وأما المنافقون الذين امتلأت قلوبهم بالنفاق فارتابوا في وعد الله تعالى للمؤمنين بالنصر، وشكُّوا في دينه، وتبعهم في ريبهم وشكهم ضعاف الإيمان الذين مرضت قلوبهم بأدواء الشبهات أو الشهوات، فلم يُصدِّقوا أن الله تعالى ينصر نبيه عليه الصلاة والسلام، وقد تحزبت الأحزاب، واجتمعت الجموع التي لا قبل لأحد بها، وطوقت المدينة من كل جهة {وَإِذْ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} [الأحزاب:12].
فانقسم المنافقون والذين في قلوبهم مرض على طائفتين:
فطائفة منهم أخذوا يخذلون في المؤمنين، ويبثون الأراجيف فيهم، ويخوفونهم بأعدائهم {وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا} [الأحزاب:13] أي: لا مقام لكم في أرض المعركة؛ لكثرة عدوكم، يدعونهم إلى التخلي عن النبي عليه الصلاة والسلام، وخذلانه وإسلامه إلى أعدائه.
وربما أرادوا: لا مقام لكم على دين محمد عليه الصلاة والسلام فارجعوا إلى دين الشرك؛ لتسلم لكم أرواحكم وأولادكم وأموالكم.
وربما أرادوا: لا مقام لكم على القتال فارجعوا إلى الاستئمان والاستجارة، فاستجيروا بالمشركين واطلبوا منهم الأمان لكم بما يريدون.
وجائز أن تكون كل هذه المعاني قد أرادها المنافقون والذين في قلوبهم مرض؛ لأن تلك المطالب هي مطالب المنافقين ومرضى القلوب في كل شدة تصيب المسلمين على أيدي الكافرين، في كل زمان ومكان، وهي تتكرر في هذا العصر.(/4)
ولئن كانت هذه الطائفة من المنافقين ومرضى القلوب تبثُّ أراجيفها بالقول فإن طائفة أخرى طبقت ذلك عمليا حين اختلقت المعاذير لتغادر أرض المعركة؛ فتفتَّ في عضد المؤمنين، وتوهن قوتهم، وتزلزل قلوبهم، وتصدع ثباتهم، وهي الطائفة التي عناها الله تعالى بقوله سبحانه {وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا} [الأحزاب:13].
إنهم يعتذرون بِخُلُوِّ بيوتهم وذراريهم من أحد يدافع عنهم، وأن العدو سيطؤهم، مع أن حال المؤمنين كلهم كحالهم فلم يعتذروا ولم يفروا، ففضح الله تعالى المنافقين ومرضى القلوب، وبيَّن سبحانه أنهم سراع إلى الفتنة، وأن المشركين لو دخلوا المدينة لانحازوا هم إليهم، وقَبلوا شركهم؛ لنفاقهم ومرض قلوبهم، {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الفِتْنَةَ لَآَتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا} [الأحزاب:14] فما أسرعهم إلى فتنة الشرك وموافقة المشركين!!(/5)
كيف يفعلون ذلك وهم لما رأوا المؤمنين قد غنموا في بدر ما غنموا عاهدوا الله تعالى أن يثبتوا في المشاهد كلها، ولا يفروا من غزوة أبدا، فنكثوا عهدهم؛ لأنه كان للغنيمة ولم يكن لله تعالى وابتغاء مرضاته، وفرقٌ بين من يعاهد للدنيا ومن يعاهد للآخرة {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ الله مَسْئُولًا} [الأحزاب:15]. فهم المعوقون عن النفير، المخذلون في صفوف المؤمنين، علم الله تعالى ذلك منهم، فقص على أهل الإيمان خبرهم {قَدْ يَعْلَمُ اللهُ المُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ البَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا * أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ} [الأحزاب:19] أي: بخلاء عليكم بالقتال معكم والنفقة في سبيل الله تعالى، أو بالنصر والغنيمة؛ فإن أقواما يشحون بمعروفهم، وأقواما يشحون بمعروف الله تعالى وفضله وهم الحساد.
ومن أوصافهم التي تدل على نفاقهم ومرض قلوبهم أنهم أشدُّ ما يكونون خوفا إذا جدَّ الجد، ودارت رحى الحرب، وأشدُّ سلاطة وبذاءة إذا أَمنوا، وأكثرُ الناس مطالبة بغنائم لا حقَّ لهم فيها {فَإِذَا جَاءَ الخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ المَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا} [الأحزاب:19].
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: وهذا السلق بالألسنة الحادة يكون بوجوه:
تارة يقول المنافقون للمؤمنين: هذا الذي جرى علينا بشؤمكم فإنكم أنتم الذين دعوتم الناس إلى هذا الدين، وقاتلتم عليه وخالفتموهم؛ فإن هذه مقالة المنافقين للمؤمنين من الصحابة.(/6)
وتارة يقولون: أنتم الذين أشرتم علينا بالمقام هنا....، وإلا فلو كنا سافرنا قبل هذا لما أصابنا هذا.
وتارة يقولون: أنتم مع قلتكم وضعفكم تريدون أن تكسروا العدو وقد غرَّكم دينكم.
وتارة يقولون: أنتم مجانين لا عقل لكم تريدون أن تهلكوا أنفسكم والناس معكم.
وتارة يقولون: أنواعا من الكلام المؤذي الشديد، وهم مع ذلك أشحة على الخير، أي: حراص على الغنيمة والمال الذي قد حصل لكم. اهـ.
وكل هذه المقولات التي حكاها ابن تيمية رحمه الله تعالى عن المنافقين في الأحزاب، وذكر أن المنافقين ومرضى القلوب في زمنه يرددونها ، هي في واقع الأمر مما يردده المنافقون والذين في قلوبهم مرض في عصرنا هذا، وستبقى ملازمة للمنافقين ومرضى القلوب في كل زمان ومكان.
ثم إن الله تعالى وصف المنافقين ومرضى القلوب بأوصاف ثلاثة تدل على نفاقهم ومرض قلوبهم:
أحدها: أنهم لفرط خوفهم يحسبون الأحزاب لم ينصرفوا عن البلد، وهذه حال الجبان الذي في قلبه مرض؛ فإن قلبه يبادر إلى تصديق الخبر المخوف، وتكذيب خبر الأمن.
والوصف الثاني: أنهم إذا جاءوا تمنوا أن لا يكونوا بينكم بل يكونوا في البادية يسألون عن أنبائكم: ما خبر المدينة؟ وماذا جرى للناس؟
والوصف الثالث: أن الأحزاب إذا أتوا وهم فيكم لم يقاتلوا إلا قليلا؛ لجبنهم وضعف قلوبهم، وتقديمهم الدنيا على الآخرة، فلا خير فيهم لجماعة المؤمنين، بل هم شر وبلاء وفتنة للناس.
{يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا} [الأحزاب:20].
جعلنا الله تعالى من أهل الإيمان واليقين، وكفانا شر النفاق والمنافقين، وربط على قلوبنا بالتوكل والتسليم، إنه سميع مجيب. أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية(/7)
الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه {وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ المُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ} [الشعراء:151-152].
أيها المسلمون: يلاحظ أن الآيات الكريمة التي عرضت لغزوة الأحزاب لم يأت فيها تفصيل لهذه الغزوة العظيمة، وما جرى فيها من أحداث، بقدر ما ذكر فيها من أوصاف المنافقين ومرضى القلوب وأفعالهم، ثم وصف المؤمنين وأفعالهم.
ومجموع الآيات التي وردت في غزوتي الأحزاب وقريظة تسع عشرة آية، منها تسع آيات في وصف المنافقين ومرضى القلوب، وحكاية أقوالهم، وأربع آيات في وصف المؤمنين وحكاية أقولهم، فلم يبق إلا ست آيات فيها وصف المعركتين، وما جرى على أحزاب المشركين وبني قريظة؛ مما يدل على أن معرفة أحوال المنافقين ومرضى القلوب للحذر منهم، ومعرفة أحوال المؤمنين للتأسي بهم أهم وأولى من معرفة تفاصيل المعركتين وأحداثهما.
وما كان ذلك -والعلم عند الله تعالى- إلا لأن المنافقين ومرضى القلوب موجودون في كل عصر ومصر، يُخفون كفرهم إن رأوا في المؤمنين قوة، ويظهرونه إن رأوا فيهم ضعفا، والقرآن العظيم كتاب بيان وهداية للمؤمنين، ومن هدايته ذكر أوصاف المنافقين ومرضى القلوب، وكشف حقيقتهم التي يخفونها عن المؤمنين؛ لأخذ الحذر والحيطة منهم.(/8)
كما أن العلم بذلك سبب لثبات المؤمنين في الأزمات، وفي حال تسلط الكافرين، وظهور المنافقين؛ ليعلم المؤمنون أن ما يصيبهم من تسلط الكافرين، وتخذيل المنافقين قد أُصيب بمثله سلف هذه الأمة، فيصبروا كما صبروا؛ فإن عاقبة ذلك نصر وتمكين لهم؛ ولذا فإن الله تعالى لما ذكر أوصاف المنافقين وأفعالهم في غزوة الأحزاب ذيَّل ذلك بقوله سبحانه {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَاليَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21].
والمعنى: كونوا كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته رضي الله عنهم في ثباتهم على دينهم، وتوكلهم على ربهم، ويقينهم بظفرهم وعلوهم، مهما كان ضعفكم وقوة أعدائكم، ولا تصغوا لأراجيف المنافقين، وتخذيل المخذلين، ولا تكونوا كالذين في قلوبهم مرض ممن فرَّوا يوم الأحزاب؛ خوفا على أنفسهم وأموالهم، واستبقاء لدنياهم ببذل دينهم؛ فإن العاقبة للمتقين في الدنيا بالظفر على أعدائهم، وفي الآخرة برضوان الله تعالى عنهم.
وفي زمننا هذا لا يخفى على أحد تسلط قوى الظلم والبغي والاستكبار من الصهاينة والصليبيين على المسلمين باحتلال ديارهم، وفرض أفكارهم، وإهانة دينهم، وتدنيس قرآنهم، والسخرية بنبيهم محمد عليه الصلاة والسلام، ويضطلع المنافقون والذين في قلوبهم مرض بذات المهمة التي قام بها أسلافهم في غزوة الأحزاب بالتخذيل في أوساط المسلمين، وتخويفهم بالكافرين، ودعوتهم إلى نبذ دينهم، والدخول في مشاريع أهل الظلم والاستكبار؛ حتى آل أمر المسلمين إلى ما آل إليه من الاختلاف والتفرق والضعف والانحطاط.
فمن بذل دينه لأجل دنياه، وحرَّف كلام الله تعالى إرضاء للكافرين، وطاعة للمنافقين، فقد أوبق نفسه، وخسر دينه، ولن يكون حظه إلا كحظ المخذلين يوم الأحزاب.(/9)
ومن ثبت على الحق فلم يبدل دينه، ولا انحاز إلى الكافرين وما يريدون، ولا استمع إلى أراجيف المنافقين والذين في قلوبهم مرض فقد تأسى بخيار هذه الأمة المباركة، وحري به أن ينتظم في سلك من وصفهم الله تعالى بقوله سبحانه {مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب:23].
ألا وصلوا وسلموا على نبيكم...(/10)
العنوان: غزوة الخندق
رقم المقالة: 646
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحمد لله الذي أرسل رسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده وكان الله قوياً عزيزاً وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد أيها الناس: اتقوا الله تعالى واعرفوا نعمة الله عليكم بما أمد به رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من النصر العزيز والفتح المبين وهذه سنة الله التي لا تبديل لها فمن ينصر الله ينصره إن الله لقوي عزيز. أيها المسلمون في هذا الشهر أعني شهر شوال من السنة الخامسة من الهجرة كانت وقعة الخندق التي اجتمع فيها أحزاب الشيطان على أولياء الرحمن وذلك أن يهود بني النضير حين أجلاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - من المدينة أرادوا أن يأخذوا بالثأر من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذهب جمع منهم إلى قريش وغطفان وحرضوهم على حرب النبي - صلى الله عليه وسلم - فتحزب الأحزاب لقتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فخرجت قريش بأربعة آلاف مقاتل وخرجت غطفان ومعهم ألف فارس وخرجت بنو مرة وهم أربع مئة وخرجت بنو أشجع وبنو سليم في نحو سبع مئة مقاتل وخرجت بنو أسد وكان عدد الأحزاب عشرة آلاف مقاتل فلما سمع بهم النبي - صلى الله عليه وسلم - استشار أصحابه أيخرج إليهم أم يبقى في المدينة فأشار عليه سلمان الفارسي أن يحفر خندقاً على المدينة يمنع العدو عنها فأمر - صلى الله عليه وسلم - بحفره شمالي المدينة من حرتها الشرقية إلى حرتها الغربية وشاركهم في حفره وكان المسلمون ثلاثة آلاف رجل وقد لحقهم من الجهد والجوع ما وصفه جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: كنا نحفر يوم الخندق فعرضت كدية شديدة فجاؤوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا(/1)
يا رسول الله: هذه كدية عرضت في الخندق فقام وبطنه من الجوع معصوب بحجر فلبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقاً فأخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - المعول فضربه فكان كثيباً مهيلاً قال جابر فاستأذنت النبي - صلى الله عليه وسلم - فأتيت أهلي وقلت لامرأتي لقد رأيت بالنبي - صلى الله عليه وسلم - شيئاً ما كان عليه من صبر فهل عندك من شيء قالت صاع شعير وعناق وهي الصغيرة من المعز فذبحتها وطحنت الشعير فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت: يا رسول الله طعيم لي فقم أنت ورجل أو رجلان معك فقال: ما هو فقلت: شعير وعناق فقال كثير طيب ثم دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - المهاجرين والأنصار وقال ادخلوا ولا تزاحموا فجعل يكسر من هذا الخبز ويجعل عليه من اللحم وكلما أخرج شيئاً من اللحم غطى القدر ومن الخبز غطى التنور فما زال كذلك حتى شبع المهاجرون والأنصار وبقيت بقية واشتدت الحال بالمسلمين وكان مما زاد الأمر أن يهود بني قريظة وكانوا شرقي المدينة نقضوا العهد الذي بينهم وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - فضاق الأمر بالمسلمين كما قال تعالى: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ} يعني الأحزاب {وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ} يعني بني قريظة {وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شديداً} [الأحزاب:10،11] وانقسم الناس إلى قسمين فالمنافقون والذين في قلوبهم مرض قالوا: ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً والمؤمنون قالوا: هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيماناً و تسليماً، ومكث الأحزاب محاصرين للنبي - صلى الله عليه وسلم - قريباً من شهر فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - عليهم فأرسل الله عليهم ريحا شديدة قوية أسقطت خيامهم وأطفأت نيرانهم وزلزلت بهم وفي ذلك يقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ(/2)
آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً} [الأحزاب:9] وبعد تفرق الأحزاب توجه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى بني قريظة الذين نقضوا عهده فحاصرهم خمساً وعشرين ليلة حتى طال عليهم الحصار وقذف الله في قلوبهم الرعب فلما اشتدت بهم الحال طلبوا من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ رضي الله عنه وكان سيد الأوس الذين هم حلفاء بني قريظة في الجاهلية وكان سعد رضي الله عنه قد أصيب بسهم يوم الخندق في أكحله فدعا الله تعالى أن لا يميته حتى يقر عينه من بني قريظة الذين نقضوا العهد فاستجاب الله دعاءه فطلبه النبي - صلى الله عليه وسلم - من المدينة ليحكم في بني قريظة فلما أقبل قال رضي الله عنه لقد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم فلما جلس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له النبي - صلى الله عليه وسلم - ((إن هؤلاء وأشار إلى اليهود قد نزلوا على حكمك فاحكم فيهم بما شئت، قال وحكمي نافذ عليهم قال نعم قال وعلى من ها هنا وأشار إلى الجانب الذي فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال نعم قال إني أحكم أن تقتل مقاتلتهم وتسبى ذريتهم وأموالهم فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة)).(/3)
ثم أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالإخدود فخدت فجيء باليهود مكتفين فضربت أعناقهم وكانوا ما بين السبع مئة إلى الثمان مئة رجل وسبيت ذريتهم ونساؤهم وأموالهم وهكذا انتهت هذه الغزوة العظيمة بهذا النصر العزيز بعد أن لحق المسلمين ما لحقهم من المشقة والبلاء فكانت العاقبة لهم لأنهم يقاتلون لله وبالله لا يقاتلون رياء ولا سمعة ولا عصبية ولا يقاتلون بإعجاب بأنفسهم واعتماد على قوتهم دون الله عز وجل وإنما يقاتلون دفاعاً عن الحق وإذلالاً للباطل وإعلاء لكلمة الله وصيانة لدين الله فكان الله معهم يتولاهم بولايته ويعزهم بنصره وهو نعم المولى ونعم النصير وكانت النتيجة كما قال تعالى: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خيراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً * وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً} [الأحزاب:24-26].
أقول قولي هذا وأسأل الله أن ينصر دينه ويعلي كلمته ويجمع المسلمين على الحق وأستغفر الله لي ولكم.(/4)
العنوان: غزوة الخندق
رقم المقالة: 1678
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها
الحمد لله القوي العزيز؛ نصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، نحمده حمد الشاكرين، ونستغفره استغفار المذنبين، ونسأله من فضله العظيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ لا يقع شيء إلا بعلمه، ولا يقضى قضاء إلا بأمره {لله مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة:120] وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- وأطيعوه، واستمسكوا بدينكم وإن ضل عنه أكثر الناس؛ فإنكم مسئولون عنه يوم القيامة {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} [الزُّخرف:43-44].
أيها الناس: في الصراع بين الحق والباطل، وفي التدافع بين جند الله تعالى وجند الشيطان حِكَم وأسرارٌ لا يحيط بجميعها إلا العليم الحكيم الذي جعل التدافع بين الفريقين سنة من سننه في البشر لإصلاح الأرض ومن عليها {وَلَوْلَا دَفْعُ الله النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى العَالَمِينَ} [البقرة:251].
وكل ما جرى ويجري بين أهل الإيمان وأهل الكفر من المعارك الفكرية والسياسية والاقتصادية والعسكرية هو من هذا التدافع الذي أراده الله تعالى قدرا؛ فضلا منه سبحانه على عباده؛ ليَهْلِك من هلك عن بينة ويَحيا من حيي عن بينة، وليميز الله الخبيث من الطيب، ولْيُظهر المنافق من المؤمن، وحتى يَبين الكاذب من الصادق.(/1)
ولله سبحانه وتعالى جندٌ لا يعلمهم البشر ولا يرونهم، يسخرهم عز وجل مع عباده المؤمنين؛ فيؤيدونهم وينصرونهم؛ لتكون العاقبة لهم على الكافرين والمنافقين، وهم جنود في السماء وجنود على الأرض {وَلله جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [الفتح:7] لا يعلم عدتهم ملك مقرب، ولا نبي مرسل، ولا أحد من الخلق {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدَّثر:31].
ومن جنده عز وجل ما هو حسي ومنها المعنوي، وفي هجرة النبي عليه الصلاة والسلام ومطاردة المشركين له كانت جنود الله تعالى حاضرةً لحفظ نبيه عليه الصلاة والسلام من المشركين وعيونهم {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا} [التوبة:40]
وفي غزوة بدر أيَّدَ الله سبحانه المؤمنين بملائكة من السماء مردفين يقاتلون معهم، وألقى الرعب في قلوب المشركين، وأنزل المطر تطهيرا للمؤمنين، وليذهب عنهم رجز الشيطان، ويثبت به الأقدام، وألقى النعاس تأمينا لعباده وتنشيطا لهم، وكل أولئك من جنده عز وجل.
وما من مواجهة بين الحق والباطل إلا ولله سبحانه فيها جند حاضرة لنصرة المؤمنين أو حمايتهم من الاستئصال.
وفي صلح الحديبية كان جند الله تعالى مع المؤمنين، قال الله تعالى في شأن هذا الصلح الذي سماه فتحا {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلله جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الفتح:4].(/2)
ولما أُعجب المؤمنون في حنين بكثرتهم، وبغتهم العدو فما أغنت عنهم كثرتهم، واختلط حابلهم بنابلهم نصرهم الله تعالى بجنده، وأنزل سكينته عليهم {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى المُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} [التوبة:25-26].
وفي الأحزاب حين اجتمعت جموع المشركين، وحاصروا المدينة، وغدرت اليهود، وخذَّل المنافقون وأرجفوا، وعظم الكرب، وزُلْزِل المؤمنون حتى زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر.. في ذلك الموقف العصيب الرهيب كان جند الله تعالى مع المؤمنين {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} [الأحزاب:9].
وقال حذيفة رضي الله عنه: (لقد رَأَيْتُنَا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ الْأَحْزَابِ وَأَخَذَتْنَا رِيحٌ شَدِيدَةٌ وَقُرٌّ) رواه مسلم.
فَهُزمت جموع الشرك في الأحزاب بالريح وهي من جند الله تعالى، وبالملائكة عليهم السلام وهم أيضا من جنده عز وجل، وهم المراد بقوله سبحانه {وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا}.
وهذه الريح تهب من الغرب، وتسمى الصبا، كما جاء عن ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نُصِرْتُ بِالصَّبَا وَأُهْلِكَتْ عَادٌ بِالدَّبُورِ) متفق عليه.
قال مجاهد رحمه الله تعالى: ريح الصبا أُرسلت على الأحزاب يوم الخندق حتى كفأت قدورهم على أفواهها، ونزعت فساطيطهم حتى أظعنتهم الليل والنهار.(/3)
ومع تأييد الله سبحانه وتعالى لعباده المؤمنين في الأحزاب بالريح والملائكة فإنه عز وجل أكرم رسوله عز وجل بالمعجزات الباهرة، والآيات الظاهرة؛ تثبيتا للقلوب، وشدَّاً للعزائم، وحفزا للهمم؛ لتمضي في نصرة دين الله تعالى، وتصبر على الأذى فيه، وتعلم أن وعد الله تعالى حق، وأن العاقبة للمتقين.
ومن المعجزات الباهرة في غزوة الأحزاب ما أجراه الله تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام من مباركة طعام قليل لا يشبع رهطا، فيدعو فيه النبي عليه الصلاة والسلام فيأذن الله تعالى أن يُشبع الجيش كله ويبقي منه بقية.(/4)
عن جَابِرَ بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (لَمَّا حُفِرَ الْخَنْدَقُ رأيت بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خَمَصًا شَدِيدًا فَانْكَفَأْتُ إلى امْرَأَتِي فقلت: هل عِنْدَكِ شَيْءٌ فَإِنِّي رأيت بِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم خَمَصًا شَدِيدًا؟ فَأَخْرَجَتْ إلي جِرَابًا فيه صَاعٌ من شَعِيرٍ، وَلَنَا بُهَيْمَةٌ دَاجِنٌ -أي:سمينة- فَذَبَحْتُهَا وَطَحَنَتْ الشَّعِيرَ، فَفَرَغَتْ إلى فَرَاغِي، وَقَطَّعْتُهَا في بُرْمَتِهَا ثُمَّ وَلَّيْتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: لَا تَفْضَحْنِي بِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وَبِمَنْ معه، فَجِئْتُهُ فَسَارَرْتُهُ فقلت: يا رَسُولَ الله، ذَبَحْنَا بُهَيْمَةً لنا وَطَحَنَّا صَاعًا من شَعِيرٍ كان عِنْدَنَا فَتَعَالَ أنت وَنَفَرٌ مَعَكَ، فَصَاحَ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا أَهْلَ الْخَنْدَقِ، إِنَّ جَابِرًا قد صَنَعَ سُوْرًا فَحَيَّ هَلًا بكم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لَا تُنْزِلُنَّ بُرْمَتَكُمْ، ولا تَخْبِزُنَّ عَجِينَكُمْ حتى أَجِيءَ، فَجِئْتُ وَجَاءَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقْدُمُ الناس حتى جِئْتُ امْرَأَتِي فقالت: بِكَ وَبِكَ، فقلت: قد فَعَلْتُ الذي قُلْتِ، فَأَخْرَجَتْ له عَجِينًا فَبَصَقَ فيه وَبَارَكَ، ثُمَّ عَمَدَ إلى بُرْمَتِنَا فَبَصَقَ وَبَارَكَ، ثُمَّ قال: ادْعُ خَابِزَةً فَلْتَخْبِزْ مَعِي، وَاقْدَحِي من بُرْمَتِكُمْ ولا تُنْزِلُوهَا، وَهُمْ أَلْفٌ، فَأُقْسِمُ بِاللَّهِ لقد أَكَلُوا حتى تَرَكُوهُ وَانْحَرَفُوا، وَإِنَّ بُرْمَتَنَا لَتَغِطُّ كما هِيَ وَإِنَّ عَجِينَنَا لَيُخْبَزُ كما هو) وفي رواية (فلم يَزَلْ يَكْسِرُ الْخُبْزَ وَيَغْرِفُ حتى شَبِعُوا وَبَقِيَ بَقِيَّةٌ قال: كُلِي هذا وَأَهْدِي فإن الناس أَصَابَتْهُمْ مَجَاعَةٌ) رواه الشيخان.(/5)
ومن الكرامات في هذه الغزوة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أرسل حذيفة رضي الله عنه ليستطلع خبر المشركين وقد آذتهم الريح، وأصابهم برد شديد كان حذيفة رضي الله عنه ينعم دونهم بالدفء، ولا يجد أثر الريح والبرد لا في ذهابه إلى المشركين، ولا في رجوعه إلى المسلمين حتى قال رضي الله عنه: (فلما وَلَّيْتُ من عِنْدِهِ -أي من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم- جَعَلْتُ كَأَنَّمَا أَمْشِي في حَمَّامٍ حتى أَتَيْتُهُمْ فَرَأَيْتُ أَبَا سُفْيَانَ يَصْلِي ظَهْرَهُ بِالنَّارِ....وفي عودته بعد أن أنهى مهمته قال رضي الله عنه:فَرَجَعْتُ وأنا أَمْشِي في مِثْلِ الْحَمَّامِ) رواه مسلم.
فالحمد لله الذي أيده عباده المؤمنين بآياته، وأكرمهم بكراماته، وأعانهم بجنده، وكتب لهم نصره.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله تعالى لي ولكم....
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين،والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، ولا أمن إلا للمؤمنين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واستقيموا على دينكم، وثقوا بوعد ربكم؛ فإن الله تعالى لا يخلف وعده، ولا يخذل عباده.
أيها المسلمون: كانت غزوة الأحزاب امتحانا صعبا نجح فيه أهل الإيمان، وأخفق فيه أهل النفاق..
كان امتحانا ابتلي فيه المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا، وزاغت الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر، ولكن الله تعالى ثبت المؤمنين بصدقهم ويقينهم، وخذل المنافقين بشكهم وارتيابهم، وردَّ الكافرين بغيظهم لم ينالوا من المسلمين نصرا ولا غنيمة {وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللهُ المُؤْمِنِينَ القِتَالَ وَكَانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} [الأحزاب:25](/6)
وفي أثناء حصار المشركين للمدينة، وخيانة اليهود، وتخذيل المنافقين وإرجافهم، واشتداد الكرب، وعِظَم البلاء؛ كان اليقين بالله تعالى يملأ قلب النبي عليه الصلاة والسلام، فأخذ يبشر أصحابه رضي الله عنهم بما سيفتح الله تعالى عليهم من عواصم الدول الكبرى آنذاك، وهذا اليقين هو من تأييد الله تعالى للمؤمنين، وتثبيته لهم، وربطه على قلوبهم؛ فالفضل لله تعالى، عَنِ الْبَرَاءِ بن عَازِبٍ رضي الله عنه قال: (أَمَرَنَا رسول الله صلى الله عليه وسلم بِحَفْرِ الْخَنْدَقِ، قال: وَعُرِضَ لنا صَخْرَةٌ في مَكَانٍ مِنَ الْخَنْدَقِ لاَ تَأْخُذُ فيها الْمَعَاوِلُ، قال: فَشَكَوْهَا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فَجَاءَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عَوْفٌ: وَأَحْسِبُهُ قال: وَضَعَ ثَوْبَهُ ثُمَّ هَبَطَ إلى الصَّخْرَةِ فَأَخَذَ الْمِعْوَلَ فقال: بِسْمِ الله، فَضَرَبَ ضَرْبَةً فَكَسَرَ ثُلُثَ الْحَجَرِ وقال: الله أَكْبَرُ، أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الشَّامِ، والله إني لأُبْصِرُ قُصُورَهَا الْحُمْرَ من مكاني هذا، ثُمَّ قال: بِسْمِ الله وَضَرَبَ أُخْرَى فَكَسَرت ثُلُثَ الْحَجَرِ فقال: الله أَكْبَرُ، أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ فَارِسَ، والله إني لأُبْصِرُ الْمَدائِنَ وَأُبْصِرُ قَصْرَهَا الأَبْيَضَ من مكاني هذا، ثُمَّ قال: بِسْمِ الله، وَضَرَبَ ضَرْبَةً أُخْرَى فَقَلَعَ بَقِيَّةَ الْحَجَرِ فقال: الله أَكْبَرُ، أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الْيَمَنِ، والله إني لأُبْصِرُ أَبْوَابَ صَنْعَاءَ من مكاني هذا) رواه أحمد.
فما أشد حاجتنا في هذا العصر إلى استلهام هذا الدرس العظيم من تلك الغزوة المباركة؛ فنزداد بالله تعالى إيمانا ويقينا، ونُصَدِّق بوعده، ونثبت على دينه، فلا نبدل ولا نغير مهما عظم الكرب واشتد البلاء، مستعينين بالله تعالى على ذلك، خاصة وقد اشتدت حملات الكافرين والمنافقين على المؤمنين، وهي تزداد يوما بعد يوم.(/7)
إن الآيات القرآنية التي تناولت هذه الغزوة العظيمة في سورة الأحزاب قد أثنت على ثبات المؤمنين، وتصديقهم بوعد الله تعالى في أحلك الظروف وأصعب الساعات {وَلَمَّا رَأَى المُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا * مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب:23].
إنهم رجال قابلوا البلاء بالرضاء والتسليم، وتسلحوا له بالإيمان واليقين، ولم يبدلوا دينهم أو يتنازلوا عن شيء منه، وما كان ذلك منهم إلا بتثبيت الله تعالى وتأييده ومعونته عز وجل لهم، وذلك إنما ينال بتقواه وطاعته، فاتقوا الله تعالى-أيها المسلمون- وسلوه الثبات على الحق إلى الممات، ولا تغيروا دينكم، أو تتخلوا عن شيء منه؛ إرضاء للكفار والمنافقين، فإنهم لن يرضوا إلا بكفر المؤمنين {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:89].
وصلوا وسلموا على نبيكم....(/8)
العنوان: غزوة بدر (4) (وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم)
رقم المقالة: 258
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
الحمد لله رب العالمين؛ كتب النصر والعز للمؤمنين، وقضى بالذل والهوان على الكافرين، لا يقع شيء إلا بعلمه، ولا يقضى شأن إلا بأمره، وهو اللطيف الخبير، أحمده حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ويرضى، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك؛ نصر في بدر أهل الضعف والقلة، ودحر ذوي الشوكة والكثرة (ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون) وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ أعظم الناس خشية لله تعالى، وأشدهم خوفا منه، وأكثرهم رجاء فيه، وأصدقهم دعاء له، كان في بدر رافعا يديه يهتف بربه فيقول (اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم آت ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض) صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه؛ هاجروا من ديارهم، وفارقوا أولادهم؛ وجاهدوا في سبيل الله تعالى؛ إعزازا لدينه سبحانه، وإعلاء لكلمته، وطلبا لمرضاته، فرضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، وجعل دار الخلد مأواهم، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله ربكم، واغتنموا ما بقي من شهركم، واعلموا أن أعماركم مستودع أعمالكم، وأنها مثل رمضان سواء بسواء، تبتدئ بالتكليف كما يبدأ الشهر بإهلال هلاله، ثم تتوسط كما يتوسط الشهر، ثم تنتهي بالموت كما ينتهي الشهر بخروجه، ولا يبقى للعبد إلا ما عمل فيه (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره).(/1)
أيها الناس: عظمة الله تعالى فوق كل عظمة، وقدرته سبحانه على كل قدرة، وقد أحاط بكل شيء علما، وجعل لكل شيء قدرا، يقضي القضاء فيظن الخلق أنه شر لهم فإذا في طياته خيرا كثيرا لم يدركوه، وحادثة الإفك التي أوذي فيها أفاضل هذه الأمة: رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه الصديق وابنته عائشة رضي الله عنهما كان فيها من الخير ما حكاه الله تعالى بقوله (لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم) وهكذا أيضا في فرض الجهاد مع ما فيه من الرهق والشدة، والتضحية بالمال والنفس (كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون).
ووقع ذلك عمليا في أول مواجهة بين أهل الشرك وأهل الإيمان؛ إذ بلغ النبي صلى الله عليه وسلم مسير قافلة لقريش يقودها أبو سفيان قد قدمت من الشام تقصد مكة، وتمر بقرب المدينة، فشاور عليه الصلاة والسلام أصحابه رضي الله عنهم فيها كما روى أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه فقال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بالمدينة: إني أخبرت عن عير أبي سفيان أنها مقبلة فهل لكم أن نخرج قبل هذا العير لعل الله يغنمناها فقلنا: نعم) (فانتدب عليه الصلاة والسلام الناس للخروج فخف بعضهم وثقل بعض؛ وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول الله يلقى حربا)0
علم قائد القافلة أبو سفيان بمسير المسلمين إليه لأخذ قافلته فأرسل رسولا إلى أهل مكة يستنجدهم، فبلغ رسول أبي سفيان مكة، وأتى الإبطح مستصرخا مستنفرا، وعمل ما يعمله النذير بخطر وشيك؛ فوقف على راحلته، وحول رحله وشق قميصه ، وجدع بعيره، يصيح بأعلى صوته: يا معشر قريش، اللطيمة اللطيمة، أموالكم مع أبي سفيان وتجارتكم قد عرض لها محمد وأصحابه فالغوث الغوث)
وعلى إثر هذا الإنذار خرجت قريش مسرعة لإنقاذ عيرها ورجالها، واستعادة هيبتها، والنيل من المسلمين، يقودهم أبو جهل بن هشام.(/2)
ولكن أبا سفيان رضي الله عنه كان من دهاة العرب، وأفذاذ الرجال؛ إذ غير طريق القافلة، ونجا بها من قبضة المسلمين، وأرسل إلى قريش يطمئنهم على عيرهم، ويطلب منهم العودة إلى مكة. وهنا تخلف مقصود كلا الطائفتين؛ فالمسلمون خرجوا لطلب العير، والعير فاتتهم، والمشركون خرجوا لنجدتها، وقد نجت من قبضة المسلمين، وفي كل الحسابات البشرية أن كل طائفة ترجع إلى بلدها، ولا سيما مع عدم وجود التكافؤ بين الفريقين، والمسلمون ما خرجوا للقتال وإنما للعير فحسب. ولكن الرب جلاله له تدبير آخر غير تدبير البشر وتصوراتهم؛ فسلط سبحانه وتعالى أبا جهل على المشركين وهو قائدهم في ذلك الخروج فرفض رجوعهم رغم نجاة القافلة، ورغم رجوع بعض القبائل كبني زهرة لما زال سبب خروجهم من مكة، وما إصرار أبي جهل على المضي في هذا السبيل المجهول إلا ليحقق بزعمه مجدا لقريش أمام قبائل العرب، وليستعيد هيبة أهل مكة التي تضعضعت بهجرة المسلمين إلى المدينة، فقال معللا عدم رجوعهم إلى مكة (والله لا نرجع حتى نأتي بدرا - وكانت بدر سوقا من أسواق العرب - فنقيم بها ثلاثا، فنطعم بها الطعام، وننحر بها الجزر، ونسقي بها الخمر، وتعزف علينا القيان، وتسمع جميع العرب بمخرجنا وأن محمدا لم يصب العير، وأنا قد أعضضناه، فلا يزالون يهابوننا بعدها أبدا).
هكذا سُلِط أبو جهل على نفسه وعلى من معه من المشركين؛ ليحق عليهم قول الله تعالى، ولينفذ فيهم أمره، وليصيبهم قدره الذي قدره عليهم، إنها آية وأي آية !!(/3)
وأما المسلمون فإن النبي صلى الله عليه وسلم استشارهم بعد أن نزل جبريل عليه السلام يخبره بأن الله تعالى قد وعده إحدى الطائفتين وقال لهم: ما تقولون ؟ إن القوم خرجوا من مكة على كل صعب وذلول، فالعير أحب إليكم أم النفير ؟ قالوا: بل العير أحب إلينا من لقاء العدو، فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ردد عليهم فقال: إن العير قد مضت إلى ساحل البحر، وهذا أبو جهل قد أقبل، فقالوا: يا رسول الله، عليك بالعير ودع العدو، فقام عند غضب النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر فقالا فأحسنا، ثم قام سعد بن عبادة فقال: انظر أمرك فوالله لو سرت إلى عدن ما تخلف عنك رجل من الأنصار) ثم تتابع الصحابة رضي الله عنهم على ما أراد النبي صلى الله عليه وسلم من مواجهة المشركين0
وقد عرض القرآن لهذا الفصل العظيم من تدبير الله تعالى للمواجهة بين أهل الحق وأهل الباطل، وتهيئة أسباب ذلك، والمجادلة التي جرت بين أهل الإيمان وهم في بادئ الأمر لا يريدون إلا العير، ولا يريدون منازلة جيش لم يتهيئوا لمنازلته،(كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون، يجادلونك في الحق بعدما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون، وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين، ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون).
لقد أراد الله تعالى - وله الفضل والمنة على عباده المؤمنين - أن تكون ملحمة لا غنيمة، وأن تكون موقعة بين الحق والباطل؛ ليحق الحق ويثبته، ويبطل الباطل ويزهقه، وأراد سبحانه أن يقطع دابر الكافرين؛ فيُقتل منهم من يقتل، ويُؤسر منهم من يؤسر، وتذل كبرياؤهم، وتخضد شوكتهم، وتعلو راية الإسلام، ويمكّن للعصبة المسلمة في الأرض، ولن يكون هذا التمكين إلا بجهد وعمل، ومنازلة وجهاد لأهل الباطل والوثنية0(/4)
لقد خبأ الله تعالى للمؤمنين في بدر ما هو خير لهم من العير والغنيمة، فهيأ أسباب المعركة بلا سابق إنذار ولا استعداد، وهنا تظهر التضحيات، وتبرز البطولات، ويستعلي الإيمان، ويتحقق التوكل، وعندها لا ينظر أهل الإيمان إلى قلتهم وكثرة عدوهم، ولا إلى قوته وضعفهم؛ ولهذا قال الصحابة رضي الله عنهم ما قالوا لما رأوا عزم النبي صلى الله عليه وسلم على مقاتلة الجيش المشرك بعد أن فاتت العير، وأعلنوا له أنه مهما سار بهم فهم ماضون معه، ولن يتخلفوا عنه ولو كان في ذلك ذهاب نفوسهم وأموالهم.
ولو أن المسلمين والمشركين اتفقوا على المنازلة لربما لم يتهيأ ذلك لهم بسبب بعد مكة عن المدينة، وللفارق بين الفريقين في العدة والعتاد، والنفس البشرية تميل إلى التسويف بحجة الاستعداد (إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى والركب أسفل منكم ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا) أي: ليقضي الله سبحانه ما أراد بقدرته من إعزاز الإسلام وأهله، وإذلال الشرك وأهله من غير ملأ منكم، ولا تدبير ولا تخطيط، ففعل سبحانه ما أراد من ذلك بلطفه، قال كعب بن مالك رضي الله عنه: إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون يريدون عير قريش حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد.(/5)
ومن عجيب تدبير الله تعالى أنه قوّى قلب نبيه صلى الله عليه وسلم على خوض المعركة برؤيا رآها، ثم عند التقاء الطائفتين أرى كل طائفة منهما قلة الطائفة الأخرى، وأطمعها فيها، فلا المسلمين هابوا المشركين وهم ثلاثة أضعافهم، ولا كفَّ المشركون عن المؤمنين خوفا منهم (إذ يريكهم الله في منامك قليلا ولو أراكهم كثيرا لفشلتم ولتنازعتم في الأمر ولكن الله سلم إنه عليم بذات الصدور، وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم ليقضى الله أمرا كان مفعولا وإلى الله ترجع الأمور) وفي ذلك يقول ابن مسعود رضي الله عنه:(لقد قللوا في أعيننا يوم بدر حتى قلت لرجل إلى جنبي: تراهم سبعين ؟ قال: لا بل هم مئة، حتى أخذنا رجلا منهم فسألناه فقال: كنا ألفا)
فأين ما أراده المسلمون من مجرد الظفر بالعير، مما أراده الله تعالى لهم، وساقه إليهم، من كسر شوكة المشركين، وظهور الحق وعلوه، وإزهاق الباطل وسفوله، ولو أن المسلمين ظفروا بالقافلة لكانت مجرد غنيمة لا تكاد تذكر، فأين ذكرها من ذكر بدر التي لا يذكر الإسلام إلا بها، حين جسد النبي صلى الله عليه وسلم هذه الحقيقة بدعائه (اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض)0(/6)
لقد غدت بدر بعد النصر المبين أعظم معركة في التاريخ كله بين أنصار الحق وأهل الباطل، ولكم تمنى من تخلف عنها من الصحابة رضي الله عنهم إدراكها، ولكم يغبط المسلمون في كل العصور من حضرها، وأهل بدر مغفور لهم، وفضل من شهدها من الملائكة عند الملائكة عليهم السلام كفضل من شهدها من الصحابة عند البشر، وبعد بدر ظهر الإسلام، وعرف المسلمون عند العرب، بل تسامع بهم العجم، ويكفي دليلا على قوة المسلمين بعد بدر أن النفاق كان بعدها إذ كان أهل الكفر من أهل المدينة وما حولها يعلنون كفرهم وعداءهم للمسلمين، ويسخرون منهم، فلما انتصر المسلمون في بدر أظهر كثير منهم الإيمان خوفا من المسلمين، وأبطنوا الكفر، فهذا هو أول تاريخ النفاق في هذه الأمة؛ كما جاء في صحيح البخاري:أن رأس النفاق عبد الله بن أبي ومن معه من المشركين وعبدة الأوثان قالوا بعد بدر: هذا أمر قد توجه فبايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم على الإسلام فأسلموا)
كل ذلك كان من بركات هذه الغزوة العظيمة التي كره المواجهة فيها بعض المؤمنين في بادئ الأمر، ولكن أمر الله تعالى نافذ، وحكمه قاهر، وكان ما اختاره سبحانه للمؤمنين خيرا مما اختاروه هم لأنفسهم، وصدق سبحانه إذ يقول: (ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا) أسأل الله تعالى أن يرزقنا تدبر كتابه، والفقه في دينه، والثبات على الحق إلى الممات، إنه سميع مجيب، وأقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم0000
الخطبة الثانية(/7)
الحمد لله، وكفى به شهيدا ونصيرا، أحمده على عظيم نعمه وجزيل عطائه، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له (له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديرا) وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ خير من صام وقام وقنت لله رب العالمين، وكان في العشر الأخيرة من رمضان يشد مئزره، ويحيي ليله، ويوقظ أهله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واحذروا غضبه فلا تعصوه، واعمروا أوقاتكم بذكره وشكره وحسن عبادته، وتعرضوا في هذه الأيام المباركة لنفحاته، واسألوه من خيراته؛ فإن ربكم سميع قريب، جواد كريم، يعطي العطاء الجزيل على العمل القليل.
أيها المسلمون: لا بد من إحسان الظن بالله تعالى، والإنابة إليه، والتوكل عليه، واليقين بأن قضاءه لعباده المؤمنين خير لهم مما يختارونه هم لأنفسهم، وإن بدا لأول وهلة أن ما قضاه عليهم فيه عنت ومشقة؛ فإن الله تعالى لا يقدر شرا محضا، وسيظهر بجلاء بعد استبانة الأمر أن قضاءه سبحانه كان خيرا للمؤمنين كما استبان ذلك للمؤمنين في بدر بعد أن كرهوا مقاتلة المشركين.
والمسلم يحتاج لأن يملأ قلبه بهذه المعاني العظيمة في زمن كثرت فيه المصائب، وتعددت المشكلات، وتنوعت الابتلاءات؛ فقد يضجر المسلم من خسارة مالية كبيرة، أو من مشكلة أسرية معقدة، أو من ابتلاء عظيم حاق به، ولا يثبته في ذلك بعد عون الله تعالى وتوفيقه إلا إحسانه الظن بربه عز وجل، وثقته به، وتوكله عليه، ويقينه بأن في مصابه خيرا أراده الله تعالى له، لا يدركه هو في بادئ الأمر؛ فليرض بقدر الله تعالى، وليسلم الأمر له سبحانه، وسينال بذلك خيري الدنيا والآخرة.(/8)
وعلى مستوى الجماعة والأمة فكم يعاني المسلمون في هذا الزمن من تسلط الكافرين والمنافقين عليهم بالإفساد في ديارهم والسخرية بدينهم، وتدنيس قرآنهم، وشتيمة نبيهم صلى الله عليه وسلم، ومحاولة قهرهم على مناهجهم المنحرفة وأهل الحق والإيمان أوزاع متفرقون يرى كثير منهم أنهم غير قادرين على منازلة أعدائهم، ورد عدوانهم، وإزاء ذلك كم تخلى أناس عن مبادئهم، وانحازوا بعقولهم وأفكارهم إلى طوائف الكافرين والمنافقين، فزادوا الفتنة فتنة، وعظم الابتلاء بهم، وكان ما فعلوه بالمسلمين أشد مما فعله الأعداء0
ولكن في هذه التقلبات والابتلاءات من الخير ما لا يحصيه إلا الله تعالى، فلا يثبت على الحق إلا من اقتنع به، وضحى في سبيله، ورجا أن يلقى الله تعالى عليه . يتبع الحق لأنه حق، ولا يتبع الحق لدنيا يريدها، أو لنصر ينتظره؛ حتى إذا ما استبطأ نصر الله تعالى لأهل الحق انسلخ من جلده، وانحاز لأهل الباطل لأنهم أقوى، وكم كشفت هذه الابتلاءات عن كثير من فساد العقول، وأمراض القلوب، وأظهرت أهواء ذوي الهوى والنفاق، وفضحت من اتخذوا دين الله تعالى مطية لتحقيق مصالح آنية، وإشباع طموحات دنيوية. وهذا من الخير العظيم الذي أراده الله تعالى للمؤمنين في تلك الابتلاءات حتى لا يخدعوا بكل دعي، ولا يصغوا لكل رويبضة.
وفي سياق الآيات التي عرضت لغزوة بدر، وما فيها من عظيم الابتلاء للمؤمنين المستضعفين بمقابلة المشركين المستكبرين بعددهم وعدتهم، ثم نصر المؤمنين عليهم؛ نجد أن الله تعالى قد نص على تلك الحكمة العظيمة (ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا، ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيَّ عن بينة وإن الله لسميع عليم) قال ابن إسحاق رحمه الله تعالى: أي ليكفر من كفر بعد الحجة لما رآى من الآية والعبرة، ويؤمن من آمن على مثل ذلك .(/9)
ولئن كان عدو الله أبو جهل قد ساق المشركين إلى حتفهم بعلوه واستكباره، وزعمه إعادة هيبة قريش ومجدها؛ فإننا نرى قادة الدول المستكبرة في هذا العصر قد سلكوا مسلك أبي جهل، فسلطوا على دولهم، بقضاء الله تعالى وقدره، وحكمته وتدبيره، فغزوا بجحافلهم بلاد المسلمين؛ لبسط نفوذهم، واستعادة هيبتهم، فغرق جنودهم في مستنقعات بلاد الأفغان والعراق، كما غرق أبو جهل وجنده في بدر، وكسرت شوكتهم كما كسرت شوكة المشركين في بدر، وزالت هيبتهم من القلوب، وصغر أمرهم عند الناس، واستأسدت عليهم الدول التي كانت من قبل تخافهم، وفضحوا شر فضيحة.
وكان المسلمون في بادئ الأمر قد كرهوا تسلط المستكبرين في هذا العصر على بلدانهم، كما كره أهل بدر منازلة المشركين، ثم استبان للمسلمين أن في هذا التسلط والاستكبار العالمي خيرا كثيرا لم يعلموه هم من قبل، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
فاتقوا الله ربكم - أيها المسلمون - وثقوا به سبحانه، واثبتوا على دينه إلى أن تلقوه غير مبدلين ولا مغيرين، فهو والله الحق الذي لا مرية فيه...
وصلوا وسلموا على نبيكم...(/10)
العنوان: غزوةُ بدر الكبرى.. رحلةُ النور، وقصّة الفخار..
رقم المقالة: 1485
صاحب المقالة: بدر بن محمد عيد الحسين
-----------------------------------------
طالَ شوقُ بطاحِ مكّةَ إلى سحابةٍ حانيةٍ تنثُرُ الوَدْقَ المُنعش فترويَ ظمأََ الخزامى، وتندّي النسائمَ المشتاقة ليقظة الفجر الموعود، وسنا الشمس الجديدة، وتسقي الريمَ ذات العطش، وتخفّفَ من لهيبِ الصحراء الحارقِ على السُّراة الذين يبحثون عن مأمنٍ يناجون فيه الله سبحانه وتعالى...
تسامى حنينُ الكعبة، وراحت جدرانُها الجريحة تحلُمُ بصوتٍ دافئٍ يلهجُ بكلمة التوحيد، ويسبّحُ الخالقَ الأحدَ الفردَ الصّمد..
حمائمُ لا تأمَنُ على أعشاشها، وظباءٌ تُفجَعُ بريمها، وضفائرُ تُهان، وحجارةٌ تُعبَد، وقلوبٌ مسكونةٌ بالطّهر والنقاء تُستَعبدُ، وتوثّقُ بتُهَمةِ التوحيد.
هناك، وفي تلك اللحظات الحاسمة كان نهرُ الرحمة المُنتظَر يترقرقُ فوق الرمال، فتنمو على ضفّتيه الأعشابُ الخُضر، وكان صوتُ المحبّة يخترقُ الأسماعَ المشتاقةَ، ويتغلغلُ في الصدورِ المكلومة فيملؤُها أملاً وسعادة..
صوتُ المحبّةِ والرحمةِ المهداة هو محمد -صلى الله عليه وسلّم- الذي آنسَ وحشةَ الأرجاء، وغُربةَ الأرض التي طالما اشتاقت لجباه الساجدين ودموعهم، ووهبَ الدواءَ لأصحابِ الأدواء...
فالتفّ حوله نجومُ الصحابة التفافَ الفراش حول الغصن المزهر، وبدأت رحلةُ النور تشقُّ دياجيرَ الظلام... تلكمُ الرحلةُ المظفّرة، المتوشّحة بالتّضحية والمعاناة والتّضييق من رموز معسكر الباطل ورؤوس الكفر...
نما صبرُ النبي -صلى الله عليه وسلّم- وصحبُه السابقون الأوّلون.. حتى اخضرّ وأورق.. ثمّ أثمرَ في رياض يثربَ الحالمة، وامتدّت ظلالُه من محرابِ قُباء إلى منزل أبي أيوب الأنصاريّ..(/1)
وعندما أرادَ زعماءُ الباطل في قريش إطفاءَ نور الله بأفواههم، إذْ لم تُلامسْ دعوةُ نبيّ الهداية قلوبَهم التي هي كالحجارة بل أشدّ قسوة..كانت غزوةُ بدر هي الحلّ الوحيد؛ فافتتحها سعدٌ بن معاذ بنشيدٍ خالد رداً على طلبِ رسول الله –صلى الله عليه وسلم- مشورة الناس فقال: "... فامضِ يارسول الله لما أردتَ فنحن معك، فوالذي بعثك بالحقّ، لو استعرضتَ بنا هذا البحرَ فخُضتَه لخُضناه معك، ما تخلّف منا رجلٌ واحد.... إنّا لصُبُرٌ بالحرب صُدُقٌ في اللقاء، لعلّ الله يريكَ منا ما تقرّ به عينك..." [سيرة ابن هشام ص 360].
وفي يوم الجمعة السابع عشر من رمضان التحمَ الجيشان، وغمامةُ العناية الإلهية تهمي غيثاً على الموحّدين، وتقدّمَ حمزةُ أسدُ الله وأسدُ رسوله فأردى شيبة بن ربيعة، وتقدّم الفدائيّ الصّنديد علي بن أبي طالب فأردى الوليدَ بن عتبة صريعاً يعفّر وجهه بالتراب.. ورسول الله -صلى الله عليه وسلّم- يناشدُ ربّه ما وعَدَه من النّصر، فجاء أبو بكرٍ قائلاً: "... بعضَ مناشدتِكَ ربّك، فإنّ الله مُنجزٌ لكَ ما وعَدَك"، فقال له رسولُ الله -صلى الله عليه وسلّم-: "أبشر يا أبا بكر، أتاكَ نصرُ الله؛ هذا جبريلُ آخذٌ بعنانِ فرسٍ يقودُه، على ثنايا النّقع" [سيرة ابن هشام ص 367].
وبين كرّ الفوارس وفرّها، وجَلَبَةِ صليلِ السيوف، ورنين التروس، كان محمدٌ -صلى الله عليه وسلّم- لا ينفكُّ يضربُ أروعَ الأمثلة في آدابِ الحروب، إذْ أوصى بعدم قتل أبي البختري الذي كان لا يؤذي رسول الله بمكّة، فما أحفظَكَ للود والمعروف يا رسول الله، ثمّ نهى -كذلك- عن قتل العباس أو قتل أحدٍ من بني هاشم لأنّهم أُخرِجوا مُستَكرَهين...(/2)
وما هي إلا سويعةٌ حتى تطايرت رؤوسُ الكفرِ تحتَ أقدامِ حملةِ راياتِ التوحيد، وحاملي مشاعل الضياء، كواكب الدّنيا وحصونها، وأسفرَ وجهُ بلالٍ وحذيفةَ وعبد الله بن مسعود، وهم يعيشون أروع اللحظات المعطّرة بنشوة انتصار الحقّ...
تأمّلوا هذه الآيات التي تقطرُ نصراً ورحمةً من خالق الكون إلى من يوحّده، إلى الثلّة الطاهرة التي هاجرت إلى الله ورسوله، لا تبتغي مالاً ولا عرضاً من الدّنيا، ولا جاهاً ولا سلطاناً...
قال تعالى: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ} [الأنفال: 7].
وقال تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ * بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آل عمران: 123-126].
وقال تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال: 9].(/3)
وانقشَع غبارُ الحرب لتظهر بسمةُ الكون عن نصرٍ مؤزّر للمسلمين وخسارةٍ فادحة للمشركين، وأُلقِيَت جثثُ صناديدِ المشركين في قليبِ بدر،وراح رسولُ الله -صلى الله عليه وسلّم- يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم: "يا فلان بن فلان، ويا فلان بن فلان، أيسرّكم أنكم أطعتم الله ورسوله؟ فإنّا قد وجدنا ما وعَدنا ربّنا حقا، فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا؟" فقال عمر: ما تكلّم من أرواح لا أجساد لها؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلّم-: "والذي نفسُ محمد بيده ما أنتم بأسمعَ لما أقول منهم" [البخاري 5-8 ومسلم بنحوه في 8-163].
ورحمَ الله حسانَ بن ثابت الذي قال:
عرفْتُ ديارَ زينبَ بالكثيبِ كخطِّ الوحيِ في الورقِ القشيب
تداولها الرياحُ وكلُّ جونٍ من الوسميِّ منهمرٍ سَكوبِ
فأمسى رسْمُها خَلَقاً وأمست يَباباً بعد ساكنِها الحبيبِ
وخَبِّر بالذي لا عيبَ فيه بِصدقٍ غير إخبار الكذوب
بما صنعَ المليكُ غداةَ بدرٍ لنا في المشركين من النّصيبِ
فلاقيناهُم منّا بجَمْعٍ كَأُسْدِ الغابِ مُردانٍ وشيبِ
أمامَ محمدٍ قد وازروه على الأعداء في لَفْحِ الحروبِ
بأيديهم صوارمُ مُرهفاتٌ وكلُّ مُجرّبٍ خاظي الكُعوبِ
فغادرْنا أبا جهلٍ صريعاً وعُتبةَ قد تركنا بالجَبوبِ
وشيبةَ قد تركنا في رجالٍ ذوي حسبٍ إذا نُسِبوا حَسيبِ
يُناديهم رسولُ الله لما قَذفناهم كباكبَ في القليبِ
ألم تجدوا كلامي كان حقا وأمرُ الله يأخذُ بالقلوبِ؟
فما نَطَقوا ولو نطقوا لقالوا: صَدقتَ وكُنتَ ذا رأيٍ مُصيبِ(/4)
وعندما استشار النبيُّ أصحابه في أمر الأسرى مال إلى رأي أبي بكر لما رأى في رأيه من الرحمة بالأسرى وافتدائهم بالمال، وحكم فيهم بذلك، ولكنّ القرآن الكريم نزلَ معاتباً النبي -صلى الله عليه وسلّم- على الرأي الذي مال إليه، ومؤيداً رأي عمر الذي الذي أشار بقتل الأسرى، قال تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} [الأنفال: 67] [صحيح مسلم: ج5/157-158].
وهكذا كتبَ الله النّصر للمسلمين في بدر -وهم قلّةٌ عدداً وعدّةً- على المشركين الطغاة الذين هم كثرة في العدد والعدّة، وهذا يجعلنا نقفُ للحظاتٍ أمام الدروس والعبر التي ينبغي أن نستخلصَها من غزوة بدر لكي يستحضرها المسلمون في أذهانهم في كل رمضان..
وهذه بعضُ الدروس والعبر المُستفادة من غزوة بدر الكبرى:
أولاً: تعزيز مبدأ الشورى من خلال مشاورة النبي -صلى الله عليه وسلّم- لأصحابه وعدم تفرّده بالقرار.
ثانياً: أهميّة الدعاء، فقد رفعَ رسول الله -صلى الله عليه وسلّم- يديه متضرعاً إلى الله يسأله النّصر.
ثالثاً: تعزيز مبدأ المكافأة على المعروف من خلال وصيّة النبي أصحابه بعدم قتل أبي البختريّ ابن هشام الذي أحسنَ إلى النبي عندما كان في مكّة.
رابعاً: التماس العُذر في السّلم والحرب، وتجلّى ذلك في وصيّة رسول الله -صلى الله عليه وسلّم- بعدم قَتلِ العباس أو قتلِ أحد من بني هاشم لأنههم أُخرجوا مُستكرهين.
خامساً: قوّة العقيدة وأثرها في النّصر وإن كان العدد قليلاً...
أسألُ الله –سبحانه- أن يجزيَ رسولنا محمدًا -صلى الله عليه وسلم- وصحابته الكرام عنّا وعن الإسلام خير الجزاء، كما أسأله أن يعزّ الإسلام والمسلمين وأن يُعلي كلمة الحقّ والدين، اللهم من أراد بالإسلام والمسلمين خيراً فوفقه إلى كلّ خير، ومن أراد بالإسلام والمسلمين شراً فاجعل دائرة الشرّ في قلبه، وخذه أخذَ عزيز مقتدر..
وآخر دعوانا أن الحمدُ لله ربّ العالمين.(/5)
المراجع:
- سيرة ابن هشام.
- صحيح البخاري.
- صحيح مسلم.
- تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، لعبد الرحمن السعدي.(/6)
العنوان: غزوة بدر
رقم المقالة: 1501
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
ويقطع دابر الكافرين
الحمد لله العزيز الحكيم؛ ينصر المستضعفين، ويقصم المستكبرين، وهو على كل شيء قدير {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بالبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ} [الرُّوم:47] نحمده على ما هدانا، ونشكره على ما أعطانا، ونسأله أن يثبتنا على الحق إلى أن نلقاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كبير في حكمه وملكه، عظيم في أسمائه وصفاته، حكيم في تقديره وأفعاله {إِنِ الحُكْمُ إِلَّا لله يَقُصُّ الحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الفَاصِلِينَ} [الأنعام:57] وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، وصفيه وخليله؛ لم يزل يوم بدر منطرحا على ربه، رافعا يديه إلى السماء يدعو، حتى جاءته البشرى بالنصر المبين، والقضاء على صناديد المشركين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واستثمروا ما بقي من شهركم؛ فبالأمس بدأتموه، وها أنتم تأخذون من نصفه الآخر، وقريبا يفارقكم بما استودعتم فيه من أعمالكم، فاعملوا اليوم صالحا تجدوا خيرا في غدكم {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزَّلزلة:8].(/1)
أيها الناس: من سنة الله تعالى في المكذبين من عباده أن يرغبهم ويرهبهم، ويمهلهم ويملي لهم، ويحذرهم عقابه، ويخوفهم بآياته، ويرسل لهم النذر تلو النذر، ويفتح عليهم أبواب النعم استدراجا لهم؛ حتى إذا استوجبوا العقاب؛ قطع دابرهم، واستأصل شأفتهم، وأباد خضراءهم {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ القَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالحَمْدُ لله رَبِّ العَالَمِينَ} [الأنعام:45].
وسرت سنة الله تعالى على المكذبين للرسل عليهم السلام في شتى الأزمان والأمم؛ فهذه عاد لما كذبت هودا عليه السلام قطع الله تعالى دابرهم، وأنجى هودا والمؤمنين معه {فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ} [الأعراف:72].
وقضى عز وجل في قوم لوط عليه السلام لما كذبوه وأتوا الفواحش بقطع دابرهم {وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ} [الحجر:66].
وذكَّر الله تعالى المكذبين لخاتم رسله محمد عليه الصلاة والسلام بعاقبة المكذبين قبلهم، وحذرهم من سلوك مسلكهم؛ لئلا يقطع دابرهم كما قطع دابر من كانوا قبلهم {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ} [الأنعام:6].(/2)
غير أن من كُتب عليهم الشقاء لا بد أن يدركوه، ويأتوا أسبابه، ولا ينفكوا عن عمل أهله حتى ترديهم شقوتهم، ومن كتب الله تعالى نجاتهم أدركتهم رحمته سبحانه، وأسعفتهم هدايته، وقد وقع ذلك كما قدره الله تعالى وقضاه في غزوة بدر الكبرى التي كانت في رمضان من السنة الثانية للهجرة؛ إذ سارت جحافل الشرك، وجند الباطل، تجر أذيلها بطرا ورئاء الناس، من مكة إلى المدينة لتنقذ قوافلها من محمد عليه الصلاة والسلام وصحبه رضي الله عنهم، وتضربهم أقبيتها بالقرب من مدينتهم؛ تحديا لهم، واستعادة لهيبة تضعضعت بكلمة التوحيد، وكاد اللقاء أن لا يتم بنجاة القافلة من قبضة المسلمين، ولكن الله تعالى قد قضى -وهو الحكم العدل- بقطع دابر آئمة الشرك، وصناديد مكة {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الكَافِرِينَ} [الأنفال:7].
لقد قضى الله تعالى في المشركين قضاءه، فلا بدّ أن ينفذ فيهم حكمه، وأن يقع عليهم مراده، فكان اللقاء على غير ميعاد، وبلغ المسلمون أرض المعركة قبل المشركين، وكان النبي عليه الصلاة والسلام يشير إلى مصارع المشركين في الأرض، روى أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل بدرا قال: (هذا مَصْرَعُ فُلَانٍ، قال: وَيَضَعُ يَدَهُ على الأرض هاهنا وهاهنا قال: فما مَاطَ أَحَدُهُمْ عن مَوْضِعِ يَدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم) رواه مسلم. وقال عمر رضي الله عنه: (إِنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم كان يُرِينَا مَصَارِعَ أَهْلِ بَدْرٍ بِالْأَمْسِ يقول: هذا مَصْرَعُ فُلَانٍ غَدًا إن شَاءَ الله، قال عُمَرُ: فَوَالَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ ما أخطؤا الْحُدُودَ التي حَدَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم)رواه مسلم.(/3)
والتقى الجمعان، وتقابل الصفان، وكان في المشركين من يشير عليهم بأن يرجعوا، ولكن كبرياء أبي جهل تأبى ذلك، فما زال بهم حتى عزموا على الحرب، ووقفوا لها، وخرج المبارزون منهم للمبارزة، ووقع أمر الله تعالى، وتحقق وعده بقطع دابرهم {وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الكَافِرِينَ} [الأنفال:7].
فقتل سبعون منهم، وأُسر سبعون، وكان في القتلى جملة كبيرة من سادة قريش وكبارهم، وصناديد الكفر وشجعانهم، أخذت منهم سيوف الحق حظها، وارتوت أرض بدر بدمائهم، ودارت دائرة السوء على أعداء الله تعالى، وانتصرت الفئة المؤمنة المستضعفة، ونال المعذبون ممن كانوا يُعَذِّبُونهم على الإيمان في رمضاء مكة، وانتصر الله تعالى لهم منهم، وأَبْصَرَ بِلَالٌ أُمَيَّةَ بن خَلَفٍ -وقد كان يعذبه بمكة- فقال: أُمَيَّةُ بنُ خَلَفٍ! لَا نَجَوْتُ إن نَجَا أُمَيَّةُ، وأعانه عليه فَرِيقٌ من الْأَنْصَارِ فَتَخَلَّلُوهُ بِسُّيُوفِهم حتى قَتَلُوهُ) وقصة قتله في صحيح البخاري.
وكان أمية صديقا لسعد بن معاذ رضي الله عنه، فإذا ذهب سعد إلى مكة نزل عند أمية، وإذا ذهب أمية إلى المدينة نزل عند سعد، وذات مرة خرج سعد معتمرا فأجاره أمية وضيَّفه، وأخبره سعد رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قد أخبر بمقتله، فقال: (بِمَكَّةَ؟ قال: لَا أَدْرِي، فَفَزِعَ لِذَلِكَ أُمَيَّةُ فَزَعًا شَدِيدًا فأخبر أهله بذلك وقال: والله لَا أَخْرُجُ من مَكَّةَ) ولكن الشقي سيدركه شقاؤه ولو احترز، وأمر الله تعالى أمضى من عزمه ويمينه، ورفقةُ السوء لن تزال به حتى تورده حتفه.(/4)
(فلما كان يَوْمُ بَدْرٍ اسْتَنْفَرَ أبو جَهْلٍ الناس، قال: أَدْرِكُوا عِيرَكُمْ, فَكَرِهَ أُمَيَّةُ أَنْ يَخْرُجَ، فَأَتَاهُ أبو جَهْلٍ فقال: يا أَبَا صَفْوَانَ، إِنَّكَ مَتَى ما يَرَاكَ الناس قد تَخَلَّفْتَ وَأَنْتَ سَيِّدُ أَهْلِ الْوَادِي تَخَلَّفُوا مَعَكَ فلم يَزَلْ بِهِ أبو جَهْلٍ حتى قال: أَمَّا إِذْ غَلَبْتَنِي فو الله لَأَشْتَرِيَنَّ أَجْوَدَ بَعِيرٍ بِمَكَّةَ ثُمَّ قال أُمَيَّةُ: يا أُمَّ صَفْوَانَ جَهِّزِينِي، فقالت له: يا أَبَا صَفْوَانَ، وقد نَسِيتَ ما قال لك أَخُوكَ الْيَثْرِبِيُّ؟ قال: لَا، ما أُرِيدُ أَنْ أَجُوزَ مَعَهُمْ إلا قَرِيبًا، فلما خَرَجَ أُمَيَّةُ أَخَذَ لَا يَنْزِلُ مَنْزِلًا إلا عَقَلَ بَعِيرَهُ فلم يَزَلْ بِذَلِكَ حتى قَتَلَهُ الله عز وجل بِبَدْرٍ)رواه البخاري.
لقد قُتِل في بدر رؤساءُ الكفر، وأئمةُ الشرك، وقَطَع الله تعالى دابرهم، وشفى صدور المؤمنين منهم، وكانت نهايتهم في الدنيا شرَّ نهاية، وعذابُ الآخرة أشد وأبقى.
عن عائشة رضي الله عنها قالت: (أَمَرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالْقَتْلَى أن يُطْرَحُوا في الْقَلِيبِ فَطُرِحُوا فيه إلا ما كان من أُمَيَّةَ بنِ خَلَفٍ فإنه انْتَفَخَ في دِرْعِهِ فَمَلأَهَا فَذَهَبُوا يُحَرِّكُوهُ فَتَزَايَلَ، فَأَقَرُّوهُ وَأَلْقَوْا عليه ما غيبه مِنَ التُّرَابِ وَالْحِجَارَةِ، فلما أَلْقَاهُمْ في الْقَلِيبِ وَقَفَ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا أَهْلَ الْقَلِيبِ، هل وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا فإني قد وَجَدْتُ ما وعدني ربي حَقًّا، فقال له: أَصْحَابُهُ، يا رَسُولَ الله أَتُكَلِّمُ قَوْماً مَوْتَى، فقال لهم: لقد عَلِمُوا أن ما وَعَدْتُهُمْ حَقٌّ)رواه أحمد.
وفي رواية أنه عليه الصلاة والسلام قال لهم: (جَزَاكُمُ الله شَرًّا من قَوْمِ نبي ما كان أَسْوَأَ الطَّرْدِ وَأَشَدَّ التَّكْذِيبِ)(/5)
وفي رواية للبخاري من حديث أنس رضي الله عنه: (فَجَعَلَ? يُنَادِيهِمْ بِأَسْمَائِهِمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ يا فُلَانُ بن فُلَانٍ وَيَا فُلَانُ بن فُلَانٍ أَيَسُرُّكُمْ أَنَّكُمْ أَطَعْتُمْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فإنَّا قد وَجَدْنَا ما وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا).
وفي رواية لمسلم: (فَنَادَاهُمْ عليه الصلاة والسلام فقال: يا أَبَا جَهْلِ بن هِشَامٍ يا أُمَيَّةَ بنَ خَلَفٍ يا عُتْبَةَ بن رَبِيعَةَ يا شَيْبَةَ بن رَبِيعَةَ، أَلَيْسَ قد وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا فَإِنِّي قد وَجَدْتُ ما وَعَدَنِي رَبِّي حَقًّا).
وفي السيرة النبوية أنه عليه السلام قال لهم: (بئس عشيرة النبي كنتم لنبيكم: كذبتموني وصدَّقَني الناس، وأخرجتموني وآواني الناس وقاتلتموني ونصرني الناس فبئس عشيرة النبي كنتم لنبيكم)
هكذا كانت نهاية أئمة الكفر، وكذلك يقطع الله تعالى دابر كل مستكبر جبار، كما قطع سبحانه دابر قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم لوط وقوم شعيب وفرعون وهامان وقارون، وحَقَّ في كفار مكة قول الله تعالى {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ الله كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ البَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ القَرَارُ} [إبراهيم:29].
قال عمرو بن دينار رحمه الله تعالى:هم كفار قريش، ومحمدٌ النعمة ودار البوار النار يوم بدر.(/6)
فالحمد لله الذي أمكن من أعدائه، ونصر أولياءه {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} [المجادلة:5] {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ * كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة:21]. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.....
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما أمر، والشكر له على نعمه فقد تأذن بالزيادة لمن شكر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واثبتوا على دينكم حتى تلقوا ربكم {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ اليَقِينُ} [الحجر:99].
أيها المسلمون: أهل الخير ينفعون إخوانهم، ويأخذون بأيديهم إلى مراقي العز والسعادة، وأهل الشر يردون أقرانهم، ويكونون سببا في هلاك أصحابهم، ولا يدلونهم إلا على ما يضرهم، وظهر ذلك جليا في غزوة بدر حين أغرى أبو جهل صاحبه أمية بن خلف بالخروج مع يقينه أنه مقتول لا محالة، فما زال به أبو جهل حتى أخرجه إلى القتل والنار.
وفي زمننا هذا رأينا فراعنة الدول المستكبرة يجرون معهم إلى القتل والهزيمة والنار من يوافقهم من أرباب الدول الأخرى ليغرقوهم في مستنقعات الدم والدمار والإثم والعار في العراق والصومال وأفغانستان، فمتى يتعظ الطغاة؟ ومتى يعتبر الأتباع؟ وهلَّا كان لهم فيمن مضوا من طغاة التاريخ عظة وعبرة؟!(/7)
هذا؛ ومن تأمل مصارع المشركين في بدر عَلِمَ أن لله تعالى الحكمةَ البالغة فيهم؛ فما كان والله بينهم وبين السعادة الأبدية، والنعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول إلا أن يُؤمنوا، ولو آمنوا -وهم سادة مكة وأشراف قريش- لسادوا الناس كما ساد أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وسائر الأشراف من قريش رضي الله عنهم، ولكانت هذه عاجلَ بشراهم في الدنيا مع ما يُدَّخر لهم في الآخرة، ولكنْ من حُجِب قلبه عما ينفعه فلن تنفعه الذكرى، ولن تُجْدِي فيه المواعظ، ولو جاءته النذر، وأبصر الآيات {مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأعراف:186].
ومن عجيب تقدير الله تعالى في عباده أن أبناءً لهؤلاء الصناديد من قريش وإخوانا وأقرانا وأصحابا حضروا بدرا على الشرك، ولكنهم لم يُقتلوا، وبقي منهم على الشرك من بقي سنوات عدة، ولكنهم مكتوبون في اللوح المحفوظ من أهل الهداية والسعادة ولو رَفَعُوا سيوفهم على المؤمنين في بدر وأحد والخندق وغيرها، ومن كُتب سعيدا فلن تستمر معه شقوته، ولن يبقى على كفره، ولن يموت إلا مؤمنا، فما أعظمَ مقاديرَ الله تعالى في خلقه، وما أحكم قضاءه سبحانه في عباده {قُلْ فَللهِ الحُجَّةُ البَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام:149]
كان من أولئك النفر حكيمُ قريش وسيدها حكيم بن حزام رضي الله عنه، الذي رأى الموت في بدر وهو في صف المشركين، ولكن رحمة الله تعالى شملته فنجا وأسلم وحسن إسلامه، وكان سيدا في الإسلام كما كان سيدا في الجاهليه، وكان إذا حلف بيمين قال: لا والذي نجاني يوم بدر.
وكان منهم ابنُ فرعون هذه الأمة عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه، قُتِل أبوه على الشرك في بدر، ونجَّى الله تعالى عكرمة رضي الله عنه لخير أراده به، فأسلم بعد الفتح وحسن إسلامه، وكان رضي الله عنه إذا اجْتَهَدَ في الْيَمِينِ قال: وَالَّذِي نَجَّانِي يوم بَدْرٍ.(/8)
وإذا كانت الهداية من الله تعالى وليست لأحد من خلقه فحري بالمؤمن أن يلهج بدعائه دائما وأبدا أن يهديه ويثبته، كيف؟ وهو يقرأ في كل ركعة {اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7].
ومن أعظم أسباب الهداية والثبات عليها: قراءةُ القرآن وتدبره، والعمل بما فيه، والمحافظة على الفرائض مع الإكثار من النوافل؛ فإن ذلك سببُ هداية القلوب وصلاحها وثباتها على الحق وإن كثرت الملهيات والصوارف، وقويت الضغوط والمضايقات.
وعن قريب تحلُّ بكم -يا عباد الله- عشرُ ليال مباركات، هي خير الليالي وأكثرها بركة، جعل الله تعالى فيها ليلة القدر خير من ألف شهر، وكان النبي عليه الصلاة والسلام يعتكف العشر كلَّها التماسا لهذه الليلة المباركة، ويجتهد في العشر تحريا لها؛ كما روت عَائِشَةُ رضي الله عنها قالت:(كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل الْعَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ وَأَحْيَا لَيْلَهُ وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ) رواه الشيخان، وقالت رضي الله عنها: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَجْتَهِدُ في الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مالا يَجْتَهِدُ في غَيْرِهِ) رواه مسلم.
فشمروا عن سواعد الجِدِّ في ليالي العشر المباركات، وسابقوا إلى الخيرات فيها، ونافسوا أهل الآخرة عليها، ولا يغلبنكم عليها غالب؛ فإن السعيد من شغلها بطاعة الله تعالى، وأدرك ليلة القدر وهو قانت لله تعالى قائما وراكعا وساجدا، قارئا باكيا متضرعا، والخاسر من ضيعها فيما لا طائل منه.
أروا الله تعالى من أنفسكم خيرا في عشركم تجدوا خيرا في الدنيا والآخرة، ومن أدركها منا فلعله لا يدركها من قابل، فكم وُسِّدَ في القبور من أناس أدركوها في الأعوام الماضية، فخذوا من مصيرهم عبرة لأنفسكم، واعملوا لما عليه قد قَدِمُوا.
وصلوا وسلموا على نبيكم.....(/9)
العنوان: غزوة بني قريظة الغدر والعقوبة
رقم المقالة: 214
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
24/11/1427
الحمد لله رب العالمين، مالك الملك، ومدبر الأمر، له الحكم وإليه ترجعون، نحمده ونشكره، ونتوب إليه ونستغفره، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ أنجز وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده (ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا) وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ اصطفاه الله تعالى على العالمين، وجعله حجة على الناس أجمعين، وأظهر به الإيمان والمؤمنين، وأذل به اليهود والمشركين، وكتب البقاء لشريعته إلى يوم الدين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه؛ قدموا ولاءهم لله تعالى ولدينه على ولائهم لآبائهم وإخوانهم وحلفائهم وعشائرهم، فكانوا كما قال الله تعالى (كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه) والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون، ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون).
أيها الناس: الغدر والخيانة من أحط الصفات، وأسوأ الأخلاق، ولا تسود الخيانة في الناس إلا انتشر فيهم الخوف ، فلا يأمن بعضهم بعضا؛ ولذا جاءت شريعة الله تعالى آمرة بالأمانة والوفاء، ناهية عن الغدر والخيانة(يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود) (يأيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون) وفي آية أخرى (إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما).
ولما كانت سنة الله تعالى في عباده أن يوجد فيهم الخونة الغدارون ولا سيما في العهود والمواثيق فإن الله عز وجل خذر المؤمنين منهم، وبين كيفية التعامل معهم (وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين).(/1)
وأمة بني إسرائيل هي أشهر الأمم في الخيانة والغدر؛ فلا يعاهدون عهدا إلا نقضوه، ولا يسالمهم قوم إلا غدروا بهم، ولا يحسن إليهم أحد إلا أساءوا إليه، ويرون ذلك حقا من حقوقهم، وفرضا من فروض دينهم(أوكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون) (فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية) (الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون).
وأكبر دليل على أن اليهود أغدر الناس وأخونهم: أن كل قبائلهم في المدينة نقضت عهودها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحق عليهم العذاب في الدنيا فمنهم من هجروا وأخرجوا من ديارهم ، ومنهم من قتلوا وسبيت نساؤهم وذراريهم.
وفي آخر ذي القعدة من السنة الخامسة من الهجرة نقضت بنو قريظة عهدهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمكن الله تعالى المؤمنين منهم، فقضوا فيهم بحكم الله تعالى الذي أنزله.
لقد كان من سياسة النبي صلى الله عليه وسلم أول هجرته للمدينة أن وادع اليهود فيها، وعاهدهم بميثاق بين فيه ما لهم من الحقوق وما عليهم من الواجبات، وكان من بين بنود ذلك الميثاق: أن للمسلمين دينهم، ولليهود دينهم، وأن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم، وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.(/2)
والتزم المسلمون بهذا العهد والميثاق؛ لأن من شيمتهم الوفاء والأمانة، فدينهم يأمرهم بذلك ويحرم عليهم الغدر والخيانة ولكن اليهود نقضوا العهد قبيلة قبيلة، وأخطر ما نقضت اليهود من العهود، وأشده ضررا على المسلمين، وأكثره خسة ودناءة وغدرا فعلة بني قريظة؛ إذ إن مقتضى المعاهدة معهم أن يشاركوا المسلمين في دفع خطر المشركين عن المدينة وقد حاصروها بأعداد كثيفة في غزوة الأحزاب، ولم يكتف اليهود بخذلان المسلمين في هذا الوقت العصيب، والتخلي عنهم في هذا المأزق الحرج، بل دعتهم نفوسهم الخبيثة التي تنضح بالغدر، وتقطر بالخيانة، دعتهم إلى طعن المسلمين في ظهورهم، وخفرهم في نسائهم وذراريهم، وممالأة المشركين عليهم، ويا له من موقف عصيب، ويا لها من خيانة لا نظير لها البتة.
ولما تسامع بعض الناس بخبر الغدر هذا، وخافوا على من في الحصون من النساء والأطفال من غدر اليهود، أراد النبي صلى الله عليه وسلم الاستيثاق من غدرهم، فأرسل الزبير والسعدين ابن معاذ وابن عبادة رضي الله عنهم، فرجعوا مؤكدين خبر نقض قريظة للعهد، وعظم بلاء المؤمنين، واشتدت محنتهم، وأصبحوا يواجهون عدوا شرسا يحاصر المدينة في عدد كثيف يبلغ عشرة آلاف مقاتل، ويعالجون منافقين يخذلون ويرجفون، ويبثون الشائعات والأكاذيب، ولا يدرون ما يصنعون باليهود وهم داخل الحصون عند النساء والأطفال وقد تنكروا للمسلمين، وانحازوا للمشركين (هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا).
وحمل سعد بن معاذ رضي الله عنه في قلبه على بني قريظة بسبب خيانتهم القبيحة رغم أنهم كانوا حلفاءه وأقرب الناس إليه في الجاهلية، ولما جرح رضي الله عنه في الأحزاب ونزف وخشي أن يموت قبل أن يرى عذاب الله تعالى في بني قريظة، فدعا الله تعالى قائلا (اللهم لا تُخْرِج نَفْسي حتى تَقَرَّ عيني من بني قريظة فاستمسك عرقه فما قطر قطرة).(/3)
استجاب الله تعالى لدعوات المؤمنين وتضرعهم، وخذل الكافرين والمنافقين، فردَّ بقدرته وحكمته ورحمته المشركين على أعقابهم، وصدَّع تحالف اليهود معهم بشكوكٍ ألقاها في قلوب الفريقين، وتوفيقٍ منه سبحانه لنعيم بن مسعود رضي الله عنه في الوقيعة بينهم وقد أسلم ولم يعلموا بإسلامه، فعادت أحزاب المشركين خاسرة خائبة إلى مكة، وعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم (ووضع السلاح واغتسل، فأتاه جبريل وقد عصب رأسه الغبار فقال: وضعت السلاح فوالله ما وضعته؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأين؟ قال: ها هنا، وأومأ إلى بني قريظة) فأذن عليه الصلاة والسلام في الناس:(لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة).
وهذا يدل على أن غزو بني قريظة واستئصال شأفتهم جاء الأمر به من عند الله عز وجل عن طريق جبريل عليه السلام، وليس فعلا فعله النبي عليه الصلاة والسلام وأقره الله تعالى عليه، بل إن جبريل عليه السلام أنكر على النبي صلى الله عليه وسلم وضع السلاح والاغتسال قبل إيقاع العقوبة بالخونة المجرمين من يهود بني قريظة، وأخبره أن الملائكة عليهم السلام لم يضعوا أسلحتهم.(/4)
خرج النبي صلى الله عليه وسلم إليهم وقد بعث عليا رضي الله عنه على مقدمة الجيش ومعه اللواء فحاصرهم خمسا وعشرين ليلة، فلما اشتد حصرهم، واشتد البلاء قيل لهم: انزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستشاروا أبا لبابة بن عبد المنذر فأشار إليهم أنه الذبح، قالوا: ننزل على حكم سعد بن معاذ - وكان رضي الله عنه حليفا لهم فظنوا أن يحابيهم ويخفف الحكم عليهم - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: انزلوا على حكم سعد بن معاذ فنزلوا وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد بن معاذ فأتي به على حمار عليه إِكاف من ليف قد حمل عليه وحفَّ به قومه، يحاولون الشفاعة في بني قريظة، فقالوا: يا أبا عمرو، حلفاؤك ومواليك وأهل النكاية ومن قد علمت، وهو رضي الله عنه ساكت لا يرجع إليهم شيئا، ولا يلتفت إليهم، حتى إذا دنا من دورهم التفت إلى قومه فقال: قد أنى لي أن لا أبالي في الله لومه لائم، وفي رواية: قال رضي الله عنه:(قد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم) فجيء بسعد رضي الله عنه وهو جريح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أنزلوه، فأنزلوه، ثم قال عليه الصلاة والسلام: إن هؤلاء نزلوا على حكمك، قال: فإني أحكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم وتسبى ذراريهم، قال عليه الصلاة والسلام: حكمت بحكم الله عز وجل، فقتل رجالهم وكانوا بين ست مئة وتسع مئة، إلا من أسلم منهم حقن إسلامه دمه، وسبيت نساؤهم وذرياتهم، وقسمت في المسلمين.(/5)
فكان هذا العقاب الشديد مناسبا لجرمهم الشنيع، وقد وجد بعض المعاصرين من المسلمين في نفوسهم شيئا من هذا الحكم الشديد مع أنه حكم الله تعالى من فوق سبع سموات، ولسان حالهم يقول: كيف تفنى قبيلة كاملة من اليهود بسبب خيانتهم، والإسلام دين الرأفة والرحمة، والسماحة والمسامحة. ويزداد حرجهم حين يستغل الأعداء هذه المواقف من السيرة النبوية ليشغبوا بها على الإسلام، ويتهموه بالفاشية والدموية. ولا شك في أن هذه الحرج الذي يجده بعض المسلمين من هذه الحادثة ومثيلاتها ينطوي على عدم استسلام كامل لله تعالى، ويدل على شك داخل تلك القلوب في حكمه عز وجل، والله تعالى يقول(فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) فلا يسع مسلما إلا الرضا بحكم الله تعالى وأمره، واليقين بأنه الحق والعدل، وأن ما عارضه هو الباطل والظلم.
وسبب هذا الضعف في الاستسلام لشريعة الله تعالى هو أن من سلك هذا المسلك الخاطئ قد سلم بحكم الطاغوت المتمثل فيما يسمى بحقوق الإنسان، ثم جعله حاكما على شريعة الله تعالى، فما وافق قوانينهم الوضعية من شريعة الله تعالى رضيه وصاح بأن الإسلام قد سبق إليه، وما خالف قوانينهم طعن فيه وتأوله، وفي أحسن الأحوال يقبله على استحياء ويخفيه كأنما هو عار ونقص وخلل في الإسلام.(/6)
وقوانينهم الدولية الوضعية المتعلقة بالسلم والحرب، وحقوق الإنسان والمرأة والطفل، وحقوق الأسرى وغيرهم، فيها ما يوافق شرع الله تعالى فيكتسب شرفا بذلك، وإن لم يكن لواضعيه فيه نية ولا احتساب، كما أن في قوانينهم ما يعارض شرع الله تعالى وهو تحت الأقدام وإن زمر له المزمرون، وطبل له المطبلون، وجعله المنافقون في هذا العصر شريعتهم التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، وما هو إلا من وحي الشيطان ووساوسه، وكل ما عارض الشريعة فهو الباطل والظلم، ولا يحق الحق، ولا يقضي بالعدل، ولا بد أن يوقن المسلم بذلك؛ لأنه ما صار مسلما إلا لقناعته بالإسلام، واستسلامه لأحكام الله تعالى.
وغالب الذين يداخلهم شك في بعض أحكام الشريعة، ويجدون حرجا من قضاء المسلمين على بني قريظة إنما نظروا إلى المجرم حال سفك دمه، ولم يستحضروا جريمته الشنعاء، فامتلأت قلوبهم بالرحمة والشفقة على المجرمين فزعموا حفظ حقوقهم، ونسوا من ظلمهم وغدر بهم هؤلاء المجرمون.
ومعلوم أن الدول في هذا العصر مجمعة على قتل الجاسوس الذي ينقل الأخبار للدول المعادية، ويعينها على دولته، وأين فعل جاسوس واحد خان وطنه من نقض اليهود للعهد وهم أمة كاملة تتطلع لإبادة المسلمين، وتقابل عظيم إحسانهم إليهم بحفظ العهد معهم مع القدرة عليهم، وإحسان جوارهم، والدفاع عنهم، تقابل أمة اليهود ذلك بأعظم الإساءة، وأشد دركات الغدر والخيانة.(/7)
لقد نقضت قريظة عهدها في أصعب موقف، وأشد ساعة، ولو أن مظاهرة اليهود للمشركين، وخيانتهم للمسلمين تمت على ما أرادوا، ودخل المشركون المدينة، وتمكن اليهود من نساء المسلمين وأطفالهم لأبادوهم عن بكرة أبيهم، أفإن سلم الله تعالى المؤمنين، ورد المشركين، وأنزلت العقوبة الشرعية بالخونة الغادرين يجد المسلم حرجا في نفسه من حكم الله تعالى، فيتذكر حال اليهود وهم يقتلون، ولا يستحضر حال المسلمين لو تمكن منهم المشركون بسبب خيانة اليهود. ولمن في قلبه أدنى حرج من ذلك عبرة وعظة فيما يفعله اليهود في أهل فلسطين، من الغدر والخيانة، ونقض العهد، وقصد الآمنين والنساء والأطفال بالقتل والترويع، وهدم الدور على أصحابها، ولا يكاد يمر يوم دون أن يقتلوا نساء وأطفالا، فتبا لقوانين وضعية توجد حرجا في قلوب بعض المسلمين من شريعة الله تبارك وتعالى، ونعوذ بالله تعالى من الزيغ والضلال، ومن الاستدراك على الشريعة الغراء، ونسأله سبحانه أن يرزقنا الرضا والإذعان والقبول والتسليم، إنه سميع قريب.
وأقول ما تسمعون واستغفر الله...
الخطبة الثانية
الحمد لله الحكم العدل وهو خير الحاكمين، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واعملوا صالحا قبل أن يحال بينكم وبين العمل، واعلموا أن الأجل قريب، وأن الحساب عسير (ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا).(/8)
أيها المسلمون: في غدر بني قريظة وغدرهم للمسلمين دليل على أن الطوائف والأقليات التي ليست على دين أهل البلد هي أقرب للخيانة والغدر من الأداء والوفاء متى ما رأت الفرصة سانحة لذلك، وأن إحسان أهل البلد إليهم سنوات متتابعة، وحمايتهم لهم، وحفظ حقوقهم، لا يمنعهم أبدا من الغدر والخيانة، وممالأة الأعداء على أبناء أوطانهم، وأن زعمهم أنهم وطنيون، وأن مصلحة الأوطان فوق أديانهم وطوائفهم ومذاهبهم ما هو إلا شعار يخدرون به أهل الغفلة من الناس.
ولئن كانت خيانة بني قريظة شاهدة على ذلك فإن التاريخ مليء بالنماذج التي تدل على هذه السنة، وتؤكد تلك الحقيقة، وفي أثناء الحروب الصليبية أسس نصارى الشرق من الأقباط والموارنة لواء كاملا يعين نصارى الغرب على إبادة المسلمين، ويدل على عوراتهم، رغم العداوة الشديدة بين نصارى الشرق وهم الأرثوذكس، ونصارى الغرب وهم الكاثوليك.
وفي اجتياح التتار لبلاد المسلمين، وقضائهم على الخلافة العباسية انحاز ابن العلقمي الرافضي الباطني إلى المغول ضد المسلمين رغم أنه كان يشغل وزيرا للخليفة العباسي، فما رده عن خيانته توزير العباسيين له، وإغداقهم الأموال عليه، وتمكينه من مفاصل الدولة وثرواتها وقراراتها، بل استغل ذلك في نسج المؤمرات التي قضى بها على من أحسنوا إليه، وهذه النماذج الخائنة تتكرر عبر العصور والدول، وما أكثرهم في هذا العصر، وأشد تمكنهم في كثير من بلاد أهل الإسلام.
ولئن دل التاريخ على هذه الحقيقة فإن في واقعنا المعاصر نماذج منها، ففي اجتياح الصرب للبوسنة كان صرب البوسنة يدلون المحاربين من صربيا على جيرانهم وأبناء وطنهم من المسلمين، ويشاركون العدو الغاشم في إبادة أبناء وطنهم، وكذلك فعلوا في كوسوفا.(/9)
وفعل مثل ذلك الباطنيون الصفويون والعلمانيون في أفغانستان، كما فعلوه في العراق - ولا زالوا – ومذابحهم ضد جيرانهم من أهل السنة على أشدها، ولا زالت الأقليات النصرانية في بلاد المسلمين تحرض الغرب على دولها، وتدل على عورات المسلمين، وتسرب الأخبار والمعلومات للدول المستكبرة، وتستنجد بها على أوطانهم، وليس بعيدا عن ذلك ما حصل وما يحصل في السودان والصومال وإرتيريا وغيرها.
ورأينا في حرب لبنان القريبة أصحاب الطوائف الضالة قد ركلوا وطنيتهم بأقدامهم، وانحازوا بولائهم للدولة الصفوية الفارسية الطامعة في إعادة أمجاد كسرى بن هرمز وأنو شروان، رغم إحسان دولهم إليهم. كما رأينا أن أتباع التيارات الليبرالية الغربية قد أجروا أنفسهم لما يخدم مصالح الدول التي تستأجرهم، وتأمرهم وتنهاهم، بعيدا عن مصالح أوطانهم.(/10)
وكل هذه النماذج السيئة من الغدر والخيانة ما هي إلا صورة مكرورة من خيانة بني قريظة، وإذا ما ألمت بأهل أي بلاد ملمة، ودهمها عدوها ظهر هؤلاء الخونة على حقيقتهم، وخرجوا من تقيتهم، وركلوا وطنيتهم، وأعلنوا العداء السافر لمن أحسنوا إليهم، وحفظوا لهم حقوقهم، ولم يكرهوهم على دينهم.والتاريخ والواقع المعاصر مليئان بالشواهد على ذلك، والكيس الفطن لا ينخدع بالشعارات دون الحقائق، ولا يغشى على بصره لحن القول، وكثرة الوعود والعهود؛ فكم من وعد أخلف، وكم من معاهد غدر، ولا قوة للمسلمين ولا نجاة لهم من غدر الغادرين، وخيانة الخائنين، ورد كيد الكائدين إلا بالتمسك بدينهم، وتحكيم شرع ربهم، ومخالفة من يريدون إضعاف المسلمين بتبديل دينهم، وتغيير مناهجهم، وحرفهم عن منهجهم، مع أخذ الحيطة والحذر من الطوائف الضالة، وعدم تمكينهم في بلاد المسلمين، والاستعانة بالله تعالى على كل خائن وغادر، وإعداد العدة لإرهاب أعداء الخارج، وتخويف أهل الغدر والخيانة من أعداء الداخل (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم).
وصلوا وسلموا .....(/11)
العنوان: غَزْوة تبوك (1)
صور من العُسْرَة
رقم المقالة: 1640
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضِلّ له، ومن يُضْلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله؛ بَلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله - تعالى - حتى أتاه اليقين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه؛ هاجروا فرارًا بدينهم، وجاهدوا في سبيل ربهم، وبذلوا أرواحهم، وانخلعوا من جُلِّ أموالهم؛ رغبة في رضوان الله - تعالى - وجنته، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فأوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله - عزَّ وجلَّ - فكم كانت التقوى سببًا في تفريج الضوائق، وبسط الأرزاق، وحلول الأمن.
{وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطَّلاق: 2 – 3].
أيها الإخوة المؤمنون: سيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - تزخر بالحكم والأحكام، والدروس والفوائد، ليست قصصًا من نسج الخيال، ولا هي إبداع من لسان مُتَحَدِّث، أو قلم كاتب، يقرؤها من يقرؤها لجمال في الإنشاء، أو بلاغة في التركيب، أو استفادة من الأسلوب؛ بل هي حق واقع، وأخبارٌ جامعة. فيها الحدث والعبرة، والموعظة الحسنة. تحوي أحكامًا فقهية، ودروسًا تربوية، وتنطوي على علوم متعددة؛ كالسياسة؛ والاقتصاد؛ وشؤون الحرب؛ والجهاد؛ وأحكام الهدنة والسلام؛ وغير ذلك مما يحتاجه المسلمون.(/1)
وكان مما وقع في شهر رجب من السنة التاسعة للهِجْرة من الأَحْداث الكبرى، والمغازي العظمى: غزوة تبوك، التي كانت آخر مَغَازي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يتوفاه الله تعالى[1].
كانت غزوة مليئة بالأحداث، فيها أخبار الموسرين الذين أنفقوا، والفقراء الذين عجزوا، وفيها أنباء المنافقين الذين فُضِحوا، وحكاية الثلاثة الذين خلفوا، ناهيكم عن أخبار المسير والحصار، وفرض الجزية على أهل الكتاب، وما الحديث عنها تكفيه الساعات؛ ولكن هذه أجزاء ومقتطفات عن العسرة والمشقة التي كانت فيها، حتى سماها القرآن ساعة العسرة؛ لأنَّ العسرة لَفَّتْهَا من كل مكان، وأحاطت بها من كل جانب؛ فوَقْتُها عسرة؛ إذ كانت في حَمَارة القيظ، وشدة الحر، وما أشد المسير تحت وهج الشمس اللافحة، وفوق الأرض الساخنة!! وكانت شدة الحر تدعو إلى المُقام في المدينة، ذات الماء الطيب، وثمار الصيف اليانعة، فلا يخرج للغزو في هذا الوقت إلا مؤمن يدفعه إيمانه إلى تقديم رضوان الله - تعالى - على لذة الحياة، والاستمتاع بطيباتها.
ومن العسرة فيها: قِلَّة ما يجد كثير من المسلمين للتجهّز لها، فلقد جاء أبو موسى الأشعري - رضي الله عنه - يطلب من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يحمل الأشعريين فلم يجد سوى ستة أبعر دفعها إليه ليحمل عليها قومه[2].(/2)
لقد كان الأغنياء من الصحابة يتجهزون ويجهزون، والفقراء لا يجدون، اشتاقوا للجهاد في سبيل الله - تعالى - لكن أعجزتهم الوسائل التي تبلغهم الميدان، فسحت أعينهم بالدمع لهذا الحرمان. كان منهم علبة بن زيد قام من الليل يتهَجَّد، فصلى ما شاء الله ثم بكى، وقال: "اللهم إنك أمرت بالجهاد، ورغَّبت فيه، ثم لم تجعل عندي ما أتقوى به، ولم تجعل في يد رسولك ما يحملني عليه، وإني أتصدق على كل مسلم بكل مظلمة أصابني فيها في مال أو جسد أو عرض"، وأصبح الرجل على عادته مع الناس فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أين المتصدق هذه الليلة؟)) فلم يقم أحد، ثم قال: ((أين المتصدق؟ فليقم)). فقام إليه فأخبره، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أبشر، فوالذي نفسي بيده لقد كُتبت في الزكاة المتقبلة))؛ ذكره ابن إسحاق ووصله الحافظ[3].
لقد كان علبة بن زيد واحدًا من سبعة رجال من المؤمنين عُرِفُوا بالبكائين، أَتَوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطلبون منه ما يخرجون عليه معه في هذه الغزوة، فلم يجد ما يحملهم عليه، فبكوا لذلك[4]، فأنزل الله - تعالى - فيهم: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى المَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا للهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى المُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} [التوبة: 91 – 92].(/3)
إنها صورة مُؤَثِّرَة للرَّغْبة الصحيحة في الجهاد على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما كان يحسه صادقو الإيمان من ألم إذا ما حالت ظروفهم المادية بينهم وبين القيام بواجباته. إنهم لم يبخلوا بمالهم، ولم يفرحوا بتخلفهم؛ حتى كان منهم من تصدق بعرضه على المسلمين، يبيح كل من تكلم في عرضه بسوء أو ناله بغيبة، ومع أنهم عذروا، ولم يخرجوا للغزو فإن قلوبهم كانت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الكرام - رضي الله عنهم - ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في المسير خبرهم فقال: ((إن بالمدينة أقوامًا ما سِرْتُم مسيرًا ولا قطعتم واديًا إلا كانوا معكم))، قالوا: "يا رسول الله، وهم بالمدينة؟" قال: ((وهم بالمدينة حبسهم العذر))؛ أخرجه البخاري[5].
ومن العسرة أيضًا: بُعْدُ المسافة بين المدينة وتَبُوك، ووعُورة الطريق، وقلة الظهر؛ فهي عسرة في كل شيء، فسرها جابر بأنها عسرة الظهر، وعسرة الزاد، وعسرة الماء[6].
وسُئل عمر - رضي الله عنه - عن شأن العسرة فقال: "خرجنا إلى تبوك في قيظ شديد، فنزلنا منزلاً أصابنا فيه عطش حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع، حتى إن كان الرجل ليذهب يلتمس الماء فلا يرجع حتى نظن أن رقبته ستنقطع، حتى إن الرجل لينحر بعيره، فيعصر فرثه فيشربه، ويجعل ما بقي على كبده"، فقال أبو بكر الصديق: "يا رسول الله، قد عوَّدك الله في الدعاء خيرًا فادع لنا"، فقال: ((أتحب ذلك؟)) قال: "نعم"، فرفع يديه - صلى الله عليه وسلم - فلم يرجعهما حتى أظلت سحابة، فسكبت فملؤوا ما معهم، ثم ذهبنا ننظر، فلم نجدها جاوزت العسكر"؛ رواه البزار، وصححه ابن حبان، والحاكم[7].(/4)
ويصف العسرة أبو سعيد أو أبو هريرة - رضي الله عنهما - فيقول: "كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك، فأصاب الناس مَجَاعة وقالوا: "يا رسول الله لو أذنت لنا فنحرنا نواضحنا فأكلنا وادَّهنا"، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((افعلوا))، فجاء عمر، وقال: "يا رسول الله، إنْ فعلوا قلّ الظهر، ولكن ادعهم بفضل أزوادهم، فادع الله عليها بالبركة لعل الله أن يجعل في ذلك البركة"، قال: ((نعم))، ثم دعا بنطع فبُسط، ثم دعا بفضل الأزواد، فجعل الرجل يجيء بكف ذرة، ويجيء الآخر بكف تمر، ويجيء الآخر بكسرة؛ حتى اجتمع على النطع من ذلك شيء يسير، قال أبو هريرة: "فحزرته فإذا هو قدر ربضة العنز، فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالبركة ثم قال: ((خذوا في أوعيتكم))، فأخذوا في أوعيتهم حتى والذي لا إله إلا هو ما بقي في العسكر وعاءٌ إلا ملؤوه، وأكل القوم حتى شبعوا، وفضلت فضلة فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، لا يلقى الله بهما عبدٌ غير شاك فيهما فيحجب عن الجنة))؛ أخرجه مسلم[8].
وقال الحسن البصري - رحمه الله تعالى - يصف العسرة: "كان العشرة من المسلمين يخرجون على بعير يتعقبونه بينهم، وكان زادهم التمر المتسوس، والشعير المتغير، والإهالة المنتنة، وكان النفر يخرجون ما معهم إلا التمرات بينهم، فإذا بلغ الجوع من أحدهم أخذ التمرة فلاكها حتى يجد طعمها، ثم يعطيها صاحبه حتى يشرب عليها جرعة من ماء كذلك، حتى تأتي على آخرهم فلا يبقى من التمرة إلا النواة، فمضوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - على صدقهم ويقينهم رضي الله عنهم"[9]، فكان جزاؤهم أن تاب الله - تعالى - عليهم؛ حيث لم تردهم العسرة التي أحاطت بهم من كل جانب عن الخروج في سبيل الله تعالى.(/5)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {لَقَدْ تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ العُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 117].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا طيبًا، مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، أَحْمَده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، ومن سار على نهجهم، واقتفى أثرهم إلى يوم الدين.
أما بعدُ: فلقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدرك حجم المشقَّة التي ستلحق به وأصحابه في غزوة العُسْرَة، فجلى للناس أمرهم، وأوضح وجهته. قال ابن إسحاق: "وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلما يخرج في غزوة إلا كنى عنها، وأخبر أنه يريد غير الوجه الذي يعمد له إلا ما كان من غزوة تبوك فإنه بينها للناس؛ لبعد الشقة، وشدة الزمان، وكثرة العدو"[10].
سار - عليه الصلاة والسلام - إلى تبُوك في رجب، وعاد في رمضان، واستغرقت الغزوة خمسين يومًا من العُسْرة والمَشَقَّة، ثلاثون يومًا منها مسير وطريق، وعشرون يومًا أقامها في تبوك، وجبن الروم عن المُنَازَلة، فضرب الجزية على بعض قرى النصارى، ثم عاد وقد هابت الروم وحلفاؤها من قبائل العرب قوة المسلمين[11].
لقد وطدت هذه الغزوة سُلْطان الإسلام في شمالي شبه الجزيرة العربية، ومَهَّدَتْ لفتوح الشام التي استعد لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإعداد جيش أُسامة قبيل وفاته، فأنفذه أبو بكر - رضي الله عنه - ثُمَّ أَتبعه بجيوش الفتح الأخرى التي ساحت في بلاد الشَّام والعِراق، وكانت بداية تحرير شُعوب تلك المناطق من عُبُودية القيصرية والكسروية[12].(/6)
وما كان هَذا الحديث عن تبوك إلا لبيان حجم المَشَقَّة؛ حتى سُمِّيَتِ الغزوة غزوة العُسْرة، وفي ذلك دفع للمؤمنين إلى سُبُل الطَّاعة، ولو كان فيها بعض مشقة، فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خير الخلق، وصحابته خير الأصحاب عانوا مشقة عظمى في سبيل الله - تعالى - وابتغاء مرضاته، فهل نعمل ما عملوا؟ ونستطيع ما استطاعوا؟ إنَّ واقع الحال ينفي ذلك، وإذا كان كثير مِنَ المُسْلِمين يتخلَّفون عن صلاة الجماعة، أو لا يُؤَدُّون الصَّلاة في وقتها مع أنَّ ما فيها من المشقة لا يساوي عُشْر مِعْشار مَشَقَّة تبوك، فكيف سيطيق المسلمون مشقة جهاد الأعداء، ومقارعة الباطل؟! وما ذلوا ولا انهزموا إلا لما تَثَاقَلُوا عنِ الطَّاعات، وخلدوا إلى الدَّعَة والرَّاحة.
حضر العسرة من حَضَر، وتخلَّف عنها من تخلَّف، وتحمل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المشقة، وذهبت وذهبوا، وبقي الأجر موفورًا للغازين، والوزر مكتوبًا على المُخَلَّفِينَ، إلا من تاب منهم، وهكذا يفعل الطاعة من يفعلها، ويتخلف عن الصلاة من يتخلف عنها، وسينسى صاحب الطَّاعة المشقة التي لحقته؛ كما سينسى المُقَصِّر فيها الراحة التي خلد إليها، وسيمضون، وسيبقى الأجر للمسارعين، والوزر على المخلفين، وكل سيجد ما عمل يوم الدين، والجنة حفت بالمكاره، وحفت النار بالشهوات.(/7)
وقصة العُسْرة تثبت أن الإيمان بالله - تعالى - يفوق كل قوة؛ فرغم قلة الزاد، وقلة الظهر، وبُعْد المسافة، وشدة الحر إلا أن الصحابة استطاعوا الوصول إلى تبوك، وحاصروا العدو، وجبن العدو المدجج بالأسلحة، والمُقيم على أرضه عن مُلاقاة أقوامٍ هم أقل منه عددًا، وأضعف عتادًا، وأشدّ جوعًا!! إنه إيمان المؤمنين، والرعب الذي قذفه الله في قلوب الكافرين، فما أحوج المسلمين إلى اليقين بأن الإيمان أقوى من كل قوة، ومن كان الله معه فلن يغلب من ضعف أو قلة: {وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 21].
وصلوا وسلموا على نبيكم؛ كما أمركم بذلك ربكم...
---
[1] انظر: "سيرة ابن هشام" (4/118)، و"فتح الباري" لابن حجر (7/714).
[2] كما في حديث أبي موسى الذي أخرجه البخاري في المغازي؛ باب غزوة تبوك وهي "غزوة العسرة" (4415)، ومسلم في الإيمان؛ باب ندب من حلف يمينًا فرأى غيرها خيرًا منها أن يأتي الذي هو خير ويكفر عن يمينه (1649).
[3] أخرجه ابن سعد في "الطبقات" من طريق الواقدي (4/370)، وعزاه الحافظ في "الفتح" لابن إسحاق في "السيرة" ولم أجده في المطبوع منها، ولم أعثر عليه في النسخة المطبوعة لدي من "سيرة ابن هشام" التي حققها الدكتور عمر تدمري إلا أنَّ ابن هشام نقل عن ابن إسحاق أنه عد علبة بن زيد في البكائين، وذكره السهيلي في "الروض الأنف" (7/365 ـ 366)، وابن القيم في "زاد المعاد" (3/528 ـ 529)، وابن كثير في "البداية" (5/5)، وقال الحافظ ابن حجر: "وقد ورد مسندًا موصولاً"، وعزاه لابن مردويه وابن منده والخطيب وغيرهم وصححه، انظر: "الإصابة" (7/43)، وصححه الألباني في تعليقه على "فقه السيرة" للغزالي (405).
[4] انظر: "سيرة ابن هشام" (4/119)، و"السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية" (617).(/8)
[5] أخرجه من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - أحمد (3/103)، وابن أبي شيبة (18856)، والبخاري في المغازي؛ باب (81) (4423)، وأبو داود في الجهاد؛ باب الرخصة في القعود من العذر (2508)، وابن ماجه في الجهاد؛ باب من حبسه العذر عن الجهاد (2764). وأخرجه من حديث جابر بن عبدالله - رضي الله عنهما - مسلم في الإمارة باب ثواب من حبسه عن الغزو مرض أو عذر آخر (1911).
[6] "الجامع لأحكام القرآن" القرطبي (8/177) عند تفسير الآية (117)، من سورة التوبة.
[7] أخرجه الطبري في "جامع البيان" (11/5)، والبزار في "البحر الزخار" (214)، وصححه ابن خزيمة (101)، وابن حبان (1283)، والحاكم وقال: على شرط الشيخين (1/159)، وأخرجه أبو نعيم في "دلائل النبوة" (456 ـ 457)، والبيهقي في "الكبرى" (9/357)، وفي "دلائل النبوة" (5/231) وجوّد إسناده ابن كثير في "السيرة" (4/16)، وقال الهيثمي: رواه البزار والطبراني في "الأوسط"، ورجال البزار ثقات، انظر: "مجمع الزوائد" (6/194 ـ 195).
[8] أخرجه مسلم في الإيمان؛ باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعًا (26).
[9] "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (8/177)، ونحوه عن مجاهد وقتادة؛ كما في "جامع البيان" للطبري (11/55) عند تفسير الآية (117) من سورة التوبة، ولقد جاء في تفسير القرطبي: "كانت العسرة من المسلمين يخرجون على بعير يتعقبونه بينهم... فلعله تصحف من: كان العشرة من المسلمين.. وعن عبدالله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب: أن الرجلين والثلاثة على بعير... عزاه السيوطي لابن أبي حاتم وأبي الشيخ والبيهقي في "الدلائل"، انظر: "الدر المنثور" (3/512).
[10] "سيرة ابن هشام" (4/118).
[11] انظر: "الرحيق المختوم" (436).
[12] "السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية" (638).(/9)
العنوان: غزوة تبوك (2)
الآيات والمعجزات
رقم المقالة: 1641
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
الحمد لله: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا} [الفتح: 28]، أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ أيَّدَ رسله بالمُعْجِزَات، وأنزل عليهم الآيات؛ دلالة على صدقهم، وبرهانًا على رسَالاتهم. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ أرسله الله بين يدي الساعة بشيرًا ونذيرًا؛ فبَلَّغَ الرِّسالة، وأَدَّى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حقَّ جهاده حتى أتاه اليقين، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه؛ أمضوا حياتهم في خدمة الإسلام، ونشر شريعته في الأرض؛ فرَكِبُوا البر والبحر، وجاوزوا السهل والوَعْر، منهم من مات في مركبه وسط لُجَّة البحر، ومنهم من قضى تحت أسوار العدو، ومنهم من عاش حينًا من الدهر: {مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب: 23] والتابعين، ومن تَبِعَهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بَعْدُ: فأوصيكم - أيها المؤمنون - ونفسي بتقوى الله - عَزَّ وجل - فنِعْم المنزلة مَنْ نالها، ويا لَسَعادة من حققها. هي النور والهُدى، وبها تُنال الدرجات العُلى، وبها تكون النجاة من نار تَلَظَّى.
أيها المؤمنون: حياة المسلمين وعزهم ورفعتهم تكون في الجهاد في سبيل الله – تعالى - به تُنَال العِزَّة، وتُحْفَظ الكرامة، وتُحْقَن الدماء، وتُصَان الأعراض، ويُهَاب الأعداء، فلا تقوم للكُفْر قائمة في أرض فيها جِهادٌ خالص لله تعالى.(/1)
الجهاد دليل قوة الإيمان، وصِحَّة اليقين، وصدق التوكل. يَبْذُل المُجَاهد ماله ودمه وجسده رخيصًا في سبيل الله – تعالى - يُكَابِد لأواء السفر، ومشقة السهر، وعنت الطريق، وكلب العدو، وكل هذا من أجل ماذا؟! إنه من أجل الإسلام، فهل إيمان يعدل هذا الإيمان، متى ما رُزِق المُجَاهد الإخلاص؟!
وإن من المغازي المشهورة بعُسْرتها وشدتها: غزوة تبوك التي سُمِّيَتْ غزوة العُسْرَة؛ إذ اجتمع على المسلمين فيها عُسْرة الظهر، وعسرة الزَّاد، وعُسْرة الماء، وعسرة الحر، وعسرة الطريق، وعسرة إيذاء المنافقين وإرجافهم؛ ولكن أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - احتملوا في سبيل الله - تعالى - كل أنواع العسرة.
إن المنافقين ما تركوا سبيلاً للتخذيل والإرجاف في هذه الغزاة إلا سلكوه، ولا عُذْرًا للتخلف عن الغزو إلا اختلقوه. وما كان الله - تعالى - ليتخلى عن نبيه - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه بين أنواع من العسرة، وبين شُكوك المُنافقين وأراجيفهم؛ فجعل الله - تعالى - له من الآيات والمُعْجِزات في هذه الغزاة ما ثبَّت إيمان المؤمنين، ودحر أراجيف المنافقين، وسلَّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى لو قيل: إن هذه الغزوة أكثر غزواته مُعْجزات، لما كان ذلك ببعيد.(/2)
قلَّت المراكب، وكلَّت الرواحل فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - ببركة الظهر فبارك الله - تعالى - في سيرها. قال فضالة بن عبيد - رضي الله عنه -: "غزونا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - غزوة تبوك فجهد الظهر جهدًا شديدًا، فشكوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما بظهرهم من الجهد، فتحين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مضيقًا سار الناس فيه وهو يقول: ((مرُّوا باسم الله)) فجعل ينفخ بظهورهم وهو يقول: ((اللهم احمل عليها في سبيلك؛ فإنك تحمل على القوي والضعيف، والرطب واليابس، في البر والبحر))، قال فضالة: فما بلغنا المدينة حتى جعلت تنازعنا أزمتها، فقلت: "هذه دعوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في القوي والضعيف فما بال الرطب واليابس!! فلما قدمنا الشام غزونا غزوة قبرس في البحر، فلما رأيت السفن وما يدخل فيها عرفت دعوة النبي صلى الله عليه وسلم"؛ أخرجه أحمد وصححه ابن حِبَّان[1].
إن تبوك كانت في شِدَّة حرِّ فصل الصيف؛ فاجتمع عليهم مع حَمَارةِ القيظ، ووهج الشمس؛ ندرة الماء، وشدة العطش، فشكوا ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستسقى لهم فسقاهم الله تعالى.
روى ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قيل لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: حَدِّثْنا عن شأن العُسْرَة، قال: "خرجنا إلى تبوك في قيظ شديد، فنزلنا منزلاً أصابنا فيه العطش حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع، حتى إن كان الرجل ليذهب يلتمس الماء فلا يرجع، حتى نظن أن رقبته ستنقطع، حتى إن الرجل لينحرُ بعيره فيعصر فرثه فيشربه، ويجعل ما بقي على كبده، فقال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -: "يا رسول الله، قد عوّدك الله في الدعاء خيرًا فادع"، قال: ((أتحب ذلك؟)) قال: "نعم"، قال: "فرفع يديه - صلى الله عليه وسلم - فلم يرجعهما حتى أظلت سحابة ثم سكبت، فملؤوا ما معهم، ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر"؛ صححه ابن حبان والحاكم، وقال ابن كثير: "إسناده جيد"[2].(/3)
لقد أصاب المُسْلِمين في تَبُوك مجاعة شديدة حتى همّوا بنحر ما يركبون؛ ليأكلوا، فدعا لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فبارك الله في طعامهم، قال أبو هريرة أو أبو سعيد - شك الأعمش – "لما كان يوم غزو تبوك أصاب الناس مجاعة في طعامهم، فقالوا: يا رسول الله، لو أذنت لنا فنحرنا نواضحنا فأكلنا وادَّهنَّا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((افعلوا))، فجاء عمر - رضي الله عنه - فقال: "يا رسول الله، إن فعلت قلّ الظهر، ولكن ادعهم بفضل أزوادهم، وادع الله لهم فيها بالبركة لعلَّ الله - عَزَّ وَجَلّ - يجعل في ذلك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((نعم)) فدعا بنطع فبسطه، ثم دعا بفضل أَزْوَادِهِمْ، قال: فجعل الرجل يجيء بكف ذرة، قال: ويجيء الآخر بكف تمر، قال: ويجيء الآخر بكسرة؛ حتى اجتمع على النطع من ذلك شيء يسير، قال: فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالبركة، ثم قال: ((خذوا في أوعيتكم)) قال: "فأخذوا في أوعيتهم، حتى ما تركوا في العسكر وعاءً إلا ملؤوه"، قال: "فأكلوا حتى شبعوا وفضلت فضلة"، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيحجب عن الجنة))؛ أخرجه مسلم[3].(/4)
وفي مُعْجِزَة أُخرى حاول أحد المنافقين أن يُشَكِّك في نُبُوَّتِه - صلى الله عليه وسلم - واستغل فرصة ضياع ناقة النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال هذا المنافق في ثلة من الصحابة: "أليس محمدٌ يزعم أنه نبي، ويخبركم عن خبر السماء، وهو لا يدري أين ناقته؟" وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جمعٍ من أصحابه لا يدري ما قال المنافق، فقال لأصحابه: ((إن رجلاً قال: هذا محمد يخبركم أنه نبي، ويزعم أنه يخبركم بأمر السماء وهو لا يدري أين ناقته، وإني والله ما أعلم إلا ما علمني الله، وقد دلني الله عليها، وهي في هذا الوادي في شعب كذا وكذا، قد حبستها شجرة بزمامها، فانطلقوا حتى تأتوني بها، فذهبوا فجاؤا بها))؛ أخرجه الطبري والبيهقي ورجاله ثقات[4].
وثبت في صحيح مسلم أنه - عليه الصلاة والسلام - أخبرهم عن عين في تبوك تبض بشيء من ماء، فغسل وجهه فيها، فجرت بماء كثير، فاستقى الناس[5]، وأخبرهم أيضًا بريح شديدة تهب عليهم، وأمرهم بعقل رواحلهم فهبت ريح شديدة؛ كما قال[6].
وكانت مُدَّة هذه الغزوة خمسين يومًا من العسرة والمشقة؛ ثلاثون يومًا منها قضاها في الطريق ذهابًا وإيابًا، وعشرون يومًا حاصر تبوك ثم عاد بلا قتال حيث جبن الروم عن القتال. خرج في رجب وعاد في رمضان سنة تسع للهِجْرة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {لَقَدْ تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ العُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 117].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
الخطبة الثانية(/5)
الحمد لله حمدًا كثيرًا مُباركًا فيه؛ كما يحب ربنا ويرضى، أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بَعْد: فإن أخبار مُعجزات النبي - صلى الله عليه وسلم - في تبوك كثيرة بالنسبة لغيرها من الغزوات، وذلك يتناسب مع حجم التحدي؛ فإن المنافقين كما هي عادتهم قد أجلبوا بخيلهم ورجلهم في بث الشكوك، واختلاق الأكاذيب؛ تكذيبًا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإرجافًا للمُؤْمنين؛ وإرضاءً لمن حارب الله ورسوله.
فإذا ما انضم إلى ذلك أنواع من العسرة والمشقة لحقت بالصحابة - رضي الله عنهم - فإن تكالب هذا عليهم قد يؤدي إلى الشعور باليأس والإحباط، واستبطاء نصر الله تعالى؛ ولربما وجدت مقالات المنافقين آذانًا صاغية، وما كان الله - تعالى - ليترك رسوله - صلى الله عليه وسلم - بل أيده بهذه المعجزات؛ ليحبط كيد المنافقين، ويفضح مكرهم، ويثبت قلوب المؤمنين على الحق؛ ولهذا كان في هذه الغزاة من المعجزات ما يتناسب مع حجم مشقتها، وحجم كيد المنافقين.
وما أشبه الليلة بالبارحة؛ فمنافقو هذا العصر يقومون بذات الدور الذي قام به أسلافهم من التشكيك في الإسلام، وبث الشائعات، وقذف الشبهات، والدعوة إلى غير دين الله. وليس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أظهر المسلمين؛ ليرد كيد المنافقين بما أيده الله - تعالى - به من مُعْجزات؛ ولكن المؤمنين عندهم كتاب الله تعالى أعظم معجزة، وأكبر آية، وسنه رسوله - صلى الله عليه وسلم - هما النجاة لمن تمسك بهديهما، وسار على دربهما، ولن تضره فتنة ما دام على ذلك.(/6)
ولكن الدَّيْمُومَة على ذلك عزيزة المنال، في ظل ما تموج به الفتن في هذه الأيام من أنواع الشبهات والشهوات؛ مما يزعزع إيمان ضعفاء القلوب؛ ولذا كان أجر المستمسك بدينه في هذه الأحوال يُعادل أجر خمسين من الصحابة - رضي الله عنهم - مع فضلهم، وقوة إيمانهم، كما ثبت ذلك في حديث أبي ثعلبة الخشني - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((فإن من ورائكم أيام الصبر، الصبر فيه مثل قبضٍ على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عمله)) قيل: "يا رسول الله، أجر خمسين منهم؟" قال: ((أجر خمسين منكم))؛ أخرجه الأربعة إلا النسائي[7].
وما ذاك إلا لشدة الابتلاء، وعظم الفتنة، وقلة النصير من البشر؛ فكان الأجر مناسبًا لعظيم الابتلاء.
فاتَّقُوا الله ربكم، واثبتوا على الحق مهما كثر الزَّائِغُون، وعلا صوت المنافقين؛ فإن بعد العسر يسرًا، وبعد الشدة فرجًا، ولن يخذل الله - تعالى - من أخلص له العبودية؛ بل سينصره ويؤيده: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ} [الرُّوم: 47]، {وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40].
ألا وصلوا وسلموا على نبيكم؛ كما أمركم بذلك ربكم.
---
[1] أخرجه أحمد (6/20)، والبزار (1840)، والطبراني في "الكبير" (18/317)، وصححه ابن حبَّان (4681).
[2] أخرجه الحاكم وصححه وقال: على شرطهما (1/159)، وصححه ابن حبان (1383)، وأخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" (9/357)، وفي "دلائل النبوة" (5/231)، والبزار (1841)، وعزّاه الهيثمي في "مجمع الزوائد" للبزار والطبراني في "الأوسط"، وقال: ورجال البزار ثقات (6/194)، وقال ابن كثير في "السيرة": "إسناده جيد ولم يخرجوه من هذا الوجه" (4/16).
[3] أخرجه أحمد (2/421)، ومسلم في الإيمان؛ باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعًا (27).(/7)
[4] "تاريخ الطبري" (3/145)، و"دلائل النبوة" للبيهقي (5/232)، و"سيرة ابن هشام" (2/523). و"الاكتفاء" لأبي الربيع الكلاعي الأندلسي (1/368)، و"أعلام النبوة" للماوردي (159)، و"زاد المعاد" (3/533)، و"السيرة الحلبية" (3/107)، و"الإصابة (2/619)، و"البداية والنهاية" (3/240).
[5] كما في حديث معاذ - رضي الله عنه - عند مسلم في الفضائل؛ باب في معجزاته –ج صلى الله عليه وسلم - (706).
[6] كما في حديث أبي حميد الساعدي عند البخاري في الزكاة باب خرص التمر (1481)، ومسلم في "الفضائل" باب في معجزاته (1392).
[7]أخرجه أبو داود في "الملاحم" باب الأمر والنهي (4341)، والترمذي في "التفسير" باب ومن سورة المائدة وحسنه (3058)، وابن ماجه في "الفتن" باب قوله – تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [المائدة: 105] (4014)، وصححه ابن حبان (385).(/8)
العنوان: غزوة تبوك (3)
أفعال المنافقين
رقم المقالة: 1642
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونَعُوذ بالله من شُرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يَهْدِه الله فلا مُضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70 – 71].
أما بَعْدُ: فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها المسلمون: كانت غَزْوة تبوك التي حدثت في رجب من السنة التاسعة من الهجرة فرقانًا بين الإيمان والنِّفَاق؛ إذ كثرت فيها أعمال المنافقين، وعظمت أقاويلهم، واتسعت أراجيفهم، وعقبها بأسابيع أنزل الله - تعالى - سورة كاملة في شأنها فضحت المنافقين، وكشف أفعالهم[1].(/1)
لقد كان المنافقون يعيشون بين الصحابة، وجلُّ الصحابة - رضي الله عنهم - لا يعرفونهم إلا من أسرَّ له النبي - صلى الله عليه وسلم – ببعضهم؛ كحذيفة بن اليمان - رضي الله عنهما - ولكن بعد تَبُوك، وعقب نزول سورة براءة عرف الصحابة كثيرًا منهم؛ إذ نصَّتِ السورة على أقوالهم وأفعالهم، فعُرِفَ أن أصحاب تلك الأقاويل والأفعال كانوا منافقين.
ولذا كان ابن عباس - رضي الله عنهما - يسميها الفاضحة؛ لأنها فضحت المنافقين، قال سعيد بن جُبَيْر: قلت لابن عباس: سورة التوبة، قال: "التوبة هي الفاضحة، ما زالت تنزل: {ومنهم} حتى ظنوا أنها لم تُبْقِ أحدًا منهم إلا ذكر فيها"؛ أخرجه البخاري[2].
وكان الحسن البصري - رحمه الله تعالى - يسميها الحافرة؛ كأنها حفرت عما في قلوب المنافقين من النفاق فأظهرته للمسلمين[3]، وسماها قتادة: المثيرة؛ لأنها أثارت عورات المنافقين وأظهرتها[4].
بدأ نفاقهم في هذه الغَزْوة قبل سير الجيش، فمنذ أن أعلن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه عازم على النفير إلى تبوك، وأمر المُسْلمين بالصدقة لتجهيز الجيش، جعل المنافقون يَلْمِزُون المُتَصَدِّقين. قال أبو مسعود البدري - رضي الله عنه -: "لما نزلت آية الصدقة كنا نحامل، فجاء رجل فتصدق بشيء كثير، فقالوا: مُرائي، وجاء رجل فتصدق بصاع فقالوا: إن الله لغني عن صاع هذا. فنزلت: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ المُطَّوِّعِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة: 79]، رواه البخاري ومسلم[5].(/2)
ولما أعلن النبي - صلى الله عليه وسلم - النفير بدأ المنافقون يعتذرون عن المسير معه؛ وذلك لتثبيط همم الناس، وإضعاف معنوياتهم: {وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الحَرِّ} [التوبة: 81]، فأنزل الله – تعالى -: {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} [التوبة: 81][6].
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - للجَدِّ بن قيس: ((يا جدُّ هل لك العام في جلاد بني الأصفر؟)) فقال: "يا رسول الله، أوتأذن لي ولا تفتني، فوالله لقد عرف قومي أنه ما من رجل بأشدَّ عجبًا بالنساء منّي، وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر أن لا أصبر"؛ فأعرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنه وقال: ((قد أذنت لك)) وفيه نزل قول الله – تعالى -: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالكَافِرِينَ} [التوبة: 49][7].
وتتابعت أعذارهم الكاذبة على النبي - صلى الله عليه وسلم - فكان يَأْذن لهم فعاتبه الله - تعالى - بقوله: {عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الكَاذِبِينَ} [التوبة: 43][8].
وقبيل مسير الجيش بنوا مسجد الضرار ليجتمعوا فيه؛ مكايدة للمؤمنين، وتفريقًا لاجتماعهم، وإرصادًا لمن حارب الله ورسوله، وطلبوا من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يصلي فيه فنهاه الله عن ذلك، ثم لما عاد من تبوك أحرقه[9].(/3)
وآذوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أصحابه، فقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - بالإقامة في أهله، وخلّفه عليهم فقال المنافقون: "ما خلّفه إلا استثقالاً له وتخففًا منه" فأخذ علي - رضي الله عنه - سلاحه، وخرج من المدينة حتى أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو نازل بالجرف، فأخبره بما قال المنافقون عنه، وقال: "يا رسول الله، تخلفني في النساء والصبيان"، فكذَّب النبي - صلى الله عليه وسلم - مقولة المنافقين، وقال لعلي - رضي الله عنه -: ((ولكني خلَّفتك لما تركت ورائي فارجع فاخلفني في أهلي وأهلك، أفلا ترضى يا علي أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي))[10].
سار جيش العُسْرَة إلى تَبُوك، وتخلف عن المسير من تخلف من المؤمنين وهم قِلَّة، وتخلف من المُنَافِقِين كثرة، وسار قومٌ من المنافقين مع الجيش؛ ليكملوا مهمتهم في الكيد والتآمر على المؤمنين، والتربص بهم، ولم يتوقفوا عن ذلك أو يخففوه؛ بل عظم شرهم، واستفحل خطرهم، حتى كانوا يوهنون عزائم المؤمنين، ويحطمون معنوياتهم بأقوالهم؛ إذ قال قائل منهم لجمع من الصحابة - رضي الله عنهم - وهم في الطريق إلى تبوك: "أتحسبون جلاد بني الأصفر؛ كقتال العرب بعضهم بعضًا، والله لكأنّا بكم مقرنين بالحبال". يقولون ذلك؛ إرجافًا وترهيبًا للمؤمنين[11].(/4)
وأخذوا يستهزئون بقراء الصحابة - رضي الله عنه - ففي مجمع لهم قال أحدهم: "ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونًا، ولا أكذب ألسنًا، ولا أجبن عند اللقاء" فقال رجل في المجلس: "كذبت، ولكنك منافق، لأخبرن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - ونزل القرآن، قال ابن عمر - رضي الله عنهما -: "فأنا رأيته متعلقًا بحقب ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تنكبه الحجارة وهو يقول: "يا رسول الله، إنما كنا نخوض ونلعب، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم – يقول: {أَبَاللهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ}[12]، وقد استدل العلماء بهذه الآية على أن اللعب والجد في إظهار كلمة الكفر سواء، ولا خلاف بين الأئمة في ذلك؛ كما نقله ابن الجوزي[13].
وأعظم من ذلك وأشدّ كفرًا أنهم حاولوا قتل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقام جماعة منهم - وهم ملثمون حتى لا يُعرفوا - بمحاولة تنفير دابة النبي - صلى الله عليه وسلم - لتطرحه من رأس عقبة في الطريق مع عتمة الليل، فعلم - عليه الصلاة والسلام - بكيدهم، وفطن لهم، وأمر بإبعادهم[14].
لقد كان شرهم في تبوك على المؤمنين مع شدة وعسرة، وحر شديد، ومفاوز بعيدة؛ لكن الله - تعالى - ثبت المؤمنين، وفضح المنافقين، ونُهي النبي - صلى الله عليه وسلم - بعدها عن الصلاة عليهم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ * وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} {التوبة: 84 - 85}.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم..
الخطبة الثانية(/5)
الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده وأشكره وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله الا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أمَّا بعد: فاتقوا الله عباد الله: {يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ} [الأنفال: 29].
أيها المؤمنون: كان المنافقون من أعظم الأعداء الذين ابتليت بهم الأمة المسلمة منذ عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى يومنا هذا؛ يدسون الدسائس، ويدبرون المؤامرات، ويبثون الشائعات، ويتحالفون مع العدو ضد المسلمين. ولعظيم خطرهم وشرهم صُدِّرت أطول سورة في القرآن ببيان جملة من صفاتهم ومكرهم: {يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة: 9 – 10].
إنهم أخطر من اليهود والنصارى والوثنيين؛ لأنهم يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ} [البقرة: 14].
كانوا على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - يخفون نفاقهم خوفًا من تنزل الآيات التي تفضحهم ففضحهم الله – تعالى - وأما بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن كثيرًا منهم أظهروا نفاقهم وأعلنوه.
ولهم في هذا العصر سمات يعرفون بها لا تخفى على أولي الألباب، إنهم يستهزئون بالله تعالى، وبالرِّسَالات، وبالقرآن، وبالصحابة، وبشعائر الإسلام الظاهرة، وبعباد الله الصالحين المتمسكين بالسنة.(/6)
إنهم فيما يكتبون يبدون إعجابهم برموز النَّصارى، وربما بِشَعائرهم، ويثنون على كل ما جاء من الغرب، ويعتبرونه رقيًّا وحضارة بخيره وشره، وحُلوه ومرِّه! لا يفرقون بين شيء من ذلك!! ويطالبون المسلمين بقبول الآخر وعدم كراهيته، وبإلغاء النصوص التي فيها كراهية الآخرين؛ كما يقولون.
إنهم يمدحون هذا الآخر - الذي هو الكافر - وغيروا اسمه من الكافر إلى الآخر؛ لاعتقادهم أن ما عنده من كفر قد يكون صحيحًا، وأنه لا يوجد حقيقة مطلقة كما يقولون، وأن عصر المعلومات حطم الأيدلوجيات، ويجعلون من ضمن الأيدلوجيات: الإسلام، أخزاهم الله وفضحهم.
وفي الوقت الذي يمدحون فيه الكفر وأهله يشنون فيما يقولون ويكتبون حربًا لا هوادة فيها على كل من دعا إلى الإسلام، أو طالب بتحكيم شريعة الله – تعالى - ويصفونه بأبشع الأوصاف التي تخوف العالمين منه، وياليتهم لما طالبوا المسلمين بقبول الآخر - الذي هو الكافر - قبلوا هم الصالحين من عباد الله – تعالى - وكفوا ألسنتهم وأقلامهم عن أذيتهم؛ ولكن كيف يفعلون ذلك وهم يفرحون بكل مصيبة تقع على المسلمين؟، ويشمتون بهم، ويغتمون لكل حسنة تصيبهم: {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا} [آل عمران: 120].
ألا فاتقوا الله ربكم، واحذروا النفاق والمنافقين، ولا يأمنن أحد على نفسه أن يكون فيه شيء من النفاق؛ فإن من أمن النفاق وقع فيه، ومن خافه سلم منه، وقد كان الصحابة يخافون على أنفسهم النفاق.
نعوذ بالله من النفاق وأحوال المنافقين، ونسأل الله - تعالى - أن يحفظ المسلمين من كيدهم وشرهم إنه سميع مجيب.
وصلوا على النبي المختار من ولد عدنان، محمد بن عبدالله؛ كما أمركم بذلك ربكم..
---(/7)
[1] هي سورة التوبة، واتفق المفسرون على أنها نزلت في السنة التاسعة لكن اختلفوا في الشهر، فقيل: "نزلت في أول شوال"، وقيل: "نزلت في آخر ذي القعدة"، والجمهور على أنها نزلت دفعة واحدة فتكون مثل سورة الأنعام بين السور الطوال، انظر: "التحرير والتنوير" لابن عاشور (1/97).
[2] أخرجه البخاري في التفسير؛ باب تفسير سورة الحشر (4882).
[3] "التحرير والتنوير" (10/96)، و"محاسن التأويل" (4/80).
[4] "التحرير والتنوير" (10/96) وعزاه القاسمي لابن أبي حاتم؛ كما في "محاسن التأويل" (4/80)، ولها أسماء كثيرة سوى المذكورة، عدَّ القاسمي منها أربعة عشر اسمًا: وعدّ بعضها ابن عاشور في "التحرير والتنوير".
[5] أخرجه البخاري في التفسير "سورة التوبة"؛ باب: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ المُطَّوَّعِينَ مِنَ المُؤْمِنينَ فِي الصَّدَقَاتِ} (4668)، ومسلم في الزكاة؛ باب الحمل بأجرة يتصدق بها، والنهي الشديد عن تنقيص المتصدق بقليل (1018).
[6] "سيرة ابن هشام" (4/216 ـ 217)، و"تفسير الطبري" (14/499-400)، و"الجامع لأحكام القرآن" (8/216)، و"تفسير ابن كثير" (2/564).
[7] "سيرة ابن هشام" (4/216 ـ 217)، و"تفسير الطبري" (14/287)، و"زاد المعاد" (3/526)، و"الاكتفاء" للكلاعي الأندلسي (2/271)، و"السيرة الحلبية" (3/103) عن ابن عباس وعن مجاهد وعن قتادة - رضي الله عنهم ورحمهم-
[8] قاله مجاهد - رحمه الله تعالى - ورواه عنه الطبري (14/273).
[9] "تفسير الطبري" (14/268).
[10] أخرج الحديث البخاري في المغازي؛ باب غزوة تبوك وهي: غزوة العسرة (4416)، ومسلم في فضائل الصحابة؛ باب فضل علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - (2404)، وليس في رواية الصحيحين ذكرمقولة المنافقين، وإنما هي في "سيرة ابن هشام" (3/519)، و"الثقات" لابن حبان (2/92).
[11] "سيرة ابن هشام" (2/524)، و"الاكتفاء" (2/277)، و"زاد المعاد" (3/536)، و"السيرة الحلبية" (3/102).(/8)
[12] "تفسير الطبري" (14/333)، و"الدر المنثور" للسيوطي (3/254)، و"الاكتفاء" (2/277)، و"زاد المعاد" (3/536).
[13] انظر: "زاد المسير" لابن الجوزي (3/464 - 465)، و"السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية" (633).
[14] "مسند الإمام أحمد" (5/453)، و"السنن الكبرى" للبيهقي (9/32) وقال الهيثمي عن إسناد أحمد: ورجاله رجال الصحيح. انظر: "مجمع الزوائد" (6/195).(/9)
العنوان: غزوة تبوك (4)
دعوة أهل الكتاب
رقم المقالة: 1643
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونَعُوذ بالله من شُرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضْلِلْ فلا هَادِيَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70 – 71].
أمَّا بعْدُ: فإنَّ أصْدَقَ الحديث كلامُ الله - تعالى - وخير الهدي هدْيُ مُحَمَّد - صلى الله عليه وسلم - وشرَّ الأُمُورِ مُحْدَثاتُها، وكُلَّ محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النَّار.(/1)
أيُّها الناس: أرسل اللهُ - تعالى - محمدًا - صلى الله عليه وسلم - إلى المكلفين كافَّة، إنْسهم وجِنّهم، عَرَبهم وعَجَمهم، قريبهم وبعيدهم؛ ليخرجهم من الظلمات إلى النور {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [سبأ: 28]، {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158]، وأنزل عليه القرآن مصدر هداية وتذكرة لجميع المكلفين: {إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ * لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ} [التَّكوير: 27 – 29].
وقد قضى الله - سبحانه - بأن يكون محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - خاتمَ المُرسلين، وشريعته خاتمة الشرائع، وهي باقيةٌ بحفظ الله - تعالى - لها إلى قيام الساعة؛ ولذلك أوجب الله - تعالى - عليه بلاغها للناس، ووجب على مَنْ بَلَغَتْه وآمن بها أن يبلغها من لم تبلغْهُ منَ النَّاس: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67].(/2)
فمن قَبِلَ الدعوة، ودخل في الإسلام صار أخًا للمسلمين، له ما لهم وعليه ما عليهم؛ عملاً بقول الله - تعالى -: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] ومَنْ رَفَضَ الدعوة، وأَبَى الدخول في الإسلام فله ما أراد؛ إذ: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256] بشرط أن يخضع لسُلْطَان المسلمين وحكمهم، وذلك بدفع الجزية للمسلمين: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِاليَوْمِ الآَخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29].
قال ابن كثير - رحمه الله تعالى -: "وهذه الآية الكريمة نزلت أول الأمر بقتال أهل الكتاب بعدما تمهدت أمور المشركين، ودخل الناس في دين الله أفواجًا، واستقامت جزيرة العرب، أمر اللهُ رسولَه بقتال أهل الكتابين اليهود والنصارى، وكان ذلك في سنة تسع؛ ولهذا تجهَّز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقتال الروم، ودعا الناس إلى ذلك، وأظْهَرَهُ لهم، وبعث إلى أحياء العرب حول المدينة فندبهم فأوعبوا معه، واجتمع من المقاتلة نحوٌ من ثلاثين ألفًا"[1].
كان هذا الاستنفار العَظيم سنة تسع للهجرة في شهر رجب، والوجهةُ كانت إلى تبوك؛ لإخضاع أهل الكتاب لحكم الإسلام؛ بإسلامهم، أو دفعهم الجزية، أو قتالهم على ذلك؛ ليكون الدينُ كله لله تعالى.(/3)
اجتمعت الجموع التي ما جمع في الإسلام قبلها مثلها، وحثَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - الناس على التبرُّع بالدَّوابّ والسلاح والطعام؛ لتجهيز هذا الجيش الكبير وتموينه، وقال - عليه الصلاة والسلام -: "من جهَّز جيش العسرة فله الجنَّة"، فجهزه عثمان بن عفان - رضي الله عنه -[2]، وجاء بألف دينار في ثوبه فصبها في حجر النبي - صلى الله عليه وسلم - فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يقلبها بيده ويقول: "ما ضرَّ ابنَ عفَّان ما عمِلَ بعد اليوم، يُرَدِّدُها مرارًا"[3].
لما تَمَّ تجهيز الجيش سار من المدينة إلى تبوك، وجَهِدَ الصحابة - رضي الله عنهم - جهدًا شديدًا في الطريق؛ لبُعْد المسافة، وشِدَّة الحر، وقِلَّة المؤونة والظهر؛ حتى سميت تلك الغزوة بغزوة العسرة. فلمَّا وصل الجيش إلى تبوك لم يجد جيشًا يواجهه؛ إذ جبن الروم وحلفاؤهم من العرب عن مُلاقاة المسلمين، فأقام النبي - صلى الله عليه وسلم - بتبوك عشرين ليلة[4]، أرسل فيها الرسل إلى مُلوك النصارى يدعوهم إلى الإسلام، ومن أبى فرض عليه الجزية، وأخضع بلاده لحكم المسلمين.(/4)
روى الإمام أحمد، وأبو يَعْلى من حديث سعيد بن أبي راشد قال: "لقيتُ التنوخي رسولَ هِرَقلَ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحمص، وكان جارًا لي شيخًا كبيرًا قد بلغ الفَنَد أو قرُب، فقلت: "ألا تخبرني عن رسالةِ هِرَقل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ورسالة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى هِرَقل؟" فقال: "بلى، قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تبوك، فبعث دحية الكلبي إلى هِرَقْل، فلمَّا أن جاءه كتابُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعا قسيسي الروم وبطارقتها، ثم أغلق عليه وعليهم بابًا، فقال: قد نزل هذا الرجلُ حيثُ رأيتم، وقد أرسل إليَّ يدعوني إلى ثلاث خصال؛ يدعوني إلى أن أتّبعه على دينه، أو على أن نعطيه ما لنا على أرضنا، والأرض أرضنا، أو نُلقي إليه الحرب. والله لقد عرفتم فيما تقرؤون من الكتب ليأخذن ما تحت قدميّ، فهلم نتَّبعه على دينه، أو نعطيه ما لنا على أرضنا، فنخروا نخرةَ رجلٍ واحد حتى خرجوا من برانسهم، وقالوا: تدعونا إلى أن ندع النصرانية أو نكون عبيدًا لأعرابي جاء من الحجاز!".
فلما ظن أنهم إن خرجوا من عنده أفسدوا عليه الروم رفَّأهم ولم يكد - أي هدأهم - وقال: إنما قلت ذلك؛ لأعلم صلابتَكُم على أمركم، ثم دعا رجلاً من عرب تُجيب كان على نصارى العرب، فقال: ادع لي رجلاً حافظًا للحديث، عربي اللسان، أبعثه إلى هذا الرجل بجوابِ كتابه، فجاء بي فدفع إليَّ هرقلُ كتابًا فقال: اذهب بكتابي إلى هذا الرجل، فما ضيَّعت من حديثه فاحفظ لي منه ثلاث خصال: انظر هل يذكرُ صحيفته التي كتب إليَّ بشيء، وانظر إذا قرأ كتابي فهل يذكر الليل، وانظر في ظهره هل به شيء يريبك؟(/5)
فانطلقت بكتابه حتى جئت تبوك، فإذا هو جالس بين ظهراني أصحابه، محتبيًا على الماء، فقلت: أين صاحبكم؟ قيل: ها هو ذا، فأقبلت أمشي حتى جلست بين يديه فناولته كتابي، فوضعه في حجره، ثم قال: ممن أنت؟ فقلت: أنا أحد تنوخ، قال: هل لك في الإسلام الحنيفية ملة إبراهيم؟ قلت: إني رسول قوم، وعلى دين قوم لا أرجع عنه حتى أرجع إليهم. فضحِك، وقال: إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين. يا أخا تنوخ، إني كتبتُ بكتابٍ إلى كسرى فمزَّقه، واللهُ ممزّقُه وممزّق ملكه، وكتبتُ إلى النَّجاشي بصحيفةٍ فخرَّقها، والله مخرّقه ومخرق ملكه - وهذا النجاشي غير النجاشي الذي أسلم ومات وصلى عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وكتبتُ إلى صاحبِكَ بصحيفةٍ فَأَمْسَكَها، فلن يزال الناسُ يجدون منه بأسًا ما دام في العيش خير، قلت: هذه إحدى الثلاثة التي أوصاني بها صاحبي، وأخذتُ سهمًا من جعبتي، فكتبتها في جلد سيفي.
ثم إنَّه ناول الصحيفة رجلاً عن يساره، قلت: من صاحب كتابكم الذي يقرأ لكم؟ قال: معاوية. فإذا في كتاب صاحبي: تدعوني إلى جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين، فأين النار؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((سبحان الله! أين الليل إذا جاء النهار؟)) قال: فأخذت سهمًا من جعبتي فكتبته في جلد سيفي، فلما أن فرغ من قراءة كتابي قال: إن لك حقًّا، وإنكَ رسول فلو وجدتُ عندنا جائزة جوزناك بها، وإنَّا سَفْرٌ مُرْمِلُون. قال: فناداه رجل من طائفة الناس، قال: أنا أُجوِّزُه، ففتح رحله فإذا هو يأتي بحلةٍ صفوريةٍ، فوضعها في حجْري، قلت: من صاحب الجائزة؟ قيل لي: عثمان.(/6)
ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أيكم يُنزِل هذا الرجل؟ قال فتى من الأنصار: أنا، فقام الأنصاري وقُمْتُ معه حتى إذا خرجت من طائفة المجلس ناداني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: تعال يا أخا تنوخ، فأقبلت أهوي إليه حتى كنت قائمًا في مجلسي الذي كنت بين يديه، فحلَّ حَبْوَتَه عن ظهره، وقال: هاهنا أمض لما أمرت له، فجُلتُ في ظهره، فإذا أنا بخاتم في موضع غضون الكتف مثل الحَجْمة الضخمة))[5]، وذلك هو خاتم النبوة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا} [الفتح: 28].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ مُحمَّدًا عبدُه ورسولُه صلَّى اللَّهُ وسلَّم وبارك عليه وعلى آله، وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعْدُ: فاتقوا الله - عباد الله - كما أَمَرَ، واجتنبوا الفواحش ما بطن منها وما ظَهَرَ، واعلموا أنَّ الله مع المتقين.(/7)
أيها الناس: ماثلت غزوةُ تبوك غزوةَ الخندق في شدتها وعسرها، وما حاق بالصحابة - رضي الله عنهم - من ابتلاءاتها، كما كانت نهايةُ الغزوتين واحدة؛ إذ كفى الله - تعالى - المؤمنين القتال، فسلَّط على الأحزاب ريحًا رحلتهم عن المدينة، وقذف في قلوب النصارى رعبًا قعد بهم عن ملاقاة المسلمين في تبوك، وكانت تبوكُ نصرًا عظيمًا للإسلام والمسلمين؛ إذ أَخْضَع النبي - صلى الله عليه وسلم - كثيرًا من القبائل والبلدان المُتحالِفَة مع الرومان لِسُلْطانِ المسلمين، وضرب عليهم الجزية، فبعث خالد بن الوليد إلى أكيدر بن عبدالملك صاحبِ دومة الجندل، فأسره خالدٌ وأتى به النبي - صلى الله عليه وسلم - في تبوك، فحقن له دمه، وصالحه على الجزية[6]، وأهدى أكيدر حلة من حرير إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فعجب الناس منها، فقال - عليه الصلاة والسلام -: ((أتعجبون من هذا، فوالذي نفسي بيده لمناديلُ سعد بن معاذ في الجنة أحسنُ من هذا))؛ رواه الشيخان[7].
وأرسل ملك أيلة هَدية إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وصالحه على الجزية[8]. وهكذا فعل أهل جرباء وأذْرح فأعطوه الجزية[9].
وهكذا دانت كثير من البلاد والقبائل المتنصرة لسلطان الإسلام، ودخل كثير من أفرادها في دين الله - تعالى - فوطَّدَت هذه الغزوة سلطان الإسلام في شمالي الجزيرة العربية، ومهدت لفتوح الشام التي استعدَّ لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإعداد جيش أسامة قبيل وفاته، فأنفذه أبو بكر - رضي الله عنه - ثم أتبعه أبو بكر بجيوش الفتح الأخرى، ثم عمر - رضي الله عنه - حتى كُسر الرومان في معركة اليرموك، والفرس في القادسية، وعزَّ الإسلام، وانتشر في الأرض، وتحرَّر الناسُ من ظلم الأكاسرة والقياصرة.(/8)
إن ما جرى في غزوة تبوك من مبادأة أهل الكتاب بالغزو لَمِمَّا يرد شبهة أولئك الكتَّاب المعاصرين الذين أرادوا تزوير مفهوم الجهاد في سبيل الله - تعالى - وحصره في الدفع فقط. وهدفُهم من هذا الترويج هو: إخضاعُ الإسلام لبنود الحضارة المعاصرة، وتطويعه للقوانين الدولية الجائرة، فما وجدوا سبيلاً لرضى أهل الكتاب عنهم إلا بالتلاعب بأحكام الله - تعالى - من تزوير مفهوم الجهاد، وتضييق نطاقه، وإلغاء أحكام أهل الذمة، حتى كتب أحدهم كتابه: "مواطنون لا ذِمّيون"[10]، بل وصل الحال ببعضهم إلى إلغاء حدِّ الردة، وبالغ بعضهم فرفض كلَّ الحدود بحجة عدم مناسبتها لهذا العصر.
إن هؤلاء المزورين للدين، المتلاعبين بأحكام الشريعة قد ارتضوا أن يُسخطوا الله - تعالى - برضى الناس، فهم حريون بسخط الله - تعالى - عليهم، وأن يسخط عليهم الناس، وما رأينا من حاولوا إرضاءهم قَدْ رَضُوا عنهم ولا عن دينهم، ولا عن أفكارهم التي فيها من بنود الحضارة المعاصرة أكثر مما فيها من الإسلام، بل سخطوا عليهم ورفضوهم ولم يقبلوهم.
أليست القوى الظالمة قد اعتبرت مقاومة المحتل المعتدي إرهابًا؛ لأنهم يريدون من الضحية أن يذبح ولا يعترض، وأن يُعذبَ فلا يتوجع.
ولن يرضيهم شيء حتى يبدلوا ديننا، وصدق الله القائل: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ اليَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120].
ألا فاتقوا الله ربكم، واستمسكوا بدينكم، واثبتوا عليه مهما كانت التبعات؛ فإن حوض النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يَرِدهُ من بدلوا وغيروا، ولسوف يحجبون عنه، ويقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((سُحقًا سُحقًا لِمَنْ بَدَّل بعدي))[11].
وصلوا وسلموا على نبيكم محمد، كما أمركم بذلك ربكم.
---
[1] "تفسير ابن كثير" (2/542)، عند تفسير الآية (29) من سورة التوبة.(/9)
[2] أخرجه البخاري معلقًا مجزومًا به في الوصايا؛ باب: "إذا وقف أرضًا أو بئرًا..." (2778)، ووصله الدارقطني (4/199)، والإسماعيلي؛ كما ذكر الحافظ في "الفتح" (5/477)، وأخرجه أحمد في "المسند" (1/70)، وفي "فضائل الصحابة" (730)، والطاليسي (2/170)، والبيهقي (6/167) وغيرهم.
[3] أخرجه أحمد (5/63)، والترمذي في "المناقب" باب: "مناقب عثمان بن عفان"، وحسنه (3701)، وأبو نُعَيْم في "الحلية" (1/95)، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي (3/102).
[4] أخرجه أحمد (3/295)، وأبو داود في الصلاة باب: "إذا أقام بأرض العدو يقصر" (1235)، وعبد الرزاق في "مصنفه" (4335)، والبيهقي في "الكبرى" (3/152)، وصححه ابن حبان (2738) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
[5] أخرجه أحمد (3/441 ـ 442)، وابنه عبدالله في "الزوائد" (4/74 ـ 75)، والبيهقي في "الدلائل" (1/266)، وأخرجه مختصرًا أبو عبيد في "الأموال" (625)، وابن زنجويه في "الأموال" (961)، وعزاه الهيثمي في "الزوائد" لأبي يعلى، وقال: ورجال أبي يعلى ثقات (8/234 ـ 236)، وقال ابن كثير في "البداية والنهاية": "هذا حديث غريب، وإسناده لا بأس به تفرد به الإمام أحمد (5/15 ـ 16).
[6] "سيرة ابن هشام" (4/232)، و"الإصابة" (1/413).
[7] أخرجه البخاري في بدء الخلق؛ باب: "ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة" (3248)، ومسلم في "فضائل الصحابة" باب: "من فضائل سعد بن معاذ - رضي الله عنه - (2469)، والترمذي في اللباس باب: "مس الحرير من غير لبس" (1723)، وأحمد (3/111) من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - وجاء أيضًا من حديث البراء - رضي الله عنه - عند البخاري في مناقب الأنصار؛ باب: "مناقب سعد بن معاذ - رضي الله عنه –" (3802)، ومسلم في فضائل الصحابة باب: "من فضائل سعد بن معاذ - رضي الله عنه –" (2468).(/10)
[8] أخرجه البخاري في الجزية والموادعة باب إذا وادع الإمام ملك قرية هل يكون ذلك لبقيتهم (1361)، ونقل الحافظ في "الفتح" عن ابن إسحاق قوله: "لما انتهى النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى تبوك أتاه بحنة بن رؤبة صاحب أيلة فصالحه وأعطاه الجزية..." (6/308).
[9] "سيرة ابن هشام" (3/230).
[10] هو الكاتب الصحفي فهمي هويدي، هداه الله تعالى.
[11] كما جاء في حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عند البخاري في الرقاق باب: "في الحوض" (6584)، ومسلم في الفضائل باب إثبات حوض نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - وصفاته (2991).(/11)
العنوان: غزوة خيبر
رقم المقالة: 647
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق فأظهره على الباطل أيده الله بنصره وبالمؤمنين فكانوا متآلفين متحابين مجتمعين يجاهدون في سبيل الله لا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الحليم الكريم وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله عليه أفضل الصلاة والتسليم.(/1)
أما بعد أيها الناس: اتقوا الله تعالى، عباد الله لم يزل اليهود في عداء الإسلام متمردين يريدون القضاء عليه وعلى أهله حسداً وبغياً واعتداء والله لا يحب المعتدين فلقد كانت لهم مواقف عدائية مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يعرفها من قرأ سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وتاريخ حياته كانوا من أعظم الناس تهييجاً للأحزاب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولكن الدائرة ولله الحمد تكون عليهم في جميع مواقفهم مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي شهر المحرم من السنة السابعة أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتجهز لغزوهم في خيبر وكانت خيبر حصوناً لهم زراعية ثمانية حصون أو خمسة تبعد عن المدينة نحو مئة ميل من الشمال الغربي فحاصر النبي - صلى الله عليه وسلم - أول حصن من حصونهم فمكث عليه ستة أيام لم يصنع شيئاً وفي الليلة السابعة ظفر عمر بن الخطاب رضي الله عنه بيهودي خارج من الحصن فأتى به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما أدركه الرعب قال إن أمنتموني أدلكم على أمر فيه نجاحكم فقال إن أهل هذا الحصن أدركهم التعب والملل وهم يبعثون بأولادهم إلى الحصن الذي وراءه وسيخرجون لقتالكم غداً فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - ((لأعطين الراية غدا رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله يفتح الله علي يديه)) فلما أصبح سأل عن علي بن أبي طالب فقيل إنه يشتكي عينيه فدعا به فبصق في عينيه فشفاهما الله في الحال كأن لم يكن به وجع فأعطاه الراية فحمل المسلمون على اليهود حتى فتح الحصن ومازال المسلمون يفتحونها حصناً حصناً حتى أتم الله فتحها ولله الحمد وأذل اليهود ونصر المسلمين عليهم وغنموا منهم مغانم كثيرة وملكوا أرضهم ولكنهم طلبوا من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يبقوا فيها يعمرونها ويزرعونها على النصف فأقرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال نقركم ما شئنا فلما كان زمن عمر أجلاهم عمر رضي الله عنه إلى تيما(/2)
وأريحا وكان من أسباب إجلاء عمر إياهم أنهم حرضوا عبداً على قتل أحد الأنصار وكان قد بات بخبير وأنهم فدعوا يدي عبد الله بن عمر ورجليه ثم إن المسلمين استغنوا عن بقائهم بخيبر وكان الشرط الذي بينهم وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - أنا نقرهم ما شئنا فلما حصل منهم العدوان واستغنى عنهم المسلمون أجلاهم عمر سنة عشرين من الهجرة إلى تيما وأريحا. وفي هذه الغزوة ((أهدت امرأة يهودية إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شاة مسمومة فأكل منها هو وبعض أصحابه لكنه صلى الله عليه وسلم مضغها ولم يسغها ولفظها ثم دعا بالمرأة فقال ما حملك على ذلك قالت أردت إن كنت تريد الملك أن نستريح منك وإن كنت نبياً فستخبر بها)) قال أنس فما زلت أعرفها في لهوات النبي - صلى الله عليه وسلم - ((وقالت عائشة رضي الله عنها كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في مرضه الذي مات فيه: يا عائشة ما زلت أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر)) فهذا تاريخ اليهود مع الإسلام وأهله قاتلهم الله وأذلهم وقلبهم على أعقابهم خائبين إنه جواد كريم قال الله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:109].
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.(/3)
العنوان: غزوة مؤتة: أحداث ودروس
رقم المقالة: 1595
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعُوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهْدِه الله فلا مُضِلّ له، ومن يُضْلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70 - 71].
أما بعْدُ: فإنَّ خيرَ الكلام كلام الله - تعالى - وخيرَ الهَدْيِ هَدْيُ مُحمَّد - صلَّى اللَّه عليه وسلم - وشرَّ الأمور محدثاتُها، وكلَّ مُحدثةٍ بِدْعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الناس: تحتاج أمة الإسلام في حال ضعفها واستكانتها، وتسلطِ أعدائها، وعجز أبنائها؛ من أجل إيقاظها وإحيائها إلى الموعظةِ والتذكير، ومراجعة حساباتها، والرجوع إلى ربها، والاستمساك بدينها، فهي أمةٌ لا تحيا ولا تقوى إلا بالإسلام؛ فإذا أعرضت عنه عاشت في الدنية والدون.(/1)
ومما يسهم في إحيائها، ويعين على نهوضها: مدارسةُ تاريخها، والتذكيرُ بأمجادها وأيَّامها، والوقوف على سير أبطالها ورجالاتها، لا اكتفاءً بذكر الأمجاد السالفة، ولا تغنِّيًا بأيامها الخوالي، ولكنه وقوفُ تأملٍ وتدبر، يقود إلى المتابعةِ والاقتفاء، والسعي الجاد إلى الصلاح والإصلاح، ونشر الخير بين الناس، حتى تنهض أمَّةُ الإسلام، ويقوى أبناؤها؛ فتكون شريعةُ الله - تعالى - حاكمة بين العباد.
وهذا حديث عن غزوة مؤتة التي عيّن النبي - صلى الله عليه وسلم - لها قادة ثلاثة، يعقب أحدهم الآخر إذا استشهد، والتي كانت أول معركة للمسلمين مع النصارى، فخرجت تلك الغزوة عن المعهود؛ إذ كانت حروب المسلمين قبلها مع العرب واليهود.
يُذكر في سبب هذه الغزوة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث بكتاب إلى ملك بُصْرى، مع الحارث بن عمير الأزدي، فلمَّا نزل مؤتة عرض له شرحبيلُ بن عمرو الغسَّاني فقتله صبْرًا - وكانت الرسلُ لا تُقْتَل - فغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مِنْ قَتْل رسوله، فأرسل إلى مؤتة ثلاثة آلاف من المسلمين في جمادى الأولى من السنة الثامنة من الهجرة النبوية[1]، وأمَّر عليهم زيد بن حارثة ثم قال: "إن قُتل زيدٌ فجعفر، وإن قُتل جعفرٌ فعبدالله بن رواحة"؛ أخرجه البُخَارِي[2].(/2)
فمضى الجيش حتى نزلوا مَعَان من أرض الشام، وكانت أخبارُ هذا الجيش قد وصلتْ إلى الروم، فجهزوا لملاقاتِه مِئَة ألف، وانضم إليهم مئة ألف أخرى من نصارى العرب، فكانوا مائتي ألف كافر، مُقابِلَ ثلاثة آلاف من المسلمين، فالمقارنة بينهما ضرب من ضروب الخيال، والدخولُ في القتال مجازفة أيُّ مجازفة، مِمّا جعل المسلمين - فيما يُروى - يترددون في ملاقاة عدوهم، ويقيمون ليلتين يفكرون في أمرهم، فقالوا: "نكتب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنُخْبِرُه بعدد عدوّنا، فإمَّا أن يمدَّنا بالرجال، وإمَّا أن يأمرنا بأمره فنمضي له، لكنَّ ابْنَ رواحة قطع تفكيرهم، وشجَّع الناس على المُضِيّ في القتال قائلاً: "يا قوم، والله إنَّ الَّتي تكرهون للتي خرجتم تطلبون؛ الشهادة، وما نقاتلُ الناس بعددٍ ولا قوةٍ ولا كثرةٍ، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلِقوا فإنَّما هي إحدى الحسنيين: إما ظهور، وإما شهادة"، فقال الناس: "قد - والله - صدق ابن رواحة"[3].
فمضوا حتى إذا كانوا بتخوم البلقاء لقيتهم جموعُ هرقلٍ من الروم والعرب، فانحاز المسلمون إلى مؤتة، وعبأوا أنفسهم فيها، ثم التحم الفريقان·(/3)
وغريبٌ جدًّا أن ينازل المسلمون عدوهم وهو يزيد عليهم بما يقارب سبعين ضعفًا، إن المقاييس والحسابات ترفض ذلك، لكن تحطَّمتِ المقاييس، وألغيت الحسابات؛ فالمقاتلون هنا ليسوا كسائر المقاتلين، بل هم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - امتلأتْ قلوبُهم إيمانًا ويقينًا، وعلموا أن ما عند الله - تعالى - حق، فلم يُحْجِموا ويعتذروا بكثرة عدوّهم وقِلَّتهم، وقوته وضعفهم؛ بل قاتلوا قتالاً مريرًا، وعانقوا المنايا، وخاضُوا حِمام الموت؛ حتى استُشْهِدَ قائِدُهم زَيْد - رضي الله عنه - فأخذ الراية القائد الذي يليه جعفر بن أبي طالب - رضي الله عنه - فعقر فرسه الشقراء[4]، وقاتل بالراية فقطعت يمينه، فأمسك الراية بشماله، فقطعت شماله، فاحتضن الراية بعضديه حتى استشهد وهو ابنُ ثلاث وثلاثين سنة[5]، ولقد أبدله الله - تعالى - عن يديه جناحين يطير بهما في الجنة؛ كما ثبت في الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[6] وقيل: "إنه ظل محتضنًا الراية حتى قُطِع جسده نصفين[7]، فلِلَّه درُّه ما أثبته، قال ابن عمر - رضي الله عنهما -: "ووجدنا ما في جسده بضعًا وتسعين من طعنةٍ ورميةٍ"[8]. وعلى رغم استشهاده لم تَسْقُطِ الراية بل أخذها القائد الثالث عبدالله بن رواحة فقاتل حتى استشهد.(/4)
فمضى الثلاثة الذين عيَّنهم النبي - صلى الله عليه وسلم - قادة للجيش، فأخذ الرايةَ ثابتُ بنُ أقْرَم وصاح: "يا معشر المسلمين، اصطلحوا على رجل منكم، قالوا: أنت، قال: ما أنا بفاعل، فاصطلح الناس على خالد بن الوليد"[9]، وثابت بن أقرم - رضي الله عنه - أبى القيادة لا هروبًا من المنية، أو خوفًا من العدو، ولكنه أحس بوجود من هو أكفأ منه، كيف وقد حمل الراية خشية أن تسقط، وصاح في المسلمين أن يعينوا قائدًا والحرب تدور رحاها، إنَّ ذلك لمن آيات الشجاعة والجُرْأَة في هذا الموقف العصيب، وكم هو جميل أن يصيح الناس به ليكون قائدهم فيأبى استصغارًا لنفسه، وهو يرى وجود من هو أولى بالقيادة منه!!
وهذا درس عظيم من هذا الصحابي الجليل - رضي الله عنه - في معرفة أقدار الرجال، وإنزالهم منازلهم التي يستحقّونها؛ حتى لا نكلّف أمَّتنا أن تحمل عجزنا وأثرتنا[10].
لقد اصطلح الناس على خالد بن الوليد، وخالد لها، شجاعة وإقدامًا، وخبرة بأمور الحرب وسياستها، فأخذ الراية، وقاتل قتالاً مريرًا حتى تكسَّرت في يده تِسْعَةُ أسياف من شدة القتال، لا شلت يمينه، روى البخاري عن خالد - رضي الله عنه - أنه قال: "لقدِ انقطعت في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف فما بقي في يدي إلا صفيحة يمانية"[11].
وكان خالد يُقاتل وهو يحتال للخلوص بالجيش من هذا المأزق المتضايق، وقتال الانسحاب شاقٌّ ومُرْهِق، لا سيَّما وخالدٌ لا يريد إشعار الروم بالحفاظ على الجيش وسحبه.
ودخل الليل على المتحاربين فتوقَّف القتال، فأعاد خالد تنظيم قواته القليلة، فجعل مقدمته ساقته، وساقته مقدمته، وميمنته ميسرته، وميسرته ميمنته؛ فأنكر الأعداء ما كانوا يعرفون من رايات وهيئات المسلمين وقالوا: "قد جاءهم مدد، فرعبوا"[12]، وكان هدف خالد مناوشتهم، وإلحاق الخسائر بهم، دونَ إدخال المسلمين في حرب عامة معهم تكون خطرًا عليهم.(/5)
واكتفى بذلك، ثم آثر الانصراف بمن معه، وكان من معجزات النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أخبَرَ أصحابَهُ في المدينة بخبر الجيش. روى أنس بن مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نعى زيدًا وجعفرًا وابنَ رواحة للناس قبل أن يأتِيَهُمْ خبرُهم فقال: ((أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذها جعفر فأصيب، ثم أخذها ابن رواحة فأصيب - وعيناه - صلَّى الله عليه وسلم - تذرفان - حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله حتى فتح الله عليهم))؛ رواه البخاري[13].
وعلى الرغم من ضراوة هذه المعركة، وكثرة أعداد جيش العدو؛ فإنه لم يستشهد من المسلمين سوى اثْنَيْ عشر رجلاً فقط، أمَّا العدُوّ فلم يعرف عدد قتلاهم، غير أنَّ وصف المعركة يدل على كثرتهم، وما انكسرت تسعة أسياف في يد خالد - رضي الله عنه – عبثًا[14].
ولقد كان لشهداء مؤتة مكانة عظيمة عند الله - تعالى - لذا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما يسرني - أو قال ما يسرهم - أنهم عندنا))؛ أخرجه البخاري[15].
أمّا أُسَرهم ففي كفالة الله - تعالى - وهو نعم المولى ونعم النصير. عن عبدالله بن جعفر - رضي الله عنهما - قال: "جاءنا النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ثلاثٍ من موت جعفر فقال: ((لا تبكوا على أخي بعد اليوم، وادعوا لي بني أخي))، قال عبدالله: "فجيء بنا كأننا أفراخ، فقال: ادعوا لي الحلاق، فجيء بالحلاّق، فحلق رؤوسنا، ثم قال - عليه الصلاة والسلام - مداعبًا: ((أمَّا مُحمَّد فشبيه عمنا أبي طالب، وأما عبدالله فشبيه خَلْقي وخُلُقي))، قال عبدالله: "ثم أخذ بيدي فأشالها" وقال: ((اللهم اخلفْ جعفرًا في أهله، وبارك لعبدالله في صفقة يمينه)). قالها ثلاثًا، قال عبدالله: "فجاءت أمّنا فذكرت له يُتمنا، وجعلت تفْرحُ له"، فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((العيلة تخافين عليهم وأنا وليّهم في الدنيا والآخرة؟!))؛ أخرجه أحمد بسند صحيح[16].(/6)
ولما جاء نعي جعفر قال النبي - عليه الصلاة والسلام -: ((اصنعوا لآل جعفر طعامًا فقد أتاهم أمر يشغلهم أو أتاهم ما يشغلهم))؛ أخرجه أحمد والترمذي، وقال: حسن صحيح[17].
