قرن ونصف القرن من الزمان وهي الهند، وسعوا إلى إسقاطها بكل الوسائل الممكنة، السياسية والاقتصادية والعسكرية، وعرفوا أن السبيل الأول لتحقيق هذه الأهداف، لن يكون يسيراً قبل سقوط العقيدة الإسلامية الصحيحة، من نفوس وقلوب وعقول المسلمين في الهند الكبرى، واستطاعوا من خلال أصحاب الشهوات والمطامع أن يخترقوا جدران الدعوة، وأن يصنعوا شرخاً بين صفوف الدعاة، وأن يؤججوا فتنة عاصفة بين علماء الأمة، مستغلين مساحة الجهل والأمية التي اتسعت رقعتها بين مجتمعات الإمبراطورية، فتصدع البناء، وانهارت الجدران لتسقط على رؤوس المسلمين، وتنتهي إمبراطورية الإسلام في الهند.
وكانت تلك البدعة التي اعتمد عليها الإنجليز هي الاكتفاء بأحد مصدري التشريع الإسلامي وهو كتاب الله الكريم، والاستغناء عن المصدر الثاني وهو السنة النبوية المطهرة، وذلك بالتشكيك ابتداء في شرعية هذه السنة، ثم التشكيك في صدق ما ورد بها من أحكام وتشريعات، ولتحقيق هذين الهدفين المتلازمين، اتخذوا سبلا عديدة، تعتمد التشكيك في متن الأحاديث، وطرق روايتها، والرواة، ومن ثم إسقاط الأحكام التي وردت بها.
ومن الهند انتشرت هذه البدعة إلى العراق ومصر وليبيا وإندونيسيا وماليزيا وغيرها من بلاد المسلمين.. ففي مصر بدأت دعوة منكري السنة في عهد محمد علي باشا، عندما بدأت البعثات العلمية تغدو وتروح لتلقي العلم في إيطاليا عام 1809م، ثم في فرنسا بعد ذلك.(/3)
ومن خلال جامعة القاهرة، بعد ذلك، ثم الجامعة الأمريكية البروتستانتية الإنجيلية بالقاهرة، فتحت الأبواب لعشرات المستشرقين الذين وفدوا إلى مصر للتدريس في كليتي الآداب ثم دار العلوم، فأعدوا أجيالاً من الأتباع والتلاميذ، ما زالوا هم طليعة الكتاب ورجال التدريس، وبرز منهم نفر كثير من منكري السنة، وانقسم هؤلاء إلى ثلاثة أقسام:
1- قسم هدف إلى نبذ الدين وهدم كل ما يمت بصلة إلى الله.
2- قسم أنكر السنة إجمالاً مدعياً أن القرآن فيه ما يكفي لتشكيل الحياة.
3- قسم أنكر بعض السنة وأخذ بعضها مما يتوافق مع هواه وعقله.
وتتفق المصادر التاريخية على أن منابع التلقي لجماعات منكري السنة، هي أربعة مصادر، تتمثل في الخوارج والشيعة والمعتزلة ثم المستشرقين في العصر الحديث.
زعيم المكذبين:
وإذا نظرنا إلى زعيم هؤلاء المنكرين للسنة في مصر، في الوقت الحالى، الذي سعى إلى إحياء هذا الفكر الضال منذ سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، وهو (أحمد صبحي منصور)، الذي يصفه الصهاينة والأمريكان بأنه "مفكر إسلامي"، نجد أنه قد تخرج في كلية اللغة العربية بجامعة الأزهر، ثم عمل بالتدريس لطلبة الأزهر، وبدأ يلفت الأنظار إليه بما يطرحه من آراء مخالفة لإجماع المسلمين، ومعادية للسنة النبوية، وقد بدأ نضاله الفكرى في حرب الإسلام والسنة المطهرة منذ سنة 1977م، بالبحث والمقال والكتاب والندوات، وصودرت بعض كتبه، وانكشف أمره من طلابه، واعترف في التحقيقات بضلاله الذي تمسك به، فأصدر الأزهر قراراً بفصله من الجامعة عام 1987م، بسبب إنكاره للسنة النبوية، وتطاوله على علماء الحديث النبوي مثل البخاري، الذي يتهمه بالعداوة للإسلام والقرآن، وقيامه بتأسيس مذهب الاكتفاء بالقرآن كمصدر للتشريع الإسلامي.(/4)
وقد التقى معه رشاد خليفة في مصر، ثم ذهب هو إليه في أمريكا، ورشاد خليفة هذا هو كبير زنادقة العصر الحديث، إذ ادعى النبوة فتلقفته أمريكا، وظل في أحضان الأمريكان حتى قتل هناك في أوائل التسعينيات، وكان يرى أن السنة من عند الشيطان، وأن الآيات القرآنية التي لم تخضع لنظرية الرقم (19) هي آيات شيطانية ليست منه، وأن علماء المسلمين وثنيون، والإمام البخاري (كافر)، وأنه –أي رشاد خليفة الهالك- يتلقى الوحي منذ بلغ سن الأربعين الذي لا حساب من الله لمن لم يبلغه، وأنه أعظم من موسى وعيسى ومحمد؛ لأن معجزاتهم لم نرها، أما معجزة الكمبيوتر والرقم (19) التي جاء هو بها، فهي باقية مرئية الآن، وكان يقول: إن شهادتكم وصلاتكم وصيامكم وزكواتكم وحجكم غلط، ووظيفتي كرسول أن أصححها لكم!!.
وقد عاد صبحي منصور إلى القاهرة، ووضع قدميه على أحد المنابر بالقاهرة، يبشر بدعوته الجديدة التي تقوم على تسفيه كل ما ورد في السنة النبوية من أحكام، إلا أن عوام المسلمين الذين لم يستوعبوا الدعوة الخبيثة، استشعروا الكفر البواح فيما يقول، فحملوه على أكتافهم إلى قسم الشرطة، حيث أودع في السجن عدة أسابيع، ثم خرج ليعمل محاضراً بالجامعة الأمريكية في القاهرة لعدة شهور - كالعادة تجاه كل من يعادي الإسلام وتتولاه أمريكا بالرعاية - إلى أن تفرغ للعمل في مركز ابن خلدون بالقاهرة، لمدة خمس سنوات، مع مديره سعد الدين إبراهيم، وهو المركز المشبوه المعروف بتبعيته للأمريكان واليهود وعدائه الفج للإسلام، والذي داهمته الشرطة المصرية عام 2000م، وقبضت على مديره بتهمة خيانة الوطن.
وبعد المشكلات القضائية التي واجهها المركز ومديره وانتهت باغلاقه، لجأ صبحي منصور إلى الولايات المتحدة الأمريكية، خوفا من اعتقاله في مصر، ليعمل مدرسا في جامعة هارفارد، وبالوقفية الوطنية للديمقراطية، ثم لينشئ مركزه الخاص تحت اسم "المركز العالمي للقرآن الكريم".(/5)
كما أسس مع آخرين في واشنطن (مركز التنوع الإسلامى) سنة 2004م، وأسس مع ناشطين أمريكيين في بوسطن (مركز مواطنون من أجل السلام والتسامح) سنة 2005م، وشارك في إدارة مركز (التحالف الإسلامى ضد الإرهاب) في واشنطن منذ 2005م
وبعد أن استقرت أحواله نوعا ما، بدأ حربه للسنة على ساحة الإنترنت، منذ أكتوبر 2004م، إذ أنشأ موقعا على الشبكة يدعى "أهل القرآن"، وهو ينشط الآن في نشر مقالاته وكتبه الضالة، على موقعه هذا وعلى بعض المواقع الأخرى، وتلقى صدى واسعا من قبل أعداء الإسلام، ويتم ترجمة بعضها للإنجليزية.
التكذيب بالسنة:
وفكر التيار القرآني، كما يعلنه صبحي منصور، يقوم على اعتبار أن التيار السلفي الذي يؤمن بالقرآن والسنة هو أكبر عدو للإسلام ، فهذا التيار السلفى –كما يقول- يقوم أساسا على الرجوع للأحاديث التي تمت كتابتها بعد وفاة النبي –صلى الله عليه وسلم- ويسميها (سنة)، وينسبها للنبى محمد -عليه السلام- وهذا ما لا نوافق عليه.
والسنة عند القرآنيين ـوفق مفهومها فى القرآن الكريمـ هى شرع الله تعالى المذكور فى القرآن الكريم، وتلك هى السنة العملية التى يتمسكون بها، أما السنة القولية أى (الأحاديث) فهى عندهم حديث الله تعالى فى القرآن الذى يؤمنون به وحده؛ لأن الله تعالى كرر فى القرآن الكريم قوله تعالى {فبأى حديث بعده يؤمنون} [الأعراف: 185] أى لا إيمان بحديث خارج القرآن الكريم.
والقرآنيون يرفضون أحاديث البخارى ومسلم والشافعى ومالك وغيرهم، ويرفضون نسبتها إلى النبى محمد –صلى الله عليه وسلم- ويرفضون أن تكون جزءا من الاسلام؛ لأن الاسلام –كما يقول صبحي منصور- اكتمل بالقرآن وبقوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى ورضيت لكم الاسلام دينا} [المائدة: 3].(/6)
ويزعمون أنهم بفكرهم هذا يبرؤون خاتم النبيين من هذه الأحاديث المنسوبة إليه، ويؤمنون أنه بلّغ الرسالة كاملة تامة، وهي القرآن الكريم، ولكن المسلمين بعده بدلوا وغيروا وحاولوا تسويغ ما يفعلون فاخترعوا تلك الأحاديث لتبيح لهم خروجهم عن القرآن وتفرقهم وحروبهم .
يقول صبحي منصور: "نحن نرى أن أحاديث البخارى وغيره -مما يسمونها سنة- ليست سوى ثقافة دينية تعبر عن عصرها وقائليها وليس لها أي علاقة بالإسلام أو نبى الإسلام.. ولأنها ثقافة تعبر عن عصورها الوسطى، وتعكس ما ساد فى هذه العصور من ظلم باسم الدين، واضطهاد باسم الدين، وحروب باسم الدين، فإن الإصلاح اليوم لا بد أن يبدأ بنفي تلك الأحاديث وثقافتها إلى العصور التى جاءت إلينا منها.. لنبدأ فى الاحتكام إلى القرآن الكريم بشأنها، وهذا ما يفعله القرآنيون".
