قد يكون الانزلاق الذي يعتري أعدادا من الشباب فيما يسمى بفترة المراهقة، أمرا متوقعا، ومحتاجا إلى نوع من العلاج الاعتيادي الدائم. غير أن الخطورة تتجلى حين تبدأ هذه الانحرافات تقترب من أن تصبح ظاهرة في الشباب، والسؤال المهم: ما الأسباب التي تؤدي إلى انزلاق الشباب إلى تلك المسالك الخبيثة والتردي في تلك الأوحال من الرذيلة؟
ولعل من الأسباب التي تؤدي إليها الشعور بالحرمان العاطفي وفقدان الدفء الأسري. وأيضا الشعور بالإحباط العام الناتج عن انسداد الأفق، وعدم القدرة على تحقيق الطموحات الشخصية.
ولا يقل عن ذلك خطرًا الشعورُ بالإحباط الناجم عن الهزائم والتراجعات السياسية للأمة، وقد حرصت أمريكا والدول الكافرة على إظهار المشاهد المؤلمة في الإعلام التي تمعن في تسليط الأضواء على الانتهاكات لمقدسات المسلمين وأعراضهم، كما تعمدت الإفراط في الإهانات المتلاحقة للإسلام وللقرآن الكريم ولرسوله المصطفى -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- وكأنها تبغي من ذلك تجريع المسلمين الإهانة بعد الإهانة في أعز عزيزهم وأفخر مفتخراتهم؛ بغية توطين الشعور بالانكسار، واستمراء الذل، وتصديع البِنى المقدسة العميقة القارَّة في نفوس المسلمين بوصفهم أمة من دون الناس.(/6)
أما الإحباط فلا ينبغي له أن يكون؛ لأن المسلم يعي حقيقة دينه، وأن هذا التراجع لا يعدو كونه استثناء عن الوضع الطبيعي لهذه الأمة التي ما زالت بالرغم من ضعفها ثابتة أمام الرياح العاتية السَّموم التي لو تعرضت لها أمة سواها لفنيت عن آخرها، ومع ذلك فما زالت الأمة تتصدى وتقاوم وتصد وتلتئم، وعلينا أن لا نغفل أن المرض الذي يعانيه المسلمون اليوم -وهو الوهن الناجم عن حب الدنيا وكراهية الموت، والشوائب التي اعترت إيمان الناس وأفكارهم- لا يشفون منه دفعة واحدة، وقد بدؤوا يتماثلون منه للشفاء، إذ هو نتيجةٌ لتعرضهم لتلك الآثار المدمرة الناجمة عن عقود من الجهل والاستعمار، الذي أثر -مع الأسف الشديد- في طرائق تفكيرنا، وحتى في نظرتنا إلى أنفسنا، وذلك جعل البعض ينظر إلى أمته نظرة دونية... فليس مستغربا -والحالة هذه- أن ترى أعراض المرض ماثلة على المسلمين، غير أنه يلزم الانتباه إلى الدور الخطير الذي تقوم به وسائل الإعلام الغربية غير البريئة؛ إذ تتحكم في رؤيتنا للعالم وتعمل -عن تقصّد ووعي- على تشكيل صورة سلبية منتقاة وشديدة التركيز، بل التضخيم لتلك المساوئ والتراجعات التي تعتورنا، وفي المقابل تعمل على طمس النماذج المشرقة، مثل ظاهرة المقاومة، وغيرها من دلائل النهوض والصحوة التي تحياها الأمة في المشارق والمغارب،بل إنها تعمل على تشويهها، لتصبح في نظر الجهلة والمضللين سُبَّة بدلا من أن تكون مفخرة وحافزا.(/7)
هذا، والبعد الاقتصادي في العولمة؛ يكاد يكون وراء كل نشاطات العولمة الأخرى أو مظاهرها؛ إذ يقوم إفلاس العولمة الأخلاقي والفلسفي على اختزال كل وجه من أوجه حياتنا إلى مجرد سلعة واختزال شخصياتنا إلى مجرد مستهلكين يُجوّلون في سوق، حدودُه تتسع لتشمل الكوكب كله. ولا أظن مسلما يقبل أن يرخص نفسه؛ لتغدو في نظر الغربيين مجرد سلعة، أو شيء يروجون به سلعهم المفسدة التي تضر ولا تنفع؛ فيصيبون بذلك عصفورين بحجر، ثم يكون هذا على حساب القيمة الإنسانية العالية التي شرف الله بها الإنسان، ولا سيما المسلم، ورفعه إليها.
وقد تضافرت النصوص الشرعية التي تعلي من شأن الخُلُق، وتبين مكانته في الشريعة الإسلامية ودوره في بناء شخصية المسلم، وتحذر من تضييعه؛ قال عزَّ مِن قائل: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [النور: 19]، وقال رسول الله -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم-: ((إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق))، وعنه عليه الصلاة والسلام: ((إِنَّ مِنْ خِيَارِكُمْ أَحْسَنَكُمْ أَخْلاَقًا )).
وفي الختام أقول:
إنه كما خاب سعيهم، وطاشت سهامهم الفكرية، فإن سهامهم المبنية على إفساد الغرائز ستخيب، بعون الله، بل، إنها بدأت؛ ذلك أنها أقل دهاء، وأكثر افتضاحا من سابقتها؛ إذ في التضليل الفكري يتوهم المضلَّل أنه على الحق؛ فيقارع، متحديا، أهل الحق، ومن أشق الأمور تغيير عقلية الإنسان، وطرائق تفكيره. أما في الخراب الخلقي فإن المنزلِق يعلم في قرارة نفسه انزلاقه ويستشعر تعاسته وقلقه؛ فلا يعدو انزلاقه نزوة لا تلبث أن تغادر، وهو يمقتها، في الأول والآخر، وبكلمات أخرى: ما داموا قد لاذوا بهذا السلاح المكشوف فإن أيامهم معدودة.(/8)
العنوان: لغة النقد الحديث
رقم المقالة: 138
صاحب المقالة: د. عبدالقدوس أبو صالح
-----------------------------------------
كأنما لم يكفنا ما يكتنف كثيرًا من نماذج الشعر الحديث من غموض وإبهام، حتى بُلينا بلغة غريبة، أخذت تتردّد في بعض كتب النقد الحديث، سواء في ذلك ما ترجم من مؤلفات النقاد الغربيين ترجمة رديئة، أو في كثير من المقالات والكتب النقدية، التي يدفع بها قوم لا يعرفون ما يكتبون، بله أن يفهم الناس عنهم ما يريدون.
ولقد قرأت كثيرًا من مقالات هؤلاء المتجرّئين على التأليف في النقد الحديث، ومن كتبهم التي بدأت تتصدّر رفوف المكتبات، فكنت أنكر ما أقرأ، وأتّهم نفسي بالعجز عن الفهم، والتخلف عن مجاراة لغة النقد، وكنت أطوي نفسي على ذلك الشعور، لا أكاد أُطلع عليه أحدًا خشية أن يُنسب إليَّ ما لا أحبّ.
ثم تطاول هذا الأمر حتى بدأت أحدّث عن ذلك من أثق بفهمهم وعلمهم، فإذا بأكثرهم ينكرون ما أنكرت، ويذهبون في تفسيره مذاهب شتى، تبدأ من الاتهام بضعف الترجمة لتنتهي بالاتهام بضعف الفهم وتغطية العجز بالإبهام والفوضى، واصطناع لغة هي إلى العُجمة أقربُ منها إلى العربية الفصحى.
ولقد هممت أن أجمع نماذج من تلك اللغة النقدية الطارئة، ولكن نفسي عافت ذلك، واستكثرته، وانصرفت عنه، ثم وقعتُ منذ حين على كتاب للدكتور محمد مصطفى هدارة عنوانه ((مقالات في النقد الأدبي)) تعرّض فيه إلى نقد كتاب ((الصورة الأدبية)) للدكتور مصطفى ناصف، ورأيت في ذلك النقد غناء عما كانت النفس تتردّد فيه ثم تعافه.(/1)
وقد ابتدأ الدكتور هدارة نقده بقوله: ((قيل لأبي تمام: لمَ تقول ما لا يُفهم؟)) فرد على سائله قائلاً: ((لمَ لا تفهم ما يقال؟)) تذكرت السؤال والجواب وأنا أخوض في مغاليق كتاب الدكتور مصطفى ناصف، فما أكاد أنتهي من صفحة حتى أعاود قراءتها من جديد، وحين تستغلق عليّ مرة أخرى أعود للصفحة التي قبلها عسى أن أفسّر الماء بالماء ولكن هيهات... ثم تستبدّ بي الحيْرة ويكتنفني الغموض، وأُرهَق من أمري عسرًا... وأصيح بالمؤلف قائلاً: ((ما هذا الأسلوب بعربيّ، إنه مكتوب بلغة لا أفهمها، قد تكون البربريّة أو السنغاليّة أو أية لغة لا أعرف منها حرفًا)).
ثم يسرد الدكتور أمثلة كثيرة تؤكد ما قدمناه حيث ينقل قول المؤلف في موضع من كتابه: ((إن مذهب امتزاج الذات والموضوع ينبغي أن يُتناول بحذر من أجل أن نكوّن تمييزات معينة، وفي خلال تكوينها نأذن بالتغاضي عنها لبعض الأغراض)). ويقول في موضع آخر: ((فالتجربة الأساسية متميزة من التأثيرات التي تحاك في أعصابنا وأنفسنا، وإنما هي بصيرة تتم بفضل الخيال، ومن المهم أن نتذكر أن هذه الحركة الخيالية لا يمكن أن تختصر في تأثيرات متعلقة بالجهاز العصبي)). ويقول في موضع ثالث: ((فيتيسر قياسها على ضبط عنيف يخلو من التقدير والتوجّس من التسرّب المستمر للتجربة في اتجاهات وزوايا لا تنضبط)). ثم يحاول المؤلف أن يوشّي كلامه بصور ومجازات نافرة فمن ذلك قوله: ((في الإدراك الاستعاري إيثار كريم يعلو على ساق من الأثرة)) وقوله: ((الاستعارة فسحت المجال للحنوّ البالغ على التشبيه)) ثم يتحدث عن ((علاقات الدفء بين الناس)) و((معانقة الحَيْرة)).(/2)
ولعلّ أجدر ما نقوله لهؤلاء النقاد الذين يكتبون ما لا يفهمه الناس هو ما قاله الدكتور هدارة بصراحة بالغة: ((والحقيقة أنه يجمُل بالمؤلف إن أراد لكتابه أن يُقرأ ويُفهم – أن يدفع به إلى مترجم أمين يعرف اللغة العربية التي يكتب بها الناس ويقرؤون، فينقل إليهم ما كان يريد أن يقوله المؤلف أو ما كان في نيّته أن يكتبه)).(/3)
العنوان: متى يموت الحلم
رقم المقالة: 1690
صاحب المقالة: مها عبدالرحمن سالم
-----------------------------------------
يموت عندما يحُطُّ على أرضِ الواقعِ حقيقةً ناصعةً..
عندها.. يفقد الحُلُمُ خاصيّته المحلقة في أفق المجهول ليجري في عروق المعقول؛ كبيرا أو صغيرا كان ذاك الحلم.. في مكانه الذي اختاره ضميرنا أو في مكانٍ آخر!.
كثيرة ٌ هي الأحلام تلك التي تُصِرُّ على الانتظار..
لكننا نعمد إلى إفساد لذّة المفاجآتِ بالاستعجال،
ونكدِّرُ صفو علاقتنا بالمستقبل بكَمٍّ لايُعَدُّ من الهموم نُحَمِّلُها فِكرَنا!!
فنستبدل طقوس التهَيُّئِ والتخطيطَ.. بالإستبدادِ بمساحاتِ الخيَالِ المُثمِرِ المنضبط!!
كم مرَّةٍ خطط أحدنا أن سيفعَلُ كذا وكذا.. ورسمنا صورة الزمان والمكان..
وكم مرةٍ حاولنا فوجدنا النتيجة.. فكان مارسمناه ، وابتهجنا وهزجت جوانحنا..
فلم لانكرر المحاولة..؟!
والحلم الخطوة الأولى نحو الإنجاز بعد توفيق الله سبحانه وتعالى،
وأما إن توقفت الأماني عند حدود الأماني.. فهي فلسفة النوكَى!!
بعض الأحلام تُحتضَر لأن لها أعماراً (ساعات.. ولحظاتٍ وثوانٍ)
فمتى ماتت ليس سهلا تكفينها ودفنها.. ولكِنّهُ باهرٌ البناء على أنقاضها..
ولا شكّ أن رحيلنا نحو الكمال سيؤنبنا..
ولكِن..إن تجاوَزَنا الحُلُمُ عن غير تقصير
..فأحلامنا كنف موطأ لمن يشاطروننا الفِكرَ،
وبأدواتِ الحلم المدفون يعلو واقع شاهِقٌ لم يحسب له!!
فلتبقَ المزيد من الأحلام -إذن- على قائمة الإنتظار.
تعليق حضارة الكلمة:
الأخت الفاضلة / مها سالم ..
وتبئير لمعنى الحلم وجمالياته.. يجعلنا نتأمل:
"هل تحققُ الحلمِ هو موتُه"؟!
وهو سؤال إيجابي.. في زحمة الأسئلة السلبية، يحيلنا إلى سؤال أهمّ:
"ماذا سنفعل إن تحقق حُلمنا"؟
.. يشرف قِسمُ "كاتبات الألوكة" بأن يكون قلمك الأديب والخاص من ضمن أقلامه..
ننتظر مزيداً من التألق بلغتك الواثقة وأخيلتك الغنية.
وفقكم الله.(/1)
العنوان: مِثل المسلم!!
رقم المقالة: 1129
صاحب المقالة: وسمية سليمان
-----------------------------------------
الليالي تلوَ الليالي..
ومع الغروب..
وفي زمهرير الشتاء..
يقف ذلك الجبل من الجليد..
ثابتاً...
مِثلَ المسلمِ الثابتِ على دينه!
شامخاً...
مثلَ المسلمِ الشامخِ بإرادتِه!
صامداً...
مثلَ المسلمِ في صمودِهِ في وجه التياراتِ المعاصرة!
معتزاً...
مثلَ المسلمِ المعتزِّ بدينِه!
بارداً ساكناً...
مثلَ المسلمِ الساكن ِعند غضبِه!
شديداً...
مثلَ المسلمِ في شِدَّته مع الأعداء!
ليناً في ملمسه...
مثلَ المسلمِ في تعاملِه مع إخوانِه!
ناصعَ البياض...
مثلَ المسلمِ في بَياض قلبِه!
نقياً صافياً...
مثلَ المسلمِ في نَقاوةِ صدرِه..
وصفائِه..
وسلامته من الضغائن والأحقاد...(/1)
العنوان: مثلث (مشرّف) و(بوتو) و(شريف) في الدائرة الأمريكية
رقم المقالة: 1448
صاحب المقالة: معمر الخليل
-----------------------------------------
مؤيدة أو معارضة؟!
يُعَدُّ هذا السؤال -حول عودة رئيسة الوزراء السابقة (بنظير بوتو) إلى إسلام أباد- بوابةَ المعرفة لوضع المستقبل السياسي القريب لباكستان، ما دام المستقبل العسكري هو بيد الأمريكيين في الرتبة الأولى. فالملياراتُ التي دفعتها الولاياتُ المتحدة لحكومة الرئيس العسكري (برويز مشرف) لن تذهب هدراً، وستبقى ممولاً لحرب ضد القاعدة وطالبان، ما دامت هناك حربٌ على الإرهاب (أمريكيًّا!)
هناك خياران أساسيان في عودة (بوتو) إلى إسلام أباد؛ فإما أن تأتي على أنها مؤيدة للرئيس مشرّف، ومن ثم تحصل على ضمانات سياسية لا تحلم بها. وإما أن تكون معارضة له، فتقع في الشَّرَك نفسه الذي وقع فيه (نواز شريف)، رئيس الوزراء السابق أيضاً، إذ أبعد إلى المملكة العربية السعودية، بعد ساعة ونصف من عودته إلى البلاد، التي أمضى قبلها 7 سنوات في المنفى.
(بوتو) -التي أعلنت أنها ستصل إلى البلاد في 18 من أكتوبر القادم- تدرك تماماً الوضع الباكستاني العام، والحَرَاك السياسي الداخلي الشعبي، الذي صار مشرّف غيرَ قادر على الوقوف في وجهه وحيداً، خاصة وأن الولايات المتحدة بدأت تبدي تململها من مشرّف نفسه، فشعار الديمقراطية لا يليق بالوضع هناك تماماً.
عودةُ شريف وإبعاده مرة أخرى، وعودةُ بوتو المرتقبة إلى باكستان، ومحادثاتُ وقف إطلاق النار بين الجيش الباكستاني وأنصار طالبان في المناطق القبلية، وزيارةُ مساعد وزيرة الخارجية الأمريكية إلى إسلام أباد أخيرًا، والوضعُ الذي يعيشه مشرّف حالياً.. تكوّنُ جميعُها أطرافاً أساسية في الوضع السياسي الحالي لباكستان، لا يمكن النظر إليها إلا جملةً واحدة، على أنها معيار للدرب الذي قد تسلكه إسلام أباد قريباً.
شريف والرهان الخاسر:(/1)
لم تمضِ السنواتُ العشر التي وعد (نواز شريف) بقضائها في المنفى كاملةً قبل العودة إلى إسلام أباد، فهناك ثلاث سنوات باقية، أرغمته على خسارة الرهان القادم من أجله. فالتأكيدات التي أطلقها قبل عودته إلى بلاده، من أنه جزء أساسي من العملية الديمقراطية، وأن عليه واجباً تجاه الشعب والوطن، لم تشفع له للبقاء هناك، ولا حتى القرار القضائي الذي حصل عليه من المحكمة العليا الباكستانية، بأحقية العودة للبلاد. كل ذلك وضعته الحكومةُ الباكستانية جانباً، وقررت القبض عليه ونفيه خلال أقل من ساعتين، لتجنب الدخول في مشاكل، لا طاقة لمشرّف بها اليوم.
(نواز شريف) الذي أطاح به مشرّف عام 1999 بانقلاب عسكري سلمي، وافق آنذاك على صفقة أبرمها مع الجنرال الذي يقود الجيش، تقضي بعدم تعرّضه للمساءلة والملاحقة القانونية بتهم الفساد والهرب من دفع الضريبة، مقابل قضائه عشر سنوات كاملة في المنفى. هذا الاتفاقُ الذي صار معياراً لتعامل (مشرّف) مع (شريف)، بات فاقداً للشرعية، بعد أن رفع شريف دعوى قضائية في المحكمة العليا، انتهت بالحصول على حكم قضائي بالعودة في الوقت الذي يشاؤه رئيسُ الوزراء السابق.
المسألة كانت عند الرئيس مشرّف، هي القدرة على عقد صفقة مع شريف قبل عودته، وهو أمر لم يستطع الحاكم العسكري للبلاد الحصول عليه، خاصة وأن (نواز شريف) رفض جميع أنواع الوساطات مع حكومة مشرّف، ورفض أيضاً البنود التي عرضتها المملكة العربية السعودية، وسعد الحريري (النائب اللبناني)، بعدم العودة إلى البلاد قبل انقضاء السنوات العشر، وأيضًا عاب على (بنظير بوتو) قبولَها الدخولَ في مفاوضات مع مشرّف، وجعل ذلك خيانةً للشعب. لذلك كان قرارُ مشرّف بإبعاده قراراً واضحاً حتى قبل وصوله إلى إسلام أباد، في العاشر من سبتمبر الحالي.(/2)
وإن كان هذا الأمرُ لا يخفى على سياسي محنك قام على رئاسة الوزراء مرتين، لكن (شريف) كان يراهن على الوضع السياسي الداخلي المفكك، وعلى وقوف مؤيدي حزب الرابطة الإسلامية الذي يتزعمه، إلى جانبه، وعلى قرار المحكمة العليا التي دخلت في عراك سياسي منذ مدة مع مشرّف، خرجت منه منتصرة -بعد أن أقال مشرّف كبير القضاة، وأعاده قرار المحكمة العليا مرة أخرى- إلا أن هذا الرهان كان خاسراً. فهناك من يعمل على تعديل الوضع السياسي وتشكيله من جديد، عبر مفاوضات مشرّف مع بوتو. أما مؤيدو شريف، فقد اعتقل الكثيرون منهم، وخاصة في البنجاب التي تعد معقلاً لأنصار شريف، قضى منهم نحوُ ألفين ليلة أو أكثر في السجون التي امتلأت بهم، في حين هرب الكثيرون خوفاً من السلطات. أما مسألة القضاء، فإن لدى الحكومة وثيقةً موقعة بخط يد شريف بالتزامه البقاءَ في المنفى عشر سنوات، كذلك يهدد محامو الحكومة بأن العفو الرئاسي الذي صدر بحق شريف يمكن أن يلغى. وحتى لو قرر شريف البقاء في البلاد، فإن وجود حكم جنائي سابق ضده، يمنعه حق الترشح للانتخابات، هذا فضلاً عن أن القانون الدستوري لا يجيز لأي سياسي البقاء في منصب رئيس الحكومة لأكثر من ولايتين!
بوتو في الصدارة:
استطاعت رئيسةُ الوزراء السابقة احتلالَ صدارة الاهتمام الإعلامي الباكستاني، بعد الأنباء التي أكّدت إمكانيةَ اقتسامِها السلطةَ مع الرئيس مشرّف، وذلك يمثل تحولاً كبيراً في سياسة بنظير، التي ربما أفقدتها بعضَ أنصارها، الذين لا يريدون أي اتفاق مع الرئيس الحالي.(/3)
ويبدو أن بوتو لديها سبب أو أكثر يجعلها مرنة لدرجة أكبر من أي وقت مضى مع مشرّف؛ فقد باتت تدرك -وهي التي قررت الخروج من البلاد عام 1999 بعد الانقلاب الذي قام به مشرّف- أن الرئيس الحالي بحاجة إليها أكثر من حاجتها إليه. فالسياسيون المرشحون لتولي السلطة في البلاد قلة، من بينهم شريف الذي فقد القدرة على الحَرَاك السياسي الداخلي بعد نفيه. كما أن المرشحين المحتملين لتولي السلطة هناك لا توافق واشنطن على الكثير منهم. وتمتلك بوتو حصة كبيرة من الرضا الأمريكي. لذلك فهي أجدر من غيرها. فضلاً عن أن أنصار حزبها فازوا بأكبر عدد من الأصوات في انتخابات عام 2002. كما أن الرئيس مشرّف باتت صلاحيتُه في البلاد على شفا الهاوية، بعد انقضاء مدة رئاسته، وانتهاء صلاحية بقائه على رأس الجيش، بسبب تعديه سن التقاعد.
ويعزم حزب الشعب -الذي تتزعمه بوتو- على حشد استقبال كبير لها، لإظهار مدى وقوف الشارع الباكستاني معها، إذ أعلن مخدوم أمين (نائب رئيس حزب الشعب) أن أنصار بوتو سوف يستقبلونها في مطار كراتشي (عاصمة إقليم السند) ويقيمون احتفالاً كبيراً بعودتها، وهو مؤشر آخر على قدرة بوتو على دعم موقف مشرّف من خلال استقطاب أنصارها لصالح هدنة سياسية مع الحزب الحاكم.
أما بالنسبة لقضايا الفساد التي قد تلاحق بوتو، فإن الاتفاق الحالي -الذي بات يشمل 80% من الاتفاق الإجمالي بين مشرّف وبوتو- يضمن إسقاط تهم الفساد وغيرها عن رئيسة الوزراء السابقة، وعدد كبير من البرلمانيين الآخرين. ومن ثم، فإن القبض عليها أو إبعادها، يبدو أقل احتمالا مما حدث مع شريف.(/4)
وتنقل شبكة الـ(CNN) الأمريكية، عن تقارير إعلامية صدرت في 28 من يوليو الماضي، تأكيدَها أن الرئيس الباكستاني التقى زعيمةَ المعارضة بنظير بوتو، خلال زيارته القصيرة لدولة الإمارات. وبحسب التقارير التي أوردتها بعضُ الصحف ومحطات التلفزيون الباكستانية، فإن اللقاء بين مشرف وبوتو، الذي جرى في (أبو ظبي)، استغرق نحو ساعة، وانتهى دون التوصل إلى اتفاق بين الجانبين، إلا أنه شمل الاتفاق على 80% من جملة الخلافات العالقة بين الطرفين السياسيين، منها إسقاط تهم الفساد، وتنازل مشرّف عن السلطة العسكرية مقابل الاحتفاظ بصلاحيات محدودة في الحكم المدني. وإمكانية تعديل الدستور لصالح الحصول على ولاية دستورية ثالثة في رئاسة الوزراء يضمن لبوتو الوصول إلى مقعد رئيس الوزراء في حال فوزها في الانتخابات القادمة. ويبقى الخلاف الأكبر حول إعطاء الرئيس حق إقالة الحكومة والبرلمان، وهو أمر لا ترغب به أي حكومة، خاصة وأن تاريخ مشرّف كان حافلاً بالدكتاتورية.
ومن ثم، فإن بوتو تمتلك سنداً كبيراً في العودة إلى إسلام أباد، خاصة مع الدعم الأمريكي لها، الذي عبرت عنه شبكة الـ(BBC) البريطانية بالقول: "إن المراسلين يقولون: إن المسؤولين الأمريكيين الكبار الذين يطمعون في استمرار دعم مشرف لـ "حربهم ضد الإرهاب" يشعرون أيضا أن بإمكان بوتو دعم استقرار ومصداقية النظام الذي يقوده"!
الأزمة السياسية والعسكرية:(/5)
لا تبتعد حركة طالبان كثيراً عن أي لعبة سياسية حقيقية في المنطقة، خاصة في باكستان وأفغانستان، فالأنصارُ الذين يوالون الحركة كُثُر، والقبائل التي تدعمها وتساندها كبيرة. لذلك فإن المحادثات التي تجريها الحكومةُ الباكستانية مع قادة طالبان، بوساطة زعماء القبائل الحدودية، تعد ركيزةً أساسية من ركائز الوضع السياسي القادم في باكستان، وحول هذا الإطار، يؤكد تقريرٌ نشرته (آسيا تايمز) -التي تُعنَى بالشؤون السياسية والاقتصادية لدول آسيا- أن المباحثات بين الطرفين توقفت حالياً، إلا أنها تسيرُ نحو الوصول لاتفاق لوقف إطلاق النار في الشتاء القادم، وهو أمرٌ يحتاجه مشرّف لتقليل الضغط الداخلي عليه، وتحتاجه طالبان لإعادة تمكين صفوفها وتوحيدها ضد القوات الأجنبية في أفغانستان. خاصة بعد أحداث المسجد الأحمر، وخروج مظاهرات دموية ضد مشرّف في أكثر من مكان.
أما زيارة جون نيغروبونتي (مساعد وزيرة الخارجية الأمريكية) إلى إسلام أباد أخيرًا، فقد كانت لترتيب أوراق السلطة في باكستان، التي تعد من أكبر الدول الحليفة لأمريكا في الحرب على ما يُطلق عليه اسمُ (الإرهاب).
وحول هذه النقطة جاء في تقرير نشر في (آسيا تايمز) بتاريخ 15 من سبتمبر الحالي: "إن هذه الساعات تبدو الأفضل في السياسة الخارجية للرئيس الأمريكي جورج بوش، وهم يقومون بترتيب هيكل السلطة في باكستان، من داخل مجمع السفارة الأمريكية في إسلام أباد". إشارةً إلى أن واشنطن كانت قريبة -ولا تزال- من كل ما يحدث داخل أروقة السياسة الباكستانية.(/6)
ويبدو الموقفُ الأمريكي -المساند لإبعاد شريف خارج اللعبة السياسية الحالية- واضحاً، عندما أعلنت واشنطن إثر إبعاده إلى السعودية "أن ترحيل رئيس الوزراء الباكستاني السابق يعد شأناً داخلياً باكستانياً". قبل وقت قصير من إعلان المتحدث باسم البيت الأبيض أن "الانتخابات المقبلة في باكستان ينبغي أن تكون حرة ونزيهة". وهو أمر لا يمكن تفسيره إلا بأنَّ الخطةَ التي ترسمها واشنطن لترتيب البيت السياسي الداخلي في باكستان، مرسومة بعناية، ومخطط لها، ليبدو وكأنه انقلاب جديد لصالح الديمقراطية، في بلد عاش من عمره 27 من الحكم المدني الديمقراطي، و33 عاماً من الحكم العسكري الديكتاتوري!(/7)
العنوان: مجالس الرشيد
رقم المقالة: 1825
صاحب المقالة: د. شوقي أبو خليل
-----------------------------------------
مجالس الرشيد
"ويحك اجتنبِ الصلاة والقرآن، وقل فيما عدا ذلك"[1].
كان قصر الرشيد: "مرتع الحكماء والعلماء، وسوق البلاغة، والشعر، والتاريخ، والفقه، والطب، والموسيقا، والفنون النافعة، إذ يقابلها الخليفة مقابلة مَن في سجيته النبل والكرم، فأجاز العلماء في كل فن جائزات سخية نبيلة"، لقد كان عصره: "عصر ازدهار الحضارة الإسلامية أي ازدهار".
حدَّث محمد بن عيسى بن يزيد الطرسوسي، قال: سمعت خرزاد القائد يقول: كنت عند الرشيد: فدخل أبو معاوية الضرير وعنده رجل من وجوه قريش، فجرى الحديث إلى أن خرج أبو معاوية إلى حديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة: ((أنَّ موسى لَقِيَ آدم فقال: أنت آدمُ الذي أخرجتنا من الجنة!))، وذكر الحديث، فقال القرشي: أين لقي آدمُ موسى؟ قال: فغضب الرشيد، وقال: النِّطع والسيف، زنديق واللهِ يطعن في حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: فما زال أبو معاوية يسكنه ويقول: كانت منه بادرة، ولم يفهم يا أمير المؤمنين حتى أسكنه[2].
قال الأصمعي: دخلت على هارون الرشيد ومجلسه حافل، فقال: يا أصمعي ما أغفلك عنا، وأجفاك لحضرتنا؟! قلت: والله يا أمير المؤمنين ما ألاقتني بلاد بعدك حتى أتيتك، قال: فأمرني بالجلوس، فجلست وسَكَتَ عني، فلما تفرَّق الناس – إلا أقلهم – نهضت للقيام، فأشار إلي أن أجلس، فجلست حتى خلا المجلس، فلم يبقَ غيري وغيره ومَنْ بين يديه من الغلمان، فقال لي: يا أبا سعيد: ما ألاقتني؟ قلت: أمسكتني يا أمير المؤمنين، وأنشدتُ:
كَفَّاكَ كَفٌّ مَا تُلِيقُ دِرْهَمًا جُودًا وَأُخْرَى تُعْطِ بِالسَّيْفِ الدَّمَا
فقال: أحسنت، وهكذا فكن، وقِّرنا في الملا، وعلمنا في الخلا، وأمر لي بخمسة آلاف دينار[3].(/1)
قال الأصمعيُّ: كُنَّا عند الرشيد، فقدمت إليه فالوذجة، فقال: يا أصمعي، حدثنا بحديث مزرد، فقلتُ: إنَّ مُزرِّدًا أخا الشَّمَّاخ كان غلامًا جشعًا، وكانَتْ أمُّه تؤثر عيالَها بالطعام عليه، وكان ذلك يُحْفِظه (يغضبه)، فخرجت أمه ذات يوم تزور بعضَ أهلها، فدخل مزرّد الخيمة وعمد إلى صاعَيْ دقيق، وصاعٍ من تَمر، وصاعٍ من سمن، فجمعه ثم جعل يأكله وهو يقول:
وَلَمَّا غَدَتْ أُمِّي تَمِيرُ بَنَاتِهَا أَغَرْتُ عَلَى الْعِكْمِ [4] الَّذِي كَانَ يُمْنَعُ
لَبَكْتُ[5] بِصَاعَيْ حِنْطَةٍ صَاعَ عَجْوَةٍ إِلَى صَاعِ سَمْنٍ فَوْقَهُ يَتَرَيَّعُ[6]
وَدَبَّلْتُ[7] أَمْثَالَ الأَثَافِي كَأَنَّهَا رُؤُوسُ نِقَادٍ[8] قُطِّعَتْ يَوْمَ تُجْمَعُ
وَقُلْتُ لِبَطْنِي أَبْشِرِ الْيَوْمَ إِنَّهُ حِمَى أُمِّنَا مَمَّا تَحُوزُ وَتَرْفَعُ
فَإِنْ كُنْتَ مَصْفُورًا[9] فَهَذَا دَوَاؤُهُ وَإِنْ كُنْتَ غَرْثَانًا[10] فَذَا يَوْمُ تَشْبَعُ
فضحك الرشيد حتى استلْقَى على ظهره، ثم قال: كلوا باسم الله، هذا يوم تشبع يا أصمعي[11].
وقال الأصمعيّ: دخلت على هارون الرشيد وبين يديه بدرة – 10 آلاف درهم – فقال: يا أصمعي، إن حدثتني بحديث في العجز فأضحكتني، وهبتك هذه البدرة.
فقال: نعم يا أمير المؤمنين، بينا أنا في صحارى الأعراب في يوم شديد البرد والريح، وإذا بأعرابي قاعد على أجمة وهو عريان، قد احتملت الريح كساءه، فألقته على الأجمة، فقلت له: يا أعرابي ما أجلسك ها هنا على هذه الحالة؟ فقال: جارية وعدتها، يقال لها سلمى، أنا منتظر لها، فقلت: وما يمنعك من أخذ كسائك؟ فقال: العجز يوقفني عن أخذه، فقلت له: فهل قلت في سلمى شيئًا؟ فقال: نعم، فقلت: أسمعني لله أبوك! فقال: لا أُسمعك حتى تأخذ كسائي وتلقيه عليَّ: قال: فأخذته فألقيته عليه: فأنشأ يقول:
لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَأْتِي بِسَلْمَى فَيَبْطَحُهَا وَيُلْقِينِي عَلَيْهَا(/2)
وَيَأْتِي بَعْدَ ذَاكَ سَحَابُ مُزْنٍ تُطَهِّرُنَا وَلا نَسْعَى إِلَيْهَا
فضحك الرشيد حتى استلقى على ظهره، وقال: أعطوه البدرة، فأخذها الأصمعي وانصرف[12].
أنشد العماني الرشيد يصف فرسًا:
كَأَنَّ أُذْنَيْهِ إِذَا تَشَوَّفَا قَادِمَةً أَوْ قَلَمًا مُحَرَّفَا
ولحن، ففهم ذلك أكثر من حضر، فقال الرشيد: دع كأنَّ وقل: تخال "تخال أذنيه"؛ حتى يستوي الشعر، فعجبوا لسرعة تهدّيه، لقد كان فهم الرشيد فهم العلماء[13].
قال الرشيد للأصمعيّ يومًا: يا أصمعي، أتعرف للعرب اعتذارًا وندمًا؟ ودعِ النابغة؛ فإنه يحتج ويعتذر، فقلت: ما أعرف ذلك إلا لبشر بن أبي خازم الأسدي، فإنَّه هجا أوس بن حارثة بن لأم، فأسَرَه بعد ذلك وأراد قتله، فقالتْ له أمُّه – وكانت ذات رأي –: والله لا محا هجاءه لك إلا مدحُه إياك، فعفا عنه. فقال بشر[14]:
إِنِّي عَلَى مَا كَانَ مِنِّي لَنَادِمُ وَإِنِّي إِلَى أَوْسِ بْنِ لأْمٍ لَتَائِبُ
وَإِنِّي إِلَى أَوْسٍ لِيَقْبَلَ تَوْبَتِي وَيَعْرِفَ وُدِّي مَا حَيِيتُ لَرَاغِبُ
سَأَمْحُو بِمَدْحِي فِيكَ إِذْ أَنَا صَادِقٌ كِتَابَ هِجَاءٍ سَارَ إِذْ أَنَا كَاذِبُ
فقال الرشيد للأصمعي: إنَّ دولتي لتحسن ببقائك فيها[15].
وروى الأصمعي: "لما خرجنا مع الرشيد إلى الرقة قال لي: هل حملتَ معك شيئًا من كُتُبك؟ قلت: نعم، حملتُ منها ما خفَّ حملُه، ثمانية عشر صندوقًا. فقال: هذا لما خففت، فلو ثقلت كم كنت حملت؟!".(/3)
دخل العماني الراجز على الرشيد لينشده وعليه قلنسوة طويلة، وخف ساذج، فقال له الرشيد: يا عماني، إيَّاك أن تنشدني إلا وعليك عمامة عظيمة الكور، وخفان دلقمان[16]، فبكَّر إليه من الغد وقد تزيَّا بزي الأعراب، ثم أنشده وقبَّل يده وقال: يا أمير المؤمنين، قد والله أنشدت مروان ورأيت وجهه وقبَّلت يده، وأخذت جائزته، ثم يزيد بن الوليد، وإبراهيم بن الوليد، ثم السفاح، ثم المنصور، ثم المهدي، كل هؤلاء رأيتُ وجوهَهُم، وقبَّلت أيديهم، وأخذت جوائزهم إلى كثيرٍ من أشباه الخلفاء، وكبار الأمراء، والسادة والرؤساء، واللَّهِ ما رأيتُ فيهم أبْهى منظرًا، ولا أحسن وجهًا، ولا أنعم كفًّا، ولا أندى راحة منك يا أمير المؤمنين، فأعْظَمَ له الجائزة على شعرِه، وأضعف له على كلامه، وأقبل عليه فبسطه؛ حتى تمنَّى جميعُ مَن حضر أنه قام ذلك المقام[17].
ولكلثوم العتابي في الرشيد أبيات منها:
إِمَامٌ لَهُ كَفٌّ يَضُمُّ بَنَانُهَا عَصَا الدِّينِ مَمْنُوعٌ مِنَ الْبِرِّ عُودُهَا
وَعَيْنٌ مُحِيطٌ بِالْبَرِيَّةِ طَرْفُهَا سَوَاءٌ عَلَيْهِ قُرْبُهَا وَبَعِيدُهَا
وَأَسْمَعَ يَقْظَانًا يَبِيتُ مُنَاجِيًا لَهُ فِي الْحَشَا مُسْتَوْدَعَاتٌ يَكِيدُهَا
سَمِيعٌ إِذَا نَادَاهُ مِنْ قَعْرِ كُرْبةٍ مُنَادٍ كَفَتْهُ دَعْوَةٌ لا يُعِيدُهَا[18]
وكان الرشيد ذات يوم، وأبو يوسف القاضي، وعبدالوهاب الكوفي في مجلسه، فتذاكروا الرُّطَب، فقال أبو يوسف: السكر أطيبُ من المشان[19]، وقال عبدالوهاب: المشان أطيب، فقال الرشيد: ليحضر الطعام، ودعا بعدَّة من بني هاشم كانوا هناك، فأقْبَلُوا جميعًا على السكر، وتركوا المشان، فقال الرشيد: قضوا عليك يا أبا عبدالرحمن وهم لا يعلمون، فقال أبو عبدالرحمن – عبدالوهاب الكوفي - : إنّي لم أر "مشان" قطّ أردأَ من هذا، فقال أبو يوسف: هكذا هما إذا اجتمعا[20].(/4)
قال إبراهيم بن المهدي: كُنْت أنا والرشيد على ظهر حَرّاقة – ضرب من السفن في مرامي نيران – وهو يريد نحو الموصل، والشطرنج بين أيدينا، فلما فرغنا قال لي الرشيد: يا إبراهيم ما أحسن الأسماء عندك؟ قلت: اسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قال: فما الثاني بعده؟ قلت: اسم هارون اسم أمير المؤمنين: قال: فما أسْمَجُها؟ قلتُ: إبراهيم، فزَأَرَني وقال: ويلك!! أليس هو اسم إبراهيم خليل الرحمن جلَّ وعزَّ، قلت: بِشُؤْم هذا الاسم لقي ما لقي من غرور، قال: وإبراهيم ابن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلت: لا جرم، لما سُمِّي بهذا الاسم لم يعش، قال: فإبراهيم الإمام، قلتُ: بِحُرفة اسمه قَتَلَه مروان الجعدي في جراب النورة. وأزيدك يا أمير المؤمنين إبراهيم بن الوليد خلع، وإبراهيم بن عبدالله بن الحسن قتل، ولم أجد أحدًا سمي بهذا الاسم إلا رأيته مقتولاً أو مضروبًا أو مطرودًا، فما انقضى كلامي حتى سمعت ملاَّحًا على بعض الحرَّاقات يهتف بأعلى صوته شاتمًا رجلاً اسمه إبراهيم: فالتفت إليَّ الرشيد، فقلت: يا أمير المؤمنين، أصدَّقت قولي إن أشأم الأسماء إبراهيم؟ فضحك الرشيد كثيرًا.
ودخل ابن السماك على الرشيد يومًا وبين يديه حمامة تلتقط حبًّا: فقال له: صفها وأوجز، فقال: كأنما المنظر من ياقوتتين، وتلتقط بَدْرتَينِ، وتطأ على عقيقتين، وأنشدونا لبعضهم:
هَتَفَتْ هَاتِفَةٌ آ ذَنَهَا إِلْفٌ بِبَيْنِ
ذَاتُ طَوْقٍ مِثْلُ عَطْفِ ال نُّونِ أَقْنَى الطَّرَفَيْنِ
وَتَرَاهَا نَاظِرَةً نَحْوَكَ مِنْ يَاقُوتَتَيْنِ
تُرْجِعُ الأَنْفَاسَ مِنْ ثُقْ بَيْنِ كَاللُّؤْلُؤَتَيْنِ
وَتَرَى مِثْلَ الْبَسَاتِي نَ لَهَا قَادِمَتَيْنِ
وَلَهَا لِحْيَانِ كَالصُّدْ غَيْنِ مِنْ عَرْعَرَتَيْنِ
وَلَهَا سَاقَانِ حَمْرَا وَانِ مِثْلُ الْوَرْدَتَيْنِ
نَسَجَتْ فَوْقَ جَنَاحَيْ هَا لَهَا بَرْنُوسَتَيْنِ(/5)
وَهْيَ طَاوُوسِيَّةُ اللَّوْ نِ بَنَانُ المِنْكَبَيْنِ
تَحْتَ ظِلٍّ مِنْ ظِلالِ الْ أَيْكِ صَافِي الْكَتِفَيْنِ
فَقَدَتْ إِلْفًا فَنَاحَتْ مِنْ تَبَارِيحَ وَبَيْنِ
فَهْيَ تَبْكِيهِ بِلا دَمْ عٍ جَمْودَ الْمُقْلَتَيْنِ
وَهْيَ لا تُصْبَغُ عَيْنا هَا كَمَا تُصبَغُ عَيْنِي[21]
ودخل معن بن زائدة على الرشيد.. فمشى فقارب الخطو، فقال له: كَبِرْتَ واللَّهِ يا مَعْنُ؟ فقال معنٌ: في طاعتك يا أمير المؤمنين، قال الرشيد: وإنَّ فيك على ذلك لبقيَّة، قال: هي لكَ يا أميرَ المؤمنين، قال: وإنَّك لَجَلْدٌ، قال: على أعدائك يا أمير المؤمنين، فرضي عنه وولاه.
وقال الرشيد لمعن بن زائدة يومًا: إني قد أعددتك لأمر كبير، فقال: يا أمير المؤمنين، إن الله قد أعد لك مني قلبًا معقودًا بنصيحتك، ويدًا مبسوطة بطاعتك، وسيفًا مشحوذًا على عدوك، فإن شئتَ فقُل – أي قلِ الأمر الَّذي أعدَدْتَني إليه.
وقال الكسائي: دخلت على الرشيد، فلمَّا قضيت حق التسليم والدعاء وثَبْتُ للقيام، فقال: اقعد، فلم أزل عنده حتى خفَّ عامَّة مَن كان في مجلسه، ولم يبق إلا خاصته، فقال لي يا علي، ألا تحب أنْ ترى محمدًا وعبدالله[22]؟ قلتُ: ما أشْوَقَنِي إليهما يا أميرَ المؤمنين، وأسرَّني بِمُعاينة نعمة اللَّه على أمير المؤمنين فيهما، فأمر بِإِحْضارِهما، فلم أَلْبَثْ أن أقبلا كَكَوْكَبَيْ أُفُق يزينهما هدوء ووقار، وقد غضَّا أبصارَهما، وقاربا خطوَهُما حتى وقفا على باب المجلس، فسلَّما على أبيهما بالخلافة، ودعوا له بأحسن الدعاء، فأمرهما بالدنُوّ منه فدنوا فصيَّر محمَّدًا عن يمينه وعبدالله عن يساره، ثم أمرني أن أَستَقْرِئَهما وأسأَلَهما، ففعلتُ، فما سألتُهما عن شيء إلا أحْسَنَا الجواب فيه والخروج منه، فَسُرَّ بذلك الرشيد حتَّى تَبَيَّنْتُه فيه، ثم قال لي: يا عليّ، كيف ترى مَذْهَبَهُما وجوابَهُما؟ فقلتُ: يا أميرَ المؤمنين هما كما قال الشاعر:(/6)
أَرَى قَمَرَيْ مَجْدٍ وَفَرْعَيْ خِلافَةٍ يَزِينُهُمَا عِرْقٌ كَرِيمٌ وَمَحْتِدُ[23].
يا أمير المؤمنين هما فرع زكا أصله، وطاب مغرسه، وتمكنت في الثرى عروقه، وعذبت مشاربه، وأبوهما أغرّ، نافذ الأَمْر، واسع العلم، عظيم الحِلْم، يَحكُمانِ بِحُكْمه، ويستضيئان بِنُورِه، وينطِقَانِ بِلِسانه، ويتقلَّبان في سعادته، فأمتع الله أميرَ المؤمنين بهما. وآنس جميع الأمة ببقائه وبقائهما، ثم قلتُ لَهُما: هل تَرْوِيان مِن الشعر شيئًا؟ فقالا: نعم، ثم أنشدني محمد:
وَإِنِّي لَعَفُّ الفَقْرِ مُشْتَركُ الْغِنَى وَتَارِكُ شَكْلٍ لا يُوَافِقُهُ شَكْلِي
وَأَجْعَلُ مَالِي دُونَ عِرْضِيَ جُنَّةً لِنَفْسِي وَمِفْضَالٌ بِمَا كَانَ مِنْ فَضْلِ
ثم أنشد عبدالله :
بَكَرَتْ تَلُومُكَ مَطْلَعَ الْفَجْرِ وَلَقَدْ تَلُومُ بِغَيْرِ مَا تَدْرِي
مَلَكَ الأُمُورَ عَلَيَّ مُقْتَدِرٌ يُعْطِي إِذَا مَا شَاءَ مِنْ يُسْرِ
وَلَرُبَّ مُغْتَبِطٍ بِمَرْزَئِهِ وَمُفَجَّعٍ بِنَوَائِبِ الدَّهْرِ
وَتَرَى قَنَاتِي حِينَ يُغْمِدُهَا عَضُّ الثِّقَافِ بَطِيئَةَ الْكَسْرِ
فما رأيت أحدًا من أولاد الخلفاء وأغصان هذه الشجرة المباركة أذرب[24] ألسنا، ولا أَحْسَنَ ألْفاظًا، ولا أشدَّ اقْتِدارًا على تأدِيَة ما حفِظَا مِنْهُما، ودعوتُ لَهُما دُعاءً كثيرًا، وأمَّن الرشيد على دعائي، ثم ضمَّهُما إليه، وجَمَع يدَهُ عليهما، فلم يبسطها حتى رأيت الدموع تنحدر على صدره.(/7)
وذكر الفضل بن الربيع قال: صار إليَّ عبدالله بن مصعب بن ثابت بن عبدالله بن الزبير فقال: إن موسى بن عبدالله بن الحسن بن الحسن بن علي قد أرادني على البيعة له. فجمع الرشيد بينهما، فقال: الزُّبَيْري لموسى: سعيتم علينا وأردتم نقض دولتنا، فالتفت إليه موسى فقال: ومن أنتم؟ فغلب على الرَّشيد الضحك حتى رفع رأسه إلى السقف حتى لا يظهر منه، ثم قال موسى: يا أمير المؤمنين، هذا الذي ترى، المشنّع علي خرج والله مع أخي محمد بن عبدالله بن الحسن بن الحسن بن علي على جدك المنصور، وهو القائل من أبيات:
قُومُوا بِبَيْعَتِكُمْ نَنْهَضْ بِطَاعَتِنَا إِنَّ الْخِلاَفَةَ فِيكُمْ يَا بَنِي حَسَنِ
وليس سعايته يا أمير المؤمنين حبًّا لك، ولا مراعاةً لدولتك، ولكن بغضًا لنا جميعًا أهل البيت، ولو وجد مَن يَنتصر به علينا جميعًا لكان منه، وقد قال باطلاً، وأنا مُستَحْلِفُه، فإنْ حَلَفَ أنّي قلتُ ذلك فدمي لأمير المؤمنين حلال، فقال الرشيد: احلف له يا عبدالله، فلمَّا أراده موسى على اليمين تلكَّأ وامتنع، فقال له الفضل: لِمَ تَمْتَنِع وقد زعمت آنفًا أنه قال لك ما ذكرته؟ قال عبدالله: فأنا أحلف له: قال موسى: قُلْ تَقَلَّدت الحول والقوة دون حول الله وقوَّته إلى حولي وقوتي إن لم يَكُنْ ما حَكَيْته عني حقًّا، فحلف له، قال موسى: الله أكبر، حدثني أبي عن جدي عن أبيه عن جده عن علي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((ما حلف أحد بهذه اليمين وهو كاذب إلا عجل الله له العقوبة قبل ثلاثة))، والله ما كذبت ولا كذبت، وها أنا يا أمير المؤمنين بين يديك وفي قبضتك، فتقدم بالتوكيل علي، فإن مضت ثلاثة أيام ولم يحدث على عبدالله بن مصعب حادث فدمي لأمير المؤمنين حلال، فقال الرشيد للفضل: خذ بيد موسى فليكن عندك حتى أنظر في أمره.(/8)
قال الفضل: فوالله ما صليت العصر في ذلك اليوم حتى سمعت الصراخ من دار عبدالله بن مصعب، فأمرت من يتعرَّف خبره، فعرفت أنه قد أصابه الجذام، وأنه قد تورَّم واسودَّ، فصرت إليه، فوالله ما كِدْتُ أَعْرِفُه، فصِرْتُ إلى الرشيد فعرَّفْتُه خَبَرَهُ، فما انقضى كلامي حتى أتى خبرُ وفاته.
فأحضر الرشيدُ موسى بنَ عبدالله، وقال له: لم عدلت عن اليمن المُتعارفة بين الناس؟ قال: لأنَّا روينا عن جدنا - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من حلف بيمين مجَّد الله فيها استحيا الله من تعجيل عقوبته، وما من أحد حلف بيمين كاذبة نازع فيها حوله وقوته، إلا عجل الله له العقوبة قبل ثلاث))[25].
فَأَمَر الرشيد بتخْلِيَتِه، وأن يعطى ألف دينار.
وكان جعفر بن سليمان أحضر على مائدته بالبصرة يوم زاره الرشيد ألبان الظباء، وزُبْدها، وسلاها[26]، ولبأها، فاستطاب الرشيد جميع طعومها، فسأل عن ذلك، وغمز جعفر بعض الغلمان، فأطلق عن الظباء ومعها خشفانها[27]، وعليها شملها[28]، حتى مرت في عرصة[29]، تجاه عين الرشيد، فلما رآها على تلك الحال وهي مقرطة[30]، مخضَّبة، استخفه الفرح والتعجب، حتى قال: ما هذه الألبان؟ وما هذه السمنان، واللبأ، والرائب، والزبد بين أيدينا؟! قال: من حلب هذه الظباء، أُلِّفَتْ وهي خشفان فتلاقحت وتلاحقت[31].
كان الرشيد يقول: من أحب ما مدحت به إلي:
أَبُو أَمِينٍ، وَمَأْمُونٍ، وَمُؤْتَمَنٍ أَكْرِمْ بِهِ وَالِدًا بَرًّا وَمَا وَلَدَا
وقال الأصمعيُّ: حضرتُ أنا وأبو عبيدة معمر بن المثنى عند الفضل بن الربيع - وقد روي من طريق أخرى أنَّ ذلك كان عند الرشيد - فقال لي : كم كتابك في الخيل؟ فقلت: جلد واحد، فسأل أبا عبيدة عن كتابه فقال: خمسون جلدة.(/9)
فأمر بإحضار الكتابين وأحضر فرسًا: وقال لأبي عبيدة اقرأ كتابك حرفًا حرفًا، وضع يدك في موضع موضع من الفرس، فقال: لستُ بيطارًا، وإنما هذا شيء أخذته عن العرب، فقال لي: قم يا أصمعي وافعل ذلك، فقُمْتُ وَأَمْسَكْتُ ناصِيَتَهُ، وشرعت أذكر عضوًا عضوًا، وأضع يدي عليه، وأُنْشِدُ ما قالت العرب فيه، إلى أن فرغت منه، فقال: خذه، فأخذته، وكنت إذا أردت أن أغيظ أبا عبيدة ركبته إليه.
وجاء في الرِّوَاية التي قالت: إن ذلك كان عند الرشيد، قال الرشيد لأبي عبيدة: ما تقول فيما قال؟ قال: أصاب في بعض، وأخطأ في بعض، فالذي أصاب فيه منّي تعلمه، والذي أخطأ فيه ما أدري من أين أتى به[32].
وقال الأصمعي أيضًا:
ذكرت يومًا للرشيد نَهَم سليمان بن عبدالملك[33]، وقلت: إنه كان يجلس ويحضر بين يديه الخراف المشوية وهي كما أخرجت من تنانيرها فيريد أخذ كُلاها فَتَمْنَعُه الحرارة، فيجعلُ يَدَهُ على طرف جُبَّتِه ويُدْخِلُها في جوف الخروف فيأخذه كلاها، فقال لي: قاتلك الله، ما أعلمك بأخبارهم! اعلم أنه عرضت علي ذخائر بني أمية، فنظرت إلى ثياب مذهبة ثمينة، وأكمامها ودكة بالدهن[34]، فَلَمْ أدْرِ ما ذلك حتى حَدّثتني الحديث، ثم قال: علي بثياب سليمان، فأتي بها، فنظر إلى تلك الآثار فيها ظاهرة فكساني منها حلة، وكان الأصمعي ربما خرج فيها أحيانًا فيقول: هذه جبة سليمان الَّتِي كسانِيها الرشيد[35].(/10)
أبو الحسن علي بن حمزة بن عبدالله بن بهمن بن فيروز، الأسدي بالولاء الكُوفي المعروف بالكسائي، أحد القُرّاء السبعة، كان إمامًا في النحو واللغة والقراءات، وكان يُؤدب الأمين بن الرشيد، ويعلمه الأدب، اجتمع يومًا بمحمد بن الحسن الفقيه الحنفي في مجلس الرشيد، فقال الكسائي: مَنْ تَبَحَّر في عِلْمٍ تهدَّى إلى جميع العلوم، فقال له محمد: ما تقول فيمن سها في سجود السهو، هل يسجد مرَّة أخرى؟ فقال الكِسائِي: لا، قال: لماذا؟ قال: لأنَّ النُّحاةَ تقول: التصغير لا يُصغَّر.
فقال محمَّد: فما تقول في تعليق الطلاق بالملك؟ قال: لا يصح، قال: لم؟ قال: لأنَّ السيل لا يَسْبِقُ المطر[36].
وقال الأصمعيُّ لِلكسائي وهما عند الرشيد، ما معنى قول الراعي[37]:
قَتَلُوا ابْنَ عَفَّانَ الْخَلِيفَةَ مُحْرِمًا وَدَعَا فَلَمْ أَرَ مِثْلَهُ مَخْذُولا
قال الكسائيُّ: كان مُحْرِمًا بالحَجّ، قال الأصمعيّ: ما أراد عدي بن زيد بقوله[38]:
قَتَلُوا كِسْرَى بِلَيْلٍ مُحْرِمًا فَتَوَلَّى لَمْ يُمَتَّعْ بِكَفَنْ
هل كان مُحْرِمًا بالحج؟ وأيُّ إحرام لكسرى؟
فقال الرشيد للكسائي: إذا جاء الشعر فإيَّاك والأصمعي:
قال الأصمعيّ: قوله "محرمًا" في حرمة الإسلام، ومن ثم قتل مسلمًا محرمًا، أي لم يحل في نفسه شيئًا يوجب القتل، وقوله "محرمًا" في كسرى، يعني حرمة العهد، الذي كان في عنق أصحابه[39].
---
[1] "البداية والنهاية": 10/214.
[2] "تاريخ بغداد": 14 / 5، و"البداية والنهاية": 10/214، و"تاريخ الموصل": 294، و"سير أعلام النبلاء": 9 /288، و"تاريخ الخلفاء": 285، والرواية لـ"تاريخ بغداد".
[3] "تاريخ بغداد": 14/9
[4] العكم: النمط، تجعله المرأة كالوعاء تدخر فيه متاعها.
[5] لبكت: خلطت، واللبيكة: تمر ودقيق يخلط ويصب عليه السمن.
[6] يتريع: يتميع ها هنا، وها هنا لا يستقر له وجه لكثرته، وفي الأصل "يتربع" بالباء الموحدة.(/11)
[7] دبلت الشيء: جمعت بعضه على بعض، جعلته كتلة.
[8] نقاد: جمع نقدة، وهي الصغيرة من الغنم، الذكر والأنثى في ذلك سواء.
[9] المصفور: من به الصفر، وهو داء في البطن يصفر منه الوجه.
[10] غرثان: جائع.
[11] "عيون الأخبار": 3/204، و"العقد الفريد": 3/385.
[12] "عيون الأخبار": 2/300.
[13] "تاريخ الخلفاء": 292، والرواية فيه لسعيد بن مسلم.
[14] تنسب إلى الأعشى، وهي في ملحقات ديوانه: 236.
[15] "أمالي المرتضى": 1/463.
[16] الدلقم: دويبة كالسمور، وفي "العقد الفريد": "دلقان"، وفي "البيان والتبيين": "دمالقان"، والدمالق: الحجر الأملس.
[17] "عيون الأخبار": 1/ 63 و 64.
[18] "مروج الذهب": 3/365.
[19] السكر، والمشان "بضم الميم أو كسرها حسب "مختار الصحاح"، وهما نوعان من التمر.
[20] "مروج الذهب": 3/ 375.
[21] "مروج الذهب": 3/ 359.
[22] محمد "الأمين"، وعبدالله "المأمون".
[23] المحتد: الأصل، "اللسان": (حتد).
[24] ذرب الرجل إذا فصح لسانه بعد حصره. والذرب: الحاد في كل شيء، "اللسان": (ذرب).
[25] "مروج الذهب": 3/353.
[26] أراد السلاء: السمن، والجمع أسلئة.
[27] الخشفان: أراد به جمع خشف، وهو ولد الظبية، والمعروف في هذا الجمع (خِشَفَة) كقردة، وقد استعمل الجاحظ الخشفان أكثر من مرة في كتاب "الحيوان".
[28] الشمل: جمع شمال، ككتاب، وهي شيء كمخلاة يغطى به ضرع الشاة إذا ثقلت.
[29] العرصة: كل بقعة بين الدور واسعة ليس فيها بناء، "اللسان": (عرص)، فهي الساحة الواسعة إذًا.
[30] مقرطة: ذات قرط.
[31] كتاب "الحيوان": 7/187.
[32] "وفيات الأعيان": 3/172.
[33] سليمان بن عبدالملك: (54 – 99 هـ = 674 – 717 م) الخليفة الأموي، "كان طويلاً جميلاً، أبيض، كبير الوجه، مقرون الحاجبين، فصيحًا بليغًا، متوقفًا عن الدماء، معجبًا بنفسه، أكولاً جدًّا". "الأعلام" 3/130، عن الخميس 2/314 و 315.(/12)
[34] الودك: الدسم، وقيل: دسم اللحم. "اللسان": (ودك).
[35] "وفيات الأعيان": 3/174.
[36] "وفيات الأعيان": 3/295.
[37] "جمهرة أشعار العرب": 327، طبع صادر.
[38] ديوانه: 178.
[39] "وفيات الأعيان": 3/171.(/13)
العنوان: محاربة اللغة العربية
رقم المقالة: 539
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
الحمد لله رب العالمين؛ جعلنا من أمة الأميين، وأرسل إلينا خاتم المرسلين، وأنزل عليه كتابه الكريم، بلسان عربي مبين. نحمده على ما هدانا واجتبانا، ونشكره على ما أولانا وأعطانا. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ ابتلى عباده بالرسل، وابتلى الرسل بعباده، فمنهم من آمن، ومنهم من حقت عليه الضلالة. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ علمه ربه عز وجل فأحسن تعليمه، وأدبه فأحسن تأديبه، آتاه جوامع الكلام، وأعطاه معاقد البيان، وبعثه ليتمم مكارم الأخلاق، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وراقبوه في كل أحوالكم وأحيانكم {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} [البقرة:48]
أيها الناس: لكل أمة من الأمم شعائرها ومناسكها التي تنسكها، وتتمسك بها، وتدعو إليها {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة:48] وفي آية أخرى {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ} [الحج:67].
ولسان القوم هو وسيلة الخطاب بينهم، ولغتهم هي وعاء منسكهم وشعيرتهم ودينهم، وكل قوم يفاخرون بلسانهم، ويدعون إلى لغتهم.
وقد أنعم الله تعالى على أمة العرب بأفصح لسان، وأقوى بيان، ثم كان تاج ذلك وتتمته: بعثة أفصح البشر عليه الصلاة والسلام منهم، ونزول كلام الله تعالى بلسانهم {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ العَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:192-195] وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (بعثت بجوامع الكلم) متفق عليه.(/1)
وحفظت العربية بحفظ القرآن، حتى قيل: (لولا القرآن ما كانت عربية) {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9].
ولم تحفظ سائر لغات البشر، بل كانت عبر العصور تندثر وتتبدل وتتغير، وبقيت عربية اليوم هي عربية صدر الإسلام.
إن اللغة العربية هي شعار الدين ووعاؤه، والقرآن لا يقرأ كما أنزله الله تعالى إلا بالعربية، ولا يتعبد بتلاوته إلا بها، وكل النصوص التي جاء فيها فضل قراءة القرآن، فإنما مرادها قراءته بلسان العرب، ومن هنا كان تعلم اللسان العربي لكل مسلم دائرا بين الواجب والمستحب؛ فما لا تتم العبادة إلا به كقراءة الفاتحة لا بد أن يقرأها الأعجمي بلسان عربي، ولا تغنيه ترجمتها أو فهم معانيها شيئا، ولا تصح صلاته إلا بها.
يقول شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله تعالى: (اللغة العربية من الدين ومعرفتها فرض واجب؛ فإن فهم الكتاب والسنة فرض، ولا يفهم إلا بفهم اللغة العربية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ثم منها ما هو واجب على الأعيان، ومنها ما هو واجب على الكفاية).
ولأجل هذا كانت العربية من شعائر الدين، وكان المساس بها، أو احتقارها احتقارا للدين وللقرآن الذي أُنزل بها، ومحاربتها محاربة للدين، والدعوة إلى غيرها دعوة ضد دين الإسلام؛ وقد جاء عن عمر رضي الله عنه أنه قال: (تعلموا العربية فإنها من دينكم) وقال ابن تيمية رحمه الله تعالى: (اللسان العربي شعار الإسلام وأهله، واللغات من أعظم شعائر الأمم التي بها يتميزون).
ولما كانت هذه هي منزلة العربية من دين الإسلام؛ فإن أعداء الملة كرسوا حربهم لها، وسلقوا ألسنتهم بتحقيرها وتصغيرها، وسنوا أقلامهم لنقدها وعيبها؛ لأنها لسان القرآن وبيانه، ولعلمهم أنها وعاء الإسلام وشعاره، فتنفير الناس منها، وصرفهم عنها ما هو إلا صرف عن كتاب الله تعالى وعن دين الإسلام.(/2)
لقد اشتدت على لغة القران حربهم، وتنوعت أساليبهم ووسائلهم، وما وهنت عزيمتهم، ولا يئسوا من تحقيق مرادهم، وكان من محاولاتهم البائسة: ادعاؤهم صعوبة العربية، ودعوتهم إلى إصلاحها والتعديل عليها:
فمنهم من دعا إلى إلغاء الإعراب وتسكين أواخر الكلمات.
ومنهم من دعا إلى تدمير قواعد الكتابة، وقال قائلهم في ذلك: إن سبب تراجع الأمة العربية تمسكها بالتشديد والتنوين.
وسخر أحدهم من قواعد العربية، ودعا إلى تركها في مقالة عنونها بقوله: (هذا الصرف وهذا النحو أمَا لهذا الليل من آخر)
وآخرون منهم ركزوا هجومهم على الخط العربي، ودعوا إلى كتابة العربية بالأحرف اللاتينية بعد أن أقنعهم بعض المستشرقين بهذا الإثم المبين، وألفوا كتبا في ذلك، وقاموا بتجارب ومحاولات استجلبوها من فعل الترك لما كتبوا اللغة التركية بالأحرف اللاتينية.
وكانت أكبر محاولة لإلغاء لغة القرآن دعوة بعضهم إلى اللهجات العامية المحلية بديلا عن اللغة العربية، ونشط المستشرقون وأذناب المستعمرين لإنجاح هذه المحاولة. وفي القرن الماضي بذلوا جهودا مضنية في هذا السبيل المظلم، وتفرغ بعض الأوربيين لدراسة لهجات مدن مصر والشام، وألفوا كتبا فيها، ووضعوا بزعمهم قواعد لها.ودعا أحدهم إلى أن تكون اللهجة العامية هي اللغة الوحيدة للبلاد المصرية. وألقى مستشرق محاضرة قال فيها بكل صفاقة ووقاحة: إن ما يعيق المصريين عن الاختراع هو كتابتهم بالفصحى!!.
وأعلن في آخر محاضرته عن مسابقة للخطابة بالعامية، ومن تكون خطبته جيدة ناجحةً فله مكافأة مجزية.
وتَوَّج هذا الضلال والانحراف قبطي شيوعي حين كتب كتابا دعا فيه إلى كسر رقبة البلاغة العربية وإلى الكتابة بالعامية.(/3)
وتعدى هذا العدوان على لغة القرآن مصر إلى الشام، فكرس أحد المنحرفين وقته في ضبط أحوال العامية في لبنان وتقييد شواردها؛ لاستخدامها في كتابة العلوم، وادعى أنه وجد أسباب التخلف في التَّمسك بالفصحى، ثم ورث ابنه عنه ضلاله، فأكمل مسيرة أبيه الضالة، وزعم الابن بعد أبيه: أنَّ اختلاف لغة الحديث عن لغة الكتابة هو أهمُّ أسباب تخلفهم، ثم قال: ولي أملٌ بأن أرى الجرائد العربية وقد غيّرت لغتها، وهذا أعدُّهُ أعظم خطوة نحو النجاح، وهو غاية أملي.وتمنى أحد موارنة الشام أن يرى عملاً عسكرياً سياسياً يَفرض اللغة العامِّية على الناس.
والحمد لله الذي خيب أملهم أجمعين، فبقي لهم ما يسوؤهم من قوة لغة الضاد ومتانتها، وحاجة العرب إليها.
وليس العراق بعيدا عن الشام إذ وصلت إليه دعوة إلغاء العربية، ودعوى أنها سبب التخلف، فهذا شاعر عراقي يقول: فتَّشْتُ طويلاً عن انحطاط المسلمين فلم أجد غير سببين أولهما: حجاب المرأة، والثاني: هو كون المسلمين ولا سيما العرب منهم يكتبون بلغة غير التي يحكونها.
وفي القرن الفائت تزامن في دول المشرق العربي مع الدعوة إلى العامية إصدار جرائد ومجلات وكتب باللهجات العامية المختلفة، حتى بلغت سبع عشرة جريدة ومجلة عامية، غير عشرات من قصص الأطفال والناشئة تكتب باللهجات المحلية لتربية أولاد المسلمين عليها، وإحلالها محل لغة القرآن.وتسابق المستشرقون على إصدار عشرات الدراسات والكتب عن اللهجات العامية، وأصولها ومحاولة وضع القواعد لها. وكلها محاولات فشلت بحمد الله تعالى أمام عظمة لغة الضاد، وهلك أصحابها وهلكت مشاريعهم التخريبية.(/4)
ولما اخترعت الإذاعة والتلفزة نشطت هذه الدعوات الآثمة من جديد، وتبنى الدعوة إليها تلامذة المفسدين المتقدمين، ودعوا في حوارات وبرامج إلى إماتة لغة القرآن واستبدال غيرها بها، وسخَّروا المشاهد التمثيلية والمسرحية الهزلية لهذه المهمة القذرة، فصوروا مدرسي اللغة العربية في أشكالهم وحركاتهم ولباسهم في صور البله والمعاتيه والدراويش، وجعلوهم أضحوكة للمشاهدين والمستمعين، وما من نقيصة إلا ألصقوها بهم، ولا محمدة إلا نفوها عنهم، فوصموهم بالغش والكذب والاستغلال والجهل والجبن والتخلف؛ لينقدح في ذهن المستمع والمشاهد أن هيئتهم وأخلاقهم مستمدة مما يدرسون من قواعد اللغة العربية وبلاغتها ونحوها وصرفها. فينصرف الناس عنهم وعن المواد التي يدرسونها، وتُلقى في قلوبهم كراهيتها.
وفي مقابل هذه الصورة المهينة التي ظلموا بها معلمي العربية فإنهم يصورون مدرسي اللغات الأجنبية في أحسن هيئة وأبهى حلة، ويخلعون عليهم من الأوصاف والأخلاق والعلم والثقافة والكرم والشجاعة ما أكثره كذب وتزييف؛ ليستقر في ذهن المشاهد والمستمع أن هيئتهم وأخلاقهم وثقافتهم مستمدة من اللغات الأجنبية التي يدرسونها. فيحبهم الناس، ويتمنون لأولادهم ما لهم.
وهناك عشرات المشاهد التمثيلية والمسرحية المحفوظة شاهدة على هذا التزييف والإضلال للناس. وهكذا تصاغ العقول عبر الإعلام، ويطبع على القلوب، وتزيف الحقائق، وتزور المعلومات بما يوافق رغبات المستعمرين وأذنابهم.
وإذا كان كل هذا الإضلال قد وقع في المشرق العربي فإن المغرب العربي قد نال حظه الوافر من حرب على اللغة العربية وعلومها وعلى من بلَّغ قرآنها ودينها؛ إذ أصبحت لغة القرآن لغة ثانية بعد الفرنسية، وجاء في تقرير أعدته لجنة العمل المغاربية الفرنسية: إنَّ أول واجبٍ في هذه السبيل هو التقليل من أهمية اللغة العربية، وصرف الناس عنها، بإحياء اللهجات المحلية واللغات العامية في شمال إفريقية.(/5)
وبلغ من استماتة الفرنسيين في القضاء على اللغة العربية بعد أن عجزوا عن ذلك بفرنسيتهم أنهم اخترعوا قواعد للغة البربرية الأمازيغية، وأقنعوا كثيرا من المغاربة أن أصولهم بربرية، وأن عليهم أن ينبذوا العرب وما جاءهم به نبي العرب عليه الصلاة والسلام، وأن يحيوا ثقافتهم ولغتهم، ويعتزوا بأصلهم بدل انتمائهم لأمة العرب، يقول أحد الباحثين المغاربة: شعر المستعمر باستحالة اقتلاع اللغة العربية من أرض الجزائر وغرس اللغة الفرنسية مكانها، فلجئوا إلى وسيلة مُساعدة أخرى وهي الإيحاء لأكبر عدد من أبناء الجزائر بأن اللغة العربية ليست لغة أصليَّة في الجزائر، وإنما اللغة الأصلية لسكان الجزائر هي اللغة البَرْبريَّة لغة الأمازيغ، وقد تطوع الفرنسيون لوضع أبجدية لها كيما يمكن كتابتها.
وفرنسا تقوم بمعونات ثقافية مجانية بإرسال مدرسي اللغة الفرنسية وإغراق الأسواق المغربية بالكتب والأفلام الفرنسية بالإضافة إلى البرامج التلفزيونية.
وأوقف مشروع التعريب في البلدان المغربية بحجة أن التعريب أدى للأصولية والتطرف.
ووقف أحد المسوقين من أبناء المسلمين للغة الأمازيغية خطيبا في أتباعه يقول: (إذا كان العرب في وقت سابق قد وصلوا فوق النياق إلى المغرب العربي، فأنا سأكون معهم رفيقاً وأعيدهم على متن البوينغ إلى بلادهم الأصلية في الجزيرة العربية)!!
وما علم هذا الجاهل المخبول المرذول أن أجداده البربر رحمهم الله تعالى هم من فتحوا الأندلس، وهم من علَّموا أهلها العربية، ودعوهم إلى الإسلام بقيادة طارق بن زياد الأمازيغي رحمه الله تعالى بعد أن عبر من بلاد المغرب إلى بلاد الأندلس عبر مضيق سمي باسمه إلى يومنا هذا.(/6)
وأول ما يتعلم الطلاب العربية فإنهم يعتمدون متن الآجرومية في مبادئ العربية، ويدينون بالفضل العظيم لمؤلفه، ويترحمون عليه عند قراءة جزء من متنه، وهو مغربي أمازيغي برع في النحو، فكتب فيه هذا المتن المختصر المفيد فكان مرجعا لطلاب العربية في طول العالم الإسلامي وعرضه، رحمه الله تعالى رحمة واسعة.
وكثير ممن كتبوا في النحو والبلاغة وعلوم العربية لم تكن أصولهم عربية، ولكن الله تعالى منَّ عليهم بالإسلام، وفتح لهم أبواب اللغة ومغاليقها، فبرعوا فيها كما لو كانت أصولهم عربية، فاستقرءوا كلام العرب وشعرهم، واستخرجوا منه قواعد اللغة وقانونها، فجمعهم الإسلام من شتى الأجناس والأعراق، فاتحدت عصبيتهم لله تعالى ولدين الإسلام، وانحازوا عن لغاتهم الأعجمية إلى لغة القرآن، فتعلموها ديانة لله تعالى، واستعذبوها تدبرا لكتابه سبحانه فرزقهم الله تعالى فهمها وتقعيدها.
ثم نبتت من أبنائهم نبتة عاقة سيئة تنادي بالرجوع إلى عصبياتهم الجاهلية، وتطالب بنبذ اللغة العربية، لغة القرآن الذي آمنوا به، وأكرم الله تعالى به أجدادهم فنقلهم به من الرق والعبودية إلى العلم والقيادة والسيادة.
كما نبت في العرب نبتة سيئة تدعوا الناس إلى نبذ لغتهم واستبدال اللغات الأجنبية بها بحجة أنها لغات العلوم والمعارف.
ولن يكل أهل الباطل عن الدعوة إلى باطلهم، ومحاولة دحض الحق به، ولكن الله تعالى مبطل كيدهم، ومحبط عملهم، ومظهر دينه على الدين كله ولو كره الكافرون. فاستمسكوا -عباد الله- بدينكم، واعرفوا مكانة لغتكم، وأعلموا أنها باب من أبواب عزكم، فإياكم إياكم أن تفرطوا فيها؛ فإنكم مسئولون يوم القيامة عنها {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} [الزُّخرف:43-44].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
الخطبة الثانية(/7)
الحمد لله وحده {أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف:40] نحمده حمدا كثيرا، ونشكره شكرا مزيدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
أيها الناس: ولم تكن الدول الخليجية بعيدة عن المستعمرين وأذنابهم في حربهم على اللغة العربية؛ إذ سلطوا عليها اللغات الأجنبية، ومكنوا لها لتزاحم العربية في المدارس والمعاهد والجامعات، وما فرض الإنجليزية على طلاب التعليم العام إلا خطوة في هذا المشروع التدميري للغة العربية، ثم كانت الكارثة الكبرى بالسماح للمدارس الأهلية أن تضع منهاجها، وتدرس طلابها باللغة التي تختارها؛ لتتوزع غدا أو بعد غد المدارس الأهلية على لغات العالم، ويصبح مجتمعنا مجمعا لتلك اللغات، وانتماء كل واحد من أبنائه وولاؤه لأهل اللغة التي أضحت لغته التعليمية الأولى؛ لأنه درسها في كل مرحلة من مراحل دراسته.
إن للغة تأثيرا كبيرا في ترسيخ الولاء، وتكريس الانتماء، والواحد من الناس يألف من يتكلم بلسانه، ويقترب منه أكثر من غيره، ومن تتبع أحوال المسافرين في محطات سفرهم ثبتت له تلك الحقيقة. والمغتربون للدراسة أو للعمل أو للعلاج تؤلفهم اللغة، وتجمعهم بلدانهم، فكل أهل بلد لهم رابطة توحدهم، ومستقرٌ يجمعهم، وأقوى دافع لهم في ذلك كون لهجاتهم واحدة.(/8)
وكل دولة غربية نراها تستميت في نشر لغاتها في أدغال أفريقية، وفي البلدان الفقيرة، وتبذل أموالا طائلة في هذا السبيل، والسباق بين الدول الغربية على أشده في هذا المضمار. فلماذا يفعلون ذلك؟ وماذا ينشدون من أفراد يعلمونهم لغتهم هم متخلفون عن حضارتهم بمئات السنين؟!
إنهم ينشدون ولاءهم، ويطلبون انتماءهم، ويدركون أن تبديل ألسن هذه الشعوب إلى لسانهم يكرس تبعيتهم لهم، والدول المستعمرة من أول ما تقوم به إذا احتلت بلدا أن تضع للغتها موضع قدم فيه.
يقول الرافعي رحمه الله رحمه الله تعالى: ما ذلّت لغة شعبٍ إلاّ ذلّ، ولا انحطّت إلاّ كان أمره في ذهابٍ وإدبارٍ، ومن هذا يفرض الأجنبيّ المستعمر لغته فرضاً على الأمّة المستعمَرة، ويركبهم بها، ويُشعرهم عظمته فيها، ويستلحِقهم من ناحيتها، فيحكم عليهم أحكاماً ثلاثةً في عملٍ واحدٍ: أمّا الأول: فحَبْس لغتهم في لغته سجناً مؤبّداً، وأمّا الثاني: فالحكم على ماضيهم بالقتل محواً ونسياناً، وأمّا الثالث: فتقييد مستقبلهم في الأغلال التي يصنعها، فأمرُهم من بعدها لأمره تَبَعٌ.
والرافعي رحمه الله تعالى حين يكتب هذا الكلام فإنه قد عاصر الاستعمار في بلاد المسلمين، ورأى ما يفعل الغزاة من طمس ٍللغة من يستعمرهم وإحلال لغته مكانها.
إن اليهود قد أخرجوا عبريتهم من قبرها، وأحيوا مواتها، وجعلوها اللسان الوحيد بينهم، وارتضوها لغة التدريس لطلابهم، حتى في المواد العلمية والتجريبية لا يدرسونها لأولادهم إلا بالعبرية.
واليابانيون الذين بلغوا من التقدم ما بلغوا حافظوا على لغتهم، وجعلوها لغة العلم في بلادهم، وترجموا كتب الغربيين إليها، ولم يفرضوا اللغات الغربية على طلابهم.
وهكذا فعل الكوريون وهم في الصناعة والتقنيات ما تعلمون، وأما الصينيون فأمرهم عجب؛ إذ ما يصدر اليوم كتاب علمي في الغرب إلا وينبري له المترجمون ليطبع من الغد باللغة الصينية.(/9)
وأما البلاد العربية التي رضيت لطلابها أن تزاحمهم اللغات الأجنبية في مدارسهم، فتفسد ألسنتهم وأذواقهم، فما رأيناها تقدمت بهذه اللغات الأجنبية، وقد عاشت في هذا الضلال عقودا كثيرة، بل هي ترفل في أثواب التخلف والضعف والتبعية للغير.
أيغار اليهود وأهل الصين واليابان وكوريا على لغاتهم، ويحافظون على ألسن طلابهم، مع أن لغاتهم لا تساوي شيئا أمام لغة القرآن في مفرداتها وجملها وبلاغتها واستيفائها لحاجات العصر ومصطلحاته ومتطلباته، ويتنكر العرب للغتهم العرباء التي اختارها الله تعالى لهم، وأنزل كتابه بها؟! فيزاحمونها باللغات الأجنبية بحجة التقدم والتطور، واستيفاء حاجات العصر!!
كيف يفعلون ذلك وهم يرون أن البلاد العربية التي زاحمت عربيتها باللغات الأجنبية ما أفلحت ولا تقدمت، ويرون أن البلاد الوثنية التي تقدمت في الشرق قد حافظت على لسانها، وطوعت العلوم للغاتها، وما ضرها ذلك.
ومن أعجب ما يكون أن يدعو الداعون إلى الوحدة الوطنية، والانتماء الوطني، ثم تفرض اللغات الأجنبية، ويمكن لها في بلادهم؛ لتحل محل العربية، ومن المعلوم أن اللغة هي وعاء الولاء والانتماء، فكيف ينتمي قوم لبلاد رضيت أن تزاحم لغتَها لغاتٌ أجنبية؟!
ومن تعلم منذ صغره لغة حتى أضحت لغته الأولى فلا بد أن يتعلم جذورها وثقافتها وتاريخ أهلها، فينتمي إليهم ولو لم يكن من بلادهم، وكثير ممن نشئوا من أبناء المسلمين على ألسن الغرب ولغاتهم كان ولاؤهم إليهم أكثر من ولائهم لأمتهم وبلدانهم.
ألا فاتقوا الله ربكم، واعرفوا فضل لغتكم، ومكانتها من دينكم، وقوموا بها ألسن أولادكم؛ فإنها لغة القرآن ولغة الصلاة والعبادة، وكان السلف يعتنون بها، ويؤدبون أولادهم على اللحن فيها، قال الإمام مالك رحمه الله تعالى: (مَنْ تكلّم في مسجدنا بغير العربية أُخرِجَ منه).
وصلوا وسلموا على نبيكم كما أمركم بذلك ربكم...(/10)
العنوان: "محكمة الأبرياء" من نوادر المسرح الإسلامي
رقم المقالة: 1952
صاحب المقالة: شمس الدين درمش
-----------------------------------------
اسم الكتاب: محكمة الأبرياء؛ مسرحية شعرية عن البوسنة والهرسك.
المؤلف: الدكتور غازي طليمات.
لعل هذا العمل الأدبي الإبداعي من الأعمال النادرة التي كتبت عن "البوسنة والهرسك" بأحداثها الدامية المفجعة أمام سمع العالم وبصره. وتأتي ندرته كونه اتخذ شكلا مسرحيا شعريا، فأحداث البوسنة والهرسك ومثيلاتها وجدت تجاوبا عميقا في نفوس الشعراء ونتج عنها قصائد كثيرة، ومنها ذلك الديوان الشعري الذي صدر عن رابطة الأدب الإسلامي العالمية باسم "ديوان البوسنة والهرسك" وهو مختارات لعدد من شعراء الرابطة فحسب، مما يجعله جزءا يسيرا من الإبداع الشعري المكتوب في هذا الموضوع.
ولقد كان للقصة والرواية مجال واسع أيضا في تناول تلك الأحداث لو توجه إليها المبدعون على غرار ما كتبه نجيب الكيلاني من روايات عمالقة الشمال، وعذراء جاكرتا، وليالي تركستان التي لقيت قبولا واسعا، ولكن الإبداع السردي لم يكن على مستوى الإبداع الشعري.
والإبداع المسرحي النثري هو الأقل تجاوبا مع أحداث العالم الإسلامي نظرا لما يحتاجه هذا الفن من قدرة عالية في صياغته، أما إذا بحثنا عن إبداع مسرحي شعري فربما لا نجد سوى هذا العمل الذي بين أيدينا، ومن هذا التفرد تنبع الأهمية الأولى لهذا العمل، أما الأهمية الثانية فتنبع من الصياغة الشعرية المتألقة التي اتسم بها هذا العمل بصفحاته التي قاربت المئة من القطع العادي ليشكل ديوانا شعريا كاملا.
فكرة المسرحية:(/1)
أقام د. غازي طليمات مسرحيته الشعرية على فكرة لافتة لنظر القارئ ومثيرة لتساؤلاته (محكمة الأبرياء)، إذ المحاكم تقام عادة للمتهمين، فيدانون بجرائمهم، أو يبرؤون منها، أما أن تقام للأبرياء فذلك مدعاة لقدر كبير من الدهشة! والأصل في الإنسان البراءة! فمن هم الذين حاكمهم الشاعر في منصة مسرحيته القضائية، وهل بقي متهموه على أصل براءتهم أم أدينوا بجرائمهم التي كانت تتستر بثياب البراءة كما يقال عن الذئب الذي يرتدي ثوب الحمل أو الثعلب المتنسك في حكايات الأطفال الموروثة؟!
المجرمون في قضية البوسنة والهرسك وغيرها من الأحداث التي مر ويمر بها العالم عامة والعالم الإسلامي خاصة معروفون، ومحاكمتهم لا تحتاج من وجهة نظر الشاعر غازي طليمات إلى مجلس قضاء، ولكن أولئك الذين يعيشون في نفوسهم بإحساس البراءة هم الذين يحتاجون إلى مجلس قضاء لكشف جريمتهم المتخفية حتى عن أصحابها، وهنا تظهر براعة الحاكم الذي نصبه الشاعر وذكاؤه.
اكتشاف المحكمة:
تبدأ الأحداث التمهيدية للمحكمة بمرور كهل رث الثياب ليقرأ لوحة كبيرة كتب عليها (محكمة الأبرياء)، وفي جانب المنصة منبر كتب عليه (منبر الضمير) فيثير ذلك دهشته، لأنه يقرأ أول مرة أن للأبرياء محكمة!!
ينضم إلى الكهل شاب تاجر فيشارك الكهل في دهشته، ويحصل بينهما تعارف، ثم ينضم إليهما ضابط يحمل على صدره أوسمة كثيرة، وكهل آخر مهيب نعرف أنه قاض ٍ درس الفقه، وعمله في القضاء يزيد الموقف إثارة بين الرجال الأربعة، لأنه الخبير بالمحاكم فيقول (صـ7):
"بلوت محاكم الدنيا وهذي تصنف في أعاجيب القضاء ِ أمحكمة تشاد لأبرياء لترمي بالبراءة في الشقاء؟!".
ويخرج الحارس على الرجال الأربعة فيزيل ما هم فيه من الحيرة بتأكيد واقعية المحكمة ومصداقيتها، وأن (الحاكم) موجود في الداخل لإجراء المحاكمة، وأمام دهشة الضابط وسؤاله يؤكد الحارس فيقول (صـ9) إنه:(/2)
"من أعقل الرجال يفهم ما يقال حتى قبل أن يقالْ كأنه يبصر ما في القلب من طيف ومن خيالْ وكل ما يقبع في مغاور الأنفس من خصالْ بمقلة حديدة دقيقة".
ويتداول الرجال الأربعة:
- الرجل الكهل الرث الثياب الذي يمثل العابد الزاهد.
- والشاب الأنيق التاجر الذي يمثل الأغنياء.
- والضابط الذي يمثل الجنود والقادة حماة البلاد.
- والقاضي الذي يمثل العدالة.
يتداولون الأمر فيما بينهم للمثول على منصة محكمة الأبرياء للمحاكمة حتى يظهر للناس الحقيقة، ويختارون للمحكمة موضوعا يحاكمون على أساسه، وأن يكون قضية جامعة ومعقدة، وهي (الحرب والسلام في العالم)، وأن يكون مسرحه بعيدا عن بلاد العرب حتى لا يقعوا في مشكلات هم في غنى عنها فتتفق كلمتهم على (البوسنة والهرسك)؛ لأنهم لم يشاركوا في هذه الحرب ولم يرتكبوا أية جريمة!!
يقول القاضي في ذلك (صـ14):
"إن نناقشها نجونا من الأذى والملامِ ورفعنا رأس البراءة تاجاً وظفرنا من طهرها بوسامِ".
محاكمة الرجال الأربعة:
بعد إبلاغ (الحاكم) بقرار الرجال الأربعة بالمثول في (محكمة الأبرياء) لإثبات براءتهم والاتفاق على أن تكون المحاكمة فردية تبدأ المحكمة بتعريف كل (بريء) نفسه أمام الحاكم.
ويبدأ القاضي أولا ً فيعرف نفسه قائلا (صـ15):
" أنا عبد الحق، والوالد عادل وكلانا درس الفقه في سلك القضاء الحر عامل همنا أن ننصر الحق وأن نثأر من بغي وباطل ونزيل المظلمة".
ثم يقف في قفص (الاتهام/البراءة) الضابط، ويعرف نفسه قائلا (صـ27):
"أنا محمود بن منتصر كلاهما ضابطان الشيخ والولدُ خاض الحروب أبي في كل مجتلد مع العدو فلم يضعف له جلدُ".
ويقف التاجر ثالثا للمحاكمة فيسأله الحاكم (صـ45):
"الحاكم: هات، وإياك وعصف الصخب ما اسم ضيفي؟
التاجر: رابحٌ
الحاكم: صنعته؟
التاجر: صنعتي المال كجدي وأبي صيرفيان هما لكنني جوهري همتي في الذهب".(/3)
ويأتي دور الرجل الكهل الرث الثياب رابعا، بينما كان هو الأول الذي دخل قاعة المحكمة العجيبة (محكمة الأبرياء) ونتعرف عليه من خلال حوار الحاكم إياه (صـ58):
"الحاكم: ما اسم ضيفي؟
الكهل: تقي بن يحيى
الحاكم: وصنعته؟
تقيّ: النسك كالأولياء
الحاكم: أصنعتك النسك؟
تقيّ: لا هم لي سوى الذكر أدمنه والدعاء
الحاكم: عن الشغل أسأل!
تقيّ: شغلي التقى".
ويدور حوار طويل بين (الحاكم) وكل من (الأبرياء) الأربعة حول علاقتهم بحرب البوسنة والهرسك لإثبات براءتهم من وجهة نظر كل منهم، وإدانتهم من وجهة نظر الحاكم.
ويكشف الحاكم بالحوار الذكي العلاقة الخفية والخافية بين كل منهم وحرب البوسنة والهرسك من خلال عمله المنوط به وموقفه في الأحداث حتى يوصله إلى قناعة بجريمته التي تدينه، أو بعدم براءته –على الأقل- من هذه الحرب التي جلبت على المسلمين من أهلها الويل والدمار.
نماذج من محاورات المحكمة:
ونأخذ شخصية الكهل الزاهد تقي بن يحيى نموذجا للمحاكمة، وتأتي محاكمته بعد القاضي والضابط والتاجر.
محاكمة الكهل الرث الثياب:
يأتي الكهل الزاهد المتنسك إلى قفص (البراءة) ليخرج متهماً!!
والحاكم يدخل على الكهل المتنسك من اسمه (تقيّ) بن يحيى، واسم تقي فيه تزكية للنفس، وتزكية النفس منهية عنها في الشرع (ولا تزكوا أنفسكم)، ويظهر الحاكم براعة في كشف خفايا (تقيّ) مما يلبس به إبليس على الزهاد والمتعبدين، فلما سأله الحاكم عن شغله قال (صـ58):
"تقي: شغلي التقى
الحاكم: وكيف تمارسه؟
تقي: في الخفاء تخيرت من مسجد موضعا عليه أصلي صباح مساء
الحاكم: ومن أين تقتات؟
تقي: مما يجود على الأتقياء به الأسخياء
الحاكم: أفي الناس مثلك؟
تقي: فيهم ألوف مريدون لي في التقى والنقاء تبرأت من تبعات الحياة فقلبي ضياء وروحي صفاء
الحاكم: وكيف يعيش المريدون؟
تقي: مثلي حياة التقى والرضا والنقاء(/4)
الحاكم: كسوت التهرب ثوب التبرؤ لما ترديت هذا الدواء وأغويت جيلا من الخاملين فأنت ومن قلدوك هباء".
ونلاحظ المفارقة الواضحة بين أسئلة الحاكم وأجوبة (تقي) مما جعله مهيأ لاتهامه، فالحاكم عندما يسأل عن معيشة المريدين يقصد مأكلهم ومشربهم، بينما (تقي) يجيب بعيدا عن الموضوع بما فيه تزكيتهم كما يزكي نفسه وأنهم لا أعمال لهم منها يتكسبون، فهم عالة على المجتمع، ولا شك في أن هذا مسلك منهي عنه شرعا، وليس هذا سبيل الزهد والتقى في الإسلام؟!
ويستخدم الحاكم كلمة ذات معنيين عندما يقول:
"كسوت التهرب ثوب التبرؤ لما ترديت هذا الرداء".
فترديت بين الكساء والرداء توحي بمعنى الارتداء، ولكن المعنى الكامن فيه هو التردي بمعنى الوقوع من علٍ!!
ومن خلال الحوار الطويل الذي يدور بين الحاكم وتقي حول العبادة والشهادة والمساجد والمعارك، والشباب والكهول، والمحارب والمعلم في محاولة من (تقي) أن يلقي عن نفسه أية مسؤولية أو تبعة لما حدث في البوسنة والهرسك يضرب له الحاكم مثالا من (عمر المختار رحمه الله) الذي كان شيخا كبيرا حين قاد الجهاد فيجيب تقي (صـ67):
"تقي: مضى وكان على المدى بطلا فريدا أنا دارس لا فارس أغشى المكاتب لا الكتائب
الحاكم: قد كان مثلك يقرئ الأولاد لكن كي يربيهم أسودا
تقي: وأنا أربيهم حمائم
الحاكم: أنت تمسخهم أرانب فإذا دعوا في الغائبات وجدتهم فيها نوائب يتمزقون تمزق الأغنام قد لقيت فهودا
تقي: أأنا بتشجيع التواكل والتخاذل متهم؟ بعد الذي عانيت في بعث القيم؟!
الحاكم: لك أن تظن
تقي: لقد ظننت ولم يخب في العمر ظني".
ويقرر تقي مثل سابقيه الخروج من القفص وقد أحسّ أن أدلة الاتهام قد أحاطت به، وضيقت عليه فقال (صـ70):
"تقي: أختار الخروج من الحوار قبل التفاف الأفعوان علي كالحبل المدار فلأنطلق متفلتا من بين أغلال الإسار أنا لا أطيق العيش في قلب الحصار".(/5)
فيخلي الحاكم سبيله ويقول مشيرا إليه وإلى زملائه الثلاثة الذين سبقوه (صـ71):
"الحاكم: ها أنت ذا كالآخرين خرجوا من القضبان لكن لم يزالوا في سجون
تقي: ماذا قصدت؟
الحاكم: قصدت أن لكم حناجر أقسمت ألا تبين خنقت ضمائركم وأخفت عن قلوبكم اليقين".
وبذلك يسدل الستار على الفصل الأول من المسرحية، وقد هزّ الحاكم ضمائر الرجال الأربعة الذين كانوا يظنون ألا علاقة لهم بقضية الحرب والسلام في البوسنة والهرسك، وهم وإن كانوا لم يقتنعوا تماما أنهم مدانون بتقصيرهم في مساعدة إخوانهم في الإسلام فإنهم صاروا على يقين بأنهم ليسوا أبرياء!!
من قفص (البراءة / الاتهام ) إلى منبر الضمير:
يأتي الفصل الثاني من المسرحية الذي يمتد من (صـ73-110) ليحكي لنا الأبرياء الأربعة المتهمون عن مكنون ضمائرهم بعد الرجوع إلى أنفسهم في الزمن الفاصل بين الجزء الأول من المسرحية والجزء الثاني.
يدعو الحاكم كلا منهم إلى أن يقف على منبر الضمير ويقول الحق دون تزوير (صـ73):
"الحاكم: - مشيرا إلى منبر الضمير- منبر ناطق بصوت الضمير شرط من يعتليه أن يتجافى في الحوار المعقود عن كل زور".
وهكذا يتناوب الرجال الأربعة الوقوف على المنبر، فيبدأ عبد الحق بن عادل القاضي، ثم الضابط محمود بن منتصر، ثم التاجر رابح ثم الكهل الزاهد تقي بن يحيى.
الكهل الزاهد تقي بن يحيى على منبر الضمير:
يطلب الحاكم من التاجر رابح أن يخلي مكانه على منبر الضمير للزاهد تقي بن يحيى فيعترف تقي بما يعانيه من تأنيب الضمير (صـ95) فيجيب على سؤال الحاكم:
"الحاكم: أعرفت السر؟
تقي: نعم ندم في الصدر كجمر مستعر أوهام كانت تشغلني عن واقع شعب مندحر عن واقع أمتي الكبرى إذ أمست مزقا من بشر في الغرب يمزقها صرب في المشرق عباد البقر".(/6)
ولكنه مع الاعتراف يبحث عما يبرئه كونه ضعيفا لا يملك من وسائل المقاومة وأساليبها شيئا فيذكره الحاكم بأن ( النحل إذا غزيت لدغت) (صـ97) وهي ضعيفة، ولكن الرجل الزاهد يختار مرة أخرى صورة ضعف تبرئه فيقول (صـ97):
"تقي: شجر وجراد نحن وهم فأجبني ما ذنب الشجر؟".
ونقف مرة أخرى عند تحليلات نفسية عميقة في الحوار بين الحاكم وتقي ويسمي الحاكم بعض ما يفعله (تقي) رشوة ولكن من نوع آخر غير الذي يقدمه رابح التاجر، فمثلا يسأل الحاكم تقيا عما سيفعله إن حدث عن البوسنة حديثا داميا، فيقول تقي (صـ100):
"تقي: أقمع العصف أصلي ركعتين ثم أدعو الله أن يعصمني من كل تقصير وشين وبهذا يغتدي عني ضميري راضيا وبريئا أغتدي ليس لأهل البوسنة عندي دين!
الحاكم: لمْ تصلي حين تشتد الرزايا
تقي: ورعا مني وتقوى ورجاء لجلال الله أن يعصمني من كل بلوى
الحاكم: ربما يؤذيك أن ندعو ما تفعل رشوة.. رشوة تدفع عن نفسك إيلاما وشقوة وتراها عوضا ألين من فرض الجهاد يخدع النفس ولا يخدع خلاق العباد".
النهاية في محكمة الأبرياء:
يعلن الحاكم للرجال الأربعة (الأبرياء المتهمين) أن يخلو مع الضمير لتداول الحكم النهائي في القضية فيقول (صـ105):
"الحاكم: أيها القوم سأخلو لحظات ألتقي فيها الضمير قبل أن أنطق بالحكم الأخير بلسان الشرع والإيمان والحق المنير".
وعندما يخرج يلوم الرجال الأربعة أنفسهم، ويلوم بعضهم بعضا أن دخلوا في هذا المأزق الذي كانوا في غنى عنه، وما يتوقعونه من حكم الحاكم ببراءتهم أو إدانتهم، ثم يعود ويبدأ بنطق الحكم وسط همهمات الرجال واعتراضاتهم لينزل أخيرا من منصة الحكم فيفتح قفص الاتهام ويضع نفسه مع الرجال الأربعة، يقول (صـ110):
"فوجدناكم ونفسي بينكم في الإثم طرا غارقين ووجدناكم، وما برأت نفسي – مذنبين".
ومع ارتفاع أصوات الرفض والاحتجاج من الرجال يتابع الحاكم قوله:(/7)
"الحاكم: ارفضوا الحكم ولكن لا تكونوا جبناء واعشقوا الموت يكن في عشقه طول البقاء واخفضوا الأعناق إن زرتم قبور الشهداء إنهم ماتوا لنحيا فحيينا كبغايا!! ليس فيهن حياء فلنطأطئ هامنا لله فعل القانتين الخاشعين فعسى أن يغفر الله ذنوب التائبين وعسى أن نعشق الموت لنحيا خالدين".
وتنتهي المسرحية بفصلها الثاني تاركة آثارها العميقة في نفوسنا حول قضية عاشها المسلمون وعاشها العالم رأي العين من قتل وتهجير وتدمير واغتصاب دون تفريق، في حرب عنصرية قذرة في قلب أوروبا التي تدعي تصدير الحضارة إلى العالم، ولكن عن طريق الموت!! وما قضية البوسنة والهرسك إلا مثل من أمثلة كثيرة في العالم الضعيف، جمر ينفخ في رمادها الأقوياء دون أن تدمع عيونهم بدخانها، ودون أن تحترق ثيابهم بشرارة جمرها.
وهذه المسرحية بصياغتها الشعرية الرائعة تعد عملا أدبيا من عيون الأدب الإسلامي المعاصر. وهي من بعد لا تعدم أن يقول فيها قائل قولا يقترح فيه تغيير لفظة مستقبحة مثل (بغايا) في قوله (فحيينا كبغايا)، أو إدخال شيء من التعديل في تقسيم الفصل الأول والثاني من المسرحية إلى مشاهد يسهل على القارئ تفهم الأحداث، واستيعاب الأفكار من خلال الوقوف في نهاية كل مشهد، والاستعداد لرؤية مشهد جديد، فإن السير في فصل واحد يستمر سبعين صفحة يعتمد فيه تطور الحدث وتصعيده على النمو الفكري أمر متعب.(/8)
العنوان: محمد تقيّ العثماني.. القاضي الفقيه والداعية الرحَّالة
رقم المقالة: 1012
صاحب المقالة: أحمد بن محمود الداهن
-----------------------------------------
لمحات من حياته
اسمه ونسبه ونشأته:
هو القاضي محمَّد تقيّ العثماني ابنُ الشَّيخ المفتي محمَّد شفيع بن محمَّد ياسين بن خليفة تحسين علي بن ميانجي إمام علي، وقد اشتُهر انتماءُ هذه الأسرة إلى الخليفة عثمان بن عفَّان رضي الله عنه، وعُرفت بخدمة العلم وأهله.
وُلد المترجَم سنة 1362هـ (1943م)، في قرية (ديوبند) في محافظة سهارنفور الهندية، واشتُهرت قرية (ديوبند) هذه؛ لوجود أكبر مركزٍ تعليميٍّ إسلاميٍّ على أرضها، وهو مدرسة (دار العلوم) التي أُسِّست سنة 1283هـ وخرَّجت آلاف العلماء والدُّعاة ورجال الفكر الإسلامي.
وقد تولَّى والدُه الشَّيخ المفتي محمد شفيع التَّدريسَ والفتوى فيها منذ سنة 1350هـ حتى 1362هـ، وبقي جدُّه الشَّيخ محمد ياسين مدرساً فيها زهاء أربعين عاماً.
ولمَّا قرَّر الشَّيخ المفتي محمد شفيع أن يهاجرَ إلى باكستان، ليساعد في إرساء دعائم الوطن الإسلامي الجديد، رافقه ولده محمَّد تقيّ، وكان له من العمر آنذاك خمس سنوات، ونزلوا في مدينة كراتشي سنة 1367هـ(1948م).
وللمترجَم من الإخوة أربعة، نالوا جميعاً المكانةَ الرفيعة في العلم والصَّلاح، ووُفِّقوا للخير وحسن العمل، والقيام بخدمة الدِّين ونشر الدَّعوة على اختلاف مجالاتهم وتخصُّصاتهم.
في هذا الجوِّ العلمي الكريم نشأ القاضي محمَّد تقيّ العثماني يتقلَّب في مجالس العلم تعلُّماً وتعليماً، فترك هذا -فضلاً عمَّا آتاه الله من فكر وقَّاد وحافظة قوية، وصفاء نفس، وسلامة صدر- أثراً كبيراً على نُبوغه على تلك الصِّفة الكريمة، التي ملأت الأسماع ثناءً جميلاً في الأوساط العلمية، وآثاراً علمية ازدانت بها المكتبةُ الإسلامية.
طلبه للعلم:(/1)
بدأَت دراسةُ القاضي محمَّد تقيّ العثماني الابتدائية في المنزل على يد والدته، حيث درَّسته كتابَيْ (بهشتي جوهر) و(سيرة خاتم الأنبياء) باللغة الأُرْدية، ولمَّا أسَّس والدُه مدرسة دار العلوم في كراتشي التحق بها، وتلقَّى هناك بعضَ المواد بالفارسية والأردية.
ثم دخل مرحلة (الدَّرس النِّظامي) المعروف في شبه القارَّة الهندية، وهو ابنُ ثماني سنوات، وتخرَّج منها سنة 1379هـ ونال الشَّهادة العالمية بدرجة امتياز.
وحاز في هذه المرحلة قسطاً وافراً من علوم الشَّريعة وعلوم الآلة، فقد درس علم الكلام، والتَّفسير، والحديث، والفقه، وأصوله، والفرائض، والعلوم المتَّصلة بالأدب العربي.
وقد شعر إبَّان هذه المرحلة بأن المنهاج الذي درس ربما يقصِّر عن مواجهة الأوضاع الرَّاهنة وما يستجدُّ عليها من تحوُّلات، فاتَّجه لدراسة الحقوق والعلوم الاقتصادية والسِّياسية، ونال شهادة الإجازة في الاقتصاد والسِّياسة من جامعة كراتشي سنة 1384هـ (1964م)، كما نال الإجازة في الحقوق من الجامعة نفسها سنة 1387هـ (1967م).
ثمَّ توجَّه إلى اللُّغة العربية، ففاز بشهادة الماجستير في العلوم العربية بمرتبة الشَّرف الأولى من جامعة بنجاب سنة 1390هـ(1970هـ).
شيوخه:
كان الشَّيخ محمَّد تقيّ من أوائل الطُّلاب في دار العلوم، فاستطاع أن يستفيدَ من المشايخ الأجلاَّء الذين اضطلعوا بحمل التَّدريس فيها، وفي طليعتهم والده الشَّيخ المفتي محمد شفيع -رحمه الله- ومنهم أيضاً أذكر:
- الشَّيخ العلامة أكبر علي: كان من أفاضل أهل العلم والصَّلاح، درَّس في دار العلوم قرابة خمسين سنة. درس عليه الشَّيخ محمَّد تقيّ الكثيرَ من الكتب، وأبرزها (التَّوضيح على التَّلويح) في أصول الفقه و (تفسير الجلالين).(/2)
- الشَّيخ المفتي وليّ حسن: عالمٌ متخصِّص بالفقه والإفتاء، وتربويٌّ فذٌّ. قرأ عليه الشَّيخ محمَّد تقيّ الكثيرَ من الكتب الدِّراسية منذ بداية دراسته إلى الصف الخامس، فقرأ عليه (الهداية) للمرغيناني، وكان للشَّيخ ولي عنايةٌ خاصَّة في تكوين ذوق القراءة والمطالعة لدى تلميذه الشَّيخ محمَّد تقيّ.
- الشَّيخ المجاهد مولانا نور أحمد: كان السَّاعدَ الأيمن للشَّيخ المفتي محمَّد شفيع في تأسيس جامعة دار العلوم في كراتشي، وعُيِّن مديراً أعلى فيها، وهو الذي أسَّس المطبعة الشَّهيرة (إدارة القرآن والعلوم الإسلامية) بمدينة كراتشي، وقد درس عليه الشَّيخ محمَّد تقيّ المرحلة الابتدائية.
- المفتي العلامة الشَّيخ رشيد أحمد: تولى التَّدريس في دار العلوم من سنة 1376هـ إلى سنة 1383هـ، وقد درس عليه الشَّيخ محمَّد تقيّ (الصحيح) للإمام البخاري.
- الشَّيخ العلاَّمة محمد رعاية الله: أدَّى دوراً بارزاً في خدمة التَّدريس في دار العلوم، كما قام بمسؤولية تنظيم أمورها بصفة عميدٍ عامٍّ لها.
- الشَّيخ العلاَّمة الحافظ سحبان محمود: العميد الحالي لجامعة دار العلوم، وشيخ الحديث بها، وهو علمٌ بارزٌ في العلوم الحديثية والفقهية، ورمزٌ في مجال التَّربية الإسلامية.
- الشَّيخ العلاَّمة الدَّاعية الحافظ سليم الله خان: رئيس الجامعة الفاروقية ومؤسِّسها، وشيخ حديثها حالياً، قدَّم ويقدِّم خدماتٍ دينيةً جليلةً في مختلف المجالات.
- الشَّيخ العلاَّمة شمس الحق: علمٌ بارزٌ في المعرفة الدَّقيقة للفلسفة والمباحث العقلية المتَّصلة بالعقائد، كما أنه عالمٌ بصيرٌ في العلوم الحديثية والفقهية، ويشغل منصبَ مديرٍ عامٍّ في جامعة العلوم كراتشي.(/3)
وخارج فلك دار العلوم، راجع الشَّيخ محمَّد تقيّ الشَّيخ العارف بالله عبد الحي عارفي -رحمه الله- أجلَّ خلفاء الإمام أشرف علي التهانوي -رحمه الله- وتشرَّب منهجه في التَّربية، واضطلع بأفكاره في إصلاح النُّفوس، وبعد وفاته، راجع الشَّيخ مسيح الله خان -رحمه الله- واستمرت استفادته منه إلى وفاته.
مكانته العلمية:
لقد يسَّر الله سبحانه وتعالى للشَّيخ محمَّد تقيّ ما يسَّر للعلماء الصالحين الأفاضل، من أسرةٍ علميَّةٍ كريمة، وأساتذة أخيار بررة، ومواهب شخصيةٍ فذَّة، وفرصةٍ كافيةٍ للاستفادة العلمية، ودراسةٍ معمَّقة في العلوم العصرية إلى جانب العلوم الإسلامية، ثم تجارب متتالية من خلال رحلات علمية إلى مختلف دول العالم، حيث أتاحت له أن يلتقي كبار علماء العالم الإسلامي.
وقد شهدت مدة ما بعد رحيل الاستعمار الغربي عن البلاد الإسلامية فجوةً بين منهجي التَّعليم الإسلامي الأصيل والتعليم المدني الحديث، وظهرت الحاجة إلى إيجاد حلقة علمية تجمع بين الثَّقافة الإسلامية العميقة ودراسة العلوم العصرية الدَّقيقة، فانبرى لذلك ثلَّة من العلماء والمفكرين الكبار، وعلى رأسهم الشَّيخ محمَّد شفيع -رحمه الله- الذي خطا خطوات جادَّة في هذا المضمار، ثم استنهض همة نجله الذَّكي الشَّيخ محمَّد تقيّ بعدما نهل من دراسة العلوم الشَّرعية للدخول في مضمار الدِّراسات الحديثة، واختار له الاقتصاد والسِّياسة والقانون.
وأبلى الشَّيخ محمَّد تقيّ في هذا الصَّعيد بلاء حسناً، واستطاع بتوفيق الله أن يتقن هذه المواد العلمية الثَّلاث إتقان خبيرٍ محنَّك، ثم أكبَّ على إعمال الثَّقافتين إعمال النَّحل في عصارة الزَّهر، فجاء بنتاجٍ علميٍّ سائغٍ، من مزيج عناصرَ مستقاةٍ من العلوم الإسلامية الأصيلة، وتتجلَّى هذه المزيَّة في خدماته الفقهية التي ما زال يقدِّمها إلى الآن.(/4)
ومن ناحية أخرى فقد كان له ذوقٌ أدبيٌّ رفيعٌ في اللُّغات العربية، والأردية، والإنكليزية، فكان أن سخَّر ذوقَه الأدبي لخدمة الموضوعات العلمية الجافة، فيأتي بالموضوع العلمي الدَّقيق في ثوب أدبي تتسارعُ معانيه إلى الأذهان.
وقد مارس قرض الشِّعر بالأردية فجاء نموذجاً مفرداً في موضوعه.
واختار الشَّيخ محمَّد تقيّ المنهج الرصين في خطاباته ومواعظه ودروسه ودعوته، فنفع الله به العباد والبلاد.
سيرته العلمية:
ارتبطت حياة الشَّيخ العملية بحياته العلمية ارتباطَ الرُّوح بالجسد، فلم تخرج أعمالُه عن محيط العلم وخدمته، تعليماً، وتدريساً، وتأليفاً، ودعوةً إلى الله، وأبرزُ أعماله التَّدريسُ والإفتاء.
1- في مجال التَّدريس:
فُوِّض إليه تدريسُ المواد العلمية المتنوِّعة عقب تخرُّجه في دار العلوم، فخطا في هذا المجال خطاً واثقةً وكان مدرِّساً تربويّاً ناجحاً، إلى أن وصل إلى الذُِّروة، وما زال يدِّرس العلوم الحديثية والفقهية في درجتي العالمية (الماجستير) والتَّخصُّص في الفتوى (الدكتوراه) في جامعة دار العلوم.
ولم يقتصر نشاطه في التَّدريس على الجامعة، بل امتدَّ إلى خارجها، فعقد دوراتٍ تعليمية متعدِّدة في مجال الاقتصاد والسِّياسة والقانون؛ لإفادة العلماء والمفتين في مجال التخصُّص، وقدَّم محاضراتٍ علميةً في عدة جامعات أمريكية وأوربية، وشهد على نبوغه وبراعته المثقَّفون المشاركون في هذه المحاضرات المسلمون منهم وغير المسلمين.
2- في مجال الإفتاء:
بدأ الشيخ التَّمرس على كتابة الفتوى في زمن طلبه للعلم تحت إشراف والده، ونال الثَّناء من جميع أساتذته ومشايخه، وازداد اشتغالُه بالفتوى بعد تخرُّجه، ووُفِّق في إصدار آلاف الفتاوى التي تتميَّز بقوَّة الحجَّة والبرهان، ودقَّة النَّظر وعمق الدِّراسة، وحسن التَّنظيم والصِّياغة وسلاسة الأسلوب، وما زال إلى اليوم يُشرف على قسم الفتوى في دار الإفتاء.
3- في مجال التأليف:(/5)
أما التَّأليف؛ فهو موطن الجمال والجلال والجاذبية في حياته العلمية، وهو الموطن الذي جمع بين جدِّيَّة الفقيه القاضي المتبصِّر، وحكمة الدَّاعية المخلص الخبير بمواطن الدَّعوة وأساليبها، والتَّحليل الموضوعي للصَّحفي الخبير النَّاقد النَّاصح لدينه وأمته، كلُّ هذا بالإضافة إلى جمال الذَّوق الأدبي الذي يأخذ بمجامع القلوب ويعطِّر العقول والأرواح.
وقد بدأ الشَّيخ التَّأليف وهو في مَيْعة الشَّباب، مذ كان طالباً في المدرسة، ورزقه الله نفَساً طويلاً في هذا المجال، وزاده الله في ذلك على مرِّ الأيام.
جهوده في موافقة القوانين للإسلام في باكستان:
أدَّت جماعة العلماء المخلصين في باكستان جهوداً مشكورةً في إرشاد الحكومات إلى وضع قوانين توافق الشَّريعة الإسلامية، وللشيخ القاضي محمَّد تقيّ حظٌّ وافرٌ في هذه الجهود، مع أنَّه لم يكن منتمياً إلى أيِّ حزبٍ سياسيٍّ، فوفَّقه الله إلى أن يقوم بجهودٍ واسعة التأثير والمدى، بعيداً عن ضوضاء السِّياسة وهتافاتها. وأبرز المجالات التي عمل فيها هي:
1- الدَّعوة المخلصة الحكيمة إلى الجهات المعنيَّة بتدوين القوانين، وتوجيه دعوات ملحَّة إلى المجالس الدستورية لوضع المبادئ الدستورية والقانونية وَفق الشَّريعة الإسلامية، وقد رسم خطوطاً عريضةً للدستور مقتبسةً من كتاب الله تعالى في خمسَ عشرةَ نكتةً، وكانت هذه بمنزلة المصدر الأساسي لتحديد أهداف الدُّستور، وتوجيهه الوجهةَ الصَّحيحة عند وضع مواده وبنوده المفصَّلة، ثم تابع كلَّ مرحلةٍ مرَّت بها مسودةُ الدُّستور الجديد، واقفاً عند كل منها وقفة متأملٍ خبير، ليجرِّد قلمه ناقداً إن رأى العملية الدُّستورية قد حادت عن جادَّتها.(/6)
2- مشاركته في أعمال مجلس الفكر الإسلامي، منذ أن اختاره الرئيسُ ضياء الحق أحدَ أعضاء هذا المجلس، فشارك مع زملائه في خدمة تحويل القوانين في البلاد إلى الإسلام، لا سيَّما أن رغبة الرئيس كانت تتماشى مع مطالبهم، واستمرَّ في عمله في المجلس حتى عام 1981م. وقد وضع المجلس في هذه المدَّة تقارير هامَّة، منها ما وُضع في قيد التَّطبيق بعد موافقة الحكومة، ومن بينها نظام الحدود والقصاص، ومبادئ لنظام الصلاة والزكاة وإرشاد العمَّال والموظفين الحكوميين، وإرشادات مبدئية لإصلاح الاقتصاد الوطني، والنظام التعليمي والبنية الاجتماعية والإعلامية.
3- القضاء، فقد وفقه الله تعالى لدخول مجال القضاء العالي، ليقوم بخدماتٍ جليلةٍ أقوى وأبعد أثراً في سبيل تطبيق الشَّريعة الإسلامية، فقد كان أولَ المطالبين بإنشاء مجلسٍ خاصٍّ في المحكمة العليا يُمنح سلطة كاملة لتعديل أي قانون مضادّ للشَّريعة الإسلامية، ووجد هذا الصَّوت آذاناً مصغيةً في الأوساط الحكومية، فأصدر رئيس الجمهورية مرسوماً بإنشاء (محكمة شرعية مركزية) فوَّض إليها مسؤولية مراجعة القوانين، ومراجعة قرارات المحاكم الجنائية، ومنحها سلطات محاكمة ومعاقبة الجناة شأن أية محكمةٍ إقليميةٍ عليا. وقد شغل الشَّيخ محمَّد تقيّ منصب القضاء في المحكمة الشرعية المركزية سنة 1982م بناء على رغبة رئيس الجمهورية، وبعد مدة حولته الحكومة إلى مجلس النَّقض والتَّمييز بالقضاء العالي، ولا يزال عضواً من أعضائه إلى الآن.(/7)
4- استغلال العلاقات الشَّخصية مع ولاة الأمر في سبيل تطبيق الشَّريعة، فقد أتيح للشَّيخ أن يعيش بمقربةٍ من بعض ولاة الأمر البارزين، وعلى رأسهم الرَّئيس محمد ضياء الحق، فكانت بينهما علاقةٌ وطيدة، وكان الرئيس كثيراً ما يراجع القاضي فيما يستجدُّ من قضايا، وخصوصاً فيما يتَّصل بالأمور الشَّرعية، فكان الشَّيخ يرفع إليه آراءه في الاجتماعات العامَّة للمجلس وفي المقابلات الاجتماعية ولم يكن يزوره في خلوته، مع إلحاح الرَّئيس عليه.
ومما يلفت النَّظر أن الشَّيخ حفظه الله ضرب المثل للدَّاعية المخلص، فلم يستغلَّ هذه العلاقة الودِّية مع الرئيس لمصالحه الشخصية أو مصالح ذويه.
جهوده في تحويل الاقتصاد للإسلام:
كان للقاضي محمَّد تقيّ دورٌ بارزٌ مضيء في مجال تحويل الاقتصاد للإسلام، وتسيير المعاملات التجارية وفق الشَّريعة الإسلامية، وشملت نشاطاته الصَّعيدَين النَّظري والعملي؛ فإلى جانب دراساته النَّظرية في القانون والاقتصاد، كان يبذل جهوداً متواصلةً على النِّطاقين المحلي والدولي لوضع نظامٍ اقتصادي مؤسَّس على المبادئ الإسلامية، يساعد المسلمين في تسيير معاملاتهم وفق الأحكام الشَّرعية، ويكون وسيلةً للقضاء على النِّظام الرِّبوي.
وقد نجح في وضع نظامٍ اقتصاديٍّ متكاملٍ للكثير من الإدارات التَّمويلية والمصرفية في عدة دول، كما قدَّم خدماته في هيئات الرقابة الشَّرعية لأكثر من عشر مؤسَّسات مالية، رئيساً وعضواً، منها:
1- رئاسة مركز الاقتصاد الإسلامي في باكستان منذ عام 1991م.
2- رئاسة الهيئة الشَّرعية بالبنك السعودي الأمريكي بجُدَّة.
3- رئاسة اللجنة الشَّرعية للمؤتمر الإسلامي بمؤسَّسة (داوجونز) بنيويورك.
4- رئاسة اللجنة الشَّرعية للاستثمار الإسلامي العالمي في بنك (HSBC ) بلندن.
5- رئاسة الهيئة الشَّرعية لـ(CITY BANK ) الاستثماري الإسلامي بالبحرين.(/8)
6- عضوية هيئة الرقابة الشَّرعية لبنك الاستثمار الأوَّل في البحرين.
7- رئاسة (المجلس الشَّرعي) الذي أنشأته حديثاً هيئة المحاسبة والمراجعة المالية للمؤسَّسات الإسلامية بالبحرين.
هذا فضلاً عن الكثير من الإدارات التي تستفيد من توجيهاته، وآرائه الفقهية في أعمالها، والكثير من طلبة العلم وأهل الفتوى الذين انتفعوا بالدورات العلمية والمحاضرات والبحوث التي يقدِّمها داخل جامعة دار العلوم وخارجها.
جهوده في الدَّعوة والإرشاد:
يعطي الشَّيخ حفظه الله قسطاً وافراً من أوقاته للعناية بأمر الدَّعوة والإرشاد عنايتَه بأي واجب ديني آخر، ويتجلَّى ذلك في نشاطاته الدَّعوية واسعة النِّطاق، التي يعدُّ من أبرز جوانبها ما يلي:
- الوعظ: فقد رزقه الله حظاً وافراً من حسن البيان، وله برنامج أسبوعي للوعظ والإرشاد في جامع (بيت المكرم) بمدينة كراتشي، يشترك فيه عددٌ كبيرٌ من النَّاس، وتدور دروس الشَّيخ فيه حول الأحكام الشَّرعية العامَّة، وما يتعلَّق بها من عقيدةٍ وعبادةٍ ومعاملاتٍ وأخلاق.
بالإضافة إلى أسفاره الدَّعوية، فكثيراً ما يسافر من بلدٍ إلى بلد؛ لرغبة المسلمين في مواعظه، ومطالبتهم بحضوره إليهم.
- الإرشاد والتربية: فهو لم يمتنع عن إرشاد النَّاس وتربيتهم على طريقة ومنهج الإمام أشرف علي التهاوني الذي تلقَّاه عن مشايخه، وهناك طائفةٌ غير قليلةٍ من أهل العلم وغيرهم تستفيد منه على الدوام. ودعوته في هذا الجانب وإن كانت حلقتها ضيِّقةً، فروحها أعمق وآثارها أبعد.
جهوده في الصِّحافة:
الصِّحافة هي أفسح ميادين جهاد الشَّيخ في سبيل الدَّعوة إلى الحق، ونشر الكلمة الصَّادقة، وبثِّ الوعي بين الناس، وقد قدَّم خلال ثلاثين عاماً -كمّاً وكيفاً- عملاً لا يُتاح القيام به إلا لمن فرَّغ نفسه لأجله، وضحَّى له بجُلِّ أوقاته.(/9)
وأولى محطات الشَّيخ في ساحة الصِّحافة كانت مجلَّة (البلاغ) الشَّهرية، التي غرس نواتها بيده سنة 1976م، وحدَّد لها أهدافاً واضحة، وحمَّلها رسالةً جليلة تؤديها، من خلال رؤيته للصِّحافة على أنها أداةٌ مؤثِّرةٌ للدَّعوة إلى الفضيلة والصِّدق والأمانة، ووسيلةٌ لملاحقة ما يدور على السَّاحة الإعلامية، من كذبٍ وتشويهٍ للثَّوابت، وتزيينٍ للباطل، وأن ذلك ينبغي أن يكونَ ابتغاء وجه الله، وخدمة الإسلام، ووحدة المسلمين، فعادت (البلاغ) شجرةً وارفة الظِّلال، يانعة الثِّمار، يأوي إلى أفيائها القرَّاء، وهم يعلمون أنَّها لم تمِلْ عن جادَّتها مذ أُنشئت، وما زالت تسعى إلى الأهداف والغايات النَّبيلة التي حدَّدها لها صاحبُها أوَّل مرَّة.
وهو انطلاقاً من مبادئه التي تقيَّد بها يتناول القضايا المعاصرة داخل البلاد، وما يدور في العالم الإسلامي، وما يقع في أصقاع الكرة الأرضية، ويناقش الوقائع المستحدثة من وجهة النَّظر الفقهية مرَّة، ومن وجهات النَّظر السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتَّاريخية مرَّات أخرى، ويرحِّب بكل ما يراه موافقاً لمبادئ الإسلام وروحه، وينقد ما يراه مخالفاً لذلك نقداً صريحاً مستنداً إلى الحجج والبراهين، ويبطل الباطل بشدة في لين، ويجهر بكلمة الحقِّ بشجاعة من غير تهوُّر، ويدمغ الكذب والبهتان بقولٍ فصل من غير أن يمسَّ الشخصيات بسوء.
رحلاته:
يسَّر الله للشَّيخ أن يطوف حول الكرة الأرضية غير مرَّة، وينزل بلاداً كثيرة من حين لآخر، ومعظم هذه الرّحلات تكون للمشاركة في المؤتمرات والنَّدوات المنعقدة في شتَّى المجالات العلمية والدَّعوية، وقد استغلَّّ الشَّيخ أسفارَه لمقاصدَ علمية ودعويَّة وللاجتماع بأهل العلم، واستفاد منها وأفاد علمياً ودعوياً، كما أنَّه شاهد من كَثَب معظمَ بلاد العالم وما يدور فيها سياسياً واقتصادياً، وثقافياً، وأطلَّ عليها تاريخياً.(/10)
وقد جاد قلمُه بتسجيل مشاهداته وانطباعاته التي تضمَّنتها رحلاتُه، وأنت إذ تقرؤها فإنَّك واجدٌ فيها شعوراً إنسانياً فيَّاضاً، وأسلوباً أدبياً متيناً، وميلاً من صاحبها إلى اقتناص الأمور الغريبة، كما تشعر أن الرَّحالة لم يمتنع من أن يمتِّع ناظرَيه بمظاهر الجمال الطبيعي، وأن يزور الأمكنة التَّاريخية، والمآثر المشتهرة، وهو لا يقف على هذه الأخيرة وقوف سائح عادي، بل يقف ليسرد عليك كل ما يتعلَّق بها من الوقائع التَّاريخية، ويحيلك على المصادر الموثوقة، فمذكّراته -كما وصفها- جملةٌ من الدِّراسات الجغرافية والتاريخية، وليست مجرَّد رحلةٍ شخصيَّة.
والشَّيخ لا ينسى مع ذكر كلِّ هذه المناظر مهمَّته الأساسية وهي الدَّعوة، فيستغلُّ كل سانحةٍ لأداء هذه المَهمَّة، بل يقدِّم الدَّعوة في كثير من المواقع على البرنامج المحدّد إن رأى ما يدعو لذلك.
وقد نشر مذكّرات أسفاره في (البلاغ)، ثم جمع جزءاً منها في مجموعةٍ مستقلَّة، وطُبعت بعنوان (جهان ديده) أي العالم المشاهَد.
المناصب التي تولاها:
مع أن الشَّيخ حفظه الله يتجنب تولي المسؤوليات المتعلقة بالتَّنسيق، ونظم الإدارة، رغبةً عنها وحرصاً على توفير أوقاته للمشاغل العلمية، فقد أدَّت به الأوضاعُ إلى تولِّي جملة من المسؤوليَّات الجليلة والمناصب المحترمة في إدارات حكومية وغير حكومية، أذكر منها:
المناصب الحالية:
1- عضو مجلس النَّقض والتَّمييز الشَّرعي في المحكمة العليا بباكستان منذ سنة 1982م.
2- نائب رئيس جامعة دار العلوم بكراتشي منذ سنة 1974م.
3- عضو عامل في مجمع الفقه الإسلامي بجدة المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي.
4- عضو مجمع الفقه الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرَّمة.
5- عضو لجنة الفتوى والبحوث الأوربية في دبلن.
6- رئاسة وعضوية مؤسسات مالية كثيرة.
المناصب السَّابقة:
1- القاضي بالمحكمة الشَّرعية المركزية بين عامي 1980-1982م.(/11)
2- عضو اللجنة المنسِّقة لجامعة كراتشي بين عامي 1985-1988م.
3- عضو لجنة المشرفين للجامعة الإسلامية الدولية في إسلام أباد 1985-1989م.
4- عضو مركز الاقتصاد الإسلامي الدولي 1985-1988م.
5- عضو مجلس الفكر الإسلامي 1977-1981م.
تعريف بمؤلَّفاته:
لقد أهدى الشَّيخ محمَّد تقيّ للمكتبة الإسلامية ثروةً علميةً قيمة، تزيد على خمسين كتاباً، فيها بإذن الله نفعٌ للناس مهما اختلفت تخصُّصاتهم، وتُكسب المؤلِّف لسان صدق في الآخرين، وتكون ذخراً له يوم الدين، فجزاه الله عن المسلمين خيراً.
أما أهمُّ مؤلَّفاته فهي:
1- تكملة فتح الملهم بشرح صحيح مسلم، وهو كتاب ضخم يقع في ستة مجلَّدات.
2- بحوثٌ في قضايا فقهية معاصرة.
3- أحكام الذَّبائح.
4- ما هي النَّصرانية؟
5- علوم القرآن وأصول التَّفسير.
6- ضبط وتحقيق إعلاء السُّنن والتَّعليق عليه.
7- ما هو السَّبيل إلى تطبيق الإسلام في العصر الرَّاهن؟
8- سيدنا معاوية -رضي الله عنه- في ضوء الحقائق التَّاريخية.
9- مكانة التَّقليد في ميزان الشَّريعة.
10- تحديد النَّسل في ضوء العقل والشَّرع.
11- مكانة السَّنة النَّبوية
12- نظامنا الاقتصادي.
المرجع:
كتاب (محمَّد تقيّ العثماني، القاضي الفقيه والدَّاعية الرَّحَّالة)، تأليف: لقمان حكيم، وهو الكتاب رقم (18) في سلسلة: (علماء ومفكرون معاصرون، لمحات من حياتهم وتعريف بمؤلفاتهم) التي تصدرها دار القلم بدمشق، الطبعة الأولى، 1423هـ - 2002م.(/12)
العنوان: محمود الطناحي .. عالم العربية وعاشق التراث
رقم المقالة: 574
صاحب المقالة: أحمد بن محمود الداهن
-----------------------------------------
لمحات من حياته
محمود الطناحي أحد أعلام اللغة العربية، وواحد من الطبقة العليا من المحققين الأثبات. ورائد من الرواد الذين خدموا التراث النحويَّ وأحبُّوه، وأمضى سني عمره في تعليم أصوله وتحقيقه.
برع في علم المخطوطات قراءة ومعرفة، وانتقاء ووصفاً، وجوَّد في تحقيق المخطوطات، وأفنى عمرَه ناشراً فضائل التراث، مدافعاً عن العلم والعلماء . وأطاب بذلك ذكرَه.
مولده ونشأته وتعليمه:
هو محمود بن محمد بن علي بن محمد الطناحي المصري. ولد بقرية (كفر طبلوها) بمحافظة المنوفية عام 1353هـ 1935 م، وانتقل على القاهرة في الثامنة من عمره، ونشأ فقيراً عصامياً بنى نفسه بنفسه، أتمَّ حفظ القرن الكريم في الثالثةَ عشرةَ من عمره، التحق بالأزهر، ودرس فيه حتى نال الشهادة الثانوية عام 1958م. ثم التحق بكلية دار العلوم – جامعة القاهرة.
أحرز الإجازة في علوم اللغة العربية والشريعة الإسلامية عام 1962م، ونال شهادة الماجستير من الكلية نفسها عام 1972م؛ على أطروحته: ( ابن معطي وآراؤه النحويَّة مع تحقيق كتاب الفصول الخمسون). وحاز الدكتوراه من كلية دار العلوم أيضاً عام 1978م على أطروحته: ( ابن الشجَري وآراؤه النحويَّة ) مع تحقيق الجزء الأول من كتاب ( الأمالي النحوية).
وكان منهوماً بالعلم ومجالسة العلماء، فحصَّل من بطون الكتب وأفواه الرجال علماً غزيراً، ووعت حافظتُه أخباراً وشواهد ومعارف قلَّ أن تجدها عند غيره من أبناء جيله.
شيوخه:(/1)
تتلمذ الطناحي لمشيخة جليلة من أبناء عصره، وهم: عالم المخطوطات بدار الكتب المصرية فؤاد السيد، و عالم الشريعة الكبير محمد أبو زهرة، و عالم المخطوطات محمد رشاد عبد المطلب، والنحويُّ المتمكن وصاحب الكتاب العظيم ( النحو الوافي) عباس حسن، والفقيه المصري علي حسب الله، والفقيه الأصولي الأزهري عبد الغني عبد الخالق، والنحويُّ اللغوي والمحقق المعروف عبد السلام هارون، والمقرئ المتقن عامر السيد عثمان، وعالم اللغة الأديب المحقق السيد أحمد صقر، وعالم النحو واللغة عبد الله درويش-وهو الذي أشرف على رسالته للدكتوراه-، وإمام أهل اللغة والتحقيق في عصره شيخ العربيَّة محمود محمد شاكر، والعالم اللغوي الدكتور تمام حسان، والنحويُّ المحقِّق محمد بدوي المختون.
نشاطه العلمي:
اتصل بالمخطوطات العربية منذ أن كان طالباً بدار العلوم ناسخاً ومفهرساً ومحققاً، فنسخ كثيراً من المخطوطات المشرقية والمغربية، حين لم تكن آلات النسخ متوافرة، وأعان بعض المستشرقين الذين نزلوا مصر في تحقيق بعض المخطوطات. وعمل مصححاً في مطبعة عيسى البابي الحلبي ثلاث سنوات، فاستفاد من ذلك فوائد جليلة.
وشارك في نشاط معهد المخطوطات العربية بالقاهرة، على امتداد ثلاثةَ عشرَ عاماً، وانتُدب عضواً في بعثات إلى دول إسلامية لدراسة المخطوطات وتصويرها، ومن تلك البلدان: تركية عام 1970، والمغرب الأقصى، مرتين عام 1972 و1975، والسعودية عام 1973، وشمال اليمن عام 1974.
وعمل خبيراً بمجمع اللغة العربية بالقاهرة، بمركز تحقيق التراث بدار الكتب المصرية، واختير عضواً بالهيئة المشتركة لخدمة التراث العربي، وشارك في ندوات كثيرة وكتبَ عشرات المقالات العلمية الجيِّدة المفيدة.
أعماله:(/2)
عمل عقب تخرُّجه في دار العلوم معيداً بمعهد الدراسات العربية الأمريكية بالقاهرة 1963-1965، ثم عيِّن خبيراً بمعهد المخطوطات العربية بجامعة الدول العربية حتى أواخر 1978م، حيث انتُدب أستاذاً بقسم الدراسات العليا العربية بكلية الشريعة؛ جامعة الملك عبد العزيز بمكة المكرمة ( جامعة أم القرى حالياً)، وفيها أنزلوه منزلاً كريماً وعومل هناك تحت بند يسمَّى (كفاءة نادرة)، البند الذي أظلَّ الشيوخ: محمد متولِّي الشعراوي، ومحمد الغزالي، والسيد أحمد صقر، والسيد سابق، ومحمد قطب.
وعمل في جامعة أم القرى باحثاً بمركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي إلى أن استقال منها عام 1409هـ/ 1989م.
وعيِّن أستاذاً بكلية الدراسات العربية والإسلامية بجامعة القاهرة – فرع الفيُّوم بين عامي 1991-1996م، ثم انتقل أستاذاً ورئيساً لقسم اللغة العربية بكلية آداب جامعة حلوان 1996م ، وفيها بقي حتى وفاته.
واختير أستاذاً زائراً بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، عام 1991م، وجامعة الكويت عام 1994م، وجامعة العين بالإمارات العربية المتحدة عام 1997م.
وفاته:
انتقل إلى جوار ربه صباح يوم الثلاثاء الواقع في 6 من ذي الحجة عام 1419هـ - الموافق 23 آذار 1999م، إثر نوبة قلبيَّة مفاجئة.
شخصية الطناحي العلمية:
وقف الطناحي حياته ووهب ثمرة قلمه وعطاء قريحته الفيَّاضة لثبيت اللغة في النفوس والتنبيه على فضلها لأدنى مناسبة وأوهى ملابسة.
فبرز في علوم اللغة العربية لغوياً يرى أن اللغة ليست للتفاهم وقضاء المصالح وحسب، وإلا لكان القَدْر اللازم لنا منها محدوداً جداً، وقد احتفل باللغة وغريبها احتفالاً زائداً، ودعا إلى استحياء الغريب من اللغة.
وبرز نحوياً وقف يبيِّن قيمة النحو وأثره، ويشجِّع على دراسته، ويذود عن حياضه، ويعرِّف بآثاره وأعلامه، ويدافع عنهم.
وعَروضيّاً، يغار على بحور الشعر، يحرُسها من أن يُنال من أصالتها واستمرارها.(/3)
وفي علم التحقيق و المخطوطات برز الطناحي محقِّقاً دخل ميدان تحقيق التراث بثقافة عالية، وقراءة محيطة، لم تتيسَّر لكثير من أبناء جيله، فانغمس في نصوص التراث وامتزج بها امتزاجاً عجيباً، وجعل التراث همَّه وسَدَمَه، وأطعمه لحمه، وسقاه دمه، فأبدع في تحقيقاته كلِّها.
ومفهرساً اعتنى بصُنع الفهارس وهو عمل جاف يابس، غير أن الطناحي في إخراجه للفهارس لم يكن جافاً، بل إنك تحسُّ فيه بدقة العالم وتصرُّف المتثبِّت.
أما أسلوبه فكان السهلَ الممتنع، وكان ذا بيان آسر واطِّراد متدفِّق، عبارتُه يسيرة سمحة، متأثراً بالقرآن الكريم. وكان يستشهد في كتاباته بالأحاديث والشعر والأمثال وأقوال العرب الفصيحة.
كما كان للنقد والتصحيح نصيب وافر عند الطناحي، من باب أن النقد يجبُر النقص ، ويُقيم العِوَج، ويُصلح المنآد. فكان يتقبَّله بقَبول حسن أيّاً كان مصدره، طيبة به نفسُه زاكياً به علمه.
أما أمانته العلمية فلا تحتاج إلى بحث واستقصاء وشواهد، فكلُّ ما كتب حافل بها، ينسب الكلام إلى قائله قليلاً كان أم كثيراً.
ويتمثَّل وفاؤه فيما كتبه عن مشايخه في كتبه، خصوصاً كتابه (مدخل إلى تاريخ نشر التراث العربي)، حيث أفاض في الحديث عن الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد، وعبد الغني عبد الخالق، والسيد أحمد صقر، ومحمود محمد شاكر.
وتمثل فيما أفرده من مقالات في شيوخه، منها: فؤاد السيد العالم الذي فقدناه، محمد رشاد عبد المطَّلب والديار التي خَلَت، محمود محمد شاكر ومنهجه في تحيق التراث، وغيرهم.(/4)
لقد كان الطناحي كريم الخلق وفياً، موقِّراً لأهل العلم، مترفِّعاً عن الماديات والمنصب التي تكالب عليها كثيرٌ من الناس، يأنس بحديثه محدِّثُه، ويستطيب فُكاهته ونوادرَه. وصفه الدكتور عبد العظيم الدِّيب بقوله: " إن في محمود الطناحي لرقةً وحلاوة، تجعلني أجزم بأن كلَّ من رآه ولم يقع في حبِّه وعشقه فاسدُ الذوق، مختلُّ المزاج، سيئ النفس، وتلك هبةٌ يهبها الله لمن يشاء من عباده".
تعريف بآثاره تأليفاً وتحقيقاً:
مؤلفاته:
1 - مدخل إلى تاريخ نشر التراث العربي.
2 - الموجز في مراجع التراجم والبلدان والمصنَّفات وتعريفات العلوم.
3 - فهارس كتاب غريب الحديث لأبي عبيد القاسم بن سلَّام.
4 - فهارس كتاب الأصول في النحو لابن السرَّاج.
5 - ديوان المعاني لأبي هلال العسكري، وشيءٌ من التحليل والعَروض والفهرسة.
6 - الفهرس الوصفيُّ لبعض نوادر المخطوطات بالمكتبة المركزيَّة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
7 - الكتاب المطبوع بمصر في القرن التاسعَ عشرَ.
8 - مُستقبل الثقافة العربية.
9 - وله عشراتُ الأبحاث والمقالات نُشرت في مجلَّات عدة.
تحقيقاته:
1 - النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير الجَزَري، (خمسة أجزاء).
2 - طبقات الشافعية الكبرى لابن السُّبكي، (عشرة أجزاء) بالاشتراك مع الدكتور عبد الفتاح الحلو.
3 - العِقد الثمين في تاريخ البلد الأمين، لتقيِّ الدين الفاسي ( الجزء الثامن).
4 - الغريبين، غريب القرآن والحديث، لأبي عُبيد الهَرَوي ( الجزء الأول).
5 - الفصول الخمسون في النحو، لابن معطي.
6 - تاج العروس شرح القاموس للزَّبيدي ( الأجزاء 16، 18، 20).
7 - مَنال الطالب في شرح طُوال الغرائب لابن الأثير الجَزَري.
8 - كتاب الشعر- أو شرح الأبيات المشكلة الإعراب- لأبي علي الفارسي ( جزآن).
9 - أمالي ابن الشَّجَري (ثلاثة أجزاء).
10 - ذكر النِّسوة المتعبِّدات الصوفيَّات، لأبي عبد الرحمن السُّلَمي.(/5)
11 - أعمار الأعيان ، لابن الجوزي.
12 - أُرجوزة قديمة في النحو لليَشْكُري.
بعض أقوال العلماء في الطناحي: مقتبسة من كتاب ( محمود الطناحي، ذكرى لن تغيب).
• لقد كان محمود الطناحي -أينما حلَّ- زينةَ المجالس التي تشنَّف لها الأسماع وتَشخَص لها الأبصار بحبٍّ وإعجاب وتقدير واحترام. (د. أحمد عرفات القاضي)
• عرفتُ فيه صفاء الطبع وكرم الخُلق والطبيعة المرحة، وروح الفُكاهة والظَّرف، وحسن الحديث وطلاوته. (د. أيمن فؤاد السيد).
• إن الراحل الكريم كان سفينةَ نحو وصرف وأدب ولغة، مكتظاً بالفرائد و الفوائد والنوادر. (حامد البحراوي).
• العلماء العاملون قليلون ، وأقلُّ منهم الزهَّاد الصادقون الذين يتحلَّون بالتواضع الخالص وساماً، ويتَّخذون الوفاء لأصدقائهم وأساتذتهم شعاراً، ويقدِّمون نفائس الأعمال العملية، وهم يرون أنفسهم مقصِّرين في حقِّ العلم عليهم وفي حقوق طلابهم عليهم، ومن هؤلاء الندرة كان أخونا الحبيب الأستاذ الدكتور محمود الطناحي، رحمة الله وغفر له. (د. محمد سليم العوَّا).
• من سَجاياه الخلقية: حسن الخلق وطيبة القلب ، وصفاء النفس ، ونقاء السريرة حبُّ الناس وإخلاص المودَّة والتوقير لأهل العلم ، وذلك مع جميع أساتذته وبخاصة أستاذه العلامة محمود شاكر رحمه الله، وعُرف عنه: عزَّة النفس والتواضع ولين الجانب، وطلاقة الوجه، وكان ذا روح مرحة هاشَّة باشَّة، يجمع بين الجدِّ وروح الدُّعابة، وجلسته لا تُمَلُّ في الجانبَين، فإن فاتحتَه بمسألة علميَّة تتصل بدائرة اختصاصه أفاض فيها ما يُشبع نهمك، وإذا أردت الطُّرفة والنُّكتة سمعت منه مايدخل في نفسك السرور والبهجة. (د. عبد الله عسيلان).
• كان عليه رحمة الله عالماً مثابراً صبوراً لا يملَّ من البحث والتنقيب، يعرف قيمة الوقت، ويحرص عليه كأنه يسابق الزمن. (د. فراج عطا سالم).(/6)
• وجهود محمود الطناحي في هذه المصادر التي قام بتحقيقها تضعه في مصافِّ كبار العلماء الذين نهضوا بهذه الرسالة الجليلة. (د. محمود علي مكي).
المرجع:
كتاب (محمود الطناحي، عالم العربيَّة وعاشق التراث)، للأستاذ أحمد العلاونة، وهو الكتاب رقم (9) في سلسلة: (علماء ومفكرون معاصرون، لمحات من حياتهم وتعريف بمؤلفاتهم) التي تصدرها دار القلم بدمشق، الطبعة الأولى، 1422هـ - 2001م.(/7)
العنوان: محمود تيمور رائد التعريب
رقم المقالة: 1684
صاحب المقالة: محمد النقيب
-----------------------------------------
محمود تيمور رائد التعريب
وأسلمة الأدب القصصي المترجم
كان مطلع القرن التاسع عشر بداية الاتصال بين الأدب المصري والآداب الأوروبية وقد انفتحت مصر - على وجه التحديد - على الأدب الفرنسي، خاصة بعد الحملة الفرنسية عليها عام 1798، وكان كُتّاب فرنسا وأُدباؤها آنذاك تجوب شهرتهم الآفاق، ومنذ ذلك التاريخ وحتى مشارف القرن العشرين، كان ديدن الصحف والمجلات في مصر ترجمة آثار الأدب الفرنسي إلى اللغة العربية وصياغتها، فعكف كثير من الأدباء المصريين على استقاء الأجناس الأدبية الحديثة، وشغلوا أنفسهم بترجمة أعمال مشاهير كتاب فرنسا، ونقلها إلى العربية، فترجموا "موليير" و"راسين" و"كورني" و"لافونتين" و"شاتوبريان"، "وفكتور هوجو" وغيرهم، إلى أن حدث على المستوى الرسمي في عهد محمد علي باشا والي مصر (1805 - 1849) إنشاء مدرسة الترجمة في عام 1840م وكان هدفها ترجمة عيون الآداب العالمية خاصة الفرنسي، ويرجع ذلك إلى كون مديرها في ذلك الوقت هو رفاعة رافع الطهطاوي (1805-1873) الذي يعتبر الرائد الأول للانفتاح على الثقافة الفرنسية في عصره.
بدايات الأدب المترجم:
وإذا ما تطرقنا إلى نوعية الترجمة ومستوى ترجمة هذا الإنتاج الأدبي الوافد من الخارج وجدنا أنها تهدف أول ما تهدف إلى إشباع ذوق جمهور القراء، واسترضاء رغباته، التي غالباً ما كانت تنحصر في النثر المسجوع والتعبيرات الموسيقية. هذا من ناحية الظاهر، أما من ناحية المضمون فكانت قصص المغامرات العاطفية والبوليسية هي البضاعة الرائجة لدى تلك النوعية من القراء التي لا تنشد إلا التسلية.(/1)
وأول تلك الترجمات التي عرفها القارئ آنذاك: هي ترجمة رفاعة الطهطاوي لرواية الكاتب الفرنسي فينيلون Fenelon (1651-1715) "مغامرات تليماك"، تحت عنوان "مواقع الأفلاك في أخبار تليماك" ثم أعقب رفاعة الطهطاوي تلميذُه محمد عثمان جلال (1828-1898) فترجم رواية الأديب الفرنسي: برناردان دي سان بيير (1737-1814) "بول وفرجيني" تحت عنوان "الأماني والمنة في حديث قبول ورود جنة".
ومن الجدير بالذكر أن محمد عثمان جلال يكاد يكون قد تخصص في ترجمة وتعريب أعمال عدد غير قليل من أدباء القرن السابع عشر الفرنسي، فقد نقل إلى العربية مجموعة من مآسي راسين، وأسماها "الروايات المفيدة في علم التراجيدة" ومجموعة أخرى من ملاهي "موليير" وأسماها "الأربع روايات من نخب التيترات"، و"مأساة كورني" الشهيرة تحت عنوان "السيد" كما نقل إلى العربية شعراً "خرافات لافونتين" تحت عنوان "العيون اليواقظ في الأمثال والمواعظ"[1].
ومع مطلع القرن العشرين بدأت موجة أخرى من ترجمة أعمال الأدباء الفرنسيين، ولكن بصورة أكثر حرية في إضفاء الطابع العربي على الأثر الأدبي الغربي، واشتهر في ذلك الوقت اسم مصطفى لطفي المنفلوطي (1876م – 1924م) بترجماته المتميزة بأسلوبها العربي الرشيق، فترجم رواية الأديب الفرنسي برناردان دي سان بيير "بول وفرجيني" تحت عنوان "الفضيلة" وكذلك رواية الكاتب الفرنسي الفونس كاز "تحت ظلال الزيزفون" تحت عنوان "مجدولين" كذلك استطاع الشاعر حافظ إبراهيم (1871م – 1932م) أن يحظى بشهرة كبيرة عن ترجمته جزءاً من رواية الشاعر والأديب الفرنسي الشهير فكتور هوجو "البؤساء"، وبالرغم من احتفاظ حافظ إبراهيم باسم الرواية الفرنسي إلا أنه تصرف بصورة كبيرة في متن النص الروائي.(/2)
وعلى صعيد آخر لا نستطيع أن نغض الطرف عن دور الصحافة في ذلك الوقت في نشر القصص الأوروبية المترجمة، فكانت هناك مجموعة من الصحف والمجلات تتسابق في نشر تلك القصص يومياً أو أسبوعياً أو شهرياً؛ لما كانت تلقاه من قبول لدى جمهور القُرّاء، وقد اشتهرت من بين الصحف جريدة "السفور" (1915م – 1925م) وجريدة "مصباح الشرق"، ومن بين المجلات مجلة "البيان" (1911م – 1919م)، ومجلة "الرواية". وإذا كانت مجلة "البيان" شبه متخصصة في تقديم أعمال الكُتّاب الإنجليز فإن جريدة "السفور" قد أخذت على عاتقها تعريف قرائها بمشاهير الأدب الفرنسي من أمثال لابرويير (1645م – 1696م) وفكتور هوجو (1802م – 1882م) وأناتول فرانس (1844م – 1924م). كما أنها خصصت عموداً لنشر القصص الفرنسية المترجمة أسمته "عمود القصص"، وكان أغلب ما ينشر في هذا العمود من قصص مختارة من الإنتاج القصصي، لرائد القصة القصيرة في الأدب الفرنسي جي دي موباسان (1850م – 1893م)[2] وهذا ليس غريبا إذا ما عرفنا أن الأخوين الأديبين محمد تيمور ومحمود تيمور كانا رئيسي تحرير تلك الجريدة على مدى خمسة عشر عدداً خلال عام 1918م، وقد عرف عنهما شغفهما الكبير بجي دي موباسان، وتأثرهما بفنه القصصي المتميز.
أثر موباسان:(/3)
يتضح مما سبق مدى انتشار القصص والمسرحيات الأوروبية المترجمة في بداية هذا القرن، وبالرغم من ذلك فقد كان هناك عدد من الكتاب حاولوا خوض تجربة تأليف قصص عربية ومصرية خالصة، للتَّحرُّر من قيود النص الغربي، وما يعتريه من مضامين وثقافات، وموروثات غربية دخيلة، فكانت هناك محاولات لصالح حمدي حماد في "البائسات" و"أحسن القصص"، وأخرى لمصطفى لطفي المنفلوطي في "اليتيم" و"الحجاب" و"الهاوية" و"العقاب"، ولكن يُجمِع الكثير من مؤرخي الأدب العربي ونُقّاده - سواء العرب منهم أم المستشرقون - على أن القصة العربية الفنية ظاهراً ومضموناً لم تظهر إلا على يد الكاتب المصري محمد تيمور (1892م – 1921م) وذلك حين كتب قصته القصيرة "في القطار"، التي تعد أول قصة فنية قصيرة في الأدب المصري، بل الأدب العربي الحديث.
كما يظهر بوضوح تأثر محمد تيمور برائد فن كتابة القصة القصيرة في فرنسا جي دي موباسان في كل إنتاجه القصصي، كما كان سبباً مباشراً في حث أخيه الأصغر محمود تيمور على تمثل خطى موباسان طوال مشواره الأدبي الممتد مع القصة العربية، حتى أصبح شيخاً لها واشتهر بلقب (موباسان مصر)[3].
لقد ألَّف محمد تيمور سبع قصص قصيرة هي على الترتيب:
1- "في القطار" - 7 يونية 1917م.
2- "عطفة (ال ...) منزل رقم 12"- 18 يونية 1917م.
3- "بيت الكرم" - 2أغسطس 1917م.
4- "حفلة طرب" 24 أغسطس 1917م.
5- "صفارة العيد" - 7 سبتمبر 1917م.
6- "رب لمن خلقت هذا النعيم؟" - أول أكتوبر 1917م.
7- "كان طفلاً فصار شاباً" - نوفمبر 1917م[4].(/4)
وقد جمع محمد تيمور قصصه السبع في مجموعة أسماها "ما تراه العيون"[5]، ومثل هذا العنوان إنما يوضح تأثر محمد تيمور بمنهج موباسان الواقعي في كتابته القصصية. فقد استطاع محمد تيمور رصد موضوعات قصصه من ثنايا مفردات الحياة اليومية للمجتمع المصري، وتمكن من صياغة خيوط تلك الصور في نسيج مترابط، ينبض بحبكة فنية ووعي أدبي بمقومات القصة القصيرة وتقنياتها، كما عرفها عند رائدها الفرنسي.
وأهم ما كان يحلُم محمد تيمور بتحقيقه هو تمصير الآداب الفرنسية التي اطلع عليها وتأثر بها أثناء إقامته بفرنسا لمدة ثلاث سنوات متنقلاً بين باريس العاصمة ومدينة ليون في الجنوب. فقد كان رائداً في النزوع إلى كتابة أدب أصيل ومتسم بالصبغة المصرية والألوان المحلية، وأحد جوانب هذه الصبغة المصرية والألوان المحلية، تلك الملامح والسمات الإسلامية التي كانت تميز موضوعات قصصه القصيرة وخاصة الموباسانية المصدر منها، وهذا ليس بغريب على محمد تيمور الذي نشأ وترعرع في بيئة أسرية عرفت بريادتها في العلوم العربية والإسلامية، وخاصة والده العلامة المعروف أحمد باشا تيمور (1871م – 1930م) الذي ترك للمكتبة العربية والإسلامية العديد من المؤلفات القيمة والمخطوطات النادرة، هذا إلى جانب تلك المكتبة النفيسة التي ضمت بين دفتيها ما يربو على ثمانية عشر ألف كتاب ومجلد ومخطوط، أهداها جميعاً لدار الكتب المصرية فأصبحت ملتقى الدارسين والباحثين[6].
نموذج من قصصه:
وإذا ما أردنا أن نتاول بالدراسة والتحليل إحدى قصص محمد تيمور للوقوف على منهجه وأسلوبه في تعريب وتمصير - بل أسلمة - إحدى قصص جي دي موباسان الفرنسية لوجدنا المثال الواضح على ذلك، قصته القصيرة بعنوان "رب لمن خلقت هذا النعيم؟".(/5)
وتعتبر هذه القصة القصيرة الوحيدة بين مثيلاتها في المجموعة التي لها مقابل بين قصص الكاتب الفرنسي الثلاث مئة. فقد قام محمد تيمور بتعريب قصة جي دي موباسان القصيرة المعنونة Clair de lune "ضوء القمر" [7] والتي نشرها موباسان أول ما نشرها بجريدة "Gil Blas" "جيل بلاس" في التاسع عشر من أكتوبر 1882[8].
وقد ذكر محمد تيمور ذلك صراحة في صدر قصته، ولكن دون أن يشير إلى عنوان القصة الفرنسية التي قام بتعريبها حين قال: "هذه القصة لموباسان الكاتب الفرنسي الشهير بدَّل المُعرِّب أشخاصَها وزمانها ومكانها وموضوعها ممصراً كلَّ شيء فيها، فلم يبق من الأصل إلا روح الكاتب، واتَّبع المعرِّب في ذلك خطة تولستوي في قصصه التي نقلها عن موباسان[9].
بعد هذا الاعتراف الواضح الصريح بما أحدثه محمد تيمور من تغيير في النص الفرنسي لموباسان، شمل الشخصيات والزمان والمكان والموضوع، لم يتبق لنا سوى مقارنة النصين؛ الفرنسي والعربي؛ للوقوف على ملامح هذا التعريب وذاك التمصير الذي أحدثه محمد تيمور، وإلى أي مدى استطاع أن يضفي الطابع الإسلامي على تلك القصة الفرنسية ذات الطابع المسيحي الخالص.
1- العنوان:(/6)
من الواضح أن محمد تيمور قد استلهم عنوان قصته: "رب لمن خلقت هذا النعيم؟" من خلال ذلك السؤال الذي كان كثيراً ما يطرحه على نفسه بطل قصة موباسان؛ القس مارينيان في كل مرة يفكر فيها في مخلوقات الله؛ كالشفق، والأيام، والأمطار، والماء، والليل. فكثيراً ما كان يسأل نفسه قائلاً: Pourquoi Dieu a-t-il Fait Cela? "لماذا خلق الله هذا؟"[10] إلى أن يصل إلى الاهتداء إلى الإجابة على هذا السؤال فيما يتلعق بضوء القمر، وسحر لياله، وهذا هو محور موضوع القصة عند موباسان، وكذلك عند محمد تيمور. فقد طرح بطل القصة العربية على نفسِه السؤال نفسَه عند تجوله في حديقة قصره، ورؤيته القمر لامع الصفحة، والنجوم الزاهية، فقال مخاطباً ربه: "رب لمن خلقت هذا النعيم؟"[11].
ففي الوقت الذي اختار فيه موباسان ضوء القمر كعنوان مباشر لقصته، فضل محمد تيمور أن يختار عنواناً مشوقاً هو: عبارة عن مناجاة الله في صورة سؤال، مما يثير فضول القارئ، ويدفعه إلى أن يلتهم القصة التهاماً، لكي يصل إلى ملابسات الإجابة عليه.
2- موضوع القصة:(/7)
تتبلور عقدة الموضوع في قصة موباسان عندما تخبر زوجة خادم الكنيسة القس مارينيان ذات يوم - أثناء قيامها ببعض الأعمال المنزلية بسكنه - بأن ابنة أخته قد اتخذت لها عشيقاً، وهي تذهب لمقابلته دوماً ما بين العاشرة مساء ومنتصف الليل على ضفاف النهر. فيفقد القس صوابه، ولا يكاد يصدق ما يسمع، خاصة وقد عُهِد إليه أمرُ تربيتها،[12] وشعر بالخزي والعار، فهو المنوط به تعليم الأخلاق ونشر الفضيلة. وخرج من المنزل وقد استشاط غيظاً وأمسك بعصا كبيرة؛ لإنزال العقاب الرادع بابنة أخته، وأثناء توجهه إلى حيث لقاؤهما المعتاد بهره ضوء القمر الساطع، وما يسكبه من أشعة فِضية على أغصان الأشجار، وما تشدو به الأطيار من ألحان، فأخذ يسأل نفسه كما اعتاد: لماذا خلق الله هذا؟! وبينما هو على هذه الحال من التفكير والمناجاة إذ رأى ابنة أخته وحبيبها وسَط تلك الجنة الغناء على أطراف البراري، تحت ضوء القمر، فولى هارباً خجولاً؛ لإدراكه أنما خلق الله جمال الطبيعة، وسحر القمر للمحبين[13].(/8)
وعندما أراد محمد تيمور أسلمة تلك الملابسات، والتفاصيل الغربية جعل بؤرة موضوع قصته تدور في إطار تلك العَلاقة السامية المشروعة، وهي رابطة الزواج، وأصبحت القصة لديه تحكي عن رجل غني متدين، له بنت جميلة، أراد أن يزوجها لشاب من الشباب الأغنياء المتعلمين الذين يتطلعون لمثل هذا الزواج، ولكن الفتاة رفضت، وأعلنت عدم رغبتها في الزواج، وأصرَّ الوالد، وبكت الفتاة، وحزِنت لها أمها، وحاولت أن تعرف سرَّ ابنتها؛ لتساعدها، ولكن الابنة لزمت الصمت. حتى كانت ليلة أرِق فيها الأب فخرج إلى حديقة قصره يتمشى، فأخذه جمال ضوء القمر الساطع مع سحر الطبيعة من حوله فراح يسأل نفسه: "رب لمن خلقت هذا النعيم؟!" ولمح شبحين في الحديقة تبين فيهما ابنته وشاباً جميل المُحيّا هو ابن أحد جيرانه الفقراء، وسمعه يقول لها دون أن يرياه: "أنا مرغم على تركك يا حبيبتي، وإني أقسم لك أني سأبقى على عهد حبي الطاهر الشريف إلى أن يضم عظامي القبر"[14].
فقال الرجل لنفسه بعد أن فكر قليلاً فيما رآه وفيما سمعه: "رب إنك خلقت النعم للمحبين، ولعَمْرى ما تلك ألا جنة الحب" [15].
ويحرص محمد تيمور في النهايه على ألا يترك الأمور معلّقه، و ينهي قصته بنزول الأب على رغبة ابنته، وتقام حفلة زواج ابنته الغنية بالشاب الفقير .
3-الشخصيات:
تقام القصة في بنائها على شخصية رئيسة هي شخصية القس مارينيان عند موباسان وشخصية محمد بك عبد القادر عند محمد تيمور، ثم يأتي بعد ذلك دور الخصيات الثانويه. فالقس مارينيان له أخت وابنة أخت يقطنان في منزل بالقرب من مسكنه الديني الخاص به في الريف الفرنسي، وهو القائم على رعاية شؤونهما .
أما عند محمد تيمور، فتلك العَلاقة الأسرية بين الشخصيات تأتي في إطار أسرة واحدة، مكونة من: محمد بك عبد القادر الأب، وزوجته، وابنته الوحيدة.(/9)
القس مارينيان: رجل دين مسيحي، عُرِف على مستوى قريته بالتزامه الشديد بالتقاليد المسيحية، وها هو موباسان يصفه في بداية قصته قائلاً: "إنه لاسم على مُسمّى، ذلك الذي يدعى به القس مارينيان، فقد كان كاهناً طويل القامة نحيفها، متعصباً، جياش العواطف، لكنه مستقيم السلوك، ذو معتقَدات راسخة لا يشوبها أيّ اهتزاز؛ لذلك كان يعتقد - بإخلاص - أنه أحد العارفين بالله، وعلى دراية بمراده وإرادته وحكمته"[16].
وعندما أراد محمد تيمور أن يمصر تلك الشخصية المسيحية، رسمها بملامح إسلامية خالصة في المظهر والسلوك، وبصورة واقعية تتفق مع البيئة المصرية والإسلامية في عصره. فمقابل شخصية القس مارينيان عند موباسان رسم لنا محمد تيمور في مطلع قصته ملامح شخصية محمد بك عبد القادر على النحو التالي:
"محمد بك عبد القادر رجل في الخامسة والخمسين من عمره، أقنى الأنف، أسود العينين، مقرون الحاجبين يقص شاربه ويُعفي لحيته، إن مشي يسير الهوينى، وإن جلس يتربع على كرسيّه بعد أن يخلع خفيه، يرتدي (الردبخوت) ولا يحب سواها من الملابس الإفرنجية؛ لأنها أقربها صورةً بمظاهر الصلاح والتقوى. مسلم في كل أقواله وأفعاله، يذب عن الدين كلما تعرض له ملحد لا يتقي الله في دينه ولا دنياه، ويدافع عن حجاب المرأة في كل مجلس يناقش فيه أصحاب مذهب السفور مع المحافظين، وإن رأى شاباً جالساً في حانٍ يتعاطى كأساً من الخمر وقف في مكانه كالمصعوق، ثم بصق على الأرض ومشى في سبيله وهو يرتل آيات القرآن. له في بنك (الكريدي ليونيه) عشرون ألفاً من الأصفر الرنان، لا يتعاطى عنها فائدة مُتَّبعاً قوله – تعالى -: {وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}[17].
من هذا الوصف يتضح حرص محمد تيمور على إبراز كل الملامح الإسلامية التي من شأنها أن تجعل من بطل قصته المقابل الواقعي والمثال الوافي لمعطيات شخصية القس مارينيان عند موباسان.(/10)
بل نلاحظ أيضاً أنه في الوقت الذي يجعل فيه موباسان من القس مارينيان عدواً للمرأة، مؤكداً على كراهيته الحانقة لها، واحتقاره لها بلا وعي، ومحاولاته الدائمة للاستشهاد بأقوال المسيح والشعراء؛ للتدليل على عدم طهارتها، وخبث طويتها، وغوايتها الدائمة للرجل[18]، نجد أن محمد بك عبد القادر يحترم المرأة، ويقدرها، إذ تنبع رؤيته لها، وانطباعاته عنها من خلال عقيدته الإسلامية التي تجل المرأة وتكرمها؛ لذلك يصور محمد تيمور بطل قصته وهو يدافع عن حجاب المرأة في كل مجلس يتناقش فيه أصحاب مذهب السفور مع المحافظين، ويتبع ذلك حرصه واهتمامه الشديد بإحصان بنته والسعي لزواجها زواجاً يليق بها، وفي النهاية لم يرد أن يجبر ابنته على زواج لا ترضاه، ووافق على زواجها من شاب فقير أقل منها حسباً ونسباً ومالاً.
تمصير المكان:
أشار موباسان في بداية قصته إلى أن القس مارينيان يسكن مسكناً دينياً صغيراً بالريف الفرنسي، ويشتمل هذا المنزل على حديقة صغيرة متواضعة، وكذلك عندما وصف لنا موباسان جمال البيئة الطبيعية الخلابة التي تأثر فيها القس مارينيان بضوء القمر كان ذلك خارج إطار منزله، وسَط البراري الفسيحة بالريف.
أما عنصر المكان في قصة محمد تيمور: فقد وظفه توظيفاً يتلاءم تماماً مع ما أحدثه من تعريب لموضوعها، وشخصياتها، والظروف الاجتماعية والحياتية لأسرة محمد بك عبد القادر المسلمة؛ لذلك نلاحظ أن مجمل الأحداث لم تتعد إطار قصر محمد بك عبد القادر وحديقته اللذين يطلان على ضفاف النيل:(/11)
"يسكن محمد بك في قصر جميل على ضفاف النيل، تحوطه حديقة غناء، تتمايل أشجارها كلما داعبها النسيم، وتسمع فيها موسيقى الطيور ممزوجة بألحان أمواج النيل، تلك موسيقى جميلة هادئة، كأنها صوت الحب في آذان العاشق اليائس، وإذا ظهر الشفق خلف النخيل، وارتدت السماء ثوبها الأحمر قبيل الغروب خيل للناظر أن هذا الاحمرار هو دموع الليل يودع النهار. وإذا بزغ القمر في القبة الزرقاء في ليلة من ليالي الصيف، ود صاحب البيت ألا يفارق الحديقة حتى مطلع الفجر، هذا هناء كبير جادَ به اللهُ على هذا الشيخ الصالح؛ مكافأة له على عبادته وصلاحه. فهو به قرير العين، مثلوج الفؤاد، تلوح عليه أرْيحِيّة السرور كلما ذكر الله، ويلمع في غرته نور البِشر كلما صلى على نبيه"[19].
هذا الوصف البديع لمكان الأحداث، الذي تُمزح فيه الرومانسية الفياضة بروحانية إسلامية شفافة، إنما يدل على إدراك محمد تيمور الفني الرفيع لعنصر المكان، وما يمكن أن يلعبه من دور في صياغة أحداث قصته. كما أن وصف الطبيعة بهذا المستوى الرصين قد أسهم إسهاماً أساساً في إتقان حبكة القصة. حيث إن الإحساس بهذا الجمال والانفعال به كان هو الدافع الأول لأن يغير محمد بك عبد القادر موقفه من زواج ابنته، ويرضى بمن اختارته زوجاً لها حتى ولو كان فقيراً.
كما أنه من غير المنطقي أن يتمكن الأب من اكتشاف سبب إعراض ابنته عن الزواج وملاحظته إياها مع حبيها بعيدا عن الحيز الجغرافي لقصره وحديقته لما أفهَمَنا إيّاه مُعرِّب القصة من أنها نشأت نشأة إسلامية محافِظة، من خلال وصفه لشخصية أبيها في بداية القصة.
هذا على عكس ما حدث في قصة موباسان حيث إن معرفة القس مارينيان بسلوك ابنة أخته كان قائماً على عنصر الإخبار من قبل زوجة خادم الكنيسة، لذلك كان من الضروري أن يسعى هو إلى حيث يلتقيان بعيداً عن أعين الناس.(/12)
لذلك كان عنصر وصف الطبيعة عند موباسان خارجياً أي وسط الريف وعلى أطراف البراري، في حين أدرك محمد تيمور أن وصف الطبيعة في قصته لابد وأن يكون داخلياً؛ لذلك لم يجعله يتجاوز حدود قصر بطل قصته.
بهذا يظهر لنا أن الترجمة والنقل - نقل الآداب العالمية - تستطيع أن تساهم في حركة الأدب الإسلامي، ويستطيع الكاتب - ما دام هو نفسه أديباً وكاتب قصة - أن يحول المكان والشخصيات ويضعها في إطار يناسب البيئة الإسلامية، ويكون هذا الأمر صورة أخرى غير الترجمة الناقلة للعمل الغربي نفسه، ومحتفظة له بإطاره المكاني وبنمط تصرفات شخصياته المخالفة للسلوك الإسلامي، أو المختلفة عنه.
وتستطيع هذه الصورة من نقل الآداب العالمية التي يؤسفنا توقفها في بلادنا العربية. تستطيع أن تساهم في حركة التأليف والإبداع، يتعبير آخر يمكن أن تكون الترجمة عموماً والأسلمة بهذه الصورة مدرسة ينشأ منها ومن كل المكونات الأخرى جيل يكتب ويبدع.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[1] انظر في هذا الصدد د. محمد حافظ النقيب: "فن كتابة الخرافة بين أصالة لاقونيتن وصياغة محمد عثمان جلال" بحث تحت النشر (1997) وقد تم نشره بالفرنسية.
[2] انظر سيد حامد النساج: "تطور فن القصة القصيرة في مصر من 1910م إلى 1933م" القاهرة، دار الكاتب العربي، 1968 ص55-64.
[3] انظر: د. محمد حافظ النقيب: "أثر جي دي موباسان في القصة القصيرة عند محمود تيمور" رسالة دكتوراه بالفرنسية - جامعة جان مولان بفرنسا - ليون 1991، ص39 – 49.
[4] انظر: "مؤلفات محمد تيمور" الجزء الأول: "وميض الروح" القاهرة، الطبعة الأولى، مطبعة الاعتماد 1340هـ/ 1922م ص 215-261.(/13)
[5] لم ينشر محمد تيمور أي كتاب في حياته، وكان إنتاجه الأدبي عند وفاته إما قصصاً ومقالات وقصائد نشرت في الصحف، وإما مسرحيات مخطوطة لم تطبع، وبعد وفاته جمع شقيقه الأصغر الأديب محمود تيمور هذا الإنتاج ونشره عام 1922م في ثلاثة أجزاء، كل منها في مجلد كبير، وأطلق عليها "مؤلفات محمد تيمور"، وسمى الجزء الأول "وميض الروح" ويضم في قسمه الرابع "ما تراه العيون" وسمى الجزء الثاني "حياتنا التمثيلية" والجزء الثالث "المسرح المصري".
[6] انظر أحمد تيمور: "تاريخ الأسرة التيمورية" القاهرة، لجنة نشر المؤلفات التيمورية" مطبعة دار التأليف بدون تاريخ.
[7] انظر أعمال "موباسان" الكاملة:
Guy de Maupassant: "contes et Nouvelles", tome I. Bihliothejue de la leiade, Gallimard, Faris. 1982, PP. 594-599.
[8] من الجدير بالذكر أن الكاتب الفرنسي "موباسان" كان قد نشر قصة أخرى بنفس العنوان "Clair de lune " ضوء القمر بجريدة "le Faulois " "الجولواس" في الأول من يوليو 1882م وليست هناك ثمة علاقة أو تشابه بين موضوع القصتين، وكل ما يجمع بينهما هو ضوء القمر وما له من تأثير وإيحاءات شاعرية ووجدانية على النفس البشرية.
[9] انظر: محمد تيمور: "رب لمن خلقت هذا النعيم؟" ضمن "وميض الروح" مرجع سابق ص250.
[10] أنظر قصة "موباسان" ضوء القمر - مرجع سابق ص 594
[11] أنظر "وميض الروح" مرجع سابق ص 254
[12] انظر قصة "موباسان" مرجع سابق ص 596
[13] المرجع نفسه ص 597 – 599.
[14] أنظر "وميض الروح" مرجع سابق ص255.
[15] المرجع نفسه ص 256.
[16] انظر "وميض الروح" ص250.
[17] انظر قصة "موباسان" ص 594 – 595.
[18] انظر "وميض الروح" ص250 – 251.(/14)
العنوان: محمود عباس في الخندق الاسرائيلي
رقم المقالة: 319
صاحب المقالة: أحمد الفلو
-----------------------------------------
يبدو أن الكثير من الالتزامات والتنازلات السرية التي وقعت عليها قيادة فتح قد بدأت تتكشف للعلن, وحيث أن هذه القيادة تشعر الآن أكثر من أي وقت مضى بضرورة التحرك لمجابهة الواقع الجديد الذي تمكن الشعب الفلسطيني من فرضه عبر صناديق الاقتراع، حيث أن نتائج الانتخابات جاءت مغايرة تماما لتوجهات قيادة فتح.
ولم يعد ادعاء الوطنية والحرص على مصالح الشعب الفلسطيني كافيا لستر معايب التنازلات التي قدمتها قيادات أوسلو, بل انتقل هؤلاء إلى الخندق المقابل للشعب الفلسطيني المجاهد، خاصة بعد أن انحاز هذا الشعب إلى حماس في مواجهة المشروع الصهيوني الذي يريد أن يحول الفلسطينيين إلى قطيع شارد، فقبل الجوع وواجه الحصار كي تبقى الكرامة.
وفيما كان الرئيس عباس في المرات القليلة التي التقى فيها رئيس وزرائه إسماعيل هنية بمنتهى التعالي والكبرياء و ناصباً رجلاً فوق الأخرى، ناسياً ومتناسياً أنه إنما يوجه هذه الإهانة لمرشح الشعب إسماعيل وليس للكاميرا, وأن الشعوب ليست غبية وقد شاهدته مرات كثيرة وهو يبدو منحنياً ضاحك الوجه عندما يقابل شارون أو أولمرت وبقية القادة الإسرائيليين.
إن أبا مازن وبقية مسؤولي الرئاسة إنما يستمدون القوة من الموقف الأمريكي المساند للحصار، ومن الدوائر الأمنية والعسكرية الإسرائيلية المؤيدة له، ولن نجانب الحقيقة عندما نقول: إن عباس يقف عند النقطة الأقرب لإسرائيل منها للفلسطينيين.(/1)
ومن المفارقات المضحكة أن استحداث منصب رئيس وزراء له كامل الصلاحيات في السلطة الفلسطينية هو في الأصل اقتراح أمريكي تم الضغط على ياسر عرفات لتنفيذه وتجريده من الصلاحيات المطلقة التي كان يتمتع بها، ثم تجريده منها بعد أن وهن عظمه وقويت شوكة محور: (عباس، دحلان، نبيل عمرو، عريقات), وهذا ما حصل فعلاً، وأصبح محمود عباس رئيساً للوزراء بكامل الصلاحيات وبالدعم الأمريكي، وبعدها أصبح عباس رئيساً للحكومة في عهد عرفات، ولكن حساب الطاحون لم يوافق حساب البيدر, وأصبح عباس رئيساً للسلطة بعد رحيل عرفات، وتلا ذلك تأجيل طويل للانتخابات التشريعية خوفاً من انتصار حماس، وبعد كل الأموال التي أنفقها الفتحاويون والتي أثبتت الأيام أن مصدرها خزينة حكومة قريع، فازت حماس برئاسة الوزارة، وانقلب السحر على الساحر، وبدأ عباس بالصراخ والعويل.
وكان الإجراء الأول والمتهور الذي اتخذته قيادة فتح هو الاستيلاء على جميع الأموال التي كانت في خزينة السلطة، وتم نقل هذه الأموال من خزانة وزارة المالية لتأخذ طريقها إلى القصر الرئاسي, وفي اليوم الأول من تسلم هنية الوزارة لم يجد فلساً واحداً في الخزينة.
ليس هذا فحسب، بل سجل عباس ومعاونوه سابقة تاريخية لم يحدث مثيل لها في التاريخ القديم والمعاصر، عندما أعلنوا أن الاعتراف بالعدو الإسرائيلي وبواقع الاحتلال شرط مسبق قبل أي تعامل مع حكومة حماس، واعتبروا أن المصلحة الإسرائيلية أهم بكثير من المصلحة الوطنية الفلسطينية، وهذا الموضوع تحديداً من المواضيع التي لا تلقي ظلالاً من الشك على عباس ومعاونيه فحسب، بل هي تؤكد بوضوح أنهم يريدون حكومة المطالب الإسرائيلية.(/2)
وبعد الفشل الذريع الذي مني به الفتحاويون في إدارة معركة الصلاحيات، لجأ عباس إلى مصر والأردن من أجل الدعم السياسي وتشكيل المحور العربي المعادي لحماس،ولكن المشكلة كانت في النتائج المحدودة وغير الكافية لموقفي البلدين التي تصب في ذلك الاتجاه، وأخيراً وجد عباس الحل لدى المعسكر الإسرائيلي باعتباره القوة الكبرى الفاعلة في المنطقة والقادرة على حسم المعركة وسحق حماس وأنصارها.
وتنقل هآرتس عن مصادر فلسطينية أنه في هذه الأيام تجري دورة تدريب في أريحا يعمل على توجيهها ضابط أمريكي، من أجل تأهيل "حرس الرئاسة الخاص"، وهي وحدات جديدة شكلت داخل الحرس الرئاسي من القوة 17، وستتولى مسؤولية سلامة أبو مازن الشخصية. وقالت تلك المصادر: إن التدريبات تتم في معسكر تدريب قديم أعد ليتلاءم مع متطلبات التدريبات الخاصة لتلك الوحدة.
وتختم هآرتس بأن الولايات المتحدة أشادت في اجتماع اللجنة الرباعية في لندن بسياسة العقوبات والمقاطعة على الحكومة الفلسطينية، والتي أدت إلى إضعاف موقف الحكومة أمام الجمهور الفلسطيني.
وتعتقد الإدارة الأمريكية أن الضغط سيؤدي إلى مواجهات لا مرد لها بين فتح وحماس، وفي هذه الحالة من المفضل تعزيز قوة الأجهزة الموالية لمحمود عباس وتجهيزها للتحديات المتوقعة.
ولم يتوانَ عباس عن الالتقاء العلني بأولمرت، بل حصل منه على وعود بدعم أجهزة الرئاسة لكي يتمكن من مواجهة حماس، وما حصل بعدها من تداعيات ذلك اللقاء هو ماذكره ألوف بن المعلق السياسي في صحيفة "هاآرتس"، فقد قال في تعليق نشرته النسخة العبرية لموقع الصحيفة على الإنترنت: إن عباس ساعد أولمرت بموافقته على اللقاء به والظهور معاً أمام كاميرات التلفاز وهما يتبادلان القبلات في "تضليل العالم والادعاء بأنه بات مشغولاً في عملية سياسية تهدف إلى حل القضية الفلسطينية".(/3)
وللعاقل أن يلاحظ مقدار تلك الخدمة الكبيرة التي أداها عباس للقيادة لإسرائيلية ومجاناً أيضاً.
ومن ناحية أخرى فإن لقاء عباس أولمرت كان على العكس مما أراد عباس فكان للقاء تأثير سلبي شعبي على الجمهور الفلسطيني الذي لم يتقبل ظهور الشخص المفترض أنه رئيسه وهو يتبادل القبلات مع أولمرت الذي يفرض عليهم الجوع والقتل، ويصدر تعليماته لتصفية قادة حركات المقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية.
إن مراهنة محمود عباس على ورقة الجوع في حربه السياسية مع حماس، وابتعاده عن الرهان الشعبي الوطني الفلسطيني، ومراهنة حركة فتح على قرقرة البطون الخاوية هو رهان خاسر ومناصرة للمنافقين والانتهازيين، واستنجاد بالسلاح الإسرائيلي ضد إرادة الشعب.
كما أن محاولة محمود عباس الأخيرة الهروب من أزمته في مواجهة شعبه كالباحث عن الدفء والطمأنينة في جحور الأفاعي الإسرائيلية.
وعلى عباس ومستشاريه الإقرار بالواقع الجديد والالتزام بخيارات الشعب الفلسطيني، بدلاً من القفز فوق الواقع، وإلا فإن عباس ومعاونيه سيكتبون الفصول الأخيرة من روايات حياتهم السياسية.(/4)
العنوان: محنة أبي حيان الأندلسي بوفاة ابنته في مخطوط نادر
رقم المقالة: 631
صاحب المقالة: د. جمال عزون
-----------------------------------------
النُّضار فِي المَسْلاةِ عن نُضار
لشيخ النحويِّين في عَصره أبي حيَّان محمَّد بن يوسُف الغَرناطي الأندلُسي الجيَّاني
( 654 ـ 745هـ = 1256 ـ 1344م )
عرفتْ مصرُ في النصف الثاني من القرن السابع والأول من الثامن عالماً أندلسيّاً جليلاً ومفسِّراً قديراً ونحويّاً ضليعاً قدم إليها من مدينة غَرناطة بديار الأندلس بعد أن أشبع نهمته من شيوخه الأندلسيِّين والمغاربة، وعزم على استكمال معارفه من أعلام الشِّرق على حدِّ قول القاسم بن أحمد اللّورقي الأندلسي في رحلته المنظومة :
فحينَما صحَّ لي أعلامُ مَغربِِِِنِا أحٍِببتُ رؤيةَ مَنْ بالشَّرق مِنْ عَلَمِِ
وقد سلك أبو حيَّان في رحلته من الأندلس إلى الشرق الطريق البحريَّ الممتدَّ على ساحل الشَّمال الإفريقي على ما جرت به عادةُ المغاربة والأندلسيِّين، والتقى في رحلته عدداً من الأعلام، في الإسكندريَّة والقاهرة ودمشق وبغداد وغيرها من حواضر العالم الإسلامي الحافلة في تلك الحقبة بنوابغ العلماء وفطاحل الأعلام، واتَّخذ مصر قراراً له، وفقدته بذلك ديار الأندلس التي قرَّر ألا يعودَ إليها، لكنّه وإن كان قطعها بذلك فقد وصلها مع المشرق بعلومه الباهرة وفنونه الماتعة، ووجد علماء المشرق ضالَّتهم في شيخهم الأندلسي الذي استفادوا من علومه عموماً، ومعارفه عن أهل الأندلس خصوصاً، ولندع الصَّفدي -وهو أحد تلاميذه المقرَّبين- يقدم للقارىء لمحة موجزة[1] عن شيخه أبي حيَّان تشير إلى مكانته العلميَّة التي تبوَّأها بين أعلام عصره، ومعارفه في الفنون عامَّة والنَّحو خاصَّة حيث يقول:(/1)
(( محمد بن يوسف بن عليِّ بن يوسف بن حيَّان الشيخ الإمام الحافظ العلاّمة فريد العصر، وشيخ الزَّمان، وإمام النُّحاة، أثير الدِّين أبو حيَّان الغرناطي، قرأ القرآن بالرِّوايات، وسمع الحديث بجزيرة الأندلس وبلاد إفريقية وثغر الإسكندريَّة وديار مصر والحجاز، وحصَّل الإجازات من الشّام والعراق وغير ذلك، واجتهد وطلب وحصَّل وكتب وقيَّد، ولم أر في أشياخي أكثر اشتغالاً منه لأنِّي لم أره إلا يسمع أو يشتغل أو يكتب، ولم أره على غير ذلك، وله إقبال على الطَّلبة الأذكياء، له نظمٌ ونثر وله الموشَّحات البديعة، وهو ثَبْتٌ فيما ينقله، محرِّر لما يقوله، عارف باللُّغة، ضابط لألفاظها، وأمَّا النحو والتصريف فهو إمام الدُّنيا فيهما،لم يُذكر معه في أقطار الأرض غيرُه في العربية، وله اليد الطُّولَى في التفسير والحديث والشروط والفروع وتراجم النّاس وطبقاتهم وتواريخهم وحوادثهم، خصوصاً المغاربة، وتقييد أسمائهم على ما يتلفَّظون به من إمالة وترخيم، وترقيق وتفخيم؛ لأنَّهم مجاورو بلاد الفرنج، وأسماؤهم قريبةٌ وألقابهم كذلك، كلُّ ذلك قد جوَّده وقيَّده وحرَّره، والشيخُ شمس الدين الذهبي له سؤالاتٌ سأله عنها فيما يتعلَّق بالمغاربة وأجابه عنها، وله التصانيف التي سارت وطارت، وانتشرت وما انتثرت، وقُرئت ودُريت، ونُسخت وما فُسخت، أَخملَت كتبَ الأقدمين، وألهَت المقيمين بمصر والقادمين، وقرأ الناسُ عليه وصاروا أئمَّة وأشياخاً في حياته، وهو الذي جسَّر الناسَ على مصنَّفات الشيخ جمال الدين ابن مالك -رحمه الله- ورغَّبهم في قراءتها، وشرح لهم غامضَها، وخاض بهم لُجَجَها، وفتح لهم مُقْفَلَها، وكان يقول عن مقدِّمة ابن الحاجب -رحمه الله تعالى- : هذه نَحْوُ الفقهاء، والتزم ألا يُقرئ أحداً إلاّ إن كان في سيبويه أو في التَّسهيل لابن مالك ))[2].(/2)
والكتابُ الذي ألَّفه أبو حيَّان جواباً عن أسئلة الذهبي اسمه: (( قطر الحبِّي في جواب أسئلة الذَّهَبي ))، ذكره أيضاً أبو حيَّان في إجازته التي أجاز بها الصَّفديَّ، كما ذكره ابن حجر العَسقلاني، وموضوعُه أسئلة في التَّراجم تتصل بعدد من الأعلام المغاربة والأندلسيِّين تقدَّم بها الذهبي إلى شيخه أبي حيَّان ثقةً بدرايته التامَّة بأعلام تلك المنطقة وخبرته بأسمائهم واستيعابه لأخبارهم، ومعرفته بطريقة ضبط النُّطق بها عندهم[3].
وإنَّ من لطائف تصانيف العلاَّمة أبي حيَّان الأندلسي -التي فُقدت ويا للأسف- كتاباً سمَّاه (( النُّضار في المَسْلاَةِ عن نُضار ))، ويقع في مجلَّد ضخم ترجم فيه لنفسه ولكثير من شُيوخه، وذكر فيه من أوَّل حاله وابتداء أمره، وصفة رحلته واشتغاله، كتبه إثر وفاة ابنته الفاضلة والشابَّة الصَّالحة (( نُضَار )) (702 - 730هـ)، وقد تأثَّر جدّاً لوفاتها وخلَّد ذِكْرَها بهذا الكتاب وبقصائدَ عديدةٍ حزينة ضمَّنها ديوانه، وعدَّد فيها صفات ابنته وأخلاقَها وشدَّة اشتغالها بالقرآن والحديث وفنون من العلوم[4].
وقد وقف الحافظ ابن حجر (852 هـ) على نسخة من الكتاب بخطِّ مؤلِّفه أبي حيَّان ومَدَحَهُ: (( وقفتُ عليه بخطِّه وهو كثيرُ الفوائد ))[5] ، (( ووقفتُ على كتاب له سمَّاه النُّضار في المسلاة عن نُضار بخطِّه في مجلَّد ضخم ذكر فيه أوَّليته وابتداء أمره وصفة رحلته وتراجم الكثير من أشياخه وأحواله، إلى أن استطرد إلى أشياءَ كثيرةٍ تشتمل على فوائدَ غزيرةٍ قد لخَّصتها في التذكرة ))[6].