اللهمَّ ارْضَ عن شهداء مؤتة، وعنِ الصحابة أجمعين، واحْشُرْنَا في زُمْرَتِهم يا رب العالمين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب: 23].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم..
الخطبة الثانية
الحمد لله؛ كتب النصر والفلاح للمؤمنين، وجعل الصغار والذُّل على الكافرين، أحمده وأشكره، وأتوبُ إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين ولو كرِهَ الكافرون. وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله؛ إمامُ المرسلين، وقائدُ الغُرّ المحجَّلين، والشافعُ المشفعُ يوم الدين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، ومن سار على نهجهم واقتفى أثرهم.
أما بعد: فاتَّقوا الله - عباد الله - لعلكم تفلحون: {وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَائِزُونَ} [النور: 52].
أيها الإخوة المؤمنون: كانت غزوة مؤتة مليئةً بالدروس، حافلةً بالبطولات، تعطي البرهان على أن الإيمان إذا استقرَّ في القلوب، وعمل عمله فيها؛ قاد النفوس إلى استقبال المنايا، وتمني الموت؛ ابتغاء رضوان الله - تعالى - وهكذا سقط القادة الثلاثةُ في مؤتة الواحد منهم تلو الآخر، ولم يكن همهم أنفسهم والرماحُ والسيوفُ قد خالطت أجسادهم، بل همُّهم الإسلام، فلم تسقط رايته من أيديهم رغم ما لاقوه من ألم القتل والتمزيق.(/7)
إن طبيعة البشر عدمُ الاهتمام عند الموت إلا بالموت وسكراته، لكن أولئك القادة نسوا ما هم فيه، وقضى كل واحد منهم نحبه وقلبُه مع الإسلام، إن هذه النماذج من البشر إذا وجدت في الأمة تحقق لها النصر بإذن الله تعالى.
أيها الإخوة: إن مجاهدي غزوة مؤتة برهنوا برهانًا واضحًا على أن حروب المسلمين مع عدوهم لاتحسم بكثرة العدد، أو قوة العتاد؛ بل الفيصلُ فيها قوةُ الإيمان، وصدقُ التوكل على الله - تعالى - والإخلاصُ في طلب الشهادة. وتلك سنَّةٌ أبدية، وهي مفسرة لأسباب هزائم المسلمين المتتابعة متى ما ضعف الإيمان، أو تخلّف التوكل والإخلاص؛ كما هو حادث في أزمنة الضعف والانحطاط حتى ولو كان المسلمون أعدادًا كثيرة، فهم بدون إيمان ويقين وإخلاص وتوكل غثاءٌ؛ كغثاء السيل.
أيها الإخوة: إن كل مسلم في الأرض مسؤول عن الأمة ماذا قدم لها؟ هل حافظ على فرائض الله - تعالى - حتى لا يتخلف النصر بسببه؟ هل أدى الأمانة فيما استرعاه الله - تعالى - عليه من أهله وذريته، وفي عمله ووظيفته؛ لكيلا يتخلف نصر الله - تعالى - بسببه؟! هل سعى في الإصلاح على قدر استطاعته وجهده؟ هل أمر بالمعروف ونهى عن المنكر، وأخذ على يد السفيه، وعلم الجاهل؛ حتى يتحقق النصر؟!
إن مشكلتنا - أيها الإخوة - أن كل واحد منا يتنصل من مسؤولياته، ويلقي باللائمة على غيره، بينما في غزوة مؤتة لم تسقط الراية حتى بعد مقتل القادة الثلاثة، وأحس كل فرد من أفراد الجيش المسلم أن الراية لو سقطت فإنه المسؤول عنها دون غيره، إننا نحتاج إلى هذا الشعور بالمسؤولية؛ حتى يأتيَ نصر الله تعالى.
فاتقوا الله ربكم، واستمسكوا بدينكم، فلا نصر إلا بالاستمساك بالإسلام، والأخذ به قولاً وعملاً، وتقديم حق الله - تعالى - على أهواء النفوس وشهواتها.
ثم صلوا وسلموا على نبيكم؛ كما أمركم بذلك ربكم...
---
[1] انظر: "طبقات ابن سعد" (2/128)، و"سيرة ابن هشام" (5/22)، و"البداية والنهاية" (4/241).(/8)
[2] أخرجه من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - البخاري في المغازي؛ باب غزوة مؤتة من أرض الشام (4261)، وأخرجه من حديث أبي قتادة الأنصاري - رضي الله عنه - أحمد (5/299-300).
[3] "سيرة ابن هشام" (5/24) و"تاريخ الطبري" (2/150)، و"البداية والنهاية" (4/223)، و"السيرة الحلبية" (2/787)، و"زاد المعاد" (3/382).
[4] جاء هذا في حديث عباد بن عبدالله بن الزبير عن أبيه من الرضاعة، وهو من بني مرة بن عوف، وقد حضر الغزوة، وشهد فعل جعفر - رضي الله عنه-. أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (6/540) برقم (33672)، وأبو داود وقال عقب ذكره: "هذا الحديث ليس بالقوي" (2573)، والبيهقي (9/87)، والطبراني في "الكبير" (2/106) برقم (1492)، وحسنه الحافظ في "الفتح" (7/584)، وانظر كلام الخطابي عن حكم عقر الفرس في خطبة سيرة جعفر بن أبي طالب - رضي الله عنه -ج (4) ص(52) من هذه المجموعة.
[5] انظر: "الدرر" لابن عبدالبر (210)، و"زاد المعاد" (3/382)، و"السيرة الحلبية" (2/788).
[6] جاء ذلك في أحاديث عدة، منها:
أ ) حديث أبي هريرة - رضي الله عنه – قال: قال رسول الله - صلى الله عايه وسلم -: "رأيت جعفرًا يطير في الجنة مع الملائكة" أخرجه أبو يعلى (4935)، والترمذي وقال: هذا حديث غريب (3763)، وصححه ابن حبان (4047)، والحاكم وقال على شرط مسلم ووافقه الذهبي (3/212).
ب) حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عايه وسلم -: "رأيت جعفر بن أبي طالب في الجنة ذا جناحين يطير حيث شاء"؛ أخرجه الطبراني في "الكبير" (11/396) برقم (12112).
جـ) ما جاء عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: "أنه كان إذا حيّا ابن جعفر قال: ((السلام عليك يا ابن ذي الجناحين))؛ أخرجه البخاري (4264)، والحاكم (3/44).
والأحاديث في ذلك كثيرة، وقد ذكر كثيرًا منها الحافظ في "الفتح" في مناقب جعفر بن أبي طالب - رضي الله عنه –وحسنها.(/9)
[7] انظر: "وسيلة الإسلام" لأبي العباس أحمد بن أحمد الخطيب (108).
[8] أخرجه البخاري في المغازي باب غزوة مؤتة من أرض الشام (4261)، وجاء في حديث آخر عن نافع أن ابن عمر - رضي الله عنهما - أخبره أنه: "وقف على جعفر يومئذ وهو قتيل، فعددت به خمسين بين طعنة وضربة ليس منها شيء في دبره؛ يعني في ظهره" أخرجه البخاري (4260)، وهذا تعارض من راوٍ واحد هو ابن عمر - رضي الله عنهما - وللجمع بين الحديثين أوجه عدة منها:
الأول: أن العدد قد لا يكون له مفهوم.
الثاني: أن الزيادة باعتبار ما وجد فيه من رمي السهام؛ فإن ذلك لم يذكر في هذه الرواية؛ بل ذكر: "طعنة وضربة" والحديث الآخر قال فيه: "طعنة ورمية".
الثالث: أن رواية الخمسين مقيدة بكونها ليس فيها شيء في ظهره، ورواية التسعين يكون الزائد على الخمسين في ظهره أو جنبيه، ولا يستلزم ذلك أنه ولى الدبر فقد تكون السهام أتته من ظهره وجنبيه.
ويؤيد الوجه الأول رواية العمري عن نافع: "فوجدنا ذلك فيما أقبل من جسده" بعد أن ذكر العدد بضعًا وتسعين.
ووقع في رواية البيهقي في "الدلائل": "بضعًا وتسعين، أو بضعًا وسبعين"، وأشار إلى أن بضعًا وتسعين أثبت. انظر: "فتح الباري" (7/585).
[9] أخرجه ابن إسحاق عن عروة مرسلاً؛ كما في "فتح الباري" لابن حجر (7/584)، وأخرجه الطبري في تاريخه عن ابن إسحاق عن يحيى بن عباد بن عبدالله ابن الزبير عن أبيه من الرضاعة، وهو من بني مرة بن عوف وكان في الغزوة (2/151)، وابن كثير في "البداية والنهاية" (4/244-245)، وانظر: "سيرة ابن هشام" (5/30)، و"الثقات" لابن حبان (2/33)، و"الدرر" لابن عبدالبر (210)، و"زاد المعاد" (3/383)، و"السيرة الحلبية" (2/788).
[10] انظر: "فقه السيرة" للغزالي (367-368).(/10)
[11] أخرجه البخاري في المغازي باب غزوة مؤتة من أرض الشام (4265)، وابن المبارك في الجهاد (218)، وابن أبي شيبة في "مصنفه" (19443)، وأحمد في "فضائل الصحابة" (1475-1481)، والخرائطي في "مكارم الأخلاق" (175).
[12] "البداية والنهاية" (4/247).
[13] أخرجه البخاري في المغازي باب غزوة مؤتة (4262)، والنسائي في الجنائز باب النعي (4/26)، والطبراني في "الكبير" (2/105) (1460).
[14] اختلف أهل السير في نتائج هذه السرية هل كانت نصرًا للمسلمين أم كانت هزيمة عليهم على أقوال ثلاثة:
القول الأول: أنها كانت هزيمة على المسلمين؛ وهذا اختيارُ ابن سعد في "الطبقات" (2/98) إذ قال - رحمه الله تعالى -: "فاصطلح الناس على خالد بن الوليد فأخذ اللواء، وانكشف الناس فكانت الهزيمة، فتبعهم المشركون، فقتل من قتل من المسلمين". ولعلَّ هذا القول مبنيّ على ما حصل للقادة الثلاثة - رضي الله عنهم - إذ يبعد أن يقتل ثلاثةُ قادة متتابعين في معركة واحدة دون أن يكون هناك هزيمة! وجواب ذلك: أن القادة الثلاثة كانوا من فرط شجاعتهم، وحبّهم للشهادة في مقدمة الجيش، فكان بدء الرمي والضرب عليهم، أو أن الروم قصدوا الراية؛ لأنها عنوان النصر والهزيمة، فتساقط القادة الثلاثة تحتها؛ حماية لها.
القول الثاني: لم يكن هناك نصر ولا هزيمة بلِ انحازت كل طائفة عن الطائفة الأخرى؛ كما روى ابن هشام عن ابن إسحاق: "فاصطلح الناس على خالد بن الوليد فلما أخذ الراية دافع القوم، وخاشى بهم، ثم انحاز وانحيز عنه؛ حتى انصرف بالناس" انظر: "سيرة ابن هشام" (4/19).
وقال ابن إسحاق في موضع آخر (4/23): "وقد قال فيما كان من أمر الناس وأمر خالد، ومخاشاته بالناس، وانصرافه بهم قيس بن المسحر اليعمري يعتذر مما صنع يومئذ وصنع الناس:
فَوَاَللّهِ لَا تَنْفَكّ نَفْسِي تَلُومُنِي عَلَى مَوْقِفِي وَالْخَيْلُ قَابِعَةٌ قُبْلُ(/11)
وَقَفْتُ بِهَا لَا مُسْتَجِيرًا فَنَافِذًا وَلَا مَانِعًا مَنْ كَانَ حُمّ لَهُ الْقَتْلُ
عَلَى أَنّنِي آسَيْتُ نَفْسِي بِخَالِدِ أَلا خَالِدٌ فِي الْقَوْمِ لَيْسَ لَهُ مِثْلُ
وَجَاشَتْ إلَيّ النّفْسُ مِنْ نَحْوِ جَعْفَرٍ بِمُؤْتَة إذْ لَا يَنْفَعُ النّابِلَ النّبْلُ
وَضَمّ إلَيْنَا حَجْزَتَيْهِمْ كِلَيْهِمَا مُهَاجِرَةٌ لَا مُشْرِكُونَ وَلَا عُزْلُ
فبين قيس ما اختلف فيه الناس من ذلك في شعره: أنَّ القوم حاجزوا وكرهوا الموت، وحقق انحياز خالد بمن معه» اهـ. وانظر: "تاريخ الطبري" (3/42)، و"الاكتفاء" للكلاعي (2/283)، وقوله: "مخاشاته بالناس" معناه: أنه - رضي الله عنه - خشي على المسلمين لقلة عددهم وكثرة عدوهم، وقيل: الصواب "حاشى بهم. بالحاء المهملة، ومعناه: انحاز بهم، انظر: "الروض الأنف" (4/81).
وقد أيد قول ابن إسحاق هذا بأنهم انحازوا ابن القيم في "زاد المعاد" (3/383)، فقال: "والصحيح ما ذكره ابن إسحاق أن كل فئة انحازت عن الأخرى" اهـ.(/12)
القول الثالث: أن غزوة مؤتة كانت نصرًا عظيمًا للمسلمين؛ كما هو قول موسى بن عقبة والزهري ومن وافقهما؛ فقد نقل ابن هشام في "السيرة" (4/23) عن الزهري قوله: "أمّر المسلمون عليهم خالد بن الوليد ففتح الله عليهم". وقال الحافظ في "الفتح" (7/586): "وقع في المغازي لموسى بن عقبة - وهي أصح المغازي - ما نصه: ثم أخذه - يعني اللواء - عبدالله بن رواحة فقتل، ثم اصطلح المسلمون على خالد بن الوليد فهزم الله العدو وأظهر المسلمين" اهـ. ونصر هذا القول ابن كثير في "البداية والنهاية" فقال: "هذا عظيم جدًّا أن يتقاتل جيشان متعاديان في الدين، أحدهما وهو الفئة التي تقاتل في سبيل الله عدتها ثلاثة آلاف، وأخرى كافرة وعدتها مئتا ألف مقاتل: من الروم مئة ألف، ومن نصارى العرب مئة ألف، يتبارزون ويتصاولون، ثم مع هذا كله لا يقتل من المسلمين إلا اثنا عشر رجلاً، وقد قتل من المشركين خلق كثير، هذا خالد وحده يقول: "لقد اندقت في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف فما بقي في يدي إلا صفيحة يمانية"، فماذا ترى قد قتل بهذه الأسياف كلها، دع غيره من الأبطال الشجعان من حملة القرآن، وقد تحكَّموا في عبدة الصلبان عليهم لعائن الرحمن في ذلك الزمان وفي كل أوان، وهذا مما يدخل في قوله - تعالى -: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آَيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} [آل عمران: 13] اهـ. من "البداية والنهاية" (4/259).
والذي يظهر رجحانه القول الثالث لما يلي:(/13)
حديث أنس - رضي الله عنه - وفيه أن النبي - صلى الله عايه وسلم - قال: ((حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله حتى فتح الله عليهم))؛ أخرجه البخاري، وانظر تخريجه في هامش (13) فسماه النبي - صلى الله عايه وسلم - فتحًا، والفتح لا يكون إلا عن انتصار.
ما جاء في مغازي أبي الأسود عن عروة بن الزبير - رضي الله عنهما - قال: "فحمل خالد على الروم فهزمهم"؛ ذكره الحافظ في "الفتح" (7/586).
أن رجلاً من المسلمين من أهل اليمن قد قتل فارسًا من الروم، وسلبه سرجًا وسلاحًا مذهبين؛ كما في حديث عوف بن مالك الأشجعي - رضي الله عنه - عند أحمد (6/26-28)، ومسلم (1753)، وأبي داود (2719)، ولا شك في أن السلب غنيمة، والغنيمة تكون عن ظفر بالمعركة.
أنه لم يقتل من المسلمين بإجماع أهل السير والمغازي - فيما وقفت عليه من كتبهم - سوى اثني عشر رجلاً سماهم ابن هشام في "سيرته" (4/27-28)، والهزيمة لا يكون ضحاياها هذا العدد الضئيل؛ بل كثير من المعارك التي انتصر فيها المسلمون انتصارًا ساحقًا كان عدد قتلاها أكثر من هذا العدد.
الظاهر من حال المعركة أن المسلمين أثخنوا في الروم، ولا يعلم كم كانت خسائر الروم، لكن سياق المعركة يدل على أنها خسائر فادحة، ويتبين ذلك من وجهين:
الأول: أن خالدًا - رضي الله عنه - اندقت في يده تسعة أسياف، وهذا عدد كبير في معركة واحدة، ويدل على إثخانه في العدو سوى غيره من أبطال المسلمين وشجعانهم؛ كما هو قول ابن كثير - رحمه الله تعالى -.(/14)
الثاني: أن المسلمين استطاعوا الانسحاب من أرض المعركة بسلام، ولولا أن القتل كان كثيرًا في الروم - حتى إنهم كفوا عن المسلمين - لما انسحبوا ولركبوا ظهور المسلمين قتلاً وأسرًا، وأطبقوا عليهم من كل جانب، خاصة وأنهم يزيدون على المسلمين بما يقارب سبعين ضعفًا، وهذا عدد كبير جدًّا - بل لا يكاد يصدق لولا إجماع أهل السير عليه - وما منعهم من ذلك إلا ما رأوه من القتل في قومهم، فتهيبوا من المسلمين فلم يطاردوهم، وكأنهم فرحوا بانحيازهم عنهم. وهذا الانحياز، والخلوص من هذه الجموع العظيمة من الروم بخسائر قليلة من أبين الدلائل على أنه نصر عظيم، وفتح مبين؛ ولذلك اعتبره بعض المحققين علامة على "الفتح" والنصر؛ كما قال الدكتور أكرم العمري في "السيرة النبوية الصحيحة" (2/469): "«ويعتبر هذا الانسحاب المنظم الناجح فتحًا عظيمًا حيث تمكَّن خالد من إنقاذ جيشه بخسائر طفيفة مع الإثخان في الروم، وإصابتهم بقتلى وجرحى، ولا شك أن استبسال المسلمين في القتال، وشجاعتهم النادرة، وحرصهم على الشهادة، بالإضافة إلى عبقرية خالد العسكرية هو الذي مكنهم بعون الله - تعالى - من الخلاص من المأزق" اهـ.
[15] أخرجه من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -البخاري في الجهاد والسير باب تمني الشهادة (2798)، وأحمد (3/113).
[16] أخرجه أحمد (1/204-205)، وابن سعد في "الطبقات" (4/3-37)، والنسائي في "الكبرى" (8604)، والطبراني في "الكبير" (2/105) برقم (1461)، وابن عبدالبر في "التمهيد" (22/139) وأخرجه مختصرًا أبو داود في الترجل باب في حلق الرأس (4192)، والنسائي في الزينة باب حلق رؤوس الصبيان (8/128)، وصححه الشيخ أحمد شاكر في "شرحه على المسند" (1750)، وانظر "شرح كلمة (تفرح له) في خطبة سيرة جعفر - رضي الله عنه - ج(4) ص(54) من هذه المجموعة.(/15)
[17] أخرجه أحمد (1/205)، وإسحاق بن راهويه في "مسنده" (10)، وأبو يعلى في "مسنده" (6801)، وعبدالرزاق في "مصنفه" (6665)، وأبو داود في الجنائز باب صنعة الطعام لأهل الميت (3132)، والترمذي في الجنائز باب ما جاء في الطعام يصنع لأهل الميت (998)، وابن ماجه في الجنائز باب ما جاء في الطعام يبعث إلى أهل الميت (1610)، والدارقطني (11). وقد جاء من حديث عبدالله ابن جعفر - رضي الله عنهما - ومن حديث أسماء بنت عميس - رضي الله عنها - وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي (1/372)، وصححه الشيخ أحمد شاكر في "شرحه على المسند" (1751).(/16)
العنوان: فِئاتُ الحَدَاثِيِّين في الأدب العربيِّ المعاصر
رقم المقالة: 1413
صاحب المقالة: د. وليد قصّاب
-----------------------------------------
لعلماء الأصول عبارةٌ هامَّةٌ رفيعةُ الشَّأن، وهي قولُهُمْ: "الحُكْمُ على الشَّيءِ فَرْعٌ عن تَصَوُّرِهِ". وهي عبارةٌ تَعْنِي -في أقلِّ ما تَعنيه- الدَّعوةَ إلى التَّثَبُّت والموْضوعيَّة. وما أكثرَ ما تتجافى كثيرٌ من الأقوال والآراء عن رُوح هذه العبارة؛ فنجدُ الأحكامَ المُرْتَجَلَة، والرَّأي الفَطِير!.
إنَّ ممَّا يُؤْسَفُ له أنَّ كثيراً ممَّن يتكلَّمونَ عنِ الحَدَاثَة أو يكتُبونَ -مؤيِّدِين أو معارضِين- لا يعرفون حقيقتَها، وهم لم يكلِّفوا أنفسَهم -وقد تبنَّوْا قضيَّتَها- أن يتصوَّروها، ثم يحكموا عليها؛ احتراماً لأنفُسهم أولاً، وللعِلْم ثانياً. وإنَّكَ عندئذٍ لمحترِمٌ رأيَهم فيها، سواءٌ أكان متَّفِقاً مع ما ترى أم مختلِفاً معه؛ إذ سيَجْمعُ بينكَ وبينهَمُ الكلامُ على قضيةٍ معروفةٍ متصوَّرَةِ الأطرافِ لدى كِلا الفريقَيْن، ولكنْ لكلِّ واحدٍ منهما وجهةُ نظرٍ خاصَّةٍ فيها.
وثَمَّةَ فرقٌ كبيرٌ -في هذا السِّياقِ- بين الكلامِ على الواقع والكلامِ على المِثال، بين الكلامِ على الحَدَاثَة من واقعٍ لها مُعَايَنٍ محسوسٍ يجبَهُنا ليلاً ونهاراً، ترسُمُه ريشةُ أشخاصٍ عَدَّهمْ أهلُ الحَدَاثَة عندنا قادَتَها وزعماءَها وأصحابَ الرَّأي فيها؛ وبين الحَدَاثَة المِثاليَّة المُتَخَيَّلَة التي أريدُها أنا أو أنتَ.
إنَّ واقعَ الحَدَاثَة -كما ترسُمُها ريشةُ الكُبَراء الذين لا يُذكَر هذا المصطلَح إلا اقترنَ بهمْ واقترنوا به- لا يستطيعُ أحدٌ أن يجادِل فيه؛ وإلا دُمِغَ بعشراتِ النَّماذج من أقوال هؤلاء الكُبَراءِ، وهي جميعاً تُفَنِّدُ ما يقولُ وتُبْطِلُه.(/1)
واقعُ الحَدَاثَة كما يُقدِّمُها لنا من نُصِّبوا زعماءَ لها -وإنَّكَ لمُدَانٌ جَهولٌ إذا لم تحتجَّ بهمْ إذا تحدَّثتَ عنها- واقعُ الحَدَاثَة عند هؤلاء القومِ يقولُ بملءِ الفَمِ: إنها قضيةٌ (أَيْدُيُولُوجِيَّة) أكثرَ منها قضيةً أدبيةً أو نقديَّةً، ولاستكمال التَّصوُّر حتى يأتي الحُكْمُ -كما في عبارة الأصوليِّين التي صَدَّرْنَا بها هذا الكلامَ- نقولُ -كما بيَّنا في المقالات التي نشرناها على صفحات هذا الموقع:
إنَّ هذه (الأَيْدُيُولوجْيا) الجديدةَ، أو (الرُّؤيةَ) الجديدةَ -كما يحلو لبعض الحَدَاثِيِّينَ أن يسمِّيها- ينبغي أن تكون (رؤيةً) عِلْمانيَّةً ماديَّةً؛ بل إلحاديَّةً، تتنكَّرُ للعقائد والأديان، ولكلِّ تراثٍ لا يكسِرُ الأعرافَ والعقائدَ والأديانَ، ويمرُّ على جثَّتِها!!
فئاتُ الحَدَاثِيِّينَ:
على أنَّ الإنصاف يقتضي أن نبيِّنَ أنَّ الحَدَاثِيِّينَ، في فِكْرنا العربيِّ المعاصرِ، وفي أدبنا العربيِّ المعاصرِ؛ ليسوا سواءً، وهُمْ من مَنازِعَ ومَشارِبَ مختلفةٍ، ومن أذواقٍ ونوايا متباينةٍ.
وقد يُمْكِنُ -في عُجالةٍ لا تَنْقُصُها الموْضوعيَّةُ- أن نَرصدَ أربعَ فئاتٍ؛ هي:
1- فئةٌ تتحدَّثُ عن الحَدَاثَة كما تَنْشُدُها، أو كما تريدُها وتتصوَّرُها، ولكنَّها لا تتحدَّثُ عن واقع الحَدَاثَةِ الملموسِ، المطروحِ في كتابات رموزها وكُبَرائها، وفي تنظِيرِهمْ لها، أو إبداعِهمْ فيها.
وعلى يَدَي هذه الطَّائفةِ يُخْلَطُ -كما ذَكَرْنَا قبلَ قليلٍ- بين الواقع والمِثال، بين الموجود والمأمول، ومِن ثَمَّ فأنتَ واجدٌ في هذه الطَّائفةِ مَنْ يُدافِعُ عن الحَدَاثَة أو يتحمَّسُ لها، ويتَّهِمُكَ بالتَّعَصُّب والرَّجعيَّة إنْ تنكَّرْتَ لها؛ لأنَّه لم يتصوَّرْها على حقيقتِها؛ بل تصوَّرها كما يرى.(/2)
كما أنَّكَ واجدٌ من بين هذه الطَّائفةِ مَنْ يتحدَّثُ عن حَدَاثَةٍ راشدةٍ، بعيدةٍ عن الغُلُوِّ والشَّطَط، وعن الهَجَانَة والزَّنْدَقَة، وعن التَّجْديف والشَّكِّ والإلحاد.
ولكنَّه -في هذا الحديث- لا يعبِّر عن حقيقة الحَدَاثَةِ السائدةِ المهيمِنةِ الباسِطةِ الجَناحَ على الأدبِ العربيِّ المعاصرِ؛ بل يعبِّرُ عن حَدَاثَةٍ راشدةٍ موجودةٍ في هذا الأدبِ، ولكنها حَدَاثَةٌ مغيَّبةٌ غيرُ ذائعةٍ ولا مشهورةٍ، ولا تملِكُ مِنْبَراً إعلاميّاً قويّاً، كما أنَّ مَنْ يتعاطَوْنَها ليسوا في دائرة الضَّوْء، ولا يملِكون من التَّأثير والنُّفوذ ما يملِكُهُ أصحابُ الحَدَاثَةِ الأخرى؛ فهي التي صوَّرْنَاها في المقالات السابقة، وليسوا همُ "الحَدَاثِيِّينَ" الرموزَ عندما تُذْكَرِ الحَدَاثَة؛ بل ليسوا هُمُ المقصودينَ بهذا المصطلَحِ الغائمِ أصلاً!.
تلك إذاً طائفةٌ أُولى من الحَدَاثِيِّين، تتكلَّمُ على حَدَاثَةٍ منشودةٍ مأمولةٍ، ولكنَّها لا تُمثِّلُ حقيقةَ الحَدَاثَة السَّائدة الغلاَّبة المشهورة!!.
وبين هؤلاء حَدَاثِيُّونَ راشدونَ؛ تحدَّثوا عن حَدَاثَةٍ أصيلةٍ سديدةٍ، يؤمَّل إنشاؤها أو ترسيخُ أقدامها.
ولكنَّ المتأمِّلَ في نزعة الحَدَاثَة الهَجِينة، التي بَسَطَتْ سيطرتَها على أدبنا العربيِّ المعاصرِ منذ منتصَف هذا القرنِ أو قبلَه بزمنٍ قصير؛ لَيستطيع أن يميِّزَ من دُعاتها والمروِّجينَ لها الفئاتِ الثلاثَ الأخرى، وهم:
2- فئةٌ تَبَنَّتِ الفكرَ الغربيَّ، وانْبَهَرتْ بحَدَاثَتِهِ، ووجدَتهُ في الآخَر، في ظِلَّ هَيْمَنَتِه وسيطرته وتفوُّقه (التِّكْنولوجيّ)، وضَعْفِ الحَصانة الدِّينية، وخَوَرِ الذَّات، والانْبِهَار الأعمى بالجديد! وَجَدَتْ فيه المثالَ الأرفعَ؛ فقلَّدتْ حَدَاثَتَهُ.(/3)
والحَدَاثَةُ الغربيَّةُ -وهؤلاء ناسخونَ لها- هي سَلِيلَةُ الفكر الماديِّ العِلْمانيِّ، الذي لا يؤمِن بأديانٍ ولا قِيَمٍ ثابتةٍ؛ لأنَّه انعكاسٌ لحالة الضَّياعِ النَّفسيِّ والقلقِ الفكريِّ التي عاشها الإنسانُ الغربيُّ في أعقاب حربَيْن طاحنتَيْن، أَوْدَتا بالملايين، وزَعْزَعَتا الإيمانَ بأيَّةِ قيمةٍ.
وقد مضى هؤلاء الحَدَاثِيُّونَ المُسْتَغْرِبونَ -غير مُكْتَرِثينَ بعقيدة الأمَّة وثوابتِها الفكريَّة- يحاكونَ النَّموذجَ الغربيَّ، ويَترسَّمونَ مراسمَ حَدَاثَة الآخر، وكأنَّهم نسخةٌ منه. هذا على افتراض حُسْنِ الظنِّ بهؤلاء القومِ، وأنَّ ما صَدَرَ عنهم من اجتهاداتٍ ظالمةٍ في حقِّ تراثِهمْ وفكرِ أمتِّهمْ؛ ما هو إلا اجتهاداتُ مُنْبَهِرٍ بفِكْرٍ هَجِينٍ، وهو مهزوزُ الثِّقةِ بهُويَّتِهِ الحضاريَّةِ.
وهذه الفئةُ من الحَدَاثِيينَ -ممثَّلةً في كُبَرائهم، ممَّن لهم منابرُ إعلاميةٌ جهيرةٌ- يَدْرُونَ ما يصنعونَ، وعلى وعْيٍ تامٍّ بما هُمْ ساعونَ إليه. ولهؤلاء مواهبُ وقُدُراتٌ ثقافيةٌ لا شكَّ فيها، ولكنَّهم -في رأينا- (عُمْلِقوا) كثيراً، وأُسْبِغَ عليهِم من الألقاب والمسمَّيات الرَّنَّانة ما لم يَحْظَ بعُشْرِه أصحابُ الصوت الآخر، الذين لهم إمكاناتٌ وقدراتٌ لا تقلُّ عن هؤلاء.
3- وفئةٌ أخرى من الحَدَاثِيِّينَ تربَّوْا على أيدي السَّابقين، وبَهَرَهُمُ الضَّجيجُ الإعلاميُّ، وبريقُ الشُّهرة -اللَّذانِ أُسْبِغا عليهم وعلى اتِّجَاهِهِمُ الحداثيِّ- وما رُميَ به الاتجاهُ التُّراثيُّ من تُهَمٍ تُرْعِبُ وتَقْمَعُ: (الرَّجْعِيَّةِ، والسَّلَفِيَّةِ، والتَّزَمُّتِ، والنَّمَطِيَّةِ، والنِّظامِ البائد).. فراحوا يُقلِّدونَ هؤلاءِ تقليداً أعمى!.
ولا يخلو هذا الفريقُ -أيضاً- من مواهبَ، ولكنَّها -كالعادة- ضُخَّمتْ كثيراً، ونَفخَ فيها بُوقُ الدِّعاية والتَّهريج.(/4)
4- وفريقٌ آخر من الحَدَاثِيِّينَ، هو يُمثِّلُ الغالبيةَ العظمى، ويتمثَّل بصورةٍ خاصَّةٍ في جيل الحَدَاثِيِّينَ من شُبَّان هذه الأيامِ، الذين طَلَعوا علينا من عَقْدٍ أو عَقْدَيْنِ في هذا الزمن.
وأغلبُ هؤلاءِ لا مواهبَ عندهم ولا قُدُرات، وهم يستعجِلونَ الوصولَ، ولا يُطِيقونَ الدَّرْسَ والتَّحصيلَ، وقد فهِموا التَّحْدِيثَ -بسبب إيحاءاتِ جيلِ الكُبَراءِ- هدماً لكلِّ تراثٍ، وخروجاً على كلِّ معيارٍ، وقطيعةٍ مع جميع ما سَلَفَ!!.
إنَّ الشِّعْرَ مثلاً -كما رَسَخَ في أذهان هؤلاء- لا يُشترطُ فيه وزنٌ ولا قافيةٌ، ولا معنًى محدَّدٌ، ولا يُشترطُ في اللُّغة ضبطٌ ولا منطقٌ ولا صحَّةٌ!. إنَّ كلَّ ما يقذفُهُ القلمُ من الكلام هو شِعْرٌ!!!.
وهؤلاء يجِدونَ منَ الكُبَراء كلَّ حُظْوَةٍ واحْتِفاءٍ، يُعَمْلَقونَ ويُضَخَّمونَ، ويسمَّى هذا الكلامُ الأَشْوَهُ الكَسِيحُ الذي يكتبُونَهُ أدباً، ويتصدَّرُ الصُّحفَ والمجلات!!
وهذه الفئةُ من الحَدَاثِيِّين اليومَ كثيرةٌ جدّاً، وفي كلِّ يومٍ تتعملقُ وتتمكَّنُ، وتتحوَّلُ إلى حِصْنٍ حصينٍ يحتضِنُ الحَدَاثَةَ ويُنافِحُ عنها؛ لأنَّ لهمْ -بالدَّرجة الأولى- مصلحةً شخصيَّةً في الدِّفاع عنها.
إنَّ مصيرَهُمْ مرتبطٌ بها؛ فهُمْ بدونها لا شيءَ! إذا كفُّوا عنِ الاعتصام بحبلِها؛ سُحِبَ من تحتِ أَرْجُلِهم بِساطُ الشِّعْر والأدب، وبَدَوْا تلامذةً فاشلينَ، يحتاجون إلى أن يعودوا مرَّةً ثانيةً إلى المدرسة الابتدائية؛ ليتعلَّموا قواعدَ الإملاء، ومبادئ اللُّغة، وأصولَ الشِّعر، وضوابطَ الفِكْرِ والفنِّ والأدبِ!!
إنَّ طريقَ الشِّعر عندَ غيرِ الحَدَاثِيِّينَ صعبٌ طويلٌ، والكلمةَ أمانةٌ، والفنَّ رسالةٌ وهَدَفٌ؛ ولكنَّه عند هؤلاء القومِ دَرْبٌ سَهْلٌ مَيْسورٌ، إنَّه كلامٌ مهوَّشٌ، لا معنى له، ولا تأثيرَ فيه، ولا غَرَضَ لهُ، وهو موطَّأٌ لكلِّ أحدٍ!.(/5)
وهكذا يَتَضافَرُ في التَّرْوِيجِ للحَدَاثَةِ، وفي الكلام عليها، وفي تَبَنِّي قضيَّتها -استحساناً أو استقباحاً- فِئاتٌ متعدِّدَةٌ، ولكنَّها غيرُ متساويةٍ في المشارب والأهداف والتَّصوُّرات.(/6)
العنوان: فأرُ الغَيْط وفأرُ البَيت
رقم المقالة: 1072
صاحب المقالة: أحمد شوقي
-----------------------------------------
يُقالُ: كانتْ فأْرَةُ الغِيطانِ تَتِيهُ بابنَيْها على الفِيرانِ!
قد سَمَّتِ الأَكبَرَ نُورَ الغَيْطِ وعَلَّمَتْه المشْيَ فوقَ الخيْطِ
فعَرَف الغِياضَ والمُرُوجا وأَتقَنَ الدُّخولَ والخُروجا
وصارَ في الحِرْفَةِ كالآباءِ وعاشَ كالفلاَّحِ في هَناءِ
وأَتعَبَ الصَّغيرُ قلبَ الأُمِّ بالكِبْرِ، فاحتارَتْ بما تُسَمِّي
فقال سمِّيني بنورِ القَصْرِ لأَنني – يا أُمُّ – فأْرُ العَصْرِ
إِني أَرى ما لم يرَ الشَّقيقُ فَلِي طَريقٌ، ولَهُ طَريقُ
لأَدخُلَنَّ الدارَ بعدَ الدارِ وَثْبًا منَ الرَّفِّ إلى الكَرَّارِ
لعلِّيَ إِن ثَبَتَتْ أَقدامِي ونِلتُ – يا كُلَّ المنى – مَرامي
آتيكُما بما أَرى في البَيتِ من عَسَلٍ، أَو جُبْنَةٍ، أَو زَيتِ
فعَطَفَتْ على الصَّغيرِ أُمُّهْ وأَقبَلَتْ مِن وَجْدِها تضُمُّهْ
تقولُ: إِني – يا قَتيلَ القُوتِ - أَخشَى عَليكَ ظُلمَةَ البُيوتِ
كان أَبوكَ قد رَأى الفَلاحا في أَن تكونَ مِثلَهُ فَلاَّحا
فاعمَلْ بِما أَوصى تُرِحْ جَنانِي أَولا، فَسِرْ في ذِمَّةِ الرحمنِ
فاستضحَك الفأْرُ، وهزَّ الكتِفَا وقال: مَن قالَ بِذا قد خَرِفا
ثم مَضى لِما عليه صَمَّما وعاهدَ الأُمَّ على أَن تكتُما
فكان يأْتي كلَّ يومِ جُمْعَهْ وجُبْنةٌ في فَمِه، أَو شَمعَهْ
حتى مَضى الشهرُ، وجاءَ الشهرُ وعُرِف اللِّصُّ، وشاعَ الأَمرُ
فجاءَ يومًا أُمَّه مُضْطَرِبًا فسأَلَته: أَينَ خلَّى الذَّنَبا؟
فقال: ليسَ بالفَقيدِ من عَجَبْ في الشَّهدِ قد غاصَ، وفي الشَّهدِ ذَهَبْ
وجاءَها ثانيةً في خَجَلِ منها يُداري فَقْدَ إِحدى الأَرجُلِ
فقال: رَفٌّ لم أُصِبْهُ عالي صيَّرَنِي أَعرُجُ في المعالي
وكانَ في الثالثةِ ابنُ الفارَهْ قد أَخْلفَ العادةَ في الزِّيارَهْ(/1)
فاشتغَلَ القلبُ عليهِ، واشتَعَلْ وسارَتِ الأُمُّ لهُ على عَجَلْ
فصادَفَتهُ في الطَّريقِ مُلْقَى قد سُحِقَت مِنهُ العِظامُ سَحْقا
فناحتِ الأُمُّ، وصاحَتْ: واهَا! إِنَّ المعالي قَتلَت فَتاها!(/2)
العنوان: فتاتي... غدًا أنتِ عروسٌ (هل أنتِ مستعدة؟!)
رقم المقالة: 1103
صاحب المقالة: خاص: الألوكة
-----------------------------------------
إعداد: مها عبدالرحمن السالم.
مشاركة: هاجر الراجحي.
تعيشُ الفتاة في بيت أهلها
كعصفور طليق..
تحلق تحت جناحي والديها،
حديثها.. نومها، صديقاتها
ولهوها ومزاحها، غرفتها.. (لا أعباء!)
.. ومسؤولياتها مهما كثرت فلن تتعقد،
ومهما كان من تكليف ومسؤوليات في بيت الأهل
فلن تكون أبدًا كقيد قفص الزوجية!
ذلك العيش الذي تتخيله الفتاةُ جنةً خضراء!
ليس فيها سوى السفر والفسحة والتسوق.
فتاتي.. ماذا لو كان موعد المغادرة قد حَلّ..؟
فهل أنتِ على استعداد لحجم المسؤولية؟!
أنا غير منظمة أبدا!!
نبدأ مع هتون.. التي لديها قناعات مسبقة.. وتعترف بأمر!! تقول هتون:
"لأنني أقدر حجم المسؤولية المترتبة على الزواج،
وأعلم أنه كفاح بالرغم من أن ظاهره السعادة والهناء،
أقدّر أنَّ على من ولجت ذلك العالم أن تكون
على قدر من الوعي وفهم النفسيات في تعاملها مع الزوج
-الذي لا تبدي مدة الخطوبة بعد العقد
كل جوانب شخصيته- كذلك على المقبلة لهذا العالم
أن تكون ماهرة.. أو على الأقل متفهمة لاختلاف البيئة
والتفكير والعلاقات بينها وبين أهل زوجها...
كذلك هناك الكثير من المشقة والمزيد من النظام
والترتيب والمهام.. والحالة المادية (مجهولة)!
لذا فإن مجرد تفكيري في ذلك المستقبل يجعلني قلقة
إلى حدّ الانزعاج (فأنا غير منظمة أبدا أبدا!!) وأشعر بأني
لن أنجح إلا بأعجوبة".
مدخل.. (ليس هناك فرس أبيض)
البيتُ الناجح السعيد يُبنى كما تُبنى
خلية العسل؛ تجتهد فيها النحلات..
تحتاج إلى جهد وتضحية وبذل.
فتاتنا..
نعم يحقِّق لكِ الزواج بما تؤتَين من مهر
الكثيرَ من المشتريات التي كنتِ تعجزين عنها..
لكن انتبهي! واقدُري لكل شيء قدرَه؛ فليس هذا هو
الكنز الذي سيحل لكِ كل مشاكلكِ
ربما نفِد من بين يديكِ قريبا، فوازني.(/1)
بعد التجربة..
تقول إحدى الأخوات عن نفسها:
لقد كنت أتمنى أن أتزوج -كغيري من الفتيات-
وقد حددتُ في تفكيري مواصفات عالية،
وأحمد الله أن ما كنت أتمناه تم؛
فلقد تزوجت بشخص تنطبق عليه مواصفاتي بل أكثر..
ومع ذلك لم تكن الحياة تماما كما توقعت
وكما رسمت في مخيّلتي،
لذا أنصح كل فتاة لم تتزوج بعد
أن تنمي نفسها وتكون شيئا مهما..
(فليس الزواج هو ما يجعلك مهمة..)
فاستغلي الفرصة فتاتي، وثقفي نفسكِ
وطوري إمكاناتك وانفعي نفسكِ.
لستِ كاملة
لسنا كاملين ولا شك، لذا علينا أن نعي
أن كل إنسان هو مثلنا في الحقيقة (غير كامل)
كذلك الشخص الذي سترتبطين به مُحمّل بالعيوبِ
كما أنتِ.. فيا أيتها الفتاة ثقي بأنك لن تعيشي واقعا
دون صعوبات.. ولن تكون حياتُك أحلاما وردية
دون شيء من الأتربة التي تنحت فكركِ وتطوركِ
شيئا فشيئا، خاصة إذا أتقنتِ علاج مشكلاتكِ بروية
وحنكة وصبر وفهم..
فهناك من السلوكيات ما لا يؤثر في السعادة..
ولا يصلح أن يكون مثار جدل (كنوع الطعام مثلا)
ومن السلوكيات ما قد يضايق الطرف الآخر
(كمواعيد الزيارات، وأوقات الوجبات، وأوقات الجلوس
على الإنترنت) لكن من اليسير تغييره بشكل يوائم الطرفين.
ومن السلوكيات ما يجب تغييره وإن صعب مثل سلاطة الكلام.
فحاولي تغيير عيوبك والتأثير في الزوج بحيث يكون كما كنتِ
تحلمين أو قريبا من ذلك.. (والدعاءالمستجاب محطة تغير هامة).
تدريبات عملية
لا تتذرعي بوجود خادمة.. أو بكفاية أخواتكِ،
بل شمري عن ساعدي الجد..
وشاركي أمك وأهلك في أعمال المنزل..
..وأثبتي وجودكِ بينهم
فإن مجرد إثبات ذاتك وعطائك لهم يعطيك
بحول الله شحنة داخلية ورغبة للنضج
والمزيد من التوق للنجاح..
أبدعي في إعداد أطباق جديدة،
نظمي المنزل، ابتاعي عطرا منزليا جديدا،
أبدي رأيكِ في أمر يخص الأسرة، لا تترددي.
كوني منظمة دوما..
حافظي على غرفتكِ كوردة عطرة
وأبقي خزانة ملابسك مرتبة(/2)
واجعلي المكان من حولك منظما دوما..
كوني مثالا للنظام، والتميز.
دربي نفسك على تنسيق البعثرة حالما تبدأ..
كذلك كوني ذات شكل جذاب لطيف ومهذب
حتى في حال عدم وجود أضياف..
وبمناسبة الحديث عن الضيوف أبدعي في استقبال
ضيوفك وقدمي لهم واجبات الضيافة
وقيمي نفسك مرة بعد مرة (جربي فالأمر ممتع).
فتشي...
كي تنجح العلاقة -بإذن الله تعالى- ضعي في حسبانك
أهمية التفتيش عن الحسنات.. والإشادة بها لتأكيدها
في نفس الطرف الآخر.
والاختيار على أساس الدين والخلق يوفّر الكثير
من الوقت والجهد والسعادة أيضا.
أنت تستحقين الإكبار..
"قيل: أنتَ تستحقُّ الإكبارَ بقدر ما تبحثُ للآخرين عن أعذار"
لذا تريثي قبل انفلات المشاعر
واستغلي وقت الخطوبة وما قد يواجهك فيها
من بعض المشكلات الطفيفة في التدرب
على حل مشاكل المستقبل
دون أن تخلقي جوّا مشحونا..
ودون أن تدعي الفجوة تتسع من بين يديكِ
اجعلي نفسكِ ما بين التغاضي عن بعض الهفوات
-مالم تخل بالدين- وما بين المصارحة والمكاشفة
عمّا يكدركِ دون التذمر،
وحاولي دوما استشفاف مشاعر الطرف الآخر..
(فقد كان النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- يتفقد
مشاعر عائشة -رضي الله عنها- متى تغضب
ومتى ترضى) فيا لله!!
اعرفي..
كوّني لديك حصيلة معرفية في
أساليب التربية، وطوري مهاراتك
ونمّي ذاتك وقدراتك في الإقناع
وفي حل المشكلات، طالعي سيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم-
المربي الأول، وتزودي للوصول
إلى أمومة مثالية
..فعلى أكتافكِ تنبني أمة.(/3)
العنوان: فتاوى الشنقيطى عن الحج
رقم المقالة: 1756
صاحب المقالة: محمد الأمين الشنقيطي
-----------------------------------------
فتاوى الشنقيطى عن الحج
جمعها حادي الركب
منتدى الفوائد
السؤال الأول:
هل يجب الحج على المدين؟
الجواب:
بسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، أما بعد:
فقد فرض الله الحج إلى بيته الحرام على مَن استطاع إلى البيت سبيلاً، ولازم ذلك وجود الزاد، ومَن كان مَدِينًا فإنه لا يقدر؛ لأنه محاط بالدَّيْن، فإذا كان الدين يستغرق ماله، فإنه لا يملك الزاد، وعلى هذا فلا يجب الحج على مدين استغرق الدَّيْن ماله، أو كان عليه دين لا يستطيع وفاءه، واستثنى بعض العلماء أقساط الدين، فقالوا: إذا كان الدين مقسَّطًا على أنجم، وأدى آخر نجم، وهو نجم ذي القعدة؛ فلا حرج عليه أن يحج، والله - تعالى - أعلم.
السؤال الثاني:
متى يجب الحج على المرأة؟
الجواب:
يجب الحج على المرأة إذا كانت قادرة على الحج بملك النفقة، وكذلك إذا وجدت مَحرَمًا يحج معها؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة؛ إلا ومعها ذو محرَم))، وفي الحديث الصحيح أن رجلاً قال: - "يا رسول الله - إني اكتتبت في غزوة كذا وكذا، وإن امرأتي انطلقت حاجَّة، وليس معها مَحرَم؟"، فقال له النبي: ((انطلق وحج مع امرأتك))؛ فدلَّ هذا على أن المرأة لا يجب عليها الحج؛ إلا إذا كان معها ذو محرَم يستطيع أن يحفظها في سفرها، ويقوم عليها في شأنها، والله - تعالى - أعلم.
السؤال الثالث:
لو كان الرجل أو المرأة عاجزين عن الحج بأنفسهما للمرض ونحوه؛ ولكنهما يستطيعان التوكيل بالمال فهل يجب عليهما أن يوكلا؟
الجواب:
من كان عاجزًا عن الحج وعنده مال يستطيع أن يحجج به الغير، فلا يخلو من حالتين:
الحالة الأولى: إما أن يكون عجزه مؤقتًا.(/1)
والحالة الثانية: وإما أن يكون عجزه مستديمًا.
العجز المؤقت كالمرض الذي يتأقت بالشهور ويرجى زواله، أو بالسنوات ويرجى زواله، فهذا ينتظر إلى أن يكتب الله له الشفاء والعافية، يسقط عنه الحج حال العجز، ويجب عليه بعد القدرة، ثم يحج بعد شفائه وقوته وقدرته، فلو حجج الغير في حال عجزه ثم بعد ذلك قدر، فإن حج الغير لا يجزئه؛ لأنه لا يصح منه التوكيل على هذا الوجه.
والحالة الثانية: أما إذا كان عجزه مستديمًا؛ كإنسان عاجز لكبر، أو معه مرض لا يمكن معه أن يقوم بالحج، ولا أن يؤدي أركانه؛ فإنه في هذه الحالة يُنتَقَل إلى القدرة بالمال، فإذا قدر على أن يستأجر مَن يحج عنه، وَجَبَ عليه أن يُحجِج عن نفسه، سواء كان رجلاً أو كانت امرأة، والله - تعالى - أعلم.
السؤال الرابع:
إذا توفي الإنسان ولم يحج، مع أنه كان قادرًا على الحج في حياته، فما الحكم؟ وإذا قلنا بوجوب الحج عنه، فهل يُحرِم مَن يحج عنه من ميقاته أو من ميقات الميت؟
الجواب:
نسأل الله السلامة والعافية! مَن كان قادرًا على الحج ولم يحج؛ فإنه آثم، كَرِهَ الله انبعاثه فثبطه وقيل اقعدوا مع القاعدين، كَرِهَ الله أن يراه في هذه الجموع المؤمنة، ولو كان عبدًا صالحًا موفقًا لما تقاعس عن واجب الله - جل وعلا – وفريضته؛ فإن الله يبتلي الإنسان بماله، ويبتليه بأهله وأولاده، فيكره الخروج في طاعة الله وما فرض الله عليه؛ فيجعل الله ماله شؤمًا عليه، ويجعل ذريته وأولاده بلاءً عليه، وهذه هي فتنة الأموال والأولاد، فمن فعل ذلك؛ فقد أثم واعتدى حد الله - عز وجل - بترك هذه الفريضة، فيجب على مَن استطاع الحج إلى بيت الله الحرام ولم يكن معذورًا، أن يبادر بالحج، وأن يقوم بفريضة الله - جل وعلا - عليه.(/2)
أما بالنسبة لو مات ولم يحج؛ فإنه آثم، ثم يجب على ورثته أن يقوموا بالحج عنه، يحججوا أو يخُرجوا مِن تَرِكَتِه ما يُحَجُّ به عنه، فإن وُجِد متبرع بدون مال فلا إشكال، وإن لم يوجد متبرع فإنهم يستأجرون مَن يقوم بهذا الحج على وجهه، ويعتبر هذا من الديون التي تقضى قبل قسمة التركة، فيؤخذ من ماله على قدر الحج عنه، قبل أن تقسم التركة؛ لأن الله قال في قسمة المواريث: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11]، فلما قال: {أَوْ دَيْنٍ} أطلق، وقد سمى النبي - صلى الله عليه وسلم - حقَّ الله دَيْنًا، فقال للمرأة: ((أرأيت لو كان على أمِّك دَيْنٌ أكنت قاضيته؟))، قالت: "نعم"، قال: ((فدين الله أحق أن يقضى)). فمن مات وهو قادر على الحج ولم يَحج؛ فإنه يُحج عنه من ماله، ويُخرج من ماله على قدْر نفقة الحاج عنه.
ثم السؤال لو أن الميت كان في المدينة، ومَن أراد أن يحج عنه بجدة، فهل يكون إحرام الذي يريد أن يحج وهو الوكيل، من ميقاته وهي جدة، أو مِن ميقات مَن يقوم مقامه وهو الميت - أعني المدينة -؟
هذا فيه تفصيل:
إن كان الميت قد قصَّر في الحج؛ فقد وجب عليه الحج من ميقاته، وعلى الوكيل أن يُحرِم من ميقات الميت، وبناءً على ذلك فلا بد وأن يحج عنه من ميقاته.
أما في حجج النوافل التي لا وجوب فيها؛ فإنه يحج الوكيل من أي مكان، والله - تعالى - أعلم.
السؤال الخامس:
الاستئجار للحج عن الميت هل هو مشروع؟ وما هي أنواعه؟ وما الجائز منها؟ وما الذي ينبغي توفره في الشخص الأجير؟ وكيف تكون نيته؟
الجواب:(/3)
أما بالنسبة للاستئجار للحج، فالإجماع قائم؛ كما حكاه الإمام ابن قدامة وابن رشد وابن المنذر - رحمة الله عليهم جميعًا - حكوا الإجماع على أن الاستئجار للمنافع المباحة شرعًا، أنه مباح، وبناءً على ذلك فإن الحج عن الغير منفعة مباحة شرعًا، وليست من فرائض الأعيان التي لا يصح التوكيل فيها، فلما دخلت النيابة جاز أن يحج عنه بالإجارة، وهو قول جماهير العلماء، رحمة الله عليهم .
أما أنواع الإجارة عن الميت، فعلى حالتين:
الحالة الأولى: يسمونها إجارة البلاغ، وإجارة البلاغ أن تستأجر شخصًا، وتقول له أقوم بنفقتك حتى تبلغ الحج، فتقوم بنفقة الركوب، وبنفقة النزول، وبنفقة الطعام والشراب، ونحو ذلك من اللباس، والهدي الذي يجب إن كان متمتعًا أو قارنًا، ولا تنفق عليه شيئًا زائدًا على حاجته المحتاج إليها في حجه، هذا النوع يسمونه (إجارة البلاغ)، والإجماع قائم على مشروعيته عند مَن يقول بجواز الإجارة.
أما الحالة الثانية: فهي إجارة المقاطعة، وهي التي يسمونها على سنن الإجارة يكون فيها السوم، يقول له حج عن ميتي بألف، يقول لا؛ بل بألفين، لا بل بثلاثة، ثم يتداولان حتى يثبتا على سعر معين، إن كان قد حج عنه قال أريد ألفين أو ثلاثة، فإن زادت الألفان أخذ الزائد، وإن نقصت وجب عليه أن يكمل الناقص، ولا يجب على صاحب الميت أن يدفع له الناقص، هذا النوع يسمونه ( الإجارة على سنن الإجارة)، وهي إجارة مقاطعة، وفي النفس منها شيء، وإن كان الأقوى والأشبه أنه تجوز إجارة البلاغ دون إجارة المقاطعة، يشترط في هذا الأجير طبعًا أن يكون قد حجَّ عن نفسه، ولا يجوز أن يحج عن الغير إذا لم يحج عن نفسه؛ لحديث ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع رجلاً وهو يطوف بالبيت يقول: "لبيك عن شبرمة؟"، قال: ((ومَن شبرمة؟))، قال: "أخي أو ابن عمٍ لي، مات ولم يحج"، قال: ((حُجَّ عن نفسك، ثم حج عن شبرمة))، والله - تعالى - أعلم.
السؤال السادس:(/4)
إذا حجت المرأة بدون مَحرَم، فما الحكم؟ وهل يصح حجها أو لا يصح، وما الدليل على ذلك؟
الجواب:
إذا حجت المرأة بدون محرم، فللعلماء قولان:
القول الأول: جمهور العلماء أنها آثمة، وحجها صحيح.
والقول الثاني: ذهب طائفة من السلف إلى أنها آثمة وحجها فاسد؛ لأن النهي يقتضي فساد المنهي عنه.
والصحيح أن حجها صحيح؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَن صلى صلاتنا هذه، ووقف موقفنا هذا، وكان قد أتى عرفات أي ساعة من ليل أو نهار؛ فقد تم حجه، وقضى تفثه))، فجعل الأركان والشرائط معتبرة للحكم بصحة العبادة، دون نظر إلى الإخلال، والله - تعالى - أعلم.
السؤال السابع:
إذا مات المُحرِم بالحج أو العمرة أثناء الحج والعمرة، وكانت فريضة عليه، فهل يلزمنا أن نقضي الحج والعمرة عنه، وما الدليل؟
الجواب:
للعلماء قولان في هذه المسألة: منهم مَن يرى أنه لو مات الحاج أو المعتمر أثناء حجه وعمرته، لا يلزمنا إتمام ما شَرَعَ فيه، ولا يُقضى عنه ذلك الحج ولا تلك العمرة، وهذا هو المذهب الصحيح على ظاهر حديث عبدالله بن عباس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقف في حجة الوداع، ووقف معه الصحابة، فوقف رجل فوقصته دابته فمات، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه، ولا تخمروا وجهه، ولا تغطوا رأسه، ولا تمسوه بطيب؛ فإنه يبعث يوم القيامة ملبيًا))، لم يقل النبي - صلى الله عليه وسلم - اقضوا حجه، أو أتموا حجه؛ وهذا يدل على أن الواجب هو ما ذكر، وأن ما زاد على ذلك فليس بواجب؛ ولأنه قد قام بفرضه فأدى ما أوجب الله عليه، وانتهت حياته عند هذا القدر، وعلى ذلك لا يجب أن يتم عنه، ولا أن يحج عنه، وإن حج عنه احتياطًا فلا حرج، والله - تعالى - أعلم.
السؤال الثامن:
هل من حق الزوج أن يمنع زوجته من حج الفرض وعمرة الفرض إذا أرادت القيام بهما مع محرَمها، وإذا لم يكن من حقه ذلك، فهل إذا منعها وخرجت مع محرَمها تعتبر عاصية آثمة؟(/5)
الجواب:
ليس من حق الزوج أن يمنع زوجته من حج الفريضة؛ فهذا حق الله - عز وجل - الذي هو فوق الحقوق كلها، ولذلك يعتبر آثمًا شرعًا؛ لأنه أمر بالمنكر ونهى عن المعروف، فليس من حقه أن يمنع الزوجة، وليس له عليها سلطان في هذا؛ ولكن استثنى العلماء - رحمة الله عليهم - أن تكون تلك الحجة فيها مفسدة، أو فتنة عظيمة لا يستطيع أن يحج معها، ولا يوجد محرَم يستطيع أن يحفظها من الفساد، فهذه حالة مستثناة؛ أما ما عدا ذلك فإنه لا يجوز له أن يمنعها، وحينئذٍ إذا حجت مع محرَمها؛ فإنها مأجورة غير مأزورة، وليس من حقه أن يمنعها من حق الله - سبحانه - وفي الصحيح عنه - عليه الصلاة والسلام - أنه قال: ((لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق))، والله - تعالى - أعلم.
السؤال التاسع:
إذا أراد الإنسان أن يحج أو يعتمر عن ميت أو عاجز عن الحج، فهل يشترط أن يكون مثله ذكورة وأنوثة أو لا؟
الجواب:
لا يشترط في الوكيل أن يكون مشابهًا لموكله جنسًا؛ فيحج الذكر عن الذكر، أو الأنثى عن الأنثى، فالكل يجزئ ويعتبر، فيجوز حج الرجال عن النساء، وحج النساء عن الرجال؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أفتى الخثعمية بذلك، وحينئذٍ لا حرج في حج ذكر عن أنثى والعكس، والإجماع قائم على ذلك، والله - تعالى - أعلم.
السؤال العاشر:
إذا توفي الوالدان ولم يحجا ولم يعتمرا، وأردت أن أحج عنهما وأعتمر، فهل أبدأ بالوالد أو الوالدة، وما الدليل؟
الجواب:(/6)
تبدأ بالوالدة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - عظَّم حقها، فقال لما سأله الصحابي: "مَن أحق الناس بحسن صحابتي؟"، قال: ((أمك))، قال: "ثم من؟"، قال: ((أمك)) قال: "ثم من؟"، قال: ((أمك))، قال: "ثم من؟"، قال: ((أبوك)). قال العلماء: في هذا دليل على أن حق الأم آكد من حق الأب، حتى إن بعض العلماء قال: إذا تعارض بر الوالد والوالدة، يُقدَّم بر الوالدة على الوالد؛ وذلك لأن النص دل على أنها أحق بحسن الصحبة، وهي أولى، وحينئذٍ تبدأ بأمك ثم بعد ذلك تثني بأبيك، والله - تعالى - أعلم.
مسائل الإحرام والتلبية
السؤال الحادي عشر:
ما هو هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في الإحرام بالحج؟
الجواب:
لما قدم - عليه الصلاة والسلام - على ذي الحليفة، وكان قد توافد الناس على المدينة يقولون كيف يحج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلهم يريد أن يأتسي به ويقتدي، فلما قَدِمَ على الميقات - صلوات الله وسلامه عليه - اغتسل وتجرد من المخيط، ثم بعد ذلك لبس رداءه وإزاره، وقال للناس: ((من أراد منكم أن يُهِلَّ بعمرة فليهل، ومن أراد أن يهل بحج فليهل، ومن أراد أن يهل بحج وعمرة فليهل))، وكان الوحي قد نزل عليه قبل أن يصل إلى الميقات، قبل أن يُحرِم في ميقاته كما في الصحيح من حديث عمر في البخاري، أنه قال: ((أتاني الليلة آتٍ من ربي، فقال: أهِلَّ في هذا الوادي المبارك، وقُلْ عمرة في حجة))، فاختار الله له من فوق سبع سموات أن يُهِلَّ بالقِران، ولذلك أهلَّ قارنًا - صلوات الله وسلامه عليه - استجابة لأمر ربه، فيخير الإنسان بين هذه الأنساك، فإذا أهلَّ بالعمرة وكان في أشهر الحج فهو تمتع، وإذا أهلَّ بالحج فهو إفراد، وإذا أهلَّ بهما معًا، فإنه يقول: لبيك حجة وعمرة، ويعتبر قرانًا، قال أنس - رضي الله عنه وأرضاه -: كنت تحت ناقة النبي - صلى الله عليه وسلم - أسمعه يقول: ((لبيك عمرة وحجة))، والله - تعالى - أعلم.
السؤال الثاني عشر:(/7)
متى يصح الإحرام بالحج؟ وما الحكم لو وقع إحرامه بالحج قبل أشهر الحج؛ كأن ينوي الحج في رمضان؟
الجواب:
الحج له ميقات زماني أشار الله - عز وجل - إليه بقوله: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197]، هذه الأشهر قمرية؛ لا شمسية بإجماع العلماء - رحمة الله عليهم - ويبتدئ موسم الحج الزماني بثبوت عيد الفطر، فإذا ثبت أن الليلة عيد الفطر فحينئذٍ تبتدئ هذه الشهور، فأولها أول يوم من شوال وهو يوم عيد الفطر، فلو أحرم ليلة عيد الفطر بالحج، وقال لبيك حجة؛ فإنه يصح وينعقد إحرامه، وهكذا لو تمتع فيها، أما لو أحرم قبل ليلة العيد، وهي مسألة مشهورة عند العلماء "من أوقع الإحرام قبل أشهر الحج"، فللعلماء قولان:
منهم من يقول: لا ينعقد حجه، وهو مذهب الشافعية، والظاهرية، رحمة الله على الجميع.
ومنهم من يقول: ينعقد حجه وهو آثم إذا كان عالمًا، وهو مذهب الجمهور.
والصحيح مذهب الشافعية، والظاهرية أنه لا يجوز الإحرام بالحج قبل أشهر الحج، وأنه لا ينعقد إحرامه عن الحج؛ لأن الله - تعالى - يقول: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197]، ولا فائدة من هذا إلا تخصيص الحكم بها، ولأنه كما لا يصح إيقاع الظهر قبل زوال الشمس؛ لا يصح إيقاع الحج قبل زمانه المعتبر، فأزمنة العبادات مؤقتة، لايصح إيقاعها قبل هذا الزمان المؤقت؛ لأننا لو قلنا يصح لذهبت فائدة التخصيص بهذا الزمان، وعلى ذلك فإنه لا ينعقد إحرامه بالحج.
لكن إذا قلنا بقول الشافعية، والظاهرية لا ينعقد إحرامه بالحج، فما الحكم في هذه التلبية التي نواها بحجه؟
لهم قولان قال الظاهرية: تفسد تلبيته، ويفسد إحرامه بالكلية؛ فلا حج له ولا عمرة.
قال الشافعية: ينقلب إحرامه من الحج إلى العمرة، وهذا هو الصحيح؛ لأنه إذا بطل الحج ينفسخ إلى عمرة، وقد فسخ النبي - صلى الله عليه وسلم - الحج إلى عمرة، ولذلك ينعقد إحرامه عمرة لا حجة، والله - تعالى - أعلم.
السؤال الثالث عشر:(/8)
إذا أحرم بالعمرة في آخر رمضان، ثم أتمها في يوم العيد أو بعده، ثم حج من عامه، فهل يصير متمتعًا؟
الجواب:
هذه مسألة خلافية في المتمتع، لو أنك أردت أن تتمتع بعمرتك إلى الحج، ونويت العمرة في آخر يوم من رمضان، ومضيت وغابت شمس آخر يوم من رمضان، فدخلت عليك ليلة عيد الفطر فاختلف العلماء.
قال بعض العلماء: العبرة بالنية فإذا كانت نيته في ليلة عيد الفطر، صحت عمرته تمتعًا، وإن كانت نيته قبل ليلة عيد الفطر، فإن عمرته ليست بتمتع، فلو حج من عامه ليس بمتمتع؛ إلا أن يأتي بعمرة ثانية في أشهر الحج، وهذا مذهب الظاهرية.
القول الثاني: العبرة بالدخول إلى مكة، وهو قول بعض السلف، قالوا إذا دخلها قبل غروب الشمس من آخر يوم من رمضان؛ فإنه حينئذٍ لا يعتبر متمتعًا، وإن دخلها بعد الغروب فهو متمتع، وهو قول عطاء ومَن وافقه من السلف.
القول الثالث: العبرة ببداية الطواف، فإن ابتدأ طوافه قبل غروب شمس آخر يوم من رمضان؛ فهو ليس بمتمتع، وإن ابتدأه بعد الغروب؛ فهو متمتع، وهو مذهب الشافعية، والحنابلة.
والقول الرابع: أن العبرة بأكثر الطواف، فإن طاف أربعة أشواط قبل غروب الشمس؛ فهو ليس بمتمتع، وإن طاف الأربعة بعد غروب الشمس؛ فإنه متمتع، وهو للحنفية.
القول الخامس والأخير: العبرة بالتحلل، وهو للمالكية، وأصح هذه الأقوال وأقواها أن العبرة بالطواف، فإن ابتدأ طوافه بعد غروب الشمس، وقعت عمرته؛ لأن الطواف هو الركن، فكأنه أوقع أركان العمرة في الأشهر المعتد بها، فحينئذ يكون متمتعًا، وإن وقع قبل غروب الشمس؛ فليس بمتمتع، والله - تعالى - أعلم.
السؤال الرابع عشر:
إذا نوى الإنسان الحج والعمرة، ثم لما مضى في طريقه امتنع عن إتمامها، أو قطعها بعد الشروع في الطواف أو أثنائه أو بعده، وقبل تمام حجه وعمرته، فما الحكم؟
الجواب:(/9)
هذه المسألة يفعلها بعض الناس، فيُحرِم بالعمرة، ثم إذا رأى الازدحام نكص على عقبيه، وامتنع من إتمام عمرته، ولبس ثيابه ورجع إلى بيته، وربما فعل ذلك بالحج - نسأل الله السلامة والعافية - وهذا لا شك أنه من التلاعب بحدود الله - عز وجل - والتضييع لحقوقه، والواجب على من أحرم بالحج والعمرة أن يتمها؛ لأن الله - تعالى - يقول: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]، قال العلماء: من رجع وقد أحرم بعمرته، فهو مُحرِم بعمرته إلى الأبد، كونه يقول: لا أريد العمرة، كونه يقول فسخت العمرة، لا تأثير له لا بد لهذه العمرة مِن أن يتمها، ولا بد لهذا الحج أن يتمه؛ إلا ما سمى الله في مَن أحصر، وله حُكمه الخاص.
أما كونه يمتنع من عند نفسه، فهذا لا يجزيه، ولا يعتد بهذا الامتناع، ويجب عليه أن يتم ما أمر الله بإتمامه من حجه وعمرته، فيمضي ويتم، فلو رجع وجامع أهله، فسدت عمرته وفسد حجه، ولزمه حينئذٍ أن يمضي في هذا الفاسد، وأن يتم قضاءه على ظاهر الآية الكريمة، وهو قضاء السلف الصالح، أفتى به عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وهو الخليفة الراشد، وسنته معتبرة، ولم ينكر عليه من الصحابة، وبناءً على ذلك يتم عمرته الفاسدة، ثم عليه القضاء مِن قابل، ثم يفدي عن كل محظورٍ ارتكبه، فلما لبس ثيابه عليه الفدية، ولما غطى رأسه عليه الفدية، ولما تطيب عليه الفدية، وكل محظور عليه فدية واحدة ولو تكرر، والله - تعالى - أعلم.
السؤال الخامس عشر:
مَن كان مريضًا وأراد أن يحرم بالحج والعمرة، وهو شاكٌّ في قدرته على الإتمام، فما هي السنة في حقه، وما الدليل؟
الجواب:(/10)
السنة في حق المريض الذي يشك في قدرته على الحج، أن يشترط؛ لأن ضباعة - رضي الله عنها - لما اشتكت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: "يا رسول الله، إني أريد الحج، وأنا شاكية!"، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((أهلِّي واشترطي أن محلي حيث حبستني))، قال العلماء: في هذا دليل على أنه يشرع لك أن تشترط عند خوفك عن العجز عن إتمام حجك، وهذا مما دلت عليه السنة، وكان الشافعي - رحمه الله - يقول: إن صح حديث ضباعة؛ فأنا أقول به، قال أصحابه: وقد صح الحديث فهو مذهبه، والله - تعالى - أعلم.
السؤال السادس عشر:
مَن مرَّ بالمواقيت وهو جاهل بمروره بها، أو كان نائمًا ثم استيقط بعد مجاوزتها، فما الحكم؟
الجواب:
مَن مر بالمواقيت وهو لا يدري بها، وهو يريد الحج والعمرة، أو كان نائمًا في طيارة أو سيارة، ثم نُبِّه بعد مجاوزتها، فلا يخلو من حالتين:
الحالة الأولى: إن رجع وأحرم من الميقات سقط عنه الدم، وحينئذ حجه وعمرته معتبرة، ولا إشكال.
والحالة الثانية: إن لم يرجع ولبى من مكانه ومضى؛ فإن عليه دم الجبران، والله - تعالى - أعلم.
السؤال السابع عشر:
ما هي صفة التلبية؟ وهل تشرع الزيادة عليها؟ وهل هي واجبة؟ ومتى يشرع قطعها في العمرة والحج؟
الجواب:
أهلَّ النبي - صلى الله عليه وسلم – بالتوحيد: ((لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك))، هل تشرع الزيادة عليها أو لا تشرع؟
للعلماء قولان:(/11)
جمهور العلماء على جواز الزيادة، وقد جاء عن عبدالله بن عمر كما في الصحيح، كان يقول: "لبيك وسعديك، والخير بيديك، والرغباء إليك والعمل"، قالوا فلا حرج، وجاء في حديث ابن ماجه: ((لبيك حقًّا حقًّا))، وهو حديث أنس: ((لبيك حقًّا حقًّا، لبيك تعبُّدًا ورقًّا))، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يسمع الصحابة يزيدون في التلبية، ويقولون: "لبيك ذا المعارج"، والمعارج هي: السماوات؛ لأنه يعرج إليها، فلما أقر النبي - صلى الله عليه وسلم - الصحابة على الزيادة؛ دل على مشروعية الزيادة بالثناء على الله - عز وجل - ولكن الأفضل والأكمل والأعظم أجرًا أن تقتصر على الوارد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مع كونه أقر الصحابة، فإنك إذا جئت بألفاظ فيها الثناء على الله والتمجيد له - عز وجل - فإن هذا يجوز، ولكنه خلاف الأولى، والأولى والأفضل والأكمل الاقتصار على تلبيته بأبي وأمي - صلوات الله وسلامه عليه - والقاعدة كما قرره العز بن عبدالسلام في كتابه النفيس: "قواعد الأحكام": أن الوارد أفضل من غير الوارد. تطبيق هذه القاعدة إذا كان المجال أو الوقت أو الحال يسمح بأن يذكر الإنسان ربه بأذكار مختلفة، وقد ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر مخصوص؛ فإن التقيد بالمخصوص أعظم أجرًا من غير المخصوص؛ لأنك إذا تقيدت بالمخصوص أُجرت بأجرين: أجر الذكر الذي تقوله، وأجر الائتساء والاقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ولو لم يكن في الائتساء به - صلوات الله وسلامه عليه - إلا أن صاحب السنة يُرحم ويُهدى ويُوفَّق، لكفى بذلك شرفًا وفضلاً، نسأل الله العظيم، أن يرزقنا التمسك بالسنة، والعمل بها، وتطبيقها.(/12)
أما متى يقطع التلبية؟ فإن كان في العمرة فالصحيح أنه يقطع التلبية عند استلامه للحجر، ففي حديث عبدالله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - في عمرة الجِعْرَانة، لم يزل يلبي حتى استلم الحجر، قالوا: فدل هذا على مشروعية التلبية عند استلام الحجر، يختاره بعض السلف، وهو مأثور عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه كان إذا قدم من المدنية يقطع التلبية في الحرار؛ أي حرار مكة؛ أي: قبل أن يدخل المسجد، وهذا قول بعض السلف.
وإن كان الأقوى والأشبه أن يقطعهما في العمرة عند استلامه للحجر، ولا يلبي في عمرته في طوافه، ولا في سعيه بين الصفا والمروة ولا بينهما.
وأما في الحج فللعلماء أقوال، أصحها: أنه يقطع التلبية عند آخر حصاة يرمي بها جمرة العقبة، يقول به طائفة من السلف، منهم إسحاق بن راهويه، ورواية عن الإمام أحمد، وطائفة من أهل الحديث - رحمة الله عليهم - لحديث ابن خزيمة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يزل يلبي حتى رمى آخر حصاة من جمرة العقبة.
وقال المالكية: يقطعها إذا غدا إلى الصلاة يوم عرفة، وهذا مذهب مرجوح؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثبت أنه لبى ليلة النحر؛ فإن ابن مسعود لبى بمزدلفة، فأنكر الناس عليه، فقال: "سمعت الذي أُنزلتْ عليه البقرة، يقول هنا: ((لبيك اللهم لبيك))"، فدل على مشروعيتها وأنها تقع، والله - تعالى - أعلم.
السؤال الثامن عشر:
مِن أين يُحرِم أهل مكة بالعمرة والحج، مع ذكر الدليل؟
الجواب:
أهل مكة يحرمون بالحج من ديارهم، ولا يلزمهم أن يذهبوا إلى البيت، كما يقوله البعض.
والصحيح أنه يلزمهم أن يحرموا من ديارهم، فدويرة أهليهم هي التي تعتبر ميقاتًا لهم، قال: ((حتى أهْل مكة يُهلُّون من مكة)).(/13)
أما في العمرة فيلزمهم الخروج إلى التنعيم؛ وذلك لحديث أم المؤمنين عائشة وهذا الحديث، وهو مذهب جماهير العلماء والسلف والخلف أن العمرة للمكي أن يخرج إلى الحِلِّ، ولذلك قالت عائشة: "والله ما ذكر التنعيم ولا غيره"؛ أي أنه أمرها أن تخرج إلى الحل، فاجتهدت فخرجت إلى التنعيم، وكان أرفق بها - رضي الله عنها - كما في الرواية الصحيحة عنها.
أما الدليل على أنه يحرم من أدنى الحل: فلأن عائشة مكية؛ أي أنها أخذت حكم أهل مكة، إذ لو كانت غير مكية؛ للزمها أن تحرِم من ميقات المدينة، والدليل على أنها مكية أنها أنشأت عمرتها بعد الحج، ولما أنشأت عمرتها بعد الحج؛ فقد أنشأتها وهي في مكة، وهذا نص واضح جدًّا، ويقول به جمهور العلماء من السلف الصالح والأئمة الأربعة، على أن ميقات المكي هو خارج الحل.
وهناك قول ضعيف أن ميقات المكي للحج والعمرة من بيته؛ ولكنه مرجوح، وظاهر السنة أنه يحرم من أدنى الحل، والله - تعالى - أعلم.
السؤال التاسع عشر:
هل يشرع تكرار العمرة في السَّنة الواحدة؟ وما الدليل؟
الجواب:
تَكرار العمرة في السنة واحدة اختلف السلف الصالح - رحمة الله عليهم – فيه، فقال الجمهور: يجوز تكرار العمرة ولا حرج في ذلك؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((العمرة إلى العمرة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات ما بينهن، ما اجتنبت الكبائر))، فدل على فضيلة العمرة للاعتمار والإكثار منها؛ لأنه لم يقيد، وفي حديث الترمذي: ((تابعوا بين الحج والعمرة؛ فإنهما ينفيان الفقر كما ينفي النار خبث الحديد))، قالوا: فهذا يدل على فضيلة التكرار.(/14)
ومِن ألطف الأدلة وأعجبها في الاستنباط قولُ بعض العلماء: مما يدل على جواز تكرار العمرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يأتي قباء كل سبت، وقباء لا يؤتى إلا من أجل أن الصلاة فيه بعمرة، قالوا: فدل على مشروعية التكرار؛ لأنه قصد فضيلة العمرة، فإذا كانت فضيلة العمرة بالبدل مقصودة ومطلوبة، فلأن تشرع بالأصل من باب أولى وأحرى، ولا دليل للمالكية على كراهية تكرار العمرة، والله - تعالى - أعلم.
السؤال العشرون:
ما الذي يحظر على المحرِم من الملابس؟ وهل يجوز لبس الإحرامات المفصلة؟ وهل يشرع وضع المشابك والحزامات ونحوها في الإزار والرداء؟
الجواب:
أما ما يَحرُم على المُحرِم، فقد بيَّنه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله في حديث ابن عمر في الصحيحين: ((لا تلبسوا القُمُص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس ولا الخفاف))، الأربع الأول من كمال بلاغته وحسن إيجازه - صلوت الله وسلامه عليه - فإن الملبوس إما أن يغطي أعلى البدن الرأس؛ كالعمامة، وإما أن يغطي الصدر؛ كالقميص، وإما أن يغطي الأسفل؛ كالسروال، فقال: ((لا تلبسوا القمص ولا العمائم ولا السراويلات)) ،وإما أن يكون جامعًا لغطاء جميع البدن؛ كالبرانس ((ولا البرانس))، فهذا من بديع كلامه - صلوات الله وسلامه عليه - وهذا يدل على أن كلمات الشرع في الكتاب والسنة قصدت، وأنها تتضمن المعاني، ولذلك كأنه منع من تغطية أعلى البدن، وكذلك أوسطه، وأسفله، وجمع في الغطاء بين الجميع، فلا يجوز للمحرِم أن يغطي رأسه بعمامة أو طاقية، قالوا وكذلك لو حمل المتاع على رأسه، قالوا لأنه في حكم التغطية، فالتغطية تكون حقيقة، وتكون حُكْمًا، فذلك إذا حمل المتاع يبينه عن رأسه ما يجعله متصلاً بالرأس؛ لأنه إذا اتصل بالرأس صار مغطيًّا.(/15)
والدليل على ذلك: أنه لو قال قائل: أنه ليس بمغطي حقيقةً، فسألته عن الرجل قال: والله لا أغطي رأسي، ثم وضع على رأسه الكرتون أو نحو ذلك، قالوا إنه يعتبر حانثًا من هذا الوجه.
وقال بعضهم: لا أعتبره حانثًا؛ لأن الغطاء في الأيمان ينصرف إلى العُرْف، فالكرتون ليس بغطاء في العرف، هذا قول بعض العلماء - رحمة الله عليهم - لكن الصحيح والأَوْلى والمنبغي للإنسان أن يبينه من الرأس؛ لأن الشبهة موجودة، وقد لامس الرأس وغطاه، كذلك - أيضًا - لا يغطي أوسط البدن؛ كالصدر بلبس الكوت أو الفنيلة أو نحو ذلك، هذا كله محظور على المحرِم لا يجوز له لبسه، وهكذا لو كان مفصلاً على أجزاء البدن؛ كاليدين، فإن المخيط لا يشترط فيه الخيط، فليس مراد العلماء بالمخيط أن يكون مخيطًا؛ إنما مرادهم أن يكون محيطًا بالعضو؛ كالعمامة، فإن العمامة تحيط العضو، وكذلك لو أخذ القماش ولفه على العضو؛ كالإحاطة المفصلة؛ فإنه يعتبر في هذه الحال في حكم المحظور، وبناءً على ذلك يتقي هذه الملبوسات كلها، والله - تعالى - أعلم.
السؤال الحادي والعشرون:
وهنا تقدم في السؤال الذي قبله وضع المشابك والحزامات ونحوها في الإزار والرداء؟
الجواب:
وضع المشابك، الآن توجد بعض الإحرامات فيها بعض التفاصيل التي تأخذ حكم المخيط، فيزررونها بأزارير من حديد، هذه مَن لبسها عليه الفدية، مَن لبس هذا النوع من الإحرامات عليه الفدية، ويفصلون الإحرام كالفوطة، فيجعلون له أزارير من حديد، هذه ينبه الناس عليها، وإذا رأيت محرِمًا تنبهه، وتقول: هذه لا يجوز لبسها؛ لأنها في حكم المخيط، ولذلك لو أنه فصل الفوط، فإنه تجب عليه الفدية، ولا يجزئ أن يكون الملبوس مفصلاً على العضو، ولا بد أن يكون مباشرًا للبدن بإزار ورداء على الصفة المعتبرة، وهكذا المشابك الشبك، وقد شدد السلف - رحمة الله عليهم - في ذلك.
وأما الحزام فعلى صورتين:(/16)
الصورة الأولى: أن يكون لحمل النقود، وهو الكمر ونحو ذلك، فهذا رخص فيه بعض السلف، قالوا لأن الكمر يقصد للمال، ولا يقصد للإحاطة بالعضو؛ فرخصوا فيه، والشبهة موجودة.
وقال بعضهم: إنه إذا لبس السير، وهو الحزام الذي لا كمر فيه؛ فإنه يقصد الإحاطة بالعضو؛ أي شد الإزار، وبناءً على ذلك تلزمه عليه الفدية، وقد نص طائفة من السلف من أئمة التابعين - رحمة الله عليهم - على التشديد في ذلك، ويحكى عن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في السيور، وهي الحزامات الموجودة التي يقصد منها شد الإزار، فهذه تتقى به، بخلاف ما يقصد به حمل النقود ونحو ذلك، لوجود الحاجة، والله - تعالى - أعلم.
السؤال الثاني والعشرون:
هل يجوز استخدام الصابون المطيَّب للمحرِم، وكذلك الشامبو إذا كانت فيه رائحة عطرية؟
الجواب:
الثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عمر: ((ولا تلبسوا من الثياب شيئًا مسه الزعفران ولا الورس))، وفي الصحيح من حديث صفوان بن يعلى بن أمية عن أبيه، في الرجل الذي لقي النبي - صلى الله عليه وسلم – بالجِعْرَانة، وقد لبس عليه جبة عليها أثر الصفرة، قال: "ما ترى في رجل أحرم بالعمرة وعليه ما ترى؟"، قال: ((انزع عنك جبتك، واغسل عنك أثر الطيب، واصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك))، فلما قال له: ((اغسل عنك أثر الطيب)) دل على أن المحرِم لا يتطيب ولا يستصحب الطيب، وفي الصحيح من حديث ابن عباس في الرجل الذي وقصته دابته، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه.. إلى أن قال: ولا تمسوه بطيب))، فدلَّ على أنه لا يجوز أن يباشر المحرِمُ الطيبَ لا في ثوب ولا بدن، وبناءً على ذلك فإن الصابون المطيب يتقى في حال الإحرام بالحج والعمرة، وهكذا الشامبو، ونحو ذلك من الأدهان المطيبة، فإنه لا يجوز له أن يستعملها؛ لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الطيب للمحرم، والله - تعالى - أعلم.(/17)
السؤال الثالث والعشرون:
هل يجوز استلام الحجر من المحرِم إذا رأى عليه أثر الطيب؟
الجواب:
إذا كان على الحجر أو على الركن طِيب، فلا يمسه المحرِم؛ وذلك لأن تقبيل الحجر واستلامه سُنة، والمنع من الطيب يعتبر في مقام المنهيات، ومقام المنهيات مقدَّم على الواجبات، فضلاً عن السنن و المندوبات، وبناءً على ذلك لا يتأتى أن يصيب السنة، ويخل بما يجب عليه تركه؛ وعليه فإنه يتقي استلام الحجر، ويكتب الله له أجر الاستلام بوجود العذر الشرعي، والقاعدة: "أن العذر الشرعي كالعذر الحسي"، وبناءً على ذلك ينال أجره لوجود العذر، والله - تعالى - أعلم.
السؤال الرابع والعشرون:
هل يجوز للمحرم إذا أراد النوم أن يغطي رأسه وقدميه؟ وما الحكم إذا رأيت المحرم قد غطى رأسه وهو نائم؟
الجواب:
أما بالنسبة للمحرم فإنه لا يغطي رأسه، والنص في ذلك صريح في حديث العمائم، حديث ابن عمر في الصحيحين، وكذلك لا يغطي قدميه للنهي عن الخفاف، وبعض العلماء يقول: القدمان متسامح فيهما أكثر من الرأس والوجه؛ فيقولون إن القدمين إنما يمتنع عليه لبس الخفاف، أما كونه يسترها فلا حرج عليه؛ ولكن لا يخلو هذا القول الثاني من النظر.
بناءً على ذلك فإنه لا يشرع له أن يغطي؛ لكن المشكلة لو مررت على محرم نائم، وقد غطى رأسه وغطى قدميه، فهل يشرع لك أن توقظه، أو تزيل ما عليه من غطاء الرأس، هذه المسألة ذكرها الأصوليون، وهي هل المكلف مكلَّف بغير المكلَّف؟ هو نائم ومعذور أثناء نومه، ومن أمثلتها: لو أذن المؤذن، فإنه إذا لم يسمع النداء والأذان غير مكلَّف ولا يأثم؛ لكن هل أنت آثم بعدم إيقاظك له؟ فبعض العلماء يقولون: المكلَّفُ مكلَّفٌ بغير المكلَّف، ويلزم بإثم غير المكلف إن قصَّر في أمره بما كلف به.(/18)
وأكدوا ذلك بحديث الأمر للوِلْدان والصبيان لسبع، فإنهم غير مكلفين؛ فكلَّفَ المكلف بغير المكلف، فدل على أنه يعتبر مكلفًا من هذا الوجه، وبناءً على ذلك قالوا: إذا رأيته نائمًا فإنك تزيل الغطاء عن رأسه وعن وجهه، على القول بأنه لا يشرع له تخمير الوجه، وهكذا بالنسبة للقدمين، وهذا أولى وأحرى، وإن كان نائمًا وخشيت إزعاجه فإنك تزيلها برفق؛ لأن المقصود يتحقق بذلك، والله - تعالى - أعلم.
السؤال الخامس والعشرون:
هل يجوز أكل الطعام المطيب بالورد والزعفران؟
الجواب:
أكل الطيب منع منه جمهور العلماء - رحمة الله عليهم - في الإحرام؛ لوجود الترفُّه، وقصد الشرع من المحرم أن لا يترفه؛ فإن مقصود الإحرام أن يذكره بالآخرة، بعيدًا عن ترفهه وفضوله الذي كان فيه من محاسن الدنيا ومتاعها، وقد نص الجماهير على أنه لا يأكل الطيب إذا كان من المطعومات التي يقصد بها تطييب الأطعمة، أما لو كان غير مقصود بأن وجد في أصل المادة مثلاً؛ كالهيل في القهوة ونحو ذلك، فهذا طيبه تبعي لا مقصود؛ لكن الزعفران مقصود، فإنه يوضع في الطعام من أجل تطييب رائحته، وكذلك الورد يوضع في الماء من أجل تطييب رائحته؛ ولكن القهوة من حيث هي لو صنعت في الهيل، فالهيل فيه الرائحة الزكية والطيبة؛ لكنه لا يعتبر من الطيب المحظور، ففرقوا بين المقصود وبين التبع، فقالوا في هذه الحالة: ما كان مقصودًا؛ كالزعفران والورد، فإنه على حالتين:(/19)
الحالة الأولى: إن وضعته في مطعوم أو مشروب، إن وضعته في المطعوم والمشروب وغلى؛ بمعنى كان تحت نار وأصابته النار، قالوا يجوز لك أن تأكله، ولو كنت محرِمًا بالحج والعمرة، وهذا مذهب الجمهور؛ لكن في فرق بين المالكية، والشافعية حيث قالوا: مجرد الإصابة بالنار تجيز لك الأكل، حتى لو بقيت رائحة الطيب، والشافعية، والحنابلة يشترطون استنفاذ الرائحة وذهابها بعد بالطبخ، فيفرقون بين مذهبهم؛ لكن بالنسبة للجميع يقولون في الإدخال ذات الإدخال يعتبرونه إذا أدخلت إلى النار مؤثرة، فإن استنفذت أجازت عند الجميع، وإن لم تستنفذ يقع الخلاف بين المذهبين اللذين ذكرناهما، وعلى هذا فإنه يتقي المطعومات التي تطيب ويقصد الطيب فيها، والله - تعالى - أعلم.
السؤال السادس والعشرون:
إذا وضع المحرِم الطيب ناسيًا ثم تذكر، أو غطى رأسه ناسيًا ثم تذكر، فما الحكم؟
الجواب:
هذه المحظورات التي يمكن تداركها: الطيب والتغطية، بخلاف المحظورات التي لا يمكن تداركها، فالعلماء يقسمون المحظورات إلى قسمين في الحج والعمرة:
القسم الأول: ما يمكن التدارك فيه عند الإخلال بالنسيان ونحو ذلك.
القسم الثاني: ما لا يمكن التدارك فيه.
الذي يمكن التدارك فيه؛ كالطيب تغسله، وكتغطية الرأس تزيل الغطاء، فيرجع الأمر إلى حالته وتتدارك؛ لكن الذي لا يمكن تداركه؛ كتقليم الأظفار، وحلق الشعر؛ فإن هذا محظور، ولو أن إنسانًا حلق شعره، لا يمكنه أن يرد هذا المحظور، ولا يمكنه أن يتدارك، وكالجماع فإنه إذا جامع لا يمكن أن يتدارك اللذة ويعيدها، وهكذا بالنسبة لتقليم الأظفار إذا زال ظفره؛ ففرقوا بين ما يمكن التدارك فيه وما لا يمكن، فما يمكن التدارك فيه؛ كتغطية رأس وطيب - كما ورد في السؤال - فإنه لا حرج عليه في ساعته يغسل، وفي ساعته يزيل، ولا إثم عليه، والله - تعالى - أعلم.
السؤال السابع والعشرون:(/20)
قال الله - تعالى -: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197].
والسؤال ما معنى قوله - سبحانه -: {فَلاَ رَفَثَ}، وقوله: {وَلاَ فُسُوقَ}، وقوله: {وَلاَ جِدَالَ}، وهل يدخل في ذلك البيع والشراء والمراجعة فيهما؟
الجواب:
أما الرفث: فهو الكلام الذي يكون عند النساء للإثارة والغزل، وكذلك الأفعال التي يقصد منها الإثارة بعين ونحو ذلك، هذا الذي ذكره أئمة السلف، وفرَّق بعضهم، كما هو مذهب ابن عباس - رضي الله عنهما - فأجاز أن يتكلم بأبيات الشعر الغزلية ونحوها، إذا لم يكن عنده نساء، وجعل الرفث خاصًّا بما كان يقصد منه إثارة النساء، فكان يأتي بأشنع الأبيات في غزل العرب وهو محرِم بالحج والعمرة، ويُنكَر عليه - رضي الله عنه وأرضاه - فيقول إنما الرفث عند النساء؛ أي إذا كان هذا عند النساء، وإن كان الأولى والأفضل أن يتقى؛ لأن النهي ورد بصيغةٍ تدل على الإطلاق، هذا بالنسبة للرفث أنه ما يكون للإثارة من مقدِّمات الجِماع، سواء كان من الأقوال، ومما يحث على الجماع، حتى قال بعض العلماء: من الرفث لو قال لامرأته: إذا تحللتِ أصبتُك، قالوا: إن هذا يعتبر من الرفث، والمشكلة أنه إذا رفث حُرِمَ قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن حج هذا البيت فلم يرفث، ولم يفسق؛ رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه))، قد تحجبه كلمة واحدة يقولها من الغزل لنسائه، فيحرمه الله - عز وجل - من هذا الفضل العظيم - نسأل الله السلامة والعافية! – بسبب الرفث.(/21)
{وَلاَ فُسُوقَ}: الفسوق: أصل من قول العرب: فَسَقَتِ الرُّطَبة، إذا خرجت من قشرها، وهذا الحرف لا تعرفه العرب في إطلاقه على المعاصي، ما كان يسمون المعاصي فسقًا، كما قرره غير واحد، وأشار إليه الإمام ابن جرير الطبري - رحمه الله - في تفسيره؛ ولكنه أدخل اصطلاحًا شرعيًّا، فالفسوق يصطلح في الشرع بثلاثة معانٍ: إما أن يقصد به مطلق العصيان لله - عز وجل - فيشمل جميع المعاصي صغيرها وكبيرها، وإما أن يقصد به كبائر الذنوب، وإما أن يُقصد به كبائر الذنوب المخرجة من الملة.
أما إطلاق الفسوق على المعاصي صغيرها وكبيرها، فهو قول طائفة السلف في هذه الآية، يحكى عن بعض تلامذة ابن عباس - رضي الله عنهما - كعطاء وغيره أن الفسوق المعاصي كلها، ويحكى حتى عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن الفسوق: هي المعاصي كلها، فيشمل الصغائر والكبائر، فمن أساء إلى أخيه ولو بصغيرة؛ فإنه يعتبر خارجًا من هذا الفضل في قوله: ((مَن حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق)).
وأما الحال الثانية: أن يطلق الفسوق بمعنى كبائر الذنوب، وهذا في آية الحجرات: {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} [الحجرات: 7]، فأشار أن للذنوب ثلاث مراتب: العصيان للصغائر، والفسوق للكبائر، والكفر للمخرج من الملة.(/22)
وقد يطلق الفسق بمعنى الكفر؛ كقوله - عز وجل -: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47]، فقالوا: إن الفسق هنا بمعنى الكفر - والعياذ بالله - إذا استحل ذلك واعتقد حِلَّه، فيطلق الفسق بهذه المعاني الثلاثة: إما أن يراد به عموم الذنوب؛ لأن قول العرب فسقت الرطبة؛ بمعنى خرجت من قشرها، قالوا: فالعاصي لله خارج عن أمره ونهيه، قالوا فيوصف بكونه فاسقًا من هذا الوجه، وإما أن يراد به كبائر الذنوب، وإما أن يراد به المخرج من الملة، والمراد هنا عموم الذنوب صغيرها وكبيرها؛ أي يجب وينبغي على الحاج أن لا يصيب صغائر الذنوب وكبائرها ويتقي ذلك.
وأما قوله: {وَلاَ جِدَالَ} الجدال: إما أن يكون على وجه مشروع، وإما أن يكون على قصد ووجه ممنوع، فالوجه المشروع الذي يكون بالتي هي أحسن؛ لأن الله وصف المجادلة بالتي هي أحسن، فأمرنا بمجادلة أهل الكتاب: {وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت: 46]، فوصف الجدال بالتي هي أحسن، فما كان من الجدال بالتي هي أحسن؛ كطالب علم تناقشه في مسألة، تريد الوصول فيها إلى الحق، بنفسٍ زكية طيبة مطمئنة، وأسلوب هادف، وهو كذلك يبادلك الشعور؛ فهذا لا حرج فيه.
وإما أن يكون بأسلوب ممنوع، وهذا الذي فسر به طائفة من السلف، وهو أن يجادل الغير من أجل أن يحنقه، وأن يغيظه، وأن يجعله يخرج عن طوره، ولربما إلى درجة الغضب والضيق، قالوا هذا هو الممنوع: {وَلاَ جِدَالَ} أي: ما أوصل إلى هذا الحد الممنوع، وأما إذا كان بالمشروع فلا حرج، وكان بعض السلف يكره الجدال حتى في البيع والشراء، قالوا إذا أراد الإنسان أن يشتري لا يجادل، يحرص قدر المستطاع على أن لا يجادل؛ إلا في أحوال مستثناة؛ كأن يُظلم في حقه، فهذا مستثنى أن يقول بالمعروف، والله - تعالى - أعلم.
مسائل الطواف والسعي بين الصفا والمروة
السؤال الثامن والعشرون:(/23)
هل طواف القدوم واجب على المفرِد للحج وما الدليل؟
الجواب:
طواف القدوم ليس بواجب على المفرِد بالحج؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَن وقف موقفنا هذا، وصلى صلاتنا هذه، وكان قد أتى عرفات أي ساعة من ليل أو نهار؛ فقد تم حجه))، قالوا: فهذا يدل على أن المفرد لا يجب عليه طواف القدوم، والله - تعالى - أعلم.
السؤال التاسع والعشرون:
هل يجب على من ابتدأ الطواف أن يستلم الحجر أو لا؟
الجواب:
لا يجب عليه أن يستلم الحجر، وإنما يشير إليه إن عجز، وإنما هو سنة وليس بواجب، والله - تعالى - أعلم.
السؤال الثلاثون:
ما هو هديه - عليه الصلاة والسلام - في الرمل؟ وفي أي طواف يكون؟ وهل يشرع للنساء الرمل في الطواف والسعي ولماذا؟
الجواب:(/24)
أما بالنسبة لهدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في الرمل، فإنه كان أصله في عمرة القضية أنهم قالوا: قَدِمَ عليكم أهلُ يثرب، قد وهنتهم الحمى، فنزل جبريل بالوحي على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال لأصحابه: ((رحم الله امراءً أراهم من نفسه جلدًا))، فلما ابتدأ الطواف اضطبع - صلوات الله وسلامه عليه - ثم هرول الأشواط الثلاثة، فقالت قريش: إنهم يَنْقُزون نَقْزَ الظبى، وهذا إشارة إلى أنهم على جلد وقوة، حيث لم يرضوا بأن يسيروا حتى هرولوا، ثم كان - عليه الصلاة والسلام - يمشي بين الركنين، ثم لما كانت عمرة الجِعْرَانة رمل - عليه الصلاة والسلام - ولم يمشِ بين الركنين، وإنما رملها الثلاث كاملة، وبناءً على ذلك قالوا من السُّنة أن يكون الرمل كاملاً، وكان في أول التشريع يمشي بين الركنين؛ لأنهم كانوا على ناحية أبي قبيس، لا يرونه - صلوات الله وسلامه عليه - فيتوارى بالبيت، فإذا خرج عليهم خرج مهرولاً، والرمل: يقولون تقارب الخطا مع هز المناكب، قال عمر بن الخطاب فيم الرملان وهز المناكب وقد أطلع الله للإسلام؛ ولكن لا ندع شيئًا فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهذه هي المشية المعتبرة، ولا تكن بالجري؛ وإنما هو ضرب دون اشتداد السعي وفوق المشي المعتاد، وهو ما يسمونه بالهرولة الثلاث الأشواط الأول، وأما بقيتها فقد مشى - صلوات الله وسلامه عليه - وذلك في طواف القدوم، يكون في طواف العمرة، ويكون كذلك في طواف القدوم بالنسبة للمفرِد، وكذلك في طواف المتمتع، وفي طواف القارن إذا طاف قبل يوم عرفة.
أما بالنسبة للنساء فلا رمل عليهن، قال عبدالله بن عمر: "ليس على النساء رمل"؛ والسبب في ذلك أن المرأة إذا رملت تكشفت، ولذلك يُمنع النساء من الرمل، لا يرملن لا في الطواف بالبيت، ولا في السعي بين الصفا والمروة، والله - تعالى - أعلم.
السؤال الواحد والثلاثون:
هل يصح الطواف بغير وضوء؟ وهل يجزئ طواف الحائض والنفساء؟
الجواب:(/25)
الصحيح أنه لا يصح الطواف بدون وضوء؛ لحديث ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((الطواف بالبيت صلاة))، وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لايقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ))، ومن الأدلة التي تقوي أن الطواف تُشترَط له الطهارة حديثُ أم المؤمنين عائشة في الصحيح لما نُفِسَتْ، قال - عليه الصلاة والسلام -: ((اصنعي ما يصنع الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت))، فهذا يدل على أنه تشترط له الطهارة، ويقوي ذلك أن الطواف تشرع له الركعتان، ولذلك لا يستقيم أن يطوف بالبيت، ثم يذهب ويتوضأ من أجل أن يصلي ركعتي الطواف؛ بل قال بعض العلماء: لو فصل بين طوافه وبين الركعتين يقولون: إنه إذا كان فاصل مؤثر يستأنف وإن كان الصحيح أنه لا يستأنف؛ لكن لا يستقيم أن الإنسان يطوف ثم بعد ذلك يؤخر ركعتي الطواف على هذا الوجه، على خلاف الوجه المعتبر بالسنة، وبناءً على ذلك يقوى القول باشتراط الطهارة للطواف، ولا يصح الطواف إلا بطهارة.
وخالف الحنفية، وقالوا قصد الشرع أن تطوف بالبيت، بغض النظر عن كونك متوضئًا أو غير متوضئ؛ لأنهم نظروا من جهة الرأي إلى المعنى، وهذا لا شك أنه اجتهاد، أقوى منه حديثُ ابن عباس؛ فإن حديث ابن عباس أقل ما قيل إنه موقوف على ابن عباس، والموقوف على ابن عباس لا يخفى قوته، خاصة وأنه قال: ((الطواف بالبيت صلاة))، هذا يدل على أنه يشترط له ما يشترط للصلاة من طهارة، ولا معنى ذلك إلا بالطهارة، وجاءت السنة في حديث عائشة تقوي ذلك، وليس معنى ذلك أنه يشابه الصلاة من كل وجه؛ لأن القياس لا يستلزم أن يكون من كل وجه، وللمسألة بسط ذكرناه في مسائل الحج، والله - تعالى - أعلم.
السؤال الثاني والثلاثون:(/26)
إذا أقيمت الصلاة وأنا في الطواف، فهل يشرع لي قطعه، أو أتمه ثم أصلي، وإذا كان يشرع لي أن أقطعه ثم انتهت الصلاة، فهل يتم من المكان الذي قطعت فيه الطواف، أو أبتدئ الشوط المقطوع من أوله؟
الجواب:
إذا أقيمت الصلاة تقطع الطواف وتدخل مع الجماعة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة))، وقد سمى الطواف بالبيت صلاة، فتدخل مع جماعة المسلمين وتصلي، ثم بعد ذلك هل تبدأ من المكان الذي وقفت فيه، أو تبدأ بالشوط الذي وقفت في أثنائه؟ الأقوى والأولى أن تبدأ من بداية الشوط الذي وقفت في أثنائه، وإن بدأت من المكان الذي قطعت فيه فلك وجه، وله حظ من النظر، والله - تعالى - أعلم.
السؤال الثالث والثلاثون:
إذا لم أتمكن من ركعتي الطواف خلف مقام إبراهيم، فهل أنتظر حتى يخف الزحام، أو أصليها في أي موضع من المسجد؟ وهل يجوز أن تصلى ركعتي الطواف خارج المسجد؛ كركعتي طواف الوداع؟
الجواب:
ركعتي الطواف، السنة فعلها خلف مقام إبراهيم؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك، وظاهر التنزيل يدل عليه: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125]، ثم إن مقام إبراهيم تجعله بينك وبين البيت، فإن كان الزحام بقربه تباعدتَ، وصليت في الأروقة والمقام بينك وبين البيت، فإن لم يتيسر لك صليت في أي ناحية من البيت، ولو شئت أن تصلي خارج المسجد، فذلك خلاف السنة؛ ولكنه يجزئ، فإن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فعل ذلك؛ فقد طاف بعد صلاة الصبح، كما روى مالك في موطئه، وأخَّر ركعتي الطواف إلى ما بعد طلوع الشمس، فصلاها بذي طوى، وذي طِوى وطَوى وطُوى، وهو وادي المثلث، معروف الآن يسمى بـ(الزاهر)، وهذا ليس في المسجد ولكنه داخل حدود الحرم، وقال بعض العلماء: إنه يصليها في أي موضع من مكة، ولا حرج عليه في ذلك، والله - تعالى - أعلم.
السؤال الرابع والثلاثون:(/27)
ما حكم السعي بين الصفا والمروة، وهل هو سنة أو لازم في الحج والعمرة؟
الجواب:
السعي بين الصفا والمروة من أركان العمرة والحج؛ فلا يصح ولا يتم الحج إلا بالسعي بين الصفا والمروة، وهكذا بالنسبة للعمرة، كما هو ظاهر خبر أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - وهذا هو قول جماهير العلماء - رحمة الله عليهم - ومنهم الأئمة الأربعة، على تفصيل في اللزوم: بعضهم يراه ركنًا، وبعضهم يراه واجبًا، على تفصيل بينهم في ذلك؛ لكن الجماهير على أنه لازم واجب، وهو مذهب أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - وجملة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وفقهاء التابعين، والله - تعالى - أعلم.
السؤال الخامس والثلاثون:
هل البداءة بالصفا لازمة، أو يجوز لي أن أبدأ بالمروة قبل الصفا؟
الجواب:
البداءة بالصفا لازمة، ومَن ابتدأ بالمروة يلغي الشوط الذي بدأه من المروة، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: ((أبدأ بما بدأ الله به))، وقد وقع فعله - عليه الصلاة والسلام - بيانًا لواجب، والقاعدة في الأصول: "أن بيان المجمل الواجب واجب"، وبناءً على ذلك يعتبر هذا من الواجبات، ولا يصح شوطه الذي يكون من المروة إلى الصفا، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد))، فكان أمره - عليه الصلاة والسلام - بالبداءة بالصفا في عمره وحجه - صلوات الله وسلامه عليه - والله - تعالى - أعلم.
مسائل متفرقة في الحج
السؤال السادس والثلاثون:
ما هو هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الوقوف بعرفة؟
الجواب:(/28)
كان من هديه - عليه الصلاة والسلام - أنه خرج بعد صلاة الفجر من منى، والصحابة معه ما بين مهلِّل ومكبرٍ وملبٍّ، لم يعب أحدهم على الآخر، حتى نزل - صلوات الله وسلامه عليه - بنَمِرَة - ونمرة المنبسط الذي يكون ما بين حدود الحرم وما بين الوادي وادي عُرَنَة، وهو منبسط يقرب من نصف كيلو متر - هذا يسمى بنمرة نزل فيه - صلوات الله وسلامه عليه - وذلك قبل الزوال، ثم إنه لما زالت الشمس مضى على ناقته القصواء - صلوات الله وسلامه عليه - وخطب الناس من بطن الوادي، فأحلَّ الحلالَ وحرَّم الحرامَ، وبيَّن ما على الناس من حقوق وواجبات، ثم بعد ذلك أقام لصلاته فصلى الظهر، ثم أقام للعصر فصلاهما جمعًا وقصرًا، ثم بعد ذلك مضى إلى موقفه، وما زال يتضرع ويسأل الله العظيم من فضله حتى غابت عليه الشمس - صلوات الله وسلامه عليه - استقبل القبلة وجعل بطن ناقته إلى الصخرات، وما زال يتضرع، ويسأل الله من فضله حتى غابت الشمس ولم يدفع بعد مغيب الشمس مباشرة؛ وإنما انتظر حتى ذهبت الصفرة؛ كما في حديث جابر بن عبدالله - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - انتظر حتى غابت الصفرة، وهو الصفار الذي يكون بعد الشمس، وهذا يقارب ما بين الخمس إلى عشر دقائق تقريبًا بعد الغروب مباشرة، ثم دفع - صلوات الله وسلامه عليه - فكان يسير العَنَقَ، فإذا وجد فجوة نَصَّ، وكان يقول: ((أيها الناس عليكم السكينة السكينة))، صلوات الله وسلامه عليه إلى يوم الدين.
السؤال السابع والثلاثون:
ما حكم مَن وقف بعد الزوال، ودفع قبل غروب شمس يوم عرفة؟
الجواب:
مَن وقف بعد الزوال، ودفع قبل غروب الشمس، فلا يخلو من حالتين:(/29)
الحالة الأولى: إما أن يرجع قبل طلوع الفجر من صبيحة العيد، فإن رجع إلى عرفة ومر بها - ولو للحظة واحدة - سقط عنه الدم، وأجزأه ذلك المرور؛ لأن الوقوف بالليل يسقط وقوف النهار، والعبرة بالليل بدليل إمساكه - صلوات الله وسلامه عليه - لجزء الليل بعد المغيب، والأصل في ذلك حديث عروة بن مُضَرِّس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَن صلى صلاتنا هذه، ووقف موقفنا هذا، وكان قد أتى عرفات أي ساعة من ليل أو نهار))، فهذا يدل على أن العبرة بالليل في أي أجزائه.
وأما النهار، فقد بيَّنت السنة الفعلية على أن هذا الإطلاق مقيَّد بفعله - عليه الصلاة والسلام - وذلك بمغيب الشمس؛ لأنه قال: ((خذوا عني مناسككم))، فأصبح بيانه الفعلي واجبًا، ومن هنا قالوا من دفع قبل المغيب صح حجه، ولزمه دم إن لم يرجع، فإن رجع سقط عنه الدم، والله - تعالى - أعلم.
السؤال الثامن والثلاثون:
ما حكم المبيت بمزدلفة؟
الجواب:
المبيت بمزدلفة واجب، وذهب طائف من السلف إلى أنه ركن من أركان الحج، فعظموه لقوله - عليه الصلاة والسلام -: ((مَن صلى صلاتنا هذه، ووقف موقفنا هذا))، وإن كان الصحيح أنه من الواجبات، ولذلك أَذِن - صلوات الله وسلامه عليه – للضعفة، وعبَّر النص بالرخصة، والرخصة لا تكون إلا فيما هو واجب لازم، والمبيت بمزدلفة من واجبات الحج، ويبيت بها الإنسان إن كان قادرًا، فإن كان من الضعفة والحطمة والعجزة والصغار، يجوز أن يدفعوا: إما بعد منتصف الليل، وعلى حديث أسماء بعد مغيب القمر ليلة العيد؛ كما في صحيح البخاري، والله - تعالى - أعلم.
السؤال التاسع والثلاثون:
ما هو هديه - عليه الصلاة والسلام - في المبيت بمزدلفة؟
الجواب:(/30)
ثبت عنه - عليه الصلاة والسلام - أنه دخل الشعب - أفاض من عرفات بعد مغيب الشمس كما ذكرنا - ثم دخل الشعب فبال ثم توضأ فأحسن الوضوء، وقال له أسامة: "الصلاة يا رسول الله"، قال: ((الصلاة أمامك))، فمضى - عليه الصلاة والسلام - من طريق المأزمين، وهو الطريق الذي بين الجبلين، وكان قد دخل عرفات من طريق ضب، وهو الذي يجعل مجرى العين عن يساره، ويجعل المأزمين - أيضًا - عن اليسار، وهو الطريق الذي يكون من أسفل جمرة العقبة، فخرج - صلوات الله وسلامه عليه - من منى وسلك طريق ضب، ثم لما دفع وأفاض أفاض من طريق المأزمين الذي بين الجبلين، وهو الطريق الذي يسلكه المشاة الآن هذا هو طريق المأزمين، فمضى - عليه الصلاة والسلام - على ناقته القصواء حتى بلغ المزدلفة، فأمر بلالاً فأذَّن ثم أقام ثم صلى المغرب وصلى العشاء، وفي الصحيحين من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه لم يُسبِّح بينهما ولا على إثرهما.(/31)
قال بعض العلماء: إنه لا يشرع حتى الوتر، والصحيح أن قول ابن عمر - رضي الله عنهما –: "ولم يسبح بينهما ولا على إثرهما" المراد بذلك سُبحة الراتبة؛ وليس المراد بذلك نفي الوتر، وهذا مذهب جمهور العلماء على أن الوتر يبقى على الاستحباب؛ لعموم قوله - عليه الصلاة والسلام -: ((أوتروا يا أهل القرآن))، ((وأوتروا قبل أن تصبحوا))، وقال: ((إذا خشي أحدكم الفجر فليوتر بواحدة))، هذه العمومات لم يستثنَ منها ليلة النحر، ولذلك قالوا: إن سكوت النص عن وجود الوتر، لا يدل على عدم وجوده، بدليل أنه لم يَثْبُتْ عنه أنه صلى ركعتي الرغيبة في صبيحة العيد، ومع ذلك الإجماع قائم على مشروعيتها، ومع ذلك لم ينقل فيها نص؛ فدل على البقاء على الأصول، وهي التي دلت على مشروعية الوتر وركعتي الفجر، فمَن ترك الوتر يتأوَّل السنة، فلا حرج وهو على خير، ومن صلى فهو أحوط وأبلغ وأقرب، وهو أولى بالقربى، ويكون نفي ابن عمر - رضي الله عنهما - على السبحة الراتبة، ثم إنه اضطجع - صلوات الله وسلامه عليه - حتى بزغ الفجر، فصلى الفجر بغلس فبكر بها، ثم وقف بالمَشْعَر وتضرع وابتهل وناجى ربه وسأله من فضله العظيم، وهو من أجل المواقف، قال بعض السلف: "شهدت هذا الموقف أكثر من ثلاثين عامًا، أسأل الله أن لا يجعله آخر العهد، وكتب لي ذلك وإني لأستحي أن أسأله"، وكان عمره فوق التسعين، فرجع ومات من سَنَتِه، يقول: إنه ما سأل عبدٌ ربَّه حاجةً في عرفات، أو في وقوف المشعر، فمضى عليه حول إلا استجاب الله دعوته، وهذا من المواقف العظيمة، والناس فيه على قسمين:
منهم من يقول: ربنا آتنا في الدنيا حسنة، ويسكت عن الآخرة ويغفل عنها، ومثال ذلك أن يقول: اللهم أصلح لي تجارتي، اللهم أعطني مالاً، اللهم أعطني زوجة، اللهم افعل كذا وكذا، وكلها في أمور الدنيا، فيجعل الدنيا هي أكبر همه، ومبلغ علمه، وغاية رغبته وسؤله، وما له في الآخرة من خلاق، نسأل الله العافية!!(/32)
ومن الناس مَن يجمع بين خيري الدنيا والآخرة، وهذا هو الأفضل والأكمل هدي الكتاب الذي دل عليه قوله – تعالى -: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 201]، فهذا من معرض الثناء، فالأفضل أن تجمع بين دعوة الدنيا والآخرة، ثم إنه - عليه الصلاة والسلام - لما أسفر، وكادت الشمس أن تشرق، مضى - عليه الصلاة والسلام - وخالف المشركين، وكان المشركون يقولون: "أشرِقْ ثَبِير كيما نغير"، فما كانوا يدفعون من مزدلفة إلا بعد الشروق، فدفع بأبي وأمي - صلوات الله وسلامه عليه - قبل طلوع الشمس من صبيحة يوم العيد، والله - تعالى - أعلم.
السؤال الأربعون:
ما حكم رمي جمرة العقبة يوم النحر؟
الجواب:
رمي جمرة العقبة واجب، والجمار كلها من واجبات الحج؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رماها وقال: ((خذوا عني مناسككم))، وعلى هذا فإنه يعتبر من الواجبات التي إذا فوتها الإنسان لزمه الدم، وقد رمى - عليه الصلاة والسلام - جمرة العقبة يوم النحر؛ فلذلك نص العلماء على وجوبها ولزومها في الحج، والله - تعالى - أعلم.
السؤال الحادي والأربعون:
ما هو هديه - عليه الصلاة والسلام - يوم النحر في حجة الوداع؟
الجواب:(/33)
مضى - عليه الصلاة والسلام - حتى دخل منى، ودخلها من جهة وادي مُحَسِّر، فلما بلغ الوادي أسرع بناقته؛ لأنه موطن عذاب، ثم إنه - عليه الصلاة والسلام - لما دخل منى كان أول ما بدأ أن حيا منى برمي جمرة العقبة، ولذلك يقول العلماء: تحية منى يوم العيد رمي جمرة العقبة؛ أي يبدأ قبل أن يذهب إلى مخيمه، وقبل أن يذهب إلى منزله، يبدأ بجمرة العقبة تأسيًا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - مع أنه قد تكون هناك مشقة لبعض الناس؛ ولكن التأسي بالنبي - صلى الله عليه وسلم - والحرص على السنة له لذة يعرفها من يعرفها، وله حلاوة يجدها من وجدها، ولذلك يحرص الإنسان على لذة الحج في التأسي بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وما أروعها وألذها من ساعة! وأنت تحس أنك تيسير في المسير الذي ساره - عليه الصلاة والسلام - وما أطيب الحج وأزكاه حينما تمضي كما مضى - عليه الصلاة والسلام -! تقتفي أثره في أقواله وأفعاله؛ حتى تكون من المرحومين - جعلنا الله وإياكم ذلك الرجل، بمنه وفضله وهو أرحم الراحمين! - فيحرص الإنسان على البداءة برمي جمرة العقبة فضلاً، لا فرضًا، فإذا رماها فالسنة أن يرميها من بطن الوادي، ويرميها بسبع حصيات، ولا يقف للدعاء بعدها لا في يوم العيد، ولا في الأيام التي تليها، وهي أيام التشريق؛ فإنه لا يشرع الوقوف بعد رمي جمرة العقبة، رمى - عليه الصلاة والسلام - جمرة العقبة وهو على ناقته، ثم بعد ذلك كان يكبر الله مع كل حصاة، وقطع التلبية عند آخر حصاة، ثم انصرف ثم نحر ثلاثًا وستين بدنة بيده الشريفة - صلوات الله وسلامه عليه - وترك الباقي لعليٍّ ينحره، ثم أمر أن يطبخ من كل ناقة منها قطعة حتى يصيب من مرقها ويحسي - صلوات الله وسلامه عليه - ثم حلق رأسه فأعطى الحلاق شقه الأيمن، وهذا يدل على أنه السنة في حلاقة الرأس، العبرة بالمحلوق لا بالحالق، وذلك أن الذي يحلق الرأس له حالتان:(/34)
الحالة الأولى: إما أن يحلقك من قبل وجهك، فيأتيك من قبل وجهك، فهذا فيه خلاف.
قال بعض العلماء: العبرة بيمين الحالق لا بيمين المحلوق، فيمين الحالق في هذه الحالة يسارك، ويساره يمينك.
فقال بعض العلماء: العبرة بالحلاق، وقال بعضهم العبرة بالمحلوق.
الحالة الثانية: أما لو جاء من وراء ظهرك، فلا إشكال؛ فإن يمينه يمينك، ويساره يسارك، والصحيح أن العبرة بك سواء جاءك من الأمام أو من الخلف، فتقول له ابدأ بشقي الأيمن، خاصة إذا كان يجهل السنة، فناولَ الحلاق شقه الأيمن فحلق رأسه، ثم حلق شقه الأيسر، وأعطى أبا طلحة - رضي الله عنه – شعره، كما في الصحيح، وقسمه بين أصحابه؛ لأن هذا من خصوصياته - عليه الصلاة والسلام - لتمام المعجزة؛ لأن ذلك يقوي المعجزة والنبوة فاختص - صلوات الله وسلامه عليه - بالتبرُّك بشعره وبُصاقه، كما في الصحيح من حديث البخاري، كل ذلك من باب خصوصياته - عليه الصلاة والسلام - لا يشاركه فيها أحد - صلوات الله وسلامه عليه - ثم بعد أن رمى ونحر حلق رأسه، ثم نزل وطاف طواف الإفاضة في يوم العيد، ثم شرب من سقاية العباس، ثم صعد إلى منى وصلى بها الظهر، وهذا من بركة الوقت فإنك لو تأملت ذلك لما تيسر للإنسان أن يفعل بعض هذه الأفعال؛ إلا بعناء قبل الظهر، فضلاً أن يفعلها ثم يرجع ويصلي الظهر بمنى على الصحيح، والله - تعالى - أعلم.
السؤال الثاني والأربعون:
ما حكم المبيت بمنى ليالي التشريق، وما هو الحد المعتبر للمبيت؟
الجواب:
المبيت بمنى ليالي التشريق يعتبر من واجبات الحج.
والدليل على ذلك: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخَّص للعباس من أجل سقايته، قال العلماء: "رخَّص للعباس" يدل على أن الأصل واجب، فلما قال رخص دل على أن الأصل واجب ولازم، فالمبيت واجب والعبرة بأكثر الليل.
وللعلماء تفصيل:(/35)
قال بعضهم: أكثر الليل عندي الثلث؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((الثلث والثلث كثير))، فإذا مضى عليه ثلث الليل فأكثر وهو بمنى، صح مبيته.
وقال بعضهم: العبرة بآخر الليل، ولو أصاب جزءًا نام فيه، فإنه قد بات فيه، وإن كان الأقوى والأشبه أن العبرة بأكثر الليل، فتقسم الليل ساعات الليل إلى نصفين، ما بين غروب الشمس إلى طلوع الفجر تقسمه إلى قسمين، ثم بعد ذلك تنظر إلى أكثرهما، فلو كان أربع ساعات فيصبح العبرة أربع ساعات ونيِّف، إن مضى عليه أربع ساعات وزيادة، وهو بمنى، فإنه قد بات؛ وإلا لزمه الدم، والله - تعالى - أعلم.
السؤال الثالث والأربعون:
ما هديه - عليه الصلاة والسلام - في رمي الجمرات أيام التشريق؟
الجواب:
كان من هديه - عليه الصلاة والسلام - في أيام التشريق - كما في حديث جابر وغيره - أنه انتظر حتى زالت الشمس، فابتدأ بالصغرى ورماها بسبع حصيات، ثم أخذ ذات اليسار وقام قيامًا طويلاً يدعو ربه رافعًا يديه - صلوات الله وسلامه عليه - هذه من المواضع التي يشرع فيها رفع اليدين في الدعاء، فسأل وتضرع وسأل الله من فضله، ثم مضى ورمى الجمرة الوسطى بسبع حصيات، ثم أخذ ذات اليسار عنها ثم تضرع وسأل الله من فضله، كمثل وقوفه أولاً، ثم مضى إلى جمرة العقبة ورماها بسبع حصيات يكبر في كل حصاة، ثم بعد ذلك انصرف - عليه الصلاة والسلام - ولم يدعُ بعد جمرة العقبة، كما ذكرناه سابقًا، والله - تعالى - أعلم.
السؤال الرابع والأربعون:
مَن رمى الجمرات منكسة فهل يصح رميه؟
الجواب:(/36)
من رمى الجمرات منكسًا لها فابتدأ بالعقبة، ثم انتهى بالصغرى، أو ابتدأ بالوسطى ثم رجع إلى الصغرى، المهم أنه لم يراعِ الترتيب؛ فإنه لا يصح رميه حتى يوقعه مرتبًا على الصفة المعتبرة شرعًا، وبناءً على ذلك يعتبر رميه في هذه الحالة، لو رمى منكسًا فانتهى بالصغرى فقد رمى الصغرى، فنقول له: ارجع وارمِ الوسطى ثم الكبرى؛ لأنه لما وقف على الصغرى ورماها، فقد صح رميه للصغرى وحدها؛ لأن الصغرى لا يشترط لها سبق رمي، ثم بعد ذلك يتبعها بالوسطى، ثم بالعقبة حتى ينتهي من رمي جمراته؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((خذوا عني مناسككم))، فهي عبادة مؤقتة بالصفة التي وردت عنه - عليه الصلاة والسلام - والله - تعالى - أعلم.
السؤال الخامس والأربعون:
من عجز عن رمي الجمرات لمرض أو كبر، ونحو ذلك مما يعتبر عذرًا في إسقاط الرمي عن الشخص، فهل يشرع له التوكيل؟
الجواب:
نعم يشرع له التوكيل إذا كان لا يستطيع الرمي، وكان شخصًا مثلاً قد عمل عملية ولا يستطيع أن يبرح مكانه، كما لو عملت له ليلة العيد أو نحو ذلك لا يستطيع أن يرمي، فمثل هذا له أن يوكل، وقد رمى الصحابة عن النساء والصبيان، على كلامٍ في هذا الحديث؛ ولكن الأصول تدل على صحة متنه؛ فإن التكليف شرطه الإمكان، فلما عجز عن هذا جاز أن يقوم الوكيل، ومن الأدلة التي تعتبر أقوى الأدلة على مشروعية التوكيل عند العجز، وهو ظاهر من السنة، أن العاجز لما أذِن النبي - صلى الله عليه وسلم - بالحج عن مَن عجز عن الحج، أو عن من مات فعجز عنه حقيقة، قالوا: إن هذا في التوكيل بكل الحج، فلأن يصح التوكيل بجزئه عند العجز من باب أولى وأحرى، والشرع ينبه بالأعلى على الأدنى، وبالأدنى على ما هو أعلى منه، كما هو معلوم في الأصول، والله – تعالى - أعلم.
السؤال السادس والأربعون:
هل يشترط في الوكيل أن يكون مُحرِمًا أو يصح رمي الحلال؟
الجواب:(/37)
لا يصح إلا رمي المحرِم؛ لأن الرمي عبادة لا تصح إلا من محرِم، فلا يوكل الحلال في رميه، والله – تعالى - أعلم.
السؤال السابع والأربعون:
هل يصح رمي الوكيل عن وكيله قبل رميه عن نفسه، وما الدليل؟
الجواب:
لا يصح رمي الوكيل قبل أن يرمي عن موكله، يبتدئ فيرمي عن نفسه حتى يتم الجمرات كلها، ثم يرجع ويرمي عن وكيله؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((حج عن نفسك، ثم حج عن شبرمة))، وهذا نص مطلق يشمل الكل والجزء، وعلى هذا فلا بد وأن يتم الرمي حتى ينتهي من جمرة العقبة، ثم يعود بعد ذلك لرمي وكيله، والله – تعالى - أعلم.
السؤال الثامن والأربعون:
من شك في وقوع الحصاة في الحوض فما حكمه؟
الجواب:
بنى على اليقين، فإذا كان شك هل وقعت أو لم تقع، فاليقين أنها لم تقع، حتى يتأكد من وقوعها، ولو شك هل رمى ثلاث حصيات أو حصاتين، فإنه يبني على اثنتين، وهكذا بالنسبة للأحوال الأخرى، والله - تعالى - أعلم.
السؤال التاسع والأربعون:
ما حكم التعجيل، وما شرط جوازه؟ وهل إذا هيأ رحله ومتاعه ولم يخرج من منى بسبب الزحام ونحوه، هل هو متعجل؟
الجواب:
التعجيل مشروع بنص القرآن، كما في آية البقرة: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} [البقرة: 203]، قال بعض العلماء: {لِمَنِ اتَّقَى} لمن: قصد وجه الله - عز وجل - لا السآمة ولا الملل من العبادة؛ بمعنى أنه اتقى الله - عز وجل - وقيل: {لِمَنِ اتَّقَى} أن المراد به أطاع أمره واجتنب نهيه، على أنه وصفٌ عام؛ وليس قيدًا في الحكم.
والتعجيل شرطه أن تغيب عليه شمس اليوم ما قبل الأخير وهو الثاني عشر، وقد خرج من منى، فلو هيأ رحله؛ بل لو حتى خرج بسيارته، ولم يخرج من حدود منى؛ فإن نص القرآن واضح في الدلالة على أنه غير متعجل.(/38)
وأما اجتهاد بعض العلماء وقولهم: بأنه يعتبر متعجلاً مع أنه في منى؛ لأنه شد رحله وركب سيارته، فهذا اجتهاد مع النص، وليس بدليل واضح، وظاهر الآية الكريمة - كما يقول الجمهور - يشترط أن يكون خارج منى؛ بمعنى أن يخرج برحله ومتاعه؛ لأن الله قال: {تَعَجَّلَ} وهذه صفة، والصفات معتبرة مفاهيمها، فالذي لم يتعجل هذا يعتبر شرط: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ} وعلى هذا، هذه الصفة، وهي التعجل، يعتبر إذا تأخر لزحام أو غيره، لم يتعجل؛ لأنه تباطأ، ولو احتاط لنفسه فخرج مبكرًا لكان متعجلاً حقيقة، ولذلك قالوا: إنه يلزمه الرجوع، ويلزمه المبيت، وهذا هو الحق الذي تطمئن إليه النفس؛ لظاهر نص التنزيل.
وأما الاجتهاد فإنه لا يقوى في معارضة المنصوص من نص التنزيل، فلا بد أن تغيب عليه شمس اليوم وهو خارج جرمه عن منى؛ وإلا لزمه المبيت، والله - تعالى - أعلم.
مسائل الهدي وأحكامه
السؤال الخمسون:
ما هو السن المعتبر لهدي التمتع والقران؟
الجواب:
لا يجزئ إلا الثني من بهيمة الأنعام من الإبل، والبقر، والغنم، ويجزئ في الضأن ما كان من الجذع، وهو الذي تم له أكثر السنة، قال بعض العلماء: أكثر من ستة أشهر.
وقال بعضهم: أكثر العام، والصحيح أن ذلك يختلف باختلاف المرعى، وباختلاف أحوال البهائم، ولا يجزئ ما كان دون ذلك، ومن هنا قال العلماء: شروط الهدي كشروط الأضحية، فلا بد أن تكون في المعز قد تمت سنة ودخلت في الثانية، فإذا كانت دون سنة، لا يجزئ في المعز أن يهدي بها في تمتع ولا قران، وهكذا في الدماء الواجبة.
وأما بالنسبة للبقر فما تمت له سنتان ودخل في الثالثة، وأما الإبل فما تمت له أربع سنوات ودخل في الخامسة، هذا هو المعتبر في بهيمة الأنعام، والله - تعالى - أعلم.
السؤال الحادي والخمسون:
هل تعتبر البقرة والناقة في الهدي عن سبع؛ كما في الأضحية، أو تجزئ عن واحد؟
الجواب:(/39)
نعم تجزئ عن السبع، ولو اختلفت الدماء، فلو أن سبعة تمتعوا واشتركوا في بدنة، فلا إشكال، ولو أن سبعة، اثنان منهم يريدانها أضحية، والخمسة يريد اثنان منهم عن تمتع، وثلاثة عن قران؛ لا حرج، سواء اتفقوا في الموجب أو اختلفوا، كل ذلك يجزئ فيه التعدد عن سبعة في البدنة والبقرة، على ظاهر حديث جابر - رضي الله عنه وأرضاه - في الصحيح من إجزاء البدنة عن سبعة، والله - تعالى - أعلم.
السؤال الثاني والخمسون:
إذا لم يتيسر لي ذبح هدي التمتع أو القران بمنى، وذبحته بمكة أو خارج مكة، فما الحكم مع الدليل؟
الجواب:
يجزئ أن تذبح في مكة كلها؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((نحرت ها هنا، وفجاج مكة وشعابها كلها منحر))؛ فمكة كلها يجزئ أن ينحر الإنسان فيها وأن يذبح هديًا، سواء كان لتمتع أو قران، والله - تعالى - أعلم.
السؤال الثالث والخمسون:
إذا لم يتيسر لي الهدي في التمتع، ولم أتمكن من صيام ثلاثة أيام قبل يوم عرفة، فما الحكم؟
الجواب:
إذا لم يتيسر لك الصيام قبل يوم عرفة، تصوم أيام التشريق الثلاثة، فإذا لم تتمكن لا في هذه ولا في هذه؛ فيجزئك أن تصومها، سواء صمتها بعد حجك مباشرة والبقية تتمها في بلدك، وهي السبع على ظاهر التنزيل، فالثلاث مخير بين أن تتعجلها قبل وصول البلد وبين أن تتم العشرة في بلدك، والله - تعالى - أعلم.
السؤال الرابع والخمسون:
أريد التمتع وليس معي من المال إلا ما يكفي لشاة واحدة، فهل الأفضل أن أجعلها للتمتع، أو للأضحية وأصوم عن التمتع؟
الجواب:(/40)
أولاً: إذا كنت قد أحرمت بالعمرة وأديت العمرة، وكان تمتعك على هذا الوجه، فبعض العلماء يستحب أن تجعل شاتك للأضحية وأن تحج مفرِدًا؛ وذلك لأن حج الإفراد من الحجج المعتبرة، وحديث عروة بن مُضَرِّس يدل على أن فسخ الحج بالعمرة ليس بواجب، وأنه يجزئ الإفراد حتى بعد وفاته، وقد حج بالإفراد أبو بكر، وعمر - رضي الله عنه – وعثمان - رضي الله عنهم - ثلاثة أئمة خلفاء راشدون كلهم ما حجوا إلا إفرادًا، فإذا كان الإنسان يريد أن يترك الأضحية في بيته، فيكون حينئذ قد أصاب فضيلة هذه الأضحية، خاصة وأن لها وجهًا من الوجوه، وهو القول الراجح، فبدل أن ينصرف إلى التمتع المخير ويترك الواجب عليه، فالأفضل أن يصرفها إلى الأضحية ثم يتمتع.
وأما إذا كان لم يعتمر، وأراد أن يجمع عمرته وحجه، فحينئذٍ يجعل هديه للتمتع، ولا يجزئه أن يصرفه إلى الأضحية ويصوم العشرة، والله - تعالى - أعلم.
السؤال الخامس والخمسون:
هل يجوز لي الأكل من هدي التمتع والقران؟ وما الدليل؟
الجواب:
نعم يشرع؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك، وطبخ له من مرق الإبل التي نحرها وأهداها - صلوات الله وسلامه عليه - والله - تعالى - أعلم.
السؤال السادس والخمسون:
ما حكم طواف الوداع، وهل يسقط عن الحائض والنفساء مع الدليل؟
الجواب:
طواف الوداع واجب؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((اجعلوا آخر عهدكم بالبيت طوافًا))، وأما الحائض والنفساء رخص لهما كما في الصحيح من حديث أم المؤمنين عائشة: "إلا أنه رخص للحائض والنفساء"، وفي حديث صفية: ((عَقْرَى حَلْقَى، أحابستنا هي؟!))، ثم قال: ((ألم تكن طافت يوم النحر))، قالوا: نعم، قال: ((انفري إذًا))؛ فهذا يدل على أن الحائض والنفساء لا يتأخران لطواف في الوداع، والله - تعالى - أعلم.
السؤال السابع والخمسون:
ما حكم طواف الإفاضة، ولو تركه الإنسان وسافر إلى بلده ولم يطفه فما الحكم؟
الجواب:(/41)
طواف الإفاضة ركن من أركان الحج، وقد أجمع العلماء - رحمهم الله - على ركنيته لقوله - تعالى -: {ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29]، أجمع العلماء - رحمهم الله - على أن المراد بالطواف في هذه الآية طواف الإفاضة، وأنه لا يمكن أن يحكم باعتبار الحج إلا بطواف الإفاضة، وأنه لو رجع إلى بلده ولم يطف طواف الإفاضة، فلا يزال طواف الإفاضة معه إلى الأبد، ولو رجع بعد سنوات فيلزمه أن يرجع إلى هذا الطواف، ولذلك يبقى بطواف الإفاضة، فلو أصاب أهله فهناك قضاء لبعض السلف، أنا أتوقف في هذه المسألة، قالوا فلو أصاب أهله يحرم بعمرة، ثم يبدأ ويطوف طواف الإفاضة، ثم بعد ذلك يطوف ويسعى لعمرته، ثم بعد ذلك يهدي، هذا قضاء بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ويؤثر عن ابن عباس، وابن عمر - رضي الله عن الجميع - والله - تعالى - أعلم.
السؤال الثامن والخمسون:
ما حكم الحائض والنفساء إذا لم تتمكن من طواف الإفاضة، وأصابها الحيض والنفاس، وخافت فوات الرفقة؟
الجواب:(/42)
يلزمها البقاء حتى تطوف طواف الإفاضة، طواف الإفاضة ركن من أركان الحج، ولو أنها تعطلت لأمور شخصية لتعطلت، ولو كانت لأمور علاجية لجلست، ولكن لركن الحج ولفريضة الله - عز وجل - فإننا نلتمس الرخص، فإلي الله المشتكى! هذا الركن يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه: ((عقرى حلقى أحابستنا هي؟!))، هذا نص صحيح صريح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقوله: ((أحابستنا)) يقول العلماء: لأنه لا يخرج حتى تطوف، وإذا كان هو لا يخرج؛ فالمائة ألف من الصحابة لا يخرجون حتى يخرج، فقال: ((أحابستنا))؛ أي هذه الأمة كلها ستحبس حتى يطاف طواف الإفاضة، ثم بعد ذلك يرخص لها أن تتلجم، وأن تدخل وتطوف وهي حائض وهي نفساء، يقولون للضرورة، ولذلك مذهب جمهور العلماء، وهو الأرجح خلافًا للحنفية الذين يقولون إن الطهارة ليست بشرط في الطواف، فيرخصون لها أن تطوف، ولو كان معها الحيض والنفاس، ويقولون: لا حرج عليها أن تتلجم وتطوف، ولو كان الأمر كذلك لما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((عقرى حلقى أحابستنا هي؟!))، لكان الأمر يسيرًا، ولم يَحتجْ إلى هذا الأمر الذي فيه التهويل: ((أحابستنا هي؟!))، ويقول: ((عقرى حلقى)) تقول العرب: عقرى؛ أي عقرها الله، وحلقى؛ أي حلقها الله، وهذا لا يريد به النبي - صلى الله عليه وسلم - الدعاء عليها؛ وإنما هو سياق تهويل وتعظيم، يدل على لزوم هذا الطواف، ولو كانت حائضًا أو نفساء؛ لكن لو خافت فوات الرفقة تذهب ثم ترجع بعد ذلك وتطوف طواف الإفاضة.(/43)
أما أن تطوف وهي حائض، فإن مذهب جمهور العلماء أنه لا يجزئها هذا الطواف، ووجوده وعدمه على حد سواء؛ إلا في حالة إذا استفتت من يرى أنه لا يشترط لها الطهارة وطافت، فيجزئها ذلك إذا استفتت عالمًا يرى عدم الطهارة، كما هو مذهب الحنفية ومن وافقهم، فإنها تتعبد الله بما استفتت، وهو قول طائفة من الأئمة والعلماء - رحمة الله عليهم - لكن الذي يظهر من السنة، والأقوى حُجة أنه لا بد من طوافها، والله - تعالى - أعلم.
السؤال التاسع والخمسون:
هل يسقط طواف الوداع عن أهل جدة ومَن كان دون مسافة القصر، وهل صحيح ما يفعله بعض أهل جدة من الرجوع إلى جدة بعد الحج، ثم يذهبون بعد الزحام لطواف الوداع؟
الجواب:
أما بالنسبة لطواف الوداع فيلزم أهل جدة، ومن أهل العلم من قال: يسقط طواف الوداع عن من كان دون مسافة القصر، ويرون أن من كان دون مسافة القصر؛ كأنه كانوا من أهل مكة، وهذا اجتهاد ورأي.
والصحيح ما ذهب إليه طائفة من العلماء أن طواف الوداع يشمل كل مَن كان خارج مكة، ولو كان من أهل الجموم؛ لأن أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كان الناس يصدرون من فجاج منى وعرفات"، قالت: "كان الناس" فعممت، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((اجعلوا آخر - وهذا عامٌّ - عهدكم بالبيت طوافًا))، وعلى هذا كل من خرج من مكة، سواء كان قريبًا منها دون مسافة القصر، أو فوق مسافة القصر؛ فإنه يطوف طواف الوداع، ويتخرج على القول الذي يشترط مسافة القصر، أن أهل جدة لا يطوفون طواف الوداع، وهو كما تلاحظون مبني على الرأي والاجتهاد، والصحيح أن طواف الوداع يشرع لمن كان دون مسافة القصر وغيره؛ لعموم قوله - عليه الصلاة والسلام -: ((اجعلوا آخر عهدكم بالبيت طوافًا)) فيلزمهم.(/44)
أما ما ذكر في السؤال من كون البعض يرجع إلى جدة بعد الحج، ثم بعد ذلك يعود حتى يخف الزحام، ويرجع ويطوف طواف الوداع لا شيء عليه إلا دم فقط؛ لأنه فوت الواجب، يقول العلماء: من بلغ أهله قبل أن يطوف طواف الوداع؛ فقد لزمه الدم، رجع أو لم يرجع؛ بل قال بعض العلماء: من خرج من حدود مكة لزمه الدم، سواء رجع أو لم يرجع، فطواف الوداع يشترط فيه أن لا يفارق مكة حتى يطوف طواف الوداع، وبناءً على ذلك فإنه لا يجوز هذا الفعل، والله - تعالى - أعلم.
السؤال الستون:
ما علامات الحج المبرور؟
الجواب:
أما علامة الحج المبرور، فالبر في الأصل هو كل عمل صالح يحبه الله ويرضاه، والحج المبرور له دلائل وعلامات، ومن أول هذه الدلائل والعلامات انشراحُ الصدر الذي يكون قبل الحج، أن ينشرح صدر الإنسان لأداء هذه الطاعة والقربى، وتظهر الدلائل من أول لحظة وهو يتلبس بهذه العبادة الجليلة، فلا يخرج من بيته رياء ولا سمعة، ويتمنى أن حجه بينه وبين الله، لا تراه عين، ولا تسمع به أذن، فإذا نظر إلى قلبه مخلصًا لربه، فليعلم أن ذلك من بشائر القبول من أول لحظة يجدها.(/45)
ثانيًا: انشراح الصدر لذكر الله - عز وجل - واستشعار هذه العبادة في مواطنها ومواضعها المختلفة، فالإنسان إذا خرج في حجه نظر كيف أن الله اختاره من بين الأمم، فحمد الله وشكره وهلله وكبره وذكره، وأثنى عليه بما هو أهله، فاطمأنت نفسه أن الله ما أخرجه من بيته إلا وهو يريد به الخير، يريد أن يرحمه، ويغفر ذنبه، ويستر عيبه، ويفرج كربه، وأن يجود عليه من إحسانه؛ وإلا لثبطه ولجعله مع المخلفين، فإذا مضى في حجه وطاف، استشعر وهو يطوف أنه يطوف فعمَّر وقته بذكر الله، وتلاوة القرآن، والتسبيح والاستغفار والتلبية، ولا يفتر عن التلبية مهما استطاع لذلك سبيلاً، ولقد عهدت بعض العلماء - رحمة الله عليهم - غالبًا لا يفترون عن التلبية، وإذا لبوا بكوا حتى إن البعض ذكر لي عن بعض العلماء - رحمة الله عليهم - الفضلاء الذين حج معهم، يقول: يسأل ويقول كلما ذكرت نعمة الله أن اختارني من بين الناس أبكي، أقول: لبيك مجيبًا لك بتوفيقك ورحمتك وإحسانك وفضلك وأنت أرحم الراحمين، فالإنسان إذا استشعر في عبادته وخشع وخضع وأناب وأحس أنه مقبل على الله، فذلك من بشائر البرور.(/46)
كذلك من دلائل البرور في الحج العمل الصالح؛ بالإحسان إلى المسلمين، وتفقد ضعفة الحجاج، ترى جائعًا تطعمه، ترى فقيرًا تعطيه، ترى عاريًا تكسوه، ترى محتاجًا تسد حاجته، ومكروبًا تفرج كربته، وترى أنهم إخوانك، وأن الله جمعك بهم حتى ترحمهم وتتواصل بهم، لا تتكبر عليهم، أسودهم وأبيضهم، أحمرهم وأصفرهم، عربهم وعجمهم في عينك سواء، تحبهم في الله ولله، وترى كبيرهم كالأب، وصغيرهم كالابن، ومن في سنك كالأخ، تعطف عليهم وترحمهم وتحمد الله - عز وجل - أنه جمعك بهم على طاعة الله ومحبة الله، وانظر إلى عظمة الله، فتقول لا إله إلا الله حينما تنظر إلى رجل من أقصى الشرق، ومن أقصى الغرب قد جعل الله كتفك إلى كتفه في هذا المكان، وهو من أقصى الشرق وأقصى الغرب، قد جاء الله به هنا إلى رحمته وعفوه، ومنه ولطفه فتزال هذه المواقف لا تزال تزيد من إيمانك، العطف على الناس في الحج من بر الحج، وقد جاء في حديث أحمد والطبراني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن بر الحج فقال: ((إطعام الطعام، وإفشاء السلام)).
وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الحمَدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَميْنَ، وصلَّى اللَّهُ وسلَّم وبارك على عبده ونبيِّه محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
جمعها حادي الركب
منتدى الفوائد(/47)
العنوان: فتاوى الشيخ عبدالعزيز بن باز (ج 2 و 3)
رقم المقالة: 1765
صاحب المقالة: سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز
-----------------------------------------
فتاوى سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز عن الحج
الجزآن: الثاني والثالث
حكم من قدم لعمل وأقام دون الميقات، وهو ينوي الحج إذا تَيَسَّر له ذلك.
س: رجل مُقيم بالرِّياض ولديه عمل بجدة، في مَوْسم الحج، ولا يعرف هل يتيسر له الحج أم لا؟، فإذا تيسر له ذلك، فمن أين يُحْرِم؟ وإذا كان يعلم أنه سيتيسر له أداء فريضة الحج قبل انطلاقه من الرياض، فهل ينوي الحج في الرياض، ويحرم من ميقات أهل نجد؟ أم يكون إحرامه من جدة؟[1]
ج: من أتى مكة وهو ينوي الحج إن تَيَسَّر له، ثم تيسر له فعزم على الحج، فإنه يحرم من مكانه سواء كان داخل المواقيت أو في مكة. أما إن كان يعلم أنه يسمح له بذلك فإنه يلزمه الإحرام بالحج من الميقات الذي يمر عليه، إذا مر عليه وهو عازِمٌ على الحج؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا وَقَّت المواقيت: ((هُنَّ لَهُنَّ، وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِ أهلِنَّ ممن أراد الحج والعمرة، ومن كان دون ذلك فمُهَلُّه من حيث أنشأ حتى أهل مكة من مكة))؛[2] متفق على صحته.
حكم من نوى الحج وهو يدرس في بلد خارج الميقات وأهله في جدة.
س: أنا طالب أدرس في المنطقة الشرقية، وأهلي في جدة، وأريدُ الحج، فمن أين أحرم: هل من قَرْن المنازل أو من سكني في جدة؟[3]
ج: أنت مُخَيَّر ما دُمْتَ مِن سكان جدة دون الميقات، وإذا أحرمت من قرن المنازل فهو أفضل وأَوْلَى؛ لكونك وافدًا وأخذت بالأكْمَل والأحْوَط، وإن قصدت أهلك ثم أحرمت منهم فلا بأس.
باب الإحرام
لا بأس من غسل ملابس الإحرام
س: هل يجوز تغيير لباس الإحرام لغَسْلِه؟[4]
ج: لا بأس أن يغسل المُحْرِم ملابس الإحرام، ولا بأس أن يُغَيِّرَها، ويستعمل غيرها سواء أكانت جديدة أو مغسولة.
الحكم إذا وقع على ثوب الإحرام دم(/1)
س: إذا وقع على ثوب الإحرام دمٌ قليل أو كثير، فهل يُصَلَّى فيه وعليه الدم، وما حد ما يبطل الحج أو الصلاة مِن الدم إذا وقع على ثوب الإحرام؟[5]
ج: إذا وقع على ثوب المُحْرِم شيءٌ من الدم قليل أو كثير، فإنه يغسله إلا أنه يعفى عن اليسير عرفًا ويُصَلِّي فيه، أما إن كان كثيرًا فيجب غسله ولا يُصَلِّي فيه وفيه النجاسة؛ بل يجب عليه أن يغسل إحرامه من النَّجاسة، أو يغيره بإحرام آخر طاهر؛ لأن المُحْرِم له أن يغير ألْبِسَتَه، ولو بدون عذر، إذا أحب أن يغير لباس الإحرام بلباس آخر فلا بأس عليه ولو غيره عدة مرات، وهكذا المرأة لها أن تُغَيِّر ملابسها إذا أحرمت بملابس أخرى، ولو بدون عُذْر، وهكذا الرجل إذا أحرم مثلاً في إزار ورِدَاء ثم أحب أن يغيرهما بإزار ورداء آخرين، فلا حَرَجَ عليه في ذلك، ولا يُصَلِّي في ثوب أصابته النجاسة، فلو صلى وعليه النجاسة عامدًا لم تصح الصلاة، أما إن كان ناسيًا أو جاهلاً فالصلاة صحيحة. أما الحج فصحيح مطلقًا ولا يؤثر في صحته وجود بعض النجاسة في ملابس الإحرام.
حكم من يحس بخروج شيء أثناء الإحرام
س: ما حكم من يحس بخروج مذي أو قطرات من البول أثناء الإحرام، وكذلك عند خروجه إلى الصلاة؟[6](/2)
ج: الواجب على المؤمن إذا علم هذا أن يتوضأ إن كان الوقت وقت صلاة، ويستنجي من بوله ويستنجي من المذي، والواجب في المذي أن يغسل الذَّكَر والأُنْثَيَيْنِ، أما البول: فيغسل طرف الذَّكر الذي أصابه البول، ثم يتوضأ وضوءه للصلاة إن كان وقت الصلاة، أما إن كان الوقت ليس وقت صلاة فلا مانع من تأجيل ذلك إلى وقت الصلاة. لكن ينبغي أن لا يكون ذلك عن وسواس؛ بل عن يقين، أما إذا كان عن وسواس، فينبغي له أن يطرح هذا، ويعرض عنه؛ حتى لا يُبْتَلَى بالوساوس؛ لأن الناس قد يبتلون بشيء من الوسوسة يظن أنه خرج منه شيء، وهو ما خرج منه شيء، فلا ينبغي أن يعود نفسه للخُضُوع للوساوس؛ بل ينبغي له أن يطرحها، وأن يعرض عنها، ويتلهى عنها حتى لا يُصَاب بها. وإذا كان يخشى ذلك فلْيَرُش ما حول فرجه بالماء إذا فرغ من وضوئه؛ حتى يحمل ما قد يقع له من الوساوس على أن هذا من الماء حتى يسلم من شر هذه الوسوسة.
يجوز للمرأة الإحرام في أي ثياب بشرط عدم الفتنة
س: هل يجوز للمرأة أن تحرم في أي ثياب شَاءت؟[7]
ج: نعم تحرم فيما شاءت، ليس لها ملابس مخصوصة في الإحرام؛ كما يظن بعض العامة، وأن يكون إحرامها في ملابس غير لافتة للنَّظَر، وليس فيها فتنة وغير جميلة بل عادية؛ لأنها تختلط بالناس، ولو أحرمت في ملابس جميلة صح إحرامها؛ لكنها تركت الأفضل.
والأفضل للرجل أن يحرم في ثَوْبينِ أبْيضَيْنِ: إزار ورداء، وإن أحرم في غير أبْيَضَيْنِ فلا بأس، فقد ثبت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه طاف ببرد أخضر؛ كما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه لبس العمامة السوداء - عليه الصلاة والسلام - حين دخوله مكة عام الفتح.
فالحاصل أنه لا بأس أن يحرم في ثوب غير أبيض؛ لكن الأبيض هو الأفضل؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((البسوا من ثِيابكم البَيَاض، فإنَّها من خَيْر ثِيَابِكُم، وَكَفِّنُوا فيها مَوتَاكم))[8]
حكم استعمال الحبوب التي تمنع الدورة(/3)
س: هل من المُباح للمرأة أن تأخذ حُبوبًا تُؤَجِّل بها الدَّوْرة الشهرية؛ حتى تؤدي فريضة الحج؟ وهل لها مخرج آخر؟[9]
ج: لا حرج أن تأخذ المرأة حُبوب منع الحمل تمنع الدورة الشهرية أيام رمضان؛ حتى تصوم مع الناس، وفي أيام الحج حتى تطوف مع الناس، ولا تتعطل عن أعمال الحج، وإن وُجِد غيرَ الحبوب شيءٌ يمنع من الدَّوْرة فلا بأس، إذا لم يكن فيه محذور شرعًا أو مَضَرَّة.
حكم من أحرمت بالعمرة وهي حائض أو نفساء
س: امرأة تسأل وتقول: كان عليها العُذْر - أي حائض - وأراد أهلُها الذهاب للعمرة، حيث لا يبقى عندها أحد فيما لو تَأَخَّرَتْ عنهم، وذهبت معهم للعمرة، وأكملت كل شروط العمرة من: طوافٍ وسَعْي؛ كأن لم يكن عليها عذر؛ وذلك جهلاً وخجلاً من أن تعلم وليها بذلك، لا سيما أنها أمية لا تعرف القراءة والكتابة، ماذا يجب عليها؟[10]
ج: إذا كانت أحرمت معهم بالعمرة فعليها أن تعيد الطواف بعد الغسل، وتعيد التقصير من الرأس، أما السَّعْي فيجزئها في أصح قولي العلماء، وإن أعادت السَّعْي بعد الطواف فهو أحسن وأحوط، وعليها التوبة إلى الله - سبحانه - من طوافها وصلاتها ركعتي الطواف وهي حائض.
وإن كان لها زوج لم يحل له وطْؤُها؛ حتى تكمل عمرتها، فإن كان قد وطئها قبل أن تكمل عمرتها فسدت العمرة، وعليها دم وهو رأس من الغنم، جذع ضَأْن أو ثِنِيّ مَعْز يذبح في مكة للفُقراء، وعليها أن تكمل عمرتها كما ذكرنا آنفًا، وعليها أن تأتي بعمرة أخرى من الميقَات الذي أحرمت منه بالعمرة الأولى بدلاً من عمرتها الفاسدة، أما إن كانت طافت معهم، وسَعَتْ مُجَاملةً وحياءً وهي لم تحرم بالعمرة من الميقات، فليس عليها سِوَى التوبة إلى الله – سبحانه - لأن العمرة والحج لا يَصِحَّان بدون إحرام، والإحرام: هو نية العمرة أو الحج أو نيتهما جميعًا. نسأل الله للجميع الهداية والعافية من نَزَغَات الشيطان.(/4)
س: امرأة أحرمت للعمرة ثم جاءها الحيض، فخلعت إحرامها وألغت العمرة، وسافرت فما الحكم؟[11]
ج: هذه المرأة لم تزل في حكم الإحرام، وخلعها ملابسها التي أحرمت فيها لا يخرجها عن حكم الإحرام، وعليها أن تعود إلى مكة فتكمل عمرتها، وليس عليها كَفّارة عن خلعها ملابسها، أو أخذ شيء من أظفارها، أو شعرها، وعودها إلى بلادها إذا كانت جَاهِلَة، لكن إن كان لها زوج وطأها قبل عودها إلى أداء مناسك العمرة؛ فإنها بذلك تفسد عمرتها، ولكن يجب عليها أن تؤدي مناسك العمرة وإن كانت فاسدة، ثم تقضيها بعد ذلك بعمرة أخرى من الميقات الذي أحرمت منه بالأولى، وعليها مع ذلك فِدْيَة، وهي سبع بَدَنة، أو سبع بقرة، أو رأس من الغنم؛ جذع ضَأْن، أو ثِنِي معز يُذْبَح في الحرم المكي، ويُوَزَّع بين الفقراء في الحَرَم عن فساد عمرتها بالوطْء.
وللمرأة أن تحرم فيما شاءت من الملابس، وليس لها ملابس خاصة بالإحرام؛ كما يظن بعض العامة، لكن الأفضل لها أن تكون ملابس الإحرام غير جميلة حتى لا تحصل بها الفتنة، والله أعلم.
س: حاجة مغربية دخلت مكة محرمة، ثم جاءها الحيض بعد الطواف، فماذا يجب أن تفعل؟ [12](/5)
ج: هذه المرأة عليها أن تَسْعَى وتقصر من رأسها وتحل بنية العمرة، فإذا كان يوم التروية - وهو الثامن من ذي الحجة - أحرمت بالحج عند خروجها إلى مِنًى، أما إذا كانت أحرمت بالحج حين قدومها، وترغب أن تبقى على إحرامها بالحج، فإنها بالخيار: إن شاءت سَعَتْ وهي في حال الحيض؛ لأن السَّعْي لا يشترط له الطهارة، وإن شاءت أخرت السَّعْي إلى أن تنزل من عَرَفَة، ثم تسعى مع طواف الحج؛ لأنها بذلك تكون قد أفردت بالحج، وذلك جائز، ولكن جعل إحرامها عمرة أفضل؛ كما أمر بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه - رضي الله عنهم - لَمَّا دخلوا مكة في حجة الوداع، وقد أحرم بعضهم بالحج وبعضهم بالعمرة وبعضهم قد أحرم بهما جميعًا، فأمرهم - عليه الصلاة والسلام - أن يحلوا جميعًا، ويجعلوا إحرامهم عمرة إلا من كان معه الهَدْي، وهذا معروف في الأحاديث الكثيرة الصحيحة، والمشروع للمؤمن أن يتَحرَّى في أقواله وأعماله في الحج وغيره ما يُوافق سنة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - والله ولي التوفيق.
س: إذا خشيت المرأة أن تحيضَ إذا أتت الحرم، هل تشترط في العمرة؟[13]
ج: لها ذلك؛ لأن الحيض قد يحبسها عن إتمام عمرتها، ولا تستطيع معه التخلف عن رفقتها، أما الحج فوقته واسع فالحيض لا يكون فيه إحصار.
الحائض والنُّفَساء تقرأ الأدعية المكتوبة في مناسك الحج
س: هل يجوز للحَائض قراءة الأدعية يوم عَرَفَة على الرَّغْم من أن بها آيات قرآنية؟[14](/6)
ج: لا حَرَجَ أن تقرأ الحائض والنفساء الأدعية المكتوبة في مناسك الحج، ولا بأس أن تقرأ القُرْآن على الصحيح أيضًا؛ لأنه لم يرد نصٌّ صحيح صريح يَمْنَع الحائض والنفساء من قراءة القرآن؛ إنما ورد في الجُنُب خاصة بأن لا يقرأ القرآن وهو جُنُب؛ لحديث علي رضي الله عنه وأرضاه. أما الحائض والنفساء فورد فيهما حديث ابن عمر: ((لا تقرأ الحائض ولا الجُنب شيئًا من القرآن))[15]؛ ولكنه ضعيف؛ لأن الحديث من رواية إسماعيل بن عياش عن الحجازيينَ، وهو ضعيف في روايته عنهم، ولكنها تقرأ بدون مَسّ المصحف عن ظهر قلب، أما الجُنُب فلا يجوز له أن يقرأ القرآن لا عن ظهر قلب، ولا من المصحف؛ حتى يغتسل.
والفرق بينهما أن الجُنُب وقته يسير وفي إمكانه أن يغتسل في الحال من حين يفرغ من إتيانه أهله، فمدته لا تطول والأمر في يده متى شاء اغتسل، وإن عجز عن الماء تَيَمَّم وصلى وقرأ، أما الحائض والنفساء فليس الأمر بيدهما، وإنما هو بيد الله - عز وجل - فمتى طهرتَا من حيضهما أو نفاسهما اغْتَسَلتا، والحيض يحتاج إلى أيام والنِّفاس كذلك، ولهذا أبيح لهما قراءة القرآن؛ لِئَلاَّ تنسيانه؛ ولئَلاَّ يفوتهما فضل القراءة، وتعلُّم الأحكام الشرعية من كتاب الله، فمِنْ باب أَوْلى أن تقرأ الكتب التي فيها الأدعية المخلوطة من الأحاديث والآيات إلى غير ذلك، هذا هو الصواب، وهو أصح قولي العلماء - رحمهم الله - في ذلك.
أداء صلاة الإحرام ليس شرطًا لانعقاده
س: هل ينعقد إحرام المسلم للحج أو العمرة بدون أن يُؤَدي ركْعَتَي الإحرام، وهل الجهر بالنية في الإحرام شرط لانعقاده أيضًا؟[16](/7)
ج: أداء الصلاة قبل الإحرام ليس شرطًا في الإحرام؛ وإنما ذلك مُسْتَحَبّ عند الأكثر، والمشروع له أن يَنْوِي بقلبه ما أراد من حج أو عمرة، ويتلفظ بذلك بقوله: "اللهم لبيك عمرة"، أو "اللهم لبيك حجة"، أو بهما جميعًا إن أراد القِرَان؛ كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه - رضي الله عنهم - وليس التلفُّظ شرطًا؛ بل تكفي النية ثم يلبي التلبية الشرعية، وهي: ((لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك)). وهذه هي تلبية النبي - صلى الله عليه وسلم - الثابتة عنه في الصحيحَيْنِ وغيرهما.
اختلاف العلماء في استحباب ركعتي الإحرام
س: هل يشترط للإحرام ركْعَتَان أم لا؟[17]
ج: لا يشترط ذلك؛ وإنما اختلف العلماء في استحبابهما: فذهب الجُمهور إلى استحباب ركعتينِ يتوضأ ويصلي ركعتينِ ثم يُلَبِّي، واحتجوا على هذا بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أحرم بعد الصلاة؛ أي أنه صَلَّى الظهر، ثم أحرم في حجة الوداع، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((أتاني الليلة آتٍ من ربي، وقال: صَل في هذا الوادي المُبارك وقل عمرة في حجة))[18]، وهذا يدل على شرعية صلاة الركعتينِ، وهذا قول جمهور أهل العلم.
وقال آخرون: ليس في هذا نصٌّ، فإن قول: ((أتاني الليلة آتٍ من ربي، وقال: صل في هذا الوادي المبارك))، يحتمل أن المراد صلاة الفريضة في الصَّلَوات الخمس، وليس بنص في ركعتي الإحرام، وكونه أحرم بعد الفريضة لا يدل على شرعية ركعتينِ خاصة بالإحرام؛ وإنما يدل على أنه إذا أحرم بالعمرة أو بالحج بعد صلاة، يكون أفضل إذا تيسَّر ذلك.
الحائض لا تصلي ركعتي الإحرام ولا تمس المصحف
س: كيف تُصَلي الحائض ركعتي الإحرام؟ وهل يجوز للمرأة ترديد آي الذكر الحكيم في سِرِّها؟ [19](/8)
ج: أ- الحائض لا تُصَلي ركعتي الإحرام؛ بل تحرم من غير صلاة، وركعتا الإحرام سنة عند الجمهور، وبعض أهل العلم لا يستحبها؛ لأنه لم يرد فيها شيء مخصوص. والجمهور استحبوها؛ لما ورد في بعض الأحاديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أتاني آتٍ من ربي، فقال: صل في هذا الوادي المُبارك وقل عمرة في حجة))[20]؛ أي في وادي العَقِيق في حجة الوداع، وجاء عن بعض الصحابة أنه صلى ثم أحرم، فاستحب الجمهور أن يكون الإحرام بعد صلاة - إما فريضة وإما نافلة - يتوضأ ويصلي ركعتين، والحائض والنفساء ليستا من أهل الصلاة فتحرمان من دون صلاة، ولا يشرع لهما قضاء هاتينِ الركْعتينِ.
ب- يجوز للمرأة الحائض أن تردد القُرآن لفظًا على الصحيح من دون مَسّ المصحف، أما في قلبها فهذا عند الجميع، إنما الخلاف هل تتلفظ به أم لا؟ بعض أهل العلم حرم ذلك وجعل من أحكام الحيض والنفاس تحريم قِرَاءة القُرآن، ومس المصحف لا عن ظهر قلب، ولا من المصحف؛ حتى تغتسل الحائض والنفساء. وذهب بعض أهل العلم إلى جواز قراءتهما للقرآن عن ظهر قلب لا من المصحف؛ لأن مدتهما تطول؛ ولأنهما لم يرد فيهما نصّ يمنع ذلك، بخلاف الجُنُب فإنه ممنوع حتى يغتسل أو يتيمم عند عدم القدرة على الغسل، وهذا هو الأرجح من حيث الدليل.
النية محلها القلب
س: هل نية الإحرام في التلفظ باللسان، وما صفتها إذا كان الحاج يحج عن شخص آخر؟ [21](/9)
ج: النية: محلُّها القلب، وصفتها: أن ينوي بقلبه أنه يحج عن نفسه، أو عن فلان، أو عن أخيه، أو عن فلان بن فلان، هكذا تكون النية، ويستحب مع ذلك أن يتلفظ فيقول: "اللهم لبيك حجًّا عن فلان، أو لبيك عمرة عن فلان؛ عن أبيه، أو عن فلان بن فلان؛ حتى يؤكد ما في القلب باللَّفْظ؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - تلفَّظَ بالحج وتلفظ بالعمرة، فدل ذلك على شرعية التلفظ بما نَوَاه؛ تأسِّيًا بالنبي - عليه الصلاة والسلام - وهكذا الصحابة تلفظوا بذلك؛ كما عَلَّمَهُم نبيهم - عليه الصلاة والسلام - وكانوا يرفعون أصواتهم بذلك، هذه هي السنة، ولو لم يتلفظ واكتفى بالنية كفتِ النية، وعمل في أعمال الحج مثل ما يفعل عن نفسه، يُلَبِّي مُطلقًا، ويُكَرِّر التلبية مُطلقًا من غير حاجة إلى ذكر فلان أو فلان؛ كما يلبي عن نفسه؛ كأنه حاج عن نفسه، لكن إذا عَيَّنَهُ في النُّسُك، فإنه يكون أفضل في التَّلْبِيَة ثم يستمر في التلبية كسائر الحُجاج والعُمَّار: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنِّعْمَة لك والملك، لا شريك لك لبيك، لبيك إله الحق لبيك".
المقصود أنه يُلَبِّي؛ كما يلبي عن نفسه من غير ذكر أحد؛ إلا في أول النُّسُك يقول: "لبيك حجًّا عن فلان، أو عمرة عن فلان، أو لبيك عمرة وحجًّا عن فلان، هذا هو الأفضل عند أول ما يحرم مع النية.
حكم اشتراط نية الصبي
س: هل يُشْترط نية الصبي؟[22]
ج: إذا كان دون السابعة ليس له نية؛ بل ينوي عنه ولِيُّه، وهو الذي يتولى الحج به من أب أو أم أو غيرهما؛ لما ثبت في الحديث الصحيح أن امرأة رفَعَتْ للنبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع صبيًّا فقالت: "يا رسول الله، ألهذا حج؟" قال: ((نعم، ولك أجر))[23]، ولما رُوِيَ عن جابر - رضي الله عنه - أنه قال: "لبينا عن الصبيان، ورمينا عنهم"[24]، أما إذا كان الصبي قد بلغ السابعة أو أكثر، فإنه يعلمه ولِيُّه النية وغيرها.(/10)
الاشتراط إنما يُقَال عند عقد الإحرام.
س: هل يستطيع المحرم الذي نَسِيَ أن يقول بعد التلبية: "فإن حبسني حابِس، فمحلي حيث حبستني" أن يقول ذلك بعد عقد الإحرام بوقت؟[25]
ج: ليس له ذلك؛ وإنما يُقال ذلك عند عَقْد الإحرام، والمراد بعقد الإحرام هو: أن يَنْوي الدخول فيه بقلبه.
الجهر بالتلبية يُسْتَحَبّ عند الإحرام
س: ما رأيكم فيمن يقول: "إن الجهر بالنية أثناء الإحرام لا يشرع، وإن هذا الجهر ليس عليه دليل"؟[26]
ج: الجهر بالنية غير مشروع؛ لعدم الدليل عليه؛ ولكن يستحب عند الإحرام أن يُلَبِّي بنسكه قائلاً: "لبيك حجًّا أو لبيك عمرة، أو لبيك عمرة وحجًّا إن أراد القِرَان، والأفضل لمن قَدم في أشهر الحج أن يُلَبِّي بالعمرة وحدها، فيطوف ويَسْعَى ويحلق أو يقصر ويحل، ثم يُلَبِّي بالحج في اليوم الثامن من ذي الحجة إذا لم يكن معه هَدْي؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أصحابه بذلك في حجة الوداع فقال: ((خُذوا عني مَناسِككم))[27]
التلبية سُنَّة مُؤَكَّدة، ولا شيءَ على من ينساها
س: حاج أحرم من الميقات؛ لكنه في التلبية نسي أن يقول: "لبيك عمرة مُتَمتِّعًا بها إلى الحج، فهل يكمل نُسُكه متمتعًا؟ وماذا عليه إذا تحلل من عمرته ثم أحرم بالحج من مكة؟[28]
ج: إذا كان نوى العمرة عند إحرامه؛ ولكن نسي التلبية وهو ناوٍ العمرة، حكمه حكم من لَبَّى، يطوف ويسعى ويقصر ويتَحَلَّل، وتشرع له التلبية في أثناء الطريق، فلو لم يُلَبِّ فلا شيء عليه؛ لأن التلبية سنة مُؤَكَّدة، فيطوف ويسعى ويقصر ويجعلها عمرة؛ لأنه ناوٍ عمرة، أما إن كان في الإحرام ناويًا حجًّا، والوقت واسع، فإن الأَفْضل أن يفسخَ حجّهُ إلى عمرة، فيطوف ويسعى ويقصر ويتحلل، والحمد لله، ويكون حكمه حكم المُتمتعينَ.
س: هل "لبيك اللهم لبيك" سُنَّة أم واجب؟ [29]
ج: سنة مُؤَكَّدَة، معناها: إجابة بعد الإجابة؛ لبيك أي: إجابة لأمرك.