المطالبة بإلغاء السنة:
ولقد نشرت جريدة الشرق الأوسط في 20 من يوليو 2004م، لقاء لجنة الحريات الدينية الأميركية بممثل لجماعة القرآنيين في مصر، حيث تلقى وفد اللجنة شكوى من الجماعة، تطالب فيها بضرورة إلغاء الأحاديث النبوية ومنع تدريسها في المدارس، نظراً لأنها تمثل نوعاً من القيود الدينية على حرية ممارسة العقيدة.
وقالت الصحيفة على لسان أحد أعضاء اللجنة: إن ممثل الجماعة هذه يدعى "محمد عثمان"، والذي ذكر لوفد اللجنة أنه ممثل جماعة القرآنيين التي لا تعترف بالأحاديث النبوية، وتعد تدريسها بالمدارس المصرية نوعاً من فرض مذهب إسلامي معين على الجميع، برغم أن سكان مصر المسلمين ليسوا جميعاً من السنة، وأن هناك شيعة وقرآنيين وبهائيين وغيرهم.
الملاحقة القضائية:(/7)
ولقد بدأت الملاحقة الأمنية والقضائية لمنكري السنة في مصر منذ عشرين عاما، حين ظهرت أفكار صبحي منصور المعادية والمكذبة للسنة النبوية في جامعة الأزهر عام 1987م، وترتب على ذلك تحويله إلى مجلس تأديب وفصله من الجامعة، وتعرضه للاعتقال عدة أسابيع، بسبب سعيه لمحاربة السنة ونشر أفكاره عبر بعض المساجد بالقاهرة، ثم تقديمه للمحاكمة أمام محكمة أمن الدولة.
وفي عام 2000 و2001م، بدأت موجة ثانية من الملاحقة الأمنية والقضائية لمنكري السنة، حين قبض رجال الأمن على أفراد من أسرة صبحي منصور وأقاربه، ممن يعتنقون أفكاره ويسعون للترويج لها، ووقتها فر صبحي منصور هاربا للولايات المتحدة الأمريكية في أكتوبر 2001م، وحصل على حق اللجوء السياسى في يونيه 2002م.
وفي إبريل 2002م، أسدل الستار على قضية القرآنيين هذه، التي كانت تضم ثمانية متهمين من بينهم سيدة، إذ قضت المحكمة بمعاقبة المتهمين بالسجن ثلاث سنوات مع الشغل والنفاذ، بعد أن اعترفوا بترويجهم لفكر متطرف منحرف، ينكر السنة النبوية والإسراء والمعراج وشفاعة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- يوم القيامة، ويدعي "الاكتفاء بالقرآن". كما ادّعوا بأن الكعبة وثنية، وأنكروا جبل عرفات، واعترضوا على التوجه شطر الكعبة في الصلاة، وادّعوا أن شهر الصيام هو شعبان وليس رمضان.
ولم يرجع المنكرون للسنة عن أفكارهم الإلحادية، واستمرت الملاحقات القضائية لهم في مصر، وظل صبحي منصور هو المتهم الأول في قضية ازدراء الأديان، والمستهدف الأول في هذه القضية باعتباره زعيم "القرآنيين"، علي الرغم من عدم وجوده في مصر وكونه لاجئا سياسيا في الولايات المتحدة منذ عام 2001م.(/8)
ثم جاءت الموجة الثالثة والحالية من ملاحقة القرآنيين في أول يونيه الماضي (2007م)، عندما قام رجال الأمن باعتقال خمسة من أصحاب هذا الفكر، وهم: عمرو ثروت وعبد اللطيف سعيد، وعبد الحميد عبد الرحمن، وأحمد دهمش، وأيمن عبد الحميد، وتقديمهم للمحاكمة بتهمة ازدراء الاسلام، وإنكار السنة، وقررت نيابة أمن الدولة العليا حبسهم على ذمة القضية تمهيدا لمحاكمتهم.
ووجهت إليهم تهمة ترويج أفكار متطرفة، من شأنها إثارة الفتنة والقلاقل، وذلك لإنكارهم السنة النبوية الشريفة وقيامهم بالترويج لهذه الأفكار في الأوساط الاجتماعية، وسعيهم لإقناع الآخرين بها. كما اقتحمت أجهزة الأمن بالشرقية في 8 من يونيه منزل صبحي منصور، واستولت علي عدد من الكتب الخاصة به، وتحفظوا عليها.
منزلة السنة:
وإذا نظرنا إلى موقف الإسلام من أفكار هؤلاء المكذبين بالسنة المطهرة، نجد أن العلماء والمجتهدين قد اتفقوا جميعا على أن السنة النبوية أصل من أصول التشريع الإسلامي، يجب الأخذ بها إذا صحت وثبتت نسبتها لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- مستندين في ذلك إلى الأمور التالية:-
الأمر الأول: الإيمان برسالة الإسلام، فمن مقتضيات الإيمان بهذه الرسالة وجوب قَبول كل ما يرِد عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أمر الشرع؛ لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل} [النساء: 136]، ولا شك في أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أمين على شرع الله، فهو لا يبلغ إلا ما يوحى إليه، وهو أيضًا معصوم، إذ أجمعت الأمة على عصمة الأنبياء، ومن ثم وجب التأسي به والاحتجاج بسنته.(/9)
والأمر الثاني: القرآن الكريم، إذ وردت آيات كثيرة في القرآن الكريم تنص على طاعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- منها قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر} [النساء: 59]، والرد إلى الله هو الرد إلى كتابه، والرد إلى الرسول هو الرد إلى سنته، وقوله تعالى: {وأطيعوا الله والرسول واحذروا} [المائدة: 92]، كما أن الله تعالى بين أن طاعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- طاعةٌ لله عز وجل في قوله تعالى: {من يطع الرسول فقد أطاع الله} [النساء: 80].
كما أنه سبحانه أمر المسلمين أن يأتمروا بأمر رسول الله، وينتهوا بنهيه، في قوله سبحانه: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب} [الحشر: 7].
وهناك آيات أخرى كثيرة تدل على وجوب طاعته -صلى الله عليه وسلم- ورد الأمر إليه، منها قوله تعالى: {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون} [النور: 56]، وقوله جل شأنه: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما} [النساء: 75]، وقوله سبحانه: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا} [الأحزاب: 86].
هذا بالإضافة إلى الآيات الكريمة التي قرن الله فيها الحكمة مع الكتاب، كقوله تعالى: {وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما} [النساء: 113]، فقد ذهب كثير من أهل العلم إلى أن المقصود بالحكمة هو السنة النبوية.(/10)
والأمر الثالث: الحديث، فقد وردت أحاديث كثيرة تدل على وجوب اتباع السنة ومصدريتها، كقوله -صلى الله عليه وسلم-: "تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنتي"، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "ألا إني أوتيت الكتاب ومثله"، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها وعَضوا عليها بالنواجذ".
والأمر الرابع: الإجماع، فقد أجمعت الأمة على وجوب العمل بالسنة، ولهذا فقد قبل المسلمون السنة كما قبلوا القرآن الكريم، وعدوها المصدر الثاني للتشريع؛ استجابة لله عز وجل وتأسيًا برسوله -صلى الله عليه وسلم-.
المنكرون زنادقة مرتدون:
وإذا وقفنا على حكم من أنكر وجوب العمل بالسنة، نجد إجماع العلماء بأنه كافر مرتد، لإنكاره معلوماً من الدين بالضرورة.
يقول الإمام السيوطي في كتابه مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة: "فاعلموا -رحمكم الله- أن من أنكر كونَ حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- قولاً كان أو فعلاً بشرطه المعروف في الأصول حجةً، كفر وخرج عن دائرة الإسلام، وحشر مع اليهود والنصارى أو مع من شاء من فرق الكفرة"(/11)
ومن أعظم ما احتج به الأئمة على بطلان هذا المذهب وفساده ما أخرجه البيهقي بسنده عن شعيب بن أبي فضالة المكي أن عمران بن حصين -رضي الله عنه- ذكر الشفاعة، فقال رجل من القوم: يا أبا نجيد إنكم تحدثوننا بأحاديث لم نجد لها أصلاً في القرآن، فغضب - عمران رضي الله عنه- وقال للرجل: قرأت القرآن؟ قال: نعم. قال: فهل وجدت فيه صلاة العشاء أربعاً، ووجدت المغرب ثلاثاً، والغداة ركعتين، والظهر أربعاً، والعصر أربعاً قال: لا. قال: فعن من أخذتم ذلك؟ أخذتموه وأخذناه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. ثم ذكر أشياء في أنصبة الزكاة، وتفاصيل الحج وغيرهما، وختم بقوله: أما سمعتم الله قال في كتابه: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} [الحشر: 7] قال عمران: فقد أخذنا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أِشياء ليس لكم بها علم" .
فالحرام ما حرمه الله في كتابه، أو حرمه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سنته، كما أن الواجب ما أوجبه الله أو أوجبه رسوله -صلى الله عليه وسلم- ومن زعم الاكتفاء بالقرآن الكريم والاستغناء به عن السنة فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه، وكان في زعمه للإسلام واكتفائه بالقرآن كاذباً.
ودليل ذلك أن السنة شارحة للقرآن مبينة له، وقد تأتي منشئة للأحكام؛ لأنها وحي من الله تعالى إلى رسوله الكريم -صلى الله عليه وسلم- كما قال تعالى: {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى} [النجم:3، 4]، وقال تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} [الحشر: 7].