ويبدو أنها النُّسخةُ نفسُها التي آلت إلى الحافظ جلال الدين السُّيوطي (901 هـ) الذي أكثر النَّقل عنه في كتابه (( بغية الوعاة في طبقات اللُّغويِّين والنُّحاة ))، والمتأمِّل في تلك النُّقول يلاحظ كثرةَ المترجَمين فيه من المغاربة والأندلسيِّين.(/3)
ويذكر الصَّفدي وابن حجر وغيرهما أنَّ نُضارَ اشتغلت بالعلم، وأجاز لها أبو جعفر أحمد بن إبراهيم بن الزُّبير الغرناطي (708 هـ) صاحب (( صلة الصِّلة ))، وأُحضرتْ على النَّسَّابة الكبير والعالم الشَّهير شرف الدين عبد المؤمن بن خلف الدِّمياطي (705 هـ)، وسمعتْ من شيوخ مصرَ من أصحاب ابن الزّبيدي وغيره، وحفظتْ مقدِّمةً في النحو، وكانت تكتب وتقرأ وتطالع، وخرَّجت لنفسها جزءاً حديثيّاً، ونظمتْ شعراً، وكانت تُعرب جيِّداً، ويعترف أبوها العلاَّمة أبو حيَّان بتفوُّقها على ابنه حيَّان حتَّى كان يقول: (( ليت أخاها حيَّان كان مثلَها ))، وقد توفِّيت عام (730 هـ) إثر مرض شديد لازمها، فحزن عليها الجميعُ حزناً شديداً ووجد عليها أبوها وَجْداً عظيماً، ولم يَثبُتْ كما يقول الصَّفدي، وخلَّد ذِكْرَها بهذا الكتاب (( النُّضار في المَسْلاة عن نُضار )).
يقول الصَّفدي[7]: (( بلغني خبرُ وفاتها وأنا برحبة مالك بن طوق[8] فكتبتُ إليه -يعني والدَها أبا حيَّان- بقصيدة أوَّلها:
بَكَيْنَا باللُُّجَيْنِ عَلَى نُضَارٍِ فَسَيْلُ الدَّمْعِ فِي الخَدَّيْنِ جَارِي
فَيَا لِلَّهِ جَارِيَةٌ تَوَلَّتْ فَنَبْكِيهَا بِأَدْمُعِنَا الجَوَارِي
وكلُّ هذا يدلُّ على صفات نادرة وشِيَم فاضلة عُرفت بها بين أصحاب أبيها وتلاميذه، ويؤكِّد لك هذا شهادةٌ من عالم كبيرٍ هو بدر النَّابُلُسي الذي كتب عنها وأثنى عليها قائلاً: (( الفاضلة الكاتبة، الفصيحة الخاشعة النَّاسكة، وكانت تفوقُ كثيراً من الرِّجال في العبادة والفقه، مع الجمال التامِّ والظَّرف ))[9].(/4)
ولا عجبَ في ذلك فهي ابنةُ أب عالم صالح، وأمٍّ فاضلة ناصحة هي زوجة العلاَّمة أبي حيَّان، واسمها: زُمُرُّدَة بنت أَبْرَق، والدة نُضارَ وأخيها حيَّان، وقد اهتمَّ الزَّوج العالم بإفادة زوجته زُمُرُّدَة فاصطحبها معه إلى مجالس المحدِّث الشَّهير أحمد بن إسحاق بن محمَّد الأبرقوهي (701 هـ) وغيره، وسمعت منهم شيئاً كثيراً من العلم والحديث، ولذلك سمع منها واستفاد من روايتها المحدِّث الكبير القاسم بن محمَّد البِرزالي (739 هـ) صاحب شيخ الإسلام ابن تيميَّة والمزِّي والذهبي وغيرهم، وتوفِّيت -رحمها الله- عام (736 هـ) بعد ابنتها نُضار بستِّ سنوات[10].
وقد أثنى الزَّوج العالم أبو حيَّان على زوجه زُمُرُّدَةَ -وكانت جميلةً سمراءَ- فقال من قصيدة نقتطعُ منها هذين البيتين[11]:
وَجَدتُّ بِهَا بَرْدَ النَّعِيمِِ وَإِنْ يَكُنْ فُؤَادِيَ مِنْهَا فِي جَحِيمٍ ولأْواءِ
وَشَاهَدتُّ مَعْنَى الحُسْنِ فِيهَا مُجَسَّداً فَاعْجَبْ لِمَعْنىً صَارَ جَوْهَرَ أَشْيَاءِِ
وبعدُ، فهذه هي قصَّة كتابنا (( النُّضار في المَسْلاَةِ عن نُضار )) الذي كتبه علم النحويِّين أثير الدِّين أبو حيَّان الأندلسي إثر وفاة ابنته نُضار التي ربَّاها فأحسن تربيتها، وعلَّمها فأجاد تعليمَها، وفُجِع بها قبل أن تُكمل الثَّلاثين من عمرها، وفارقته وأمَّها وأخاها حيَّان إلى الدَّار الآخرة، وتركت لهم في البيت فراغاً مؤلماً، استوحَشوا منه للغاية، وبلغوا من الحزن النِّهاية، لولا صبرٌ من الله ثبَّت به قلوبَ المؤمنين، وقوَّى به أفئدة الصَّابرين.
وإذا ما تأمَّلنا ديوانَ عَلَمِِنا أبي حيَّان ألفَينا جمّاً وافراً من القصائد التي قالها في ابنته المرحومة -بإذن الله تعالى- نُضار، نقتطع من الدِّيوان قصيدةً سينيَّةً واحدةً نَستَجلي من خلالها صفاتاً حميدة يتمنَّى المسلم أن تتحقَّق في أولاده وبناته، وخِلالاً طيِّبة يرجو صادقاً أن تنتشرَ في ذُرِّيَّته.(/5)
قال أثير الدِّين أبو حيَّان النَّحوي الأندلسي[12] في ابنته نُضار يذكر مرضَها وصبرَها ووفاتها، ويعدِّد خِلالها ومحاسنها رحمة الله عليها :
أَمِنْ بَعْدِ أن حلّتْ نُضَيْرَةُ في الرَّمْسِِ تطيبُ حَياتي أو تَلَذُّ بها نَفْسِي
فتاةٌ عَراها نحو ستّة أشهر سَقامٌ غَريبٌ جاء مُختلِفَ الجِِنْسِ
فَحَبْنٌ وحُمَّى ثمّ سُلٌّ وسُعْلَةٌ وسَكْبٌ فمَن يقوى على عِلَلٍ خَمْسِ
وكانت رأتْ رؤيا مِراراً وأنّها تَروح من الدُّنيا إلى حَضرة القُدْسِ
فَقَرَّ حَشاها واطمأنَّتْ لما رأَتْ جَِنانًا وكانت من حَياةٍٍ على يَأْسِ
فما ضَجِِرَتْ يوماً ولا اشتَكَتِ الضَّنَى ولا ذَكَرَتْ ماذا تُقاسي من اليَأْسِ
قَضَتْ نَحْبَهَا في يوم الاثنينِِ بعدَما تبدَّى لنا قَرْنُ الغَزالةِِ كالوَرْسِ
فصلّى عليها النّاسُ يُثْنُونَ وانْثَنَوْا بها لضَريحٍ مُظْلِمٍٍ مُوحِِشِِ الطَّمْسِ
يُؤَنِّسُهَا في رَمْسِهَا العمَلُ الذي تَقَدَّمَها أَعْظِمْ به ثَمَّ مِنْ أُنْسِ
وراحتْ إلى ربٍّ كريمٍ نظيفةً مُبَرَّأَةُ من كلِّ ذَامٍ ومِنْ رِِجْسِ
وما وَلَدَ النِّسْوانُ أُنثى شَبيهَها وأنَّى يُقاسُ الأنجُمُ الزُّهْرُ بالشَّمسِ
وكانتْ نُضَارُ نِعْمَت الخَوْدُ لم تَزَلْ على طاعَة الرّحمن تُضْحِي كما تُمْسِي
نَجِيَّةُ قُرْآنٍ تُرَدِّدُ آيَهُ مُقَسَّمَةً بين التَّدبُّرِ والدَّرْسِ
وحاملةُ الآثارِِ عن سيِّد الوَرَى محمَّدٍ المبعوثِ للجنِّ والإنسِ
رَوَتْها بمصرٍَ والحجازِ وجاوَرَتْ بمكّةَ تَسْخُو بالدَّنانيرِ لا الفَلْسِ
وزارتْ رسولَ الله أفضلَ مَنْ مَشى بطَيْبَةَ واحْتَلَّتْ بأَرْبُعِهَا الدُّرْسِ
مُصَلِّيَةً حيناً عليه وتارةً مُسَلِّمَةً في الجَهر منها وفي الهَمْسِ
وحازَتْ جَمالاً بارعاً وفَصاحةً فأَوْضَحُ مِنْ شَمسٍ وأَفْصَحُ من قُسِّ
وتكتبُ خطًّا نادراً ذا بَراعَةٍ يُرِيكَ ازْدِهَاءَ الرَّوْضِ في أَبْهَجِ اللُّبْسِ(/6)
فما الرَّوْضُ مَطْلُولاً تَفَتَّحَ زَهْرُهُ فَراقَ لذي عَيْنٍ وشَاقَ لذي حِسِّ
بأَبْهَجَ ممَّا قد وَشَتْهُ أناملٌ لها بسَواد النَّفس في أَبْيَضِ الطِّّرْسِ
فلو أَبْصَرَتْهُ لابنِ مُقْلَةَ مُقْلَةٌ لأَغْضَتْ حَياءً وَهْوَ قد عَضَّ في الخَمْسِ
سقى روضةً حَلَّتْ نُضَارُ بتُرْبها من المُزْنِ وَبْلٌ دائمُ السَّحِّ والبَجْسِ
ولا زال تَسْقيه سحائبُ رحمةٍ تُواليه في آتٍ وحالٍ يَلي أَمسِ
حُقَّ لأبي حيَّان أن يبكيَ فِلذةَ كبد مثل نُضار، ضربت لبنات جنسها أروع الأمثلة في طاعة الله تعالى، والاشتغال بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، والاهتمام بالعلم النَّافع، و الإقبال على العبادة، ولا أحسَبُ في الدُّنيا والداً إلا يتمنَّى ويرجو بكلِّ صدق أن يُرزق بابنة من هذا الطِّراز، تكون لوالديها قُرَّة عين تشفع لهما يوم القيامة بإذن المولى، بعد أن أحسنا تربيتَها وفق الأصول الإسلاميَّة الجليلة.
لقد سعدنا –والله- بخبر هذه الأسرة الأندلسيَّة التي اتَّخذت مصرَ دار قرار لها، راعيها عالمٌ جليلٌ هو أبو حيَّان الأندلسي النّحوي، الذي طار صيتُه في الأمصار، وذاعت تصانيفه في الأقطار، وراعيةُ بيته الزَّوجة الصالحة المحدِّثة زُمُرُّدَة بنت أَبْرَق، وولداهما الصَّالحان الخيِّران حيَّان ونُضار التي جرَّنا إلى الحديث عنها كتابُ والدها اللّطيف الذي كتبه إثر وفاتها: (( النُّضار في المَسْلاَةِ عن نُضار ))، الذي لم تبقَ منه سوى نقول في كتب اللاَّحقين، وإنّا على العثور عليه -من خلال هذا الموقع- لآملين.(/7)
خاتمة نسخة من كتاب: (( المنتخب من حديث شيوخ بغداد )) لأبي العلاء محمود بن أبي بكر البخاري، تخريج أبي العبَّاس الظَّاهري، وانتخاب أبي حيَّان الأندلسي بخطِّه عام (709 هـ)، ويُلاحَظ في الهامش الأيسَر مجلسُ سماع حضرته نضارُ بنت أبي حيَّان وعمرها 7 سنوات، وذكر لها اسماً تُدعى به هو: (( سودي ))، وهذه فائدة نادرة تُستفاد من هذا السماع لم تذكرها كتب التَّراجم فيما رجعت إليه والله أعلم.
أما ما كُتب في هامش المخطوطة فهو:
(فسمع بقراءتي الجماعةُ العلماء: المحدث الحافظ فخر الدين أبو عَمرو عثمان بن بلبان بن عبدالله المقاتلي، والمحدث الفَرَضي عماد الدين محمد بن علي بن حرمي الدمياطي، وشمس الدين محمد بن خليفة بن محمد بن خلف المنبجي، وشهاب الدين أحمد بن إسماعيل بن عبدالله الأشمومي، وشهاب الدين أحمد بن محمد بن يوسف بن أبي المجد المرشدي، وبنتي نُضار المدعوَّة (سودي). وصحَّ ذلك بتاريخ يوم الأربعاء العاشر لرمضان المعظم سنة تسع وسبع مئة، بحقِّ إجازة المُسمِع من أبي عبدالله المديني الأصبهاني بسنده بمقلوبه. كتبه أبو حيان).
ــــــــــــــــــــــ
[1] من أمتع ما وقفتُ عليه من دراسات عن أبي حيَّان ما نشرته د. خديجة الحديثي عام 1385هـ ببغداد، وهي أطروحتها للدكتوراه بعنوان: (( أبو حيّان النّحوي )).
[2] الوافي بالوَفَيات 5/175.
[3] الوافي بالوَفَيات5/184.
[4] انظر الوافي بالوَفَيات 27/77 - 78، وأعيان العصر 5/520، والدُّرَر الكامنة 6/161.
[5] الدُّرَر الكامنة 6/161.
[6] الدّرر الكامنة 6/62.
[7] الوافي بالوَفَيات 27/78.
[8] بلدةٌ بين الرقَّة وبغداد على شاطىء الفرات. معجم البلدان 3/34.
[9] الدُّرَر الكامنة 6/161.
[10] انظر عن زُمرُّدة أو زُمرُّد: الدُّرَر الكامنة 6/161.
[11] انظر نفح الطِّيب 3/325.
[12] ديوان أبي حيَّان الأندلسي 228 - 231، تحقيق: د. أحمد مطلوب ود. خديجة الحديثي.(/8)
العنوان: مخالفات يقع فيها بعض الصائمين
رقم المقالة: 1429
صاحب المقالة: د. أمين بن عبدالله الشقاوي
-----------------------------------------
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد:
فتعيش الأمة الإسلامية هذه الأيام موسمًا عظيمًا من مواسم الخير.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].
إلا أن هناك مخالفات يقع فيها بعض الصائمين أحببت التذكير بها، أداءً لحق الله تعالى، وقيامًا بواجب النصيحة.
فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((رُبَّ صائم ليس له من صيامه إلا الجوع، ورُبَّ قائم ليس له من قيامه إلا السهر))[1].
فبيَّنَ النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث أن طائفة من الناس يصومون لكن لا يُكْتَبُ لهم عند الله أجر الصائمين، وإنما نصيبهم من هذا الصيام الجوع والعطش، وذلك لأن الجوارح لم تمتنع عن معصية الله، فالعين تنظر إلى ما حرم الله، والأذن تستمع إلى ما حرم الله، واللسان يتكلم بما يغضب الله.
قال تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤولًا} [الإسراء: 36] وطائفة أخرى تقوم الليل ولكن لا يكتب لهم أجر القائمين، إما لفقدان الإخلاص في عبادتهم، أو لعدم موافقتها لِهَدْيِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أو لغير ذلك.
ولذا ينبغي للصائم أن يحذر من الوقوع في المعاصي، فليس الصيام هو الإمساك عن الطعام والشراب فحسب، وإنما إمساك الجوارح عما حرم الله.(/1)
ومن هذه المخالفات: تأخير الصلاة عن وقتها، فبعض الصائمين ينام بعد تناوله لوجبة السحور فلا يستيقظ إلا عند طلوع الشمس، فيضيع صلاة الصبح، وآخرون ينامون قبل صلاة العصر، فلا يستيقظ أحدهم إلا عند غروب الشمس، فيضيع صلاة العصر قال تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا} [النساء: 103]، وعن بريدة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله))[2].
وقال تعالى: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون: 4-5]، جاء في حديث مصعب بن سعد، قال: "سألتُ أبي فقلت: يا أبتاه، أرأيت قوله تعالى: {الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} أيُّنا لا يسهو ولا يحدث نفسه"؟! قال: "ليس بذلك، إنما هو إضاعة الوقت يلهو حتى يضيع الوقت"[3].
وفي مثل هؤلاء يقول تعالى: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم: 59].(/2)
ومنها التخلف عن صلاة الجماعة، فبعض الصائمين يؤدون الصلاة لوقتها، ولكنه يتخلف عن صلاة الجماعة، قال تعالى: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِن وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا} [النساء: 102].
وفي هذه الآية وجوب صلاة الخوف جماعة في حال الحرب، ففي حال السلم من باب أولى.
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن أثقل الصلاة على المنافقين صلاةُ العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوًا، ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلاً فيصلي بالناس، ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار))[4].
ومنها السهر الطويل أكثر الليل أو كله على شاشات القنوات الفضائية، التي تبث شرورها وسمومها على أشكال متعددة، حيث يعرض بها برامج يقصد بها تشكيك المسلمين في دينهم، وإظهار عظمة الكفار والإعجاب بحضارتهم، كالتمثيليات الهابطة، والأغاني الماجنة، والصور الخليعة.(/3)
ومنها ما يفعله بعض الصائمين المبتلون بشرب الدخان - هداهم الله - فبدلاً من أن يفطروا على ما أحل الله لهم من الطيبات، يفطرون على الدخان، الذي بعث الله رسوله بتحريمه وأمثاله؛ قال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157].
ومنها: الفحش والبذاءة في اللسان وسائر المعاصي الأخرى، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن لم يَدَعْ قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يَدَعَ طعامه وشرابه))[5].
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابَّه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم))[6].
ومنها كثرة النوم لساعات طويلة، وحديث: ((نوم الصائم عبادة)) حديث ضعيف لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم.
فلا ينبغي للمسلم أن يضيع ساعات الصوم بكثرة النوم، فإن المسلم يسأل عن وقته يوم القيامة.
عن أبي برزة الأسلمي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن عمره فيمَ أفناه، وعن علمه فيمَ فعل، وعن ماله من أين اكتسبه وفيمَ أنفقه، وعن جسمه فيمَ أبلاه))[7].
قال الشاعر:
وَالْوَقْتُ أَنْفَسُ مَا عُنِيتَ بِحِفْظِهِ وَأَرَاهُ أَسْهَلَ مَا عَلَيْكَ يَضِيعُ(/4)
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] سنن ابن ماجه (1/539) برقم (1690).
[2] صحيح البخاري (1/195) برقم (553).
[3] مسند أبي يعلى (1/336) برقم (700) وقال المنذري في كتابه "الترغيب والترهيب" (1/441): إسناده حسن.
[4] صحيح البخاري (1/218) برقم (657)، وصحيح مسلم (1/451) برقم (252).
[5] صحيح البخاري (2/31) برقم (1903).
[6] صحيح البخاري (2/31) برقم (1904)، وصحيح مسلم (2/806) برقم (1151).
[7] سنن الترمذي (4/612) برقم (2417) وقال: حديث حسن صحيح.(/5)
العنوان: مختصر صفة الحج
رقم المقالة: 1710
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
مختصر صفة الحج
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:
نذكر هنا صفة الحج على سبيل الإجمال، والاختصار من مؤلفات فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين، رحمه الله تعالى.
أولاً: صفة التمتع:
إذا أراد الإنسان الحج والعمرة، فتوجه إلى مكة في أشهُر الحج، فإن الأفضل أن يحرم بالعمرة، أولاً؛ ليصير متمتعًا، فيُحرم من الميقات بالعمرة، وعند الإحرام يغتسل كما يغتسل من الجنابة، والاغتسال سُنة في حق الرجال والنساء حتى الحائض والنفساء، فيغتسل ويتطيب في رأسه ولحيته، ويلبس ثياب الإحرام، ويُحرِم عقب صلاة فريضة، إن كان وقتها حاضرًا، أو نافلة ينوي بها سنة الوضوء؛ لأنه ليس للإحرام نافلة معينة، إذلم يَرِدْ ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والحائض والنفساء لا تصلي، ثم يلبي الحاج؛ فيقول: لبيك اللهم عمرة، لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك. ولا يزال يلبي حتى يصل إلى مكة.
وينبغي إذا قرب من مكة أن يغتسل لدخولها، كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ويدخل المسجد الحرام مقدِّمًا رجْله اليمنى قائلاً: "بسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله، اللهم اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك، أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وبسلطانه القديم من الشيطان الرجيم".(/1)
فإذا شرع في الطواف، قطع التلبية؛ فيبدأ بالحجر الأسود يستلمه، ويُقبِّله إن تيسر، وإلا أشار إليه، ويقول: "بسم الله والله أكبر، اللهم إيمانًا بك، وتصديقًا بكتابك، ووفاءً بعهدك، واتباعًا لسنة نبيك محمد" ثم يجعل البيت عن يساره، ويطوف سبعة أشواط، يبتدئ بالحجر ويختِم به، ولا يستلم من البيت سوى الحجر الأسود، والركن اليماني؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم -لم يستلم سواهما، وفي هذا الطواف يُسنُّ للرجل أن يَرْمُل في الثلاثة أشواط الأولى؛ بأن يسرع المشي ويقارب الخُطا، وأن يضطبع في جميع الطواف، بأن يُخرِج كتفه الأيمن، ويجعل طرفي الرداء على الكتف الأيسر، وكلما حاذى الحجر الأسود كبَّر، ويتلو بينه وبين الركن اليماني: {رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 201]، ويقول في بقية طوافه ما شاء من ذِكْر ودعاء.
وليس للطواف دعاء مخصوص لكل شوط، وعلى هذا فينبغي أن يحذر الإنسان من هذه الكُتَيِّبات التي بأيدي كثير من الحُجاج، التي فيها لكل شوط دعاءٌ مختصٌ؛ فإن هذه بدعة لم ترد عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم - وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم – ((كل بدعة ضلالة))؛ رواه مسلم.
ويجب أن ينتبه الطائف إلى أمر يخل به بعض الناس في وقت الزحام، فتجده يدخل من باب الحجر، ويخرج من الباب الثاني، فلا يطوف بالحجر مع الكعبة، وهذا خطأ؛ لأن الحجر أكثره من الكعبة، فمن دخل من باب الحجر وخرج من الباب الثاني، لم يكن قد طاف بالبيت، فلا يصح طوافه.(/2)
وبعد الطواف يصلي ركعتين خلف مقام إبراهيم - إن تيسر له - وإلا ففي أي مكان من المسجد، ثم يخرج إلى الصفا، فإذا دنا منه تلا: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ}، [البقرة: 158]، ولا يعيد هذه الآيه بعد ذلك، ثم يصعد على الصفا، ويستقبل القبلة، ويرفع يديه، ويكبر الله ويحمده، ويقول: "لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده" ثم يدعو بعد ذلك، ثم يعيد الذكر مرة ثانية، ثم يدعو، ثم يعيد الذكر مرة ثالثة.
ثم ينزل متجهًا إلى المروة، فيمشي إلى العَلَم الأخضر إلى العمود الثاني سعيًا شديدًا، أي يركض ركضًا شديدًا - إن تيسر له، ولم يتأذَّ أو يؤذِ أحدًا - ثم يمشي بعد العلم الثاني إلى المروة مشيًا عاديًّا، فإذا وصل المروة، صعد عليها، واستقبل القبلة، ورفع يديه، وقال مثل ما قال على الصفا، فهذا شوط.
ثم يرجع إلى الصفا من المروة، وهذا هو الشوط الثاني، ويقول فيه ويفعل كما قال في الشوط الأول وفعل، فإذا أتم سبعة أشواط، من الصفا للمروة شوط، ومن المروة للصفا شوط آخر، فإنه يُقصِّر شعر رأسه، ويكون التقصير شاملاً لجميع الرأس؛ بحيث يبدو واضحًا في الرأس، والمرأة تقصر من كل أطراف شعرها بقدر أنملة، ثم يحل من إحرامه حِلاًّ كاملاً، يتمتع بما أحل الله له من النساء، والطيب، واللباس، وغير ذلك.(/3)
فإذا كان يوم الثامن من ذي الحجة أحرم بالحج؛ فاغتسل، وتطيَّب، ولبس ثياب الإحرام، وخرج إلى منى، فصلى بها الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، والفجر - خمس صلوات - يصلي الرباعية ركعتين، وكل صلاة في وقتها، فلا جمع في منى، وإنما هو القصر فقط. فإذا طلعت الشمس يوم عرفة، سار إلى عرفة، فنزل بنَمِرَة إن تيسَّر له، وإلا استمر إلى عرفة فينزل بها، فإذا زالت الشمس، صلَّى الظهر والعصر قصرًا وجمع تقديم، ثم يشتغل بعد ذلك بذكر الله، ودعائه، وقراءة القرآن، وغير ذلك مما يقرب إلى الله – تعالى - وليحرص على أن يكون آخر ذلك اليوم مُلِحًَّا في دعاء الله - عز وجل - فإنه حرِيٌّ بالإجابة. ويُسنُّ أن يكون مستقبلاً القبلة، رافعًا يديه عند الدعاء، وكان أكثر دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك الموقف العظيم: ((لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير))، وليحرص كذلك على الأذكار، والأدعية النبوية؛ فإنها من أجمع الأدعية وأنفعها؛ فيقول: "اللهم لك الحمد كالذي نقول، وخيرًا مما نقول، اللهم لك صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي، وإليك ربِّ مآبي، ولك ربِّ تراثي، اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، ووسوسة الصدر، وشتات الأمر، اللهم إني أعوذ بك من شر ما تجيء به الريح".
"اللهم اجعل في قلبي نورًا، وفي سمعي نورًا، وفي بصري نورًا، اللهم إنك تسمع كلامي، وترى مكاني، وتعلم سري وعلانيتي، لا يخفى عليك شيء من أمري، أنا البائس الفقير، المستغيث المستجير، الوجل المشفق المقر، المعترف بذنوبي، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليك ابتهال المذنب الذليل، وأدعوك دعاء من خضعت لك رقبته، وفاضت لك عيناه، وذلَّ لك جسده، ورَغِم لك أنفه، اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار اللهم إني ظلمت نفسي فاغفر لي إنك أنت الغفور الرحيم".(/4)
فإذا غربت الشمس من يوم عرفة، انصرف إلى مزدلفة، فصلَّى بها المغرب والعشاء جمعًا وقصرًا، ثم يبقى هناك حتى يصلي الفجر، ثم يدعو الله - عز وجل - إلى أن يسفر جدًّا، ثم يدفع بعد ذلك إلى منى، ويجوز للإنسان الذي يشُقُّ عليه مزاحمة الناس أن ينصرف من مزدلفة قبل الفجر؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخَّص لمثله.
فإذا وصل إلى منى، بادر فرمى جمرة العقبة أولاً قبل كل شيء بسبع حصيات، يكبِّر مع كل حصاة، ثم ينحر هديه، ثم يحلق رأسه، وهو أفضل من التقصير، وإن قصَّره فلا حرج، والمرأة تقصِّر من أطرافه بقدر أنملة، وحينئذ يحِلُّ التحلل الأول، فيباح له جميع محظورات الإحرام ما عدا النساء.
فينزل بعد أن يتطيب، ويلبس ثيابه المعتادة إلى مكة، فيطوف طواف الإفاضة سبعة أشواط. وهذا الطواف والسعي للحج، كما أن الطواف والسعي الذي حصل منه أول ما قَدِمَ للعمرة، وبهذا يحل من كل شيء حتى النساء.
ولنقف هنا لننظر ماذا فعل الحاج يوم العيد؟ فالحاج يوم العيد: رمى جمرة العقية، ثم نحر هديه، ثم حلق أو قصَّر، ثم طاف، ثم سعى، فهذه خمسة أنساك يفعلها على هذا الترتيب، فإن قَدَّم بعضها على بعض فلا حرج؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يُسأل يوم العيد عن التقديم والتأخير، فما سُئل عن شيء قُدِّم ولا أُخر يومئذٍ إلا قال: ((افعل ولا حرج))؛ متفق عليه.
فإذا نزل من مزدلفة إلى مكة، وطاف وسعى، ثم رجع إلى منى ورمى فلا حرج، ولو رمى ثم حلق قبل أن ينحر، فلا حرج، ولو رمى، ثم نزل إلى مكة، وطاف، وسعى فلا حرج، ولو رمى، ونحر، وحلق، ثم نزل إلى مكة، وسعى قبل أن يطوف فلا حرج، الغاية أن تقديم هذه الأنساك الخمسة بعضها على بعض لا بأس به؛ لأن رسول الله ما سئل عن شيء قُدِّم ولا أُخِّر يومئذٍ إلا قال: ((افعل ولا حرج)) وهذا من تيسير الله - سبحانه وتعالى - ورحمته بعباده.(/5)
ويبقى من أفعال الحج بعد ذلك: المبيت في منى ليلة الحادي عشر، وليلة الثاني عشر، وليلة الثالث عشر لمن تأخر؛ لقول الله – تعالى - {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [البقرة: 203]، فيبيت الحاج بمنى ليلة الحادي عشر، وليلة الثاني عشر، ويجزئ أن يبيت في هاتين الليلتين معظم الليل.
فإذا زالت الشمس من اليوم الحادي عشر، رمى الجمرات الثلاث؛ يبدأ بالصغرى التي تعتبر شرقية بالنسبة للجمرات الثلاث، فيرميها بسبع حصيات متعاقبات، يكبر مع كل حصاة، ثم يتقدم عن الزحام قليلاً، فيقف مستقبلاً القبلة، رافعًا يديه، يدعو الله - تعالى - دعاءً طويلاً، ثم يتجه إلى الوسطى فيرميها بسبع حصيات متعاقبات، يكبر مع كل حصاة، ثم يتقدم قليلاً عن الزحام، ويقف مستقبلاً القبلة، رافعًا يديه، يدعو الله - تعالى - دعاءً طويلاً، ثم يتقدم إلى جمرة العقبة، فيرميها بسبع حصيات متعاقبات، يكبر مع كل حصاة، ولا يقف عندها، اقتداءً برسول الله، صلى الله عليه وسلم.
وفي ليلة الثاني عشر، يرمي الجمرات الثلاث كذلك، فإذا أتم الحاج رمي الجمار في اليوم الثاني عشر، فإن شاء تَعجَّل ونزل من منى، وإن شاء تأخَّر، فبات بها ليلة الثالث عشر، ورمى الجمار الثلاث بعد الزوال كما سبق، والتأخر أفضل، ولا يجب إلا بعد أن تغرب الشمس من اليوم الثاني عشر وهو بمنى، فإنه يلزمه التأخر حتى يرمي الجمار الثلاث بعد الزوال. لكن لو غربت عليه الشمس بمنى في اليوم الثاني عشر بغير اختياره، فإنه لا يلزمه التأخر؛ لأن تأخره إلى الغروب كان بغير اختياره.(/6)
ولا يجوز للإنسان أن يرمي الجمرات الثلاث في اليوم الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر قبل الزوال؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يرمِ إلا بعد الزوال، وقال: ((خذوا عني مناسككم))؛ رواه مسلم، وكان الصحابة يَتحيَّنون الزوال، فإذا زالت الشمس رموا، ولو كان الرمي قبل الزوال جائزًا، لَبَيَّنَه النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمته، إما بفعله، أو قوله، أو إقراره.
ولكن يمكنه إذا كان يشق عليه الزحام، أو المضي إلى الجمرات في وسط النهار، أن يؤخر الرمي إلى الليل، فإن الليل وقت للرمي؛ إذ لا دليل على أن الرمي لا يصح ليلاً؛ فالنبي - صلى الله عليه وسلم - وقَّتَ أولَ الرمي، ولم يوقِّت آخره، والأصل فيما جاء مطلقًا، أن يبقى على إطلاقه، حتى يقوم دليل على تقييده بسبب أو وقت.
وليحذر الحاج من التهاون في رمي الجمرات؛ فإن من الناس من يتهاون فيها، فيوكِّل مَن يرمي عنه، وهو قادر على الرمي بنفسه، وهذا لا يجوز ولا يجزئ؛ لأن الله - تعالى - يقول في كتابه: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]؛ والرمي من أفعال الحج، فلا يجوز الإخلال به، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأذن لضعَفَةِ أهله أن يوكلوا مَن يرمي عنهم؛ بل أذن لهم بالذهاب من مزدلفة في آخر الليل، ليرموا بأنفسهم قبل زحمة الناس، ولكن عند الضرورة لا بأس بالتوكيل، كما لو كان الحاج مريضًا أو كبيرًا لا يمكنه الوصول إلى الجمرات، أو كانت امرأة حاملاً تخشى على نفسها أو ولدها، ففي هذه الحال يجوز التوكيل.
فيجب علينا أن نعظم شعائر الله، وألا نتهاون بها، وأن نفعل ما يمكننا فعله بأنفسنا؛ لأنه عبادة كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ((إنما جُعل الطواف بالبيت وبالصفا والمروة، ورمي الجمرات؛ لإقامة ذكر الله))؛ رواه أبو داود والترمذي.(/7)
وإذا أتم الحاج رمي الجمرات، فإنه لا يخرج من مكة إلى بلده، حتى يطوف للوداع؛ لحديث ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "كان الناس ينفرون من كل وجه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم –: ((لا ينفر أحدٌ حتى يكون آخر عهده بالبيت))؛ رواه مسلم، إلا إذا كانت المرأة حائضًا أو نفساء، وقد طافت طواف الإفاضة، فإن طواف الوداع يسقط عنها؛ لحديث ابن عباس - رضي الله عنهما – "أُمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت، إلا أنه خُفف عن الحائض"؛ متفق عليه؛ ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قيل له: "إن صفية قد طافت طواف الإفاضة"، قال: ((فلتنفر إذًا))؛ متفق عليه، وكانت حائضًا.
ويجب أن يكون هذا الطواف آخر شيء، وبه نعرف أن ما يفعله بعض الناس، حين ينزلون إلى مكة؛ فيطوفون طواف الوداع، ثم يرجعون إلى منى، فيرمون الجمرات، ويسافرون من هناك، فهذا خطأ، ولا يجزئهم طواف الوداع؛ لأن هؤلاء لم يجعلوا آخر عهدهم بالبيت، وإنما جعلوا آخر عهدهم بالجمرات.
خلاصة أعمال العمرة:
1_ الاغتسال؛ كما يغتسل للجنابة، والتطيب.
2_ لبس ثياب الإحرام؛ إزار ورداء للرجل، وللمرأة ما شاءت من الثياب المباحة.
3_ التلبية، والاستمرار فيها إلى الطواف.
4_ الطواف بالبيت سبعة أشواط؛ ابتداءً من الحجر الأسود وانتهاءً به.
5_ صلاة ركعتين خلف المقام.
6_ السعي بين الصفا والمروة سبعة أشواط؛ ابتداءً بالصفا، وانتهاءً بالمروة.
7_ الحلق أو التقصير للرجال، والتقصير للنساء.
مجمل أعمال الحج:
عمل اليوم الأول وهو يوم الثامن:
1- يُحرِم بالحج من مكانه؛ فيغتسل، ويتطيب، ويلبس ثياب الإحرام، ويقول: "لبيك اللهم حجًّا لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك".
2- يتوجه إلى منى فيبقى فيها إلى طلوع الشمس في اليوم التاسع، ويصلي فيها الظهر من اليوم الثامن، والعصر والمغرب والعشاء والفجر، كل صلاة في وقتها، ويقصر الرباعية.(/8)
عمل اليوم الثاني وهو اليوم التاسع:
1- يتوجه بعد طلوع الشمس إلى عرفة، ويصلي الظهر والعصر قصرًا وجمع تقديم، وينزل قبل الزوال بنَمِرَة، إن تيسر له.
2- يتفرغ بعد الصلاة للذكر والدعاء - مستقبلاً القبلة رافعًا يديه - ويبقى بعرفة إلى غروب الشمس.
3- يتوجه بعد غروب الشمس إلى مزدلفة، فيصلي فيها المغرب ثلاثًا والعشاء ركعتين، ويبيت فيها حتى يطلع الفجر.
4- يصلي الفجر بعد طلوع الفجر، ثم يتفرغ للذكر والدعاء حتى يسفر جدًّا.
5- يتوجه قبل طلوع الشمس إلى منى.
عمل اليوم الثالث وهو يوم العيد:
1- إذا وصل إلى منى، ذهب إلى جمرة العقبة، فرماها بسبع حصيات متعاقبات، واحدة بعد الأخرى، يكبر مع كل حصاة.
2- يذبح هديَهُ، إن كان عليه هدي.
3- يحلق رأسه أو يقصره، ويتحلل بذلك التحلل الأول؛ فيلبس ثيابه ويتطيب، وتحل له جميع محظورات الإحرام إلا النساء.
4- ينزل إلى مكة فيطوف بالبيت طواف الإفاضة، وهو طواف الحج، ويسعى بين الصفا والمروة للحج، إن كان متمتعًا، وكذلك إن كان غير متمتع ولم يكن سعى مع طواف القدوم. وبهذا يحل التحلل الثاني، ويحل له جميع محظورات الإحرام حتى النساء.
5- يرجع إلى منى، فيبيت فيها ليلة الحادي عشر.
عمل اليوم الرابع وهو الحادي عشر:
1- يرمي الجمرات الثلاث، الأولى ثم الوسطى ثم جمرة العقبة، كل واحدة بسبع حصياتٍ متعاقباتٍ يكبر مع كل حصاة، يرميهن بعد الزوال، ولا يجوز قبله، ويلاحظ الوقوف للدعاء بعد الجمرة الأولى والوسطى.
2- يبيت في منى ليلة الثاني عشر.
عمل اليوم الخامس وهو الثاني عشر:
1- يرمي الجمرات الثلاث؛ كما رَمَاهُنَّ في اليوم الرابع.
2- ينفر من مِنى قبل غروب الشمس إن أراد التعجل، أو يبيت فيها إن أراد التأخر.
عمل اليوم السادس وهو الثالث عشر:
هذا اليوم خاص بمن تأخر ويعمل فيه:
1- يرمي الجمرات الثلاث؛ كما سبق في اليومين قبله.
2- ينفر من منى بعد ذلك.
وآخر الأعمال طواف الوداع عند سفره، والله أعلم.(/9)
أنواع النسك:
الأنساك ثلاثة: تَمَتُّع، إفراد، قِرَان.
فالتمتع: أن يُحرِم بالعمرة وحدها في أشهر الحج، فإذا وصل مكة طاف وسعى للعمرة وحلق أو قصر، فإذا كان يوم التروية - وهو اليوم الثامن من ذي الحجة - أحرم بالحج وحده وأتى بجميع أفعاله.
والإفراد: أن يُحرِم بالحج وحده، فإذا وصل مكة طاف للقدوم وسعى للحج، ولا يحلق، ولا يقصر، ولا يحل من إحرامه؛ بل يبقى محرِمًا حتى يحل من بعد رمي جمرة العقبة يوم العيد، وإن أخر سعي الحج إلى ما بعد طواف الحج فلا بأس.
والقِرَان: أن يحرِم بالعمرة والحج جميعًا، أو يحرم بالعمرة أولاً، ثم يدخل الحج عليها قبل الشروع في طوافها. وعمل القارن كعمل المفرد سواءٌ، إلا أن القارن عليه هدي، والمفرد لا هدي عليه.
مصادر الرسالة:
1_ فقه العبادات.
2_ مناسك الحج والعمرة.
3_ المنهج لمريد الحج والعمرة.
4_ صفة الحج والعمرة.
5_ اللقاء الشهري رقم (10).(/10)
العنوان: مختصر منسك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله
رقم المقالة: 1711
صاحب المقالة: اختصار: حسين بن محمد بن عبد الله آل الشيخ
-----------------------------------------
مختصر منسك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الطبعة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يَهْدِ الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له، وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
فسبق وأن وفقني الله لتحقيق منسك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وطبع أكثر من مرة، إلا أني رأيت أن اختصره، وذلك اتِّباعًا لمنهج السلف - رحمهم الله - في تعاملهم مع الكتب المفيدة، وحرصًا مني على إتمام الفائدة، ومراعاةً لظروف أهل العصر ورغبتهم في كل ما هو مفيد مختصر؛ فكان عملي في المختصر كالآتي:
1- إعادة ترتيب مسائل الكتاب؛ لتكون متسلسلةً وفق مناسك الحج الفعلية.
2- جمع المسائل ذات العلاقة المشتركة ببعضها.
3- التخلص مما تكرر ما لم يؤثر على المعنى، وإضافة ما يوضِّحه إذا لزم الأمر.
4- إعادة صياغة بعض الجمل لتكون بعبارة أقل.
5- مع الالتزام بكل معنى أشار إليه المؤلف - رحمه الله - له علاقة بالنسك.
وفي الختام: ندعو الله بدعاء الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - الذي علمه لأصحابه: ((اللهم إنَّا نعوذ بك أن نشرك بك شيئا نعلمه، ونستغفرك لما لا نعلم))؛ رواه أحمد (4: 402).
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
الرياض، ص ب 18126
حسين بن محمد آل الشيخ
الفصل الأول
في التعريف بالحج وحكمه والاستطاعة إليه([1])
أولاً التعريف:
لغةً:(/1)
قرئ الحَجُ والحِجُ بفتح الحاء، وكسرها.وهو قصد الشيء، وإتيانه، ومنه سُمي الطريق محجة؛ لأنه موضع الذهاب والمجيء، ويسمى ما يقصده الخصم حجة لأنه يأتمه وينتحيه، ومنه في الاشتقاق الأكبر الحاجة، وهو ما يقصد، ويطلب للمنفعة به.ومنه قول النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه))؛ رواه أحمد والبخاري.
ويقول بعض أهل اللغة: الحج القصد أو كثرة القصد إلى من يعظمه.
وشرعًا:
ثم غلب في الاستعمال الشرعي، والعرفي على حج بيت الله سبحانه وتعالى وإتيانه، فلا يفهم عند الإطلاق إلا هذا النوع الخاص من القصد لأنه هو المشروع الموجود كثيرًا وذلك كقوله تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج: 27] وقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}، إلى قوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196]. وقد بين المحجوج إليه؛ فيقوله تعالى: {ولِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ} [آل عمران: 97]، وقوله تعالى: {فَمَن حَجَّ البَيتَ أَوِ اعتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158].
ثم إن حج البيت له صفةٌ معلومةٌ في الشرع، من الوقوف بعرفة والطواف بالبيت وما يتبع ذلك فان ذلك كله من تمام قصد البيت فإذا أطلق الاسم في الشرع انصرف إلى الأفعال المشروعة إما في الحج الأكبر أو الأصغر أي العمرة.
ثانيًا: حكم الحج والعمرة
1- حكم الحج:
واجب في الجملة، وهو أحد مباني الإسلام الخمس وهو من العلم المستفيض.(/2)
والأصل فيه قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيتِ مَنِ استَطَاعَ إِلَيهِ سَبِيلاً}، وقد أتْبَعَهُ بقوله تعالى: {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِىٌّ عَنِ العَالَمِينَ} {آل عمران : 97] فيبين أن من لم يعتقد وجوبه فهو كافر. وأنه إنما وضع البيت وأوجب حجه ليشهدوا منافع لهم لا لحاجة إلى الحجاج لأن الله غنى عن العالمين.
وأما السنة:
فقد قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((بني الإسلام على خمس، شهادة إلا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان وحج البيت))؛ متفقٌ عليه.
والآيات والأحاديث الصحيحة في إثبات ذلك كثيرة، وقد أجمع المسلمون في الجملة على أن الحج فرض لازم.
2- حكم العمرة:
العمرة واجبة العمرة فريضة قاله أحمد في مواضع، وهو قول ابن عباس وابن عمر وجابر رضي الله عنهم، وذكر عنه رواية أخرى أنها سنة لأن الله سبحانه وتعالى قال: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيتِ مَنِ استَطَاعَ إِلَيهِ سَبِيلاً} [آل عمران: 97] ولم يذكر العمرة، وعن جابر - رضيَ الله عنه - قال: أتى النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أعرابي فقال: أخبرني عن العمرة أواجبة هي؟ فقال رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا، وإن تعتمر خيرٌ لك)[2]؛ رواه أحمد، والترمذي وقال: حديث حسن صحيح[3].
3 - والحج والعمرة:
يجبان مرة في العمر بإيجاب الشرع، فأما إيجاب المرء على نفسه فيجب في الذمة بالنذر، ويجب القضاء لما لم يتمه، ويجب إتمامه بعد الشروع؛ لقوله تعالى: {وَأَتِمُّواْ الحَجَّ وَالعُمرَةَ لله} [البقرة: 96].
4- ولا يجب الوجوب المقتضى للفعل وصحته إلا على مسلم لقوله الله سبحانه: { إِنَّمَا المُشرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقرَبُواْ المَسجِدَ الحَرَامَ بَعدَ عَامِهِم هَذَا} [التوبة: 38].(/3)
5-ولا حج على مجنون إلا أن يفيق، ولا على صبي حتى يبلغ؛ لقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((رُفع القلم عن المجنون حتى يفيق، والصبي حتى يحلم))؛ رواه أحمد: 1: 118، ورواه البخاري موقوفًا. ولا يجب إلا على حرٍّ كامل الحرية.
ثالثًا: الاستطاعة
1-أما الاستطاعة فهي شرط في الوجوب: وليست شرطًا في الإجزاء...والحج إنما يجب على من استطاع إليه سبيلا بنص القرآن والسنة وإجماع المسلمين وهو معنى قوله تعالى: {مَنِ استَطَاعَ إِلَيهِ سَبِيلاً}[آل عمران: 97].
2- واستطاعة السبيل عن الإمام أحمد وأصحابه: ملك الزاد والراحلة؛ فمناط الوجوب: وجود المال، فمن وجد المال وجب عليه الحج بنفسه أو بنائبه، وأن يجد ذلك بعد ما يحتاج إليه من قضاء دَيْنِه، ومؤنة نفسه وعياله على الدوام.
3- فان حجَّ راجلاً تجزؤه من حجة الإسلام ويكون قد تطوع بنفسه، (ورُويَ) أحاديث مسندة من طرق حسان ومرسلة وموقوفة تدل على أن مناط الوجوب وجود الزاد والراحلة، مع علم النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -بأن كثيرًا من الناس يقدرون على المشي، ودليل الأصل قوله تعالى: {وَلاَ عَلَى الذينَ إِذَا ما أَتَوكَ لِتَحمِلَهُم} [التوبة: 91، 92].
وأيضًا فإن المشي في المسافة البعيدة مظنة المشقة العظيمة. وتعتبر الراحلة في حق من بينه وبين مكة مسافة القصر عند أصحابنا، فأما القريب والمكي ونحوهما ممن يقدرون على المشي فيلزمه ذلك كما يلزمه المشي إلى الجمعة والعيد.
4- وإن كان العاجز عن الحج يرجو القدرة عليه كالمريض والمحبوس لم تجز له الاستتابة في فرض كما ذكره أحمد؛ لأن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - إنما أذن للشيخ الكبير الذي لا يستمسك على الراحلة، وأما الذي يُرجى أن يقدر على الحج ليس في معناه.(/4)
5- أما المرأة: فلا يجب عليها أن تسافر للحج ولا يجوز لها ذلك إلا مع زوج أو ذي محرم لقول رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا تسافر المرأة ثلاثًا إلا معها ذو محرم)؛ متفقٌ عليه. وقد أجمع المسلمون على أنه لا يجوز لها السفر إلا على وجه يؤمن فيه البلاء..والله أعلم.
الفصل الثاني
في الدخول في النسك والمواقيت
1- الدخول في المنسك:
أول مناسك الحج والعمرة للدخول فيهما هو: الإحرام بذلك من الميقات. وقبل ذلك فهو بمنزلة الذي يخرج إلى صلاة الجمعة؛ فله أجر السعي، ولا يدخل فيها حتى يحرم بها.
2- والمواقيت خمسة:
مُهَلُّ أهل المدينة ذو الحليفة ومهل أهل الشام الجحفة ومهل أهل اليمن يلملم ومهل أهل نجد قرن المنازل ومهل أهل العراق ذات عرق.
ولما وقَّت النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم - المواقيت قال: ((هنَّ لأهلهنَّ، ولمن مر عليهن من غير أهلهن لمن يريد الحج والعمرة، ومن كان منزله دونهن فَمَهِلُّه من أهله، حتى أهل مكة يهلُّون من مكة)؛ متفقٌ عليه.
فذو الحليفة: أبعد المواقيت، بينها وبين مكة عشرة مراحل تقريبًا - بحسب الطرق - وتسمى وادي العقيق، ومسجدها مسجد الشجرة، وفيها بئر يسميها الجهَّال بئر علي؛ لظنهم أن عليًّا رضي الله عنه قاتل الجن بها!! وهو كذب، ولا فضيلة لهذا البئر ولا مذمة.
وأما الجحفة: فبينها وبين مكة نحو ثلاث مراحل وهى قرية كانت معمورة، تسمى مهيعة، وهى اليوم خراب والناس يحرمون قبلها من رابغ.
وهذا ميقات لمن حج من ناحية المغرب كأهل الشام ومصر وسائر المغرب ولكن إذا اجتازوا بالمدينة النبوية -كما يفعلون الآن - أحرموا من ميقات أهل المدينة وهو المستحب لهم بالاتفاق، فإن أخروا الإحرام إلى الجحفة ففيه نزاع[4].
وأما المواقيت الثلاثة:
فبين كل واحد منها وبين مكة نحو مرحلتين وليس لأحد أن يتجاوز الميقات إذا أراد الحج أو العمرة إلا بإحرام، وإن قصد مكة للتجارة أو الزيارة؛ فينبغي له أن يحرم وفي الوجوب نزاع[5].(/5)
الفصل الثالث
في أنواع الحج (النسك) وأفضلها
1- أنواع المناسك:
ومن وافي الميقات في أشهر الحج فهو مخير بين ثلاثة أنواع، التمتع، والقران، والإفراد، : فإن أهل بعمرة فإذا حل منها أهل بالحج، فهذا التمتع، : وإن أحرم بهما جميعًا، أو أحرم بالعمرة ثم أدخل عليها الحج قبل الطواف فهو القران، : وإن أحرم بالحج مفردًا، فهو الإفراد.
2- والأفضل:
يتنوع باختلاف حال الحاج، فإن سافر سفرة للعمرة وللحج أخرى أو اعتمر قبل أشهر الحج وأقام بمكة حتى يحج فهذا الإفراد له أفضل باتفاق ألأئمة الأربعة. وأما إذا جمع بين العمرة والحج في سفرة واحدة، في أشهر الحج: وهن شوال، وذو القعدة وعشر من ذي الحجة فهذا إن ساق الهَدْي فالقران أفضل له، وإن لم يسق الهَدْي فالتحلل من إحرامه بعمرة أفضل، فقد ثبت أن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - لما حج هو وأصحابه أمرهم أن يحلوا من إحرامهم ويجعلوها عمرة، إلا من ساق الهدي فإنه يبقى على إحرامه حتى يبلغ الهَدْي محله يوم النحر، وكان النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قد ساق الهَدْي هو وطائفة من أصحابه وقرن هو بين العمرة والحج فقال: ((لبيك عمرةً وحجًّا))؛ رواه مسلم.
ولم يُنقل عن أحد من الصحابة أنه تمتع تمتعًا حل فيه، بل كانوا يسمون القِران تمتعًا، وعامة المنقول عن الصحابة في صفة حجته ليست بمختلفة، وإنما اشتبهت على من لم يعرف مرادهم، وجميع الصحابة الذين نقل عنهم أنه أفرد الحج كعائشة وابن عمر وجابر قالوا أنه تمتع بالعمرة إلى الحج، فقد ثبت في "الصحيحَيْن" عن عائشة وابن عمر بإسناد أصح من إسناد الإفراد، ومرادهم بالتمتع القران كما ثبت ذلك في الصحاح أيضًا. والإحرام بالحج قبل أشهره مكروه وإذا فعله فهل يصير محرمًا بعمرة أو بحج؟ فيه نزاع[6].
الفصل الرابع
في العمرة
1- اعتماره - صلَّى الله عليه وسلَّم -:
وفي "الصحيحَيْن" أنه اعتمر النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم - بعد هجرته أربع عمر:(/6)
عمرة الحديبية: صده المشركون عن البيت فصالحهم وحل من إحرامه وانصرف.
وعمرة القضية: اعتمر من العام القابل.
وعمرة الجعرانة: بعد قتاله - صلَّى الله عليه وسلَّم - المشركين بحنين - شرق الطائف- رجع وقسم الغنائم بالجعرانة واعتمر منها داخلا إلى مكة لا خارجًا منها للإحرام.
والرابعة: مع حجته - صلَّى الله عليه وسلَّم - قرن بين العمرة والحج باتفاق الصحابة على ذلك.
2- الاعتمار من التنعيم أو العمرة المكية:
لم يعتمر بعد الحج أحد ممن كان مع النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلا عائشة - رضيَ الله عنه - لأنها حاضت فلم يمكنها الطواف فشكت للنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال لها: ((افعلي كما يفعل الحاج، غير ألاَّ تطوفي بالبيت حتى تطهري))؛ البخاري: 1650، ومسلم: 1211: 119.
فأمرها أن تهل بالحج وتدع أفعال العمرة لأنها كانت متمتعة، ثم طلبت منه - صلَّى الله عليه وسلَّم - أن يعمرها، فأرسلها مع أخيها عبد الرحمن فاعتمرت من التنعيم، وهو أقرب الحِل إلى مكة.
وبه مساجد عائشة، وليس دخولها ولا الصلاة فيها لمن اجتاز بها محرمًا ولا فرضا ولا سنة بل قصد ذلك واعتقاد أنه يستحب بدعة مكروهة، لكن من خرج من مكة ليعتمر ودخل واحدًا منها وصلى فيها للإحرام فلا بأس بذلك. ومن الأعمال الصالحة الإكثار من الطواف بالبيت، وهو أفضل من أن يخرج الرجل ويأتي بعمرة مكية.
ولم يكن على عهد النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وخلفائه الراشدين أحد يخرج من مكة ليعتمر إلا لعذر لا في رمضان ولا في غيره، والذين استحبوا الإفراد من الصحابة إنما استحبوا أن يحج في سفرة ويعتمر في أخرى، ولم يستحبوا أن يحج ويعتمر عقب ذلك عمرة مكية، إلا أن يكون شيئًا نادرًا؛ بل كرهه السلف وتنازعوا: هل يكون متمتعًا عليه دم أم لا؟ وهل تجزؤه هذه العمرة عن عمرة الإسلام أم لا؟[7].
الفصل الخامس
في نية الإحرام وكيفية التلبية
1- نية الإحرام:(/7)
إن كان قارنًا قال: لبيك عمرة و حجًا، أو متمتعًا قال: لبيك عمرة متمتِّعًا بها إلى الحج أو مفردًا قال: لبيك حجة، ومهما قال من نحو ذلك أجزأه باتفاق الأئمة، ليس في ذلك عبارة مخصوصة، كما لا يجب التلفظ بالنية في الطهارة والصلاة والصيام باتفاق الأئمة، فإن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - لم يُشرع للمسلمين شيئًا من ذلك[8]. ولا كان يتكلم قبل التكبير بشيء من ألفاظ النية ولا أصحابه.
2- التلبية:
فإذا أحرم لبى بتلبية رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك))؛ متفقٌ عليه. وإن زاد على ذلك ((لبيك ذا المعارج))؛ رواه أبو داود، أو: ((لبيك وسعديك))، ونحوه – جاز، وكان الصحابة يزيدون ورسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يسمعهم فلم ينههم، وكان هو يداوم على تلبيته من حين يحرم.
والإهلال: هو التلبية، والتلبية هي إجابة دعوة الله تعالى لخلقه إلى حج بيته على لسان خليله إبراهيم - صلَّى الله عليه وسلَّم.
والملبِّي: هو المستسلم المنقاد لغيره كما ينقاد الذي لُبِّبَ وأُخِذَ بلبته، والمعنى: "إنا مجيبوك لدعوتك، مستسلمون لحكمتك، مطيعون لأمرك مرة بعد مرة، لا نزال على ذلك".
و: ((التلبية شعار الحج؛ فأفضل الحج: العَجُّ والثَّجُّ))[9].
فالعَجُّ: رفع الصوت بالتلبية. والثَّجُّ: إراقة دماء الهدي.
ولهذا يستحب رفع الصوت بها للرجال بحيث لا يجهد نفسه والمرأة بحيث تسمع رفيقتها.
ويستحب الإكثار من التلبية عند اختلاف الأحوال مثل أدبار الصلوات وإذا صعد نشزًا أو هبط واديًا أو سمع ملبيًا أو أقبل الليل والنهار أو التقت الرفاق أو فعل ما نُهي عنه.(/8)
وإن دعا عقيب التلبية وصلى على النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم - وسأل الله رضوانه والجنة واستعاذ برحمته من سخطه والنار فحسن.فهذا هو الذي شرع النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - للمسلمين التكلم به في ابتداء الحج والعمرة. ولو أهل ولبى كما يفعل الناس قاصدًا للنسك ولم يسمِّ شيئًا بلفظه ولا قصد بقلبه لا تمتعًا ولا إفرادًا ولا قرانًا صح حجه أيضًا، وفعل واحدًا من الثلاثة وهو تأويل قوله تعالى {الحَجُ أَشهُرُُ مَّعلُومَاتُُ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلا جِدِالَ في الحَجِ} [البقرة : 197] فإن فعل ما أمر به النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم - أصحابه كان حسنًا.ولا يكون الرجل محرمًا بمجرد ما في قلبه من قصد الحج ونيته، بل لابد من قول أو عمل يصير به محرمًا، وهذا هو الصحيح من القولين.
3- الاشتراط خوفًا من العارِض:
وإن اشترط على ربه خوفًا من العارض كان حسنًا، فان النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم - أمر ابنة عمه ضُبَاعة بنت الزبير بن عبد المطلب أن تشترط لما كانت شاكية فخاف أن يصدها المرض عن البيت قال: ((قولي: لبيك اللهم لبيك ومحلى من الأرض حيث تحبسني))؛ رواه الجماعة، وعند النسائي: ((فإن لك على ربك ما استثنيتِ)). ولم يكن يأمر بذلك كل من حج.
4- الرفث و الفسوق والجدال في الحج:
وثبت أنه- صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق؛ رجع كما ولدته أمُه))؛ رواه البخاري: 1819. وفي مسلم: ((من أتى هذا البيت))؛ الحديث: 1350.
فالرفث: اسم للجماع قولاً وعملاً، وليس في المحظورات ما يفسد الحج إلا الرفث.
والفسوق: اسم للمعاصي كلها.(/9)
والجدال: هو المِراء في أمر الحج، فان الله قد أوضحه وبينه وقطع المِراء فيه كما كانوا في الجاهلية يتمارون في أحكامه.وفُسر بأن لا يُمارى الحاج أحدًا، والتفسير الأول أصح فإن الله لم ينه المحرم ولا غيره عن الجدال مطلقًا؛ بل الجدال قد يكون واجبًا أو مستحبًّا كما قال تعالى: {وجَادِلهُم بِالَّتِي هِي أَحسَنُ} [النحل: 125]. وقد يكون الجدال مُحَرَّمًا في الحج وغيره؛ كالجدال بغير علم، وكالجدال في الحق بعدما تبيَّن. وينبغي للمحرم ألا يتكلم إلا بما يعنيه، وكان شريح إذا أحرم كأنه حية صماء.
الفصل السادس
في مستحبات الإحرام
1- المستحب
أن يحرم عقيب صلاة فرض، أو تطوع إن كان وقت تطوع في أحد القولين، وفي الآخر إن كان يصلى فرضًا أحرم عقيبه، وإلا فليس للإحرام صلاة تخصُّه، وهذا أرجح.
ويستحب أن يغتسل للإحرام ولو كانت نفسا أو حائضًا[10]، وإن احتاج إلى التنظيف كتقليم الأظافر ونتف الإبط وحلق العانة، فعل ذلك، وهذا ليس من خصائص الإحرام، لكنه مشروع بحسب الحاجة.
2- لباس الحاج:
والتجرد من اللباس واجب في الإحرام وليس شرطًا فيه، فلو أحرم وعليه ثياب صح ذلك بسنة رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وباتفاق الأئمة، وعليه أن ينزع اللباس المحظور.ويستحب أن يحرم في ثوبين نظيفين، والأبيضين أفضل ويجوز فيغيره من الألوان الجائزة، ويجوز أن يحرم في جميع أجناس الثياب المباحة: من القطن والكتان والصوف.(/10)
والسنة أن يحرم في إزار ورداء سواء كانا مخِيطَيْن، أو غير مخِيطَيْن باتفاق الأئمة، ولو أحرم في غيريهما جاز إذا كان مما يجوز لبسه.والأفضل أن يحرم في نعلين إن تيسر، فان لم يجد، لبس خفين وليس عليه أن يقطعهما دون الكعبين فان النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم - أمر بالقطع[11] أولاً ثم رخص في لبس الخفين لمن لم يجد نعلين.وكذلك إذا لم يجد إزارًا فانه يلبس السراويل ولا يفتقه وهذا أصح قولي العلماء؛ لأن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم – رخَّص في البدل في عرفات[12].
وكذلك يجوز أن يلبس كل ما كان من جنس الإزار والرداء فله أن يلتحف بالقباء والجبة والقميص ونحو ذلك ويتغطى به باتفاق الأئمة عرضًا ويلبسه مقلوبًا يجعل أسفله أعلاه ويتغطى باللحاف وغيره.ولكن لا يغطى رأسه إلا لحاجة والنبي- صلَّى الله عليه وسلَّم -: نهى المحرم أن يلبس القميص والبرنس والسراويل والخف والعمامة؛ أخرجه: البخاري 1265 ومسلم : 1206، وفي "الصحيحَيْن": نهاهم أن يغطوا رأس المحرم بعد الموت، وأمر من أحرم في جبَّةٍ أن ينزعها عنه.
فما كان من هذا الجنس فهو في معنى ما نهى عنه النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم - فما كان في معنى القميص أوفي معنى الخف كالجورب ونحوه، أوفي معنى السراويل كالتُّبَّان ونحوه، فهو مثله. وكذلك لا يلبس الجبة ولا القباء الذي يدخل يديه فيه ولا الدرع[13]، وأمثال ذلك باتفاق الأئمة.وأما إذا طرح القباء على كتفيه من غير إدخال يديه ففيه نزاع وهذا معنى قول الفقهاء: لا يلبس المَخِيط. والمَخِيط ما كان من اللباس على قدر العضو.
3- عقد ما يحتاج إلى عقده:
وله أن يعقد ما يحتاج إلى عقده كالإزار وهميان النفقة. والرداء لا يحتاج إلى عقده فلا يعقده فان احتاج إلى عقد ففيه نزاع.والأشبه جوازه، وليس على تحريمه دليل إلا ما نقل عن ابن عمر- رضيَ الله عنه - أنه كره عقد الرداء وقد اختلف المتبعون له بين الكراهة والتحريم.
4- والاستظلال:(/11)
تحت السقف والشجر وفي الخيمة ونحو ذلك جائز باتفاقهم وأما الاستظلال بالمحمل كالمحارة التي لها رأس في حال السير فهذا فيه نزاع والأفضل للمحرم أن يُضْحِى لمن أحرم له كما كان النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأصحابه يحجون وقد رأى ابن عمر رجلا ظلل عليه فقال: أيها المحرم أضح لمن أحرمت][14] [ .وهذا فيحق الرجل.
5- إحرام المرأة:
وأما المرأة فإنها عورة؛ فلذلك جاز لها أن تلبس الثياب التي تسترها وتستظل بالمحمل، لكن نهاها النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم –أن تنتقب أو تلبس القفازين كما نهى المحرم أن يلبس القميص والخف؛ رواه البخاري: 1838، مع أنه يجوز له أن يستر يديه ورجليه باتفاق الأئمة.والبرقع أقوى من النقاب فلهذا ينهى عنه باتفاقهم.ولو غطت المرأة وجهها بشيء لا يمس الوجه جاز بالاتفاق، وإن كان يمسه فالصحيح أنه يجوز أيضًا، فان النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - سوَّى بين وجهها ويديها وكلاهما كبدن الرجل لا كرأسه.
وأزواجه - صلَّى الله عليه وسلَّم - كن يسدلن على وجوههن من غير مراعاة المجافاة ولم ينقل عن النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم - أنه قال إحرام المرأة فيوجهها وإنما هذا قول بعض السلف.
الفصل السابع
في محظورات الإحرام
1- المحظورات:(/12)
ومما ينهى عنه المحرم: أن يتطيب بعد الإحرام في بدنه أو ثيابه أو يتعمد شم الطيب، بعد الإحرام وإن شاء قبل الإحرام أن يتطيب في بدنه فهو حسن، ولا يؤمر بذلك، فان النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فعله ولم يأمر به الناس.وأما الدهن في رأسه أو بدنه بالزيت والسمن ونحوه إذا لم يكن فيه طيب ففيه نزاع مشهور وتركه أولى.ولا يقلم أظفاره ولا يقطع شعره وله أن يحك بدنه إذا حكه ويحتجم وإن احتاج أن يحلق شعرًا لذلك جاز ففي "الصحيحَيْن": أن النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم - احتجم في وسط رأسه وهو محرم؛ رواه البخاري برقم1836 ومسلم 1203. ولا يمكن ذلك إلا مع حلق بعض الشعر وإذا اغتسل وسقط شيء من شعره بذلك لم يضره.
ويَفْتَصِد إذا احتاج إلى ذلك، ويغتسل من الجنابة بالاتفاق ولغير الجنابة. ولا ينكح المحرم ولا يُنْكِح ولا يخطب.ولا يصطاد صيدًا بريًا ولا يتملكه بشراء ولا إيهاب ولا غير ذلك ولا يعين على صيد ولا يذبح صيدًا. فأما صيد البحر كالسمك ونحوه فل-ه أن يصطاده ويأكله.وأن يقطع الشجر في الحل، لكن الحرم لا يقطع شيئًا من شجره وإن كان غير محرم ولا من نباته المباح إلا الإذخر وأما ما غرسه الناس أو زرعوه فهولهم، وما يبس من النبات يجوز أخذه ولا يصطاد به صيدًا وإن كان من الماء كالسمك على الصحيح بل ولا ينفر صيده مثل أن يقيمه ليقعد مكانه.
2- قتل ما يؤذي:
وللمحرم قتل ما يؤذى بعادته الناس، كالحية والعقرب والفأرة والغراب، والكلب العقور؛ رواه البخاري: 1828، ومسلم: 1198.
وله أن يدفع ما يؤذيه من الآدميين والبهائم، ولو لم يندفع إلا بالقتال قاتله لقول النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((من قُتلَ دون ماله فهو شهيد، ومن قُتلَ دون دمه فهو شهيد، ومن قُتلَ دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد))[15]، وإذا قرصته البراغيث والقمل فله إلقاؤها عنه وله قتلها ولا شيء عليه، وإلقاؤها أهون.(/13)
وكذلك ما يتعرض له من الدواب فينهى عن قتله وإن كان في نفسه مُحَرمًَا أكله كالأسد والفهد فإذا قتله فلا جزاء عليه في أظهر قولي العلماء، وأما التفلِّي بدون التأذي فهو من الترفُّه فلا يفعله، ولو فعله فلا شيء عليه.
3- الوطء ومقدماته:
يحرم على المحرم القبلة ولمس بيد أو نظر بشهوة فإن جامع فسد حجه.وفي الإنزال بغير الجماع نزاع ولا يفسد الحج بشيء من المحظورات إلا الرفث، فإن قبل أو أمذى لشهوة فعليه دم.
4- فدية المحظورات:
وليس للمحرم أن يلبس شيئًا مما نهى النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - عنه إلا لحاجة، مثل البرد الذي يخاف أن يمرضه إذا لم يغط رأسه، فيلبس قدر الحاجة فإذا استغنى عنه نزع.
وعليه أن يفتدى إما بصيام ثلاثة أيام وإما بنسك شاة أو ب-إطعام ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع من تمر أو شعير أو م-د من بر وإن أطعمه خبزًا جاز، وينبغي أن يكون مأدومًا.
وإن أطعمه مما يأكل جاز وهو أفضل من أن يعطيه قمحًا أو شعيرًا، وكذلك في سائر الكفارات؛ وذلك لقوله تعالى: {إِطعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِن أَوسَطِ مَا تُطعِمُونَ أَهلِيكُم أَو كِسوَتُهُم} [المائدة: 89]. فأمر الله تعالى بإطعام المساكين من أوسط ما يطعم الناس أهليهم.
لكن؛ هل ذلك مقدر بالشرع أم بالعرف؟
والراجح أنه يرجع فيه إلى العرف فيطعم كل قوم مما يطعمون أهليهم، ولما كان كعب بن عجرة ونحوه يقتاتون التمر؛ أمره النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم - أن يطعم فرقًا من التمر بين ستة مساكين؛ البخاري1814 ومسلم1201.
5- وقت إخراج الفدية:
والفدية يجوز أن يخرجها إذا احتاج إلى فعل المحظور قبله أو بعده ويجوز أن يذبح النسك قبل أن يصل إلى مكة ويصوم الأيام الثلاثة متتابعة إن شاء أو متفرقة فإن كان له عذر أخّر فعلها وإلا عجل فعلها. وإذا لبس ثم لبس مرارا ولم يكن أدى الفدية أجزأته فدية واحدة في أظهر قولي العلماء.
الفصل الثامن
في دخول مكة و المسجد الحرام وأحكام الطواف والسعي:(/14)
1- دخول مكة والمسجد:
إذا أتى مكة جاز أن يدخلها والمسجد من جميع الجوانب والأفضل أن يأتي من وجه الكعبة إقتداء بالنبي- صلَّى الله عليه وسلَّم - فقد دخل من الناحية العليا التي فيها باب المعلاة.ودخل مكة من الثنية العليا ثنية كداء - بالفتح والمد - المشرفة على المقبرة(الحجون).
ودخل المسجد من باب بني شيبة (كان مقابلا لباب الكعبة محاذيا للمقام)ثم ذهب إلى الحجر الأسود. وفي "الصحيحَيْن" كان- صلَّى الله عليه وسلَّم -(يغتسل لدخول مكة و يبيت بذي طوى) (البخاري1573 ومسلم 1259)وهو عند آبار الزاهر فمن تيسر له المبيت بها والاغتسال ودخول مكة نهارًا وإلا فليس عليه شيء من ذلك..وروي أن النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم - كان إذا رأى البيت رفع يديه وقال: ((اللهم زِدْ هذا البيت تشريفًا وتعظيمًا وتكريمًا ومهابة وبرًّا، وزِدْ من شرَّفَه وكرمه ممَّن حجَّه أو اعتمره تشريفًا وتعظيمًا))[16]، فمن رأى البيت فعل ذلك.
2- الطواف:(/15)
والنبي- صلَّى الله عليه وسلَّم - ابتدأ بالطواف؛ ففي "الصحيحَيْن": أن أول شيء بدأ به: توضأ ثم طاف. ولم يُصلِّ قبله؛ بل الطواف بالبيت هو تحية المسجد الحرام. يبتدئ من الحجر الأسود يستقبله استقبالا ويقبله إن أمكن ويقول (بسم الله والله أكبر)[17]. وإن شاء قال: "اللهم إيمانًا بك وتصديقًا بكتابك ووفاء بعهدك وإتباعًا لسنة نبيك محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم"[18]، ولا يؤذى أحدًا بالمزاحمة عليه فان لم يمكن استلمه بيده وقبلها، وإلا أشار إليه ثم ينتقل للطواف ويجعل البيت عن يساره. وليس عليه أن يذهب إلى مابين الركنين ولا يمشى عرضًا، فيطوف سبعًا. ولا يخترق الحِجْر في طوافه لما كان أكثر الحجر من البيت والله أمر بالطواف به لا بالطواف فيه. ويجوز أن يطوف من وراء قبة زمزم وما وراءها من السقائف (المصابيح) المتصلة بحيطان المسجد.ولا يستلم من الأركان إلا الركنين اليمانيين دون الشاميين فان النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - إنما استلمها خاصة لأنهما على قواعد إبراهيم والآخران هما في داخل البيت.فالركن الأسود يستلم ويقبل، واليماني يستلم ولا يقبل والآخران لا يستلمان ولا يقبلان والاستلام هو مسحه باليد. وأما سائر جوانب البيت ومقام إبراهيم وسائر ما في الأرض من المساجد وحيطانها ومقابر الأنبياء والصالحين كحجرة نبينا - صلَّى الله عليه وسلَّم - ومغارة إبراهيم ومقام نبينا - صلَّى الله عليه وسلَّم - الذي كان يصلي فيه فلا تستلم ولا تقبل باتفاق الأئمة.والطواف بذلك من أعظم البدع المحرمة ومن اتخذه دينًا يستتاب فان تاب وإلا قتل.ولو وضع يده على الشاذروان الذي يُربَط فيه أستار الكعبة لم يضره في أصح قولي العلماء وليس الشاذروان من البيت بل جُعِلَ عمادًا للبيت.
3- الرمل والاضطباع:(/16)
ويستحب له في الطواف الأول – القدوم - أن يرمل من الحجَر إلى الحجَر في الأشواط الثلاثة ففي "الصحيحَيْن": أمر النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم - أن يرملوا الأشواط الثلاثة.
والرمل مثل الهرولة وهو مسارعة المشي مع تقارب الخُطا فإن لم يمكن الرمل للزحمة كان خروجه إلى حاشية المطاف والرمل أفضل من قربه إلى البيت بدون الرمل وأما إذا أمكن القرب من البيت مع إكمال السُنة فهو أولى.
وكذلك يستحب أن (يضطبع)[19] في هذا الطواف.
والاضطباع: هو أن يبدى ضبعه الأيمن فيضع وسط الرداء تحت إبطه الأيمن وطرفيه على عاتقه الأيسر وإن ترك الرمل والاضطباع فلا شيء عليه.
4- دعاء الطواف والصلاة بعده وشرب زمزم:
ويستحب له في الطواف أن يذكر الله تعالى ويدعوه بما شرع وإن قرأ القرآن سرًّا فلا بأس، وليس فيه ذكر محدود عن النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم - بل يدعو فيه بسائر الأدعية الشرعية.وما يذكره كثير من الناس من دعاء معين تحت الميزاب ونحو ذلك فلا أصل له. وكان النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يختم طوافه بين الركنين بقوله: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 201]، كما كان يختم سائر دعائه بذلك[20].
والطواف بالبيت كالصلاة، إلا أن الله أباح فيه الكلام؛ فلا يتكلم فيه إلا بخير.
ويؤمر الطائف أن يكون متطهِّرًا الطهارتين الصغرى والكبرى مستور العورة مجتنب النجاسة التي يجتنبها المصلى.
فإذا قضى الطواف صلى ركعتين للطواف وإن صلاهما عند مقام إبراهيم فهو أحسن ويستحب أن يقرأ فيهما بسورتي الإخلاص والكافرون.
ولو صلى المصلى في المسجد والناس يطوفون أمامه لم يكره سواء مرَّ أمامه رجل أو امرأة وهذا من خصائص البيت[21].
ثم إذا صلاهما استحب له أن يستلم الحجر وأن يشرب من ماء زمزم ويتضلَّع منه، ويدعو عند شربه بما شاء من الأدعية الشرعية ولا يستحب الاغتسال منها.(/17)
ومن حمل شيئًا من ماء زمزم جاز؛ فقد كان السلف يحملونه.
5- الطهارة في الطواف:
والمطاف طاهر لكن في وجوب الطهارة في الطواف نزاع، فلم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر بالطهارة للطواف ولا نهى المحدث أن يطوف. ولكنه طاف طاهرًا، ونهى الحائض عن الطواف، وقد قال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم))[22].
فالطهارة لصلاة تفتتح بالتكبير وتختتم بالتسليم وفيها ركوع وسجود، وصلاة الجنازة وسجدتي السهو، وأما الطواف وسجود التلاوة فليسا من هذا.
وقد اختلفت الرواية عن أحمد في اشتراط الطهارة فيه ووجوبها، وهو أحد القولين في مذهب أبى حنيفة لكنها ليست بشرط.
وكما يجوز أن يصلي في نعليه فكذلك يجوز أن يطوف في نعليه، ومن طاف في جوارب ونحوه لئلا يطأ ذرق الحمام أو غطى يديه لئلا يمس امرأة ونحو ذلك فقد خالف السنة؛ فإن النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم - وأصحابه والتابعين مازالوا يطوفون بالبيت ومازال الحمام بمكة، والاحتياط حسن، فإذا خالف السنة المعلومة كان خطأً.
6- طواف أهل الأعذار:
وإن لم يمكنه الطواف ماشيًا فطاف راكبًا أو محمولاً أجزأه بالاتفاق، وكذلك ما يعجز عنه من واجبات الطواف؛ مثل من كان به نجاسة لا يمكنه إزالتها؛ كالمستحاضة ومن به سلس البول؛ فإنه يطوف ولا شيء عليه باتفاق الأئمة. وكذلك لو لم يمكنه الطواف إلا عريانًا فطاف بالليل، كما لو لم يمكنه الصلاة إلا عريانًا.
7- طواف الحائض:(/18)
وقدا اتفق العلماء على أنهُ لا يجب للطواف ما يجب للصلاة من تحريم وتحليل وقراءة وغير ذلك, ولا يبطله ما يبطلها من الأكل والشرب والكلام وغير ذلك ولهذا كان مقتضى تعليل منْ مَنَعَ الحائض لحرمة المسجد أنهُ لا يرى الطهارة شرطًا بل مقتضى قوله انهُ يجوز لها ذلك عند الحاجة كما يجوز لها دخول المسجد عند الحاجة.وقد يُعلل بأنه يشبه الصلاة وقد يُعلل بأنها ممنوعة من المسجد كما تمنع منه في الاعتكاف.
وقد أمر الله تعالى بقوله: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة: 125] بتطهيره لهذه العبادات؛ فمُنعت الحائض من دخوله. والعاكف فيه لا يشترط له الطهارة من الحدث الأصغر باتفاق المسلمين، ولو اضطرت العاكفة الحائض إلى لبثها فيه للحاجة جاز ذلك.
وأما الركع السجود فهم المصلون، والطهارة شرطٌ للصلاة باتفاق المسلمين، والحائض لا تصلى لا قضاء ولا أداء.
يبقى الطائف: هل يلحق بالعاكف أو بالمصلي، أو يكون قسمًا ثالثًا بينهما؟
هذا محلُّ اجتهاد، وقوله: ((الطواف بالبيت صلاة)) لم يثبت عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ولكن هو ثابتٌ عن ابن عباس، وقد روي مرفوعًا. ولا ريب أن المراد بذلك أنه يشبه الصلاة من بعض الوجوه، ليس المراد أنه نوعٌ من الصلاة التي يشترط لها الطهارة، وهكذا قوله: ((إذا صلى أحدكم في المسجد فلا يشبِّكن بين أصابعه؛ فإن أحدكم لا يزال في صلاة ما دام في المسجد))؛ المسند: 3: 54، ونحو ذلك.
فالمرأة الحائض إذا لم يمكنها طواف الفرض إلا حائضًا بحيث لا يمكنها التأخر بمكة في أحد قولي العلماء الذين يوجبون الطهارة على الطائف، فإذا طافت الحائض أو الجنب أو المحدث أو حامل النجاسة مطلقًا أجزاه الطواف وعليه دم بَدَنَة مع الحيض والجنابة وشاة مع الحدث الأصغر؛ فقد نقل عن ابن عباس أنه قال: إذا طاف بالبيت وهو جنب عليه دم.(/19)
فلا يجوز لحائض أن تطوف إلا طاهرة إذا أمكنها ذلك باتفاق العلماء ولو قدمت المرأة حائضا لم تطف بالبيت، لكن تقف بعرفة وتفعل المناسك كلها مع الحيض إلا الطواف فأنها تنتظر حتى تطهر إن أمكنها ذلك ثم تطوف وإن اضطرت إلى الطواف فطافت أجزأها ذلك على الصحيح من قولي العلماء[23].
8 - السعي بين الصفا والمروة:
ثم يخرج إلى السعي بين الصفا والمروة، ولو أخَّر ذلك إلى بعد طواف الإفاضة جاز؛ فإن الحج فيه ثلاثة أطواف:
طواف عند الدخول: وهو طواف القدوم والدخول والورود.
والثاني بعد عرفة: ويقال له طواف الإفاضة والزيارة، وهو طواف الفرض، لابد منه لقوله تعالى: {ثُمَّ ليَقضُوا تَفَثَهُم وَليُوفُواْ نُذُورَهُم وَليَطَّوَّفُواْ بِالبَيتِ العَتِيقِ} [الحج: 29].
والطواف الثالث: هو لمن أراد الخروج من مكة وهو طواف الوداع.
وإذا سعى عقيب واحد منها أجزأه، وكان النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يرقى على الصفا والمروة - وهما في جانب جبلي مكة - فيكبر ويهلل ويدعو الله تعالى. وقد بُني فوقهما دكتان؛ فمن وصل إلى أسفل البناء أجزأه السعي، فيطوف بالصفا والمروة سبعًا يبتدئ بالصفا ويختم بالمروة.
ويستحب أن يرمل ثلاثا في بطن الوادي من العَلَم إلى العَلَم وهما مَعْلَمان (أخضران) هناك وإن مشى على هيئته وجمع مابين الصفا والمروة أجزأه باتفاق العلماء ولاشيء عليه.
ولا صلاة عقيب الطواف بالصفا والمروة بسنة رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -.فإذا طاف بين الصفا والمروة حل من إحرامه كما أمر النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أصحابه إلا من كان معه هدي فلا يحل حتى ينحره.
والمفرِد والقارِن لا يحلان إلا يوم النحر ويستحب له أن يقصر من شعره ليدع الحِلاق للحج وكذلك أمرهم النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وإذا أحل حلَّ له ما حَرُمَ عليه بالإحرام.
الفصل التاسع
ما يفعله الحاج يوم التروية ويوم عرفة
1- يوم التروية:(/20)
فإذا كان يوم التروية أحرم وأهل بالحج كما فعل عند الميقات. والسنة أن يحرم من الموضع الذي هو نازل فيه لقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((من كان منزله دون مكة فمهله من أهله حتى أهل مكة يهلون من مكة))؛ متفقُ عليه. والصحابة أحرموا من منزلهم بالبطحاء بأمره- صلَّى الله عليه وسلَّم.
والسنة أن يبيت الحاج بمنى فيصلون بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر ولا يخرجون منها حتى تطلع الشمس كما فعل النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم.
2- يوم عرفة:
يسير الحاج من منى إلى نمرة على طريق ضب[24] من يمين الطريق، ونمرة كانت قرية خارج عرفات من جهة اليمين ببطن الوادي في حدود عرفة ببطن عُرنة، وهناك مسجد نمرة فيقيمون بها إلى الزوال.
ويخطب بهم الإمام ثم إذا قضى الخطبة أذَّن المؤذن وأقام لكل صلاة فيصلى الظهر والعصر جمعًا وقصرًا كما فعل النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم - ويصلي خلفه جميع الحاج من أهل مكة وغيرهم، ثم بعد ذلك يذهب إلى عرفات، فهذه السنة.
ولا يكاد الآن يذهب كثير من الحاج إلى نمرة ولا إلى مصلى النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم - بل يدخلون عرفات قبل الزوال ومنهم من يدخلها ليلا ويبيتون بها قبل التعريف وهذا يجزئ معه الحج لكن فيه نقص عن السنة فعليه فعل ما يمكن من السنة مثل الجمع بين الصلاتين، والوقوف بعرفات ولا يخرجون منها حتى تغرب الشمس.
ويجتهد في الذكر والدعاء هذه العشيَّة؛ فإنه: ((ما رؤى إبليس في يوم هو فيه أصغر ولا أحقر ولا أغيظ ولا أدحض من عشيِّة عرفة؛ لما يرى من تنزيل الرحمة وتجاوز الله سبحانه عن الذنوب العظام، إلا ما رؤى يوم بدر؛ فإنه رأى جبريل يزع الملائكة))؛ أي: يصفهم[25].
ويصح وقوف الحائض وغيرها، ويجوز الوقوف ماشيًا وراكبًا، وأما الأفضل فيختلف باختلاف الناس فإن كان ركوبه لحاجة الناس أو كان يشق عليه ترك الركوب وقف راكبًا؛ فإن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وقف راكبًا.(/21)
ولم يعيِّن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - لعرفة دعاء ولا ذكرًا؛ بل يدعو الرجل بما شاء من الأدعية الشرعية، ويُكبر ويهلل ويذكر الله تعالى حتى تغرب الشمس.
وقال النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((عرفة كلها موقف وارفعوا عن بطن عرنة ومزدلفة كلها موقف وارفعوا عن بطن محسِّر))، ((ومنى كلها منحر وفجاج مكة كلها طريق))[26].
3- الاغتسال في الحج:
والاغتسال لعرفة روى عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - [[27]] وروى عن ابن عمر وغيره. ولم ينقل عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ولا عن أصحابه في الحج إلا ثلاثة أغسال: غسل للإحرام، وعند دخول مكة، ويوم عرفة. وما سوى ذلك كالغسل لرمي الجمار وللطواف وللمبيت بمزدلفة فلا أصل له عن النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم - ولا أصحابه، بل هو بدعة إلا أن يكون هناك سبب يقتضي الاستحباب مثل أن يكون عليه رائحة يؤذى الناس فيغتسل لإزالتها.
4- صعود الجبل:
وأما صعود الجبل الذي هناك فليس من السنة ويسمى جبل الرحمة ويقال له: إلال على وزن هلال.
وكذلك قبة كانت فوقه يقال لها قبة آدم لا يستحب دخولها ولا الصلاة فيها.وأما الطواف بها أو بالصخرة أو بحجرة النبي صلى الله عليه وسلم أو مكان غير البيت العتيق فهو من الكبائر وأعظم البدع المحرمة.
الفصل العاشر
في الإفاضة من عرفات إلى المشعر الحرام
1- الإفاضة:
والسنة إذا أفاض من عرفات ذهب إلى المشعر الحرام على طريق المأزمين وهو طريق الناس اليوم، فلعرفة طريق أخرى تسمى طريق ضب ومنها دخل النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلى عرفات وخرج على طريق المأزمين.
وكان- صلَّى الله عليه وسلَّم - في المناسك والأعياد يذهب من طريق ويرجع من أخرى، ولا يزاحم الناس؛ بل إن وجد خلوة أسرع.
2- الإيقاد بالمشعر:
وإنما الإيقاد بمزدلفة[28] خاصة بعد الرجوع من عرفة، وأما الإيقاد بمنى أو عرفة فبدعة باتفاق العلماء.
3- الصلاة بمزدلفة:(/22)
فإذا وصل إلى المزدلفة صلى المغرب قبل تنزيل الأحمال إن أمكن ثم إذا أنزلوها صلوا العشاء وإن أخَّر العشاء لم يضره ذلك. ويبيت بمزدلفة، وهى المشعر الحرام وهى ما بين مأزمي عرفة إلى بطن محسِّر، فإن بين كل مشعرين حدًا ليس منهما، فبين عرفة ومزدلفة بطن عرنة وبين مزدلفة ومنى بطن محسِّر.
4- المبيت بمزدلفة:
والسنة أن يبيت بمزدلفة ويصلى بها الفجر في أول الوقت ثم يقف بالمشعر الحرام إلى أن يسفر جدا قبل طلوع الشمس.فإن كان من الضَّعَفَة كالنساء والصبيان ونحوهم فإنه يتعجل من مزدلفة إلى منى إذا غاب القمر. ومزدلفة كلها موقف لكن الوقوف عند قزح أفضل وهو جبل المقيدة الذي يقف فيه الناس اليوم وقد بُني عليه مسجد يخص باسم المشعر الحرام.فإذا كان قبل طلوع الشمس أفاض من مزدلفة إلى منى فإذا أتى محسِّرًا أسرع قدر رمية بحجر.
5- قطع التلبية:
ولا يزال يلبى في ذهابه من مشعر إلى مشعر مثل ذهابه إلى عرفات ومنها إلى مزدلفة حتى يرمى جمرة العقبة. فإذا شرع في الرمي قطع التلبية فإنه حينئذ يشرع في التحلل.
وفي التلبية ثلاثة أقوال:
قول: يقطعها إذا وصل إلى عرفة.
وقول: يلبي بعرفة وغيرها إلى أن يرمي الجمرة.
والثالث: أنه إذا أفاض من عرفة إلى مزدلفة لبى وإذا أفاض من مزدلفة إلى منى لبى حتى يرمى جمرة العقبة، وهكذا صح عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم[29].
وأما التلبية في وقوفه بعرفة ومزدلفة فلم ينقل عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وقد نُقل عن الخلفاء الراشدين وغيرهم أنهم كانوا يلبون بعرفة.
الفصل الحادي عشر
في أعمال يوم النحر
1-رمي جمرة العقبة:(/23)
فإذا أتى منى رمى جمرة العقبة بسبع حصيات، ويرفع يده في الرمي وهى آخر الجمرات من ناحية منى وأقربهن من مكة وهى الجمرة الكبرى، ولا يرمي يوم النحر غيرها، يرميها مستقبلاً لها، يجعل البيت عن يساره ومنى عن يمينه. هذا هو الذي صح عن النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم – فيها، ويستحب أن يكبِّر مع كل حصاة[30].
وله أن يأخذ الحصى من حيث شاء لكن لا يرمى بحصى قد رُمي به.ويستحب أن يكون فوق الحمص ودون البندق وإن كسره جاز. والتقاط الحصى أفضل من تكسيره.وإن شاء قال مع ذلك: "اللهم اجعله حجًّا مبرورًا، وسعيًا مشكورًا، وذنبًا مغفورًا)".
فإذا رمى جمرة العقبة نحر هديه إن كان معه هدى.ثم يحلق رأسه أو يقصره والحلق أفضل من التقصير وإذا قصره جمع الشعر وقص منه بقدر الأنملة أو أقل أو أكثر، والمرأة لا تقص أكثر من ذلك، وإذا فعل ذلك فقد تحلَّل باتفاق المسلمين التحلُّل الأول، فيلبس الثياب ويقلم أظفاره، وكذلك له - على الصحيح - أن يتطيب ويتزوج، أي يحل ّ له عقد النكاح دون المباشرة، وأن يصطاد في الحلِّ خارج الحرم، ولا يبقى عليه من المحظورات إلا النساء؛ لحديث ابن عباس قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إذا رميتم الجمرة فقد حلَّ لكم كل شيء إلا النساء))[31].
2- الهَدْي والصيام على القارِن والمتمتِّع:
الهَدْي:(/24)
وليس في عمل القارِن زيادة على عمل المفرد لكن عليه وعلى المتمتع هدى بَدَنَة أو بقرة أو شاة أو شرك في دم.ويستحب أن تُنحر الإبل مستقبلة القبلة قائمة معقولة اليد اليسرى والبقر والغنم بضجعها على شقها الأيسر مستقبلاً القبلة ويقول بسم الله والله أكبر اللهم منك ولك اللهم تقبل منى كما تقبلت من إبراهيم خليلك.وكل ما ذُبِح بمنى وقد سيق من الحل إلى الحرم فانه هدى بالاتفاق، ويسمى أيضًا أضحية بخلاف ما يذبح يوم النحر بالحل فانه أضحية وليس بهدى.وأما إذا اشترى الهَدْي من منى وذبحه فيها ففيه نزاع فمذهب مالك أنه ليس بهدى وهو منقول عن ابن عمر ومذهب الثلاثة أنه هدى وهو منقول عن عائشة.
الصيام:
فمن لم يجد الهَدْي صام ثلاثة أيام قبل يوم النحر وسبعة إذا رجع.
وفيه ثلاث روايات عن أحمد قيل: أنه يصومها قبل الإحرام بالعمرة، وقيل: لا يصومها إلا بعد الإحرام بالحج، وقيل: يصومها من حين الإحرام بالعمرة، وهو الأرجح.
وقد قيل: أنه يصومها بعد التحلُّل من العمرة؛ فإنه حينئذ شرع في الحج؛ لقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة))[32]، وحينئذ فلابد من صوم بعض الثلاثة قبل الإحرام بالحج.
3- الطواف والسعي بعد الإفاضة من عرفة:
وبعد ذلك يدخل مكة فيطوف طواف الإفاضة إن أمكنه يوم النحر، وإلا فعله في أيام التشريق فإن تأخيره عن ذلك فيه نزاع.
ثم يسعى بعد ذلك سعى الحج وليس على المفرد إلا سعي واحد، وكذلك القارِن عند جمهور العلماء، وكذلك المتمتِّع في أصحِّ أقوالهم، وهو أصح الروايتين عن أحمد، فإن الصحابة الذين تمتعوا مع النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - لم يطوفوا بين الصفا والمروة إلا مرة واحدة قبل التعريف، فإذا اكتفى المتمتع بالسعي الأول أجزأه ذلك كما يجزئ المفرِد والقارِن.(/25)
قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: "قيل لأبى: المتمتع كم يسعى بين الصفا والمروة؟ قال: إن طاف طوافين يعنى بالبيت وبين الصفا والمروة فهو أجود، وإن طاف طوافًا واحدًا فلا بأس، وإن طاف طوافين فهو أعجب إليَّ".
وروى أحمد بسنده عن ابن عباس أنه كان يقول: "المفرد والمتمتع يجزئه طواف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة".
وقد اختلفوا في الصحابة المتمتعين مع النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - مع اتفاق الناس على أنهم طافوا أولاً بالبيت وبين الصفا والمروة، ولما رجعوا من عرفة قيل: إنهم سعوا أيضًا بعد طواف الإفاضة، وقيل: لم يسعوا وهذا هو الذي ثبت في صحيح مسلم: 1218 وغيره عن جابر قال: "لم يطف النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافًا واحدًا؛ طوافه الأول".
وقد روى في حديث عائشة: "أنهم طافوا مرتين"، لكن هذه الزيادة قيل: إنها من قول الزهري، وقد احتج بها بعضهم على أنه يستحب طوافان، وهذا ضعيف، والأظهر ما في حديث جابر، ويؤيده قوله: ((دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة)).
فالمتمتع من حين أحرم بالعمرة دخل بالحج لكنه فصل (بتحليل) ليكون أيسر على الحاج، ((وأحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة))؛ المسند: 1: 236.
ولا يستحب للمتمتع ولا لغيره أن يطوف للقدوم بعد التعريف بل هذا الطواف هو السنة في حقه كما فعل الصحابة مع النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فإذا طاف طواف الإفاضة فقد حلَّ له كل شيء؛ النساء وغير النساء.
الفصل الثاني عشر
في المبيت بمنى ورمي الجمرات
ثم يرجع إلى منى فيبيت بها ويرمي الجمرات الثلاث كل يوم بعد الزوال يبتدئ بالجمرة الأولى التي هي أقرب إلى مسجد الخيف.
ويستحب أن يمشي إليها فيرميها بسبع حصيات، وأن يكبِّر مع كل حصاة، وإن شاء قال: "اللهم اجعله حجًّا مبرورًا، وسعيًا مشكورًا، وذنبًا مغفورًا".(/26)
ويُستحبُّ له إذا رماها أن يتقدَّم قليلاً إلى موضعٍ لا يصيبه الحصى، فيدعو الله تعالى مستقبل القبلة، رافعًا يديه[33] بقدر قراءة سورة البقرة، ثم يذهب إلى الجمرة الثانية فيرميها كذلك، فيتقدم عن يساره يدعو مثل ما فعل عند الأولى، ثم يرمي جمرة العقبة بسبع حصيات أيضًا ولا يدعو عندها. ثم يرمي في اليوم الثاني من أيام منى مثل ذلك، ثم إن شاء رمى في اليوم الثالث - وهو الأفضل - وإن شاء تعجَّل في اليوم الثاني بنفسه قبل غروب الشمس، كما قال تعالى: {فَمَن تَعَجَّلَ في يَومَينِ فلا إِثمَ عَلَيهِ} [البقرة: 203]، فإذا غربت الشمس وهو بمنى أقام حتى يرمي مع الناس في اليوم الثالث.
ولا ينفر الإمام الذي يقيم للناس المناسك؛ بل السنة أن يقيم إلى اليوم الثالث ويصلي بالناس بمنى، ويصلي خلفه أهل الموسم.
الفصل الثالث عشر
الصلاة في المشاعر
1- الصلاة:
ويصلون بعرفة ومزدلفة جمعا وقصرا.ويقصرون الصلاة فقط بمنىكما كان أهل مكة يفعلون خلف النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم - ولم يأمر النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -ولا خلفاؤه أحدًا من أهل مكة أن يتموا الصلاة. إنما قال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((يا أهل مكة، أتمُّوا صلاتكم، فإنَّا قوم سفرٍ))[34] في غزوة الفتح لمَّا صلى بهم بمكة، وأما في حجه؛ فكان نازلاً خارج عمران مكة، وهناك كان يصلي بأصحابه، ثم لما خرج إلى منى وعرفة خرج معه أهل مكة وغيرهم ثم رجعوا معه. ولما صلى بمنى أيام منى صلوا معه.
ولم يحدَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - السفر لا بمسافة ولا بزمان، ولم يكن بمنى أحدٌ ساكنًا في زمنه؛ ولهذا قال: ((منى مُناخ مَنْ سبق))؛ رواه أحمد: 6: 207 وصححه الترمذي: 881.
وقيل أنها سُكِنَتْ في خلافة عثمان، وأنه بسبب ذلك أتمَّ عثمان الصلاة؛ لأنه كان يرى أنَّ المسافر مَنْ يحمل الزاد والمزاد.(/27)
ويستحب ألا يدع الصلاة في مسجد نمرة، والخيف بمنى مع الإمام؛ فإن لم يكن للناس إمامٌ عامٌّ؛ صلى الرجل بأصحابه.
2- صلاة العيد والجمعة بالمشاعر:
وليس بمنى صلاة عيد والنبي- صلَّى الله عليه وسلَّم - لم يصلِّ جمعة ولا عيدًا في السفر لا بمكة ولا عرفة؛ بل كانت خطبته بعرفة خطبة نُسك لا خطبة جمعة، ولم يجهر بالقراءة في الصلاة بعرفة.
3- طواف الوداع والتزام الملتزَم:
ثم إذا نفر من منى؛ فإن بات بالمحصب وهو الأبطح وهو ما بين الجبلَيْن إلى المقبرة، ثم نفر بعد ذلك فحسن؛ فإن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - بات به وخرج ولم يقم بمكة بعد صدوره من منى لكنه ودَّع البيت وقال: ((لا ينفرنَّ أحدٌ حتى يكون آخر عهده بالبيت))[35]. فلا يخرج الحاج حتى يطوف طواف الوداع ليكون آخر عهده بالبيت.
ومَنْ أقام بمكة فلا وداع عليه، وهذا الطواف يؤخِّره الصادر من مكة حتى يكون بعد جميع أموره، فلا يشتغل بعده بتجارة ونحوها، لكن إن قضى حاجته أو اشترى شيئًا في طريقه بعد الوداع أو عمل ممَّا هو من أسباب الرحيل؛ فلا إعادة عليه. وإن أقام بعد الوداع أعاده، وهذا الطواف واجب عند الجمهور ويسقط عن الحائض.
وإن أحب أن يأتي الملتزَم وهو ما بين الحجر الأسود والباب، فيضع عليه صدره ووجهه وذراعيه وكفيه ويدعو ويسأل الله تعالى حاجته - فعل.
ولا فرق بين أن يكون حال الوداع أو غيره، والصحابة كانوا يفعلون ذلك حين يدخلون مكة.
ولو وقف عند الباب ودعا هناك من غير التزام للبيت كان حسنًا.
فإذا ولَّى؛ لا يقف ولا يلتفت ولا يمشي القهقرى - مشية الراجع إلى خلف - وكذلك عند سلامه على النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - بل يخرج كما يخرج الناس من المساجد عند الصلاة.
4- دعاء ابن عباس المأثور في طواف الوداع:(/28)
وإن شاء قال في دعائه الدعاء المأثور عن ابن عباس: "اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك، حملتني على ما سخرت لي من خلقك، وسيَّرتني في بلادك حتى بلغتني بنعمتك إلى بيتك، وأعنتني على أداء نسكي. فإن كنت رضيت عنى فازدد عنى رضا، وإلا فمن الآن فارضَ عني قبل أن تنأى عن بيتك داري، فهذا أوان انصرافي إن أذنت لي، غير مستبدل بك ولا ببيتك، ولا راغبًا عنك ولا عن بيتك. اللهم فاصحبني العافية في بدني، والصحة في جسمي، والعصمة في ديني، وأحسِن منقلبي، وارزقني طاعتك ما أبقيتني، وأجمع لي بين خير الدنيا والآخرة؛ إنك على كل شيء قدير".
5- دخول الكعبة:
ليس بفرض ولا سنة مؤكدة؛ بل دخولها حسنٌ، والنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - لم يدخلها في الحج ولا العمرة، وإنما دخلها عام فتح مكة.
ومن دخلها يستحبُّ أن يصلي فيها ويكبر الله ويدعوه ويذكره، فإذا دخل تقدَّم حتى يصير بينه وبين الحائط ثلاثة أذرع والباب خلفه، فذلك المكان الذي صلى فيه النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم - ولا يدخلها إلا حافيًا.
والحِجر أكثره من البيت من حيث ينحني حائطه، فمن دخله فهو كمن دخل الكعبة، وليس على داخل الكعبة ما ليس على غيره من الحجاج.
الفصل الرابع عشر
في زيارة مسجد رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم – وغيره
1- حرمة المدينة كحرمة مكة، ولا ثالث لهما:
وحرم المدينة محدد بقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((المدينة حَرَمٌ ما بين عير إلى ثور))[36]، وهو ما بين لابتَيْها.
واللاَّبة: هي الحَرَّة، وهى الأرض التي فيها حجارة سود، وهو بُرَيْد في بُرَيْد –والبُرَيْد: أربع فراسخ - فهذا الحرم لا يُصطاد صيده، ولا يقطع شجره إلا لحاجة؛ كآلة الركوب والحرث، ويؤخذ من حشيشه ما يُحتاج إليه للعلف؛ فإن النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم - رخَّص لأهل المدينة في هذا لحاجتهم إليه، وإذا أدخل عليه صيدٌ لم يكن عليه إرساله.(/29)
والحرم المُجمَع عليه حرم مكة، والمدينة لها حرم عند الجمهور، ولم يتنازع المسلمون في حرم ثالث إلا في وجوه وواد بالطائف – وهو عند بعضهم حرم، وعند الجمهور ليس بحرم.
ولا يقال حرم المقدس وحرم الخليل؛ فإن هذين وغيرهما ليس بحرمٍ باتفاق المسلمين.
2-آداب الزيارة:
فإذا دخل المدينة فإنه يأتي مسجد النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم - ويصلي فيه: ((والصلاة فيه خيرٌ من ألف صلاة فيما سواه، إلا المسجد الحرام))، كما لا تُشَدُّ الرحال إلا إليه وإلى المسجد الحرام والمسجد الأقصى؛ أخرجه البخاري: 1189, 1190، ومسلم: 1397، 1396.
ومسجده كان أصغر مما هو اليوم وكذلك المسجد الحرام لكن زيد فيهما، وحكم الزيادة حكم المزيد في جميع الأحكام.
ثم يسلم على النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم – وصاحبيه؛ فإنه قد قال: ((ما من رجل يسلِّم عليَّ إلا ردَّ الله عليَّ روحي حتى أردَّ عليه السلام))؛ رواه أبو داود وغيره.
وكان عبدالله بن عمر يقول إذا دخل المسجد: "السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبتٍ"، ثم ينصرف.
وهكذا كان الصحابة يسلمون عليه، مستقبلي الحجرة مستدبري القبلة عند أكثر العلماء كمالك والشافعي وأحمد. وأبو حنيفة قال: يستقبل القبلة فمن أصحابه من قال: يستدبر الحجرة ومنهم من قال: يجعلها عن يساره.
واتفقوا على أنه لا يستلم الحجرة ولا يقبلها، ولا يطوف بها ولا يصلي إليها.
وإذا قال في سلامه: "السلام عليك يا رسول الله، يا نبي الله، يا خيرة الله من خلقه، يا أكرم الخلق على ربه، يا إمام المتقين"؛ فهذا كله من صفاته - بأبي هو وأمي، صلَّى الله عليه وسلَّم.
ولا يدعو هناك مستقبل الحجرة؛ فإن هذا كله منهيٌّ عنه باتفاق الأئمة، ومالك من أعظم الأئمة كراهية لذلك.(/30)
ولم يكن أحد من الصحابة يقف عنده يدعو لنفسه، ولكن كانوا يستقبلون القبلة ويدعون في مسجده، فإنه - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((لعن الله اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)). يحذِّر ما فعلوا. قالت عائشة: ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكنه كره أن يُتَّخذ مسجدًا؛ أخرجه البخاري: 1330، ومسلم: 529. فدفنته الصحابة في موضعه الذي مات فيه من حجرة عائشة، وكانت وسائر الحجر خارج المسجد من قبليِّه وشرقيِّه.
ولما كان في زمن الوليد بن عبدالملك عُمِّر هذا المسجد وغيره، فدخلت الحجرة في المسجد من ذلك الزمان، وبنيت منحرفةً عن القبلة مسنَّمةً، لئلا يصلي أحدٌ؛ إليها لقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها))؛ رواه مسلم: 972.
والله أعلم.
3- زيارة مسجد قباء:
ويستحب أن يأتي مسجد قباء ويصلى فيه فإن النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم -قال (الصلاة في مسجد قباء كعمرة)قال الترمذي: حديث حسن.لكنه يزار من المدينة وليس لأحد أن يسافر إليه لنهيه- صلَّى الله عليه وسلَّم -أن تشد الرحال إلا إلى المساجد الثلاثة، كما مر.
4- رفع الأصوات في المساجد:
ورفع الصوت في المساجد منهيٌّ عنه، وهو في مسجد النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أشد.
وقد ثبت أن عمر بن الخطاب - رضيَ الله عنه - رأى رجلين يرفعان أصواتهما في المسجد؛ فقال: "لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما ضربًا؛ ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -!!"؛ البخاري: 470.
5- تمور المدينة ومياهها:
أما التمر الصيحاني فلا فضيلة فيه؛ بل غيره من التمر البرني والعجوة خيرٌ منه، وصحَّ عنه: ((من تصبح كل يوم سبع تمراتٍ عجوةً؛ لم يضرَّه ذلك اليوم سمٌّ ولا سِحْرٌ))؛ رواه البخاري: 5445، ومسلم: 2047.
ولم يكن بالمدينة على عهد النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - عين جارية، لا الزرقاء ولا عيون حمزة ولا غيرهما؛ بل كل هذا مستخرجٌ بعده.(/31)
6- زيارة المسجد الأقصى - فك الله أسره:
والسفر إلى المسجد الأقصى والصلاة فيه والدعاء والذكر والقراءة والاعتكاف مستحب، ولا يفعل فيه وفي مسجد النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلا ما يفعل في سائر المساجد، وليس فيها شيءٌ يُتمسَّح به ولا يُقبَّل ولا يُطاف به، هذا كله ليس إلا في المسجد الحرام خاصة.
ولا يستحب زيارة الصخرة؛ بل المستحب أن يصلي في قبليِّ المسجد الأقصى الذي بناه عمر بن الخطاب للمسلمين.
7- زيارة القبور شرعية وبدعية:
أ-فالشرعية: المقصود بها السلام على الميت والدعاء له، فزيارته بعد موته من جنس الصلاة عليه، فالسنة أن يسلِّم على الميت ويدعو له، سواء كان نبيًّا أو غير نبي؛ لأمره- صلَّى الله عليه وسلَّم - إذا زاروا القبور أن يقولوا: ((السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، ويرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية. اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنَّا بعدهم، واغفر لنا ولهم))[37].
وهكذا إذا زار أهل البقيع أو زار شهداء أُحد أو غيرهم، وليست الصلاة عند قبورهم أو قبور غيرهم مستحبة عند أحد من أئمة المسلمين؛ بل الصلاة في المساجد التي ليس فيها قبر أحد من الأنبياء والصالحين وغيرهم أفضل من الصلاة في المساجد التي فيها ذلك، باتفاق أئمة المسلمين؛ بل الصلاة في المساجد التي على القبور إمَّا محرمة وإما مكروهة.
وتُزار القبور بالزيارة الشرعية من كان قريبًا ومن اجتاز بها.(/32)
ب -والزيارة البدعية: أن يكون مقصود الزائر طلب حوائجه من ذلك الميت أو الدعاء عند قبره أو الدعاء به فهذا ليس من سنة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -بل هو من البدع المنهي عنها باتفاق الأئمة، وقد كره مالك وغيره أن يقول القائل: زرت قبر النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم -وهذا لفظ لم يُنقل عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - بل الأحاديث المذكورة في هذا الباب مثل قوله: ((من زارني وزار أبي إبراهيم في عام واحد؛ ضمنتُ له على الله الجنة))، وقوله: ((من زارني بعد مماتي فكأنما زارني في حياتي))، أو: ((حلَّت عليه شفاعتي)) ونحو ذلك - كلها أحاديث ضعيفة؛ بل موضوعة، ليست في شيءٍ من دواوين الإسلام التي يعتمد عليها، ولكن روى بعضها البزار، والدارقطني ونحوهما بأسانيد ضعيفة، لأن من عادة الدارقطني وأمثاله يذكرون هذا في السنن ليُعرف، وهو وغيره يبينون ضعف الضعيف من ذلك، فإذا كانت هذه الأمور التي فيها شرك وبدعة نهي عنها عند قبره وهو أفضل الخلق؛ فالنهي عن ذلك عند قبر غيره أوْلى وأحرى.
8- زيارة البقاع التي بُنيت على الآثار:
وأما زيارة المساجد التي بنيت بمكة وغيرها على آثار النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم - وأصحابه غير المسجد الحرام. وكذلك قصد الجبال والبقاع التي حول مكة غير المشاعر؛ مثل جبل حراء والجبل الذي عند منى الذي يقال فيه قبة الفداء، وما يوجد في الطرقات من المساجد المبنية على الآثار ونحوها، فإن ذلك كله ليس من سنة رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قصدًا أو زيارة شيءٍ منها؛ بل هو بدعة.
الفصل الخامس عشر
في حق الله تبارك وتعالى(/33)
والله هو المعبود المسؤول المستعان به، الذي يُخاف ويُرجى ويُتوكَّل عليه؛ قال تعالى: {وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخشَ اللهَ وَيَتَّقهِ فَأُوْلَئَكَ هُمُ الفائزون} [النور: 52]، فجعل الطاعة لله والرسول كما قال تعالى: {مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَد أَطَاعَ اللهَ} [النساء: 80]، وجعل الخشية والتقوى لله وحده لا شريك له؛ فقال تعالى: {وَلَو أَنَّهُم رَضُواْ ما أتاهم اللهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسبُنَا اللهُ سَيُؤتِينَا اللهُ مِن فَضلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللهِ رَاغِبُونَ} [التوبة: 59]، فأضاف الإيتاء إلى الله والرسول كما قال تعالى: {وَمَا أَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُم عَنهُ فَانتَهُواْ} [الحشر: 7].
فليس لأحد أن يأخذ إلا ما أباحه الله والرسول، وإن كان الله آتاه ذلك من جهة القدرة والملك؛ فإنه يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء، ولهذا كان - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول في الاعتدال من الركوع وبعد السلام: ((اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطيَ لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد))[38]؛ أي: من آتيته جَدًّا - وهو البخت والمال والملك - فإنه لا ينجيه منك إلا الإيمان والتقوى، وأما التوكل فعلى الله وحده والرغبة فإليه وحده كما قال تعالى: {وَقَالُواْ حَسبُنَا اللهُ وَنِعمَ الوَكِيلُ} [آل عمران: 173]، وقالوا: {إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ} [القلم: 32]، ولم يقولوا هنا (ورسوله) كما قال في الإيتاء.
وقد قال تعالى: {يا أيُّهَا النبي حَسبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤمِنِيَن} [الأنفال: 64]؛ أي: الله وحده حسبك وحسب المؤمنين الذين اتبعوك. ومن قال: إن المعنى: الله والمؤمنون حسبك فقد ضلَّ؛ بل قوله من جنس الكُفْر؛ فإن الله وحده هو حسب كل مؤمن به. والحسب: الكافي كما قال تعالى: {أَلَيسَ اللهُ بِكَافٍ عَبدَهُ} [الزمر: 36].(/34)
ولله تعالى حق لا يشركه فيه مخلوق، وذلك أن الدين مبنى على أصلَيْن: ألا يُعبَد إلا الله وحده لا شريك له، ولا يُعبَد إلا بما شَرَع، لا نعبده بالبدع، كما قال تعالى: {فَمَن كَانَ يَرجُواْ لِقَاءَ رَبِهِ فَليَعمَل عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشرِك بِعِبَادَةِ رَبِهِ أَحَدَا} [الكهف: 110]، ولهذا كان عمر بن الخطاب - رضيَ الله عنه - يقول في دعائه: "اللهم اجعل عملي كله صالحًا، واجعله لوجهك خالصًا، ولا تجعل فيه لأحدٍ شيئًا".
وقال الفُضَيْل بن عِياض في قوله تعالى {لِيَبلُوَكُم أَيُكُم أَحسَنُ عَمَلاً} [الملك: 2]: "إن العمل لم يقبل حتى يكون خالصًا صوابًا، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنَّة".
وقد قال الله تعالى: {أَم لَهُم شُرَكَاءُ شَرَعُواْ لَهُم مِنَ الدِينِ مَا لَم يَأذَن بِهِ اللهُ} [الشورى: 21].
والمقصود بجميع العبادات أن يكون الدين كله لله وحده، فله الدين خالصًا: {وَلَهُ أَسلَمَ مَنْ فِي السَماوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [آل عمران: 83]، وقال تعالى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر: 1-3] إلى قوله تعالى: {قُلِ اللهَ أَعبُدُ مُخلِصًا لَّهُ ديني} [الزمر: 14]، إلى قوله: {قُل أَفَغَيرَ اللهِ تأمروني أَعبُدُ أَيُّهَا الجَاهلُونَ} [الزمر: 64]، وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ} الآيتين [الإسراء: 56]، وقال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ} الآيات [الأنبياء: 26-27]، وقال تعالى: {وَمَا خَلَقتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعبُدُونِ} [الذاريات: 56].(/35)
فيجب على المسلم أن يعلم أن الحج من جنس الصلاة ونحوها من العبادات التي يُعبد الله بها وحده لا شريك له، وأن الصلاة على الجنائز وزيارة قبور الأموات من جنس الدعاء لهم، والدعاء للخلق من جنس المعروف والإحسان الذي هو من جنس الزكاة؛ ولهذا كان أئمة العلماء يعدُّون من جملة البدع المنكرة السفر لزيارة قبور الأنبياء والصالحين، وأن من سافر هذا السفر لا يقصر فيه الصلاة؛ لأنه سفر معصية، أو سافر لأجل الاستعاذة بهم ونحو ذلك، فهذا شركٌ وبدعةٌ كما تفعله النصارى ومن أشبههم من مبتدعة هذه الأمة، ولهذا قال - صلَّى الله عليه وسلَّم - لما ذكرت له أم سلمة كنيسةً بأرض الحبشة وما فيها من التصاوير: ((أولئك قومٌ إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدًا، وصوَّروا فيه تلك التصاوير، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة))؛ رواه البخاري: 434، ومسلم: 528.
فلا يجوز بناء المساجد على القبور لقول النبي صلى الله عليه وسلم قبل موته بخمس ليال: (إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك)رواه مسلم رقم: 532]
الفصل السادس عشر
في حقِّ الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم -
فحقُّه: الإيمان به، وطاعته، واتِّباع سنته، وموالاة من يواليه، ومعاداة من يعاديه، وتقديمه في المحبة على الأهل والمال والنفس، كما قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((والذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبَّ إليه من ولده ووالده والناس أجمعين))؛ رواه البخاري: 1573، ومسلم: 1259.(/36)
وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24]، وقال تعالى: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ} [التوبة: 62].
والصلاة عليه مشروعةٌ في كل زمان ومكان، وفي مسلم [408] أنه - صلَّى الله عليه وسلَّم -قال: ((مَنْ صلَّى عليَّ مرةً؛ صلَّى الله عليه بها عشرًا))، وقال: ((أكثِروا عليَّ من الصلاة يوم الجمعة وليلة الجمعة؛ فإن صلاتكم معروضةٌ عليَّ))[39].
وفي المسند [5: 136]: أن رجلاً قال: يا رسول الله، أجعل عليك ثُلُثَ صلاتي؟ قال: ((إذًا يكفيك الله ثُلُثَ أمركَ)). فقال: أجعل عليك ثُلُثَي صلاتي! قال: ((إذًا يكفيك الله ثُلُثَي أمركَ)). قال: أجعل صلاتي كلها عليكَ! قال: ((إذًا يكفيك الله ما أهمَّك من أمر دنياك وأمر أخِرتك)؛ ورواه الترمذي وقال: "حسنٌ صحيحٌ".
وفي "السنن" عنه- صلَّى الله عليه وسلَّم - أنه قال: ((لا تتخذوا قبري عيدًا، وصلُّوا عليَّ حيثما كنتم؛ فإن صلاتكم تبلغني)).
لذا؛ لمَّا رأى عبد الله بن حسن شيخ الحسنَيْين في زمنه رجلاً ينتاب قبرَ النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم - للدعاء عنده قال: "ما أنت ورجل بالأندلس إلا سواء"!
ولهذا كان السلف يكثرون الصلاة والسلام عليه في كل مكان وزمان، وكانوا يفعلون في مسجده ما هو المشروع في سائر المساجد؛ من الصلاة والقراءة والذِّكْر والدعاء والاعتكاف، وتعليم القرآن والعلم وتعلمه ونحوه.(/37)
وقد علموا أن للنبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - مثلَ أجرِ كلِّ عملٍ صالحٍ تعملَّه أمَّته، فإنه - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((مَنْ دعا إلى هدى فله من الأجر مثل أجور منِ اتَّبعه، من غير أن ينقص من أجورهم شيئًا))؛ رواه مسلم: 2674.
فكل خيرٍ يعمله أحدٌ من الأمَّة فله مثل أجره، فلم يكن - صلَّى الله عليه وسلَّم - يحتاج إلى أن يُهدى إليه ثواب أيِّ عمل.
وكل من كان له أَطْوَع وأَتْبَع، كان أوْلى الناس به في الدنيا والآخرة؛ قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف: 108].
والله سبحانه وتعالى أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين آمين.
---
[1] - انظر: شرح العمدة في بيان مناسك الحج والعمرة لشيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق الدكتور صالح بن محمد الحسن [1/73-179] باختصار.
[2] - رجَّح الحافظ ابن حجر وقفه على جابر؛ انظر: بلوغ المرام حديث رقم (728).
[3] - قال شيخ الإسلام - رحمه الله – بالقولين؛ انظر: مجموع الفتاوى [26/5 – 9/197]، وشرح العمدة [1/88-104]، ولقد قال بسنِّيتها الأحناف والمالكية، وبوجوبها الشافعية، وكذا المشهور من قولَي الحنابلة، وهو الراجح،،، والله اعلم.
[4] - قال ابن تيمية في شرح العمدة [1/318]: "ومَنْ مرَّ على ميقاتين؛ فعليه أن يحرم من أبعدهما من مكة، قال أحمد: إذا مر رجل من أهل الشام بالمدينة، وأراد الحج؛ فإنه يهلُّ من ذي الحُلَيْفة، وعن النبي صلى الله عليه وسلم: ((هن لأهلهن، ولمن أتى عليهن من غير أهلهن))؛ فجعل الميقات لكل من مرَّ به".
[5]- قال في المغني: "وقال بعضهم: لا يجب الإحرام عليه، وعن أحمد ما يدلُّ على ذلك، وقد روي عن ابن عمر أنه دخلها بغير إحرام. ولأن الوجوب من الشرع، ولم يرد من الشارع إيجابُ ذلك على كل داخلٍ؛ فبقي على الأصل"؛ [5/72].(/38)
[6] - روى البخاري معلقًا عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "من السنة أن لا يحرم بالحج إلا في أشهر الحج" في كتاب الحج باب قوله تعالى (الحج أشهر معلومات) وعند الجمهور: يكره الإحرام بالحج قبل أشهر الحج مع صحة انعقاده، أما الشافعية فلا ينعقد الإحرام بالحج في غير أشهره، وينعقد عمرة مجزية على الأصح عندهم.
[7] - انظر: مجموع الفتاوى 26/41-43.
[8]- لقول رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - لأصحابه: ((من أراد منكم أن يُهلّ بحج وعمرة فليُهلّ ومن أراد أن يُهلّ بحج فليُهلّ ومن أراد أن يُهلّ بعمرة فليُهلّ))؛ رواه مسلم في الحج باب وجوه الإحرام (1211/114).
[9] - رواه ابن ماجه (2924)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: "رواه أبو يعلى وفيه رجل ضعيف" (3/224)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير: (1112).
[10] - لأمره - صلَّى الله عليه وسلَّم - أسماءَ بنت عميس حين نفست أن تغتسل وتُهِلَّ؛ رواه مسلم في الحج، باب إحرام النفساء برقم (1210).
[11] - لقوله- صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا يلبس القميص ولا العمامة ولا البرنس ولا السراويل، ولا ثوبًا مسَّه وَرَسٌ ولا زعفران، ولا الخفَّين، إلا ألا يجد نعلين، فيقطعهما حتى يكونا أسفل الكعبين))؛ رواه الجماعة.
[12]-لما رواه ابن عباس رضي الله عنهما قال:سمعت رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يخطب بعرفات: ((من لم يجد إزاراً فليلبس سراويل ومن لم يجد نعلين فليلبس خفين))؛ رواه البخاري في اللباس باب السراويل (ح/5804) ومسلم في الحج باب ما يباح للمحرم (1178/4)
[13]- القميص الذي يلبس ليمتص العرق، فيكون فوق الركبة.
[14] - رواه الإمام أحمد، والبيهقي في سننه 5/70، قوله: ((أضح لمن أحرمت له))؛ أي: ليبرز للشمس ولا يستظل؛ قربةً لله.(/39)
[15] - لفظ: ((من قُتلَ دون ماله فهو شهيد)) في الصحيحين؛ رواه البخاري برقم [2480]، ومسلم [141]، وروى الحديث بتمامه الترمذيُّ برقم 1421، وقال: "هذا حديث حسن صحيح"، ورواه باقي الجماعة.
[16] - أخرجه الشافعي في مسنده 1/339، ومن طريقه خرجه البيهقي 5/73 عن ابن جُريج، وقال عنه ابن القيم: إنه مرسل [زاد الميعاد]5/224.
[17] - قال في نيل الأوطار: سنده صحيح [5/47].
[18] -أخرجه الشافعي في كتابه الأم عن ابن جريج 2/170، باب ما يقال عند استلام الركن.
[19] -لحديث ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - اضطبع فاستلم وكبر، ثم رمل" الحديث؛ رواه أبو داود في المناسك، باب في الرمل، رقم (1889)، وحديث يعلى بن أمية رضي الله عنه: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - طاف مضطبعًا وعليه بُرْدٌ"؛ رواه الترمذي برقم (859)، وقال: "وهو حديث حسن صحيح".
[20] - لحديث أنس رضي الله عنه: كان أكثر دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار))؛ متفقٌ عليه.
[21] - لما رواه أبو داود عن كثير بن كثير عن جده: "أنه رأى رسول الله صلى الله يصلي مما يلي باب بني سهم، والناس يمرون بين يديه، وليس بينهما ستره"؛ كتاب المناسك، باب مكة (ح/2014).
قال صاحب "عون المعبود": "الحديث أخرجه أبو يعلى الموصلي .. وترجم به عبدالرزاق في باب لا يقطع الصلاة في مكة شيء"، ثم قال: "وأخرجه من هذا الوجه أصحاب السنن، ورجاله موثوقون، إلا أنه معلولٌ، وقال المنذري: في إسناده مجهول". انتهى. انظر: عون المعبود في شرح سنن أبى داود [5/345]
[22] - رواه أحمد 1/123،129.والترمذي في الطهارة باب ما جاء أن مفتاح الصلاة الطهور رقم(3) وقال: هذا الحديث أصح شيء في هذا الباب وأحسن ورواه غيرهما.(/40)
[23] - طواف الحائض: يذكر ابن القيم - رحمه الله - أن طواف الحائض من اختيارات شيخ الإسلام - رحمه الله - لكن في أقواله في مجموع الفتاوى (26/185 –188) ما يفهم منه رأي آخر لهذا الاختيار؛ حيث يقول: "ومعلوم أن المرأة إذا لم يمكنها فعل شيء من فرائض الصلاة أو الصيام أو غيرهما إلا مع الفجور - لم يكن لها أن تفعل ذلك؛ فإن الله لم يأمر عباده بأمر لا يمكن إلا مع الفجور". ويقول: "وإلزامها بالمقام بمكة مع عجزها عن ذلك وتضررها به .. لا تأتى به الشريعة؛ فإن مذهب عامة العلماء أن من أمكنه الحج ولم يمكنه الرجوع إلى أهله لم يجب عليه الحج"، ويقول: "وأما إذا أمكن العبد أن يفعل بعض الواجبات دون بعض؛ فإنه يؤمَر بما يقدر عليه، وما عجز عنه يبقى ساقطا". انتهى.
قلتُ: ولعل هذا هو الاختيار الراجح في نظري؛ لقوله تعال: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم))، فالحائض عليها أن تبقى حتى تطهر فتطوف، وهذا هديه صلى الله عليه وسلم، ولا يمكنها الطواف وهى حائض؛ لنهيه الحائض عن الطواف.
وصفة الحيض لا تزول عنها بالاغتسال؛ فهي حائض ولو استنفرت واغتسلت، وقد أمرنا الله أن ننتهي عند نهيه صلى الله عليه وسلم؛ لقول الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} فالحائض غير قادرة على الطواف لقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - لعائشة رضي الله عنها: ((أفعلي ما يفعل الحاج، غير أن لا تطوفي البيت حتى تطهري)؛ متفقٌ عليه.
والحائض ليس لها إلا الانتظار مع مَحْرَم لها كما بينه صلى الله عليه وسلم عندما حاضت أم المؤمنين صفيه بنت حييٍّ بقوله: ((لعلها تحبسنا)، أو: (أحابستنا هي؟)). فقيل: إنها قد أفاضت. قال: ((فلا إذًا))؛ رواه البخاري. ولو كان لها الطواف لبينه صلى الله عليه وسلم في حينه.(/41)
أما عدم الاستطاعة: فقد بين حكمه الكتاب والسنة أنه عفوٌ، فلو عادت إلى أهلها لعدم استطاعتها الطواف طاهرةً وعدم قدرتها على البقاء؛ فهي أشبه بالمُحْصَر، فلعلها تقاس به لعدم تفريطها؛ فالمُحْصَر منع من دخول البيت بمنع الخلق له، والحائض مُنعت بحكم الله عليها.
ويقول شيخ الإسلام - رحمه الله -: "ولهذا لم يُوجب القضاء على المُحْصَر في أظهر قولَي العلماء؛ لعدم التفريط، ومن أوجب القضاء على من فاته الحج فإنه يوجبه لأنه مفرط عنده". انتهى. وانظر: صحيح البخاري، كتاب المُحصَر، باب من قال ليس على المُحْصَر بدل.
ولعل الله جعل فيما استحدث من عقاقير مؤثِّرة على دورة الحيض مخرجًا من ذلك الحرج والخلاف،،، والله اعلم. ولشيخ الإسلام حديثٌ أوسع في طواف الحائض. أنظر: مجموع الفتاوى [26/176-247].
[24] - وهو المعروف الآن بطريق القناطر، وافتراقه من مزدلفة، ويقع جنوب المشاعر، ويروى أن عطاء - رحمه الله – كان يسلكه ويقول: "هي طريق موسى بن عمران عليه السلام". انظر: (تاريخ مكة للأزرقي: 2/191).
[25] - مالك في الموطأ مرسلاً، باب جامع الحج، والبغوي في شرح السنة: الدعاء يوم عرفة.
[26] -صحيح مسلم في الحج، باب ما جاء أن عرفة كلها موقف، والموطأ في الحج، باب الوقوف بعرفة.
[27] - روى الإمام أحمد عن الفاكه بن سعد رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغتسل يوم الجمعة ويوم عرفه ويوم الفطر ويوم النحر..." الحديث؛ المسند 4/78
[28] - لما رواه الأزرقي في تاريخ مكة (2/191) بسنده عن غنيم بن كليب عن أبيه عن جده، قال: "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في حجته وقد دفع من عرفة إلى جمع، والنار توقد بالمزدلفة، وهو يؤمها، حتى نزل قريب منها". وكذا قول ابن عمر: "كانت النار توقد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبى بكر وعمر وعثمان".(/42)
36 - في الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل يلبي حتى رمى الجمرة؛ رواه البخاري في الحج، باب التلبية والتكبير غداة النحر 1686، ومسلم في الحج باب، استحباب إدامة التلبية 1281.
[30] - لما رواه البخاري في الحج، باب يكبر مع كل حصاة 1750، ومسلم في الحج، باب رمي جمرة العقبة من بطن الوادي 1296.
[31] - "لقول عائشة رضي الله عنها: "كنت أطيب رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - لإحرامه قبل أن يحرم، ولحِلِّه قبل أن يطوف بالبيت"؛ متفقٌ عليه واللفظ للبخاري.
فإذا ثبت بهذه السنة حل الطيب، وهو من مقدمات النكاح ودواعيه: فعقدُ النكاح أولى؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: {وَإِذَا حَلَلتُم فَاصطَادُواْ} [المائدة: 2]، ولم يقيده من جميع المحظورات؛ بل هو مطلق ونكره في سياق الشرط: فيدخل فيه كل حِلٍّ، سواء كان حلاًّ من جميع المحظورات أم أكثرها أم من بعضها". أهـ مختصرًا، انظر: شرح العمدة [2/535- 538]
[32] - رواه أحمد (1/236)، ومسلم (1243) في الحج، باب جواز العمرة في أشهر الحج بنحوه.
[33] - لما رواه البخاري في الحج، باب رفع اليدين عند الجمرتين الدنيا والوسطى 1752 و1753.
[34] - رواه الإمام مالك في الموطأ موقوفاً على عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في الحج، باب صلاة مِنى، برقم 203.
[35]- رواه البخاري في الحج، باب طواف الوداع 1755، ومسلم في الحج، باب وجوب طواف الوداع 1328.
[36] - حرمة المدينة وردت في أحاديث كثيرة في الصحيحين وغيرهما، انظر مثلاً: صحيح البخاري، كتاب فضائل المدينة، ومسلم في كتاب الحج، باب فضل المدينة.
[37] - نحوه في المسند (6/111)، وكذا مسلم في الجنائز، باب ما يقال عند دخول القبور.
[38] - في الاعتدال بعد الركوع رواه مسلم (471) وبعد السلام. أخرجه البخاري في الآذان، باب الذكر بعد الصلاة (844)، ومسلم في الصلاة، باب اعتدال أركان الصلاة (593)، ورواه أصحاب السنن.(/43)
[39] -رواه الإمام أحمد: 4/8، وأبو داود برقم 1047، والنسائي في الجمعة، باب إكثار الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم 3/91، ورواه ابن ماجه والدارمي.(/44)
العنوان: مدخل إلى تعظيم وسطية الإسلام والإشادة بخصائصها
رقم المقالة: 1870
صاحب المقالة: د. عبدالرزاق مرزوكَ
-----------------------------------------
الحمدُ لله الذي رفع بفضله مقامَ أمة الإسلام، وجعلها بعدله الشاهدةَ على الأنام، فكفانا حرجَ الحاجة إلى مِلَل السِّوَى، وأغنانا عن التمحُّل في طلب الهدى، والصلاةُ والسلام على أرفع الخلق رأسًا بالدين، وأرقاهم في درجات الحق واليقين، وعلى آله الأصفياء، وصحبه الماجدين الأتقياء.
وبعدُ،
فهذا مدخل إلى تعظيم وسطية الإسلام الراسخة، والإشادة بخصائصها السامقة، وهو عبارة عن مراسم منيفة، وإشارات بليغة إلى أن ما تُسلِّم به العقولُ، وتأمن به النفوسُ، وتستقيمُ به أحوالُ الخلق من الوسطية والاعتدال قد تضمنه طريقُ الإسلام على جهة الغنى والكمال، واشتملت عليه نصوصُ القرآن أتم اشتمال، فغدا له من أماراتِ الإعجاز وخصائص التحدي ما يغمرُ الوسائلَ والبدائل في كل منهاج سواه.
وإنَّ قولَه تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة: 48] من الأدلة العظيمة على أن وسطية الإسلام -في جلالها وجمالها وتجددها- مهيمنة على وسطية كل دين وكل نظام ترجو البشريةُ خيرَه وعدله.
وأصلُ الهيمنة في العربية: الحفظُ والارتقاب، فالمراد بها في الآية الكريمة الحفظ والاستغراق؛ كما قال ابنُ عباس -رضي الله عنهما- في تفسيرها: "القرآنُ أمينٌ على كل كتاب قبله" [علقه البخاري في كتاب التفسير من صحيحه في مطلع تفسير سورة المائدة، وبيَّن وصلَه الحافظُ في فتح الباري 8 / 268].
وفيه أيضا دليل على أن حديثنا عن وسطية الإسلام واعتداله في هذا الزمان ليس اضطرارًا وتكلفًا، أو دفاعًا عن النفس ورفعًا لحرج التهمة بـ"التطرف" و"الإرهاب"... كلا!(/1)
إنه كشف وبيان، وإفشاء للحق الأبلج الذي نزل به الكتابُ، وليعلم الناس أن الشاغلين مواقعَ الهجوم علينا هم الجناة حقًّا؛ الأحْرِياءُ باستشعار حرج الذنب، والإكراه على الإذعان واصطناع الأعذار.
ولئن كان من المسلمين طائفةٌ أو طوائف تشوه حقيقة الإسلام بما تأتي وتذر، فإن الإسلام لا يحابيها، ولا يجوز بوجه أن يحملَ وزرَها، أو أن يُعاد النظرُ في أصول تشريعه لتصحيح أخطاء المفسدين، بل لا تزال قوانينُ الأرض فوق النقد!...؛ يُمدح موافقُها، ويُذم مخالفُها، ويُردَع مَن تجاوزها، ولا تبدل إلا حظرًا وتضييقًا على المتحايلين عليها..، أفتكون أقدسَ من شريعة الله، وأكبرَ في أعين الداعين إلى "تجديد" الإسلام؟!....
إن كل متحدث عن الإسلام مدعو إلى تحقيق ما ينسب إليه من الصفات والخصال سلبًا وإيجابًا، وذلك ليس منعًا لحرية التعبير أو احتكارًا للمعرفة، ولكن طلبًا للإنصاف؛ فإن عقلاء العالم مجمعون على أن معرفةَ الشيء شرطٌ في الإخبار عن صفاته وأحواله.
وقد تخيرتُ مراسم منيفة وإشارات بديعة لطيفة مما أثار به الإمامُ المبدع ابنُ القيم رحمه الله دفائنَ الكتاب، وكشفَ به أسرارَ قوله تعالى من سورة الفاتحة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ}.
فهاتان آيتان جامعتان من سورة الفاتحة التي لا يفتؤ كل مسلم يتلوها كل يوم وليلة؛ في كل ركعة من كل صلاة فريضة ونافلة؛ إشارة إلى أن وراءَ تَكرارِها على كل لسان في كل آن ومكان أسرارًا تستدعي مُستَمِرَّ اليقظةِ والتدبر، وأن العالمين لو وُفقوا لإحصاء دلالاتها، واستخراج ما تحت آياتها لنفِد ما يستخرجون دون أن تنفَد دقائقُ معانيها وأسرار مراميها.(/2)
وقد استخرج الإمامُ ابن القيم رحمه الله من هاتين الآيتين ستةَ ملامح إلى ما ذكرت، فانتقيتُ ما استخرجه، ولخصتُه من كتابيه الرائعين: بدائع الفوائد (2 / 244 وما بعدها) ومدارج السالكين (1 / 16 وما بعدها)، وما أورده من كلام غيره فإني أنسبه إلى صاحبه.
الملمح الأول: فائدة البدل في الدعاء:
مع كون الداعي إنما يخاطِب بقوله {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} الربَّ تعالى، وهو عز وجل في غنى عن البيان، فلماذا زاد {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ...}؟
فالجواب من وجهين:
الأول: ما ذكره العلامة الزمخشري -رحمه الله- أن فائدة البدل هنا "التوكيد لما فيه من التثنية والتكرير، والإشعار بأن الطريق المستقيم بيانه وتفسيره: صراط المسلمين؛ ليكون ذلك شهادة لصراط المسلمين بالاستقامة على أبلغ وجه وآكده". [الكشاف 1 / 25].
فهو في معنى قول المتكلم: هل أدلكم على أقوم السبل وأسلمها؟..: صراط الذين أنعم الله عليهم؛ فيكون ذلك أبلغ في وصفه بالاستقامة والاعتدال؛ لأن ذكره ثني مجملا ثم مفصلا؛ فوقع المفصل تفسيرًا وإيضاحًا للأقوم والأسلم، وجعل علمًا في الاستقامة.
والثاني: ما ذكره الإمام ابن القيم أن شرط الأدب في الطلب يقتضي أن يكون ممزوجًا بالثناء، لذلك أخبر طالبُ الهداية عن الصراط المطلوب بالاستقامة تصريحًا منه بمعتقده وإقرارًا، ثم ثنى بالثناء على المدعو بأن الصراط الذي يطلبه ما نصبه لأهل نعمته وكرامته.
ولا يخفى أن الداعي مأمور بتدبير ما يطلب وتصور معناه، فذكر له من أوصاف الصراط ما إذا لصق بخلده وطبع في قلبه كان أشدَّ طمعًا ورغبة فيه، وأحرص على دوام الطلب له.
الملمح الثاني:(/3)
فائدة تعريف (الصراط) باللام التي إذا دخلت على اسم موصوف اقتضت أنه أحق بتلك الصفة من غيره، ومنه ما كان يدعو به النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا قام من الليل: (أَنْتَ الْحَقُّ، وَوَعْدُكَ الْحَقُّ، وَقَوْلُكَ الْحَقُّ..). [أخرجه البخاري في كتاب التهجد من صحيحه، باب التهجد بالليل -3 / 5 فتح].
ثم قال: (وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ، والْجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ..)، فلم يدخل الألف واللام على الأسماء المحدثة، وأدخلها على اسم الرب تعالى ووعده وكلامه[1].
فلو قال: اهدنا صراطًا مستقيمًا..؛ لكان الداعي إنما يطلب الهداية إلى صراطٍ ما مستقيمٍ، وليس المرادُ ذلك؛ ولكن المراد الهداية إلى الصراط المعين الذي نصبه الله لأهل نعمته، وجعله طريقًا إلى رضوانه وجنته، وهو دينه الذي لا دين له سواه، فهذا صراطٌ قد قام في الذهن والجَنان تصوره، وتصديقه، وتمييزُه عن سائر طرق الضلال[2].
الملمح الثالث: فائدة اشتقاق الصراط[3]:
فالمشهورُ أنه من: صرطت الشيء أصرطه إذا بلعته، وانسرط الشيء في حلقه: سار فيه سيرًا سهلا، والصراط: الطريق الواضح كما قال جرير:
أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى صِرَاطٍ -إِذَا اعْوَجَّ الْمَوَارِدُ- مُسْتَقِيمِ
وسمي الطريقُ صراطًا – كما في اللسان[4] - لأن المارة تسترط فيه لكثرة سلوكهم لاحِبَه، وبنَوْه على زنة فِعال لأنه مشتملٌ على سالكِه اشتمالَ الحلقِ على الشيء المسروط، وهذا الوزن كثيرٌ في المشتملات على الأشياء كاللِّحاف والخِمار والرِّداء والغِطاء والفِراش والكِتاب.
فالسالكون طريقَ الإسلام مشمولون لا محالة بفضله، مكفولون برعاية من هداهم إليه سبحانه وتعالى، قد غمرتهم أياديه عنايةً وكفاية.
ولا يكون الطريقُ صراطًا حتى يتضمن خمسة أمور: الاستقامة، والإيصال إلى المقصود، والقرب، وسعته للمارين عليه، وتعينه طريقًا للمقصود[5].(/4)
فوصفه بالاستقامة يتضمن قربه؛ لأن الخط المستقيم أقرب خط واصل بين نقطتين، وكلما اعوج طال وبعد.
واستقامته تتضمن إيصاله إلى المقصود، ونصبه لجميع من يمر عليه يستلزم سعته، وإضافته إلى المنعم عليهم ووصفه بمخالفة صراط أهل الغضب والضلال يستلزم تعينه طريقًا.
الملمح الرابع: إضافة الصراط إلى الموصول المبهم؛ فلم يقل صراط النبيين والمرسلين
وفيه ثلاث نكت بديعة:
أولها: إشعار الذهن بأن استحقاق الموصوفين أن يكونوا من أهل النعمة إنما هو بهدايتهم إلى هذا الصراط، فتعليق الحكم بالصلة دون الاسم الجامد هنا أنسب وأليق، كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} [الأحقاف: 13].
ثانيها: نفي التقليد عن القلب بإدراكه أن من هدي إلى هذا الصراط فقد أنعم الله عليه، فإذا عرف غاية ما توصل إليه الهداية إلى الصراط المستقيم نشط وتحرر.
والفرق بين هذه النكتة والتي قبلها أن الأولى تضمنت الإخبار بأن أهل النعمة هم أهل الهداية إلى الصراط المستقيم، والثانية تضمنت طلب الداعي وإرادته أن ينزل منزلتهم.
ثالثها: أن الآية عامة في جميع طبقات المنعم عليهم، ولو أتى باسم خاص لفات الداعي سؤال الهداية إلى تفاصيل الطريق التي سلكها كل من أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
وهذا أجلُّ مطلوب، وأعظمُ مسؤول، ولو عرف الداعي قدر هذا السؤال لجعله هِجِّيراه[6]، وقرنه بأنفاسه، فإنه لم يدع شيئًا من خير الدنيا والآخرة إلا تضمنه.
الملمح الخامس: لِمَ قال الله تعالى في وصف أهل الصراط المستقيم: (أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) ولم يقل (المُنْعَم عليهم) كما قال (الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ)؟
فيه أربع فوائد:
الفائدة الأولى:
أن النعمة هي الخير والفضل[7]، والغضب من باب الانتقام والعدل، والرحمة تغلب الغضب؛ فأضاف إلى نفسه أكمل الأمرين، وأسبقهما، وأقواهما.(/5)
وهذه طريقة القرآن في إسناد الخيرات والنعم إلى الرب سبحانه، وحذف الفاعل في مقابلتهما، كقول مؤمني الجن: {وَأَنَّا لاَ نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن: 10]، وقول الخضر في شأن الجدار واليتيمين: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا} [الكهف: 82]، وقال في خرق السفينة: {فَأَرَدتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف 79]، ثم قال بعد ذلك: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف: 82]، ونظيره قول الخليل عليه السلام: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 78.79.80]؛ فنسب الخلق والهداية والإحسان بالطعام والسقي إلى الله تعالى، ولما ذكر المرض قال: وإذا مرضت، ولم يقل: وإذا أمرضني، وقال: فهو يشفين.
الفائدة الثانية:
أن ضمير المنعم إنما أبرز ذكرًا له وشكرًا على إنعامه بالهداية إلى الصراط المستقيم، وهما الذكر والشكر الواردان في قوله تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ} [البقرة: 152].
الفائدة الثالثة:
أن الله تعالى هو المنفرد بالنعم كما قال: {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ} [النحل: 53]، فاقتضى هذا الاختصاصُ أن يسند إليه الإنعام بضمير الإفراد، بخلاف غضبه على من استحقه؛ حيث حذف فاعله.
الفائدة الرابعة:
أن صراط المغضوب عليهم في مقام الإعراض عنه وعن أهله، والإشارة إلى محض صفتهم، والاقتصار عليها، بخلاف صراط أهل النعمة؛ فإنه في مقام تعيينه، ورفع قدره، والإشادة بذكره وأهله.
الملمح السادس: ذكر الصراط المستقيم مفردًا معرفًا تعريفين: تعريفًا باللام – وقد مر -، وتعريفًا بالإضافة...(/6)
وذلك يفيد تعينه واختصاصه، وأنه طريق واحد، وأن طرق أهل الغضب والضلال شتى، كقوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153]، فجمع سبل الزيغ، وأفرد سبيل الاستقامة[8]، وفي حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: "خط لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خطًّا؛ وقال: (هذا سبيل الله)، ثم خط خطوطًا عن يمينه وعن يساره، وقال: (هذه سبل؛ على كل سبيل شيطان يدعو إليه)، ثم قرأ قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}. [أخرجه النسائي في تفسيره 1 / 485، رقم الحديث 194].
ومن أدلة القرآن المتينة البديعة على اختصاص الصراط المستقيم، وأنه موصل لا محالة قوله تعالى: {هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ} [الحجر: 41].
فإن (عَلَيَّ) فيه للوجوب؛ أي علي بيانُه وتعريفُه والدلالةُ عليه، كما قال في آية أخرى: {وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} [النحل: 9]، أي أن السبيل القاصد المستقيم المعتدل يرجع إلى الله، ويوصل إليه، كما قال الشاعر طفيلٌ الغنوي:
مَضَوْا سَلَفاً قَصْدَ السَّبِيلِ عَلَيْهِمُ وَصَرْفُ الْمَنَايَا بِالرِّجَالِ تَقَلَّبُ
وقال آخر:
فَهُنَّ الْمَنَايَا أَيُّ وَادٍ سَلَكْتُهُ عَلَيْهَا طَرِيقِي، أَوْ عَلَيَّ طَرِيقُهَا
فإن قيل: أليس الأليق بهذا المقام أداة "إلى" الدالة على الانتهاء؟؛ كما في قوله تعالى: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} [الغاشية: 22.23]،.. ونظائره.(/7)
فالجواب: أن أداة "على" قد اشتملت على سر لطيف، وهو الإشارة إلى أن سالك الصراط المستقيم على الحق، وعلى الهدى؛ كما قال تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدى مِن رَبِّهِمْ} [البقرة: 4]، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} [النمل: 79]، فليس في أداة "إلى" ما في أداة "على" من العلو والاستعلاء بالاستقامة مع الثبات على صراط أهلها، بل إن أداة "على" تقابل -في وصف حال أهل الزيغ والضلال- أداة "في" الدالة على انغماسهم فيه؛ كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ} [الأنعام: 39]، وقوله: {وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكّ مِنْهُ مُرِيبٍ} [الشورى: 14]، ونظائره، والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
كان الفراغ من مراجعته وتنقيحه صباح يوم الجمعة خامس ذي الحجة 1428 هـ.
بمراكش الحمراء الغراء.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[1] فإن قيل: فلماذا قال: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} فأضاف الصراط إلى غير الله؟، فالجواب أنه صراطهم بالنظر إلى انتسابهم إليه ومرورهم عليه فحسب؛ وقد قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلاَ إِلَى اللهِ تَصِيرُ الأُمُورُ} [الشورى: 52 – 53]، فبهذا يتسق المعنى ويزول التعارض.(/8)
[2] فإن قيل: لم جاء منكرًا في قوله تعالى: {وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام: 87]، وقوله فيها أيضا: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام: 161]، وقوله أيضا: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52]، وقوله: {وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} [الفتح: 2]، فالجواب أن هذه الآيات ليست في مقام الدعاء والطلب، وإنما هي في مقام الإخبار من الله تعالى عن هدايته إلى صراط مستقيم.
[3] الأصل: السراط، والصراط لغة فيه، وإنما قلبت السين صادا لكونها أقرب إلى مخرج الطاء.
[4] لسان العرب: سرط.
[5] ولم يذكر في القرآن الكريم بلفظ الطريق إلا حكاية الله تعالى لكلام مؤمني الجن في قوله: {إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأحقاف: 30].
وتعبيرهم ههنا بالطريق فيه نكتة بديعة، وهي أنهم لما قدموا ذكر موسى، وأن ما سمعوا من القرآن مصدق لكتابه وغيره كان ذلك تصديقا لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لقومه في الآية 9 من نفس السورة: (مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ)؛ أي لست أول رسول بعث إلى أهل الأرض، بل بعثت مصدقا لمن بعث قبلي من الرسل، فقال مؤمنو الجن: (... يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ)أي إلى سبيل مطروق؛ قد مرت عليه الرسل قبله، فهو حري بأن يصدق فيه صلى الله عليه وسلم ويتبع عليه، فاستعمال الطريق هنا أبلغ وأليق بالدعوة إلى الصراط المستقيم، والتنبيه على تعين سلوكه.
[6] الهجيرى -بكسر الهاء وتشديد الجيم المكسورة-: الدأب والعادة، قال ذو الرمة:
رَمَى فَأَخْطَأَ وَالأَقْدَارُ غَالِبَةٌ فَانْصَعْنَ وَالْوَيْلُ هِجِّيرَاهُ وَالْحَرَبُ(/9)
[7] وفي إفراد الله تعالى أهل الصراط المستقيم بالنعمة دليل على أن النعمة المطلقة هي الموجبة للفلاح الدائم، وأن مطلق النعمة يشمل المؤمن والكافر؛ إذ كل الخلق في نعمه، وهذا فصل النزاع في مسألة: هل لله على الكافر نعمة أم لا.
والنعمة من جنس الإحسان؛ بل هي الإحسان، وإحسان الرب تعالى إلى البر والفاجر، والمؤمن والكافر، أما الإحسان المطلق فللذين اتقوا والذين هم محسنون خاصة.
[8] ولا يقدح في هذا آياتٌ ثلاث، أولها: قوله تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ. يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ..} [المائدة: 16]، فإن المراد -كما في الكشاف- [1 / 605] "طرق السلامة والنجاة"، وهي بالنظر إلى تنوع شرائع الإسلام شتى، وتمام الآية: {.. وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}، فأكد على أن طريق الله واحد.
والثانية: قوله تعالى للنحل: {ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً} [النحل: 69]، فالمراد –كما قال الإمام الشوكاني في فتح القدير– [3 / 249] ما ألهم الله النحل أن تسلكه من الطرق لطلب الرزق في الجبال وخلال الشجر.
والثالثة: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69]، والمراد -كما في فتح القدير أيضا– [4 / 297] أن الله تعالى تعهد للذين يعملون بما يعلمون بأن يفتح لهم أبواب معرفته والفقه في دينه.(/10)
العنوان: مدخل عام لمسيرة مصطلح الأدب الإسلامي
رقم المقالة: 155
صاحب المقالة: عباس المناصرة
-----------------------------------------
مصطلح "الأدب" عند العرب
النشأة والتطور والدلالة:
المصطلح هو وعاء لغوي ضخم، ومستودع جامع يحتوي في داخله المناهج والدلالات والحقائق والمكونات التي تعكس المخزون الفكري والثقافي لذاكرة الأمة.
وهو في تطوره التاريخي "كائن حي ذو هوية كاملة، تسجل ظروف ولادته وتطوره الدلالي، ما يعترض هذا المفهوم أو يعتوره، من صحة ومرض، وشحن وتفريغ، وأول ما تصاب به الأمم في أطوار ضعفها الفكري هو طمس مفاهيمها.."[1] واختلاط مصطلحاتها، وما يرافق ذلك من إهمال لخصوصيات هويتها الحضارية، وبذلك يحصل الاضطراب وتضيع اللغة الموحدة التي توحد فكرها، وتحميها من الخلاف والتشتت.
مما سبق ندرك أهمية العودة إلى مصطلح "الأدب" وتاريخ ظهوره في ثقافة أمتنا، وما رافق ذلك من تطور لدلالة هذا المصطلح، تساعدنا في إدراك معانيها المختزنة، وما اعتوره من تقلبات، تفيد الباحثين من أبناء الأمة في تذكر مفاهيمها وتأصيل كيانها في لحظات تداعي الحضارات الطامعة عليها.
يقول شوقي ضيف: "كلمة" أدب" من الكلمات التي تطور معناها بتطور حياة الأمة العربية وانتقالها من دور البداوة إلى أدوار الحضارة، وقد اختلفت عليها معان متقاربة حتى أخذت معناها الذي يتبادر إلى أذهاننا اليوم وهو الكلام الإنشائي البليغ الذي يقصد به التأثير في عواطف القراء والسامعين سواء أكان شعرًا أم نثرًا"[2].
والملاحظ لمشتقات الكلمة التي كانت سائدة في العصر الجاهلي أنها كانت تدل على المعنى الحسي نحو: الآدب: الداعي للطعام، ومن ذلك ((المأدبة)) الطعام الذي يدعى إليه الناس.(/1)
ومع قلة الشواهد التي تتوسع في استعمال الكلمة إلا أنها انتقلت من المعنى الحسي إلى معنى آخر يدل على ما يرافق الكرم والطعام والضيافة والعلاقات الاجتماعية من (تهذيب) يتمتع به (الآدب) المكرم للناس: كأن لا يكون منانًا في كرمه، وأن يكون بشوشًا في استقبال ضيفه، وأن لا ينتقر الضيوف انتقارًا، أي ينتخب وينتقي، بل يكرم الناس جميعًا دون تمييز. وقد يطرح (المتأدب) ما يتمتع به من تهذيب في ضيافته، من ابتعاد عن السلوك المذموم كالجشع في الأكل، والتهام الطعام والإثقال على المضيف. فمن الأول قول طرفة في أخلاق (الآدب) مفتخرًا بقومه يقول:
نحن في المشتاة ندعو الجفلى لا ترى الآدب منا ينتقر[3]
ومن أمثلة الثاني قول الشنفرى في (المتأدب) من دون ذكر اللفظ ذاته، مفتخرًا بنفسه يقول:
وإن مدت الأيدي إلى الزاد لم أكن بأعجلهم إذ أجشع القوم أعجل[4]
وقد تطور اللفظ بدلالته وإن لم تصلنا الشواهد الكافية على ذلك التطور، ولكننا نلمس هذا من خلال أقدم النصوص التي تتصل بهذه الكلمة في فجر الإسلام حيث ظهرت في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((أدبني ربي فأحسن تأديبي))[5] ولا يخفى أن المقصد من – أدبني – في هذا النص يعني ((علمني وهذبني)).
وهذا يدل على أن هذه الكلمة كانت في عهده صلى الله عليه وسلم تعني مادة (التهذيب والتعليم) وفي ذلك إشارة لتطور هذا المعنى في نهاية العصر الجاهلي الذي انتهى ببداية العصر الإسلامي.
وهكذا استمرت هذه الكلمة طوال فترة العصر الإسلامي الأول والأموي على المعنى أو الدلالة نفسها. ولكنها ترسخت وتأصلت في الحياة الثقافية العربية، ثم ظهر إلى جانبها كلمة (المؤدب) التي كانت تطلق على من يعلم أبناء الخلفاء والأمراء (ما تطمح إليه نفوس آبائهم فيهم من معرفة الثقافة العربية)[6].(/2)
وبحكم انتشار العلم وبروز دور المؤدب (المعلم) بدأت الكلمة تستقل ويتضح معناها في هذا الاتجاه، حيث كان المؤدب يعلم تلاميذه القراءة والكتابة أولاً، ثم يعطيهم قسطًا من التهذيب والمعرفة، وكانت وسيلته في التهذيب والمعرفة تقوم على الانتقاء والانتخاب من فنون القول الجيد المؤثر (الشعر والخطابة والقصص والحكمة والأمثال والوصايا..) بالإضافة إلى تفسير القرآن الكريم والحديث الشريف والسّير والأنساب والتاريخ، وبذلك أصبحت الكلمة بحكم هذا الاتساع تقابل كلمة العلم.
وقد وردت أقوال عن الخلفاء والعلماء يوصون المؤدب ويدلونه على كيفية الاختيار لمادة التعليم والتهذيب والعلم كقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه في كتابه لأبي موسى الأشعري (مرْ مَنْ قبلك بتعلم الشعر فإنه يدل على معالي الأخلاق وصواب الرأي...)[7].
ولما جاء العصر العباسي وازداد سموق الثقافة العربية الإسلامية ارتفاعًا بدأت كلمة (الأدب) تظهر في خضم الازدهار الثقافي وفي تعبيرات الكتاب ومؤلفاتهم، فمنهم من استعملها للدلالة على معرفة أشعار العرب وأخبارهم ولغتهم، ومنهم من اتسع بها لتشمل كل المعارف التي ترقى بالإنسان، فظهرت كتب مثل (الأدب الصغير) و(الأدب الكبير) لابن المقفع وكتاب (الأدب) لابن المعتز، و(البيان والتبيين) للجاحظ، و(العقد الفريد) لابن عبد ربه، حتى قال ابن خلدون: (الأدب هو حفظ أشعار العرب وأخبارهم والأخذ من كل علم بطرف)[8] وكأنها أصبحت ترادف كلمة الثقافة بمعناها الموسوعي.
ثم أخذت هذه الكلمة تستقل تدريجيًا في دلالتها عن معنى التهذيب، لتصبح علمًا خاصًا جامعًا لفنون القول الجيد الراقي التي كانت معروفة عند العرب في الجاهلية (الشعر والخطابة والقصص والأمثال والحكم والوصايا والرسائل) وما أضاف إليها العرب في العصر العباسي من فنون جديدة نحو (التوقيعات، والخاطرة، والمناظرة، وأدب الرحلات والمقامات والسيرة...) وغيرها.(/3)
واستمر هذا المصطلح في مسيرته حتى القرن التاسع عشر، ليدل على ما ينتجه العقل والشعور من خلال اللغة، ثم استقل في نهاية الأمر على معنى الأدب الخالص، بعد أن استقلت العلوم بدلالتها وعناوينها، ليكون مصطلحًا خاصًا لفنون الشعر والنثر، وقد أضاف إليها العرب في القرن العشرين الفنون التالية: (فن الرواية، وفن المقالة، وفن المسرحية، والحديث الإذاعي، والندوة والحوار والمرافعات، وغيرها من الفنون...) وذلك بحكم انتشار الطباعة والصحافة والإذاعة، وإلى هذا المصطلح ينصرف الذهن في الدراسات الأدبية الحديثة.
ومن خلال استعراض مسيرة هذا المصطلح يمكننا أن نسجل الملاحظات التالية:
1 – أن العرب منذ الجاهلية كانت لهم مجموعة من الفنون القولية التي تعتمد الفصاحة والبيان الجميل، وهي ما نسميه في عصرنا بالأنواع الأدبية (الشعر، والخطابة، والمثل، والحكم، والوصايا، والقصص، والرسائل..) ولكنهم لم يتوصلوا إلى اسم جامع يجمعها في مصطلح واحد، بل كان العرب يتعاملون مع هذه الفنون، كأنواع منفصلة عن بعضها، واستمر ذلك حتى نهاية العصر الأموي.
2 – وفي العصر العباسي بدأ استعمال مصطلح (الأدب) ليدل على فنون الكلام الجيد المؤثر في العواطف من الشعر والنثر، وهي التي كان يختارها المؤدب في تهذيب تلاميذه، وأخيرًا بدأ اللفظ يستقل عن معنى التهذيب ليصبح مصطلحًا جامعًا لفنون الأدب الخالص، وبخاصة في القرن التاسع عشر، بعد أن استقلت العلوم الاجتماعية ومالت إلى التخصص، مع أن المعنى اللغوي القديم ما زال مستعملاً بمعنى التهذيب حتى أيامنا، ولا تزال بعض الجامعات تستعمل مصطلح (كلية الآداب) في تقسيماتها ليدل على المعنى الثقافي الموسوعي القديم.(/4)
3 – لقد اكتشف العرب المتعة الجاذبة في الفنون الأدبية فسموها (سحر البيان) فجعلوا من الشعر والخطابة والمثل والقصة مادة سمرهم في مجالسهم ونواديهم، وعندما أوغلوا في تلك المتعة، اكتشفوا فوائد كثيرة تختلط بتلك الفنون الممتعة، وبذلك تعرفوا على الفائدة العظيمة للأدب، والوظيفة التي يمكن أن يؤديها، فجعلوا منه مادة التهذيب والتعليم التي يستعملها المؤدب (المعلم) في تعليم أبناء الخلفاء والأمراء وأبناء الأمة عندما اتسعت قاعدة التعليم، وبذلك اكتشفوا تأثير هذا السحر فوظفوه في حياتهم قبل أن يتمكنوا من تفسيره، ولم يكن عندهم من علم حول طبيعة الأدب إلا القليل، وذلك من خلال تذوقهم الفطري لسحر الأدب وجمال المعاني، وما كانوا يتداولونه في أسواقهم الأدبية من تذوق فطري انطباعي سريع حول ما يلقى من الشعر أو النثر.
4 – ثم تطور الأمر حتى ظهر النقد المنهجي العميق في العصر العباسي، وعندها تعمقت صلاتهم بطبيعة الأدب، وتأصلت عند النقاد. ومما ساعد على ظهور هذه المرحلة الجادة في تفهم طبيعة الأدب، ما رافق تلك الفترة من نشأة وتطور لعلوم اللغة العربية وما كان لها من فضل كبير في تعميق تلك الجهود. وهو أمر يلفت نظرنا إلى أهمية التمييز بين (وظيفة الأدب) و(طبيعة الأدب) وما بينهما من علاقة متينة، تقوم على التأثر والتأثير، وأثر هذه العلاقة وفائدتها لنا في التنظير للأدب الإسلامي، لأنه يكشف لنا قيمة طبيعة الأدب وأهميتها في تحقيق وظيفته، وذلك أن الأدب الراقي في تحقيق طبيعته هو الأدب الناجح في أداء الوظيفة والتأثير.
5 – كما دلتنا سيرة المصطلح على الدور التربوي العظيم للأدب في تاريخ الأمة، وأهمية الأدب تربويًا في تشكيل ذوق الأمة وبناء الوعي العام عند أجيالها، وهو أمر يمكن أن يتوسع فيه علماء التربية والثقافة في دراساتهم التربوية والثقافية المعاصرة.(/5)
6 – إن كشف تاريخ هذا المصطلح فيه فائدة عظيمة، تخدم دراساتنا في تعريف (الأدب الإسلامي) وتجذير مفاهيمه، لأن الأدب الإسلامي في تجربته النموذجية الأولى (أدب الصحابة) الكرام رضي الله عنهم، نشأ في أحضان الأدب العربي، وتغذى بخبراته الفنية الغنية، ثم بدأ تأثير الإسلام في الأدب العربي، فأخذ يصبغه بصبغته الفنية والشرعية، عندما أسلم العربي وأخضع نفسه للإسلام في عقيدته وشريعته ونظامه للحياة، واستمر تأثير النموذج الإسلامي الأول في الأدب العربي عبر عصوره الممتدة، وقد تعتوره حالات قوة أو ضعف وانفلات بحسب قرب المسلم من إسلامه أو ابتعاده عنه.
وهنا يجب تذكير دعاة الأدب الإسلامي بتاريخ نشأة الأدب الإسلامي في تجربته الأولى في عهد الصحابة وأهميتها في التنظير للأدب الإسلامي المكتوب باللغة العربية، وكذلك الأدب الإسلامي المكتوب بلغات الشعوب الإسلامية الأخرى، لأن ذلك يساعد الأدب الإسلامي المعاصر على إيضاح أمور كثيرة يحتاج إليها في معركته الأدبية والثقافية والنقدية.
مصطلح النقد الإسلامي
لم يعرف العرب مصطلح الأدب مصطلحًا جامعًا (للفنون الأدبية) طوال فترة الجاهلية وصدر الإسلام والعصر الأموي، لأن ظهوره جاء متأخرًا في العصر العباسي، وهذا معناه أن الصحابة مارسوا الفنون الأدبية فنونًا منفصلة عن بعضها، كما كان سائدًا في عصرهم.
وهكذا ظهر الأدب الإسلامي في تجربته النموذجية الأولى على يد الصحابة الكرام – رضي الله عنهم – وكان التوجيه التأسيسي لهذا الجيل في أدبه، يتم من القرآن الكريم وآياته، التي تكلمت عن البيان والكلمة وأثرها، والآيات التي فصلت قضية فن الشعر، ومن خلال أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وتوجيهه لشعراء الدعوة، ومن فقه الصحابة للقرآن والسنة، ومن تذوقهم لما يقال بين ظهرانيهم من الفنون الأدبية، التي تمرسوا بها (الشعر، والخطابة، والرسائل، والأمثال، والحكم، والوصايا) وغيرها.(/6)
ولم يطرح مصطلح (الأدب الإسلامي) إلا بعد ظهور مصطلح الأدب العربي واستقراره في الثقافة العربية، وكان ذلك عندما بدأت عملية الإحياء والتجديد الإسلامية في عصر النهضة الحديثة، وبالتحديد في النصف الثاني من القرن العشرين، على يد دعاة الإسلام المعاصرين، لمواجهة عملية التغريب والتخريب الثقافي التي كانت تغزو الأمة من جوانب حياتها المختلفة.
والهدف من هذا التمهيد، هو الإشارة إلى الظروف التي اكتنفت ظهور مصطلح النقد الإسلامي، الذي أخذ على عاتقه مسؤولية الدعوة إلى الأدب الإسلامي، للتعرف على الظروف والعوامل التي أدت إلى بروز الأزمة التي يعاني منها هذا النقد في أيامنا، وذلك بعد مرور أكثر من أربعين عامًا على الدعوة المعاصرة إليه، والتي ظهرت على يد الرواد الأوائل له، وحيث ظهر الجهد الريادي لهذا النقد، بجهود متفاوتة كانت بداياتها على يد جيل الإحياء والتمهيد أمثال المرصفي والرافعي وغيرهم في النصف الأول من القرن العشرين، ولكن الدعوة للأدب الإسلامي لم تتضح معالمها إلا مع بداية النصف الثاني من هذا القرن على يد كل من: سيد قطب، والدكتور صلاح الدين السلجوقي، والدكتور عبدالرحمن الباشا، والدكتور نجيب الكيلاني، وأبي الحسن الندوي – رحمهم الله جميعًا -، ثم جهود كل من محمد قطب وعماد الدين خليل ويوسف العظم وغيرهم...
هذا بالإضافة إلى جهود مباركة لعدد من العلماء الأجلاء كان معظمهم في الجامعات العربية أمثال: الدكتور شوقي ضيف، والدكتور شكري فيصل، والدكتور محمد محمد حسين، والدكتور إبراهيم السامرائي، وأنور الجندي، والشيخ علي الطنطاوي[9] وغيرهم، ساعدت في تأصيل الوعي الأدبي والثقافي العام لدى أبناء الأمة.
ويمكننا متابعة موجات الجهد الذي بذل في التأسيس للنقد الإسلامي الحديث، ودعوته إلى الأدب الإسلامي من خلال مراحل نختزلها في المصطلحات التالية:(/7)
1 – مرحلة الريادة (جيل الرواد)[10]: وهي المرحلة التي ظهر فيها رواد النقد الإسلامي في أواخر الخمسينيات من القرن العشرين أمثال: سيد قطب، والسلجوقي والكيلاني ومحمد قطب وعماد الدين خليل وغيرهم من الرواد المتناثرين في أقطار الوطن العربي، والذين لم تسعفنا المراجع أو الظروف في تعرف جهودهم.
ويهمنا أن نتعرف على (نموذج الرائد) بشكل عام ووصفه والتعرف على أهمية فعله الريادي في هذا المجال.
فالرائد بشكل عام: هو مكتشف يتعرف على ظاهرة ما، لأنه أدرك أهميتها قبل كثير من الناس، ويكون فضله واضحًا، عندما يلفت نظر الناس من حوله إلى أهمية الظاهرة أو الفكرة التي اكتشفها، كما أنه يسلط الضوء على تلك الظاهرة ويضعها في بؤرة الاهتمام، وهو بهذا يقدح شرارة التأسيس ويثير الانتباه إلى تلك الظاهرة.
وعندها يتحلق المهتمون بهذه الظاهرة، لدراستها ومتابعتها، وإيضاح معالمها، والتفصيل لبعض خفاياها، ثم الدعوة إليها.
وتمتاز رؤية الرائد في تلك الفترة للظاهرة أو الفكرة تلك، بأنها رؤية أولية استطلاعية، كما أنها تتأثر بقدراته وعلمه وخبراته، ومقدار الجهد المبذول منه في تلك المرحلة الاستكشافية، فقد يكون الرائد جريئًا متمكنًا، وقد يكون لمحه للفكر طويلاً، فيرى كثيرًا من خطوطها ومعالمها، وقد تمنعه الظروف من معاودة المتابعة والمراجعة، فتبقى عند الخطوط الأولية للرؤية.
وقد يكون الرائد متيقظًا، ولكنه قليل الخبرة، غائم الرؤية، يسيطر عليه الانبهار بالمحيط البيئي للظاهرة، فلا يرى الأمور جيدًا، أو أن جهده كان لمحًا سريعًا، فهو في النهاية يصف لنا ما تمكن من رؤيته في تجربته تلك، وهذا ما استطاع أن ينجزه في تقديم الظاهرة أو التعريف بالفكرة.
ويهمنا أن نؤكد أن فكر الريادة فعل يمتاز بالجرأة، ويقوم على الانتباه والاستكشاف والاستطلاع، ولكنه فعل ناقص غير مكتمل، تلزمه جهود وجولات ومتاعب من دعاته، حتى تتضح معالمه وتستبين سبله.(/8)
وهذا ما فعله رواد النقد الإسلامي، وهو أمر طبيعي أن لا يكتمل العلم والفهم لأي قضية إلا بتتابع الجهود واستمرارها في الأجيال المتعاقبة.
وكان فضل هؤلاء النفر، يوم أن نبهوا الأمة إلى ضرورة استكمال فكر النهضة الإسلامية في الجانب الأدبي والثقافي، وإثبات شمولية الإسلام وكماله وصلاحه لكل زمان ومكان، أسوة بالجهود الإسلامية المبذولة في الاتجاه نفسه من مجالات كثيرة: كالاقتصاد والفقه والسياسة وعلم النفس والتربية وغيرها من الجوانب الأخرى التي تؤصل للنهضة الإسلامية.
فقد كانوا روادًا متحمسين يتحسسون طريق النهضة لأمتهم وسط الظلام، الذي يتحسس فيه الرواد الطريق تحسسًا، وتحيط بهم عقبات وصيحات من الاستهجان والاستنكار من أبناء الأمة المضبوعين، فما بالك بردة الفعل لدى الأعداء.
2 – مرحلة دعاة الريادة: استطاع جهد الرواد أن يوصل الدعوة للأدب الإسلامي إلى كثير من الناس الذين أعجبوا بها، والتفوا من حولها، خاصة بعد أن أدرك الكثيرون أهمية الأدب في حياة الأمم والشعوب، وشاهدوا بأنفسهم كيف استطاع دعاة التغريب أن ينجحوا في استقطاب الناس لدعواتهم وأفكارهم عن طريق الأدب وفنونه المختلفة.(/9)
وبذلك ظهر جيل دعاة الريادة، تمثلهم ثلة من أساتذة الجامعات أمثال: (الدكتور عبدالرحمن رأفت الباشا، والدكتور محمد مصطفى هدارة، والدكتور عبدالباسط بدر، والدكتور عبدالقدوس أبو صالح، والدكتور صابر عبدالدايم، والدكتور سعد أبو الرضا، والدكتور عبدالمنعم يونس، والدكتور وليد قصاب، وكذلك جهود كل من حسني جرار، وأحمد الجدع من خارج الجامعة،... وغيرهم) وهم الذين تسلموا راية الدعوة للأدب الإسلامي من جيل الرواد، وقد استطاع دعاة الريادة أن يحملوا جهود الرواد حول فكرة الأدب الإسلامي، وأن يوصلوها إلى آفاق جديدة، وتمكنوا من إيصالها إلى قاعدة شعبية واسعة، كما تمكنوا من تذليل كثير من العقبات التي كانت تقف في طريقها، وكانت لهم جهود مباركة في شرح الفكرة والتبشير بها، ونشرها من خلال الكتابة في الصحافة وإصدار الكتب والمحاضرات، ودفع الفكرة إلى الدراسات الجامعية العليا للاعتراف بها، وقد حصلوا على اعتراف فعلي من بعض الجامعات العربية والإسلامية، وكذلك من خلال عقد المؤتمرات التي تهتم بالأدب الإسلامي، وتبحث في شؤونه، وأخيرًا تكللت هذه الجهود في جمع دعاة الأدب الإسلامي في رابطة عالمية هي (رابطة الأدب الإسلامي العالمية)[11] من أجل خدمة الأدب الإسلامي وتجذير الدعوة إليه من خلال عمل جماعي مؤسسي، يستعمل الأساليب الممكنة في دفع الدعوة إلى هذا الأدب نحو الأمام.
وهكذا بدأ الاستقطاب لأعداد كبيرة من المؤمنين بهذا الأدب والداعين إليه، وهذه شهادة حق لجيل دعاة الريادة تكشف فضلهم وجهدهم في الانتصار لهذا الأدب واكتساح الأشواك من طريقه، حتى خفتت حدة المعارضة لهذا الأدب وبدأ الاعتراف به بين شرائح الأدباء والمثقفين يمتد بشكل لافت للنظر.(/10)
لكن المذهل في هذا الجيل الذي نجح في الدعوة إلى فكرة الأدب الإسلامي، أنه لم ينجح في طرح مفاهيم محددة وواضحة حول تعريف الأدب الإسلامي والفكر النقدي الذي يطرحه[12]، فبقيت تعريفات الرواد المختزلة على حالها، دون إضافة أو تفصيل أو تصحيح أو تعديل، يقول الدكتور صالح آدم بيلو بعد ذكره لتعريف سيد قطب للأدب الإسلامي وتعريف محمد قطب للفن الإسلامي معلقًا:
(ويكاد الكاتبون والباحثون الذين خاضوا في هذا الموضوع للوصول إلى تعريف موحد للأدب الإسلامي، لا يخرجون عن ذلك إلا في بعض ألفاظ وعبارات)[13].
ويقول الدكتور محمد زرمان: (وعلى الرغم من هذه النهضة الشاملة، التي شهدتها حركة الأدب الإسلامي فقد بقي المصطلح من الناحية النقدية في حاجة ماسة إلى الدراسة والإثراء والمناقشة والتعمق لمعالجتها معالجة علمية وموضوعية دقيقة)[14].
وذلك لأن هذا الجيل (جيل دعاة الريادة) عاش على فكر الرواد وشرحه، ولم يبذل جهدًا كافيًا في استكمال العمل الريادي وتفصيل الجهد النقدي للرواد، ولم يصلوا إلى نظرية إسلامية في النقد، تأخذ بيد المبدع المسلم نحو الرقي الفني، وعندما حاولوا هداية الإبداع الإسلامي، كانت تطبيقاتهم عشواء، لأنها لا تهتدي بنظرية إسلامية واضحة المعالم، بل كان فعلهم النقدي يقوم على خلط مناهج النقد الغربي المسيطر على الساحة الأدبية، مع مقولات النقد العربي القديم، ومن خلال منظور الخبرة الفردية المتفاوتة من شخص إلى آخر.(/11)
ولأنهم لم يصلوا إلى بلورة فقه نقدي مستخرج من الإسلام والأدب، يوحد منظورنا النقدي ويحمي المبدع المسلم من مزالق الضعف، ويهديه إلى سبل الإبداع والرقي بالأدب الإسلامي، والاستقلال به عن سيطرة النقد الغربي، الذي يسيطر على الساحة الأدبية، برزت الأزمة النقدية التي يعاني منها النقد الإسلامي المعاصر، لأننا لا نملك المقاييس الإسلامية التي نحاكم بها النص الأدبي، فكيف نطالب بإسلامية الأدب؟ ونحن لا نملك نظرية واضحة لإسلامية الأدب، وهو أمر يكشف ضعف الخطاب النقدي، ويؤدي إلى ضعف الاستقطاب الجماهيري لصالحه.
والحق يقال أن هذا الجيل رغم كل ما قلنا لابد أن نلتمس له العذر الواضح، فقد كان في مرحلة دعوة لإيضاح الحقائق المطموسة من الأدب الإسلامي ويواجه تغول التيارات التغريبية التي تحيط بالأمة، حيث استهلكت كثيرًا من جهوده، وأشغلته عن إنجاز ما كان يتوقع منه.
ومع ذلك لا نستثني جهود نشطاء النقاد من هذا الجيل، الذين أدركوا أن الدعوة إلى فكر الريادة النقدي قد أشبعت، وأن النقد الإسلامي بحاجة إلى قفزة تُفصل شيئًا من مشروعه النقدي، فأخذوا على عاتقهم الدعوة إلى فكر التأسيس للمرحلة الجديدة (دعاة الإبداع).
---
[1] دورة المفاهيم الإسلامية، معهد الفكر الإسلامي، المنعقدة في الجامعة الأردنية، الورقة الثانية 1996م.
[2] تاريخ الأدب العربي، شوقي ضيف، ط9، ص3، دار المعارف.
[3] ديوان طرفة بن العبد.
[4] لامية العرب للشنفري.
[5] الحديث (أدبني ربي...) انظر النهاية، ابن الأثير، غريب الحديث والأثر ج1، ص3 والوافي في تاريخ الأدب، فائز الغول ومجموعة من المؤلفين ج1، ص5.
[6] تاريخ الأدب العربي، شوقي ضيف، ص8.
[7] العمدة ج1/11.
[8] مقدمة ابن خلدون، ص408.(/12)
[9] انظر كتب كل من: الدكتور شوقي ضيف سلسلة تاريخ الأدب العربي. د. شكري فيصل: المجتمعات الإسلامية وتطورها اللغوي الأدبي في القرن الأول وتطور الغزل... ود.محمد محمد حسين: الاتجاهات الوطنية في الأدب، حصوننا مهددة من الداخل.... ود.عبدالرحمن رأفت الباشا: نحو مذهب إسلامي في الأدب والنقد، الرياض 1985م. وأنور الجندي: دراسات إسلامية معاصرة، وكتب الشيخ علي الطنطاوي.
[10] انظر كتب كل من: سيد قطب: في التاريخ فكرة ومنهاج، وفي ظلال القرآن، والنقد الأدبي أصوله ومناهجه.. ومحمد قطب: منهج الفن الإسلامي، وصلاح الدين السلجوقي: الفن الإسلامي من خلال كتاب الإسلامية والمذاهب الأدبية.. ونجيب الكيلاني: الإسلامية والمذاهب الأدبية ومدخل إلى الأدب الإسلامي من سلسلة كتاب الأمة.
[11] رابطة الأدب الإسلامي العالمية: النظام الأساسي، ومجلة الأدب الإسلامي، الإصدارات والنشر ومقابلات صحفية متعددة مع الدكتور عبدالقدوس أبو صالح (رئيس الرابطة) التي يشرح فيها فكرة الرابطة.
[12] هذا رأي الباحث، ولا ترى إدارة تحرير المجلة أن هذا الرأي قائم على استقراء دقيق لجميع ما كتب حول الأدب الإسلامي (تعليق المجلة).
[13] من قضايا الأدب الإسلامي: د.صالح آدم بيلو ص57.
[14] ملخصات مؤتمر الأدب الإسلامي: الأدب الإسلامي النشأة والمصطلح د.محمد زرمان ص17، جامعة الزقاء الأهلية 1999م.(/13)
العنوان: مدرستي
رقم المقالة: 130
صاحب المقالة: د. نبيل السيد رمضان
-----------------------------------------
هَتَفَ الأطْفَالُ لمَدْرَسَتِي أَهْلاً أهْلاً بُمعلّمَتِيْ
أهْلاً فالعِلمُ لَنَا نورُ قَلَمٌ وَكِتَابٌ مَسطُورُ
بِالعِلمِ نَطَيْرُ إِلَى العَليا وَنَنالُ بِهِ الرُّتَبَ العُليَا
أُستَاذٌ عَلَّمَنَا الأَدَبا فَقَرأنَا الْحِكْمَةَ والْكُتُبا
وَرَفِيْقي فِي الدُّنيا قَلَمُ وَدَفَاتِرُ تَمْلأُهَا حِكَمُ
وَكِتابِي حلوٌ أهْواهُ لا أَتْرُكُهُ أَوْ أَنْساهُ
بَلْ أَقْرَأُهُ فَيُكَلِّمُنِي ويَهُذِّبُنِي ويُعَلّمُنِي
فِقْهَاً وَعُلُومَاً أو حِكَما وَحِسَابَاً أَوْ نَحْوًا فُهِمَا
وَكَذَا تجْوِيدُ القُرْآنِ ليُنَوِّرَنِيْ بِالإِيمانِ
مِنْ مَدْرَسَتِي ضَاء النُّورُ وَأَنَا نَشْوَانٌ مَسْرُورُ(/1)
العنوان: مدينة حايل من قبل مئة عام
رقم المقالة: 630
صاحب المقالة: مجلة العرب
-----------------------------------------
رَحّالَة غربي يَتحدث عَن: مدينة حائل قبل مئة عام
أوردنا في الجزء الماضي من مجلة العرب نُبذة موجزة مترجمة عن رحلة المستشرق الرحالة الإنكليزي بلجريف، ذكرنا وصفه لمدينة الرياض في عهد الإمام فيصل - رحمه الله.
واليوم نُورِد بعض ما كتبه عن زيارته لمدينة حائل في ذلك العهد، ولكن قبل أن ندخل في هذا الموضوع نرغب أن نذكَّر القارئ الكريم بأن الأستاذ بلجريف قام بهذه الرحلة متخفياً، وبدون أن يكشف عن حقيقة شخصيته أو هدفه من الرحلة. وكان ينتحل شخصية طبيب سوري، باسم سليم العيسى، وكان يرافقه شخص سوري اسمه بركات الشامي، وكان يعتمد عليه كلَّ الاعتماد، فقد سهَّل له جميع مهمَّاته في المدن وفي البادية سواء، من ناحية جلب الأدلاء من رجال البادية، أو من ناحية تعريفه بالشخصيات المهمة في المدن والقرى التي يمر بها.
وفي رحلته إلى حائل كان يرافقه دليل من عشيرة الحويطات اسمه سالم[1]، وشخصان آخران يقول عنهم: إنهم وحوش في مظاهرهم وفي أعمالهم، وقد مر في طريقة إلى حائل بمدينة الجوف، وبقي فيها خمسة عشر يوماً، وكان ذلك في شهر يوليو من عام 1862، وبعد أن أكمل تجهيزاته التي تلزمه لقطع الطريق ما بين مدينتي الجوف وحائل توجه مع قافلة من التجار في التاسع عشر من يوليه 1862.(/1)
وصل إلى مدينة حائل في أوائل أغسطس 1862 واتجه نحو الساحة الكبرى المزدحمة بالناس بالقرب من القصر، وما كاد يصل إلى هناك مع رفاقه حتى تصدى له شخص أنيق الملبس، متوسط الحجم، فحياهم بلباقة، وعرفَّهم بنفسه وأن اسمه سيف، وأنه حاجب الأمير طلال بن رشيد، ثم سألهم عمن يكونون؟ وعن الغرض من قدومهم إلى حائل؟ فأجابوه بأنهم سوريون، وأنه – أي بلجريف - دكتور قدِم للتكسب بطبِّه، وأنه يطلب الفضل من الله ثم من الأمير طلال، فطمأنه سيف، وأخبره بأنه قد وصل إلى مكان أمين، ولكن بجلريف خشي من انكشاف أمره عندما شاهد شخصاً يقف قريباً منه ومن سيف، وكان قد قابله في دمشق قبل ستة أشهر، وهو تاجر معروف في دمشق وبغداد، وله صلة قوية بالأوروبِّيين؛ وازداد خوف بلجريف عندما اندفع إليه يحييه بحرارة كصديق قديم، ويتساءل عنه: كيف ألقت به الريح في هذا المكان؟ وما هي الغاية من وجوده في حائل؟ وقد ردَّ عليه التحية ببرود متمنياً له كل خير.
ولكن سوء الحظ - على حد قوله - عندما يحدث لا يأتي منفرداً، بل دائماً يقترن بأمور أخرى، إذ بينما هو يحاول التخلص من هذا الصديق الخطر خشيةً من افتضاح أمره، وإذ برجل آخر طويل القامة، نحس المنظر، يلبس كلباس أهل القصيم يتقدم إليه ويقول: ألم نتقابل في دمشق؟ محدداً الزمان والمكان والظروف، ومُفهماً إياه بأنه أوروبي.(/2)
لم يتأكد بجلريف من معرفة الرجل ولا من مقابلته له في دمشق في المكان والزمان اللذَين حددهما، ولهذا خشي أن يكون جاسوساً عليه؛ وبينما هو يفكر في الإجابة على تساؤلاته إذ بشخص ثالث يأتي ويسلم عليه كصديق قديم، ثم يتحدث إلى الآخرَين قائلاً لهما: أنه يعرفه جيداً، وأنه كثيراً ما قابله في القاهرة، حيث يعيش برفاهية في مسكن كبير قريب من قصر العيني، وأن اسمه عبد السلام، وأنه متزوج وعنده ابنة جميلة مغرمة بركوب الخيل، غير أن بلجريف سارع بإنكار معرفته به، كما أنكر أنه يسكن في مصر، أو أن عنده بنتاً مغرمة بركوب الخيل؛ وقد فعل ذلك بلجريف لأنه اعتقد أن هذا الرجل إما أنه مخطئ، وإما أنه اخترع هذه القصة لغرض في نفسه، ثم التفت بلجريف إلى الشخص الثاني وأنكر معرفته، أو أنه قابله قبل الآن. أما الشخص الأول فلم يعرف كيف يجيبه على تساؤلاته، ولكنه تظاهر بأنه لم يفهم ما يقصده.
حصل كل هذا أمام سيف، حاجب الأمير طلال بن رشيد، ولكن يبدو من رواية بلجريف أن سيفاً قد اقتنع بأجوبة بلجريف لهؤلاء الرجال الثلاثة، وخاصة عدم معرفته بالرجلين الأخيرين، ولهذا قال له: لا تهتم بهذين الرجلين فإنهما ثرثاران وكذَّابان. ثم دعاه للذهاب معه إلى قصر الأمير طلال لتناول القهوة وللاستراحة.
ذهب معه إلى القصر، وبقي يراقب كيفية عمل القهوة العربية، وفي وقت بقائه في المقهى غاب سيف بعض الوقت، ثم عاد ليخبرهم بأن الأمير طلال سيعود بعد قليل من نزهته المعتادة في حديقة القصر حيث يذهب للمشي كل يوم للترويح عن النفس، وأن في إمكانهم مغادرة المقهى إلى خارج القصر، ليشاهدوا الأمير عند عودته وليقدِّموا إليه أنفسهم واحترامهم، بعد ذلك يتناولون طعام العَشاء، ومن ثم يذهبون إلى دار الضيافة لإمضاء ليلتهم فيها، مع العلم بأن المقهى ستظل دائماً ومن فيها تحت تصرفهم مدة إقامتهم في حايل.(/3)
نهضوا من مقاعدهم واتجهوا خارج القصر، ليشاهدوا الساحة التي أمام القصر وقد امتلأت بالجماهير، وبعد دقائق قليلة شاهدوا حشداً كبيراً قادماً من جهة القصر العليا، في طريقه إلى السوق التجارية، وعند اقتراب هذا الحشد تبين أنهم الجند الخاص بالأمير طلال. ويرافقهم عدد من المدنيين، وكلهم يسيرون على أقدامهم، وفي وسَطِهم ثلاثة أشخاص تدل هيئاتهم وألبستهم على أنهم من الطبقة الممتازة، وكان أحدهم وهو الذي في الوسَط هو الأمير طلال، وهو قصير القامة، عريض المَنكِبين، قوي البنية، أسمر اللون، أسود اللِّحية، عميق النظرات، تدل ملامحه على القسوة أكثر من دلالتها على اللِّين، كما يدل مظهره على أنه قد تجاوز الأربعين من عمره، بينما هو في الحقيقة لم يتجاوز السابعة أو الثامنة والثلاثين عاماً على الأكثر، خطواته موزونة، وفي تصرفاته وقار مع شيء من المهابة والاستعلاء. لباسه مكون من رداء طويل من الكشمير (زبون) يغطي ثوباً أبيض، وفوق هذا عباءة أنيقة منسوجة من وبر الإبل العمانيات النادرة الوجود في هذه البقعة من الأرض، ويلبس فوق رأسه منديلاً (غترة) مزيناً بتطريزات يدوية من خيوط الذهب والحرير، وفوقه عقال سميك من وبر الجمال ومحبوك بخيوط حريرية حمراء، وهو من صناعة (مشهد علي)، ويعلِّق على جنبه سيفاً مذهباً، وثيابه مُعطَّرة بالمسك لدرجة تتلائم مع المزاج العربي أكثر من المألوف بالنسبة لأنوف الأوروبيين؛ نظراته لا تكاد تستقر لحظة واحدة، مرة على الجالسين بقربه، ومرة على الحشود العامَّة، وهي بحق تشبه عيون الصقر في سرعة حركتها وتألقها.(/4)
وكان الشخص الثاني من الثلاثة اللذين كانوا يسيرون بجانبه رجلا طويلا نحيفا، يرتدي ملابس أقل جودة من ملابس الأمير ولكنها أكثر لمعاناً منها، وتدل قسمات وجهه على ذكاء وقاد، ولطف ملحوظ، وسيفه ليس مذهباً كسيف الأمير، ولكن ملبس بالفضة فقط. ذلك الرجل هو زامل، أمين الخزينة، ورئيس الوزراء الوحيد الحقيقي، المطلق السلطة، الذي كان رفعه عبد الله بن رشيد من درجة البؤس والفقر إلى مركز الصدارة، وبقي محافظاً على مركزه في عهد ابنه طلال، أما الشخص الثالث الذي كان يسير بجانب الأمير من الناحية الثانية، فهو عبد المحسن، الرجل المبتسم دائماً، والذي سيجرى الحديث عنه فيما بعد معلم ومربي أولاد الأمير طلال.