حكم تأخير التلبية بعد الإحرام(/11)
س: أحرمت بالحج؛ ولكن عند الإحرام لم أشرع بالتلبية عِلْمًا بأني من أهل مكة، فهل عليَّ شيءٌ؟[30]
ج: لا حَرَجَ عليك؛ لأن التلبية سُنَّة فإذا أحرم الإنسان بالحج أو بالعمرة سواء من أهل مكة أو غير أهل مكة شرع له أن يُلَبِّي؛ كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُلَبِّي؛ لكن لو لم يُلَبِّ أو تأخرت التلبية لا يضُرُّه ذلك؛ لأن التلبية سُنَّة قولية، والواجب أن ينوي بقلبه نُسُكًا من حج أو عمرة أو كليهما، ثم يُلَبِّي بذلك؛ لأن ذلك أفضل، يصرح بذلك بلسانه فيقول: "اللهم لبيك حجًّا"، أو "اللهم لبيك عمرة"، أو "اللهم لبيك عمرة وحجًّا" عند دخوله في الإحرام عندما يركب السيارة أو المطيَّة، كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا ركب دابته أعلن إحرامه، والعُمْدَة على القلب إذا نوى بقلبه الدخول في العمرة أو الحج فهذا هو الإحرام، والأفضل أن يلبي بذلك عند النية فيقول: "اللهم لبيك عمرة" إن كان متمتعًا بالحج، أو يقول: "اللهم لبيك حجًّا" إن كان مُفرِدًا، أو يقول: "اللهم لبيك عمرة وحجًّا" عند إحرامه عند الدخول في ذلك بنيَّتِه في الميقَات، وإن كان من أهل مكة عند الحج يُلَبِّي به في مكانه في بيته عند خروجه إلى مِنًى يقول: "اللهم لبيك حجًّا إذا كان في مكة أو من المُحِلِّينَ بها.
حكم من قال: "لبيك اللهم عمرة متمتعًا بها إلى الحج، وهو لا يريد إلا العمرة.
س: وصلتُ إلى الميقات، ومعي عائلتي، وكنتُ كبيرهم وأعرفهم بمناسك الحج، ونسيت وقلت في التلبية: "لبيك اللهم عمرة متمتعًا"، ونحن نريد عمرة في رمضان فقط، ولم أتذكر إلا عند وصولنا البيت الحرام. أرجو إفادتنا هل يلزمنا البقاء في مكة إلى أن نحج، أو يلزمنا دم ونرجع إلى أهلنا؟[31]
ج: ليس عليكم شيء في ذلك ولا يضركم ذلك، وليس عليكم إلا العمرة فقط التي أحرمتم بها، ولا يلزمكم البقاء إلى الحج، ولا يلزمكم فِدْيَة؛ بل ذلك كله لاغٍ لا يترتب عليه شيء.(/12)
نوى الحج لنفسه ثم بَدَا له أن يغير النية لقريب له فهل له ذلك
س: رجل نوى الحج لنفسه، وقد حج من قبل ثم بدا له أن يغير النية لقريب له، وهو في عرفة فما حكم ذلك؟، وهل يجوز له ذلك أم لا؟[32]
ج: الإنسان إذا أحرم بالحج عن نفسه، فليس له بعد ذلك أن يغير لا في الطريق، ولا في عرفة ولا في غير ذلك؛ بل يلزمه أن يكمل لنفسه، ولا يُغَيِّر لا لأبيه، ولا لأمه، ولا لغيرهما؛ بل يتعيَّنُ الحج له؛ لقول الله - سبحانه وتعالى -: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}[33]، فإذا أحرم لنفسه وجب أن يتمه لنفسه، وإذا أحرم لغيره وجب أن يتمه لغيره، ولا يُغَيِّر بعد الإحرام إذا كان قد حج عن نفسه، وهكذا العمرة.
حكم من نسي اسم من حج عنها.
س: رجل حَجَّ عن امرأة، وعندما أراد الإحرام من الميقات نسي اسمها، ماذا يصنع؟[34]
ج: إذا حج عن امرأة أو عن رجل ونسي اسمه، فإنه يكفيه النية ولا حاجة لذِكْر الاسم، فإذا نوى عند الإحرام أن هذه الحجة عمن أعطاه الدراهم، أو عمن له الدراهم، كفى ذلك، فالنية تكفي؛ لأن الأعمال بالنيات؛ كما جاء بذلك الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
س: ما حكم من حج عن والدته، وعند الميقات لَبَّى بالحج، ولم يلبي عن والدته؟[35]
ج: مادام قصده الحج عن والدته؛ ولكنه نسي فإن الحج يكون لوالدته والنية أقْوَى؛ لقول الرسول - عليه الصلاة والسلام -: ((إنما الأعمال بالنيات))[36]، فإذا كان القصد من مجيئه هو الحج عن أمه أو عن أبيه ثم نسي عند الإحرام، فإن الحج يكون للذي نَوَاه وقصده من أب أو أم أو غيرهما.
س: نويتُ الحج عن والدتي، وأتيتُ من بلدي؛ لكي أحج عنها؛ ولكن عند الميقات لبيت بالحج، ولم أذكر أن ذلك عن والدتي، فهل يكون ذلك الحج عن والدتي أم لي؟ رغم أني حججتُ عن نفسي من قبلُ؟[37](/13)
ج: أنت على نيتك إن شاء الله؛ لأن نسيانك عند إحرامك النية عنها لا يضر؛ لأنك إنما توجهتَ إلى مكة لهذا الغرض، وقد صَحَّ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى))؛ متفق على صحته.
حكم من ضاعَتْ نقوده، وقد أحرم بالحج والعمرة، ولم يستَطِع الهَدْي
س: ما حكم من أحرم بالحج والعمرة، وبعد وصوله إلى مكة ضاعت نفقتُه، ولم يستطع أن يفدي وغَيَّر نيته إلى مفرد هل يصح ذلك؟. وإذا كانت الحجة لغيره ومشترط عليه التمتُّع فماذا يفعل؟ [38]
ج: ليس له ذلك ولو ضاعت نفقته، وإذا عجز يصوم عشرة أيام - والحمد لله - ثلاثة في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله ويبقى على تَمَتُّعِه، وعليه أن ينفذ الشرط بأن يحرم بالعمرة ويطوف ويسعى ويقصر ويحل ثم يُلَبِّي بالحج ويفْدِي، فإن عَجَز صام عشرة أيام ثلاثة في الحج قبل عرفة وسبعة إذا رجع إلى أهله؛ لأن الأفضل أن يكون يوم عرفة مفطرًا؛ اقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه وقف بها مُفْطرًا.
حكم الانتقال من الإفراد إلى القِرَان
س: جاء في بعض كتب الحديث أن الحاجَّ المُفْرِد لا يجوز له أن ينتقلَ من الإفراد إلى القِرَان، فهل هذا صحيح؟ [39](/14)
ج: الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمر الحُجَّاج المُفرِدينَ والقارنينَ أن ينتقلوا من حجهم وقرَانهم إلى العُمْرة، وليس لأحد كلام مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فالرسول - عليه الصلاة والسلام - أمر أصحابه في حجة الوداع، وكانوا على ثلاثة أقسام: قسم منهم أحرموا بالقِرَان؛ أي لَبّوا بالحج والعمرة؛ وقِسْم لَبّوا بالحج مُفْردًا؛ وقسم لَبّوا بالعُمْرة. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد لَبَّى بالحج والعمرة جميعًا؛ أي قارِنًا؛ لأنه قد ساق الهَدْي، فأمرهم - عليه الصلاة والسلام - لما دنوا من مكة أن يجعلوها عُمرة إلا من كان معه الهَدْي، فلمَّا دخلوا مكة، وطافوا، وسعوا، أكَّد عليهم أن يقصروا، ويحلوا إلا من كان معه الهَدْي. فسمعوا وأطاعوا وقصروا وحلوا. هذا هو السُّنة لِمَنْ قدم مُفرِدًا أو قارِنًا، وليس معه هَدْي؛ حتى يستريح ولا يتَكَلَّف، فإذا جاء يوم الثامن أحرم بالحج. ولا يخفى ما في هذا من الخير العظيم؛ لأن الحاجَّ إذا بقي من أول ذي الحجة، أو من نصف ذي القعدة وهو مُحْرِم لا يأتي ما نُهِيَ المُحْرِم عن فعله – فإنه يشق عليه ذلك، فينبغي قَبُول هذا التَّيْسِير من الله - سبحانه وتعالى - والله وَلِيّ التوفيق.
التمتع أفضل لمن لم يسق الهَدْي.
س: أيهما أفضل للحاج: التمتُّع أو القِرَان؛ فإذا كان التمتع فكيف يُرَدّ على من قال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - حج قارنًا، وإن كان القِرَان أفضل فكيف يُرَدّ على من قال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - نوى التمتع ولم ينْوِ إلا الأفضل؟[40](/15)
ج: الأفضل التمتع؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أصحابه بالتمتُّع بعمرة، وهي أن يطوفوا ويسعوا ويقصروا وهذا الأفضل، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لولا أن معي الهَدْي لأَحْلَلْتُ))[41]، والذي معه هَدْي أفضل أن يحرم بالحج والعمرة؛ كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - والذي ليس معه هَدْي فالأفضل أن يُحْرِم بالعمرة، فيطوف ويسعى ويقصر ويحل، ثم يُحْرِم بالحج في اليوم الثامن من ذي الحجة؛ هذه السنة.
يصح التَّمتُّع والقِرَان من أهل مكة
س: هل يجب الهَدْي على أهل مكة لمن أحرم منهم بالحج فقط، وهل يصح في حقهم التمتع أم القِرَان في الحج؟ نرجُو توضيح ذلك مع ذكر الدليل؟[42]
ج: يصح التمتع والقِرَان من أهل مكة وغيرهم لكن ليس على أهل مكة هَدْي، وإنما الهَدْي على غيرهم من أهل الآفاقِ القادمِينَ إلى مكة مُحْرِمينَ بالتمتُّع أو القِرَان؛ لقول الله – تعالى -: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}[43]
س: ما هو السبب في أن أهل مكة ليس لهم من أنواع الحج إلا الإفراد؟[44](/16)
ج: الحج فرض على كل من اسْتَطَاع السبيل إليه من أهل مكة، وغيرهم بإجماع المسلمينَ، وهكذا العُمرة فرض في أصح قولي العلماء على الجميع؛ ولكن أهل مكة ليس عليهم هَدْي التمتُّع والقِرَان، إذا حجوا متمتعينَ أو قارِنينَ بين الحج والعمرة؛ لقول الله – سبحانه -: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}[45]. والله الموفق.
القول بنسخ الإفراد قول باطل
س: يَدَّعي بعض الناس أن القِرَان والإفراد قد نُسِخا بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - للصحابة بأن يتمتعوا، فما رأي سماحتكم في هذا القول؟[46]
ج: هذا قول باطل، لا أساسَ له من الصِّحة، وقد أجمع العلماء على أن الأنساك ثلاثة: الإفراد، والقِرَان، والتمتُّع، فمن أَفْرَد الحج فإحرامه صحيح وحجه صحيح، ولا فِدْية عليه؛ لكن
إن فَسخَهُ إلى العمرة، فهو أفضل في أصح أقوال أهل العلم؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر الذين أحرموا للحج أو قرنوا بين الحج والعمرة، وليس معهم هَدْي، أن يجعلوا إحرامهم عمرة، فيطُوفوا ويسعوا ويقصروا ويحلوا، ولم يبطل - صلى الله عليه وسلم - إحرامهم؛ بل أرشدهم إلى الأفضل، وقد فعل الصحابة ذلك - رضي الله عنهم - وليس ذلك نَسْخًا لإفراد الحج؛ وإنما هو إرشاد من النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ما هو الأفضل والأكمل، والله ولي التوفيق.
حكم فسخ الإحرام
س: هل فَسْخ الإحرام سُنَّة أم واجب؟[47]
ج: سُنَّة مُؤَكَّدة.
المشروع لمن أحرم مُفْرِدًا أن يجعله عمرة(/17)
س: جئتُ مع جماعة للحج، وأحرمت مفرِدًا، وجماعتي يريدونَ السفر إلى المدينة، فهل لي أن اذهبَ إلى المدينة، وأرجع لمكة لأداء العمرة بعد أيام قليلة؟[48]
ج: إذا حَجَّ الإنسان مع جماعة - وقد أحرموا بالحج - مُفرِدًا ثم سَافر معهم للزيارة، فإن المشروع له أن يجعل إحرامه عمرة، ويطوف لها ويسعى ويقصر ثم يحل، ثم يحرم بالحج في اليوم الثامن ويكون بذلك متمتعًا، وعليه هَدْي التمتُّع؛ كما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك أصحابه في حجة الوداع الذين ليس معهم هَدْي.
الأفضل لمن لم يسق الهدي أن يفسخ حجه إلى عمرة
س: ما حكم مَنْ نَوَى الحج بالإفراد ثم بعد وصوله إلى مكة قَلَبَه تَمتُّعًا، فأتى بالعمرة ثم تَحَلَّل منها فماذا عليه؟ ومتى يحرم بالحج؟ ومن أين؟ [49]
ج: هذا هو الأفضل إذا قدم المحرم بالحج أو الحج والعمرة جميعًا، فإن الأفضل أن يجعلها عُمْرة، وهو الذي أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه لما قدموا، بعضهم قَارن، وبعضهم مُفرِد بالحج، وليس معهم هَدْي، أمرهم أن يجعلوها عُمْرة، فطافوا وسعوا وقصروا وحلوا إلا من كان معه الهَدْي، فإنه يبقى على إحرامه حتى يحل منهما إن كان قارنًا أو من الحج إن كان محرمًا بالحج يوم العيد.
والمقصود أنَّ مَنْ جاء مكة مُحْرِمًا بالحج وحده أو بالحج والعمرة جميعًا في أشهر الحج، وليس معه هَدْي، فإن السنة أن يفسخ إحرامه إلى عمرة، فيطوف ويسعى ويقصر ويتحلل، ثم يحرم بالحج في اليوم الثامن من ذي الحجة في مكانه، الذي هو مقيم فيه داخل الحرم أو خارجه ويكون متمتعًا، وعليه دم التمتُّع.
القِرَان لا يفسخ إلى الإفراد
س: ما حكم من نوى بالحج متمتعًا وبعد الميقات غَيَّر رأيه، ولَبَّى بالحج مفردًا، هل عليه هَدْي؟[50](/18)
ج: هذا فيه تفصيل، فإن كان نوى قبل وصوله إلى الميقات أنه يتمتَّع، وبعد وصوله إلى الميقات غَيَّر نيته وأحرم بالحج وحده، فهذا لا حرج عليه ولا فِدْية، أما إن كان لَبَّى بالعمرة والحج جميعًا من الميقات أو قبل الميقات ثم أراد أن يجعله حجًّا فليس له ذلك، ولكن لا مانع أن يجعله عمرة أمَّا أن يجعله حجًّا فلا، فالقِرَان لا يفسخ إلى حج؛ ولكن يفسخ إلى عمرة إذا لم يكن معه هَدْي؛ لأن ذلك هو الذي أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابَه - عليه الصلاة والسلام - الذين لم يسوقوا الهَدْي في حجة الوداع، فإذا أحرم بهما جميعًا من الميقات ثم أراد أن يجعله حجًّا مفردًا فليس له ذلك؛ ولكن له أن يجعل ذلك عمرة مفردة وهو الأفضل له؛ كما تَقَدَّم، فيطوف ويسعى ويقصر ويحل، ثم يلبي بالحج بعد ذلك في اليوم الثامن من ذي الحجة فيكون متمتعًا.
حكم من نوى التمتُّع ثم بَدَا له أن يحرم مُفرِدًا
س: لقد كنتُ ناويًا أن أحج متمتعًا؛ ولكن عندما قدمتُ إلى الطائف غَيَّرْتُ رأيي ولبيتُ بالحج مفرِدًا، فإذا أردتُ أن أضحي يوم العيد هل ذلك جائز؟ عِلْمًا بأني قصرتُ شعري في يوم أربعة ذي الحجة، أسال الله أن يجزيكم عنا خيرًا[51](/19)
ج: إذا أراد الحاجُّ أو غيره أن يضحيَ ولو كان قد حلق رأسه أو قصر أو قلم أظفاره، فلا حرج عليه في ذلك، ولكن عليه إذا عزم على أن يضحي عن نفسه بعد دخول شهر ذي الحجة أن يَمْتَنع من أخذ شيء من الشعر أو الظفر أو شيء من البشرة حتى يُضَحي؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا دخل شهر ذي الحجة وأراد أحدكم أن يُضَحي فلا يأخذ من شعره، ولا من بشرته، ولا من أظفاره شيئًا))[52]؛ رواه الإمام مسلم في صحيحه. أمَّا إحرامه بالحج مُفرِدًا، وقد كان نوى أن يحرم بعمرة، ثم بَدَا له بعد ما وصل الميقات أن يُحْرِم بالحج فلا حرج في ذلك، ولكن التمتُّع بالعمرة إلى الحج أفضل إذا كان قدومه في أشهر الحج، أما إذا كان قدومه إلى مكة قبل دخول شهر شوال، فإن المشروع له أن يُحْرِم بالعمرة فقط.
مَنْ أحرم قارنًا وبعد الإحرام حَلّ
س: ما حكم من أحرم بالحج والعمرة قارنًا، وبعد العمرة حَلَّ الإحرام؟ هل يعتبر متمتعًا؟[53]
ج: نعم؛ إذا أحرم بالحج والعمرة قارنًا ثم طاف وسعى وقصر وجعلها عمرة، يسمى متمتعًا وعليه دم التمتُّع.
الإحرام بالتَّمتُّع له وقتٌ محدود
س: هل للمُتمتِّع وقتٌ محدود يتمتَّع فيه، وهل له أن يحرم بالحج قبل يوم التروية؟[54]
ج: الإحرام بالتَّمتُّع له وقت محدود هو: شوال وذو القعدة والعشر الأول من ذي الحجة، هذه أشهر الحج، فليس له أن يحرم بالتمتع قبل شوال ولا بعد ليلة العيد، ولكن الأفضل أن يحرم بالعمرة وحدها، فإذا فرغ منها أحرم بالحج وحده هذا هو التمتُّع الكامل، وإن أحرم بهما جميعًا سُمِّيَ مُتمتعًا، وسمي قارِنًا، وفي الحالتَيْنِ جميعًا عليه دم يُسَمَّى دم التمتُّع، وهو ذبيحة واحدة تُجْزِئ في الأضحية أو سبع بَدَنة أو سبع بقرة؛ لقوله – تعالى -: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ}[55]، فإن عجز صام عشرة أيام، ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله.(/20)
فلو أحرم بالعُمرة في أول شوال، وحَلَّ منها صارت المدة بين العمرة وبين الإحرام بالحج طويلة إلى ثامن ذي الحجة، فالأفضل أن يحرم بالحج في ثامن ذي الحجة؛ كما أحرم أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم – بذلك، بأمر النبي - عليه الصلاة والسلام - فإنه أمرهم أن يحلوا مِنْ إحرامهم لما قدموا مُفرِدينَ بالحج، وبعضهم قَدمَ قارنًا بين الحج والعمرة، فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يحلوا إلا من كان معه الهَدْي، فطافوا وسعوا وقصروا وحلوا وصاروا متمتعينَ بذلك، فلما كان يوم التروية وهو اليوم الثامن، أمرهم أن يهلُّوا بالحج من منازلهم، وهذا هو الأفضل، ولو أهلّ بالحج قبل ذلك في أول ذي الحجة أو قبل ذلك أجزأه وصَحّ، ولكن الأفضل أن يكون إهلاله بالحج في يوم الثامن؛ كما فعله أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - بأمره عليه الصلاة والسلام.
س: المُتمتِّع: هل له وقت محدود يتمتع فيه؟ وهل له أن يحرم قبل يوم التروية أم لا؟ [56]
ج: المتمتِّع إذا طاف وسعى وقصر من عمرته حَلَّ له كل شيء مما حُرِّم عليه بالإحرام، فله أن يأتي زوجته، وله أن يتطيب، ويلبس المخيط، وغير ذلك مما حُرِّم عليه بالإحرام، والتمتُّع بالعمرة إنما يكون بعد انسلاخ رمضان، أمَّا الإحرام بالعُمرة قبل انسلاخ رمضان فلا يُسمى تمتعًا؛ وإنما يسمى عمرة. والسنة للمتمتع وغيره من المحلينَ بمكةَ إذا أرادوا الحج أن يحرموا بالحج يوم الثامن؛ كما أحرم أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - بالحج بأمره عليه الصلاة والسلام.
الفِدْية تلزم من تمتَّع بالعمرة إلى الحج.
س: فضيلة الشيخ: ماذا ترون حول من أخذ عمرة بشهر رمضان المبارك وأراد الحج بنفس العام، فهل تلزمه الفدية، وما هي أفضل أنواع النُّسُك؟ [57](/21)
ج: من أخذ عمرة في رمضان ثم أحرم بالحج مفرِدًا في ذلك العام فإنه لا فِدْية عليه؛ لأنَّ الفدية إنما تلزم من تمتَّع بالعمرة إلى الحج؛ لقول الله - سبحانه وتعالى -: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [58]. والذي أتى بعمرة في رمضان ثم أحرم بالحج في أشهره لا يسمى متمتعًا، وإنما المتمتِّع من أحرم بالعمرة في أشهر الحج وهي: شوال، وذو القعدة، والعشر الأول من ذي الحجة، ثم أحرم بالحج من عامِه، أو قَرَن بين الحج والعمرة فهذا هو المتمتِّع، وهو الذي عليه الفِدْية.
والأفضل لمن أراد الحج، أن يأتي بعمرة مع حجته، ويطوف لها ويسعى ويقصر ويحل، ثم يحرم بالحج في عامه، والأفضل أن يكون إحرامه بالحج في اليوم الثامن من ذي الحجة؛ كما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بذلك في حجة الوداع.
وعلى المتمتِّع أن يطوف ويسعى لحجه؛ كما طاف وسعى للعمرة، ولا يُجْزِئُه سَعْي العمرة عن سَعْي الحج عند أكثر أهل العلم، وهو الصَّواب؛ لدلالة الأحاديث الصحيحة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ذلك
س: ما قولكم في الذي يصوم في مكة، ويجلس إلى وقت الحج مع العلم أنه في هذه الأثناء يسافر إلى جدة، ويعود إلى مكة هل عليه فِدْية؟ [59]
ج: إذا لم يُؤَدّ عمرة بعد رمضان، وحج ذلك العام فليس عليه هَدْي؛ لكونه لم يتمتع بالعمرة إلى الحج.
حكم من أدَّى العمرة في آخر شوال ثم عاد بِنِيَّة الحج مُفرِدًا
س: أديتُ العمرة أواخر شهر شوال ثم عُدتُ بنية الحج مُفْرِدًا، فأرجو إفادتي عن وضعي هل أعتبر متمتعًا ويجب علي الهَدْي أم لا؟[60](/22)
ج: إذا أدى الإنسان العمرة في شوال، أو في ذي القعدة، ثم رجع إلى أهله، ثم أتى بالحج مُفرِدًا فالجمهور على أنه ليس بتَمَتُّع، وليس عليه هَدْي؛ لأنه ذهب إلى أهله ثم رجع بالحج مُفرِدًا، وهذا هو المَرْوِيّ عن عمر وابنه - رضي الله عنهما - وهو قول الجمهور، والمَرْوِيّ عن ابن عباس أنه يكون متمتعًا وأن عليه الهَدْي؛ لأنه جمع بين الحج والعمرة في أشهر الحج في سنة واحدة، أما الجمهور فيقُولُون: "إذا رجع إلى أهله"، وبعضهم يقول: "إذا سافر مسافة قصر، ثم جاء بحج مفرد فليس بمتمتِّع"، والأظهر - والله أعلم - أن الأرجح ما جاء عن عمر وابنه - رضي الله عنهما - أنه إذا رجع إلى أهله، فإنه ليس بمتمتِّع ولا دَم عليه، وأما من جاء للحج وأدى العمرة ثم بقي في جدة أو الطائف، وهو ليس من أهلهما، ثم أحرم بالحج فهذا مُتمتِّع فخروجه إلى الطائف أو جدة أو المدينة لا يخرجه عن كونه متمتعًا؛ لأنه جاء لأدائهما جميعًا وإنما سافر إلى جدة أو الطائف لحاجة، وكذا من سافر إلى المدينة للزيارة، كل ذلك لا يخرجه عن كونه متمتعًا في الأظهر والأرجح فعليه الهَدْي، هَدْي التمتع، وعليه أن يسعى لحجه؛ كما سَعَى لعمرته.
حكم تمتُّع مَنْ رجع إلى بلده
س: هذا يسأل ويقول: إذا قدم من الرياض مثلاً معتمرًا ثم رجع إلى الرياض، ورجع بعدها من الرياض هل يكون متمتعًا؟ [61](/23)
ج: هذا فيه تفصيل، إذا قدم إنسان من الرياض مثلاً، أو من المدينة، أو من الطائف متمتعًا بالعمرة، فطاف وسعى وقصر وحل ثم رجع إلى بلده: رجع إلى الطائف بلده أو إلى الرياض بلده، أو إلى المدينة بلده أو غيرها، ثم جاء مُلَبِّيًا بالحج، فهذا حكمه حكم المفرد، حكم مجيئه الأخير، حكم الإفراد، فلا يكون عليه دم التمتُّع؛ بل ليس عليه شيء؛ وإنما يعمل عمل الحج إذا وصل مكة طاف سبعة أشواط، وصلى ركعتينِ عند المَقام، أو في أي مكان من المسجد، ثم يسعى سبعة أشواط بين الصَّفا والمروة. هذا يُقال له طَواف القُدُوم، والسَّعْي سَعْيُ الحج، ثم يبقى على إحرامه ويخرج إلى مِنى وعرفات بإحرامه، فإذا رجع من عَرَفات ومُزْدَلِفَة يوم العيد ليس عليه إلا الطَّواف فقط: طواف الإفاضة طواف الحج، والسَّعْي كفاه الأول. وإن قصد مِنى رأسًا، ولم يذهب إلى مكة؛ بل قصد مِنى ثم عَرَفات فإنه عليه طواف، وسَعْي بعد نزوله من عرفات ومُزْدَلِفَة، عليه طواف الحج؛ وسعي الحج.
س: أنْوِي الحج متمتعًا، فهل يصح لي الاعتمار في شوال، والذهاب إلى أهلي ثم الرجوع إلى مكة للحج؟[62]
ج: لا مانع من ذلك إذا اعتمر الشخص في شوال، ثم ذهب إلى أهله، ثم رجع إلى مكة محرمًا بالحج فلا بأس في ذلك، وعند الجُمهور لا يكون متمتعًا، وليس عليه هَدْي؛ بل يكون مُفرِدًا للحج، وعند ابن عباس يكون متمتعًا ولو ذَهَب إلى أهله، وعلى هذا لا يكون هذا متمتعًا عند الأكثر، وإن اعتبر نفسه متمتعًا وأهدى كان أَحْوط وأحسن، أما إن رجع محرمًا بالعمرة، وحل منها ثم أقام حتى يحج، فهذا مُتَمَتِّع وعمرته الأولى لا تجعله متمتعًا عند الجمهور؛ ولكن صار متمتعًا بالعمرة الأخيرة التي أَدَّاها، ثم بقي في مكة حتى حجَّ.
لا بأس بخروج المُتمتِّع إلى جدة وأمثالها ويبقى على تمتُّعه(/24)
س: شخص قصد مكة في أشْهُر الحج، وتمتَّع بالعمرة إلى الحج، فهل يجوز له الخروج بعد تحلُّله من العمرة إلى جدة، وإن خرج إليها فهل يسقط عنه دم التمتُّع، وإذا لم يسقط فهل تكون جدة من حاضر المسجد الحرام؟ وإذا اعتبرت من حاضر المسجد الحرام فهل على من خرج إليها بعد تَحَلُّلِه من عمرته، ثم رجع وحج ولم يفدِ دم آخر؛ لتركه دم التمتُّع؟[63]
ج: لا بأس بخروج المتمتِّع بعد تحلُّلِه من عمرته إلى جدة وغيرها، من الحل إذا دعت الحاجة لذلك، ويبقى عليه دم التمتُّع إذا كان قدم مكة بنية الحج؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لما قدموا مكة لحجة الوداع، وأمر من لم يكن معه هَدْي أن يتَحَلَّل ويهدي، لم ينههم عن الخروج من الحرم، ولم يقل لهم: من خرج من الحرم سقط عنه الهَدْي، ولو كان ذلك مُسْقِطًا للهَدْي لبَيَّنَهُ - عليه الصلاة والسلام - لأن الخروج لا بُدَّ أن يقع من الناس؛ لكثرتهم وتنوُّع الحاجات، فلما لم ينبههم على هذا الأمر عُلم أن خروجهم إلى جدة وأشباهها لا يخرجهم عن كونهم متمتِّعينَ بالعمرة إلى الحج، وذهب بعض العلماء إلى أن خروج المتمتِّع من مكة إلى مسافة قصر؛ كجدة والطائف وأمثالهما يخرجه عن كَوْنِه متمتعًا، ويسقط عنه الدم ويجعل إحرامه بالحج في حكم المفرد - وفي هذا نظر - والصواب: أن الدم لا يسقط عنه لما تقدَّم؛ ولعموم قوله – تعالى -: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ}[64]، ولا أعلم دليلاً شرعيًّا يدل على هذا المذهب، لكن ورد عن عمر وابنه - رضي الله عنهما - في حق من رجع إلى وطنه بعد التَّحلُّل من العمرة، ثم رجع إلى مكة وأحرم بالحج مفرِدًا، أنه لا دم عليه. ذكر ذلك أبو محمد بن حزم وغيره، وهذا وجهه ظاهر، والقول به قريب؛ لا سيما وهو قول الخليفة الرَّاشد عمر - رضي الله عنه - ووَرَد عن ابن عباس - رضي الله عنهما - ما يدل على وُجوب الدم على من اعْتَمَر في(/25)
أشهر الحج، وحج من عامِه مُطلَقًا، ولو سافر إلى وطنه أو غيره؛ لكن قول الجمهور يُوافِق ما ورد عن عمر وابنه - رضي الله عنهما - وتقدم أنه قَوْل قريب، ووجهه ظاهر، ولا مانع من أن يكون مخصصًا لِعُموم الآية الكريمة السابقة.
ولكن لا ينبغي أن يجعل في حكمه من قدم إلى مكة قاصدًا للحج، وهو متمتِّع بالعمرة إلى الحج ثم خرج لعارضٍ لجدة أو غيرها، ولم يرجع إلى وطنه، فإن بينهما فرقًا واضحًا. واللهُ المستعان.
وأما اعتبار جدة من حاضر المسجد الحرام إذا قلنا لا يسقط الدم عمن ذهب إليها، فليس بظاهر، وليس بين القول بعدم سقوط الدم وبين تحديد المكان الذي يعتبر سكانه من حاضري المسجد الحرام، أو ليسوا منهم ارتباط في أصح الأقوال؛ بل هذه مسألة وهذه مسألة أُخْرى.
أما ما يجب على من خرج إلى جدة ثم عاد وحج ولم يفدِ، فالظاهر أنه لا يجب عليه إلا دم واحد وهو دم التمتُّع، وعليه التوبة والاستغفار عما حصل من التأخير، وأما قول من قال: إن على من أَخّر دم التمتُّع حتى خرجتْ أيام التشريق؛ إما مطلقًا أو بغير عُذر دمًا آخر، فلا أعلم له وجهًا شرعيًّا يحسن الاعتماد عليه، والأصل براءة الذمة فلا يجوز شغلها إلا بحُجَّة واضحة.
لا يسقط الهدي عن المُتمتِّع بالسفر إلى المدينة
س: بعض الناس يُؤَدُّون العُمْرة في شوال، ثم يذهبون إلى المدينة للزيارة، وبعد ذلك يُؤَدُّون الحج مفردين ولا يهدون، فما الحكم في ذلك؟ [65](/26)
ج: يجب على من أَدَّى العمرة في شوال أو في ذي القعدة أو في العشر الأول من ذي الحجة، ثم أحرم بالحج مُفرِدًا سواء كان ذلك من ميقاتِ المدينة أو غيره، أو مِنْ دَاخِل مكة، أن يهدي هَدْي التمتُّع، وهو: رأس من الغنم أو سُبع بَدَنة، أو سبع بقرة مما يجزئ في الأضحية؛ لأنه والحال ما ذكر في حكم المتمتِّع، وقد قال الله – سبحانه -: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [66]، ولا يسقط عنه الهَدْي بالسفر إلى المدينة في أصح قولي العلماء، إلا إذا رجع إلى بلاده، ثم عاد بحج مفرد فلا شيء عليه.
باب محظورات الإحرام
المحرم يجتنب تسعة محظورات
س: ما هي الأشياء التي يجتنبها المحرم؟ [67]
ج: المُحْرِم يجتنب تسعة مَحْظُورات بَيَّنَها العلماء وهي: اجتناب قَصّ الشعر، والأظافر، والطيب، ولبس المخيط، وتغطية الرأس، وقتل الصيد، والجِمَاع، وعقد النكاح، ومُباشرة النساء، كل هذه الأشياء يُمْنَع منها المُحرِم حتى يتحلَّل، وفي التَّحَلُّل الأول يُبَاح له جميع هذه المحظورات ما عدا الجِمَاع، فإذا كمل الثاني حلّ له الجِمَاع.
حكم من أخذ من شَعْره بعد الإحرام جاهلاً
س: رجل قام بالإحرام للعمرة، وبعد ذلك تذكر أنه يجب أن يحلق شعر الإبط فقام بحلقه بعد الإحرام ثم تَوَجَّه إلى العمرة، نرجو توضيح الحكم، ولكم الأجر والثواب؟[68]
ج: حلق الإبط لا يجب في الإحرام ولا نَتْفه، وإنما يستحب نتفه أو إزالته بشيء من المُزيلات الطاهرة قبل الإحرام؛ كما يُسْتَحَبّ قص الشارب، وقلم الظفر، وحَلْق العَانَة إذا كان كل منها قد تهيأ لذلك، ولا يلزم أن يكون ذلك عند الإحرام؛ بل إذا فعل ذلك قبل الإحرام في بيته أو في الطريق كفى ذلك.(/27)
وليس على مَنْ ذكرتَ شيء في حلقه إبطه؛ لكَوْنه جاهلاً بالحكم الشرعي، ومثل ذلك لو فعل المحرم شيئًا مما ذكرنا بعد الإحرام ناسيًا؛ لقول الله - عز وجل -: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } [69]؛ ولما ثَبَتَ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الله - سبحانه - قد استجاب هذا الدعاء.
حكم كد الشعر
س: ما حكم كَدّ الشعر الخفيف ممن هو محرم، هل فيه حَرَجٌ؟[70]
ج: المحرم لا يكد شعرًا. أما إذا حَكَّ شعره أو حَكّ جلده حكًّا قليلاً بالرفق فلا حرج. أما أن يكده فيقطع شعرًا أو ظفرًا أو جلدًا، فلا يجوز ذلك في حال الإحرام، فالمسلم إذا أحرم لا يقطع شعرًا، ولا ظفرًا، ولا يتطيب، ولا يغطي رأسه بعمامة، ولا بشبهها، ولا يغطي جسده بالقميص ونحوه، ولا يقتل الصيد، كل هذه الأمور مَمْنُوعة في حق المُحْرِم، ولا يعقد النكاح، ولا يخطب زوجة، ولا يعقد لموليته وهو مُحرِم، كل هذه مُحَرّمة في الإحرام، وهكذا لا يُجَامِعها، ولا يُباشِر بقبلة ولا غيرها؛ حتى يحل من إحرامه، كل هذه ممنوعة في الإحرام.(/28)
س: لقد حجَجْتُ أنا وابني، وأحرمنا من الطائف ودخلنا مكة صلاة الظهر، وبقينا فيها إلى المغرب، ثم أرغمني ابني على العودة إلى الطائف والمبيت به، وقد حصل ذلك وبتنا تلك الليلة في الطائف، ثم رجعنا إلى مكة في صباح اليوم التالي، ولم نحرم إحرامًا جديدًا؛ بل اكتفينا بإحرامنا الأول ودخلنا الحرم المكي في اليوم نفسه، وطُفْنا طَواف القُدوم، وسعينا ثم بِتْنا تلك الليلة في مكة، ثم ذهبنا إلى مِنى وبقينا فيها يومينِ وليلة، وسرينا في الليلة الثانية وقبل الخروج منها اغتسلنا ومشطنا رؤوسنا، ولم نغير ملابسنا، وبالذات ثوبي مع العلم أنه كان أَسْودًا، وأكملت حجي كبقية المسلمينَ. فما حكم الإسلام فيما سمعت من دخول مكة بدون إحرام، والاكتفاء بالإحرام الأول في اليوم الذي مضى، وفيما فعلنا في مِنى من غسل، ومشط، والإحرام بالثوب الأسود؟ [71]
ج: ليس عليكما شيءٌ - والحمد لله - إحرامُكما الأول باقٍ وصحيح، وخروجكما إلى الطائف لو تركتموه لكان هو الذي يَنْبَغِي؛ لعدم الحاجة إليه؛ لكنه لا يترتب عليه شيء؛ لأنكما خرجتما قبل إتمام حجكما، وأنتما على إحرامكما فلا يضركما ذلك، وطوافكما وسعيكما حين رجعتما إلى مكة، ثم خروجكما إلى مِنى، ثم إكمالكما مناسك الحج ليس فيه شيءٌ، أما المشط فإن كان فيه قطع شعر، فهذا محل نظر، إن كنتما جاهلينِ فلا شيء عليكما، أما إذا كنتما تعلمان أنه لا يجوز قطع الشعر، وقطعتما الشعر متعمدينِ حين المشط، فهذا عليكما فيه أحدُ ثلاثة أشياء:
1- إما صوم ثلاثة أيام على كل واحد.
2- أو إطعام ستة مساكينَ لكل مسكين: نصف صاع من تمر، أو أرز، أو غير ذلك من قوت البلد.(/29)
3- أو ذبح شاة على كل واحد منكما تجزئ في الضحية، هذا إذا كنتما مُتعمِّدينِ عالمينِ أنه لا يجوز، أما إذا كان قطع الشعر حين المشط عن جهلٍ، أو عن نسيان فلا شيء عليكما كما تقدم، وهكذا لو كان مجرد المشط ليس فيه قطع شعر فلا بأس، والثوب الأسود لا بأس به في حق الرجل والمرأة، لكن يجب أن يكون لبس الرجل على حال، ولبس المرأة على حال لا يتشبه أحدهما بالآخر، فيكون لباس الرجال على حال، ولباس النساء على حال.
حكم سقوط الشعر من رأس المحرم
س: ماذا تفعل المرأة المحرمة إذا سقطت من رأسها شعرة رغمًا عنها؟ [72]
ج: إذا سقط من رأس المُحْرِم - ذكرًا كان أو أُنْثَى- شعرات عند مَسْحِه في الوضوء، أو عند غسله لم يضره ذلك، وهكذا لو سقط من لحية الرجل أو شاربه أو من أظافره شيء لا يضره إذا لم يتعمد ذلك، وإنما المحظور أن يتعمَّد قطع شيء من شعره أو أظافره وهو مُحْرِم، وهكذا المرأة لا تتعمد قطع شيء، أما شيء يسقط من غير تعمد فهذه شعرات ميتة تسقط عند الحركة فلا يضر سقوطها.
حكم إزالة الجلد الجاف للمحرم
س: هل إزالة الزَّائد من الشفتين تعتبر من محظورات الإحرام؛ مثل الزائد من الجلد الجاف؟[73](/30)
ج: لا يأخذ المُحْرِم ولا المُضَحِّي من بَشْرَتِه شيئًا، ولا من شَعْرِه؛ فالمحرم والذي يريد أن يُضَحّي لا يأخُذَان من جلدهما ولا بشرتهما شيئًا، لا من جلدهما في الوَجْه، ولا من جلدهما في الرِّجْل، ولا في اليد، ولا من غير ذلك حتى يحل المحرم من إحرامه التحلُّل الأول، وحتى يُضَحي المُضحِّي، وإنما يحرم ذلك على المُضَحي بعد دخول عشر ذي الحجة إلى أن يُضَحي، إذا كان يضَحّي عن نفسه أو عن نفسه وأهل بيته، ولا يُحَرّم على أهل بيته شيء من ذلك في أصح قولي العلماء، وإنما يُحَرَّم ذلك على المضحي نفسه الذي بذل المال من حين أراد الضحيَّة بعد دخول الشهر إلى أن يذبحها، أما الوكيل عن غيره فلا يُحَرَّم عليه شيء من ذلك؛ كالوصي وناظر الوقف ونحوهما؛ لأن كلاًّ من هؤلاء ليس بمُضَحٍّ، وإنما هو وكيل، والله الموفق.
ضابط تَغْطِية الرأس للمحرم
س: ما الضابط في تغطية الرأس للمُحْرِم، بمعنى لو حمل على رأسه بعض مَتاعه، هل ذلك يُعَد من تغطية الرأس؟ [74]
ج: حمل بعض المتاع على الرأس لا يُعَد من التغطية الممنوعة إذا لم يفعل ذلك حِيلَة؛ وإنما التغطية المُحَرَّمة هي: ما يغطى به الرأس عادة؛ كالعمامة والقلنسوة، ونحو ذلك مما يُغَطى به الرأس؛ وكالرداء والبشت ونحو ذلك. أما حَمْل المتاع فليس من الغِطاء المُحَرَّم؛ كحمل الطعام ونحوه إذا لم يفعل ذلك المُحْرِم حِيلَة؛ لأن الله - سبحانه - قد حَرَّم على عباده التَّحَيُّل لفعل ما حَرَّم، والله ولي التوفيق.
س: هل يجوز للمُحْرِم أن يستعمل الشمسية دون أن تمس رأسه، نظرًا لحرارة الشمس؟[75]
ج: لا حَرَج على المُحْرِم أن يستعمل الشمسية؛ اتقاءً للشمس كما يستظل في الخيمة، وسقف السيارة. وفق الله الجميع.
س: سماحة الشيخ، لبستُ طاقية وأنا محرم في الحج الماضي، ولم أكن أعرف فهل علي فِدْيَة وإذا كان كذلك، ولم يكن معي ثمنها فماذا أفعل؟ جزاكم الله خيرًا [76](/31)
ج: بسم الله والحمد لله، إذا كنت جاهلاً فوضعت غُتْرة، أو طاقية على رأسك، أو كنتَ ناسيًا فليس عليك شيء والحمد لله.
حكم استخدام الكمامات للمحرم
س: هل تعتبر الكمامات التي يستعملها الطبيب في عمله ويضعها على فمه وأنفه في حُكْم تغطية الوجه للمحرم، أفيدونا جزاكم الله خيرًا؟ [77]
ج: نعم لا ينبغي ولا يجوز هذا؛ لأنه غطى حوالي نصف الوجه والرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا تُخَمِّرُوا رأسَه، ولا وَجْهَه)) [78]؛ يعني للمحرم الذي وَقَصَتْه راحلتُه.
تحديد المخيط من اللباس للمحرم
س: ما هو تحديد المخِيط من اللباس، وهل يجوز لبس السراويل المستعمَلَة الآن تحت الإحرام؟ [79](/32)
ج: لا يجوز للمُحْرِم بحج أو عمرة أن يلبس السراويل ولا غيرها مِنَ المَخِيط، على البَدَن كله أو نصفه الأعلى؛ كالفنيلة ونحوها، أو نصفه الأسفل كالسّراويل؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سُئِل عما يلبس المُحْرِم قال: ((لا يلبس القميص، ولا العمائم، ولا السراويل، ولا البُرْنُس، ولا الخِفَاف، إلا أحد لا يجد نعلينِ فيلبس الخُفَّيْنِ، وليقطعهما أسفل من الكعبينِ))[80]؛ متفق عليه من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - وبهذا يعلم السائل ما هو المخيط الممنوع في حق المحرم الذَّكَر، ويتَّضِح بالحديث المذكور أن المُراد بالمخيط: ما خيط أو نسج على قدر البدن كله؛ كالقميص، أو نصفه الأعلى كالفنيلة، أو نصفه الأسفل كالسراويل، ويلحق بذلك ما يُخَاط أو ينسج على قدر اليد؛ كالقفاز أو الرِّجْل كالخُف. لكن يجوز للرجل أن يلبس الخف عند عدم النَّعْل، ولا يلزمه القطع على الصحيح؛ لما ثبت عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب الناس بعرفات في حجة الوداع فقال: ((من لم يجد إزارًا فليلبس السراويل، ومن لم يجد النعلينِ فليلبس الخُفَّيْنِ))[81]؛ متفق على صحته. ولم يأمر بقطعهما فدل على نسخ القطع المذكور في حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - لأن حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - الذي أمر فيه بالقَطْع كان متقدمًا، والأمر بلبس الخُف دون قطع كان في خطبته - صلى الله عليه وسلم - يوم عرفة بعد ذلك. والله الموفق.
يجوز خياط ثياب الإحرام إذا تمزَّقَت
س: إذا كان الإنسان محرمًا بالحج أو العمرة، وتَمَزَّق إحرامه بسبب سُقوطه على الأرض فهل يجوز له أن يخيطه أم لا؟[82](/33)
ج: له أن يخيطه وله أن يُبَدِّله بغيره والأمر في ذلك واسِع بحمد الله، والمخيط المَنْهِيّ عنه هو الذي يحيط بالبدن كله؛ كالقميص والفنيلة وأشباه ذلك، أما المخيط الذي يكون في الإزار أو في الرِّداء لكونه مُكَوَّنًا من قطعتينِ أو أكثر، خيط بعضهما في بعض فلا حَرَجَ فيه، وهكذا لو حصل به شق، أو خرق فخاطه، أو رقَّعَه، فلا بأس في ذلك.
س: إذا لبس المُحْرِم أو المُحْرِمة نعلينِ أو شَرابًا سواء كان جاهلاً، أو عالمًا، أو ناسيًا، فهل يبطل إحرامه بشيء من ذلك؟[83]
ج: السنة أن يُحْرِم الذَّكَر في نعلَيْنِ؛ لأنه جاء عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((ليُحْرِم أحدكم في إزار ورِداء ونَعْلينِ))[84]، فالأفضل أن يحرم في نعلَيْنِ حتى يتوقى الشوك، والرَّمْضاء، والشيء البارد، فإن لم يُحْرِم في نعلينِ فلا حَرَج عليه، فإن لم يجد نَعْلَيْنِ جاز له أن يُحْرِم في خُفَّيْنِ. وهل يقطعهما أم لا؟ على خلاف بين أهل العلم، وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((مَنْ لم يجد نعلينِ، فليلبس خُفينِ، وليقطعهما أسفل من الكعبينِ)) [85]. وجاء عنه في خُطبته في حجة الوداع في عرفات أنه أمر من لم يجد نعلينِ أن يلبس الخفين، ولم يأمر بقطعهما، فاختلف العلماء في ذلك فقال بعضهم: إن الأمر الأول مَنْسُوخ، فله أن يلبس من دون قطع.
وقال آخرون ليس بمنسوخ، ولكنه للنَّدْب لا لِلْوُجوب، بدليل سكوته عنه في عرفات. والأرجح - إن شاء الله - أن القَطْع منسُوخ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب الناس في عرفات، وقد حضر خطبته الجَمْعُ الغفِير من الناس من الحاضرة والبادية ممن لم يحضر خطبته في المدينة التي أمر فيها بالقَطْع. فلو كان القَطْع واجبًا أو مشروعًا لبَيَّنَهُ للأمة، فلما سكت عن ذلك في عرفات دلّ على أنه منسوخ، وأن الله - جل وعلا - عفا وسَامَحَ العِبَاد عن القَطْع؛ لما فيه من إفساد الخف.(/34)
أما المرأة فلا حرج عليها إذا لبست الخفينِ أو الشراب؛ لأنها عَوْرة، ولكن تُمْنَع من شَيئينِ: من النِّقاب، ومن القُفَّازَينِ؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - نهى المُحْرِمة عن ذلك، فقال: ((لا تَنْتَقب المرأة، ولا تلبس القُفَّازَيْنِ))؛ والنِّقاب: هو الشيء الذي يصنع للوجه؛ كالبرقع فلا تلبسه وهي مُحْرِمة، ولكن يجب أن تغطي وجهها بما تشاء عند وجود الرجال الأجانب؛ لأن وجهها عَوْرة، فإذا كانت بعيدة عن الرجال كشفت وجهها، ولا يجوز لها أن تضع عليه النِّقاب ولا البُرقع، ولا يجوز لها أن تلبس القُفَّازينِ، وهما غِشاءان يُصْنعان لليدين فلا تلبسهما المُحْرِمة ولا المُحْرِم، ولكن تغطي يديها ووجهها عند الحاجة بغَيْر النِّقاب والقُفّازَينِ؛ لما ثبت عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: "كنا ونحن مع النبي - صلى الله عليه وسلم - محرمات إذا دنا منا الرجال سدَلَتْ إحدانا جلبابها على وجهها، فإذا بعدوا منا كَشَفْنا))[86]، والله ولي التوفيق.
حكم من وقف بعرفة بملابسه المخيطة
س: فضيلة الشيخ أفادنا الله بعلمك ونفع المسلمينَ به، أنا منعني رؤسائي في العمل من الإحرام وقد جئتُ هنا للملكة للعمل عندهم، وقد أفتاني أحد المشايخ بأن أقف في عَرَفة بملابسي المخيطة، فماذا عليّ، وهل حجتي صحيحة، وأنا لا أستطيع ذبح دم وأنا مسافر إلى بلدي؟ فماذا يجب عليَّ مِن الصيام هنا؟ وماذا يجب عليَّ في بلدي؟ [87](/35)
ج: إذا كنت عاملاً ولم يأْذَنُوا لك فلا تُحْرِم، أما إذا سمحوا لك بالإحرام فلا بأس، أما إذا كنتَ عاملاً عند أحد تشتغل عنده فليس لك الحج بغير إِذْنهم؛ لأنك مربوط بعملهم مُسْتأْجَر، فعليك أن تكمل ما بينك وبينهم، فالمسلمون على شُروطهم والله يقول: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}[88]، أما إذا سمحوا لك أن تحج فلا بأس وتحج؛ كما يحج المسلمون تكشف رأسك، تلبس الإزار والرداء، ولا تلبس المخيط؛ بل تلبس إزارًا ورداءً وتكشف رأسك، أما كونك تحج وهم ما أذنوا لك فهذا يعتبر معصية، وإن كنتَ حججْتَ صحّ الحج؛ لكنك عصيتَ ربك في هذا؛ لأنك ضَيعْتَ بعض حقهم إلا إذا أذنوا لك، وإذا كنت حججت وأنت لابس على رأسك العمامة أو المخيط على بدنك فعليك الكَفَّارة مع التوبة إلى الله، والكَفّارة هي إطعام ستة مساكين أو صيام ثلاثة أيام أو ذبح شاة عن تغطية الرأس، ومثلها عن لبس المخيط على البَدَن، إطعام ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع كيلو ونصف تقريبًا، أو صيام ثلاثة أيام، أو ذبح شاة تجزئ في الضحيَّة للفُقراء في الحَرَم عما جعلتَ على رأسك من اللباس، وعما جعلت على بَدَنِكَ من اللباس، عن الرأس كَفّارة، وعن البدن كَفَّارة. الله يهدينا وإياكم والمسلمينَ.
حُكْم من سَافَر في مهمة عاجلة فخلع ملابس الإحرام بعد إحرامه
س: رجل لبس ملابس الإحرام بعد أن اغْتَسل وتَطَيَّبَ ثم اسْتُدْعِيَ للسفر في مُهمّة عاجلة، فخلع ملابسه فماذا يكون عليه؟ [89](/36)
ج: هذا السؤال فيه تفصيل، فإن كان الرجل المذكور قد أحرم بالنُّسُك بعد لبسه ملابس الإحرام؛ أي نَوى الدُّخول في الحج أو العمرة ثم رجع عن ذلك؛ فخلع ملابس الإحرام من أجل المُهمّة المذكورة فهذا لم يزل مُحْرِمًا، وعليه أن يعيد ملابس الإحرام ويتوَجّه إلى مكة من حين يعلم حُكْم الشّرْع في ذلك؛ لإكماله نُسُكه من حج أو عمرة، ولا كَفَّارة عليه عما فعل إن كان جاهلاً، أما إن كان حين خلعه ملابس الإحرام لم ينوِ الدخول في النُّسُك؛ وإنما لبس ملابس الإحرام استعدادًا لذلك، ثم خلع الملابس من أجل المهمة، قبل أن ينويَ الدخول في النسك من حج أو عمرة فلا شيء عليه؛ لأنه حين خلع الملابس والحال ما ذكر ليس بمُحْرِم. والله أعلم.
لبس الحِزَام في الإحرام لا حَرَج فيه
س: ما حكم لبس الهميان (الكمر) من قبل الحاج المُحْرِم، ليحفظ فيه نقوده، هل يجوز له ذلك أم يعتبر مخيطًا لا يجوز لبسه؟ [90]
ج: لبس الكمر ونحوه لا حرج فيه، وكذلك الحزام أو المنديل لربط إزاره وحفظ حاجته من النقود وغيرها، وبالله التوفيق.
حكم لُبْس الساعة للمُحْرم
س: ما حكم لبس الساعة للمُحْرم؟ [91]
ج: لبس الساعة مثل لبس الخاتم لا حرج فيه إن شاء الله.
حكم وضع الطِّيب على ملابس الإحرام
س: ما حكم وضع الحاج الطيب على ملابس الإحرام قبل عَقْد النية والتلبية؟[92]
ج: لا يجوز للمُحْرِم أن يضعَ الطيب على الرِّداء والإزار، وإنما السنة تطييب البدن؛ كرأسه؛ ولحيته؛ وإبطَيْه ونحو ذلك، أما الملابس فلا يُطيبها عند الإحرام؛ لقوله - عليه الصلاة والسلام -: ((لا تلبسوا شيئًا من الثياب مَسّه الزعفران أو الوَرْس))[93]، فالسنة أنه يَتَطَيَّب في بَدَنه فقط، أما ملابس الإحرام فلا يُطيبها ولا يلبسها، حتى يغسلها أو يغيرها.
حكم استعمال الصابون للمُحْرِم
س: ما حُكْم غَسْل اليدينِ بصابون مُعطر مثل: اللُّوكس أثناء الإحرام؟[94](/37)
ج: لا حرج في ذلك - إن شاء الله - لأنه لا يُسمى طيبًا، ولا يعتبر مُستعملُه مُتَطيبًا؛ لكن لو ترك ذلك واستعمل صابونًا آخر من باب الورع كان أفضل وأحسن؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((دَعْ ما يَريبُك إلى ما لا يَرِيبُك)) [95]
س: هل يجوز استعمال الصابون ذي الرائحة للمُحْرِم؟[96]
ج: الصابون ذو الرائحة الجيدة يُسَمّى (المُمَسك)؛ والأقرب - والله أعلم - هو التسامُح فيه، وعدم التشديد فيه، فإن تركه على سَبيل الاحتِياط؛ لأن الرائحة فيه ظاهرة فمن باب الوَرَع ومن باب الحيطة، وإلا فاستعماله لإزالة الأَوْساخ والدسم ونحو ذلك لا يُسمى تَطَيبًا، وليس من باب التَّطيُّب، فإذا فعله المُحْرِم فلا أَرَى عليه شيئًا مِنَ الفِدْية، ولا أرى عليه بأسًا في ذلك.
س: امرأة مُحْرِمة بالعمرة شربت قهوة في زعفران قبل أن تكمل العمرة، هل الزَّعْفَران من أنواع الطّيب، وهل يخل بالعمرة أم لا؟[97]
ج: المُحْرِم الذي يشرب القهوة وفيها زعفران يكون قد أَسَاء؛ لأن الزعفران طِيب فلا ينبغي استعماله في القهوة في حق المُحْرِم؛ كما لا ينبغي استعماله في ملابسه ولا في بَدَنِه وهو مُحْرِم، فإذا فعل ذلك الرجل المُحْرم، أو المرأة المحرمة؛ جَهْلاً، أو نِسْيانًا، فلا شيءَ عليهما، أمَّا إنْ تعمَّد ذلك، وهو يعلم أنه مُحَرّم ولا يجوز، فإنه يتصدَّق بإطعام ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع من التمر أو الحنطة، أو يصوم ثلاثة أيام أو يذبح شاة؛ كما لو لبس المخيط عمدًا، أو تطيب في بَدَنِه، أو ثيابه، أو رأسه عَمْدًا، وهو يعلم أنه مُحَرَّم، فإن عليه هذه الفِدْية كَفَّارة، وهكذا لو قلم أظفاره، أو قص من شعره عمدًا، وهو يعلم أنه مُحَرّم، أما النَّاسي أو الجاهل فلا شيءَ عليه.
حكم الجِمَاع قبل التحلُّل الأول
س: هل يجب إعادة الحج على مَن جَامَع قبل التحلل الأول مع العلم أن حجه حج تطوع؟ [98](/38)
ج: إذا جَامَع قبل التحلُّل الأول يفسد حجه، وعليه أن يتمَّه وعليه أن يقضيه بعد ذلك، ولو كان حج تطوع؛ كما أفتى بذلك أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وعليه بَدَنَة يذبحها ويقسمها على الفقراء بمكة المكرمة، والله المستعان.
حكم الجِمَاع قبل طواف الإفاضة
من عبدالعزيز بن عبدالله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم م. ع. د. وفقه الله.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فقد وصلني كتابكم الكريم المؤرخ في 1/1/1394هـ وصلكم الله بهداه، وما تضمنه من التعزية في فقيد الجميع فضيلة الشيخ / محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله – فهمته، وأسأل الله أن يجيب دعاءكم، ويجبر مصيبة الجميع فيه، ويتغمده بالرحمة والرضوان، ويصلح ذريته ويخلفه على المسلمينَ بأحسن خلف، إنه جَوَادٌ كريم.
س: امرأة سافرتْ إلى الخميس قبل طواف الإفاضة فما الحكم؟ وهل لزَوْجها وطْؤُها؟[99]
ج: يلزمها العودة إلى مكة فورًا مع القُدرة؛ لأداء طواف الإفاضة؛ لأنه رُكْن من أركان الحج، وإن أحرمت بالعمرة عند وصولها إلى الميقات فذلك أفْضَل، فتطوف للعمرة وتَسْعى ثم تطوف لحجها السابق ثم تقصر وتحل، وإن قَدَّمَتْ طواف الحج على طواف العمرة وسَعْيها فلا بأس، وليس لزوجها وَطْؤها حتى تطوف طواف الإفاضة؛ لأن الوَطْء لا يجوز إلا بعد الحل الكامل من الحج، وهو لا يحصل إلا بالطَّواف، والسَّعْي لمن عليه سَعْي والرَّمْي لجمرة العَقَبَة والحَلْق، أو التّقْصِير.
س: رجُل وطئ زوجته قبل طواف الإفاضة، فماذا عليه؟ هل يخرج إلى الحل من جديد؟ جزاكم الله خيرًا.[100](/39)
ج: إذا وطئ الحاجُّ زوجتَه قبل الطواف فقد أخْطَأ، وعليه التوبةُ إلى الله، وعليه دم يذبح في مكة ويُوزَّع على الفقراء، ولا يلزمه بذلك الذهاب إلى الحل، وإنما عليه التوبةُ إلى الله، والفِدْية والطواف والسَّعْي إن كان لم يسعَ، وكان قارنًا أو مُفْرِدًا، أما إذا كان مُتمتِّعًا فعليه السَّعْي الأول لعمرته، وعليه السَّعْي الثاني بعد الطواف لحجِّه.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
سماحة الشيخ الفاضل / عبدالعزيز بن عبدالله بن باز حفظك الله ورَعَاك.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛ وبعد:
لقد ذهبتُ من المنطقة الشرقية (الأحساء) إلى مكة المكرمة؛ وذلك بمُناسبة إجازة عيد شهر رمضان المُبارك، وأخذتُ هذه الفُرْصة حتى آخذ أنا وأهلي عمرة في شهر رمضان، ومن الميقات أحرمنا وذهَبْنا إلى الحرم المكي ثم طُفنا وسَعَيْنا، وفي الشوط الثاني من السَّعْي قالت لي زوجي: لقد نزل عليَّ دم وهو من أَثَر رَبْط، وقالت أيضًا: لقد أحسستُ بشيء يسير قبل الدخول إلى الحرم، وهذا لم أتأكّد منه؛ لكن الآن ثَبَت نزول الدم. فأخذتها في الحال إلى إحدى بوابات الحرم، وسألتُ أحد الشيوخ هناك فقال لي: هي لا تكمل السَّعْي أما أنت فأكْمِل العُمْرة، وأرجُو أن تسأل: هل عليك كَفَّارة؟ وكان ذلك في تمام الساعة الثامنة صباحًا. وبعد إكمالي العمرة ذهبتُ إلى مقَرِّ الفتوى في الحرم، فلم أجد أحدًا، وقال لي أحد الموجُودِينَ: إنه لا يوجد أحد الآن. فأخذتُ أهلي وذهبتُ إلى بلدي، وقضيت هناك ما بقي من الإجازة، ثم رجعت إلى المنطقة الشرقية، وبعد عودتي سألتُ عن ذلك أحد المشايخ فقال لي: إن زوجتي لا تزال مُحْرِمة ويحرم عليها ما يحرم على المُحْرِم، ويلزمها إكمال العمرة.
لذا أرجُو من سماحتكم إفادتي عن الحُكم الشرعي في ذلك، وإذا كانت لا تزال مُحْرِمة فلقد اغتسلَتْ، وجامَعْتها، ومَشَّطَتْ شعرها، وقَصَّتْ أظافرها.(/40)
فهل هناك كفارة؟ وهل يسقط عنها الإحرام بنُزول الدم؟ وهل يلزمها إكمال العمرة أم إنها تعتبر معتمرة، حيث إنها نوت العمرة، وحدث ذلك بعد النية غصبًا عنها؟ وإذا كان لا بد من إكمال العمرة. فإنني أخبركم بأنني لا أستطيع الذهاب بها الوقت الحاضر نظرًا لظروف عملي، وبُعْد المنطقة؟[101] هذا وأرجو رأي سماحتكم الشرعي والله يحفظكم ويرعاكم.
ج. وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته؛ أما بعد:
إذا كان الواقع هو ما ذكرتَ في السؤال، فالمرأة المذكورة لا تزال محرمة، وعليك اجتنابها حتى تذهب إلى مكة، وتطوف وتسعى وتقصر، بذلك تكمل عمرتها، وإذا كنت جامعتها في هذه المدة فعليها دم جبران فِدْية تذبح في مكة للفقراء، جذع ضَأْن أو ثِنِيّ مَعز يجزئ في الضحية مع التوبة والاستغفار منكما جميعًا، وعليها أيضًا أن تأتي بعمرة أخرى من الميقات بدلاً من هذه العمرة التي فسدت بالجماع، ونسأل الله للجميع الهداية وقبول التوبة، ونوصيكما جميعًا بعدم التساهُل في أمور الدِّين، وأن تبادِر بالاستِفْتاء في كل ما يشكل عليك، ونسأل الله للجميع التوفيق والهداية.
والخلاصة: أن على زوجتك أن تكمل عمرتها بالطَّواف، والسَّعْي، والتقصير من رأسها، ثم عليها أن تأتي بعمرة أخرى من الميقات إذا كنت قد جامعتها مع الفِدْية المذكورة آنفًا، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
فضيلة الشيخ / عبدالعزيز بن عبدالله بن باز حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:(/41)
استفتي فضيلتكم بسؤالي هذا وهو: أنني تزوجت من فتاة، ولها عندي ما يقارب السنتين، ولي منها بنت - فضيلة الشيخ - بعدها قامت زوجتي بإخباري بأنها: أدتْ مناسك العمرة مع أهلها وطافت بالبيت الحرام، والدَّوْرة كانت معها. فضيلة الشيخ بعدما أخبرتني بذلك قمتُ بطرح هذا السؤال على فضيلة الشيخ/ صالح بن فريج بمُحافظة عفيف؛ طالبًا الفتوى في هذا السؤال تبرئة لذمتها، وهل يلحقها شيء من ذلك؟ وأجابني جزاه الله خيرًا بأن تعيد الزوجة العمرة مرة أخرى. فضيلة الشيخ: كما أن تأديتها لهذه العمرة كان قبل أن أتزوجها بمدة أربع سنوات.
فضيلة الشيخ/ عبدالعزيز بن باز أتَيْنا لفضيلتكم؛ للتأكُّد من الأمر، وإفتائنا عن إجابة هذا السؤال، هذا والله يحفظكم ويرعاكم ويسدد خطاكم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.[102] وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته وبعد:
إذا كان الواقع هو ما ذكرتم فالواجب عليها أن تذهب إلى مكة وتطوف وتسعى لعمرتها وتقصر، وعليها دم يذبح في مكة للفقراء عن جماعك لها، وهي محرمة لم تحل من عمرتها؛ لأن طوافها وهي حائض غير صحيح، وعليها أن تعيد العمرة من الميقات؛ لأن الأولى فسدت بالجماع، فيكون الواجب أداء أعمال العُمْرة الأولى وهي: الطواف، والسَّعْي، والتقصير، ثُم عمرة ثانية من الميقات، كما أفتى بذلك بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ويَحْرُم عليك قربانها حتى يجدد العقد - أعني عقد النكاح - بعد فعلها ما ذكرنا مع التوبة إلى الله – سبحانه - من ذلك. وفَّق الله الجميع لما يرضيه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
حكم مُزاولة العادة السرية في الحج(/42)
س: منذ سبع سنوات ذهبتُ أنا وأبي لأداء فريضة الحج، وكان عمري وقتها حوالي سبعة عشر عامًا. وعندما كنت مُرتَدِيًا الإحرام وقبل الذهاب من مكة إلى مِنى لأداء مناسك الحج، قمت عن جهل مِنِّي، وعن غير علم بمحظُورات الإحرام بمُزاولة العادة السرية، وبعد ذلك اغتسلتُ غسل الجنابة، وارتديتُ إحرامي، ثم ذهبنا إلى مِنى، وأتممنا جميع مناسك الحج والحمد لله. فما حكم حجتي التي هي حجة الفريضة، والذي جعلني أتأخر عن السؤال طوال هذه المدة
هو الغَفْلة. جزاكم الله خيرًا ووفقكم وأعانكم.[103]
ج: الحج صحيح في أصح قولي العلماء. وعليك التوبةُ إلى الله من ذلك؛ لأن تعاطي العادة السرية مُحَرَّم في الحج وغيره؛ لقول الله - عز وجل -: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [104]، ولما فيها من المَضَارِّ الكثيرة التي أوْضَحَها العلماء. نسأل الله لنا ولكم الهداية والتوفيق. وعليك دم يُذْبح في مكة للفُقراء.
س: إذا احتلم الإنسان أثناء الإحرام، ما حكمه؟ وما عليه؟ جزاكم الله خيرًا[105]
ج: بسم الله والحمد لله، إذا احتلم في الإحرام وأنزل المنِيّ، فعليه الغُسْل ولا شيء عليه، فإحرامه صحيح ولا يضره شيء؛ لأنه ليس باختياره، وهكذا الصائم في رمضان وغيره إذا احتلم صومه صحيح، ولكن إذا أنزل المنِيّ يغتسل غُسْل الجنابة.
حكم تغطية المرأة المحرمة لوجهها وكفَّيْها
س: هل يجوز للمرأة أن تُغَطِّي وجهها وكفيها بقُفَّازَيْنِ عندما تذهب للحج أو للعمرة، وهي بذلك ليست مُكْرَهة؛ بل إن وليها أعطاها حرية الخيار بين أن تكشف، أو تغطي وجهها؟ أفيدونا جزاكم الله خيرًا.[106](/43)
ج: المرأة في الإحرام ليس لها أن تُغَطِّي وجهها بالنِّقاب أو بالبُرْقع، وليس لها أن تلبس القُفَّازَينِ في اليَدينِ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ذلك، فقال - عليه الصلاة والسلام - في الحديث الصحيح فيما يلبس المحرم: ((ولا تنتقب المرأة ولا تلبس القُفَّازَينِ))[107]؛ يعني في الإحرام؛ ولكنها تُغَطِّي وجهها وكَفَّيْها بغير ذلك من خِمار ونحوه، لجلبابها أو، عباءتها، أو نحو ذلك. أما النِّقاب: وهو ما يصنع للوجه، فإنها لا تلبسه المُحْرِمة لا في العمرة ولا في الحج، قالت عائشة - رضي الله عنها -: "كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع، وكنا إذا دَنا منا الرُّكْبَان، سَدلَتْ إحدانا خِمَارها من على رأسها على وجهها، فإذا جَاوَزُونَا كشفنا"، فالمرأة تفعل هكذا إذا قرب منها رجال تُغَطِّي وجهها بخمار ونحوه، لا بنِقَاب مصنوع للوجه، ولا تغطي يديها بقُفَّازينِ ولكن بغيرهما، وهكذا الرجل المُحْرِم لا يغطي وجهه، ولا يغطي رأسه بالعمامة ونحوها؛ ولكن يغطي يديه بغير قُفَّازينِ عند الحاجة، فلو غَطَّى يديه بالرِّدَاء أو بالإزار أو بشيء آخر فلا بأس بذلك، والمرأة كذلك.
الأفضل للمرأة أن تُحْرِم في شراب وليس لها الإحرام في قُفَّازينِ
س: سُئِل سماحة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز مُفتي عام المملكة العربية السعودية، ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء، عن حكم إحرام المرأة في الشراب – الجورب - والقُفَّازَينِ، وهل يجوز لها خَلْع ما أحرمت فيه؟[108]
فرَدَّ سماحته قائلاً: الأفضل لها إحرامها في الشراب، أو مداس فهذا أفضل لها وأَسْتر لها، وإن كانت في ملابس ضَافِيَة كفى ذلك.(/44)
وأضاف سماحته: "وإن أحرمتْ في شَراب ثم خلعته فلا بأس، كالرجل يُحْرِم في نَعْلينِ، ثم يخلعهما إذا شاء لا يضره ذلك، بيد أن سماحته أكَّدَ أنه: "ليس لها أن تُحْرِم في قُفَّازينِ". وعلل ذلك بقوله: "لأن المُحْرِمة مَنْهِيَّة أن تلبس القُفَّازينِ، وهكذا النقاب لا تلبسه على وجهها، ومثله البُرقع ونحوه؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - نهاها عن ذلك، وأَكَّد سماحته أن عليها أن تسدل خمارها أو جلبابها على وجهها عند وجود رجال غير محارمها، وفي الطواف والسَّعْي.
واستشهد بحديث عائشة - رضي الله عنها - قال: "كان الرُّكبان يمُرُّون بنا ونحن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا حاذوا بنا سدلَتْ إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفناه"؛ أخرجه أبو داود، وابن ماجَهْ.
أما بالنسبة للرجل فقال سماحة الشيخ ابن باز: "يجوز للرجل لبس الخُفَّينِ، ولو غير مقطوعَيْنِ على الصحيح، وقال الجمهور بقطعهما"؛ ولكن سماحته أضاف: "والصواب: أنه لا يلزم قطعهما عند فَقْد النَّعْلينِ". واستدل بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - خطب الناس بعَرَفة فقال: "من لم يجد إزارًا فليلبس السراويل، ومن لم يجد نعلين فليلبس الخُفَّينِ"[109]؛ متفق
عليه. واختتم سماحة مفتي عام المملكة العربية السعودية إجابته بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "لم يأمر بقطعهما، فدلّ ذلك على نَسْخ الأمر بالقَطْع".
س: امرأة لديها ضعف في البصر، وتنوي الحج هذا العام، وتقول: هل أضع نقابًا يغطي وجهي بحيث تظهر العينان، ثم أضع عليه غطاء ساترًا خفيفًا أتمكن من رؤية الطريق من خلاله، فهل عليَّ إثْمٌ لو فعلت ذلك؟ جزاكم الله خيرًا[110](/45)
ج: لا حرج في ذلك إلا إذا كانت مُحْرِمة فليس لها ذلك؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حق المُحْرِمة: ((ولا تَنْتَقِب المرأة، ولا تلبس القُفَّازينِ)) [111] أ هـ. لكن تغطي المُحْرِمَة وجهها بغير ذلك؛ كما جاء ذلك في حديث عائشة - رضي الله عنها - والله ولي التوفيق.
حج المُصِرّ على المعصية صحيح، ولا بُدَّ من التوبة
س: ما حكم حج المُصِرّ على المعصية أو المُسْتمر على ارتكاب صغيرة من الذُّنوب؟[112]
ج: حجه صحيح إذا كان مسلمًا؛ لكنه ناقص ويلزمه التوبة إلى الله - سبحانه وتعالى - من جميع الذنوب ولا سيما في وقت الحج، وفي هذا البلد الأمين، ومن تاب، تاب الله عليه؛
لقول الله - سبحانه وتعالى -: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[113]، وقوله – سبحانه -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [114].
والتوبة النصوح: هي المُشْتمِلَة على الإقلاع عن الذنوب والحَذَر منها؛ تعظيمًا لله - سبحانه وتعالى - وخوفًا من عِقابِه، مع الندم على ما مَضَى منها، والعَزْم الصادق على ألا يعود فيها، ومن تمام التوبة ردّ المظالم إلى أهلها، وإن كان هناك مظالم في نفس، أو مال، أو بشرة، أو عرض، واستحلال أهلها منها.
وفَّق الله المسلمينَ لِمَا فيه صلاح قلوبهم وأعمالهم، ومَنَّ علينا وعليهم جميعًا بالتوبة النصوح من جميع الذنوب إنه جَوَاد كريم.
باب الفِدْية
حكم من فعل محظورات من جنس واحد
س: هل تدخل المحظورات في بعضها البعض، وتكون لها كَفَّارة واحدة؟[115](/46)
ج: نعم؛ إذا كانت المحظورات من جِنْس واحد، مثل إذا قلم أظفاره، ونتف إبطه، أو لبس المخيط عامدًا، فعليه التوبة، وتكفي فِدْية واحدة، وهي: إطعام ستة مساكين، أو صوم ثلاثة أيام، أو ذبح شاة.
س: حديث كعب بن عجرة - رضي الله عنه - قال: حُملت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والقمل يتناثَرُ على وجهي. فقال: ((ما كنت أرى الوجع بلغ بك ما أرى، أتجد شاة؟)) قلت: "لا". قال: ((فصم ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع))؛ متفق عليه. هل هذا الحديث تفسير للآية: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ ...}[116] الآية؟ [117]
ج: هذا الحديث يُفَسر الآية المذكورة، ويدل بجميع رواياته على التخيير بين الأصناف الثلاثة؛ كما هو ظاهر الآية الكريمة، وهي: صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين؛ لكل مسكين نصف صاع من قوت البلد من تمر أو غيره، أو ذبح شاة تجزئ في الأضحية.
حكم من ترك الإحرام من الميقات
س: إنسان نَوى العمرة أو الحج؛ ولكنه اجتاز الميقات وأحرم دونه، وأتَمَّ أعمال الحج أو العمرة، فما الواجب عليه؟[118]
ج: عليه أن يذبح هَدْيًا يُوَزِّعه على فقراء الحرم، ولا يأكل منه إذا جاوز ميقاته غير مُحْرِم ثم أحرم بعد ذلك، وهو ناوٍ العمرة أو الحج حين جاوز الميقات؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لما وقَّت المواقيت لأهل المدينة والشام واليمن ونجد: ((هُنَّ لَهُنَّ، ولِمَنْ أتى عليهِنَّ من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة، ومن كان دون ذلك فمُهَلُّه من حيث أنشأ، حتى أهل مكة من مكة))[119]؛ متفق على صحته، ويُستَثْنى من ذلك من أراد العمرة من أهل مكة، فإنه يجب أن يحرم من الحل؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر عائشة بذلك لما أرادت العمرة، وهي بمكة منه. والله ولي التوفيق.
حكم من أحرمت بالعمرة، ثم جاءها الحيض وسافرت ولم تؤدِّ العمرة(/47)
س: امرأة أحرمت للعمرة، ثم جاءها الحيض فخلعت إحرامها، وألغتِ العمرة، وسافرت فما الحكم؟ [120]
ج: هذه المرأة لم تزل في حكم الإحرام، وخلعها ملابسها التي أحرمت فيها لا يخرجها عن حكم الإحرام، وعليها أن تعود إلى مكة فتكمل عمرتها، وليس عليها كفَّارة عن خلعها ملابسها، أو أخذ شيء من أظفارها، أو شعرها، وعودها إلى بلادها إذا كانت جاهلة؛ لكن إن كان لها زوج فوطئها قبل عودها إلى أداء مناسك العمرة، فإنها بذلك تفسد عمرتها، ولكن يجب عليها أن تؤدي مناسك العمرة وإن كانت فاسدة، ثم تقضيها بعد ذلك بعمرة أخرى من الميقات الذي أحرمت منه بالأولى، وعليها مع ذلك فدية وهي سبع بدنة أو سبع بقرة، أو رأس من الغنم جذع أو ضَأْن أو ثِنِيّ مَعز يُذبح في الحرم المكي، ويوزع بين الفقراء في الحرم عن فساد عمرتها بالوطء.
وللمرأة أن تحرم فيما شاءت من الملابس وليس لها ملابس خاصة بالإحرام؛ كما يظن بعض العامة، لكن الأفضل لها أن تكون ملابس الإحرام غير جميلة حتى لا تحصل بها الفتنة، والله أعلم.
فدية تَرْك بعض الواجبات
من عبدالعزيز بن عبدالله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم ع. م.ب. غ. وفقه الله آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
وصلني خطابكم الكريم المؤرخ في 17/2/1392هـ - وصلكم الله بهداه - المُتضمِّن السؤال عما حصل لكم في الحج وهو: أنك وقفْتَ بعرفة وبِتّ بمُزدلفة، وأنك تَحَلَّلْتَ من الإحرام، ولم تَرْم الجِمَار، بسبب أنك نسيت صلاة الظهر والعصر بعرفة إلى قبيل المغرب، ثم تضايقَتْ نفسك ولم تكمل مناسك الحج، وتسأل ماذا يجب عليك في ذلك؟[121](/48)
والجواب: أنك لا تزال محرمًا إلى حين التاريخ، ونيتك التحلل من الإحرام غير معتبرة؛ لعدم توفر شروط التَّحَلُّل، وعليك أن تُبادِر بلبس ملابس الإحرام من حين يصلك هذا الجواب، وتذهب إلى مكة بنية إكمال الحج، فتطوف سبعة أشواط بالكعبة طواف الحج، وتصلي ركعتي الطواف، ثم تسعى بين الصفا والمروة سَعْي الحج، ثم تحلق أو تقصر والحلق أفضل إن لم تكن سابقًا حلقت أو قصرت بنية الحج، ثم تتحلل وعليك دم عن ترك رمي الجمار كلها، إذا كنتَ لم ترمِ جمرة العقبة يوم العيد أو الجِمَار الثلاث يوم الحادي عشر والثاني عشر، وهو سبع بَدَنة أو سبع بقرة أو ثِنِيّ من المعز أو جذع من الضَّأْن، يُذبح في الحرم المكي ويُوزع بين فقرائه، وعليك دم آخر مثل ذلك عن تَرْكك المبيت بمِنى أيام مِنى إذا كنت لم تَبِتْ بها، يُذبح في الحرم المكي ويُوزع بين الفقراء، وعليك مع ذلك التوبةُ والاستغفار عما حصل من التقصير بترك الرَّمْي الواجب في وقته، والمبيت بمِنى إن لم تكن بِت بها. أمَّا الطواف والسَّعْي والحلق فوقتها موسع؛ ولكن فعلها في وقت الحج أفضل، وإذا كنت مُتزوجًا وجامعتَ زوجتك فقد أفسدت حجك؛ لكن عليك أن تفعل ما تَقدَّم؛ لأن الحج الفاسد يجب إتمامه كالصحيح؛ لقوله – تعالى -: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [122]، وعليك قضاؤه في المستقبل حسب الاستطاعة، وعليك بدنة عن إفسادك الحج بمُجامعتك امرأتك قبل الشروع في التحلل، تذبح في الحرم المكي وتوزع بين الفقراء، إلا أن تكون قد رميت الجمرة يوم العيد أجزأتك شاة بدل البدنة، ولم يفسد حجك؛ كالذي جامع بعد الطواف قبل أن يكمل تحلله بالرَّمْي أو الحلق. وفق الله الجميع للفِقْه في دينه والثَّبات عليه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
حضرة صاحب السماحة والفضيلة الشيخ/ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز المُوَقَّر.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
أفْتِنا عَظَّم الله أجْرَك عن الأسئلة الآتية:(/49)
1- خمسة أشخاص دخلوا الحرم؛ لطواف الوداع، فلما طافوا شوطًا أو شوطينِ حصل عليهم زحام شديد، حتى خافوا على أنفسهم فصلوا ركعتينِ ودعوا وخرجوا، ولم يكملوا طواف الوداع؛ ظنًّا منهم أن الطواف غير واجب عليهم، فماذا يجب عليهم، وإذا وجب عليهم دم فهل يجوز ذبحه وأكله في بلدهم، أم لا بد من ذبحه في مكة، وهل إذا لزم أحد دم هل هو على الفور أم على التراخي؟.
2- رجل حج فريضة، فلما وصل إلى الميقات أحرم بالعمرة مُتمتِّعًا، فلما قدم مكة سعى وقصر قَبْل طواف القُدوم، ثم طاف، ولبس ثيابه، وفي اليوم الثامن أحرم بالحج مع الناس، ولم يحصل عليه خلل حيث قد فهم من فعل الناس أن الطواف هو الأول والسعي بعده، وأما فعله بالعمرة فجهلاً منه بالحكم، ويذكر أن معه زوجته، وحجها فرضها وهذا الحج المذكور له عدة سنوات، وقد حج الرجل بعده مرة دون زوجته، فأرجو توضيح الحُكْم؟ عظم الله أجركم. [123]
ج. من عبدالعزيز بن عبدالله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم الشيخ م. ع. ع. سلمه الله وتولاه آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
كتابكم الكريم المؤرخ في 9/1/1388هـ وصل وصلكم الله بهداه، وما تضمنه من السؤالينِ كان معلومًا:
السؤال الأول: عن جماعة شرعوا في طواف الوداع، فلما طافوا شوطًا أو شوطينِ اشتد عليهم الزحام، فقطعوا الطواف ثم صلوا ركعتينِ ثم خرجوا؛ ظنًّا منهم أنه غير واجب.(/50)
والجواب: هؤلاء الجماعة حسب الأدلة الشرعية على كل واحد منهم فدية، وهي: سبع بدنة أو سبع بقرة أو جذع ضَأْن أو ثِنِيّ مَعز؛ لأن الراجح في طواف الوداع أنه واجب؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر به ونهى عن النفير قبله، وصح عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: "من ترك نُسُكًا أو نسيه فليهرق دمًا"، وهذا الهَدْي يذبح في مكة، ويقسم على فقراء الحرم؛ كما نص على ذلك أهل العلم؛ احتجاجًا بقوله – سبحانه -: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ * لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ}[124]، وبقوله - سبحانه - في جزاء الصيد: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ}[125]، وهو واجبٌ على الفور؛ لأن الأدلة الشرعية قد دلت على أن الأوامر على الفَوْر إلا ما نص الشرع على التوسيع فيه، وذلك أبلغ في الامتثال، وأبعد من خطر التَّرْك أو النِّسْيان.
السؤال الثاني: متمتِّع بالعمرة إلى الحج، فلما دخل مكة سعى وقصر قبل الطواف، ثم طاف ثم حل ثم حج؟.(/51)
والجواب: هذه المسألة فيها خلافٌ بين العلماء، والأقرب - إن شاء الله - أن عمرته صحيحة؛ لأنه ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سُئِل في حجة الوداع عمن سَعَى قبل الطواف فقال: ((لا حَرَج)) [126]؛ أخرجه أبو داود في سننه بإسناد جيد. أما كونه قصر قبل تمام العمرة ولم يُقَصر بعد ذلك فهذا يجبر بدم، لأن التقصير نُسُك واجب في العمرة بعد الطواف والسعي وقد تركه، فينبغي أن يفدي عن ذلك فديًا؛ كالهدي المذكور في جواب السؤال الأول يذبح في مكة ويوزع بين فقرائها، وينبغي أيضًا أن يفدي عن تقصيره الذي وقع في غير محله جهلاً منه بأحد ثلاثة أشياء: إما صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع من التمر أو الحنطة أو الأرز أو الشعير، أو ذبح شاة على ما في حديث كعب بن عجرة؛ لكونه فعل ما يخالف الشرع، وكان في إمكانه أن يسأل أهل العلم قبل أن يقدم على عمله هذا، والإطعام والنُّسُك محلهما مكة. أما الصيام ففي كل مكان، والله - سبحانه وتعالى - أعلم، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه.(/52)
س: سائلة تسأل وتقول: لقد أديتُ فريضة الحج قبل خمس سنوات، ولكني لم أرمِ إلا في المرة الأولى؛ أي رميتُ ليلة العيد قبل الفجر حيث إننا خرجنا من مزدلفة بعد منتصف الليل خوفًا من الزحام، ثم إنني رميت الحصيات، ولا أعلم هل وقعت في الحوض أم طاشت عنه ولم تقع، وكان وقتها الزحام شديدًا، وكنت في ذلك الوقت جاهلة أنه يجب أن تقع الحصيات في الحوض؛ كما أنني لم أرمِ في اليوم الثاني والثالث، وإنما وكَّلْت أخي في الرَّمْي عني؛ وذلك خوفًا من الزحام فقط، كما أنني كنتُ جاهلة أنه على المرأة أن ترمي بنفسها، ولا توكل إلا لعجزها عن ذلك. أفيدوني بالذي يجب عليَّ في رَمْيِي للحصيات حينما كنت لا أعلم، هل كانت تقع في الحوض أم كانت تطيش عنه؟، وما الذي يجب عليَّ في توكيلي لأخي في الرَّمْي في اليوم الثاني والثالث هل يجب علي فِدْية أم ماذا؟ جزاكم الله خيرًا [127]
ج: عليك عن جميع ذلك ذبيحة واحدة عن تَرْك الرمي في اليوم الثاني والثالث وأنت قادرة، وعن رَمْي اليوم الأول الذي شككتِ هل وصلت الجمرات على الحوض أم لا، والمقصود أن عليك دمًا واحدًا وهو ذبيحة جذع من الضَّأْن أو ثِنِيّ من المعز؛ كالضحية يذبح في مكة للفقراء عن تَرْك هذا الواجب؛ لأنه لا بُدّ من العلم بوُقوع الحصى في المَرْمَى أو غلبة الظن بذلك.
مَنْ تحرك من عرفة قبل غروب الشمس فعليه دمٌ مع التوبة إلى الله
س: وقفت بعرفة حتى قبيل المغرب، ورأيت الحُجاج يتحركون إلى مُزْدَلفة فسرت معهم، وقد نبهني أحد الحجاج بعدم المسير الآن؛ ولكنني لم أسمع كلامه، فهل حجي صحيح؟ أو ماذا عليَّ؟ أفيدوني جزاكم الله خيرًا.[128]
ج: إذا كان الواقع هو ما ذكرت في السؤال ولم ترجع إلى عرفة بعد الغروب فعليك دم يُذبح في مِنى، أو مكة للفُقَراء مع التوبة إلى الله من ذلك. وفق الله الجميع.
حُكْم إجزاء الفِدْية الواحدة لمن أخَلّ بواجب أو فعل محظورًا(/53)
س: إذا أخل حاج ببعض واجبات الحج؛ كأن لم يحرم من الميقات أو أخذ شيئًا من جسمه؛ كشعر أو ظفر أو غطى رأسه، هل يكفي لذلك فِدْية واحدة، أم أن كل واجب متروك أو محظور عليه فدية مستقلة بذلك؟ جزاكم الله خيرًا.[129]
ج: من ترك واجبًا من واجبات الحج؛ كالإحرام من الميقات فعليه دمٌ يذبح في الحرم للفقراء، يجزئ في الأضحية أو سبع بَدَنَة أو سبع بقرة، فإن لم يجد صام عشرة أيام، ثلاثة أيام في الحج وسبع إذا رجع إلى أهله.
أما من فعل محظورًا من محظورات الإحرام، مثل: قص الشعر، أو الأظافر، أو لبس المخيط عالمًا بالتحريم، ذاكرًا له فعليه فِدْية ذلك، وهي إطعام ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع، أو ذبح شاة تجزئ في الأضحية، أو صيام ثلاثة أيام؛ لحديث كعب بن عجرة الثابت في ذلك، فإن كان ناسيًا أو جاهلاً فلا شيء عليه. والله ولي التوفيق.
حُكْم من لم يطفْ طواف الإفاضة، ورجع إلى بلاده وجامع أهله
س: رجل لم يطف طواف الإفاضة، ورجع إلى بلاده، وجامع أهله فماذا عليه؟ [130]
ج: عليه التوبة إلى الله - سبحانه وتعالى - وعليه ذبيحة تذبح في مكة للفقراء، وعليه أن يرجع ويطوف طواف الإفاضة، وهذا خطأ عظيم عليه التوبة إلى الله والاستغفار، والرجوع إلى مكة لطواف الإفاضة، وعليه دم يذبح في مكة؛ لأن إتيانه زوجته قبل طواف الإفاضة لا يجوز وفيه دم، والصواب أنه يكفيه شاة رأس من الغنم، أو سبع بَدَنَة، أو سبع بقرة.
صيد الحرم
مُضَاعفة السيئة في مكة
س: هل تُضاعَف السيئة في مكة مثل ما تُضَاعَف الحسنة؟ ولماذا تُضَاعَف في مكة دون غيرها؟[131]
ج: الأدلة الشرعية دلتْ على أن الحسنات تُضاعَف في الزمان الفاضل مثل: رمضان وعشر ذي الحجة، والمكان الفاضل: كالحرمين، فإن الحسنات تُضاعف في مكة مُضاعفة كبيرة.(/54)
وقد جاء في الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((صلاة في مَسْجِدي هذا خير من ألف صلاة فيما سِواه إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مئة صلاة في مسجدي هذا))[132]، فدلّ ذلك على أن الصلاة بالمسجد الحرام تُضاعف بمئة ألف صلاة فيما سوى المسجد النبوي، وفي مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - خير من ألف صلاة فيما سِوَاه سوى المسجد الحرام، وبقية الأعمال الصالحة تُضاعف، ولكن لم يرد فيها حد محدود؛ إنما جاء الحد والبيان في الصلاة، أما بقية الأعمال؛ كالصوم، والأذكار، وقراءة القرآن، والصدقات، فلا أعلم فيها نصًّا ثابتًا يدل على تضعيف مُحَدّد، وإنما فيها في الجملة ما يدل على مُضاعفة الأجر، وليس فيها حد محدود. والحديث الذي فيه: ((مَنْ صام رمضان في مكة كتب له مئة ألف رمضان))؛ حديث ضعيف عند أهل العلم.
والحاصل: أن المُضاعَفة في الحرم الشريف بمكة لا شكَّ فيها؛ أعني مُضاعفة الحسنات؛ ولكن ليس في النص فيما نعلم حدًّا محدودًا ما عدا الصلاة، فإن فيها نصًّا يدل على أنها مُضاعفة بمئة ألف؛ كما سبق.
أما السيئات فالذي عليه المُحقِّقُون من أهل العلم أنها لا تُضاعف من جهة العدد، ولكن تضاعف من جهة الكَيْفية، أما العددُ فلا؛ لأن الله - سبحانه وتعالى - يقول: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا} [133]. فالسيئات لا تُضاعف من جِهَة العدد لا في رمضان ولا في الحرم ولا في غيرهما؛ بل السيئة بواحدة دائمًا وهذا من فضله - سبحانه وتعالى - وإحسانه.(/55)
ولكن سيئة الحرم وسيئة رمضان وسيئة عشر ذي الحجة أعظم في الإثم من حيث الكيفية، لا من جهة العدد، فسيئة في مكة أعظم وأكبر وأشد إثمًا من سيئة في جدة والطائف مثلاً، وسيئة في رمضان، وسيئة في عشر ذي الحجة أشد وأعظم من سيئة في رجب أو شعبان ونحو ذلك، فهي تُضَاعف من جهة الكَيْفية لا من جهة العدد.
أما الحسنات فإنها تُضاعف كيفيةً وعددًا بفضل الله - سبحانه وتعالى - ومما يدل على شدة الوعيد في سيئة الحرم، وأن سيئة الحرم عظيمة وشديدة قول الله – تعالى -: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [134]، فهذا يدل على أن السيئة في الحرم عظيمة، وحتى الهمَّ بها فيه هذا الوعيد.
وإذا كان من همَّ بالإلحاد في الحرم يكون له عذاب أليم، فكيف بحال من فعل الإلحاد وفعل السيئات والمُنكرات في الحرم؟ فإن إثْمه يكون أكبر من مُجَرد الهمَّ، وهذا كله يدلنا على أن السيئة في الحرم لها شأن خطير. وكلمة إلحاد تعم كل ميل إلى باطل سواء كان في العقيدة أو غيرها؛ لأن الله - تعالى - قال: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} فنكَّر الجميع، فإذا ألحد أي إلحاد - والإلحاد هو الميل عن الحق - فإنه مُتوعد بهذا الوَعيد.(/56)
وقد يكون الميل عن العقيدة فيكفر فيكون ذنبه أعظم وإلحاده أَكْبر، وقد يكون الميل إلى سيئة من السيئات؛ كشُرْب الخمر، أو الزنا، أو عقوق الوالدينِ، أو أحدها، فتكون عقوبته أخف وأقل من عقوبة الكافر. "بِظُلْم" هذا يدل على أنه إذا كان يرجع إلى الظلم، فإن الأمر خطير جدًّا، فالظلم يكون في المعاصي، ويكون في التَّعَدِّي على الناس، ويكون بالشِّرك بالله، فإذا كان إلحاده بظُلْم نفسه بالمعاصي أو بالكفر فهذا نوع من الإلحاد، وإذا كان إلحاده بظُلْم العباد بالقتل، أو الضرب، أو أخذ الأموال، أو السبّ، أو غير ذلك فهذا نوع آخر، وكله يسمى إلحادًا، وكله يسمى ظُلْمًا، وصاحبه على خطر عظيم. لكن الإلحاد الذي هو الكُفْر بالله، والخروج عن دائرة الإسلام هو أشدها وأعظمها؛ كما قال الله – سبحانه -: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}[135]. والله أعلم.
عرفة ليست من الحرم
س: امرأة أرادت أن تُصَلّي في عرفة فضايقها غُصْن شجرة، فقطعته وهي جاهلة، فما الحكم؟ أفيدونا بارك الله فيكم.[136]
ج: بسم الله والحمد لله، شجر عرفة ليس بمحرم، فقطع غصن منها لا يضر؛ لأن عرفة حلال وليست من الحَرَم، فإذا قطع شيء منها فلا يضُرّ.
س: لقد ذهبتْ والدتي إلى الحج وخلال الإحرام نسيت، فاقتلعت بعض الشجيرات هل يجوز حجها، وماذا يجب عليها الآن أن تفعل؟[137]
ج: هذه المسألة فيها تفصيل: فإذا كان إحرامها من الميقات فالشجر الذي قلعته لا يضر؛ لأنه ليس بحرم مثل ميقات أهل المدينة، وميقات أهل الطائف (وادي محرم)، وهكذا ميقات اليمن، وهكذا ميقات أهل الشام ومصر والعراق كلها ليست بحرم، فما قلع منها من شجر أو نبات فلا يضر وليس فيه شيء، أما إن كانت اقتلعت أثناء إحرامها بالحرم وسط الحرم بمكة فهذا خطأ، وليس عليها فيه شيء سِوى التوبة إلى الله من ذلك؛ أولاً: لجهلها، وثانيًا: لأنه ليس هناك نصّ واضح في إيجاب قيمة ما يقلع من الشجر، أو النبات الأخضر.(/57)
حكم قطع غرس بني آدم في الحرم
س: هل غرس بني آدم مَنْهِي عن قطعه في الحَرَم؟[138]
ج: غرس بني آدم غير داخل في النَّهْي، وإنما النهي عن قطع شجرها النابت بغير إنبات الآدمي، أما ما كان إنباته من نخل وغيره فمتى شاء قطعه.
حكم رَعْي الغنم في الحرم
س: صاحب الغنم إذا أرسل غنمه يرعى في الحَرَم؟ [139]
ج: الرَّعْي ليس فيه بأس.
خصوصية حمام مكة والمدينة
س: هل هناك خصوصية لحَمَام مكة والمدينة؟[140]
ج: ليست هناك خُصوصية لحَمَام مكة، ولا لحَمَام المدينة، سوى أنه لا يُصاد ولا ينفر ما دام في حدود الحَرَم؛ لعموم حديث: ((إن الله حرَّم مكة فلم تحل لأحد قبلي، ولا تحل لأحد بعدي، وإنما أحلت لي ساعة من نهار، لا يُخْتلى خلاها، ولا يُعْضَد شجرها، ولا يُنَفَّر صيدها))[141]، والحديث رواه البخاري، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن إبراهيم حَرَّم مكة، وإني حرمتُ المدينة ما بين لابتَيْهَا لا يُقْطَع عِضَاها، ولا يُصاد صيدها))[142]؛ رواه مسلم. [143]
حكم قَتْل الجراد في الحَرَم
س: لو قتلتِ المرأة جَرادة أو جَرَادتينِ هل عليها كَفّارة؟[144]
ج: إذا قتل الجراد بغير سبب، فإنه يفدي بقيمته في حق المحرم، وهكذا من قتله في الحرم.
حكم الفِدْية في الصيد بالقَتْل المُتعمّد؟[145]
س: هل تلزم الفِدْية في الصيد بالقتل المُتعمد؟
ج: تلزم الفِدْية من تعمّد قتل الصيد، وهو محرم، أو قتله في الحرم؛ لقول الله – سبحانه -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ...}[146] الآية.(/58)
والجمهور من أهل العلم ألْحَقُوا المخطئ بالمتعمّد؛ لأن الإتلاف عندهم يستوي فيه المتعمد وغيره. لكن صريح القرآن يدل على أن الفدية لا تلزم إلا المتعمّد، وهذا هو الأظهر؛ ولأن المحرم قد يبتلى بذلك من غير قصد، ولا سيما بعد وجود السيارات، وقد قال الله – سبحانه -: {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}[147].
حديث الصعب بن جَثَّامَة- رضي الله عنه - أنه أهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
س: حديث الصعب بن جَثَّامة - رضي الله عنه - أنه أَهْدَى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حِمارًا وحشيًّا، وهو بالأَبْواء أو بوَدَّان، فرده عليه وقال: ((إنا لم نردّه عليك إلاَّ أنا حُرُم))[148]؛ متفق عليه. هل هو ناسخ لحديث أبي قتادة - رضي الله عنه - في قصة صيده الحمار الوحشي، وهو غير مُحْرِم قال: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه وكانوا مُحْرِمينَ: ((هل منكم أحدٌ أعانه أو أشار إليه بشيء؟))، قالوا: "لا". قال: ((فكلوا ما بقي من لحمه))؛ متفق عليه. لأن حديث أبي قتادة في الحديبية وحديث الصعب في الصلح؟[149]
ج: لا تعارُض بينهما؛ لأن أبا قتادة لم يصده للمحرمين ولم يعينوه عليه. وأما الصعب فقد أهداه للنبي - صلى الله عليه وسلم - حيًّا، والمحرم ممنوع من الصيد الحي؛ كما أنه ممنوع من أكل ما صيد من أجله، ولو كان صاحبه قد ذبحه، هذا هو الجَمْع بين الحديثَينِ، ويدل على ذلك أيضًا حديث جابر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه أو يُصَدْ لكم))[150]. والله ولي التوفيق
س: هل ورد في بعض الروايات أنه حي؟ [151]
ج: في بعض الروايات أنه حي، وفي بعضها أنه أُهْدِيَ عجز حمار أو رِجْل حمار، ورواية رجل حمار أو عجز حمار محمولة على أنه صاده؛ من أجل النبي عليه الصلاة والسلام.
س: أبو قتادة هل صَادَه لأجلهم، أم أنه أهْدَاه لهم؟ [152](/59)
ج: لم يصده لأجلهم؛ وإنما أهداه لهم كما تقدّم.
باب دخول مكة
الطهارة عند الإحرام بالحج أو العمرة
س: هل يُشترط لمن أراد الإحرام بالحج أو العمرة أن يكون على طهارة أم لا؟ أفتونا يا سماحة الشيخ مأْجُورينَ[153]
ج: ليس بشرط، لا في العمرة ولا في الحج ولا في القِرَان، فلو أحرم على غير طهارة، أو هو جُنُب، أو أحرمت المرأة الحائض، أو النفساء صح ذلك، ولهذا تحرم الحائض للحج والعمرة؛ ولكن لا تطوف بالبيت حتى تغتسل، وهكذا الرجل لو أحرم، وهو جُنُب أو على غير وضوء صح إحرامه، فيلبي ويذكر الله؛ ولكن لا يطوف حتى يغتسل ويتوضأ، فليس من شرط الإحرام الطهارة.
السنة للمحرم الاضطباع في طواف القُدوم
س: المعروف أن كشف الكتف الأيمن للمُحْرِم لا يكون إلا في طواف القُدوم؛ ولكننا نلحظ كثير من المحرمين يكشفونها من حال إحرامهم حتى انتهاء عمرتهم، وأكثرهم يصلون وهي مكشوفة. ألا تَرَوْن سماحتكم أن من المناسب الطلب من أئمة المساجد في المواقيت أن ينبهوا مثل هؤلاء قبل تكبير للصلاة أن يغطوا أكتافهم؟ [154]
ج: السنة للمحرم في طواف القُدُوم أن يضطبع بردائه، وهو أن يجعل وسطه تحت إبطه الأيمن، وطرفيه على عاتقه الأيسر، فإذا فرغ من الطواف أزال ذلك، وجعل الرِّداء على كتفيه قبل أن يصلي ركعتي الطواف؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يصلي أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء))[155]؛ ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه - رضي الله عنهم - كانوا يضعون الرداء على العاتقينِ في الصلاة وخارجها. والله الموفق.
س: هل الأفضل للمحرم تغطية الكَتفينِ أم الكَشْف عن أحدهما أثناء الإحرام؟[156](/60)
ج: السُّنة للمُحْرِم أن يجعل الرداء على كتفَيْه جميعًا، ويجعل طرفيه على صدره، هذا هو السُّنة، وهو الذي فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - فإذا أراد أن يطوف طواف القُدوم للحج والعمرة – اضطبع - فجعل وسط ردائه تحت إبطه الأيمن، وأطرافه على عاتِقِه الأيسر، وكشف منكبه الأيمن في حال طواف القُدوم خاصة، أي أول ما يقدم مكة للحج أو العمرة، فإذا انتهى من الطواف عدل الرِّداء وجعله على منكبَيْه، وصلى ركعتي الطواف؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يصلي أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء)) [157]؛ متفق على صحته. والسنة أن يستر منكبيه بالرداء بعد طواف القُدُوم، وقبل ركعتي الطواف؛ لفعله - صلى الله عليه وسلم - ولهذا الحديث، ولو وضع الرِّداء ولم يسترهما في وقت جلوسه، أو أكله أو تحدثه مع إخوانه فلا بأس؛ لكن السُّنَّة إذا لبس الرِّداء أن يكون على كتفَيْه، وأطرافه على صدره، إلا في حال طواف القدوم - كما تقدم -.
حكم الرمل
س: ما حكم الرَّمَل؟ [158]
ج: سُنة في الطواف الأول، حين يقدم مكة لحج أو عمرة في الأشواط الثلاثة الأولى من طواف القدوم، وهو: الإسراع في المَشْي، ويسمى الجَذْب، أما الأربعة الأخيرة فيمشي فيها مشيًا، المشي المعتاد تأسِّيًا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك.
يجزئ الطواف والسَّعْي عن الطفل وحامله.
س: هل يجزئ الطواف والسَّعْي عن الطفل وحامله، أم لا بُدَّ من إفراده بطواف وسَعْي؟[159]
ج: يجزئ الطواف والسَّعْي عن الطفل وحامله في أصح قولي العلماء، إذا كان الحامل نوى ذلك، وإن طاف به طوافًا مستقلاًّ وسَعْيًا مستقلاًّ كان ذلك أحْوَط.
الطواف من داخل حِجْر إسماعيل غير صحيح
س: رجل طاف من داخل حِجْر إسماعيل، وسَعَى وحل الإحرام، ثم ذهب إلى داره، وجامع زوجته، هل عليه إثْم في ذلك؟[160](/61)
ج: هذه العمرة فاسدة؛ لأن طوافه غير صحيح، فعليه أن يعيد الطواف، والسَّعْي، ويقصر شعره، وعليه دم شاة تذبح في مكة عن جماعه لزوجته قبل إتمامه عمرته، لأن طوافه من داخل الحِجْر غير صحيح، لا بد أن يطوف من وراء الحجر وبذلك تتم عمرته الفاسدة، ثم يأتي بعمرة أخرى صحيحة بدلاً عنها من الميقات الذي أحرم بالأولى منه، هذا هو الواجب عليه؛ لفَساد عمرته الأولى بالوَطْء.
الطهارة شَرْط لصِحّة الطَّواف.
س: ما الدليل على أن الطَّواف لا بد فيه من الطّهارة؟ [161]
ج: الدليل أنه - صلى الله عليه وسلم - لما أراد أن يطوف توضأ؛ كما في الصحيحين عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "لما أراد - صلى الله عليه وسلم - أن يطوف توضّأ". وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله أباح فيه الكلام))[162]، جاء هذا مرفوعًا وموقوفًا على ابن عباس - رضي الله عنهما - والموقوف أصح إسنادًا؛ ولكنه لا يقال من جهة الرأي فهو في حكم المرفوع؛ لأن الصحابي إذا قال ما لا يمكن قوله من جهة الرأي فهو في حكم المرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا كان ممن لا ينقل عن بني إسرائيل، وهذا القول لا تعلق له بأخبار بني إسرائيل ولا دخل للرأي فيه، فهو في حكم المرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - كما يدل على ذلك حديث عائشة المذكور.
فالنبي - صلى الله عليه وسلم - طاف طاهرًا وقال: ((خذوا عني مناسككم)) [163].
س: لي قريبة اعتمرت في رمضان، ولما دخلت الحرم أحدثت حدثًا أصغر، خرج منها ريح وخجلتْ أن تقول لأهلها أريدُ أن أتوضّأ، ثم طافت ولما انتهت من الطواف ذهبت لوحدها وتوضأت ثم أتت السعي، فهل عليها دم أم كفارة؟ وجزاكم الله خيرًا[164](/62)
ج: طوافها غير صحيح؛ لأن من شَرْط صحة الطواف الطهارة كالصلاة، فعليها أن ترجع إلى مكة وتطوف بالبيت، ويستحب لها أن تعيد السعي؛ لأن أكثر أهل العلم لا يجيز تقديمه على الطواف، ثم تقصر من جميع رأسها وتحل، وإن كانت ذات زوج وقد جامعها زوجها فعليها دم يذبح في مكة للفقراء، وعليها أن تأتي بعمرة جديدة من الميقات الذي أحرمت منه للعمرة الأولى؛ لأن العمرة فسدت بالجماع، فعليها أن تفعل ما ذكرنا ثم تأتي بالعمرة الجديدة من الميقات الذي أحرمت للعمرة الأولى منه، سواء كان ذلك في الحال أو في وقت آخر، حسب طاقتها، والله ولي التوفيق.
س: امرأة تطهرت ثم نامت في السيارة وهي في طريقها إلى مكة، ثم طافت ولم تتوضأ، وبقيت متمتعة حتى الحج، وقضت حجها، وحلت إحرامها، فماذا عليها؟ جزاكم الله خيرًا.[165]
ج: بسم الله، والحمد لله. إذا كان النوم الذي جاءها كان على صفة النعاس فلا حرج، فالنعاس لا ينقض الوضوء، أما إذا كانت مستغرقة في النوم الذي ينقض الوضوء فحكمها حكم من لم يطف بالبيت، فتكون قارنة، وطواف الإفاضة وسَعْي الإفاضة يكون عن طواف العمرة وسعيها، والحمد لله.
من قطع طوافه لحدث، أو لحاجة هل يستأنفه أم يبني على ما مضى
س: رجل شرع في الطواف فخرج منه ريح، هل يلزمه قطع طوافه أم يستمر؟[166](/63)
ج: إذا أحدث الإنسان في الطَّواف: بريح، أو بول، أو مَنِيّ، أو مس فرج، أو ما أشبه ذلك انقطع طوافه كالصلاة، يذهب فيتطهر ثم يستأنف الطواف، هذا هو الصحيح، والمسألة فيها خلاف؛ لكن هذا هو الصواب في الطواف والصلاة جميعًا؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا فسا أحدكم في الصلاة فلينصرف، وليتوضأ، وليعد الصلاة))[167]؛ رواه أبو داود، وصححه ابن خُزَيْمة، والطواف من جنس الصلاة في الجملة، لكن لو قطعه لحاجة مثلاً، كمن طاف ثلاثة أشواط ثم أقيمت الصلاة، فإنه يصلي ثم يرجع فيبدأ من مكانه ولا يلزمه الرجوع إلى الحجر الأسود؛ بل يبدأ من مكانه ويكمل، خلافًا لما قاله بعض أهل العلم: إنه يبدأ من الحجر الأسود. والصواب: لا يلزمه ذلك، كما قال جماعة من أهل العلم، وكذا لو حضر جنازة وصلى عليها، أو أوقفه أحد يكلمه، أو زحام، أو ما أشبه ذلك، فإنه يكمل طوافه، ولا حَرَج عليه في ذلك. والله ولي التوفيق.
حُكْم طواف من خرج من جرحه دم.
س: في حالة طوافي حدث لي جرح خرج منه دم، فهل يُؤَثّر ذلك عليّ؟ [168]
ج: الأرجح أنه لا يُؤثّر عليك - إن شاء الله - وطوافك صحيح؛ لأن خروج الدم بالجرح فيه خلاف هل ينقض الوضوء أم لا؟ وليس هناك دليل واضح على نقضه الوضوء ولا سيما إذا كان الدم قليلاً فإنه لا يضر، وبكل حال فالصواب في هذه المسالة صحة الطواف، إذ الأصل صحة الطواف، وبطلانه مشكوك فيه، والخلاف فيه معروف، فالأفضل هو سلامة الطواف وصحته، هذا هو الأصل وهذا هو الأرجح.
حكم طواف من لامس امرأة أجنبية
س: رجل كان يطوف طواف الإفاضة في زحام شديد، ولامس جسم امرأة أجنبية عنه، هل يبطل طوافه ويبدأه من جديد قياسًا على الوضوء أم لا؟ [169]
ج: لمس الإنسان جسم المرأة حال طوافه أو حال الزحمة في أي مكان لا يضر طوافه، ولا يضر وضوءه، في أصح قولي العلماء. وقد تنازع الناس في لمس المرأة هل ينقض الوضوء؟ على أقوال:
قيل: لا ينقض مطلقًا.
وقيل: ينقض مطلقًا.(/64)
وقيل: ينقض إن كان مع الشهوة.
والأرجح من هذه الأقوال والصواب منها: أنه لا ينقض الوضوء مطلقًا، وأن الرجل إذا مس المرأة، أو قَبّلَها لا ينتقض وضوؤه في أصح الأقوال؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم -
قبَّل بعض نسائه ثم صلى ولم يتوضّأ، ولأن الأصل سلامة الوضوء وسلامة الطهارة، فلا يجوز القول بأنها مُنتقضة بشيء إلا بحجة قائمة لا معارض لها، وليس هنا حجة قائمة تدل على نقض الوضوء بلمس المرأة مطلقًا. أما قوله – تعالى -: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ}[170]، فالصواب في تفسيرها أن المراد بها الجِمَاع، وهكذا القراءة الأخرى: {أَوْ لَمَسْتُمُ النِّسَاءَ}، فالمراد بها: الجماع، كما قال ابن عباس وجماعة، وليس المراد به مُجَرّد مسّ المرأة؛ كما يروى عن ابن مسعود - رضي الله عنه - بل الصواب في ذلك هو الجِمَاع؛ كما يقوله ابن عباس - رضي الله عنهما - وجماعة.
وبهذا يُعلم أن الذي مس جسمه جسم امرأة في الطواف أن طوافه صحيح، وهكذا الوضوء، ولو مس امرأته أو قبلها فوضوئه صحيح ما لم يخرج منه شيء، لكن ليس له أن يمس جسم امرأة ليست محرمًا له على وجه العَمْد.
حكم استلام الركن اليماني من الكعبة
س: ما حُكم المسح أو الإشارة إلى الركن الجنوبي الغربي للكعبة المشرفة أثناء الطواف، وكم عدد التكبيرات التي تُقال عنده وعند الحجر الأسود؟ أفيدونا جزاكم الله خيرًا [171].(/65)
ج: يُشْرع للطائف أن يستلِمَ الحجر الأسود، والرُّكْن اليماني في كل شَوْط من أشواط الطَّواف، كما يُستحب له تقبيل الحجر الأسود خاصة في كل شَوْط مع الاستلام، حتى في الشوط الأخير إذا تَيَسَّر ذلك من دون مشقة، أما مع المشقة فيُكره له الزِّحام، ويُشرع أن يشير إلى الحجر الأسود بيده أو عصاه ويكبر، أما الركن اليماني فلم يَرِد فيما نعلم ما يدل على الإشارة إليه، وإنما يستلمه بيمينه إذا استطاع من دون مشقة ولا يقبله، ويقول: :"بسم الله والله أكبر"، أو "الله أكبر"، أما مع المشقة فلا يشرع له استلامه، ويمضي في طوافه من دون إشارة أو تكبير؛ لعدم ورود ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أصحابه - رضي الله عنهم - كما أوضحتُ ذلك في كتابي "التحقيق والإيضاح لكثير من مسائل الحج والعمرة والزيارة".
أما التكبير فيكون مرة واحدة، ولا أعلم ما يدل على شرعية التَّكرار، ويقول في طوافه كله ما تيسّر من الدعوات والأذكار الشرعية، ويختم كل شوط بما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يختم به كل شوط، وهو الدعاء المشهور: {رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}[172].
وجميع الأذكار والدعوات في الطواف والسَّعْي سُنّة، وليست واجبة. أما الرُّكنان اللذان يليان الحجر، فلا يشرع مسحهما، ولا أن يخصَّا بذكر أو دعاء؛ لأن ذلك لم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد قال الله – سبحانه -: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}[173]. وقال - عليه الصلاة والسلام -: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردّ)) [174]، والله ولي التوفيق.
س: رأيتُ الناس يتمسَّحُون بالمقام، ويحبونه، ويتمسحون بأطراف الكعبة، وضح الحكم في ذلك؟[175](/66)
ج: التمسح بالمقام أو بجدران الكعبة أو بالكسوة كل هذا أمر لا يجوز، ولا أصل له في الشريعة، ولم يفعله النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنما قبَّل الحجر الأسود، واسْتَلَمَه، واستلم
جُدران الكعبة من الداخل، لما دخل الكعبة ألصق صدره وذراعيه وخده في جدارها، وكبر في نواحيها ودَعَا، أما في الخارج فلم يفعل - صلى الله عليه وسلم - شيئًا من ذلك فيما ثبت عنه، وقد رُوي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه التزم الملتزم بين الركن والباب، ولكنها رواية ضعيفة، وإنما فعل ذلك بعض الصحابة - رضوان الله عليهم - فمن فعله فلا حَرَج، والملتزم لا بأس به، وهكذا تقبيل الحجر سُنة.
أما كونه يتعلق بكسوة الكعبة، أو بجُدْرانها، أو يلتصق بها، فكل ذلك لا أصل له ولا ينبغي فعله؛ لعدم نقله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن الصحابة - رضي الله عنهم - وكذلك التّمسُّح بمقام إبراهيم أو تقبليه، كل هذا لا أصلَ له ولا يجوز فعله؛ لأنه من البِدَع التي أحدثها الناس.
أما سُؤال الكعبة، أو دعاؤها، أو طلب البركة منها، فهذا شرك أكبر لا يجوز، وهو عبادة لغير الله، فالذي يطلب من الكعبة أن تشفي مريضه، أو يتمسح بالمقام؛ يرجو الشفاء منه، فهذا لا يجوز، بل هو شرك أكبر - نسأل الله السلامة -.
الدعاء في الطواف
القارئة/ ز. ع. ع. من مصر تَسْأَل:
س: عن مدى صحة الدعاء أثناء الحج أو العمرة في الطواف بـ "أخرجني من الظلمات إلى النور"، وهل للطواف والسَّعْي في الحج أدعية محددة؛ كما في كتاب يقرؤه الحجاج والمعتمرون، أم أن الدعاء بما ورد وصح من آيات وأحاديث بدون تحديد أولى؟ أفتوني مأجورينَ، وجزيتم خيرًا.[176](/67)
ج: يُشرع في الدعاء، والذكر، والطواف، والسَّعْي، بما يَسَّر الله من الأذكار الشرعية والدعوات الطيبة التي لا محذور فيها، وليس في ذلك شيء محدود، إلا أنه يُستحب ختم كل شَوْط من أشواط الطواف السبعة بالدعاء المعروف: {رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [177]، بين الرّكْنينِ: اليَماني والأسود؛ لثبوت ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما يشرع التكبير عند استلام الحجر الأسود وتقبيله، وعند الإشارة إليه إذا لم يتيسر استلامه، وهكذا يشرع عند استلام الركن اليماني أن يقول الطائف: "بسم الله، والله أكبر".
ويشرع على الصفا والمروة جميع الأذكار، والدعاء الواردة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مع رفع اليدين، واستقبال الكعبة، وقراءة قوله – تعالى -: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ}[178] عند البدء في السَّعْي؛ كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - قائلاً: ((إن الصفا والمروة من شعائر الله نبدأ بما بدأ الله به))[179]. والله ولي التوفيق.
حكم الطواف وراء المقام أو وراء زَمْزَم
س: ما حُكم الطواف وراء المقام أو وراء زَمْزَم؟[180]
ج: لا حَرَج في ذلك حتى لو طَاف في الأروقة أجزأه ذلك، ولكن كلما دَنَا من الكعبة كان أفضل، وإذا كان هناك سعة وليس فيه زحمة فدنا من الكعبة فهو أفضل، وإن شق عليه ذلك طاف من بعيد، ولا حرج في ذلك.
الإكثار من الطواف والصلاة
س: هل الأفضل تَكرار الطواف، أم التطوُّع بصلاة؟ [181](/68)
ج: في التفضيل بينهما خلاف؛ لكن الأَوْلى أن يجمع بين الأمرينِ، فيكثر من الصلاة والطواف حتى يجمع بين الخيرينِ، وبعض العلماء فَضّل الطواف في حق الغُرباء؛ لأنهم لا يجدون الكعبة في بلدانهم، فاستحب أن يكثروا من الطواف ماداموا بمكة، وقوم فضلوا الصلاة؛ لأنها أفضل من الطواف، فالأفضل والأولى فيما أرى أن يكثر من هذا ويكثر من هذا، وإن كان غريبًا، حتى لا يفوته فضل أحدهما، يساهم في هذا وفي هذا.
س: هل الرسول - عليه الصلاة والسلام - في آخر شوط من طوافه كَبّر؟[182]
ج: نعم كان النبي - صلى الله عليه وسلم - كلما حاذى الحجر كَبّر في الشوط الأخير، والشوط الأول، والأشواط التي بينها.
حكم مَنْ شَكّ هل أتم سبعة أشواط أم لا
س: ما حكم مَنْ لم يُدقق في طواف القُدوم أي ساوره شَكّ في أنه أتَمَّ سبعة أشواط، أو لم يتم ثم سَعَى؟ [183]
ج: إذا كان الشكّ طَرَأ عليه بعد الطواف، أو حين الانصراف من الطواف، فالشكّ الطارئ لا يلتفت إليه، أما إذا كان الشكّ وهو يطوف فالواجب أن يتمم، فإذا شك هل طاف ستة، أو سبعة فعليه أن يكمل السابع، أما إذا كان الشكّ لم يطرأ إلا بعد ذلك، وهو فيما يظهر له أن مكمل، ثم جاءه الشيطان، وشككه فيما بعد، فليس على التشكيك عمل، وعليه إذا كان الشك من حين الطواف أن يعيد الطواف، إن كان طواف القدوم لمن جاء من بلاد خارجية، وطواف القُدوم من البلاد الخارجية، يجزئه عنه طواف الإفاضة بعد ذلك، إذا كان قارنًا أو مُفْرِدًا، وبقي على إحرامه، فإن طوافه بعد الحج يكفيه عن طواف القُدوم، أما إذا كان مُتمتعًا وطاف طواف القُدوم، ولم يجزم تلك الساعة فإنه يعتبر كأنه ما طاف، لكن يكون قارنًا إذا كان متمتعًا، وأحرم بالحج يكون قارنًا؛ لأن طوافه يعتبر لاغِيًا، أما إذا كان الشكّ طرأَ بعد ذلك فلا يعتبر هذا الشك؛ لأن الشك بعد العبادة لا يلتفت إليه.
حُكْم دخول النساء إلى مكة وقت الزّحام(/69)
س: ما رأيكم في دخول المرأة للطواف في ليالي الجُمع وغيرها مع ما تعلمون من الازْدِحام؟ [184]
ج: عدم دخول النّساء إلى مكة؛ من أجل الطواف أفضل من دُخُولهن؛ لأنهن في الأغلب لا يحصل منهن التحجب المشروع، ولا يحصل منهن التحرُّز من مُزاحمة الرجال عند الحجر وغيره، وبذلك يعلم أن عدم دخولهن أَوْلَى وأفضل من دخولهن؛ لأن دَرْء المفاسد مُقدّم على جَلْب المصالح، لا سيما والمصلحة في دخولهن تخصهن، والمضرّة الحاصلة بذلك تضرهن وغيرهن، كما هو ظاهر من حال النساء اليوم إلا من رحم الله، والله ولي التوفيق.
كل طواف يشرع بعده ركعتان
س: هل بعد طواف الإفاضة وطواف الوداع صلاة ركعتين خلف المقام، وما هو الدليل على ذلك؟ جزاكم الله خيرًا.[185]
ج: كل طواف يشرع بعده ركعتان خلف المقام؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا طاف صلى ركعتين. والنبي - صلى الله عليه وسلم - لما طاف طواف الوداع في حجته صلى ركعَتينِ ثم سافر - عليه الصلاة والسلام - للمدينة. ومن لم يَتَيَسّر له أن يصلي خلف المقام، صلى في أي مكان في المسجد. والله الموفق.
ركعتا الطواف خلف المقام سنة، وليست واجبة
س: هل ركعتا الطواف خلف المقام تلزم لكل طواف؟ وما حُكْم مَنْ نسيها؟ [186]
ج: لا تلزم خلف المقام، تجزئ الركعتان في كل مكان من الحَرَم. ومن نسيها فلا حَرَج عليه؛ لأنها سنة وليست واجبة. والله ولي التوفيق.
س: هل يجب على الطائف بالكعبة المُشرفة أن يصلي ركعتي الطواف خلف مقام إبراهيم، أو يجوز أن يصليهما في أي مكان من الحَرَم؟[187](/70)
ج: لا يجب على الطائف أن يصلي الركعتينِ خلف مقام إبراهيم؛ ولكن يشرع له ذلك إذا تيسّر من دون مَشقّة، وإن صلاهما في أي مكان من المسجد الحرام، أو في أي مكان من الحرم أجْزأَهُ ذلك، ولا يشرع له أن يُزاحِم الطائفين لأدائهما حول المقام؛ بل ينبغي له أن يتباعَد عن الزحام، وأن يصليهما في بقية المسجد الحرام؛ لأن عمر - رضي الله عنه - صلى ركعتي الطواف في بعض طوافه بذي طوى، وهي من الحرم؛ لكنها خارج المسجد الحرام، وكذلك أم سلمة - رضي الله عنها - صلت لطواف الوداع خارج المسجد الحرام، والظاهر أن سبب ذلك الزحام، أو أرادت بذلك أن تبين للناس التّوْسِعة الشرعية في هذا الأمر.
الشرب من ماء زمزم سُنّة
س: هل هناك حديث صحيح عن فائدة ماء زمزم؟ [188]
ج: ماء زمزم قد دلتِ الأحاديث الصحيحة على أنه ماء شريف، وماء مبارك، وقد ثبتَ في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في زمزم: ((إنها مُباركة إنها طعام طُعْم))[189]،
زاد في رواية عند أبي داود بسند جيد: ((وشِفاء سَقَم))[190].(/71)
فهذا الحديث يدل على فضلها، وأنها طعام طُعْم، وشفاء سَقَم، وأنها مُباركة، والسنة الشرب منها كما شرب منها النبي - صلى الله عليه وسلم - ولما فيها من البركة، وهي طعام طيب، طعام مُبارَك، طعام يشرع التناول منه إذا تيسر، كما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا الحديث الصحيح يدلنا على ما تقدم من فضلها، وأنها مباركة، وأنها طعام طُعْم، وشِفاء سَقَم، وأنه يستحب للمؤمن أن يشرب منها إذا تيسر له ذلك، ويجوز له الوضوء منها، ويجوز أيضًا الاستِنْجاء منها، والغُسْل من الجَنابة إذا دعت الحاجة إلى ذلك، وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه نبع الماء من بين أصابعه، ثم أخذ الناس حاجتهم من هذا الماء ليشربوا، وليتوضؤوا، وليغسلوا ثيابهم، وليستنجوا، كل هذا واقع، وماء زمزم إن لم يكن مثل الماء الذي نبع من بين أصابع النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن فوق ذلك، فكلاهما ماء شريف، فإذا جاز الوضوء والاغتسال والاستنجاء، وغسل الثياب من الماء الذي نبع من بين أصابعه - صلى الله عليه وسلم - فهكذا يجوز من ماء زمزم.
وبكل حال فهو ماء طهور طيب يستحب الشرب منه، ولا حرج في الوضوء منه، ولا حرج في غسل الثياب منه، ولا حرج في الاستنجاء منه إذا دعت الحاجة إلى ذلك. والحمد لله.
صفة السَّعْي
س: ما هي صفة السَّعْي، ومن أي مكان يبدأ السَّاعي، وما عدد أشواطه؟[191]
ج: يبدأ من الصفا ويختم بالمروة، والعدد سبعة أشواط، أولها يبدأ بالصفا وآخرها ينتهي بالمروة، يذكر الله فيها ويسبحه ويدعو، ويكرر الدعاء والتكبير على الصفا والمروة ثلاث مرات، رافعًا يديه مستقبلاً القبلة؛ لفعله - صلى الله عليه وسلم - ذلك.
حكم من نسي بعض أشواط السَّعْي
س: رجل أتى بعمرة، وترك أربعة أشواط من السَّعْي؛ نسيانًا؛ أو جهلاً، فماذا عليه؟[192](/72)
ج: عليه أن يكملها، فيأتي بها حتى يتم سَعْيه، سواء كان في الحج أو في العمرة، وإن سافر إلى بلده فعليه أن يرجع إلى مكة، ويكمل الأشواط التي تركها حتى تتم عُمْرته، وهو في حُكْم الإحرام الذي يمنعه من أهْلِه حتى يكمل عمرته، وإن أعاد السَّعْي كله فهو أَحْوَط.
لا تشترط الموالاة بين أشواط السَّعْي.
س: جماعة سعوا بين الصفا والمروة، فأتوا بخمسة أشواط، ثم خرجوا من المسعى، ولم يذكروا الشوطَينِ الباقِيَينِ إلا بعد أن تحولوا إلى رحالهم، فما الحُكم؟[193]
ج: هؤلاءِ الذين سعوا خمسة أشواط، ثم ذهبوا إلى رحالهم، ولم يتذكروا الشوطينِ الآخرينِ، عليهم الرُّجُوع حتى يكملوا الشوطينِ ولا حَرَج، وهذا هو الصواب؛ لأن المُوالاة بين أشواط السّعْي لا تشترط على الرّاجِح، وإن أعادوه من أوله فلا بأس؛ لكن الصواب أنه يكفيهم أن يأتوا بالشوطينِ ويكملوا، هذا هو الأرجح مِن قولي العلماء في ذلك.
حُكْم من بدأ بالمروة في السَّعْي
س: أنا شيخ كبير وطُفْت للعمرة، ثم سَعَيْت سبعة أشواط؛ ولكني بدأت من المروة وقصرت في الصفا ولبست المخيط، فما حكم ذلك؟[194]
ج: هذا عليه أن يأتي بشَوْط آخر؛ لأنه فاتَه شَوْط، إلا إذا كان سعى ثمانية أشواط فلا حَرَج، والشوط الأول يكون لاغيًا لا يضره؛ لكونه بدأ من المروة. المقصود أنه إذا كان بدأ بالمروة وختم بالصفا ثمانية أشواط يكون له منها سبعة أشواط كاملة، أما إن كانت سبعة فقد فاته شوط وعليه تكملته، ويعيد تقصير رأسه حتى تتم عمرته، والتقصير الأول لا يكفيه؛ لأنه قصر قبل أن يكمل السَّعْي، والشوط الأول الذي بدأه من المروة لا يعتبر.
يجب الحَلْق أو التقصير على الحاج، وإن كان ينوي أن يُضحّي
س: سماحة الشيخ/ الرجل ينوي الحج ويعقد النية أن يكون متمتّعًا، وهو وصي على أضاحي، فما الحُكم إذا رغب في إحلال إحرامه بعد أداء مَناسك العُمرة؟[195](/73)
ج: يجب عليه الحَلْق أو التقصير، سواء كان وكيلاً أو مُضحيًا عن نفسه، إذا كان متمتعًا بالعمرة قبل أن يفعل شيئًا من محظورات الإحرام.
باب صفة الحج والعمرة
- يوم التّروية
هكذا حج الرسول - صلى الله عليه وسلم -
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان على يوم الدين. [196]
أيها المسلمون من حُجَّاج بيت الله الحرام:
أسأل الله لنا ولكم التوفيق لما يرضيه، والعافية من مُضِلاّت الفتن؛ كما أسأله - سبحانه - أن يوفقكم جميعًا لأداء مَناسككم على الوَجْه الذي يرضيه، وأن يتقبل منكم، وأن يردكم إلى بلادكم سالمين مُوفقينَ، إنه خير مسؤول.
أيها المسلمون:
إن وصيتي للجميع هي تقوى الله - سبحانه - في جميع الأحوال، والاستقامة على دينه، والحذر من أسباب غضبه، وإن أهم الفرائض وأعظم الواجبات: هو توحيد الله والإخلاص له في جميع العبادات، مع العِناية باتِّباع رسوله - صلى الله عليه وسلم - في الأقوال والأعمال، وأن تُؤدوا مناسك الحج، وسائر العبادات على الوَجْه الذي شرعه الله لعباده على لسان رسوله، وخليله، وصفوته من خلقه، نبينا، وإمامنا، وسيدنا محمد بن عبدالله - صلى الله عليه وسلم - وإن أعظم المُنكرات وأخطر الجرائم هو: الشِّرك بالله - سبحانه – وهو: صَرْف العبادة أو بعضها لغيره - سبحانه - لقول الله - عز وجل -: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}[197]. وقوله - سبحانه - مُخاطبًا نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[198].
حُجَّاج بيت الله الحرام:(/74)
إن نبينا - صلى الله عليه وسلم - لم يحج بعد هجرته إلى المدينة إلا حجة واحدة، وهي حجة الوداع، وذلك في آخر حياته - صلى الله عليه وسلم - وقد علم الناس فيها مناسكهم بقوله وفعله، وقال لهم - صلى الله عليه وسلم -: ((خُذوا عني مَناسككم)) [199]، فالواجب على المسلمين جميعًا أن يتأسوا به في ذلك، وأن يؤدوا مناسكهم على الوجه الذي شرعه لهم؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - هو المُعلم المُرْشِد، وقد بعثه الله رحمةً للعالمين، وحُجَّة على العباد أجمعين، وأمر الله عباده بأن يطيعوه، وبين أن اتِّبَاعه هو سبب دخول الجنة والنّجاة من النار، وأنه الدليل على صدق حب العبد لربه وعلى حب الله للعبد؛ كما قال الله - تعالى -: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}[200]، وقال – سبحانه -: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}[201]، وقال - عز وجل -: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}[202]، وقال – سبحانه -: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}[203]، وقال - سبحانه -: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ}[204]، وقال - عز وجل -: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ(/75)
تَهْتَدُونَ} [205]، وقال – تعالى -: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [206]، والآيات في هذا المعنى كثيرة. فوصيتي لكم جميعًا ولنفسي، تَقْوَى الله في جميع الأحوال، والصّدْق في مُتابعة نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - في أقواله وأفعاله؛ لتَفُوزوا بالسَّعادة والنّجاة في الدُّنيا والآخرة.
حُجّاج بيت الله الحرام:
إن نبينا محمدًا - صلى الله عليه وسلم - لما كان يوم الثامن من ذي الحجة توجَّه من مكة المكرمة إلى مِنى مُلبِّيًا، وأمر أصحابه - رضي الله عنهم - أن يهلُّوا بالحج من مَنازلهم، ويتوجَّهُوا إلى مِنى، ولم يأمر بطَواف الوَداع، فدلّ ذلك على أن السُّنَّة لمن أرادَ الحج من أهل مكة وغيرهم من المقيمينَ فيها، ومن المُحلينَ من عُمرتهم وغيرهم من الحُجّاج، أن يتوجَّهُوا إلى مِنى في اليوم الثامن؛ مُلبّينَ بالحج، وليس عليهم أن يذهبوا إلى المسجد الحرام للطواف بالكعبة طواف الوداع.
ويُسْتَحبّ للمُسلم عند إحرامه بالحج أن يفعل ما يفعله في الميقات عند الإحرام من الغسل والطّيب والتّنْظِيف؛ كما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - عائشة بذلك لما أرَادتِ الإحرام بالحج، وكانت قد أحرمت بالعمرة، فأصابها الحَيْض عند دخول مكة، وتعذّر عليها الطّواف قبل خروجها إلى مِنى فأمَرَها - صلى الله عليه وسلم - أن تغْتَسِل، وتهل بالحج ففعلت ذلك فصارتْ قارنة بين الحج والعمرة. وقد صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه - رضي الله عنهم - في مِنى الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، والفجر قَصْرًا دون جَمْع، وهذا هو السنة؛ تأسِّيًا به - صلى الله عليه وسلم -.(/76)
ويُسن للحُجاج في هذه الرِّحْلة أن يشتغلوا بالتلبية، وبذكر الله - عز وجل - وقراءة القرآن، وغير ذلك من وجوه الخير؛ كالدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والإحسان إلى الفقراء، فلما طلعت الشمس يوم عرفة توجَّه - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه - رضي الله عنهم - إلى عرفات: منهم من يُلَبِّي، ومنهم من يكبّر، فلما وصل عرفات نزل بقبة من شعر ضربت له بنمرة غربي عرفة، واستظل بها - عليه الصلاة والسلام - فدلّ ذلك على جواز أن يستظلّ الحُجَّاج بالخيامِ، والشجر، ونحوها.
فلما زالتِ الشمس ركب دابته - عليه الصلاة والسلام - وخطب الناس وذكرهم، وعَلَّمَهم مناسك حجهم، وحَذَّرَهم من الرِّبا وأعمال الجاهلية، وأخبرهم أن دماءهم وأموالهم وأعراضهم عليهم حرام، وأمرهم بالاعْتِصام بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأخبرهم أنهم لن يضلوا؛ ما داموا مُعتصمينَ بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -.(/77)
فالواجب على جميع المسلمين أن يلتزموا بهذه الوصية، وأن يستقيموا عليها أينما كانوا، ويجب على حُكّام المُسلمينَ جميعًا أن يعتصموا بكتاب الله، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأن يحكموها في جميع شُؤونهم، وأن يلزموا شعوبهم بالتحاكُم لهما، وذلك هو طريق العِزَّة، والكرامة، والسعادة، والنَّجاة في الدنيا والآخرة. وفَّق الله الجميع لذلك. ثم إنه - صلى الله عليه وسلم - صلى بالناس الظهر والعصر قصرًا وجمعًا جمع تقديم بأذان واحد وإقامتينِ، بعد زوال الشمس، ولم يفصل بينهما بصلاة ثم تَوَجَّه إلى الموقف، واستقبل القبلة، ووقف على دابّته يذكر الله ويدعوه، ويرفع يديه بالدعاء حتى غابتِ الشمس، وكان مُفطرًا ذلك اليوم، فعلم بذلك أن المشروع للحجاج أن يفعلوا كفعله - صلى الله عليه وسلم - في عرفات، وأن يشتغلوا بذِكْر الله والدعاء والتلبية إلى غروب الشمس، وأن يرفعوا أيديهم بالدُّعاء، وأن يكونوا مفطرينَ لا صائمينَ. وقد صحَّ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((ما مِنْ يوم أكثر عِتْقًا من النار من يوم عرفة، وإنه - سبحانه - ليدنو فيُباهِي بهم ملائكته))[207]، ورُوي عنه - صلى الله عليه وسلم - أن الله يقول يوم عرفة لملائكته: ((انظُروا إلى عبادي أتوني شُعثًا غبرًا؛ يرجون رحمتي أشهدكم أني قد غفرت لهم))[208]، وصَحَّ عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((وقَفْتُ ها هنا، وعرفة كلها موقف))[209].(/78)
ثم إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد الغروب تَوَجَّه مُلبيًا إلى مُزدلفة، وصلى بها المغرب ثلاثًا، والعشاء ركعتينِ بأذان واحد وإقامتينِ قبل حَطّ الرِّحَال، ولم يُصَلّ بينهما شيئًا. فدلّ ذلك على أن المشروع لجميع الحُجاج المُبادرة بصلاة المغرب والعشاء جمعًا وقصرًا بأذان واحد وإقامتينِ، من حين وصولهم إلى مُزدلفة قبل حَطّ الرِّحال، ولو كان ذلك في وقت المغرب؛ تأسِّيًا به - صلى الله عليه وسلم - وعملاً بسنته. ثم بات بها، وصلى بها الفجر مع سنتها بأذان وإقامة، ثم أتى المشْعَر فذكر الله عنده، وكَبَّره، وهَلَّلَه، ودعا، ورفع يديه وقال: ((وقفتُ ها هنا وجمع كلها موقف)). فدلّ ذلك على أن جميع مزدلفة موقف للحجاج، يَبِيتُ كل حاج في مكانه، ويذكر الله، ويستغفره في مكانه، ولا حاجة إلى أن يتوجَّه إلى موقف النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد رخَّص النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة مُزْدَلِفة للضّعفة أن ينصرفوا إلى مِنى بليل، فدلّ ذلك على أنه لا حرج على الضعفة من النساء، والمرضى، والشيوخ، ومن تبعهم في التوجُّه من مزدلفة إلى مِنى في النصف الأخير من الليل؛ عَمَلاً بالرُّخصة وحذرًا من مشقة الزحمة، ويجوز لهم أن يرموا الجمرة ليلاً؛ كما ثبت ذلك عن أم سلمة، وأسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهم.(/79)
وذَكَرَتْ أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أذِن للنساء بذلك، ثم إنه - صلى الله عليه وسلم - بعد ما أسفر دفع إلى مِنى ملبيًا، فقصد جمرة العقبة فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة، ثم نحر هَدْيه، ثم حلق رأسه، ثم طَيّبتْه عائشة - رضي الله عنها - ثم توجَّه إلى البيت فطاف به، وسُئِل - صلى الله عليه وسلم - في يوم النحر عمن ذبح قبل أن يَرْمي، ومن حلق قبل أن يذبح، ومَن أَفاضَ إلى البيت قبل أن يَرْمي، فقال ((لا حَرَج))، قال الرَّاوي: فما سئل يومئذ عن شيء قُدِّم ولا أُخِّر إلا قال: ((افعل، ولا حَرَج)) [210]، فعلم بهذا أن السنة للحُجّاج أن يبدؤوا برمْي الجمرة يوم العيد، ثم ينحروا إذا كان عليهم هَدْي، ثم يحلقوا أو يقصروا، والحلق أفضل من التقصير، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا بالمغفرة والرحمة ثلاث مرات للمُحلّقين، ومرة واحدة للمُقصرينَ، وبذلك يحصل للحاج التحلل الأول فيلبس المخيط، ويتطيب ويُباح له كل شيء حُرّم عليه بالإحرام إلا النِّساء، ثم يذهب إلى البيت فيطوف به في يوم العيد أو بعده، ويسْعَى بين الصفا والمروة إن كان متمتعًا، وبذلك يحل له كل شيء حُرِّمَ عليه بالإحرام حتى النساء.
أما إن كان الحاج مُفرِدًا أو قارنًا: فإنه يكفيه السعي الأول الذي أتى به مع طواف القُدُوم، فإن لم يسعَ مع طواف القُدوم، وجب عليه أن يسعى مع طواف الإفاضة.(/80)
ثم رجع - صلى الله عليه وسلم - إلى مِنى فأقام بها بقية يوم العيد، واليوم الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر، يرمي الجمرات كل يوم من أيام التشريق بعد الزوال، يرمي كل جمرة بسبع حصيات، ويكبّر مع كل حَصاة، ويدعو ويرفع يديه بعد الفراغ من الجمرة الأولى والثانية، ويجعل الأولى عن يَسارِه، والثانية عن يَمِينه، ولا يقف عند الثالثة، ثم دفع - صلى الله عليه وسلم - في اليوم الثالث عشر بعد رَمْي الجمرات، فنزل بالأبطح، وصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء.
ثم نزل إلى مَكَّة في آخر الليل، وصلى الفجر بالناس - عليه الصلاة والسلام - وطاف للوداع قبل الصلاة، ثم توجَّه بعد الصلاة إلى المدينة في صبيحة اليوم الرابع عشر، عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم.(/81)
فعلم من ذلك أن السنة للحاج أن يفعل كفعله - صلى الله عليه وسلم - في أيام مِنى، فيرمي الجِمَار الثلاث بعد الزوال في كل يوم كل واحدة بسبع حصيات، ويكبر مع كل حصاة، ويشرع له أن يقف بعد رَمْيهِ الأولى، ويستقبل القبلة، ويدعو، ويرفع يديه، ويجعلها عن يساره، ويقف بعد رَمْي الثانية كذلك، ويجعلها عن يمينه، وهذا مُستَحبّ وليس بِواجِب، ولا يقف بعد رَمْي الثالثة، فإن لم يَتيسّر له الرَّمْي بعد الزوال وقبل غروب الشمس، رمى في الليل عن اليوم الذي غابت شمسه إلى آخر الليل في أصح قولي العلماء؛ رحمة من الله - سبحانه - بعباده وتَوْسِعَة عليهم، ومن شاء أن يتعجّل في اليوم الثاني عشر بعد رَمْي الجمار فلا بأس، ومن أحبّ أن يتأخّر حتى يرمي الجمار في اليوم الثالث عشر فهو أفْضَل؛ لكونه موافقًا لفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - والسنة للحاج أن يَبِيتَ في مِنى ليلة الحادي عشر والثاني عشر، وهذا المبيت واجب عند كثير من أهل العلم، ويكفي أكثر الليل إذا تيسّر ذلك، ومن كان له عُذر شَرْعي؛ كالسقاة، والرعاة ونحوهم فلا مَبِيت عليه، أما ليلة الثالث عشر فلا يجب على الحجاج أن يبيتوها بمِنى إذا تعجلوا ونفروا من مِنى قبل الغروب في اليوم الثاني عشر، أما مَنْ أَدْرَكه المبيت بمِنى، فإنه يَبِيت ليلة الثالث عشر، ويرْمِي الجِمَار بعد الزوال ثم ينفر، وليس على أحد رَمْي بعد الثالث عشر، ولو أقام بمِنى.
ومتى أراد الحاج السفر إلى بلاده وجب عليه أن يطوف بالبيت؛ للوداع سبعة أشواط؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا ينفرن أحد منكم حتى يكون آخر عهده بالبيت))[211]، إلا الحائض والنفساء فلا وَدَاع عليهما؛ لما ثبت عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: ((أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت، إلا أنه خَفَّف عن المرأة الحائض)) [212]؛ مُتفق على صحته. والنفساء مثلها.(/82)
ومن أخَّر طواف الإفاضة فطاف عند السفر، أجْزَأه عن الوداع؛ لعُموم الحَدِيثينِ المذكورَينِ، وأسال الله أن يوفق الجميع لما يرضيه، وأن يتقبل منا ومنكم، ويجعلنا وإياكم من العُتقاء من النار، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
ما يفعله الحجاج يوم الثامن من ذي الحجة
س: ماذا يفعل الحاج يوم الثامن من ذي الحجة؟ [213]
ج: اليوم الثامن هو محل الإحرام إذا كان في مكة، وقد يتحلل أو ينوي الحج، وهو من أهل مكة المُقيمينَ بها، فالأفضل له الإحرام في اليوم الثامن؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أصحابه - رضي الله عنهم - الذين تحلَّلُوا من العمرة بذلك، فأحرموا بالحج يوم الثامن، ثم توجهوا إلى مِنى، هذا هو الأفضل للحاج يحرم من منزله يغتسل، ويتطيب، ويلبس الإزار، والرداء، ويتوجه إلى مِنى مُحْرِمًا، ولا يحتاج إلى وداع سواء كانت إقامته في الحرم أو في الحل، وهكذا المرأة من منزلها أو من مخيمها، أو من أي مكان تغتسل، وتتطيب بالطيب المُناسِب، وتلبس الثياب المُناسبة، التي ليس فيها فتنة، وتحرم وتتوجه إلى مِنى من غير حاجة لوَدَاع، هذا هو المُستحبّ في اليوم الثامن، وإن أحرم قبله فلا حَرَج، ولكن اليوم الثامن هو الأفضل، وإن تأخّر حتى أحرم في اليوم التاسع فلا حرج أيضًا؛ ولكن الإحرام في اليوم الثامن هو الأفضل؛ كما تقدم؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمر أصحابه بذلك.
س: إذا نزل مُريد الحجة من مكة في اليوم الثامن من ذي الحجة، واغتسل من مِنى فهل يكفيه ذلك، وماذا عليه؟[214](/83)
ج: إذا اغتسل من مِنى فلا حرج في ذلك؛ لكن الأفضل أن يغْتَسِل قبل إحرامه في بيته، أو في أي مكان في مَكّة، ثم يحرم بالحج في منزله، ولا حاجة إلى دخوله المسجد الحرام للطواف؛ لأن الخارج إلى مِنى يوم التروية ليس عليه وداع، فإذا أحرم من دون غسل فلا حرج، وإذا اغتسل بعد ذلك في مِنى وهو محرم فلا بأس؛ لكن الأفضل والسُّنة أن يكون غسله قبل أن يحرم، فإن لم يغتسل؛ بل أحرم من دون غسل، أو من دون وضوء فلا حرج في ذلك؛ لأن الغسل سُنّة، والوضوء سُنة في هذا المقام.
حكم تَرْك المبيت في مِنى ليلة التاسع من ذي الحجة
س: ما حُكْم مَن تَرْك المبيت بمِنى الليلة التاسعة من ذي الحجة؛ من أجل الحريق الذي وقع في مِنى عام 1417هـ؟[215]
ج: لا شيء عليه؛ لأن المبيت بمنى ليلة التاسعة مُستحبّ وليس بواجب، وإذا كنت لم تَبِتْ في مُزدلفة الليلة العاشرة بعد انصرافِك من عرفة، فعليك دم يُذبح في مكة للفقراء، مما يجزئ في الأضحية، وإذا كنت لم تبتْ ليلة الحادي عشر في مِنى، فعليك أن تتصدق عن ذلك بما يسره الله، وإن ذبحت عن ذلك ذبيحة للفُقراء بمكة فهو أحْوَط، وأبْرَأ للذّمّة.
مكان الإحرام للحاج يوم التروية
س: من أيّ مكان يحرم الحاج يوم التروية؟ [216]
ج: يحرم من منزله؛ كما أحرم أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - من منازلهم في الأبطح في حجة الوداع، بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - وهكذا مَنْ كان في داخل مكة يحرم من منزله؛ لحديث ابن عباس - رضي الله عنهما – السابق، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ومن كان دون ذلك - أي دون المواقيت - فمُهَلُّه من أهله، حتى أهل مكة يهلون من مكة))[217]؛ متفق على صحته.
س: مَنْ كان في مِنى قبل يوم التروية، هل يدخل ويحرم من مكة، أو يحرم من مِنى؟[218]
ج: الجالس في مِنى يشرع له أن يحرم من مِنى والحمد لله، ولا حاجةَ إلى الدخول إلى مكة؛ بل يلبي من مكانه بالحج إذا جاء وقته.(/84)
السنة للحاج أن يحرم يوم الثامن من ذي الحجة قبل الظهر.
س: بعض الحُجاج يكونون يوم الثامن في مكة، ويكونون محلينَ إحرامهم، ويتركون سُنن يوم التروية، ويبقون في الشقق إلى اليوم التاسع، يحرمون ثم يخرجون إلى عرفة؛ مُعلّلينَ ذلك بقولهم: إن فعل يوم التروية سُنَّة، والحَجّ عرفة، فما رَأْي سماحتكم في هذا الفعل؟[219]
ج: لا حَرَج في ذلك، ولكن السُّنَّة للحاج أن يحرم اليوم الثامن من ذي الحجة قبل الظهر، ويتوجّه إلى مِنى، فيُصلّي بها الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، والفجر قصرًا بلا جمع، ثم
يتوجه إلى عرفة بعد طلوع الشمس؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك، وأمر الصحابة الذين حلوا من عمرتهم بذلك.
باب صفة الحج والعمرة
(2) يوم عرفة
وقت توجُّه الحاج إلى عرفات والانصراف منها.
س: متى يتوجَّه الحاج إلى عرفة، ومتى ينْصَرِف منها [220]؟
ج: يشرع التوجُّه إليها بعد طلوع الشمس من يوم عرفة، وهو اليوم التاسع، ويصلي بها الظهر والعصر جمعًا وقصرًا جمع تقديم بأذان واحد وإقامتينِ؛ تأسِّيًا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه - رضي الله عنهم - ويبقى فيها إلى غروب الشمس مُشتغلاً بالذِّكْر، والدعاء، وقراءة القرآن والتلبية حتى تغيب الشمس.
ويشرع الإكثار من قول: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وسبحان الله والحمد لله، ولا إله إلا الله والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله" ويرفع يديه بالدعاء، ويحمد الله، ويصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل الدعاء ويستقبل القبلة، وعرفة كلها موقف، فإذا غابت الشمس شرع للحجاج الانصراف إلى مزدلفة بسكينة ووقار مع الإكثار من التلبية، فإذا وصلوا مزدلفة صلوا المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتينِ، المغرب ثلاثًا، والعشاء ركعتينِ.
س: إذا توجه الحاج من مِنى إلى عرفة قبل طلوع الشمس، فماذا عليه؟[221](/85)
ج: ليس عليه شيء؛ لكن الأفضل أن يكون توجّهه إلى عرفة بعد طلوع الشمس؛ تأسِّيًا بالنبي - صلى الله عليه وسلم -.
حكم الجمع والقصر يوم عرفة
س: هل صلاة الظهر والعصر جمعًا وقصرًا في عرفة أمرٌ واجب، أم يجوز أن أصليهما في وقت كل منهما كاملتين؟ [222]
ج: صلاة الظهر والعصر يوم عرفات للحجاج جمعًا وقصرًا في وادي عرنة غرب عرفات بأذان واحد وإقامتينِ، سُنة مُؤكّدة، فعلها النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع، ولا ينبغي للمؤمن أن يخالف السُّنة؛ لكن ليس ذلك بواجب عند أهل العلم؛ بل سنة مُؤكّدة، فإن المسافر لو أتمّ صَحّتْ صلاته؛ لكن القصر مُتأكّد؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - فعله وقال: ((خُذوا عني مناسككم))[223]. فلا ينبغي له أن يُخَالف السُّنَّة؛ بل يُصلي مع الناس قصرًا وجمعًا جمع تقديم، ثم يتوجَّه إلى محل الوقوف في نفس عرفة، ولو صلاهما في عرفة، ولم يُصلّ في وادي عرنة فلا بأس حذرًا من المَشَقَّة، فإن الناس في هذه العصور يحتاجون للتخلُّص من الزحام بكل وسيلة مُباحَة.
من فاته الوقوف بعرفة في النهار فله الوقوف بها في الليل.
س: شخصٌ شارك في أعمال الحج، ولم يُمَكِّنْه عمله من الوقوف بعرفة في النهار، فهل يجوز له أن يقفَ بعد انصراف الناس في الليل؟ وكم يكفيه من الوقوف؟ وهل لو مر بسيارته في عرفة يجزئه ذلك؟[224](/86)
ج: يمتد زمن الوقوف بعرفة من طُلوع فجر اليوم التاسع إلى طلوع الفجر يوم النحر، فإذا لم يتمكَّن الحاج من الوقوف في نهار اليوم التاسع، فوقف في الليل بعد الانصراف كفاه ذلك، حتى لو لم يقف بعرفة إلا آخر الليل قبيل الصبح ويكفيه ولو بضع دقائق، وكذا لو مَرَّ مِنْ عرفات وهو سائر على سيارته أجزأَه ذلك، ولكن الأفضل له أن يحضر في الوقت الذي يقف فيه الناس ويشاركهم في الدعاء عشية عرفة، ويحرص على الخُشوع وحضور القلب، ويرجو مثل ما يرجون من نزول الرحمة، وحصول المغفرة، فإن فاته النهار فوقف بالليل، فالأفضل له أن يبكر بالوقوف متى استطاع، فينزل بعرفة ولو قليلاً، ويمد يديه إلى ربه ويتضرع إليه في السؤال، ثم يذهب معهم إلى مزدلفة، ويمكُث بها إلى آخر الليل، ويصلي فيها الفجر ثم يُكْثر بعد ذلك من الذكر والدعاء مستقبلاً القبلة، رافعًا يديه حتى يسفر، ثم ينصرف مع الناس إلى مِنى قبل طلوع الشمس؛ تأسِّيًا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك.
حكم الوقوف خارج حدود عرفة.
س: إذا وقف الحاج خارج حدود عرفة - قريبًا منها - حتى غربت الشمس، ثم انصرف فما حكم حجه؟[225]
ج: إذا لم يقف الحاج في عرفة في وقت الوقوف فلا حجّ له؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((الحج عرفة))[226]، فمن أَدْرَك عرفة بليل قبل أن يطلع الفجر فقد أدْرَك الحج.
وزمن الوقوف ما بعد الزوال من يوم عرفة إلى طُلُوع الفجر من ليلة النحر، هذا هو المُجْمَع عليه بين أهل العلم.(/87)
أما ما قبل الزوال فَفِيه خلاف بين أهل العلم، والأكثرون على أنه لا يجزئ الوقوف فيه إذا لم يقف بعد الزوال ولا في الليل، ومن وقف نهارًا بعد الزوال أو ليلاً أجزأه ذلك، والأفضل أن يقف نهارًا بعد صلاة الظهر والعصر جمع تقديم إلى غروب الشمس، ولا يجوز الانصراف قبل الغروب لمن وقف نهارًا، فإن فعل ذلك فعليه دم عند أكثر أهل العلم؛ لكونه تَرَك واجبًا، وهو الجمع في الوقوف بين الليل والنهار لمن وقف نهارًا.
س: حاج وقف في بطن وادي عرنة فهل حجه صحيح؟، وهل هناك أماكن مُخَصَّصة في عرفة لها الأفضلية؟[227]
ج: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((الحج عرفة))، فإذا وقف الحاج خارج عرفة أو في عرنة، أو غيرها فليس له حَجّ؛ ولكن إذا دخل عرفة بعد زوال الشمس ذلك اليوم أو في ليلة العيد صحّ حجه، أما إذا كان لم يدخل عرفة لا بعد الزوال، ولا في الليل، فهذا ليس له حج.
حكم مُغادَرة عرفة قبل مغيب الشمس.
سماحة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد
نحن أطباء من بعض البلاد الإسلامية قدمنا للعمل خلال فترة الحج بمكة المكرمة، ونوينا الحج والعمرة مُتمتِّعينَ. أدَّيْنا العمرة؛ ولكن ظروف العمل لا تمكننا من الوقوف بعرفة جزءًا في الليل، ولا بد لنا من الرجوع لمقر العمل قبل مغيب الشمس. ما الواجب علينا فعله؟ علمًا بأننا ندري أن الحج عرفة، وقد لا يتسنى لنا الحج بالعمر مرة أخرى، علمًا بأننا قد أدينا حج الفريضة. وماذا علينا إذا نزعنا ملابس الإحرام قبل التحلل، ورمي جمرة العقبة حيث لا يسمح بملابس الإحرام في العمل. جزاكم الله عنا خيرًا [228].
ج: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، وبعد:
من وقف بعرفة نهارًا فعليه أن يستمر إلى الليل، فإن لم يفعل وانصرف قبل الغروب ولم يعد بعد الغروب فعليه دم، وإن عاد بعد المغرب فوقف ليلاً ليلة النحر، ولم يقف في النهار فلا شيء عليه.(/88)
أما نَزْع ملابس الإحرام قبل التحلل الأول، فلا يجوز إلا للضرورة أو العُذر الشرعي، ومتى نزعتموها ولبستم المخيط؛ كالقميص فعليكم فدية مخيرة، وهي: صيام ثلاثة أيام، أو ذبح شاة، أو إطعام ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع من قوت البلد، مقداره كيلو ونصف تقريبًا، وهكذا إذا غطيتم الرأس بالعمامة ونحوها، ففيه الكفارة المذكورة. وفق الله الجميع. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
س: بالنسبة لأصحاب الحملات يخرجون الناس قبل الغروب يوم عرفة، ما حكمهم؟[229]
ج: لا يجوز أن يُطاعوا، ويجب أن ينهوا عن ذلك؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يخرج من عرفة حتى غربت الشمس وقال: ((خذوا عني مناسككم))[230]؛ أخرجه مسلم في صحيحه والمعنى تأسوا بي، واقتدوا بي.
مَنْ أتى من بلده يوم عرفة يمكنه التمتُّع وهو أَوْلَى
س: هل الحاج الذي يأتي من بلده في التاسع من ذي الحجة يدرك الحج؟ وماذا يجب عليه؟ وما صفة حجه من الأنواع الثلاثة؟ وما آخر حد لانتهاء الوقوف؟[231]
ج: نعم؛ يمكنه أن يدرك الحج، فإن كان قد ساق الهَدْي حج قارنًا، وإلا حج متمتعًا أو مُفرِدًا، والتمتع أَوْلَى لمن لم يسق الهدي، وآخر حد لانتهاء الوقوف بعرفة طلوع فجر يوم العيد.
نمرة ليست من عرفة على الراجح من أقوال العلماء
س: قوله: "ثم أتى عرفة والقبة قد ضربت له في نمرة" هل معنى هذا أن نمرة من عرفة؟[232]
ج: فيه خلاف، قيل من عرفة، وقيل ليست منها، والمشهور: أنها ليست من عرفة، فهي أمام عرفة، وليست منها على الراجح.
مكان وقوف الحاج عند جبل الرحمة.
س: قوله: "فجعل حبل المشاة بين يديه" ما معناه؟[233]
ج: يعني طريق المشاة أمامه والجبل عن يمينه قليلاً، وهو مستقبل القبلة حين وقوفه بعرفة.
حكم الوقوف بعرفة قبل التاسع بيوم أو بعده بيوم(/89)
س: ما حكم الله ورسوله في قوم يشاهدون يوم عرفة بعد مشاهدة المسلمين بيوم، ويرون أن أي شخص منهم يحج بدون مُرافقة أحد المكارمة – فرقة من الصوفية - فإنَّ حجه باطل؟[234]
ج: ليس لأحد من المسلمينَ أن يشذ عن جماعة المسلمينَ، لا في الحج، ولا في غيره؛ لقول الله - عز وجل -: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا}[235]، وقوله: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}[236]، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنَّواجِذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بِدْعة ضلالة)) [237]، وقوله - صلى الله عليه وسلم - في خطبة الجمعة: ((أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة))[238]، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((الصوم يوم تصومون، والفطر يوم تفطرون، والأضحى يوم تضحون))[239]. وقد وقف المسلمون الذين حجوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - معه يوم التاسع بعرفة ولم يقف أحد من قبله ولا بعده وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((خذوا عني مناسككم))[240]، فدل ذلك على أن الواجب على المسلمين أن يحجوا كما حج - صلى الله عليه وسلم - في الوقفة والإفاضة وغير ذلك، ثم خلفاؤه الراشدون - رضي الله عنهم - وهم أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، ساروا على منهجه الشريف، فوقفوا يوم التاسع، ووقف معهم المسلمون في حجاتهم، ولم يقفوا قبل يوم التاسع، ولا بعده.
ولم يرد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أصحابه - رضي الله عنهم - أنه لا يصح حج أحد من المسلمين إلا بشرط أن يحج مع فلان أو فلان.(/90)
فهذه الطائفة التي تقف في الحج بعد المسلمين مُبْتَدِعة، مُخَالِفَة لشَرْع الله، ولما درج عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الكرام وأتباعهم بإحسان، ولا حج لهم؛ لأن الحج عرفة، فمن لم يقف بعرفة يوم التاسع، ولا ليلة النحر - وهي الليلة العاشرة - فلا حج له.
وقولهم: إنه لا بد أن يكون بصحبة الحاج منهم أحد المكارمة، شرطٌ لا أساس له من الصِّحة، بل هو شرط باطل مخالف للشرع المطهر، فيجب طرحه وعدم اعتباره، ولكن يجب على كل مسلم أن يتفقه في دينه، وأن يعرف أحكامه في الحج وغيره، حتى يؤدي عبادته من الحج وغيره على بصيرة، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من يُردِ اللهُ به خيرًا، يُفقهه في الدين)) [241]؛ متفق على صحته.
الوقوف بعرفة مع جماعة المسلمين لا على الحساب.
س: ما الحكم في قوم لا يقفون بعرفة إلا على حساب شهري يعدونه، فأحيانًا يقفون بها قبل المسلمين بيوم، وأحيانًا بعدهم بيوم، وأحيانًا يوافقونهم. علمًا أنهم لا يحجون إلا بصحبة مكرمي، لأنهم يعتقدون أنه لا يصح الحج إلا بذلك؟ [242]
ج: ما ذكره السائل عن الطائفة المذكورة مُخَالف للشرع من وجهينِ:
أحدهما: شذوذهم عن جماعة المسلمين وعدم وقوفهم معهم، والواجب على المسلمين أن يكونوا جسدًا واحدًا وبناء واحدًا في التمسُّك بالحق، وعدم الخروج عن سبيل المؤمنين؛ حذرًا مما توعد الله به من خالف سبيلهم بقوله - تعالى -: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}[243]، أما تعلقهم بكون الشهر لا بد أن يكون ثلاثين دائمًا، فهذا من أخطائهم العظيمة المخالفة للسنة والإجماع، وقد سبق إيضاح ذلك في جواب على السؤال الأول.(/91)
الوجه الثاني: اشتراطهم لصحة الحج أن يكون الحجاج في صحبة واحد من المكارمة، وهذا من أبطل الباطل، ولا أصل له في الشرع المطهر؛ بل هو مُخالِف للكتاب والسنة، وإجماع أهل العلم، فلم يقل أحد من أهل العلم: إن الحج لا يصح إلا بشرط أن يكون في الحجاج فلان أو فلان؛ بل هذا القول من البدع الشنيعة التي لا أصل لها بين المسلمين.
الدعاء الجماعي في عرفة لا أصلَ له، والأَحْوَط تَرْكه.
س: ما حكم الاجتماع في الدعاء في يوم عرفة سواء كان ذلك في عرفات أو غيرها، وذلك بأن يدعو إنسان من الحُجّاج الدعاء الوارد في بعض كتب الأدعية المُسمّى بدعاء يوم عرفة أو غيره، ثم يردد الحجاج ما يقول هذا الإنسان، دون أن يقولوا آمين. هذا الدعاء بدعة أم لا؟ نرجو توضيح ذلك مع ذكر الدليل؟[244]
ج: الأفضل للحاج في هذا اليوم العظيم: أن يجتهد في الدعاء والضَّراعة إلى الله - سبحانه وتعالى - ويدفع يديه؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - اجتهد في الدعاء والذكر في هذا اليوم، حتى غربت الشمس، وذلك بعد ما صلى الظهر والعصر جمعًا وقصرًا في وادي عرنة، ثم توجه إلى الموقف، فوقف هناك عند الصخرات وجبل الدعاء، ويسمى جبل إلال، واجتهد في الدعاء والذكر رافعًا يديه مستقبلاً القبلة، وهو على ناقته، وقد شرع الله - سبحانه - لعباده الدعاء بتضرع، وخفية، وخشوع لله - عز وجل - رغبة ورهبة، وهذا الموطن من أفضل مواطن الدعاء، قال الله - تعالى -: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}[245]، وقال - تعالى -: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ} [246].(/92)
وفي الصحيحينِ: قال أبو موسى الأشعري - رضي الله عنه -: رفع الناس أصواتهم بالدعاء. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أيها الناس اربَعُوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائبًا، إنما تدعون سميعًا بصيرًا، إن الذي تدعون أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته))[247]. وقد أثنى الله - جل وعلا - على زكريا - عليه السلام - في ذلك. قال – تعالى -: {ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا}[248]، وقال - عز وجل -: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [249].
والآيات والأحاديث في الحثّ على الذِّكْر والدُّعاء كثيرة، ويشرع في هذا الموطن بوَجْه خاص الإكثار من الذكر والدعاء بإخلاص، وحضور قلب ورغبة ورهبة، ويشرع رفع الصوت به وبالتلبية؛ كما فعل ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه - رضي الله عنهم - وقد رُوِي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في هذا اليوم: ((خَيْر الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير))[250].
أما الدُّعاء الجماعي فلا أعلم له أصلاً، والأَحْوَط تَرْكه؛ لأنه لم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أصحابه - رضي الله عنهم - فيما علمت، لكن لو دعا إنسان في جماعة وأَمَّنوا على دعائه، فلا بأس في ذلك؛ كما في دعاء القُنوت، ودعاء خَتْم القرآن الكريم، ودعاء الاستسقاء، ونحو ذلك.
أما التجمع في يوم عرفة، أو في غير عرفة، فلا أصل له عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: ((مَنْ عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردّ))[251]؛ أخرجه مسلم في صحيحه، والله ولي التوفيق.
وقت بدء الدعاء في عرفة.
س: ما هو الوقت الذي يبدأ فيه الدعاء في عرفة؟ [252](/93)
ج: بعد الزوال بعدما يُصَلَّى الظهر والعصر جمعًا وقصرًا فيه بأذان واحد وإقامتين، يتوجه الحاج إلى موقفه بعرفة، يجتهد في الدُّعاء، والذِّكْر، والتلبية، ويشرع له رفْع اليدَينِ في ذلك، مع البَدْء بحمد الله والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أن تغيب الشمس.
باب صفة الحج والعمرة
(3) المبيت بمزدلفة.
المبيت بمُزْدلفة واجب، ومَنْ تَرَكه فعليه دم.
س: ما حكم الوقوف بمُزدلفة والمبيت فيها، وما قدره، ومتى يبدأ الحاج الانصراف منها؟ [253]
ج: المبيت بمُزدلفة واجب على الصحيح، وقال بعضهم إنه رُكْن، وقال بعضهم مُستحبّ، والصواب من أقوال أهل العلم: إنه واجب، ومَنْ تركه فعليه دم، والسُّنَّة أن لا ينصرف منها إلا بعد صلاة الفجر، وبعد الإسفار يصلي فيها الفجر، فإذا أسفر توجّه إلى مِنى مُلبِّيًا، والسُّنة أن يذكر الله بعد الصلاة، ويدعو فإذا أسفر توجه إلى مِنى مُلبّيًا.
ويجوز للضعفة من النساء، والرجال، والشيوخ، الانصرافُ من مُزْدلفة في النصف الأخير من الليل، رخَّص لهم النبي - عليه الصلاة والسلام - أمَّا الأقوياء فالسنة لهم: أن يبقوا حتى يصلوا الفجر، وحتى يذكروا الله كثيرًا بعد الصلاة، ثم ينصرفوا قبل أن تطلع الشمس، ويُسن رفع اليدينِ مع الدعاء في مُزدلفة، مستقبلاً القبلة كما فعل في عرفة، ومزدلفة كلها موقف.
س: ما حُكْم المبيت بمُزدلفة قبل مُنتصف اللَّيل؟[254]
ج: يجب على الحاج المبيت بمزدلفة ليلة العاشر من ذي الحجة إلى الفجر، إلا لعُذْر من مرض ونحوه، فيجوز له ولمن يقوم بشؤونه بعد نصف الليل أن يرحل إلى مِنى؛ لمبيت النبي - صلى الله عليه وسلم - بها في حجه إلى الفجر، وترخيصه لأهل الأعذار في الانصراف من المُزْدلفة إلى مِنى بعد منتصف الليل.
من صلى المغرب والعشاء بمُزْدلفة، ثم انصرف لا يعتبر مُؤَدِّيًا للواجب.(/94)
س: نرى في هذه الأيام عند النَّفْرَة من عرفات إلى مُزدلفة الزحامَ الشديد، بحيث إن الحاج إذا وصل إلى مزدلفة لا يستطيع المبيت فيها من شدة الزحام، ويجد مشقّة في ذلك، فهل يجوز ترك المبيت بمزدلفة؟ وهل على الحاج شيءٌ إذا ترك المبيت بها؟ وهل تجزئ صلاة المغرب والعشاء عن الوقوف والمبيت في مزدلفة، وذلك بأن يصلي الحاج صلاتَي المغرب والعشاء في مُزدلفة، ثم يتَّجه فورًا إلى مِنى، فهل يصح الوقوف على هذا النحو؟ نرجو توضيح ذلك مع ذِكْر الدليل.[255]
ج: المبيت بمُزدلفة من واجبات الحج؛ اقتداءً بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فقد بات بها - صلى الله عليه وسلم - وصلى الفجر بها وأقام حتى أسفر جدًّا، وقال: ((خذوا عني مناسككم)) [256]، ولا يعتبر الحاج قد أدى هذا الواجب إذا صلى المغرب والعشاء فيها جمعًا ثم انصرف؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يرخص إلا للضعفة آخر الليل.