ومن زعم الاكتفاء بالقرآن لم يمكنه أداء الصلاة ولا إخراج الزكاة ولا الحج ولا كثير من العبادات التي ورد تفصيلها في السنة، فأين يجد المسلم في القرآن أن صلاة الصبح ركعتان، وأن الظهر والعصر والعشاء أربع، والمغرب ثلاث؟
وهل يجد في القرآن كيفية أداء هذه الصلوات، وبيان مواقيتها؟(/12)
وهل يجد في القرآن أنصبة الذهب والفضة وبهيمة الأنعام والخارج من الأرض، وهل يجد بيان القدر الواجب إخراجه في ذلك؟
وهل يجد المسلم في القرآن كفارة الجماع في نهار رمضان، أو حكم صدقة الفطر والقدر الواجب فيها؟
وهل يجد المسلم تفاصيل أحكام الحج من الطواف سبعاً وصفته وصفة السعي، ورمي الجمار والمبيت بمنى؟ إلى غير ذلك من أحكام الحج.
فالسنة النبوية الشريفة مصدر من مصادر هذا الدين، سواء للتشريع أو للتوجيه، والذين ينكرون السنة، هؤلاء في الحقيقة لا منطق لهم؛ إذ كيف تستطيع أن تفهم القرآن بدون السنة؟ والرسول -صلى الله عليه وسلم- عاش حياته يترجم عن الإسلام العملي، وحياته -صلى الله عليه وسلم- هي حياة تفصيلية للإسلام، ومنهجه منهج الشمول والتكامل والتوازن، ومن ينكر السنة إنما ينكر القرآن نفسه.
جهل وضلال:
وإذا نظرنا إلى موقف علماء مصر المعاصرين من هؤلاء المكذبين بالسنة، نجد شيخ الأزهر الدكتور محمد سيد طنطاوي، قد شن هجوماً عنيفاً على من يطالبون بالاعتماد على القرآن الكريم فقط وإغفال السنة، واصفاً هذه الفئة التى تطلق على نفسها اسم جماعة "القرآنيين"، بالجهلة الذين لا يفقهون أي شيء في الدين الإسلامي.
وأكد أنه لا يمكن بأي حال من الأحوال إغفال السنة النبوية المطهرة؛ لأنها جاءت شارحة وموضحة لما جاء في القرآن الكريم، بل جاءت بأمور تفسيرية لم يرد ذكرها في القرآن، مثل كيفية أداء الصلاة وما نقوله خلالها، وكذلك مناسك الحج والزكاة وانواعها ومقدارها ومبطلاتها ومباحات الصيام وغيرها من الفرائض التي جاءت السنة النبوية لتشرحها وتوضحها.(/13)
وقال شيخ الأزهر: "كل من ينادي بالاعتماد على القرآن الكريم فقط وإغفال السنة النبوية جاهل لا يفقه الدين ولا يعرف أركانه والثوابت والأسس التي يقوم عليها؛ لأن السنة النبوية الشريفة الثابتة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- هي أيضاً من عند الله –تعالى- بمعناها أما ألفاظها فبإلهام من الله عز وجل لنبيه".
وأشار إلى أنه إذا كان أهل الباطل يتكاتفون حول باطلهم، فأولى بأهل الحق أن يتكاتفوا ويتعاونوا لنصرة الحق مطالباً جميع المؤسسات والمنظمات الدينية على مستوى العالم الإسلامي بالتعاون التام فيما بينهم وتوحيد صفوفهم لمواجهة المخاطر الداخلية (من أمثال جماعة القرآنيين) والخارجية التي تحيط بالأمة الإسلامية.
وقال الدكتور محمد رأفت عثمان، أستاذ الشريعة في جامعة الأزهر: إن من ينكر السنة ليس مسلماً، باعتبارها المصدر الثاني من مصادر التشريع في الإسلام بعد كتاب الله الكريم. موضحاً أنه لا يوجد في الإسلام ما يبيح الاقتصار على ما ورد في القرآن الكريم، فنصوص القرآن واضحة وقاطعة، في أن رسول الله -صلي الله عليه وسلم- يبلغ من الأحكام بجانب بلاغ القرآن من الله -عز وجل-.
وأكد الدكتور محمود حمدي زقزوق وزير الأوقاف المصري: إنه لا يستطيع المسلم أن يطبق مبادئ وأحكام الشريعة الإسلامية بالاعتماد على القرآن الكريم فقط دون السنة النبوية، التي جاءت شارحة ومفسرة لما جاء في القرآن الكريم.
وتساءل د. زقزوق: أريد أن يجيبني أحد المطالبين بالاعتماد على القرآن الكريم فقط دون السنة، كيف يصلي ويصوم ويحج ويعتمر ويتزوج ويطلق من القرآن فقط دون الرجوع إلى السنة النبوية؟ وما عدد ركعات الصلوات المفروضة في القرآن وكيفية تأديتها؟ فمن يقول بالاعتماد على القرآن الكريم فقط دون السنة مكابر لا يعرف أي شيء في الدين.
المراجع:
1- موقع أهل القرآن - 2/7/2007م.
2- القرآنيون في مصر إلى أين؟ - إيمان الخشاب – موقع محيط – 30 يونية 2007م.(/14)
3- القرآنيون.. انحراف فكري أم مدلول سياسي؟! - الإسلام اليوم - 08/04/2002م.
4- أيها القرآنيون ما رأيكم في هذه الأدلة - عباس رحيم.
5- منكرو السنة - موقع منتدى التوحيد -2/7/2007م.
6- أمن الدولة المصري يأمر بحبس "القرآنيين" – موقع محيط – 1 يوليو 2007م.(/15)
العنوان: منهج التحول إلى الإسلام
رقم المقالة: 1480
صاحب المقالة: أ. د. جعفر شيخ إدريس
-----------------------------------------
مقدمة
(عملية التحول إلى الاتجاه الإسلامي.. بشائرها وتحدياتها)
كانت هي موضوعَ المناقشةِ في المؤتمر السنوي الثالث عشر لاتحاد الطلبة المسلمين، الذي عقد في جامعة توليدو، بتوليدو، أوهيو، في أواخر شهر أغسطس عام 1975.
ويُعَدُّ هذا الكتيب بمثابة نسخة معدلة لما قدمه البروفيسور إدريس في المؤتمر، وإن نشره في شكل كتاب يرجع - ولا شك - إلى قيمته العلمية، كما يعتبر استجابة للمطالبة بنشره، تلك التي جاءت من مجموع أعضاء اتحاد الطلبة المسلمين.
إن عملية التحول إلى الاتجاه الإسلامي قد تم اختيارها موضوع المناقشة في الاجتماع السنوي الثالث عشر للمؤتمر؛ نتيجة لإدراك ذكيّ من اللجنة الإدارية لاتحاد الطلبة المسلمين، ولجنة وضع برامج المؤتمر؛ للحاجة الملحة لتقديم دراسة منظَّمة للنظرية الإسلامية للتغيير الاجتماعي، وإقامة الاستنتاجات من تلك النظرية، وتطويرها، وإثبات صحتها بالنسبة للمجتمعات المعاصرة.
وفي وقت سابق من ذلك العام نفسه (في يونية 1975)، كان اتحاد العلماء الاجتماعيين المسلمين قد اختار (من المسلم إلى الإسلامي) موضوعًا للمناقشة في اجتماعه السنوي الرابع، وقد ساهم الدكتور إدريس أيضًا في ذلك المؤتمر*.
إن عرض الدكتور إدريس لعملية (التحول إلى الاتجاه الإسلامي) لَيَتَّسِم بالقوة والأسلوب العلمي، وسوف يجد القارئ الوضوح والمباشرة في معالجة الكاتب لذلك الموضوعِ المهم؛ فهو لا يترك القارئ يتخبط في التخمينات حتى يتعرف على موقفه من بين المواقف التي يثار حولها الجدل، ولكنه يذكر موقفه بوضوح، دون أن يتظاهر بأنه يحوز (معرفة أفضل)، بل ودون أن (يحيط نفسه) بغِلاف من الاصطلاحات (المهنية) المُشَوِّشَة، التي دائمًا ما يصاب العلماء المسلمون (المتشبهون بالغرب) بدائها.(/1)
وإن مما يتميز به الدكتور إدريس أيضًا هو أنه يشير إلى القرآن بشكل مباشر حين يشتق منه النظرية الإسلامية للتغيير الاجتماعي، كما أنه يطرح الأسئلة، ولا يتردد في إجابتها، وقد أبدى وجهة النظر بأن قانون التغيير الاجتماعي يكمن في الآية: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11].
وينشأ السؤال: إذا ما كان التغيير الاجتماعي المشار إليه في القرآن الكريم هو من الخير إلى الشر؟ أو من الشر إلى الخير؟ أو يحتمل كلا المعنيين؟
ويرى الدكتور إدريس أن التغيير الذي تشير إليه الآية القرآنية هو من الخير إلى الشر؛ لأنها هي التغييرات الوحيدة التي تنسجم مع المبدأ الإسلامي الأساسي، ولأنها قد تم تأييدها بكثير من الآيات الأخرى.
وإن ذلك الموقف، بالرغم من تدعيمه، يحتاج إلى القيام بدراسة انتقادية بواسطة باحثين آخرين.
ولقد طرح الدكتور إدريس مسألتين أُخْرَيَيْنِ ذاتَيْ أهمية، تتعلقان بعملية التغيير الاجتماعي الإسلامي، وهما: دور التخطيط، ودور الدولة.
وقد أكد كلا من أهمية التخطيط والدولة باعتبارهما ضروريتين ولكنهما غير كافيتين في حد ذاتهما لتحقيق التحول إلى الاتجاه الإسلامي في المجتمعات المسلمة المعاصرة.
وما ذكرنا من نقاطٍ جزءٌ من المناقشات المهمة التي وردت في هذا الكتاب، والتي نعتقد أنها ملائمة لإغراء أي عالم جاد أن ينغمس في قراءة ممتعة للصفحات التالية.
وإننا نأمل أن تكون تلك الدراسة - بالإضافة إلى إسهامها في زيادة ثروة الثقافة الإسلامية - حاثةً لبعض العلماء المسلمين على إجراء أبحاثٍ أكثرَ تعمقًا حول هذا الموضوع.