وقف الجميع عندما اقترب الأمير طلال منهم، وأومأ سيف إلى بلجريف ورفاقه أن يلحقوا به وشق بهم الصفوف إلى ناحية الأمير، وسلم عليه بالعبارة المعتادة: السلام عليكم. فنظر الأمير إليهم نظرة نافذة، ثم سأل سيفاً بصوت خافت، فرد عليه بصوت خافت أيضاً بحيث لم يفهم ماذا كان السؤال والجواب، ولكن الأمير عاد ينظر إليهم نظرات فيها شيء من الترحيب والاطمئنان؛ فمدوا أيديهم للسلام عليه، وحيَّوه بالعبارة التقليدية: السلام عليكم. ولم ينحنوا له أو يقبلوا يده؛ لأن هذا مخالف للتقاليد العربية في مثل هذه المناسبات. وقد رد عليهم الأمير طلال التحية بمثلها، وبدون أن يزيد على ذلك كلمة واحدة، غير أنه همس ببعض الكلمات في أذن سيف، ثم غادر المكان إلى داخل القصر. وقد أخبرهم سيف بأن الأمير سيقابلهم مقابلة خاصة غداً، وأنه سيخبرهم بالوقت المحدد في حينه، وأن عليهم الآن أن يذهبوا لتناول الطعام داخل القصر.(/5)
كانت الشمس قد آذنت بالمغيب عندما عادوا إلى القصر مرة ثانية، وقد مرُّوا هذه المرة داخل القصر بساحة مربَّعة فسيحة، ومحاطة بشرفات مفتوحة، ومفروشة بالسجاد، وكانت هناك نَعَامَتنا كبيرتان تتبختران في الساحة، كان شيخ (الصلبة) قد أهداهما إلى الأمير طلال، وقد قادهم سيف إلى قسم آخر من القصر، وأجلسهم تحت رواق هناك، وما كادوا يجلسون حتى أحضر بعضُ المماليك السود حفاناً من الطعام، تحتوي على أرز ولحم مسلوق، ورقائق من الكعك محشوة بالتمر، وشيء من البصل والقرع المقطع المخلوط معاً. وقد أكلوا بشهيَّة، ثم شربوا القهوة، وبقوا مدة يدخِّنون (غليوناتهم) في الهواء الطلق، ويستمتعون بنسيم عليل في تلك الليلة الباردة، وتحت السماء الصافية.
يقول بجلريف: إن الأمير طلال محب للإصلاح وللعمران، فقد اعتنى بتزيين مدينة حائل، وأكمل بناء القصر الذي كان بدأه والده عبد الله، وشيد سوقاً تجارياً كبيراً مكوناً من ثمانين مخزناً ومستودعاً، كما شيد جامعاً كبيراً لصلاة الجمعة، وفتح شوارع حول القصر، وفي بقية أنحاء المدينة، وحفر آباراً لشرب الأهالي، وأنشأ الحدائق، وأعاد بناء القلاع والأسوار حول المدينة. وقد استطاع فوق ذلك أن يضمن ولاء الناس له، كما استطاع التخلص من أخطار عمه عبيد بن رشيد، وذلك بإسناد الأعمال الحربية إليه، حيث كلفه أولاً بمحاربة خصومهم في خيبر؛ ولأجل تجنب أخطار عمه فقد عين معه في القيادة أخاه متعباً لكي يراقبه. وعندما تم لهم الانتصار في خيبر لم يترك عمه هناك، بل أرسل حاكماً لها من حائل بدلاً من عمه.
مقابلة بلجريف لطلال:(/6)
بعد أن وصف بجلريف المجلس العام الذي حضره للأمير طلال في اليوم التالي لوصوله حائل، وشاهد كيف يعامل رعاياه، ويبت في أمورهم عاد يقول بأنه تقدم إلى الأمير وحيَّاه، وأن الأمير قابله بالمثل، ثم أخذ بيده أمام الناس، ومشياً معاً، مبتعدين عن القصر وعن الحرس، وقد بدا وكأن الأمير طلال مقتنع بأن بلجريف شخص سوري، ولكنه غير مقتنع بأن هدفه من رحلته هو ممارسة الطب والتكسب من ورائه، وأنه لابد وأن يكون له هدف آخر غير هذا، وقد يكون هذا الهدف هو شراء الخيول لإحدى الحكومات المجاورة. ولهذا أخذ طلال يوجه إليه عدة أسئلة على طرق المزاح والمداعبة، ولكن بلجريف لازم إصراره على موقفه، وأن هدفه لا يتعدى ممارسة الطب لحاجات عائلية ومعاشية، غير أن طلال لم يكن سهل التصديق أو الانخداع.(/7)
استمر طلال يسير ومعه بلجريف حتى وصلا إلى دار شخص يدعى حسن، وهو تاجر من أهل (مشهد على) فدخلا إلى الدار بينما وقف أحد الحرس عند مدخل الباب، وجلس طلال وبلجريف في المقهى وهي مؤثثة بصورة مقبولة من السجاد، وكان برفقتهم الأمير محمد بن رشيد أخو الأمير طلال، وأديرت القهوة عليهم، ودخنت (الغليونات)، واستأنف طلال استجواباته لبلجريف بمهارة فائقة، فذكر حكومات سورية ومصر، وشيوخ العشائر في شَمال الجوف، وغرب الفرات، وفي الحجاز، على أساس أنه وكيل لأحد هؤلاء لشراء الخيول. ولما لم يجد جوابا شافياً يحقق ظنونه عاد يسأله عن شؤون الطب، محاولاً أن يعرف عما إذا كان طبيباً حقاً أم لا. ثم انتقل إلى الكلام عن الخيول العربية لعله يكشف حقيقة هدفه، ولكنه لم يستطع استدراج بلجريف إلى الاعتراف بحقيقة أهدافه. وأخيراً وبعد ساعة كاملة من الاستجوابات عاد يؤكد له ترحيبه به، واستعداده لتقديم كافة التسهيلات والمساعدات التي يحتاج إليها، ويعرض عليه السكني عنده في القصر، ولكن بلجريف اعتذر عن السكنى في القصر، وطلب مساعدته في إيجاد مسكن قريب من السوق ومن القصر، فوافق الأمير على ذلك، واستأجر له بيتاً قريباً من السوق ومن القصر.
بلجريف في مسكنه و(عيادته):
وما كاد يستقر في مسكنه حتى أخذت جموع الزوار تتوافد عليه، بعضهم من القصر والبعض الآخر من المدينة. بعضهم يطلب قدومه لرؤية مريض عنده، والبعض الآخر يطلب الكشف عليه ومعالجته. وهناك بعض الزوار يأتون لمجرد الزيادة وحب الاستطلاع. وعلى العموم فقد كانت هناك مجموعات مختلفة من الرجال ومن مختلف الأعمار جاءوا بروح طيبة، مما يدل على أنه سيحصل على تعارف سريع بعدد كبير من مختلف الطبقات.
كان أهل حائل يستيقظون مبكرين، وكانوا يأتون إليه بعد الشروق بنصف ساعة، مما يضطره للاستيقاظ مبكراً، وتناول طعام الإفطار قبل ابتداء مجيء المرضى والزوَّار، والتجمع حول بابه منتظرين فتحه لهم.(/8)
وذات يوم قدم إليه شاب يرتدي عباءة سوداء مثل العباءات المستعملة من قبل الطبقات المتوسطة والعالية، وفي يده جُرح من شوكة سدر، أو ما يشبهها، ويحمل سيفاً ذا مقبض فضي، وعرَّف نفسه بأنه من جبل شمر ومن مدينة حائل بالذات، واسمه عجيل؛ وكان معه أخوه الأصغر، وهو شاب نحيل الجسم وشبه أعمى، وطلب الكشف عليه ومعالجته، فقام بلجريف بذلك ووصف له العلاج اللازم، وعندما حان وقت دفع أجرة الكشف والمعالجة أخذ عجيل يماكس في مقدار الأجرة، مما جعل بلجريف يعجب من أمر العرب، كيف أن الواحد منهم يماكس نصف نهار كامل لأجل إنقاص بنس (قرش) واحد بينما هو يدفع جنيهاً كاملاً لأي شخص يسأله ذلك في الطريق. على أن بلجريف قام بالعلاج اللازم لأخي عجيل وداوم على ذلك، حتى شفي، وحتى أصبح عجيل مع مرور الزمن من أحسن أصدقائه.(/9)
كان رجال القصر من زبائن الأستاذ بلجريف، وفي ذات يوم كان عبد المحسن ذلك الرجل المبتسم الذكي المتظاهر بالحشمة والوقار يجلس داخل مسكن بلجريف، ينتظر مع غيره من الزوار، وكان معه صبيَّان جميلان، يرتديان ملابس أنيقة، وهما ابنا الأمير طلال الكبيران، بدر وبندر، وكان حارسهم الزنجي الذي يرتدي عباءة حسنة ويحمل سيفا، يجلس بعيداً عنهم. كما كان رجلان من أهل حائل أحدهما مسلح، والآخر يمسك بعصا قصيرة في يده، وبالقرب منهما بدويان رثا الهيئة، خشنان، يتعاركان معهما، بينما جلس قدام عبد المحسن رجل شاب طويل أسمر، يحمل سيفاً مذهباً ويرتدي ملابس حريرية أكثر مما يسمَح بها الوهابيون، وهو يحاول التحدث مع عبد المحسن ولكنه يتجاهله. وأخيراً طلب عبد المحسن من بركات أن يعيره كتاباً من الكتب العربية الموجودة عندهم؛ لكي يقرأ فيه ويتمعن في مطالعته وقت جلوسه، ثم تقدم عبد المحسن بعد ذلك إلى بلجريف ومعه الصبيَّان، وأخبره بأن الأمير طلال قد أرسلهما لكي يكشف عليهما، ويعرف ما إذا كانا يحتاجان إلى معالجة، وقد فهم بلجريف بأن طلال أراد بذلك أن يختبره لأن الصبيَّين في تمام الصحة، وليسا في حاجة إلى أية علاج، أو أن الأمير طلال أراد أن يمنحه علامة الثقة به لكي يجعل الآخرِين يقبلون عليه، وتنتشر سمعته الحسنة في البلاد. ومع هذا فقد قام بلجريف بفحصهما والتعرف على ما يشكوان منه في موضع قلبيهما، ومن الحرارة في رأسيهما، فوجدهما سالمَين من كل مرض، ولكنه أوعز إلى بركات بأن يذهب على المطبخ، ويعد لهما جَرعة من شراب (الدارسين) المحلاة بالسكر (وهذه يسمونها دواء المناسبات) وأن يقدمها إلى الصبيين اللذَين بعد أن تذوقاها أظهرا استعدادهما لأن يكونا مريضين دائماً، طالما أن الدواء سيكون من هذا النوع. وفي الحال أمر عبد المحسن الحارسَ الزنجي بأن يأخذهما إلى القصر، بينما هو بقي مواصلاً مطالعته في الكتاب والمحادثة مع بلجريف، مقتبساً بعض الأشعار(/10)
ومتحدثاً عن التاريخ والحوادث الأخيرة، والفلسفة الطبيعية، والأدوية الحديثة.
وفي الوقت نفسه كان بلجريف مستمراً في استقبال مرضاه، حيث تقدم إليه بعد ذلك صاحب السيف الذهبي الذي قدَّم نفسه على أنه رشيد عم الأمير طلال من جهة الأم، وأن قصره يقع مقابلاً لقصر الأمير من الجهة الثانية، غير أن بلجريف طلب منه أن يسمح له بزيارته في قصره وفحصه هناك، وكان يقصد من ذلك زيادة التعرف عليه كواحد من العائلة الرشيدية.
بعد هذا تقدم إليه الرجلان المدنيان اللذان تبين له بأنهما من وجوه المدينة وأحدهما - وهو الذي كان يمسك بالعصا - هو محمد القاضي رئيس القضاة في حائل. وقد توثقت العلاقات بينهما فيما بعد، وصار بلجريف يتردد على داره، ويطلع على ما تحتويه مكتبته القيمة من الكتب الثمينة، بعضها مخطوطة والبعض الآخر مطبوعة في مصر، ومعظمها في الفقه والعلوم الدينية.
محاورة بين بلجريف وأحد مرضاه:
بلجريف: ما هو السبب الأول لإصابتك بالمرض؟
المريض: الله هو السبب يا دكتور.
بلجريف: لا شك في ذلك. كل شيء من الله. ولكن ما هو السبب الخاص المباشر لهذا المرض؟
المريض: الله هو السبب يا دكتور. وثانياً أنا أكلت لحم جمل عندما كنت مصاباً بالبرد. ولا شيء غير ذلك، ولكن بعد ذلك شربت لبن ناقة. وهذا كل شيء. وكما قلت هذا من الله.
بلجريف: لا بأس، سأدرس حالتك وأصف لك الدواء اللازم، ولكن ماذا ستعطيني إذا شفيت من المرض؟
المريض: سأعطيك، هل تسمع؟. سأعطيك جملاً.
بلجريف: أنا لا أريد جملاً.
المريض: أنا أقول: اذكر الله، أنا سأعطيك جملاً سميناً، كل واحد يعرف جمالي، إذا أحببت فسأحضر شاهداً على ذلك.
وينهي بلجريف إيراد مثل هذا النَّموذَج من المحاورة بقوله: إن المرضى ينتقلون من عرض الجمل إلى الزبد ثم الطعام ثم التمر وغير ذلك.(/11)
وفي نهاية المدة التي أقامها بلجريف في حايل قام بزيارة الأمير طلال ليستأذنه في السفر ويحصل منه على جواز سفر (ورقة تعريف) يمكنه من السفر بدون معارضة في المناطق التي تحت سلطته، وقد منحه الأمير طلال الجواز المطلوب بعد أن وقَّعه بنفسه.
وقبيل مغادرته حائل تطوع عبيد الرشيد بإعطائه رسالة توصية وتعريف إلى الأمير عبد الله بن فيصل، بحجة أنه صديق له، ويعرفه معرفة جيدة، وقد قبل بلجريف أخْذَ الرسالة معه، ولكنه عندما أخذها استراب منها وفتحها واطلع على نصها وإذا هي تقول بعد البسملة:
"من عبيد بن رشيد إلى عبد الله بن فيصل. بعد السلام عليكم ورحمة الله وبركاته نخبركم بأن حامل هذه الرسالة هو سليم العيسى، ورفيقه بركات الشامي، وهو يدعي معرفته بالطب أو السحر. حفظكم الله ولا أسمعنا عنكم شراً.
وسلامنا على الوالد فيصل، وعلى الإخوان، وجميع أفراد العائلة.
ونحن متشوقون لسماع جوابكم وأخباركم والسلام عليكم ورحمة الله".
لم يقم بلجريف بإيصال هذه الرسالة إلى الأمير عبد الله بن فيصل عندما وصل إلى الرياض لأنه لم يطمئن إلى مضمون كلمة السحر لأن تعاطي السحر في نجد من الجرائم الكبيرة.
هذا وقد غادر بلجريف حائل في اليوم الثامن من شهر سبتمبر 1862 متجهاً إلى الرياض.
(أ. ف. خ.)
تذييل:
لقد عرَّبنا ما تقدم عن ملخص رحلة الرحالة، أما الكاتبة الفرنسية جاكلين بيرين مؤلفة كتاب "اكتشاف جزيرة العرب" فقد تحدثت عن ذلك الرحالة بتوسع، ومما ذكرته عن الغاية من رحلته وعن مشاهداته في مدينة حائل، ما هذا تعريبه[2]:(/12)
دخل الطبيب المزعوم وتلميذه فناء البناء الخاص بضيوف طلال بن الرشيد أمير شمر، في أواخر شهر تموز (يوليه). فماذا كان الهدف الذي يسعيان إليه؟ إن مقدمة القصة تبين لنا ذلك: "ربما تساءل القارئ عن غرضي الخاص من تلك الرحلة المليئة بالمخاطر، والبواعث الدافعة إليها. لقد حدا بي إلى ذلك، الأمل في الإسهام في تقدم هذه المناطق الاجتماعي، والرغبة في بعث ماء الحياة الشرقية الراكدة بملامسة التيار الأوروبي السريع، وربما الرغبة الملحة في الاطلاع على ما لا يعلمه أحد غيري، وأخيراً روح المغامرة التي فطر عليها قومي الإنكليز. تلك كانت الدوافع الرئيسة للقيام بمغامرتي هذه. وأضيف إلى ذلك، أنني كنت مرتبطاً آنئذ بالمنظمة اليسوعية الشهيرة في تاريخ الخدمات الإنسانية الجريئة المخلصة، وأعترف في نهاية الأمر، أن الإمبراطور الفرنسي هو الذي قدم لي بسخاء الأموال التي احتجتها لرحلتي.
ولكن الوقائع التي رواها تدل على أن الرحالة كان مكلفاً بمهمة واسعة النطاق بعد أن مكث بعض الوقت في العاصمة، سابرا غور الشعور الوهابي لدى السكان، وإخلاص طلال لسادة الرياض، قرر المبعوث الخفي أن يكشف أوراقه للأمير المعادي للسعوديين. فحاول أن يسبر غور ما يكنه صدر زامل أمين الخزينة. وقد كتب يقول:
"بدأنا نقول له إننا نرغب في مقابلة طلال لنطلعه على أمور ذات أهمية بالغة. وبعد أن أشعرناه بعض الشيء بسرنا، أطلعناه على الحقيقة الكاملة، وسألناه عن رأيه في الاقتراحات التي كنا مزمعين أن نقدمها للملك فعين لنا موعدا للمقابلة، وأدخلنا عند الفجر من باب سري إلى غرفة منعزلة، يقوم بحراستها عبيد سود، ويقف بعيداً عنها حراس مسلحون لا تصلهم أصوات المتكلمين فيها، فالفينا طلالاً مستعداً للاستماع إلي.(/13)
وقد شرحت له باختصار أسباب رحلتي، وأطلعته على المكان الذي أتينا منه، والأمل الذي حدا بنا للمجيء إلى بلاد العرب، وما ننتظره من حسن لقائه. وتلت ذلك محادثة استغرقت ساعة كاملة. واختتم طلال الحديث مصراً على التكتم المطلق قائلاً: "إذا ما عرف الأمر الذي تباحثنا فيه الآن، أصبحت حياتكم وحياتي في خطر".
وتتألف لحمة القصة من حادث عرضي سببه عبيد عم طلال الماكر الذي كان يتظاهر بالمودة واللطف، الذي نزع عن وجهه القناع ذات يوم ليظهر وجهه الرهيب.
أرسل عبيد يطلبني ذات صباح لأقوم بفحص خادم له مصاب بمرض، فتوجهت إلى قصره، حيث ما لبث أن كشف لي عن حقيقة نواياه بعد محادثة قصيرة، وقد تغلب غيظه على ريائه، وحل الحقد والغضب محل وداعته، وكلامه المعسول، وأخذ يكيل الاتهامات للمجددين النصارى الذي يريدون أن يدنسوا طهارة الإسلام. ثم التفت نحونا وقال: "كونا من تكونان، ولكن اعلما هذا: إذا ما ارتضى ابن أخي وشبه الجزيرة العربية كلها، الخروج عن الإسلام سأظل أنا بمفردي مدافعاً عن معتقادات أسلافنا". ثم شعر عبيد أنه بالغ في غضبه، فعاد إلى لهجته اللطيفة، حديثه الودي، كأن الشك لم يتسرب قط إلى نفسه، ولكننا كنا قد رأينا منه الكفاية، فقطعنا معه علاقاتنا بالكلية."
أرسل طلال عمه عبيداً في مهمة حربية، ومع ذلك فقد تلطف هذا الأخير بإعطاء بلجريف كتاب توصية إلى ولي العهد السعودي في الرياض. وبما أن الخوف تغلب على أصول اللياقة، في قلب بلجريف الحذر، فقد فتح الكتاب فوجد أن عبيداً قد نعته، بنعت يمكن فهمه على وجهين، ولكن يغلب معنى الساحر فيه على الطبيب، والسحر في الرياض يعاقب عليه بالموت، فعرف أن ذلك الماكر يريد أن يدفع به وبرفيقه إلى سيف الجلاد.(/14)
عندئذ وصل جواب طلال: بعد أن أبعد عبيد، أخذ طلال يشعر بالحرية. فدعينا في السادس من شهر أيلول (سبتمبر) للذهاب إلى "مقهى زامل" في الساعة الواحدة بعد الظهر. وكان قد أقيم حارس على الباب لإبعاد الزوار المزعجين، ولم تنقض عشر دقائق على دخولنا حتى أقبل طلال يخفره حارسان مسلحان تركهما في الفناء. كان متواضع الثياب، جدي النظرات أكثر من العادة، ينُم مُحيَّاه عن انشغال بال شديد. فجلس وصمت بعض الوقت، ولم نشأ أن نفسد ذلك الصمت. وأخيراً رفع نظره، وحدق في عيني بعض الوقت، وقال: "لن تسألني في هذه الظروف الحالية، ولن أكون من قلة التبصر في درجة أعطي فيها جواباً إيجابياً رسمياً على مخابرات كمخابراتك. على أنني أؤكد لك أنا طلال، مؤازرتي التي لا تتزعزع، تابع رحلتك الآن، وعندما تعود، وآمُل ألا تبطئ في العودة، سيصبح كلامك قانوناً، وسيتحقق كل ما تريده، هل أنت راض؟!! فقلت له: إن جوابه حقق لي رغباتي، وتصافحنا علامة للتحالف المتبادل".
ـــــــــــــــــــــ
[1] من المؤسف أن الرحالة يذكر الاسم الأول فقط، مما يجعل معرفة الشخص متعذرة في الغالب لكثرة من يسمى بذلك الاسم.
[2] كتاب (اكتشاف جزيرة العرب) تعريب الاستاذ قدري قلعجي ـ ص299 وما بعدها.(/15)
العنوان: مذابح الصليبيين في القدس
رقم المقالة: 1729
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
مذابح الصليبيين في القدس
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِه اللهُ فلا مُضِلّ له، ومن يُضْلِلْ فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70 - 71].
أما بعدُ: فإنَّ أصدق الحديث كلام الله - تعالى - وخيرَ الهَدْي هديُ محمد - صلى الله عليه وسلم - وشَرَّ الأمور مُحْدثاتها، وكل محدثة بدْعَة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الناس: مِنْ حِكْمَةِ الله - سبحانه وتعالى - أن قدَّر الخيرَ والشر، والإيمانَ والكُفْر، والطاعة والمعصية، وابتلى بحكمته العبادَ بذلك؛ ليتلبَّس فريقٌ منهم الإيمان، ويلتزموا الطاعة، ويسلكوا طريق الخير، ويتلبس آخرون الكفر، ويعملوا المعصية، ويسيروا في طرق الشر والغِوَاية.
ولكل من الجهتين دُعاةٌ يدعون الناس إلى جِهَتهم، فدعاة يجرون الناس إلى الجنة بالسلاسل، ودعاة يَقْذِفُونَ مَنِ اتَّبَعَهُم في النار قذْفًا.(/1)
إنَّهُ ابتلاءٌ ابتُلِيَ به المكلفون من لدن آدم - عليه السلام - إلى آخر رجل من هذه الأمة، وصراعٌ بين الحق والباطل.
فأهل الباطل يريدون فرضَ باطِلِهِمْ على الناس، يَؤُزُّهُمْ على ذلك شياطينهم، وتَدْفَعُهم إليْه أهواؤُهم، وأهل الحقّ يَودُّون الحِفاظَ على حقّهم، ويدعون الناسَ إلى هُدَاهُمْ؛ لاستنقاذهم من عذاب ربهم.
إنَّه صراعٌ تَطَاوَلَ مع تَطَاوُلِ القرون، وتَعَاقَبَ مع تَعَاقُبِ الأمم والدول، وما خَلَتِ الأرض دهرًا من دماءٍ تسفك، وأجسادٍ تدفق في حق أو باطل. والسنن الكونيةُ تشهد لذلك، والتاريخ يثبته. بيد أن الغلبة إن كانت لأهل الحق على أهل الباطل فإن نزيف الدماء يتوقف، ولا يُسفك دمٌ إلا بحق؛ لأن أهل الحق يرحمون الخلق، ويخافون فيهم ربهم.
وإذا ما كانت الغلبةُ لأهل الباطل فإن دماءً غزيرة بالباطل تسفك، وأجسادًا بريئة تجرح وتُمَزَّق في سبيل الشيطان وأعوانه.
وهذا الحكم لا يقالُ رجمًا بالغيب، أو تخرُّصًا بلا علم، أو توقعًا بلا خبر؛ فتاريخ البشر في قديمهم دالٌّ عليه، وواقِعِهِمْ في حاضرهم يُثبته ويُؤَيّده، وما عُرِفَ عَنْ نبي من الأنبياء - عليهم السلام - أنه كان سَفَّاكًا للدماء، معذِّبًا للناس، بينما كان المعارضون لدعوات الرسل - عليهم السلام - يَسْفِكونَ دِماءَ أَتْبَاع الرُّسل بعد ملاحقتهم وتشريدهم وتعذيبهم؛ لأنه لا دينَ يَرْدَعُهم، ولا شريعة تضبطهم.(/2)
وهذا ما حدث للمسلمين في بيت المقدس قبل زُهاءِ أَلْفِ سنة من الآن؛ إذِ اجتاح الصليبيون بلاد الشرق المسلم، واستوْلَوْا على مَمالكه حتَّى وصلُوا بَيْتَ المَقْدِس في أخريات شهر شعبان سنة ثنتين وتسعين وأربعمائة للهجرة[1]، وفَعَلُوا بالمسلمين ما لا يُمْكِنُ لِبَشرٍ أن يتصوره، ولولا أنَّ روايات المؤرّخين من مسلمين وغير مسلمين، عرب وغير عرب اتفقت على مجمل المذابح التي فعلوها بأهل القدس وأنطاكية ومعرَّة النعمان وغيرها من البلدان التي أَتَوْا عليها، لما كان أحدٌ من الناس يصدّق ما فعلوا!!
لقد نَقَلَ أخبارَهم الشنيعة، وأفعالَهم المَشينة، ومجازرهم البشعة أقوامٌ منهم، حضروها، وشاركوا فيها، وفاخروا بها، ثم كتبوا ما شاهدوا من أفعال بني دينهم بالمسلمين شُيوخًا ونساءً وأطفالاً.
وفي هذا المقام القصير سأنقل إلى أسماعكم وصفًا لبعض ما جرى للمُسْلِمين في بيت المقدس، على أيدي الصليبيين، ولن أنقل عن مسلم واحد؛ بل كلُّ ما سأنقله إمَّا عن كُتَّابٍ صليبيين حضروا تلك المذابح وشاركوا فيها، أو عن من نقلوا عنهم من بني دينهم؛ وذلك لنفي أي تُهْمة بالتحامُل أو المُبالغة لو كان النقل عن مؤرِّخِينَ مُسْلِمينَ.(/3)
قال المؤرخ الصليبي فوشيه الشارتري: "وهرب بعض هؤلاء العرب إلى برج داود، وأغلق آخرون على أنفسهم معبد الرَّبّ ومعبد سليمان، وتَمَّ شنُّ هجوم وحشي على المسلمين في فناء هَذينِ المعبدَيْنِ، ولم يكن هناك مكانٌ يمكن أن ينجيهم من سيوف رجالنا، ولو أنك كنت موجودًا هناك لغاصَتْ قدماك حتى العقبينِ في دماء المذبوحِينَ، ترى ماذا أقول؟ لم نتركْ منهم أحدًا على قيد الحياة، ولم ينجُ حتى النساء والأطفال، كم سيكون مُدْهشًا لو أنَّك رأيتَ فرساننا ومشاتنا بعد أن اكتشفوا خداعَ المسلمينَ فشقّوا بطونَ الذين ذبحوهم؛ لكي يَستخرجوا من المعدة والأمعاء العُمْلاتِ الذهبية التي كان المسلمون قد ابتلعوها وهم أحياء!! ولنفس السبب قام رجالُنا بعد أيام قلائل بجمع كومة من الجثث وأحرقوها حتى صارت رمادًا، حتى يمكنهم أن يجدوا بسهولة الذهب الذي ذكرنا خبره. عندما جرى رجالنا وسيوفهم مشرعة عبر أرجاء المدينة، ولم يُبقوا على أحد، حتى أولئك الذين يرجون الرحمة، سقط الجميع كما تسقط التفاحات العَفِنَة جميعًا من الأغصان المهزوزة، وبعد هذه المذبحة الكبيرة دخلوا بيوت السكان، واستولَوْا على كلّ ما وجدوه فيها، وتمَّ هذا بطريقة جعلت كل من كان يدخل أولاً سواء كان فقيرًا أم غنيًّا لا يجد من يُنازعه من الفرنج الآخرين، وكان له أن يحتل المنزل أو القصر، ويمتلِكُه بكل ما فيه؛ كما لو كان ملكية خالصة له، وهكذا اتَّفقوا جميعًا على هذا النمط من الملكية، وبهذه الطريقة صار كثيرون من الفقراء أثرياء"[2].(/4)
وقال المؤرخ الصليبي ريمون الأجوي لري يصف ما شاهد: "بدأ رجالنا يدخلون إلى القدس بجسارة وإقدام، وقد أراقوا من الدماء في ذلك اليوم كمية لا يمكن تخيلها"، وقال: "ما إنِ استولى رجالُنا على السور والأبراج... أطاحوا برؤوس أعدائهم، بينما رشقهم البعض الآخر بالسهام، بحيثُ سقطوا من الأبراج، على حين عذبهم البعض فترة طويلة بأن قذفوهم في النار أحياء، وكانت أكوام الرؤوس والأيدي والأرجل تسترعي النظر في شوارع المدينة، وكان المرءُ يَشُقّ طريقه بصعوبة بين جثث الرجال والخيول، ولكن هذه كانت أمورًا صغيرة إذا قورنت بما جرى في معبد سليمان... ترى ما الذي حدث هناك؟! إذا ذكرت الحقيقة فإنَّها ستتعدَّى قدرتكم على التصديق؛ ولذا يكفي أن أقول: إنه في معبد سليمان كان الرجالُ يخوضون في الدماء حتى ركبهم وحزام ركابهم، والواقع أنه كان حكمًا عادلاً ومحترمًا منَ الرَّبّ أن يمتلئَ هذا المكان بدماء الكفار؛ لأن هذا المكان طالما عانى من دَنَسِهم، وامتلأت المدينة بالجُثث والدِّماء، والآن تم الاستيلاء على المدينة وهي جديرة بكل أعمالنا السابقة، والمصاعب التي واجهناها؛ لترى إخلاص الحُجَّاج في الضريح المقدس[3].
وقال المؤرخ الصليبي المسمَّى بالفارس المجهول: "وطاردهم رجالنا يقتلونهم ويمزقونهم حتى معبد سليمان، حيثُ جَرَتْ هناك مذبحةٌ بلغ من عُنْفِهَا أن رجالنا كانوا يخوضون في دماء أعدائهم حتى أعقابهم... لدرجة أن المعبدَ كلَّه كان يفيض بدمائهم... وفي اليوم التالي توجهوا بحذر إلى سطح المعبد، وهاجموا المسلمينَ نساءً ورجالاً، وقطعوا رؤوسهم بسيوفهم، وقذف بعض المسلمين بأنفسهم من أعلى المعبد، ثم تشاور رجالنا، وأمروا بأن يتصدق الجميع، وأن يصلوا للرب؛ لكي يختارَ بنفسه من يريده أن يحكم المدينة، كما أمروا بأن تُرمى جميعُ جثث المسلمين خارج المدينة بسبب الرائحة المرعبة؛ لأن المدينة كلها تقريبًا كانت ملأى بالجثث".(/5)
ثم ذكر أن الجثث كُوِّمَتْ في أكوام كبيرة بحجم البيوت، وقال: "لم ير أحد من قبل أو يسمع عن قتلٍ بمثل هذا العدد من الوثنيينَ؛ لأنهم أحرقوا في أكوام مثل الأهرامات، ولا يعرف أحد غير الرب كم كان عددهم"[4].
وذكر المؤرخ الصليبي ميشو أن المسلمين كانوا يُذْبَحُون ذبح النعام في الشوارع والمنازل، وأنهم لم يجدوا مكانًا آمنًا يَلُوذون به[5].
وذكر المؤرخ النصراني وِلْيَم الصوري أن بيتَ المقدس أصبح مخاضة واسعة من دماء المسلمين، أثارت خوف الغُزاة واشْمِئْزازهم، وأنه لم يكن من الممكن النظر إلى تلك الأعداد الضخمة من القتلى دون الإحساس بالرعب، ففي كل مكان ترى بقايا جثث القتلى مقطوعي الرؤوس والأيدي، وكانت الأرضُ مغطاةً بدماء القتلى[6].
ونقل المؤرخ الغربي النصراني ديورانت عمن حضروا تلك المذابح وشاركوا فيها قولهم: "إنَّ النساء كن يُقتلن طعنًا بالسيوف والحراب، والأطفال الرضع يختطفون بأرجلهم من أثداء أمهاتهم، ويُقذف بهم من فوق الأسوار، أو تُهَشَّم رؤوسهم بدقها بالعمد"[7].
وذكر صاحب كتاب "أعمال الفرنجة": "أن جثث قتلى المسلمين وُضعت في أكوامٍ حتى حاذتِ البُيُوتَ ارتفاعًا"[8].
وقد اختصر الصليبيّون وصف هذه المذابح العظيمة في الرسالة التي أرسلوها إلى البابا يخبرونه بما فعلوا قائلين: "إذا ما أردت أن تعلمَ ما جرى لأعدائنا الذين وجدناهم بالمدينة، فثِقْ أنَّه في إيوان سليمان أو معبده كانت خيولنا تخوض في بحر من دماء الشرقيين المتدفّقة إلى ركبتيها"[9].
وإزاء هذه المذابح الرهيبة لم يكن كثيرًا ما حلَّ بالمسلمين من الحزن والبكاء في كافَّة البلدان آنذاك، وخاصَّة في دار الخلافة على مصير إخوانهم في الشام، ولا سيَّما في القدس وما جاورها، حتى إنَّ بعضهم عجز عن الصيام من شدة البُكاء والنحيب فأفطروا[10].(/6)
رحم الله قتلى هذه المذابح من المسلمين، وعامل الظالمين بما يستحقّون، إنه سميع مجيب. وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا طيّبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ مُحمَّدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعدُ: فاتقوا الله - عباد الله - فإنه لا نَجَاة للعبد في الدنيا من كوارثها وفِتْنَتِها، وفي الآخرة من حسابها وعذابها إلا بتقوى الله - تعالى -: {وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الزُّمر: 61].
أيها المسلمون: قد كفانا الله - تعالى - مُؤْنة البحثِ في طبيعة أعدائنا، سواء كانوا كفارًا أم منافقينَ، وسواء كانوا وثنيينَ أم أهل كتاب.
أما المنافقون فقد قال الله - تعالى - فيهم: {قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ * هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [آل عمران: 118 – 120].(/7)
وأما أهل الكتاب فقد أبان الله - تعالى - حسدهم لهذه الأمة المُباركة المفضلة على العالمين، فقال – سبحانه -: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الحَقُّ} [البقرة: 109].
وأخبر - سبحانه - بأنهم لن يرضَوْا عنا حتى نُبَدِّل ديننا، وننسلخَ من عقيدتنا، ونُغيرَ شريعتنا، ونتبعهم في شريعتهم سواء كانت شريعتهم يهودية أم نصرانية أم مادية إلحادية: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ اليَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120] وصدق الله العظيم، أَوَلَيْسُوا في هذا العصر يريدون إخراج الناس من دياناتهم وأعرافهم، ويَقْهَرُونَهُم على نماذجهم وتعاليمهم فيما يتعلَّق بِالدِّيمقْراطية، والحرية، وحقوق الإنسان والمرأة والطفل، وغيرها من المقرَّرات الإلحادية التي لا تحفظ الحقوق؛ بل تُدمِّر الشعوب، تحت مشاريع العولمة والنظام العالمي الجديد.
وأكَّد ربُّنا - جلَّ جلاله - عداوةَ الكافرين لنا فقال – سبحانه -: {إِنَّ الكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا} [النساء: 101]، وعداوة المنافقين فقال - تعالى -: {هُمُ العَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ} [المنافقون: 4].
إننا لا نحتاج في فهم علاقات الآخرين معنا، ومدى حِقْدهم علينا إلى محللينَ سياسيينَ، أو خبراء استراتيجيينَ، أو إعلاميين بارزينَ، يتلوَّنُون مع تلون السياسات، ويبدلون مواقفهم مع تبدل مصالحهم الشخصية، ويركبون موج الأقوياء، وليس لهم مبدأٌ ثابتٌ، ولا قاعدةٌ معروفة؟! لا نحتاج إلى كُلّ هؤلاء؛ فشرع الله - تعالى - قد كفانا ذلك كله، وأبان لنا حقيقة أعدائنا وأصنافهم وأفعالهم، وماذا يريدون منّا، ومتى ستنتهي عداوتهم لنا.(/8)
أبان لنا ذلك كله في قرآن يتلى منذ أربعة عشر قرنًا، وقرأنا أحداث التاريخ منذ ذلك الزمن إلى يومِنا هذا فوجدناها لا تَعْدُو ما ذَكَرَهُ القُرْآنُ قيد أَنْمُلة؛ بل وَرَأَيْنا فيما عِشْنا من سَنَوَاتٍ قلائِلَ حِقْدَهُمْ على الإسلام والمسلمين، ونُقلت إلينا مذابِحُهُمْ في البوسنة، وكوسوفا، وكشمير، والشيشان، وتَيْمُور الشرقيَّة، وأفغانستان، والهند، وغيرها، ومنذ خمسين سنة ونحن نشاهد ذلك في فلسطين.
مذابح في الشرق وفي الغرب، ولِبَشر بيض وحمر وصفر وسود، وأجناس مختلفة، وألسن عدة، لا يجمع بينها كلها إلا كونُ أَهْلِها اختاروا الإسلام دينًا لهُم.
وإذا كانتِ القُوى الظالمة في وقتٍ مِنَ الأَوْقات لا تُظهر عداوَتَها للإسلام صراحةً، وتتذرَّع بمصالحها؛ فإنَّ كثيرًا من رموزها وشخصيَّاتها وخبرائها يُصَرِّحُون الآن بأن الإسلام هو عَدُوهم الأول والأوحد، ويزعمون أنَّ القرآن هو منبع التطرف، ويرمون النبي - صلى الله عليه وسلم – بالإرهاب.
فهل بَقِي لمتَفَلْسِف حيلةٌ حتى يضحك بها على عقول الناس؛ لينفي عداوة الذين كفروا للذين آمنوا؟!
ألا وإن المتتبع لتاريخ المسلمين يجد أنهم ما أصيبوا عبر تاريخهم الطويل بمصيبة إلا كانت ذنوبهم وعصيانهم سببًا لها، وما ابتعدوا عن دينهم إلا سُلِّط عليهم أعداؤهم؛ مصداقًا لقول الله - تعالى -: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشُّورى: 30].(/9)
وإذا ما أراد المسلمون الخروج من هذه الكروب والشدائد التي تلفهم من كل جانب فعليهم بالأوبة إلى الله - تعالى - والعودةِ إلى دينهم، والتوبةِ من ذنوبهم؛ فما نزل بلاءٌ إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة. وها هو ذا شهر التوبة والرحمة والمغفرة والإحسان على الأبواب، وهو فرصة لهذه الأمة في هذه الظروف العصيبة أن تجدد فيه إيمانها، ويجتمع المسلمون على كتاب ربهم - سبحانه وتعالى - وسُنَّة نبيهم محمد - صلى الله عليه وسلم - ويتوبوا أفرادًا وجماعات؛ لعلَّ الله - تعالى - أن يرفع البلاء عنهم، وينصرهم على أعدائهم.
ورمضان فرصة للتوبة؛ لأن الشياطين تَضْعُفُ فيه، والخيرَ يزداد، والصلاح يظهر، ويكون إقبالُ الناس على الطاعات كبيرًا؛ كما صحَّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((إذا دخل رمضان فُتِّحتْ أبواب السماء، وأغلقت أبواب جهنم، وسلسلت الشياطين))[11].
ألا فاتقوا الله ربكم، واستقْبِلُوا شَهْرَكُمْ بالتوبة النصوح التي لا رجعة فيها إلى الذنوب والعصيان، فإنكم إن فعلتم ذلك كَفَاكُمُ اللَّهُ شَرَّ أعدائكم، وأمَّنَكُمْ فِي أوطانكم، وأزال أسباب الخوف والجُوعِ عَنْكُمْ، ومن كان الله معه فلن يخاف من شيء، والله يُحِبّ التَّوَّابينَ، ويحب المتطهرينَ.
وصلُّوا وسلِّموا على نبيّكم؛ كما أمركم بذلك ربكم.
---
[1] كان سقوط بيت المقدس في ضُحَى الجمعة الثاني والعشرين من شعبان سنة 492 هـ، وكان عدد جيشهم فيما ذكر ابن كثير يُقارب مليون مقاتل. انظر: "البداية والنهاية" (12/138)، و"الكامل" (10/191)، و"تاريخ ابن خلدون" (4/67)، و"النجوم الزاهرة" (5/148).
[2] انظر: كتابه: "أعمال الفرنجة حجاج بيت المقدس" (115 - 128)، و"الحملة الصليبية الأولى نصوص ووثائق تاريخية" لقاسم عبده قاسم (254 - 255).
[3] انظر كتابه: "تاريخ الفرنجة غزاة بيت المقدس" ترجمة: جوزيف نسيم يوسف (246 - 247)، و"الحملة الصليبية الأولى نصوص ووثائق" (267 - 269).(/10)
[4] انظر كتابه: "أعمال الفرنجة وحجاج بيت المقدس الآخرين" (84 - 92)، و"الحملة الصليبية الأولى نصوص ووثائق تاريخية" (277 - 278).
[5] "تاريخ الصليبية" لميشو (1/224)، و"المملكة الصليبية" لبويس (20/21)، "عن العدوان الصليبي على العالم الإسلامي" للدكتور: صلاح الدين محمد نوار (122).
[6] "تاريخ الأعمال التي تمت فيما وراء البحار" للمؤرخ النصراني وليم الصوري، وقد كتب تاريخه هذا بعد مرور حوالي ثمانين سنة على هذه الحملة الصليبية، وهو مولود في أرض فلسطين لأسرة من الغزاة الصليبيين +الذين احتلوا بيت المقدس (3/185)، وانظر أيضًا: "تاريخ الصليبية" لميشو (3/227)، و"تاريخ الحروب الصليبية" لزوي أولدينبرج (15/25).
[7] انظر كتابه: "قصة الحضارة" (15/25).
[8] "أعمال الفرنجة وحجاج بيت المقدس الآخرين" (119 - 120).
[9] كان مُسيّر هذه الحملة الصليبية ومهندسها البابا أوربان الثاني بابا الفاتيكان في وقته، وأرسل القادة الصليبيون هذه الرسالة إليه يبشرونه بأخذهم لبيت المقدس، وذبحهم المسلمين، ولم يفرح بهذا الإنجاز الصليبي الذي جيش أوربة من أجله؛ لأن المنية اختطفته قبل وصول الرسالة؛ بل وقبل سقوط القدس في أيدي الصليبيين بأسبوعين. وانظر: "العدوان الصليبي على العالم الإسلامي" (124).
[10] انظر في وصف حزن المسلمين في بغداد لما سمعوا بهذه الفاجعة: "المنتظم" (17/47)، و"الكامل" (10/192)، و"البداية والنهاية" (12/139)، و"تاريخ ابن خلدون" (5/21)، و"تاريخ الإسلام" للذهبي (34/15)، و"مرآة الزمان" (1/323)، و"النجوم الزاهرة" (5/151).
[11] أخرجه البخاري في الصوم؛ باب هل يقال: "رمضان أو شهر رمضان؟ ومن رأى كله واسعًا" (1899)، ومسلم في الصوم؛ باب فضل شهر رمضان (1079) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(/11)
العنوان: مذكرات قطرة الماء
رقم المقالة: 122
صاحب المقالة: د. محمد هيثم الخياط
-----------------------------------------
أَنا قَطْرَةُ المَاءِ فَهَلْ تسْمَعُنِي؟.. قَدْ لا تَراني بَيْنَ آلاَفِ الْقَطَرَاتِ الأُخْرَى. مِنَّا يَتَأَلَّفُ المَاءُ الَّذِيْ جَعَلَ اللهُ مِنْهُ كُلَّ شَيْءٍ حَيّ.. وُلِدْنَا جَمِيعًا فِي النَّبْعِ الرَّابِضِ في أَعْلَى الجَبَلِ.. وَغَنَّيْنَا جَمِيعًا أُغْنِياتِ المَاءِ. وَمَا زِلْتُ أَذْكُرُ الحَيَواناتِ التي اسْتَوْقَفَتْنَا لِتَشْرَب: السَّنَاجِيبَ وَالذِّئَابَ.. وَالدُّبَّ الَّذِي أُفْلِتَتِ السَّمَكَةُ مِنْ بَيْنِ مَخَالِبهِ.. وَالْقُنْدُسَ الَّذِي يَبْنِي وَكْرَهُ في جُذُوعِ الشَّجَر..
ثُمَّ صَارَتِ الأَرْضُ أَقَلَّ انْحِدَارًا وَرَأَيْتُنِي فَجْأَةً جُزْءًا مِنَ النَّهْرِ الْكَبيرِ الَّذي يَجْري في السَّهْلِ وَيَكْبُرُ بِاسْتِمْرَارٍ. وَالنَّاسُ يَأَخُذُونَ الْمَاءَ مِنَ النَّهْرِ فَيَسْقُوْنَ النَّبَاتَاتِ لِتَنْمُوَ وَتَتَرَعْرَعَ، وَتُزْهِرَ وَتُثْمِرَ..
وَهُمْ يَجُرُّونَ الْمَاءَ في الأَنَابِيبِ إِلى بُيُوتِهِمْ لِيَشْرَبُوا مِنْهُ وَيَسْتَحِمُّوا وَيَغْسِلُوا ثِيَابَهُمْ وَأَدَوَاتِهِم..
وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْلِسُ عَلى شَطِّ النَّهْرِ لِيَصْطَادَ السَّمَكَ، أَوْ يَرْكَبُ في قَارِبٍ لِيَتَنَزَّهَ في النَّهْرِ الجَمِيلِ.
وَفَجْأَةً غَضِبَ النَّهْرُ غَضَبًا شَدِيدًا.. فَقَدْ تَلَبَّدَتِ السَّمَاءُ بِالْغُيُومِ السَّوْدَاءِ.. وَأَخَذَتِ الرِّيحُ تَعْصِفُ بِقُوَّةٍ.. ثُمَّ هَطَلَ الْمَطَرُ مِدْرَارًا.. وَفَاضَ مَاءُ النَّهْرِ فَيَضَانًا.. فَدَمَّرَ شَاطِئَيْهِ.. وَغَمَرَ بِطُوفَانِهِ الْحُقُولَ وَالْمَزَارِعَ!
وَإِذَا بِنَا نُؤَلِّفُ سَيْلاً يُخَرِّبُ الْبُيُوتَ وَالْمَنَازِلَ، وَيُهَدِّدُ حَيَاةَ البَشَرِ، وَيَجْرِفُ حَصَادَ الحُقُول..(/1)
وَانْقَلَبَ النَّهْرُ المُسَالِمُ مَارِدًا مُخِيفًا، بَشِعًا، قَذِرًا، مُفْعَمًا بِالْوَحْلِ وَالْحُطَامِ.
وَلكِنَّ هذا الْكابُوسَ انْتَهَى: فَسَطَعَتِ الشَّمْسُ، وَغِيْضَ الْمَاءُ.. وَعَادَ النَّهْرُ يَنْسَابُ في السُّهُولِ.. وَيَمْنَحُ مَاءَهُ لِيَرْوِيَ بِهِ غَلِيلَ النَّبَاتَاتِ، ولِيَصِلَ إِلى بَيْتِكَ وَإِلى كُلِّ بَيْتٍ.. نقيًّا عَذْبًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ..
غَيْرَ أَنَّ سَعَادَتَنَا لَمْ تَطُلْ.. إِذْ سَرْعَانَ مَا وَجَدْتُ نَفْسِي في مَكانٍ آخَرَ.. وَالسَّمَاءُ مُظْلِمَةٌ مِنْ جَدِيدٍ.. بِالدُّخَانِ الَّذي يَتَصَاعَدُ مِنَ الْمَدَاخِنِ وَالأَقْذَارِ الَّتي تَنْصَبُّ في النَّهْرِ مِنَ الْمَصَانِع!
وَأَبْصَرْتُ رَغْوَةً بَيْضَاءَ لَهَا سُحُبٌ شِرِّيرَةٌ وَطَعْمٌ حامِضٌ تَجْثُمُ فَوْقِي وَتَكْتُمُ أَنْفَاسِي.. وَنَظَرْتُ هُنا وهُنَاكَ فَإِذَا الأَسْمَاكُ تَمُوتُ مِنْ حَوْلِي.. وَالْمَاءُ كُلُّهُ يَفْسُدُ ويَتَغَيَّرُ!.. لَوَّثَهُ الإِنْسانُ.. إِنَّهُ كانَ ظَلُومًا جَهُولاً!
لَسْتُ أَدْرِيْ كَيْفَ اسْتَطَعْتُ أَنْ أَنْجُوَ مِنْ هذا الْخَطَرِ المُخِيفِ.. وَوَقَفْتُ أَلْتَقِطُ أَنْفَاسي وَأَنِا لا أَكَادُ أُصَدِّقُ أَنَّني قَدْ نَجَوْتُ.. وَيَحْكُونَ لي أَنَّ النَّهْرَ ما زَالَ في بَعْضِ أَجْزَائِهِ قاتِلاً مُميتًا لأَنَّ الإِنْسَانَ الظَّلُومَ الْجَهُولَ ما زَالَ يُصِرُّ عَلى تَلْوِيثِهِ وَإِفْسَادِهِ..(/2)
وَصَلْتُ إِلى الْوَادي الَّذي يَشُقُّ طَرِيقَهُ بَيْنَ الْجِبَالِ.. ثُمَّ صَبَّ الْوَادي في بُحَيْرَةٍ لَطِيفَةٍ.. صَنَعَها الإِنْسَانُ الْحَكِيمُ هذِهِ الْمَرَّةَ! فَقَدْ بَنى سَدًّا عالِيًا! وَإِذَا بِقُوَّةٍ عَجِيبَةٍ تَسْحَبُنِي فَأَدْخُلُ في أَنْبُوبٍ كَبيرٍ في آخِرِهِ آلَةٌ مُسْتَدِيرَةٌ ذَاتُ أَجْنِحَةٍ كَثِيرَةٍ.. قالُوا إِنَّ اسْمَها ((الْعَنَفَة)).. وَوَجَدْتُ نَفْسي أَدْفَعُ أَحَدَ أَجْنِحَتِهَا وَأَخَوَاتي يَدْفَعْنَ غَيْرَهُ.. وَأَخَذَتِ الْعَنَفَةُ تَدُورُ.. فَتُوَلِّدُ التَيَّارَ الْكَهْرَبائيَّ بِفَضْلِ قُوَّةِ الْمَاءِ!
أَضْحى النَّهْرُ الآْنَ أَكْبَرَ، وأَكْثَرَ وَدَاعَةً.. وَأَخَذَ يُغْنِّي أُغْنِيَّةَ الْبَحْرِ الْجَمِيلِ..
وَكَانَ عَلى حَقٍّ، فَسَرْعانَ ما شَعَرْتُ بِطَعْمٍ مالِحٍ.. وَرَأَيْتُ أَسْمَاكًا لَمْ أَرَهَا مِنْ قَبْلُ!
وَأَحْسَسْتُ كَمْ هِيَ عَظَمَةُ اللهِ الْقَادِرِ عَلى مَزْجِ النَّهْرِ بِالْبَحْرِ.. هذا عَذْبٌ فُراتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ.. وَهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ.. وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا.. وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا...
وَأَخَذْتُ أَتَأَمَّلُ الشَّمْسَ في جَوِّ السَّماءِ.. لَقَدْ أَسَرَتْني بِجَمَالِهَا.. وَجَذَبَتْنِي إِلَيْهَا بِجاذِبِيَّتِها.. وَأَحْسَسْتُ أَنَّ وَزْني يَخِفُّ.. ثُمَّ أَدرَكْتُ أَنَّني أَطِيرُ.. وَمَعِي مِئَاتُ القَطَراتِ مِنْ أَمْثَالي.. نُؤلِّفُ بُخَارًا بِفَضْلِ أَشِعَّةِ الشَّمْسِ الدَّافِئَةِ.. ثُمَّ حَمَلَتْني الرِِّيحُ مَعَهُنَّ إِلى غَيْمَةٍ بَيْضَاءَ..(/3)
وَدَعَوْتُ رَبِّيْ أَنْ أَعُودَ إِلى الأَرْضِ فَاسْتَجَاب دُعَائي، وَإذَا بِهِ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا.. ثُمَّ يَسُوقُهُ وَيُزْجِيهِ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ مِنَ الْعَطَشِ.. ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ فَتَرى البُخَارَ يَنْعَقِدُ ماءً مِنْ جَدِيدٍ.. وَتَرَى الْوَدْقَ – وَهُوَ قَطَرَاتُ المَطَرِ – يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ.. فَيُحْيِي بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها..
وَانْشَقَّتِ الأَرْضُ وَابْتَلَعَتْني، وَأَخَذْتُ أَسْرِي في أَعْمَاقِها.. وَبَقِيتُ في أَحْضَانِها مَا شَاءَ اللهُ.. ثُمَّ إِذَا بِبَعْضِ الأَحْجَارِ تَفْتَحُ لي بَابًا أَخْرُجُ مِنْهُ!
وَإِنَّ مِنَ الحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ.. وَإِنَّ مِنْها لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ!
وَعُدْتُ إِلى النَّبْعِ الَّذي وُلِدْتُ فيهِ مِنْ قَبْلُ.. وَرَأَيْتُ الأَرَانِبَ وَالدُّبَّ في انْتِظَارِي.. فَأَلْقَيْتُ عَلَيْهِنَّ السَّلامَ.. وَأَيْقَنْتُ أَنَّ رِحْلَتي سَتَتَكَرَّرُ إلى مَا شَاءَ الله!
___________________
غريب المفردات:
الرّابِض: الجاثِم المُسْتَقِرّ
مَخالِبَهُ: بَراثِنَهُ أو أظافِرَهُ
وَكْرَهُ: عُشَّه أو مسكنه
تَتَرَعْرَع: تتحرك وتنشأ وتنمو
تَلَبَّدَتْ: تداخَلَتْ وتَرَاكَبَتْ
هَطَل: أمطر مطرًا مُتتابعًا
مِدْرارًا: سَيَلانًا كثيرًا(/4)
العنوان: مراتب الإحسان
رقم المقالة: 1289
صاحب المقالة: الشيخ عائض بن عبدالله القرني
-----------------------------------------
إنَّ الحمد لله، نحمدهُ ونستعينهُ ونستغفرهُ، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا وسيِّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومن يضللْ فلا هاديَ له، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70-71].
أما بعد:
فإن أصدقَ الحديث كتابُ الله، وأحسنَ الهدي هديُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - وشرَّ الأمور محدثاتُها، وكلَّ محدثة بدعةٌ، وكلَّ بدعة ضلالةٌ، وكلَّ ضلالة في النار.
أيها المسلمون:
أوصيكم ونفسي بتقوى الله - عزَّ وجلَّ - وطاعته، واتباع أمره، والوقوف عند حدوده ومحارمه، والحذر من مخالفته ومعصيته.(/1)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الحشر: 18-20].
فقد أمر الله - عزَّ وجلَّ - في هذه الآيات بالتقوى والمراقبة التي هي أعلى مراتب الدين ومنازله، وهي الإحسان الذي سأل عنه جبريلُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد أن سأله عن الإيمان والإسلام، فقال: أخبرني عن الإحسان؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك))[1] فهذه حقيقة الإحسان مأخوذة من مشكاة النبوة. والإحسان مراتب ودرجات.
أولها: مرتبة المراقبة والمشاهدة والخوف من الله - عزَّ وجلَّ - وخشيته.
وثانيها: مرتبة الحياء من الله – سبحانه وتعالى.
وثالثها: مرتبة الأنس برب العالمين.
فأما مرتبة الخوف والمراقبة فهي أن يعبد الإنسان ربه على وجه الحضور وكأنه يرى الله - عزَّ وجلَّ - بقلبه، وينظر إليه في حال عبادته، والجزاء من جنس العمل، فمن عَبَدَ الله على هذه الكيفية في الدنيا، كان جزاؤه أن ينظر إلى وجه الله الكريم عيانًا في الآخرة، كما قال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22-23].(/2)
وكما أخبر عن المحسنين فقال: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]، وعن صهيب عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا دخل أهل الجنة الجنة، قال الله - تبارك وتعالى - : تريدون شيئًا أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيِّض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة وتنجِّنا من النار؟ قال: فيكشف الحجاب فما أعطوا شيئًا أحب إليهم من النظر إلى ربهم - عزَّ وجلَّ -)) ثم قرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}[2].
أما المعرضون عن الله - عزَّ وجلَّ - أما أهل الكفر والنفاق، فإنهم محجوبون عن رؤية الله - عزَّ وجلَّ - يوم القيامة؛ لأنهم كانوا لا يراقبون الله - عزَّ وجلَّ - في الدنيا، فكان جزاؤهم على ذلك أن حُجبوا عن رؤيته في الآخرة، فلا بد للعبد أن يستحضر قرب الرب – جلَّ وعلا – منه وإطلاعه عليه، لأن ذلك يوجب الخشية والخوف والهيبة والتعظيم، ويوجب أيضًا النصح في العبادة وبذل الجهد في تحسينها وإتمامها وإكمالها.
وأما المرتبة الثانية وهي مرتبة الحياء من الله - عزَّ وجلَّ - فهي ناتجة عن معرفة العبد بأن الله - عزَّ وجلَّ - يراه على أي حال، ويطلع عليه في كل أمر من أمره، فيستحيي العبد من خالقه أن يجده حيث نهاه أو يفقده حيث أمره، فيكون بذلك قد جعل الله - عزَّ وجلَّ - أهون الناظرين إليه. كما قال تعالى: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا} [النساء: 108].
وقال بعض الصالحين: خفِ الله على قدر قدرته عليك، واستحيي من الله على قدر قربه منك.(/3)
وقد دلّ القرآن على قرب الرب - تبارك وتعالى - من عباده واطلاعه عليهم في كثير من آياته، ومنها قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186].
وقال تعالى: {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة: 7]. وقال - عزَّ وجلَّ -: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16].
* وقد وردت الأحاديث الصحيحة بالندب إلى استحضار هذا القرب في حال العبادات كقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن أحدكم إذا قام يصلي فإنما يناجي ربه أو ربه بينه وبين القبلة))[3].
* وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه، وإن تقرب مني شبرًا تقربت منه ذراعًا، وإن تقرب مني ذراعًا تقربت منه باعًا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة))[4].
قال أبو بكر المزني: من مثلك يا ابن آدم، خُلّي بينك وبين المحراب وبين الماء كلما شئت دخلت على الله - عزَّ وجلَّ - وليس بينك وبينه ترجمان.
والشاهد من ذلك أن من وصل إلى استحضار قرب الله - عزَّ وجلَّ - منه واطلاعه عليه استأنس بالله - عزَّ وجلَّ - واطمأن قلبه، ولم تنازعه نفسه في معصية الله والتجرؤ عليه؛ لأن هذه المراقبة يتولد عنها الحياء وهذا الحياء يمنع العبد من مفارقة المعصية وموافقة النفس والشيطان عليها.
وأما المرتبة الثالثة التي يتضمنها الإحسان فهي مرتبة الأنس بالله - عزَّ وجلَّ - والاطمئنان إليه والفرح بعبوديته.(/4)
قال أبو أسامة: دخلت على محمد بن النضر الحارثي فرأيته كأنه ينقبض، فقلت: كأنك تكره أن تؤتى؟ قال: أجل! فقلت: أما تستوحش؟ قال: كيف أستوحش وهو يقول: أنا جليس مَنْ ذكرني؟
وقيل لمالك بن مغفل وهو جالس في بيته وحده: ألا تستوحش؟ قال: أويستوحش مع الله أحد؟!!
وكان حبيب أبو محمد يخلو في بيته ويقول: من لم تقرَّ عينه بك فلا قرت عينه، ومن لم يأنس بك فلا أنِس.
وقال غزوان: إني أصبت راحة قلبي في مجالسة من لديه حاجتي.
وقال الفضيل: طوبى لمن استوحش من الناس وكان الله جليسه.
فهؤلاء القوم استأنسوا بالله - عزَّ وجلَّ - واطمأنوا إليه، فلم يحوجهم إلى غيره؛ بل جعل لهم من كل همٍّ فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا، ومن كل بلاء عافية.
وقد بلغ نبينا - صلى الله عليه وسلم - الغاية في ذلك، لأنه أكمل الخلق فما انقطع عن الناس، وما أغلق الأبواب، وما وضع الحجاب، وما سكن الجبال والكهوف ليختلي بالله - عزَّ وجلَّ - وإنما كان يجالس أصحابه، ويمشي في حاجة الأرملة والمسكين، ومع ذلك كان في أنس دائم بالله - عزَّ وجلَّ - وكان الحبل ممدودًا بينه وبين الله - تبارك وتعالى - قال عبدالله بن عمر: كنا نعد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المجلس الواحد مئة مرة: ((ربِّ اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم))[5].
* وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((إني لأستغفر الله في اليوم مئة مرة))[6]. وهذا هو الكمال الحقيقي الذي أوتيه النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث كان يقوم بحقوق العباد على أتم وجه وأكمله، ويقوم بحقوق النفس والأهل كذلك، وهو في ذلك كله لا يفتر لسانه من ذكر الله - عزَّ وجلَّ - كان إذا أراد الصلاة قال: ((أرحنا بها يا بلال))[7]. وقال ابن مسعود رضي الله عنه: صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة، فلم يزل قائمًا حتى هممت بأمر سوء. قيل: ما هممت؟ قال: هممت أن أجلس وأدعَهُ[8].(/5)
ويحدثنا حذيفة رضي الله عنه عن طول قيام النبي - صلى الله عليه وسلم - في الليل لله رب العالمين فيقول: صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة فافتتح البقرة فقلت: يركع عند المئة، ثم مضى فقلت: يصلي بها في ركعة، فمضى فقلت: يركع بها، ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها، يقرأ مترسلاً[9]، إذا مرَّ فيها تسبيح سبَّح، وإذا مرَّ بسؤال سأل، وإذا مرَّ بتعوذٍ تعوذ، ثم ركع فجعل يقول: سبحان ربي العظيم، فكان ركوعه نحوًا من قيامه، ثم قال: سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد، ثم قام طويلاً قريبًا مما ركع، ثم سجد فقال: سبحان ربي الأعلى، فكان سجوده قريبًا من قيامه[10].
وقالت عائشة رضي الله عنها: كان النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه، فقلت له: لم تصنع هذا يا رسول الله وقد غُفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: ((أفلا أكون عبدًا شكورًا))[11] فهكذا حصل للنبي - صلى الله عليه وسلم - الكمال في كل مراتب العبودية، وهذا ما عجز عنه غيره من البشر. فقد روي عن مسلم بن عابد – عليه رحمة الله – أنه قال: لولا صلاة الجماعة ما خرجتُ من بيتي أبدًا. فأين عيادة المرضى، واتباع الجنائز، والسعي في حوائج المسلمين؟!
والشاهد من ذلك كله أنه ينبغي للعبد أن يكون متصلاً بالله - عزَّ وجلَّ - ذاكرًا له، مستأنسًا به - تبارك وتعالى - غير مستوحش من فقد الأنس والجليس. فهذا شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – لما سجنه أعداؤه، وأغلقوا عليه الأبواب، كان يكثر من قوله تعالى: {فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد: 13] وكان يقول: ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، أينما ذهبت فهي معي .. أنا قتلي شهادة، وسجني خلوة، ونفيي سياحة، وكان عليه رحمة الله يقول: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة.(/6)
أيها المسلمون:
أمر الله - عزَّ وجلَّ - بالإحسان فقال سبحانه: {وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195]. وقال - عزَّ وجلَّ -: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى} [النحل: 90].
فالله - عزَّ وجلَّ - أمر بالإحسان وحث عليه وبَيَّن فضائله، ولذلك فهو يحب المحسنين، ويثيبهم ويدافع عنهم، كما قال سبحانه: {إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} [الكهف: 30]. وكما قال سبحانه: {وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69].
يكلؤهم، ويؤيدهم، وينصرهم على أعدائهم، ويقضي حوائجهم. قال – سبحانه وتعالى – في ثواب من أحسن: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 112]. ولماذا يخاف والله معه؟! ولماذا يحزن والله ناصره ومؤيده؟! {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر: 51]. أما الذين أعرضوا عن الله، وتنكبوا الصراط المستقيم، وساروا في طريق الغي والضلال، فأولئك لهم الخزي في الدنيا والآخرة، فلا حظَّ لهم في الجنة، ولا حظَّ لهم من النظر إلى الله - عزَّ وجلَّ - وهذا من أعظم العقاب وأشده عليهم يوم القيامة، كما قال الله - عزَّ وجلَّ -: {كَلا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15].(/7)
وسوف يصطرخون يوم القيامة، ويتمنون أن لو كانوا أحسنوا في الدنيا وقدموا لأنفسهم عملاً صالحًا: {أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الزمر: 56-58] ولكن هيهات هيهات: {وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام: 28].
نسأل الله - سبحانه وتعالى - أن يوفقنا وإياكم للإيمان، وأن يجعلنا ممن بلغ مرتبة الإحسان.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يليق بجلاله وكما يكافئ إحسانه ونعمائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه واتباعه إلى يوم الدين، وعنا وعن عباد الله الصالحين.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
* أما بعد:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله واتباع أمره، واحترام محارمه، فإن تقواه وصيته للأولين والآخرين من خلقه؛ كما قال تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا} [النساء: 131].
* أيها المسلم:(/8)
إذا عرفت فضل الإحسان وحقيقته ومنزلته وأجره وثوابه، فاعلم أنك مأمور بالإحسان في كل شيء، وفي كل عمل، وفي كل قول، وفي كل فعل، بل وفي كل خطرات قلبك وسكناتك، كما قال - عزَّ وجلَّ -: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى} [النحل: 90].
وكما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي أخرجه مسلم عن شداد بن أوس قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذِّبحة، وليحدَّ أحدكم شفرته، فليُرِحْ ذبيحته))[12].
فبهذا الحديث بيَّن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الله - عزَّ وجلَّ - كتب الإحسان على كل شيء.
وأعظم ما يكون الإحسان؛ الإحسان في عبادة الله، الإحسان في توحيد الله - عزَّ وجلَّ - الإحسان في الاعتقاد، بأن يعتقد اعتقادًا سليمًا، ويوحد توحيدًا خالصًا، لا يشوبه شرك في الربوبية، ولا في الألوهية، ولا إلحاد، ولا تعطيل شيء من الأسماء والصفات، كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه والقرون المفضلة، فإن اتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - شرط للإحسان وصحة العمل كما قال - عزَّ وجلَّ -: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ} أي حقق التوحيد {وَهُوَ مُحْسِنٌ} أي: متبع للرسول - صلى الله عليه وسلم - {فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 112].
كذلك أيها المسلمون يكون الإحسان في العبادات، فالعبد مأمور بالإحسان في الصلاة، وذلك بأن يستكمل طهارتها، ويستحضر خشوعها، ويستكمل أركانها، ويستقصي واجباتها، ويحرص على أداء سننها، وأن يحرص على جماعة المسلمين، وبهذا يكون محسنًا في صلاته، فتكون حينئذ ناهية له عن الفحشاء والمنكر.(/9)
ومأمور بأن يحسن في الصيام، بأن يحرص على إكمال صيامه، وإتمام عدته، وأن يجنِّبه المحارم والتي تؤدِّي به إلى ذهاب الأجر والثواب. كالغيبة والنميمة وأكل الحرام وما أشبه ذلك.
ومأمور بالإحسان في الحج؛ بأن يحرص على أن يحجَّ من مال طيب حلال مبارك، وأن يجتنب الرفث والفسوق والعصيان، وأن يحج كما أمره النبي - صلى الله عليه وسلم.
كذلك مأمور أن يحسن في كل عباداته، في جهاده لرب العالمين، وذلك بأن تكون نيته سليمة خالصة لله، أن يجاهد كما جاهد النبي - صلى الله عليه وسلم - لتكون كلمة الله هي العليا، فمن جاهد لتكون كلمة الله هي العليا فهو محسن متبع نبيه - صلى الله عليه وسلم - فلابد من إحسان النية في الجهاد لتكون كلمة الله هي العليا.
ومن ذلك أن يدافع عن بلاد المسلمين ومقدساتها، ضد أعداء الإِسلام من اليهود والنصارى والملاحدة والوثنين وغيرهم من أهل العلمنة والنفاق.
فالجهاد الشرعي هو أن يجاهد المرء لتكون كلمة الله هي العليا، وأن يدافع عن مقدسات المسلمين، وأن يدافع عن راية لا إله إلا الله، وعن شريعة رب العالمين - سبحانه وتعالى.
والعبد مأمور بالإحسان في المعاملات أيضًا، معاملاته للناس بقوله وفعله كما قال - عزَّ وجلَّ -: {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 83] وكما قال الله - عزَّ وجلَّ -: {وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195]. مأمور بالإحسان في معاملته ابتداءً من أقرب الأقربين والديه وذوي أرحامه، كما قال - عزَّ وجلَّ -: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء: 36]. وهكذا مع جميع المسلمين حتى مع الكفار لا يجوز له أن يظلم الكفار؛ بل لا بد أن يعاملهم بالعدل في حدود ما شرع الله - عزَّ وجلَّ - وبيَّن رسول الهدى صلوات الله وسلامه عليه.(/10)
بل إن العبد أيها المسلمون مأمور بالإحسان حتى مع البهائم ولهذا نبَّه النبي - صلى الله عليه وسلم - على هذه النقطة اللطيفة ليبين أن الإحسان مطلوب في كل شيء قال - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذِّبحة وليحد أحدكم شفرته فليرح ذبيحته))[13] حتى مع الحيوانات في حال القتل العبد مأمور بالإحسان، كيف لا وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((دخلت امرأة النار في هرة حبستها لا هي أطعمتها ولا سقتها ولا تركتها تأكل من خشاش الأرض))[14].
يا عباد الله:
امرأة دخلت النار في هرة، كما أن امرأة بغيًّا دخلت الجنة في كلب، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((بينما كلب يُطيف برَكيَّة – أي بئر – قد كاد يقتله العطش، إذ رأته بغي من بغايا بني إسرائيل، فنزعت مُوقها – يعني خفَّها – فاستقت له به، فسقته إياه، فغفر لها به))[15].
والظاهر من هذا أنها تابت من الزنا.
امرأة دخلت الجنة في كلب، وأخرى دخلت النار في هرة.
أيها المسلمون:
إن كان الأمر كذلك فما ظنكم بالذين يجيعون ويعطشون الخدم والعمال، هؤلاء الظلمة الذين يمر الشهر والشهران وعندهم عمال مسلمون ضعفاء لا يستطيعون أن يصلوا إلى المحاكم، لا يستطيعون أن يطالبوا بحقوقهم، فيمنعونهم حقهم شهورًا عديدة؛ بل ربما بعضهم سافر عامله ولم يدفع له ريالاً واحدًا، فذلكم أولى بالنار والعياذ بالله يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه))[16] أخرجه ابن ماجه وغيره. ويقول - صلى الله عليه وسلم -: ((ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة ومن كنت خصمه خاصمته وذكر منهم: ورجل استأجر أجيرًا فاستوفى منه ولم يوفه أجره))[17]. تلكم والله جريمة عظيمة أيها المسلمون، وليس هذا من الإحسان، ولكنه من البغي والجور والظلم، فليتق الله الذين يتعاطون هذا العمل.(/11)
كما أن العبد مأمور بالإحسان في ترك المحارم والبعد عنها، لأن المحسن يعلم أن الله - عزَّ وجلَّ - يراه فيستحيى أن يقدم على شيء منها فلا ينظر إليها بعينيه، ولا يسمعها بأذنيه، ولا يأكلها، ولا يتعاطاها، ولا يسعى إليها، فكل ذلك حرام وقد قال - عزَّ وجلَّ.
{وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ} [الأنعام: 120].
والحاصل أيها المسلمون: أن الله أمر بالإحسان في كل شيء، وأن الإحسان داخل في كل شيء، في الاعتقادات، في العبادات، في المعاملات، في الأخلاق، في كل أمر من أمور الحياة، هناك عدل وإحسان، كما أن هناك أيضًا ظلمًا وبغيًا.
أيها المسلمون:
من القصص التي تروى عن الإحسان في ترك المحارم ما روى البيهقي وغيره عليه رحمة الله عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يمشي ذات ليلة هو وواحد من عسسه في آخر الليل فسمع هو والرجل الذي معه سمع حوارًا من داخل أحد البيوت، سمع أمًّا تقول لابنتها الصغيرة: يا بنية، امزجي اللبن بالماء، فقالت البنية: أما تعلمين أن أمير المؤمنين عمر نهانا أن نغش اللبن بالماء، فقالت الأم: إن أمير المؤمنين لا يراكِ الآن!! فقالت البنت: إذا كان أمير المؤمنين لا يرانا، فإن رب أمير المؤمنين يرانا، والله ما كنت لأطيعه في الملأ وأعصيه في الخلاء، فوضع عمر بن الخطاب على الباب علامة، فلما كان الصباح سأل عن البنت فعلم أنها لم تتزوج بعد، فجمع أولاده، فقال: يا بني، هل لأحدكم حاجة ببنت تقية، فوالله لو كان بأبيكم حركة للنساء ما سبقتموه إليها، فتزوجها أحد أولاده، وكان من نسلها عمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه وأرضاه - وأكرم في الجنة مثواه.(/12)
ويورى عن رجل أنه راود امرأة عن نفسها فقال أغلقي الأبواب فقالت أغلقتها إلا بابًا واحدًا، قال: أغلقيه، قالت: والله لا أستطيع، قال: أنا أستطيع، فجاء ليغلقه قالت: أغلق باب السماء، قال: والله لا أستطيع فانزجر وارعوى وترك معصيته.
والقصة الثانية في "الصحيح"[18]: أن الثلاثة الذين آوَوْا إلى الغار وحصل لهم ما حصل ذكر أحدهم في حاله – أنه لما جلس من ابنة عمه كما يجلس الرجل من زوجته بعد أن جاءت طائعة ومكنَّته من نفسها، قالت له وهي على تلك الحال:
"يا هذا اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه"، فأصابته رعدة، وقام عنها، وأعطاها المال صدقة لله - عزَّ وجلَّ.
فهذا هو الإحسان يا عباد الله، هذا هو الإحسان في ترك المحارم، نسأل الله - عزَّ وجلَّ - أن يجعلنا ممن أحسن قولاً وعملاً، وأن يوفقنا للصالحات، ويرزقنا توبة ناصحة قبل الممات، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلوا – رحمكم الله – على رسولكم وإمامكم، فقد أمركم الله بذلك، فقال الله - تعالى - قولاً كريمًا: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56].
* وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: ((مَنْ صَلى عليَّ صَلاة صَلَّى الله عَليه بِها عَشرًا))[19].
اللهم صلّ وسلم وبارك على نبيك نبي الرحمة، وارض اللهم عن أصحابه أجمعين، وعن التابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
---
[1] أخرجه البخاري (1/18) كتاب الإيمان، ومسلم (1/37) رقم (8).
[2] أخرجه مسلم (1/163) رقم (181).
[3] أخرجه البخاري (1/106) كتاب الصلاة، ومسلم (1/390) رقم (551).
[4] أخرجه البخاري (8/171) كتاب التوحيد، ومسلم (4/2061) رقم (2675).(/13)
[5] أخرجه أبو داود (2/85) رقم (1516). والترمذي (5/461) رقم (3430). وابن ماجه (2/1253) رقم (3814). قال الترمذي: حسن صحيح غريب. وصححه الحاكم في المستدرك.
[6] أخرجه مسلم (4/2075) رقم (2702).
[7] أخرجه أبو داود (4/296) رقم (4985، 4986)، وأحمد (5/364، 371) وصححه الألباني كما في صحيح الجامع رقم (7892).
[8] أخرجه البخاري (2/45) كتاب التهجد، ومسلم (1/537) رقم (774).
[9] مترسلاً: الترسل: ترتيل الحروف وإعطاؤها حقها ومستحقها.
[10] أخرجه مسلم (1/536) رقم (772).
[11] أخرجه البخاري (2/44) كتاب التهجد، ومسلم (4/2171) رقم (2819، 2820).
[12] أخرجه مسلم (3/1548) رقم (1955).
[13] تقدَّم تخريجه في نفس الخطبة.
[14] أخرجه البخاري (4/152) كتاب الأنبياء. ومسلم (4/2022) رقم (2242).
[15] أخرجه البخاري (4/148) كتاب الأنبياء، ومسلم (4/1761) رقم (2245).
[16] أخرجه ابن ماجه (2/817) رقم (2443). والبيهقي (6/121). والطحاوي في مشكل الآثار (4/142) والحديث صحيح صححه الألباني كما في الإرواء رقم (1498).
[17] أخرجه البخاري (3/50) كتاب الإجارة.
[18] انظر صحيح البخاري (3/51) كتاب الإجارة. ومسلم (4/2099) رقم (2743).
[19] أخرجه مسلم (1/288) رقم (384).(/14)
العنوان: مراجعات ابن كثير ونقده لمتون مرويات السيرة النبوية
رقم المقالة: 523
صاحب المقالة: عبدالرحمن بن علي السنيدي
-----------------------------------------
مراجعات ابن كثير ونقده لمتون مرويات السيرة النبوية في كتابه البداية والنهاية
ملخص البحث:
يتناول البحث مراجعات ابن كثير ونقده لمتون مرويات السيرة النبوية في كتابه البداية والنهاية.
وكمقدمة بدأت الدراسة بتناول أهم ما ألف في السيرة النبوية في عصر ابن كثير بإيجاز مع التطرق إلى أبرز المؤلفين ذوي الاتجاه النقدي، تلا ذلك التعريف بابن كثير ثم نبذة عن السيرة النبوية المضمنة في كتابه البداية والنهاية، محتوياتها وموضوعاتها العامة. ثم تناولت الدراسة موضوعها الأساسي (مراجعات ابن كثير ونقده لمتون مرويات السيرة النبوية)، ومما تم تناوله هنا طبيعة هذه المراجعات والنقود والملحوظات التي يوردها ابن كثير على المتون التي يوردها نقلاً عن مصادره، ثم مقاييس ابن كثير في نقد المتن، ومنها عرض الرواية على رواية أصح منها، واستدعاء تاريخ التشريع واستدعاء الحقائق ومعلومات التاريخ والمحاكمة العقلية للمتون وأقوال شيوخه، وأخيرًا تناول البحث ما أهمل ابن كثير نقده من متون.
مقدمة:
جاء ابن كثير في عصر نشط فيه التأليف في كل فن من فنون الدراسات الدينية والعربية، ومن الطبيعي أن يكون التأليف في ميدان السيرة النبوية مواكبًا لهذا النشاط الذي استقى مواده ونصوصه من الثروة الضخمة من الكتب والآراء والروايات التي سجلها العلماء والمحدثون والحفاظ قبل ذلك العصر.
فلقد شهد القرن الثامن الهجري في مصر والشام المملوكيتين ظهور عدة مؤلفين في مجال السيرة النبوية، أخرجوا مؤلفاتهم في هذا الفن بشكل مفرد أو ضمن مؤلف موسوعي كبير.(/1)
ومن هؤلاء المؤلفين "عبدالمؤمن بن خلف الدمياطي" (ت705هـ) وله كتاب: "المختصر في سيرة سيد البشر" وكتاب "أسماء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم"[1]، وشيخ ابن كثير "كمال الدين بن الزملكاني (ت627هـ) ".
وله كتاب في مولد النبي صلى الله عليه وسلم، أشار إليه ابن كثير، وذكر أنه تضمن شيئًا في فضائل النبي صلى الله عليه وسلم وأنه عقد فصلاً في هذا الباب فأورد فيه أشياء حسنة ونبه على فوائد جمة وفوائد مهمة وترك أشياء أُخر حسنة[2].
ومن المؤلفين كذلك ابن سيد الناس محمد بن محمد بن سيد الناس الأندلسي الإشبيلي ولد بالقاهرة سنة 671هـ وتفقه على مذهب الشافعي، من شيوخه والده وابن دقيق العيد (ت702هـ)[3] والحافظ المزي وشيخ الإسلام ابن تيمية[4].
ألف في السيرة "عيون الأثر في فنون المغازي والسير" ومن ميزات هذا الكتاب تلك الدراسة النقدية التي جاءت في مقدمة الكتاب عن أبرز من ألف في السير والمغازي من الرواة الإخباريين وهما ابن إسحاق والواقدي[5] إضافة إلى شرحه للغريب من الألفاظ وذكره للفوائد والتعليق على بعض المتون[6] ومن المؤلفين الشاميين قطب الدين عبدالكريم بن عبدالنور الحلبي (ت735هـ) وله "المورد العذب الهني في الكلام على سيرة عبدالغني"[7].
ومحمد بن أحمد بن عبدالهادي (ت744هـ) وهو من تلاميذه شيخ الإسلام ابن تيمية والمزي والذهبي وقد ألف في السيرة جزءًا في مولد النبي صلى الله عليه وسلم، وجزءًا في المعجزات والكرامات[8].
ليس مهمًا رصد ما ألف في السيرة في عصر ابن كثير بقدر ما يهمنا معرفة مدى التنوع والجدة في العرض ومقدرة أولئك المؤلفين على غربلة الروايات وتمحيصها وتجاوز صناعة الجمع والاقتباس إلى النقد والتقويم.(/2)
لقد شهدت بلاد الشام ظهور مدرسة اجتهادية تأسست على علوم الحديث والسنة وعلى صحيح المنقول وصريح المعقول مثلها الإمام المجتهد ابن تيمية (ت728هـ) وتلاميذه وأبرزهم الذهبي وابن القيم وابن كثير. إضافة إلى الإمام الحافظ المزي (ت742هـ) وغيرهم من الأئمة المجتهدين، وقد جمع رموز هذه المدرسة بين التمسك بالنصوص والعقلية النقدية".
ومن مصنفات الذهبي وابن القيم، وكذلك ابن كثير تتجلى تأثيرات هذه المدرسة حيث يلمس الدارس العناية بغربلة الأخبار وتمحيصها ونقد متونها، فالذهبي أبو عبدالله محمد بن أحمد ابن عثمان (ت748هـ)، يعد من أبرز علماء عصره الذين ألفوا وكتبوا في تاريخ الإسلام بشكل عام وقد جاء ما دونه في السيرة النبوية مضمنًا في كتابه الشامل ((تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام)) موزعة على جزئين الأول: (المغازي)، والثاني (السيرة النبوية) وهو الترجمة النبوية، وقد قدم المغازي لأن من منهجيته تقديم الحوادث التي أسهم فيها صاحب الترجمة على الترجمة ذاتها[9] وينبه الذهبي إلى ما ينتاب بعض الأسانيد من ضعف ونكارة كقوله بعد إيراده رواية البراء في خبر سواد بن قارب، هذا حديث منكر بالمرة، ومحمد بن تراس وزياد مجهولان لا تقبل روايتهما وأخاف أن يكون موضوعًا على أبي بكر بن عياش ولكن أصل الحديث مشهور[10].
ومن نقوده الموجهة للمتن نقده لرواية عبدالرحمن بن غزوان[11] بسنده إلى أبي موسى الأشعري في سفر النبي صلى الله عليه وسلم إلى الشام بصحبة أبي طالب، وأشياخ من قريش ولقاؤه بحيرا الراهب[12]، وهو نقد مشهور، استند إلى معايير تاريخية وعقلية وحلل الخبر تحليلاً علميًا من جميع جوانبه في أحداثه وألفاظه ودلالاته واستخدم عقله والأدلة التاريخية ليثبت بطلانه[13]، وهي خطوات تنبئ عن تمكن الذهبي العلمي ورسوخ قدمه في ميدان نقد متون الروايات.(/3)
وفي كتبه الأخرى ناقش الذهبي العديد من الروايات في ميدان السيرة النبوية. ففي ميزان الاعتدال، رد رواية عمرو بن حَكَّام عن شعبة بسنده إلى أبي سعيد الخدري وفيها أن ملك الروم أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هدايا فكان فيها جرة زنجبيل.
قال الذهبي: هذا منكر من وجوه:
أحدهما: أنه لا يعرف أن ملك الروم أهدى شيئًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وثانيهما: أن هدية الزنجبيل من الروم إلى الحجاز شيء ينكره العقل فهو نظير هدية التمر من الروم إلى المدينة النبوية[14].
ورد قول من قال: إن سلمان الفارسي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم عُمر ثلثمائة سنة يقول معقبًا على هذا القول: (ومجموع أمره وأحواله وغزوه وهمته وتصرفه وسفه للجريد وأشياء مما تقدم تبين بأنه ليس بمعمر ولا هرم فقد فارق وطنه وهو حَدَث ولعله قدم الحجاز وله أربعون سنة أو أقل. فلعله عاش بضعًا وسبعين وما أراه بلغ المئة)[15].
وقد نظر الذهبي إلى الموضوعات على أنها عبء كبير على السيرة، وأخذ على القاضي عياض (ت544هـ) مؤلف كتاب (الشفا بتعريف حقوق المصطفى) ما في كتابه من أحاديث مفتعلة واهية حيث قال عنه: (حشاه بالأحاديث المفتعلة، عمل إمام لا نقد له في الحديث ولا ذوق، والله يثيبه على حسن قصده، وينفع بشفائه، وقد فعل، وكذا فيه من التأويلات البعيدة ألوان، ونبينا صلى الله عليه وسلم غني بمدحة التنزيل عن الأحاديث وبما تواتر من الأخبار عن الآحاد، وبالآحاد النظيفة الأسانيد عن الواهيات فلماذا يا قوم التشبع بالموضوعات فيتطرَّق إلينا مقال ذوي الغل والحسد ولكن من لا يعلم معذور[16]، ويرى الذهبي أن الموضوعات والأخبار الواهية لا يلتفت إليها بل تروى للتحذير منها: (فمن دلسها أو غطى تبيانها فهو جان على السنة خائن لله ورسوله، فإن كان يجهل ذلك، فقد يعذر بالجهل ولكن سلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون)[17].(/4)
وقد عاصر ابن كثير كذلك، ابن القيم: محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي (691-751هـ).
ويعد ابن كثير من أقرانه وأصحابه يقول عنه: (كنت من أصحب الناس له وأحب الناس إليه)[18]، وهذا القول يبين أن الشيخين إنما كانا صاحبين يلازمان أمثال ابن تيمية والمزي ولكن بعض المعاصرين يرى أن ابن كثير من تلاميذ ابن القيم[19]، وعلى كل فثمة عناصر جمعت بين الرجلين ثقافة ومنهجًا بالإضافة إلى التلمذة، على شيخ الإسلام ابن تيمية وقد كان الشيخان ضمن بعثة العلماء إلى الحج سنة 731هـ[20].
ألف ابن القيم في السيرة كتابه المتميز (زاد المعاد في هدي خير العباد) ويعد موسوعة جمعت بين علوم شتى من السيرة والفقه والتوحيد واللطائف في التفسير والحديث والفقه وغير ذلك.
ويرى بعض الباحثين أنه أول كتاب ألف في فقه السيرة، تميز هذا الكتاب بالموضوعات التي طرقها والآفاق التي نقل قارئه إليها من خلال كتابه، والجوانب الجيدة التي تناولها[21] وقد تميز كذلك بنقده لمتون كثيرة يرويها كتاب السيرة ورواتها.
فمن ذلك رواية يونس بن بكير عن سلمة بن عبد يسوع، أن رسول الله كتب إلى أهل نجران قبل أن ينزل عليه طس {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} يعني النمل، باسم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب.
قال ابن القيم، ذلك غلط على غلط فإن هذه السورة مكية باتفاق وكتابه إلى نجران بعد مرجعه من تبوك[22].
ورد رواية الترمذي أن رسول الله دخل مكة يوم الفتح وعبدالله بن رواحة بين يديه ينشد (خلوا بني الكفار عن سبيله... الأبيات.
قال ابن القيم:
هذا وهم فإن ابن رواحة قتل في هذه الغزوة (مؤتة) وهي قبل الفتح بأربعة أشهر[23].
ويرد ابن القيم على رواية عرض أبي سفيان على رسول الله الزواج من ابنته أم حبيبة... رضي الله عنها، قائلاً:(/5)
إن أهل التاريخ أجمعوا على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج أم حبيبة قبل إسلام والدها بزمن طويل، ويرد على من ذهب إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج أم حبيبة بعد الفتح فيقول فيقول هذا باطل عند من له أدنى علم بالسيرة وتواريخ ما قد كان[24].
وثمة روايات أخرى حاكمها ابن القيم محاكمة نقدية كاشفًا ما فيها من تناقضات وأوهام كرواية البيهقي التي أسندها إلى محمد بن إسحاق وفيها أن رسول الله أبلغ حذيفة بالمنافقين الذين حاولوا المكر بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو عائد من تبوك، وفي الخبر قال: ادع عبدالله بن أبي وسعد أبي السرح، والروايات التي ذهبت إلى القول بأن إلى اعتبار سرية الخبط وأميرها أبو عبيدة بن الجراح، إنما وقعت في رجب سنة ثمان للهجرة[25].
ابن كثير والسيرة النبوية:
ليس ابن كثير فقيهًا مغمورًا خامل الذكر ولا هو ذاك المؤرخ غير المشهور الذي تجهل مكانته ولا تعرف مؤلفاته ولا هو ممن يحيط به طوق الإهمال والنسيان، فنحن أمام عالم موسوعي جمع بين العديد من العلوم والفنون وذاعت بعض كتبه خاصة التفسير وكتاب البداية والنهاية بين المسلمين قديمًا وحديثًا، كما كتب عنه عدد من الباحثين[26]، مما يجعلنا نقتصدُ في الترجمة لهذا العلم الموسوعي، والإمام المفسير المؤرخ.
ولد إسماعيل بن عمر بن كثير سنة سبعمائة أو بعدها بيسير، وقد عانى من اليتم منذ صغره حيث توفي والده سنة (703هـ)، نشأ بدمشق[27] وتتلمذ على يد مجموعة من علمائها من أبرزهم:
- كمال الدين ابن الزملكاني شيخ الشافعية بالشام (ت627هـ)[28].
- إبراهيم بن عبدالرحمن الفزاري (ت729هـ)[29].
- جمال الدين أبو الحجاج المزي (ت742هـ)[30].
- ابن تيمية تقي الدين أحمد بن عبدالحليم (ت728هـ)[31].(/6)
ورغم أن الغالب على الحياة العلمية والدراسات الدينية في بلاد الشام طابع التقليد ومحاكاة السابقين والعكوف على الشروح والمختصرات إلا أن تلك البلاد حظيت بوجود مدرسة حديثية جمعت بين الاتباع السلفي والعلم الراسخ والعقلية النقدية مثلها، الشيخ ابن تيمية والإمام المزي العالم المحدث ثم الذهبي وابن القيم وابن كثير نفسه، فتكون رحمة الله في ظل هذه المدرسة التي أثرت على تكوينه العلمي واتجاهات البحث عنده.
لازم ابن كثير والد زوجته الحافظ المزي[32] صاحب ابن تيمية والمحدث المشهور.
كما أخذ عن شيخه ابن تيمية وكانت له به خصوصية ومناضلة عنه واتباع له في كثير من آرائه[33]، وفي كتابه البداية والنهاية يبدو ابن كثير معجبًا بشيخه مسجلاً لكثير من مواقفه السياسية في حرب المغول وكذلك مواقفه في المسائل الدينية وخصوماته الحادة مع المخالفين[34]، ويذكر ابن شهبة (854هـ) أن ابن كثير كان يفتي برأي ابن تيمية في مسألة الطلاق وامتحن بسبب ذلك وأوذي[35].
يعد ابن كثير من فقهاء المذهب الشافعي وكذلك شيخاه المزي والذهبي بخلاف صاحبه ابن القيم (كما يصفه بذلك)[36].
وقد التفوا حول علامة السنة في وقته (ابن تيمية 661-728هـ) مما أزعج المذهبيين المتمسكين بالمذهب على حساب السنة والأثر، يتجلى ذلك في قول الشيخ عبدالوهاب السبكي (ت683هـ). صاحب طبقات الشافعية أن المزي والذهبي وكثيرٌ من أتباعهم أضر بهم ابن تيمية[37].
إن الخيط الذي جمع بين ابن تيمية وابن القيم الحنبليين والمزي والذهبي وابن كثير الشافعيين، ليس العامل الإقليمي، بل ارتباطهم بمدرسة الحديث والأثر التي ترى أن مصدر العقائد هو الكتاب والسنة، وهذه المدرسة هي التي منحت الذهبي وابن كثير تلك المنزلة والمكانة بين المؤلفين في السيرة والتاريخ فرأينا تميزًا نوعيًا في التأليف ومعالجات نقدية للروايات والآراء.(/7)
مارس ابن كثير التدريس في الجامع الأموي بدمشق وفي المدرسة النورية وفي عدة مساجد في دمشق وتولى مشيخة دار الحديث الأشرفية كما مارس الإفتاء والخطابة[38]، هذا إلى جانب النشاط التأليفي الذي يعد الظاهرة الأهم في حياة ابن كثير، حيث ألف وجمع العديد من المصنفات، التي يذكر بعض الباحثين أنها تربو على (60) كتابًا[39]. ومع كثرة مصنفاته إلا أن ما ناله من شهرة ومكانة إنما يرجع إلى كتابيه: تفسير القرآن العظيم والبداية والنهاية. وبعد حياة حافلة بالعطاء والإنتاج توفي ابن كثير في موطنه دمشق عام (774هـ)[40].
السيرة النبوية عند ابن كثير:
تعدُّ السيرة النبوية من الفنون الأساسية التي لا يستغني عن دراستها عالم أو فقيه، وفي نظر ابن كثير فإن الأيام النبوية مشتملة على علوم جمة وفوائد مهمة لا يستغني عنها عالم[41].
وما ذاك إلا لأن موضوع السيرة الجوهري هو تاريخ حياة النبي صلى الله عليه وسلم ومعرفة مراحل دعوته وجهاده، وتعاليمه وهديه ومعلوم أن الفقيه أو العالم (الديني) يتعامل مع النصوص والأحكام التشريعية التي جاء بها محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم، ومن مهامه ووظائفه، فهم الشريعة، وشرحها للناس، وإنزال الأحكام الشرعية على الوقائع المتجددة والمتغيرة، ومن الوسائل والأدوات المعينة على ذلك فهم السيرة وواقعها التاريخي ومراحلها التي تزامنت مع نزول الأحكام والتشريعات.
فإذن لا غرابة أن يؤلف ابن كثير في السيرة النبوية، السيرة المطولة في البداية والنهاية والسيرة الموجزة وهي كتاب الفصول في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم.
ومسألة أخرى حدت بابن كثير إلى الاهتمام بالسيرة والتوسع فيها وتقصي رواياتها في كتابه الضخم (البداية والنهاية) فالمؤلف يرى في تاريخ السيرة واسطة عقد تاريخ الأمة المؤمنة التي يبدأ تاريخها منذ عهد آدم عليه السلام.(/8)
يضم كتاب ابن كثير البداية والنهاية سيرة مطولة، تضم السيرة بسياقها التاريخي المعروف ثم الشمائل والدلائل والفضائل والخصائص.
وقبل أن نبدأ في استعراض أهم عناصر هذه السيرة لابد من الإشارة إلى أن البداية والنهاية هو عبارة عن موسوعة تاريخية شاملة تؤرخ ببدايات الخلق ثم الأنبياء ثم السيرة التي استغرقت نحوًا من ستة أجزاء من الكتاب حسب طبعة مركز البحوث والدراسات العربية والإسلامية بدار هجر[42]، التي تضم (21) جزءًا بما فيها جزء الفهارس والجزءان (19 ،20) وقد خصصا (للفتن والملاحم وأشراط الساعة).
وقد جاء الكتاب ثمرة عوامل أثرت في مكوناته واتجاهه الموسوعي وطابعه العام ومنهجه التاريخي والنقدي ومن تلك العوامل:
- سعة اطلاع مؤلفه (ابن كثير) على كثير من المصادر ومنها دواوين السنة وكتب السير والمغازي وكتب الدلائل وكتب التاريخ العام.
- تأثر ابن كثير بمنهج مؤرخي الإسلام الذين كتبوا في التاريخ العام كابن جرير وابن الأثير وابن الجوزي.
- انتماؤه إلى عصر ساد فيه النمط الموسوعي في التأليف.
- إيمان ابن كثير بوحدة الأمة الإسلامية وإدراكه لأثر الرسالة المحمدية في الحركة التاريخية لهذه الأمة.
- انتماء المؤلف إلى مدرسة الحديث والأثر، حيث يتضح أثر خلفية المؤلف في الحديث وعلومه في جانب من أقسام الكتاب ومنها السيرة النبوية وتاريخ الخلفاء الراشدين، وتراجم العلماء والأئمة وآرائه في الرجال والآراء والمذاهب.
افتتح ابن كثير، قسم السيرة في البداية والنهاية بهذا العنوان "كتاب سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم" وذكر أيامه وغزواته وسراياه والوفود إليه، وشمائله وفضائله ودلائله الدالة عليه"[43].
فتبدأ بالنسب النبوي، وقد سرد ابن كثير مروياته ومقتبساته من مصادره المختلفة وفق نظام عرض تاريخي متدرج فانتقل من المولد ومتعلقاته إلى المبعث الذي عنون له هكذا:(/9)
(كتاب مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر شيء من البشارات بذلك)[44] ومما تناوله هنا أبواب بدأ الوحي ومجادلة المشركين لرسول الله صلى الله عليه وسلم[45]، وهجرة من هاجر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحبشة[46]، كما تناول بدء إسلام الأنصار[47] ثم الهجرة من مكة إلى المدينة[48] ووقائع السنة الأولى الهجرية[49].
وبعد ذلك انتقل إلى كتاب المغازي[50] في الأجزاء (5، 6، 7)، وتلا ذلك كتاب الوفود[51]، ثم كتاب حجة الوداع[52] وأخيرًا تناول الآيات المنذرة بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم[53]، واحتضاره ووفاته عليه الصلاة والسلام وأعقب ذلك أبواب في زوجات النبي صلى الله عليه وسلم[54] وخدامه وكتابه[55] وأبواب في آثار النبي صلى الله عليه وسلم وما اختص به من ثياب وسلاح[56]. وهكذا سار ابن كثير في ترتيبه للموضوعات التاريخية من السيرة على نمط من سبقه كابن إسحاق والواقدي والطبري وابن الأثير، واستفاد من البيهقي في تنظيم الأبواب[57]، علاوة على استفادته من مواده ونصوصه.
وفي الوقت الذي حافظ فيه على الوحدة الموضوعية لكل حادثة فإنه يُذكر بالسنة التي تندرج فيها الأحداث التي يسوقها، وذلك في الأحداث التي وقعت بعد الهجرة[58].
وبعد أن استعرض الموضوعات التاريخية والجوانب الأسرية في حياة النبي صلى الله عليه وسلم تناول ابن كثير ما سماه بـ(متعلقات السيرة) وهي في مفهومه (الشمائل والدلائل والفضائل، والخصائص)[59] ثم ساق رواياتها وأبوابها.
وقد أشار في مفتتح كتاب الشمائل إلى أن أهم المصادر المصنفة في هذا الجانب، كتاب الشمائل للترمذي[60]، وعندما تناول الدلائل قسمها إلى دلائل معنوية ودلائل حسية.(/10)
فأما الدلائل المعنوية فتتمثل في القرآن الكريم[61]، وأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم وخلقه[62]، وهنا أحال إلى ما ذكره، ابن تيمية في الجواب الصحيح من أن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأخلاقه وأقواله وأفعاله من آياته أي من دلائل نبوته ونقل منه ثماني صفحات حول هذا الموضوع[63].
ثم انتقل إلى دلائل النبوة الحسية وقد قسمها إلى قسمين: سماوية وأرضية، فمن الدلائل السماوية وأعظمها انشقاق القمر فرقتين[64].
كذلك ذكر من آياته السماوية استسقاؤه عليه الصلاة والسلام ربه لأمته[65]، ثم تناول المعجزات الأرضية سواءً ما يتعلق بالجمادات أو الحيوانات[66].
ثم تناول ابن كثير ما أخبر به صلى الله عليه وسلم من الكائنات المستقبلة في حياته وبعده فوقعت طبق ما أخبر به سواءً بسواء[67]، وقد أورد أولاً ما جاء من هذا القبيل في القرآن ثم انتقل إلى الأحاديث والآثار ثم تناول الأخبار بالغيوب المستقبلة موردًا أخبارًا كثيرة أيضًا تندرج تحت هذا الموضوع، ثم عقد ابن كثير بابًا طويلاً عنوانه: (التنبيه على ذكر معجزات لرسول الله صلى الله عليه وسلم مماثلة لمعجزات جماعة من الأنبياء قبله أو أعلى منها خارجًا عما اختص به من المعجزات العظيمة التي لم تكن لأحدٍ قبله منهم عليه السلام).
ويقوم هذا الكتاب على الموازنة بين معجزات الأنبياء السابقين ومعجزات محمد صلى الله عليه وسلم ويعكس ذلك تأثره بكتاب الدلائل النبوية كأبي نعيم الأصبهاني[68] وابن حامد أبو محمد عبدالله بن حامد الفقيه صاحب كتاب دلائل النبوة[69].
وأخيرًا يختم ابن كثير سيرته بقصيدة لجمال الدين يحيى بن زكريا الصرصري (ت656هـ) في الموازنة[70] بين معجزات الأنبياء والسابقين ومعجزات محمد صلى الله عليه وسلم.(/11)
وفي ثنايا سيرة ابن كثير تلك ثمة مظاهر تكشف لنا عن طبيعة هذه السيرة وسماتها العامة ومن ذلك جمع الروايات من مصادر مختلفة وتقصي ما ورد في كل موضوع من موضوعات السيرة، وشمولية هيكل السيرة عنده وعدم اقتصاره على الموضوعات التي شكلت الهيكل الأساسي للسيرة عند كتاب السير الأوائل.
كما يظهر في سيرة ابن كثير نقد الأسانيد والمتون كأحد المظاهر المميزة لهذه السيرة (وسوف نتناول ذلك لاحقًا).
لا يقتصر التأليف في السيرة عند ابن كثير على السيرة في البداية والنهاية فهناك كتاب (الفصول في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم) وهو كتاب مختصر موجز قياسًا إلى السيرة الواردة في البداية والنهاية، وقد صنفه لشعوره بحاجة أهل العلم لمعرفة الأيام النبوية والتواريخ الإسلامية كما يبدو أن هذه السيرة جزءٌ من مشروع لعرض التاريخ الإسلامي بصورة موجزة، هذا ما يبدو لنا من قول ابن كثير: "إنه لا يجمل بأولي العلم إهمال معرفة الأيام النبوية والتواريخ الإسلامية وهي مشتملة على علوم جمة وفوائد مهمة لا يستغني عنها عالم ولا يعذر في العرو منها وقد أحببت أن أعلق تذكرة في ذلك لتكون مدخلاً إليه وأنموذجًا وعونًا له وعليه، وهي مشتملة على ذكر نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيرته وأعلامه وذكر أعلام الإسلام بعده إلى يومنا هذا"[71].
- لقد طبعت هذه السيرة في القاهرة سنة 1357هـ تحت عنوان (الفصول في اختصار سيرة الرسول) دون تحقيق، ثم طبع الكتاب محققًا على يد محمد العيد الخطراوي، ومحي الدين مستو، بيروت، 1399هـ، ثم توالت طبعات هذا الكتاب.
وأخرج عدد من الباحثين موضوعات الأنبياء والسيرة بما فيها الشمائل من البداية والنهاية في كتب مستقلة.(/12)
فقد عمد مصطفى عبدالواحد إلى البداية والنهاية وحقق قسم السيرة في أربعة أجزاء ويذكر أنَّه اتجه إلى نشر السيرة النبوية لابن كثير، وهي ذلك القسم الذي أفرده ابن كثير لأخبار العرب في الجاهلية وسيرة النبي صلوات الله وسلامه عليه، وتاريخ دعوته حتى وفاته، على اعتبار أن هذا القسم هو السيرة النبوية (المطولة) التي أشار إليها ابن كثير في تفسيره[72].
وفي رأي (إسماعيل عبدالعال) فإن هذا الكتاب المحقق ليس هو الذي أفرده ابن كثير في السيرة، وعبارته واضحة حين قال: "أفردناه موجزًا وبسيطًا وإذا كان الموجز منهما مستقلاً عن البداية والنهاية فإن البسيط يكون كذلك"[73].
ونميل إلى القول بأن كتاب ابن كثير المفرد في السيرة والذي من سماته الإيجاز والتبسيط كما يقول ابن كثير[74] هو الفصول في سيرة الرسول ولعل مما يقوي ذلك أنه ورد في بعض طبعات التفسير المحققة قول ابن كثير: (الذي أفردناه موجزًا ومقتصًا)[75] والإيجاز والاقتصاص إنما ينطبقان فقط على كتاب الفصول وقد راجعت ثلاث طبعات للتفسير[76] إلا أنها لم تورد عبارة مطولة في وصف كتابه المفرد في السيرة وفي ثنايا كتاب البداية والنهاية وعندما يحيل ابن كثير إلى السيرة فمرادُه ذلك القسم من البداية والنهاية، ومن صور إحالاته إليه قوله: (كما سيأتي في بيان ذلك في السيرة) و(كما ذكرنا في السيرة وذكرنا بأسانيده في أول السيرة) و(تقدم بسطه وبيانه في أول السيرة)[77].
كذلك نرجح أن يكون كتاب السيرة الذي خضع للإيجاز والاقتصاص هو كتاب السيرة الوارد في البداية والنهاية المتسم بطوله وجامعيته وشموله لجوانب السيرة كافة والمستوعب للروايات والآراء في مجال السيرة الجامع بين هيكل السيرة التاريخي وهيكلها عند كُتَّاب الشمائل والدلائل.(/13)
كذلك أخرج مصطفى عبدالواحد شمائل الرسول ودلائل نبوته وفضائله وخصائصه في كتاب مستقل[78]، وكذلك فعل (عبدالقادر الأرنؤوط)[79]، وهناك باحثون ومحققون آخرون[80] أخرجوا أقسامًا من السيرة والمعجزات من البداية والنهاية وتلك المستخرجات وغيرها تتفاوت في مدى عنايتها بالأخبار والروايات التي يوردها ابن كثير وفي مدى وفائها بمتطلبات المنهج العلمي المتبع في أعمال التحقيق ومدى تمكن أولئك المحققين من تجاوز المرحلة الأولية المطلوبة في التحقيق أي تجاوز مجرد وضع المقدمات والفهارس العامة.
مراجعات ابن كثير ونقده:
يسير ابن كثير في سيرته على منهج جامعي الروايات من مختلف الموارد، أولئك الذين يروون في تصانيفهم جميع ما يروى في الباب أو الموضوع.
وعند تشخيص أصول روايات ابن كثير نجد أنها تنتمي إلى مجموعة من المصادر المتنوعة فمنها مصادر عرفت بمنهجيتها الدقيقة وتمحيصها للروايات كالصحيحين للبخاري ومسلم، وفيها مصادر لا تخلو من روايات ضعيفة وأحاديث قال بعض العلماء بوضعها كالمسند للإمام أحمد وهو من أهم مصادر ابن كثير[81]، وهناك مصادر من كتب الدلائل[82] حملت روايات موضوعة واهية ومثلها كتب الهواتف[83] وكتب الفتن[84] والملاحم.(/14)
أضف إلى ذلك كتب المغازي والسير وفيها المراسيل والمنقطعات وفيها ما ورد بدون إسناد، وبين ما جمعه ابن كثير آراء وأقوال لبعض كتاب السيرة والدلائل وغيرهم، وإزاء هذه الروايات والنقول كان لابد أن يُعنى ابن كثير بنقدها سندًا ومتنًا، ومجال دراستنا تلك إنما هو نقد المتن عند ابن كثير مع أن نقد الإسناد ودراسته وهو النقد الخارجي ليس مقطوع الصلة بالنقد الداخلي (نقد المتن) فاشتراط ضبط الراوي إنما يراد به صيانة متن الحديث، والوقوف على المتن ومعرفة سلامته أو نكارته سبيل للتحقق من ضبط الراوي[85]، ودُرَّاس رجال الأسانيد ركزوا على قضايا في شخصياتهم لها أثر على ما يروون، فتناولوا مسألة ضبط الراوي ويقظته، ورسوخ ما حفظ في ذاكرته، ونظروا إلى مجموعة من الاعتبارات الموضوعية، لا مجرد هيئة الراوي وعبادته ومن تلك الاعتبارات الخصائص الذهنية التي أشرنا إليها ومدى دقة الراوي وأهليته لحمل الرواية وكذلك اتجاهاته السياسية والفكرية، ولعل مما يعبر عن ذلك ما ورد عن الإمام مالك بن أنس وهو قوله: "لا يؤخذ العلم عن أربعة ومنهم رجل له فضل وصلاح وعبادة لا يعرف ما يحدث"، وروي عنه قوله أدركت عند هذه الأساطين سبعين (وأشار إلى مسجد رسول الله) كلهم يقولون: قال رسول الله: فما أخذت عنهم شيئًا وإن أحدهم لو ائتمن على بيت مال لكان أمينًا إلا أنهم لم يكونوا من أهل هذا الشأن[86].
لقد أخضع ابن كثير قدرًا من رواياته في أبواب السيرة للمراجعة والنظر ومن جوانب تلك المراجعات شرح وتوضيح ما يحتاج إلى توضيح والتعقيب على ما يحتاج إلى تعقيب وشرح الألفاظ الغريبة في المتن ومن ذلك على سبيل المثال ما ورد في رواية ابن إسحاق أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من يقض عني ديني ويكون خليفتي في أهلي) قال ابن كثير مفسرًا وشارحاً لذلك القول: يعني إذا مت وكأنه خشي إذا قام بإبلاغ الرسالة إلى مشركي العرب أن يقتلوه[87].(/15)
كذلك وضح ابن كثير معاني بعض الألفاظ الواردة في باب كيف بدأ الوحي[88] وشرح غريب حديث أم معبد في صفة النبي صلى الله عليه وسلم[89].
وفسر ما ذهب إليه ابن إسحاق من أن عدد المسلمين في الحديبية (700)[90] – مخالفاً بذلك الروايات الصحيحة – حيث أرجع ابن كثير ذلك إلى أن ابن إسحاق تبنى ذلك الرأي اعتماداً على أن عدد البدن (70) وكل منها عن عشرة على اختياره، وعقب على ذلك، بالقول إنه لا يلزم أن يكون كل من حضر الحديبية قد أهدى وأنهم جميعًا كانوا محرمين[91].
إن مفهوم المراجعة يشمل صورًا عدة منها الشرح وتوضيح النص وتفسير اللفظ الغريب وغير ذلك من الصور، لكن أهم صور المراجعات ما يتصل بنقد مضمون المتن[92] ومحتواه فهو جهد دال على عقلية الناقد وتميزه واستيعابه لعلوم كثيرة وتجاوزه لدور الناقل الذي تغيب شخصيته وراء الأسانيد والمتون حيث راجع ابن كثير متون مرويات كثيرة مبديًا ملحوظاته عليها.
ومن ذلك على سبيل المثال مراجعة رواية ابن جرير في إسلام سعد بن أبي وقاص وفيها أن محمد بن سعد بن أبي وقاص سأل والده أكان أبو بكر أولكم إسلامًا؟ قال: لا، ولقد أسلم قبله أكثر من خمسين[93]. وما ورد في تفسير قول عمرو بن عبسة السُلمي لقد رأيتني وأنا ربع الإسلام وأنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم من معك على هذا فقال: حر، وعبد، حيث فسر بعض الرواة قوله حر وعبد بأبي بكر وبلال رضي الله عنهما، وهو تفسير فيه نظر (عند ابن كثير) فقد أسلم جماعة قبل عمرو بن عبسة، كذلك راجع ابن كثير قول عمرو بن عبسة كما في الرواية (لقد رأيتني وأنا ربع الإسلام) وذكر أن المسلمين كانوا آنذاك يستسرون بإسلامهم لا يطلع على أمرهم كثيرًا أحد من قراباتهم دع الأجانب، دع أهل البادية الأعراب والله أعلم[94].(/16)
ومن الروايات التي راجعها ابن كثير ونقدها رواية ابن إسحاق في هجرة أبي موسى الأشعري[95]، وخبر المؤاخاة بين النبي صلى الله عليه وسلم وعلي بن أبي طالب[96]. والمؤاخاة بين جعفر بن أبي طالب ومعاذ بن جبل[97]، وكون غزوة ذات الرقاع قبل الخندق عند بعض كتاب المغازي والسير[98]، وما ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قرن في حجة الوداع خشية أن يصد عن البيت، وأن النبي صلى الله عليه وسلم حج وأصحابه مشاةً من المدينة إلى مكة قد ربطوا أوساطهم[99] ومشيهم خليط من الهرولة ورواية أسماء بنت عميس في رد الشمس لعلي بن أبي طالب – رضي الله عنه -[100].
وانتقد روايات وأقوالاً أوردها بعض كُتاب المغازي والسير مثل خبر تأخر هجرة سعد بن أبي وقاص إلى المدينة عند موسى بن عقبة[101] وخبر عروة في أنّ عثمان هو الذي زوج أم حبيبة بنت أبي سفيان من النبي صلى الله عليه وسلم، وهو خبر غريب – في رأي ابن كثير – لأنَّ عثمان كان قد رجع إلى مكة قبل ذلك ثم هاجر إلى المدينة وصحبته زوجته رقية بنت محمد صلى الله عليه وسلم[102].
كذلك صحح ما ذهب إليه محمد بن إسحاق من أنّ سورة الضحى أول السور نزولاً بعد فتور الوحي للمرة الأولى وذكر أن الصواب سورة المدثر وإنما نزلت سورة الضحى بعد فترة أخرى[103].(/17)
وصوب ابن كثير ما ذكره ابنُ إسحاق من أنّ هرقل اسم للملك عند الروم فذكر أنَّ اسم الملك عندهم قيصر[104] كذلك رد قول من زعم أن عمر بن الخطاب عندما أسلم كان تمام الأربعين من المسلمين حيث سبقه المهاجرون إلى الحبشة وكانوا فوق الثمانين[105]، وصوب وناقش آراء مجموعة من كتاب السيرة النبوية مثل ابن هشام (ت218هـ)[106] وأبو نعيم (ت430هـ)[107] والبيهقي (ت458هـ)[108] والسهيلي (ت581هـ)[109] والقاضي عياض (ت544هـ)[110]. هذا إلى جانب عدد كبير من الرواة والمحدثين والمؤرخين وقد لفت نظره انسياق بعضهم إلى جمع الروايات دون تمييز بين صحيحها وسقيمها وخص بذلك أبا جعفر الطبري (ت310هـ)[111] وابن عساكر علي بن الحسن بن هبة الله (ت571هـ) يقول عن الأخيرة: "العجب من الحافظ ابن عساكر مع جلالة قدره واطلاعه على بضاعة الحديث أكثر من غيره من أبناء عصره بل ومن تقدمه كيف يورد هذا وأحاديث كثيرة من هذا النمط ثم لا يبين حالها ولا يشير إلى شيء من ذلك إشارة لا ظاهرة ولا خفية))[112].
لم تقتصر تعقيبات ابن كثير ومراجعاته على ما يرويه كتاب السيرة والمغازي وما يذكره المؤلفون والمصنفون في هذين الفنين، بل انتقد وراجع متونًا وردت في مصنفات حديثية، ومنها نصوص وردت في البخاري ومسلم أو أحدهما، كرواية شريك بن عبدالله في الإسراء[113] وما رواه مسلم من حديث المعتمر بن سليمان عن أبيه أنّ المسلمين – كانوا يوم هوازن (حنين) ستة آلاف، وإنما كانوا اثني عشر ألفًا[114] ورواية أبي هريرة في بدء الخلق[115] والتي أخرجها مسلم[116] وغيره، وهي رواية يرى بعض الأئمة أنها متلقاة عن كعب الأحبار ومما يقدح فيها أنه ليس فيها ذكر خلق السموات وفيها ذكر خلق الأرض وما فيها في سبعة أيام وهذا خلاف ما جاء في القرآن لأن الأرض خلقت في أربعة أيام ثم خلقت السموات في يومين[117].(/18)
تأتي مراجعات ابن كثير لمتون هذه الروايات وغيرها تجسيداً لمقولة (صحة السند ليست موجبة لصحة الحديث)، يقول ابن كثير نفسه: (والحكم بالصحة أو الحسن على الإسناد لا يلزم منه الحكم بذلك على المتن إذ قد يكون شاذاً أو معللاً)[118] وفي تعقيبه على إحدى الروايات يذكر أن (هذا الإسناد جيد قوي لكن فيه نكارة من جهة قول الراوي)[119].
ويبدو أن مكانة الصحيحين مما جعل ابن كثير – رحمه الله – يحاول توجيه بعض المآخذ إلى بعض الروايات التي أشكلت على العلماء وهي قليلة في الصحيحين ومن ذلك متن حديث شريك بن عبدالله بن أبي نمر عن أنس في الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم والعروج به.
فعند قوله:
"إنَّه جاءه ثلاث نفر وذلك قبل أن يوحى إليه"، وظاهر هذا الكلام يخالف ما عرف من أن الإسراء بعد البعثة النبوية. قال ابن كثير معلقًا على ذلك: الجواب أن مجيئهم أول مرة، كان قبل أن يوحى إليه فكانت تلك الليلة ولم يكن فيها شيء ثم جاءته الملائكة ليلة أخرى بعدما أوحى إليه فكان الإسراء قطعاً بعد الإيحاء[120].
وفي قوله: (ثم دنا الجبار رب العزة فتدلى) يذكر أَنَّ ذلك من فهم الراوي وقد أقحمه في الرواية[121].
وفي قوله رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ثم استيقظت فإذا أنا في الحجر) قال ابن كثير: إن ذلك معدود في غلطات شريك أو محمول على أن الانتقال من حال إلى حال يسمى يقظة كما سيأتي في حديث عائشة[122].
ومن ذلك أيضاً رواية ابن عباس في مسلم وفحواها أن أبا سفيان عرض على النبي صلى الله عليه وسلم أم حبيبة بنت أبي سفيان[123].
ومعلوم أن أبا سفيان إنما أسلم عام الفتح وقد جاء إلى المدينة قبيل الفتح وهو على الشرك وهي عند النبي صلى الله عليه وسلم كما إن أم حبيبة تزوزجت النبي صلى الله عليه وسلم قبل ذلك، وبعد وفاة زوجها عبيد الله بن جحش بأرض الحبشة.(/19)
وهذه الرواية من الأحاديث المشهورة بالإشكال كما يقول النووي[124] (ت676هـ)، لدرجة أن ابن حزم زعم أن عكرمة بن عمار وضعه.
قال ابن كثير: وهذا القول منه لا يتابع عليه وبعد أن أورد أقوالاً في توجيه الرواية خلص إلى أنّ الأحسن في هذا أنه أراد أن يزوجه ابنته الأخرى عزة لما رأى في ذلك من الشرف له، واستعان بأختها أم حبيبة كما في الصحيحين، وإنما وهم الراوي هذا بتسمية أم حبيبة[125].
مقاييس ابن كثير في نقد المتن:
راجع ابن كثير متون المرويات والأقوال في موضوع السيرة آخذًا بعين الاعتبار الخطوات التي كان العلماء يقومون بها وهم ينقدون النصوص والمرويات.
ومن هذه القواعد عرض المتن على القرآن الكريم ثم على السنة المتواترة ثم على الإجماع ثم على العقل[126].
إن ممارسة هذا الفن وقراءة النصوص واستظهارها عوامل مكنت العلماء الراسخين من رد روايات وأحاديث بالنظر إلى المروي وألفاظ الحديث، قال ابن دقيق العيد (ت207هـ): "وأهل الحديث كثيرًا ما يحكمون بذلك أي بالوضع باعتبار أمور ترجع إلى المروي وألفاظ الرسول صلى الله عليه وسلم، وحاصله يرجع إلى أَنَّه حصلت لهم لكثرة محاولة ألفاظ الرسول صلى الله عليه وسلم هيئة نفاسية أو ملكة يعرفون بها ما يجوز من ألفاظ الرسول صلى الله عليه وسلم وما لا يجوز أن يكون من ألفاظه"[127]، ويعد ابن القيم (وهو ممن نهل من المدرسة نفسها التي نهل منها ابن كثير) من أوائل العلماء الذين أصَّلوا بعض القواعد التي يمكن بواسطتها نقد متن الحديث[128].(/20)
لم يُهْمِل العلماء المسلمون إذن نقد المتن من خلال استخدام بعض القواعد والمقاييس والتي رصدها بعض الباحثين أمثال، مسفر غرم الله الدميني في كتابه مقاييس نقد متون السنة[129]، وعصام البشير في كتابه أصول منهج النقد عند أهل الحديث[130]، ومحمد طاهر الجوابي في كتابه (جهود المحدثين في نقد متن الحديث النبوي)[131] لكن هذا النوع من النقد ليس كلأً مباحاً لكل طالب وليس باباً مفتوحاً لكل طارق، قال ابن القيم في إجابة على سؤال فحواه هل يمكن معرفة الحديث الموضوع دون النظر في سنده: (إنما يعلم ذلك من تضلع في معرفة السنن الصحيحة واختلطت بلحمه ودمه. وصار له فيها ملكة، وصار له اختصاص شديد بمعرفة السنن والآثار، ومعرفة سيرة رسول الله وهديه فيما يأمر به وينهى عنه ويخبر عنه ويدعو إليه، ويحبه ويكرهه ويشرعه للأمة، بحيث كأنه مخالط للرسول صلى الله عليه وسلم كواحد من أصحابه)[132].
على أي حال جاء نقد ابن كثير للمتن – كما سيتضح لاحقاً – في ضوء القواعد الموضوعة في هذا الباب، تلك القواعد التي جاءت حصيلة جهد تراكم عبر السنين والعصور، وفي السطور الآتية نأتي على أبرز المعايير التي سلكها ابن كثير وهو ينقد متون مروياته في مجال السيرة النبوية.
1 – عرض الرواية على رواية أصح منها:
ثمة روايات انتقدها ابن كثير مشيراً إلى معارضتها ماهو أصح منها كرواية ابن إسحاق في إسلام أبي طالب عم الرسول صلى الله عليه وسلم قبل وفاته قال ابن كثير: بعد أن نقد الرواية من جهة الإسناد:
(عارضه ماهو أصح منه وهو ما رواه البخاري رحمه الله...)، ثم ساق روايته وفيها حتى قال آخر شيء كلمهم به: على ملة عبدالمطلب[133]، ثم أورد روايات أخرى معارضة لمضمون رواية ابن إسحاق من الصحيحين ومسند الإمام أحمد ومسند البزار وسنن الترمذي ومغازي يونس بن بكير[134].(/21)
كذلك راجع ابن كثير رواية ابن إسحاق وفيها أن أبا موسى الأشعري ممن هاجر من مكة إلى الحبشة، وما ورد في المسند عند الإمام أحمد من أن أبا موسى كان من المهاجرين إلى الحبشة من مكة وكذلك رواية أبي نعيم والبيهقي في الدلائل، وفيها عن أبي موسى: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننطلق مع جعفر بن أبي طالب إلى أرض النجاشي) وهي مروية بإسناد صحيح، وقارن تلك الروايات برواية البخاري ومسلم في هجرة أبي موسى الأشعري وفيها أنهم بلغهم مخرج رسول الله (وهم باليمن فخرجوا مهاجرين في بضع وخمسين رجلاً في سفينة فألقتهم سفينتهم إلى النجاشي.
ونقل ابن كثير عن البيهقي قوله: (ولعل الراوي قد وهم في قوله أمرنا رسول الله أنْ ننطلق والله أعلم)[135].
وقد رد ابن كثير روايات لابن إسحاق وموسى بن عقبة، معارضاً إياها بروايات صاحبي الصحيح مثل رواية ابن إسحاق في وقت نزول سورة (الضحى)[136]، وقول موسى بن عقبة، عن جميع من استشهد يوم أحد من المهاجرين والأنصار إنهم تسعة وأربعون رجلاً.
حيث عقب على ذلك بقوله: ثبت في الحديث الصحيح عند البخاري عن البراء أنهم قتلوا من المسلمين سبعين رجلاً[137].
لا غرابة أن يستخدم ابن كثير هذا المقياس الأصيل الذي يتجلى في مراجعة الرواية في ضوء الروايات الأخرى في الموضوع نفسه، إذ إن لهذا المنهج أثراً في كشف مميزات المتن وعيوبه والإسناد، فالمقارنة بين الروايات سنداً ومتناً وسيلة لسبر غور الرواية[138] وتصنيفها بحسب ما يكتنفها من قوة أو ضعف ومن ثم الباسها المسمى المناسب لحالها.
2 – استدعاء تاريخ التشريع:
بوسعنا أن نجد في سيرة ابن كثير أمثلة تدل على متابعته لتواري التشريعات وما نزل من الأحكام، ويهمنا هنا أن نذكر أن ابن كثير بحكم ثقافته في هذا الجانب نقد بعض المتون مستخدماً معرفته بتواريخ نزول هذا الحكم أو ذاك.(/22)
فقد ناقش ابن كثير رواية ابن هشام في خبر قدوم الأعشى الشاعر على رسول الله صلى الله عليه وسلم في سياق أحداث العهد المكي، فمما ناقشه ابن كثير فيه ما جاء في الرواية أن أهل مكة ذكروا له أنّه يحرم الخمر، ومعلوم أن تحريمها بالمدينة بعد وقعة بني النضير.
وفي الرواية أن الأعشى خرج إلى رسول الله يريد الإسلام وقال يمدح النبي قصيدة مطلعها:
ألم تَغْتَمِضْ عيناك ليلة أَرمدَا وبِتَّ كما باتَ السليم مسهدا
قال ابن هشام فلما كان قريباً من مكة اعترضه بعض المشركين من قريش فسأله عن أمره فأخبره أنه يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم لِيُسلَم فقال له يا أبا بصير إنه يحرم الزنا فقال الأعشى: والله إن ذلك لأمر مالي فيه من أرب فقال يا أبا بصير: إنه يحرم الخمر فقال الأعشى: أما هذه فوالله إن في النفس منها لعلالات[139] ولكني منصرف فأتروى منها عامي هذا ثم آتيه فأسلم.
قال ابن كثير: هكذا أورد ابن هشام هذه القصة هنا (في سياق أحداث العهد المكي) وهو كثير المؤاخذات لمحمد بن إسحاق رحمه الله، وهذا مما يؤاخذ به ابن هشام رحمه الله فالخمر إنما حرمت بالمدينة بعد وقعة النضير كما سيأتي بيانه فالظاهر أن عزم الأعشى على القدوم للإسلام إنما كان بعد الهجرة وفي شعره ما يدل على ذلك، وهو قوله:
ألا أيُّهذا السائلي أينَ يَمَّمتْ فإِنَّ لها في أهلِ يَثرِب مَوعِدا
وكان الأنسب والأليق بابن هشام أن يؤخر ذكر هذه القصة إلى ما بعد الهجرة ولا يوردها هنا والله أعلم[140].
وعند البحث في تاريخ غزوة بني لحيان التي صلى فيها المسلمون صلاة الخوف بعسفان وقد ساقها بعض كتاب السيرة قبل غزوة الخندق.(/23)
وهنا يستدعي ابن كثير تشريع صلاة الخوف، فيذكر أنَّ صلاة الخوف إنما شرعت بعد الخندق ولو كانت صلاة الخوف مشروعة يوم الخندق لفعلوها. وكأَنّ ابن كثير هنا يرجح ما ذكره ابن إسحاق وغيره من أهل المغازي في أن غزوة بني لحيان إنما كانت سنة ست من الهجرة تلك القرينة التي أشرنا إليها[141].
وكذلك تاريخ غزوة ذات الرقاع حيث يرى ابن إسحاق أنها في السنة الرابعة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بها صلاة الخوف[142].
ويرى الواقدي أنها في محرم سنة خمس وقد ذهب البخاري إلى أنها في سنة سبع بعد خيبر[143] وفي معرض ترجيحه لكون ذات الرقاع بعد الخندق سنة خمس أشار ابن كثير إلى أن صلاة الخوف إنما شرعت بعد الخندق[144].
ويستدعي ابن كثير تاريخ تشريع تحريم المسلمات على المشركين عندما يناقش قول ابن إسحاق، وكان رسول الله بمكة لا يُحل ولا يحرم مغلوباً على أمره وأنه لم يقدر على أن يفرق بين ابنته زينب وبين زوجها أبي العاص بن الربيع حيث يعقب ابن كثير على ذلك بالقول: إنما حرم الله المسلمات على المشركين عام الحديبية سنة ست من الهجرة[145].
كذلك استدعى ابن كثير تاريخ تحريم الكلام في الصلاة وتاريخ فرض الحجاب عند مناقشته لبعض الروايات[146]، ورد ابن كثير رواية من روى أن ملكاً من وراء الحجاب أذن ليلة الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن هذا الملك قَدَّم النبي صلى الله عليه وسلم فأم بأهل السماء ومنهم آدم ونوح، لأَنَّهُ لو كان النبي سمع الأذان ليلة الإسراء لأوشك أَنْ يأمر به بعد الهجرة في الدعوة إلى الصلاة. والله أعلم[147]، ولا جدال في أَنَّ ابن كثير هنا وضع نصب عينيه ما ورد من روايات في تشريع الأذان بعد الهجرة وقد ورد فيها أنَّ المسلمين هموا أنْ يتخذوا ناقوساً ليضرب به للناس لجمعهم عند الصلاة، كما ورد، أنهم تشاوروا في المناداة للصلاة[148].
3 – استدعاء الحقائق والمعلومات التاريخية:(/24)
ثمة حقائق ومعلومات تاريخية، مشهورة مقررة عند كتاب السير والمغازي وغيرهم من المحدثين والمؤرخين يظهرها ابن كثير مواجهاً به روايات وأقوال، تنطق بضد ما يفهم من تلك الحقائق وقد مر بنا رواية شريك بن عبدالله ورواية ابن عباس في عرض أبي سفيان ابنته أم حبيبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن الروايات التي أنكرها ابن كثير استناداً إلى أن أحوال النبي صلى الله عليه وسلم مشهورة ومعروفة تلك المرويات المنكرة التي لا تتوافق مع أحوال نبوية مقطوع بوقوعها بكيفية محددة ومن ذلك ما روي عن أبي سعيد أنه قال: حج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه مشاة من المدينة إلى مكة قد ربطوا أوساطهم ومشيهم خليط من الهرولة قال ابن كثير – حديث منكر ضعيف الإسناد، ثم علق على ما قاله البزار[149]: (معناه أنهم كانوا في عمرة إن ثبت الحديث لأنه عليه السلام: إنما حج حجة واحدة وكان راكباً وبعض أصحابه مشاة).
قلت (ابن كثير): (لم يعتمر النبي صلى الله عليه وسلم في شيء من عُمره ماشياً لا في الحديبية ولا في القضاء ولا الجعرانة ولا في حجة الوداع وأحواله عليه الصلاة والسلام أشهر وأعرف من أن تخفى على الناس بل هذا الحديث منكر شاذ لا يثبت مثله)[150].
كذلك عقب ابن كثير على رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: إنما قرن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع خشية أن يصد عن البيت، قال ابن كثير: هذا حديث غريب سنداً ومتناً، ثم انبرى يناقش متنه قائلاً: من الذي يصده عليه الصلاة والسلام وقد أظهر الله الإسلام وفتح البلد الحرام وقد نودي برحاب منى أيام الموسم الماضي أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوفن بالبيت عريان، وقد كان معه عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع قريب من أربعين ألفاً[151].
وراجع ابن كثير رواية بعض المفسرين التي مالت إلى القول بأن أبا طالب هو المقصود بقوله تعالى: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ}.(/25)
قال ابن كثير: وفيه نظر ثم اختار القول بأن المراد هم المشركين الذين ينهون الناس عن محمد، وأبو طالب لم يكن بهذه المثابة بل كان يصد الناس عن أذية رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بكل ما يقدر عليه من فعال ومقال ونفس ومال ولكن مع هذا لم يقدر الله له الإيمان لما له تعالى في ذلك من الحكمة.
وواضح من هذا الكلام أن ابن كثير يستند في تعقيبه على الرواية المذكورة إلى حقيقة مشهورة في مصادر السيرة الأصلية فحواها أن أبا طالب كان يذود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جانب قرائن أخرى منها أنّ الخطاب قصد به جماعة من المشركين المذمومين كما جاء في نهاية الآية[152].
وثمة روايات عقب عليها ابن كثير لمناقضتها ومخالفتها لحقائق تاريخية مشهورة في مصادر السيرة والمغازي، كرواية مسلم في أن سعد بن عبادة هو المشير على رسول الله يوم بدر بالمضي لمواجهة قريش[153]، والصواب سعد بن معاذ ويذكر ابن كثير أن المشهور أن سعد بن عبادة رده صلى الله عليه وسلم من الطريق قيل لاستنابته على المدينة وقيل لدغته حية[154].
وراجع قول أبي بكر بن أبي شيبة أن أول من كتب الوحي بين يدي رسول الله أبي بن كعب، قال ابن كثير: كأَنَّه يعني بالمدينة وإلا فالسور المكية لم يكن أبي بن كعب حال نزولها، وقد كتبها الصحابة بمكة[155].
واعتبر ما ورد في رواية المعتمر بن سليمان عن أبيه عن السميط عن أنس، من أن عدد المسلمين يوم حنين كانوا ستة آلاف، وأنهم حاصروا الطائف (40) ليلة من غرائب هذه الرواية والصواب أنّ عدد المسلمين (اثنا عشر ألفاً) كما في الروايات المشهورة وأن حصار الطائف لم يصل إلى شهر بل كان دون العشرين ليلة[156].
وفي كتاب دلائل النبوة في باب إخباره عليه الصلاة والسلام عن الغيوب المستقبلة عقب ابن كثير على رواية البيهقي بسنده إلى ثعلبة بن يزيد وفيها أن أصحاب علي – رضي الله عنه – سألوه، أن يستخلف فقال: (أترككم كما ترككم رسول الله).(/26)
قال ابن كثير: المشهور أن علي لما طعن أوصى إلى أبنه الحسن وأمره أنْ يركب الجنود[157] وهو بهذا يلمح إلى بطلان تلك الرواية وتهافتها.
ووقف ابن كثير كما وقف غيره من العلماء عند الكتاب المزعوم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع الجزية على اليهود الخيابرة، وهو كتاب اغتر به بعض العلماء ومنهم أبو علي بن خيرون فقال بإسقاط الجزية عنهم.
يذكر ابن كثير أنه وقف على الكتاب فإذا هو مكذوب فإن فيه شهادة سعد بن معاذ وقد مات قبل خيبر وفيه شهادة معاوية بن أبي سفيان ولم يكن أسلم يومذاك، وفيه وضع الجزية ولم تكن قد شرعت بعد[158].
وهكذا يضع ابن كثير يده على تناقضات يحملها هذا الكتاب المزعوم مع حقائق تاريخية مقررة مما يؤكد زيف الكتاب.
4 – المحاكمة العقلية للمتون:
في أثناء مراجعته لبعض المتون والأقوال يقوم ابن كثير بمحاكمة عقلية لبعض النصوص، التي يرد في متونها ألفاظ وعبارات لا تدخل، في دائرة التصور، وتأتي مراجعته تلك في ضوء ما اكتسبه من علوم وفي ضوء مسلمات عقلية يؤكدها الحس والمشاهدة، وهنا لابد من التنبيه إلى أن ما ثبت في الحديث من معجزات ونحوها لا تدخل أساساً تحت طائلة المراجعة والنظر، كما أن العقل الخالي من علوم الشرع ليس بوسعه النظر في المتون من هذه الزاوية.
وضع ابن كثير عدداً من المتون تحت دائرة المراجعة العقلية، والتساؤل الذي يفضي إلى الرد والاستبعاد، ففي فصل "ذكر أول من أسلم ثم ذكر متقدمي الإسلام من الصحابة" يقول عن الحديث المنسوب إلى علي رضوان الله عليه (أنا الصديق الأكبر صليت قبل الناس بسبع سنين) الحديث منكر بكل حال، ولا يقوله علي رضي الله عنه وكيف يمكن أنْ يصلي قبل الناس بسبع سنين هذا لا يتصور أصلاً[159].
ويقول ابن كثير تعليقاً على رواية أبي داود الطيالسي في حفر الخندق (كان الناس يحملون لبنة لبنة) حمل اللبن في حفر الخندق لا معنى له والظاهر أنَّه اشتبه على الناقل[160].(/27)
ويراجع قول من قال: إن تأخير الصلاة يوم الخندق وقع نسياناً، فيذكر أنّه يبعد أن يقع هذا (النسيان) من جمع كبير، من شدة حرصهم على المحافظة على الصلاة، كيف وقد روي أنهم تركوا يومئذ الظهر والعصر والمغرب حتى صلوا الجميع في وقت العشاء؟[161].
وحيث إن مجموعة من المصنفين في الخصائص والمعجزات انساقوا وراء الأحاديث غير الصحيحة والموضوعة، فثمة أحاديث وروايات نشط قلم ابن كثير في تفنيدها سنداً ومتناً، وكان من وسائله النقدية المناقشة العقلية وإثارة التساؤل حول الرواية وهذا ينطبق على رواية رد الشمس بعد مغيبها لعلي بن أبي طالب – رضي الله عنه – بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم، حيث تطرق إليها في باب (دلائل النبوة الحسية).
وبعدما ذكر ابن كثير أن الحديث ضعيف ومنكر من جميع طرقه، قال: "ومثل هذا الحديث فيه خبر واحد إذا اتصل سنده، لأنه من باب ما تتوفر الدواعي على نقله فلابد من نقله بالتواتر والاستفاضة لا أقل من ذلك، ونحن لا ننكر هذا في قدرة الله تعالى"[162].
ومما أورده ابن كثير التساؤل التالي إزاء متن الرواية المتضمن أن الموجب لرد الشمس هو فوات صلاة العصر على علي – رضي الله عنه -:
(أيجوز أن ترد الشمس لأبي الحسن حين فاتته صلاة العصر ولا ترد لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولجميع المهاجرين والأنصار وعلي فيهم حين فاتتهم صلاة الظهر والعصر والمغرب يوم الخندق؟ وأيضاً مرة أخرى حين عرس رسول الله صلى الله عليه وسلم والمهاجرين والأنصار حين قفل من غزوة خيبر فذكر نومهم عن صلاة الصبح وصلاتهم لها بعد طلوع الشمس فلم يرد الليل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه – رضي الله عنهم -[163].(/28)
وفي باب ما أخبر به (من الكائنات المستقبلة في حياته وبعدها فوقعت طبق ما أخبر سواءً بسواء) يقف ابن كثير مراجعاً للرواية الواردة عند أبي داود الطيالسي ومما جاء فيها رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لبني أمية يخطبون على منبره فساءه ذلك فنزلت {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} ونزلت {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} وفي الرواية حمل المقصود بألف شهر على مدة ملك بني أمية قال القاسم[164]: فحسبنا ذلك فإذا هو ألف شهر لا يزيد يوماً ولا ينقص[165].
وهو حديثٌ منكر كما صرح بذلك الحافظ المزي وفي معرض نقده لمتن الرواية وضح ابن كثير أن مجموع سنوات الدولة الأموية لا يطابق ألف شهر كما يزعم الفضل بن القاسم وأشار إلى أنه يلزم مما ذكره أن تكون دولة عمر بن عبدالعزيز مذمومة وهذا لا يقوله أحد من أئمة الإسلام فإنهم مصرحون بأنه أحد الخلفاء الراشدين ونبه ابن كثير إلى أَنَّ تفضيل ليلة القدر – وهي ليلة عظيمة القدر – على دولتهم لا يلزم منه ذم تلك الدولة، فليتأمل هذا، فإنه دقيق يدل على أن الحديث في صحته نظر، لأَنَّه إنما سيق لذم أيامهم[166].
ويراجع ابن كثير بعض مقررات واجتهادات العلماء قبله من كتاب السيرة مدخلاً إياها دائرة المناقشة العقلية.
ومن ذلك: تعقيبه على السهيلي (ت185هـ) ذلك أنه بعد إيراده حديث (أحد جبل يحبنا ونحبه وهو على باب من أبواب الجنة، عير يبغضنا ونبغضه وهو على باب من أبواب النار).
قال السهيلي مقوياً لهذا الحديث وقد ثبت أنه عليه الصلاة والسلام قال: (المرء مع من أحب) قال ابن كثير في (غزوة أحد) هذا من غريب صنع السهيلي فإن هذا الحديث إنما يراد به الناس ولا يسمى الجبل أمرءاً[167].(/29)
ويرد على بعض أقوال كتاب السيرة قبله مما ينوه على اجتهادهم البيهقي عندما يقول (هذه الرواية تدل على أن قبورهم "الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبيه" مسطحة لأن الحصباء لا تثبت إلا على المسطح) يعقب ابن كثير: هذا عجيب من البيهقي رحمه الله فإنه ليس في الرواية ذكر الحصباء بالكلية وبتقدير ذلك فيمكن أن يكون مسطحاً وعليه الحصباء مغروزة بالطين ونحوه[168].
5 – أقوال شيوخه:
مر بنا القول بأن ابن كثير ينتمي إلى مدرسة شامية عنيت بعلوم الحديث والسنة وجعلت نقد الرواية في مقدمة أولوياتها، ولذلك لا غرابة أنّ يعول ابن كثير على آراء شيوخه من أعلام هذه المدرسة في نقد بعض الروايات، خاصة العلماء الثلاثة: ابن تيمية والمزي والذهبي.
فقد أورد ابن كثير رأي ابن تيمية فيما ورد عند أبي داود وغيره أن من كتاب النبي صلى الله عليه وسلم – كاتب اسمه (السجل) وهو رأي يذهب إلى أن الخبر موضوع وإن كان في سنن أبي داود، وقد عرض ابن كثير هذا الرأي على شيخه المزي فقال: وأنا أقوله[169].
قال ابن القيم: سمعت شيخنا أبا العباس بن تيمية، يقول هذا الحديث موضوع ولا يعرف لرسول الله كاتب اسمه السجل فقط، وليس في الصحابة من اسمه السجل وكتاب النبي صلى الله عليه وسلم معروفون، لم يكن فيهم من اسمه السجل[170].
وأورد ابن كثير رأي شيخه المزي فيما أورده القاضي عياض في كتابه (الشفا) حيث ذكر أنه كان للنبي صلى الله عليه وسلم حمار يسمى (زياد بن شهاب وأن رسول الله كان يبعثه ليطلب بعض الصحابة) حيث أنكر المزي ذلك إنكاراً شديداً[171] كما عرض عليه ما أورده السهيلي من حكاية الحمار الذي كلم النبي صلى الله عليه وسلم وأنه من نسل سبعين حماراً كل منها ركبه نبي.
فقال الشيخ المزي – رحمه الله – : (ليس له أصل وهو ضحكة)[172].(/30)
وبعد أن يناقش رواية رد الشمس يذكر أن ممن صرح بوضعه شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي والعلامة أبو العباس ابن تيمية[173] وفي موضع آخر يقول (صرح بوضعه شيخاي الحافظان الكبيران أبو الحجاج المزي وأبو عبدالله الذهبي[174].
ما أهمل ابن كثير نقده من متون:
بذل ابن كثير جهداً ملحوظاً في جمع مرويات السيرة من مصادر شتى كما بذل جهداً مماثلاً في نقد أسانيدها ومتونها، كما مر بنا ومع ذلك لابد من القول بأن هناك روايات ساقها ابن كثير دون مراجعة ونظر لم ينقد متونها ولم يوضح لنا رأيه فيها. مع أنه ينبه أحياناً إلى عيوب الإسناد وأحوال رجاله. والمتأمل في المرويات التي يسوقها ابن كثير يلمس حاجتها إلى وقفات نقدية استناداً إلى حقائق تاريخية وعقلية وأسلوبية.
ومن ذلك ظاهرة الأشعار التي يرويها ابن إسحاق في السيرة في مرحلة ما قبل المبعث وفي مرحلة الدعوة بمكة وأبرزها قصيدة أبي طالب اللامية وقد أورد منها ما يزيد على (90) بيتاً وقال عنها: هذه قصيدة عظيمة بليغة جداً لا يستطيع أن يقولها إلا من نسبت إليه وهي أفحل من المعلقات السبع وأبلغ في تأدية المعنى منها جميعاً[175]، والذي نفهمه من هذا الكلام أن ابن كثير يؤيد نسبتها إلى أبي طالب لكنه لم يذكر قرائن أسلوبية ولغوية جلية تؤيد نسبتها إلى عصر السيرة المكية ولم يورد طرقاً أخرى للقصيدة مع أنه ذكر أن الأموي أوردها في مغازيه مطولة لكن هل رواها عن ابن إسحاق أم عن غيره[176].(/31)
وهناك أشعار يرويها ابن إسحاق عن عبدالمطلب[177] وورقة بن نوفل[178] وأمية بن أبي الصلت[179] وهي في أمس الحاجة إلى قراءة نقدية من جانب ابن كثير ومعلوم أن ظاهرة الأشعار في السيرة من الظواهر التي استأثرت باهتمام قدماء النقاد اللغويين كابن سلام الجمحي (ت213هـ): الذي يذكر أن ابن إسحاق هجن الشعر وأفسده وحمله كلُ غثاء – وكان من علماء الناس بالسير فنقل الناس عنه الأشعار وكان يعتذر منها ويقول: لا علم لي بالشعر إنما أوتي به فأحمله. وانتقد بشكل خاص الشعر القديم المحمول عن عاد وثمود وأشعار الرجال الذين لم يقولوا شعراً قط.
وفي موضع آخر يذكر أن قصيدة أبي طالب اللامية زيد فيها وطولت[180]، ويقول: ابن هشام مهذب سيرة ابن إسحاق... بعدما أورد القصيدة اللامية لأبي طالب هذا ما صح لي من القصيدة، وبعض أهل العلم ينكر أكثرها[181]، وكأن ابن سلام وابن هشام قد فتحا بذلك باب النقاش حول تلك القصيدة الطويلة وهو نقاش كان الأولى بكتاب السيرة المتأخرين كابن كثير الإسهام فيه. ويلحظ أن بعض الأشعار التي يوردها ابن كثير تتناقض مع وقائع تاريخية كالشعر المنسوب إلى العباس بن مرداس السلمي – رضي الله عنه – في باب هواتف الجان، حيث ينقل ابن كثير عن أبي نعيم خبر العباس وصنمه ضمار، حيث يذكر أنه سمع هاتفاً من جوف الصنم ثم سمع هاتفاً وهو في إبله بطرف العقيق، وذلك بعد رجوع الناس من الأحزاب وفي القصيدة:
ووجهت وجهي نحو مكة قاصداً أبايع نبي الأكرمين المباركا[182]
فكيف يذهب العباس بن مرداس إلى مكة ليبايع النبي صلى الله عليه وسلم بعد الأحزاب كما جاء في هذا الخبر المزعوم المتناقض؟(/32)
وثمة ظاهرة أخرى في كتب السيرة تأصلت قبل ابن كثير وأصبحت أساسية في كتب السيرة والدلائل وهي هواتف الجان المبشرة برسول الله وقد ألف فيها محمد بن جعفر الخرائطي (ت327هـ) وابن أبي الدنيا (ت281هـ)[183] وقد ورد عند ابن كثير أخبار أسطورية في هذا الباب، كرواية الخرائطي عن شيخه عبدالله بن محمد البلوي في قصة جارية دوس وغلامها اللذين أخبرا بخروج خير الأنبياء ومنع خبر السماء، وخبر ثلاثة نفر من قريش مع صنم لهم[184] وهي أخبار أسطورية يرويها وضاعون أمثال عبدالله البلوي وعمارة بن زيد[185] وخبر تنبؤ الكاهن سطيح لأربعة من قريش منهم هاشم بن عبد مناف بما يكون بعدهم وقد تنبأ بخروج فتى يدعو إلى الرشد ومن يلي بعده من الخلفاء[186] في عبارات مسجوعة متكلفة يظهر فيها أثر الوضع وعنصر الخيال، وأسلوب الأسطورة والحكاية الخرافية.
والحق أنّ ابن كثير نبه إلى ما يلابس بعض الروايات من ضعف أو وضع ونكارة لكن يبدو أن الولع بالغريب واحتذاء الآخرين ومضامين بعض الأخبار المحتوية على فتن وملاحم قادمة، وطبيعية الاتجاه الجمعي الذي من أبرز مظاهره حشد أكبر قدر من الروايات ولو جاء ذلك على حساب التجويد المنهجي وتطبيق المعايير المعتبرة في الصناعة الحديثية كل هذه عوامل جرت ابن كثير إلى سياق بعض الأخبار الأسطورية وتضمينها كتابه فهو يقول بعد ذكره لإحدى حكايات سطيح: "هذا أثر غريب كتبناه لغرابته وما تضمن من الملاحم"[187]. ويقول في خبر قدوم هامة بن هيم حفيد إبليس المزعوم وهو خبرٌ موضوع"[188] حديث غريب جداً بل منكر أو موضوع لكن مخرجه عزيز أحببنا أن نورده كما أورده (يعني البيهقي)[189].
ويقول عن حديث مخاطبة الحمار للنبي صلى الله عليه وسلم أنكره غير واحد من أئمة الحفاظ الكبار ثم يسوق الحديث[190] وهو خبر موضوع نبه إلى نكارته في موضوع سابق عند الحديث عن أفراس النبي صلى الله عليه وسلم ومراكيبه[191].(/33)
كذلك ساق ابن كثير روايات هي بأمس الحاجة إلى نقد متونها... ففي موضوع المولد يورد ما رواه ابن إسحاق عن المرأة التي تعرضت لعبدالله والد النبي صلى الله عليه وسلم. كذلك يأتي برواية مشابهة عن تعرض امرأة أخرى من خثعم لعبدالله والد النبي صلى الله عليه وسلم[192] وهي حكايات نسجها وضاعون ثم إنها منكرة سنداً ومتناً ومن يقرأ رواياتها المختلفة يدرك مدى الاختلاف والاضطراب في سوقها ومثل ذلك الاضطراب والاختلاف ينبغي أن يطرح من دراسات السيرة الجادة[193].
وفي المولد النبوي ذاته أورد ابن كثير (حديثاً غريباً مطولاً) ومما جاء فيه أنه لما حمل برسول الله صلى الله عليه وسلم، نطقت كل دابة كانت لقريش تلك الليلة: قد حمل برسول الله ورب الكعبة ومما جاء فيه أن الله فتح لمولده أبواب السماء وجناته في حديث طويل[194] أورده ابن كثير على ما فيه في نهاية سيرته معللاً ذلك بقوله (ليكون الختام نظير الافتتاح) فهل جاء اختفاء المقاييس النقدية لصالح اعتبارات تتعلق بمسألة التناسب بين الفصول والأبواب والرغبة في التماثل بين الافتتاح والختام؟
وثمة أخبار أخرى كان مطلوباً تفعيل قواعد النقد الحديثي إزاءها وتجاوز صناعة النقل والجمع لتكون سيرة ابن كثير معبرة عن قواعد المنهج النقدي المشار إليه بشكل دقيق وصارم.(/34)
إن تلك الأخبار يدفع بها الرواة والنقلة بغية شد انتباه العامة بهذه المواد القصصية الأسطورية وهو اتجاه فاسد، يؤدي إلى إفراغ السيرة النبوية من دلالاتها وقد نبه غير واحد من أئمة المسلمين إلى خطورة تلك الموضوعات، يذكر البيهقي أنّ الاعتماد على الآثار الصحيحة، وتمييز الصحيح من غيره مما يقطع الطريق على أهل البدع أن يجدوا مغمزاً فيما يعتمد عليه أهل السنة[195] كما مر بنا تساؤل الذهبي عندما يقول فلماذا يا قوم نتشبع بالموضوعات فيتطرق إلينا مقال ذوي الغل والحسد ولكن من لا يعلم معذور؟ كما يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم غنيٌّ بمدحه التنزيل والأحاديث المتواترة والآحاد النظيفة[196] وابن كثير نفسه يذكر أن هناك أخباراً في موضوع وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فيها نكارة وغرابة شديدة ولا سيما ما يورده القصاص المتأخرون وغيرهم فكثير منها موضوع لا محالة وفي الأحاديث الصحيحة والحسنة المروية في الكتب المشهورة غنية عن الأكاذيب وما لا يعرف سنده[197].
الخاتمة:
تناول البحث مراجعات ابن كثير ونقده لمتون مرويات السيرة النبوية من خلال استقراء ودراسة سيرته المضمنة في كتاب البداية والنهاية.
وقد اتضح لنا أنَّ ابن كثير راجع متوناً كثيرة في مجال السيرة النبوية آخذاً بعين الاعتبار الخطوات التي كان العلماء يقومون بها وهم ينقدون النصوص والمرويات، ومما برز عند ابن كثير من معايير في باب نقد المتن استدعاء تاريخ التشريعات وزمن نزول الأحكام والمحاكمة العقلية للمتون.
ومع أن البحث أبرز حقيقة وجود جهد لابن كثير في نقد المتون، إلا أنه ساق بعض الأخبار والروايات التي تساهل المؤلفون قبله في إيرادها ونقلها دون أن ينقد متنها وأن يرجع معطياتها.
ـــــــــــــــــــــــــ
[1] صلاح الدين المنجد: معجم ما ألف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. بيروت، دار الكتاب الجديد، ط1، 1402هـ، ص125، 143.(/35)
[2] البداية والنهاية. تحقيق عبدالله التركي بالتعاون مع مؤسسة البحوث والدراسات العربية والإسلامية بدار هجر. القاهرة، ط1، 1420هـ، ج9، ص308.
[3] ابن كثير: المصدر السابق، ج18، ص372-373.
[4] الصفدي: صلاح الدين خليل بن أيبك (ت764هـ): أعيان العصر وأعوان النصر، تحقيق: علي أبو زيد، دمشق: دار الفكر، ط1، 1418هـ، 5/653.
[5] ج10، ص8-23.
[6] انظر على سبيل المثال، 1/191، 199، 302/205.
[7] المنجد: معجم ما ألف عن رسول الله، ص128، وعبدالغني هو عبدالغني بن عبدالواحد الجماعيلي، الإمام الحافظ (ت600هـ)، الذهبي: سير أعلام النبلاء، ج21، ص443، 448.
[8] ابن رجب: زين الدين بن رجب الحنبلي (ت795هـ): الذيل على طبقات الحنابلة، بيروت، دار المعرفة، ج2، ص438.
[9] محمد محمود حمدان، مقدمة تحقيق المغازي من تاريخ الإسلام للحافظ الذهبي، القاهرة، دار الكتاب العربي، ط1، 1405هـ، ص35، عبدالسلام تدمري، مقدمة تحقيق (السيرة النبوية) من تاريخ الإسلام، بيروت، 1407هـ، 2/581.
[10] تاريخ الإسلام (السيرة النبوية) تحقيق، عبدالسلام تدمري، ص206.
[11] عبدالرحمن بن غزوان، أبو نوح حَدَّث عنه أحمد له مناكير، توفي سنة (207هـ) ببغداد، الذهبي: ميزان الاعتدال في نقد الرجال، تحقيق علي البجاوي، بيروت، دار المعرفة، ج2، ص581.
[12] تاريخ الإسلام، السيرة النبوية، تحقيق عمر عبدالسلام تدمري، بيروت، 1407هـ، ص57.
[13] بشار عواد معروف: الذهبي ومنهجه في كتابه تاريخ الإسلام، القاهرة، مطبعة عيسى البابي الحلبي، ط1، القاهرة، ص456-457.
[14] 3/254.
[15] سير أعلام النبلاء، ج1، تحقيق شعيب الأرنؤوط، بيروت، 1414هـ، ص556.
[16] سير أعلام النبلاء، ج2، تحقيق شعيب الأرنؤوط ومحمد نعيم عرقسوسي، ص216، بيروت، 1417هـ.
[17] سير أعلام النبلاء، ج8، تحقيق شعيب الأرنؤوط ونذير حمدان، بيروت، 1417هـ، ص520.(/36)
[18] البداية والنهاية، ص18، ص523، ويلاحظ أنه (ابن كثير) وصفه في الترجمة له بـ(صاحبنا الإمام).
[19] بكر عبدالله أبو زيد: ابن قيم الجوزية حياته وآثاره، ص108، وانظر الندوي، الإمام ابن كثير سيرته ومؤلفاته ومنهجه في كتابة التاريخ، دمشق، دار ابن كثير، ط1، 1420هـ، ص57.
[20] ابن كثير: البداية والنهاية، ص354.
[21] فاروق حمادة: مصادر السيرة النبوية وتقويمها، الدار البيضاء، دار الثقافة، ط1، 1401هـ، ص108.
[22] زاد المعاد، في هدي خير العباد تحقيق شعيب الأرنؤوط وعبدالقادر الأرنؤوط، 3/642.
[23] زاد المعاد، 3/385.
[24] زاد المعاد، 1/110.
[25] المصدر نفسه، 3/390.
[26] ومنهم: إسماعيل سالم عبدالعال: ابن كثير ومنهجه في التفسير، القاهرة... ط4، 1984م، ص39-84، مسعود الرحمن خان الندوي: الإمام ابن كثير سيرته ومؤلفاته ومنهجه في كتابة التاريخ، ص13-38، مصطفى عبدالواحد: مقدمة تحقيق السيرة النبوية لابن كثير، بيروت، دار المعرفة 1396هـ، 1/3-12.
[27] البداية والنهاية، 18/42، ابن حجر، أحمد بن علي العسقلاني، الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة، تحقيق محمد سيد جاد الحق، القاهرة، دار الكتب الحديثة، 1/399-400.
[28] ابن كثير: البداية والنهاية 9/308.
[29] ابن كثير: البداية والنهاية 8/316.
[30] ابن كثير: المصدر نفسه، 18/427 وشمس الدين الداوردي: طبقات المفسرين. بيروت. دار الكتب العلمية، ط1، 1403هـ، 1/112.
[31] ابن حجر: الدرر الكامنة 1/399-400.
[32] ابن حجر العسقلاني: الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة، 1/399-400، ابن كثير: البداية والنهاية 18/428.
[33] أبو بكر بن شهبة (851هـ): طبقات الشافعية، بيروت، مؤسسة الرسالة، 1408هـ، 2/238.
[34] البداية والنهاية، 18/23، 26/51، 53، 64، 95، مثلاً.
[35] ابن شهبة: طبقات الشافعية 2/238.
[36] البداية والنهاية 18/523.(/37)
[37] طبقات الشافعية الكبرى، تحقيق عبدالفتاح الحلو ومحمود محمد الطناحي، القاهرة، 1385هـ، 10/400.
[38] البداية والنهاية، 18/759، 699، 719، الداوردي: طبقات المفسرين 1/112.
[39] إسماعيل سالم عبدالعال: ابن كثير ومنهجه في التفسير، ص123.
[40] ابن حجر: أحمد بن علي العسقلاني: الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة: تحقيق محمد سيد جاد الحق، القاهرة، جـ1، ص399-400.
[41] الفصول في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم: تحقيق محمد الخطراوي ومحيي الدين مستو، دمشق، دار الكلم الطيب، ط9، 1420هـ. ص79.
[42] وهذه الطبعة هي التي سوف نعتمد عليها في دراستنا هذه وقد حققها، عبدالله بن عبدالمحسن التركي، بالتعاون مع مركز البحوث والدراسات العربية والإسلامية بدار هجر، القاهرة ط1، 1417هـ، وفي تقدير الباحث فإن هذه الطبعة قد عنيت بالكتاب خاصة قسم السيرة تحقيقاً وتخريجاً بشكل لم يتوفر في سابقاتها، ومن طبعات الكتاب السابقة طبعة دار السعادة بالقاهرة، 1348هـ، في (14) جزءاً كما ظهرت طبعات أخرى للكتاب في بيروت... ومنها طبعة دار المعرفة بتحقيق، عبدالرحمن اللادقي ومحمد غازي بيضون، ط1، 1416هـ. وطبعة المكتبة العصرية، بتحقيق عبدالحميد هنداوي، ط1، 1421هـ، للمزيد انظر: طبعات كتاب البداية والنهاية، في مقدمة تحقيق البداية والنهاية بدار هجر، ص34-39.
[43] 3/353.
[44] 3/495.
[45] 4/5.
[46] 4/165.
[47] 4/371.
[48] 4/443.
[49] 4/510.
[50] 5/5.
[51] 7/232.
[52] 7/404.
[53] 8/61.
[54] 9/201.
[55] 8/301، 321.
[56] 8/361.
[57] البيهقي: دلائل النبوة 2/56، ابن كثير، البداية والنهاية 3/466، مثلاً.
[58] انظر مثلاً: 6/495.
[59] 8/534.
[60] 8/385.
[61] 8/539.
[62] 8/549.
[63] 8/549-557.
[64] 8/558.
[65] 8/589.
[66] 8/604.
[67] 9/144.(/38)
[68] انظر: دلائل النبوة: لأبي نعيم الأصبهاني، فصل ذكر موازنة الأنبياء في فضائلهم بفضائل نبينا ومقابلة ما أوتوا من الآيات، ج2، ص587، وابن كثير: البداية والنهاية (باب التنبيه على ذكر معجزات لرسول الله صلى الله عليه وسلم مماثلة لمعجزات جماعة من الأنبياء قبله) 9/305.
[69] يصفه ابن كثير بأنه كتاب جليل حافل مشتمل على فوائد نفيسة اقتبس منه ابن كثير في أبواب الدلائل في عدة مواضع منها على سبيل المثال، 9/20، 309، 321، 338، 340، 355.
[70] 9/411.
[71] الفصول في سيرة الرسول، ص79-80.
[72] مقدمة تحقيق السيرة النبوية لابن كثير، ص12-13.
[73] ابن كثير ومنهجه في التفسير، ص52.
[74] تفسير القرآن العظيم، القاهرة، دار الحديث، 1415هـ، ج3، ص460.
[75] تفسير القرآن العظيم، تحقيق: سامي محمد السلامة، الرياض: دار طيبة، 1420هـ، 6/398.
[76] بالإضافة إلى الطبعتين المشار إليها في الهامشين السابقتين، طبعة بتحقيق محمد أنس الخن، بيروت، 1421هـ، مؤسسة الرسالة، ص1053.
[77] 3/298، 9/329، 385، 405.
[78] طبع في القاهرة 1967م.
[79] طبع في الرياض نشرته مكتبة العبيكان، ط1، 1422هـ.
[80] من هؤلاء: كنعان: محمد بن أحمد: السيرة النبوية والمعجزات والمغازي النبوية، بيروت، مؤسسة المعارف، 1417هـ، الهلاوي، محمد عبدالعزيز: معجزات النبي للحافظ ابن كثير، القاهرة، 1419هـ، عبدالشافي: أحمد: السيرة النبوية، بيروت، دار الكتب العلمية (د،ت)، هذا بالإضافة إلى مستخرجات أخرى من كتاب البداية والنهاية.
[81] انظر: مصطفى عبدالواحد، مقدمة تحقيق السيرة النبوية، 1/41.
[82] من أبرزها دلائل النبوة للبيهقي، انظر 3/282، 301 مثلاً، وانظر كذلك فهارس البداية والنهاية، ص737-738-1244.
[83] مثل كتاب هواتف الجان، لأبي بكر الخرائطي، البداية والنهاية 3/570.
[84] ومنها كتابه نعيم بن حماد الخزاعي: الفتن والملاحم (9/172، 184، 210).(/39)
[85] عصام البشير: أصول منهج النقد عند أهل الحديث، مؤسسة الريان، بيروت، ط2، 1412هـ، ص89.
[86] الخطيب البغدادي (ت463هـ): الكفاية في علم الرواية، بيروت، دار الكتاب العربي، 1405هـ، ص191-192.
[87] 4/103.
[88] 4/13، 14، 19.
[89] 8/443-445.
[90] ابن هشام: سيرة النبي صلى الله عليه وسلم 3/356.
[91] ابن كثير: البداية والنهاية 6/224.
[92] المتن هو غاية ما ينتهي إليه السند من الكلام وهو النص المروي. راجع السيوطي: جلال الدين السيوطي (ت911هـ): تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي تحقيق: عزت علي عطية وموسى محمد علي، القاهرة، دار الكتب الحديث، (د.ت) 1/44.
[93] قال ابن كثير عنه منكراً إسناداً ومتناً 4/72.
[94] 4/79، 80.
[95] 4/172-174.
[96] 4/562.
[97] 4/559، 560.
[98] 5/557.
[99] 7/419-420.
[100] 8/566-570.
[101] 4/431-432.
[102] 6/145.
[103] 4/41، ويعني فتور الوحي هنا انقطاعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[104] 4/192، وهنا لابد من الإشارة إلى أن ابن كثير أخطأ عندما ذكر أن بطليموس علمٌ على من يملك الهند (6/491).
[105] 4/197.
[106] 6/377.
[107] 9/338-339.
[108] 6/162.
[109] 5/337.
[110] 8/383.
[111] 7/666.
[112] 8/356.
[113] 4/275 وشريك بن عبدالله بن أبي نمر تابعي صدوق قال ابن معين: لا بأس به، ووهاه ابن حزم لأجل حديثه في الإسراء، الذهبي: ميزان الاعتدال، 2/269-270.
[114] 7/90/91، راجع مسلم. الجامع الصحيح، المكتبة الإسلامية، تركيا (د،ت)، 2/736، حديث رقم (1059) وهناك رواية أخرى عن مسلم تناقض رواية المعتمر بن سليمان عن أبيه عن السميط عن أنس وفيها أنهم كانوا عشرة آلاف ومعهم الطلقاء، مسلم، الجامع الصحيح 2/736، كتاب الزكاة.
[115] 1/32.
[116] مسلم الجامع الصحيح، 4/2149، كتاب صفات المنافقين رقم الحديث (2789).
[117] 1/33، وراجع: ابن تيمية: مجموع الفتاوى 8/18، 19.(/40)
[118] الباعث الحثيث في اختصار علوم الحديث، الرياض، دار الهدى (د.ت). ص17.
[119] 7/226.
[120] 4/275، انظر مسلم: الجامع الصحيح، كتاب الإيمان، باب الإسراء 1/181، قال الخطابي (ت:388هـ): ليس في هذا الكتاب (صحيح البخاري) حديث أشنع ظاهراً ولا أشنع مذاقاً من هذا الفصل يعني عبارة (ثم دنا الجبار رب العزة فتدلى) فإنه يقتضي تحديد المسافة بين أحد المذكورين وبين الآخر وتمييز مكان كل واحد منهما هذا إلى ما في التدلي من التشبيه والتمثيل بالشيء الذي له تعلق من فوق إلى أسفل، ابن حجر العسقلاني فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 13/483.
[121] 4/278.
[122] ومما جاء فيه: (فرجعت مهموماً فلم أستفق إلا بقرن الثعالب، وهذا هو موضع الدلالة) ابن كثير، البداية والنهاية، 4/282.
[123] مسلم: الجامع الصحيح، 4/1954 كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أبي سفيان.
[124] شرح النووي على صحيح مسلم، بيروت، دار الفكر، 16/63، 64.
[125] 60/149.
[126] الخطيب البغدادي: الكفاية في علم الرواية، ص170، عثمان موافي: منهج النقد التاريخي الإسلامي والمنهج الأوربي، الإسكندرية، 1984م، ص47-49.
[127] الاقتراح في بيان الاصطلاح، تحقيق عامر حسن صبري، بيروت: دار البشائر، ط1، 1417هـ، ص228.
[128] انظر: نقد المنقول والمحك المميز بين المردود والمقبول، تحقيق: حسن سماحي سويدان، بيروت، دار القادري، ط1، 1411هـ، وهذا الكتاب لابن القيم هو المشهور بالمنار المنيف في الصحيح والضعيف، انظر بكر أبو زيد: ابن القيم حياته وآثاره، الرياض، مكتبة المعارف، ط2، 1405هـ، ص194.
[129] ط1، 1404، ص117، 164، 183، 195، 207، 221.
[130] نشرته مؤسسة الريان، بيروت، ط2، 1412هـ، ص80.
[131] نشرته مؤسسات عبدالكريم، تونس، ص456-457.
[132] نقد المنقول والمحك المميز بين المردود والمقبول، تحقيق حسن السماحي سويدان، ص12.
[133] 4/309.
[134] 4/310، 311.
[135] 4/174، 176-177.
[136] 4/41.(/41)
[137] 5/445.
[138] العمري: محمد علي قاسم: دراسات في منهج النقد عند المحدثين، الأردن: دار النفائس، 1420هـ، ص30.
[139] العَلَلُ: الشربة الثانية أو الشرب بعد الشرب تباعاً، الفيروزأبادي: مجد الدين محمد بن يعقوب (ت817هـ): القاموس المحيط، بيروت، مؤسسة الرسالة، ط2، 1407هـ، ص1338.
[140] ابن كثير: البداية والنهاية 4/253-254.
[141] 5/553-557.
[142] ابن هشام: سيرة النبي صلى الله عليه وسلم – 3/214.
[143] المغازي، 2/560.
[144] 5/560.
[145] 5/206.
[146] الفصول في سيرة الرسول – صلى الله عليه وسلم -، ص183.
[147] ابن كثير، البداية والنهاية، 4/576.
[148] انظر: إبراهيم العلي: صحيح السيرة النبوية، ص150، ابن حجر، فتح الباري، ج2، ص77، 78.
[149] البزار: إسحاق بن عبدالله الكوفي له المسند (ت307هـ)، ابن كثير، البداية والنهاية، 14/813.
[150] 7/419-420.
[151] 7/479.
[152] 4/314-315.
[153] الجامع الصحيح، كتاب الجهاد والسير، باب غزوة بدر، حديث (1779)، 3/1403-1404.
[154] 5/227.
[155] 8/322.
[156] 7/90-91.
[157] 9/207.
[158] 6/355-356، راجع أيضاً: ابن القيم: نقد المنقول، ص90-92.
[159] 4/66.
[160] 4/538.
[161] 6/54.
[162] 8/569.
[163] 8/570.
[164] القاسم بن الفضل الحداني روى عنه ابن مهدي وأبو داود الطيالسي مات سنة 167هـ صدوق وثقه ابن مهدي والقطان وأحمد وابن معين، ابن حجر: تهذيب التهذيب 8/330، الذهبي: ميزان الاعتدال 3/377.
[165] 9/271.(/42)
[166] 9/271-273، هذا الحديث صحح إسناده الحاكم في مستدركه وقال الذهبي في تلخيص المستدرك (المطبوع بهامشه) روى عن يوسف، نوح بن قيس وما علمت أن أحداً تكلم فيه، والقاسم وثقوه رواه عنه أبو داود والتبوكي وما أدري آفته من أين؟ المستدرك، 3/171، ويقول الألباني في ضعيف سنن الترمذي عن هذا الحديث: ضعيف الإسناد مضطرب، ومتنه منكر، ضعيف سنن الترمذي، دمشق، نشر المكتب الإسلامي، ط1، 1411هـ/1991م، ص436، ح (366).
[167] 5/338 وعير: جبل يشرف على المدينة من الجنوب وهو حد حرم المدينة من الجنوب (محمد محمد شُراب: المعالم الأثيرة في السنة والسيرة، دمشق: دار القلم، ط1، 1411هـ، ص203-204).
[168] 8/154.
[169] 8/340.
[170] انظر: عبدالرحمن الفرايوائي: شيخ الإسلام ابن تيمية وجهوده في الحديث وعلومه، الرياض: دار العاصمة، ط1، 1416هـ، 2/510.
[171] 8/383.
[172] الفصول في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، ص259.
[173] 8/584.
[174] 9/367.
[175] 4/143 وقد استغرقت قصيدة أبي طالب تلك الصفحات (135-143).
[176] ورد في الحديث الصحيح عن ابن عمر: من أبيات قصيدة أبي طالب بيتٌ واحدٌ هو قوله:
وأبيض يستسقى الغَمامُ بوجهه ثمالُ اليتامى عصمةٌ للأرامل
البخاري: الجامع الصحيح، كتاب الاستسقاء، 2/15.
[177] 3/386.
[178] 3/470-471.
[179] 3/285، 296.
[180] طبقات الشعراء، بيروت، دار الكتب العلمية، ط2، 1408هـ، ص13، 95.
[181] ابن هشام: سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، 1/298.
[182] 3/583.
[183] انظر: المنجد: معجم ما ألف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ص61.
[184] 3/575-577، 579.
[185] الذهبي: ميزان الاعتدال، 3/491، 3/77.
[186] 3/615-621.
[187] 3/620.
[188] ابن الجوزي: الموضوعات، تحقيق توفيق حمدان، بيروت، 1415هـ، 1/149، الذهبي: ميزان الاعتدال 1/186-188، الشوكاني: الفوائد المجموعة، ص125.
[189] ج7، ص273.(/43)
[190] 9/47، انظر: الذهبي: ميزان الاعتدال 4/34، قال ابن الجوزي: لعن الله واضعه فإنه لم يقصد إلا القدح في دين الإسلام، ابن الجوزي: الموضوعات 1/293-294.
[191] 8/383.
[192] ابن كثير: 3/390.
[193] أكرم العُمري: السيرة النبوية الصحيحة. المدينة: مكتبة العلوم والحكم، 1412هـ، 1/95.
[194] 9/408-410.
[195] دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة 1/74.
[196] سير أعلام النبلاء، ج2، ص276.
[197] البداية والنهاية، ج8، ص78.(/44)
العنوان: مراقبة الدولة للأسواق المالية المعاصرة
رقم المقالة: 1856
صاحب المقالة: د. مبارك بن سليمان آل سليمان
-----------------------------------------
مراقبة الدولة للأسواق المالية المعاصرة
• المبحث الأول: الرقابة القائمة على الأسواق المالية المعاصرة.
• المبحث الثاني: الرقابة الشرعية على الأسواق المالية المعاصرة.
• • • • •
المبحث الأول
الرقابة القائمة على الأسواق المالية المعاصرة
عادةً ما تتدخَّل الدُّوَل – حتى تلك الدُّول التي يقوم نظامها الاقتصاديُّ على عدم تدخُّل الحكومة في الأسواق –: في تنظيم السوق المالية بها؛ وذلك نظرًا لأهمية تلك الأسواق وما تؤدِّيه من وظيفة بالغةِ الأهمية في تحقيق النُّمُوِّ الاقتصاديِّ عن طريق تحويل الموارد المالية من الوَحَدَاتِ الاقتصادية ذاتِ الفائض إلى الوَحَدات الاقتصادية ذاتِ العَجْز، على النحو الذي سبق شرحه، ونَظَرًا لسُهولة الاتصال بجمهور المتعاملين عن طريقها، والحصول على أموالهم من خلال إصدار الأدوات الماليَّة المختلفة، فكانَتِ السُّوقُ الماليَّةُ بِحَاجَةٍ إلى رِقابةٍ شديدة؛ لِمَنْعِ استخْدامِها في ابْتِزاز أموال الناس عن طريق إنشاءِ الشركات الوهمية، أو تشغيلِ تِلْكَ الأموال في مشاريعَ فاشِلةٍ، أو غيرِ ذاتِ جَدْوَى من الناحية الاقتصاديَّة.
وَقَدْ تَبَيَّنَ مِمَّا سَبَقَ أنَّ السُّوق الماليَّة تَتَنَوَّع من بين ما تَتَنَوَّع إليه إلى نَوْعينِ، هما:
- سوق رأس المال.
- وسوق النقد.
وأن كلاًّ من هاتين السوقينِ ينقسم إلى سوق للإصدار، وسوق للتداوُل، وعادةً ما تخضع كلٌّ من هاتين السوقين إلى جهة إشرافية ورَقابية غيرِ الجهة التي تخضع لها السوق الأخرى.
فأمَّا سُوقُ النقد بقِسْمَيْها (سوق الإصدار، وسوق التداوُل): فإنَّها تخضع لإشراف البنك المركزيِّ، فهو (المشرِف، والرقيب، والمُنَظِّم لِسُوق النَّقْدِ)[1].(/1)
أمَّا سُوقُ رأس المال: فإنَّها تَخْضَعُ – في العادة – لإشرافِ أكثرَ من جهةٍ؛ فمَثَلاً في المملكة العربية السعودية، تخضع سوق رأس المال لإشراف ورقابة وَزَارَةِ التجارة من جهة، ولإشراف ورَقابة مؤسَّسة النَّقْد من جهة أخرى، فَضْلاً عن إشراف ومتابعة اللجنة الوزارية، ولجنة الإشراف الدائمة المشكَّلة من وزارة التجارة، ووزارة المالية والاقتصاد الوطني، ومؤسسة النقد العربي السعودي.
وفي مصر تخضع سوق رأس المال لإشراف الهيئة العامة لسوق المال، بالإضافة إلى عدد من الجهات الحكومية ذات العلاقة؛ مثل وزارة الاقتصاد والتجارة الخارجية، ووزارة شؤون الاستثمار والتعاون الدولي.
أما في أمريكا فتخضع سوق رأْسِ المال لإشراف ورَقابة لجنةٍ مُشَكَّلة من خمسة أعضاء، يصدر بها قرارٌ من رئيس الجمهورية، ويَعْتَمِدُه الكونجرس، يطلق عليها لجنة الأوراق المالية والبورصة (SEC ) Securities and Exchange Commission .
وينقسم نشاط اللجنة إلى خمسة أقسام، يُشْرِفُ على كُلِّ قِسْمٍ منها عضوٌ يَتْبَعُهُ عدد منَ الخُبراء في مجالات متعدِّدَةٍ منَ اقتصادٍ، ومحاسبة، وقانون... ويتولَّى القسم الأول شؤونَ الشَّرِكاتِ، ويَتَوَلَّى القسم الثاني شؤونَ أسواق الأوراق المالِيَّة، أمَّا القسم الثالث فيتولَّى مُهِمَّة إجراء التحقيقات، والتأكُّد من تنفيذ القوانين واللوائح، كما يتولَّى القسم الرابع متابعة تنفيذ التعليمات الخاصة بالشركات القابضة في مجال الخدمات (كهرباء، مياه، هاتف...)، أما القسم الخامس فيُعْنَى بالإشراف على تنفيذ القوانين في شأن شركات الاستثمار ومستشاري الاستثمار [2].(/2)
وتأتي ضرورة تدخُّل الدولة في الأسواق المالية عن طريق الرَّقابة والإشراف الدائم؛ لكي تقوم تلك الأسواق بأداء وظيفتِها في تحقيق النُّمُوِّ الاقتصاديِّ بدرجة عالية من الكفاءة، وهي لا تقوم بذلك إلا إذا كانتْ قادرة على جَذْبِ المزيد منَ الاستثمارات بصفة مستمرة؛ ولكي تقوم السوق المالية بذلك فإنَّهُ يُشتَرَطُ أن تتَّصِفَ بأمرين: الأول: الكفاءة، والثاني: العدالة[3].
وهذا يعني أن الهدف من رَقابة الدولة على السوق المالية هو تحقيق هذين الأمرين.
ولغرض تحقيق هذين الهدفين تقوم الدولة عادة بإصدار الأنظمة والتعليمات، التي تسعى بصفة أساسية إلى تحقيق ما يأتي:
1 – ضمان جِدِّية الشركات، والتأكد من الجدوى الاقتصادية لنشاطها.
2 – الشفافية: بأن تكون جميع المعلومات التي لها علاقة وأثر على قرارات الاستثمار متوفِّرة في الوقت المناسب، لجميع الأطراف ذاتِ العلاقة.
3 – الإفصاح: فكل من أراد أن يحصل على مدَّخرات المواطنين عن طريق الأسواق المالية يَلزَمُهُ أن يُفْصِحَ عنْ أشياءَ مُحَدَّدَةٍ من خلال نَشْرَةِ الإصدار، وأن يوافِيَ السوقَ بتقاريرَ دَوْرِيَّة محددة من قِبَل الجهات الإشرافيَّة لغرض الإفصاح.
4 – منع الاستخدام السيئ للأسواق: مثل: استغلال بعض المتعاملين لمعلومات خاصَّة لديهم للإثراء عن طريق البيع والشراء من السوق.
5 – تحديد معايير الكفاءة للمتعاملين في الأسواق من سماسرة وغيرهم.
6 – منع استخدام أيِّ عقد لم توافق الجهات الرقابية على صيغته.(/3)
وتطبيقًا لذلك: فقد تَضَمَّنَ نظامُ الشركاتِ السعوديُّ بعض القُيُود على تأسيس شركات المساهَمَة، التي تَطْرَح أسْهُمها للاكتتاب العامِّ؛ وذلك بهدف التأكُّد من تلك الشركات من حيث كونُها شركاتٍ حقيقيةً لا وَهْمِيَّةً، ومن حيث ملاءمتُها وقُدْرَتُها على الوفاء بما عليها منَ التزامات؛ وذلك بقصد حماية الناس الذين يُقْدِمُون على الاكتتاب في تلك الشركات، أو يتعاملون معها، والمحافظة على أموالهم، وضمان حقوقهم.
ومن ذلك ما نصَّ عليه في النظام من عدم السماح بتأسيس الشركات المساهمة، إلا بترخيص يصدر به مرسومٌ مَلَكِيٌّ، أو قرار من وزير التجارة، وذلك بحَسَبِ طبيعة النشاط الذي تمارسه الشركة، على أن لا يَصدر قرارُ التأسيس إلا بعد وجود دراسة تُثبِت الجدوى الاقتصاديَّة لأغراض الشركة، كما يلزم أن تَتَضَمَّن نشرةُ الاكتتاب في الشركة أسماء المؤسِّسِين، وعدد الأَسْهُم التي قَصَرُوها على أنفسهم، ومقدار ما اكتتب به كُلٌّ منهم، وبيان غرض الشركة، ومركزها الرئيس[4]، وغير ذلك من القيود التي غرضها التحقُّق من جِدِّية المؤسِّسِين في تأسيس الشركة، خشيةَ أن يكون غرضهم مجرد جمع الأموال من الناس واستغلالها لمصلحتهم، دون أن يكون لهم نِيَّة في تكوين الشركة فعلاً.
ومن جانب آخَرَ: فقد تَضَمَّنَ نظام الشركات قُيودًا على تداول الأَسْهُم، هدفُها ضمان جِدِّية المؤسِّسين وصِدْق نواياهم[5]، ومن ذلك منع تداول الأسهم التي يكتتب بها المؤسسون قبل نشر الميزانية وحساب الأرباح والخسائر على سنتين ماليتين كاملتين[6]، والغرض من ذلك (قطع سبيل الغِشِّ على المؤسِّسين الذين قد يقومون على مشروع فاشل، أو يرتكبون أثناء التأسيس بعض الأفعال الضارَّة بالشركة، ثم يسارعون بمجرد إنشاء الشركة إلى التخلص من أَسْهُمِهِم مقابل قبض قيمتها)[7].(/4)
وفي إطار الإشراف والرَّقابة على سوق الأسهم، فقد تضَمَّنتِ (القواعدُ التنفيذيَّة لتنظيم عمليَّة تداوُلِ أَسْهُم الشَّركات عن طرِيق البُنُوكِ التِّجارية) تشكيلَ لجنةٍ دائِمَةٍ للإشراف على عملية التداول مكوَّنَةٍ من: مندوبينَ من وزارة المالية والاقتصاد الوطني، ووزارة التجارة، ومؤسسة النقد العربي السعودي، تختص بعدد من المهام، ومنها [8]:
1 – مُراجعة القواعد والتعليمات الخاصَّة بتنظيم عملية التداوُل؛ بغرض تطويرها؛ وزيادة فعاليتها.
2 – إيقاف عمليَّة التَّداوُل على أسهُم شركةٍ ما، أو وَضْع حدٍّ أعلى للتداوُل في أَسْهُمِها إذا اقْتَضَتِ المصلحةُ ذلك، بصفةٍ مُؤَقَّتَة لا تتجاوز أسبوعًا، وما تجاوز ذلك فعلى اللجنة الحصول على موافقة اللجنة الوزارية؛ كما يَحِقُّ للَّجنة إيقاف عملية التداول في السوق بعد الحصول على موافقة اللجنة الوزارية.
كما تَمّ إنشاء قِسْمٍ بمراقبة الأسهم في مؤسسة النقد، للقيام بأعمال المراقبة اليومية، ويختص بالمهام الآتية[9]:
1 – تحديد ساعات عمل التداول بالأسهم.
2 – تحليل عمليَّات التَّداوُلِ اليوميَّة.
3 – الإشراف على تَعْيِين الوسطاء.
4 – نشر أسعار الأسهُم بِالصُّحُفِ المحليَّة، وتبليغ البنوك والشركات بالتعليمات الصَّادرة من اللجنة الوزارية، أو لجنة الإشراف حول عملية التداول.
وفي مصر أُسنِدَتْ مُهِمَّة مراقبة السوق المالية إلى هيئة مستقلة، هي الهيئة العامة لسوق المال، كما سبقت الإشارة، فقد أنشئت سنة 1979م، (بهدف تنظيم وتنمية سوق المال، ومُراقبة حُسْن قيام هذا السوق بوظائفه)[10]، وقد تَمَّ تحديدُ صلاحياتها في الآتي[11]:
1 – تنظيم وتنمية سوق رأس المال، ويجب أخذ رأي الهيئة في مشروعات القوانين والقرارات المتعلِّقة بسوق رأس المال.
2 – تنظيم أو الإشراف على دورات تدريبيَّة للعاملين في سوق رأس المال، أو الراغبين في العمل به.(/5)
3 – الإشراف على توفير ونشر المعلومات، والبيانات الكافية عن سوق رأس المال، والتحقّق من سلامتها ووضوحها وكشفها عن الحقائق التي تعبر عنها.