وإذا لم يبت في مزدلفة فعليه دم، جبرًا لتركه الواجب، والخلاف بين أهل العلم - رحمهم الله - في كون المبيت في مزدلفة ركنًا، أو واجبًا، أو سنة، مشهورٌ معلوم، وأرجح الأقوال الثلاثة: أنه واجب على من تركه دم وحجه صحيح، وهذا هو قول أكثر أهل العلم. ولا يرخص في تَرْك المبيت إلى النصف الثاني من الليل لا للضعفة، أما الأقوياء الذين ليس معهم ضعفة فالسنة لهم أن يبقوا في مزدلفة حتى يصلوا الفجر بها ذاكرين الله، داعينه - سبحانه - حتى يسفروا، ثم ينصرفوا قبل طلوع الشمس؛ تأسيًا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن لم يصلها إلا في النصف الأخير من الضعفة كفاه أن يقيم بها بعض الوقت، ثم ينصرف أخذًا بالرخصة. والله ولي التوفيق.
الجمع والقصر في الحج(/95)
س: ما حكم من صلى صلاتي المغرب والعشاء قصرًا وجمع تأخير قبل دخول مزدلفة، وذلك لأسباب طارئة، منها تعطل سيارته في الطريق إلى مزدلفة، وخشية فوات وقت المغرب والعشاء حيث كان الوقت متأخرًا جدًّا، فصلى صلاتي المغرب والعشاء على حدود مزدلفة؛ أي قبل مزدلفة بمسافة قليلة، ثم نام ريثما يتم إصلاح سيارته، ثم صلى أيضًا صلاة الفجر، وذلك بعد دخول وقت صلاة الفجر أيضًا صلاها على حدود مُزْدلفة، حيث إنه لم يستطع دخول مزدلفة إلا في الصباح والشمس قد أشرقت، فهل تصح صلاته هذه لكل من المغرب والعشاء
والفجر على حدود مزدلفة؟ نرجو من سماحتكم توضيح ذلك مع ذكر الدليل؟[257]
ج: الصلاة تصح في كل مكان إلا ما استثناه الشارع، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: ((جُعِلَت لي الأرض مسجدًا وطهورًا)) [258]؛ ولكن المشروع للحاجّ أن يصلي المغرب والعشاء جمعًا في مزدلفة حيث أمكنه ذلك قبل نصف الليل، فإن لم يتيسر له ذلك؛ لزحام أو غيره صلاهما بأي مكان كان، ولم يجز له تأخيرهما إلى ما بعد نصف الليل؛ لقوله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [259]؛ أي مفروضًا في الأوقات، ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((وقت العِشَاء إلى نصف الليل))[260]؛ رواه مسلم من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - والله اعلم.
السنة المحافظة على الوِتْر في الحضر والسفر وليلة مزدلفة
س: هل يسقط الوتر، وركعتا الفجر في مُزْدَلِفَة؟ [261](/96)
ج: السُّنة أن يُصَلّي ركعتينِ قبل صلاة الفجر؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك في مُزْدَلفة، وهكذا في أسْفارِه كلها. أما سُنة الظهر، والعصر، وسنة المغرب، والعشاء، فالسنة: تَرْكها أيام مِنى، وفي عرفة، ومُزْدَلِفَة، وفي جميع الأَسْفار؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - تَرْك ذلك، وقال: ((خُذوا عني مَناسككم))، [262]، وقد قال الله - عز وجل -: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [263]، أما الوِتْر: فالسُّنة المُحافَظة عليه في الحضر والسَّفَر، وفي ليلة مُزدلفة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يُوتر في السفر والحضر - عليه الصلاة والسلام - وأما قول جابر: "إنه اضطجع بعد العشاء". فليس فيه نصّ واضح على أنه لم يوتر - عليه الصلاة والسلام - وقد يكون تَرْك ذلك بسبب التَّعب أو النوم - عليه الصلاة والسلام - والوتر نافلة، فإذا تركه بسبب التعب أو النوم أو شغل آخر فلا حَرَج عليه؛ ولكن يشرع له أن يقضيه من النهار شفعًا؛ لقول عائشة - رضي الله عنها -: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا شغله عن قيام الليل نوم أو مرض، صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة" [264]؛ مُتفق على صحته، وذلك لأنه كان - صلى الله عليه وسلم - يُوتر من الليل غالبًا بإحدى عشر ركعة، يسلم من كل ثنتينِ، فإذا شغله عن ذلك نوم أو مرض قضاهما من النهار شفعًا، يسلم من كل ثنتين - عليه الصلاة والسلام - والله الموفق.
يجوز الخروج من مُزدلفة في النصف الأخير من الليل.
س: متى يخرج الحاج من مُزْدلفة إلى مِنى في أي ساعة من الليل؟ وهل يرجم عن النساء، وهن قادرات على الرَّجْم من أجل الزحام؟[265](/97)
ج: يجوز للحاج الخُروج من مُزْدَلِفَة في النصف الأخير؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخَّص للنساء والضعفة، ومن معهم في ذلك، أمَّا الرجال الأقوياء الذين ليس معهم عَوائل فالأفضل لهم عدم التعجُّل، وأن يصلوا الفجر في مُزدلفة، ويقفوا بها حتى يسفروا، ويكثروا من ذِكْر الله والدعاء؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك وقال: ((خذوا عني مَناسككم))[266]، ولمن تعجَّل أن يَرْمِي الجمرة قبل الفجر؛ لأنَّ أم سلمة - رضي الله عنها - رَمَتْ الجَمْرَة قبل الفجر، ثم مَضتْ وأفاضَتْ، ولم يثبُتْ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنكر عليها ذلك، فدَلَّ ذلك على الجواز، وأنه لا حَرَج في ذلك، ولما في ذلك من التيسير والتسهيل على الحاج، ولا سيما الضُّعفاء منهم.
س: إذا كان معنا عَوائل كثيرة فهل نخرج من مُزدلفة قبل الفجر؟[267]
ج: الذي معه عوائل قد شرع له النبي - صلى الله عليه وسلم - ورخص له أن يفيض من مُزْدَلِفَة في آخر الليل قبل الفجر في النصف الأخير من الليل إلى منى، حتى يرمي الجمرة قبل الزحام، ثم مَنْ أراد أن يبقى في مِنى بقي في مِنى، ومن ذهب إلى مكة للطواف فلا بأس؛ كما تقدَّم في جواب السؤال الذي قبل هذا.
حكم المبيت خارج مزدلفة.
س: هناك من يبيت خارج مُزْدلفة؛ لأنهم يمنعونه من الوقوف بالسيارة، فيتعدى فيَبيت في مِنى فهل عليه هَدْي؟[268]
ج: إذا كان لا يجد مكانًا في مزدلفة، أو منعه الجنود من النزول بها فلا شيء عليه؛ لقول الله سبحانه: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}[269]، وإن كان ذلك عن تساهُل منه فعليه دم مع التوبة.
السُّنة أن يبقى الحاج في مُزدلفة حتى يسفر.
س: هل السنة أن يَمْكُثَ الحاج إلى أن يصلي الضُّحى، أم أنه ينفر بعد صلاة الفجر مباشرة من مزدلفة؟[270](/98)
ج: السُّنَّة أن يبقى في مزدلفة حتى يسفر، حتى يتَّضِح النور قبل طلوع الشمس، هذا هو الأفضل إذا صلى الفجر يبقى في مكانه مُسْتَقْبلاً القبلة، يدعو، ويلبي، ويذكر الله حتى يسفر؛ كما
فعل النبي - عليه الصلاة والسلام -. أمَّا الضعفاء فلهم الانصراف بعد منتصف الليل؛ لكن من جلس حتى يسفر، وصلى الفجر بها، وجلس حتى يسفر يدعو الله مستقبلاً القبلة، ويلبي ويدعو ويرفع يديه، هذا أفضل؛ تأسِّيًا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه بقي في مزدلفة حتى أسفر، فلما أسفر انصرف إلى منى قبل طلوع الشمس، وخالف المشركين فكانوا لا ينصرفون من مزدلفة حتى تطلع الشمس، والرسول - عليه الصلاة والسلام – خَالَفَهُم، وانصرف من مزدلفة قبل طلوع الشمس بعدما أسفر، وهذا هو السنة تأسِّيًا به - صلى الله عليه وسلم -.
الصبي إذا فاته المبيت في مُزدلفة فعليه الهَدْي.
س: الصبي إذا فاته المبيت بمزدلفة، هل عليه هَدْي؟[271]
ج: نعم إذا فاته المبيت بمُزدلفة، أو مِنى فعلى ولِيّه هَدْي؛ لأنه قد لزمته أحكام الحج بسبب إحرامه إن كان مميزًا، أو إحرام وليه عنه إن كان غير مميز؛ ولأنه كالحاج المُكَلف المُتَنَفّل، والمُعتمر المكلف المُتنفّل، فإنهما يلزمهما أحكام الحج والعمرة؛ لقول الله – سبحانه -: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}[272]، والآية المذكورة تَعُم المفترض، والمُتنفّل.
كيفية الوقوف عند المشعر الحرام.
س: عند المَشْعر الحرام هل يكون الحاج واقفًا رافعًا يديه؟[273]
ج: يشرع للواقف عند المشعر الحرام، وعلى الصفا والمروة، رفع اليدينِ في الدعاء: سواء كان واقفًا، أو جالسًا، فالأمر واسع والحمد لله، وهكذا في عرفات يشرع رفع اليدين في الدعاء.
المرور بمزدلفة دون المبيت لا يكفي.
س: هل يكفي المُرور بمُزدلفة دون المبيت إلى مُنتصف الليل؟[274](/99)
ج: المبيت بمُزدلفة واجب من واجبات الحج، فإذا لم يَبِتْ بها، فإنه يلزمه فِدْية - أي دم يذبح لمساكين الحرم - يجزئ في الأضحية، ولكن إذا مَرَّ الحاج بمزدلفة ولم يبت بها، ثم عاد إليها مرة أخرى قبل الفجر، ومكث بها ولو يسيرًا، فإنه لا فِدْية عليه.
باب صفة الحج والعمرة.
(4) رَمْي الجِمَار
جمرة العقبة هي التي تُرْمَى بسبع يوم العيد.
س: أي الجمرات تُرْمى بسبع اليوم الأول؟[275]
ج: الجمرة التي تلي مكة، الجمرة التي يُقال لها جمرة العقبة، وهي آخر الجِمَار من جهة مكة تُرْمى بسبع يوم العيد، أمَّا في اليوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر في حق من لم يتعجل، فإن عليه أن يَرْمي الثلاث بعد الزوال، ويبدأ بالتي تلي مسجد الخيف، وهي التي أقرب من جهة مسجد الخيف، يبدأ بها ثُم الوسطى، ثم الأخيرة التي رماها يوم العيد، وهي تسمى جمرة العقبة.
بداية رَمْي الجمار ونهايته وما يتعلق به
س: متى يبدأ الحاج رَمْي الجمرات؟ وما كيفية الرَّمْي؟ وما عدد الحَصَى؟ وبأي الجمرات يبدأ الرَّمْي؟ ومتى ينْتَهِي؟[276]
ج: يَرْمي أول الجمار يوم العيد، وهي الجمرة التي تلي مَكّة، ويُقال لها: جمرة العقبة يَرْميها يوم العيد، وإن رَمَاها في النصف الأخير من ليلة النحر كَفَى ذلك؛ ولكن الأفضل أن يرميها ضُحى، ويستمر إلى غروب الشمس، فإن فاته الرَّمْي رماها بعد غروب الشمس ليلاً عن يوم العيد يرميها واحدة بعد واحدة، ويُكَبِّر مع كل حصاة، أمَّا في أيام التشريق: فيرميها بعد زوال الشمس يَرْمِي الأولى، التي تلي مسجد الخيف بسبع حصيات، يُكَبِّر مع كل حَصَاة، ثم الوُسْطى بسبع حصيات، ثم الأخيرة بسبع حصيات في اليوم الحادي عشر والثاني عشر، وهكذا الثالث عشر لمن لم يتعجل.(/100)
والسُّنة: أن يقف بعد الأولى وبعد الثانية، بعدما يرمي الأولى يقف مستقبلاً القبلة، ويجعلها عن يساره ويدعو ربه طويلاً، وبعد الثانية يقف ويجعلها عن يمينه مستقبلاً القبلة، ويدعو ربه طويلاً في اليوم الحادي عشر والثاني عشر وفي اليوم الثالث عشر لمن لم يتعجل، أما الجمرة الأخيرة التي تلي مكة فهذه يرميها ولا يقف عندها؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم – رماها، ولم يقف عندها عليه الصلاة والسلام.
س: من أين يُؤْخذ حَصَى الجمار؟ وما صفته؟ وما حُكْم غَسْله؟ [277]
ج: يُؤخذ الحصى من مِنى، وإذا أخذ حصى يوم العيد من المُزدلفة فلا بأس، وهي سبع يرمي بها يوم العيد جَمْرة العقبة، ولا يشرع غسلها؛ بل يأخذها من مِنى أو المُزدلفة ويَرْمي بها، أو من بقية الحرم يجزئ ذلك ولا حرج فيه، وأيام التشريق يلقطها من مِنى كل يوم واحد وعشرين حصاة، إن تعجّل اثنين وأربعين لليوم الحادي عشر والثاني عشر، وإن لم يتعجل فثلاث وستون، وهي من حصى الخذف، تشبه بعر الغنم المتوسط فوق الحمص ودون البندق؛ كما قال الفقهاء، وتسمى حصى الخذف؛ كما تقدم أقل من بعر الغنم قليلاً.
حكم رمي جمرة العقبة بعد منتصف ليلة العيد.
س: نحن جماعة من الحُجّاج بعضنا معه نساء، والبعض الآخر مفرد، فهل يجوز للمُفْرد رَمْي جمرة العقبة مع جماعته بعد نصف الليل؟ عِلْمًا أنكم تَعْرِفون المشاقّ أثناء الحج.[278](/101)
ج: لا بأس في رَمْي الجمرة ليلة النحر بعد نصف الليل للمشقة التي ذكرتم؛ ولهذا رخص النبي - صلى الله عليه وسلم - للضعفة أن يدفعوا من مزدلفة قبل الفجر، ورخص لهم في رَمْي الجمار قبل الفجر. أمَّا الأقْوِياء: فالأفضل لهم أن يرموا بعد طلوع الشمس؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رمى جمرة العقبة يوم النحر ضُحى؛ ولأنه رُوِي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس))؛ ولكن في سَنَدِه ضعف، والصواب أن رَمْي الجمرة بعد نصف الليل من ليلة النحر يجزئ عن الجميع؛ من أجل المشقة العظيمة على الجميع، ولكن تأخير ذلك إلى بعد طُلوع الشمس في حق الأقوياء أفضل وأَحْوط؛ جمعًا بين الأدلة، ومن كان معه نساء أو ضعفة فهو مثلهم.
حُكْم من رمى جمرة العقبة والطواف قبل منتصف ليلة العيد
س: أنا حاج رميتُ الجمرة الكُبرى قبل منتصف الليل ثم توجَّهْتُ من فوري إلى الحرم؛ لطواف الإفاضة، وأثناء ذلك انتقض وضوئي، فأكملت الطواف، ونظرًا لزحمة ما حول المقام لم أتمكن من تأدية ركعتي الطواف ثم غادرتُ حدود الحرم ومنى، ولم أعد إلا بعد صلاة المغرب، فهل أخللتُ بشيء من مناسك الحج علمًا بأن حجي كان مُفرِدًا؟[279]
ج: أولاً: رمي الجمرة قبل نصف الليل لا يجوز فإن أول وقت لرمي الجمرة بعد نصف ليلة النحر عند جمع من أهل العلم، فلا يجوز رميها قبل ذلك.(/102)
ثانيًا: طوافه إن كان قبل نصف الليل فكذلك لا يصح، وإن كان بعد نصف الليل لم يصح أيضًا؛ لكونه طاف على غير طهارة؛ ولكونه انتقض وضوئه أثناء الطواف فهو على كل حال لم يطف على الصحيح، فعليه أن يعيد الرَّمْي، وعليه أن يُعيد الطواف بعد ذلك بنية طواف الإفاضة. وبنيَّة رَمْي جمرة العقبة يوم العيد، ولا يجزئه طوافه الذي أحْدَثَ فيه، وإذا لم يتذكر ولم ينْتَبه إلا بعد مُضِي أوقات الرَّمْي فعليه دَم؛ لأنه ما رمى في الحقيقة، فعليه دم يذبحه في مكة لفُقراء الحرم بنيَّة تَرْك الرَّمْي، وعليه الطَّواف في أي وقت فيطوف، ولو في آخر ذي الحجة، أو في محرم متى ذكر حتى يكمل حجه. وعليه دم ثان عن تَرْكه المبيت في مُزدلفة إلى ما بعد نصف الليل، وبالله التوفيق.
حكم رَمْي الجمار إذا كان المرمى مملوءًا
س: ما حكم رَمْي الجمار إذا كان المرمى مملوءًا بالحصى، يَرمي الحاج الحصى فيقع في المرمى ثم يسقط خارج المرمى؟ [280]
ج: المهم وقوعه في المرمى، إذا وقع في المرمى كفى والحمد لله، ولو تدحرج وسقط لا يضر.
الحكم فيمن رمى الشاخص دون التأكد من وقوع الجمرات في الحوض.
س: حججتُ وأنا من أهل مكة قبل حوالي سبعة أعوام، وأنا في الحج أقصر الصلاة مع الإمام، ثم أعيدها تامة مُنفرِدًا، وأرمي الجمرات في جميع الأيام من يوم النحر، وما بعده أرميها في الشاخص الذي في وسط المرمى، ظنًّا مني أنه هو المقصود بالرمي، ولا أدري هل تسقط الحجارة في المرمى، أو خارجه فما الحكم؟ [281]
ج: الواجب عليك إذا كان الأمر؛ كما ذكرت فِدْية واحدة تجزئ في الأضحية، فإن لم تستطع فعليك أن تصوم عشرة أيام؛ لأنك والحال ما ذكر في حكم مَنْ لم يرمِ.(/103)
أما إعادة الصلاة تامة بعدما صليتَ مع الإمام، فلا وَجْه لذلك، والواجب الاكتفاء بالصلاة مع الإمام؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بالناس في عرفة ومزدلفة ومِنى قصرًا، ولم يأمر أهل مكة بإعادة الصلاة تامة، وقد قال – سبحانه -: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}[282]، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - للناس في حجة الوداع: ((خُذوا عني مناسككم)) [283].
حكم الرَّمْي بعد العصر
س: لديَّ بنات يحججن فرضهن هذا العام، فهل يجوز أن يَرْمِينَ جمرة العقبة بعد العصر؛ مخافة الزحمة؟[284]
ج: إذا رمين يوم العيد بعد العصر فلا بأس؛ لأن يوم العيد يجوز الرَّمْي فيه كله، ويجوز أيضًا الرَّمْي في الليل بعد غروب الشمس، من ليلة إحدى عشرة عن يوم العيد لجمرة العقبة لمن لم يَرْمِها في النهار في أصح قولي العلماء، وهكذا يجوز الرَّمْي في اليوم الحادي عشر واليوم الثاني عشر في الليل، لمن لم يَتَيَسَّر له الرَّمْي في النهار بعد الزوال، أما اليوم الثالث عشر، فإنَّ الرمي فيه ينتهي بغروب الشمس، ولا يجوز الرَّمْي في الأيام الثلاثة قبل الزوال ليوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر عند أكثر أهل العلم، وهو الحق الذي لا شكَّ فيه؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما رَمَى بعد الزوال في الأيام الثلاثة المذكورة، وهكذا أصحابه - رضي الله عنهم - وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: ((خذوا عني مناسككم))[285].
فالواجبُ على المسلمينَ اتِّباعه في ذلك؛ كما يلزم اتباعه في كل ما شرع الله، وفي ترك كل ما نهى الله عنه ورسوله - صلى الله عليه وسلم - لقول الله - عز وجل -: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [286]، وقوله - عز وجل -: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}[287]. والآيات في هذا المعنى كثيرة، والله الموفق.(/104)
س: هل يجوز للمرأة أن تُوَكِّل في الرَّمْي في حج الفريضة؟[288]
ج: إذا كانت مريضة أو ضعيفة؛ لكبر سن، أو ضعف قوة، أو حاملاً، أو ذات أطفال، ليس عندهم مَنْ يحفظهم، فإنها توكل ثقة يَرْمِي عنها. أما إذا كانت قوية تستطيع الرَّمْي، وليس بها علة، فإنها ترمي بنفسها في الأوقات المناسبة؛ كالليل، وتجتنب أوقات الزحام؛ كما رمى أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ونساء الصحابة - رضي الله عنهم - وفيهم أُسْوَة.
س: ما حكم التَّوْكيل في الرَّمْي عن المريض، والمرأة، والصبي؟[289]
ج: لا بأس بالتوكيل عنِ المريض والمرأة العاجزة؛ كالحبلى، والثقيلة، والضعيفة التي لا تستطيع رَمْي الجمار، فلا بأس بالتوكيل عنهم، أمَّا القوية النشيطة: فإنها ترمي بنفسها، ومن عجز عنه نهارًا بعد الزوال رمي في الليل، ومن عجز يوم العيد رمى ليلة إحدى عشرة عن يوم العيد، ومن عجز يوم الحادي عشر رمى ليلة اثنتي عشرة عن اليوم الحادي عشر، ومن عجز في اليوم الثاني عشر، أو فاته الرمي بعد الزوال رَمَى في الليلة الثالثة عشرة عن يوم الثاني عشر، وينتهي الرَّمْي بطلوع الفجر.
أما في النهار فلا يرمي إلا بعد الزوال في أيام التشريق.
س: عندي بنت وحجها فرض؛ ولكن بها ضِيق في النفس هل أتوكل عنها في الرمي؟ أفتونا مأجورين جزاكم الله خيرًا.[290]
ج: يجوز لها التوكيل لثقة يرمي عنها دفعًا للخطر؛ لقول الله - عز وجل -: {فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}[291]، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((يَسِّرُوا وَلا تُعَسِّرُوا))[292].
س: امرأةٌ أدتِ الحج، وقامت بجميع مناسكه إلا رَمْي الجمار فقد وكلت من يرميها عنها؛ لأنها معها طفلاً صغيرًا علمًا أن هذا الحج هو حج الفريضة، فما حكم ذلك؟[293]
ج: لا شيء عليها في ذلك، ورمي الوكيل يجزئ عنها؛ لما في الزِّحام وقت رَمْي الجمار من الخطر العظيم على النساء، ولا سيما من معها طفل.(/105)
س: عند رَمْي الجمرات لم أستطِع الرَّمْي؛ لأنني حامل وكان معي والدي ورَمَى عني، فهل علي شيء؟[294]
ج: رمي الجمرات كغيره من النسك يجب على القادر أن يفعله بنفسه؛ لقول الله - تعالى -: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [295]، فلا يحل لأحد التَّهَاوُن في ذلك؛ كما يفعل البعض حيث نجدهم يوكلون من يرمي عنهم، لا عن عجز عن الرمي؛ ولكن اتِّقاء للزحام، وهذا خطأ عظيم، ولكن إذا كان الإنسان عاجزًا؛ كمريض، أو امرأة حامل، أو ما أشبه ذلك فلا بأس،
وهذه المرأة لا حرج عليها إن شاء الله.
الوكالة في الرمي لا تجوز إلا من عُذر شرعي
س: ما حُكْم من وكل في رَمْي الجمار وهو قادر، وسافر بعد يوم العيد، ولم يمكث في منى يومين؟[296]
ج: الوكالة لا تجوز إلا من علة شرعية مثل: كبير السن، والمريض، ومثل الحُبلى التي يُخْشَى عليها، وما أشبه ذلك، أما التوكيل من غير عُذر شرعي، فهذا لا يجوز، والرَّمْي باقٍ عليه حتى ولو كان حجه نافلة على الصحيح؛ لأنَّه لما دخل في الحج والعمرة وجب عليه إكمالهما، وإن كان نافلة؛ لقوله - سبحانه وتعالى -: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للهِ}[297]، فهذا يعم حج النافلة، وحج الفرض؛ كما يعم عمرة الفرض وعمرة النافلة، لكن إذا كان معْذورًا لمرض، أو كبر سن فلا بأس. والنائب يرمي عنه وعن موكله في موقف واحد الجمرات كلها هذا هو الصواب.(/106)
وكذلك إذا سافر قبل طَواف الوداع فهذا - أيضًا - منكر ثانٍ لا يجوز؛ لأن طواف الوداع بعد انتهاء الرمي، وبعد فراغ وكيله من الرَّمْي إذا كان عاجزًا، وكونه يُسافر قبل طواف الوداع وقبل مُضي أيام مِنى، هذا فيه شيء من التلاعب فلا يجوز هذا الأمر؛ بل عليه دَمَان: دم عن تَرْك الرَّمْي يذبح في مكة، ودم عن ترك طواف الوداع يُذبح في مكة أيضًا، ولو طاف في نفس يوم العيد لا يجزئه ولا يُسَمَّى وداعًا، لأن طواف الوداع يكون بعد رَمْي الجمار، فلا يُطاف للوداع قبل الرَّمْي؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا ينفرنَّ أحدكم حتى يكون آخر عهده بالبيت))[298]، ولما ثَبت عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: "أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت، إلا أنه خَفَّفَ عن المرأة الحائض" [299]؛ متفق على صحته. وعلى المذكور دمٌ ثالث عن تَرْك المبيت بمِنى ليلة أحد عشر وليلة اثني عشر، مع التوبة إلى الله من فعله المذكور.
س: هل يمكن توكيل شخص عَنِّي؛ لرَمْي الجمرات ثاني أيام التشريق؛ بسبب ظروف عائلية تستوجب عودتي إلى الرياض في هذا اليوم أم أن علي في ذلك دم؟[300]
ج: لا يجوز لأحد أن يستنيب ويسافر قبل إتمام الرَّمْي؛ بل يجب عليه أن ينتظر فإن كان قادرًا رمى بنفسه، وإن كان عاجزًا انتظر ووكل من ينوب عنه، ولا يسافر الإنسان حتى ينتهي وكيله من رمي الجمار، ثم يودع البيت هذا الموكل، وبعد ذلك له السفر.
أما إن كان صحيحًا فليس له التوكيل؛ بل يجب عليه أن يرمي بنفسه؛ لأنه لما أحرم بالحج وجب عليه إكماله وإن كان مُتطوِّعًا؛ لأن الشروع في الحج يوجب إكماله؛ كما قال الله - سبحانه وتعالى -: {وَأَتِمُّوا الحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للهِ}[301]، وهكذا العمرة كما في الآية الكريمة إذا شرع فيها وجب عليه الإتمام والإكمال. وليس له أن يوكل في بعض أعمال الحج على الصحيح ما دام قادرًا على فعلها. فإن سافر قبل الرمي فعليه دم يطعمه فقراء مكة.(/107)
الوكيل في الرَّمْي يرمي عن نفسه أولاً إذا كان مفترضًا.
س: إذا ناب المرء عن أبيه وأمه في رَمْي الجمار إضافة إلى نفسه، فهل يلزمه ترتيب معين في الرَّمْي، أم أنه مُخَيَّر في تقديم من يشاء؟ [302]
ج: إذا ناب المرء عن أمه وأبيه في الرَّمْي لعجزهما أو مرضهما؛ فإنه يرمي عن نفسه، ثم يرمي عن والديه، وإذا بدأ بالأم فهو أفضل لأن حقها أكبر، ولو عكس فبدأ بالأب فلا حرج، أما هو فيبدأ بنفسه ولا سيما إذا كان مفترضًا.
أما إذا كان مُتَنفِّلاً فلا يضره سواء بدأ بنفسه أو بهما؛ لكن إذا بدأ بنفسه فهو الأفضل والأحسن، ثم يرمي عن أمه، ثم عن أبيه في موقف واحد في يوم العيد؛ لكن في غير يوم العيد يكون الرَّمْي بعد الزَّوال يَرْمي عن كل منهم إحدى وعشرين حصاة في كل يوم [303]، ولو قدم رمي أبيه على أمه أو قدم رميهما على نفسه إذا كان متنفلاً. أما إذا كان مفترضًا فيجب أن يبدأ بنفسه ثم يرمي عن والديه.
حكم مَنْ شكَّ في سُقوط الحصى في الحوض.
س: ما حكم من حصل عنده شكّ بأن بعض الحصى لم يسقط في الحَوْض؟[304]
ج: من شكّ فعليه التكميل، يأخذ من الحصى الذي عنده في مِنى من الأرض ويكمل بها.
حكم الرَّمْي من الحصى الذي حول الجِمَار
س: هل يجوز للحاج أن يرمِيَ من الحصى الذي حول الجمار؟ [305]
ج: يجوز له ذلك؛ لأن الأصل أنه لم يحصل به الرَّمْي، أما الذي في الحوض فلا يُرْمَى شيء منه.
العبر المستفادة من رمي الجمار
س: ما العِبْرة التي يَخْرُج بها المسلم عند رميه الجمرات؟[306]
ج: رمي جمرة العقبة في يوم العيد، ورمي الجمار الثلاث في أيام منى، وفي مواعيدها التي حددها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تفيد المسلم في العبرة الأجر العظيم، والعبر الكثيرة من وجوه منها:
أولاً: أنها قدوة بأبينا إبراهيم الخليل - عليه السلام - حين اعترض له إبليس في هذه المواقف، ونبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - حين شرع ذلك لأمته في حجة الوداع.(/108)
ثانيًا: إقامة ذكر الله وإعلانه؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما جعل الطواف بالبيت والسَّعْي بين الصفا والمروة ورَمْي الجِمَار لإقامة ذكر الله)) [307].
ثالثًا: التقيد بالعدد سبعة له حكمة عظيمة، وهي التذكير بما شرع الله من هذا العدد ترمى بسبع حصيات كالطواف سبعًا، والسعي سبعًا، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أوْتِرُوا فإن الله، وِتْر يحب الوِتْر))[308]، وله سبحانه وبحمده حكم كثيرة فيما يشرع لعباده، قد يعلمها العباد أو بعضها، وقد لا يعلمونها؛ لكنهم موقنون بأن الله - سبحانه - حكيم عليم، لا يفعل شيئًا ولا يشرع شيئًا عبثًا.
رابعًا: أن الدين الإسلامي دين امتثال لأمر الله، وأن المسلم مأمور بالعبادة حسب النص التشريعي، ولو خفيت عليه الأسرار؛ لأن الله عليم بكل شيء وحكيم في كل شيء، وعِلْم البشر قاصر، ولا يساوي شيئًا إلى جانب علم الله - عز وجل - فوَجَبَ على المُسْلِم الخُضوع لحكمه، والامتثال لأمره، وإن لم يعلم الحكمة.
خامسًا: رَمْي الجِمَار يشعر المسلم بالتَّواضع والخضوع في امتثال الأمر في حالة الأداء؛ كما أنه يعود الفرد المسلم على النظام والترتيب في المواعيد المحددة، والمُواظَبَة على ذلك في ذهابه لرمي الجمار الأولى، والثانية، والثالثة، التي هي جمرة العقبة، ثم التقيد بالحصيات السبع واحدة بعد أخرى مع الهُدوء، وعدم الإيذاء للآخرين، بقول، أو فعل، كل هذا يعود المؤمن على تنظيم الأمور المهمة، والعناية بها حتى تُؤدَّى في أوقاتها كاملة.
سادسًا: الاحتفاظ بالحصيات، وعدم وضعها في غير مكانها يُشْعِر المسلم بأهمية المُحافظة على ما شرع ربه وعدم الإسراف، ووضع الأمور في مواضعها من غير تبذير، ولا زيادة، أو نقص.
الحلق أفضل من التقصير
س: أيهما أفضل الحلق أو التقصير بعد أداء النُّسُك في العمرة والحج؟ وهل يجزئ تقصير بعض الرأس؟ [309](/109)
ج: الأفضل الحلق في العمرة والحج جميعًا؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - دعا للمحلقين ثلاثًا بالمغفرة والرحمة، وللمُقصرينَ واحدة، فالأفضل الحلق، لكن إذا كانت العمرة قرب الحج فالأفضل فيها التقصير حتى يتوفر الحلق في الحج؛ لأن الحج أكمل من العمرة فيكون الأكمل للأكمل. أما إن كانت العمرة بعيدة عن الحج مثلاً في شوال يمكن لشعر الرأس أن يطول فإنه يحلق؛ حتى يحوز فضل الحلق.
ولا يجوز تقصير بعض الرأس ولا حَلْق بعضه، في أصح قولي العلماء؛ بل الواجب حلق الرأس كله أو تقصيره كله. والأفضل أن يبدأ بالشق الأيمن في الحلق والتقصير.
الأكمل تعميم شعر الرأس بالقص.
س: حججتُ العام الماضي مُتمتعًا بالعمرة إلى الحج، وبعد فراغي من العمرة قصرت شعر رأسي بالمقص، بحيث أخذتُ بعض الشعيرات من معظم أجزائه؛ بحجة أنني سوف أحلقه بعد أداء الحج فهل فيما فعلت شيء؟ أفتونا مأجورينَ [310].
ج: ما فعلته من القصّ المذكور بالمقص مجزئ، وليس عليك شيء، والأحوط والأكمل تعميم شعر الرأس بالقص، والحلق أفضل من القَصّ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا بالرحمة والمغفرة ثلاث مرات، وللمُقصرين مرة، إلا إذا كان قدوم الحاج في وقت قريب من الحج فإن الأفضل له أن يُقصِّر حين تحلله من العمرة، ويبقي الحَلْق للحج؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمر الذين قدموا معه للحج في حجة الوداع، وليس معهم هَدْي أن يقصروا، ولم يأمرهم بالحَلْق.
والحكمة في هذا، والله أعلم، أن يبقى بقية الرأس للحَلْق من التحلُّل من الحج. والله ولي التوفيق.
مكان الحَلْق والتقصير.
س: إذا رمينا جمرة العقبة هل لا بد من الحَلْق في مِنى، أو نحلق بعد النُّزول إلى مكة؟ وخاصة أنه ربما لا توجد إمكانيات الحلاقة في مِنى؟ أرجو من سماحتكم إيضاح ذلك، وهل ونحن محرمون، أم لا؟[311]
ج: الحلق أو التقصير يجوز فعله في مِنى، وفي مكة وغيرهما.
حكم التحلُّل بعد رَمْي جمرة العقبة.(/110)
س: امرأة جاهِلة رمتْ جمرة العقبة يوم النحر، وأحلت إحرامها ولبستِ البُرقع، ولم تقصر، ولم تَطُف طواف الإفاضة، ماذا يجب عليها؟[312]
ج: ليس عليها شيء؛ لأن التَّحَلُّل الأول يحصل برَمْي جمرة العقبة عند جمع من أهل العلم، وهو قول قوي وإنما الأحوط، هو تأخير التَّحلُّل الأول حتى يحلق المحرم أو يقصر، أو يطوف طواف الإفاضة، ويسعى إن كان عليه سَعْي بعد رمي جمرة العقبة. ومتى فعل الثلاثة المذكورة حل التحلل كله. والله ولي التوفيق.
باب صفة الحج والعمرة
(5) طَواف الإفاضَة
حكم من لم يكمل طواف الإفاضة
إلى سماحة الشيخ / عبدالعزيز بن عبدالله بن باز، مفتي المملكة العربية السعودية
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
سؤالي هو: والدي أتى من مصر؛ لأداء فريضة الحج، ولم يكمل طواف الإفاضة والسَّعْي وطواف الوداع؛ بسبب مرضه الشديد، والزحام الشديد، وضعف جسمه.
أولا: هل حجه صحيح أم لا؟
ثانيًا: ماذا أفعل له؟ أنا ابنه الذي أعمل في المملكة.
ثالثًا: ماذا عليه إن كان قد جامع زوجته، وهل عليه أن يتوقف عن مجامعة زوجته، أم لا؟
رابعًا: إن كان ولا بد من حضوره هل بالإمكان من تأخير حضوره إلى شهر رمضان؛ لأداء العمرة وأداء ما عليه من الحج؟
أفيدونا جزاكم الله عن المسلمين كل خير، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته[313]
ج: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، بعده:
يلزم والدك الحُضور فورًا حسب الطاقة؛ لأداء الطواف والسَّعْي، وعليه اجتناب امرأته حتى يطوف ويسعى، فإن كان قد جامعها فعليه دم كدم الأضحية يذبح في مكة، ويوزع بين الفقراء مع التوبة، والندم، وعدم العود إلى جماعها، حتى يطوف ويسعى، وحجه صحيح، وعليك أن تساعده في ذلك حسب الطاقة بارك الله فيك. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
حكم من رفض إحرامه بعد المبيت بمزدلفة.
من عبدالعزيز بن عبدالله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم / ع. م. ب. غ. وفقه الله. آمين.(/111)
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، بعده:
وصلني خطابكم الكريم المؤرخ في 17/3/1392هـ وصلكم الله بهداه، المتضمن السؤال عما حصل لكم في الحج: وهو أنك وقفت بعرفة، وبِتّ بمزدلفة، وأنك تحللت من الإحرام، ولم ترمِ الجمار؛ بسبب أنك نسيت صلاة الظهر والعصر بعرفة إلى قبيل المغرب، ثم تضايَقْتَ من نفسك ولم تكمل مناسك الحج، وتسأل ماذا يجب عليك في ذلك؟[314]
الجواب: أنك لا تزال محرمًا إلى حين التاريخ، ونيتك التحلل من الإحرام غير معتبرة؛ لعدم توافر شروط التحلل، وعليك أن تُبَادر بلبس ملابس الإحرام من حين يصلك هذا الجواب، وتذهب إلى مكة؛ بنية إكمال الحج، فتطوف سبعة أشواط بالكعبة طواف الحج، وتصلي ركعتي الطواف، ثم تسعى بين الصفا والمروة سَعْي الحج، ثم تحلق أو تقصر، والحلق أفضل إن لم تكن سابقًا حلقت أو قصرت بنية الحج، ثم تتحلّل وعليك دم عن تَرْك رَمْي الجمار كلها، إذا كنت لم ترمِ جمرة العقبة يوم العيد، أو الجِمار الثلاث يوم الحادي عشر والثاني عشر، وهو سبع بدنة أو سبع بقرة أو ثِنِي من المعز، أو جذع من الضَّأْن يُذْبح في الحرم المكي ويوزع بين فقرائه، وعليك دم آخر مثل ذلك؛ عن تركك المبيت بمنى - أيام منى إذا كنتَ لم تَبِتْ بها - يُذبح في الحرم المكي ويوزع بين الفقراء، وعليك مع ذلك التوبة والاستغفار عما حصل من التقصير، بترك الرَّمْي الواجب في وقته، والمبيت بمنى إن لم تكن بتّ بها. أما الطواف والسعي والحلق فوقتها مُوَسّع؛ ولكن فعلها في وقت الحج أفضل، وإذا كنت متزوجًا، وجامعت زوجتك فقد أفسدت حجك؛ لكن عليك أن تفعل ما تقدَّم؛ لأن الحج الفاسد يجب إتمامه كالصحيح؛ لقوله – تعالى -: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للهِ}[315]، وعليك قضاؤه في المستقبل حسب الاستطاعة، وعليك بدنة عن إفسادك الحج بمُجامعتك امرأتك قبل الشروع في التحلُّل، تُذْبح في الحرم المكي وتُوَزَّع بين الفقراء، إلا أن تكون قد رميت الجمرة يوم العيد(/112)
أجزأتك شاة بدل البدنة، ولم يفسد حجك؛ كالذي جامع بعد الطواف قبل أن يكمل تحلله بالرَّمْي أو الحلق. وفق الله الجميع
للفِقْه في دينه والثبات عليه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
حكم مَنْ شكّ في عدد الأشواط.
س: ذَهَبْنا للحج وعند الطواف والانتهاء منه، قال بعضنا: إننا أتْمَمْنا الأشواط السَّبعة، وقال آخرون: بقي شَوْط. فبعضنا قد بَقَوا لأداء شوط آخر، وانصرف آخرون وأنا منهم، فما حكم الحج، وهل هو صحيح؟[316]
ج: إذا كان الذين انصرفوا وأنت منهم انصرفوا باعتقاد أنهم أكملوا الأشواط السبعة، فالطواف صحيح والحمد لله، أما الذين شكوا فعليهم أن يكملوا شوطًا سابعًا إن لم يطل الفصل، فإن طال الفصل أعادوا الطواف، أما الذين انصرفوا وهم غير مُتَيقِّنينَ أنهم أكملوا السبعة، فعليهم أن يرجعوا إلى مكة، وأن يأتوا بالطواف كاملاً مع التوبة والاستغفار، عما حصل من التقصير، وإذا كان أحد منهم أتى زوجته، أو امرأة أتاها زوجها فعليهم مع ذلك ذبح شاة تذبح في مكة؛ لأنه لا يجوز للرجل أن يأتي زوجته قبل الطواف - وهي كذلك ليس لها أن يأتيها زوجها قبل أن تكمل الطواف - أعني طواف الإفاضة - ويوزع لحمها على الفقراء في مكة، أما من كان شكه طارئًا بعد كمال الطواف وانصرافه من المطاف؛ كحالكم معتقدًا كماله، فإنه لا شيء عليه، ولا يلتفت لهذا الشك. وهذا الحكم في جميع العبادات لا يلتفت إلى الشك الطارئ بعد الفراغ منها. والله ولي التوفيق.
حكم طواف الإفاضة في يوم عرفة
س: أنا شخص طُفْتُ طواف الإفاضة في يوم عرفة، فسمعتُ أنه يجب عليَّ أن أعود، وأقوم بإعادة طواف الإفاضة، فهل عليَّ طواف وداع رغم أنني طفته؟[317](/113)
ج: طواف الإفاضة لا يكون في يوم عرفة، طواف الإفاضة بعد النزول من عرفة، والنزول من مزدلفة في آخر ليلة العيد، أو في يوم العيد وما بعده، هذا هو وقت طواف الإفاضة، والذي طاف يوم عرفة جاهلاً، فطوافه لاغٍ وعليه أن يطوف بعد النزول من عرفة يوم العيد أو بعده، ولا بد من طواف الإفاضة، ووقته بعد النزول من مزدلفة في النصف الأخير من ليلة مزدلفة وفي يوم العيد وما بعده، وعليك إذا كنت لم تطف أن تطوف بعد ذلك، وإن كنت أتيت أهلك قبل الطواف بعد الرمي والحلق فعليك ذبيحة تُذبح في مكة للفقراء مع التوبة والاستغفار، أما إذا كنت ما أتيت زوجتك، فالحمد لله تطوف وتكمل حجك، وتسعى مع الطواف إذا كنت حاجًّا قارنًا أو مُفْرِدًا ولم تسعَ قبل عرفة، فعليك أن تسعى وتطوف لحجك.
وأما الطواف الذي في يوم عرفة فهذا لا يصح، إلا إذا كان الإنسان قادمًا من بلده في يوم عرفة ووصل مكة، وطاف، وسعى، ثم خرج يوم عرفة من مكة إلى عرفات، فهذا يسمى طواف القُدُوم، وإن كان مُتمتِّعًا يسمى طواف العُمْرة، يطوف، ويسعى، ويقصر، ثم يحل، هذا يسمى طواف العمرة، وإن كنت قارنًا أو مُفْرِدًا طاف، ثم سعى، ثم خرج إلى عرفات في آخر النهار أو في الليل، وهذا يعتبر طوافه صحيحًا؛ لكن يسمى بطواف القُدُوم، وليس بطواف الإفاضة، طواف الإفاضة إنما يكون بعد الحج بعد النزول من عرفة والمزدلفة.
حكم لبس المخيط بعد رَمْي جمرة العقبة والحلق والتقصير
سماحة الشيخ / عبدالعزيز بن عبدالله بن باز حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
بمشيئة الله - تعالى - أريد أن أحج لهذا العام، وأريد أن أستفسر عن بعض أمور الحج، التي أجهلها، وأرجو من الله ثم من سماحتكم أن تنيروا لنا الطريق، ولكم في ذلك الأجر والثواب إن شاء الله، وهذه الأمور هي:(/114)
س: هل بعد الرَّمْي في اليوم العاشر إذا أردنا النزول إلى مكة للطواف والسعي، وتيسر لنا الحلق، فهل نطوف بالإحرام حتى نهاية السَّعْي، أم جائز لنا لبس المخيط بعد الرَّمْي والحلق في مِنى؟[318]
ج: إذا رمى الحاج يوم العيد جمرة العقبة، وحلق، أو قصر حل التحلل الأول، وجاز له الطيب ولبس المخيط، ولم يبقَ عليه سوى تحريم النساء، وله أن يطوف في ملابس الإحرام، ويسعى،
وإن لبس المخيط وغطى رأسه وقت الطواف والسَّعْي فلا بأس؛ لأنه قد حصل له التحلل الأول برمي جمرة العقبة وبالحلق أو التقصير سواء كان رجلاً أو امرأة؛ لكن المرأة ليس لها الحلق، وإنما تقصر من رأسها فقط. والله ولي التوفيق.
حكم الطواف على غير طهارة.
س: من طاف على غير طهارة، ثم سعى وهو جاهل بذلك، فهل يعيد الطواف ثم يسعى بعده؟ وهل يجوز تأخير الطواف إلى طواف الوداع بدون سعي؟ جزاكم الله خيرًا. [319]
ج: عليه أن يعيد الطواف، وإن أخره حتى يعزم على السفر، وطاف عند السفر أجزأه عن طواف الوداع، وإن أعاد السعي فحسن، خُروجًا من الخلاف.
الحائض والنفساء يبقى عليهما طواف الحج حتى تطهرَا
س: إذا حاضتِ المرأة قبل أن تطوف طواف الإفاضة فما حكمها؟ علمًا بأنها فعلت كل بقية المناسك، واستمر حيضها حتى بعد أيام التشريق. [320]
ج: إذا حاضتِ المرأة قبل طواف الحج أو نفست؛ فإنه يبقى عليها الطواف حتى تطهر، فإذا طهرتْ، تغتسل وتطوف لحجها ولو بعد الحج بأيام، ولو في المُحَرَّم، ولو في صفر، حسب التيسير، وليس له وقت محدود، وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أنه لا يجوز تأخيره عن ذي الحجة؛ ولكنه قول لا دليل عليه؛ بل الصواب جواز تأخيره؛ ولكن المبادرة به أَوْلَى مع القدرة، فإن أخره عن ذي الحجة أجزأه، ولا دم عليه.
والحائض والنفساء معذورتان فلا حَرَج عليهما؛ لأنه لا حيلةَ لهما في ذلك، فإذا طهرتَا طافتَا سواء كان ذلك في ذي الحجة أو في المُحَرَّم.
النفساء تكمل الحج إذا طهرت قبل الأربعين(/115)
س: المرأة النفساء إذا بدأ نفاسها يوم التروية، وأكملت أركان الحج عدا الطواف والسعي، إلا أنها لاحظت أنها طهرت مبدئيًّا بعد عشرة أيام، فهل تتطهر، وتغتسل، وتؤدي الركن الباقي الذي هو طواف الحج؟ [321]
ج: نعم، إذا نفست في اليوم الثامن مثلاً فلها أن تحج، وتقف مع الناس في عرفات ومزدلفة، ولها أن تعمل ما يعمل الناس من رمي الجمار، والتقصير، ونحر الهدي، وغير ذلك، ويبقى عليها الطواف والسعي تؤجلهما حتى تطهر، فإذا طهرتْ بعد عشرة أيام، أو أكثر، أو أقل اغتسلتْ، وصلَّتْ، وصامَتْ، وطافَتْ، وسعَتْ، وليس لأقل النفاس حدّ مَحْدُود، فقد تطهر في عشرة أيام أو أقل من ذلك أو أكثر، لكن نهايته أربعون، فإذا تمَّتِ الأربعون ولم ينقطع الدم؛ فإنها تعتبر نفسها في حكم الطاهرات، تغتسل، وتصلي، وتصوم، وتعتبر الدم الذي بقي معها على الصحيح دم فساد تُصَلّي معه، وتصوم وتحل لزوجها؛ لكنها تجتهد في التحفظ منه بقطن ونحوه، وتتوضأ لوقت كل صلاة، ولا بأس أن تجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء؛ كما أوصى النبي - صلى الله عليه وسلم - حمنة بنت جحش بذلك.
س: سافرت امرأة إلى الحج وجاءتها العادة الشهرية بعد خمسة أيام من تاريخ سفرها، وبعد وُصولها الميقات اغتسلتْ وعقدتِ الإحرام، وهي لم تطهر من العادة، وحين وصولها إلى مكة المكرمة ظلت خارج الحرم، ولم تفعل شيئًا من شعائر الحج أو العمرة، ومكثتْ يومين في مِنى، ثم طهرت، واغتسلت، وأدت جميع مناسك العمرة، وهي طاهرة، ثم عاد الدم إليها، وهي في طواف الإفاضة للحج إلا أنها استحتْ، وأكملت مناسك الحج، ولم تخبر وليها إلا بعد وصولها إلى بلدهم، فما حكم ذلك؟ [322](/116)
ج: إذا كان الواقع هو ما ذكره السائل، فعلى المرأة المذكورة أن تتوجه إلى مكة، وتطوف بالبيت العتيق سبعة أشواط بنية الطواف عن حجها؛ بدلاً من الطواف الذي أصابها الدم فيه، وتصلي بعد الطواف ركعتينِ خلف المقام، أو في أي مكان من الحرم، وبذلك يتم حجها.
وعليها دم في مكة لفُقرائها، وإن كان لها زوج قد جامعها بعد الحج؛ لأن المُحْرِمة لا يحل لزوجها جماعها إلا بعد طواف الإفاضة، ورمي الجمرة يوم العيد، والتقصير من رأسها.
وعليها السَّعْي بين الصفا والمروة إن كانت لم تسعَ، إذا كانت مُتمتِّعة بعمرة قبل الحج، أما إذا كانت قَارِنة، أو مُفرِدة للحج فليس عليها سَعْي ثانٍ، إذا كانت قد سعتْ مع طواف القُدوم.
وعليها التوبة إلى الله - سبحانه وتعالى - مما فعلت من طوافها حين أصابها الدم، ومن خروجها من مكة قبل الطواف إن كان قد وقع، ومن تأخيرها الطواف هذه المدة الطويلة. نسأل الله أن يتوب عليها.
حكم جمع طواف الإفاضة مع طواف الوداع.
س: هل يجوز جمع طواف الإفاضة مع طَواف الوداع في حال الخُروج مُباشرة من مكة والعودة إلى الوطن؟[323]
ج: لا حَرَج في ذلك، لو أنَّ إنسانًا أخَّر طواف الإفاضة، فلما عزم على السفر طاف عند سفره بعدما رمى الجمار وانتهى من كل شيء، فإن طواف الإفاضة يجزئه عن طواف الوداع،
وإن طافهما - طواف الإفاضة وطواف الوداع - فهذا خير إلى خير؛ ولكن متى اكتفى بواحد، ونوى طواف الحج أجزأه ذلك.
من مات قبل طواف الإفاضة لا يُطَاف عنه.
س: ما حكم من أتمَّ أعمال الحج ما عدا طواف الإفاضة ثم تُوفي، هل يُطاف عنه؟ [324](/117)
ج: من أتمَّ أعمال الحج ما عدا طواف الإفاضة، ثم مات قبل ذلك لا يطاف عنه؛ لقول ابن عباس - رضي الله عنهما -: بينما رجل واقف مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ وقع عن راحلته فوقَصَتْه، فمات فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((اغْسِلُوه بماءٍ وسِدْر، وكفِّنوه في ثوبيه، ولا تحنطوه، ولا تخمروا رأسه، فإن الله - تعالى - يبعثه يوم القيامة مُلبِّيًا))[325]؛ رواه البخاري ومسلم؛ وأصحاب السنن، فلم يأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالطَّواف عنه؛ بل أخبر بأنَّ الله يبعثه يوم القيامة مُلبِّيًا؛ لبقائه على إحرامه بحيث لم يَطُف، ولم يُطَف عنه.
باب صفة الحج والعمرة.
(6) السَّعْي
حكم السَّعْي
س: ما حُكْم السَّعْي في الحج والعمرة؟[326]
ج: رُكْن من أركان الحج والعمرة؛ لقوله - عليه الصلاة والسلام -: ((خُذوا عني مناسككم))[327]، وفعله يُفسِّر قوله، وقد سعى في حجته وعمرته عليه الصلاة والسلام.
المفرد والقَارِن لا يلزمهما سَعْي آخر
س: حججتُ مُفْرِدًا، وقمتُ بالطواف والسَّعْي قبل عرفة، فهل يُلْزمني الطواف والسَّعْي عند الإفاضة، أو مع طواف الإفاضة؟[328]
ج: هذا الذي حج مُفرِدًا، وهكذا لو حج قارنًا بالحج والعمرة جميعًا، ثم قدم مكة وطاف وسعى، وبقي على إحرامه؛ لكونه مُفْرِدًا أو قارِنًا، ولم يتحلّل فإنه يجزئه السَّعْي، ولا يلزمه سعي آخر، فإذا طاف يوم العيد أو بعده، كفاه طواف الإفاضة إذا لم يتحلّل من إحرامه، حتى يوم النَّحْر، والسَّعْي الذي سَعَاهُ أولاً مجزئ، سواء كان معه هَدْي أو ليس معه هَدْي، إن كان لم يتحلل إلا بعد ما نزل من عرفة يوم العيد، فإن سعيه الأول يكفيه، ولا يحتاج إلى سعي ثانٍ، إذا كان قارنًا بالحج والعمرة أو كان مُفرِدًا للحج؛ وإنما السَّعْي الثاني على المتمتع الذي أحرم بالعمرة وطاف وسعى لها وتحلل، ثم أحرم بالحج، فهذا عليه سَعْي ثانٍ للحج غير سَعْي العمرة.(/118)
حكم تقديم سَعْي الحج على طواف الإفاضة
س: هل يجوز تقديم سَعْي الحج قبل طواف الإفاضة؟[329]
ج: الأفضل بعد الطَّواف، ولا ينبغي التقديم؛ بل يطوف ثم يسعى؛ كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - لكن إذا قدم الإنسان السَّعْي ساهيًا، أو جاهلاً أجزأه.
من عبدالعزيز بن عبدالله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم، فضيلة الشيخ: ع. س. م. القاضي بمحكمة التمييز بالمنطقة الغربية. وفقه الله لما فيه رضاه آمين
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد:
فقد وصلني كتابكم الكريم المؤرخ في 8/1/1413هـ وصلكم الله بهداه، وما تضمنه من الأسئلة الخمسة كان معلومًا:
س: رجل أحرم بالحج يوم التروية من مكة المكرمة، ثم ذَهَب بعد إحرامه في ذلك اليوم إلى الحرم، فطاف طواف الإفاضة فقط، واكتفى بسَعْيه الأول يوم التَّروية، فهل يجزئه ذلك السَّعْي؟ حيث إنني رأيت بعض أهل العلم يَشْتَرِط لصحة السعي أن يكون عقب طواف نُسك، كطواف القدوم مثلاً. وإذا كان هذا الشرط صحيحًا فما مُسْتَنَد الأخْذِ به؟[330]
ج: فقد ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه كان في حجه وعمره يسعى بعد الطواف، ولم يثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - فيما نعلم أنه سعى قبل الطواف في حج أو عمرة، كما أنه لم يثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه سعى بعد طواف ليس بنسك، وإنما كان سَعْيُه بعد طواف القدوم في حجة الوداع، وهو نسك. وسعى في عُمَرِه بعد الطواف وهو نسك؛ بل من أركان العمرة.
وذكر شيخ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله - في "الفتاوى" ج26 ما يدل على أنه فعل السعي بعد طواف النسك محل إجماع.
ولكن قد ثَبَتَ عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في حجة الوداع لما سُئِل عن أعمال يوم النحر من الرمي، والنَّحْر، والحَلْق أو التقصير، والطَّواف والسَّعْي، والتَّقْديم والتأخير قال: ((لا حرج))[331].(/119)
وهذا الجواب المُطلق يدخل فيه تقديم السَّعْي على الطواف في الحج والعمرة، وبه قال جماعة من العلماء. ويدل عليه ما رواه أبو داود بإسناد صحيح عن أسامة بن شريك، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سُئِل عمن قدم السَّعْي على الطَّوَاف. فقال: ((لا حرج)). وهذا الجواب يعم سَعْي الحج والعمرة، وليس في الأدِلَّة الصحيحة الصريحة ما يمنع ذلك. فإذا جاز قبل الطواف الذي هو نُسُك، فجوازه بعد طواف ليس بنُسك من باب أَوْلَى.
لكن يشرع أن يعيده بعد طواف النسك؛ احتياطًا، وخروجًا من خلاف العلماء، وعملاً بما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجه وعمره.
ويحمل ما ذكره الشيخ/ تقي الدين - رحمه الله - مِنْ كَون السَّعْي بعد الطواف محل وفاق على أن ذلك هو الأفضل. أما الجواز ففيه الخلاف الذي أشرنا إليه. وممن صرح بذلك صاحب "المُغْنِي" ج3 ص 390 حيث نقل - رحمه الله تعالى - الجواز عن عطاء مطلقًا، وعن إحدى الروايتينِ عن أحمد في حق النَّاسي. أ. هـ
ويدل على عدم مشروعية الطَّواف، والسَّعْي قبل الحج لمن أحرم بالحج من مَكَّة أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر المهلِّينَ بالحج أن يتوجهوا إلى منى من منازلهم في حجة الوداع، ولم يأمرهم بالطواف ولا بالسعي قبل خروجهم إلى منى، فدل ذلك على أن المشروع لمن أحرم بالحج من مكة أن يتوجه إلى مِنى قبل الطواف والسَّعْي، فإذا رجع إلى مكة بعد عرفة ومزدلفة طاف، وسعى لحجه. والله ولي التوفيق.
حكم من حج ولم يسعَ.
س: أنا من سكان مكة حججتُ العام الماضي، وطفتُ ولكن لم أسعَ، فما الحكم؟[332](/120)
ج: عليك السَّعْي، وهذا غلط منك، ولا بد من السَّعْي سواء كنت من أهل مكة أو من غيرهم، لا بدَّ من السعي بعد الطواف بعد النُّزول من عرفات تطوف وتسعى، فالذي ترك السَّعْي يسعى الآن، وإذا كان أتى زوجته عليه ذبيحة يذبحها في مكة للفقراء؛ لأنه لن يحصل له التحلّل الثاني إلا بالسَّعْي، فعليه أن يسعى الآن بنيّة الحج السابق، وعليه دم إن كان قد أتى زوجته.
حكم الزيادة في السَّعْي
س: لقد سعيتُ بين الصفا والمروة؛ ولكن عملت الشوط من الصفا إلى الصفا على أنه واحد هل علي شيء في ذلك؟[333]
ج: هذه زيادة منك فقد سعيت أربعة عشر شوطًا، والواجب سبعة والسبعة الأخرى لا تجوز؛ لأنها خلاف الشرع؛ لكنك معذور بالجهل، وعليك التوبة إلى الله من ذلك، وعدم العودة إلى مثلها إذا حججتَ أو اعتمرتَ؛ لأن الذي حصل به المقصود سبعة من الصفا للمروة، ثم من المروة للصفا، تبدأ بالصفا وتختم بالمروة، سبعة أشواط.
حكم الفصل بين الطواف والسَّعْي بزمن طويل.
س: طفتُ طواف القُدوم وطواف الإفاضة بدون سَعْي، هل يجوز الفصل بين الطواف والسَّعْي بزمن طويل؟[334]
ج: لا حَرَج في الفَصْل بين السَّعي والطواف عند أهل العلم، فلو سعى بعد الطَّواف بزمن، أو في يوم آخر فلا بأس بذلك ولا حَرَج فيه، ولكن الأفضل أن يتوالى السَّعْي مع الطواف، فإذا طاف بعمرته سعى بعد ذلك من دون فصل، وهكذا في حجه، ولو فصل فلا حَرَج في ذلك؛ لأن السَّعْي عِبادة مُستقِلّة، فإذا فصل بينهما بشيء فلا يَضُر، ولهذا لو قدم الحاج أو القَارِن، وطاف فقط وأجَّل السَّعْي إلى ما بعد نزوله من عرفات، فلا حَرَج في ذلك، وإن قدمه فلا حَرَج في ذلك.
حكم من قصر ولبس ثيابه قبل إتمام السَّعْي.
س: إنسان سعى خمسة أشواط أو ستة ناسيًا أو جاهلاً، ثم قصر ولبس ثيابه، فما الحكم؟[335](/121)
ج: عليه أن يخلع ثيابه، ويلبس الإزار والرداء، ويتم ما بقي عليه إن كان الفاصل قليلاً، ويحلق رأسه أو يقصر ثم يلبس ثيابه، ولا شيء عليه غير ذلك. أما إن كان الفاصل طويلاً فعليه أن يعيد السَّعْي، ثم يحلق، أو يقصر، ولا شيء عليه؛ من أجل الجهل، أو النسيان؛ لقول الله – سبحانه -: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [336]، وقد صَحَّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الله - سبحانه - قال: "قَدْ فَعَلْتُ" [337]؛ رواه مسلم في صحيحه. والله الموفق.
حكم من سافر ولم يكمل سَعْيه.
س: حججتُ العام الماضي وفي أثناء السعي - وكان قد بقي منه ثلاثة أشواط - مرضَتْ إحدى مرافقاتي، فذهبت بها إلى السكن، ثم سافرت إلى البلد الذي أعمل فيه، فماذا علي يا سماحة الشيخ؟[338]
ج: يجب عليكِ أن تعودي إلى مكَّة، وأن تسعي سبعة أشواط بين الصفا والمروة؛ بنية الحج السابق، وعليكِ دم يذبح في مكة للفقراء، إن كان لديكِ زوج قد جامَعَكِ، فإن لم يكن لديك زوج أو لديكِ ولم يحصل جماع فليس عليك دم. وعليكِ أن تطوفي للوداع عند السفر من مكة مع التوبة إلى الله - سبحانه - مما وقع منك. غفر الله لنا ولك ولكل مسلم.
باب صفة الحج والعمرة.
(7) أعمال يوم النحر.
السنة ترتيب أعمال يوم النحر.
س: ما هو الأفضل في أعمال يوم النَّحْر، وهل يجوز التَّقديم والتأخير؟ [339](/122)
ج: السُّنة في يوم النحر أن يرمي الجمرات، يبدأ برَمْي جمرة العقبة، وهي التي تلي مكة، ويرميها بسبع حصيات كل حصاة على حدة، يُكَبِّر مع كل حصاة، ثم ينحر هَدْيَه إن كان عنده هَدْي، ثم يحلق رأسه أو يقصره، والحلق أفضل. ثم يطوف ويسعى إن كان عليه سعي هذا هو الأفضل، كما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه رمى، ثم نحر، ثم حلق، ثم ذهب إلى مكة، فطاف - عليه الصلاة والسلام - هذا الترتيب هو الأفضل الرَّمْي، ثم النحر، ثم الحلق أو التقصير، ثم الطواف، والسعي إن كان عليه سَعْي. فإن قدم بعضها على بعض فلا حَرَج، أو نحر قبل أن يَرْمي، أو أفاض قبل أن يرمي، أو حلق قبل أن يرمي، أو حلق قبل أن يذبح كل هذا لا حرج فيه. النبي - صلى الله عليه وسلم - سُئِل عن من قدم أو أخر فقال: ((لا حرج، لا حرج))[340].
س: هل يجوز أن نرجم ونعود إلى النَّحْر قبل الطواف؟[341]
ج: السُّنَّة للحاج يوم العيد أربعة أمور، وقد تكون خمسة:
الأول: الرَّمْي، برمي الجمرة، أي: جمرة العقبة يوم العيد بسبع حصيات، إذا كان ما رماها في آخر الليل، يرميها بعد طلوع الشمس، كما رماها النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن رماها من الضعفة من النساء، والمرضى، وكبار السن، ومن معهم في النصف الأخير من ليلة مُزْدلفة أجزأهم ذلك. أمَّا الأقوياء: فالمشروع لهم أن يرموها ضحى بعد طلوع الشمس؛ كما رماها
النبي - صلى الله عليه وسلم -
الثاني: النَّحْر، نحر الهَدْي إذا كان عنده هَدْي، فإنه ينحره في مِنى، وهو الأفضل إذا وجد الفقراء، أو في مكة وفي بقية الحرم.
تنحر الإبل واقفة معقولة يدها اليسرى، وتُذْبح البقر والغنم على جنبها الأيسر مُوَجَّهَة إلى القبلة.(/123)
الثالث: الحَلْق أو التقصير. فالرَّجُل يحلق رأسه أو يقصره والحلق أفضل؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا للمُحلقينَ بالمغفرة والرحمة ثلاثًا، وللمقصرين واحدة. والمرأة تقصر فقط تقطع من أطراف شعر رأسها قليلاً، وإن كان رأسها ضفائر، فإنها تأخذ من طرف كل ضفيرة قليلاً.
الرابع: وهو طواف الإفاضة، ويسمى طواف الحج. وإذا كان عليه سَعْي صار خامسًا، هذا السَّعْي للمُتمتِّع فإنه عليه السَّعْي لحجه والأول لعمرته. وهكذا المُفرِد والقَارن إذا كانا لم يسعَيا مع طواف القُدوم.
وهذه الأمور التي تفعل يوم العيد، وهي خمسة: أولها الرَّمْي، ثم الذَّبْح، ثم الحلق أو التقصير، ثم الطواف، ثم السعي في حق من عليه سَعْي. وهذه الأمور قد شرع الله فَعَلَهَا ورتَّبَها النبي - صلى الله عليه وسلم - هكذا فإنه - صلى الله عليه وسلم – رمى، ثم نحر هَدْيَه، ثم حلق رأسه، ثم تطيب، وتوجه إلى مكة؛ للطواف - عليه الصلاة والسلام - لكن لو قدم بعضها على بعض فلا حرج، فلو نحر قبل أن يرمي، أو طاف قبل أن ينحر، فلا حرج في هذا؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - سُئِل عن ذلك فقال: ((لا حرج، لا حرج)) [342] عليه الصلاة والسلام.(/124)
والنساء قد يحتجْنَ إلى الذّهَاب إلى مكة للطواف قبل أن يحدث عليهن دورة الحيض، فلو ذهبت في آخر الليل، وقدمت الطواف قبل أن يصيبها شيء على الرَّمْي، أو على النَّحْر، أو على التقصير فلا بأس بهذا. فالأمر في هذا واسع، والحمد لله، وقد ثبت أن أم سلمة - رضي الله عنها - رمتِ الجمرة ليلة العيد قبل الفجر، ثم مضتْ إلى مكة فطافتْ طواف الإفاضة، وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه سأله سائل فقال: يا رسول الله، أفضتُ قبل أن أرمي فقال: ((لا حرج))، وسأله آخر فقال: "نحرت قبل أن أرمي". فقال: ((لا حرج))، قال الصحابي الراوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فما سُئِل يومئذ يعني - يوم النحر- عن شيء قُدم أو أُخر إلا قال: ((لا حرج، لا حرج)) عليه من ربه أفضل الصلاة وأزكى التسليم. وهذا من لطف الله - سبحانه - بعباده، فلله الحمد والمنة.
حكم من حلق قبل صلاة العيد
س - ما حُكْم من حلق قبل صلاة العيد في الحج؟ جزاكم الله خيرًا [343]
ج: هذا الأمر فيه تفصيل: فإن كان في الحج؛ فإنه يشرع له إذا رمى جَمْرة العقبة أن يحلق أو يُقَصِّر، أما الصلاة فليس عليه صلاة، فيرمي الجَمْرة ثم يحلق، وإذا حلق قبل الرَّمْي أجزَأَهُ ذلك، وقد سُئِل النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم العيد عمن قَدَّم وأخَّر فقال: ((لا حَرَجَ، لا حرج)) [344]؛ لكن السُّنَّة أن يَرْمِي، ثم يَنْحَر، ثم يحلق أو يقصر - والحَلْق أفضل - ثم يَطُوف طواف الإفاضة؛ لكن إن قَدَّم بعضها على بعض فلا حَرَج، وليس للحُجَّاج صلاة يوم العيد، لأنه يقوم مقامها رَمْي الجِمَار.
حكم من لم يعمم الرأس بالتقصير
س: ما الحكم فيمن اقتصر بشعرات أربع أو خمس؟[345]
ج: الواجب على الحاجِّ والمُعْتَمِر أن يُعَمِّم رأسه في الحَلْق والتقصير؛ كما فعل النبي - عليه الصلاة والسلام - وكما فعل أصحابه - رضي الله عنهم - بأمره.
حكم تقديم طواف الإفاضة، والسَّعْي قبل رَمْي جَمْرة العقبة(/125)
س: هل يجوز تقديم طَوَاف الإفاضة، والسَّعْي قبل رَمْي جمرة العقبة الكُبْرى، أو قبل الوُقوف بِعَرَفة؟ أفيدونا أفادكم الله[346]
ج: يجوز تقديم الطَّواف والسَّعْي للحج قبل الرَّمْي، لكن لا يجزئ طواف الحج قبل عرفات، ولا قبل نصف الليل من ليلة النَّحْر؛ بل إذا انْصَرَف منها ونزل من مُزْدَلِفَة ليلة العيد، يجوز له أن يطوف ويسعى في النصف الأخير من ليلة النَّحْر، وفي يوم النحر قبل أن يرمي. سَأَل رَجُل النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَفَضْتُ قبل أن أَرْمِي؟" قال: ((لا حَرَج))، فإذا نزل من مُزْدَلِفَة صباح العيد، أو آخر الليل، ولا سيما إذا كان من العجزة، ونزلوا آخر الليل؛ كالنساء وأمثالهم جاز لهم البَدْء بالطواف؛ لئلاَّ تحيض المرأة، وهكذا الرجل الضعيف يبدأ بالطواف ثم يرمي بعد ذلك ولا حَرَج في ذلك؛ لكن الأفضل أن يَرْمِي، ثم يَنْحَر الهَدْي إن كان عنده هَدْي، ثم يحلق، أو يُقَصِّر، والحلق أفضل، ثم يطوف فيكون الطواف هو الأخير؛ كما فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - حينما رمى الجَمْرة يوم العيد ثم نحر هَدْيَه، ثم حلق رأسه، ثم تَطَيَّب، ثم ركب إلى البيت فطاف؛ ولكن لو قدم بعضها على بعض بأن يَنْحَر قبل أن يرمي، أو حلق قبل أن ينحر، أو حلق قبل أن يرمي، أو طاف قبل أن يرمي، أو طاف قبل أن يَذْبَح، أو طاف قبل أن يَحْلِق، كل ذلك مُجْزِئ بحمد الله؛ لأنَّ الرسول - عليه أفضل الصلاة والسلام - سُئِل عن التقديم والتَّأْخِير فقال: ((لا حَرَج، لا حَرَج))[347].
إذا كان الحاجُّ ساكنًا في أدنى الحِلّ؛ فلا حَرَج في الذهاب إلى مسكنه قبل الطواف، والسَّعْي.
س: أنا أسْكُن على حدود الحرم من جهة التنعيم، فهل يجوز أن أذهب إلى منزلي قبل الطواف والسَّعْي للحج؟ أرجو التكرم بالإجابة، أثابَكُم الله [348].(/126)
ج: إذا كان الحاجُّ ساكنًا في أَدْنَى الحِلّ؛ كالشرائع أو نحوها، فلا حَرَج في الذهاب إلى مسكنه قبل الطَّواف، والسَّعْي.
التحلل الأول والتحلل الثاني
س: ماذا يُقْصد بالتَّحلُّل الأول، والتَّحلُّل الثاني؟[349]
ج: يُقصد بالتَّحلُّل الأول إذا فعل اثنينِ من ثلاثة، إذا رمى وحلق أو قَصَّر، أو رمى وطاف وسعى إن كان عليه سَعْي، أو طاف وسعى وحلق أو قصر، فهذا هو التَّحَلُّل الأول.
وإذا فعل الثلاثة: الرَّمْي، والطَّواف، والسَّعْي إن كان عليه سَعْي، والحلق أو التقصير، فهذا هو التَّحلُّل الثاني. فإذا فعل اثنينِ فقط: لبس المخيط، وتَطَيَّبَ، وحَلَّ له كل ما حُرِّمَ عليه بالإحرام ما عدا الجماع، فإذا جاء بالثالث حَلَّ له الجِمَاع.
وذهب بعض العلماء إلى أنه إذا رمى الجَمْرة يوم العيد، يحصُل له التَّحلُّل الأول، وهو قولٌ جيد، ولو فعله إنسان فلا حَرَج عليه - إن شاء الله - لكن الأَوْلَى والأَحْوَط ألاَّ يَعجَل حتى يفعل معه ثانيًا بعده الحَلْق أو التقصير، أو يضيف إليه الطَّواف والسَّعْي إن كان عليه سَعْي؛ لحديث عائشة - وإن كان في إسناده نَظَر - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا رَمَيْتُمْ وَحَلَقْتُمْ، فقد حَلَّ لكم الطِّيبُ، وكُلُّ شيء إلا النِّساءَ))، ولأحاديث أُخْرى جاءت في الباب؛ ولأنه - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا رَمَى الجَمْرة يوم العيد، ونَحَر هَدْيَه وحلق، طَيَّبَتْه عائشة. وظاهر النص أنه لم يَتطَيَّب إلا بعد أن رَمَى ونَحَر وحَلق. فالأَفْضل والأَحْوَط أن لا يتَحَلَّل التَّحلُّل الأول إلا بعد أن يَرْمِي، وحتى يحلق، أو يُقصِّر، وإن تَيَسَّر أيضًا أن يَنْحَر الهَدْي بعد الرَّمْي، وقبل الحَلْق فهو أفضل، وفيه جمعٌ بين الأحاديث.
س: ما هي الأمور التي يتحلل بها الحاجّ التَّحلُّل الأول والثاني، وهل لا بد من ترتيبها؟ وما معنى "يسوق الهدي" [350]؟(/127)
ج: يحصُل التَّحلُّل الأول باثنينِ من ثلاثة وهي: رَمْي جَمْرة العقبة يوم العيد، والحَلْق أو التقصير، وطواف الإفاضة مع السَّعْي في حق من عليه سَعْي، فإذا رَمَى الحاج، وحلق أو قصر، حصل له التحلُّل الأول، فله لبس المخيط مُطلقًا، وله الطِّيب، وقلم الأظافر، ونحو ذلك، ومتى طاف طواف الإفاضة وسعى - إن كان مُتمتِّعًا أو مُفردًا أو قارنًا ولم يسعَ مع طواف القُدُوم - حَلَّ له كل شيء حُرِّم عليه بالإحرام؛ من النساء، والطِّيب، ولبس المخيط، وغير ذلك.
أما "سوق الهَدْي" فمعناه: أن يسوق معه ناقة أو أكثر، أو بقرة أو أكثر، أو شاة أو أكثر هَدية؛ ليَذْبحها في مكة، فليس له التَّحلُّل حتى ينحر هَدْيَه، سواء ساق الهَدْي من بلده، أو من أثناء الطريق؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر من كان مَعَهُ هَدْي ألا يحلّ من إحرامه حتى يَنْحَر هَدْيَهُ يوم العيد، أو في أيام التَّشْرِيق.
ولا يجب الترتيب بين هذه الأمور المذكورة، فله أن يُقدِّم الطواف على الرَّمْي، وله أن يُقَدِّم الحَلْق أو التقصير على الرَّمْي والنَّحْر، ولكن الأفضل هو التَّرْتيب؛ كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم – فيرمي، ثم ينْحَر إن كان عنده أو عليه هَدْي، ثم يحلق، أو يقصر، ثم يطوف، ثم يَسْعَى إن كان عليه سَعْي، هذا هو الترتيب المشْرُوع.
متى تحل المرأة لزوجها الحاجّ
س: إذا طاف الحاجُّ طواف الإفاضة، فهل يحل له النساء مُدَّة أيام التشريق؟ [351](/128)
ج: إذا طاف الحاج طواف الإفاضة لا يحل له إِتْيان النساء إلاَّ إذا كان قد استَوْفَى الأمور الأُخرى؛ كرَمْي جَمْرة العَقَبة، والحَلْق أو التقصير، وعند ذلك يُباح له النساء وإلاَّ فلا. الطواف وحده لا يكفي، ولا بد من رَمْي الجَمْرة يوم العيد، ولا بد من حَلْق أو تقصير، ولا بد من الطواف والسَّعْي إن كان عليه سَعْي، وبهذا يحل له مُباشَرَة النساء، أما بدون ذلك فلا، لكن إذا فعل اثنينِ من ثلاثة بأن رَمَى وحلق أو قَصَّر، فإنه يُباح له اللبس والطِّيب ونحو ذلك، ما عدا النساء، وهكذا لو رَمَى وطاف، أو طاف وحلق، فإنه يحلُّ له الطِّيب واللباس المخيط، ومثله الصيد، وقَصّ الظُّفْر، وما أشبه ذلك، لكن لا يحلّ له جِمَاع النساء إلا باجتماع الثلاثة: أن يرْمِيَ جَمْرة العَقَبة، ويَحْلِق أو يُقَصِّر، ويَطُوف طواف الإفاضة، ويسْعَى إن كان عليه سَعْي كالمُتَمَتِّع، وبعد هذا تحل له النِّساء. والله أعلم.
باب صفة الحج والعمرة
(8) المبيت بمِنى أيام التشريق
حُكْم المبيت خارج مِنى أيام التشريق
س: ما حكم المَبِيت خارج مِنى أيام التشريق: سواء كان ذلك عمدًا، أو لتَعذُّر وجود مكان فيها؟[352]
ج: المبيت في مِنى واجب على الصحيح ليلة إحدى عشرة، وليلة اثنتي عشرة، هذا هو الذي رجَّحَه المُحقِّقُون من أهل العلم على الرجال والنساء من الحُجَّاج، فإن لم يجدوا مكانًا سَقَط عنهم، ولا شيء عليهم، ومن تَرَكَه بلا عُذْر فعليه دم.
حكم تَرْك المبيت بمِنى يومَيْنِ أو ثلاثة
س: ما حكم من تَرَك المبيت في مِنى ثلاثة أيام أو اليومينِ المذكورينِ للمتعجِّل؟ فهل يلزمه دم عن كل يوم فَاتَه المبيت فيه في مِنى، أم عليه دم واحد فقط لكل الأيام الثلاثة، التي لم يَبِتْ فيها بمِنى؟ نرجو توضيح ذلك مع ذِكْر الدليل؟[353](/129)
ج: مَنْ تَرَك المبيت بمِنى أيام التشريق بدون عُذْر فقد تَرَك نُسُكًا شرعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله وفعله وبدلالة ترخيصه لبعض أهل الأعذار، مثل: الرُّعاة، وأهل السِّقاية، والرُّخصة لا تكون إلا مُقابل العزيمة؛ ولذلك اعتبر المبيت بمنى أيام التشريق مِن واجبات الحج في أصح قولي أهل العلم، ومن تَرَكَه بدون عُذر شرعي فعليه دم؛ لِمَا ثبت عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: "مَنْ تَرَك نُسُكًا أو نَسِيَه فليهرق دمًا"[354]، ويكفيه دم واحد عن تَرْك المبيت أيام التشريق، والله ولي التوفيق.
س: ما الحكم إذا لم يستطِعِ الحاجُّ المبيت في مِنى أيام التشريق؟[355]
ج: لا شيءَ عليه؛ لقول الله - سبحانه وتعالى -: {فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [356]، سواء كان تَرْك المبيت لِمَرض، أو عدم وجود مكان، أو نحوهما من الأعذار الشرعية؛ كالسقاة، والرعاة، ومَنْ في حُكْمهما.
حكم من تَرَك المبيت بمِنى ليلة واحدة لِمَرض
س: ما حكم من تَرَك المبيت في مِنى ليلة واحدة، وهي ليلة الحادي عشر، وذلك بأن كان الحاج مريضًا، ولم يستطع المبيت في مِنى تلك الليلة؛ ولكنه رَمَى الجِمَار نهارًا بعد الزَّوَال؛ أي رَمَى جِمَار يوم الحادي عشر مِن أيام التشريق مع جِمَار اليوم الثاني عشر في النَّهار بعد الزَّوَال. فهل يلزمه دم في هذه الحالة، حيث إنه تَرَك مَبيت ليلة الحادي عشر بمِنى، مع العلم أنه بات ليلة الثاني عشر في مِنى، ورَمَى الجِمَار بعد الزوال من ذلك اليوم، ثم ارْتَحَل عن مِنى إلى مكة؟ نرجُو توضيح ذلك مع ذِكْر الدليل؟[357]
ج: ما دام تَرَك المبيت بمِنى ليلة واحدة لعُذْر المرض فلا شيءَ عليه؛ لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [358]؛ ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخَّصَ للسقاة والرعاة في تَرْك المبيت بمِنى؛ من أجل السقي والرعي. والله أعلم.
حكم مَن تَرَك المبيت بمِنى لتعذُّر المكان(/130)
س: إذا لم يجد الحاج مكانًا يَبيتُ فيه بمِنى، فماذا يفعل؟ وهل إذا بات خارج مِنى عليه شيء؟ [359]
ج: إذا اجتهد الحاج في الْتِمَاس مكان في مِنى؛ ليبيت فيه ليالي مِنى فلم يجد شيئًا، فلا حَرَج عليه أن ينزل في خارجها؛ لقول الله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}[360]، ولا فِدْيَة عليه من جِهة تَرْك المبيت في منى؛ لعدم قُدرته عليه.
سماحة الوالد الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز وفَّقه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
أسعد الله أوقاتكم بالصحة والعافية. لدي سؤال يتعلَّق بالمبيت خارج مِنى في مُزْدلفة، فما حكم المبيت في هذا الموقع؟ وهل صحيح أن اتصال مُخَيَّمَات الحُجاج بعضهم مع بعض من مِنى إلى مُزدلفة يَجْعَل مَنْ كان خارج مِنى بمنزلة مَن كان بداخل منى؟ أفيدونا جزاكم الله خيرًا.[361]
ج: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، وبعد:
المبيت في مِنى واجب من واجبات الحج، على كل حاجّ مع القُدرة إلا السقاة والرعاة، ومَنْ في حكمهما، فمن عجز عن ذلك فلا شيء عليه؛ لقول الله – سبحانه -: {فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}[362]، وبذلك يعلم أن مَنْ لم يَجِد مكانًا في مِنى فله أن ينزل خارجها في مُزدلفة والعزيزية أو غيرهما؛ للآية المذكورة وغير هذه من الأدلة الشرعية، إلا وادي مُحَسِّر، فإنه لا ينبغي النُّزول فيه؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا مَرَّ عليه أسرع في الخُروج منه. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
س: نظرًا لكون مكان المُخَيَّم خاضِعًا لتوزيع وزارة الحج والأوقاف، وإمارة منطقة مكة حيث يتم توزيع الأراضي بمِنى من قِبَلِهِم، ولا يحق لأي مُخَيَّم رَفْض الأرض التي أُعْطِيَت له، ولو كانت خارج حُدود مِنى.(/131)
وحيث إن الوزارة تقول: إن منى لا تستوعب أعداد الحُجاج المُتَزايدَة وأنها تضيق بهم، لذا فقد سلموا للحملة أرضًا على حُدود منى من الخارج، علمًا بأننا حاولنا استبدال الأرض، ولكن دون جَدْوَى، فوافقنا مُضطرِّينَ على الموقع؛ لما يتمَيَّز به من توفير الخدمات كافة، ودَوَرات المِياه، والكهرباء، وغيرها.
فما الحكم الشرعي في هذا الأمر؟ وما توجيه فضيلتكم لنا ولحُجَّاجنا؟ جزاكم الله خيرًا.[363]
ج: لا حرج عليكم في ذلك، ولا فِدْية؛ لقول الله – سبحانه -: {فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}[364]؛ وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما اسْتَطَعْتُمْ))[365]، وفَّق الله الجميع.
حكم الجلوس نهارًا خارج مِنى في يوم العيد، وأيام التشريق
س: هذا شخص أفاض مِنْ عرفات، ثم رمى الجَمْرة الأُولَى، ثم طاف وَسَعَى، فجلس في منزل بمكة حتى العصر، ثم رجع لمِنى وذبح هَدْيَه. هل عليه شيء في هذا الجلوس؟[366]
ج: لا حَرَج عليه في ذلك، فمن جلس في مكة في نهار يوم العيد أو في أيام التشريق في بيته، أو عند بعض أصحابه فلا حَرَج عليه في ذلك، وإنما الأفْضَل الْبَقَاء في مِنى إذا تَيَسَّر ذلك؛ تأسِّيًا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه - رضي الله عنهم - فإذا لم يَتَيَسَّر له ذلك أو شقّ عليه ودخل مكة وأقام بها في النهار، ثم رجع في الليل لمِنى وبات فيها فلا بأس بهذا ولا حرج. أمَّا الرَّمْي في أيام التشريق فيكون بعد الزوال ولا يجوز قبله، ومن رَمَى في الليل فلا بأسَ في اليوم الذي غابَتْ شَمْسُه لا عن اليوم المستقبل إذا لم يَتَيَسَّر له الرَّمْي بعد الزوال، فإن تيسَّر قبل الغُروب فهو أفضل.
باب صفة الحج والعمرة
(9) رَمْي الجِمَار أيام التشريق
حكم الرَّمْي بالليل[367](/132)
إن وقت رَمْي الجِمَار أيام التشريق مِنْ زَوَال الشمس إلى غُروبها؛ لما رواه مسلم في صحيحه أن جابرًا - رضي الله عنه - قال: "رَمَى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم النَّحْر ضحى، ورمى بعد ذلك بعد الزوال"[368]، وما رواه البُخَاري عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه سُئِل عن ذلك فقال: "كنا نَتَحَيَّنُ، فإذا زالت الشمس رَمَيْنا"[369]. وعليه جمهور العلماء، ولكن إذا اضطر إلى الرَّمْي ليلاً فلا بأس بذلك، ولكن الأَحْوَط الرَّمْي قبل الغروب لِمَنْ قدر على ذلك؛ أَخْذًا بالسُّنَّة، وخُروجًا من الخِلاف، وأمَّا الحديث الصحيح الذي رواه البخاري في
صحيحه عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُسْأَل يوم النحر بمِنى فيقول: ((لا حَرَج))، فسأله رجل: "حلقت قبل أن أذبح" قال: ((اذْبَح ولا حَرَج))، فقال: "رميت بعدما أمسيت"، فقال: ((لا حرج))[370]. فهذا ليس دليلاً على الرَّمْي بالليل؛ لأن السائل سَأل النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم النحر فقوله: "بعدما أمسيت"؛ أي بعد الزوال، ولكن يُسْتَدل على الرَّمْي بالليل بأنه لم يرد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نصّ صريح يدل على عدم جواز الرَّمْي بالليل، والأصل جوازه؛ لكنه في النهار أفضل وأَحْوَط، ومتى دَعَتِ الحاجة إليه ليلاً فلا بأس به في رَمْي اليوم الذي غابتْ شَمْسُه إلى آخر الليل. أما اليوم المستقبل فلا يرمى عنه في الليلة السابقة له ما عدا ليلة النَّحْر في حق الضعفة في النصف الأخير، أمَّا الأقوياء فالسُّنَّة لهم أن يكون رَمْيهم جَمْرة العَقَبَة بعد طُلوع الشمس؛ كما تَقدَّم في الأحاديث الوَارِدة في ذلك. والله أعلم.
س: هل يجوز رَمْي الجمرات الثلاث في أيام التشريق ليلاً، لِمَنْ ليس لديه عُذْر؟[371](/133)
ج: يجوز الرَّمْي بعد الغُروب على الصحيح، لكن السُّنَّة أن يَرْمِي بعد الزوال قبل الغُروب، وهذا هو الأفضل إذا تَيَسَّر، وإذا لم يَتَيَسَّر فله الرَّمْي بعد الغروب على الصحيح.
حُكْم مَنْ لم يَرْمِ اليوم الثاني عشر وهو يَنْوي التعجل
س: رجل حج هذا العام ولم يَرْمِ اليوم الثاني عشر، وكان ينوي التعجل فماذا عليه؟[372]
ج: عليه التوبة والاستغفار وعليه دم، ذبيحة عن تَرْك الرَّمْي، وذبيحة عن تَرْك الوداع؛ لأن الوداع لا يُجْزِئ قبل الرَّمْي. إذا كان وادَعَ قبل الرَّمْي لا يجزئ، أما إذا كان وادع بعد ذهاب وقت الرَّمْي فليس عليه شيء عن الوَداع؛ ولكن عليه ذبيحة تُذْبح في مكة للفُقراء عن تَرْكِه الرَّمْي في اليوم الثاني عشر.
من بقي في منى حتى أدركه الليل من الليلة الثالثة عشرة لزمه المبيت والرمي
س: ما حكم من مكث يَومَينِ بعد العيد وبات ليلة اليوم الثالث، هل يجوز له أن يَرْمِي بعد طلوع الفجر أو بعد طلوع الشمس إذا بدت له ظروف قاسية؟[373]
ج: من بقي في مِنى حتى أدْرَكَهُ الليل في الليلة الثالثة عشرة لزمه المبيت، وأن يرمي بعد الزوال، ولا يجوز له الرَّمْي قبل الزوال؛ كاليَوْمينِ السابقينِ، ليس له الرَّمْي فيهما إلا بعد الزوال؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقي في مِنى اليوم الثالث عشر ولم يَرْمِ إلا بعد الزوال، وقال: ((خُذوا عني مَناسككم))[374] - صلى الله عليه وسلم -.
حكم من لم يَسْتطِع رَمْي الجمرات قبل غروب يوم الثالث عشر
س: لو لم يستطِعْ أحد الحُجاج أن يَرْمِي الجمرات يوم الثالث عشر، وهذا آخر أيام التشريق إلا بعد الغروب، هل يجزئه ذلك؟[375]
ج - إذا غابت الشمس لم يبقَ رَمْي في اليوم الثالث عشر، فإن كان مُقِيمًا حتى جاء اليوم الثالث عشر في مِنى فعليه الرَّمْي، فإذا غابت الشمس ولم يَرْمِ فعليه دم؛ لأن الرَّمْي ينتهي بِغُروب الشمس يوم الثالث عشر.
حكم الرمي قبل الزوال(/134)
من عبدالعزيز بن عبدالله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم م. ح. ج. وفقه الله لكل خير، آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
يا محب، كتابكم الكريم المؤرخ في 17/12/1388هـ وصل وصلكم اللهُ بِهُداه، وما تضمنه من الإفادة عن حجك أنت وعائلتك المكونة من زَوْجتَيْنِ وعِدَّة أطفال، وأنك في اليوم الثالث من أيام التشريق رجمت عن الجميع قبل الزوال بسبب أنك مُصاب بمرض الرَّبْو، ورغبتك في إفتائك عما يترتب عليك من كَفَّارة كان معلومًا[376]
والجواب: لا يجوز الرجم قبل الزوال؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رمى بعد الزوال في جميع أيام التشريق، وقال: ((خُذوا عني مناسككم))[377]، ولذلك يلزمك دم عنك، وعن كل فَرْد من أفراد عائلتك الذين حجوا معك، والدم المذكور كالضحية سبع بَدَنة، أو سبع بقرة، أو ثِنِي معز، أو جذع ضَأْن عن كل واحد يُذْبَح في الحرم، ويُقَسَّم بين فُقرائه، فإن كنت لم تَنْوِ الحج عن بعض الأطفال، فليس على من لم تَنْوِ عنه الحج شيء.
وفق الله الجميع للعلم النافع والعمل الصالح، إنه جَوَاد كريم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
حكم تأخير رَمْي الجمار إلى آخر يوم ورميها دُفْعَة واحدة
س: هل يجوز رَمْي الجمرات في آخر أيام التشريق دُفْعَة واحدة، وفي فترة واحدة عن جميع أيام التشريق؟ وإذا كان الأمر كذلك فكيف يكون الرَّمْي؟ ومتى؟ ولِمَن؟[378](/135)
ج: المشروع للمؤمن في الحج أن يَرْمِي؛ كما رمى النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع، فيَرْمِي جَمْرة العقبة يوم العيد بسبع حصيات، يُكَبِّر مع كل حصاة، ثم يَرْمِي يوم الحادي عشر الجمرات الثلاث بعد الزوال، ويرمي كل واحدة بسبع حصيات، يُكَبِّر مع كل حصاة، ويبدأ بالتي تلي مسجد الخيف، ثم الوُسْطَى ثم جَمْرة العقبة التي تلي مكة، وهي التي رماها يوم العيد، ثم يَرْمِي في اليوم الثاني عشر الجِمَار الثلاث بعد الزوال؛ كما رماها في اليوم الحادي عشر، والمشروع له أن يقف بعد رَمْي الجَمْرة الأولى في اليوم الحادي عشر، واليوم الثاني عشر، ويرفع يديه ويدعو ويجعلها عن يَسارِه، وهكذا بعد الثانية بعد الرَّمْي يقف ويرفع يديه ويدعو، ويجعلها عن يمينه؛ تأسِّيًا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك. أما الجمرة الثالثة وهي جمرة العقبة، فإنه يرميها ولا يقف عندها للدعاء.
ثم إن شاء تَعجَّل قبل الغروب وتَوجَّه إلى مكة، وإن شاء بقي في مِنى، وبات بها في الليلة الثالثة عشرة، ورَمَى الجمرات الثلاث في اليوم الثالث عشر بعد الزوال؛ كما رماها في اليوم الحادي عشر وفي اليوم الثاني عشر، وهذا هو الأفضل إذا تيسَّر ذلك؛ تأسِّيًا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه لم يتعجل، ولو أخَّر الحاجّ رَمْي الحادي عشر والثاني عشر، ورماها في اليوم الثالث عشر مُرَتَّبة بعد الزوال، أجْزَأَه ذلك؛ ولكنه يعتبر مُخَالفًا للسُّنَّة، وعليه أن يُرَتِّبَها فيبدأ برَمْي الحادي عشر في جميع الجمرات الثلاث مُرَتَّبَة، ثم يعود برَمْيها عن اليوم الثاني عشر، ثم يعود، ويرْمِيها عن الثالث عشر؛ كما نصّ على ذلك كثيرٌ من أهل العلم. والله ولي التوفيق.(/136)
س: هل يجوز للحاج رَمْي جِمَار أيام التشريق كلها في يوم واحد، سواء كان ذلك اليوم هو أول يوم من أيام التشريق، أو كان النَّحْر مثلاً، أو أكان آخر يوم من أيام التشريق، ثم يَبِيت في مِنى اليومينِ أو الأيام الثلاثة بدون رَمْي، حيث إنه قد رَمَى جميع الجِمَار في يوم واحد، فهل يَصِحّ رَمْيه هذا؟ أم إنه لا بُدَّ مِنْ ترتيب رَمْي الأيام كل يوم على حِدَة، حتى ينتهي من رَمْي الأيام الثلاثة؟ نرجو توضيح ذلك مع ذِكْر الدليل[379]
ج: رَمْي الجِمَار من واجبات الحج، ويجب في يوم العيد وأيام التشريق الثلاثة لغير المتعجل، وفي اليومينِ الأولينِ من أيام التشريق للمتعجل، ويرمي عن كل يوم بعد الزوال؛ لفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وقوله: ((خُذوا عني مَناسِككم))[380] إلا يوم العيد فكله وقت رَمْي، والأفضل أن يكون بعد طُلوع الشمس إلا أهل الأعذار فلهم الرَّمْي ليلاً بعد نصف الليل من ليلة النَّحْر، ولا يجوز تقديم رَمْي الجِمَار قبل وقته، أمَّا التأخير فيجوز عند الحاجة الشديدة؛ كالزحام عند جَمْع من أهل العلم؛ قِياسًا على الرعاة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رَخَّص لهم بأن يرموا رَمْي يومينِ في اليوم الثاني منهما وهو الثاني عشر ويرتب ذلك بالنية؛ أولها يوم العيد ثُم رَمْي اليوم الأول ثم الثاني ثم الثالث إن لم يتعجل، ويكون طواف الوداع بعد ذلك، والله أعلم.
حكم مَن رَمَى الجِمَار دون ترتيب جهلاً
س: رجل حج العام الماضي، وفي آخر يوم رجم الكبير قبل الصغير، فماذا عليه؟[381](/137)
ج: نرجو ألا يكون عليه شيء لأجل الجَهْل أو النسيان؛ لأنه قد حصل المقصود وهو رَمْي الجمرات الثلاث؛ لكنه نسي أو جهل الترتيب، وقد قال الله - سبحانه وتعالى -: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا}[382]، وقد صَحّ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الله قال: "قد فعلت"[383]، والمعنى أن الله قد أجاب دعوة المُؤمنينَ؛ ولكن من نَسِيَه أو ذكر قبل فوات الوقت لزمه رَمْي الثانية ثم جَمْرة العقبة حتى يحصل بذلك الترتيب
حكم من رمى الشاخص
س: رميت الجمرات، وكانت في العمود التي في وسط الدائرة، ولم أدر هل سقطتْ بالداخل أم لا، هذا في الجمرة الكبرى فما الحكم؟[384]
ج: لا بد أن يعلم الحاج أن الحَصَى سقط في الحَوْض أو يغلب على ظَنِّه ذلك، أما إذا كان لا يعلم ولا يغلب على ظنه فإن عليه الإعادة في وقت الرَّمْي، وإذا مضى وقت الرَّمْي ولم يُعِد فعليه دم يذبحه في مكة للفُقراء؛ لأنه في حُكْم التارِك للرَّمْي، ولا بد أن يتحقَّق وجود الحَصَى في الحوض، أما الشَّاخِص فلا يُرْمَى، وإنما الرَّمْي في الحَوْض فقط، وإذا لم يغلب على ظَنِّه أنه وقع في الحَوْض فعليه دم إذا لم يكن أَعادَه، أما إذا كان في وقت الرَّمْي، فيعيد ولا شيء عليه.
والدم ذبيحة تُذْبَح في مكة للفُقراء مع التوبة والاستغفار، والرَّمْي إذا فات وقته لا يقضى بعد نهاية غروب شمس الثالث عشر.
من تَرَك الرَّمْي فعليه دم
س: في الحج الماضي رَمَتْ زوجتي الجمرة الأولى والباقي قمت بالرَّمْي عنها؛ خوفًا من الزِّحام ولم يكن هناك زحام، فهل يصح حجها والحال ما ذكر؟[385]
ج: الحج صحيح وعليها دم عن تَرْك الرَّمْي يُذْبَح في مكة ويُوزع بين الفقراء. والدم الواجب سبع بَدَنة، أو سبع بقرة، أو رأس من الغنم يجزئ في الأضحية، وهو جذع ضَأْن، أو ثِنِي من المعز.
التوكيل في الرَّمْي لمن معها أطفال(/138)
س: حججتُ في العام الماضي - ولله الحمد - وقد رميتُ الجمرات عن زوجتي، ولم تكن حاملاً، ولا مريضة، وكان معنا أربعة أطفال صغار، شاهدتُ الزحام فلم أرها تستطيع الرَّمْي، فهل يجوز التوكيل، أم إنها تركت واجبًا؟ وماذا عليها الآن؟[386]
ج: إذا كان الحال كما ذكرتم فلا شيء عليها إذا كانت قد وكَّلَتْكَ في ذلك؛ لأن تَعاطِيها الرَّمْي مع الأطفال فيه خطر عظيم عليها وعلى الأطفال.
الحكمة من رمي الجمرات
س: ما الحِكْمة من رَمْي الجمرات، والمبيت في مِنى ثلاثة أيام، نأمل من فضيلتكم إيضاح الحكمة من ذلك ولكم الشكر؟[387]
ج: على المسلم طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - واتِّباع الشَّرْع، وإن لم يعرف الحكمة، فالله أَمَرَنا أن نَتَّبِع ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأن نَتَّبِع كِتَابه، قال – تعالى -: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ}[388]، وقال – سبحانه -: {وهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ}[389]، وقال – سبحانه -: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ}[390]، وقال - عز وجل -: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}[391]. فإن عُرِفت الحكمة فالحمد لله، وإن لم تعرف فلا يضُرّ ذلك، وكل ما شَرَعَه الله هو لِحِكْمة، وكل ما نهى عنه هو لحكمة، سواء علمناها أو جهلناها، فرَمْي الجِمَار واضح بأنه إِرْغَام للشيطان، وطاعة لله - عَزَّ وجل - والمبيت في مِنى الله أعلم بحكمته - سبحانه وتعالى - ولعلّ الحكمة في ذلك تسهيل الرَّمْي إذا بات في مِنى؛ ليشتغل بذِكْر الله، ويستعد للرَّمْي في وقته لو شاء الذهاب في الوقت المُحَدَّد للرَّمْي حسبما يتناسب معه، فلَرُبَّمَا تأخَّر عن الرَّمْي، وربما فَاتَه، وربما شُغِل بشيء لو لم يَبِتْ بمِنى. والله - جَلَّ وعلا - أعلم بالحكمة - سبحانه وتعالى - في ذلك.
دعوة لعدم التعجُّل في رَمْي الجمرات [392](/139)
دعا سماحة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز مفتي عام المملكة ورئيس هيئة كبار العلماء والرئيس العام لإدارة البحوث العلمية والإفتاء حُجاجَ بيت الله الحرام إلى أن لا يتعجلوا في رَمْي الجمرات، وأن يبتعدوا عن الزِّحام، والرفق ببعضهم البعض؛ لأن المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يُؤذِيه.
جاء ذلك في إجابة سَمَاحته عن سؤال (اليوم) حَثَّ فيها سماحته الجميعَ على ضرورة التَّرَاحُم والتَّعاطُف، وعدم الإيذاء، وبَيَّنَ سماحته أن رَمْي الجمرات مِنْ واجبات الحج، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((خذوا عني مناسككم)) [393]، وقال: "إنَّ الواجب على كل حاجّ أن يَرْمِي الجمرة إذا استطاع، إلا إذا كان عاجزًا، وكبير السن؛ فإنه يوكل من يَرْمِي عنه، ومثل الطفل يرمي عنه وَلِيُّه، والمشروع للمؤمنينَ عدم التَّزاحُم، والرفق ببعضهم البعض، كل واحد يرفق بأخيه فلا يَظْلِمُه؛ لأن المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يُؤذِيه، وإذا شق عليه الرَّمْي في أول الزَّوَال فعليه أن يتأخَّر، ويَرْمِي في العصر أو في الليل، والحمد لله كله رَمْي إلى طلوع الفجر من الزوال إلى آخر الليل. ويوم العيد كله رَمْي، ويوم الحادي عشر والثاني عشر يَرْمِي بعد الزوال إلى آخر الليل.
واختتم سماحته تصريحه سائلاً الله - سبحانه وتعالى - التوفيق والهداية لحُجَّاج بيت الله، وللمسلمين كافة.
المراد باليومينِ للمتعجل(/140)
س: بعض الناس يمكُثُون بمِنى ليلة واحدة، وهي ليلة الحادي عشر، ويرمون الثاني عشر في يوم الحادي عشر، ويظنون أنهم قد مكثوا يومَينِ، وذلك لأنهم يحسبون يوم العيد يومًا من أيام التشريق، فيقولون: نحن قد رَمَيْنَا يوم العيد (يوم النَّحْر)، واليوم الثاني الذي بعده، وهو يوم الحادي عشر، ويقولون: إن هذينِ يومان؛ استنادًا إلى الآية الكريمة في قوله – تعالى -: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ}[394]، وبذلك يُغادِرُون مِنى يوم الحادي عشر بعد أن يكونوا قد رموا اليوم الثاني عشر في يوم الحادي عشر، ويتركون بيات يوم الثاني عشر في مِنى، فهل هذا يجوز شرعًا؟ وهل يصح للإنسان أن يحسب يوم العيد من اليومَينِ أم أنهم قد رموا يوم الثاني عشر في يوم الحادي عشر ثم انصرفوا من مِنى؟ نرجو توضيح ذلك مع ذِكْر الدليل[395]
ج: المُراد باليومينِ اللَّذَينِ أباح الله - جل وعلا - للمتعجل الانصراف مِنْ مِنَى بعد انقضائهما. هما ثاني وثالث العيد؛ لأن يوم العيد يوم الحجّ الأكبر، وأيام التشريق هي ثلاثة أيام تَلِي يوم العيد، وهي محل رَمْي الجمرات، وذِكْر الله - جل وعلا - فمن تعجَّل انصرف قبل غروب الشمس يوم الثاني عشر، ومن غربتْ عليه الشمس في هذا اليوم وهو في مِنى لزمه المبيت والرَّمْي في اليوم الثالث عشر. وهذا هو الذي فعلَهُ النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، والمُنْصَرِف في اليوم الحادي عشر قد أخَلّ بما يَجِب عليه من الرَّمْي، فعليه دم يُذْبَح في مكة للفقراء. أما تَرْكه المبيت في مِنى ليلة الثاني عشر فعليه عن ذلك صدقة، بما يتيسَّر مع التوبة والاستغفار عما حصل منه من الخَلَل والتعجل في غير وقْتِه، وإن فدى عن ذلك كان أَحْوَط؛ لما فيه من الخُروج من الخلاف؛ لأن بعض أهل العلم يرى عليه دمًا بتَرْك ليلة واحدة من ليلتي: الحادي عشر، والثاني عشر بغير عُذْر شَرْعِيّ.
وقت النفر من منى(/141)
س: متى يبدأ الحاج بالنَّفِير من مِنى؟[396]
ج: يبدأ الحاج بالنَّفِير من مِنى إذا رَمَى الجمرات يوم الثاني عشر بعد الزَّوال فله الرُّخْصة أن ينزل من مِنى. وإن تأخَّر حتى يَرْمِي الجمرات في اليوم الثالث عشر بعد الزَّوَال فهو أفضل.
س: جماعة في وقت الحج، وبعد رَمْي الجمرات لليوم الثاني عشر نَوَوا الخروج من مِنى؛ ولكن لم يستطيعوا الخُروج إلا بعد غروب الشمس بوقت؛ نظرًا للزِّحام، فهل يلزمهم المبيت لأداء الرَّمْي من الغَد؟[397]
ج: إذا كان الغُروب أدركهم وقد ارْتَحَلُوا فليس عليهم مبيت، وهم في حكم النافرينَ قبل الغروب، أما إن أدْرَكَهُم الغروب قبل أن يرتَحَلُوا، فالواجب عليهم أن يَبِيتُوا تلك الليلة - أعني ليلة ثلاث عشرة - وأن يرموا الجِمَار بعد الزَّوال في اليوم الثالث عشر، ثم بعد ذلك ينفرون متى شاؤوا؛ لأن الرَّمْي الواجب قد انتهى في اليوم الثالث عشر، وليس عليهم حَرَج في المبيت في مِنى أو مكة، ولا رَمْي عليهم بعد رَمْي اليوم الثالث عشر سواء باتوا في مكة، أو في مِنى. وأسأل الله أن يمنحنا وإياكم الفِقْه في دينه، والثَّبات عليه، إنه جَواد كريم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
باب صفة الحج والعمرة
(10) طواف الوداع
حكم طواف الوداع
س: هل طواف الوَداع واجبٌ على من أراد الخُروج من مكة المكرمة في أي حالة، أو مُسْتَحب، أو سُنَّة؟ [398](/142)
ج: طواف الوداع في وُجُوبِه خلاف بين العلماء، والصحيح أنه واجب في حق الحاج ومُستَحبّ في حق المُعتمِر؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - للناس في حجة الوداع: ((لا ينفرن أحد منكم حتى يكون آخر عهده بالبيت)) [399]؛ رواه مسلم، وفي الصحيحينِ عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: "أُمِر الناس أن يكون آخر عَهْدِهم بالبيت؛ إلا أنه خَفَّف عن المرأة الحائض"[400]، وبذلك تَعْلم حُكم طواف الوداع من هذينِ الحديثَينِ الشريفَينِ، والعمرة تُشْبِه الحج؛ لأنها حج أصغر. والحائض لا وَدَاع عليها وهكذا النفساء؛ لأنها مثلها في الحكم. والله الموفق.
طواف الوداع خاص بالمُسافِر إلى أهله
س: إذا أَدَّى الحاج العمرة، وخرج بعد ذلك لزيارة أقربائه خارج الحرم، هل يلزمه طواف الوداع؟ وهل عليه شيء في ذلك؟[401]
: ليس على المُعتمِر ودَاع إذا أراد الخُروج خارج الحرم في ضَواحي مكة؛ وهكذا الحاج؛ لكن متى أراد السفر إلى أهله أو غير أهله شرع له الوداع، ولا يجب عليه لعدم الدليل، وقد خرج الصحابة - رضي الله عنهم وأرضاهم - الذين حلوا من عمرتهم إلى مِنى وعرفات، ولم يُؤْمَرُوا بِطَواف الوَدَاع. أما الحاجّ فيلزمه طواف الوداع عند مُغادَرَتِه مكة مُسافرًا إلى أهله، أو غير أهله؛ لقول ابن عباس - رضي الله عنهما -: "أُمِر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خَفَّف عن المرأة الحائض" [402]؛ متفق عليه، وقوله "أمر الناس" يعني بذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرهم، ولهذا جاء في الرواية الأخرى عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا يَنْفرنّ أحد منكم حتى يكون آخر عهده بالبيت))؛ [403]؛ رواه مسلم. ومن هذا الحديث يعلم أن الحائض ليس عليها وداع لا في الحج ولا في العمرة، وهكذا النفساء، لأنها مثلها في الحكم عند أهل العلم.(/143)
س: أنا مُقيم وأعمل في الرِّياض، وكل سنة أذهب إلى مكة مع عائلتي، وشاء الله أن تَمَّ لي الحج وحدي، فأرسلت زوجتي وأولادي إلى بيت أهلها في جدة، وعندما انتهيت من الحج قمت بطواف الإفاضة والسَّعْي ثم نزلت إلى مكة. فهل يجوز لي الذهاب إلى جدة
(دون طواف الوداع) لإحضار زوجتي وأولادي والجلوس في مكة إلى حين السفر إلى الرياض حيث إقامتي وعملي؟ [404]
ج: يجوز لك الذهاب إلى جدة لإحضار أهلك إلى مكة قبل طواف الإفاضة والسَّعْي في أيام منى، وليس عليك طواف وداع، حتى تَرْمِي الجِمَار يوم الثاني عشر بعد الزَّوَال، فإذا أردتَ الخروج إلى جدة أو غيرها فعليك أن تطوف للوداع إذا كنت قد طُفْتَ طواف الإفاضة والسَّعْي.
أما إذا كنت لم تَطُفِ الإفاضة ولم تَسْعَ، فلا حَرَج أن تَذْهَب إلى جدة لإحضار زوجتك إلى مكة، وليس عليك طواف وداع؛ لأنك والحال ما ذُكِر لم تكمل الحج، وطواف الوداع إنَّمَا يجب بعد إتمام مَناسك الحج إذا أراد الحاج السفر إلى بلده أو إلى غيره؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا ينفرن أحد منكم حتى يكون آخر عهده بالبيت))[405]؛ أخرجه مسلم في صحيحه؛ ولقول ابن عباس - رضي الله عنهما -: "أُمِر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خَفَّفَ عن المرأة الحائض"[406]؛ مُتَّفِق على صحته. والنفساء مثل الحائض ليس عليهما طواف وداع.
س: هل على أهل مكة طواف وداع خلاف طواف الإفاضة؟[407]
ج: ليس على أهل مكة طواف وداع.
من تَرَك طواف الوداع فعليه دم، مع التوبة والاستغفار
س: ما حكم مَن تَرَك طواف الوداع، وهل يجوز للحاج أن يوكل أحدًا عنه بذلك؟[408]
ج: من ترك طواف الوداع عليه التوبة والاستغفار، وعليه دم يُذْبَح في مكة المكرمة، ويطعم فقراءها مع التوبة والاستغفار، وليس له التوكيل، وأن يطوف بنفسه.
س: قبل سبع سنين حججنا وتَرَكْنا طواف الوداع، ورجعنا إلى جدة فهل حجنا صحيح، ماذا يلزمنا؟ [409](/144)
ج: الحج صحيح، ولكن أسَأْتُمْ في تَرْك الوداع؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمر الحاج بالوداع قال - صلى الله عليه وسلم -: ((لا ينفرن أحد منكم حتى يكون آخر عهده بالبيت))[410]، وهذا خطاب للحجاج يشمل أهل جدة وغيرهم، فالواجب على جميع أهل البلدان - سواء في جدة أو الطائف وغيرهم - أن يُودِّعُوا البيت، وقد تَسامَح بعض العلماء في هذا بالنسبة لمن منزله دون مسافة قصر؛ كأهل بحرة وأشباههم، وقالوا إنه لا وداع عليه، والأَحْوَط لكل من كان خارج الحرم أن يُوَدِّع إذا انتهى حجه، وأهل جدة بَعيدون، وهكذا أهل الطائف، فالواجبُ عليهم أن يُودِّعُوا قبل أن يخرجوا؛ لأنهم يشملهم الحديث، وعليهم دم يُذْبح في مكة عن كل واحد منهم ترك طواف الوداع تُوَزَّع على الفُقراء شاة أو سبع بَدَنة، أو سبع بقرة.
س: هل يجوز الخروج إلى جدة بعد الحج بدون وداع، وإن خرج ولم يُوَدِّع فما الحكم؟[411]
ج: الخروج بعد الحج إلى جدة بدون وداع فيه تفصيل:
أما من كان من سكان جدة فليس لهم الخُروج إلا بوَدَاع بدون شَكّ؛ لعُموم الحديث الصحيح، وهو قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا ينفرن أحد منكم حتى يكون آخر عهده بالبيت))[412]؛ رواه مسلم، وقول ابن عباس - رضي الله عنهما -: "أُمِر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خَفَّف عن المرأة الحائض"[413]؛ متفق عليه.
وأما من خرج إليها لحاجة وقَصْده الرجوع إلى مكة؛ لأنها محل إقامته أيام الحج، فهذا فيه نَظَر وشُبْهَة، والأقرب أنه لا ينبغي له الخروج إلا بوَدَاع؛ عملاً بعموم الحديث المذكور، ويكفيه هذا الوداع عن وداع آخر إذا أراد الخروج إليها مرة أخرى؛ لكونه قد أتى بالوَدَاع المأمور به؛ لكن إذا أرادَ الخروج إلى بلاده، فالأَحْوَط له أن يُوَدِّع مرة أخرى للشَّكّ في إجزاء الوَدَاع الأول.
أمَّا من تَرَك الوداع ففيه تَفْصِيل:(/145)
فإن كان من النوع الأول: فالأقرب أن عليه دمًا؛ لكونه تَرَك نُسُكًا واجبًا، وقد قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: "مَنْ تَرَك نُسُكًا أو نسيه فليهرق دمًا"[414]، فهذا الأثر هو عُمْدة مَنْ أَوْجَب الدم في سائر واجبات الحج، وهو أَثَرٌ صحيح، وقد رُوِيَ مرفوعًا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ولكن الموقوف أَصَحّ، والأقرب أنه في حُكْم الرَّفْع؛ لأن مثل هذا الحكم يبعد أن يقوله ابن عباس من جِهَة رأيه، والله - سبحانه وتعالى - أعلم.
وأمَّا إن كان من النوع الثاني: وهو الذي خرج إلى جدة أو الطائف أو نحوهما لحاجة، وليسا بلده وإنما خرج إليهما لحاجة عارِضَة ونيته الرُّجوع إلى مكة، ثم الوداع إذا أراد الخروج إلى بلده، فهذا لا يظهر لي لُزُوم الدم له، فإن فَدَى على سبيل الاحْتِياط فلا بأس، والله أعلم.
س: نحن مِنْ سُكَّان جدة قدمنا العام الماضي للحج، وأكملنا جميع المناسِك ما عدا طواف الوداع، فقد أَجلْنَاه إلى نهاية شهر ذي الحجة، وبعد أن خَفَّ الزحام عدنا، هل حجنا صحيح؟[415]
ج: إذا حج الإنسان وأَخَّر طواف الوداع إلى وقت آخر فحجه صحيح، وعليه أن يطوف للوداع عند خروجه من مكة، فإذا كان في خارج مكة؛ كأهل جدة، وأهل الطائف، والمدينة، وأشباههم فليس له النفير حتى يُوَدِّع البيت بطواف سبعة أشواط حول الكعبة فقط ليس فيه سَعْي؛ لأن الوداع ليس فيه سَعْي؛ بل طَوَاف فقط.(/146)
فإن خَرَج ولم يُوَدِّع البيت فعليه دم عند جمهور أهل العلم يُذْبَح في مكة، ويُوَزَّع على الفقراء والمساكين، وحجه صحيح؛ كما تَقَدَّم، هذا هو الذي عليه جمهور أهل العلم، فالحاصل أن طواف الوداع نُسُك واجب في أصح أقوال أهل العلم، وقد ثبت عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: "مَنْ تَرَك نُسُكًا أو نَسِيَه فليهرق دمًا"[416]، وهذا نُسُك تَرَكه الإنسان عَمْدًا، فعليه أن يريق دمًا يذبحه في مكة للفُقراء والمساكين، وكونه يرجع بعد ذلك لا يسقطه عنه، هذا هو المختار، وهذا هو الأرجح عندي، والله أعلم.
حُكْم من سافر ولم يكمل طواف الوداع
س: امرأة كبيرة في السن عليها طواف وداع، ولكنها طافَتْ ثلاثة أشواط، ولم تُتِمّ الباقي؛ نظرًا لتعبها، وشدة الزحام في الحج، وقرب وقت سفرها بالطائرة. فماذا يجب عليها؟[417] جزاكم الله خيرًا.
ج: على كل مُحْرِم بالحج أو العمرة، أن يطوف الطواف الواجب، ولو محمولاً أو في عَرَبة، وليس له تَرْك الطواف ولا شيء منه، وهكذا السعي، لقول الله – سبحانه -: {فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [418]؛ ولِمَا ثبت عن أم سلمة - رضي الله عنها - أنها اشْتَكَتْ للنبي - صلى الله عليه وسلم - عجزها عن الطواف ماشية لمرضها، فأمرها أن تَطُوف وهي رَاكِبة، وإذا سافر الرجل والمرأة ولم يَطُف طواف الوداع بعد الحج فعليه التوبة إلى الله - سبحانه - مع الفِدْية، وهي ذبيحة تُذْبَح في مكة تُوَزَّع على الفقراء، ويجزئ فيها ما يجزئ في الأضحية، وهو رأس من الغنم أو سبع بَدَنَة، أو سبع بقرة. والله ولي التوفيق.
س: حجَّتْ والدتي عن والدها، وعند طواف الوداع كان حالها لا يساعد على إتمامه بسبب شِدَّة الزِّحَام والمَرَض، فقال لها بعضهم لا تطوفي وتكتفي بقراءة الفاتحة لوالدها، وفعلت ذلك مُعْتَمِدَة على فتوى هذا الجاهل، فهل يجزئ أن أطوف عنها الآن طواف وداع، أم لا؟[419](/147)
ج: هذه فتوى باطلة وغَلَط، وطواف الوداع وَاجِب، ولا تجزئ عنه الفاتحة؛ بل هذا جهل صِرْف، وعليها دم عن تَرْك الوداع؛ لأنه واجِب، والواجب يُفْدَى بدم إذا تَرَكَه المُحْرِم، ولم يتمكَّن من أدائه وسَافَر، فإنه يفديه بدم يُذْبَح بمكة ويُوَزَّع بين الفُقراء بدلاً عن تَرْكِه طواف الوداع، ولا يجزئ طوافُك عنها، والله ولي التوفيق.
وداع الحائض والنُّفساء
س: كيف يتم وداع الحائض والنفساء؟ [420]
ج: ليس على الحائض والنفساء وَدَاع؛ لِمَا ثبت عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "أُمِر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خَفَّف عن المرأة الحائض" [421]؛ متفق عليه، والنُّفساء في حكمها عند أهل العلم.
التَّأخُّر اليسير عن السفر بعد طواف الوداع يُعْفَى عنه
س: حججتُ العام الماضي والحمد لله، وعندما أخَذْتُ طواف الوداع قبل المغرب بساعة. بعد صلاة العشاء خرجْتُ، ولظرف غير مقصود تأخَّرْت، فهل يلزمني شيء؟[422]، أرجو التوجيه جزاكم الله خيرًا.
ج: الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فقد ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال للحُجَّاج: ((لا ينفرن أحد منكم حتى يكون آخر عهده بالبيت))[423]؛ أخرجه مسلم في صحيحه، وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: "أُمِر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خَفَّفَ عن المرأة الحائض"[424]؛ متفق عليه.
وقوله: "أُمِر الناس" - يعني أَمَرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا يجوز للحاج أن يخرج من مكة إلا بعد طواف الوداع إذا أراد السفر إلى بلده، أو إلى بلاد أخرى، وإذا ودع قبل الغروب ثم جلس بعد المغرب لحاجة، أو لسماع الدرس، أو ليصلي العشاء، فلا حَرَج في ذلك، فالمُدة يسيرة يُعْفَى عنها.(/148)
وقد طاف النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع طواف الوداع في آخر الليل، ثم صلى بالناس الفَجْر، ثم سافر بعد ذلك - عليه الصلاة والسلام - فالتخَلُّف اليسير يُعْفَى عنه في الوداع، وإذا كنتَ سافَرْتَ بعد العشاء فلا حَرَج في ذلك، أما إن كنتَ أقمت إقامة طويلة فيَنْبَغي لك أن تعيد طواف الوداع، وإن كنتَ لم تعد طواف الوداع فلا حَرَج عليك إن شاء الله؛ لأن المدة وإن كان فيها بعض الطول إلا أنها مُغْتَفَرَة - إن شاء الله - مِنْ أجل الجهل بواجِب المُبادَرة، والمُسارَعَة إلى الخروج بعد طواف الوداع.
التأخر إلى ما بعد ذي الحجة لا يُؤَثِّر على طواف الوداع
س: حججتُ هذا العام، وسَأَتَأَخَّر في العَوْدة إلى ما بعد ذي الحجة هل هذه الإقامة الطويلة بعد الحج لا تُؤَثِّر على طواف الوداع؟ جزاكم الله خيرًا.[425]
ج: هذه المُدَّة لا تُؤَثِّر؛ لأن طواف الوداع إنما يشرع عند عَزْم الحاج على الخُروج من مكة؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - يُخَاطِب الحُجَّاج في حجة الوداع -: ((لا ينفرن أحد منكم حتى يكون آخر عهده بالبيت))[426]؛ أخرجه مسلم في صحيحه؛ ولقول ابن عباس - رضي الله عنهما -: "أُمِر الناس - يعني الحاجّ - أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خَفَّف عن المرأة الحائض"[427]؛ متفق عليه. ومن هذا الحديث يُعْلَم أن الحائض ليس عليها وداع وهكذا النُّفَساء، والله ولي التوفيق.
باب صفة الحج والعمرة
(11) صفة الزيارة
ما يفعله الزائر للمدينة المنورة
س: ما الذي ينبغي للحاج أن يفعله بالمدينة، وما الفرق بين زيارة قبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - والطواف به؟[428]
ج: السُّنَّة لمن زار المدينة أن يقصد المسجد، ويصلي فيه ركعتَينِ أو أكثر، ويكثر من الصلاة فيه، ويكثر من ذِكْر الله، وقراءة القرآن، وحُضُور حَلقات العلم. وإذا تَيَسَّر له أن يَعْتَكِف ما شاء الله فهذا حسن، ويسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى صاحبيه.(/149)
هذا ما يشرع لزائر المدينة، وإذا أقام بها أوقاتًا يصلي بالمسجد النبوي فذلك خيرٌ عظيم؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((صلاة في مسجدي هذا خيرٌ من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام))[429].
فالصلاة في مسجده - صلى الله عليه وسلم - مُضاعَفة. أما ما شاع بين الناس من أن الزائر يقيم ثمانية أيام حتى يُصلي أربعين صلاة، فهذا - وإن كان - قد رُوِي في بعض الأحاديث: ((إن مَنْ صلى فيه أربعين صلاة كَتَب الله له بَراءة من النار، وبراءة مِن النِّفاق)) [430] إلا أنه حديث ضعيف عند أهل التحقيق لا تَقُوم به الحُجَّة؛ لأنه قد انفرد به إنسان لا يَعْرِف بالحديث والرواية، وَوَثَّقَهُ مَنْ لا يعتمد على تَوْثِيقِه إذا انْفَرَد. فالحاصل أن الحديث الذي فيه فضل أربعين صلاة في المسجد النبوي حديث ضعيف لا يعتمد عليه.
والزيارة ليس لها حَدّ محدود، وإذا زَارها ساعة أو ساعتينِ، أو يومًا أو يومينِ، أو أكثر من ذلك فلا بأس.
ويُستَحَبّ للزائر أن يَزُور الْبَقِيع، ويُسَلِّم على أهله، ويدعو لهم بالمغفرة والرحمة. ويُستحبّ له أن يزور الشُّهداء، ويدعو لهم بالمغفرة والرحمة. ويُسْتَحبّ له أن يتَطَهَّر في بيته، ويحسن الطّهور، ثم يزور مسجد قُبَاء، ويُصَلِّي فيه ركعتين؛ كما كان النبي يزوره - عليه الصلاة والسلام - أمَّا الطواف بقَبْر النبي فهذا لا يجوز، وإذا طاف بقصد التَّقَرُّب إلى النبي فهذا شِرْك بالله - عز وجَلّ - فالطواف عِبَادة حول الكعبة، لا تصلح إلا لله وحده، ومن طاف بقَبْر النبي - صلى الله عليه وسلم - أو قَبْر غيره من الناس يتَقَرَّب إليهم بالطواف، صار مُشْرِكًا بالله - عَزّ وجَلّ - وإن ظَنّ أنه طاعة لله، وفعله من أجله يتقرب به إليه صار بِدْعَة.(/150)
وهكذا حُكْم الطواف عند قَبْر غير النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل قبر الحسين، أو البدوي في مصر، أو ابن عربي في الشام، أو قبر الشيخ عبدالقادر الجيلاني، أو موسى الكاظم في العراق، أو غير ذلك.
وينبغي أن نُفَرِّق بين الزيارة للميت وبين عبادة الله وحده، فالعبادة لله وحده، والميت يُزار لتَذَكُّر الآخرة، أو الزُّهْد في الدنيا والدعاء والتَّرَحُّم عليه، أما أنه يُعْبَد من دون الله، أو يُدْعَى من دون الله، أو يُسْتَغاث به أو ما أشبه ذلك، فذلك لا يجوز؛ بل هو من المُحَرَّمات الشِّرْكِيَّة. ونَسْأَل الله لنا، ولجميع المسلمين العافية من ذلك، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه.
صِفَة السلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
س: ما حُكم السلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للزائر للمسجد النبوي؟ وهل هناك صفة للسلام عليه - صلى الله عليه وسلم - أمام قبره، واستدبار القبلة؟[431]
ج: بسم الله، والحمد لله، يُسَنّ لمن زار المدينة أن يزور المسجد النبوي ويُصلي فيه، وإذا تَيَسَّر له أن يصلي في الرَّوْضة كان أفضل، ثم يُسَلِّم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى صاحِبَيْه - رضي الله عنهما - والسُّنَّة أن يستقبل الزائر النبي - صلى الله عليه وسلم - وصاحِبَيْه - رضي الله عنهما - حين السلام، ويقول: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله عليك وبركاته. وإن دعا له - صلى الله عليه وسلم - كأن يقول: جزاك الله عن أمتك خيرًا، وضاعف لك الحسنات، وأحسن إليك كما أحسنت إلى الأمة. فلا حَرَج في ذلك. وهكذا لو قال: أشهد أنَّكَ قد بَلَّغْت الرسالة، وأدَّيْتَ الأمانة، ونَصَحْت الأمة، وجاهَدْتَ في الله حق الجهاد. فلا حَرَج في ذلك؛ لأن هذا كله حق، ثم يسلم على صاحِبَيْه - رضي الله عنهما - ويدعو لهما
بالدَّعَوات المُناسبة.(/151)
أما إذا أراد الدعاء لنفسه، فإنه يتحول لمكان آخر ويستقبل القبلة ويدعو؛ كما نص على ذلك أهل العلم.
ويُستَحَبّ للمسلم زيارة المسجد النبوي؛ قَصْدًا من بلاده أو غيرها؛ كما شرع له زيارة المسجد الحرام وزيارة المسجد الأقصى إذا تَيَسَّر ذلك؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تُشَدّ الرِّحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى))[432]. وقال - عليه الصلاة والسلام -: ((صلاة في مسجدي هذا خَيْر من ألف صلاة فيما سِوَاه إلا المسجد الحرام، والصلاة في المسجد الحرام أفضل من صلاة في مسجدي هذا بمائة صلاة)).[433]. وبذلك يُعْلَم أن الصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سِوَاه ما عدا المسجد النبوي.
وجاء عنه - صلى الله عليه وسلم - أن الصلاةَ في المسجد الأقصى أفضل من خمسمائة صلاة فيما سواه، والمعنى غير المسجد الحرام والمسجد النبوي. والله ولي التوفيق.
س: ما هي كَيْفية زيارة قَبْر النبي - صلى الله عليه وسلم -؟[434]
ج: يزوره ويُصَلي ويُسَلم عليه، والسُّنَّة أن يستقبل القَبْر، ويُسَلِّم عليه، ثم يُسَلِّم على صاحِبَيْه - رضي الله عنهما - وإذا أراد الدُّعاء لنفسه، فإنه يستقبل القبلة في مكان آخر.
س: إذا سافر الإنسان إلى المدينة المنورة فهل يلزمه السلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصاحِبَيْه - رضي الله عنهما - أم لا؟ وإذا أراد السلام عليهم فما هي الطريقة الصحيحة لذلك. أقصد: هل لا بد من المُبادرة بالسلام عليهم، أو أنه لا بأس من تأخيره، وهل لا بد من الدخول من خارج المسجد؛ ليكونوا عن يمينه أو لا بأس بسلامه عليهم، وهو خارج المسجد، وهم بذلك سيكونون عن شماله، وما هي الصيغة الشرعية للسلام، وهل يتساوى في ذلك الرجل والمرأة؟ أرشدونا جزاكم الله خيرًا [435](/152)
ج: السُّنة لمن زار المدينة المنورة أن يبدأ بالمسجد النبوي، فيُصَلي فيه ركعتينِ والأفضل أن يكون فعلهن في الرَّوْضة النبوية إذا تَيَسَّر ذلك؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((مَا بين بَيْتي ومنبري رَوْضة من رِياض الجنَّة))، ثم يأتي القَبْر الشريف فيُسلِّم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى صاحِبَيْه: أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - من قِبَل القبلة، يستقبلهما استقبالاً. وصفة السلام أن يقول: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، وإن زاد فقال: صلى الله وسلم عليك وعلى آلِكَ وأصحابك، وجزاك الله عن أُمَّتِك خيرًا، اللهم آته الوسيلة والفضيلة، وابْعَثْه المقام المحمود الذي وعدته، فلا بأس. ثم يتأخر عن يمينه قليلاً، فيسلم على الصِّدِّيق فيقول: السلام عليك يا أبا بكر، ورحمة الله وبركاته، رَضِي الله عنك، وجزاك عن أمة محمد خيرًا، ثم يتأخر قليلاً عن يمينه، ثم يُسَلِّم على عمر - رضي الله عنه - مثل سلامه على الصِّدِّيق رضي الله عنهما.
وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((لا تُشَدّ الرِّحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى))[436].
وثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((صلاةٌ في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام))؛[437]؛ متفق عليه.
وثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((زُوروا القبور فإنها تُذَكّركم الآخرة))[438]. وكان - عليه الصلاة والسلام - يُعَلِّم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا: ((السلام عليكم أهل الدِّيار من المؤمنينَ والمسلمينَ، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية، يرحم الله المستقدمينَ منا، والمُسْتأخرينَ))[439].(/153)
وهذه الزيارة خاصة بالرجال، أما النساء فلا تَجُوز لهن زيارة القبور؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - لَعَن زَائِرَات القبور، ويدخل في ذلك قبره - صلى الله عليه وسلم – وغيره؛ لكن يشرع للرجال والنساء جميعًا الإكثار من الصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كل مكان؛ لعموم قول الله – سبحانه -: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}[440]؛ وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((مَنْ صلى عليَّ واحدة صلى الله عليه بها عَشرًا))[441]. والأحاديث في فضل الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - كثيرة.
ولا حَرَج على النساء في الصلاة في مسجده - صلى الله عليه وسلم - وغيره من المساجد؛ لكن بُيوتهن خَيْر لهن وأفضل؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تمنعوا إِمَاءَ الله مساجد الله، وبُيوتهن خير لهن))[442]؛ ولأن ذلك أسْتَر لهن، وأبعد عن الفِتْنة منهن وبهن، والله الموفق.
زيارة المسجد النبوي سنة
س: يعتقد بعض الحُجاج أنه إذا لم يتمكَّن الحاج من زيارة المسجد النبوي فإن حجه ينْقُص، فهل هذا صحيح؟[443](/154)
ج: الزيارة للمسجد النبوي سُنَّة، وليست واجبة، وليس لها تَعلُّق بالحج؛ بل السُّنة أن يُزار المسجد النبوي في جميع السنة، ولا يختص ذلك بوقت الحج؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تُشَد الرِّحَال إلاَّ إلى ثلاثة مساجد، المسجد الحرام ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى))[444]؛ متفق عليه؛ ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((صلاة في مسجدي هذا خَيْر من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام))؛[445]؛ مُتفق عليه، وإذا زار المسجد النبوي شرع له أن يصلي في الرَّوْضَة ركعتينِ، ثم يُسلِّم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى صاحِبَيْه: أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - كما يُشرع زيارة البقيع، والشهداء؛ للسلام على المدْفُونينَ هناك من الصحابة وغيرهم، والدعاء لهم، والتَّرَحُّم عليهم؛ كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم – يزورهم، وكان يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا: ((السلام عليكم أهل الديار من المؤمنينَ والمسلمينَ، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية))[446].
وفي رواية عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول إذا زار البقيع: ((يرحم الله المستقدمينَ منا والمُستأخِرينَ: اللهم اغفر لأهل بَقِيع الغَرْقَد))[447]. ويُشْرع أيضًا لمن زار المسجد النبوي أن يزور مسجد قُباء، ويصلي فيه ركعتينِ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يزوره كل سبت، ويصلي فيه ركعتين، وقال - عليه الصلاة والسلام -: ((مَنْ تَطَهَّر في بيته فأحسن الطهور، ثم أتى مسجد قُباء فصلى فيه كان كعمرة))[448].
هذه هي المواضع التي تُزار في المدينة المنورة، أما المساجد السبعة ومسجد القبلتينِ وغيرها من المواضع التي يذكر بعض المؤلفين في المناسك زيارتها، فلا أصل لذلك ولا دليل عليه. والمشروع للمؤمن دائمًا هو: الاتباع دون الابتداع. والله ولي التوفيق.
زيارة قبر الرسول - صلى الله عليه وسلم -
س: أرجو الإفادة عن صحة الأحاديث الآتية:(/155)
الأول: ((مَنْ حج البيت ولم يزرني فقد جفاني)).
الثاني: ((من زارني بعد موتي، فكأنما زارني في حياتي)).
الثالث: ((من زارني بالمدينة محتسبًا كنتُ له شفيعًا شهيدًا يوم القيامة))
لأنها وردت في بعض الكتب وحصل منها إشكال واختلف فيها على رأيين: أحدهما يُؤَيِّد هذه الأحاديث، والثاني لا يُؤَيِّدها[449].
ج: أما الحديث الأول: فقد رواه ابن عَدِي، والدَّارقُطْني من طريق عبدالله بن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بلفظ: ((مَنْ حَجّ ولم يزُرْني فقد جَفَانِي))؛ وهو حديث ضعيف؛ بل قيل عنه: إنه موضوع؛ أي مكذوب؛ ذلك أن في سنده محمد بن النعمان بن شبل الباهلي عن أبيه، وكلاهما ضعيف جدًّا. وقال الدَّارقُطْنِي: "الطَّعْن في هذا الحديث على ابن النعمان لا على النعمان"، وروى هذا الحديث البَزَّار أيضًا، وفي إسناده إبراهيم الغفاري وهو ضعيف، ورواه البَيْهَقِي عن عمر، وقال: إسناده مَجْهُول.
أما الحديث الثاني: فقد أخْرَجه الدَّارقُطْني عن رجل من آل حاطب عن حاطب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا اللفظ، وفي إسناده الرجل المجهول، ورواه أبو يَعْلى في مسنده، وابن عَدِي في كامله، وفي إسناده حفص بن داود وهو ضعيف الحديث.
أما الحديث الثالث: فقد رواه ابن أبي الدنيا من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا اللفظ، وفي إسناده سليمان بن زيد الكعبي، وهو ضعيف الحديث، ورواه أبو داود الطيالسي من حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وفي إسناده مجهول.
وقد بسط الكلام على هذه الأحاديث وما جاء في معناها العلامة الشيخ محمد بن عبدالهادي - رحمه الله - في كتابه: "الصارم المنكي في الرد على السبكي" وقبله شيخ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله - في رده على الأخنائي. فأُوصِي بمراجعة الكِتَابَينِ المذْكُورينِ؛ للمَزيد مِن العلم.(/156)
هذا وقد وَرَدَتْ أحاديث صحيحة في الحَثّ على زيارة القُبور عامة؛ للعِبْرة، والاتِّعاظ، والدُّعاء للمَيت. أما الأحاديث الوَارِدة في زيارة قَبْر النبي - صلى الله عليه وسلم – خاصة، فكلها ضعيفة كما تَقدَّم؛ بل قيل إنها موضوعة، فمن رغب في زيارة القبور، أو زيارة قَبْر الرسول - صلى الله عليه وسلم - زيارة شرعية؛ للعِبْرة، والاتِّعاظ، والدُّعاء للميت، والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - والتَّرَضِّي عن صاحِبَيْه مِنْ دون أن يشدَّ الرِّحال لها، ويُنْشِئ سفرًا لذلك، فزيارته مشروعة ويُرْجَى له فيها الأَجْر.
وأما مَنْ شَدّ لها الرِّحال أو زارها؛ يَرْجُو بركتها، والانتفاع بها، أو جعل لزيارتها مواعيد خاصة فزيارته مُبْتَدَعة، لم يصحّ فيها نصّ، ولم تُعْرَف عن سَلَف هذه الأمة؛ بل وردت النصوص بالنهي عنها كحديث: ((لا تُشدّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى))؛[450]؛ رواه البخاري ومسلم، وحديث: ((لا تتخذوا قَبْري عيدًا، ولا بيوتكم قبورًا، وصلوا عليَّ فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم))؛[451]؛ رواه محمد بن عبدالواحد المقدسي - رحمه الله - في كتابه: "الأحاديث المختارة"، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
س: هل يجوز للنساء زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -؟[452]
ج: لا يجوز لهن ذلك؛ لعُموم الأحاديث الواردة في نَهْي النساء عن زيارة القبور، ولَعْنهنّ على ذلك، والخلاف في زيارة النساء لقبر النبي - صلى الله عليه وسلم - مشهور، ولكن تَرْكهن لذلك أَحْوط وأَوْفَق للسُّنة؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يَسْتَثْنِ قبره، ولا قبر غيره، بل نَهاهُن نَهْيًا عامًّا، ولعن مَن فعل ذلك مِنْهنّ، والواجب الأَخْذ بالتعميم ما لم يوجد نصّ يخص قبره بذلك، وليس هناك ما يخص قبره. والله ولي التوفيق.
من عبدالعزيز بن عبدالله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم ع. م. ع. وفقه الله، آمين(/157)
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، بعده:
كتابكم الكريم المؤرخ في 3/3/1974م وصل - وصلكم الله بهُداه - وما تضمنه كان معلومًا[453]، ونُبارك لكم في الزواج، جعله الله زواجًا مُباركًا، وقد ذكرتم في كتابكم أن ندعوَ لكم عند قبر الرسول عليه الصلاة والسلام.
ونفيدكم أن الدُّعاء عند القبور غير مشروع، سواء كان القبر قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أو غيره، وليست محلاًّ للإجابة، وإنما المشروع زيارتها، والسلام على الموتى والدعاء لهم، وذكر الآخرة والموت. أَحْبَبْنا تَنْبيهك على هذا حتى تكون على بَصِيرة، وفي إمكانك أن تُرَاجِع أحاديث الزِّيارة في آخر كتاب "الجنائز" من "بُلُوغ المَرَام" حتى تعلم ذلك. وفَّقَنا الله وإياكم لاتِّباع السنة، والعمل بما يُرْضِي الله - سبحانه - ويُقَرِّب لدينه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
حكم تَتَبُّع آثار الأنبياء؛ ليُصَلَّى فيها، أو لِيُبْنَى عليها مساجد
س: الأماكن التي صلى بها الرسول - عليه الصلاة والسلام - هل من الأفضل بناء مساجد عليها، أم بَقاؤها كما هي، أو عمل حدائق عامة بها؟[454](/158)
ج: لا يجوز للمسلم تتبع آثار الأنبياء؛ ليُصَلِّي فيها أو ليَبْنِي عليها مساجد؛ لأن ذلك من وسائل الشِّرْك، ولهذا كان عمر - رضي الله عنه - يَنْهَى الناس عن ذلك، ويقول: "إنما هلك من كان قبلكم بتتبعهم آثار أنبيائهم"، وقطع - رضي الله عنه - الشجرة التي في الحُدَيْبية التي بُويع النبي - صلى الله عليه وسلم - تحتها؛ لما رأى بعض الناس يذهبون إليها، ويُصلُّون تحتها؛ حسمًا لوسائل الشرك؛ وتحذيرًا للأمة من البِدَع، وكان - رضي الله عنه - حكيمًا في أعماله وسِيرته، حريصًا على سَدّ ذَرائع الشِّرك، وحسم أسبابه، فجَزَاه الله عن أمة محمد خيرًا، ولهذا لم يَبْنِ الصحابة - رضي الله عنهم - على آثاره - صلى الله عليه وسلم - في طريق مكة وتبوك وغيرهما مساجد؛ لعِلْمِهم بأن ذلك يُخَالِف شريعته، ويسبب الوقوع في الشِّرْك الأكبر، ولأنه من البِدَع التي حَذَّر الرسول منها - عليه الصلاة والسلام - بقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَنْ أحْدَثَ في أَمْرِنا هذا ما ليس منه فهو ردّ))[455]؛ مُتفق عليه من حديث عائشة - رضي الله عنها - وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَنْ عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردّ))؛ رواه مسلم في صحيحه، وكان - عليه الصلاة والسلام - يقول في خطبة الجمعة:[456] ((أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهَدْي هَدْي محمد - صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور مُحْدَثاتها، وكل بِدْعَة ضلالة)) [457]؛ أخرجه مسلم في صحيحه، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة. والله المُسْتَعَان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
من عبدالعزيز بن عبدالله بن باز إلى حضرة المكرمة السيدة / ت. أ. ر. حفظها الله.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فقد تلقيتُ رسالتك المؤرخة في 16/12/1391هـ وعلمت ما تضمنته من الأسئلة وإليك الإجابة عنها:[458](/159)
أولاً: بالنسبة لحجك مع عمك فلا بأس به؛ لأن العم مَحْرَم شرعي، ونرجو من الله أن يتقبل منك، ويُثيبك ثواب الحج المبْرُور.
وأما ميقات الحُجَّاج القادمينَ من إفريقيا، فهو الجُحْفَة أو ما يُحاذيها من جهة البر والبحر والجو إلا إذا قدموا من طريق المدينة، فميقاتُهم ميقات أهل المدينة، ومن أحرم من رابِغ فقد أحرم من الجُحْفة؛ لأن الجُحْفَة قد ذهبت آثارها، وصارت رابِغ في محلها أو قبلها بقليل.
وأما من ناحية المساجد الموجودة بالمدينة المعروفة حاليًا، فكلها حادثة ما عدا مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - ومسجد قُباء، وليس لهذه المساجد غير المسجدينِ المذكورينِ خُصوصِية من صلاة أو دعاء أو غيرهما؛ بل هي كسائر المساجد من أدركته الصلاة فيها صلى مع أهلها، أما قصدها للصلاة فيها والدعاء والقراءة أو نحو ذلك لاعتقاده خُصوصيَّة فيها، فليس لذلك أصل؛ بل هو من البِدَع التي يجب إنكارها؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَنْ عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردّ))[459]؛ أخرجه مسلم في صحيحه من حديث عائشة رضي الله عنها.
وتحقيقًا لرغبتك يسرنا أن نبعث إليك برفقه بعضًا من الكتب التي توزعها الجامعة حسب البيان المرفق، نسأل الله أن ينفع بها، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
باب صفة الحج والعمرة
(12) صفة العمرة
أعمال مناسك العمرة
الحمد لله وحده، وبعد؛ فهذه نبذة مُخْتَصَرة عن أعمال مناسك العمرة، وإلى القارئ بيان ذلك[460]:
1- إذا وصل من يُرِيد العمرة إلى الميقات، استُحِبّ له أن يغتسل ويَتَنَظَّف، وهكذا تفعل المرأة ولو كانت حائضًا أو نفساء، غير أنها لا تطوف بالبيت حتى تطهر وتغتسل.
ويتطيب الرجل في بَدَنِه دون ملابس إحرامه. فإن لم يَتَيَسَّر الاغتسال في الميقات فلا حَرَج، ويستحب أن يَغْتَسِل إذا وصل مكة قبل الطواف إذا تَيَسَّرَ ذلك.(/160)
2- يتجَرَّد الرجل من جميع الملابس المخيطة، ويلبس إزارًا ورِداءً. ويستحب أن يكونا أَبْيَضَينِ نَظِيفَينِ. أما المرأة فتحرم في ملابسها العادية[461]، التي ليس فيها زينة ولا شهرة.
3- ثم ينوي الدُّخول في النُّسُك بقلبه، ويتلفظ بلسانه قائلاً: "لبيك عمرة"، أو "اللهم لبيك عمرة"، وإن خاف المحرم ألا يتمكن من أداء نُسُكِه؛ لكونه مريضًا أو خائفًا من عدو ونحوه شُرِع له أن يشترط عند إحرامه، فيقول: "فإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني"؛ لحديث ضباعة بنت الزُّبَيْر - رضي الله عنها - ثم يُلَبِّي بتلبية النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي: ((لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك)) ويُكْثِر من هذه التلبية، ومِنْ ذِكْر الله - سبحانه - ودعائه حتى يصل إلى البيت "الكعبة".
4- فإذا وصل إلى المسجد الحرام قَدَّم رجله اليمنى عند الدخول، وقال: بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله، أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم، اللهم افتح لي أبواب رحمتك.
5- فإذا وصل إلى البيت قطع التلبية ثم قصد الحَجَر الأسود، واستقبله، ثم يستلمه بيمينه، ويُقَبِّله إن تيسَّر ذلك، ولا يُؤْذِي الناس بالمُزاحمة. ويقول عند استلامه: "بسم الله والله أكبر"، فإن شق عليه التقبيل استلمه بيده أو بعصا أو نحوها، وقبل ما استلمه به، فإنْ شَقّ استلامه أشار إليه وقال: "الله أكبر"، ولا يُقَبِّل ما يشير به. ويشترط لصحة الطواف أن يكون الطائف على طهارة من الحَدَث الأصغر والأكبر؛ لأن الطواف مثل الصلاة غير أنه رخّص فيه في الكلام.(/161)
6- يجعل البيت عن يساره، ويطوف به سبعة أشواط، وإذا حاذى الرُّكْن اليماني استلمه بيمينه إن تَيَسَّر، ويقول: "بسم الله، والله أكبر"، ولا يُقَبِّله. فإن شق عليه استلامه تَرَكَهُ ومضى في طوافه ولا يشير إليه ولا يُكَبِّر؛ لأن ذلك لم يُنْقَل عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. أما الحجر الأسود فكلما حَاذاه استلمه وقبله؛ كما ذكرنا سابقًا وإلا أشار إليه وكَبَّر. ويُستَحبّ الرمل - وهو الإسراع في المشي مع تَقارُب الخُطَى - في الثلاثة الأشواط الأولى من طواف القُدُوم للرجل خاصة؛ كما يُسْتحبّ للرجل أن يضطبع في طواف القُدُوم في جميع الأشواط، والاضْطِباع: أن يجعل وسط ردائه تحت منكبه الأيمن، وطرفيه على عاتِقه الأيسر. ويُسْتَحبّ الإكثار من الذِّكْر والدعاء بما تَيَسَّر في جميع الأشواط. وليس في الطواف دعاء مَخْصُوص، ولا ذكر مخصوص؛ بل يدعو، ويَذْكُر الله بما تَيَسَّر من الأذكار والأدعية ويقول بين الرُّكْنينِ: "ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقِنَا عذاب النار" في كل شَوْط؛ لأن ذلك ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. ويختم الشَّوْط السابع باستلام الحجر الأسود، وتقبيله إن تَيَسَّر، أو الإشارة إليه مع التَّكْبير حسب التَّفْصيل المذكور آنفًا. وبعد فَراغه من هذا الطَّواف يَرْتَدِي بردائه فيجعله على كتفيه، وطرفيه على صدره.
7- ثم يُصلي ركعتينِ خلف المقام إن تَيَسَّر، فإن لم يتمكَّن من ذلك صَلاَّهما في أي موضع من المسجد. يقرأ فيهما بعد الفاتحة: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} في الركعة الأولى، و{قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} في الركعة الثانية، هذا هو الأفضل وإن قرأ بغيرهما فلا بأس. ثم بعد أن يُسَلِّم من الركعتين، يقصد الحجر الأسود إن تَيَسَّرَ ذلك.(/162)
8- ثم يخرج إلى الصفا، فيَرْقَاه أو يقف عنده، والرقي أفضل إن تَيَسَّرَ، ويقرأ قوله – تعالى -: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ}[462]. ويُسْتَحَبّ أن يستقبل القبلة، ويحمد الله، ويكبره، ويقول: "لا إله إلا الله والله أكبر. لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهَزَم الأحزاب وحده"، ثم يدعو بما تَيَسَّر رافعًا يديه، ويُكَرِّر هذا الذِّكْر والدعاء ثلاث مرات. ثم ينزل فيمشي إلى الْمَرْوة حتى يصل إلى العلم الأول، فيسرع الرجل في المشي إلى أن يصل إلى العلم الثاني. أما المرأة فلا يشرع لها الإسراع؛ لأنها عورة، ثم يَمْشِي فيرقى المروة أو يقف عندها، والرقي أفضل إن تَيسَّر ويقول ويفعل على المروة؛ كما قال وفعل على الصفا. ثم ينزل فيمشي في موضع مَشْيِه ويسرع في موضع الإسراع حتى يصل إلى الصفا، يفعل ذلك سَبْع مرات: ذهابه شوط، ورجوعه شوط. وإن سَعَى راكبًا فلا حَرَج، ولا سيما عند الحاجة. ويُسْتَحبّ أن يكثر في سَعْيِه من الذِّكْر والدعاء بما تَيَسَّر. وأن يكون مُتَطَهِّرًا من الحَدَث الأكبر والأصغر، ولو سعى على غير طَهَارة أَجْزَأَهُ ذلك.
9- فإذا كمل السَّعْي يَحْلِق الرجل رأسه، أو يُقَصِّره، والحَلْق أفضل، وإذا كان قدومه مكة قريبًا من وقت الحج، فالتقصير في حقه أفضل؛ ليحلق بقية رأسه في الحج. أما المرأة فتجمع شعرها، وتأخذ منه قَدْر أنملة فَأَقَل. فإذا فعل المُحْرِم ما ذكر فقد تَمَّتْ عُمْرته، والحمد لله. وحَلَّ له كل شيء حُرِّمَ عليه بالإحْرَام.
وفَّقنا الله وسائر إخواننا المسلمينَ للفِقْه في دينه، والثبات عليه، وتَقَبَّل من الجميع، إنه – سبحانه - جواد كريم.
وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه، وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
أفضل زمان تُؤَدَّى فيه العمرة رمضان(/163)
س: هل ثبت فضل خاص للعمرة في أشهر الحج يختلف عن فضلها في غير تلك الأشهر؟[463]
ج: أفضل زمان تُؤَدَّى فيه العمرة شهر رمضان؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((عُمرة في رمضان تَعْدل حجة))[464]؛ متفق على صحته، وفي رواية أخرى في البخاري: ((تقضي حجة معي))[465]، وفي مسلم: ((تقضي حجة أو حجة معي))[466] - هكذا بالشك - يعني معه - عليه الصلاة والسلام - ثم بعد ذلك العمرة في ذي القعدة، لأن عُمَرَهُ - صلى الله عليه وسلم - كلها وقعت في ذي القَعْدة، وقد قال – سبحانه -: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ))[467]. وبالله التوفيق.
تَكرار العمرة في رمضان
س: هل يجوز تَكرار العمرة في رمضان؛ طلبًا للأجر المترتب على ذلك؟[468]
ج: لا حرج في ذلك، النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((العُمْرة إلى العمرة كَفَّارة لما بينهما، والحَجّ المبرور ليس له جزاء إلا الجنة))[469]؛ متفق عليه.
فإذا اعتمر ثلاث أو أربع مرات فلا حَرَج في ذلك. فقد اعتمرتْ عائشة - رضي الله عنها - في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع عُمْرتَيْنِ في أقل من عشرين يومًا.
س: دخلتُ إلى مكة مُحْرِمًا في رمضان، وعملت العمرة، وحجَجْتُ بحول الله وفَضْلِه، فهل عليَّ عمرة أخرى، وما الحكم؟[470]
ج: ليس عليك عمرة أخرى، فقد أديت العمرة والحمد لله في رمضان في أشرف وقت، وحجك يكون مفردًا؛ لأن العمرة إنما تجب في العُمْر مرة واحدة كالحج، وما زاد على ذلك فهو تَطَوُّع.
عمرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في رجب
س: هل صَحّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه اعْتَمَر عمرة في شهر رجب؟[471](/164)
ج: المشهور عند أهل العلم أنه لم يَعْتَمِر في شهر رجب، وإنما عُمَره - صلى الله عليه وسلم - كلها في ذي القَعدة، وقد ثبت عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "اعْتَمَرَ في رجب"، وذَكَرَتْ عائشة - رضي الله عنها -: "أنه قد وَهِم في ذلك، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعتمر في رجب".
والقاعدة في الأصول أن المُثْبَت مُقَدَّم على النَّافي، فلعلَّ عائشة ومَنْ قال بقولها لم يَحْفَظُوا ما حفظ ابن عمر، والله ولي التوفيق.
حكم التقصير في العمرة
س: ما الحكم في التقصير من الشَّعْر بعد العمرة أهو على التعميم من جميع الشعر، أم يكفي من جزء منه فقط؟[472]
ج: التَّقْصِير من جميع الشعر في العُمرة والحج جميعًا مثل ما يحلقه كله يقصره كله، ويأخذ مِنْ أطراف الشعر حتى يعم الرأس، ولا يكون معناه شَعْرَة شَعْرَة، معناه: يعمم ظاهر الرَّأْس ويكفي، يعممه بالتقصير؛ كما يعممه بالحَلْق هذا هو المشروع، وهذا هو الواجب.
حكم من لبس المخيط بعد ستة أشواط جهلاً منه
س: رجل قَدِم من الرِّياض، وأحرم من الميقات للعمرة، وفي السَّعْي سَعَى ستة أشواط جَهْلاً منه، ثم قصَّر شعر رأسه ولبس المخيط وسافر إلى جِدة، ماذا يجب عليه الآن؟ والمذكور إذا رجع إلى مكة بنية العمرة من جديد، بنية العمرة السابقة التي لم يكمل سعيها، هل عَلَيْه شَيء؟[473] وماذا يجب عليه الآن للعُمْرة التي لم يكمل سعيها، ولبس المخيط؟(/165)
ج: على المذكور أن يرجع إلى مكة، ويكمل السَّعْي ثم يُعِيد التَّقْصِير، وإن أعاد السَّعْي كلَّه فهو أفضل وأَحْوَط بعد خلع المخيط، ولبس ملابس الإحرام، ولا شيء عليه بسبب الجَهْل، وهكذا الناسي؛ لقول الله – سبحانه -: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا}[474] الآية، وَقَدْ صَحَّ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في تفسير هذه الآية: ((إن الله – سبحانه - قال: "قد فعلت"))[475]. والله ولي التوفيق. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله.
حُكْم مَنْ أحَسّ بتَعَب قبل إكمال الطواف
س: أنا امرأة مريضة ذهبتُ إلى العمرة وعندما طفت ثلاثة أشواط أُصِبْتُ بالدوخة، ماذا يجب عليَّ أن أفعل؟ [476]
ج: عليكِ أن تستريحي، وتكملي الطواف، فإن طال الفَصْل فأعيدي الطواف من أوله. أما إذا زالت الدوخة بسهولة وسرعة، فكملي الطواف، ويكفي، والحمد لله.
حُكْم مَنْ نَسِي الحَلْق أو التقصير في العمرة
س: ما حكم من نَسِي الحلق أو التقصير في العمرة، فلبس المخيط، ثُمَّ ذكر أنه لم يُقَصِّر أو يَحْلِق؟ [477]
ج: من نَسِي الحلق أو التقصير في العُمْرة، فطاف وسَعَى ثم لبس قبل أن يَحْلِقَ أو يُقَصِّر فإنَّه يَنْزِع ثيابه، إذا ذكر ويحلق أو يقصر ثم يعيد لبسهما، فإن قَصَّر أو حلق وثيابه عليه جَهْلاً منه، أو نِسْيَانًا فلا شيءَ عليه، وأَجْزَأَهُ ذلك، ولا حاجة إلى الإعادة للتقصير أو الحَلْق؛ لكن متى تَنَبَّهَ فإنَّ الواجب عليه أن يخلع حتى يحلق أو يقصر وهو مُحْرِم.
س: امرأة اعتمرتْ ونسيت أن تقصر شعرها ثم تَذَكَّرَتْ بعد يومينِ، فماذا تفعل؟ [478]
ج: إذا طاف المُعْتَمِر وسَعَى، ثم نَسِي التقصير، قَصَّر متى ذكره في بلده أو غيرها.(/166)
س: أخذت عمرة أنا وزوجتي، وعند الانتهاء من السَّعْي حلقتُ رأسي، أما زوجتي فلم تقصر من شعرها ناسية، وغادرنا مكة ورجعنا إلى بلادنا، ثم حدث الجماع بيني وبين زوجتي، فما حكم عمرتنا جزاكم الله خيرًا؟[479]
ج: العمرة صحيحة - إن شاء الله - وليس على زَوْجَتِك شيء ما دامت ناسِية؛ ولكن عليها أن تُقَصِّر مِنْ شعرها متى نُبِّهَتْ لذلك، والحمد لله.
حُكْم أَخْذ حُبوب منع نُزول الدَّوْرة لمن أرادت العمرة
س: سائلة تقول: أنا امرأة تناولْتُ حبوب مَنْع نزول الدَّوْرة في الكويت، وأحسست بأَلَم شديد ثم قطعتُ هذه الحبوب ثم بعدها بأربعة أيام ألا وهو يوم الاثنين الماضي، نزلت عليَّ الدَّوْرة واستمرتْ الثلاثاء والأربعاء. خرجنا من الكويت صباحًا ألا وهو ثالث يوم من الدَّوْرة، وفي منتصف الطريق في الساعة الثامنة والنصف ليلاً تناوَلْتُ حَبّتَينِ من نفس الحُبوب مع العلم أن مفعولها يَتَبَيَّن بعد 24 ساعة، ووصلْنا إلى الميقات في الساعة الثانية صباحًا يوم الخميس؛ أي مَضَى على تَناوُلِي الحُبوب خمس ساعات ونصف، ولكن عند وصولي للميقات منذ ذلك الوقت لم ينزل عليَّ دم، وأحرمتُ وذهبتُ إلى الحرم، وأنا على شك من أمري؛ لأنني لم أُدَقِّق هل الدم، وقف أم لا؟ وقبل دُخولي الحرم بدقائق ذهبتُ إلى الحمام ولم يكن نزل مني دم، واعتمرتُ ولكن عندما ذهبتُ إلى السكن نزل عليَّ قليل من الدم هذا، ولم تَطْمَئن نفسي فهل عمرتي صحيحة، أم لا؟ جزاكم الله خيرًا.[480]
ج: من عبدالعزيز بن عبدالله بن باز إلى حضرة الأخت في الله ش. س. وفقها الله لما فيه رِضَاه آمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته بعده:
لقد فهمت من سؤالك الموضح في الورقة المُرْفَقة، وأفيدك أن عمرتك بحمد الله صحيحة، إذا كان الواقع هو ما ذكرتِ، تقبَّل الله منا ومنك ومن كل مسلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مفتي عام المملكة العربية السعودية(/167)
س: ما حُكْم من أخذ من مُقَدِّمة رأسه بالحلق في العمرة، وماذا يجب عليه؟[481]
ج: الواجب التعميم وعليه التوبة مِنْ ما مضى.
س: إذا اعتمرت وقضيت العمرة، هل يجوز لي العمرة عن من أُريد مِنْ أقاربي، علمًا أنه ليس في الحج، وما هو المكان الذي أحرم منه عند ذلك؟[482]
ج: لا أعلم مانعًا شرعيًّا من عُمرتك لمن ترى من أقاربك بعد اعتمارك عن نفسك العمرة الوَاجِبَة، سواء كان ذلك في وقت الحج أو في غيره. أما ميقات العمرة لمن كان داخل الحرم فهو الحل، كالتنعيم والجعرانة ونحوهما؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أمر عائشة بالاعتمار أمر عبدالرحمن أخاها أن يعمرها من خارج الحَرَم.
هذا ونسأل الله لنا ولكم وللمسلمين التوفيق لما يرضيه، وصلاح النية والعمل. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
حُكْم طواف الوَدَاع في العمرة
س: هل طَوَاف الوداع واجب في العمرة، وهل يجوز شِراء شيء من مكة بعد طواف الوداع سواء كان حجًّا أو عمرة؟[483]
ج: طواف الوداع ليس بواجِب في العمرة، ولكن فعله أفضل، فلو خرج ولم يودع فلا حَرَج. أما في الحج فهو واجب؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا ينفرن أحد منكم حتى يكون آخر عهده بالبيت))[484]، وهذا كان خطابًا للحجاج. وله أن يَشْتَرِيَ ما يحتاج إليه بعد الوداع من جميع الحاجات حتى ولو اشترى شيئًا للتجارة ما دامت المدة قصيرة لم تطل، أما إن طالتِ المدة فإنه يعيد الطواف، فإن لم تطل عرفًا فلا إعادة عليه مُطْلقًا.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
القسم الثالث والأخير من الحج
باب الفَوات والإحصار
الإحصار يكون بالعدو وبغير العدو كالمرض
س: إذا تجاوز الحاج الميقات مُلبِّيًا بحج وعمرة، ولم يَشْتَرِط، وحصل له عَارِض؛ كمرض ونحوه يمنعه من إتمام نُسُكِه، فماذا يلزمه أن يفعل؟[485](/168)
ج: هذا يكون محصرًا، إذا كان لم يشترط، ثم حصل له حادث يمنعه من الإتمام، إن أمكنه الصبر؛ رجاءً أن يزول المانع ثم يكمل صبر، وإن لم يتمكن من ذلك فهو محصر - على الصحيح، والله قال في المحصر: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ}[486]، والصواب، أن الإحصار يكون بالعدو، ويكون بغير العدو؛ كالمرض.
فيهدي ثم يحلق أو يقصر، ويتحلل، هذا هو حكم المحصر، يذبح ذبيحة في محله الذي أحصر فيه - سواء كان في الحرم أو في الحل - ويعطيها للفقراء في محله، ولو كان خارج الحرم، فإن لم يَتَيَسَّر حوله أحد، نقلت إلى فُقراء الحرم، أو إلى من حوله من الفُقراء، أو إلى فُقَراء بعض القُرَى، ثم يحلق أو يقصر ويتحلل، فإن لم يستطِعِ الهَدْي صام عشرة أيام، ثم حَلَق أو قصر وتحلل.
حكم من حبسه حابس عن الطواف والسَّعْي
س: ما حكم من أحرم من الميقات للحج أو العمرة، ثم حبسه حابِسٌ عن الطواف والسَّعْي؟[487]
ج: الذي أحرم بالحج أو العمرة ثم حبسه حابِسٌ عن الطواف والسَّعْي، يبقى على إحرامه، إذا كان يرجو زوال هذا الحابس قريبًا؛ كأن يكون المانع سيلاً، أو عدوًّا يمكن التَّفَاوُض معه في الدُّخول وأداء الطواف والسَّعْي.
ولا يُعَجِّل في التَّحَلُّل؛ كما حَدَث للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه حيث مكثوا مدةً يوم الحُدَيْبِية؛ للمُفاوَضَة مع أهل مكة؛ لعلهم يسمحون لهم بالدُّخول لأداء العمرة بدون قِتال، فلما لم يَتَيَسَّر ذلك، وصَمَّمُوا على المَنْع إلا بالحرب، وتَمَّ الصُّلح بينه وبينهم على أن يرجع للمدينة، ويعتمر في العام القادم، نحر النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه هَدْيَهُم، وحلقوا وتحللوا.
وهذا هو المشروع للمحصر، يتَمَهَّل، فإن تَيَسَّر فك الحصار استمر على إحرامه، وأَدَّى مَنَاسِكَه، وإن لم يَتَيَسَّر ذلك وشق عليه المقام، تَحَلَّل مِنْ هذه العمرة أو الحج - إن كان حاجًّا -.(/169)
ولا شيء عليه سِوَى التَّحَلُّل بإهراق دم يُجْزِئ في الأضحية، ثم الحَلْق أو التقصير؛ كما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه يوم الحديبية، وبذلك يتحلل، كما قال - جل وعلا -: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ}[488]، فالحلق يكون بعد الذبح، ويقوم مقامه التقصير، فينحر أولاً، ثم يحلق أو يقصر، ثم يتحلل ويعود إلى بلاده، فمن لم يجد هَدْيًا صام عشرة أيام، ثم يحلق أو يقصر، ثم يحل.
مَنِ اشترط عند إحرامه لم يلزمه الهَدْي
س: إذا عزم المسلم على الحج، وبعد الإحرام تَعَذَّر حجه. ماذا يلزمه؟[489]
ج: إذا أحصر الإنسان عن الحج بعدما أحرم بمرض أو غيره، جاز له التَّحلُّل بعد أن ينحر هَدْيًا، ثم يحلق رأسه أو يقصره؛ لقول الله - سبحانه وتعالى -: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ}[490]؛ ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أحصر عن دخول مكة يوم الحديبية، نحر هَدْيَه، وحلق رأسه ثم حَلّ، وأمر أصحابه بذلك؛ لكن إذا كان المحصر قد قال في إحرامه: "فإن حبسني حابِس فمحلي حيث حبستني، حل ولم يكن عليه شيء - لا هَدْي ولا غيره - لما ثَبَتَ في الصحيحينِ عن عائشة - رضي الله عنها - أن ضباعة بنت الزبير بن عبدالمطلب قالت: يا رسول الله: إني أُرِيدُ الحج، وأنا شاكية، فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((حجي واشترطي: أن محلي حيث حبستني))[491]
س: رجل سافر هو وزوجته بنية العمرة بالطائرة، وعندما وصلا إلى جدة مرضتِ المرأة في المطار، ولم يلبثا أن عادا إلى الرياض في نفس اليوم، ولم يُؤَدِّيا مناسكهما، مع العلم أنهما اشترطا عند إعلانهما نية العمرة. فهل عليهما إثمٌ في ذلك؟ - جزاكم الله خيرًا - وما المطلوب منهما؟ [492]
ج: بسم الله، والحمد لله.(/170)
إذا كانا قد اشترطا عند الإحرام: إن أصابهما حابس فمحلهما حيث حبسا، أو ما هذا معناه، فإنهما يحلان ولا شيء عليهما؛ بسبب المرض الذي يشق على المرأة معه أداء مناسك العمرة؛ لما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لضباعة بنت الزبير - رضي الله عنها - لما قالت: "يا رسول الله: إني أريد الحج وأنا شاكية"، قال: ((حجي واشترطي: أن محلي حيث حبستني))[493]؛ متفق على صحته.
س: هناك امرأة جاءت للحج مع أمها، ولكن أمها مَرضَتْ، فبقيت معها في الغرفة يوم عرفات، فما وقفت يوم عرفة، لا هي ولا أمها، ولكن ذهبت بعد الحج فوقفت من الظهر إلى المغرب، فما حكم حجها؟ وماذا عليهما جميعًا؟[494]
ج: عليهما أن يتحللا بأعمال العمرة، وهي أن تطوف كل واحدة منهما، وتَسْعَى، وتقصر وتَتَحَلَّل، وعليهما القَضاء من العام الآتي، مع فِدْية: ذبيحة تُذبح في مكة للفقراء على كل
واحدة - إن استطاعتا ذلك - أما وقوفها بعد يوم عرفة من الظهر إلى المغرب يوم العيد، فهذا بِدْعَة، ولا عمل عليه، ولا يُجْزِئ، ولا يجوز.
المحصر ينْحَر الهَدْي في المكان الذي أحصر فيه
س: هل نحر الهدي في غير الحرم خاص بالمُحْصر؟[495]
ج: المحصر ينحر الهَدْي في محله، سواء كان في الحرم أو في الحل.
صيام عشرة أيام لمن عجز عن الذَّبْح
س: ما حكم من أراد الحج والعمرة، وبعد وصوله إلى مكة ضاعتْ نفقته، ولم يستطع أن يَفْدي، وغير نيته إلى حج مفرد. هل يصح ذلك؟ وإذا كانت الحجة لغيره، ومشترطًا عليه التَّمتُّع، فماذا يفعل؟[496](/171)
ج: ليس له ذلك ولو ضاعتْ نفقته، فإذا عجز عن الدم، يصوم عشرة أيام - والحمد لله - ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجع إلى أهله، ويبقى على تَمَتُّعِه. وعليه أن يُنَفِّذ الشرط؛ بأن يحرم بالعمرة، ويطوف، ويسْعَى، ويقصر، ويحل، ثم يُلَبِّي بالحج ويفدي، فإن عجز صام عشرة أيام؛ ثلاثة في الحج قبل عرفة، وسبعة إذا رجع إلى أهله؛ لأن الأفضل للحاج أن يكون يوم عرفة مفطرًا؛ اقتداءً بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه وقف بها مفطرًا.