ونختتم تلك المقدمة بالآية الأولى التي أنزلت في القرآن الكريم {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1].
محمود رشدان
السكرتير العام
لاتحاد الطلبة المسلمين في الولايات المتحدة وكندا
عملية التحول إلى الاتجاه الإسلامي(/2)
إن هدف الحركة الإسلامية هو تكوين مجتمع جديد في مكان ما من العالم يكون مقدِّسًا تمامًا لتعليمات الإسلام ويعمل على تطبيق تلك التعليمات في حكومته، وتنظيماته السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، وعَلاقاته مع الدول الأخرى، ونظامه التعليمي، وقِيَمِه الأخلاقية وجميع الأوجه الأخرى في أسلوب معيشته.
إن عملية التحول إلى الاتجاه الإسلامي تتمثل في جهدنا المنظَّم والتدريجي الذي سوف يبلغ أوُجَّه في تحقيق ذلك المجتمع.
ذلك بالطبع يؤدي إلى طرح السؤال التالي: هل توجد طريقة إسلامية لتحقيق ذلك التحول إلى الاتجاه الإسلامي؟ أو بعبارة أخرى، هل الإسلام يقوم فقط بتحديد الهدف المرادِ التوصلُ إليه ويترك إلى الأفراد اختيار الوسيلة التي يتم بمقتضاها تحقيق ذلك الهدف أو أنه يحدد أيضًا الوسائل التي تُتخذ من أجل التوصل إلى ذلك الهدف؟
والإجابة على هذا السؤال سوف تتسم بالوضوح حال ما نبتدئ في النظر إلى بعض القضايا الرئيسة المتضمَّنة فيه.
كيف يأتي نظام اجتماعي معين إلى الوجود؟:
إن الإجابة على هذا السؤال تعتمد في تحليلها الأخير على وجهة نظر الإنسان بالنسبة لطبيعة الحقيقة؛ وذلك لأن تحقيق بعض النتائج الاجتماعية المعَيَّنة يعتمد على الأداء السليم لبعض الأفعال التي بدورها تقوم على أساس الاعتقاد في وجود عَلاقة سببية بين تلك الأفعال والنتيجة المرغوبِ في تحقيقها، واختيار تلك الأفعال السببية يعتمد على مفهوم الإنسان للحقيقة ككل. إن الشخص المؤمن بالمذهب المادي - الذي يعتقد بصفة أساسية أنه لا يوجد شيء في الكون سوى المادة وحركتها - لن يُضمِّن تلك الأفعال أشياء مثل الصلاة، أو النِّيات، أو القِيَم الأخلاقية؛ لأن تلك الأشياء في اعتباره ليست بأكثر من مجرد أسماء لا تشير إلى أيَّة حقيقة، ولذلك ليس من الممكن بحال أن تكون ذات أثر.(/3)
وإذا كانت الوسائل التي تُتخذ لتحقيق الأهداف ترتبط بتلك الكيفية من وجهة نظر الإنسان بالنسبة للكون؛ فإن عملية التحول إلى الاتجاه الإسلامي يجب أن ترتبط بوِجْهَة النظر الإسلامية تُجاه الحياة. ولقد ثبت ذلك الأمر من خلال حقيقةِ أن الإسلام يعتبر بمثابة رسالة ونظام، إنه يُعتبر كمجموعة من الحقائق التي يجب أن يحولها المؤمن إلى واقع، وإنه يعتبر بمثابة النظام الذي يتم ذلك التحول بمقتضاه. ولقد ورد تلخيص مبادئ ذلك النظام في القرآن، ولكننا لا نستطيع أن نفهمها بطريقة صحيحة إلا في إطار سيرة النبي التي تعد بمثابة ترجمة صحيحة لتلك المبادئ.
إنني فيما يلي أقدم بيانًا مفصَّلا لذلك النظام، ولكنني آمل أن يكون شاملاً، وسأبتدئ من القضايا المتعلقة بالمفاهيم حتى أصل إلى بعض التفاصيل العملية.
النظرية الحتمية للتاريخ(/4)
إن أسلوبنا للتحول إلى الاتجاه الإسلامي يجب أن يقوم على أساس مفهومنا للعَلاقة الاجتماعية بين السبب والمسبِّب والتفسير التاريخي، أي على أساس وجهة نظرنا تُجاه العملية التي بمقتضاها ترتفع وتسقط الأمم والحضارات. وحتى نتعرف على التفسير الإسلامي لذلك النوع المهم من التغيير الاجتماعي، فمن المفيد أن نضاهِيَه بالفلسفة التاريخية المعاصرة التي تُعد مضلِّلة بالرَّغم من سطوتها. وطبقًا لتلك الفلسفة فإن التاريخ يعد بمثابة حركة ذات مسار منفرد ومحدَّد يؤدي بطريقة تدريجية وحتمية إلى الانتقال من مرحلة إلى مرحلة أخرى أكثرَ تطورًا، ويستطيع الناس أن يؤثروا على تلك الحركة إما من خلال الزيادة أو الحد من درجة سرعتها، ولكنهم ليست لديهم القدرة على إيقافها أو تغيير مسارها، وإن هؤلاء الذين يحاولون إيقافها أو تغيير مسارها ليؤدُّوا إلى إبطائها هم الرجعيون، أما هؤلاء الذين يدفعونها ويعجلون مسارها فهم التقدميون. وإذا كان الإنسان يهدُف إلى تحقيق ثمرات جهوده؛ فإنه يجب أن يستكشف تلك الحركةَ التاريخية، ويرى ما هي المرحلة المستقبلة التي سوف تؤدي إليها، ويرى إلى أي مدًى تتماثل أهدافه ومُثُله العليا مع تلك المرحلة، ثم يوجه جميع جهوده إلى الهدف الذي تؤدي إليه تلك الحركة التاريخية بطريقة حتمية، وإلا فإنه سوف يضيع وقته في جهود رجعية لا طائل منها.(/5)
ونحن نعلم أن الشيوعيين يقرون بذلك الرأي، ولكنهم ليسوا وحدهم الذين يفعلون ذلك؛ إذ يوجد الكثير من أعداء الشيوعية الأشداء الذين يفترضون حقيقة ذلك الرأي دون قصد، ونجد من بين هؤلاء الناس الرجال والنساء الغربيين والمتشبهين بالغرب الذين يعتقدون أن المرحلة التي وصل إليها الغرب الآن - وخاصة الولايات المتحدة - تعتبر في مجموعها أكثر تطورًا في كلٍّ من الناحيتين المادية والحضارية، وفوق ذلك فإنها هي المرحلة التي يتحتم أن تنتقل إليها جميع الأمم الراغبة في تحقيق الثورة الصناعية وإحراز المدَنِيَّة. وهذا الاتجاه الذي يعتنقه الكثيرون في العالم الإسلامي ممن يعتنقون الشيوعية أو يخفون أنفسهم وراء القناع الغربي يَعتبر أن الموقف الذي يقضي بتحويل المجتمع إلى الوجهة الإسلامية غيرُ ذي جدوى لأنه يتعارض مع الاتجاه التاريخي. وبالنسبة للشيوعيين فإن الاتجاه التاريخي يؤدي إلى الاتحاد السوفيتي وإلى الدولة الشيوعية المثالية، أما بالنسبة لعملاء الغرب والمتشبهين به، فإنه يؤدي إلى الولايات المتحدة، ومن ثم إلى ما سوف تصل إليه الولايات المتحدة.
النظرية الإسلامية للتغيير الاجتماعي
لعل أفضل طريقة لتقديم الفلسفة الإسلامية للتغيير الاجتماعي - في ضوء ما يجب أن نقيم برنامجنا للتحول إلى الوجهة الإسلامية على أساسه - تتمثل في تعليقنا على تلك الآية القرآنية الشهيرة:
{إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11].
إن النقاط الرئيسة التي نجدها في هذه الآية هي:
1- إله لديه قوة مطلقة للعمل.
2- بشر لديهم حرية محدودة للعمل.
3- تغيير يحدثه الإنسان داخل ذاته.
4- تغيير في حالة الإنسان يحدثه الله نتيجة لذلك التغيير الإنساني.
إن تلك النقاط الأربع تُكَوِّن الشرح الإسلامي أو فلسفة التغيير الاجتماعي؛ ولذلك فلندرس ما تتضمنه تلك النقاط بإيجاز.(/6)
إن النقطة الأولى تميز مفهومنا للتغيير الاجتماعي عن النظريات المادية والطبيعية التي تفترض عدم وجود الله، ومن ثَم تعتنق مبدأ الاكتفاء الذاتي للكون، أي المبدأ القائل: من الممكن تقديمُ تفسير وافٍ للظواهر في هذا الكون، سواء كانت ظواهر اجتماعية أو خلافها بالاستعانة بالقوانين الخاصة بها. إن تلك الفكرة الإلحادية - لسوء الحظ - قد تمت مطابقتها مع الطريقة العلمية بشكل كبير حتى إنه يتم في الحال استبعاد أية إشارة إلى الله في تعليل تلك الظواهر باعتبارها شيئًا يتنافى مع العلم وليس مجرد أنها تتنافى مع الفكر الإلحادي.
ومن الواجب أن نحذر من ذلك التشويش الذي لا مبرر له، وأن نُصِرَّ على أهمية وضرورة واستحسان إدراك دور الله في تفسير الظواهر الطبيعية والاجتماعية في عالمنا [1].
وتلك النقطة تميز مفهومنا كذلك عن وجهات النظر الإلحادية التي بمقتضاها يُعَد الخالق مجرد محرك رئيس، دوره الوحيد هو بَدْء الخليقة، ثم تركها بعد ذلك لتعنى بأمرها.