4 – مراقبة سوق رأس المال للتأكد من أن التعامل يتم على أوراق مالية سليمة، وأنه غير مشوب بالغش، أو الاحتيال، أو الاستغلال، أو المضاربات الوهمية.
5 – اتخاذ ما يلزم من إجراءات لمتابعة تنفيذ أحكام قانون سوق رأس المال رقم 95 لسنة 1992 م، والقرارات الصادرة تنفيذًا له.
وفي أمريكا مَنَع قانون الأوراق المالية والبورصة في أمريكا مديري الشركات، والعاملين فيها، الذين يتاح لهم الاطلاع على معلومات خاصة عن الشركة استخدام تلك المعلومات في المضاربة (الشراء بغرض البيع) على الأوراق التي تصدرها تلك الشركة، ولذلك فقد ألزم القانون كل عضو في مجلس الإدارة، أو مدير، أو مستثمر تزيد حصته في رأس مال الشركة عن 5% بتقديم تقرير عن ذلك لِلَجْنة الأوراق المالية والبورصة، على أن يتاح للجمهور الوقوف على تلك المعلومات، من خلال النشر في الصحف وغيرها[12].
كما نص قانون الأوراق المالية والبورصة على منع البيعِ الصُّورِيِّ، واتفاقيات التلاعُب، والتأثير على الأسعار بطرق غيرِ مشروعة، وتداوُل معلومات مزيَّفَةٍ، وترويج الإشاعات بشأن الأوراق المالية[13].
المبحث الثاني
الرقابة الشرعية على الأسواق المالية المعاصرة
وفيه مطلبان:
المطلب الأول
مشروعية مراقبة الدولة للأسواق المالية
يُراد بمراقبة السوق المالية هنا: الإشْرَاف على السوق، وما يصدر فيها من أدوات مالية، وما يجري فيها من معاملات على تلك الأدوات، من حيث اتفاقُها مع أحكام الشريعة الإسلامية، والتزامُ المتعاملينَ فيها بما تُصْدِره الجهات المختصَّة من إجراءات تنظيمية، تكفل الحقوق، واستقرار الأسعار.
والمراقبة بهذا المعنى نوع من الحِسبة على الأسواق، التي تحدث عنها علماء الشريعة، وأفردوا لها المؤلفات[14].(/6)
والحِسبة كما يعرفها بعض أهل العلم: "أمر بالمعروف إذا ظهر تركه، ونَهْي عن المنكر إذا ظهر فعله)[15]. زاد بعضهم: "وإصلاح بين الناس"[16].
وهي ولاية من الولايات الشرعية، ووظيفة من وظائف الدولة المسلمة، يجب على إمام المسلمين أن ينصِّب لها من أهل العلم والخِبْرَةِ والصلاح مَنْ يقوم بها، ويتولَّى وظائفها ومهامَّها؛ إذ بذلك حِفْظ الدين، الذي هو أهمُّ ما يلزم الإمامَ من أُمُور الأُمَّة، قال في "الأحكام السُّلْطَانِيَّة": "ويَلْزَمُ الإمامَ من أمور الأمة عَشْرَةُ أشياء: أحدها: حفظ الدين على الأصول التي أجمع عليها سلف الأمة..."[17].
وقال شيخ الإسلام ابن تَيْمِيَّة[18]- وهو بصدد الكلام عن الحِسْبَةِ -: "جميع الولايات في الإسلام مقصودُها أن يكون الدين كلُّه لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا، فإن الله سبحانه وتعالى إنما خَلَقَ الخَلْقَ لذلك، وبه أنزل الكُتُب، وأرْسَل الرُّسُل، وعليه جاهَدَ الرسول والمؤمنون، قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}[19]، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ}[20]، وقال: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}[21]، وقد أخبر عن جميع المرسلين أن كُلاًّ منهم يقول لقومه: {اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُه}[22]..."[23].(/7)
إلى أن يقول: "وإذا كان جِماع الدين، وجميع الولايات هو أمر ونهي، فالأمر الذي بَعث الله به رسوله هو الأمر بالمعروف، والنَّهْيُ الذي بعثه به هو النهي عن المنكر، وهذا نعت النبيِّ والمؤمنين، كما قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ}[24]، وهذا واجب على كل مسلم قادرٍ، وهو فرض على الكفاية، ويصير فَرْضَ عين على القادر، الذي لم يَقُمْ به غيرُهُ، والقدرة هو السلطان والولاية، فَذَوُو السلطان أقْدَرُ من غيرهم، وعليهم من الوجوب ما ليس على غيرهم، فإن مناط الوُجوب هو القُدرة، فيجب على كل إنسان بحَسَبِ قُدرته، قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}[25]، وجميع الولايات الإسلامية إنما مقصودها الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، سواء في ذلك ولاية الحرب الكبرى، مثل نيابة السلطنة، والصغرى: مثل ولاية الشرطة، وولاية الحكم، أو ولاية المال، وهي ولاية الدواوين المالية، وولاية الحِسبة"[26].
ومما يدل على لزوم الحِسبة على الأسواق، والإشراف عليها في حقِّ الدولة ممَثَّلَةً في الإمام ونُوَّابِهِ قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ألا كلكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رَعِيَّته، فالإمام الذي على الناس راعٍ وهو مسؤول عن رَعِيَّته، والرجل راعٍ على أهل بيته وهو مسؤول عن رَعِيَّته، والمرأة راعية على أهل بيت زَوْجِها وولده وهي مسؤولةٌ عنهم، وعبدُ الرجلِ راعٍ على مال سيده وهو مسؤول عنه، ألا فكُلُّكُم راعٍ وكلكم مسؤول عن رَعِيَّتِهِ))[27].(/8)
ونظرًا لأهمية الحِسبة والمراقبة على الأسواق، وما يترتَّب على ذلك من إشاعة التعامُل بالمعاملات الشرعية الصحيحة، ومَنْع التعامُل بالمعاملات المحرَّمة، فقد (كان أئِمَّة الصدر الأول يُبَاشِرُونَها بِأَنْفُسِهم لعموم صلاحها، وجزيل ثوابها)[28]؛ بل باشرها النبي - صلى الله عليه وسلم - بنفسه، فقد أخرج مسلم[29]، في صحيحه عن أبي هريرة[30] - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مَرَّ على صُبْرَةِ طعام، فأدْخَل يَدَهُ فيها، فنالت أصابعُهُ بَللاً، فقال: ((ما هذا يا صاحبَ الطعام؟!))، قال: أصابَتْهُ السماءُ يا رسول الله، قال: ((أفلا جعلتَه فوقَ الطعام كي يراه الناس، من غَشَّ فليس مِنِّي))[31].
وروى مالك في الموطأ عن سعيد بن المسيب[32] - رَحِمَه الله - قال: مرَّ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه – على حاطِبِ بن أبي بَلْتَعَةَ[33]، وهو يَبيع زَبِيبًا له بالسوق, فقال له عمر - رضي الله عنه -: "إما أن تَزِيدَ في السِّعر، وإما أن ترفع من سُوقِنا"[34].
وروى الشافعي بسَنَدِهِ عن القاسم بن محمد[35] عن عمر - رضي الله عنه - أنه مرَّ بحاطب بسوق المُصلَّى، وبين يديه غرارتان فيهِما زَبِيب، فسأله عن سِعْرِهِما، فسَعَّرَ له مُدَّيْن لكل درهم، فقال له عمر - رضي الله عنه -: قد حُدِّثْتُ بعِيرٍ مقبِلَةٍ منَ الطائف تَحمِل زبيبًا، وهم يعتبرون بسِعْرِكَ، فإمَّا أن تَرْفَع في السِّعر، وإما أن تُدْخِل زبيبَكَ البيت فتبيعَهُ كيف شِئْتَ، فلمَّا رَجَعَ عُمَر حاسَبَ نَفْسَه، ثم أتى حاطِبًا في داره، فقال له: إنَّ الَّذي قلتُ ليس بعَزْمَةٍ مني ولا قضاء، إنَّما هو شيءٌ أردتُ به الخير لأهل البلد، فحيثُ شِئْتَ فبِعْ، وكيف شِئْتَ فبِعْ[36].(/9)
وأخرج عبدالرزَّاق[37] - رحمه الله – في "مصنَّفه" عن عمرو بن شُعيب[38] - رحمه الله -: قال: وجد عمر بن الخطاب ابن أبي بَلْتَعَةَ يبيع الزبيب بالمدينة، فقال: كيف تبيع يا حاطبُ، فقال: مُدَّيْن، فقال تبتاعون بأبوابنا وأفنِيَتِنا وأسواقنا، تقطعون في رقابنا، ثم تبيعون كيف شِئْتُمْ، بِعْ صاعًا وإلا فلا تَبِعْ في سوقنا، وإلا فسيروا في الأرض واجلبوا، ثم بيعوا كيف شئتم[39].
والشاهد من ذلك أن عمر – رضي الله عنه – كان يدخل السوق، ويتفَقَّدُ أحوال الباعة، ويُراقب الأسعار، ولذا فقد مَنَعَ حاطبًا أن يبيع بثمنٍ أعلى مما يبيع به الناس، وذلك أن حاطبًا - رضي الله عنه - كان يبيع مُدَّيْن بدرهم، فأمره أن يبيع صاعًا بدرهم[40].
وبما تقدم تعلمُ مشروعِيَّةَ المراقبة، والإشرافِ على الأسواق المالية المعاصرة من قِبَل الدولة؛ إذ هِيَ سوق من الأسواق وإن لم تتقَيَّدْ بمكان؛ وذلك أن المقصود الإشراف على ما يجري فيها من معاملات، لا المكان الذي تجري فيه تلك المعاملات.
والمقصود من الإشراف عليها ضبْطُ التعامل فيها بما يحقق العدل بين المتعاملين، ويوصل إليهم حقوقهم وَفْقًا لأحكام الشريعة الإسلامية الغرَّاء؛ إذ "موضوع الحِسبة: إلزام الحقوق، والمعونة على استيفائها"[41].
وقد سبق بيان أنَّ مُهِمَّة الرقابة والإشراف على الأسواق المالية في العصر الحاضر تُسْنَد – في العادة - إلى هَيْئَاتٍ مُسْتَقِلَّةٍ، أو جِهات حكوميَّة مُعيَّنَة، أو لِجانٍ مُشَكَّلَة من أعضاء من عِدَّةِ جهاتٍ حكومية، وكلُّ ذلك سائِغٌ شرعًا إذا روعي في ذلك أن يكون القائمون عليها من أهل الكفاية في دينهم وعلمهم وخِبْرَتهم، وأن تنطلق فيما يصدُر عنها من تنظيمات، أو قرارات من أحكام الشريعة الإسلامية.
قال شيخ الإسلام ابن تيميَّةَ - رحمه الله -: "وكثير من الأمور الدينية هو مشترَك بين وُلاة الأمور، فمَنْ أدَّى فيه الواجب وجبت طاعته فيه"[42].
المطلب الثاني(/10)
جوانب الرقابة الشرعية على الأسواق المالية
تَتَنَوَّع السوق الماليَّة – من بين ما تَتَنَوَّع له – إلى نَوْعينِ: السوقِ الأولية التي يتم من خلالها إصدار الأدوات المالية الجديدة، والسوق الثانوية التي يتم فيها تداوُل (بيع وشراء تلك الأدوات).
وعلى ذلك فإنَّ الرقابة الشرعية على الأسواق المالية تكون في جانبين:
الجانب الأول: مراقبة إصدار الأدوات المالية.
الجانب الثاني: مراقبة تداول الأدوات المالية.
أما في الجانب الأول: فإن المراقبة تكون بالنظر في سلامة الأدوات المالية، التي يتم إصدارها من المحاذير الشرعية؛ كالرِّبا، وأكل المال بالباطل، وحيثُ يَصدُر في الأسواق المالية نوعان من الأدوات المالية، وهما الأَسهُمُ، وأدوات الاقتراض من سَنَداتٍ وغيرِها، فإنه يُشتَرَط في الأَسْهُم التي هي حِصَصٌ شائعةٌ في شركات المساهمة أن تكون شروطُ إصدارها متَّفِقَةً مع أحكام وقواعد الشركة المقرَّرة في الفقه الإسلامي، ومن ذلك أن يكون لها نصيب شائع في الربح، لا مَبْلَغٌ معيَّنٌ، ولا نِسْبةٌ محددة من رأس مال الشركة.
كما يُشْترط في أدوات الاقتراض أن لا تتضمن شروطُ إصدارها ردَّ القَرْضِ بأكثرَ منه، أو نحوَ ذلك مما فيه منفعة للمُقرِض؛ لأن ذلك من الرِّبا المحرَّم في كتاب الله، وسُنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإجماع علماء الأمة.
وسيأْتِي مزيدُ تفصيلٍ عن الأدوات الماليَّة الَّتي يتمّ إصدارها، وتداوُلُها في الأسواق المالية، وأحكامها الشرعية، في الباب الأول من هذا البحث، مِمَّا ينبغي أن يكون القائمون على مُراقبة تلك الأسواق على علم به؛ للعمل بمقتضاه طاعةً لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وسعيًا في إصلاح معاملات الناس، وتطهيرِ مكاسِبِهِم منَ الحرام.(/11)
أما في الجانب الثاني: وهو مراقبة تداوُل الأدوات المالية، فيُراد بذلك مراقبة المعاملات التي تَتِمُّ في بورصة الأوراق المالية، أو خارج البورصة، من حيث مشروعيةُ تلك المعاملات، وخُلُوُّها منَ الرِّبا، والقِمار، والجهالة، والغَرَر، وبيع الدَّيْن بالدَّيْن، وغير ذلك من المحاذير الشرعية، مما سيتبين عند الكلام عن عُقود المعاملات التي تجري في الأسواق المالية في الباب الثالث من هذا البحث.
وكذلك مراقبة الأسعار، واتِّخاذ الإجراءات التي تَحُول دون الارتفاع أوِ الانخفاض غيرِ المبرَّر في الأسعار؛ مثل نَشْر المعلومات عنِ الشركات لعموم المتعاملين بعد التأكُّد من صحتها، وتكذيب الشائعات عنها قبل انتشارها، ومَنْعِ المعاملات غير الحقيقية التي يراد بها التأثير على الأسعار.
ومن ذلك تحديد ساعات التداوُل في اليوم؛ تسهيلاً للمراقبة، ووضعُ حدود سِعْرِيَّة لانخفاض وارتفاع أسعار التداوُل في اليوم الواحد، مما سيأتي توضيحُهُ وبيان حُكْمِهِ في الفصل الثالث من الباب الثاني من هذا البحث، إن شاء الله تعالى.
---
[1] "النقود والبنوك"، د . سامي خليل، ص 115.
[2] "الأوراق المالية سوق رأس المال"، د. منير إبراهيم هندي، ص 186، 187.
[3] يقصد بالكفاءة أن تكون السوق قادرة على الاستجابة لكل المعلومات المتاحة، والمتعلقة بالأوراق المالية من خلال أسعار تلك الأوراق، بمعنى أن تؤثر تلك المعلومات في أسعار الأوراق فور توفرها، بحيث لا تترك لأحد المتعاملين في السوق فرصة للاستفادة من هذه المعلومات في تكوين قواعد أو استراتيجيات للتعامل، تمكنهم من تحقيق أرباح غير عادية، وبالتالي ضرب السوق في الأجل الطويل. ويقصد بالعَدَالة أن تكون تلك المعلومات متاحة لجميع المتعاملين، وهي شرط لتحقيق كفاءة السوق المالية. انظر: "الاستثمار في الأوراق المالية"، د. سعيد توفيق عبيد، ص 115 – 119، أساسيات في الاستثمار، د. عبدالمنعم أحمد التهامي، ص 81، 89.(/12)
[4] المادة رقم (52)، والمادة رقم (55) من نظام الشركات السعودي.
[5] "القانون التجاري السعودي"، د. محمد حسن الجبر، ص 315.
[6] المادة رقم (100) من نظام الشركات السعودي.
[7] "القانون التجاري السعودي"، د. محمد حسن الجبر، ص 315.
[8] "القواعد التنفيذية لتنظيم عملية تداول أسهم الشركات عن طريق البنوك التجارية"، ص 15.
[9] المرجع نفسه، ص 16.
[10] "الأسواق المالية العربية المشاركة في القاعدة نشأتها وتطورها"، إعداد صندوق النقد العربي، عدد إبريل 1997، ص 68.
[11] المادة رقم 43 من قانون سوق رأس المال، رقم 95 لسنة 1992، وانظر: "موسوعة القوانين واللوائح والقرارات المنظمة لسوق رأس المال"، إعداد الهيئة العامة لسوق المال 1/40.
[12] "الأوراق المالية في سوق رأس المال"، د. منير إبراهيم هندي، ص 188.
[13] المرجع نفسه، ص 189.
[14] منها: "كتاب أحكام السوق"، ليحيى بن عمر، و"الحسبة في الإسلام"، لشيخ الإسلام ابن تيميَّة، و"معالم القربة في أحكام الحسبة"، لابن الأخوة، و"نهاية الرتبة في طلب الحسبة"، لابن بسام المحتسب.
[15] "الأحكام السلطانية"، للماوردي، ص 315، "الأحكام السلطانية"، لأبي يعلى، ص 284.
[16] "معالم القرية في أحكام الحسبة"، لابن الأخوة، ص 13، "نهاية الرتبة في طلب الحسبة"، لابن بسام (ضمن مجموع) ص 319.
[17] "الأحكام السلطانية"، لأبي يَعْلَى، ص27.(/13)
[18] هو أبو العباس تقي الدين أحمد بن عبدالحليم بن عبدالسلام بن عبدالله بن الخضر بن تيميَّة، الحراني، الدمشقي، الحنبلي، شيخ الإسلام، الحافظ، إمام الأئمة، العالم المحقق، المجتهد المطلق، من تصانيفه: كتاب: "الإيمان"، وكتاب "إبطال الحيل"، وكتاب "منهاج السنة النبوية"، وكتاب "الاستقامة"، وكتاب "درء تعارض العقل والنقل"، وغير ذلك، ولد سنة إحدى وستين وستمائة (661)، وتوفي سنة ثمان وعشرين وسبعمائة (728)، "البدر الطالع"، للشَّوْكاني، ص 82 – 88، "المنهج الأحمد"، للعليمي 5/ 24 - 44
[19] سورة الذاريات، الآية رقم (56).
[20] سورة الأنبياء، الآية رقم (25).
[21] سورة النحل، آية رقم (36).
[22] سورة الأعراف، الآية رقم (59).
[23] "الحسبة في الإسلام"، ص 8.
[24] سورة التوبة، الآية رقم (71).
[25] سورة التغابن، الآية رقم (16).
[26] "الحسبة في الإسلام"، ص 12، 13.
[27] صحيح البخاري، كتاب الأحكام، باب قول الله – تعالى -: {وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ}، ص 1362، رقم (7138)، صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر، والحث على الرفق بالرعية، والنهي عن إدخال المشقة عليهم، ص 763، رقم (1829).
[28] "الأحكام السلطانية"، للماوردي، ص 339، "معالم القرية في أحكام الحسبة"، لابن الأخوة، ص 13.
[29] هو أبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم بن ورد بن كوشاذ القشيري، النيسابوري، صاحب الصحيح، أحد الأئمة الحفاظ وأعلام المُحدِّثين، مات سنة إحدى وستين ومائتين (261)، انظر: "وفيات الأعيان"، لابن خلكان 3/98، 99، "سير أعلام النبلاء"، للذهبي 12/557 – 580.(/14)
[30] هو أبو هريرة الدوسي اليمني، اختلف في اسمه واسم أبيه على أقوال عدة، أرجحها – كما قال الذهبي وغيره – عبدالرحمن بن صخر، كان مقدمه على النبي - صلى الله عليه وسلم - وإسلامه في أول سنة سبع من الهجرة، عام خيبر، روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - علمًا كثيرًا، مات سنة سبع وخمسين (57)، انظر: "سير أعلام النبلاء"، للذهبي 2/578 – 632، "الإصابة في تمييز الصحابة"، لابن حجر 6/273 – 283.
[31] صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من غشنا فليس منا))، ص 67، رقم (102).
[32] هو أبو محمد سعيد بن المسيب بن حزن بن أبي وهب القرشي المخزومي، المدني، سيد التابعين، وأحد الفقهاء السبعة، لقي جماعة من الصحابة، - رضوان الله عليهم – وسمع منهم، جمع بين الحديث والفقه والزهد والعبادة والورع، ولد لسنتين مضتا من خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وتوفي بالمدينة سنة أربع وتسعين (94)، انظر: "وفيات الأعيان"، لابن خلكان 1/368 – 370، "سير أعلام النبلاء"، للذهبي 4/217 – 246.
[33] هو حاطب بن أبي بلتعة بن عمرو بن عمير بن سلمة اللخمي المكي، من مشاهير المهاجرين، شهد بدرًا والمشاهد، وكان رسول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المقوقس صاحب مصر، وكان من الرماة الموصوفين، مات سنة ثلاثين (30)، وله خمس وستون سنة، انظر: "سير أعلام النبلاء"، الذهبي 2/43 – 45، "الإصابة في تمييز الصحابة"، لابن حجر 1/451 – 150.
[34] الموطأ، للإمام مالك، كتاب البيوع، باب الحكرة، والتربص ص 364، رقم (1352)، سنن البيهقي، كتاب البيوع، باب التسعير 6/48، رقم (11146).(/15)
[35] هو أبو محمد القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق القرشي التيمي البكري، المدني، كان من سادات التابعين، وأحد الفقهاء السبعة، روى عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم، ولد في خلافة علي رضي الله عنه، ومات سنة ست ومائة (106)، وقيل سنة ثمان ومائة (108)، وقيل غير ذلك، وكان عمره سبعين سنة، أو اثنتين وسبعين سنة. انظر: "وفيات الأعيان"، لابن خلكان 2/265، "سير أعلام النبلاء"، الذهبي 5/53 – 60.
[36] "مختصر المزني" ص 92، سنن البيهقي، كتاب البيوع، باب التسعير 6/48، رقم (11146).
[37] هو أبو بكر عبدالرزاق بن همام بن نافع الحميري مولاهم، الصنعاني، عالم اليمن، ولد سنة ست وعشرين ومائة (126)، وتوفي سنة إحدى عشرة ومائتين(211)، باليمن، انظر: "وفيات الأعيان"، لابن خلكان 2/103، "سير أعلام النبلاء"، للذهبي 9/ 563 – 580.
[38] هو أبو إبراهيم وأبو عبدالله عمرو بن شعيب بن محمد بن عبدالله بن عمرو بن العاص القرشي السهمي الحجازي، الإمام المحدث، فقيه أهل الطائف ومحدثهم، ذكر أنه من التابعين؛ لأنه سمع من ربيبة النبي - صلى الله عليه وسلم - زينب بنت أبي سلمة، والرُّبَيّع بنت معوذ، ولهما صحبة، قال عنه ابن حجر: صدوق، مات سنة ثمان عشرة ومائة (118)، بالطائف. انظر: "سير أعلام النبلاء"، الذهبي 5/165 – 180، "تقريب التهذيب"، لابن حجر، ص 423.
[39] مصنف عبدالرزاق، باب هل يسعر 8/207، رقم (14906).(/16)
[40] وعلى هذا التفسير المستفاد من مجموع الروايات يكون معنى قول عمر - رضي الله عنه -: "إما أن تزيد في السعر" يعني في المُثمَّن لا في الثَّمن، وهذا المعنى هو الذي فَهِمَهُ ابن رشد رحِمَه الله، حيث قال معلّلاً قول عمر لحاطب - رضي الله عنهما -: "إما أن تزيد في السعر، وإما أن ترفع من سوقنا" قال: "لأنه كان يبيع بالدرهم أقلَّ مما يبيع به أهل السوق" ورد في سياق آخر على من منع من البيع بثمن أقل من الثمن الذي يبيع به أهل السوق فقال: "وقد ذهب بعض الناس ... أن الواحد والاثنين من أهل السوق ليس لهم أن يبيعوا بأرخص مما يبيع أهل السوق؛ لأنه ضرر بهم، وممن ذهب إلى ذلك أبو محمد عبدالوهاب بن نصر البغدادي، وهو غلط ظاهر؛ إذ لا يلام أحدٌ على المسامحة في البيع، والحطيطة فيه، بل يُشْكَرُ على ذلك إن فعله لوجه الناس، ويؤجر فيه إذا فعله لوجه الله"، انظر: "البيان والتحصيل" 9/305، 306 و 9/314.
[41] "الأحكام السلطانية"، للماوردي، ص316، و"الأحكام السلطانية"، لأبي يعلى، ص 285.
[42] "الحسبة في الإسلام"، ص 16.(/17)
العنوان: مرجعيتنا الفكرية.. إلى أين؟
رقم المقالة: 915
صاحب المقالة: د. وليد قصّاب
-----------------------------------------
من يتأمَّل خارطة المشهد الثقافيِّ العربي المعاصر لا يشعُر بالتفاؤل، وتبدو له هذه الخارطةُ مبتلاةً بكثير من التشوُّهات التي تُشعر أن صحَّتها معتلَّة بعلل خطيرة، وهي عللٌ أيسرها أنها لا تُسعِف - كما هو شأنُ الثقافة في كلِّ أمة - على تمثُّل شخصية واضحة الملامح لهذه الأمَّة التي تُنتجها، وهُويَّة الحضارة التي تَصدُر عنها.
وهذا بؤسٌ حقيقيٌّ في ثقافة أيَّة أمَّة، وهو مُؤشِّر إلى مرض عُضال قد يُودي بها إذا لم تُشْفَ منه.
وسببُ هذا المرض - في رأينا - مجموعةُ جراثيم ((فيروسات)) بعضُها ماديٌّ، وبعضُها معنويٌّ.
أما المعنويُّ - وهو أهمُّها وأخطرُها - فيتمثَّل في:
1 - عدم وضوح التصوُّر الفكري الذي تصدُر عنه الثقافة العربية المعاصرة، فهي كخبط العَشواء، أو حاطب ليل، وكلٌّ فيها يغنِّي على لَيلاه، مما يجعل الإبداعَ الثقافيَّ خليطاً متناقضاً ينسف بعضُه بعضاً، وقد يلعن بعضُه بعضاً، وذلك عائدٌ إلى تعدُّد - أو تضارُب - المصادر والمنابع الثقافية التي يصدُر عنها الأدباء والمفكِّرون.
ولا شكَّ أن هذا التعددَ كان يمكن أن يكونَ مصدر غنًى وثَراء، لولا ما تحوَّل إليه الأمر من تنافُر وتناقُض وتشكيك في أَيسَر الثوابت التي يُفْترَض أن تشكِّل هويةَ الأمة وعقيدتَها وذوقَها.
لقد تحوَّلت الدعوةُ إلى حرية الرأي إلى مِعوَل هدم في ثقافة هذه الأمة، بل في ثوابتها ونُصوصها القطعيَّة التي تشكل وجهَها الواضح المتميِّز.(/1)
إن الحَراك الثقافيَّ أمرٌ مستحبٌّ محمود، بل هو علامةُ صحَّة وعافية عندما ينضبِط على وَفق هوية معينة تَفيء إليها الأمَّة وتلتمُّ من حولها، عندما يتَّجه هذا الحَراك نحو الوِفاق، ونحو تأسيس ثقافةِ الاختلاف المثمِر البنَّاء، ولكنه يكون داءً دَوِيّاً عندما يفهمُه قومٌ من بني جِلدتنا على أنه الانفِلات من كلِّ قيد، والجَريُ على غير هُدى، والتشكيكُ - على طريقة الفكر الغربيِّ المادي - في كلِّ شيء، مما يجعل الأمَّة قَشَّةً في مَهَبِّ العاديات..
2 - ومن المعنويِّ ذلك الإلغاءُ والإقصاء اللذان تمارسهُما كلُّ فرقة من الفِرَق المنتجة للثقافة عندنا في حقِّ المخالفينَ لها في الرَّأي، حتى غَدا القمعُ والاستِبداد سِمةً واضحةً من سِمات هذه الثقافة.
وغَدَت شعاراتٌ تتَّهِم بـ"التزمت" أو "الرجعية" أو "السلفية" أو "الظلامية" أو "التفسيق" أو "التبديع" أو "التكفير" أو ما شاكل ذلك، من الذائع المشهور الذي تحفِل به كتاباتُ أهل الثقافة والفكر عندنا، وهذا ما يجعلُ الشكَّ محيطاً بكلِّ ما ينتجه أيُّ طرف من الأطراف، ويُوقع المتلقِّي - ولا سيَّما من عامَّة الناس - في بحرٍ من الحَيرة والاضطِراب لا يَعرف خلاصاً منه.
3 - ومن المعنويِّ انعدامُ العدالة في توزيع المنابِر الثقافية المختلفة، واحتكارُ طائفة لها، أو تحكُّمُهم في مجرياتها، مما يجعلُها أقدرَ على الترويج لفكر معيَّن، أو على الرفع والوضع، وعلى الحَجب والإظهار.
وهذه ظواهرُ لا تَخفى اليوم على أحد، إن ثُلَّة من أصحاب اتِّجاه فكريٍّ معيَّن تسيطر على السُّوق الثقافية الإعلامية إن صحَّ التعبير، وهي تمتلك المنابرَ المؤثِّرة وهي التي تُروِّج لهذا الفكر أو ذاك، وترفَع فلاناً وتضع فلاناً، والناس تُؤخَذ ببريق الشُّهرة، ولمعان الألقاب.(/2)
4 - وعلى أن من أخطر ما يهدِّد المشروع الحضاريَّ العربي المعاصر هو افتقاده الخطابَ الموحَّد وشبه الموحَّد، وذلك لافتقاد المرجعيَّة الفكرية التي تعمل طائفةٌ من بني جِلدتنا على التشكيك فيها، وهدم مكوِّناتها، ليلَ نهار، حتى كدنا نصبح أمماً لا أمةً واحدة كما وصفنا القرآن الكريم بقوله: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 92].
والأمةُ الواحدة يكون لها خطابٌ واحد ذو مرجعية واضحة بيِّنة، ومهما اختلفت زوايا النظر إلى هذه المرجعية، أو تعدَّدت التأويلاتُ والتفسيرات فيها، فإنها لا تفتقِد أبداً الوحدة والثبات.
إن الاختلافَ مشروعٌ ما دام نابعاً من طبيعة هذه المرجعية الفكرية التي ينتمي إليها، ومن تعدُّد أشكال القراءة المحتملة فيها، ومن تبايُن الاجتهادات الفقهية والفكرية والثقافية والنقدية النابعة جميعاً من أُصول الثوابت واليقينيات.
ولكن هذا الاختلافَ الناتج عن قطع العلاقة مع الأصول والمرجعيَّات، أو عن المستورَد من الخارج، أو المستَصدَر من حضارات أُخرى تخالف تصوُّراتنا الفكرية كلَّ المخالفة، أو المفروض عليها فرضاً من قويٍّ غازٍ، أو المستَجلَب إليها على يد مُنبَهِر مُتلاشٍ في ثقافة الآخرين.. كلُّ هذا وما كان من قَبيله هو اختلافٌ مَذموم، يمزِّق الأمةَ، ويشتِّت شملَها، ويجعلها أمةً بلا لون ولا وجهٍ ولا حاضر ولا مستقبل.
إن اختلافَ التكامُل والائتلاف مشروعٌ مقبول، وهو - كما ذكرنا - مصدرُ الغِنى والثَّراء، وهو ما سمَّوه "اختلاف الرَّحمة"، ولكن اختلافَ التناقُض والتنافر والتنابذ بالألقاب هو المستَهجَن المذموم الذي ينبغي أن يسعى خطابُنا الفكريُّ المعاصر إلى القضاء عليه بكلِّ الوسائل، ولن يكونَ ذلك إلا باعتماد المرجعيَّة.(/3)
العنوان: مسؤولية الطالب الجامعي.. رؤية في واقع
رقم المقالة: 1893
صاحب المقالة: خالدة بنت أحمد باجنيد
-----------------------------------------
للإنسان في حياته أدوارٌ شتى، ولكل دور منها مهامه وواجباته، فالأم دور، والأب دور، والأخ والأخت دور، والطالب دور، والمعلم دور، وغيرها من الأدوار... إلخ، والشعور بالتكليفِ تجاه تلك الأدوار والقيامِ بواجباتها هو ما تعرف به المسؤولية في عمومها، ويعرف صاحبها بالفرد المسؤول.
وحقيقة ذلك الشعور بتخصيصه في واقع الفرد المسلم يتمثل في الشعور بالأمانة الكبرى الملقاةِ على عاتقه، وتلك الأمانة تتمثل بأعلى مقاماتها في قوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً} [الأحزاب: 72].
ونظرة خاطفة للواقع تشهد على أهمية المسؤولية، لما ترتب على غيابها انحطاطاً فكرياً واجتماعياً ودينياً.
قد هيئوك لأمرٍ لو فطنت له فاربأ بنفسك أن تُرعى مع الهَمَلِ
غير أنّ الإنصاف يرتفع عن القول بالغيابِ التام للمسؤولية، ذلك أنّها لا بد أن تظهر بطبيعة الإنسان السوية والفطرة، بيدَ أنّ الأدوار الكثيرة التي تكتنف حياة الفرد، تحملُ البعضَ على القيام بمسؤولياتٍ بعضُها على حساب البعض الآخر!، والقلةُ من تَسيرُ على المنهج السديد فيها، عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم: (فأعطِ كلَّ ذي حقٍ حقه).
ولو فتشنا عن أسباب تضاؤل المسؤولية، لوجدنا الجهالةَ بكنه المسؤولية في دورٍ ما، والوعي التام بحقيقتها يحظى بنصيبِ الأسدِ في مجتمعاتنا، وفوق ذاك توافرُ معوقاتِ المسؤولية الهدامةِ لها.(/1)
رأيتُ أن أقف في هذا المقال عند مسؤولية الطالب، وبالأخص الطالب الجامعي، وما رأيتها إلا لكوني أعايشُ واقعها بكلّ تجلياته بصفتي طالبة جامعية، ولكونها مسؤولية تغيبُ في غفلات الكثيرين والكثيرات، وفي غياب حقيقة الإدراك بها وبأهميتها الكبرى.
تتجلى مسؤولية الطالب الجامعي في مناحٍ شتى، مناحٍ تكتنفها المرحلة العمرية الخصبة التي يحياها الطالب في تلك المرحلة التعليمية، وتتباين بحسب كل طالب تبعاً لعوامل نفسية واجتماعية، باعتبار بروز تأثيراتهما.
أولى المسؤوليات التي تتمثل لنا من لفظ (الطالب): المسؤولية التعليمية، ولربما في هذا المقال أخرج بها عن التنظير والدقة المعلوماتية إلى واقعِ رؤيةٍ شعورية تعتلجني في لحظة تأمل وتفكر، أجدها تنازع طرفين ما بين إفراط وتفريط، ولكلّ طرفٍ مسوغاته التي تتسم بشيء من المنطقية.
فجانبُ الإفراطِ -وإن كان قليلاً- يتمثل في التحصيل الظاهري (الحفظ مقدم على الفهم)، فقط للحصول على المعدل المرتفع، والدرجاتِ العالية، والبعد التام عن التطبيق والتفعيل للمادة النظرية، والمسوغ كونه أقصر الطرق للوصول إلى مصافِّ البارزين في الجامعة.
والعتب لا يقف عند هذا الطرف، بل إنّ أنظمة التعليم في جامعاتنا في معظمها قائمة على التحصيل الأكاديمي الذي يكشف عنه المعدل التراكمي للطالب على الورق، والبعد الشبيه بالتام عن التقدير الحقيقي للتحصيل العلمي للطالب، وإدراكه للمعلومة التي حفظت في خزانةِ ذاكرته الملأى!
أما جانب التفريط -وهو الغالب- فهو يتمثل في الاكتفاءِ بأدنى تحصيل يكفي لتجاوز المرحلة الجامعية بوثيقة التخرج! والمسوغ هو أن القناعة كنزٌ لا يفنى!!، خصوصاً مع قلة الوظائف، والرغبة الجامحة بالمتعة ما دامت النهاية في الأغلب متوقعة، ومحكومة بالقدر!(/2)
ومناقشةً لكلا الطرفين، أو نقضاً لمسوغاتهما، فإن المسؤولية التعليمية لا ينبغي أن يُنظر لها نظرة مستقلة، يَبني عليها كلُّ طرف تصوراته، بل ثمةَ واقعٌ تبنى عليه ما دام هذا الواقع بعيدًا عن الواقع المثالي المنشود، وهو المنظور الإسلامي لهذه المسؤولية؛ لأن الإسلامَ واقعُ حياةٍ بأكملها، ومن كلّ جوانبها، فهو شريعة الله الكاملة.
فالوسطية التي تتمثلُ في منظور الإسلامِ في المسؤولية التعليمة، وفي غيرها، قامت الدعوةُ إليها على أساس "سددوا وقاربوا"، وقامتْ على أساس الفهم الصحيح وتفعيله: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف: 108]، فالدعوة في الآية تفعيل للفهم الصحيح المتمثل في المسؤولية التعليمية.
وبذلك فإن الأساس الذي قامتْ عليه المسؤولية التعليمية في الإسلام، يحتاجُ إلى وعي وإدراك، فهما طريقا التسديد والمقاربة، وهما المحك الذي تقوم عليه المسؤولية التعليمية، والتي توضحها ثلاثة أسئلة: لماذا أتعلم هذا؟ وكيف أتعلمه؟ وكيف يتجلى تعلمي له؟
وثاني مسؤولية -من وجهة نظري- تتمثل في النشاطات الثقافية غير المنهجية، وهي مسؤولية الموهبة والعطاء، ذلك أنّ المرحلة العمرية للطالب الجامعي مرحلة خصبة ربيعية لها قابلية كبيرة لأن تؤتي أكلها وأثمارها.
وهذه المسؤولية لم تعطَ حق الاهتمامِ بها، لا من شأنِ المسؤولين الذي تلقى على عاتقهم بالدرجة الأولى، ولا من شأن الطلبة أنفسهم، مع كونها تعودُ عليهم بالدرجة الأولى.
أما الطلبة المُعرِضون عنها، فهم فيها طرفان؛ طرفٌ يتعالى عنها، بحجة التأثير في مستوى التحصيل العلمي، أو غير ذلك مما يجسدُ نظرة التقليل والتحقير لها. وطرف ينأى عنها، لا تعالياً، بل رغبةً في التحرر المطلق المفتوح على مصراعيه، وبكل أشكاله البعيدة عن الالتزامِ بأي أمرٍ من الأمور ولو كان في مجالِ الترفيه المثمر!(/3)
أما المسؤولون عنها، فإن قلة الوعي بنفسيات الطلبة واحتياجاتهم المتولدة عن مستجداتِ الحياة، واحتياجات الجيل الجديد، أجِدُها من أهم الأسباب التي تعوق القيام بهذه المسؤولية. كما أنّ تقييد العطاء بأنظمة صارمة، وقديمة!، يقتل العطاء ويصرف الطالب عن الأداء الفعال المتمثل في الإبداع والتجديد البناء.
كذلك غياب التواصل بين الطالبِ الجامعي وأستاذه، مما يزيد من فتور الطالب وقلة اهتمامه، أما لو حصل هذا التواصل على أفضل ما يكون فسوف تتفجر طاقاتٌ هائلة في إطار التوجيه والإرشاد الذي يرقى بالطالب ويحفظ له حماسته.
كذلك غيابُ روحِ التنافس، في إطارِ العمل الفردي أو الجماعي غير المنظم، وفرض نوعية مختارة ومكرورة من النشاطات، أو حصر النشاطات في إطار معين، وغيابُ الوضوح التام من الطرفين، وعدم الاهتمام بمسألة الوقت، كلّ ذلك يهدّ أركان هذه المسؤولية التي يفترض أن تتجلى بقوة عند الطالب الجامعي.
كم أحلم مع كثيرات بمنح الطلبة مساحةً كافية من الحرية في حمى التوجيه، بحيث يكون لشريحة الطلبة اهتمام ينعكسُ في تفعيل هذه الشريحة المعبأةِ بطاقاتٍ هائلةٍ قادرة على العطاء بمختلف أشكاله وألوانه.
ثمةَ مسؤولياتٌ أخرى في حياة الطالبِ الجامعي، بيد أني أكتفي بهاتين المسؤوليتين لما رأيتُ أهميتهما وما اعتراهما من شطحات ليستْ من أدائها في شيء!
والسلامُ عليكم ورحمة الله وبركاته..(/4)
العنوان: مسؤوليتنا نحو العقيدة
رقم المقالة: 535
صاحب المقالة: ريم - أم محمد
-----------------------------------------
يتخبط الناس في جاهلية جهلاء، ويذهبون ذات اليمين وذات الشمال؛ بحثاً عن حلول إيجابية، تقيهم شر الأعداء، وويلات الحرب، ويلتمسون علاجاً لمشاكلهم، ودواءً لأمراض قلوبهم، يستجدون في ذلك أشخاصاً فقدوا مقوِّماتهم الروحيَّة، وتشبثوا بأمور ماديَّة أوهى من خيط العنكبوت.
ونسي أولئك أن العلاج موجود، وأن الحل حاضر، وأن الحق بيِّن والباطل بيِّن، ولكن هذه سنة الأمم السابقة، الذين تحدث عنهم القرآن وكشف طبيعتهم، وطبيعة المنهج الذي ساروا عليه، وأنهم آمنوا بالباطل، وبالأحكام التي لا تستند إلى شرع الله، وليس لها ضابط يعصمها من الطغيان.
فلقد ذمَّ الله سبحانه أهل الكتاب ومَقَتَهُم، حين أعطاهم الكتب السماوية، وبيَّن لهم فيها الأحكام والنظم التي يجب أن يسيروا على نهجها؛ فهم تركوها واعتقدوا أن ما عليه غيرهم هو أحسن وأحق أن يُتَّبع، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً} [النساء:50].
إن هذه هي القاعدة التي سارت عليها تلك الأمم، من التنكُّر لشريعة الله، واستبدال ما يشرعه الخلق وما يرونه بأوامره وأحكامه سبحانه، مع قِصَر نظرهم، وعدم إدراكهم ومعرفتهم لما سيجدُّ في أي لحظة من لحظات الحياة.
وهذا هو الواقع الذي يعيشه الناس في هذا الزمن، وخاصة من ينتسبون إلى الإسلام، وما علموا بأن الله – سبحانه، رب هذا الكون، ومالك هذه الحياة، وهو الذي أنزل شريعة محكمة، وديناً كاملاً؛ ليكون منهجاً لهذه الحياة - هو العالم بأحوال خلقه، وما يصلح لهم في كل زمان ومكان .(/1)
هو الذي يعلم حقيقة فطرة بني الإنسان، والحاجات الحقيقية لهذه الفطرة، كما يعلم منحنيات نفس الإنسان، ودروبها، ووسائل خطابها، وإصلاحها.
منهجٌ صانعه صانع هذا الكون، ومبدع السماوات والأرض، هو أحق أن يُتَّبع، ويُعمل به، ويُحتكَم إليه، وأن نَعرض عليه قضايانا ومشاكلنا؛ لنجد فيه الحلَّ والرأي الصائب، والدواء الحاسم، والسلاح القوي النافذ، منهجٌ لو تمسكنا به، وامتثلنا بما يأمرنا به، واهتدينا بهديه، واستضأنا بنوره - لأصبح لنا حال غيرُ هذه الحال، وعاد لنا كل ما افتقدناه، وما استُلِب منا من أرضٍ، أو مقدساتٍ أو حقوقٍ، أو عزةٍ أو كرامة.
إن دين الله منهج حياة، وطاعته هي تحكيم هذا المنهج، وتطبيقه جملةً واحدة؛ حيث لا يقبل أن يتجزَّأ، أو أن يُعمل به في وقت دون وقت.
إن الشكوك والشبهات التي تُدَسُّ على المسلمين - التي قلَّما يسلم منها أحد في هذا الزمن - ما كانت لتأتي عبثاً واعتباطاً، أو تجاهلاً ممن وضعها، عن طريق كتاب يؤلَّف، أو برامج توضع لتعليم، أو عن طريق وسيلة من وسائل الإعلام، أو على يد مهندس أو مدرس... أو غير ذلك، إنما حيكت خيوط هذا الشر، وأُحكمت خططه؛ لتصل إلى مجتمعات المسلمين، وتنتشر في أوساط شبابهم، وداخل معسكرات جيوشهم؛ حتى تحدث بلبلة فكرية، وتوجِد في عقولهم صورة مشوهة لدينهم، وأحكام شريعتهم, وذلك بما تنطوي عليه تلك السموم والأفكار من شر وخبث، ومن حسن صياغة في الكتابة، ولباقة في القول، لا يدرك هذا إلا القليل وإن خطره عظيم جداً، ويرمي أصحابه من ورائه إلى أهداف بعيدة، قد تظهر نتائجها في وقت قريب، وقد تبقى فلا تجد من يتبناها أو يسلِّم بها إلا في وقت آجل.(/2)
ولا شك أن الحالة التي نلمسها ونراها في شباب المسلمين وأبنائهم، من ضياع وبُعد عن الدين وتعاليمه، ونفرة من دراسته، والاستماع إلى دعائه - ما هي إلا حصيلة جهد وعمل دائبين، وإذا لم يكن هناك من يتصدى لهذا الشر، ويقف في وجهه، ويمسك بيد هؤلاء الغرباء عن دين الإسلام، ويوضحه لهم، ويكشف لهم عن صورته الحقيقية، ويدلهم على أسهل السبل وأيسرها، وأحسن الطرق للعودة إليه، وإذا لم يأت رجالٌ يحملون عقيدة الإسلام، ويتبنونه فكرةً وعقيدةً ونهجاً للحياة -: فإن الواقع سيشهد مزيداً من بُعد الناس عن دينهم، وسوف يستفحل الشر، ويزداد الخطر، عندما يجد العاملون والحاقدون على هذا الدين مجالاً رحباً، يمكِّنهم من العمل، والكيد له، واختطاف أبنائه، إلى هُوَّة سحيقة، ومتاهات بعيدة، حتى يصيب المجتمعات الإسلامية ما أصاب مجتمعات الغرب والشرق، من انفصام الشخصية، وفقد المقومات الروحية، والضياع الذي ليس بعده ضياع.
فالمسؤولية كبيرة، والأمانة عظيمة، فلينظر كل واحد مقدار مسؤوليته في هذه الحياة، وفي هذا الواقع، ولنتدارك ما بقي، حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين لله.(/3)
العنوان: مسابقات الجمال
رقم المقالة: 1652
صاحب المقالة: محمد جمال عرفة
-----------------------------------------
مسابقات الجمال..
تقليد أعمى للغرب يمتهن المرأة ويميع الشباب
على الرغم من الاعتراضات الدينيَّة والبرلمانيَّة، واعْتراض جمعيَّات نسائيَّة، أجريتْ مؤخَّرًا مسابقة اختيار ما يسمى: (ملكة جمال مصر) ووصف المعترضون هذه المسابقات، واستغلال المرأة عمومًا في الإعلانات وترويج السلع، على أنَّه امتهانٌ للمرأة، وتشويهٌ لدورها الحضاري الذي رسمه لها الإسلام.
الجديد والخطير في هذه المسابقات التي يحرص الغرب على نقلها إلينا بكلّ قيمها الأخلاقية الفاسدة، أنها أصبحت (عادية)، وبعد أن كان منظّموها في العالم العربي يحرصون على عدم إثارة الرأي العام عليهم، ويلغون فقرة عرض المايوهات البكيني، لأول مرة ليس فقط استعراض للفتيات بما يسمى (الكاش مايوه)، ولكنهم أدخلوا مسابقة ملك جمال العالم (مستر وورلد) إلى مصر من خلال استعراض لأجساد بعض الشبان المصريين، واختيار أحدهم (مستر ايجيبت).
هذه المسابقات التي يستهدف منظموها في المقام الأول الربح الاقتصادي أو (البيزنيس) أصبحت بدورها مفارخ طبيعية للانحلال والإباحية؛ بسبب تكالب الفتيات عليها وتصوير منظموها أن الجمال هو جمال المظهر، وأن تصبح المرأة سلعة يروّجون بها بضائعهم المختلفة، خصوصًا مساحيق التجميل وغيرها، لا جمال الفكر والثقافة والعلم، حتى أصبحت مسابقة للفتيات للقائمات بعمليَّات التجميل وصبغ الشعر والجفون المصطنعة والشفاه المحقونة بالكولاجين، والعقل الفارغ.
أيضًا تحوَّلت هذه المسابقات إلى مفارخ طبيعية لتوريد الفتيات اللاتي يشبهن العروسة باربي إلى فرق الرقص الجماعي العاري المسماة بـ(الفيديو كليب)، أو الأفلام الهابطة أو الأغاني، أو التمثيل، وغيرها.(/1)
هذه المسابقات دفعت العديد من الشباب العربي لإطلاق حملات على العري والإباحية، ومسابقات الجمال الوهمية هذه التي انطلقت في بادئ الأمر في لندن عام 1951، يحاربون من خلالها (الفيديو كليب) العاري والإباحية، ويذكّرون العرب بأن أحد الإعلاميين اليهود قال: "امرأة عارية تفعل بأمة محمد ما لا يفعله مدفع ورشاش".
- هل أنت موافق على مسابقات الجمال التي تنظم في بعض دول العالم العربي؟
- هل توافق على ما يعرض من مناظر مخلة في أغاني الفيديو كليب؟
- هل تعرف أنها خطَّة مدروسة جيّدًا، وتنفذ بأيادٍ عربية؟
- هل تشكّ للحظة أنَّ الإباحيَّة خطة تُحاك لأجل تمييع الشباب؟
- هل ترضى لأمك أو لأختك أو لزوجتك أن تشاهد مثل هذه الفضائح العربية؟
- هل ترضى لأبنائك أن يكونوا ذوي هوية مميعة وشخصية تافهة؟
- هل توافق على السلبية التي تعانيها الأمة العربية والإسلامية؟
- هل ستظل صامتًا؟ لماذا لا تصرُخ وتقول كلمة حق ترضي بها الله؟
هذه هي عناوين الحملة، أمَّا أهمّ ما فيها فهو أنها بمثابة تحرك إيجابي لرفض تمييع الشباب وما يعرض من عري وإباحية وبرامج تافهة وإعلانات رخيصة وأفلام تافهة، لا يرضى أحد لأمه أو أخته أو ابنته أن يشاهدن مثل هذه السموم.
والأهم أنها تدعو الشباب للتَّنَبُّه إلى هذه المسابقات والخطط التي تنشر الإباحية، وتدعوهم للانتفاضة عليها، والسعي لإزالة مشاهد العري والإباحية من الفضائيات، ووقف هذه المسابقات التي تمتهن المرأة، وتتعامل معها على أنها سلعة لا عقل لها.(/2)
الحملة لا تطالب بالتغيير بالسيف ولا العنف، ولكنها تدعو لمشاركة الجميع ولو بكلمة إلى من يقومون بهذه الأفعال الفاضحة، وينشرون الإباحية، لأجل سلعة ربك الغالية وهى الجنة، سواء برسائل المحمول لهذه الجهات التي تنشر الإباحية، أو نصح العائلة والأقارب والأصدقاء، أو الاتصال بالقنوات الفضائية العربية الغنائية التي تنشر وتبُث هذه المسابقات والأغاني الخليعة العارية كي تتوقف، قل لهم: "سنقاطعكم إن استمرت محطتكم في عرض ما يغضب الله"، كن إيجابيًّا وراسل الصحف والمجلات التي تعرض صورًا مخلة بالآداب العامة، وتحدَّثْ إليهم بالحجج والبراهين والآيات القرآنية".
وقد قام بالفعل أعضاءُ ما يسمى: (حملة رفض امتهان واستغلال المرأة)، بحملة تناهض استغلال المرأة عمومًا في الدعاية والإعلان، عبر موقعها على الإنترنت؛ لمطالبة المصريين والعرب بالتصويت والمشاركة في إرسال رسائل بريدية لشركات الدعاية، وشركات المنتجات الغذائية وغيرها لمنع استغلال المرأة ووقف هذه المسابقات.
وتحت عنوان: "شاركنا في حملة (لا لاستغلال وامتهان المرأة)، قالوا في رسائل عبر الإنترنت: "إن المرأة التي بُحَّ صوتُنا ننادي بتكريمها، ورفع الظلم عنها، تعيدونها أنتم - من أجل الكسب المادي - إلى أقفاص الجواري؛ حيث تعرض كالبضاعة أو مع البضاعة"!
مسابقات استهلاكية(/3)
ولأن الربح والبيزنيس هو عنوان هذه المسابقات، التي تصل إلى ذروتها ببيع هؤلاء الفتيات المنافسات إلى شركات الدِّعاية وفرق الفيديو كليب وشركات السينما للاستفادة منهنَّ في ترويج السلع والأغاني والأفلام التافهة، فقد لوحظ أن هناك إقبالاً متزايدًا من الفتيات من هذا الوسط على المسابقات، مثل فتياتٍ من أسر مفككة، الأم منفصلة عن الأب الذي لا يربي ابنته، أو فتيات تعلَّمن في الغرب، أو فتيات في جامعات أجنبيَّة في الدول العربية يعتنقن ذات الفكر الضحل عن مسابقات الجمال، بل إنَّ ربع المرشَّحات تقريبًا في الأدوار النهائيَّة للمسابقة كُنَّ يدرسن الاقتصاد أو الإعلام، ومنهنَّ فتيات يدرسن في الولايات المتحدة الأمريكية، ما اعتبر مؤشرًا على الاهتمامات التي تحدَّثن عنها في المسابقة، وأنَّ المسابقة بالنسبة لهنَّ ليست سوى جواز مرور للبيزنس الذي سوف يعملن فيه أو مجال الدعاية، وكلها أمور لا تعبر عن هموم المرأة الحقيقيَّة.
وضمن هذا السياق ذاته تشهد احتفالاتها بذخًا غير عادي، ويشارك فيه العديد من رجال الأعمال الذين يستغلون الفتيات في الإعلان عن مُنتجاتِهِم التي تُعرض خلال الحفلات، وإسباغ الهدايا والجوائز على الفائزات من جانب شركات الدعاية والمجوهرات والعطور والأجهزة المنزلية؛ حيث أصبحت المسابقة تُمَول عبر شركات الدعاية.
بل إنهم استغلوا أجساد الفتيات في الإعلان عن منتجاتهم، بداية من التليفون المحمول والماس والأزياء وأدوات التجميل، وبلغ السَّفَه – في أحد المسابقات – حدَّ جلبِ نجفة ضخمة قيمتها 7000 دولار وطائرة خاصة بناء على طلب أحد مصممي الأزياء الأجانب لضمان الترويج للسلع.(/4)
أيضًا ظهر أثر هذا الجَوّ العام لاختيار ملكات جمال - عمليات التجميل والصبغات والملابس والأزياء - في نوعية الفتيات المشاركات، وثقافتهن الضحلة، لدرجة أنَّ إحدى المتباريات سئلت عن عالم عربي فاز بجائزة نوبل فلم تدر من هو ولم تعرف "نوبل" أصلاً، في حين تحدثت أخريات كالببغاوات عن حريَّة المرأة التي مكنتها من اكتساب حق "الخلع"، وكيف أصبحت ندًا للرجل؟
ويقول خبراء تربويون: إنَّ مثل هذه المسابقات التي تغري الفتيات الصغار بالشهرة والمال لها أثار سلبية عديدة؛ حيث تعتبرها بعض الفتيات فرصة العمر للشهرة، مما يؤدي إلى سيادة مفاهيم اجتماعية سلبية ويضعف التربية في الأسرة، ويساهم أيضًا في غسيل عقول الفتيات الصغيرات وإقناعهنَّ أنَّ الفوز في هذه المسابقات هو أمل كبير، وأنَّ مفتاح الفوز هو عمليات التجميل وصبغ الشعر وحرية العري.
والأغرب أن هذه المسابقات تجرى بالرغم من رفض العلماء المسلمين لها، وصدور فتاوى من العديد من مفتي الديار العربية والإسلامية، وتتعلَّل الحكومات بأنَّها لا حول لها ولا قوة، وأنها لا تُنَظّم هذه المسابقات ولكنْ يُنَظّمها القطاع الخاص ورجال الأعمال ولا ولاية للدولة عليهم، وقد سبق للدكتور نصر فريد واصل - مفتى الديار المصرية السابق - أن أصدر فتوى وصف فيها مسابقات ملكات الجمال بأنها: "تُنتهك فيها الحُرمات، وتظهر عورات الفتيات، ويُشجعن على عدم الالتزام بالحياء وبالأخلاق الإسلامية القويمة بأنها: حرام.. وغير جائز شرعًا بأي حال".
بل وصل الأمر بشيخ الأزهر السابق جاد الحق رحمه الله للقول: "إنَّ هذا عودة إلى النخاسة والرقيق الأبيض، وندعو جميع المسئولين بالتَّدخُّل لوقف مثل هذه المهرجانات الفاسدة المشبوهة، وواجب على أُولي الأمر تجنيب بلاد المسلمين أسباب سخط الله تبارك وتعالى، والبعد عن كل ما يودي بشبابها وفتياتها إلى الهاوية".(/5)
فهل من وقفة مع هذه المسابقات وبرامج العري والفيديو كليب على الفضائيات قبل أن تنقلب المعايير في العالم العربي، وتصبح القيم الغربية الانحلالية الفاسدة هي الأصل، وفتيات الفيديو كليب العاري والراقصات هم قمم المجتمع اللاتي يقلدهن النشء؟!(/6)
العنوان: مسجد الفتح في هولندا
رقم المقالة: 1025
صاحب المقالة: سيف الدين يوسف
-----------------------------------------
في الثاني عَشَرَ مِنْ يُونية - حُزَيْرَانَ المُصَادِفِ لِلسَّابِعِ والعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى الأُولَى 1428هـ بَلَغَ عَدَدُ سُكَّانِ مَدِينَةِ أمرسفورت (Amersfoort) - مُحافَظَة أترخت) 140000 مِائَةً وأَرْبَعِينَ أَلْفًا، حَدَثٌ فَرِيدٌ بِالنِّسْبَةِ لِلبَلَدِيَّةِ والمُهْتَمِّينَ بِالدِّيمُغْرافِيه، وَبَعْدَ هذا الحَدَثِ بِثَلاثَةِ أَيَّامٍ - أيْ في الخَامِسَ عَشَرَ مِنْ يونية الثّلاثِينَ مِنْ جُمَادَى الأُولَى - تَمَّ افْتِتاحُ مَسْجِدِ الفَتْحِ على الطِّرازِ المَغَارِبِيِّ الإسْلامِيِّ ذِي المِئْذَنَةِ المُسْتَطِيلَةِ العِمْلاقَةِ، وَالقُبَّةِ الزُّجاجِيَّة الفَرِيدَةِ مِنْ نَوْعِها.
وَبِذَلِكَ تَمَّتْ فَرْحَةُ كَثِيرٍ مِنَ المُسْلِمِينَ مِنْ أَفْرادِ الجَالِيَةِ في هَذِهِ المَدِينَةِ وَمَا جَاوَرَهَا مِنْ قُرًى.
فَقَبْلَهَا كانَتْ أَفْرَادُ الجَالِيَةِ تُصَلِّي في مَسْجِدٍ صَغِيرٍ - بَيْتٍ علَى الطِّرازِ الهُولَنْدِيِّ - كَانَ قَدْ تَمَّ شِراؤُهُ وَحُوِّلَ إلى مَسْجِدٍ. وَكَانَ المَكَانُ يَضِيقُ بِالمُصَلِّينَ خَاصَّةً في رَمَضَانَ وَالأَعْيَادِ وَالمُنَاسَبَاتِ الإِسْلَامِيَّةِ الأُخْرَى.
أمَّا المَسْجِدُ الجَدِيدُ فَوَاسِعٌ جِدًّا، وَيَتَّسِعُ لِأَكْثَرَ مِنْ أَلْفِ مُصَلٍّ, وَالمَسْجِدُ آيَةٌ في العُمْرَانِ فَمَنْظَرُه جَذَّابٌ جِدًّا.(/1)
وَهُنَاكَ مِساحَةٌ وَاسِعَةٌ لِتَرْكِينِ السَّيَّاراتِ، وَفِيهِ بَرَّادٌ لِلْمَوْتَى، وَيَهْتَمُّ المَسْجِدُ؛ مِثْلَ كَثِيرٍ مِنَ المَسَاجِدِ في أُورُوبَّا بِتَعْلِيمِ القُرْآنِ وَالعَقِيدَةِ، وَاللَّغُةِ العَرَبِيَّةِ لِلتَّلامِيذِ يَوْمَيِ السَّبْتِ وَالأَحَدِ، وَيَقُومُ المَسْجِدُ بِنَشَاطَاتٍ أُخْرَى كَالرِّياضَةِ، وَنَشَاطَاتٍ اجْتِمَاعِيَّةٍ أُخْرَى وَإِلْقَاءِ المُحَاضَرَاتِ.
وَقَدْ تَنَاوَلَتْ جَرِيدَةُ (مَدِينة أمرسفورت) (Destad Amersfoort) الحَدَثَ وَقَدَّمَتْ تَقْرِيرًا كامِلاً عنِ المَوْضوعِ تَحْتَ عُنْوَانِ: "نُرِيدُ أَنْ نَتَمَتَّعَ بِالشَّفَافِيَّةِ" - المَسْجِدُ الجَدِيدُ أَكْثَرُ مِنْ مَكَانٍ لِلصَّلاةِ.
فَتَحَ المَسْجِدُ الجَديدُ أَبْوَابَهُ لِلْجِيرَانِ وَالْمُهْتَمِّينَ في المَدِينَةِ بَعْدَ 28 عامًا قَضَتْهَا الجَالِيَةُ في مَكَانٍ صَغِيرٍ وَضَيِّقٍ.
الجَالِيَةُ المَغْرِبِيَّةُ تَمْلِكُ الآنَ حَقًّا مَسْجِدًا؛ بِحَيْثُ تَسْتَطِيعُ الجَالِيَةُ أَنْ تُمَارِسَ نَشَاطَاتٍ أُخْرَى غَيْرَ دِينِيَّةٍ؛ مِثْلَ النَّشَاطِ الاجْتِمَاعِيِّ والتَّعْلِيمِيِّ وَالرِّياضِيِّ.
وَقَدْ رَدَّ السَّيِّدُ عُمَرُ بوسغلاني - مُدِيرُ جَمْعِيَّةِ وَمَسْجِدِ الفَتْحِ - على السُّؤَالِ التَّالِي: مَا هُوَ شُعُورُكَ؟:
بِأَنَّ الصَّلاةَ وَاحِدَةٌ فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَلَكِنِّي عِنْدَمَا آتِي إِلَى هَذَا المَسْجِدِ يَتَمَلَّكُنِي شُعُورٌ آخَرُ، وَأَشْعُرُ بِالنَّشْوَةِ وَالثِّقَةِ وَالفَرْحَةِ.
وَقَدْ لاحَظَ السَّيِّدَانِ إِسْماعِيلُ الكلني وَعَبْدُالكَرِيمِ الكرطي أَنَّ المُرْتَادِينَ إِلَى المَسْجِدِ في تَزَايُدٍ مُسْتَمِرٍّ مُنْذُ الانْتِقَالِ إلى المَسْجِدِ الجَدِيدِ.(/2)
وَيُضيفُ السَّيِّدُ الكرطي أَنَّ الجَالِيَةَ المَغَارِبِيَّةَ فَخُورَةٌ بِمَا حَقَّقَتْهُ، وَالطَّرِيقُ كَانَ طَوِيلاً وَلَكِنْ فِي النِّهَايَةِ حَصَّلْنَا الكَثِيرَ، فَمُسَاعَدَةُ المُتَطَوِّعِينَ وَالمُسَانَدَةُ المَالِيَّةُ مِنْ جَمِيعِ أَعْضَاءِ الجَمْعِيَّةِ يَجْعَلُكَ تَشْعُرُ بِالسَّعَادَةِ.
إِنَّهُ مَبْنًى جَمِيلٌ، هُنَاكَ مُتَّسَعٌ لِلْجَمِيعِ، وَهَذَا ما يَجْعَلُ المَرْءَ يَشْعُرُ بِالتِّرْحَابِ هُنَا.
إِلى جَانِبِ المُصَلَّى (تَحْتُ) هُنَاكَ مُصَلًّى لِلنِّسَاءِ (فَوْقُ)، وَإِلى جَانِبِ ذَلِكَ هُنَاكَ أَقْسَامٌ أُخْرَى لِلتَّعْلِيمِ.
وَيَقُولُ السَّيِّدُ إِسْماعِيلُ عُضْوُ اللَّجْنَةِ الرِّيَاضِيَّةِ: إِنَّ اللَّجْنَةَ تُنَظِّمُ مُبَارَيَاتٍ لِكُرَةِ قَدَمِ الصَّالاتِ لِلشَّبَابِ، وَاللَّعِبُ غَيْرُ مُقْتَصِرٍ على المُسْلِمِينَ فَقَطْ؛ فَهُنَاكَ هُولَنْدِيُّونَ وَسُورِينامِيُّونَ، وَيُضِيفُ بِأَنَّ اللَّجْنَةَ سَتَحْصُلُ عَلَى قِسْمٍ لِلشَّبَابِ، وَمَكْتَبَةٍ سَيَتِمُّ فِيهَا تَنْظِيمُ بَعْضِ النَّشَاطَاتِ المَسَائِيَّةِ مَعَ شُرْبِ الشَّايِ.
وَيَقُولُ: دُعِيتُ مِنْ قِبَلِ الإِدَارَةِ لِأَنَّنِي كُنْتُ نَاشِطًا اجْتِمَاعِيًّا في الحَيِّ، وَهُناكَ مَجْمُوعَةُ عَمَلٍ لِلشَّبَابِ، وَهَذِهِ المَجْمُوعَةُ تَقُومُ بِتَرْجَمَةِ الخُطْبَةِ مِنَ العَرَبِيَّةِ إلى الهُولَنْدِيَّةِ، وَتُلْقَى بَعْدَ صَلاةِ الجُمُعَةِ مُبَاشَرَةً، وَيَتِمُّ تَرْجَمَتُهَا كَذَلِكَ إلى اللُّغَةِ الأمَازِيغِيَّةِ (البَرْبَرِيَّةِ) بِحُكْمِ أَنَّ غَالِبِيَّةَ الجَالِيَةِ المَغْرِبِيَّةِ في هَولَنْدَا مِنَ الأَمَازِيغِ (البَرْبَرِ)، وَتُلْقَى يَوْمَ الأَحَدِ بَعْدَ الظُّهْرِ، وَالنِّسَاءُ سَيُنَظِّمْنَ نَشَاطَاتِهِنَّ قَرِيبًا أَيْضًا.(/3)
وَالإِدَارَةُ مَشْغُولَةٌ بِتَنْفِيذِ المَشَارِيعِ كَافَّةً، فَهُنَاكَ حَاجَةٌ إلى تَعَلُّمِ العَرَبِيَّةِ مِنْ قِبَلِ البَعْضِ وَالبَعْضُ الآخَرُ إلى الهُولَنْدِيَّةِ.
وفي آخِرِ المَقَالِ يَقُولُ السَّيِّدُ الكرطي: (نُرِيدُ أَنْ نُرِيَ الآخَرِينَ أَنَّنَا في قَلْبِ المُجْتَمَعِ وَنَظْهَرَ بِشَكْلٍ مُتَنَاسِقٍ مَعَ الآخَرِينَ).
وَنُرِيدُ أَنْ نَكُونَ مُنْفَتِحِينَ وَشَفَّافِينَ، هَذَا البِنَاءُ يَجِبُ أَلاَّ يُوَسِّعَ الهُوَّةَ، وَلَكِنْ بِالمُحَافَظَةِ على هُوِيَّتِنَا يُمْكِنُ أَنْ نَبْنِيَ جِسْرًا.(/4)
العنوان: مسرحيّة (البحث عن معتصم)
رقم المقالة: 1625
صاحب المقالة: حضارة الكلمة
-----------------------------------------
أحد عشر مشهدًا مسرحيًّا، ضمَّتها مجموعة "السقوط" للأستاذ محمد علي البدوي، وهو أحد الكتَّاب الذين حملوا همَّ أُمَّتِهم الإسلامية؛ فبرز ذلك في إبداعهم ... ونقرأ في مسرحيّته:
البحث عن معتصم
المنظر: مغارةٌ كبيرةٌ في مدخل كهف مظلم.
المشهد: يدخل قائد القافلة البشرية الصغيرة، والمكونة من مجموعة من النساء والأطفال والشيوخ وسط أصوات متقطِّعة من دويِّ المدافع وطلقات الرصاص وأزيز الطائرات .. يتوقف أمام فُوَّهَة المغارة المظلمة.
القائد (يشير إلى قافلته): هنا .. توقفوا .. سنَبِيت الليلة هنا. (يتجوَّل داخل المغارة) تبدو المغارة خالية تمامًا .. تبدو هكذا.
(فجأة تضاء الإنارة)
المشهد: مجموعة من النساء والأطفال والشيوخ وقد تحلَّقوا داخل المغارة، وأخذوا في البكاء والعَوِيل، وقد ظهر في خلفية المسرح مناظر مروِّعة لمآسي المسلمين، وقد كُتب عليها بلون الدماء: "وا إسلاماه".
القائد (وقد أخذته الدَّهشة): مسلمون؟
(صمتٌ يلفُّ المكان)
القائد (صارخًا فيهم): أجيبوا .. هل أنتم مسلمون؟ ... هل أنتم مسلمون؟
(يخرج إليه شيخ عجوز .. ويقف قُبالة الجمهور)
الشيخ: ومَنِ القوم إلا هم؟!
القائد: ومن أين جئتم؟
الشيخ (وهو يشير إلى مجموعته): من كل بقاع الأرض .. من البوسنة .. وكوسوفا .. والصومال .. وكشمير .. وأفغانستان .. والصين .. والفلبين .. والشيشان .. حتى من بلاد الإسلام.
القائد (وقد أطرق إلى الأرض): إذن .. هي الحروب والمجاعة.
الشيخ (في حدَّة): ليستِ الحُرُوبُ وَحْدَها التي صَنَعَتْ مأساتنا.
القائد: ماذا تعني؟
الشيخ: إخواننا .. خذلونا .. أسلمونا للأعداء .. لاذوا بالصمت وهم يشاهدون مأساتنا، لم يتحرَّكوا من أجلنا.
القائد: و .. ولكنهم يساعدوننا، يقدمون لنا الطعام .. والكساء!(/1)
الشيخ (مقاطِعًا): يُسَمِّنوننا حتى نذبح كالأضاحي.
القائد: لـ .. لـ .. لقد سمعت أنَّهم الآن يجتمعون لنُصرة قضايانا.
الشيخ (في حدَّة): بالكلام .. يجتمعون حول موائد الكلام. اسمعْ .. اسمعْ بربِّكَ ماذا يُصدرون في مؤتمراتهم ومؤامراتهم.
(صمتٌ)
(صوتٌ خارجيٌّ): إنَّنا نُدين ونَشجُب ونَسْتَنْكر وبشدَّة العدوان الصارخ ضدَّ إخواننا المسلمين .. ونطالب الأمن الدُّوَلِي بسرعة التدخُّل من أجل إنقاذهم.
(تصفيقٌ حادٌّ يملأ المسرح).
الشيخ: أسمعتَ؟ لقد تمخَّض الجبل فوَلَد فأرًا .. إنهم يطلبون النُّصرة من أعدائنا، يطلبون لنا الرحمة من جَلاَّدِينا.
القائد: و .. و .. ماذا نريد منهم؟
الشيخ: أليسوا إخواننا في الدِّين والعقيدة؟ أَمَا تداعى النَّصارى لنُصرة إخوانهم في تيمور الشرقيَّة .. وفي جورجيا حتى أقاموا لهم دولة؟
القائد: نعم .. ولكن ..
الشيخ: ولكنه الوَهَن الذي ضرب قلوبهم، حبُّ الدنيا وكراهية الموت. لنا الله .. لنا الله.
(تبدأ مجموعة بالتحرُّك خلف الشيخ الذي يهمُّ بالمغادرة وهم يردِّدون: لنا الله .. لنا الله)
القائد (مستوقفًا الشيخ): إلى أين أيُّها الشيخ؟
الشيخ: لَقَدْ سمعنا أنَّ قائدًا عربيًّا مُسْلمًا اسمه المعتصم أنقذ امرأةً مسلمةً، سنذهب إليه ... ربما أنقذنا.
القائد: آهِ .. لقد مات منذ زمن.
الشيخ: لا بأس .. سنجد معتصمًا آخَر. في رعاية الله يا بني.
(يغادر الشيخ مع مجموعته وهم يردِّدون: لنا الله .. لنا الله. بينما يقف القائد مذهولاً)
القائد (في نفسه): لنا الله .. لنا الله.
(يدخل أحد رجال القافلة مسرعًا)
الرجل (في ذُعْر): سيدي .. سيدي .. الأعدء قادمون .. إنهم يضربون الكهف بطيَّاراتهم، يُلقون بالقنابل المحرَّمة .. يحرقون الأرض الخضراء .. يزرعون الموت في كلِّ مكان .. إنهم قادمون ... قادمون.
القائد: بسرعة، هيا .. اهربوا .. بسرعة.
الرجل: إلى أين يا سيدي؟(/2)
القائد: سنبحث عن معتصمٍ آخَر .. هيا بسرعة .. بسرعة.
(يرتفع صوت الطائرات ودويُّ المدافع والقنابل، تُطفأ الإنارة، تختلط الآهات بالصَّرخات)
تغلق السِّتارة.(/3)
العنوان: مسلمو القرم في دوائر النسيان
رقم المقالة: 495
صاحب المقالة: أحمد أبو زيد
-----------------------------------------
* فقدوا وطنهم بعد قرون عديدة من الازدهار والحضارة، خضعت لهم فيها موسكو وكانت تدفع الجزية مقابل حماية المسلمين لها.
* تحولت الجمهورية المسلمة إلى أطلال بعد أن أباد الروس كل معالم التراث الإسلامي فيها من مساجد ومعاهد وكليات إسلامية.
* حرب الإبادة وعمليات القتل والتشريد والتهجير الإجباري حوَّلتهم إلى أقلية في بلادهم مقابل أكثرية روسية تفوقهم في العدد والثروة.
* هبط عدد التتار المسلمين في القرم من 9 ملايين نسمة عام 1883م إلى 850 ألف عام 1941م بسبب سياسات التهجير والقتل والطرد التي اتبعتها الحكومات الروسية.
* تهجير أكثر من 400 ألف تتري مسلم عام 1944م في قاطرات نقل المواشي إلى أنحاء متفرقة من الاتحاد السوفييتي خاصة سيبيريا وأوزبكستان.
* الجنود الروس أحرقوا المصاحف والكتب الإسلامية، وأعدموا الأئمة والعلماء، وحوَّلوا المساجد إلى دور سنما ومخازن.
* 1200 مسجد في شبه جزيرة القرم عام 1940م لم يبق منها إلا سبعة مساجد فقط.
* * *
شبه جزيرة القرم واحدة من أجمل بقاع العالم التي استوطنها المسلمون التتار لعدة قرون وأقاموا فيها إمارات إسلامية خضعت لها موسكو في يوم من الأيام وكانت تدفع لأميرها الجزية.
وكانت جمهورية تتار القرم من أنشط الجمهوريات الإسلامية في الدفاع عن الإسلام ونشره والتعريف بهديه وتعاليمه السمحة، وبرز من بين تتار القرم علماء أثرَوا الحياة الفكرية والثقافية بمؤلفاتهم القيمة في مختلف المعارف والعلوم، ودوَّن هؤلاء العلماء مؤلفاتهم باللغة العربية وباللغة التتارية المدوَّنة بالحروف العربية.(/1)
وقد تعرض التتار لمؤامرة شرسة أدت إلى احتلال الروس لأراضيهم، كما تعرض جميع سكان الجمهورية المسلمة إلى التهجير الجبري اللاإنساني إلى أكبر صحراء جليدية في العالم وهي صحراء سيبيريا، وبعد أن كانت جمهورية "تتار القرم" من أهم مناطق العمران البشري تحوَّلت إلى أطلال بعد أن أباد الروس كلَّ معالم التراث الإسلامي فيها، من مساجد ومعاهد وكليات إسلامية.. وقد سجل التاريخ المعاصر مأساة تهجيرهم وإبادة تراثهم بحروف من الأسى.
وهي اليوم جمهوريةٌ ذات حكم ذاتي ضمن دولة أوكرانيا؛ حيث تقع جنوب البلاد ويحيط بها البحر الأسود من الجنوب والغرب، في حين يحدها من الشرق بحر أزوف، ومِساحتها 2700 كيلومتر مربع، وسكانها 2,5 مليون نسمة، ويشكل الروس زهاء 50 % منهم، والأوكران 30 %، والباقي من التتار المسلمين الذين يعيشون حياة بائسة فقيرة، ويعانون من نسيان العالم الإسلامي لهم، فلا تضم بلادهم إلا مدرسة واحدة وسبعة مساجد من مجموع 1200 مسجد كانت هناك عام 1940، ثم هدمها الشيوعيون وحوَّلوا معظمها إلى مخازن ودور للسنما.
وفي السنوات الأخيرة تظاهر عشرات الألوف من تتار القرم في "آق مسجد" عاصمة جمهورية القرم التي تتمتع بحكم ذاتي ضمن جمهورية أوكرانيا، إحياءً للذكرى السنوية الستين لتهجيرهم من أوطانهم بأمر من الطاغية جوزيف ستالين عام 1944م، وشارك في المظاهرة العديد ممن عاصروا التهجير، وطالب المتظاهرون باستعادة حقوقهم وتحديد وضع تتار القرم والاعتراف باللغة التترية لغة رسمية.
* المسجد الأبيض:(/2)
وأهم مدن القرم هي العاصمة "سيمفروبل"، وكان اسمها فيما مضى "آق مسجد" أي المسجد الأبيض قبل أن يستولي عليها الروس، وكانت أول عواصمها الإسلامية مدينة "بخشراي"، ومن مدنها المهمة "يالطا" المدينة الساحلية السياحية الجميلة، والتي عُقد فيها مؤتمر يالطا بين قادة الحلفاء في الحرب العالمية الثانية في فبراير عام 1945م: ستالين وروزفلت وتشرشل، كما أن مدينة سيفستوبل هي الميناء الذي كان يأوي إليه أسطول الاتحاد السوفييتي الضخم، والذي أصبح محل نزاع بين روسيا وأوكرانيا.
وكلمة القرم تعني "القلعة " باللغة التتارية؛ وتتمتع القرم بموقع إستراتيجي هام، وفيها الكثير من الثروات الطبيعية، مثل: النفط، والفحم الحجري، والغاز الطبيعي، والنحاس، والحديد، والمنغنيز، والرصاص. والثروة الزراعية مثل: القمح، والفواكه، والمياه المعدنية ذات الخاصية العلاجية التي جعلت منها واحدة من أفضل المشافي في العالم.
* تاريخ التتار المسلمين:
وتاريخ المسلمين في القرم يعود إلى ما بعد غارات التتار على العالم الإسلامي، فبعد هجماتهم الشهيرة على بلاد المسلمين، والتي نتج عنها تدمير عاصمة الخلافة الإسلامية آنذاك مدينة بغداد؛ شرح الله صدور التتار للإسلام، فأشهرت إحدى قبائل التتار إسلامها عام 740 هـ، وكانت تلك القبيلة تعرف بالقبيلة الذهبية التي أسسها "باطوخان" أحد أشهر أحفاد جنكيز خان، وانتشر الإسلام بواسطة هذه القبيلة على طول نهر الفولجا الذي أصبح نهراً إسلامياً من منبعه إلى مصبِّه، كما انتشر الإسلام بواسطة التتار في منطقة جبال الأورال، ونشأت إمارة القبشاق إحدى ممالك المغول الكبرى، والتي سيطرت على أجزاء واسعة من روسيا وسيبيريا، واتخذت من مدينة سراي في الفولغا عاصمة لها.(/3)
وأصبحت شبه جزيرة القرم التي استوطنتها القبائل التتارية كلها إسلامية، وظهر في هذه المنطقة الكثير من المدن والحواضر الإسلامية، وأصبحت أغلب المناطق التي عرفت فيما بعد بالاتحاد السوفييتي خاضعة لحكم التتار المسلمين، واستمر حكمهم لهذه المناطق زهاء ثلاثة قرون، وكانت خلالها موسكو إمارة صغيرة تخضع لحكم أمير قازان المسلم.
وكان أمير موسكو لا يعيَّن إلا بعد استشارة أمير قازان المسلم، وظلت إمارة موسكو تدفع الجزية للإمارات التترية المسلمة حتى عام 918هـ.
وتولى الحكم في إمارة القرم الحاج دولت خيري أو كيراي في عام 1428م، وعندما توفِّيَ خلفه ابنه الثاني في الحكم بمساعدة البولنديين، إلا أن الأخ السادس منجلي قتل أخاه واستولى على حكم الإمارة بمساعدة الجنيزوف، حيث حكم في الفترة 1466/1515م وخضعت الإمارة لحكم العثمانيين في عام 1521م.
* القضاء على الإمارات الإسلامية:
وفي سنة 1552م الموافق 960هـ استطاع قيصر روسيا "إيفان الرهيب" أن يقضي على الإمارات الإسلامية، وأن يسيطر على جزيرة القرم المسلمة، بعد أن أدَّت الخلافات بين الأمراء المسلمين إلى إضعافهم وتمكين عدوِّهم منهم. وتحولت الإمارة الكبرى إلى ثلاث إدارات هي: استراخان، وقازان، والقرم.
وقام بطرس الأول عام 1678م بمحاصرة القرم التي أُسقطت في عهد الإمبراطورة "انا أوانوفنا" عام 1736م، واحتلَّت الجيوش الروسية عاصمة القرم بخشراي، وأحرقت الوثائق التي كانت تعدُّ ذخيرة علمية لا تقدر بثمن، وكانت رمزاً تاريخياً للشعب التتري.
* مذابح رهيبة ضد المسلمين:
بعد أن سيطر الروس على شبه جزيرة القرم قاموا بقتل 350 ألف مسلم تتاري، كما قاموا بنفي نحو 500 ألف مسلم بعيداً عن بلادهم وإحلال الروس مكانهم، ومع زيادة عمليات التهجير الإجباري أصبح مسلمو القرم أقلية في بلادهم مقابل أكثرية روسية تفوقهم في العدد والثروة.(/4)
ولقد مارست الجيوش الروسية المذابح ضد السكان الآمنين إلى درجة أن الجثث لم تجد من يدفنها، وانتشرت الأوبئة التي أودت بحياة القتلة الروس أنفسهم، إلا أن أبشع المذابح وقعت عام 1771م، عندما طبقت الجيوش الروسية المعتدية شعار: (من غير انتظار ولا عودة يجب محو التتار من هذه الأرض)، وقتل في تلك المذابح أكثر من 350 ألف تتري.
ومارست روسيا القيصرية شتى ألوان القهر والتعذيب ضد شعب التتار، وصادرت أراضيهم ومنحتها لمواطنيها، وصادرت مساجدهم ومدارسهم، واضطُرَّ زهاء مليون وعشرين ألفاً منهم أن يفرُّوا إلى تركيا، وقامت روسيا بتهجير الباقي إلى داخل المناطق الخاضعة لها؛ وذلك تطبيقاً لاقتراح الأمير الروسي منشكوف، وعندما فشل الروس في زراعة أراضي القرم التي صادروها من أهلها التتار؛ وذلك لعدم خبرتهم بها أجَّروها مرةً أخرى لهم لكي يزرعوها لهم.
* المسلمون والثورة الشيوعية:
وعندما قامت الثورة البلشفية أذاع الشيوعيون بيانات كثيرة أكدوا فيها أنهم سيعاملون المسلمين في روسيا كافة معاملة الشركاء في الثورة إن هم ساعدوهم في ثورتهم ضد القياصرة الروس، بل وعدوا بتقرير حق المصير للجمهوريات الإسلامية، بمعنى منح الاستقلال عن روسيا لمن يرغب في ذلك، لكن الشيوعيين ما إن تمكنوا من تحقيق مأربهم حتى كشفوا القناع المزيَّف عن وجوههم وأفصحوا عن نيَّاتهم الخبيثة ضد المسلمين في روسيا عموماً ومسلمي القرم خصوصاً، حيث قاموا بمهاجمة جمهورية القرم التي أعلنت استقلالها واعترفت بها بعض الدول وتبادلت معها السفراء، وكان ذلك بناء على الوعود التي منحها البلاشفة لهم خلال الثورة بهدف استمالتهم إلى جانبهم في صراعهم مع القياصرة، واستطاع الروس البلاشفة بسط سيطرتهم على جمهورية القرم المسلمة بالقوة بعد هجمات متتالية في أعوام 1918 و1919 و1920م، وتعاملوا مع مسلمي القرم بمنتهى القسوة، حيث نصبوا لهم المذابح وشرَّدوهم من ديارهم.(/5)
ففي عام 1920م وبعد الثورة الشيوعية في موسكو أعلن تتار القرم عن قيام جمهوريتهم المستقلة برئاسة "نعمان حيجي خان"، إلا أن الشيوعيين سرعان ما أسقطوا الحكومة، وأعدموا رئيس الجمهورية وألقوا بجثته في البحر.
وعندما أراد ستالين إنشاء كيان يهودي في القرم عام 1928م، ثار عليه التتار بقيادة أئمة المساجد والمثقفين فأعدم 3500 منهم، وجميع أعضاء الحكومة المحلية بمن فيهم رئيس الجمهورية ولي إبراهيم، وقام عام 1929م بنفي أكثر من 40 ألف تتري إلى منطقة سفر دلوفسك في سيبيريا، كما أودت مجاعةٌ أصابت القرم عام 1931م بنحو 60 ألف شخص.
* تناقص عدد المسلمين:
هبط عدد التتار من تسعة ملايين نسمة تقريباً عام 1883م إلى نحو 850 ألف نسمة عام 1941م؛ وذلك بسبب سياسات التهجير والقتل والطرد التي اتبعتها الحكومات الروسية سواءً في عهود القياصرة أو خلفائهم البلاشفة، وتكفَّل ستالين بتجنيد زهاء 60 ألف تتري في ذلك العام لمحاربة النازيين، في حين هجَّر النازيون عند استيلائهم على القرم زهاء 85 ألف تتري إلى معسكرات حول برلين؛ وذلك للاستفادة منهم في أعمال السُّخرة.
واتهم ستالين التتار المسلمين بالتعاون مع النازيين الألمان في الحرب العالمية الثانية، فقام في مايو 1944م بتهجير أكثر من 400 ألف تتري في قاطرات نقل المواشي إلى أنحاء متفرِّقة من الاتحاد السوفييتي خاصة سيبيريا وأوزبكستان، وقد قضى نحو 14 ألفاً منهم نحبهم في القُطُر التي استُخدمت لتهجيرهم، كما توفِّي عام 1948 زهاء 45 ألفاً في المخيمات التي وُطِّنوا فيها بسبب المرض والجوع.
وقام الجنود الروس بحرق ما وجدوه من مصاحف وكتب إسلامية، وأعدموا أئمة المساجد، وحوَّلوا المساجد إلى دور سنما ومخازن.(/6)
كما أن مؤلَّفات المسلمين في ما قبل الشيوعية طُمست تقريباً، وما نجا منها صار نادر الوجود جداً، إلا أن إرادة المبدعين التتار استمرَّت فيما بعد القيصر، وفي أوائل عهد لينين استطاع التتار أن يُنتجوا أدباء ومفكرين جدداً، ولحسن الحظِّ فإن الشيوعية لم تقمعهم في بادئ الأمر فعادت الصِّحافة وعاد الأدباء وإن كان ذلك لمدة وجيزة.
ومن أدباء ما بعد القيصر: شهاب الدين مرجاني وهو صاحب اجتهادات كثيرة في الفقه الإسلامي والحضارة والمدنية وعلم الاجتماع، وهو الرائد في إعطاء المرأة حقَّها ومشاركتها في السياسة التي أخذت أولى اهتمامه، وهو أحد المناضلين من أجل دينه وحضارته وأدبه، ومؤلَّفاته التي تدعو إلى الحرية والانفتاح كلُّها مترجمة إلى اللغات الفرنسية والألمانية وغيرها.
* إلغاء جمهورية القرم:
وأصدر مجلس السوفييت الأعلى قرارًا في 20 يونيو 1946م بإلغاء جمهورية القرم ذات الاستقلال الذاتي وإلحاقها بأوكرانيا، وذلك كما ورد في القرار لخيانة شعب القرم لدولة اتحاد الجمهوريات السوفييتية الاشتراكية، وفي عام 1967م ألغى مجلس السوفييت الأعلى قراره السابق باتهام شعب القرم بالخيانة، ولكنه لم يسمح لهم بالعودة إلى وطنهم.(/7)
وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وإعلان غورباتشوف آخر زعيم للاتحاد السوفييتي برنامجه الإصلاحي عام 1985م تحت شعار إعادة البناء بريسترويكا"، بدأ المسلمون التتار رحلة العودة إلى بلادهم في شبه جزيرة القرم التي أصبحت جزءاً من أوكرانيا ولكن بلا أي حقوق. ويقدَّر عدد الذين عادوا منهم بزهاء ثلاث مئة ألف شخص يعيشون في ديارهم عيشة بائسة وسط ظروف مأساوية بالغة الصعوبة، حيث يخيِّم عليهم شبح المجاعة، ومات عشرات الألوف بسبب الجوع، وإضافة إلى الجوع والتشرُّد وعدم وجود مأوى لهولاء العائدين، فهم يعانون من إهمال الحكومة الأوكرانيَّة لهم وعدم منح الجنسية الأوكرانية لأي عائد ليس له منزل، ومن يبني منزلاً دون ترخيص حكومي -الذي يعد الحصول عليه من المستحيلات- يُهدم منزله ويُترك هو بلا مأوى، وهذا قد انعكس على أوضاعهم الصحية والاجتماعية، حيث تفشَّت بينهم الأمراض وخاصة الأطفال، حيث يعد 80% من أطفال القرم مصابين بأمراض فتَّاكة جرَّاء نقص المستشفيات والأدوية، وليس في القرم كلِّها سوى مستوصف واحد. كما يعاني مسلمو القرم من جهل شديد بالدين الإسلامي لدرجة أن غالبيتهم لا يعرفون نطق الشهادتين، وعندما يرغب أحدهم في أداء الصلاة فإنه يخرج ورقة من جيبه وينظر فيها كي يعرفَ ترتيب الحركات في الصلاة، وقد تقلَّص عدد المساجد في جزيرة القرم، حيث كان عددها سنة 1940م 1200 مسجد، ليصل بعد حرب الإبادة والتشريد التي شنَّها الشيوعيون على أهالي القرم إلى سبعة مساجد فقط تعاني التصدُّع والإهمال، كما ليس ثَمَّ إلا مدرسة دينية واحدة فيها عدد من المدرِّسين الأتراك الذين يعلِّمون القرآن الكريم.
* مجلس أعلى لتتار القرم:(/8)
وعندما نالت أوكرانيا استقلالها عن الاتحاد السوفييتي عام 1991م عقد التتار مؤتمرهم الأول في 26 حزيران (يونيو) 1991م في مدينة سيمفروبل؛ حيث أُسِّس المجلس الأعلى لتتار القرم ممثِّلاً للشعب التتري المسلم، وانتُخب المناضل التتاري -الذي كان قد حُكم عليه بالسجن مدَّة 15 عامًا- "مصطفى جميل" رئيسًا للمجلس.
وبدأ مصطفى جميل نضاله من أجل الحصول على حقوق شعبه تحت شعار: لقد عادت إلينا شخصيَّتنا الإسلامية التي لا يمكن أن نفرِّط فيها، إننا مسلمون وسنبقى مسلمين، وسنعمل جاهدين على تعلُّم ديننا.
وفي شهر أيار (مايو) سنة 1999م تظاهر أكثر من 200 ألف مسلم في شوارع العاصمة الأوكرانية (كييف) مطالبين الحكومة الأوكرانية بتعويضات عما قامت به من قتل وهدم وتشريد للمسلمين أيام العهد الشيوعي، وضرورة إصلاح أوضاعهم المعيشية والاقتصادية وتوسيع دائرة عضويَّتهم في البرلمان، واستقبل الرئيس الأوكراني عقب المظاهرة زعماء المسلمين واستمع إلى مطالبهم ووعدهم بإجراء بعض الإصلاحات وتحسين أوضاع المسلمين المعيشية مع العمل على توسيع عضويتهم في البرلمان.
ويقدَّر عدد التتار اليوم في شبه جزيرة القرم بزهاء 262 ألف نسمة، ويعيش أكثرهم في ظروف بالغة الصعوبة والقسوة بلا خدمات ولا إعلام ولا تعليم؛ لأن معظمهم لا يحملون الجنسية الأوكرانية التي تعد أكبر العقبات التي تواجههم؛ حيث تشترط الحكومة الأوكرانية دفع مبلغ قدره مئة دولار للشخص الواحد للحصول على الجنسية، وهو مبلغ كبير إذا كان أفراد العائلة الواحدة ما بين 5 - 10 أفراد.
ومن المشاكل الكبيرة التي يواجهونها مشكلة البطالة التي تصل إلى 49 %، وهم ينظرون إلى إخوانهم المسلمين في العالم نظرةَ أمل وتفاؤل، ويأمُلون في إقامة مشاريع على أرضهم، مثل تشغيل المشافي والمصحَّات، والاستثمار في المجالات الزراعية والصناعية وغيرها.
* المراجع:(/9)
1 - تتار القرم - تقرير لوكالة الأنباء الإسلامية من مدينة سيمفروبل – القرم – 18 ذو الحجة 1420هـ -24 مارس 2000م.
2 - تتار القرم يحيون ذكرى تهجيرهم من وطنهم - مجلة المجتمع – العدد 1603 - 29/5/2004م.
3 - المسلمون في تتارستان - الدكتور ربيع العمري - مجلة التقوى - العدد 130 - رمضان 1424هـ.
4 - مسلمو القرم ركن منسيٌّ من العالم الإسلامي - شبكة محيط على الإنترنت - 26 أغسطس 2000م.
5 - التتار خامس قوة إسلامية في آسيا الوسطى أصبحوا بلا وطن - جريدة العالم الإسلامي – مكة المكرمة - العدد1781- الإثنين 23 ذوالحجة - 24 فبراير 2003م.(/10)
العنوان: مشاجرات أطفالك اليومية (حلول عملية)
رقم المقالة: 461
صاحب المقالة: عائشة أبو السعود
-----------------------------------------
كثير من الأطفال لا يعرفون كيف يتفاوضون ويتفقون، فهم عندما يشعرون بالإحباط أو الغضب قد يلجؤون إلى الخلاف والتشاجر، وقد تكون المشاجرة كلامية وقد تتعدى ذلك إلى المشاجرة باليد، ولكن في - كل الأحوال - هناك أسباب لهذه المشاجرات، فقد يتنازعون على لعبة، أو على أغراض شخصية، أو على مكان ما على المائدة، وهكذا... فالشجار من الممارسات اليومية الطبيعية في العلاقات الأسرية، فليس هناك أطفال رائعون وهادئون طوال الوقت، فأحياناً يتنافس الإخوة ويتنازعون، وأحياناً أخرى يتصادقون ويتحابون.
أسباب التشاجر بين الإخوة:
ويرى الخبراء والمربون أن من أهم أسباب التشاجر بين الأخوة: الغيرة، والشعور بالنقص، والشعور باضطهاد الكبار، وانشغال الأبوين عن الأطفال، كما إنَّ بعض الأطفال من البنين يحاولون السيطرة على البنات، والجانب الإيجابي في تنافس الأطفال أنه يعطيهم الفرصة ليتعلموا كيف يأخذون ويعطون ويتقاسمون الأشياء، وكيف يدافعون عن حقوقهم؛ فهم يتعرَّفون من خلال تلك المناوشات إمكاناتهم، ونقاط الضعف والقوة لديهم، وهم يجرِّبون نشوة الإثارة والانتصار.
ولكن مهما قيل من إيجابيات تلك المشاجرات؛ فإنها تثير أعصاب الأبوين، اللذين يشعران بالعجز عن منعها، وقد يقودهما ذلك إلى الشكِّ في قدرتهما على تربية أبنائهما.
كيف تتصرفين ؟!
في البداية عليك بدراسة حالة الطفل الصحية؛ ففي حالات نادرة قد تكون مشاجرات الأبناء وكثرة خلافاتهم راجعة إلى مرض عضوي أو نفسي، وفي تلك الحالة لابد من استشارة الطبيب؛ فقد يكون سبب سرعة الغضب أو التشاجر اختلالاً في إفرازات الغدَّة الدرقية، أو سوء التغذية أو غيرها من الأسباب.(/1)
وإذا تيقَّنتِ أن أطفالك لا يعانون أي مرض عضوي، فكِّري حينها في كيفية معالجة خلافاتهم اليومية بطرق عملية مجدية؛ فقد تحتاج معالجة بعض المشاجرات إلى التدخل الفوري، وقد تستلزم عدم الاهتمام وكأن شيئاً لم يكن، وهناك معالجات عامة تصلح لأي تشاجر وهناك معالجة خاصة لكل موقف على حدة.
نصائح الخبراء:
ينصحك خبراء التربية وعلم النفس باتباع الآتي:
* إذا كانت الخلافات بينهم شفهية عليك أن تبقي بعيدة محايدة قدر الإمكان، فالطفل بحاجة إلى أن يتعلم كيف يتناقش مع الآخرين إلى أن يتوصل إلى حل مشترك، وتأتي هذه الخبرة من خلال المشاحنات بين الإخوة والقرناء، باستثناء من كانت أعمارهم أقل من عامين أو ثلاثة، ذلك أن الأطفال في هذه السن لايدركون الخطر الكامن في الشجار؛ لذا تجب مراقبتهم عن كثب.
* حاولي أن تمنعي الأطفال من الاستعانة بك لتسوية خلافاتهم، وإذا تدخلت بينهم فكوني محايدة: فلا تحاولي أن تحددي أيهما يقع عليه اللوم ومن المحقُّ، ولا تفرضي عليهما حلاًّ معيناً؛ ودعيهما يجدا الحل بأنفسهما ما أمكن ذلك.
* اتبعي هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في طريقة معالجة الغضب بين الأبناء؛ بأن يبدل الوضع من الوقوف إلى الجلوس، ومن الجلوس إلى الاضطجاع.
* ضعي نفسك مكان ابنك، وتذكري كيف كنت تتصرفين تجاه ذلك الموقف أو غيره عند صغرك؛ حتى نفهم نفسيات أبنائنا.
* قبل أن تحاسبي أبناءك على أي خطأ سلي نفسك أولاً: هل وضعت حدوداً للتشاجر بينهم من قبل؟ هل وضعت قواعد للسلوك ليلتزموا بها؟ هل علَّمت ابنك كيف يحترم الكبير؟ هل علمته أن يخرج من الغرفة عند تبديل أخته ملابسها؟
* علمي أبناءك طريقة إدارة أي موضوع أو خلاف؛ وذلك بتربيتهم على قبول الآخر واحترامه، حتى لو اختلفنا معاً؛ فرأي أخي أو صديقي صواب يحتمل الخطأ، ورأيي خطأ يحتمل الصواب.(/2)
* إذا وصل التشاحن بين الطفلين إلى حد الإزعاج فتدخلي وحاولي التهدئة، وإذا لم تجدي منهما استجابة فاعرفي سبب الشجار؛ فإذا كان نزاعهما على شيء معيَّن فأبعديه عنهما، فإذا تشاجرا-مثلاً- على الجلوس في المقعد الأمامي بالسيارة فضعيهما معاً في المقعد الخلفي، وإذا كان التشاجر على الذهاب إلى مكان معين فاحرميهما معاً من الذهاب.
* إذا وصل الشجار إلى التشابك بالأيدي أو ألحق كل منهما الضرر بالآخر فيجب أن تحبسيهما كل على حدة مدة مؤقتة؛ بصرف النظر عن أيهما بدأ بالاعتداء؛ فقد يكون ما فعله نتيجة لاستفزاز الآخر له؛ لذا يكون الحل المناسب فصل المتشاجرين، كلٌّ في غرفة مع مراعاة عدم مشاهدة التلفاز أو اللعب بالحاسوب؛ لأن هذا يعدُّ لهم مكافأة وليس عقاباً.
* قد يكون عقاب الأخ المعتدي بأن يقوم بترتيب بعض حاجيات المعتدى عليه؛ بأن يرتب سريره أو مكتبه أو ملابسه وهكذا.
* من الممكن أن يجلسا على كرسيين مستقلين، ولا تسمحي لهما بالقيام حتى يتصالحا ويتعلما كيفية إدارة الحوار بينهما.
* إذا تشاجر الأطفال على بعض اللعب التي تخص أحدهما فأعيديها إليه؛ حيث يجب الحفاظ على الأشياء الخاصة بكل طفل واحترام خصوصيته، أما في الألعاب التي تخص العائلة بأسرها كألعاب (الفيديو) أو الحاسوب فلا بد أن يتعلموا اللعب بها بالتناوب وأن يشتركوا باللعب مع من يزورهم من الأصدقاء؛ فالطفل بحاجة إلى تعوُّد المشاركة؛ كي يكتسب بذلك الأصدقاء ويتعايش مع الآخرين.
* إذا كنت في أحد الأسواق أو المطاعم أو غيرها من الأماكن العامة، وبدأ أطفالك في التشاجر فيجب أن توقفيهم في الحال حتى لا يزعجوا الآخرين، أما إذا استمر الشجار فأخرجيهم مؤقتاً من المكان مدة دقيقتين أو ثلاث دقائق، فإن لم يهدؤوا فقد تضطرين إلى مغادرة المكان والعودة بهم إلى المنزل عقاباً لهم بحرمانهم من الخروج.(/3)
* في حالة الرضا بينهم عليك أن تعززي ذلك التصرف وتمدحيه فيهم حتى تقوى روابط المحبة والأخوة بينهم.
* العدل ليس معناه المساواة في كل شيء بقدر ما يعني تلبية احتياجات كل منهم دون ربطها باحتياجات أخيه؛ فمثلاً عندما يحتاج أحدهم إلى حذاء فليس معنى العدل أن تشتري للآخر مثله، ولو احتاج أحدهم إلى طعام فلا يعني هذا أن تعطي أخيه نفس الكمية، ولكن سليه عن احتياجاته: هل أنت جائع؟ هل تحتاج إلى المزيد ؟ حتى لا يتعود النظرَ إلى ما في يد غيره أو يختلف معه على ذلك.(/4)
العنوان: مشروع قانون يمنع القات في اليمن
رقم المقالة: 1871
صاحب المقالة:
-----------------------------------------
مشروع قانون يمنع القات في اليمن
القات سبب انتشار السرطان بين اليمنيين
قال الدكتور نجيب غانم رئيس لجنة الصحة والبيئة في مجلس النواب اليمني، ووزير الصحة السابق: "إن إجمالي ما تَصْرفه الأسرة اليمنية من دخلها الشهري هو واحد في المائة للتعليم مقارنة مع حوالي 12 في المائة للقات، وإن معدل الإصابة بالأمراض النفسية بين المواطنين اليمنيين يعد من أكبر المعدلات في العالم العربي، إذ يتجاوز أكبر المعدلات العربية بعشرات الأضعاف، إضافة إلى أنَّ معدل استهلاك المياه لصالح زراعة القات في الأحواض المائية في القيعان الشحيحة أصلاً بالمياه، يتجاوز 80 % من إجمالي الاستهلاك البشري، وهذا يشكل استنزافًا هائلاً لمياه الشرب، مهددًا التجمعات البشرية السكانية في المدن اليمنية بالظمأ".
وأوضح غانم أن معدلات انتشار الكثير من الأمراض الخطيرة بين المواطنين اليمنيين من أمراض السرطان وغيرها في ازدياد مستمرّ يفوق نسبة الإصابات في الكثير من الدول العربية، معيدًا ذلك إلى بعض العوامل: "أهمها ارتباط عادات اليمنيين بمضغ القات المصاحب دائمًا للمبيدات الحشرية".
وكان مجلس النواب اليمني قرَّر الأسبوع الماضي إحالة مشروع قانون: "معالجة أضرار القات بالتدرّج والتعويض" إلى اللجان المختصة حتى إقامة ندوات بهذا الشأن يحضرها مختصون، وفي نفس الوقت طلب من الحكومة اتخاذ إجراءات لمنع التوسع في زراعته.(/1)
وشهد البرلمان اليمني انقسامًا بين أعضائه تجاه مشروع القانون بين مؤيد ومعارض؛ فقد أكَّد المؤيّدون للقضاء على القات الأضرار الصحيَّة، وعدم ملاءمة القات لظروف المرحلة الجديدة التي تسعى فيها اليمن للانضمام إلى دول مجلس التعاون الخليجي، وقال الدكتور عيدروس النقيب رئيس الكتلة البرلمانية للحزب الاشتراكي: "إن على البلد إزاحة المبرّرات الخليجية المعوقة لضم اليمن للمجلس الخليجي، ومن بينها القات".
أما الرافضون للقانون فبرروا ذلك باعتماد آلاف الأُسَر على عائدات القات، مرجعين الأضرار الصحية الناجمة إلى المبيدات الكيماوية التي تستخدم في الخضراوات كذلك، وليس إلى القات ذاته، مشيرين إلى أن هذه الشجرة لها نفعها في منع انتشار المخدرات في اليمن.
وتحامل أحد البرلمانيين على مشروع القانون معتبرًا أضراره أكثر من أضرار القات، وتوقع خروج مظاهرات عارمة ضده، واعتبر أن إنزال المشروع في هذا الوقت فيه زعزعة للأمن والاستقرار، إلى جوار ضرره على المزارعين.
وكانت لجنة الشؤون الدستورية والقانونية في مجلس النواب اليمني أجازت نظر مجلس النواب في "مشروع قانون معالجة أضرار القات بالتدرج والتعويض"، الذي تقدم به رئيس لجنة الصحة والسكان الدكتور نجيب غانم وزير الصحة الأسبق، وعضو الكتلة البرلمانية لحزب التجمع اليمني للإصلاح، ووقع عليه 68 نائبًا.
ويهدف المشروع إلى توحيد الجهود الرسمية والشعبية للتخفيف من تعاطي القات، وتقديم التعويضات المالية والفنية لمزارعيه الذين يتخلَّصون من زراعته، وتأمين البدائل الاقتصادية والمدخلات الزراعية للأصناف النباتية البديلة، وتقديم الرعاية والعون الاجتماعي للمصابين بالأمراض النفسية والصحية الناتجة من تعاطي القات.(/2)
وفرض مشروع القانون عقوبات على الجهات والهيئات التي تقوم باستيراد القات أو شتلاته أو مدخلاته الزراعية، وذلك بمصادرة الكمية المستوردة وإتلافها مع غرامة تساوي 50 في المائة من إجمالي قيمة الكمية المصادرة، وفي حالة التكرار تضاعف العقوبة، وكذا مصادرة أي كمية من القات تدخل البلاد بصورة غير قانونية، ويعاقب مشروع القانون الأفراد والجهاد المخالفين لنصوصه في ما يخص تعاطي القات في الأماكن الرسمية بعقوبة لا تقل عن 100 ألف ريال، كما يعاقب التاجر الذي يبيع القات بدون رخصة بمصادرة الكمية كاملة وغرامة.
وأعطى مشروع القانون الموظفين المكلفين بتنفيذ أحكامه صفة مأموري الضبط القضائي، كما ألزم موظفي السلطة المحلية التعاون مع الجهات المختصة، كلٌّ في مجاله في سبيل تطبيق القانون.(/3)
العنوان: مشكلات الشعر.. الأسباب والعلاج
رقم المقالة: 733
صاحب المقالة: أحلام علي
-----------------------------------------
اضطرابات الشعر مشكلة تؤرق الجنسين، خاصة بنات حواء، والواقع أن أنواع الاضطرابات متعددة، وتختلف حسب نوعية الشعر، وأسلوب التعامل معه، والظروف البيئية، والعوامل الوراثية، لكن المبالغة في القلق على الشعر قد تؤدي إلى إصابته بالضرر، في حين أن الابتعاد عن العنف والقسوة عند التعامل مع الشعر يساعد على استمراره جميلاً زاهياً وناعماً.
الدكتور حسان شمسي باشا - استشاري أمراض القلب بمستشفى الملك فهد للقوات المسلحة بجدة - أحد المهتمين بهذا المجال ضمن اهتماماته العديدة، يحاول في هذا الحوار وضع حلول تريح حواء من مشكلات الشعر.
أسباب تقصف الشعر:
من أعراض هذه المشكلة: تقصُّف الشعر بسهولة عند نهايته، وعادة ما ينجم هذا الاضطراب عن الإفراط في استعمال الشامبو، أو المبالغة في تمشيط الشعر، أو استعمال مجفف الشعر "السشوار" وقد ينجم أحياناً عن نقص شديد في بعض أنواع المعادن، أو الفيتامينات، أو نقص نشاط الغدة الدرقية.
ويلاحظ أن أغلب حالات تقصف الشعر تحدث نتيجة المعاملة الخاطئة للشعر؛ فشدُّ الشعر المستمر، والضغط عليه باستعمال بكرات الشعر "رولو" أو ترك الشعر ملفوفاً عليها طَوال الليل، أو استعمال بعض المواد الكيماوية لبسط الشعر، أو تصفيفه بشدة، كل ذلك يمكن أن يؤدي إلى تقصف الشعر، وقد يحدث التقصف نتيجة عيب خلقي.
وعموماً يظل السبب الرئيس وراء تقصف الشعر معاملة الشعر السيئة، ثم إن الشعر الجاف أكثر قابلية للتقصف من الشعر الطبيعي.
أسباب جفاف الشعر:(/1)
تحدث ظاهرة جفاف الشعر عادة بسبب الإفراط الشديد في استعمال لفافات الشعر الساخنة، أو كي الشعر، أو نتيجة الإفراط في استعمال صبغة الشعر أو المواد المبيضة، أو سوء التغذية. ويُنصَح المصابون بجفاف الشعر باستخدام الشامبو الخاص بالشعر الجاف، ويمكن خلط قليل من زيت الزيتون مع الشامبو قبل وضعه على الشعر ثم يغسل جيداً.
الشعر الدهني:
يحتاج الشعر الدهني إلى عناية خاصة لمنع حدوث القشرة الدهنية التي قد تؤدي إلى حدوث اضطرابات في فروة الرأس، وينبغي غسل الشعر مرتين، أو مرة على الأقل في كل أسبوع، وليس صحيحاً أن غسل الشعر يؤدي إلى سقوطه، وينبغي أن يرغَّى الشامبو على الشعر مرتين، ويغسل جيداً بعد كل مرة، وينصح البعض بوضع قدر من عصير الليمون على الشعر بعد كل مرة يغسل فيها، ويدلك العصير في الشعر ثم يغسل، ويساعد عصير الليمون على التخلص من بقايا الدهون العالقة.
الشعر.. والعوامل الخارجية:
التركيب الدقيق للشعرة يجعلها عرضة للتأثر بالعوامل الخارجية من أشعة فوق بنفسجية، أو مادة الكلورين التي توضع في أحواض السباحة، أو بعض المواد الكيماوية في صبغات الشعر أو أدوات التجميل أو بعض أنواع الشامبو المنظفة.
وتغطي الخلايا السطحية من الشعرة بعضها البعض لتحمي الجزء الداخلي من الشعرة الذي يدعى "قشر الشعرة " وفي الحالات الطبيعية يغطى ساق الشعرة بمادة مزلقة تدعى الزهم
(Seban) وهي مادة دهنية تفرزها الغدد الدهنية، ويمكن لأشعة الشمس، أو الملح، أو الماء المضاف له الكلورين أن يمتص الرطوبة من ساق الشعرة، مزيلاً المادة الدهنية منها وهو ما يجفف الشعرة ويتلفها.
والأسوأ من ذلك أن ماء أحواض السباحة - في حالات خاصة - يمكن أن يعطي الشعر الأشقر مسحة من اللون الأخضر، ويحدث هذا عندما تحتوي المادة المبيدة للطحالب المستخدمة في الحوض على معدن النحاس، أو حين يتسرب النحاس من أنابيب المياه فيلتصق بالشعر ويعطيه شيئاً من اللون الأخضر.(/2)
بعض الناس يستعملون دهانات خاصة بتسبيل الشعر ونعومته، وهذه النوعية قد تؤدي إلى ضرر في بعض الأحوال، خاصة عند استعمال درجات عالية من الحرارة، وبعض أنواع الدهان تحتوي على مواد كيميائية تغيِّر تركيب الشعر الداخلي، وهذا ما قد يسبب ضعفاً في الشعر، وسهولة تكسره وتقصفه، وقد تؤدي إلى ما يسمى بالحرق الكيميائي للشعر، كما هو الحال عند استعمال مصادر حرارية عالية مثل "السشوار" لفترات طويلة ومتكررة، ويمكن الاستعاضة عن كل ذلك باستخدام الزيوت النباتية بصورة منتظمة، وعمل حمامات بهذه الزيوت على أوقات متباعدة نسبياً ولمدة طويلة مثل زيت النخاع مضافاً إليه زيت حبة البركة، وزيت الزيتون.
الشامبو.. وجفاف الشعر:
كانت أنواع الشامبو في الماضي تقتصر على كونها منظفة للشعر، أما الآن فقد اتسع نطاقها فظهرت أنواع مكيفة للشعر، وأخرى لعلاج أمراض الشعر، وفروة الرأس.
ويحتوي الشامبو أساساً على مادة منظفة، وبعض المواد الدهنية والمواد الأخرى، ويشترط فيه ألا يخربش الجلد والعينين.
والهدف من استخدام الشامبو هو إزالة الدهون وما تحتويه من أوساخ بدون إحداث أي تغيير في الشعر من جفاف أو تهيج أو حساسية مفرطة، والشامبو السائل هو الأكثر شيوعاً من أنواع الشامبو، ويحتوي على ثلاث مكونات الهدف منها عمل الرغوة والتنظيف الأوَّلي، ثم استمرارية الرغوة وزيادة التنظيف، ويزيل القشرة إن كانت موجودة، أما الشامبو الطبي؛ فيحتوي على زنك البيريتون أو السلينيوم أو قطران الفحم، لكن لا يفضل استعمال الشامبو بكثرة؛ فقد يتسبب في جفاف الشعر.
مكيفات الشعر .. هل هي ضارة؟
تحتوي مكيفات الشعر على مواد دهنية مثل زيت اللوز، وزيت الذرة، والزيتون، ومواد شمعية مثل شمع النحل واللانولين، ودهون فسفورية مثل صفار البيض، وفول الصويا، وفيتامينات (E, B , A) والجلاتين، وبروتينات أخرى.(/3)
وتعطي مكيفات الشعر طلاوة ولمعاناً للشعر ،وتجعله سهل التصفيف، وأكثر أنواع المكيفات شيوعاً هي الكريمات والمستحلبات؛ حيث توضع على الشعر لمدة دقائق قبل أن تغسل بالماء، وهناك مكيفات أعمق للشعر تترك على الشعر لمدة تصل إلى 30 دقيقة، وتعد زيوت الشعر مكيفات تقليدية؛ فبعض الرجال يستخدمون البريليانتين أو زيوت الشعر الأخرى لتجعل الشعر براقاً وأملساً.
وتقول دائرة معارف جامعة كاليفورنيا للصحة: "استعمال مكيفات الشعر هو إحدى الوسائل التي تحافظ على سلامة الشعر عند التعرض للعوامل الخارجية"، وعلى الرغم من أن بعض الادعاءات المروجة لمكيفات الشعر ما هي إلا دعاية تجارية، فإن هذه المكيفات تستطيع تغطية الشعر - بصورة مؤقتة - بمادة مزلقة أو مرطبة للشعر تعوض عن المادة الدهنية والطبيعية التي كانت تغطي الشعر، وهناك مواد أخرى في مكيفات الشعر تلتصق بالشعر وتلطف ساق الشعرة وهذا يعيد لها البريق واللمعان، ومن مكيفات الشعر ما هو حمضي خفيف يساعد في تعديل قلوية الشامبو .
لماذا يتساقط الشعر؟
في فروة رأس كل إنسان مائة ألف شعرة تقريباً، ومعظمها في حالة نمو، وتستمر الشعرة في النمو لثلاث سنوات على الأقل، يعقبها فترة استقرار تستمر عدة شهور، ومن ثم تبدأ عملية السقوط التي تستمر عدة أسابيع، ويفقد الإنسان بصورة طبيعية ما بين 60 - 100 شعرة يومياً، فإذا زاد العدد عن ذلك، وجب استشارة الطبيب.
وسقوط الشعر المزمن شائع عند الجنسين، إلا أنه يزداد حدوثاً عند النساء فوق سن الخامسة والعشرين؛ فمن المعروف أن عدد بصيلات الشعر يتناقص بدءاً من العقد الثالث من العمر.(/4)
وهناك أسباب أخرى عديدة لسقوط الشعر، منها سقوط الشعر الناجم عن هرمون الأندروجين، وهو ما يسمى (الصلع من النمط الذكري) وفيه يسقط الشعر في مقدمة الرأس وفي الصدغين، وهناك حالات عابرة تؤدي إلى سقوط الشعر لدى تعرض الإنسان لأنواع من الإجهاد والتوتر المختلفة كالحمى، والعمليات الجراحية، والنزف، أو بعد التعرض للضغوط النفسية، أو بعد 3 - 4 أشهر من الولادة، أو عند التوقف عن استعمال حبوب منع الحمل بعد استعمالها لفترة طويلة، وما لم يتعرض الإنسان لحالات الإجهاد السابقة مرة أخرى؛ فإن الشعر يعاود النمو، ويعود إلى طبيعته ثانية بعد قرابة ستة أشهر، وهناك عدد من الأمراض الغددية التي تؤدي إلى سقوط الشعر: كأمراض الغدة الدرقية، ومرض السكر وغيره.
أسباب قشرة الرأس وعلاجها:
قشرة الشعر تصيب 60 % من الناس في أمريكا وأوروبا، وكثيراً ما تكون القشرة خفيفة ولكنها قد تسبب الإزعاج للملايين من الناس، وهناك اعتقاد خاطئ أن القشرة تنجم عن عدوى، والحقيقة أنها لا تُعدي، وبمعنى آخر فإنك لو استعملت مشط إنسان مصاب بالقشرة لما أصبت بالقشرة من جراء ذلك، وعندما تطرح فروة الرأس ما عليها من جلد متماوت تظهر قشور صغيرة على فروة الرأس عند المصابين بها، وتبلغ القشرة قمة حدوثها في سن العشرين من العمر، وحدوثها في هذا العمر يوحي بوجود تأثير هرموني، والدلائل المتوفرة في الوقت الحاضر توحي أن الفطور لا تلعب دوراً في إحداث قشرة الرأس، ولكنها تتواجد بكثرة في فروة رأس المصاب، ولكن هناك من يعارض هذا الرأي، ويؤكد أهمية الدور الذي تلعبه مضادات الفطور في علاج قشرة الرأس، وما زال الأمر موضع نقاش وجدال بين أطباء الجلد.(/5)
والحقيقة أنه ليس هناك طريقة تمنع تكون قشرة الرأس، ولكن استعمال الشامبو العادي بصورة متكررة يمكِّن من السيطرة عليها، ويساعد الشامبو المضاد للقشرة في السيطرة عليها لعدة أيام أُخَر، وذلك بالتخلص من الطبقات المتماوتة من فروة الرأس، ويُنصح دوماً بتغيير أنواع الشامبو المضاد للقشرة من حين لآخر، أو استعمال الشامبو العادي من وقت إلى آخر.
هل تعلمين؟
* أن عدد جريبات (بصيلات) الشعر في الرجل البالغ يقدر بنحو 5 ملايين، منها مليون شعرة في الرأس.
* كثافة الشعر في الذقن تقدر بـ800 شعرة في كل سنتيمتر مربع واحد، أما على الساقين والفخذ فتقدر بحوالي 50 شعرة في كل سنتيمتر مربع واحد.
* كثافة شعر الرأس تقدر بـ615 شعرة لكل سنتيمتر مربع في سن ما بين العشرين والثلاثين، وتنخفض إلى 485 شعرة لكل سنتيمتر مربع فيما بين الثلاثين والخمسين من العمر، وفي الثمانين والتسعين من العمر تصل إلى 435 شعرة لكل سنتيمتر.
* متوسط نمو شعر الإنسان يبلغ نحو 0,5 ملم يومياً في فروة الرأس، و 0,4 ملم يومياً في الصدر، و 0,27 ملم يومياً في الذقن، أما النساء فيبلغ متوسط نمو شعر الرأس 0,45 ملم يومياً
* الحلاقة لا تؤثر في معدل نمو الشعر، لكن هناك عوامل تؤثر في نموه؛ فالاستروجين يبطئ نمو الشعر في حين هرمون الثيروكسين يزيد من نموه.
* الشعر نوعان: شعر ناعم يغطي معظم الجسم، وينمو بمعد 1,5 ملم بالأسبوع، وشعر خشن ينمو أسرع بمعدل 2,2 ملم بالأسبوع.
* يتساقط شعر رمش العين والإبط بعد 4 أشهر فقط، لكن شعرة الرأس تعمل زُهاء 4 سنوات قبل أن تسقط من فروة الرأس.(/6)
العنوان: مشكلات المذاكرة.. الأسباب والعلاج
رقم المقالة: 913
صاحب المقالة: خاص: الألوكة
-----------------------------------------
ثمة مشكلاتٌ ثلاث تعُوق المذاكرة الصحيحة، وتتسبب في تدني التحصيل والفهم، وهذه المشكلات هي: النسيان، والشرود، والمَلل.
وفي هذه المقالة سنقف عند كل مشكلة من هذه المشكلات الثلاث وقفات تفصيلية؛ موضحين جذورَها وأسبابها، ومبيِّنين - أيضاً - كيفيةَ علاجها؛ فأحوجُ ما يحتاجُ الطلاب إليه اليومَ هو الحديثُ عن مشكلات المذاكرة؛ وأسبابها، وعلاجها، حتى تسير في الطريق الصحيح، وتؤتي ثمرتها المرجوَّة، لاسيما وقد أزفت الاختبارات، وأُعلنت حالةُ الطوارئ في الكثير من البيوت؛ نتيجةَ ارتفاع مؤشرات القلق لدى الكثير من أبنائنا الطلاب والطالبات!!
وأول هذه المشكلات:
أولاً - النسيان:
النسيان هو فقدانٌ طبيعيٌّ، جزئيٌّ أو كليٌّ، مؤقتٌ أو دائمٌ، لما اكتسبناه من ذكريات ومهارات حركية.
والنسيان نوعان:
1. نسيان طبيعي: وهو موضوع حديثنا.
2. نسيان مرضي: ناتج عن صدمة دماغية أو انفعالية.
أسباب النسيان:
1) مرور الزمن: فهناك علاقة بين النسيان والمدة التي تنقضي بعد الحفظ، وتكون درجة الحفظ عالية في الأيام الأولى، ثم لا يلبث ما حُفِظَ أن يَدخُل عالم النسيان.
ولتجنب هذا النسيان ينبغي:
1- استخدام المعلومات المكتسبة باستمرار؛ لأن ذلك يرسِّخها في الذهن، ويجعلها مستعصيةً على النسيان.
2- مراجعة المادة أو الموضوع بعد قراءته مباشرة..
وتدور هذه المراجعة حول ثلاث نواح:
أ) استعراض أهم النقط أو الأفكار الأساسية.
ب) ملاحظة الترتيب المنطقي بين هذه الأفكار.
ج) مراجعة الموضوع بعد الاستيقاظ من النوم، أو قبل البدء بالمذاكرة الجديدة.
3- عمل ملخصات للمادة الدراسية حتى تسهل مراجعتها.
2) ضعف المذاكرة:
تنقسم المذاكرة إلى ثلاثة أنواع:(/1)
1- مذاكرة مناسبة: وهي المذاكرة التي يمكن للطالب بعدها أن يسترجع المادةَ مباشرةَ استرجاعاً صحيحاً.
2- مذاكرة ناقصة: وهي التي لم تستكمل أصولَها، فإذا اختُبِر الطالبُ بعدها مباشرة فقد يعجز عن استرجاعها.
3- مذاكرة كافية: وهي التي تستمر حتى بعد استرجاع المادة، وهذه أبعد غوراً، وأصلب عُوداً، وأقلُّ تأثُّراً بعوامل النسيان.
الأسباب التي تضعف المذاكرة:
1- ضعفُ اليقظة عند المذاكرة.
2- وصل ساعات المذاكرة دون راحة يُعَرِّضُها للنسيان!
3- ضعف رغبة الطالب في المذاكرة.
4- سرعة القراءة.
5- الانتقال من مادة إلى أخرى مشابهة مباشرة.
6- عدم الراحة الكافية عقب المذاكرة.
7- المرض.
8- الضوضاء.
ولتجنب النسيان بسبب ضعف المذاكرة ينبغي:
1. التركيز والانتباه والفهم الجيد، والتمييز بين الأفكار، ومعرفة العلاقات بينها.
2. الراحة عقب المذاكرة، والابتعاد عمَّا يشغل الذهن.
3. عقد النية والعزيمة على المذاكرة؛ فالإنسان يتذكر الأشياء التي يهتم بها.
4. التمهل والتريث في المذاكرة.
5. التنويع في المذاكرة، والانتقال من مادة إلى مادة أخرى غبر مشابهة، كالانتقال مثلاً من الرياضيات إلى التاريخ؛ حتى لا يحدث تداخل بين المواد المشابهة.
6. تجنب المذاكرة في حالة الإرهاق، والاضطرابات النفسية، والجسدية.
7. المذاكرة في مكان هادئ، بعيداً عن الضوضاء والمشكلات.
3) العوامل الشخصية:
وقد يحدث النسيان بسبب عامل شخصي؛ كميل الطالب إلى الكبت، أي: كبت بعض الحوادث المؤلمة في نفسه، فيفضل نسيانها.
وقد يرتبط تعلُّم مادة من المواد بحادث مؤلم للطالب، فيترُك ذلك آثاراً سلبيةً على مذاكرة هذه المادة، وهنا لا بد من توضيح الصورة للطالب، والقضاء على هذا الارتباط، وإفهامه أنه لا بد من تعلم هذه المادة ومذاكرتها، وإلا أثَّر ذلك على دراسته.
تجارب على النسيان:
1- العادات والمهارات الحركية أعصى على النسيان من المعلومات والمحفوظات اللفظية.(/2)
2- الاتجاهات والمبادئ والأفكار أعصى على النسيان من المعلومات.
3- النسيان في النهار أسرع منه عند النوم.
4- هناك علاقة بين النسيان والمدة التي تنقضي بعد الحفظ.
5- حفظ سريعي التعلم أحسن من حفظ ضعيفي التعلم.
6- يتوقف مدى ما يحفظه الفرد على طريقة التعلم.
7- هناك دعائمُ أساسيةٌ تثبِّت المعلومات في الذهن، وهي:
أ - الفهم الجيد للمادة.
ب- مراجعة المادة بعد قراءتها مباشرة، وفي هذه المراجعة:
- تُستَعرَض أهمُّ النُّقطِ والأفكار الرئيسية.
- تلاحَظُ العلاقاتُ والوشائج بين هذه الأفكار.
- تُراجَعُ المادةُ في أحيانٍ متقاربة حتى ترسخ في الذهن.
ج - مناقشة المعلومات مع النفس أو مع الغير مناقشةً علميةً نقديةً.
ثانياً- الشرود:
الشرود هو انتقال التفكير من الموضوع الأساسي الهامِّ الذي يفكر فيه؛ إلى موضوع آخر جانبي أقل أهمية.
فالتفكير عند المذاكرة في المشكلات العائلية والعاطفية والاجتماعية نوع من الشرود.
والتفكير عند المذاكرة في المستقبل واحتمالات النجاح والرسوب نوع من الشرود.
وأحلام اليقظة نوع من الشرود..
ويكثر الشرود في الشهور الأخيرة التي تسبق الامتحانات؛ نظراً للقلق الذي يعتري الطلاب قبيل الامتحانات.
وقد ثبت أن هناك علاقة ارتباطية موجبة بين القلق والشرود؛ فإذا ضَعُفَ القلقُ قلَّ الشرودُ، والعكس بالعكس..
ولكن كيف يتجنب الطلابُ الشرود الذي يضيع وقتهم، وقد يتسبب في رسوبهم؟
لعلاج هذه المشكلة:
لا بد من معرفة أسبابها؛ فينبغي أن نعرف الأسباب أولاً حتى نصل إلى العلاج.
أسباب الشرود:
1- أسباب شخصية:
تتعلق بالشخص نفسه؛ فقد يكره الطالبُ المدرسَ الذي يدرسه مادة معينة! لسبب من الأسباب، وسرعان ما تنتقل هذه الكراهية من المدرس إلى المادة الدراسية نفسها.
ولعلاج هذه الحالة ينبغي أن يفصِلَ الطالبُ بين المادة ومدرسها.(/3)
كما ينبغي أن يبحث عن جذور هذه الكراهية، ويضع في اعتباره أنه لا توجد مادة سيئة ومادة غير سيئة، ويواجه هذه الكراهية بشجاعة.
وقد يكون سبب الشرود انشغالُ الطالب - خاصة في مراحل المراهقة - بأمور أخرى، كالتفكير في الجنس الآخر مثلاً.
علاج هذه الحالة:
ينبغي لعلاج هذه الحالة ما يلي:
- اختيار المواد الدراسية التي تساعد في التركيز وترك الشرود.
- القراءة بصوت مرتفع.
- الجِدُّ والاجتهاد.
2- أسباب عائلية:
وقد يحدث الشرود نتيجة المشكلات العائلية، فتكون النتيجةُ فشلَ الطالب.
ولعلاج هذه الحالة:
ينبغي أن يدرك الوالدان ما عليهما من مسؤولية تجاه ابنهم أو ابنتهم، ولْيعلما أن عليهما عبئاً كبيراً في توفير جو أسري هادئ خال من المشكلات؛ من أجل الأبناء.
3- أسباب موضوعية:
فقد تكون أسباب الشرود موضوعية؛ تتصل بطبيعة المادة، أو طريقة مذاكرتها.
فكثيراً ما يحدث الشرود عند مذاكرة المواد الصعبة، ويتلاشى عند مذاكرة المواد السهلة.
علاج هذه الحالة:
لعلاج هذه الحالة ينبغي أن يبدأ الطالب مذاكرة المادة الصعبة بعد راحة كافية، تمنحه قدراً من الصفاء الذهني، ويُفَضَّلُ أن تكون مذاكرتُها فجراً، بعد الاستيقاظ من النوم مباشرة.
وقد يحدثُ الشرودُ بسبب طريقة المذاكرة الخاطئة؛ كأن يذاكر مادة تحتاج إلى الفهم بصوت مرتفع!!
والعلاج هو أن يتبع الطالبُ طريقةً مناسبةً في مذاكرة كل مادة على حسب طبيعتها.
التخلص من الشرود:
إن الشرود من المشكلات التي يسهل علاجها والتخلص منها؛ شريطة أن يتبع المتعلمُ التوجيهاتِ والإرشاداتِ التي تساعده في التخلص من الشرود.
لا بد أن يصاحب المذاكرةَ نشاطٌ ما تقوم به؛ كوضع خطوط تحت الأفكار الرئيسة، أو تلخيص بعض الأفكار بلغتك الخاصة، أو كتابة القانون أو القاعدة التي يراد حفظها مرة أو مرتين، أو تدوين بعض الملاحظات في الهوامش..
ثالثاً- الملل:(/4)
ينتج الملل عن العمل التكراري الرتيب، الذي يسير على نمط واحد لا تغير فيه.
ويعود الملل إلى عدة أسباب لعل من أبرزها:
- ضعف الدافع إلى المذاكرة.
- غموض الهدف من المذاكرة.
- أساليب المذاكرة الخاطئة؛ كالقراءة بدون فهم، أو في حالة الاضطرابات النفسية الحادة.
- فقدان الثقة بالنفس، وبالقدرة على الفهم.
علاج مشكلة الملل:
من أجل القضاء على الأسباب السابقة؛ يجب:
1. تحديد الأهداف من المذاكرة وتنظيمها.
2. الصبر والمثابرة.
3. التنويع في المذاكرة؛ لتنشيط الذهن، ومقاومة الملل.
4. عدم مذاكرة مادتين صعبتين في وقت واحد.
5. الراحة بعد كل وقت مذاكرة.
6. تغيير مكان المذاكرة بين وقت وآخر.
7. مراجعة الدروس مع الزملاء.
8. الترفيه عن النفس، مدة محدودة.
المراجع:
1- الذاكرة والنسيان، أحمد عطية الله.
2- كيف تستذكر دروسك، زين محمد شحاته.(/5)
العنوان: مشكلة الضعف اللغوي
رقم المقالة: 1879
صاحب المقالة: د. محمد حماسة عبداللطيف
-----------------------------------------
تَكْثُر - منذ فترة ليست بالقليلة - الشكوى من ضَعْف مستوى اللُّغة العربية الفُصحَى، ويُبْدِي الغَيُورون على اللغة قَلَقًا على حاضرها المُتمثِّل في استخدامها والإبداع بها، وعلى ماضيها المتمثل في تُراث أمتها.
ونستطيع القول بأنَّ لدينا أزمةً في لُغتنا عندما نجد اللغة تتعثَّر بها أقلام الكتابة، وألْسِنة المتعلمين والمعَلِّمِين جميعًا، وعندما لا نستطيع أن نقرأ تُراثَها قراءةَ تَبَصُّر وفَهْمٍ، ولا نَقدر على تَمَثُّلِهِ واستيعابه والإفادةِ منه، وعندما يَضْعُف خيال الناطِقِينَ بها؛ فلا يُجِيدون في فَنِّها، وتَخْتَنِقُ اللغةُ في أيديهم وعلى شِفاهِهِم، وتبدو اللغةُ كما لو كانتْ عاجزةً عنِ الوفاء بمطالب الحياة والفَنِّ معًا، وعندما يَهْرُب كثيرٌ من أبنائها إلى لُغات أخرى، يَلُوكُونَها ويَجِدُون فيها بديلاً عنِ اللغة الأمِّ التي يَفْخَرون بعدم إجادتها، ويعتزُّون في الوقت نفسه بإجادتهم لغيرها!
وقد تتعدد أسباب المُشكلة وتتنوَّع:
فنجد منا مَنْ يُلْقِي تَبِعَةَ ذلك كلِّه على الاستعمار، ودعوته الدائبةِ الخبيثةِ لإماتَةِ هذه اللغة.
وقد نَجِد فينا من يَرْجِعُ السببَ في ذلك إلى هَوان اللغة على أصحابها، وعدم رعايتهم لها، وعنايتهم بها، وفِقْدَانِ جِدِّيَّتِهِم في العمل على إحيائها.
وبَيْنَنا مَنْ يَتَّهِم وسائلَ الإعلام والترفِيهِ، التي دَأَبَتْ على تصوير القائم بتدريس العربية في صورة مُزْرِيةٍ؛ بقصد الإضحاك، تُنفِّرُ الناس منه، وتَحْمِلُ النَّشْء على الهروب من ملاقاة مثل مصيره!
وفينا مَن يعزو ذلك إلى تكدُّس التلاميذِ في فصول المدارس، ومدرَّجات الجامعات، وعَدَمِ وُجُودِ البيئة المُلائمة، والمُناخ المناسب، ويجعل من ذلك سببًا لضعف اللغة العربية.(/1)
وقد يكون فينا من يجعل من تبدُّل القِيَمِ في عصرنا ومجتمَعِنا وتغيُّرِ الاهتمام دوافعَ لإهمال اللغة العربية؛ بدعوى عدم استعدادها لمُسايرة العصر وتوفير المستوى الملائم لمن ينهض لها، ويهتم بأمرها.
وقد يذهب بعض الباحثين إلى أن اتساع الهُوَّة بين مستوى العاميَّة الذي يتخاطب به الناس في حياتهم، وشؤون معيشتهم، والمستوى الفصيح الذي يُطْلَبُ منهم، ويُرادون عليه في التعلُّم، وبُعد الفَجْوَة في ذلك، وهو ما يُعْرَف بالازدواجِ اللُّغَوِيِّ، هو ما يمكن أن يكون سببَ هذا الداء، لأن هذا الازدواجَ اللغويَّ يُؤدِّي إلى النُّفْرَة في المستوى اللغوي الذي لا يُسْتخدم في أمور الحياة، ويَدْفَع إلى الإحساس عند كثيرينَ بعدم إلحاح الحاجة إليه، مما يؤثِّر بدَوْره على تعلم العربية وإجادتها في مراحل التعليم المختلفة.
قد تكون هذه هي الأسبابَ، وقد يكون بعضُها، وقد تكون هي وغيرُها مِمَّا لم يُذكر معًا، وقد يكون غيرها دونها، وقد نختلف في أسباب هذه المشكلة أو نتَّفق...
ولكنَّ الأمر الذي أظنُّ أنَّنا لن نختلف فيه كثيرًا هو أنَّ هناك مشكلةً حقيقيةً، وأَزْمَةً ضاغِطةً نُعاني منها، ونُحِسُّ بها في جميع المظاهر اللُّغَوِيَّة، وتَزْدَادُ يومًا بعد يوم.(/2)
العنوان: مشكلة مغالاة المهور ومنع الأولياء
رقم المقالة: 755
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحمد لله الواحد الأحد القيوم الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤاً أحد خلق فسوى وقدر فهدى وجعل من الإنسان زوجين ذكراً وأنثى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العلي الأعلى، وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله المصطفى وخليله المجتبى صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه النجباء وعلى التابعين لهم بإحسان ما دامت الأرض والسماء وسلم تسليماً.(/1)
أما بعد، فإن في مجتمعنا مشكلة من أهم المشاكل كل من سمعناه يشكو منها عند ذكرها ويود بكل قلبه أن يسلك الناس طريقاً إلى حلها، ألا وهي مشكلة الزواج، فإنها مشكلة من وجهين الأول من جهة المغالاة في المهور والتزايد فيها وجعلها محلاً للمفاخرة حتى بلغت إلى الحال التي هي عليها الآن. ولقد صار بعض الناس الآن يزيد في تطويرها ويدخل في المهر أشياء جديدة تزيد الأمر كلفة وصعوبة حتى أصبح المهر في الوقت الحاضر مما يتعسر أو يتعذر على كثير من الناس، فتجد الكثير يتعب تعباً كبيراً في أول حياته وعنفوان شبابه ولا يكاد يدرك ما يحصل به المرأة التي تحصنه، كل هذا بسبب هذا التصاعد الذي لا داعي له في المهور، وهذا مما يعوق عن النكاح الذي أمر الله به ورسوله وهو خلاف المشروع، فإن المشروع في المهور تخفيفها قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أعظم النكاح بركة أيسره مؤونة))((وتزوجت امرأة بنعلين فأجاز النبي - صلى الله عليه وسلم - نكاحها))، ((وقال لرجل: " التمس ولو خاتماً من حديد " فالتمس فلم يجد شيئاً فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " هل معك شيء من القرآن؟ قال: نعم سورة كذا وكذا فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: زوجتكما أو قال ملكتكها بما معك من القرآن))، ((وقال له رجل: يا رسول الله إني تزوجت امرأة على أربع أواق يعني مئة وستين درهماً فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: على أربع أواق! كأنما تنحتون الفضة من عرض هذا الجبل، ما عندنا ما نعطيك ولكن عسى أن نبعثك في بعث تصيب منه،)) وقال أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه -: لا تغلوا صدق النساء فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى في الآخرة كان أولاكم بها النبي - صلى الله عليه وسلم - رواه الخمسة وصححه الترمذي.(/2)
فيا أيها القادر، لا تغال في المهر ولا تفاخر في الزيادة فيه فإن في مجتمعك من إخوانك من لا يستطيع مباراتك، فالأولى أن تأخذ بالأيسر اتباعاً للمشروع وتحرياً لبركة النكاح ورأفة بإخوانك الذين يعجزون عما تقدر عليه، وإذا دخلت على أهلك ورغبت فأعطهم ما تشاء. ولو أننا نسلك طريقة لتسهيل الأمر وتخفيف حدة المغالاة بتأجيل بعض المهر، بأن تقدم من المهر ما دعت الحاجة إليه في النكاح ونؤجل الباقي في ذمة الزوج لكان هذا جائزاً وحسناً وفي ذلك تسهيل على الزوج ومصلحة للزوجة، فإن ذلك أدعى لبقائها معه لأنه لو طلقها لحل المهر المؤجل إذا لم يكن له أجل معين. فانظروا - رحمكم الله - هذه المشكلة بعين الاعتبار ولا تجعلوا المهور محلاً للمفاخرة والمباهاة ويسروا ييسر الله عليكم.(/3)
أما الوجه الثاني من هذه المشكلة فهي امتناع الأولياء من قبول الخطاب، فإن بعض الأولياء يمتنع من تزويج من له عليها ولاية، وهذا لا يجوز إذا كان الخاطب كفؤاً ورضيته المخطوبة لقوله تعالى في المطلقات إذا أراد زوجها نكاحها بعد تمام العدة {فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد عريض، قالوا: يا رسول الله وإن كان فيه، قال: إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه)) ثلاث مرات. هذا وفي منع المرأة من تزويجها بكفئها ثلاث جنايات، جناية الولي على نفسه بمعصية الله ورسوله، وجناية على المرأة حيث منعها من كفئها الذي رضيته، وجناية على الخاطب حيث منعه من حق أمر الشارع بإعطائه إياه. وإذا امتنع الولي من تزويج موليته بكفء رضيته سقطت ولايته وصارت الولاية لمن بعده الأحق فالأحق كما قال أهل العلم - رحمهم الله -، وقالوا إذا تكرر منه هذا صار فاسقاً ناقص الإيمان والدين، حتى قال كثير من أهل العلم لا تقبل شهادته ولا تصح إمامته ولا ولايته ولا جميع أفعاله وتصرفاته التي يشترط لها العدالة. فاتقوا الله أيها الناس واتقوا الله أيها الأولياء وزوجوا من ترضون دينه وخلقه ولا تمنعوا النساء، فإن في ذلك تعطيلا للرجال والنساء وتفويتاً لمصالح النكاح وانتشارا للمفاسد، إذا لم يتزوج أبناؤنا ببناتنا فبمن يتزوجون؟ وإذا لم نزوج بناتنا بأبنائنا فبمن نزوجهن؟ أترضون أن يتزوج أبناؤنا بنساء أجنبيات بعيدات عن بيئتنا وعاداتنا ولهجاتنا، فتتغير البيئة والعادة واللهجة بجلبهن، وربما حصل منهن إتعاب للزوج بكثرة طلبهن السفر إلى بلادهن أو غير ذلك. أترضون أن تبقى بناتنا بدون أزواج يحصنون فروجهن وينجبن منهن الأولاد الذين بهم قرة أعينهن. إنه لا بد من أن يتزوج أبناؤنا ببناتنا، ولكن(/4)
علينا أن نتعاون لتسهيل الطرق أمامهم مخلصين لله قاصدين بذلك تحصيل ما أمر الله به ورسوله، فإن الخير كل الخير في طاعة الله ورسوله، ولقد منع رجال تزويج من لهن عليهن ولاية لينالوا حطاماً من الدنيا فباءوا بالخسران والندامة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [النور:32].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم... إلخ.(/5)
العنوان: مشكلة وقت الفراغ
رقم المقالة: 1955
صاحب المقالة: زهير الكرمي
-----------------------------------------
مشكلة وقت الفراغ
منذُ أن بدأ الإنسان حياتَهُ على هذه الأرض صيَّادًا، يَصْرِف طولَ نهاره، وبعضًا من ليلِه عاملاً في نَصَبٍ وشقاء؛ لِيوفِّرَ الغِذاءَ لنفْسِه ولأُسْرَتِه، وهو يَحلُمُ بِتَوْفِير ما يَحتاجُ ويَشْتَهِي بأقلِّ جُهدٍ يَبْذُله أوْ بِدُونِ جُهدٍ مِنْهُ، ولم يتغيَّرْ حُلْمُ الإِنسان عندما تحوَّل الإنسان إلى مُزارع، وظلَّ الحُلم يراود الإنسان بإلحاح عندما مَرَّ الإنسان عَبْر تاريخِهِ الطويلِ بحضاراته المختلفة.
وصحيحٌ أنَّ بعضًا منَ الناس حصلوا في حياتهم على ما يحتاجون دون جُهد كبير، إلا أنَّ هؤلاء كانوا قِلَّة، وبقيتْ غالبيةُ الناس تشكو التَّعب إلى حدِّ الإرهاق، والبُؤْسَ إلى حَدِّ التعاسة، والقلقَ والخَوْفَ إلى حدِّ فِقْدَانِ الكرامة، والفَقْرَ والجوعَ إلى حدِّ التَّنازُل عنِ الإنسانية، وحتَّى الفئةُ القليلة التي حصلتْ على ما تحتاج بسهولةٍ ويُسْرٍ شعرتْ دومًا بأنَّ ما أُتِيح لها ليس كلَّ ما تَشْتَهِي، وظلَّتْ تُعانِي من إحساسٍ بِفِقْدان شيء غامضٍ أُسْمِيَ السعادةَ، ويَنْجُمُ الغموض عنِ اختلاف الناس اختلافًا كبيرًا في تحديد مفهوم السعادة.
ولمَّا كان المفهوم يتأثَّر كثيرًا بما يَفْتَقِدُهُ الفرد في حياته، ونظرًا لاختلاف ما يَفْتَقِدُهُ الناس كثيرًا؛ بسبب اختلافهم أنفُسِهِمْ؛ لا بل إن الفرد نفسَه يَختلِفُ مفهومُهُ عنِ السعادة في فترات متعددة من حياته، كان هذا التضارب في تحديد مفهوم السعادة.
وفوق ذلك: فإنَّ غالبية بَنِي البَشَر كانوا يفتقدون الكثير مما يحتاجون ويشتهون، وبذا كان مفهوم السعادة عندهم أكثرَ غموضًا، وأصعبَ تحديدًا.(/1)
ولا شكَّ أنَّه من غير المنطقي أن يعيش الإنسان - خليفةُ الله في الأرض وسيِّدُها - عُمرَهُ المحدودَ في شقاء وتعاسة ومَرَارَةٍ، حتَّى إنَّ الموت كان - وما زال - بالنسبة للكثيرين الحلَّ الأمثلَ للراحة مما يعانون.
ولَمَّا كانت حاجاتُ الإنسان المادّيَّةُ أسْهَلَ تحديدًا من حاجات الإنسان النفسيةِ والروحيةِ، انصرفتْ جُهود الإنسان أوَّلَ ما انصرفتْ إلَى مُحاولة توفيرها وجمعها وخزنها.
وكانتْ أنانِيَةُ الإنسان سَبَبًا في تصارُع الأفراد والجماعات الإنسانيَّة؛ في سبيل توفير هذه الحاجات، وضمانِ المزيد منها، وكان طبيعيًّا أن تَزيد هذه الصراعاتُ في أَسَى الإنسان، وبُؤْسِهِ، وشقائه، وتعاسته.
وحتَّى في أغْنَى المُجتمعات كان هناك دومًا فريقٌ كبير من البائسين والفقراء، الذين عاشوا ويعيشون حياتَهم في ضَنْك وبُؤْس، وماتوا ويموتون، وكثيرٌ منِ احتياجاتِهم مُجرَّد أحلام لم تتحقَّق.
وكما ذكرنا في البداية يعود جزء من هذه التعاسة إلى اختلاف الناس فيما بينهم في القُدُرات والإمكانات، وعدم تساويهم، غير أنَّ جزءًا آخر من هذه التعاسة يرجع إلى ظلم الناس بعضهم بعضًا، واستغلالهم لمن يستطيعون استغلاله.
ولا بد من الإشارة إلى أن الحيوان يَصْرِفُ معظم وقته وجُهده في سبيل توفير الغذاء لنفسه ولصغاره، ولذا فإن منَ الظلم أن يُفرَضَ على فريق منَ الناس ألا يرتفعوا عن مستوى الحيوان هذا، ففي ذلك حطٌّ من قَدْر الإنسان، وإحباط لإنسانيته؛ لأن معظم وقته يجب أن يُخَصَّصَ لاهتماماتٍ متعلِّقَةٍ بفِكره ووِجْدَانِهِ وزيادةِ فَهْمِهِ لبيئته ونفسِه وبَنِي جِنْسِهِ ومستقبَلِهِ على هذه الكرة الأرضية.(/2)
وفي غَمْرَةِ هذا الشعور بالألم والبُؤْس وكذلك الإحساس بعَجْزِهِ تُجاه تحقيق أحلامه بعَيْشٍ أسهلَ وأفضل -: اضطُرَّ الإنسان قديمًا إلى أن يحلُم بمساعدة قُوى خارقةٍ تَخَيَّلَها، وصار يعتقد بها فكانتِ الجِنّيَّات الخَيِّرات، وكان خاتَم سليمان، ومصباح علاء الدين إلى آخِرِ ما ابتَدَعَتْ مُخَيِّلَةُ الإنسان من هذه القوى الخارقة، ولعلَّ دراسةً موضوعيَّة لهذه القصص والروايات من هذه الزاوية، يمكن أن تُلقِيَ أضواءً على ما كان الإنسان يشتهي، وما كان يَستَشْعِرُ نَقْصَهُ، ويمكن أن تَزيد وعْيَنَا لمفهوم السعادة عنده.(/3)
كما أنَّ الأُدَباءَ والشُّعراءَ لم يقصروا بدرجاتٍ مُتفاوِتَةٍ في معالجةِ مَوضوعِ بُؤسِ الإنسان وشقائِه، وراح عدد كبير منهم ينادي بإسعاد الناس والعدل في معاملتهم، وتبلْوَرَتْ هذه الدَّعْوَى في الدَّساتير الوضعيَّة، وإن بَقِيَ مُعْظَمُها نُصوصًا بغير رُوح، وأقوالاً بدون تطبيق، ولعلَّ الصُّعوبةَ في التطبيق والتنفيذ نابعة من أن عدم تساوي الناس أصلاً في القدرات والإمكانات خَلَقَ صعوبةً هائلةً في إيجاد مِعيار مُقَنَّنٍ لِلعدالة بَيْنَ النَّاس، فاستغلَّ المُتَسَلِّطُون ذلك لِوَضْعِ معايِيرَ خاصَّة لكل مجتمع؛ بل ولكل مناسبة وزمن، وحتَّى عندما اصطلح الناس في إعلان حقوق الإنسان على العدالة في تكافؤ الفُرَص، والعدالة في توزيع الحقوق والواجبات، لم يتقدَّم أحد بإيضاحِ كيف يمكن تنفيذُ ذلك بعدالةٍ ودِقَّة، فأُسلوبُ التنفيذِ الوحيدُ المتاحُ في عدالة تكافؤ الفُرَص مَثَلاً هو التساوي في إعطاء كلٍّ فُرصَةً مساوِيَةً لفُرصة الآخَرِ؛ ولكن في ضوء ما نعرفه عن اختلاف الناس قدراتٍ وإمكاناتٍ، هل يُمكن أن نقول مخلصينَ: إنَّ في هذا عدالةً مطلقةً؟ ثم لو حاولنا التنفيذ فعلاً متجاهلينَ اختلاف الناس عقلاً وقدراتٍ، فمَن يستطيع الجزم بأن إعطاء الأطفال أو الطلاب فرصًا متساوية ممكن؟! وإذا كان ممكنًا ظاهريًّا في المدرسة مثلاً، أفلا يُؤَثِّر البيتُ وإمكاناته في إعطاء بعض الأطفال امتيازاتٍ لا تُتاح لغيرهم؛ بمعنى أنَّ الطفل ذا العائلة الغنية والمستنيرة يَنْعَمُ بميزات لا يجد مثلَها الطفلُ ذو العائلة الفقيرة والجاهلة، وفي ذلك إخلال بتكافؤ الفُرَص، لا سلطان لأحد عليه.(/4)
وواضح أن المسألة مُعقَّدة أكثرَ بكثير مما يتصوَّر الإنسان للوهلة الأولى، وقدِ اصطدم كثير من الأدباء بهذه المعضلة، ولما لم يجدوا لها حلاًّ - فيما نعرف من مجتمعات - ولما رأوا أن البؤس الإنساني متأصل في هذه المجتمعات، راح فريق منهم يتخيل مجتمعًا مثاليًّا حَسَبَ تصوُّرِهِم في بُقعة مجهولة، أوِ افتراضية، ورسموا صورة خيالية لمقوِّمات هذا المجتمع المثالي في مدينته الفاضلة.
ولسنا بسبيل مناقشة تصورات هؤلاء الأدباء للمجتمع المثالي؛ إذ إن كتاباتهم ليست سوى نقد معكوس لمجتمعاتهم الحقيقية؛ ولكن قد يكون مفيدًا أن نورد باختصار وصفًا لمجتمع حقيقي يكاد يشبه ما ذهب إليه أولئك الأدباء في خيالهم، ونرى إن كان مثل هذا المجتمع قابلاً للتعميم.(/5)
فقد نشر الصحفي المعروف نويل باربر في ثلاث مقالات في صحيفة الديلي ميل في أعداد الخامس والسادس والثامن من يونية (حزيران) عام 1962م تقريرًا صحفيًّا عن زيارته لمملكة هونزا، التي يصفها بأنَّها جنَّة الدَّعَةِ على الأرض، وقد أورد في هذا التقرير أن عدد سكان مملكة هونزا يبلغ 18.000 نسمة، يعيشون في وادٍ خصيب مَنيع يصعب الوصول إليه، ويقع بالقرب من حدود سنكيانج في جبال الهيمالايا على ارتفاع 8000 قدم عن سطح البحر، ويتناقل سكان مملكة هونزا أنَّ أصلهم، نظرًا لبياض بشرتهم من نسل ثلاثة جنود فَرُّوا من جيش الإسكندر مع زوجاتهم الفارسيات، وهم يعيشون في سلام منذ أن بدأ مجتمَعُهم في التكوُّن، إذ لم يدخلوا حربًا منذ ألفي عام، ولعلَّ فِرار أجدادهم من جيش الإسكندر ونَبْذَهُم الحربَ له دَخْلٌ في حُبِّهِم للسلام، وهؤلاء يختلفون عن بقية المجتمعات في أنه: ليس لديهم نقود، ولا تجارة، ولا تحدث عندهم جرائمُ من أيِّ نَوْع، ولا يصابون بأي مرض وبائي، وقلَّما يموت الواحد منهم قبل أن يبلغ التسعين من عمره، وتكون مِيتَتُهُ طبيعيَّة في الغالب، ولديهم توازُنٌ نفسيّ وجسميّ ممتاز، وتلد نساؤهم بدون ألم، ولا يعرفون ألم الأسنان، وعدد السكان هناك ثابت بدون اللجوء إلى وسائط منع الحمل أوِ الإجهاض، وبذلك لا يستشعرون نقصًا في الغذاء، ويتمتعون بوَقارٍ مهيب، فلا يتجادلون ولا يتنازعون ولا يغضبون، وليس لديهم أيُّ نوع منَ الفنون، ولا أيُّ نوْعٍ منَ العلم، ويتتبعون التقاليد بدِقَّة:
وقد يرى بعضُ الناس في هذا المجتمع المَثَلَ الذي يجب أن يُحْتَذَى، والحلَّ لمشكلات الإنسان وبخاصة الإنسان المظلوم المغلوب على أمره.(/6)
ولكنَّ هذا المجتمع - في حقيقة الأمر - ليس إلا هروبًا من الواقع، ولعلَّه استمرار لفِرار مُؤَسِّسِيهِ من جيش الإسكندر، ومنَ الصعب أن نتصوَّر المجتمعاتِ الإنسانيةَ مغلقةً على نفسها بهذا الشكل، دون صلة أوِ اتِّصالٍ ببعضها بعضًا، وبخاصَّةٍ في هذا العصر الذي تقلَّصَتْ فيه المسافات "وصَغُر" حَجْمُ العالم إلى حدٍّ كبير بِفَضْل سرعة الاتّصالات وتطوّرها؛ إذ لم تَعُدْ هناك بلادٌ مجهولةٌ أو بعيدةٌ يسمع عنها، ويُنْسَجُ حولها القَصَصُ والأساطير، وفوق كل هذا، فإن مثل هذا المجتمع يُفْقِدُ الإنسان جزءًا كبيرًا من إنسانيَّته، وهو الجزء المتمثل بعقله الموقَدِ الباحث دومًا عن المعرفة، والساعي للسيطرة على بيئته ومُقَدَّراتِهِ، ثم كيف يمكن أن نتصور المجتمعاتِ الإنسانيةَ وقد نَضَبَ مَعِينُ الفنون منها ونُسِيَ العلم؟ بل كيف يُمكِنُ لِلإنْسَانِ اليَوْمَ أن يَتَنَازَلَ عن مكاسبه التي حقَّقها بِفَضْلِ العِلْم والتّكنولوجيا، ويعود للعيش عِيشَةً هي أقرب إلى مَعِيشَةِ البهائم والأنعام؟
ونستغرب كثيرًا كيف يرضَى ذَوُو القُدُرات العالية في هذا المجتمع بالعيش بشكل متشابه مع ذَوِي القُدرات القليلة، وكيف تَمَكَّنَ الناس هناك منَ التخلِّي عنِ الطُّموح الإنسانيِّ، وتَحَدِّي المجهول والرغبة في استكشافه.
ولعلَّه مظهرٌ آخَرُ من مظاهر تناقُض الإنسان أن يحلُم بالمجتمع الفاضل الأمثل؛ حتى إذا ما اقترب من تحقيق هذا الحلم وجده سرابًا، لا جدوى من ورائه.
على أن ذلك لا يعني أن البديل هو الإبقاء على الإنسان، أو معظم بني البشر في شقاء، وشَظَفِ عَيْشٍ، وإحساس بالإحباط، والألم والظلم.(/7)
ورغم ما صاحب الثَّورةَ الصناعيَّةَ من مآسٍ إنسانيَّة على صعيد الفرد، وعلى صعيد قطاعاتٍ كبيرةٍ مِنَ المُجْتَمَع، إلا أنَّه لا يَخْتَلِفُ اثنانِ فِي أنَّ الحضارةَ العِلْمِيَّة التكنولوجيةَ وفَّرتْ على الإنسانِ الكثيرَ من الجهد والنَّصَبِ؛ فبدلا من العمل الجسميِّ المُضْنِي في سبيل قضاء أيَّةِ حاجة، صارتِ الآلةُ تتحمَّلُ مُعظمَ العِبْءِ في العمل؛ كما سَهَّلَتْ له سُبُلَ الانتقال والاتصال وغيرها من مجالات الحياة بما في ذلك الترويح عن النفس؛ وهكذا صار الإنسان يضيء غرفته بمجرد لمسة أصبع، وكان ذلك يأخذ منه جُهدًا ويستغرق وقتًا، كما أنَّ الضوء المتاح له اليوم يَفْضُل ما كان يحصل عليه مرات عديدة، ومثل ذلك حصل بالنسبة لطهي طعامه؛ لا بَلْ إنَّ التَّطَوّراتِ الحديثةَ في هذا المجال تُبَشِّر بأن يصبح بوُسْعِ الإنسان أن يُنْهِيَ طَهْيَ طعامه في دقيقتين فقط، باستعمال إشعاع الموجات القصار، أو موجات الراديو في أفران خاصة، بينما كانت - وما زالت - هذه العملية تستغرق من ربات البيوت، وهن ربع المجتمع، معظمَ وقتهنَّ، وكذلك حصل تطوُّرٌ كبير في عملية انتقاله وسَفَرِهِ إلى بلاد بعيدة بسرعة ويسر بدلاً من ركوب المخاطر والمتاعب التي كانت تصاحب فِكرة سَفَرِهِ في الماضي، وهكذا مع بقية مجالات الحياة.
وبالإضافة لتوفير الجهد أدَّى تدخُّل العلم والتكنولوجيا إلى توفير الوقت توفيرًا كبيرًا؛ فأصبح المزارع يُنهِي عمله بسرعة بينما كان يجهد فيه طول يومه، وصارت ربة البيت تُتِمُّ أعمالها في جزء من النهار، وكانت تمضي فيه سحابة نهارها، وهكذا بدأ الإنسان يجد – مهما كان عمله – أنَّ لديه وقتًا لا عمل لديه فيه، وهكذا أصبح وقت الفراغ متاحًا لأعداد متكاثرة من بني البشر بعد أن كان مقصورًا على عدد قليل جدًّا.(/8)
وكلَّما كان المجتمع متقدِّمًا – بمعنى أنه أكثرُ إسهامًا في الحضارة العلمية التكنولوجية – كان عدد أفراده الذين يتاح لهم وقت فراغ متزايدًا أكثر؛ كما أن التقدم العلمي الطبي أسهم كثيرًا في زيادة عدد الذين يتقاعدون من أعمالهم، وهؤلاء يكون وقت فراغهم طويلاً.
ورغم أنَّ هذا كان مَطْلَبًا إنسانيًّا، وحُلْمًا راوَدَ مُخَيِّلَةَ الإنسان ليرتاح من العمل، والعَناء، والتعب فترة من يومه ويومًا أو يومين من أسبوعه، وشهرا أو بعض شهر من سنته؛ إلا أن الإنسان – بثبات عنيد على مبدأ التناقض فيه – ما لَبِثَ أن بدأ يلمس في الفراغ - الذي سعى إليه كثيرًا - مَفْسَدةً أيَّ مفسدة وضررًا كبيرًا.
فقدِ اتضح أن وقت الفراغ قد أصبح مشكلة عالمية، تستدعي أن تعقد لدراستها المؤتمراتُ العالمية، وقد عُقِدَ في شهر أبريل (نيسان) من عام 1976 في بروكسل عاصمة بلجيكا مؤتمر كان الثاني من نوعه نَظَّمَتْهُ مؤسسة "فان كليه" Van Cle البلجيكية بإشراف منظمة اليونسكو، وكان موضوعه وقت الفراغ، وحضره حوالَيْ خمسمائة مندوب يُمثِّلون 50 دولةً، وقد تبيَّن من الدراسات والنقاش في هذا المؤتمر أنَّ وقت الفراغ يُجَابِهُ الإنسانَ بعدد من المشكلات المعقَّدة، ومتعددة الوجوه أكثر بكثير مِمَّا كان متصوَّرًا.(/9)
ولعلَّ أوَّل مشكلة من هذه المشكلات هي الضَّجَرُ والملل، فاضطرار أيِّ إنسان لقضاء ساعات الفراغ من يومه دون عمل يجعله ضَجِرًا، والضَّجَرُ يسبب مشكلات متعدِّدة على صعيد الفرد والمجتمع، وله انعكاسات نفسية خطرة؛ فالضَّجِرُ يتحلَّلُ تدريجيًّا من قِيَمِهِ وأخلاقِهِ، وقد يدفعه هذا التحلُّل إلى ارتكاب حماقات عديدة يعاقب عليها القانون، وما التصرفات غيرُ الأخلاقية والتجاربُ في ميدان العقاقير المنشطة والمهدئة والمهلوسة والانضمام إلى مجموعات الرافضين للمجتمع وتقاليده وعاداته وقيمه، إلا نتائجُ حتميةٌ وطبيعيةٌ للضَّجَر، والملل الناجمَيْنِ عن كثرة وقت الفراغ والدَّعة؛ بالإضافة لأسباب أخرى.
وليست هذه المظاهر التي تكثر وتنتشر في المجتمعات المتقدِّمة والغَنِيَّة جديدة، فقد كان سُلوك بعض النبلاء وأبناء الطبقات الراقية والغَنِيَّة في الماضي سُلوكًا لا ينسَجِمُ والمعاييرَ الخُلُقِيَّة التي كانت سائدة في عصرهم؛ بل كثيرًا ما انغمس بعضهم في مفاسدَ عديدةٍ، ونرى مثل هذا في المدن قديمها وحديثها نظرًا لما تُوَفِّرُهُ المدنُ لبعض الناس من فراغ؛ وليس الثراء هنا عاملاً أساسيًّا، وإن كان عاملاً مساعدًا في دفع الناس إلى المفاسد والتبذل، فالضجر أشد قوة وتأثيرًا.(/10)
ولا يقتصر أثر الضجَر والملل على هذه الظاهرة رغم خطورتها؛ بل يتعداها إلى آثار نفسية محطِّمَة؛ فالشعور بالضجر والفراغ إذا امتد طويلاً يوصل الإنسان إلى التساؤل عن جدوى الحياة، وينقص قدره في نظر نفسه باعتبار أنه لا يحقق إمكاناته وقدراته، وأنه يعيش كمًّا مهملاً على هامش الحياة، ونجد هذه الظاهرة أوضحَ ما تكون في الذين كانوا يعملون بجِدٍّ وتعب ثم توقفوا عن العمل؛ بسبب وصولهم إلى سِنِّ التقاعُد أو بسبب آخَرَ، ولم يجدوا ما يقومون به من عمل في وقت فراغهم الذي صار يملأ أيامهم كلَّها؛ ولا يختلِف اثنانِ في أن مثل هذا الشعور إن تولد في الإنسان حطَّمه من الداخل، وسبَّب له إشكالات متعددة، وردود فعل عنيفة أحيانًا.(/11)
والغريب هنا أيضًا التناقض البادي في أنَّ العُمَّال بالذَّات بذلوا جهدًا كبيرًا، وصل إلى حدود العُنف أحيانًا في سبيل إنقاص ساعات العمل الَّتي كانوا يعملونها، وما إن تحقَّق لهم ما يريدون – في بعض المجتمعات الصناعيَّة – حتى بدأتِ الشكوى من الفراغ، والتبُّرم به وبما يسببه، على أنَّ ذلك لم يكنِ انتِقالاً مُباشِرًا سَلِسًا؛ فإنقاص ساعاتِ العمل اليومية إلى ثماني ساعات كان أمرًا مَقْبولاً، إذ تُرِكَ لِلعامل فرصةَ العِناية بِمُتَطلبات بيته وأبنائه وزوجته، ومع ذلك أثَّر تأثيراتٍ سيئةً في بعض العُمَّال الذين لم يكونوا مهتمين بمتطلبات عائلاتهم أصلاً، ثم طالب العمال بإنقاص ساعات العمل عن ثماني ساعات، ونجحوا في كثير من المجتمعات الصناعية؛ ولكنهم وجدوا أن إنقاص ساعة أو نصف ساعة لم تُجْدِهم نَفْعًا، ولم تَزِدْ من وقتِهِمُ الحُرِّ الخاصِّ بهم فراحوا يطالبون بأسبوع عمل أقصر، ويومين لعطلة نهاية الأسبوع، ثم طالبوا بإجازة سنوية أطول، وفي معظم المجتمعات الصناعية لا تَزيد ساعات العمل في الأسبوع عن 40 ساعة، وفي البعض تهبط إلى 35 ساعة، ونتيجةَ طبيعةِ العمل في بعض الصناعات أو تحقيقًا لرغبات العمال أضيف وقت العمال الحر الذي كسبوه بتخفيض ساعات العمل إلى وقت فراغهم في إجازاتِهم فوق فراغهم في عطلة نهاية الأسبوع، وبقيَّة ساعات النهار.
وكان من الممكن أن تنفجر مشكلة الفراغ بشكل حادٍّ لولا أن سارع عدد من رجال الأعمال إلى الاتجار بها، فنشأت صناعات معظمها يقدم حلولاً ترفيهية للناس؛ لملء أوقات فراغهم، وأصبحت صناعات الملاهي والسياحة والألعاب الرياضية والمسارح وما شابهها تُدِرُّ رِبحًا كبيرًا على أصحابها؛ كما تنبهت بعض الحكومات والسلطات المسؤولة إلى ذلك، فأنشأت العديد من المتاحف والمعارض وقصور الثقافة والفنون والمكتبات العامة، وجعلت مع زيارة الناس لها المحاضرات والدراسات في أبحاث معينة متعددة على مدار السنة.(/12)
على أنَّ من المهم أن نتنبه إلى أنَّ مقياس نجاح هذه المرافق لا يجب أن يقاس بعدد الناس المتردِّدِينَ عليها فقط؛ بل بمقدار ما يفيدونه منها أيضًا؛ وحتى تكون الفائدة هدفًا مرجوًّا يُسعى إليه لا بد من دراسةٍ نفسيَّةٍ مَيْدانيَّةٍ شاملةٍ للنَّاس ورغباتهم وحاجاتهم الفكرية والنفسية؛ إذ يجب ألا يَغيب عن البال أن الهدف أساسًا من هذه المرافق المختلفة هو إشغالُ وقت الفراغ بما يفيد ويُشبِع حاجاتٍ في النفس، وبذا تقل الخشية من الضجر وما يستتبعه.
ومع كل هذا ظهرت بوادر أعراض تأثير الضجر في كثير من المجتمعات، التي تمكنت بعد لأْيٍ من توفير وقت الفراغ وزيادة مدته، ويرجع جزء كبير من أسباب انتشار الجرائم والمفاسد في هذه المجتمعات إلى كثرة وقت الفراغ وما ينجم عنه.
وقد بدأتْ تظهر في مثل هذه المجتمعات محاولاتٌ لِمَلْءِ الفراغ بالإضافة لِلإمْكانات المُتاحة في المرافق الخاصَّة والعامَّة، بإشغال الناس بالقيام بأعمال كانت تستدعي استقدام العامل المختص للقيام بها، كأن يصبغ الإنسان بيته، أو يقوم بصيانة سيارته، وأدوات منزله، أو يصنع شيئًا من أثاث بيته دون مساعدةٍ مِمَّن يمتهنون هذه الأعمال، ونشأت صناعات متعددة مهمتها تقديم الأدوات الأساسية مع الإرشادات التفصيلية اللازمة لقيام الإنسان غير المتخصص بالعمل وحده في أوقات فراغه.
كما أنَّ عددًا منَ النَّاس يَجِدُون في أوقات الفراغ فُرصةً لِلْقِراءة والكتابة أو الرسم أو الموسيقى، وغير ذلك من النشاط الإنساني، غير أنَّ عدد هؤلاء النِّسْبِيَّ قليلٌ جدًّا، والغريب أنَّ هؤلاء يَشْكُونَ في كثيرٍ منَ الأحيان من قِلَّة الوقت المتاح لهم، في الوقت الذي يشكو فيه غالبية الناس من كثرة وقت الفراغ الذي لا يدْرُونَ كيف يشغلونه. ولا شك أن الذي لا يستشعر مشكلة وقت الفراغ أسعد حظًّا من الذي يشكو منها، بالرغم من أنَّ كلاًّ من الاثنين يحسد الآخر على حظّه.(/13)
على أنَّ المتقاعدين عن العمل وكبارَ السِّنِّ يُبَلْوِرُونَ المشكلة من زاوية أخرى؛ فهم خِلافًا للعاملين الذين في معظم الحالات يرغبون في مزيد من أوقات الفراغ، يشكون من تراكم أوقات الفراغ، وامتدادها أمامهم بدون أمل في تناقُصِها أوِ التخفيف من ثقلها.
وقد ساعد على تضخيم المشكلة وزيادتِها حِدَّةً أنَّ تَحسين وسائل العناية الصحيَّة والطبيَّة جعلت أعداد الذين في سِنِّ الشيخوخة تصل إلى أكثر من خُمْسِ عدد السكان في كثير من المجتمعات المتقدمة، وهذه حالة فذَّة لم يَسْبِقْ أن عرفها المجتمع الإنسانيُّ في تاريخه كله، فماذا يمكن أن يُعمَل لهم لتخفيف إحساسهم بالفراغ والدَّعة والضَّجَر والملل؟:
إنَّ الَّذِي يعمل فعليًّا اليوم ممَّن بلغ الستين والسبعين والثمانين قليل جدًّا، ففي بعض المجتمعات التي ما زالت تعطي مفهوم الأسرة شيئًا منَ الاحترام، يعيش هؤلاء في غُربَة عن جيل الأحفاد، وأحيانًا الأبناء ولا يعملون سوى مستشارين في بعض الأمور، ما لم يكن الواحد منهم قويَّ الشخصية متمَلِّكًا ناصيةَ الأُمور في العائلة أصلاً، أو ذا ثروة ينتظر أفراد الأسرة تَوَارُثَها. على أنَّ غالبيَّتَهُمْ يُصْبِحُون في منزلة الضيوف في البيت ويُحتَرَمون؛ ولكن بدون أن يكون لهم أثر كبير في حياة الأُسرة، وينحدر عدد كبير منهم إلى مراكز ثانوية وأحيانًا حتى إلى منزلة الخَدَم، فيُعْنَوْنَ بِالأحفاد بينما يذهب الابن وزوجته إلى عملهما أو إلى حفلات أصدقائهما، أو يقومون بأعمالٍ أُخْرَى من هذا القبيل.(/14)
ولَمْ يَستطعْ أحدٌ حتَّى الآنَ أن يتقدَّم بحُلُول ناجعةٍ لمشكلة كبار السن هؤلاء؛ فقدِ اقترح بعضهم أن يُدَرَّبوا على تنمية هوايات خاصة بهم؛ ولكن مفهوم الهوايات أصلا هو أن تشغل جزءًا من وقت الفراغ، وأن تكون الهواية تكملة لنشاط الإنسان في عمله، أما أن تصبح الهواية شغل الإنسان الشاغل ملء وقته كلِّه فأَمْر يسلخ عن الهواية صفتها، ولا يمكن أن نجد إنسانًا يريد التمتُّع بِهِوايَتِه منَ الصَّباح حتَّى المساء كُلَّ يوم، كما أنَّ هؤلاء لا يمكن في سِنِّ الستين أوِ السبعين أن يَنغَمِسُوا في الملذات والليالي الحمراء بشكل مستمر.
واقترح آخرون أن يُتاحَ لِهؤُلاء المتقدمين في العمر مجال الدراسة والاستزادة منها في مدارس خاصَّة بهم؛ ولكن الإنسان يتابع دراسته بهدف تحسين مركزه أو فرص عمله، ويَحِقُّ للمرء أن يتساءل ما الذي يمكن أن يبتغيه هؤلاء من الدراسة؟ وما الدافع الذي يمكن أن يدفعهم لمتابَعَتِها؟ وقد يحصل أن يستمرَّ البَعْضُ مِمَّن وصلوا سنًّا متقدِّمَةً في القراءة أوِ التأليف أو الموسيقى إلى آخِرِ ما هنالك، ولكن ذلك يَظَلُّ دومًا على أساس فرْدِيٍّ ذاتيٍّ، وقلَّما يتقبل الواحد منهمُ الذهاب إلى مدرسة ولو كانت خاصَّة، ثمَّ مَن يدفع مصاريفَ مثْلِ هذه المدارس، إنَّ الحكومات مستعِدَّة لِفَتْحِ المدارس؛ ولكن على أن يكون ذلك استِثْمارًا ذا مردود؛ كما هي الحال في مدارسِ الصّغار، فأين يكون مردود مدارس المتقدّمين في العمر؟! وماذا يمكن أن يستفيد منهم المْجَتمع وقد فرض عليهم نفسُ المجتمع أن يتوقَّفوا عن العمل؟(/15)
وهناك اقتراحات بإيجاد أعمال ووظائف مناسبة لهؤلاء؛ ليعودوا للعمل، وبذا يخلصون من مشكلات أوقات الفراغ؛ ولكن الصعوبة في تنفيذ هذا الاقتراح تكمن في قلَّة الأعمال المتاحة أصلاً وفي أنَّ هؤلاء لا يصلحون لكثير من الأعمال، وعلى ذلك تكون الصعوبات المالية والإدارية في ترتيب إعطائهم أعمالاً تناسبهم أكبر من مردود عملهم في أغلب الأحيان، وبخاصَّة أنَّ عددًا لا يستهان به منهم تضعف مع تقدم العمر حواسُّهم أو تضطَرِبُ أَيْدِيهِم أو يُعانون من أمر يُعِيقُ عَمَلَهُم.
وفي الولايات المتحدة الأمريكية فكَّر بعض المموِّلِينَ في إنشاء مدينة كاملة مستقلَّة مخصَّصة للمتقدّمين بالسّنِّ، بحيث يدفعون أجرًا لسُكْناهم، ويقومون بإدارة هذه المدينة والعمل بها والترفيه عن أنفسهم بأَنْفُسِهم، ومع أنَّ تنفيذَ هذه الفكرة ما زال في البداية إلا أنَّ هناك بعضَ الشُّكوك حول إمكان نجاحها وتعميمها، فالأجْرُ المَطلوبُ لن يَستطيعَ دَفْعَهُ إلا فئةٌ منَ النَّاس، ثُمَّ هناك الخيار ذو الحدَّيْنِ وهو: هل يُفَضِّل المرءُ في هذه السّنِّ أن يَنْعَزِلَ عنِ العالم وسطَ مجموعة من أقرانه فقط، أم أنه يُفَضِّل أن يبقَى في تيَّار الأحداث وجُزءًا من نَبْضِ الحياة؟ وهل يفضِّل ألا يتَّصِلَ بِغَير المتقدِّمين بالسّنِّ أمثاله، أم أن يَحْتَكَّ بالشباب والصغار رغم ما يسبِّبُهُ الفرق بين الجيلين في التفكير والسلوك من إثارات واختلافات؟
الفراغ في المجتمعات المتخلفة:
من الواضح أنَّ الوضع في المجتمعات المتخلفة هو نفس الوضع الذي كان عليه الإنسانية في الماضي:(/16)
ففي المجتمعات الزراعية أو الصناعية الفردية – وغالبًا ما تكون صناعات عائلية - يكون مركز العمل هو البيت، أو مكانًا قريبًا منه، ويَنْدُر أن يُفَرِّقَ المرء في مثل هذا الوضع بين عمله ووقت فراغه؛ بل لعلَّ وقت الفراغ بمعناه الصحيح غير موجود فيما عدا الأعياد والمناسبات الاجتماعية والدينية، وحتَّى في هذه المناسبات الَّتِي يتوقَّفُ فيها العمل لا يستطيع المرء أن يتحلَّل من واجبات تشغله طول وقته، وغالبًا ما تكون هذه الواجبات جماعيَّة وذات طقوس مُعيَّنة، مِمَّا يَنْفِي عنْ هَذِه العُطلات الَّتِي لا يقوم فيها الناس بعملٍ صِفةَ وقت الفراغ، وحتَّى تجمّع عدد من الناس في ساحة منزل وجيه الحيِّ، أو في غرفة خاصَّة من بيته لساعة أو اثنتين بعد انتهاء العمل وتناوُل العشاء، كان يأخذ صفة وظيفة اجتماعية بمعنى أنها جلسات يتبادل فيها أهل الحي الأخبار والرَّأْي فِي الأمور التي تعرِضُ لهم.
وقد أدَّى دخول بعض الأجهزة والآلات التكنولوجية في القرية إلى خلق وقت فراغ، والخطورة هي أنَّ تزايُد وقت الفراغ هذا في غياب الإمكانات التي يمكن أن تسده في القرية أو المجتمع المتخلِّف سبَّبَ ويُسبِّبُ مضاعفاتٍ نفسيةً، عند الشباب بخاصَّة، ونظرًا لتمسُّك المجتمع في القرية بِالتَّقاليد وتماسُكه تماسُكَ الأسرة الواحدة، تكون انعكاسات هذه المضاعفات النفسية والسلوك غير المنسجم مع السلوك المتعارف عليه كبيرة وقوية.
الحرية والوقت الحر:(/17)
عَرَضْنَا لبَعْضِ مُحاولاتِ مَلْءِ وَقْتِ الفَرَاغِ عند الناس التي تقوم بها السلطات البَلَدِيَّة والحكومية، ويَخْشَى فريقٌ منَ المُفكِّرين من تدخُّل السُّلُطات في حرية الفرد في هذا المجال، فهم يرون أن من حق الإنسان أن يُقَرِّرَ بملء حُريَّتِهِ كيف يَصْرِف وقت فراغه, ولكنه في حقيقة الأمر مُجْبَر على أن يصرف هذا الوقت كما توفِّره له السُّلطاتُ، أو كما تخطِّطُ لَهُ، فإذا ما كان التخطيط يهدِفُ إلى توجيه الناس وجهات سياسية أو فكرية معينة، تعدى الأمر إلى الاعتداء على حريتهم، وليس هذا وحده ما يَحُدُّ من حرية الفرد في اختيار أُسلوب التمتع بوقت فراغه، فهناك أيضًا مشكلة حماية البيئة، ومشكلة تزايد عدد السكان، وتَمْضِيَتُهُ وقتَ الفراغ تتأثر كثيرًا بنوع البيئة وإمكاناتها، وما تستطيع تقديمه للناس.
وكذلك تتأثر بعدد السكان بعامَّة وعدد أفراد الأسرة بخاصة، ويبدو أننا سنجد أمامنا في المستقبل وقتَ فراغٍ أطولَ بكثير مما نجده اليوم؛ ولكنه سيكون وقت فراغ أكثر تعقيدًا، وسنكون أقلَّ حُرّيَّةً في التَّمَتُّع به.
خاتمة:
يبدو مِمَّا عرضنا في هذه العجالة أن مشكلة الفراغ والدعة، وما تسببه من ضَجَرٍ ومَلَل وانعكاساتها النفسية والسلوكية مشكلة يجب أن لا يستهان بها، وألا تُتْرَكَ لتَتَفَاقَمَ مستقبلاً، وتفاقُمُها مُنْتَظَرٌ نتيجةَ عواملَ عِدَّة منها:
-أنَّ العالَم وبخاصة المتقدم منه، مُقبِل على أسبوع عمل قصير جدًّا لا يتعدَّى أربعة أيام من كل أسبوع وقد ينقص عن ذلك.(/18)
-وعدد المتقدمين في العمر في تزايد نتيجة تحسين العناية الطبيعية، ونتيجة الأبحاث العلمية الدائبة في معرفة سِرِّ الهرم والشيخوخة وهذه الأبحاث – وقد قطعت شوطًا لا بأس به – توحي بأنَّ الإنسان بوُسْعِهِ في المستقبل المنظور أن ينتظر ارتفاع فترة الحياة المتوقَّعَة إلى حوالي 130 سنة يقضي الإنسان معظمها في نشاط وإنتاج، ثم إن الإنسان في المستقبل سيعتاد رؤية التغيُّر يجري سريعًا من حوله وستَقِلُّ مقاومته للتغيير، وبذا سيكون أسرع في الملل من الأشياء.
-إذا أضفنا إلى هذه العوامل وغيرها أنَّ حريته في اختيار أسلوب قضاء وقت فراغه ستكون محدودة، عرفنا مبلغ حدة مشكلة الفراغ والدعة التي ستواجهه:
ما لم يكن الإنسان قادرًا على مواجهة هذه المشكلة بحلول ناجعة في الوقت المناسب تفاعلت المشكلة في نفسه تفاعُلات متفجرة، تتهدَّد صِحَّته النَّفسيَّة وصِحَّته العامَّة، وبالتالي استقراره وحياته.
ومن الملاحَظ أنَّ كثيرًا من الدول تقيم سلطات، وحتى وزارات للسياحة والثقافة والرياضة والشباب والفنون، كما تُعْنَى بوسائل مختلفة بالمعوقين وكبار السن، وتحاول توفير أماكن اللهو البريء والمتاحف والحدائق... إلخ، وكل هذه وسائل للمساعدة على قضاء وقت الفراغ، ولكنها في كل هذا تعمل بدون تخطيط متكامل ودون وضوح هدف، ومن الممكن جمع كثير من هذه المجالات في وزارة أو سلطة لتنظيم وقت الفراغ، ورعاية متطلبات الناس خلاله على أن تؤخذ الحيطة الكافية لعدم المساس كثيرًا بحرية الفرد، وللتخطيط المبنيِّ على مَسْحٍ علميٍّ دقيق لحاجات الناس المختلفة، ومحاولة توفير ما يشبعها، ما لا شك فيه أن مردود مثل هذا سيكون كبيرًا، وسيتَّضح في اتِّزان الناس نفسيًّا، وشُعورهم بالرضاء عن أنفسهم وزيادة إنتاجهم في عملهم، وقلة الانحراف، والإجرام فيما بينهم، ولو تحقَّقَ جزء من هذا لكان ذلك تبريرًا كافيًا لما سيُصرَف في سبيله.(/19)
العنوان: مصر في ظل الفتح الإسلامي
رقم المقالة: 1792
صاحب المقالة: د. جمال عبدالهادي
-----------------------------------------
مصر في ظل الفتح الإسلامي
رخاء اقتصاديّ وأمان اجتماعيّ وتقدم علميّ
"في ظل الحكم الإسلامي نشطت الصناعة، ونمت الزراعة والتجارة، وأصبحتِ الأسكندرية أكبرَ أسواق العالم، وأكثرَ الثغور ازدحامًا وحركةً، وكانت بها تجارة عظيمة في القمح، والكَتَّان، والورَق، والزجاج، والعاج من بلاد النوبة وأثيوبيا، وكانت فوق ذلك تَصُبُّ فيها سِلع وبضائع الهند والصين".
"ولم يَبْقَ من الضرائب الكثيرة والمتعدِّدَة التي كان يَتَحَمَّلها الأقباط طِيلَةَ عهد الاحتلال الرومانيّ (600 سنة) إلاَّ ضريبة الخراج، وهي ضريبة تؤخذ على أنواع المال: الزراعيّ، والصناعيّ، والتجاريّ.
والجِزْيَة (ديناران)، وهي تؤخذ من الشباب القادر على الكسب نظيرَ الدفاع عنه، وهي بمثابة تأمين للمعاش بعد أن يكون عاجزًا عنِ الكسب، ولا تؤخذ من الشيخ الفاني، والصغيرِ الذي لم يَبلغ الحُلم، ولا النساء"
" لقد أدرك المسلمون، أهميَّة دَور مصر في حركة التجارة العالمية، وأدركوا كذلك أهميَّة الدَّور الكبير الذي تلعبه التجارة الداخلية في هذه الحركة العالمية، فاهتموا بها اهتمامًا عظيمًا، وأتاحوا للتُّجَّار الأقباط أن يأخذوا مكانتهم في تجارة مصر، وهيَّأوا لهم حرية التجارة في المَيْدان التجاريّ، لم يكن لهم أن يتمتَّعوا بها من قَبْلُ في ظل الاحتلال الرومانيّ".(/1)
"كما أن المسلمين أبقوا على مختلف النظم التي عرفتها مصر منذ أقدم العصور، وأطلقوا لأهلها حريَّة العقيدة، وأمَّنوهم على أنفسهم وأموالهم، وتركوا لهم سائر الوظائف، والصناعة، والزراعة، والأعمال، واكتفى المسلمون بالإشراف على شُؤون الدولة، والقضاء، والشرطة، وقيادة الجيوش، والحكم، كلُّ ذلك كان باعثًا قويًّا لكثير من المصريين على الدخول في الإسلام، وصار لزامًا عليهم أن يتعلَّموا اللغة العربية؛ حتى يستطيعوا قراءة القرآن، وفَهْم أحكام الدين الإسلامي، والانخراط في سلك الدواوِين، التي بدأت حركةُ تَعْريبها على عهد عمرَ بنِ الخطاب رضي الله عنه".
"وما أنِ انسلخ القرن الثالث الهجريُّ (التاسعُ الميلادي) حتى دانت الغالبيةُ العظمى من أهل مصر بالإسلام، وبقيتْ أقليةٌ نصرانيةٌ، وأضحت اللغة العربية لغةَ كلِّ المصريين: في الدواوين، والتَّخاطُب، والعبادة، والثقافة، والفِكر، والعلم، يتكلم العربيةَ ويتعامل بها كلُّ المصريين، سواء كانوا مسلمين أو نصارى أو يهود".