س: إنسان أحصر عن إتمام أعمال الحج أو العمرة بسبب مرض أو نحوه، ولم يجد هَدْيًا ذلك الوقت، فماذا يجب عليه؟[497]
ج: عليه صيام عشرة أيام قبل أن يحلق رأسه أو يقصر؛ لقول الله - سبحانه -: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُؤوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ}[498] الآية؛ ولفعله - صلى الله عليه وسلم - لما أحصر عن العمرة عام الحديبية سنة ست من الهجرة النبوية، والله الموفق.
حكم من بدأ العمرة ولم يتمها
س: قَدَّر الله أن أَذْهَب لأداء العمرة في شهر رمضان المبارك الماضي، ولما بدأت الطواف ولشدة الزحام لم أكمله، فخرجت من مكة وعدت إلى مدينتي، وكان ذلك ليلة سبع وعشرين.
وأسأل سماحة شيخنا - حفظه الله - عما يترتب عليَّ، مع العلم أنني - والحمد لله - أتمتع بصحة جيدة؟ أفيدونا - أفادكم الله -.[499]
ج: قد أخطأت فيما فعلت - عفا الله عنا وعنك - وكان الواجب عليك أن تكمل العمرة في وقت آخر غير وقت الزحام؛ لقول الله - سبحانه -: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّه}[500].
وقد أجمع العلماء، على أنه يجب على من أحرم بحج أو عمرة أن يكمل ذلك، وألا يتحلل منهما إلا بعد الفراغ من أعمال العمرة، ومن الأعمال التي تبيح له التحلل من أعمال الحج، إلا المحصر والمشترط إذا تحقق شرطه.(/172)
فعليك التوبة مما فعلت، وعليك مع ذلك أن تعيد ملابس الإحرام، وتتجنب محظورات الإحرام، وتذهب إلى مكة لإكمال العمرة؛ للطواف والسعي والحلق أو التقصير، وعليك مع ذلك دم، وهو: سبع بَدَنة، أو سبع بقرة، أو رأس من الغَنَم؛ ثِنِي معز أو جذع ضَأْن، إن كنت جامعت امرأتك في المدة المذكورة، وعليك أن تذهب إلى الميقات الذي أحرمت منه بالأول وتحرم بعمرة جديدة، وتؤدي مناسكها؛ قضاءً للعمرة الفاسدة بالجِمَاع، مع التوبة مما فعلت - كما تقدم -.
وإن كنت تعلم الحُكْم، وأنه لا يجوز لك هذا العمل، فعليك إطعام ستة مساكين؛ لكل مسكين نصف صاع من قوت البلد من بُر، أو، أرز، أو غيرهما، أو ذبح شاة، أو صيام ثلاثة أيام عن لبس المخيط، ومثل ذلك عن تَغْطِية الرأس، ومثل ذلك عن الطيب، ومثل ذلك عن قلم الأظفار، ومثل ذلك عن حَلْق الشعر في المُدة المذْكورة.
أما إن كنت جاهلاً، فليس عليك شيء من الفِدْية المذكورة؛ لقول الله - سبحانه -: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا}[501]، وقد صَحّ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الله أجاب هذه الدعوة، ولأدلة أخرى في ذلك. والله الموفق.
س: في العام الماضي حجتْ والدتي ومعها أبناؤها وبناتها بنُسُك التَّمَتُّع، وبعدما دخلوا في الطواف أصيبتْ بحالة إغماء، ولم تتمكَّنْ من الطواف والسَّعْي، وحيث إنها مصابة بمرض السكر والضغط أُدخلتِ المستشفى، فقال الطبيب: إنها لن تستطيع إكمال الحج. ونَظرًا لهذه الحالة رجعوا جميعًا إلى مدينتهم، فماذا يترتب عليهم؟[502]
ج: هذه عملها عمل المحصر، هي نفسها تعتبر كالمحصر، عليها أن تذبح هَدْيًا؛ لأنها أحصرت في مكة، ودم الإحصار يُذبح في مكان الإحصار، سواء في مكة أو في غيرها للفقراء، وعليها أن تقصر من شعرها، ويتم حلها. وإذا كان حجها فريضة، تحج بعد حين؛ لأنها محصرة، إلا إذا صحت قبل الحج، وتيسر لها الرجوع وتَطُوف وتسْعَى وتكمل حجها، فلا بأس.(/173)
وظاهر الحال أنهم أصابهم هذا الأمر في طواف العمرة وهم مُتمتِّعُون، فعليها أن ترجع، وتكمل عمرتها إذا كانت تستطيع، ويكفي.
وإن كانت لا تستطيع، فعليها دم الإحصار؛ ذبيحة تُذبح في مكة للفقراء، مع التقصير، وبذلك تم أمر الإحصار، ولا شيء عليها؛ لأن الإحصار يكون بالمرض، ويكون بالعدو - على الصحيح - أما إن تيسر لها أن ترجع فهي لا تزال في الإحرام، ترجع وتطوف وتَسْعى وتُقَصِّر لعمرتها.
وعليها دم، إن كان لها زوج وطأها، يُذبح في مكة للفقراء، وعليها الإتيان بعمرة جديدة من الميقات الذي أحرمت منه في الأول؛ قضاءً لعمرتها التي فسدتْ بالجِمَاع، وإن كان ما عندها زوج، ما عليها شيء، ترجع تطوف وتسعى وتقصر لعمرتها السابقة، وتمت عمرتها، ولا شيء عليها. أما إن كانت لا تستطيع، فهي في حكم المحصر، تذبح شاة في مكة للفقراء؛ لأن الإحصار وقع في مكة، وعليها أن تقصر أيضًا من شعرها، وبهذا تحللت من عمرتها، وعليها عمرة الإسلام فيما بعد - إذا قدرت - إذا لم تعتمر سابقًا، وعليها الحج أيضًا إن كانت لم تحج. والذين معها، إذا كانوا رجعوا ولم يكملوا عليهم مثلها؛ عليهم أن يرجعوا ويكملوا عمرتهم، وليسوا محصرين، وإن لبسوا وتطيبوا هذا من الجهل، لا شيء عليهم.
وإن كان فيهم امرأة قد وطأها زوجها، فعليها شاة عن الوَطْء، وتكمل عمرتها، وتأتي بعمرة جديدة - أيضًا - من الميقات الذي أحرمت منه، بدل العمرة التي أفسدتها بالوَطْء، ولا حرج.
والذين معها من ذُكُور وإناث، يرجعون ويكملون عمرتهم هذه التي رجعوا منها، وما لبسوا أو تطيبوا لا شيء عليهم؛ لأجل الجهل، والذي منهم قد وطئ زوجته، أو الزوجة التي وُطِئَتْ، قد أفسدت عمرتها، وكذا عمرة الزوج عليه أن يكملها، ويأتي بعمرة جديدة من الميقات الأول الذي أحرم منه، وعلى الذي وطئ، أو وطئت؛ عليهما دم يُذبح في مكة للفقراء.(/174)
س: يقول هذا السائل: إنه في عام 1400هـ أحرم للعمرة من الطائف، وقال: لبيك اللهم لبيك عمرة - إن شاء الله - وعندما وصل إلى الحرم، منعه الجنود من دخول الحرم وأمروه بالرجوع، وعندما رجع إلى الطائف، أخبره بعض أهل مكة أن في الحرم حرب، وإطلاق نار، فما كان منه إلا أن نزع إحرامه، ولبس ثوبه، ورجع إلى بلده، فماذا عليه في ذلك؟ وهل هَدْي الإحصار يُذْبَح في الحرم، أو في أي مكان؟ [503]
ج: هذا يسمى محصرًا؛ للحادث الذي استحل فيه الحرم، والواجب على السائل أن لا يعجل في التحلل حتى ينحر هَدْيًا، ثم يحلق أو يقصر قبل أن يخلع ثيابه، أو يتحلل، هذا هو الواجب عليه.
فإن كان قصده في قوله: "لبيك عمرة إن شاء الله" يقصد بها: إن حبسه؛ يعني: إن شئت يا رب إمضاءها - هذا قصده: الاستثناء - فليس عليه شيء، أما إن قال: "إن شاء الله" من غير قصد، فهذا يلزمه أن يعيد ملابس الإحرام، وأن يذبح هَدْيًا؛ ذبيحة، ثم يحلق أو يقصر، ثم يتحلل؛ يلبس ملابسه العادية، ولو بعد هذه المدة؛ لأنه مُحْصَر ممنوع من الوصول للحرم.
إلا أن يكون تمم حجه بعد ذلك؛ جاء إلى مكة في السنة الثانية أو الثالثة بعد ذلك، وتمم؛ أي أحرم وتمم حجه أو عمرته، فليس عليه شيء إذا كان جاء بعد الإحصار هذا، وأدى عمرة فليس عليه شيء، والهَدْي إذا لزمه يُذبح في مكانه الذي أُحْصِر فيه.
س: وإذا كان مثل هذا الذي نسي الحكم، ولا عرفه إلا فيما بعد؟[504]
ج: يلبس ملابس الإحرام ويَذْبَح هَدْيَه، ويحلق أو يقصر، ويحل من حيث بلغه الحكم.
باب الهَدْي والأضحية
حكم المُتمتِّع الذي ضاعتْ نُقُوده
س: لقد أحرمت الإحرام الذي يلزم معه الهَدْي؛ ولكنها ضاعت نقودي وفقدت كل مالي الذي معي، فما حكمي في هذه الحالة؟ علمًا بأن زوجتي ترافقني أيضًا[505].(/175)
ج: إذا أحرم الإنسان بالعُمْرة في أيام الحج مُتمتِّعًا بها إلى الحج، أو بالحج والعمرة جميعًا قارنًا، فإنه يلزمه دم، وهو: رأس من الغنم؛ ثِنِي من المعز أو جذع من الضَّأْن، أو سُبع بَدَنة أو، سبع بقرة، يَذْبَحُها في أيام النَّحْر بمكة أو مِنى، فيعطيها الفقراء والمساكين، ويأكل منها ويهدي. هذا هو الواجب عليه.
فإذا عجز عن ذلك؛ لذهاب نَفَقَتِه، أو لفَقْرِه وعسره وقِلَّة النَّفَقَة، فإنه يصوم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله؛ كما أمره الله بذلك.
ويجوز أن يصوم عن الثلاثة اليوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر، وذلك مُسْتَثْنَى من النهي عن صيامها لجميع الناس، إلا من فقد الهَدْي فإنه يصوم هذه الأيام الثلاثة؛ لما رَوَى البخاري في صحيحه عن عائشة وابن عمر - رضي الله عنهما - قالا: "لم يُرَخَّص في أيام التشريق أن يُصَمْنَ إلا لمن لم يجد الهدي"[506]. وإن صامها قبل يوم عرفة فهو أفضل، إذا كان فقد النفقة مُتَقَدِّمًا، ويصوم السبعة عند أهله.
حُكْم المُتَمَتِّع الذي صام ثلاثة أيام ثُمَّ وجد قيمة الهَدْي
س: إنسان استَحَقّ عليه الهَدْي في الحج، ولكنَّه لم يستطع شراءه بسبب العُسْر، فصام ثلاثة أيام في الحج - كما أمر الله - وبعد أن صامها أو صام بعضها، وجد من يُقْرِضه أو يَسَّر الله الهَدْي، فماذا يفعل؟[507]
ج: إذا تَيَسَّر له القيمة التي يشتري بها الهَدْي - ولو بعد أيام الحج - فهو مُخَيَّر بين ذبحها، ولا حاجة إلى صيام السبعة الأيام عند أهله، أو صيام السبعة الأيام الباقية؛ لأنه قد شرع في الصيام وسقط عنه الهَدْي؛ لكن متى ذبح سقط عنه بقية الأيام.
مَع العلم بأنَّ الواجب ذبحه في الأيام الأربعة، وهي: يَوْم العيد وأيام التشريق الثلاثة - مع القُدرة - ويصير ذبحه بعده قضاءً.
ليس على الحاج المفرد هَدْي
س: هل يجب على الحاج المفرد هَدْي إذا كان حجه فرضًا؟[508](/176)
ج: ليس على المفرد هَدْي - سواء كان حجه فرضًا أو نفلاً - وإن أهْدَى فهو أفضل.
حُكْم الهَدْي الذي يهدى ولا يستفاد منه
س: هذا الهَدْي الذي يُهْدى ولا يُسْتفاد منه إلا قليلاً، أليس من الأفضل أن يصوم الحاج القادر على الهَدْي، وعند عودته يخرج قيمة الهَدْي لمساكين وطنه، ثم يُتم صيام باقي العشرة أيام، فما رأيكم - أثابكم الله -؟[509]
ج: من المعلوم أنَّ الشرائع تتلقَّى عن الله وعن رسوله، لا عن آراء الناس، والله - سبحانه وتعالى - شرع لنا في الحج إذا كان الحاج مُتمتِّعًا أو قارنًا أن يَهْدِي، فإذا عجز عن الهَدْي صام عشرة أيام؛ ثلاثة منها في الحج، وسبعة إذا رجع إلى أهله.
وليس لنا أن نُشَرِّع شيئًا من قِبَل أنفسنا؛ بل الواجب أن يعدل ما يقع من الفساد في الهَدْي، بأن يذكر ولاة الأمور لتصريف اللحوم وتَوْزِيعها على الفُقراء والمساكين، والعناية بأماكن الذَّبْح وتوسعتها للناس، وتعدداها في الحرم؛ حتى يتَمَكَّن الحُجَّاج من الذَّبْح في أوقات مُتَّسعة، وفي أماكن مُتَّسعة، وعلى وُلاة الأمور أن ينقُلُوا اللحوم إلى المُُستحقِّينَ لها، أو يضعوها في أماكن مُبَرَّدة حتى تُوزع بعد على الفُقراء في مكة وغيرها.
أما أن يُغير نظام الهَدْي؛ بأن يصوم وهو قادر، أو يشتري هَدْيًا في بلاده للفقراء، أو يُوَزع قيمته، فهذا تشريع جديد لا يجوز للمسلم أن يفعله؛ لأن المُشَرِّع هو الله - سبحانه وتعالى - وليس لأحد تشريع: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[510].(/177)
فالواجب على المسلمين أن يَخْضَعُوا لشرع الله وأن يُنَفِّذُوه. وإذا وقع خَلَل من الناس في تَنْفِيذه، وجب الإصلاح والعناية بذلك، مثلما وقع في الهَدْي في ذبح بعض الهدايا، وعدم وجود من يأكلها، وهذا خَلَل وخطأ، يجب أن يُعَالَج من جِهَة وُلاة الأمور، ومن جِهَة الناس. فكل مسلم يَعْتَنِي بِهَدْيِه، حتى يُوَزِّعه على المساكين أو يأكله أو يَهْديه إلى بعض إخوانه. وأما أن يدعه في أماكن لا يُسْتفاد منه، فلا يُجْزِئه ذلك. وهكذا في المذبح، يجب على صاحب الهَدْي أن يعتني بهذا المقام، وأن يحرص كل الحرص على تَوْزِيعه إذا أَمْكَن، وعلى وُلاة الأمور أن يعينوا على ذلك؛ بأن ينقُلوا اللحوم إلى الفقراء في وقتها، أو ينقلوها إلى أماكن مُبَرّدة؛ يُسْتفاد منها بعد ذلك، ولا تفسد، هذا هو الواجب على وُلاة الأمور، وهم - إن شاء الله - ساعون بهذا الشيء، ولا يزال أهل العلم ينصحون بذلك، ويُذَكِّرُون وُلاة الأمور هذا الأمر. ونسأل الله أن يُعين الجميع على ما فيه المصلحة العامة للمسلمين في هذا الباب وغيره.
حُكْم من نسي أن يذبح هَدْي القِرَان
س: إنسان نوى في الحج نُسُك القِرَان، ولكنه لم يذبح هَدْيًا؛ جهلاً منه، وبعد مدة طويلة ذكر أن عليه هَدْيًا، فماذا يجب عليه؟[511]
ج: عليه أن يَذْبَح الهَدْي متى علم في مكة أو مِنى، ولا بأس أن يأكل هو وأهله، ورفقاؤه منه.
صفة تَذْكِية بهائم الأنعام
س: ما هي التَّذْكية الشرعية، وطريقة ذبح الإبل - خاصة -؟[512]
ج: التذكية الشرعية للإبل والغنم والبقر:
أن يقطع الذابح الحُلْقُوم، والمَرِّيء، والوَدَجَيْنِ؛ وهما العرقان المُحِيطان بالعُنُق، وهذا هو أكمل الذَّبح وأحسنه.
فالحُلقوم: مَجْرى النَّفَس، والمَرِّيء: مجرى الطعام والشراب، والوَدَجَان: عرقان يُحِيطان بالعُنق، إذا قطعهما الذَّابح صار الدم أكثر خروجًا، فإذا قطعت هذه الأربعة فالذَّبح حلال عند جميع العلماء.(/178)
الحالة الثانية: أن يقطع الحُلقوم والمَرِّيء وأحد الوَدَجَيْنِ، وهذا أيضًا حلال صحيح وطيب، وإن كان دون الأول.
والحالة الثالثة: أن يقطع الحُلقوم والمَرِّيء فقط دون الوَدَجَيْنِ، وهو أيضًا صحيح، وقال به جمع من أهل العلم، ودليلهم قوله - عليه الصلاة والسلام -: ((ما أنهر الدم، وذُكِر اسم الله عليه، فكلوا، ليس السن والظُّفر))[513]، وهذا هو المختار في هذه المسألة.
والسُّنَّة نَحْر الإبل قائمة على ثلاث، معقولة يدها اليسرى، وذلك بطعنها في اللَّبَّة التي بين العُنق والصدر. أما البقر والغنم، فالسُّنَّة أن تُذْبَح وهي على جنبها الأيسر.
كما أن السُّنَّة عند الذَّبْح والنحر تَوْجيه الحيوان إلى القِبْلة. وليس ذلك واجبًا؛ بل هو سُنَّة فقط، فلو ذبح أو نحر إلى غير القبلة حَلَّتِ الذبيحة، وهكذا لو نحر ما يذبح أو ذبح ما ينحر حَلَّت، لكن ذلك خلاف السنة. وبالله التوفيق.
س: هل هناك مكان محدد في الرقبة؟[514]
ج: نعم، فالرقبة كلها محل للذبح، والنَّحْر أعلاها وأسْفَلها، لكن في الإبل السُّنَّة نحرها في اللَّبَّة، أما البقر والغنم، فالسنة ذبحها في أعلى العُنُق؛ حتى يقطع بذلك الحُلقوم والمَرِّيء والوَدَجَيْنِ - كما تَقَدَّم -.
حكم الذَّبْح عن طريق البنك الإسلامي بواسطة شركة الرَّاجحي
س: ما رأيكم في الشركة التي تقوم بذبح الهَدْي، هل يجوز توكيلها في الهَدْي، حيث إننا لا نرى الذبيحة؟ وهل هي مُكْتَمِلَة الشروط، أم لا؟ حيث نأخذ الرَّقْم فقط، ولا ندري عن بقية الأشياء؟[515]
ج: لا بأس بها - فيما نعلم - أعني البنك الإسلامي بواسطة شركة الراجحي للصرافة، فإنها تقوم بالذبح والتقسيم بين الفُقراء، والدفع إليها مجزئ - إن شاء الله -.
س: ما هو الأفضل: الذَّبْح عند الشركة، أو أذبح الهَدْي بيدي، وأقوم بتَوْزِيعه؟ [516](/179)
ج: من أعطى قيمة الهَدْي لشركة الراجحي أو البنك الإسلامي فلا بأس؛ لأنه لا مانع من دفع ثَمَن الضحية والهَدْي إليهم، فهم وُكلاء مُجْتَهِدُون وموثوقون. ونرجو أن ينفع الله بهم ويعينهم، ولكن من تولى الذَّبْح بيده وَوَزَّعه على الفقراء بنفسه، فهو أفضل وأَحْوَط؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ذَبَح الضحية بنفسه، وهكذا الهَدْي، ووكل في بَقِيَّته.
حكم ذبح الهدي قبل يوم العيد
س: أحرمنا ونحن جماعة مُتمتِّعين، فأدينا العمرة وتَحَلَّلْنَا، وأشار بعضهم بذبح الهَدْي وتوزيعه في مكة، وفعلاً تم الذَّّبْح في مكة. ثم علمنا بعد ذلك أن الذبح لا يكون إلا بعد رَمْي جمرة العقبة. وكنتُ أعلم بذلك، وأشرت عليهم بتأجيل الذبح إلى يوم النحر أو بعده؛ ولكنهم أصَرُّوا على الذبح بعد وُصولِنا وأدائنا العمرة بيوم واحد، فما حكم ذلك؟ وماذا يلزمنا في هذه الحالة؟ [517]
ج: من ذبح قبل يوم العيد دم التَّمتُّع فإنه لا يُجْزِئه؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم -وأصحابه لم يذبحوا إلا في أيام النَّحْر، وقد قدموا وهم مُتَمتِّعُون في اليوم الرابع من ذي الحجة، وبقيت الأغنام والإبل التي معهم موقوفة حتى جاء يوم النحر.(/180)
فلو كان ذَبْحُها جائزًا قبل ذلك؛ لبادر النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إليه في الأيام الأربعة التي أقاموها قبل خروجهم على عرفات؛ لأنَّ الناس بحاجة إلى اللُّحوم في ذلك الوقت. فلما لم يَذْبح النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أصحابه حتى جاء يوم النَّحْر، دلّ ذلك على عدم الإجزاء، وأن الذي ذبح قبل يوم النحر قد خالف السُّنَّة، وأتى بشرع جديد فلا يُجْزِئ؛ كمن صلى أو صام قبل الوقت، فلا يَصِحّ صوم رمضان قبل وقته، ولا الصلاة قبل وقتها ونحو ذلك. فالحاصل أن هذه عبادة قبل الوقت، فلا تُجْزِئ، فعليه أن يعيد هذا الذبح إن قدر، وإن عجز صام ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجع على أهله، فتكون عشرة أيام بدلاً من الذبح؛ لقول الله - سبحانه -: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ}[518].
أيام العيد كلها أيام ذبح وأفضلها يوم النَّحْر
س: أريدُ أن أفدي - إن شاء الله - فهل يجوز لي أن أُؤَخِّره إلى يوم الحادي عشر، أو اليوم الثاني عشر؟ وهل يُذبح الهَدْي في مِنى، أو في أي جزء من مكة؟ وما هي كيفية توزيعه؟[519]
ج: يجوز ذبح الهَدْي يوم النَّحْر وفي الأيام الثلاثة بعده، لكن ذَبْحه يوم النَّحْر أفضل - إن تَيَسَّرَ ذلك - ولا حَرَج في ذبحه في مِنى أو في مكة.
والسُّنَّة في توزيعه - أعني هَدْي التَّمَتُّع أو القِرَان - أن يأكل منه، ويتَصَدَّق، ويَهْدي إلى من شاء من أصحابه وإخوانه.
حكم ذبح هَدْي التَّمَتُّع والقِرَان في عرفات(/181)
س: ذبح حاج هَدْيَه في عرفات أيام التشريق، ووزَّعَها على مَنْ فيها، فهل يجوز ذلك؟ وماذا يجب عليه إذا كان جاهلاً الحُكْم أو عامِدًا؟ وإذا ذبح هَدْيه في عرفات، ثم وزع لحمه داخل الحرم. هل يجوز ذلك؟ وما هو المكان الذي لا يجوز ذبح الهَدْي إلا فيه؟ ولكم الشكر[520].
ج: هَدْي التَّمتُّع والقِرَان لا يجوز ذَبْحُه إلا في الحَرَم، فإذا ذبحه في غير الحرم؛ كعرفات وجدة وغيرهما، فإنه لا يُجْزِئه، ولو وَزَّع لحمه في الحرم. وعليه هَدْي آخر يَذْبحه في الحرم - سواء كان جاهلاً أو عالمًا -؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحر هَدْيَه في الحرم، وقال: ((خذوا عني مناسككم))[521]؛ وهكذا أصحابه - رضي الله عنهم - إنما نحروا هَدْيَهم في الحرم؛ تأسِّيًا به - صلى الله عليه وسلم -.
حكم شراء النُّسُك من الجبل وذَبْحه وتَرْكه
س: هناك الكثير من الحُجَّاج يشتري النُّسك من الجبل، ويذبحها ويتركها في مكانها، بدون نزع جلدها، فما رأي فضيلتكم في ذلك؟ وهل يجزئ هذا النسك - وفقكم الله -؟[522]
ج: أما اشتراء النُّسُك من الجبل - إذا أريد بهذا عرفات - فلا بأس بالشراء منها أو من غيرها، لكن لا يذبحه إلا في الحرم، فلا يذبح في عرفات؛ لأنها ليست من الحرم، فإذا ذبحه في الحرم واشتراه من عرفات، أو من أي مكان من الحل، وذبحه في مِنى أو في بقية الحرم، عن التمتع والقِرَان وتَطَوُّعًا، فلا بأس، ويُجْزِئ نُسُكًا.
أمَّا أن يذبحه في عرفات أو في غيرها من الحل؛ كالشرائع أو جدة أو ما أشبه ذلك، فهذا لا يجزئ؛ لأن الهدايا لا بُدّ أن تُذْبَح في الحرم، والرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: ((نحرت ها هنا، ومِنى كلها مَنْحَرٌ، فَانْحَرُوا فِي رِحَالِكُمْ))[523]، فالأنْسَاكُ تُذْبَح في مِنى، وفي بقية الحرم، ولا تُذْبَح في خَارِجِه.(/182)
فإذا ذبحه في الحَرَم، وتركه للفقراء؛ ليأخذوه فلا حَرَج، ولكن يَنْبَغِي له أن يتَحَرَّى الفُقراء، ويجتهد في إيصاله إليهم؛ حتى تبرأ ذمته بيقَين. أما إذا ذبحه وتركه للفقراء يأخذونه، فإنه يجزئ، والفقير بإمكانه أن يسلخه وينتفع بلحمه وجلده، ولكن من التمام والكمال أن يَعْتني بسلخه وتوزيعه بين الفقراء، وإيصاله إليهم ولو في بُيوتهم، وقد جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نحر بدنات وتركها للفقراء، ولكن هذا محمول على أنه تركه لفقراء موجودين، يأخذونه ويستفيدون منه، أما أن يترك في محل ليس فيه فُقراء، فهذا في إجزائه نَظَر، ولا يبعد أن يقال: إنه لا يجزئ؛ لأنه ما وصل إلى مستحقه.
حكم المستوطن في مكة وهو ليس من أهلها
س: ما حكم الشَّرْع الشريف في رجل يَسْكُن مكة المكرمة منذ سنين، ويحج مع أهل مكة يحرم من مكة بالحج، وأهله في حضرموت، فهل حكمه حكم الحاج الآفاقي في الهَدْي والصيام؛ لأن الله يقول في كتابه العزيز: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}؟ أم حكمه حكم أهل مكة بذلك؟[524]
ج: إذا كان مستوطنًا مكة، فحكمه حكم أهل مكة؛ ليس عليه هَدْي ولا صيام، أما إن كان إنما أقام لحاجة ونيته العود إلى بلده، فهذا حكمه حكم الآفاقيين.
فإذا اعتمر من الحل بعد رمضان ثم حج في ذلك العام، فإنه يكون مُتَمَتِّعًا بالعمرة إلى الحج، وعليه هَدْي التمتُّع. فإن لم يجد صام عشرة أيام ثلاثة في الحج وسبعة بعد الفراغ من الحج، أو بعد الرجوع إلى أهله إن سافر إلى أهله.
---
[1] نُشِر في "مجلة الدعوة" العدد 1686 في 22/12/1419هـ
[2] رواه البخاري في (الحج)؛ باب مُهَلّ أهل الشام برقم 1526، ومسلم في (الحج)؛ باب مواقيت الحج والعمرة برقم 1181
[3] من ضمن أسئلة مُقَدَّمَة لسماحته في حج عام 1407 هـ(/183)
[4] نشر في "جريدة الجزيرة" بتاريخ 2/12/1416هـ، وتاريخ 3/12/1417هـ، وفي "جريدة عكاظ" عدد 11543 وتاريخ 2/12/1418هـ
[5] نشر في "مجلة التوعية الإسلامية في الحج" العدد 11 في 15/12/1400هـ، وفي كتاب "فتاوى تتعلق بأحكام الحج والعمرة والزيارة" ص 138، 139
[6]نشر في "جريدة عكاظ" العدد (11545) في 4/11/1418هـ
[7] نشر في "جريدة الجزيرة" في 27/11/1416هـ
[8] رواه الإمام أحمد في "مسند بني هاشم" بداية مسند عبدالله بن العباس برقم 2220، والترمذي في (الجنائز)؛ باب ما يستحب من الأكفان برقم 994
[9]نشر في "مجلة التوعية الإسلامية" العدد 3 سنة 1404هـ
[10]نشر في كتاب "فتاوى إسلامية" جمع الشيخ/ محمد المسند ج2 ص 301.
[11]نشر في "مجلة الدعوة" العدد 1682 في 16/11/1419هـ.
[12]نشر في "مجلة الدعوة" العدد 1683 في 23/11/1419هـ
[13]من ضمن أسئلة مُوَجَّهَة لسماحته في درس "بلوغ المرام"
[14]نشر في كتاب "فتاوى تتعلق بالحج والعمرة والزيارة" ص 10، وفي جريدة "الشرق الأَوْسَط" العدد 3514 في 12/7/1988 م
[15]رواه الترمذي في (الطهارة)؛ باب ما جاء في الجُنُب والحائض أنهما لا يقرءان القُرآن برقم 131
[16]نشر في كتاب "فتاوى إسلامية" جمع الشيخ/ محمد المسند ج2 ص 218
[17]نشر في "جريد عكاظ" العدد 11545 في 4/12/1418هـ، وفي "جريدة البلاد" بتاريخ 5/12/1416 هـ
[18]رواه البخاري في (الحج)؛ باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - العقيق واد مبارك برقم 1534
[19]نشر في "مجلة التوعية الإسلامية" العدد 2 عام 1404هـ، وفي كتاب "الدعوة" ج1 ص 135، وفي كتاب "فتاوى تتعلق بأحكام الحج والعمرة والزيارة" ص 11
[20]سبق تخريجه قبل ذلك.
[21]نشر في "جريدة المدينة" بتاريخ 21/11/1411هـ، وأيضًا في العدد رقم 12762 في 1/12/1418هـ، وفي "جريدة الجزيرة" بتاريخ 26/11/1416هـ
[22] من ضمن أسئلة موجهة لسماحته في درس "بلوغ المرام"(/184)
[23]رواه مسلم في (الحج)؛ باب صحة حج الصبي برقم 1336
[24]رواه ابن ماجَه في (المنسك)؛ باب الرَّمْي عن الصبيان برقم 3038
[25]من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته في المحاضرة التي ألقاها بمِنى في 8/12/1402هـ
[26]من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته في المحاضرة التي ألقاها بمنى في 8/12/1402هـ
[27]رواه بنحوه مسلم في (الحج)؛ باب استحباب رَمْي جمرة العقبة يوم النحر راكبًا برقم 1297
[28]نشر في "مجلة الدعوة" العدد 1542 في 6/1/1417هـ، وفي "جريدة الرياض" يوم الخميس 30/11/1416هـ
[29] نشر في "جريدة عكاظ" العدد 11551 في 10/12/1418هـ
[30]سؤال مُوَجَّه لسماحته بعد الدرس، الذي ألقاه في المسجد الحرام في 28/12/1418هـ
[31]نشر في "مجلة التوعية الإسلامية في الحج" العدد الثامن في 4/12/1408هـ.
[32]نشر في "مجلة التوعية الإسلامية في الحج" العدد 11 في 11/12/1400هـ، وفي كتاب "الدعوة" ج1 ص 126، وفي كتاب "فتاوى تتعلق بأحكام الحج والعمرة والزيارة".
[33]سورة [البقرة: 196]
[34]نشر في "مجلة التوعية الإسلامية في الحج" العدد 3 عام 1404هـ
[35]نشر في "جريدة البلاد" بتاريخ 1/12/1416هـ
[36]رواه البخاري في (بدء الوحي)؛ باب بدء الوحي برقم 1، ومسلم في (الإمارة)؛ باب قوله: ((إنما الأعمال بالنية)) برقم 1907
[37]من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته بمِنًى في 8/12/1402هـ
[38]نشر في كتاب "فتاوى إسلامية" جمع الشيخ/ محمد المسند 2/213
[39]نشر في كتاب "فتاوى إسلامية" جمع الشيخ/ محمد المسند 2/213
[40]نشر في "جريدة عكاظ" في العدد 11551 بتاريخ 10/12/1418هـ.
[41]رواه الإمام أحمد في باقي "مسند المكثرين من الصحابة" مسند "أنس بن مالك" برقم 12039، والبخاري في (الحج)؛ باب تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف برقم 1651.
[42]نشر في "مجلة الدعوة" العدد 1538 في 1/12/1416هـ.
[43] سورة [البقرة: 196]
[44]من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته من "جريدة المسلمون"(/185)
[45]سورة [البقرة: 196]
[46]نشر في كتاب "الدعوة" ج1 ص 125
[47]من ضمن أسئلة موجهة لسماحته في درس "بُلُوغ المَرَام"
[48]نشر في "مجلة التوعية الإسلامية في الحج" العدد 11 في 11/12/1411هـ، وفي كتاب "فتاوى تتعلق بأحكام الحج والعمرة والزيارة" ص 28، وفي كتاب "الدعوة" ج1 ص 133
[49]نشر في مجلة "الدعوة" العدد 1543 في 13/1/1417هـ
[50]نشر في "مجلة الدعوة" العدد 1543 في 13/1/1417هـ
[51]من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته في المحاضرة التي ألقاها بمِنى في 8/12/1402هـ
[52]رواه بنحوه مسلم في (الأضاحي)؛ باب نَهْي من دخل عليه عشر ذي الحجة.. برقم 1977.
[53]نشر في "جريدة المدينة" في 21/11/1416هـ، وفي العدد 12762 في 1/12/1418هـ، وفي "جريدة الجزيرة" بتاريخ 26/11/1416هـ.
[54]نشر في "جريدة الجزيرة" بتاريخ 3/12/1415هـ، و"جريدة الرياض" في 7/12/1416هـ، و"جريدة عكاظ" العدد 11545 في 4/12/1418هـ.
[55]سورة [البقرة: 196].
[56]من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته في المحاضرة التي ألقاها بمنى في 8/12/1402هـ
[57]نشر في "جريدة الجزيرة" العدد 3535 في 29/9/1407هـ
[58]سورة [البقرة: 196]
[59] صدر من مكتب سماحته برقم 4089/1/1 وتاريخ 4/4/1392هـ عندما كان رئيسًا للجامعة الإسلامية.
[60] نشر في "مجلة رابطة العالم الإسلامي" 9 لشهر ذي القعدة 1406هـ، وفي كتاب "فتاوى تتعلق بأحكام الحج والعمرة والزيارة" ص 40.
[61]من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته في المحاضرة التي ألقاها بمنى في 8/12/1402هـ
[62]نشر في "مجلة التوعية الإسلامية في الحج" العدد التاسع عام 1409هـ
[63]صدر من مكتب سماحته عندما كان نائبًا لرئيس الجامعة الإسلامية على سؤال مؤرخ في 28/2/1385هـ
[64] سورة [البقرة: 196]
[65]من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته في المحاضرة التي ألقاها في الجامع الكبير بالرياض في 15/2/1400هـ بعنوان "التحذير من الفتن"
[66]سورة [البقرة: 196](/186)
[67]نشر في "مجلة التوعية الإسلامية في الحج" العدد 10 في 11/12/1401هـ
[68]نشرت في كتاب "فتاوى إسلامية" جمع الشيخ/ محمد المسند ج2 ص 227
[69]سورة [البقرة: 286]
[70]من الأسئلة الموجهة لسماحته في المحاضرة التي ألقاها بمِنى يوم التَّرْوية سنة 1402هـ
[71]من برنامج "نور على الدرب" الشريط الثالث.
[72]نشر في كتاب "الدعوة" ج1 ص 129، وفي "جريدة الشرق الأوسط" العدد 3514 في 12/7/1988م، وفي كتاب "فتاوى تتعلق بالحج والعمرة والزيارة" لسماحته ص 6، وفي "جريدة اليوم" العدد 8701 في 4/12/1417هـ
[73]من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته في المحاضرة التي ألقاها بمنى يوم التروية عام 1402هـ
[74]نشر في "مجلة الدعوة" العدد 1634 في 21/11/1418هـ
[75]سؤال مُقَدَّم من الأخ ب. ب. ص. أجاب عنه سماحته بتاريخ 3/11/1413هـ
[76]نشر في "مجلة الدعوة" العدد 1414 في 13/5/1414هـ
[77]سؤال موجه لسماحته في حج عام 1418هـ
[78]رواه البخاري في (الجنائز)؛ باب الكفن في ثوبينِ برقم 1265، ومسلم في (الحج)؛ باب ما يُفعل بالمحرم إذا مات برقم 1206.
[79]نشر في كتاب "الدعوة" ج2 ص 173
[80]رواه البخاري في (الحج)؛ باب ما لا يلبس المحرم من الثياب برقم 1542، ومسلم في (الحج)؛ باب ما يباح للمحرم بحج وعمرة وما لا يباح برقم 1177
[81]رواه البخاري في (الحج)؛ باب لُبْس الخُفَّيْنِ للمُحْرِم برقم 1841، ومسلم في (الحج)؛ باب ما يُباح للمُحْرِم بحج أو عمرة برقم 1179
[82] من برنامج "نور على الدَّرْب".
[83]نشر في "مجلة التوعية الإسلامية في الحج" العدد 11 في عام 1400هـ، والعدد 3 في عام 1404هـ، وفي كتاب "فتاوى وأحكام تتعلق بالحج والعمرة والزيارة" لسماحته ص 22، وفي "مجلة رابطة العالم الإسلامي" لشهر ذي القعدة عام 1406هـ ص 60.
[84]رواه الإمام أحمد في "مسند المُكْثرِينَ من الصحابة" مُسْند عبدالله بن عمر برقم 4881.(/187)
[85]رواه البخاري في (الحج)؛ باب ما لا يلبس المُحْرِم من الثياب برقم 1542، ومسلم في (الحج )؛ باب ما يُباح للمُحْرِم بحج وعمرة وما لا يُباح برقم 1177.
[86]رواه الإمام أحمد في "مسند الأنصار" حديث السيدة عائشة برقم 23501، وأبو داود في "المناسك"؛ باب المحرمة تغطي وجهها برقم 1833.
[87]سؤال مُوَجّه إلى سماحته بعد الدرس الذي ألقاه في المسجد الحرام في 28/12/1418هـ
[88]سورة [المائدة: 1].
[89]نشر في "مجلة الدعوة" العدد 1678 في 18/شوال 1419هـ
[90]من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته من "المجلة العربية"، ونشر في "جريدة البلاد" بتاريخ 5/12/1416هـ
[91]من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته في المحاضرة التي ألقاها بمنى يوم التروية سنة 1402هـ
[92]نشر في "مجلة الدعوة" العدد 1681 في 9/11/1419هـ، وفي كتاب "فتاوى إسلامية" جمع الشيخ/ محمد المسند ج2 ص 222
[93]رواه البخاري في (الحج)؛ باب ما لا يلبس المحرم من الثياب برقم 1542، ومسلم في (الحج)؛ باب ما يباح للمحرم بحج أو عمرة وما لا يباح برقم 1177
[94]من ضمن الأسئلة المُوجهة لسماحته في المحاضرة التي ألقاها بمنى يوم التروية سنة 1402هـ
[95]رواه الترمذي في (صفة القيامة)؛ باب منه (ما جاء في صفة أواني الحوض) برقم 2518، والنسائي في (الأشربة) باب الحَثّ على تَرْك الشُّبهات برقم 5711
[96]نشر في "مجلة التوعية الإسلامية في الحج" العدد 11 في 15/12/1400
[97] نشر في "مجلة التوعية الإسلامية في الحج" العدد 8 في 4/12/1401 هـ
[98]نشر في كتاب "فتاوى إسلامية" جمع الشيخ محمد المسند، ج2 ص 232
[99] سؤال مُقَدَّم من الأخ / م. ع. د. أجاب عنه سماحته عندما كان رئيسًا للجامعة الإسلامية
[100]نشر في "مجلة الدعوة" العدد 1637 بتاريخ 19/12/1418هـ
[101]سؤال شخصي مُقَدَّم لسماحته من ح. ن. ق. من الأحساء - المملكة العربية السعودية
[102]سؤال شخصي مقدم من / ع. ع. ص. ع(/188)
[103]من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته من "المجلة العربية"
[104]سورة [المؤمنون: 5- 7]
[105]نشر في "مجلة الدعوة" العدد 1414 في 13/5/1414هـ
[106]من برنامج "نور على الدرب"
[107]رواه البخاري في (الحج)؛ باب ما ينهى من الطيب للمُحْرِم برقم 1838
[108]نشر في "جريدة الجزيرة" في 18/11/1416هـ.
[109]رواه البخاري في (الحج)؛ باب لبس الخفَّينِ للمحرم برقم 1841، ومسلم في (الحج)؛ باب ما يُبَاح للمحرم بحج أو عمرة برقم 1179.
[110]نشر في "مجلة الدعوة" العدد 1683 في 23/11/1419هـ
[111]رواه البخاري في (الحج)؛ باب ما ينهى من الطيب للمحرم برقم 1838
[112]نشر في "مجلة الدعوة" العدد 1540 بتاريخ 22/12/1416هـ
[113]سورة [النور: 31]
[114]سورة [التحريم: 8]
[115]نشر في جريدة (عكاظ) العدد 11551 في 10/12/1418هـ
[116]سورة البقرة، الآية 196
[117]سؤال مُوَجَّه لسماحته في درس بلوغ المرام
[118]إجابة صدرت من مكتب سماحته عندما كان رئيساً للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
[119]رواه البخاري في (الحج) باب مهل أهل الشام برقم 1526، ومسلم في (الحج) باب مواقيت الحج والعمرة برقم 1181
[120]نشر في مجلة (الدعوة) العدد 1682 في 16/11/1419هـ
[121]إجابة صدرت من مكتب سماحته برقم 3862/1/1 وتاريخ 28/3/1392هـ على سؤال ورد من الأخ ع. م.ب. غ. عندما كان رئيسًا للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
[122] سورة [البقرة: 196]
[123]إجابة صدرت من مكتب سماحته برقم 102 وتاريخ 19/1/1388هـ على سؤالينِ، وردًّا من الأخ م. ع. ع. عندما كان نائبًا لرئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
[124]سورة [الحج: 32 - 33]
[125]سورة [المائدة: 95]
[126]رواه أبو داود في (المناسك)؛ باب فيمن قدم شيئًا قبل شيء في حجه برقم 2015
[127]من برنامج "نور على الدرب "
[128]نشر في "مجلة الدعوة" العدد 1687 في 29/12/1419هـ
[129]نشر في "مجلة الدعوة" العدد 1681 في 9/11/1419هـ(/189)
[130]من برنامج "نور على الدرب".
[131]نشر في كتاب "فتاوى تتعلق بالحج والعمرة والزيارة"، وفي مجلة "التوعية الإسلامية" العدد 9 في عام 1409هـ، وفي "مجلة الدعوة" العدد 1539 في 8/12/1416هـ، وفي "جريدة المسلمون" العدد 522 في 4/9/1415هـ
[132]رواه الإمام أحمد في أول "مسند المدنيين" حديث عبدالله بن الزبير بن العَوَّام برقم 15685.
[133]سورة [الأنعام: 160]
[134]سورة [الحج: 25]
[135]سورة [لقمان: 13].
[136]نشر في "جريدة الندوة" العدد 12281 في 8/12/1419هـ.
[137]نشر في "مجلة التوعية الإسلامية في الحج" العدد 8 في 4/12/1408هـ.
[138]من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته في درس "بلوغ المرام".
[139]من ضمن أسئلة موجهة لسماحته في درس "بلوغ المرام".
[140]نشر في "مجلة التوعية الإسلامية في الحج" العدد العاشر عام 1410هـ .
[141]رواه البخاري في (الجزية)؛ باب إثم الغادر للبر والفاجر برقم 3189، ومسلم في (الحج)؛ باب تحريم مكة وصيدها برقم 1353.
[142]رواه مسلم في (الحج)؛ باب فضل المدينة برقم 1362.
[143]وفي حمام مكة إذا قتله الجزاء، وهو أن يذبح بدل الحمامة التي قتلها شاة أو عدلها صيامًا أو إطعامًا؛ لقول الله - تعالى -: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} [المائدة: 95]، وقد ذكر العلماء أن في الحمامة شاة.
[144]من ضمن أسئلة موجهة لسماحته في درس "بلوغ المرام".
[145]من ضمن أسئلة موجهة لسماحته في درس "بلوغ المرام".
[146]سورة [المائدة: 95].
[147]سورة [البقرة: 185].
[148]رواه البخاري في (الحج)؛ باب إذا أهدى للمحرم حمارًا وحشيًّا حيًّا لم يقبل برقم 1852، ومسلم في (الحج)؛ باب تحريم الصيد للمحرم برقم 1193(/190)
[149]من ضمن أسئلة موجهة لسماحته في درس "بلوغ المرام".
[150]رواه أبو داود في (المناسك) باب لحم الصيد للمحرم برقم 1851.
[151]من ضمن أسئلة موجهة لسماحته في درس "بلوغ المرام".
[152]من ضمن أسئلة موجهة لسماحته في درس "بلوغ المرام".
[153]نشر في "مجلة الدعوة" العدد 1681 في 9/11/1419هـ، وفي كتاب "فتاوى إسلامية" جمع الشيخ/ محمد المسند ج2 ص 222.
[154] من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته من "المجلة العربية".
[155]رواه البخاري في (الصلاة)؛ باب إذا صلى في الثوب الواحد برقم 359، ومسلم في (الصلاة)؛ باب الصلاة في الثوب الواحد برقم 516.
[156] نشر في "مجلة الدعوة" العدد 1542 في 6/1/1417هـ.
[157] رواه البخاري في (الصلاة)؛ باب إذا صلى في الثوب الواحد برقم 359، ومسلم في (الصلاة)؛ باب الصلاة في ثوب واحد برقم 516.
[158]من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته في درس "بلوغ المرام".
[159]إجابة صدرت من مكتب سماحته برقم 4189/1/1 وتاريخ 4/4/1392هـ عندما كان رئيسًا للجامعة الإسلامية.
[160]نشر في "مجلة التوعية الإسلامية في الحج" العدد 10 في 11/12/1410هـ .
[161] من برنامج "نور على الدرب".
[162]رواه بنحوه الإمام أحمد في "مسند المكيين" حديث رجل أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - برقم 14997، والنسائي في (مناسك الحج )؛ باب إباحة الكلام في الطواف برقم 2922.
[163]رواه بنحوه مسلم في (الحج)؛ باب استح؛ باب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكبًا برقم 1297.
[164]من ضمن الأسئلة المُوَجَّهَة لسماحته من "مجلة الدعوة".
[165]نشر في "مجلة الدعوة" في العدد 1445 بتاريخ 7/1/1415هـ، وقد سبق نشره في المجلد 10 ص 142 من هذا المجموع.
[166]نشر في "المجلة العربية" العدد 156 لشهر ذي الحجة 1410هـ، وقد سبق نشره في مجلد 10 ص160 من هذا المجموع.
[167]رواه أبو داود في (الطهارة)؛ باب من يحدث في الصلاة برقم 205، وفي (الصلاة )؛ باب إذا أحدث في صلاته برقم 1005.(/191)
[168]نشر في "مجلة التوعية الإسلامية في الحج" العدد 4 ص 77، وفي كتاب "فتاوى تتعلق بأحكام الحج والعمرة والزيارة" ص 34.
[169]نشر في "مجلة التوعية الإسلامية في الحج" العدد 11 في 15/12/1411هـ، وفي كتاب "فتاوى تتعلق بأحكام الحج والعمرة والزيارة" ص 32، وفي "مجلة العالم الإسلامي" في ذي القعدة عام 1406هـ.
[170]سورة [المائدة: 6 ].
[171]نشر في "مجلة الدعوة" العدد 1562 وتاريخ 28/5/1417هـ، وفي "جريدة الرياض" العدد 10868 في 29/11/1418هـ، وفي كتاب "الدعوة" الجزء الأول ص131، وفي "جريدة البلاد" العدد 14903 في 9/12/1417هـ.
[172]سورة [البقرة: 201].
[173]سورة [الأحزاب: 21].
[174]رواه البخاري معلقًا في باب النجش، ومسلم في (الأقضية)؛ باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور برقم 1718.
[175]نشر في "مجلة التوعية الإسلامية في الحج" العدد 10 في 11/12/1410هـ.
[176]من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته من "المجلة العربية".
[177]سورة [البقرة:201].
[178]سورة [البقرة: 158].
[179]رواه مسلم في (الحج)؛ باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - برقم 1218.
[180]نشر في "مجلة التوعية الإسلامية في الحج" العدد 11 في 15/12/1411هـ.
[181]نشر في "مجلة التوعية الإسلامية في الحج" العدد 11 في 15/12/1411هـ.
[182]من ضمن أسئلة موجهة لسماحته في درس "بلوغ المرام".
[183]من ضمن أسئلة موجهة لسماحته في دروس المسجد الحرام عام 1418هـ.
[184]نشر في "مجلة الجامعة الإسلامية".
[185]من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته في المحاضرة التي ألقاها بمنى يوم التروية عام 1402هـ.
[186]نشر في "جريدة المدينة" العدد 8602.
[187] نشر في "مجلة الدعوة" العدد 1679 في 25 شوال 1419هـ.
[188]نشر في كتاب "فتاوى تتعلق بأحكام الحج والعمرة والزيارة" لسماحته ص 131، وفي "مجلة التوعية الإسلامية في الحج" العدد العاشر سنة 1410هـ.(/192)
[189]رواه مسلم في (فضائل الصحابة)؛ باب فضائل أبي ذر برقم 2473.
[190]رواه أبو داود الطيالسي في "مسنده" برقم 457.
[191]نشر في "جريدة الندوة" العدد 9869 في 12/12/1411هـ.
[192]نشر في "مجلة التوعية الإسلامية في الحج" في العدد 10 في 10/12/1410هـ.
[193]نشر في كتاب "فتاوى تتعلق بأحكام الحج والعمرة والزيارة"ص 34
[194]نشر في "مجلة التوعية الإسلامية في الحج" العدد 10 في 11/12/1410هـ
[195]إجابة صدرت من مكتب سماحته عن أسئلة مقدمة من مندوب "جريدة الجزيرة" بالسليل
[196]نشر في كتاب "فتاوى وتنبيهات ونصائح"، طبع مكتبة السنة بمصر، وفي "مجلة التوحيد" التي تصدر عن جماعة أنصار السنة المحمدية بمصر.
[197]سورة [النساء: 48]..
[198]سورة [الزمر: 65].
[199]رواه بنحوه مسلم في (الحج)؛ باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكبًا برقم 1297.
[200]سورة [الحشر: 7].
[201]سورة [النور: 56].
[202]سورة [النساء: 80].
[203]سورة [الأحزاب: 21].
[204]سورة [النساء: 13 - 14].
[205]سورة [الأعراف: 158].
[206] سورة [آل عمران: 31].
[207]رواه مسلم في (الحج)؛ باب في فضل الحج والعمرة ويوم عرفة برقم 1348
[208]رواه الإمام أحمد في "مسند المكثرين من الصحابة" مسند عبدالله بن عمرو بن العاص برقم 7049.
[209]رواه مسلم في (الحج)؛ باب ما جاء في أن عرفة كلها موقف برقم 1218.
[210]رواه البخاري في (العلم)؛ باب الفُتيا، وهو واقف على الدابة وغيرها برقم 83، وفي ( الحج )؛ باب الذبح قبل الحلق برقم 1721، ومسلم في (الحج )؛ باب من حلق قبل النحر أو نحر قبل الرمي برقم 1306.
[211]رواه مسلم في (الحج)؛ باب وجوب طواف الوداع وسقوطه عن الحائض برقم 1327.
[212]رواه البخاري في (الحج)؛ باب طواف الوداع برقم 1755، ومسلم في (الحج)؛ باب وجوب طواف الوداع وسقوطه عن الحائض والنفساء برقم 1328.
[213]نشر في "مجلة التوعية الإسلامية في الحج" العدد 11 في 15/12/1401هـ.(/193)
[214]نشر في "مجلة التوعية الإسلامية في الحج" العدد 11 في 15/12/1400هـ، وفي كتاب "فتاوى تتعلق بأحكام الحج والعمرة والزيارة"ص 73 طبعة 1408هـ.
[215]ضمن أسئلة مقدمة من م . ح . م . أجاب عنها سماحته.
[216]نشر في "جريدة الجزيرة" يوم الخميس المُوافق 15/12/1415هـ.
[217]رواه البخاري في (الحج)؛ باب مهل أهل الشام برقم 1526، ومسلم في (الحج)؛ باب مواقيت الحج والعمرة برقم 1181.
[218]نشر في "جريدة عكاظ" العدد 11543 في 2/12/1418هـ.
[219]سؤال مقدم من س. ع . ع. أجاب عنه سماحته في 1/12/1418هـ.
[220]نشر في "جريدة عكاظ" بتاريخ 7 / 12 / 1418 هـ. و في "جريدة الندوة" العدد (9860) بتاريخ 12 / 12 / 1411 هـ، وفي "جريدة الجزيرة" بتاريخ 6/ 12 / 1418 هـ.
[221]من ضمن الأسئلة المُوجَّهَة لسماحته في المحاضرة التي ألقاها بمنى يوم التروية سنة 1402هـ.
[222] من برنامج "نور على الدرب" الشريط رقم 56 ، وقد سبق نشره في هذا المجموع الجزء 12 ص 313.
[223]رواه بنحوه مسلم في (الحج)؛ باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكبًا برقم 1297.
[224]نشر في "مجلة الدعوة" العدد 1682 في 16/11/1419هـ.
[225]نشر في "كتاب الدعوة" ج1 ص 128.
[226]رواه الإمام أحمد في "مسند الكوفيين" حديث عبدالرحمن بن يعمر الديلي برقم 18475 ، والترمذي في (الحج)؛ باب ما جاء فيمن أدرك الإمام بجمع فقد أدرك الحج برقم 889.
[227]نشر في "جريدة عكاظ" العدد 11551 بتاريخ 10/12/1418هـ.
[228]سؤال موجه لسماحته من مجموعة من الأطباء من بعض البلاد الإسلامية.
[229]من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته في درس "بلوغ المرام".
[230]رواه بنحوه مسلم في (الحج)؛ باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكبًا برقم 1297.
[231]نشر في "مجلة الدعوة" العدد 1540 في 22/12/1416هـ.
[232] من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته في درس "بلوغ المرام".
[233]من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته في درس "بلوغ المرام".(/194)
[234]سؤال شخصي من الأخ / ص . ب . ي . ونشر في كتاب "الأجوبة المفيدة من مسائل العقيدة" لسماحته، طبعة عام 1414هـ.
[235]سورة [آل عمران: 103].
[236]سورة [النساء: 115].
[237]رواه الإمام أحمد في "مسند الشاميين" حديث العرباض بن سارية برقم 16694 ، وأبو داود في (السنة)؛ باب لزوم السنة برقم 4607.
[238]رواه مسلم في (الجمعة)؛ باب تخفيف الصلاة والخطبة برقم 867.
[239]رواه الترمذي في (الصوم)؛ باب ما جاء: الصوم يوم تصومون برقم 697، وابن ماجه في (الصيام)؛ باب ما جاء في شهري العيد برقم 1660.
[240]رواه بنحوه مسلم في (الحج)؛ باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكبًا برقم 1297.
[241]رواه البخاري في (العلم)؛ باب من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين برقم 71، ومسلم في (الزكاة)؛ باب النهي عن المسألة برقم 1037.
[242]سؤال من ص . ب . ي . ونشر في كتاب "الأجوبة المفيدة من مسائل العقيدة" لسماحته، طبعة 1414هـ.
[243]سورة [النساء: 115].
[244]نشر في "مجلة الدعوة" العدد 1537 في 23/11/1416هـ ، وفي كتاب "فتاوى إسلامية" من جمع الشيخ/ محمد المسند ج2 ص 267.
[245]سورة [الأعراف: 55].
[246]سورة الأعراف: 205].
[247]رواه الإمام أحمد في "مسند الكوفيين" حديث أبي موسى الأشعري برقم 19102 ، والبخاري في (الدعوات)؛ باب الدعاء إذا علا عقبه برقم 6348، ومسلم في (الذكر والدعاء)؛ باب استحباب خَفْض الصوت بالذِّكْر برقم 2704.
[248]سورة [مريم: 2 - 3].
[249]سورة [غافر: 60].
[250]رواه الترمذي في (الدعوات)؛ باب في دعاء يوم عرفة برقم 3585.
[251]رواه البخاري معلقًا في باب النجش، ومسلم في (الأقضية)؛ باب نقض الأحكام الباطلة، وردّ مُحْدثات الأمور برقم 1718.
[252]من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته في درس "بلوغ المرام"(/195)
[253]نشر في "جريدة الندوة" العدد 9869 بتاريخ 12/12/1411هـ ، وفي "جريدة الرياض" بتاريخ 7/12/1416هـ، وفي "جريدة الجزيرة" بتاريخ 6/12/1418هـ، وفي "جريدة عكاظ" بتاريخ 7/12/1418هـ.
[254]نشر في "نشرة الحسبة" العدد 17 لشهري ذي القعدة وذي الحجة 1417هـ
[255]نشر في "مجلة الدعوة" العدد 1539 في 8/12/1416هـ.
[256]رواه بنحوه مسلم في (الحج)؛ باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم العيد راكبًا برقم 1297.
[257]نشر في "مجلة الدعوة" العدد 1538 بتاريخ 1/12/1416هـ.
[258]رواه البخاري في (التيمم)؛ باب قول الله - تعالى -: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} برقم 335.
[259]سورة [النساء: 103]
[260]رواه البخاري في (مواقيت الصلاة)؛ باب وقت صلاة العشاء إلى نصف الليل برقم 572 ، ومسلم في (المساجد ومواضع الصلاة)؛ باب أوقات الصلوات الخمس برقم 612.
[261]من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته في المحاضرة التي ألقاها يوم التروية بمنى سنة 1402هـ .
[262]رواه بنحوه مسلم في (الحج)؛ باب استحباب رَمْي جمرة العقبة يوم النحر راكبًا برقم 1297.
[263] سورة [الأحزاب: 21].
[264]رواه مسلم في (صلاة المسافرين وقصرها)؛ باب جامع صلاة الليل، ومن نام عنه أو مرض برقم 746.
[265] من ضمن الأسئلة المُوَجَّهَة إلى سماحته في المحاضرة التي ألقاها بمِنى يوم التروية سنة 1402هـ.
[266] رواه بنحوه مسلم في (الحج)؛ باب استحباب رَمْي جمرة العقبة يوم النحر راكبًا برقم 1297.
[267] من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته في المحاضرة التي ألقاها بمِنى يوم التروية عام 1402هـ.
[268] من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته في درس "بلوغ المرام".
[269] سورة [التغابن: 16].
[270] من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته في درس "بلوغ المرام".
[271] من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته في درس "بلوغ المرام".
[272] سورة [البقرة: 196].
[273] من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته في درس "بلوغ المرام".(/196)
[274] من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته في درس "بلوغ المرام".
[275] من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته في المحاضرة التي ألقاها بمِنى يوم التروية سنة 1402هـ.
[276] نشر في "جريدة الندوة" العدد 9869 في 12/12/1411هـ.
[277] نشر في "مجلة التوعية الإسلامية في الحج" العدد 11 في 15/12/1401هـ.
[278] سؤال من س ع. ح. أجاب عنه سماحته بتاريخ 1/9/1408هـ
[279] نشر في "مجلة التوعية الإسلامية في الحج" العدد 6 في 27/11/1405هـ ص19، وفي كتاب "فتاوى تتعلق بأحكام الحج والعمرة والزيارة" ص 102 طبعة 1408هـ
[280] من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته في حج عام 1407هـ، شريط رقم 1.
[281] من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته في حج عام 1407هـ، شريط رقم 1.
[282] سورة [الأحزاب: 21].
[283] رواه بنحوه مسلم في (الحج)؛ باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكبًا برقم 1297.
[284] من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته في المحاضرة التي ألقاها بمنى يوم التروية عام 1402هـ.
[285] رواه بنحوه مسلم في (الحج)؛ باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكبًا برقم 1297
[286] سورة [الحشر: 7].
[287] سورة [الأحزاب: 21].
[288] من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته في المحاضرة التي ألقاها بمنى يوم التروية عام 1402هـ.
[289] نشر في "جريدة الندوة" العدد 9869 في 12/12/1411هـ
[290] من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته في المحاضرة التي ألقاها بمنى يوم التروية عام 1402هـ
[291] سورة [التغابن: 16]
[292] رواه البخاري في (العلم)؛ باب ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتخولهم بالموعظة برقم 69، ومسلم في (الجهاد والسير)؛ باب في الأمر بالتيسير وترك التنفير برقم 1734
[293] نشر في كتاب "الدعوة" ج1 ص 127
[294] نشر في "جريدة عكاظ" العدد 10877 في 7/1/1417هـ
[295] سورة [البقرة: 196].(/197)
[296] نشر في "مجلة التوعية الإسلامية في الحج" العدد 11 ص 63 في 15/12/1400هـ، وفي العدد 7 ص 77 في 2/12/1404هـ، وفي كتاب "فتاوى تتعلق بأحكام الحج والعمرة والزيارة" ص 96 طبعة 1408هـ.
[297] سورة [البقرة: 196].
[298] رواه مسلم في (الحج)؛ باب وجوب طواف الوداع وسقوطه عن الحائض برقم 1327.
[299] رواه البخاري في (الحج)؛ باب طواف الوداع برقم 1755، ومسلم في (الحج)؛ باب وجوب طواف الوداع وسقوطه عن الحائض برقم 1328.
[300]نشر في "مجلة التوعية الإسلامية في الحج" العدد 11 في 15/12/1400هـ، وفي العدد 6 في 27/11/1404هـ، وفي كتاب "فتاوى تتعلق بأحكام الحج والعمرة والزيارة" لسماحته ص 86 طبعة 1408هـ، وفي "جريدة المدينة" العدد 12072 في 11/12/1416هـ .
[301] سورة [البقرة: 196].
[302] نشر في "مجلة التوعية الإسلامية في الحج" العدد 7 في 2/12/1404هـ، وفي كتاب "فتاوى تتعلق بأحكام الحج والعمرة والزيارة"ص 104.
[303] عن كل شخص.
[304] نشر في "جريدة عكاظ" العدد 10848 وتاريخ 7/12/1416هـ، وفي "جريدة الجزيرة" بتاريخ 15/12/1415هـ.
[305] نشر في "جريدة عكاظ" العدد 10848 بتاريخ 7/12/1416هـ.
[306] من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته من "مجلة البحوث الإسلامية"، وقد نشر في العدد 7 عام 1403هـ.
[307] رواه الإمام أحمد في باقي "مسند الأنصار" مسند عائشة برقم 24557، وأبو داود في (المناسك)؛ باب في الرمل برقم 1888.
[308] رواه الإمام أحمد في "مسند العشرة المبشرين بالجنة" مسند علي بن أبي طالب برقم 879، والنسائي في (قيام الليل وتطوع النهار)؛ باب الأمر بالوتر برقم 1675، وأبو داود في (الصلاة)؛ باب استحباب الوتر برقم 1416.
[309] نشر في "جريدة الندوة" العدد 9869 بتاريخ 12/12/1411هـ.
[310] من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته من "المجلة العربية".
[311] من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته من السائل ب. ب. ص. أجاب عنها سماحته في 3/11/1413هـ.(/198)
[312] من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته من "جريدة المسلمون".
[313] صدر من مكتب سماحته برقم 3952/ ح وتاريخ 3/2/1414هـ جوابًا عن سؤال مُوَجَّه إليه من هـ. ف.
[314] صدر عندما كان رئيسًا للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة من مكتب سماحته برقم 3862/1/1 وتاريخ 28/3/1392هـ.
[315] سورة [البقرة: 196].
[316] فتوى صدرت من مكتب سماحته.
[317] من ضمن أسئلة مُقَدَّمَة لسماحته في دُروس المسجد الحرام في 25/12/1418هـ.
[318] سؤال مُقَدَّم من / ب. ب. ص. أجاب عنه سماحته في 3/11/1413هـ
[319] نشر في "مجلة الدعوة" العدد 1494 في 10/1/1416هـ.
[320] نشر في "مجلة التوعية الإسلامية في الحج" العدد 8 في 5/12/1404هـ، وفي كتاب "فتاوى تتعلق بأحكام الحج والعمرة والزيارة"ص 117 طبعة 1408هـ.
[321] نشر في كتاب "الدعوة" ج 1 ص 134، وفي جريدة "الشرق الأوسط" العدد 3514 في 12/7/1988م، وفي "جريدة الرياض" العدد 10868 في 29/11/1418هـ، وفي كتاب "فتاوى تتعلق بأحكام الحج والعمرة والزيارة" ص 9 طبعة 1408هـ.
[322] نشرت في كتاب "الدعوة" ج1 ص 136، وفي جريدة "المدينة" العدد 11726 في 14/12/1415هـ، وفي جريدة "الرياض" العدد 10868 في 29/11/1418هـ.
[323] نشر في "مجلة التوعية الإسلامية في الحج" العدد السابع في 2/12/1404هـ، وفي كتاب "فتاوى تتعلق بأحكام الحج والعمرة والزيارة"ص 114 طبعة 1408هـ.
[324] نشر في "مجلة التوعية الإسلامية في الحج" العدد السابع في 2/12/1404هـ، وفي كتاب "فتاوى تتعلق بأحكام الحج والعمرة والزيارة"ص 108 طبعة عام 1408هـ.
[325]رواه البخاري في (الجنائز)؛ باب الكفن في ثوبين برقم 1265، مسلم في (الحج)؛ باب ما يفعل بالمحرم إذا مات برقم 1206.
[326] من ضمن أسئلة موجهة لسماحته في درس "بلوغ المرام".
[327] رواه بنحوه مسلم في (الحج)؛ باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكبًا برقم 1297.(/199)
[328]نشر في مجلة (التوعية الإسلامية في الحج ) العدد 7 في 2/12/1404هـ ص 79، وكتاب "فتاوى تتعلق بأحكام الحج والعمرة والزيارة"ص 113 طبعة عام 1408هـ.
[329] نشر في "جريدة عكاظ" العدد 11551 في 10/12/1418هـ.
[330] من ضمن أسئلة موجهة لسماحته من فضيلة الشيخ/ ع. س. م. أجاب عنها سماحته في 7/2/1414هـ.
[331] رواه أبو داود في (المناسك)؛ باب فيمن قَدَّم شيئًا قبل شَيء في حجه برقم 2015.
[332] من ضمن أسئلة موجهة لسماحته في دروس المسجد الحرام في 25/12/1418هـ.
[333] من ضمن أسئلة موجهة لسماحته في دروس في المسجد الحرام بتاريخ 25/12/1418هـ.
[334] نشر في "مجلة التوعية الإسلامية في الحج" العدد الحادي عشر في 15/12/1400هـ
[335] إجابة صدرت من مكتب سماحته عندما كان رئيسًا للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
[336] سورة [البقرة: 286].
[337] رواه مسلم في (الإيمان)؛ باب بيان أن الله سبحانه لم يكلف إلا ما يطاق برقم 126.
[338] من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته من "المجلة العربية" وقد أجاب عنها سماحته بتاريخ 24/9/1418هـ.
[339] نشر في جريدة "الندوة" العدد 9896 في 12/12/1411هـ.
[340] رواه البخاري في (العلم)؛ باب الفُتْيَا وهو واقف على الدَّابة وغيرها برقم 83، ومسلم في (الحج)؛ باب مَنْ حَلَق قبل النحر أو نحر قبل الرَّمْي برقم 1306.
[341] من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته في المحاضرة التي ألقاها يوم التروية بمنى عام 1402هـ.
[342] رواه البخاري في (العلم)؛ باب الفتيا وهو واقف على الدَّابة وغيرها برقم 83، ومسلم في (الحج)؛ باب مَنْ حَلَق قبل النحر أو نَحَر قبل الرَّمْي برقم 1306.
[343] نشر في "مجلة الدعوة" العدد 1638 في 26/12/1418هـ
[344] رواه البخاري في (العلم)؛ باب الفُتْيا وهو واقف على الدابة وغيرها برقم 83، ومسلم في (الحج)؛ باب من حَلَق قبل النَّحْر أو نحر قبل الرَّمْي برقم 1306(/200)
[345] من ضمن أسئلة موجهة لسماحته في درس "بلوغ المرام"
[346] نشر في "مجلة التوعية الإسلامية في الحج" العدد الحادي عشر في 15/12/1400هـ،وفي العدد الثامن في 5/12/1404هـ، وفي كتاب "فتاوى تتعلق بأحكام الحج والعمرة والزيارة"ص 115 طبعة 1408هـ
[347] رواه البخاري في (العلم)؛ باب الفُتْيا وهو واقف على الدابة وغيرها برقم 83، ومسلم في (الحج)؛ باب من حَلَق قبل النَّحْر أو نحر قبل الرَّمْي برقم 1306
[348] من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته من المستفتي ب. ب. ص. وقد أجاب عنها سماحته في 3/11/1413هـ
[349] نشر في "مجلة التوعية الإسلامية في الحج" العدد الحادي عشر في 15/12/1401هـ
[350] نشر في "مجلة الدعوة" العدد 1634 في 21/11/1418هـ
[351] نشر في "مجلة التوعية الإسلامية في الحج" العدد 8 ص 77 في 5/12/1404هـ، وفي جريدة "المدينة" العدد 12072 في 11/12/1416هـ، وفي كتاب "فتاوى تتعلق بأحكام الحج والعمرة والزيارة"ص 114 طبعة 1408هـ
[352] نشر في جريدة "الندوة" العدد 9869 في 12/12/1411هـ، وفي جريدة الرياض في 11/12/1416هـ، وفي جريدة "عكاظ" بتاريخ 7/12/1418هـ
[353] نشر في "مجلة الدعوة" العدد 1538 في 1/12/1416هـ
[354] رواه مالك في "الموطأ" في (الحج)؛ باب التقصير برقم 905، وفي باب ما يفعل مَن نسي مِن نُسُكِه شيئًا برقم 957
[355] نشر في "مجلة البحوث الإسلامية" العدد السابع، 1403هـ
[356] سورة [التغابن: 16]
[357] سورة [التغابن: 16]
[358] سورة [التغابن: 16]
[359] نشر في "كتاب الدعوة" الجزء الأول ص 128
[360] سورة [التغابن، الآية 16]
[361] سؤال موجه من السائل خ. أ. ف. أجاب عنه سماحته في 17/12/1416هـ
[362] سورة [التغابن: 16]
[363] سؤال مُوَجَّه من السائل ع. ع. م. وقد صدر جوابه من مكتب سماحته في 30/11/1413هـ برقم 2522/خ
[364] سورة [التغابن: 16](/201)
[365] رواه البخاري في "الاعتصام بالكتاب والسنة"؛ باب الاقتداء بسنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برقم 7288، ومسلم في (الحج)؛ باب فرض الحج مرة في العمر برقم 1337
[366] من ضمن الأسئلة المُوَجَّهَة لسماحته في المحاضرة التي ألقاها بمنى يوم التروية عام 1402هـ
[367] نشر في "جريدة عكاظ" العدد 11563 في 22/12/1418هـ.
[368] رواه البخاري مُعَلَّقًا في (الحج)؛ باب رمي الجِمَار، ومسلم في (الحج)؛ باب بيان وقت استحباب الرَّمْي برقم 1299
[369] رواه البخاري في (الحج)؛ باب رمي الجمار برقم 1746
[370] رواه البخاري في (العلم)؛ باب الفتيا وهو واقف على الدابة وغيرها برقم 83، ومسلم في (الحج)؛ باب من حلق قبل النحر أو نحر قبل الرمي برقم 1306
[371] نشر في "جريدة الندوة" العدد 9869 في 12/12/1411هـ
[372] من ضمن أسئلة موجهة لسماحته في دروس في المسجد الحرام في 25/12/1418هـ
[373] نشر في "مجلة التوعية الإسلامية في الحج" العدد 11 في 15/12/1400هـ، وفي العدد 6 في 27/11/1404هـ، وفي كتاب "فتاوى تتعلق بأحكام الحج والعمرة والزيارة" ص 102
[374] رواه بنحوه مسلم في (الحج)؛ باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكبًا برقم 1297
[375] رواه بنحوه مسلم في (الحج)؛ باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكبًا برقم 1297
[376] سؤال مُوَجَّه من المُسْتَفْتِي م. ح. ج. أجاب عنه سماحته عندما كان نائبًا لرئيس الجامعة الإسلامية في شهر صفر سنة 1389هـ
[377] رواه بنحوه مسلم في (الحج)؛ باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكبًا برقم 1297
[378] من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته من "مجلة الدعوة" أجاب عنها سماحته في 9/3/1419هـ
[379] نشر في "مجلة الدعوة" العدد 1538 في 1/12/1416هـ
[380] رواه بنحوه مسلم في (الحج)؛ باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكبًا برقم 1297(/202)
[381] من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته في المحاضرة التي ألقاها في منى يوم التروية سنة 1402هـ
[382] سورة البقرة، الآية 286
[383] رواه مسلم في (الإيمان)؛ باب بيان أن الله - سبحانه - لم يُكَلّف إلا ما يُطَاق برقم 126
[384] من ضمن أسئلة موجهة لسماحته في دروس في المسجد الحرام في 25/12/1418هـ
[385] سؤال مُوَجَّه من السائل م. ع.. أجاب عنه سماحته
[386] من برنامج "نور على الدَّرْب"
[387] من ضمن أسئلة موجهة لسماحته في دروس في المسجد الحرام في 25/12/1418هـ
[388] سورة [الأعراف: 3]
[389] سورة [الأنعام: 155]
[390] سورة [النساء: 59]
[391] سورة [الحشر: 7]
[392] نشر في "جريدة اليوم" في يوم الثلاثاء 13/12/1416هـ
[393] رواه بنحوه مسلم في (الحج)؛ باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكبًا برقم 1297
[394] سورة [البقرة: 203]
[395] نشر في "مجلة الدعوة" العدد 1538 الخميس 1/12/1416هـ
[396] نشر في "جريدة الندوة" العدد 9869 في 12/12/1411هـ، وفي "جريدة الرياض" في 11/12/1416هـ، وفي "جريدة عكاظ" في 7/12/1418هـ
[397] من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته من السائل س. ع. ح. وأجاب عنها سماحته في 20/9/1395هـ
[398] فتوى صدرت من مكتب سماحته عندما كان رئيسًا عامًا لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
[399] رواه مسلم في (الحج)؛ باب وجوب طواف الوداع وسقوطه عن الحائض برقم 1327
[400] رواه البخاري في (الحج)؛ باب طواف الوداع برقم 1755، ومسلم في (الحج)؛ باب وجوب طواف الوداع وسقوطه عن الحائض برقم 1328
[401] نشر في كتاب "الدعوة" ج1 ص 130، وفي "المجلة العربية" جمادى الأولى عام 1412هـ
[402] رواه البخاري في (الحج)؛ باب طواف الوداع برقم 1755، ومسلم في (الحج)؛ باب وجوب طواف الوداع وسقوطه عن الحائض برقم 1328
[403] رواه مسلم في ( الحج )؛ باب وجوب طواف الوداع وسقوطه عن الحائض برقم ( 1327 ).(/203)
[404] من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته من "مجلة الدعوة"
[405] رواه مسلم في (الحج )؛ باب وجوب طواف الوداع وسقوطه عن الحائض برقم 1327
[406] رواه البخاري في (الحج)؛ باب طواف الوداع برقم 1755، ومسلم في (الحج)؛ باب وجوب طواف الوداع وسقوطه عن الحائض برقم 1328
[407] من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته من السائل ب. ب. ص. أجاب عنه سماحته في 3/11/1413هـ
[408] نشر في "جريدة عكاظ" العدد 11551 يوم الثلاثاء 10/12/1418هـ
[409] نشر في "مجلة التوعية الإسلامية في الحج" العدد التاسع عام 1409هـ
[410] رواه مسلم في (الحج)؛ باب وجوب طواف الوداع وسقوطه عن الحائض برقم 1327
[411] من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته من السائل ع. ع. ع. أجاب عنه سماحته عندما كان نائبًا لرئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
[412] رواه مسلم في (الحج)؛ باب وجوب طواف الوداع وسقوطه عن الحائض برقم 1327
[413] رواه البخاري في (الحج)؛ باب طواف الوداع برقم 1755، ومسلم في (الحج)؛ باب وجوب طواف الوداع وسقوطه عن الحائض برقم 1328
[414] رواه مالك في "الموطأ" في (الحج)؛ باب التقصير برقم 905، وفي باب ما يفعل من نسي من نُسُكه شيئًا برقم 957
[415] نشر في "مجلة التوعية الإسلامية في الحج" العدد الثامن في 5/12/1404هـ
[416] رواه مالك في "الموطأ" في (الحج)؛ باب التقصير برقم 905، وفي باب ما يفعل من نسي من نسكه شيئًا برقم 957
[417] من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته من طمجلة الدعوة"
[418] سورة [التغابن: 16]
[419] نشر في "مجلة التوعية الإسلامية في الحج" العدد التاسع عام 1401هـ
[420] نشر في "كتاب الدعوة" الجزء الأول ص 137
[421] رواه البخاري في (الحج)؛ باب طواف الوداع برقم 1755، ومسلم في (الحج)؛ باب وجوب طواف الوداع وسقوطه عن الحائض برقم 1328
[422] من برنامج "نور على الدَّرْب" الشريط الثاني.(/204)
[423] رواه مسلم في (الحج)؛ باب وجوب طواف الوداع وسقوطه عن الحائض برقم 1327
[424] رواه البخاري في (الحج)؛ باب طواف الوداع برقم 1755، ومسلم في (الحج)؛ باب وجوب طواف الوداع وسقوطه عن الحائض برقم 1328
[425] من ضمن أسئلة موجهة لسماحته بعد درس ألقاه في المسجد الحرام في 25/12/1418هـ
[426] رواه مسلم في (الحج)؛ باب وجوب طواف الوداع وسقوطه عن الحائض برقم 1327
[427] رواه البخاري في (الحج)؛ باب طواف الوداع برقم 1755، ومسلم في (الحج)؛ باب وجوب طواف الوداع وسقوطه عن الحائض برقم 1328
[428] نشر في كتاب "فتاوى تتعلق بأحكام الحج والعمرة والزيارة" لسماحته ص 139
[429] رواه البخاري في (الجمعة)؛ باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة برقم 1190، ومسلم في (الحج )؛ باب فضل الصلاة في مسجدي مكة والمدينة برقم 1394
[430] رواه الإمام أحمد في "مُسْند المُكْثِرين من الصَّحابة" مسند أنس بن مالك برقم 12173
[431] نشر في "مجلة الدعوة" العدد 1394 في 8/11/1413هـ
[432] رواه البخاري في (الحج)؛ باب حج النساء برقم 1864، ومسلم في (الحج)؛ باب لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد برقم 1397.
[433] رواه الإمام أحمد في "أول مسند المدنيين" حديث عبدالله بن الزُّبَيْر بن العوام برقم 15685
[434] من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته من الجمعية الخيرية بشقراء على كتاب "بلوغ المرام"
[435] من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته من "المجلة العربية"
[436] رواه البخاري في (الحج)؛ باب حج النساء برقم 1864، ومسلم في (الحج)؛ باب لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد برقم 1397
[437] رواه البخاري في (الجمعة)؛ باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة برقم 1190، ومسلم في (الحج)؛ باب فضل الصلاة في مسجدي مكة والمدينة برقم 1394(/205)
[438] رواه مسلم في (الجنائز)؛ باب استئذان النبي - صلى الله عليه وسلم - ربه - عز وجل - في زيارة قبر أمه، برقم 976، وابن ماجه في (الجنائز)؛ باب ما جاء في زيارة القبور برقم 1569
[439] رواه مسلم في (الجنائز)؛ باب ما يُقال عند دخول القبور والدعاء لأهلها برقم 975
[440] سورة [الأحزاب: 56]
[441] رواه مسلم في (الصلاة)؛ باب الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد التَّشَهُّد برقم 408
[442] رواه البخاري في (الجمعة)؛ باب هل على من لم يشهد الجمعة غسل برقم 900، ومسلم في (الصلاة)؛ باب خروج النساء إلى المساجد برقم 442
[443] نشر في "مجلة الدعوة" العدد 1246 في 28/11/1410هـ، وفي جريدة (الرياض ) العدد 10868 في 29/11/1418هـ، وفي هذا المجموع الجزء 6 ص 321
[444] رواه البخاري في (الحج)؛ باب حج النساء برقم 1864، ومسلم في (الحج)؛ باب لا تُشَدّ الرِّحال إلا إلى ثلاثة مساجد برقم 1397
[445] رواه البخاري في (الجمعة)؛ باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة برقم 1190، ومسلم في (الحج)؛ باب فضل الصلاة في مسجدي مكة والمدينة برقم 1394
[446] رواه مسلم في (الجنائز)؛ باب ما يُقال عند دخول القبور والدعاء لأهلها برقم 975
[447] رواه مسلم في (الجنائز)؛ باب ما يقال عند دخول القبور برقم 974
[448] رواه ابن ماجه في (إقامة الصلاة والسنة فيها )؛ باب ما جاء في الصلاة في مسجد قباء برقم 1412
[449] نشر في "مجلة التوعية الإسلامية في الحج" العدد 11 في عام 1405هـ، وفي "جريدة الندوة" العدد 8656 في 24/12/1407هـ.
[450] رواه البخاري في (الحج)؛ باب حج النساء برقم 1864، ومسلم في (الحج)؛ باب لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد برقم 1397
[451] رواه الإمام أحمد في "مُسْند المُكْثِرين من الصحابة" باقي مسند أبي هريرة برقم 8586
[452] من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته من الجمعية الخيرية بشقراء على كتاب "بلوغ المرام"(/206)
[453] رسالة أجاب عليها سماحته في 25/2/1394هـ عندما كان نائبًا للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
[454] نشر في المجلد الثامن من هذا المجموع ص323، وفي "مجلة الدعوة" العدد 1639 في 4/1/1419هـ
[455] رواه البخاري في (الصلح)؛ باب إذا اصطلحوا على صلح جور برقم 2697، ومسلم في (الأقضية)؛ باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور برقم 1718
[456] رواه البخاري معلقًا في النجش، ومسلم في (الأقضية)؛ باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور برقم 1718
[457] رواه مسلم في (الجمعة)؛ باب تخفيف الصلاة والخطبة برقم 867
[458] رسالة أجاب عليها سماحته في 20/1/1392هـ عندما كان رئيسًا للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
[459] رواه البخاري معلقًا في النجش، ومسلم في (الأقضية)؛ باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور برقم 1718
[460] نبذة مُخْتَصَرة من أعمال مناسك العمرة صدرت من مكتب سماحته في 13/2/1416هـ
[461] ما عدا النقاب، والبُرْقع، والقُفَّازين فتخلعها، وتغطي وجهها، وكفَّيْها عن الرجال غير المحارم بغيرها من الملابس
[462] سورة [البقرة: 158]
[463] نشر في كتاب "فتاوى إسلامية" من جمع الشيخ/ محمد المسند ج2 ص 303، وفي "جريدة الندوة" العدد 12226 في 26/9/1419هـ
[464] رواه الإمام أحمد في "مسند بني هاشم" بداية مسند عبدالله بن عباس برقم 2804، وابن ماجه في (المناسك)؛ باب العمرة في رمضان برقم 2994
[465] رواه البخاري في (الحج)؛ باب حج النساء برقم 1863
[466] رواه مسلم في (الحج)؛ باب فضل العمة في رمضان رقم 1256
[467] سورة [الأحزاب: 21]
[468] نشر في "مجلة اليمامة" العدد 1151 في 25/9/1411هـ
[469] رواه البخاري في (الحج)؛ باب وجوب العمرة وفضلها برقم 1773، ومسلم في (الحج)؛ باب في فضل الحج والعمرة ويوم عرفة برقم 1349
[470] من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته بعد الدرس الذي ألقاه في المسجد الحرام بتاريخ 25/12/1418هـ(/207)
[471] نشر في "مجلة الدعوة" العدد 1664 في 2/7/1419هـ
[472] من أسئلة حج عام 1407هـ، شريط رقم 1
[473] سؤال مُقَدَّم من م. ع. س. أجاب عنه سماحته
[474] سورة [البقرة: 286]
[475] رواه مسلم في (الإيمان )؛ باب بيان أن الله - سبحانه - لم يُكَلّف إلا ما يُطَاق برقم 126
[476] من برنامج "نور على الدَّرْب" الشريط رقم 15
[477] نشر في كتاب "فتاوى تتعلق بأحكام الحج والعمرة والزيارة" لسماحته ص 24، وفي "مجلة التوعية الإسلامية" العدد الثالث عام 1404هـ ص 79
[478] من برنامج "نور على الدَّرْب"
[479] نشر في "مجلة الدعوة" العدد 1635 في 28/11/1418هـ
[480] سؤال مُوَجَّه من الأخت ش. س. من الكويت أجاب عنه سماحته في 5/12/1417هـ
[481] نشر في "جريدة عكاظ" العدد 11551 في الثلاثاء 10/12/1418هـ
[482] سؤال مُوَجَّه من السائل س. ع. ح. أجاب عنه سماحته في 20/9/1395هـ
[483] نشر في "جريدة الندوة" العدد 6869 في 12/12/1411هـ، وفي "جريدة عكاظ" في 7/12/1418هـ
[484] رواه مسلم في (الحج)؛ باب وجوب طواف الوداع وسقوطه عن الحائض برقم 1327
[485] نشر في "جريدة الجزيرة" يوم السبت 2/2/1416هـ، وفي "مجلة الدعوة" العدد 1543 في 13/1/1417هـ
[486] سورة [البقرة: 196]
[487] نشر في "مجلة التوعية الإسلامية في الحج"، العدد 11 في 11/12/1400هـ، وفي العدد 9 ص 93 عام 1404هـ، وفي كتاب "فتاوى تتعلق بأحكام الحج والعمرة والزيارة" لسماحته ص 127 طبعة 1408هـ
[488] سورة [البقرة: 196]
[489] نشر في "مجلة الدعوة" العدد 1540 في 22/12/1416هـ.
[490] سورة [البقرة: 196]
[491] رواه البخاري في (النكاح)، باب (الأكفاء في الدين) برقم 5089، ومسلم في (الحج)، باب (جواز اشتراط المحرم التحلل بعذر المرض ونحوه) برقم 1207.
[492] نشر في "مجلة الدعوة" العدد 1561 في 21/5/1417هـ.(/208)
[493] رواه البخاري في (النكاح)، باب (الأكفاء في الدين) برقم 5089، ومسلم في (الحج)، باب (جواز اشتراط المحرم التحلل بعذر المرض ونحوه) برقم 1207
[494] من ضمن أسئلة مُقَدَّمَة لسماحته في دروس في المسجد الحرام عام 1418هـ.
[495] من ضمن أسئلة مقدمة لسماحته في درس "بلوغ المرام".
[496] نشر في "مجلة الدعوة"العدد 1542 في 6/1/1417هـ.
[497] إجابة عن أسئلة صدرت عن مكتب سماحته، عندما كان رئيسًا للجامعة الإسلامية.
[498] سورة [البقرة: 19]
[499] من كتاب "فتاوى إسلامية"، جمع الشيخ/ محمد المسند، ج2.
[500] سورة [البقرة: 196].
[501] سورة [البقرة: 286].
[502] من فتاوى سماحته في حج عام 1415هـ.
[503] من فتاوى سماحته في حج 1407هـ.
[504] من فتاوى سماحته في حج 1407هـ.
[505] نشر في مجلة "التوعية الإسلامية" في العدد 11 عام 1400هـ، وفي العدد 6 عام 1404هـ، وفي كتاب "فتاوى تتعلق بأحكام الحج والعمرة والزيارة" لسماحته
[506] رواه البخاري في (الصوم)، باب (صيام أيام التشريق) برقم 1998.
[507] من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته على محاضرة في الحج عام 1402هـ في منى.
[508] من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته على محاضرة في الحج عام 1402هـ في منى.
[509] نشر في كتاب "فتاوى تتعلق بأحكام الحج والعمرة والزيارة" لسماحته ص 84، وفي مجلة "التوعية الإسلامية" العدد 6 لعام 1404هـ ص 77.
[510] سورة [الشورى: 21].
[511] من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته على محاضرة في الحج عام 1402هـ بمنى.
[512] إجابة صدرت من مكتب سماحته.
[513] رواه البخاري في (الشركة)، باب (من عدل عشرا من الغنم بجزور في القسم) برقم 2507، ومسلم في (الأضاحي)، باب (جواز الذبح بكل ما أنهر الدم إلا السن) برقم 1968.
[514] إجابة صدرت من مكتب سماحته
[515] من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته على محاضرة في الحج عام 1402هـ في منى.(/209)
[516] من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته على محاضرة في الحج عام 1402هـ في منى.
[517] نشر في كتاب "فتاوى تتعلق بأحكام الحج والعمرة والزيارة" لسماحته ص 83، وفي "مجلة التوعية الإسلامية" العدد 11 عام 1400هـ، والعدد 6 عام 1404هـ ص 77، وفي "جريدة البلاد" العدد 14913 وتاريخ 19/12/1417هـ
[518] سورة [البقرة: 196].
[519] السؤال من ب. ب. ص، وقد أجاب عنه سماحته في 3/11/1413هـ.
[520] نشر في كتاب "الدعوة" الجزء الأول ص 129، وفي "جريدة اليوم" العدد 8701 بتاريخ 4/12/1417هـ، وفي "جريدة البلاد" العدد 14913 بتاريخ 19/12/1417هـ
[521] رواه بنحوه مسلم في (الحج)، باب (استحباب رَمْي جمرة العقبة يوم النحر راكبًا) برقم 1297.
[522] نشر في "مجلة التوعية الإسلامية" العدد 11 في 15/12/1400هـ.
[523] نشر في "مجلة التوعية الإسلامية" العدد 11 في 15/12/1400هـ.
[524] إجابة صدرت من مكتب سماحته، عندما كان رئيسًا للجامعة الإسلامية برقم 956 وتاريخ 2/6/1391هـ(/210)
العنوان: فتاوى اللجنة الدائمة عن الحج والعمرة
رقم المقالة: 1757
صاحب المقالة:
-----------------------------------------
كتاب الحج والعمرة
وجوب كلٍّ من الحج والعمرة، وشروط ذلك
أهمية مكة بالنسبة للمسلمين
السؤال العاشر من الفتوى رقم (3056)
س10: ماهي أهمية مكَّة للعالم الإسلامي؟
ج10: قد جعلها الله مثابةً للناس وأمنًا، وحرمًا آمنًا، يجتمع فيه الحجاج والعلماء لأداء مناسكهم في غاية الراحة والاطمئنان، يرجون ثواب الله سبحانه، ويخشون عقابه، ويتعارف فيها المسلمون ويتناصحون، ويتشاورون فيما يهمُّهم من أمر دينهم ودنياهم، وتُضاعف لهم فيها الصلاة والأعمال الصالحة.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبدالله بن قعود عبدالله بن غديان عبدالرزاق عفيفي عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
أذان إبراهيم - عليه السَّلام - بالحج
السؤال الرابع من الفتوى رقم (6147)
س4: قيل إن الله تعالى أمر نبيه إبراهيم - عليه السَّلام - أن يؤذِّن للناس بالحج، وأن إبراهيم دعا الناس، ولبَّاه الذين يحجُّون في أصلاب الرجال وأرحام النساء، وأن الذين لم يلبُّوه لا يحجُّون، ولو ملكوا القناطير المقنطرة من الذهب والفضة لا يحجُّون. أصحيحٌ أم لا؟
ج4: أمر الله إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - بعد انتهائه من بناء البيت أن يؤذِّن للناس بالحج، فقال تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج: 27]، قال ابن كثير في تفسيرها:
"أنْ نادِ في الناس داعيًا لهم إلى الحج إلى هذا البيت الذي أمرناك ببنائه، فذكر أنه قال: يا رب، كيف أُبلغ الناس وصوتي لا ينفذهم؟ فقال: نادِ وعلينا البلاغ.
فقام على مقامه، وقيل: على الحِجْر، وقيل: على الصَّفا، وقيل: على أبي قُبَيْس، وقال: يا أيها الناس، إن ربكم قد اتخذ بيتًا؛ فحجوه.(/1)
فيُقال: إن الجبال تواضعت حتى بلغ الصوت أرجاء الأرض، وأسمع مَنْ في الأرحام والأصلاب، وأجابه كل شيءٍ سمعه من حَجَرٍ ومَدَرٍ وشَجَر، ومَنْ كتب الله أنه يحجَّ إلى يوم القيامة: لبَّيْك اللهم لبَّيْك. هذا مضمون ما ورد عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير، وغير واحدٍ من السَّلف،،، والله أعلم، وأوردها ابن جرير وابن أبي حاتم مطوَّلةً"[1]. انتهى كلام ابن كثير رحمه الله تعالى. والله أعلم بحقيقة الواقع.
أما الأذان فلا شكَّ فيه؛ لأنَّ القرآن الكريم نصَّ عليه.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو عضو الرئيس
عبدالله بن قعود عبدالله بن غديان عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
متى فُرِض الحج؟
السؤال السادس من الفتوى رقم (4624)
س6: في أيِّ سنةٍ من الهجرة بدأ الحجُّ، والرواية الأصحُّ؟
ج6: اختلف العلماء في السنة التي فُرض فيها الحجُّ؛ فقيل: في سنة خمس، وقيل: في سنة ست، وقيل: في سنة تسع، وقيل: في سنة عشر. وأقربها إلى الصواب القولان الأخيران، وهو أنه فُرض في سنة تسعٍ وسنة عشر،،، والله أعلم.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو عضو الرئيس
عبدالله بن قعود عبدالله بن غديان عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
حكم الحجِّ
السؤال الثاني من الفتوى رقم (6315)
س2: نوعٌ من الناس يقولون: إنَّ الحجَّ بأبواب منازلهم، ويزيدون في قولهم بأن كلَّ مَنْ ذهب إلى الدِّيار المقدسة فإنه يرجع وقلبه خالٍ من الرحمة؛ بل أشد قسوةً! وهذا الرَّهط من البشر أغلبيتهم في استطاعتهم أداء الفريضة ولم يفعلوا. ما حكم مَنْ قال بهذا؟ وهل تطبق عليه نفس الآية المذكورة في الناقض الخامس كذلك؟(/2)
ج2: الحج ركنٌ من أركان الإسلام؛ فمَن جحده أو أبغضه بعد البيان فهو كافرٌ يُستتاب، فإن تاب وإلاَّ قُتل، ويجب على المستطيع أن يعجِّل بأداء فريضة الحجِّ؛ لقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97].
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبدالله بن قعود عبدالله بن غديان عبدالرزاق عفيفي عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
فضل الحجِّ
السؤال الأول من الفتوى رقم (6614)
س1: الحجُّ المبرور، هل يغفر كبائر الذنوب؟ ومتى تكون التجارة جائزةً في الحج؟
ج1: أولاً: ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلَّى الله عليه وسلم - يقول: ((مَنْ حجَّ فلم يرفث ولم يفسق؛ رجع كيوم ولدته أمُّه))([2])؛ متفقٌ عليه، وقال - صلَّى الله عليه وسلم -: ((العمرة إلى العمرة كفارةٌ لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاءٌ إلا الجنة))([3])؛ متفقٌ عليه.
فالحج وغيره من صالح الأعمال من أسباب تكفير السيئات إذا أدَّاها العبد على وجهها الشرعي، لكن الكبائر لا بد لها من توبة؛ لما في "صحيح مسلم" عن أبي هريرة - رضيَ الله عنه - عن النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفِّراتٌ ما بينهنَّ إذا اجتُنبت الكبائر))([4])، وذهب الإمام ابن المنذر رحمه الله وجماعة من أهل العلم إلى أن الحج المبرور يكفِّر جميع الذنوب؛ لظاهر الحديثَيْن المذكورَيْن.(/3)
ثانيًا: يجوز الاتجار في مواسم الحج؛ أخرج الطبريُّ في "تفسيره" بسنده، عن ابن عباس - رضيَ الله عنهما - في قوله تعالى {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198]: "وهو: لا حرج عليكم في الشراء والبيع قبل الإحرام وبعده"[5].
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبدالله بن غديان عبدالرزاق عفيفي عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
تَكرار الحجِّ
السؤال الأول من الفتوى رقم (6909)
س1: هل يُستحسَن الحج كل سنة لمن يرغب ذلك ولا يشقّ عليه، أو الأفضل كل ثلاث سنوات مرة أو كل سنتين مرة؟
ج1: فرض الله الحجَّ على كلِّ مكلَّف مُستطيع مرةً في العمر، وما زاد على ذلك فهو تطوُّع وقربة يُتقرَّب بها إلى الله، ولم يثبت في التطوُّع بالحجِّ تحديدٌ بعدد، وإنما يرجع تكراره إلى وضع المكلَّف المالي والصحِّي، وحال مَنْ حوله من الأقارب والفقراء، وإلى اختلاف مصالح الأمَّة العامة، ودعمه لها بنفسه وماله، وإلى منزلته في الأمَّة ونفعه لها حضرًا أو سفرًا في الحج وغيره، فلينظر كلٌّ إلى ظروفه، وما هو أنفع له وللأمَّة فيقدِّمه على غيره.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبدالله بن قعود عبدالله بن غديان عبدالرزاق عفيفي عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
السؤال الثالث من الفتوى رقم (11303)
س3: والدي حج حجة واحدة سابقًا على الأقدام قبل ما يقارب من 40 عامًا، وقد اعتمر عمرتين، واحدة قبل وفاته بثلاث سنوات على الأقل، وحيث إنه رجلٌ لا يقرأ ولا يكتب؛ فلا أدري كيف أدَّى هذا الحج، فهل يلزمني أن أحجَّ عنه؟ وما رأي فضيلتكم في ذلك؟(/4)
ج3: الحج لا يجب في العمر إلا مرةً واحدة، والأصل في تأدية الأعمال والمناسك السلامة، فلا يجب الحجُّ ثانيةً، لكن إذا حججت عن أبيك صارت نافلةً، وفي ذلك لك وله أجرٌ عظيمٌ إذا تقبَّل الله منك.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبدالله بن غديان عبدالرزاق عفيفي عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
الفتوى رقم (3580)
س: إنني قد عاهدت الله أن أحجَّ كلَّ عام، وكنت قبل ذلك لست موظفًا، ولكن أجبرتني الظروف وتوظفت عسكريًّا، ولم يسمح لي مرجعي أن أحجَّ كلَّ عام، أرجو الإفادة: هل علي إثمٌ أم لا؟
ج: إذا كان المانع الذي يمنعك عن الحج في بعض السنوات من الأمور القهريَّة التي لا تستطيع التغلب عليها؛ فليس عليك إثم؛ لقوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، وقوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [المائدة: 6].
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبدالله بن قعود عبدالله بن غديان عبدالرزاق عفيفي عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
السؤال الثالث من الفتوى رقم (2177)
س3: امرأة حجَّت وهي حامل، فرجعت من حجتها ومات مولودها، فهل تلك الحجة تجزئ عنها وعن ولدها أم لا؟
ج3: تجزئ الحجَّة عن المرأة فقط، أما ولدها فلا حجَّ عليه.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبدالله بن قعود عبدالله بن غديان عبدالرزاق عفيفي عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
المبادرة في أداء الفريضة
الفتوى رقم (11133)(/5)
س: هل يجوز لي تأجيل تأدية فريضة الحج لعام آخَر أو عامين، وأنا الذي قد توفَّر لي شرط الاستطاعة، من أجل زيارة الأهل والزوجة التي سأتغيب عنها مدة سنتين إذا ما أدَّيت فريضة الحج هذا العام، والمناسك ستتوسَّط العطلة الصيفية، ولن يتيسَّر لي أداء الحجِّ وزيارة الأهل معًا، فإما أن أحجَّ وإما أن أزور الأهل فأؤجِّل الحجَّ. أفتونا مشكورين، وجزاكم الله عنَّا كل خير.
ج: يجب على المسلم المبادرة إلى تأدية فريضة الحجِّ متى كان مستطيعًا؛ لأنه لا يدري ماذا يحدث له لو أخَّره، وقد قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران: 97]، وروي عنه - صلَّى الله عليه وسلم - أنه قال: ((تعجَّلوا إلى الحج - يعني الفريضة - فإن أحدكم لا يدري ما يَعْرُضُ له))؛ خرجه الإمام أحمد - رحمه الله([6]).
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبدالله بن غديان عبدالرزاق عفيفي عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
وجوب الحجِّ ولو برفقة المبتدِعة
الفتوى رقم (8308)
س: نفيدكم أنه يعيش كثيرٌ من إخواننا المسلمين أهل السنَّة على ساحل فارس، ويريدون أداء فريضة الحجِّ، ولكنهم لا يستطيعون السفر مع أهل إيران؛ لكونهم من الشيعة، تحسُّبًا لما ينجم من مشاكل معهم في الطريق، وكذلك لا تسمح لهم حكومات الدول العربية المتاخمة لهم بالسفر من منافذها، فهل يجوز لهم أن يرسلوا نفقات حجِّهم إلى أقاربَ لهم بدولةٍ أخرى ليحجُّوا عنهم، أفتونا مأجورين، مع التوضيح الكامل في الإجابة، وجزاكم الله خيرًا.(/6)
ج: الواجب عليهم أن يحجُّوا - ولو مع الشِّيعة - إذا كانوا مستطيعين للحجِّ، وعليهم مع ذلك الحذر من شبهات الشِّيعة ومذهبهم الباطل، وإن تمكَّنوا أن ينصحوهم ويدعوهم إلى اعتناق مذهب أهل السُّنة وَجَبَ عليهم ذلك؛ لقول الله سبحانه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]، وغيرها من الآيات الدَّالة على وجوب الدعوة إلى الله سبحانه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
أصلح الله حال الجميع.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبدالله بن قعود عبدالله بن غديان عبدالرزاق عفيفي عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
إذْن الزوج في أداء الفريضة
الفتوى رقم (5659)
س: أنا امرأةٌ متزوجةٌ وأريد الحجَّ، وإنني قد جلست مع زوجي أربعين سنة، وقد طالبته الحج فيوافق، وإذا جاء الحج أو العمرة منع، لا أمشي؛ علشان عنده غنم وبقر أجلس معها، وإنه قد حجَّ أكثر من خمس حجج، وأنا أريد الحجَّ، فهل يجوز أن أمشي مع أزواج بناتي؟ لأنني طالبت زوجي أمشي مع إحدى بناتي وزوجها فأبى؟
ج: إذا كان الواقع من حالك مع زوجك ما ذكرتِ، ولم تحجِّي حجَّ الفريضة ولم تعتمري؛ وجب عليكِ أن تسافري مع مَنْ ذكرتِ من المحارم ولو لم يأذن زوجك؛ لأنَّ تَرْكَكِ الحجَّ مع قدرتك على أدائه مُحرَّمٌ، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبدالله بن قعود عبدالله بن غديان عبدالرزاق عفيفي عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
السؤال السابع من الفتوى رقم (5866)
س7: حكم خروج الزوجة إلى حجِّ الفريضة بدون إذْن زوجها؟(/7)
ج7: حج الفريضة واجبٌ إذا توفرت شروط الاستطاعة، وليس منها إذْن الزوج، ولا يجوز له أن يمنعها؛ بل يُشرَع له أن يتعاون معها في أداء هذا الواجب.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبدالله بن قعود عبدالله بن غديان عبدالرزاق عفيفي عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
الفتوى رقم (9238)
س: يوجد لديه أختٌ قد أدَّت فريضة الحجِّ بدون إذْنٍ من زوجها، وهو يعمل في شرطة مكة المكرمة، وقد رُحْتُ إليه في العمل وأخبرته، وقال: هذا من سروري؛ حيث لا يمكنني الذهاب معها. وقد راح معها أخوها الذي لا يقل عمره عن 18 سنة، وقد سامحها زوجها؛ أي: عفا عنها. فما رأيكم: هل حجُّ هذه المرأة صحيحٌ أو باطلٌ؟ إني لم أدْرِ عن هذا إلاَّ بعدما راحت، وهي من البادية، لا تعرف عن هذا أنه حرامٌ، والآن هي محتارة. أفتوني جزاكم الله خيرًا.
ج: إذا كان الأمر كما ذُكِرَ فحجُّها صحيحٌ، ولا يُشترَط إذْن زوجها في أدائها الفريضة.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبدالله بن قعود عبدالله بن غديان عبدالرزاق عفيفي عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
أداء الفريضة ولو كان عليه قضاءٌ من رمضان
السؤال التاسع من الفتوى رقم (6908)
س9: أريد أن أؤدِّي فريضة الحجِّ هذه السنة، ولم أقضِ قضاءَ رمضان هذا العام؛ حيث إنني كنت نفساء، وبعدها أُرضِع طفلي، ولم أتمكَّن من قضائه قبل موعد الحجِّ.
ج9: يجب عليك أداء فريضة الحج إذا كنتِ مستطيعةً لذلك وتيسَّر المَحْرَم، وتقضين صيام رمضان بعد ذلك - إن شاء الله.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس(/8)
عبدالله بن قعود عبدالله بن غديان عبدالرزاق عفيفي عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
حجُّ الصغير
السؤال الأول من الفتوى رقم (6736)
س1: إذا أردتُ أن يحجَّ معي صغيري هذا الذي لم يبلغ الحُلُم، هل ألبسه ملابس الإحرام وأقوم نيابةً عنه بجميع المناسك؛ كأن أطوف عنه .. إلخ، أم ألبسه ملابسه العادية ولا أقوم عنه بشيءٍ طالما أنه صغيرٌ ولا حجَّ عليه؟
ج1: الصبيُّ المميِّز الذي لم يبلغ الحُلُم إذا أراد وليُّه أن يحجَّ به؛ فإنه يأمره بأن يلبس ملابس الإحرام، ويفعل بنفسه جميع مناسك الحجِّ، ابتداءً من الإحرام من الميقات، إلى آخِر أعمال الحج، ويرمي عنه إن لم يستطع الرميَ بنفسه، ويأمره بأن يجتنب المحظورات في الإحرام.
وإذا لم يكن مميِّزًا؛ فإنه ينوي عنه الإحرام بعمرةٍ أو حجٍّ، ويطوف ويسعى به، ويُحضِره معه في بقية المناسك، ويرمي عنه.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبدالله بن قعود عبدالله بن غديان عبدالرزاق عفيفي عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
السؤال الرابع من الفتوى رقم (10938)
س4: حججتُ وعمري عشر سنوات ذات مرة، وفي مرة أخرى كان عمري ثلاث عشرة سنة، فهل تجزئان عن الحجَّة الواجبة؟
ج4: تجزؤك الحجَّة المذكورة عن حجَّة الفريضة إذا كانت بعد تحقُّق البلوغ؛ بإنزال المني عن شهوة، أو بإنبات الشعر الخشن حول القُبُل؛ لأنَّ الذكر والأنثى يبلغان بوجود أحدهما، وبإكمال خمس عشرة سنة، وبالحيض في حقِّ المرأة.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبدالله بن غديان عبدالرزاق عفيفي عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
السؤال الرابع من الفتوى رقم (11348)(/9)
س4: الطفل أو الطفلة الصغيرة إذا ما أدَّى أو أدَّت فريضة الحج، هل تعتبر كافية أم فقط يعتبر تطوُّعًا وأجره لوالديه؟
ج4: تُعتبر العمرة أو الحج من غير البالغ تطوُّعًا، ولا تكفي عن حجَّة الإسلام وعمرته.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبدالله بن غديان عبدالرزاق عفيفي عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
إذا أسلم الكافر جاز دخوله الحَرَم، ولو لم يغيِّر اسمه
الفتوى رقم (11014)
اطَّلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على ما ورد إلى سماحة الرئيس العام من وكيل وزارة الخارجية للشئون السياسية، والمُحال إلى اللجنة من إدارة البحوث العلمية والإفتاء برقم 231 في 21/-/1408هـ، وقد سأل سعادة الوكيل عمَّا يلي: (تلقيتُ من سفارة خادم الحرمين الشريفين في (بون) طلبًا تضمَّن إفادتها عمَّا إذا كان إلزاميًّا على الفرد الذي يعتنق الدين الإسلامي تغيير اسمه الأول، حتى يتسنى له زيارة الأماكن المقدسة لأداء فريضة الحج، وهل يُحْرَم من ذلك ما لم يتم تغييره؟ آمُل التفضُّل بإفادتي بما ستُجاب به السفارة بهذا الشأن).
وبعد دراسة اللجنة للاستفتاء أجابت: بأنه إذا ثبت إسلامه، فلا يمنعه بقاؤه على اسمه من دخول الأماكن المقدَّسة شرعًا.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبدالله بن غديان عبدالرزاق عفيفي عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
حجُّ الكافر
السؤال الثالث من الفتوى رقم (836)
س3: هل الذي حجَّ حجَّة الإسلام ثم بعدها زنا وتهاون بالصلاة؛ فرض يصليه وفرض يتركه، ثم بعد ذلك تاب- فهل حجُّه هذا يكفيه، أم يعيد حجَّة الإسلام؟(/10)
ج3: ثبت عن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلم - أنه قال: ((بُنيَ الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحجُّ بيت الله الحرام)). وشأن الصلاة عظيم، وقد ذكرها الله بعد الشهادتين؛ ولهذا قال - صلَّى الله عليه وسلم -: ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة؛ فمن تركها فقد كفر)).
فهذا الشخص الذي يصلِّي فرضًا ويترك فرضًا متلاعبٌ بدين الله عزَّ وجلَّ، والشخص إذا ترك فرضًا واحدًا يُستتاب ثلاثًا، فإن تاب وإلا قُتل، وقد ذكرتم أنه تاب، ومن تاب تابَ الله عليه، وعلى هذا الأساس يعيد الحجَّ احتياطًا وخروجًا من الخلاف؛ لقوله - صلَّى الله عليه وسلم -: ((دَعْ ما يريبك إلى ما لا يريبك))([7]).
وأما ما ذكرته من أنه زنا بعدما حج؛ فإن كان فعله للزِّنا استحلالاً له؛ فهذا كفرٌ محبِطٌ لعمله السابق، ويعيد الحجَّ، وإن كان يفعله مع اعتقاد تحريمه؛ فهذا كبيرةٌ من كبائر الذنوب، ولابدَّ فيها من التوبة، وحجُّه صحيحٌ، وإثم الزِّنا باقٍ عليه حتى يتوب.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو عضو نائب رئيس اللجنة
عبدالله بن منيع عبدالله بن غديان عبدالرزاق عفيفي
السؤال الثاني من الفتوى رقم (4459)
س2: إذا حجَّ المشرك شركًا أكبر حجَّة الإسلام، وبعد رجوعه من الحج بزمن هداه الله وصحَّت عقيدته وعبادته، وتاب وصار موحِّدًا؛ فهل تغني عنه حجَّته تلك أيام إشراكه، أم لابدَّ له من حجَّةٍ أخرى بعد توحيده؟(/11)
ج2: من حجَّ وهو كافرٌ كفرًا أكبر، ثم دخل بعد في الإسلام - لم تجزئه حجَّته تلك عن حجَّة الإسلام، لكن مَنْ كان مسلمًا ثم ارتدَّ بارتكابه ما يخرجه من ملَّة الإسلام، ثم تاب وعاد إلى الإسلام - أجزأته حجَّته تلك عن حجَّة الإسلام؛ لكوْنه أدَّى الحجَّ وهو مسلمٌ، وقد دلَّ القرآن على أن عمل المرتدِّ قبل رِدَّتِه إنما يحبط بموته على الكفر؛ لقوله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 217].
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبدالله بن قعود عبدالله بن غديان عبدالرزاق عفيفي عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
الاستطاعة في الحجِّ
السؤال الخامس من الفتوى رقم (845)
س5: لماذا تبدأ الجزائر الصيام بيومٍ واحد قبل المغرب كل سنة، وما هي الاستطاعة بالنسبة للحجِّ، وهل ثوابه أكبر عند توجِّهه إلى مكة المكرمة أم بعد عودته منها، وهل أجره عند الله أكبر إذا عاد منها إلى وطنه أم إلى هنا، حيث عمله أولاً؟
ج5: الوصول إلى حقيقة الأمر فيما سُئل عنه من تقدُّم الجزائر على المغرب في صوم رمضان بيومٍ كلَّ سنة يُرجَع فيه إلى المسؤولين في الدولتَيْن؛ ليُبنى فيه الجواب على واقع الدولتَيْن، وهما به أعرف، فليوجَّه هذا السؤال إليهما، بعد التأكُّد من دوام التقدُّم كلَّ سنةٍ، على ما ذكره السائل.(/12)
أما الاستطاعة بالنسبة للحج: فأن يكون صحيح البدن، وأن يملك من المواصلات ما يصل به إلى بيت الله الحرام؛ من طائرة أو سيارة أو دابَّة أو أجرة، ذلك حسب حاله، وأن يملك زادًا يكفيه ذهابًا وإيابًا، على أن يكون ذلك زائدًا عن نفقات مَنْ تلزمه نفقته حتى يرجع من حجِّه، وأن يكون مع المرأة زوجٌ أو مَحْرَمٌ لها في سفرها للحجِّ أو العمرة.
أما ثواب حجِّه؛ فعلى قدر إخلاصه لله، وما قام به من نُسُك، وما تجنَّب من منافيات لكمال حجِّه، وما بذله من مالٍ وتحمَّله من جهدٍ، سواءٌ رجع أو أقام أو مات قبل تمام حجِّه أو بعده، والله أعلم بحاله، وهو الذي يتولى جزاءه.
وعلى المكلف أن يعمل ويحكم عمله، ويراعي فيه موافقته للشَّريعة الإسلامية ظاهرًا وباطنًا، كأنه يرى ربه؛ فإنه وإن لم يَرَهُ فالله يراه ومطَّلعٌ عليه، ولا يبحث عمَّا إلى الله؛ فإنه - سبحانه - رحيمٌ بعباده، يُضاعف لهم الحسنات، ويعفو عن السيئات، {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49]، فعليك بنفسك، ودع ما لله لله، الحَكَم العدل، الرؤوف الرحيم.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو عضو نائب رئيس اللجنة
عبدالله بن منيع عبدالله بن غديان عبدالرزاق عفيفي
الفتوى رقم (6553)(/13)
س: أنا شابٌ أعمل في المملكة العربية السعودية، ودخلي محدودٌ يكفيني للضروريات وتكاليف المعيشة والحمد لله، وقد حججتُ عن نفسي ثلاث مرات والحمد لله، وذلك لسهولة ويسر الحج للمقيمين هنا داخل المملكة سواءٌ للعمل أو غيره، ولي والدٌ في مصر لم يحجَّ بعد، وذلك لعدم توفر نفقة الحج لديه، علمًا بأنه طيبٌ وصحيحٌ مُعافى، ولكن بسبب عدم توفر نفقة الحجِّ ودخلي المحدود - كما ذكرت سابقًا -: هل يمكنني أن أحجَّ عنه؟ وقال لي أحد الأصدقاء: إن حجَّي بعد ذلك – أي: بعد عدم استطاعة والدي أن يحجَّ، سواء من عنده أو بمساعدتي- أن يكون حجي هذا غير جائز؟ أفيدوني أفادكم الله.
ج: إذا كان الواقع ما ذُكِرَ من أنَّ والدكَ صحيحٌ مُعافى، ولا يستطيع الحجَّ من أجل عدم استطاعته المالية؛ فلا يلزمه الحج؛ لقوله سبحانه وتعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران: 97]، ولا يصحُّ الحجُّ عنه منكَ ولا من غيرك، لكن يُشرَع لك إذا كنت مستطيعًا لنفقته على الحجِّ أن تساعده بذلك ليحجَّ بنفسه.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبدالله بن قعود عبدالله بن غديان عبدالرزاق عفيفي عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
الفتوى رقم (9240)(/14)
س: أبلغ من العمر 45 سنة، وأصبت بمرض منذ عشرين سنة - مرض الروماتيزم - يخفُّ أحيانًا ويشتدُّ أحيانًا، إلاَّ أنه منذ ست سنوات اشتدَّ المرض وأصبحت معوَّقًا، لا أستطيع القيام والجلوس إلاَّ بكل صعوبة، وبمساعدة الآخَرين أحيانًا، وعند القيام لا أستطيع الاعتدال في الوقوف؛ بل أعتمد على الله ثم على العصا، وكذلك في المشي والصلاة، لا أستطيع السجود وأصلي جالسًا، وأسكن في بيت لوحدي، وقبل المغرب من كل يوم أذهب إلى بيت عمي، والذي يبعد عن بيتي حوالي خمسين مترًا، وعند وصولي إليه يساعدونني في الجلوس وكذلك عند القيام، وبعد صلاة العشاء أرجع إلى بيتي ... وهكذا.
وقد نصحني بعض الإخوان بأن أصلِّي بالمسجد القريب مني، وقال: أنت تجيء لبيت عمِّكَ كل يوم، فأفهمته بأنني لا أستطيع الصلاة إلا جالسًا، وكذلك عند دخولي المسجد ورغبتي في الجلوس يشقُّ عليَّ، وكذلك عند القيام للخروج من المسجد، فقال: سوف أضع لك خشبة في المسجد تساعدك على القيام والجلوس، وإنَّ المصلين سوف يساعدونك أيضًا، فقلت له: هذا يحدث مضايقة في المسجد، ويشقُّ عليَّ، إلا أنه لم يقتنع، وأخذ يكرر هذه النصيحة. أرجو إفتائي بما يلزم.
كما أرجو إفتائي عن الحج؛ حيث إنني لم أحج حتى الآن.
والله يحفظكم ويرعاكم، ولا يحرمكم الثواب، إنَّه على كلِّ شيءٍ قديرٌ.
ملاحظةٌ: علمًا بأنه لا يوجد لديَّ أي دخل مادي، ما عدا الضمان الاجتماعي، أصرفه في شراء العلاج ونفقتي الخاصة.
ج: إذا كان الأمر كما ذُكِرَ؛ فإنَّك تصلِّي في بيتك للعُذْر، وكذلك الحج؛ إذا لم تستطع الحج بنفسكَ، ولم تجد النفقة للحجِّ؛ فإنه لا يجب عليك الحجَّ إلى أن تجد النفقة، فإذا وجدتها أَنَبْتَ مَنْ يحجَّ عنكَ.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس(/15)
عبدالله بن قعود عبدالله بن غديان عبدالرزاق عفيفي عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
الفتوى رقم (733)
س: قدمت إلى المملكة، وتيسَّر لها أداء فريضة الحج على نفقة المضيف، وتسألُ: هل تجزئ هذه الحجة عن حجَّة الإسلام، والحال أنها لم تنفق على حجِّها من مالها شيءٌ؟
ج: أداؤها فريضة الحج لا يؤثر على صحَّته أنها لم تنفق عليه شيءٌ من مالها، أو أنها أنفقت الشيء القليل، وقام غيرها بإنفاق الشيء الكثير من تكاليف حجِّها، وعليه؛ فإذا كان حجُّها مستكملاً الشروط والأركان والواجبات؛ فهو مُسْقِطٌ عنها فريضة الحج، وإن قام غيرها بتكاليفه.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو عضو نائب رئيس اللجنة
عبدالله بن منيع عبدالله بن غديان عبدالرزاق عفيفي
الفتوى رقم (3198)
س: 1 - ما رأي الدين فيمن حجَّ بغير ماله؟
2 - هل يصحُّ حجُّ الشابِّ قبل أن يتزوَّج؟
ج: أولاً: إذا حجَّ الشخص بمالٍ من غيره صدقةً من ذلك الغير عليه؛ فلا شيء في حجِّه، أما إذا كان المال حرامًا فحجُّه صحيح، وعليه التوبة من ذلك.
ثانيًا: يصحُّ حجُّ الشابِّ قبل أن يتزوَّج بغير خلافٍ نعلمه بين أهل العلم.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبدالله بن قعود عبدالله بن غديان عبدالرزاق عفيفي عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
السؤال الرابع والسابع من الفتوى رقم (10701)
س4: زوجةٌ لا تملك نفقات الحج، وزوجها ذو غنى، فهل هو ملزَمٌ شرعًا بنفقات حجها؟
ج4: لا يُلزَم الزوج شرعًا بنفقات حجِّها؛ وإن كان غنيًا، وإنما ذلك من باب المعروف، وهي غير ملزَمة بالحجِّ لعجزها عن نفقته.(/16)
س7: أنا مواطنٌ مصريٌّ، وربُّ أسرةٍ من طفلين وزوجة، وراتبي في مصر لا يكاد يكفي ضرورات الحياة، وليس لي أيُّ دخلٍ آخَر، وعملت بإحدى دول الخليج 4 سنوات، وتوفَّر لي مبلغ من المال، ووضعته في بنك إسلامي ليدرَّ عليَّ دخلاً يساعد في مواجهة أعباء الحياة المختلِفة، بحيث إن الراتب وهذا الدخل يكفيني بصورة معتدلة أنا وأسرتي؛ فهل أنا مكلَّف باقتطاع من هذا المبلغ نفقات الحج، وهل أنا مكلَّف بالحجِّ في ضوء هذه الظروف؟ علمًا بأنني إذا اقتطعت مبلغ نفقات الحج من حسابي في البنك سوف يؤثِّر هذا على دخلي الشهري، ويرهقني ماديًا. فبماذا تشيرون عليَّ يا فضيلة الشيخ؟ جزاكم الله عنَّا كلَّ خير.
ج7: إذا كانت حالتك كما ذكرت فلست مكلَّفًا بالحج؛ لعدم الاستطاعة الشرعية، قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران: 97]، وقال: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، وقال: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78].
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبدالله بن غديان عبدالرزاق عفيفي عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
السؤال الثالث من الفتوى رقم (6593)
س3: ما الحكم فيمَن يحجُّ من نفقات الحاكم؟ بمعنى: إذا أراد حاكم من الحكام بأن يعطي رعاياه مبلغًا من المال، وقال لهم: حجُّوا بهذا المال، فهل يجوز لهم بأن يحجُّوا به أم لا؟ وإذا حجُّوا به؛ فهل تسقط عنهم حجَّة الإسلام؟ مع ذكر الدليل لما تقولون.
ج3: يجوز لهم ذلك، وحجهم صحيح؛ لعموم الأدلة.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبدالله بن قعود عبدالله بن غديان عبدالرزاق عفيفي عبدالعزيز بن عبدالله بن باز(/17)
السؤال الأول من الفتوى رقم (3572)
س1: عندي ولدٌ عمره حوالي عشرين سنة، وعندي سيارة، ولكن أنا لم أعرف أسوق السيارة، وهو الذي يسوق، وأردت الحجَّ في سيارتي، وعلى أساس أن الولد يقضي فرضه والولد طالب بالمدرسة، فسمع الولد أن الذي ما قضى فرضه ما يجوز له أن يقضيه من مال والده، إلا أن يشتغل حتى يجد قيمة حجِّه، وأنا بخير من فضل الله، أفيدوني أثابكم الله.
ج1: إذا حج الولد فرضه من مال أبيه فحجُّه صحيحٌ، والأفضل له أن يبادر بالحج مع والده ويساعده في قيادة السيارة؛ لأنَّ هذا من البرِّ بأبيه.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو عضو الرئيس
عبدالله بن قعود عبدالله بن غديان عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
الفتوى رقم (12139)
س: قامت والدتي ببيع قطعة أرض موروثة عن والدها، وطلبت مني أن أقوم بإجراءات الحجِّ مرةً أخرى، على أن أكون مرافقًا لها من مالها الخاص، وأطلب الفتوى:
أ - هل يصحُّ لي أن أكون حاجًّا معها من مالها وتُحسب لي حجة الإسلام (أن تسقط عني حجَّة الإسلام)؟
ب - أخبرتني والدتي بأنها كانت قد نذرت لله حجَّ البيت مرةً أخرى على أن أُصاحبها في المرة الثانية، وذلك النذر كان أثناء فترة الحجِّ الأولى.
جـ - قد حاولت مع والدتي - ولها غيري إخوة ذكور وبنتان، إحداهما شقيقةٌ لي والأخرى من والدتي - إن المطلوب في العمر حجة واحدة، وتوزِّع ما تشاء من مال على أولادها الذين في حاجة، خاصةً الأخت غير الشقيقة، وعلى أقربائها المحتاجين، ولكنها رفضت تمامًا وقالت: لازم أحج، سواء حضرت معي أو لم تحضر.
ج: يجوز لك أن تحجَّ مع والدتك من مالها، وتجزؤك عن حجَّة الإسلام، وأما سفر والدتك للحجِّ بدون مَحْرَم فلا يجوز.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس(/18)
عبدالله بن غديان عبدالرزاق عفيفي عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
السؤال الأول من الفتوى رقم (11344)
س1: هل يجوز الحجُّ من مال دِيَة المقتول - أي إذا قتل إنسان وأُخذت دِيَتُه - فهل يجوز الإنفاق على الحجِّ من هذا المال؟
ج1: يجوز الحج من الدِّيَة، لكلِّ واحدٍ من الوَرَثة من نصيبه الخاص إذا كان مكلَّفًا.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبدالله بن غديان عبدالرزاق عفيفي عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
السؤال الثالث من الفتوى رقم (12568)
س3: هل يجوز الحجُّ بنقود بيع أرضه؟
ج3: إذا كان يملك الأرض بطريق شرعي؛ كالإرث، أو الهبة، أو الشراء ونحو ذلك، فلا حرج في بيعها وإنفاق ثمنها أو بعضه في أداء الحجِّ.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبدالله بن غديان عبدالرزاق عفيفي عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
السؤال الأول من الفتوى رقم (6277)
س1: كان لي نصيبٌ أن أكون من الفائزين في مسابقة في العلوم الإسلامية، وكانت الجائزة حج بيت الله الحرام، وقد كان ذلك في العام قبل الماضي، وفعلاً أتيت العام قبل الماضي وحججت بيت الله الحرام. والسؤال: أنوي الحج هذا العام عن أخٍ لي توفَّاه الله في العشرين من عمره، فهل حجِّي الذي سبق سقط به الحج الفرض حتى أحج عن أخي أم أحج عن نفسي مرة أخرى؛ لأن حج المسابقة لم يسقط به الفرض؟
ج1: يجزئ حجُّك، ويعتبر أداء الفريضة عن نفسك، ولك أن تحجَّ بعد ذلك عن أخيك الميت، وجزاك الله خيرًا.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبدالله بن قعود عبدالله بن غديان عبدالرزاق عفيفي عبدالعزيز بن عبدالله بن باز(/19)
السؤال الثاني من الفتوى رقم (2448)
س2: قبل خمسة أعوام طلبت مني والدتي الحجَّ، وليس عندي ما يودينا إلى المشاعر المفضلة نقود، فاستلفت من رجل مائة ريال أوصلتنا هنا، وتلقاني بعض إخوتي وساعدنا على مناسك الحج بكل مكان، وبعد ظهر لي من والدتي التي تبلغ من العمر فوق ثمانين سنة الخوف أن يكون حجها غير جائز بسبب السلف، فما الحكم في ذلك؟
ج2: ما ذكرت من السلف لأجل الحج لا يجعل حجك بأمك بهذا السلف غير مجزئ، بل هو مجزئ، تقبله الله وآجركما عليه، وآجر من أعانكما عليه بالسلف وغيره.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبدالله بن قعود عبدالله بن غديان عبدالرزاق عفيفي عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
اقترض لأجل الحج
السؤال الثاني من الفتوى رقم (11837)
س2: حينما جاء شهر ذي الحجة كنت أتشوَّق لزيارة بيت الله الحرام، ولكنَّ الرَّاتب ما زال عليه أسبوع، ولم يكن معي سوى مصاريف الشهر، ولكن إخواني بالعمل أصروا على ذهابي معهم؛ حيث أن العمر غير مضمون، وقام أحدهم بإعطائي مبلغًا من المال يكفي كلَّ نفقات الحج. فقلتُ له: إنَّ القرض والسَّلف لا يصحُّ بهما الحجُّ، فقال: إذا كان صاحب القرض أو صاحب الدَّيْن أَذِنَ للمقترض أو للمدين فهذا يصحُّ به الحجُّ، وأنا أعطيتك المبلغ برضائي وبإذني، وذهبت إلى الحج وبعد عودتي مباشرةً في نفس الشهر أعطيته الشهر الذي حججت فيه قبل سفري للحج، حيث إنني آخذ راتبي بالشهر الإفرنجي، فالمال الذي حججت به أخذته برضا صاحبه وبرغبة منه لي في الخير، وجزاكم الله عنا خير الجزاء.
ج2: الحجُّ صحيحٌ إن شاء الله تعالى، ولا يؤثِّر اقتراضُكَ المبلغَ على صحَّة الحجِّ.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس(/20)
عبدالله بن غديان عبدالرزاق عفيفي عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
يفرض على الحاج أن يودع في البنك مبلغًا من المال
السؤال الرابع من الفتوى رقم (5651)
س4: يجب على مَنْ يريد الحج هنا في تركيا أن يضع مبلغًا وقدره 125 ألف ليرة تركي - كما أعلم - في البنك، وهو مبلغ كبير جدًا، مع العلم أن البنوك ربوية ولا توجد وسيلة للذهاب إلى الحج إلا هذه الوسيلة، فهل الحج في هذه الحالة فرض على المسلم المقتدر، وإذا حج المسلم هل يكون حجه صحيحًا، مع العلم أنه ساعد البنوك الربوية والدولة؟
ج4: الحجُّ صحيحٌ، وما ذُكِرَ لا يعتبر عذرًا في تأخير الحجِّ إذا كان صاحبه قادرًا على ذلك.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبدالله بن قعود عبدالله بن غديان عبدالرزاق عفيفي عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
حجٌّ من مالٍ حرام
السؤال الثاني من الفتوى رقم (13619)
س2: ماحكم مَنْ حجَّ من مال حرام - يعني: فوائد بيع المخدرات - ثم يرسلون تذاكر الحج لآبائهم ويحجُّون، مع علم بعضهم أن تلك الأموال جمع من تجارة المخدرات، هل هذا الحجُّ مقبولٌ أم لا؟
ج2: كَوْن الحجِّ من مالٍ حرامٍ لا يمنع من صحَّة الحج، مع الإثم بالنسبة لكسب الحرام، وأنه ينقص أجر الحجِّ، ولا يبطله.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبدالله بن غديان عبدالرزاق عفيفي عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
شروط الاستطاعة
الفتوى رقم (5533)(/21)
س: أنا رجلٌ ميسور الحال، ولي شقيقة، زوجها معسر الحال، وصار معه حادث وأصبح مدينًا وغير قادر على سداد الدَّيْن؛ لأن عائلته كبيرة جدًّا، وهو المعيل الوحيد لعائلته، وأنا أديت فريضة الحج، وحججت ثانيًا، والآن أريد أن أحج للمرة الثالثة وأحجج شقيقتي على نفقتي الخاصة؛ لأنها لا تقدر أن تؤدي فريضة الحج، ماهو أفضل عند الله تعالى: أحجج شقيقتي وأنا معها، أو أن نفكَّ عسر زوجها بمصاريف الحج وتكاليفه؟ أفيدوني جزاكم الله خيرًا.
ج: إذا كان الواقع ما ذُكِرَ: من أنَّ زوج أختك تحمَّل ديونًا وليس لديه سدادها؛ فالأوْلى أن تقضي ديونه بما لديكَ، وتؤجِّل تحجيج أختك؛ لأن قضاء دَيْن زوجها وتفريج كربتهما جميعًا أهم من تحجيجها، وأنفع لهما جميعًا، وليس عليها حجٌّ حتى تستطيع.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبدالله بن قعود عبدالله بن غديان عبدالرزاق عفيفي عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
حجُّ مَنْ عليه دَيْنٌ
الفتوى رقم (2353)
س: أخذتُ من البنك العقاري مبلغًا قدره مائتان وواحد وخمسون ألف وتسعمائة ريال يدفع قصودًا سنوية، هل يحقُّ لي أن أحجَّ وهذا المبلغ عليَّ للبنك العقاري؟
ج: الاستطاعة على الحج شرطٌ من شروط وجوبه، فإن قدرت عليه وعلى دفع القسط المطلوب منك حين الحجِّ لزمك أن تحجَّ، وإن تواردا عليك جميعًا ولا تستطيعهما معًا؛ فقدِّم تسديد القسط الذي تُطالَب به، وأخِّر الحجَّ إلى أن تستطيعه؛ لقول الله سبحانه وتعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران: 97].
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبدالله بن قعود عبدالله بن غديان عبدالرزاق عفيفي عبدالعزيز بن عبدالله بن باز(/22)
السؤال الثاني من الفتوى رقم (2325)
س2: أنا رجلٌ عمري 28 سنة، ولم أقضِ فريضة الحجِّ بسبب دَيْنٍ عليَّ متفرِّقٌ، فهل يُسمح لي بقضاء الفريضة دون أذن أصحاب الديون، علمًا أنه ليس هناك مالٌ يمكن التسديد منه فيما لو حصلت الوفاة؟ أرجو الإفادة والإيضاح، أجزل الله لكم الأجر والمثوبة.
ج2: من شروط وجوب الحج: الاستطاعة، ومن الاستطاعة: الاستطاعة المالية، ومَنْ كان عليه دَيْنٌ مُطالَبٌ به؛ بحيث إن أهل الدَّيْن يمنعون الشخص عن الحجِّ إلا بعد وفاء ديونهم؛ فإنه لا يحجُّ؛ لأنه غير مستطيعٍ، وإذا لم يطالبوه ويعلم منهم التسامح؛ فإنه يجوز له، وقد يكون حجُّه سببَ خيرٍ لأداء ديونه.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبدالله بن غديان عبدالرزاق عفيفي عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
السؤال الأول من الفتوى رقم (5545)
س1: إذا أراد المسلم أن يقضي فريضة الحجِّ وهو عليه دَيْنٌ، فهل إذا استأذن من صاحبِ أو أصحاب الد َّيْن وسمح له بالحجِّ؛ فهل حجُّه صحيحٌ؟
ج1: إذا كان الواقع كما ذُكِرَ من سماح الدَّائن أو الدائنين لكَ في الحجِّ قبل تسديد ما عليكَ لهم من الدَّين؛ فلا حرج عليك في أداء الحجِّ قبل التسديد، ولا تأثير لكونكَ مدينًا لهم على صحَّة حجِّك في مثل هذه الحالة.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبدالله بن قعود عبدالله بن غديان عبدالرزاق عفيفي عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
السؤال الأول من الفتوى رقم (8561)
س1: رجلٌ أراد الحجَّ وعليه دَيْنٌ للدَّولة - عمَّرها الله - من وزارة الزراعة - أي: البنك الزراعي - فهل لهذا الرجل حجٌّ أم لا؟
ج1: لا حرج على المذكور في حجِّه إن شاء الله.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.(/23)
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبدالله بن قعود عبدالله بن غديان عبدالرزاق عفيفي عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
السؤال الخامس من الفتوى رقم (9405)
س5: هل يجوز الحجُّ لمن عليه دَيْنٌ؟ فسمعنا أنه لا يجوز حتى يقضي أصحابه؛ فهل هذا صحيحٌ، والحجُّ للمتزوِّجين أم على الجميع؟
ج5: أولاً: إذا كان المدين يقوى على تسديد الدَّيْن مع نفقات الحجِّ، ولا يعوقه الحجُّ عن السداد، أو كان الحجُّ بإذن الدَّائن ورضاه، مع علمه بحال المَدِين؛ جاز حجُّه، وإلا فلا يجوز، لكن لو حجَّ صحَّ حجُّه.
ثانيًا: الحج فرضٌ على المكلَّف المستطيع، سواء كان متزوِّجًا أم غير متزوِّج؛ لعموم قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران: 97].
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبدالله بن غديان عبدالرزاق عفيفي عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
الإنابة في الحج
النيابة في الحج
السؤال الثاني من الفتوى رقم (2173)
س2: هل الذي يحج عن الميت أو عن شيخ عجوز ولم يسبق له الحج ولا مال له إلا مال موكله يقدم حجة نفسه أو الذي وكله؟
ج2: لا يجوز للإنسان أن يحجَّ عن غيره قبل حجِّه عن نفسه، والأصل في ذلك ما رواه ابن عباس - رضيَ الله عنهما - أن النبي - صلَّى الله عليه وسلم - سمع رجلاً يقول: لبيك عن شبرمة، قال: ((حججتَ عن نفسك؟)) قال: لا، قال: ((حجَّ عن نفسك، ثم عن شبرمة))([8]).
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو الرئيس
عبدالله بن غديان عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
السؤال الأول من الفتوى رقم (2200)(/24)
س1: هل يجوز للمسلم الذي أدَّى فرضه أن يحجَّ عن أحد أقاربه في بلاد الصين؛ لعدم تمكُّنه من الوصول لأداء فريضة الحجِّ؟
ج1: يجوز للمسلم الذي قد أدَّى حجَّ الفريضة عن نفسه أن يحجَّ عن غيره إذا كان ذلك الغير لا يستطيع الحجَّ بنفسه لكِبَر سنِّه أو مرضٍ لا يُرجى برؤه أو لكونه ميتًا؛ للأحاديث الصحيحة الواردة في ذلك، أما إن كان من يراد الحج عنه لا يستطيع الحج لأمر عارض يرجى زواله كالمرض الذي يُرجى برؤه، وكالعذر السياسي، وكعدم أمن الطريق ونحو ذلك؛ فإنه لا يجزئ الحج عنه.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبدالله بن قعود عبدالرزاق عفيفي عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
الفتوى رقم (11588)
س: هل يجوز لأحد أن يعتمر أو يحجَّ عن قريبه الذي يكون بعيدًا عن مكة وليس لديه ما يصل به إليها مع أنه قادر بالطواف؟
ج: قريبك المذكور لا يجب عليه الحجَّ مادام لا يستطيع الحج ماليًا، ولا تصحُّ النيابة عنه في الحجِّ ولا في العمرة؛ لأنه قادرٌ على أداء كلٍّ منهما ببدنه لو حضر بنفسه في المشاعر، وإنما تصحُّ النيابة فيهما عن الميت والعاجز عن مباشرة ذلك ببدنه.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبدالله بن غديان عبدالرزاق عفيفي عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
الفتوى رقم (1265)
س: إن السائل تصدَّق على كلٍّ من والده ووالدته بحجَّة، فأعطى حجَّة أبيه لامرأةٍ على أساس أنها تدفعها لزوجها ليحجَّ بها، وأعطى حجَّة أمِّه لهذه المرأة، ويسأل عن حكم ذلك؟
ج: أما صدقتك على كلٍّ من والدك ووالدتك بحجَّةٍ فهذا من باب البرِّ والإحسان، والله يُجْزِلُ لك الأجرَ على هذا البرِّ.(/25)
أما تسليمك النقود التي تريد أن يحج بها عن والدكَ لامرأةٍ تدفعها لزوجها ليحجَّ بها - فهذا توكيلٌ منك لهذه المرأة على ما وصفتَ، والتوكيل في هذا جائزٌ، والنيابة في الحجِّ جائزةٌ إذا كان النَّائب قد حجَّ عن نفسه، وكذلك الحال فيما تدفعه للمرأة لتحجَّ به عن أمِّكَ، فإن نيابة المرأة في الحجِّ عن المرأة وعن الرجل جائزةٌ؛ لورود الأدلَّة الثابتة عن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلم - في ذلك، لكن ينبغي لمَنْ يريد أن يُنيبَ في الحجِّ أن يتحرَّى في مَنْ يستنيبه أن يكون من أهل الدِّين والأمانة؛ حتى يطمئنَّ إلى قيامه بالواجب.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبدالله بن منيع عبدالله بن غديان عبدالرزاق عفيفي عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
الذي مات ولم يجب عليه الحجُّ، هل يُحَجُّ عنه؟
السؤال الأول من الفتوى رقم (1375)
س1: هل أحجُّ عن والديَّ اللذين ماتا ولم تجب عليهما فريضة الحجِّ لفقرهما، إلا أني أردت الحجَّ؟ ولذا أريد حكم الشرع فيه.
ج1: يجوز لك أن تحجَّ عن والدَيْك بنفسك، أو تنيب من يحجَّ عنهما إذا كنت أنت حججت عن نفسك، أو كان الشخص الذي يحجُّ عنهما قد حجَّ عن نفسه؛ لما روى أبو داود في "سننه" عن عبدالله بن عباس - رضيَ الله عنهما - أن النبي - صلَّى الله عليه وسلم - سمع رجلاً يقول: لبيك عن شبرمة، قال: ((مَنْ شبرمة؟)) قال: أخٌ لي، أو: قريبٌ لي. قال: ((حججت عن نفسك؟)) قال: لا. قال: ((حجَّ عن نفسكَ، ثم حجَّ عن شبرمة))، وأخرجه ابن ماجه. قال البيهقي: هذا إسنادٌ صحيحٌ، ليس في الباب أصحُّ منه.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبدالله بن منيع عبدالله بن غديان عبدالرزاق عفيفي عبدالعزيز بن عبدالله بن باز(/26)
حج عن أمِّه ولم يحجَّ عن والده، هل عليه إثمٌ؟
الفتوى رقم (1753)
س: حججت لأمِّي بعد وفاتها، ولم أحجَّ لوالدي بعد وفاته، فهل عليَّ إثمٌ في تَرْك الحجِّ لوالدي؟
ج: ليس عليك إثمٌ في تَرْك الحجِّ لوالدك؛ لأنه ليس بواجبٍ عليك أن تحجَّ له، ولكن من البرِّ والإحسان أن تحجَّ عنه، وهو داخلٌ في عموم الإحسان الذي أمر الله به في قوله تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23].
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبدالله بن قعود عبدالله بن غديان عبدالرزاق عفيفي عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
السؤال السادس من الفتوى رقم (7790)
س6: لي شقيقةٌ توفيِّت منذ مدة طويلة، وأرغب الحجِّ والعمرة وزيارة قبر الرسول - صلَّى الله عليه وسلم - عنها، فما هو الحكم في ذلك؟
ج6: إذا كانت مكلَّفة؛ فإنه يُشرع لك أن تحجَّ وتعتمر عنها إذا كنت قد حجَجْتَ عن نفسك واعتمرت، وأما زيارة قبر الرسول - صلَّى الله عليه وسلم - فلا يجوز شدُّ الرِّحال إليها؛ لأنَّ الرسول - صلَّى الله عليه وسلم - قال: ((لا تُشَدُّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا))، وإنما تشدُّ الرحال للصلاة في المسجد النبوي، ويدخل السلام عليه - صلَّى الله عليه وسلم - وعلى صاحبَيْه - رضيَ الله عنهما - تبعًا لذلك، وذلك لا يقبل النِّيابة.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبدالله بن قعود عبدالله بن غديان عبدالرزاق عفيفي عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
الفتوى رقم (6528)(/27)
س: لي أخت توفيت وهي بِكْر، وتبلغ من العمر 25 عامًا تقريبًا، وتوفيت قبل وفاة والدها بخمس سنوات، وقد سألتُ بعض الفقهاء لدينا: هل يجب عليها حجَّة؟ قالوا: لا؛ لكونها توفيت قبل والدها، ولم يسبق لها الزواج، حيث أنها منعت من الزواج بنفسها. أرجو بعد اطِّلاعكم توجيهي إلى ما فيه رضا الله - عزَّ وجلَّ - وما يصحُّ.
ج: إذا كان الواقع كما ذكرتَ؛ فلا يجب عليك أن تحجَّ عنها، ولكن لو قمت بالحجِّ عنها برًّا بها وإحسانًا إليها كان خيرًا، إلا أن يكون لديها مالٌ حال حياتها تستطيع أن تحجَّ منه، فإنه يجب أن يُحَجَّ عنها منه قبل تقسيم التَّرِكَة.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبدالله بن قعود عبدالله بن غديان عبدالرزاق عفيفي عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
الفتوى رقم (3337)
س: إن لي والدة وعمة وشقيقًا، الوالدة توفيت إلى رحمة الله قبل ثمان سنوات، وعمرها حوالي مائة عام لم تخلف من الأولاد سواي، والعمة توفيت إلى رحمة الله قبل أربعة عشر عامًا، وعمرها مائة عام، ولم تخلف أولادًا، ولا مالاً كليًّا، الشقيق توفي إلى رحمة الله قبل ثلاثين سنة وعمره حوالي ثلاثين سنة، ولم يخلف أولادًا ولا مالاً، وهؤلاء أدركهم الموت قبل أن يؤدُّوا فريضة الحجِّ التي هي ركنٌ من أركان الإسلام الخمسة، وخشيةً من الله - عزَّ وجلَّ -: رأيتُ من الواجب أن أستفتي فضيلتكم: هل يلزمني تأدية هذه الفريضة عن والدتي وعمتي وشقيقي المشار إليهم أم لا؟
ج: إذا كان الواقع كما ذكرتَ؛ شُرع أن تحجَّ عن والدتك إن استطعت ذلك بعد أن تحجَّ عن نفسك، هذا إذا كانت لا تستطيع الحجَّ في حياتها، أما إن كانت تستطيع الحج في حياتها فالواجب التحجيج عنها من مالها، فإن حججت عنها تبرعًا كفى ذلك، ولك في ذلك الأجر العظيم؛ لأن الحج عنها من أعظم برها.(/28)
أما عمتك وشقيقك؛ فإن حججت عن كلٍّ منهما فهو برٌّ بهما.
نرجو أن يأجرك الله عليه، وليس ذلك واجبًا عليك.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبدالله بن قعود عبدالله بن غديان عبدالرزاق عفيفي عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
النيابة في الحجِّ عن شخصٍ واحد
السؤال الأول من الفتوى رقم (2658)
س1: هل يجوز الحجُّ بالنيابة عن المتوفَّى والحي؟ وإن صديقًا لي توفِّيَ أبوه؛ فأراد أن يحجَّ عنه بالنيابة، فهل يجوز ذلك، ويكون لهما أجرٌ؟ وكذلك عن أمِّه التي لا تستطيع أن تركب لا في السيارة ولا في الطائرة، وليست بمريضة؟ فهل يجوز له أن يحجَّ مرةً واحدة، فيكون حاجًا فيها عن أبيه وأمه وعن نفسه، أم يحجَّ عن كلٍّ منهم حجَّةً، أم لا يجوز له ذلك؟ أعني: أن يحجَّ عنهم.
ج1: تجوز النيابة في الحجِّ عن الميت وعن الموجود الذي لايستطيع الحج، ولا يجوز للشخص أن يحجَّ مرةً واحدةً ويجعلها لشخصَيْن، فالحجُّ لا يجزئ إلا عن واحد، وكذلك العمرة، لكن لو حجَّ عن شخصٍ واعتمر عن آخَر في سنةٍ واحدةٍ – أجزأه، إذا كان الحاجُّ قد حجَّ عن نفسه واعتمر عنها.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبدالله بن قعود عبدالله بن غديان عبدالرزاق عفيفي عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
اختلاف العمرة والحج في نفس العام، حيث يعتمر لشخصٍ ويحجُّ لآخَر
السؤال الأول من الفتوى رقم (658)
س1: ما حكم مَنْ سافر إلى الحج ونوى عمرته لأمِّه وحجُّه لأبيه، والعام الثاني يعكس: يحجُّ لأمه ويعتمر لأبيه؛ فهل يجوز أم لا؟(/29)
ج1: كلٌّ من الحجِّ والعمرة نُسُكٌ مستقلٌّ، وقد بيَّن النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلم - كيفية أدائهما قِرانًا وإفرادًا وتمتُّعًا بالعمرة إلى الحجِّ، فمَنْ أراد الإحرام بالعمرة عن أمِّه - مثلاً - والإحرام بالحجِّ بعد التحلُّل من العمرة عن أبيه أو العكس فله ذلك، وإذا أحرم بأحد النُّسُكَيْن عن نفسه، وبعد أن تحلَّل منه أحرم بالآخَر عن أبيه - مثلاً - كان جائزًا؛ لأنَّ الأعمال بالنِّيات، ولكلِّ امرئٍ ما نوى.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو عضو نائب رئيس اللجنة
عبدالله بن منيع عبدالله بن غديان عبدالرزاق عفيفي
إذا أخذ المال ونقص أو زاد ما الحكم؟
السؤال الثاني من الفتوى رقم (1823)
س2: إذا أعطى رجلٌ رجلاً مبلغًا معينًا لكي يحجَّ عن ميت، ثم ذهب الرجل إلى الحجِّ، ثم نقص عليه هذا المبلغ أو زاد، ما حكم ذلك؟ كما أرجو الإفادة: هل له أجرٌ إذا أحسن هذه المواقف عن الفاني؟
ج2: المسلمون على شروطهم، فإذا حصل اشتراطٌ بين الدافع والآخِذ على أنَّ الآخِذ يردُّ الزائد، وعلى أن الدَّافع يُكْمِل النَّقص؛ فعلى كلٍّ أن يفيَ بالتزامه، وإذا لم يكن بينهما شرطٌ؛ فإنَّه يأخذ الزائد ويكمل النَّقص، أما الأجر: فله أجرٌ - إن شاء الله - إذا أخذ المال بنيَّةٍ صالحة، وأدَّى الواجب عليه.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبدالله بن قعود عبدالله بن غديان عبدالرزاق عفيفي عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
السؤال الأول من الفتوى رقم (5228)(/30)
س1: زوجي - رحمه الله - متوفَّى، وأريد - بإذن الله - أن أوكِّل شخصًا يحجُّ له حجَّة هذا العام، هل يصحُّ لمَن يقوم بالحجِّ عنه أن يأخذ أجرًا (مال) عن تعبه، غير المال الذي يأخذه كأجر المواصلات وثمن الغذاء والأكل والشرب، أم لا؟ أفيدوني جزاكم الله خير الجزاء.
ج1: يجوز لمن وُكِّل أن يحجَّ عن غيره أن يأخذ ما جُعِلَ له من الأجر عن قيامه بذلك الحج، ولو كان أكثر مما أنفقه في المواصلات والطعام والشراب، ونحو ذلك مما يحتاجه مِثله لأداء الحجِّ، ويُشرع له أن يقصد بذلك المشاركة في الخير وأداء ما ييسِّر الله له من العبادات في الحرم الشريف، وألا يكون قصده المال فقط.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبدالله بن قعود عبدالله بن غديان عبدالرزاق عفيفي عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
وَكَّلَتْ مَنْ يحجُّ عن زوجها من عرفات
السؤال الخامس من الفتوى رقم (6259)
س5: منذ عدَّة سنوات حجَّت والدتي، وفي عرفات وكَّلت أحد الناس بأن يحجَّ عن والدي المتوفَّى؛ حيث إنه لم يحجَّ في حياته، فهل هذه الحجَّة كاملةٌ؟ حيث إنها بدأت من عرفات؟ وهل يجوز عمل حجَّة أخرى لمزيد من التأكُّد؟
ج5: الإحرام يوم عرفة سواء كان في عرفة أو غيرها من الشخص الذي حج عن والدك صحيح، فإذا كان قد أدى الحج عن نفسه وكمل مناسك الحج ولم يحصل منه ما يبطله فهو مجزئ عن والدك، ولا يلزم حجة أخرى لمزيد من التأكد، لكن إن أرادت أن تحج عنه حجة أخرى فهذا إليها، ولها أجر في ذلك.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبدالله بن قعود عبدالله بن غديان عبدالرزاق عفيفي عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
الفتوى رقم (3697)(/31)
س: إن لي أختًا تدعى (طفيلة) توفيت من ثلاثين سنة قبل أدائها فريضة الحج، كما أن لي ابنة موجودة الآن على قيد الحياة تدعى (طفلة)، ثم إنني أقمت نائبًا ليحجَّ عن أختي الهالكة (طفيلة)، وأفهمت النائب باسم المحجوج عنها، وبعد أن حجَّ النائب ورجع إلى بلده جرى بيني وبينه الحديث عن الحجِّ، فأفاد أنه حجَّ عن ابنتي (طفلة) التي هي على قيد الحياة الآن، ولم يحجَّ عن من استُنِيبَ ليحجَّ عنه، علمًا أن (طفلة) المحجوج عنها - والتي هي على قيد الحياة الآن - لم تعلم ولم تُستأذَن في الحج المذكور؛ لذلك أطلب من سماحتكم إفادتي عمَّن تكون الحجَّة المذكورة؟ حيث إن ما وقع من النائب وقع على سبيل الغلط.
ج: يكون الحجُّ عن أختك (طفيلة) التي ذكرتها للنائب، ولا تأثير لغلطه في الاسم؛ لقول النبي - صلَّى الله عليه وسلم -: ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكلِّ امرئٍ ما نوى))، والعبرة بنيَّتك، أي: بنيَّة المُنيب، لا النائب.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبدالله بن قعود عبدالله بن غديان عبدالرزاق عفيفي عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
الحجُّ عن الكافر
السؤال الأول من الفتوى رقم (2411)
س1: مضمونه: أن شخصًا لا يصوم ولا يصلِّي في حياته، ويذبح للجنِّ في الشجر والحجر، كأصنامٍ له، ومات مصرًّا على ذلك. هل يجوز لقريبه أن يحجَّ عنه، أو أن يستغفر له؟(/32)
ج1: مَنْ مات على الحالة المذكورة في السؤال يعتبر مشركًا شركًا أكبر، لا يجوز الحجَّ عنه، ولا الاستغفار له؛ لقوله سبحانه وتعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة: 113]، ولِمَا ثبت أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلم - قال: ((استأذنتُ ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذَن لي، واستأذنته أن أزور قبرها فأذِن لي))([9])؛ رواه مسلم في "صحيحه"، وذلك أنها ماتت في الجاهلية على غير الإسلام.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبدالله بن قعود عبدالله بن غديان عبدالرزاق عفيفي عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
السؤال الثالث من الفتوى رقم (3774)
س3: رجلٌ وضع عنده أحد أقاربه 2000 ريال ليبحث له عن أحد يحجَّ فيها عن أحد أجداده الأموات، فحاول أن يجد لها أحدًا ولم يقبل عليها - ربما لقلَّتها في هذا العام - وقد وعده أحد الأشخاص بأخذها، ولكنه بعد خمسة الحجَّة سافر للحجِّ بمبلغ آخَر لشخص غيره ولم يخبره، لذا فات عليه الوقت، إلا أنه - أي الشخص الذي وضع عنده المبلغ - عزم على الحجِّ بعائلته، ونوى أن يحجَّ عن الشخص الذي وصَّى يبحث عن أحد يحجَّ عنه، وعقد الحجَّ باسمه، وصرف المبلغ على نفقات الحجِّ، فهل يجوز ذلك؟ وأصحابها يثقون به، ولا يمانعون أن يحجَّ هو عن قريبهم، وهل يلزم أن يستأذن الآن أو يعيد لهم المبلغ وينوي حجَّة لنفسه، أم ماذا يعمل؟
ج3: إذا كان الأمر كما ذُكِرَ؛ فحجه بهذا المال جائزٌ ولا شيء فيه، ويقع الحج عمن نوى له، وهو مشكور ومأجور إن شاء الله؛ لاجتهاده، وحرصه على نفع الموصي، ولرضى أصحاب النيابة في ذلك.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.(/33)
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو الرئيس
عبدالله بن غديان عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
السؤال الأول من الفتوى رقم (5849)
س1: أخذ والدي من شخص حجَّةً بريرة لوالد الشخص، وبعد أن رجع والدي من الحجِّ ومؤدِّيًا جميع مناسكه، قيل له: إن هذه الحجَّة لا تجزئ، ولا تصحُّ أن تكون بريرةً؛ لأنَّ الذي أعطاه إياها لم يقضِ فرضَه، وهو رجلٌ مقتدرٌ. هل يُرجع والدي المال إلى صاحبه بعد أن رجع من الحجِّ؟ وإذا أخذ المال صاحبه؛ هل تعتبر الحجَّة لوالدي؛ لأنه المتكلِّف بها وناويها لصاحبه الذي أُخذَت له، وهو والد الشخص المذكور أعلاه؟
ج1: الحجُّ صحيحٌ، وليس عليه ردُّ النفقة، وقول مَنْ قال: إنَّ الحجَّ غيرُ صحيحٍ لا وجه له، وإنما ذلك لمن حجَّ عن غيره قبل أن يحجَّ عن نفسه.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو عضو الرئيس
عبدالله بن قعود عبدالله بن غديان عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
السؤال الثاني والثالث من الفتوى رقم (6909)
س2: هل الأفضل للإنسان تكرار الحج لنفسه تطوُّعًا، أو ينوي ذلك لأحد أقاربه المتوفِّين أو الأحياء العاجزين عن الحجِّ بعضَ السِّنين؟ أي: سنة يحجُّ لنفسه، والحجة التي تليها ينويها لأحدهم.
ج2: الأفضل أن يحجَّ عن نفسه؛ لأنه الأصل، ويدعو لنفسه ولغيره من الأقارب وسائر المسلمين، إلا إذا كان أحد والديه أو كلاهما لم يحجَّ الفريضة؛ فله أن يحجَّ عنهما بعد حجِّه عن نفسه برًّا بهما وإحسانًا إليهما عند العجز أو الموت، على أن يحجَّ أو يعتمر عن كلِّ واحدٍ على حدةٍ، وليس له جمعهما بعمرة ولا حجٍّ.
س3: إذا كان مستحسنًا أن يحجَّ الإنسان عن أقاربه الأموات، فأرجو ترتيبهم في الأولوية.(/34)
ج3: يبدأ بأمِّه ثم أبيه، وإن كان أحدهما حجَّ الفريضة فليبدأ بمَنْ لم يحجَّ منهما، ثم الأقرب فالأقرب؛ لقول النبي - صلَّى الله عليه وسلم - لما سأله سائلٌ: مَنْ أَبرُّ؟ قال: ((أمك)) قال: ثم مَنْ؟ قال: ((أمك)) قال: ثم مَنْ؟ قال: ((أمك)) قال: ثم مَنْ؟ قال: ((أباك، ثم الأقرب فالأقرب))([10])؛ رواه مسلم في "صحيحه".
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبدالله بن قعود عبدالله بن غديان عبدالرزاق عفيفي عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
السؤال الأول من الفتوى رقم (7894)
س1: نزلت مأموريةً إلى السعودية فترة الحجِّ المبارك، وبالنسبة لحالتي المالية وعدم إمكان تدبير تكاليف الحجِّ، ولا ينتظر أن أوفِّرها لزوجتي، فهل يجوز أن أؤدِّي فريضة الحج لزوجتي وهي حيَّة تُرْزَق وصحيحة البنية وتقيم في مصر؟ إلا أنني فقيرٌ، ولا يُنتظَر إمكان تدبير نفقة الحج حاليًا أو مستقبلاً.
ج1: إذا كانت زوجتك كما ذكرتَ؛ حيَّةً صحيحةَ البنية؛ فلا يصحُّ حجُّك عنها، وليس الحجُّ فرضًا عليها؛ مادامت غير مستطيعة لفقرها، أو لعدم مَحْرَمٍ يسافر معها، ونسأل الله لكما التوفيق والتيسير.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبدالله بن قعود عبدالرزاق عفيفي عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
الفتوى رقم (12387)
س: إذا كان المسلم غنيًّا ما عليه دَيْن وما حجَّ ولو مرةً، وهو صحيحٌ لا يمنعه شيءٌ عن الحجِّ، وأخرج ماله وأعطى الرجل لله ليحجَّ، وأخذ الرجل المال وحجَّ. هل حجَّة الرجل صحيحةٌ؟ أنا في انتظار جوابكم من فضلكم. زادكم الله قوة على قوتكم.(/35)
ج: يجب على المسلم المكلَّف المستطيع أداء الحجِّ على الفور، ولا يجوز في هذه الحالة أن يُنيب عنه مَنْ يحجَّ، ولا يكفي حجُّ غيره عنه ما دام مستطيعًا أداءَ الحجِّ بنفسه.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبدالله بن غديان عبدالرزاق عفيفي عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
الفتوى رقم (4057)
س: امرأةٌ توفِّيت لها مدة 35 عام تقريبًا، ولا لها مَنْ يقضي عنها فريضة الحج، وهي في تلك المدة لم تستطع الحجَّ من قلَّة الرَّاحلة، وحجِّينا ومعنا صبيٌّ صغيرٌ، وعقدنا له عنها بالنِّيابة، وطفنا وقضينا وفدينا له نيابةً عن المتوفَّاة، فما حكم ذلك؟
ج: ليس عليها حجٌّ، ولكن إذا أراد شخصٌ أن يحجَّ عنها جاز ذلك إذا كان قد حجَّ عن نفسه، وأما ما وقع من الصبي فيعتبر نافلةً له، وليس له أن يحجَّ عن غيره حتى يحجَّ عن نفسه، ولا يجزئ عن حجِّ الفرض إلا بعد أن يبلغ.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبدالله بن قعود عبدالله بن غديان عبدالرزاق عفيفي عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
الفتوى رقم (4403)
س: لي والدةٌ وعمرها 66 عامًا، وأرغب آخذ لها عمرة وحجَّة، ولكنها مريضة في رأسها ولا تتقبَّل زحمة الناس؛ لأنه يشقُّ عليها جدًّا، وتطيح على الأرض إذا تتشوَّف الناس، فهل يجوز أن آخذ لها عمرة بمفردي وليست معي؟
ج: إذا كان الأمر كما ذُكِرَ؛ جاز لك أن تأخذ عمرة وحجَّة لأمك؛ لأن الرسول - صلَّى الله عليه وسلم - أذِنَ في الحجِّ عن الكبير الذي لا يستطيع الحجَّ بسبب كِبَر سنِّه، وهكذا العجوز.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس(/36)
عبدالله بن قعود عبدالله بن غديان عبدالرزاق عفيفي عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
السؤال الأول من الفتوى رقم (4666)
س1: بعض الناس يأخذ حجَّة ليحجَّ عن صاحبها، إمَّا لمرض أو لموت صاحب هذه الحجة، فدفعوا أهله مبلغًا من المال لإسقاط فرضه، وهذا المال يقارب 3000 - 4000 ريال، فيصرف منها مقدار ما يُصرف به نفقات للحجِّ - كالفدي وغيره - والباقي يضعه في مِلْكه الخاص به، يشتري بها زادًا وغيره. هل يصحُّ له ذلك؟ وهل يصح للمرأة أن تأخذ مثل هذه الحجَّة؟ وهل على الحاجِّ أن يصلِّيَ صلاة عيد الأضحى؟
ج1: إذا أعطى شخصٌ مالاً لشخصٍ ليحجَّ عنه لعجزه عن مباشرة الحجِّ بنفسه، أو ليحجَّ عن ميِّتٍ؛ صحَّ ذلك إذا كان النائب قد حجَّ عن نفسه، وله أن ينفق من هذا المال في حجِّه عنه، ويملك ما بقي، أما إن أعطيه ليحجَّ منه ويردَّ الباقي؛ أنفق منه ما يحتاجه في حجِّه عنه ويردُّ ما بقيَ. وليس على الحجَّاج صلاة عيد الأضحى، ومَنْ صلاَّها منهم مع الناس فهو مأجورٌ.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبدالله بن قعود عبدالرزاق عفيفي عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
السؤال العاشر من الفتوى رقم (4765)
س10: هل يجوز للإنسان أن يرسل والدَيْه إلى الحجِّ قبل أن يذهب هو إلى الحجِّ؟
ج10: الحج فريضةٌ على كلِّ مسلم، حرٍّ، عاقل، بالغ، مستطيع السبيل إلى أدائه، مرةً في العمر. وبر الوالدين وإعانتهما على أداء الواجب أمرٌ مشروعٌ بقدر الطاقة، إلاَّ أنَّ عليك أن تحجَّ عن نفسك أولاً، ثم تعين والديك إن لم يتيسَّر الجمع بين حجِّ الجميع، ولو قدَّمت والدَيْك على نفسكَ؛ صحَّ حجُّهما.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس(/37)
عبدالله بن قعود عبدالرزاق عفيفي عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
السؤال الأول من الفتوى رقم (6884)
س1: لدي والدةٌ كبيرةٌ في السنِّ، وعمرها لا يقلُّ عن مائة عام، وعاجزةٌ عن فريضة الحجِّ، وقد حججتُ واعتمرتُ عنها العام الماضي على كيسها، وقال بعض الناس: لا يصحُّ الحجُّ لها إلا بعد وفاتها، وحجُّك هذا لا فائدة فيه، فما ردُّ سماحتكم؟
ج1: إذا كانت والدتك لا تستطيع بنفسها لكبرها؛ فحجُّك واعتمارك عنها صحيحٌ، إن كنت قد حججت عن نفسك واعتمرت ما وجب عليك.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبدالله بن قعود عبدالله بن غديان عبدالرزاق عفيفي عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
الفتوى رقم (6526)
س: أ - إنني قد أدَّيت فريضة الحج في مدة سابقة، وكنت مصطحبًا معي زوجتي، حيث نويت بحجِّ متعةٍ، وقد فديتُ بذبيحةٍ في نفس مكة، ولكن لا أدري: هل ذبيحةٌ واحدةٌ أم اثنتين، وأصبحت في شكٍّ من ذلك، فما هو الذي يترتَّب إزاء ذلك؟
ب - حجيت حجَّة أخرى، وأخذت عليها أجرة، أي: محجَّج لأحد الإخوان، وهو متوفَّى، فهل حجَّتي صحيحة لذلك الشخص أم غير صحيحة؟
ج: أ - إذا كان الواقع كما ذكرتَ؛ فعليك ذبيحةٌ أخرى من الغنم، أو سُبع بقرة، أو سُبع بَدَنَة؛ لأن الذبيحة الثانية - المشكوك فيها - لاغية، على أن تُذبح بمكة المكرمة أو أي مكان من الحرم بنيَّة أنها عمَّن لم يُذبح عنه منكما.
ب - إذا كان الواقع كما ذكرتَ؛ فحجَّتك عمَّن ذكرت صحيحةٌ، إذا كنت جئت بها على الوجه المطلوب شرعًا.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبدالله بن قعود عبدالله بن غديان عبدالرزاق عفيفي عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
الفتوى رقم (8183)(/38)
س: في 15/9/1404هـ ذهبت من الرياض إلى المنطقة الجنوبية، قصدي أسلم وأزور والدي ووالدتي الذين يعيشون في المنطقة الجنوبية، وأنا أعيش في منطقة الرياض بحكم عملي، وقد طلب مني والدي أن أوديِّه للعمرة، وقد اعتذرت عن ذلك؛ لأنه لايوجد عندي فرصة من مرجعي إلا للفترة التي جئت فيها أشاهد والدي ووالدتي فيها، ولكن قد أحسست أن والدي زعل علي بدون أن يظهر هذا الزعل، ثم قال لي: سوف أذهب وحدي لأداء العمرة، فرفضت ذلك بشدة ومنعته من الذهاب إلى العمرة وحده؛ لخوفي عليه كونه رجلاً طاعنًا في السن، ويبلغ من العمر 85 سنة، وقد أعطيته وعدًا مني أن أوديِّه للعمرة في السنة التالية - أي: في عام 1405هـ - بإذن الله إذا كنا من الحيين. والسؤال هنا: ما حكم عدم تلبية طلب والدي، مع العلم أنني رجل لست عاصيًا والدي؟
وما حكم اعتراضي على ذهاب والدي بمفرده لأداء العمرة؛ لخوفي عليه لكبر سنه، مع العلم أنني لم ألح على مرجعي في تمديد الرُّخصة لأتمكَّن من الذهاب بوالدي للعمرة؟ أفيدوني جزاكم الله خير الجزاء.
ج: إذا كان الواقع كما ذكرتَ؛ فأنت غير آثمٍ في عدم تلبيتك رغبة والدك في السَّفر معه للعمرة؛ لأنك معذورٌ بارتباطك بعملٍ الحقُّ فيه لغيرك.
أما اعتراضك على سفره وحده للعمرة ومنعه من ذلك؛ فلا حرج عليك فيه، إذا كان يُخشَى عليه من السفر وحده؛ لأنه لمصلحته، والرفق به، ودفع المشقة والحرج عنه، وليس عقوقًا له ولا صدًّا له عن الخير، وعسى أن تطيِّب خاطره بالوفاء بوعدكَ حينما تتهيَّأ لك الفرصة في الذهاب معه للعمرة أو الحج.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبدالله بن قعود عبدالله بن غديان عبدالرزاق عفيفي عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
السؤال الأول من الفتوى رقم (5501)(/39)
س1: إنه يوجد لي والدة تبلغ من العمر حوالي 75 عامًا ولم تؤدِّ فرض الحجِّ، وأنا موظف، ولم يسمح لي المرجع أحجِّجها حتى الوقت الحاضر، علمًا أنها مصابة بأمراض وكبيرة في السن، أفيدوني جزاكم الله خيرًا: هل يجوز لي أن أدفع أجرة لمن يحجَّ عنها. أثابكم الله؟
ج1: إن كانت والدتك مريضة مرضًا يغلب على الظنِّ عدم بُرئها منه، لا تستطيع معه الحجَّ؛ فيجوز أن تُنيبَ مَنْ يحجَّ عنها؛ لما ثبت عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن امرأة من خثعم قالت: يارسول الله، إنَّ أبي أدركته فريضة الله في الحجِّ شيخًا كبيرًا، لا يستطيع أن يستوي على ظهر بعيره. قال: ((حجِّي عنه)).