وإن النقطة الثانية تُظهِر تفوق مفهومنا للتغيير الاجتماعي على النظريات الحتمية التي تفترض أن الإنسان ليست له فاعلية حقيقية أو حرية للاختيار، وأن كل شيء يقوم به يكون مفروضًا عليه بقوة إلهية أو بواسطة مسبِّبات طبيعية أو اجتماعية. والإنسان حقيقةً لا يستطيع أن يفعل أيَّ شيء ضد مشيئة الله، ولكن الله قد شاء أن يمنحه حرية الاختيار، والحرية في تحقيق بعض نِياته وإن تعارضت مع الإرشاد الذي قدمه الله له، وإن واحدًا من المجالات المهمة للغاية التي أعطى الله فيها الإنسان حرية العمل هي حالته الداخلية. وبما أن الكثير مما يحدث للإنسان يعتمد على حالته الداخلية؛ فإنه يمكن القول بأن الإنسان يعد مسؤولا إلى حد كبير عن مصيره.(/7)
وإن النقطة الثالثة تخبرنا عن تغيير يحدثه الإنسان داخل ذاته. فأي نوع من التغيير هذا؟ هل تغيير من الخير إلى الشر أو العكس، أو إنه من الممكن أن يكون أيا منهما؟ إن التفسير الغالب لتلك الآية الآن هو التفسير الأخير، وإن ما يفهمه معظم الناس الآن من تلك الآية هو أنه عندما يتغير الناس من الخير إلى الشر، يعاقبهم الله بتغيير أحوالهم من الخير إلى الشر والعكس بالعكس. ولكن ذلك يختلف عن التفسير الذي نجده في التعليقات القديمة؛ فإن المعلقين الأقدمين يبدو أنهم يفهمون أن التغيير الذي يشار إليه في الآية هو تغيير من الخير إلى الشر [2] ويبدو لي أن هذا هو التفسير السليم؛ لأنه الوحيد الذي يتوافق مع المبدأ الإسلامي الرئيس ولأنه قد تم تأييده بآيات أخرى كثيرة.
- وإن النقطة الرابعة تقول لنا أنه عندما يتغير قوم، ويعاقبهم الله بأن يحرمهم من بعض النِّعَم الرُّوحية والمادية التي منحها لهم وهكذا يجعلهم يعانون الضِّيق.
النِّعَم فضل من عند الله:
ولكن لماذا أُفَضِّل التفسير القائل بأن التغيير الذي ذكرناه في الآية هو تغيير من الخير إلى الشر؟
إن السبب في ذلك يرجع بصفة رئيسة إلى أن النعم - طبقًا للقرآن - لا تمنح للناس في بادئ الأمر نتيجة لأي عمل خير يقومون به، ولكنها تمنح لهم فضلاً من الله. إن الله هو الرحمن، وذلك يعني أنه سبحانه هو الذي يبادر بالخير ويمنحه دون مقابل ولا ينتظر حتى يبادر الناس بفعل شيء يتسم بالخير ثم يكافئهم من أجله. إن النعم - سواء كانت روحية أم مادية - تمنح للناس من خالقهم وذلك ينبع من رحمته وفضله. ولو أنهم كانوا شاكرين، فسوف تُحفظ لهم تلك النعم، بل إنها سوف تزداد، ولكن لو أنهم ارتكبوا أفعالاً تتسم بالجحود، فإن الله يعاقبهم بأن يحرمهم من بعض تلك النعم إن لم يكن منها جميعها، ولكنهم إذا تابوا وعادوا إلى الطريق القويم فإن تلك النعم تعود إليهم.(/8)
إن المَثَل الذي يدل على ذلك تمامًا هو مَثَل آدم، إن الله قد خلق آدم ووضعه في أفضل الحالات ومنحه الطُّمأنينة ووفر له وسائل الراحة المادية، ولكنه عندما أكل من الشجرة المحرَّمة (التي لم تكن شجرة المعرفة) فإنه فقدَ بعض ذلك.
وينطبق نفس المبدأ على المجتمعات والأمم الأخرى التي يُشار إليها في القرآن، كالقرى، أو أهل القرى. فلنبتدئ بالسُّنن التي تتحكم في سقوط أو هلاك الأمم الجاحدة، ثم ننتقل إلى تلك التي تتحكم في بقاء وسطوة الأمم الشاكرة.
وفيما يلي بعض الأمثلة مما يحدث للأمم الجاحدة:
إن أهل سبأ الذين عاشوا بين حديقتين قد أمروا أن يأكلوا مما رزقهم الله، ويكونوا شاكرين لفضله، ولكنهم أعرضوا، ومن ثَم أَرْسَلَ عليهم الطوفانَ (سيل العرم) وبدلاً من الحديقتين اللتين أعرضوا عنهما أُعطوا حديقتين بهما فاكهة مُرَّة وأشجار الطرفاء، وقليل من الأشجار الأخرى، يقول الله بصدد ما حدث لهم:{ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} [سبأ:17].
ولقد أخبرنا القرآن أيضًا عن: {قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} [النحل:112].
وهكذا فإن السقوط والهلاك هو المصير النهائي المحتَّم لكل أُمة جاحدة، أي لأية أُمة تتمرد على الله وتَتَّبع طريق الفسوق.
ولكن ذلك الهلاك النهائي يحدث طبقًا لمبادئ، وفيما يلي بعض منها:
أ- إن الهلاك أو العقاب لا يقع على أمة إلا بعد أن تُنذَر إنذارًا كافيًا، ومن الممكن أن يأتي إليها هذا الإنذار من خلال وسيط أي رسول من عند الله:
{وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} [القصص: 59].(/9)
{وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنذِرُونَ. ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ} [الشعراء: 208،209].
أو أنهم يتم إخبارهم بطريقة أخرى أنهم ظالمون حتى يُعِدُّوا أنفسهم للعقاب.
{وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ.فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا إِلاَّ أَن قَالُواْ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [الأعراف: 4،5].
إن معنى تلك الآية يبدو أكثر وضوحًا في ضوء حديث النبي الذي يؤكد أنه لا تُهلَك أمةٌ إلا بعد أن تقر أنها هي وحدها الملومة وأنها هي التي جلبت على نفسها الهلاك[3] وذلك يثبت بالآية:{ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ}[4] [الأنعام: 131].
نستطيع أن نستنتج من ذلك المبدأِ الإلهي أو السنن أنه: إذا كان هناك مجتمعان يتساويان في فُسوقهما وجحودهما؛ فإن المجتمع الذي أُنذر سوف يَهلِك قبل المجتمع الذي لم ينذر؛ ومن ثم فإننا نرى من القِصص التي تروى في القرآن حول الأمم المندثرة أن هلاك وسقوط تلك الأمم قد جاء بعد رفضها لرسل الله.
ب- إن الهلاك لا يأتي مباشرة، أي إنه لا يتم إهلاك الأمم أو إسقاطها مباشرة بعد أن تُبْدِيَ ما يدل على الجحود. ومرةً أخرى فإن ذلك يرجع إلى رحمة الله، إن الله يعطي بلا مقابل وبلا حدود ولكنه لا يأخذ ما وهبه دفعةً واحدةً: {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ} [الحج: 48].
{وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُوا مِن دُونِهِ مَوْئِلاً.وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِداً} [الكهف: 58،59].(/10)
جـ- إن سقوط كل أمة كما قرأنا في الآية السابقة يكون طبقًا لأجَل محدد ليس من الممكن إرجاؤه أو تعجيله:{وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ.مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ} [الحجر: 4،5].
د- قبل أن تَهلِك الأمة قد تمر بمحن قاسية مما قد يجعلها تتوب وتعود إلى الطريق المستقيم:{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41].
هـ- لا يتم إنزال العقاب بالنسبة لجميع الآثام في العالم وإلا لهلك جميع الناس:
{وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ} [النحل: 61].
لقد كانت تلك هي أسباب المحن والبؤس وسقوط الأمم فما هي إذن أسباب ارتفاع الأمم وازدهارها المادي والروحي؟(/11)
توجد بصفة رئيسة أحوال إنسانية معتادة يجب أن نكون جميعًا عليها، ويحب الله أن يرانا بها، إن الله يزود كُلاً منا ساعةَ مولده بطباع كريمة، يكون جوهرها الاعترافَ بأننا عباد الخالق الأحد، ويعد ذلك الاعتراف بمثابة جوهر إنسانيتنا ويُعَدّ مَنبعَ وقِوام كل شيء حميد بنا؛ مثل: التفكير المنطقي، والشعور الأخلاقي، الذَّوْق الفني، والمشاعر الأخوية، إلخ... وفوق ذلك، فإن الله خلق كل ما يحيط بنا بغرض منفعتنا؛ ولذلك فإن الحالة المعتادة التي نكون عليها هي حالة من السعادة الداخلية والطمأنينة التي تجيء نتيجة لشهادتنا الفطرية بعبوديتنا لله، تلك الشهادة التي تجد تجاوبها في الرسالة الإلهية التي تنقل إلينا عن طريق رسل الله، وهي أيضًا تعد حالة من النعيم الخارجي الذي يتحقق نتيجة لأن كل شيء يكون خاضعًا لنا ومقصودًا به إشباع حاجاتنا. إن كل واحد منا يولد تصاحبه تلك الحالة من السعادة الداخلية، ولكن واأسفاه، فإنه ليس هناك أيٌّ منا يجد نفسه في تلك الراحة المادية. إن الكثيرين ممن جاؤوا قبلنا قد غيروا تلك الحالة الداخلية التي خلقهم الله عليها ومن ثَم فإنهم تسببوا في أن يمنع الله الكثير من نعمه عن العالم. ولكن الله أكثرُ رحمةً من أن يصيبنا باليأس؛ لذا فإن الباب لا يزال مفتوحًا لجميع الناس ليعودوا إلى هدى الله حتى يتمتعوا بذلك النعيم المادي. وهنا سنقدم بعض أنواع السعادة التي يَعِد بها القرآن هؤلاء الناس:
أ- الراحة المادية:{وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ} [المائدة: 66].(/12)
ب- السعادة الروحية:{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [النحل: 97].
ج- النصرة على الأعداء:
بقدر ما يؤمن الناس بالله ويثقون به،ويطيعونه، يكون الله بجانبهم:
{وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 68].