وهكذا وجد الأقباطُ في المسلمين غيرَ ما كانوا يجدونه من البِيزَنْطِيِّينَ الرُّومانِ؛ فأقبلوا في حماس دافق يتعاوَنُون مع المسلمين في إدارة شؤون مصر، يُحَفِّزهم أنَّهم كانوا يومئذٍ أكثريَّةً بين العاملين في شتَّى الوظائف بأنحاء البلاد، كانوا يملكون الأرض، ويَزرعونها دون تدخُّل من السلطة الإسلامية الحاكمة، وكانوا يُديرون اقتصاد البلاد؛ بل كانوا رؤساء المالية طَوال العصر الأُمَوِيِّ، وكانتْ سائر الوظائف المَدَنِيَّة بأيديهم؛ ولهذا كان تقدير النصارى للمسلمين عظيمًا، وقابلوا الفضل بالعرفان والتقدير، وإخلاصهم في العمل الذي وَلاهم إياه المسلمون، ونعمتْ مصرُ بالاستقرار، واستمتع أهلها بهدوء الحياة التي لا يَشوبها كَدَرُ الخلافاتِ الدينيةِ، ولا يَشوب بهجَتَها مشكلاتٌ سياسيةٌ أوِ اقتصاديةٌ".(/2)
"وقد هيَّأ الفتح الإسلامي لمصرَ أن تقوم بدَورها التاريخيِّ المنتظَر منها في إعداد وتجهيز الجيوش البريَّة والأساطيل البحرية، وبَعْثها إلى إفريقيَّةَ والمغربِ، ثم الأندلس؛ ليتحقَّق للمسلمين السيادةُ على مياه البحر الأبيض المتوسط، وتحقيق الأمن والأمان لكل إنسان، وصدق الله العظيم القائل: {الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82].
لماذا انتصر المسلمون وفتحت لهم الأمصار؟
"سأل هِرَقْلُ أحد جُنْدِهِ الذي كان أسيرًا لدى المسلمين، ثم مَنُّوا عليه بإطلاقه: أَخْبِرْنِي عن هؤلاءِ القوم؟ فقال: أُحَدِّثُكَ كأنك تَنظر إليهم، فُرسان بالنهار رُهبان بالليل، ما يأكلون في ذِمَّتِهِم إلا بثمن، ولا يدخلون إلا بسلام، يقفون على مَنْ حارَبَهم حتى يأتُوا عليه. فقال هِرَقْلُ: لئن كُنْتَ صدقْتَنِي ليرثُنَّ ما تحت قدميَّ هاتَيْنِ"[1].
وقد ذكر الكاتب نقلاً عن "الدعوة إلى الإسلام" ص 128 عن الأقباط في مصر: "ملؤوا مناصب الوزراء والكُتَّاب في دواوين الحكومة، وحدَّدُوا قيمةَ الضرائب التي تُجبى على الأرض التي تعطى على سبيل الالتزام، وجمعوا ثروة ضخمة في بعض الحالات، ولقد أَمَدَّنا تاريخُ كنيسهم بكثير من الأمثلة عن رجال الكنيسة، الذين تمتَّعوا بعَطْفِ الأمراء الذين حكموا بلادهم، ونَعِمَ القِبْطُ في عهدهم بأقصى درجات الطمأنينة" (ص74).
شهادة (أرمانوسة القبطية) بنت المقوقس وهي محصورة في بلبيس:
"حينما حاصر المسلمون الجنودَ الرّومانَ في منطقة بِلْبِيسَ، خَشِيَ النساء على أنفسهِنَّ من المسلمين، وتصورْنَ أن المسلمين مثل المجرمين الرومان، الذين يغتصبون النساء وينتهكون الأعراض، ولكن أرمانوسة بنت المقوقس طمأنتِ النِّسوة، وقالت لإحدى وصيفاتها:(/3)
"أنتِ واهمة يا مارية (وصيفتها)، أنت واهمة يا مريم! أنسيتِ أن أبي قد أهدى إلى نَبِيِّهِم بنت أنصنا – مارية القبطية – عليها السلام – فكانت عنده في مملكة، بعضها السماء، وبعضها القلب، لقد أخبرني أبي أنَّه بعث بها؛ لتكشف له عن حقيقة هذا الدين، وحقيقة هذا النبيّ، وأنَّها أنفذتْ إليه دَسِيسًا يعلمه أن هؤلاء المسلمين هم العقل الجديد الذي سيضع في العالم تمييزه بين الحق والباطل، وأن نَبِيَّهَمُ أَطْهَرُ منَ السحابة في سمائها، وأنهم جميعًا يَنبعثون من حدود دينهم وفضائله، لا من حدود أنفسهم وشهواتهم، وإذا سَلُّوا السيف سَلُّوه بقانون، وإذا أغمدوه أغمدوه بقانون".
وقالت عنِ النساء: "لأنْ تخاف المرأة على عِفَّتِها من أبيها أقربُ من أن تخاف عليها من أصحاب هذا النبيِّ؛ فإنهم جميعًا في واجبات القلب وواجبات العقل، ويكاد الضمير الإسلاميّ في الرجل منهم يكون حاملاً سلاحًا يضرب صاحبه إذا هم بمخالفته".
وقالت لها أرمانوسة أيضًا: "لقد أخبرني أبي أن هذا الدين سيندفع بأخلاقه في العالم اندفاع العُصارَةِ الحَيَّة في الشجرة الخضراء، طبيعة تعمل في طبيعة، فليس يمضي وقت غير بعيد حتى تخضر الدنيا وترمي ظلالها"[2].
وقد صدقت فِراسَةُ أرمانوسة؛ إذ إنَّ عمرو بن العاص أرسل أرمانوسة وجميعَ مالِها وخدمها معزَّزَةً مكرَّمة إلى أبيها المقوقس، في حراسة جند الإسلام، بقيادة قَيْسِ بن أبي العاص السَّهْمِيّ.
---
[1] "الطبري" – جـ 3، ص 602.
[2] أ. د عبدالحليم عويس، "الفتح الإسلامي لمصر"، المنار الجديد، عدد يناير سنة 1998، ص 63، وما بعدها، هو يعتمد على مصطفى صادق الرافعي، "من وحي القلم"، ص 36، وقصة "اليمامتان"، نشر مهرجان القراءة، عام 1995، مصر ، بسام العسلي، عمرو بن العاص، ص52، 53.(/4)
العنوان: مصطفى الخن العلامة الأصولي المربِّي
رقم المقالة: 1102
صاحب المقالة: أحمد بن محمود الداهن
-----------------------------------------
مصطفى سعيد الخن
العالم المربِّي، وشيخ علم أصول الفقه في بلاد الشَّام
لمحاتٌ من حياته:
اسمه ونسبه ونشأته:
هو مصطفى بن سعيد بن محمود الخنُّ، الشَّافعيُّ، الميدانيُّ، الدِّمشقيُّ، من أسرةٍ دمشقيةٍ عريقةٍ، كان لها منذ عهود العمادة والمرجعية في الميدان كلِّه.
نشأ مصطفى الخن في كَنف والديه -مع إخوته وأخواته- في جوِّ أسري يسوده الصَّفاء والهيبة والاحترام، ولمَّا بلغ الثَّامنة من العمر؛ ألحقه والده بالكُتَّاب، ثم ألحقه بعد ذلك بمدرسة الجمعية الغرَّاء الابتدائية، فلازمها سنة كاملة، انتقل بعدها إلى المدرسة الرَّسمية التي كانت تُدعى (أنموذج الميدان).
وفي صيف (1350هـ -1931م)؛ اكتشف الشَّيخ الخطَّاط محمَّد زرزور علائم النَّجابة والأهليَّة عند مصطفى الخن، الذي كان أحد التَّلاميذ المنتسبين إلى مكتبه لتعلُّم القرآن والخطِّ والحساب؛ فاستأذن والده أن يصطحبه معه إلى دروس الشَّيخ حسن حبنكة في جامع مَنْجَك، فسمح الوالد ولم يمانع.
وكان الشَّيخ الدَّاعية حسن حبنكة -رحمه الله تعالى- قد أسَّس في المسجد مدرسةً متكاملةً، تشتمل على تعليم الشَّباب المنقطعين لطلب العلم صباحاً، من بعد صلاة الفجر حتى صلاة الظُّهر، وتعليم الكبار-من التُّجار وأصحاب الحرف-بعد صلاة العشاء.
التحق التِّلميذ مصطفى الخن أوَّل الأمر بالقسم المسائي، و أُعجب فيه شيخه حسن خطاب؛ لمَِا لمس عنده من مخايل الحفظ والذكاء، ونقل إعجابه إلى الشَّيخ حسن، فأوصى به خيراً.(/1)
ولم تمض مدَّة حتى حُبِّب إلى التِّلميذ النَّجيب طلبُ العلم، فقرَّر الانتقال إلى القسم النَّهاري، وكانت تلك خطوةٌ جريئةٌ موفَّقة، أُقيمت على إثرها حفلةٌ في بيت الأسرة احتفاءً بأوَّل طالبِ علمٍ ينبغ في (آل الخن)، وأُلبس الطَّالب مصطفى العمامة بدلاً من (الطَّربوش!)، وأَعلن الأب رعايتَه التامَّة له.
سيرته العلمية:
شبَّ مصطفى الخن في جامع منجك، وغداً طالباً مجِدّاً نشيطاً، متعلِّماً في الصَّباح، ومعلِّماً في المساء، وشاء الله -سبحانه- للحلقات النَّهارية أن تصبح نواة لمعهد (التَّوجيه الإسلامي)، وانتقل الأستاذ مصطفى للتَّدريس في المدرسة النَّاشئة التَّابعة للمعهد.
وقد أسهم الجمع بين مهمَّتي التعلُّم والتَّعليم في صنع الشَّخصية العلميَّة للشَّيخ مصطفى الخن، وكان لتوجيه الشَّيخ حسن حبنكة الأبويِّ التَّربويَّ؛ أثرٌ كبيرٌ في التَّناغم والتَّآلف والتَّكامل بين المهمَّتين.
وكان الشَّيخ العلَّامة حسن حبنكة يرشد طلَّابه أن يزوروا العلماء الكبار، وأن يجلسوا إلى دروسهم، فكان الشَّيخ مصطفى يحرص على ذلك كل َّالحرص، ومن العلماء الربَّانيين الذين زارهم، والتقى بهم، وكان لهم مواقف خالدة، شهدها بنفسه؛ أذكر:
1. الشَّيخ علي بن عبد الغني الدقر: وهو شيخ شيوخ معهد العلوم الشَّرعية، ورئيس الجمعية الغرَّاء ومؤسِّسها، عالمٌ ربانيٌ، جمع بين التَّعليم الشَّرعي، والتَّربية الرٌّوحية، وأوجد مدرسة تُحتذى في التَّخلق بأخلاق الإسلام، وكان الشَّيخ مصطفى يزوره في مسجده و يحضر بعض دروسه.
2. الشَّيخ محمَّد أمين سويد: وهو عالمٌ مشاركٌ، وأصوليٌّ بارعٌ، ومن كبار علماء دمشق، طلب العلم في الأزهر، وعمل مدرساً في معهد الحقوق، وفي مواقع علميةٍ عديدة، وقد التقى به الشَّيخ مصطفى وجلس إليه؛ عندما كان الشَّيخ محمَّد يتردَّد إلى جامع منجك.(/2)
3. الشَّيخ إبراهيم بن محمَّد الغلاييني: وهو عالمٌ عابدٌ، له في نفوس الناس مهابةٌ ومحبَّة، وَلِيَ قضاء وادي العجم، وإمامة وخطابة جامع مدينة (قَطَنا)، وكان الشَّيخ مصطفى يزوره دائماً، وربما قضى عنده سحابة اليوم.
4. الشَّيخ أبو الحسن علي الحسني النَّدْوِي: العالم المعروف، والمؤلف المبدع، والخطيب المفوَّه، والعضو في العديد من المجامع اللُّغوية العربية، وقد لقيَه الشَّيخ مصطفى في القاهرة حين كان طالباً في الأزهر أول مرَّة، والتقى به في دمشق، في جامعتها، ثمَّ في بيت الشَّيخ حسن حبنكة، وكانت الأخيرة.
وقد شارك الشَّيخ مصطفى -في أثناء تدريسه في (معهد التَّوجيه الإسلامي)- في مختلف العلوم الشرعية، ولكنَّه تخصَّص في النِّهاية، وتميَّز بعلم أصول الفقه، وبعلوم العربية.
وفي مطلع عام (1369هـ -1949م)؛ وصل الشَّيخ مصطفى إلى القاهرة، بغية الانتساب للأزهر، ومن ثَمَّ الحصول على شهادة الإجازة التي تؤهله للتَّدريس في المدارس الحكومية السُّورية، وأُجري للشَّيخ اختبار القَبول، وقُبل في السَّنة الثَّالثة من كلِّية الشَّريعة، فأمضى مدَّة الدِّراسة المقرَّرة -سنتان- قبل أن يستحق شهادة الإجازة بتقديرٍ ممتاز.
وقد تعرَّف الشَّيخ أثناء دراسته تلك إلى علماء أفذاذ في الأصول واللُّغة، وعلى رأسهم العميد الدكتور عيسى منُّون، والدكتور عبد الله موسى، والدكتور مصطفى عبد الخالق، وأخيه الدكتور عبد الغني عبد الخالق، وأفاد منهم كثيراً في تخصُّصه، كما تزَّود بثقافة إسلاميَّة عالميَّة، ومنهجيَّة واضحة الطَّريق والهدف، ومسلك تربويِّ رصين الفكرة والتَّطبيق.(/3)
عاد الشَّيخ بعدها إلى دمشق؛ ليعمل مدرِّساً لمادَّة التَّربية الإسلاميَّة، في ثانويات حلب ودمشق، مع إسهامه الفعَّال في مجالات المناهج الدِّراسية، والكتب المدرسية، ولجان الامتحانات، وبقي فيها حتى حصوله على شهادة الدكتوراه. وفي أثناء ذلك؛ اشتغل بالتَّدريس في كلِّية الشَّريعة بجامعة دمشق محاضراً، بين عامي (1375هـ-1382هـ)، (1955م- 1962م)، وأعير لكلِّية الشَّريعة واللُّغة العربية، بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، في الرياض، مدرِّساً، بين عامي (1382هـ-1386هـ)، (1962-1966م).
ولمَّا أصدر الأزهر قراراً يقضي بالسَّماح لخريجي الكلِّيات الأزهرية الذين أمضوا في التَّدريس الجامعي أكثر من خمس سنوات أن يتقدَّموا بتسجيل رسالة الدكتوراه مباشرة؛ أسرع الشَّيخ مصطفى وسجَّل موضوع (أثر الاختلاف في القواعد الأصولية في اختلاف الفقهاء) بإشراف الأستاذ الدكتور مصطفى عبد الخالق، وفاز بالشَّهادة عام (1391هـ-1971م) مع مرتبة الشَّرف الأولى.
عُيِّن بعدها مدرِّساً ورئيساً لقسم العقائد والأديان في كلِّية الشَّريعة، بالإضافة إلى تعيينه مدرِّساً في كلِّية التَّربية بجامعة دمشق، وبقي في الجامعة حتى سنة (1404هـ=1983م)، وأسهم إذ ذاك في تأليف الكتاب الجامعي؛ فأصدر ثلاثة كتب مهمَّة، لا تزال تُدرَّس في كلِّية الشَّريعة إلى اليوم، وهي: الَّتفسير العام، وفقه المعاملات، ومبادئ العقيدة الإسلامية.
وبعد إحالته إلى التَّقاعد؛ سافر الشَّيخ إلى المملكة العربية السعودية للمرَّة الثانية، فعمل مدرِّساً في كلِّية الشَّريعة بجامعة الإمام محمَّد بن سعود الإسلاميَّة، ثمَّ عُيِّن أستاذاً في كلِّية التَّربية للبنات، وعضواً في المجلس العلمي لجامعة الإمام، وبقي حتى عام (1413هـ=1992م)، وأشرف في هذه المدَّة على عدد من رسائل الماجستير والدكتوراه.
وعاد الحنين بالشَّيخ إلى دمشق مجدَّداً؛ ليصبح بيتُه مقصد طلَّاب العلم والمحبِّين.(/4)
ومنذ بداية العام الدِّراسي (1414هـ، 1993م)؛ وافق الشَّيخ على التَّدريس في قسم الدِّراسات العليا، التَّابع لجامعة أم درمان، ومركزه مجمَّع أبي النُّور التَّعليمي في دمشق، وعلى رئاسة كلِّية الشَّريعة بقسم التَّخصُّص، التَّابع لمعهد الفتح الإسلامي، وتدريس مادَّة أصول الفقه لطلَّاب السَّنوات الثلاث في الكلِّية.
وجديرٌ بالذِّكر أنَّ للشَّيخ مصطفى غرفةً خاصةً في جامع الدَّقَّاق، شهدت -ولاتزال- تاريخاً حافلاً بنشاطٍ علميٍّ غزير، تحتوي على مكتبةٍ زاخرةٍ بأمَّهات الكتب. وممن سجَّل حضوراً بين جنباتها؛ أذكر: الأستاذ أحمد راتب النفاخ، الأستاذ أحمد عرابي الخن، الشيخ خير العلبي، الأستاذ سعيد الطنطاوي، الأستاذ سهيل البري، الأستاذ صالح الأخرس، الشيخ عبد العزيز الرفاعي، الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، الدكتور محمد الصباغ، الأستاذ محمود المارديني، والدكتور موفق دعبول.
تعريف بمؤلَّفاته:
بدأ الشَّيخ مصطفى الخن الكتابة في وقتٍ مبكِّرٍ من مسيرته العلمية، فكان تحصيله العلمي تأليفاً، وتأليفه تحصيلاً علمياً.
وكان يكتب لنفسه أولاً، ثمَّ ساهم في تأليف الكتب المدرسية، وأعدَّ الأمالي الجامعية، واتَّجه إلى التَّأليف العام والتَّحقيق، وكان صدره يتَّسع للمشاركة مع غيره من الأقلام، تأليفاً وتحقيقاً.
منهجه العام في التَّأليف والتَّحقيق:
1. وضوح الأسلوب، مع فصاحة الكلمات، واتساق العبارات، وتطابق المقدِّمات مع النَّتائج والأحكام.
2. ورود الشَّواهد والأدلَّة في مواضعها المناسبة، من غير إكثارٍ ولا تكلُّف.
3. الخلوُّ من الغموض والتَّعقيد، والبعد عن الكلمات الغريبة.
4. الاختصار في الحواشي، مع الحرص على سلامة النَّصِّ، وصحَّة العبارة.
5. الايجاز وعدم الإطناب، والتَّوسُّط بين التَّطويل المملِّ والاختصار المخلِّ.
المؤلَّفات الخاصَّة:
1. أثر الاختلاف في القواعد الأصولية في اختلاف الفقهاء.(/5)
2. عبد الله بن عباس: حبر الأمة وترجمان القرآن.
3. دراسة تاريخية للفقه، وأصوله، والاتِّجاهات التي ظهرت فيهما.
4. الحسن بن يسار البصري: الحكيم الواعظ والزَّاهد العالم.
5. الأدلَّة الشَّرعية، وموقف الفقهاء من الاحتجاج بها.
6. أبحاثٌ حول أصول الفقه الإسلامي (تاريخه وتطوره).
7. الكافي الوافي في أصول الفقه الإسلامي.
المؤلَّفات المشتركة:
1. (نزهة المتَّقين شرح رياض الصَّالحين من كلام سيِّد المرسلين)، وقد شارك بالتَّأليف: الدكتور مصطفى البغا، و الدكتور محيي الدين مستو، و الأستاذ علي الشربجي، والأستاذ محمد أمين لطفي.
2. (الفقه المنهجي على مذهب الإمام الشافعي)، وقد شارك بالتَّأليف: الدكتور مصطفى البغا، و الأستاذ علي الشربجي.
3. (العقيدة الإسلامية): أركانها- حقائقها- مفسداتها، وقد شارك بالتَّأليف: الدكتور محيي الدين مستو.
4. (الإيضاح في علوم الحديث والاصطلاح)، وقد شارك بالتَّأليف: الدكتور بديع اللحام.
التَّحقيقات الخاصَّة:
1. (المنهل الراوي، في تقريب النواوي)، للإمام الفقيه المحدث أبي زكريا النووي الدمشقي.
2. (تسهيل الحصول على قواعد الأصول)، للعلامة محمد أمين سويد.
التَّحقيقات المشتركة:
1. (حسن الأسوة بما ثبت من الله ورسوله في النسوة)، محمد صديق القَنُّوجي البخاري. بالاشتراك مع الدكتور محيي الدين مستو.
2. (إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول)، للإمام الشوكاني. بالاشتراك مع الدكتور محيي الدين مستو.
3. (أنوار التنزيل وأسرار التأويل)، للبيضاوي. بالاشتراك مع الدكتور محيي الدين مستو، والدكتور بديع اللحام.
4. (المنهاج القويم في مسائل التَّعليم)، لابن حجر الهيتمي. بالاشتراك مع الدكتور محيي الدين مستو، والأستاذ علي الشربجي.
المرجع:(/6)
كتاب (مصطفى سعيد الخن، العالم المربِّي، وشيخ علم أصول الفقه في بلاد الشام)، تأليف: د. محيي الدين مستو، وهو الكتاب رقم (8) في سلسلة: (علماء ومفكرون معاصرون، لمحات من حياتهم وتعريف بمؤلفاتهم)، التي تصدرها دار القلم بدمشق، الطبعة الأولى، 1422هـ - 2001م.(/7)
العنوان: مضار الخمر والتحذير منه
رقم المقالة: 765
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحمد لله الذي أباح لعباده جميع الطيبات وحرم عليهم الخبائث والمضرات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو الفضل العظيم والعطاء العميم، وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله المصطفى الكريم صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجهم القويم وسلم تسليماً.
أما بعد أيها الناس، اتقوا الله تعالى وتمتعوا بما أباح الله لكم من الطيبات واشكروه عليها بأداء حقوقه التي أوجبها عليكم فإن الشكر سبب لدوام النعم ومزيدها، واحذروا ما حرمه عليكم من المطاعم والمشارب فإنه لو كان فيها خير لكم ما حرمها عليكم لأنه الجواد الكريم، وإنما حرم عليكم ما فيه ضرركم ديناً ودنيا رحمة بكم وهو الرؤوف الرحيم. فمما حرمه الله عليكم في كتابه وعلى لسان رسوله وأجمع على تحريمه المسلمون الخمر الذي سماه النبي - صلى الله عليه وسلم - أم الخبائث وقال: ((هي مفتاح كل شر)) وأخبر الله في كتابه: أنه {رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} ووردت الأحاديث الكثيرة في تحريمه والتحذير منه والوعيد على شربه، قال أنس بن مالك - رضي الله عنه -: ((لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الخمر عشرة عاصرها ومعتصرها وشاربها وحاملها والمحمولة إليه وساقيها وبائعها وآكل ثمنها والمشتري لها والمشتراة له)) كل هؤلاء ملعونون على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم - وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن)) وقال: ((مدمن الخمر إن مات لقي الله كعابد وثن)) وقال: ((من شرب الخمر في الدنيا ثم لم يتب منها حرمها في الآخرة)) وقال: ((لا يدخل الجنة مدمن خمر)) وقال: ((إن عند الله عهداً لمن شرب المسكر أن يسقيه من طينه الخبال قيل وما طينة الخبال؟ قال: عرق أهل النار أو عصارة أهل النار القيح والدم ومن شرب الخمر(/1)
لم تقبل له صلاة أربعين صباحا)) والخمر اسم جامع لكل ما خامر العقل أي غطاه سكراً وتلذذاً من أي نوع كان. وقد ذكر علماء الشريعة والطب والنفس والاجتماع للخمر مضار كثيرة، فمن مضاره أنه يصد عن ذكر الله وعن الصلاة لأن صاحبه يتعلق به ولا يكاد يفارقه وإذا فارقه كان قلبه معلقاً به.
ومن مضاره ما فيه من الوعيد الشديد والعقوبات، ومن مضاره أنه يفسد المعدة ويغير الخلقة فيتمدد البطن وتجحظ العيون، والسكارى يسرع إليهم تشوه الخلقة والهرم وحدوث السل الرئوي وتقرح الأمعاء وإضعاف النسل أو قطعه بالكلية. ومن مضاره فساد التصور والإدراك عند السكر حتى يكون صاحبه بمنزلة المجانين ثم هو بعد ذلك يضعف العقل وربما أدى إلى الجنون الدائم. ومن مضاره إيقاع العداوة والبغضاء بين شاربيه وبينهم وبين من يتصل بهم من المعاشرين والمعاملين لأن قلوب أهل الخمر معلقة به، فهم في ضيق وغم لا يفرحون ولا يسرون بشيء إلا بالاجتماع عليه كل كلمة تثيرهم وكل عمل يضجرهم. ومن مضاره قتل المعنويات والأخلاق الفاضلة وأنه يغري صاحبه بالزنا واللواط وكبائر الإثم والفواحش، فصلوات الله وسلامه على من سماه أم الخبائث ومفتاح كل شر. ومن مضاره أنه يستهلك الأموال ويستنفد الثروات حتى يدع الغني فقيراً وربما بلغت به الحال أن يبيع عرضه أو عرض حرمه للحصول عليه، ولقد كانت الدول الكافرة المتحضرة تحاربه أشد المحاربة وتكون الجمعيات العديدة للتحذير منه والسعي في منع المجتمع منه لما علموا فيه من المضار الخلقية والاجتماعية والمالية. وقد سبقهم الإسلام إلى ذلك فحذر منه غاية التحذير ورتب عليه من العقوبات الدنيوية والأخروية ما هو معلوم لعامة المسلمين حتى جاء في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((إذا سكر فاجلدوه ثم إن سكر فاجلدوه ثم إن سكر فاجلدوه فإن عاد في الرابعة فاقتلوه)) وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - حين حرمت الخمر أن تراق في الأسواق وتكسر(/2)
أوانيها، وحرق أمير المؤمنين عمر بيت رجل يقال له رويشد كان يبيع الخمر وقال له: أنت فويسق ولست برويشد. والحشيش من الخمر بل هو أخبث منه من جهة إفساد العقل والمزاج وفقد المروءة والرجولة، فإن متعاطيها تظهر عليه علامات التخنث والدياثة على نفسه حتى تنحط غريزته الجنسية إلى طبع أقبح من طبع النساء. وهذه المضار التي ذكرناها وما هو أكثر منها، منها ما هو ظاهر ومنها ما يظهر سريعاً ومنها ما يتأخر، وأعظم من ذلك عقوبة الآخرة التي لا فكاك منها إلا بالتوبة إلى الله والرجوع إليه. جنبني الله وإياكم منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء والأدواء ووفقنا للتوبة النصوح والرجوع إليه وعافانا من البلاء. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}{إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ}{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ}.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.(/3)
العنوان: مطلقات في دائرة الانتقام
رقم المقالة: 569
صاحب المقالة: خاص: الألوكة
-----------------------------------------
* الزوجات: أذاقونا العذاب فلا تحاسبونا على رد الاعتبار.
* الأزواج: بعد الطلاق ظهرت على حقيقتها شرسة ومتجبرة.
* د.هناء أبو شهبة: الحياة لا تنتهي بالطلاق فلا تضيعي حياتك في الانتقام.
* د.سامية الساعاتي: بهذه الوسائل تعيشين حياة أفضل بعد الطلاق.
* د. محمد نبيل غنايم: ارحموا أولادكم يرحمكم من في السماء.
* * *
ضحَّت من أجله بالرخيص والغالي، ووقفت إلى جواره في أحلك الظروف، وساندته بكل ما تملك، فهو زوجها وأبو أبنائها، وكل أملها أن يبنيا معاً أسرة مستقرة قوية، لكنها فجأة تجد نفسها خارج البيت، وبدلاً من أن يردَّ لها الجميل يصفعها بعبارة: "أنت طالق"، فتبدأ رحلة الانتقام.
زوجة أخرى في خلاف دائم مع زوجها، وكلاهما متيقن استحالة الحياة بينهما، وبدلاً من التفريق بإحسان يتركها كالمعلَّقة ويساومها على حقوقها وحريتها، فتتنازل له عن كل شيء مقابل أن تحصل على الطلاق، وما إن تحصل عليه حتى تبدأ رحلة الانتقام.
ساحات المحاكم تشهد العديد من معارك الأزواج والزوجات، ومهما بُذل من محاولات الإصلاح والتوفيق تكون النتيجة الرفض، خاصة عندما يصبح المطلب الوحيد للزوجة المجروحة في كرامتها أن تذلَّ هذا الشخص الذي أهانها وعذبها، وبدلاً من أن يصبح الطلاق حلاً لمشكلة يصبح بداية لمشكلة أخرى.
الانتقام ألوان:(/1)
** (نور عبد الهادي) تقول: خسرت بعد الطلاق كل شيء فلم أجد مفرّاً من البحث عن أي وسيلة أنتقم بها منه؛ فقد التزمت الصمت كثيراً وأنا أرى أمام عيني كل صور الخيانة الزوجية، وفي حين تحاول السيطرة على دموعها تروي بأسى شديد: لدي طفلان في عمر الزهور في أشد الحاجة إليَّ، ولا أستطيع أن أتخيل نفسي بدونهما ولو ليوم واحد، وعلى الرغم من ذلك حرمني منهما حتى أصبحت طريحة الفراش، وحار الأطباء في علاجي، لا أرى أولادي إلا مرة واحدة في الشهر لساعات معدودة، أجدهما معذبين باكيين لغيابي عنهما، يشتكيان الوحدة والحاجة إلى حنان الأم وعطفها، هل بعد ذلك كله يكون الانتقام منه حراماً، أنا مصرة أن أذيقه العذاب ألواناً عندما تتاح لي الظروف.
** (سلوى شفيق) سعيدة بما انتزعته من زوجها بعد الطلاق، وتقول: أهم شيء أنني حصلت منه على تنازل عن حضانة الأطفال، ومن سوء حظه أنه نسي أنني مازلت أحتفظ بالتوكيل الذي أعطاه لي أثناء سفره للعمل بالخارج؛ لذلك ذهبت بعد الطلاق بيوم واحد إلى المصرف وسحبت نصف رصيده، فهذا حق أولادي، خاصة أنني متيقنة أنه سيتزوَّج مرة أخرى، ومن الضروري تأمين مستقبل هؤلاء الأطفال.
** (حسنات العامري) تؤكد أن طليقها لم يفكر في زيارة أبنائه حتى ولو مرة واحدة بعد انفصالهما، بل اتجه إلى حياته الخاصة كأنه لم يتزوج ولم ينجب؛ فقررت أن تنتقم منه وتنغص عليه حياته، وتقول: ذهبت إلى خطيبته الجديدة ورويت لها بعض ما فعله بي، ولماذا طلبت منه الطلاق، وأخبرتها أنه شخصية ساذجة يحتاج إلى علاج نفسي مكثَّف حتى يصبح إنساناً سوياً، والحمد لله وصلت إلى ما أُريد بفسخ الخِطبة، وسأظل خلفه بالمرصاد ما حييت.
امرأة من نار:(/2)
** (محمد رأفت) طلق زوجته منذ ثلاث سنوات يقول: لم أكن أتصور أنني كنت متزوجاً من امرأة جشعة حتى طلقتها؛ فقد ظهرت على وجهها الحقيقي، ولا أعرف لماذا كل هذا؟ لم أستطع الصبر على نكدها وغضبها الدائم وإيذائها لأهلي، وقررت طلاقها في هدوء، وأعطيتها كل حقوقها وزيادة، لكنها لم تتركني في حالي وذهبت إلى رئيسي في العمل، وشوَّهت صورتي لديه، وكذلك لدى أصدقائي وجيراني حتى كاد الجميع يقاطعني.
** أما (كريم عبد اللطيف) فيؤكد أنه وقف لزوجته بحزم، ورد لها الصاع صاعين عندما حاولت أن تنتقم منه بعد الطلاق، حتى عادت إليه نادمة تطلب منه أن يتركها تعيش في سلام، ويقول: هي الآن متزوجة من رجل آخر وأنا أيضاً تزوجت، وكل منا أنجب أطفالاً ونسي الماضي بحلوه ومره، وأعتقد أن السبب في رغبة الانتقام التي تنتاب معظم النساء بعد الطلاق عذاب الهجر، والوحدة، والغيرة من امرأة أخرى تحل محلها في حياة مطلَّقها.
** (شريف فوزي) يؤكد أن الانتقام لم يكن رغبة مطلقته، ويعترف أن هذه الرغبة تملكَّته هو بعد الطلاق، ويقول: برغم أنها كانت زوجة سيئة الطباع تحملتها كثيراً، وحاولت إصلاحها، ثم فوجئت بها تطلب الطلاق دون سبب، بذلت جهوداً كبيرة كي أثنيَها عن هذا القرار ولكنها أصرت على الطلاق، وبعد مرور أشهر العدَّة تزوجت من رجل آخر، أردت استرداد طفلي منها فوجدتها قد ملأت رأسه بالأكاذيب، ونفثت الكراهية في نفسه تجاهي حتى أصبح يرفض رؤيتي.
فعمدت إلى إفساد حياتها وزوجها بعد أن أقنعت صاحب البيت الذي يستأجرانه أن يخرجهما من البيت على أن أُحضر له مستأجراً يدفع ضعف ما كانا يدفعانه؛ فلم يجدا إلا الشارع مأوى لهما خاصة مع سوء أحوالهما المادية.
طلاق وقضايا:(/3)
الدكتورة زينب عثمان- أستاذة الاجتماع بالمركز القومي للبحوث- تؤكد أن هناك قضايا كبيرة يتحول مجراها للقضاء المدني برغبة "المطلقات" برغم أن هؤلاء المطلقات هن أنفسهن اللاتي تنازلن عن مستحقاتهن الشرعية أمام محكمة الأسرة نظير الحصول على الطلاق. فهناك في مصر وحدها 12 ألف دعوى مرفوعة أمام القضاء من نساء في عصمة أزواجهن يرغبن في حبس الأزواج أو إيقاع عقوبات جنائية عليهم في قضايا تبديد منقولات الزوجية.
وتستنكر الدكتورة زينب عثمان انتقام بعض المطلقات من أزواجهن السابقين من باب العناد فقط، دون مراعاة نفسية الأبناء، وتقول: أكثر القضايا المرفوعة للقضاء يكون الدافع فيها تلبية هذه الرغبة المكبوتة داخل الطرفين.
وتذهب د. زينب إلى أن الزوجين يكذبان عندما يدعيان أنهما قد تضررا من الطلاق؛ فالمتضرر الحقيقي هم الأبناء وتستطرد قائلة: لا مشكلة لدى الزوجين بالطلاق؛ إذ يتوجه كل منهما للزواج من جديد، ويشبع أبوته وأمومته من جديد بالإنجاب مرة أخرى، في حين يصبح المظلوم الحقيقي أبناؤهما الذين لا يتمكنون من الحياة الطبيعية الكريمة في ظل حياة مليئة بالكراهية والحقد بين أقرب الناس إليهم الأب والأم.
المرأة المنتقمة خاسرة:
الدكتورة هناء أبو شهبة - أستاذة الطب النفسي بجامعة الأزهر- تؤكد أن ما تفعله بعض الزوجات المطلقات من انتقام من أزواجهن السابقين يكون نتاج غيرة شديدة، ورغبة في الانتقام تحركها دوافع كامنة، وكل زوجة من هؤلاء عانت الكبت الشديد خلال حياتها الزوجية مع زوجها، وتحمَّلت كثيراً فحدث الانفجار، وقررت أن يكون الانتقام الرهيب بسجن الزوج، أو الاستيلاء على جزء من أمواله، أو حرمانه من أطفاله، أو تنغيص حياته هو الحل الوحيد الذي يطفئ نيران الانتقام.(/4)
وتضيف: بعض هؤلاء الزوجات سويات؛ لأنهن أردن إفساد حياة أزواجهن ليدفعوا النفقة، وأُخرَيات منهنَّ أردن ذلك للانتقام منهم، وإذلالهم. وما أسعدها من لحظات تمر بها المطلقة حينما تشاهد مطلَّقها وهو في السجن، أو حتى خارجه يتعذب من شدة انتقامها؛ فهي ترى أن الموت أفضل له من أن يتزوج عليها حتى بعد طلاقها.
وكبار علماء النفس في العالم يؤكدون أن المرأة تكون شديدة الشراسة في انتقامها؛ فكما تحب بشدة تكره بشدة أيضاً.
لكن الدكتورة هناء أبو شهبة تنصح المطلقات بإلقاء الماضي بكل أساه وراء ظهورهن، وتقول: الطلاق هو الحل الوحيد عندما تصل العلاقة بين الزوجين إلى طريق مسدودة، والطلاق أفضل بكثير عندما تنتهي العلاقة بلا أبناء، لكن بوجود الأبناء لا تنتهي العلاقة بل تبدأ مرحلة جديدة، أعتقد أن المشاكل والصراعات فيها لن تجني سوى أبناء تملؤهم العُقَد، وربما تقودهم إلى الانحراف.
وفى هذه الحالة تنصح أبو شهبة بتدخل الأهل وذوي الاختصاص والخبرة من عائلتي الزوجين لحل مشكلات ما بعد الطلاق، خاصة ما يتعلق منها بالأولاد، حتى تنتهي هذه الخلافات بالحلول الودية، ويبقى الاحترام بين الأسرتين، ويحدث استقرار عاطفي بعد الانفصال.
زوجات مجني عليهن:
الدكتورة سامية الساعاتي- أستاذة علم الاجتماع بكلية الآداب جامعة عين شمس- تؤكد أن انتقام الزوجة ما هو إلا ردُّ فعل مباشر لما ذاقته مع زوجها من عذاب لا يُحتمل قبل الطلاق، وتقول: الأوساط الاجتماعية التي تحدث فيها هذه الحالات ليس شرطاً أن تكون منخفضة أو متوسطة المستوى حيث تحدث في الأوساط الراقية أيضاً؛ لأن المحرك الأساسي هنا هو حب الانتقام، وتدمير الآخر، وقد تكون التنشئة الاجتماعية المعقَّدة سبباً في هذا، لكن في بعض الحالات نجد أن الزوجة مضطرة إلى البحث عن حقوقها وتجد نفسها تطارد زوجها السابق، وهي في النهاية لا ترغب في إيذائه، وكل ما يهمها هو الحصول على نفقة أولادها.(/5)
وتشير الدكتورة سامية الساعاتي إلى أن هذا المناخ الاجتماعي السيِّئ يعد جُرثومةً فتَّاكة تُصيب الأبناء الذين قد ينشؤون غير أسوياء؛ نظراً لما شاهدوه من معارك بين أبويهما، كل طرف يخطط لهزيمة الآخر بغض الطَّرْف عن النتيجة التي تظهر في الأبناء بعد سنوات، حينما يكبَر الابن ويسأل عن سبب كراهية أبيه وأمه.
وعن كيفية مواصلة المرأة لحياتها بعد الطلاق تقول الدكتورة سامية الساعاتي: الطلاق حدث سيِّئ، وله آثاره السلبية على الرجل والمرأة على السواء، إلا أنه ليس نهاية الحياة، وأنصح كل امرأة طُلِّقت أن تتخلَّص من رغبتها في الانتقام، وتعيدَ تواصلَها مع العائلة؛ لأن هذا يعيدها إلى رتابة الحياة التي كانت تعيشها قبل الزواج، وكذلك عليها إعادة توطيد الصلة بأصدقائها المقربين جداً خاصة الذين من الممكن أن يساعدوها في تخطِّي محنتها، والعودة إلى حياتها الطبيعية.
الأهم من ذلك أن تعيد التواصل مع نفسها فعندما تمر المرأة بتجربة الطلاق من المهم أن تعيد اكتشاف نفسها، وأن تجد ما يملأ فراغها، سواء هوايات جديدة أو قديمة أو مواصلة دراستها، وذلك بالانطلاق من النقطة التي انتهت عندها، ومن الممكن أيضاً للمرأة أن تعيد الاهتمام بصحتها وجمالها وتمارس الرياضة لتفرغ الغضب والشعور بالضيق، حيث ترتبط صحَّتها النفسية بصحتها البدنية.
الطلاق الناجح أفضل:
الدكتور محمد نبيل غنايم - أستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة الأزهر- يرى: أن الإسلام كرَّم المرأة في كل حالاتها بما فيها حالة الطلاق، ولعلم الله- عز وجل- بصعوبة هذا الأمر أنزل البُشرى في قلب سورة الطلاق: {ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدراً} كأنها رسالة إلى المطلقات فيها رحمة وبشرى لهن.(/6)
وبرغم ما في الطلاق من مشكلات وأزمات، إلا أن الله شرعه رحمة بنا، فأحياناً كثيرة يكون الطلاق الناجح أفضل بكثير من الزواج الفاشل، وعلى العاقل ألا يبكي على اللبن المسكوب بقدر ما يأخذ العبرة من الحدث، ويبدأ حياة جديدة بثقة ويقين في الله عز وجل.
أما الزواج المنتهي بالانتقام فإنه كان أصلاً مبنياً على الباطل لا على الحب والمودَّة، ويلقي د.غنايم اللوم على أسرتي الزوج والزوجة الذين انتهيا إلى الطلاق بادئين مرحلة الانتقام، ويقول: أفراد الأسرتين سلبيون لأنهم وقفوا أمام كل ما يحدث صامتين، فلا محاولات للإصلاح، فضلاً عن أنهم لم يؤهِّلوا أبناءهم لمرحلة الزواج من البداية.
ويحذِّر النساء، وكذلك الرجال من شهوة الانتقام، فالله- سبحانه وتعالى- حثنا على الزواج بالمعروف أو التسريح بإحسان.(/7)
العنوان: مظاهر التوحيد في الحج
رقم المقالة: 236
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
الحمد لله رب العالمين؛ خلق الخلق تفضلا منه وإنعاما، وكلفهم بعبادته ابتلاء منه وامتحانا (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) نحمده على ما وفق وهدى، ونشكره على ما أعطى وأسدى، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ شرع الحج ركنا من أركان الإسلام، وفرقانا بين أهل الشرك وأهل الإيمان، وراغم بمناسكه وشعائره عُبّاد الأوثان، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله؛ حج حجة واحدة، أقام فيها التوحيد، وأبان المناسك، وودع المسلمين فقال (لتأخذوا مناسككم فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه) فسميت حجة الوداع، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله عز وجل، وتعظيم شعائره، والوقوف عند حدوده (ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب).
أيها الناس: الحج توحيد لله تعالى في زمانه ومكانه ومناسكه؛ فزمانه هو الزمان الذي اختاره الله تعالى لتكون مناسك الحج فيه (الحج أشهر معلومات) ومناسكه قد جمعت بين الأقوال والأفعال في توحيد الله تعالى، وإخلاص الدين له، وخلع ما سواه من الشركاء والأنداد، فقلوب الحجيج متجهة إلى الله تعالى تلبي له وتكبره، وتذكره وتشكره، وتستغفره وتسأله، فسبحان من جمع قلوب الحجيج على توحيده تعالى وذكره وشكره، وتعظيم شعائره.
وأما مكان المناسك فله قصة في تاريخ البشر عظيمة، والبيت العظيم شيدته أسرة نبع منها التوحيد بعد انتشار الشرك في البشر، وأنجبت الأنبياء والرسل عليهم السلام عقب فترة من الرسل، وانقطاع الوحي.(/1)
إنها أسرة خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام، ممثلة في شخصه الكريم، وابنه إسماعيل الذي أنجبته أمكم الصالحة هاجر عليهما السلام، وهي أسرة توحيد وإيمان، أخلصت دينها لله تعالى، ونابذت الشرك والأوثان، وتحملت في سبيل ذلك العنت والمشقة، والهجرة والوحدة، فكانت عاقبتها حميدة؛ إذ شرفها الله تعالى -بعد موجات من الابتلاء والامتحان- بأن تكون بانية البيت الحرام، والمؤذنة بالحج في الناس، وبارك في عقب الخليل إبراهيم، فكان أكثر الأنبياء والرسل من ذريته، منهم أولو العزم الثلاثة: موسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام.
وإبراهيم عليه السلام هو إبراهيم، وكيف لا يعرف إبراهيم من يقرأ القرآن!! هو أبو الموحدين بعد آدم ونوح عليهما السلام، وهو الإمام الذي جعله الله تعالى أمة، وحمل راية التوحيد لوحده، وواجه الشرك والوثنية بمفرده، بالجهاد والمفاصلة، وبالحجاج والمناظرة.
إنه الخليل إبراهيم عليه السلام الذي ناظر النمرود بن كنعان في الربوبية، فثبت أمامه بلا خوف ولا وجل، وبرهن له أنه العبد الحقير، وأن الله تعالى هو الرب الكبير (قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر).
وتنزل في مناظرته مع الصابئة من قومه فحجهم بأفول الكوكب والقمر والشمس، وأعلن توحيده لله تعالى، وبراءته من شرك قومه (قال يا قوم إني بريء مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون، وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون، الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون).(/2)
إنه الخليل الذي كسر الأصنام بيده الشريفة؛ دحرا للشرك وإقامة للتوحيد (فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون) (فراغ إلى آلهتهم فقال ألا تأكلون، ما لكم لا تنطقون، فراغ عليهم ضربا باليمين، فأقبلوا إليه يزفون، قال أتعبدون ما تنحتون، والله خلقكم وما تعملون) فألقاه قومه في النار عقابا له، بعد أن أقام عليهم الحجة، وأبان لهم المحجة، وأثبت بطلان ما كانوا عليه من الشرك، ولكن الله تعالى نجاه منها (قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون، قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم، وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين).
فلما لم ير استجابتهم لدعوته للتوحيد، وأيقن بإصرارهم على الشرك، هجرهم في الله تعالى، وهاجر من بلادهم ليقيم التوحيد في بلاد أخرى (وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربى عسى ألا أكون بدعاء ربى شقيا) فرزقه الله تعالى ذرية طيبة بإيمانه ودعوته، وصدقه ويقينه، وصبره وإخلاصه، فدعا أن يحفظه ربه جل جلاله وذريته من الشرك فقال عليه السلام (واجنبني وبني أن نعبد الأصنام، رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم).
تلك هي أجزاء من سيرة باني البيت، وهي سيرة موحد لله تعالى، منابذ للشرك والمشركين، وقد تحمل في سبيل ذلك ألوانا من المشقة والأذى، وشاركه في بناء البيت ابنه إسماعيل عليه السلام، وهو على التوحيد الذي دعا والده الناس إليه، وقد عده الله تعالى من الصابرين الأخيار (وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين) وفي الآية الأخرى (واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل وكل من الأخيار) وقد رضي الله تعالى عنه بإيمانه وصلاحه (واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضيا).(/3)
وابتلي هو ووالده عليهما السلام بأعظم ما يبتلى به ابن وأبوه؛ إذ أمر الله تعالى إبراهيم أن ينحر إسماعيل بيده، فبادر إبراهيم واضطجع إسماعيل، بلا تردد ولا تفكير، طائعين لأمر ربهما، مستسلمين له، فأي توحيد وإيمان ويقين قد ملأ قلبيهما، فما طلب إبراهيم أن يخفف الله عنه في هذا البلاء، ولا امتنع إسماعيل عن تنفيذه، بل بادر يحث أباه على الاستسلام لأمر الله تعالى (فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أنى أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين فلما أسلما وتله للجبين وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزى المحسنين إن هذا لهو البلاء المبين).
وأم هذا النبي الكريم الذي شارك في بناء البيت هي هاجر عليها السلام، التي ابتليت أعظم البلاء بتوطينها ورضيعها في وادي مكة وهو الوادي المقفر من أسباب الحياة، فسلمت أمرها لله تعالى، ورضيت بقضائه وقدره، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل وهي ترضعه حتى وضعها عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء، فوضعهما هنالك ووضع عندهما جرابا فيه تمر، وسقاء فيه ماء، ثم قفي إبراهيم منطلقا، فتبعته أم إسماعيل فقالت: يا إبراهيم، أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مرارا وجعل لا يلتفت إليها فقالت له: آلله الذي أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذن لا يضيعنا) وفي رواية (نادته من ورائه: يا إبراهيم، إلى من تتركنا؟ قال: إلى الله، قالت: رضيت بالله) رواه البخاري.(/4)
فتأملوا رحمكم الله تعالى كيف بلغ رضاها بالله عز وجل، ويقينها به سبحانه، وتوكلها عليه وحده دون سواه، حتى رضيت أن تبقى في ذلك الوادي المهجور المقفر لما كان الأمر أمر الله تعالى، وأيقنت أنه سبحانه لن يضيعها ورضيعها، فكان ما كان من مدد الله تعالى لها بماء زمزم، وقدوم قبيلة جرهم؛ حتى عمرت مكة بعد إقفارها، واستوطنت بعد هجرانها، وأول من استوطنها هي وابنها عليهما السلام.
لقد علمت أمكم هاجر عليها السلام أن حال مكة سيتغير، وستكون مهوى الأفئدة، ومقصد الحجاج؛ وذلك أنها لما كانت تسعى بحثا عن الماء، وجاء الملك فنبع زمزم؛ ثم قال لها عليه السلام:(لا تخافي الضيعة فإن ههنا بيتا لله عز وجل يبنيه هذا الغلام وأبوه وإن الله لا يضيع أهله) رواه البخاري.
تلك هي الأسرة المباركة التي شرفت باستيطان مكة، وبناء البيت، وهي أسرة توحيد وعلم، وتوكل ويقين، ظهر ذلك من مواقف الابن وأبيه وأمه عليهم السلام.
بل إن المقصد الأعظم الذي ترك من أجله إبراهيم عليه السلام زوجه وولده في مكة إنما كان إقامة الدين لله تعالى، ويظهر ذلك بجلاء في دعوة الخليل حين فارقهم متجها إلى الشام؛ إذ لهج لله تعالى داعيا (ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون).(/5)
ومرت السنون، وأزهرت مكة بساكنيها، فجاء الأمر الرباني لإبراهيم عليه السلام ببناء البيت الحرام، فسافر من الشام إلى مكة لهذه الغاية الجليلة، والتقى الابن بأبيه في مكة بعد طول الفراق، فجرى بينهما ما يجري بين الأب وابنه من المصافحة والعناق، فقال:(يا إسماعيل إن ربك أمرني أن أبني له بيتا، قال: أطع ربك، قال: إنه قد أمرني أن تعينني عليه، قال: إذن أفعل، فقاما فجعل إبراهيم يبني وإسماعيل يناوله الحجارة ويقولان (ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم) حتى ارتفع البناء وضعف الشيخ عن نقل الحجارة، فقام على حجر المقام فجعل يناوله الحجارة ويقولان (ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم) رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما.
وهذا الدعاء منهما عليهما السلام وهما يبنيان البيت من أدل الدلائل على توحيدهما، ورجائهما في الله تعالى، وخوفهما ألا يقبل عملهما، وكان وهيب بن الورد يبكى إذا قرأ (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا) ثم يقول: يا خليل الرحمن، ترفع قوائم بيت الرحمن وأنت مشفق أن لا يتقبل منك).
وأراد الله تعالى أن يكون هذا البيت الذي بناه إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام موضع المناسك، ومكان الطواف، وأمر سبحانه بتطهيره من كل ما يعارض التوحيد(وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود).
ولما اكتمل بناء البيت على التوحيد، وبناه إمام الموحدين في وقته إبراهيم عليه السلام أمره الله تعالى أن ينادي في الناس بأن يقصدوا هذا البيت لتوحيد الله تعالى وعبادته وذكره وشكره (وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات). فأذن إبراهيم عليه السلام يدعو الموحدين من البشر في كل زمان ومكان ليثوبوا إلى البيت الحرام، فاستجاب لدعوته أهل التوحيد، ونكل عنها المشركون.(/6)
قال ابن عباس رضي الله عنهما قال: (لمّا فرغ إبراهيم من بناء البيت؛ قيل له: أذّنْ في الناس بالحج. قال: يا ربّ، وما يبلغ صوتي؟! قال: أذّنْ وعليَّ البلاغ. فنادى إبراهيم: أيها الناس! كُتب عليكم الحج إلى البيت العتيق فحُجّوا. قال: فسمعه ما بين السماء والأرض؛ أفلا ترى الناس يجيئون من أقصى الأرض يُلبّون؟!) وفي لفظ عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (قام إبراهيم على الحجر، فقال: يا أيها الناس كتب عليكم الحج فأسمع من في أصلاب الرجال وأرحام النساء، فأجابه من آمن ومن كان سبق في علم الله أنه يحج إلى يوم القيامة: لبيك اللهم لبيك) رواه الفاكهي بإسناد صحيح.
وتوارث هذا التعظيم لبيت الله تعالى الموحدون من ذرية الخليل عليه السلام، وأقاموا المناسك، وعظموا الشعائر، ولا زالوا كذلك إلى يومنا هذا، وسيبقى من يقيم ذلك إلى آخر الزمان، وبعد نزول عيسى عليه السلام وقتله للدجال سيُهِّل بالحج قاصدا البيت الحرام؛ طاعة لله تعالى، وإجابة لدعوة خليل الرحمن، وأعرض عن الحج أهل الشرك والأوثان؛ ليتخذوا من أوثانهم وقبور سادتهم محجا لهم عن الحج الشرعي الذي رضيه الله تعالى لعباده، فنحمد الله تعالى أن جعلنا ممن أجابوا دعوة الخليل عليه السلام، ونسأله أن يرزقنا الثبات على الحق إلى الممات، إنه سميع قريب.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فإلهكم إله واحد فله أسلموا وبشر المخبتين الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم والصابرين على ما أصابهم والمقيمي الصلاة ومما رزقناهم ينفقون) بارك الله لي ولكم...
الخطبة الثانية
الحمد لله على ما هدانا، ونشكره على ما أعطانا، ونستغفره لذنوبنا وخطايانا، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.(/7)
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه؛ فإنكم في أيام عظيمة هي خير أيام السنة، والعمل الصالح فيها أفضل منه في غيرها (والفجر وليال عشر) قيل: هي عشر ذي الحجة، وروى ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(ما من عمل أزكى عند الله عز وجل ولا أعظم أجرا من خير يعمله في عشر الأضحى، قيل: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله عز وجل إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء) رواه البخاري والدارمي واللفظ له. فأروا الله تعالى فيها من أنفسكم خيرا، واجتهدوا في الأعمال الصالحة كما تجتهدون في عشر رمضان أو أشدَّ اجتهادا؛ فإن هذه العشر المباركات لا تقلُّ فضلا عند الله تعالى عن عشر رمضان الأخيرة، وظاهر الحديث أنها أفضل منها.
أيها المسلمون: لقد بنى إبراهيم وإسماعيل بيت الله تعالى على التوحيد، بأمر الله تعالى لهما بذلك، وفي المكان الذي اختاره؛ لإقامة التوحيد، وإخلاص الدين لله تعالى، فالموحدون من البشر هم أولى ببيت الله تعالى، وبالولاء لبانيه عليه السلام من أية أمة أخرى؛ ولما زعمت اليهود والنصارى أن الخليل عليه السلام على يهوديتهم ونصرانيتهم، وأنهم هم أتباعه كذبهم الله تعالى فيما زعموا، وبين سبحانه أن أتباعه هم من كانوا على دينه، وهم من لبوا نداءه بالحج، وهم المسلمون (ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين، إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين).
وكثير من كتاب اليهود والنصارى في هذا العصر يزعمون أن الحج ومناسكه من شعائر الوثنية التي تسربت إلى الإسلام، ويريدون بهذا الطعن ادعاء تحريف الإسلام بعد أن عجزوا عن التشكيك فيه كرسالة ربانية أنزلها الله تعالى لهداية البشر، ويستدلون على إفكهم المبين بما جاء في التاريخ من حج قبائل العرب وهي على الشرك.(/8)
وقد تلقف عنهم هذه الفرية بعض زنادقة هذا العصر ممن يسمون أنفسهم بالمفكرين والمثقفين، وهم في واقع الأمر ملاحدة لا يؤمنون برب العالمين، ولا يصدقون بيوم الدين، وبعضهم يتباكى على هذا التسابق إلى الحج والازدحام عليه وهو لا يعدو أن يكون من بقايا الجاهلية حسب قولهم.
وتالله إنهم لمن أجهل الناس، وأشدهم تكذيبا بالقرآن؛ لأن الحج ومناسكه من الطواف والسعي والوقوف بعرفة، والمبيت بمزدلفة وغير ذلك جاء ذكره في القرآن، فماذا سيقولون؟!
ثم إنهم من أجهل الناس بالتاريخ وبما يسمى بعلوم الاجتماع وتناقل الحضارات؛ وذلك بنسبتهم شعائر الحج للمشركين؛ إذ من الثابت في التاريخ أن المؤذن بالحج إبراهيم عليه السلام، ثم انحرف الناس في مكة بعد دعوته ودعوة ابنه إسماعيل، وبقيت بقايا من دينهما يتوارثها الناس، وداخلها شيء كثير من التحريف والشرك، كالاعتقاد في الأصنام، وعبادتها من دون الله تعالى، وملء البيت الحرام بها، والتمييز في الحج بين الحمس وغيرهم، والطواف بالبيت عراة وغير ذلك.
فبعث الله تعالى محمدا عليه الصلاة والسلام في المكان الذي أذن فيه إبراهيم عليه السلام بالحج؛ ليزيل ما زاده الناس في دينه، وليقضي على أوضار الشرك، ويعيد الناس إلى التوحيد الذي دعاهم إليه إبراهيم عليه السلام، وتم ذلك بحمد الله تعالى، وحج الناس بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم على وفق التوحيد الذي أذن به إبراهيم عليه السلام لما بنى البيت.(/9)
أفإن كان كذلك يأتي جاهل أخرق، قد اسود قلبه بالحقد، وأعمى الضلال بصيرته ليقرأ صفحات من التاريخ فيرى أن قريشا كانوا يحجون في جاهليتهم، فيطير فرحا بما اكتشف، ويصيح في الناس أن الحج من بقايا الوثنية، وهو من جهله لا يعلم أن عوام المسلمين في طول العالم الإسلامي وعرضه يعلمون أن قريشا ورثت الحج عن إبراهيم عليه السلام، وبقي فيهم شيء من مناسكه وشعائره مع ما داخلها من التحريف والشرك الذي أزاله النبي صلى الله عليه وسلم بدعوته إلى الإسلام.
وهؤلاء المنحرفون يصدرون في الإعلام الفاسد،ويشار إليهم بالبنان، ويفرضون على الناس صباحا ومساء، بدعوى أنهم مفكرون وباحثون، وقد بلغ جهلهم بالشريعة والتاريخ والتوارث الحضاري ما قد سمعتم وعلمتم، فإلى الله تعالى المشتكى من زمن صدر فيه الأراذل، وأخفيت الحقائق، وتكلم الرويبضة.
ونسأل الله تعالى أن يكبت كل منافق ومنافقة، وأن ينصر دينه، ويعلي كلمته إنه سميع مجيب.
وصلوا وسلموا.....(/10)
العنوان: مظاهر التوحيد في الحج
رقم المقالة: 1833
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
المناسك والتوحيد
الحمد لله؛ مالك الملك، ومدبر الأمر؛ فرض على عباده توحيده وطاعته، وحذرهم من الإشراك به ومن معصيته {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25] نحمده فهو أهل الحمد والشكر، وأحق من حمده الحامدون، وشكره الشاكرون {فَللهِ الحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ العَالَمِينَ * وَلَهُ الكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} [الجاثية:36-37] وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك؛ لا رب لنا سواه، ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ بعثه الله تعالى على حين فترة من الرسل، وانقطاع من الوحي؛ فأصلح به القلوب، وزكى النفوس، وأعاد الحنيفية، وقضى على مظاهر الوثنية {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ} [التوبة:33] صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وأتباعه إلى يوم الدين.(/1)
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واعرفوا له عز وجل حقه، واقدروه سبحانه قدره؛ فإنه خالقكم ورازقكم، ومحييكم ومميتكم، وباعثكم ومحاسبكم على أعمالكم، يعلم سركم وجهركم، ولا يخفى عليه شيء من أمركم، ولا يريد منكم إلا توحيده وطاعته، ومجانبة الإشراك به ومعصيته، لم يخلقكم ليستقوي بكم من ضعف، ولا ليكاثر بكم من قلة، ولا ليقدر بكم من عجز، بل هو القادر القوي الغني عن العالمين {وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو القُوَّةِ المَتِينُ} [الذاريات:56-58].
أيها الناس: الحج ركن من أركان الإسلام، ومبنى من مبانيه العظام، شرعه الله تعالى لمصالح عباده ومنافعهم في الدنيا والآخرة.
والحج في زمانه ومكانه وأعماله شعيرة من الشعائر الكبرى، ومظهر من مظاهر توحيد الله تعالى، ونبذ الشرك والوثنية؛ فزمانه من الله تعالى وليس من البشر {الحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة:197] ومكانه بقعة مباركة مقدسة باركها الله تعالى، وفضلها على سائر البقاع، وأمر عباده بأن يفدوا إليها من فجاج الأرض حجاجا ومعتمرين وزائرين {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج:27].
هكذا أراد الله تعالى أن يكون زمان الحج ومكانه، ولا معقب لحكم الله تعالى، وليس على المؤمنين إلا القبول والإذعان، والقبول والامتثال، فلبى النداء من أراد الله تعالى بهم خيرا من عباده -ولا زالوا وإلى آخر الزمان- واستنكف عنه أهل الجهل والشرك والاستكبار.(/2)
والحج في أعماله وشعائره مبنيٌ على توحيد الله تعالى وطاعته؛ فالحاج يخرج من بلده، ويفارق أهله وولده وحبه، ولا يدري أيرجع إليهم أم يموت بعيدا عنهم، ويتحمل مشقة السفر ومخاطره، ويبذل نفيس المال، لا لشيء إلا لمرضاة الله تعالى وتلبية لنداء الخليل عليه السلام حين أمره الله تعالى أن يبتني بيتا، وينادي في الناس بأن يحجوا إليه.
مسلمون يفدون إلى مكة للحج من أقاصي البلدان.. شيب وعجائز أخذت السنون منهم حظها، فهزلت أجسامهم، وضعفت حركتهم، وأحاطت بهم الأسقام من كل جانب ما إن يبشروا بأنهم سيحجون إلا نهضت لهم هِمَمٌ تناطح السحاب، وتدك الجبال..
منهم من ينتظر هذه البشرى منذ عشرين سنة وثلاثين وأربعين..
ومنهم من بذل كل ثروته في هذا السبيل..
ومنهم من باع بيته لأجل الحج..
فهل ترون يا عباد الله أن هؤلاء قدموا إلى مكة يريدون عرضا من الدنيا، وقد بذلوا كل دنياهم لأجل الحج؟!
ما إن تطأ أقدامهم أرض الحرم، فيروا الكعبة الشريفة إلا وتقشعر جلودهم، وتفيض بالدمع عيونهم؛ شاكرين الله تعالى على بلوغ الهدف، وتحقق الأمنية، وأداء الفريضة!!
وتالله الذي لا يحلف إلا به إن خروجهم من بلادهم إلى مكة مظهر عظيم من مظاهر التوحيد، وإن في خروجهم بهذه الأعداد الهائلة في كل عام، ومن مختلف البلدان حتى لا تكاد توجد بلاد لا يفد منها حجاج، إن فيه دعوةً إلى التوحيد؛ فكم من ملحد ومشرك وضال هداه الله تعالى إلى الإسلام، وكان الحج سبب هدايته حين رأى أهل بلده يحجون، أو رأى جموع الحجيج في المشاعر على شاشات التلفزة، فسأل نفسه ماذا يفعل هؤلاء؟ وماذا يريدون؟! ولماذا كان لباسهم هكذا؟ ولماذا كان لباسا واحدا؛ غنيهم وفقيرهم، شريفهم ووضيعهم، ولماذا يطوفون ويقفون ويجأرون ويبكون؟ فكانت هذه الأسئلة و وبحثه عن أجوبتها سبب هدايته، وكان سفر الحجيج واجتماعهم ومشهدهم سببا لتلك الأسئلة. فما أعظم الحج وشعائره، وما أدله على توحيد الله تعالى وتعظيمه!!(/3)
والحاج حين يبلغ الميقات يتجرد من لباسه المعتاد، ويلبس ما لا يعتاد ولو كان فيه مشقة؛ فإن مفارقة المألوف شاق على النفوس.
وهو كذلك يجتنب محظورات الإحرام، لا يفعل ذلك لمصلحة مالية، أو مراعاة طبية، أو غيرها، بل يفعله طاعة لله تعالى، وإيمانا بأنه سبحانه فرض الحج، وأوجب على الحاج أن يفعل ذلك، وهذه الطاعة في ترك ما هو مألوف، وفعل غير المألوف، واجتناب المحبوب ما هي إلا مظهر من مظاهر توحيد الله تعالى والإيمان به.
وأول جملة ينطق بها الحاج حال دخوله النسك هي التلبية، والتلبية إعلان للتوحيد ونبذ للشرك، روى ابن عُمَرَ رضي الله عنهما: (أَنَّ تَلْبِيَةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لَبَّيْكَ اللهم لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لك لَبَّيْكَ إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لك وَالْمُلْكَ لَا شَرِيكَ لك) وفي رواية: (لَا يَزِيدُ على هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ) متفق عليه.
وهذه التلبية العظيمة هي إهلال بالتوحيد كما قال جابر رضي الله عنه وهو يحكي حجة النبي صلى الله عليه وسلم ويصف حالهم معه: (وما عَمِلَ بِهِ من شَيْءٍ عَمِلْنَا بِهِ فَأَهَلَّ بِالتَّوْحِيدِ: لَبَّيْكَ اللهم لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لك لَبَّيْكَ إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لك وَالْمُلْكَ لَا شَرِيكَ لك، وَأَهَلَّ الناس بهذا الذي يُهِلُّونَ بِهِ، فلم يَرُدَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم شيئا منه وَلَزِمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم تَلْبِيَتَهُ) رواه مسلم
فكانت هذه التلبية المباركة هي أفضل صيغ التلبية؛ لالتزام النبي صلى الله عليه وسلم بها، وعدم زيادته عليها؛ ولما تضمنته من معاني التوحيد، والبراءة من الشرك؛ ولما فيها من الاستجابة لدعوة الخليل عليه السلام حين أذن في الناس بالحج؛ فإن معناها: إجابة لك بعد إجابة، إجابة خالصة لا شرك فيها.(/4)
وتضمنت التلبية كذلك حمد الله تعالى، والإقرار بنعمه الظاهرة والباطنة، وبأنه عز وجل مالك الملك، وكل ذلك من مظاهر توحيد الله تعالى في تلك التلبية المباركة.
وهي ردٌ على تلبية المشركين حين كانوا يلبون فيَقُولُونَ (لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لك إلا شَرِيكًا هو لك تَمْلِكُهُ وما مَلَكَ) فكان النبي عليه الصلاة والسلام ينكر ذلك عليهم ويقول: (وَيْلَكُمْ قَدٍ قَدٍ) رواه مسلم. أي: تكفيكم تلبية التوحيد عن هذه الزيادة الشركية في التلبية.
فالحمد لله الذي شرع الحج لعباده المؤمنين، والحمد لله الذي جعل البيت مثابة للناس وأمنا، والحمد لله الذي هدانا لهذا الدين الحنيف {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ * قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ العَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمِينَ} [الأنعام:163].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم....
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.(/5)
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واعلموا أنكم في أيام عظيمة، العمل الصالح فيها خير وأحب إلى الله تعالى من العمل في غيرها؛ كما روى ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فيها أَحَبُّ إلى الله من هذه الْأَيَّامِ يَعْنِي أَيَّامَ الْعَشْرِ، قالوا: يا رَسُولَ الله، ولا الْجِهَادُ في سَبِيلِ الله؟ قال: ولا الْجِهَادُ في سَبِيلِ الله إلا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فلم يَرْجِعْ من ذلك بِشَيْءٍ) رواه البخاري وأبو داود واللفظ له.
فاعمروها -أيها المؤمنون-بذكر الله تعالى وطاعته، وتعظيم شعائره {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ الله فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى القُلُوبِ} [الحج:32].
أيها المسلمون: إذا تأمل المتأمل مناسك الحج والعمرة بأقولها وأفعالها فسيجد أن لها ارتباطا وثيقا بتوحيد الله تعالى؛ فهي أعمال يعملها المسلم انطلاقا من إيمانه بالله تعالى، وتوحيده له عز وجل، منذ خروجه من بلده لأداء هذا النسك العظيم إلى رجوعه بعد أداء المناسك.
وإذا ما بلغ الحاج البيت الحرام استحضر وهو يرى الكعبة أن باني البيت بأمر الله تعالى إبراهيم الخليل عليه السلام، الذي كان إماما في دعوته إلى الحنيفية التي هي التوحيد حتى نسبت إليه {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لله حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ المُشْرِكِينَ} [النحل:120] وأمر الله تعالى عباده باتباعها فقال سبحانه {فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ} [آل عمران:95].
كما يستحضر أن إبراهيم عليه السلام قد شيد البيت على التوحيد، كيف وهو من دعا الله تعالى قائلا {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا البَلَدَ آَمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} [إبراهيم:35].(/6)
فإذا استحضر المسلم هذا المعنى العظيم وهو يرى البيت الحرام، لم يشرك مع الله تعالى آلهة أخرى؛ ولذا فإنه يبتدئ طوافه بالبيت بذكر اسم الله تعالى وتكبيره، وهذا من إعلان التوحيد في بداية الطواف، وهو يطوف حين يطوف تعظيما لله تعالى؛ لأن الله تعالى جعل الطواف بالكعبة عبادة وقربة يتقرب بها المؤمنون إليه.
إن الحجاج لا يطوفون بالكعبة لأنها بناء جميل، أو لأنها أقدم بناء على الأرض فهي من التراث، أو لأن أبويهم إبراهيم وإسماعيل قد بنياها، أو لاعتقادهم أنها تنفع وتضر وهي أكوام حجارة كغيرها، بل يطوفون بها لأن الله تعالى أمرهم بذلك، وقضى سبحانه بأن الطواف بها من شعائره سبحانه وتعالى، ومن مناسك الحج والعمرة التي كتبها على عباده، {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالبَيْتِ العَتِيقِ} [الحج:29] ولذا كان الطواف بها قربة إلى الله تعالى، وكان الطواف بأي بناء على وجه التعبد شركا بالله تعالى، فما أعظم هذا المعنى من معاني التوحيد وقد غفل عنه كثير من الناس!!
وإن تيسر للطائف أن يستلم الحجر الأسود ويقبله فإنه يفعل ذلك لأن الله تعالى شرع ذلك وجعله عبادة له سبحانه، لا لأنه يعبد الحجر الأسود أو يعتقد فيه النفع والضر، وفي هذا المعنى ثبت عن عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ جاء إلى الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ فَقَبَّلَهُ فقال: (إني أَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لَا تَضُرُّ ولا تَنْفَعُ وَلَوْلَا أَنِّي رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يُقَبِّلُكَ ما قَبَّلْتُكَ) متفق عليه.
ولو أن رجلا قبل حجرا غير الحجر الأسود على وجه التعبد لكان مشركا؛ فسبحان من جعل الطواف بالبيت عبادة، وجعل الطواف بغيره شركا، وسبحان من جعل تقبيل الحجر الأسود عبادة، وجعل تقبيل غيره شركا!!
وهل التوحيد إلا التزام أمر الله تعالى، والعمل بشريعته، والوقوف عندها، والحذر مما أحدثه المحدثون من أنواع الشرك والبدع والضلال؟!(/7)
عن عَائِشَةَ رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما جُعِلَ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَرَمْيُ الْجِمَارِ لِإِقَامَةِ ذِكْرِ الله) رواه أبو داود.
ولو فقه المسلمون هذا المعنى العظيم في الحج لما كان في كثير من بلاد المسلمين قبور وأضرحة تعبد من دون الله تعالى؛ فيطاف بها، وينذر لها، ويدعى عندها، ويصرف لها ما لا يجوز صرفه إلا لله تعالى من المحبة والتعظيم والخوف والرجاء، فما أشد غربة التوحيد في كثير من بلاد المسلمين؟!
وما أحوجنا إلى معرفة ارتباط العبادات من صلاة وصيام وصدقة وحج وغيرها بتوحيد الله تعالى، وأن الدافع الذي يدفع المسلم إلى هذه العبادات مع ما فيها من مشقة هو توحيده لله تعالى، ولو فقه المسلمون ذلك حق الفقه لما انقلبت العبادات عند كثير من الناس إلى ما يشبه العادات، فلا تتحرك بها قلوبهم، ولا تزكو بها أعمالهم وأخلاقهم.
ألا فاتقوا الله ربكم، واستشعروا في كل عبادة تؤدونها حقه سبحانه عليكم، واستحضروا عظمته وقدرته، وأنه عز وجل ربكم وإلهكم وأنتم عبيده، وأنه تعالى غني عنكم وأنتم مفتقرون إليه في كل أحوالكم وأحيانكم وشؤونكم، فمن استحضر ذلك في كل عبادة يؤديها وجد في قلبه لذة لا يجدها في أي شيء آخر.
وصلوا وسلموا على نبيكم...(/8)
العنوان: مع الشاعر الكبير محمد التهامي
رقم المقالة: 153
صاحب المقالة:
-----------------------------------------
حذّر الشاعر الكبير محمد التهامي من موجة الغموض والتغريب في القصيدة الحديثة، وقال: إن هذه الموجة ستنكسر قريبًا وسيعود الشعر – بأصالته – تاجًا للإبداع الفني والفكري..
جاء ذلك في الحوار الذي أجرته مجلة ((الأدب الإسلامي)) مع الشاعر الأستاذ محمد التهامي عضو المكتب الاقليمي للرابطة في القاهرة.
والحاصل على جائزة الدولة التقديرية في الآداب في مصر، وجائزة الملك الحسن بالمغرب، وصاحب الرحلة الشعرية الطويلة التي أثمرت خمسة دواوين؛ هي: أغنيات لعشاق الوطن، أشواق عربية، أنا مسلم، دماء العروبة على جدران الكويت، وأخيرًا ديوان: ((يا إلهي)) وهو من منشورات الرابطة.
وشاعرنا محمد التهامي درس القانون واشتغل بالإعلام والصحافة وكان مديرًا لمكتب الجامعة العربية بإسبانيا لعدة سنوات، وهو عضو المجالس القومية المتخصصة، وعضو مجلس إدارة اتحاد الكتاب بمصر، وأعمال شاعرنا معروفة، وصوته له حضور في العالم العربي والإسلامي، وكثير من قصائده يدرّس في مقررات التعليم في بعض مدارس العالم العربي..
التقت مجلة ((الأدب الإسلامي)) الشاعر محمد التهامي؛ وكان هذا الحوار:
- ما الآمال التي تعلقونها على رابطة الأدب الإسلامي العالمية ومجلتها في سبيل النهضة بالحركة الأدبية المعاصرة وربطها بحركة المجتمع؟
أملنا في رابطة الأدب الإسلامي ومجلتها كبير جدًا، فالأدب الإسلامي قديم وله جذوره القوية، وتياره الأكبر كان يطغى دائمًا على محاولات الخروج الهزيلة المحدودة والمتقطعة التي كانت تعتور المسيرة.(/1)
وفي هذه الأيام التي استشرى فيها الغزو الفكري والصليبي، والتي وثبت فيها وسائل الاتصال بالكلمة والصورة، وغطت كل العالم، متخطية كل قيود الزمان والمكان، والتي استأسدت فيها العلمانية، وأخذت في ترويج الأباطيل حول الأدب الإسلامي، والتي حملت فيها مذاهب الحداثة على مقدسات الأمة، في هذه الأيام أصبح واجبًا أن تُسلَّط الأضواء على الأدب الإسلامي، الذي يحاول بجدية وصدق إثراء الحياة البشرية وقيادتها، إلى العمل بما فيه مصلحتها الحقيقية، فالأدب الإسلامي إذا كان صادرًا عن أديب مسلم إسلامًا حقيقيًا فهو بطبيعته وسليقته سيحيد عن كل ما يشوه الحياة ويدنسها، سواء كان هذا الأدب يدور حول الدعوة الإسلامية – وهذا القطاع يسمونه تاج الأدب الإسلامي – أو كان يدور حول الابداع الأدبي في كل أغراضه، ولكنه يتحرى الطريق المستقيم للحياة البشرية المثالية، وهذا يشكّل لب الأدب الإسلامي باللغة العربية أو اللغات الأخرى.
دون انحراف
- وماذا عن الأدب الذي يصور الحياة المثلى ولا ينحرف عن الطريق المستقيم ويبدعه غير المسلم؟
الأدب الذي يصور الحياة المثلى ولا ينحرف عن الطريق المستقيم ويبدعه غير المسلم يعتبر في نظرية الأدب الإسلامي أدبًا محايدًا، وهذا يجب احترامه. أما الإبداع الذي يدعو إلى ما يشبه الحياة ويحيد بالبشرية عن الطريق السوي الذي رسمته الرسالات السماوية، فهو أدب مرفوض في نظرية الأدب الإسلامي حتى وإن كان كاتبه مسلمًا.
- يعمد الشاعر المعاصر – الآن – إلى الكتابة النثرية (المقالات الأدبية ودراسة الكتب... وما إلى ذلك) إلى جانب كتاباته الشعرية.. ولكن يلاحظ أن الشاعر محمد التهامي لم يلجأ إلى كتابات نثرية مشابهة، فهل لم يطاوعه قلمه على كتابة غير الشعر؟(/2)
صحيح أني لم أكتب كثيرًا في الأدب والنقد، ولعل ذلك يرجع أولاً إلى أن النشر ليس ميسورًا في مصر خاصة أمام الدراسات الجادة، على الرغم من صدور مجلات متخصصة، وإفراد صفحات في بعض الصحف اليومية، ولكن من سيئات أسلوب النشر أنه ليس متاحًا إلا لمن يملك الوسيلة، وهي متعددة الوجوه والجوانب، ولعل دراستي للقانون وعملي في الصحافة والإعلام دفعاني إلى الكتابة السياسية، ولي كتاب صدر في السبعينيات بعنوان ((جامعة الشعوب الإسلامية والعربية.. لماذا؟ وكيف؟)).
- لماذا لم تتجه حتى الآن إلى كتابة المسرح الشعري الإسلامي رغم حاجتنا الماسة إلى ذلك؟
أنا لم أتجه إلى كتابة الشعر المسرحي، على الرغم من أن لي بعض المشاهد المسرحية كتبتها عندما كنت طالبًا، وذلك لعدة أسباب منها أنني كنت أرى أن الشعر يربك فن المسرح، ويستهين به، وكنت أحب لشعري أن يصل شعرًا خالصًا إلى الجماهير،.. كان هذا رأيي في أول الأمر.. ثم لما اقتربت من المسرح أخيرًا.. اتضح لي أن الكتابة للمسرح الشعري تحتاج إلى كثير من التفرغ.. وهذا لم يتح لي حتى الآن.
- إذن ما رأيك في تجارب علي أحمد باكثير المسرحية الشعرية والنثرية؟
إن إبداعات الأستاذ باكثير الشعرية والنثرية في مجال المسرح جديرة بالتقدير، وكان من الواجب الاهتمام بها وتقديمها كما تم في مسرحيات عزيز أباظة وعبدالرحمن الشرقاوي وصلاح عبدالصبور، وأرى أنه عندما تستوي النهضة المسرحية عندنا على ساقيها ستتجه إلى إنتاج المسرحيات الجادة والتاريخية من أمثال إبداع الأستاذ باكثير المسرحي.
تعمية إعلامية.. لماذا؟
- لقد سبق لك الفوز بجائزة الدولة التقديرية في مصر في السنوات الأخيرة وبالتحديد عام 1991م، ولا شك أن هذا الفوز يأتي تتويجًا لجهودك الشعرية التي تزخر بها دواوينك.. فهل هذا يعد إنصافًا لك وللقصيدة ((التقليدية الكلاسيكية)) أو الخليلية بعامة؟(/3)
في الحقيقة.. كان في حصولي على جائزة الدولة التقديرية من المجلس الأعلى للثقافة بمصر ما يشبه المفاجأة لي. فقد ابتليت بتجاهل النقاد لشعري والتعمية الإعلامية عني، خاصة وأن غالبية الأقلام الناقدة والإعلامية على الساحة من أصحاب الأقلام الماركسية والعلمانية.. وكاد الأمر في كثير من الأحيان أن يدفعني إلى الاكتئاب.. صحيح أنني تأخرت نسبيًا في نشر دواوين شعري ولكني كنت أوالي النشر في الصحف والمجلات والإذاعة.. وكان لي عشر قصائد تدرس في المدارس على مستوى العالم العربي، ومع ذلك كان النقاد وكتَّاب الصحافة يتجاهلونني. ثم اتضح أن هناك من كبار العلماء في مصر من يعرفون قيمة الشعر الأصيل من أمثال الدكتور إبراهيم مدكور والدكتور عز الدين عبدالله والدكتور زكي نجيب محمود والدكتور حسين مؤنس والدكتورة بنت الشاطئ والدكتورة سهير القلماوي والدكتور إسماعيل صبري عبدالله... وغيرهم من أعضاء المجلس الأعلى للثقافة الذين رجحوا جانب هذا الشعر ومنحوني مع بقية الأعضاء ومنهم وزير الثقافة ووكلاء الوزارة ورئيس الهيئة العامة للكتاب ورؤساء نقابات المسرح والسينما والفنون التشكيلية – منحوني الجائزة.
ومن كل هذا يتضح أنه على الرغم من الضجة الإعلامية حول الشعر الحر وقصيدة النثر إلا أن الجانب المرجح يظل للشعر الأصيل.
- ما موقف النقد من أعمالك الشعرية سواء قبل الحصول على الجائزة أو بعدها؟(/4)
يؤلمني جدًا إهمال النقاد الكتابة عن شعري ولكن يملؤني إيمان صادق وعميق بأن المستقبل للحق، وأن الشعر الذي أكتبه لن يضيع، وسيقيض الله لي في المستقبل من يدرسه ويعنى به، ومع ذلك فقد كتب عني الأستاذ الكبير د.شوقي ضيف في جريدة الأخبار عند صدور ديواني ((أشواق عربية))، وكذلك الدكتور شكري عياد في مجلة الهلال عند حصولي على جائزة الدولة التقديرية، ومع أني لم أوافق تمامًا على بعض الآراء التي جاءت في مقال الدكتور شكري عياد إلا أني شكرت له عنايته بمجرد الكتابة، فهذا أضعف الإيمان، كما سجلت عني رسالة ماجستير في كلية اللغة العربية بجامعة الأزهر وتمت مناقشتها منذ أكثر من عامين.
- الشعر التقليدي ما زال متهمًا بالمباشرة، والصور الشعرية المكررة، أو المعادة، والموضوعات غير المبتكرة.. فما ردك على مثل هذه التهم وأنت واحد من كبار الشعراء المحافظين على عمود الشعر العربي؟
أولاً أنا أوافقك على تسمية الشعر الخليلي الأصيل بالشعر التقليدي، كما أن الشعر الأصيل الذي يكرر المعاني القديمة والموضوعات المتكررة ليس شعرًا معاصرًا، وأن الشعر المعاصر الملتزم بأصول الشعر، هو الذي يجاري العصر، ويستشرف المستقبل، ويعانق الحياة الحية النابضة، سريعة الإيقاع، بكل ما فيها، ولا يستطيع الشاعر إلا أن يكون كذلك، وحرصًا على الوقت، والحيز المتاح، لا أجد ردًا على سؤالك، إلا بإيراد نماذج من شعري. منها مثلاً من قصيدة ((إلى ولدي)):
أنا قادم لك يا بني وحق طهرك لا تنم
لا تحرمنَّ أباك من فمك الشهي إذا ابتسم
حلواك تلك أضمها في لهفة بيديّ ضم
أسعى إليك، وكل خافقةٍ بجنبي تضطرم
فلعلني ألقى صياحك يملأ الدنيا نغم
فأطير من فرحي وأنسى الهم.. أنسى كلَّ هم
ولكم تعبتُ.. وكم شقيتُ، وكم شبعت من الألم
وعلى نداك الحلو ترتاح الجراح وتلتئم
ومن قصيدتي ((التليفون)):
رَنَّ من لوعته عن هواه معلنا
فاسمعي دقته إنه قلبي أنا
طار من لهفته وأتى مستأذنا(/5)
فافتحي الباب له تلتقي آذاننا
تلتقي أفواهنا.. تلتقي أرواحنا
في عناق فوق ما تشتهي أجسادنا
الشعر.. ديوان العرب
- يقال إن العصر الآن.. هو عصر الرواية.. وأنها تليق حاليًا لأن يطلق عليها ديوان العرب.. وإن الشعر فقد مكانة مهمة كانت له، باعتباره كان ديوان العرب في القرون الماضية.. هل توافق على هذا الرأي؟
كان الشعر.. وسيظل دائمًا.. ديوان العرب والمترجم الحقيقي عن أعماق الإنسان العربي، وخاصة أن عنصر الموسيقا فيه يلعب دورًا رئيسًا، ويميزه عن غيره من الشعر الأجنبي، وما تراجع تأثير الشعر العربي المعاصر في الوجدان العام إلا نتيجة تصارع المدارس الشعرية المختلفة، منذ بدء حركة التجديد في الأربعينيات، ولو انشغلت كل مدرسة بالإبداع في مجالها، ولم تتصادم مع المدارس الأخرى، وتركت إبداعها لجمهور المتلقين يحكم له أو عليه لكان ذلك هو الطريق الأصوب للتطور الشعري، ولكن الصدام العنيف بين المدارس، جعل كل مدرسة تحاول النيل من الأخرى، وتحمل على انتاجها، مما شوّه الشعر عامة – كل الشعر – في وجدان المتلقين، وكان أن انصرف الجمهور – أو كاد – عن الشعر، وزاد الطين بلة ما لجأت إليه المدارس الجديدة من الغموض والإبهام، وقصر الشعر على الدوائر الضيقة ممن يحاولون الشعر، ولهذا انعزل الشعر الحديث عن القاعدة العريضة من الجماهير، وكاد يفقد القيادة.
ولكن كل هذه أعراض طارئة، ستزول حتمًا عن قريب، وستعود للشعر موسيقاه، ويعود تأثيره وقيادته للفنون الأخرى، الذي هو سيِّدها بلا منازع في الماضي والحاضر والمستقبل.(/6)
العنوان: مع الشاعر والناقد د.صابر عبدالدايم
رقم المقالة: 154
صاحب المقالة:
-----------------------------------------
يعد د.صابر عبدالدايم من الأدباء الذين جمعوا بين الالتزام الإسلامي والإبداع الفني المتألق بدواوينه التي ضمت مزايا الأصالة إلى جاذبية الجديد، وهو مع ذلك ناقد وأستاذ جامعي، التقته مجلة ((الأدب الإسلامي)) في هذا الحوار:
- تباينت الرؤى حول وظيفة الشاعر في الحياة.. فهل لنا أن نعرف رؤيتكم لهذه الوظيفة؟
إن الشاعر بذرة في حقل الحياة.. يستمد حياته من خصوبتها ويكسبها ثراء ومتعة وجمالاً حين يتفاعل مع معطياتها ومكوناتها... وينحت مفرداته من أعصابها وشرايينها...
فطبيعة الأدب ووظيفته غير منفصلين كما يقول النقاد، فلا قيمة للشيء بدون ما يعطيه في الحياة وإلا أصبح ترفًا يمكن أن يستغنى عنه..
وقديمًا قال هوراس: إن الشعر عذب ومفيد، والعذوبة في الشعر ثمرتها الإمتاع، والإفادة ثمرتها أن تكون للشعر رسالة تضيء الوجدان الإنساني، وتثري آفاق النفس، وتفتح أمامها صفحة الوجود الكوني... والتصور الإيماني لمكونات هذا الوجود...
فالشعر في تصوري تأمل ونفاذ إلى عمق الأشياء عبر رؤية حضارية إسلامية واقعية.
وتباين الآراء حول وظيفة الشعر في الحياة يوحي بقيمة هذا الفن الراقي، وهو ديوان العرب، وكل أمة تفخر بشعرائها وأدبائها، ولها منظور خاص في رؤيتها لدور الشعر في الحياة. وكثير من النقاد يرون أن الأدب – وفي مقدمته الشعر – ذو وظيفة أخلاقية، وفسروا اتجاه ((هوميروس)) إلى كتابة ((الإلياذة)) بأنه كان اتجاهًا أخلاقيًا تهذيبيًا، وفي مقدمة هؤلاء النقاد الفلاسفة ((هيجل)). و((مايثو أرنولد)) كان يدعو إلى أن يكون للأدب وظيفة خلقية. والمؤرخون يعدون الشعر وظيفة اجتماعية.
والآراء السابقة في مجملها تتصادم مع مقولة: الفن للفن، فهذا تصور يلغي دور الشعر ورسالته في الحياة.(/1)
وحين نرى أن الشعر ينبع من التصور الحضاري والإسلامي للحياة فهل ترانا متكلفين أن نصطنع الالتزام؟! والتراث الإنساني في تياره الأقوى يربط الشعر بالحياة وجماليات الوجود.
- في تصوركم ما علاقة الشاعر بالناقد؟ وهل هذه العلاقة اختلفت عبر العصور؟ وإلى أي مدى تخدم هذه العلاقة العمل الأدبي؟
الشاعر والناقد توءمان لا عدوان، الشاعر يبتكر والناقد يكشف عن جوانب العبقرية في ابتكارات الشاعر، الشاعر يرتاد المجاهل.. ويؤلف بين الأضداد، ويصطاد الأخيلة... والناقد يبدع النص الشعري مرة أخرى ليس عن طريق الوجدان ولكن عن طريق العقل والعلم والحقائق والحيدة والموضوعية. وهذه العلاقة التي يحكمها مناخ صحي تتكئ على مصداقية الناقد وأصالة المبدع فالناقد الحقيقي يوجد في أعماقه أديب كامن، والشاعر الناضج هو الناقد الأول لنصه الإبداعي.
أما الممارسات التي تفسد العلاقة بين المبدع والمتلقي فتكمن في نزوع الناقد أحيانًا إلى مجاملة المبدع، أو التحقير لجهده الإبداعي بدافع الشللية أو العصبية المذهبية أو التناحر الشخصي، فلابد من الموضوعية والإخلاص في النقد والفن، فليس في الفن مجاملة، فالصدق والإخلاص هما رائدا الفنان الحقيقي، وعلى الناقد أن يضعهما أمام بصيرته وهو يحلل ويناقش ويحكم.
ومع الرؤية الشمولية للعمل الأدبي، يجب أن لا يكون النقد سيلاً من المدح، أو جبلاً من التهم، فليس هذا ولا ذاك مما يدفع بالفن إلى مرقاه المبتغى له، وإنما الأحكام الموضوعية التي يوشيها الحب والرغبة في الكشف عن كل إبداع جديد ورائد.
- ما الأدوات التي يجب أن يتسلح بها الناقد قبل شروعه في تناول العمل الأدبي؟
الناقد البصير الخبير مثل الصيرفي الذي يتعرف على الذهب الخالص ويرفض المعدن الزائف، وهكذا قال القدامى، فالعمل الإبداعي قطعة من الذهب الخام يحتاج إلى من يكشف جمالياته وينفي عنه ما شابه من أخلاط وعناصر فاسدة. وهذه مهمة الناقد (تمييز الجيد من الرديء).(/2)
وتلك مسؤولية جسيمة لا يستطيع القيام بها إلا من أوتي معرفة شمولية وذوقًا أدبيًا فطريًا، فالنقد موهبة وثقافة، فليس كل عالم بالأدب ناقد!.
والناقد الحق عليه أن يتزود بأسلحة كثيرة للدفاع عن القيمة الأدبية والإنسانية والجمالية الكامنة في النص، ومن هذه الأسلحة:
(أ) إتقان علوم اللغة وهضمها من نحو وصرف وعروض وأصول اللغة وفقه اللغة.. وذلك بدراسة التراث اللغوي دراسة جيدة.
(ب) تمثل مسيرة الحركة الأدبية عبر العصور المختلفة تمثلاً جيدًا، والوقوف على ملامح كل عصر، والوقوف على سمات التطور من عصر إلى آخر.
(جـ) تعرف خصائص الشعراء وأدواتهم الفنية، واكتشاف أسرار التفوق الشعري لدى كبار الشعراء في العصور المتعاقبة.
(د) هضم علوم البلاغة العربية القديمة والانطلاق منها إلى آفاق المعايير النقدية الحديثة.
(هـ) التعرف على التراث الإنساني، ودراسة ظواهر التأثير والتأثر بين الآداب العالميةِ.
(و) إتقان الخصائص الصوتية واللسانية الدالة على عبقرية لغتنا العربية الجميلة، لغة القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف.
(ز) الوقوف على أحدث المنجزات النقدية في فنون الأدب متعددة من شعر وقصة ورواية ومسرح ومقالة وخاطرة وسيرة أدبية.
(ح) الخبرة المعرفية والتذوقية بجماليات الفنون التعبيرية الأخرى من رسم وموسيقى وتصوير ونحت.
والنقد بعد هذا وقبل ذاك يتكئ على الثقافة الشاملة وعلى الخبرة والدربة والتذوق والموهبة والحيدة والموضوعية.
- سبق أن قلتم: إن الأدباء الإسلاميين يضحون بالفني في سبيل المضمون. فما معنى هذا؟ وهل أنتم غير راضين عن النتاج الأدبي الإسلامي الحالي؟(/3)
إنني قلت في الحوار الذي أجرته معي مجلة (الجيل): ((إن بعض الأدباء الإسلاميين يضحون بالفني في سبيل المضمون)) فالحكم ليس عامًا، ولكن قلت: البعض وليس الكل، والحقيقة أن هناك كثيرًا من المبدعين الملتزمين بالتصور الإسلامي على درجة عالية من المستوى الفني.. والجودة الأدائية في شعرهم وفي قصصهم ورواياتهم ومنهم على سبيل المثال: نجيب الكيلاني، محمد بنعمارة، حسن الأمراني، حسين علي محمد، جميل عبدالرحمن، عبدالله شرف، أحمد فضل شبلول، أحمد مبارك، عبدالرحمن العشماوي، وصالح الزهراني... وغيرهم.
وهذا يعني أن النتاج الأدبي الإسلامي ماض في طريقه الجيد في ظلال رؤية أدبية إسلامية نابعة من خصائص التصور الإسلامي.
- كيف ترى الخلاف الناشئ الآن حول مصطلح الأدب الإسلامي، ورفض بعض الأدباء والنقاد له، ألا ترى لهذا الخلاف نهاية؟
إن الخلاف حول مصطلح الأدب الإسلامي.. نشأ منذ أن تكونت رابطة الأدب الإسلامي العالمية في عام 1984م: أي منذ أكثر من عشرين عامًا..
والذين يعارضون مصطلح الأدب الإسلامي فريقان:
الفريق الأول: تنبع معارضته من موقف لا يتصادم مع مبادئ الرابطة، ولا يسعى هذا الموقف إلى إلغاء جهود الرواد المخلصين في هذا المجال الحضاري المضيء.
وهذا الفريق يمثله بعض المتخصصين في علم البلاغة العربية والنقد، والدراسات اللغوية والتراثية والحديثة.
وأصحاب هذا الموقف علماء أجلاء.. ولا ينادون بإلغاء المصطلح، ولا يحاربونه ولا يعارضون الجهود الكريمة المبذولة في ترسيخ دعائم هذا المنهج الإسلامي القويم، ومن أبرز الذين عرضوا للقضية عرضًا منهجيًا علميًا محايدًا الناقد الدكتور الطاهر مكي، وقد أقر في كتاب كامل له بوجود مصطلح الأدب الإسلامي وهو كتاب (مقدمة في الأدب الإسلامي المقارن). وأضع أمام كل من لديه شبهة أو سحابة من القلق رؤية عالم متخصص في النقد الأدبي والأدب المقارن، يقول د.الطاهر مكي:(/4)
((الإسلام دين شامل له موقف من كل قضايا الحياة، ومع الزمن نمت ثقافته وتضخمت إلى جانب العلوم الدينية الخالصة تنصح الراعي وتوجهه، وتوقظ الرعية وتهديها، فنشأ من ذلك أدب إسلامي المحتوى يأخذ في كل بيئة لونًا، ويكتسب مع كل حضارة زيًا، ويتشكل في كل عصر بما يلائمه، ودعامته الأولى الصدق بجانبيه الواقعي والفني)).
وأما الفريق الآخر.. الذي يعارض المصطلح.. ويتهم أعضاء الرابطة وكل المنتمين للمنهج الإسلامي بالسطحية.. والعصبية، والفقر الإبداعي، والفكر التبعي السلفي، وعدم مواكبة التيارات العالمية، وعدم الذوبان في وهج الحداثات المتلاحقة، فهؤلاء ينبع موقفهم من عدم فهم المصطلح، وهذا الموقف لم ينشأ من قصور في الإدراك، أو جهل بقيمة الإبداع، ولكنه نشأ من طبيعة التفكير.. والتكوين الثقافي، والمؤثرات العالمية الغازية الوافدة.
أقول: إن القطيعة بيننا وبين مصادر ثقافتنا العربية وتراثنا الإسلامي النابض المشرق المتوهج.. كانت من أكبر الدوافع التي جعلت كثيرًا من الأدباء والمبدعين المحدثين يعارضون مصطلح الأدب الإسلامي، لأن الرؤية ما زالت أمامهم غائمة، وتراكمات المذاهب والمناهج الغربية لا تترك ولو خيطًا ضئيلاً أو بصيصًا من النور الذي يتعرف من خلاله هؤلاء على أبعاد الاتجاه الإسلامي في الأدب.. وكل نواحي المعرفة.
وأريد أن أطمئن كل من يعارض مصطلح الأدب الإسلامي أو قيام رابطة الأدب الإسلامي، فأقول: لا يوجد أديب عربي مسلم وأديب من الشعوب الإسلامية الناطقة بغير العربية يتهم الآخر بالكفر، أو يقول: من ليس عضوًا في الرابطة فهو غير مسلم، وهذا وهم.. وخيال، ومعول من معاول الهدم.. وكل أديب أيًا كان توجهه مسؤول عن كلمته وعن توجهاته، والأدب في ظل الإسلام لا يعارض أي نتاج إبداعي متفوق متجدد لا يتصادم مع ثوابت الفكر الإسلامي.. وتصوراته.(/5)
وأرى أن هذا الخلاف مستمر وليس له نهاية، ولكن على كل أصحاب الرؤى الدائرة في ذلك التصور الإسلامي أن يجودوا إنتاجهم الفني.. وأن يخلصوا لإبداعهم.. وأن يطلعوا على كل التيارات العالمية الحديثة.. وأن يتحاوروا معها.. وأن يستضيؤوا بالتجارب الرائدة العالمية التي لا تتصادم مع أبعاد الرؤية الإسلامية، لأن الاختلاف سنة الله في خلقه.
- يرى بعض النقاد أن مصطلح الأدب الإسلامي يحد من إبداع الكاتب وحريته لحتمية الالتزام المطلوب منه، فهل عانيت من هذه المشكلة بصفتك شاعرًا إسلاميًا؟
إن الحرية المطلقة ما هي إلا فوضى في حركة الحياة، وكل نشاط إنساني تحكمه مبادئ وقوانين، والمذاهب الأدبية متعددة، ولكل مذهب مبادئه وفضاءاته، ومن ينتمي إلى مدرسة أو مذهب نقدي ويتحرك في دائرته يوصف بأنه منتم ومنهجي، لأنه ينطلق من مبادئ ومعالم وقواعد وتصورات يتبناها، ولا يشعر بأي قيد وهو ملتزم بأصول هذا المنهج الفكري أو السياسي أو الأدبي أو النقدي.
ومن ينتمي إلى رابطة الأدب الإسلامي العالمية، ويحلق بجناحين من يقين وإباء في فضاءات الأدب الإسلامي، فهو لا يشعر بالقيود، ولكنه يشعر بحرية الشعور وحرية الذات لأنه ليس أسير حدود جغرافيا، ولا أسير تصورات إجتماعية ضيقة، ولكنه يخاطب النفس السوية المسلمة في كل مكان، لأن الإسلام دين البشرية كلها، والخطاب الأدبي في ظل القيم الإسلامية خطاب عالمي في منهجه وتصوره.
وأرى أن الأديب المسلم في كل مكان على وجه المعمورة باستطاعته أن يجدد تجاربه، وأن ينوع أشكاله التعبيرية في الشعر والقصة والمسرح والرواية والمقالة والخاطرة والآبدة، وفن السيرة الذاتية والغيرية، وغير ذلك من فنون القول الشعري والنثري.(/6)
وحول تجربتي مع الالتزام بالمصطلح أقول: لقد نشأت نشأة محافظة في ظل والد متدين، وحفظت القرآن الكريم في سن العاشرة، وطالعت كثيرًا من كتب التفسير والفقه وأنا في المرحلة الإعدادية، ولذلك حينما تفجرت ملكة الشعر لديّ لم أشعر بأي قيد يحد تجربتي، لأنني في كل تجاربي الشعرية لا أقدم إلا الرؤية الشعرية التي لا تتصادم مع رؤى الإسلام ومواقفه من الكون والإنسان والحياة، وأراجع ما أكتبه من حين لآخر مراجعة فنية ورؤيوية.
ولي تجارب كثيرة في الشعر الوجداني والتأملي، وتجارب كثيرة أستوحي فيها التراث الإسلامي بكل معطياته رموزًا وأشخاصًا ومبادئ وأفكارًا ورؤى حضارية وأماكن تعبق بالمجد والحضارة.
ولغتي الشعرية تواكب الجديد في عالم القصيدة الحديثة، ولديّ قصائد كثيرة يمكن قراءتها قراءات متعددة، وأرى أن القصيدة الجديدة الحديثة تتعدد أبوابها بتعدد قرائها، والرؤية الإسلامية لا تحد ذلك، ولا تقيد النص الجيد، السابح في مدارات الإبداع. ودواويني بها كثير من القصائد الرمزية، التي توظف التاريخ وتستوحي التراث، ومن هذه الدواوين ديوان العاشق والنهر، وديوان نبضات قلبين، وديوان الحلم والسفر والتحول.
وكثير من الشعراء الذين ينتمون لتيار الأدب الإسلامي، لديهم هذا التوجه الفني في نتاجهم الشعري.
- ما تصورك لمعالم النقد الأدبي الإسلامي؟
إن النقد الأدبي يرصد الإبداع من زاويتين: هما ((الرؤية والبناء))، أو ((المضمون والشكل)).
والبناء الفني لأي عمل أدبي في أدبنا العربي له أصوله وقواعده التي استقرت في تراثنا النقدي، وفي معالم المناهج النقدية الحديثة، وخاصة المنهج الفني، فللشعر لغته التصويرية الإيحائية، وتحليل لغة الشعر والنثر الفني يتكئ على ميراث نقدي ضخم في علوم البلاغة العربية، وفي جهود النقاد العرب القدامى والمحدثين.(/7)
وكذلك مكونات البناء القصصي والمسرحي والروائي، معروفة وقابلة للتجدد والتطور، والنقد الأدبي الإسلامي لا يلغي كل هذه الجهود في تنمية الرصيد النقدي في الإبداع العربي، وهو يضيف إلى ذلك ضرورة إظهار جماليات التجارب الأدبية التي قدمها أصحابها في لغات أخرى مثل لغات الشعوب الإسلامية، لأن لكل بيئة صورًا وخيالات ورؤى وأساليب في كل الفنون الأدبية، وكتاب (مقدمة في الأدب الإسلامي المقارن) يفتح آفاق هذا الاتجاه.
والذي يتميز به النقد الأدبي الإسلامي هو تحليل الرؤى والمضامين الإسلامية، والتنبيه على أصالتها وجديتها وجمالياتها من خلال التحليل اللغوي، والكشف عن أسرار التعبير والوصول إلى المضامين عبر صوتيات اللغة، وإيقاعات الحروف والكلمات والأساليب، وأرى أن المداخل إلى النص الأدبي الإسلامي تتمثل في الآتي:
أولاً: الوقوف على مظاهر التأثر بالبيان القرآني والبيان النبوي في النص والشواهد على ذلك، وأرى أن التأثر يتخذ محاور عدة منها:
1 – التأثر الكلي الشمولي، وهو تأثر إيجابي يتمثل الرؤية والأداة.
2 – التأثر الأدائي الشكلي، وهو تأثر بالشكل والأدوات الفنية فقط.
3 – التأثر السلبي المضاد، وهو تأثر مرفوض وغير مقبول. ويتعمد أصحاب هذا الاتجاه تشويه صورة التأثر بالبيان القرآني والبيان النبوي.
وفي كتاب (الأدب الإسلامي بين النظرية والتطبيق) لكاتب هذه السطور وكتاب (القرآن ونظرية الفن) للدكتور حسين علي محمد، تأصيل لهذه المحاور وغيرها من مكونات العمل في ظل المنهج الإسلامي.
ثانيًا: توظيف التراث في النص الأدبي الشعري وغيره:
ولهذا المعلم من معالم النقد الأدبي محاور كثيرة، وفي مقدمتها:
1 – الشخصيات الإسلامية بكل أبعادها وموحياتها في جميع العصور، والنقد الأدبي الإسلامي يضع الشخصية في إطارها المضيء أو الواقعي الذي لا يشوه الصورة الحقيقية.
2 – التعرف على عبقرية الأمكنة الإسلامية وأثرها في تشكيل التجارب الأدبية.(/8)
3 – البحث عن التجارب التي تستدعي معالم الحضارة الإسلامية ومكوناتها، وتسافر إليها لكي تبعث الحاضر حتى ينهض من عثراته.
ثالثًا: استجلاء مظاهر الطبيعة الكونية، والطبيعة الحية، والطبيعة الجامدة، والكشف عن جماليات النصوص التي تخوض التجارب التأملية العميقة منطلقة من رؤية إيمانية تنأى عن الشك، وأطياف اليأس، وتنعم باليقين.
رابعًا: تحليل الأساليب في ضوء نظرية النظم التي أبدعها الإمام عبدالقاهر الجرجاني في كتابيه ((دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة))، وهما كتابان جليلان يجب أن يقرأهما ويتمثلهما كل أديب مسلم، وكل ناقد يحترم تراثه، ويدافع عن منهجه الإسلامي، وعن تراثه العربي.
خامسًا: تحليل صوتيات الكلمات وإيقاعاتها، والأساليب في التجارب الشعرية والنثرية، في ضوء ما وصل إليه علماء الصوتيات وفقه اللغة، والمشتغلون بالعروض، في ضوء العناصر التراثية، وفي ضوء خصائص الحروف، وعلم التجويد.
وقد شاركت في هذه الجهود المتتابعة، وقدمت عدة كتب نقدية وأدبية تنزع إلى استجلاء أثر الإسلام في النص الأدبي، ومنها: ((الأدب الإسلامي بين النظرية والتطبيق))، و((من القيم الإسلامية في الأدب العربي))، و((تاج المدائح النبوية.. شرح قصيدة البردة لكعب بن زهير))، و((الشعر الأموي في ظل السياسة والعقيدة))، و((الحديث النبوي – رؤية فنية جمالية))، و((الإمام محمد متولي الشعراوي، شاعر الدعاة وداعية الشعراء.
د.صابر عبدالدايم في سطور
- ولد في محافظة الشرقية بمصر 1948م.
- دكتوراه في الأدب والنقد من جامعة الأزهر بالقاهرة 1981م.
- عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية، وعضو اتحاد الكتاب بمصر، وجمعية الإبداع الأدبي بالشرقية.
- عضو هيئة تحرير مجلة الثقافة الجديدة، ومجلة أوراق ثقافية، ومجلة أصوات معاصرة.
- عضو هيئة التدريس في جامعة أم القرى، وجامعة الأزهر بالزقازيق، وجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض.(/9)
- شارك في عشرات الندوات الأدبية والنقدية والمهرجانات الشعرية داخل مصر وخارجها.
- ناقش كثيرًا من الرسائل الجامعية في جامعات الأزهر، والزقازيق، وأم القرى، ومحمد بن سعود الإسلامية، والجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وغيرها.
- شارك في البرامج الإذاعية الأدبية والدينية في عدة إذاعات مصرية.
- أصدر ثمانية دواوين شعرية منها: مسافر في سنبلات الزمن، ومدائن الفجر، والمرايا وزهرة النار.
- أصدر ثمانية عشر كتابًا أدبيًا ونقديًا، وله عدة كتب تحت الطبع.
- أعدت عنه رسالة ماجستير في كلية اللغة العربية بالمنصورة، ورسالة دكتوراه في الأدب الإسلامي المقارن في الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا.(/10)
العنوان: مع الله في عرفات (شعر)
رقم المقالة: 1810
صاحب المقالة: عبدالباقي عبدالباقي
-----------------------------------------
مع الله في عرفات
قُمْ لَبِّ رَبَّكَ واسْتَجِبْ لندَاهُ فَهُوَ الإِلهُ واسمه (أللهُ)
شَمَلَ العِبَادَ بِلُطفِهِ وَسَخَائِهِ عَمَّ الوَجُودَ بِجُودِهِ وَغِنَاهُ
* * *
هَذَا نِدَاءُ اللهِ في مَلَكُوتِهِ أللهُ أَكْبَرُ.. آهِ مَا أَسْمَاهُ
قُمْ وَلِّ وَجْهَكَ وابْتَغِ أُمَّ القُرَى طَوبَى لِعَبْدٍ رَبُّهُ نَادَاهُ
فَأَجَبْتُ دَعْوَتَهُ وَقُمْتُ مُهَلِّلاً لَبَّيْكَ يَا أللهُ.. يَا أَللهُ
وَقَصَدْتُ مَكَّةَ كَيْ أَحِجَّ وَارْتَجِي عَفْوَ الإِلهِ وَحُبَّهُ وَرِضَاهُ
* * *
لَمَّا دَخَلْتُ البَيْتَ فَاضَتْ مُقْلَتِي وَسَما فُؤَادِي في عُلا عَلْيَاهُ
وَشَعْرتُ أَنَّ اللهَ جَلَّ جَلالُهُ حَفَّتْ بِقَلْبِي كَفُّهُ وَيَدَاهُ
وَسَرَتْ بِجِسْمِي نَفْحَةٌ قُدْسِيَّةٌ فَشَدَا اللِّسَانُ وَصَاحَ يَا غَوْثَاهُ
إِنيّ أَتَيْتُكَ تَائِباً وَمُلَبِّياً فَأَقِلْ عِثَارِي أَنْتَ يَا رَبَّاهُ
هَذَا فْؤَادِي في يَدَيْكَ رَهِينَةٌ فَاغْفِرْ بِلُطْفِكَ ذَنْبَهُ وَخَطَاهُ
فَأَنَا خَجُولٌ مِنْ ذُنُوبيَ كَثْرَةً مَنْ لِلْمُسِيءِ سِوَى الإِلهِ إِلهُ
رُحْمَاكَ رَبِّي إِنَّ جِسْمِيَ وَاهن وَالإثْمُ أَنْهَكَ كَاهِلي.. أَضْنَاهُ
إِنِّي بِعَفْوِكَ طَاِمعٌ يَا رَبَّنَا فَأَجِبْ لِعَبْدِكَ سُؤْلهُ وَرَجَاهُ
وَالكَعْبَةُ الغَرَّاءُ طُفْنَا حَوْلَهَا سَبْعاً فَكَانَ البَدْءَ مَا طُفْنَاهُ
طُفْنَا وَكَانَ الدَّمْعُ مِنِّي هَاطِلا وَالقَلْبُ يَبْكِي وَالرَّجَاءُ دُعَاهُ
* * *
رُحْنَا نُعَظِّمُ للإِلهِ شَعَائِراً نَسْعَى وَنَحْفِدُ.. نَهْتَدي بِهُدَاهُ
مَا بَيْنَ مَرْوَةَ وَالصَّفَا وهِضَابِهَا حَيْثُ الخَلِيلُ أَفَاضَ في نجْواهُ(/1)
أَسْكَنْتُ فِيهِ عَلَى الطَّوَى ذُرِّيَتِي وَتَرَكْتُ ابْنِي وَاللَّظى تَصْلاَهُ
مِنْ دُونِ زَرْعٍ أَوْ مِيَاهٍ عِنْدَهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ سِوَاكَ يَا رَبَّاهُ
فَأَجَابَهُ رَبُّ العُلاَ وَأَغَاثَهُمْ وَانْسَابَ زَمْزَمُ لِلرَّضِيعِ سَقَاهُ
هِيَ قِصَّةُ الإِيمَانِ في جَنَبَاتِهَا تَصِفُ الذَّبيحَ وَأُمَّهُ وَأَبَاهُ
إِنِّي رَأَيْتُكَ يَا بُنَيَّ مُضَرَّجاً بِيَدِي فَمَاذَا تَبْتَغي لِرِضَاهُ
فَأَجَابَ إسْمَاعِيلُ إِنِّي صَابِرٌ إِنْ شَاءَ رَبِّي أَنْ أَكُونَ فِدَاهُ
هَذِي حَيَاتِي في يَدَيْكَ.. فَيَا أَبِي إِفْعَلْ بِذَبْحِي مَا تَشَا وَتَرَاهُ
رَحِمَ الإِلهُ نَبِيَّهُ بِعَطَائِهِ ذِبْحاً عَظِيماً يَفْتَدِي بِفَدَاهُ
* * *
وَوَجَدْتُ في عَرَفَاتِ حِينَ أتَيْتُهُ صَبغَ البَيَاضُ صُخُورَهُ وَثَراهُ
فَلَقَدْ تَبَّدَّلَ لَوْنُهُ فَكَانَّمَا كُتَلٌ مِنَ الثَّلْجِ اعْتَلَتْ أَعْلاَهُ
مَلأَ الحَجِيجُ هِضَابَهُ وَشِعَابَهُ مِنْ كُلِّ فَجٍّ جَاءَهُ وَأَتَاهُ
فَرَأَيْتُ مُعْجِزَةَ الإِلهِ بِخَلْقِهِ وَقَفُوا سَوِيّاً يَطْلُبُونَ رِضَاهُ
بِمَلاَبِسِ الإحْرَامِ جَاؤُوا كُلُّهُمْ وَدُعَاؤُهُمْ.. لَبَّيْكَ يَا أَللهُ
فَفَقِيرُهُمْ، وَغَنِيُّهُمْ، وَذَلِيلُهُمْ وَعَزِيزُهُم، لاَ يَسْألونَ سِوَاهُ
وَقَدْ اسْتَوى بِأمِيرِهِمْ مَحْكُومُهُمْ فَجَمِيعُهُمْ لاَ يَرْتَجِي إِلاَّ هُو
رَفَعُوا الأَكُفَّ إِلَى السَّمَاءِ كَأَنَّمَا يَوُمُ الحِسَابِ أَتَى وَكَانَ لِقَاهُ
وَرُؤُوسُهُمْ نَحْوَ العُلاَ مَشْدُودَة وَعُيونُهُمْ تَرْنُو إِلَى عَلْيَاهُ
أَجْسَامُهُمْ مُخْضَلَّةٌ بِدُمُوعِهِمْ وَالْكُلُّ يَبْكِي يَبْتَغِي رُحْمَاهُ
* * *
فِي نَفْرَةٍ نَزَلَ الحَجِيجُ إِلى مِنَى كَيْمَا يَجُبَّ ذُنُوبَهُ وَخَطَاهُ
بِبُكَائِهِمْ وَدُعَائِهِمْ فَكَأَنَّهُمْ سَيْلٌ جَرَى وَاشْتَدَّ في مَجْرَاهُ(/2)
جَاؤُوا بِقْلبٍ خَاشِعٍ مُتَبِتّلٍ حَتَّى يُؤَدُوا مَنْسَكاً.. مَعْنَاهُ
طَرْحُ الذُّنُوبِ جميعِها في رَجْمِةِ إِبْليسُ عَبْدٌ رَبُّه أَشْقَاهُ
إِبْلِيسُ رَمْزٌ لِلشُّرُورِ بِأَسْرِهَا وَلَقَدْ عَصَى.. فَالرَّجْمُ كَانَ جَزَاهُ
* * *
عُدْنَا لِمَكَّةَ كَيْ نُتِمَّ طَوَافَنَا قَصْدَ الوَدَاعِ.. وَآهِ مَا أقْسَاهُ
عَادَ الفُؤَادُ إلى البُكَاءِ كَمَا جَرَى حِينَ القُدُومِ، وَزَادَ في نَجْواهُ
وَدَعَوْتُ رَبِّي أَنْ يَمُنَّ بِعَوْدَةٍ وَيُدِيمَ لِلْبَيْتِ العَتِيقِ بَهَاهُ
أن ينصر الإسلام في كل الدنا وَيُعِزَّهُ وَيَصُونَهُ بِحِمَاهُ
* * *
يَمَّمْتُ وَجْهِي.. لِلرَّسُولِ أَزُورَهُ شَطْرَ المَدِينَةِ.. أَرْتجِي لُقْيَاهُ
* * *
أَنَا مُسْلِمٌ حُبُّ الرَّسُولِ سَعَادَتي رُوحُي وَمَالِي دُونَهُ وَفِدَاهُ
مَا إِنْ دَخَلْتُ مَقَامَهُ حَتَّى انْتَشَى قَلْبِي وَهَلَّلَ فِي لِقَا مَثْواهُ
أَطْرَقْتُ رَأْسِي رَهْبَةً وَمَحَبَّةً فَاضَتْ دُمُوعُ الحُبِّ مِنْ رُؤْيَاهُ
وَجَثُوْتُ أُبْلِغُ صَاحِبَيْهِ تَحِيَّتِي أَبْكِي الوَدَاعَ وَأَشْتَكي شَكْوَاهُ
صَلَّى عَلِيْهِ اللهُ مَا قَرَأَ الوَرَى آيَ الكِتَابِ وَرَدَّدُوا فَحْوَاهُ
* * *
وَمَضَيْتُ لِلتَّارِيخِ أَقْرَأُ سِفْرَهُ سِفْرَ البُطُولَةِ.. أَهْتَدِي بهُدَاهُ
زُرْتُ البَقِيعَ فَفِيهِ مَجْدٌ خَالِدٌ فِيهِ الأشَاوِسُ لُحِّدَتْ بِثَرَاهُ
فِيهِ البُطَولَةُ خَلَّدَتْ فُرْسَانَهَا فِيهِ الرُّجُولَةُ جَسَّدَتْ ذِكْرَاهُ
مَرَّغْتُ رَأْسِي فِي تُرَابِ قُبُورِهِمْ وَجَثَوْتُ إِجْلاَلاً.. أَشُمُّ شَذَاهُ
وَقَرَأْتُ فَاتِحَةَ الكِتَابِ لِرُوَحهِمْ وَدَعَوْتُ ربِّي أَنْ أَنَالَ رِضَاهُ
* * *
حَمْداً إِلهي قَدْ أَجَبْتَ رَجَاءَنَا وَشَفَيْتَ قَلْبِي في نَوَالِ مُنَاهُ
أَكْرَمْتَنِي.. شَرَّفْتَنِي فَدَعَوْتَنِي لأَدَاءِ فَرْضٍ.. آهِ مَا أَحْلاَهُ(/3)
أَدَّيْتُ حَجّاً.. وَاعْتَمَرْتُ بِعمْرَةٍ زُرْتُ النَّبِيَّ، عَلَيهِ صَلَّى الله
فَامْنُنْ عَلَيَّ بِعَوْدَةٍ يَا رَبَّنَا أَنْتَ المُجِيبُ.. وَلاَ سِوَاكَ إِلهُ(/4)
العنوان: مع شعار.. تغيير الفتوى
رقم المقالة: 2006
صاحب المقالة: د. عدنان علي رضا النحوي
-----------------------------------------
من الثابت في الإسلام إمكانيةُ تغيُّر الفتوى بتغيُّر الزمان والمكان والواقع، وبتغيُّر الحاجات وتغيُّر المعلومات. ولكن تغيُّر الفتوى بسبب تغيُّر هذه العوامل وأمثالها ليس مطلقاً، ولا هو ضروريٌّ في كل حال. وإنما هنالك ضوابط وأسس توجّه هذا التغيُّر وتضبطه ليظل دائماً في نطاق الشريعة الإسلامية لا يخرج عنها. وأمر آخر قد يكون سبباً لتغيير الفتوى هو اتباع منهج غير منهج الإسلام، لقوة أصحابه وقوة دعوتهم إليه، ولضعف المسلمين وتأثرهم به.
من الضروري أن نؤكد أن تغيير الفتوى في أي زمن ولأي سبب لا يجوز أن يكون تغييراً في الدين الذي جاء من عند الله. ولنوضح هذا بمثال: ففي واقعنا اليوم أصبح كثير من النساء يخرجن سافرات، يكشفن زينتهنّ، ويلبسن ثياباً ضيقة تكشف تفاصيل الجسم. فهذا تغيّر في الواقع والزمان، ولكنه لا يسوّغ إصدار فتوى بجواز خلع الحجاب بتصوره الإيماني الكامل، ولا بجواز إبراز زينة المرأة، ولا بجواز الاختلاط، وغير ذلك. وكون المرأة المسلمة تعيش في بلد غير مسلم حيث لا يأخذون بالحجاب، فليس هذا مسوغاً للمرأة المسلمة أن تنزع الحجاب ولا يُفتى لها بذلك.
في واقعنا اليوم تنتشر الخمور، حتى بين المنتسبين إلى الإسلام في مواقع كثيرة، فمهما كان انتشارها فهذا لا يسوّغ للمسلم شرب الخمر، وعليه أن يلتزم بحكم الإسلام بتحريم الخمر، ولا يسوّغ هذا تغيير الحكم الشرعي بتحريم الخمر.(/1)
انتشر النظام الرأسمالي في العالم وانتشرت معه البنوك التي تقوم على هذا النظام، وانتشر كذلك الربا. فهذا كله لا يمكن أن يسوّغ تحليل الربا أو التعامل به. وإذا فُرِضَ على بعض المسلمين أن يخضعوا لهذا النظام، فلا يجيز ذلك إصدار فتوى تحلل الربا، ولو اضطروا لممارسته، وإنما يكون حساب من اقترفه عند الله، وعليه التوبة والاستغفار، والاستمرار بالتوبة والاستغفار، ومحاولة التخلّص من هذا الواقع ما أمكنه ذلك. ويكون الإثم على المسلمين جميعاً الذين لم ينهضوا للوفاء بعهدهم مع الله كما سنوضح بعد قليل، فعندما تعمُّ البلوى يعمُّ معها الإثم والمعصية، وتتسع دائرة المسؤولية على المسلمين بعامة.
أما أن تُصْدَر فتوى بتحليل الحرام، ونَبْقى راضين بالواقع دون جهد حقيقي، ودون وضع نهج وتخطيط لتغيير ما يخالف منهاج الله، لتغيير الواقع، فهذا حرام وحسابه عند الله كبير، والإثم مضاعف؛ لأننا رضينا بما هو حرام وأخذنا به، ولأننا قعدنا دون أن ننهض لما أمرنا الله به.
وبصورة عامة، لا يحلَّ الإفتاء بجواز أمر حرّمه الله مهما كان الواقع يفرضه. القضية تصبح عندئذ ليست هذه الجزئية وحدها، ولكنها الواقع الذي ينشر الحرام ويتّسع مدى انتشاره، ويبدأ الناس يألفونه، ثم يمارسونه، ثم يصدرون الفتاوى بتحليله، ثم يدعون إليه، فأي إثم عند الله أكبر من ذلك؟!(/2)
إن التكاليف الربانية الثابتة في الكتاب والسنة لا تقف عند الوفاء بالشعائر فحسب، أو عند إلقاء خطبة وموعظة، إنها تكاليف منهجيّة مترابطة يجب ممارستها بتكاملها. وضعف الناس وعجزهم، وعدم إعداد أسباب القوة التي تبني أمّة الإسلام، كلّ هذا الضعف لا يحلل الحرام أبداً، ولكنه يضاعف الإثم على القاعدين المتفرّقين الممزّقين الذين يحارب بعضهم بعضاً، ويساعدون على تخذيل المسلمين، وفتح منافذ للمفسدين المجرمين ليزيدوا الفساد في الأرض، وينشروا الحرام والمعصية، ويصير موقف المسلمين إصدار الفتوى بعد الفتوى لتسويغ الواقع الجديد الذي استرخوا فيه ورضوا فيه عمليًّا وخنعوا له، ولا يغني التشدّق بعد ذلك بشعارات تزيد المسلمين فتنة وضياعاً، وتزيد من ضغط الحرام وامتداده، لتمتد معه الفتاوى التي تهوّن الأمر أو تبيحه.
في كثير من الحالات التي نشاهدها اليوم في واقعنا لا تكون القضية في ميزان الإسلام وميزان الكتاب والسنة، وعند الله، تغيير الفتوى ولكن تغيير الواقع. إنها مسؤولية المسلمين كافة، وتغيير الفتوى لا يرفع عن المسلمين الإثم والمعصية، وإنما يضاعفها. وليست القضيّة في كل حالة أن تخفّف عن المسلم، وتهوّن عليه الأمر في حياتنا الدنيا، فمن يخفّف الحساب والعقاب والعذاب عن هؤلاء يوم القيامة؟!
إن منطلق تغيير الفتوى اليوم، هو منطلق دنيوي، ينظر في الدنيا وما يفرض فيها بغض النظر عن نتائج ذلك في الآخرة بين يدي الله! إنها النظرة العلمانيّة التي أخذت تتسلل إلى نفوس كثير من المسلمين اليوم، تحت بعض شعارات من الإسلام، تُحَرَّف، أو تحذف أو تؤوَّل تأويلاً فاسداً.
إن منهاج الله حقٌّ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، صالح لكل زمان ومكان وواقع وحال، فإذا لم نَجِد الحلَّ فيه فالخلل في الجهد البشري، وفي مدى التزام الجهد البشريّ بمنهاج الله، ومدى وفائه، بالتكاليف الربّانية التي عليه.(/3)
أين الفتوى التي تنادي بتحريم التمزّق الذي يعاني منه المسلمون؟!
أين الفتوى التي تنادي أن لا يبيع المسلم ضميره ودينه مقابل دريهمات أو دولارات قليلة، كما يحدث في مواقع كثيرة؟!
أين الفتوى التي تنادي وتُذكِّر المسلمين بوجوب إقامة أُخُوَّة الإيمان التي أمر الله بها بين المؤمنين؟!
أين الفتوى التي تدوي وتذكر المسلمين بأن العصبيات الجاهلية حرام؟!
أين الفتاوى التي تعالج أمراض المسلمين ليُعافَوا منها، وليصبحوا قوّة يهابها الأعداء، بدلاً من أن يهابوا هم الأعداء.
ولكن من أخطر الأسباب التي أخذت تدعو إلى تغيير الفتوى في واقعنا اليوم: الطوفان الغربي الذي يحمل أفكار العلمانية والديمقراطية وأمثالها، الطوفان الذي يدفعه الإعلام المدوّي، والجيوش العسكرية الزاحفة، والتهديد الشديد من تلك القوى بطائراتها وصواريخها، وسائر أسلحتها المدمرة الفتاكة.
لقد غزتنا من الغرب والشرق فتنٌ كثيرة، تميّزت كلها بإصرار أصحابها على ضلالهم وفتنتهم، وإصرار المسلمين على غفوتهم. وكان من أخطر نتائج ذلك أن أصبح مِن بين المسلمين مَن يتولى نشر هذه الفتن وتسويغها، ونَحْتَ الصخور لإخراج "فتوى شرعية" تجيز هذا الباطل!
لقد ظهر دعاة ينادون "بالإسلام المعاصر"، كأنهم يجهلون أن دين الله حق مطلق لكل عصر ولكل حالة ولكل مكان. فإن ظهر عجزٌ، فإنه عجز البشر وليس عجز الكتاب والسنة ولا هو عجز الإسلام. إنه عجز المواهب والقدرات والنفوس التي تنحرف عند إفلاسها، فتترك دين الله الحق، وتدعو إلى آراء من الأفكار البشريّة المنحرفة، والمذاهب البعيدة عن الإسلام، يطلقونها كأنها حق مطلق بمنزلة الكتاب والسنة.(/4)
ما الإسلام المعاصر؟! إنه -حسب ما نرى من هذه الدعوة في الواقع- انحراف وليس (عصرنة)، إنه تقليد أعمى للباطل، إنه تبعيّة عمياء للغرب دون عقل أو منطق أو حجة! إنها محاولة تغريب المجتمعات الإسلامية كلها، أو تنصيرها، أو تهويدها، أو التفلّت في متاهة مظلمة لا مخرج منها. إنها بإيجاز مفارقة الكتاب والسنة.
ما المصدرُ الحقيقي لهذه الدعوة المنحرفة عن دين الله؟! وما حقيقة أهدافها؟! إن من أبرز خصائصها أنها دعوة تتوالد فتفرز كلَّ يوم دعوة جديدة إلى فتنة جديدة، في مسلسل لا يكاد ينتهي. ولكلِّ دعوة رجالها الجاهزون للعمل في خط مرسوم ودرب معلوم!
لا يمكن أن يكون هذا عملَ رجل واحد أو عدد من الرجال. إنه عمل مؤسسات متفرّعة، وخبراء متخصصين، وأجهزة متساندة. إنه عمل شياطين الإنس والجن!
ومن أبرز الدعوات التي أفرزتها الدعوة الأم، إذا جازت التسمية، الدعوة إلى "تجديد الفتوى أو تغييرها"! وانطلق أصحاب هذه الدعوة ليُطلقوا فتاوى جديدة متغيّرة غير ملتزمة بمنهاج الله، ولكنها تحمل شيئاً من الزخرف المغري وكثيراً من الفتنة والفساد، والاحتجاج بضرورة التطور!
أي فتوى يريدون أن يغيروا؟! لقد غيروا وأطلقوا فتاوى جديدة، نذكر نماذج منها:
- مساواة المرأة بالرجل مساواة مطلقة وادعاء أن الإسلام قرّر ذلك.
- عمل المرأة في المجال السياسي دون قيود.
- سفر المرأة بلا محرم.
- اختلاطها بالرجال في مجالات العمل الجديدة التي يراد لها أن تعمل فيها، أو غيرها.
- وجوب أو ضرورة عملها في التمثيل السينمائي حرصاً على حاجة "الدراما" التي لا تصح إلا بوجود المرأة كما يقولون.
- التساهل التدريجي في موضوع الحجاب.
- دعوة المرأة المسلمة إلى الخضوع لقوانين الدول الغربية ما دامت مقيمة فيها ونزع الحجاب.
- الدعوة إلى العلمانية بجرأة وصراحة لم تكن ممكنة من قبل، ومع الدعوة إلى الديمقراطية والعولمة.(/5)
كثير من وسائل الإعلام أخذت تتبنى مثل هذه الانحرافات وتدعو إليها بقوة وإصرار، بالإضافة إلى القوى البشرية والمؤسسات والأجهزة التي تتولّى ذلك.
- جعل قضية المرأة أساس محاولات التغريب.
- جواز مصافحة المرأة للرجل من غير محارمها، أو القبلة بدلاً من المصافحة.
- عدم تحريم الربا في التعامل مع البنوك، وأن الفائدة ليست ربا.
وفتاوى أخرى كثيرة، منها ما يتعلّق بالسياسة، ومنها ما يتعلق بالاقتصاد، أو التربية. في جميع هذه الحالات نشعر بوضوح أن "الفتوى الجديدة" تحمل رائحة الغرب، ورائحة أمريكا بصورة خاصة. وإنك لتسمع من ينادي بضرورة اتباع المناهج التربوية الأمريكية، وذلك باسم الإسلام[1].
وعند هؤلاء ألْغيت القاعدة الشرعية الثابتة بردّ الأمور صغيرها وكبيرها إلى منهاج الله، وأصبح عندهم ردّ الأمور إلى هواهم وعقولهم وإلى ما غلب في الواقع ولو كان حراماً. وبذلك نُسِفت كلُّ أسس الفتوى والاجتهاد في الإسلام، وتفلّتت الآراء والفتاوى وتناثرت في فضاء واسع لا يجولُ فيه إلا الهوى.
وعندما يُحرج هؤلاء في قضية ما، فإنهم لا يتردّدون في ليّ الآيات والأحاديث أو تحريفها أو إساءة تأويلها بجرأة عجيبة، كأنما لا يوجد خشية من الله ولا خوف من حسابه يوم القيامة.
ولقد أفتى بعضهم بأن لغير المسلمين (اليهود والنصارى والكافرين) من الحقوق ما للمسلمين، وصدرت كتبٌ بذلك، ومقالات لدعاة أعلام. لقد بلغت الجرأة أن حذف أحدهم من حديث رسول الله –صلى الله عليه وسلم- معظمه إلا آخره، فَفُقِدَ المعنى وتغير المقصود كلية. إنها جرأة كبيرة على الله ورسوله. ومعظم المسلمين لا يعرفون الحديث، وليس لديهم علم بالفقه أو السنة أو القرآن، فإذا قرأوا كلمة في كتاب يطبع وينشر، يظنون أن ما فيه هو حق، وفي الحقيقة هو باطل كبير.(/6)
وآخر يفسد تأويل قوله سبحانه وتعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ...} [النساء: 34]، ويستدل بها على مساواة المرأة بالرجل، وأن القوامة هي في شراء حاجات البيت وتأمينها، ليس أكثر من ذلك.
وفي كتابي "الانحراف" أمثلة كثيرة على ذلك!
ومما أسيء فهمه كذلك وثيقةُ المدينة إن صحّت روايتها، فمنهم من حذف وأضاف واستنتج أن الإسلام أعطى لليهود حقوقاً مثل حقوق المسلم.
المصيبة الكبيرة والخدعة الواسعة أن يقال هذا حين أصبح اليهود لهم كلُّ الحقوق، وأصبح المسلمون مجرَّدين من حقوقهم. أصبح اليهود يملكون الأرض ويقتلون ويدمّرون ويفتكون بالمسلمين، مع حصار شديد، واعتقالات الآلاف في سجون دولة اليهود. مع كل ذلك ينادي بعضهم بمساواتهم في الحقوق مع المسلمين، ويزيد الأمر ألماً وحزناً حين ينسبون ذلك إلى الإسلام بتحريف النصوص وفساد التأويل. ونصوص القرآن ثابتة واضحة بيّنة حاسمة وخاصة في سورة التوبة: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [ التوبة:11].
وجاءت الأحاديث الشريفة نابعةً من هذه الآية وأمثالها:
فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- عن الرسول –صلى الله عليه وسلم- قال:
"... فإذا شهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، واستقبلوا قبلتنا، وأكلوا ذبيحتنا، وصلّوا صلاتنا، فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم، لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم"[2].
وكلُّ رواية بعد ذلك تخالف النصّ الصريح لآية كريمة أو لحديث شريف صحيح، فهي رواية باطلة لا يجوز الأخذ بها.
وتوالت الفتاوى مخالفة لمنهاج الله، وتوالى انتشارها وامتدادها، وعامة الناس ليسوا بعلماء ولا فقهاء، فإنهم يتلقّفون مثل هذه الانحرافات ويصدّقونها وهم لا يعلمون أنها تحريف للآيات والأحاديث وسوء تأويل لها.(/7)
قضايا كثيرة تثار في واقعنا اليوم تلامس هوى في النفوس المريضة، وهي لا تفيد ولا تغني إلا أنها تشغل المسلمين عن قضاياهم الرئيسة، ويدور الجدل المنهيُّ عنه الذي يسمّونه حواراً، ليخفي الحقَّ ويظهر الباطل، ولا ينتهي الجدل ولا ينتهي الحوار ولا نصل إلى شيء.
وبذلك سقطت المسؤولية الفردية، ولم يعد المسلم يشعر بأنه مُكلَّف بأكثر من أداء الشعائر، هذا للمسلم المتعلم، فما بال المسلم الجاهل الذي لا يقرأ ولا يكتب، ولا يشعر أن طلب العلم فريضة عليه، وأن معرفة التكاليف الربانية فرض عليه أيضاً، ولا يوجد من يذكره بها أو يعينه على النهوض إليها.
وإذا غابت المسؤولية الفردية عن المسلم استبيحت الأمة من قبل المعتدين والمفسِدين والمضللين، فتُفتح أبواب ومنافذ للمعتدين وتنهار حصون الأمّة وقلاعها وهي لا تكاد تشعر بذلك إلا حين وقوع الكارثة.
في هذا الجو المتفلّت الذي لم يعد يعرف الفرد فيه المسؤولية الفردية والتكاليف الربانية التي وضعها الله في عنقه، ولا المهمة التي خلقه الله من أجلها، يستطيع المفسدون أن يطلقوا من الفتاوى ما يشاؤون مهما خالفوا أصول الفتوى في الإسلام، ومهما خالفوا الكتاب والسنة. فئة قليلة تُبْرَز بطريقة ما لتطلق الفتاوى المضللة في أجواء من القهر والهوان، والجهل والغفلة، وكثير من المسلمين غائبون في نومٍ ثقيل، لا يفكّرون، ولا يدرسون كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، ولا يَنْصحون كما أمرهم الله، ولا يُنصحون، ويمتد هذا الحال حتى يعمَّ الملايين من الذين لا يُفكِّرون! وكأنّ قوى كثيرة تريد أن تعطّل عقول الناس، وتريد تجهيلهم، حتى لو حفظوا آيات من القرآن أو حفظوه كله، فلا قدرة لهم على الاستفادة منه، أو التفكير فيه!(/8)
هؤلاء الذين عطّلوا تفكيرهم الإيماني الذي وهبهم الله إياه وغرسه في فطرتهم السليمة، هؤلاء يصبح ميزانهم مدى ما تهزّهم الخطبة أو المحاضرة أو زخرف الكلام العاطفي، ومدى ما تحرّك عواطفهم وشعورهم، حتى إذا انتهت الخطبة أو المحاضرة وسألت أحدهم بعد ذلك مباشرة أو بعد ساعات أو أيام: ما أهم القضايا التي أثارتها الخطبة؟ فَرَكَ رأسه محاولاً أن يتذكر، وما هو بمتذكر أبداً. ولو سألته: ماذا استفدت لتطبيقه في حياتك؟ لصمت وحار كيف يجيب.
يغلب على الأمة في هذه الحالة أن تَنْطلق الجماهيرُ فيها في مظاهرات صاخبة، تدوّي بها شعاراتهم الهائجة، وتبحُّ بها حناجرهم، ويهزّون سواعدهم، وبعد آلاف المظاهرات والخطب والشعارات لا تنال الأمة إلا الهزيمة بعد الهزيمة، ذلك لأن الإنسان لم يُبنَ ليتحمل مسؤوليته، ولا لينهض إلى أمانته، ولا ليوفي بعهده مع ربّه وخالقه، ولا ليدرس منهاج الله، ولا ليفكّر! فقد ترك ذلك كله لسواه، وجلس ينتظر من يهزّه ويحرّكه، فإذا هو يغطّ بعد حين في نوم ثقيل، أو يصحو ليسير في موكب العبيد التائهين.
إن محاولة تغيير الفتوى بهذه الأساليب، إنما تفسد ولا تصلح؛ لأنها في حقيقتها ليست فتوى! ولكنها محاولة لتغيير الفقه وأسس الاجتهاد. كيف يقوم فقه دون مسؤولية ووفاء بها، أو كيف يكون الوفاء بالمسؤولية دون فقه حق صادق:
لا فقه دون وفاء بالمسؤولية،
ولا وفاء بالمسؤولية دون فقه،
ولا فقه دون إيمان وعلم!
إنّ جهود الغرب كله منصبّة اليوم في العالم الإسلامي على تبنّي ما يسمونهم المعتدلين من المسلمين. والحقيقة الإيمانيّة أن المسلمين العالِمين المؤمنين الصادقين هم المعتدلون حقّاً والعادلون حقاً، وهم أهل الوسط بعيدين عن الغلو والتطرّف بسبب إيمانهم الصادق وعلمهم الصادق، ولأنهم يسيرون على صراط مستقيم بيّنه الله وفصّله.(/9)
ولكن الغرب يضع تعريفات خاصة به للمعتدلين وللمغالين والمتطرفين. فالمعتدلون عنده هم الذين يستسلمون لأفكاره وأطماعه وفلسفاته، ويكتفون من الإسلام كله بأداء الشعائر أو بعضها، ثم يسترخون أو يغيبون في أمواج الدنيا وأهوائها ومصالحها، ولم تَعُدِ الدار الآخرة هي غايتهم، يؤثرونها على الدنيا:
{اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ} [إبراهيم:3،2].
{إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً} [الإنسان:27].
{بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى:17،16].
{كَلَّا بَلْ لا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} [المدثر:53-55].
هؤلاء الذين يحبون العاجلة، ويذرون الآخرة، بمقياس الغرب هم المعتدلون الذين يريدونهم أن يكونوا حِصتهم وحزبهم في العالم الإسلامي. ويسمّونهم بمصطلح آخر: التقدّميين.
ويقول نيكسون رئيس الولايات المتحدة السابق في كتابه: نصر بلا حرب -صفحة :308:
"إن رياح التغيير في العالم الثالث تكتسب قوة العاصفة. ونحن لا نستطيع إيقافها، ولكننا نستطيع أن نساعد في تغيير اتجاهها".
ويقول في كتابه: الفرصة الأخيرة - صفحة 141:
"يجب علينا أن نعاون التقدّميين في العالم العربي، ففي ذلك مصلحتهم ومصلحتنا، فهم محتاجون لأن يعطوا أنصارهم بديلاً لأيديولوجية الأصوليين المتطرفين وانغلاق الرجعيين".
ويقول في كتابه: ما وراء السلام - صفحة 148:
"للولايات المتحدة أيضاً مصلحة كبرى في المحافظة على وجود إسرائيل وأمنها".(/10)
ودراسات كثيرة تصدرها مؤسسات أمريكية مثل مؤسسة "راند" التي بيَّنت في إحدى دراساتها التي تنصح بها الحكومة الأمريكية: على الحكومة الأمريكية أن توجد شبكة من المعتدلين التقدميين في العالم الإسلامي، ليحلّ فكرهم محل فكر الأصوليين من المسلمين.
إذن نحن نجابه غزواً فكرياً شديداً تدعمه وسائلُ إعلام مدوّية، وأسلحة مدمرة، وأجهزة متخصصة نشيطة، ووسائل متعددة متجددة.
وكان من بين أهم وسائلهم كسب أشخاص يطلقون أصواتهم ليكسبوا بها الجماهير، تحت شعارات مزخرفة مغرية مخدّرة، مثل عدم العنف والتطرف حسب ميزانهم، والاعتراف بالآخر، واحترام حقوقه، إلى غير ذلك من سلسلة الشعارات التي تصاغ بمهارة وذكاء، فتكسب مع الأيام جماهير مسلمة تنقاد إلى كل هذه الشعارات، ويغيب عن تلك الشعارات واجب الأمة بالإعداد وتوفير أسباب القوى.
يريد الغرب أن يعدّ أسلحته المدمرة كلها، ويريد أن يقاتل ويثير الحروب، ويدير إبادة جماعية، أما المسلمون فعليهم أن يحطموا سلاحهم، وأن لا يدافعوا عن أنفسهم وديارهم وأعراضهم، وإلا كانوا مغالين متطرّفين غير معتدلين.
هذه إحدى وسائلهم. ومن وسائلهم في بعض الأوساط تقديم الخدمات تطوعاً لكسب قلوب الناس ثم فتنتهم.
يريدون أن يطبق الناس جميعاً قوانينهم وشريعتهم، ولكن لا يريدون أن يطبق المسلم شريعة دينه الإسلام، فإن فعل ذلك فهو متطرّف غير معتدل.
يريدون مسلماً بغير إسلام، وإسلاماً بغير شريعة، وشريعة بغير حق الدفاع عن النفس. لا تزال كلمات "بوش" تدوّي لتبيّن حقيقة ما تخفي النفوس. فاسمع قوله المشهور: "من ليس معنا فهو ضدنا" فتموت الديمقراطية والحرّية والعدالة، حتى لا يبقى منها إلا الشعار الميت، وإلا جثث الإبادة الجماعية، وأنات المساجين دون محاكمة، وقهر الشعوب وسرقة ثرواتها...!(/11)
أيها المسلم المؤمن المعتدل بميزان القرآن والسنة، بمنهاج الله، انظر في واقعك لترى دعاة الليبرالية والديمقراطية والعلمانية والحداثة تحت شعارات إسلامية! انظر نظرة المؤمن الصادق، فسترى وستعرف.
ذلك التغيير الكبير الذي وصلوا إليه، كان أساسه "تغيير الفتوى"، لتكون مطابقة لواقعنا اليوم ولتطور الحياة، واللباس، والعادات، ولتقترب من حياة الغرب كله!
نعم! هنالك أحكام يمكن أن تتبدّل مع تبدّل الأزمان. إنها أحكام دنيوية ليست مرتبطة بنصّ قرآني أو بسنة صحيحة، ولا هي مرتبطة بالتصور الإيماني النافع من صدق الإيمان وصفاء التوحيد، وخشية الله وعذابه، وإيثار الآخرة على الدنيا، مثل هذه الأحكام قد تتغير؛ لأنها أحكام بشرية دنيوية. أما الأحكام النابعة من نص ثابت في الشريعة، فإن تغييره فتنة وفساد في الأرض كبير.
ولابد أن نقول هنا كلمة عن المسلمين والدعاة ومختلف مستوياتهم وأعمالهم. فإنهم لو أوفوا بما عاهدوا عليه الله، ما استطاع الغرب أن يخرق حصون العالم الإسلامي وقلاعه!
إنه لأمر عجيب أن ترى أهلَ الباطل جادّين باذلين صابرين في الدعوة إلى باطلهم، وأهل الحق عاجزين غافلين! جرأة أهل الباطل وعجز أهل الحق، إنه لأمر عجيب!
لكننا نؤمن أن كلّ شيء هو بقدر الله، مهما كان صغيراً أو كبيراً، وأن قدر الله حقٌّ عادل، وأن قضاءه نافذ؛ قدر غالب وحكمة بالغة.
مهما خطط هؤلاء، فإنهم في النهاية خاسرون. إنما يملى الله لهم ليزدادوا إثماً، ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر. أما المنتسبون إلى الإسلام فإنهم في ابتلاء وتمحيص حتى تقوم الحجة لهم أو عليهم.
يريدون أن يلغوا الإسلام، والمساجد، والكتاب والسنة! وأنّى لهم ذلك والله سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].(/12)
ورسول الله –صلى الله عليه وسلم- يقول في حديثه الشريف الذي يرويه عنه ثوبان -رضي الله عنه-: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحقّ لا يضرّهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك" [رواه مسلم:33/53/1920].
ولو اجتمعت كل صواريخ الغرب وسلاحه النووي وأضعاف أضعاف ذلك فلن يستطيعوا أن يقضوا على الطائفة الظاهرة أبداً، ولا أن يلغوا كتاب الله! ولا أن يهزموا الإسلام! إنهم يحاربون الله ورسوله: {...وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 21].
{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].
{وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ. وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات: 171-173].
وكذلك فإن الذين يبرزون اليوم في دعواتهم الضالة لن يفلحوا كثيراً، وكان عمر بن الخطاب يقول: "كان رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يحذّرنا من كل منافق عليم اللسان"!
إن أساس الفقه والفتوى في الإسلام هو سلامة التصور الإيماني، وثبات أسسه في القلوب والمواقف والسلوك. وأول ذلك كله أن يكون ولاء المسلم الأول لله وحده، وعهده الأول مع الله وحده، وحبّه الأكبر لله ورسوله، وأن يعي المسلم حقيقة المهمة التي خلقه الله للوفاء بها، والتي عبر عنها منهاج الله بمصطلحات أربعة: العبادة والأمانة والخلافة والعمارة. ثم فصلها منهاج الله تفصيلاً، حتى بان أن محور ذلك كله هو تبليغ رسالة الله إلى الناس كافّة كما أنزلت على محمد –صلى الله عليه وسلم- وتعهدهم عليها، حتى تكون كلمة الله هي العليا.(/13)
من خلال ذلك يؤمن المسلم أن منهاج الله حقٌّ كامل، صالح لكل زمان ومكان، ولكل حال، ويتذكر من أجل ذلك الآية الكريمة: {...الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً...} [ المائدة:3].
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ. لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42،41].
وأن رسالة محمد -صلى الله عليه وسلم- هي خاتمة الرسالات، ولا نبيّ بعده ولا رسول..
ومن أخطر القضايا التي صدرت بها فتاوى لا تقوم على أساس من الكتاب والسنة، استشهاد من فجرّ نفسه ليصيب بذلك من الأعداء. ولقد قرأتُ كل الفتاوى التي صدرت، فما وجدت أحداً أتى بدليل من الكتاب والسنة، وما أتوا به من بعض مواقف الصحابة -رضي الله عنهم-، أساؤوا تأويلَها، ولم يفرقوا بين من يخترق صفوف الأعداء فَيْقتُل منهم ويُقتَل بأيديهم لا بيده هو.
ولقد فصلتُ في هذا الموضوع في الصفحات السابقة، وأوردتُ النصوص من القرآن والسنة مما يوضح الأمر ويزيل كل التباس.
وأخيراً نودّ أن نذكّر أنفسنا ببعض الأدلة التي تبيّن أن منهاج الله صالح لكل زمان ومكان. والحقيقة أن كل آيات الكتاب شاهدة على ذلك، وإنما نورد هنا قبسات من الآيات والأحاديث:
{الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً. مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} [الأحزاب:40،39].(/14)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء:59].
{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [ سبأ:28].
{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107].
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال: "تركت فيكم شيئين لن تضلّوا بعدهما كتابَ الله وسنتي، ولن يتفرّقا حتى يردا عليّ الحوض" [أخرجه مالك والحاكم][3].
ورُوي عن عليِّ -رضي الله عنه- قال: "أما إني سمعت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يقول (إنه) ستكون فتن (كقطع الليل المظلم). قيل: فما النجاة منها يا رسول الله؟! قال: كتاب الله تعالى، فيه نبأ من قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، وهو فصْل ليس بالهزل، من تركه تجبُّراً قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، ونوره المبين، والذكر الحكيم، والصراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا تتشعّبُ معه الآراء، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق عن كثرة الرد، ولا يملّه الأتقياء، من عَلِم عِلْمه سبق، ومن عمل به أجُر، ومن حكم به عدل، ومن اعتصم به هُدِي إلى صراط مستقيم، ولا تنقضي عجائبه، وهو الذي لم ينتهِ الجن إذ سَمِعَتْه أن قالوا: {إنا سمعنا قرآناً عجباً} [الجن:1][4].
وأخيراً نقول: إن العلمانية وجميع ما يقترب منها من مذاهب نهج منفصل عن الإسلام كلّ الانفصال. ويأبى الله ورسوله والمؤمنون أن يلتقيا:
نهجان قد ميّزَ الرحمنُ بينهما نهجُ الضلال ونهجُ الحقّ والرشَدِ(/15)
لا يجمع الله نهجَ المؤمنين على نهج الضلالِ ولا صدقاً على فَنَدِ
ــــــــــــــــــــــــــــ
[1] لقد ناقشت النظريات التربوية الأمريكية في كتابي "التربية في الإسلام، النظرية والمنهج"، وبيّنت فسادها وحسبك دليلاً على ذلك أن تنظر في القيادات البشرية التي كوّنتها ليملؤوا العالم بالحروب والمجازر والإجرام.
[2] صحيح ابن حبان: حديث: 5895.
[3] موطأ مالك: رقم: 1619، صحيح الجامع الصغير وزيادته: رقم 2977.
[4] تفسير ابن عطية: ج1:ص:13. سنن الدارمي: رقم 3211، وأخرجه آخرون. وتختلف الروايات باختلاف الرواة مع استقامة المعنى.(/16)
العنوان: مع محدّث المدينة حمّاد الأنصاريّ
رقم المقالة: 1126
صاحب المقالة: د. جمال عزون
-----------------------------------------
مع محدّث المدينة
الشّيخ العلاّمة حمّاد بن محمّد الأنصاريّ
رحمه الله تعالى
كان من فضل الله عليّ أوّل قدومي المدينة النّبويّة عام 1408هـ أن تعرّفتُ إلى شيخنا الجليل العلاّمة المحدّث النّبيل أبي عبد الباري حمّاد بن محمّد الأنصاريّ رحمه الله تعالى، حيث قصدتُّه في مكتبته العامرة بحيّ الفيصليّة مع فضيلة الدّكتور عاصم بن عبد الله القريوتيّ، فكان لقاء ميموناً، ومجلساً مباركاً، عامراً بالفوائد المستَمْلَحة.
إنّ شيخنا الأنصاريّ شخصيّةٌ علميّةٌ فذّةٌ، قدم إلى الحجاز من بلده "تاد مكّة"، من بلاد مالي، متضلِّعاً من علوم الآلة، خاصّة علم الحديث والعقيدة، حيث صار عَلَماً فيهما، ومرجعاً هامّاً لذوي الاختصاص، ولا غرابة حينئذ أن تسمع منه شوارد من عدّة فنون؛ من نحو، ولغة، وفقه، وأصول، وحديث، وعقيدة، وغير ذلك.
أمّا خِبرةُ شيخنا بالكتب؛ فهو فارس الميدان في ذلك! يخبر سائلَه عن الكتاب، مفقوداً أو مخطوطاً أو مطبوعاً، مبيّناً عدد نسخ المخطوط المتوفِّرة وما تيسّرت له رؤيته منها، ويلفت الانتباه إلى النّسخة الجيّدة، وأنّها بخطّ فلان وفلان من مشاهير أهل العلم، وهكذا دَيدنه مع المطبوع؛ يشير إلى طبعاته، ومتى امتلك النّسخة شراء، ويطرِبك في ذلك كلّه بقصص طريفة لا تخلو من فائدة، فكان مجلسُه مجلساً مباركاً يقصده كلّ يوم عددٌ من أهل العلم.
وطلاّبه ينهلون من علم الشّيخ ما قُدّر لهم، فلا يخلو دكتور أو أستاذ أو طالب إلاّ وللشّيخ عليه منّة علميّة، ومن تصفّح كثيراً من رسائل الماجستير والدّكتوراه التي نوقشت في الجامعة الإسلامية؛ وجد خير شاهد على ما أقول، من ثنائهم على شيخنا، وإسناد الفضل -بعد الله تعالى- إليه، في الاشتغال والتّوجّه إلى ذلك المخطوط، أو الكتابة في ذاك الموضوع.(/1)
إن شيخنا روضة معارف لا تُمَلُّ مجالستُه، كريم الضّيافة، يدخل الرّجلُ مكتبته، فيحظى بعلم وقِِرى، يسمع منه الفوائد ،وينال حظّه من القهوة والشّاي والرُّطَب، وتأبى سجيّتُه الكريمة إلاّ أن يختم ذلك كلّه بطيبٍ عاطر يعطِّر به زائرَه، وقد يعاتِبُه بعض الكبار في مبالغته في استعمال العود لزوّاره فيعتذر الشّيخ بأنّ الكتب لها هي الأخرى حظٌّ من بخاره! فانظر إلى كرمه، وجميل سجيّته، رحمة الله عليه.
لقد كان مجلسُ شيخنا بعد عصر كلّ يوم مجلساً حافلاً بالفوائد، ولو جرّد كلُّ طالب ما سمعه منه؛ لجاء سِفْراً كبيراً، مليئاً بأخبار الكتب -مخطوطِها ومطبوعِها- ولطائف الشّعر، وغرائب الأحداث والمشاهدات التي وقعت له في رحلاته، وأنباء من أدرك من مشايخ العلم وشيوخ الإجازات، إلى غير ذلك ممّا جادت به قريحته، رحمة الله عليه.
وممّا سمعتُه منه -رحمه الله- ممّا وجدتُّه في بعض التّعاليق بخطّي ما يلي:
1- قوله: إنّ المراجع ما ذهبت إلاّ بعد السُّيوطيّ.
2- ذكر الخطيب البغدادي -في ترجمة ابن حبّان- أنّ ابن حبّان ترك من التّراث ما لم يتركه غيرُه في زمنه، واستغربنا أين ذهبت! حيث لم نطلع إلاّ على قطعة من تلك الكتب، وأفاد أنّ ذلك بسبب الفتن، أو جهل من ورثها.
3- لمّا دخلتُ -والكلام للشّيخ- جامع القرويين، بِفاس، بالمغرب؛ وجدتُّ رفوفاً مليئة بالمخطوطات، لكنّك لا تستطيع أن تُنزِل منها مخطوطاً سليماً! بل بمجرّد لمسه يتناثر قطعاً قطعاً!! وكان المسؤول -لمّا وصلنا فاس- توفّي، وجاء أحدهم مؤقّتاً، فسألته: ما هذا الإهمال؟ قال: هكذا الكتب!
وأعاد الشّيخ سبب خراب مخطوطات القرويين لأمرين:
الأوّل: الإهمال.
الثّاني: كثرة الصّراصير والغبار على نحو لا يتصوّر! وهكذا الشّأن مع مكتبة ابن أبي زيد القيرواني في تونس؛ حيث تَلِفَت الكتب على نحو لا يتصوّر[1].
4- النّوم ثلاث لامات:(/2)
أ - عيلولة: وهو النّوم بعد العصر، وفيه حديث: ((مَنْ نَامَ بَعْدَ العَصْرِ فَاخْتُلِسَ عَقْلُهُ؛ فَلا يَلُومَنَّ إِلاّ نَفْسَهُ)). وهو حديث ضعيف.
ب- حيلولة: وهو النّوم بعد الفجر، يحول بين المرء وعمله، وفيه حديث: ((اللَّهُمَّ، بَارِكْ لأمَّتِي فِي بُكُورِهَا)). وهو حديث صحيح.
ج- قيلولة: وهو النّوم بعد الظُّهر، وهو مفيد، وفي الحديث: ((قِيلُوا؛ فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لا تَقِيلُ)). حديث حسن.
5- قيل لأحدهم: (لا خيرَ في السَّرَفِ)!
فقال: (لا سرفَ في الخير)!
6- قال مالك:
(لا يقلْ أحدكم للمسكين: يرزقك الله!).
7- قال الشّاعر:
وَلِلْبَخِيلِ عَلى أَمْوَالِهِ عِلَلٌ [زُرْقُ الْعُيُونِ عَلَيْهَا أَوْجُهٌ سُودُ]
8- قال الشّاعر:
يَمُرُّونَ بالدَّهْنا خِفافاً عِيَابُهُمْ وَيَرْجِعْنَ مِن دارِينَ بُجْرَ الحَقَائِبِ
9- وقال الشّاعر:
وَيُقْضَى الأَمْرُ حِينَ تَغِيبُ تَيْمٌ [وَلا يُسْتَأْذَنُونَ وَهُمُ شُهُودُ]
10 - ازدحام العلم في السّمع مَزلَّةٌ لعدم الفهم.
11- رواة الموطَّأ كثير، منهم: يحيى بن يحيى اللَّيثيُّ، ويحيى بن بُكَيْرٍ، وأبو مُصعَب الزُّهْرِيُّ، وهو أشملُها، وأبو مُصعَب الزُّبيريُّ، والقَعْنَبيُّ، وابن زياد، وسُويدُ بن سعيد الحَدَثَانيُّ، وابن وهب، ومحمّد بن الحسن الشَّيبانيُّ، وابن القاسم، وهو أحسنُها، ومعن، وهو عكّازة مالك.
وقد مشى ابن بُكَير على طريقة يحيى بن يحيى اللَّيثي؛ لأنّه هو الموطّأ الذي تناولته الدّراسات واشتهر بين النّاس، أمّا الموطَّآت الأخرى -وتبلغ قريباً من 20 موطّأ، وكلّها روايات عن مالك، حيث إنّ كلّ طالب يكتب ما سمع- فتجد عند هذا ما ليس عند الآخر، فبهذا الاعتبار تعدّدت، وصار كلّ موطّأ فيه ما ليس في الآخر، وأكبرها موطّأ أبي مصعب الزُّبيري. وقد نبّه ابن عبد البَرِّ على اختلاف هذه الموطّآت في كتابه "التّمهيد".(/3)
سمعت هذه الفائدة حول الموطّآت عن شيخنا في مساء الأربعاء، 15 ذو القعدة، 1411هـ.
12- قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَْمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ...} [النساء:59].
* فقوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ} يعني: القرآن.
* {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ}: السّنّة.
* {وَأُولِي الأَْمْرِ مِنْكُمْ}: الإجماع.
* وقوله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ...}: يدلّ على القياس، وهو لا يُلجَأ إليه إلا للضّرورة، فهو كالميتة الخبيثة، أي: فإذا لم يكن كتاب، ولا سنة، ولا إجماع؛ فليُلجَأ للقياس.
والأقيسة ثلاثة:
1- المنطقي: وهو قياس فرد على كلّ، يستعمله المناطقة والفلاسفة والمتكلِّمون.
2- التّمثيليّ: وهو قياس جزء على جزء، يستعمله الفقهاء.
والقياس التّمثيليّ ثلاثة أقسام:
أ - قياس دلالة.
ب- قياس تشبيه.
ج- قياس علّة.
3- الاستقرائيّ: قياس كلّ على جزء، يستعمله اللُّغويُّون والنَّحْوِيُّون والمؤرِّخون.
ولا يوجد في الدّنيا قياس يخرج عن هذا.
13- العلم علم السّلف.
قال ابن مالك:
وَقَدْ تُزَادُ "كَانَ" في حَشْوٍ، كَ-: "مَا كَانَ أَصَحَّ علمَ مَنْ تقدَّما"
وكان شيخنا كثيراً ما ينشد هذا البيت في مجالسه؛ لمناسبة عَجُزِهِ في الدَّلالة على تفضيل علم السّلف.
14- اللِّنْجي[2] من سُنِّيَّة إيران، من أهل القرن الثّالث، له قصيدة مشهورة، ذيّل عليها الشّيخ تقيّ الدّين الهلاليّ بما يساويها.(/4)
وتقيّ الدّين الهلاليّ عالم يمتاز بالذّكاء العجيب، وقلّ علمٌ إلاّ وله منه نصيبٌ، من حديث، وتفسير، وعقيدة، ولغة، وأدب، وفقه، بحيث أخذ من كلّ علم طرفاً، ثمّ وسّعه بذكائه، ولم ألتقِ مع عالم مثله على هذا النحو، وقد لاحظتُ عليه شدَّته في دعوة النّاس، فقال الهلاليّ: "ما رأيتُ خيراً إلاّ في الشّدّة!"[3].
15- كتاب "الرَّدُّ على الجهميّة" (لابن أبي حاتم): نَقَلَ منه الحافظ في فتح الباري في شرح كتاب الإيمان، وكتاب التّوحيد في الأخير، وكتاب الاعتصام.
16- "السّنن" (للأثرم): توجد منه قطعة صغيرة في مجاميع الظّاهريّة لم تنشر بعد[4].
17- أوّل من سمّى علم الكلام توحيداً الماتُرِيديُّ.
18- وأملى عليّ شيخنا -رحمه الله تعالى- بعد مغرب السّبت 27 شوّال 1411هـ:
عُلُومُ الأَرْضِ لَمْ تَصِلُوا إِلَيْهَا فَكَيْفَ بِكُمْ إِلَى عِلْمِ السَّمَاءِ؟!
19- التّوحيد أربعة أقسام: الألوهيَّة، والرُّبوبيَّة، والأسماء والصِّفات، والمتابَعة.
20- قال الهَرَوِيُّ:
مَا وَحَّدَ الوَاحِدَ مِنْ وَاحِدٍ إِذْ كُلُّ مَنْ وَحَّدَهُ جَاحِدُ؟!
قال ابن القيم: (الله واحدٌ قبل أن يوحّده أحدٌ، فمن زعم أنّه ما صار موحّداً حتّى وحّده النّاسُ؛ فقد كفر).
21- كان شيخنا -رحمه الله تعالى- إذا ذَكَرَ ما عانوه من فرنسا ينشدنا ما يلي:
نَعُوذُ مِنْ رَبِّنَا مِنْ شَرِّ كُمْبِلْ فِرَاراً مِنْ عَوَاقِبِ فَنِّ لُكُّلْ
وَنَدْرَءُ بِاسْمِهِ دَعْوَى كُلَنْقِلْ وَشِيْعَتِه مِنْ يُتْنَا إلى كُفَرْنِلْ
قلتُ:
لُكُّلْ: هو "المدرسة" كتابة حرفيّة للكلمة الفرنسيّة: L, ECOLE.
كُفَرْنِلْ: هو "الحاكم"، وبالفرنسيّة: GOUVERNEUR.
يُتْنَا: هو نحو "الرّقيب"، و"العقيد"، وبالفرنسيّة: LIEUTNANT.
كُمْبِلْ: اسم عَلَم فرنسي، ولعلِّه بالفرنسيّة: COMBIL.
كُلَنْقِلْ: اسم علم أيضاً، ولعلِّه: COLINGIL.
22- كلُّ من ليس له دار؛ فله في كلّ يوم جار!(/5)
23- كتاب "الحجّة على تارك المحجّة" (لأبي الفتح نصر بن إبراهيم المقدسيّ): فُقِدَ أصلُه وَوُجِدَ مختصرُه، وكان النّوويّ يمتلك نسخة من الأصل.
24- "الأجوبة المستوعبة عن المسائل المستغربة" (لابن عبد البَرِّ): أصلُه أسئلة رفعها بعض الطَّلبة عن صحيح البخاري، على غرار كتاب ابن مالك[5]، وقد جاءني الكتاب من تركيا.
25- "مستخرج قاسم بن أصبغ": توجد منه نسخة متأثّرة في جامع القرويين بفاس[6].
26- عبد الرّحمن-صقر قريش- هرب من العبّاسيّين، وكوَّنَ دولة أُمَوِيَّة في إفريقيا، ثمّ بلغه أنّ مالكاً كان يثني على الأمويّة؛ فأمر أن ينقل مذهب مالك من المدينة إلى قرطبة، ومن هناك؛ تمذهب بمذهبه الأفارقة إلا إفريقيا الشرقيّة؛ ففيها مذهبان: الشّافعيّة والإباضيّة. أمّا إفريقيا الغربيّة؛ ففيها المذهب الحنفي، وهو فيها كالعدم؛ فقد كان سائداً في تونس بسبب الأتراك، وفيها المذهب المالكي، وهو السّائد ويمثّل 95% بالمئة، بينما الحنفي لا يمثّل سوى 5% بالمئة.
27- إباضية الجزائر تلاميذ إباضية عُمان، والإباضيون -عقيدةً- معتزلة، وأهمّ مرجع لهم هو مسند الرّبيع بن حبيب، وهو مسند لا سند له! وهكذا الرّافضة والزّيدية والإباضية، مذهبهم لا سند له، وعلمٌ بغير سند كجمل بغير زمام. وهذه الأمم بفروعها لا يوجد سند لعلومهم إلاّ الكذب؛ لذا جعلوا بدل العلم الفلسفة.
28- "المحرّر" (لابن حجر): اختصره من "اللّسان"، وجمع فيه الرّواة الذين لا خلاف فيهم ممّن ليس من رجال الستّة، وهو مخطوط صغير عندي.
29- الحافظ المستغفري أفرد خطب النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- في كتاب، وهو ضائع[7].
30- المجلس على حسب ما يطرح.
31- وقال عمر: تعلّموا قبل أن تَسُودوا، أي: قبل أن تتزوّجوا.
32- قال الشّاعر:
وَالمَجْدُ لَيْسَ بِقَرْقَرٍ، بَلْ في ذُرَا نِيقٍ يَفُوتُ مَدَى الصُّقُورِ الصُّيَّدِ(/6)
لم يَصِمْهُ سَهْمٌ، وَلَمْ يَبْتَزَّهُ بَازٌ وَلَمْ يُصْرَعْ بِرَمْيَةِ مِقْلَدِ
لَكِنْ بِأَشْرَاكِ الحُلُومِ وَهِمَّةٍ نَفَّاذَةِ الأَغْرَاضِ فَلْيَتَصَيَّدِ
33- وقال آخر :
لا تَحْسَبِ المَجْدَ تَمْراً أَنْتَ آكِلُهُ لَنْ تَبْلُغَ المَجْدَ حَتَّى تَلْعَقَ الصَّبِْرَا
34- ثلاث لامات: لام التّعطيل، ولام التّأويل، ولام التّمثيل. وزاد بعضهم: لام التّجهيل، ولام التّبديل.
35- ثلاث جيمات: جيم الإرجاء في الإيمان، وجيم الجبر في الأفعال، وجيم الجهميّة في الصّفات.
36- عقيدة ابن حزم جهميَّةٌ، تُعرَف من كتابين: "مقدَّمة المحلَّى"، و"الفِصَل".
37- "المرشدتان: الصّغرى والكبرى" (لابن تومرت): مخطوطتان في الجامعة، صوَّرهما شيخنا من تونس.
38- البدعة بريد الكفر، وهي أخطر؛ لأنّ الكافر قد يتوب، والتّائبون من البدعة قليل، والتّائبون من الكفر كثير؛ لأنّ البدعة صدق عليها قوله تعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} [فاطر:8].
39- قال صَريع الدِّلاء:
مَنْ فَاتَهُ العِلْمُ وَأَخْطَاهُ الغِنَى فَذَاكَ وَالكَلْبُ عَلَى حَدٍّ سَوَا
40- الاشتقاق نوعان:
1- الأكبر: كجَذَبَ وجَبَذَ، ألّف فيه الخليلُ بن أحمد "كتابَ العين"، وابنُ دُرَيد "الجمهرةَ"، والأزهريُّ "التّهذيبَ"، وابن سِيده "العُبَاب"، وابن فارس "المقاييس"، والصّاغاني "العباب الفاخر".
2- الصّغير: كضَارِب، من "ضَرَبَ"، ففيه دلالة على الضَّرْبِ.
وسمّي الأوّل كبيراً؛ لأنّ المعنى يتغيّر، بخلاف الصّغير؛ فلا يتغيّر فيه المعنى.
41- وقعة الحرّة فيها أخبارٌ واهيةٌ، ولابن كثير كلام جيّد في هذا.
42- الإمكانيات: تعبير خطأ يقع فيه النّاس، والصّواب: الإمكانات.
43- وبخطّ شيخنا على نسخته المطبوعة من المسند 3/297:
(قال عبد الله: قال يحيى بن معين: قال لي عبد الرَّزَّاق: اكتب عنّي ولو حديثاً واحداً من غير كتاب! فقلت: لا! ولا حرفاً.(/7)
حدّثنا عبد الله قال: وسمعت أبي يقول: وما كان في قرية عبد الرزاق بئرٌ؛ فكنّا نذهب نبكِّر على ميلين نتوضّأ، ونحمل معنا الماء).
وهكذا كان شيخنا -رحمه الله- يعلِّق على أغلفة الكتب -من الجهة الدّاخليّة- فوائدَ كثيرةً، لو جرّدت وجمعت ورتّبت؛ لكان حسناً.
44- وأنشد، رحمة الله عليه:
لَيلِي ولَيْلَى نَفَى نَومِي اخْتِلافُهُمَا فِي الطُّولِ والطَّوْلِ، يَا غَوْثَاهُ لَو حَصَلا!
يَزِيدُ في الطُّولِ لَيْلِي حِينَمَا بَخِلَتْ بِالطَّولِ لَيْلَى، وَإِنْ جَادَتْ بِهِ بَخِلا!
45- ما جاز على المِثْلِ جاز على المماثِل.
46- "كتاب الكشف على مجاوزة هذه الأمّة الألف" (للسّيوطيّ): انصبّت على القرن الخامس عشر، حتّى بالغ وقال: تقع السّاعة فيه! وأورد حديثا عن ابن عبّاس.
47- "شرح التّرغيب والتّرغيب" (للفيّومي)[8]: يقع في عشر مجلّدات، وهو مخطوط.
48- "التّذنيب في التّعليق على التّرغيب والتّرهيب" (للنّاجي)[9]: وقد سمّي بذلك؛ لأنّه انتقل من مذهب الحنابلة إلى الشّافعيّة، والحنابلة -كما يزعم خصومُهم- مجسّمة!
49- أنشدنا شيخنا قولَ الشّاعر:
وَصَاحِبُ الخَطِّ تَحْتَ التُّرْبِ مَدْفُونُ
50- وأنشدنا قول الآخر:
عَجِبْتُ! وَمَا لِيَ لا أَعْجَبُ لأمْرٍ أَتَاني بِهِ جَلْبَبُ
فَظِيعٌ شَنِيعٌ كَمَا يَنْبَغِي يَلِيقُ بِه الأَخْسَرُ الأَخْيَبُ
فَتًى مِنْ بَنِي كَارِدَنَّ بَغَى فَبِئْسَ البَنِيُّ! وَبِئْسَ الأَبُ!
وَذَلِكَ شَنْشَنَةٌ عُرِفَتْ لِهَذَا الفَتَى وَلِمَنْ يَصْحَبُ
لأَرْتَحِلَنْ إِلَى مَادُو أَوِ الْ قِبْلَةِ أَو تَازَا أو جَغْبَبُ
51- وأنشدنا :
وَقَالَ الإمامُ أحمدُ: لا تكتُبُوا ما قلتُه لكم، بلْ أَصْلَ ذلكَ اطْلُبُوا
52- عادى المالكيّةُ ابنَ عبد البَرِّ لما يلي:
1- لأنّه -في زعمهم- مجسِّم!
2- ما يفتي به في "التّمهيد" و"الاستذكار" و"الكافي" يخالف المذهب.
3- يدّعي الإجماع كثيراً.(/8)
53- "كتاب مذاهب في التّفسير الإسلاميِّ" (لغولد تسيهر): من أخبث ما كتب ضدّ الإسلام، وقد أحرقته؛ لقول الشّيخ، رحمه الله تعالى.
54- قال ابن الجوزيِّ: (مسند أحمد فيه تسعة أحاديث موضوعة).
قال ابن حجر: (جمعها شيخُنا العراقي، وما استطعتُ أن أواجهه بها، فلمّا توفّي كتب القول المسدّد). وليس في المسند سوى حديث واحد موضوع وهو: ((أنّ عثمان بن عفّان يدخل الجنّة حَبْواً))، وقد ضُرِبَ عليه أحمد.
55- كلُّ من طعن في السِّنِّ فهو عُرضة للنِّسيان.
56- الأخذُ سُرَيْط، والقضاء ضُرَيْط!
57- ولشيخنا مؤلّفات كثيرة، ما زال الكثير منها مسوَّدات بخطّه، وقد أذن لي -رحمه الله- في جمع أسمائها، وكنت عرضتُ عليه المسوَّدات، فيملي هو العنوان إذا لم يكن ثمّة، وهذا ما تيسّر منها، كما هو بخطي:
- إتحاف الحميم في تقسيم العلوم.
- إتحاف ذوي الرُّسُوخ بمن رُمِيَ بالتدليس من الشيوخ. (ط = مطبوع).
- إتحاف القاري بثبت الأنصاري.
- إتحاف النُّجَبَاء بحكم الصلاة في قُباء.
- أجوبة على الأحاديث الثلاثة التي أرسلها الشَّيخ ابن باز.
- الأجوبة السَّنِيَّة على الأسئلة السِّنانية.
- الأجوبة الوفيَّة على أسئلة الألفيَّة. وصل فيه إلى باب "لا" التي لنفي الجنس، والباقي ضاع.
- الأحاديث الواردة في فضلات النبي -صلى الله عليه وسلم- من الدم وغيره.
- أحاديث الصَّفِّ في الصَّلاة. جزء.
- إخبار أهل الرُّسُوخ في الفقه والتّحديث بمقدار المنسوخ من الحديث. لابن الجوزي. (ط).
- إزاحة الغطاء عن أدلَّة رفع اليدين في الدُّعاء.
- إسعاف الخِلان بما ورد في ليلة النِّصف من شعبان. (ط).
- الإسلام ليس رأسمالياً ولا اشتراكياً، (ط).
- إعلام الزُّمْرة بأحكام الهِجرة، (ط).
- الإعلان بأنّ "لَعَمْرِي" ليست من الأيمان. أو: السلسبيل المَعين في أنّ "لَعَمْرِي" ليست بيمين. (ط).(/9)
- الإفصاح بما ورد في النكاح. أوّله: الحمد لله الذي أحلَّ النكاح، وحرم السفاح، والصلاة والسلام على نبينا محمد، أفضل من اتصف بإفصاح، وعلى آله وأصحابه الذين بلَّغُوا عنه أرشد طريق لاح.
- أين القمر. أوَّلُها: الحمد لله وكفى، وصلّى الله على المصطفى، وبعد، فعلى إثر الحادثة التي تناقلتها وكالات الأنباء العالمية، وبلغت أخبارها أنحاء العالم، وهي ما أشيع عن وصول الإنسان إلى سطح القمر؛ تساءل كثير من النّاس عن القمر... (ط).
- بُطلان الخبر الذي تضمن عرض السنة على القرآن. في 18 ورقة.
- بُلغة القاصي والدَّاني في معرفة شيوخ الطَّبَراني. (ط)، اعتنى به ولدُه الفاضل عبد الأوَّل الأنصاري، وفّقه الله تعالى.
- تاريخ مالي قديماً وحديثاً، مجلد.
- تُحفة السَّائل عن صوم المُرضع والحامل. (ط).
- تحفة القاري في الرد على الغِمَاري. (ط).
- تحقيق القول في الحديث الوارد فيمن مضت عليه خمسة أو أربعة أعوام، وهو غني، ولم يحجَّ ولم يعتمر. 6 ورقات.
- تخريج حديث أبي مدنية الدارمي، وكانت له صحبة، قال: ((كَانَ الرَّجُلانِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيِْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا الْتَقَيَا؛ لَمْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَقْرَأَ أَحَدُهُمَا عَلَى الآخَرِ: {وَالْعَصْرِ *إِنَّ الإْنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ})).
- تخريج حديث أسامة بن شريك، قال: ((خَرَجْتُ مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَاجّاً، فَكَانَ النَّاسُ يَأْتُونَهُ، فَمِنْ قَائِلٍ: يَا رَسُولَ اللهِ، سَعَيْتُ قَبْلَ أَنْ أَطُوفَ...))، شرحه الشيخ، وذكر موقف العلماء منه، في 4 ورقات، بخطِّه.
- تخريج حديث ابن عباس في القدر، في 4 ورقات.
- تخريج حديث الجائزة، ((جَائِزَةِ رَمَضَانَ))، في 9 ورقات.
- تخريج حديث: ((لَوْ دَلَّيْتُمْ بِحَبْلٍ إِلَى الأَرْضِ السَّابِعَةِ...)).
- تخريج حديث: ((أَطْعِمُوا نِسَاءَكُم)).(/10)
- تعريف أهل الطاعة بما ورد في التوقيت بالساعة.
- تعليق الأنواط في التذييل على صاحب الاغتباط، فيمن روي عنه من الثقات قبل الاختلاط.
- تفنيد الأنصاري لرأي المَليبارِي. نشرت في مجلة الرائد بالرياض.
- حديث الصورة، طبع في المجلة السلفية.
- حديث موضوع أذاعته صوت العرب في ربيع الثّاني عام 1390هـ، وهو: حديث أبي بكر الصّدّيق في دعاء حفظ القرآن: ((اللَّهمَّ إنِّي أسألك بمحمّد نبيّك وإبراهيم خليلك...))، في ورقتين من القطع الكبير.
- الحقوق.
- ديوان الضعفاء للذهبي- تحقيق. (ط).
- ذيل ديوان الضعفاء للذهبي- تحقيق. (ط).
- الرجال المُتَكَلَّمُ في أحاديثهم وأنها موضوعة. نشر في مجلة صوت الجامعة، صفر 1392هـ.
- رجال جَهِلَهُم ابن حزم وهم معروفون.
- الرحلة المصرية. جزءان.
- الرحلة الهندية عام 1399 هـ. جزءان.
- رسالة في الرد على أحمد عبد الغفور عطّار على رسالته: "بناء الكعبة على قواعد إبراهيم فريضة إسلامية وواجب ديني".
- رسالة في وقت الجُمُعة.
- رفع الأسى عن المضطر إلى رمي الجمار بالمسا. (ط).
- رفع الاشتباه عن حديث: ((مَن صَلَّى في مسجدي هذا أربعينَ صلاةً)). (ط).
- عدد ساعات الليل والنهار.
- فتح الوهاب فيمن اشتهر من المحدثين بالألقاب. (ط).
- فتوى في زكاة ضَوَالِّ الأنعام.
- القول السليم في حكم اقتداء المسافر في الصلاة بالمقيم.
- الكذابون المعروفون بوضع الحديث. نشرت في مجلة صوت الجامعة، صفر 1392هـ.
- كشف السِّتر عما ورد في السَّفَر إلى القبر. (ط).
- كشف اللِّثام عما ورد في دخول مكة المكرمة بلا إحرام. طبع في مجلة صوت الجامعة. جمادى الأولى 1391هـ.
- كلمة في تفسير: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا}.
- الكُنى لابن شاهين- تحقيق.
- المختلف فيهم لابن شاهين- تحقيق، اعتنى به ولده الشيخ الدكتور عبد الباري، وفقه الله. (ط).
- المستفاد من مبهمات المتن والإسناد- تحقيق. (ط).(/11)
- مقال عن حديث: ((لا مهديَّ إلا عيسى بن مريم)). نشر في مجلة "المنهل".
- المقالة المحبوكة فيما ورد في الباروكة. أو: المقال المختار فيما ورد في الشعر المستعار.
- المقامة الأنصارية في ابتداء طلبه لعلم الحديث.
- نظم تنبيهات الأُشْموني مطلعها:
كيف أحوال لدى الإعراب يعرفها من كان ذا الألباب؟
- نظم أبواب القياس من كتاب جمع الجوامع.
- نكاح المتعة لأبي الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي- تحقيق. (ط).
- يانع الأثر في مصطلح أهل الأثر. (ط).
- يلملم - رسالة في الكلام على هذا الميقات.
لقد كان شيخنا -رحمه الله- معتنياً بنوادر المخطوطات، ونفائس الكتب، كريماً بإعارتها، يرشد الباحثين إلى فرائدها، ويوجِّههم إلى تسجيلها في رسائلهم العلمية، الماجستير والدكتوراه، وكان يَجُود بالمخطوط الذي تجشَّم عناء قراءته وتبييضه، ومن ذلك الكتاب الضخم "شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة"، للاَّلِكائي؛ فقد تعب الشيخ في نسخه، ومن رأى النسخة التي بخط يده؛ علم ذلك جلياً.
ومن منتسخات شيخنا -رحمة الله عليه- وهي كثيرة- ما يلي:
1- الاغتباط بمعرفة من رُمي بالاختلاط، لبرهان الدين الحلبي.
2- تذكرة الطالب المعلَّم بمن يقال إنه مخضرم، له.
3- التبيين لأسماء المُدَلِّسين، له.
4- الكُنى للذهبي اختصار الكُنى لأبي أحمد الحاكم.
5- الوقوف على الموقوف، لأبي حفص الموصلي.
6- جزء فيه فوائد حديث أبي عمير، لابن القاص.
7- الكنى والأسماء، لابن شاهين.
8- المختلف فيهم، لابن شاهين.
وغير ذلك كثير.
وللشيخ فضائل جمة على الجامعة الإسلامية، ويكفي ما بذله من جهد فيما انتقاه من نوادر المخطوطات، وقد شهد له بفضله هذا الشيخ العلامة محمّد ناصر الدين الألباني، رحمة الله على الجميع.(/12)
فهذا ما تيسّرت كتابته عن شيخنا الجليل أبي عبد الباري، حمّاد بن محمد الأنصاري، الذي مُتِّعْتُ بعلمه ما يقارب عشر سنوات، كتبته على عجل، وليس كما في النَّفس، سائلاً المولى أن يتغمَّد شيخنا بواسع رحمته، ويبارك في ذرِّيَّته، ويجعلهم خير خلف لخير سلف، ويوفِّقهم إلى المضيِّ قدماً في سيرة والدنا الأولى، في رعاية المكتبة، وإتاحة مقتنياتها النّفيسة للزّائرين، وإفادة القادمين والرّائحين، وقد فعلوا ولا يزالون، وهم بذلك مغتبِطون محتسِبون، والله الموفّق والهادي إلى سواء السّبيل.
نموذج من خطّ شيخنا حمّاد بن محمّد الأنصاري
ضمن كتاب "اعتقاد أهل السّنّة"، للحافظ أبي بكر الإسماعيلي، تحقيق كاتبه، وتقريظ الشّيخ، رحمة الله عليه.
ــــــــــــــــــــــ
[1] انتبه مسؤولو المكتبتين إلى خطورة الحال، واتّخذوا اللازم؛ لحفظ تلك الآثار النّفيسة.
[2] نسبة إلى بندر لِنْجَه، مدينة في الأهواز. (الموقع)
[3] لا شكّ أنّ الشّدّة في موضعها أمر حسن، وفي غير موضعها تجرّ الويلات، وتنفّر النّاس عن قَبول الحقّ، والله قد أخبر نبيّه الكريم -عليه الصّلاة والسّلام- أنّه لو كان فظّاً غليظ القلب لانفضّ النّاس من حوله، وخير الهدي هدي محمّد، صلّى الله عليه وسلّم.
[4] والآن قد نُشرت بتحقيق د. عامر حسن صبري، عن دار البشائر بلبنان، فلله الحمد والمنّة.
[5] لعلّ الشّيخ -رحمه الله- يقصد كتاب النّحْوي ابن مالك على صحيح البخاري، المسمّى: التّوضيح في إعراب الجامع الصّحيح.
[6] درس بعضهم هذه النّسخة، وخلص إلى أنّ المخطوطة ليست هي مستخرَج قاسم بن أصبغ، بل تلخيص لأحاديث الموطّأ.
[7] كتب الزّميل الفاضل د. أحمد السلّوم -وفّقه الله تعالى- دراسة ممتعة عن الحافظ المستغفري في تحقيقه لكتابه فضائل القرآن.(/13)
[8] اسم الكتاب: "فتح القريب المجيب على التّرغيب والتّرهيب"، ذكر له في الفهرس الشّامل 1167 خمس نسخ. ومؤلّف الكتاب هو: أبو محمّد حسن بن علي بن سليمان البدر الفيّومي القاهري (804 - 870هـ)، ترجم له الحافظ السَّخاوي في الضّوء اللاّمع 3/111- 112.
[9] ويسمّى: "عُجَالة الإملاء"، وهو مطبوع متداول.(/14)
العنوان: معًا في رمضان.. من الفجر إلى العشاء
رقم المقالة: 1227
صاحب المقالة:
-----------------------------------------
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 183 – 185].
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((قال الله عزَّ وجلَّ: كلُّ عمل ابن آدم له، إلا الصيام؛ فإنه لي، وأنا أجزي به. والصيام جُنَّةٌ، فإذا كان يوم صوم أحدكم - فلا يَرْفَثْ و لا يَصْخَبْ؛ فإن سابَّه أحدٌ أو قاتله؛ فليقل: إني صائمٌ. والذي نفس محمَّدٍ بيده؛ لخُلُوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك. للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفِطْرِه، و إذا لقيَ ربَّه فرح بصومه))؛ متفقٌ عليه.
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَنْ صام رمضان إيمانًا واحتسابًا؛ غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه))؛ متفقٌ عليه.(/1)
وعنه - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – قال: ((إذا جاء رمضان فُتحت أبواب الجنة، وغُلِّقَتْ أبواب النار، وصُفِّدَتِ الشياطين))؛ متفقٌ عليه.
عن ابن عباس - رضي الله عنهما – قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المُرْسَلَة))؛ متفقٌ عليه.
أحبتي:
فمن خلال الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة - يتبيَّن لنا أهمية شهر رمضان المبارك، ومكانته العظيمة عند الله سبحانه وتعالى، وكيفيَّة العمل به.
أخوتي وأخواتي الكرام:
لماذا لا نستغل كل دقيقة في هذا الشهر الكريم؟
لماذا لا نحصد أكبر قدر ممكن من الحسنات؟
لماذا لا نعتبِر أن هذا الشهر هو الشهر الأخير لنا في الوجود؟
لماذا لا نعتبِر أن عملنا به هو العمل الأخير والوحيد الذي يوصلنا إلى الجنة؛ لنبذل فيه كل جهدنا وطاقتنا، وكل ما في وسعنا؛ لننال التوبة الصادقة، والمغفرة التامة، ومن ثَمَّ الجنة؟
لماذا لا نكون في نهاية الشهر الكريم من الذين يعتقهم الله سبحانه وتعالى من النار؟
إخوتي:
لماذا لا نضع برنامجًا خاصًّا للعمل في هذا الشهر الكريم؟
لماذا لا نعطي هذا الشهر الكريم بعضًا من وقتنا الذي نضيعه هنا وهناك دون فائدة؟!