وإن كانت تستطيع الحجَّ؛ وَجَبَ أن تخرج مع أحد محارمها، الذي يوافق على الخروج معها.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبدالله بن قعود عبدالله بن غديان عبدالرزاق عفيفي عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
الفتوى رقم (9194)
س: والدتي تعاني من مرض السكر، وهي تنوي الحجَّ، علمًا بأن السلطات السودانية رفضت منحها إذن السفر إلا أن يكون معها مَحْرَم لتأدية فريضة الحجِّ. هل يجوز أن أنوب عنها في تأدية فريضة الحجِّ؟
ج: إذا كانت والدتك لا تقوى على الحجِّ بنفسها لمرض لا يُرجى برؤها منه، أو لضعفها من كبر سنها؛ فحجَّ عنها واعتمر بعد حجِّك وعمرتك عن نفسك، وإن كان مرضها أو ضعفها لأمرٍ طارئ يزول؛ فلا يصحُّ حجُّك ولا عمرتك عنها، وإن كان المانع عدم السماح لها بالسفر من جهة السلطات المسؤولة؛ لعدم مَحْرَمٍ لها يرافقها في السفر؛ فليس عليها حجٌّ حتى يتيسَّر مَنْ يرافقها من المحارم.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس(/40)
عبدالله بن قعود عبدالله بن غديان عبدالرزاق عفيفي عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
السؤال الثاني من الفتوى رقم (10806)
س2: ما الأمور التي يجوز فيها الإنابة أو التوكيل في مناسك الحج، ومتى يجوز الحج عن الغير؟
ج2: يجوز الحج والعمرة عن الميت المسلم، وعن الحي المسلم العاجز عن أدائها بنفسه؛ لكبر سن أو مرض لا يُرجى برؤه، وتجوز النيابة في رمي الجمار عن العاجز الذي لا يقوى على مباشرة الرمي بنفسه؛ كالصبي والمريض وكبير السن، إذا كان النائب من الحجَّاج ذلك العام، وقد رمى عن نفسه.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبدالله بن غديان عبدالرزاق عفيفي عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
السؤال الأول والثاني من الفتوى رقم (10938)
س1: هل يجوز لي أن أحجَّ عن جدي؟ علمًا بأني قد ولدتُ بعد وفاته، ولا أدري هل وجب عليه الحجُّ أم لا، وقد توفِّي دون أن يحجَّ.
ج1: يجوز أن تحجَّ عن جدك الميت بعد أن تحجَّ عن نفسك.
س2: مات مسلم في بلد مسلم غير المملكة، ولم يحج، علمًا بأن الحج قد وجب عليه، هل يجوز لي أن أحج عنه من المملكة؟ حيث أني مقيمٌ بها، وهل هناك فرقٌ بين الثواب في الحج من بلدٍ بعيد أو قريب؟
ج2: يجوز لك أن تحجَّ من المملكة عن أي مسلمٍ مات في بلده أو غيرها، سواءٌ كان قد حجَّ أو لم يحج، ولا أثر لفرق المسافة المذكورة، ولكن على قدر الإخلاص والنفقة والنَّصَب وتحرِّي الأمور المشروعة يكون الأجر.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبدالله بن غديان عبدالرزاق عفيفي عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
السؤال الأول من الفتوى رقم (10946)(/41)
س1: الرجل الذي يحجُّ بأجرةٍ عن ميت؛ سواءٌ كان رجلاً أو امرأةً، أو عن عاجزٍ لكبر سنٍ أو مرضٍ لا يُرجى برؤه، هل هذا المؤجَّر له أجرٌ من الله؟
ج1: مَنْ حجَّ أو اعتمر عن غيره بأجرةٍ أو بدونها؛ فثواب الحجِّ والعمرة لمَنْ ناب عنه، ويُرجى له أيضًا أجرٌ عظيمٌ على حسب إخلاصه ورغبته للخير، وكلُّ مَنْ وصل إلى المسجد الحرام وأكثر فيه من نوافل العبادات وأنواع القربات- فإنه يُرجى له خيرٌ كثيرٌ إذا أخلص عمله لله.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبدالله بن غديان عبدالرزاق عفيفي عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
الفتوى رقم (11519)
س: هل يجوز لي الحجُّ عن والدي مع أنه على قيد الحياة؟ علمًا بأنني لم أقضِ الفريضة عن نفسي بعد، وإذا كنت أنوي العمرة في رمضان إن شاء الله وزيارة مدينة الرسول - صلَّى الله عليه وسلم - فبماذا ترشدوني منذ مغادرتي الرياض؟ بارك الله في عملكم وتقواكم لجميع المسلمين.
ج: يجب عليك الحجُّ عن نفسك أولاً، ثم بعد ذلك يجوز لك الحجُّ عن والدك إذا كان لا يستطيع الحجَّ بنفسه؛ لكبر سن أو مرض لا يُرجى برؤه، وهكذا العمرة بعد أن تعتمر لنفسك، ويُشرع شدُّ الرِّحال لزيارة مسجد النبي - صلَّى الله عليه وسلم - لا لزيارة قبر النبي - صلَّى الله عليه وسلم - ولا غيره من القبور؛ لقول النبي - صلَّى الله عليه وسلم -: ((لا تُشدُّ الرِّحال إلاَّ إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى))، لكن يُشرع لمَنْ زار المسجد النبوي أن يسلِّم على النبي - صلَّى الله عليه وسلم - وعلى صاحبَيْه أبي بكر وعمر رضيَ الله عنهما، ويُشرع له أيضًا زيارة قبور البقيع والشهداء والدعاء لهم، والترحُّم عليهم، وذكر الموت وما بعده، ويُشرع له أيضًا زيارة مسجد قُباء للصلاة فيه؛ لأحاديث وردت في ذلك.(/42)
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبدالله بن غديان عبدالرزاق عفيفي عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
السؤال الثالث من الفتوى رقم (13491)
س3: امرأة أرادت أن تعطي من مالها عن والدتها حجَّة، وهي لم تحجَّ عن نفسها، فهل يجوز أن تدفع الحجَّة دراهم لغيرها ليحجَّ عن والدتها؟ وهي نفسها لم تقضِ فرضها لعذرٍ من عدم احتساب أوليائها من زوج وولد لقضاء فرضها، أفيدونا عمَّا ذُكِر أعلاه.
ج3: يجوز للمرأة المذكورة أن تدفع مالاً ليحجَّ به عن والدتها إذا كانت والدتها متوفاة أو عاجزة عن الحجِّ بنفسها؛ لكِبَر سنٍّ أو مرضٍ لا يُرجى برؤه.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبدالله بن غديان عبدالرزاق عفيفي عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
الفتوى رقم (13551)
س: شخصٌ يسكن في أفريقيا، ويريد أن يكلِّف شخصًا آخَر بأن يحجَّ عن أمِّه، هل يدفع له أجرةَ الحاجِّ القادم من أفريقية إلى مكة المكرمة، وهل يجوز له أن ينقص منها؟
ج: يجوز للشخص المذكور أن يقيم من مكة أو غيرها من الثقات مَنْ يحجُّ عن أمِّه إذا كانت متوفاةً أو عاجزةً عن مباشرة الحجِّ بنفسها؛ لكبر سنٍّ أو مرضٍ لا يُرجى برؤه، بأجرٍ قليلٍ أو كثير أو بدون أجرة.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبدالله بن غديان عبدالرزاق عفيفي عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
الفتوى رقم (12666)
س: أريد العمرة لبيت الله الحرام، وأردتُ إذا ما فرغت من عمرتي أن أعتمر عن والديَّ - وهما على قيد الحياة، والحمد لله - وعن والديهما - وهما قد ماتا رحمهما الله - هل هذه الطريقة صحيحةٌ لي أم لا؟ أرجو الإفادة.(/43)
ج: إذا اعتمرتَ عن نفسك جاز لك أن تعتمر عن أمك وأبيك إذا كانا عاجزَيْن؛ لكِبَر سنٍّ أو مرضٍ لا يُرجى برؤه. كما يجوز لك أن تعتمر عن والدَي والدَيْك المتوفَّيْن.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبدالله بن غديان عبدالرزاق عفيفي عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
السؤال الثالث من الفتوى رقم (3122)
س3: إذا أراد شخصٌ أن يعطيَ حجَّةً عن ميِّتِه، وكان الميِّت - مثلاً - في مكانٍ يبعد عن مكة حوالي ألف كيلو، هل يجوز أن يعطي حجَّةً من مكة أو المدينة؛ لكون الكُلْفَة من مكة أو المدينة أقل من إعطاء الحجَّة من مكان المتوفَّى؟
ج3: نعم يجوز ذلك.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبدالله بن قعود عبدالله بن غديان عبدالرزاق عفيفي عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
الفتوى رقم (2532)
س: توفي والدي ولم يؤدِّ فريضة الحج، وفهمت أنه واجبٌ عليَّ أن أحجَّ عنه، وقد اتفقت مع شخصٍ يحجُّ عنه، لكن عندما سألني عن اسم والدي واسم والدته المتوفَّاة لم نعرف اسمها، فهل يكفي اسم المتوفَّى عن اسم والدته.
ج: الحج عن الغير يكفي فيه النيَّة عنه، ولا يلزم فيه تسمية المحجوج عنه، لا باسمه فقط ولا باسمه واسم أبيه أو أمه، وإن تلفَّظ باسمه عند بدء الإحرام أو أثناء التَّلْبية أو عند ذبح دم التمتُّع - إن كان متمتِّعًا أو قارنًا - فحَسَنٌ؛ لما روى أبو داود وابن ماجه، وصحَّحه ابن حبان، عن ابن عباس - رضيَ الله عنه - أن النبي - صلَّى الله عليه وسلم - سمع رجلاً يقول: لبيك عن شبرمة، قال: ((مَنْ شبرمة؟)). قال: أخٌ لي، أو: قريبٌ لي. قال: ((حججتَ عن نفسك؟)) قال: لا. قال: ((حجَّ عن نفسك ثم حجَّ عن شبرمة)).
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.(/44)
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبدالله بن قعود عبدالله بن غديان عبدالرزاق عفيفي عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
الفتوى رقم (95)
س: شخص توفِّيت والدته، وتبرَّع لها بحجَّةٍ تطوعًا، واستأجر شخصًا ليحجَّ عنها، فركب بسيارةٍ تحمل الحجَّاج تبرُّعًا. وإن شخصًا آخَر استأجر رجلاً ليحجَّ حجَّة الإسلام عن رجل توفِّي، وأمر وكيله أن يؤجِّر مَنْ يحجَّ عنه، فركب مَنِ استأجر سيارةً تحمل الحجاج تبرُّعًا. فهل تجزئ هذه الحجَّة وتبرأ بها الذمة في الحالتين؟
ج: حيث إنَّ من أُجِّر ليحجَّ عن غيره قد أدَّى الحجَّ عمَّن طلب منه الحج عنه كما شرع الله؛ فقد برئت ذمَّته مما كُلِّفَ به من الحجِّ، سواءٌ ركب سيارةً بأجرةٍ أو تبرُّعًا، أو مشى على رِجْله، وكفى هذا الحجُّ عن المتوفَّى، سواءٌ كان عن حجَّة الإسلام أو كان تطوُّعًا؛ لأنَّ الوصول إلى مكة وأماكن المشاعر المقدسة وسيلةٌ لأداء النُّسُك، والمقصود بالذات: هو أداء الحج فريضةً أو تطوُّعًا، فتصحُّ إذا أدَّيت الأركان والواجبات على ما شرع الله، وتبرأ بها الذمَّة، دون نظرٍ إلى كيفية الوصول إلى مكة، لكن لا ينبغي للمسلم أن يجعل فعله للقربات التي تدخلها النيابة وسيلةً لكسب الدُّنيا؛ فإن هذا ليس من مكارم الأخلاق.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبدالله بن منيع عبدالله بن غديان عبدالرزاق عفيفي إبراهيم بن محمد آل الشيخ
الفتوى رقم (932)
س: المتضمن: أنه حجَّ هذا العام عن والده المتوفَّى، وحيث إنه لم ينشئ سفرًا للحجِّ عن والده من مسقط رأس والده، فقد حصل عنده إشكالٌ في صحَّة الحجِّ، ويسأل عن ذلك.
ج: يظهر من سؤال السائل أنه متبرِّعٌ بالحجِّ عن والده، فإذا كان كذلك؛ فلا يظهر بأسٌ في صحَّة حجِّه عنه، وإن لم ينشئ سفر الحج من مسقط رأس والده.(/45)
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو عضو نائب رئيس اللجنة
عبدالله بن منيع عبدالله بن غديان عبدالرزاق عفيفي
الفتوى رقم (2509)
س: عند رجلٍ والدته، وهي طاعنةٌ في السنِّ، ولم تُسقِط فريضة الحج إلا لعدم استطاعتها ركوب السيارة، ولو كان واحد كيلو، فهل يلزم ابنها الحج عنها؛ لأنه مستعد لذلك إذا كان ذلك يجوز؟
ج: إذا كان الواقع كما ذكر من أن الأم لم تحج الفريضة وأنها عاجزة عن السفر لأداء الحج بنفسها، وجب على ولدها أن يحج عنها إذا استطاع ذلك، وكان قد حج عن نفسه؛ لما ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن امرأة من خثعم قالت: يا رسول الله إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخًا كبيرًا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: ((نعم))([11])، وذلك في حجة الوداع، رواه البخاري ومسلم، وفي رواية لمسلم: قالت: يا رسول الله إن أبي شيخ كبير، عليه فريضة الله في الحج، وهو لا يستطيع أن يستوي على ظهر بعيره، فقال - صلَّى الله عليه وسلم -: ((فحجِّي عنه))([12]).
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبدالله بن قعود عبدالله بن غديان عبدالرزاق عفيفي عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
الفتوى رقم (2564)
س: نفيد فضيلتكم أنه يوجد لدي أخ لزوجتي، وهو يبلغ من العمر 80 عامًا، وهو مصاب بمرض الشَّلل في جنبه الأيمن، وهو مصابٌ به من صِغَره؛ فهو لا يستطيع المشي مع الأصحَّاء، وليس لديه دخلٌ إلاَّ من الضمان الاجتماعي، وهو يريد قضاء فريضة الحجِّ، علمًا أنه لا يستطيع أن يركب السيارة. فهل يجوز له أن يدفع أجرًا على حجَّته كما يفعل الغير؟ وماذا نفعل؟ نرجو إفادتنا عن ذلك. جزاكم الله عنا كل خير.(/46)
ج: إذا كان الواقع كما ذكرتَ: من مرض أخي زوجتك، وتوفُّر لديه ممَّا يعطاه من الضمان الاجتماعي، ومما يأخذه من الصدقات أو المعونات الأخرى - ما يكفي أن يُنيب من يحجَّ به عنه ويعتمر؛ وجب عليه أن يدفع من ذلك ما يحجُّ به غيره عنه ويعتمر؛ لأنه وإن عجز عن مباشرة حجِّ الفريضة والعمرة بنفسه - فهو مستطيعٌ ذلك بنيابة غيره عنه بماله.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبدالله بن قعود عبدالله بن غديان عبدالرزاق عفيفي عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
الفتوى رقم (2693)
س: هل يجوز لابنةٍ أن تحجَّ عن أمها؛ لأنَّ أمها مصابةٌ بمرض لا تستطيع الحجَّ معه، وهذا المرض في جنبها الأيمن، من اليد إلى الرِّجْل، يسمى: المرض العصبي، وهي طاعنةٌ في السنِّ أيضًا.
ج: يجوز لهذه البنت أن تحجَّ عن أمِّها؛ لأنها لا تستطيع الحجَّ بسبب المرض المشار إليه في السؤال.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبدالله بن قعود عبدالله بن غديان عبدالرزاق عفيفي عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
السؤال الأول من الفتوى رقم (2194)
س1: رجلٌ عمره 25 عامًا، توفِّي ولم يحجّ، فهل يجوز أن نحجَّ عنه؟ وهل تكفي حجَّةٌ بدون عمرة مع أن له مالاً؟
ج1: مَنْ وجب عليه الحجُّ ومات قبل أدائه - أُخرج عنه من جميع ماله ما يُحَجُّ به عنه ويعتمر، ويجوز أن يحجَّ عنه بدون إخراجٍ من ماله إذا وجد من يتطوَّع بذلك، أما الحجُّ فمعروفٌ أنه أحد أركان الإسلام، ولا يسقط بموت مَنْ وجب عليه.(/47)
وقد روى الإمام البخاري - رحمه الله - في "صحيحه": أنَّ امرأةً من جهينة جاءت إلى النبي - صلَّى الله عليه وسلم - فقالت: إنَّ أمي نذرت أن تحجَّ فلم تحج حتى ماتت، أفأحجُّ عنها؟ قال: ((نعم، حجِّي عنها، أرأيتِ لو كان على أمِّك دَيْنٌ، أكنتِ قاضيتِه؟ اقضوا الله، فالله أحقُّ بالوفاء))([13])، وسألته - صلَّى الله عليه وسلم - امرأةٌ من خَثْعَم قائلةً: يارسول الله، إنَّ فريضة الله على عباده في الحجِّ أدركت أبي شيخًا كبيرًا، لا يثبت على الرَّاحلة، أفأحجُّ عنه؟ قال: ((حجِّي عن أبيك)).
أما العمرة؛ فلما روى الخمسة عن أبي رُزَيْن العقيلي، أنه أتى النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلم - فقال: إنَّ أبي شيخٌ كبيرٌ لا يستطيع الحجَّ ولا العمرة ولا الظَّعْن؛ فقال: ((حُجَّ عن أبيكَ واعتمر)).
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبدالله بن قعود عبدالرزاق عفيفي عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
مَحْرَم المرأة
حجُّ المرأة بدون مَحْرَم
الفتوى رقم (1173)
س: امرأةٌ من سبأ مشهورةٌ بالصلاح، وهي في أوسط عمرها أو أقرب إلى الشيخوخة، وأرادت حجَّة الإسلام، ولكن ليس لها مَحْرَمٌ قط، ويوجد من أعيان البلاد مَنْ يريد الحجَّ، مشهورٌ بالصَّلاح، ومعه نسوةٌ من محارمه؛ فهل يصحُّ لهذه المرأة أن تحجَّ مع هذا الخيِّر ونسوته، تكون مع النسوة، والرجل مراقِبٌ عليها، أم يسقط عنها الحجُّ؛ لعدم وجود مَحْرَمِها، مع أنها مستطيعةٌ من ناحية المال؟
أفتونا بارك الله فيكم؛ لأنَّا اختلفنا مع بعض الإخوان.(/48)
ج: المرأة التي لا مَحْرَم لها لا يجب عليها الحجُّ؛ لأنَّ المَحْرَم بالنسبة لها من السبيل، واستطاعة السبيل شرطٌ في وجوب الحجِّ، قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران: 97]، ولا يجوز لها أن تسافر للحجِّ أو غيره إلاَّ ومعها زوجٌ أو مَحْرَمٌ لها؛ لما رواه البخاري ومسلم، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه سمع النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلم - يقول: ((لا يخلونَّ رجلٌ بامرأةٍ إلا ومعها ذو مَحْرَمٍ، ولا تسافر امرأةٌ إلا مع ذي مَحْرَمٍ))، فقام رجلٌ فقال: يا رسول الله، إنَّ امرأتي خرجت حاجَّةً، وإني اكتتبتُ في غزوة كذا وكذا. قال: ((انطلق، فحجَّ مع امرأتك))([14]).
وبهذا القول قال الحسن والنَّخعي وأحمد وإسحاق وابن المنذر وأصحاب الرأي، وهو الصحيح؛ للآية المذكورة، مع عموم أحاديث نهي المرأة عن السفر بلا زوج أو مَحْرَم، وخالف في ذلك مالك والشافعي والأوزاعي، واشترط كلٌّ منهم شرطًا لا حجَُّة له عليه. قال ابن المنذر: تركوا القول بظاهر الحديث، واشترط كلٌّ منهم شرطًا لا حُجَّة له عليه.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبدالله بن منيع عبدالله بن غديان عبدالرزاق عفيفي عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
السؤال الثالث من الفتوى رقم (4909)
س3: هل يحقُّ للمرأة المسلمة أن تؤدِّي فريضة الحجِّ مع نسوةٍ ثقات، إذا تعذَّر عليها اصطحاب أحد أفراد عائلتها معها، أو أنَّ والدها متوفَّى؟ فهل يحقُّ لوالدتها اصطحابها لتأدية الفريضة أو خالتها أو عمتها، أو أيِّ شخص تختار ليكون معها محرمًا في حجها؟(/49)
ج3: الصحيح أنها لا يجوز لها أن تسافر للحج إلا مع زوجها أو محرم لها من الرجال، فلا يجوز لها أن تسافر مع نسوة ثقات أو رجال ثقات غير محارم، أو مع عمتها أو خالتها أو أمها، بل لا بد من أن تكون مع زوجها أو محرم لها من الرجال، فإن لم تجد من يصحبها منهما فلا يجب عليها الحج مادامت كذلك؛ لفقد شرط الاستطاعة الشرعية، وقد قال تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران: 97].
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبدالله بن قعود عبدالرزاق عفيفي عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
الفتوى رقم (5445)
س: المعروف في حج النساء المسلمات أن يصاحبهن أزواجهن أو أولادهن أو آباؤهن أو إخوتهن المسلمون، ويسمح لهم بالدخول في داخل حدود الحرم، ولكن إذا كان الأمر كما هو شأني فإن زوجي لا يستطيع مصاحبتي لأسباب صحية، وابني الذي عمره 18 سنة التحق بالخدمة العسكرية إجباريًا لمدة سنتين، وإن عمري الآن 48 سنة، ولا أضمن العيش لمدة سنتين أخريين، فهل أستطيع أن أقوم بأداء فريضة الحج في ظل هذه الظروف؟ يقول لي بعض الإخوة: يجوز لك هذا إذا استطعت أن تكوِّني مجموعة من النساء غير المتزوجات، أقلها خمس، وتكون إحداهن عالمة بمسائل الحج، وعارفة بمقاماته ومشاعره، فحينئذ تستطيع أن تقوم بأداء فريضة الحج معهن دون محرم. ويرى الآخر أنه يجوز للمرأة المسلمة أن تذهب مع صديقتها وأختها في العقيدة التي تريد أداء فريضة الحج مع زوجها، ففي هذه الحالة يكون هذا الشخص راعيًا لزوجته وصديقتها. وإني متأكدة بأنكم ستساعدونني في شرح هذا الموضوع والإفادة عن إمكانيته.(/50)
ج: من شروط الحج الاستطاعة، ومن الاستطاعة وجود المحرم للمرأة، فإذا فقد المحرم فلا يجوز لها السفر، ولا يجب عليها الحج إلا بوجوده وموافقته على السفر معها، قال تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران: 97].
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبدالله بن قعود عبدالرزاق عفيفي عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
السؤال الرابع من الفتوى رقم (7316)
س4: هل يجب على المرأة الحج إذا فقدت الزوج أو المحرم وهي مستطيعة أو إذا كانت في عدة الوفاة؟
ج4: لا يجب الحج على المرأة إذا لم تجد محرمًا لها يسافر معها إليه، ولا يجوز لها أن تخرج إلى الحج وهي في عدة الوفاة.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبدالله بن قعود عبدالله بن غديان عبدالرزاق عفيفي عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
السؤال الأول من الفتوى رقم (8244)
س1: معلوم أن الحج في عصرنا هذا صار شاقًّا كثيرًا بالنسبة للنساء، فهل للزوجة على زوجها حقٌّ في الحج مثل حقِّ النفقة؟ وإذا كان لها حقٌّ على زوجها هل يجوز الحج لها وهي باقية على قيد الحياة؟ وهل الحج لها من مالها أم من مال زوجها؟ أم يؤخر الحج إلى ما بعد الوفاة؟
ج1: لا يجب على الزوج لزوجته نفقات حجها مثل ما تجب عليه نفقات أكلها وكسوتها وسكناها، ولكن بذله من باب حسن العشرة ومكارم الأخلاق، ويجب لها عليه في سفر حجها ما يقابل نفقتها حال كونها مقيمة، وإذا كانت مستطيعة الحج صحةً، ومالاً، وتيسر لها من يسافر معها من زوج أو محرم لها وجب عليها الحج بنفسها، وإن عجزت؛ لكبر سن أو لمرض لا يُرجى برؤه عن الحج بنفسها أنابت من يحج عنها من مالها، وإن ماتت ولم تحج حجج عنها من مالها.(/51)
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبدالله بن قعود عبدالرزاق عفيفي عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
الفتوى رقم (8392)
س: الأخ الفاضل: إن لي مشكلة أريد أن أجد لها حلاً من عند الله الرحيم بعباده، وهي خاصة بأمر تأديتي لفريضة الحج. فأنا امرأة في الخمسين من عمري، وأريد من فترة سنتين أن أسافر لأداء فريضة الحج، والذي يعوق سفري هو أنني ليس لي محرم لكي يسافر معي، فزوجي لا هم له سوى الأموال والدنيا ولا ينوي السفر للحج، اللهم إلا إن كانت منحة من الشركة التي يعمل بها، وهذا أمر لن يتأتى له إلا حينما يأتي دوره وأخاف أن يأتيني الأجل وأكون مقصرة في ذلك، وقد ملكت الزاد والراحلة، ولي ابنان أحدهما مسافر إلى إحدى الدول العربية مشغول في إعداد نفقات زواجه، والآخر موجود هنا في حلوان، ومشغول أيضًا بنفس الأمر، وزوج ابنتي أيضًا مسافر إلى إحدى الدول العربية. خلاصة الأمر: أن محارمي جميعًا لا يستطيعون السفر معي لمشاغلهم، وعدم إمكانية السفر، وقد حاولت معهم، وكان الرد طبعًا بعدم الاستطاعة، فهل بعد كل هذا أجد لي مخرجًا فقهيًا في سفري بصحبة زوجة أخي المتوفى مع باقي نساء المجموعة التي سأسافر معها؟ مع العلم أنني محجبة وملتزمة بالزي الشرعي ولا نزكي أنفسنا، مع العلم أن هذه أول مرة أنوي فيها السفر للحج. جزاكم الله خيرًا.(/52)
ج: إذا كان الواقع كما ذكر - من عدم تيسر سفر زوجك أو محرم لك معك لتأدية فريضة الحج - فلا يجب عليك مادمت على هذه الحال؛ لأن صحبة الزوج أو المحرم لك في السفر للحج شرط في وجوبه عليك، ويحرم عليك السفر للحج وغيره بدون ذلك، ولو مع زوجة أخيك ومجموعة من النساء، على الصحيح من قولي العلماء؛ لقول النبي - صلَّى الله عليه وسلم -: ((لاتسافر امرأة إلا مع ذي محرم)) متفق على صحته، إلا إذا كان أخوك مع زوجته فيجوز السفر معه؛ لأنه محرم لك، واجتهدي في الأعمال الصالحات التي لا تحتاج إلى سفر، واصبري رجاء أن ييسر الله أمرك، ويهيء لك سبيل الحج مع زوج أو محرم.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبدالله بن قعود عبدالله بن غديان عبدالرزاق عفيفي عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
السؤال الأول من الفتوى رقم (9552)
س1: امرأة حجت من غير محرم مع رفقة صالحة من النساء حجة الفريضة، فهل سقطت عنها الفريضة أم لا؟
ج1: إذا كان الواقع كما ذكر فحجها صحيح تسقط به فريضة الحج عنها، لكنها آثمة في سفرها من غير محرم، وعليها التوبة إلى الله والاستغفار.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبدالله بن غديان عبدالرزاق عفيفي عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
الفتوى رقم (7854)
س: هل يجوز تحج حرمة بدون محرم لها مع العلم أن لها أولاد بناتها، وهل يجوز حجها مع أولاد بناتها؟ أفتونا جزاكم الله خيرًا.
ج: لا يجوز أن تسافر المرأة لحج أو غيره بدون محرم، علمًا أن أبناء بناتها وأبناء أبنائها محرم لها، فيجوز حجها معهم.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس(/53)
عبدالله بن قعود عبدالله بن غديان عبدالرزاق عفيفي عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
الحج عن الميت
السؤال الثاني من الفتوى رقم (1241)
س2: رجل مات ولم يقض فريضة الحج، وأوصى أن يحج عنه من ماله ويسأل عن صحة الحجة، وهل حج الغير مثل حجه لنفسه؟
ج2: إذا مات المسلم ولم يقض فريضة الحج وهو مستكمل لشروط وجوب الحج وجب أن يحج عنه من ماله الذي خلفه سواء أوصى بذلك أم لم يوص، وإذا حج عنه غيره ممن يصح منه الحج وكان قد أدى فريضة الحج عن نفسه صحَّ حجه عنه وأجزأ في سقوط الفرض عنه، وأما تقويم حج المرء عن غيره هل هو كحجه عن نفسه أو أقل فضلاً أو أكثر؟ فذلك راجع إلى الله سبحانه، ولا شك أن الواجب عليه المبادرة بالحج إذا استطاع قبل أن يموت؛ للأدلة الشرعية الدالة على ذلك، ويخشى عليه من إثم التأخير.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبدالله بن منيع عبدالله بن غديان عبدالرزاق عفيفي عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
الحج عن الميت من تركته
الفتوى رقم (1366)
س: والدي توفي ولم يحج فريضة الإسلام، وخلف قطعة أرض، وأرغب تأدية الفريضة عن والدي إلا أنني أسأل: هل يكون من تركة والدي أم من مالي؟(/54)
ج: إذا كان والدك توفي وهو مستطيع الحج بنفسه وماله ولم يحج أخرج عنه مما خلفه أجرة حجة يحج عنه بها؛ لوجوبها عليه؛ لقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران: 97]، ولما في الصحيحين واللفظ للبخاري، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان الفضل بن عباس رديف رسول الله - صلَّى الله عليه وسلم - فجاءت امرأة من خثعم فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه، وجعل النبي - صلَّى الله عليه وسلم - يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر فقالت: يارسول الله إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخًا كبيرًا لا يثبت على الراحلة أفأحج عنه؟ قال: ((نعم))، وذلك في حجة الوداع. وفي صحيح البخاري أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي - صلَّى الله عليه وسلم - فقالت: إن أمي نذرت أن تحج ولم تحج حتى ماتت أفأحج عنها؟ قال: ((نعم حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ اقضوا الله، فالله أحق بالوفاء)) ففي الحديثين دليل على أن ما وجب على العبد لا يسقط بموته، وأنه دين عليه لا تبرأ ذمته إلا بأدائه وإن حج عنه ابنه من ماله أجزأ ذلك إذا كان قد حج عن نفسه، أما إن كان غير مستطيع الحج حتى مات فهو غير واجب عليه، وإن حج عنه ابنه بشرط أن يكون حج عن نفسه فحسن وإلا فلا شيء عليه. وحيث ذكر السائل أن والده لا يملك غير قطعة أرض توفي فخلفها فإذا كان يرتفق بهذه الأرض سكنًا أو زراعة فلا يعتبر بتملكه إياها مستطيعًا للحج إذا لم يكن عنده غيرها، فلا يلزمه الحج، وإن كان معدها للتجارة وفي قيمتها كفاية لنفقته في الحج ونفقة من يعول حتى يرجع من الحج فيلزم أن يحج عنه من ثمنها، وكذلك الأمر بالنسبة للعمرة لوجوبها على من وجب عليه الحج؛ لقوله تعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله}([15])، ولقوله - صلَّى الله عليه وسلم - لأبي رزين العقيلي حينما ذكر له شأن أبيه من أنه شيخ كبير لا يستطيع الحج ولا العمرة ولا(/55)
الظعن، فقال له - صلَّى الله عليه وسلم -: ((حج عن أبيك واعتمر))([16]) رواه الخمسة وصححه الترمذي.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبدالله بن منيع عبدالله بن غديان عبدالرزاق عفيفي عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
الفتوى رقم (1701)
س: توفيت مريم بنت محمد شاملي عن زوجها ووالدها وإخوتها ذكور وإناث، بعد أن أنجبت بنتًا توفيت قبل أمها المذكورة وخلفت بعض النقود القليلة يرغب الورثة معرفة فرض كل منهم هذا من جهة، ومن جهة ثانية فإن المرأة المتوفية المذكورة لم تؤد فريضة الحج، وبعض الورثة يفضل أن يكلف من يحج عنها قبل توزيع الفروض، والبعض منهم لا يوافق على ذلك إلا بعد الاستفتاء ومعرفة الوجه الشرعي، ونحن في انتظار الإجابة.
ج: إذا كان الأمر كما ذكر فيدفع من تركتها ما يكفي للحج والعمرة لمن يحج عنها ويعتمر إذا كانت قادرة على الحج في حياتها، أما إن كانت فقيرة فلا حج عليها ولا عمرة، وما بقي بعد ذلك يقضى دينها منه إن كان عليها دين، ثم تنفذ وصيتها الشرعية إن كانت موصية، وما بقي بعد ذلك فمسألته من اثنين للزوج النصف والباقي للأب ولا شيء لإخوتها؛ لأن الأب يسقطهم. وأما ابنتها التي توفيت قبلها فلا ترث من أمها؛ لأن من شروط الإرث تحقق حياة الوارث حين موت المورث، وهو مفقود هنا.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبدالله بن قعود عبدالله بن غديان عبدالرزاق عفيفي عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
الفتوى رقم (3805)
س: توفي عبدالله بن سليمان بن رويشد وهو لم يحج، وحصر ماله بعده عشرة آلاف ريال منها سعي الوكيل، وهو متوفى عن ولدين سليمان ومحمد، وحصة من أمهما، وهيا من أم ثانية، فهل يؤخذ من هذا المال حجة لصاحبه أم الورثة أولى به؟(/56)
ج: يؤخذ من مال المتوفى ما يكفي لحجة الفرض، وما بقي بعد ذلك المقدم فيه وفاء دينه إن كان عليه دين ثابت، ثم تنفيذ وصيته الشرعية، والباقي بعد ذلك يقسم على الورثة، لكن إن كانت هذه النقود ثمن أثاث بيته وثمن مسكنه ونحو ذلك فلا حج عليه؛ لأنه والحال ما ذكر يعتبر فقيرًا وغير مستطيع للحج، إلا أن يسمح الورثة بإخراج الحجة من المبلغ تبرعًا منهم، فلهم أجر ذلك.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبدالله بن قعود عبدالله بن غديان عبدالرزاق عفيفي عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
الفتوى رقم (4590)
س: لقد توفي والدي من قبل ثلاثين سنة، وكنا حين ذاك قصارًا لا نستطيع حفظ أي شيء عنه، إلا أنه حضر وفاته شقيقه الذي أصغر منه سنًا، وأبلغنا أنه حفظ منه قوله: إن عليه ثلاث حجج لناس كانوا قد سبقوه بالوفاة، إلا أن المستوصي لم يوفق لحفظ أسماء الذين توفوا وعليهم الحجج المذكورة، وقد بحثنا حتى مع بعض المجاورين لذلك الحي؛ لعل أحدًا يدلنا إلى أسماء الذين توفوا تاركين وراءهم الحجج المذكورة، فلم نعثر على حقيقة من ذلك. المطلوب من فضيلتكم التكرم بالآتي:
أولاً: هل يجب علينا قضاء هذه الحجج الثلاث مع عدم معرفة أصحابها؟
ثانيًا: إذا كنا ملزمين بذلك فكيف تكون النية في هذا الأمر؟
ثالثًا: هل يجب علينا افتداء ذلك بشيء من المال إذا لم نلزم بأدائها؟
رابعًا: على من يكون الإثم في ذلك: هل يكون على الذي كانت الوصية على يده، أم على الموصي، أم على الورثة؟
أفيدونا وفقكم الله لما فيه الخير والصلاح، مع العلم أنه مات الموصي بهذه الحجج وهو لم يؤد حجته إلا أنه أوصى بها ضمن الدين الذي كان عليه، وقد أجرنا عليها بعد وفاته، نرجو الله له المغفرة.(/57)
ج: إذا ثبتت الحجج الثلاث على والدك لأولئك المتوفين وعلمتم بذلك وجب على ورثته أن يحجوا عنه من تركته، وأن يؤدوا الحجج الثلاث التي عليه لأولئك المتوفين، ويجزئهم أن ينووا عند الإحرام أداءها عمن تعهد والدهم بها لهم دون تعيين أو ذكر أسماء؛ لأن العبد لا يكلف إلا وسعه، ولا يجزئ في ذلك سوى أداء هذه الحجج لا ذبائح ولا غيرها من المال، وإذا لم يقوموا بأدائها مع الاستطاعة أثموا جميعًا هم ووالدهم.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبدالله بن قعود عبدالله بن غديان عبدالرزاق عفيفي عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
السؤال الثاني من الفتوى رقم (8506)
س2: رجل له ستة أبناء وله ورثة أبناء يريدون الحج له، من يحق له منهم جميعًا أن يحج لوالدهم؟ وهل الحج من الورثة أم من مالهم الخاص الذي كسبوه هم؟
ج2: إذا كان الذي سيحج عنه متبرعًا فيحج من شاء منهم واحد أو كلهم في سنة أو في عدة سنوات إذا كان الذي سيحج عنه قد حج عن نفسه الفريضة، أما إن كان الحج عنه بمقابل مال فهذا يرجع فيه إلى وكيل المتوفى أو إلى ا لمحكمة إن لم يكن له وكيل.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبدالله بن قعود عبدالله بن غديان عبدالرزاق عفيفي عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
السؤال الثاني عشر من الفتوى رقم (6505)
س12: أجدادي من أبي وأمي متوفون ولا أدري هل كانوا أدوا فريضة الحج أو لا، فهل لي أن أوكل أحدًا يحج عنهم؟
ج12: يشرع أن توكل من يحج عن كل واحد منهم، على أن يكون من يحج عن كل واحد منهم قد حج عن نفسه حجة الإسلام قبل ذلك، وأن يكون ثقة مأمونًا.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء(/58)
عضو عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبدالله بن قعود عبدالله بن غديان عبدالرزاق عفيفي عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
الفتوى رقم (6806)
س: إنني دفعت لشخص مبلغ 3000 ريال، وذلك كي يحج عن أختي التي توفيت منذ عام، وكان ذلك من مالي الخاص، وقد طلبت من فضيلتكم أنه هل يجوز الحج عنها؟ فأفدتوني بكتاب برقم 1374/2 وتاريخ 29/6/1403هـ، بأنه يجب الحج عنها من مالها، هذا وقد دفعت المبلغ المذكور أعلاه لذلك الشخص، وقد حج عنها، ولكنني لا أريد أن أسترد فلوسي من مالها، وأريد أن يرتد هذا المال لبناتها. فهل هذا يجوز أم لا؟ أفيدوني بذلك.
ج: إذا كان الواقع كما ذكرت من أنك لا تريد أن تأخذ من تركتها ما دفعته لمن حج عنها، وتنازلت عنه لبناتها، فهذا بر منك لأختك وإحسان إلى بناتها. ونسأل الله أن يثيبك على برك وإحسانك.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبدالله بن قعود عبدالله بن غديان عبدالرزاق عفيفي عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
الفتوى رقم (10978)
س: توفي والدي في الحج يوم الأحد الموافق 11/12/1403هـ الساعة الخامسة عصرًا، وقف بعرفة ورمى جمرة العقبة ورمى الجمرات الحادي عشر، ثم رجع لكي يرمي الجمرات عن زوجته، ولا ندري هل رمى الجمرات عن والدتي أم لا، ولما كان بالقرب من الجمرات سمع امرأة تصيح تحت أقدام الحجاج فهب لمساعدتها، ولكن القدر كان له بالمرصاد، فمات بجوار الجمرات، وبعد: قد رأيت والدي عدة مرات وعليه ثوب أبيض وهو يرمي الجمرات ويكبر.
السؤال هو: تفسير هذه الرؤيا، وهل يبقى عليه شيء من حجه لكي أقوم بقضائه عنه وعن الوالدة؟ أفيدونا بذلك.(/59)
ج: إذا كان الأمر كما ذكر فلا تقض عن والدك ما بقي عليه من أعمال الحج؛ لما أخرج الشيخان في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بينما رجل واقف بعرفة إذ وقع عن راحلته فمات، فقال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلم -: ((اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه، ولا تحنطوه، ولا تخمروا رأسه؛ فإنه يبعث يوم القيامة ملبيًا))، فقد أمر النبي - صلَّى الله عليه وسلم - أن يغسل ويكفن، ولم يأمر أولياءه بقضاء بقية أعمال الحج عنه، وأما أمك فالواجب عليها أن ترمي بنفسها أو توكل غيرها إذا لم تستطع؛ لأن توكيلها لوالدك لم يعلم منه تحقق وقوع الرمي عنها، والأصل العدم، فيجب عليها إذا لم ترم دم يذبح بمكة المكرمة ويوزع على فقرائها. وأما الرؤيا فهي حسنة وتبشر بالخير لوالدك، ونرجو أن يكون شهيدًا؛ لكونه مات بسبب الزحمة المشبهة لميت الهدم، رحمه الله رحمةً واسعةً.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبدالله بن غديان عبدالرزاق عفيفي عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
الرفقة في الحج يؤمِّرون أحدهم
السؤال الأول من الفتوى رقم (12084)
س1: هل تأميرنا أميرًا في رحلة الحج جائز أم لا؟
ج1: يشرع للقوم إذا كانوا ثلاثة فأكثر في سفر أن يؤمروا أحدهم، ففي سنن أبي داود عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلم - قال: ((إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم))([17])، وبذلك يكون أمرهم جميعًا ولا يتفرق بهم الرأي ولا يقع بينهم خلاف.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبدالله بن غديان عبدالرزاق عفيفي عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
المعاصي هل تبطل الحج السابق؟
الفتوى رقم (2247)(/60)
س: قد وفقني الله تعالى لتأدية فريضة الحج العام الماضي 1397هـ، وأحمد الله على ذلك كثيرًا، ومما يؤسف له بعد شهور من عودتي بعد تأدية فريضة الحج قد أغواني الشيطان وارتكبت بعض المعاصي الكبيرة، وأستغفر الله، وقد ندمت بعده أشد الندم على ذلك، وسؤالي الآن هو: ما هو حكم فريضة الحج التي حجيتها عام 1397هـ: هل تعتبر باطلة أو سقطت أو...، وعليَّ أن أجددها بحجة أخرى هذا العام؟ لأن تلك قد ضاعت بارتكابي هذا الذنب، أم لا تسقط ويكفيني التوبة وعدم الرجوع إلى الذنب ولا يؤثر هذا على تأدية الفريضة؟ وهذا مما يجعلني حائرًا قلقًا لا أكاد أطيق العيش ندمًا على ما بدر مني.
ج: إذا كان الواقع منك ما ذكرت فإن حجك لا يبطل بالفاحشة التي ارتكبتها بعده، ولا يجب عليك القضاء، ولكن يجب عليك التوبة إلى الله، والإكثار من الاستغفار، وفعل الطاعات، والندم على ما حصل منك، والعزم على عدم العودة إليه. عسى الله أن يتوب عليك ويغفر لك ذنبك، قال الله تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه: 82].
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبدالله بن قعود عبدالله بن غديان عبدالرزاق عفيفي عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
الجدال في الحج
السؤال الثاني من الفتوى رقم (9892)
س2: إذا حصل من الرجل بعض الجدال مع رفقائه في الحج هل تصح حجته وتجزئه ولو كانت حجة الفريضة؟
ج2: حجته صحيحة، وتجزئه عن الفريضة، لكن ينقص أجره فيها بقدر ما حصل منه من جدال مذموم، وعليه التوبة من ذلك؛ لقول الله سبحانه: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[النور: 31].
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس(/61)
عبدالله بن غديان عبدالرزاق عفيفي عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
السؤال الثاني من الفتوى رقم (6178)
س2: هل يجوز للابنة أن تحج وتتصدق عن أمها المتوفية، علمًا بأن الأم في حياتها لم تكن تصلي. ماحكم الشرع في هذا؟ وللعلم أن هذه الإبنة تحافظ على الشريعة الإسلامية من أركان الإسلام.
ج2: من ترك الصلاة جحدًا لوجوبها كفر بالإجماع، ومن تركها تهاونًا وكسلاً كفر على الراجح من قولي العلماء؛ لقول النبي - صلَّى الله عليه وسلم -: ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر))، مع أدلة أخرى من الكتاب والسنة في ذلك؛ وعلى ذلك لا يجوز الحج ولا التصدق عمَّن مات وهو لا يصلي، كما لا يحج ولا يتصدق عن جميع الكفرة.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبدالله بن قعود عبدالله بن غديان عبدالرزاق عفيفي عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
إذن المرجع
الحج بإذن المرجع
الفتوى رقم (6159)
س: أنا العسكري محمد زيد الصالحي أسألكم يا فضيلة الشيخ عن إمكانية قيامي بأداء فريضة الحج، وحيث أن المرجع لا يسمح لنا، فما الحل برأيكم يا فضيلة الشيخ؟ الرجاء أن تنصحونا بذلك والله الموفق.
ج: اجتهد مع مرجعك في طلب الإذن في الحج، وبين له أنك لم تؤد الفريضة عسى أن يستجيب لك، ويجد فرصة تمكنه من الإذن لك أيام الحج؛ لتؤدي الفريضة ولو بجعل إجازتك الرسمية في موسم الحج.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبدالله بن قعود عبدالله بن غديان عبدالرزاق عفيفي عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
السؤال الأول من الفتوى رقم (7672)(/62)
س1: إنني رجل صاحب عائلة ومتزوج وعندي طفل وأبلغ من العمر 28 سنة، وأعمل في أحد أجهزة الأمن منذ عام 1394هـ، وأريد أن أقضي فريضة الحج حيث أنني لم أقضها حتى الوقت الحاضر، وكلما أردت أن أحج رفض المسؤلون ولم يعطوني إجازة في أيام الحج بادعائهم بأن العمل يتطلبني أيام الحج في منطقتي التي هي بقيق، وهي مدينة من مدن المنطقة الشرقية، فهل لي الحق بالحج دون إذن من مرجعي أم لا؟ وهل لي الحق بالعمرة في أي وقت كان بدون إذن من مرجعي أم لا؛ إذا لم يأذنوا لي بذلك؟
ج1: إذا كان الواقع ما ذكر فلا يجوز لك أن تسافر عن المكان الذي وكل إليك العمل فيه لحج أو عمرة أو غيرهما إلا بإذن مرجعك، وأنت والحال ما ذكرت معذور في تأخير ذلك حتى تجد الفرصة.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبدالله بن قعود عبدالرزاق عفيفي عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
السؤال الثاني من الفتوى رقم (9815)
س2: إنني أبلغ من العمر 29 عاما ولم يسبق لي الحج، فهل علي ذنب حيث أنني معسور؟ علمًا أنني أنوي الحج في كل سنة ولم يتيسر لي، 2 - لم يسمح لي بإجازة من قبل مرجعي. وهل علي إثم إذا حججت دون علم مرجعي أثناء عطلة عيد الأضحى المبارك؟ حيث إنني في هذه الفترة أعطل معهم وغير مكلف بأي عمل أثناء العطلة.
ج2: أولاً: إذا كان حالك كما ذكرت فلا إثم عليك.
ثانيًا: إذا كنت في عطلة عيد الأضحى وغير مكلف بأي عمل أثناء العطلة فأد الحج ولا إثم عليك، بل أنت مأجور بفعل هذه الطاعة.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبدالله بن غديان عبدالرزاق عفيفي عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
الفتوى رقم (13384)(/63)
س: موظف منتدب إلى المدينة المنورة ليعمل أثناء فترة الحج، وذلك إلى نهاية شهر ذي الحجة عام 1410هـ، وأنه يرغب أداء فريضة حج هذا العام، وذلك بعد أن يستأذن من مرجعه، علمًا بأن انتدابه مستمر إلى نهاية شهر ذي الحجة كما ذكر، وأن المدينة المنورة في الأيام الأخيرة من يوم 7/12/1410هـ لا يوجد بها حجاج بكثرة، حيث أن الأغلبية منهم يذهبون إلى مكة المكرمة، كما يعلم سماحتكم. فهل تجوز حجته أم لا؟ وإن عمله إداري. أرجو إفادتي وجزاكم الله عنا كل خير.
ج: حج الفرض واجب على المستطيع، وعليك أن تستأذن مرجعك.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبدالله بن غديان عبدالرزاق عفيفي عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
---
([1]) تفسير ابن كثير 217/3 مكتبة الرياض الحديثة.
([2]) أحمد 2/229،248، 410، 484، 494، والبخاري 2/141، 209 (ط المكتبة الإسلامية استانبول)، ومسلم ج2/983 برقم (1350)، وهذا لفظ البخاري، والترمذي 3/176 برقم (811)، وابن ماجه 2/965 برقم (2889)، والدارمي 2/31، والدار قطني 2/284، وعبدالرزاق 5/4 برقم (8800)، وابن خزيمة 4/131 برقم (2514)، وابن حبان 9/7 برقم (3694)، والبيهقي 5/261، 261-262، 262.
([3]) أخرجه مالك في الموطأ 1/346، وأحمد 2/246، 461،462، 3/447، والبخاري 2/198، ومسلم 2/983 برقم (1349، 1350)، والترمذي 3/272 برقم (933)، والنسائي 5/112، 113، 115 برقم (2622،2623،2629)، وابن ماجه 2/964 برقم (2888)، والدارمي 2/31، وعبدالرزاق 5/3-4، 4 برقم (8798، 8799)، وابن خزيمة 4/131، 359 برقم (2513، 3072، 3073)، وابن حبان 9/9 برقم (3696)، وابن الجارود 2/115 برقم (502)، والبيهقي 4/343، 5/261.(/64)
([4]) أخرجه أحمد 2/229، 359،400،414، 484، 506، ومسلم 1/209 برقم (233) واللفظ له، والترمذي 1/418 برقم (214)، وابن ماجه 1/196، 345، برقم (598، 1086)، وابن خزيمة 1/162، 3/158 برقم (314،1814)، وابن حبان 5/25، 6/176 برقم (1733، 2418)، والطبراني 4/155 برقم (3989)، والحاكم 1/119-120، 4/259 بنحوه، وأبو عوانة 2/20، والبيهقي 2/466، 467، 10/187، والبغوي 2/177 برقم (345).
([5]) تفسير ابن جرير 4/162 برقم (3761) تحقيق أحمد شاكر، وابن أبي حاتم كما في الدر المنثور 1/222.
([6]) مسند الإمام أحمد 1/314، والأصبهاني في الترغيب والترهيب 2/11 برقم (1046).
([7]) أحمد 1/200، 3/153، والترمذي 4/668 برقم (2518)، والنسائي 8/327-328 برقم (5711)، والدارمي 2/245، وعبدالرزاق 4/117 برقم (4984)، وابن خزيمة 4/59 برقم (2348)، وابن حبان 2/498 برقم (722)، وأبو يعلى 12/132 برقم (6762)، والحاكم 2/13، 4/99، والطبراني في الكبير 3/75، 76 برقم (2708، 2711)، وفي الصغير 1/102، والطيالسي ص163 برقم (1178)، والبيهقي 5/335، والبغوي في شرح السنة 8/16-17 برقم (2032).
([8]) أخرجه أبو داود 2/403 برقم (1811)، وابن ماجه 2/969 برقم (2903)، والدار قطني 2/267-270، وابن خزيمة 4/345 برقم (3039)، وابن حبان 9/299 برقم (3988)، وأبو يعلى 4/329 برقم (2440)، والطبراني في الكبير 12/34 برقم (12419)، وفي الأوسط 3/7، 4/382، 6/182 برقم (2300، 4495، 6130) (ط: دار الحرمين القاهرة)، وفي الصغير 1/226، وابن الجارود 2/113 برقم (499)، والبيهقي 4/336،337، 5/180.
([9]) أخرجه أحمد 2/441، ومسلم 2/671 برقم (976) واللفظ له، وأبو داود 3/557 برقم (3234)، والنسائي 4/90 برقم (2034)، وابن ماجه 1/501 برقم (1572)، وابن أبي شيبة 3/343 وابن حبان 7/440-441 برقم (3169)، والحاكم 1/375-376، والبيهقي 4/70، 76، والبغوي في شرح السنة 5/463 برقم (1554).(/65)
([10]) أخرجه أحمد 2/327-328، 391، 5/3،5، والبخاري 7/69، ومسلم 4/1974 برقم (2548)، وعنده «من أحق بحسن الصحبة..» إلى أن قال: «..ثم أدناك أدناك»، وأبو داود 5/351 برقم (5139)، والترمذي 4/309 برقم (1897)، وابن ماجه 2/903، 1207 برقم (2706، 3658)، وابن أبي شيبة 8/353، وابن حبان 2/175-176، 177 برقم (433، 434)، والحاكم 4/150، والطبراني 19/404-406 برقم (957-964)، والبخاري في الأدب المفرد ص6،7،8 برقم (3،5،6) والبيهقي 4/179، 8/2.
([11]) أخرجه مالك في الموطأ 1/359، وأحمد 1/212، 213،219،251،329،346، 359، والبخاري 2/140، 218، 5/125، 7/126، ومسلم 2/973،974، برقم (1334، 1335)، وأبو داود 2/400-402 برقم (1809)، والترمذي 3/267 برقم (928)، والنسائي 5/117، 118-119،119،8/227-228، 228 برقم (2675، 2641، 2642، 5389-5392)، وابن ماجه 2/970،971 برقم (2907، 2909)، والدارمي 2/39-40،40، وابن خزيمة 4/342، 343، 344، 346 برقم (3031-3033، 3036،3042)، وابن حبان 9/301،308،309 برقم (3989،3995، 3996)، والطبراني 18/282-284، 285-287 برقم (720-726،728-735)، والبيهقي 4/328،329، 5/179.
([12]) مسلم 2/974 برقم (1335).
([13]) أخرجه أحمد 1/239-240، 345، والبخاري 2/217-218، 7/233-234، 8/150، والنسائي 5/116 برقم (2632)، والدارمي 2/24،183، وابن خزيمة 4/346 برقم (3041)، وابن حبان 9/306 برقم (3993)، والطبراني 12/13،40،57 برقم (12332، 12443، 12444، 12512)، والطيالسي ص 341 برقم (2621)، وابن الجارود 2/115 برقم (501)، والبيهقي 4/335، 5/179، 6/274، والبغوي في شرح السنة 7/28 برقم (1855).(/66)
([14]) الشافعي (بترتيب السندي) 1/286، وأحمد 1/222، 346، والبخاري 2/219، 4/18، 6/159، ومسلم 2/978 برقم (1341)، واللفظ له، وابن ماجه 2/968 برقم (2899، 2900)، وابن أبي شيبة 4/6، وابن خزيمة 4/137 برقم (2529، 2530)، وابن حبان 6/441، 9/72، 72-73 برقم (2731، 3756، 3757)، وأبو يعلى 4/279، 394 برقم (2391، 2516)، والطبراني 11/335، 336 برقم (12201- 12205)، والبيهقي 5/226.
([15]) سورة البقرة، الآية 196.
([16]) أخرجه أحمد 4/10-12، وأبو داود 2/402 برقم (1810)، والترمذي 3/269-270 برقم (930)، والنسائي 5/111، 117 برقم (2621، 2637)، وابن ماجه 2/970 برقم (2906)، وابن خزيمة 4/346 برقم (3040)، وابن حبان 9/304 برقم (3991)، والطبراني 19/203 برقم (457، 458)، والحاكم 1/481، والبيهقي 4/329،350.
([17]) أخرجه أبو داود 3/81 برقم (2608)، والبيهقي 5/257، والبغوي في شرح السنة 11/23 برقم (2676).(/67)
العنوان: فتاوى الموقع عن الحج
رقم المقالة: 1762
صاحب المقالة: موقع الألوكة
-----------------------------------------
فتاوى الموقع عن الحج
أخطاء في الحج
السؤال:
فضيلة الشيخ انا ذهبت الى الحج قبل 6 سنوات تقريبا وانا محرمه قصصت اضافري وزلت شعرا من جسمي وتركت طواف الوداع لانهم قالوا انه سنه هل عليه ذبح واذا عليه ذبح كم ذبيحة واذا لم يكن عليه ذهبح فماذا علي ان افعل وجزاكم الله خير
الجواب:
فمن قلم أظفاره أو أزال شعرا من جسده ، عالماً بالتحريم ذاكراً له فعليه فدية ذلك ،
قال ابن قدامة في المغني : قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ مَمْنُوعٌ مِنْ أَخْذِ أَظْفَارِهِ , وَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ بِأَخْذِهَا فِي قَوْلِ أَكْثَرِهِمْ. وَهُوَ قَوْلُ حَمَّادٍ, وَمَالِكٍ, وَالشَّافِعِيِّ, وَأَبِي ثَوْرٍ, وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ . وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَطَاءٍ .. إلى أن قال : وَالْحُكْمُ فِي فِدْيَةِ الْأَظْفَارِ كَالْحُكْمِ فِي فِدْيَةِ الشَّعْرِ سَوَاءٌ. انتهى
والدليل على ذلك قوله تعالى { فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نُسك } البقرة : 196 ، والنسك هو الذبح ، وقد روى البخارى ومسلم عن كعب بن عجرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر به زمن الحديبية ، فقال " قد آذاك هوام رأسك " ؟ قال : نعم ، فقال " احلق ثم اذبح شاة أو صم ثلاثة أيام ، أو أطعم ثلاثة آصع من تمر على ستة مساكين "، والفدية على التخيير بين الصيام أو إطعام الستة مساكين أو ذبح الشاة وتفريقها علي فقراء الحرم.
وعليه فإذا كنت قد قلمت أظافرك أو زلت الشعر وأنت عالمة بالتحريم ذاكرة أنك مازالت في حال إحرام، فإن عليك كفارة لكل محظور لأنهما من جنسين مختلفين(/1)
أما إذا كنت قد فعلت ذلك وأنت ناسية، أو جاهلة الحكم فلا شيء عليك إن شاء الله لأن القاعدة المطردة في الشرع والتي قررها شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره – هي عدم مؤاخذة الجاهل أو الناسي.
أما طواف الوداع فقد اختلف أهل العلم في وجوبه على قولين: فمذهب الجمهور أنه واجب ويلزم تاركه دم، إلا على حائض فإنها لا تطوف هذا الطواف ولا يلزمها شيء واحتجوا بما رواه الشيخان عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن الحائض"
وذهب الإمام مالك رحمه الله وهو قول في مذهب الشافعي إلى أنه سنة، واستدلوا بترخيص النبي صلى الله عليه وسلم للحائض في تركه ولم يأمرها بدم ولا غيره. قالوا: لو كان واجبا لأمر بجبره إذ لا رخصة لها في ترك غيره من الواجبات فما ترك منها ولو اضطرارا يجبر بدم، ولا شك أن هذا منزع قوي في الاستدلال ومع ذلك فإن الأخذ بقول الجمهور أحوط.
وحيث إنك قد تركت طواف الوداع إعتمادا على القول بعدم وجوبه فلا شيء عليك لأنك عملت بمذهب معتبر وله أدلته وإن كانت مرجوحة العامي فمذهبه مذهب من يفتيه، فإذا أشكل عليه أمر من أمور دينه، سأل من يثق بعلمه، وعليه أن يختار الأعلم والأتقى والأورع من أهل العلم قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وتقليد العاجز عن الاستدلال للعالم يجوز عند الجمهور
ــــــــــــــ
مخالفة يوم عرفة
السؤال:
السلام عليكم.....
انا طالب في استراليا,وسوف اقضي هذا العيد فيها بإذن الله ولكن حدد يوم عرفه في يوم السبت الموافق أول أيام العيد في السعودية.
هل هذا صحيح,مع العلم انه يخالف السعودية (وقفه الحجاج),هل اتبعهم إنا والطلاب السعوديون .
المدينه التي اعيش فيها مع رفاقي يصومون السبت بينما بعض المدن مع السعوديه.
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد(/2)
فقد ذهب جمهور أهل العلم إلى أنه إذا رئي الهلال في بلد لزم جميع المسلمين الصيام، وهو مذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة و قول عند الشّافعيّة واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم : (( صوموا لرؤيته )) وهو خطاب للأمّة كافّةً: وذهب آخرون إلى اعتبار اختلاف المطالع وهوالأصحّ عند الشّافعيّة.
وعليه، فلا لوم على المسلمين في مخالفتهم أهل مكة ، في تحديد يوم عرفة ويوم العيد لأن المسألة محل خلاف بين أهل العلم كما سبق بيانه .
وعلى القول باختلاف المطالع فإذا تأخرت رؤية أهل بلد للهلال عن رؤية أهل مكة مثلاً، فلا يقال في تلك الحال : إنهم صاموا يوم عرفة في يوم العيد -وصومه ممنوع- ، لأنه لم يكن قد دخل يوم العيد عندهم حتى يقال ذلك . فلا لوم عليهم لأنهم آخذوا بقول معتبر لأهل العلم. والحاصل أن الأمر فيه سعة .
هذا ؛ و إن كنا نرى أن الراجح هو مذهب الجمهور بعدم اختلاف المطالع لا سيما في عيد الأضحى فلا ينظر فيه إلى رؤية الأقطار الأخرى ، وإنما ينظر فقط إلى رؤية أهل مكة ، وإلى الأوقات التي يسير عليها الحجاج فعلاً. فيوم عرفة هو اليوم الذي يقف فيه الحجيج في عرفة فلا عبرة بالرؤية في جميع الأقطار ولا بالحساب إذا خالف ذلك.
وعليه فربط صوم يوم عرفة بالسعودية باعتبارها مكان أداء مناسك الحج هو الأقرب للصواب والله أعلم .
ـــــــــــ
السؤال:
ما مدى صحَّة الحديث الذي يقول: ((مَنْ زَارَ قَبْرِي وَجَبَتْ لهُ شَفاعتي))؟
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، ثم أما بعد:(/3)
فالحديثُ أخرجهُ الدُّولابِيُّ في (الكُنَى والأسماء:2/846)، عن عليٍّ بنِ مَعْبَدِ بن نوحٍ، وابنُ خُزَيْمَةَ في "صحيحه" - كما في (ميزان الاعتدال:6/567) - عن محمَّدٍ بنِ إسماعيلَ الأَحْمَسِيِّ، وابنُ خُزَيْمَةَ في "صحيحه" - كما في (لسان الميزان:6/135)، والدَّارَقُطْنِيُّ في (سُنَنِه:2/278)، والبَيْهَقِيُّ في (شُعَبِ الإيمان:3/490) من طريقِ عُبَيْدِاللهِ بنِ محمَّدٍ الوَرَّاق، والعُقَيْلِيُّ في (الضُّعفاء:4/170) من طريق جعفرِ بنِ محمِّدٍ البُزُورِيِّ، والدِّينَوَرِيُّ في (المجالسة وجواهر العلم:129)، وابنُ عَدِيٍّ في (الكامل:6/351) - ومن طريقه البَيْهَقِيُّ في (شُعَبْ الإيمان:3862) - من طريق محمَّدٍ بنِ إسماعيلَ بنِ سَمُرَةَ؛ جميعُهم عن موسى بن هلال، عن عبدالله بن عمر العُمَرِيِّ - وقال بعضهم: عُبَيْدالله بن عمر - عن نافعٍ، عنِ ابنِ عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ زَارَ قَبْرِي وَجَبَتْ لهُ شَفاعتي)).
قلتُ: فيه موسى بنُ هلال؛ قال ابنُ أبي حاتم في (الجَرْح والتَّعديل:8/166): سألت أبى عنه فقال: "مجهولٌ". قال ابنُ القَطَّان في (بيان الوهم والإيهام:4/323): "وهو كما قالَ".
قال العُقَيْلِيُّ: "موسى بنُ هلال سَكَنَ الكوفةَ، عن عُبيْدِالله بنِ عمرَ، ولا يَصِحُّ حديثُهُ، ولا يُتَابَعُ عليه ... والرواية في هذا البابِ فيها لِينٌ".
قال ابنُ عَدِيٍّ: "وقد روى غيرُ ابنِ سَمُرَة هذا الحديثَ عن موسى بن هلال فقال: عن عبيدِالله، عن نافع، عن ابنِ عمرَ". قال – أي ابنُ عَدِيٍّ -: "وعبدُالله أَصَحُّ، ولموسى غيرُ هذا، وأرجو أنَّه لا بأسَ به".
قال ابنُ القَطَّان في (بيان الوهم والإيهام:4/324): "وهذا من أبي أحمد قولٌ صَدَرَ عن تَصَفُحِّ رواياتِ هذا الرَّجل، لا عن مباشرَةٍ لأحوالِه؛ فالحقُّ فيه أنَّه لم تثبتْ عدالته".(/4)
قال ابنُ عبدِالهادي في (الصَّارم المُنْكِي: ص34): "وهذا الذي صحَّحه ابنُ عَدِيٍّ هو الصَّحيحُ، وهو أنَّه من رواية عبدِالله بنِ عمرَ العُمَريِّ الصَّغيرِ المُكَبَّرِ المضعَّفِ، ليس من رواية أخيه عُبَيْدِالله العُمَرِيِّ الكبيرِ المُصَغَّر الثَّقةِ الثَّبْتِ؛ فإنَّ موسى بنَ هلالٍ لم يلحقْ عُبَيْدَالله؛ فإنَّه ماتَ قديمًا سنةَ بضعٍ وأربعينَ ومائةٍ، بخلاف عبدِالله؛ فإنَّه تأخَّر دهرًا بعد أخيه، وبقيَ إلى سنة بضعٍ وسبعينَ ومائةٍ.
ولو فُرِضَ أنَّ الحديثَ من رواية عُبَيْدِالله لم يلْزمْ أنْ يكونَ صحيحًا؛ فإنَّ تَفَرُّدَ موسى بنِ هلالٍ به عنهُ دونَ سائر أصحابه المشهورينَ بملازمته وحفظِ حديثه وضَبْطِه - من أَدَلِّ الأشياءِ على أنَّه منكرٌ غيرُ محفوظٍ، وأصحابُ عُبَيْدِالله بنِ عمرَ المعروفون بالرِّواية عنهُ؛ مثلُ: يحيى بنِ سعيدٍ القَطَّان، وعبدِالله بنِ نُمَيْرٍ، وأبي أسامة حمَّادِ بنِ أسامة، وعبدِالوهَّاب الثَّقَفِيِّ، وعبدِالله بنِ المبارَك، ومُعْتَمِرٍ بنِ سليمان، وعبدالأعلى بنِ عبدِالأعلى، وعليِّ بنِ مُسْهِر، وخالدِ بنِ الحارثِ، وأبي ضَمْرَةَ أنسِ بنِ عِيَاضٍ، وبِشْرِ بنِ المُفَضَّلِ، وأشباهِهم وأمثالهِم منَ الثِّقاتِ المشهورينَ.
فإذا كان هذا الحديثُ لم يرْوِهِ عن عبيدِالله أحدٌ من هؤلاء الأثبات، ولا رواهُ ثقةٌ غيرُهم؛ عَلِمْنَا أنَّه منكرٌ غيرُ مقبولٍ، وجَزَمْنَا بخطأ مَنْ حسَّنَهُ أو صحَّحَهُ بغير علمٍ". أهـ.
قال البَيْهَقِيُّ: "وسواءٌ قال عُبَيْدُالله أو عبدُالله؛ فهو منكَرٌ عن نافعٍ عن ابنِ عمرَ، لم يأتِ به غيرُهُ".
قال ابنُ عبدِالهادي في (الصارم المُنْكِي: ص32): "وهذا الذي قالَهُ البَيْهَقِيُّ في هذا الحديث، وحَكَمَ به عليه - قولٌ صحيحٌ بَيِّنٌ، وحُكْمٌ جَلِيٌّ واضحٌ، لا يشكُّ فيه مَنْ له أدنى اشتغالٍ بهذا الفن ِّ، ولا يردُّه إلا رجلٌ جاهلٌ بهذا العِلْمِ.(/5)
وذلك أنَّ تَفَرُّدَ مثلَ هذا العَبْدِيِّ المجهولِ الحالِ، الذي لم يَشْتَهِرْ من أمره ما يُوجِبُ قَبولَ أحاديثه وخَبَرِه عن عبدِالله بنِ عمرَ العُمَريِّ، المشهورِ بسوء الحفظ، وشدَّة الغفلة - عن نافعٍ، عن ابنِ عمرَ بهذا الخَبَر، من بين سائرِ أصحابِ نافعٍ الحُفَّاظِ الثِّقاتِ الأثْبَاتِ، مثلِ يحيى بن سعيدٍ الأنصاري، وأيُّوبٍ السَّخْتِيَانِيِّ، وعبدِالله بن عَوْنٍ، وصالحِ بنِ كَيْسَانَ، وإسماعيلَ بنِ أُمَيَّةَ القُرَشيِّ، وابنِ جُرَيْجٍ، والأوزاعيِّ، وموسى بن عُقْبَةَ، وابنِ أبي ذئبٍ، ومالكِ بنِ أَنَسٍ، واللَّيْثِ بنِ سعدٍ، وغيرِهم منَ العالمين بحديثِه، الضَّابِطينَ لرواياتِه، المُعْتَنِينَ بأخبارِه، المُلازِمينَ له - من أقوى الحُجَج، وأَبْيَنِ الأدلَّة، وأوضحِ البراهينِ على ضَعْفِ ما تفرَّدَ به، وإنكارِه، وردِّه، وعدمِ قَبوله. وهل يشك في هذا مَنْ شَمَّ رائحةَ الحديث، أو كان عنده أدنى بَصَرٍ به؟!!
هذا مع أنَّ أَعْرَفَ النَّاس بهذا الشَّأن في زمانه، وأثبتَهم في نافعٍ، وأعلمَهم بأخباره، وأضبطَهم لحديثه، وأشدَّهم اعتناءً بما رواهُ مالكُ بنُ أنسٍ؛ إمامُ دار الهجرة - قَدْ نَصَّ على كراهية قول القائل: "زُرْتُ قبرَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ولو كان هذا اللفظُ معروفًا عنده، أو مشروعًا، أو مأثورًا عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ لم يَكْرَهْهُ.
ولو كان هذا الحديثُ المذكورُ من أحاديث نافعٍ التي رواها عنِ ابنِ عمرَ؛ لم يَخْفَ على مالكٍ، الذي هو أَعْرَفُ الناس بحديث نافعٍ، ولَرَوَاهُ عن مالكٍ بعضُ أصحابه الثِّقاتِ. فلمَّا لم يَرْوِهِ عنه ثقةٌ يُحْتَجُّ به ويُعْتَمَدُ عليه؛ عُلِمَ أنَّه ليس من حديثه، وأنَّه لا أصلَ لهُ؛ بل هو ممَّا أُدْخِلَ على بعض الضُّعفاءِ المغفَّلينَ في طريقه؛ فرواهُ وحدَّثَ به".أهـ.(/6)
قال ابنُ خُزَيْمَةَ - كما في (لسان الميزان:6/135): "إنْ ثَبَتَ الخَبَرُ؛ فإنَّ في القَلْبِ مِنْهُ .. "!!. وقال: "أنا أَبرأُ من عُهْدَتِهِ، هذا الخبر من رواية الأَحْمَسِيِّ أَشْبَهُ؛ لأنَّ عُبَيْدالله بنِ عمرَ أَجَلُّ وأحْفَظُ من أنْ يرويَ مثلَ هذا المنكر؛ فإن كان موسى بنُ هلال لم يَغْلَطْ فيمَنْ فوقَ أحد العُمَرَيْن، فيُشْبِهُ أنْ يكونَ هذا من حديث عبدِالله بنِ عمرَ. فأمَّا من حديث عُبَيْدِالله بنِ عمرَ؛ فإنِّي لا أشكُّ أنَّه ليس من حديثه".
قال الحافظُ: "هذه عبارتُهُ بحروفها، وعبدُالله بنُ عمرَ العُمَرِيُّ - بالتّكبير - ضعيفُ الحديث، وأخوه عُبَيْدُالله بنُ عمرَ – بالتَّصْغِير - ثقةٌ حافظٌ جليلٌ. ومع ما تَقَدَّمَ من عبارة ابنِ خُزَيْمَةَ، وكَشْفِهِ عن علَّة هذا الخبر؛ لا يَحْسُنُ أن يُقالَ: (أخرجهُ ابنُ خُزَيْمَةَ في صحيحه)، إلا مع البيان". أهـ.
قال الحافظُ في (تلخيص الحَبِير:2/267): "فَائدَةٌ: طُرُقُ هذا الحديث كلُّها ضعيفةٌ!".
هذا؛ وقد تَكَلَّمَ على طُرُقِ الحديث بما لا مزيد عليه الحافظُ ابنُ عبدِالهادي، في كتابه الماتع "الصَّارمُ المُنْكِي"،، فانْظُرْهُ.
ــــــــــ
السؤال:
هل الإنسان المسلم الذي يقوم بجميع الواجبات، ويترك جميع المُحَرَّمَات ويقتصر على ذلك دون أداء أي شيء من النوافل يدخل الجنة، أم لا يدخل الجنة إلا بالتزود بالنوافل؟
إن كان هناك حديثٌ عن هذا الموضوع أرجو تزويدي به، مع سنده وإخراجه، وجزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:(/7)
فإذا قام الإنسان بحق الله تعالى وحق العباد عليه؛ فَشَهِدَ أن لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا عبده ورسوله، وأقام الصلاة، وآتى الزكاة، وصام رمضان، وحج البيت - فهو على خيرٍ، وقد أتى بما أوجب اللهُ سبحانه وتعالى عليه، بشرط أن يكُفَّ عن جميع المُحَرَّمَاتِ، وهو من أهل الجنة إن شاء الله تعالى؛ قال الله تعالى {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر:32]، قال الإمام ابنُ كثيرٍ في تفسيره: "يقول تعالى: ثُمَّ جَعَلْنَا القائمين بالكتاب العظيم، المُصَدِّقِ لما بين يديه من الكتب، الذين اصطفينا من عبادنا، وهم هذه الأمة، ثم قسمهم إلى ثلاثة أنواع، فقال: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} وهو: المُفَرِّط في فعل بعض الواجبات، المُرْتَكِبُ لبعض المُحَرَّمَات. {وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} وهو: المؤدِّي للواجبات، التَّارِكُ للمُحَرَّمَات، وقد يَتْرُك بعض المستحبات، ويفعل بعض المكروهات.
{وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} وهو: الفاعل للواجبات والمستحبات، التارك للمُحَرَّمَات والمكروهَات وبعض المُبَاحَات. قال علي بْنُ أبي طَلْحَةَ، عن ابن عباس في قوله: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا}، قال: هُمْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - وَرَّثهم الله كُلَّ كِتَابٍ أنزله، فَظَالِمُهُمْ يُغْفَر له، ومُقْتَصِدُهُم يُحَاسَبُ حِسَابًا يسيرا، وَسَابِقُهُمْ يدخل الجنة بغير حساب".(/8)
وقد وَرَدَتْ أحاديثُ كثيرةٌ دالَّة على ذلك منها: ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي عبدالله جابرِ بن عبدالله الأنصاريِّ - رضي الله عنهما - أن رجلا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((أرأيتَ إذا صليتُ المكتوباتِ، وصُمْتُ رَمَضَانَ، وأحللت الحلال، وحرَّمْتُ الحرام، ولم أَزِدْ على ذلك شيئًا، أدخل الجنة؟ قال: نعم)).
ومنها ما أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة: " أن أعرابيًا جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله دُلَّنِي على عمل إذا عَمِلْتُهُ دخلتُ الجنَّةَ قال : ((تعبد الله لا تشركُ به شيئًا، وتقيمُ الصلاة المكتوبة، وتؤتي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان)) . قال : والذي نفسي بيده لا أَزِيدُ على هذا شيئًا أبدًا ولا أَنْقُصُ منه، فلما ولَّى قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ((من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا)).
ومنها ما أخرجه مالك والشافعي والبخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن طلحة بن عبيد الله قال: " جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من أهل نجد ثائر الرأس، نسمع دوي صوته ولا نَفْقَهُ ما يقول : حتى دنا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا هو يسأل عن الإسلام، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((خمس صلوات في اليوم والليلة )). فقال : هل عليَّ غيرُهُنَّ ؟ قال : ((لا، إِلاَّ أَنْ تَطَوَّعَ، وصيام شهر رمضان))، فقال : هل علي غيره ؟ قال : ((لا، إِلاَّ أَنْ تَطَوَّعَ )). وذكر له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الزكاة فقال : هل علي غيرُها ؟ قال : ((لا، إِلاَّ أَنْ تَطَوَّعَ - فأدبر الرجل وهو يقول : والله لا أَزيدُ على هذا ولا أَنْقُصُ منه . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((أفلح إن صدق)) .(/9)
قال النووي في "شرح مسلم": ويحتمل أنه أراد أنه لا يُصَلِّي النافِلة مع أنه لا يُخِلُّ بشيء من الفرائض وهذا مُفلِح بلا شك، وإن كانت مواظبته على ترك السنن مذمومة، وترد بها الشهادة، إلا أنه ليس بعاصٍ بل هو مُفْلِحٌ ناجٍ. والله أعلم.
ومنه أيضا قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((اسْتَقِيمُوا ولن تُحْصُوا))؛ رواه أحمد، وقوله أيضًا: ((سَدِّدُوا وقارِبُوا))؛ رواه البخاري
ومما يدل على ذلك أيضًا قوله تعالى: {إنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأحقاف: 13-14]
قال ابْنُ رَجَبٍ رحمه الله: "والاستقامة في سلوك الصراط المستقيم، وهو الدين القويم من غير تعويج عنه يمنة ولا يسرة، ويشمل ذلك فِعْلَ الطاعات كُلِّهَا: الظاهرة والباطنة، وترك المنهيات كلها".
وعليه، فمن أتى بأركان الإسلام واستقام على أمر الله فهو من أهل الجنة، وإن كان لا يَليق بالمسلم الاستمْرَارُ على ترك السنن والمندوبات، لأنَّ المرءَ لا يَسْلَمُ من التفريط في القيام بالفرائض على الوجه الأكمل كما بَيَّنَّا؛ فتكون السنن والنوافل جبْرًا لما فرَّط فيه من شأن الفرائض، وإن كان اقتصارُهُ على الفرائض على الوجه الأكمل سبيلا لنجاته، لكن الأَوْلَى به الحرصُ على هذا الخير العظيم؛ قال تعالى في الحديث القدسي: ((ولا يزال عبدي يَتَقَرَّبُ إليَّ بالنوافل حَتَّى أُحِبَّهُ))؛ رواه البخاري من حديث أبي هريرة،، والله أعلم.
ـــــــــــ
الحَجّ عن زوج سابق
السؤال:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،(/10)
أولاً: أحب أن أشكركم على الدَّورَة العِلْمِيَّةِ لابن جبرين شكراً جزيلاً؛ فهي أغنتنا وأفادتنا، أنا ومن عرفها من الأَخَوَات، وبعد الانتهاء منها، ومذاكرة ما فيها، نَوَدُّ الالتحاق بدورة المجلس العلمي في موقعكم، أدامه الله علينا، ونفع به أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - وأعانكم على ما يُحِبُّ الله ويرضى، أما بعد:
أرجو سُرعة الرد على سؤالي، فلي صديقة كانت مُتَزَوِّجة ثُمَّ تُوفى زوجها، ثم تزوجت غيره الآن، وتود أن تحج عن زوجها السابق، وسألت بعض النساء الداعيات في المساجد؛ فقلن لها: لا يجوز؛ لأنها الآن متزوجة من آخر، وهو غريب عنها.
فأرجو الرد؛ لأنه لو يجوز فلابد من الاستعداد للحج من الآن من تقديم ونحوه، وجزاكم الله خير الجزاء.
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:(/11)
فيشرع الحَجّ عن الغير، سواء عن الحي - إن كان معذورًا - أو عن الميت، وهو مذهب الجمهور من الحنفية والشافعية والحنابلة وغيرهم، سواء عن حجة الإسلام, أو النذر, أو القضاء وسواء أوصى أو لم يوصِ؛ إجراءً للحج مجرى الديون؛ لأن الحَجّ يَقْبَلُ النيابة, وذهب مالك على المُعْتَمَد في المَذْهَب إلى أن الحَجَّ لا يَقْْبَلُ النِّيَابَةَ، واستدل الجمهور على مشروعية حج الإنسان عن غيره بالأحاديث الصحيحة؛ فمنها حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - في الصحيحين وغيرهما قال: ((جَاءَتِ امْرَأَةٌ من خَثْعَمَ، عام حَجَّةِ الْوَدَاعِ، قالتْ يا رسول اللَّهِ، إِن فَرِيضَةَ اللَّهِ على عِبَادِهِ في الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبي شَيْخًا كَبِيرًا، لا يسْتَطِيعُ أَن يَسْتَوِىَ على الرَّاحِلَةِ، فهل يَقْضِى عنه أن أَحُجَّ عنه؟ قَالَ: نَعَمْ))، وعنه - أيضًا -: ((أن امرأة من جُهَيْنَةَ جاءت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إن أمي نَذَرَتْ أن تَحُجَّ فَلَم تَحُج حتى ماتت؛ أَفَأَحُجُّ عنها؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: نعم، حجي عنها, أرأيت لو كان على أُمِّكِ دَينٌ أكنتِ قَاضِيتِهِ؟ اقضوا الله, فاللهُ أحقُّ بالوفاء))؛ متفق عليه، قال ابن قدامة: "هذه عبادة تجب بإفسادها الكفارة؛ فجاز أن يقوم غير فعله فيها مُقَامَ فعله, كالصَّوم إذا عجز عنه افتدى بخلاف الصلاة".(/12)
أما كون تلك المرأة أصبحت غريبةً عن زوجِهَا المُتَوَفَى فلا يَمْنَع من جَوَاز حجها عَنْهُ؛ لأنه يجوز لأي أَحَدٍ من المسلمين أن يَتَطَوَّع بالحِجِّ نِيَابَةً عن غيره، مثل تَبَرُّعه بقَضَاء دينه، بشرط أن تكون قد أَدَّتْ فريضَةَ الحَجِّ عن نفسِهَا؛ لما رواه أبو داود وغيره، عن ابن عباس أن النبى - صلى الله عليه وسلم - سَمِعَ رجلاً يقول: لبيك عن شُبْرُمَةَ. قال: ((مَنْ شُبْرُمَة؟)) قال: أخٌ لي أو قريب لي. قال: ((حججت عن نفسك؟)). قال: لا. قال: ((حج عن نفسك، ثم حج عن شُبْرُمَةَ)).
بل إن جماهير أهل العلم القائلين بجواز الحج عن الغير جَوَّزُوا استِئجَارَ رجلٍ للحِج عن الميت أو المعذور؛ قال الإمامُ النَّوَوِي في "المجموع": "قال الشافعي والأصحاب: لا يجوز لمن عليه حجَّة الإسلام أو حجة قضاء، أو نَذْر أن يَحُجَّ عن غيره ... فإن أحرم عن غيره، وقع عن نفسه لا عن الغير، هذا مَذْهَبُنا، وبه قال ابن عباس، والاوزاعي، وأحمد وإسحق وعن أحمد رواية أنه لا ينعقد".
وقال: "... قالوا لأن الميت يجوز أن يَحُجَّ عنه الأجنبي ويعتمر، من غير وَصِيَّةٍ ولا إِذْنِ وارِث بلا خِلاف كما يَقْضِي دينه"،، والله أعلم.
ــــــــــــــ
العُمْرَة بتأشيرة المرور
السؤال:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،
أَحْسَنَ اللَّهُ إليكم شيخَنا الكريم،،
إذا ما حَصَلْتُ على (تأشيرة) مرورٍ عبر الأراضي السُّعودية للذهاب لإحدى دول الخليج، فهل إذا مَرَرْتُ على الأراضي المقدَّسة وأدَّيْتُ العُمْرَةَ، أو زُرْتُ مسجدَ الحبيب - صلَّى الله عليه وسلَّم - آثَمُ على ذلك؟ خاصَّةً وأنَّ (تأشيرات) العُمْرَة من بلادنا تكون معقَّدةً جدًّا، وتتطلَّبُ وقتًا طويلاً للحصول عليها، بل إنني في إحدى المرات طلبتُ ممَّن يعطيني (تأشيرةَ) المرور في السِّفارة أن يعطيَني (تأشيرةً) للعُمْرَة أيضًا؛ فقال لي: لا، لكن أَدِّ أنتَ العُمْرَةَ في طريقكَ.(/13)
أنا أعلمُ أنَّ هذه (التأشيرةَ) لا تسمحُ لصاحبها بالذَّهاب إلى مكَّة، لكنَّني ألاحظُ أنَّ سُلُطَات المملكةَ تتساهلُ في ذلك، ولا تُشَدِّدُ، ولا أعلمُ: هل يُعَدُّ هذا تصريحًا ضِمْنِيًّا أم لا؟ وهل يكونُ عليَّ إثمٌ أم لا؟
أفتونا جزاكم اللَّهُ خيرًا.
الجواب:
الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، ثمَّ أمَّا بعدُ:
فإنْ كان الأمرُ كما ذَكَرْتَ؛ من أنَّ السُّلُطاتِ في المملكة تتساهلُ مع الحاصلين على (تأشيرة) المرور، بالسَّماح لهم بالعُمْرَة أو زيارة المسجد النبويِّ الشَّريف؛ فلا إثمَ عليكَ – إن شاء الله - في أداء العُمْرَة، ولكنْ بشرطِ ألاَّ تُقِيمَ بعدها بمكَّة - عظَّمَها اللَّهُ - أكثرَ من مدَّة أدائك للعُمْرَة؛ فتصبحَ مُخَالِفًا لقوانين الإقامة،، هذا والله أعلم.
ـــــــــ
التَّعَلُّق والتَّمَسُّح
السؤال:
ما حكم التَّعَلُّق والتَّمَسُّح بالكعبة ؟
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فلا يجوز التَّبركُ بالكعبة، ولا بالكِسوَةِ، ولا التَّمَسُّحُ ولا التَّعَلُّقُ بِهِما، ولا مسُّ أركان الكعبة، أو حيطانها، أو مُقَامِ إبراهيم، أو حِجْرِ إسماعِيل، أو أجزاءِ المسجدِ، وكل ذلك لا أصل له في الشرع، وما عرفه السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم، ولا أفتى به أحدٌ من الأئمة المُتَّبَعِين أَنه يُشرع التبرك بكسوتها، و لا بحجارتها، و لا بالحِجْرِ و لا بغير ذلك، إلا الحَجَر الأسْوَد والرُّكن اليمانيّ فقط.
قال البُهُوتِي: "ولا يسْتَلِم ولا يُقَبّل الرُّكْنَين الآخرين" أي : الشامي والغربي؛ لقول ابن عمر: "لم أر النبي - صلى الله عليه وسلم - يمسح من الأركان إلا اليمانِيَّيْنِ"؛ متفق عليه.(/14)
وقال ابن عمر: "ما أُرَاهُ - يعني النبيَّ صلى الله عليه وسلم - لم يَسْتَلِمِ الرُّكْنَيْنِ اللَّذَيْنِ يَلِيَانِ الحَجَر؛ إلا لأنَّ البيت لم يَتِمَّ على قواعد إبراهيم، ولا طَافَ الناس من وراء الحَجَر؛ إلا لذلك"، وطاف معاوية فجعل يسْتَلِمُ الأركانَ كُلَّهَا؛ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لِمَ تَسْتَلِمُ هَذَيْنِ الرُّكنين ولم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - يَسْتَلِمُهُمَا؟ فقال معاوية: ليس شيءٌ من البيت مهجورًا. فقال ابن عباس: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21]. فقال معاوية: صَدَقْتَ".
وقد صرح الحنفية والمالكية بكراهة استلام الرُّكنين: العراقي والشامي، وهي كراهة تَنْزِيهية عند الحنفية؛ قال العلامةُ ابْنُ الحاج المالكي في المدخل: "... لأنَّ التبرك إنما يكون بالاتِّبَاعِ له - عليه الصلاة والسلام - وما كان سبب عبادة الجاهلية للأصنام إلا من هذا الباب؛ ولأجل ذلك كره عُلَماؤُنَا - رحمة الله عليهم - التمسُّحَ بجدار الكعبة, أو بجدران المسجد, أو بالمصحف ... إلى غير ذلك مما يُتَبَرَّكُ به؛ سَدًّا لهذا الباب، ولمخالفةِ السُّنَّة; لأن صفة التعظيم موقوفةٌ عليه - صلى الله عليه وسلم - فَكُلُّ ما عظَّمَهُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نُعَظِّمُهُ ونتَّبِعُهُ فيه, فتعظيمُ المصحف قراءتُهُ والعملُ بما فيه، لا تقبيلُهُ ولا القيام إليه كما يَفْعَلُ بعضُهُمْ في هذا الزمان, وكذلك المسجد تعظِيمُهُ الصلاةُ فيه لا التَّمَسُّحُ بِجُدْرَانِهِ.
وقال العلامَةُ محمد بن إبراهيم مُفْتِي السُّعوديَّةِ السَّابِق: "تقبيلُ جُدْرانِ الكعبة، يَدْخُلُ في حَدِّ البدعة".(/15)
وقال: "الكَعْبَةُ نَفْسُهَا -زادها الله تشريفًا وتكريمًا- لا يُتَبَرَّكُ بها، ولا يُقَبَّلُ منها إلا الحَجَرُ الأسودُ والركنُ اليماني. والمقصود من هذا التقبيل والمسحِ طاعةُ الله واتِّبَاعُ شَرْعِهِ، ليس المُرَادُ أن تَنَالَ الأيدي البركةَ في استلام هذين الرُّكْنَيْنِ.
قال عمر: "إني لأعْلَمُ أنَّكَ حَجَرٌ لا تَضُرُّ ولا تنفع، ولولا أني رأيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُقَبِّلُكَ ما قَبَّلْتُكَ – رواه البخاري - والتزام الكعبة ليس فيه التمسح بحال إنَّما هو إِلْصَاقُ الخَدِّ والصدر واليدين؛ اشتياقًا وأَسَفًا على الفراق تَارَةً، وذُلا لله وخَشْيَةً تارة أخرى". اهـ.
وقال العلامة ابْنُ باز في "مجموع فتاوى ومقالات ابن باز": "التمسُّحُ بالمقام أو بِجُدْرَان الكعبة أو بالكِسوة كل هذا أمر لا يجوز، ولا أصْلَ له في الشريعة، ولم يفعلْه النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنما قبَّل الحَجَرَ الأَسْوَدَ واسْتَلَمَهُ واستلم جُدْرَانَ الكعبة من الداخل، لما دخل الكعبة أَلْصَقَ صَدْرَهُ وذِرَاعَيْهِ وَخَدَّهُ في جدارها، وَكَبَّرَ في نواحيها ودعا، أما في الخارجِ فَلَمْ يفعل - صلى الله عليه وسلم - شيئًا من ذلك فيما ثبت عنه، وقد روي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنَّهُ الْتَزَمَ الملتزَم بين الركن والباب، ولكنها رواية ضعيفة، وإنَّمَا فَعَلَ ذلك بعضُ الصحابة رضوان الله عليهم. فَمَنْ فَعَلَهُ فلا حَرَجَ، والمُلتزم لا بأس به، وهكذا تقبيل الحجر سُنَّة". اهـ.
وقال العلامة العُثَيْمِين: "لم يَرِدْ عَنِ النبي - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ مسح سوى الرُّكْنِ اليمانيِّ والحَجَرِ الأسود".
وقالتِ اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء بالسعودية: "المشروعُ تقبيل الحَجَرِ الأسود، وَقَدْ ثَبَتَ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَبَّلَ الحَجَرَ الأسودَ، ولم يُقَبِّل غَيْرَهُ من الكعبة المُشَرَّفَةِ"،، والله أعلم.(/16)
ــــــــــــ
السؤال:
أريد أن أعرف الحكمة من تقبيل الحجر الأسود؛ لأن هناك الكثيرين يستدلون بجواز تقبيل الحجر الأسود على جواز تقبيل أضرحة الأولياء، خصوصاً الأئمة.
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، ثم أما بعد:
فإن الحكمة الحقَّة من تقبيل الحجر الأسود هي الاتِّباع المحضُ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إظهارُ العبودية لله - تعالى - والتسليم لأمره وهو من تعظيم شعائر الله، وقد دَّلت على ذلك الأدلة من السنة المطهرة، ومنها:
- ما رواه الإمام البخاري، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم على بعير، كلما أتى على الرُّكن أشار إليه بشيءٍ في يده وكبَّر".
- وروى الإمام مسلم، عن نافع قال: رأيتُ ابنَ عمر استلم الحجر بيده، ثم قبَّل يده وقال: "ما تركتُه منذ رأيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم – يفعله".
- وروى الإمام مسلم، عن أبي الطُّفَيْل – رضي الله عنه - قال: "رأيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطوف بالبيت، ويستلم الركن بمِحْجَنٍ معه، ويقبِّلُ المِحْجَنَ".
وجاء في فضل استلامه أحاديثٌ منها:
- قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((والله ليبعثنَّه الله يوم القيامة، له عينان يبصر بهما، ولسانٌ ينطق به، يشهد على من استلمه بحقٍّ))؛ رواه الترمذي عن ابن عباس، وصحَّحه الألباني.
- ما رواه الإمام أحمد، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((إن مَسْحَ الحجر الأسود والرُّكْن اليَمانيّ يحطَّان الخطايا حطّاً)).(/17)
وليعلم: أنه ليس لأحد اختيارٌ مع أمر الله وأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - فالذي حرَّم عبادة الأحجار والأشجار والأوثان، وحرَّم التقرُّب إليه بغير ما شرع الله، هو الذي أمر بالطواف حول بيته، وشرع تقبيل الحجر، ولذلك كان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول: "إني لأعلم أنك حجرٌ لا تضرُّ ولا تنفع، ولولا أني رأيتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - يقبِّلُكَ ما قبَّلْتُكَ"؛ متفقٌ عليه.
قال الإمام الطَّبريُّ: "إنما قال ذلك عمر لأن الناس كانوا حديثي عهدٍ بعبادة الأصنام؛ فخشي عمر أن يظنَّ الجهَّال أن استلام الحجر من باب تعظيم بعض الأحجار، كما كانت العرب تفعل في الجاهلية، فأراد عمر أن يُعلِم الناس أن استلامه اتِّباعٌ لفعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا لأنَّ الحجر ينفع ويضرُّ بذاته، كما كانت الجاهلية تعتقده في الأوثان".
وقال الباجيُّ في "المنتقى": "تقبيلُه وتعظيمه ليس لذاته، ولا لمعنًى فيه؛ وإنما هو لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - شرع ذلك طاعةً لله – تعالى".
وقال الحافظ في "الفتح": "قال المهلب: وإنما شُرع تقبيله اختياراً؛ ليعلم بالمشاهدة طاعة من يطيع، وذلك شبيهٌ بقصة إبليس؛ حيث أمر بالسجود لآدم" وقال: "وفي قول عمر هذا التسليم للشَّارع في أمور الدين، وحسنُ الاتِّباع فيما لم يكشف عن معانيها، وهو قاعدةٌ عظيمةٌ في اتِّباع النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يفعله، ولو لم يعلم الحكمة فيه، وفيه دفعُ ما وقع لبعض الجهَّال من أنَّ في الحجر الأسود خاصةً ترجع إلى ذاته، وفيه بيان السُّنن بالقول والفعل، وأن الإمام إذا خشي على أحدٍ من فعله فساد اعتقاده، أن يبادر إلى بيان الأمر ويوضِّح ذلك".(/18)
وليُعلم: أن هناك عدة فوارق بين الحجر الأسود الذي شُرع تقبيله وبين الأضرحة؛ فالحجر ثبتت مشروعية تقبيله بفعل النبي - صلى الله عليه وسلم – وقوله؛ وقد أَمرنا باتِّباع هديه في الحج؛ فقال: ((خذوا عنِّي مناسككم))؛ رواه مسلمٌ.
وكما ثبتت نصوصٌ في التَّرغيب في تقبيله، بخلاف تقبيل الأضرحة الذي يؤدِّي للشِّرك, والغلُّو في الصالحين المفضي لعبادتهم، وهو أمرٌ خطيرٌ، يجرُّ صاحبه للمهالك،، والله أعلم.
فإن تقبيل الحجر الأسود ابتلاء العباد ، ولهذا قال عمر رضي الله عنه : إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك.[رواه البخاري ].
فاحذر أن تعترض على شيء مما شرع الله، أو أن يكون في نفسك حرج وضيق من ذلك .
ـــــــــــــــ
السؤال:
سوف أقوم بأداء العمرة - بإذن الله تعالى - وسوف تكون في موعد الدورة الشهرية، ولا أستطيع تناول أي أدوية لتأجيلها لظروف صحية، ولا أستطيع تأجيل العمرة لارتباطي بالفوج المسافر، إنني حزينة، هل من الممكن ممارسة بعض الفروض، وقراءة ما أحفظ من القرآن الكريم والأدعية. أفيدوني سريعًا، جزاكم الله كل خير.
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:(/19)
فإنَّ إحرامَ المرأة الحائضِ بالعُمْرة أو الحج صحيحٌ ومنعقدٌ، وإنما الواجب عليها إذا وصلت الميقات وهي تريد لحج أو العمرة أن تغتسل وتستَثْفِرَ بثوبٍ وتُحْرِمَ، ومعنى الاستثفار: أن تشد على فَرْجها خِرْقَةً وتربطها، ثم تحرم سواءٌ بالحج أو بالعمرة؛ فقد روى مسلم عن جابر بن عبد الله ((أن أسماءَ بنتَ عُمَيْسٍ زَوْجَةَ أبي بكر - رضي الله عنهما - وَلَدَتْ والنبي - صلى الله عليه وسلّم - نازل في ذي الحليفة يريد حجة الوداع، فأرسلتْ إلى النبي - صلى الله عليه وسلّم -: كيف أصنع ؟ قال : "اغتسلي واستثْفِري بثوْبٍ وأَحْرِمي")) والحيض كالنفاس بإجماع الأمة، وفي الصحيحين عن عائشة قالت: "خرجنا لا نرى إلا الحج ، فلما كُنَّا بِسَرِف حِضْتُ، فدخل عليَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا أبكى، قال ((ما لَكِ أنفِسْتِ؟)). قُلْتُ: نعم، قال ((إن هذا أمر كَتَبَهُ اللهُ على بَنَاتِ آدَمَ ، فاقْضِي ما يَقْضِى الحاجُّ، غَيْرَ أن لا تَطُوفي بالبيت)) وعند مُسلم: (("فاغتسلي ثُمَّ أَهِلِّي بالحج)). ففعَلَتْ ووَقَفَتِ المواقِفَ حتَّى إذا طَهُرتْ طافتْ بالكعبة والصَّفا والمروة". فدل على أن المرأة إذا أحرمت بالحج أو العمرة وهي حائض أو أتاها الحيض بعد الإحرام وقبل الطواف أنّها لا تَطُوفُ ولا تسعى حتى تَطْهُرَ وتَغْتَسِلَ، وهو ما ذهب إليه جمهور العلماء.
قال ابنُ قدامة : الطَّهَارَة مِن الْحَدَثِ شرطٌ لِصِحَّةِ الطَّوَافِ, فِي الْمَشْهُورِ عَنْ أَحْمَدَ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ, وَالشَّافِعِيِّ اهـ(/20)
وبِناءً على ما سَبَقَ؛ فإنْ حِضْتِ قبل الوصول للميقات فاغتسلي واستَثْفِري وأَحْرِمي بالعُمرة، فإذا وصلْتِ مكة المكرمة لَزِمَكِ الانتظارُ حتَّى الطُّهر، وكذلِكَ الأمر إن حِضْتِ قبل الطواف، فإن تعذر بقاؤُكِ لارتباطك بالفوج ولضرورة السفر ففي هذه الحالة يَسَعُكِ أن تذهبي وتبقي على إحرامك، فإذا طَهُرْتِ رَجَعْتِ وَطُفْتِ. فإن كان الرجوع متعذِّرًا أو فيه مشقة كبيرةٌ فإنَّ عليكِ أنْ تَسْتَثْفِري وتطوفي بالبيت وأنتِ على حالِكِ، كما رجَّحَهُ شيْخُ الإسلام في الفتاوى، وهو قول الحنفيَّةِ وطائفةٍ من أهل العلم مستَنِدين إلى أدلةٍ وقواعِدَ شرعيَّةٍ منها: قول الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]. وقوله تعالى {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]
واستدل شيخ الإسلام أيضًا بأن جميع الشروط والواجبات في العبادة مُعَلَّقَةٌ بالقدرة، فمن عجز عن شيء منها صار إلى البدل، إن كان له بَدَلٌ، كالتيمُّم عند فقد الماء، أو العجز عن استعماله، وإن لم يكن له بَدَلٌ سقط عَنْهُ، وبيان ذلك أن غايَةَ ما يُقَالُ في الطهارة مِنَ الحَيْضِ أَنَّهَا: شرطُ صِحَّةٍ بالنسبة للطواف، فتسقط بالعَجْزِ عنها.
وقال ابن القيم بعد تقريره لهذا القول: ... ليس في هذا ما يُخَالِفُ قواعِدَ الشرع، بل يوافِقُهَا كما تقدم؛ إذ غايَتُهُ سقوطُ الواجب، أو الشرط بالعجز عنه، ولا واجِبَ في الشريعة مع عَجْزٍ، ولا حرامَ مع ضَرورةٍ. انتهى وراجعي الفتوى
http://www.alukah.net/Fatawa/FatwaDetails.aspx?FatwaID=212&highligh
=الحائض&soption=0
أما الفرائض كالصلاة والصوم فلا يُمْكِنُكِ ممارسةُ أيٍّ منها وأنتِ حائضٌ، ولكنْ يُمْكِنُكِ قراءةُ القرآنِ من المصحف دون أن تَمَسِّيهِ بِيَدِكِ، بل يُمْكِنُكِ حمْلُه بحائِلٍ كالقُفَّازِ وما شَابَهَ. وراجعي في ذلك الفتوى على الرابط(/21)
http://www.alukah.net/Fatawa/FatwaDetails.aspx?FatwaID=1879&highlight
=الحائض&soption=0
وكذلِكِ يُمْكِنُكِ قراءةُ ما شِئْتِ من الأَدْعِيَةِ؛ لقولِه - صلى الله عليه وسلم – لعائِشَةَ : "افعلي ما يفعل الحاجُّ غير أن لا تطوفِي بالبيت حتى تطْهُري. ومن المعلوم أن الحاج يقوم بكثير من الأذكار مثل التلبية و الذكر والدعاء في عرفة، والذكر في أيام منى، والدعاء بعد رمي الجمار، والذكر والدعاء في المشعر الحرام،، والله أعلم(/22)
العنوان: فتح الأندلس
رقم المقالة: 1597
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضْلِلْ فلا هادِيَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ مُحمَّدًا عبده ورسوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70 – 71].
أما بعْدُ: فإنَّ رمضانَ بالأمس أتانا، وهو الآن يُوَدِّعُنا، فأحسنوا وداعه بالأعمال الصالحات، واسألوا الله - تعالى - قبول الأعمال؛ فإن السعيد من قبله الرحمن، فغفر له ورحمه وأعتقه من النار.
أيها الناس: كان رمضان يحكي أمجادًا للمسلمينَ ذَهَبَتْ، وأحداثًا فيه دونت، وبلادًا فيه فتحت، وعزًّا حكاه المتأخر عن المتقدم.(/1)
حكى بدرًا والفتح وعين جالوت وغزو الأندلس وغزوات أخرى كثيرة، عَزَّتْ نفوس أسلافنا بالإيمان والعبادة، فانتصرت على شياطينها وشهواتها، وعزّت بلادهم بالجهاد فأرهبت كفَّارها ومنافقيها، وخضعت الدنيا لحكم الإسلام، ودخل الناس في دين الله - تعالى - أفْواجًا، وأمَّا في الأزمان المتأخرة فإن كل رمضان يحكي للمسلمين رزيَّة، ويكون موقعًا لمصيبة وبلية؛ فمن البوسنة إلى الشيشان، ومن كشمير إلى كوسوفا، ومن هناك وهنالك إلى بيت المقدس، وما أدراك ما بيت المقدس؟!
لقد ذلت نفوس كثير من المسلمين بالمعصية؛ فذلت ديارهم بتسلط أعدائهم عليهم، وما أصابهم ما أصابهم إلا بما كسبت أيديهم، ولا يظلم ربك أحدًا.
لقد أتى على أسلافنا أيام ملأت من الدهر مِسْمَعيه، وضربت كل جبار في أَخدعيه[1]، وفرضت الذلة على جماجم الأكاسرة، وأطارت النعرة من معاطس القياصرة.
قوم ابتسلوا للموت نفوسهم، فرفعوا في الحياة رؤوسهم، يركبون من البر والبحر كلَّ غارب، ويلتمسون بالجيش دار المحارب، أحمت أنوفهم حياة القفر، وأعزت نفوسهم الرمال العفر، فكانت بلادُهم عذارى تُخلف ظن كل فاتح، وعقائل لا ينتهي إليها الطيف فضلاً عن الطائف[2].
جاءهم الإسلام بعزائم القرآن، وعزَّز ما فيهم من خيمٍ كريم[3]، وطبع سليم. بصلابة الإيمان اندفقت سيولهم من منابعها، وخرجت سنابلُهم من قنابعها، وملكوا ما بين الصين وبحر الظلمات في أقل من مئة عام، وأتوا من الأعمال ما لو حدثوا بها أنفسهم من قبل لقيل: إنه من الأحلام[4].
وكان من أنفس ما سدَّدهم الله - تعالى - إلى فتحه: جزيرة الأندلس الخضراء، الدُّرَّة الدهماء، والبقعة الجامعة بين الشموس والأفياء، أَتَوْهَا مِنْ كُلّ فَجّ، جيش يتلو جيشًا، وبعثٌ يردف بعثًا؛ حتى ذلَّلوا أعرافها، وألانوا أعطافها، فخيَّم الإسلام بعُقرتها تخييم من جمع الاعتمار، وأمدتهم جزيرة العرب بأفلاذ أكبادها، ورمت أعداءهم بأنجاد أجنادها[5].(/2)
فتح عقبة بن نافع - رحمه الله تعالى -أفريقية، فلما انتهى إلى الماء الذي يفصلها عن أوربة دفع فرسه إلى الماء حتى بلغ نَحْرَهُ ثم قال: "اللهم إني أُشهدك أن لا مجاز، ولو وجدتُ مجازًا لجزت"[6].
وقف عقبة في أفريقية بعد أن فتحها وأقام فيها للإسلام دولة، وبَنَى القيروان، فأكمل المسيرة عَقِبَه رجال هاماتُهم تناطحُ السحاب، وهممهم تدك الجبال، وتتابعت الحروب بين المسلمين والبربر والقوط إلى عهد التابعي الجليل موسى بن نصير اللَّخمي - رحمه الله تعالى - الذي يُعتبر أوَّل رجل قدر أن يجوز الإسلام على يديه للمرة الأولى القارة الأوربية، وأن يكتب فيه صفحة من أمجد صفحاته، فافتتح طنجة، وولى عليها طارق بن زياد الليثي[7] - رحمه الله - الذي اهتمَّ اهتمامًا كبيرًا بنشر الإسلام بين قبائل البربر؛ فأقبلوا على اعتناقِه، ثم بنى موسى بن نصير مصنعًا لبناء السفن، وأنشأ أسطولاً ضخمًا لحماية الثغور، وأخذَتِ السفن المسلمة تُغير على جزائر القوط الأوربية، وبسط المسلمون سلطانهم على شمالي أفريقية برًّا وبحرًا، ثم أكملوا فتح المغرب الأقصى، واستولوا على طنجة، وأشرفوا على شواطىء الأندلس من الضفة الأخرى من البحر[8].(/3)
فلمّا رأى موسى أنَّ الوقت قد حان لفتحها كتب إلى الوليد بن عبدالملك يستأذنه في العبور من المغرب إلى الأندلس، فأشار عليه أن يختبر بالسرايا قبل أن يخاطر بالمسلمين كلهم، فعمِل بمشورته، وسيّر أول سرية في رمضان عام إحدى وتسعين للهجرة، فغنمت هذه السرية، وجاست في ديار الأندلس الخصبة، ثم عادت تحمل الغنائم، وتزف البشائر بإمكانيَّة الفتح، فجهز موسى بن نصير جيشًا قِوامُه سبعة آلاف مقاتل تحت قيادة طارق بن زياد، فعَبَرَ بِهِمُ البَحْرَ من سبتة، ونزل بالبقعة الصخرية المقابلة التي سميت بعد ذلك (جبل طارق) وهزم القوط بها، واستولى عليها؛ فكتب حكام الولايات النصرانية إلى حكومتهم في طُلَيْطِلَة التي كانت عاصمة القوط، فجهز النصارى جيشًا قوامه مئة ألف مقاتل، فأمدَّ موسى طارقًا بخمسة آلاف مقاتل؛ ليكون جيش المسلمين اثني عشر ألْفًا مقابل مئة ألف من النصارى[9].
لقد كان النصارى أضعاف المسلمين، والمسلمون يقاتلونهم في أرضهم، في هضاب ومفاوز شاقَّة لا يعرفونها من قبل؛ لكنَّ الإيمان عمل عمله في القلوب، وذلل لهم الخطوب، فالتقى المسلمون والنصارى في الثامن والعشرين من رمضان عام ثنتين وتسعين للهجرة، واستمرَّ الاشتباك أربعة أيام كسر المسلمون فيها النصارى، وتنزّل نصر الله – تعالى - وأوغل طارق في المسير يفتح الحصون، ويملك المدن إلى أن وصل إلى عاصمة القوط فأخذها مِنْهُم[10]، وواصل فتوحه.
وبعد عام عبر إليه موسى بن نصير في ثمانية عشر ألف مقاتل، وذلك في رمضان عام ثلاثة وتسعين[11]، ومضى يفتح المدن والقلاع حتى فتح إشبيلية أعظم قواعد الأندلس في رمضان أيضًا سنة أربع وتسعين.(/4)
وكان موسى عازمًا على أن يفتح أوربة كلها ويصل إلى الشام من طريق القسطنطينية، أي: ابتدأ غربًا وأراد أن ينتهي شرقًا، ويكون قد لفَّ القارتين الأفريقية والأوربية، قال ابن خلدون - رحمه الله تعالى -: "واستجمع - أي موسى - أن يأتي المشرق على القسطنطينية، ويتجاوز إلى الشام ودروب الأندلس، ويخوض ما بينها من بلاد الأعاجم أمم النصارى مجاهدًا فيهم، مستلحمًا لهم إلى أن يَلْحَقَ بدار الخلافة"[12].
لكن الخلافة الإسلامية في الشام أمرتْهُ بالتَّوقُّف؛ لئلا يخاطر بالمسلمين[13] وأمره الوليد بن عبدالملك أن يعود إلى الشام، فنظَّم إدارة الأندلس، وجعل حاضرتها إشبيلية، وولَّى عليها، ثم عاد إلى الشام في ذي الحجة عام خمسة وتسعين ومعه من الغنائم والسبي ما لا يُحْصى[14]، وذلك بعد أن سطر مع طارق بن زياد تاريخًا مجيدًا للإسلام في الجزيرة الخضراء، وكان رمضان المبارك موقعًا لكثير من فتوح بلاد الأندلس.
لقد كان فتح الإسلام لأسبانيا وما حولها فاتحة عصر جديد بزغ فيه النور، وأقيم فيه العدل، ورفع الظلم، ونُشر العلم، وفُتحتِ المدارس، وهبت هبوب الحضارة والتقدم بشهادة المؤرخين الغربيين؛ إذ يقول أحدهم: "في أقلَّ من أربعةَ عشَرَ شهرًا قُضي على مملكة القوط قضاء تامًّا، وفي عامَيْن فقط وطِّدت سلطة المسلمين فيما بين البحر الأبيض المتوسط وجبال البرنيه، ولا يقدم لنا التاريخ مثلاً آخَرَ اجتمعتْ فيه السرعة والكمال والرسوخ بمثل ما اجتمَعَتْ في هذا الفتح"[15]، ويقول آخر: "أنشأ العرب حكومة قُرْطُبة التي كانت أعجوبة العُصُور الوسطى، بينما كانت أوربا تتخبَّط في ظلمات الجهل فلم يكن سوى المسلمين من أقاموا بها منائر العلم والمدنية... ويواصل قائلاً: ما كان المسلمون كالبرابرة من القوط أو الوندال، يتركون وراءهم الخراب والموت، حاشا؛ فإن الأندلس لم تشهد قط أعدل وأصلح من حكمهم"[16].(/5)
وكان هذا الفتح مُمَهِّدًا لنهضة أوربة كما شهد على ذلك أحد المستشرقين الأسبان فقال: "لقد سطعت في أسبانيا أول شعلة لهذه المدنية التي نثرت ضوءها فيما بعد على جميع الأمم النصرانية، وإلى حكمة العرب وذكائهم ونشاطهم يرجع الفضل في كثير من أهم المخترعات الحديثة وأنفعها"[17] انتهى كلامه، وصدق في قوله، لكنهم كانوا عرب الأمس ولم يكونوا عرب اليوم، أصلح الله - تعالى - الأحوال، وأعز الإسلام.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم..
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أمَّا بعد: فأحْسِنُوا ختام شهركم، وأصلحوا سرائركم تصلح علانيتُكم، واهتمّوا بشأن آخرتكم تُكْفَوْا أمر دنياكم، واصدقوا مع الله - تعالى - ينصركم على أعدائكم.
أيها المؤمنون: فرض الله - تعالى - عليكم زكاة الفطر طُهرة للصائم، وطعمة للمساكين، وهي صاع من تمر أو بر أو شعير أو من قوت البلد: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 14 – 15]، يخرجها الرجل عن نفسه ومن تلزمه نفقته، ولا تجب على الحمل الذي في البطن إلا أن يتطوع وليه بإخراجها، ووقتها الفاضل يوم العيد قبل الصلاة، ويجوز إخراجها قبله بيوم أو يومين.(/6)
وقد شرع الله - تعالى - لعباده التكبير من غروب شمس ليلة العيد إلى صلاة العيد {وَلِتُكْمِلُوا العِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185] يجهر به الرجال في المساجد والأسواق والبيوت؛ تعظيمًا لله – تعالى - وإظهارًا لشكره، والسنة أن يأكل قبل الخروج لصلاة العيد تمرات ويأكلهن وترًا.
أيها المسلمون: احذروا المنكرات والمعازف والغناء؛ فإن من الناس من يُبدِّل نعمة الله - تعالى - كفرًا والعياذ بالله، واحذروا أن تجوب نساؤكم وبناتكم الشوارع والأسواق والتجمعات وهن سافرات؛ فإن في ذلك فتنة لعباد الله – تعالى - وأنتم المسؤولون عنهن أمام الله - عز وجل - أشيروا عليهن بلباس الحشمة، ومروهنَّ بالقرار في البيوت؛ فذلك خير لكم ولهن، ومروا بالمعروف، وانْهَوْا عن المنكر، وأخلصوا لله - عز وجل - أعمالكم، واسألوه القبول؛ فإن ربكم سميع قريب.
ألا وصلوا وسلموا على محمد بن عبدالله؛ كما أمركم بذلك ربكم.
---
[1] الأخدعان: عرقان خفيان في موضع الحجامة من العنق، وقيل: هما الودجان، انظر: "اللسان" (8/65) مادة (خدع). وقد جاء في حديث أنس - رضي الله عنه -: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - احتجم ثلاثًا في الأخدعين والكاهل" أخرجه أبو داود (3860)، والترمذي وحسنه (2051)، وابن ماجه (2483)، وأحمد (3/119).
[2] انظر: "الحلل السندسية" لشكيب أرسلان (1/7).
[3] الخيم بكسر الخاء وفتح الياء وضم الميم هو الخلق، وقيل: سعة الخلق، قال أبو عبيد: الخيم الشيمة والطبيعة والخلق والسجية.
[4] "الحلل السندسية" مع بعض التصرف (1/7).
[5] المصدر السابق مع بعض التصرف (1/7-8).
[6] "الفتوح" لابن عبدالحكم (199)، و"الكامل" لابن الأثير (4/42)(/7)
[7] اختلف في نسب فاتح الأندلس طارق بن زياد - رحمه الله تعالى - فقيل: إنه فارسي من همذان، وكان مولى لموسى بن نصير، وقيل: إنه من سبي البربر، وقيل: إنه من بطن نفزة البربري تلقى الإسلام عن أبيه زياد عن جده عبدالله وهو أول اسم عربي إسلامي في نسبه، فوالد عبدالله يدعى: ولغو بن ورفجوم بن نيرغاس بن ولهاص.. انظر: "البيان المغرب" (2/6)، و"تاريخ ابن خلدون" (4/117)، و"نفح الطيب" (1/119).
[8] انظر: "دولة الإسلام في الأندلس" للمؤرخ عبدالله عنان (1/38) وما بعدها.
[9] "الكامل" (4/214)، و"نفح الطيب" (1/120).
[10] "نفح الطيب" (1/112)، و"تاريخ ابن عذارى" (2/9)، ونقله عبدالله عنان عن الطبري في تاريخه (8/82)، وانظر: "دولة الإسلام في الأندلس" (1/44).
[11] دولة الإسلام في الأندلس (1/52)، ونقله عن ابن عبدالحكم في "الفتوح" (208)، وانظر: "جذوة المقتبس" للحميدي (6)، و"نفح الطيب" (1/127).
[12] تاريخ ابن خلدون (4/117)، و"نفح الطيب" (1/130).
[13] دولة الإسلام في الأندلس (1/54).
[14] المصدر السابق (1/55-56).
[15] قائل ذلك هو المؤرخ الأمريكي (سكوت) ونقله عنه عبدالله عنان في: "دولة الإسلام في الأندلس" (1/65).
[16] قائل ذلك هو: لاين بول، عن المصدر السابق (1/64).
[17] قائل ذلك هو المستشرق الأسباني جاينجوس عن المصدر السابق (1/64).(/8)
العنوان: فتح القُسْطنطينيَّة
رقم المقالة: 1688
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
الحمد لله؛ مالكِ الملك، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ لا يقع شيءٌ إلا بإرادته، ولا يُقْضَى قضاء إلا بأمره، يفعلُ ما يشاء، ويحكم ما يريد.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ اصطفاه الله - تعالى - فجعله خاتم الرسل، واختار أمته لتكون خير الأمم، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه؛ بذلوا نفوسهم رخيصة في سبيل الله - تعالى - فما وَهَنَتْ لهم عزيمة، ولا وقفت في وجوههم قوةٌ، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أمَّا بعدُ: فأُوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله - عزَّ وجلَّ - فلا مخرج للأُمَّة من همومها، ولا مسلاة لها من أحزانها، ولا نجاة لها من عذاب ربها، ومن تسَلُّطِ أعدائها عليها إلا بتقوى الله - تعالى - والتزام دينه، وامتثال شريعته: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} {محمد: 7}.(/1)
أيها المسلمون: لئن كانتْ أمة الإسلام في هذا الزمن تعاني تكالُب أعدائها عليها، وبُعْد كثير من المسلمين عن دينهم وكتاب ربّهم؛ حتّى استباح العدو حماها، وسلطَ سلاحَه عليها، وغلَّ يدها بالعُهود الغادِرة، والمواثيق الجائرة، فقعد كثير من المسلمين عن نصرة إخوانهم في فلسطين، والشيشان، ومقدونيا، وكشمير، والفلبّين، وغيرها من البقاع التي يُستباح فيها المسلمون في وَضَح النهار. إذا كان ذلك كله واقعًا أليمًا مهينًا فإنَّ للمسلمين تاريخًا يحفز الهِمَم، ويطردُ اليأس، ويهيجُ العزائم، ويدعو المسلمين إلى التزام دينهم إن أرادوا النصر والعِزَّة، تاريخًا مَليئًا بالشرف والمجد والكرامة، لا يستحيي قارئ مسلم أن يجهر به، ولا باحث فيه أن يبرز أحداثه، تاريخًا يحكي عن رجال أبطال كرام؛ لما أهينوا أو أُهِينَ دِينُهم غضبوا فقاتلوا، فلما انتصروا عَفَوْا وتسامحوا، ويخبر عن حصونٍ دُكَّتْ، ومدن فتِحَت على أيدي المسلمين، قد عزت طوال تاريخها على كبار الفاتحين.
هذه القسطنطينية، عاصمة الدولة البيزنطية، التي امتنعت بِبِحارها وخنادقها، وتحصَّنت بحصونها وأسوارها، بشَّر النَّبي - صلى الله عليه وسلم - بفتحها قبل أن يبارحَ العرب جزيرة العرب[1]، سيَّر لها بنو أمية الجيوش، ومات أبو أيوب الأنصاري ودُفِنَ تَحْتَ أسوارها[2]، فما استطاعوا فتحها، ثم تأبَّت على بني العباس؛ ولكنها لانت لبني عثمان، ففتحوها في مثل هذا الشهر جمادى الأولى من عام سبعة وخمسين وثمانمائة للهجرة.
وأحداث هذا الفتح عظيمة، وأخباره كثيرة، تحتاج في عرضها وتفصيلها إلى خطب كثيرة.(/2)
كانت القسطنطينية العاصمة المُقَدَّسَة الكبرى لنصارى الشرق، وفيها أكثر تراثهم وتاريخهم، وقد حَوَتْ كنائسُها تماثيل أشهر رهبانهم وبَطَاركَتِهم. وموقعها بين آسيا وأوربة جعلها من أفضل المدن موقعًا؛ حتى قال نابليون: "لو كانتِ الدُّنيا مملكة واحدة لكانت القسطنطينية أصلح المدن لتكون عاصمةً لها"[3]، وذكر أنها وحدها تساوي إمبراطورية كاملة، وأنها مفتاحُ العالم؛ منِ استولى عليها استطاع أن يسيطرَ على العالم بأجمعه.
ولما قامت الدولة العثمانيةُ واتسعت رقعتها، كانت القسطنطينية في وسطها، تفصل ممالكها الغربية عن ممالكها الشرقية؛ ولذا حاول خلفاءُ بني عثمان فتحها أكثر من مرة، وكان ملوكها ورهبانُها يَكيدُون للدولة العثمانية، ويدسون الدسائس، ويُدَبِّرُون المكائد، ويؤون كل خارج عليها، ويمدّونه بالسلاح والمال والرجال، وكم مرة عاهدوا ثم نقضوا؛ كما هي سيرة أهل الكتاب[4]. فلمَّا تولَّى عرش السلطنة العثمانيَّة محمَّد بن مراد بعد وفاة والدِه كان همّه الأكبر أن يفتح تلك المدينة المنيعة؛ فأشْغَلَ فِكْرَه بها، وكرَّس جهده لها، وعمل كل عمل يُحَقّق ذلك سياسيًّا وعسكريًّا.
فبَنَى قلعةً جبَّارة قبالتها، وصالح الدول المجاورة لها حتى لا تهبّ لنجدتها، وعقد الهدنة مع كل محاربيه ليتفرَّغ لها، وصنع المدافع العملاقة لدكِّ حصونها، واستحدث أساطيلَ بَحْرِيّة؛ ليَغْزُوَها مِنَ البَرّ والبَحْرِ، ثم درس أسوارها من الداخل والخارج، وأوضاعها وأوضاع أهلها[5].(/3)
فلما رأى ملكُها قُسْطَنْطِين أنَّ الأَمْرَ جِدٌّ، راسل السلطان يطلب الصلح، فطالبه السلطان بتسليمِها بلا قتال، وله ولأهلها الأمنُ والعيش فيها أو غيرها بسلام، فرفض حاكمها ذلك[6]. فعزم السلطان على فتحها، وسار بجيش يُقارب مئة وستّين ألف مقاتل، معهم خيولهم وأنعامهم وعتادهم؛ فضربوا الحصار عليها، وبداخل أسوارها ثمانمائة ألف نفس، منهم أربعون ألف مقاتل قد اصطفُّوا على أسوارها لحمايتها، واستمرَّ الحصار ثلاثًا وخمسين ليلة[7]، كانت مدافعُ المسلمين أثناءها تَدُكّ حُصونَها، ولكنَّ النَّصارى كانوا يَبْنون ما تهدَّم في الحال، وكل طريقة يخترعها المسلمون للاقتحام، أو فتح ثَغْرة، أو التَّسَلُّل إلى داخلها يفشلها النصارى، وكل طريقة تفشل كانت لا تزيد المسلمين إلا إصرارًا على قَهْر تلك الحصون، واجتياز تلك الأسوار، وظَهَرَتْ بطولات عجيبة من الفريقَيْنِ، فالمسلمون المهاجمون صَمَدُوا أمام نيران مدافع القسطنطينية، وواجهوا النِّبال والرماح بِصُدُورِهِمْ، ولم يردَّهم عن تسلق أسوارها الماء المغلي، والزيت الحار الذي يصبه النصارى على المسلمين لردّهم عن الحصون؛ حتى مات حرقًا عشراتٌ من المسلمين، وقُتِلَ مِئاتٌ بالنبال والمدافع، وكل ذلك لم يردَّ السّلطان محمَّدًا عن فتحها؛ بل يفكر في الطريقة تلو الطريقة، وتأْتِيه الفكرة وراءَ الفِكْرة[8].(/4)
ورغْم ما قام به قُسْطَنْطِين من قَتْلِ مائتينِ منَ المسلمينَ المقيمينَ في القُسْطنطينية، وتعليقهم على أسوارها؛ فإن ذلك لم يرهب المسلمين؛ بل زادهم حماسًا لفتحها، وبدأتْ مُؤْنة النصارى تنقص، وأَخَذَهُمُ الجهدُ والتعبُ من هذا الحصار المحكم، وعزم السلطان على الاقتحام العام، لمَّا أحسَّ أنَّ الوقت قد حان؛ فأرسل رسالة إلى قُسْطَنْطِين يطالبُه بالتسليم قبل الهجوم العامّ، وله وللنصارى الأمنُ على أموالهم وأنفسهم وأعراضهم وديارهم، ومَنْ أراد منهم الرحيل منها رحل، ومن أراد البقاء بقي فيها آمنا[9].
وما كان قُسْطَنْطِين إلا شجاعًا متدينًا يعلمُ ما لهذه المدينة من تاريخ وتقديس عند النصارى، فآثر أن يموت فيها على أن يهرب منها، أو أن يسلمها للمسلمينَ، فردَّ على السلطان بأنه قد أقسم أن يدافع عنها إلى آخر نَفَس في حياته، فإمَّا أن يحتفظ بعرشها، أو يدفن تحت أسوارها، فلما بلغ السلطانَ محمَّدًا مقالةُ قُسْطَنْطِين قال - رحمه الله تعالى -: "حسنًا، عمَّا قريب سيكون لي في القُسْطنطِينية عرشٌ، أو يكون لي فيها قبرٌ"[10].
وقبل الهجوم العام بيومينِ - وكان يوم الأحد - أمر السلطان جنده بالصيام لله - تعالى - تطهيرًا للنفوس؛ وتقويةً للعزم والإرادة، وفي مساء ذلك اليوم أمر جنده بإضرام النيران العظيمة؛ ليرهب النصارى، وظل المسلمون طيلة الليل يذكرون الله - تعالى - ويكَبِّرُون بأصوات عالية، حتى قال رئيس أساقفة القسطنطينية: "لو أنَّك سمِعْتَ مثلنا صيحاتهم المتوالية المتصاعدة إلى السماء، لا إله إلا الله، محمد رسول الله، لأخذتك الروعةُ والإعجاب"[11].(/5)
وفي يوم الاثنين ترك السلطان جنده يرتاحون، وبدأ يُخَطِّط للهجوم، ثم عبَّأ جنوده في ليلة الثلاثاء، وأمر العلماءَ والمشايخ والخطباءَ أن يحمّسوا الجند، ويذكروهم فضل الجهاد والشهادة في سبيل الله - تعالى - فكانوا يتْلُون على الجند آيات الجهاد، ويرغّبونهم فيه، ثم يقولون لهم: "لقد نزل سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - عند هجرته إلى المدينة في دار أبي أيوب الأنصاري، وقد قصد أبو أيوب هذه البقعة، ومات فيها، ودفن تحت هذه الأسوار"؛ فيلهب ذلك حماسَ الجند، ويكونون أشدَّ شوقًا إلى الاقتحام والفداء"[12].
وخطب فيهم السلطان خطبة قال فيها: "إذا تمَّ لنا فتح القسطنطينية تحقَّق فينا حديثٌ من أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعجزةٌ من معجزاته، وسيكون من حظّنا ما أشاد به هذا الحديث من التمجيد والتقدير، فأبلغوا أبناءنا العساكر فردًا فردًا أن الظفر العظيم الذي سنحرزه سيزيدُ الإسلام قدْرًا وشرفًا، ويجب على كل جندي أن يجعل تعاليم شريعتنا الغرَّاء نصب عينيه فلا يصدر عن أحد منهم ما يجافي هذه التعاليم، ليجتنبوا الكنائس والمعابد ولا يمسّوها بأذًى، ويدعوا القسس والضعفاء والعجزة الذين لا يقاتلون"[13].(/6)
وفي مقابل ذلك دقَّتْ أجراس الكنائس، واجتمع النصارى فخطب فيهم قُسْطَنْطِين فقال: "أيها المحاربون: أعدوا أنفسكم للقتال والتضحية بأنفسكم وأرواحكم في سبيل هذه البلدة المقدسة، وفي سبيل النصرانية... إن الساعة الخَطِرة الفاصلة التي ارتَقَبْنَاها منذ أيام قد أزفَتْ، إن الرجل ليقاتل ذودًا عن دينه؛ أو وطنه؛ أو ملكه؛ أو أهله؛ أو ولده؛ فكيف وقد جاءت هذه الأسباب كلها مجتمعة؟! والقسطنطينية هي معقل النصرانية، وملكةُ المدن، وقد كانت زمنًا ما عاصمة الدنيا، لقد مضى ثلاثة وخمسون يومًا والعدوّ يُحَاصر هذه المدينة بكل عتاده وقُواه، وقد رددناه عن أسوارنا..، وهو يتَأَهَّبُ الآن؛ ليضرب ضربته الأخيرة، فاثْبُتوا كما ثبتّم من قبل، وادفعوه اليوم عن أسواركم كما دفعتموه بالأمس، حتى تخورَ قواه، وينتكص على أعقابه.
أيها الإخوان: إنكم سلالة صناديد أثينا، وأبطال روما، فكونوا أهلاً لهذا النسب الرفيع، ولا تُخِيفنَّكم صيحاتُ العدو، ونيرانُه المُتَصاعدة، وشدوا عزيمتكم، واصدقوا في القتال.." ثم أعلن أنه سيدافع حتى الموت.. ثم صلَّى النصارى صلاتَهُم، وقد امتلأتِ بِهِمُ الكنائس[14].
بعدها ذهب قُسْطَنْطِين إلى قَصْرِه يودعه، ويلقي عليه آخر نظرة قبل القتال، وظَلَّ يَبْكِي بُكاءً شديدًا حتى قال مَنْ حَضَرَهُ: "لو أنَّ شخصًا قُدَّ قلبه من خشب أو صخر لفاضت عيناه بالدمع لهذا المنظر"[15].(/7)
وقبيل منتصف ليلة الثلاثاء رشت السماء بمطر خفيف ثبت الأرض، وفي الساعات الأولى من صباح يوم الثلاثاء العشرين من جمادى الأولى عام سبعة وخمسين وثمانمائة دقت طُبول الحرب، وتصاعَدَتِ التكبيرات مدوية مجلجلة من البر والبحر، وانطلق المسلمون يتسلقون الأسوار، والمدافع تضرب، والجنود تُكَبِّر، وحَمِيَ وطيس المعركة، واستمرَّتْ ساعات تدوي خلالها المدافع، وتمطر النبال، وتتحرَّكُ السفن والمراكب، والقتال مستعر في البر والبحر، وأبدى الفريقان بسالة عظيمة: النصارى يدافعون عن مدينتهم، والمسلمون يتسلَّقونَ الأسوار، ويلاقون المِحَن؛ حتى نجحوا في اختراق دفاعات النصارى ودخول المدينة[16].
فما برح قُسْطَنْطِين حتَّى رأى أعلام المسلمين تُرَفْرِف على قلاع القُسطنطينية وأسوارها، وجنودُه تهرب من أمام المسلمين، فأخذ يقاتل ذات اليمين وذات الشمال حتى كلَّت يده، ثم ضربه أحد المسلمين فخرَّ صريعًا[17].
وهكذا سقطت تلك المدينة المنيعة التي امتنعت على كبار القادة والفاتحين؛ ليذللها الله - تعالى - لمحمد بن مراد العثماني الذي لُقّب بعد ذلك بمحمَّد الفاتح، وكُنّي بأبي الفتح، وذلك فضل الله يُؤْتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم..
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 10].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم..
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مُباركًا فيه كما يُحِبُّ ربنا ويَرْضى، أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.(/8)
أما بعد: فاتقوا الله - عباد الله - كما أمر، واجْتَنِبُوا الفواحش ما بطن منها وما ظهر، واعلموا أن الله يحب المتقينَ.
أيها المؤمنون: لما سقطت القُسطنطينية في أيدي المسلمين، وتَمَّ الفتح المبين؛ جاء القادة يُهنِّئُون الفاتح، ويقولون: "لقد بارك الله في جهادِكَ يا سلطان، فكان يقول: حمدًا لله، ليرحم الله الشهداء، ويمنح المجاهدينَ الشَّرَفَ والمجد، ولشعبي الفخر والشكر"[18].
لقد خاف النصارى وفزعوا في أوَّل الأمر؛ لأنَّهم ظنّوا أن يفعل بهم المسلمون مثل الذي فعله بهم الصليبيون لما دخلوا القسطنطينية في الحملة الصليبية الرابعة؛ إذِ استباحوا الحُرُمات، وأمْعَنُوا في قتل الناس، ونَهْبِ الأموال، وقالوا في أنفسهم: إذا كان هذا فعل حماة الصليب بنا لاختلاف مذهبنا عن مذهبهم، فكيف بمن يخالفوننا في ديننا؟! يعنون المسلمين، ولجؤوا إلى الكنائس يصلون ويبكون ويدعون.(/9)
وعند الظهيرة تَوَجَّه السلطان الفاتح إلى القسطنطينية على ظهر جواده، يحف به كبار قادته، وهَنَّأَ جنده بالنصر، ونَهَاهم عن القتل والسلب، وأوصاهم بأن يكونوا أهلاً لهذا الشرف والمجد بأخلاقهم الكريمة، فلمَّا توسَّط في المدينة ترجَّل عن فرسه، واستقبل القبلة، وسجد على الأرض، وحثا التراب على رأسه؛ تواضُعًا وشُكرًا لله - تعالى - على ما منحه من توفيق ونصر، ثم استأنف سيره إلى أكبر كنيسة للنصارى وهي كنيسةُ القديسة (أيا صوفيا)، ولما اقترب منها وصلت إليه أصواتٌ خافتة حزينة هي أصوات النصارى بداخلها، يصلون ويدعون بالنجاة، فقصد أحد أبوابها، فأمر الراهب بفتح الباب على مصراعيه، وانتاب الناسَ خوفٌ عظيم، وتوجَّسوا شرًّا مُسْتطيرًا، وانقطعوا عمَّا كانوا عليه، وسجد الفاتح مرة أخرى يشكر الله - تعالى - ويحمَدُه، ثم أمر النصارى بالعودة إلى منازلهم آمنينَ على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، وأن يعود كل واحد منهم إلى عمله الذي كان يُمَارسه من قبل، فنزل هذا التأمين بردًا وسلامًا على أهل القسطنطينية، وقد كانوا يتوقعون أن ينكل بهم المسلمون.
وكان نفر من الرهبان مختبئين في سراديب الكنيسة خوفًا من القتل، فلما سمعوا بما فعله الفاتح، وحسن معاملته للنصارى؛ خرجوا من أماكنهم، وأعلن كثيرٌ منهم إسلامهم، ثم أمر السلطان بتحويل الكنيسة إلى مسجد، فأَذَّنَ فيها أحد العلماء، وأدَّوْا فيها صلاة العصر، ثم أعلن السلطان أنَّ أوَّل جمعة قادمة ستقام فيها الصلاة؛ فرفعت منها الصلبان، وهدمت التماثيل، وطمست التصاوير، وأنشأوا فيها مِحْرابًا ومِنْبرًا ومئذنةً[19]، وظَلَّت مسجدًا تُقَام فيه الصلاة وحلقات العلم خمسةَ قرونٍ تِباعًا إلى أنِ استولى على السلطة: العلماني اليهوديُ أتاتورك؛ فحوَّل المسجد إلى متحف[20]، عليه من الله ما يستحق.(/10)
ثم قصد السلطانُ قصر الإمبراطور قُسْطَنْطِين، فرأى ما فيه من الأُبَّهَة والعظمة وقد اغبرَّ بآثار الحرب والحصار، وأقْفَرَ من سكانه، وعشَّشَتِ العناكب في جدرانه، واستبدل في ليلة وضحاها حاكمًا بحاكم، وسيدًا بسيد؛ فكان عبرة بالغة، اعتبر بها السلطان الفاتح فقال - رحمه الله تعالى -: "إن العنكبوت قد نسجتْ بيوتها في قصر الأباطرة، وإنَّ البوم ينعق فيها نعيقاً محزنًا"[21].
وأمر السُّلطانُ بمُداواة الجرحى من النصارى، وفدى كثيرًا من كبار الأسرى، وأمر بدفن قُسْطَنْطِين في مقبرة ملوك النَّصارى، ثُمَّ أمر النَّصارى أن ينتخِبوا أحد رهبانهم بطريركًا لهم، فجعله مسؤولاً عن شؤونهم وزواجهم وميراثهم وما يتعلَّق بدينهم، وأعطاه مقرًّا لعمله، وبالَغَ في إكرامه، حتى خجِل النصارى من كرم الفاتح فقال البطريرك: "إن الأباطرة النصارى لم يفعلوا قطّ مثلَ هذا لِمَن سَبَقَهُ مِنَ البَطَارِكَة".
وقد قال المؤرخون: "إنَّ السّلطانَ الفاتح قد حنا على أهْلِ القُسْطَنْطِينيَّة حُنُوَّ الوالد الشفيق العطوف على ولده"[22].
ولم تمضِ إلا أيامٌ على فتحها حتى ساد الأمن والسكينة رُبُوع المدينة، واستأنف الناس حياتهم وأعمالهم، وفرح كثيرٌ منَ النصارى بهذا الفتح لما رأوا العدل الذي لم يكن موجودًا من قبل، ودخل كثير منهم في الإسلام.
أيُّها الإخوة المؤمنون: أتدرون - رحِمَكم الله تعالى - كم كان عمر هذا السلطان لمَّا أتمَّ الله - تعالى - له هذا الفتح المبين لهذه المدينة العتيدة؟! لقد أجمع المؤرخون من عرب وترك وروم وإفرنج على أنَّه لم يكن يتجاوَزُ الخامِسَةَ والعشرين من عمره[23]، وقد قاد هذا الجيش العَرَمْرَم في البر والبحر، وبنى القلاع العظيمة، وفتح هذه المدينة المنيعة، ثم لم يستخفّه الفتح؛ بل عمِلَ فيها وفي أهلها عَمَلَ أهْلِ الحكمة والرأي والخبرة، ملتزمًا شريعة الإسلام التي هي العدل والرحمة.(/11)
ورغم هذا الطول في العرض فإني لم آت إلا على القليل من أخبار هذا الفتح المبين.
أسأل الله - تعالى - أن ينصر دينه، ويعزَّ جنده، ويُعْلي كلمته، ويدحر الباطل وأهله، إنه سميع مجيب.
سبحان ربك رب العزة عمَّا يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
---
[1] جاءتِ البشارة بفتح القسطنطينية في أحاديثَ عِدَّة منها:
حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((سمعتم بمدينة جانب منها في البَرِّ، وجانب منها في البحر؟))، قالوا: "نعم يا رسول الله"، قال: ((لا تقوم الساعة حتى يغزُوَها سبعون ألفًا من بني إسحاق فإذا جاؤوها نزلوا، فلم يقاتلوا بسلاح، ولم يرموا بسهم، قالوا: لا إله إلا الله، والله أكبر، فيسقط أحد جانبيها، (قال ثور: لا أعلمه إلا قال: الذي في البحر)، ثم يقولون الثانية: لا إله إلا الله والله أكبر، فيسقط جانبها الآخر، ثم يقولوها الثالثة: لا إله إلا الله والله أكبر، فيفرج لهم فيدخلوها فيَغْنَمُوا، فبينما هم يقتسمون المغانم إذ جاءهم الصريخ، فقال: إنَّ الدَّجَّال قد خرج، فيتركون كل شيء ويرجعون))؛ أخرجه مسلم في الفتن وأشراط الساعة؛ باب: "لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيتمنى أن يكون مكان الميت من البلاء" (2920).(/12)
حديث عبدالله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال: "بينما نحن حول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نكتب إذ سُئِل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أي المدينتينِ تفتح أولاً: قسطنطينية أو رومية؟" فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مدينة هرقل تفتح أولاً. - يعني: قسطنطينية))؛ أخرجه أحمد (2/176)، وابن أبي شيبة في "مصنفه" (5/329)، وأبو عمرو الداني في "الفتن" (607)، ونعيم بن حماد في "الفتن" (1367)، والدَّارمي في "سننه" (1/126)، والحاكم (4/422 - 508 - 555)، وصحَّحه ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي في "الزوائد" (6/219): "رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح غير أبي قبيل، وهو ثقة"، وصححه الشيخ: أحمد شاكر في "شرحه على المسند" (6645)، وأورده الألباني في "السلسلة الصحيحة" (7)، ونقل تصحيح الحاكم والذهبي، ثم قال: "وهو كما قالا".
حديث معاذ بن جبل - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((عمران بيت المقدس خراب يثرب، وخراب يثرب خروج الملحمة، وخروج الملحمة فتح القسطنطينية، وفتح القسطنطينية خروج الدجال))؛ أخرجه أحمد (5/245)، وأبو داود في الملاحم؛ باب في أمارات الملاحم (4294)، وأبو عمرو الداني في "الفتن" (457)، وقال ابن كثير في "النهاية" (1/94): "هذا إسناد جيد وحديث حسن، وعليه نور الصدق، وجلالة النبوة".
تنبيهات:
التنبيه الأول: وقع إشكال في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - حاصِلُه: أن الذين يفتحون القسطنطينية من ولد إسحاق - عليه السلام - وقد أجيب عن هذا الإشكال بأجوبة منها:
ما نقله القُرطبي عن القاضي عياض من قوله: "قال بعضهم: المعروف المحفوظ من بني إسماعيل وهو الذي يدل عليه الحديث وسياقه؛ لأنَّه إنَّما يعني به العرب والمسلمين بدليل الحديث الذي سمَّاها فيه في الأم، وأنها القسطنطينية، وإن لم يصفها بما وصفها به هنا" ا هـ من "المُفْهِم" (7/249).(/13)
قلت: يعني به حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بالأعماق أو بدَابِق، فيخرج إليهم جيش من المدينة من خيار أهل الأرض يومئذ... وفيه: ويفتتح الثلث لا يفتنون أبدًا، فيفتتحون قسطنطينية...))؛ أخرجه مسلم في الفتن وأشراط الساعة؛ باب فتح القسطنطينية وخروج الدجال ونزول عيسى ابن مريم (2897).
وقد تعقَّب القرطبي - رحمه الله تعالى - هذا القول بقوله: "وهذا فيه بعد من جهة اتفاق الرواة والأمهات على بني إسحاق، فإذًا المعروف خلاف ما قال هذا القائل" (7/249).
ما أجاب به القرطبي - رحمه الله تعالى - في "المفْهِم" (7/249) بقوله: "ويمكن أن يقال: إن الذي وقع في الرواية صحيح غير أنه أراد به العرب، ونسبهم إلى عمّهم، وأطلق عليهم ما يطلق على ولد الأب؛ كما يقال ذلك في الخال، حتى قيل: الخال أحد الأبوين والله - تعالى – أعلم" ا هـ.
قلت: "ولا يخفى ما في هذا الجواب من تكلف".
ما أجاب به الحافظ ابن كثير - رحمه الله تعالى - في "النهاية" (1/46) بقوله: "وهذا يدل على أنَّ الروم يسلمون في آخر الزمان، ولعل فتح القسطنطينية يكون على أيدي طائفة منهم؛ كما نطق به الحديث المتقدم: ((أنه يغزوها سبعون ألفًا من بني إسحاق، والروم من سلالة العيص بن إسحاق بعد إبراهيم الخليل" ا هـ.(/14)
قلت: "ولعل هذا الجواب هو الأقرب إلى الصواب؛ ذلك أن كثيرًا من مدن الإمبراطورية البيزنطية الرومية قد دخلت في الإسلام في عهد الصحابة بعد معركة اليرموك، وعقب سائر فتوح الشام وما يليها من بلاد الترك في عهد الصحابة - رضي الله عنهم - والتابعين لهم بإحسان، وفي دولة بني عثمان تم فتح القسطنطينية، ودخل كثير من أهلها في الإسلام، واستمرَّت بلدًا من بُلْدان المسلمين إلى أن فُرِضَتْ عليها العلمانية الحديثة على أيدي المنافقين أتاتورك وأتباعه، المدعومين من قبل عُبَّاد الصليب الإفرنج. والحديث يخبر عما سيقع في الفتح الذي يكون في آخر الزمان؛ وذلك بعد أن دخل كثيرٌ من أبناء الروم في الإسلام، وهم من ولد إسحاق بن إبراهيم عليهما السلام. ويقوي ذلك أن (مِنْ) بيانية، وأن العدد ((سبعون ألفاً)) نص في معناها، فيكون هذا العدد من هذا الجنس مقصودًا في هذا الحديث، والقاعدة: أن الأعداد نص في معناها، فلا يزاد عليها ولا ينقص منها؛ كما هو مُضطرِد في النصوص، ويدعم ذلك أن الأحاديث دالة على أن العرب في آخر الزمان يكونون قلة؛ كما في أحاديث ذكر الدجال"، والله أعلم.
التنبيه الثاني: أنَّ الفتح المذكور في الحديث يكون قرب قيام الساعة، ووقوع الفتن والملاحم؛ ولذلك أورد العلماء أحاديث فتح القسطنطينية في أبواب الملاحم التي تقع في آخر الزمان، وجعلوه من علامات قرب الساعة، وقد دلت النصوص على ذلك من وجوه عِدَّة، منها:
لفظ حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - فقد جاء فيه أن فَتْحَها مقرونٌ بخروج الدجال، فعند اقتسامهم لغنائمها جاءهم الصريخ بأن الدجال قد خلفهم في أهلهم.
لفظ حديث معاذ - رضي الله عنه - فقد جاء فيه ترتيب الأحداث الواقعة في آخر الزمان وفيه: ((وفتح القسطنطينية، خروج الدجال)).
حديث أنس - رضي الله عنه - قال: "فتح القسطنطينية مع قيام الساعة"؛ أخرجه الترمذي في الفتن؛ باب: "ما جاء في علامات خروج الدجال" (2239).(/15)
حديث معاذ - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((الملْحَمَة العُظْمَى، وفتح القسطنطينية، وخروج الدجال في سبعة أشهر))؛ أخرجه أحمد (5/334)، وأبو داود في الملاحم (4295)، والترمذي في الفتن؛ باب: "علامات خروج الدجال" (2239)، وابن ماجَهْ في الفتن؛ باب الملاحم (492)، والطبراني في "الكبير" (20/19) برقم: (173 - 174 - 175) والحاكم، وسكت عنه الذهبي في "التلخيص" (4/426)، وفي سنده أبو بكر بن عبدالله بن أبي مريم، وهو ضعيف الحديث.
وبناء على هذه الأحاديث وما في معناها، فإن ما حصل من فتح محمد بن مراد العثماني - رحمه الله تعالى - ليس هو الفتح المقصود بتلك الأحاديث لما يلي:
أن الفتح المذكور في الأحاديث مقرونٌ بخروج الدجال، وقيام الساعة، ولم يكن كذلك الفتح العثماني.
أن حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - يدلُّ على أن فتحها يكون بدون قتال، وإنما بالذكر والتكبير، وفتح العثمانيين لها كان بالسلاح والقتال مع التكبير.
قال الشيخ أحمد شاكر - رحمه الله تعالى - قال في "حاشية عمدة التفسير" (2/256): "فتح القسطنطينية المبشّر به في الحديث سيكون في مستقبل قريب أو بعيد يعلمه الله - عزَّ وجلَّ - وهو الفتح الصحيح لها حين يعود المسلمون إلى دينهم الذي أعرضوا عنه، وأما فتح الترك الذي كان قبل عصرنا هذا؛ فإنه كان تمهيدًا للفتح الأعظم، ثم هي قد خرجت بعد ذلك من أيدي المسلمين، مُنْذُ أَعْلَنَتْ حكومَتُهم هناك أنها حكومة غير إسلامية وغير دينية، وعاهدت الكفار أعداء الإسلام، وحكمت أمتها بأحكام القوانين الوثنية الكافرة، وسيعود الفتح الإسلامي لها - إن شاء الله - كما بشر به رسول الله صلى الله عليه وسلم" ا هـ.(/16)
التنبيه الثالث: احتج بعض المبتدعة بفتح العثمانيين للقسطنطينية على أنَّ الأشاعِرَة والصوفيَّة أهدى سبيلاً من أهل السنة والجماعة أَتْبَاع السلف الصالح؛ وذلك أنَّ المذهب الأشعري هو المذهب السائد في الدولة العثمانية، كما أن فيها تصوّفًا كثيرًا، وقد زكى النبي - صلى الله عليه وسلم - الجيش الذي يفتحها، ومدح أميره؛ كما جاء في حديث عبدالله بن بشر الغنوي عن أبيه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لَتُفْتَحَنَّ القسطنطينية، فَلَنِعْمَ الأميرُ أميرُها، ولَنِعْمَ الجيش ذلك الجيش))؛ أخرجه أحمد (4/335)، والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي (4/422)، والطبراني في "الكبير" (2/38)، برقم: (1216)، و(2/81) برقم: (1760)، والبخاري في "التاريخ الكبير" (2/81)، و"الصغير" (1482).
ومِمَّنِ استدل بهذا الحديث على صحة مذهب الأشاعرة، والماتريدية عيسى بن عبدالله مانع الحميري في رسالة "تصحيح المفاهيم العقدية في الصفات الإلهية"، وقد حشاه بجملة من الأباطيل والتُّرَّهَات - ليس هذا مقام الردِّ عليه فيها - ومع أنَّه قرَّر في رسالته تلك لزوم أخذ كل فنّ عن أهله، فإنَّنا نجده لم يلتزم بهذا المنهج؛ بل راح يدخل في كل فنّ بلا علم، فرسالَتُه في العقيدة وهو غير مُتَخَصِّص فيها، وراح يصحّح ما يشتهي من الأحاديث، ويردّ تضعيفَ أهل الحديث لها وهو ليس من أهل الحديث، ومن ذلك تصحيحه لهذا الحديث، ولم يجب عن الاضطراب الوارد في اسم من رواه، واسم أبيه ونسبهما؛ كما سيأتي ذكر ذلك.
وتتمحور رسالته حول إثبات إمامة الإمام أبي الحسن الأشعري - رحمه الله تعالى - ولزوم أخذ مذهبه في الأسماء والصفات القاضي بإثبات الصفات العقلية السبع، وهي: الحياة، والعلم، والقدرة، والإرادة، والسمع، والبصر، والكلام، وتأويل ما عداها من الصفات.(/17)
وقد نقل الزُّبَيديّ في "إتحاف السادة المتقين" (2/6) عن ابن كثير الدمشقي الشافعي - رحمه الله تعالى -: "أنَّ الشيخ أبا الحسن الأشعري مرَّت به أحوال ثلاثة:
الحال الأولى: حال الاعتزال التي رجع عنها لا محالةَ.
الحال الثانية: إثبات الصفات العقليَّة السبعة، وتأويل الجزئية؛ كالوجه؛ واليدين؛ والقدم؛ والساق؛ ونحو ذلك، وهي مرحلة تأثره - رحمه الله - بمذهب ابن كُلاَّب الذي تنسب إليه الطائفة الكُلاَّبِيَّة.
الحال الثالثة: إثبات ذلك كله من غير تكييف ولا تشبيه جريًا على مِنْوَال السلف، وهي طريقته في الإبانة التي صنَّفها آخرًا، وشرَحَهَا الباقلاني، ونقلها ابنُ عساكر، وهي التي مال إليها الباقلانيّ وإمامُ الحرمين وغيرُهما من أئمة الأصحاب المتقدمين في أواخِرِ أقوالهم، والله أعلم" ا هـ.
فيا ليت أنَّ الحميري لما دعا الناس إلى الأخذ بمذهب الإمام أبي الحسن الأشعري أخذ عقيدته التي استقر عليها أخيرًا، والتي نسخت ما سبق من قوله بالاعتزال، ثم قوله بتأويل بعض الصفات، فاستقرَّ به المطاف بعد طول تطْوَاف على مذهب السلف الصالح من الصحابة - رضي الله عنهم - والتابعين لهم بإحسان بإثبات ما أثبته الرَّبّ - تبارك وتعالى - لنفسه من الصفات العَلِيَّة، وما أثبته له رسوله - صلى الله عليه وسلم - على الوَجْه اللائِقِ بجلاله وعظمته بلا تكييف، ولا تمثيل، ولا تشبيه، ولكن الحميري - هداه الله إلى الحق - راح ينتقي ما يشتهي، وقَبِلَ من الإمام أبي الحسن الأشعري المرحلة الوسطى التي كانت بين اعتزاله، وبين أخذه بمذهب السلف الصالح التي استقرَّ عليها أمره بعد أن هداه الله - تعالى - إلى الحق، واستمر عليها إلى وفاته، وبينها في كتابه العظيم: "الإبانة عن أصول الديانة".
ومعلوم أن عقيدة الشخص هي ما استقر عليه أخيرًا حتى مات، والأشعري - رحمه الله تعالى - تُوفِّيَ على مذهب أهل السنة والجماعة؛ كما أثبت ذلك في كتابه "الإبانة".(/18)
وقد وقع الحميري ومن كان على شاكِلَتِه في هذا المأزق المتضايق، ولم يجد سبيلاً إلى الخروج منه إلا بالتشكيك في ثبوت "الإبانة" عن أبي الحسن، كما في رسالته الآنف ذكرها ص(25)، مع أن كثيرًا من العلماء أثبتوا صحة "الإبانة" إلى أبي الحسن، وعَدّوهَا من مصنفاته، ومن هؤلاء العلماء: ابنُ عساكر الدمشقي في "تبيين كذب المفتري"، وهو كتاب ألَّفه في الانتصار للإمام أبي الحسن الأشعري، حيث قال ص (28): "ومن وقف على كتابه المسمَّى "الإبانة" عَرَفَ موضعه من العلم والديانة". والبيهقي في "الاعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد" ص(31)، والذهبي في "العلو للعلي الغفار" (160)، وابن فرحون المالكي في "الديباج" ص(194)، وغيرهم كثير.
فلا مجال للتشكيك في نسبة كتاب "الإبانة عن أصول الديانة" إلى الإمام أبي الحسن الأشعري؛ إلا عند من له هوًى في نفسه، وهو يضر نفسه ولا يضر أبا الحسن أو غيره من العلماء شيئًا، ولن يستطيع إخفاء الحق عن كل الناس مهما عمل.
وأما الجواب عن الحديث الذي زعم فيه صاحب الرسالة المذكورة أن فيه تزكية لمذهبي الأشاعرة والماتريدية فمن أوجه كثيرة منها:
الوجه الأول: أنَّ الحديث ضعيف، فهو من رواية عبدالله بن بشر الخثعمي وهو مجهول، لم يُوَثِّقْه إلا ابن حبان، وذكر الحافظ في "تعجيل المنفعة" (1/721) الاختلاف في اسمه واسم أبيه وفي نسبه، فقيل: "اسمه عبدالله"، و"عبيدالله"، وقيل: "عبيد" بلا إضافة، وقيل: اسم أبيه: "بشير"، وقيل: "بشر"، وقيل في نسبه: "الغنوي"، وقيل: "الخثعمي"، والله أعلم؛ ولذلك ذكره الألباني - رحمه الله تعالى - في "السلسلة الضعيفة" (778)، وقال: "ضعيف"، ثم ذكر الاختلاف في اسم عبدالله بن بشر، وقال: "وجملة القول أنَّ الحديث لم يصحَّ عندي؛ لعدم الاطمئنان إلى توثيق ابن حبان للغنوي هذا، وهو غير الخثعمي كما مال إليه العسقلاني"، والله أعلم.(/19)
الوجه الثاني: لو سلَّمنا بصحة الحديث، فلا نسلم باستنباط الحميري منه؛ فإنه لا يدل على ما يريد لا من قريب ولا من بعيد.
الوجه الثالث: على فرض وجود وجه دلالة فقد يحمل على فتح غير هذا الفتح، وهو الذي يكون في آخر الزمان، والأحاديث المتضافرة في فتح القسطنطينية كلها تذكر فتحًا غير هذا الفتح، والفتح المذكور في هذا الحديث مجمل، والقاعدة حمل المجمل على المبين؛ فيكون المقصود بهذا الحديث هو الجيش الذي يفتحها في آخر الزمان، خاصة وأن الجيش الذي يفتحها في آخر الزمان جنده من خيار الناس كما جاء في السنة، ولا يعني ذلك تنقص محمد بن مراد، أو عدم الاحتفاء بفتحه للقسطنطينية؛ فإن من أعظم مناقب هذا الفاتح المظفر، ومناقب دولته فتح عاصمة البيزنْطيين.(/20)
الوجه الرابع: أنَّه لا حُجَّة في هذا الحديث لأهل البدع والضلالات؛ إذ الحكم على عوام المسلمين أنهم يعتقدون في الله - تعالى - الكمال، ولا يعرفون تفصيلات الأسماء والصفات، وما أحدث فيها أهل البدع من ضلالات، فالواقع أنهم من أهل السنة ولو كان مشايخهم يُؤَوِّلُون الصفات، ويُحَرِّفُون نصوصها، ومن هنا يغلط كثير من الناس حينما ينسبون عوامَّ المسلمين في البلاد التي مشايخها على ضلال فيما يتعلَّق بالأسماء والصفات إلى البدعة؛ لأنَّ ذلك المعتقد الخاطئ متعلّق بالشيوخ دون العوامّ. كما أنَّ عوام المسلمين في البلاد التي مشايخها من أهل السنة والجماعة لا يعرفون تفصيلات الأسماء والصّفات؛ ولكنهم يؤمنون إيماناً مجملاً بكمال الرب - تبارك وتعالى - وأنه مستحقّ لكل ما يليق به، بخلاف الشيوخ الضالّين، ودعاة البدعة. وما من شك في أن الجيش العثماني الذي فتح القسطنطينية أكثَرُه من عوامّ المسلمين، ولربما كان أميره محمد الفاتح كذلك - وخاصَّة أنَّه كان حدث السن - وليس لديه تفصيلات فيما يتعلَّق بالأسماء والصفات، ولم أَقِفْ على مَنْ نقل عنه كلامًا في ذلك، فحكمه حكم عوامّ المسلمين الذين يَعْتَقِدُونَ صِفات الكمال في الله عزَّ وجلَّ.
الوجه الخامس: لو قدّر أنَّ الجيش العثماني كله أشاعرة، وأميره كذلك، وعندهم من تفصيلات هذا المذهب ما يجعلهم مبتدعة مع قيام الحجَّة عليهم - وذلك مستبعد - فإن الحديث لا يدل على صحة مذهبهم لما يلي:
أولاً: أن متعلَّق المدح هو فتح القسطنطينية، وهو عمل طيب، وسعي مشكور، ولا يَتَعَدَّاهُ إلى غيره.(/21)
ثانيًا: أنَّ الشخص الواحد تكون فيه حسنات وسيئات، فيُثْنَى على حسناته، وتُذَمّ سيئاته، والفاتح وجيشه وإن كانوا أشاعرة وفيهم تصوف، فإنهم مُجَاهِدُون في سبيل الله - تعالى - مُعْلُون لكلمته، مظهرون لدينه؛ فيحمدون على ذلك، ويثنى عليهم به، ولا يلزم من ذلك عصمتهم من الخطأ، والثناء عليهم من كل وجه، ولا يستدل بتزكيتهم في الجملة على صحَّة ما أخطؤوا فيه، نعم! يصحّ ذلك لو كانت التزكية لعقائدهم وهو ما لم يكن، ولعل جهادهم في سبيل الله - تعالى - وما قام في قلوبهم من التوكّل عليه، وصدق التعلق به، حتى بذلوا أرواحهم رخيصة في سبيل الله - تعالى - وفتحهم لهذه المدينة العتيدة يكون سببًا في مغفرة ذنوبهم، والتي منها تمذهبهم بمذهب الأشاعرة، وأخذهم بطرائق المتصوفة.
الوجه السادس: أنَّ الجيش يكون خليطًا من القادة والعلماء والعامة، وهو خليط من الصالحين، ومن هم أقل صلاحًا؛ وأي ثناء عليهم فإنه ينصرف للعموم، ولا يلزم منه الثناء على أعيانهم فردًا فردًا؛ وذلك لتعاونهم على أمر يُحِبُّه الله، فيحصُل لكل فرد منهم من الثناء والتزكية، بقدر ما قدم في هذا العمل المزكَّى، ومن المتفق عليه أن الجيش الذي يقوده النبي - صلى الله عليه وسلم - ويكون جنده من الصحابة - رضي الله عنهم - هو خير جيش وجد في الدنيا، وهو خير من الجيش الذي فتح القسطنطينية، وهو أَوْلَى بالثناء منه، ومع ذلك وجد فيه من غلَّ من الغنيمة، ومن قَتَل نفسه؛ بل وجد فيه مُنافِقون يُظْهِرون الإيمان ويبطِنُون الكفر، ورغم ذلك فإن هذا الجيش كان محل مدح وثناء في الكتاب والسنة، ولا يلزم من ذلك مَدْح المنافقينَ الموجودينَ فيه، أو مدح أهل الغلول، أو من قتل نفسه.(/22)
الوجه السابع: أننا لو لم نعتبر كل الأوجه الستة الماضية، وسلمنا أيضًا بأن جيش الفاتح كلهم أشاعرة وصوفية؛ فإن قصارى ما يفيده هذا الحديث احتمال تزكية عقائد ذلك الجيش، وأنَّهم على الحق، بينما نصوص الكتاب والسنة وإجماع الأمة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان تَقْطَعُ بخطأ الأشاعرة والماتريدية والمتصوفة، فهل تترك الأدلة المتواترة المقطوع بها ثُبُوتًا ودلالة لمجرد دليل محتمل قد ضعف من جهة ثبوته، وأما من جهة دلالته على المراد فهو أضعف وأضعف؟! هذا غير مستقيم في المنهج العلمي.
وبناء على ذلك فليس لأي صوفي أو أشعري أو ماتريدي أن يحتجَّ على مذهبه الخاطئ بهذا الحديث، والله أعلم.
[2] ثبت ذلك من حديث أسلم بن أبي عمران قال: "غزونا من المدينة نريد القسطنطينية..." وفي آخره: "فلم يزل أبو أيوب يُجَاهِد في سبيل الله حتى دفن بالقسطنطينية"؛ أخرجه أبو داود في الجهاد؛ باب في قوله - تعالى -: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] (2512)، والترمذي في التفسير؛ باب تفسير سورة البقرة، وقال: "حديث حسن غريب صحيح" (2976)، وصححه ابن حبان (4711)، والحاكم ووافقه الذهبي (2/275)، وذكر الحاكم في "معرفة الصحابة" أحاديثَ أخرى تثبت ذلك (3/457 - 458).
[3] انظر: "الدولة العثمانية وعلاقاتها الخارجية". تأليف الدكتور: علي حسون، ص(31).
[4] انظر: "تاريخ الدولة العثمانية"، تأليف: الميرالاي إسماعيل سرهنك، تقديم ومراجعة الدكتور حسن الزين ص(39)، و"السلطان محمد الفاتح بطل الفتح الإسلامي في أوربا الشرقية"، تأليف: الدكتور سيد رضوان علي ص(20)، و"الدولة العثمانية في التاريخ الإسلامي الحديث"، تأليف: الدكتور إسماعيل أحمد ياغي، ص(48) و"محاضرات في العثمانيين وحاضر العالم الإسلامي"، تأليف: الدكتور محمود محمد زيادة ص(8).(/23)
[5] انظر: "السلطان محمد الفاتح بطل الفتح الإسلامي في أوروبا الشرقية" (23 - 31)، و"العثمانيون في التاريخ والحضارة"، تأليف: الدكتور محمد حرب ص(71) و"الترك في العصور الوسطى" تأليف: الدكتورة زبيدة محمد عطا ص(195 - 196 - 198)، و"تاريخ الدولة العثمانية" لسرهنك (40 - 41)، وقد أمضى في استعداداته - رحمه الله - لهذا الفتح العظيم ثلاث سنوات؛ كما ذكر الدكتور محمد هريدي في كتابه "الحروب العثمانية الفارسية"، ص(32).
[6] انظر: "محمد الفاتح بطل الفتح الإسلامي في أوروبا الشرقية" ص(22)، و"العثمانيون في التاريخ والحضارة"، (72 - 85)، و"تاريخ الدولة العثمانية وحضارتها"، تأليف: الأستاذ الدكتور محمود السيد ص(58).
[7] وقع خلاف بين المؤرخينَ والناقلِينَ عنهم في أعداد الجيش العثماني، وأعداد البيزنطيين، ومدة الحصار، ولعل ما ذكرته هو الأقرب اعتمادًا على مصادر نقلت عن مصادر تركية، وبعضها مُتَقَدِّم، وانظر: "تاريخ الدولة العثمانية"، لسرهنك (45)، وقال: "وكان استيلاء العثمانيينَ على هذه المدينة العظيمة في يوم الثلاثاء العاشر من شهر جمادى الآخرة سنة 857هـ (29 مايو 1453م) بعد حصار دام ثلاثة وخمسين يومًا حسب رواية غالب المؤرخينَ، وقد أرخ بعضهم سنة افتتاحها بقوله (بلدة طيبة) ا هـ. وانظر أيضًا: "الدولة العثمانية في التاريخ الإسلامي الحديث" للدكتور إسماعيل ياغي ص(49)، وفي مصادر أخرى أن الحصار دام خمسين يومًا فقط؛ كما في "الدولة العثمانية وعلاقاتها الخارجية" للدكتور: علي حسون ص(39).(/24)
[8] انظر: "الترك في العصور الوسطى" (204)، و"محمد الفاتح بطل الفتح الإسلامي في أوروبا الشرقية" ص(34)، و"تاريخ الدولة العثمانية" لسرهنك ص(42)، و"محمد الفاتح" للدكتور سالم الرشيدي (135) وهو أجمع كتاب وقفت عليه في شأن هذا الفتح العظيم، وأكثر المصادر تحقيقًا، وأغلب ظني أنه رسالة علمية، وقد رجع إلى كثير من المصادر التركية المتقدمة إضافة إلى المصادر العربية والإفرنجية والرومية.
[9] انظر: "السلطان محمد الفاتح بطل الفتح الإسلامي في أوروبا الشرقية" ص(22)، و"العثمانيون في التاريخ والحضارة" ص(72 - 85)، و"تاريخ الدولة العثمانية وحضارتها" ص(58).
[10] "محمد الفاتح" للرشيدي (119).
[11] "تاريخ الدولة العلية العثمانية"، تأليف: محمد فريد بك، تحقيق: د.إحسان حقي ص(160)، و"محمد الفاتح" للرشيدي ص (124).
[12] " محمد الفاتح" للرشيدي ص(36)، و"محمد الفاتح بطل الفتح الإسلامي في أوروبا الشرقية"، ص(32).
[13] "محمد الفاتح" للرشيدي ص(126).
[14] المصدر السابق (128)، وانظر: "السلطان محمد الفاتح بطل الفتح الإسلامي في أوروبا الشرقية" (33).
[15] انظر: "محمد الفاتح" للرشيدي (129).
[16] انظر: "محمد الفاتح" للرشيدي (130 - 136).
[17] المصدر السابق (137)
[18] "محمد الفاتح" للرشيدي (139).
[19] ملخصًا من "محمد الفاتح" للرشيدي (140 - 142).
[20] انظر: "العثمانيون في التاريخ والحضارة" (79).
[21] "محمد الفاتح" للرشيدي (143).
[22] المصدر السابق (143 - 146).(/25)
[23] ولد محمد الفاتح - رحمه الله تعالى - عام 833هـ، وتولَّى السلطة عام 855هـ، وعمره ثنتين وعشرين سنة، وقد فرح النصارى بتوليه وهو صغير؛ ولكن الله - تعالى - أراهم ما يسوؤهم؛ إذ كان الفتح على يديه وهو صغير، وقد عجز عن فتحها القادة الكبار، وذلك فضل الله يُؤْتِيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم. وقد قيل: "إن عمره وقت الفتح إحدى وعشرين سنة"، وقيل: "ثلاثًا وعشرين سنة"، وقيل: "أربعًا وعشرين سنة"، وقيل: "خمسًا وعشرين سنة"، ولم أقِفْ على مَنْ قال أكثر من ذلك، وقد كان - رحمه الله تعالى - عازمًا على فتح روما بعد فتحه القُسْطنطينية، ولكنه مرض وتوفي في يوم الخميس 4/3/886هـ - رحمه الله تعالى رحمة واسعة - انظر: "تاريخ الدولة العثمانية" لسرهنك (39 - 56)، و"التحفة الحليمية في تاريخ الدولة العلية" لإبراهيم بك حليم (64)، و"الدولة العثمانية وعلاقتها الخارجية" (32 - 41)، و"تاريخ الدولة العثمانية وحضارتها" (29)، و"محاضرات في العثمانيين وحاضر العالم الإسلامي" (9) و"المسألة الشرقية، دراسة وثائقية عن الخلافة العثمانية"، تأليف: محمود ثابت الشاذلي (42).(/26)
العنوان: فتح والمتاجرة بدم صدَّام !
رقم المقالة: 311
صاحب المقالة: خليل محمود الصمادي
-----------------------------------------
لا شك أن إعدام صدام حسين بهذا المشهد الطائفي المهين حرك مشاعر الملايين من المسلمين وغيرهم بغض النظر عما كان الموقف من صدام حسين.