وعندما يكون الله بجانبهم فإنه سوف يدافع عنهم:
{إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج: 38].
وسوف ينصرهم: {إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} [محمد: 7].
{إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51].
وإذا دافع عنهم الله ونصرهم؛ فلن يستطيع أي شيء أن يتغلب عليهم:
{وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ.إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ.وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات: 171-173].
{كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249].
وما داموا يحفظون عهدهم مع الله، فإنهم لن يقعوا أبدًا تحت سيطرة الكافرين أو يخضعوا لهم:{وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء: 141].
{وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8].
إن جوهر فلسفتنا للتغيير الاجتماعي قد أصبح واضحًا الآن. إن الأمم لا ترتفع وتسقط اعتباطا أو بدون قوانين تنظم نشأتها واندثارها. إن التاريخ ليس بمسار منفرد يجب أن تخطو فيه كل أمة سواء رغبت أم كرهت، فإن عالمنا الاجتماعي يحكمه الخالق الذي يجعل الأمم ترتفع أو تسقط أو تزدهر أو تعاني، وتنتصر أو تخضع طبقًا للقانون الأخلاقي للإقرار بفضل الله.
تطبيق النظرية(/13)
ولكن كيف يستطيع أن يعاوننا ذلك الشرح النظري لارتفاع وسقوط الأمم في إيجاد الطريق للاتجاه بالمجتمع إلى الجهة الإسلامية؟
أولاً: لما كان الاتجاه إلى الوجهة الإسلامية يجب أن يُخطط له، وأن التخطيط يقوم على أساس التنبؤ بأحداث المستقبل؛ فإن ذلك التفسير القرآني للتغيير الاجتماعي يعاوننا في أن ننظر إلى ما وراء المظاهر المتمثلة في القوة المادية لأي أمة حتى نرى العوامل الحقيقية التي تؤدي إلى تماسُكها أو تتسبب في انحلالها. وإننا الآن نعلم أن الطريقة الوحيدة لضمان استمرار نِعَم الله هي اتباعُ الطريق الذي اختاره الله لعباده، وأيةُ أمة تنحرف عن الطريق من المؤكَّد أنها سوف تصاب بالضعف، إن لم تصب بالهلاك التام، ولن تستطيع أي ثروة، أو أي معرفة دنيوية أو قوة مادية - من أي نوع - أن تنقذها من ذلك المصير المحتوم {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ.ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُون} [الروم: 9 ،10].
إن واجبنا ليس هو أن نجلس وقلوبُنا مفعمةٌ بالبهجة في انتظار السقوط المحتوم للمجتمعات المنحرفة، كَلَّا إن ذلك ليس بموقف أناس يَدِينون بالشعور بالمسؤولية، إن واجبنا هو أن نُنذِر تلك المجتمعاتِ بطريقة مخلِصة ورحيمة ومقنِعة؛ حتى نساعدهم في إدراك التماثل بين أساليبهم والأساليب التي أدت إلى سقوط المجتمعات الأخرى، ونشرحَ لهم ببعض التفصيل العملية التي بمقتضاها يؤدِّي الانحراف عن طريق الله إلى الشقاء والمحن، بل ويؤدِّي في نهاية الأمر إلى سقوط المجتمع أو حتى هلاكه التام.(/14)
إن ذلك الموقف الذي يتضمن تقديم إنذار مخلص ومقنع يجب أن يكون هو موقفَنا تُجاه جميع المجتمعات والأمم سواء كانت تنتمي إلى الإسلام أم لا، إن هدفنا وواجبنا ليس هو تدميرَ المَدَنِية الغربية والبناءَ على أنقاضها، ولكنه يتمثل في بذل الجهد لإنقاذها وإرشادها إلى الطريق الصحيح، ولكنها إذا لم تبالِ بإنذارنا أو تستمع إلى نصحنا؛ فإن سقوطها سوف يكون محتومًا، ونكون حينئذ قد أَعفَيْنا أنفسنا من المسؤولية.
ثانيًا: ومما يُعَد أكثر أهمية، أننا بمقتضى معرفتنا أن التقرب إلى الله هو سرُّ النجاح يجب أن نفعل ما في طاقتنا من أجل تحقيق ذلك الهدف، ونرفضَ بحزم كل ما يجعلنا نحيد عنه مما قد يُصاغ إلينا في إطار أساليبَ وحِيَلٍ قد تبدو بمثابة الطريق الممهِّد للنجاح بالنسبة للأشخاص قليلي التبصر الذين تبهرهم الأضواء الوامضة. وإذا كنا نعني بالنجاح مجرد حيازة مجموعة من الناس للسلطة - وذلك ما يحدث كثيرًا - فإننا حينئذ لا نكون في حاجة إلى السعي للحصول على الإرشاد الإسلامي بالنسبة لكيفية تحقيق ذلك، ولكننا إذا كنا نرغب أن تقع تلك السلطة في أيدي أشخاص يستخدمونها لتكوين والحفاظ على مجتمع يتمتع بالتأييد الذي وعد الله بمنحه المجتمعاتِ التقيةَ؛ فإنه حينئذ توجد طريقة واحدة فقط لتحقيق ذلك. وأي جماعة من الناس تحب أن تكون جديرةً بالحظوة التي تضعها في مَصاف أفضل الأمم، يجب أن تُثبِت أولاً أنها تسير على هدى الله.(/15)
إن جوهرَ أن يكون الإنسان على طريق الله هو شيءٌ يكمن في القلب، ومن ثَم فهو غير قابل للملاحظة المباشرة بواسطة الأشخاص الآخَرين، ولكنه يكون شيئًا واضحًا لله، وإن الله ينظر في قلوبنا ليرى إذا كنا جديرين بمعاونته لنا أم لا، وبقدر ما نَدِين بالإخلاص، بقدر ما نحصل على معاونته وتأييده. إن كل عنصر من عناصر الشرك والنفاق يكون بمثابة عائق كامن في طريقنا، وسببًا كامنًا لهزيمتنا. وهكذا كلما كان المسلمون في وقت النبي يعانون هزيمةً أو نكسة مؤقتة في معاركهم ضد الكفار، كان الله يوجههم لأن يبحثوا عن سبب ذلك في قلوبهم. فمثلاً فإن سبب هزيمتهم المؤقتة في أُحُد كان يرجع إلى حقيقة أن بعضًا منهم قد رغبوا في متع الحياة الدنيا، وفي حُنين كان يرجع إلى مباهاتهم بأعدادهم الكبيرة.
ولذلك فإننا يجب أن نكون منتبهين حتى لا يزحف ذلك الزيف إلى قلوبنا، ولو أنه وجد طريقًا إلى قلوبنا، فإننا يجب أن نبذل كل ما في طاقتنا لنطهر أنفسنا منه بالاستغفار والتوبة، وبإقامة الأعمال الصالحة وغيرها من أعمال العبادة. إن آثامنا هي عدونا الحقيقي، وإن الإخلاص هو سلاحنا الحقيقي الذي لا يمكن تدميره.
إن التأكيد على تلك النقطة من الممكن أن يثير القلقَ ظنا بأن ذلك قد يكون بمثابة دعوة إلى نوع من الصوفية السلبية، وإنكارًا لجميع الأنشطة العامة، وخاصةً السياسية. ومن الممكن أيضًا أن يقودنا إلى الاستنتاج الخاطئ بأن رغبة الجماعة من المسلمين في تولي السلطة تعد شيئًا آثمًا.(/16)
ولذلك فإنني أود أن أؤكد أن ذلك ليس هو غرضي، وأحب أن أضيف أن ذلك النوع من القلق هو نفسه يعد نتيجة لمفهوم خاطئ للعَلاقة بين حالتنا العقلية وأعمالنا وأنشطتنا. إن جهدنا في تطهير قلوبنا لا يجب تصوره كفعل تَحوُّلي يعوق أو يبطِّئ أنشطتنا العامة، ولا يجب أيضًا أن نتجنب الأنشطة العامة باعتبارها أعمالاً دنيوية غير جديرة بالشخص التقي. إن القلب الطاهر الواعي بالله يعد بمثابة قوة دافعة تقودنا إلى الأعمال الدنيوية الصالحة، وإن طبيعة أنشطتنا العامة تعد بمثابة التعبير الظاهري لنوع الإيمان الذي يكمن في قلوبنا.
لقد أعلنتُ فيما سبق أن أسلوب الشخص في تحقيق هدف مرغوبٍ فيه يعتمد على ما يعتبره بمثابة مسبِّباته الفعالة وعلى مفهومه للعَلاقة القائمة بين تلك المسبِّبات.
إن المُلحدِين يَقصُرون أنفسهم على الأسباب الطبيعية والجهد الإنساني، ظانين أن تلك فقط هي الأسبابُ الحقيقية الفعالة لأي تغيير في العالم. ونحن نضيف إلى تلك الأسباب اعتقادنا أنه بما أن كل شيء في العالم هو من خلق الله؛ فإن الله وحده هو المسبِّب النهائي لكل ما يحدث في العالم؛ ولذلك فإنه يكون أمرًا طبيعيًا بالنسبة لنا أن نُضمِّن في نظامنا للأسباب الفعالة أشياءَ مثل الصلاة، والاستغفار، والتوبة، وعمل ما يوصي به الله وتجنب ما يحرمه، ويصل الإنسان إلى مصاف أولياء الله من خلال أفعال العبادة تلك. وعندما نكتسب حب الكائن الذي يتحكم في العالم لن يستطيع أي شيء أن يقف في طريقنا.