إخوتي:
هيا بنا نضع الجدول الخاص بهذا الشهر الكريم، الذي بوسع كل فرد منا بتنفيذه، دون كلل أو ملل؛ بل بكل رغبةٍ وشوقٍ وحبٍّ.
• وقت الفجر:
- قيام الليل، ولو بركعتَيْن.
- صلاة ركعتي قضاء الحاجة؛ وهي صلاةٌ سُنَّت لمن كان له حاجة، ويريد من الله أن يقضيَها؛ فتتوضأ وضوئك للصلاة، ثم تصلِّى ركعتَيْن بنيَّة قضاء الحاجة، ثم تدعو بعدها بحاجتك. فاحرص على أن تخصص لكل يوم حاجة تصلي من أجلها.
- قراءة قرآن الفجر.
- صلاة ركعتَيْن بنيَّة سُنَّة وضوء الفجر.(/2)
- صلاة الفجر في خشوع وتدبُّر.
- الدعاء بتضرُّع، بعد الصلاة والاستغفار للمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات.
- خَتْم الصلاة، وقول أذكار بعد الصلاة.
- قراءة أذكار الصباح.
• وقت الضُّحى:
- صلاة ركعتَيْن سُنَّة وضوء.
- صلاة الضُّحى.
- قراءة قرآنٍ بعد الصلاة.
• وقت الظهر:
- صلاة ركعتَيْن سُنَّة وضوء.
- صلاة ركعتَيْن × ركعتَيْن؛ سُنَّة قبل الظهر.
- صلاة الظهر فى وقته، وبخشوعٍ.
- أذكار بعد السَّلام من الصلاة.
- الدعاء والاستغفار للمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات.
- صلاة ركعتَيْن سُنَّة بعد الظهر.
• وقت العصر:
- صلاة ركعتَيْن سُنَّة وضوء.
- صلاة العصر في وقته، وبخشوعٍ.
- أذكار بعد السلام منَ الصلاة.
- الدعاء والاستغفار للمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات.
- الجلوس لقراءة وِرْدِكَ منَ القرآن.
• قبل المغرب بنصف ساعة:
- قراءة أذكار المساء.
- الجلوس للدعاء حتى الإفطار، ولا تنسَ الإستغفار للمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، والدعاء للمسجد الأقصى، والمجاهدين، والمسلمين المستضعَفين في مشارق الأرض ومغاربها، ولا تنس الدعاء لوالدَيْك وذوي رحمك، وكلِّ منِ اغتبتَه، أو ظلمتَه، أو كان له عندك حقٌّ، ولا تنسوني من دعائكم بظهر الغيْب، وتذكَّر: دعوة الصائم لا تُرَدُّ.
• وقت المغرب:
- الإفطار على تمرات، ويكون عددها وترًا؛ اتِّباعًا لسُنَّة الحبيب.
- صلاة المغرب في وقته، وبخشوعٍ.
- أذكار ما بعد السلام منَ الصلاة.
- الدعاء والاستغفار للمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات.
- صلاة ركعتَيِ السُّنَّة.
- الإفطار، واحرص - أخي الكريم - أن يكون إفطارًا خفيفًا؛ حتى تَقْدِرَ على صلاة التراويح.
- الاستعداد لصلاة العشاء والتراويح.
• وقت العشاء:
- التبكير في الذهاب للمسجد؛ حتى تلحق الصف الأول.
- القيام بصلاة العشاء بخشوعٍ.
- أذكار ما بعد السلام منَ الصلاة.(/3)
- الدعاء والاستغفار للمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات.
- صلاة ركعتَيِ السُّنَّة.
- صلاة التراويح بتدبُّرٍ وخشوعٍ، ولتكن صلاتك في مسجدٍ يختِم القرآن في رمضان.
- الذهاب إلى المنزل، والتبكير في الذهاب إلى النوم؛ حتى تقدر على قيام الليل.
- النوم على وضوءٍ، وقراءة أذكار ما قبل النوم.
أسئلةٌ هامةٌ:
هل قمت اليوم بتقديم صدقة لوجه الله، حتى ولو كانت التبسُّم في وجه أخيك المسلم؟
هل قمت اليوم بخدمة أحد المؤمنين؟
هل قمت اليوم بصلة رحمٍ، ولو بالهاتف؟
هل أضفت اليوم معلومةً دينيةً لمعلوماتك؟
هل أمرت بمعروفٍ، ونهيتَ عن منكرٍ اليوم؟
هل منعت نفسك عن الغيبة و النميمة اليوم؟
هل غضضت بصرك اليوم؟(/4)
العنوان: معادلةُ القوي والضعيف في انتخابات (لبنان)
رقم المقالة: 1487
صاحب المقالة: خاص: الألوكة
-----------------------------------------
بإرجاءِ الجلسة الأولى لانتخابِ رئيس الجمهورية في البرلمان اللبناني، تكونُ لبنانُ قد دخلت مرحلةَ الحسم قبل الأخيرة، التي من المفترض أن توصِّل رئيساً من المسيحيين (الموارنة) إلى المنصب الذي تقلصت صلاحياتُه أكثرَ من مرة، عبر انتخاباتٍ تُعَدُّ امتحاناً حقيقياً للديمقراطية ونبذ الخلافات الطائفية.
وإن كانت الطائفيةُ واقعاً مُعاشاً في لبنان حقيقةً على الدوام، إلا أنّ الخوفَ اليوم ليس بسبب عدم شرعية الانتخاباتِ، وإنما بسبب الموالاة والمعارضة، التي تمثّل ترسيخاً للطائفية، يراها البعضُ كابوساً قد يعيدُ البلاد إلى عام 1975م، عندما انطلقت الشرارةُ الأولى للحرب الأهلية.
الرئيس اللبناني (إميل لحود)، الذي انتهت صلاحياتُه رئيسًا للبلاد في 23 من نوفمبر الماضي، يقفُ عاجزاً عن فعل أي شيء؛ لأن التمديدَ الأخير له، أشعلَ فتنةً أكبر من الفتنة التي ظهرت عند توليه الرئاسةَ عام 1998م. وحسب الدستور اللبناني، فإنه يلزمُ الاتفاق على تسمية رئيس جديد يصل إلى قصر (بعبدا) قبل ذلك التاريخ.
إحدى المشاكل التي أشعلتها الحربُ الصامتة -حتى الآن- حول اختيار رئيس البلاد، أشعلت في الوقت نفسه حرباً صامتة من نوع آخر، هي حرب بالوكالة، بين عدة دول عربية وعالمية.
مفترق طرق:
على الطرف الأول، يقع فصيل الأغلبية البرلمانية، التي يرأسُها سعد الحريري، الذي ارتفعت شعبيتُه بعد اغتيال والده (رفيق الحريري) عام 2005م. ويُعَدّ الوزن الأثقل للطائفة السنية، التي يدعمها فصيل رئيس الوزراء (فؤاد السنيورة)، وأمير الحرب السابق (سمير جعجع)، والرئيس السابق (أمين الجميّل)، والزعيم الدرزي (وليد جنبلاط).(/1)
وباستثناء تيار جعجع والجميل، كان هذا الفصيلُ يقف إلى جانب الوجود العسكري السوري سابقاً، ولمدة طويلة خلال حقبة التسعينيات. عندما كان السوريون يتمتعون بنفوذ واسع في لبنان، يسمح لهم بتعيين أو إقالة الكثير من المسؤولين في البلاد.
إلا أن الأمور تغيرت بعد أن تخلى السوريون عن الحريري لصالح لحود، وذكرت مصادر إعلامية وسياسية آنذاك أن السوريين ربما كانوا يخشون زيادة قوة الحريري، الذي كان يتمتع بدعم الرئيس الفرنسي السابق (جاك شيراك) بقوة.
وعندما اعترض الحريري على وصول لحود للرئاسة عام 1998م، خوفاً من تحوّل لبنان إلى دولة عسكرية (لكون لحود كان قائداً للجيش)، انتقل الحريري إلى تيار المعارضة منذ ذلك الوقت، ونما معه اضطهادُ الرئيس لحود لكتلة الحريري، عبر عدة اتهامات لأعضائه بالفساد وغيرها، طالت فيمن طالت فؤاد السنيورة (رئيس الحكومة الحالية)، الذي كان وزيراً للمالية آنذاك.
وخلال انتخابات 2000م، عاد الحريري بقوة إلى البرلمان اللبناني بقوة أكبر، وفرض نفسَه على لحود، وذلك زاد من حدة الخلافات بين تيار المعارضة بقيادة الحريري، وتيار الموالاة بقيادة لحود.
وحدث الشرخ الأكبر خلال العام 2004م، عندما وافق الحريري مرغماً -بسبب النفوذ السوري- على التمديد للحود لولاية جديدة.
أما الشرخُ الأكبر بين الموالاة والمعارضة، فقد حدث بعد التفجير الشهير الذي اغتيل فيه الحريري في فبراير 2005م. عندها شنت كتلة الحريري حملة ضد سوريا، متهمة إياها بالوقوف وراء الاغتيال، وهو ما يفسّر إصرارَ كتلة الحريري ومن والاها على انتخاب رئيس جديد للبلاد من داخل الكتلة.
إلا أنَّ فوز أحد أعضاء كتلة الحريري أو من والاها في انتخابات الرئاسة الحالية، ستوجد مشكلة كبيرة أمام تيار المعارضة لهذا التيار، وهي أن رئاسة الجمهورية، ورئاسة الوزراء، ستكون بيد أعضاء الكتلة، وذلك يجعل لها سيطرة شبه كاملة على البلاد.(/2)
يعرف هذا التيار اليوم باسم (تحالف 14 مارس)، وهو تيار تساندُه فرنسا والولاياتُ المتحدة الأمريكية، وهم الأصدقاء القدامى لأسرة الحريري، والداعمين لها لعدة اعتبارات؛ أولا: أنها موالية للغرب في بعض الشؤون، ثانياً: أنها معارضة لسوريا، ثالثاً: أنها تدعو باستمرار إلى نزع سلاح (حزب الله) الموالي لإيران.
وتقول التايمز: "إن دعم الحريري هو جزء من مخطط أمريكي ابتكره إليوت إبرامز (نائب مستشار الأمن القومي ونائب الرئيس ديك تشيني) لموازنة النفوذ الإيراني في العالم العربي".
مرشحون بالوكالة:
وتقدم (تيار 14 مارس) بثلاثة مرشحين في السباق الرئاسي، هم: بطرس حرب (المحامي ووزير التعليم خلال فترة التسعينيات)، وروبير غانم، ونسيب لحود. وجميعهم من المسيحيين (الموارنة)، وأغلب الظن أن سيتنحى اثنان من المرشحين الثلاثة لصالح مرشح وحيد، يمثّل التيار.
وباعتبار غانم أحد الشخصيات القليلة الدعم من قبل فرنسا والولايات المتحدة، يكون الخيار التالي إما للحود أو لحرب.
وتشير بعضُ المصادر من داخل التيار، إلى أن الأمريكيين يدعمون (بطرس حرب) أكثر، وتدعم بعضُ الدول العربية لحود، في حين تقفُ فرنسا على المسافة نفسها بين الخيارين، بادعاء أن الشعب اللبناني هو الذي يجب أن يختار الرئيس القادم.
تشيرُ بعضُ التقارير الصحفية في لبنان إلى أن فرنسا تفضّلُ الوقوفَ إلى جانب مرشح من خارج التيار، وهو قائد الجيش ميشال سليمان، الذي يعدُّ شخصاً لا يقف إلى جانب أي تيار لبناني.
وتشير الصحفُ اللبنانية إلى أن أحد الخيارات المطروحة، هو اللجوء إلى اختيار سليمان لرئاسة لبنان لمدة سنتين، يُعَدُّ خلالَها قانونٌ جديد للانتخابات، للحد من أي توترات تنشأ بسبب الأزمة الحالية. إلا أن هذا الخيار يحتاج إلى تعديل دستوري للسماح لسليمان (العسكري) للوصول إلى هذا المنصب.(/3)
وحسب أحدث التقارير الصحفية في لبنان، فإن كلا من تيار 14 مارس، وتيار المعارضة الذي يتزعمه حزبُ الله، لا يرى بأساً من وصول سليمان لقصر (بعبدا).
ولا يرى سليمان بأساً في استمرار سلاح حزب الله، كما أنه يسعى لإيجاد أرضية مشتركة بين تياري المعارضة والموالاة.
أما نسيب لحود، وهو ابن عم الرئيس الحالي، وابن سالم لحود، الوزير السابق في جبل لبنان. فقد درس الهندسة في بريطانيا، وعاد إلى لبنان لإنشاء الشركة الهندسية لخدمات الشرق الأوسط. وفي نهاية الحرب الأهلية أصبح سفيراً لدى الولايات المتحدة، وعضوًا في البرلمان عام 1991. وأعيد انتخابه للأعوام 1992، و1996، و2000.
أسّس نسيب لحود ورأس حركة التجديد الديموقراطي، ويحظى باحترام كبير في لبنان، إلا أنه أخفق في الانتخابات البرلمانية لعام 2005.
المعارضة والدعم الخارجي:
على الطرف الآخر، يقفُ طرفُ المعارضة الحالية الذي يعرف باسم (8 مارس)، ويمثلُه حزب الله المدعوم من قبل حركة أمل بقيادة نبيه بري (رئيس البرلمان)، والجنرال السابق ميشيل عون، الذي يتظاهر أنصارُه منذ ديسمبر 2006م في الشوارع، بهدف إسقاط حكومة السنيورة.
لكن (بري) قدّم معادلة سياسية جديدة، أطلق عليها اسم "مبادرة بري" تقوم على مبدأ إيقاف المظاهرات في الشوارع، والاتفاق على رئيس للبلاد يكون مقبولاً لكل من حزب الموالاة (14 مارس) المدعوم من قبل أمريكا وفرنسا، والمعارضة (8 مارس)، المدعوم من قبل سوريا وإيران.
من بين المرشحين أيضاً (رياض سلامة) حاكم مصرف لبنان المركزي، والرجل المستقل الذي عمل طويلاً على استقرار الليرة اللبنانية خلال الأوقات العصيبة التي مرّت بالبلاد، وخاصة خلال الحرب اللبنانية الإسرائيلية الأخيرة خلال العام 2005.(/4)
السفير الأمريكي جيفري فيلتمان، الذي يقول: "إن لبنان هو الشريك الاستراتيجي للولايات المتحدة فى الشرق الأوسط" مدّد مدة وجوده في لبنان إلى ما بعد الانتخابات، لمراقبة ما سيحدث في لبنان، خوفاً من وصول زعيم جديد موالٍ لسوريا.
إلا أن سوريا تحاول الوقوف على الحياد، ولو ظاهرياً. وهو الموقف الذي بدا واضحاً خلال الكلمة الأخيرة للرئيس السوري بشار الأسد، الذي ألقى كلمة في يونيو الماضي، لم يتطرق فيها إلى الوضع اللبناني.
تحولات مصيرية:
المواقف اللبنانية التي تتبدل على الدوام، تشهد موقفاً جديداً مغايراً للسابق من خلال وقوف الجنرال ميشال عون (القائد السابق للجيش اللبناني) إلى جانب تيار 8 مارس الموالي لسوريا. بعد أن كان أحد ألد أعداء سوريا في السابق، هرب إلى لبنان أواخرَ الثمانينات خوفاً من الوجود العسكري السوري. قبل أن يعود موالياً لها بعد خروج القوات السورية من لبنان!
ربما لا يقفُ عون إلى جانب المعارضة حباً لها، ولكن بسبب القوة الديمغرافية التي قد يجلبها له هذا الحلف، فالتيار المسيحي الذي يقف إلى جانبه، ليس كافياً ليمكنه من الوصول إلى الحكم، على اعتبار أنه أحد مرشحي الرئاسة الحاليين. لذلك فضّل الحصول على دعم الشيعة، على خلاف موقف سمير جعجع الذي اكتفى بالمسيحيين للوقوف إلى جانب حركته.
ولكنِ السوريون لا يزالون قلقين من وصول عون للحكم، وهو العدو السابق، وأحد زعماء القوى المسيحية التي قد يتزايد نفوذُها في حال وصوله للحكم، على حساب بعض التيارات الأخرى.
وفق هذا السيناريو المحيّر.. يبدو أن أضعف الأطراف، هو الأوفر حظاً للفوز. إذ إن أي مرشح مدعوم من قبل فصيل كامل، قد لا يتمكن من الوصول إلى قصر (بعبدا)، في حين يعد المرشحون المستقلون الذين لا خلاف بينهم وبين التيارين الرئيسين في البلاد؛ الأوفر حظاً!(/5)
العنوان: معارضة شعرية في وداع رمضان
رقم المقالة: 1515
صاحب المقالة: صهيب بن محمد خير يوسف
-----------------------------------------
معارضاً قصيدة الشاعر (أحمد شوقي) التي يقول في مطلعها:
رمضانُ ولّى هاتِها يا ساقيْ مشتاقةً تسعى إلى مشتاقِ!
أقول:
رمضانُ ولّى، فانتحِبْ لِفراقِ واسكُبْ عليهِ مِنْ دَمِ الآماقِِ
شتّانَ بينَ بكائكَ الشهرَ الفضيـ ـلَ وبينَ مَن يبكيْ لفقدِ رِفاقِ
رمضانُ ولّى، والمعاصيْ أطبقَتْ فيهِ عليكَ ، وأيَّما إطباقِ
رمضانُ ولّى، ما ذرَفتَ دُمَيعةً ترجوْ بها عفوَ العزيزِ الباقيْ
رمضانُ ولّى والموائدُ تشتكيْ ثِقَلَ الصحونِ وكثرةَ الأطباقِ!
لِمَ لمْ تفكّرْ بُرهةً بعوائلٍ تقتاتُ رِيحَ الخبزِ مِن إملاقِ؟!
لِمَ لمْ تُقِمْ لِسِوى الحياةِ مَكانةً؟! أمْ قدْ سبتْكَ بِطَيفِها البرّاقِ؟
رمضانُ ولّى.. هل تُرى سيؤوْبُ؟ أمْ سيكونُ هذا العامُ عامَ فِراقِ؟
• • • • • • •
والعيدُ جاءَ! فأينَ مِنهُ صَباحةٌ تعلُوْ الوجوهَ، وضَحكَةُ الأشداقِ؟!
العيدُ جاءَ وماتزالُ العينُ في غَسَقِ الدّجى تشكوْ مِن الإيراقِ
العيدُ جاءَ وجُرحُ أُمّةِ أحمدٍ مازالَ يَنْضَحُ بالدّمِ الدّفّاقِ
العيدُ جاءَ وماتزالُ دِيارُنا كَلْمَى مِنَ التّفجيرِ والإحراقِ
هذِيْ هيَ القدسُ السّليبةُ تشتكيْ فيُجيبُها ألَمٌ مِنَ البُشناقِ
وعلى رُبى الشيشانِ قومٌ يسألو نَ: أحِبةَ الإسلامِ، هلْ مِنْ راقِ
لِجراحِنا وجراحِ كَشميرَ الحزيـ ـنةِ والأُلَى لبِسوا الأسى بِعِراقِ؟
لا ، لمْ يُجبْ أحَدٌ! فمَن سُئلوا بُلوا بِبُطونِهمْ، والساقُ فوقَ السّاقِ!
أسَرَتهمُ الدّنيا الدنيئةُ فانتشَوا للسجنِ! واختاروا أشدَّ وَثاقِ!
العيدُ جاءَ؟! وأيُّ عِيدٍ؟! لمْ يَعُدْ لِلعيدِ عندَ الناسِ أيُّ مَذاقِ
• • • • • • •
العِيدُ في أعلى الجِبالِ رأيتُهُ في مَشْهَدٍ في ساعةِ الإشراقِ
لثلاثةٍ؛ لأبٍ وأمٍّ وابنَةٍ كالبدْرِ ، كالإسعادِ ، كالأشواقِ:(/1)
أمٌّ تهدهِدُ بِنتَها بينَ الثلو جِ ؛ أبٌ مَضى بحثاً عن التّرياقِ،
وبدونِ جَدوى عادَ.. لكِنْ كيْ يَرى أشلاءَ طِفلتِهِ، وبعضَ نِطاقِ
.. فمضى ليدْفِنَها.. ولا تسألْ عنِ الـ ـعَينِ التي نضَبتْ مِنَ الإغداقِ
وإذا بطلقةِ غادرٍ تأتيْ على قَدَرٍ لِتُنهيَ آخرَ الأرماقِ
فتناثرتْ أشلاءُ طِفلتهِ على أرضِ الشموخ ومَسْرَحِ الإشفاقِ
وأتتْ جِنانُ الخُلدِ تَركضُ نحوَهمْ [مشتاقةً تسعى إلى مشتاقِ]!
• • • • • • •
"شوقيْ " يقولُ، وما درى بِمُصابِنا: [رمضانُ ولّى هاتِها يا ساقيْ]!
عفواً أميرَ الشعرِ إن عارضتُ ما قُلتُمْ، وليسَ الشّعرُ بابَ شِقاقِ
لو كنتَ تسْطِيعُ الكلامَ: أذَعتَها في العالمينَ، ودونَما إطراقِ:
(رمضانُ ولّى)، (العيدُ جاءَ).. ولا أرى إلاّ دموعَ الشعرِ في أوراقيْ
العيدُ في تلكَ الجِبالِ، لِمَنْ سَمَتْ أرواحُهمْ للكوثرِ الرّقراقِ
عيدٌ سعيدٌ يا قبورُ.. تَجِلّةً وتحيّةً مِن أعمقِ الأعماقِ
.. العيدُ للشهداءِ . أمّا عيدُنا فَهُوَ الوَفاْ بالعهدِ والميثاقِ:
{إنّما يتذكّرُ أولوا الألبابِ*الذينَ يُوْفونَ بعهدِ اللهِ ولا يَنْقُضونَ المِيثاقَ} [سورة الرعد: 19-20].
دمشق 1421هـ(/2)
العنوان: معرض الكتاب وموجة الإلحاد
رقم المقالة: 2013
صاحب المقالة: د. ناصر بن يحيى الحنيني وأ.د. عبدالله بن صالح البراك
-----------------------------------------
معرض الكتاب وموجة الإلحاد
الحمدُ لله رب العالمين، والعاقبةُ للمتقين، ولا عدوانَ إلا على الظالمين، والصلاةُ والسلام على المبعوث رحمةً للعالمين وحجة على الخلق أجمعين.
وعلى آله الأطهار، وأصحابه الأبرار، ومن سار على نهجهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن الصراعَ بين الحق والباطل، والإيمان والكفر، والخير والشر سنةٌ ماضية عبر العصور ومر الدهور، وإن من طبيعة الصراع أن كل طرف يناصر الرأيَ الذي يدعو إليه، والفكرَ الذي ينتمي إليه، فالعقلُ يحتم على من يرى أن الحق معه أن يناصره ويدافع عنه بكل ما يستطيع، فكيف إذا كان الحقُّ الذي نؤمن به والذي يُعتدى عليه هو الإسلامُ بشرائعه وأحكامه، بل يتعدى هذا الأمرُ إلى القدح في ربنا ومولانا -جل وعلا- وفي رسولنا الكريم والقرآن العظيم، فهنا تصبح المدافعة فرضاً على الأمة، وتزداد التبعةُ على أهل العلم والفكر والرأي فيها، وعلى من ولاه الله أمرَ المسلمين والمكلف بحماية الدين والدنيا.(/1)
والله -جل وعلا- ناصر دينه وحافظه كما قال سبحانه: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 33، الصف: 9] ولكن إن تخاذلنا وتقاعسنا فإن الله سوف يستبدل بنا من هم خير منا ومن يستحقون شرف الانتساب لهذه الأمة والدفاع عن دينها ومقدساتها {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38] {مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} [المائدة: 54]، والتاريخ يشهد وسوف يكتب؛ إما لنا وإما علينا.(/2)
والأمة في الآونة الأخيرة تتعرض لهجوم غاشم من الداخل والخارج، فأما الخارج فأخذ صوراً مكشوفة في حرب عسكرية واقتصادية وفكرية؛ فالعسكرية ما نراه من ظلم وبطش بكل شعوب الأرض التي تخالف المنظومة الغربية من الدول المستضعفة وعلى رأسها الدول الإسلامية، وهناك حربٌ اقتصادية تسعى لإفقار العالم الإسلامي ونهب خيراته ومقدراته وجعله تابعاً للغرب، ويحول بينها وبين النهضة والتنمية بكل ما أوتي من قوة عسكرية ونفوذ سياسي وإعلامي، وهناك هجمة فكرية -وهي التي تعنينا في هذه الدراسة المختصرة- تمثلث في محاولة لطمس هُوية الأمة وإذابتها في الثقافة الغربية التي أعلنت إفلاسها في أرض الواقع من الناحية الاجتماعية والفكرية وغيرها، وظهرت العولمة في صورتها المتوحشة التي تحمل في طِياتها طلائعَ التغيير الاجتماعي والثقافي لشعوب الأرض وَفق النظرة الغربية التي لا تتواءم مع ثقافة الإسلام ولا المنهج الرباني الذي أنزله الله على رسولنا الكريم محمد -صلى الله عليه وسلم- والذي فيه إهدار لكرامة الإنسان وضياع لحقوق الضعفاء والمساكين، وفيها إعلاء للجانب المادي الشهواني على حساب الروح والأخلاق، وقد بدأ الغربُ الحربَ الفكرية منذ بدأ الاحتلال في القرنين الماضيين، وحقق بعضَ أهدافه وظهر في الأمة تلاميذُ نجباء وحركات تزعم التحرر ومقاومة المحتل، وهي في حقيقتها نَتاج المحتل الذي أخذ عليهم العهود والمواثيق بأن يناضلوا بعد رحيله لإحلال قيمه ومبادئه ومحاربة الإسلام بكل ما يستطعيون، وزعموا أن هذا هو الطريق لنهضة المسلمين من تخلفهم ورجعيتهم، فها هي ذي السنوات تمر وهؤلاء الأذناب قد جثموا على صدر الأمة ومقدراتها ورءوسها، وهيمنوا على التعليم والإعلام والثقافة، فهل أصبحت الدولُ العربية والإسلامية في مصاف الدول المتقدمة؟ هل تحررت من التخلف والرجعية، إن تقارير التنمية الدولية التي صدرت في الآونة الأخيرة تعطي جواباً عملياً عما آلت إليه الأمةُ(/3)
الإسلامية والعربية، وإننا لا نستغرب من العدو الخارجي أن يبذل كل ما في وسعه لإضعاف الأمة وإغراقها في اللهو والعبث والمجون حتى لا تبحث عن طوق النجاة، وتصحو من غفلتها، ولكن العجب لا ينقضي ممن هم من بني جلدتنا ويتكلمون بألستنا بلغة القرآن، ويحملون أسماء إسلامية وهوياتهم إسلامية، وهم أشد شراسة من العدو في تغريب بلدان المسلمين، والقدح في دين الإسلام ونبي الإسلام، والمساعدة على نشر الخلاعة والمجون وتطبيع الفحش والبذاءة والشذوذ الأخلاقي بأبشع صوره عبر وسائل إعلامية متنوعة، من بين كتاب ومقالة وقنوات وإذاعات وغيرها، وتأخذ في بعض الأحيان قرارات ممن لا يرقبون في مؤمن إلاًّ ولا ذمة.(/4)
وقد ظهر في الآونة الأخيرة -وتحديداً في جزيرة الإسلام ومهبط الوحي والرسالة- في بلاد الحرمين الشريفين أطهر البقاع وأشرفها على وجه الأرض، والتي هي محط أفئدة المسلمين في كل أرجاء المعمورة (المملكة العربية السعودية)، نقول: ظهرت موجةٌ متزامنة مع الهجمة الاستعمارية الأخيرة من قبل الغرب التي استهدفت الفكر والثقافة قبل غيرها من المكتسبات والحظوظ المادية، فارتفعت الأصواتُ النشاز عبر إعلام مأجور لا يمثل هويةَ الأمة ولا عقيدتها ينادي بالتحلل والمجون، والتمرد ومخالفة المألوف، فكانت البدايات المناداة بتحرير المرأة ورفع الظلم عنها، وأدرجوا تحت هذه الشعارات ألواناً من الدعوات إلى التفسخ والتحلل الأخلاقي، واستمر الأمرُ بطريقة مريبة وهجمة مكشوفة مفضوحة، وبتنسيق واضح عبر الصحف والمجلات وعبر القنوات التي لها علاقةٌ مشبوهة بالمحتل الأجنبي الذي يسعى لنهب البلاد واستعباد العباد، فها هو ذا تقريرُ وزارة الخارجية الأمريكية يصرح بأنه دعم إحدى القنوات العربية التي يشارك في أكثر برامجها أناسٌ من بلاد الحرمين الشريفين، وقد بلغت المعونة ما يقارب خمسمائة مليون دولار أمريكي، ولا يحتاج الأمرُ إلى كثير عناء لتعرف أن الأكمة وراءها ما وراءها من كيد كُبَّار ومكر بالليل والنهار، إذا علمتَ أن غالبَ القنوات العربية التي تنشرُ الفحش والمجون والعبث والسحر والخرافة بأموال عربية وخليجية على وجه الخصوص لا غربية وفي وضح النهار دون حياء ولا خجل، واستمر المسلسلُ في استفزاز مشاعر المسلمين، وظهر أسلوب آخر في الطعن في ثوابت الأمة، وخطا المتأمركون العرب خطوةً إلى الأمام، وتجاوزوا الخطوط الحمراء، فظهر القدح في الرب -جل وعلا- وفي نبيه الكريم -صلى الله عليه وسلم- وفي قرآننا وفي شريعة ربنا، فسمعنا عن رواية (أولاد حارتنا) لنجيب محفوظ، ورواية (وليمة أعشاب البحر) لحيدر حيدر، ومقالات هنا وهناك كما فعل (البغدادي في الكويت)، ونوال(/5)
السعدواي في مصر، ثم ظهرت موضة سعودية من الاستخفاف بالدين والطعن في الثوابت والتعرض للذات المقدسة كما فعل صاحب الثلاثية (أزقة الأطياف المهجورة)، وإذا بالسلسلة تستمر، ونرى إبرازاً لكُتَّاب وكاتبات متمردات على ثوابت الأمة وعلى دينها وأخلاقها، ورأينا حفاوة وتنسيقاً وتنظيماً مبطنا ومعلنا عبر وسائل الإعلام التي هيمنوا عليها؛ فظهرت رواية (بنات الرياض) التي تصور المجتمع المسلم بأنه كومة من العاهرات والداعرات، وتغييباً متعمداً لمظاهر العفة، وتهييجاً ونشراً للفاحشة بأسلوب رخيص مكشوف، وتوالت الروايات والحفاوة بها كما صدر مؤخراً في رواية (ملامح) التي تصور أن كثيراً ممن يتصدرون المناصب العليا في البلد كان الطريق السهل للوصول إلى هذه المناصب عبر النساء والجنس، وكم في هذا من ظلم وتشويه لصورة المجتمع الذي يمتلئ بالفضلاء والشرفاء.
وتزداد المصيبة ويعظم الخطب، حينما يتجاوزُ هؤلاء الحدودَ، ويستغلون مناصبهم في الإعلام والثقافة أو غيرها من المناصب لفتح المجال لكتب الزندقة والمروق من الدين، التي تتعدى على الثوابت التي تكفل الشرع والعقل وحتى القوانين الأرضية بالمحافظة عليها وعدم المساس بها.
فظهر في معرضي الكتاب الأول لعام 1427هـ والثاني لسنة 1428هـ أمورٌ يندى لها الجبين؛ فكان الأول مقدمةً للكارثة التي حدثت في الثاني، فجاءت ندوات المعرض الأول تمهيداً وجساً للنبض، وأعلن عن ندوات يصرح فيها من قبل مسؤولين كبار بأن الرقابة على الإعلام لا بد من نزعها حتى يكون الجيلُ مسؤولاً عن نفسه كما يزعمون. وجاءت الطامة الكبرى، والمصيبة العظمى في معرض الكتاب الدولي، فقد نزعت الرقابة تمامًا وفسحت الكتب التي كانت محظورة في السنوات الماضية لاشتمالها على الزندقة والكفر والقدح في الرب وتنقصه سبحانه جل في علاه.(/6)
وإليك هذه الدراسة المختصرة عما حصل في المعرض الدولي الذي يعطيك إشارةً وتنبيها على المرحلة التي وصلنا إليها ويريد دعاة التغريب في البلد أن يوصلونا إليها.
أولاً: خلا المعرض من أي رقابة، وإنما كانت شرفية صورية، وقد خوطب أكبر مسؤول في الإعلام وهو الوزير وكذلك وكيله والمراقبون في المعرض على كثير من الكتب التي تخالف سياسة الإعلام وتصادم الإسلام وفيها تحدٍ وتعدٍ على سيادة هذا البلد. وقد تخاطب مع الوزير علماء أفاضل مثل الشيخ العلامة عبد العزيز الراجحي، ولكنه لم يفعل.
ثانياً: رأينا كتبًا تباع هي محظورة في بعض البلاد الغربية، فتجاوزنا حد الحرية الغربية التي ينادي بها بعض مثقفينا. فلا أدري أهو الغباء الثقافي أم العداء السافر للدين والسعار الجنسي الذي أصاب دعاة التغريب في بلادنا؟
ثالثاً: استحق المعرض أن ينال شهادة أن يقال عنه إنه معرض الجنس الدولي؛ فقد كان السباق المحموم بين الدور العربية المعروفة بـ(عمالتها) للغرب ولها (أجندة) خفية لا يعرفها إلا المثقفون تتسابق في عرض الجنس الرخيص والشذوذ والمجون الذي فاق كل التصورات، حتى إن بعض الدور لا تبيع إلا الروايات والكتب الجنسية الفاضحة فقط.
رابعاً: المؤلم والذي يحز في القلب ما ظهر من بيع سافر وواضح لكتب الإلحاد والزندقة كما سوف يمر معنا في القائمة، وظهرت كتب الشيوعيين والماركسيين التي كانت تلاحَق وتمنع في البلاد الغربية، وبعض الدول العربية.
خامساً: غياب الجانب الثقافي الحقيقي الذي يرفع من مستوى تفكير الأمة ووعيها ويساعد على التنمية واللحاق بركب الحضارة المادية، وهنا نتساءل: إن كان ما يفعل في وسائل الإعلام وينشر في الكتب والروايات الهابطة هو خيانة للأمة ومساعدة على تخلفها عن ركب الحضارة الحقيقي، وإلا فما الفائدة التي تجنيها بناتُنا من الروايات التي تعلمهم السحاق والجنس المثلي (رواية الآخرون) أنموذجاً كما سوف يأتي.(/7)
سادساً: يكثر الحديث في الصحف وفي وسائل الإعلام وعلى ألسنة بعض المخدوعين بهذه الدعاوى أن ما يحدث في معرض الكتاب هو نوع من الحرية التي تُعلي من قيمة الإنسان، وأن هذه القيمة الغربية نحن محرومون منها، ويمكن أن يجاب عن هذه السذاجة والسطحية وقلة المعرفة بما يلي:
1- لكل أمة ثقافة، وتحديد مفهوم الحرية لا بد أن ينبع من ثقافتنا إذا أردنا التجديد والإبداع لا التقليد والتبعية التي ينعى ويشنع عليها أربابُ التغريب دعاة التجديد، فهل التقليد الأعمى في مثل هذه المفاهيم منقبة أو دليل على العجز الفكري؟
2- إن الغرب لم يدعُ إلى حرية مطلقة، بل حددها وجعل لها ضوابط:
- كمنع كثير من مظاهر الإباحية في الأماكن العامة
- حجب كثير من مظاهر الإباحية عن الصغار إلى سن الثامنة عشر
- لا ترى أحداً في الأماكن العامة- كما يفعل بني قومنا- يقرأ روايات جنسية أو مجلات جنسية فاضحة بل تبقى محدودة ولها شيء من الخصوصية.
3- إن الغرب في المحافظة على شيء من مصالحه الدنيوية حد من كثير من الحريات، أفلا يحق لنا أن نحد من الانفلات الأخلاقي حفاظاً على ديننا ومبادئنا وأخلاق جيلنا وحتى تصلح كذلك دنيانا؟
4- هذه بعض الأمثلة لبعض النماذج في الغرب التي حدت ومنعت وحظرت شيئاً من الكتب والأشخاص ولم تعطهم حريتهم المزعومة:
نماذج من ألمانيا:
أ- كتاب "كفاحي" لهتلر يحظر بيعه أو شراؤه أو طباعته داخل الحدود الألمانية، كما تحظر طباعتة أو توزيع أى مقالات أو كتب مؤيدة للنازي بأى شكل من الأشكال، بل وتحظر حتى الهتافات النازية ولو على سبيل المزاح، وهذا الحظر هو سبب المشكلة التى تعرض لها لاعبُ الكرة المصرى هانى رمزي في ألمانيا حين قام بإلقاء التحية النازية المشهورة على سبيل المزاح في إحدى الحفلات. (وكتاب كفاحي بيع في عدد من الدور في معرض الكتاب الدولي الثاني ببلاد الحرمين الشريفين في الرياض لعام 1428هـ)(/8)
ب- في عام 1991م قام "جنترديكيرت" زعيم الحزب الوطني الديمقراطي الألماني (يمين متطرف) بعقد محاضرة استضاف فيها محاضرًا أمريكيًا ادعى خلالَ كلمته أن قتل اليهود بالغاز لم يحدث مطلقا، وترتب على ذلك أن قدم ديكيرت للمحاكمة وعوقب طبقًا للقانون الذي يحظر أي إثارة للأحقاد بين المجموعات العرقية.
ج- وفي شهر مارس 1994م حوكم "ديكيرت" مرة أخرى، وحكم عليه بالسجن لمدة عام واحد مع وقف التنفيذ، بالإضافة إلى غرامة خفيفة، مما أدى إلى تعرض القضاة الذين حاكموا ديكيرت لموجة من الغضب والنقد من القضاة الآخرين بسبب ضآلة العقوبة التي حكموا بها، وقد أدت هذه الانتقاداتُ التي تعرض لها القضاة إلى تدخل المحكمة الفيدرالية التي أبطلت الحكم وأمرت بإعادة المحاكمة مرة أخرى.
د- وفي شهر إبريل عام 1994م أعلنت المحكمة الدستورية الألمانية أن أي محاولة لإنكار حدوث الهولوكوست لا تتمتع بحماية حق حرية التعبير التي يمنحها الدستور الألماني، مما دفع البرلمان الألماني أن يضع قانوناً يجرم أى محاولة لإنكار وقوع الهولوكوست ويوقع بمرتكب هذه الجريمة عقوبة قدرها السجن خمس سنوات بصرف النظر عما إذا كان المتحدث يؤمن بما ينكره أم لا.
هـ- الناشر الألماني الذي نشر الترجمة الألمانية للكتاب الأمريكي "العين بالعين" المنشورة عام 1993 قام بسحب وتدمير كل نسخ الطبعة الألمانية من الأسواق تجنباً للوقوع تحت طائلة القانون أو إثارة غضب الرأى العام، وذلك لأن الكتاب يزعم أن ستالين كان يتعمد اختيار اليهود للقيام بالأعمال البوليسية السرية في بولندا بعد الحرب العالمية الثانية.
النمسا:
قد يعاقب الإنسان بالسجن إذا أنكر وجود غرف الغاز التي أقامها النازيون في أثناء الحرب العالمية الثانية، وفي عام 1992 قامت الحكومة النمساوية بتعديل القانون بصورة تجريم أى محاولة لـ"إنكار أو التخفيف من شأن أو مدح أو تسويغ أي من جرائم النازية سواء بالكلمة المكتوبة أوالمذاعة".(/9)
الدانمرك:
يحظر القانوني الدانمركي أي تهديد أو إهانة أو حط من شأن أى إنسان بصورة علنية بسبب الدين أو العرق أو الخلفية (الإثنية) أو التوجة الجنسي، وبسبب ذلك القانون تعرضت امرأة ومحرر صحيفة لمحاولات تقديمها للمحاكمة؛ لأن المرأة كتبت خطابا للجريدة تصف فية الشذوذ الجنسي بأنة "أسوأ أنواع الزنى".
اليابان:
نشرت مجلة "ماركوبولو" في عددها الصادر في شهر فبراير 1995م مقالاً يدعي عرض الحقيقة التاريخية الجديدة، ويوضح أن غرف الغاز التي أقيمت في الحرب العالمية الثانية ليس لها أساس تاريخي موثق.. وقد أدى المقال إلى ردود فعل عنيفة وسريعة، إذ قامت المؤسسات الصناعية الكبرى مثل "فولكس واجن" و"ميتسوبيشي" بإلغاء عقود الدعاية مع المجلة احتجاجاً على المقال، مما أدى بناشر المجلة إلى سحب كل أعداد المجلة من الأسواق وفصل كل أعضاء تحرير المجلة، بل وأغلق المجلة نفسها نهائيا.
أستراليا:
تعد أى مادة مكتوبة من شأنها الحط من قدر أي مجموعة عرقية محظورةً طبقا للقانون المانع للتفرقة العنصرية الصادر عام 1989، وقد يعاقَب الكاتبُ والناشر بغرامات تصل إلى 40 ألف دولار أمريكي.
بريطانيا:
أ- توجد في المكتبة البريطانية في المتحف البريطاني مجموعة من الكتب المصادَرة لأسباب سياسية وقانونية تحمل (s.s )، وقد أنشأت المكتبة البريطانية في القرن التاسع عشر قسماً للاحتفاظ بالكتب غير اللائقة عن جمهور القراء، وتحتوي مجموعة المكتبة المشار إليها على تلك الكتب البذيئة المنشورة خارج حدود المملكة المتحدة والمسيئة لحكوماتها، وهي كتب صدرت ضدها أحكام بالحظر بسبب مما تتضمنه من قذف وتشهير....(/10)
ب- لا يزال يعمل بالقانون الذي يمنع سب المقدسات BIASPHEMY LAW في كل من إنجلترا وويلز (في أسكتلندا وأيرلندا الشمالية لا يتم العمل بهذا القانون). من أجل ذلك حينما أعلن المخرج الدانمركي جينز ثور سن اعتزامه إخراج فيلم في إنجلترا عن "الحياة الجنسية" للمسيح (وذلك أدى إلى موجة غضب عارمة في المؤسسات الدينية الأوربية وعلى رأسها الفاتيكان وأسقفية كانتربرى) قام رئيس الوزراء البريطاني في ذلك الوقت جيمس كالاهان بالتحذير من أن أى محاولة لإخراج مثل ذلك الفيلم في إنجلترا سوف تكون عرضة للمحاكمة تحت طائلة قانون سب المقدسات مما ثنى المخرج عنه، فلم يتم إنتاج الفيلم.(/11)
ج- في يونيو 1976 قامت جريدة GAY NEWS الخاصة بأخبار الشواذ جنسيًا من الرجال بنشر قصيدة للشاعر البريطاني جيمس كيركوب يصف فيها المسيح -عليه السلام- في أوضاع غير لائقة، مما أثار غضب اتحاد المشاهدين والمستمعين الإنجليز الذي يتولى الرقابة الشعبية على كل ما ينشر في الصحف أو يعرض في وسائل الإعلام والأفلام السينمائية، وقامت رئيسة الاتحاد بمقاضاة رئيس تحرير الجريدة والشركة التي تملكها وتتولى نشرها بتهمة سب المقدسات، وبالفعل تمت المحاكمة في شهر يوليو عام 1977، وبالرغم من محاولات الدفاع المستميتة في إقناع المحلفين أن القصيدة لم تعن أو تقصد أي إساءة للدين المسيحي، بل بالعكس كانت تصور العلاقة العاطفية التي تربط الشاعر بشخص المسيح عليه السلام، إلا أن هيئة المحلفين لم تقبل هذا الدفاع ودانته الصحيفة بأغلبية عشرة أصوات مقابل صوتين بتهمة امتهان مشاعر المسيحيين في إنجلترا والإساءة إلى مقدساتهم، بعد قرار هيئة المحلفين حكم القاضي على رئيس التحرير بالسجن لمدة تسعة أشهر مع وقف التنفيذ، ودفع غرامة مقدارها خمسمائة جنيه إسترليني وعلى الناشر بغرامة مقدارها ألف جنيه إسترليني بالإضافة إلى تحمل تكاليف القضية. وقد استأنفت الصحيفةُ الحكمَ عام 1978 أمام محكمة الاستئناف الإنجليزية التي أقرت حكم المحكمة الابتدائية، ثم عام 1979 أمام القسم القضائي بمجلس اللوردات البريطاني الذي يمثل أعلى سلطة قضائية في بريطانيا، فخسروا للمرة الثالثة، إذ أقرت المحكمةُ البريطانية العليا الأحكامَ السابقة الصادرة ضد رئيس تحرير الصحيفة وناشرها. بعد حكم المحكمة العليا وقعت عدة محاولات لإنهاء العمل بقانون سب المقدسات من خلال مجلس العموم البريطاني، إلا أن جميع تلك المحاولات باءت بالإخفاق، إذ لم يقبل مجلسُ العموم ولا مجلس اللوردات أيَّ مساس بذلك القانون بالرغم من الانتقادات الكثيرة التي وُجهت له من قبل بعض النواب من أنة يحمي الديانة(/12)
المسيحية فقط من السب، ويهمل باقي الديانات الموجودة داخل بريطانيا، وأنه يعاقب على المساس بالمقدسات المسيحية دونما نظر أو مراعاة لقصد أو نية الشخص المتهم بسب المقدسات، بعد ذلك تمت محاولاتٌ أخرى لتوسيع دائرة العمل بالقانون كي يعاقب على سب مقدسات الديانات الأخرى في إنجلترا ولكن كل تلك المحاولات باءت أيضا بالإخفاق.
د- عام 1988 بعد نشر كتاب آيات شيطانية حاول المسلمون في بريطانيا استخدام قانون حظر سب المقدسات ضد المؤلف سلمان رشدي ولكنهم أخفقوا في ذلك؛ لأن القانون يعاقب على سب المقدسات المسيحية فقط، ومن ثم فسلمان رشدي لم يكن خارجًا عن أية قوانين بريطانية حين أهان المقدسات الإسلامية. الطريف في الأمر أن بريطانيا التي سمحت بنشر وتداول الكتاب بدعوى حرية التعبير قامت بعد ذلك بمنع دخول فيلم باكستاني يسخر من سلمان رشدي وكتابه.
هـ- عام 1989 قامت هيئة الرقابة على المصنفات الفنية البريطانية برفض عرض فيلم وثائقي عن الراهبة تيريزا التي عاشت في بريطانيا في القرن السادس عشر على شاشات التلفزيون البريطاني بسبب محتوى الفيلم الذي يمكن تأويلُه على أنه إهانة للدين المسيحي.
فرنسا:
أ- عام 1990 أقر مجلسُ الشعب الفرنسي قانونَ فابيوس-جيسو الذي يحظر مجرد مناقشة حقيقة وقوع الهولوكوست في الحرب العالمية الثانية.(/13)
ب- وفي يونيو 1995 تم تغريم "برنارد لويس" الأستاذ بجامعة برنستون الأمريكية مبلغًا قدره 10 آلاف فرنك فرنسي (أي ما يقارب 2062 دولار أمريكي)؛ لأنه أنكر أن الأرمن تعرضوا لإبادة جماعية على يد الدولة العثمانية في بداية هذا القرن، فهو يؤكد أن كثيرًا من الأرمن قد لقوا حتفهم بسبب "المرض أو الجوع أو الإرهاق أو البرد"، ولهذا السبب حين سألته صحيفة "لوموند" في نوفمبر عام 1993 "لماذا ترفض تركيا الاعترافَ بأنها أبادت الأرمن؟" قال: "أنت تقصد لماذا ترفض تركيا الاعتراف بوجهة النظر الأرمنية لما حدث".. وقد أدت تصريحات لويس هذه إلى عاصفة احتجاج من قبل الجالية الأرمنية في باريس، فقد قام 30 أستاذًا جامعيًا بكتابة خطاب مفتوح يحتوي على اتهام لويس "بخيانة الحقيقة وإهانة ضحايا الوحشية التركية"، وقد حاولت الجالية الأرمنية في البداية تقديم لويس لمحكمة الجنايات طبقا لقانون جيسو الصادر 1990، ولكن الجالية الأرمنية علمت فيما بعد أن هذا القانون خاص فقط بإنكار الهولوكوست الذي حدث لليهود، ولا يمكن تطبيقُه بخصوص أي جماعية أخرى. الجدير بالذكر أن برنارد لويس مؤرخ بارز، وتخصصه الدقيق هو تاريخ الدولة العثمانية، ويُعد واحدًا من أعلم المؤرخين بهذا التخصص.
ج- وفي أغسطس 1995 قامت السلطات الفرنسية بمنع دخول كتاب أصدرتة "لجنة الجزائريين الأحرار" بسويسرا إلى الأارضي الفرنسية بحجة أن توزيعه سوف يسبب مشاكل للنظام العام في فرنسا، ولأن "لهجة الكتاب معادية لفرنسا" كما قال المتحدث الرسمي لوزارة الداخلية الفرنسية.(/14)
د- يناير 1998، تمت محاكمة روجيه جارودي بسبب كتاب "الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية" وتغريمه 20 ألف دولار، ولكن الأمر لم يقتصر على هذا، فقد تلقى جارودى عدة مكالمات هاتفية تهدده بالقتل، وتم الاعتداء على المكتبات التي تبيع كتبه حتى امتنعت عن ذلك، كما اعتدي على ناشر الكتاب بدنيًا، ونهبت مكتبته وألقيت قنابل مولوتوف على المكتبة التي يمتلكها بأثينا، وتم الاعتداء على مجموعة من الصحفيين العرب والإيرانيين على عتبة المكتبة ثم طوردوا حتى مترو الأنفاق حيث أصيبوا إصابات استلزمت نقلهم إلى المستشفى. وأسوأ من ذلك كله أن الصحافة الفرنسية التي هاجمت جارودي وكتابه ومحاميه بكل قسوة لم تنشر أي مقال أو خطاب فية تأييد لجاروي, حتى الخطاب الذي أرسله الأب بيير (الذي يحظى بشعبية هائلة في الشارع الفرنسي لدرجة اعتباره أكثر الأشخاص شعبية في فرنسا كلها) لجريدة لوموند تأييدًا لجارودي لم ينشر, وهكذا أعطت الصحافة الفرنسية انطباعًا لدى الرأي العام أن جارودي لا يؤيدُه أحدٌ في العالم.
سويسرا:
مقاطعة دي تور السويسرية منعت كتاب "الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية" من التداول, وحكمت محكمة على ناشر الكتاب بالسجن أربعة أشهر.
إيطاليا:
الفيلم الأمريكي "الإغراء الأخير للمسيح" الذي صور المسيح -عليه السلام- بطريقة أثارت استياء الكثيرين من المسيحيين منع عرضه في عدة بلاد أوربية، وقدم مخرج الفيلم في المهرجان للمحاكمة في روما بسبب الفيلم.
كندا:(/15)
أ- القانون الكندي يحظر أي نوع من التعبير من شأنه أن يؤدي إلى إثارة الكراهية ضد أي مجموعة عرقية أو (إثنية) أو دينية، مع أن الدستور الكندي ينص على حق كل مواطن في التعبير الحر, ولكن الدستور يسمح للمجالس التشريعية في كندا بتقييد حرية التعبير أو غيرها من الحريات الدستورية إذا استدعت الضرورة ذلك, وبناء على هذا أقرت المحكمةُ الكندية العليا العقوبةَ التي حكمت بها إحدى محاكم مقاطعة ألبرتا ضد ناظر المدرسة الذي اتهم بمعاداة السامية والترويج لكراهية اليهود.
ب- قامت شبكة تليفزيون ctv باستضافة "جوزيف ليبد" (المعلق السياسي الإسرائيلي) صباح يوم 15/ 10/ 1994, وقد دعا ليبد على الهواء مباشرة يهود كندا لأن يقوم أحدُهم باغتيال فيكتور أوستروفوسكي (ضابط الموساد الذي ألف كتابين كشف فيهما عن العمليات السرية للموساد). المذهل في الأمر أن حادثًا مثيرًا مثل هذا قد شهد صمتًا مطبقًا من قبيل الإعلام الكندي, لدرجة أن نفس الكتاب والمعلقين الذي دافعوا بحماس بالغ عن حق سلمان رشدي في التعبير الحر لم ينطقوا بكلمة واحدة لتأييد حق أوستروفوسكي في التعبير.(/16)
ج- عام 1996 قام قاضٍ كندي بمقاطعة كوبيك بالحكم بالسجن مدى الحياة على امرأة قامت بذبح زوجها بسكين، وقال تعقيبًا على الحكم الذي أصدره: "لقد ثبت أن المرأة تستطيع أن تكون أكثر عنفًا من الرجل, حتى النازي لم يعذب ضحاياه اليهود قبل قتلهم". هذا التعقيب أثار زوبعةً من الاحتجاج ضد القاضي من قبل الجمعيات النسائية واليهودية في كندا، فاضطر القاضي للاعتذار, ولكنه أعلن أنه مؤمن بكل كلمة قالها في ذلك التعقيب على الحكم، مما ضاعف موجة الاحتجاج ضده وتعالت الأصوات مطالبة باستقالته, ولكنه رفض الاستقالة، عندئذ تدخل المجلس القضائي الكندي، وقام بالتحقيق مع القاضي (!!) ثم أوصى المجلس البرلماني الكندي أن يقيل القاضي بسبب التعليق الذي صدر منه، عندما وصلت الأمور إلى هذا الحد اضطر القاضي أن يقدم استقالته بدلا من أن تأتي الإقالة من البرلمان الذي كان واضحًا أنه سيقبل توصية مجلس القضاة الكندي بالإقالة.
الولايات المتحدة:
أ- تم منع عرض مجموعة من الأفلام الوثائقية التي قام بإعدادها الصحفي البريطاني البارز د. روبرت فيسك لأنها أثارت غضبَ اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة, الذي هدد شبكة التلفزيون بسحب الإعلانات منها. والسبب وراء هذا الغضب الصهيوني هو أن مجموعة الأفلام التي أعدها روبرت فيسك التي كان عنوانها "جذور غضب المسلمين" اتهمت "إسرائيل" بأنها السبب الرئيسي وراء نقمة المسلمين على الغرب. والجدير بالذكر هنا أن روبرت فيسك قد قد حصل على جائزة الصحافة البريطانية لعام 1995 كأحسن صحفي بريطاني قادر على عرض وتحليل الأخبار السياسية الدولية.(/17)
ب- عام 1972 بعد طبع أحد كتب العالم الأمريكي الشهير نعوم تشومسكي علمت الشركة المالكة لدار النشر التي قامت بنشر الكتاب بمحتواه الذي لم يرق لأعضاء مجلس إدارة الشركة، فقاموا بإيقاف توزيع الكتاب وسحبه من الأسواق وتدميره, ومن المعلوم أن شبكات التلفزيون الأمريكية قلما تتجرأ على استضافة نوم تشومسكي -الذي تصفه بعضُ الصحف كصحيفة النيويورك تايمز بأنه من الممكن اعتبارُه أهم مفكر في العالم حاليا- وذلك بسبب آرائه التي دائمًا تزعج القادة والساسة الأمريكيين والإسرائيليين.
ج- رئيس مجلس النواب الأمريكي نيوت جنجرييتش قد قام بفصل مؤرخة تعمل بالمجلس حين علم أنها سبق أن قالت: "وجهة نظر النازيين بصرف النظر عن عدم شعبيتها لا تزال وجهة نظر, ولا تأخذ حقها في التعبير".
د- في عام 1986 لم يستطيع المؤلفُ جورج جيلبرت أن يجد ناشرًا ليعيد طباعة كتابه "الانتحار الجنسي" مع أن كتب جيلبرت المنشورة في أوائل الثمانينيات قد تصدرت قوائم المبيعات العالية, والسبب في إعراض الناشرين هو الاحتجاج الصاخب الذي قامت به رائدات حركة تحرير المرأة ضده؛ لأن "اختلافات الرجل عن المرأة لا ينبغي حتى أن تدرس" كما قالت إحداهن في مقابلة عرضت مؤخرًا على شبكة ABC الأمريكية.
هـ- الممثلة البريطانية الشهيرة فانيسا ريد جريف لم يسمح لها بالأداء في مسرحية كوميدية بريطانية في أثناء عرضها في الولايات المتحدة بسبب تصريحاتها المعادية للتدخل الأمريكي ضد العراق في حرب الخليج، ومن الجدير بالذكر أن أعمالها الفنية كثيرًا ما تتعرض للمقاطعة أو الإلغاء من العرض في الولايات المتحدة بسبب آرائها المعادية للصهيونية وسياسات إسرائيل.
ثامناً: أن الرقابة مبدأ شرعي حضاري، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- منع ونهى عمر أمير المؤمنين الخليفة الراشد أن ينظر في التوراة، فما بالُ بعض مثقفينا يتنقص ويسخر ممن يدعو إلى الرقابة على ما ينشر حفاظاً على الدين والأخلاق؟(/18)
تاسعاً: نماذج عما بيع في المعرض مما يخالف أصول الدين والأخلاق والأعراف وحتى لا نتهم بالمبالغة والتهويل فإليك هذه القائمة من الكتب:
النوع الأول: الكتب التي اشتملت على أنواع من الزندقة والكفروالإلحاد:
1-كتب صرحت بإنكار وجود الله:
المثال الأول: سلسلة كتاب الناقد الصادرة من دار رياض الريس بعنوان (العنف الأصولي –نواب الأرض والسماء) سلسلة مقالات جاء فيها مقال بعنوان (مفهوم الله) لأحمد ظاهر ص73-94ومما جاء فيه ص73 (..وقد أسرف المؤمنون بوجوده والملحدون به في تأكيد وجوده وعدمه، وهم بذلك لم يقصروا في شغل أنفسهم وغيرهم في الإجابة على السؤال: ما الله ؟وما هيئته؟ وما قدرة إرادته؟ وما سر كينونته الأزلية؟..)
ويقول في ص74: (ينطلق هذا البحث من قضية سهلة مؤداها أن الإنسان العربي المسلم إنسان يعيش في الماضي ومع الأموات، وهو أثناء ذلك يستعمل (الله) كأداة ضغط تشده باستمرار إلى الواحدية الصرفة)، ويقول في ص86-87: (..وسواء كان الله موجودًا أو غير ذلك فالأمر لا يعنينا بقليل أو كثير..)، ويقول ص89: (علينا أن نقنع أنفسنا أننا لا نستحق تهديده ولا نستحق ثوابه، فنحن هنا زائرون، علينا أن لا ندفع ثمن وجودنا على هذه الأرض،....إلى أن قال: (علينا أن نقنع أنفسنا بعدم جدوى تعفير جباهنا تحت أقدامه صباح مساء؛ لأنني واثق أنه ليس بحاجة لذلك..)، ويقول ص93: (وأن المفهوم المتعارف عليه في العالم العربي الإسلامي (لله) مفهوم يجعل من الإنسان شيئاً عبثياً ويجرده من إنسانيته..).(/19)
المثال الثاني: كتاب أصل الأنواع لداروين الذي قرر فيه نظرية النشوء والإرتقاء التي مؤداها نفي الإيمان بالله ووجوده، والذي يوزعه المركزُ الثقافي العربي. وقد بيع في المعرض بطبعة فاخرة ولها دعاياتها (وهذه النظرية هي التي أدت إلى انتشار الإلحاد بصورة أكبر في أوربا، وتخلت جموع كثيرة بسببها عن الإيمان بوجود الله، وهي ممهدة لنظرية ماركس في المادية الجدلية..) انظر: الانحراف العقدي في أدب الحداثة وفكرها، د.سعيد بن ناصر الغامدي ص118.
المثال الثالث: كتب أدونيس الطافحة بالإلحاد والزندقة وإنكار وجود الله وعلى رأسها كتابه (الثابت والمتحول) الذي بيع في المعرض في دار الساقي ونفدت نسخه، وإليك مقاطع من إلحاده:
-يقول في كتابه الثابت والمتحول الجزء الثالث ص178-179: (كل نقد جذري للدين والفلسفة والأخلاق يتضمن العدمية ويؤدي إليها وهذا ما عبر عنه نيتشه بعبارة (موت الله)، وقد رأينا جبران (يقصد جبران خليل جبران) قتل الله هو كذلك –على طريقته– حين قتل النظرية الدينية التقليدية، وحين دعا إلى ابتكار قيم تتجاوز الملاك والشيطان، أو الخير والشر..... (إلى أن قال): الأخلاق التي يدعو إليها جبران هي التي تعيد موت الله، وتنبع ولادة إله جديد، إذن هو يهدم الأخلاق التي تضعف الإنسان وتستعبده ويبشر بالأخلاق التي تنميه وتحرره،..).
ويقول كذلك في موضع آخر من كتابه الثابت والمتحول –الجزء الثالث ص 248: (إن جوهر الإنسان ليس في كونه مشروطاً، بل في كونه لن يفلت من الشروط كلها، ليس في كونه مخلوقاً بل في كونه خالقاً، فجوهر الإنسان في أنه كائن خلاق مغير، وجوهر الثقافة بالتالي هو في الابداع المغير)
ويقول أدونيس في كتابه (الصوفية والسوريالية ص 55): (.....ففي النشوة ينعدم كل شيء حتى الله).
المثال الرابع: قصائد نزار قباني الطافحة بالإلحاد والمجون، وقد بيعت الأعمال الكاملة لنزار قباني مع الأسف في معرض الكتاب، وإليك هذا المثال:(/20)
-يقول نزار قباني (الأعمال السياسية الكاملة 3/105-107):
(حين يصير العدل في مدينة
سفينة يركبها قرصان
ويصبح الإنسان في سريره
محاصراً بالخوف والأحزان
حين يصير الدمع في مدينة
أكبر من مساحة الأجفان
يسقط كل شيء
الشمس والنجوم والجبال والوديان
والليل والنهار والبحار والشطآن
والله والإنسان
حين تصير خوذة
كالرب في السماء
تصنع بالعباد ما تشاء
تمعسهم تهرسهم تميتهم تبعثهم
تصنع بالعباد ما تشاء).
- ويقول –عامله الله بما يستحق- في أعماله الكاملة (2/442): (لأنني أحبك
يحدث شيء غير عادي
في تقاليد السماء
يصبح الملائكة أحراراً في ممارسة الحب
ويتزوج الله حبيبته).
المثال الخامس: يقول معين بسيسو (الأعمال الشعرية الكاملة لمعين بسيسو ص1؛2):
(باسمك تلك المومس ترقص بقناع الرب باسمك يتدحرج رأس الرب)
المثال السادس: الجريء (علاء حامد في روايته مسافة في عقل رجل ص 125):
(الإنسان ليس سوى نظرية مادية بحتة؛ وجد بالصدفة وسيموت بالصدفة، وبموته يصبح مجرد ذكرى في أروقة الحياة، فلا إله، ولا ثواب ولا عقاب ولا جنة ولا نار ولا جن أزرق أو أحمر ولا ملائكة بيضاء أو خضراء تهفهف بأحنحتها، والرسل ليسوا سوى مجموعة من الدجالين، والأديان صيغ بشرية ذكية، والإنسان ابن الطبيعة خالق نفسه، هو الأوحد والأقوى والأفضل والجبار والمتكبر، وبالتالي فقد وجد بالصدفه...)(/21)
المثال السابع: جاء في رواية عبد الرحمن المنيف أشهر رواية عربية التي منعت في السنوات الماضية ولأول مرة يفسح لها لأنها قائمة على الاستهزاء بنظام البلد السياسي وبالملك عبدالعزيز والملك سعود والملك فيصل يرحمهم الله، وعنوانها (مدن الملح) وقد جاء فيها نصوص يصرح فيها بإلحاده، وأن الله ليس الخالق، وأن الطبيعة هي الخالقة؛ يقول المنيف (في مدن الملح في الجزء الأول التيه ص11): (طبيعة الصحراء تجعل للأسماء أهمية تفوق غيرها، وهذه لم تخلق نتيجة الرغبة أو في لحظة من لحظات الجنون وإنما خلقتها الطبيعة ذاتها وأعطتها من الأسماء ما يوازي أهميتها أو الصفات التي تحملها)
ويقول: (الجزء الثاني –الأخدود ص 425) –وهو يتحدث عن ثروة البترول على لسان أحد شخصيات روايته- (الصدفة خلقت هذه الثروة، والصدفة هي التي دفعتني إلى هنا)
المثال الثامن: محمود درويش الكاتب الشيوعي يقول في ديوانه ص24 (الذي بيع في المعرض في عدد من دور النشر):
(نامي فعين الله نائمة عنا وأسراب الشحارير)
ويقول في ديوانه ص 264،266،268:
(هكذا الدنيا
وأنت الآن يا جلاد أقوى
ولد الله، وكان الشرطي)
ويقول في ديوانه ص480:
(تتحرك الأحجار
هذا ساعدي متمايل كالرعب
ليس الرب من سكان هذا القفر).
ويقول في ديوانه ص554:
(يومك خارج الأيام والموتى
وخارج ذكريات الله والفرح البديل).
2-كتب وروايات صرحت بالاستهزاء بالله جل وعلا:
مثالها روايات نجيب محفوظ المحظورة، وعلى رأسها رواية (أولاد حارتنا) التي صدرت فيها فتاوى من الأزهر وحكمت بسحبها ومصادرتها، وقد بيعت المجموعة كاملة في مكتبة الشروق في الجناح المصري وبطبعة فاخرة، ولعلي أذكر بعض المقاطع:
نجيب ورواية أولاد حارتنا
(ملخص من دراسة للدكتور سعيد بن ناصر الغامدي).
سأوجز الفكرة التي قامت عليها هذه الرواية، التي كان لها صدى مسموع في العالم العربي والغربي، وبسببها أطلقت وسائلُ الإعلام على نجيب لقب (الأديب العالمي).(/22)
إن (أولاد حارتنا) ترمز إلى استخلاف الله لبني آدم في الأرض، غير أنّ الخيال الشيطاني المتلبِّس بلباس الأدب، جعل هذا الاستخلاف يأتي عن طريق وقف يقفه واهبُهُ (الجبلاوي)، رمز الله تعالى عن ذلك، لأبنائه وذريّتهم من بعدهم.
يعكف بعدها "العجوز" في قصره المسور المجهول، وحديقته الغنّاء، التي تحيط به، رمز السماء والجنة، دون أن يجرؤ أحد على الاقتراب منهما.
وتأتي الرسالات السماويّة الثلاث من خلال الرمز، سلسلة من حركات المقاومة التي تسعى لإقامة العدل، ومنع الظلم والطغيان. إلا أنّ تلك المقاومة سرعان ما يزول أثرها بزوال الأنبياء المصلحين، "موسى وعيسى ومحمد" الذين رمز لهم نجيب بـ: جبل ورفاعة وقاسم، ليتسلّط الفتوّات من جديد, ويعمّ الفساد، فآفة الحارة النسيان، كما تقول الرواية.
يظهر بعدها الساحر المبشِّر والثائر الجديد (عرفة)، رمز العلم والمعرفة، لينقذ الحارة مما حلّ بها، ويأتي بما لم يأت به من كان قبله، ويكون سببًا في موت (الجبلاوي)؛ ليحيا بموته إله العصر الحديث.
يقول (عرفة) عن نفسه بعد موت (الجبلاوي):
(إنه يجب على الابن الطيّب أن يفعل كلّ شيء، أن يحلّ محلّه، أن يكُوْنه) رواية (أولاد حارتنا). نجيب محفوظ. 503.
وقد وصف كاتبا كتابِ الطريق إلى نوبل (وهما معجبان بنجيب) وبينا بأن الشكّ يأتي كأوّل سمات الرفض للجانب الميتافيزيقي؛ كأن يقول (عرفة):
لم أسمع عن معمّر عاش طول هذا العمر، فإذا قيل له إنّ الله قادر على كلّ شيء، أجاب في ثقة: إنّ السحر أيضًا قادر على كلّ شيء.
لقد حاولت الرواية أن تعلل فناء الإله، تعالى الله، ليس فقط بضعفه وتعرضه للموت، بل بوصفه بألوان الظلم والتقصير من الغفلة والقسوة والانشغال بالملذات، فـ"الجبلاوي قابع في القصر، يتابع ما يجري من ظلم لأبنائه، ويعيش كمن لا قلب له".
انظر كتاب الطريق إلى نوبل 1988 عبر حارة نجيب محفوظ. محمد يحيى ومعتز شكري. ص13(/23)
من ذلك، ما يُظهره الكاتب من تعاطف مع إبليس، الذي رمز له بإدريس، في هذا الموقف الغريب:
(.. وأيقن الجميع أنّ إدريس قد انتهى، ما هو إلا مأساة جديدة من المآسي التي يشهدها هذا البيت صامتًا، كم من سيّدة مصونة تحوّلت بكلمة إلى متسوّلة تعيسة، وكم من رجل غادره بعد خدمة طويلة مترنّحًا، يحمل على ظهره العاري آثار سياط، حملت أطرافها بالرصاص، والدّم يطفح من فيه وأنفه، والرعاية التي تحوط الجميع عند الرضا، لا تشفع لأحد وإنْ عزّ جانبه عند الغضب).
كتاب الطريق إلى نوبل 1988 عبر حارة نجيب محفوظ. محمد يحيى ومعتز شكري. ص13
ويقول الكاتب أيضًا على لسان إدريس، إبليس:
"ملعون البيت الذي لا يطمئنّ فيه إلا الجبناء، الذين يغمسون اللقمة في ذلّ الخنوع، ويعبدون مُذلّهم..".
انظر كتاب الطريق إلى نوبل 1988 عبر حارة نجيب محفوظ. محمد يحيى ومعتز شكري. ص16
ويصف الكاتبان إحدى أحداث الرواية، الجبلاوي -الذي يرمز لله عزوجل- فيقولان:
(ويومًا تفجّر الأب -الجبلاوي- عن ثورة جديدة، كانت ضحيّتها، تلك المرَّة امرأة؛ إذ تعالى صوته الجهير وهو يلعن نرجس الخادمة، ويطردها من البيت، وغادرت نرجس البيت وهي تصوّت وتلطم خدّيها).
انظر كتاب الطريق إلى نوبل 1988 عبر حارة نجيب محفوظ. محمد يحيى ومعتز شكري. ص25
فهو يرمز للإله، ويسيء الأدب معه تقدّس وتعالى، فيصوّره بصورة الأب الطاغية المستبدّ المتجبّر، وينسب له من الأوصاف والكلمات البذيئة ما يترفّع عن ذكره الإنسان العامّي فضلا عن المتعلّم، فكيف بالإله، تبارك اسمُه وتقدّست أوصافه.
ويقول على لسان (قدري)، رمز قابيل، وهو يخاطب أخاه واسمه (همّام)، رمز هابيل:
"إنّ أبانا، آدم، يكدح وراء عربته، وأمّنا حوّاء تكدّ طوال النهار وشطرًا من الليل، ونحن نعاشر الأغنام حفاة شبه عراة، أما هو فقابع وراء الأسوار بلا قلب، متمتّع بنعيم لا يخطر على بال).(/24)
انظر كتاب الطريق إلى نوبل 1988 عبر حارة نجيب محفوظ. محمد يحيى ومعتز شكري. ص70
ويقول قابيل لأخيه، أيضًا:
"أؤكّد لك أنّ جدّنا شخص شاذ، لا يستحقّ الاحترام، ولو كانت به ذرّة من خير ما جفا لحمه هذا الجفاء الغريب، إني أراه كما يراه عمنا، يقصد إبليس، لعنة من لعنات الدهر.. لقد نال هذه الأرض هبة بلا عناء، ثمّ طغى واستكبر).
رواية ( أولاد حارتنا). ص71.
وتسود الروايةَ -التي تجاوزت خمسمائة صفحة- عباراتُ التسخُّط والتظلُّم، التي تنكر اعتزال (الجبلاوي) في بيته المحصّن، وهو يرى الظلم والجوع والفقر، فيظلُّ في صمته ولا يحرّك ساكنًا.
يقول نجيب على لسان راوي "أولاد حارتنا":
(أليس من المحزن أن يكون لنا جدّ مثل هذا الجد دون أن نراه أو يرانا؟! أليس من الغريب أن يختفي هو في هذا البيت الكبير المغلق وأن نعيش نحن في التراب؟!). رواية (أولاد حارتنا). ص6
ويقول نجيب متحدثًا عن الله تعالى الذي رمز له بالجبلاوي:
(لماذا كان غضبك كالنار تحرق بلا رحمة؟ لماذا كانت كبرياؤك أحبّ إليك من لحمك ودمك؟ وكيف تنعم بالحياة الرغيدة وأنت تعلم أننا نداس بالأقدام كالحشرات؟ والعفو واللين والتسامح ما شأنها في بيتك الكبير أيها الجبار!). رواية (أولاد حارتنا). ص 55
(هذا الأب الجبار، كيف السبيل إلى إسماعه أنيني؟ أيها القاسي، متى يذوب ثلج قسوتك؟!). رواية (أولاد حارتنا). ص59
ويعلّل انشغال الجبلاوي عنهم بقوله:
(لعلّه نسي الوقف والنظارة والفتوّات والأحفاد والحارة). رواية ( أولاد حارتنا). ص497
ولكي يصوّر"الجبلاوي"، الذي يرمز لذات الله تعالى وتقدّس، بهذا الظلم والبطش والاستبداد أسوأ تصوير، وصَفَه بصفات جبابرة الخلق وطغاتها، فجسمُه كبير، وصوتُه غليظ جهير، وعيناه حادّتان قاسيتان. مما قاله الراوي في سياق وصفه الخرافي:
(تجلّت في عينيه الحادّتين نظرة كئيبة، مليئة بالشجن). رواية (أولاد حارتنا). ص33(/25)
(رأى الجبلاوي على ضوء شمعته، يسدّ الباب بجسمه الكبير، ملقيًا عليه نظرة باردة قاسية). رواية ( أولاد حارتنا). ص47
فكان من أصداء هذه الطرح (النتشوي)، تتابُع الترجمات الغربية التي خصّت هذه الرواية بالدراسة والتحليل، وخصّتْ كاتبها بالإجلال والتعظيم.
إنكار وجود الله في روايات نجيب محفوظ:
- في رواية الحب تحت المطر يُجري حواراً بين شخصين وفيه قال أحدهم: (حدثني أحد الكبار (الشيوخ) فقال: إنه كان يوجد على أيامهم بغاء رسمي.
- زماننا أفضل فالجنس فيه كالهواء والماء
- لا أهمية لذلك، المهم هل الله موجود؟
- ولم تريد أن تعرف؟
- إذا قدر لليهود أن يخرجوا فمن سيخرجهم غيرنا.
- من يقتل كل يوم غيرنا!
- من قتل عام 1956 من قتل في اليمن من قتل في عام 1967!
- لا أحد يريد أن يجيبني أهو موجود؟
- إذا حكمنا بالفوضى الضارية في كل مكان، فلا يجوز أن يوجد) رواية الحب تحت المطر: ص 38 و39.
ويقول في موضع آخر: (اللعنة. من ذا يزعم أنه عرف الإيمان؟ قد تجلّى الله للأنبياء، ونحن أحوج منهم بذلك التّجلي، وعندما نتحسّس موضعنا في البيت الكبير المسمى بالعالم فلن يصيبنا إلا الدوار). رواية (ميرامار). ص33.
ويسأله (منصور باهي) مستنكرًا أن تصيبه الحيرة وهو من جيل الإيمان؟
فيجيب ضاحكًا: (الإيمان..الشك..إنهما مثل النهار والليل، لا ينفصلان). رواية (ميرامار). ص23.
أما (طلبه مرزوق) فيعجب منه عامر وجدي ويقول له:
(يخيّل إليّ أحيانًا أنك لا تؤمن بشيء. غير أنّه يدافع عن نفسه، فيجيب بحنق -وبعبارات تشفّ عن تصوره عن ذات الله تعالى-:
(كيف لا أؤمن بالله وأنا أحترق في جحيمه) رواية (ميرامار) ص34(/26)
وفي رواية (الطريق) هناك شخص اسمه صابر يبحث عن أبيه (الرحيمي) لينقذه من الجريمة والضياع، وهو سيّد ووجيه ولا حدّ لنفوذه، والدنيا تهتزّ لدى محضره، وهو "لا عمل له إلا الحبّ، وفؤاده متعلّق بالعالم الكبير، ينتقل من بلد إلى بلد، ويوزّع رسائله من جميع القارات، كما أنّ علاقاته تشمل هذه القارات كلها حيث ينتشر أبناؤه". انظر. رواية (الطريق).
نجيب محفوظ. 166 و 167.
وصابر، في ذات الوقت، يتساءل (أين الله حقًّا؟ هو عرف اسم الله ولكنه لم يشغل باله قطّ. ولم تشدّه إلى الدين علاقة تذكر) رواية (الطريق). نجيب محفوظ ص 44
ما أحلمَ اللهَ عن هؤلاء!!!.
3- الكتب التي تجرأت على القرآن الكريم:
المثال الأول: كتب نصر حامد أبو زيد الذي حكم الأزهر بردته وفرق بينه وبين زوجته، وهو يعيش الآن في المنفى في هولندا، وقد بيعت كتبُه في معرض الكتاب الثاني في مكتبة (المركز العربي الثقافي –المغرب).
- يقول نصر حامد أبو زيد في كتابه: مفهوم النص –دراسة في علوم القرآن ص131: (فإن نزول الآيات المثبتة في اللوح المحفوظ ثم نسخها وإزالتها من القرآن المتلون ينفي هذه الأبدية المفترضة الموهومة، ويجب أن نفهم الآيات الدالة على ذلك فهماً غير حرفي،...(إلى أن قال): فإذا أضفنا إلى ذلك المرويات الكثيرة عن سقوط أجزاء من القرآن ونسيانها من ذاكرة المسلمين ازدادت حدةُ المشكلة التي كان على العلماء ومن يتابعهم من المحدثين حذو النعل بالنعل أن يواجهوها)، ويقول ص 134: (والذي لا شك فيه أن فهم قضية النسخ عند القدماء لا يؤدي فقط إلى معارضة تصورهم الأسطوري للوجود الخطي الأزلي للنص، بل يؤدي أيضاً إلى القضاء على مفهوم النص ذاته).(/27)
-يقول نصر أبو زيد في كتابه (النص والسلطة الحقيقية ص21): متحدثًا عما حصل في سقيفة بني ساعدة حول تنصيب الخليفة بعد موت النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وكان معنى هذا الرفض من جانب قريش تحويل المشروع الإسلامي المطروح في القرآن من مشروع عربي إنساني إلى مشروع قبلي وربط النبوة بآفاق القبيلة..)
ويقول في الكتاب نفسه مصرحاً بعدم قدسية القرآن ص 33: (إن مسألة خلق القرآن كما طرحها المعتزلة تعني في التحليل الفلسفي أن الوحي واقعةٌ تاريخية ترتبط أساساً بالبعد الإنساني من ثنائية الله والإنسان أو المطلق والمحدود، الوحي في هذا الفهم تحقيق لمصالح الإنسان على الأرض؛ لأنه خطاب للإنسان بلغته، وإذا مضينا في التحليل الفلسفي إلى غايته –التي ربما غابت عن المعتزلة– نصل إلى أن الخطاب الإلهي خطاب تاريخي، وبما هو تاريخي فإن معناه لا يتحقق إلا من خلال التأويل الإنساني، أنه لايتضمن معنى مفارقاً جوهرياً ثابتاً له إطلاقية المطلق وقداسة الإله..)
المثال الثاني: ما كتبه المغربي د.محمد عابد الجابري في كتابه (المدخل إلى القرآن الكريم ) ط. مركز دراسات الوحدة العربية: يقول ص 232 في معرض الحديث عن تحريف القرآن وزيادته ونقصانه: (ومن الجائز أن تحدث أخطاء حين جمعه زمن عثمان أو قبل ذلك، فالذين تولوا هذه المهمة لم يكونوا معصومين، وقد وقع تدارك بعض النقص كما ذكر في مصادرنا، وهذا لا يتعارض مع قوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] فالقرآن نفسه ينص على إمكانية النسيان والتبديل والحذف والنسخ...)، ثم قال أخيراً: (ومع أن لنا رأياً خاصاً في معنى الآية في بعض هذه الآيات، فإن جملتها تؤكد حصول التغير في القرآن، وأن ذلك حدث بعلم الله ومشيئته).(/28)
- ويرى الجابري كذلك أن القرآن في قصصه جاء كأمثلة لا حقيقة لها، وأنها ليست تاريخاً علمياً، بل قصص للدعوة والعظة والعبرة؛ يقول في ص 257: (اعتبار القصص القرآني نوعاً من ضرب المثل... وبما أن القرآن يستعمل القص لأهداف الدعوة وليس من أجل القص في ذاته، فإن قصصه على الرغم من أنها قصص أنبياء فعلاً فإن حكيه لا يخضع لمسار حياة الأنبياء الذين يورد قصصهم، بل يعرض في كل مرة ما يناسب الدعوة المحمدية في مرحلة من المراحل...).
4- الكتب الإباحية الموغلة في الفحش والبذاءة:
إن السمة الظاهرة على معرض الكتاب أن الدور العربية تتسابق في الروايات والكتب الجنسية الفاضحة، والتي نستحيي من ذكر ما ورد فيها والعياذ بالله، ويمكن أن يمثل لها بما يلي وإلا فالقائمة تطول، وأهم مراكز لهذه الروايات
1-دار الجمل –ألمانيا
2- دار الساقي –لبنان
3-المركز العربي الثقافي –المغرب
4- دار الانتشار العربي –لبنان
5-مركز الدراسات والنشر-لبنان
6-دار المدى –سوريا
7-دار ورد سوريا.
المثال الأول: رواية ثلاثية الصلب الوردي (سكسوس) (من ثلاثة أجزاء ) لكاتب أجنبي ماجن ساقط اسمه (هنري ميلر –ترجمة أسامة منزلجي ) ط. دار المدى بسوريا:
هذه الرواية ساقطة جداً، ويكفي وجودها في المعرض خزيا وعارًا على من سمح بها.
ولكن أحيلك على بعض المقاطع (الجزء الأول ص17،ص31)، ولولا الحياء لذكرت نص ما كتب.
المثال الثاني: رواية (الآخرون) للكاتبة الشيعية –صبا الحرز ط. دار الساقي:
هذه الرواية تحكي مغامراتها بممارسة السحاق، وبصورة فاحشة ماجنة ساقطة، وتصوره بصورة شيقة وممتعة وبطريقة مثيرة للغرائز والشهوات.
ومن خبث الكاتبة الشيعية الحاقدة أنها جعلت اسم حبيبها (عمر) تعريضاً بالخليفة الراشد، انظر ص78، ص79.
المثال الثالث: رواية (ملامح) للكاتبة السعودية زينب حفني ط. دار الساقي:(/29)
وهذه الرواية غاية في الفحش والبذاءة وقلة الذوق، وهي تحكي قصتها ومغامرتها مع شاب قبل الزواج، وأما بعد الزواج لما تزوجت رجلا غير ميسور مادياً استطاعت أن تكون سببا في ثراء زوجها وترقيه في المناصب الحكومية عن طريق بغائها وممارستها الفحش مع رؤسائه ومديريه والتجار وأصحاب المال، وفيه تصوير وتشويه للشرفاء من ذوي المناصب في المجتمع، وتحكي بصورة وقحة تحررها وتصريحها بشرب الخمر والزنا وغير ذلك.
المثال الرابع: رواية اختلاس للكاتب هاني نقشبندي ط. دار الساقي: وهي كسابقتها تصور المجتمع بأنه شهواني فاجر داعر يبحث عن الجنس ولا يفكر إلا في الجنس صالحهم وطالحهم.
المثال الخامس: روايات محمد شكري الماجنة الفاحشة كرواية الخيمة وغيرها وهي من إصدار دار الجمل –ألمانيا، وهذه الدار لا تبيع إلا الروايات الهابطة والماجنة والموغلة في المجون والفحش، وهذا الكاتب المغربي يصرح في كل رواياته بشذوذه وممارسته للواط وفعل الفاحشة به ومع غيره.
المثال السادس: رواية (شنغهاي بيبي) لوي هيوي من منشورات دار الجمل سيئة الذكر، ويكفي ما يدل على فحشها وبذاءتها ما جاء في ورقة غلافها من الخلف ما نصه: (رواية شنغهاي بيبي تعرضت للمنع والمصادرة من قبل السلطات الصينية المعنية في شهر إبريل من عام 2000 وتم إحراق وإعدام أربعين ألف نسخة من الرواية علنا أمام الرأي العام).
المثال السابع: الفيضان مجموعة قصص صغيرة ماجنه للمؤلف المرتد الخبيث حيدر حيدر صاحب رواية وليمة أعشاب البحر، الذي تنقص الرب جل وعلا وخرجت مظاهرات منددة لنشرها في مصر، والفيضان من نشر دار ورد –سوريا.
المثال الثامن: ديوان أبي حكيمة –من منشورات دار الجمل وهو ديوان لماجن يرثي (ذكره) بعدد من القصائد الفاحشة والماجنة.(/30)
المثال التاسع: روايات نجيب محفوظ كلها ماجنة وبيعت مجموعته الكاملة بما فيها رواية أولاد حارتنا التي تتنقص الرب جل وعلا كما سبق وقد نشرتها وباعتها دار الشروق –مصر.
المثال العاشر: كتاب الملف السري للنكتة العربية – ط.دار الانتشار العربي وهو كتاب ماجن قذر يأتي بالألفاظ السوقية التي لا تليق في نكات وطرائف قذرة.
المثال الحادي عشر: كتاب بعنوان (الجديد في العلاقات الجنسية –الجنس الفموي) – ط.مركز الراية المعرفية، والكتاب يتكلم –مع الأسف- بلغة إسلامية، وفيها بعض الأحكام الشرعية عن مشروعية لعق ومص فرج المرأة من قبل الرجل والعكس بصورة بعيدة عن الحياء، وقد رأينا إقبالا كبيرًا من النساء عليه، فكيف يعرض من غير وضع ضوابط.
5- بيعت الأناجيل والتوراة والتلمود: ونظام وزارة الإعلام ينص على المنع من بيعها وتداولها:
1- دار النافذة- مصر تبيع إنجيل برنابا والتلمود في طبعة فاخرة محققة.
2- دار قتية – سوريا تبيع التوراة ترجمة عربية عمرها ألف عام تحقيق سهيل زكار
6- بيعت الكتب التي تعرف برموز الشيوعية والماركسية وأصحاب الثورات الدموية مثل:
1- تشي غيفارا نهاية بطل وميلاد أسطورة –دار الكتاب العربي دمشق.
2- كارل ماركس وفريدريك أنجلس في ذكريات معاصريهما ط. دار التقدم موسكو.
وهذه أمثلة، وإلا فما يوجد من غثاء وفحش لا يمكن حصره في أيام قلائل.
نسأل الله أن يحفظ علينا ديننا وأمننا. والحمد لله رب العالمين(/31)
العنوان: معركة حطين
رقم المقالة: 1598
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يُضْلِل فلا هَادِيَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70 – 71].
أما بعدُ: فإن أصدق الحديث كلام الله - تعالى - وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وشرَّ الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الناس: لم يجعل الله - تعالى - الدنيا دار نعيم لأوليائه، ولا مستقرًّا لعباده؛ وإنما جعلها دار ابتلاء يُبتلى فيها المُكَلَّفُونَ تارة بالسراء؛ وتارة بالضرَّاء.
ولم يسلم من ابتلاءات الضراء أفاضل البشر، وخيار الناس: الأنبياءُ والمرسلون، وأصحابهم وأتباعهم والمؤمنون بهم.(/1)
قتل زكريا ويحيى - عليهما السلام - واستهزئ بنوح - عليه السلام - والمؤمنين بدعوته، وأخرج لوط - عليه السلام - من قريته، وطورد موسى - عليه السلام - وأتباعه، وهاجر محمد، وشُجَّ رأسُه، وكُسِرَتْ رُباعيته، وقُذفَ بالحجارة حتى سال الدم من عقبيه، وأوذي أصحابه - رضي الله عنهم - وأخرجوا من ديارهم، وحُوصروا وعُذِّبُوا، وزُلزلوا زلزالاً شديدًا.
ولو كانت دعواتُ الأنبياء والمصلحين لا تجد اعتراضًا من الشيطان، وأعوانه من الإنس والجنّ لما تحقَّق الابتلاء، ولآمَنَ أَكْثَرُ النَّاس. ولو كانت طريقُ الجنة محفوفةً بالشهوات، خاليةً من المكروهات؛ إذًا لكَثُر سَالكوها، ولو كانت طريقُ النار خاليةً من الشهوات، محفوفةً بالمكروهات؛ لما رأيت لها سالكًا.
ودوامةُ الابتلاء تدور ما دارت الأيام، والصراعُ بين الحق والباطل قائم ودائم ما دامت الدنيا.
يُدِيلُ الله - تعالى - لأهل الحق على أهل الباطل تارةً، وينصرهم عليهم، وتارةً ينتصرُ أهل الباطل؛ لحكمة يريدها الله - تبارك وتعالى - ولو شاء لهدى الناس جميعًا، ولو شاء لانتقم من أنصار الشيطان لأنصاره - تبارك وتعالى - {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} [محمد: 4].
ومِنَ المعارك المشهورة في تاريخ الإسلام: معركة حطين[1]، التي انتصر فيها أهل التوحيد على أهل التثليث، وقعت في العشر الأخيرة من شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وثمانين وخمسمئة للهجرة النبوية[2].(/2)
ذلك أن نصارى أوربا سَيَّرُوا جيوشًا جَرَّارة سنة ثنتين وتسعين وأربعمائة للهجرة؛ بقصد كَثْلَكَة الشرق الإسلامي، وانتزاع بيت المقدس من المُسلمين؛ فحصل لهم ما أرادوا بسبب ضعف المسلمين، وفُشُوّ الترف فيهم، واستحكام الجهل عليهم، واختلاف أمرهم، وانتشار البدعة في أَوْسَاطهم، وقيام دولة بني عبيد الباطنية في مصر والشام[3]. وظل النصارى في حروبٍ مستعرة مع المسلمين طيلة إحدى وتسعين سنة، حتى كانت موقعةُ حِطّين التي قاد المسلمين فيها السلطانُ الصالحُ الزاهدُ صلاحُ الدين الأيوبي رحمه الله تعالى.
كان سلطانُ النَّصارى قَدْ علا، وطُغْيانُهُمْ قد استشرى، وما أكثر ما عاهد ملوكُهم ملوكَ المسلمين ثم غَدَرُوا، واسْتَبَاحُوا كثيرًا من الديار، وقتلوا النساء والصبيان. وقبل حِطّينَ بسنتين مرِض صلاح الدين مرضًا شديدًا حتى أشار عليه الأطبَّاء بأن يوصي، فحلف بالله لئن شفاه الله - تعالى - ليَصْرِفَنَّ هِمَّتَهُ كُلَّها إلى قتال الإفرنج، وليجعلنّ أكبر هَمَّهُ فتح بيت المقدس، وَلَوْ صرف في سبيل الله - تعالى - جميع ما يملك من الأموال والذخائر؛ كما حلف أن يقتل الملك النصراني أرناط ملك الكرك بيده؛ لأنه نقض العهد، وتنقص الرسول، واعتدى على قافلةٍ لِلمسلمين، فأخذ أموالهم، وضرب رقابهم وهو يقول: أين محمدكم؟ دعوه ينصركم[4].
فشفى الله - تعالى - السلطان من مرضه، فصرف كل همته لقتال النصارى حتى جمع الله بين جند الإيمان وجحافل الكفر والطغيان في أرض حطين، ذلك أن السلطان صلاح الدين سار بجيشه إلى الإفرنج، وتوافد عليه عسكرُ المسلمين من مصر والشام وغيرها حتى كانوا اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ مقاتلٍ غير المتطوعين. فتسامعت الفرنج بقدومه فاجتمعوا كلهم، وتصالحوا فيما بينهم.(/3)
قال ابن كثير - رحمه الله تعالى -: "وجاءوا بحدهم وحديدهم، واستصحبوا معهم صليب الصلبوت، يحمله منهم عباد الطاغوت، وضُلاَّلُ الناسوت، في خلق لا يعلمُ عِدَّتَهُم إلا الله - عزّ وجلّ - يقال: "كانوا خمسين ألفًا"، وقيل: "ثلاثًا وستين ألفًا" فتقدَّموا نحو المسلمين، وأقبل السلطان ففتح طبرية، وتقوَّى بِما فيها من الأَطْعِمة والأمتعة.. وحاز البُحَيْرَة في حوزته، ومَنَعَ الله الكفرة أن يَصِلُوا منها إلى قطرة؛ حتى صاروا في عطش عظيم، فبرز السلطانُ إلى سَطح الجبل الغربي من طبرية عند قرية يقال لها: حطين.
وجاء العَدُوّ المخذول، وفيه كُلّ ملوك النَّصارى الإفرنج في الشرق؛ فتواجه الفريقان، وتقابل الجيشان، وأسفر وجه الإيمان، واغْبَرَّ وأقتم وأظلم وجه الكفر والطغيان، ودارت دائرة السوء على عبدة الصلبان، وذلك عشية يوم الجمعة، فبات الناسُ على مَصَافِّهم.
وأصبح صباح السبت الذي كان يومًا عسيرًا على أهل الأحد، وذلك لخمسٍ بقين من ربيع الآخر، فطلعت الشمس على وجوه الإفرنج، واشتدّ الحرّ، وقوي بهم العطش، وكان تحت أقدامِ خيولهم حشيشٌ قد صار هشيمًا، وكان ذلك عليهم مشؤومًا، فأمر السلطان النفّاطة أن يرموه بالنفط، فرموه فتأجج نارًا تحت سنابك خيولهم، فاجتمع عليهم حرُّ الشمس، وحرُّ العطش، وحرُّ النار، وحرُّ السلاح، وحرُّ رشق النبال، وتبارز الشجعان، ثم أمر السلطان بالتكبير والحملة الصادقة، فحملوا وكان النصر من الله - عزّ وجلّ - فمنحهم الله أَكْتَافَهُمْ، فقتل منهم ثلاثون ألفًا في ذلك اليوم، وأسر ثلاثون ألفًا من شجعانهم وفرسانهم[5].(/4)
وكان من جملة من أُسِر جميعُ ملوكهم إلا واحدًا هرب في أول المعركة، واستلبهم السلطان صليبهم الأعظم، وهو الَّذي يزعمون أنه صلب عليه المصلوب، وقد غلفوه بالذهب واللآلئ والجواهر النفيسة، ولم يُسمع بمثل هذا اليوم في عزِّ الإسلام وأهله، ودفعِ الباطل وأهلِهِ؛ حتى ذُكر أنَّ بعض الفلاحين من المسلمين رآه بعضهم يقود نيفًا وثلاثين أسيرًا من الفرنج وقد ربطهم بطنب خيمة، وباع بعض المسلمين أسيرًا بنعل ليلبسها في رجل، وجرت أمورٌ لم يسمع بمثلها إلا في زمن الصحابة والتابعين، فلله الحمد دائما كثيرًا طيبًا مباركًا"[6].
فلما تَمَّتْ هذه الوَاقِعَة، ووضعت الحرب أوزارها أمر السلطان بضرب مخيم عظيم، وجلس فيه على سرير المَمْلكة وعن يمينه أَسِرَّةٌ وعن يساره مثلها، وجيء بالأسارى تتهادى بقيودها، فمن كان فيه شرٌّ على المسلمين، أو نقض العهد ضربت عنقه.
وأجلس السلطانُ أكبر ملوك الإفرنج عن يمينه على السرير، وسائر المُلوك حوله وفيهم ملك الكرك أرناط الذي حلف السلطان في مرضه أن يقتله بيده؛ لغدره بالمسلمين، واستهزائه بالرسول - صلى الله عليه وسلم - ثم سقى السلطان كبير ملوكهم، فشرب ملكهم ثم أعطى الملك أرناط ليشرب، فغضب السلطان وقال: "إنما ناولتك ولم آذن لك أن تسقي"، هذا لا عهد له عندي - وكان عند العرب أن الأسير إذا أكل أو شرب من مال من أسره أَمِنَ[7]- فقال السلطان: "أنت الذي سقيته وأما أنا فما سقيته؛ وذلك لئلا يأمن.
ثم تحول السلطان إلى خيمة أخرى، وطلب الملك الغادر أرناط، فلما أوقف بين يديه قام إليه بالسيف، ودعاه إلى الإسلام فامتنع، فقال له السلطان: نعم، أنا أنوب عن رسول الله في الانتصار لأمته، فقتله وأرسل رأسه إلى ملوك النصارى في خيمتهم، فخافوا وظنّوا أنهم يقتلون، فطمأنهم السلطان وقال: "لم تجر عادةُ الملوك أن يقتلوا الملوك، وأمَّا هذا فإنه تجاوَزَ حَدَّهُ، وتعرض لسبّ رسول الله، فجرى ما جرى"[8].(/5)
وبات المُسْلِمون تلك الليلة على أَتَمّ سرور، وأكمل حبور، ترتفعُ أصواتهم بالحمد لله، والشكر له، والتكبير والتهليل؛ حتى طلع صبحُ يوم الأحد.
لقد كان يومُ حطين يومًا عظيمًا في الإسلام، وكانت معركتها القاصمة التي قصمت ظُهور النصارى، وهي المُمَهِّدَة لفتح بيت المقدس، وتطهيره من عُبَّاد الصليب، ورُعاة الخنزير؛ إذ بعد ثلاثة أشهر فقط من معركة حطين تم فتح بيت المقدس، وانتهت إمارة الصليبيين عليه بعد أن دَنَّسوه بكُفْرِهم وتثليثهم إحدى وتسعين سنة[9]، كما انتهت إماراتهم في كثير من بلاد الشام بتتابع الفتوح والانتصارات بعد معركة حِطِّين الخالدة على يد صلاح الدين، ثم على يد ملوك بني أيوب ومَنْ بَعْدَهُمْ إلى أن تَمَّ طردُهم من الشرق الإسلامي، وانتهتِ الحملاتُ الصليبية بعد أن أيقن ملوك أوربا أنهم لن يستطيعوا إخضاع الشرق الإسلامي لحكمهم، ولم تأت قناعتهم تلك إلا بعد معاناة طويلة، وتضحيَّات كبيرة بالأنفس والأموال والمتاع بذلها المسلمون، ودامت مائتي سنة، فلله الحمد أولاً وآخرًا[10].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 7 – 9].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، ومن سار على نهجهم واهتدى بهداهم إلى يوم الدين.(/6)
أمَّا بعد: فاتقوا الله ربكم، وأَصْلِحُوا سركم وعلنكم؛ فإن الله - تعالى - يعلم السر وأخفى: {وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ} [البقرة: 223].
أيُّها المُسْلِمُون: لم يكن غريبًا على صلاح الدين - رحمه الله تعالى - أن يَعْفُوَ عن ملوكِ الإفرنج ويكرمهم بعد أن تمكَّن من رقابهم إلا من كان غدَّارًا ناكثًا للعهد، متربِّصًا بالمُسْلِمين، كيف يكون ذلك غريبًا عليه وقد شَدَهَ أوربة بكريم أخلاقه، وجميل عفوه، وحسن صفاته التي تلقَّاها من مدرسة الإسلام؛ كما أدهشها بشجاعته وإقدامه، وحسن قيادته.
ومن حسن قيادته - رحمه الله تعالى - أنه وجَّه قطاع الطريق واللصوص من المسلمين إلى النصارى المحاربين، وجعلهم يعملون فيما يحسنون من السطو عليهم، واختطاف أمرائهم وترويعهم؛ فحوَّلَهم من لصوص قتلة إلى مُجَاهدين في سبيل الله تعالى.(/7)
وذكر القاضي ابن شداد: أنه كان راكبًا في خدمة صلاح الدين في بعض الأيام قبالة الإفرنج، فجاءه قائد من قادة جيشه ومعه امرأة نصرانية ترتعد من الخوف، وتبكي بكاءً متواصلاً، وتضرب على صدرها بشدة، فقال القائد لصلاح الدين: "إن هذه خرجت من عند الفرنج، وسألت الحضور بين يديك، وقد أتينا بها". فأمر الترجمان أن يسألها عن قضيتها فقالت: "إن اللصوص المسلمين دخلوا البارحة إلى خيمتي، وسرقوا ابنتي، وبت البارحة أستغيث إلى بكرة النهار، فقال لي الملوك - أي ملوك النصارى -: السلطانُ رحيم، ونحن نخرجك إليه تطلبين ابنتك، فأخرجوني، وما أعرف ابنتي إلا منك" فرقّ لها، ودمعت عينه، وحرَّكته مروءته، وأمر من ذهب إلى سوق العسكر أن يسأل عن الصغيرة مَن اشتراها ويُدفعُ له ثمنها ويحضرها.. فما مضت ساعة حتى وصلَ الفارس والصغيرةُ على كتفه، فما كان إلا أن وقع نظر أمها عليها، فخرت إلى الأرض تُمَرِّرُ وَجْهَهَا في التراب، والناس يبكون على ما نالها، وترفع طرفها إلى السماء ولا نعلم ما تقول، فسُلِّمَت ابنتها إليها، وحُمِلَتْ حتى أعيدت إلى عسكر النصارى[11].
الله أكبر، ما أجمل هذا التصرف! وما أحسن هذا الخلق! قارنوا - رحمكم الله تعالى - هذه الأخلاق العالية، والمروءة الوافية بما يجري للمُسْلِمين على أيدي اليهود في فِلَسْطِين تحت سمع وبصر مُنَظَّمات حقوق الإنسان النصرانية، والقانون الدولي، ورعاة السلام المزعوم من النصارى وأعوانهم.
قارنوا هذه الحادثة بما جرى للمُسْلِمين في البوسنة وكُوسُوفا، وما يجري الآن لهم في مَقْدُونيا والشيشان على أيدي عَبَدة الصليب.(/8)
تُهْدَم ديارهم، وتُنْتَهَك أعراضهم، وتُباع بناتهم لتجار البغاء والرقيق الأبيض، وفي كل يوم تكتشف مقابر جماعية، دُفِن فيها عشرات المسلمين بعد أن قُطِّعت أطرافهم، ومُثِّل بأجسادهم وهم أحياء؛ تَلَذُّذًا بتعذيبهم قبل قتلهم في زمن يقال عنه: إنه زمن حفظ حقوق الإنسان!! فمن هو هذا الإنسان الذي تحفظ حقوقه؟!
إنه كل إنسان سوى المسلم ما دامت الهيمنةُ لعبَّاد الصليب الحاقدين، والصهاينة العنصريين، وسيظلُّ الأمرُ على تلك الحالِ إلى أن يمنَّ الله - تعالى - على المسلمين بعودة جادَّة إلى دينهم؛ فيكتب اللهُ لهم النصر على عدوهم، وتعود السيادة إليهم، كما كانت من قبل لهم؛ ليرفع الظلم عن البشر؛ ويُبسط العدل كما كان في عصور مضت، وما عصر صلاح الدين - رحمه الله - إلا مثلاً من أمثلة كثيرة في تاريخ العدل والإحسان في دولة الإسلام، فالإسلام خير للبشر لو كانوا يعلمون؛ ولكن أكثر الناس لا يعقلون. سبحان ربك ربّ العزة عمَّا يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
---(/9)
[1] حِطِّين موضع بين طبرية وعكا، بينه وبين طبرية نحو فرسخين بالقرب منه قرية يقال لها: خيارة، يُذكر أن بها قبر شعيب - عليه السلام - قال ياقوت الحموي: "وهذا صحيح لا شك فيه". "معجم البلدان" (2/274). والذي عليه المحققون من أهل العلم والتاريخ أنه لا يعلم قبر نبي إلا قبر نبينا، وسبيل العلم بمكان قبر من قبور الأنبياء السابقين النص، ولا نص في ذلك، أو التواتر وهو غير موجود، وأمَّا ما ينقله المؤرخون فلا يُعْتَمَد عليه؛ لأنهم مُجَرَّد نقلة ينقلون الأخبار وما يتناقله النَّاس، وكذا الشهرة لا يعتمد عليها؛ لأنها غالبًا ما تكون متأخرة عن أصل الحدث، ومثال ذلك: أنه اشتهر عند أهل دمشق أن قبر يحيى - عليه السلام - في داخل المسجد الأموي مع أن بني أمية ما بنوه على قبر أصلاً؛ وإلا لبطلت الصلاة فيه؛ ولما أقرهم على ذلك من بقي من الصحابة - رضي الله عنهم - وكِبَار التابعين، ومن بعدهم من الأئمة المتبوعين - رحمهم الله تعالى - فعلم بذلك أن هذه الشهرة متأخرة، ولا أساس لها من الصحة، وهكذا أكثر ما ينقل ويشتهر في مثله.
[2] انظر: "سير أعلام النبلاء" (21/280)، و"الروضتين في أخبار الدولتين" لأبي شامة (230)، و"النوادر السلطانية" للقاضي ابن شداد (126)، و"شذرات الذهب" (4/274).
[3] وذلك في الحملة الصليبية الأولى التي كانت عام 492 هـ. وانظر تفصيل ذلك في: "كتب التاريخ"، أحداث هذه السنة.
[4] انظر: "البداية والنهاية" (12/280)، و"النوادر السلطانية" (119).
[5] وذكر الذهبي أن جيش الفرنج كان ثمانين ألفًا فيما قيل، وقتل منهم خلقٌ كثير؛ حتى قال العماد الكاتب في "البرق الشامي": فمن شاهد القتلى يومئذ قال: "ما هناك أسير"، ومن عاين الأسرى قال: "ما هناك قتيل". وقال الذهبي: "ولا عهد للإسلام بمثل هذه الوقعة من زمن الصحابة - رضي الله عنهم- ا هـ. من تاريخ الإسلام (41/19).(/10)
[6] "البداية والنهاية" (12/284 ـ 285)، وانظر تفاصيل المعركة في: "النوادر السلطانية" (126 ـ 131)، و"الكامل في التاريخ" (11/534 ـ 583)، و"تاريخ ابن الوردي" (2/96) و"مرآة الجنان" (3/424)، و"تاريخ ابن خلدون" (5/305)، و"الفتح القسي في الفتح القدسي" (61 ـ 84)، و"النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة" (6/27 ـ 31)، وغيرها من كتب التاريخ في أحداث سنة (583هـ).
[7] انظر: "النوادر السلطانية" (130).
[8] "النوادر السلطانية" (130 ـ 131)، و"البداية والنهاية" (12/285)، و"النجوم الزاهرة" (6/30 ـ 31).
[9] وذلك في رجب من نفس السنة (583هـ)؛ كما في كتب التاريخ المذكورة سابقًا.
[10] استمرت الحملات الصليبية تفد من أوروبا إلى الشرق الإسلامي قرابة مائتي سنة منذ حملة بطرس الناسك عام (489هـ) إلى حملة لويس التاسع، وهي الحملة الثامنة التي هلك فيها وجيشه بوباء الطاعون عام (668هـ)، وتم إنهاء الإمارات الصليبية التي أسسها النصارى عام (690هـ)، وذلك بعد سقوط (عكَّا) وما تلاها من حصون على يد السلطان الأشرف خليل ابن المنصور قلاوون. ينظر في ذلك: "كتب التاريخ" أحداث سنة (690هـ).
[11] انظر هذه الحادثة في: "النوادر السلطانية" (98)، وقد حكاها القاضي ابن شداد، وذكر أنه شهدها بنفسه ولم ينقلها عن غيره.(/11)
العنوان: معركة شقحب
رقم المقالة: 2034
صاحب المقالة: د. محمد بن لطفي الصباغ
-----------------------------------------
معركة شقحب
أو مرج الصفر
كان الرعب الذي يرافق تحركات المغول شديدا يملأ صدور الناس ويوهن من قواهم، فكلما سمع الناس قصدهم إلى بلد فرُّوا من مواجهتهم، وقد سهَّل هذا الرعبُ لهؤلاء الغزاة المعتدين سبيل النصر والغلبة.
وكان الخليفة المستكفي بالله والسلطان الناصر مقيمين في مصر كما هو معلوم، ويبدو أنّ أخبار عزم التتار على تجديد حملاتهم لدخول بلاد الشام وإزالة دولة المماليك بلغ المسؤولين في مصر، فعمل العلماء وأولوا الفكر والرأي على إشراك الخليفة والسلطان في مواجهة هؤلاء الغزاة.
ففي شهر رجب من سنة 702 هـ قويت الأخبار بعزم التتار على دخول بلاد الشام، فانزعج الناس لذلك، واشتدّ خوفهم جداً كما يقول الحافظ ابن كثير، وقنت الخطيب في الصلوات، وقُرِئ [صحيح] البُخاري، وهذه عادة كانوا يستعملونها في مواجهة الأعداء فيعمدون إلى قراءته في المسجد الجامع.
وشرع الناس في الهرب إلى الديار المصرية والكرك والحصون المنيعة، وتأخّر مجيء العساكر المصرية عن إبانها فاشتدّ لذلك الخوف.
قال ابن كثير:
(وفي يوم السبت عاشر شعبان ضربت البشائر بالقلعة - أي قلعة دمشق - وعلى أبواب الأمراء بخروج السلطان من مصر لمناجزة التتار المخذولين.. وفي ثامن عشر من شعبان قدمت طائفة كبيرة من جيش المصريين، فيهم كبار الأمراء من أمثال ركن الدين بيبرس الجاشنكير وحسام الدين لاجين وسيف الدين كراي).
ثم قدمت بعدهم طائفة أخرى فيهم بدر الدين أمير السلاح وأيبك الخزندار. فقويت القلوب في دمشق، واطمأن كثير من الخلق، ولكنَّ الناس في الشمال سيطر عليهم الذعر، واستبدّ بهم الفزع فنزح عدد عظيم منهم من بلاد حلب وحماة وحمص.. ثم خافوا أن يدهمهم التتار فنزلوا إلى المرج.(/1)
ووصل التتار إلى حمص وبعلبك وعاثوا في تلك البلاد فساداً، وقلق الناس قلقاً عظيماً لتأخُّر قدوم السلطان ببقية الجيش، وخافوا خوفاً شديداً، وبدأت الأراجيف تنتشر وشرع المثبِّطون يوهنون عزائم المقاتلين ويقولون: لا طاقة لجيش الشام مع هؤلاء المصريين بلقاء التتار لقلة المسلمين وكثرة التتار. وزَيَّنوا للناس التراجعَ والتأخُّرَ عنهم مرحلة مرحلة. ولكن تأثير العلماء ولاسيما شيخ الإسلام ابن تيمية كان يتصدّى لهؤلاء المرجفين المثبّطين، حتى استطاعوا أن يقنعوا الأمراء بالتَّصدِّي للتتار مهما كان الحال.
واجتمع الأمراء وتعاهدوا وتحالفوا على لقاء العدوّ وشجَّعوا رعاياهم، ونوديَ بالبلد دمشق أن لا يرحل منه أحد، فسكن الناس وهدأت نفوسهم وجلس القضاة بالجامع يحلِّفون جماعة من الفقهاء والعامّة على القتال، وتوقّدت الحماسة الشعبية، وارتفعت الروح المعنوية عند العامة والجند. وكان لشيخ الإسلام ابن تيمية أعظم التأثير في ذلك الموقف، فقلد عمل على تهدئة النفوس، حتَّى كان الاستقرار الداخلي عند الناس والشعور بالأمن ورباطة الجأش. ثم عمل على إلهاب عواطف الأمة وإذكاء حماستها وتهيئتها لخوض معركة الخلاص.. ثمّ توجّه ابن تيمية بعد ذلك إلى العسكر الواصل من حماة فاجتمع بهم في القطيفة، فأعلمهم بما تحالف عليه الأمراء والناس من لقاء العدو، فأجابوا إلى ذلك وحلفوا معهم.
وكان شيخ الإسلام ابن تيمية يحلف للأمراء والناس: إنكم في هذه الكرّة منصورون. فيقول له الأمراء: قل إن شاء الله. فيقول: إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً. وكان يتأوَّل في ذلك أشياء من كتاب الله منها قوله تعالى : {ذلك ومَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عوقِبَ بهِ ثمَّ بُغِيَ علَيهِ لَيَنْصُرُّنَّهُ اللهُ}.(/2)
وقد ظهرت عند بعضهم شبهات تفُتُّ في عضد المحاربين للتتار من نحوِ قولهم: كيف نقاتل هؤلاء التتار وهم يظهرون الإسلام وليسوا بُغاة على الإمام.. فإنهم لم يكونوا في طاعته في وقت ثم خالفوه؟
فردَّ شيخ الإسلام ابن تيمية هذه الشُّبهة قائلاً: هؤلاء من جنس الخوارج الذين خرجوا على عليٍّ ومعاوية رضي الله عنهما، ورأوا أنهم أحقُّ بالأمر منهما، وهؤلاء يزعمون أنهم أحقّ بإقامة الحقّ من المسلمين وهم متلبِّسون بالمعاصي والظُّلْم. فانجلى الموقف وزالت الشبهة وتفطّن العلماء والناس لذلك ومضى يؤكّد لهم هذا الموقف قائلاً:
إذا رأيتموني في ذلك الجانب-يريد جانب العدوّ- وعلى رأسي مصحف فاقتلوني، فتشجّع الناس في قتال التتار وقويت قلوبهم.
وامتلأت قلعة دمشق والبلد بالناس الوافدين، وازدحمت المنازل والطرق. وخرج الشيخ تقي الدين بن تيمية من دمشق صبيحة يوم الخميس من باب النصر بمشقّة كبيرة وصَحِبَتْهُ جماعة كبيرة يشهد القتال بنفسه وبمن معه. فظنّ بعض الرعاع أنه خارج للفرار فقالوا: أنت منعتنا من الجفل وها أنت ذا هارب من البلد.. فلم يردّ عليهم إعراضاً عنهم وتواضعاً لله، ومضى في طريقه إلى ميدان المعركة.
وخرجت العساكر الشامية إلى ناحية قرية الكسْوة. ووصل التتار إلى قارَة. وقيل: إنهم وصلوا إلى القطيفة فانزعج الناس لذلك، وخافوا أن تكون العساكر قد هربوا، وانقطعت الآمال، وألحّ الناس في الدعاء والابتهال في الصلوات وفي كلّ حال. وذلك في يوم الخميس التاسع والعشرين من شعبان.. فلمَّا كان آخر هذا اليوم وصل أحد أمراء دمشق، فبشَّرَ الناس بأنَّ السلطان قد وصل وقتَ اجتماع العساكر المصرية والشامية.
وتابع التتار طريقهم من الشمال إلى الجنوب ولم يدخلوا دمشق بل عرجوا إلى ناحية تجمُّع العساكر، ولم يشغلوا أنفسهم باحتلال دمشق وقالوا: إن غلبنا فإنّ البلد لنا وإن غُلِبنا فلا حاجة لنا به.(/3)
ووقفت العساكر قريباً من قرية الكسوة، فجاء العسكر الشامي، وطلبوا من شيخ الإسلام أن يسير إلى السلطان يستحثُّه على السير إلى دمشق، فسارَ إليه، فحثّه على المجيء إلى دمشق بعد أن كاد يرجع إلى مصر. فجاء هو وإيّاه جميعاً، فسأله السلطان أن يقف معه في معركة القتال، فقال له الشيخ ابن تيمية: السُّنَّةُ أن يقف الرجُلُ تحت راية قومه، ونحن من جيش الشام لا نقف إلاَّ معهم.
وحرّض السلطان على القتال، وبشَّره بالنصر، وجعل يحلف بالله الذي لا إله إلاَّ هو: إنَّكم منصورون عليهم في هذه المرَّة. فيقول له الأمراء: قل إن شاء الله. فيقول: إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً.
وأفتى الناسَ بالفطر مدّة قتالهم، وأفطر هو أيضاً وكان يدور على الأجناد والأمراء فيأكل من شي معه في يده ليعلِمهم أنَّ إفطارهم ليتقوَّوْا به على القتال أفضل من صيامهم.
ولقد نظَّم المسلمون جيشهم في يوم السبت 2 رمضان أحسن تنظيم، في سهل شقحب الذي يشرف على جبل غباغِب. وكان السلطان الناصر في القلب، ومعه الخليفة المستكفي بالله والقضاة والأمراء. وقبل بدء القتال اتُّخِذَت الاحتياطات اللازمة، فمرّ السلطان ومعه الخليفة والقرَّاء بين صفوف جيشه، يقصد تشجيعهم على القتال وبثِّ روح الحماسة فيهم. وكانوا يقرؤون آيات القرآن التي تحضُّ على الجهاد والاستشهاد وكان الخليفة يقول: دافعوا عن دينكم وعن حريمكم.
ووضِعت الأحمال وراء الصفوف، وأُمر الغلمان بقتل من يحاول الهرب من المعركة. ولمَّا اصطفَّت العساكر والتحم القتال ثبت السلطان ثباتاً عظيماً وأمر بجواده فقُيِّد حتى لا يهرب، وبايع اللهَ تعالى في ذلك الموقف يريد إحدى الحسنيين إما النصر وإما الشهادة في سبيل الله، وصدق الله فصدقه الله. وجرت خطوب عظيمة، وقُتِل جماعة من سادات الأمراء يومئذ، منهم الأمير حسام الدين لاجين الرومي، وثمانية من الأمراء المقدَّمين معه.(/4)
واحتدمت المعركة، وحمي الوطيس، واستحرّ القتل، واستطاع المغول في بادئ الأمر أن ينزلوا بالمسلمين خسارة ضخمة فقتِل من قتِل من الأمراء.. ولكن الحال لم يلبث أن تحوّل بفضل الله عزّ وجلّ، وثبت المسلمون أمام المغول، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وتغيَّر وجه المعركة وأصبحت الغلبة للمسلمين، حتّى أقبل الليل فتوقّف القتال إلاّ قليلاً، وطلع المغول إلى أعلى جبل غباغِب، وبقوا هناك طول الليل، ولما طلع النهار نزلوا يبغون الفرار بعد أن ترك لهم المسلمون ثغرة في الميسرة ليمرّوا منها، وقد تتّبعهم الجنود المسلمون وقتلوا منهم عدداً كبيراً، كما أنهم مرّوا بأرض موحِلة، وهلك كثيرون منهم فيها، وقُبض على بعضهم.
قال ابن كثير:
(فلما جاء الليل لجأ التتار إلى اقتحام التلول والجبال والآكام، فأحاط بهم المسلمون يحرسونهم من الهرب ويرمونهم عن قوس واحدة إلى وقت الفجر، فقتلوا منهم ما لا يعلم عدده إلاَّ الله عز وجل، وجعلوا يجيئون بهم من الجبال فتُضرب أعناقهم). ثم لحق المسلمون أثر المنهزمين إلى القريتين يقتلون منهم ويأسرون.
ووصل التتار إلى الفرات وهو في قوة زيادته فلم يقدروا على العبور.. والذي عبر فيه هلك. فساروا على جانبه إلى بغداد، فانقطع أكثرهم على شاطئ الفرات وأخذ العرب منهم جماعة كثيرة.
وفي يوم الاثنين رابع رمضان رجع الناس من الكسوة إلى دمشق فبشَّروا الناس بالنصر، وفيه دخل شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية البلد ومعه أصحابه من المجاهدين، ففرح الناس به، ودعوا له وهنّؤوه بما يسَّر الله على يديه من الخير.(/5)
وفي يوم الثلاثاء خامس رمضان دخل السلطان إلى دمشق وبين يديه الخليفة، وزُيِّنَتِ البلد، وبقِيا في دمشق إلى ثالث شوّال إذ عادا إلى الديار المصرية. وكان فرح السلطان الناصر محمد بن قلاوون والمسلمين بهذه المعركة فرحاً كبيراً، ودخل مصر دخول الظافر المنتصر، يتقدّم موكبَه الأسرى المغول يحملون في أعناقهم رؤوس زملائهم القتلى، واستُقبل استقبال الفاتحين.(/6)
العنوان: معلِّم لا يُنسى
رقم المقالة: 809
صاحب المقالة: أيمن بن أحمد ذوالغنى
-----------------------------------------
إنَّ من نعَم الله السابغة عليَّ أن سَنَّى لي - في مراحل التعلُّم الأُولى - التلمذةَ لعدد من معلِّمي العربيَّة المخلصين المجيدين، غَرسوا في نفسي حبَّ العربيَّة، ونثَروا فيها بُذورَ تذوُّق فصيح الكلام (شعرًا ونثرًا)، وإدراك جَماله، والتأثُّر بمعانيه، فجزاهُم الله عنِّي خيرَ الجزاء؛ كِفاءَ رعايتهم وحسن تعهُّدهم.
ومن هؤلاء المعلِّمين المقتدرين أستاذٌ له عليَّ منَّة وفضل، علَّمَني في بداية المرحلَة المتوسِّطة (الصفَّين الأوَّل والثاني)، وتركَ في خَلَدي أثرًا طيِّبًا عميقًا، هيهات أن يُمحى.
إنه الأستاذُ الكبير والمربِّي الفاضل أحمد قَبِّش، صاحبُ التآليف النافعة الممتعَة، كان يومذاك شيخًا على عَتَبة الستِّين، وكنتُ وزملائي بين يدَيه أطفالاً صغارًا كبراعم الزَّهر، فكان يأخذُ بأيدينا ويمضي بنا في رحاب العربيَّة رُوَيدًا رُوَيدًا، باذلاً وُكْدَه في تقديم المادَّة لنا بأُسلوب سهل محبَّب، ولا تنتهي الحصَّة إلا وقد وَعَينا الدرس، وحَفِظنا المقرَّر، نعم لا تعجَبوا، فقد كان يَجهَد في إفهامنا، ولا يفتأُ يكرِّر القاعدة، ويُكثر من عَرض الأمثلة والشَّواهد، حتى نحفَظَها عن ظهر قلب، وهو يَهدِرُ بكلِّ ذلك بحيويَّة وحَماسة، حتى لنكادُ نسمعُ خفقَ قلبه.
وممَّا لا أنساهُ له: ما كان يكلِّفُنا به من تعبيرٍ بالرسم عن بعض مَشاهد دروس القراءة، ولسائلٍ أن يسألَ: وما علاقةُ مادَّة اللغة العربيَّة بالرسم؟! أوَليسَ للرسم حصَّةٌ خاصَّةٌ به؟! وأقولُ: بلى، ولكنَّ الأستاذَ كان حريصًا كلَّ الحرص على أن ينمِّيَ فينا الحسَّ الفنِّيَّ؛ بالتعبير عن الأفكار بالخُطوط والأشكال، وفي ذلك ما فيه من تنشيطٍ لملَكَة التخَيُّل، وشَحْذٍ لها، وتعميقٍ للفكرة في نفوسنا، حينما نجَسِّدها لوحةً منظورة.(/1)
وممَّا يميِّز أستاذنا الفاضلَ ويُعلي مَقامَه: ما يتحلَّى به من جِدِّيةٍ واستقامة، وتحرِّيه العدلَ التامَّ بين طلاَّبه..
وإن أنسَ لا أنسَ ذلك الموقفَ الجريء مع مدير مدرستنا، لقد كان للمدير ابنٌ معَنا في فصلنا، وكان طالبًا عاديًّا، غيرَ متميِّز بجِدٍّ ولا تفوُّق، وكان أبوه يستغلُّ منزلتَه ومنصبَه في دفعه إلى المقدِّمة بالباطل، فكان في بَدء كلِّ اختبار يهمسُ في آذان المدرِّسين والمراقبين؛ يوصيهم بمراعاة ولده، وغَضِّ الطَّرْف عنه، ومساعدته فيما يحتاجُ إليه، ويومَ اختبار اللغة العربية دخلَ كعادته قاعةَ الاختبار، ودنا من أستاذنا يُناجيه، وما هي إلا لحظاتٌ، وإذا بأستاذنا يثور كالبُركان، ويَصيحُ في وجهه على سَمع الجميع: اعلم يا حضرةَ المدير أن ولدَكَ وسائرَ الطلاَّب عندي سواء، لا فرقَ بين طالبٍ وآخرَ، ولا يمكنُ أن أراعيَ ولدَكَ على حساب الآخرين...
ولكُم أن تتصوَّروا حالَ المدير في تلك اللحظات العَصيبة، لقد أسرعَ بالخروج من القاعة لا يَلوي على شيء، متمنِّيًا لو أن الأرضَ بلعَته قبل أن يقفَ هذا الموقفَ المحرج.
وبعدُ، فتلك شذراتٌ برَّاقة من سيرة مُربٍّ أصيل، من المعلِّمين الأَكْفياء المخلصين، الذين طُبعوا على صدق العَطاء، مستشعرين عِظَمَ الأمانة التي نيطَت بهم، وجَلالَ المهنة التي نذَروا لها أعمارهم، وفيهم يقول الشاعر:
أرأيتَ أشرفَ أو أجَلَّ منَ الذي يَبني ويُنشئُ أنفُسًا وعُقولا
وما أحوجَنا اليومَ إلى أمثاله في مَيادين التربية والتعليم، بعد أن كثُرَ فيها الأدعياء، وقلَّ فيها الصُّرَحاء!!(/2)
العنوان: معنى الأمانة وشمولها لجميع الأعمال
رقم المقالة: 737
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحمد لله الذي فرض على العباد أداء الأمانة وحرم عليهم المكر السيء والغدر والخيانة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة نرجو بها النجاة يوم القيامة ونؤمل بها الفوز بدار النعيم والكرامة، وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله الذي أتم به النعمة وبعثه للعالمين رحمة وللعاملين قدوة وعلى الطاغين حجة صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان في الدين والملة وسلم تسليماً.(/1)
أما بعد، أيها الناس: اتقوا الله تعالى وأدوا الأمانة التي حملتموها وتحملتم مسؤوليتها، أدوا الأمانة التي عرضت على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً، أدوا الأمانة فإنكم عنها مسؤولون وعلى حسب القيام بها والتفريط بها محاسبون، فإما مغتبطون بأدائها مسرورون وإما نادمون في إضاعتها خاسرون، أدوا الأمانة فيما بينكم وبين الله وأدوها فيما بينكم وبين عباد الله. فأما أداء الأمانة فيما بينكم وبين الله فأن تقوموا بطاعته مخلصين وتتعبدوا بما شرعه متبعين لا مفرطين ولا مفرطين، وأما أداء الأمانة فيما بينكم وبين العباد فأن تقوموا بما أوجب الله عليكم من حقوق العباد، وهذا أمر يختلف باختلاف الناس وأحوالهم، فكل إنسان عليه أمانة بحسب ما يقتضيه عمله الذي التزمه، فولاة الأمور صغاراً وكباراً أمانتهم أن يقوموا بما فرض الله عليهم لمن تحت أيديهم من العدل، وأن يسيروا بالناس على حسب ما تقتضيه المصلحة في الدين والدنيا، وأن لا يحابوا في ذلك قريباً ولا صديقاً ولا قويا ولا شريفا، وأن يولوا الأمور من هو أحق بها وأجدر وأقوم وأكفأ، والموظف بحسب حالة أمانته أن يقوم بوظيفته على حسب المطلوب منه، وأن لا يفرط في عمله أو يتأخر أو يتشاغل بغيره أو يتعدى إلى أمر لا يعنيه شرعاً أو نظاما.(/2)
وهاهنا أمر ينبغي لكل موظف أن يلاحظه وهو أن بعض الموظفين ربما يتوانى في تطبيق النظام بحجة أن هذه أنظمة ليست مما أوجبه الشرع، أو أن الأجرة والراتب الذي يتقاضاه من بيت المال ونحو ذلك، وهذه الحجة غير صحيحة. أما كونه ليس من الأنظمة الشرعية فإنه من الأنظمة التي سنها ولاة الأمور وألزموا الموظف القيام بها، وما سنه ولاة الأمور ولم يكن فيه معصية لله ورسوله فإنه يجب اتباعه لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِمِنْكُمْ} وأما الحجة الثانية وهي أن هذا من بيت المال الذي لعموم المسلمين فهذا مما يؤكد ويحتم على الموظف أن يقوم بوظيفته أكثر وأكثر، فإن الحق إذن يكون لعموم المسلمين وكل واحد منهم يطلبك أن تقوم بوظيفتك لأنك تأخذ راتبك من بيت مالهم بإقرارك على نفسك، ولو كان الحق لشخص خاص لكان أهون، والمقصود أن هذه الحجة التي ربما يتعلل بها من يفرط بواجب وظيفته ليست حجة صحيحة. ويمتاز المدرس بين الموظفين بأهمية المسؤولية والأمانة الملقاة على عاتقه، فالمدرس معلم وموجه فهو مغذي الروح وطبيبها، فعليه أن يتحرى أسهل الأساليب وأقرب الطرق إلى إيصال المعلومات إلى أذهان الطلبة، وأن لا يضيع شيئاً من الحصة فيما لا خير فيه للطلبة، وعليه أيضاًً أن يوجههم إلى ما فيه صلاح دينهم ودنياهم بقدر ما يستطيع، فإن من المعروف أن الطالب يقتدي بمعلمه ويأخذ بقوله أكثر مما يأخذ من أبيه وأهله، فعلى المدرس أن يأخذ هذه الميزة بعين الاعتيار وأن يخلص لله تعالى في تعليمه وتوجيهه، ويعامل الطلبة بالعدل مسوياً بين القريب والبعيد والشريف والوضيع.(/3)
أيها المسلمون: إن على الأب وعلى ولي البيت أمانة لازمة له هي تربية أولاده وأهله، وتقويم أخلاقهم وتعويدهم على فعل الخير وترك الشر، والقيام بحقوقهم التي أوجب الله عليه رعايتها، وإن على البائع والمشتري أمانة يجب عليهما أداؤها، هذه الأمانة هي الصدق والبيان فلا يكذب فيذكر في السلعة وصفاً غير موجود فيها ولا يتكتم فيخفي عيباً موجوداً. إن على أهل الحرفة من البنائين والنجارين والصناع وغيرهم أن يؤدوا الأمانة بالإخلاص في عملهم وأن يؤدوه كاملاً كما يطلبون حقهم كاملا. أيها المسلمون، إن القول العام في الأمانة أن تؤدي ما عليك على الوجه الذي يطلب منك من غير تقصير ولا مجاوزة، فمن قام بأمانته فقد ربح ومن فرط فيها فقد خاب وخسر. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم قال الله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً * لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [الأحزاب:72،73].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم... إلخ.(/4)
العنوان: مفاتيح الغيب للرازي
رقم المقالة: 2040
صاحب المقالة: د. محمد حسين الذهبي
-----------------------------------------
مفاتيح الغيب (للرَّازي)
التعريف بمؤلف هذا التفسير:
مؤلف هذا التفسير هو أبو عبدالله، محمد بن عمر بن الحسين بن الحسن بن علي التميمي، البكري، الطبرستاني، الرازي، الملقب بفخر الدين، والمعروف بابن الخطيب الشافعي، المولود سنة 544 هـ (أربع وأربعين وخمسمائة من الهجرة).
كان - رحمه الله - فريد عصره، ومتكلم زمانه، جمع كثيرًا من العلوم ونبغ فيها، فكان إمامًا في التفسير والكلام، والعلوم العقلية، وعلوم اللغة، ولقد أكسبه نبوغُه العلمي شهرة عظيمة، فكان العلماء يقصدونه من البلاد، ويشدون إليه الرحال من مختلف الأقطار، وقد أخذ العلم عن والده ضياء الدين المعروف بخطيب الري، وعن الكمال السمعاني، والمجد الجيلي، وكثير من العلماء الذين عاصرهم ولقيهم، وله فوق شُهرتِه العِلْميَّة شُهرةٌ كبيرة في الوعظ، حتَّى قيل إنه كان يعظ باللسان العربي، واللسان العجمي، وكان يلحقه الوجد في حال الوَعْظِ، ويُكثِرُ البُكاء، ولقد خَلّف – رحِمه الله – للناس مجموعةً كبيرة من تصانيفه في الفنون المختلفة، وقد انتشرت هذه التصانيف في البلاد، ورزق فيها الحظوة الواسعة والسعادة العظيمة، إذ إن الناس اشتغلوا بها، وأعرضوا عن كتب المتقدمين، ومن أهم هذه المصنفات تفسيره الكبير المسمى بـ"مفاتيح الغيب"، وهو ما نحنُ بِصَدده الآنَ، وله "تفسير سورة الفاتحة" في مجلد واحد، ولعله هو الموجود بأوَّل تفسيره "مفاتيح الغيب"، وله في علم الكلام: "المطالب العالية"، و"كتاب البيان والبرهان في الرد على أهل الزيغ والطغيان"، وله في أصول الفقه: "المحصول"، وفي الحكمة: "الملخص"، و"شرح الإشارات لابن سينا"، و"شرح عيون الحكمة"، وفي الطلمسات: "السر المكنون"، ويقال: إنه شرح "المفصل في النحو" للزَّمَخْشري، وشرح "الوجيز" في الفقه للغزالي، وغير(/1)
هذا كثير من مصنفاته، التي يتجلى فيها علم الرجل الواسع الغزير.
هذا؛ وقد كانت وفاة الرازي – رحمه الله – سنة 606 هـ (ست وستمائة من الهجرة) بالري، ويقال في سبب وفاته: إنَّه كان بينه وبين الكرَّاميَّة خلاف كبير وجدل في أمور العقيدة، فكان ينال منهم وينالون منه سبًّا وتكفيرًا، وأخيرًا سمُّوه فمات على إثر ذلك واستراحوا منه[1].
التعريف بهذا التفسير وطريقة مؤلفه فيه:
يقع هذا التفسير في ثماني مجلدات كبار، وهو مطبوع ومتداوَل بين أهل العلم، ويقول ابن قاضي شهبة: إنه – أي الفخر الرازي – لم يتمه[2]، كما يقول ذلك ابن خلكان في "وفيات الأعيان"[3]، إذًا فمن الذي أكمل هذا التفسير؟ وإلى أي موضع من القرآن وصل الفخر الرازي في تفسيره؟
الحقُّ أنَّ هذه مشكلة لم نوفَّق إلى حلّها حلاًّ حاسمًا، لتضارُب أقوال العلماء في هذا الموضوع، فابن حجر العسقلاني، في كتابه "الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة"، يقول: "الذي أكمل تفسير فخر الدين الرازي، هو أحمد بن محمد بن أبي الحزم مكي نجم الدين المخزومي القمولي، مات سنة 727 هـ (سبع وعشرين وسبعمائة من الهجرة) وهو مصري[4]".
وصاحب "كشف الظنون" يقول: "وصنَّف الشيخ نجم الدين أحمد بن محمد القمولي تكملةً له، وتوفِّي سنة 727 هـ (سبع وعشرين وسبعمائة من الهجرة)، وقاضي القضاة شهاب الدين بن خليل الخويي الدمشقي، كمل ما نقص منه أيضًا، وتوفي سنة 639 هـ (تسع وثلاثين وستّمائة)[5]".
فأنت ترى أنَّ ابْنَ حجر يذكُر أنَّ الَّذي أتَمَّ تفسير الفخر هو نجم الدين القمولي، وصاحب "كشف الظنون" يجعل لشهاب الدين الخويي مشاركةً على وجهٍ ما في هذه التكملة، وإنْ كانَا يتَّفِقان على أنَّ الرازيَّ لم يُتِمَّ تفسيره.(/2)
وأمَّا إلى أيّ موضع وصل الفخر في تفسيره؟ فهذه كالأولى أيضًا، وذلك لأنَّنا وجدنا على هامش "كشف الظنون" ما نصّه: "الذي رأيته بخط السيد مرتضى نقلاً عن "شرح الشفا" للشهاب، أنَّه وصل فيه إلى سورة الأنبياء"[6].
وقد وجدتُ في أثناء قراءتي في هذا التفسير عند قوله - تعالى - في سورة الواقعة: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الواقعة: 24] هذه العبارةَ "المسألة الأولى أصولية، ذكرها الإمام فخر الدين - رحمه الله - في مواضع كثيرة، ونحن نذكُر بعضها.. إلخ"[7].
وهذه العبارةُ تدلُّ على أنَّ الإمام فخر الدين، لم يصل في تفسيره إلى هذه السورة.
كما وجدتُ عند تَفْسِيرِه لِقوله - تعالى - في سورة المائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} [المائدة: 6] الآية، أنَّه تعرَّض لِموضوع النية في الوضوء، واستشهد على اشتراط النية فيه بقوله - تعالى - في سورة البينة: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5] وبَيَّنَ أنَّ الإخلاص عبارة عن النّيَّة، ثم قال: "وقد حقَّقنا الكلامَ في هذا الدليل في تفسير قوله – تعالى -: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} فليرجع إليه في طلب زيادة الإتقان"[8].
وهذه العبارة تُشْعِرُ بِأَنَّ الفَخْرَ الرَّازِيَّ فسَّر سورة البَيّنة، أي أنَّه وصل إليها في تفسيره، وهذا طبعًا بحسب ظاهر العبارة المجرَّد عن كل شيء.
والذي أستطيع أن أقوله كحلّ لهذا الاضطراب: هو أن الإمام فخر الدين كتب تفسيره هذا إلى سورة الأنبياء، فأتى بعده شهاب الدين الخويي، فشرع في تكملة هذا التفسير ولكنه لم يتمه، فأتى بعده نجم الدين القمولي فأكمل ما بقي منه. كما يجوز أن يكون الخويي أكمله إلى النهاية، والقمولي كتب تكملة أخرى غير التي كتبها الخويي، وهذا هو الظاهر من عبارة صاحب "كشف الظنون".(/3)
وأمَّا إحالة الفخر على ما كتب في سورة البينة، فهذا ليس بصريح في أنَّه وصل إليها في تفسيره، إذ لعلَّه كتب تفسيرًا مستقلاًّ لسورة البينة، أو لهذه الآية وحدها، فهو يشير إلى ما كتب فيها ويحيل عليه.
أقول هذا: وأعْتَقِدُ أنَّه ليس حلاًّ حاسمًا لهذا الاضطراب، وإنما هو توفيق يقوم على الظن يخطئ ويصيب.
ثم إنَّ القارئ في هذا التفسير، لا يكاد يلحظ فيه تفاوتًا في المنهج والمسلك، بل يجري الكتاب من أوله إلى آخره على نَمَط واحد، وطريقة واحدة، تجعل الناظر فيه لا يستطيع أن يميز بين الأصل والتكملة، ولا يتمكَّن من الوقوف على حقيقة المقدار الذي كتبه الفخر، والمقدار الذي كتبه صاحب التكملة.
هذا؛ وإنَّ تفسير الفخر الرازي ليحظى بشهرة واسعة بين العلماء، وذلك لأنَّه يمتاز عن غيره من كتب التفسير، بالأبحاث الفياضة الواسعة، في نواحٍ شتى من العلم؛ ولهذا يصفه ابن خلكان فيقول: "إنه – أي الفخر الرازي – جمع فيه كل غريب وغريبة"[9].
اهتمام الفخر الرازي ببيان المناسبات بين آيات القرآن وسوره:
وقد قرأتُ في هذا التفسير، فوجدتُ أنَّه يَمتازُ بِذِكْرِ المُناسبات بَيْنَ الآياتِ بَعْضِها مَعَ بَعْضٍ، وبين السور بعضها مع بعض، وهو لا يكتفي بِذِكْر مُناسبة واحدة؛ بَلْ كثيرًا ما يذكر أكثر من مُناسبة.
اهتمامه بالعلوم الرياضية والفلسفية:
كما أنَّهُ يكثر من الاستطراد إلى العلوم الرياضيَّة والطبيعية وغيرها من العلوم الحادثة في الملَّة، على ما كانتْ عَلَيْهِ في عَهْدِه؛ كالهيئة الفلكيَّة وغيرِها، كما أنَّه يعرِض كثيرًا لأقوال الفلاسفة بالرَّدّ والتَّفْنِيد، وإن كان يَصُوغُ أدِلَّتَهُ في مباحث الإلهيَّات على نَمط استدلالاتهم العقلية، ولكن بما يتَّفِق ومذهب أهل السّنَّة.
موقفُه من المعتزلة:(/4)
ثم إنه – كسُنّي يرى ما يراه أهل السنة، ويعتقد بكل ما يقررونه من مسائل علم الكلام - لا يَدَعُ فُرصةً تَمُرّ دون أن يَعْرِضَ لِمَذْهَبِ المعتزلة بِذِكْرِ أقْوالِهم والرَّدّ عليها ردًّا لا يراه البعض كافيًا ولا شافيًا.
فهذا هو الحافظ ابن حجر يقول عنه في "لسان الميزان": "وكان يُعابُ بِإيراد الشبهة الشديدة، ويقصر في حلها، حتَّى قال بعض المغاربة: "يُورِدُ الشّبهة نَقدًا ويحلّها نسيئةً"[10].
وقال ابْنُ حجر أيضًا في "لسان الميزان": "ورأيتُ في "الإكسير في علم التفسير" للنَّجم الطوفي ما مُلَخَّصه: ما رأيتُ في التَّفاسير أجْمَعَ لِغالِبِ علْمِ التَّفسير من القُرْطُبِي، ومن تفسير الإمام فخر الدين، إلا أنَّهُ كثير العيوب، فحدَّثَنِي شرف الدين النصيبي عن شيخه سراج الدين السرمياحي المغربي، أنه صنَّف كتاب المآخذ في مجلدين، بَيَّن فيهما ما في تفسير الفخر من الزيف والبهرج وكان ينقم عليه كثيرًا ويقول: يورد شبه المخالفين في المذهب والدين على غاية ما يكون من التَّحْقِيقِ، ثُمَّ يُورِدُ مَذْهَبَ أهْلِ السنة والحق على غاية من الوهاء، قال الطوفي: ولعمري، إنَّ هذا دأبه في كتبه الكلاميَّة والحكمة؛ حتَّى اتَّهمه بعض الناس، ولكنه خلاف ظاهر حاله، لأنه لو كان اختار قولاً أو مذهبًا ما كان عنده مَن يَخاف منه حتى يستر عنه، ولعلَّ سَبَبَهُ أنَّه كان يَستَفْرِغُ أقوالاً في تقرير دليل الخصم، فإذا انْتَهَى إلى تَقْرِير دليلِ نَفْسِه لا يبقى عنده شيءٌ منَ القُوى؛ ولا شكَّ أنَّ القُوى النفسانية تابعة للقوى البدنية، وقد صرح في مقدمة "نهاية العقول"، أنَّه مُقَرِّرٌ مذهبَ خصمه تقريرًا لو أراد خصمُه تقريرَهُ لم يقدر على الزيادة على ذلك"[11].
موقفه من علوم الفقه والأصول والنحو والبلاغة:(/5)
ثم إنَّ الفخرَ الرازي لا يكاد يمرّ بآية من آيات الأحكام إلا ويذكر مذاهب الفقهاء فيها، مع ترويجه لمذهب الشافعي – الذي يقلّده – بالأدلة والبراهين.
كذلك نجده يستطرد لذكر المسائل الأصوليَّة، والمسائل النحوية والبلاغية، وإن كان لا يتوسَّع في ذلك توسُّعه في مسائل العلوم الكونيَّة والرياضية.
وبالجملة؛ فالكتابُ أَشْبَهُ ما يكون بموسوعةٍ في علم الكلام، وفي علوم الكون والطبيعة، إذ إنَّ هذه النَّاحيةَ هي الَّتِي غَلَبَتْ عليْهِ حتَّى كادت تقلل من أهمية الكتاب؛ كتفسير للقرآن الكريم.
ومن أجل ذلك قال صاحبُ "كشْف الظنون": "إن الإمام فخر الدين الرازي ملأ تفسيره بأقوال الحكماء والفلاسفة، وخرج من شيء إلى شيء، حتى يقضي الناظر العجب"[12]، ونقل عن أبي حيان أنَّه قال في "البحر المحيط": "جمع الإمام الرازي في تفسيره أشياء كثيرة طويلة لا حاجة بها في علم التفسير، ولذلك قال بعض العلماء: فيه كل شيء إلا التفسير"[13].
ويظهر لنا أنَّ الإمام فخر الدين الرازي كان مولعًا بكثرة الاستنباطات والاستطرادات في تفسيره، ما دام يستطيع أن يَجِدَ صِلةً ما بين المستنبط أو المستطرد إليه وبين اللفظ القرآني، والذي يقرأ مقدمة تَفْسِيره لا يسعه إلا أن يحكم على الفخر هذا الحكم، وذلك حيث يقول: "اعلم أنَّه مرَّ على لساني في بعض الأوقات، أن هذه السورة الكريمة – يريد الفاتحة – يمكن أن يستنبط من فوائدها ونفائسها عشرة آلاف مسألة، فاستبعد هذا بعضُ الحُسَّاد، وقوم من أهل الجهل والغي والعِناد، وحملوا ذلك على ما ألِفوه من أنفسهم من التعلقات الفارغة عن المعاني، والكلمات الخالية عن تحقيق المعاقد والمباني، فلما شرعت في تصنيف هذا الكتاب، قدمت هذه المقدمة، لتصير كالتنبيه على أنَّ ما ذكرناه أمر ممكن الحصول، قريب الوصول... إلخ"[14].
وبعد؛ فالكتاب بين يديك، فأجِلْ نظرك في جميع نواحيه، فسوف لا ترى إلا ما قلته فيه، وما حكمت به عليه.
---(/6)
[1] انظر "وفيات الأعيان": 2/ 265 – 268، و"شذرات الذهب": 5/ 21.
[2] "شذرات الذهب": 5/ 21.
[3] الجزء الثاني ص 267.
[4] "الدرر الكامنة": 1/304.
[5] "كشف الظنون": 2/ 299.
[6] "كشف الظنون": 2/ 299 (هامش).
[7] "مفاتيح الغيب": 8/ 68.
[8] "مفاتيح الغيب": 3/ 539.
[9] "وفيات الأعيان": 2/ 267.
[10] "لسان الميزان": 4/ 427.
[11] "لسان الميزان": 4/ 427 – 428.
[12] "كشف الظنون": 1/ 230 – 231.
[13] المرجع السابق.
[14] "مفاتيح الغيب": 1/ 2 – 3.(/7)
العنوان: مفطرات الصوم ومسائل القضاء
رقم المقالة: 1165
صاحب المقالة: د. يوسف بن عبدالله الأحمد
-----------------------------------------
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد.
فالصوم: هو الإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس؛ قال - تعالى -: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة:187].
ومفطرات الصوم أنواع:
المفطر الأول: الأكل والشرب، وهو مفطر بالإجماع للآية السابقة.
المفطر الثاني: ما كان في معنى الأكل والشرب، وهو ثلاثة أشياء:
أولاً: القطرة في الأنف، التي يعلم أنها تصل إلى الحلق، وهو مأخوذ من قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائمًا))؛ أخرجه مسلم من حديث لقيط - رضي الله عنه - فالحديث يفهم أنه لو دخل الماء من الأنف إلى الجوف فقد أفطر.
ثانيًا: مما يدخل في معنى الأكل والشرب: المحاليل المغذية التي تصل إلى المعدة من طريق الفم، أو الأنف، وكذا الإبر المغذية؛ فإنها تقوم مقام الأكل والشرب فتأخذ حكمها، ولذلك فإن المريض يبقى على المغذي أيامًا دون أكل أو شرب، ولا يشعر بجوع أو عطش.
ثالثًا: مما يدخل في معنى الأكل والشرب: حَقن الدم في المريض؛ لأن الدم هو غاية الأكل والشرب فكان بمعناه.
المفطر الثالث: الجماع، وهو مفطر بالإجماع.
المفطر الرابع: إنزال المني باختياره بمباشرة، أو استمناء، ونحو ذلك؛ لأنه من الشهوة التي أمر الصائم أن يدعها كما في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - السابق أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يدع شهوته، وأكله، وشربه من أجلي))؛ متفق عليه.
ومعلوم أن من فعل ذل ذلك عامدًا مختارًا، فقد أنفذ شهوته ولم يدعها.
أما الاحتلام فليس مفطرًا بالإجماع.(/1)
المفطر الخامس: التقيؤ عمدًا، وهو مفطر بالإجماع.
أما من غلبه القيء فلا شيء عليه، لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من ذرعه القيء وهو صائم فليس عليه قضاء، ومن استقاء فليقض))؛ أخرجه أصحاب السنن بسند صحيح، وقال النووي في المجموع (6/315): "وإسناد أبي داود وغيرِه فيه إسناد الصحيح"، وصححه ابن تيمية في حقيقة الصيام.
المفطر السادس: خروج دم الحيض والنفاس، وهو مفطر بالإجماع.
فمتى وُجد دم الحيض أو النفاس في آخر جزء من النهار فقد أفطرت، أو كانت حائضًا فطهرت بعد طلوع الفجر لم ينعقد صومها، وتكون مفطرة ذلك اليوم.
ومن الأدلة على هذا قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم))؛ أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد.
ثانيًا: أمور ليست من المفطرات، وهي:
أولاً: خروج الدم من الإنسان، غير دم الحيض والنفاس؛ كالتبرع بالدم، أو إخراجه للتحليل، أو خروجِه بسبب رعاف أو جرح، أو بالاستحاضة، وغيرِ ذلك.
لأن الأصل في الأشياء أنها غير مفطرة، إلا إذا دل الدليل على كونها مفطرة، ولا دليل.
أما قياس خروج الدم للتبرع والتحليل وما شابه ذلك على الحجامة فغير مسلم لأمرين:
الأول: أن الفطر بالحجامة أمر تعبدي محض لا يعقل معناه على التفصيل، وما كان كذلك فإنه لا يجري فيه القياس.
فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: ((أفطر الحاجم والمحجوم))؛ أخرجه أبو داود وغيره من حديث ثوبان - رضي الله عنه - وصححه جمع من الأئمة منهم الإمام أحمد والبخاري.
فمما يؤكد أن العلة تعبدية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل الحجامة مفطرة للحاجم أيضًا، والدم لا يدخل جوف الحاجم، ولذلك فإن من يرى التبرع بالدم مفطرًا، فإنه يجعل الفطر خاص بالمتبرع دون الطبيب أو الممرض الذي يقوم بسحب الدم.(/2)
وما ذكره بعض أهل العلم في علة الفطر في الحجامة على الحاجم والمحجوم، فهي محاولة لمعرفة الحكمة في ذلك ولا نستطيع الجزم بما ذكروه لعدم الدليل.
ثانيًا: أن قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أفطر الحاجم والمحجوم))، منسوخ بحديث ابن عباس - رضي الله عنهما -: ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - احتجم وهو صائم))؛ أخرجه البخاري، والدليل على كونه ناسخًا حديثان:
الأول: حديث أنس - رضي الله عنه - قال: ((أول ما كرهت الحجامة للصائم: أن جعفر بن أبي طالب احتجم وهو صائم فمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: أفطر هذان، ثم رخص النبي - صلى الله عليه وسلم - بعدُ في الحجامة للصائم، وكان أنس يحتجم وهو صائم "، أخرجه الدارقطني، وصححه، وأقره البيهقي في السنن الكبرى، وصححه النووي.
الثاني: حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: "رخص رسول الله في القبلة للصائم، والحجامة"؛ أخرجه الطبراني والدارقطني، وقال ابن حزم إسناده صحيح، وصححه من المعاصرين الألباني - رحمه الله - والرخصة لا تكون إلا بعد العزيمة.
والقاعدة أنه إذا وجد حديثان متعارضان، ولم يمكن الجمع بينهما، لم يجز إعمال قواعد الترجيح بين الأدلة المتعارضة إلا إذا جهل التاريخ، وهنا قد علمنا المتقدم من المتأخر فيكون المتأخر ناسخًا للمتقدم، كيف وحديثا أنس وأبي سعيد صريحان في نسخ الفطر بالحجامة.
ثانيًا من الأمور غير المفطرة – أيضًا -: كثير من الوسائل العلاجية، وقد صدر فيها قرار من مجمع الفقه الإسلامي بجدة في دورته العاشرة 1418هـ، وأنقل هنا أكثر هذا القرار:
" قرر مجلس مجمع الفقه الإسلامي ما يلي:
أولاً: الأمور الآتية لا تعتبر من المفطرات:
1- قطرة العين، أو قطرة الأذن، أو غسول الأذن، أو قطرة الأنف، أو بخاخ الأنف، إذا اجتنب ما نفذ إلى الحلق.
2- الأقراص العلاجية التي توضع تحت اللسان لعلاج الذبحة الصدرية، وغيرها إذا اجتنب ابتلاع ما نفذ إلى الحلق.(/3)
3- ما يدخل المهبل من تحاميل، أو غسول، أو منظار.
4- إدخال المنظار، أو اللولب، ونحوهما إلى الرحم.
5- ما يدخل الإحليل؛ أي مجرى البول الظاهر للذكر والأنثى، أو منظار، أو دواء، أو محلول لغسل المثانة.
6- حفر السن، أو قلع الضرس، أو تنظيف الأسنان، أو السواك وفرشاة الأسنان، إذا اجتنب ابتلاع ما نفذ إلى الحلق.
7- المضمضة، والغرغرة، وبخاخ العلاج الموضعي للفم إذا اجتنب ابتلاع ما نفذ إلى الحلق.
8- غاز الأكسجين.
9- غازات التخدير، ما لم يعط المريضُ سوائلَ مغذية.
10- ما يدخل الجسم امتصاصًا من الجلد كالدهونات، والمراهم واللصقات العلاجية الجلدية المحملة بالمواد الدوائية أو الكميائية.
11- إدخال (أنبوب دقيق) في الشرايين لتصويرِ، أو علاجِ أوعية القلب، أو غيره من الأعضاء.
12- إدخال منظار من خلال جدار البطن لفحص الأحشاء، أو إجراء عملية جراحية عليها.
13- أخذ عينات من الكبد، أو غيره من الأعضاء، مالم تكن مصحوبة بإعطاء محاليل.
14- دخول أي أداة أو مواد علاجية إلى الدماغ أو النخاع الشوكي.
ثانيًا: ينبغي على الطبيب المسلم نصحُ المريض بتأجيل ما لا يضر تأجيله إلى ما بعد الإفطار من صور المعالجات المذكورة فيما سبق"، انتهى قرار المجمع الفقهي.
والدليل على أن ما سبق ليس من المفطرات؛ أنها ليست أكلاً ولا شربًا ولا في معناهما، والأصل عدم كون الشيء مفطرًا إلا إذا دل الدليل على اعتباره مفطرًا، ولا دليل.
ويلحق بما مضى وبنفس التعليل: مداواة الجروح الغائرة، والكحل في العين.
ثالثًا: من أفطر ناسيًا أو مخطئًا:
ومثال الخطأ: من ظن أن الفجر لم يطلع فأكل وهو طالع، أو ظن أن الشمس قد غربت فأكل وهي لم تغرب، فصومه صحيح ولا شيء عليه، على القول الراجح من أقوال العلماء.
والدليل على ذلك حديث أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنهما - قالت: "أفطرنا على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم غيم، ثم طلعت الشمس" أخرجه البخاري.(/4)
وقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه حقيقةُ الصيام: أنه لم ينقل أنهم قضوا ذلك اليوم، ولو أمروا بقضائه لنقل إلينا كما نقل فطرهم.
ودليل الناسي حديث أبي هريرة - رضي الله عنهم - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " من أكل ناسيًا وهو صائم فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه " متفق عليه.
رابعًا: مسائل القضاء:
المسألة الأولى: الحائض والنفساء يجب عليهما القضاء بالإجماع.
فعن معاذة - رحمها الله - قالت: "سألت عائشة - رضي الله عنها - فقلتُ: ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟.
قالت: أحرورية أنت؟ قلت: لست بحرورية، ولكني أسأل.
فقالت: "كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة "أخرجه الشيخان، واللفظ لمسلم.
وقولها: (أحرورية أنت؟) فإنه يقال لمن اعتقد مذهب الخوارج حروري، نسبة إلى حروراء، وهي بلدة قرب الكوفة، وكان أولُ اجتماع للخوارج للخروج على علي بها، فاشتهروا بالنسبة لها، (انظر الفتح 1/502).
المسألة الثانية: المسافر يجوز له الفطر، ولو لم يكن عليه مشقة بالصيام، ويجب عليه القضاء إذا أفطر؛ لقوله - تعالى -: " ومن كان مريضًا أو على سفر فعدة من أيام أخر، يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر " (البقرة158).
وعن حمزةَ بنِ عمروٍ الأسلمي - رضي الله عنه - أنه قال: " يا رسول الله أجد بي قوة على الصيام في السفر فهل علي جناح؟
فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((هي رخصة من الله، فمن أخذ بها فحسن، ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه))؛ أخرجه مسلم.
المسألة الثالثة: من أفطر في رمضان بغير عذر فهو آثم إثمًا عظيمًا، وعليه التوبة إلى الله، ويجب عليه قضاء ما أفطر على القول الراجح، وهو قول الجمهور.
والدليل على وجوب القضاء عليه حديثان:(/5)
الأول: حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من ذرعه القيء وهو صائم فليس عليه قضاء، ومن استقاء فليقض))؛ حديث صحيح أخرجه أبو داود وغيره كما سبق.
الثاني: قوله - عليه الصلاة والسلام - للمُجامِع في نهار رمضان بعد أن ذكر له الكفارة: ((وصم يومًا واستغفر الله)) وفي رواية: ((وصم يومًا مكانه))؛ أخرجه مالك وأبو داود وابن ماجة وقال النووي في المجموع: "إسناد رواية أبي داود هذه جيد"، وصححه من المعاصرين أحمد شاكر في شرح المسند (6/147) والألباني في الإرواء (4/90)، - رحمهم الله -.
المسألة الرابعة: إذا كان الفطر متعمَّدًا بالجماع فيجب مع القضاء الكفارة، وهي عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينًا؛ لحديث أبي هريرة في الصحيحين.
المسألة الخامسة: المريض الذي يشق عليه الصوم بسبب المرض، أو يحتاج إلى تناول علاج، فإنه يجوز له أن يفطر، بل قد يجب إذا ترتب على صيامه إلحاق ضرر به، ويقضي ما أفطر؛ لقوله - تعالى -: "ومن كان مريضًا أو على سفر فعدة من أيام أخر".
ومثله في الحكم الحامل والمرضع إذا خافتا على نفسيهما أو ولديهما فإنهما مريضتان، أو في حكم المريض.
المسألة السادسة في مسائل القضاء: العاجز عن الصيام.
والعجز نوعان:
النوع الأول: عجز (مؤقت) وهو الذي يرجى ذهابه؛ كمن أصيب بمرض لا يستطيع معه الصيام لمدة سنتين أو ثلاث أو أربع، وبعد ذلك يغلب على الظن شفاؤه وقدرته على الصيام، وهذا الذي يسميه الفقهاء بالمريض الذي يرجى برؤه، فهذا لا يجب عليه الصيام، ويجب عليه القضاء إذا شُفي من مرضه، ولو كان ذلك بعد عدة سنوات، فحكمه حكم المريض.(/6)
النوع الثاني: عجز (دائم) وهو الذي لا يرجى ذهابه؛ كالشيخ الكبير، والمريض مرضًا لا يرجى برؤه كمن يحتاج إلى أخذ علاج في النهار طيلة حياته، فهذا لا يجب عليه الصوم، ولا يستطيع القضاء، وإنما يجب عليه: أن يطعم مكان كل يوم مسكينًا.
فعن عطاء - رحمه الله - سمع ابن عباس رضي الله عنما يقرأ: "وعلى الذين يطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين" قال ابن عباس: "ليست بمنسوخة، هو الشيخ الكبير، والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فليطعما مكان كل يوم مسكينًا" أخرجه البخاري.
المسألة السابعة: الشيخ الكبير، والمرأة الكبيرة إذا بلغا الهذيان وعدم التمييز: لا يجب عليهما الصيام، ولا الإطعام لسقوط التكليف.(/7)
العنوان: مفطرات الصوم
رقم المقالة: 1312
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحمدُ لله المطَّلعِ على ظاهِر الأمْرِ ومكنونِه، العالم بسرِّ العبدِ وجهرهِ وظنونِه، المُتَفرِّدِ بإنْشَاءِ العالم وإبْداعِ فُنُونِه، المدبِّر لكلٍّ منهُمْ في حركتِه وسُكُوْنِه، أحْسَنَ كلَّ شَيْءٍ خَلق، وفتَق الأسماع وشقَّ الحَدَق، وأحْصَى عَدَدَ ما في الشَّجَرِ من وَرَق، في أعْوادِه وغُصُونِه، مد الأرْضَ ووضعَها وأوْسَعَ السماءَ وَرفعَها، وسَيَّرَ النجومَ وأطْلعهَا، في حنْدسِ اللَّيلِ ودُجُوْنه، أنزل القطْر وبلاً رَذاذًا، فأنْقَذَ به البِذْر من اليُبْسِ إنْقاذًا، {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِى مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ} [لقمان:11]، أحْمُده على جوده وإحسْانِه، وأشْهد أن لا إِله إِلاَّ الله وحْدَه لا شريكَ له في أُلُوهِيَّتِهِ وسُلْطانِه، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه المؤيَّدُ ببُرهانِه، صلَّى الله عليه وعلى صاحبه أبي بكرٍ في جميع شأنه، وعلى عُمرَ مقْلقِ كِسْرى في إيوانِه، وعلى عثمانَ ساهرِ ليْلِهِ في قرآنِه، وعلى عليٍّ قالعِ بابِ خيْبرَ ومُزَلْزِل حُصونِه، وعلى آلِهِ وأصحابه المجتهد كلٌ منهم في طاعةِ ربِّه في حركتِه وسكونِه، وسَلَمَ تسليمًا.
إخواني: قال الله تعالى: { فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ} [البقرة: 187]، ذكَرَ الله في هذه الآيةِ الكريمةِ أصُولَ مُفَطِّراتِ الصومِ وذكَر النبيُّ - صلى الله عليه وسلّم - في السُّنَّةِ تمامَ ذلك.
والمُفَطِّرَاتُ سبعةُ أنْواع:(/1)
الأول: الجماعُ وهو إيلاجُ الذَّكَرِ في الْفَرْجِ، وهو أعْظَمُها وأكْبَرُها إثمًا، فمَتَى جامع الصائمُ بطَل بصومُه فَرْضًا كان أوْ نَفْلاً، ثم إنْ كان في نهارِ رمضانَ والصومُ واجبٌ عليه لَزِمه مع القضاءِ الكفارةُ المغلَّظةُ وهي عتقُ رقبةٍ مؤمنةٍ فإنْ لم يَجدْ فصيام شهرينِ متتابعين لا يُفْطرِ بينهما إلاَّ لعُذْرٍ شرعيٍّ كأيَّام العيدين والتشريقِ أو لعُذْرٍ حسِّيٍّ كالمَرضِ والسفر لغيرِ قصدِ الْفِطْر، فإنْ أفطَرَ لغيرِ عذرٍ ولو يومًا واحدًا لزمه استِئْنافُ الصيامِ مِنْ جديدٍ ليحصلَ التتابُع فإن لَم يستطعْ صيامَ شهرينِ متتابعين فإطعامُ ستِّين مسكينًا لِكُلِّ مسكينٍ نِصفُ كيلو وعَشرةُ غراماتٍ من الْبُرِّ الجيِّد[1]، وفي صحيح مسلم أن رجلاً وقع بامرأتِهِ في رمضانَ فاستَفْتَى النبيَّ - صلى الله عليه وسلّم - عن ذلك فقال: ((هَلْ تجدُ رقبةً؟ قال: لا. قال: هل تستطيعُ صيامَ شهرين؟ (يعني متتابعين كما في الروايات الأخْرَى) قال: لا. قال: فأطْعِمْ ستين مِسْكينًا))، وهو في الصحيحين مطولاً.(/2)
الثاني: إنزالُ المنيِّ باختياره بتقبيل أو لمسٍ أو استمناء أو نحو ذلك لأنَّ هذا مِنَ الشَّهْوةِ الَّتِي لا يكونُ الصوم إلاَّ باجتِنَابها كما جاء في الحديث الْقُدْسيِّ: ((يَدَع طعامَه وشرابَه وشهوتَه من أجْلِي))؛ رواه البخاري. فأمَّا التقبيلُ واللَّمْس بدونِ إنْزالٍ فلا يُفَطِّرُ، لمَا في الصحيحين من حديثِ عائشةَ رضي الله عنها: ((أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلّم - كان يُقَبِّلُ وهو صائمٌ ويباشر وهو صائمٌ، ولَكِنَّه كان أمْلَكَكُمْ لإِربِه))، وفي صحيح مسلم أنَّ عُمرَ بن أبي سلمة سأل النبيَّ صلى الله عليه وسلّم: أيُقَبِّلُ الصائمُ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: ((سَلْ هذه - يعني أمَّ سلمةَ - فأخْبَرتْهُ أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلّم - كان يصنعُ ذلك، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلّم: أما والله إني لأتقاكم لله وأخَشاكم له))، لكن إنْ كان الصائمُ يخشى على نفْسِه من الإِنزالِ بالتقبيلِ ونحوِه أو مِنَ التدَرُّج بذلك إلى الجماعِ لعدمِ قوَّتِهِ على كَبْحِ شَهْوَتِهِ فإنَّ التقبيلَ ونَحْوَه يحرم حينئذٍ سَدًا للذَّريعةِ، وَصونًا لصيامه عن الفسادِ، ولذلك أمر النبي - صلى الله عليه وسلّم - المتوضأ بالمبالغة في الاستنشاق إلا أن يكون صائمًا خوفًا من تسرب الماء إلى جوفه.
وأمَّا الإِنزالُ بالاحتلام أو بالتَّفْكير المجرَّدِ عن العمل فلا يُفَطِّر لأنَّ الاحتلامَ بغيرِ اختيارِ الصائَم، وأمَّا التَفكيرُ فمعفوٌ عنه لقولِه صلى الله عليه وسلّم: ((إنَّ الله تَجَاوزَ عن أمَتِي ما حدَّثَتْ به أنْفُسَهَا ما لم تَعْملْ أوْ تتكلمْ))؛ متفق عليه.(/3)
الثالث: الأكلُ أو الشربُ، وهو إيصالُ الطَّعامِ أو الشراب إلى الْجَوْف من طريقِ الْفَمِ أو الأنفِ أيًَّا كان نوعُ المأكولُ أو المَشروب، لقوله تعالى: {وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ} [البقرة: 187] والسَّعُوط في الأنْفِ كالأكل والشرب لقوله - صلى الله عليه وسلّم - في حديث لَقِيْط بن صبرة: ((وبالِغْ في الاستنشاقَ، إلاَّ أن تكون صائمًا))؛ رواه الخمسة وصححه الترمذي، فأما شم الروائح فلا يفطِّر لأنه ليس للرائحة جرم يدخل إلى الجوف.
الرابع: ما كان بمَعْنَى الأكْلِ والشربِ وهو شيئانِ:
أحَدُهما: حَقْنُ الدَّمِ في الصائمِ مثل أن يُصابَ بنزيفٍ فيُحقنَ به دمٌ فيفْطِرُ بذلك لأن الدَّمَ هو غايةُ الغِذاءِ بالطَّعامِ والشرابِ، وقد حصل ذلك بحقن الدَّم فيه.[2](/4)
الشيء الثاني: الإِبُر المغذِّيةُ الَّتِي يُكتَفَى بها عن الأكل والشرب فإذا تناوَلها أفْطَر لأنها وإنْ لم تكن أكْلاً وشربًا حَقِيْقةً، فإنَّها بمعناهُما، فَثَبَت لها حُكمهما، فأمَّا الإِبرُ غير المُغَذِّيةِ فإنَّها غيرُ مُفَطِّرةٍ سواءٌ تَنَاولها عن طريق العَضَلاتِ أو عن طريق الَعُرُوقِ حَتَّى ولو وجدَ حرارتها في حلْقِهِ فإنَّها لا تُفْطِّرَ لأنها ليست أكلاً ولا شُربًا ولا بمعناهما، فلا يثْبت لها حُكمهما، ولا عِبْرةَ بوجودِ الطَّعْمِ في الحلْقِ في غير الأكل والشربِ، ولذا قال فُقُهاؤنا: لو لَطخَ باطنِ قَدمِهِ بِحَنْظَلٍ فوجد طعْمَه في حلقِه لم يُفْطِر، وقال شيخ الإِسلام ابنُ تيميةَ رحمه الله في رِسالةِ ((حقيقةُ الصيامِ)): ليس في الأدلة ما يَقْتضي أنَّ المُفَطِرَ الَّذِي جَعلهَ الله ورسوله مُفَطِّرًا هو ما كَانَ واصِلاً إلى دماغٍ أو بَدنٍ أوْ ما كان داخِلاً مِنْ مَنْفَذٍ أو واصِلاً إلى جوفٍ ونحْو ذَلِك من المعاني التي يجعلُها أصحابُ هذه الأقاويل هي مَنَاطَ الْحُكْمِ عند الله ورسولِه، قال: وإذا لم يكنْ دليلٌ على تعليق الله ورسولِه الْحُكْمَ على هذا الْوَصفِ، كان قولُ القائلِ: إنَّ الله ورسوله إنَّما جعلا هذا مُفَطِّرًا لِهذَا قولاً بلا عِلمٍ. انتهى كلامِه رحمه الله.(/5)
الخامسُ: إخْراجُ الدَّمِ بالحجامةِ، لقولِ النبي صلى الله عليه وسلّم: ((أفْطَر الحاجِمُ والمَحْجُومُ))؛ رواه أحمد وأبو داود من حديث شَدَّاد بن أوْسٍ، قال البخاريُّ: ليس في البابِ أصَحُّ منه، وهذا مذهبُ الإِمام أحمدَ وأكْثر فقهاءِ الحديث، وفي معنى إخراجِ الدَّمِ بالحجامِة، وعلى هذا فلا يجُوزُ للصائم صومًا واجبًا أن يتبرعَ بإخراج دمه الكثير الَّذِي يؤثر على البدن تأثير الحجامة إلا أن يوجدَ مضطرٌ له لا تندفعُ ضرورته إلا به، ولا ضرر على الصائم بسحب الدم منه فيجوز للضرورة، ويفطر ذلك اليوم ويقضي، وأما خروج الدم بالرُّعافِ أو السعال أو الباسور أو قلع السن أو شق الجرح أو تحليل الدم أو غرز الإِبرة ونحوها فلا يفطر لأنه ليس بحجامة ولا بمعناها إذا لا يؤثر في البدن كتأثيرِ الحجامةِ.
السادسُ: التَّقَيُّؤ عَمْدًا وهو إخراجُ ما في المَعِدةِ من طعام أو شرابٍ عن طريق الْفَم، لقول النبي صلى الله عليه وسلّم: ((منْ ذَرَعه الْقَيءُ فليس عليه قضاءٌ ومَن استقاء عمدًا فلْيَقض))؛ رواه الخمسة إلا النسائيَّ وصححه الحاكم ومَعْنَى ذرعه غَلَبه ويفطر إذا تعمد القيء إما بالفعل كعصر بطنه أو غمز حلقه أو بالشم مثل أن يشم شيئًا ليقيء به أو بالنظر كأن يتعمد النظر إلى شيء ليقيء به فيُفْطِرُ بذلك كلِّه، أمَّا إذَا حصلَ القيءُ بدونِ سببٍ منه فإنَّه لا يَضرُّ، وإذا راجت مَعِدتُهُ لَمْ يلزمْه مَنْعُ القَيءِ لأنَّ ذلك يَضُرُّه ولكنْ يتركُه فلا يحاولُ القيءَ ولا منْعَه.
السابعُ: خروجُ دمِ الْحَيْضَ والنِّفَاسِ، لقولِ النبي - صلى الله عليه وسلّم - في المَرْأةِ أليس إذا حاضت لم تُصَلِّ ولم تَصُمْ؟ فمتى رأتْ دمَ الْحَيْض أو النِّفاس فَسدَ صومُها سَواءٌ في أوَّل النهارِ أمْ في آخرِهِ ولو قبل الغُروبِ بَلَحظةٍ وإنْ أحَسَّتْ بانتقال الدَّمِ ولم يَبْرُزْ إلاَّ بعد الغروبِ فصومُها صحيحٌ.(/6)
ويحرمُ على الصائمِ تناوُلُ هذه المفُطِّراتِ إن كان صَومُه واجبًا كصومِ رمضان والكفارةِ والنَّذْرِ إلا أن يكون له عذرٌ يبيح الفطرَ كسفرٍ ومرضٍ ونحوهما لأن من تلبَّس بواجبٍ لزمه إتمامُه إلا لعذرٍ صحيح، ثم إن من تناولها في نهارِ رمضانَ لغيِر عذرٍ وجب عليه الإِمساكُ بقيةَ اليوم والقضاءُ وإلا لزمه القضاء دونَ الإِمساك، أما إن كان صومُه تطوعًا فإنه يجوز له الفطرُ ولو بدون عذر لكن الأولى الإِتمام.
إخواني: حافظُوا على الطَّاعات، وجانبُوا المعاصيَ والمحرَّمات، وابتهلوا إلى فاطرِ الأرض والسموات، وتعرَّضُوا لنفحاتِ جودِه فإنَّه جزيلُ الْهبات، واعلموا أنه ليسَ لكم من دُنْياكم إلا ما أمضَيْتُموه في طاعةِ مولاكم، فالْغَنِيْمةَ الغنيمةَ قبلَ فواتِ الأوَان، والمرابَحَةَ المرابحةَ قبل حُلولِ الخُسْران.
اللَّهُمَّ وفِّقْنَا لاغتنامِ الأوقات، وشغْلِها بالأعمالِ الصالحات، اللَّهُمَّ جُدْ علينا بالْفضلِ والإِحسان، وعاملنا بالعفوِ والغُفْران، اللَّهُمَّ يَّسرْنَا لليُسرى، وجنِّبْنا العُسْرى واغْفِرْ لنا في الآخِرةِ والأولى، اللَّهُمَّ ارزقنا شفاعةَ نبيِّنا وأوْردْنا حوضه وأسقِنَا منه شربةً لا نظْمأ بعدَها أبدًا يا ربَّ العالمين.
اللَّهُمَّ صلِّ وسلِّم وباركْ على عبدِك ونبيِّك محمدٍ وعلى آلِهِ وأصحابِه أجمعين.
ـــــــــــــــــــــــــــ
[1] ويجزئ الرز عن البر لكن تجب ملاحظة الوزن فإن كان الرز أثقل زيد في وزنه بقدره وإن كان أخف نقص من وزنه بقدره.
[2] هذا ما كنت أراه من قبل ثم ظهر لي أن حقن الدم لا يفطر لأنه ليس أكلاً ولا شرابًا ولا بمعناهما والأصل بقاء صحة الصوم حتى يتبين فساده ومن القواعد المقررة أن اليقين لا يزول بالشك.(/7)
العنوان: مفعول به مكروب!
رقم المقالة: 1128
صاحب المقالة: مروان محمد أبو بكر
-----------------------------------------
تدور الأيام.. ومع دورانها؛ تتسارع عجلة (التكنولوجيا)، التي جعلت من عالمنا غرفة واحدة، يلتقي فيها العالم كله! فقد طوت تلك الثورة (التكنولوجية) العالمَ بأسره، فلم يعد يخفى حدث، أو تُحتَكر معلومة، وهو ما أشار إليه الشاعر محمود غنيم في وصفه ليلةً أمضاها بجوار التلفاز، فكان مما قال:
لَقَدْ طُفْتُ بِالدُّنيَا وَصَاحَبْتُ أَهْلَهَا وَحَدَّثَنِي أَقْطَابُهَا رُغْمَ وَحْدَتِي
وَلَوْ كَانَ كُلُّ الأَمْرِ لَحْناً وَصُورَةً مَا قَنَّعْتُ نَفْسِي بِلَحْنٍ وَصُورَةِ
لَكِنَّهُ الْكَوْنُ الْكَبِيرُ أَرُودُهُ وَإِنِّي لَفِي بَيْتِي وَفِي ظِلِّ غُرْفَتِي
تَنَقَّلْتُ فِي اليَابَانِ أَرْتَادُ آهِلاً وَعُدْتُ إِلَى أَسْوَانَ بَعْدَ هُنَيْهَةِ
أُقَابِلُ أَمجَادَ الشُّعُوبِ بِمَا بَنَتْ مِنَ الْمَجْدِ لِلدُّنيَا سَوَاعِدُ أُمَّتِي
ولم يكن -يومَ ميلاد هذه القصيدة- قد انتشرت مواقع الإنترنت، التي لو اطَّلع عليها شاعرنا؛ لأطال قصيدته جداً، فلقد صارت المعلومة تنقاد مذلَّلةً، بلمسات من أطراف الأصابع!!!
ولقد أشار الشاعر في البيت الأخير إلى واقع أمتنا المؤسف، وموقعها من جملة (التكنولوجيا)، إذ غالباً ما تُعرب مفعولاً به منصوباً!! وإن كان الشاعر يتألم لهذا الواقع، ويقارن بينه وبين من بنى وعمَّر وأنشأ..؛ فلأنَّ أمتنا بذلك الإعمار والإنشاء أحق؛ فديننا يدعو إلى عمارة الأرض، وتاريخنا مليء بالإنجازات العلمية التي بنى عليها الآخرون ما وصلوا إليه.
وليسمح لي شاعرنا أن أختلف معه؛ فموقع أمتنا من جملة (التكنولوجيا) له إعرابان؛ الأول: مفعول به منصوب، كما أشار، والثاني: مفعول به مكروب!(/1)
فالناظر إلى فضائياتنا يرى كثيراً منها -بعد أن أسعر الغرائز، وتفنن في عرض اللحوم المتعفنة- يحلق بنا في عالم السحر والشعوذة، باذلاً في ذلك –وبسخاء- الأموالَ والأوقات، إسهاماً منه في إجهاد العقول، وإفساد العقائد.
إننا لا نجد ديانة حاربت الشعوذة والتخيلات والوهمية، وحذرت الناس من عالم اللامعقول؛ مثل الإسلام. بل ذهب الإسلام أبعد من ذلك؛ فَعَدَّ السحرَ وأضرابه كفراً بالله؛ فعن عمران بن حصين -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَطَيَّرَ، أَوْ تُطُيِّرَ لَهُ، أَوْ تَكَهَّنَ، أَوْ تُكُهِّنَ لَهُ، أَوْ سَحَرَ، أَوْ سُحِرَ لَهُ. وَمَنْ أَتَى كَاهِناً فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ؛ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ))[1].
بهذه العبارات الجامعة المانعة؛ يضع النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- حدّاً فاصلاً بين الإيمان، والسحر والشعوذة والتطير وما شاكلها من عالم الأوهام؛ الذي لم يجد البعض باباً من أبواب الرزق العديدة سواه، عملاً أو ترويجاً. فخزائن الله التي وسعت السماوات والأرض، وكفت الخلق -{وَمَا مِنْ دَآبَّةٍ فِي الأَْرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [هود:6]- ضاقت في أعين أؤلئك، فلم يجدوا سبيلاً يستنزلون به رزق ربهم؛ إلا بالكفر والترويج له!!
إننا لم ننتج تلك الأقمار الصناعية، ولم نصنع تلك المُعَدَّاتِ اللازمةَ لنقل الصورة والصوت عبر الأثير.. فلا أَقَلَّ من أن نحسِن استخدامها بعد أن صنعها غيرنا!!
ــــــــــــــــــــــــــ
[1] رواه البزار بإسناد حيد، وصححه الألباني في الترغيب: 3/97، (3041).(/2)
العنوان: مفهوم الأمة الواحدة
رقم المقالة: 477
صاحب المقالة: خباب بن مروان الحمد
-----------------------------------------
كنت يوماً أشاهد برنامجاً فكرياً في إحدى القنوات الفضائيَّة؛ فرأيت أحد المفكِّرين يقول بأنَّ النصارى الذين يسكنون في بلاد المسلمين يُعَدُّونَ من أمَّتنا الواحدة، واستدلَّ على كلامه بقوله تعالى: {وإنَّ هذه أمَّتكم أمَّةً واحدةً وأنا ربُّكُم فاتَّقُون} (المؤمنون: 52). فاستغربت قوله جدّاً!
وتذكَّرتُ كلاماً للشيخ الدكتور يوسف القرضاوي - وفَّقه الله - حين كان يتحدَّث عن الأقباط النصارى، ويقول: إنَّهم من أمتنا؛ بل إنَّه في أحد برامجه القديمة قال متحدِّثاً عن النصارى: " فكل القضايا بيننا مشتركة، فنحن أبناء وطن واحد، مصيرنا واحد، أمتنا واحدة، أنا أقول عنهم: إخواننا المسيحيُّون، البعض ينكرُ عليَّ هذا كيف أقول إخواننا المسيحيون؟ {إنَّما المؤمنون إخوة} نعم نحن مؤمنون وهم مؤمنون بوجه آخر"[1]!
لقد أعدت النظر مراراً في كلام الدكتور القرضاوي، وكلام ذلك المفكِّر، محاولاً أن أجد لكلامهما حجَّة؛ فلم أجد!
وقد بحثت فيما بين يديَّ من مراجع لعلِّي أجد أصلاً لكلامهما، حيث إنَّ علماءنا قالوا: (لا تعتقد فتستدل فتضل) بيد أني أقول: إنَّ في كلام الدكتور القرضاوي وذلك المفكِّر خطأً ولبْساً ظاهراً، ومخالفةً للفهم الصحيح الذي عليه علماء أهل السنة!
وكثيراً ما يذكر الشيخ القرضاوي وغيره من العلماء أو المفكِّرين تلك المفاهيم في عدد من المحاضرات والملتقيات الفكريَّة والعلميَّة، ولم أرَ ما يسند قولهم، فأحببت أن أسهم بهذه الكليمة لعلَّ فيها توضيحاً وتصحيحاً:
قال الشيخ القرضاوي: (فكلُّ القضايا بيننا مشتركة) وفي كلامه هذا تجاوز واضح، فكيف تكون القضايا كلُّها بيننا نحن والنصارى مشتركة ؟!
أليس لكلِّ منَّا قيم وخصوصيات يفترق بها عن الآخر؟(/1)
وأتساءل عند قول الشيخ - وفَّقه الله - : (مصيرنا واحد) فأقول: كيف يكون مصيرنا نحن والنصارى واحداً ؟ أفيكون هذا موافقاً للقرآن وهو ينصُّ في آيات كثيرة على خلاف ذلك! ومنها قوله - تعالى - : {أم حَسِبَ الذينَ اجتَرَحوا السيِّئات أن نجعلَهُم كالَّذين آمَنوا وعَمِلوا الصَّالحات سَواءً محياهُم ومماتُهم ساءَ ما يَحكُمون} ( الجاثية:21).
ولا شكَّ أنَّ نصوص الشريعة الإسلاميَّة قضت بأنَّ مصير الكفَّار جميعهم - ومنهم النصارى - النار، ومصير المسلمين الجنَّة، نسأل الله من فضله ونعوذ به من عذابه.
نعم! بالإمكان أن يُحْمَل كلام الشيخ القرضاوي على وجه آخر بأن يُقال: إن مقصده بأنَّ مصير المسلمين والكفَّار جميعاً الموت - مثلاً - ، أو إنَّه إذا دَهَمَ العدوُّ أرض المسلمين فقد لا يفرِّقُ في عداوته للمسلم والنصراني كما يفعل اليهود اليوم مع نصارى فلسطين، وإن كان القتال الأصلي ضدَّ المسلمين .
ولهذا فإحساناً بالظنِّ أقول: إنَّ كلام الشيخ القرضاوي (في هذه القضيَّة) مُحْتَمَلٌ؛ إلاَّ أنَّه كان ينبغي عليه أن يُفصِحَ عن مراده في ذلك؛ حتى لا يُفْهَمَ كلامه خطأً، وخصوصاً أنَّه كان يتحدَّث في برنامج حواري، يشاهده العامي والمتعلم، والجاهل والعالم، وصاحب الهوى، وغير المسلم.
ومن المهم أن أذكِّر بأنَّ (مفهوم الأمَّة) مفهوم شرعي أتى به الإسلام، ووضع له معنى خاصّاً، ومن معانيه: القوم الذين اجتمعوا على دين واحد، وانظر تفصيل ذلك في كتاب: (بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز) للإمام الفيروز آبادي رحمه الله.
لكن الشيخ القرضاوي وغيره من المفكِّرين ذهبوا إلى أنَّ النصارى الذين يعيشون في بلادنا الإسلاميَّة من أمَّتنا الواحدة، كما صرَّح بذلك في محاضرة له، ألقاها في مصر أيام الحرب السادسة في لبنان، في صيف العام الماضي، واستشهد على ذلك بقوله تعالى: {وإنَّ هذه أمَّتكم أمَّة واحدة}.
لقد قسَّم العلماء الأمَّة إلى قسمين:(/2)
1- أمَّة الدعوة: وهم الذين دعاهم الله - تعالى - للإيمان برسالة الإسلام، ولكنَّهم لم يؤمنوا بها.
2- أمَّة الإجابة: وهي الأمَّة التي أجابت دعوة الحق - سبحانه وتعالى - ؛ فانتظمت في سلك الإسلام.
فكيف نكون نحن والنصارى، أو غيرهم من ملل الكفر ونِحَل الضلال، أمَّةً واحدة ؟ خصوصاً أنَّ ظاهر الآيات تدلُّ على أنَّ المراد من ذكر الأمَّة فيها بأنَّها أمَّة الإجابة لا أمَّة الدعوة .
نعم! لو أراد فضيلة الشيخ القرضاوي وقصد بقوله (الأمَّة) أي الجماعة التي تعيش في مصر مثلاً كالأقباط النصارى والمسلمين باعتبارهم جميعاً يعيشون في ذلك البلد فإنَّ هذا المفهوم مقبول - وإن كان لا يدخل في قوله تعالى: {وإنَّ هذه أمَّتكم أمَّةً واحدةً} - ، لأنَّ من معاني الأمَّة عند العرب: (الجماعة من الناس أو الطائفة) كما في قوله - تعالى - : {ولمَّا وَرَدَ ماءَ مَديَنَ وَجَدَ عليهِ أمَّةً منَ النَّاس يَسقُون} أي: جماعة، وكذلك قوله تعالى: {كلَّما دخلَت أمَّةٌ لَعَنَت أُخْتَها} يعني طائفة أو جماعة . (وانظر شرح ذلك في كتاب: "بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز" للإمام الفيروز آبادي رحمه الله).
ومن هنا فإنَّه يتبيَّن خطأ من قال عن المسلمين و النصارى بأنَّهم جميعاً أمَّة واحدة، وخصوصاً أنَّ الآية التي يستدلُّون بها، وهي قوله تعالى: {وإنَّ هذه أمَّتكم أمَّةً واحدةً وأنا ربُّكم فاتَّقون} إنَّما هي في الحقيقة حجَّةٌ عليهم لا لهم، وهذا يسمَّى في علم أصول الفقه: (مصادرة) حيث إنَّ معنى الأمَّة في هذه الآية: الأمَّة التي تَدين بدين الإسلام وليس المقصود بها الأمَّة التي تدين بدين النصارى، وكلام المفسِّرين واضح في ذلك؛ فإنَّهم - رحمهم الله - بيَّنوا أنَّ المراد في الآية السابقة: الأمَّة المسلمة التي تَدين بالإسلام.(/3)
فهذا الإمام القرطبي - رحمه الله - يقول في تفسيره: " قوله تعالى: {وإنَّ هذه أمَّتكم أمَّة واحدة} المعنى: هذا الذي تقدَّم ذكره هو دينكم وملَّتكم فالتزموه. والأمَّة هنا الدين؛ وقد تقدَّم محامله؛ ومنه قوله - تعالى -: {إنَّا وجدنا آباءنا على أمَّة} ( الزخرف: 22) أي: على دين . وقال النابغة:
حَلَفتُ فلم أترُك لنفسِكَ رِيبَةً وهل يَأْثَمَنْ ذو أمَّة وهو طائعُ؟ "
(أحكام القرآن للقرطبي: 12/86).
وقال في تفسير الجلالين عند قوله - تعالى -: "(وإنَّ هذه) ملَّة الإسلام ( أمَّتكم) دينكم أيُّها المخاطبون، أي: يجب أن تكونوا عليها".