ولا شك أن مشهد الإعدام الدرامي ولا سيما الذي صور بهاتف خلوي ترك انطباعاً لدى الجماعات والأفراد ، وقد ترجمت هذه الانفعالات من قبل الجماعات والمؤسسات نشاطات شتى منها إقامة مجالس العزاء والمظاهرات المنددة هنا وهناك، أما من ناحية الأفراد فكان التعبير عن الموقف بكتابة بعض المقالات ولا سيما على مواقع الشابكة (الإنترنت)، أظهر كاتبوها مثالب صدام حسين ودوره في الصراع العربي الإسرائيلي وأنه دفع حياته ثمناً لهذه المواقف العظيمة.
إلى هنا يكون الأمر مشروعاً ولا غبار عليه، فالتعبير عن المواقف السياسية المرتبطة بعواطف الجماهير لا ينكره أحد، وتكفله جميع الفعاليات المؤسساتية.
أما أن يتحول التعبير عن الرأي إلى الاتهام والتخوين والسب والشتم فهذا ما لا يرضاه عاقل، ويبدو أن مشهد إعدام صدام غدا متاجرة من بعض القوى السياسية لتصفية حسابات لها مع فرقاء آخرين، وعلى سبيل المثال لا الحصر ظهر ذلك جليّاً في الساحة الفلسطينية؛ إذ كان وقع إعدام صدام كبيراً على الفلسطينيين أكثر من غيرهم، ربما بسبب مواقف الراحل من القضية الفلسطينية، كما أنه جاء متزامناً مع أخبار المجازر الطائفية التي يتعرض لها اللاجئون الفلسطينيون في العراق من قبل المليشيات الطائفية .(/1)
لا أحد ينكر خلاف حركة فتح مع حماس منذ وصول الأخيرة للسلطة عن طريق صناديق الانتخابات في سابقة ندر مثيلها في دول العالم الثالث، وبعد وصول حماس للسلطة بدأ مسلسل الحصار المفروض على الحكومة، واشتركت به أطراف دولية وعربية ومحلية هدفها حصار الحكومة ثم إسقاطها، ودأبت الأطراف جميعها على العمل على هذه الأجندة، ولم تترك فرصة مواتية لها إلا وجربتها، ولكن يبدو أن حكومة حماس عصيَّة على السقوط بسبب نزاهة الأصوات التي أوصلتها للحكم.
المتتبع اليوم لمشهد صدام حسين يرى أن القوى المناوئة لحماس ولا سيما حركة فتح اتخذت من إعدام صدام حسين مادة إعلامية خصبة لإثارة الشارع الشعبي ضد حماس، فبرز عشرات الناطقين بحركة فتح منددين بحركة حماس واتهامها بالعمالة لإيران، كما ظهرت مئات المقالات والتصريحات تتهم حماس بالانحياز للصف الذي أعدم صدام، حتى يخيل للقارئ في بعض المقالات أن حركة حماس هي التي أعدمت صدام حسين!! وأن حركة فتح أصبحت المثل الشرعي والوحيد للقوى السنية والسلفية !! وأن حركة حماس غدت ألعوبة بيد الصفويين والشعوبيين و الروافض وما إلى ذلك من تعابير تمتلئ بها المواقع المؤيدة لحركة فتح!!.(/2)
الاتهامات التي تكال بلا دليل من أجل سحب البساط من حركة حماس لا شك أنها ستصب أخيراً في صالحها لعدة أسباب؛ أهمها: أن الحركة أول من ندَّد رسميّاً بالإعدام وتوقيته، أما بالنسبة لمعاناة اللاجئين الفلسطينيين في العراق فقد يظن القارئ لأول وهلة أن حركة حماس تركتهم يواجهون فرق الإعدام وحدهم، ولكن المتتبع للأخبار يجد أن حماس وبالرغم من مشكلاتها الداخلية لم تنس فلسطينيي العراق، فما من زيارة قام بها مسؤول من الحركة لدولة مجاورة أو مؤثرة في العراق إلا كان ملف فلسطينيي العراق أولَ الملفات المطروحة، وفي أول زيارة للسيد محمود الزهار لدمشق تم حل مشكلة بضع مئات من اللاجئين ممن كانوا عالقين في الرويشد، إذ تم نصب مخيم لهم في منطقة الحسكة، كما وجهت حماس عدة نداءات للمراجع الشيعية العديدة في طهران والعراق من أجل إصدار فتاوى تحرم قتل الفلسطينيين هناك، ولكن يبدو أن المشكلة أكبر من حماس والقوى الفلسطينية مجتمعة.
يتخذ المتاجرون بدم صدام من زيارة السيد إسماعيل هنية لطهران مادة إعلامية خصبة يدَّعون فيها أن حماس باعت نفسها لطهران، وأن المساعدات التي وعدت بها إيران الحكومةَ الفلسطينية ما هي إلا شراء لحماس !! ولكن المتتبع للعلاقة بين حماس وطهران لا يجد فيها أي تبعية أو هيمنة أو سيطرة، والمشكلة أن الذين ينطقون بأسماء تنظيماتهم أو الذين يكتبون المقالات ويكيلون التهم لحماس إما أنهم محدودو الثقافة لا يطَّلعون على الأخبار، أو أنهم لا يراجعون الدراسات التي رصدت كل هذه المواقف، أو أنهم يعرفون ويحرِّفون.
إننا في خضم هذه المواقف العصيبة، لسنا بحاجة إلى تحريف الأمور وإلى تغذية ثقافة الكراهية والحقد بين أبناء الشعب الفلسطيني والمتجارة بدماء صدام حسين من أجل إفشال برنامج حماس وما يرافقه من تأجيج النار، وزيادة الحصار على الشعب الفلسطيني، والتي لا يستفيد منها في النهاية إلا العدو الصهيوني.(/3)
على العاقلين في حركة فتح أن يبيِّنوا لأتباعهم حقيقة الموقف وأن يمسكوا بزمام المبادرة قبل
أن تأكل الحرب الأخضر واليابس، يوم لا ينفع الندم، وعليهم أن يتذكروا قول الشاعر الجاهلي الأَفْوَهِ الأَوْدِيِّ:
لا يَصْلُحُ الناسُ فَوضَى لا سَراةَ لَهُمْ ولا سَراةَ إذا جُهَّالُهُمْ سادُوا
تُلفَى الأُمورُ بأَهلِ الرُّشْدِ ما صَلَحَتْ فإنْ تَوَلَّوْا فبالأَشْرارِ تَنْقادُ(/4)
العنوان: فتن المجلات وأخطارها على الأمة
رقم المقالة: 1178
صاحب المقالة: الشيخ ناصر بن محمد بن مشري الغامدي
-----------------------------------------
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}؛ [آل عمران: 102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا الله الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً}؛ [النساء: 1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً}؛ [الأحزاب: 71 -72].
أما بعد فيا أيها الناس:
اتقوا الله - تبارك وتعالى - واشكروه، وأنيبوا إليه واستغفره.
أيها المسلمون:
إن مما ابتلي المسلمون به اليوم: ما قذفت به المدنية الغربية من سموم قاتلة، ووسائل مهدِّمة للمسلمين وأخلاقهم التي ما فتئوا يحافظون عليها رَدْحاً من الزمن.(/1)
ومن أهمها وأعظمها خطراً على الأسر والبيوتات، والأفراد والمجتمعات: المجلات والصحف، التي تحمل في طياتها السم الزعاف، والداء العضال على المسلمين والمسلمات، في أساليب براقة وكلمات معسولة، وشبه مضللة، وشهوات مهدمة، ما هي إلا نوع من أنواع الغزو الفكري المركَّز على بلاد المسلمين، ضد عقيدتهم، ومبادئهم، وقيمهم وأخلاقهم، بهدف القضاء على كل هذه القيم وتلك المفاهيم والمبادئ والأخلاق التي رباهم عليها إسلامهم ودينهم الحق المنزل من عند خالقهم الخبير بما يصلحهم ويدرأ عنهم الفساد والضلال.
أيها المسلمون:
وبدأت هذه الشبهات والشهوات تدب إلى قلوب السذج من الناس، وتستولي على مشاعرهم، وتأسر نفوسهم عندما انفتحت الطاقة الكبرى والبلية العظمى؛ تلك الصحف والمجلات الهابطة، المتحللة من كل أدب وفضيلة والمنسلخة من كل دين وحياء، والداعية إلى المجون والفسوق، والخلاعة، في عصر كثر فيه الفراغ الجسمي، والفكري والنفسي لدى المسلمين، وسيطرت الفطرة البهيمية على عقول كثير منهم بعد سنوات عديدة من الغزو المركّز على الأمة من أعدائها؛ الذين يعملون ليلاً ونهاراً لإردائها في الحافرة، وإنزالها من عليائها إلى دنيا الحضيض التي يعيشها الكفار.
نعم عباد الله، عكف المسلمون على هذه المجلات، وأضاعوا بذلك مصالح دينهم ودنياهم، فصاروا فريسة لذلك الداء العضال، نسأل الله لنا ولهم السلامة.(/2)
وهذه المجلات الهابطة إنما تُصَدّر عفن القوم وصديدهم؛ بهدف تخريب البيوت المسلمة، وتدمير الأخلاق النبيلة. وأعداء الأمة إنما دخلوا عليها من باب الشهوات والفتن، فهم دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم قذفوه فيها، فالنار حفت بالشهوات، وليس عجباً أن يصدر كل هذا من أعداء الأمة؛ الحاقدين عليها، وقد قال الله - تعالى - عنهم: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً}؛ [النساء: 89]. {وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى الله هُوَ الهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ مَا لَكَ مِنَ الله مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ}؛ [البقرة: 120].
نعم ليس عجباً أن يصدر هذا من أعداء الأمة، ولكن العجب كله أن تجد من أبناء المسلمين من يسعى وراء هذه المجلات الهابطة، ويلهث في سبيل استيرادها وتصديرها، ونشرها في بلاد المسلمين، وإيصالها إلى بيوتهم، ومجتمعاتهم.
وإن تعجب من ذلك، فعجب أن ترى من المسلمين من ينفق ماله الذي أُمِر بحفظه في شراء هذه المجلات، ثم يدخلها بيته لتقع في أيدي أبنائه وبناته وزوجته، حينئذ قل على الفضيلة السلام، وقد خاب من استرعى الذئب الغنم.
ولك أن تعلم أخي المسلم أن ما يبذله هؤلاء من جهد ووقت في تتبع هذه المجلات، الوافدة إلينا من أعدائنا واللهث خلفها، والإعجاب بما فيها إنما هو خسارة من أعمارهم، وهدر في أوقاتهم، وإضاعة لأموالهم، وكل ذلك محاسبون عليه غداً عند أحكم الحاكمين، وأسرع الحاسبين - سبحانه وتعالى.
عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تزول قدم ابن آدم يوم القيامة من عند ربه حتى يسأل عن خمس:عن عمره: فيم أفناه؟ وعن شبابه: فيم أبلاه؟ وماله: من أين اكتسبه وفيم أنفقه؟ وماذا عمل فيما علم؟))؛ رواه الترمذي.(/3)
كم هو مؤسف ومؤلم أن يدخل الإنسان بعض المراكز التجارية والمكتبات والبقالات وغيرها فيرى أول ما يرى تلك السلة القبيحة المنظر، وتلك الرفوف السوداء بما جمع فوقها من صحف سافلة، ومجلات فاضحة، تدعو - كتابة وتصويراً - إلى التحلل من الفضيلة والتردي في هوة الرذيلة!
مجلات سافلة تنشر الخلاعة، والبذاء والسفول مهدِّمة للأخلاق، مفسدة للأمة، لا يشك عاقل حصيف ماذا يريد مروجوها بمجتمع إسلامي محافظ على إسلامه.
وكم يروعك المنظر عندما ترى أغلفة هذه المجلات وقد غلفت بصور الفاتنات الزانيات العاهرات، المتحللات من كل حياء وعفة، بمختلف المقاسات، وبالألوان والأصباغ المختلفة الداعية إلى الزنى والفتنة، التي لو وضعت على حيوان قبيح لفتن به الناس في عصر كثر فساده، وقلت فيه العفة والحياء!
والغلاف وحده يكفي لهدم أمة بكاملها، وما بالداخل أعظم؛ حيث تحتوى تلك المجلات على أقوال ساقطة، وعبارات ماجنة نابية، يمجها كل ذي خُلُق فاضل، ودين مستقيم، وكلمات تدعو إلى العزف المحرم، والموسيقى السافلة، واللهو الفاضح، ونساء كاسيات عاريات على رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، في أزياء منحطة، تصور المرأة على أنها سلعة تجارية تعرض بأبخس الأثمان.
ناهيكم - عباد الله - عن المجلات الخاصة بالفيديو وبرامج القنوات الفضائحية، التي تحتوى على صورة الرجل والمرأة وهما يقترفان الفاحشة ويعانقان الرذيلة، في بعد عن الحياء والفضيلة ومن لم يستح صنع ما شاء. وهذه والله إنها لتحرك من لا شهوة له، فكيف بمن له شهوة يكابدها ليلاً ونهاراً! نسأل الله العافية.
قل لي بربك، كيف يكون حال الفتاة والفتى عندما تقع أنظارهم على هذه المجلات الهابطة التي قد مُلِئت بصور العاهرات الكاسيات، والزناة والزانيات؟! أجارنا الله.(/4)
هذه المجلات الساقطة التي تعرض بها صور حثالة المجتمع، ؛ الممثلين، والممثلات، كيوم ولدتهم أمهاتهم، فبالله عليكم أيها المسلمون، كيف يكون حال شبابنا وشاباتنا المراهقين إذ وقعت هذه المجلات في أيديهم؟!
الله اكبر، كم أفسدت من مجتمع! وكم هدمت من أسر! وكم جرعت من غصص! وكم زرعت من الشقاق والنفاق والفرقة التي لا تلاقي بعدها أبداً بين الزوجين، عندما يرى الزوج صور العاهرات المغيِّرات خلق الله فيها، وقد يكون بينهن من هي أجمل من امرأته، ولابد، فيبدأ الشيطان يوسوس له حتى يترك زوجته، ويلهث وراء البريق اللامع، والسراب الخادع! وهكذا حال المرأة عندما ترى رجلاً أجمل من زوجها.
كُلُّ الحَوادِثِ مَبْدَؤُها مِنَ النَّظَرِ وَمُعْظَمُ النّارِ مِنْ مُسْتَصْغَرِ الشَّرَرِ
كَمْ نَظْرَةٍ فَتَكَتْ فِي قَلْبِ صاحِبِها فَتْكَ السِّهامِ بِلا قَوْسٍ وَلا وَتَرِ
وَالْمَرْءُ ما دامَ ذا عَيْنٍ يُقَلِّبُها فِي أَعْيُنِ الغِيدِ مَوْقُوفٌ عَلى الخَطَرِ
يَسُرُّ مُقْلَتَهُ ما ضَرَّ مُهْجَتَهُ لا مَرْحَباً بِسُرُورٍ جاءَ بِالضَّرَرِ
أيها المسلمون:
إن هذه المجلات ذات مفاسد عديدة، وأخطار جسيمة على الأسر والمجتمعات، ومن هذه المفاسد - على سبيل المثال لا الحصر - إضاعة المال الذي جعله الله - سبحانه وتعالى - قياماً للناس لمصالح دينهم ودنياهم، وصرفه فيما لا نفع فيه؛ بل فيه الضرر والهلاك ولفساد المحقق.
ومنها: إضاعة الوقت الذي هو حياة الإنسان في مطالعة وقراءة ما يضر ويفسد؛ بل إن من اللاهثين وراء هذه المجلات من يهجر القرآن الكريم وكتب السنة والسيرة، ويصرف وقته كله في قراءة هذه المفسدات.(/5)
ومنها: ما يحصل للقلب من هيام في الحب الكاذب، وإغراق في الخيال الذي لا حقيقة له، وإنما هو {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ الله عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَالله سَرِيعُ الحِسَابِ}؛ [النور: 39].
وهذا كله يدعو إلى القلق النفسي، والتشتت الفكري، والانشغال عن مصالح الدين والدنيا.
ومن أعظم مفاسد هذه المجلات: تأثيرها على الأخلاق والآداب بما يشاهد فيها من صور وأزياء، فينقلب المجتمع إلى مجتمع بهيمي مطابق لتلك المجتمعات الكافرة.
وحتى تتحققوا من مفاسد هذه المجلات الوافدة علينا من بلاد الكفر ولضلال، وخطرها على الأجيال المسلمة فإني أنقُل لكم بعض الأقوال الساقطة الهدامة التي ترد في تلك المجلات، وما لم يقع في يدي أعظم وأعظم إلى جانب ما تحتويه من صور فاضحة فاتنة.
فمن ذلك: ما ورد في صحيفة "الشرق الأوسط" على لسان أحد المحدَثين؛ حيث يقول: "أبو هريرة يروى أحاديث تنافي الذوق السليم مثل حديث الذبابة".
وحديث الذبابة الذي عناه هذا الغِر الساخر من كلام المعصوم - صلى الله عليه وسلم - الذي لا ينطق عن الهوى؛ إن هو إلا وحي يوحى، وهو حديث ثابت في الصحيح، ولكن ذلك المجرم إنما يريد بقوله ذلك الطعن في أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم، ورضي الله عنهم وأرضاهم – ومن ثم الطعن في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتشكيك في الدين الذي جاء به، والتهجم على هذا الصحابي الجليل الذي هو من أفضل الصحابة علماً، وورعاً، ونقلاً للسنة النبوية الشريفة. وقد قال عن نفسه - رضي الله عنه - عندما اتهم بالوضع في الحديث؛ لإكثاره من الرواية: "يقول الناس أكثر أبو هريرة، والله الموعد، إني كنت امرأً مُلصَقاً برسول الله - صلى الله عليه وسلم - آخذ عنه العلم والدين، وكان الناس يشغلهم الصفق في الأسواق.(/6)
يقول الإمام أبو زرعة الرازى - رحمه الله -: "إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب النبي فاعلم أنه زنديق؛ وذلك أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - حق، والقرآن حق، وما جاء به حق، وإنما أدى ذلك إلينا الصحابة، وهؤلاء الزنادقة يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة، فالطعن بهم أولى.
والحديث الذي عناه: هو قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه كله، ثم ليطرحه؛ فإن في أحد جناحيه شفاء، وفي الآخر داء))؛ رواه البخاري، وأهل السنن.
وهذا الحديث العظيم الذي كشف الطب الحديث عن فائدته ومعجزته في القرن الرابع عشر للهجرة - لم ينفرد به أبو هريرة وحده، وإنما ذكر الحفاظ أنه رواه أبو سعيد الخدري وغيره. وهؤلاء الجهلة لم يعلموا برواية غير أبي هريرة، فطعنوا فيه؛ لأنه لم يوافق عقولهم وأهواءهم، وهذا طعن في الدين؛ إذ من القواعد المقررة عند أهل الحديث: أن الحديث إذا صح كان حجة، ولو كان الراوي له واحداً.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد الله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين، وقيوم يوم الدين، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله خاتم المرسلين، وإمام المتقين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فمن الأقوال الضالة المضلة التي تطفح بها هذه المجلات: ما ورد في مجلة "سيدتهم" في العدد الحادي والخمسين: "من عيوب الزوج العربي: الغَيرة".
الله اكبر! أهذا من العيوب؟! وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه: ((أتعجبون من غَيره سعد، لأنا أغير منه، والله أغير مِنى))؛ متفقٌ عليه.
وذاك الجاهلي العربي يقول:(/7)
إِذا وَقَعَ الذُّبابُ عَلى طَعامٍ رَفَعْتُ يَدِي وَنَفْسِي تَشْتَهِيهِ
وَتَجْتَنِبُ الأُسُودُ وُرُودَ ماءٍ إِذا كانَ الكِلابُ وَلَغْنَ فِيهِ
فكيف بالرجل المسلم الذي أكرمه الله بالإسلام الذي حفظ عليه عرضه، وميزه بالغَيرة على محارمه، وصانه عن صفة الدِّياثة.
ومن ذلك: ما ورد في مجلة "كل الناس" في العدد الثامن والخمسين: "ماذا لو قالت المرأة: هذا الرجل صديقى؟!".
الله أكبر يا عباد الله! هل بعد ذلك من دياثة، وتطاول على شرع الله ودينه؟! أيسوغ لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تتخذ أخداناً تعانق معم الرذيلة، وزوجها لا يحرك ساكناً، ثم لا يكون بعد ذلك في هذا شيء؟!!
نعم هذا عندهن ليس عيباً، إنما العيب في عرفهم - لما انتكست مفاهيمهم - أن يغار الرجل على أهله وزوجه، ويصونها عن أيدي العابثين.
أيها المسلمون:
وقد ورد في مجلة "فرج" في العدد الرابع والثلاثين ما نصه: "الزواج المبكر إرهاق للمرأة، وصداع للرجل".
وهؤلاء السَّفِلة يحاربون الفضيلة، ويدعون إلى الرذيلة، فالزواج المبكر عندهم مصيبة، لكن لا بأس أن تزني الفتاة والشاب، ويتعلما في الصغر أساليب الحياة الزوجية، فهذا لا يؤدي في نظرهم إلى الإرهاق والتعب!!
ولك أخي المسلم أن تتساءل: هل تتعب المرأة مع زوج يحفظ كرامتها، ويصون عرضها، ولا تتعب وهي في مستنقعات الفساد، وأديرة الخَنا والزنا، يتعاقبها الذكور بين الساعة والأخرى؟! ألا ساء ما يحكمون.
ومن ذلك - أيضاً -: ما ورد في مجلة "المصور" في العدد السابع وخمس مئة وثلاثة الآف: "عادل إمام مثل أبي ذر الغفاري، يمشى وحده، ويموت وحده، ويبعث يوم القيامة وحده".(/8)
ما أجمل المقاييس الشيطانية! عادل إمام الماجن، الفاسق، التافه مثل أبي ذر الغفاري، صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المجاهد في سبيل الله، الذي بشره النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجنة، وأخبره أنه يموت وحده، ويبعث يوم القيامة وحده، شرفاً له وفضلاً عندما خالف المنافقين، وخرج مجاهداً في إثر جيش النبي - صلى الله عليه وسلم - لغزوة تبوك!
ولقد جاء في مجلة "سلوى" في العدد الثالث والعشرين ما نصه: "في حياتنا اهتمامات لا داعي لها، يمكن أن نلغيها، كمعامل الأبحاث الذرية مثلاً؛ لأننا لن نستفيد شيئاً، لكن سوف نستفيد كثيراً لو أنشأنا مدرسة للرقص الشرقي، تتخرج منه راقصة مثقفة متعلمة؛ لجذب السياح".
الله المستعان! أهكذا يجب أن تكون اهتمامات المسلمين، أعداء الأمة يتقدمون في مجال الذرة والأسلحة والابتكارات التي حاربوا بها بلاد المسلمين، واستعمروهم ماديا، ومعنويا، وفكرياُ، ونحن أقصى اهتماماتنا أن نخرِّج راقصة عاهرة زانية تجذب السياح إلى مجتمعاتنا لنشر الفساد والفجور؟!
أهكذا ننتصر على أعدائنا بالرقص، وقد قال الله - تعالى - في محكم التنزيل: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ الله يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ الله يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ}؛ [الأنفال: 60].
بل لم يكتفوا بذلك؛ فقد تطاولوا على الله - سبحانه وتعالى - وأساؤوا الأدب في حقه؛ فقد ورد في مجلة "روز اليوسف" في العدد ثلاثة الآف وثلاث مئة وثمانية عشر: "لقد خلق الله الإنسان وسكن فيه". تعالى الله عما يقول الظالمون علوّاً كبيراً.(/9)
وهذا - عباد الله - فيض من غيض ما تطفح به تلك المجلات الوافدة إلى بلاد المسلمين من ضلال وكفر واستهزاء بالمسلمين والمسلمات، وتهجم على أخلاقهم وعقيدتهم، وعلى رسولهم وصحابته، وعلماء الأمة وفضلائها، واهتمام بالتافهين والساقطين. وتلك إحصاءات قديمة جداً، وإلا فإن الفساد اليوم فيها أكثر، والله المستعان؛ وإنما قصدنا التمثيل والتحذير عن طريق ضرب الأمثلة التي يتعظ بها من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
يحدث هذا والمسلمون مع الأسف لا يحركون ساكناً؛ بل يزيدون أعداء الأمة مساعدة وتقوية بشرائها وترويجها بين المسلمين.
أيها المسلمون:
هل يجوز بعد هذا أن تباع هذه المجلات، وتنشر وتوزع بين المسلمين وفي عقر دارهم؟! لا شك أن ذلك محرم؛ بل لقد أفتى علماء الأمة في هذه البلاد المباركة - وفقهم الله - بتحريم بيعها وشرائها، وتحريم ثمنها، وتحريم تأجير المحلات لمن يبيع تلك المجلات؛ لأن هذا كله تعاون على الإثم والعدوان، والله - عزَّ وجل - يقول: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا الله إِنَّ الله شَدِيدُ العِقَابِ}؛ [المائدة: 2]. هذا إلى جانب مفاسدها التي لا يشك عاقل منصف في تحققها.
وإنني أحرِّج بعد هذا على كل صاحب بقاله، أو مكتبة، أو غيرها أن يتقي الله – تعالى - وأن يُخرِج هذه المفسدات من محله، وليعلم أنه مسؤول عن ماله: من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟.
وهل يقول مسلم بعد ذلك: إن الكسب من وراء هذه المجلات حلال؟! أم هل يشك عاقل في حرمتها وخطرها على المسلمين؟!
وليعلم كل من يبيع هذه المجلات أو يروجها أن كل فساد حصل من ورائها فإن عليه إثمه إلى يوم القيامة، لا ينقص ذلك من آثام من ضل بها شيئاً.(/10)
فلا تدنسوا ربحكم - أيها المسلمون - بالحرام، فإن كل جسم نبت من السحت فالنار أولى به. واتقوا الله أيها الأولياء وأرباب البيوت، احذروا من دخول هذه المجلات المفسدة إلى بيوتكم؛ فإنها رأس كل بلاء وفتنة.
وعلى كل شاب أن يتقي الله - تعالى - في نعمة البصر، والوقت التي أنعم الله بها عليه، فلا يضيعها في الحرام فـ {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً}؛ [الإسراء: 36].
ثم اعلموا - رحمكم الله -: أن البديل عنها موجود - بحمد الله - لمن أراد معرفة الأخبار ونحوها، مما يصدر في هذه البلاد - حرسها الله من كيد الأعداء - وفي غيرها من بلاد المسلمين من مجلات وجرائد محافظة على الخير، وبعيدة عن المحرمات؛ كمجلة المجتمع، والإًصلاح، والدعوة، والتوحيد، والبنيان المرصوص، والحكمة، والبحوث الفقهية، والبحوث الإسلامية، والجرائد المحلية.
ألا فاتقوا الله - تبارك وتعالى - أيها المسلمون، وصلوا وسلموا على من أمركم الله - تعالى - بالصلاة والسلام عليه في قوله - عز من قائل -: {إِنَّ الله وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}؛ [الأحزاب: 56]. وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((من صلى عليَّ صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشراً))؛ رواه مسلم.(/11)
العنوان: فتنة المسيح الدجال
رقم المقالة: 1177
صاحب المقالة: الشيخ ناصر بن محمد بن مشري الغامدي
-----------------------------------------
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}؛ [آل عمران: 102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا الله الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً}؛ [النساء: 1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً}؛ [الأحزاب: 71 -72].
أما بعد فيا أيها الناس:
أوصيكم ونفسي بتقوى الله - تبارك وتعالى - في السر والعلن، والتمسك بهديه وشرعه، والوقوف عند حدوده وأوامره ونواهيه، {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ الله فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى القُلُوبِ}؛ [الحج: 32].
عباد الله:(/1)
مع مرور السنون، وتعاقب الأيام والأعوام تكثر على المسلمين الفتن، وتعظم المحن، فيرقق بعضها بعضاً، ولا تقوم الساعة حتى يتعاقب على المسلمين فتن ممحصة، وابتلاءات ماحقة، يمحق الله - تعالى - بها الكافرين ويثبت بها المؤمنين، نعم - عباد الله - إن بين يدي الساعة سنوات شداد يخوَّن فيها الأمين، ويُؤتمن الخائن، ويصدق فيها الكاذب، ويكذَّب فيها الصادق، يصبح المعروف منكراً، والمنكر معروفاً، تتقلَّب الموازين، وتختل الفطر، ويكثر الشر، {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ الله الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الكَاذِبِينَ}؛ [العنكبوت: 2 -3]. {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ}؛ [آل عمران: 142].
وهناك فتنة عظمى، وبلية كبرى، ستمر على الناس طال الزمان أو قصر، ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة من فتنة إلا وهي تضع لها؛ لشدتها وهولها، تلكم - يا عباد الله - هي فتنه المسيح الدجال، وما أدراكم ما المسيح الدجال؟! منبع الكفر والضلال وينبوع الفتن والأوجال قد أنذرت به الأنبياء أممها، وحذرت منه أقوامها، ونعتته بالنعوت الظاهرة، ووصفته بالأوصاف الباهرة، وحذر منه المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وأنذر؛ بل إنه ما كان يخاف على أمته أمراً أعظم من الدجال؛ وذلك لعظم فتنه، وكبر بلية المسلمين به.(/2)
عن النواس بن سمعان - رضي الله عنه - أنه - صلى الله عليه وسلم - ذكر الدجال ذات غداة، فخفض فيه ورفع، حتى ظنناه في طائفة النخل، فلما رحنا إليه عرف ذلك فينا، فقال: ((ما شأنكم؟)) قلنا: يا رسول الله ذكرت الدجال غداة فخفضت فيه ورفعت، حتى ظنناه في طائفة النخل. فقال: ((غير الدجال أخوفنى عليكم، إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم، وإن يخرج ولست فيكم فامرؤ حجيج نفسه، والله خليفتي على كل مسلم))؛ رواه مسلم وغيره.
وقد كان الصحابة - رضي الله عنهم - يتخوفون الدجال، ويستعيذون بالله من فتنته العظيمة التي قال عنها المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: ((ما كانت ولا تكون فتنة حتى تقوم الساعة أعظم من فتنة الدجال، وما من نبي إلا وحذر قومه الدجال))؛ رواه الحاكم بسند صحيح عن جابر - رضي الله عنه.
والدجال رجل من بني آدم له صفات كثيرة جاءت بها الأحاديث النبوية الشريفة لتعريف الناس بحقيقته، وتحذيرهم من شره؛ حتى إذا خرج عرفه المؤمنون الصادقون فلا يفتنون به؛ بل يكونون على علم بصفاته التي أخبر بها رسول الأمة - صلى الله عليه وسلم - عن ربه - جل في علاه.
وهذه الصفات تميزه عن غيره من الناس، فلا يفتن به إلا الجاهل الذي سبقت عليه الشقوة، والعذاب من الله، نسأل الله - تعالى - العصمة من كيده وفتنته.
ومن هذه الصفات التي أخبر بها الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه: ((شاب أحمر، قصير أفحج جعد الرأس، أجلى الجبهة، عريض النحر، ممسوح العين اليمنى، وعينه اليسرى عليها لحمة غليظة، مكتوب بين عينيه كافر، يقرؤه كل مسلم يكتب أو لا يكتب. وهو عقيم لا يولد له)).
عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه - صلى الله عليه وسلم - ذكر الدجال بين ظهراني الناس، فقال: ((إن الله ليس بأعور، ألا إن المسيح الدجال أعور العين اليمنى؛ كأن عينه عنبة طافية))؛ متفقٌ عليه.(/3)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((وأما مسيح الضلالة فإنه أعور العين، أجلى الجبهة، عريض النحر، فيه دفأ - أي: انحناء - كأنه قطن بن عبد العزى)). قال يا رسول الله: هل يضرني شبهه؟ قال: ((لا، أنت امرؤ مسلم، وهو امرؤ كافر))؛ رواه أحمد.
وعن أنس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((الدجال ممسوح العين، مكتوب بيه عينيه كافر، ثم تهجاها: ك ف ر، يقرؤه كل مسلم))؛ متفقٌ عليه.
قال الإمام النووي: "والذي عليه المحققون أن هذه الكتابة على ظاهرها، وأنها كتابة حقيقية، جعلها الله آية وعلامة من جملة العلامات القاطعة بكفره وكذبه وإبطاله، يظهرها الله - تعالى - لكل مسلم كاتب وغير كاتب، ويخفيها عمن أراد شقاوته وفتنته.
أيها المسلمون:
والدجال يخرج من جهة المشرق؛ من خرسان، من يهودية أصبهان، ثم يسير في الأرض فلا يترك بلداً إلا دخله، إلا مكة والمدينة فلا يستطيع دخولهما؛ لأن الملائكة تحرسهما.
عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((الدجال يخرج من أرض بالمشرق يقال لها خرسان، يتبعه أقوام كأن وجوهم المجان المطرقة))؛ رواه الترمذي وحسنه، وأحمد وابن ماجه.
وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يخرج الدجال من يهودية أصبهان، معه سبعون ألفاً من اليهود))؛ رواه أحمد، وصححه الحافظ ابن حجر - عليهما رحمة الله.(/4)
وأصبهان: بلد في المشرق، يعرف هذه الأيام بشهر ستان، وبها حَرَّة يقال لها اليهودية، يخرج منها الدجال، فإذا خرج لم يدع بلداً إلا دخله، ما عدا مكة والمدينة؛ فإنهما محروستان منه، محرَّمتان عليه، فقد أخبر - صلى الله عليه وسلم - عن الدجال أنه يقول: ((وإني أوشك أن يؤذن لي في الخروج، فأخرج فأسير في الأرض، فلا أدع قرية إلا هبطتها في أربعين ليلة، غير مكة وطَيْبة فهما محرَّمتان علي كلتاهما، كلما أردت أن أدخل واحدة أو واحداً منهما استقبلني ملك بيده السيف صلتا يصدني عنها، وإن على كل نقب منها ملائكة يحرسونها))؛ رواه مسلم.
وثبت في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد في "مسنده": ((أن الدجال لا يدخل أربعة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد المدينة، ومسجد الطور، والمسجد الأقصى)).
عباد الله:
وأكثر أتباع الدجال من اليهود والعجم والترك، وأخلاط من الناس غالبهم الأعراب والنساء. عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يتبع الدجال من يهود أصبهان سبعون ألفاً عليهم الطيالسة))؛ رواه مسلم.
وعن أبي بكر - رضي الله عنه - قال: قال - صلى الله عليه وسلم -: ((الدجال يخرج من أرض بالمشرق يقال لها خراسان، يتبعه أقوام كأن وجوهم المجان المطرقة))؛ رواه الترمذي، وهو حسن.(/5)
قال ابن كثير - رحمة الله عليه -: "والظاهر أن المراد بهؤلاء أنصار الدجال من الترك. وإنما يكثر أتباعه من الأعراب؛ لغلبة الجهل عليهم؛ ولما جاء في حديث أبي أمامه - رضي الله عنه - من قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((وإن من فتنته أن معه جنة وناراً، فناره جنة وجنته نار، فمن ابتلى بناره فليستغث بالله، وليقرأ فواتح الكهف فتكون عليه برداً وسلاماً، كما كانت النار على إبراهيم، وإن من فتنته أن يقول لأعرابي: أرأيت إن بعثت لك أباك وأمك أتشهد أني ربك؟ فيقول: نعم. فيتمثل له شيطانان في صورة أبيه وأمه، فيقولان: يا بني اتبعه فإنه ربّك، وإن من فتنته أن يسلط على نفس واحدة فيقتلها وينشرها بالمِنشار، حتى يلقى شقتين، ثم يقول: انظروا إلى عبدي هذا، فإني أبعثه الآن، ثم يزعم أن له ربا غيري! فيبعثه الله، ويقول له الخبيث: من ربك؟ فيقول: ربي الله، وأنت عدو الله، أنت الدجال والله ما كنت بعد أشد بصيرة بك منى اليوم))؛ رواه ابن ماجه، وهو صحيح.
وأما النساء فحالهن أشد من حال الأعراب؛ لسرعة تأثرهن، وغلبة الجهل عليهن، فعن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن المصطفى - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ينزل الدجال في هذه السَّبِخة بمر قناة، فيكون أكثر من يخرج إليه النساء، حتى إن الرجل ليرجع إلى حميمه وإلى أمه وابنته وأخته وعمته فيوثقها رباطاً مخافة أن تخرج إليه، ثم يسلط الله المسلمين عليه فيقتلونه ويقتلون شيعته، حتى إن اليهودي ليختبئ تحت الشجرة أو الحجر، فيقول الحجر أو الشجرة للمسلم: هذا يهودي تحتي فاقتله))؛ رواه أحمد بسند صحيح.
أيها المسلمون:
وفتنة الدجال أعظم الفتن منذ خلق الله آدم إلى قيام الساعة، وذلك بسبب ما يخلق الله - تعالى - معه، ويجريه على يديه من الخوارق العظيمة التي تبهر العقول، وتحير الألباب، ليبتلي الله - سبحانه وتعالى - عباده، فيَمِيز المؤمن من الكافر، بعدله ورحمته.(/6)
قال المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: ((ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة خلق أكبر من الدجال))؛ رواه مسلم.
وعن حذيفة - رضي الله عنه - أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لأنا أعلم بما مع الدجال منه، معه نهران يجريان: أحدهما رأي العين ماءٌ أبيض، والآخر رأي العين نار تأجج، فإما أدركن أحد فليأت النهر الذي يراه ناراً وليُغمِض ثم ليطاطئ رأسه فيشرب منه فإنه ماءٌ باردٌ))؛ رواه مسلم.
ولقد جاءت الأحاديث النبوية الصحيحة ببيان الخوارق التي مع الدجال، منها حديث النَّواس بن سمعان - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في وصف الدجال: ((إنه خارج خله بين الشأم والعراق، فعاث يميناً وعاث شمالاً، يا عباد الله فاثبتوا)). قلنا: يا رسول الله وما لبثه في الأرض؟ قال: ((أربعون يوماً؛ يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم)). قلنا: يا رسول الله فذلك اليوم الذي كسنة أتكفينا فيه صلاة يوم؟ قال: ((لا، اقدروا له قدره)). قلنا: يا رسول الله وما إسراعه في الأرض؟ قال: ((كالغيث استدبرته الريح، فيأتي عل القوم فيدعوهم فيؤمنون به، ويستجيبون له، فيأمر السماء فتمطر، والأرض فتنبت، فتروح عليهم سارحتهم أطول ما كانت ذرا، وأسبغه ضروعاً، وأمده خواصر، ثم يأتي القوم فيدعوهم، فيردون عليه قوله، فينصرف عنهم، فيصبحون ممحلين ليس بأيديهم شيء من أموالهم، ويمر بالخرِبة فيقول لها: أخرجي كنوزك. فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل، ثم يدعو رجلاً ممتلئا شباباً، فيضربه بالسيف، فيقطعه جزلتين؛ رمية الغرض، ثم يدعوه، فيقبل ويتهلل وجهه يضحك))؛ رواه مسلم.(/7)
وجاء في رواية البخاري عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: ((أن الدجال يأتي وهو مُحرَّم عليه أن يدخل نقاب المدينة، فينزل بعض السباخ التي تلي المدينة، فيخرج إليه يومئذ رجل - وهو خير الناس، أو من خيار الناس - فيقول: أشهد أنك الدجال الذي حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثه، فيقول الدجال: أرأيتم إن قتلت هذا ثم أحييته هل تشكُّون في الأمر؟ فيقولون: لا. فيقتله، ثم يحييه، فيقول: والله ما كنت فيك أشد بصيرة منى اليوم، فيريد الدجال أن يقتله فلا يسلط عليه)).
عباد الله:
ولا يزال الدجال بعد خروجه طوال الأربعين يوماً التي أخبر عنها النبي - صلى الله عليه وسلم - يعيث في الأرض فساداً، يضل به الله الكافرين والمنافقين، ويثبت به المؤمنين، وتعم فتنته، فلا ينجو منها إلا القلة من ا لمؤمنين، حتى ينزل عيسى ابن مريم - عليه السلام - على المنارة الشرقية بدمشق، فيلتف حوله عباد الله المؤمنين، فيسير بهم قاصداً المسيح الدجال، ويكون الدجال عند نزول عيسى متوجهاً إلى بيت المقدس، فيلحق به عيسى عند باب لد - وهي بلدة قرب بيت المقدس - فإذا رآه الدجال ذاب كما يذوب المِلح، فيقول له عيسى - عليه السلام -: إن لي فيك ضربه لن تفوتني، فيتداركه فيقتله بحربته، وينهزم أتباعه، فيتبعهم المؤمنون، فيقتلونهم، حتى يقول الشجر والحجر: يا مسلم، يا عبد الله، هذا يهودي خلفي تعال فاقتله إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود. جاء ذلك في رواية مسلم.
اللهم إنا نسألك الثبات بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين يا رب العالمين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله - تعالى – فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد فيا أيها الناس:(/8)
اتقوا الله - تعالى - واشكروه وأطيعوه وراقبوه، واعلموا أنكم ملاقوه, سلوا الله الثبات على دينه، والسلامة من الفتن؛ فإن فتنة الدجال عظيمة وخطره كبير، وقد ورد أن الرجل يرى من نفسه الصلاح، فإذا أتى الدجال انخدع به؛ لعظم ما يرى معه من الآيات والخوارق.
قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن - سبحانه - يقلِّبها كيف يشاء، وقد كان أكثر دعاء المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: ((يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك))؛ رواه الترمذي.
ومن حكمة الله - تعالى - كثرة الفتن التي تسبق قيام الساعة في آخر الزمان؛ لتمحيص المؤمنين ومحق الكافرين؛ فإن الجنة غالية نفيسة، وقد حُفت بالمكارة، والنار حُفت بالشهوات، ولن يدخل الجنة أحد إلا بعد التمحيص والبلاء؛ ليُتَبين المحقُّ من الكافر، إلا من رحمه الله - سبحانه.
وإن على المسلم أن يتقي الله - سبحانه وتعالى - وأن يخلص العبادة له، وأن يحرص على الثبات على دينه، فإن العمر قصير، والزمن يمضي، ومن يدري لربما كان يوم القيامة غداً! {إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ الله عَلِيمٌ خَبِيرٌ}؛ [لقمان: 34]. {يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ الله وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً}؛ [الأحزاب: 63]. ومن يدرى لربما كان موعد خروج الدجال قريباً!(/9)
فإلى المقصرين، وكلنا ذاك الرجل، وإلى المسوِّفين، وما أكثرهم! أقبِلوا على الله، وعودوا إلى دينه، واتبعوا شرعه قبل {أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ الله وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ الله هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ المُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى العَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ المُحْسِنِينَ}؛ [الزمر: 56 -58].
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً: طلوع الشمس من مغربها، والدجال، ودابة الأرض))؛ رواه مسلم.
عباد الله:
ولقد أرشد النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته إلى ما يعصمها من فتنة المسيح الدجال، فقد ترك أمته على مثل البيضاء؛ ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك. فلم يدع - صلى الله عليه وسلم - خيراً إلا دلَّ الأمة عليه، ولا شراً إلا حذَّرها منه؛ ومن جملة ما أنذر منه وحذر: فتنة المسيح الدجال؛ لأنها أعظم فتنة تواجهها الأمة إلى قيام الساعة، وكان كل نبي يُنذِر قومَه الأعورَ الدجال، إلا أن النبي المصطفى - صلى الله عليه وسلم - اختُص بزيادة التحذير والإنذار؛ فإن الدجال خارج في هذه الأمة لا محالة؛ لأنها آخر الأمم، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - آخر الرسل وخاتم النبيين.
ومن هذه الإرشادات النبوية: التمسك بالإسلام، والتسلح بسلاح الإيمان، ومعرفة أسماء الله وصفاته الحسنى التي لا يشاركه فيها أحد، فيعلم أن الدجال بشر؛ يأكل ويشرب والله - تعالى - منزه عن ذلك كله. وأن الدجال أعور العين اليمنى، والله - تعالى - ليس بأعور، وأنه لا أحد يرى ربه حتى يموت، والدجال يراه الناس عند خروجه، مؤمنهم وكافرهم.(/10)
ومنها: التعوذ بالله - تعالى - من فتنة الدجال، وخاصة في الصلاة، فقد روى الشيخان عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو في صلاته، فيقول: ((اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال)).
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع؛ يقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم, ومن عذاب القبر, ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر فتنة المسيح الدجال))؛ رواه مسلم.
ومنها: أنه ينبغي لكل مسلم - لاسيما من عنده علم - أن يبث أحاديث الدجال بين الناس، فقد ورد إن من علامة خروجه: نسيان ذكره على المنابر، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يخرج الدجال حتى يذهل الناس عن ذكره، وحتى تترك الأئمة ذكره على المنابر))؛ رواه البيهقي.
ومنها: حفظ آيات من سورة الكهف؛ فقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - من أدرك الدجال أن يقرأ عليه فواتيح سورة الكهف، وفي بعض الروايات خواتيمها. وعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال: ((من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال)). وفي رواية: ((من آخر الكهف))؛ رواهما مسلم في "صحيحه".
وهذا من خصوصيات سورة الكهف التي جاءت الأحاديث بالحث على قراءتها، وخاصة في يوم الجمعة، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمُعتين))؛ رواه الحاكم، وهو صحيح.
فينبغي لكل مسلم أن يحرص على قراءة السورة، وحفظها، وترديدها، خصوصاً يوم الجمعة خير يوم طلعت عليه الشمس.
عباد الله:(/11)
صلوا وسلموا على من أمركم الله - تعالى - بالصلاة والسلام عليه في قوله - عز من قائل -: {إِنَّ الله وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}؛ [الأحزاب: 56]. وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((من صلى عليَّ صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشراً))؛ رواه مسلم.(/12)
العنوان: فرح العيد عبادة
رقم المقالة: 1822
صاحب المقالة: الشيخ عبدالباري بن عوض الثبيتي
-----------------------------------------
عيد الأضحى
ملخص الخطبة:
1- فَرحة المسلمين بالعيد.
2- العيد يُمثِّل وسطيَّة الإسلام.
3- العيد فُرصَة للتَّآخي والتَّصافي.
4- ضَرورة تَقوية بناء الأمَّة مِن الدَّاخل.
5- العيد فرصة لِتَذكُّر الموت.
6- فَرَحُ العيد عبادة.
6- العيد يوم الابتلاء.
7- العيد يوم التَّضحيَة.
8- مَشروعيَّة الأُضحية، والحكمة منها، وبَيان بعضِ أحكامِها.
• • • • •
الخطبة الأولى
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بُكرةً وأصيلاً، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
الله أكبر كلَّما أحرَموا مِن الميقات، وكلَّما لبَّى الملبُّون وزيدَ في الحسنات، الله أكبر كلَّما دَخَلوا فِجاجَ مَكَّة آمنين، وكلَّما طافوا بالبيت الحرام وسَعَوا بين الصَّفا والمروة ذاكرين الله مُكبِّرين.
عندما يقبِل العيدُ تُشرِق الأرضُ في أبْهى صورة، ويبدو الكونُ في أزهى حُللِه، كلُّ هذه المظاهر الرائعةِ تعبيرٌ عن فَرحةِ المسلمين بالعيد، وهل أَفرحُ للقلب مِن فرحةٍ نال بها رِضا ربِّ العالمين؛ لِما قدَّمه من طاعةٍ وعمل وإحسان. سُرورُ المُسلم بِسعيِه وكَدحِه، وفرحتُه بثمرة عَمَله ونِتاجِ جُهدِه - من الأمورِ المسلَّم بها، بل إنَّ أهلَ الآخرة وطُلاَّبَ الفضيلة لأشدُّ فَرحًا بثمرة أعمالهم مع فضل الله الواسع ورحمتِه الغامِرة، {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58]. وحُقَّ للمُؤمن أن يَفرَح ويَتهلَّل عَقِب عَشْرٍ مُباركة عظيمةٍ من شهر ذي الحجَّة صام فيها وقامَ وأذاب الجسمَ في مَواطِن الخير ومَسالك الجِدِّ ووجوه العَملِ الصَّالح.(/1)
يَقعُ هذا العيدُ شكرًا لله تعالى على العِبادات الواقِعة في شهر ذي الحِجَّة، وأعظمُها إقامة وظيفةِ الحجِّ؛ فكانت مشروعيةُ العيد تكملةً لما اتَّصل وشكرًا لله تعالى على نعمِه التي أنعمَ بها على عباده، وتكريمًا من الله لجميع المسلمين بأن جعلَ لهم عقِبَ الأعمال الصالحة وعقِبَ يومِ عرفَة عيدَ الأضحى. وإظهارُ الفرح والسرور في العيدين مندوبٌ ومن شعائر هذا الدين الحنيف.
يومُ العيد يمثِّل وسطيَّةَ الدِّين؛ بهجَةُ النَّفس مع صفاء العقيدة، إيمان القلب مع متعة الجوارح. العيدُ في حساب العُمر وجريِ الأيام والليالي أيامٌ معدودة معلومَة، ومُناسبةٌ لها خُصوصيَّتها، لا تقتصر الفرحةُ فيه على المظاهر الخارجيَّة، لكنَّها تَنفُذُ إلى الأعماق وتَنطَلِق إلى القلوب، فودِّع الهمومَ والأحزان، ولا تَحقِد على أحد من بني الإنسان، شاركِ الناسَ فرحتَهم، أقبِل على الناس، واحذَر ظُلمَهم والمعصيةَ؛ فليس العيدُ لمن لَبِس الجديدَ، إنما العيد لمن خاف يومَ الوعيد. إنَّها فرحةٌ تشمَل الغنِيَّ والفقير، ومساواةٌ بين أفرادِ المجتمع: كبيرِهم وصغيرِهم؛ فالموسِرون يَبسُطون أيديَهم بالجود والسَّخاء، وتتحرَّك نفوسهم بالشَّفقة والرَّحمة، وتَسري في قلوبِهم رُوحُ المحبَّة والتآخي؛ فتَذهب عنهم الضغائن وتَسودُهم المحبَّة والمودَّة.(/2)
في العيد - عباد الله - تَتصافَى القلوبُ وتتصافَح الأيدي ويَتبادَل الجميعُ التَّهانِيَ. وإذا كان في القلوب رواسبُ خِصامٍ أو أحقاد فإنَّها في العيد تُسَلُّ فتَزول، وإن كان في الوجوه العبوسُ فإنَّ العيدَ يُدخِل البهجةَ إلى الأرواح والبسمةَ إلى الوجوه والشِّفاه، كأنَّما العيد فرصةٌ لكلِّ مسلمٍ ليَتطهَّر من دَرَن الأخطاء، فلا يَبقى في قلبِه إلاَّ بياضُ الأُلفة ونور الإيمان؛ لتُشرق الدنيا من حوله في اقترابٍ من إخوانه ومُحبِّيه ومعارفِه وأقاربِه وجيرانه. إذَا التقى المُسْلِمان في يوم العيد وقد باعَدَت بينهما الخلافاتُ أو قعدت بهما الحزازات فأعظمُهما أجرًا البادئ أخاه بالسَّلام.
في هذا اليوم ينبغي أن يَنسلِخَ كلُّ إنسان عن كبريائه ويَنسلِخ عن تَفاخُرِه وتباهيه؛ بحيث لا يُفِكِّر بأنَّه أغنى أو أثرى أو أفضل من الآخرين، وبحيث لا يَتخيَّل الغنيُّ مهما كثُر مالُه أنَّه أفضلُ من الفقير.(/3)
بِناءُ الأمَّة الدَّاخلي - عباد الله - قاعدةُ كلِّ بِناءٍ واستقرارٍ وانطلاقٍ حضاريٍّ، والعيدُ مناسبة لتغذيةِ هذا البناء، بتحقيق مُقتَضياتِ الأخوَّة؛ صفاء النَّفس، التَّرابط بين الإخوة، زرع الثِّقة بين أفراد الأمَّة: صغيرِها وكبيرِها. بناءُ الأمَّة داخليًّا مَطلبٌ مُلِحٌّ وعنصر رئيس في مفردات معاني القوَّة التي تَنشُدُها الأمَّة اليوم؛ لِتقِيَ أبناءها مَوجاتِ فتنٍ هائجةً وتيَّاراتِ مِحنٍ سائرةً تكاد تَعصِف بل كادت تَعصِف بالعالَم المعاصر. أعظمُ البلاء أن تؤتَى الأمةُ مِن داخلها، وينخر جسدُها؛ فلا تَقوى على مُقاومةِ الرِّياح العاتية، قال تعالى: {وَلَا تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46]، والقرآن يوضِّح لنا بجلاءٍ ما الذي أصابَ ويصيبُ الأمة؛ قال تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 165]، (قل: هو من عند أنفسكم)؛ ضعفٌ في الإيمان، هجرٌ للقرآن، تضييعٌ لآكد أركانِ الإيمان: الصلاة، منعُ الزكاة، تراشقٌ بالتُّهَم بين المسلمين، حبُّ الدنيا، فُشوُّ المعاصي، ضعفُ الأمر بالمعروف والنَّهي عن المُنكر، تَعالُم الغِلمان، تَصدُّرُ الأقزام، تَقاطعٌ وتَدابُر، تَشاحنٌ وسوءُ ظنٍّ، إلى غير ذلك من الأجواء التي يُحيط بها مَن نوَّر الله بَصيرتَه وطَهَّر سريرته، قال تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ أَقَامُواْ الصَّلَاةَ وآتَوُاْ الزَّكَاةَ وَأَمَرُواْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأمُورِ} [الحج: 41].(/4)
العيد - عباد الله - مناسبةٌ للمراجعة الصَّادقة مع النفس؛ نتأمَّل فيها حكمةَ الله في قضائه، نتأمَّل قدرتَه وحكمَ آجاله، نتذكَّر إخوةً لنا أو أصدقاءَ أو أقرباءَ كانوا معنا في أعيادٍ مضت كانوا ملءَ السَّمع والبصر اخترمتهم المنون، فندعو لهم بالرحمة والمغفرة والرضوان.
لم يكن فرحُ المسلمين في أعيادهم فرحَ لهوٍ وَلعِب: تُقتحَم فيه المحرَّمات وتنتَهَك الأعراض وتُشرَّد فيه العقول أو تُسلَب، إنما هو فرحٌ تبقى معه المعاني الفاضلةُ التي اكتسبَها المسلمُ مِن العبادة، وليسَ كما يَظنُّ بعضُهم أنَّ غيرةَ اللهِ على حدودِه ومحارمِه في مواسمَ مُحدَّدةٍ ثُم تُستبَاح المحرَّمات.
إنَّ يومَ العيد ليسَ تمرّدًا من معنى العبوديَّة وانهماكًا في الشهوات، كلاَّ، إنَّ من يَفعل هذا لا يَتمثَّل معنى العيدِ بصفائه ونَقَائِه، بل هو في غمٍّ وحزن وخسارة؛ ذلك أنَّ يومَ العيد هو يومُ طاعة ونعمةٍ وشكر، قال تعالى: {لَئِن شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7].
عباد الله، في العيد نَسترجِع إلى ذاكرتنا معانيَ كثيرةً، وتُرسم أمام أعيُنِنا صورةُ ذلك النبي الكريم إبراهيم - عليه السلام - وهو يقود ابنه وفلِذة كبده إسماعيل لينحرَه قُربانًا لله تعالى، أيُّ امتثال عظيم؟! وأيُّ طاعة عميقة؟! وأيُّ يقينٍ ثابت ذلك الذي تَغلَّب على مشاعرِ الأبوَّة الفطريَّة وانطلق وهو ثابت الجنان غيرَ متردِّد ولا كارِه ليُنفِّذَ أمرَ الله: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات: 102]، ثمّ أيُّ استسلامٍ للقدر، وأيُّ رضًا به، ذلك الذي جعل إسماعيلَ يقول لوالده: {افْعَلْ مَا تُؤمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102].
إنَّها الطَّاعة - عباد الله - وإنَّه الإيمان في أبهى نماذجِه وأوفرِ عطائه.(/5)
إنَّ يومَ النحرِ يُعيد إلى خواطرنا هذه المواقفَ العظيمة؛ فهو يومُ الاختبار والابتلاء الذي نَجَح فيه إبراهيمُ وإسماعيل أيَّما نجاح. يؤكِّد يومُ النحر معنى التضحيةِ إثباتًا للإيمان ودليلاً على العبودية؛ فالطاعةُ دليلُها التَّضحية، والإيمان لا يُعرَفُ مداه حتَّى يُوضَع على المحكِّ؛ سنَّةَ الله في خَلْقه، ولن تَجِد لسُنَّة الله تبديلاً.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيَّاكم بما فيه من الآيات والذِّكر الحكيم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله مُدبِّرِ الأحوال، أحمده سبحانه وأشكره في الحال والمآل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تَفرَّد بالعظمة والجلال، وأشهد أنَّ سيِّدنا ونبينا محمدًا عبدُه ورسوله، أكرمه الله بأفضل الخِصال، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه ما دامت الأيام والليال.
أما بعد:
فالأضحية - عباد الله - مشروعة بكتاب الله وسنَّة رسوله وإجماع علماء المسلمين، وبها يُشارك أهلُ البُلدان حجَّاجَ البيت في بعض شعائر الحجِّ؛ فالحجاج يتقرَّبون إلى الله بذبح الهدايا، وأهلُ البُلدان يتقرَّبون إليه بذبح الضحايا، وهذا من رحمة الله بعباده، فضحُّوا - أيها المسلمون - عن أنفسكم وعن أهليكم تعبُّدًا لله تعالى وتقرُّبًا إليه واتباعًا لسنَّة رسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم.
والواحدةُ مِن الغنم تجزئ عن الرجل وأهلِ بيتِه: الأحياءِ والأموات، والسُّبع مِن البعير أو البقرة يُجزئ عما تُجزِئ عنه الواحدة مِن الغنم؛ فيجزِئ عن الرجل وأهلِ بيتِه: الأحياءِ والأموات. ومِن الخطأ أن يُضحِّيَ الإنسان عن أمواتِه من عند نفسه ويَترُك نفسَه وأهلَه الأحياء.(/6)
ولا تُجزئ الأضحيةُ إلاَّ مِن بهيمة الأنعام، وهي: الإبل والبقر والغنم: ضأنُها ومَعِزها؛ لقوله تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [الحج: 34]. ولا تُجزِئ الأضحيةُ إلاَّ بما بَلَغ السنَّ المُعتَبرَ شرعًا، وهي ستَّةُ أشهر في الضأن، وسنة في المَعز، وسَنَتان في البقر، وخمسُ سنوات في الإبل؛ فلا يضحَّى بما دون ذلك لقول النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا تَذبحوا إلاَّ مُسنَّة، إلاَّ أن يَعسُر عليكم فتَذبَحوا جَذَعةً مِن الضَّأن))؛ أخرجه مسلم. ولا تُجزِئ الأضحيةُ إلاَّ بما كان سليمًا مِن العيوب التي تمنَع مِن الإجزاء؛ فلا يُضحَّى بالعوراء البيّنِ عَوَرُها: وهي التي نتأت عينُها العوراء أو انخسفت، ولا بالعَرْجاء البيِّنِ ظَلعُها: وهي التي لا تستطيع المشيَ مع السليمة، ولا بالمريضة البيِّنِ مرضُها: وهي التي ظهرت آثارُ المرض عليها بحيثُ يَعرِف من رآها أنَّها مريضة؛ مِن جَرَب أو حمَّى أو جروح أو غيرها، ولا بالهزيلة التي لا مخَّ فيها؛ لأنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - سئل: "ماذا يُجتنب من الأضاحي؟" فأشار بيده وقال: ((العَوراءُ البيِّنُ عورُها، والمريضةُ البيِّن مرضُها، والعرجاءُ البيِّن ظلْعُها، والكسيرة التي لا تُنقِي))؛ أخرجه الترمذي والنسائي وأحمد.(/7)
ولا تَذبَحوا ضحاياكم إلاَّ بعد انتهاءِ صلاة العيد وخُطبتِها، واذبحوا ضحاياكم بأنفسكم إن أحسنتم الذبح، وقولوا: "بسم الله، والله أكبر"، وسمُّوا من هي له عند ذلك اقتداءً بالنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فإن لم تُحسِنوا الذَّبحَ فاحضروه؛ فإنَّه أفضلُ لكم وأبلغ في تعظيم الله والعناية بشعائره، قال الله تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} [الحج: 34].
ألا وصلُّوا - عباد الله - على رسول الهُدى؛ فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: {إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56].
اللَّهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللَّهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين ...(/8)
العنوان: فرسان بريطانيا ورشدي والكلاب والعجين
رقم المقالة: 967
صاحب المقالة: إبراهيم الأزرق
-----------------------------------------
كان الفارس قديماً رجلاً شهماً نبيلاً، يتحلى بجملة من مكارم الأخلاق، ويترفع عن كثير من سفاسفها، وكان الناس يعتقدون أن من أَلْزَمِ الصفات التي لا ينبغي أن تنفك عنه: الشجاعةَ، لكن يبدو أن المعايير في بريطانيا قد اختلفت منذ أزمان!
فقبل أيام قلائل قرأت خبر خَلعِ الملكة البريطانية على المرتد سلمان رشدي لقب "فارس!"، وكأني بفرسان القوم -في هذا الزمن- هم أولئك الذين يبالغون في الإجرام، ثم يجيدون الهَرَب والفرار إلى الغرب!
وليس تكريمُ رشدي فَلْتَةً من فَلَتَاتِ الدهر، فقد كرَّم القومُ غير واحد من أمثاله، وتأملْ كثيراً من الجوائز الغربية المشبوهة تجدْ نظائر هذا التكريم لكثير من المنشقين عن أصولهم، المرتمين في أحضان الغرب!! والأسماء الحاضرة كثيرة، بدءاً من (بوريس باسترناك) المنشق الشيوعي، وانتهاء بسلمان رشدي، ومروراً بشيرين عبادي، فنجيب محفوظ.
كما أن أصحاب المبادئ -الذين رفضوا أن تدخل الجوائز الغربية المشبوهة جيوبهم- كثيرون، وفي الذاكرة (برنارد شو)، والفيلسوف (جان بول سارتر)، و(سيوران)، وكذلك الدكتور سعيد الشامي، الذي رفض أن يتسلم جائزة علمية من الولايات المتحدة الأمريكية؛ رداً على مشاركة واشنطن للعدو الصهيوني في عدوانه على الشعب الفلسطيني.
ولهذا لم يكن لإبداء الدهشة والعجب من تكريم سلمان رشدي مسوغ ظاهر؛ إلاّ الجهل بمعايير الفرسان بين الغابر والحاضر، مع الغفلة عن واقع القوم، ودأبهم على تكريم المجرمين، الهاربين بما اجترحوه مغربين، وقد قيل:
إِذَا بَغَتَتْ أَشْيَاءُ قَدْ كَانَ مِثْلُهَا قَدِيماً؛ فَلاَ تَعْتَدَّهَا بَغَتَاتِ!(/1)
وسلمان ليس ببدع من أهل الجهل والهذيان والجبن، الذين يكرمهم الحاقدون على الإسلام، فما أكثر ما أحدثه مَن كان قبلَه، كابن الراوندي، ومن "هو مثله وعلى طريقته، ومسلكُه في الكفر والتستر بالمسخرة، يخرجونها في قوالب مسخرة، وقلوبهم مشحونة بالكفر والزندقة، وهذا كثير موجود فيمن يَدَّعِى الإسلام وهو منافق، يتمسخرون بالرسول، ودينه، وكتابه، وهؤلاء ممن قال الله -تعالى- فيهم: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ *لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65-66] الآية"[1].
أما الفارس! سلمان رشدي؛ فقد فَرَّ إلى بريطانيا، وأما الفارس -وفقاً للمعايير الملكية البريطانية!- ابن الراوندي؛ "فهرب، فلجأ إلى ابن لاوي اليهودي، وصنف له -في مدة مقامه عنده- كتابَه الذي سماه (الدامغ للقرآن!)، فلم يلبث بعده إلا أياماً يسيرة حتى مات، لعنه الله"[2].
إن المرء بقدر ما يَعْجَبُ من دهشةِ وحزنِ بعض المفكرين والساسة؛ ليُكْبِرُ رَدَّةَ فعل بعض عوام المسلمين، الغاضبة من تكريم الرجل الذي أساء إلى القرآن، وإلى نبي الإسلام، وأزواجِهِ، وصحابتِهِ، ويُحْمَدُ لهم ما قام في قلوبهم..
بيد أنه يعجبُ كذلك من سكوت بعض الفضلاء، من ساسةٍ، ومختصين بلجان لنصرة القرآن العظيم، والنبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- مع أن رشدي ما كُرِّم إلاّ لتجرئه عليهما، وقدحه فيهما، فعجباً! لم هذا السكوت؟!
لقد علَّق الحافظ الإمام ابن كثير على نموذج لهؤلاء، هو ابن خلكان، صاحب "وفيات الأعيان"؛ فقال رحمه الله:(/2)
"وقد ذكره ابن خلكان -يعني ابن الراوندي- في الوفيات، ودلَّسَ عليه، ولم يجرحه بشيء، ولا كأنَّ الكلبَ أكلَ له عجيناً!!! على عادته في العلماء والشعراء؛ فالشعراء يطيل تراجمهم، والعلماء يذكر لهم ترجمة يسيرة، والزنادقةُ يتركُ ذِكرَ زندقتهم!!!"[3].
والسؤال المطروح: ألم يأكل الكلبُ لنا عجيناً؟؟!
أليس حقيقاً بنا الإنكارُ، ولو في مقالة، أو رسالة، أو إدانة؟؟!
بلى والله! وما تقدموا من خير فلأنفسكم، وإلاّ فإن الله منتصرٌ لكتابه، منتصفٌ لنبيه، صلى الله عليه وسلم، فليكن لكم في هذا الانتصاف شأنٌ ولو بالكلمة!
ــــــــــــــــــــــــــــ
[1] (البداية والنهاية)، لابن كثير، 11/113.
[2] السابق.
[3] السابق.(/3)
العنوان: فروخ أحمد: شاعر الدعوة والثقافة الإسلامية
رقم المقالة: 185
صاحب المقالة: د. محمد نجم الحق الندوي
-----------------------------------------
فروخ أحمد من كبار الشعراء البنغاليين، استطاع بموهبته الشعرية أن يأخذ مكانة مرموقة في الأوساط الأدبية، وما يعتقده يكتبه في شعره ويتغنى به، ولم ينكس رأسه أمام أي قوى باطلة مهما كانت كبيرة، وعرف بغيرته بين أحبائه وأعدائه، وترك لنا ذخيرة قيمة حية يزهو بها الأدب البنغالي.
ولد شاعرنا فروخ أحمد في الأسرة الوسطى الصغيرة بـ(ماجأيل) إحدى قرى مديرية ماغورا في محافظة جسور بولاية البنغال الشرقي (بنغلاديش حاليًا) مساء يوم الخميس 10 من شهر يونيو سنة 1918م[1].
أسرته:
كان شاعرنا من أسرة نبيلة عرفت في المجتمع بالعلم والمعرفة، وكان جميع أفراده مثقفين، وجده السيد عباس علي خان كان موظفًا في إدارة التسجيل الفرعية في الحكومة البريطانية بالهند[2]، وكان أبوه السيد حاتم علي خان مفتشًا عامًا للشرطة البريطانية في الهند[3]، وكانت أمه السيدة روشن أختر امرأة مثقفة متدينة من أسرة إسلامية، توفيت أمه وهو في السادسة من عمره، وذلك في سنة 1924م[4]، فحرم من تربية أمه وحنانها، وذاق مرارة الحرمان في صغر سنه، فتربى في حجر جدته، وكانت جدته هذه حافظة لكثير من الملاحم البطولية، وكانت تسمع حفيدها قصصًا وسمرا كي ينسى ذكرى أمه.
دراسته:(/1)
تلقى شاعرنا مهارة القراءة والكتابة في حجر جدته، فكانت تسمع حفيدها قصص الأنبياء وتذكرة الأولياء وملاحم البطولة الإسلامية والسمر[5]. وقد تلقى دراسته الابتدائية الأكاديمية في كتّاب القرية، وفاز في اختبار المدرسة الابتدائية عام 1930م بدرجة جيدة[6]، وتلقى دراسته المتوسطة في مدارس شتى لوظيفة أبيه المتجولة. يتجول في مواضع مختلفة، وانتقل شاعرنا من مدرسة إلى مدرسة، ومع ذلك شارك شاعرنا أخيرًا في اختبار المرحلة المتوسطة بمدرسة محافظة خولنا الحكومية، وفاز في المرحلة المتوسطة بدرجة ممتاز سنة 1937م[7]، وحصل على شهادة الثانوية بمدرسة ريبون بكلكتا عام 1939م، ثم التحق بكلية الكنيسة الاسكوتلاندية بكلكتا في مرحلة البكالوريوس بقسم الفلسفة ولكنه ترك دراسة الفلسفة بعد بضعة أشهر، والتحق بكلية البلدية بقسم الأدب الإنجليزي[8].
وكان أبوه يرجو من ابنه الوحيد أن يكون موظفًا كبيرًا في السكرتيرية الحكومية، ولكن لم تتحقق أمنيته لنشوب الحرب الطائفية في ربوع الهند عام 1941م، واضطر شاعرنا إلى ترك الدراسة من غير أن يحصل على شهادة البكالوريوس في الأدب الإنجليزي[9]، وشغف بالشعر والثقافة والأدب.
حياته الوظيفية:(/2)
من المذكور أن شاعرنا فروخ أحمد لم يحصل على شهادة البكالوريوس، مع ذلك عمل في وظائف كثيرة، ولكن أكثرها مؤقت، أولاً كان يعمل في مكتب حكومي عاملاً بالدرجة الرابعة، ولكن تركها لغيرته ولعدم حرية النفس فيها، ثم عمل في الصحافة مساعدًا لرئيس التحرير لمجلة "محمدي" (شهرية بنغالية أدبية) عام 1945م وتركها بعد سنة، ثم عمل في شركة تجارية في محافظة (جلباني غوري) بولاية البنغال الغربي سنة 1946م، ثم غادر ولاية البنغال الغربي قاصدًا مدينة داكا بولاية البنغال الشرقي عام 1948م، واتصل بإذاعة باكستان بفرع داكا فنانًا إداريًا مؤقتًا، ثم عين رسميًا وعمل في هذا المنصب حتى توفي[10]. وكان يدير برنامجًا للأطفال "كشور مجلس" (جلسة الأطفال)، ويكتب الشعر والأغنية والغزل والسمر والمسرحية الشعرية للأطفال حسبما اقتضته الإذاعة ويذاع في إذاعة باكستان بفرع داكا[11].
حياته الأدبية:
كان أدب شاعرنا فروخ أحمد راقيًا جدًّا أجاد في الشعر خاصة، واستطاع أن يأخذ مكانة مرموقة في الأوساط الأدبية في أربعينات القرن العشرين، وفي الحقيقة أن شاعرنا شغف بالأدب والشعر في طفولته حينما كانت تسمعه جدته القصة والسمر والملاحم البطولية، ويكتب الشعر وهو طالب في المدرسة المتوسطة عام 1937م، وكتب قصيدة سونيتية "راتري" (الليل) ونشرتها مجلة (بلبل) الشهرية الأدبية[12] مطلعها:
أيها الطير استيقظ، وانهض سيصبح الليل
جاء وقت المنام حينما يذهب وقت الاستيقاظ
استيقظ واستيقظ بدون سبب وإن كان في الليل[13]
هناك عاصفة وخوف تواجهك حتى الآن
هناك فرحة وسرور في البحث عن الأسرار حتى الآن[14](/3)
وقد اشتد شغفه بالشعر والأدب لوظيفته في الإذاعة لأنه يدير البرامج الأدبية في الإذاعة، وموهبته الشعرية أيضًا توافقه حتى كتب كثيرًا من الأغاني والأشعار والقصائد والمسرحية الشعرية في موضوعات دينية واجتماعية وسياسية وإنسانية، ومن الجدير بالذكر أن موهبته الشعرية قد توجهت إلى الاشتراكية والشيوعية في باكورة حياته الأدبية وكتب كثيرًا من الأشعار والقصائد ضد الرأسماليين والمستعمرين لإيقاظ المنكوبين والمستضعفين، منها:
انظر إلى الطفل الذي يبكي
استمع إلى الناعي الذي ينعي
يحمل الأطفال المنكوبون طبقة اليأس
وهم يسهرون ليلة حزن كل يوم
لم تكتحل جفونهم طيب الكرى من زمان
ضغوط الاستبداد تحفر لهم مقابر
مدن الأغنياء ومصانع الأثرياء
وحقول المزارع في البر والبحر كلها مقابر
افتح عينك أيها البائس وخذ نصيبك[15]
ولكنه قد غير وجهة نظره واتجهت نزعته الشعرية إلى الدعوة الإسلامية ومدح الرسول صلى الله عليه وسلم وفي ترغيب الشباب إلى الجهاد في سبيل الله، وكتب كثيرًا من الأشعار والقصائد والأغاني، ونادى فيها الشباب المسلم بالدعوة إلى الجهاد في سبيل الله إيمانًا واحتسابًا، ومنها قصيدته (السونيتية):
اعلم أيها الشباب أن الموت أكثر فخرا
حينما تضحك الحياة بدماء الشهادة
فلنبدأ الحياة من جديد لا خوف فيها للروح الحرة
اعلم أن الحياة الخالدة في الجهاد ظاهرة
فلتمش في سبيلها أيها الباحث عن الروح الحرة
فاعبر التيار الجارف بالقوة والشجاعة
سوف تطلع شمس الحرية على شاطئ الجهاد[16]
وكان شاعرنا يناجي الرب عزوجل بالدعاء متضرعًا، ومن أدعيته:
إلهي إن أمنياتي ورجائي في قلبي
إلهي أرجو أن أكون مثل منار
تتغير ظلمات الأرض بوجودي
ويتنافس الجميع في اقتباس نوري[17]
إلهي أرجو أن تؤيد جميع البؤساء بحياتي
واجعل الضعيف والحزين من أحبائي
أنقذني من لوثة المعاصي
اهدني إلى الصراط المستقيم[18]
آثاره الأدبية:(/4)
لقد خلف شاعرنا فروخ أحمد آثارًا قيمة حية معظمها في الشعر، تدل على عبقريته وموهبته الشعرية، ونشرت أكثرها في أشهر المجلات الأدبية لذلك الوقت، ويجدر بالذكر من تلك المجلات الأدبية مجلة "كبيتا" (الشعر) الشهرية، مجلة "محمدي" الشهرية، مجلة "المدينة" الشهرية"، مجلة "تهذيب" الشهرية، ومجلة "أزاد" الشهرية، وأمثال ذلك من المجلات الأدبية التي كانت تنشر باللغة البنغالية في ولاية البنغال.
ومن تلك القصائد "حرر الباكستان"[19] و"ملامح سبعة بحار"[20] و"سراجًا منيرًا"[21] و"عش الطير"[22] "نوفل وحاتم الطائي"[23] و"سراجًا منيرًا"[24]، واكتسبت هذه القصائد أهمية كبرى واتخذت مكانتها في الأوساط الأدبية، وفي الحقيقة أن قصيدته "سراجًا منيرًا" تصوير للنبي صلى الله عليه وسلم في الشعر، اختار الشاعر اسمها من القرآن الكريم {سراجًا منيرًا}[25] التي وصف بها الله سبحانه عزوجل نبيه بقوله جل وعلا {سراجًا منيرًا}.
وصور شاعرنا النبي صلى الله عليه وسلم بطير النور الذي يتنور بقدومه ما حوله من الظلام، كما كانت الأرض كلها مظلمة في الجهل والضلال قبل أن يبعث الله سبحانه تبارك وتعالى نبيه إلى كافة الناس سراجًا منيرًا، وهذه القصيدة نشرت عام 1952م، ولكنها كتبت بين 1943م – 1944م ولم يتجاوز الشاعر الرابعة والعشرين من عمره، وتشتمل على 302 سطر، وتنقسم إلى (30) مقطعًا شعريًا وتغنى الشاعر بهذه الكلمات:
ذلك الطير الذي ينتظر الجميع قدومه
يقدم في جناحيه نور من لؤلؤ
تنورت السماء الزرقاء بقدومه في الشرق
يأتي الليل السعيد باختراق ظلامه[26]
ينتقض سبات النائمين العميق
ينهض الصديق، الفاروق، ذو النورين، وعلي
كل يجد الحياة من جديد[27]
وصور الشاعر النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الكلمات أيضًا:
وطلعت شمس السماء إلى الأرض بنورها
أنقذت البؤساء المنكوبين من استبداد الطغاة
طردت فرحة قتل النساء والأطفال
زلزل بطلوعها عرش كسرى آنوشيروان(/5)
انطفأت النار التي أوقدت من ألف سنة[28]
وصور الشاعر النبي صلى الله عليه وسلم هكذا:
جاء الفتح المبين برسالة الأمن والسلام
وأعلن "لا تثريب عليكم اليوم"
أسس مجتمع الأمن والسلام في الصحارى
تفتحت الوردة، وأذن بلال على سطح البيت[29]
حياته الأخيرة:
كان الشاعر فروخ أحمد يسكن في الأربعينات في كلكتا، وغادر كلكتا حينما نشبت الحرب الطائفية في ربوع الهند، وانتقل إلى مدينة دكا عام 1948م، وعمل في إذاعة باكستان بفرع داكا، وعزل من وظيفته لاتجاهاته الإسلامية بعد انفصال داكا عن باكستان عام 1971م، ولاسيما حينما كتب شاعرنا قصيدة حول مجاعة سنة 1974م ضد الحكومة الراهنة فأوقفت الحكومة معاشه، فواجه الشاعر مشكلة مالية حتى توفي في 9 أكتوبر 1974م، ولم تشع الحكومة نعيه، ولم تسمح له أن يدفن في المقبرة الحكومية، فتقدم معاصره الشاعر بينظير أحمد، ومنح موضعًا في مقبرته الشخصية بجنب زوجته لدفن الشاعر فروخ أحمد[30].
ومع أن الشاعر حصل على جائزة رئيس الدولة، وجائزة المجتمع البنغالي في سنة 1960م، وحصل على جائزة يونيسكو في الأدب عام 1965م لديوانه "عش الطير" فإنه من المؤسف أن ذلك الشعب لم يستطع أن يقدر شاعرًا كبيرًا حق تقديره. وإن حكومة بنغلاديش وإن لم تقدره في حياته لكن منحت له جائزة فبراير (أكبر جائزة بنغلاديشية في اللغة والأدب) في سنة 1975م، كما أنه حظي بجائزة الاستقلال في سنة 1980م، وجائزة المؤسسة الإسلامية في سنة 1984م بعد أن توفي إلى رحمة الله.
ـــــــــــــــــــــــ
[1] غلام محيي الدين، أوتيزير نوب ملايون، (تقدير التراث من جديد) داكا، الطبعة الثانية 1987م، ص17، أسد بن حفيظ، شيشودير كوبي فروخ، (الشاعر فروخ للصغار) داكا، الطبعة الأولى 1993م، ص16، أسد بن حفيظ، نام تار فروخ، (اسمه فروخ) داكا، الطبعة الأولى 1998م، ص11.
[2] المرجع السابق ص18.
[3] غلام محيي الدين، المرجع السابق، ص20.(/6)
[4] أسد بن حفيظ، نام تار فروخ، (اسمه فروخ) المرجع السابق، ص12.
[5] المرجع السابق، ص11، أسد بن حفيظ، الشاعر فروخ أحمد للصغار، ص20.
[6] مجلة "قلم" (شهرية أدبية بنغالية) عدد خاص عن فروخ أحمد، داكا، أكتوبر 2003م، ص20.
[7] مجلة "قلم" عدد خاص، داكا، أكتوبر 2003م، ص21.
[8] مجلة "قلم" عدد خاص، داكا، أكتوبر 2003م، ص22.
غلام محيي الدين، تقدير التراث من جديد، داكا، الطبعة الثانية، 1987م، ص19.
[9] أسد بن حفيظ، الشاعر فروخ أحمد للصغار، داكا، الطبعة الأولى، 1993م، ص22.
[10] مجلة "قلم" عدد خاص، داكا، أكتوبر 2003م، ص20-21.
[11] مجلة "قلم" عدد خاص، داكا، أكتوبر 2003م، ص22.
[12] مجلة "بلبل" (شهرية أدبية بنغالية) كانت تصدر لرئيس تحريرها حبيب الله بهار من مدينة كلكتا.
[13] مجموعة "مقالات فروخ أحمد" الناشر شمس الزمان بتحرير عبد المنان السيد، أكاديمية بنغلا، داكا، الطبعة الأولى، 1995م، ج1، ص11.
[14] مجموعة "مقالات فروخ أحمد" المرجع السابق، ج1، ص11.
[15] مجموعة "مقالات فروخ أحمد" المرجع السابق، ج1، ص67.
[16] مجموعة "مقالات فروخ أحمد" المرجع السابق، ج1، ص264.
[17] مجموعة "مقالات فروخ أحمد" المرجع السابق، ج1، ص345.
[18] مجموعة "مقالات فروخ أحمد" المرجع السابق، ج1، ص348.
[19] نشرت أولاً عام 1946م.
[20] نشرت بالطبعة الأولى سنة 1944م، وبالطبعة السابعة الأخيرة سنة 1990م.
[21] نشرت بالطبعة الأولى سنة 1952م، وبالطبعة السابعة الأخيرة سنة 1995م.
[22] نشرت بالطبعة الأولى سنة 1965م، وبالطبعة الرابعة الأخيرة سنة 1987م.
[23] نشرت بالطبعة الأولى سنة 1961م، وبالطبعة الرابعة الأخيرة سنة 1969م.
[24] نشرت بالطبعة الأولى سنة 1952م، وبالطبعة الخامسة الأخيرة سنة 1995م.
[25] القرآن الكريم، سورة الأحزاب، الآية 46.
[26] مجموعة "مقالات فروخ أحمد" المرجع السابق، ج1، ص55.(/7)
[27] مجموعة "مقالات فروخ أحمد" المرجع السابق، ج1، ص64.
[28] مجموعة "مقالات فروخ أحمد" المرجع السابق، ج1، ص96.
[29] مجموعة "مقالات فروخ أحمد" المرجع السابق، ج1، ص105.
[30] عبدالمنان السيد، فروخ أحمد: حياته وأدبه، أكاديمية بنغلا، داكا، 1993م، ص246.(/8)
العنوان: فصول في الحياة الزوجية
رقم المقالة: 906
صاحب المقالة: منى السعيد الشريف
-----------------------------------------
كثيرٌ من الأزواج يشعرون أنهم كانوا في عزوبتهم أسعدَ حالاً منهم بعد زواجهم، فضلاً عن أن كثيراً من حالات الزواج قد تبوء بالفشل، وذلك للأخطاء التي يرتكبها الزوجان قبل وبعد الزواج، كما أن الزيادةَ النامية في نسب الطلاق - ناهيك عن الخيانات الزوجية - لَتَدُلُّ بوضوحٍ على تعاظم هذه المشكلة، وحاجتِنا جميعاً - رجالاً ونساء - إلى أسس واضحة يقوم عليها بناء الحياة الزوجية .
• لا تتزوجِ امرأةً ترى أنها تُسدي إليك معروفاً بزواجها بك، واعلمْ أنك إذا فعلتَ ذلك فسوف تتحولُ حياتُكما الزوجيةُ إلى نَكَدٍ دائمٍ، وتَعْسٍ مستمرٍ. فإما أن ترضخ لزوجتك باعتبارها صاحبةَ المعروف والشريكَ الأعلى، وبذلك تفقد قِوامتك وإحساسك بالأهمية، وإما أن تطالب بحقك في القِوامة والرِّيادة والمسؤولية، وعند ذلك لن تخضع لك شريكتُك؛ لأنها ستنظر إليك - على الدوام - نظرة الشريك الأدنى، ففي كلا الحالين سوف تنشأ المشكلات، والسلامةُ ألاَّ تُقْدِمَ على مثل هذا الزواج .
• جميلٌ أن نتغابى لنكسب من نحب، وجميلٌ أن نوهم مَن أمامَنا أنه أكثر حكمةً ودِرايةً ومعرفةً. فلا يخلو شخص من نقص، ومن المستحيل على أي من الزوجين أن يجدَ كلَّ ما يريدُه في الطرف الآخر كاملاً، ولهذا على كلِّ واحد منهما تقبُّل الطرف الآخر، والتغاضي عما لا يعجبُه فيه من صفاتٍ أو طبائعَ، وكما قال الإمامُ أحمدُ بن حنبل: "تسعةُ أعشارِ حُسْنِ الخُلُقِ في التغافل!" وهو تكلُّفُ الغفلةِ مَعَ العلمِ والإدراك لما يُتَغَافَلُ عنه؛ تكرُّماً وترفعاً عن سفاسف الأمور. وقيل أيضاً: "ما استقصى كريمٌ قطُّ!"، وقيل: "كثرةُ العِتابِ تفرِّق الأحبابَ".
• لابد للزوجين من قضاء وقت طويل معاً، مع شيء من اللعب والمزاح، فالعِشرة من شأنها أن تولِّد الحبَّ.(/1)
• الابتسامة لها مفعولُ السحر في رفيق الحياة؛ فمن يضحكْ أكثر يستمتعْ أكثر بعلاقته الزوجية، ومن لا يضحكْ تصبحْ حياته فقيرةً مملةً... إن الابتسامة بهجةُ الحياة الزوجية، ترفع عن كاهل الزوجين أعباء الحياة القاسية، وهي نعمةٌ سماوية، ومفتاحٌ للسعادة الزوجية في حد ذاتها.
• العُشُّ الزوجي هو المكان الذي يدخل فيه رجلٌ وامرأةٌ بمزاجين مختلفين، ومن بيئتين متفاوتتين، ويحمل كل منهما - في ذاته - فكراً وفهماً يختلف عن الآخر، ولا يكون عُشُّهما ذهبياً حتى يملأَه كلٌّ منهما بالإحساسِّ الذهبي بوجود الآخر، والاحترام الذهبي للآخر، ويفقد العش الزوجي صفته الذهبية عندما يفكرُ كل من الزوجين بنفسه، وبسعادته دون الآخر، ويتوقعُ أن يأخذ من الآخر أكبر قدر من التنازلات. عندئذ؛ لا يتبادل الشريكان رسائلَ الحبِّ والتقدير، بل رسائل الأنانية، والانكباب على الذات، واستغلال الآخر، وبالطبع فلن تُستقبَل هذه الرسائل بودٍّ واحترام؛ لأنها لا تحمل أية معان جميلة للآخر.
• ليس من حُسنِ العِشرة أن يُكلِّف الزوجُ امرأتَه شططاً، وينهكَها - في أخذِ حقوقَه - تعباً؛ بل عليه أن يسلك هَدْياً قاصداً، ويتغاضى عن بعض حقوقه، فيقتصرَ على المهم منها، إحساناً للعشرة، وتخفيفاً على الزوجة. وكذا حال المرأة مع زوجها؛ لتستديمَ محبتَه، وتكسبَ ثقتَه ومودتَه.
• من أكبر الأخطاء التي يقع فيها البعض: أن يعامِلَ الرجلُ المرأةَ على أنها رجلٌ مثله! فالمرأة لا تأخذ الأمورَ كما يأخذها الرجل، فهو يهتم بأساسيات المشكلة، لكن المرأة تهتم بالتفاصيل، وتعطيها أهمية أكبر من لب الموضوع..
• المرأة لا تريد التعامل بالمنطق دائماً، ولا تريد أن تحاسَب بدقة على كل كلمة تتفوه بها، بل تريد أن يتغاضى الرجل عن تقلبات مزاجها، وألا يغضب من دلالها عليه، ومن بعض طلباتها غير المهمة بالنسبة له.(/2)
• ليست الزوجة فقط هي المسؤولة عن الجفاف العاطفي بين الزوجين؛ فالمرأة كثيراً ما تتعرض إلى ما يؤدي بها إلى تعكر المزاج، والقلق، والتوتر؛ كتربية الأطفال، والطَّمْثِ، وزيادةِ أو نقصِ (الهرمونات)، وعلى الزوج أن يدرك ذلك. وهو أيضاً مسؤولٌ عن هذا الجفاف العاطفي؛ عندما يصيبه الفشلُ في عملِه، فينعكس ذلك على علاقته بزوجته وأبنائه، فيحصل الشجار والمشاكل..
• على كل من الزوجين أن يتفهم غَيْرَةَ الآخر، خاصة إذا كانت في الحدود المعقولة، على ألا تصل الغيرةُ إلى الشكِّ ومحاصرة الشريك.
• لتتشاركا - أيها الزوجان - في الرأي والمشورة... وذلك لا يعني أبداً أنكَ - عزيزي الزوج - ستتنازل عن رجولتك لأنك صاحب القرار؛ بل على العكس تماماً، فالزوجة عندما تسمعك تقول لها: "تعالي يا عزيزتي! أريدُ رأيَك في شيء مهم!"؛ يكون لذلك أثرٌ قويٌّ في نفسها؛ لأن ذلك يعني أن لها مكانةً عاليةً لديك، وهذا هو ما تريده الزوجة، ولعل في موقف الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - وأمِّ المؤمنين أمِّ سلمةَ - رضي الله عنها - في صلح الحديبية أكبرَ دليل؛ فقد تأثَّرَ الصحابةُ من بعض ما جاء في الصلحِ، واحتار الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - في كيفية إزالة هذا الأثرِ عنهم، وحثِّهم على الحَلْقِ، والعودة إلى المدينة، فسأل السيدةَ أمَّ المؤمنين، فاقترحت أن يَخْرُجَ أمامَ الناس، ويحلِقَ هو أمامَهم، فإذا رأوه - وهو قدوتُهم - فَعلوا مثلَه وانتهى الأمر، وهذا ما كان فعلاً... فإذا كان رسولُ الهدى - عليه الصلاة والسلام - يستشيرُ زوجتَه في قرارٍ سياسيٍّ بالغِ الأهمية؛ فهل يمتنعُ بعضنا عن مشاورة زوجتِه في أمورٍ أقل من ذلك بكثير؟!!(/3)
• على كلٍّ من الزوجين أن يراعيَ محبةَ صاحبِه لوالديه وأقاربه، وألا يذكرَ أحداً منهم بسوء، فإن ذلك يُوغِر الصدورَ، ويَجلبُ النُّفْرَةَ بين الزوجين، وكم من زوجٍ تحدَّثَ أمامَ حليلتِه بمثالبِ أبيها وسقطاته - وهو مَن هو في جلالةِ قدْرِه عندَها - فأحدثَ ذلك في قلبها ألماً أطفأ شمعةَ السعادةِ المضيئةَ في حياتها مع زوجها، وأشدُّ من ذلك الحديثُ عن أمِّها! وإذا قيل هذا للزوجِ، وله القِوامة؛ فما بالك بحديث الزوجة عن والدي زوجها بسوء؟!!
ولسنا نُلزِم أحداً منهما بمحبةِ أقاربِ الآخرِ، فالقلوب بيد الرحمن- سبحانه - يُصَرِّفُها كيف يشاء؛ ولكنَّا نطالبُه بأن يحفظَ لصاحبه مشاعرَه، وكرامتَه وعرضَه. وأقاربُ كلٍّ من الزوجين يجب احترامُهم وتقديرهم وعدم الإساءة إليهم. أما عن علاقة الزوجين بالجيران؛ فتختلف باختلاف الجيران، فينبغي عليهما تحديدُ إطارٍ - سلفاً - لعلاقتهما بهم.
• مراعاة الاستمرارِ، والنفَسِ الطويل في العطاء، حتى وإن كان الطرف الآخر لا يبادل العطاءَ نفسه، وهنا نعود إلى قاعدة "الإخلاص والتجارة مع الله"، وهذه مجاهدةٌ يجيدُها مَن لديه إصرارٌ على نجاحه في بناءِ أسرتِه وعلاقتِه بشريكه... إن الحياة الزوجية - بمعناها الحقيقي - حياةُ عطاءٍ، فهي حياة قِوامُها واجباتٌ على كلٍّ من الزوجين يؤدِّيها قبل أن يطالِبَ بحقوقه. ومن هنا كان لِزاماً على كل من الزوجين أن يتنازل - طوعاً - عن كلِّ ما كان ينعَمُ به، من حريةٍ شخصيةٍ، واستقلالٍ قبل الزواج، وأن يضحيَ - عن طيبِ خاطرٍ - في سبيل سعادة الآخر، وأن تكون التضحيةُ شعارَ الحياةِ الزوجية المشتركة؛ فلا يشعر أحد الزوجين أنه يضحي؛ في حين يضنُّ الآخرُ بالتضحية. ومن لم يكن لديه القدرةُ على التضحية؛ فعليه أن يتنحَّى ناحيةً من الجبل، وينعزلَ عن الناس، وألا يطرقَ بابَ الزواج!!(/4)
العنوان: فصول في الصيام والتراويح والزكاة
رقم المقالة: 1162
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مقدمة:
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلّم، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً .
أما بعد : فإنه بمناسبة حلول شهر رمضان المبارك فإننا نقدم إلى إخواننا المسلمين الفصول التالية سائلين الله تعالى أن يجعل عملنا خالصاً لله موافقاً لشريعته نافعاً لخلقه إنه جواد كريم
الفصل الأول : في حكم الصيام(/1)
صيام رمضان فريضة ثابتة بكتاب الله تعالى وسُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلّم، وإجماع المسلمين؛ قال الله - تعالى - : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [البقرة:183- 185].
وقال النبي صلى الله عليه وسلّم : (( بُني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان )) ؛ متفق عليه . وفي رواية لمسلم : ( وصوم رمضان، وحج البيت ) .
وأجمع المسلمون على فريضة صوم رمضان، فمن أنكر فريضة صوم رمضان فهو مرتد كافر، يُستتاب فإن تاب وأقر بفريضته فذاك وإلا قُتِل كافراً .
وفُرض صومُ رمضان في السنة الثانية من الهجرة، فصام رسول الله صلى الله عليه وسلّم، تسع رمضانات، والصوم فريضة على كل مسلم بالغ عاقل .(/2)
فلا يجب الصوم على الكافر، ولا يُقبَل منه حتى يُسلِم، ولا يجب الصوم على الصغير حتى يبلغ، ويحصل بلوغه بتمام خمس عشرة سنة، أو نبات عانته، أو نزول المني منه بالاحتلام أو غيره، وتزيد الأنثى بالحيض، فمتى حصل للصغير أحد هذه الأشياء فقد بلغ لكن يؤمر الصغير بالصوم إذا أطاق بلا ضرر عليه ليعتاده ويألفه . ولا يجب الصوم على فاقد العقل بجنون أو تغير دماغ أو نحوه، وعلى هذا فإذا كان الإنسان كبيراً يهذي ولا يميز فلا صيام عليه ولا إطعام .
الفصل الثاني : في حِكَم الصيام وفوائده
من أسماء الله تعالى : " الحكيم " والحكيم مَن اتَّصف بالحكمة، والحكمة : إتقان الأمور ووضعها في مواضعها، ومقتضى هذا الاسم من أسمائه تعالى أن كل ما خلقه الله تعالى أو شرعه فهو لحكمة بالغة علمها من علمها وجهلها من جهلها .
وللصيام الذي شرعه الله وفرضه على عباده حِكَمٌ عظيمة وفوائد جمَّة :
• فمن حِكَم الصيام : أنه عبادة يَتَقَرَّب بها العبد إلى ربه بترك محبوباته المجبول على محبَّتها من طعام وشراب ونكاح، لينال بذلك رضا ربه والفوز بدار كرامته، فيتبين بذلك إيثاره لمحبوبات ربه على محبوبات نفسه وللدار الآخرة على الدنيا .(/3)
• ومن حكم الصيام : أنه سبب للتقوى إذا قام الصائم بواجب صيامه، قال الله تعالى : { يأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } . فالصائم مأمور بتقوى الله - عز وجل - وهي امتثال أمره، واجتناب نهيه، وذلك هو المقصود الأعظم بالصيام، وليس المقصود تعذيب الصائم بترك الأكل والشرب والنكاح؛ قال النبي صلى الله عليه وسلّم : ( مَن لم يَدَعْ قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يَدَعَ طعامه وشرابه ) . رواه البخاري، قول الزور : كل مُحَرَّم من الكذب والغيبة والشتم، وغيرها من الأعمال المحرَّمة . والعمل بالزور : العمل بكل فعل مُحَرَّم من العدوان على الناس، بخيانة، وغش، وضرب الأبدان، وأخذ الأموال، ونحوها، ويدخل فيه الاستماع إلى ما يحرم الاستماع إليه من الأغاني المحرَّمة، والمعازف : وهي آلات اللهو . والجهل : هو السفه، وهو مجانبة الرشد في القول والعمل، فإذا تمشَّى الصائم بمقتضى هذه الآية والحديث كان الصيام تربية نفسه، وتهذيب أخلاقه، واستقامة سلوكه، ولم يخرج شهر رمضان إلا وقد تأثَّر تأثُّراً بالغاً يظهر في نفسه وأخلاقه وسلوكه .
• ومن حِكَم الصيام : أن الغني يعرف قدر نعمة الله عليه بالغِنى حيث إن الله - تعالى - قد يسَّر له الحصول على ما يشتهي، من طعام، وشراب، ونكاح مما أباح الله شرعاً، ويسَّره له قدراً، فيشكر ربه على هذه النعمة، ويذكر أخاه الفقير الذي لا يتيسر له الحصول على ذلك، فيجود عليه بالصدقة والإحسان .
• ومن حِكَم الصيام : التمرُّن على ضبط النفس والسيطرة عليها حتى يتمكَّن من قيادتها لما فيه خيرها وسعادتها في الدنيا والآخرة، ويبتعد عن أن يكون إنساناً بهيميًّا لا يتمكن من منع نفسه عن لذَّتها وشهواتها، لما فيه مصلحتها .(/4)
• ومن حِكَم الصيام : ما يحصل من الفوائد الصحيَّة الناتجة عن تقليل الطعام وإراحة الجهاز الهضمي فترة معيَّنة وترسُّب بعض الفضلات والرطوبات الضارة بالجسم وغير ذلك .
الفصل الثالث : في حُكم صيام المريض والمسافر
قال الله تعالى : { وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } [البقرة:184].
والمريض على قسمين :
أحدهما : مَن كان مرضه لازماً مستمرًّا لا يرجى زواله كالسرطان فلا يلزمه الصوم؛ لأنه ليس له حال يُرجى فيها أن يقدر عليه، ولكن يُطعِم عن صيام كل يوم مسكيناً، إما بأن يجمع مساكين بعدد الأيام فيعشِّيهم أو يُغديهم كما كان أنس بن مالك - رضي الله عنه - يفعله حين كبر، وإما بأن يفرق طعاماً على مساكين بعدد الأيام لكل مسكين ربع صاع نبوي، أي مايزن نصف كيلو وعشرة غرامات من البُر الجيِّد، ويحسن أن يجعل معه ما يأدمه من لحم أو دهن، ومثل ذلك الكبير العاجز عن الصوم، فيطعم عن كل يوم مسكيناً .
الثاني : مَن كان مرضه طارئاً غير ميؤوس من زواله كالحُمَّى وشبهها وله ثلاث حالات :
الحال الأولى : أن لا يشق عليه الصوم ولا يضره فيجب عليه الصوم؛ لأنه لا عذر له .
الحال الثانية : أن يشق عليه الصوم ولا يضره فيكره له الصوم لِمَا فيه من العدول عن رخصة الله تعالى مع الإشقاق على نفسه .(/5)
الحال الثالثة : أن يضره الصوم فيحرم عليه أن يصوم لِمَا فيه من جلب الضرر على نفسه، وقد قال - تعالى -: { وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً } . وقال : { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } . وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : (( لا ضَرَرَ ولا ضِرَارَ )) أخرجه ابن ماجه، والحاكم، قال النووي : وله طرق يقوي بعضها بعضاً، ويعرف ضرر الصوم على المريض إما بإحساسه بالضرر بنفسه، وإما بخبر طبيب موثوق به . ومتى أفطر المريض في هذا القسم فإنه يقضي عدد الأيام التي أفطرها إذا عوفي، فإن مات قبل معافاته سقط عنه لقضاء المريض؛ لأن فرضه أن يصوم عدة من أيام أُخر ولم يدركها .
والمسافر على قسمين :
أحدهما : مَن يقصد بسفره التحيل على الفطر، فلا يجوز له الفطر؛ لأن التحيل على فرائض الله لا يسقطها .
الثاني : مَن لا يقصد ذلك فله ثلاث حالات :
الحال الأولى : أن يشق عليه الصوم مشقة شديدة فيحرم عليه أن يصوم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلّم (( كان في غزوة الفتح صائماً فبلغه أن الناس قد شقَّ عليهم الصيام، وأنهم ينظرون فيما فعل فدعا بقدح من ماء بعد العصر فشربه، والناس ينظرون، فقيل له : إن بعض الناس قد صاموا، فقال : أولئك العُصاة، أولئك العُصاة)) ؛ رواه مسلم .
الحال الثانية : أن يشق عليه الصوم مشقة غير شديدة فيكره له الصوم لِما فيه من العدول عن رخصة الله - تعالى - مع الإشقاق على نفسه .
الحال الثالثة : أن لا يشق عليه الصوم فيفعل الأيسر عليه من الصوم والفطر، لقوله - تعالى - : { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } . والإرادة هنا بمعنى المحبة، فإن تساويا فالصوم أفضل؛ لأنه فِعْل النبي صلى الله عليه وسلّم .(/6)
كما في صحيح مسلم عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال : " خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلّم في رمضان في حر شديد حتى إن كان أحدنا ليضع يده على رأسه من شدة الحر وما فينا صائم إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعبدالله بن رواحة " .
والمسافر على سفر من حين يخرج من بلده حتى يرجع إليها، ولو أقام في البلد التي سافر إليها مدة فهو على سفر مادام على نيَّة أنه لن يقيم فيها بعد انتهاء غرضه الذي سافر إليها من أجله، فيترخص برخص السفر، ولو طالت مدة إقامته لأنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلّم تحديد مدة ينقطع بها السفر، والأصل بقاء السفر وثبوت أحكامه حتى يقوم دليل على انقطاعه وانتفاء أحكامه .
ولا فرق في السفر الذي يترخّص فيه بين السفر العارض كحج وعمرة وزيارة قريب وتجارة ونحوه، وبين السفر المستمر كسفر أصحاب سيارات الأجرة ( التكاسي ) أو غيرها من السيارات الكبيرة فإنهم متى خرجوا من بلدهم فهم مسافرون يجوز لهم ما يجوز للمسافرين الآخرين من الفطر في رمضان وقصر الصلاة الرباعية إلى ركعتين، والجمع عند الحاجة إليه بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، والفطر أفضل لهم من الصيام، إذا كان أسهل لهم ويقضونه في أيام الشتاء، لأن أصحاب هذه السيارات لهم بلد ينتمون إليها، فمتى كانوا في بلدهم فهم مقيمون، لهم ما للمقيمين وعليهم ما عليهم، ومتى سافروا فهم مسافرون، لهم ما للمسافرين وعليهم ما على المسافرين .
الفصل الرابع : في مفسدات الصوم وهي المفطرات
مفسدات الصوم سبعة :
أحدها : الجماع، وهو إيلاج الذكر في الفرج، فمتى جامع الصائم فسد صومه، ثم إن كان في نهار رمضان والصوم واجب عليه لزمته الكفَّارة المغلَّظة لفُحش فعله، وهي عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً، فإن كان الصوم غير واجب عليه كالمسافر يجامع زوجته وهو صائم فعليه القضاء دون الكفَّارة .(/7)
الثاني : إنزال المني بمباشرة أو تقبيل أو ضم أو نحوها، فإن قبَّل ولم ينزل فلا شيء عليه .
الثالث : الأكل والشرب، وهو إيصال الطعام أو الشراب إلى الجوف سواء كان عن طريق الفم أو عن طريق الأنف، أيًّا كان نوع المطعوم، أو المشروب، ولا يجوز للصائم أن يستنشق دخان البخور بحيث يصل إلى جوفه؛ لأن الدخان جرم، وأما شم الروائح الطيبة فلا بأس به .
الرابع : ما كان بمعنى الأكل أو الشرب، مثل الإبر المغذية التي يستغنى بها عن الأكل والشرب، فأما غير المغذية فلا تفطر سواء كانت عن طريق العرق أو العضل .
الخامس : إخراج الدم بالحجامة وعلى قياسه إخراجه بالفصد، ونحوه مما يؤثِّر على البدن كتأثير الحجامة، فأما إخراج الدم اليسير للفحص ونحوه، فلا يفطر لأنه لا يؤثِّر، على البدن من الضعف تأثير الحجامة .
السادس : التقيؤ عمداً، وهو إخراج ما في المعدة من طعام أو شراب .
السابع : خروج دم الحيض والنفاس .
وهذه المفسدات لا تفطر الصائم إلا بثلاثة شروط :
أحدها : أن يكون عالماً بالحكم وعالماً بالوقت .
الثاني : أن يكون ذاكراً .
الثالث : أن يكون مختاراً .
فلو احتجم يظن أن الحجامة لا تفطر فصومه صحيح لأنه جاهل بالحكم، وقد قال الله تعالى : { وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ } . وقال - تعالى - : { رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَآ إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا } . فقال الله : " قد فعلت " ، وفي الصحيحين عن عدي بن حاتم رضي الله عنه أنه جعل عقالين أسود وأبيض تحت وسادته فجعل يأكل وينظر إليهما فلمَّا تبيَّن أحدهما من الآخر، أمسك عن الأكل يظن أن ذلك معنى قوله تعالى : { حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ } .
ثم أخبر النبي صلى الله عليه وسلّم، فقال له صلى الله عليه وسلّم : (( إنَّما ذلك بياضُ النهار وسوادُ الليل) ) ، ولم يأمره بالإعادة .(/8)
ولو أكل يظن أن الفجر لم يطلع أو أن الشمس قد غربت ثم تبيَّن خلاف ظنه فصومه صحيح؛ لأنه جاهل بالوقت، وفي صحيح البخاري عن أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنهما - قالت : ( أفطرنا في عهد النبي صلى الله عليه وسلّم، في يوم غيم ثم طلعت الشمس ) . ولو كان القضاء واجباً لبيَّنه صلى الله عليه وسلّم؛ لأن الله أكمل به الدين، ولو بيَّنه صلى الله عليه وسلّم لنقله الصحابة؛ لأن الله تكفَّل بحفظ الدين، فلما لم ينقله الصحابة علمنا أنه ليس بواجب، ولأنه مما توفر الدواعي على نقله لأهميته، فلا يمكن إغفاله، ولو أكل ناسياً أنه صائم لم يفطر، لقول النبي صلى الله عليه وسلّم : (( مَن نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه )) . متفق عليه . ولو أكره على الأكل، أو تمضمض فتهرَّب الماء إلى بطنه أو قطر في عينه، فتهرَّب القطور إلى جوفه، أو احتلم فأنزل منيًّا فصومه صحيح في ذلك كله لأنه بغير اختياره .
ولا يفطر الصائم بالسواك بل هو سُنَّة له ولغيره في كل وقت في أول النهار وآخره، ويجوز للصائم أن يفعل ما يخفف عنه شدة الحر والعطش كالتبرد بالماء ونحوه، فإن النبي صلى الله عليه وسلّم (( كان يصب الماء على رأسه وهو صائم من العطش )) . وبَلَّ ابن عمر - رضي الله عنهما - ثوباً فألقاه على نفسه وهو صائم، وهذا من اليُسر الذي كان الله يريده بنا ولله الحمد والمِنَّة على نعمته وتيسيره .
الفصل الخامس : في التراويح(/9)
التراويح : قيام الليل جماعة في رمضان، ووقتها من بعد العشاء إلى طلوع الفجر، وقد رغَّب النبي صلى الله عليه وسلّم في قيام رمضان حيث قال : (( من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) ) . وفي صحيح البخاري عن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي صلى الله عليه وسلّم قام ذات ليلة في المسجد فصلى بصلاته ناس، ثم صلى من القابلة فكثر الناس ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة فلم يخرج إليهم، فلمَّا أصبح قال : ( ( قد رأيت ما صنعتم فلم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تُفرَض عليكم )) . وذلك في رمضان .
والسُّنَّة أن يقتصر على إحدى عشرة ركعة، يسلِّم من كل ركعتين؛ لأن عائشة رضي الله عنها سئلت كيف كانت صلاة النبي صلى الله عليه وسلّم في رمضان ؟ فقالت : (( ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة )) متفق عليه . وفي الموطأ عن محمد بن يوسف - وهو ثقة ثبت - عن السائب بن يزيد - وهو صحابي - أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمر أُبي بن كعب وتميماً الداري أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة .
وإن زاد على إحدى عشرة ركعة فلا حرج؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلّم سُئِل عن قيام الليل فقال : ( مثنى مثنى فإذا خشي أحدكم الصبح صلَّى ركعة واحدة توتر له ما قد صلَّى ) أخرجاه في الصحيحين، لكن المحافظة على العدد الذي جاءت به السُّنَّة مع التأنِّي والتطويل الذي لا يشق على الناس أفضل وأكمل .
وأما ما يفعل بعض الناس من الإسراع المفرط فإنه خلاف المشروع، فإن أدَّى إلى الإخلال بواجب أو ركن كان مبطلاً للصلاة .
وكثير من الأئمة : لا يتأنَّى في صلاة التراويح وهذا خطأ منهم، فإن الإمام لا يصلي لنفسه فقط، وإنما يصلي لنفسه ولغيره، فهو كالولي يجب عليه فعل الأصلح، وقد ذكر أهل العلم أنه يكره للإمام أن يسرع سرعة تمنع المأمومين فعل ما يجب .(/10)
وينبغي للناس أن يحرصوا على إقامة هذه التراويح، وأن لا يضيِّعوها بالذهاب من مسجد إلى مسجد، فإن مَن قام مع الإمام حتى ينصرف كُتب له قيام ليلة وإن نام بعد على فراشه .
ولا بأس بحضور النساء صلاة التراويح إذا أمنت الفتنة، بشرط أن يخرجن محتشمات غير متبرجات بزينة ولا متطيبات .
الفصل السادس : في الزكاة وفوائدها
الزكاة فريضة من فرائض الإسلام، وهي أحد أركانه وأهمها بعد الشهادتين والصلاة، وقد دلَّ على وجوبها كتاب الله - تعالى - وسُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلّم، وإجماع المسلمين، فمن أنكر وجوبها فهو كافر مرتد عن الإسلام يستتاب، فإن تاب وإلا قُتِل، ومن بخل بها أو انتقص منها شيئاً فهو من الظالمين، المستحقين لعقوبة الله - تعالى - قال الله - تعالى : { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَآ ءَاتَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَمَةِ وَللَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَتِ وَالاَْرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } . وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( مَن آتاه الله مالاً فلم يؤدِّ زكاته مُثِّلَ له يوم القيامة شجاعاً أقرع له زَبيبتان يُطوقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه - يعني شدقيه - يقول : أنا مَالُكَ أنا كنزُك ) . الشجاع : ذَكَرُ الحيَّات، والأقرع : الذي تمعط فروة رأسه لكثرة سُمِّه، وقال تعالى : { وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِى نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ } . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله(/11)
عليه وسلّم قال : ( ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدِّي منها حقَّها إلا إذا كان يوم القيامة صُفِّحت له صفائح من نار فأحمي عليها في نار جهنم فيكوى بها جنبهُ وجبينه وظهرهُ كلما بردت أُعيدت في يوم كان مقدارهُ خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد ) .
وللزكاة فوائد دينية وخلقية واجتماعية كثيرة، نذكر منها ما يأتي :
فمن فوائدها الدينية :
1 - أنها قيام بركن من أركان الإسلام الذي عليه مدار سعادة العبد في دنياه وأخراه .
2 - أنها تقرب العبد إلى ربه وتزيد في إيمانه، شأنها في ذلك شأن جميع الطاعات .
3 - ما يترتب على أدائها من الأجر العظيم، قال الله - تعالى -: { يَمْحَقُ اللَّهُ الْرِّبَواْ وَيُرْبِى الصَّدَقَتِ } . وقال - تعالى -: { وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ } [الروم:39] . وقال النبي صلى الله عليه وسلّم : ( مَن تصدَّق بعدل تمرة - أي : ما يعادل تمرة - من كسب طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب، فإن الله يأخذها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فُلُوَّه حتى تكون مثل الجبل ) رواه البخاري ومسلم .
4 - أن الله يمحو بها الخطايا كما قال النبي صلى الله عليه وسلّم : (( والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار) ) . والمراد بالصدقة هنا الزكاة وصدقة التطوع جميعاً .
ومن فوائدها الخلقية :
1 - أنها تُلْحِق المزكي بركب الكرماء ذوي السماحة والسخاء .
2 - أن الزكاة تستوجب اتصاف المزكي بالرحمة والعطف على إخوانه المعدمين، والراحمون يرحمهم الله .
3 - أنه من المشاهد أن بذل النفع المالي والبدني للمسلمين يشرح الصدر ويبسط النفس ويوجب أن يكون الإنسان محبوباً مكرماً بحسب ما يبذل من النفع لإخوانه .(/12)
4 - أن في الزكاة تطهيراً لأخلاق باذلها من البخل والشح كما قال - تعالى -: { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } [التوبة:103] .
ومن فوائدها الاجتماعية :
1 - أن فيها دفعاً لحاجة الفقراء الذين هم السواد الأعظم في غالب البلاد .
2 - أن في الزكاة تقوية للمسلمين ورفعاً من شأنهم، ولذلك كان أحد جهات الزكاة الجهاد في سبيل الله كما سنذكره إن شاء الله تعالى .
3 - أن فيها إزالة للأحقاد والضغائن التي تكون في صدور الفقراء والمعوزين، فإن الفقراء إذا رأوا تَمَتُّع الأغنياء بالأموال وعدم انتفاعهم بشيء منها، لا بقليل ولا بكثير فربما يحملون عداوة وحقداً على الأغنياء حيث لم يراعوا لهم حقوقاً، ولم يدفعوا لهم حاجة، فإذا صرف الأغنياء لهم شيئاً من أموالهم على رأس كل حول زالت هذه الأمور وحصلت المودة والوئام .
4 - أن فيها تنمية للأموال وتكثيراً لبركتها، كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال : (( ما نقصت صدقة من مال )) . أي إن نقصت الصدقة المال عدديًّا فإنها لن تنقصه بركة وزيادة في المستقبل بل يخلف الله بدلها ويبارك له في ماله .
5 - أن له فيها توسعة وبسطاً للأموال، فإن الأموال إذا صرف منها شيء اتسعت دائرتها وانتفع بها كثير من الناس، بخلاف إذا كانت دولة بين الأغنياء لا يحصل الفقراء على شيء منها .
فهذه الفوائد كلها في الزكاة تدل على أن الزكاة أمر ضروري لإصلاح الفرد والمجتمع، وسبحان الله العليم الحكيم .(/13)
والزكاة تجب في أموال مخصوصة منها : الذهب والفضة بشرط بلوغ النصاب، وهو في الذهب أحد عشر جنيهاً سعوديًّا وثلاثة أسباع الجنيه . وفي الفضة ستة وخمسون ريالاً سعوديًّا من الفضة أو ما يعادلها من الأوراق النقدية، والواجب فيها ربع العشر، ولا فرق بين أن يكون الذهب والفضة نقوداً أم تبراً أو حليًّا، وعلى هذا فتجب الزكاة في حُليّ المرأة من الذهب والفضة إذا بلغ نصاباً، ولو كانت تلبسه أو تعيره، لعموم الأدلة الموجبة لزكاة الذهب والفضة بدون تفصيل، ولأنه وردت أحاديث خاصة تدل على وجوب الزكاة في الحُلي وإن كان يلبس، مثل ما رواه عبدالله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلّم وفي يد ابنتها مسكتان من ذهب، فقال : ( أتعطين زكاة هذا ؟ ) قالت : لا . قال : ( أَيسُرُّك أن يُسوِّرك الله بهما سوارين من نار ؟ ) فألقتهما وقالت : هما لله ورسوله . قال في " بلوغ المرام " : رواه الثلاثة وإسناده قوي، ولأنه أحوط وما كان أحوط فهو أولى .
ومن الأموال التي تجب فيها الزكاة : عروض التجارة، وهي كل ما أعد للتجارة من عقار وسيارات ومواشي وأقمشة وغيرها من أصناف المال، والواجب فيها ربع العُشر فيقومها على رأس الحول بما تساوي ويخرج ربع عشره، سواء كان أقل مما اشتراها به أم أكثر أم مساوياً . فأما ما أعدَّه لحاجته أو تأجيره من العقارات والسيارات والمعدات ونحوها فلا زكاة فيه لقول النبي صلى الله عليه وسلّم : ( ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة ) ، لكن تجب في الأجرة إذا تم حولها وفي حليّ الذهب والفضة لما سبق .
الفصل السابع : في أهل الزكاة(/14)
أهل الزكاة هم الجهات التي تصرف إليها الزكاة، وقد تولَّى الله تعالى بيانها بنفسه فقال : { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [التوبة:60] .
فهؤلاء ثمانية أصناف :
الأول : الفقراء، وهم الذين لا يجدون من كفايتهم إلا شيئاً قليلاً دون النصف، فإذا كان الإنسان لا يجد ما ينفق على نفسه وعائلته نصف سنة فهو فقير فيعطى ما يكفيه وعائلته سنة .
الثاني : المساكين، وهم الذين يجدون من كفايتهم النصف فأكثر ولكن لا يجدون ما يكفيهم سنةً كاملة فيكمل لهم نفقة السنة . . وإذا كان الرجل ليس عنده نقود ولكن عنده مورد آخر من حرفة أو راتب أو استغلال يقوم بكفايته فإنه لا يعطى من الزكاة لقول النبي صلى الله عليه وسلّم : ( لا حظَّ فيها لغني ولا لقوي مكتسب ) .
الثالث : العاملون عليها، وهم الذين يوكلهم الحاكم العام للدولة بجبايتها من أهلها، وتصريفها إلى مستحقيها، وحفظها ونحو ذلك من الولاية عليها، فيعطون من الزكاة بقدر عملهم وإن كانوا أغنياء .
الرابع : المؤلفة قلوبهم وهم رؤساء العشائر الذين ليس في إيمانهم قوة، فيعطون من الزكاة ليقوى إيمانهم، فيكونوا دُعاة للإسلام وقدوة صالحة، وإذا كان الإنسان ضعيف الإسلام ولكنه ليس من الرؤساء المطاعين بل هو من عامة الناس فهل يعطى من الزكاة ليقوى إيمانه ؟
يرى بعض العلماء أنه يعطى لأن مصلحة الدين أعظم من مصلحة البدن، وها هو إذا كان فقيراً يعطى لغذاء بدنه، فغذاء قلبه بالإيمان أشد وأعظم نفعاً، ويرى بعض العلماء أنه لا يعطى لأن المصلحة من قوة إيمانه مصلحة فردية خاصة به .
الخامس : الرِّقاب، ويدخل فيها شراء الرقيق من الزكاة وإعتاقه ومعاونة المكاتبين وفكُّ الأسرى من المسلمين .(/15)
السادس : الغارمون، وهم المدينون إذا لم يكن لهم ما يمكن أن يوفوا منه ديونهم، فهؤلاء يعطَون ما يوفون به ديونهم قليلة كانت أم كثيرة، وإن كانوا أغنياء من جهة القوت، فإذا قدر أن هناك رجلاً له مورد يكفي لقوته وقوت عائلته، إلا أن عليه ديناً لا يستطيع وفاءه، فإنه يعطى من الزكاة ما يوفي به دينه، ولا يجوز أن يسقط الدين عن مدينه الفقير وينويه من الزكاة .
واختلف العلماء فيما إذا كان المدين والداً أو ولداً، فهل يعطى من الزكاة لوفاء دينه، والصحيح الجواز .
ويجوز لصاحب الزكاة أن يذهب إلى صاحب الحق ويعطيه حقَّه وإن لم يعلم المدين بذلك، إذا كان صاحب الزكاة يعرف أن المدين لا يستطيع الوفاء .
السابع : في سبيل الله، وهو الجهاد في سبيل الله فيعطَى المجاهدون من الزكاة ما يكفيهم لجهادهم، ويشترى من الزكاة آلات للجهاد في سبيل الله .
ومن سبيل الله العلم الشرعي، فيعطى طالب العلم الشرعي ما يتمكن به من طلب العلم من الكُتُب وغيرها، إلا أن يكون له مال يمكنه من تحصيل ذلك به .
الثامن : ابن السبيل، وهو المسافر الذي انقطع به السفر فيعطى من الزكاة ما يوصله لبلده .
فهؤلاء هم أهل الزكاة الذين ذكرهم الله - تعالى - في كتابه وأخبر بأن ذلك فريضة منه صادرة عن علم وحكمة والله عليم حكيم .
ولا يجوز صرفها في غيرها كبناء المساجد، وإصلاح الطرق، لأن الله ذكر مستحقيها على سبيل الحصر، والحصر يفيد نفي الحكم عن غير المحصور فيه .
وإذا تأملنا هذه الجهات عرفنا أن منهم مَن يحتاج إلى الزكاة بنفسه ومنهم من يحتاج المسلمون إليه، وبهذا نعرف مدى الحكمة في إيجاب الزكاة، وأن الحكمة منه بناء مجتمع صالح متكامل متكافأ بقدر الإمكان، وأن الإسلام لم يهمل الأموال ولا المصالح التي يمكن أن تبنى على المال، ولم يترك للنفوس الجشعةِ الشحيحةِ الحريةَ في شُحِّها وهواها، بل هو أعظم موجِّهٍ للخير ومصلح للأُمم، والحمد لله رب العالمين .(/16)
الفصل الثامن: في زكاة الفطر
زكاة الفطر فريضة فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلّم، عند الفطر من رمضان . قال عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما -: " فرض رسول الله صلى الله عليه وسلّم الفطر من رمضان على العبد والحر والذَكر والأُنثى والصغير والكبير من المسلمين " متفق عليه .
وهي صاع من طعام مما يقتاته الآدميون، قال أبوسعيد الخدري - رضي الله عنه -: (( كنا نخرج يوم الفطر في عهد النبي - صلى الله عليه وسلّم - صاعاً من طعام، وكان طعامنا الشعير والزبيب والأقط والتمر) ) ؛ رواه البخاري . فلا تجزأ من الدراهم والفرش واللباس وأقوات البهائم والأمتعة وغيرها؛ لأن ذلك خلاف ما أمر به النبي - صلى الله عليه وسلّم - وقد قال النبي صلى الله عليه وسلّم : (( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) ) ، أي مردود عليه ، ومقدار الصاع كيلوان وأربعون غراماً من البُر الجيِّد، هذا هو مقدار الصاع النبوي الذي قدر به النبي صلى الله عليه وسلّم الفطرة .
ويجب إخراج الفطرة قبل صلاة العيد والأفضل إخراجها يوم العيد قبل الصلاة، وتجزأ قبله بيوم أو يومين فقط، ولا تجزأ بعد صلاة العيد؛ لحديث ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي صلى الله عليه وسلّم : (( فرض زكاة الفطر طُهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين، فمن أدَّاها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومَن أدَّاها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات) ) . رواه أبوداود وابن ماجه .
ولكن لو لم يعلم بالعيد إلا بعد الصلاة أو كان وقت إخراجها في برّ أو بلد ليس فيه مستحق أجزأ إخراجها بعد الصلاة عند تمكنه من إخراجها .
والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه .(/17)
العنوان: فضائل عشر ذي الحجَّة وبعض حِكَم الحجِّ
رقم المقالة: 1770
صاحب المقالة: الشيخ عبدالمجيد بن عبدالعزيز الدهيشي
-----------------------------------------
فضائل عشر ذي الحجَّة وبعض حِكَم الحجِّ
ملخَّص الخطبة:
1- فضل عَشْر ذي الحجَّة.
2- حكم الحجِّ وفوائده.
3- دعوة لاغتنام عَشْر ذي الحجَّة.
4- ذكر الله في عشر ذي الحجَّة.
5- مشروعية الأُضحية وشروط الأُضحية.
6- آداب المضحِّي.
• • • • •
الخطبة الأولى
أما بعد:
فإن خير الزَّاد تقوى الله تعالى، والخوف من عقابه، ورجاء ثوابه، والتَّسليم بقضائه وقَدَره، واستشعار قدرته وعظمته - جلَّ جلاله.
عباد الله:
يستقبل المؤمنون عَشْرَ ذي الحجَّة التي هي من أفضل الأيام عند الله تعالى، وللعمل الصالح فيها مزيَّةٌ عن غيرها من الأيام؛ ففي الحديث: ((ما من أيامٍ العمل الصالح فيها أحبُّ إلى الله من هذه الأيام))؛ يعني: أيام العَشْر. قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ((ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيءٍ))؛ البخاريُّ.
ومن أجلِّ الأعمال الصالحة التي تُشْرَع في هذه العَشْر: أداء مناسك الحجِّ الذي أوجبه الله تعالى على كلِّ مسلم قادر، تحقَّقت فيه شروط وجوبه.
والحج أحد أركان الإسلام، شرعه الله تعالى وأوجبه لما فيه من خير العباد ومصلحتهم، ومَنْ تأمَّل في شعائر الحجِّ وحِكَمه التي يشتمل عليها - رأى الحِكَم الباهرة، والعِظات البالغة، والمقاصد النافعة للفرد والمجتمع.(/1)
ففي الحجِّ يجتمع المسلمون على اختلاف شعوبهم وطبقاتهم وتنوُّع بلدانهم ولغاتهم، فتتوحَّد وجهاتهم وأفعالهم في زمانٍ واحد ومكان محدَّد، لا يتميَّز فيه قومٌ عن قومٍ: {ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة: 199]، فتلتقي القلوب، وتزداد المحبَّة، ويوجد الائتلاف، ولو استُغِلَّ هذا الجَمْع في تحقيق المقاصد العظيمة من مشروعية الحجِّ؛ لرأى المسلمون عجبًا.
ومن حِكَم الحجِّ وفوائده التي تظهر للمتأمِّل: تذكُّر الدَّار الآخِرة، فالحاجُّ يغادر أوطانه التي أَلِفَها ونشأ في ربوعها، وكذا الميِّت إذا انقضى أجله غادر هذه الدنيا، والميِّت يجرَّد من ثيابه، وكذا الحاجُّ يتجرَّد من المَخِيط طاعةً لله تعالى، والميِّت يغسَّل بعد وفاته، وكذا الحاجُّ يتنظَّف ويغتسل عند ميقاته، والميِّت يكفَّن في لفائفَ بيضاء هي لباسه في دار البرزخ، والحاج يلبس رداءً وإزارًا أبيضَيْن لمناسكه، وفي صعيد عرفات والمِشْعر الحرام يجتمع الحجيج، وفي يوم القيامة يُبعَث الناس ويُساقون إلى الموقِف: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبّ الْعَالَمِينَ} [المطففين: 6]، إلى غير ذلك من الحِكَم والمقاصد والعِبر التي تَعِظ وتذكِّر.(/2)
أما عن عشر ذي الحجَّة؛ هذه الأيام الفاضلة والموسم المبارك والأوقات الثمينة - فإنَّ العاقل الحصيف يدرك أن المواسم قلَّما تتكرَّر، وأنَّ للموسم فرصته التي قد تفوت على البطَّالين وأهل الكسل، أرأيتم يا عباد الله لو أن صاحب محلٍّ تجاريٍّ يبيع الملابس الجديدة، وإذا قَرُبَ العيد أغلق محلَّه وتفرَّغ للبِرِّ والسَّفر، ماذا سيقول عنه الناس؟! ولو أنَّ صاحب مكتبة أدوات مدرسية يغلق متجره قُبَيْل ابتداء العام الدراسي بأيام، ولا يعود إلى افتتاحه إلا بعد بدء الدراسة بأسابيع، ماذا سيقول عنه الناس؟! وهل هو أَهْلٌ للتجارة والمكاسب في عرف التجَّار؟ ومثله لو أن صاحب مطعم لا يفتح مطعمه إلا وقت العصر ويغلقه قبل الليل، وقِسْ على ذلك سائر المِهَن والتخصُّصات؛ فلكلِّ بضاعةٍ موسمٌ لا يفوت؛ بل إن غالب التجار إنما يستفيد ويربح من أيام المواسم.(/3)
هذا في أمور الدنيا وحطامها الزائل ومتاعها القليل، الذي سرعان ما يزول ويتحوَّل، ويكفي من الدنيا القليل، فمُلْكُ كِسْرى تغني عنه كَسْرَة؛ بل الرابح في دنياه مَنْ غادرها خفيف المحمل قليل ذات اليد، أما المقرُّ الدَّائم والمُستَقَرُّ الذي لا يتغيَّر فهنالك: {يَوْمَ تَأْتِى كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} [النحل: 111]، {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا} [آل عمران: 30]، |{يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْء مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} [النبأ: 40]، وكم هي جميلةٌ وصية مؤمنِ آل فرعون لقومه حين وعظهم قائلًا - كما ورد في القرآن الكريم -: {يا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحياةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ * مَنْ عَمِلَ سَيّئَةً فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} [غافر: 39-40].
فهنيئًا ثم هنيئًا لمَنْ عزم على استغلال عَشْر ذي الحجَّة بالعمل الصالح وتحرِّي الخير، والإكثار من الذِّكْر والدُّعاء، وأداء القُرُبات المشروعة؛ رجاء أن يكون من المرحومين المنافِسين في الخيرات: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِى ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطفِّفين: 22-26].
عباد الله:(/4)
في هذه العَشْر تُشْرَع أنواعٌ من العبادات الخاصَّة والمطلَقة، ففي هذه العَشْر يستحبُّ الإكثار من ذِكْر الله تعالى والتَّكبير والتَّحميد والتَّهليل؛ فربُّنا - سبحانه وتعالى - يقول: {وَيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ} [الحج: 28]، وقد فُسِّرَت بأنها أيام عَشْر ذي الحجَّة، وقد استحبَّ العلماء كثرة الذِّكْر في هذه العَشْر؛ فقد كان ابن عمر يخرج إلى السوق في العَشْر فيكبِّر ويكبر الناس بتكبيره، فيستحبُّ رَفْع الصَّوْت بالتَّكبير في الأسواق والدُّور والطُّرُق وغيرها، إعلانًا بحمد الله، وشكرًا على نِعَمِه: {وَلِتُكَبّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 185]، ومما يستحبُّ دومًا صيام النوافل والصَّدَقة وتلاوة القرآن، وفي مثل هذا الموسم المبارك يزداد فضلها وتتأكَّد مشروعيَّتها، والعمل الصالح في هذه العشر خيرٌ وأفضل من كثير من الأعمال العظيمة، حتى الجهاد في سبيل الله، حين يبذل المسلم دمه في سبيل ربِّه، فيُقتَل ويتعرض للجراحات والآلام، ويقف في تلك المواقف التي لا يتصدَّى لها إلا الأفذاذ من الرجال، ومع هذا فإن العمل الصالح في هذه العشر يفوق الجهاد في سبيل الله، إلا لمَنْ خرج بنفسه وماله في الجهاد؛ فبذل ماله وأراق دمه وقُتِل في سبيل الله، فيا له من فضلٍ وأجرٍ لا يفوته إلا المحروم، فاللَّهم لا تحرمنا فضلك، ولا تؤاخذنا بذنوبنا وخطيئاتنا، واجعلنا من عبادك الأوَّابين المُنيبين المُسابِقين إلى الجنَّات ورفيع الدَّرجات؛ إنك على كلِّ شيءٍ قدير، وبالإجابة جدير.(/5)
الثانية: ومن العبادات الجليلة التي تُعْمَل في عَشْر ذي الحجَّة ذبح الأضاحي تقرُّبًا إلى الله - عزَّ وجلَّ - لقوله سبحانه: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2]، وذبح الهدايا والأضاحي من شعائر هذا الدِّين الظاهرة، ومن العبادات المشروعة في كلِّ المِلَل؛ يقول سبحانه: {وَلِكُلّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لّيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج: 34].
قال ابن كثير - رحمه الله -: يخبر تعالى أنه لم يَزَلْ ذبح المناسك وإراقة الدماء على اسم الله مشروعًا في جميع المِلَل. ويقول سبحانه: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الحج: 36].
وذبح الأضحية مشروعٌ بإجماع العلماء، وصرَّح البعض منهم بوجوبها على القادر، وجمهور العلماء على أنها سنَّةٌ مؤكَّدةٌ يُكْرَه للقادر تَرْكُها.
وذبح الأضحية أفضل من الصَّدقة بثمنها، حتى ولو زاد عن قيمتها، وذلك لأنَّ الذَّبْح وإراقة الدم مقصودٌ؛ فهو عبادةٌ مقرونةٌ بالصلاة كما قال سبحانه: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2]، وعليه عمل النبي والمسلمين، ولو كانت الصدقة بقيمتها أفضل لعدلوا إليها.
وللأضحية شروطٌ لابدَّ من توفرها، منها السلامة من العيوب التي وردت في السنَّة، وقد بيَّن العلماء هذه العيوب مفصَّلةً، ومن شروطها: أن يكون الذَّبْح في الوقت المحدَّد له، وهو من انتهاء صلاة العيد إلى غروب شمس آخِر أيام التشريق، وهو اليوم الثالث عشر.(/6)
واعلموا أيها المؤمنون: أنه يَحْرُم على مَنْ عزم على الأُضحية الأَخْذ من شعره وأظفاره من حين دخول شهر ذي الحجَّة إلى أن يضحِّي، وذلك لقوله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إذا دخل شهر ذي الحجَّة وأراد أحدكم أن يضحِّي؛ فلا يأخذ من شَعْره ولا من ظُفُره ولا من بشرته شيئًا))؛ رواه مسلم، وهذا الحكم خاصٌّ بمَنْ سيضحِّي، أما مَنْ سيضحَّى عنه فلا يشمله هذا الحُكْم، فربُّ البيت الذي عزم على الأضحية هو الذي يحرم عليه مسُّ شَعْره أو أظفاره دون أهله وعياله.
اللهم إنَّا نسألك من فضلك، اللهم إنا نسألك فِعْل الخيرات، وتَرْك المنكرات، وحبَّ المساكين، وأن تغفر لنا وترحمنا، وإذا أردت بعبادك فتنةً فاقبضنا إليك غير مفتونين.
اللهم يسِّر للحجيج حجَّهم، وأعنَّا وإيَّاهم على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، واجعلنا جميعًا من المقبولين.(/7)
العنوان: فضح دعاة الحرية
رقم المقالة: 1847
صاحب المقالة: الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ
-----------------------------------------
فضح دعاة الحرية
ملخص الخطبة:
1- نعمة الهداية للإسلام.
2- من محاسن شريعة الإسلام وخصائصها.
3- التحذير من دعاة الحرية وكشف مقاصدهم.
4- حفظ الإسلام للضرورات الخمس.
5- كذب دعاة الحرية وتناقضهم.
6- الأحزاب الضالة سلاح أعداء الإسلام.
7- دعوة للرجوع إلى الدين.
ـــــــــــــــــــ
الخطبة الأولى
أما بعد: فيأيّها النّاس، اتّقوا الله - تعالى - حقَّ التّقوى.
عبادَ الله، يقول ربّنا - جلّ وعلا - وهو أصدق القائلين: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص: 68].
أيّها المسلم، إذِ اختارَك الله للإسلام وهداك للإسلام؛ فاحمَد اللهَ على هذه النعمة، فإنّها النعمَة العظمى، والمنّة الكبرى.
أيّها المسلمون، أتدرون ماذا قال ربُّنا لنبيّنا - صلى الله عليه وسلم - لما تفضّل عليه بهذه الشريعة الكاملةِ التامة، الشاملة لخيري الدنيا والآخرة؟! قال له: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} [الجاثية: 18 - 19].
أجَل أمّةَ الإسلام، هذا امتنانٌ على نبيِّنا - صلى الله عليه وسلم -، وتذكير له بحقِّ هذه الشريعة أن يلزمَها علمًا وعملاً، وأن لا يُصغيَ إلى أهواء الضالين والمغرضين أعداءِ الشريعة قديمًا وحديثًا، وهو خطابٌ له ولأمّته جميعًا؛ إذْ هداهم لهذا الدين أن يقبلوه عِلمًا وعملاً، وأن يعضّوا عليه بالنواجذ، وأن يحمَدوا الله على أن هداهم للإسلام {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلاَ أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف: 43]، فالحمد لله على نعمةِ الإسلام.(/1)
أمّةَ الإسلام، شريعةُ الإسلام بيَّنتْ لنا أن المنفردَ بالخلق والرزق والإحياء والإماتةِ بلا شريك هو المستحقُّ لأن تُصرَف العبادة له وحدَه دون ما سواه، فلا يستحقُّ العبادةَ مخلوقٌ مهما كان؛ نبيٌّ مقرَّبٌ ... ملَك مرسَل.
شريعةُ الإسلام بيّنت لنا أن المتصرِّف في كلّ الأحوال على أكمَل الوجوه هو الذي يجِب أن يُطاع فلا يعصَى، وأن يذكَر فلا ينسَى، وأن يُشكَر فلا يكفَر.
شريعةُ الإسلام بيَّنت لنا أن ربَّنا وخالقَنا بعث محمَّدًا - صلى الله عليه وسلم - بالهدى ودين الحق، وجعل كلامَه وفِعله وتقريره وحْيًا أوحاه إليه {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3 - 4].
شريعةُ الإسلام بيَّنت لنا أنَّ الحُكمَ والتَّحاكُم بين أمَّة الإسلام إنَّما هو لشريعة الإسلام العادِلة، المُصلحةِ الصالِحة لكلّ أمّة وجيلٍ منَ النَّاس {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَىْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى: 10].
شريعةُ الإسلام - أيّها الإخوة - بيَّنت لنا أنَّ مَنْ تمسَّك بهذه الشريعة وعمل بها بإخلاص ويقينٍ؛ فله جزاءُ الحسنى في الدنيا والآخرة {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97].
شريعةٌ نسخ الله بها كلَّ الشرائع، وجمع فيها خيرَ ما مضى من الشرائع {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 48].(/2)
شريعةُ الإسلام بيَّنت لنا فضلَ المؤمن، وأنَّ المؤمنَ أطهرُ وأنقى وأصدَق وأزكى مَن على وجهِ الأرض بهذا الدّين الذي مَنَّ اللَّهُ بِهِ عليه {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164]، {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 9 - 10].
شريعةُ الإسلام شريعةٌ شامِلة في العبادات والمعاملات والأخلاق، شريعةُ السّماحة واليُسر، شريعةُ العدلِ والإنصاف وإيتاء كلِّ ذي حقٍّ حقَّه.
شريعةٌ رفَع الله بِها الآصارَ والأغلال عنّا، تِلكم الآصار والأغلالُ التي [كانت] على مَن قَبْلَنا، {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157].
شريعةٌ كَمُلت في كلِّ أحوالها، فمَن منَّ الله عليه بِها فليعلمْ أنها النعمة العظمى من ربِّ العالمين، فالحمدُ لله ربِّ العالمين على كلّ حال.(/3)
أمّة الإسلام، يتفوَّهُ بعضُ قاصري العلمِ والمعرفة - إمّا أحيانًا من بعض أبناء المسلمين، وقد يكون مِن أعداء المسلمين - بدعوةِ الأمّة الإسلامية إلى الحرّيّة المدنيّة فيما يزعمون، ماذا يريد هؤلاء من هذه الحرّيّة المدنيّة؟ ماذا يقصدون ويهدفون مِنها؟ كلمةٌ لها احتمالات لدى أولئك، يقولون: ننادي بحرّيّةٍ في الفِكر والرّأي والدِّين، يتكلّم الإنسانُ بِما شاء متى شاء وإذا شاء، بلا وازِعٍ إيمانيٍّ ولا رادِع سلطانيّ، يقولون: كلٌّ يعبِّر عن رأيِه، وكلٌّ يُخبر عمّا في نفسِه، سواء كان ذلك موافِقًا لشرع الله، أو كان مناقِضًا لملّة الإسلام، أو كانَ هذا الرّأي رأيَ ملحِدٍ وزنديق لا يؤمن بالله واليوم الآخر، هكذا يزعُم دعاةُ الحرّيّة، ويأبَى الله على المسلمين ذلك.
فالمؤمِنون آمَنُوا بِاللَّه ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - نبيًّا رسولاً، رفعَنا الله بالإسلام، وأكرمَنا بالإسلام، فماذا بعدَ الحقِّ إلا الضّلال فأنّى يؤفكون؟ {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاواتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [آل عمران: 83]، فأهلُ الإيمان أهلُ تصديق ورضًا بالله وبشرعِه وانقيادٍ له وحَمل النّفوس على ذلك، ((لتأمرُنَّ بالمعروف، ولتنْهَوُنَّ عنِ المُنْكر، ولتأخذُنَّ على يد الظّالم، ولتأطرنَّه على الحقِّ أطرًا، أو ليوشِكنَّ الله أن يضربَ بعضكم برقابِ بعضٍ، ثمّ يلعنكم كما لعنهم))، {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة: 78 - 79].(/4)
يقولون: حرِّيةٌ في التّحكيم والقضاء، وأنَّ القولَ لجمهور النّاس وكثرةِ الناس، مهما كانت الكثرة على حقٍّ أم باطل، وذا مناقضٌ لحكم الله، {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50]، فالحكمُ لله وحدَه، والتّحاكمُ إليه وحده، هكذا المسلمون الذين رضُوا بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - نبيًّا رسولاً.
يقولون أيضًا: إنَّ المرأةَ لم تُعطَ في الإسلام حرِّيَّتَها، وما هي حرِّيَّتُها لدى أولئك؟! حريتُها أن تتحرَّر من القيودِ الشرعيّة التي أرسلتها الشّريعة إليها، تتحرَّر من عِفَّتها وصيانتِها وحشمتِها وكرامتِها، وتستبدِل الذي هو أدنى بالذي هو خير، تستبدِل الباطلَ بالحقّ، وتعتاض عن الحِشمة والكرامة والصيانة بالسّفور والتبرّج، والخروج عن منهجِ الشريعة التي كفَلت لها في أربعةَ عشرَ قرنًا هذه الفضائلَ والكرامة، وصانَتها وحفِظتها من تلاعبِ الأراذل بها، حفظت المرأةَ، وحفظت الأنسابَ، وحاطَتها بعنايةٍ عظيمة.
أيّها المسلم، هذه الشريعةُ اعتنَت بالضّرورات الخمس، فجاءت لحمايةِ الدّين والمالِ والعِرض والعقل والنّفس، وتوعّدت من تعدّى على حدودِ الله، والمسلمون يلتزمون شرع الله.
أيّها المسلم، نقول لهؤلاء: دعوى الحرّيّة دعوى باطلةٌ، إنّما هي شعار وآلة يتستَّرون من ورائِها، ونحن - المسلمين - على دين الإسلام إن شاء الله ثابِتون، وعلى تحكيمِ شرع الله ماضون. إنَّ هذه الحريةَ أداة يقولونها من غير تعقّل لمعناها، ومنهم من يقولها من بابِ ما في قلبِه من مرضِ النفاقِ والعياذ بالله.
هذه الحرّيّةُ نرى تناقضَ أربابِها، ورموزُها وحملةُ لوائِها هم الذين أذهَبوا حقيقةَ الحرّيّة فيما يتعاملون، فتعاملُهم لا يخضَع لدينٍ ولا لخلُق ولا لعُرف في حربِهم وسلمهم؛ لأنَّ هذه الحرّيّة عندما لا تتَّفق مع مصالحهم فلا اعتبار ولا ميزان لها.(/5)
نحن – المسلمين - لا ننخدِع بهذه الآراءِ، فعندنا شرعُ ربّ العالمين، عندنا كتابُ ربّنا وسنّة نبيّنا - صلى الله عليه وسلم - فيهما الكفاية والخيرُ لمن فهِمهما، واطمأنَّ إليهما، وحكَّمهما وتحاكمَ إليهما. هذه الحرّيّة الزائفةُ هي شعاراتٌ أوّلُ مَنْ جَنَى عليها ونقضَها مَن خطّطوا لها ودَعَوا إليها، والمسلم مؤمن بالله حقًّا، إنَّ اللَّه - جلّ وعلا - أمرنا أن لا يكونَ لنا خِيَرة في أمره وأمرِ رسوله؛ بل أمرُ الله وأمر رسوله نلبّي ونسمع ونطيع، {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِينًا} [الأحزاب: 36].
فاستقيموا على طاعةِ الله، واعمَلوا بشرع الله، ولا تخدعنَّكم الأفكار والآراءُ التي يدلِي بها إمّا عدوٌّ للإسلام، وإمّا جاهل به وبحقيقتِه، يقول ما يقوله الآخرون من غيرِ رويّةٍ وتعقّل في ذلك.
أسأل الله أن يثبّتنا جميعًا على الإسلام، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن نلقى الله ونحن على هذا الدين، غير مبدّلين ولا مغيّرين، إنّه وليّ ذلك والقادر عليه.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ مُحمَّدًا عبدُه ورسوله، صلَّى اللَّهُ عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: فيّأيها النّاس، اتَّقوا الله - تعالى - حقَّ التقوى.(/6)
عباد الله، دينُ الإسلام عِصمةٌ لأهله، وحامٍ لهم من كلّ سوء، متى تمسّك المسلمون بالدين فلهم العزّة والكرامة، {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139].
أمّة الإسلام، إنّما أصاب المسلمين ما أصابهم بأسبابِ تفريطِهم في دينِهم، بأسبابِ عَزْلهم دينَهم عن الحياة كلِّها. لقد نشأ في المسلمين أحزابٌ ضالّة وطوائفُ فاسدة، كلّها تحمِل شعاراتٍ تعادي الإسلام وأهلَه، استخدمهم أعداءُ الإسلام، وبذلوا كلَّ الجهود في تركيزهم، فلمَّا قضوا أغراضَهم، ودمَّروا وأفسدوا، ونالوا من الأمّة ما نالوا، وأُضعِف كيانُ الأمّة، وقلَّ تحمُّلها تسلَّط الأعداء علينا من كلِّ جانب.
إنَّ هذا التسلّط نتيجة لأولئك الذين انْخدَعوا بأعداء الإسلام، وصاروا مِطواعًا لهم في كلِّ الأحوالِ، يدبِّرونهم كيف يشاؤون، ويوجِّهونهم كيف يريدون، حتى إذا قضَوا مصالحَهم منهم تخلّوا عنهم، وكأنَّهم ما يعرفونهم؛ إذ الأعداء ليس لهم صداقةٌ دائمة، ولكنَّها المصالحُ الدّائمة على حسَب مصالحِهم وحسَب ما يستفيدون، إلا أنَّ الأمَّةَ إنِ انتبهت لأمرِها، وعادت إلى رشدها، ووحَّدت صفَّها، وجنَّبت أمَّتها هذه المبادئ والشعارات، عندما رَفَع بعض المسلمين الشعاراتِ الماركسيّة والاشتراكيّة، وأتَوْا بِها ليجعلوها عِوَضًا عن شريعةِ الإسلام، فأفسدوا العبادَ والبلاد، حلَّ بالمسلمين العقوباتُ، ذلك تقدير العزيز العليم، {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الأنفال: 53].(/7)
فالمسلمون لا ولن يكونَ لهم نصرٌ وتأييد ولا قوّة ولا منعةٌ إلا إذا عادوا إلى ربّهم، عادوا إلى شرعِ ربِّهم، فقاموا بالواجب حقَّ قيام، وحكَّموا شريعةَ الإسلام عِلمًا وعملاً، واجتمعت على ذلك القلوب، فإنَّ القلوب لا يجمعها إلا الدّين، لا يجمعها إلا دين الله الذي جمع الله به قلوبَ من مضى، ولا يزال هذا الدّين قويًّا عزيزًا متى ما وجد الأنصارَ والأعوان، {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 40 - 41].
واعلموا - رحمكم الله - أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنّ يد الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار.
وصلوا - رحمكم الله - على عبد الله ورسوله محمد كما أمركم بذلك ربّكم، قال - تعالى -: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56].
اللهم صلّ وسلّم وبارك على عبد الله ورسوله محمّد، وارضَ اللهمّ عن الخلفاء الراشدين.(/8)
العنوان: فضل الاجتماع وخطر الاختلاف
رقم المقالة: 828
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
الحمدلله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله...
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإن خير الكلام كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.(/1)
أيها الناس: أهبط الله تعالى الأبوين عليهما السلام إلى الأرض، وسخر لهما ولذريتهما ما في سمائها وبرها وبحرها {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة:29] وفي الآية الأخرى {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية:13] واستخلف سبحانه وتعالى بني آدم في الأرض، يسكنونها ويعمرونها ويحكمونها، وكل ما على الأرض من مخلوقات فهو مسخر لهم، يتصرفون فيه، ولا يتصرف هو فيهم مهما عظم حجمه، ومهما كانت قوته {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الأَرْضِ} [الأنعام:165] وفي أخرى {هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الأَرْضِ} [فاطر:39].
بل كان الاستخلاف لبني آدم في الأرض هو الغاية من خلق البشر؛ ليقيموا دين الله تعالى في الأرض؛ كما جاء ذلك منصوصا عليه في القرآن {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30].
ولما كان البشر يسكنون الأرض وهم حكامها، والمتصرفون فيها بأمر الله تعالى وحكمته؛ كان الإصلاح فيها يأتي من قبلهم، كما أن الإفساد فيها لا يكون إلا بأيديهم، وكل المخلوقات الأخرى على الأرض وإن كانت أكثر من البشر، وكثير منها أكبر منهم وأقوى؛ فإنها لا تملك إصلاحا في الأرض ولا فسادا؛ ولذلك خوطب البشر بالإصلاح، ونهوا عن الفساد، ولم يخاطب غيرهم بذلك {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا} [الأعراف:56] {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ} [محمد:22] وقال الملائكة لربهم سبحانه وتعالى لما أخبرهم باستخلاف البشر في الأرض {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة:30].(/2)
ومن سنن الله تعالى في عباده أن المصلحين والمفسدين من البشر يبقون إلى آخر الزمان، ويكونون في كل مكان، ويقع بينهم الصراع على الأرض، فالمصلحون يريدون صلاحها، والمفسدون يسعون في فسادها؛ وذلك ليتحقق الاستخلاف، وتظهر حكمة الله تعالى في ابتلاء العباد.
ومنذ أن بعث الله تعالى نبيه محمدا عليه الصلاة والسلام فإن أمته استلمت قيادة الصلاح والإصلاح في الأرض بما أُنزل عليها من الكتاب والحكمة، وبما حظيت به من شرف الإمامة والخيرية، التي من لوازمها السعي بالصلاح والإصلاح، والنهي عن الفساد والإفساد، ومعونة المصلحين، والأخذ على أيدي المفسدين {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بالله} [آل عمران:110].
ومن لوازم قيام هذه الأمة المباركة بمهمة الإصلاح في الأرض التي كُلفت بها: أن يكون أفرادها متآلفين متحابين، معتصمين بحبل الله جميعا، متواصين بالحق والعدل، متعاونين على البر والتقوى، متناهين عن الإثم والعدوان، وأيُّ شرخ بين أفرادها فإنه يُشغلهم بأنفسهم عن إصلاح غيرهم، ويعطل مهمتهم، ويسلبهم رسالتهم العظيمة، ووظيفتهم الجليلة.
إن الفرقة والاختلاف داءان وبيلان يُقعدان بالأفراد والأمم عن الإصلاح والبناء، ويمكنان للهدم والفساد، ويسببان ظلمة القلوب، وفساد الألسن، والطعن في الناس، وقد يؤديان إلى الاحتراب والتقاتل.(/3)
وما أُصيب بنو إسرائيل بالنقص والخذلان، وحاق بهم الذل والهوان، وحقت عليهم اللعنة - رغم أن النبوة كانت فيهم، وقد فضلوا على العالمين - إلا بسبب اختلافهم على أنبيائهم، واتباع أهوائهم، وأدى بهم ذلك إلى الفرقة والعداوة والبغضاء فيما بينهم، يقول الله تعالى في شأن اليهود {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ} [المائدة:64] وفي شأن النصارى قال سبحانه {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ} [المائدة:14].
لقد قص الله تعالى علينا ما وقعت فيه بنو إسرائيل من الفرقة والاختلاف والعداوة والبغضاء؛ لئلا نسير سيرتهم، ولكي نحذر مسلكهم وطريقتهم، فنعتصم بحبل الله تعالى جميعا ولا نتفرق {وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ العِلْمُ} [يونس:93] وفي الآية الأخرى {وَآَتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ العِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [الجاثية:17].
وبلغ بهم اختلافهم وفرقتهم مبلغ الشقاق والعناد والقتال؛ كما في قول الله تعالى {ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الكِتَابَ بِالحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [البقرة:176].(/4)
لقد نهانا ربنا جل جلاله أن نكون كما كانت بنو إسرائيل فرقة واختلافا وتباغضا وتناحرا؛ لئلا نضل كما ضلوا، ونزيغ كما زاغوا {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:105] وفي الآية الأخرى {وَلَا تَكُونُوا مِنَ المُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الرُّوم:32].
إنه طريق واحد هو الصراط المستقيم الذي أمرنا الله تعالى بسلوكه، وهو طريق الأنبياء كلهم، من سلكه أنجى نفسه، وسعى بالصلاح في أمته، ومن حاد عنه فقد فرَّق دينه، وأوبق نفسه، وجنى على أمته. ولما أمر الله تعالى بسلوك هذا الطريق الأوحد نهى عن الطرق الأخرى التي ينتج عنها التفرق والاختلاف {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153] وفي الآية الأخرى {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشُّورى:13].
ومع هذا التحذير العظيم من التفرق والاختلاف الذي أبدى فيه القرآن وأعاد فإن أمة الإسلام وإن كانت معصومة من الإجماع على ضلالة، فإنها ليست معصومة من التفرق والاختلاف، الذي سببه البدع والضلالات، واتباع الهوى، وتعطيل السنن، والغرور بالدنيا وزخارفها؛ ولذلك أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، وهذه الواحدة هي من سلكت سبيل المرسلين، والفرق الباقية الهالكة هي التي ابتدعت في الدين.(/5)
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: والبدعة مقرونة بالفرقة كما أن السنة مقرونة بالجماعة، فيقال: أهل السنة والجماعة كما يقال: أهل البدعة والفرقة. اهـ
وقد يبلغ التفرق بالأمة مبلغ الاحتراب والاقتتال، فيفني بعضهم بعضا، ويقتلون أنفسهم ويتركون أعداءهم؛ كما وقع ذلك في كثير من دول الإسلام وتاريخهم، ولا يزال يقع إلى يومنا هذا، وهو كما جاء في حديث ثوبان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه تبارك وتعالى أنه قال: (يا محمد، إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة، وأن لا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من بأقطارها، حتى يكون بعضهم يهلك بعضا، ويسبي بعضهم بعضا) وفي حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها) رواهما مسلم.
وإذا كان التفرق والاختلاف واقعا في الأمة لا محالة، وهو من قدر الله تعالى الذي قدره عليها، فليس معنى ذلك أن يستسلم أفراد الأمة لهذا القدر، ولا أن يحتجوا به على تفرقهم واختلافهم؛ لأن الله تعالى وإنْ قدر ذلك بحكمته فقد أمرنا سبحانه بالاجتماع، ونهانا عن الفرقة {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103] وفي أخرى {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:46] وروى أبو هريرة رضي الله عنه فقال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يرضى لكم ثلاثا..... يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله تعالى أمركم....) رواه أحمد وصححه ابن حبان.(/6)
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: والاجتماع والائتلاف من أعظم الأمور التي أوجبها الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم.... وهذا الأصل العظيم وهو الاعتصام بحبل الله جميعا وأن لا يتفرق هو من أعظم أصول الإسلام، ومما عظمت وصية الله تعالى به في كتابه، ومما عظم ذمه لمن تركه من أهل الكتاب وغيرهم، ومما عظمت به وصية النبي صلى الله عليه وسلم في مواطن عامة وخاصة. اهـ
فحري بكل مخلص لربه، متبع للسنة، ناصح للأمة: أن يسعى في كل طريق صحيح يجمع كلمة المسلمين على الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة، وأن يجتنب كل طريق يؤدي إلى الشقاق والفرقة والاختلاف، ولو سعى كل مسلم في بيان الحق، والنصح للخلق، بحسب استطاعته لتقاربت كثير من القلوب المتباعدة، ولأزيل كثير من الاختلاف والشقاق الذي يوجب العداوة والبغضاء بين الناس، وحسب كل مسلم أن يعلم أن الله تعالى قد حصر الأخوة في الإيمان فقال سبحانه {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات:10] واتباع السنة، والتجرد للحق، والبعد عن الهوى، هو سبب الاجتماع والألفة، كما أن الابتداع في الدين، والميل إلى الهوى، والغرور بالدنيا هو سبب التفرق والاختلاف.
نعوذ بالله تعالى من الهوى والردى، ونسأله الموافاة على الإيمان والسنة، آمين يا رب العالمين.
وأقول ما تسمعون وأستغفر الله تعالى لي ولكم....
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الحمد في الآخرة والأولى، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، العبد المجتبى، والنبي المصطفى، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعه واقتفى.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه {وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ} [البقرة:223].(/7)
أيها الناس: الاختلاف والتفرق في الأمة ينتج عن أحد سببين كبيرين أو كليهما، وكل ما يذكر من أسباب أخرى فلا تخرج عن أحد هذين:
أما السبب الأول: فالشبهة في الدين، وهي التي تقود إلى أنواع من البدع والضلالات، كبدع المرجئة والخوارج والقدرية والجهمية والرافضة وغيرهم.
وأما السبب الثاني: فشهوة الدنيا، وهي التي تؤدي إلى التنافس على السلطان والجاه والمال فيختلف الناس عليها، ويفترقون من أجلها، وقد يقتتلون بسببها.
وكل دول الإسلام التي سقطت في القديم والحديث إنما سقطت بهذين السببين أو أحدهما:
فدولة الخلافة الراشدة أُحدث في آخرها بدعة الخروج على السلاطين، وتبعتها بدعة الغلو في علي وآله رضي الله عنهم بسبب شبهات عرضت لأصحابها، ومنافقين روجوها على الناس، مع ما داخل القلوب من حب الدنيا، والتنافس فيها، فزالت الخلافة الراشدة بسبب ذلك.
وفي أخريات الدولة الأموية دبَّ الخلاف على الدنيا في البيت الأموي، واشتد التنافس على مناصب الخلافة فأدى ذلك إلى الفرقة التي كانت سببا في ضعف الأمويين وسقوط دولتهم.
وأما الدولة العباسية فظهرت فيها كثير من البدع والأفكار اليونانية والرومانية والفارسية على إثر ترجمة كثير من كتبهم، وفي أخرياتها تمكن أهل البدعة فيها من البلاد والعباد على يد الوزير الرافضي ابن العلقمي الذي أجمع المؤرخون على أنه من أسقط الخلافة العباسية تحت أقدام المغول، وخان من أحسنوا إليه.(/8)
وأما الخلافة العثمانية ففي أخرياتها ظهر القول بالبدعة القومية، وقد كان المسلمون قبلها يجمعهم الإسلام، ففرقهم الأعداء ببدعة الجنس والعرق، ففاخر الترك بطورانيتهم، واعتز الفرس بفارسيتهم، وقيل للعرب أن يفخروا بعروبتهم، وصار كل أهل عرق وقومية يوالون ويعادون في عرقهم حتى فُرقت الأمة شذر مذر، ووجد الأعداء من يعينهم من المسلمين في القضاء على دولتهم، فقُضي على الدولة العثمانية، ومُزقت تركتها إلى دويلات كثيرة ضعيفة أريد لها أن تزداد تفرقا إلى تفرقها بإحياء النعرات القومية والوطنية والطائفية؛ لئلا يعود للمسلمين وحدة.
وأما الأندلس التي ما بقي للإسلام فيها إلا خبر يُذكر، وأثر يُبصر، ولا دولة لهم فيها البتة؛ فإن أعظم سبب لسقوطها كان خلاف ملوكها وأمرائها على الدنيا وزينتها، حتى إن الأخ ربما تحالف مع النصارى وسلمهم ديار المسلمين؛ ليعينوه على أخيه ابن أمه وأبيه، بل إن الابن قد ينقسم عن ملك أبيه، ويعلن الخروج عليه فيعينه النصارى على ذلك لوهن الإسلام، والفت في عضد المسلمين وتمزيقهم، حتى انتهت دولتهم بسبب ذلك.
أيها الإخوة: بما سبق إيراده من نصوص الوحيين، ومن مواعظ التاريخ يُعلم أن الاجتماع خير ورحمة، وبه يقوى جانب المسلمين، وتهاب دولتهم، وتُزهر حضارتهم، ولا يظفر الأعداء منهم بشيء، وأن الفرقة شر وعذاب، وهي سبب الوهن والاضمحلال، ورفع الأمن، وحلول الخوف، وتوقف العمران، وما ظفر أعداء الإسلام قديما وحديثا بدولة فأسقطوها واحتلوها إلا بسبب الفرقة والخلاف بين أبنائها، حتى ينبري الخونة منهم لإعانة أعداء الله تعالى؛ كي يحققوا مرادهم.
فمن أدرك ذلك حق الإدراك دان لله تعالى بلزوم الجماعة، والتزام الطاعة، وحَذِر من مفارقة جماعة المسلمين، وشقِّ عصاهم، والشذوذ عنهم، وممالأة أعدائهم عليهم.
حفظ الله بلادنا وبلاد المسلمين من كل سوء ومكروه، ورد الكافرين والمنافقين والمفسدين على أعقابهم خاسرين إنه سميع قريب مجيب.(/9)
وصلوا وسلموا على نبيكم.....(/10)
العنوان: فضل الحج وعشر ذي الحجة
رقم المقالة: 1689
صاحب المقالة: الشيخ علي بن عبدالرحمن الحذيفي
-----------------------------------------
ملخَّص الخطبة:
العبادة حقّ لله تعالى وحدَه.
فضل العبادة.
فضل هذه الأمَّة.
من رحمة الله بعثة الرسل وشرع العبادات المتنوعة.
ركنيَّة الحج وفضله.
الحج آيةٌ على أن الإسلام هو الدين الحق.
الحج المبرور.
أركان الحج.
واجبات الحج.
فضل يوم النحر.
مستحبات وآداب.
فضل عشر ذي الحجة.
صوم يوم عرفة.
الخطبة الأولى
أما بعد:
فاتقوا الله أيها المسلمون، فالتقوى خيرُ زادٍ ليوم المعاد، وبها يُصلح الله أمورَ العباد، {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} [الطلاق: 4].
واعلموا - عباد الله -:
أنَّ العبادةَ حقٌّ لربِّ العالمين على المكلَّفين، وفرضٌ محتومٌ على الإنس والجن، قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].
والعبادةُ أعظمُ كرامةٍ يُكرم الله بها العابدين، ويرفع بها المتَّقين، بالعبادة تستنير القلوب، وتتهذَّب النفوس، وتتقوَّم الأخلاق، وتصُلح العقول، وتزكو الأعمال، ويرضى الربُّ جلَّ وعلا، وتُعمَر الحياة بالصلاح والإصلاح، وتُرفَع الدرجاتُ في الجنات، وتُكفَّر السيئات، وتُضاعف الحسنات.
ومن رحمة الله بنا وفضلِه علينَا أن أرسلَ إلينا أفضلَ خلقِه محمدًا، يبيِّن لنا ما يرضى به ربُّنا عنَّا من الأقوال والأعمال والاعتقاد، ويحذِّرنا مما يغضب ربَّنا علينا من الأقوال والأفعال والاعتقاد؛ قال تبارك وتعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مّنْكُمْ يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِيكُمْ وَيُعَلّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ} [البقرة: 151، 152].(/1)
ولولا أنَّ الله أرسل الرسلَ وأنزل الكتبَ؛ لكان بنو آدم أضلَّ من الأنعام، ولكنَّ الله رحم العالمين، فشرع الدينَ، وفصَّل كلَّ شيء، وأقام معالمَ الصراط المستقيم، فاهتدى السعَداء، وضلَّ على بيِّنة الأشقياء.
فمن رحمة الله وحكمته وكمال علمه: أنَّ الله تعالى شرعَ العبادةَ لإصلاح النفس البشرية، فشرع العباداتِ المتنوِّعة؛ الصلاة والزكاة والصيام والحجّ وغير ذلك؛ لتتكامل تربية الإنسان وتطهيرُه من جميع الوجوه؛ قال تبارك وتعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مّنْ حَرَجٍ وَلَاكِن يُرِيدُ لِيُطَهّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 6].
والحجُّ ركنٌ من أركان الإسلام، جمع الله فيه العبادةَ القلبية بالإخلاص وغيره، وجمعَ الله فيه العبادةَ المالية والقوليةَ والفعليةَ. والحجُّ وزمنُه تجتمع فيه شهادةُ أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، أعظمُ ركنٍ في الإسلام، وتجتمعُ فيه الصلاة وإنفاق المال، والصيام لمَنْ لم يجد الهَدْي، والأمر بالمعروف والنهيُ عن المنكر، والصبرُ، والحِلْم، والشَّفقة، والرحمة، والتعليم للخير، وجهادُ النفس ونحو ذلك مما فرضه الله عزَّ وجلَّ، ويجتمع فيه كذلك اجتنابُ المحرَّمات.(/2)
والحجُّ آيةٌ من آيات الله العظمَى، على أنَّ مَا جاءَ به محمَّد هو الدِّين الحقُّ؛ فلا تقدِر أيَّ قوةٍ في الأرض أن تجمَع الحجَّاج كلَّ عامٍ من أطراف الأرض ومن جميع أجناس البشر وطبقات المجتمعات وأصنافِ الناس بقلوبٍ مملوءة بالشوق والمحبة، يتلذَّذون بالمشقَّات في الأسفار، ويفرحون بمفارقة الأهل والأصحاب والأوطان، ويحسُّون أنَّ ساعات الحجّ أسعدُ ساعات العمر، ويعظِّمون مشاعرَ الحجّ، وينفقون الأموال للحج بسخاوة نفسٍ وطيبة قلب، فلا يقدر على ذلك إلا الله عزَّ اسمه وتباركت صفاته، وهو القائلُ لخليله إبراهيمَ - عليه الصَّلاة والسَّلام -: {وَأَذِّن فِى النَّاسِ بِالْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلّ فَجّ عَميِقٍ لّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 27-28].
ذكر المفسرون - ابنُ جرير وابن كثير وغيرهما - عن ابن عباسٍ – رضيَ الله عنهما - أنَّ الله لما أمرَ خليلَه إبراهيمَ - عليه الصَّلاة والسَّلام - أن يؤذِّن في الناس بالحجِّ قال: يا ربّ، كيف أبلِّغ الناس وصوتي لا ينفذهم؟! فقال: نادِ وعلينا البلاغ. فقام على مقامه، وقيل: على الحِجْر، وقيل: على الصفا، وقيل: على أبي قُبَيْس، وقال: يا أيها الناس، إن ربَّكم قد اتخذ بيتًا فحجُّوه. فيُقال: إن الجبالَ تواضعت حتى بلغ الصوتُ أرجاءَ الأرض، وأسمع من في الأرحام والأصلاب، وأجابَه كلُّ شيءٍ سمعه من حَجَرٍ ومَدَرٍ وشَجَر، ومَنْ كتب الله أنه يحجَّ إلى يوم القيامة[1].
لبيك اللهم لبيك ...
أيها المسلم، أخلِص النيَّةَ لله تعالى في حجِّك، واقتدِ بسيِّد المرسلين في أعمال الحجّ؛ فقد قال عليه الصَّلاة والسَّلام: ((خُذوا عنِّي مناسككم))[2]، ليكونَ حجُّك مبرورًا وسعيُك مشكورًا.(/3)
عن أبي هريرة - رضيَ الله عنه - قال: سمعتُ رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((مَنْ حجًَّ فلم يرفث ولم يفسق؛ رجع كيوم ولدته أمه))؛ رواه البخاري ومسلم[3].
وعن أبي هريرة - رضيَ الله عنه – أيضًا، أنَّ رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((العمرةُ إلى العمرةِ كفارةٌ لما بينهما، والحجُّ المبرور ليس له جزاءٌ إلا الجنة))؛ رواه البخاري ومسلم[4].
وعن عائشة - رضيَ الله عنها - قالت: قلتُ: يا رسول الله، نرى الجهادَ أفضلَ العمل، أفلا نجاهد؟! فقال: ((ولكن أفضلُ الجهاد حجٌّ مبرور))؛ رواه البخاري[5].
والحجُّ المبرور هو الذي أخلصَ صاحبُه النيَّةَ فيه لله تعالى، وأدَّى مناسكَه على هَدْي رسول الله– صلَّى الله عليه وسلَّم - واجتنبَ المعاصي وأذيَّة المسلمين، ولم يجامِع أهلَه في وقتٍ لا يحلُّ له، وحفظ لسانه من اللَّغْو والباطل، وكانت نفقتُه حلالاً، وأنفقَ في الخير بقدر ما يوفِّقه الله، فإذا جمَع الحجُّ هذه الصفاتِ كان مبرورًا مبرورًا.
وعلى الحاجِّ أن يتعلَّم ما يصحُّ به حجُّه، ويسألَ عن أحكام الحجِّ العلماءَ، ولتحرص - أيها الحاج - أشدَّ الحرص على الإتيان بأركان الحج؛ لأنه لا يصحُّ الحجُّ إلا بها؛ وهي الإحرام، والمرادُ به الدخول في النُّسُك، والوقوفُ بعرفة، وهو أعظم أركان الحج؛ لقوله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((الحجُّ عرفة))[6]، وطوافُ الإفاضة، والسعيُ على الأرجح.