إن اتجاهنا هذا سوف يبدو غريبًا عندما تتم مقارنته بالأفكار والفلسفة السائدة الآن في عالمنا. وطبقًا لما قال النبي فإن الإسلام قد بدأ غريبًا حينما ظهر، وسوف يعود غريبًا مرةً أخرى، يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((بَدَأَ الإسْلَامُ غَرِيبًا، وسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ))؛ رواه مسلم.(/17)
ولو أننا رغبنا في أن نكون على طريق الله ونحظى بتأييده، فإن من الضروري - ولكنه ليس من الكافي - أن نكون مخلصين طاهري القلوب، وإلى جانب الرغبة المخلصة في إرضاء الله، فإننا يجب أن نضيف التعرف على الأفعال الصالحة والأساليب التي ترضي الله والتي يَعتبرها أفضل الوسائل لتحقيق الغايات التي وضعناها نصب أعيننا، وأن ذلك ينطبق على رغبتنا في تحقيق الدولة الإسلامية المثالية. ونظرًا لأن هدف النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما كان في مكة كان أن يُكَوِّن مثل تلك الدولة؛ فإننا يجب أن ندرس سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأحاديثه الموثوقَ بصحتها إلى جانب القرآن.
الأهمية الأساسية للدولة الإسلامية
بانتقالنا إلى سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - أجد من الضروري أن أبرر العبارة التي طرحتها الآن حول هدف النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنسبة لتكوين الدولة الإسلامية.
إن هدف النبي باعتباره رسولاً لله كان يتمثل في نقل رسالة الله إلى عباده، وتلك حقيقة، ولكن من الحقيقي أيضًا أن المحاولة لتكوين مثل تلك الدولة الإسلامية تعد جزءًا مهما من تلك الرسالة. ولقد قيل: إنه إذا كان أحد أهداف النبي - صلى الله عليه وسلم - يتمثل في تكوين مثل تلك الدولة لَمَا رفض العرض الذي جاءه من مكة لتولي منصب الرئاسة، ومعلوم أن النبي - عليه السلام - قد رفض ذلك العرض، ولكن السبب في ذلك هو أن قبوله لم يكن: "نجعله رئيسًا لدولة إسلامية"؛ بل كان سيصبح رئيسًا لقوم لم يؤمنوا حتى برسالته، ولكنهم عرضوا عليه ذلك المركز كرشوة لحثه على التوقف عن نشرها، والشخص الذي يقبل مثل ذلك العرض لا يكون نبيا حقيقيا، بل يكون إنسانًا تتملكه الرغبة في السلطة، ويكون الادعاء في النبوة بالنسبة له ليس بأكثر من وسيلة لتحقيق تلك الرغبة.(/18)
إن حقيقة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان تَوَّاقًا إلى تكوين دولة إسلامية تَظهَر بوضوح حين ندرك أنه إلى جانب محاولته إقناعَ الناس باعتناق الإيمان الجديد، فإنه كان يبذل أقصى جهده ليظفر بتأييد جماعة منظَّمة ومستقلة تكون بمثابة معقل لذلك الإيمان. ولتحقيق تلك الغاية فإنه اعتاد أن يتصل برؤساء القبائل المختلفة، وخاصةً في وقت عَقْدِ الأسواق السنوية في مكة، ويطلب منهم أن يَقبلوه كنبيٍّ وأن يكونوا حماة الإيمان الجديد، وأخيرًا فإن قبيلتين من المدِينة، وهما الأوس والخزرج فعلتا ذلك ومكنتا من قيام أول دولة مسلمة نشأت في أراضيهم.
ولنفترض الآن أن عددًا من المسلمين قرروا العمل لتحقيق تلك الغاية. فبأي وجه يستطيعون أن يَفِيدوا من سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - في المرحلة المكية؟
موقفان متطرفان:
اعتنق عدد كبير من الناس موقفين متطرفين: الأول: هو أنه نظرًا لأن رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - قد اكتملت أخيرًا في شكل القرآن ومجموعة الأحاديث الموثوق بها، التي تحت تصرفنا الآن؛ فإن المراحل الأولى التي مرت بها تلك الرسالة لا تتلائم الآن مع نوع النظام الذي يجب أن نَتَّبعه في نشرها أو ممارستها، ولكن ديننا كامل ويجب أن تتم ممارسته في مجموعه، وليس من الممكن إيقافُ أو إرجاء تطبيق جزء منه لأي سبب من الأسباب.
أما الموقف الآخر: فهو أن الناس الآن قد ارتدوا إلى نوع من الجاهلية المكية التي كانت سائدة في وقت رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ ولذلك فإنه يجب علينا أن نبتدئ من النقطة التي ابتدأ منها النبي، ونمر بجميع المراحل التي مر بها، حتى نستطيع في نهاية الأمر تكوينَ دولتنا الإسلامية.(/19)
وكلٌّ من هذين الموقفين ليس من الممكن الدفاعُ عنه؛ أما الأول فلأنه يتجاهل الحقيقة المهمة التي ذكرناها سابقًا، وهي أن الإسلام يعد بمثابة رسالة ونظام، وأن الأسلوب الذي بمقتضاه يتم نقل الرسالة وممارستها يعد جزءًا لا يتجزأ عن الرسالة ذاتها، ومن ثم ليس من الممكن تجاهله. وإذا قبلنا ذلك الأمر، فإننا نستطيع دائمًا أن نسترشد بالأساليب التي اتبعها النبي - صلى الله عليه وسلم - في أي فترة من حياته.
وكذلك الموقف الثاني؛ لا يمكن الدفاع عنه؛ لأنه من المستحيل أن ننقُل موقفًا تاريخيًا كاملاً من إحدى الفترات الزمنية، ونفرضَه على الفترة الزمنية التالية. وذلك هو ما يطالب به الموقف الثاني تمامًا.
ويمكننا رؤية نتائج مثل تلك المحاولة في المثل الحي لبعض الشباب الذين أعرفهم، والذين حاولوا اتباع ذلك الأسلوب؛ نتيجةً لفهمهم الموضوعي للكاتب المسلم العظيم الشهيد سيد قطب، وهم قد ابتدؤوا بتكوين جماعة وانتخاب قائد، وقد كان من المفترض أن تكون تلك الجماعة متماثلة مع جماعة المسلمين الأوائل، ولكنهم تجاهلوا حقيقة أن هؤلاء الذين تجمعوا حول النبي - صلى الله عليه وسلم - قد كانوا هم المسلمين وحدهم على وجه الأرض، وحتى يضاهوا تمامًا بين تلك الجماعة وجماعة النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنهم أطلقوا عليها اسم جماعة المسلمين، وتلك عبارة توحي أنهم هم المسلمون الوحيدون، وهم قد اعتقدوا بالفعل أن من لا ينتمي إلى جماعتهم لا يكون مسلمًا، أو كما يقول المعتدلون منهم يكون مجهول الحال، أي مشكوكًا في أمره، وعندما سألتُ بعضهم ذات يوم: بأي حق ينكرون الإسلام على شخص ينطق بالشهادة، ويقيم الصلاة ويعرف باستقامته الأخلاقية؟ وكان الجواب"ولكن من أجل أن تكون مسلمًا يجب أن تنتمي إلى المجتمع الإسلامي، وهؤلاء الناس يعيشون في مجتمع الجاهلية!"(/20)
قلتُ: "إذا كنتم تَعنُون بالمجتمع الإسلامي مجتمعًا مثل مجتمعكم، حينئذ فإنه يوجد الكثير من المجتمعات الإسلامية الأخرى" فقالوا: "إنها ليست بإسلامية لأنها تقبل هؤلاء الذين يعيشون في مجتمع الجاهلية كمسلمين وإن أي شخص يَعتبر مِثلَ هؤلاء الناس مسلمين يكون هو نفسه ليس بمسلم!!"
وهم اعتقدوا أنهم نظرًا لكونهم في المرحلة المكية؛ فإنهم يجب عليهم أن يَحْذُوا حذو النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن يدعوا الناس فقط إلى مبادئ العقيدة، ولا يتحدثوا إطلاقًا عن أشياء مثل الاقتصاد، والأمور السياسية، والعدالة الاجتماعية، إلخ... وقد ظهر سؤال حول ما إذا كانوا هم أنفسهم يجب أن يمارسوا ذلك الجزء من الشريعة الذي أوحي في المدينة؟! وانقسمت الآراء حول تلك المسألة إلى قسمين، وعلى الأقل كان واحد من القسمين يعتبر الآخر غير مسلم!!
والمجموعة التي اعتقدت أنهم لا يجب أن يمارسوا ذلك الجزء من الشريعة الخاص بالمدينة قد وصلت في تطرفها إلى حد إهمال دراسة الآيات القرآنية المدَنِيَّة!
أما ذلك الجزء من المجموعة الذي اعتقد بوجوب ممارسة الشريعة في مجموعها ذهب إلى مدى جَلْد أحد الأعضاء الذي اعترف بأنه ارتكب الزنا.
إنني أعتقد أن المثل الذي ضربه هؤلاء الشباب المتحمسون والمخلصون في كثير من النواحي يشكل إنذارًا ملائمًا ضد ذلك النوع من التطرف.
التماثل والاختلاف
الموقف الصحيح - كما أعتقد - هو أن الإنسان يجب أن يبحث عن التماثل ولكنه يجب أيضًا أن يُقر بالاختلافات بين أي جماعة مسلمة معاصرة في بلدة معينة وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه في كل من فترتي مكة والمدينة. وعندما تجد مثلُ تلك الجماعة نفسَها في موقف يتماثل مع موقف المسلمين الأوائل فإنها يجب أن تقتدي بسلوك النبي في ذلك الموقف. ونستطيع أن نصور تلك النقطة بقليل من الأمثلة:(/21)
1- إن القوم الذين قَبِلوا الإسلام في مكة لم يُتركوا ليعيشوا كأفراد منعزلين، بل كَوَّنوا جماعة منظمة، وإنني أعتقد أن الحكمة من وراء ذلك هي:
أولاً: أن المسلمين - طبقا للقرآن - يُعَدون بمثابة أمة، أي إنهم أخوة، ومن ثَمَّ ليس من الممكن أن يكونوا مسلمين تماما لو أنهم عاشوا متفرقين. إن ذلك قد يبدو موهما بالتناقض، ولكنه صحيح، فإننا عندما نعيش منعزلين لن نحقق كِياننا أو نشعر بالرضاء لأنه يوجد بداخل كل منا فراغٌ ليس من الممكن أن يملأه سوى الأخوة المسلمين الآخرين.