وكذا فهم الإمام الشوكاني فقال: "والمعنى: أنَّ هذه ملَّتكم وشريعتكم أيها الرسل ملَّة واحدة، وشريعة متحدة يجمعها أصل هو أعظم ما بعث الله به أنبياءه وأنزل فيه كتبه، وهو دعاء جميع الأنبياء إلى عبادة الله وحده لا شريك له . وقيل: المعنى: إنَّ هذا الذي تقدَّم ذكره هو دينكم وملتكم فالزموه على أنَّ المراد بالأمَّة هنا: الدين كما في قوله - تعالى -: {إنَّا وجدنا آباءنا على أمَّة} " فتح القدير (3: 483).
وهذا خلاف ما فسَّر به بعض المفكِّرين والمشايخ المعاصرين حيث قالوا: إنَّ المراد بالأمَّة الواحدة البشرية جمعاء، فلا ريب في خطأ هذا التفسير، وحرفه عن المنهج الصحيح الذي أراده الله من هذه الآية.
وقد يستدلُّ بعضهم على ذلك بما جاء في وثيقة المدينة المنورة التي أبرمها رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في السنة الأولى من الهجرة بين المهاجرين والأنصار واليهود؛ حيث نصَّت الوثيقة على أنَّ: (يهود بني عوف أمة مع المؤمنين؛ لليهود دينهم وللمسلمين دينهم)[2].(/4)
ولكنَّ هذا لا يعدُّ دليلاً لهم بل هو حجَّة عليهم كذلك، لأنَّ الرسول - عليه الصلاة والسلام - قال في بدء هذه الوثيقة: هذا كتاب من محمد النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم: أنَّهم أمَّة واحدة من دون الناس.
ولاحظْ قوله - عليه السلام - فإنَّه واضح بأنَّ هذا الكتاب بين المسلمين والمؤمنين ممَّن آمن من قريش وأهل المدينة، أو من تبعهم من أهل الإيمان وجاهد معهم، ثمَّ أمعن النظر في قوله - عليه الصلاة والسلام: (أنَّهم أمَّة واحدة من دون الناس)؛ فقد كان يتحدَّث عن المسلمين فقط، وأكَّد ذلك واستثناهم باعتبارهم أمَّة واحدة، فقال: (من دون الناس) أي: إنَّ الناس الآخرين الذين ليسوا على ملَّته ليسوا من هذه الأمَّة الإسلاميَّة.
والاتبِّاع هنا معناه: الدخول في سلك الإسلام والهداية كما قال تعالى: {واتبعت ملَّة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب} أي: وافقتهم على دين الإسلام.
ولهذا فحين انتهى - صلَّى الله عليه وسلَّم - من ذكر العهد الوثائقي مع من أسلم من المهاجرين والأنصار وسمِّيت بعدها بـ(صحيفة المدينة أو وثيقة المدينة) فصَّل - عليه الصلاة والسلام - بعد ذلك العهد الذي بينه وبين اليهود الذين يقطُنون المدينة المنوَّرة فقال: (وأنَّ يهود بني عوف أمَّة مع المؤمنين ...) ولاحظ قوله: (مع)، فلم يقل (من) المؤمنين؛ لأنَّهم أهل ذمَّة؛ فما دام أنَّهم تحت حكم الإسلام؛ فعليهم أن يكونوا مع المسلمين في حال اعتدى على هذه الدولة المسلمة عدوٌّ أو محتل.
ولهذا قال الإمام ابن زنجويه: وقوله: "إن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين" إنما أراد نصرهم المؤمنين، ومعاونتهم إياهم على عدوِّهم، بالنفقة التي شرطها عليهم؛ فأما الدِّين فليسوا منه بشيء، ألا تراه قد بيَّن ذلك فقال:"لليهود دينهم وللمؤمنين دينهم"[3].(/5)
وقد وردت العبارة في كتاب الأموال: "أمة من المؤمنين"، وهذا ما جعل أبا عبيد يقول: "فإنما أراد نصرهم المؤمنين، ومعاونتهم إياهم على عدوهم، بالنفقة التي شرطها عليهم، فأما الدين فليسوا منه في شيء، ألا تراه قد بيَّن ذلك فقال: لليهود دينهم وللمؤمنين دينهم"[4]، أما ابن إسحاق فقد قال: "مع المؤمنين" وهو أجود، ولعل ما في كتاب الأموال مصحّف! ويبقى كلاماً متشابهاً فَيُرْجَعُ فيه إلى النصوص المحكَمَة، وخصوصاً أنّ هذه الوثيقةَ نقلها الأكثرون بلفظ: (مع المؤمنين) والله أعلم.
وإذا علمنا أنَّ كلَّ الآيات التي ذُكرت فيها الأمَّة، كقوله - تعالى - : {وإنَّ هذه أمَّتكم أمَّةً واحدةً وأنا ربكم فاتقون} (المؤمنون: 52)، و قوله: {إنَّ هذه أمتكم أمَّة واحدة وأنا ربكم فاعبدون} (الأنبياء:92) وقوله: {كنتم خير أمَّة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله} وقوله: {وكذلك جعلناكم أمَّة وسطاً لتكونوا شهداء على النَّاس ويكون الرسول عليكم شهيداً} (البقرة: 143) كلُّها تدلُّ على أنَّ الأمَّة المقصود بها هي الأمَّة المسلمة .
وقبل الختام: فإنَّ للدكتور يوسف القرضاوي - وفَّقه الله - جهوداً فكريَّة وعلميَّة، وصولات وجولات مع العلمانيين والمنافقين، تُشكر له وتُحمدَ، وهذا أمر لا شك فيه، وأسأل الله - تعالى - أن يأجره عليه بميزانه العادل، غير أنَّ ديننا الكريم لا مجاملة فيه على حساب العقيدة، وصدق الأستاذ سيد قطب - رحمه الله تعالى - حين قال: "تبرئة الأشخاص لا تساوي تشويه المنهج"[5].(/6)
وليس مرادي - بإذن الله - من هذا التعقيب على كلام الشيخ القرضاوي إلاَّ النصح والتوضيح، لا التشهير والتوبيخ، فليس هذا من سمت طلاَّب العلم، وقد قال رئيس جمعيَّة علماء المسلمين الجزائريين الشيخ البشير الإبراهيمي - رحمه الله -: (إذا لَزِمَ النقد فلا يكن الباعث عليه الحقد، ولكن ليكن موجَّهاً إلى الآراء بالتمحيص، لا إلى الأشخاص بالتنقيص). والله المستعان، وعليه التكلان، والحمد لله ربِّ العالمين.
ــــــــــــــــــــــ
[1] برنامج الشريعة والحياة في قناة الجزيرة، حلقة بعنوان: (غير المسلمين في ظلِّ الشريعة الإسلاميَّة) بتاريخ: 12/ 10/1997م.
[2] هذه المعاهدة ورد ذكرها في كتاب الأموال لأبي عبيد ص 292 – 295، والأموال لابن زنجويه 2 / 466 - 470، وسيرة ابن هشام 2 / 92، والروض الأنف 4 / 293، وقد قام بتحليل هذه المعاهدة أ. د. أكرم بن ضياء العمري .
[3] الأموال 2 / 472.
[4] أبو عبيد: الأموال ص 296.
[5] من فقه الدعوة (موضوعات في الدعوة والحركة) لسيد قطب - رحمه الله -، واختارها من الظِلال الأستاذ أحمد حسن.(/7)
العنوان: مفهوم التحريف (دراسة في تأصيل المصطلح)
رقم المقالة: 510
صاحب المقالة: د. وليد محمد السراقبي
-----------------------------------------
تقديم:
كنت قد وقفت في عدد سابق من أعداد مجلة عالم الكتب الغراء، عند مفهوم التصحيف، وحاولت التأصيل لهذا المصطلح. ولما كان مصطلح التحريف قرين المصطلح الأول، جهدت – عبر هذه الدراسة المتواضعة – في التأصيل له، وإماطة اللثام عن مدلولاته لدى كل من علماء اللغة، وعلماء الحديث، ومصنفي كتب التصحيف والتحريف. وعرَّجت بعد ذلك للوقوف على نماذج منه كما تبدَّت في كتاب ((التنبيه)) لمحمد بن ناصر السلامي (ت550هـ)، الموضوع أصلاً لإزالة التصحيفات والتحريفات التي وقعت في كتاب ((الغريبين)) لأبي عبيد الهروي (ت401هـ). ثم وقفت عند أهم النتائج التي تنجم عن التصحيف والتحريف، كما يعكسها كتاب ((التنبيه)) السابق ذكره.
ولست أدّعي لهذه الدراسة أنها تنطق بالقول الفصل في هذا الميدان، بل هي ليست أكثر من محاولة جادّة يحدوها الإخلاص للوصول إلى مفهوم دقيق لهذا المصطلح؛ فإن أصبت فبفضل الله ومنته وتوفيقه، وإن كانت الأخرى، فحسبي أنني اجتهدت، ومبلغ نفسٍ عذرها مثل منجح، وفوق كل ذي علم عليم.
مفهوم التحريف في معاجم اللغة:
يأخذ التحريف في معاجم اللغة معنى التغيير[1] والميل بالكلمة عن معناها، قال الخليل: ((والتحريف في القرآن تغيير الكلمة عن معناها... وتحرف فلان عن فلانٍ وانحرف واحرورف: أي مال))[2].
وأصَّل ابن فارس الكلمة فجعلها تعني حدَّ الشيء، والعدولَ، وتقدير الشيء. وأراد بالعدولِ: الانحراف عن الشيء، يقال: انحرفَ عنه ينحرف انحرافاً، وحرفته أنا عنه، أي عدلتُ به عنه، ولذلك يقال: مُحَارَف، وذلك إذا حُورف كَسبه فمِيل به عنه، وذلك كتحريف الكلام وهو عدله عن جهته[3].(/1)
ويبدو أن الأصل في هذه الكلمة الدلالة على المحسوس، فالأصل فيها من تحريف القلم، إذا عُدل بأحد طرفيه عن الآخر، ثم انتقلت فيما بعد إلى المجرَّد، قال الجَوهريُّ: ((وتحريف القلم: قَطّه مُحَرفاً))[4]. وقال الزمخشري أيضاً متدرِّجاً بالدلالة من المحسوس إلى المعنوي: ((انحرفَ عنه، وتحرَّف، وحرَّف القلمَ، وقلم محرف، وحرَّف الكَلِمَ))[5].
وجاء في (تاج العروس): ((حرَّف الشيء عن وجهه: صَرَفه... والتحريف: التغييرُ والتبديل... وهو في القرآن: تغيير الحرف عن معناه والكلمة عن معناها. وقول أبي هريرة: آمنت بمُحرِّف القلوب، أي بمصرِّفها، أو مميلها، أو مزيلها... والتحريف: قطّ القلم محرّفا، يقال: قلمُ محرّف، إذا عُدِلَ بأحد طرفيه عن الآخرِ))[6].
فأصحاب المعاجم يذكرون للتحريف عدة معان، وهي: التغيير، والتبديل، والصرف، والميل، والإزالة. ويمكن توجيه هذه المعاني كلها إلى معنى التغيير والتبديل، فصرف الشيء عن وجهه تغيير له، وكذلك إزالته والميل به.
ونلاحظ من جهة ثانية أن لا علاقة للتحريف بهيئة الكلمة، وإنما هو تغيير يتناول دلالتها فحسب. فهو بخلاف التصحيف الذي هو تغيير في هيئة الكلمة، سواء أكان ذلك عن طريق النقط، أو الرسم، أو الحركة.
مفهوم التحريف اصطلاحاً:
يعرف الشريف الجرجاني التحريف بأنه تغيير في اللفظ من غير المعنى[7]، ولم يقل أحد بذلك، إلا ما نقل عن القرطبي الذي فسر الفعل (يُحرِّفون) بما فسره غيره من أنه التغيير في المعنى، ثم زاد عليه قوله: ((... وقيل: معناه يبدلون حروفه))[8].
وذكر التهانوي للتحريف ثلاثة تعريفات، أولها: في اللغة، وهو تغيير الشيء عن موضعه. وثانيها: عند المحدِّثين فجعل بعضهم التصحيف هو التحريف نفسه، وفرَّق بعضهم بين المصطلحين، وثالثهما: عند القراء، وهو تغيير ألفاظ القرآن لمراعاة الصوت[9].(/2)
فالشريف الجرجاني يجعل مفهوم التحريف مناقضاً لدلالته في معاجم اللغة، وبتّ الصلة بين مفهومه اللغوي ومفهومه الاصطلاحي. أما التهانوي فيجعل التعريف عاماً شاملاً، ثم يضيق النطاق قليلاً فيذكر تعريف المحدثين له، ويردف تعريفاً جديداً لم يذكر من قبل، وهو تعريفه عند القراء، ولعل هذا التعريف خاص بعلماء التجويد.
ويظهر من الأمر أن التحريف لدى اللغويين عمدته التفسير لما ورد في آيات القرآن الكريم، فانصرف المعنى لديهم إلى التغيير الدلالي، أما أصحاب كتب الاصطلاح المتأثرون بالفقهاء والمحدثين، فتواضعوا على دلالة أخرى للكلمة، وعنوا بها حين ترد لديهم تغيير اللفظ لا المعنى.
مفهوم التحريف عند المؤلفين في هذا الفن:
لم يرد مصطلح التحريف لدى كل من حمزة الأصفهاني (ت360هـ)، وعلي بن حمزة الأصفهاني (ت376هـ)، واقتصر الأول منهما على التصحيف الذي وقفنا مطولاً عنده في الصفحات السابقة، إذ كان أكثر ما يريد به التغيير الحاصل في هيئة الكلمة. واقتصر الثاني على استخدام مصطلح التصحيف على نحو ما هو معروف لدى حمزة، إلا أنه أطلق على مصطلح التغير في الدلالة مصطلح (الغلط).
وورد مصطلح التحريف عند أبي أحمد العسكري ابتداء من عنوان كتابه (شرح ما يقع فيه التصحيف والتحريف). وهو يريد بالتحريف التصحيف، وإبدال الكلمة بأخرى، أي تغيير الرواية.
قال: ((شرحتُ في كتابي هذا الألفاظ والأسماء المشكلة التي تتشابه في صورة الخط فيقع فيها التصحيف ويدخلها التحريف))[10]. فهو يجعل للتصحيف والتحريف سبباً رئيسياً واحداً، وهو التشابه في الخط، ومعنى قوله: ((فيقع فيها التصحيف)): أي يقع فيها تغير بصورة ما، ويدخلها التحريف، أي يبدل معناها.
ومن أمثلته على التحريف قوله: ((أنشد أحدهم قول ابن أحمر الباهلي الذي يوصي فيه امرأته بألا تنكح من بعده رجلاً مطروقاً ضعيفاً مسترخياً، يطرقه كل أحد لضعفه:
فلا تصلي بمطروق إذا ما سرى بالقوم أصبح مستكينا(/3)
فلفته الفرزدق إلى خطئه وقال له: إذا كان يسري بالقوم، أي يسيِّرهم ليلاً ويقودهم فليس بمطروق، وإنما هو: (إذا ما سرى في الحي)، ومراد الشاعر: إن هلكت وصرت إلى أن تتزوجي غيري فلا تنكحي رجلاً ضعيفاً إذا ما سار ليلاً في الحي أصبح مسترخياً... وهذا من التحريف لا من التصحيف))[11].
فالتحريف واقع هنا في قوله: (في الحي) التي غيرت إلى (بالقوم).
مفهوم التحريف عند علماء الحديث:
انتفى مصطلح ((التحريف)) عند ابن الصلاح (ت643هـ) واقتصر على استخدام مصطلح ((التصحيف)). ولعل ذلك ما يؤكد أن المصطلح طارئ على علوم الحديث[12]، وأن التصحيف والتحريف كانا يندرجان تحت مصطلح ((التصحيف))، فحسب.. وقد أورد أمثلة على التصحيف اللفظي والتصحيف المعنوي، ويفهم من أمثلته على التصحيف المعنوي أنه ما أصبح يطلق عليه اسم التحريف فيما بعد.
وأطلق ابن حجر (ت852هـ) التصحيف على ما كان فيه تغيير في النقط كما رأينا سابقاً، وأطلق مصطلح ((التحريف)) على ما كان فيه تغيير في الشكل، فقال: ((إن كانت المخالفة بتغيير حرف أو حروف مع بقاء صورة الخط في السياق، فإن كان ذلك بالنسبة إلى النقط فالمصحّف[13]، وإن كان بالنسبة إلى الشكل فالمحرّف))، وهذا يعني أن التحريف لديه ينصب على اللفظ لا المعنى.
وكذلك الأمر لدى السيوطي الذي نظر إلى أن التحريف هو التغير الحاصل في شكل الكلمة بتقديم أو تأخير، ولا يراد به ما غيّرت أحرفه تغييراً كاملاً، قال في ألفيته:
فما يغير نقطه مُصَحَّفٌ أو شَكْلُه، لا أحرفٌ مَحَرَّفُ[14]
ومن هنا يمكن الانتهاء إلى نتيجة مفادها أن المتقدمين كانوا يجعلون التصحيف والتحريف نوعاً واحداً، فيسمون أحدهما باسم الآخر، وأن مصطلح ((التحريف)) مصطلح جديد طارئ في علوم الحديث[15]، وأن وجوده في ميدان اللغة والأدب أسبق منه في ميدان الحديث.
مفهوم التحريف عند السلامي:(/4)
إن ما يلفت النظر في كتاب ((التنبيه)) أن المصنّف لم يصرح بمصطلح ((التحريف)) إلا في موضعين، أما الأول فهو قوله: في مقدمة كتابه: ((فجردتُ منه الألفاظ التي وقع فيها السهو والتحريف، والغلط والتصحيف))[16]. وأما الثاني فهو قوله: ((وهذا خطأ في التفسير وتحريف للمعنى)).
ومراد السلامي من هذا المصطلح الخطأ الدلالي، سواء أوقع في تفسير ألفاظ الحديث الشريف، أم في تفسير آيات القرآن الكريم. وربما سمي التحريف خطأ في التفسير.
فمن أمثلته في الحديث النبوي تفسير الهروي لكلمة (المَلَّةِ) الواردة في قوله صلى الله عليه وسلم مجيباً الذي سأله عن أقربائه الذين يصلهم ويقطعونه: ((فكأنَّما تَسفي في وجوههم المَلّة)). وفسر الهروي (المَلَّةَ) بالتراب المحمي فرد السلامي هذا التفسير فقال: وهذا خطأ، وإنما هي الرماد الحارُّ))[17].
ومنه أيضاً تفسير الهروي لكلمة (المُفاوضة) الواردة في سؤال معاوية لدغفل: بم ضبطتَ ما أرى، فقال دغفل: بمفاوضة العلماء. ففسرها أبو عبيد بأنها (المساواة)، فردَّ السلامي هذا التفسير أيضاً، فقال: ((وهذا التفسير خطأ، لأنَّ المفاوضة للعلماء ليست المساواة لهم، وإنما المفاوضة هي المخالطة والمذاكرة والمباحثة بالعلم حتى يصير عالماً. فأما المساواة فلا معنى في هذا، إذ لو ساواهم في العلم والحفظ لما كان لقوله (بمفاوضة العلماء) معنى، إذ هو مثلهم))[18].
ومنه أيضاً تفسير الهروي لكلمة (النقيعة)، فقد فسَّرها بأنها الطعام الذي يصنع عند الإملاك، وقد رد السلامي هذا التفسير فقال: ((قوله: النقيعة التي تُصنَعَ عند الإملاك خطأ ولا نعرف ذلك في اللغة. وإنما النقيعة الطعام الذي يُصْنَعَ للقادم من السفر))[19]. وعوّل السلامي في هذا المعنى على ابن السكيت في كتابه (إصلاح المنطق) وابن قتيبة في (أدب الكاتب)، والذي ينقله ابن السكيت هو ما جاء به الهروي.(/5)
وأما التحريف في معاني الآيات، فمن أمثلته ما فسر به الهروي قوله تعالى: {واسجد واقترب}، فقد جعل الخِطاب في (اسجد) للنبي صلى الله عليه وسلم، وفي (اقتربْ) لأبي جهل[20]. ورد السلامي هذا التفسير وخطأ الهروي فيه، وبين أن هذا التفسير لمن ينقل عن واحد من أئمة هذا الشأن، قال: ((... وقوله: اقتربْ يا أبا جهل، خطأ منه في تفسير القرآن ومعانيه، وما بلغني ذلك عن واحد من العلماء ولا عرفته عن صحابي ولا تابعي في الكتب التي قرأت وسمعت من تفسير القرآن ومعانيه))[21].
وفسر الهروي قوله تعالى: {وهم ينهون عنه ويَنأونَ عنه} فقال: ((أي ينهون الناس ويتباعدون عنه)). فخطأه السلامي بقوله: ((وهذا تفسير لم ينقل عن أحد ممن ذكر عنه التفسير من أهل العلم ولا سمعنا به إلا في كتابه، وهو غير صحيح ولا يليق بمعنى الآية. فإن المفسرين للقرآن مجمعون كلهم على أن الآية نزلت في حق أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه كان ينهى الكفار عن أذى النبي صلى الله عليه وسلم)).
ومنه أيضاً أن الهروي فسر كلمة (عزّا) في قوله تعالى: {ليكونوا لهم عِزا}، فقال: ((أي أعواناً وَمَنعة، يعني أولاداً))[22]. ورد السلامي هذا التفسير فقال: ((وهذا خطأ والصواب: يعني الأنداد)).
وبعد أن وقفنا هذه الوقفة المطولة عند مفهوم التصحيف في معاجم اللغة وكتب الاصطلاح من جهة، وعند المؤلفين في هذا الباب من جهة ثانية، وعند علماء الحديث عامة وفي كتاب ((التنبيه)) خاصة، يحسن أن نختم هذا الفصل ببيان نتائجهما:
نتائج التصحيف والتحريف:
مما لا شك فيه أن للتصحيف والتحريف أثراً ظاهراً في المقروء والمكتوب معاً، ويمكن حصر آثارهما في تغيير الحقائق التاريخية، وتغيير الأحكام الفقهية، والتخليط في أسماء الرجال، والتغيير الدلالي. وفيما يأتي تفصيل ذلك:
1 – التغيير في الحقائق التاريخية وأسماء الرجال:(/6)
ونجد ذلك في موضعين من الكتاب، أما الأول فهو قوله: ((ومن ذلك أنه ذكر في أول حرف السين مع الهمزة، قال: فأخذ جبريل عليه السلام بحلقي فسأَبني، أي خنقني))[23].
وقد وقع في هذا الحديث إبدال كلمة (المَوْلد) بكلمة (المَبْعث)، مما أدى إلى تغير حقيقة تاريخية في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم. ودليل السلامي على نقص هذه الرواية حقائق التاريخ والسيرة، فالنبي صلى الله عليه وسلم في المولد لم يكن مكلفاً، ولم يؤمر بشيء، وإنما كان هذا في أول ما جاءه جبريل عليه السلام في بداية البعثة[24].
وأما الثاني فهو رواية الهروي لحديث أبي بكر، رضي الله عنه: ((نَظَرْتُ يوم بَدْر إلى حلقة درع قد نَشِبَتْ في جبين رسول الله صلى الله عليه وسلم))[25]، فقوله: ((يوم بَدْر)) خطأ وتغير لرواية الحديث، قال السلامي: ((وإنما كان هذا في يوم (أحُدٍ) لا يوم بَدْر، لأنه صلى الله عليه وسلم يوم (أحُد) لبس لامَته وباشر القتال، فناله ذلك لما اختلط المسلمون واشتغلوا بأخذ أموال المشركين، وكرَّ المشركون بعد انهزامهم، وصاح الشيطان: قُتل محمد))[26].
2 – التخليط في أسماء الرجال:
وذلك في ثمانية مواضع من الكتاب[27]، منها قوله: ((ومن ذلك ذكر باب الفاء والقاف، قال: وقال الوليد ابن عبدالملك: أفقر بعد مَسْلَمة الصيدُ... وقد أخطأ في قوله: (الوليد بن عبدالملك)، لأن الوليد كان أخا مَسلمة، وكان قد مات قبل مسلمة بسنين كثيرة... وإنما هذا قول يزيد بن عبدالملك أخي مسلمة، وكان قد ولي الأمر بعد هشام بن عبدالملك، ومات في أيام هشام أخوه مسلمة))[28].
وأورد الهروي خبراً مفاده أن ابن عمر ركب ناقة فارهة فمشت به مشياً جيداً، فقال:
كأن راكبها غصن بمروحة إذا تدلت به أو راكب ثَمِلُ
فرد السلامي على تغيير الهروي في اسم القائل، فقال: ((قوله: ابن عمر خطأ، وإنما هو عمر بن الخطاب، لا ابنه))[29].(/7)
ومنه أيضاً أن الهروي قال في شرحه كلمة (صاف): ((ومنه الحديث الآخر: صافَ أبو بكر عن أبي بُرْدَة، بدال))[30]. فصحح السلامي الرواية فقال: ((عن أبي بَرْزَة الأسلمي بزاي وفتح الباء... وقد صحفه المصنف، واسم أبي بَرزة: نَضْلةُ بن عُبيد، وأبو بُرْدة فجماعة من الصحابة))[31].
فواضح مما تقدم أن التصحيف نجم عنه تخليط بين شخصيات تاريخية مشهورة، وبين أسماء مجموعة من الصحابة.
3 – التغيير في الحكم الفقهي:
ونقع عليه في أربعة مواضع من الكتاب[32]، منها أن الهروي قال: ((وفي الحديث: لينتهين الناس عن ودعهم الجمعات...))[33]، وهذه الرواية بهذه الصيغة تؤدي إلى تغيير حكم فقهي، فيصبح – وفق هذه الرواية – من واجب الحاكم أن يقاتل الناس جميعاً. والصواب في رواية الحديث: ((لينتهين أقوامٌ)) بصيغة الجمع المنكّر الذي يفيد التقليل، إذ ((لو فعل المسلمون كلهم ذلك لوجب على الإمام قتالهم))[34].
ومنه أيضاً الحديث الذي رواه الهروي من أن النبي صلى الله عليه وسلم ((نهى أن يجلس على الولايا أي البراذع)). والصواب في رواية الحديث أنه ((نهى أن يصلى على الولايا))، وهي البَراذعِ التي تلقى على ظهر الدواب، خشية أن ينالها دم أو قيح من عقور ظهورها))[35].
4 – التغير الدلالي:
وهو الأكثر ظهوراً في الكتاب، والأمثلة عليه كثيرة، من ذلك ما رواه الهروي في حديث أبي بكر أنه قال: ((ثم رَكبت أنفي، أي ضَربت))، فغير لفظ (أنفه) إلى (أنفي) بإضافة الأنف إلى الضمير فأصبح المعنى هذه الرواية محالاً، فلا يمكن للإنسان أن يضرب أنفه بركبته وهو قائم، وهذا ما قال به السلامي[36].
ومنه أيضاً رواية الهروي بيتاً من الشعر مصحفاً وهو قول الشاعر:
......................... بأعوادِ رَنْدٍ، أو ألاوِية شُهْرا
فقد رواه الهروي بالهاء فصحفه وغير دلالته، فصحح السلامي روايته إلى (شُقْرا) مستنداً في ذلك إلى دليل معنوي وهو أنَّ العود لونه أشقر[37].(/8)
نستنتج مما تقدم أن التحريف يراد به تغيير الكلمة والميل بها عن معناها إلى معنى آخر، وأن المتقدمين كانوا يسوون بين المصطلحين، أعني مصطلحي التصحيف والتحريف، ويظهر لنا من ناحية أخرى أن مصطلح التحريف مصطلح طارئ في علوم الحديث، وأن مراد السلامي من هذا المصطلح في كتابه ((التنبيه)) هو الخطأ الدلالي سواء أوقع ذلك في تفسير آيات من القرآن الكريم أو ألفاظ الحديث النبوي الشريف.
ـــــــــــــــــــــــ
[1] الصحاح (حرف).
[2] العين (حرف) 4: 210.
[3] مقاييس اللغة (حرف).
[4] الصحاح، والأساس (حرف).
[5] الأساس (حرف).
[6] تاج العروس (حرف).
[7] التعريفات: 60.
[8] تفسير القرطبي: 6: 115.
[9] كشاف اصطلاحات الفنون: 2: 77.
[10] شرح ما يقع فيه التصحيف والتحريف: 174-175.
[11] المصدر السابق: 94.
[12] حاشية الشيخ أحمد محمد شاكر على ألفية الحديث للسيوطي: 174.
[13] نخبة الفكر: 32، وتدريب الراوي: 386، وألفية الحديث السيوطي: 174.
[14] ألفية الحديث للسيوطي: 174.
[15] المصدر السابق.
[16] التنبيه: 68/ب.
[17] المصدر السابق: 63/أ.
[18] المصدر السابق: 63/أ.
[19] المصدر السابق: 75/أ.
[20] المصدر السابق: 55/أ.
[21] السابق نفسه.
[22] التنبيه: 68/أ، وينظر: الكشاف 2: 9، والبحر المحيط 2: 99.
[23] التنبيه: 24/أ.
[24] نفسه.
[25] المصدر السابق: 19/ب.
[26] نفسه.
[27] التنبيه: 26/أ، 23/أ، 38/ب، 51/ب، 65/ب، 76ب، 78/ب.
[28] التنبيه: 51/ب.
[29] التنبيه: 23/ب.
[30] التنبيه: 54/أ.
[31] التنبيه: 54/أ.
[32] التنبيه: 20/ب، 64/أ، 73/ب، 75/ب.
[33] التنبيه: 74/أ.
[34] التنبيه: 75/ب.
[35] التنبيه: 75/ب.
[36] ومنه في تفسير آيات من القرآن ما جاء في: 55/أ، 68/ب، والأمثلة على ذلك كثيرة.
[37] التنبيه: 21/أ.(/9)
العنوان: مفهوم الثقافة الإسلامية
رقم المقالة: 965
صاحب المقالة: د. ناصر بن عبدالرحمن اليحيى
-----------------------------------------
مفهوم الثقافة الإسلامية[1]
نشأ مصطلح الثقافة الإسلامية في العصر الحديث، ومر بتطورات فرضت واقعها على المفهوم. هذا الواقع أنتج اتجاهات؛ كل واحد منها صاغ مفهوما يعكس تصوره للثقافة الإسلامية. ومن أوائل من كتب في هذا الموضوع د.رجب سعيد شهوان في كتاب بعنوان "دراسات في الثقافة الإسلامية"، وقد حاول هو ومن شاركه في التأليف التنظير لمفهوم الثقافة الإسلامية بطريقة أقرب إلى التجريدية منها إلى الواقعية من الناحية الإجرائية التي انطلقوا منها في تعريف الثقافة الإسلامية، فعلى سبيل المثال قاموا باستنباط ثلاثة اتجاهات لواقع الثقافة الإسلامية وهذا شيء جيد، ولكن يلحظ أن تعريف الثقافة الإسلامية لكل اتجاه لم يصدر عن أصحاب الاتجاه نفسه، بل يبدو من تشابه صياغة التعريفات في كل الاتجاهات أن واضعه واحد أو مجموعة، حاولت أن تتمثل كل اتجاه، وتضع له تعريفا، والمنهج العلمي يقتضي أن يضع التعريف المتخصص في الفن نفسه، المدرك لجوهره، والملم بأبعاده وموضوعاته...الخ؛ حتى يخرج التعريف جامعا مانعا؛ لذا أجد أن بعض التعريفات لم ترق إلى المستوى الذي يعرف بالاتجاه تعريفاً دقيقاً.
الاتجاهات في تعريف الثقافة الإسلامية[2]:
ذكر د. رجب سعيد شهوان ثلاثة اتجاهات في تعريف الثقافة الإسلامية وهي:
الاتجاه الأول: يرى أن الثقافة الإسلامية مصطلح يعبر عن حياة الأمة الإسلامية، وهويتها الدينية والحضارية، وقد عرفت الثقافة الإسلامية على هذا الأساس بأنها: "معرفة مقومات الأمة الإسلامية العامة، بتفاعلاتها في الماضي والحاضر؛ من دين، ولغة، وتاريخ، وحضارة، وقيم، وأهداف مشتركة".(/1)
الاتجاه الثاني: يرى أن الثقافة الإسلامية مصطلح يعبر عن مجموع العلوم الإسلامية الصرفة أو الشرعية، وقد عرفت الثقافة الإسلامية على هذا الأساس بأنها: "معرفة مقومات الدين الإسلامي، بتفاعلاتها في الماضي والحاضر والمصادر التي استقيت منها هذه المقومات".
الاتجاه الثالث: يرى أن الثقافة الإسلامية مصطلح يعبر عن علم جديد، يضاف إلى العلوم الإسلامية، وهو علم ظهر نتيجة التحديات المعاصرة للإسلام، والأمة الإسلامية، وقد عرفت الثقافة الإسلامية على هذا الأساس بأنها: "معرفة التحديات المعاصرة، المتعلقة بمقومات الأمة الإسلامية، ومقومات الدين الإسلامي".
بعد هذا العرض المجمل لهذه الاتجاهات وتعريفاتها لعل القارئ يوافقني- فيما أشرت إليه سابقا- من أن هذه التعريفات لم تصدر عن أصحاب الاتجاهات نفسها، وإنما حاول تمثلها من اشترك في تأليف الكتاب الذي وردت فيه.
بعد هذه الدراسة، ظهرت دراستان أكثر جدية وموضوعية، اهتمتا بمصطلح الثقافة الإسلامية، على أساس أنه يعبر عن علم جديد اسما، قديم موضوعا وتأليفا، هاتان الدراستان حاولتا جاهدين التنظير للعلم تعريفا وتقسيما على أساس أن الثقافة الإسلامية علم معياري مثله مثل علمي العقيدة والفقه. أولى الدراستين كان رائدها أ.د. عبد الرحمن الزنيدي، حيث كتب بحثا بعنوان "مدخل إلى علم الثقافة الإسلامية"، عرف فيه الثقافة الإسلامية بأنها: "علم كليات الإسلام، في نظم الحياة كلها، بترابطها[3]"، وقد حلل التعريف؛ بذكر محترزاته، بحيث خرج إلى حد كبير جامعا لموضوعات العلم، مانعا من تداخله مع التخصصات (العلوم) الأخرى.(/2)
الدراسة الثانية هي نتاج عمل جماعي، لمجموعة من الأساتذة المختصين في علم الثقافة الإسلامية، بقسم الثقافة الإسلامية، في كلية الشريعة، بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، هذا العمل خرج في كتاب تنظيري لعلم الثقافة الإسلامية يحمل عنوان "الثقافة الإسلامية - تخصصا ومادة وقسما علميا"، عرفت الثقافة الإسلامية فيه بأنها: "العلم بمنهاج الإسلام الشمولي في القيم والنظم والفكر ونقد التراث الإنساني فيها"[4]، وقد قامت هذه الدراسة مثل سابقتها بتحليل التعريف من خلال ذكر محترزاته؛ فخرج المفهوم منضبطا ودقيقا، وأجمع من سابقه؛ وهذا يتضح من خلال المقارنة بين التعريفين بشأن ما أجمعت عليه كلتا الدراستين بخصوص منهج علم الثقافة الإسلامية، الذي تحدد فيه وظائف العلم؛ فالأول اقتصرت عبارته على إظهار علم الثقافة الإسلامية بأنه علم تأصيلي[5]، بينما الثاني اشتمل على الجانب التأصيلي، والنقدي للتراث الإنساني.
كما ألحظ أن الدراسة الأولى، حاولت جاهدة، في التنظير لمفهوم مصطلح الثقافة الإسلامية، أن تربط مفهوم الثقافة الإسلامية بوصفها علما، بمفهوم علم الثقافة، الذي وضع كاتب الدراسة نفسه تعريفا له بأنه: "العلم الذي يبحث كليات الدين في مختلف شئون الحياة"[6]، منطلقا من فهمه، بأن مصطلح الثقافة في الفكر الغربي يعني النظام الكلي في المعرفة، والدين، والأدب، والفن، والأخلاق، والقانون، والتقاليد؛ هذا المنهج حتما يصور للقارئ أن علم الثقافة الإسلامية منهجيا مبني على مفهوم علم الثقافة.(/3)
وبالتحقيق في الدراسة؛ أجد أن مفهوم علم الثقافة الإسلامية، وفقا لتصور أ.د. عبد الرحمن الزنيدي، إنما بني على تصور جزئي لمفهوم الثقافة في الفكر الغربي، وليس لمفهوم علم الثقافة، وأقرب تعريف للتصور الذي خرج به، وبنى عليه؛ هو تعريف إدوارد تيلور للثقافة بوصفها أسلوب حياة، وليس علما، حيث قال: الثقافة هي: "ذلك الكل المعقد الذي يتضمن المعرفة والعقيدة والفن والأخلاق والقانون والعرف والعادة وكل المقومات الأخرى التي يكتسبها الإنسان كعضو في المجتمع"[7].
أما علم الثقافة في الفكر الغربي فأول من عرفه هو فلهلم أوزفالد حيث عرفه بأنه: "الدراسة العلمية التفسيرية للظواهر الثقافية"[8]. لذا ألحظ فرقا شاسعا بين تعريف الثقافة بوصفها علما عند أ.د. عبد الرحمن الزنيدي الذي بنى عليه تعريف علم الثقافة الإسلامية، وبين تعريف علم الثقافة في الفكر الغربي؛ حيث بدا جليا، أن تصور أ.د. عبد الرحمن الزنيدي لعلم الثقافة؛ مقتصر على كليات الدين، ولم يقل بذلك أحد ممن سبقه لا في الفكر الغربي - الذي سبق في التنظير لعلم الثقافة - ولا في الفكر الإسلامي. ومن الممكن عزو هذا التصور لدى أ.د. عبد الرحمن الزنيدي إلى عدد من الأسباب؛ منها:
1- اقتصاره على مفهوم الثقافة بوصفها أسلوب حياة في الفكر الغربي بينما الأولى اعتماده على مفهوم الثقافة بوصفها علما.
2- تأثره بمفهوم الأيدولوجيا في الفكر الغربي حيث عرفت على أنها: "الأصول العامة في الوجود والإنسان ونظم الحياة المختلفة سواء كانت عقدية أو سلوك أو اجتماعية" الذي اعتبرها أ.د. عبد الرحمن الزنيدي مصطلحا على أقل تقدير يتقاطع تقاطعا كبيرا، إن لم يتماثل مع مصطلح الثقافة بوصفها علما، وفق تعريفه هو، وبالمقارنة بين مصطلح الأيدولوجيا، وبين مصطلح علم الثقافة في الفكر الغربي من حيث التعريفين السابقين نلحظ البون الشاسع بينهما.(/4)
3- واقع منهج الثقافة الإسلامية، المطبق في قسم الثقافة الإسلامية، منذ تأسيسه بكلية الشريعة، بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية وغيره من الأقسام المناظرة، في بعض الجامعات والكليات؛ حيث صورت الثقافة الإسلامية، من خلال مقرراتها الجامعية، على أنها تدرس الإسلام عقيدة؛ وقيما؛ ونظما؛ و فكرا؛ بصورة كلية شمولية، يركز فيها على الأصول العامة، التي تبنى عليها تلك العناصر.
إضافة إلى ذلك، فإن مفهوم علم الثقافة الإسلامية- كما عرف سابقا-؛ إنما هو انعكاس لواقع حالة عاشتها الأمة الإسلامية، في بداية صراعها مع القوميات والنزعات التحررية -وبقي هذا المفهوم مراوحا مكانه-، ولم ينطلق من تاريخ المصطلح نفسه.
وفي الحقيقة إن الثقافة هي نتاج مجتمع، من خلال فهمه، والأفهام تختلف باختلاف المجتمعات وبيئاتها، والأمة الإسلامية لم تعد مجتمعا واحدا، بل مجتمعات، تنوعت أفهمها؛ بناء على تنوع مذاهبها العقدية، والفقهية؛ وبناء على ذلك تنوعت ثقافاتها التي هي انعكاس لأساليب حياتها الفكرية والاجتماعية، فمن الصعب جمع الأمة الإسلامية على ثقافة واحدة، وإن توحدت على ثوابت معينة، فإنها تختلف فيما بينها في تفسير كثير من النصوص التي تبنى عليه أسلوب حياتها؛ لذا أرى أن التعريف المعياري لعلم الثقافة الإسلامية يبقى تجريديا.
وبناء على ما سبق؛ أقترح تطوير مفهوم علم الثقافة الإسلامية، بحيث يتحول من كونه علما معياريا-الذي أوقعه في كثير من الإشكاليات مع بعض التخصصات الشرعية والإنسانية-، إلى كونه علما تفسيريا، يستمد مفهومه من تاريخ علم الثقافة نفسه، وفق التعريف الغربي السابق، بحيث يمكن تعريفه على أنه"علم تفسير الظواهر الثقافية في المجتمع الإسلامي"، وبهذا يتحرر من إشكالية الالتباس بغيره من التخصصات المشار إليها أولا، وينطلق من تاريخ علمي للمصطلح نفسه ثاني،(/5)
وكذلك يختص بدراسة الظواهر الثقافية العامة والخاصة، الإيجابية والسلبية بخاصة، التي تعج بها المجتمعات الإسلامية في هذا العصر؛ بسبب الإفراط والتفريط (التعصب والتساهل)، ولعل من أبرزها ظاهرة التطرف أو ما يسمى بالإرهاب، وظاهرة الانهزامية، والتغريب وغيرها من الظواهر، التي تحتاج إلى دراسة علمية، متخصصة، تفسر هذه الظواهر؛ بدعا بمفهومها وأسبابها، وانتهاء بعلاجها، وقس على ذلك الظواهر الثقافية الخاصة بكل مجتمع من المجتمعات الإسلامية. وهذا الاقتراح- الذي يعتبر مشروعا- يحتاج تفعيله مؤسسة علمية، أو إلى فريق عمل، مقتنع بالفكرة، يحدد مفهوم الظاهرة الثقافية، والآليات المنهجية، التي من خلالها تتم دراسة الظاهرة وتفسيرها.
ـــــــــــــــــــــــــ
[1] ورقة عمل مقدمة في ندوة مقررات الثقافة الإسلامية بين واقعها والمتغيرات والمنعقدة في رحاب كلية التربية بجامعة الملك فيصل في المملكة العربية السعودية.
[2] انظر "دراسات في الثقافة الإسلامية"، د. رجب سعيد شهوان وآخرون، ص11-12.
[3] "مدخل إلى علم الثقافة الإسلامية" مجلة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، عدد2،محرم 1410هـ ص89.
[4] "الثقافة الإسلامية - تخصصا ومادة وقسما علميا"ص13.
[5] بالرغم من أن الدراسة ذكرت في موضوع منهج علم الثقافة الإسلامية الجانب النقدي، ومن ضمن موضوعاته المذاهب والنظريات الحديثة، إلا أن هذا لم يظهر في التعريف. انظر"مدخل إلى علم الثقافة الإسلامية" مجلة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية،عدد2،محرم 1410هـ ص96، 98.
[6] المصدر السابق ص89.
[7] "قاموس علم الاجتماع" د. محمد عاطف غيث مادة"ثقافة".
[8] المصدر السابق، مادة "علم الثقافة".(/6)
العنوان: مفهوم الشعر بين التجديد والتبديد
رقم المقالة: 976
صاحب المقالة: د. وليد قصّاب
-----------------------------------------
إنَّ العربَ عندما عَرَّفوا الشِّعرَ بأنَّه "الكلامُ الموزونُ المُقَفَّى، الدَّالُّ على معنى" - لم يَعْنِ ذلك أبداً أنَّهم أهملوا بقيَّة عناصره؛ كالخيال، والعاطفة، والتَّشْكيل اللُّغوي المتميِّز، ولكنَّهم كانوا يشيرون إلى أنَّ أبْرَزَ ما يميِّز الشِّعرَ منَ النَّثْر خارجيّاً هو الوزن، وذلك أنَّ سائرَ العناصر الأخرى يمكنُ أن يَشْرَكَهُ فيها النَّثْر، وقد يتفوَّقُ عليه فيها!
وإذا كان التُّراثُ النقديُّ عند العرب قد فَطِنَ إلى أنَّ الشِّعر ليسَ كلاماً موزوناً فحسب، فإنَّه في الوقت نفسِه لم يُسمِّ أيَّ كلام - مهما كانت خصائصُه الجماليَّةُ رفيعةً - شِعْراً، إذا خلا من الوزن.
وقد ميَّز العربُ – في إطار الشِّعْر – بين ضَرْبَين: ضَرْب استوفى الوزن، وخانتْهُ العناصرُ الجماليَّة الأخرى، وضَرْبٌ استوفاهما معاً؛ فالثَّاني هو الشِّعْرُ الحقيقيُّ المعتَبَرُ، والأوَّلُ شِعْرٌ رديءٌ، وقد سمَّوهُ أحياناً باسم (النَّظْم) ليَمِيزُوهُ من الثَّاني.
ومضى الشُّعراءُ العربُ يجدِّدون في أوزان الشِّعْر، كما كانوا يجدِّدون في عناصره الأخرى، ولكن بقيَ الوزنُ – على تنوُّعٍ في صُوَره – هو العلامةَ الفارِقةَ بين الشِّعْر والنَّثْر، وظلَّتْ قَسَماتُ وَجْه كلٍّ منهما جليَّةً لا تخطِئها العَيْنُ.(/1)
ونَصِلُ إلى العصر الحديث؛ فتقوى مَوْجاتُ التَّجديد، ممتزجةً بالتَّغْريب، وتولِّدُ في خمسينيات القرن الماضي قصيدةَ (الشِّعرِ الحُرِّ)، معتمدةً على وَحْدَة التَّفْعيلَة وزناً، وتَضِيقُ الآفاقُ الرَّحْبَةُ بالعَرُوض العربيِّ شيئاً فشيئاً، حتى أصبح الشِّعْرُ الحديثُ يقوم اليومَ - عند مَنْ يعرفون الوزن أصلاً ويلتزمونَهُ – على تفعيلاتٍ معيَّنةٍ، لا تكاد تُجاوِز أصابعَ اليَدِ الواحدة، ويَفْشُو الخطأُ والكَسْرُ في استعمال الأوزان بصورةٍ لافتةٍ للنَّظَر، وتبدأ ملامحُه المتميِّزة في الضُّمور شيئاً فشيئاً، ويبدأُ الهجومُ على الشِّعْر العربيِّ التُّراثِيِّ، وعلى عَرُوضِهِ الخَلِيلِيِّ، فيُتَّهمُ بالعَجْز والجُمُود وعدم القُدْرة على مُجارَاة العصر؛ بل يروِّج فكرةَ أنَّ القصيدة العموديَّة قد انقرضتْ!
ويأخذُ أصحابُ الحَدَاثَة الهَجِينَة في تَمْيِيعِ مفهوم الشِّعْر، ونَسْفِ المعايير الضَّابطة له؛ فيتحدَّثُ قومٌ عن صَهْر الأجناس الأدبيَّة كلِّها في نوعٍ واحدٍ هو الكتابةُ، وتَسمعُ مَنْ يقولُ لكَ: "إنَّ الشِّعْرَ لا عَلاقَةَ له بالوزن أو الموسيقا، وإِنَّه (رؤيةٌ)".
وآخرُ يقولُ لكَ: "إنَّ الشِّعْرَ ليس نوْعاً أدبيّاً؛ بل هو حالةٌ فكريَّةٌ ورُوحيَّةٌ، تشملُ - حين تتوسَّع - لا الشِّعْرَ كفَنٍّ أدبيٍّ فحسب؛ بل فنونَ التَّعبير وطرائقَ الحياة..". وغيرَ ذلكَ من الكلام الزِّئْبَقِيِّ الرَّجْرَاج، الذي لا يكادُ يحملُ دَلالةً مفهومةًَ.
وفي ظِلِّ هذا الكَسْر للمعايير تولد بِدْعَةُ ما دُعيَ (قصيدةَ النَّثْر)، التي لم تَكْتَفِ برفض الشِّعْرِ العربيِّ التُّراثيِّ؛ بل برفضِ قصيدةِ (الشِّعْرِ الحُرِّ) كذلك.(/2)
وهي نمطٌ هَجِِينٌ من الكتابة، لا يَمُتُّ إلى مفهوم الشِّعْر عند العرب بأيَّة صِلَة؛ بل هو تقليدٌ غربيٌّ؛ كما يعترفُ بذلك أبرزُ رُوَّاد هذا النَّمط من الكتابة، من أمثال (أَدونيس)، و(أُنْسِي الحَاجّ) وغيرهما.
إنهما يقلِّدان – كما أكَّدا غير مرَّة – الناقدةَ الفرنسية (سوزان برنار) في المصطلَح، وفي الكلام النَّظريِّ على خصائص هذا اللَّون من الكتابة.
ويعترفُ أَدونيس أنَّ (قصيدة النَّثْر) لم تستطعْ إلى الآنَ إثباتَ وجودِها، أو تحديدَ هُوِيَّةٍ لها، أو أن يكون لها نظامٌ يميِّزُها.
إنَّها نَثْرٌ عائمٌ مضطربٌ، ولعله – بسبب ذلك – خفتتْ حماسةُ (أُنْسِي الحاجّ) لها، وتخلَّى (أَدونيس) عن الكتابة بها، وراح يجرِّب بِدْعَةً أخرى يسمِّيها (مَلْحَمِيَّة الكتابة).
وهذا النَّمطُ من الكتابة النَّثْريَّة التي أَخَذَتْ من الشِّعْرِ خاصيَّةَ (التَّخْيِيل) عُرِفَتْ في التُّراثِ النَّقديِّ العربيِّ، وسمَّاها الفارابيُّ وغيرُهُ: (القَوْلَ الشِّعْريَّ).
إنَّ هذا النَّمطَ النَّثْريَّ من الكتابة - الذي نقترحُ له مصطلَحَ (النَّثِيرَة)، تمييزاً له عن ألوان الكتابة الأخرى - يحاولُ أن يكتسحَ مفهومَ الشِّعْرِ العربيِّ كما عَرَفَتْهُ هذه الأمَّة خلال تاريخها الطَّويل، وهو ينتشرُ اليومَ انتشاراً واسعاً بسبب التَّرويج الإعلاميِّ الهائل له، وبسبب شُحِّ المواهب، وانعدام الجِدِّ والدَّأَب، وبسبب استسهال الكتابة عند قومٍ، ورغبتِهم أن يكونوا شعراءَ بين ليلةٍ وضُحاها.
إن ما يُدعَى اليومَ - ضلالاً – قصيدةَ النَّثْر هو انتهاكٌ لحُرْمَة الشِّعْر العربيِّ، وهو تبديدٌ لمفهومه وليس تجديداً، وهي اليومَ كالمَطِيَّةِ الذَّلُولِ، لا تتأبَّى على رَاكبٍ، ولا تردُّ يَدَ لامِسٍ!
إنها (حِمارُ الكتابة) كما قالتِ العربُ قديماً عن الرَّجَز إنَّه (حِمارُ الشعر).(/3)
ولا غرابةَ - من ثَمَّ - أن يَكْثُرَ مُمْتَطُوها والمدافعونَ عنها من أصحاب المواهب النَّاضِبَة؛ إذ يرتبطُ (مستقبلُهمُ الأدبيُّ) بها؛ فهم لا يعرِفون غيرها!
إنها لا تحتاجُ إلى تعلُّمٍ ولا جهد، ولا إتقانِ لغةٍ أو قواعدَ أو أوزانٍ، أو مكابدةِ قضيةٍ، أو تعاطي فكرٍ.
كلُّ شيء هاهنا مُستباحٌ، وما على فُرْسَانِها إلا إمساكُ القلم، وتَرْكُهُ يَجْمَحُ ويَرْمَحُ كيفما يشاءُ.(/4)
العنوان: مقابلة مع سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله
رقم المقالة: 1675
صاحب المقالة: خاص: الألوكة
-----------------------------------------
مقابلة إذاعية مع سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله
بسم الله الرحمن الرحيم
هذه مقابلة مع سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله عن حياته ومسيرته في العلم والتأليف، أذيعت في البرنامج العام في 15 شوال 1403 ضمن برنامج "هؤلاء علموني"، وأعيد بثها في إذاعة القرآن الكريم سنة 1424، قام بتفريغها ومقابلتها: محمد زياد بن عمر التكلة، وتم حذف بعض الكلام المتقاطع من كلام المذيع لتنسيق الكلام، مع الحرص على المحافظة على كلام الشيخ.
• • • • •
بدأ سماحة الشيخ اللقاء قائلا:
شكرا لكم على إتاحة هذه الفرصة، ولا سيما وقد حضرتم إلى بيتنا ضيوفا علينا فمرحبا بكم وأهلا، ونسأل الله لنا ولكم التوفيق.
آمين.. فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين، من أبناء عنيزة، ومن علماء المملكة، لكم تاريخكم المعروف، [يقاطع الشيخ قائلا: أستغفر الله وأتوب إليه] ونريد أن نكون معكم لنتعرف على العلماء وعلى الشخصيات وعلى المشايخ الذين مروا في حياتكم، وأثروا عليكم خاصة منذ بداية حياتكم، منذ نشأتكم الأولى، منذ بداية وعيكم، منذ تفتحكم، فلنبدأ مع المرحلة الأولى.
الحمد لله، أنا كغيري من أبناء هذا البلد، فيذا من الصغر كان الناس يقرؤون على مدرّسين في الكتّاب على الطراز الأول، وقد حفظت القرآن قراءةً على جدي: أبي والدتي رحمه الله.
- ما اسمه؟
اسمه عبد الرحمن بن سليمان آل دامغ.
- من عنيزة؟
من عنيزة، وقد نزح إليها من روضة سدير.
وبعد أن أنهيت هذه القراءة انتقلت إلى مدرسة أخرى، هي أيضا يدرس فيها ابن عم جدي رحمه الله، واسمه عبد العزيز بن صالح بن دامغ، يدرس فيها القرآن، وشيئا من الأدب، وشيئا من علم الحساب، وبقيت هناك حتى أدركت منها ما شاء الله.(/1)
ثم بدا لي أن أقرأ القرآن عن ظهر قلب، فدخلت مدرسة يدرّس فيها علي العبد الله الشحيتان أحد المدرسين في عنيزة، وحفظت القرآن فيها عن ظهر قلب.
- كم كان عمرك؟
حوالي 11 سنة في ذلك الوقت.
ثم إني بدا لي وبتوجيه من والدي رحمه الله أن أرتقي إلى مدرسة أعلى، وهي المدرسة التي في الجامع الكبير، تحت رعاية شيخنا الكبير عبد الرحمن بن ناصر ابن سَعدي رحمه الله، وكان هذا الشيخ له شهرته في علمه ومصنفاته، وربما أذكر عنه شيئا بعد، لكنه رحمه الله كان يدرس الطلبة الكبار، وقد جعل رجلين من الطلبة يعلمان المبتدئين، أحدهما: الشيخ محمد بن عبد العزيز المطوَّع، وكان هو شيخي الذي تلقيت عليه أول علمي، والثاني: الشيخ علي بن حمد الصالحي، دخلت المدرسة، أو بالأصح انتظمت في سلك طلبة العلم عند شيخي الأول محمد بن عبد العزيز المطوع رحمه الله، وكان جيدا في علم العربية، أدركتُ منه كثيرا، وكذلك أيضا كان يدرّسنا مختصر العقيدة الواسطية من تأليف شيخنا عبد الرحمن بن ناصر آل سَعدي، ويدرسنا أيضا منهج السالكين في الفقه لشيخنا المذكور عبد الرحمن الناصر السعدي.
- كم كان عمرك في تلك المرحلة فضيلة الشيخ محمد؟
في ظني أن عمري 16 سنة أو 17 سنة، لأني بقيت في حفظ القرآن حوالي ثلاث سنوات.
ثم إني انتقلت إلى الجلوس في حلقة شيخنا عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي رحمه الله، وهو الذي أدركتُ عليه العلم كثيرا، لأنه رحمه الله له طريقة خاصة في تدريسه، وهو أنه يجمع الطلبة على كتاب واحد، ثم يقوم بشرحه.
- ما هي المادة؟(/2)
أي مادة كانت، حتى أحيانا رحمه الله نقرأ عليه في التفسير فيفسر لنا القرآن الكريم، ما يعتمد على كتاب آخر، يفصله، ويحلل ألفاظه، ويستنبط ما يستنبط منه من فوائد، درسنا عليه رحمه الله، وكان مركّز دروسنا عليه في فن الفقه وقواعده وأصوله، وقد حصلنا ولله الحمد منه شيئا كثيرا، بالإضافة إلى ذلك كان يدرّسنا في التوحيد ويدرّسنا في النحو، وبقينا على هذا مدة معه رحمه الله، وفي الحقيقة أن له عليَّ فضلا كبيرا من الله سبحانه وتعالى، ذَكر لي أن والدي رحمه الله -وكان في الرياض، أول ما بدأ التطور في الرياض- أحب والدي أن أنضم إليه هناك، ولكن شيخنا رحمه الله عبد الرحمن بن سعدي كتب إليه يقول: دعوا لنا هذا يكون من نصيبنا، هذا الولد يكون من نصيبنا، فجزاه الله عني خيرا.
- وكانت هذه رغبتك في نفس الوقت؟
وهي رغبتي، فبقيت عنده مدة، ثم انقطعت عن الدراسة.
- لماذا؟
لأنه حصل عند الناس نشاط في الأراضي في عمارتها في الغرس، في مكان يقال له الوادي، وكنا نحن من الذين اشتغلوا في ذلك مدة، ولكن الله سبحانه وتعالى منّ بفضله فعدنا إلى الدراسة على الشيخ رحمه الله.
وفي عام 1372 من الهجرة أشار علينا بعض الإخوان أن نلتحق بالمعاهد العلمية التي فتحت في الرياض، واستشرت شيخنا عبد الرحمن رحمه الله في ذلك، وأشار عليّ أن أدرس فيها.
- في هذه المرة وافق على ذهابك؟(/3)
[وافق] على ذهابي لأنني سأذهب إلى علم، إلى طلب العلم في الرياض؛ في المعاهد العلمية، وفعلا ذهبت إلى هناك، ودرست في المعهد، واتصلت بشيخنا الثاني عبد البعزيز بن عبد الله بن باز، وكان لي عليه دروس في بيته خاصة، وكذلك أيضا في المسجد، قرأنا عليه في علم الحديث -لأنه كان وفقه الله وأمد في حياته على خير الإسلام والمسلمين- كان له إلمام كبير في علم الحديث ورغبة أكيدة، وفتح لنا جزاه الله خيرا أبوابا جيدة في هذا الموضوع، فقرأنا عليه من صحيح البخاري، وقرأنا عليه أيضا في مقدمة التفسير لشيخ الإسلام ابن تيمية، ولا يحضرني الآن كل ما قرأت عليه، المهم أنني انتفعت بقراءتي عليه من حيث التوجيه والانتقال من العكوف على الكتب الفقهية وتمحيص الأقوال وتلخيصها، انتقلت من هذه المرحلة إلى مرحلة الحديث، ولست من الذين يصح أن يُنسبوا إلى علم الحديث، ولكني اتجهت إلى علم الحديث.
- هل كان لفضيلة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز تأثير مباشر عليك في أنك تتجه لعلم الحديث، أم هناك أناس آخرين.. علماء آخرين؟
لا، على كل حال ما اتصلت بغيره، في الرياض ما اتصلت بغيره، وكان الأثر المباشر من الشيخ نفسه، وأيضا الإنسان إذا تذوق العلم وعرف فائدته يكون له حافز من نفسه.
بقيت في الرياض إلى سنة 1373 ثم رجعت إلى عنيزة.
- ماذا أتممت في هذه الفترة فضيلة الشيخ محمد؟(/4)
أتممنا الدراسة في المعهد لأننا بدأنا من السنة الثانبة، وفي ذلك الوقت كان نظام القفز، أن الطالب يدرس في الفترة الصيفية دروس السنة المستقبلة، ثم يمتحن فيها في الدور الثاني، ويرتقي إلى السنة الثالثة، فأنا قفزت، يعني قرأت الثانية وتخرجت منها طبيعيا، ثم قفزت وأدركت الثالثة، ثم أخذت الرابعة سنة 74 بالانتساب، لأن المعهد العلمي كان قد فتح في عنيزة، وكان محتاجا إلى المدرسين، فرجعت في عام 74 إلى عنيزة، وابتدأت التدريس في معهد عنيزة من عام 1374، وأخذت السنة الرابعة بعد ذلك بالانتساب، وبقيت هكذا منتسبا، حتى أتممت ولله الحمد كلية الشريعة بالانتساب.
ولما توفي شيخنا رحمه الله في عام 76 ..
- من؟
شيخنا عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي توفي في عام 1376 جمادى الآخرة،كان شيخنا الأول محمد بن عبد العزيز المطوع كان قاضيا في هذا البلد في بلد عنيزة، فرأى هو وأميرها في ذلك الوقت أن أتولى إمامة الجامع الكبير في عنيزة، فجعل لي ولاية الإمامة في هذا المسجد، وتوليت الخطابة فيه في الجمعة الثانية بعد موت شيخنا رحمه الله، وما زلت حتى الآن في هذا المسحد، والحمد لله رب العالمين، وأسأل الله أن يوفقني للصواب والهداية.
بقيت مدرسا في معهد عنيزة، ولما افتتح فرع الجامعة في القصيم صرت أدرّس فيها في السنة الثانية من فتحها، جامعة الإمام محمد بن سعود، درّست فيها أول سنة على ملاك المعهد.
- في أي مادة طال عمرك؟
درست فيها أول سنة في مادة التفسير، وكنت على ملاك المعهد، ثم صرت فيها مدرسا أصليا، وبعد صار عندي تدريس في التوحيد، وتوحيد في الفقه، وما زال الآن عندي التدريس في مادة الفقه، في السنة الثانية والثالثة والرابعة من كلية أصول الدين.(/5)
أعطاكم الله العافية والصحة، ننتقل الآن إلى مرحلة التأليف، نريد أن نعرف عندما بدأت أيضا تتجه إلى التأليف وإعطاء هذه العلوم، وما اختزنته أثناء دراستك، وأثناء طلبك للعلم، وما أخذته من العلماء والمشايخ، وما تلقيته منهم، ثم من خلال ما اشتغلت فيه، عكفته في تأليفات أو في مؤلفات أو في كتب، نريد أن نأخذ فكرة مع المستمع الكريم عن هذه الكتب وعن هذه المؤلفات، وعن موادها وعن محتوياتها.
نعم، أولا أن من ألّف من استَهدف، ولكن الذي شجعني على التأليف أمران، أحدهما: أن المؤلف يحرص غاية الحرص على أن يتعمق في المادة التي يريد التأليف فيها، وهذه فائدة عظيمة للمؤلف، أضف إلى ذلك أنه تعمق فيها وقيّد ما تعمق به في هذه المؤلفات فستمكث في نفسه أكثر.(/6)
الأمر الثاني مما شجعني على التأليف: أنه في حياة شيخنا عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله كنا نقرأ عليه في العقيدة الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية، وكنت أكتب -كطالب- أكتب عليها شرحا للآيات وللأحاديث ولكلام شيخ الإسلام ابن تيمية، وأظن أنني كتبت أربعة دفاتر، ولكني ما كملتها، إلا أنني إذا كتبت شيئا عرضته على الشيخ عبد الرحمن رحمه الله، وكان يشجعني على ذلك كثيرا، ويأمرني بأن أستمر، ويرغّبني في هذا، ولذلك منذ ذلكم الحين ,أنا أحب أن أؤلف، وكان لي ولله الحمد مؤلفات، منها شيء قد طبع، ومنها شيء لم يطبع، فمنها أنني شرعت في تفسير آيات الأحكام واستنباط الأحكام منها، لا على سبيل النقل كما يفعله بعض الناس، ولكن على سبيل الاستنباط أولا، لأن الذي ينبغي للمستدل بالكتاب والسنة أن لا يعتمد على غيره فيما يستنبط، بل أن يستنبط أولا بنفسه، ثم بعد ذلك يعرض ما استنبطه على ما استخرجه غيره من هذه الآيات والأحاديث، من أجل أن يكون مُبدعا لا متبعا، والإنسان إذا قصر نفسه على اتباع غيره فإنه يجمد ذهنه، ولا يستفيد من نصوص الكتاب والسنة، ولذلك أنا أدعو إخواني من أهل العلم أن يكون دائما الأصل الذي يبنون عليه هو الكتاب والسنة، والتحرر في الأفكار.. بل الأصح التحرر في التفكير، وجعل الفكر تابعا لما دل عليه الكتاب والسنة، حتى يكون الإنسان متحررا حقيقة، ثم بعد ذلك يعرض ما بدا له على ما استنبطه أهل العلم، فلعله يجد خطأ فيما استنبط، فيوفَّق للرجوع إليه، فكان لي همة في ذلك، وفعلا كتبت في بعض الدفاتر عندي شيئا من هذا، من آيات الأحكام بدأت من آيات البقرة، واستنبطت أظن من آية القصاص أكثر من واحد وعشرين مسألة.. فائدة، ولكن حصلت المشاغل الكثيرة ولم أتمكن من إتمامه..
ثم كان لي شروح على العقيدة الواسطية، لأني كنت أدرّسها في المعهد، وعلى كتاب لمعة الاعتقاد، لأني درّسته أيضا، تعليق على لمعة الاعتقاد مطول، وتعليق مختصر.(/7)
- صدرت في كتاب؟
لا، لكنها مطبوعة بـ(الاستنسل)، وكان الطلبة ينتفعون بها.
- يعني مخطوطة اجعلنا نقول؟
نعم، كمخطوطة، كذلك كان لي تأليف مختصر في المصطلح، درسه الطلبة، وتأليف مطول أطول منه درسه الطلبة أيضا، حرصت فيه على التبويب والتقسيم والإيضاح في الأمثلة، لأن ذلك مهم جدا في نظري، ولا سيما بالنسبة للمصطلح.
كان لي أيضا تأليف في أصول الفقه كتاب مختصر واسمه الأصول من علم الأصول.
وكان لي أيضا تأليف في الفرائض كتاب مطول، اسمه تسهيل الفرائض، جمعنا فيه بين المسائل والدلائل، وكان لي كتاب مختصر يدرس الآن في المعاهد في الفرائض، في فقه الفرائض فقط، أيضا اتبعنا فيه طريق القرآن، ولم نتبع ما كان عليه أكثر الفرضيين، فإن أكثر الفرضيين يقولون مثلا: باب السدس، باب الربع، باب الثمن، ويذكرون من يرث، وأما طريقة القرآن فإنه يذكر أحوال الوارث، لأجل أن تكون المسائل محصورة، فيقول مثلا عز وجل في حالة المرء تارة كذا وتارة كذا، ولذلك اخترنا في كتابنا تسهيل الفرائض اخترنا هذه الطريقة، أن نتكلم على كل وارث على حدة، حتى يتبين الأمر جليا وينحصر العلم للطالب.
كذلك أيضا لنا تأليف في غير حقل التدريس، مجالس رمضان، ثلاثون بابا، كل يوم أو كل ليلة لها باب، بحثنا كيف الصيام وأحكامه والزكاة ومسائل أخرى.
لنا كتاب أيضا أسمه الأضحية والذكاة، ولنا كتاب أيضا رسالة في الحجاب، حكم حجاب المرأة، وأنه يجب على المرأة أن تستر وجهها وجميع بدنها عن غير المحارم.
كذلك أيضا كتاب اسمه الدماء الطبيعية في الحيض والنفاس والاستحاضة، وكل هذا مطبوع.
لنا رسائل أخرى أيضا، في سجود السهو، وفي مشاكل الشباب والطريق إلى حلها، ورسائل أيضا في الربا، ورسائل في مواقيت الصلوات، ورسائل في طهارة المريض، كذلك أيضا في سجود السهو، وغير هذا، والحمد لله..(/8)
لنا مخطوطة في حكم الطلاق الثلاث.. وأنه لا يكون إلا واحدة، سواء كان بلفظ واحد أو بألفاظ متعددة، ما لم يكن رجعة أو عقد جديد.
- نريد من خلال مطالعاتك، ومن خلال قراءاتك، أن تعرف مَن مِن سلفنا لهم تأثير عليك غير الشيوخ المباشرين والعلماء المشايخ الذين تعلمت عليهم، من الذين قرأت لهم؟
الإنسان يقرأ ويتأثر، وأحيانا يقرأ ولا يتأثر، والذي أرى أنه يتأثر القارئ بكتبه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فإنه له تأثير قوي بالنسبة لإيمان العبد ومعرفته بأسرار الشريعة وبالنسبة لقوة الحجة والإقناع والدفاع، ولهذا أنا أنصح كل من يريد الوصول إلى الحق من منبعه الصافي أن يقرأ في كتب هذا الإمام، لأنه بحقٍّ إمام، رحمه الله وجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيرا.
وكذلك أيضا تلميذه ابن القيم أسلوبه مؤثر جيد، أسلوبه وإقناعه أيضا، لكني أنا قد أتأثر بكلام الشيخ أكثر منه؛ من تأثري بكلام ابن القيم، لأن الشيخ قوي يدفع الإنسان إلى أن: كأنما يستطيع أن يقول ليس أمامي أحد! عندما يبحث بمسألة هو رحمه الله.
كذلك أيضا تأثرت بتلميذه ابن مفلح صاحب كتاب الفروع في فقه الإمام أحمد بن حنبل، لأن له توجيهات طيبة جدا في الفقه، تدل على عمق معرفته بأسرار الشريعة.
وتأثرت أيضا بمنهاج الشيخ محمد رشيد رضا، لأنه رحمه الله جيد في عرض المسائل وفي تحرره الفكري، وإن كان عليه بعض الأخطاء، ولا أحد يسلم إلا لمعصوم، ولكن على كل حال له أثر في منهجي في تحقيق المسائل أو ما أشبه ذلك.
[وهنا ختم المذيع اللقاء بالدعاء للشيخ، رحمه الله رحمة واسعة].(/9)
العنوان: مقاربات لموقف المثقفين العرب من الحداثة
رقم المقالة: 157
صاحب المقالة: د. محمد بنوهَم
-----------------------------------------
لعل مصطلح الحداثة يشكل أحد أبرز المصطلحات الشائكة والمعقدة والغامضة في عصرنا الراهن، ويجد المرء نفسه أمام إشكال كبير لفك رموزه والغوص في معانيه وسبر أغواره مما يجعل مضامينه شديدة التفلت وصعبة المنال، حتى إننا لنجد أن المثقفين أنفسهم، برغم كثرة تداولهم لهذا المصطلح الجديد، يستعملونه في غير محله. وقد يريدون باستعماله أمرًا لا يكون بالضرورة محل إجماع الجميع.
وتشكل هذه المقالة محاولة لإلقاء المزيد من الضوء على هذا المصطلح المعقد وإبراز المجالات والحقول والمضامين التي قد يرمز إليها، وكذلك إبراز مواقف المثقفين إزاء هذه المضامين. وفي نفس السياق نروم الخروج أيضًا بنظرة أولية حول تعامل الفكر الإسلامي مع إشكالية الحداثة.
قضية المصطلح والانتماء الحضاري:
لقد نشأت عندنا في البلدان العربية مصطلحات كثيرة اختلف حولها مثقفونا من مثل الأصالة، المعاصرة، التراث، السلفية، وغيرها من المصطلحات التي أدت إلى حوار وجدال أسال مدادًا كثيرًا من أجل تبيان مضامينها وحمولتها الفكرية والمذهبية. غير أن هذه المصطلحات تبقى وليدة البيئة الداخلية لمجتمعاتنا، بيد أن في المقابل تهاجمنا بوتيرة متسارعة مصطلحات أخرى من صنف آخر تترعرع في الغرب وتلقي بظلالها علينا وما نكاد نتبين حمولتها الفكرية حتى نجدها قد سرت في أحاديثنا وخطاباتنا وفي إعلامنا سريان النار في الهشيم.. ومن هذه المصطلحات على سبيل المثال لا الحصر، العلمانية – العولمة – الحداثة – التحديث – الديموقراطية – الوجودية – الإيديولوجيا – التيوقراطية – الميتافيزيقا.. إلخ والقائمة طويلة جدًا وتظل مفتوحة على مصراعيها[1].(/1)
وقد حذر الحق سبحانه وتعالى المؤمنين من استعمال بعض الألفاظ وعوضهم عنها ألفاظًا أخرى تنتمي إلى منظومتهم الثقافية والحضارية مثل ما جاء في الآية {يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم}[2]. بل إن القرآن الكريم جاء بمصطلحات جديدة تؤسس لمنظومة مصطلحية متكاملة، وفي نفس السياق فعل الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك فبدل بمصطلحات جاهلية مصطلحات جديدة. لقد تنبه الغرب إلى حرب المصطلحات في وقت مبكر حيث دأب على تغيير وتحريف المصطلحات وحتى أسماء أعلامنا تحايلاً منه على التاريخ ومحاولة منه لتحريف الذاكرة الجماعية وتزييفها. فأصبح النبي محمد (Mohoma ) والخوارزمي أصبح (Algorithme ) وأصبح ابن سينا (Avicenne ) وأصبح ابن رشد (Averros ). إنها حقًا أسماء غريبة ومقصودة. وحتى مصطلح ((الأصولية والأصوليون)) الذي يشرف أصحابه أصبح يحمل معنى الإرهاب والعنف، وقس على ذلك مصطلح الجهاد. ومما يؤسف له أن دوائر المثقفين ووسائل الإعلام الفاقدة للحس الحضاري والمناعة الثقافية تروج هذه المصطلحات والمفاهيم عن قصد أو عن غير قصد عوض الحذر والتمحيص. وفي هذا الصدد يقول محمد عمارة "فالباحث والقارئ الذي يريد معرفة مضمون مصطلح من المصطلحات، فيمد يده إلى القاموس، باحثًا عن هذا المضمون، إنما يزرع في عقله ووجدانه بذرة فكرية تنمو، فتلون مساحة من عقله ووجدانه بالصبغة الحضارية التي حكمت لون ومذهب ومضامين مصطلحات هذا القاموس"[3].(/2)
إذًا لابد في البداية من التحذير من خطورة التعامل مع المصطلحات وخصوصًا مع تلك التي نبتت في تربة غير تربتنا لأنها بكل بساطة تكون حبلى بمضامين ومفاهيم وقيم غير قيمنا. وفي هذا المجال يقول محسن عبدالحميد "إن المصطلحات التي نواجهها اليوم تختلف اختلافًا كبيرًا عن المصطلحات التي واجهها أسلافنا؛ لأن المصطلحات في عصرنا ليست ألفاظًا لغوية وأوصافًا لعلم من الأعلام؛ وإنما هي مصطلحات تكمن وراءها منظومة حضارية تختلف في مقدماتها ونتائجها عن منظومتنا الحضارية ونمطها الاجتماعي"[4]. ويذهب المهدي المنجرة أبعد من ذلك حينما يقول "هناك في فرنسا من يقول بأن (الحروب القادمة ستكون من طبيعة سيميائية. إن فرض المفاهيم واللغة وتحدياتها هي بكل تأكيد الوسيلة الأكثر فعالية لبسط السيطرة على العالم. لذا يجب تصور آليات للدفاع الذاتي لحماية النفس من هذه الحملات السيميائية)"[5].
وإذا رجعنا إلى القاموس المحيط للفيروز أبادي بخصوص مادة ((حدث)) فإنها تشير إلى: حدث، حدوثًا وحداثة، نقيض قدم، وحدثان الأمر بالكسر، أوله وابتداؤه، كحداثته. وحدث من الدهر، نوبه كحوادثه وأحداثه. والأحداث، أمطار أول السنة. ورجل حدث السن وحديثها، بين الحداثة والحدوثة، فتي. والحديث، الجديد والخبر[6].
الحداثة الفلسفية:
إننا كثيرًا ما نسمع مثقفينا يدعون إلى الحداثة ويروجون لها من أجل الخروج من التخلف الذي نعاني منه منذ قرون عديدة. فلا مناص لنا إذًا من الدخول إلى الحداثة. فهذا يدعو إلى اعتماد نظام سياسي حداثي، وذلك يدعو إلى منظومة تربوية تعليمية حداثية. وآخر يدعو إلى نشر الكتب الحداثية. فما مفهوم الحداثة التي يبشر بها هؤلاء القوم؟(/3)
لقد اختلف الباحثون كثيرًا في تحديد الإرهاصات الأولية للحداثة. فبعضهم يربطها بظهور عصر فلسفة "الأنوار" في أوروبا الغربية في منتصف القرن الثامن عشر. ومنهم من يرجع البدايات الأولى إلى اختراع آلة الطباعة في منتصف القرن الخامس عشر على يد جوتنبر حيث بدأ يحدث تغيير هائل في الذاكرة الإنسانية وانتشار الكتابة تعويضًا عن التراث الشفوي. ومنهم من يرجع البدايات الأولى إلى الاحتكاك الذي وقع بين الأوربيين وفكر بعض العلماء المسلمين أمثال ابن الهيثم وابن رشد وابن سينا وابن خلدون والشاطبي وغيرهم حيث استفاد الأوربيون من علومهم وطبيعة الفكر المنطقي والتجريبي.
وبعض الباحثين يتحدثون عن موجات الحداثة. فنجد ليو ستراوس يتحدث عن الموجة الأولى التي بدأت مع ديوان الشاعر الألماني غوت (فاوست)، والموجة الثانية للحداثة بدأت مع روسو، والموجة الثالثة بدأت مع الفيلسوف الألماني نيتشه[7]. أما ألفين توفلير فيعتبر أن الموجة الأولى تتعلق بالثورة الزراعية التي استغرقت آلاف السنين، بينما الموجة الثانية التي تتعلق بالثورة الصناعية فقد استغرقت ثلاثمائة سنة، والموجة الثالثة تتعلق بمصادر الطاقة المتنوعة والمتجددة[8]. أما داريوش شيغان فيتحدث عن الصدمات الثلاث، فالصدمة الأولى حسب فرويد كانت صدمة كوسمولوجية أي تدمير الوهم النرجسي للإنسان. والصدمة الثانية كانت صناعية وأدت إلى تعميم ثقافة جماهيرية وسيادة الإيديولوجيات الكبرى، وأما الصدمة الثالثة فتتعلق بالسياحة الفضائية والبيوتكنولوجيا والإعلاميات، والصدمة الرابعة تتعلق بالصدمة الإعلامية التي بدأت مع نهاية القرن العشرين[9].
خصائص الحداثة الغربية:(/4)
كيفما كانت هذه التقسيمات أو التحقيب الزمني فإن الحداثة الغربية تتميز بسمات وخصائص عديدة ومتنوعة لا تكاد تحصى؛ لأنها تطول جميع مناحي النشاط الإنساني سواء تعلق الأمر بالجانب الثقافي والسلوكي، أو منظومة القيم، أو الجانب العلمي والتقني، أو الجانب الاقتصادي والسياسي والإداري، وحتى في مجال الفن والعمارة. وإذا حاولنا جرد هذه السمات والخصائص فقد نجد نقطًا تشكل محل اتفاق الباحثين، بينما هناك نقط أخرى لا تكون بالضرورة محل اتفاق. ونلخص السمات العامة في الخصائص التالية:
إن الحداثة اتخذت نظرة جديدة إلى المعرفة والطبيعة والعقل والزمن والإنسان. فالمعرفة انتقلت تدريجيًا من المعرفة التأملية إلى المعرفة التقنية، ولم تعد الطبيعة في إطار النزعة الحداثية، ذلك المكان ذا الطابع السحري والإحيائي المفعم بالتفاعلات العضوية المحملة بالأسرار والألغاز، ولكن صارت كمًا هندسيًا قابلاً للقياس وخاضعًا لقوانين الرياضيات[10]. وأما الزمن فيمكن أن نلخص المنظور الحداثي له في عبارة لداريوش شيغان "هذه الحركة هي نفي لكل محتوى رمزي وأخروي للزمن، وهي اختزال الزمن في حركة مستقيمة وكمية ليست نهايتها في رجعة المسيح ولا في العود الأبدي، بل هي تقدم خطي لا محدود في الزمان"[11] وأصبح كل جديد مقدسًا عوض تقديس الماضي. ولعل من أبرز سمات الحداثة إعطاءها للعقل مركزية (Logocentrisme ) مما أعطى مشتقات أخرى مثل العقلنة والعقلانية (Rationalisation, Rationalite ) ووسط كل هذه المفاهيم أصبح الإنسان في النزعة الحداثية (Modernisme ) قطب الرحى وعليه مدار الأمر كله يصنع إرادته وحريته ويطوع الطبيعة وهو الفاعل والمسؤول.(/5)
وفي المجال الاقتصادي فقد انتشرت الصناعات المتنوعة والابتكار التكنولوجي وأعطت أهمية قصوى لارتفاع درجة الإنتاج كمًا وكيفًا، وفي المجال السياسي والاجتماعي شهدت هذه المرحلة التعامل بالقوانين الوضعية ومشاركة فئات أوسع من الجماهير وأصبحت الشرعية السياسية تؤخذ من الشعوب والتعاقد الاجتماعي، وأما التركيب الاجتماعي فقد صار غير معتمد على العائلة والقبيلة والطائفة، وأعطيت للمرأة مشاركة أوسع، والأسرة أصبحت نووية. وأصبح للشعوب الحرية في النقد وفي التفكير والتعبير مع التحرر من كل القيود، وأطلق العنان للمغامرة والاستطلاع والإبداع بما في ذلك مجال الفن[12].
ويرى البعض أن من بين خصائص الحداثة.
- القطيعة مع الماضي.
- الانسلاخ عن الدين والمقدس وفصله عن كل ماهو دنيوي.
- الانتقال من الماهيات الروحية إلى الغرائز البدائية مع التركيز على الجسد.
المثقفون العرب والحداثة:(/6)
يقسم م.أ. العالم التيارات الحداثية في الفكر العربي إلى أربعة تيارات 1 – تيار الحداثة وهو تيار ذو استبداد سلطوي سياسي يحاول المزج بين اللبرالية التحديثية الأوروبية والإبقاء على الأبنية الاجتماعية والاقتصادية والقيمية الماضية. 2 – تيار الحداثة الدينية يحاول أن يوفق بين التراث والعصر مع السعي إلى التميز عن الغرب. 3 – الحداثة القومية وهي أيضًا حداثة توفيقية ولكن أبرز مطالبها الوحدة القومية العربية. 4 – وأخيرًا الحداثة الثقافية المرتبطة أساسًا بالحضارة العصرية الغربية وقيمها والتماهي معها تماهيًا مطلقًا[13]. لعل من أبرز المنتمين إلى هذا التيار الأخير سلامة موسى وفرح أنطوان وأدونيس وأركون وفؤاد زكريا وكمال عبداللطيف وعبدالله العروي وغيرهم. يقول هذا الأخير في كتابه مفهوم العقل "لا يستطيع أحد أن يدعي أنه يدرس التراث دراسة علمية، موضوعية (...) لابد له قبل كل شيء أن يعي ضرورة القطيعة، وأن يقدم عليها"[14]. ويقول أيضًا في كتابه الأيديولوجيا العربية المعاصرة "قلت إن أوروبا الغربية انتهجت منذ أربعة قرون، منطقًا في الفكر والسلوك ثم فرضته منذ القرن الماضي على العالم كله، ولم يبق للشعوب الأخرى إلا أن تنهجه بدورها فتحيا، أو أن ترفضه فتفنى.."[15]. وفي نفس السياق يقول كمال عبداللطيف "فهل يعقل بعد معارك الحداثة المتواصلة في العالم العربي، منذ نهاية القرن الماضي، أن نعود إلى عتبة المعرفي الديني، فنبني عليها قواعد السياسة وأصول الفلسفة السياسية المدنية؟"[16]. إن هذه النصوص ماهي إلا غيض من فيض، وإلا فإننا نجد نفس النهج وإن تفاوتت درجة التبعية الفكرية للغرب عند باقي فصائل المثقفين من أمثال أدونيس في الثابت والمتحول وعلي أومليل وياسين الحافظ وحسن صعب وزكي نجيب محمود ونديم البيطار ومحمد عابد الجابري، واللائحة طويلة. وهذه النصوص التي أشرنا إليها تدل على أن الغرب نجح في إقناع عدد كبير من المثقفين(/7)
العرب بكافة فصائلهم (الاشتراكية والقومية والليبرالية) بطروحاته. فبعد مرحلة بداية انبهار المثقفين العرب بالغرب في عصر الأطروحات النهضوية العربية أصبح جزء من هؤلاء يتماهى مع أطروحاته ومستلبًا بشكل كامل. من العجيب أن نلاحظ أن هؤلاء المثقفين المتغربين لم يعوا دروس التاريخ. فرغم تهافت الطروحات الحداثية التي اتبعها كثير من الدول العربية سواء كانت علمانية أو قومية أو اشتراكية لم تنفع الشعوب العربية وظلت هذه الأخيرة ترزح تحت التخلف والتبعية. ولم يقع هذا التقدم الذي كانت تبشر به هذه السلطات وسدنتها من المثقفين[17].(/8)
بعض هؤلاء المثقفين يحاولون التوفيق بين المقتضيات الإيجابية للحداثة الغربية ومعطيات الحضارة والتراث الإسلاميين. فيرى محمد عابد الجابري ومحمد أركون على سبيل المثال أن آثار ابن خلدون وابن رشد والشاطبي واضحة في ظهور الحداثة في أوروبا، وتكون بذلك لها التأثير البليغ في الحداثة الغربية[18]. بيد أن ثمة جهودًا لمثقفين آخرين لتتبع علامات ومقومات الحداثة في الإسلام جملة وتفصيلاً كما هو الشأن بالنسبة لحسن حنفي. فالمقومات الإيجابية للحداثة (أي المنظور للطبيعة والعقل والإنسان والمجتمع والزمن) موجودة كلها في الإسلام. فهو يرى أن الطبيعة هي مقدمة لإثبات وجود الله عند المتكلمين، فلا يعرف الله إلا بعد معرفة الطبيعة. وأن القرآن يصور الطبيعة والإنسان سيدها. والإنسان يشكل أحد المحاور الرئيسية في القرآن الكريم مع الطبيعة. كما أن الشعوب الإسلامية كانت نموذجًا للتقدم والعناية بشؤون الدنيا باسم الدين وأن العمل له قيمة خاصة في الإسلام. ويقول ((والدعوة إلى إعمال العقل في القرآن يعلمها الجميع.. ومشتقات العقل ذكرت 49 مرة في القرآن.. وقد أكد ابن تيمية موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول"[19]. ويعتبر أن الإسلام ركز على المجتمع، فالمسلمون أمة واحدة، والملكية وظيفة اجتماعية للإنسان حق التصرف وليس له حق الاكتناز والاحتكار، وإن حدث فإن للحاكم حق التأميم والمصادرة لصالح بيت المال. أما التاريخ فإنه واضح للعيان وهو عبرة وموعظة حتى يتحول التاريخ إلى بعد شعوري عند المسلمين، ويتكون لديهم الوعي التاريخي اللازم لوعي الحضارة والتخطيط للمستقبل[20]. لكن الذي حدث حسب تعبير حسن حنفي "إن التحدي أمام الإسلام الآن ليس في عدم وجود مقومات التحديث فيه، ولكن في غيابها عن وجداننا القومي منذ هزائمنا الأخيرة في عصر التدهور "الانهيار" منذ سقوط الأندلس وعصر ابن خلدون حتى الآن.."[21].(/9)
ودائمًا في إطار الفكر الإسلامي الذي يتعاطى مع إشكالية الحداثة بكثير من التنوع الذي يصل إلى حد الاختلاف أحيانًا فإن البعض يرى أن لفظ الحداثة لفظ مضلل، وهو لفظ دخيل على منظومتنا المصطلحية والفكرية، ولابد أن يستعاض به مصطلحًا آخر يعبر بشكل أفضل عن قيمنا الحضارية. ولا يوجد في هذا المجال مصطلح أفضل من التجديد والاجتهاد. يقول زكي الميلاد "لقد وجدت أن المفهوم الذي يقارب مفهوم التقدم في التجربة الإسلامية هو مفهوم العمران"[22]. وأما لفظ التجديد فيحمل دلالة معينة، ولا يمكن أن يدل على رفض القديم، كما يفهم من مفهوم الحداثة الغربية، لأن التجديد يحمل في طياته معنى الجديد، ويعني أيضًا نوعًا من ترميم البناء القديم وتحسينه وتطويره، ولا يمكن لمصطلح التجديد أن يعني إطلاقًا القطيعة مع الماضي. فلا يتصور في الحضارة الإسلامية أن يوجد حاضر منقطع ومنبت عن الماضي.
لقد رأينا من خلال استعراضنا لخصائص الحداثة الغربية وآراء المثقفين إزاءها تنوعًا كبيرًا قد يصل إلى حد التضارب. وكيفما كان الأمر، فبعض السمات المذكورة لا يمكن أن يتبناها المجتمع الذي يقيم أسسه على الاستمرارية والانتماء للحضارة الإسلامية. أضف إلى ذلك الانتقادات الكثيرة واللاذعة التي أصبحت تبرز هنا وهناك حتى في المجتمعات الغربية نفسها. فالحداثة الغربية كان لها ضحايا كثر سواء في الغرب أو في دول العالم الثالث. مما دشن مرحلة أخرى أو طريقة أخرى في التفكير أطلق عليها ما بعد – الحداثة (Modernisme Post ).(/10)
ولعل الجدال الذي يدور حول مفهوم ما بعد – الحداثة أفرز طرفين متناقضين: من جهة طرف ينتصر للحداثة واستمراريتها ويقول بفكرة أن ما بعد – الحداثة ماهي إلا مرحلة من الحداثة في ثوب جديد فهي حداثة تجدد وتقوم نفسها وأبرز من ينتمون لهذا التيار هو Jurgen Habermas[23] الذي يعتبر أن الحداثة مشروع غير مكتمل (La modrnite: un projet inacheve) بيد أن في الطرف الآخر الذي من أقطابه الفيلسوف الفرنسي Jean-Frrancoois Lotaaaard[24] فإننا نراه يؤكد على أن الحداثة مشروع متجاوز. فحسب هذا الفريق الأخير أن وعود فلسفة عصر التنوير فقدت معناها، ولم يعد هناك مجال للإيمان بالمحكيات الكبرى (meta-recits ) التي تفسر التاريخ والعالم بشكل أحادي وكوني وشمولي متعسف. بل إن أحد أنصار الفرقة الثانية يؤكد أن هذه الطريقة في التفكير تنطلق من كون "الحداثة تجسد نموذجًا نخبويًا انطلاقًا من حكاية كبرى تؤدي إلى الثقافة الفردانية والتوجه الاقتصادي الرأسمالي ولا تعترف باهتمامات وطموحات الشعوب الأخرى ((أي شعوب العالم الثالث)) مما حرمها من كل أشكال القوة[25]. ونجد أيضًا Bill readinnggs أحد الما بعد – حداثيين يرفض مقولة نهاية التاريخ التي يدافع عنها فوكوياما والهيجليون الآخرون ويحث على إعادة التفكير في التاريخ (repenser I’histtorie ) بشكل أكثر عدالة وأكثر إنسانية[26].(/11)
وأخيرًا فإننا نتفق مع منير شفيق حينما استعرض في كتابه (في الحداثة والخطاب الحداثي) أوجها كثيرة للحداثة الغربية وبعدما نعت المثقفين العرب الذي يدعون إلى الحداثة ويروجون لها بأنهم يفتقرون إلى العلمية والمنهج السليم في تعاملهم مع إشكالية الحداثة، ولا يميزون فيها بين الغث والسمين. فهو يقول: "يتسم أغلب الفكر الذي يدعو إلى الحداثة في بلادنا، بنظرة إلى الغرب ترى فيه النموذج الإنساني الأرقى. وبقدر ما نشحذ سكاكين النقد لمجتمعاتنا، فإن نظرة الانبهار والإعجاب هي التي تحل، حتى ولو كان ذلك ضد مصلحة أمتنا، وتتم عملية تبرير المظالم والجرائم التي تحصل بالجملة وعلى مدى العالم[27]. ونحن مع المنهج الصحيح الذي تقرره الآية الكريمة {ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى}[28].
---
[1] انظر محمد عمارة، منهج التعامل مع المصطلحات، مجلة المنعطف، عدد5، 1992م، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء. وكذلك محسن عبدالحميد، المذهبية الإسلامية والتغير الحضاري، 1984م، كتاب الأمة، دار الكتب القطرية، ص114.
[2] آية 104 من سورة البقرة.
[3] محمد عمارة، المصدر نفسه.
[4] محسن عبدالحميد، المصدر نفسه.
[5] المهدي المنجرة، عولمة العولمة، كتاب الجيب رقم 18، شتنبر 2000، منشورات الزمن، مطبعة النجاح الجديدة البيضاء.
[6] الفيروز آبادي، القاموس المحيط، الطبعة الثالثة، 1993م، مؤسسة الرسالة، بيروت.
[7] Leo Strauss. Les trois vagues de la modernite. In political phlosoph.
[8] الفين توفلير: حضارة الموجة الثالثة، ترجمة عصام الشيخ قاسم، الدار الجماهيرية للنشر. طرابلس. 1990م.
[9] Darush Chayegan: Les illusions de I’idnite. Editt Felin 1990
[10] محمد سبيلا، الحداثة وما بعد الحداثة، 2000، دار توبقال للنشر.
[11] Darush Chayegan: ibid(/12)
[12] م.أ. العالم، التيارات الحداثية في الفكر العربي، لوموند ديبلوماتيك، الكراس العربي جوبي، غشت 1989م.
[13] محمد سبيلا وعبدالسلام عبدالعالي: الحداثة، دفاتر فلسفيه، 1996م، دار توبقال للنشر.
[14] عبدالله العروي، مفهوم العقل، المركز الثقافي العربي، بيروت، 1996م.
[15] عبدالله العروي، الايديولوجيا العربية المعاصرة، دار الحقيقة، بيروت 1970م.
[16] كمال عبداللطيف، العرب والحداثة السياسية، دار الطليعة، بيروت 1997م.
[17] للتوسع في هذا الموضوع يمكن الرجوع إلى: نادي إسماعيل، الخطاب العربي المعاصر، قراءة نقدية في مفاهيم النهضة والتقدم والحداثة، 1978م – 1987م، الطبعة الثانية، دار الوفاء 1994م.
[18] انظر على سبيل المثال كتاب محمد أركون "الإسلام والحداثة".
[19] حسن حنفي، لوموند ديبلوماتيك، الكراس العربي جوبي، غشت 1989م.
[20] حسن حنفي، المصدر نفسه.
[21] حسن حنفي، المصدر نفسه.
[22] زكي الميلاد، الفكر الإسلامي المعاصر بين الحداثة والاجتهاد، مجلة الكلمة، عدد 26، 2000 منتدى الكلمة للدراسات والأبحاث. ص32.
[23] Habermas jurgen: La modernite un projet inacheve, Critique n o 413. october 1981.
[24] Lyotard, jean-Francois: <Reponse a la question: qu’esr-ce que le post-moderne?> in Critique NO: 419 avril 1982.
[25] Cive Erricker et Cathy Ota: Comment le enfants construisent la rdalite: expressions concepttuelles de la religion implicite.
[26] Germain Lacasse: L’aura du futur anterieur: la post-modernite et la fin de I’histoire. Surfacess Vol.VI 213 (26/12/1996)
[27] منير شفيق، في الحداثة والخطاب الحداثي، الطبعة الأولى 1999م، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء.
[28] آية 8 من سورة المائدة.(/13)
العنوان: مقالاتُ حارسِ التراث أبي فِهْر محمود محمد شاكر
رقم المقالة: 1094
صاحب المقالة: خاص: الألوكة
-----------------------------------------
تلك هي دراسةٌ أعدها الأستاذ (إبراهيم بن محمد أبا نمي)، نال بها إجازةَ التخصص الأولى (الماجستير) في الأدب العربي بتقدير ممتاز، تناول فيها بالتحليلِ الأسبابَ والدواعيَ التي بعثت أبا فِهْر للكتابة، والمنهجيةَ التي سلكها، والأسلوب الذي استخدمه في كتابة المقال.
اشتملت الدراسةُ على ثلاثة فصول:
ففي الفصل الأول: تناولَ مضمونَ المقالات، وبعد تَقَصٍّ وتمحيص صنَّفَها إلى:
(أ) مقالات نقدية:
وذكر أن أبا فهر كتب بعض المقالات التي انتقد فيها الشعرَ والشعراء، وهي ضمن سلسلة مقالاته (نمط صعب ونمط مخيف)، وذكر أن دراساته في هذا المجال -مع قلتها- تُعَدُّ أصيلة، غير متكئة على جهود المستشرقين، وتأتي آراؤه فيها مجردة من العاطفة والمجاملة.
كما تعرَّض لبعض الألفاظ والتراكيب، وناقشها مناقشة علمية مجردة، فجاءت مقالاتُه -في هذا الضرب- بلغة علمية لا تنزع للفن؛ لأن قصده فيها الكشف والبيان العلمي.
كذلك تعرض لنقد الكتب والآراء..
ثم تعرض -أيضاً- لنقد النقد، فعارض -بذلك- بعضَ آراء النقاد في نقدهم لبعض الأعمال.
كما تناول بعضَ القضايا النقدية؛ مثل: الوضوح والغموض، والرمز، وشعر التفعيلة، والشعر المنثور، وكان في كل ذلك مرتكِزاً على غَيرته على العرب والعربية، مستوحياً أفكارَه النقدية من عقيدته، متوجِّساً أن يُوصَف بالتعالم، فجاءت مقالاته محكمة دقيقة رصينة.(/1)
وكتب بعض المقالات النقدية في الصراعات الفكرية، ولم ينطلق في صراعاته تلك من مبدأ الخصومة الشخصية، والفجور فيها؛ فتجده، مع شدة خصومته لأستاذه (طه حسين)؛ يذكر أفضاله عليه، قبل الصراع معه وبعده، وقد بلغ من حدة هذا الصراع أن ترك ابن شاكر الجامعة بالمرة؛ لمّا رأى طه قد حمل رأي المستشرق (مرجليوث) القائل بأن الشعر الجاهلي منحول على عرب الجاهلية بعد الإسلام، وادَّعاه لنفسه، ولم يشأ أن يذكر (مرجليوث) أبداً! بيد أن هذا الرأي الذي انتحله (طه حسين) قد أثَّر في تفكير شاكر، وجرّه لمحنة وصراع فكري مع نفسه، حتى كاد يهلِك، وذلك لربطه بين الشعر العربي الجاهلي والإعجاز اللغوي في القرآن الكريم. ومع ذلك يبرِّئ (طه حسين) مما وقع فيه من محنة، ويعلن أن ذلك كان نتيجة تفكير شخصي.
أما صراعه مع (لويس عوض) فيتمثل في التباين الفكري والسياسي بينه وبين خصمه، وقد كشف أبو فهر تطاولَه على الأمة بأسرها، وتآمرَه ضد العربية والإسلام، وتحقيرَه للتراث العربي، ومن هنا كانت (أباطيل وأسمار).
(ب) مقالات سياسية:
وتناول فيها قضايا الوحدة بين مصر والسودان، التي كانت من أكبر همومه السياسية..
كذلك تناول قضية فلسطين، وكتب في قضية فِلَسطين بمنتهى الصراحة..
كما تناول الانتماء للوطن العربي، وكان قد أمَّلَ خيراً في الجامعة العربية، واقترح سبلاً لتطويرها؛ لتقوم بدورها في جمع الصف، وتوعية أبناء الأمة بما يحيق بهم من أطماع المستعمرين.
(ج) مقالات اجتماعية:
تناول فيها الطرق المثلى في تنشئة الأطفال، وتكوين فكرهم، ورعايتهم حتى يتجاوزوا سن الطفولة، وتحصينهم في مرحلة الشباب وما بعده.
كذلك تناول -في مقالاته هذه- قضية الرجل والمرأة، والجهود المُتَسَتِّرة في محاولات تحرير المرأة، وانبرى لدحض الشبهات التي أثيرت في هذا الشأن.
كما تناول -أيضاً- قضية الغنى والفقر، والترفَ وأثره السيئ.(/2)
كذلك تناول قضايا التعليم، والصِّحة، والأعياد، وتقليدَ القوي ومحاكاته، واجتهد -بذلك- لتحقيق العدالة الاجتماعية.
(د) مقالات أخرى:
وتمثلت في المقالات الدينية، والأدبية، والتاريخية، والنهضة الحضارية.
وفي الفصل الثاني: تناول الكاتب منهجية بناء المقالة، وصُورَها عند أبي فهر، فذكر أن أبا فهر قد بلغ الذِّرْوةَ في إحكام بناء المقالة، وحسن تقسيمها؛ من حيث العُنوان، والمقدِّمة، والمتن، والخاتمة، ومع أنه لا يلتزم بشكلية هذا البناء دائماً؛ إلا أن ذلك يُرى بوضوح في كتاباته.
وتناول في هذا الفصل -أيضاً- تداخل المقالة مع الأجناس الأخرى، كالقصة، والرسالة، والشعر، والخاطِرة، والسيرة، والخُطبة.
كذلك تناول الصورة التي تعكسها المقالة، ومن هذه الصور ما هو مجازي، ومنها ما هو حقيقي، ومنها ما هو تجديدي، ومنها ما هو تقليدي.
وفي الفصل الثالث: تناولَ اللغةَ التي تميز بها أسلوبُ أبي فهر، فتناول اللفظة، من حيث الغرابة، والإلف، والدقة، والجزالة، والرقة.
كما تناول الجملة، من حيث الخبر والإنشاء، والطول والقصر.
وتعرض -كذلك- لاستعماله لأدوات الربط، وأثرها في جَودة البيان وبلاغته.
ثم تعرَّض الكاتب للظواهر الأسلوبية عند أبي فهر؛ مثل استخدامه للتكرير، والتعظيم، وأسلوب السخرية، واستخدامه للجمل المعترضة، والجمل الشعبية، وتوظيفه للاشتقاق، وإتيانه بمشتقات غير مسبوقة، وكذلك استخدامه للألفاظ المهجورة، واستفادته من النصوص العذبة الرصينة.
والكاتب -مع صغر سنه النسبي- قد أجاد في الكتابة عن العلامة الفذِّ أبي فهر، فكان كتابه جديراً بالقراءة والاقتناء.
والله الموفق.(/3)
العنوان: مقالات في الحج
رقم المقالة: 1702
صاحب المقالة: عبدالله بن راضي المعيدي الشمري
-----------------------------------------
مقالات في الحج
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فهذه كلمات عن هذه الشعيرة العظيمة، أردت نشرها رجاءَ أن ينتفع منها الإخوان.. والله المستعان.
1- كيفية الإحرام:
إذا أراد أن يحرم بعمرة أو حج، فالمشروع إذا وصل الميقات أن يتجرد من ثيابه، ويغتسل كما يغتسل للجنابة، ويتطيب بأطيب ما يجد من دهن وعود أو غيره، في رأسه ولحيته لا في لباسه، ولا يضره بقاء ذلك بعد الإحرام؛ لما في الصحيحين من حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن يُحرِم تَطَيَّبَ بأطيب ما يجد، ثم أرى وَبِيصَ المِسْكِ في رأسه ولحيته بعد ذلك".
والاغتسال عند الإحرام سُنَّة في حق الرجال والنساء، حتى النفساء والحائض؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أسماء بنت عميس حين نُفِسَتْ أن تغتسل عند إحرامها، وتستثفر بثوب وتُحرِم. ثم بعد الاغتسال والتطيب يلبس ثياب الإحرام، ثم يصلي - غير الحائض والنفساء – الفريضة، إن كان في وقت فريضة، أو يصلي نافلة؛ كوتر أو ضحى، وإلا صلى ركعتين ينوي بهما سُنة الوضوء، فإذا فرغ من الصلاة أحرم، فإن كان عمرة قال: لبيك عمرة، وإن كان حجًّا قال: لبيك حجًّا، وإن كان مُتمتِّعًا قال: لبيك عمرة ممتعًا بها إلى حج.
* فائدة مهمة: الصحيح من كلام العلماء أنّ الإحرام ليس له صلاة تخصه؛ كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله.
مسألة متى يكون وقت الإحرام؟
ذهب بعض العلماء إلي أنه يحرم بعد الصلاة مباشرة، وذهب البعض إلى أن الإحرام يكون بعد ركوب الدابة واستوائه عليها، وهذا هو اختيار شيخنا ابن عثيمين، رحمه الله.
2- محظورات الإحرام:
وهي كل ما يَحرُم على المُحرِم فِعلُه؛ بسبب الإحرام، وهي على أقسام:(/1)
أولاً: ما يَحرُم على الذَّكَر فقط:
1) لبس المخيط: وهو كل ما خيط على قَدْر البدن، أو على جزء منه، أو على عضو منه؛ كالفنيلة والكوت والقباء.
2) تغطية الرأس بملاصق.
ثانيًا: على الذكر والأنثى:
1) إزالة شعر الرأس: وألحق العلماء به بقية شعر البدن.
2) استعمال الطِّيب في بدنه أو ثوبه.
3) لبس القفازين: وهما شراب اليدين.
4) المباشرة بشهوة: وهي كل ما سوى الجِمَاع في الفرج؛ كالتقبيل واللمس والضم وغيره.
ثالثًا مايحرم على الأنثى فقط:
1) النقاب: وهو ستر وجهها مع وضع فتحة لعينيها تنظر منها.
* فدية هذه المحظورات السابقة على التخيير بين:
أ) صيام ثلاثة أيام.
ب) أو إطعام ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع.
ج) أو ذبح شاة.
ومن محظورات الإحرام:
1) عقد النكاح: وليس فيه فدية.
2) الجماع في الفرج: فإذا وقع قبل التحلل الأول، فإنه يترتب عليه عدة أمور:
أ ) فساد النسك.
ب) وجوب المضي فيه.
ج) وجوب القضاء في العام القادم.
د) الفدية: وهي بدنة ينحرها ويفرقها على المساكين في مكة، أو في مكان فعل المحظور.
* والمرأة كالرجل في الفدية إذا كانت مطاوعة.
3) قتل الصيد عمدًا: ومَن فعل ذلك إما أن يذبح المثل ويوزع لحمه على فقراء مكة، فمثلاً الحمامة مثلها شاة، وإما أن ينظر كم يساوي هذا المثل، ويُخرِج ما يقابل قيمته طعامًا يفرق على المساكين، لكل مسكين نصف صاع، وإما أن يصوم عن طعام كل مسكين يومًا.
* فائدة: لفاعل المحظور ثلاث حالات:
أ) أن يفعل المحظور بلا حاجة ولا عذر؛ فهذا عليه الإثم والفدية.
ب) أن يفعله لحاجة؛ فهذا ليس عليه إثم، وعليه الفدية.
ج) أن يفعله وهو معذور بجهل أو نسيان أو إكراه؛ فهذا لا إثم عليه، ولا فدية.
* لا بأس للمُحرِم أن يلبس: الخاتم والساعة ونظارة العين وسماعة الأذن ونحوها.
* فائدة:
1) يحصل التحلل الأول بفعل اثنين من ثلاثة: الرمي والحلق، أو التقصير وطواف الإفاضة.(/2)
2) إذا فعل المحرِم شيئًا من محظورات الإحرام ناسيًا أو جاهلاً أو مكرهًا أو نائمًا؛ فلا شيء عليه.
3- أدعية الحج والعمرة
أولاً: أدعية العمرة
ملاحظة: أدعية العمرة عامة للعمرة منفردة، ومع الحج.
* الذكر إذا أنشأ الحاج السفر
إذا استوت به راحلته على البيداء حَمِدَ الله، وسبَّح، وكبَّر؛ لحديث أنس - رضي الله عنه - قال: "صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن معه بالمدينة الظهر أربعًا، والعصر بذي الحليفة ركعتين، ثم بات بها حتى أصبح، ثم ركب حتى استوت به راحلته على البيداء، حمد الله وكبر، ثم أهل بحج وعمرة"، الحديث؛ رواه البخاري.
وفيه مشروعية التحميد والتسبيح والتكبير.
* التلبية: فإذا أحرم لبى، والتلبية لها عدة صيغ:
1) أشهرها "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد لك، والنعمة لك والملك لا شريك لك"؛ متفق عليه.
2) وصح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول: ((لبيك إله الحق لبيك))؛ أحمد والنسائي.
3) وكان عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما - يزيد فيها "لبيك لبيك وسعديك، والخير بيديك، والرغباء إليك"؛ مسلم.
* وله أن يُكبِّر أحيانًا.
مسألة: متى يبدأ الحاج بالتلبية؟ يبدأ بعد الصلاة، أو بعد أن يستوي على راحلته، أو إذا علا البيداء، وكله وارد.
مسألة: لا يزال الحاج يلبي حتى رمي جمرة العقبة؛ لحديث ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أردف الفضل، وخبره الفضل أنه لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة؛ أخرجه البخاري ومسلم، وأهل السنن الأربعة.
وفيه استحباب الاستمرار على التلبية حتى رمي جمرة العقبة.
* الذكر في الطواف
1) إذا استلم الحجر الأسود قال: "بسم الله والله أكبر"، "اللهم إيمانًا بك، وتصديقًا بكتابك، ووفاءً بعهدك، وابتاعًا لسنة نبيك محمد - صلى الله عليه وسلم –"؛ البخاري، عبدالرزاق، البيهقي.
2) عند استلام الركن اليماني لا يقول شيئًا.(/3)
3) يقول بين الركن اليماني والحجر الأسود: "ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار"؛ أحمد، أبو داود، النسائي.
4) أما الذكر أثناء الطواف، فلم يَثْبُت في ذلك شيئًا؛ بل يدعو الإنسان بما يريد.
* الدعاء عند شرب ماء زمزم
وإذا شرب من ماء زمزم، فليستقبل القبلة ويذكر الله، وليتضلع منه، وليحمد الله – تعالى - ويدعو بما أحب؛ فماء زمزم لما شُرِبَ له، وهو طعام الطعم، وشفاء السقم. (مسلم، أحمد، ابن ماجه).
* الذِّكْر إذا رقي على الصفا والمروة
فإذا فرغ من الطواف صلى ركعتين كما تقدم، فإذا دنا من الصفا قرأ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158]، فيرقى على الصفا حتى يرى البيت، فيستقبل القبلة ويوحد الله ويكبره ثلاثًا، ويقول: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ثم يدعو بعد ذلك، ويقول مثل هذا ثلاث مرات، ثم ينزل المروة حتى إذا انصبَّت قدماه في بطن الوادي، سعى حتى إذا صعد مشى.(مسلم).
* الذكر إذا كان بين الصفا والمروة
وبين الصفا والمروة: "رب اغفر وارحم، وأنت الأعز الأكرم، اللهم آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار"، وإذا أتى المروة فعل على المروة كما فعل على الصفا.
ثانيًا: أدعية الحج
* الذكر إذا سار إلى عرفات
وإذا سار إلى عرفات لبى وكبر. (مسلم).
*الدعاء يوم عرفة
خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وللمسلم أن يدعو بما شاء من خير الدنيا والآخرة، ومن الأدعية الواردة يوم عرفة:
- قال - صلى الله عليه وسلم -: ((وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير))؛ الترمذي.(/4)
- ((اللهم اجعل في قلبي نورًا، وفي سمعي نورًا، وفي بصري نورًا، اللهم اشرح لي صدري، ويسر لي أمري، وأعوذ بك من وساوس الصدر، وشتات الأمر، وفتنة القبر، اللهم إني أعوذ بك من شر ما يلج في الليل، وشر ما يلج في النهار، وشر ما تهب به الرياح))؛ ابن أبي شيبة في مصنفه.
* والحاصل أن المشروع في هذا الموطن ذكر الله - سبحانه وتعالى – ودعاؤه، والإكثار من ذلك.
* الذكر بعد النفرة من عرفة إلى المشعر الحرام
"إذا صلى الفجر أتى المشعر الحرام، واستقبل القبلة، فدعا الله وكبَّره وهلله ووحده، ولم يزل واقفًا؛ حتى أسفر جدًّا"؛ مسلم.
* الذكر عند الفراغ من الرمي
حتى إذا فرغ قال: اللهم اجعله حجًّا مبرورًا، وذنبًا مغفورًا. (أحمد، وابن أبي شيبة في مصنفه).
*الدعاء عند الذبح وما يسن فيه
فإذا ذبح سمى وكبر، ووضع رجله على عرض خده.
ويقول في الأضحية: بسم الله، اللهم تقبل مني، ومن أمة محمد، صلى الله عليه وسلم.
وإن كانت بدنة فليقمها، ثم ليقل: الله أكبر ثلاثًا، اللهم منك ولك، ثم ليُسَمِّ، ثم لينحر.
4- السكينة.. السكينة
1- إذا غربت الشمس سار الحاج إلى مزدلفة وعليه السكينة، قال جابر في صفة حجه - صلى الله عليه وسلم -: "ودفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد شنق للقصواء الزمام حتى إن رأسها ليصيب مَوْرِكَ رحله، ويقول بيده: ((أيها الناس السكينة.. السكينة))؛ مسلم.(/5)
2- فإذا وصلها صلى المغرب والعشاء جمعًا.. إلا أن يصل مزدلفة قبل العشاء الآخرة، فإنه يصلي المغرب في وقتها، ثم ينتظر حتى يدخل وقت العشاء الآخرة فيصليها في وقتها؛ ففي صحيح البخاري عن ابن مسعود - رضي الله عنه -: "أنه أتى مزدلفة حين الأذان بالعتمة أو قريًبا من ذلك، فأمر رجلاً فأذَّن وأقام ثم صلى المغرب، وصلى بعدها ركعتين، ثم دعا بعَشَائه فتعشى، ثم أمر رجلاً فأذَّن وأقام ثم صلى العشاء ركعتين"، وفي رواية: "فصلى الصلاتين، كل صلاة وحدها بأذان وإقامة، والعَشاء بينهما"؛ لكن إذا كان محتاجًا إلى الجَمْع، إما لتعب أو قلة ماء أو غيرهما؛ فلا بأس بالجمع وإن لم يدخل وقت العشاء، وإن كان يخشى ألاَّ يصل مزدلفة إلاَّ بعد نصف الليل؛ فإنه يصلي ولو قبل الوصول إلى مزدلفة، ولا يجوز أن يؤخر الصلاة إلى ما بعد نصف الليل.
3- ويبيت بمزدلفة.. ولا يحيي ليله بذكر، ولا صلاة، ولا قيام؛ بل السنة النوم. وأما الوتر فالصحيح أنه يصليه؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان لا يتركه حضرًا ولا سفرًا.
4- فإذا تبيَّن الفجر، صلى الفجر مبكرًا بأذان وإقامة، ثم قصد المشعر الحرام فوحَّد الله وكبره ودعا بما أحب، حتى يسفر جدًّا، وإن لم يتيسر له الذهاب إلى المشعر الحرام دعا في مكانه؛ لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((وقفت هاهنا وجَمْع كلها موقف))؛ مسلم. ويكون حال الذكر والدعاء مستقبلاً القبلة، رافعًا يديه.
5- المبيت إلى الفجر، هذا في حق الأقوياء؛ أما الضعفة ومَن كان مرتبطًا معهم، فيحق لهم الانصراف من مزدلفة بعد غياب القمر؛ لما ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - بعث الضعفة من أهله بليل.. وكانت أسماء بنت أبي بكر تنتظر حتى إذا غاب القمر دفعت.(البخاري ومسلم).
6- فإذا أسفر جدًّا دفع قبل أن تطلع الشمس إلى منى، ويسرع في وادي مُحَسِّر.(/6)
7- من الأخطاء التي يفعلها بعض الحجاج - هداهم الله -: اعتقادهم أنه لا بد من أخْذ الحصى من مزدلفة، فيتعبون أنفسهم بلقطها في الليل، واستصحابها في أيام مني؛ حتى إن الواحد منهم إذا ضاع حصاه حزن حزنًا كبيرًا، وطلب مِن رفقته أن يتبرعوا له بفضل ما معهم من حصى مزدلفة.. وقد علم مما سبق أنه لا أصل لذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنه أَمَرَ ابنَ عباس - رضي الله عنهما - بلقط الحصى له، وهو واقف على راحلته، والظاهر أن هذا الوقوف كان عند الجمرة؛ إذ لم يحفظ عنه أنه وقف بعد مسيره من مزدلفة قبل ذلك، ولأن هذا وقت الحاجة إليه ،فلم يكن ليأمر بلقطها قبله؛ لعدم الفائدة فيه، وتكلف حمله.
5- يوم العيد ( النحر)
فإنه يشرع للحاج في هذا اليوم عدة أعمال، هي كالتالي:
* ينطلق إلى منى قبل طلوع الشمس؛ لحديث جابر: "فدفع قبل أن تطلع الشمس..."؛ مسلم.
فإذا وصل إلى منى، فإنه يعمل ما يلي:
أولاً: رمي جمرة العقبة (وهي الجمرة التي تلي مكة في منتهى منى) بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة، ومقدار الحصاة مثل حصى الخذف؛ لحديث جابر في صفة حج النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ثم سلك الطريق التي تخرج على الجمرة الكبرى، حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة، فرماها بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة منها مثل حصى الخذف"؛ مسلم.
* فائدة:
- أن الرمي يوم النحر يبدأ بعد طلوع الشمس لغير الضعفة؛ أما في حق الضعفة فيبدأ من بعد انصرافهم من مزدلفة بعد غياب القمر.
- أنه لا يرمي يوم العيد إلا جمرة العقبة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يرمِ سواها.
- يستمر الحاج في التلبية حتى يصل جمرة العقبة، حيث يقطع التلبية مع أول حصاة يرميها.
- يستمر الرمي في يوم النحر إلى غروب الشمس، وله الرمي ليلاً.
- أنه لا يغسل الحصى؛ فإن غسله - كما قال شيخ الإسلام - من البدع.(/7)
ثانيًا: النحر: وهو ثاني أعمال يوم العيد، فينحر هديه، هذا هو السُّنة، ويجوز أن ينحر في أي مكان آخر من منى أو في مكة، عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((نحرت هاهنا، ومنى كلها منحر؛ فانحروا في رحالكم...))؛ رواه مسلم.
* ووقت الذبح أربعة أيام: يوم النحر وثلاثة أيام التشريق؛ قال - صلى الله عليه وسلم -: ((كل أيام التشريق ذبح))؛ أحمد.
ثالثًا: من أعمال يوم العيد: الحَلق والتقصير، والحلق أفضل.
رابعًا: من أعمال يوم العيد: طواف الإفاضة، وهو ركن من أركان الحج؛ قال - تعالى -: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29].
* وإن أخر الحاج طواف الإفاضة، فطافه عند الخروج؛ أجزأه عن طواف الوداع؛ لكن السُّنة أن يطوفه يوم العيد ضحى.
خامسًا: من أعمال يوم العيد: السعي، وهو سبعة أشواط؛ كسعيه في العمرة تمامًا، وبعد فراغه من السعي يتحلل التحلل الثاني؛ فيَحِلُّ له كل شيء منع منه الإحرام؛ حتى النساء.
* القارِن والمفرِد إذا سعيا مع طواف القدوم، كفاهما عن سعي الحج؛ فليس عليهما في يوم العيد سعي، وإن تركا السعي إلى يوم العيد لزمهما بعد الطواف، ولهما أن يؤخراه مع طواف الوداع.
* الأفضل ترتيب أعمال يوم العيد كما يلي:
1 – الرمي. 2- ذبح الهدي. 3- الحلق أو التقصير. 4- الطواف. 5- السعي.
فإن أخل بالترتيب، وقدَّم بعضها على بعض، فلا حرج؛ عن عبدالله بن عمرو بن العاص: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقف في حجة الوداع، فجعلوا يسألونه، فقال رجل: "لم أَشعُر؛ فحَلَقْتُ قبل أن أذبح!"، قال: ((اذبح ولا حرج))، فجاء آخر فقال: "لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي!"، قال: ((ارمِ فلا حرج))، فما سُئل يومئذ عن شيء قُدِّم ولا أُخِّر إلا قال: ((افعل ولا حرج))؛ متفق عليه.(/8)
العنوان: مقاليد الكتب: "أدب الجاحظ"
رقم المقالة: 1705
صاحب المقالة: محمود محمد شاكر
-----------------------------------------
مقاليد الكتب:
"أدب الجاحظ"
تأليف حسن السندوبي – طبع بالمطبعة الرحمانية – صفحاته 247
نال الجاحظ من عناية الكُتَّاب في هذا العهد، ما لم ينلْهُ أديب أو عالم آخرُ من علماء العرب وأدبائهم.
ولا غروَ؛ فقد قيل: إن الفيلسوف ثابتَ بنَ قُرَّةَ الصَابِئَ الحرَّانيَّ قال: "ما أحسُدُ الأُمَّةَ العربية إلا على ثلاثة أنفُس:
أوَّلهم: عمر بن الخطاب.
والثاني: الحسن بن الحسن البصري.
والثالث: أبو عثمان الجاحظُ".
وقال ابن العميد: "كُتُب الجاحظ تُعلِّم العقل أوَّلاً والأَدَبَ ثانِيًا".
وقال كذلك: "ثلاثةُ علومٍ، الناسُ كلهم عيالٌ فيها على ثلاثة أنفُس؛ أما الفقه ... وأما الكلام ... وأما البلاغة والفصاحة واللَّسَن والعارضة، فعلى أبي عثمان الجاحظِ".
وقال ياقوت – بعد ما ذكر أنَّ ابنَ الإخشيد أقام بعرفات ينادي -: "يرحم الله مَنْ دَلَّنا على كتاب "الفرق بين النبيِّ والمتنبِّي" لأبي عثمانَ الجاحظِ على أيِّ وجهٍ كان" –: "وحسْبُك بها فضيلةً لأبي عثمانَ؛ أنْ يكون مثل ابن الإخشيد، وهو هو في معرفة علوم الحكمة، وهو رأس عظيم من رؤوس المعتزلة، يُستهام بكُتُب الجاحظ؛ حتى ينادِيَ عليها بعرفات والبيت حرام...".
وقال أبو القاسم الإسكافيُّ: "استظهاري على البلاغة بثلاثة: القرآن، وكلام الجاحظ، وشعر البُحْتُرِيِّ".
وجعل ابن دُرَيْدٍ كُتُبَ الجاحظ من متنزهات القلوب، لمَّا ذُكِرَتْ أمامَهُ مُتَنَزَّهاتُ الدنيا، أو مُتَنَزَّهَاتُ العيون كما دعاها.
وقد اطَّلعنا في خلال الشهرينِ الماضيينِ على كتابينِ منَ الكُتُب الحديثة في الجاحظ:
الأوَّل كتاب شَفِيق جَبْرِي، وقد ذكرناه في مقتطف أكتوبر الماضي.
والثاني الكتاب الذي بين أيدينا الآن، وعلمنا أن خليل مردم بك وَضَعَ كتابًا في الجاحظ كذلك؛ ولكننا لم نره.(/1)
وعندنا بعدَ مطالعة كتابَيِ السندوبي وجبري:
أن الأول عُنِيَ بإيراد سيرة الجاحظ وآرائه؛ فأنت تخرج منه بصورة واضحة لشكله، وتعليمه، ورزقه، وبَسْطَةِ جاهه، ومقامه الأدبيِّ، ورأيه في المعتزلة، والكُتُب التي صنفها، أو المؤلفات التي نسبت إليه.
وعُنِيَ الثاني عنايةً بدرس أدب الجاحظ، وطريقته في البحث والتحقيق والنقد، وتحليل شعوره الديني، ونواحي أدبه من الضحك، إلى التهكم، إلى الصنعة، إلى الفَنِّ، وغيرِ ذلك.
فإذا استعملنا التعبير الغربيَّ قلنا: إن الأول تاريخٌ خارجيٌّ للجاحظ، والثانيَ تاريخ داخليٌّ، وكل منهما مكمِّل للآخَرِ.
وقد حقق المؤلف مولد الجاحظ؛ فرأى أن يعتمد النصَّ الذي جاء به الجاحظ، قال (صفحة 20): نقله إلينا ياقوت في معجمه؛ فقد روى أنه قال: أنا أَسَنُّ من أبي نُواسٍ بسنة، وُلدْتُ في أول سنة 150 هـ (767 م)، ووُلد في آخرها" وليس بعد هذا – في رأي المؤلف – نص يعتدّ به.
ثم أظهَرَنَا في الفصل الثالث على صورة من أساليب التعليم في ذلك العصر قال:
"فقد كان الرجل يَبعثُ بولده إلى كُتَّاب الحي؛ فيتعلم فيه مبادئ القراءة والكتابة، ويشدو شيئًا من قواعد النحو والصَّرف، ويتناول طرفًا من أصول الحساب، ثم يستظهر كتاب الله الكريم استظهارًا تامًّا مجوَّدًا مرتَّلاً، وهو في خلال ذلك يتردَّد مع أترابه على القاصِّ؛ فيسمع منه أحداث الفتوح، وأنباء المعارك، وأخبار الأبطال، ومقاتل الفرسان، ومفاخرات الشجعان، وسِيَر الغزاة والفاتحين، ممزوجًا ذلك بالمواعظ والعِبَر، وإيراد أحوال الصالحين، وأطوار الزهاد والنساك والمتقين.(/2)
وبعد أن يأخذ من كُلّ طرف من هذه المعلومات نصيبَه الكافي، يولي وجهه شطر حلقات الدرس بالمساجد العامّة، والمعاهد الجامعة، والمدارس الخاصة؛ فيقوم من حلقة الفقيه إلى حلقة المحدِّث، ومن مجلس اللُّغوي إلى سارية النَّسَّابة، ومن حضرة الأخباريِّ إلى دارة المتكلم، ومن معهد المنطقي إلى مَجْمَعِ الفلسفيِّ، ومن مَحْفِل الأديب إلى قاعة المهندس، ومن بين يَدَيِ المفسِّر إلى حظيرة الأصوليِّ، ومن غرفة الراوية إلى بيت الشاعر، ومن ديوان الكاتب إلى صاحب النجوم، ومن الأُسْطُرْلابيِّ إلى الجغرافيِّ، ومن مشهَد الموسيقار إلى مقعد المُغَنِّي، ومن عند المزمار إلى دكَّانة الوتَّار. الصبيان والبنات في ذلك سواء، وإن كانت الغالبية في الصبيان دون أخواتهم. حتى السجون، فقد كان لأهلها حظٌّ مِنَ التعليم، وكان لهم معلِّمون يدخلون إليهم في أوقات معيَّنة".
وقد تلقى الجاحظ علومه على شيوخ البصرة والكوفة، وممَّنْ أخذ عنهم علومه الأصمعيُّ، وأبو زيد الأنصاريُّ، وأبو الحسن الأخفشُ، وممن تلقَّى عليه العلم المبرِّدُ صاحب "الكامل".
ويقال: إنَّه كان وهو في دور الطلب يعاني الاتجار في الخبز والسمك بسَيْحَانَ (نهرٌ بالبصرة)، وسواءٌ صَحَّ هذا الخبر أم لم يصحَّ، فقد درج الجاحظ في بُحْبُوبة من اليسر والرخاء، واتسعت موارد رزقه... فلا عجب أن يعلو على أمثاله فضلاً وفَهْمًا، وأن يُقدِّم للغة العربية هذه المصنفاتِ التي وضعها في كل ضرب من ضروب العلم، وفنٍّ من فنون الآداب على كثرتها وجليل شأنها. فإنَّ العطايا واللُّهى[1] تفتح اللَّها، على شريطة الاستعداد الفطري والكفاية الظاهرة (ملخصًا من الفصل الرابع)، وقد أشار مصطفى صادق الرافعي إلى ذلك في مقالته عن شوقي في هذا الجزء.(/3)
ومما عرض له المؤلفُ ولم يَدْعَمْهُ بإسنادٍ قولُه: إن الجاحظ أتى مِصْرَ قال: (صفحة 71) ووقعتُ في كتاب "الحيوان" على أنَّه وَفَدَ مصر، وأقام بها زمنًا، وأجرى بها اختباراتٍ فيما عثر عليه من حيوانها". وحبَّذَا الحال لو أشار إلى الفِقْرة التي نُصَّ فيها على ذلك، أو يَحصل ذلك من معناها. ولكنه كان شديد الحذر، لمَّا ذكر أنَّ الجاحظ كان يُلِمّ بالفارسية، قال: أَجَلْ، ليس هناك نص صريح، يملأ يد الباحث في هذا الشأن؛ ولكن هناك من العبارات والألفاظ ما يدفع إلى استنباط هذا الرأي... وقال كذلك بعد ما ذكر شاهدًا على قوله... فمسألة عِرفان الجاحظِ باللغة الفارسية تستنبط بالقُوَّة من خلال سطور كُتُبِه ولا تؤخذ بالنَّصّ.
وترى أنه كان شديد القسوة لما بيَّن أنَّ كتاب "التاج" ليس من مؤلفات الجاحظ (145 – 152)؛ فبعدما أورد نصَّ تَقْدِمَةٍ صَدَّرَ بها الجاحظ كتابًا له، ونصَّ تَقْدِمَةِ "التاج" وهما موجَّهتان إلى رجل واحد قال: "فأي امرئ له مُسْكَةٌ من عقل، أو أَثَارَةٌ منَ الذَّوْقِ، أو بقيةٌ من أدب، أو لُبَابَةٌ من فضل، يستطيع أن يقول: إن كاتب تلك التَّقْدِمَةِ هو كاتب هذه؟!". ولعل بلاغة العبارة ساقته في تَيَّارِ وَقْعِهَا؛ فانساق.
وفي الكتاب فصل مسهَب أُحصِيتْ فيه كلُّ مؤلفات الجاحظ، والمؤلفاتُ التي نُسبت إليه، وفصلانِ بَسَطَ فيهما مذهب المعتزلة، ورأيَ الجاحظ فيه، وفصولٌ أخرى تحتوي على نوادره ومختارات من نثره وشعره.
وفي حواشي الصفحات ترجماتٌ موجزة للأعلام الذين ورد ذِكْرُهم في المتن.
نقول: ويا ليتَ المؤلِّفَ توسَّع في بعض الفصول تَوَسُّعًا يَنْقَعُ الغُّلَّةَ؛ كالفصلين اللذين أفردهما لمعارف الجاحظ، وإحاطته وتحقيقه للعلم؛ فإنهما شديدا الإيجاز، ولكنه قد يفعل ذلك لدى نشره كتابَ "الحيوان" وكتابَ "البيان والتبيين".
• • • • •
مقالات ذات صلة:
• • شيخ العربية محمود محمد شاكر
ـــــــــــــــــــــــ(/4)
[1] العطايا واللهى بمعنى واحد.(/5)
العنوان: مقام أهل العلم في الناس
رقم المقالة: 611
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحمد لله الذي أرسل الرسل مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط ويتحقق العدل بين المخلوقين وجعل لهم خلفاء يخلفونهم في أممهم علماً وعملاً ليكونوا قدوة للعاملين ومناراً للسالكين وشهداء على العالمين وهؤلاء الخلفاء هم العلماء الربانيون الذين اكتسبوا العلم ابتغاء وجه ربهم وربوا به الأمة علماً وعملاً فكانوا هداة مهتدين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين وجامع الناس ليوم لا ريب فيه ليحكم بينهم فيما كانوا فيه يختلفون وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله خاتم النبيين وإمام المتقين فليس بعده نبي وإنما هم العلماء كالأنبياء في هداية العالمين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً.(/1)
أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى واعلموا أن من أكبر نعمة عليكم أن حفظ عليكم هذا الدين برجاله المخلصين وهم العلماء العاملون الذين كانوا أعلاماً يهتدى بهم وأئمة يقتدى بهم وأقطاباً تدور عليهم معارف الأمة وأنواراً تتجلى بهم غياهب الظلمة فإن في وجود أمثال هؤلاء في الأمة حفظاً لدينها وصوناً لعزتها وكرامتها فإنهم السياج المتين يحول بين الدين وأعدائه والنور المبين تستنير به الأمة عند اشتباه الحق وخفائه وهم ورثة الأنبياء في أممهم وأمناؤهم على دينهم فإن الأنبياء لم يورثوا درهماً ولا ديناراً، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر وهم شهداء الله في الأرض الذين شهدوا بالحق وأعلنوها على الملأ بأنه لا إله إلا الله وأنه سبحانه هو القائم بالقسط وأن كل حكم يخالف حكمه فهو ظلم وجور، قال الله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران:18] وهم شهداء الله في أرضه يشهدون أن رسله صادقون مصدقون وأنهم بلغوا الرسالة وأدوا الأمانة ونصحوا الأمة وجاهدوا في الله حق جهاده وهم شهداء الله في أرضه يشهدون بأحكامه على خلقه يقرؤون كتاب الله وسنة رسوله ويفهمونهما فيشهدون على الخلق بما فيهما من أحكام عادلة وأخبار صادقة فليس في الأمة كمثلهم ناصحاً مخلصاً يعلمون أحكام الله ويعظون عباد الله ويقودون الأمة لما فيه الخير والصلاح فهم القادة حقاً وهم الزعماء المصلحون وهم أهل الخشية لله {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] ولهذا تكاثرت النصوص في فضل العلم وأهله فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)) وقال: ((من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة)) وقال ((إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع وإن(/2)
العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء))، أيها الناس: "إن مثل العلماء في الأرض كمثل النجوم يهتدي بها في ظلمات البر والبحر فإذا انطمست النجوم أوشك أن تضل الهداة"، "وإن فقيها واحداً أشد على الشيطان من ألف عابد" وذلك لأن العابد منفعته قاصرة على نفسه أما الفقيه فقد حفظ دين الله ونفع عباد الله فهو يقود الأمة إلى الخير ويهديهم إلى صراط العزيز الحميد والشيطان يقودهم إلى الشر {إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر:6] فدعوة الفقيه ودعوة الشيطان ضدان والشيطان والداعي إلى الخير متعاديان فلذلك كان الشيطان يفرح بموت العلماء لأنهم أعداؤه يحولون بينه وبين ما يريد.
أيها الناس إذا كان هذا فضل العلم وحال العالم أفلا يليق بنا أن نبذل الجهد لتحصيل العلم النافع بالسؤال والقراءة والبحث والتحقيق لنفوز بإرث الأنبياء الكرام وبصحبتهم في دار السلام فنعم الموروث الأنبياء ونعم الرفيق.
أيها الناس إذا كانت هذه منزلة العالم من أمته ودينه أفلا يجدر بنا أن نأسف على موت العلماء لأن فقد العالم ليس فقداً لشخصيته فحسب ولكنه فقد لجزء من تراث النبوة، جزء كبير بحسب ما قام به هذا العالم المفقود من التحقيق فوالله إن فقد العالم لا يعوض عنه مال ولا عقار ولا متاع ولا دينار بل فقده مصيبة على الإسلام والمسلمين لا يعوض عنه إلا أن ييسر الله من يخلفه بين العالمين فيقوم بمثل ما قام به من الجهاد ونصرة الحق.
وإن فقد العلماء في مثل هذا الزمان لتتضاعف به المصيبة لأن العلماء العاملين أصبحوا ندرة قليلة بين الناس وكثر الجهل والتشكيك والإلباس ولكننا لن نيأس من روح الله ولن نقنط من رحمته فلقد أخبر الصادق المصدوق محمد - صلى الله عليه وسلم -: ((أنه لن تزال طائفة من أمته على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك)).(/3)
نسأل الله أن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح وأن ييسر لهذه الأمة ما يحفظ به عليها دينها وينصر به أهل طاعته ويذل به أهل معصيته إنه جواد كريم رؤوف رحيم.(/4)
العنوان: مقاومة الإرهاب في الشعر السعودي المعاصر (شعر عبدالرحمن العشماوي أنموذجًا)
رقم المقالة: 469
صاحب المقالة: د. بسيم عبدالعظيم
-----------------------------------------
يقف الشاعر الإسلامي الفذ الدكتور/ عبدالرحمن العشماوي في طليعة الشعراء الذين شهدوا فتنة الإرهاب، وسجلوها في قصائدهم، والحق أن هذا الشاعر يستحق لقب شاعر الأمة الإسلامية في العصر الحديث لأنه يواكب أحداثها ويتفاعل مع مآسيها شرقًا وغربًا، ويرصدها في شعر يحاول أن يهز به كيان هذه الأمة الغافية من منطلق إسلامي صاف أصيل، وفي أسلوب شعري رصين، وخيال خصيب، فجزاه الله عن أمتنا الإسلامية المكلومة التي تكاثرت عليها الخطوب من خارجها ومن داخلها.
وقد أحصيت له تسع قصائد عالج فيها باقتدار هذه الظاهرة، وقد تكرر نشر بعضها في أكثر من جريدة، فمثلاً قصيدة بعنوان: (نحن كالشمس وضوحًا) نشرت في ((الجزيرة)) بتاريخ الخميس 12 ربيع الآخر 1424هـ 12 يونيو 2003م – العدد 11214 ص35، ثم أعيد نشرها في ملحق الرسالة الذي تصدره جريدة المدينة المنورة يوم الجمعة 26 ذي القعدة 1425هـ - 7 يناير 2005م في الصفحة الثامنة (الأخيرة) أي بعد عام ونصف، وكذلك قصيدته بعنوان (كلا) نشرت بجريدة الجزيرة يوم الثلاثاء 16 رمضان 1424هـ، 13 من نوفمبر 2003م العدد 13592. وسوف نعرض في هذه العجالة لبعض أبيات من قصائد العشماوي التي عالج فيها ظاهرة الإرهاب ريثما نفزع لتتبع هذه الظاهرة في قصيدة (جمد السؤال) المنشورة في الجزيرة يوم الاثنين 9 ربيع الآخر 1424هـ، 9 يونيو 2003م العدد 11211، يتساءل العشماوي في مطلعها عمن يبلغ صوته الآفاق، ويهز من وجدان أمته الأعماق، ويثير فيها الكرامة والشهامة التي تأبى الخضوع وتكره الإطراق، يقول:
من لي بصوت يبلغ الآفاقا ويهز من وجدانك الأعماقا
ويثير فيك كرامة وشهامة تأبى الخضوع وتكره الإطراقا(/1)
ويتمنى أن يقول قصيدة يشغف بها القلم، وتتلهب منها الأوراق:
من لي بقافية تثير حروفها شغف اليراع وتلهب الأوراقا
ثم يتوجه بالنداء إلى أمته التي ناداها فوجدها أسيرة لا تستطيع الانعتاق من أسرها، فهي تبني وتهدم ما بنته، ولا تجد من يشفق عليها من الطامعين فيها، فتظل خيولها في أرض السباق لكنها لا تستطيع سباقًا، يقول العشماوي:
يا أمة ناديتها فوجدتها من أسرها لا تستطيع عتاقا
تبني وتهدم ما بنته ولا ترى ممن يغازل حسنها إشفاقًا
وتظل في أرض السباق خيولها لكنها لا تستطيع سباقا
ثم يكرر نداء أمته بأداة النداء (يا) التي ينادى بها البعيد أو الغارق في سباته مبينًا أنه ما زال يسمع جرحها يشكو من المفرطين دعاة الضلالة، و(الرفاق) الذين تجاهلوا ميثاقها الإسلامي من جهة، كما يشكو من الغلاة الذين أرهقوا إحساسها فهي بين مُفْرِط مُفَرِّط وكلاهما، يبتغي إحراق وجدانها. يقول العشماوي:
يا أمة ما زلت أسمع جرحها يشكو دعاة ضلالة و(رفاقًا)
يشكو غلاة أرهقوا إحساسها ومفرْطين تجاهلوا الميثاقا
هي بين ناري مُفْرط ومُفَرط تخشى على وجدانها الإحراقا
ويمضي العشماوي في قصيدته مصورًا حزنه واشفاقه على أمته التي كتب من أجلها رسائله وسكب فيها حبه وأشواقه، كما أجرى في وجدانها نهر الشعر حتى غدت تتساقى بكؤوسه وجرت عذوبته دمًا في عرقها، يحيي جذورها وينبت أوراقها، إلى أن يقول متسائلاً:
من لي بقلب طاهر متنزه عن كل غائلة تثير شفاقا
من لي بإيمان يهز قلوبنا هزا يزيل تذبذبا ونفاقا
يا قرب أسئلتي وقرب جوابها لو أننا بوفائنا نتلاقى
وفي قصيدته (نحن كالشمس وضوحا) والتي أشرنا إليها آنفًا ومطلعها:
أخرجوا من حفرة الحقد الخطيرةْ وافتحوا بوابة الحب الكبيرةْ
اخرجوا من خندق الوهم فإني لا أرى في عمقه إلا شرورهْ
هذه الأحداث قد مدت يديها تحمل البغي إلينا وسعيرهْ
تحمل الفتنة إني لأراها في قلوب فقدت نور البصيرةْ(/2)
عجنت فتنة هذا العصر ليلا وبصَمْت وضعت فيها الخميرةْ
حسدا من عندهم جاروا علينا بأباطيل وأخبار مثيرةْ
صنعوا تمثال إرهاب وقالوا: سجل المسلم في الأرض حضورهْ
وبعد أن يدافع عن الإسلام ضد فرية الإرهاب التي ألصقت به ظلمًا وزورًا، كما يدافع عن الجماهير الغفيرة من المسلمين الذين آمنوا بالنور الحق فاستنارت به عقولهم، وخفقت به قلوبهم محذرًا أعداء الإسلام من استهانتهم بالمسلمين واحتقارهم لهم، ثم يثني على هذه البلاد المباركة التي انتظمت كالعقد بسلك ذهبي لم تر له الدنيا نظيرًا، فهو يبهر الناظر بحسنه وصفائه، ويسلب المرء شعوره لأنه من ذهب الإسلام الصافي على الدوام، فالنور يشع من جوهرة هذا الوطن الذي ينعم بالأمن وبالإيمان حتى غدا لوحة تملؤها أجمل صورة، هذه الأرض التي تهوي إليها قلوب الناس لما فيها من إحساس يجبر الأرواح الكسيرة، وفيها الكعبة المشرفة التي تسعى إليها جموع المسلمين الغفيرة، كما أنها أرض كتاب الله التي اكتملت فيها دائرة الوحي الأخيرة، حيث بعث فيها خير الناس ومتمم مكارم الأخلاق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ثم يحذر من كيد الشيطان الذي يسعى إلى تفريق العشيرة وإيقاد لهب التحريش بين أهل الجزيرة فيقول:
يئس الشيطان أن يعبد فيها فانبرى يطلب تفريق العشيرةْ
فاحذروا أن يوقد الشيطان فيكم لهب التحريش يا أهل الجزيرةْ
ثم يطالبهم بجمع الآراء لبناء كيان تتهاوى أمامه الأساطيل المغيرة محذرًا إياهم من لصوص الأمن وعيون الحقد الكثيرة التي تتربص بهم، ثم ينادي المبحرين في الفتنة قائلاً:
يا أيها المبحر في الفتنة مهلا بحرها يقتل من ينوي عبورهْ
لجة الفتنة لا يخرج منها من مشى فيها ولم يسمع نذيرهْ
كلنا في هذه الأرض وفاء ودروب من تآخينا يسيرةْ
كلنا في هذه الأرض علينا واجبات السعي في دعم المسيرةْ(/3)
ثم ينادي في خاتمة القصيدة عناقيد الضياء المتمثلة في المسلمين الصادقين (الإسلام الصافي) متمثلاً في الوحيين كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لكي تشرق من أرض الجزيرة مرة أخرى فجرًا منيرًا يملأ الدنيا أفكارًا منيرة حيث الأرض تنظر إليهم نظرة المستجير مما تعانيه، داعيًا إياهم إلى نشر عبير الحب حتي يتنسمها وينعم بها البائسون والشاكون، ثم ينهي هذه الخاتمة قائلاً:
نحن كالشمس وضوحًا كيف تخفى حينما ترفعها كف الظهيرةْ؟!
ربما يصطخب الموج ولكن كيف يخشى الموج مَنْ مدَّ جِسورهْ؟!
نحن بالله وهل يخشى ضياعًا من يكون الله في الدنيا نصيرهْ؟!
وفي قصيدته (الرسالة الثانية من الجزيرة العربية) والتي نشرتها الجزيرة بتاريخ الاثنين 17 من شعبان 1424هـ 13 من أكتوبر 2003م العدد 1337 يقول في مطلعها على لسان الجزيرة العربية:
من رمالي ومن جذوع نخيلي أشرق النور بعد ليل طويل
أنا أرض الجزيرة.. الخيل خيلي في اللقاءات، والصهيل صهيلي
عن دعاوى الإرهاب نزهت سمعي وفؤادي عن كل رأي هزيل
ليس في تربتي مقام لباغ يزرع الوهم في زوايا العقول
ويختتم قصيدته بعد استعراض تاريخ الجزيرة العربية ومآثرها عبر القرون، يختمها بمناشدة الجزيرة لدعاة الإسلام أن يحملوها على رؤوسهم، ويصدوا الدخلاء عن حماها الطهور، وأن يطبقوا شريعة الإسلام، ويتمسكوا بها، فلا تكون مجرد دعاوى خادعة وتضليل، وإلا فإن الله يستبدلهم إذا ما سلكوا طريق الضلال، وزاغوا عن الهدى مبشرًا بأن المستقبل للإسلام فيقول:
يا دعاة الإسلام في كل أرض يا بقايا من ذكريات ((الغسيل))
احملوني على الرؤوس وصدوا عن حماي الطهور كل دخيل
لا تظنوا أن العقيدة ضرب من دعاوى الخداع والتضليل
هي نهج منفذ فإذا لم تحرسوها فأبشروا بالأفول
إن أبيتم إلا طريق ضلال فسيأتي إلهكم بالبديل
أنا أرض الجزيرة.. الفجرُ فجري حين يشدو بالنور ثغر حقولي(/4)
وفي قصيدة بعنوان (صوتي وصوتك) نشرت بالجزيرة يوم الثلاثاء 2 من رمضان 1424هـ/28 من أكتوبر 2003م العدد 1352.
يقول العشماوي داعيًا إلى الأخوة الإسلامية لتفريج الهم تحت راية الإسلام الساطع في الأفق كالفجر المبين – القادر بإذن الله على إزاحة دجى الأحقاد وليلها البهيم الساجي:
خذ مقلتي الظمأى إليك بنظرة حتى أرى همي وهمك فُرِّجا
هذي أخوتنا على جمر الغضا تمشي وتلبس من أساها دُملجا
نظرت إلى الإسلام نظرة مؤمن فرأته كالفجر المبين تبلجا
ورأت دجى الأحقاد حول قلوبنا فتعجبت من ليلنا لما سجا
أنعيش في الليل البهيم وفجرنا ساق الخيول المشرقات وأسرجا
ويختمها قائلاً:
سنقوم المعوج من أعمالنا ما دام دين الله فينا منهجا
وفي قصيدة عنوانها (كلا) نشرت في الجزيرة يوم الثلاثاء 16 من رمضان 1424هـ 11 من نوفمبر 2003م العدد 11366 وأعيد نشرها في عكاظ بعد ذلك بيومين كما أشرت سابقًا، يقول العشماوي في مطلعها على لسان ضحايا تفجيرات مجمع المحيا السكني بمدينة الرياض:
كلا.. تقول بريئة النظرات.. كلا يا من تلبس بالهوى يا من تولى
كلا.. تقول صغيرة بترت يداها وتقوله الأشلاء.. كلا ثم كلا
وتقولها زفرات طفل لم يشاهد إلا ركامًا موحشًا وأبًا أشلا
وتتجاوب عناصر الطبيعة مع الضحايا من سعف النخيل والأغصان والشيح والفل والريحان، كما ترددها المآذن وشهر الصيام وما يتنزل فيه من رحمات والقرآن والهلال الذي أهل بفرحتنا، وتقولها الصلوات التي ترتقي بالأرواح، كما يقولها من ذاقوا متعة الصلاة، يصور العشماوي هذه التجارب مرددًا كلمة (كلا) التي تدل على شدة النفي مع الإنكار على هذه الجريمة الشنعاء، يقول:
ويقولها سعف النخيل وكل غصن في واحة الأمن الوريف يمد ظلاً
كلا.. سمعت الشيخ أرسلها نداء وسمعت ريحانًا يرددها وفُلا
كلا.. ترددها المآذن حين يعلو صوت المؤذن يذكر الله الأجلا
ويقولها شهر الصيام رأى المآسي ورأى هوى في كل زاوية وغلا(/5)
وتقولها الرحمات والقرآن يتلى وهلاله لما بفرحتنا أطلا
وتقولها الصلوات بالأرواح ترقى ويقولها من ذاق متعتها وصلى
ثم يلتفت العشماوي مخاطبًا هذا الوحش الذي أطل على رياض الحب فقتل السعادة والرضا متسترًا بالظلام، داعيًا عليه أن يلقى البؤس وقارعة الأسى والذل، مبينًا له ضلال طريقه، وأنه يلتمس السراب! فحل مشكلات أمتنا لن يكون بتهديم البيوت على الضحايا في ليلة من ليالي الشهر الميمون. ثم يكرر النداء مرتين في بيت واحد معلنًا حيرته في من ينادي! فقد تعبت نداءاته وما تجلى وجه المنادى، فيؤكد أنه يرى خلف الركام خيال لص، يعلم الله وحده من يكون، وكيف حل؟! لكن الذي نعرفه أنه لا يعرف الإيمان، ولا يسعى لخير أبدًا، وأنه ضل الطريق، يقول العشماوي:
يامن.. ويامن.. لست أدري من أنادي تعبت نداءاتي ووجهك ما تجلى
إني أرى خلف الركام خيال لص الله أعلم من يكون وكيف حلا؟
لا يعرف الإيمان لا يسعى لخير أبدًا، وما عرف الطريق وما استدلا
ثم يثير العشماوي عدة تساؤلات عن هذا اللص معددًا أدوات الاستفهام على اختلاف دلالاتها: من، وماذا، وكيف، وإلى متى، فيسأل عن مصدره وغايته ونيته، وكيف هوى وضل، وإلى متى يقتات من غفلات قومنا ويمشي إلينا مشي ذئب رنت خطاه إلى مرابعنا، ويسري إلى أوطاننا طاعونًا وسلا، يقول العشماوي:
من أين جاء، وما الذي ينبغي، وماذا ينوي بأمتنا، وكيف هوى وضلا؟
وإلى متى يمشي إلينا مشي ذئب زلت خطاه إلى مرابعنا وزلا؟
وإلى متى يقتات من غفلات قومي يسري إلى الأوطان طاعونًا وسِلاً؟
ولكن هذه التساؤلات تضيع سدى وتذهب أدراج الرياح، فهو لا يرى إلا خيال لص يبدو شبحًا من التآمر كما يراه خيال شيطان مريد ويراه: ((صِلاًّ)) يزحف تحت جنح الليل، يقول:
أنا لا أرى إلا خيال اللص يبدو شبحًا، علينا من تآمره تدلى
إني أراه خيال شيطان مريد وأراه يزحف تحت جنح الليل ((صِلاّ))(/6)
ويختم الشاعر قصيدته ببيت يصور فيه إحساسه الصادق بأن الأرض صاحت حين رأت ذلك الشبح الشيطاني المدمر ((كلاّ)) وحسبنا أن تقول الأرض كلا.
وقد استطاع الشاعر أن يعلن رفضه القاطع ورفض الأرض بمن عليها وما عليها لهذا الحادث الإرهابي المروع من خلال هذا الإيقاع الضخم لبحر الكامل المرفل الذي يشبه الإيقاع الجنائزي، ومن خلال هذه القافية المطلقة التي تتيح للشاعر مدَّ النفس مما يناسب مشاعر الحسرة والألم، وكذلك من خلال تكرار كلمة (كلا) خمس مرات في البيتين الأولين ومرة في البيت الثاني والعشرين وهو ختام القصيدة، وتكرارها المعنوي من خلال الفعل ((يقول)) أو ((تقول)) في الأبيات الثالث والرابع والسابع والثامن والتاسع.
وفي قصيدته ((خسر المكابر)) المنشورة بجريدة الجزيرة يوم السبت 9 من ذي الحجة 1424هـ 31 من يناير 2004م العدد 11447 يستوقف شاعرنا العشماوي هذا المتهور المتطاول المتحامل السائر على درب فيه من اللظى والجمر ما لا يطيق الجاهل الساعي إلى ما ينأى بنفسه عنه الرجل اللبيب العاقل، يستوقفه لينظر أمامه وسوف يرى الكعبة والبيت الحرام الحافل بالعبادة، فهو واحة المتعبين ينعمون بظلالها الإيمانية الوارفة، ومناهل الظماء إلى رحيق السكينة، فهي منه على مرمى سوط أو عصا، وصدى مآذنها يصل إلى سمعه، يقول:
قف أيها المتهور المتطاولُ فالنار تحرق وجه من يتحاملُ
قف! إن دربك فيه من جمر الغضا ومن اللظى ما لا يطيق الجاهل
قف أيها الساعي إلى ما يرعوي عن مثله الرجل اللبيب العاقل
انظر أمامك سوف تبدو كعبة وفناء بيت بالعبادة حافل
ساحات بيت الله فيها واحة للمتعبين وللظماء مناهل
هي منك مرمى السوط أو مرمى العصا وصدى مآذنها لسمعك واصل(/7)
ثم يسأله عن غايته محذرًا إياه من طريق وهمه لأنه حفرة يخشى القاتل فيها المقتول، ثم يذكر مآثر الإسلام محاسنه التي يغفل عنها الغافلون، ثم يعيد السؤال مرة أخرى في البيت السادس عشر محذرًا إياه، فالحرب تدور رحاها حول داره وهو غافل يريد أن يشق صف المسلمين، وإنما الخائن المتغافل هو الذي يشق الصفوف، ويستنكر الشاعر على من يريد خرق السفينة وهي في لجج البحر والعدو الخاتل يراقبها، وبينما يجري بها ربانها في حكمة وحذر ليجنبها مخاطر الأعداء إذا المشاغب المشاغل يريد خرقها، ولا يخفى علينا إفادة العشماوي هنا من حديث النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الصورة الشعرية وهو الحديث الشريف الذي يصور القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة.. والحديث معروف مشهور، يقول العشماوي:
ماذا تريد؟ وهذه الحرب التي أجرى رحاها حول دارك صائل
أتشق صف المسلمين، وإنما شقَّ الصفوف الخائن المتخاذل؟
أتريد خرقًا للسفينة وهي في لجج، يراقبها العدو المتخاذل؟
يجري بها في حكمة ربانها حذرًا وأنت مشاغب ومشاغل
ويعود التساؤل منكرًا على طرفي وسطية الإسلام من المفَرِّطين في دينهم من العلمانيين والليبراليين ومن المفْرِطين الغالين الجاهلين، ويمكن اختصار هذا المشهد في البيت الرابع والعشرين:
قد ساءنا إرهاب من بلغوا بنا طرفي نقيض الحبل، بئس الحابل(/8)
وينادي الشاعر، ويناشد إخوة الإسلام في بلد الهدى من كل ذي رشد وبصيرة ودين نهلوا منه مبينًا لهم أن أركان الدولة وضعت على الإسلام، وأن فوزها في مواصلة هذه المسيرة، داعيًا إياهم أن يكونوا لها نبض الحياة وقلبها النابض المتفائل، ثم يقول لهم في حب وأمل وعقل ينطق قبل اللسان: إنه يخشى عمق البحر وهياجه، وضياع السفينة في لجته، وساعتها لن ينفع الندم حين يقال: هناك كان الساحل، ثم يدعو على المكابرين بالخسران مبينًا أن الأمة الإسلامية على قلب رجل واحد، أو هكذا يتمنى الشاعر وينشد المثال وما ينبغي أن يكون مهمًا اتبع أصحاب الأهواء أهواءهم، ويختم العشماوي قصيدته قائلاً:
خسر المكابر نحن قلب واحد مهما تلبس بالهوى المتجاهل
وفي أعقاب التفجير الإرهابي الذي حدث في الرياض في أحد المباني التابعة لأجهزة الأمن يوم الأربعاء الثاني من ربيع الأول 1425هـ نشرت الجزيرة قصيدة للدكتور العشماوي عنوانها ((صبرًا رياض الحب)) وذلك يوم السبت 5 من ربيع الأول 1425هـ 24 من أبريل 2004م العدد 1131، وتبلغ هذه القصيدة اثنين وأربعين بيتًا يخاطب في مطلعها رياض الحب داعيًا إياها إلى الصبر، فأفقها مفعم بالمودة مهما تطاول المجرمون عليها بالخيانة، وما دامت قوية بالله فإنه يمنحها الأمان ويعصمها. ويؤكد على معنى الإيمان ممثلاً في التكبير والتهليل والتعظيم لله رب العالمين، فالله أكبر من تآمر الغادرين وأجل أعظم من تدبيرهم وتنظيمهم، فيقول:
صبرًا فأفقك بالمودة مفعم مهما تطاول بالخيانة مجرم
صبرًا رياضَ الحب أنت قوية بالله، يمنحك الأمان ويعصم
ما دام فيك مكبر ومهلهل لله رب العالمين يعظم
الله أكبر من تآمر غادر وأجل مما دبروه ونظموا(/9)
ثم ينادي الرياض بعد أن دعاها إلى الصبر والحب والاعتصام بالله، فمما يخفف من ألم هذه الحوادث أنها جريمة توسم بمواسم الشبح المموه الغريب الذي يمحو ويكتب ويبرم في الظلام حيث لا تراه عيوننا، ولكن رسائله الغادرة لا تغيب رؤاه عن أولي النهي والأفهام، فهذا الشبح ما زال يرحل في دروب الخيانة، متبلد الإحساس، مصورًا إحساسه بالليل المظلم في هذه الدروب، ثم يشير إلى عمالة هؤلاء لأصحاب الأساطيل الكبيرة التي تطوق أمتنا، مبينًا سوء ما يجني هذا البغي المريب الغامض المتلثم على أوطاننا متجاوزًا بذلك حدود شرع الله في تطاول وتحامل، فأين التدين من هذا الفريق الواهم الذي يهمهم بفم التنطع والغلو الذي تفحمت أفكاره بالحمم التي يتدفق بها بغيه، وما ذلك إلا من سوء نيته، فقد صنعت منه الأيدي الخفية لعبة دموية تهذي بما لا تعلم، فإذا سألته عن أسمى مقاصده فهي شبهة رعناء تتحكم في وجدانه، فهو يمشي ونار الحقد تغلي في أعماقه والعداء يزمزم في دمه، فهو لا يملك حجة، ولهذا يتكلم بالرشاش مع كل من يدنو إليه، وهي لغة تترجم عن الهوى والضلال، فقد تقطعت حبال المودة من إحساسه، فالود حبل يصرم بالقطيعة، وأين المحبة والسلام من امرئ قاس يتجهم إذا حييته؟! بل أين التحية والسلام ممن إذا حييته رد التحية بالمتفجرات، متمنيًا لو وجهت هذه المتفجرات إلى الأعداء الذين يتربصون بنا، إذًا لنال بها الشموخ والغنم، ويتمنى كذلك أن لو رفع الغشاوة عن بصيرته لكي يرى ما لا يراه الغافل المتوهم.(/10)
وفي ستة أبيات متتالية من الثالث والعشرين إلى الثامن والعشرين يسوق شاعرنا ستة استفهامات إنكارية يستهلها بالاستفهام عن بقية الضمير عند هذا الإرهابي التي تكبح جماح هواه المستبد، ثم ينكر عليه عدم فهم سر قول نبيه ((لا يرحم الرحمن من لا يرحم))، ثم يعرض فيما تبقى من استفهامات مآسي الأمة الإسلامية التي كان فيها الكفاية، ((من غدر شارون الذي يهتز شوقًا للدماء ويبسم))، وأننا نحرم من حقنا في قدسنا الغالي علينا، وأن في العراق جريمة تهزم فيها قوانين العدالة، ويجمل في الاستفهام الأخير كل هذه المآسي التي هي جرح أمتنا الذي أمسى يقسَّم على جسدها الضعيف الواهم.
ثم يتلفت العشماوي إلى ضحايا هذه التفجيرات من الأبرياء فيرثي لحالهم ويتفجع عليهم، فهذا طفل خائف ينظر إلى جدار غرفة والديه المحطم وفي مقلتيه تساؤل الألم الذي جرت به الدموع إلى أولئك المجرمين، وهذا طفل بريء كان يحمل حقيبته المدرسية وما بها سوى قمر البراءة صافيًا والأنجم، فما ذنب هؤلاء؟ لكن الجواب يموت على صدى الصوت المدوي صوت الانفجار الذي تختم به كتب الخيانة، يصور الشاعر هذه المناظر المفجعة فيقول:
أواه من نظرات طفل خائف وجدار غرفة والديه محطم
في مقلتيه تساؤل الألم الذي جرت الدموع به إلى من أجرموا
ما ذنب طفل في حقيبته التقى قمرُ البراءة صافيًا والأنجم
مات الجواب على صدى الصوت الذي بدويِّه كتبُ الخيانة تختم
ثم يرد العشماوي على تخرص هؤلاء الذين يزعمون الإصلاح مبينًا فساد دعواهم، مركزًا على هذا الفساد عن طريق التكرار في البيتين (34، 33) حيث كرر الشطر الأول فيهما ((يا ضيعة الإصلاح حين يقوده)) فأي إصلاح يقوده قلب عديم الحس وفكر معتم؟ وأي إصلاح تقوده كف ملطخة بالدماء بل إن الدماء لتتعوذ من أصابعها؟! يقول:
يا ضيعة الإصلاح حين يقوده قلب بلا حِس وفكر معتم
يا ضيعة الإصلاح حين تقوده كف تعوذ من أصابعها الدم(/11)
ثم يعود مرة أخرى في ختام قصيدته إلى الرياض ((رياض الحب)) فيدعوها للصبر، فلحن قصائده يجري إليها، وخيلهن تحمحم، وفي روضتها الحبيبة لم تزل ترسل فيها صور التلاحم بين أبنائها، وما زالت غصنًا يانعًا مهما بدا فيها ذاك الغراب الأسود المشؤوم، يقول:
صبرًا رياض الحب لحن قصائدي يجري إليك وخيلهن تحمحم
صبرًا فروضتك الحبيبة لم تزل صور التلاحم في ثراها ترسم
ما زلت للتغريد غصنًا يانعًا مهما بدا فيك الغراب الأسحم
ثم يحذر هؤلاء الراكبين على متن الردى على لسان الرياض، مستبعدًا أن ينال السلامة من ركب الردى، داعية إياهم إلى التوبة الصادقة إلى الرحمن، فهو سبحانه أرأف وأرحم بالعباد، مؤكدًا أن الدم المعصوم يبقى جذوة مضرمة في كل وجه خائن، يقول:
قولي لمن ركبوا على متن الردى هيهات من ركب الردى لا يسلم
توبوا إلى الرحمن توبة صادقة فالله أرأف بالعباد وأرحم
إن الدم المعصوم يبقى جذوة في كل وجه للخيانة تضرم
وفي البيتين الأخيرين يكرر دعوته إلى الصبر واللجوء إلى الله، فهو نعم الملجأ، فاللجوء إلى الله يصد ما لا نعلم، وينهاها عن الجزع، فما زال النهى وارفًا نحيا به متآلفين وننعم، يقول:
صبرًا رياض الحب إن لجوأنا لله سوف يصد ما لا نعلم
لا تجزعي ما زال أمنك وارفًا نحيا به متآلفين وننعم(/12)
وبعد يومين تنشر الجزيرة قصيدة للعشماوي بعنوان ((يا بلاد التوحيد)) يوم الأربعاء 7 من ربيع الأول 1425هـ/26/ من مايو 2004م – العدد 11563، مما يدل على تأثر شاعرنا بهذا الحادث الأليم، وإذا كان العشماوي قد خص الرياض بقصيدته السابقة فإنه يتوجه بهذه القصيدة إلى المملكة العربية السعودية بأسرها، مؤكدًا على جندية أبنائها وحمايتهم للحمى وذودهم عنها ووفائهم لها وثباتهم على الهدى وصمودهم عليه، وحبهم لإبائها شيبًا وشبانًا وولدانًا ومليكًا وشعبًا، رجالاً ونساءً، ضعافهم وأشداءهم، وأنهم جميعًا في أرضها الكريمة قلب نابض بالهدى، ورأي سديد، قد جمع شملهم خير دين وبنى صرحهم الكتاب المجيد، يقول العشماوي:
كلنا فيك يا بلادي جنود فيك نحمي الحمى وعنك نذود
كلنا فيك يا بلادي وفاء وثبات على الهدى وصمود
كلنا للإباء فيك محب طاعن السن والفتى والوليد
ومليك وشعبه ورجال ونساء وواهنٌ وشديد
نحن في أرضك الكريمة قلب نابض الهدى ورأي سديد
جمع الشمل بيننا خير دين وبنى صرحنا الكتاب المجيد
ويؤكد العشماوي على أن المملكة بيت الإسلام ومهوى قلوب خافقات شعارها التوحيد:
أنت بيت الإسلام مهوى قلوب خافقات شعارها التوحيد
ويلح العشماوي على إبراز وحدة الصف في هذه البلاد المباركة، واحتفائهم بصروح الهدى التي لا تميد، ويفتح الباب أمام الخاطئين للعود، فيقول:
منك يا أرضنا الشموخ ومنا عزمات وهمة وصعود
ينتهي البغي بالخسارة مهما بنيت منه في الطريق السدود
يطلب الواهم السعادة فيما حرم الله، والتقي السعيد
وقبل ذلك بعام كانت الجزيرة قد نشرت قصيدة للعشماوي عنوانها ((حوار مع صديقة)) يوم الأحد 15 من ربيع الآخر 1424هـ - 15 من يونيو 2003م العدد 11217 أهداها العشماوي مع التحية إلى صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبدالعزيز أمير الرياض ومطلعها:
تهدي إليك من الزهور شذاها ومن النخيل الباسقات جناها(/13)
وفي خاتمة قصيدته يتساءل العشماوي في إستنكار عن بغية المرجفين موضحًا أن الجحيم تذيب من يصلاها، ويفرق بين الجهاد وبين قتل المؤمنين في أرض الإسلام، ويستمر في إنكاره عليهم حيث لم يعلموا أن عز النفوس يكون في صونها وأنه قد خاب من دساها، ويقرر أنه ليس كل من طلب الشهادة نالها، وإنما الشهادة منحة من الله تعالى يهبها لمن يشاء، ثم يطلب من الرياض أن تمد يديها إلى صديقها الذي هو شاعرنا فتقبل هديته، ولتعلم أن الهدية قدر من أهداها، ويطلب منها أن تقول لمن لعب الهوى بضميره فعمي عن الحق رغم علمه به ورؤيته إياه وانتمائه لسواه، يطلب منها أن تقول له: إن هناك إلهًا عادلاً وإنه لولا موازينه وعدله لرأيت أسفل أرضنا أعلاها.
وفي قصيدته ((ماذا تقول إلى الجبال)) التي نشرتها الجزيرة يوم الأحد 27 من رجب 1425هـ 12 من سبتمبر 2004م – العدد 11672 ومطلعها:
هذي الجبال شموخها وذراها ونباتها وهضابها وحصاها
يفتخر العشماوي بهذه الأرض المباركة التي ازدهى فيها معنى الإخاء وعانقته رؤاها وأن الإرجاف يتصاغر عنها منذ شدت عراها على الدين الحنيف، ومنذ احتفى بحبها خير العباد محمد صلى الله عليه وسلم ودعاها إلى ينابيع اليقين، فهي تصحو وتكبير الآذان نشيدها، وتهتز شوقًا كلما ناداها وتنام قريرة باسم الله حيث تغفو عيناها على الأذكار، ويوازن العشماوي بين وجه الرياض ووجه عدوها وشتان بين الوجهين، فالرياض في وجهها ألق الصباح، أما وجه الخسارة فهو وجه عدوها، ويستخدم هنا أسلوب القصر الذي يتكرر في شعره كثيرًا ليؤكد على خسارة وجه عدو الرياض بل إنما هو الخسارة نفسها، يقول العشماوي:
في هذه الأرض المباركة ازدهى معنى الإخاء وعانقته رؤاها
يتصاغر الإرجاف عنها منذ أن شدت على الدين الحنيف عراها
تصحو وتكبير الأذان نشيدها تهتز شوقًا كلما ناداها
وتنام باسم الله وهي قريرة تغفو على أذكارها عيناها
في وجهها ألق الصباح وإنما وجه الخسارة وجه من عاداها(/14)
ويشير العشماوي إلى توحيد هذه البلاد المباركة على يد الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه، وأنها حين جرت خيله عليها أسفرت عن دوحة سقاها صوب الغمام، وأنها في غنى عن كل فكر ساقط، فقد كفاها الوحي والحق المبين، وهي آمرة بالمعروف حتى إنها لتأمر بالمعروف من يجافيها، ثم يستخدم أسلوب القصر الذي أولع به – كما أشرت – ليؤكد أن لوحة الإرهاب ماهي إلا لوحة سوداء تنكر أرضنا فحواها، فهي غريبة عنها دخيلة عليها. ويتساءل في إنكار عن مصدر هذه اللوحة المنكرة، ويجيب بأنها إنما وفدت من غياهب عالم قتلة الحقيقة بعد أن أخفاها، ويقرر أنه يرى خيالها خلف البحار ويرى أشقاها والمحرض عليها خلف هذا الخيال، ويقول لكل من مدوا لهذه اللوحة يسرى اليدين: ألم تروا يمناها؟! ويتمنى أن لو تمهل من فقدوا اليقين لأن الشك يقتل الرضا في النفوس، يقول العشماوي:
لما جرت خيل الموحد أسفرت عن دوحة صوب الغمام سقاها
هي في غنى عن كل فكر ساقط فالوحي والحق المبين كفاها
أمرت بمعروف ويكفي أنها تدعو إلى المعروف من جافاها
ما لوحة الإرهاب إلا لوحة سوداء تنكر أرضنا فحواها
من أين جاءت؟ من غياهب عالم قتل الحقيقة بعدما أخفاها
إني أرى خلف البحار خيالها وأرى وراء خيالها أشقاها
إني أقول لكل من مدوا لها يسري اليدين: ألم تروا يمناها؟
يا ليت من فقدوا اليقين تمهلوا فالشك يقتل في النفوس رضاها
وفي ختام قصيدته يفرق العشماوي في استفهام إنكاري بين الجهاد الحسن والفتنة الهوجاء التي تعصف رحاها بالعباد، ثم يعود إلى قول الجبال وقد تجللت بالسحب أو تكللت بها تقول له: إن النفوس ترقى بالصدق والوفاء وبما يزيل الوهم من تقواها، وإن عشاق الظلام ومن لا يحبون النور في ضحى الشمس ينزوون عن نورها، فكم من فتنة خدعت ببريقها مؤجج نارها فكان عقباها الردى، يقول العشماوي:
أين الجهاد وحسنه من فتنة هوجاء تعصف بالعباد رحاها
ماذا تقول لي الجبال؟ تقول لي والسحب تلقاني كما تلقاها(/15)
ترقى النفوس بصدقها ووفائها وبما يزيل الوهم من تقواها
بوابة الشمس المضيئة ينزوي عن نورها من لا يحب ضحاها
كم فتنة خدعت مؤجج نارها ببريقها كان الردى عقباها
ولعلنا في ختام هذه العجالة نذكر بعض سمات شعر العشماوي عمومًا وشعره حول ظاهرة الإرهاب خصوصًا، فقد لاحظت غرامه ببحر الكامل حيث نظم فيه ستًا من قصائده التسع التي تناولت هذه الظاهرة، وهو أكثر بحور الشعر جلجلة وحركات، وفيه لون خاص يجعله فخمًا جليلاً مع عنصر ترنمي ظاهر ومع صلصلة كصلصلة الأجراس ونوع من الأبهة – وهو بحر كأنما خلق للتغني المحض، ودندنة تفعيلاته من النوع الجهير الواضح الذي يهجم على السامع مع المعنى والعواطف والصور حتى لا يمكن فصله عنها بحال من الأحوال.
كما أكثر الشاعر من استخدام القوافي المطلقة التي تتيح له مد النفس بالصوت رغبة منه في إيصال صوته إلى الغافلين لإيقاظ مشاعرهم كما غلبت عليه العاطفة الإسلامية، ولا غرابة في ذلك فهو شاعر إسلامي مرموق، كما أن الموضوع نفسه فرض هذه العاطفة على غيره من الشعراء الذين عالجوا هذه الظاهرة لتفنيد ادعاءات الإرهابيين وبيان سماحة الإسلام، وعدم إقراره مثل هذه الممارسات الشاذة المنكرة.
وقد أحسن العشماوي توظيف القرآن الكريم والحديث النبوي في تشكيل صوره الشعرية، والأمثلة على ذلك كثيرة يضيق المقام عن ذكرها، كما برز عنده أسلوب القصر الذي سعى من خلاله إلى التأكيد، ومن حيث المضمون فإن العشماوي يعد أبرز من تناولوا هذه الظاهرة كمًا وكيفًا إذ واكب شعره الأحداث أولاً بأول على نحو ما أشرت.(/16)
العنوان: مقترحات قبل رمضان
رقم المقالة: 1228
صاحب المقالة: حسين بن سعيد الحسنية
-----------------------------------------
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وبعد،،
فإليك - أخي الكريم - هذه الجملة من المقترحات المختصرة، التي تساعد على تهيئة النفس والبيت والمسجد لاستقبال شهر رمضان المبارك، الذي نسأل الله أن يبلِّغنا وجميع المسلمين صيامه وقيامه، إنه على كل شيء قدير:
أولاً النفس:
1- إخلاص العمل لله عزَّ وجلَّ.
2- استشعار نعمة الله علينا بهذه المواسم.
3- العلم بأنه ميدان منافسة على العِتْق من النار.
4- تهيئة المصحف، والانقطاع عن الشَّوَاغل.
5- اختيار كتاب من كتب التفسير؛ ككتاب السعدي - رحمه الله - للرجوع إليه عند الحاجة.
6- أن يخصِّص الإنسان لنفسه تلاوَتَيْن؛ الأولى: تلاوة تدبُّر، بقراءة جزءٍ واحدٍ في كل يومٍ؛ يتدبَّرُه، ويقف عند عجائبه وآياته. الثانية: تلاوة أجرٍ؛ وهي التي يُكْثِر فيها الختمات؛ ابتغاء الأجر.
7- إعداد جدول للقراءة، يوفِّق فيه الإنسان بين قدراته وأعماله.
8- تعويد النفس على الدعاء ورفع اليدين.
9- تعويد النفس على الجلوس في المسجد أدبار الصلوات، وخاصةً صلاتَيِ الفجر والعصر.
10- تعويد النفس على الصَّدَقة والبذل والعطاء.
11- الحرص على تحفيز النفس، ومضاعفة دورها في العمل الصالح؛ مثل: قراءة حياة السَّلف وحالهم في رمضان.
12- الاستماع إلى الأشرطة، وقراءة المطوِيَّات الخاصة بذلك..
13- تعويد النفس على القيام، وذلك بالزيادة في الوِتْر والتهجُّد.
ثانيا البيت:
1- شراء مصاحف وحاملات مصاحف لجميع أعضاء الأسرة..
2- تخصيص مُصَلَّى في المنزل.
3- شراء الأشرطة والمطوِيَّات، وعمل مسابقات عائلية خاصَّة برمضان.
4- عقد جلسة مع أفراد الأسرة، والتحدُّث عن رمضان وفضله وأحكامه.
5- تجهيز المنزل بما يتطلَّبه من مأكولات ومشروبات بشرط عدم الإسراف.(/1)
6- اتخاذ قرار مُجْمَع عليه من وسائل الإعلام وما تبثُّه في رمضان.
7- تنسيق وتوزيع الأدوار بين أهل البيت في الخدمة، حتى تجد المرأة حظَّها في برامج العبادة.
8- تنسيق برامج الزيارات والاستضافات الرمضانية مع الأهل والجيران والأصدقاء.
9- إعداد برنامج للعمرة والاعتكاف لجميع أعضاء الأسرة.
10- المشاركة في إعداد طبق يومي - ولو كان شيئًا يسيرًا - يُهدى لوجبة تفطير الصائمين في المسجد.
11- مسابقة في حفظ أحاديث كتاب الصيام؛ مثل كتاب "بلوغ المرام" أو "رياض الصالحين"
ثالثًا المسجد:
1- أن يتهيَّأ الإمام للمواظبة بالقيام بجميع الفروض في مسجده طيلة أيام الشَّهر.
2- إعداد إنارة المسجد، وتنظيم أثاثه، والعناية بالإذاعة والصوتيات.
3- الاهتمام بدورات المياة، والقيام على تجهيزها وتنظيفها.
4- حثِّ جماعة المسجد على جمع التبرعات للمسجد، وما يحتاجه من الماء والمناديل الورقية والطِّيب.
5- استضافة بعض العلماء وطلبة العلم في المسجد؛ لإلقاء الكلمات والمواعظ قبل رمضان وأثناءه.
6- اختيار الإمام للكتاب المناسب، وقراءته على جماعة المسجد بعد إحدى الصلوات.
7- إعداد المسابقات اليومية والأسبوعية لجماعة المسجد.
8- تخصيص لجنة تقوم بإعداد وجبة إفطار الصائم، والإشراف عليها.
9- توزيع الأشرطة على أهل الحي.
10- إعداد برامج للجاليات؛ من مطوِيَّات وأشرطة.
11- تخصيص ليلتَيْن أو ثلاث من الشهر؛ يجتمع فيها جماعة المسجد لإفطارٍ جماعيٍّ، يأتي كل واحد منهم باليسير من زاده، ويجتمعون عليه في المسجد، تحت إشراف الإمام وتنسيقه.
12- إعداد برنامج ترفيهي لشباب الحي.
13- الحرص على أن يختم الإمام ولو خَتْمَة واحدة في صلاة التراويح.
14- إقامة دوريَّة للحي.
15- الحرص على أن تُقَدَّم برامج تُكَوِّن بدائل ومزاحمات إعلامية.
16- إعداد برنامج لجمع الزكاة وتوزيعها على فقراء الحي.(/2)
17- إعداد برنامج لعيد رمضان؛ مثل اجتماع الجيران بعد صلاة العيد في المسجد.
وبالله التوفيق, وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.(/3)
العنوان: مقتضى الإخوة الإسلامية
رقم المقالة: 674
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحمد لله الذي بعث محمداًً - صلى الله عليه وسلم - بالهدى ودين الحق، فهدى به من الضلالة، وبصر به من العمى، وجمع به بعد الفرقة، وألف به بعد العداوة، والحمد لله الذي جعل التآخي بين المؤمنين من مقتضيات الإيمان، وأوجب عليهم ما يقوم هذه الإخوة من الدعائم والأركان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، الملك الحق الديان، وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله أشرف بني الإنسان صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين له بإحسان وسلم تسليماً.(/1)
أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى، وحققوا إيمانكم بتحقيق ما جاء به نبيكم - صلى الله عليه وسلم -؛ طلباً، وخبراً، فإن السعادة لا تحصل إلا بامتثال أمر الله ورسوله، والسير على نهجه وطريقه، أيها الناس: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة)) هكذا أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن المسلم أخو المسلم وأمر بذلك في قوله: ((كونوا عباد الله إخوانا)) فهذه الإخوة التي أمرنا بها ليست أخوة في اللسان فحسب، ولكنها أخوة عميقة كامنة في النفوس والقلوب غراسها إخلاص الود وثمراتها المعاملة الحسنة لأخيك، والذب عنه أخوة تقتضي أن تحب لأخيك ما تحب لنفسك تحب أن يكون صالحا، أن يكون عزيزاً، أن يكون قوياً، أن يكون غنياً، أن يكون متخلقاً بالأخلاق الفاضلة كما تحب لنفسك أن تكون كذلك تسعى في نصحه وإرشاده وتقويمه سالكاً بذلك أحسن السبل لحصول المقصود كما تحب أن يسعى لك في هذا، تكره لأخيك ما تكره لنفسك، فتكره أن يكون فاسداً، أن يكون ذليلاً، أن يكون ضعيفاً، أن يكون متخلقاً بالأخلاق السافلة تكره ذلك كله لأخيك كما تكرهه لنفسك لا يكفيك إذا كان أخوك، ورأيته على حال لا تحبها لنفسك أن تدعو الله له بإصلاح حاله بل ادع الله له، واستعن بالله على فعل الأسباب التي تنقذه مما تكره، من واجبات هذه الإخوة أن لا تظلمه. لا تظلمه في دمه، ولا تظلمه في ماله، ولا تظلمه في عرضه كما أنك تكره أن تظلم في هذه الأمور هل من الإخوة أن تأكل مال أخيك بغير حق هل من الإخوة أن تعتدي على حقوقه؟ هل من الإخوة أن تقطع رزقه فتبيع على بيعه، وأن تؤجر على إجارته، وأن تفالح على مفالحته، وأن تخطب على خطبته هل ذلك من الإخوة؟ هل من الإخوة أن تخدعه؟ أن تغدر به إذا عاهدته أن تغشه(/2)
إذا عاملته؟ هل من الإخوة أن تتبع عوراته؟ فتعلنها، وتنظر إلى حسناته بعين الأعشى، فتسترها هل من الإخوة أن تعتدي على عرضه تغتابه فتأكل لحمه ميتاً في كل مجلس؟ لقد شاعت هذه المعصية في الناس، وتهاونوا بها، واحتقروها مع أنها من كبائر الذنوب، ((سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الغيبة، فقال: " هي ذكرك أخاك بما يكره فقيل: يا رسول الله أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كانت فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول، فقد بهته)). ولقد صارت الغيبة في مجتمعنا عند بعض الناس من فواكه المجالس حتى لا تعمر مجالسهم إلا بها نسأل الله لنا ولهم الهداية.(/3)
نعود إلى الحديث فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته)) ما أعظم هذا من ثواب نقد عاجل يكون لأخيك الحاجة، فتقوم بها، وتعينه عليها، فيقوم الله بحاجتك، ويعينك عليها فحقيق بمن آمن بهذا - وكلنا نؤمن به إن شاء الله - حقيق أن يكون في حاجات إخوانه دائماً يغيث الملهوف، وينصر المظلوم، ويعين العاجز، ويصلح بين المتخاصمين، ويؤلف بين المتعاديين، ويقضي حاجة من لا يستطيع قضاءها، فيطعم الجائع، ويكسو العاري، ويسقي الظمآن، ويدل الأعمى على الطريق، ومن كان في حاجة أخيه - قليلة كانت أو كثيرة - كان الله في حاجته، والجزاء من جنس العمل، ومن كان الله في حاجته، فلا بد أن تقضي حاجته، وتيسر أموره. يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة)) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.. الخ.(/4)
العنوان: مقتل حاكم العراق
رقم المقالة: 309
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
الحمد لله العلي الأعلى؛ خلق فسوى، وقدر فهدى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، نحمده على نعمه التي لا تحصى، ونشكره على فضله الذي لا ينسى، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ قسم الدين بين عباده فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله، وقسم بينهم الدنيا فيؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، لا راد لأمره، ولا معقب لحكمه، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله؛ اصطفاه الله تعالى على العالمين نذيرا وبشيرا، وجعله سراجا منيرا، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه؛ قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله عز وجل؛ فإن الدنيا مهما طالت زالت، ومهما أزهرت أغبرت، وكم من عزيز تجرع ذلها! وكم من غني ذاق فقرها! ولا يبقى للعبد منها إلا ما عمل فيها (يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور).
أيها الناس: مضى عيد المسلمين الكبير بعد أن وقفت جموع منهم على صعيد عرفة يقيمون ذكر الله تعالى، ويعظمون شعائره، يباهي بهم ربهم عز وجل ملائكته، فهو سبحانه من شرع لهم دينهم،ورضي منهم عملهم، فأدوا لله تعالى نسكهم، في لباس واحد، ومكان واحد، وشعار واحد.(/1)
وفي يوم العيد الأكبر ذبح المسلمون ذبائحهم، وتقربوا لله تعالى بهداياهم وضحاياهم، قائلين: بسم الله والله أكبر، اللهم إن هذا منك ولك، فما أعظمها من عبادات، وما أجلها من شعائر، تأخذ بالقلوب، وتسيل الدموع؛ فرحا بالله تعالى وبالاجتماع على ذكره وشكره وحسن عبادته، فهنيئا لكم أيها المسلمون ما هديتم إليه من الشرائع، وما قام في قلوبكم من تعظيم الشعائر، واشكروا الله تعالى إذ هداكم، وسلوه الثبات على دينكم.
وخلال هذه الأيام المباركة التي باركها الله تعالى بأن جعلها أفضل أيام السنة، وقضى بأن العمل الصالح فيها أفضل منه في غيرها، واختصها بشعيرتي الحج والأضحية، في تلك الأيام المباركة كانت أمة النصارى الضالة تحتفل بعيد ميلاد المسيح عليه السلام وعيد رأس السنة الميلادية في جملة من الشعائر الشركية،والمراسم الشهوانية،التي تشبع غرائزهم ولا تصلح قلوبهم، وترضي شيطانهم، وتسخط ربهم عليهم، ولا تزيدهم إلا ضلالا على ضلالهم،وبعدا عن مناهج الأنبياء وشرائعهم.
وقد تابعهم في ضلالهم هذا جملة من المسلمين، يفرحون بأعياد الضالين، ويشدون رحالهم إليها، ويبحثون عنها في مظانها..يعبون من شهواتها، ويتمتعون بزخارفها، ويهنئ بعضهم بعضا بها، في حين أنهم يضجرون من أعياد المسلمين، فيعطلون شرائعها، ولا يعظمون شعائرها، فنعوذ بالله تعالى من الضلال بعد الهدى، ومن الغفلة والهوى.(/2)
ولئن شهدت الأيام الماضية المباركة فرح المسلمين بأعيادهم الشرعية، واحتفل فيها النصارى بأعيادهم الكفرية؛ فإن الأمة الصفوية الباطنية قد خالفت عموم المسلمين في العيد الكبير فأخروه عن العيد الشرعي؛ إمعانا في المخالفة، وقصدا لترسيخ البدعة، وخرقا لإجماع الأمة، ثم عمدوا إلى عيد المسلمين الأكبر فقتلوا فيه حاكم العراق؛ ليؤكدوا لأهل السنة حكمهم لمدينة السلام وما حولها، التي كانوا يحلمون بحكمها منذ القرن السابع لما أسقط أجدادهم بخيانة ابن العلقمي الرافضي خلافة بني العباس تحت أقدام المغول. فعلوا ذلك بحاكم العراق يوم عيد المسلمين وهم يرددون الشعارات الطائفية البغيضة التي تنم عن تعصبهم لمذهبهم الضال، وتشي بمدى حقدهم على أهل الإسلام، وتدل على أنهم قوم بهت غدر، يظهرون الضعف والوداعة حتى إذا تمكنوا لم يرقبوا في مؤمن إلا ولا ذمة، وما يفعلونه بأبناء العراق من التعذيب والحرق وتشويه الأجساد وتمزيقها لم يفعله إخوانهم من الصهاينة والصليبيين كأنهم بقتلهم لحاكم العراق الأسير في العيد الكبير يوصلون رسالة مهمة لعموم المسلمين يقولون لهم فيها: أنتم تفرحون بعيدكم، ونحن نأمر وننهى في عراقكم، وقد خرجنا عن تقيتنا، وأعلنا شعارنا الطائفي حال قتلنا لزعيم من زعمائكم، وحوّلنا الإعلام من الاهتمام بحجكم إلى مواقع إهانتكم، ومواضع ذلكم، فما أنتم قائلون؟ وماذا ستفعلون؟ وما أنتم إلا عاجزون. حتى إن كاتبا غربيا أثر فيه المشهد وتوقيته فقال:إنه عندما يظهر دكتاتور عرف بوحشيته الاستثنائية وهو يموت بطريقة مشرفة وبشجاعة نادرة على أيدي مجموعة من السفاحين قطاع الطرق المقنعين, فإن ذلك يمنحه بكل تأكيد تاج الشهداء.إلى أن قال:من الواضح أن ما أراده المالكي هو بعث رسالة متعمدة إلى سنة العراق مفادها أن الشيعة هم الأسياد الآن, مما يحول الحكومة العراقية الحالية, التي كان هدفها توحيد العراقيين, إلى مجرد عصابة طائفية مصممة على جعل السنة(/3)
الأقلية التي تدفع ثمن كل القمع الذي مارسه نظام صدام بحق الشيعة .
لقد التقت الرغبة اليمينية الإنجيلية مع الحقد الصفوي الباطني، على هدف واحد وهو هزيمة روح المقاومة عند السنة ومن ثم البدء بتشكيل المنطقة وكتابة تاريخ يخطه المنتصرون.