ثانيًا: إنه إذا كان هدفنا النهائي هو تكوين مجتمع خاص بنا، حينئذ فإنه يجب أن يتم تكوين بَذْرة ذلك المجتمع داخل المجتمع الذي نرغب في تغييره. وبتلك الطريقة فقط نستطيع أن نواجه تحديات المجتمع الذي نعارضه، وحينئذ نستطيع أن نشعر بنعمة العيش في مجتمع مسلم ونعطي الآخرين مَثَلا حيا لذلك المجتمع.
والعبرة في ذلك بالنسبة لأي قوم يرغبون في تكوين مجتمع مسلم صحيح يمكنه التطور حتى يصبح دولة مسلمة، هي:
أ- أنهم يجب أن ينظموا أنفسهم في جماعة ويكون لهم قائد. وإن الشيء السليم هو أنه يجب أن تكون هناك جماعة واحدة فقط من المسلمين تعمل في مجتمع معين من الجاهلية أو شبه الجاهلية. وكلما كثر عدد الجماعات التي لدينا، كلما انحرفنا عن الاقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ومن ثم تأخرت عملية التوجه بالمجتمع إلى الوجهة الإسلامية.
ولكنه إذا حدث لسبب أو آخَرَ أن وُجِدَ أكثر من جماعة واحدة فإن أفضل موقف هو أن تتعايش تلك الجماعات بطريقة ودية، وتتعاونَ في العمل على تحقيق الغايات المشتركة، وتُنسقَ جهودها من أجل ذلك.
ويجب أن تتذكر تلك الجماعات أن الرابطة التي تربطها سويا وهي شهادة أن لا إله إلا الله - تعد أكثر أهمية من الخلافات التافهة التي تَبُثُّ الفُرْقة بينها.(/22)
ب- ويجب أن يتذكروا أن قائدهم ليس بنبي يجب الإيمان بكل كلمة يتفوه بها واتباعُها، فإنه هو نفسه تابِعٌ للنبي - صلى الله عليه وسلم -؛ ولذلك يجب اتباعه فقط بقدر ما يَتَّبِع هو النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، ويجب أن يقوم الأَتْباع المثقفون لمثل ذلك القائد ببذل ما في طاقتهم ليحصلوا على المقياس الذي بمقتضاه يستطيعون تقويم قائدهم، أي القرآن والسنة. إن مثل ذلك القائد لا يصل إلى مرتبة النبيِّ فحسب؛ بل إنه لا يصل حتى إلى مرتبة أمير المؤمنين مثلما كان أبو بكر وعمر، أو أيٍّ من الخلفاء المسلمين. ومن أجل أن يكون الشخص أميرا بتلك الكيفية، فإنه يجب أن يكون بمثابة القائد الفعلي للمسلمين، أي يكون هو الشخصَ الذي يمسك بزمام السلطة الحقيقية ومن ثم يستطيع تطبيق القانون الإسلامي. إن قادتنا يُعتبرون حقيقة كأمراء، ولكنهم أمراء في مفهوم أضيق؛ ولذلك فإنه يكون من الخطأ من ناحيتهم أن يطالبوا بالسلطات التي منحها النبي للقادة، ومن الخطأ من ناحيتنا أن نزودهم بمثل تلك السلطات.
جـ- أنهم يجب أن يبذلوا ما في وسعهم ليحافظوا على الأُخُوة التي تعتبر قوام وَحْدَتِهم، ويتذكروا أن الشيطان سوف يفعل ما في طاقته ليقضي على تلك الوَحْدَةِ بما يطلق عليه القرآن (النزغ)، وأن يكونوا على ثقة من أن النزاع والصراع لن يجلب لهم سوى الفشل والانحلال.
د- طبقا لنفس المَثَل الأعلى؛ فإنه يجب أن يكون هناك أيضًا تعاوُنٌ بين التنظيمات الإسلامية على النطاق العالمي، وبين تلك التنظيمات وأي دولة مسلمة حالية تكون راغبة في تقديم المساعدة والعون. ونأمل أن يأتي الوقت الذي تَعتبر فيه الدولةُ المسلمة أرضَها مقرًا لجميع المسلمين المخلصين وتَفتح أبوابها لهم، وتقبلهم كمواطنين يتمتعون بجميع الحقوق، وتُعجل بعملية التوجه إلى الاتجاه الإسلامي في العالم بأجمعه كجزء من واجبها، وهكذا تقدم لها جميع التأييد المعنوي والمادي والمساندة التي تحتاج إليها.(/23)
2- إن النبي - صلى الله عليه وسلم - في مكة، باتباعه إرشادَ القرآن، قد ابتدأ في دعوة الناس إلى المبادئ الرئيسة للإيمان، وإنني أعتقد أنه فعل ذلك لأن الإسلام ليس مجردَ مجموعة من الأوامر والنواهي، إنه نظام يتمشى مع كل من الناحية المنطقية والنفسية. وهكذا فإننا لو لم ندعم الأساس الداخلي لن نستطيع أبدًا أن نقيم أي بنيان خارجي قوي، أي لو لم يتم دعم الإيمان بقوة في قلوب الناس؛ فإنه يكون من غير المجدي أن نطالبهم بفعل ما أمر به الله وتجنُبِ ما نهى عنه. وقد وضح ذلك تمامًا في كلمات عائشة التي قالت - طبقا للبخاري: إنه عندما جاء النبي ابتدأ في إخبار الناس عن الله والآخرة فقط، وبعد أن آمنوا بذلك فإنه ابتدأ في إخبارهم أنهم يجب أن لا يشربوا الخمر أو يرتكبوا الزنا. ولو أنه كان ابتدأ بالأمر الثاني لكانوا قد رفضوا بصلابة أن يلتزموا بأوامره ويكفوا عن تلك الآثام.
القضايا الكبرى
ولكن هنا نقطتان يجب أن نلاحظهما:
أ- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يَقصُر نفسَه على الحديث عن أمور العقيدة فقط، بل أيضًا - مَثَله مَثَل من جاء من قبله من الأنبياء - قد شرح النتائج الأخلاقية والاجتماعية لتلك العقيدة، وأن ذلك الأمر هو الذي يؤثِّر في القلب أكثر من الحديث النظري عن العقيدة، وهو الذي يتسبب - عادة - في جانب معارضة الناس من ذوي المصالح في مجتمعات الجاهلية المتعارضة مع الإسلام، واضطهادِ هؤلاء الناس للأنبياء.
ب- عند دعوة الناس للإيمان الجديد، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يتحدث إليهم بأسلوب جازم أو عاطفي بحت، ولكنه لجأ إلى المناقشة المنطقية وإلى البراهين المادية. لقد تحداهم عقليا وأنذرهم بإخلاص، وطلب منهم النظر في التاريخ بتروٍ للاعتبار به، وشرح لهم حقيقة أنه كان يدعوهم إلى الطريقة الوحيدة التي تجلب لهم السعادة المادية والروحية في هذه الحياة والحياة الآخرة.(/24)
إن حقيقة أن تلك الطريقة الحكيمة لتعريف الناس بالإسلام لم تقتصر على الفترة المكية قد تم الإلماح إليها في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - حول غربة الإسلام: ((بَدَأَ الإسْلَامُ غَرِيبًا، وسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ)).
إن ذلك الحديث يشرح ويثبت ما ذكرته عن التشابه في المواقف؛ فإنه يخبرنا أنه سوف يأتي وقت عندما ينظر الناس إلى الإسلام بنفس الأسلوب الذي نظر به المكِّيُّون إلى الإسلام عند ظهوره لأول مرة، وإن ابن تيميه بنفاذ بصيرته المعتاد قد استنتج من ذلك الحديث أنه عندما يصبح الإسلام غريبا للمرة الثانية فإنه يجب أن نعتنق نفس الأساليب التي اتُّبعت لنشره عندما بدأ غريبًا في المرة الأولى. ونقصد بذلك أنه يجب أن نركز على القضايا الأساسية الرئيسة، ونستخدم العقل والمناقشات المنطقية لإثبات حقيقة تلك المبادئ، وإثبات زيف المذاهب المضادة.
ولذلك يجب علينا - طبقا لسنة النبي صلى الله عليه وسلم - أن نبذل ما في وسعنا لأن نشرح النتائج الأخلاقية والاجتماعية لتلك الحقائق الأساسية، وأن نطبق النقد الشامل على مجتمعنا، ونقدم بديلا مقنعا.(/25)
وعند عَمَلِنا ذلك، فإنه سوف يكون من غير العملي ومما يشكل جمودا غير ضروري أن نقصر أنفسنا على تعليمات الإسلام المكية، إنه يكون من غير العملي؛ لأن الأمر يختلف عن حالة المكيين الأوائل، فإن الكثير من الناس الآن - بما فيهم غير المسلمين - يعرفون تفاصيل الإسلام التي أوحيت في المدينة. ولذلك لا نستطيع أن نعاملهم كما لو كانوا جهلاء بالسُّور المدَنِيَّة، ولا نستطيع أن نرفض الإجابة على بعض الأسئلة التي يطرحها مثل هؤلاء الناس بدون أن نضعف من موقفنا. إن مثل ذلك الجمود يعد ضارًا لأنه يحرمنا من مَيْزَةٍ وضعها الله تحت تصرفنا. إن كُلاً من الرسل الذين جاؤوا قبل محمد - إلى جانب دعوتهم الناس إلى الحقيقة الأساسية للدين - فإنهم كانوا يُعْنَوْنَ بالمشكلة الاجتماعية المعينة للناس المعينين الذين أُرسلوا إليهم. وهكذا فإن موسى قد اهتم بتحرير قومه من الحكم المستبد لفرعون واستئصال الظلم الاقتصادي، وكان لوطٌ يوجه اهتمامه للقضاء على الفساد الاجتماعي، ولكن الإسلام يَعنى به أن يكون لجميع الناس وجميع الأجيال القادمة، ومن ثَمَّ فإنه يعالج جميع المشاكل الإنسانية الرئيسة.(/26)