إن مشروع تركيع الشرق الإسلامي لا يمكن أن يطبق دون إجهاز على النفوس المقاومة للظلم والاستعمار والتغريب والتشييع،والذي يحدث في العراق هو تجهيز للمنطقة بكاملها إن على مستوى العنف والقتل والدمار الذي وصل إلى مستوى القاع وليس بعد القاع إلا رمي ركائز الشرق الأوسط الجديد، أو على مستوى السياسات العامة، أو على مستوى التهيئة النفسية. واختيار هذا الموعد لإعدام صدام هو آخر بالونات الاختبار للتأكد من أن التخدير قد جرى في شرايين أبناء المنطقة، وأنهم لم يعودوا يشعرون بالألم فما لجرح بميت إيلام.رد الله تعالى كيدهم عليهم، وحفظ المسلمين من شرهم ومكرهم.
أيها الإخوة: وما أن وقع هذا الحدث الكبير في عالم السياسة، ونقلت وسائل الإعلام وقائع إعدام حاكم العراق إلا وتحول اهتمام الناس إليه، وكثرت أقاويلهم فيه، وخصصت برامج إعلامية تحكي سيرة الزعيم المقتول، وعقدت مناظرات لأجله، وسودت صفحات في حياته وأعماله، واختلف الناس فيه اختلافا كثيرا، وضاع العامة في خضم هذا الاختلاف.(/4)
فطائفة رأوا في الزعيم المقتول رمزا من رموز الأمة، وعلما من أعلامها، مدافعا عن قضاياها، حريصا على مصالحها، حاميا لبيضتها، وما قصده صهاينة اليهود والنصارى إلا لأنه أعظم خطر عليهم، وما تشفى فيه الفرس الصفويون وأذنابهم إلا لأنه كان السد المنيع دون مشاريعهم التوسعية، ويرى هذا الفريق من الناس أن إعدامه هو إعدام للنظام العربي برمته، وهو رسالة لكل من يقف حائلا دون المشاريع الصهيونية أو المشاريع الباطنية الصفوية بأنه سيلقى نفس المصير، وبالغ كثير منهم فجعلوه شهيد الأمة الذي لن يتوحد العراق بعده، ولا خير في الأمة عقبه، وعدوه في مصاف قادة الإسلام العظماء، وتألى بعضهم على الله تعالى فحكم له بالشهادة والجنة.
وفي كلام هؤلاء حق وباطل، والأمة العاجزة المظلومة تتعلق بأي رمز تراه قد تحدى أعداء الأمة في العلن، ولو كان فيه حيدة عن منهجها ورسالتها، وفي زمن الذل تتعلق القلوب بمن فيهم عزة، وحال انتشار الخوف والجبن يحب الناس الشجاع فيهم، وتعميهم شجاعته وعزته عما فيه من خلل وقصور.(/5)
في مقابل هذا الفريق فريق آخر لم يروا في حاكم العراق إلا خائنا لأمته، ممالئا لأعدائها، سفاكا لدمائها، غشوما في حكمها، قوته على شعبه لا على أعدائه، وسياساته الخرقاء، وتصرفاته الرعناء جرت المنطقة إلى ويلات لا عافية منها، ووطنت للصليبيين والصهاينة مواضع أقدام من العسير زحزحتها، ويعزو هذا الفريق من الناس كل بلاء الأمة إليه، ويجزمون بأنه الصفحة السوداء الوحيدة في بلاد الرافدين، ولا يرون له حسنة واحدة، ويعدون تغيره في آخر فترة حكمه، واتجاهه لبناء المساجد، وتوسيع الدعوة إلى الله تعالى، والعناية بالقرآن وحفظه، يعدون ذلك انتهازية لجمع الناس عليه بعد ضجرهم من الحصار، ومساومة منه للغرب، واستخداما منه للدين سلاحا يهددهم به، ويرون أن ثباته في محاكمته، واصطحابه لمصحفه، ومحافظته على الصلاة في سجنه، ما هو إلا عمل البائس اليائس الذي فقد كل شيء فركن إلى الدين ليخدع الناس، ويكسب تعاطفهم، وتألى بعضهم على الله تعالى فزعموا أن الله تعالى لا يغفر له، وأن جهنم مأواه، وأن نطقه لشهادة الحق قبل موته لا ينفعه، وأن إيمانه كإيمان فرعون حال غرغرته. وكما أن في حكم الفريق الأول حق وباطل ففي ما حكاه هؤلاء حق وباطل.
وبين هذين الرأيين المتباينين أراء أخرى كثيرة مشرقة ومغربة، يضيع كثير من الحق في ثناياها، ويضرب الباطل أوتاده فيها.(/6)
والذي ينبغي أن يعلمه كل مسلم أن الله تعالى لا يطالب عامة الناس بالحكم على عباده ومآلاتهم؛ لأن الحكم فيهم إلى الله تعالى، وليسوا مكلفين بالخوض فيما لا يعلمونه من أحوال الرجال، فمن تكلم فيهم وجب ألا يتكلم إلا بعلم وعدل، وأن يتحرى الحق فيما يقول ولو كان ثقيل الوطأة على نفسه، وأن يخلص في حكمه وقوله لله تعالى، لا يبتغي بذلك عرضا من الدنيا،ولا يريد نصر طائفة أو حزب، أو النكاية والشماتة بآخرين، واضعا نصب عينيه قول الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون) وقوله سبحانه (وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى).
لقد مرت بحاكم العراق أطوار وأحوال جعلت الناس يختلفون فيه، ويحتارون في أمره، فهو ربان حزب البعث الكافر بالله تعالى، المؤمن بالعروبة، وهو فارضه على أفراد شعبه، وما بلغ الحكم إلا على سيل من الدماء، وأكوام من الجثث، ثم لما حكم الناس أمعن في ظلمهم، وأسكت أصواتهم، وسار سيرة فرعون (ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد) وكانت جريمته الشنعاء بخيانته لجيرانه، واجتياح بلادهم، واستحلال دمائهم ونسائهم، مما أوجد المعاذير للدول المحتلة أن تضع أقدامها، وتنصب قواعدها في منطقة حرمت منها.فجرى عليه ما جرى من الحرب والحصار، فتغير عقب ذلك وقوَّى الدين وأهله، والله تعالى وحده أعلم بنيته، وليس للناس إلا الحكم على ظاهره، ثم ازداد تمسكه بدينه عقب أسره، فما فارقه مصحفه بشهادة أعدائه قبل أصحابه، وظهر اعتزازه بدينه أثناء محاكمته حتى أحرج قضاة الزور بثباته وعزته، ثم كانت الخاتمه الحسنة برباطة جأشه والحبل على رقبته، ونطقه بالشهادتين قبل شنقه (ومن كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة).(/7)
ولما قتل أسامة رضي الله عنه رجلا من المشركين بعد نطقه للشهادتين أنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فزعم أسامة أنه إنما قالها خوفا من السيف، فقال النبي عليه الصلاة والسلام لأسامة رضي الله عنه:(أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا)رواه مسلم.
فنرجو لحاكم العراق بنطقه للشهادتين المغفرة والجنة، ولا نجزم له بذلك، فلا يعلم ما في قلبه إلا الله تعالى، ولا نجعل ماضيه الأسود حائلا بينه وبين قبول التوبة؛ فقد قبل الله تعالى توبة من هم أكثر كفرا وإجراما منه، فنقلهم الله تعالى بتوبتهم من كفار فجرة إلى مؤمنين بررة، كبعض مسلمة الفتح من قريش الذين آذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحاولوا قتله، وحاربوه وعذبوا أصحابه.
وقبل سبحانه توبة من قتل مئة نفس وهاجر تائبا إلى قرية مسلمة ، فقبضت روحه قبل بلوغها، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فوسعته رحمة الله تعالى، فتولته ملائكة الرحمة.
وغفر الله تعالى لرجل أسرف على نفسه، فأمر أن يحرق جسده بعد موته، وأن ينثر رماده فتذروه الرياح، فلا يجمعه الله تعالى، فشك في قدرته سبحانه على جمعه، ولكن ما حمله على ما فعل إلا خوفه منه عز وجل، فغلب خوفه من الله تعالى شكه في قدرته سبحانه فغفر الله تعالى له (فقال الله تعالى له لما جمعه: ما حملك على ما صنعت؟ قال: خشيتك يا رب، فغفر له بذلك) رواه الشيخان.
ولعل ما أصاب حاكم العراق من عظيم العقوبة الابتلاء بخسارة عرشه، وقتل بنيه وبنيهم ، وتشريد أسرته، وسجنه ومحاكمته وقتله، مع توبته ونطقه للشهادتين، لعل ذلك مكفرا لما مضى من ذنوبه.
وأما حقوق العباد ودماؤهم، وظلمه لهم فالحكم فيها للعلي الكبير، وسيقف هو وخصومه يوم القيامة أمام حكم عدل للقصاص، واستيفاء الحقوق، ولا يظلم ربك أحدا.(/8)
والواجب على المسلم الذي شاهد هذا المشهد أن يفرح بتوبة جبار العراق حين تاب، وبنطقه للشهادتين، ولا يكون كرهه لطغيانه وأفعاله السيئة مانعا له من الفرح بتوبته، أو يتمنى أنه مات على الكفر أو ختم له بخاتمة السوء؛ فإن من لوازم ذلك محبة الكفر في بعض المواضع، وإرادته من بعض الأشخاص، نعوذ بالله تعالى من الجهل والهوى.
وقد فرح النبي صلى الله عليه وسلم بتوبة مسلمة الفتح رغم أذاهم له ولأصحابه رضي الله عنهم، وفرح عليه الصلاة والسلام بتوبة الغلام اليهودي الذي زاره وهو في سياقة الموت فدعاه للإسلام فأسلم فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول (الحمد لله الذي أنقذه من النار) رواه البخاري.
وهكذا يجب على المؤمن أن يفرح بإيمان الكافر، وتوبة العاصي، ويتمنى أن يختم بالحسنى لكل الناس.كما يجب عليه أن يتوخى العدل في أحكامه وأقواله، ويتجرد من الهوى في حكمه، ولا يحكم إلا بعلم، ولا يقول في الرجال بالظن؛ فإن الله تعالى سائله يوم القيامة عن أقواله وأفعاله(ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد) ( وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ....
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- وخذوا مما ترون من أحداث عبرا؛ فإن السعيد من اعتبر بغيره.
أيها المسلمون: في ضجة هذا الحدث الكبير بمقتل زعيم من زعماء العرب كانت له صولات وجولات يهتم كثير من الناس بذات الحدث، وينشغلون بمجرياته وتفاصيله عن دروسه وعبره، فيكون الحدث مع أهميته عديم الفائدة بالنسبة لهم، وكم مرت بالناس من أحداث قلّ في الناس من استفاد منها، بسبب الجهل والغفلة، وكثرة الشهوات والملهيات.(/9)
ودروس هذا الحدث الجديد كثيرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد؛ فمما يستفاد منه: أن عاقبة الظلم وخيمة، ونهاية الظالمين أليمة، ولعل ما أصاب حاكم العراق عقوبة له على ظلمه أيام سطوته وجبروته، ولربما رفع مظلوم يديه إلى ربه في حبيب قتله أزلامه فاستجاب الله تعالى دعوته، فجرى عليه ما جرى، ولما نكب البرامكة في دولة الرشيد العباسي قال جعفر بن يحيى لأبيه وهم في القيود والحبس: يا أبت، بعد الأمر والنهى والأموال العظيمة أصارنا الدهر إلى القيود ولبس الصوف والحبس؟ فقال له أبوه: يا بني، دعوة مظلوم سرت بليل غفلنا عنها ولم يغفل الله تعالى عنها.
وفي التاريخ القديم والمعاصر عبر في مصارع الظالمين..تأملوا مصرع فرعون وأبي جهل وأبي بن خلف وأبي طاهر القرمطي، وفي التاريخ المعاصر ماذا كانت نهاية هتلر النازي، وموسوليني الفاشي، وشاه إيران، وطاغية رومانيا تشاوشسكوا، وطاغية الصرب ميليسوفتش، وغيرهم كثير. لقد طغوا وتجبروا وظلموا ثم أذاقهم الله تعالى الذل في الدنيا.
لقد زالوا كأن لم يكونوا، ويا ويلهم من مظالم تنتظرهم. فحري بكل من ولاه الله تعالى ولاية كبيرة أو صغيرة ألا يغتر بسلطته وقوته، وأن يتوخى العدل في رعيته، وأن يأخذ من سير الظالمين ومصارعهم أعظم العظة والعبرة.(/10)
وعلى كل عاقل ألا يغتر بالدنيا وزهرتها؛ فإن تقلباتها كثيرة، وكم من عزيز ذاق ذلها! وكم من غني أوجعه فقرها! ولقد مرت أيام على حاكم العراق ظهر فيها مزهوا أمام الشاشات والجموع تحف بموكبه، وتطأ عقبه، وتهتف له، تمنى أثناءها كثير من الناس مكانته، وحلموا بأمواله وقصوره ورفاهيته، ولو علموا نهايته لما تمنى واحد منهم سلطانه، ولا غبطه على ما هو فيه من النعيم لعلمه بالبؤس الذي بعده، ولا حسده على عز يعقبه ذل وأي ذل. وقد روى أنس رضي الله عنه فقال: (كانت ناقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم تسمى العضباء وكانت لا تسبق فجاء أعرابي على قعود له فسبقها فاشتد ذلك على المسلمين وقالوا: سبقت العضباء! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن حقا على الله أن لا يرفع شيئا من الدنيا إلا وضعه) رواه البخاري.
ثم تأملوا إلى حكمة الله تعالى فيما يقدره على العباد مما يظنونه شرا لهم، وفيه من الخير ما لا يعلمونه، فإنه يغلب على ظننا أن حاكم العراق لما اكتملت له الدنيا كان بعيدا عن الله تعالى، محاربا لأوليائه، ممالئا لأعدائه، قد أسكرته السلطة عن تذكر ربه سبحانه وتعالى، وأغفله الملك عن معرفة دينه، ولو خير وقتها أن يموت على حاله أو يفقد ملكه لاختار الموت. ولكن الله تعالى قضى عليه ما لم يختر فكان خيرا له؛ إذ كان فيما حاق به من عقوبات وابتلاءات مع الإمداد له في عمره، وعدم تمكن أعدائه من قتله في أول أمره فرصة لمراجعة نفسه، وتفقد قلبه، فتغير حاله في الهزيمة والحصار ثم في الأسر والذل عن حاله في الملك والعز.(/11)
وهكذا فإن العبد قد يصاب في نفسه أو ولده أو ماله فيكون مصابه سببا ليقظته من رقدته، وتنبيهه حال غفلته، فيعود إلى الله تعالى فيختم له بخير عمله، وقد كره من قبل قدر الله تعالى عليه، وقضاءه فيه، فكان ما اختاره الله تعالى له خيرا مما يختار هو لنفسه، فاعرفوا حكمة الله تعالى في عقوباته وابتلاءاته، وتأملوا رحمته سبحانه ولطفه بعباده؛ إذ يجري لهم الخير العظيم من أبواب يظنها العباد شرا محضا، وربنا جل جلاله لا يخلق شرا محضا، والخير بيديه، والشر ليس إليه، سبحانه وبحمده، وتبارك اسمه، وتعالى جده، ولا إله غيره.
وصلوا وسلموا على نبيكم....(/12)
العنوان: مقتل عمر رضيَ الله عنه
رقم المقالة: 1381
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَنْ يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]، {يَا أَيُّهَا النَّاس اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70-71].
أما بعد:
فإنَّ أحسن الحديث كلام الله تعالى، وخير الهَدْي هَدْي محمَّدٍ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وشر الأمور مُحْدَثَاتُها، وكل مُحْدَثَةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، وكلَّ ضلالةٍ في النَّار.
أيها النَّاس:
من توفيق الله تعالى للعبد أن يستعمله في طاعته، ويبعده عن معصيته؛ فيعمِّر أيامه ولياليه بطاعة الله - عزَّ وجلَّ - ويكون دأبه المسارعة في الخيرات، والكفّ عن المحرمات.
وإذا ما كان هذا دأبُ العبد دهرَه كلَّه؛ فإنه حرِيٌّ بأن يُخْتَم له بصالح عمله؛ فينال الفوز الأكبر، برضوان الله تعالى وجنَّته.(/1)
مَنْ حافظ على أمر الله تعالى فإنه يَخْتِم شهوره وأعوامه بصالح عمله، ومَنْ خَتَمَ شهوره وأعوامه بالصَّالحات؛ خَتَمَ عمرَه بالصَّالحات أيضًا، ومَنْ كان مخلِّطًا يعمل صالحًا ويعمل سيِّئًا؛ فيُخشى عليه أن يُخْتَم له بالسُّوء، ومَنْ كان لا يعمل إلاَّ السُّوء؛ فهو هالكٌ، إلاَّ أن يتوب قبل أن يموت.
ومن عباد الله الصالحين مَنْ تتزاحم عليه الأعمال الصالحة؛ فيوفَّق لأدائها، لو خُتِمَ له بواحد منها لخُتِمَ له بالخير، ولكنَّ الله تعالى يزيده من الخير؛ لصلاح قلبه وعمله، فيُخْتَم له بجميعها؛ كما كانت خاتمة فاروق هذه الأمَّة عمر بن الخطَّاب - رضيَ الله عنه.
فإنه خَتَمَ عامه الذي مات فيه بالحَجِّ، ومَنْ حَجَّ فلم يَرْفُثْ ولم يَفْسِقْ؛ رجع كيوم ولدته أمُّه، ولم يلبث إلا زمنًا يسيرًا بعد حجِّه حتى قضى؛ وتلك علامة خير، وحُسْن ختام.
ثمَّ إنه - رضيَ الله عنه - قُتِل ظلمًا وعدوانًا؛ وتلك شَهَادَةٌ وحُسْن ختام، وطُعن - رضيَ الله عنه - وهو يصلِّي، وهذا أيضًا من حُسْن خاتمته، وما قضى نَحْبَه - رضيَ الله عنه وأرضاه - إلاَّ وقد قام بحقوق رعيَّته، فمضى وهم عنه راضون، وفجعوا بقتله - رضيَ الله عنه - وناله من دعائهم واستغفارهم له ما ينفعه؛ وتلك من علامات الخير.
وعلى الرغم من أنه - رضيَ الله عنه - ممَّن شهد لهم النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - بالجنة، وأخبر - عليه السَّلام - في بعض أحاديثه أنه رأى قصرًا لعمرَ في الجنة؛ فإنَّ عمر لم يغترَّ بذلك؛ بل اجتهد في الخير حتى خُتِمَ له بأعمالٍ صالحةٍ كثيرة، كانت دليلاً على حُسْن خاتمته، رضيَ الله عنه وأرضاه.
سمعتْهُ ابنتُه؛ أم المؤمنين حَفْصَة - رضيَ الله عنها - يدعو قائلاً: "اللهم ارزقني قتلاً في سبيلكَ، ووفاةً في بلد نبيِّكَ". قالت: قلتُ: وأنَّى ذلك؟ قال: "إنَّ الله يأتي بأمره أنَّى شاء"[1]. وهذا من حُسْن ظنِّه بربِّه، ويقينه بقدرته - جلَّ جلاله.(/2)
وحجَّ في العام الذي قُتل فيه، وسأل الله في حجَّته حُسْنَ الختام؛ فعن سعيدٍ بن المسيِّب - رحمه الله تعالى -: "أنَّ عمرَ لما أفاض من مِنى، أناخ بالإبْطِحْ، فكوَّم كومةً من بَطْحَاءَ، وطرح عليها طَرَف ثوبه، ثم استلقى عليها، ورفع يديه إلى السماء وقال: اللهم كبرَتْ سنِّي، وضعفتْ قوَّتي، وانتشرتْ رعيَّتي؛ فاقبضني إليكَ غير مضيِّعٍ ولا مفرِّط". قال سعيد: "فما انسلخ ذو الحجَّة حتى طُعِنَ"[2].
وخَطَبَ مرَّةً فقال: "رأيتُ ديكًا نقرني ثلاث نقرات، ولا أراه إلا حضور أجلي"، فما مرَّ إلا تلك الجمعة حتى طُعِنَ[3].
وفي روايةٍ: "أن رؤياه عُبِّرَتْ بأنه يقتله رجلٌ من الأعاجم"[4].
كان من سياسته - رضيَ الله عنه - أنه لا يأذن لسَبْيٍ بقيَ على كفره أن يدخل المدينة، أو يعمل فيها؛ حتى كتب إليه المُغِيرَة بنُ شُعْبَة - رضيَ الله عنه - وهو على الكوفة يذكر له غلامًا عنده صانعًا، ويستأذنه في أن يدخله المدينة، ويقول: "إن عنده أعمالاً تنفع النَّاس، إنه حدَّادٌ نقَّاشٌ نجَّارٌ"؛ فأَذِنَ له، فضرب عليه المغيرة كل شهر مائةً، فشكى إلى عمر شدَّة الخَراج، فقال له: "ما خراجكَ بكثيرٍ في جنب ما تعمل". فانصرف ساخطًا، فلبث عمرُ لياليَ، فمرَّ به العبد فقال: ألم أحدَّث أنكَ تقول: "لو أشاءُ، لصنعت رَحًى تطحن بالرِّيح". فالتفت إليه عابسًا فقال: "لأصنعنَّ لك رحًى يتحدَّث النَّاس بها". فأقبل عمر على من معه فقال: "توعَّدني العبدُ"[5].
وفي حديث أبي رافع: "أن غلام المُغِيرَة أبا لؤلؤة المجوسي لقيَ عمرَ؛ فقال: إن المُغِيرَة أثقل عليَّ. فقال: اتَّق الله وأحْسِن إليه، ومن نيَّة عمر أن يلقى المُغِيرَة فيكلِّمه فيخفِّف عنه، فقال العبد: وَسِعَ النَّاس عدله غيري. وأضمر على قتله"[6].(/3)
فلمَّا كان فجر يوم الأربعاء، قبل نهاية شهر ذي الحجَّة بأربعة أيام - كَمَنَ أبو لؤلؤة في المسجد، ومعه سكينٌ ذات طرفَيْن مسمومةٌ، فوقف عمر يعدل الصفوف للصلاة، فلما كبَّر يصلي بالنَّاس، طعنه العبد في كتفه وفي خاصرته؛ فقال عمر: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} [الأحزاب: 38][7].
ثم أخذ العبد يسعى، لا يمرُّ على أحدٍ يمينًا ولا شمالاً إلا طعنه؛ حتى طعن ثلاثةَ عشرَ رجلاً، مات منهم سبعةٌ، فلما رأى ذلك رجلٌ من المسلمين؛ طرح عليه بُرْنُسًا، فلما ظنَّ العِلْجُ أنه مأخوذٌ؛ نَحَرَ نفسَه.
وتناول عمر يد عبدالرحمن بن عوف؛ فقدَّمه للصلاة بالنَّاس، فصلَّى بهم صلاةً خفيفةُ، وحُمِلَ عمر إلى بيته وقد غلبه النَزْف حتى غُشيَ عليه، فلما أسفر الصُّبح استيقظ فقال: أَصَلَّى النَّاس؟ قالوا له: نعم. قال: لا إسلام لمن ترك الصَّلاة. ثم توضَّأ وصلَّى، وقال ابن عمر: وتساند إليَّ وجَرْحُهُ يَثْغَبُ دمًا، إني لأضع إصبعي الوسطى فما تَسُدُّ الفَتْقَ"[8].
فقال عمر لابن عباس: "اخرجْ فنادِ في النَّاس: أعن مَلاَءٍ منكم كان هذا؟ فقالوا: مَعاذَ الله، ما علمنا ولا اطَّلعنا"[9].
وفي روايةٍ: "فظنَّ عمر أن له ذنبًا إلى النَّاس لا يعلمه، فدعا ابن عباس، وكان يحبُّه ويُدْنِيه، فقال: أحبُّ أن تعلم عن مَلاءٍ منَ النَّاس كان هذا؟ فخرج، لا يمرُّ بمَلاءٍ من النَّاس إلا وهم يبكون؛ فكأنما فقدوا أبكارَ أولادهم؛ فأخبره. قال ابن عباسَّ: فرأيت البِشْرَ في وجهه"[10].
حتى إنَّ القوم قالوا: "لوددنا أن الله زاد في عمركَ من أعمارنا، من محبَّتهم له - رضيَ الله عنه"[11].
فلما علم عمر أن الذي قتله عبدٌ مجوسيٌّ قال: "الحمد لله الذي لم يجعل قاتلي يحاجَّني عند الله بسجدةٍ سجدها قطُّ"، وفي حديث جابر: أن عمر - رضيَ الله عنه - قال: "لا تعجلوا على الذي قتلني. فقيل: إنه قتل نفسه. فاسترجع عمر؛ فقيل له: إنه أبو لؤلؤة؛ فقال: الله أكبر"[12].(/4)
فجاء الطبيب، فسقى عمرَ نبيذًا، فخرج من جرحه، ثم سقاه لبنًا، فخرج من جرحه؛ فعرف أنه الموت؛ فقال: "الآن لو أنَّ لي الدنيا كلَّها، لافتديتُ به من هول المُطَّلع"[13].
فجعل النَّاس يُثْنونَ عليه، ويذكرون أعماله العظيمة في الإسلام؛ فكان يجيبهم فيقول: "إن المغرور من تغرُّونه"[14].
وجاءه شابٌّ فقال: "أبْشِر يا أمير المؤمنين ببشرى الله لكَ من صحبة رسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وقدم في الإسلام ما قد عملت، ثم وُلِّيتَ فعَدَلْتَ، ثم شَهَادَةٌ. قال: وددت أن ذلك كفافٌ، لا عليَّ ولا لي. فلما أدبر، إذا إزاره يمسُّ الأرض؛ فقال: ردُّوا عليَّ الغلام. قال: يا ابن أخي، ارفع ثوبك؛ فإنه أبقى لثوبكَ، وأتقى لربِّك"[15]. قال ابن مسعود: "يرحم الله عمر، لم يمنعه ما كان فيه من قول الحقِّ"[16].
وأرسل ابنه عبدالله إلى عائشة، قال: "انطلق إلى عائشة أمِّ المؤمنين؛ فقُلْ: يقرأ عليكِ عمرُ السَّلامَ - ولا تَقُلْ: أميرَ المؤمنين، فإنِّي لست اليوم للمؤمنين أميرًا - وقُلْ: يستأذن عمر بن الخطاب أن يُدْفَنَ مع صاحبَيْه"[17]، وإنما قال ذلك لئلاَّ تفهم عائشة أنه أمرٌ، وهو الإمام؛ فطاعته واجبةٌ، فترك لها الخيار، وطلب منها هذا الطلب على سبيل الرَّجاء، وليس على سبيل الأمر.
فسلَّم عبد الله بن عمر واستأذن على عائشة، فوجدها قاعدةً تبكي، فقال: "يقرأ عليكِ عمر بن الخطاب السَّلام، ويستأذن أن يُدْفَن مع صاحبَيْه. فقالت: كنتُ أريده لنفسي، ولأوثرنَّه به اليوم على نفسي. فلما أقبل قيل: هذا عبدالله بن عمر قد جاء. قال: ارفعوني. فأسنده ابن عباس إليه، فقال: ما لديكَ؟ قال: الذي تحبُّ يا أمير المؤمنين، أَذِنَتْ. قال: الحمد لله، ما كان من شيءٍ أهمّ إليَّ من ذلك، فإذا أنا قضيتُ فاحملوني؛ ثم سلِّم فقل: يستأذن عمر بن الخطاب، فإن أَذِنَتْ لي فأدخلوني، وإن ردَّتني ردُّوني إلى مقابر المسلمين"[18].(/5)
وكان ابن عباس يُثني عليه وهو مسندٌ له، فلما انتهى من ثنائه قال عمر: "ألْصِقْ خدِّي بالأرض يا عبدالله بن عمر. قال ابن عباس: فوضعتُه من فَخِذِي على ساقي؛ فقال: ألْصِقْ خدِّي بالأرض! فوضعتُه حتى وضع لحيته وخدَّه بالأرض؛ فقال: ويلكَ عمرُ إن لم يغفر الله لكَ"[19].
قال عبدالله بن عامر بن ربيعة: "رأيتُ عمرَ أخذ تِبْنَةً منَ الأرض؛ فقال: ليتني كنتُ هذه التِّبْنَة، ليتني لم أُخْلَقْ، ليت أمِّي لم تلدني، ليتني لم أكُ شيئًا، ليتني كنتُ نَسْيًا منسيًّا"[20].
فلما مات - رضيَ الله عنه - قال عليٌّ: "ما على الأرض أحدٌ ألقى الله بصحيفته أحبّ إليَّ من هذا المسجَّى بينكم"[21].
وصلَّى عليه صُهَيْبٌ الرُّومي في مسجد رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ودُفِنَ بجانب صاحبَيْه؛ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأبي بكر - رضيَ الله عنه[22].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب: 23].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثَّانية
الحمد لله، حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه، كما يحبُّ ربُّنا ويرضى، أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه، ومَنِ اهتدى بهداهم إلى يوم الدِّين.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه؛ فإن الأيام تمضي، والأعمار تَنْقُص، وما يكاد عامٌ يبتدي إلاَّ وينتهي، وكلُّ يومٍ يمضي يباعدنا عن الدنيا، ويقرِّبنا منَ القبر والآخِرة، وما الإنسان إلا أيامٌ هي أيام عمره.(/6)
فالسعيد مَنْ عمل للآخِرة، ولم تغرُّه الدنيا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ} [الحشر: 18-19].
أيها الإخوة في الله:
كان مقتل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضيَ الله عنه - فاجعةً لا كالفواجع؛ لأنه كان حصن الإسلام، ودِرْع الأمة، وباب الفتنة الذي ظل مغلقًا حتى كُسِرَ بقتله؛ فخرجت الفتن على أُمَّة محمدٍ - صلَّى الله عليه وسلَّم.
قالت أمُّ أيمن - رضيَ الله عنها - يوم أصيب عمر: "اليوم وَهَى الإسلام"[23].
وقال زيدُ بن وهب - رحمه الله تعالى -: "أتينا ابن مسعود، فذكر عمر، فبكى حتى ابتلَّ الحصى من دموعه وقال: إنْ كان عمر حصنًا حصينًا للإسلام، يدخلون فيه ولا يخرجون منه، فلما مات عمر انْثَلَم الحصن؛ فالنَّاس يخرجون من الإسلام"[24].
وبكى سعيد بن زيد - رضيَ الله عنه - وقال: "على الإسلام أبكي، إنَّ موت عمر ثَلَمَ الإسلام ثَلْمَةً لا تُرْتَقُ إلى يوم القيامة"[25].
وقال حُذيفة - رضيَ الله عنه - أمينُ سرِّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: "إنما كان مَثَلُ الإسلام أيام عمر مَثَلَ امرئٍ مقبلٍ، لم يزل في إقبالٍ، فلما قُتِلَ أدْبَرَ، فلم يزل في إدْبارٍ"[26].
قال أنسٌ - رضيَ الله عنه -: "ما من أهل بيتٍ من العرب حاضرٌ وبادٍ، إلاَّ قد دخل عليهم بقتل عمر نَقْصٌ"[27].(/7)
إن هذه الآثار وغيرها عن جِلَّةِ الصحابة وفقهائهم - رضيَ الله عنهم وأرضاهم- لَتُبَيِّن حجم الخسارة بقتل عمر - رضيَ الله عنه - إذ في وقته ما كان لمنافقٍ أن يطلع قرنُه، ولا لمفسدٍ أن ينشر فساده؛ هيبةً لعمر وخوفًا منه، فلما قُتِلَ؛ ظهرتِ الفتن، وعمل المنافقون والمفسدون على هدم الإسلام، حتى قُتِلَ في هذه الفتن ظلمًا وعدوانًا الخليفتان الرَّاشدان عثمان وعلي - رضيَ الله عنهما، ووقع السيف في أمَّة محمدٍ - صلَّى الله عليه وسلَّم.
لقد كان أعداء الإسلام يعلمون ما لعمر - رضيَ الله عنه - من مكانة عند المسلمين، ويدركون قوَّة الإسلام بحكمه وعدله؛ فكان لابدَّ من قتله.
والإمام العادل لا يوجد أيَّ مسوِّغٍ لقتله؛ لأنَّ النَّاس مؤمنهم وكافرهم يرضون بالعدل، ويحبون الحاكم العادل، ويخضعون له، وعدل عمر لا يخفى على أحدٍ، حتى شهد له به أعداؤه، ولكن أهل الأحقاد والضغائن لا يشفع عندهم عدله وإن عدل، وهذا ما كان في قلب المجوسيِّ أبي لؤلؤة ومَنْ معه ممن تآمروا على قتل عمر، ولم يُشْفِ ما في صدورهم من غيظٍٍ إلاَّ دمُ عمر - رضيَ الله عنه.
ولذلك استغرب عمر لما أُخبر أن قاتله هو أبو لؤلؤة المجوسي، وقال: "قاتله الله، لقد أمرتُ به معروفًا"[28].
ومعروفُ عمر في أبي لؤلؤة لم يُزِلْ حقده عليه، وهو الذي كان يأتي إلى السَّبْي الصِّغار من المجوس، فيمسح على رؤوسهم ويبكي ويقول: "إن العرب أكلت كَبِدي، ويقول: أكل عمر كبدي"[29].
إنه إذًا حقدٌ دينيٌّ على عمر، وعلى مَنْ يدين بدين عمر، ولا زالت مظاهر هذا الحقد موجودة إلى اليوم، وستظلُّ إلى يوم القيامة، يشعلها الكفار على كلِّ مَنْ يدين بدين عمر - رضيَ الله عنه.
والشريعة كتابًا وسُنَّةً تثبت ذلك، والتاريخ يدلُّ عليه، والواقع يشهد له.(/8)
فكلُّ الأمم تجتمع على أمَّة الإسلام، وكلُّ أصحاب الدِّيانات - على الرغم مما بينهم من عداءٍ - يتآزرون على المسلمين، ولن يرضوا منهم إلا الكفر الصُّراح؛ كما جاء في القرآن.
فأعمال عُبَّاد العِجْل الصهاينة في أبناء فلسطين تدلُّ على ذلك.
وأعمال عُبَّاد الصَّليب في البوسنة وكوسوفا وإندونيسيا دلَّت على ذلك.
وأعمال عُبَّاد البقر الهندوس من حرق المسلمين أحياءً تدلُّ على ذلك.
وأعمال عُبَّاد المادَّة منَ الشُّيوعيين دلَّت على ذلك في بلاد الأفغان ثمَّ الشِّيشان.
وأعمال خلفائهم الرأسماليين تدلُّ على ذلك في قرى الأفغان التي تُمحى منَ الوجود.
والسلسلة ستظل متصلةٌ من الكيد والمكر والتآمر؛ حتى لا يبقى على وجه الأرض مسلمٌ موحِّدٌ لو استطاعوا ذلك.
إن الذين يظنُّون أنَّ البشريَّة ستنعم بالأمن والرَّخاء مع تطور الإنسان ورُقِيِّه حالمون؛ فإن أهل الحضارة المعاصرة ما زادتهم حضارتهم إلا قوَّةً وشدَّةً وحقدًا على أهل الإسلام؛ بل وعلى البشرية جمعاء.
وإن المخدوعين الذين يظنُّون أن الصِّراع سيتوقَّف، أو أنه لا عَلاقة للدِّين به جاهلون بالسُّنن الكونيِّة، وبالآيات الشرعيَّة الدَّالة على بقاء الصِّراع بين الحقِّ والباطل إلى قيام الساعة.
وخيرٌ لهم إن كانوا يعقلون أن يستمسكوا بإسلامهم؛ حتى يلقوا الله - عزَّ وجلَّ - وهم لم يبدِّلوا ولم يغيِّروا.
وإن ذِلَّة المسلمين وضعفهم لا تستوجب التخلِّي عنِ الإسلام الحقِّ، أو التبرُّؤ منه، مهما كانت التَّبِعات والتَّضْحيات، وكلما عَظُمَ البلاء عَظُمَ الأجر، وكلما اشتدَّتِ المِحن اقترب الفَرَج، ولن يغلب عسرٌ يُسْرَيْن.
ألا وصلُّوا وسلِّموا على محمدٍ بن عبدالله،كما أمركم بذلك ربُّكم.
---
[1] طبقات ابن سعد (2/252).
[2] حلية الأولياء (1/54) والطبقات (2/255)، والآحاد والمثاني لابن أبي عاصم (1/107)، وفضائل الصحابة للإمام أحمد (1/398).(/9)
[3] أخرجه مسلم في المساجد، باب نهي من أكل ثومًا... (567).
[4] الطبقات (2/255)، وفتح الباري لابن حجر (7/78). وفي الطبقات أن أسماء بنت عميس - رضيَ الله عنها - التي عبرتها بذلك.
[5] الطبقات (3/262)، وتاريخ الطبري (2/559).
[6] أخرجه أبو يعلى (2731) والحاكم (3/91) والبيهقي (4/16) وصححه ابن حبان (6905)، وقال الهيثمي في الزوائد (9/76): ورجاله رجال الصحيح.
[7] الطبقات (3/265)، والفتح (7/78).
[8] الطبقات (3/263)، والفتح (7/79).
[9] الطبقات (3/259).
[10] جاء ذلك في رواية ابن عمر عند الطبراني في الأوسط (579)، وحسن إسناده الهيثمي في الزوائد (9/74 ـ 75).
[11] الطبقات (3/265).
[12] الفتح (7/79).
[13] جاء ذلك في حديث أبي رافع المخرج في هامش (6).
[14] جاء ذلك في حديث ابن عمر المخرج في هامش (10).
[15] جاء ذلك في حديث عمرو بن ميمون عند البخاري في فضائل الصحابة باب قصة البيعة والاتفاق على عثمان بن عفان - رضيَ الله عنه - (3700).
[16] أخرجه أحمد في فضائل الصحابة (329) وانظر: فتح الباري (7/81).
[17] جاء ذلك في حديث عمرو بن ميمون المخرج في هامش (15).
[18] المصدر السابق.
[19] جاء ذلك في حديث ابن عمر المخرج في هامش(10)، والطبقات (3/274).
[20] الطبقات (3/274)، وتاريخ الخلفاء (219).
[21] الطبقات (3/282).
[22] الطبقات (3/281)، وقد كان صهيب - رضيَ الله عنه - يصلي بالنَّاس في مسجد رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بتكليف من عمر ؛كما في حديث أبي رافع: "أن عمر أمر صهيبًا يصلي بالنَّاس".
[23] الطبقات (3/281)، ومجمع الزوائد (9/77).
[24] الطبقات (2/283)، ومجمع الزوائد (9/77).
[25] الطبقات (2/284).
[26] الطبقات (3/285).
[27] الطبقات (3/286).
[28] صفة الصفوة (288)، والتمهيد والبيان في مقتل الشهيد عثمان لابن أبي بكر المالقي الأندلسي (24).(/10)
[29] تاريخ الطبري (2/530)، والبداية والنهاية (7/112)، والطبقات (3/264)، والمنتظم (4/280).(/11)
العنوان: مقدار القراءة في صلاة الليل
رقم المقالة: 1484
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
أخي المسلم: نحن الآن في شهر عظيم يكثر فيه المسلمون من القيام وقراءة القرآن، ومقبلون على عشر مباركات فضلت لياليها على سائر الليالي بليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، وشرع قيامها، وكان النبي عليه الصلاة والسلام يحيها، ويجتهد فيها ما لا يجتهد في غيرها، بل إنه يعتكف في العشر طلبا لها.
ومن توفيق الله تعالى للمسلم أن لا يشغله شغل عن القرآن والصلاة في هذه الليالي العشر المباركات، ويكون موفقا أكثر وأكثر إن تلمس سنة النبي عليه الصلاة والسلام في ذلك.
هذا؛ وقد نقل الناقلون من صحابته رضي الله عنهم بعض ما حضروا معه من قراءته عليه الصلاة والسلام في صلاته بالليل، والواحد منا قد يكون في حياته كلها لم يقرأ ولو مرة واحدة بعض ما نقل إلينا من قراءة النبي عليه الصلاة والسلام في صلاته بالليل، فكيف بجميع ما نقل إلينا في سنته العطرة!!
والناس في عدد ركعات القيام ومقدار القراءة فيها مرتهنون في رمضان بما يقرأ به أئمتهم، والأئمة مقيدون بما لا يشق على الناس؛ ولذا فإني أرى أن أنسب وقت للتأسي بالنبي عليه الصلاة والسلام في هذه الصفات الواردة عنه عليه الصلاة والسلام في ليالي العشر بين صلاتي أول الليل وآخره، سواء للمعتكفين أو غيرهم لما يلي:
أولا: طول الوقت بين صلاة أول الليل وآخره، وهو وقت حرٌّ له يصلي فيه أو يقرأ ما شاء، وليس مؤتما بإمام كما في صلاة أول الليل وآخره، فيدرك فضيلة القيام مع الإمام، الذي يكتب له به قيام ليلة، ويشغل الوقت بين القيامين بتطبيق سنن النبي عليه الصلاة والسلام في مقدار قراءته وصفتها، وركوعه وسجوده.
ثانيا: إقبال القلوب على الله تعالى في ليالي العشر.(/1)
ثالثا: أن المعتكف أو من عود نفسه على المكث في المسجد في ليالي العشر أو بعضها لقراءة القرآن أو الصلاة، قد يكسل أو يغفل أو يمل، لكنه إذا نوع الصلاة، وأخذ بهذه السنن الواردة كان حريا أن لا يمل ولا يكسل.
فإذا ما تذكر أنه يتأسى بالنبي عليه الصلاة والسلام في مقدار القراءة التي قرأها في كل ركعه فرح قلبه بذلك، وكان أنشط له، مع محاولته التأسي به في إطالة الركوع والسجود، والترسل في القراءة مع التدبر، إذا مرَّ بآية تسبيح سبح، أو بآية استغفار استغفر، أو آية وعد سأل، أو آية وعيد تعوذ، ويجاهد نفسه على ذلك قدر المستطاع، وإذا علم الله تعالى صدق نيته في التأسي بالنبي عليه الصلاة والسلام في سنته في القيام بلغه إياها أو قريبا منها.
ومن فعل ذلك مع مجاهدة نفسه في الإخلاص فسيجد لذة عظيمة في تطبيقه للسنة، وإحيائها وقد قلَّ في الناس من يحييها، وربما عاش الإنسان عمره كله لم يطبق سنة واحدة منها، وكم هو جميل أن يأتي المسلم على كل ما ورد عن النبي عليه الصلاة والسلام من صفات صلواته في الليل ولو مرة في عمره، ومن استزاد فقد استزاد من السنة، وأهيأ وقت لذلك هو هذه الليالي الفاضلة المباركة.
ومن تأسى بسنة النبي صلى الله عليه وسلم مع إخلاصه فهو أحرى بقبول الله تعالى من غيره، وما ترك القائمون لذة المنام، والسهر مع الأصحاب، وخلو بربهم إلا طلبا لقبوله ومغفرته ورحمته.
لأجل ذلك رتبت هذه الأحاديث المنوعة في مقدار قراءة النبي عليه الصلاة والسلام في قيامه بالليل؛ لتكون دليلا لمن أراد استثمار هذه الليالي الفاضلة بإحياء سنن النبي عليه الصلاة والسلام فيها.
طول صلاة النبي عليه الصلاة والسلام:
(1) عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (صَلَّيْتُ مع رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَطَالَ حتى هَمَمْتُ بِأَمْرِ سَوْءٍ، قال: قِيلَ: وما هَمَمْتَ بِهِ؟ قال: هَمَمْتُ أَنْ أَجْلِسَ وَأَدَعَهُ) رواه البخاري (1084) ومسلم (773).(/2)
(2) وعن الْمُغِيرَةَ رضي الله عنه قال: إنْ كان النبيُ صلى اللهُ عليه وسلم لَيَقُومُ لِيُصَلِّيَ حتى تَرِمُ قَدَمَاهُ أو سَاقَاهُ، فَيُقَالُ له، فيقول: (أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا) رواه البخاري (1078) ومسلم (2819).
(3) وعن عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ نَبِيَّ الله صلى الله عليه وسلم كان يَقُومُ من اللَّيْلِ حتى تَتَفَطَّرَ قَدَمَاهُ، فقالت عَائِشَةُ: لِمَ تَصْنَعُ هذا يا رَسُولَ الله وقد غَفَرَ الله لك ما تَقَدَّمَ من ذَنْبِكَ وما تَأَخَّرَ؟ قال: (أَفَلَا أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ عَبْدًا شَكُورًا!! فلما كَثُرَ لَحْمُهُ صلى جَالِسًا، فإذا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ قام فَقَرَأَ ثُمَّ رَكَعَ) رواه البخاري (4557) ومسلم (2820).
(4) وعن أَنَسٍ رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى في رَمَضَانَ فَجِئْتُ فَقُمْتُ إلى جَنْبِهِ، وَجَاءَ رَجُلٌ آخَرُ فَقَامَ أَيْضًا حتى كنا رَهْطًا فلما حَسَّ النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّا خَلْفَهُ جَعَلَ يَتَجَوَّزُ في الصَّلَاةِ ثُمَّ دخل رَحْلَهُ فَصَلَّى صَلَاةً لَا يُصَلِّيهَا عِنْدَنَا، قال: (قُلْنَا له حين أَصْبَحْنَا: أَفَطَنْتَ لنا اللَّيْلَةَ؟ قال: فقال: نعم ذَاكَ الذي حَمَلَنِي على الذي صَنَعْتُ...) رواه مسلم (1104).(/3)
(5) وعن زَيْدِ بن خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ رضي الله عنه أَنَّهُ قال: (لَأَرْمُقَنَّ صَلَاةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم اللَّيْلَةَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ، ثُمَّ صلى رَكْعَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ، ثُمَّ صلى رَكْعَتَيْنِ وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا، ثُمَّ صلى رَكْعَتَيْنِ وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا، ثُمَّ صلى رَكْعَتَيْنِ وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا، ثُمَّ صلى رَكْعَتَيْنِ وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا، ثُمَّ أَوْتَرَ؛ فَذَلِكَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً) رواه مسلم (765).
السنة افتتاح قيام الليل بركعتين خفيفتين:
(6) عن عَائِشَةَ رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من اللَّيْلِ لِيُصَلِّيَ افْتَتَحَ صَلَاتَهُ بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ) رواه مسلم (767).
(7) وعن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قام أحدكم من اللَّيْلِ فَلْيَفْتَتِحْ صَلَاتَهُ بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ) رواه مسلم (768).
وفيه أيضا حديث زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه المذكور آنفا.
قراءة البقرة والنساء وآل عمران في ركعة:(/4)
(8) عن حُذَيْفَةَ رضي الله عنه قال: (صَلَّيْتُ مع النبي صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ فَافْتَتَحَ الْبَقَرَةَ فقلت يَرْكَعُ عِنْدَ الْمِائَةِ ثُمَّ مَضَى فقلت يُصَلِّي بها في رَكْعَةٍ فَمَضَى فقلت يَرْكَعُ بها ثُمَّ افْتَتَحَ النِّسَاءَ فَقَرَأَهَا ثُمَّ افْتَتَحَ آلَ عِمْرَانَ فَقَرَأَهَا يَقْرَأُ مُتَرَسِّلًا إذا مَرَّ بِآيَةٍ فيها تَسْبِيحٌ سَبَّحَ وإذا مَرَّ بِسُؤَالٍ سَأَلَ وإذا مَرَّ بِتَعَوُّذٍ تَعَوَّذَ ثُمَّ رَكَعَ فَجَعَلَ يقول سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ فَكَانَ رُكُوعُهُ نَحْوًا من قِيَامِهِ ثُمَّ قال سمع الله لِمَنْ حَمِدَهُ ثُمَّ قام طَوِيلًا قَرِيبًا مِمَّا رَكَعَ ثُمَّ سَجَدَ فقال سُبْحَانَ رَبِّيَ الأعلى فَكَانَ سُجُودُهُ قَرِيبًا من قِيَامِهِ...) رواه مسلم (772).
بعض العلماء يرى أنه قرأ هذه السور في ركعتين، وظاهر الحديث أنه قرأها في ركعة واحدة؛ لأن حذيفة رضي الله عنه قد فصَّل، وأخبر متى كان ركوع النبي صلى الله عليه وسلم، وعليه فتكون الركعة الثانية مسكوتا عنها، فيقرأ فيها المصلي ما شاء.
وجاء في رواية عند أبي داود عن حذيفة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ الأربع الطوال في أربع ركعات: البقرة وآل عمران والنساء والمائدة أو الأنعام، شك شعبة راوي الحديث فيهما.
وفي متن الحديث اختلاف عن رواية مسلم وزيادات ليست فيها، فيُحمل إن صحت رواية أبي داود واختلف مخرجها على تعدد الصلاة، وأن حذيفة صلى الاثنتين مع النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كانت القصة واحدة فالعمل على رواية مسلم.
قراءة البقرة في ركعة، وآل عمران وسورة في الثانية:(/5)
(9) عن عَوْفَ بن مَالِكٍ رضي الله عنه قال: (قُمْتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فَبَدَأَ فَاسْتَاكَ ثُمَّ تَوَضَّأَ ثُمَّ قام يصلي وَقُمْتُ معه فَبَدَأَ فَاسْتَفْتَحَ الْبَقَرَةَ لاَ يَمُرُّ بِآيَةِ رَحْمَةٍ إلا وَقَفَ فَسَأَلَ الله وَلاَ يَمُرُّ بِآيَةِ عَذَابٍ إلا وَقَفَ يَتَعَوَّذُ ثُمَّ رَكَعَ فَمَكَثَ رَاكِعاً بِقَدْرِ قِيَامِهِ يقول في رُكُوعِهِ: سُبْحَانَ ذي الْجَبَرُوتِ وَالْمَلَكُوتِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ، ثُمَّ قَرَأَ آلَ عِمْرَانَ ثُمَّ سُورَةً فَفَعَلَ مِثْلَ ذلك ) رواه أحمد (6/24).
قسمة البقرة بين ركعتين:
(10) عن عائشة رضي الله عنها: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم سورة البقرة في ركعتين) رواه أبو يعلى (4924).
الوتر بمائة آية من النساء:
(11) عن أبي مِجْلَزٍ رحمه الله تعالى: (أَنَّ أَبَا مُوسَى كان بين مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ فَصَلَّى الْعِشَاءَ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قام فَصَلَّى رَكْعَةً أَوْتَرَ بها فَقَرَأَ فيها بِمِائَةِ آيَةٍ من النِّسَاءِ ثُمَّ قال: ما أَلَوْتُ أَنْ أَضَعَ قَدَمَيَّ حَيْثُ وَضَعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم قَدَمَيْهِ وأنا أَقْرَأُ بِمَا قَرَأَ بِهِ رسول الله صلى الله عليه وسلم) رواه النسائي3/243 وأحمد4/419 وصححه الألباني.
القيام بآية يرددها:
(12) عن أبي ذر رضي الله عنه قال: (قام النبي صلى الله عليه وسلم بآية حتى أصبح يرددها، والآية {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} [المائدة:118] رواه النسائي2/177، وابن ماجه (1350) وصححه الحاكم1/367، وحسنه الألباني.
(13) وعن عَائِشَةَ رضي الله عنها قالت: (قام النبي صلى الله عليه وسلم بِآيَةٍ من الْقرْآنِ لَيْلَةً) رواه الترمذي وقال: هذا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ من هذا الْوَجْهِ (448) وصححه الألباني.(/6)
(14) وعن أبي سَعِيدٍ الخدري رضي الله عنه: (أَنَّ رَسولَ الله صلى الله عليه وسلم رَدَّدَ آيَةً حتى أَصْبَحَ) رواه أحمد3/62.
قلت: قد يتأتى للمتهجد الخشوع عند آية وتأثر قلبه بها، فلا يزال يرددها ويرى أثر ذلك في قلبه، فتكون هي قيامه تلك الليلة.
القيام بألف آية:
(15) عن عبد الله بن عَمْرِو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قام بِعَشْرِ آيَاتٍ لم يُكْتَبْ من الْغَافِلِينَ وَمَنْ قام بِمِائَةِ آيَةٍ كُتِبَ من الْقَانِتِينَ وَمَنْ قام بِأَلْفِ آيَةٍ كُتِبَ من الْمُقَنْطِرِينَ) رواه أبو داود (1398) وصححه ابن حبان (2572) والألباني.
القيام بسور من المفصل:
(16) عن عبد الله بن شَقِيقٍ قال: قلت لِعَائِشَةَ: هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَجْمَعُ بين السُّوَرِ في رَكْعَة؟ قالت: الْمُفَصَّلُ) رواه أحمد6/204، وصححه ابن خزيمة (539).
(17) وعن أَبَي وَائِلٍ قال: جاء رَجُلٌ إلى بن مَسْعُودٍ فقال: قرأت الْمُفَصَّلَ اللَّيْلَةَ في رَكْعَةٍ، فقال: هَذًّا كَهَذِّ الشِّعْرِ، لقد عَرَفْتُ النَّظَائِرَ التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يَقْرُنُ بَيْنَهُنَّ فذكر عِشْرِينَ سُورَةً من الْمُفَصَّلِ سُورَتَيْنِ في كل رَكْعَةٍ)رواه البخاري (742) ومسلم (822).(/7)
وفي رواية لمسلم عن أبي وَائِلٍ قال: جاء رَجُلٌ يُقَالُ له نَهِيكُ بن سِنَانٍ إلى عبد الله فقال:.... (إني لَأَقْرَأُ الْمُفَصَّلَ في رَكْعَةٍ، فقال عبد الله: هَذًّا كَهَذِّ الشِّعْرِ، إِنَّ أَقْوَامًا يقرؤون الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ وَلَكِنْ إذا وَقَعَ في الْقَلْبِ فَرَسَخَ فيه نَفَعَ، إِنَّ أَفْضَلَ الصَّلَاةِ الرُّكوعُ وَالسُّجُودُ، إني لَأَعْلَمُ النَّظَائِرَ التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقْرُنُ بَيْنَهُنَّ سُورَتَيْنِ في كل رَكْعَةٍ ثُمَّ قام عبد الله فَدَخَلَ عَلْقَمَةُ في إِثْرِهِ ثُمَّ خَرَجَ فقال: قد أخبرني بها).
وفي رواية لمسلم: (فقال رَجُلٌ من الْقَوْمِ: قرأت الْمُفَصَّلَ الْبَارِحَةَ كُلَّهُ، قال: فقال عبد الله: هَذًّا كَهَذِّ الشِّعْرِ، إِنَّا لقد سَمِعْنَا الْقَرَائِنَ وَإِنِّي لَأَحْفَظُ الْقَرَائِنَ التي كان يَقْرَؤُهُنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثَمَانِيَةَ عَشَرَ من الْمُفَصَّلِ وَسُورَتَيْنِ من آلِ حم).(/8)
وجاء تفصيل هذه السور في رواية أبي داود (1396) عن عَلْقَمَةَ وَالْأَسْوَدِ قالا: (أتى ابنَ مَسْعُودٍ رَجُلٌ فقال: إني أَقْرَأُ الْمُفَصَّلَ في رَكْعَةٍ، فقال: أَهَذًّا كَهَذِّ الشِّعْرِ وَنَثْرًا كَنَثْرِ الدَّقَلِ!! لَكِنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يَقْرَأُ النَّظَائِرَ السُّورَتَيْنِ في رَكْعَةٍ: الرحمن والنجم في رَكْعَةٍ، وَاقْتَرَبَتْ وَالْحَاقَّةَ في رَكْعَةٍ، وَالطُّورَ وَالذَّارِيَاتِ في رَكْعَةٍ، وإذا وَقَعَتْ وَنونَ في رَكْعَةٍ، وَسَأَلَ سَائِلٌ وَالنَّازِعَاتِ في رَكْعَةٍ، وَوَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ وَعَبَسَ في رَكْعَةٍ، وَالْمُدَّثِّرَ وَالْمُزَّمِّلَ في رَكْعَةٍ، وَهَلْ أتى ولا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ في رَكْعَةٍ، وَعَمَّ يَتَسَاءَلُونَ وَالْمُرْسَلَاتِ في رَكْعَةٍ، وَالدُّخَانَ وإذا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ في رَكْعَةٍ)، قال أبو دَاوُد: هذا تَأْلِيفُ ابن مَسْعُودٍ.
وقول أبي داود: هذا تأليف ابن مسعود، يعني ترتيبه لهذه السور في مصحفه.
القيام بسورة الإخلاص:
(18) عن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه: (أَنَّ رَجُلًا سمع رَجُلًا يَقْرَأُ قُلْ هو الله أَحَدٌ يُرَدِّدُهَا فلما أَصْبَحَ جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له وَكَأَنَّ الرَّجُلَ يَتَقَالُّهَا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وَالَّذِي نَفْسِي بيده إِنَّهَا لَتَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ) رواه البخاري (4726).
التسوية بين الركعات في القراءة:(/9)
(19) سئلت عائشة رضي الله عنها عن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالليل فقالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى العشاء تجوز بركعتين ثم ينام وعند رأسه طهوره وسواكه فيقوم فيتسوك ويتوضأ ويصلي ويتجوز بركعتين ثم يقوم فيصلي ثمان ركعات يسوي بينهن في القراءة ثم يوتر بالتاسعة ويصلي ركعتين وهو جالس فلما أسن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذ اللحم جعل الثمان ستا ويوتر بالسابعة ويصلي ركعتين وهو جالس يقرأ فيهما قل يا أيها الكافرون وإذا زلزلت)صححه ابن خزيمة (1104) وابن حبان (2635).
أسأل الله تعالى أن يتقبل منا ومن جميع المسلمين، وأن يوفقنا جميعا لإدراك سنة النبي عليه الصلاة والسلام، والحمد لله أولا وآخرا.(/10)
العنوان: مقدمات بين يدي الصيام
رقم المقالة: 1270
صاحب المقالة: فهد بن مبارك الوهبي
-----------------------------------------
(أ) حقيقة الصوم:
قال ابن القيم - رحمه الله تعالى -: "فالصوم هو صوم الجوارح عن الآثام، وصوم البطن عن الشراب والطعام، فكما أن الطعام والشراب يقطعه ويفسده، فهكذا الآثام تقطع ثوابه وتفسد ثمرته، فتصيره بمنزلة من لم يصم."
(ب) فضل شهر رمضان - والصيام مطلقًا -:
1 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((قال الله - عز وجل -: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جُنَّة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابَّه أحد أو قاتله فليقل إني صائم. والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح، وإذا لقي ربه فرح بصومه)) وفي رواية: ((يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي، والصيام لي وأنا أجزي به، والحسنة بعشر أمثالها)).
2 - عن سهل بن سعيد - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن في الجنة بابًا يقال له: الريان، يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل منه أحد غيرهم يقال: أين الصائمون ؟ فيقومون، لا يدخل منه أحد غيرهم، فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه أحد)).
3 - عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( ما من عبد يصوم يومًا في سبيل الله إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفًا)).
4- عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا، غفر له ما تقدم من ذنبه)).
5- وعنه - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبوب النار، وصفّدت الشياطين)).(/1)
6- قال - صلى الله عليه وسلم -: ((رمضان تفتح فيه أبوب السماء - وفي رواية: الجنة - وتغلق فيه أبوب النيران، ويصفد فيه كل شيطان مريد، ويناد منادٍ - وفي رواية: ملك - كل ليلة: يا طالب الخير هلم، ويا طالب الشر أمسك)).
7- وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((الصوم في الشتاء الغنيمة الباردة)).
8- وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((من صام يومًا في سبيل الله جعل الله بينه وبين النار خندقًا كما بين السماء والأرض)).
(جـ) الدعاء عند رؤية الهلال:
كان - صلى الله عليه وسلم - إذا رأى الهلال قال: ((الله أكبر، اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام، والتوفيق لما تحب وترضى، ربنا وربك الله)).
(د) حكم إطلاق رمضان على شهر الصوم من غير قرينة تدل عليه:
- كره القاضي من الحنابلة وغيره ذلك لأن الله تعالى قال: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزَلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185] واستدل أيضًا بأحاديث ضعيفة. وكذلك يروى عن مجاهد أنه كرهه ويقول: "لعله اسم من أسماء الله".
ولكن الصحيح: هو جواز إطلاق رمضان عليه لما يلي:
1 - أنه ورد في الأحاديث إطلاقه عليه: كما قال - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا جاء رمضان، فتحت أبواب الجنة)) ( ) وغيره من الأحاديث. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وهذا كثير في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأما عن الصحابة فأكثر من أن يحصى."
2 - ولأنه لم يذكر أحد في أسماء الله رمضان ولا يجوز أن يسمى إجماعًا.
3 - وأما قوله سبحانه {شَهْرُ رَمَضَانَ} [البقرة: 185]. فكقولهم: شهر ربيع الأول، وشهر ربيع الآخر، وهو من باب إضافة الاسم العام إلى الخاص، كما يقال يوم الأحد ويوم الخميس.
(هـ) اشتقاق رمضان:
أ - قيل سمي رمضان؛ لأنه يرمض الذنوب أي يحرقها ويهلكها. وروي بذلك حديثان ضعيفان أو موضوعان.(/2)
ب- ذكر أهل اللغة أن أسماء الشهر كما نقلوها عن اللغة القديمة، سموها بالأزمنة التي وقعت فيها، فوافق هذا الشهر أيام رمض الحر؛ فسمي بذلك، كما سموا شوالاً لأن الإبل تشول بأذنابها، وسموا شعبان لانشعاب القبائل فيه، وغير ذلك.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "فاجتمع في رمضان أن وقت التسمية كان زمن حر، ثم إن الله فرض صومه، والصوم فيه العطش والحرارة، ثم إنه يوجب التقوى فتحرق الذنوب وتهلكها، وقد يلهم الله خلقه أن يسموا الشيء باسم لمعنى يعلمه هو ويبينه فيما بعد، وإن لم يعلموا ذلك حين الوضع والتسمية، كما سموا النبي - صلى الله عليه وسلم - محمدًا... وأيضًا فإن هذه التسمية لغوية شرعية، فجاز أن يكون له باعتبار كل واحد من التسميتين معنى غير الآخر."
جـ- قيل: هو اسم موضوع لغير معنى كسائر الشهور.
(و) حكم النوم طوال النهار: له حالتان:
1 - رجل ينام طوال النهار ولا يستيقظ: فهذا جانٍ على نفسه وعاصٍ لله - عز وجل - بتركه الصلاة في أوقاتها. وإذا كان من أهل الجماعة أضاف إلى ذلك ترك الجماعة أيضًا، وهو حرام ومنقص لصومه، وعليه أن يتوب إلى الله - عز وجل -, وأن يقوم ويؤدي الصلاة في أوقاتها حسب ما أمر به.
2- حال من يقوم ويصلي الصلاة المفروضة في وقتها مع الجماعة فهذا ليس بآثم، ولكنه فوت على نفسه خيرًا كثيرًا، لأنه ينبغي للصائم أن يشتغل بالصلاة والذكر والدعاء وقراءة القرآن؛ حتى يجتمع في صيامه عبادات شتى.(/3)
العنوان: مقرر الثقافة الإسلامية واستيعابُه للقضايا المُستجدة
رقم المقالة: 1390
صاحب المقالة: د. صابر السيد مشالي
-----------------------------------------
مُحْتَوَى مقررات الثقافة الإسلامية واستيعابُه للقضايا المُستجدة
إن فقه واقع مجتمعِنا - في الظروف المعاصرة - يلفتُ النظرَ إلي ضرورة الاهتمام بالمحتَوَى في مادة الثقافة الإسلامية؛ لِما لَها من بالغِ التأثيرِ في توجيه الشخصية المسلمة نحو الإيجابية.
لقد لوحظ على كتابات كثيرة في الثقافة الإسلامية تناولُها لموضوعات لم تعد ذاتَ أولوية الآن، واقتصارُها على أحد فروع الشريعة تبعا لثقافة الكاتب، وكذلك: كثرةُ التنظيرِ للثقافة باعتبارها علما دون الاهتمام بالوقائعِ الحديثةِ المُثارةِ بمجتمعنا وبيانِ موقف الثقافة الإسلامية منها بما يوجه طالباتنا وطلابنا نحو الأفضل.
ولذلك يُوصَي بما يلي إجمالا:
1 - الاهتمام بالمحتوى من حيث: شموله لمختلف قضايا الواقع المعاصر، مع ربطه بنماذج الماضي الإيجابية.
2 - ضرورة اضطلاع مجموعة - ليس واحدا - من العلماء بمسؤولية كتابة هذا المحتوى ؛ لتحقيق التنوع والشمول.
3 - تحديد المفاهيم ذات الأهمية المعاصرة لطالباتنا وطلابنا مثل مفاهيم:الأمن والإرهاب والتطرف والعولمة وغيرها.
4 - بيان موقف الثقافة الإسلامية من قضايا الواقع المعاصر الطبية ؛ مثل: زرع الأعضاء والاستنساخ والإيدز وغيرها، والاقتصادية ؛ مثل: المعاملات المصرفية المعتمدة على وسائل الاتصال الحديثة كالإنترنت وغيرها، والاجتماعية ؛ مثل: حقوق الإنسان وقضايا المرأة والغزو الفكري الحديث عن طريق الإنترنت وأثر الفضائيات على مجتمعنا المسلم، وغير ذلك.
5 - التركيز على تنمية مفهوم الشخصية المسلمة الإيجابية الفاعلة في المجتمع المسلم في كل جزئيات المحتوي.(/1)
ولقد قام الباحث بكتابة تصور كامل مُقترح لمفردات محتوى مادة الثقافة الإسلامية ضمن الورقة المُقدمة للمؤتمر إن شاء الله تعالى.
مع جزيل التقدير والشكر والاحترام لجميع القائمين بهذا المؤتمر.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام علي سيدنا ونبينا محمد سيد الأولين والآخرين، وعلى آله، وصحبه، ومن اتبع هديه، والتزم نهجه، وتمسك بسنته إلى يوم الدين:
أما بعد:
فلقد أسعدني الاتجاهُ نحو مراجعة ما يتصل بمادة الثقافة الإسلامية؛ لما لهذه المادة من أهمية في تكوين الشخصية المسلمة ودفعها نحو الإيجابية الفاعلة للإفادة في الارتقاء بالمجتمع المسلم، إذ إن معيارَ أية حضارة - كما هو مقرر - مرهون بما حققه أهل هذه الحضارة، ومعيارَ حضارة أية أمة مرهون - كذلك - بما صنعته الشخصيات الإيجابية الفاعلة في هذه الأمة، ولا مكان في تاريخ الحضارات للشخصيات الخاملة الراكدة، فالذي يخطو بالوطن إلى الأمام إنما هم أبناؤه الإيجابيون الفاعلون الملتزمون بالقيم والمثل والمبادئ.
ولقد أسعدني أيضا - بشيء كبير من التقدير والشكر والاحترام والامتنان -: أن تتم دعوتي للمشاركة في هذا المؤتمر الذي أسأل الله - تعالى - أن يتحقق من ورائه ما يُرجى له من النفع والإفادة.
وسأتحدث في هذه الورقة بإذن الله - تعالى - عما يلي:
أولا:
أبرز الملاحظات اللافتة للنظر المأخوذة على الكتابات في الثقافة الإسلامية.
ثانيا:
شرح موجز لتصور مقترح لمحتوى مقرر مادة الثقافة الإسلامية في المرحلة الجامعية.
ثالثا:
تصور كامل مقترح لمحتوى مقرر مادة الثقافة الإسلامية في المرحلة الجامعية.
أولا: أبرز الملاحظات اللافتة للنظر المأخوذة على الكتابات في الثقافة الإسلامية.(/2)
- من الملحوظ على كثير من الكتابات في مادة الثقافة الإسلامية: تناولُها لموضوعات لم تعد ذات أولوية الآن في ظروف مجتمعنا المعاصر، وهو أمر ينبغي أن يُنتبه له؛ لأن مادة الثقافة الإسلامية موجهة - أساسا - للإسهام في تشكيل الشخصية المسلمة ودفعها نحو الإيجابية الفاعلة في المجتمع ولن تتحقق هذه الإيجابيةُ الفاعلة إلا بتعريف طالباتنا وطلابنا شيئا ضروريا عن القضايا المعاصرة المثارة، وموقف الثقافة الإسلامية منها ؛ حتى يعيَ طالباتُنا وطلابُنا هذه القضايا وحلولَها الإسلامية وَفقا للقواعد الشرعية المعتبرة والمصالح الشرعية المطلوبة.
وبمطالعة بعض هذه الدراسات نستطيع رصدَ ما يلي:
أولا: في تناول القضايا الدينية (العقيدية)
يُلحظ تفصيل لبعض القضايا التي بزتها قضايا أكثر معاصرة، وأشد أهمية، حيث ركزت بعض الدراسات - مثلا - على قضايا مثل: العلمانية والاستشراق وغيرهما، فقد تمت دراسة الاستشراق - مثلا - تفصيلا وذلك بتناول شبهات المستشرقين والرد عليها وإغراق الطالبات والطلاب في هذه الموضوعات بهذا التناول الذي تم بلُغة بعيدة عن الذوق المعاصر المفيد رغم أن هناك قضايا قد أصبحت أكثر أولوية وهو ما سنشير إليه فيما بعد.
ولا يفوتني - هنا - لفتُ النظر إلى الإسهاب في تناول الأديان الأخرى كاليهودية منذ نشأتها والنصرانية و النصرانية الجديدة والحروب الصليبية والصليبية الجديدة إلى غير ذلك من موضوعات لا تحتملها مادة الثقافة الإسلامية كما ذكرنا.(/3)
وليس خارجا عن موضوعنا أن نضع خطا - مُنبها - تحت كيفية التناول لهذه القضايا حيث يحمل بعض هذه الدراسات شيئا ليس قليلا من ثقافة العداء تجاه هذه الأديان، وليس ضروريا إنماءُ ثقافة العداء هذه في الظروف المعاصرة بالذات ووصفُها كثيرا بأنها التيارات المعادية للإسلام حسب تعبير البعض، وليس ضروريا أن نرفع - دائما - راية العداء للآخرين كلهم وبهذا الشكل، وإنما يمكن أن يكون نوعَ حكمة أن نركز - الآن - على جعل الشخصية المسلمة أكثر إيجابية وأكثر إسهاما في المجتمع المسلم الذي لا يمكن أن نغفل عن أن نسبة ليست قليلة من أفراده يعيشون في المجتمعات الأخرى لأغراض متعددة ويحتاجون إلى هذه الحكمة التي نشير إليها.
ثانيا: في تناول القضايا السياسية والقضايا المهتمة بشكل الدولة في الإسلام عامة:
يُلحظ في هذه الدراسات أحاديث مفصلة عن مقومات الدولة بشكل يمكن أن يُدرس في قاعات كليات السياسة فقط، وليس في مادة الثقافة الإسلامية التي تحتاج فقط إلى الحديث عن الدولة الإسلامية بشكل موجز، بل إن الملاحظة الأهم - في هذا الخصوص - الحديثُ الطويل عن العلاقات الدولية بشكل تفصيلي عن منظمات مثل جامعة الدول العربية من حيث: الأجهزة الفنية بها وتاريخها وإنجازاتها.... إلخ، وغير ذلك من المنظمات، والذي تحتمله مادة الثقافة الإسلامية أن يكون الحديث في مثل هذه الأمور مجملا مركزا في معرض الحديث عن صور التضامن الإسلامي وما تم إنجازُه فيما يخص الثقافة الإسلامية فقط، وذلك في منظمات مثل مجلس التعاون لدول الخليج ومنظمة المؤتمر الإسلامي ورابطة العالم الإسلامي وجامعة الدول العربية دون الدخول إلى أجهزة هذه المنظمات والتعريف بها تفصيلا وكيفية العمل بها.... إلى غير ذلك مما يحتاج إلى معرفته ودراسته طالباتُ وطلابُ العلوم الإسلامية.
ثالثا: في تناول القضايا الاقتصادية:(/4)
يحدث الأمرُ نفسه، ولعل المثال الواضح - في هذا الصدد - ذلك الحديث الذي يبدو مقررا ثقيلا عن النظام الاقتصادي الاشتراكي بتفاصيله التي لم تعد ذات أولوية، وكذلك الحديث عن الأمور الفنية في المعاملات المصرفية، وهذا كله لا تحتمله مادة الثقافة الإسلامية في المرحلة الجامعية للطالبات والطلاب، وإنما يمكن - فقط - الحديث الموجز عن النظام الاقتصادي الاشتراكي ضمن التعريف بالنظام الاقتصادي الإسلامي والميزات التي ينفرد بها عن النظم الأخرى، وكذلك التعريف الموجز بالمصارف وأهميتها في النظام المالي المعاصر.
ومن الملحوظ أيضا في هذا الخصوص على هذه الكتابات اقتصار هذه الدراسات - في معظمها على أحد فروع الشريعة تبعا لثقافة كاتب الدراسة وتخصصه، فبعض الكتب قد عرض فقط للقضايا الفقهية مثلا، وبعضها الآخر قد اهتم بالجانب العقدي، ورغم أنها دراسات في ذاتها جيدة فيما تناولته إلا إنه من الجيد أن يتحقق لمادة الثقافة الإسلامية التنوعُ والشمولُ، بحيث تحتوي هذه المادة المهمة على الجوانب الشرعية كافة مع مراعاة المستوى العلمي لطالباتنا وطلابنا في المرحلة الدراسية.
ولست أريد هنا أن أشير إلى دراسات معينة بعدا عن الظن بإرادة أصحابها ؛ لأن الذي يشغلني ألا تكون مادة الثقافة الإسلامية من نتاج فكر لمتخصص في العقيدة فقط، أو الفقه فقط، أو الأصول فقط، أو التفسير فقط،... وإنما ينبغي أن تكون هذه المادة المهمة من نتاج فكر لأساتذة متخصصين في العقيدة والفقه والأصول والتفسير...... وهو ما تعنيه وتشمله اللفظةُ نفسها، لفظة: الثقافة الإسلامية، ولذلك ليس من المفيد تدريسُ كتاب في الثقافة الإسلامية يحتوي فقط على ثمرة وحيدة من الثمار السابقة وإنما يحتاج الحقلُ إلى غرس أصول هذه الثمار جميعا.(/5)
إننا لا نريد بتدريس مادة الثقافة الإسلامية أن تُضافَ مادة للفقه على الطالبات والطلاب، أو تضاف مادة للأصول، أو للتفسير..، وإنما المرادُ أن يضاف لدى الطالبات والطلاب نتاج ثقافي لهذه الحقول يوجه الشخصية وينميها ويثقفها ويغذيها ويساعد في تكوينها الإسلامي الهادف نحو مجتمع مسلم إيجابي فاعل.
ومن الملحوظ كذلك على دراسات مادة الثقافة الإسلامية: كثرةُ التنظير للثقافة الإسلامية باعتبارها علما دون الاهتمام بالوقائع الحديثة المثارة بمجتمعنا وبيان موقف الثقافة الإسلامية منها بما يوجه طالباتنا وطلابنا نحو الأفضل، ولعل هذا الأمر هو المعيار الذي سيُظهر ثمرةَ هذه المادة في تثقيف طالباتنا وطلابنا في تكوين الشخصية المسلمة، أما الاهتمام فقط - بالتنظير للثقافة من وجهة فلسفة العلم فأمر ينبغي أن يبتعد عن أولويات هذه المادة المهمة.
إن نظرة لإحدى هذه الدراسات قد عرفتني بأن جزءا لا يقل عن ثلث الكتاب مُسْتَغرق في التنظير للثقافة الإسلامية باعتبارها علما، من حيث: العلاقة بينها وبين العلم والحضارة والمدنية فيما يخص التعريف بكل منهما والمصادر والتاريخ والأثر وكذلك الحديث عن الخصائص لكل ما سبق.... إلى غير ذلك مما يأخذ جزءا ليس يسيرا من مجهود الطالبة والطالب بعيدا عن القضايا الثقافية، وليس هذا هو الأولى، وإنما الأولى والمرجو والغاية - ببساطة شديدة -: الخروج بطالبة مثقفة وطالب مثقف، ولذلك ينبغي عدم التعب في التنظير للثقافة الإسلامية باعتبارها علما بشكل يطغى على القضايا ذات الأولوية، ولعل ما يؤكد على صحة هذه الوجهة - في نقطة واحدة - ذلك الاختلافُ الواضحُ والتباينُ الكبيرُ في التعريف بمفهوم الثقافة الإسلامية تبعا لاختلاف المعايير والتكوينات الشخصية، وأتمنى أن أعود من هذا المؤتمر المفيد بتحديد واضح لمفهوم الثقافة الإسلامية رغم أنني أرى أولويةَ التركيز على القضايا الثقافية بدلا من التنظير.(/6)
ثانيا: شرح موجز لتصور مقترح لمحتوى مقرر مادة الثقافة الإسلامية في المرحلة الجامعية.
يتعلق بشرح هذا التصور المقترح أمران تجدر الإشارةُ - بداية - إليهما، وهما:
الأمر الأول:
هو أن مادة الثقافة الإسلامية - شأنها شأن العلوم الإسلامية في الحقل الشرعي عامة - إنما ترتكز على الكتاب والسنة، ولذلك لا ينبغي أن تخضع مادتها ومحتواها لفلسفة كاتبيها الخاصة ولا لآرائهم التي يعتقدونها - فقها أو أصولا أو تفسيرا - باعتبارها اجتهادا خاصا منهم، فالأولى في هذه المادة بالذات البعدُ عن الاجتهادات الخاصة قدر الإمكان والالتزام بالمتفق عليه بين المسلمين.
الأمر الثاني:
هو أن الغاية المرجوة من تدريس مادة الثقافة الإسلامية طرحُ تصور إسلامي مكتمل - قدر الإمكان لحياة المجتمع المسلم، والعمل على اتصال الماضي بالحاضر وذلك بربط النماذج المضيئة الإيجابية من الماضي بواقعنا المعاصر بما يمثله ذلك من دفعة إيجابية لطالباتنا وطلابنا نحو المشاركة الفاعلة في المجتمع في إطار من المبادئ الإسلامية، والعمل كذلك على إبراز الثقافة الإسلامية وتأثيرِها في مجتمعات العالم قديما بما يؤصل روحَ الانتماء للإسلام والمجتمع المسلم ويرسخ شعورا جادا لدى أفراد المجتمع المسلم بالعمل على الخلاص من السلبيات التي حلت بالمجتمع بسبب البعد عن المنهج الإسلامي، وبهذا كله يمكن أن تتكون في المجتمعات شخصيات إيجابية موجهة نحو مجتمع أفضل.
أما شرح التصور المقترح فيمكن إجماله في النقاط التالية:
أولا: التصدير:
وهو ضروري لبيان رسالة الإسلام وغايات الرسالة الإسلامية وواجب المسلمين عامة تجاه هذه الرسالة.
ثانيا: المقدمة:
وهي خاصة بتحديد أهم المصطلحات والمفاهيم الثقافية المرتبطة بمادة الثقافة الإسلامية:
فمن المصطلحاتِ مصطلحاتُ: السنة والتفسير والفقه والأصول والثقافة باعتبار أن مادة الثقافة الإسلامية يتم تدريسها لغير طالبات وطلاب أقسام الدراسات الإسلامية.(/7)
ومن المفاهيم مفاهيم: الأمن والعولمة وحقوق الإنسان والإرهاب والتطرف الفكري و.....إلخ. ولقد أصبح لهذه المفاهيم أولوية في تعريف طالباتنا وطلابنا بها وبتحديد معنى كل مفهوم لهم مثلما كان الطلاب والطالبات يدرسون في فترات زمنية سابقة مفاهيم مثل: الاستشراق والاحتلال وغير ذلك.
وتجدر الإشارة إلى أن هذه المصطلحات والمفاهيم خاضعة للتغيير بالإضافة أو الحذف وَفق تغير ظروف المجتمع وظهور مصطلحات ومفاهيم أخرى يكون لها أولوية التعريف بها وشرح معناها.
ثالثا: الباب الأول
ويختص بالحديث الموجز عن العقائد من حيث التعريف بها، وبيان أركانها، وشرح أثر العقيدة الإسلامية في تربية الفرد وحياة المجتمع، وهو درس إيماني ضروري لطالبات وطلاب المرحلة الجامعية في الثقافة الإسلامية.
رابعا: الباب الثاني
ويختص بالأحكام الشرعية من حيث التعريف بالحكم الشرعي وتقسيمه وبيان المقصود بالحكم التكليفي وأنواعه والمقصود بالحكم الوضعي وأنواعه مع التمثيل المختصر لكل نوع.
خامسا: الباب الثالث
ويختص بمصادر الأحكام، ولقد قلنا إن مادة الثقافة الإسلامية إنما ترتكز على الكتاب والسنة، ولذلك كان لابد من التعريف بالمصدر وبيان المصادر المتفق عليها للأحكام والمصادر المختلف فيها ومدى حجية كل منها.
سادسا: الباب الرابع
ويختص هذا الباب بشرح المقاصد الشرعية المطلوبة والمصالح الشرعية المتوخاة للأحكام الشرعية، وهو أمر مهم حتى يدرك طالباتنا وطلابنا هذه المقاصد، فيلتزم الجميع بالمنهج الإسلامي في تصرفات الحياة كلها.
سابعا: الباب الخامس(/8)
وهذا الباب يختص بفقه واقع المجتمع، وهو درس جديد: أرجو أن ينال حظه من الدرس؛ لما فيه من فائدة جمة إن شاء الله تعالى لطالباتنا وطلابنا، فينبغي أن يكون أفراد المجتمع المسلم على دراية بالواقع وظروفه وتغيراته من حولهم، ودراية بالوسائل المعينة على فهم هذا الواقع من العلوم الأخرى، مع ضرورة الربط بين هذا الواقع الجديد والقيم الإسلامية الثابتة بالقواعد الشرعية الحاكمة والمصالح الشرعية المطلوبة، حتى يتم الجمعُ - وهو الغاية المرجوة بين الالتزام بالنهج الإسلامي ومواكبة المجتمع المعاصر، ذلك أن ديننا الإسلامي كما يوقن كل مسلم ومسلمة دين صالح لكل زمان ومكان.
ثامنا: الباب السادس
وهو باب يختص باختيار مجموعة من القضايا المعاصرة التي يكون لها أولويةُ الدرس، ولا شك أن كل فترة زمنية يحدث فيها من القضايا التي تشغل المجتمع، ويحتاج أفراده إلى معرفة موقف الثقافة الإسلامية منها، وبذلك تكون هذه القضايا قابلة للتغيير بالإضافة والحذف؛ لأن ظروف الحياة متجددة، والوقائع لا تنتهي، وبذلك يكون هذا الباب بابا متغيرا متجددا دائما بما يمثل من عنصر الجذب والتشويق لطالباتنا وطلابنا لدراسة مادة الثقافة الإسلامية.
ومن هذه القضايا على سبيل المثال فقط ما يلي:
فمن الوقائع الحديثة في العبادات:
- ترجمة معاني القرآن الكريم.
- زكاة الأسهم والسندات.
- أعمال النسك المسببة للزحام في الحج خاصة.
ومن الوقائع الحديثة في المعاملات المالية:
- أثرتغير قيمة العملة في المعاملات.
- إجراء العقود بوسائل الاتصال الحديثة.
- بيع الحقوق المعنوية.
ومن الوقائع الطبية:
- جراحة التجميل.
- استعمال أدوية منع الحمل والحيض.
- التشريح.
- نقل وزراعة الأعضاء البشرية.
- التلقيح الصناعي.
- مسؤولية الطبيب.
- أجهزة الإنعاش وموت الدماغ.
ومن وقائع الجنايات:
- القرائن الحديثة.
- حوادث السيارات.
- إجهاض الأجنة التي أثبت الطب تشوهها.(/9)
ومن قضايا المجتمع المعاصر:
- حقوق المرأة.
- حقوق الإنسان.
- العولمة.
- الإرهاب.
- العنف والتطرف الفكري.
- الاستنساخ.
- أنواع التأمين المختلفة.
- الإيدز.
- الغزو الفكري الحديث عن طريق الإنترنت وغيره.
- أثر الفضائيات على المجتمع المسلم.
تاسعا: الخاتمة
وهي خاتمة مختصرة يتم التأكيد فيها على واجب المسلمين عامة في الإسهام بفاعلية في المجتمع.
ثالثا: تصور كامل مقترح لمحتوى مقرر مادة الثقافة الإسلامية في المرحلة الجامعية.
بعد عرضنا لأهم الملاحظات المأخوذة على الدراسات السابقة لمادة الثقافة الإسلامية، وبعد عرضنا - كذلك - لأهم ما ينبغي أن تشمله هذه المادة المهمة: نقترح أن يكون محتوى مادة الثقافة الإسلامية كما يلي:
التصدير:
ويكون نبذة موجزة في رسالة الإسلام وواجب المسلمين عامة تجاه هذه الرسالة
المقدمة:
المبحث الأول: تحديد لأهم مصطلحات الثقافة الإسلامية:
- السنة النبوية.
- التفسير.
- الفقه.
- أصول الفقه.
- الثقافة الإسلامية.
المبحث الثاني: تحديد لأهم مفاهيم ثقافة المجتمع:
- الأمن.
- العولمة.
- حقوق الإنسان.
- الإرهاب.
- التطرف الفكري.
الباب الأول:
العقائد
التوطئة: التعريف بالعقيدة الإسلامية.
الفصل الأول: أركان العقيدة الإسلامية.
الفصل الثاني: أثر العقيدة الإسلامية في تربية الفرد وحياة المجتمع.
الباب الثاني:
الأحكام
التوطئة: التعريف بالحكم الشرعي وتقسيماته.
الفصل الأول: الحكم التكليفي وأنواعه.
الفصل الثاني: الحكم الوضعي وأنواعه.
الباب الثالث:
مصادر الأحكام
التوطئة: التعريف بالمصدر.
الفصل الأول: مصادر الأحكام المتفق عليها.
الفصل الثاني: مصادر الأحكام المختلف فيها.
الباب الرابع:
مقاصد الأحكام
التوطئة: التعريف بالمقاصد وأحكامها.
الفصل الأول: المقاصد وتقسيماتها.
الفصل الثاني: ما يتصل بمقاصد الأحكام.
الباب الخامس:
فقه الواقع والوسائل المعينة له
التوطئة: التعريف بفقه الواقع وأهميته.(/10)
الفصل الأول: فقه الواقع الشرعي.
الفصل الثاني: فقه واقع المجتمع والظروف المحيطة به.
الفصل الثالث: الوسائل المعينة لفقه الواقع الشرعي وواقع المجتمع والظروف المحيطة به.
الباب السادس:
أهم القضايا المعاصرة
التوطئة: أهمية دراسة القضايا المعاصرة، وبيان موقف الثقافة الإسلامية منها.
الفصل الأول: ترجمة معاني القرآن الكريم.
الفصل الثاني: إجراء العقود بوسائل الاتصال الحديثة.
الفصل الثالث: مسؤولية الطبيب.
الفصل الرابع: أثر الفضائيات وشبكة المعلومات (الإنترنت) على المجتمع المسلم.
الخاتمة:
وهي نبذة موجزة يتم فيها التأكيد على واجب المسلمين في الإسهام بفاعلية في المجتمع. والله الموفق.(/11)
العنوان: مكافأة الجاحدين لآبائهم: الحجر يدق ناقوس الخطر
رقم المقالة: 284
صاحب المقالة: جمال سالم
-----------------------------------------
* تزايد قضايا الحجر على الآباء والأمهات، يهدد المجتمع بالانهيار.
* مآسي إنسانية تؤكد تفشي العقوق وعدم الوفاء، وتستلزم الردع.
* د/ عبد الله النجار: لابد من تشديد العقوبات القانونية لردع شياطين الأنس.
* د/ أحمد المجدوب: غياب التنشئة السليمة وراء كل مصائب المجتمع.
* د/ علي جمعة: إذا غاب الإيمان فكل الجرائم مباحة.
* رئيس لجنة الفتوى بالأزهر: العاق لا يدخل الجنة ولن تنفعه كنوز الدنيا.
* * *
كثرت في الفترة الأخيرة قضايا حجر الأبناء على الآباء والأمهات؛ مما يؤكد أن الروابط الأسرية في خطر، ومن المحزن أن الغالبية العظمى من هذه القضايا أثبت القضاء أنها كيدية ورفضها؛ إلا أن هذا لم يوقف مؤامرات الأبناء على ذوي الفضل عليهم بعد الله سبحانه وتعالى، من هنا تأتي أهمية هذا التحقيق الذي ندق فيه ناقوس الخطر قبل أن تتفشى هذه الظاهرة التي تهدد المجتمع بالانهيار.
في البداية نعرض لنماذج صارخة من قضايا الحجر، التي نشرتها وسائل الإعلام وأثارت ردود فعل صارخة:
أم ثرية لأحد المحافظين تآمر عليها أبناؤها الأربعة برئاسة المحافظ، ونجحوا في الحصول على حكم بالحجر عليها على الرغم من أنها متزنة عقليّاً، وبعد الحكم أستيقظ ضمير الأخ الأصغر وقام بفضح مؤامرة أخوته، وأخذ ينشر المؤامرة في وسائل الإعلام، إلا أن نفوذ المحافظ آنذاك جعل صرخات أخيه تذهب أدراج الرياح.
رجل أعمال شهير جداً كانت له صولات وجولات في مجال المقاولات في مصر والوطن العربي، وانتهى به الأمر أن قام أبناؤه بالحجر عليه ومنعوه من أي تصرف في أمواله الطائلة، وبعد وفاته بسنوات أفلست الشركة وتحولت مكاسبها الطائلة إلى خسائر بالجملة.(/1)
أب نذر حياته لابنته الوحيدة بعد وفاة أمها، ورفض الزواج بأخرى حتى لا يظلمها، أو يأتي لها بزوجة أب تنغص حياتها، وبعد أن كبرت وتزوجت بأحد المشاهير، قررت الحجر على والدها المسكين، ومنعته من التصرف في أمواله بعدما رفض أن يكتب لها كل ثروته ويحرم بقية الورثة من نصيبهم الشرعي، انهار الأب من تصرف ابنته التي قابلت الوفاء بالجحود، وأصيب باكتئاب نفسي، ودخل أحد المصحات بعد أن استولت وحيدته على ثروة عمره.
اتفقت البنات الأربع وأزواجهن على الحجر على والدتهن التي ضحت بحياتها من أجلهن؛ حيث توفى والدهن وهن في سن الزهور، ورفضت كل إغراءات الزواج، وأفنت شبابها من أجلهن، وكان الجزاء هو الجحود وقسوة القلب،الذي أصبح كالحجارة بل أشد قسوة، وذهبت الصدمة بأعصاب الأم وذهب عقلها، ودخلت مستشفى الأمراض العقلية.
* أرقام مخيفة:(/2)
نظراً للزيادة المستمرة في أعداد قضايا الحجر أعد المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية دراسة، أكد فيها أن عدد قضايا الحجر في تزايد مستمر؛ مما يؤكد أن الخلل مازال قائماً بل وفي تزايد، وفي مدينة القاهرة وحدها شهدت محاكمها خلال عام 2003 أكثر من 2000 قضية حجر، زادت في عام 2004 لتصل إلى 2900قضية، وفي عام 2005 وصل العدد إلى 3289، وهذا مؤشر خطير، وخاصة إذا عرفنا أن غالبية هذه القضايا ثبت أنها كيدية، وقام الأبناء برفعها على الآباء والأمهات طمعاً في ثرواتهم، أو الكيد لبقية الورثة، حيث تسبق قضية الحجر محاولات مستميتة لإجبار الأب أو الأم على التنازل برضاه إلا أنه يرفض ذلك، لأنه مازال بكامل قواه العقلية، أو يقومون بتحريضه لكتابة الميراث لمجموعة من الورثة وحرمان الباقي، وعندما يرفض هذه المؤامرات، فإن مصيره الوحيد والحتمي من وجهة نظر هؤلاء البنات والأبناء العاقين هو الحجر، الذي وصل لدرجة من القسوة أن الأبناء رفضوا استلام جثة أمهم بعد وفاتها، وقد كانت ثرية وفرضوا الحجر عليها، وأودعوها داراً للمسنين المجانية الحكومية، ولم يزوروها لسنوات، وعندما أبلغتهم دار المسنين بوفاتها ردوا جميعاً:"أدفنوها في مقابر الصدقة؛ لأننا ليس لدينا وقت للحضور وأخذ الجثة وإقامة عزاء ".
وتؤكد الإحصائيات الرسمية أن أكثر من 93% من قضايا الحجر كيدية تصدى فيها القضاء لمؤامرات الأبناء، وأنصف الآباء إلا أن محاولات الأبناء لرفع دعاوى جديدة والتشكيك في الحكم الصادر لصالح آبائهم وأمهاتهم يتطلب وقفة للتصدي لهذه المؤامرات الشيطانية التي يتفنن فيها شياطين الأنس أكثر من شياطين الجن.
* الردع القانوني:(/3)
عن العقاب القانوني لقضايا الحجر وضوابطها يقول الدكتور عبد الله النجار- الأستاذ بكلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر-: الحجر منصوص عليه في الشريعة الإسلامية لمن يسيء استخدام ماله، ويضر بنفسه وبالآخرين، ولهذا فإن الحجر هنا يكون وسيلة حماية وليس عقوبة، أما مفهومه القانوني فهو: المنع من التصرف في الأموال لطوائف معينة كالمجنون أو السفيه؛ حيث يقوم المتضرر من التصرفات غير المسؤولة لصاحب المال برفع دعوى حجر لمنعه من إضاعة ماله فيما لا يفيد؛لأنه يضر بالآخرين وأصحاب الحق في الميراث، والحكم بالحجر على الآباء والأمهات أو حتى الأبناء والأشقاء هو من سلطة القاضي وحده الذي يدرس القضية من كل جوانبها، ويصدر في النهاية حكمه بناء على ما تطمئن إليه نفسه،وإذا تأملنا كل التشريعات العربية لوجدنا فيها بنوداً خاصة بالحجر، والشروط الواجب توافرها في أي إنسان حتى يتم الحجر عليه هيشروط مشددة حتى لا يحدث تلاعب؛ لهذا نجد الغالبية العظمى من دعاوى الحجر يرفضها القضاء ويصفها بأنها: "دعاوى كيدية".
يقترح تشديد العقوبة القانونية على أصحاب الدعاوى الكيدية؛ حتى يتم التصدي لكل من تسول له نفسه ظلم أقرب الناس إليه وهم الآباء والأمهات، وفي هذا التشديد للعقوبة حتى ولو وصلت إلى حد الحرمان من الميراث فإن كل من يفكر في الإقدام على هذه الخطوة سيفكر ألف مرة؛ حتى لا يعرِّض نفسه للسجن والحرمان من تحقيق مبتغاه وهدفه الخبيث، وحقاً "إن الله يزع بالسلطان مالا يزع بالقرآن"، وللعلم فإن الحجر لا يحرم المحجور عليه- في معظم الحالات-كل ماله وإنما يتم تخصيص جزء من المال للأنفاق عليه وكأنه قاصر، في حين تسند إدارة الأموال لمن صدر لصالحهم الحكم القضائي الذي يتم اتخاذه بعد إجراءات صارمة، إلا أن المحسوبية وعدم الضمير من بعض القضاة قد تجعله يصدر حكماً بالحجر على من لا يستحق هذا الأمر القاسي على النفس.
* تدمير المجتمع:(/4)
وعن الآثار الاجتماعية لانتشار قضايا الحجر الذي لا يستند إلى أسس سليمة قال الدكتور أحمد المجدوب - أستاذ الاجتماع بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية-: لا شك أن غياب التنشئة الإسلامية وكذلك التدليل أو الحرمان الزائد يؤديان لنفس النتيجة، وهى عدم وجود أسوياء من بين الأولاد، الذين يطمعون في الاستمتاع بما في يد أبيهم أو أمهم دون احترام أية مشاعر إنسانية؛ حيث سيطرت عليهم الأنانية، وتكون النتيجة الحتمية لذلك هي تدمير الروابط الأسرية، وفقدان الثقة في الأبناء والبنات الذين قد يضطرون إلى "جرجرة" آبائهم وأمهاتهم في المحاكم،ولهذا فإن على مؤسسات الإعلام والتعليم والتثقيف دوراً في إعادة الهيبة المفقودة للوالدين وانشغال الجميع بجمع المال.
وقد لاحظت أن غالبية من رُفِعَت عليهم قضايا حجرهم ممن يسيئون معاملة الأبناء والبنات بدرجات متفاوتة، أو يشعرون بأن وجود الآباء والأمهات عقبة في سبيل تحقيق أحلامهم، ولهذا فإن قطار مطامعهم يسير، ويقتل كل من يعترض طريقه، حتى لو كان أعز الناس إليهم.
وفي بعض الحالات يتحمل الآباء والأمهات المسؤولية عما جرى لهم لأن هذا ما جنته أيديهم من حق أنفسهم وأسرهم حيث ينشغل الآباء والأمهات عن تربية ومراقبة أبنائهم وتركوا لهم الحبل على الغارب.
* الحرمان من الجنة:(/5)
وعن حكم الشرع في هذه القضايا وهل من يرفع قضية حجر عاقاً لوالديه يقول الدكتور علي جمعة - مفتي مصر والأستاذ بجامعة الأزهر-: من الخطأ الحكم بأن كل من يرفع قضية حجر على خطأ بإطلاق، أو أن كل أب أو أم لا يتق الله في أمواله وينفقها في غير مصارفها الصحيحة، ويهدد سلوكه هذا بتبديد الثروة ويحرم الآخرين من حقوقهم، فمثل هذا يكون الحجر في صالحه، وذلك لأن هناك توجيهاًإلهيّاً بألا نعطي السفيه أموالاً، حتى لا يبددها فيما يضر بنفسه والمجتمع، فقال تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً} [النساء:5].
وأوضح أن الفقهاء اختلفوا في الحكم، فمنهم من يرى الحجر يتم على الصبي والمجنون، وهناك من يرى أن الحجر على البالغ العاقل الذي يتصرف تصرفات من شأنها ضياع الثروة وإلحاقه الضرر بالأمة،واختلاف الفقهاء هنا منطلق من المحافظة على أموال بقية أفراد الأسرة والتصدي لأية تجاوزات قد تحول المال من نعمة إلى نقمة.
* من الكبائر:(/6)
عن الفرق بين عقوق الوالدين والحجر، وهل يعتبر الحجر عقوقاً؟ قال الشيخ عبد الحميد الأطرش- رئيس لجنة الفتوى بالأزهر الشريف-: من الخطأ تعميم الأحكام وإنما لكل مسألة حكمها المستقل،وإذا كان الله قد توعد العاقين، وجعل العاق أحد ثلاثة تكفل الله بعدم دخولهم الجنة، وأن ينزل عليه عقوبة في الدنيا والآخرة، بل إن تقصير الوالدين في التربية لا يبرر إهانتهم أو التقليل من شأنهم،وإذا كان الله قد وضع ضوابط شرعية في معاملة الوالدين؛ فينبغي البعد عن وساوس الشيطان الذي يريد إهلاك أمتنا؛ حيث قال تعالى:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً * رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُوراً}[الإسراء:23- 25].
ولابد من تطبيق القاعدة الشرعية حتى يحرم الطامع بغير هدف ميراث أبيه أو أمه، بأن من أستعجل أن يرث يحرم من الميراث، ويجب أن يتجرد القاضي من كل مشاعر الرحمة بهؤلاء الأبناء، وخاصة أنه ليست هناك عقوبة محددة في الدنيا، وإنما من حق القاضي استخدام حقه في العقوبات التعذيرية الرادعة الزاجرة، التي تردع ذوي النفوس المريضة.
لأن من عق أباه أو أمه فإن النار مصيره إلى أبد أبدين، لأن العقوق من الكبائر ويُعَجِّل الله بعقوبة العاق في الدنيا قبل الآخرة ولهذا قال الرسول- صلى الله عليه وسلم-: " بروا آباءكم تبركم أبناؤكم".(/7)
العنوان: مكافحة الفقر فريضة اسلامية غائبة
رقم المقالة: 1024
صاحب المقالة: نعيمة عبد الفتاح ناصف
-----------------------------------------
• العالم الإسلامي يمتلك عناصر الإنتاج التي تبعده عن الفقر، وتجعله من أغنى الأمم.
• التكامل الاقتصادي الإسلامي لمكافحة الفقر، ومواجهة أزمة الغذاء، وغيرها من الأزمات الاقتصادية.. فريضةٌ شرعيةٌ، وضرورةٌ حياتيَّةٌ.
• عناصر الإنتاج موزعةٌ بين دول العالم الإسلامي؛ لكي يتحقق التكامل والتعاون بينها.
• لابد من إحياء قيمة العمل في المجتمع الإسلامي، وزيادة عطاء المسلم وإنتاجه.
• • • •
مكافحة الفقر والحاجة في العالم الإسلامي، وتأمين الغذاء لكل فرد من أفراد الأمة الإسلامية، من الفرائض الإسلامية الغائبة في هذا العصر، خاصةً بعد انتشار الفقر، وظهور آثاره السلبية في العديد من الدول الإسلامية، وما ترتب عليه من انتشار للجهل والمرض، وتأخُّر المسلمين عن ركب الحضارة والتقدم.
فقضية الأمن الغذائي للعالم الإسلامي من القضايا المهمة التي تشغل بال العلماء والمفكرين وخبراء الاقتصاد، وهي تبرز في هذه المرحلة بالذات؛ إذ تعتمد الأمة في نسبة كبيرة من غذائها علي دول أجنبية لا تدين بالإسلام، وقد تصل هذه النسبة في بعض الدول إلى 70% من غذائها، وهذه كارثةٌ كبيرةٌ، ومن العار كل العار أن يحدث هذا في أمة إسلامية، تتوافر فيها كل عناصر الإنتاج والنمو والتقدم، ويدعوها دينها إلي العمل والرقيِّ، والتفوق المادي والمعنوي علي أمم الأرض كافة.
فكيف ترضى هذه الأمة أن تكون تابعةً لغيرها في أشد ضروريات حياتها، وهو الغذاء؟! وكيف تسلِّم مصائر شعوبها لدول الغرب والشرق، تتحكم فيها كيف تشاء؟!
فلا أمن ولا استقرار لفرد أو شعب أو أمة تعتمد في غذائها على غيرها، ولا حرية لشعب لا ينتج قُوتَهُ بيده، ويعتمد على غيره في غذائه.
كفاية موارد الأمة:(/1)
مما لا شك فيه أن اتساع الفجوة بين احتياجاتنا وإنتاجنا المحلي من الغذاء يعدُّ من أخطر الأزمات الراهنة التي تواجه المجتمع المسلم، سواء في أبعادها الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية، ويزيد من خطورة هذه المشكلة عدم الدخول في مواجهة جادة لها حتى الآن!
ومن الحقائق الثابتة التي يتَّفق عليها العلماء وخبراء الاقتصاد: أن الأمة العربية والإسلامية فيها من الموارد والخيرات ما يكفيها غذائياً، ويفيض عن حاجتها؛ لكنها في حاجة إلى حسن استغلال هذه الموارد، وأن عناصر الإنتاج موزعة بين دول العالم الإسلامي؛ لكي يتحقق التكامل والتعاون بينها، وأن المطلوب لكفاية العالم الإسلامي من الغذاء هو وضع أولويات في مجال الإنتاج الزراعي، وزيادة المساحة المزروعة على مستوى دول الأمة.
ويؤكد الدكتور محمد شوقي الفنجري - أستاذ الاقتصاد الإسلامي بجامعتي الأزهر والرياض – أن الأمة العربية والإسلامية لا تنقصها متطلبات تحقيق الأمن الغذائي؛ فلديها من الموارد الطبيعية والبشرية ما يكفيها ويزيد عن حاجتها، وهذه الموارد تتمثل في أراضٍ قابلة للزراعة، وأيدي عاملة لا تجد فرصةً للعمل، وفوائض استثمارية كبيرة، هذا إلى جانب كل مقومات التنمية الاقتصادية؛ لإنتاج ما تحتاج إليه من سلع استراتيجية وسلع غذائية، وخدمات تفي بتوفير الحياة الطيبة الكريمة لكل فرد يعيش داخل دول الأمة، ولكن القضية أنها لا تستخدم ما لديها من موارد في الإنتاج.(/2)
ومن الممكن أن يتحقَّق للأمة الإسلامية أمنها الغذائي بالعمل والإنتاج، واستغلال ما تحت يديها من ثروات، ومن حكمة الله – سبحانه- أنه وزع الثروات على دول العالم الإسلامي مجتمعةً، فالعالم الإسلامي ككل فيه عناصر الإنتاج التي تبعده عن الفقر، وتجعله من أغنى الأمم، وهذه العناصر هي: العمل، ورأس المال، والموارد الطبيعية، والمنظِّم - أو الإداري. لا تتوفر هذه العناصر لدولة واحدة، ولكنها موزعةٌ بين دول العالم العربي والإسلامي.
ففي مصر نجد القوة البشرية الوفيرة، ولكنها ينقصها رؤوس الأموال، ونجد في دول الخليج رؤوس الأموال ولكن تنقصها القوة البشرية، ونجد في السودان الموارد غير المحدودة، حتى إن بها أكثر من 200 مليون فدان صالحة للزراعة، ولكن ينقصها رؤوس الأموال والقوة البشرية، ولو استُثمرت أراضي السودان الصالحة للزراعة؛ لصارت سلةً غذاء للعالم كله، وليس لدول الأمة فقط؛ فدولة مثل مصر بعدد سكانها الكبير تعيش على 5 مليون فدان فقط صالحة للزراعة، في حين أن المساحة التي تصلح للزارعة في السودان تساوي أربعين ضعفاً من المساحة الصالحة للزارعة في مصر! ولعل هذا التوزيع فيه حكمة كبرى من الله – سبحانه - هذه الحكمة تقتضي ضرورة التعاون والتكامل بين الدول الإسلامية؛ إذ أنه ما ينقص إحدى هذه الدول من عناصر الإنتاج نجده يتوافر لدى الأخرى.
التكامل فريضةٌ شرعيةٌ:(/3)
ويؤكد الدكتور حسين شحاتة أستاذ الاقتصاد الإسلامي بجامعة الأزهر أن التكامل الاقتصادي الإسلامي لمكافحة الفقر، ومواجهة أزمة الغذاء وغيرها من الأزمات الاقتصادية، يعتبر فريضةً شرعيةً وضرورةً حياتية؛ فقد وصف الله - سبحانه وتعالى - الأمة الإسلامية بأنها أمة واحدة، وأمرها بعبادته؛ قال - جل شأنه -: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 92]، وأمرَنَا بالتعاون في كل نواحي الحياة، وقد فرض على أغنياء المسلمين في أموالهم بالقدر الذي يسع فقراءهم.
ولكي تتحقق عملية التكامل الاقتصادي؛ فلابد من اتخاذ عدة خطوات، منها:
أولوية التعامل مع الدول الإسلامية وفقاً لفقه الأولويات، واستثمار أموال المسلمين في بلاد المسلمين، وتحقيق الأمن الشرعي للمال؛ ليؤدي وظيفته التي خُلق من أجلها، والأولوية في فرص العمل للمسلمين؛ لعلاج مشكلة البطالة، ورفع قيود التجارة وما في حكمها بين الأقطار الإسلامية، وإنشاء الوحدات الاقتصادية الكبرى بمساهمة الدول الإسلامية، والتدرُّج في تطوير وتوحيد السياسات الاقتصادية والنقدية والمالية بين أقطار الدول الإسلامية، وإنشاء نظام المعلومات الاقتصادية وشبكات الاتصالات الاقتصادية بين الأقطار الإسلامية، والتفكير في تحرير العملات النقدية في البلاد الإسلامية من التبعية المطلقة للدولار الأميركي.
ومن المؤكد أن الفكر والتراث الإسلامي تضمن نماذج من نظم التكامل الاقتصادي الإسلامي، يمكن إحياؤها لتقوم بدورها المعاصر في تحقيق التكامل الاقتصادي بين الدول العربية والإسلامية، منها نظام السوق الإسلامية المشتركة، ونظم المشاركات في المشروعات الاقتصادية الهامة، ونظم التبرعات والمساعدات الاقتصادية، ونظام زكاة المال، والقروض الحسنة، والوقف الخيري، والتعويضات وقت الأزمات... وغيرها.
إحياء قيمة العمل:(/4)
وإلى جانب التكامل الاقتصادي؛ لابد من إحياء قيمة العمل في المجتمع الإسلامي، والذي يعتبر عبادة فى الإسلام، وزيادة عطاء المسلم وإنتاجه، واعتداله في الاستهلاك؛ بحيث يفوق إنتاجه استهلاكه، وليس العكس الذي نراه الآن في المجتمعات الإسلامية؛ حيث تهدر قيمة العمل، ويقل الإنتاج، ويزيد الاستهلاك!!
فالعمل هو خط الدفاع الأول ضد الفقر والحاجة، وهو الوسيلة الأولى لجلب الرزق، والعنصر الأول في عمارة الأرض التي استخلف الله فيها الإنسان وأمره أن يعمرها، عملاً بقوله – تعالى -: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود: 61].
ولقد احتل العمل في الإسلام مكانةً لا تدانيها مكانة؛ فلم يحدث أن ديناً من الأديان السابقة أكَّد على قيمة العمل وقيمة الفرد العامل كما فعل الإسلام، الذي اعتبر العمل واجباً إسلامياً مفروضاً على كل إنسان، مهما علا شأنه أو صغر، وقرر منذ بدء دعوته أن الإيمان ((ما وقر في القلب وصدَّقه العمل))، وأنه قولٌ باللسان، وتصديقٌ بالقلب، وعملٌ بالجوارح، ومن هنا كان الارتباط والاقتران بين الإيمان والعمل في آيات كثيرة من كتاب الله الكريم؛ قال – تعالى -: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} [الكهف: 30]، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً} [الكهف: 107]، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} [يونس: 9].
فلا إيمان إلا بالعمل الصالح الذي يؤكد هذا الإيمان تأكيداً عمليّاً من خلال الكدِّ والاجتهاد، والبحث عن الرزق وإعمار الأرض.(/5)
وقد وردت أحاديث كثيرة تبين فضل العمل والكسب والأكل من عمل اليد؛ فعن المِقْدَام بن مَعْدِي كَرِب، أن رسول الله قال: ((ما أكل أحدٌ طعاماً قطُّ خيراً من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده)). وفي الحثِّ على المزارعة والغرس روى البخاري، عن أنس بن مالك، أن رسول الله قال: ((ما من مسلم يزرع زرعاً أو يغرس غرساً، فيأكل منه طيرٌ أو إنسانٌ أو بهيمةٌ، إلا كان له به صدقة)).
وإذا كانت مواجهة الفقر والحاجة وتأمين الغذاء للعالم الإسلامي تتطلب التكامل الاقتصادي كفريضة إسلامية، وإحياء قيمة العمل بين أفراد الأمة، فإن جانباً كبيراً من مشكلة الفقر في العالم الإسلامي يتعلق بتلك الفئة من الفقراء والمساكين والمحتاجين الذين لا يستطيعون توفير القوت لأنفسهم، إمَّا لضعف، أو لعجز عن العمل، أو لمرض، أو لكِبَر سنٍّ، أو لعدم توافر فرص الكسب والعمل.
وهنا يبرز فرضٌ آخرٌ من الفرائض الإسلامية، وهو التكافل الاجتماعي، الذي يتحقق من خلال فريضة الزكاة وغيرها من الصدقات؛ فالإسلام لم يترك فئة من فئات المجتمع تتعرض للجوع والفقر والضياع دون أن يأمر بمعالجة أمرها، فقد وضع الإسلام نظاماً تكافليّاً متكاملاً، روعي فيه التوسُّط بين ما طالبت به فيما بعد الاشتراكية الشيوعية، وما انتهجته الرأسمالية الإقطاعية؛ لضمان سلامة توزيع الثروة، مما يحقِّق التوازن لمجتمع معافى، يرفل في مستوى لائق من العيش الكريم، ويقوم في الأساس علي الزكاة ونوافلها من الصدقات.
وسوف نتحدث بالتفصيل عن "كفاية الفقير المسلم" كمنهج تفرَّد به الاقتصاد الإسلامي، في مقال آخر - بإذن الله.(/6)
العنوان: مكالمة هاتفية (الحلقة الأولى)
رقم المقالة: 785
صاحب المقالة: مروان محمد أبو بكر
-----------------------------------------
اجتمعتُ معه كثيرًا على طاعة الله؛ فقد كان من أنشط شباب مسجدنا، وأوفرهم أدباً، حتى إني كنت أضرب به المثل أمام مشاغبي شبابنا.
وعلى الرغم من نشاطه في الخير، لم تكن علاقتي به خاصة، أو تتميز عن علاقتي بكثير من شباب المسجد، ولعل ذلك يرجع إلى كونه يصغرني سنّاً.
وحدث ذات يوم أن أخبرني أحد المقرَّبين منه أنه على علاقة بزميلته في الدراسة! وأنهما تعاهدا على الزواج بعد التخرج، وأنها على قدر من الالتزام، وقد اشترطت عليه أن يحفظ القران قبل عقد قرانهما، و..، و..، و... من نحو هذا المطلب، وأن حجَّته في إنشاء هذه الصلة: تربيتها على الخير؛ ليبني في المستقبل أسرةً طائعةً لربها، قائمةً علي حدوده، وأن هذه العلاقة علاقة معلنة؛ فهي معروفةً لكلتا الأسرتين.
لم تَرُقْ لي الفكرة وقتها، ولكني آثرت ألاَّ أتسرَّع في إبداء النصح - الذي هو من حقوق الأخوَّة في الله - خاصةً في مثل هذه المواضيع، لما أعرف من خطورة التسرُّع في علاجها، إضافةً إلى أنني شعرت بأني لم أُلمَّ بجوانب الموضوع، كما أن صاحبه لم يستنصحني فيه.
ثم قدَّر الله لي السفر للعمل بإحدى الدول العربية، وانقطعت صلتي بالأخ شيئاً ما، وأخذتني الحياة بتيارها الجارف.
وفي حين أنا في طريقي عائداً من سفر إلى مكان عملي، أتلقى اتصالاً على هاتفي المحمول:
- السلام عليكم.
- (بصوت خافت): وعليكم السلام، أكيد أنك سمعت عن البنت التي كنت أربيها في الجامعة!
- نعم، سمعت.
- وينفجر باكياً: خطوبتها الليلة، جاءها أحد الميسَّرين، وأنا تعبت معها، وبنيت آمالي عليها، و...!!
حاولتُ أن أهدِّئ من روعه؛ فقلتُ: "عسى أن يكون في ذلك خيرٌ لك ولها، وأنت رجل خير، ولن يضيعك الله أبداً، ستجد من تسعد وتهنأ بها..."، وكلاماً في هذا المعنى.(/1)
وعلى ذلك انتهت المحادثة، ولا أخفيكم؛ فقد تألمت كثيراً، فأنا لا أطيق أن أرى أحد إخواني يتألم، هذا من جهة، ومن جهة أخرى؛ لأن قضيته لفتت نظري إلى مشكلة خطيرة، هي تلك الصداقات - أيّاً كان نوعها - التي انتشرت في الجامعات المختلطة، بين الطلاب والطالبات، وبدأت أتفكَّر في هذه القضية، على الإرهاق والتعب وعناء السفر، وظللت بعد ذلك زمناً أدير الأمر في رأسي، وأبحث عن حل له في كتاب الله وسنَّة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وكان خلاصة ذلك ما أصوغه في هذه الأسطر، راجيًا أن تصل إلى أصحاب القضية، من طلبة وطالبات الجامعات المختلطة أولاً، وإلى غيرهم ممن أهمَّهم ما أهمَّني، وأرحِّب بأيِّ رأي أو نقد عبر بريدي الإلكتروني.
وقفة أولى:
إن الشريحة المعنية بهذا الخطاب - وهي الأغلبية والحمد لله - من الشباب الذين تربّوا على خلق ودين، ممن يحافظون على صلواتهم، ويرتجي المجتمع منهم الكثير، وقد دخلوا تلك الجامعات لتحقيق مستقبل زاهر لهم ولأمَّتهم، فدخل الشيطان عليهم من باب هذه الصداقات، مستغلاًّ حسن نواياهم، زاعمًا أن ذلك هو الطريق الممهَّد للحياة الزوجية السعيدة؛ ليجترَّهم إلى هاوية يعسر على مَنْ سقط فيها تحقيق النجاحات المطلوبة.
أمَّا أولئك المستهترون، الذين يريدون الإفساد في الأرض؛ فلا أقول بتركهم يَغرَقون ويُغرِقون، ولكني أعتقد أنهم يحتاجون إلى خطاب يختلف في صياغته عن هذا.
وقفة ثانية:
إن هذه القضية الهامة – الصداقة بين الجنسين - ليست قاصرة على طلاب الجامعات المختلطة وحدهم؛ بل هي مشكلة موجودة في كثير من المؤسسات والشركات والمرافق التي يوجد بها اختلاط بين الجنسين، وما يقال للطلاب يقال لهؤلاء أيضاً.
تنبيه:
ومما يجدر بي في هذا المقام: أن أطرق أصل القضية التي أضعها بين يدي القارئ الكريم، فمما لا شك فيه أن قضية الاختلاط هي أصل موضوعنا.(/2)
والاختلاط غير المنضبط، الذي لا مبرر له إلا هوى النفس، انقطع نفس بعضهم وهو يحاول أن يجد في نصوص الشرع ما يبيحه، ولست بصدد تقرير حكم في هذا الشأن، ولكنني أفسح المجال لنصوص الشريعة، وأقوال الراسخين فيها؛ فإليك بعض ذلك:
قال الله - تعالى -: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب: 33]، وقال - تعالى -: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب: 53].
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((خير صفوف الرجال أولها، وشرُّها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها، وشرُّها أولها))؛ أخرجه مسلم.
وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سلَّم، قام النساء حين يقضي تسليمه، ويمكث هو في مقامه يسيرًا قبل أن يقوم. قال: "نرى - والله أعلم - أن ذلك كان لكي ينصرف النساء"؛ (البخاري).
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للنساء: ((استأخرْنَ؛ فإنه ليس لكنَّ أن تَحْقُقْنَ الطريق، عليكنَّ بحافات الطريق))؛ أخرجه أبو داود.
وجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - للنساء موضعاً في مصلَّى العيد، ثم أقبل عليهنَّ، فوعظهنَّ؛ رواه البخاري.
وقالت النساء للنبي - صلى الله عليه وسلم -: غلبنا عليك الرجال؛ فاجعل لنا يوماً. فوعدهنَّ يوماً لقيهنَّ فيه، فوعظهنَّ، وأمرهنَّ؛ أخرجه البخاري.
وقال النبي - صلي الله عليه وسلم - عن بابٍ من أبواب المسجد: ((لو تركنا هذا الباب للنساء!)). قال نافع: "فلم يدخل منه ابن عمر حتى مات"؛ رواه أبو داود.
وكانت عائشة - رضي الله عنها - تطوف حَجِزةً من الرجال، لا تخالطهم، وكانت - رضي الله عنها - تعلِّمُ الرجالَ من وراء حجاب.
قال ابن القيم - رحمه الله -: "لا ريب أن تمكين النساء من الاختلاط بالرجال أصل كلِّ بليَّةٍ وشرٍّ، وهو من أعظم أسباب نزول العقوبات العامة، واختلاط الرجال بالنساء سببٌ لكثرة الفواحش والزنا"[1].(/3)
أما ما يقع من اختلاطٍ بين الرجال والنساء للضرورة، كما في الأسواق ونحوها؛ فإن الضرورة تقدَّر بقدرها، لا يُزاد عليها، ولا يُتَوَسَّع فيها.
ولكنَّ المقصود من هذه المقالة ليس بيان الحكم الشرعي للاختلاط؛ بل المقصود: كيف يحفظ الطالب الذي التحق بالجامعة المختلطة نفسه من هاوية الصداقات المسمومة مع الجنس الآخر، المدمرِّة لدينه وأخلاقه ومستقبله، بعد أن صار يعيش ذلك الواقع رضينا أم أبينا؟
وأتصوَّر أن هذا المطلب العزيز لابد أن تجتمع فيه ثلاثة أمور، نفصلِّها فيما يلي - إن شاء الله.
ـــــــــــــــــــــ
[1] "الطرق الحكمية": (1/408).(/4)
العنوان: مكالمة هاتفية (الحلقة الثانية)
رقم المقالة: 882
صاحب المقالة: مروان محمد أبو بكر
-----------------------------------------
تكلمنا في الحلقة الماضية من هذا المقال عن قضية العلاقة بين الجنسين، التي تكثر بين طلاب وطالبات الجامعات والمعاهد وغيرها، وقد تقع كثير من هذه العلاقات بحسن نية، ولمقصد طيب كالزواج بعد التخرج من الدراسة، وقد وعدنا القارئ الكريم بتفصيل القول عن: كيف يحفظ الطالب الذي التحق بالجامعة المختلطة نفسه من هاوية الصداقات المسمومة مع الجنس الآخر، المدمرة لدينه وأخلاقه ومستقبله، بعد أن صار يعيش ذلك الواقع، رضينا أم أبينا؟
وإني أتصور أن هذا المطلب العزيز، لابد أن تجتمع فيه ثلاثة أمور، أبينها فيما يلي:
أولاً: الدراسية.
وأعني بذلك أن تكون العلاقة قائمة على ما تتطلبه أمور الدراسة، ويُلزم به نظامها، مع الحذر كل الحذر من أن تتحول تلك العلاقة إلى علاقة عاطفية، أو صداقة شخصية؛ فإن النقل والعقل يرفضان علاقة الصداقة بين الجنسين رفضاً باتّاً؛ قال الله – تعالي -: {مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} [النساء: 25]؛ ففي هذه الآية نهى الله – تعالى - أن تتخذ المرأة من الرجال خِدْناً، أي: صديقاً.
وإن كان نساء الجاهلية، يتخذن الأخدان لارتكاب جريمة الزنا؛ فإن نساء اليوم ورجاله يفعلون ذلك، ولو بوجه من الوجوه، ألم يقل النبي - صلي الله عليه وسلم - فيما رواه الإمام مسلم في "صحيحه": ((إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنى، أَدْرَكَ ذلك لا محالة؛ فزنى العينين النظر، وزنى اللسان النطق، والنفس تَمَنَّى وتَشْتَهِي، والفَرْج يُصَدِّق ذلك أو يُكَذِّبُه)).(/1)
ولنتأمل تلك الصداقة المبنية علي وعد مزعوم بالزواج بعد الدراسة، وما فيها من رؤية كل واحد للآخر على أنه موضع قضاء وطره في المستقبل القريب، وتخيل ذلك حال لقائهما! ثم لنسأل أنفسنا، كم من شاكلة هذه العلاقات تنتهي بالزواج، والجواب معروف لدينا جميعًا؛ فهي نسبة ضئيلة جداً، والواقع لا يخفى علينا، وقصة أخينا التي وردت في المقال السابق ما هي إلا واحدة من قصص كثيرة، يعرفها الجميع، وشباب الجامعات المختلطة على وجه خاص.
ولا عجب أن يتحطم قارب الصداقة الوهمية هذا مع أول موجة، ليس لكون ربَّانه قليل الخبرة، ولا لأنه لا يجيد القيادة فحسب؛ بل لأن العناصر التي صُنع منها في غاية الهشاشة؛ فليس ثمة شيء غير التخيلات والأماني والأحلام، وإذا أضفنا إلى ذلك تحبيذ مجتمعنا أن يكون الزوج أكبر من الزوجة سنّاً - لأسباب منطقية - فإن تلك الصداقة بين الأقران من الجنسين تنعي لنا احتمال ميلاد أسرة منها لحظة نشوئها.
إن هذه العلاقات المحرمة شرعاً، والتي تنتهي إلى لا شيء غير الآثام غالبًا- هذا إذا سلم للطرفين شرفهما بالمعني الخاص- لها تأثيرها البالغ في الحياة الزوجية لطرفيها مستقبلاً.
فعلى الفرض الأرجح؛ وهو انتهاء هذه العلاقة أثناء الدراسة، أو بعدها بقليل، ثم يذهب كل طرف إلى سبيله، ويتزوج كل واحد منها من غير الطرف الذي أحب، تظل إسقاطات تلكم العلاقة مدمرة لحياته الأسرية؛ فقد تكوَّنت فكرة خاطئة للحياة الزوجية، نتيجة تلكم العلاقة التي تكثر فيها المجاملات، وتقل فيها الواقعية - إن لم تنعدم - فيبقى كلا الطرفين نادمًا طول حياته، علي عدم الزواج من الآخر الذي أحبه، ووجد منه – وهمًا - ما لم يجده من شريك حياته الحالي، ويظل يقارن بين تصرفات شريك حياته المبنية على الواقعية، وتلكم التصرفات العاطفية الخالصة، التي لم يكن ليدوم تكلفها لو قُدِّر لهما الزواج، فيجد البَوْن شاسعًا، مما يؤدي إلى ما لا يُحمد من المشاكل الزوجية.(/2)
أما إن حصل النادر، وتزوج الطرفان، فلتلك العلاقة قبل الزواج، آثارها المدمرة على هذه الزيجة ذات التاريخ العريض في عالم الغرام؛ فكلا الطرفين تعوَّد أن يرى صاحبه على حالة وردية، وقد آن الأوان لتراه على حقيقته، بأخلاقه وصفاته التي نشأ عليها؛ بل آن الأوان لأن تراه مستيقظاً من نومه، وقد انتفش شعره، وذهب رونق ملابسه، وقد يراها بعد أن أعجزها المطبخ عن الإسراع في تغيير ملابسها حال خروجها منه، ورائحة الثوم والبصل التي تزكم الأنوف تفوح منها، بدلاً من رائحة الياسمين التي طالما عبقت منها في لقاءات سابقة، وتبدأ نفسه تحدِّثه: هل هذه فلانة التي أحببتُ؟ وتبدأ المشاكل، ويكثر التوبيخ والتبكيت.
إذاً فالمحتم أن تكون علاقة الجامعة على قدر الدراسة لا أكثر، وليكن الجميع حريص على ألا ينزلق في هاوية العلاقات العاطفية أو الصداقة مع الجنس الآخر.
ثانياً: الجماعية.
فلا يصحُّ أن تنشأ علاقة - وإن كانت دراسية - بين طالب وطالبة بمعزل عن الآخرين، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ولا يخلونَّ أحدكم بامرأة؛ فإن الشيطان ثالثهما))؛ رواه ابن حبَّان، وصحَّحه الألباني.
فالخلوة من أعظم المعاصي؛ لما تفضي إليه من المهالك، ولا تبررها الدراسة ولا غيرها، وما ظنُّك بلقاءٍ يحضره الشيطان؛ بل يكون شريكاً فيه كما في الحديث السابق، والله - تعالى - يقول: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} [البقرة: 286]؟
أن كثيرا من شبابنا وفتياتنا يصابون بحالة أشبه بالغرور إذا ما التحقوا الجامعات، خاصةً إذا انتسبوا إلى بعض الكليات التي لا يُقبل فيها إلا أصحاب النسب الكبيرة؛ فيظنون أن عندهم من الوعي ما يعصمهم من الوقوع في المحذور، ولكن هيهات!! فكم من خلوة هتكت أعراضاً، وأضاعت شرفاً، وكان طرفاها يظنان أنهما قد بلغا من الوعي والفهم ما يكون لهما عاصماً.(/3)
فلو فرضنا وجود هذا الوعي؛ فإن العاقل لا يلقي بنفسه في المهالك؛ بحجة أن عنده ما يقيه منها.
وأحكام الشريعة التي أُمرنا بتطبيقها، وخُيِّل إلى بعضنا أن بإمكانه تجاوزها، لما أوتي من عقل راجح وفهم صائب، قد أُمر بها من هم أرجح منَّا عقولاً، وأوسع منَّا فهماً، وأكثر منَّا علماً، وأطهر منَّا قلوباً، وأنقى منَّا سريرةً من نساء النبي - صلى الله عليه وسلم – وأصحابه، فهل بعد هذا لأحدنا أن يزعم أنه كبر على التقيُّد بها؟
إن بعض شبابنا وفتياتنا يفرطون في الغباء، عندما يخيَّل إليهم أن البعد عن مواطن الشبهات والنأي عنها دليلٌ على عدم ثقتهم في أنفسهم، ولهؤلاء نهدي هذه الآيات التي تحدثنا عن نبي الله يوسف - عليه السلام.
قال الله – تعالى -: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ * وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ * وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ ...} [يوسف: 23-25].
هذه الآيات تخبر أن يوسف عليه السلام - وهو نبيٌّ كريمٌ معصومٌ - لمَّا وجد نفسه في موضع خلوة وشبهة ودعوة إلى المعاصي ولَّى هارباً، وهو من هو؛ فماذا أنتم قائلون؟!(/4)
فمع أن يوسف - عليه السلام - كان في ذلك الموقف مكرهاً؛ لأنه كان خادماً في ذلك البيت - الوزاري - فإنَّه تولَّى عن موطن الفتنة، ولم يعتدّ بنفسه، أو يزعم أن هروبه عدم ثقة فيها، فما يقول من يختار أن يفتن نفسه طائعاً مختاراً، مسوغاً ذلك بأن عنده ثقة في نفسه؟ بل والأغرب من ذلك أنه وهو النبي المعصوم لم يغتر بنفسه؛ بل هرب من مكان الشبهة والمعصية! فما يقول أحدنا ممن لا يكاد يحافظ على صلواته في جماعة؟
ثالثاً: العلنية.
فلا يصحُّ أن تكون هذه العلاقة الدراسية الجماعية بين الطلاب من الجنسين سرية في غير دور العلم المعروفة للجميع؛ كالجامعات والمعاهد والمدارس وغيرها، فإن اجتماع ذكور وإناث ليس بينهم رابطة رحم، في مكان لا يعرف بكونه مرفقاً عاماً، أو دار علم يرتادها الجميع، خطر بكل المقاييس، ولا يصحُّ التذرُّع بالمذاكرة الجماعية - أو نحو ذلك - لإقامة اجتماع مختلط بين الطلاب والطالبات.
إن الالتقاء على ذلكم النحو أقل مفاسده أن يكون مثار الشبهة، والقيل والقال، وقد احتاج النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم كان يسير في الليل مع صفية زوجته، ومر به رجلان من أصحابه، أن يقول لهما: ((إنها صفية زوجتي))؛ ليقطع الطريق على كل خاطر فاسد، أو ظن سيئ!! مع أنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو مَنْ هو في استقامته وبعده عن المعاصي، ولكنَّ العاقل لا يعرِّض نفسه للشبهات.
فهذه الأمور إذا التزم بها طلابنا رجونا أن تستقيم على الدين أحوالهم، وتعفَّ نفوسهم، فهم أملنا ومستقبل أمتنا، والله الهادي إلى سبيل الرشاد.(/5)
العنوان: ملأ الظالمون أرضَك يا دارُ!
رقم المقالة: 893
صاحب المقالة: د. عدنان علي رضا النحوي
-----------------------------------------
يَا دِيارَ الإسلام ! أَنى تَلَفَّ تُّ تَجَرَّعْتُ غُصَّةً وَجُزُوعا[1]
وخِيامُ اللّجُوءِ تَقْذِفُها الآفا قُ! تَرمي أَفْواجَها والجُموعَا
غَصَّتِ الدَّرْبُ والشّعابُ ومَاج ال مَوْتُ فِيها جَمَاجِماً وضُلُوعَا
أَيْنَ لُبْنانُ؟! والدِّماءُ التي كا نَتْ تُنَادِي وَمَا تُلاقي سَمِيعا
فَجَّرَ المُجْرِمونَ فيها البَرَاكِي نَ فَمَادَتْ زلازِلاً وصُدُوعا
يَالهَوْلِ الإجرام! صَبَّ على السَّا حاتِ دَمْعاً مُرَوَّعاً ونجيعَا
كمْ شَقِيٍّ بَغَى عَلَيْكِ فَوَلَّى راضِياً بالإِيابِ عَنْكِ قَنُوعا
* * * *
يا حَنينَ الأَقْصَى! وَيالَهْفَةَ الشَّو قِ! وَيَا خَفْقَةً تَهزُّ الضُّلُوعا
الحَمامُ الَّذي عَهِدْنَاهُ فِيهِ غَابَ يَرْجُو مَعَ الحَنينِ رُجُوعا
لم تَزَلْ أَنَّةُ اللُّجُوء تُدَوِّي بَيْنَ أَحْنَائِنا دَويّاً فَظِيعا
الهَوَانُ الذَّليلُ خَلَّى رُبَاها عن خُطى أَهْلِهَا حِمىً مَمْنوعا
لا يَزَالُ الغَرِيبُ يَضْربُ في الأَرْضِ ليلقَى أُصُولَهُ والفُروعا
حِين يَلْقَى حِماهُ في أُمَّةِ الإِسْلاَم تُغْني رُبُوعَها والجُموعَا
يا ظِلالَ الزَّيتُون! أَيْنَ حديثُ الأَمْ سِ؟! هَاتِ الحديثَ و التَّرجِيعا
أَيْنَ عِطرُ اللَّيمون يَنْشُر تَاري خاً ويَرْوِي مَلاَحِماً وصَنيعا
وطُيوفُ الأَقْصى تُنادِي: أَبَيْنَا أَنْ نَسُومَ الدِّيارَ أَو أَنْ نَبيعا
* * * *
أَيْنَ يا قَلْبُ أَسكُبُ الدَّمْعَ؟! أَنَّى طُفْتُ أَلْقَى مَذَلَّةً وخُنُوعا
أَعلى دِجْلةٍ أَصُبُّ دُمُوعي وأُعِيدُ الأَحْزانَ والتَّقْرِيعا
يالهولِ المُصَابِ فيها وقلبي لم يَزلْ راجفاً يَدُقُّ هلُوعا
أَم على النِّيل؟! كَمْ أَرادوكَ يا نِي لُ جَنيّاً يُرَاوِدُ التَّطويعا(/1)
وَأَرادُوكَ أَنْ تَضِيعَ مَعَ الشِّرْ كِ وتأبى عَلَيْهِمُ أَن تَضيعا
أَم على الشَّام والعَدُوُّ حوَالَيْ ها يَمدُّ السّكِّينَ والتقطيعا
أَم على الهِنْد؟! لهفَ نَفْسي! تَراهُمْ نَزَعوا للفسادِ فيها نُزُوعا
مَلؤوا الأرْضَ مِنْ جَرَائِم هِنْدُو سٍ وسِيخٍ وصَدَّعوا تَصدِيعا
وأَحَاطوا بالمُسْلِمين وهَزُّوا مِنْ قَناةٍ وجَمَّعوا تَجْمِيعا
يا "لِكَشْمير" والدِّمَاءُ عَلَيها صَبَغتْها رِيعاً يَموجُ فريعَا[2]
كُلَّ يَومٍ تمُرُّ فِيها اللّيَالي وصَرِيعٌ يَرْثي عَلَيْها صرِيعا
أُمَّةٌ تَدْفَعُ الكتائِبَ لِلحَ قِّ وتُحْيِي جِهَادَها المَشْروعا
يالأَرْضِ "الصُّومَالِ" يَجْرِفُها المَوْ تُ فَتَلْقَى بهِ الهَلاَكَ المُريعَا
جُنَّ في أَرْضِها الشَّياطينُ بالمَكْ رِ فَصَبُّوا الفَنَاءَ والتَّجْوِيعَا
* * * *
كُلُّها سَاحَةٌ يُخَيِّمُ فِيهَا اللَّي لُ يَطْوي فَضاءَها و الرُّبوعا
الضَّلالُ البَعيدُ والمَكْرُ والمَوْ تُ ظِلالٌ يَرُوعُها تَرْويعا
وَظَلامُ السُّجُونِ يَطْوي أَنيناً وصُراخاً من الضَّحايا مُريعا
بَيْنَ آلاتِه تُمَزَّقُ أَجْسَا مٌ وتَأبى نفوسُهَا أَن تُطيعا
سَاحَةٌ يَلْعَبُ الشَقِيُّ عَلَيها مُجْرِماً ضَلَّ أَو سَفيهاً خَلِيعَا
مَلأَ الظَّالِمونَ أَرضَكِ يا دا رُ وكَانَتْ حِمىً أَبَرَّ مَنيعا
* * * *
ــــــــــــــــــــــ
[1] جزع : جزعاً وجزوعاً وهو ضد الصبر.
[2] الريع : المرتفع من الأرض.(/2)
العنوان: ملامحُ المشروع التربوي الناجح
رقم المقالة: 1427
صاحب المقالة: بدر بن محمد عيد الحسين
-----------------------------------------
المشروعُ التربوي خيرُ مشروعٍ تخطّطُ لهُ الدولُ والمؤسسات التعليميّة؛ لأن نجاحَه نجاحٌ للمجتمع بأسره، وارتقاءٌ بكلّ أطيافه، فكلّما تألّقت التربيةُ تعافى المجتمع، وإذا ما تعافى المجتمعُ دبَّتِ الحيويةُ في عُروقِه وأصبحَ قادراً على العطاءِ والإنتاج، وكلّما تقهقرت التربيةُ خبا بريق الأمة، ووجدنا أنفسَنا وجهاً لوجهٍ أمامَ خطرٍ يُنذرُ بتراجعِ الفكرِ، وانحسارِ الرؤية.
يقول الدكتور علي الجبتي: ((تتّجهُ المجتمعاتُ اليوم إلى البحثِ عن أفضلِ السُّبل التي توصلُها إلى تحقيقِ أهدافِها والقضاءِ على مشكلاتها، وتيسيرِ سُبُلِ العيش فيها.. وهناكَ إجماعٌ بأنّ التربيةَ هي الوسيلةُ التي تمتطيها تلك المجتمعاتُ للوصول إلى الأهداف))[1].
والتربيّةُ متلازمةٌ مع كُلّ نشاطٍ بشريّ، وموجِّهةٌ له، والحاجةُ إليها مُلحّة، وهي ضرورةٌ من ضرورات الحياة، وليست التربيةُ مشروعاً مؤقّتاً قد ينتهي بمئةِ عامٍ أو ألفِ عام، ولكنّها مشروعٌ مستمرٌّ وحيويٌّ ومتجدّد ما أشرقت الشمسُ، وكرَّ الجديدان.
يقولُ المفكّر الأمريكي جون ديوي: "التربيةُ مستمرةٌ، وليست جرعةً تُعطى مرّةً واحدةً إلى الأبد، بل هي بحاجةٍ إلى الاستمرارِ؛ لأن العلمَ لديه دائماً شيءٌ جديدٌ يُوافينا به"[2].
والتربيةُ ليست مجرّد وسيلةٍ للمعرفة فحسب، بل هي وسيلةٌ لتوليدِ وإبداعِ أدواتِ الإنتاج المعرفيَّة، ومع هذا، فإنّ التربيةَ لم تحظَ بالاهتمام المطلوب في كثيرٍ من مجتمعاتنا العربية على الرغم من أنّها المرتكزُ والأساس الذي تُشاد عليه هيبةُ الأمم وأمجادها وحاضرها ومستقبلها.(/1)
والمشروع التربوي لا يُكتبُ له النجاحُ إلا عندما يؤمنُ القائمون عليه بمقاصدهِ القريبة والبعيدة، مع بذْلِ قصارى الجهود في سبيلِ تحقيقه؛ يقول أرسطو: "جذورُ التربية مُرّة، ولكنّ ثمارها حلوة"[3].
وقيل: "من لم يصبر على ذلّ التعليم.. أمضى عمرَه في عماية الجهل، ومن صبرَ عليه آل أمره إلى عزّ الدنيا والآخرة".
ورحم الله الشاعر الذي قال:
ومن لم يَذُق مُرَّ التعلّم ساعةً تجرّع ذُلّ الجهل طول حياته
فأول ملامح المشروع التربوي يتمثّل في الدور الذي ينبغي أن يقوم به رأس الهرم، وذلك بتجهيزِ المدارسِ المزوّدة بالوسائلِ التعليمية المتطوّرة التي تمكّنُ الأسرةَ التربوية من العملِ بأريحيّةٍ تكفُلُ لها تحقيق رسالتها، فضلاً عن توفيرِ المنهجِ المتكامل والمعاصر الذي يواكبُ كلّ جديد، ويلامسُ اهتمامات الطلاب الذين أُعِدّ من أجلهم.
فالمنهج أداةٌ رئيسةٌ في كلّ نهضة، والمنهجُ بنظر المعلمين البُناة دروعٌ واقية لنسيجِ الأمة المتين، ومناجمُ ذهبٍ متدفّقة توفّرُ لهم الحياة الرّغيدة، ولأبنائهم المستقبلَ الآمنَ الواعد، ومكتباتٌ عامرةٌ تزخرُ بالبحوث العلمية والمؤلّفات الثريّة التي تقدّمُ للإنسانيةِ النفعَ والفائدة.
والسؤال الذي يقفزُ إلى الذهن: هل المنهجُ الملائمُ وحدَه يحققُ أهدافَ التربية؟ والجواب لا؛ لأنَّ المنهجَ السليمَ يحتاجُ إلى معلمٍ حاذقٍ مخلصٍ مؤمنٍ برسالتهِ يحوّل المنهجَ إلى روضةٍ غنّاء تفوحُ منها الطيوبُ، وتهفو إليها قلوبُ الطلاب وتنشدّ إليها عيونُهم..
وهنا تبرُزُ مهمّة جديدة منوطة برأس الهرم التربوي (وزارات التربية والتعليم) وهي إعداد المعلمين الأكفاء.
يقول هاورد جاردنر: "المعلمُ الناجحُ ذو الخبرةِ والتدريب الجيّد لا يزال أفضل من الوسائلِ التكنولوجية الأكثر تقدماً، وإنّ أعظم الأجهزةِ والبرامجِ لا تزال قليلةَ النفعِ في غيابِ المنهجِ وعلمِ أصولِ التدريس والتقييم المناسب"[4].(/2)
ولا يفوتُني أن أركّز على أهميةِ طرائقِ التدريس، فالطريقة التي يتّبعها المعلم في أثناء شرح المنهج بمنزلةِ الجناح للطائر.
فالتّدريس فنّ يتطلّب من المعلّم القيامَ بمهارات كثيرة لشدّ انتباه الطلاب.
يقول الدكتور الدمرداش سرحان: "لطريقةِ التدريسِ أثرٌ كبيرٌ في تحقيقِ أهدافِ التربيةِ وينبغي أن نتذكّرَ هنا أنَّ المعلمَ لا يعلّمُ بمادَّتِه فحسب، وإنما يعلّمُ بطريقتِه وأسلوبِه وشخصيته وعلاقاته الطيبة مع تلاميذه وما يضربُه لهم من قُدوة حسنة ومثلٍ أعلى"[5].
وهل المنهجُ السليمُ والمعلمُ الماهر يحققان نجاحَ المشروع التربوي الذي نريد؟
الجواب: لا يحقِّقانِ نجاحَه على الرّغم من كونهما عاملين حيويّين في بناءِ المشروع التربوي؛ لأنّه لا بدَّ من وجودِ عاملٍ ثالثٍ وهو الجهازُ الإداريُّ المتكامل الذي يحتوي على الخبيرِ التربوي المؤثّر، والمدير القائد الذي يحرّكُ مجدافَ المدرسةِ بحكمةٍ وبُعدِ نظر، فيكافئُ المعلمينَ المخلصين، ويأخذُ بأيدي حديثي العهد، ويتعهّدهم بالتدريب فيبني خبراتهم لبنةً لبنة، ويجعل من الطلابِ ومن أولياء أمورهم شركاءَ فاعلين في العملية التعليميّة؛ لتبدو المدرسةُ أسرةً فكريةً متعاونة تحققُ النجاحَ تلو النجاح.
يقول نيوتن: "إذا كنتُ قد استطعتُ أن أرى أبعدَ من غيري، فلأنني وقفتُ على أكتافِ عددٍ كبير من العمالقة"[6].
ويقول دايل كارنيجي: "عندما يعملُ الإخوةُ معاً تتحوّلُ الجبالُ إلى ذهب"[7].
والعاملُ الحاسمُ الآخرُ في نجاحِ المشروعِ التربوي تعاونُ الأسرة التي هي نواةُ المجتمع عن طريقِ بناءِ القيم الإنسانيَّة الإيجابية، وترسيخِها في نفوسِ الأبناء، وتوفيرِ الاستقرار والصحّة النفسيّة لهم، وإكمال دور المدرسة بالمتابعة الفاعلة والتواصل البنّاء.
يقول ابن قيّم الجوزيّة: "من أهملَ تربيةَ ولدهِ في الصّغر فقد أساءَ إليه غايةَ الإساءة"[8].(/3)
ويقول الدكتور أحمد خليل جمعة في كتابه (الأطفال والطفولة): "ولا ريبَ في أنّ للمدرسةِ والتّعليمِ أكبرَ الأثر في تنميةِ الذّوق والجمال عندَ النّاشئة؛ فالتّربيةُ الجماليةُ تُسهمُ في تنميةِ الفضيلةِ الأخلاقيَّة عند الأطفال وتُزوّدهم بعاداتٍ جميلة"[9].
بقيَت هناكَ حلقةٌ مفقودةٌ في بناءِ المشروعِ التربوي، ألا وهيَ الإعلامُ الهادف الذي يوفّرُ للطلاب بُعداً معرفيا ثالثاً يشتملُ على المُتعة والفائدة، ويؤصّلُ فكرَ المجتمع وآدابِه وقيمِه.
ولكنَّ ما نراهُ الآن على شاشاتِ التلفازِ من مُسلسلات كرتونيّة تُنمّي فكرةَ الخيالِ والعُنف والشّعوذة والخرافات، ويُبْرِزُ بعضُها مُطلقيّة الحكمِ والتصرّف بالكون للطبيعة، ويكتفي ما بقيَ منها –وكثُرَ- بتقديم التّسلية الرّخيصةِ المفرّغة من كلِّ قيمةٍ أو مغزى.
هذا النوعُ من الإعلام الهشّ لا يُساعد -بأي حالٍ من الأحوال- على بناءِ المشروعِ التربوي ولكنه يُسهمُ في هدمه، فَيُسيءُ للمشاهدين من الأطفال والفتيان، و يفصلُهم بالكليّة عن بيئتهم الحقيقيّة وعن خلفيّتهم الفكرية والدينيّة والاجتماعية، ويولّد بدورهِ العنفَ في صفوفِ الأطفال بما يتبَنّونه من سلوكيّاتٍ خاطئةٍ في تقليدٍ أعمى لأبطال المسلسلات الكرتونية.
ذكرَ الدكتور (خالد الجريسي) في كتابه (الفنّ الواقع والمأمول): "أثبتت دراسةٌ أنَّ نسبةَ 90% من الأطفالِ الذين يرتكبونَ الجرائمَ يكمُن وراءَها مشاهدةُ أفلامِ العنف"[10].
ولابدّ من الإشارةِ إلى لمحةٍ جدِّ مهمّةٍ في المشروعِ التربوي؛ إنها العملُ بمبدأ روحِ الفريقِ الواحد، ففي الحقيقة إنّ المؤسسةَ التعليميَّة وإدارةَ المدرسة والمعلم والأسرة والإعلام مجتمعين يكونون الفريق الذي يُعوّل عليه المجتمعُ في تطوّره ورقيّه. ولكي يحقِّقَ هذا الفريقُ أهدافَه لا بدّ لهُ من العملِ تحت مظلّةِ التعاون والإتقان والتغاضي عن الهَنات والهفَوات الصّغيرة.(/4)
يقول جون هويس: "التعاونُ ركيزةُ النّجاح"[11].
وما أحوجَنا جميعاً إلى العملِ بهذا المبدأ في المدرسة والشركة والأسرة وفي كلّ مجالات الحياة وفعالياتها.
وإنّ ما نراهُ في بلادنا العربيّة من محاولاتٍ جادّة، وجُهودٍ مخلصة لخدمةِ المشروع التربوي لَيُبشّر بالخير، فأمُّتنا أصيلةٌ وذاتُ مخزونٍ فكريٍّ حضاريٍّ ثريٍّ قابلٍ للنّهوضِ والازدهار والتّحليق من جديد فوقَ روابي الألقِ والإبداع عندما تكتملُ العوامل والأسباب.
ورحم الله شوقي عندما قال:
أمةٌ ينتهي البيانُ إليها وتؤولُ العلومُ والعلماءُ
كلّما حثّتِ الرّكابَ لأرضٍ جاورَ الرّشد أهلها والذّكاءُ
وفي الختام، كُلّي أملٌ في أن يُكمِلَ جيلُ الغَدِ الواعد ما بدأنا به، ويحقّقَ ما عَجَزْنا عنه.. سائلاً المولى عزّ وجلّ أن يكلأهم برعايته ويخصّهم بعنايته وحفظه.
ــــــــــــــــــــــــــــ
[1] مجلة المعرفة العدد 37 /1419هـ مقالة من إعداد د. علي الجبتي ص: 83.
[2] موسوعة روائع الحكمة، د. روحي البعلبكي.
[3] المصدر السابق.
[4] كتاب أفضل النصائح للمعلمين، تشارلز ماكجوير.
[5] كتاب المناهج المعاصرة، الدكتور الدمرداش سرحان.
[6] موسوعة روائع الحكمة، د. روحي البعلبكي.
[7] المصدر السابق.
[8] كتاب صحيح جامع بيان العلم وفضله. لابن عبد البرّ.
[9] الأطفال والطفولة، د. أحمد خليل جمعة.
[10] كتاب الفن الواقع والمأمول، د. خالد عبد الرحمن الجريسي.
[11] موسوعة روائع الحكمة، د. روحي البعلبكي.(/5)
العنوان: ملامح كلية من منهج الحافظ أبي حاتم الرازي
رقم المقالة: 921
صاحب المقالة: أ.د.عبدالله بن مرحول السوالمة
-----------------------------------------
ملامح كلية من منهج الحافظ أبي حاتم الرازي في الجرح والتعديل
ملخص البحث:
يتناول هذا البحث موضوعاً من موضوعات علم الحديث درايةً؛ إذ هو بمنزلة محاولة لدراسة منهج الحافظ أبي حاتم الرازي في الجرح والتعديل، وذلك عن طريق ذكر كليَّاتٍ مؤصَّلة - أو ملامح كليَّة - يمكن الولوج عبرها إلى جزئيات هذا المنهج ودقائقه.
وقد ذكرت فيه ثلاثة عشرة لمحة من هذه الملامح الكلِّية، مع ذكر بعض الجزئيَّات المؤيَّدة بتطبيقات كافية من كلام الحافظ أبي حاتم في الرواة، كما ذكرتُ بعض المصطلحات النادرة التي استعملها أبو حاتم، ومصطلحات أخرى قد يخفى مراده بها؛ لاتساع معناها عنده، وذلك بقصد معرفة عرفه فيها ودلالتها عنده، وقد تقدَّم هذا كله التعريف بهذا الإمام، وذلك بذكر اسمه ونسبه، ونشأته وطلبه للعلم، وأشهر شيوخه وتلاميذه، ورحلاته، وأقوال العلماء فيه، وآثاره، بما يبرز مكانته وإمامته في النقد وغيره، ويفيه بعض حقِّه من الدراسة.
المقدمة:
أحمد الله تعالى حمداً يليق بجلاله، وأشكره - سبحانه - شكراً يكافئ إنعامه وامتنانه، وأصلِّي وأسلِّم على أفضل خلقه، وخاتم رسله وأنبيائه، وعلى آله وأصحابه وأتباعه، وبعد:
فإنه لم يكن في أمة من الأمم - منذ خلق الله آدم - أمناء يحفظون آثار الرسل إلا في هذه الأمة؛ بما حباها الله وخصَّها من علم الإسناد والرواية، وجعل هذا سلَّماً إلى الفهم والدِّراية.(/1)
ونظراً لأهمية علم الإسانيد ومعرفة رواة الأخبار وناقلي الآثار في حفظ الشريعة، ومعرفة المقبول من المردود من السنَّة؛ فقد هيأ الباري - عزَّ وجلَّ - في كل عصر وفي كل مِصْر منذ القرن الأول جهابذةً من الأئمة النقَّاد الأتقياء الأمناء، ينتظمون في طبقات متلاحقة، أو هم أشبه ما يكونون بحلقات السلسلة المتداخلة، أو الدرر المنتظمة في العِقْد الواحد، يسلك لاحقُهم مسلكَ سابقهم في جمع السنن، وانتقاء الرجال، وانتقادهم، ومعرفة ما لهم وما عليهم من التعديل أو التجريح.
وقد كان الإمام أبو حاتم الرازي أحد الأركان المبرَّزين، ضمن طبقة هي من أشهر تلك الطبقات المتتابعة المنتظمة في هذه المسيرة النقديَّة المباركة، وذلك في مطلع المئة الثالثة، وكان بروز هذا الإمام واشتهاره بين أقرانه كامناً في ما يلي:
1- نباهته، وقوة حافظته، مع صدق النية، وسلامة المعتقد، وحسن الطويَّة.
2- كثرة تجواله؛ فقد طوَّف البلاد، والتقى الكبار، غير مبالٍ بالمخاطر والصعاب.
3- حرصه الشديد على جمع الحديث، ومعرفة التصحيح والتعليل، والجرح والتعديل، مما جعله بارعاً في كل هذا، مشاراً إليه من بين أقرانه، ملقَّباً ب-(أمير المؤمنين في الحديث) كما في ترجمة الحافظ ابن ديزيل عند الذهبي [1، ج-13، ص189].
4- كلامه في أكثر الرواة تعديلاً وتجريحاً، قال الذهبي: "إن الذين قَبِلَ الناسُ قولَهم في الجرح والتعديل على ثلاثة أقسام: فقسمٌ تكلموا في أكثر الرواة؛ كابن معين، وأبي حاتم الرازي ..." [2، ص171].
كثرة أقواله في الجرح والتعديل، مع تنوع الألفاظ والمصطلحات التي استعملها، وانفراده بالكلام على كثير من الرواة، وبكثير من المصطلحات النقدية، وفي بعض ذلك ما هو نادر الاستعمال، غامض المدلول، هذا مع ما امتاز به من شدة التحرِّي؛ بل التشدُّد مع العَنَت أحياناً.(/2)
فهو في شخصه وسيرته مثالٌ يُحتذَى، وأثرٌ يُقتفَى، وأما أقواله في الجرح والتعديل؛ فكان عليها المعوَّل عند المتقدِّمين والمتأخِّرين؛ فهو بحقٍّ يعدُّ مدرسةً قائمةً بذاتها، وهو وحده أمَّة!
ومع هذا كله؛ فإنه لم يُعْطَ حقَّه من البحث والدراسة؛ فلم يدرَّس منهجه في الجرح والتعديل بصورة عامة، كما أنه لم تُدْرَس ألفاظه ومصطلحاته لمعرفة مراده منها، ومدلولات تلك المصطلحات عنده بصورة خاصة، فيما عدا إشارات جزئية، مبثوثة في ثنايا بعض كتب الرجال والمصطلح، وفيما عدا ما قام به الباحث (محمد الأزوري) من دراسة عامة له، وذلك في رسالته للماجستير في جامعة أم القرى، سنة 1404هـ، بعنوان: " أبو حاتم الرازي وآثاره العلمية".
ولهذا كله؛ فقد كان لي منذ سنوات عناية خاصة بأقوال هذا الإمام في النقد، فقد قمتُ بجمعها وتصنيفها، مع محاولة موازنة بعضها بأقوال بعض معاصريه من النقاد الآخرين، وذلك بقصد دراسة منهجه في الجرح والتعديل عامةً، ودراسة ألفاظه ومدلولاتها عنده خاصةً، مع قناعتي التامة بأن هذا العمل شاق، وأن الطريق طويل، وأن العجز والفتور وكثرة المشاغل قد يسبق إلى النفس، أو يعكِّر صفوَ هذه الرغبة الأكيدة لديَّ.
لذا؛ فقد بدا لي - منذ زمن يسير - أن أؤصِّل أولاً لمنهج أبي حاتم في الجرح والتعديل، وذلك بوضع أُطُرٍ عامة، أو أصول كلِّية؛ لتكون هذه الأطر أو الكلِّيات العامة - التي هي أغلبيةٌ في أكثر أحوالها - بدورها أُسُساً يُصعد منها، ومداخل يُولج من خلالها إلى الفرعيَّات أو الجزئيات المندرجة تحتها، مما يسهل دراستها، ومعرفة ضوابطها.(/3)
وقد ناسب طبيعة البحث تسمية هذه الأطر أو الكلِّيات المؤصِّلة لمنهج الإمام في الجرح والتعديل، ب- "ملامح"، واحدتها لمحةٌ، واللمحة: النظرة بالعَجَلَة، وملامح الإنسان: ما بدا من محاسن وجهه ومساويه، ويقولون: لمحة البرق، ولمحاً باصراً: أي أمراً واضحاً، كما جاء عند ابن منظور، مادة "لمح". [3، ج-2، ص 584].
وقد جعلتُ هذا البحث على مقدمة، وقسمين، وخاتمة:
- بيَّنتُ في المقدمة أهمية هذا العمل وضرورته، والقصد منه.
- وجعلتُ القسم الأول خاصّاً بالتعريف بأبي حاتم الرازي، وأما القسم الثاني: فقد ذكرتُ فيه ملامح كلِّية من منهج أبي حاتم في الجرح والتعديل.
- وأما الخاتمة فقد تضمَّنت أهمَّ النتائج.
وأسأل الله - تعالى - أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه، نافعاً لخلقه، متقبَّلاً لديه – سبحانه - وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
القسم الأول
الإمام أبو حاتم الرازي
اسمه ونسبه:
هو الإمام أبو حاتم، محمد بن إدريس بن المنذر بن داود بن مهران، الحنظلي، الغَطَفاني، الرازي، من تميم بن حنظلة بن يربوع، عُرف بالحنظلي؛ لأنه كان يسكن في درب حنظلة بمدينة الرّي [1، ج-13، ص 247]، وقد أشار الذهبي - هنا - لوجود اختلاف في نسبته إلى حنظلة.
وقال السمعاني: "وبالرّي دربٌ مشهور، يقال له درب حنظلة، منها أبو حاتم محمد بن إدريس. ثم قال: قال محمد بن طاهر المقدسي: أبو حاتم الرازي الحنظلي، منسوبٌ إلى درب حنظلة بالرّي، وداره ومسجده في الدرب، رأيتُه ودخلتُه ... قال أبو محمد عبدالرحمن بن أبي حاتم الرازي، قال أبي: نحن من موالي تميم بن حنظلة، من غَطَفَان. قال المقدسي – يعني: محمد بن طاهر -: والاعتماد على هذا أولى،، والله أعلم" [4، ج-2، ص ص 279 – 290].(/4)
وتعقَّب ياقوت الحموي هذا قائلاً: "وهذا وهمٌ، ولعله أراد حنظلة بن تميم، وأما غَطَفَان؛ فإنه لا شك في أنه غلط؛ لأن حنظلة هو: حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم، وليس في ولده من اسمه تميم، ولا في ولد غَطَفَان بن سعد بن قيس بن عيلان مَنْ اسمه تميم بن حنظلة البتة - على ما أجمع عليه النسَّابون - إلا حنظلة بن رواحة بن ربيعة بن مازن بن الحارث بن قطيعة بن عنس بن بغيض بن رَيْث بن غَطَفَان، وليس له ولد غير غَطَفَان، وليس في ولد غَطَفَان مَنْ اسمه تميم" [5، ج-2، ص311].
قال المعلِّمي اليماني: "فإن صحَّ السند إلى ابن أبي حاتم؛ فهم من موالي بني حنظلة من تميم، والتخليط ممن بعده" [6، ج-1، ص و د].
ويرى الإصطخري أن موالي بني حنظلة بن تميم قد عبروا البحرين إلى فارس، في أيام بني أمية، فسكنوا إصطخر أصبهان ونواحيها، وملكوا الأموال الكثيرة، ثم نزح بعض من أسرة أبي حاتم إلى الرّي، واتخذوها وطناً جديداً [7، ص85]. يقول أبو حاتم: "نحن من أهل أصبهان، من قرية جروكان، وأهلنا كانوا يقدمون علينا في حياة أبي، ثم انقطعوا عنا" [1، ج-13، ص250].
مولده وموطنه:
اتفقت المصادر على أن ولادته كانت سنة خمس وتسعين ومئة (195هـ)، ويؤيد هذا ما قاله ابنه عبدالرحمن؛ إذ قال: "سمعت أبي يقول: كتبتُ الحديث سنة تسع ومئتين، وأنا ابن أربع عشرة سنة" [6، ج-1، ص 366].
وأما موطنه فهو الري، كما جاء في مصادر الترجمة.
طلبه العلم، ورحلاته، ومقاساته في ذلك:(/5)
لم تذكر المصادر شيئاً عن نشأة هذا الإمام في صغره، كما أهملت الكلام عن أسرته، فأول ما ذكرته عن طلبه العلم هو أنه كتب الحديث سنة تسع ومئتين، وكان عمره آنذاك أربع عشرة سنة تقريباً [6، ج-1، ص366]، ومن غير المعقول أن يعيش هذا الإمام تلك السنين السابقة لهذه السن دون طلب، والغالب على الظن أنه هيِّئ في سن التمييز للكتابة والقراءة، وحفظ القرآن، وتعلَّم بعضَ اللغة والآداب - كما هي عادة الناس في أبنائهم في تلك الأزمنة. فلما جاء سن الثالثة عشرة أو الرابعة عشرة لهذا الإمام أخذ ينتقل في بلده الرّي، ويختلف إلى جماعة من المحدِّثين؛ يسمعُ منهم، ويكتبُ الحديثَ عنهم.
وأما رحلاته في طلب الحديث، وما قاساه في أثناء الطلب من صعاب:
فمما لا شك فيه أن هذا الإمام كان رحلةً، قد جاب البلاد شرقاً وغرباً، وجنوباً وشمالاً، مستقرِباً البعيدَ، ومستعذِباً المرَّ، ومستسهِلاً الصعابَ، وكأنه قد وجد حلاوة العيش ولذة الحياة كامناً في سير المسافات الطويلة، والتطواف بين البلدان؛ للوصول إلى أكابر المحدِّثين، والإفادة منهم، والكتابة عنهم.(/6)
قال عبدالرحمن بن أبي حاتم: سمعت أبي يقول: "أول سنة خرجتُ في طلب الحديث أقمتُ سبع سنين، أحصيتُ ما مشيتُ على قدميَّ زيادةً على ألف فرسخ!! لم أزل أحصي، حتى لما زاد على ألف فرسخ تركته! ما كنتُ سرتُ أنا من الكوفة إلى بغداد فما لا أحصي كم مرة، ومن مكة إلى المدينة مرات كثيرة، وخرجت من البحرين - من قرب مدينة صلا - إلى مصر ماشياً، ومن مصر إلى الرملة ماشياً، ومن الرملة إلى بيت المقدس، ومن الرملة إلى عسقلان، ومن الرملة إلى طبرية، ومن طبرية إلى دمشق، ومن دمشق إلى حمص، ومن حمص إلى أنطاكية، ومن أنطاكية إلى طرسوس، ثم رجعت من طرسوس إلى حمص، وكان بقي عليَّ شيءٌ من حديث أبي اليمان فسمعتُ، ثم خرجت من حمص إلى بيسان، ومن بيسان إلى الرَّقة، ومن الرَّقة ركبت الفرات إلى بغداد، وخرجتُ قبل خروجي إلى الشام من واسط إلى النيل، ومن النيل إلى الكوفة، كلُّ ذلك ماشياً! كل هذا في سفري الأول، وأنا ابن عشرين سنة، أجول سبع سنين!! خرجتُ من الرّي سنة ثلاث عشرة ومئتين، قدمنا الكوفة في شهر رمضان سنة ثلاث عشرة .. ورجعت سنة إحدى وعشرين ومئتين.
وخرجتُ المرة الثانية سنة اثنتين وأربعين، ورجعتُ سنة خمس وأربعين، أقمتُ ثلاث سنين ..".
هذا وقد حجَّ أبو حاتم مرات، فقد قال: "حججتُ سنة الأول سنة خمس عشرة ومئتين، والحجة الثانية سنة خمس وثلاثين، والثالثة سنة اثنتين وأربعين، والرابعة سنة خمس وخمسين، وفيها حج عبدالرحمن ابني" [6، ج-1، ص ص362 - 363].
وهكذا يظهرُ أن أبا حاتم كان يسير في كثير من الأحيان على قدميه، ويتحمل الصعاب، وهو أمر يبعثُ في النفوس العزمَ، ويدعو طلاب العلم إلى الصبر وبذل الجهد، كيف لا وقد عدَّ مشيه في السفر الأول حتى زاد على ألف فرسخ! ثم توقف في العدِّ؛ وذلك لطول المسافات وكثرة الأرقام، مما يصعب معه الاستمرار في العدِّ؟!.(/7)
ويقول الذهبي معلِّقاً على الألف فرسخ: "قلتُ: مسافة ذلك نحو أربعة أشهر، سير الجادَّة"!! [1، ج-13، ص255].
ويرى الباحث أن هذه المسافة تقدر بحوالي (5544) كيلو متراً أو تزيد، وذلك بالمقاييس المتعارف عليها الآن [3، ج-3، ص44؛ ج-11، ص639؛ 8، ص77].
وأما عن الصعاب والمقاساة التي عاناها أثناء الطلب؛ فحدِّث ولا حرج، ويكفي أن أذكر هنا قصتين تصوِّران تلك الصعوبات، كما تصوِّران العزمَ القوي، والدأب المتواصل، وشدَّة التحمُّل عند هذا الإمام الجِهْبِذ.
يقول أبو حاتم - فيما يرويه عنه ابنه أبو محمد عبدالرحمن -: "بقيتُ بالبصرة في سنة أربع عشرة ومئتين ثمانية أشهر، وكان في نفسي أن أقيم سنةً، فانقطع نفقتي، فجعلت أبيعُ ثياب بدني شيئاً بعد شيء، حتى بقيتُ بلا نفقة، ومضيتُ أطوف مع صديق إلى المشيخة، وأسمع منهم إلى المساء"؛ وهكذا يحكي أنه بقي يغدو ويروح لمدة يومين، لا يطعم طعاماً! وفي اليوم الثالث جاءه صديقه ليخرجا باكراً إلى المشايخ، فقال له أبو حاتم: "أنا ضعيفٌ، لا يمكنني". قال له صديقه: ما ضعفُك؟ فقال له الخبر. وكان مع صديقه دينار، فاقتسماه وخرجا [6، ج-1، ص ص 363 - 364].(/8)
والقصة الأخرى هي أغرب وأعجب، وهي: أنهم خرجوا ثلاثةً؛ هو، وشيخٌ مروزيٌّ، وآخرُ نيسابوريٌّ، فركبوا البحر، وكانت الريح في وجوههم، فبقوا في البحر ثلاثة أشهر، وفني ما كان معهم من الزاد إلا يسير، وضاقت صدورهم؛ فخرجوا إلى البر يمشون أياماً، حتى فني ما بقي معهم من الزاد والماء، فمشوا ثلاثة أيام من الصباح إلى المساء، بلا ماء ولا زاد، وقد ضعفت أبدانهم، فأخذوا يمشون على قدر طاقتهم، فسقط الشيخ مغشيّاً عليه، فحرَّكوه - وهو لا يعقل - فتركوه فمشى أبو حاتم وصاحبه النيسابوري، فضعف أبو حاتم، وسقط مغشيّاً عليه؛ فتركه صاحبه ومشى، وبصر بعد مدة قوماً قد قرَّبوا سفينتهم من البر، ونزلوا على بئر موسى - عليه السلام - فأخذ يلِّوح بثوبه إليهم، فجاؤوا ومعهم الماء، فسقوه؛ فقال لهم: الحقوا رفيقَيْن لي، قد ألقوا بأنفسهم مغشيّاً عليهم.
قال أبو حاتم: "فما شعرتُ إلاَّ برجل يصبُّ الماء على وجهي؛ ففتحت عيني، فقلتُ: اسقني؛ فسقاني شيئاً يسيراً، ورجعتْ إليَّ نفسي، ولم أروَ، فقلتُ: اسقني؛ فسقاني شيئاً يسيراً، فأخذ بيدي، وأنا أمشي أجرُّ رِجْلي، ويسقيني شيئاً بعد شيءٍ".
وكان أبو حاتم قد أخبر مَنْ جاءه برفيقهم الثالث قائلاً: ورائيَ شيخٌ ملقى. فقال له: قد ذهب إلى ذاك جماعة.
وهكذا نجا أبو حاتم، ونجا صاحباه، وبقوا عند أصحاب السفينة أياماً، حتى رجعت إليهم أنفسهم، ثم زوَّدهم أصحاب السفينة الكعكَ والسَوِيقَ والماء، وكتبوا لهم كتاباً إلى والي بلده راية، ومشوا، فنفذ ما معهم من ماء وأزواد، وتعرضوا للخطر ثانية، فقاسوا مرارة الجوع والعطش، حتى وصلوا إلى مدينة راية، فأكرمهم واليها، وبقوا عنده زمناً، ثم زوَّدهم إلى أن بلغوا مصر. [6، ج-1، ص ص 364-366] بتصرُّف.
شيوخه وتلاميذه:
لقد التقى أبو حاتم الرازي بالكثيرين من الجهابذة الكبار، وفي مختلِف البلاد التي زارها أثناء طلبه العلم ورحلاته المتكرِّرة.(/9)
قال الخليليُّ: قال لي أبو حاتم اللبان الحافظ: "قد جمعتُ مَنْ روى عنه أبو حاتم الرازي، فبلغو قريباً من ثلاثة آلاف [9، ج-2، ص682].
ويقول الذهبيُّ بعد أن ذكر بعضاً من شيوخه: "وسمع خلقاً كثيراً .. ويتعذَّر استقصاء سائر مشايخه"؛ يعني: لكثرتهم [1، ج-13، ص 248].
وممن سمعهم: عبيدالله بن موسى، وأبو نُعَيْم، وطبقتهما بالكوفة، ومحمد بن عبدالله الأنصاري، والأصمعي عبدالملك بن قُرَيْب، وطبقتهما بالبصرة، وعفَّان بن مسلم، وهَوْذَة بن خليفة، وطبقتهما ببغداد، وأبو مُسْهِر، وأبو الجَمَاهِر محمد بن عثمان، وطبقتهما بدمشق، وأبو اليَمَان، ويحيى بن صالح الوُحَاظِي، وطبقتهما بحمص. وسعيد بن أبي مريم، ويونس بن عبد الأعلى، وعبدالله بن صالح المصري كاتب الليث بمصر، وخلقٌ بالنواحي والثغور [10، ج-2، ص73؛ 1، ج-13، ص ص 247-248؛ 11، ج-2، ص183].
ونظراً لسَعَة علم أبي حاتم، وشهرته، وكثرة البلاد التي زارها؛ فإنه أصبح مهوى أفئدة التلاميذ من جميع أنحاء الأرض، وقد قال غيرُ واحد من العلماء: روى عنه عالمٌ لا يحصون كثرةً [4، ج-2، ص279؛ 1، ج-13، ص248؛ 1، ج-2، ص208]، ومن هؤلاء الراوين عنه: يونس بن عبد الأعلى، والربيع بن سليمان – المصريان - وهما أكبر منه سنّاً، وأقدم سماعاً [10، ج-2، ص73؛ 4، ج-2، ص279]، وهما من شيوخه أيضاً.
ومن أقرانه: أبو زُرْعَة الرَّازي، وأبو زُرْعَة الدمشقي، ومحمد بن عَوْن الحِمْصِي، ومن أصحاب السنن: أبو داود، والنَّسائي، وابن ماجه في "التفسير"، والبخاري في "الصحيح" - في باب المُحْصِر - وابنه عبدالرحمن أبو محمد.
وقال الخطيب: "حدَّث عنه يونس بن عبد الأعلى، ومحمد بن إسماعيل بن موسى الرَّازي، وبين وفاتَيْهما أكثر من ست وثمانين سنة"، وقال الذهبي: "آخر من حدَّث عنه هو محمد بن إسماعيل بن موسى الرَّازي" [10، ج-2، ص73، 4، ج-2، ص279؛ 1، ج13، ص248؛ 13، ص323؛ 14، ج-9، ص ص 28 - 29].
مؤلفاته:(/10)
لا شك في أن الإمام أبا حاتم قد خلَّف علماً غزيراً مرويّاً عنه، ومدوَّناً في بطون الكتب، يظهر هذا جليّاً في الأقوال المنسوبة إليه، وبخاصة في كتابَي "الجرح والتعديل" و"العلل"، كلاهما لابنه وراويته عبدالرحمن، بَيْدَ أنَّ المراجع لم تحفل بذكر مؤلفات تُذكر لهذا الإمام، ومما ذكرته له ونسبته إليه المراجع من المؤلفات:
1- كتاب في الاعتقاد [15، ج-1، ق1، ص 298] [1].
2- كتاب الزهد [16، ج-1، ص186؛ 15، ج-1، ق1، ص298].
3- طبقات التابعين [17، ص139؛ 18، ج-6، ص27؛ 19، ج-9، ص35].
تفسير القرآن العظيم [20، ج-2، ص19؛ 19، ج-9، ص35؛ 18، ج-6، ص27][2].
4- إجابته عن أسئلة أبي عثمان سعيد بن عمرو بن عمار حول الضعفاء والكذَّابين [15، ج-1، ق1، ص298].
هذا وقد ذكر ابن النديم أبا حاتم الرازي، وبيَّض اسمه، فلم يعيِّنه، ثم قال: "وله من الكتب؛ كتاب الزينة: كبيرٌ، نحو أربعمئة ورقة، وكتاب الجامع: فيه فقهٌ غير ذلك" [21، ص268].
ونسب إسماعيل باشا البغدادي هذين الكتابَيْن لأبي حاتم محمد بن إدريس الرازي - موضوع البحث - جازماً بذلك [20، ج-2، ص19]، وتابعه في هذا - أيضاً - عمر رضا كحالة [19، ج-9، ص35]، وزاد الزِّرِكْلِيُّ؛ فنسب إلى أبي حاتم الرازي محمد بن إدريس كتاباً ثالثاً، وهو "أعلام النبوة" [18، ج-6، ص 37] [3].
والذي يظهر للباحث: أنه لا يمكن الجزم بنسبة هذه الكتب الثلاثة الأخيرة إلى أبي حاتم محمد بن إدريس الرازي، ولعل نسبتها إلى أبي حاتم الرازي أحمد بن حمدان الورسامي الليثي، المتوفَّى سنة 332هـ هو الأوْلى والأقرب؛ للأدلَّة الآتية:
1 – لم تُشر المصادر المعتمدة التي ذكرت حياة أبي حاتم الرازي - موضوع البحث - إلى شيء من هذه الكتب، لا من قريب ولا من بعيد.
2- لعل ابن النديم قصد أبا حاتم الرازي - هذا الأخير - وأهمل اسمه، أو تردَّد فيه؛ فلم يعيِّنه.(/11)
3- ذُكرتْ هذه الكتب في ترجمة أبي حاتم الرازي أحمد بن حمدان الورسامي الليثي، عدا كتاب "الجامع" في الفقه [15، ج-1، ق3، ص356] وقد نسبه ابن النديم إلى أبي حاتم الرازي مطلقاً غير مقيَّد، فلعل الوهم والخطأ نشأ من أن كل من جاء بعد ابن النديم نقل عنه وظن أن أبو حاتم هذا هو الإمام موضوع البحث،، والله أعلم.
مكانته، وسعة علمه، وثناء العلماء عليه:
لقد اتسع علم هذا الإمام، وقويت معرفته بشتى العلوم بصورة عامة، وبالحديث وعلومه بصورة خاصة، وأصبح يشار إليه بالبنان من بين علماء عصره، والأدلة على هذا غزيرة ومتنوعة، وسأقتصر على ذكر بعضها للاختصار:
جاءه رجلٌ من جلَّه العلماء، ومعه دفترٌ، فعرضه عليه؛ فقال أبو حاتم: "في بعضها خطأٌ؛ دخل لصاحبه حديثٌ في حديثٍ"، وقال في بعضه: "هذا حديثٌ باطلٌ"، وقال في بعضه: "هذا حديثٌ منكرٌ"، وقال في بعضه: "هذا حديثٌ كذبٌ، وسائر ذلك أحاديث صحاح"! فقال الرجل: من أين علمت هذا؟ أخبرك راوي هذا الكتاب؟ فقال أبو حاتم: "لا، ما أدري هذا الجزء من رواية مَنْ هو؟ غير أني أعلم أن هذا خطأ، وأن هذا الحديث باطلٌ، وأن هذا الحديث كذبٌ". فقال الرجل: تدَّعي الغيبَ؟ فأرشده أبو حاتم أن يعرض ما عنده على أبي زُرْعَة، وقال له: "إن قال أبو زرعة مثل ما قلت؛ فاعلم: أنَّا لم نجازف، ولم نَقُلْه إلا بفهم".
فذهب الرجل إلى أبي زُرْعَة، فقال بنحو قولَي أبي حاتم؛ فقال الرجلُ: ما أعجب هذا، تتفقان من غير مواطأة فيما بينكما؟! فقال أبو حاتم: "ذلك أنَّا لم نجازف، وإنما قلناه بعلم ومعرفة قد أوتينا"!! ثم أخذ يضرب له الأمثلة على صحة ما يقول، ويقول: "نحن رزقنا معرفة ذلك".
ثم ذكر أبو حاتم كلاماً يُعدُّ قاعدةً في التصحيح والتعليل؛ فقال: يُقاس صحة الحديث بعدالة ناقلية، وأن يكون كلاماً يصلح أن يكون من كلام النبوَّة، ويُعلم سقمه وإنكاره بتفرد من لم تصح عدالته بروايته [6، ج-1، ص ص349 - 351] بتصرف.(/12)
وقال أبو حاتم فيما رواه ابنه عبدالرحمن عنه: قلتُ على باب أبي الوليد الطيالسي: مَنْ أَغْرَبَ عليَّ حديثاً غريباً مسنَداً صحيحاً لم أسمع به؛ فله عليَّ درهمٌ يتصدَّق به؟ وقد حضر على باب أبي الوليد خلقٌ من الخلق، أبو زرعة فمَنْ دونه، وإنما كان مرادي أن يُلقى عليَّ ما لم أسمع به، فيقولون: هو عند فلان؛ فأذهب فأسمع، وكان مرادي أن استخرج منهم ما ليس عندي، فما تهيّأ لأحدٍ منهم أن يُغْرِبَ عليَّ حديثاً [6، ج-1، ص355] بتصرف.
وهذا يدل - بكل وضوح - على سَعَة علمه، وكثرة حفظه وجمعه؛ بحيث عجز الحاضرون - مع إتقانهم، وحفظهم، وجلالتهم - عن أن يدلُّوه على حديثٍ واحدٍ ممَّا طلبَ.
قال عبدالرحمن: وسمعت أبي يقول: "جرى بيني وبين أبي زرعة يوماً تمييز الحديث ومعرفته، فجعل يذكر أحاديثَ ويذكر عِلَلَهَا، وكذلك كنتُ أذكر أحاديثَ خطأً وعِلَلَهَا وخطأَ الشيوخ، فقال لي: يا أبا حاتم، قلَّ مَنْ يفهم هذا، ما أعزّ هذا؟ إذا رفعت هذا من واحد واثنين، فما أقل من تجد مَنْ يُحْسِنُ هذا! وربما أشكُّ في شيء، أو يخالجني شيءٌ في حديثٍ، فإلى أن ألتقي معك لا أجد من يشفيني منه، قال أبي: وكذلك كان أمري [6، ج-1، ص ص355 - 356].
وقال أبو حاتم: "كان محمد بن يزيد الأصفاطي يحفظ التفسير، فقال لنا يوماً: ما تحفظون في قوله عز وجل: {فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ} [سورة ق: 36]؟ قال أبو حاتم: فبقي أصحاب الحديث ينظر بعضهم إلى بعض، فقلت: أنا - وساق أبو حاتم بالإسناد إلى ابن عباس قال -: ضربوا في البلاد. فاستحسن محمد بن يزيد" [6، ج-1، ص ص355 - 356].
وقال ولده عبدالرحمن: سمعت أبي يقول: "قدم محمد بن يحيى النيسابوري الرّي، فألقيتُ عليه ثلاثة عشر حديثاً من حديث الزهري؛ فلم يعرف منها إلا ثلاثة أحاديث، وسائر ذلك لم يكن عنده، ولم يعرفها" [6، ج-1، ص358].(/13)
قال السبكي: قال شيخنا الذهبي: "إنما ألقى عليه من حديث الزهري؛ لأن محمداً كان إليه المنتهى في معرفة حديث الزهري، قد جمعه وصنَّفه وتتبَّعه، حتى كان يقال له: الزهري" [12، ج-2، ص209؛ 22، ص386][4].
قال الحافظ ابن حجر: "وهذا يدلُّ على حفظٍ عظيم؛ فإن الذهلي شهد له مشايخه وأهل عصره بالتبحُّر في معرفة حديث الزهري، ومع ذلك؛ فأغرب عليه أبو حاتم" [14، ج-9، ص30].
وقال أبو حاتم: قال لي هشام بن عمار: "أيُّ شيءٍ تحفظ عن الأذواء؟ قلت له: ذو الأصابع، وذو الجَوْشَن، وذو الزوائد، وذو اليدين، وذو اللحية الكلبي .. وعددت له ستةً؛ فضحك، وقال: حفظنا نحن ثلاثة، وزدتنا أنت ثلاثة" [6، ج-1، ص359].
قال الخليلي: "الإمام المتَّفق عليه بالحجاز، والشام، ومصر، والعراق والجبل وخراسان، بلا مدافعةٍ .. كان عالماً باختلاف الصحابة، وفقه التابعين ومن بعدهم من الفقهاء، سمعتُ جدِّي، وأبي، ومحمد بن إسحاق الكسائي، وغيرهم، قالوا: سمعنا علياً أبا الحسن القطان يقول: ما رأيتُ مثل أبي حاتم الرازي، لا بالعراق، ولا باليمن، ولا بالحجاز؛ فقلنا له: قد رأيتَ إسماعيلَ القاضي، وإبراهيم الحربي، وغيرهما من علماء العراق؟! فقال: ما رأيتُ أجمع من أبي حاتم، ولا أفضل منه" [9، ج-2، ص682].
وقال حجَّاج بن الشاعر: ما بالمشرق مثل - وفي السير للذهبي: أنبل - أبي زرعة، وأبي حاتم، وابن وارة، وأبي جعفر الدرامي [9، ج-2، ص682؛ 1، ج-13، ص 252].
وقال الربيع بن سليمان - صاحب الشافعي -: "لم نلقَ مثلَ أبي زرعة وأبي حاتم ممَّن ورد علينا من العلماء" [9، ج-2، ص 682].
وقال أبو بكر الخطيب: "كان أحد الأئمة الحفَّاظ الأثبات، مشهوراً بالعلم، مذكوراً بالفضل". وقال الخطيب – أيضاً -: قال الحافظ أحمد بن سلمة: ما رأيتُ بعد إسحاق بن راهويه، ومحمد بن يحيى أحفَظَ للحديث، ولا أعلم بمعانيه، من أبي حاتم محمد بن إدريس. [10، ج-2، ص 75].(/14)
وقال عثمان بن خُرَّزَاذ: "أحفظُ مَنْ رأيتُ أربعةً ..."؛ وذكر منهم أبا حاتم الرازي. [10، ج-2، ص75].
وقال يونس بن عبد الأعلى - الإمام الشهير -: "أبو زُرْعَة وأبو حاتم إماما خُرَاسَان"، ودعا لهما، وقال: "بقاؤهما صلاحٌ للمسلمين" [10، ج-2، ص76].
وقال النسائي: "ثقةٌ" [10، ج-2، ص77].
وقال عبدالرحمن بن يوسف بن خِرَاش: "كان من أهل الأمانة والمعرفة" [10، ج-2، ص77].
وقال هبة الله بن الحسن الطبري اللالكائي: "كان أبو حاتم الرازي إماماً عالماً بالحديث، حافظاً له، متقناً، متثبِّتاً" [10، ج-2، ص77].
وقال ابن الجَوْزي: "كان أحد الأئمة الحفَّاظ، والأثبات العارفين بعلل الحديث، والجرح والتعديل" [23، ج-12، ص284].
وقال الذهبي: "الإمام الحافظ الناقد .. كان من بحور العلم، طوَّف البلاد، وبرع في المتن والإسناد، وجمع وصنَّف، وجرح وعدَّل، وصحح وعلَّل ..." [1، ج-13، ص247].
وقال أبو بكر الخلاَّل: "أبو حاتم إمامٌ في الحديث، روى عن أحمد مسائلَ كثيرة، وقعت إلينا متفرقةً، كلها غرائب" [14، ج-9، ص29].
وقال ابن ناصر الدين: "كان في مضمار البخاري وأبي زرعة جارياً، وبمعاني الحديث عالماً، وفي الحفظ غالباً، وأثنى عليه خلقٌ من المحدِّثين" [24، ج-2، ص171].
وقال ابن العماد الحنبلي: "حافظ المشرق ... كان بارع الحفظ، واسع الرحلة، من أوعية العلم" [24، ج-2، ص171].
حرصه الشديد على تحصيل علم الحديث ومعرفة الرواة:
فقد قال أبو حاتم - فيما ذكر عنه ابنه - في ترجمة معدان بن عبدالجبار الأزدي: "هو صدوقٌ، اختلفت إليه أكثر من عشرين مرة في سبب حديثٍ واحد - ولم يكن عنده إلا حديثٌ واحدٌ - حتى سمعته" [6، ج-8، ص404].
وقال أبو حاتم: قال لي أبو زُرْعَة: "ما رأيتُ أحرص على طلب الحديث منكَ؛ فقلتُ له: إن عبدالرحمن ابني لحريص؛ فقال: من أشبه أباه فما ظلم" [1، ج-13، ص250].(/15)
ومما يدلُّ على حرص أبي حاتم على الحديث، ومعرفة علومه ودقائقه، أنه بقي - وحتى آخر لحظة من عمره - يُسأل ويجيب، وكان ابنه عبدالرحمن قد استفاد من والده طوال حياته، فهذا عبدالرحمن بن علي الرقَّام يقول: سألتُ عبدالرحمن - يعني: ابن أبي حاتم - عن اتفاق كثرة السماع له، وسؤالاته لأبيه؛ فقال: "ربما كان يأكل وأقرأ عليه، ويمشي وأقرأ عليه، ويدخل الخلاء وأقرأ عليه، ويدخل البيت في طلب شيءٍ وأقرأ عليه" [1، ج-13، ص251].
وقال عبدالرحمن بن أبي حاتم: "كان أبي في النزع، وأنا لا أعلم، فسألته عن عقبة بن عبدالغافر، يروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - له صحبة؟ فقال برأسه: لا. فلم أقنع منه؛ فقلتُ: فهمت عني، له صحبة؟ قال: هو تابعيٌّ". قال عبدالرحمن: "فكان سيد عمله معرفة الحديث وناقلة الآثار، فكان في عمره يقتبس منه ذلك، فأراد الله أن يظهر عند وفاته ما كان عليه في حياته" [6، ج-1، ص ص367-368].
عقيدته:
يعد أبو حاتم الرازي من أهل السنة والجماعة المتمسكين بمذهب أهل الأثر في اتِّباع الكتاب والسنَّة، والذبِّ عن الأئمة المتَّبعة من سلف الأمة، المبتعدين عن الضلال والبدعة، والقامعين لأهل الضلال والإلحاد، مع كشف حالهم، وبيان عوارهم.
وقد ذكر هذا الإمام كلاماً نفيساً، يعدُّ من الأصول المحرَّرة، والمبادئ المؤصَّلة، التي عليها المعوَّل في أصول الاعتقاد، وبيان ما يناقضها، ومع نفاسة هذا الكلام وشموله؛ إلا أنه يتعذَّر ذكره بتمامه هنا، وسأقتصر منه على ذكر بعض العبارات الدالَّة على باقية، والمعبِّرة عن رأي قائلها ومعتقده.(/16)