وعليه أن يقومَ بواجبات الحج، لا يترك منها شيئًا، وواجباتُ الحج: الإحرامُ من الميقات المعتبَر له، والوقوف بعرفة إلى غروب الشمس، والمبيتُ بمُزْدَلِفَة، والرَّمي، والحَلْق أو التقصير، والمبيت بمِنَى، والهَدْي لمَنْ يلزمه الهدْي، وطوافُ الوداع.(/4)
ويومُ النَّحر يجتَمع فيه الرَّميُ لجمرة العقبة والنَّحر والحلق وطوافُ الإفاضة، والسعيُ لمن لم يقدِّم السعيَ في الإفراد والقِران، فإذا رمى الحاجُّ جمرةَ العقبة وقَصَّر أو حَلَقَ؛ حلَّ له كلُّ ما حرم عليه بالإحرام إلا امرأته، فإذا طافَ بالبيت وسعَى بعدَ الرمي والحَلْق حلَّ له كلُّ شيء حتى امرأته.
ويستحبُّ للحاجِّ الإكثار من أفعال الخير وكثرةُ التلبية حتى يشرعَ في رميِ جمرةِ العقبة، ويُكثر من تلاوة القرآن، ويتضرَّع بالدعاء ولاسيَّما يوم عرفة، فيدعو لنفسه وللمسلمين مما أصابهم من الكربات، يدعو للمسلمين خاصَّتهم وعامَّتهم وولاتهم وعلمائهم؛ لقول النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((خير الدعاء دعاء عرفة، وخير ما قلتُ أنا والنبيُّون قبلي يومَ عرفة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير))[7]. ويحفظُ لسانَه من الغيبة والباطل، فقد كان بعضُ السلف إذا أحرَم كأنه حيَّة صمَّاء، لا يتكلَّم إلا بخير، ولا يخوض فيما لا يعنيه. ويبتعدُ عن المشاجرات والخصومات والمجادلات. ويواظب المسلمُ على التكبير المقيَّد، ويبدأ وقتُه بعد فجر يوم عرفة إلى عصر آخِر أيام التشريق، وللحاجِّ يبدأ بعد ظهر يوم العيد إلى عصر آخِر أيَّام التشريق، وصفتُه: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
ويستحبُّ للحاجِّ وغيره المسارعةُ إلى كلِّ خير وعمل صالحٍ وبرٍّ في عَشْر ذي الحجَّة، عن ابن عباس - رضيَ الله عنهما - قال: قال رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ما من أيامٍ العمل الصالح فيها أحبُّ إلى الله من هذه الأيام))؛ يعني: أيام العشر. قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟! قال: ((ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجلٌ خرج بنفسه وماله، فلم يَرجع من ذلك بشيءٍ))؛ رواه البخاري[8].(/5)
بسم الله الرحمن الرحيم: {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاواتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 133-134].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيَّاكم بما فيه من الآيات والذِّكْر الحكيم، ونفعنا بهَدْي سيِّد المرسلين وبقوله القويم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثَّانية
الحمد لله ربِّ العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدِّين، أحمد ربِّي وأشكره على نِعَمه العظيمة وآلائه الجسيمة. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له القوي المتين، وأشهد أنَّ نبيَّنا وسيدنا محمدًا عبده ورسوله الصادق الأمين، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فاتقوا الله وأطيعوه، وعظِّموا شعائر الله ولا تعصوه.
أيها المسلمون:
إن عشرَ ذي الحجة التي ستدخلُ بعد أيام أفضلُ الأيام عند الله، سمَّاها الله تعالى في كتابه (الأيامَ المعلومات)، كما فسَّرها ابن عباس - رضي الله عنهما - فالذِّكْرُ لله فيها مستحبٌّ في المساجد والطُّرُق والمجامِع والأسواقِ والخُلُوات.
وفي هذه العَشْر يومُ عرفة، فلو فاتك - أيها المسلم - الوقوفُ بعرفة؛ فقد شرع الله لك صيامَه، عن أبي قتادة - رضيَ الله عنه - قال: سئل رسول الله عن صوم يوم عرفة، فقال: ((يكفِّر السنة الماضية والباقية))؛ رواه مسلم[9].
وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم - أنه قال: ((ما من أيَّامٍ أعظم عند الله، ولا أحبُّ إليه العمل فيهنَّ من هذه الأيام العَشْر؛ فأكثِروا فيهنَّ من التَّسبيح والتكبير والتحميد))؛ رواه أحمد[10].(/6)
وكان ابن عمر وأبو هريرة يخرجان إلى السوق ويكبِّران، فيكبِّر الناسُ بتكبيرهما؛ رواه البخاري[11].
أيها الحاجُّ، يقول الله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يا أُوْلِي الأَلْبَابِ} [البقرة: 197].
تمسَّكوا بآدَاب الإسلام المُثلى وأخلاقه العليا، واجعلوا الحجَّ توبةً لما بعده من حياتكم، وصلاحًا وتقوى لما يُستقبَل من أمركم، وندمًا على ما فات من حياتكم، واحمَدوا اللهَ تعالى واشكروه على نعمة الأمن والإيمان، وعلى ما سخَّر من أسباب الخيرات والعبادات، واحمدوه على ما أدرَّ من الأرزاق، وقضى من الحاجات، وعلى ما صرف من العقوبات والفتن والآفات.
عباد الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56]، وقد قال صلَّى الله عليه وسلَّم: ((مَنْ صلَّى عليَّ صلاةً واحدةً؛ صلَّى الله عليه بها عشرًا))[12].
فصلُّوا وسلِّموا على سيِّد الأوَّلين والآخِرين وإمام المرسلين.
اللهم صلِّ على محمَّدٍ وعلى آل محمَّد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيدٌ، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم؛ إنك حميدٌ مجيدٌ، وسلم تسليمًا كثيرًا، اللهم وارض عن الصحابة أجمعين.
---
[1] هو عند ابن جرير في تفسيره (17/ 144)، وأخرجه أيضًا الحاكم (2/388-389) وصححه، والبيهقي في سننه، وعزاه السيوطي في الدر المنثور (6/32) لابن أبي شيبة وابن منيع وابن المنذر وابن أبي حاتم.
[2] أخرجه مسلم في الحج (1297) من حديث جابر رضي الله عنهما بلفظ: ((لتأخذوا مناسككم، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه)).(/7)
[3] أخرجه البخاري في الحج (1521)، ومسلم في الحج (1350).
[4] أخرجه البخاري في الحج (1773)، ومسلم في الحج (1349).
[5] أخرجه البخاري في الحج (1520).
[6] أخرجه أحمد (4/309)، وأبو داود في المناسك، باب: من لم يدرك عرفة (1949)، والترمذي في الحج، باب: ما جاء فيمن أدرك الإمام بجمع فقد أدرك الحج (889)، والنسائي في الحج، باب: فرض الوقوف بعرفة (3016)، وابن ماجه في المناسك، باب: من أتى عرفة قبل الفجر ليلة جمع (3015)، قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن الجارود (468)، وابن خزيمة (2822)، وابن حبان (3892)، والحاكم (1/463)، وهو في صحيح الترمذي (705).
[7] أخرجه الترمذي في الدعوات، باب: في دعاء يوم عرفة (3585) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، وقال: "حديث غريب"، وله شواهد من حديث علي وأبي هريرة. قال الألباني في السلسلة الصحيحة (1503): "وجملة القول أن الحديث ثابت بمجموع هذه الشواهد، والله أعلم".
[8] أخرجه البخاري في الجمعة (969) بنحوه.
[9] أخرجه عنه البخاري معلقًا بصيغة الجزم في العيدين، باب: فضل العمل في أيام التشريق، وقد وصله عبد بن حميد، وابن مردويه كما في الفتح لابن حجر (2/582) وصحح إسناد ابن مردويه.
[10] أخرجه مسلم في الصيام (1162).
[11]أخرجه أحمد (2/75)، والبيهقي في الشعب (3750)، قال أحمد شاكر في تعليقه على المسند (5446): "إسناده صحيح"، وله شاهد من حديث ابن عباس عند الطبراني في الكبير (3/110)، جوّد إسناده المنذري في الترغيب (2/24)، وقال الهيثمي في المجمع (4/17): "رجاله رجال الصحيح".
[12] أخرجه البخاري معلقًا في كتاب العيدين، باب: فضل العمل في أيام التشريق، وقد وصله أبو بكر عبد العزيز بن جعفر في الشافي، والقاضي أبو بكر المروزي في العيدين، كما في فتح الباري لابن رجب (9/8).(/8)
العنوان: فضل الصدقة
رقم المقالة: 1422
صاحب المقالة: د. أمين بن عبدالله الشقاوي
-----------------------------------------
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد:
فإن من أبواب الخير العظيمة التي رغب فيها الشارع الحكيم وحث عليها، الصدقةُ.
قال تعالى: {وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ} [المنافقون: 10].
وقال تعالى: {وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ: 39].
وقال تعالى: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 274].
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((قال الله تعالى: يا ابن آدم أَنفقْ أُنفقْ عليك، وقال: يمين الله ملأى، سحاء[1] لا يغيضها شيء الليل والنهار))[2].
فهذا وعد من الله بالإنفاق على من أنفق في سبيل الله، والله - تبارك وتعالى - لا يخلف وعده.
وعن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: "انتهيت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو جالس في ظل الكعبة، فلما رآني" قال: ((هم الأخسرون ورب الكعبة)) قال: "فجئت حتى جلست فلم أتقار[3] أن قمت". فقلت: "يا رسول الله، فداك أبي وأمي من هم؟" قال: ((هم الأكثرون أموالاً إلا من قال هكذا، وهكذا، من بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه وعن شماله، وقليل ما هم)) [4].(/1)
وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: "كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالاً، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء، وكانتْ مُسْتَقْبِلَةَ المسجد، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدخلها ويشرب من ماء فيها طيّب"، قال أنس: "فلما نزلت هذه الآية: {لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] قام أبو طلحة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم –" فقال: "إن الله يقول في كتابه: {لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}، وإن أحب أموالي إلي بيرحاء، وإنها صدقة لله أرجو بِرَّها وذُخْرَها عند الله، فضعْها يا رسول الله حيث شئت"، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((بخ ذلك مال رابح، ذلك مال رابح، قد سمعت ما قلت فيها، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين، فقسمها أَبُو طلحة في أقاربه وبني عمه))[5].
قال ابن القيم - رحمه الله -: "وكان العطاء والصدقة أحب شيء إليه - صلى الله عليه وسلم - وكان سروره وفرحه بما يعطيه أعظم من سرور الآخذ بما يأخذه، وكان أجود الناس بالخير، يمينه كالريح المرسلة، وكان إذا عرض له محتاج آثره على نفسه، تارة بطعامه، وتارة بلباسه، وكان - صلى الله عليه وسلم - يأمر بالصدقة ويحث عليها ويدعو إليها بحاله وقوله.
ولذلك كان - صلى الله عليه وسلم - أشرح الخلق صدرًا، وأطيبهم نفسًا، وأنعمهم قلبًا، فإن للصدقة وفعل المعروف تأثيرًا عجيبًا في شرح الصدر"[6].
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما يَسُرُّني أنَّ لي أُحُدًا ذهبًا تأتي علي ثالثة، وعندي منه دينار إلا دينار أُرْصِدُه لدين عليَّ))[7].
ولما سئل - صلى الله عليه وسلم -: "أي الصدقة أعظم"؟ قال: ((أن تصدق وأنت صحيح شحيح، تخشى الفقر، وتأمل الغنى، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلان كذا ولفلان كذا، ألا وقد كان لفلان))[8].(/2)
ومن فضائل الصدقة: أنها إذا كانت من كسب حلال خالصة لوجه الله تعالى؛ فإن الله تعالى يقبلها بفضله، ويضاعف ثوابها لصاحبها أضعافًا مضاعفة، والله ذو الفضل العظيم.
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَن تصدق بعِدْل تمرة من كسب طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب، فإنَّ اللهَ يَتَقَبَّلُها بيمينه ثم يُرَبّيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوَّه حتى تكون مثل الجبل))[9] فيأتي المؤمن يوم القيامة وإذا بِحَسَناتِه أمثال الجبال فيفرح بثواب الله.
ومنها: تكفير السيئات: فعن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: ((ألا أدلك على أبواب الخير، الصوم جُنَّة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار))[10].
ومنها: نماء المال وزيادته، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما نَقصت صدقةٌ من مال))[11].
ومنها استظلال المؤمن في ظل صدقته يوم القيامة: عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله... منهم: ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه))[12].
ويوم القيامة يأتي العالم بعلمه، والمجاهد بجهاده، والمصلي بصلاته، والصائم بصيامه، ويأتي المتصدق بالعلم والجهاد والصلاة والصيام، فهو قد طبع كتبًا للعلماء وقفًا على إخوانه المسلمين، وبنى مسجدًا يصلي فيه المسلمون، وأعان المجاهدين في سبيل الله بماله، وفطر الصائمين على نفقته، فيحصل له أجْرُ هؤلاء جميعًا، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.(/3)
ومنها أنَّ الصدقة تقي العبد كثيرًا من الشرور والمصائب، قال ابن القيم – رحمه الله تعالى -: "وهذا شيء معلوم عند النَّاس خاصتهم وعامتهم، وأهل الأرض كلهم مقرون به؛ لأنهم جربوه، حتى لو كانت هذه الصدقة من ظالم أو كافر، فإن الله يدفع عنه بها كثيرًا من الشرور والمصائب))[13].
قال الشاعر:
مَنْ يَفْعَلِ الخَيْرَ لاَ يَعْدَمْ جَوَازِيَهُ لاَ يَذْهَبُ العُرْفُ بَيْنَ اللهِ وَالنَّاسِ
ومن أفضل أنواع الصدقة، الصدقة الجارية التي تستمر للعبد بعد وفاته؛ مثل حفر الآبار، وبناء المساجد، وطباعة الكتب، ودعم حلقات تحفيظ القرآن الكريم، والأوقاف الخيرية على الفقراء والمساكين ونحو ذلك.
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاثة، إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له))[14].
وعلى المنفق أن يراعي الأمور التالية: الإخلاص لله - عز وجل - في صدقته، وأن يحذر من الصدقة بالرديء من طعام أو لباس أو نحو ذلك، أو أن يتبع صدقته المن والأذى، أو أن يبخل بما أعطاه، أو أن يحتقر شيئًا من الصدقة، أو أن يرجع في صدقته.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
ــــــــــــــــــــــــــ
[1] السح الصب الدائم، ومعنى لا يغيضها شيء: أي لا ينقصها.
[2] صحيح البخاري (3/242) برقم (4684)، وصحيح مسلم (2/690) برقم (993).
[3] فلم أتقار: أي لم يمكنني القرار والثبات.
[4] صحيح البخاري (4/217) برقم (6638)، وصحيح مسلم (2/686)، برقم (990).
[5] صحيح البخاري (1/452) برقم (1461)، وصحيح مسلم (2/693) برقم (998).
[6] "زاد المعاد" (2/22-23) بتصرف.
[7] صحيح البخاري (4/181) برقم (6444)، وصحيح مسلم (2/678) برقم (991).
[8] صحيح مسلم (2/716) برقم (1032) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(/4)
[9] صحيح البخاري (1/435) برقم (1410)، وصحيح مسلم (2/702) برقم (1014).
[10] سنن الترمذي (5/12) برقم (2616).
[11] صحيح مسلم (4/2001) برقم (2588).
[12] صحيح البخاري (1/440) برقم (1423)، وصحيح مسلم (2/715) برقم (1031).
[13] "الوابل الصيب من الكلم الطيب" (ص50).
[14] صحيح مسلم (3/1255) برقم (1631).(/5)
العنوان: فضل الصيام
رقم المقالة: 1423
صاحب المقالة: د. أمين بن عبدالله الشقاوي
-----------------------------------------
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد:
فإن من أفضل الأعمال الصالحة وأجلها عند الله تعالى الصيام، فقد رغب فيه الشرع، وحث عليه، وجعله أحد أركان الإسلام العظام، وأخبر - جل وعلا - أنه لا تستغني عنه الأمم؛ لما فيه من تهذيب الأخلاق؛ وتطهير النفوس؛ وحملها على الصبر، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].
وقال تعالى: {وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 184].
وقال تعالى بعد ما ذكر المسارعين إلى الخيرات من الرجال والنساء: {وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 35].
وعن أبي سعيد - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَا مِنْ عَبْدٍ يَصُومُ يَوْمًا فِي سَبيلِ اللهِ، إِلاَّ بَاعَدَ اللهُ بِذَلِكَ اليَوْمِ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا[1]))[2].
ومن فضائل الصيام أنه وقاية للعبد من عذاب الله يوم القيامة.
فعن جابر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إِنَّمَا الصِّيَامُ جُنَّةٌ، يَسْتَجِنُّ بِهَا الْعَبْدُ مِنْ النَّارِ، هُوَ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ))[3].(/1)
ومنها: أنه طريق عظيم إلى الجنة، فعن أبي أمامة - رضي الله عنه - قال: قلت يا رسول الله دُلَّنِي على عمل أدخل به الجنة، فقال: ((عليك بالصوم فإنه لا مِثْلَ له)) قال: فكان أبو أُمَامَة لا يُرَى في بيته الدخان نهارًا، إلا إذا نزل بهم ضيف[4].
وعن سهل بن سعد - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إنَّ في الجنَّة بابًا يُقالُ له الرَّيَّان، يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل منه أحد غيرهم، فإذا دخلوا أُغْلِقَ فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ أَحَدٌ))[5].
ومنها: أنَّ الصيام يشفع لصاحبه يوم القيامة، فعن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أَيْ رَبِّ منعته الطَّعام والشَّهْوَة فشفِّعْنِي فيه، ويقول القرآن: منَعْتُه النوم بالليل فشفعني فيه، قال: فيُشَفَّعَانِ))[6].
ومنها: أنَّ الصائم يُوَفَّى أجره بغير حساب، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((كل عمل ابن آدم يُضَاعف، الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف. قال الله - عز وجل -: "إلا الصَّوْمَ فإنه لي وأنا أجزي به، يَدَعُ شهوته وطعامه من أجلي. للصائم فرحتان فرحة عند فِطْرِه، وفرحة عند لقاء ربه، ولخُلُوف فيه أطيب عند الله من ريح المسك))[7].
ومنها: أنه كفَّارة لكثير من المخالفات، فمن ذلك: أنه كفارة لحَنَثِ اليمين، وقتل الصيد في الإحرام، قال تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89].(/2)
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} [ائدة: 95].
وعن حذيفة - رضي الله عنه - قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((فتنة الرجل في أهله وماله تُكَفِّرُها الصلاة، والصيام، والصدقة)) [8].
ومنها: أن من صام رمضان وأدى الفرائض الأخرى كان من الصِّدِّيقين والشهداء، فعن عمرو بن مرة الجُهَنِيّ - رضي الله عنه - قال: "جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "أرأيت إن شهدتُ أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله ، وصليت الصلوات الخمس، وأديت الزكاة، وصمت رمضان، وقمته فممن أنا ؟ قال: ((من الصديقين والشهداء)) [9].
ومنها أن صيام رمضان يُكَفِّر الخطايا والسيئات.
فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَنْ صام رمضان إيمانًا وإحتسابًا غفر له ما تقدم له من ذنبه)) [10].
وقد فَضَّلَ الله بعض الأزمنة على بعض وخصها بمزيد من الفضل فمن ذلك.
صيام ست من شوال، فعن أبي أيوب - رضي الله عنه -، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَنْ صامَ رمضان، ثم أَتْبَعَه ستًا مِنْ شَوَّال كان؛ كصيام الدهر))[11].
ومنها: صيام شهر الله المحرم، وخاصة اليوم العاشر، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المُحَرَّم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل))[12].(/3)
وعن أبي قتادة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سُئِل عن صيام يوم عاشوراء فقال: ((يُكَفِّر السنة الماضية))[13].
ومنها: صيام يوم عرفة، فعن أبي قتادة - رضي الله عنه - قال: سُئِل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صوم يوم عَرَفة فقال: ((أحْتَسِبُ على الله أن يُكَفِّرَ السَّنَةَ التي قبله، والسنة التي بعده))[14].
ومنها: صيام ثلاثة أيام من كل شهر، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: أوصاني خليلي بثلاث: ((صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعَتَي الضحى، وأن أوتر قبل أن أَرْقد)) [15].
ومنها: صيام الاثنين والخميس، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((تُعْرَض الأعمال على الله يوم الاثنين والخميس، فأُحِبُّ أن يُعْرَضَ عملي وأنا صائم))[16].
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
ـــــــــــــــــــــــــــ
[1] سبعين خريفًا أي سبعين سنة.
[2] صحيح البخاري (2/317) برقم (2840)، ومسلم (2/808) برقم (1153).
[3] مسند الإمام أحمد (3/396) قال المنذري: في كتابه: "الترغيب والترهيب" (2/9): إسناده حسن.
[4] صحيح ابن حبان (5/179-180) برقم (3416، 3417).
[5] صحيح البخاري (2/29) برقم (1896)، صحيح مسلم (2/808) برقم (1152).
[6] مسند الإمام أحمد (2/174)، قال المنذري في كتابه: "الترغيب والترهيب" (2/10): رواه أحمد والطبراني في الكبير، ورجاله محتج بهم في الصحيح. ورواه ابن أبي الدنيا في كتاب الجوع بإسناد حسن.
[7] صحيح البخاري (2/31) برقم (1904)، وصحيح مسلم (2/807) برقم (1151).
[8] صحيح البخاري (2/29) برقم (1895).
[9] صحيح ابن حبان (5/184) برقم (3429)، قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (1/46)، رواه البزار ورجاله رجال الصحيح خلا شيخي البزار؛ وأرجو أنه إسناد حسن أو صحيح.أ هـ.(/4)
[10] صحيح البخاري (2/31) برقم (1901)، وصحيح مسلم (1/523) برقم (759).
[11] صحيح مسلم (2/822) برقم (1164).
[12] صحيح مسلم (2/821) برقم (1163).
[13] صحيح مسلم (2/821) برقم (1163).
[14] صحيح مسلم (2/819) برقم (1162).
[15] صحيح البخاري (1/364) برقم (1178).وصحيح مسلم (1/499) برقم (721).
[16] رواه الترمذي (3/122) برقم (747)، وقال: حديث حسن غريب.(/5)
العنوان: فضل العلم والعلماء
رقم المقالة: 1105
صاحب المقالة: الشيخ ناصر بن محمد بن مشري الغامدي
-----------------------------------------
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}؛ [آل عمران : 102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا الله الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً}؛ [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً}؛ [الأحزاب : 71 -72].
أما بعد: فيا أيها الناس: اتقوا الله - تبارك وتعالى - حق التقوى، وراقبوه في السر والنجوى، واعلموا أنكم ملاقوه وإليه الرجعى، حاسبوا أنفسكم وزنوا أعمالكم، وتزينوا للعرض الأكبر على الله، {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفي مِنكُمْ خَافِيَةٌ}؛ [الحاقة: 18].
عباد الله: يقو الله - عز وجل -: {وَمَا كَانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}؛ [التوبة: 122].(/1)
إخوة الإسلام: لقد رفع الله - تعالى - شأن العلم وأهله، وبيَّن مكانتهم، ورفع منزلتهم، فقال - سبحانه وتعالى -: {يَرْفَعِ الله الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}؛ [المجادلة: 11].
ولم يأمر الله - تعالى - نبيه - صلى الله عليه وسلم - بالاستزادة من شيء إلا من العلم، فقال له - سبحانه وتعالى -: {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً}؛ [طه: 114]. وما ذاك إلا لما للعلم من أثر في حياة البشر، فأهل العلم هم الأحياء، وسائر الناس أموات.
العِلْمُ يَجْلُو الْعَمَى عَنْ قَلْبِ صاحِبِهِ كَما يُجْلِي سَوَادَ الظُّلْمَةِ القَمَرُ
فَلَولا العِلْمُ ما سَعِدَتْ نُفُوسٌ وَلا عُرِفَ الحَلالُ وَلا الحَرامُ
فَبِالعِلْمِ النَّجاُة مِنَ المَخَازِي وَبِالجَهْلِ المَذَلَّةُ وَالرُّغامُ
ولقد منع الله - سبحانه - المساواة بين العالم والجاهل؛ لما يختص به العالم من فضيلة العلم ونور المعرفة؛ {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ}؛ [الزمر: 9].
فالعلم شرف لا قدر له، ولا يجهل قدر العلم وفضله إلا الجاهلون. قال عبد الملك بن مروان لبنيه: "يا بَني, تعلموا العلم؛ فإن كنتم سادة فقتم، وإن كنتم وسطاً سدتم، وإن كنتم سوقة عِشتم".
فََمَنْ لَمْ يَذُقْ مُرَّ التَّعَلُّمِ ساعَةً تَجَرَّع ذُلَّ الجَهْلِ طُوْلَ حَياتِهِ
وَمَنْ فاتَهُ التَّعْلِيمُ حالَ شَبابِهِ فَكَبِّرْ عَلَيْهِ أَرْبَعاً لِوَفاتِهِ(/2)
عباد الله: إن طلب العلم خير ما ضُيِّعت فيه الأعمار، وأُنْفِقت فيه الساعات، فالناس إما عالم أو متعلم، أو همج رعاع {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاءِ وَلاَ إِلَى هَؤُلاءِ وَمَن يُضْلِلِ الله فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً}؛ [النساء: 143].
ولقد جاءت نصوص الكتاب والسنة منوهة بفضل العلم وأهله، والحث على تعلمه وكسبه، فقد شرف الله - تعالى - هذه الأمة؛ حيث جعلها أمة العلم والعمل معاً، تمييزاً لها عن أمم الظلم والجهل. وجاءت الصيحة الأولى المدوية التي أطلقها الإسلام في أنحاء المعمورة؛ لتنوه بقيمة العلم والعلماء، وتسمو بقدره، وتجعل أول لَبِنة في بناء الأفراد والشعوب، وكِيان الأمم والمجتمعات القراءة والكتابة.
عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك الله به طريقاً من طرق الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض، والحيتان في جوف الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظً وافر))؛ رواه احمد وأبو داود، والترمذي، وأصله في "الصحيحين".
عباد الله: بالعلم تبنى الأمجاد، وتشيد الحضارات، وتَسُود الشعوب، وتبنى الممالك، بل لا يستطيع المسلم أن يحقق العبودية الخالصة لله - تعالى - على وَفق شرعه، فضلاً عن أن يبني نفسه كما أراد الله - سبحانه - أو يقدم لمجتمعه خيراً، أو لأمته عزاً ومجداً ونصراً - إلا بالعلم.
وما فشا الجهل في أمة من الأمم إلا قوض أركانها، وصدَّع بنيانها، وأوقعها في الرذائل والمتاهات المهلكة.
وَإِنَّ كَبِيرَ القَوْمِ لا عِلْمَ عِنْدَهُ صَغِيرٌ إِذا التَفَّتْ عَلَيْهِ المحافِلُ(/3)
ومن سلك طريقاً يظنه الطريق الموصل إلى الله - تعالى - بدون علم فقد سلك عسيراً، ورام مستحيلاً، فلا طريق إلى معرفة الله - سبحانه وتعالى - والوصول إلى رضوانه إلا بالعلم النافع الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، فهو الدليل عليه، وبه يُهتدى في ظلمات الجهل، وشبهات الفساد والشكوك.
والعلم الشرعي: هو العلم بكتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - وهو القاعدة الكبرى التي تبنى عليها سائر العلوم. وحملة العلم الشرعي هم ورثة الأنبياء، والأمناء على ميراث النبوة، ومتى ما جمعوا بين العقيدة الصحيحة والعلم الشرعي المتوج بالأدلة الشرعية مع الإخلاص لله - سبحانه - والتأدب بآداب العلم وأهله، فهم الأئمةُ الثقات، والأعلامُ الهداة، مثلُهم في الأرض كمثل النجوم يُهتدَى بها؛ قال - صلى الله عليه وسلم -: ((إن مثل العلماء في الأرض كمثل النجوم في السماء؛ يهتدى بها في ظلمات البر والبحر، فإذا انطمست النجوم أوشك أن تضل الهداة))؛ رواه أحمد.
قال الحافظ بن رجب - عليه رحمة الله -: "وهذا مثل في غاية المطابقة؛ لأن طريق التوحيد والعلم بالله وأحكامه وثوابه وعقابه لا يدرك إلا بالدليل، وقد بين الله ذلك كله في كتابة، وعلى لسان رسوله، فالعلماء بما أنزل الله على رسوله هم الإدلاء الذين يهتدى بهم في ظلمات الجهل والشبه والضلال، فإذا فقدوا ضل السالك.
العلماء بالله - تعالى - وبشرعه هم أهل خشية الله، وشهداء الله في أرضه، وخلفاء الرسول في أمته، فمن كان بالله أعرف كان منه أخوف؛ لأنه كلما كانت المعرفة للعظيم الكريم، الموصوف بصفات الكمال والمنعوت بالأسماء الحسنى، كلما كانت المعرفة به أتم، والعلم به أكمل كانت الخشية له أعظم، وأكثر.
قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: "العالم بالرحمن من عباده: من لم يشرك به شيئاً، وأحل الحلال، وحرم الحرام، وحفظ وصية الله، وأيقن أنه ملاقيه، ومحاسبه بعمله".(/4)
فالخشية: هي التي تحول بين العبد وبين معصية الله، وتدعوه إلى طاعته والسعي في مرضاته. قال الحسن البصري - رحمه الله -: "العالم؛ من خشي الرحمن بالغيب، ورغب فيما رغَّب الله فيه، وزهد فيما سخط الله فيه، ثم تلا قول الله - تعالى -: {إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ إِنَّ الله عَزِيزٌ غَفُورٌ}"؛ [فاطر: 28].
وهذا هو العلْم الحقيقي الذي ينفع صاحبه؛ فإن العلم ليس عن كثرة المعرفة والحفظ، ولكن العلم عن كثرة الخشية، فهو نور يجعله الله في القلب، ولقد أحسن من قال:
لا تَحْسَبَنَّ العِلْمَ يَنْفَعُ وَحْدَهُ ما لَمْ يُتَوَّجْ رَبُّهُ بِخَلاقِ
فالعلم بغير ورع ولا طاعة كالسراج يضيء البيت بنوره، ويحرق نفسه. وماذا يفيد العلم جُمَّاعَ القول المصرين على معاصيهم وأخطائهم، الذين يستمعون القول ولا يتبعون أحسنه.
روى عبد الله بن وهب عن سفيان: "أن الخضِر قال لموسى - عليهما السلام -: يا ابن عمران، تعلم العلم؛ لتعمل به، ولا تتعلمه؛ لتحدث به، فيكون عليك بُوره، ولغيرك نوره".
وقال أبو الدرداء - رضي الله عنه -: "أخوف ما أخاف إذا وقفت بين يدي الله أن يقول: قد علمت فماذا عملت".
وفي منثور الحكم: لم ينتفع بعلمه من ترك العمل به. فثمرة العلم أن يُعمَل به؛ لأن العلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل. وخير العلم ما نفع، وخير القول ما ردع، ومن تمام العلم استعماله، ومن تمام العمل استقلاله، فمن استعمل علمه لم يخل من رشاد، ومن استقل عمله لم يقصر عن مراد.
وإن القلب ليعتصره الألم اعتصاراً حينما يرى بعض من طرقوا أبواب العلم الشرعي فلم يرفعوا بذلك رأساً، تعلموا من العلوم والأحكام الكثير، ولكن الأثر مفقود.(/5)
وإن المرء ليتساءل: أين العلم الشرعي ممن أضاعوا الصلوات، واتبعوا الشهوات؟! وأين العلم الشرعي ممن أسبلوا الثياب، وحلقوا اللحى وتعاملوا بالربا، وهجروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ووقعوا في المعاصي، مع أنهم يعلمون يقيناً أن هذه كلَّها ممنوعة محرمة على المسلم. فالله المستعان.
وقد أُثِر عن جماعة من السلف أنهم كانوا لا يتجاوزن عشر آيات من كتاب الله حتى يتعلموا ما فيها من العلم ويعملوا به. قال بعض السلف: "كنا نستعين على حفظ العلم بالعمل به".
فترك العمل بالعلم من أقوى الأسباب في ذَهابه ونسيانه.
قال على - رضي الله عنه -: "يا حملة العلم اعملوا به، فإن العالم من عمل بما علم، فوافق عمله علمه، وسيكون أقوام يتعلمون العلم لا يجاوز تراقيهم يخالف عملهم علمهم وتخالف سريرتهم علانيتهم، يجلسون حلقاً، فيباهي بعضهم بعضاً، حتى إن الرجل ليغضب على جليسه إذا جلس إلى غيره وتركه، أولئك لا تصعد أعمالهم في مجالسهم تلك إلى الله - عز وجل.
ولقد ضرب المصطفى - صلى الله عليه وسلم - مثلاً لطلاب العلم، وأحوالهم في الاستفادة مما تعلموا؛ فقال: ((مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا؛ فكان منها نقية قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس؛ فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصابت منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ؛ فذلك مثل من فقُه في دين الله ونفعه ما بعثي الله به فعلِم وعلَّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً، ولم يقبل هدى الله الذي أُرسِلت به))؛ متفق عليه.(/6)
ثم اعلموا - رحمكم الله -: أن من آفات العلم، وأسباب محق البركة عنه أن تُطلَب به الرئاسة على الخلق، والتعاظم عليهم، وأن يريد طالبه بعلمه أن ينقاد له الناس، ويخضعوا له، وأن يصرفوا إليه وجوهم؛ فيُظهِر للناس زيادة علمه على العلماء، ليعلو به عليهم، ونحو ذلك، فهذا موعده النار - عياذا بالله - فقد قال المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: ((من طلب العلم ليجاري به العلماء، أو ليماري به السفهاء، أو يصرف به وجوه الناس إليه أدخله الله النار))؛ رواه الترمذي، وابن ماجه. وفي رواية لابن ماجه: ((لا تعلَّموا العلم لتباهوا به العلماء، ولا لتماروا به السفهاء، ولا تخيروا به المجالس، فمن فعل ذلك فالنار النار)).
قال الحسن البصري - رحمه الله -: "لا يكن حظ أحدكم من علمه أن يقول له الناس: عالم.
كما أن عليه أن يخلص في طلب العلم لله - تعالى - وأن يصبر فيه وعليه ويصابر، ويحذر من الاستعجال في الحصاد؛ فإن البداية مزلة، ومن تصدر قبل حينه فضحه الله في حينه.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله فاستغفروه وتوبوا إليه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فيا أيها الناس: اتقوا الله - تعالى - واشكروه وأطيعوه، وراقبوه ولا تعصوه؛ فإن التقوى هي أساس العلم، ومفتاح الفهم؛ {وَاتَّقُوا الله وَيُعَلِّمُكُمُ الله وَالله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}؛ [البقرة: 282].
عباد الله:(/7)
يستعد الأبناء في هذه الأيام لاستقبال عام دراسي جديد، يقضونه بين أروقة المدارس والمعاهد والجامعات؛ لينهلوا من مناهل العلم والمعرفة، على حسب مستوياتهم واتجاهاتهم، ويشجعهم على ذلك ويدفعهم أولياء أمورهم والقائمون على تدريسهم؛ من مربين ومدرسين؛ الذي يقع عليهم العبء الأكبر في تربية الناشئة التربية الإسلامية الهادفة، التي تعود عليهم بالنفع في دنياهم وأخراهم، ولا يتم ذلك إلا بالتعاون الجاد بين البيت والمدرسة، وقيام كل منهما بما له وما عليه تُجاه أبناء المسلمين.
فليعلم كل من اشتعل بالتدريس: أن أقل ما يُنتظَر من المعلم أن يكون مظهره إسلامياً، وأن يتقي الله - سبحانه وتعالى - في قوله وفعله وسلوكه، وأن يكون ذلك كله متفقاً مع شرع الله، في التعامل مع الطلاب، والتخاطب معهم، وأن يروا فيه القدوة الصالحة التي تحتذى.
وما اختلت موازين الأمة، وفسد أبناؤها - يا عباد الله - إلا حينما ضاع الأبناء بين أبٍ مفرط لا يعلم عن حال أبنائه، ولا في أي مرحلة يدرسون، ولا مع من يذهبون ويجالسون، ولا عن مستواهم التحصيلي في الدراسة - وبين مدرس خان الأمانة، وتهاون في واجبه، ولم يدرك مسؤوليته.
وهذا الحكم ليس عاماً؛ فإن بين صفوف المدرسين أتقياء بررة، ومربين أوفياء، وهم كثير بحمد الله تعالى - وإن المنصف ليدرك دور ذلك الجندي المجهول - المعلم المخلص - في تعليم الأجيال، وتربيتهم، وتقويم سلوكهم، وإن واجب الأمة نحوه: أن تشكر جهوده، وتؤدي إليه بعضاً من حقه، وأن تعرف له قدره واحترامه وفضله.
إنَّ المُعلِّم والطَّبِيبَ كِلَيهِما لا يَنْصَحانِ إِذا هُما لَمْ يُكْرَما
فاصْبِرْ لِدائِكَ إِنْ أَهَنْتَ طَبِيبَهُ وَاصْبِرْ لِجَهْلِكَ إِنْ جَفَوْتَ مُعَلِّماً(/8)
عباد الله: تعلموا - رحمكم الله - العلم النافع، وعلموه، فمن يرد الله به خيراً يفقه في الدين؛ فإن العلم منه ما هو واجب على كل مسلمٍ ومسلمة، لا يقدر أحد على تركه؛ إذ تركه مُخِل بحياته ودينه؛ كأحكام العقيدة، والطهارة، والصلوات، والزكاة والصوم، والحج، فالواجب على المسلم أن يسأل عن ذلك، ويتعلم أحكام دينه؛ فإنما شفاء العي السؤال.
وكم هو شديد الوقع على النفوس - يا عباد الله -: أن يرى في الناس من شاب رأسه، ورق عظمه، وهو يتعبد الله على غير بصيرة! وقد يصلى بعض الناس أربعين سنة، أو عشرين سنة، أو أقل أو أكثر وهو لم يصل في الحقيقة؛ لأن صلاته ناقصة الأركان، أو مختلة الشروط والواجبات. ومع ذلك لا يحاول تعلم أحكامها، بينما يُرَى حريصاً على دنياه. ويكفي هذا دليلاً على أن الله - سبحانه وتعالى - لم يرد به خيراً، ولو تعلم العلوم الدنيوية، وتبحر فيها؛ لأنها علوم معاشية فقط، لا تستحق مدحاً ولا ذماً.
وقد وصف الله - تعالى - أصحابها بقوله – تعالى -: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ}؛ [الروم: 7]. {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ}؛ [النمل: 66].
قال ابن كثير - رحمه الله -: "فهؤلاء ليس لهم علم إلا بالدنيا، وأكسابها، وشؤونها، وما فيها، فهم حذاق أذكياء في تحصيلها، ووجوه مكاسبها، وهم غافلون عن أمور الدين، وما ينفعهم في الدار الآخرة، كأن أحدهم مغفل لا ذهن له، ولا فكرة".
وقال الحسن البصري: "والله ليبلُغنَّ أحدُهم بدنياه أنه يقلب الدرهم على ظفره، فيخبرك بوزنه، وما يحسن أن يصلي".
وقال ابن عباس - رضي الله عنهما - في الآية: "والمراد بذلك الكفار؛ يعرفون عمران الدنيا، وهم في الدين جهال".(/9)
ثم اعلموا - رحمكم الله -: أن بقاء العلم الشرعي مرهون ببقاء حملته، فإذا ذهبوا وقع الناس في الضلال؛ حيث يكثر الجهل بلعوم الشريعة، وهذا من علامات الساعة، فحقيق بكل مسلم أن يحرص على طلب العلم؛ علماً، وتعليماً، وتطبيقاً.
قال - صلى الله عليه وسلم -: ((إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم، ويثبت الجهل، ويشرب الخمر، ويظهر الزنا))؛ متفق عليه.
وارتفاع العلم إنما يكون بموت العلماء؛ حيث يموت علمهم معهم؛ فعن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضى اله عنهما - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبقِ عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسئلوا، فافتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا))؛ متفق عليه.
والمراد بقبض العلم: هو موت العلماء، وذَهاب الفضلاء والفقهاء؛ فقد جاء في تفسير قوله - تعالى -: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَالله يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الحِسَابِ}؛ [الرعد: 41]؛ عن عطاء - رحمه الله - قال: "هو موت العلماء، وذَهاب الفضلاء، وفقهاء الأرض وخيار أهلها.
وقال ابن عباس - رضي الله عنه -: "لا يزال عالم يموت، وأثر للحق يندرس، حتى يكثر أهل الجهل، ويرفع العلم".
فاتقوا الله - أيها المسلمون - واحرصوا على تعلم العلم الشرعي، وتعلموا له السكينة والوقار، وهذبوا به أخلاقكم، وقوِّموا به أفعالكم وأقوالكم. ثم صلوا وسلموا على من أمركم الله - تعالى - بالصلاة والسلام عليه في قوله - عز من قائل -: {إِنَّ الله وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}؛ [الأحزاب: 56]. وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((من صلى على صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشراً))؛ رواه مسلم.(/10)
العنوان: فضل القرآن وقراءته
رقم المقالة: 1428
صاحب المقالة: د. أمين بن عبدالله الشقاوي
-----------------------------------------
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد:
فإن القرآن كلام الله تعالى، وهو حبله المتين، وصراطه المستقيم، من تمسك به اهتدى، ومن أعرض عنه ضَلَّ وهَوَى، أثنى الله عليه في مواضعَ كثيرة منه؛ ليبين فضله؛ ويوضح للناس مكانته ومنزلته، قال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الزخرف:3 - 4].
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 41 - 42].
فما من باطل إلا وفي القرآن ما يدمغه، ولا شبهة إلا وفيه بيان بطلانها، قال تعالى: {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الفرقان: 33].
وقال تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء: 18].
سمَّاه الله نورًا، وجعله للناس شفاءً. قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52].
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} [ يونس: 57].(/1)
أعجب به الجن لما سمعوه، فآمنوا به واتبعوه: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} [الجن: 1: 2].
تكفل الله بحفظه وأعجز الخلق أن يأتوا بمثله.
قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].
وقال تعالى: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا}[الإسراء: 88].
وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إِنَّ اللهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الكِتَابِ أَقْوَامًا، وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ))[1].
ولهذه الفضائل العظيمة لكتاب الله، أمر الله بتلاوته والعمل به وتدبره، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر: 29: 30].
وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بما لقارئ القرآن من الحسنات.
فعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لا أَقُولُ (الم) حَرْفٌ، وَلَكِنْ: أَلِفٌ حَرْفٌ؛ وَلامٌ حَرْفٌ؛ وَمِيمٌ حَرْفٌ))[2].
وعن عائشةَ - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((المَاهِرُ بِالقُرْآنِ مَعَ السَّفَرَةِ الكِرَامِ البَرَرَةِ، وَالذِي يَقْرَأُ القُرْآنَ وَيَتَعْتَعُ فِيهِ وَهُوَ عَلَيْهِ شَاقٌّ لَهُ أَجْرَانِ)) [3].(/2)
ويوم القيامة تتجلى هذه الفضائل لقارئ القرآن، فيشفع لقارئه ويعلو به في مراتب الجنة على قدر قراءته.
عن أبي أُمَامَة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((اقْرَؤوا القُرْآنَ، فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ القِيَامَةِ شَفِيعًا لأَصْحَابِهِ)) [4].
وعن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال: قال - صلى الله عليه وسلم -: ((يُقَالُ لصَاحِبِ القُرْآنِ: اقْرَأْ وَارْتَقِ وَرَتِّلْ؛ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ آخِر آيَةٍ تَقْرَأُ بِهَا)) [5].
وإن من عجيب حال الكثيرين منا، تقصيرهم في تلاوة كتاب ربهم، وتدبره والعمل به، مع علمهم بفضله وأجره.
قال أمير المؤمنين عُثْمَان - رضي الله عنه -: "لو طهرت قلوبنا لما شبعت من كلام الله - عز وجل –". ولهذا المعنى أشار تعالى بقوله: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة: 124: 125].
فالآيات بينت حال المؤمنين، وحال المنافقين عند سماع القرآن وتلاوته، فليحذر المسلم أن يكون من ذلك الصنف الخاسر، الذي لا يزيده سماع القرآن إلا خسارًا.
وعلى هذا ينبغي للمسلم ملاحظة هذه الأمور:
أولاً: قراءة القرآن بتدبُّرٍ وتمعُّنٍ، قال تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبَابِ}[ ص: 29].
قال عبد الله بن مسعود: "لا تنثروه كنثر الرمل، ولا تهذُّوه كهذِّ الشعر، قفوا عند عجائبه، وحركوا به القلوب، ولا يكن هم أحدكم آخر السورة".(/3)
ثانيًا: مراجعة الحفظ، فعن أبي موسى - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((تَعَاهَدُوا هَذَا القُرْآنَ، فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَهُوَ أَشَدُّ تَفَلُّتًا مِنَ الإبِلِ فِي عُقُلِهَا))[6].
ثالثًا: الخشوع عند تلاوة القرآن: فعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال لي النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((اقْرَأْ عَلَيّ))، قلت: "يا رسول الله، أقرأ عليك، وعليك أنزل! فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((نعم))، "فقرأت سورة النساء حتى أتيت على هذه الآية: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} [النساء: 41]، قال: ((حسبك الآن))، فالتفَتُّ إليه فإذا عيناه تذرفان [7].
رابعًا: عدم هجر القرآن، قال تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان: 30]، والهجر يشمل هَجْرَ التلاوة، والتدبُّرَ والعمل، والتحاكم إليه؛ كما قال ابن القيم - رحمه الله -.
فلابد من العناية بكلام الله - عز وجل - حفظًا، وتلاوةً، وعملاً، حتى يكون المسلم من أهل القرآن، الذين هم أهل الله، وخاصته.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] صحيح مسلم (1/559) برقم (817).
[2] سنن الترمذي (5/175) برقم (2910)، وقال: حديث حسن صحيح غريب.
[3] صحيح البخاري (3/321) برقم (4937)، وصحيح مسلم (1/550) برقم (798).
[4] صحيح مسلم (1/553) برقم (804).
[5] سنن الترمذي (5/177) برقم (2914)، وقال: هذا حديث حسن صحيح.
[6] صحيح البخاري (3/348) برقم (5033)، وصحيح مسلم (1/545) برقم (791).
[7] صحيح البخاري (3/351) برقم (5050)، ومسلم (1/551) برقم (800).(/4)
العنوان: فضل اللغة العربية
رقم المقالة: 455
صاحب المقالة: محمد الخضر حسين
-----------------------------------------
صورة العلامة الشيخ محمد الخضر حسين
شَبيهانِ: الهِلالُ إذا تَهادى وَفِكْرٌ باتَ يَرْتادُ السَّدادا
بَناتُ الْفِكْرِ آبِدَةٌ وَلَوْلا عَنانُ الْقَوْلِ لَمْ تُسْلِسْ قِيادا
رَعى اللهُ الأَديبَ يَرومُ مَعْنى فَيُسْعِدُهُ الْبَيانُ بِما أَرادا
أُبَجِّلُهُ وَلَوْ لَمْ يَأْوِ ظِلاًّ بَنى الْعَيْشُ الأَنيقُ بِهِ وَشادا
فَهاتِ السَّيْفَ يَخْطُرُ في مَضاءٍ وَخَلِّ الْغِمْدَ عِنْدَكَ والنِّجادا
وَيَنْزَعُ بي إلى الآدابِ وَجْدٌ إذا قُلْتُ اشْتَفى بالوَصْلِ زادا
فَأَنْسى ((مَعْبَداً)) وَ((عُرَيْبَ)) دَهْراً ولا أَنْسى ((الْبَديع)) ولا ((الْعِمادا))
وأَسْلوا الرَّوْضَ والوَرْقاءُ تَشْدو بِهِ وَالْغَيْثُ حاكَ لَهُ بِجادا
ولا أَسْلو الطُّروسَ تَدورُ فيها رَحَى الْبَحْثِ ابْتِكاراً وَانْتِقادا
وَلَمْ أَنْضُ الْقَريحَةَ في نَسيبٍ وَلا عَذْلاً شَكَوْتُ وَلا بُعادا
فَما أَهْوَى سِوى لُغَةٍ سَقاها قُرَيْشٌ مِنْ بَراعَتِهِمْ شِهادا
أداروا مِنْ سَلاسَتِها رَحيقاً وهَزُّوا مِنْ جَزالَتِها صِعادا
وطَوَّقَها كِتابُ اللهِ مَجْداً وَزادَ سَنا بَلاغَتِها اتِّقادا
تَصيدُ بِسَحْرِ مَنْطِقِها قُلوباً تُحاذِرُ كالجَآذِرِ أَنْ تُصادا
قَنَتْ حِكَماً رَوائِعَ لَوْ أَعارَتْ سَناها النَّارَ لَمْ تَلِدِ الرَّمادا
سَرَتْ كالمُزْنِ يُحْيي كُلَّ أَرْضٍ ويُبْهِجُها وِهاداً أَوْ نِجادا
وَما للَّهْجَةِ الْفُصْحى فَخارٌ إذا لَمْ تَمْلإِ الدُّنْيا رَشادا
وراعَ حِلى الْفَصاحَةِ غَيْرَ عُرْبٍ فَحَثُّوا مِنْ قَرائِحِهِمْ جِيادا
تَخوضُ بَيانَها الْفَيَّاضَ طَلْقاً وكانَتْ قَبْلَهُ تَرِدُ الثِّمادا
وكَم ضاهى ((ابْنُ فارِس)) وَهو يُوري زِنادَ الشِّعْرِ وائِلَ أو إِيَادا(/1)
أَتاها الْعِلْمُ يَرْسُفُ في كَسادٍ وخَطْبُ الْعِلْمِ أنْ يَلْقى كَسادا
فَأَلْفى مِنْ مَعاجِمِها عُباباً غَزيرَ النَّبْعِ لا يَخْشى نَفادا
فَأَوْدَعَها نَفائِسَهُ وأَضْحى شِعارُ الْعِلْمِ إِعْراباً وَضادا
عَذيري مِنْ زَمانٍ ظَلَّ يَجْني عَلى الْفُصْحى لِيُرْهِقَها فَسادا
حَثا في رَوْضِها الزَّاهي قَتاماً وَأَنْبَتَ بَيْنَ أَزْهُرِها قَتادا
وَلَوْلا أَنَّ هذا الذِّكرَ يُتْلى لَرَدَّ بَياضَ غُرَّتِها سَوادا
أَجالَتْ طَرْفَها في كُلِّ وادٍ فَلَمْ ترَ في سِوى مِصْرٍ مَرادا
فَتِلْكَ مَعاهِدُ الْعِرْفانِ تُدْني إلَيْهِمْ خَيْرَ ما يَبْغونَ زادا
وهذا مَجْمعٌ يَحْمي تِلاداً ويَبْني طارِفاً يَحْكي التِّلادا
كَأَنَّ عُكاظَ عادَ بِها اشْتِياقٌ إلى الْفُصْحى فَكانَ لَها مَعادا
جَرى ماءُ الحَياةِ بِوَجْنَتَيْها فَهَنَّأْنا الْيَراعَةَ والمِدادا
وَقُلْنا لِلْمَنابِرِ: ذَكِّرينا عَلِياًّ حينَ يَخْطُبُ أوْ زِيادا
فَيَا لُغَةَ النَّبِيِّ سَقاكِ عهْدٌ مِنَ الإِصْلاحِ يَنْتَظِمُ الْبِلادا
فَما مِنْ حاجَةٍ لِلْعِلْمِ إِلاَّ يُقيمُ لَها بِحِكْمَتهِ سِدادا
يَصونُ هِدايَةَ اللهِ اعْتِزازاً بِها وَأَضاعَها قَوْمٌ عِنادا
تَراءى الزَّيْغُ يَنْفُضُ مِذْرَوَيْهِ ويَمْسَحُ عَنْ لَوَاحِظِهِ رُقادا
وَمَنْ يَصُنِ الهُدى مُلِئَتْ يَداهُ نَجاحاً كلَّما اسْتَوْرى زِنادا(/2)
العنوان: فضْل تلاَوة القرآن وأنواعهَا
رقم المقالة: 1314
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحَمْدُ لله الدَّاعي إلى بابه، الموفِّق من شاء لصوابِهِ، أنعم بإنزالِ كتابِه، يَشتملُ على مُحكم ومتشابه، فأما الَّذَينَ في قُلُوبهم زَيْغٌ فيتبعونَ ما تَشَابَه منه، وأمَّا الراسخون في العلم فيقولون آمنا به، أحمده على الهدى وتَيسيرِ أسبابِه، وأشهد أنْ لا إِله إلاَّ الله وحدَه لا شَريكَ له شهادةً أرْجو بها النجاةَ مِنْ عقابِه، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه أكمَلُ النَّاس عَملاً في ذهابه وإيابه، صلَّى الله عليه وعلى صاحبه أبي بكرٍ أفْضل أصحَابه، وعَلَى عُمر الَّذِي أعَزَّ الله بِهِ الدِّيْنَ واسْتَقَامَتِ الدُّنْيَا بِهِ، وَعَلَى عثمانَ شهيدِ دارِهِ ومِحْرَابِه، وعَلى عليٍّ المشهورِ بحَلِّ المُشْكِلِ من العلوم وكَشْفِ نِقابه، وَعَلَى آلِهِ وأصحابه ومنْ كان أوْلَى بِهِ، وسلَّمَ تسليمًا.
إخواني: قالَ الله تَعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُواْ الصَّلَوةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر: 29، 30].
تِلاوةُ كتَابِ اللهِ عَلَى نوعين: تلاوةٌ حكميَّةٌ وهي تَصْدِيقُ أخبارِه وتَنْفيذُ أحْكَامِهِ بِفِعْلِ أوامِرِهِ واجتناب نواهيه. وسيأتي الكلام عليها في مجلس آخر إن شاء الله.(/1)
والنوعُ الثاني: تلاوة لفظَّيةٌ، وهي قراءتُه. وقد جاءت النصوصُ الكثيرة في فضْلِها إما في جميع القرآنِ وإمَّا في سُورٍ أوْ آياتٍ مُعَينَةٍ منه، ففِي صحيح البخاريِّ عن عثمانَ بن عفانَ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلّم - قالَ: ((خَيرُكُم مَنْ تعَلَّمَ القُرآنَ وعَلَّمَه))، وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلّم - قال: ((الماهرُ بالقرآن مع السَّفرةِ الكرامِ البررة، والذي يقرأ القرآنَ ويتتعتعُ فيه وهو عليه شاقٌّ له أجرانِ)). والأجرانِ أحدُهُما على التلاوةِ والثَّاني على مَشقَّتِها على القارئ.
وفي الصحيحين أيضًا عن أبي موسى الأشْعَريِّ رضي الله عنه أنَّ النَّبي - صلى الله عليه وسلّم - قالَ: ((مثلُ المؤمنِ الَّذِي يقرأ القرآنَ مَثَلُ الأتْرُجَّةِ ريحُها طيبٌ وطعمُها طيّبٌ، ومثَلُ المؤمِن الَّذِي لاَ يقرَأ القرآنَ كمثلِ التمرة لا ريحَ لها وطعمُها حلوٌ))، وفي صحيح مسلم عن أبي أمَامةَ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلّم - قال: ((اقْرَؤوا القُرآنَ فإنه يأتي يومَ القيامةِ شفيعًا لأصحابهِ)). وفي صحيح مسلم أيضًا عن عقبةَ بن عامرٍ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلّم - قالَ: ((أفلا يغْدو أحَدُكمْ إلى المسجدِ فَيَتعلَّم أو فيقْرَأ آيتينِ منْ كتاب الله عزَّ وجَلَّ خَيرٌ لَهُ مِنْ ناقتين، وثلاثٌ خيرٌ له من ثلاثٍ، وأربعٌ خير له مِنْ أربَع ومنْ أعْدادهنَّ من الإِبِلِ)).(/2)
وفي صحيح مسلم أيضًا عن أبي هُرَيرةَ رضي الله عنه أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلّم - قَالَ: ((ما اجْتمَعَ قومٌ في بيتٍ مِنْ بُيوتِ اللهِ يَتْلُونَ كتابَ الله ويَتدارسونَهُ بَيْنَهُم إلاَّ نَزَلَتْ عليهمُ السكِينةُ وغَشِيْتهُمُ الرحمةُ وحفَّتهمُ الملائكةُ وَذَكَرَهُمْ الله فيِمَنْ عنده)). وقال صلى الله عليه وسلّم: ((تعاهَدُوا القرآنَ فوالذي نَفْسِي بيده لَهُو أشدُّ تَفلُّتًا من الإِبلِ في عُقُلِها))؛ متفق عليه. وقال صلى الله عليه وسلّم: ((لا يقُلْ أحْدُكم نَسيَتُ آية كَيْتَ وكيْتَ بل هو نُسِّيَ))؛ رواه مسلم. وذلك أنَّ قولَه نَسيتُ قَدْ يُشْعِرُ بعدمِ المُبَالاةِ بِمَا حَفظَ من القُرْآنِ حتى نَسيَه.
وعن عبدالله بن مسعودٍ رضي الله عنه أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلّم - قال: ((من قَرأ حرفًا من كتاب الله فَلَهُ به حَسَنَةٌ، والحسنَةُ بعشْر أمْثالها، لا أقُول الم حرفٌ ولكن ألفٌ حرفٌ ولاَمٌ حرفٌ وميمٌ حرفٌ))[1]؛ رواه الترمذي.
وعنه رضي الله عنه أيضًا أنَّه قالَ: ((إنَّ هذا القرآنَ مأدُبةُ اللهِ فاقبلوا مأدُبَتَه ما استطعتمُ، إنَّ هذا القرآن حبلُ اللهِ المتينُ والنورُ المبينُ، والشفاءُ النافعُ، عصمة لِمَنْ تمسَّكَ بِهِ ونجاةٌ لِمَنْ اتَّبعَهُ، لا يزيغُ فَيُستَعْتَب، ولا يعوَجُّ فيقوَّمُ، ولا تنقضي عجائبه، ولا يَخْلَقُ من كثرةِ التَّرْدَادَ، اتلُوه فإنَّ الله يَأجُرُكُم على تلاوتِهِ كلَّ حرفٍ عشْرَ حسناتٍ. أمَا إني لا أقولُ الم حرفٌ ولكِنْ ألِفٌ حرفٌ ولاَمٌ حرفٌ وميم حرفٌ)) رواه الحاكِم.(/3)
إخواني: هذه فضائِل قِراءةِ القُرآنِ، وهذا أجْرُه لمن احتسب الأجرَ مِنَ الله والرِّضوان، أجورٌ كبيرةٌ لأعمالٍ يسيرةٍ، فالمَغْبونُ منْ فرَّط فيه، والخاسرُ مَنْ فاتَه الرِبْحُ حين لا يمكنُ تَلافِيه، وهذه الفضائلُ شاملةٌ لجميع القرآنِ. وَقَدْ وردت السُّنَّةُ بفضائل سُورٍ معينةٍ مخصصةٍ فمن تلك السور سورةُ الفاتحة. ففي صحيح البخاري عن أبي سَعيدِ بن المُعلَّى رضي الله عنه أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلّم - قال له: ((لأعُلِّمنَّك أعْظَم سورةٍ في القرآن {الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَلَمِينَ} هي السَّبعُ المَثَانِي والقرآنُ العظيمُ الذي أوتيْتُه))، ومن أجل فضيلتِها كانت قراءتُها ركْنًا في الصلاةِ لا تصحُّ الصلاةُ إلاَّ بها، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلّم: ((لا صلاةَ لمن لم يقرأ بفاتحةِ الكتاب))؛ متفق عليه. وعن أبي هُريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم: ((مَنْ صلَّى صلاةً لمْ يقرأ فيها بفاتحةِ الكتاب فهي خِدَاجٌ يقولها ثلاثًا))، فقيل لأبي هريرة إنا نكون وراءَ الإِمام فقال اقْرأَ بِها في نَفْسكَ. الحديث؛ رواه مسلم.(/4)
ومن السور المعيَّنَة سورةُ البقرة وآل عمران قال النبي صلى الله عليه وسلّم: ((اقرؤوا الزهراوين البقرةُ وآل عمران فإنهما يأتيان يومَ القيامةِ كأنَّهُمَا غَمامتان أو غَيَايتان أو كأنهما فِرْقَانِ مِنْ طيرٍ صوافَّ تُحاجَّانِ عن أصحابهما اقرؤوا سُورَة البقرةِ فإنَّ أخْذَها بَرَكةٌ وتَرْكَها حسرةٌ لا يستطيعها البَطَلَةُ)) يعني السحرة؛ رواه مسلم. وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلّم - قال: ((إنَّ البيتَ الَّذِي تُقرأُ فيه سورة البقرةِ لا يَدْخله الشَّيطانُ))؛ رواه مسلم. وَذَلِكَ لأنَّ فيها آية الكرسيِّ. وقد صحَّ عن رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلّم - أن من قرأها في لَيْلَةٍ لم يَزَلْ عليه مِنَ الله حافظٌ ولا يَقربُه شيطانٌ حتى يُصْبحَ.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ جبْريلَ قالَ وهُو عِنْدَ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم: هذا بابٌ قد فُتِحَ من السَّماءِ ما فُتحَ قَطُّ، قال: فنزلَ منْه مَلكٌ فأتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلّم - فقال: ((أبْشرْ بنورَيْن قد أوتيتهما لم يؤتهُمَا نبيُّ قَبْلَك فاتِحةُ الكتابِ وخواتيمُ سورةِ البقرةِ لن تقْرَأ بحرفٍ منهما إلاَّ أوتِيتَهُ))؛ رواه مسلم.(/5)
ومن السُّورِ المعينةِ في الفضيلةِ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإِخلاص:1] ففي صحيح البخاري عن أبي سعيدٍ الخدريِّ أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلّم - قالَ فيها: ((والَّذِي نفْسي بيده إنَّها تعدلُ ثُلُثَ القرآنِ))، وليس معنى كونِها تعدلُه في الفضيلةِ أنَّها تُجْزِأ عنه. لذَلِكَ لو قَرَأهَا في الصلاةِ ثلاثَ مراتٍ لم تُجْزئه عن الفاتحةِ. ولا يَلْزَم من كونِ الشيءِ معادلاً لغيرهِ في الفضيلةِ أنْ يُجزأ عنه، ففي الصحيحين عن أبي أيُّوبَ الأنصارِي رضي الله عنه أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلّم - قال: ((مَنْ قالَ لا إِله إلاَّ الله وحده لا شريك له له الُملْكُ وله الحمدُ عَشْرَ مرَّاتٍ كان كمَن أعتقَ أربعةَ أنفُسٍ من ولدِ إسْماعيلَ)) ومع ذلك فلو كان عليه أربعُ رقاب كفارة فقال هذا الذكر لم يجزئه عن هذه الرقاب وإن كان يعادلها في الفضيلة.
ومن السُّور المعيَّنةِ في الفضيلةِ سُورتَا المُعوِّذَتَين {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ الْفَلَقِ} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}، فعن عُقْبةَ بن عامرٍ رضي الله عنه أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلّم - قال: ((ألمْ تَر آيَاتٍ أُنْزِلَت الليلةَ لمْ يُرَ مثْلُهُنَّ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ بِرَبِّ الْفَلَقِ} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}))؛ رواه مسلم. وللنَّسائي أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلّم - أمرَ عُقبَةَ أنْ يقرأ بهما ثم قال النبي صلى الله عليه وسلّم: ((ما سَأَلَ سائِل بمثلهما ولا اسْتَعَاذَ مُسْتِعيذٌ بمثلهما)).(/6)
فاجْتهدوا إخواني في كثرةِ قراءةِ القرآنِ المباركِ لا سيَّما في هذا الشهرِ الَّذِي أنْزل فيه فإنَّ لكثْرة القراءةِ فيه مزيَّةً خاصةً. كان جبريلُ يُعارضُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلّم - القُرْآنَ في رمضانَ كلَّ سنةٍ مرّةً. فَلَمَّا كان العامُ الَّذي تُوُفِّي فيه عارضَه مرَّتين تأكيدًا وتثبيتًا. وكان السَّلفُ الصالحُ رضي الله عنهم يُكثِرون من تلاوةِ القرآنِ في رمضانَ في الصلاةِ وغيرها. كان الزُّهْرِيُّ رحمه الله إذا دخلَ رمضانُ يقول إنما هو تلاوةُ القرآنِ وإطْعَامُ الطَّعامِ. وكان مالكٌ رحمه الله إذا دخلَ رمضانُ تركَ قراءةَ الحديثِ وَمَجَالسَ العلمِ وأقبَل على قراءةِ القرآنِ من المصْحف. وكان قتادةُ رحمه الله يخْتِم القرآنَ في كلِّ سبعِ ليالٍ دائمًا وفي رمضانَ في كلِّ ثلاثٍ وفي العشْرِ الأخير منه في كلِّ ليلةٍ. وكان إبراهيمُ النَخعِيُّ رحمه الله يختم القرآن في رمضان في كلِّ ثلاثِ ليالٍ وفي العشر الأواخِرِ في كلِّ ليلتينِ. وكان الأسْودُ رحمه الله يقرأ القرآنَ كلَّه في ليلتين في جميع الشَّهر.
فاقْتدُوا رحمَكُمُ الله بهؤلاء الأخْيار، واتَّبعوا طريقهم تلحقوا بالْبرَرَةِ الأطهار، واغْتَنموا ساعات اللَّيلِ والنهار، بما يُقرِّبُكمْ إلى العزيز الغَفَّار، فإنَّ الأعمارَ تُطوى سريعًا، والأوقاتَ تمْضِي جميعًا وكأنها ساعة من نَهار.
اللَّهُمَّ ارزقْنا تلاوةَ كتابِكَ على الوجهِ الَّذِي يرْضيك عنَّا. واهدِنا به سُبُلَ السلام. وأخْرِجنَا بِه من الظُّلُماتِ إلى النُّور. واجعلْه حُجَّةً لَنَا لا علينا يا ربَّ العالَمِين.
اللَّهُمَّ ارْفَعْ لَنَا به الدَّرجات. وأنْقِذْنَا به من الدَّرَكات. وكفِّرْ عنَّا به السيئات. واغْفِر لَنَا وَلِوَالِديِنَا ولجميعِ المسلمينَ برحمتكَ يا أرْحَمَ الراحمين. وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعين.
ــــــــــــــــــــــــــــ(/7)
[1] قال حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه. وقد صححه بعض المتأخرين موقوفًا على عبدالله.(/8)
العنوان: فضل رمضان
رقم المقالة: 1421
صاحب المقالة: د. أمين بن عبدالله الشقاوي
-----------------------------------------
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد:
فإنَّ الخالق لجميع المخلوقات - جل وعلا - قد فَضَّلَ بعضها على بعض، واختار منها ما شاء، فخلق الناس واختار منهم الأنبياء، وخلق الأماكن واختار منها المساجد، وخلق الشهور واختار منها رمضان، قال تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [القصص: 68].
وهذا (الشهر) قد خصه الله - عز وجل - بخصائص، من أعظمها وأجلها: أن الله تعالى أنزل فيه هذا القرآن العظيم هُدًى للناس وبينات، قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185].
قال بعض أهل العلم: إن الله - تبارك وتعالى - عَقَّبَ بالفاء السببية التي تفيد التعليل؛ ليبين أن سبب اختيار رمضان ليكون شهر الصوم هو إنزال القرآن فيه، قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1].
ومن المعلوم أن ليلة القدر في رمضان، فينبغي للمسلم أن يكثر من قراءة القرآن في هذا الشهر المبارك.(/1)
فعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "كَان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلَرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجود بالخير من الريح المُرْسَلَة"[1].
ومنها أنه تفتح فيه أبواب الجنان، وتغلق فيه أبواب النيران، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، صُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ وَمَرَدَةُ الْجِنِّ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النِّيرانِ فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ، وَفُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ، وَيُنَادِي مُنَادٍ يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ، وَلِلَّهِ عُتَقَاءُ مِنْ النَّارِ، وَذَلكَ كُلَّ لَيْلَةٍ فِي رَمَضَانَ))[2].
ومنها أن فيه ليلةً خير من ألف شهر؛ كما قال تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 2: 3].
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَنْ قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إيمانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ))[3].
والمقصود من هذه الخيريَّة أنَّ العَمَلَ الصالح في هذه اللَّيْلَةِ أفضل من العمل ألفَ شهر.
ومنها: استجابة الدعاء فيه، عن أبي سعيد الخُدْرِيّ - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إِنَّ للهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ عُتَقَاءَ مِنَ النَّارِ – يعني في رمضانَ - وَإِنَّ لِكُلِّ مُسْلِمٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ دَعْوَةً يَدْعُو بِهَا، فَيُسْتَجَابُ لَهُ))[4].
ومنها: أن خلوف فم الصائم، أطيب عند الله من ريح المسك.(/2)
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ، الحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا إِلَى سُبْعَمائة ضِعْفٍ، قال الله - عز وجل -: "إلاَّ الصَّوْمَ فإِنَّه لِي، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي. لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ: فَرْحَةٌ عِنْدَ فِطْرِهِ؛ وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ، وَلَخُلُوفُ فِيهِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللهِ مِنْ رِيحِ المِسْكِ))[5].
ومنها: فضل الاعتمار فيه، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لامرأة من الأنصار يقال لها أم سنان: ((مَا مَنَعَكِ أنْ تَكُونِي حَجَجْتِ مَعَنَا، قالت: "ناضحان كانا لأبي فلان - زوْجها - حج هو وابنه على أحدهما، وكان الآخر يسقي عليه غلامنا"، قال: ((فَعُمْرَةُ رَمَضَانَ تَقْضِي حَجَّةً أَوْ حَجَّةً مَعِي))[6].
ومنها تكفير الخطايا والسيئات، فعن مالك بن الحسن بن مالك بن الحويرث عن أبيه عن جده قال: "صعِدَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المنبر فلما رقي عتبة، قال: ((آمِين))، ثم رقي عتبة أخرى، فقال: ((آمين))، ثم رقي عتبة ثالثة، فقال: ((آمين))، ثم قال: ((أَتَانِي جِبْرِيلُ، فَقَال: يَا مُحَمَّدُ مَنْ أَدْرَكَ رَمَضَانَ، فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ فَأَبْعَدَهُ اللهُ، قُلْتُ: آمِين، قال: وَمَنْ أَدْرَكَ وَالِدَيْهِ أَوْ أَحَدَهُمَا فَدَخَلَ النَّارَ، فَأَبْعَدَهُ اللهُ آمِين، فَقَالَ: وَمَنْ ذُكِرْتَ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْكَ فَأَبْعَدَهُ اللهُ، قُلْ: آمِين، فَقُلْتُ: آمِين))[7].
وَعَنْ أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال - صلى الله عليه وسلم -: ((مَنْ قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إيمانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَمَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ))[8].(/3)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال - عليه الصلاة والسلام -: ((مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إيمانًا واحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ))[9].
ومعنى إيمانًا واحتسابًا في الحديثَيْن السابقين أي مصدقًا بفرضية الصيام، وراغبًا في ثوابه، طيبة نفسه بالصيام، غير كاره لصيامه ولا مستثقل لقيامه، وبعض الناس يصوم ويقوم عادة؛ لأنه رأى الناس يفعلون ذلك، وهذا خطأ، فإنه لا تُنَال هذه الأجور العظيمة إلا بإخلاص وابتغاء ثواب الله وجزائه.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
ـــــــــــــــــــــــــــ
[1] صحيح البخاري (1/16) برقم (6). وصحيح مسلم (4/1803) برقم (2308).
[2] سنن الترمذي (3/67) برقم (682).
[3] صحيح البخاري (2/31) برقم (1901)، وصحيح مسلم (1/523) برقم (759).
[4] كشف الأستار (1/457-458) برقم (962)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (ص419).
[5] صحيح البخاري (2/31) برقم (1904)، وصحيح مسلم (2/807) برقم (1151).
[6] صحيح البخاري (1/539) برقم (1782)، ومسلم (2/917) برقم (1256).
[7] صحيح ابن حبان (2/140) برقم (409).
[8] صحيح البخاري (2/31) برقم (1901). وصحيح مسلم (1/523) برقم (759).
[9] صحيح البخاري (2/60) برقم (2009). وصحيح مسلم (1/523) برقم (759).(/4)
العنوان: فضل شهر الله المحرم ويوم عاشوراء
رقم المقالة: 1944
صاحب المقالة: ناصر البابطين
-----------------------------------------
الحمد لله الذي وفَّق من شاء من عباده لطاعته، وحرم غيرهم بعدله وقدرته، أحمده حمدًا يليق بجلاله وعظيم سلطانه، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد...
فإن الله قد شرع لهذه الأمة مواسمَ للخيرات والعبادات، يدركون بها نقص أعمارهم وآجالهم عما كان عليه مَن سبقهم مِن طول الأعمار والآجال..
ومن هذه العبادات والمواسم: صوم شهر الله المحرم؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم- كما في صحيح مسلم: (أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم...)؛ فيستحب للمسلم أن يكثر من الصيام في هذا الشهر، فإن لم يقدر على ذلك صام ما تيسر له.
أيهما أفضل صوم شهر المحرم، أم صوم شهر شعبان؟
قال بعض العلماء: شهر شعبان أفضل؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يصومه إلا قليلا منه، ولم يحفظ عنه أنه كان يصوم شهر محرم، لكنه حث على صيامه بقوله: (إنه أفضل الصيام بعد رمضان).
قالوا: ولأن صوم شعبان ينزل منزلة الراتبة قبل الفريضة، وصوم المحرم ينزل منزلة النفل المطلق، ومنزلة الراتبة أفضل من منزلة النفل المطلق.
وقال النووي: لعله لم يعلم فضل المحرم إلا في آخر الحياة قبل التمكن من صومه، أو لعله كان يعرض فيه أعذار تمنع من إكثار الصوم فيه، كسفر ومرض وغيرهما" ا.هـ.
ويتأكَّدُ صومُ يوم عاشوراء وهو اليوم العاشر من شهر محرم، فصومه مستحب، وقد كان صيامه واجبًا في أول الإسلام ثم نسخ وبقي استحبابه.
الحكمة من صيامه:(/1)
أن يوم عاشوراء هو اليوم الذي نجى الله فيه موسى -عليه السلام- وقومه من فرعون وجنوده، فصامه موسى شكراً لله تعالى، وصامه نبينا -صلى الله عليه وسلم- وأمر بصيامه، فقد جاء في الصحيحين من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة فوجد اليهود صياماً يوم عاشوراء، فقال لهم النبي -صلى الله عليه وسلم- ما هذا اليوم الذي تصومونه؟ قالوا: هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه، وأغرق فرعون وقومه، فصامه موسى شكراً لله فنحن نصومه، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: فنحن أحق بموسى منكم، فصامه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأمر بصيامه" .
فضل صيام يوم عاشوراء:
فقد ورد في صومه فضلٌ عظيم كما في الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- (سئل عن صوم يوم عاشوراء؟ فقال: أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله)، رواه مسلم
وهذا من فضل الله علينا أن جعل صيام يوم واحد يكفر ذنوب سنة كاملة.
فهو آكد أيام الشهر، ثم يليه التاسع لقوله -صلى الله عليه وسلم-: (لئن بقيت، أو لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع والعاشر) رواه مسلم
مراتب صومه:
قال ابن القيم: (فمراتب صومه ثلاثة: أكملها أن يصام قبله يوم وبعده يوم، ويلي ذلك أن يصام التاسع والعاشر، وعليه أكثر الأحاديث. ويلي ذلك إفراد العاشر وحده بالصوم).
حكم إفراد يوم عاشوراء بالصوم؟
قال بعض العلماء: إنه يكره لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- (صوموا يوما قبله أو يوما بعده؛ خالفوا اليهود)، أخرجه أحمد في مسنده وابن خزيمة.
وقال بعض العلماء: إنه لا يكره ولكن يفوت بإفراده أجر مخالفة اليهود.
والراجح كما ذكر شيخُنا ابن عثيمين أنه لا يكره إفراده بالصيام.
اللهم اجعلنا من عبادك المتقين الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(/2)
العنوان: فضلْ شهرْ رمضَان
رقم المقالة: 1309
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحمدُ للهِ الذي أنشأَ وبَرَا، وخلقَ الماءَ والثَّرى، وأبْدَعَ كلَّ شَيْء وذَرَا، لا يَغيب عن بصرِه صغيرُ النَّمْل في الليل إِذَا سَرى، ولا يَعْزُبُ عن علمه مثقالُ ذرةٍ في الأرض ولاَ في السَّماء، {لَهُ مَا فِي السَّمَوَتِ وَمَا فِي الاَْرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى * وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الاَْسْمَاءُ الْحُسْنَى} [طه: 6 8]، خَلَقَ آدَمَ فابتلاه ثم اجْتَبَاهُ فتاب عليه وهَدَى، وبَعَثَ نُوحًا فصنَع الفُلْكَ بأمر الله وجَرَى، ونَجَّى الخَليلَ من النَّارِ فصار حَرُّها بَرْدًا وسلامًا عليه فاعتَبِرُوا بِمَا جَرَى، وآتَى مُوسى تسعَ آياتٍ فَمَا ادَّكَرَ فِرْعَوْنُ وما ارْعَوَى، وأيَّدَ عيسى بآياتٍ تَبْهَرُ الوَرى، وأنْزلَ الكتابَ على محمد فيه البيَّناتُ والهُدَى، أحْمَدُه على نعمه التي لا تَزَالُ تَتْرَى، وأصلِّي وأسَلِّم على نبيِّه محمدٍ المبْعُوثِ في أُمِ القُرَى، صلَّى الله عليه وعلى صاحِبِهِ في الْغارِ أبي بكرٍ بلا مِرَا، وعلى عُمَرَ الْمُلْهَمِ في رأيه فهُو بِنُورِ الله يَرَى، وعلى عثمانَ زوجِ ابْنَتَيْهِ ما كان حديثًا يُفْتَرَى، وعلى ابن عمِّهِ عليٍّ بَحْرِ العلومِ وأسَدِ الشَّرى، وعلى بَقيَةِ آله وأصحابِه الذين انتَشَرَ فضلُهُمْ في الوَرَىَ، وسَلَّمَ تسليمًا.(/1)
إخواني: لقد أظَلَّنَا شهرٌ كريم، وموسمٌ عظيم، يُعَظِّمُ اللهُ فيه الأجرَ ويُجْزلُ المواهبَ، ويَفْتَحُ أبوابَ الخيرِ فيه لكلِ راغب، شَهْرُ الخَيْراتِ والبركاتِ، شَهْرُ المِنَح والْهِبَات، {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة: 185]، شهرٌ مَحْفُوفٌ بالرحمةِ والمغفرة والعتقِ من النارِ، أوَّلُهُ رحمة، وأوْسطُه مغفرةٌ، وآخِرُه عِتق من النار. اشْتَهَرت بفضلِهِ الأخبار، وتَوَاتَرَت فيه الاثار، ففِي الصحِيْحَيْنِ: عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلّم - قال: ((إِذَا جَاءَ رمضانُ فُتِّحَت أبوابُ الجنَّةِ، وغُلِّقَتْ أبوابُ النار، وصُفِّدتِ الشَّياطينُ)). وإنما تُفْتَّحُ أبوابُ الجنة في هذا الشهرِ لِكَثْرَةِ الأعمالِ الصَالِحَةِ وتَرْغِيبًا للعَاملِينْ، وتُغَلَّقُ أبوابُ النار لقلَّة المعاصِي من أهل الإِيْمان، وتُصَفَّدُ الشياطينُ فَتُغَلُّ فلا يَخْلُصونُ إلى ما يَخْلُصون إليه في غيرِه.
وَرَوَى الإِمامُ أحمدُ عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلّم - قال: ((أُعْطِيَتْ أمَّتِي خمسَ خِصَال في رمضانَ لم تُعْطهُنَّ أمَّةٌ من الأمَم قَبْلَها؛ خُلُوف فِم الصائِم أطيبُ عند الله من ريح المسْك، وتستغفرُ لهم الملائكةُ حَتى يُفطروا، ويُزَيِّنُ الله كلَّ يوم جَنتهُ ويقول: يُوْشِك عبادي الصالحون أن يُلْقُواْ عنهم المؤونة والأذى ويصيروا إليك، وتُصفَّد فيه مَرَدةُ الشياطين فلا يخلُصون إلى ما كانوا يخلُصون إليه في غيرهِ، ويُغْفَرُ لهم في آخر ليلة، قِيْلَ يا رسول الله أهِيَ ليلةُ القَدْرِ؟ قال: لاَ ولكنَّ العاملَ إِنما يُوَفَّى أجْرَهُ إذا قضى عَمَلَه))[1].(/2)
إخواني: هذه الخصالُ الخَمسُ ادّخَرَها الله لكم، وخصَّكم بها مجالس شهر رمضان مِنْ بين سائِر الأمم، وَمنَّ عليكم ليُتمِّمَ بها عليكُمُ النِّعَمَ، وكم لله عليكم منْ نعم وفضائلَ: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110].
الخَصْلَةُ الأولى:
أن خُلوفَ فَمِ الصائِم أطيبُ عند الله مِنْ ريحِ المسك[2]، والخُلوف بضم الخاءِ أوْ فَتْحَها تَغَيُّرُ رائحةِ الفَم عندَ خُلُوِّ الْمَعِدَةِ من الطعام. وهي رائحةٌ مسْتَكْرَهَةٌ عندَ النَّاس لَكِنَّها عندَ اللهِ أطيبُ من رائحَةِ المِسْك لأنَها نَاشِئَةٌ عن عبادة الله وَطَاعَتهِ. وكُلُّ ما نَشَأَ عن عبادته وطاعتهِ فهو محبوبٌ عِنْدَه سُبحانه يُعَوِّضُ عنه صاحِبَه ما هو خيرٌ وأفْضَلُ وأطيبُ. ألا تَرَوْنَ إلى الشهيدِ الذي قُتِلَ في سبيلِ اللهِ يُريد أنْ تكونَ كَلِمةُ اللهِ هي الْعُلْيَا يأتي يوم الْقِيَامَةِ وَجرْحُه يَثْعُبُ دمًا لَوْنُهَ لونُ الدَّم وريحُهُ ريحُ المسك؟ وفي الحَجِّ يُبَاهِي اللهُ الملائكة بأهْل المَوْقِفِ فيقولُ سبحانَه: ((انْظُرُوا إلى عبادِي هؤلاء جاؤوني شُعْثًا غُبْرًا)). رواه أحمد وابن حبَّان في صحيحه[3]، وإنما كانَ الشَّعَثُ محبوبًا إلى اللهِ في هذا الْمَوْطِنِ لأنه ناشِأُ عَن طاعةِ اللهِ باجتنابِ مَحْظُوراتِ الإِحْرام وترك التَّرَفُّهِ.
الخَصْلَةُ الثانيةُ:(/3)
أن الملائكةَ تستغفرُ لَهُمْ حَتَّى يُفْطروا. وَالملائِكةُ عبادٌ مُكْرمُون عند اللهِ {لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]. فهم جَديْرُون بأن يستجيبَ الله دُعاءَهم للصائمينَ حيث أذِنَ لهم به. وإنما أذن الله لهم بالاستغفارِ للصائمين مِنْ هذه الأُمَّةِ تَنْويهًا بشأنِهم، ورفْعَةً لِذِكْرِهِمْ، وَبَيانًا لفَضيلةِ صَوْمهم، والاستغفارُ: طلبُ الْمغفِرةِ وهِي سَتْرُ الذنوب في الدُّنْيَا والآخِرَةِ والتجاوزُ عنها. وهي من أعْلىَ المطالبِ وأسْمَى الغَاياتِ فَكلُّ بني آدم خطاؤون مُسْرفونَ على أنفسِهمْ مُضْطَرُّونَ إلَى مغفرة اللهِ عَزَّ وَجَل.
الخَصْلَةُ الثالثةُ:
أن الله يُزَيِّنُ كلَّ يوم جنَّتَهُ ويَقول: ((يُوْشِك عبادي الصالحون أن يُلْقُوا عنهُمُ المَؤُونة والأَذَى ويصيروا إليك)) فَيُزَيِّن تعالى جنته كلَّ يومٍ تَهْيئَةً لعبادِهِ الصالحين، وترغيبًا لهم في الوصولِ إليهَا، ويقولُ سبحانه: ((يوْشِك عبادِي الصالحون أنْ يُلْقُوا عَنْهُمُ المؤونةُ والأَذَى)) يعني: مؤونَة الدُّنْيَا وتَعَبها وأذاهَا ويُشَمِّرُوا إلى الأعْمَالِ الصالحةِ الَّتِي فيها سعادتُهم في الدُّنْيَا والاخِرَةِ والوُصُولُ إلى دار السَّلامِ والْكَرَامةِ.
الخَصْلَةُ الرابعة:
أن مَرَدةَ الشياطين يُصَفَّدُون بالسَّلاسِل[4] والأغْلالِ فلا يَصِلُون إِلى ما يُريدونَ من عبادِ اللهِ الصالِحِين من الإِضلاَلِ عن الحق، والتَّثبِيطِ عن الخَيْر. وهَذَا مِنْ مَعُونةِ الله لهم أنْ حَبَسَ عنهم عَدُوَّهُمْ الَّذِي يَدْعو حزْبَه ليكونوا مِنْ أصحاب السَّعير. ولِذَلِكَ تَجدُ عنْدَ الصالِحِين من الرَّغْبةِ في الخَيْرِ والعُزُوْفِ عَن الشَّرِّ في هذا الشهرِ أكْثَرَ من غيره.
الخَصْلَةُ الخامسةُ:(/4)
أن الله يغفرُ لأمةِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلّم - في آخرِ ليلةٍ منْ هذا الشهر[5] إذا قَاموا بما يَنْبَغِي أن يقومُوا به في هذا الشهر المباركِ من الصيام والقيام تفضُّلاً منه سبحانه بتَوْفَيةِ أجورِهم عند انتهاء أعمالِهم فإِن العاملَ يُوَفَّى أجْرَه عند انتهاءِ عمله.
وَقَدْ تَفَضَّلَ سبحانه على عبادِهِ بهذا الأجْرِ مِنْ وجوهٍ ثلاثة:
الوجه الأول: أنَّه شَرَع لهم من الأعْمال الصالحةِ ما يكون سبَبًَا لمغَفرةِ ذنوبهمْ ورفْعَةِ درجاتِهم. وَلَوْلاَ أنَّه شرع ذلك ما كان لَهُمْ أن يَتَعَبَّدُوا للهِ بها. فالعبادةُ لا تُؤخذُ إِلاَّ من وحي الله إلى رُسُلِه. ولِذَلِكَ أنْكَرَ الله على مَنْ يُشَّرِّعُونَ مِنْ دُونِه، وجَعَلَ ذَلِكَ نَوْعًا مِنْ الشَّرْك، فَقَالَ سبحانه: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُواْ لَهُمْ مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ وَلَوْلاَ كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِىَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الشورى:21].
الوجه الثاني: أنَّه وَفَّقَهُمْ للعملِ الصالح وقد تَرَكَهُ كثيرٌ من النَّاسِ. وَلَوْلا مَعُونَةُ الله لَهُمْ وتَوْفِيْقُهُ ما قاموا به. فلِلَّهِ الفَضْلُ والمِنَّة بذلك.
{يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَىَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلاِْيمَانِ إِنُ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات:17].
الوجه الثالث: أنَّه تَفَضَّلَ بالأجرِ الكثيرِ؛ الحَسنةُ بعَشْرِ أمثالِها إلى سَبْعِمائَةِ ضِعْفٍ إلى أضعافٍ كثيرةٍ. فالْفَضلُ مِنَ الله بِالعَمَلِ والثَّوَابِ عليه. والحمدُ للهِ ربِّ العالمين.
إخْوانِي: بُلُوغُ رمضانَ نِعمةٌ كبيرةٌ عَلَى مَنْ بَلَغهُ وقَامَ بحَقِّه بالرِّجوع إلى ربه من مَعْصِيتهِ إلى طاعتِه، ومِنْ الْغَفْلةِ عنه إلى ذِكْرِهِ، ومِنَ الْبُعْدِ عنهُ إلى الإِنَابةِ إِلَيْهِ:(/5)
يَا ذَا الَّذِي مَا كفاهُ الذَّنْبُ في رَجبٍ حَتَّى عَصَى ربَّهُ في شهر شعبانِ
لَقَدْ أظَلَّكَ شهرُ الصَّومِ بَعْدَهُمَا فَلاَ تُصَيِّرْهُ أَيْضًا شَهْرَ عِصْيانِ
وَاتْل القُرآنَ وَسَبِّحْ فيهِ مجتَهِدًا فَإِنه شَهْرُ تسبِيحٍ وقُرْآنِ
كَمْ كنتَ تعرِف مَّمنْ صَام في سَلَفٍ مِنْ بين أهلٍ وجِيرانٍ وإخْوَانِ
أفْنَاهُمُ الموتُ واسْتبْقَاكَ بَعْدهمو حَيًَّا فَمَا أقْرَبَ القاصِي من الدانِي
اللَّهُمَّ أيْقِظنَا من رَقَدَات الغفلة، ووفْقنا للتَّزودِ من التَّقْوَى قَبْلَ النُّقْلَة، وارزقْنَا اغْتِنَام الأوقاتِ في ذيِ المُهْلَة، واغْفِر لَنَا ولوَالِدِيْنا ولِجَمِيع المسلِمِين برَحْمتِك يا أَرحم الراحِمين. وصلَّى الله وسلَّم على نبيَّنا محمدٍ وعلى آله وصحبِهِ أجمعين.
ــــــــــــــــــــــــ
[1] رواه البزار والبيهقي في كتاب الثواب وإسناده ضعيف جدًا، لكن لبعضه شواهد صحيحة.
[2] رواه البخاري ومسلم بدون تخصيص بهذه الأمة.
[3] صحيح بشواهده.
[4] رواه البخاري ومسلم بلفظ: "صفدت الشياطين"، وابن خزيمة بلفظ: "الشياطين مردة الجن" ، وفي رواية النسائي: "مردة الشياطين".
وكلها من حديث أبي هريرة بدون تخصيص بهذه الأمة.
[5] روى نحوه البيهقي من حديث جابر قال المنذري: "وإسناده مقارب أصلح مما قبله" يعني حديث أبي هريرة الذي في الأصل.(/6)
العنوان: فضل صلاة التهجد
رقم المقالة: 1506
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
الحمد لله العليم الحكيم؛ وفق من شاء من عباده للخيرات، واكتساب الحسنات، فكان سعيهم مشكورا، وعملهم مبرورا، نحمده على فضله ونعمه، ونشكره على آلائه ومننه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ اصطفى من خلقه عبادا تركوا الدنيا لأهلها، وأقبلوا بقلوبهم على الآخرة {تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ الله وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح:29] وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ ما صام أحد كصيامه، ولا قام كقيامه، وهو المغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، خير صحب وآل، والتابعين لهم بإحسان.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وأحسنوا ختام شكركم، واستدركوا فيما بقي منه ما فاتكم، واعلموا أن هذه الليالي القلائل هي خير الليالي، وحريٌ أن تكون فيها ليلة القدر، وهي خير من ألف شهر، من قامها إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه؛ فلا تحرموا أنفسكم بركتها، واعملوا بخير ما عندكم فيها؛ فإن الجزاء فيها كبير، وهبات الرحمن عظيمة، والمحروم من حرم خير الله تعالى {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدُخان:3-4].
أيها الناس: في هذه الليالي العظيمة تعج مساجد المسلمين في أول الليل وآخره بالمصلين: قائمين راكعين ساجدين، يتلون كتاب ربهم، وينصتون إلى آيته خاشعين متدبرين، متبعين هدي نبيهم محمد عليه الصلاة والسلام الذي شرع لهم قيام رمضان جماعة في المساجد، كما شرع لهم قيام الليل طوال السنة في بيوتهم.(/1)
وأحيا عمر رضي الله عنه سنة النبي عليه الصلاة والسلام، وجمع الناس على أئمتهم في رمضان، وكان هذا دأب المسلمين بتتابع القرون، وتطاول السنون، يحيون ليالي رمضان في المساجد، ويخصون العشر الأخيرة منه بمزيد عناية واجتهاد؛ تأسيا بالنبي عليه الصلاة والسلام، فيزيدون في ركعات الصلاة، ويطيلون القنوت والركوع والسجود.
والصلاة من أفضل الأعمال البدنية، ومن خير ما يتطوع به المسلم لربه عز وجل، وهي صلة بين العبد وربه، وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد؛ فإذا كانت الصلاة في أفضل شهر كانت أعظم، فكيف إذن إن كانت في خير عشر، وفي أفضل وقت وهو ثلث الليل الآخر، حين ينزل الرب جل جلاله، يغفر للمستغفرين، ويجيب الداعين، ويعطي السائلين.
لقد اجتمعت في قيام هذه الليالي المباركة فضيلة العمل وهو الصلاة، وفضيلة الشهر وهو رمضان، وفضيلة عشره الأخيرة، وفضيلة الوقت وهو ثلث الليل الآخر. وهذا العمل الصالح الجليل الذي كان في أشرف الزمان وأشرف الأماكن، وبهيئات هي أشرف الهيئات، إنما كان لله تعالى الذي لا يستحق العبادة سواه، وهو الكريم الجواد الذي بيده خزائن كل شيء، ويُعْطِي عطاء جزيلا على قليل الأعمال، فما ظنكم -يا عباد الله- بعطايا ربكم للمتهجدين، ولا سيما إذا علمنا ما في التهجد من فضيلة!!
إن قيام الليل له من الفضل والمنفعة للمؤمن ما لا يعده العادون، ولا يحصيه المحصون، ومن عظيم فضله أنه كان فرضا في أول الإسلام، وخوطب به النبي عليه الصلاة والسلام في مكة، ولمَّا تكتمل بعدُ شرائع الإسلام، ولا أقيمت للمسلمين دولة.(/2)
بل إن الأمر بقيام الليل جاء في أوائل السور المكية نزولا، وهي سورة المزمل التي هي ثانية السور نزولا أو ثالثتها أو رابعتها على خلاف بين المفسرين، ولو كانت الرابعة على أبعد تقدير فهي متقدمة جدا، وهذا يدل على مكانة قيام الليل من شريعة الإسلام؛ إذ جاء فيما تقدم نزوله من القرآن {يَا أَيُّهَا المُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ القُرْآَنَ تَرْتِيلًا} [المزمل:1-4] وسأل سعد بن هشام رحمه الله تعالى عائشة رضي الله عنها عن قِيَامِ الرسول عليه الصلاة والسلام فقالت: (أَلَسْتَ تَقْرَأُ: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ؟ قلت: بَلَى، قالت: فإن اللَّهَ عز وجل افْتَرَضَ قِيَامَ اللَّيْلِ في أَوَّلِ هذه السُّورَةِ فَقَامَ نَبِيُّ الله صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ حَوْلًا وَأَمْسَكَ الله خَاتِمَتَهَا اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا في السَّمَاءِ حتى أَنْزَلَ الله في آخِرِ هذه السُّورَةِ التَّخْفِيفَ فَصَارَ قِيَامُ اللَّيْلِ تَطَوُّعًا بَعْدَ فَرِيضَةٍ) رواه مسلم.
وفي رواية لأبي داود والدارمي: (فَقَامَ أَصْحَابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انْتَفَخَتْ أَقْدَامُهُمْ وَحُبِسَ خَاتِمَتُهَا في السَّمَاءِ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا ثُمَّ نَزَلَ آخِرُهَا فَصَارَ قِيَامُ اللَّيْلِ تَطَوُّعًا بَعْدَ فَرِيضَةٍ).(/3)
بيد أن قيام الليل وإن وُضع فرضه عن المسلمين؛ رحمة من الله تعالى بهم، وتخفيفا علىهم؛ لعجزهم وضعفهم؛ فإنه ظل فريضة على النبي عليه الصلاة والسلام؛ تعظيما لشأنه، وزيادة في رفعة درجاته، وتخصيصا له بفضائل الأعمال كما اختصه الله تعالى بأعلى المنازل والمقامات؛ وفي سورة الإسراء خوطب النبي عليه الصلاة والسلام بالفرائض، ثم خُوطب عقبها بقيام الليل {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء:79] أي لأجلك، وهذا دليل اختصاص النبي عليه الصلاة والسلام بفرض قيام الليل دون أمته.
والله تعالى لا يختار لخاتم رسله إلا ما هو أفضل وأكمل، ولا يفترض عليه إلا ما يقربه إليه، ولا سيما أن الله تعالى قد علَّلَ هذا الأمر لنبيه عليه الصلاة والسلام في فرض قيام الليل عليه بقوله سبحانه {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:79].
والمقام المحمود مقام عظيم جليل يوم القيامة، وهو مقام الشفاعة للخلق بأن يُقضى بينهم، ولا يكون ذلك المقام إلا للنبي عليه الصلاة والسلام، حين يشفع عند الله تعالى فيقبل الله تعالى شفاعته، فيغبطه المرسلون عليهم السلام على ذلك المقام.
فكان المتأسي بالنبي عليه الصلاة والسلام في قيام الليل قد تأسى بما اختاره الله تعالى له، وفرضه عليه؛ ليعطيه المقام المحمود، وفي ذلك من الفضيلة ما لا يخفى.
وقيام الليل جاء الأمر به في القرآن كثيرا:
ففي سورة ق {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} [ق:40].
وفي الطور {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} [الطُّور:49].
وفي الإنسان {وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا} [الإنسان:26].
وأثنى سبحانه وتعالى على المتهجدين فقال {أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزُّمر:9].(/4)
وفي الأمم التي سبقتنا صالحون متهجدون يقومون بآيات الله تعالى والناس نيام فامتدحهم الله تعالى بذلك {مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آَيَاتِ الله آَنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} [آل عمران:113].
وذكر سبحانه في الفرقان صفات عباده عز وجل، ومنها {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} [الفرقان:64]، ثم بين سبحانه أن مأواهم الجنة بقوله سبحانه {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا * خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} [الفرقان:75-76].
وفي مقام آخر ذكر سبحانه وتعالى ما أعد لعباده المتقين في الجنة من النعيم المقيم، وذكر من صفاتهم {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالقَانِتِينَ وَالمُنْفِقِينَ وَالمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} [آل عمران:17].
وفي موضع ثالث أخبر عز وجل أن للمتقين جنات النعيم، وذكر من أعمالهم أنهم {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات:17].
وذكر سبحانه وتعالى أن المؤمنين بآيات الله تعالى تنتفع قلوبهم بها، فيخشعون عندها، وينقادون لها، ويتأثرون بمواعظها، فتزيدهم تعظيما لله تعالى وإجلالا، وخضوعا وإذعانا، ومحبة وخوفا ورجاء، ثم قال سبحانه في وصف حالهم بالليل والناس نيام {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} [السجدة:16] والجنوب لا تتجافى عن المضاجع إلا إذا تحركت القلوب، والقلوب إنما تهتم للأمور العظيمة المهمة، وهل شيء في الدنيا -بعد الإيمان- أعظم وأجلُّ وأهمُّ من مناجاة الله تعالى في هجعة الليل وسكون الخلق؟! ولا يدرك عظمة ذلك إلا أصحاب القلوب الحيَّة، والضمائر اليقظة، الذين عرفوا قدر ربهم، فعظموه حق التعظيم، وانتفضوا من فرشهم لجلاله في الليل البهيم، ذاكرين مسبحين مستغفرين.(/5)
عرفوا ضعف أنفسهم وعجزهم وهوانهم وحاجتهم إلى الله تعالى، وافتقارهم إليه؛ فسألوا حاجاتهم ممن يقضي الحاجات، واستغفروا من يغفر الذنوب {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ} [آل عمران:135].
وقراءة الليل أقوى حضورا للقلب، وأعظم تأثيرا في النفس، وأكثر خشوعا، وأحرى بالتدبر؛ فكانت صلاة الليل أفضل الصلاة بعد الفريضة {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل:6] وروى أبو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ الله الْمُحَرَّمُ وَأَفْضَلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلَاةُ اللَّيْلِ) رواه مسلم.
فخذوا حظكم -عباد الله- من هذه الليالي المباركة التي هي خير الليالي، وأحيوها بالقرآن قراءة وتدبرا وخشوعا، وانطرحوا فيها على باب ربكم عز وجل؛ فله فيها هبات عظيمة من حازها فاز وسعد في الدارين، ومن فاتته فوالله إنه المغبون {وَلله خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ المُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ} [المنافقون:7].
بارك الله لي ولكم في القرآن…..
الخطبة الثانية
الحمد لله الجواد الكريم؛ يعطي جزيلا على القليل، ويغفر الذنب العظيم، نحمده ونشكره ونتوب إليه ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد فاتقوا الله تعالى، واعملوا صالحا؛ فلا يبقى للعبد في قبره وآخرته إلا عمله في الدنيا {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا} [طه: 112].(/6)
أيها المسلمون: قيام الليل سبب للقرب من الله تعالى، وما صام الصائمون، وتعبد المتعبدون إلا تقربا إلى الله تعالى، روى عمرو بن عبسة رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أقرب ما يكون الرب من العبد في جوف الليل الآخر فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن) رواه الترمذي.
وقيام الليل سبب لمحبته عز وجل لعبده القائم القانت، ومَنْ مِنَ المؤمنين لا يرجو محبته سبحانه ؛ روى أبو الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة يحبهم الله ويضحك إليهم ويستبشر بهم ….وذكر منهم: الذي له امرأة حسنة وفراش لين حسن فيقوم من الليل فيقول الله عز وجل: يذر شهوته ويذكرني ولو شاء رقد) رواه الطبراني وحسنه المنذري.
وجاء في حديث ابنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه: أن رَبَّنَا عز وجل عَجِبَ من رَجُلٍ ثَارَ عن وِطَائِهِ وَلِحَافِهِ من بَيْنِ أَهْلِهِ وَحَبِّهِ إلى صَلاَتِهِ فيقول رَبُّنَا: أَيَا ملائكتي، انْظُرُوا إلى عبدي ثَارَ من فِرَاشِهِ ووطائه مِنْ بَيْنِ حَبِّهِ وَأَهْلِهِ إلى صَلاَتِهِ رَغْبَةً فِيمَا عندي وَشَفَقَةً مِمَّا عندي) رواه أحمد وصححه ابن حبان.
وفي رواية للطبراني: (فيقول اللَّهُ عز وجل لِمَلائِكَتِهِ: ما حَمَلَ عَبْدِي هذا على ما صَنَعَ؟ فَيَقُولُونَ: رَبَّنَا رَجَاءَ ما عِنْدَكَ وَشَفَقَةً مِمَّا عِنْدَكَ، فيقول: فَإِنَّي قد أَعْطَيْتُهُ ما رَجَا وَأَمَّنْتُهُ مِمَّا خَافَ) جاء مرفوعا وموقوفا، قال الدارقطني: والموقوف أصح.(/7)
أرأيتم يا عباد الله لو أن ملكا من ملوك الدنيا ضرب موعدا لأحد الناس في جوف الليل الآخر ليقابله وحده، ويسمع شكايته، ويقضي حاجته، بل ويكون لقاؤه به سبب قربه منه، ومحبته له، أتراه يهنأ بنوم تلك الليلة؟ كلا، بل لا ينام، وإن نام فنومُ متيقظٍ لا يكاد يخفق رأسه إلا فزع يخشى فوات موعده، فما ظنكم بمن سيناجي ربَّ العالمين، وملك الملوك، ومن خزائن الدنيا والآخرة بيده، ومن يقضي كل الحاجات، لا يعجزه شيء، ولا يستعظم عطاءً أعطاه؛ يناجيه لينال قربه ومحبته، ويسأله حاجته، ما ظنكم به!!
وكم أغدق ربنا جل في علاه على الخلق منذ خلقهم؟ وكم أعطاهم وهم يعصونه؟ وما أمسك عنهم رزقه، ولا أغلق دونهم خزائنه؛ بل يعطي ويعطي ويعطي {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ الله بَاقٍ} [النحل:96] {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} [ص:54].
فهنيئا لمؤمن يتوضأ في جوف الليل والناس نيام، فيخلو بربه يناجيه، يتلو كتابه، ويسأل حاجته، ويُلِّح عليه في سؤاله؛ فو الله ما خسر ولا خاب، ولا يردُّه الكريم الوهاب، وفي الليل ساعة إجابة قد يوافقها فينال حظه منها، فما أوفر حظه!وما أسعده! روى جَابِرٌ رضي الله عنه فقال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إِنَّ في اللَّيْلِ لَسَاعَةً لَا يُوَافِقُهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ يَسْأَلُ اللَّهَ خَيْرًا من أَمْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إلا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ وَذَلِكَ كُلَّ لَيْلَةٍ) رواه مسلم.
فأين من وقفوا على أبواب الملوك والأغنياء، ينتظرون ساعات تلو ساعات؛ لحاجات يسألونهم قضاءها، أو لقليل من الدنيا يرجونه، ربما أدركوه وربما فاتهم.(/8)
أين هم عن أبواب الكريم الوهاب، وقيام الليل باب من أبوابه، وجوف الليل الآخر من أوسع أبوابه، وهذه الليالي الفاضلة هي أوسع الليالي لرحمته ومغفرته وعطائه، وفي ليلة القدر تكتب الآجال والأرزاق والمقادير؛ فليكونوا فيها حيث أمرهم الله تعالى في مساجدهم وخلواتهم، وليسألوا ربهم حاجاتهم؛ فإنهم لا يخيبون كما يخيبون عند أبواب أهل الدنيا، روت أُمُّ سَلَمَةَ رضي الله عنها فقالت: (اسْتَيْقَظَ النبي صلى الله عليه وسلم من اللَّيْلِ وهو يقول: لَا إِلَهَ إلا الله مَاذَا أُنْزِلَ اللَّيْلَةَ من الْفِتْنَةِ؟ مَاذَا أُنْزِلَ من الْخَزَائِنِ؟ من يُوقِظُ صَوَاحِبَ الْحُجُرَاتِ؟ كَمْ من كَاسِيَةٍ في الدُّنْيَا عَارِيَةٍ يوم الْقِيَامَةِ) رواه البخاري.
اللهم أغدق علينا من فضلك، وأوجب لنا رحمتك، وخذ بنواصينا إلى ما يرضيك عنا، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، وافتح لنا أبواب مناجاتك، واجعلنا من عبادك المقربين السابقين، واقبل منا ومن المسلمين، آمين يا رب العالمين.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم....(/9)
العنوان: فضل عشر ذي الحجة والعمل الصالح فيها
رقم المقالة: 232
صاحب المقالة: عبدالرحمن السديس
-----------------------------------------
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم أما بعد :
فإن أيام العشر من ذي الحجة من أعظم المواسم التي امتن بها علينا ، فهي باب عظيم من أبواب تحصيل الحسنات ورفع الدرجات وتكفير السيئات ، والموفق من اغتنمها وحاز على رضا الله تعالى.
ولهذه العشر فضائل كثيرة دلت عليها نصوص الكتاب والسنة وأقوال وأعمال الصحابة ، وهناك بعض الأحكام المتعلقة بها لعلي هنا أنقل ما فيه فائدة إذ أن فيما كتب الفضلاء من العلماء وطلبة العلم غنية عن التكرار.
وهذا أول نقل من (صيد الفوائد) كتبه : محمد حسن يوسف:
أولاً: فضل عشر ذي الحجة:
(1) قال تعالى: {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍِ} [ الفجر: 1-2 ]. ذكر ابن كثير في تفسيره عن ابن عباس قوله: هي ليالي العشر الأول من ذي الحجة.
(2) وقال تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [ الحج: 28 ]. نقل البخاري في صحيحه عن ابن عباس قوله في هذه الأيام أنها: أَيَّامُ العَشْرِ.
(3) وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أفضل أيام الدنيا أيام العشر. [صحيح / صحيح الجامع الصغير، (1133)].
شرح وتعليق:
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني ( فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 2/534 ): والذي يظهر أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة لمكان اجتماع أمهات العبادة فيه, وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج, ولا يتأتى ذلك في غيره.
وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية (مجموع فتاوى ابن تيمية، 25/154) عن عشر ذي الحجة والعشر الأواخر من رمضان، أيهما أفضل؟ فأجاب: أيام عشر ذي الحجة أفضل من أيام العشر من رمضان، والليالي العشر الأواخر من رمضان أفضل من ليالي عشر ذي الحجة.(/1)
وقال ابن القيم الجوزية (بدائع الفوائد، 660/3): وإذا تأمل الفاضل اللبيب هذا الجواب وجده شافيا كافيا، فإنه ليس من أيام العمل فيها أحب إلى الله من أيام عشر ذي الحجة. وفيها يوم عرفة ويوم النحر ويوم التروية. وأما ليالي عشر رمضان فهي ليالي الأحياء التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحييها كلها، وفيها ليلة خير من ألف شهر. فمن أجاب بغير هذا التفصيل، لم يمكنه أن يدلي بحجة صحيحة .
ثانياً: الترغيب في العمل الصالح في عشر ذي الحجة:
(4) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: مَا الْعَمَلُ فِي أَيَّامٍ أَفْضَلَ مِنْهَا فِي هَذِهِ .قَالُوا: وََلا الْجِهَادُ؟ قَالَ: وََلا الْجِهَادُ، إَِلا رَجُلٌ خَرَجَ يُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ. [صحيح البخاري، (969)]. إلا: أي إلا جهاد رجل...
وفي رواية الترمذي وأبي داود: وعَنه أن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ اْلأيَّامِ الْعَشْرِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وََلا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: وََلا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إَِلا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ. [صحيح / صحيح سنن الترمذي، (757)؛ صحيح سنن أبي داود، (2438)؛ صحيح سنن ابن ماجه (1753). ولتمام الفائدة، انظر جامع الأصول في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، (6863)].(/2)
(5) وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَا مِنْ عَمَلٍ أَزْكَى عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وََلا أَعْظَمَ أَجْرًا مِنْ خَيْرٍ يَعْمَلُهُ فِي عَشْرِ اْلأضْحَى، قِيلَ: وََلا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ: وََلا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، إَِلا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ. قَالَ (أي: راوي الحديث): وَكَانَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ إِذَا دَخَلَ أَيَّامُ الْعَشْرِ اجْتَهَدَ اجْتِهَادًا شَدِيدًا حَتَّى مَا يَكَادُ يَقْدِرُ عَلَيْهِ. [حسن/ صحيح الترغيب والترهيب للألباني، (1148)].
(6) وعنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من أيام العمل فيهن أفضل من عشر ذي الحجة. قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا من عقر جواده وأهريق دمه. [صحيح/ صحيح الترغيب والترهيب للألباني، (1149/2)].
(7) وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أفضل أيام الدنيا العشر – يعني: عشر ذي الحجة. قيل: ولا مثلهن في سبيل الله؟ قال: ولا مثلهن في سبيل الله، إلا رجل عفر وجهه بالتراب ... الحديث. [صحيح/ صحيح الترغيب والترهيب للألباني، (1150/3)].
(8) وعنه رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من أيام أفضل عند الله من أيام عشر ذي الحجة. قال: فقال رجل: يا رسول الله! هي أفضل أم عدتهن جهادا في سبيل الله؟ فقال: هي أفضل من عدتهن جهادا في سبيل الله، إلا عفيرا يعفر وجهه في التراب ... الحديث. [صحيح/ صحيح الترغيب والترهيب للألباني، (3/1150)].
شرح الأحاديث:(/3)
قال ابن حجر (فتح الباري، 2/533) وفي الحديث تعظيم قدر الجهاد وتفاوت درجاته وأن الغاية القصوى فيه بذل النفس لله، وفيه تفضيل بعض الأزمنة على بعض، الأمكنة، وفضل أيام عشر ذي الحجة على غيرها من أيام السنة، وتظهر فائدة ذلك فيمن نذر الصيام أو علق عملاً من الأعمال بأفضل الأيام، فلو أفرد يوماً منها تعين يوم عرفة، لأنه على الصحيح أفضل أيام العشر المذكور، فإن أراد أفضل أيام الأسبوع تعين يوم الجمعة، جمعاً بين حديث الباب وبين حديث أبي هريرة مرفوعاً: "خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة" [صحيح مسلم، (17/854) و(18/854)]، أشار إلى ذلك كله النووي في شرحه.
وقال ابن رجب الحنبلي (لطائف المعارف،520-521): وقد دلت هذه الأحاديث على أن العمل في أيام ذي الحجة أحب إلى الله من العمل في أيام الدنيا من غير استثناء شيء منها، وإذا كان أحب إلى الله فهو أفضل عنده ... ولهذا قالوا: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: " ولا الجهاد في سبيل الله "، ثم استثنى جهاداً واحداً هو أفضل الجهاد ... ( فعن جابر رضي الله عنه، قال: قال رجل: يا رسول الله أي الجهاد أفضل؟ قال: أن يعقر جوادك ويهراق دمك. [صحيح/ صحيح ابن حبان، 4639]) ... فهذا الجهاد بخصوصه يفضل على العمل في العشر ... و أما بقية أنواع الجهاد فإن العمل في عشر ذي الحجة أفضل وأحب إلى الله عز وجل منها .اهـ.
ومن الأعمال المستحبة في هذه الأيام:
* الصيام:(/4)
قال ابن رجب الحنبلي (لطائف المعارف، 522 ): وممن كان يصوم العشر عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. ويقول أكثر العلماء أو كثير منهم بفضل صيام هذه الأيام. ولا يعترض على هذا بما روته عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَائِمًا فِي الْعَشْرِ قَطُّ. [صحيح مسلم، (1176/9)]. وقد قال الإمام النووي في تفسيره لهذا الحديث (شرح صحيح مسلم، 4/328): إن هذا الحديث مما يوهم كراهة صوم العشر، والمراد بالعشر هنا: الأيام التسعة من أول ذي الحجة. قالوا: وهذا مما يتأول، فليس في صوم هذه التسعة كراهة، بل هي مستحبة استحبابا شديدا، لاسيما التاسع منها، وهو يوم عرفة ... (والأحاديث الصحيحة السابقة تؤكد على اختصاص هذه الأيام بفضل العمل الصالح، فبذلك) ... يتأول قولها: لم يصم العشر، أنه لم يصمه لعارض مرض أو سفر أو غيرهما، أو أنها لم تره صائما فيه، أ.هـ.، أو لاحتمال أن يكون ذلك لكونه كان يترك العمل وهو يحب أن يعمله خشية أن يفرض على أمته، كما جاء في الصحيحين، من حديث عائشة أيضا، قاله ابن حجر في الفتح (2/534)، ولا يلزم من ذلك عدم صيامه في نفس الأمر. وعقّب ابن رجب الحنبلي في لطائف المعارف (523) بقوله: وكان ابن سيرين يكره أن يقال: صام العشر لأنه يوهم دخول يوم النحر فيه، وإنما يقال: صام التسع، ولكن الصيام إذا أضيف إلى العشر فالمراد صيام ما يجوز صومه منه.
* قيام الليل:
قال ابن رجب الحنبلي (لطائف المعارف، 524): وأما قيام ليالي العشر فمستحب. وورد إجابة الدعاء فيها. واستحبه الشافعي وغيره من العلماء. وكان سعيد بن جبير، وهو الذي روى الحديث [4] عن ابن عباس رضي الله عنهما، إذا دخل العشر اجتهد اجتهاداً حتى ما يكاد يقدر عليه، وروي عنه أنه قال: "لا تطفئوا سرُجُكم ليالي العشر"، تعجبه العبادة.
* ذكر الله:(/5)
قال ابن رجب الحنبلي (لطائف المعارف، 524): وأما استحباب الإكثار من الذكر فيها فقد دل عليه قول الله عز وجل: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج: 28]. فإن الأيام المعلومات هي أيام العشر عند جمهور العلماء. وروى البخاري في صحيحه: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ يَخْرُجَانِ إِلَى السُّوقِ فِي أَيَّامِ الْعَشْرِ يُكَبِّرَانِ وَيُكَبِّرُ النَّاسُ بِتَكْبِيرِهِمَا. وروى أيضا: وَكَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُكَبِّرُ فِي قُبَّتِهِ بِمِنًى، فَيَسْمَعُهُ أَهْلُ الْمَسْجِدِ، فَيُكَبِّرُونَ وَيُكَبِّرُ أَهْلُ اْلأَسْوَاقِ، حَتَّى تَرْتَجَّ مِنًى تَكْبِيرًا. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُكَبِّرُ بِمِنًى تِلْكَ اْلأَيَّامَ، وَخَلْفَ الصَّلَوَاتِ، وَعَلَى فِرَاشِهِ، وَفِي فُسْطَاطِهِ وَمَجْلِسِهِ وَمَمْشَاهُ تِلْكَ اْلأَيَّامَ جَمِيعًا. وَكَانَتْ مَيْمُونَةُ تُكَبِّرُ يَوْمَ النَّحْرِ، وَكُنَّ النِّسَاءُ يُكَبِّرْنَ خَلْفَ أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ لَيَالِيَ التَّشْرِيقِ مَعَ الرِّجَالِ فِي الْمَسْجِدِ. وحري بنا نحن المسلمين أن نحيي هذه السنة التي قد أضيعت في هذه الأزمان، وتكاد تُنسى حتى من أهل الصلاح والخير.
* التوبة إلى الله:
فعلينا استقبال هذه الأيام بأن نبرأ إلى الله تعالى من كل معصية كنا نعملها، والإقلاع عن كل ما نهى تعالى عنه. فإن الذنوب تحرم الإنسان فضل ربه، وتحجب القلب عن معرفة الله.
* تجديد النية باغتنام هذه الأيام بما يرضي الله:
فحري بالمسلم استقبال مواسم الخير عامة بالعزم الأكيد على اغتنامها بما يرضي الله تعالى. فلنحرص على اغتنام هذه الفرصة السانحة، قبل أن تفوت فلا ينفع الندم حينئذ.(/6)
* هذا بالإضافة إلى الأعمال الفاضلة الثابتة الأخرى، مثل الحرص على الصلاة في جماعة، والحرص على الوقوف في الصف الأول في الجماعة، والحرص على الإكثار من الصدقة، والإكثار من قراءة القرآن، والإكثار من الدعاء في هذه الأيام.
ثالثاً: الترغيب في صوم يوم عرفة:
(9) عَنْ أَبِي قَتَادَةَ اْلأنْصَارِيِّ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ، أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ، وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ. [صحيح مسلم، (196/1162)؛ وصحيح سنن الترمذي، (749)؛ وصحيح سنن ابن ماجه (1756). وانظر جامع الأصول، (4463)].
(10) وعَنْه رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم َسُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ، فَقَالَ: يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ وَالْبَاقِيَةَ. [ صحيح مسلم، (197/1162)].
(11) وعَنْ قَتَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ، رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: مَنْ صَامَ يَوْمَ عَرَفَةَ غُفِرَ لَهُ سَنَةٌ أَمَامَهُ وَسَنَةٌ بَعْدَهُ. [صحيح سنن ابن ماجه، (1757)].
شرح الأحاديث:(/7)
قال النووي (شرح صحيح مسلم، 4/308): معناه يكفر ذنوب صائمه في السنتين، قالوا: والمراد بها الصغائر، وهذا يشبه تكفير الخطايا بالوضوء، فإن لم تكن هناك صغائر يرجى التخفيف من الكبائر، فإن لم يكن رفعت درجات. وقال الملا علي القاري (مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، 4/474): قال إمام الحرمين: المكفر الصغائر. وقال القاضي عياض: وهو مذهب أهل السنة والجماعة, وأما الكبائر فلا يكفرها إلا التوبة، أو رحمة الله. وقال المباركفوري (تحفة الأحوذي، 3/171-172): فإن قيل: كيف يكون أن يكفر السنة التي بعده مع أنه ليس للرجل ذنب في تلك السنة. قيل: معناه أن يحفظه الله تعالى من الذنوب فيها, وقيل: أن يعطيه من الرحمة والثواب قدرا يكون ككفارة السنة الماضية والسنة القابلة إذا جاءت واتفقت له ذنوب.
رابعاً: فضل يوم النحر:
(12) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُرْطٍ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: إِنَّ أَعْظَمَ اْلأَيَّامِ عِنْدَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَوْمُ النَّحْرِ، ثُمَّ يَوْمُ الْقَرِّ. [صحيح/ صحيح سنن أبي داود، (1765)؛ وصحيح الجامع الصغير (1064)].
شرح الحديث:
قال الألباني (صحيح الجامع الصغير، 1/242): يوم القر: هو الغد من يوم النحر، وهو حادي عشر ذي الحجة، لأن الناس يقرون فيه بمنى، أي يسكنون ويقيمون.(/8)
العنوان: فضل عشر ذي الحجة
رقم المقالة: 1650
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70-71].
أما بعد: فيحتاج المسلم حالَ غفلته ولهوه إلى تذكيرٍ بالله والآخرة؛ فالأولاد والأموال ألهتْنا كثيرًا عن ذكر الله وطاعته، وسعيُنا ولهاثُنا لتحصيل قدرٍ أكبر من الرَّفاهية والشهوات حطم قدراتنا في تحمل الكثير من العبادات، والصبر عن المحرمات؛ حتى أضحت أجسادنا لا تتحمَّلُ طول القيام والقنوت، وكثرة الرُّكوع والسُّجود، وقضاءَ الليل في القرآن والذكر.
ومنا من قد يجد صعوبة في الصبر عن مال تطوله يداه لكنه شبهة أو حرام.
ومنا من لا يطيق مفارقة سماع الحرام، أو إدامة نظره، أو سرعة الخطى إليه، بعيدًا عن مراقبة الله – تعالى - والحذر من مكره وخوف عذابه، وخشيته وتقواه.(/1)
وكل ذلك إنَّما حصل لمَّا تعلَّقت القلوب بغير الله تعالى؛ فالقلوب إذا صلحت صلحت معها الأجساد، وإذا فَسَدَتْ أفْسَدَتْها حتى تَثَّاقَل عن الخيرات، وتُسارع في المنكرات؛ ولكن يبقى الأمل في عفو الله ورحمته وتوفيقه كبيرًا؛ إذ تذكرنا مواسمُ الخيرات ربنا إذا نسينا، وتنبهنا إذا غفلنا، وتدعونا إلى تجديد التوبة مع خالقنا ورازقنا. وهذا أحدها يقترب منا، فماذا أعددنا له من توبة ومن عمل صالح؟!
انظروا - رحِمكم الله - إلى الدارسين كيف يستقبلون مواسم الفوز والنجاح، وماذا يعدّون لها من جدٍّ واجتهاد؟!
راقبوا كيف يستقبل التجار مواسم البضائع في الصيف والشتاء، والإجازات والأعياد؟! يحرصون على عدم فوات أي شيء، وتوفير ما يجلب الناس إليهم.
تأمَّلوا كيف يستقبل رجالُ الأعمال فرص المُنَاقَصَاتِ وإرساء العقود، كيف يَصِلُون الليل بالنهار في دراسات دقيقة، واستشارات عديدة!!
هذه نماذج من مواسم سوق الدنيا، فما رأيكم في التجارة مع الله – تعالى - ويا ترى ما الاستعداد لمواسم الرحمن، وفرص المغفرة والرحمة والعتق من النار؟ وكيف سيكون التعاملُ مع أيام الله المباركات؟!
هذه عشر ذي الحجة المحرم تُوشِكُ أن تنزل بساحتنا، فهل سنضيعها كما أضعنا عشرات المواسم التي تمر بنا؟!
أيُّ حرمانٍ ينتظر من يَجِدُّ في مواسم الدنيا وفرصها، ويذرُ مواسم الرحمن والاتجار للآخرة. هذه العشر التي جاء القسم بها في كتاب الله – تعالى -: {وَالفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالوَتْرِ} [الفجر: 1-3]. هي عشر ذي الحجة كما هو الصحيح الذي عليه جمهورُ المُفَسّرين من السلف وغيرهم[1]، ودلَّ على ذلك حديث جابرُ بْنُ عبدالله - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن العشرَ عشرُ الأضحى، والوترَ يومُ عرفة، والشفعَ يومُ النحر))؛ أخرجه الإمام أحمد، وحسنه الحافظ ابن رجب[2].(/2)
وأخرج البخاري من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما من أيَّام العمل الصالح فيها أحبُّ إلى الله من هذه الأيام))، يعني أيام العشر قالوا: "يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟!" قال: ((ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء))[3].
ومن العمل الصالح المشروع فيها: صيامُها؛ لما ورد عن هُنَيْدة بن خالد عن امرأته عن بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصوم تسع ذي الحجة، ويوم عاشوراء، وثلاثة أيام من كل شهر، أول اثنين من الشهر وخميسين))[4].
وكان عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما - يَصومُها، وأكثر العلماء على القول بصيامها.
وكان سعيد بن جبير إذا دخل عشر ذي الحجة اجتهد اجتهادًا؛ حتى ما يكاد يقدر عليه ويقول: "لا تطفئوا سرجكم ليالي العشر تعجبه العبادة".
والذكر فيها أفضل من الذكر في غيرها {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج: 27] فإنَّ الأيَّام المعلومات هي أيَّام العشر عند جمهور العلماء، وروى ابن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما من أيَّام أعظمُ عند الله ولا أحبُّ إليه العملُ فيهن من هذه الأيام العشر؛ فأكْثِرُوا فيهنَّ من التَّهْلِيل والتكبير والتحميد))؛ أخرجه أحمد[5]، وذكر البخاريُّ في صحيحه أنَّ ابْنَ عُمَر وأبا هريرة - رضي الله عنهم - كانا يَخْرُجان إلى السوق في أيَّام العشر يكبران ويكبر الناس بتكبيرهما[6].(/3)
فمن شعائر الله – تعالى - في هذه العشر: كثرة الذكر، والجهر بالتكبير المطلق ابتداء من دخول هذه العشر إلى فجر يوم عرفة في الصباح والمساء، عند الصلاة وقبل الصلاة وبعدها وفي كل وقت {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج: 34] فإذا صلى فجر يوم عرفة شرع التكبير المقيد مع المطلق إلى آخر يوم من أيام التشريق[7]؛ لعظيم فضل تلك الأيام؛ ولمزية التكبير فيها على غيرها {وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203] قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: "هي أيام التشريق"[8] وجاء في حديث نبيشة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أيام التشريق أيام أكلٍ وشربٍ وذكر الله))؛ أخرجه مسلم[9].
وأعظمُ عملٍ صالح في هذه العشر: حجُّ بيت الله الحرام، وهو فرض على من لم يحجَّ يجب عليه أن يبادر إلى أدائه، فإن تأخَّر مع القدرة عليه فهو آثم. ومن سبق أن أداه، ولديه القدرة على أن يتطوع لله به؛ فهو من أفضل الأعمال التي تقرّب إلى الله – تعالى - ولو لم يكن فيه إلا قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة))[10] وقوله - عليه الصلاة والسلام -: ((من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه))[11] لو لم يكن فيه إلا ذلك لكان كافيًا في التطوع لله به.
أخرج عبدالرزاق في مصنفه عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال: "إذا وضعتم السروج - يعني من سفر الجهاد - فشدوا الرحال إلى الحج والعمرة؛ فإنه أحد الجهادين"[12] وقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: "إنما هو سرج ورحل؛ فالسرج في سبيل الله، والرحل في الحج"[13] وقال أبو الشعثاء جابر بن زيد: "نظرت في أعمال البر فإذا الصلاة تجهد البدن ولا تجهد المال، والصيام مثل ذلك، والحج يجهد المال والبدن، فرأيت أن الحج أفضل من ذلك كله"[14].(/4)
وسئل الإمام طاوس بن كيسان: هل الحجّ بعد الفريضة أفضل أم الصدقة؟ قال: "فأين الحِلُّ والرحيل، والسهرُ والنصب، والطوافُ بالبيت، والصلاة عنده، والوقوفُ بعرفة، وجمع ورميُ الجمار؟" كأنه يقول: الحج أفضل.
ومن العلماء من قال: إن كان ثَمَّ رحمٌ محتاجة، أو زمن مجاعة؛ فالصدقة أفضل وإلا فالحج، نص عليه الإمام أحمد رحمه الله تعالى[15].
ومن توفيق الله – تعالى - للموسرين أن يعينوا بالمال إخوانهم ممن لا يستطيعون الحج، ويجهزوهم له، لا سيَّما إذا كان حجّهم فريضة، وأن يتصدَّقوا على الحجاج في المشاعر بإطعام الطعام، وسقي الماء، وقضاء الحاجات.
كان عبدالله بن المبارك - رحمه الله - يطعم أصحابه في الأسفار أطيب الطعام وهو صائم. وكان إذا أراد الحجَّ من بلده مرو جمع أصحابه وقال: من يريد منكم الحج؟ فيأخذ منهم نفقاتهم فيضعها عنده في صندوق ويقفل عليه، ثم يحملهم وينفق عليهم أوسع النفقة، ويطعمهم أطْيَبَ الطعام، ثم يشتري لهم من مكة ما يريدون من الهدايا والتحف، ثم يرجع بهم إلى بلده؛ فإذا وصلوا صنع لهم طعامًا، ثم جمعهم عليه، ودعا بالصندوق الذي فيه نفقاتهم فردّ إلى كلّ واحد نفقته[16].
ما أعظم تلك النفوس! وما أسخاها! رحم الله أصحابها ورضي عنهم، وجمعنا بهم في دار كرامته، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمدلله ربِّ العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له ولي الصالحين، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله النبي الأمين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجهم واهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن مما يجب الحذر منه: الرياءَ في الأعمال، فلا يحج العبد إلا لله، ولا يعين حاجًّا إلا لله، ولا يعمل صالحًا في هذه العشر وغيرها إلا ابتغاء رضوان الله – تعالى - فلا يكرر الحج ليقال: ما أكثر ما يحج!! أو ينفق ليقال: جواد كريم!!(/5)
وللرياء في هذه الأعمال مدخل قد يخفى على العبد؛ لذا دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - ربه أن يجنبه الرياء، فقد روى أنس بن مالك - رضي الله عنه -: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حج على رحلٍ رثٍّ، وقطيفة ما تساوي أربعة دراهم" وقال: ((اللهم حجةً لا رياء فيها ولا سمعة))؛ أخرجه ابن ماجه[17]. وقال رجل لابن عمر: ما أكثر الحاج! فقال ابن عمر - رضي الله عنهما -: "ما أقلهم!" ثم رأى رجلاً على بعير على رحلٍ رثٍّ، خطامه حبل فقال: "لعل هذا"[18] وقال شريح: "الحاج قليل، والركبان كثير، ما أكثر من يعمل الخير! ولكن ما أقلَّ الذين يريدون وجهه!"[19]
ونقل ابن رجب عن أحد المتقدمين أنه كان يحج ماشيًا على قدميه كل عام، فكان ليلة نائمًا في فراشه، فطلبت منه أمه شربة ماء، فصعب على نفسه القيام من فراشه ليسقي أمه الماء، فتذكر حجه ماشيًا كل عام وأنه لا يشق عليه، فحاسب نفسه، فرأى أنه لا يُهوِّنه عليه إلا رؤيةُ النَّاس له، ومدحهُم إياه، فعلم أنَّه كان مدخولاً[20].
والترفّه في الحج ينافي مقاصده؛ ولذا قال عمر - رضي الله عنه - يومًا وهو بطريق مكة: "تشعثون وتغبرون وتتفِلُون - أي تتركون الطيب - وتضحون لا تريدون بذلك شيئًا من عرض الدنيا، ما نعلم سفرًا خيرًا من هذا"[21]، يعني الحج، وقال ابن عمر - رضي الله عنهما - لرجل رآه قد استظل في إحرامه: "أضحِ لمن أحرمت له"[22].
وإن بعض الناس يجعلون من الحج رحلة استمتاع ونزهة بما يتكلفون فيها من وسائل الراحة والرفاهية؛ بل ربما قطعوا أوقاتهم في معصية الله – تعالى - واللهو وأحاديث الباطل! فأيُّ حجٍّ أراد هولاء؟! وأيُّ تعظيم لشعائر الله – تعالى - عندهم؟! أين حرمة المكان والزمان من قلوب هولاء؟! {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى القُلُوبِ} [الحج: 32].(/6)
والأضحية من القُرَبِ إلى الله – تعالى - وهي فعل أبينا إبراهيم، وفداء أبينا إسماعيل، وسنة نبينا محمد، عليهم الصلاة والسلام. ومن أراد أن يضحي فلْيُمْسِكْ عن شَعْرِه وأظفاره منذ إهلال ذي الحجة؛ حتى يذبح أضحيته؛ كما أمر بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أم سلمة رضي الله عنها[23].
أيها الإخوة: هذه بعض الأعمال الصالحة في هذه العشر المباركة، وللأسف أن كثيرًا من الناس لا يقدرونها قدرها، ولا يعظمون حرمتها، على الرغم من أنها أفضل من العشر الأخيرة من رمضان المعظم. قال الحافظ ابن رجب بعد أن ساق الخلاف في المفاضلة بين عشر رمضان الأخيرة وعشر ذي الحجة: "والتحقيق ما قاله بعض المتأخرين من العلماء أن يقال: مجموع هذه العشر أفضل من مجموع عشر رمضان، وإن كان في عشر رمضان ليلة لا يفضل عليها غيرها" اهـ.
فأعدوا لها العدة، واستقبلوها بالتوبة، وعظموها كما عظمها الله – تعالى - واقضوها في أنواع الطاعات، واستباق الخيرات، وأحسنوا بها ختام هذا العام؛ فلعل ذلك يمحو ما سبق فيه من الذنوب والآثام، ثم صلوا وسلموا على محمد بن عبدالله كما أمركم بذلك ربكم.
---
[1] "لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف" للحافظ ابن رجب (470).
[2] أخرجه أحمد (3/327) والنسائي في الكبرى كتاب التفسير، تفسير سورة الفجر (11672) وحسنه ابن رجب في اللطائف (470) وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح غير عياش بن عقبة وهو ثقة (7/137) وقال ابن كثير: إسناد رجاله لا بأس بهم، وعندي أن المتن في رفعه نكارة، انظر: تفسيره (4/779) عند تفسير أول سورة الفجر، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (1508) وأخرجه الحاكم موقوفًا على ابن عباس وصححه ووافقه الذهبي (2/522).(/7)
[3] أخرجه البخاري في العيدين باب فضل العمل أيام التشريق (969) وأبو داود في الصيام باب في صوم العشر واللفظ له (2438) والترمذي في الصوم باب ما جاء في العمل في أيام العشر (757) وابن ماجه في الصيام باب صيام العشر (1727).
[4] أخرجه أحمد (5/271 ، 6/288-423) وأبو داود في الصوم باب في صوم العشر (2437) والنسائي في الصوم باب كيف يصوم ثلاثة أيام من كل شهر (4/220) والبيهقي في الكبرى (4/285) وقال الساعاتي في "الفتح الرباني": وسنده جيد (10/158) وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (2129).
وقد عورض هذا الحديث بحديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: "ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صائمًا في العشر قط."؛ أخرجه مسلم في الاعتكاف باب صوم عشر ذي الحجة (1176) وأحمد كما في "الفتح الرباني" (10/233).
قال البيهقي بعد أن ساق الحديثين: "والمثبِت أولى من النافي مع ما مضى من حديث ابن عباس." اهـ. السنن الكبرى (4/285) قلت: يعني الحديث الدال على عموم فضل العمل الصالح في العشر، ومنه الصيام.
وتعقبه ابن التركماني فقال: "إنما يقدم على النافي إذا تساويا في الصحة، وحديث هنيدة اختُلف عليه في إسناده؛ فروي عنه كما تقدم، وروي عنه عن حفصة كذا أخرجه النسائي، وروي عنه عن أم سلمة كذا أخرجه أبو داود والنسائي." "الجوهر النقي بهامش السنن الكبرى" (4/285).
قلت: والمحققون من أهل العلم على القول باستحباب صيامها؛ لدخول الصيام في عموم العمل الصالح الذي له أفضلية فيها على غيرها من الأيام كما في حديث ابن عباس وغيره، ولنص حديث هنيدة بن خالد.(/8)
وأما حديث عائشة فأجابوا عنه بعدة أجوبة، منها: ما قاله الحافظ ابن رجب - رحمه الله تعالى -: "وقد اختلف جواب الإمام أحمد عن هذا الحديث؛ فأجاب مرة بأنه قد روي خلافه. وذكر حديث حفصة، وأشار إلى أنه اختلف في إسناد حديث عائشة؛ فأسنده الأعمش، ورواه منصور عن إبراهيم مرسلاً. وكذلك أجاب غيره من العلماء بأنه إذا اختلفت عائشة وحفصة في النفي والإثبات أُخذ بقول المثبِت؛ لأن معه علمًا خفي على النافي. وأجاب أحمد مرة أخرى بأن عائشة أرادت أنه لم يصم العشر كاملاً، يعني وحفصة أرادت أنه كان يصوم غالبه..." "لطائف المعارف" (461).
وقال القرطبي: "ولا يفهم منه أن صيامه مكروه؛ بل أعمال الطاعات فيه أفضل منها في غيره بدليل... - وذكر حديث ابن عباس في فضل العمل في العشر - وترك النبي - صلى الله عليه وسلم - صومه إنما كان - والله أعلم - لما قالته عائشة - رضي الله عنها - في صلاة الضحى أنه - صلى الله عليه وسلم -: "كان يدع العمل، وهو يحب أن يعمل به؛ خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم"؛ كما في مسند أحمد (6/168). ويحتمل أن يكون - صلى الله عليه وسلم - لم يوافق عشرًا خاليًا عن مانع يمنعه من الصيام فيه، والله أعلم." "المفهم" (3/253) وبنحوه أجاب النووي في شرحه على مسلم (8/102) والشوكاني في "نيل الأوطار" (5/247) والساعاتي في "الفتح الرباني" (10/233) وانظر: "عون المعبود" (7/104) و"الشرح الممتع على زاد المستقنع" (6/471-472) ونقل فيه الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله تعالى - أن الإمام أحمد - رحمه الله تعالى - رجح أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصوم عشر ذي الحجة.
[5] أخرجه أحمد (2/75) وأبو عوانة في مسنده (3024) وصحَّحه الشيخ أحمد شاكر في شرحه على المسند (5446).(/9)
[6] أخرجه البخاري في العيدين في مقدمة باب فضل العمل في أيام التشريق قبل الحديث (969) وقال الحافظ ابن حجر - رحمه الله تعالى -: "لم أره موصولاً عنهما، وقد ذكره البيهقي أيضًا معلقًا عنهما وكذا البغوي" انظر: "فتح الباري" (2/531).
[7] انظر: "الشرح الممتع على زاد المستقنع" (5/210).
[8] انظر: تفسير ابن كثير (1/367) و"محاسن التأويل" للقاسمي (3/504) عند تفسير الآية (203) من سورة البقرة.
[9] أخرجه مسلم في الصيام باب تحريم صوم أيام التشريق (1141).
[10] أخرجه البخاري في الحج باب وجوب العمرة وفضلها (1773) ومسلم في الحج باب فضل الحج والعمرة (1349).
[11] أخرجه البخاري في الحج باب فضل الحج المبرور (1521) ومسلم في الحج باب فضل الحج والعمرة (1349).
[12] أخرجه عبدالرزاق في مصنفه (8808).
[13] "لطائف المعارف" (407) وعزاه ابن رجب للإمام أحمد في مناسكه.
[14] أخرجه أبو نعيم في الحلية (3/87).
[15] "لطائف المعارف" (408) ورجح شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى أفضلية الحج على التصدق بنفقته (26/11).
[16] انظر: "تاريخ بغداد" (10/158) و"سير أعلام النبلاء" (8/385-386).
[17] أخرجه ابن ماجه في المناسك باب الحج على الرحل (2890) والترمذي في شمائل النبوة (191) وابن أبي شيبة في المصنف (4/106) وأبو نعيم في الحلية (6/308) وضعفه الحافظ في الفتح (3/446) والبوصيري في "مصباح الزجاجة" (3/6) وصححه الألباني وذكر له طريقًا أخرى من حديث ابن عباس وبشر بن قدامة، انظر: السلسلة الصحيحة (6217) وصحيح سنن ابن ماجه (2337).
[18] "لطائف المعارف" (419).
[19] المصدر السابق (419-420).
[20] المصدر السابق (420).
[21] المصدر السابق (420).
[22] المصدر السابق (420).(/10)
[23] أخرجه مسلم في الأضاحي باب نهي من دخل عليه عشر ذي الحجة، وهو يريد أن يضحي أن يأخذ من شعره أو أظفاره شيئًا (1977) وأبو داود في الضحايا باب الرجل يأخذ من شعره في العشر وهو يريد أن يضحي (2791) والترمذي في الأضاحي باب ترك أخذ الشعر لمن أراد أن يضحي (1523) وابن ماجه في الأضاحي باب من أراد أن يضحي فلا يأخذ في العشر من شعره وأظفاره (3149).(/11)
العنوان: فضل عشر ذي الحجة
رقم المقالة: 1754
صاحب المقالة: حمزة بن فايع الفتحي
-----------------------------------------
فضل عشر ذي الحجة
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأزمنة والأمكنة
محايل
29/11/1421
جامع الملك فهد
محامد وأدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- تنافس الناس على الدنيا.
2- حلول موسم عظيم.
3- غفلة بعض الناس عن مواسم الخيرات.
4- ما يستحب في العشر من ذي الحجة.
5- الحث على التوبة والرجوع إلى الله تعالى.
الخطبة الأولى
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].
معاشر المسلمين، إنكم لتلاحظون سراعَ كثير من الناس في أمور الدنيا، وتلاحظون حبهم لزهراتها وألوانها، وإنكم لتعجبون من ركضهم وراء مصالحهم ومنافعهم، في حين غفلتهم عن المنافع الباقية والكنوز النفيسة.
تحل علينا هذه الأيام، أيام مباركات، وذخائر نفيسات، وساعات فاضلات، أيام تضاعف فيها الأعمال وتزداد فيها الدرجات ويعظم فيها الثواب، إنها أيام عشر ذي الحجة التي أقسم الله – تعالى - بها تنويهًا بشأنها، وإرشادًا لأهميتها: {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر: 1 - 2]، والتي قال عنها النبي كما في الصحيح عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: ((ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله منه في هذه الأيام العشر))، قالوا: "ولا الجهاد في سبيل الله؟!"، قال: ((ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله ولم يرجع من ذلك بشيء)).(/1)
إن هذه الأيام الفاضلة تستدعينا للجدِّ والاجتهاد، فاحرصوا - يا مسلمون - على استغلالها وعمارتها بالأعمال الصالحة، وإنه لمن المؤسف أن تدخل هذه الأيام، والناس في غفلة فاكهون، لا في الخيرات يسارعون، ولا عن المعاصي يقلعون، قد أهمتهم الدنيا، واجتاحتهم الغفلة، واحتواهم الطمع.
إن الإنسان منا لينمِّي ماله ولا ينمي عمله، يزيد في غفلته ولا يزيد في درجته، يسارع في الفاني ويبطئ في الباقي!
وَالنَّاسُ هَمُّهُمُ الْحَيَاةُ وَلَمْ أرَ طُولَ الْحَيَاةِ يَزِيدُ غَيْرَ خَبَالِ
وَإِذَا افْتَقَرْتَ إِلَى الذَّخَائِرِ لَمْ تَجِد ذُخْرًا يَكُونُ كَصَالِحِ الْأَعْمَالِ
إن هذه الأوقات - يا مسلمون - جزء من أعماركم، وضياعها ضياع لكم وزيادة في حسراتكم.
قال أبو الفرج ابن الجوزي - رحمه الله -: "رأيت عموم الخلائق يدفعون الزمان دفعًا عجيبا! إنْ طال الليل فبحديث لا ينفع، أو بقراءة كتاب فيه غزل وسمر، وإن طال النهار بالنوم، وهم على أطراف النهار على دجلة أو في الأسواق، فشبَّهتُهم بالمتحدثين في سفينة وهي تجرى بهم، وما عندهم خبر، ورأيت النادرين قد فهموا معنى الوجود، فهم في تعبئة الزاد والتأهب للرحيل، إلا أنهم يتفاوتون، وسبب تفاوتهم قلة العلم وكثرته بما ينفق في بلد لإقامته. فالغافلون منهم يحملون ما اتفق، وربما فرحوا لا مع خير، فكم فيكم ممن قد قطعت عليه الطريق فبقي مفلسًا، فاللهَ اللهَ في مواسم العمر، والبدار البدار قبل الفوات، واستشهدوا العلم، واستدلوا الحكمة، ونافسوا الزمان، وناقشوا النفوس، واستظهروا بالزاد، فكأنه قد حدا الحادي، فلم يُفهم صوته من وقع الندم".
إخوة الإسلام، إن أيام عشر ذي الحجة أيام العمل والجد والمسارعة، وهي أيام الفوز والسعادة والفلاح، فحافظوا عليها، واعمروها بطاعة الله تعالى.(/2)
قال الحافظ ابن رجب - رحمه الله -: "السعيد من اغتنم مواسم الشهور والأيام والساعات، وتقرب فيها إلى مولاه، بما فيها من وظائف الطاعات، فعسى أن تصيبه نفحة من تلك النفحات، فيسعد بها سعادةً، يأمن بعدها من النار وما فيها من اللفحات". قال بكر بن عبدالله المزني - رحمه الله -: "ما من يوم أخرجه الله إلى أهل الدنيا إلا ينادي: ابن آدم، اغتنمني لعله لا يوم لك بعدي، ولا ليلة إلا تنادي: ابن آدم، اغتنمني لعله لا ليلة لك بعدي".
أيها الإخوة الكرام، يُستحب عمارة هذه العشر المباركة بالطاعات والأعمال الصالحة، ومن ذلك الصيام، فيُسنُّ صيام تسع ذي الحجة؛ لأن النبي حضَّ على العمل الصالح فيها، والصيام من أفضل الأعمال، وقد قال - عليه الصلاة والسلام - كما في الحديث الصحيح: ((عليك بالصوم فإنه لا مثلَ له))، قال النووي - رحمه الله -: "صيامها مستحب استحبابًا شديدًا". وأما ما اشتهر عند العوام ولا سيما النساء من صيام ثلاث الحجة، ويعنون بها اليوم السابع والثامن والتاسع، فهذا التخصيص لا أصلَ له. وأما صوم يوم عرفة فهذا يتأكد صيامه؛ لورود فضل خاص به كما في صحيح مسلم قال: ((يكفِّر السنة الماضية والسنة القابلة)).
ومن أعمال هذه العشر التكبير، فيسن فيها التكبير والتحميد والتهليل؛ لحديث ابن عمر في المسند: ((ما من أيام أعظم ولا أحب فيهن العمل من هذه الأيام، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد))، ويستحب إظهار ذلك في المساجد والمنازل والطرقات، وكل موضع يجوز فيه ذكر الله تعالى، وصفة التكبير: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد، وما شابهها من الصفات. قال في "المغني": "قال القاضي: التكبير في الأضحى مطلق ومقيد، فالمقيد عقب الصلوات، والمطلق في كل حال في الأسواق، وفي كل زمان".(/3)
والتكبير في هذه الأزمنة صار من السنن المهجورة، ولا سيما في أول العشر، فلا تكاد تسمعه إلا من القليل، فينبغي الجهر به في مواضعه؛ إحياءً للسنة وتذكيرًا للغافلين، وقد ثبت في صحيح البخاري مُعَلَّقًا بصيغة الجزم عن ابن عمر وأبي هريرة - رضي الله عنهم - أنهما كانا يخرجان إلى السوق أيام العشر يُكبِّران، ويكبر الناس بتكبيرهما.
ومن أعمال العشر أداء الحج والعمرة، فقد ثبت في الصحيحين أن النبي قال: ((العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)).
ويستحب في هذه العشر الإكثار من الأعمال الصالحة مطلقًا؛ كالصلاة والذكر، وقراءة القرآن، والدعاء، والصدقة والبر والصلة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ومن أعمال العشر التقرب إلى الله بذبح الأضاحي، ولا ينبغي للمسلم أن يدعها مع سعته وقدرته.
اللهم إنا نسألك فعل الخيرات...
الخطبة الثانية
الحمد الله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة الكرام، ومن الأعمال الصالحة التي يجب المبادرة بها في هذه العشر، وفي كل زمان التوبةُ النصوح، والرجوع إلى الله، والإقلاع عن المعاصي والذنوب، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا} [التحريم: 8]، وقال – تعالى -: {وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات: 11]. والتوبة في هذه الأيام طريق للفوز والفلاح؛ لأنها من مواسم الخيرات، والنفوس فيها مقبلة وتباشر أعمالاً عظيمة؛ كالصيام والتكبير والحج والأضحية.
فسارعوا - يا مسلمون - إلى التوبة الصادقة؛ بالكف عن المحرمات، والتحلل من المظالم، ورد الحقوق، والبعد عن الفواحش والمشاهد الخليعة، قال – تعالى -: {فَأَمَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَن يَكُونَ مِنَ المُفْلِحِينَ} [القصص: 67].(/4)
إن التوبة إلى الله شرف العبد وعزه وكرامته، بها يسعد ويغنم، وبها يفرح ويربح، وإنها لباب عظيم من أبواب السعادة، تُنال بها الحسنات، وتُحطُّ بها السيئات، ويتنزل بها الرزق، ويدوم الحظ والتوفيق، ويزول الشقاء والحزن. روى مسلم في صحيحه عن أبي موسى - رضي الله عنهما - أن النبي قال: ((إن الله – تعالى - يبسط يده بالليل ليتوبَ مسيءُ النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوبَ مسيءُ الليل؛ حتى تطلع الشمس من مغربها)).
فسارع - أخي رعاك الله - إلى طاعة ربك بالتوبة والاستغفار، وكثرة خصال الخير، فإنك في زمان المهلة، واحذر التسويف والتضييع، قال الرسول كما في صحيح مسلم: ((يا أيها الناس، توبوا إلى الله واستغفروه؛ فإني أتوب في اليوم مائة مرة))، وفي الصحيحين من حديث أنس - رضي الله عنه - قال: ((للهُ أفرحُ بتوبة عبده من أحدكم سقط على بعيره وقد أضله في أرضٍ فلاة)).
فالله - يا مسلمون - يفرح بتوبة عباده، وبرجوعهم إليه، فسارعوا في التوبة واغتنموا الزمان، واحذروا الغفلة والتأخير.
فيا مَن فكر في الحياة، وتأمَّل أحوال الناس، وشاهد مصارعهم، وشيع جنائزهم، وعاش أفراحهم وأحزانهم، إلى متى تدخر التوبة؟! وإلى متى وأنت غافل عن الطاعة؟! وإلى متى وأنت في وضع غريب؛ تسارع في المعصية، وتقهر في الطاعة، ولا تحدث لله توبة؟! لقد سمعت المواعظ وتلوت القرآن، ورأيت هادم اللذات، فلِمَ تتقاعس عن إجابة الدعوة، ولا تلبي النداء والخطاب؟! {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [التحريم: 8].(/5)
يا مسلمون، إن وراءنا يومًا ثقيلاً عسيرًا، فتزودوا لذلك اليوم وخذوا له أهبته، فليس هناك إلا فريقان: فريق السعادة، وفريق الشقاء، يسعد أناس ويشقى آخرون، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر: 18].(/6)
العنوان: فضل قراءة القرآن
رقم المقالة: 708
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا * قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شديداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً * مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً * وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً * مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلاَ لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَ كَذِباً} [الكهف:1-5]. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أحاط بكل شيء علماً، وأحصى كل شيء عدداً، وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان، وسلم تسليماً.(/1)
أما بعد أيها الناس: اتقوا الله تعالى، وأكثروا من قراءة القرآن في هذا الشهر يعظم الله لكم بذلك الأجر؛ لأن في كل حرف من القرآن عشر حسنات، وقد وردت الأحاديث بفضل تلاوة القرآن عموما وبعض السور خصوصاً، ففي صحيح مسلم ((أن جبريل قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: (أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة لم تقرأ حرفاً منها إلا أوتيته)) وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((البيت الذي تقرأ فيه البقرة لا يدخله الشيطان)) رواه أحمد ومسلم. وكان أسيد بن حضير رضي الله عنه يقرأ من الليل سورة البقرة، وفرسه مربوطة عنده، وله ابن قريب منها، فجالت الفرس، فسكت، فسكنت، فقرأ، فجألت الفرس مرة ثانية، فسكت، فسكنت، ثم قرأ، فجالت الفرس مرة ثالثة، فخاف أن تصيب ابنه، فانصرف، ثم رفع رأسه إلى السماء حتى ما يراها، فإذا مثل الظلمة فيها أمثال المصابيح، فلما أصبح أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك، فقال: ((أتدري ما ذاك؟ قال: لا، قال: تلك الملائكة دنت لصوتك، ولو قرأت لأصبحت ينظر الناس إليها لا تتوارى فيهم)).(/2)
وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن سورة البقرة وآل عمران تظللان صاحبهما يوم القيامة. وتحاجان عنه، ونزلت سورة الأنعام على النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة، ومعها من الملائكة نحو سبعين ألف ملك ما بين الخافقين لهم زجل بالتسبيح، والأرض ترتج بهم، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (سبحان الله العظيم). وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((إن سورة من القرآن ثلاثين آية شفعت لصاحبها حتى غفر له تبارك الذي بيده الملك)). وقد ورد أنها تنجي من عذاب القبر، وثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن))، وقال له رجل: إني أحبها، فقال: ((حبك إياها أدخلك الجنة))، وقال رجل آخر إنها صفة الرحمن، وأنا أحب أن أقرأها، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أخبروه أن الله يحبه))، وقال - صلى الله عليه وسلم - لرجل من أصحابه: ألا أعلمك سورتين من خير سورتين قرأ بهما الناس {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ}، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} فاقرؤوا القرآن بتدبر، وتفهم، وإذا مررتم بآية رحمة، فاسألوا الله من فضله، وإذا مررتم بآية وعيد، فتعوذوا بالله من عقابه، وإذا مررتم بآية سجدة، فاسجدوا في أي وقت كان، فالسجود للتلاوة لا نهي عنه؛ لأنه تابع للتلاوة، وإذا سجدتم، فكبروا، وقولوا: سبحان ربي الأعلى في السجود، وإذا رفعتم من السجود، فلا تكبروا، ولا تسلموا؛ لأن ذلك لم يرد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا إذا سجد القارئ وهو يصلي، فإنه يكبر للسجود، وللرفع منه. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر:29،30]. اللهم بارك لنا في القرآن العظيم واغفر لنا(/3)
ولوالدينا وجميع المسلمين.(/4)
العنوان: فضل قيام الليل
رقم المقالة: 1242
صاحب المقالة: عبدالله بن صالح القصير
-----------------------------------------
قيام الليل سُنة مؤكدة، وقربة معظمة في سائر العام، فقد تواترت النصوص من الكتاب والسنة بالحث عليه، والتوجيه إليه، والترغيب فيه، ببيان عظم شأنه وجزالة الثواب عليه، وأنه شأن أولياء الله، وخاصة من عباده الذين قال الله في مدحهم والثناء عليهم: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [يونس:64].
فقد مدح الله أهل الإيمان والتقوى، بجميل الخصال وجليل الأعمال، ومن أخص ذلك قيام الليل، قال تعالى: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 15 - 17]، ووصفهم في موضع آخر، بقوله: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} إلى أن قال: {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا * خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} [الفرقان: 64 - 75].(/1)
وفي ذلك من التنبيه على فضل قيام الليل، وكريم عائدته ما لا يخفى، وأنه من أسباب صرف عذاب جهنم، والفوز بالجنة، وما فيها من النعيم المقيم، وجوار الرب الكريم، جعلنا الله ممن فاز بذلك. قال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر: 54 - 55].
وقد وصف المتقين في سورة الذاريات، بجملة صفات - منها قيام الليل -، فازوا بها بفسيح الجنات، فقال سبحانه: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات: 15- 17].
فصلاة الليل لها شأن عظيم في تثبيت الإيمان، والإعانة على جليل الأعمال، وما فيه صلاح الأحوال والمآل قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً} إلى قوله: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل: 1-6].
وثبت في صحيح مسلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أفضل الصلاة بعد المكتوبة - يعني الفريضة - صلاة الليل)) وفي حديث عمرو بن عبسة قال - صلى الله عليه وسلم -: ((أقرب ما يكون الرب من العبد في جوف الليل الآخر، فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن)) ولأبي داود عنه - رضي الله عنه - قال: "أي الليل أسمع - يعني أحرى بإجابة الدعاء" – قال - صلى الله عليه وسلم -: ((جوف الليل الآخر فصل ما شئت، فإن الصلاة فيه مشهودة مكتوبة)) وفي الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ينزل ربنا - تبارك وتعالى - كل ليلة إلى السماء الدنيا، حين يبقى ثلث الليل الآخر. فيقول: من يدعوني فأستجيب له ؟! من يسألني فأعطيه ؟! من يستغفرني فأغفر له ؟!))(/2)
وفي صحيح مسلم، عن جابر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من الليل ساعة لا يوافقها عبد مسلم، يسأل الله خيرًا إلا أعطاه إياه، وهي كل ليلة)) وفي صحيح البخاري عن عُبادة بن الصامت - رضي الله عنه - عن النبي، - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من تعار من الليل - يعني استيقظ يلهج بذكر الله - فقال : لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. الحمد لله، وسبحان الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: اللهم اغفر لي، أو دعا، استجيب له. فإن توضأ وصلى قبلت صلاته)).
وأخرج الإمام أحمد، وغيره عن أبي مالك الأشعري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن في الجنة غرفًا، يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، أعدها الله لمن ألان الكلام، وأطعم الطعام، وتابع الصيام، وصلى بالليل والناس نيام)).
وفي الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((قال الله - عز وجل -: أعددتُ لعبادي الصالحين، ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر)) قال أبو هريرة اقرؤوا إن شئتم: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17].
وجاء في السنة الصحيحة، ما يفيد أن قيام الليل من أسباب النجاة من الفتن، والسلامة من دخول النار. ففي البخاري وغيره عن أم سلمة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استيقظ ليلة فقال : ((سبحان الله، ماذا أُنزل الليلة من الفتنة ؟! ماذا أنزل الليلة من الخزائن ؟! من يوقظ صواحب الحجرات ؟!)) وفي ذلك تنبيه على أثر الصلاة بالليل في الوقاية من الفتن.(/3)
وفي قصة رؤيا ابن عمر قال: "فرأيت كأن ملكين أخذاني، فذهبا بي إلى النار، فإذا هي مطوية؛ كطي البئر، وإذا لها قرنان - يعني كقرني البئر - وإذا فيها أناس قد عرفتهم، فجعلت أقول أعوذ بالله من النار، قال: فلقينا ملك آخر. فقال: لم ترع " فقصصتها على حفصة، فقصتها حفصة على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((نعم الرجل عبدالله لو كان يصلي من الليل))، فكان عبد الله لا ينام من الليل إلا قليلاً ".
وأخرج الحاكم وصححه، ووافقه الذهبي عن أبي أمامة الباهلي - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ((عليكم بقيام الليل، فإنه دَأْب الصالحين قبلكم، وقربة لكم إلى ربكم، ومكفرة للسيئات، ومنهاة عن الإثم)).
فتلخص مما سبق أن قيام الليل:
أ - من أسباب ولاية الله ومحبته.
ب - ومن أسباب ذَهَاب الخوف والحزن، وتوالي البشارات بألوان التكريم، والأجر العظيم.
جـ - وأنه من سمات الصالحين، في كل زمان ومكان.
د - وهو من أعظم الأمور المُعِينة على مصالح الدنيا والآخرة، ومن أسباب تحصيلها، والفوز بأعلى مطالبها.
هـ - وأن صلاة الليل أفضل الصلاة بعد الفريضة، وقربة إلى الرب، ومكفرة للسيئات.
و - وأنه من أسباب إجابة الدعاء، والفوز بالمطلوب المحبوب، والسلامة من المكروه المرهوب، ومغفرة سائر الذنوب.
ز- وأنه نجاة من الفتن، وعصمة من الهلكة، ومنهاة عن الإثم.
حـ - وأنه من موجبات النجاة من النار، والفوز بأعالي الجنان.(/4)
العنوان: فضل قيام الليل
رقم المقالة: 1475
صاحب المقالة: د. أمين بن عبدالله الشقاوي
-----------------------------------------
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد:
فإنَّ من أفضل الأعمال وأجلِّ الطاعات التي رغَّب فيها الشارع قيامَ الليل، فهو دَأْبُ الصالحين، وتجارة المؤمنين، ففي الليل يخلو المؤمنون بربهم، فيشكون إليه أحوالهم، ويسألونه من فضله، فهم عاكفون على مناجاة ربهم، يرغبون ويتضرعون إلى واهب الخيرات، وعظيم العطايا والهبات - سبحانه -.
قال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ *فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 16: 17].
وقد ذكرهم الله تعالى بأحسن الذكر، فقال: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 15: 18].
قال الحسن: كابَدوا الليل، ومدّوا الصلاة إلى السحر، ثم جلسوا في الدعاء، والاستكانة، والاستغفار[1].
وقال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبَابِ} [الزمر:9].
وعن أبي أُمامَةَ الباهِلِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((عليكم بقيام الليل، فإنه دَأْبُ الصالحين قبلكم، وهو قربة إلى ربكم، ومكفرة للسيئات، ومَنْهَاة للإثم))[2].(/1)
وعن أبي مالكٍ الأَشْعَرِيّ - رضي الله عنه - عنِ النَّبِيّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((إن في الجنة غُرَفًا يُرَى ظاهِرُها من باطِنِها، وباطِنُها من ظاهرها، أعدَّها اللهُ لِمَنْ أَطْعَمَ الطَّعامَ، وأفشى السَّلامَ، وَصلَّى بالليل، والناسُ نِيَام))[3].
وعن سهل بن سعد - رضي الله عنه -، قال: ((جاءَ جِبْريلُ إلى النَّبيّ - صلَّى الله عليه وسلم -: فقال "يا مُحَمَّد عِشْ ما شئت فإنك ميت، واعمل ما شئت فإنك مَجْزِيّ به، وأحبب من شئت فإنك مُفَارِقُه، واعلمْ أنَّ شَرَفَ المُؤْمِنِ قِيامُ اللَّيْلِ، وعِزُّه اسْتِغْناؤه عن الناس))[4].
قال الشاعر يصف قومه، وقد كانوا أهل جد واجتهاد في طاعة الله:
إِذَا مَا اللَّيْلُ أَظْلَمَ كَابَدُوهُ فَيُسْفِرُ عَنْهُمُ وَهُمُ رُكُوعُ
أَطَارَ الخَوْفُ نَوْمَهُمُ فَقَامُوا وَأَهْلُ الأَمْنِ فِي الدُّنْيَا هُجُوعُ
لَهُمْ تَحْتَ الظَّلامِ وَهُمْ سُجُودٌ أَنِينٌ مِنْهُ تَنْفَرِجُ الضُّلُوعُ
وقد أمر الله نبيه بقيام الليل وحَثَّه عليه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} [المزمل: 1: 4] وقال تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا} [الإسراء: 79].
وكان - صلوات الله وسلامه عليه - يأخذ بهذا التوجيه الرباني الكريم ويستجيب لأمر ربه، تقولُ عائشة - رضي الله عنها -: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى قام حتى تَفَطَّر رجلاه، قالتْ عائشة: يا رسولَ اللهِ أتصنَعُ هذا، وقد غُفِرَ لك ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وما تَأَخَّرَ، فقال: يا عائِشَةُ أفلا أَكونُ عبدًا شكورًا))[5].(/2)
وقال حذيفة - رضي الله عنه -: "صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة فافتتح البقرة، فقلت: يركَعُ عند المائة، ثم مضى فقلت: يصلي بها في ركعة، فمضى فقلت يركع بها، ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها يَقرأ مُتَرسّلاً، إذا مرَّ بآيةٍ فيها تسبيحٌ سبَّح وإذا مرَّ بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ"[6].
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحث أصحابه على قيام الليل ويرغبهم فيه، فقال في شأن عبد الله بن عمر: ((نِعْمَ الرَّجُلُ عبدالله لو كان يصلي من الليل)). قال سالم بن عبدالله بن عمر: فكان عبدالله بعد ذلك لا ينام من الليل إلا قليلاً"[7].
وحث أمته على قيام الليل، فقال: ((أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل))[8].
وعن عبدالله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من قام بعشر آيات لم يكتب من الغَافِلِين، ومن قام بمائة آية كتب من القانتين، ومن قام بألف آية كتب من المُقَنْطِرين))[9].
ووقت صلاة الليل من بعد صلاة العشاء إلى أذان الفجر، فعن ابن عمر - رضي الله عنهما -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((صلاة الليل مَثْنَى، مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة، توتر له ما قد صَلَّى))[10].
وعن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من خاف ألا يقوم من آخر الليل فليوتر أوله، ومن طمع أن يقوم آخره فليوتر آخر الليل، فإنَّ صلاة آخر الليل مشهودة وذلك أفضل))[11].
وعن أبي هريرة قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ينزل ربنا - تبارك وتعالى - كل ليلة إلى السماء الدنيا، حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ ومن يسألني فأعطيه؟ ومن يستغفرني فأغفر له؟))[12].(/3)
قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "لولا ثلاث ما أحببت العيش في هذه الدنيا: الغزو في سبيل الله، ومُكَابدة الساعات من الليل، ومُجَالسة أقوام ينتقون أطايب الكلام؛ كما يُنْتَقَى أطايب التمر" [13].
ومن أعظم الأسباب التي تعين على قيام الليل التبكير في النوم، فإن السهو آفة العصر، وخاصة إذا كان في غير طاعة الله؛ كما هو حال الكثير من الناس، إما على مشاهدة (دِش)، أو تلفاز، أو لعب ورق، أو مجلس قيل وقال، أو غير ذلك.
ولذلك كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكره النوم قبل العشاء، والحديث بعدها[14].
قال الشيخ ابن عُثيمين - رحمه الله -: "وصلاة الليل في رمضان لها فضيلةٌ ومَزِيَّةٌ على غيرها، فعنْ أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من قام رمضان إيمانًا وإحتسابًا، غفر له ما تقدم من ذنبه))[15].
وقيام رمضان شامل للصلاة من أول الليل وآخره، وعلى هذا فالتراويح من قيام رمضان، فينبغي الحرص عليها، والاعتناء بها، واحتساب الأجر والثواب من الله عليها، وما هي إلا ليال معدودة ينتهزها المؤمن العاقل قَبْلَ فَوَاتِهَا)). ا. هـ [16].
وعلى المسلم أن يحرص على القيام مع الإمام حتى ينصرف، فعن أبي ذر الغفاري - رضي الله عنه - قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إنه مَنْ قام مع الإمام حتى ينصرف، كُتِبَ له قيام ليلة))[17].
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] مختصر قيام الليل للمروزي (ص96).
[2] سنن الترمذي (5/553) برقم (3549)، قال أبو عيسى الترمذي وهذا أصح من حديث أبي إدريس عن بلال، وصححه الألباني في صحيح الترمذي (3/178) برقم (3801).
[3] صحيح ابن حبان (1/363) برقم (509).
[4] معجم الطبراني الأوسط (4/306) برقم (4278)، وقال المنذري في كتابه: "الترغيب والترهيب" (1/485) إسناده حسن.(/4)
[5] صحيح البخاري (1/352) برقم (1130). صحيح مسلم (4/2172) برقم (2820).
[6] صحيح مسلم (1/537) برقم (773).
[7] صحيح البخاري (1/350) برقم (1121)، صحيح مسلم (4/1927) برقم (2478).
[8] جزء من حديث رواه مسلم في صحيحه (2/821) برقم (1163) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.
[9] سنن أبي داود (2/57) برقم (1398).
[10] صحيح البخاري (1/353) برقم (1137). صحيح مسلم (1/516) برقم (749).
[11] صحيح مسلم (1/520) برقم (755).
[12] صحيح البخاري (1/356) برقم (1145)، صحيح مسلم (1/523).
[13] مختصر قيام الليل للمروزي (ص62) بمعناه.
[14] صحيح البخاري (1/195) برقم (568).
[15] صحيح البخاري (2/60) برقم (2009)، صحيح مسلم (1/523) رقم (759).
[16] مجالس شهر رمضان (ص18).
[17] جزء من حديث رواه الترمذي في سننه (3/169). برقم (806) وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.(/5)
العنوان: فضل قيام رمضان
رقم المقالة: 1243
صاحب المقالة: عبدالله بن صالح القصير
-----------------------------------------
فإذا تبين ما في القيام من خصال الخير، وعظيم الأجر، وجزيل الأجر، وأنه من خصال التقوى، التي فرض الله - سبحانه - الصيام لتحقيقها وتكميلها، وتحصيل عواقبها الطيبة، وآثارها المباركة، ظهر لك أن الصيام والقيام في رمضان متلازمان عند أهل الإيمان، فإن القيام في رمضان من الشعائر العظيمة التي سنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله وفعله، ورغَّب فيها . ففي الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا، غفر له ما تقدم من ذنبه)).
وثبت في الصحيح عن عائشة - رضي الله عنها – "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى في المسجد - من جوف الليل - فصلى بصلاته ناس من أصحابه ثلاث ليال. فلما كانت الليلة الرابعة عجز المسجد - عن أهله - أي امتلأ من الناس - فلم يخرج إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما أصبح، قال قد رأيت الذي صنعتم، ولم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تُفْرَضَ عليكم ))، وذلك في رمضان.
وفي هذا الحديث شفقة النبي - صلى الله عليه وسلم - على أمته. وفيه حرص الصَّحابة - رضي الله عنهم - على السنة، ورغبتهم في قيام الليل.
وفي الصحيحين أيضا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ((من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا، غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه))، وهذا من أدلة فضل قيام رمضان، وخاصة العشر الأواخر منه - فقد كانت سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - إحياؤها - تحريا لليلة القدر، طلبا لما فيها من عظيم الأجر.(/1)
وقيام رمضان شامل للصلاة، في أوله وآخره، والتراويح من قيام رمضان، ففي السنن وغيرها عن أبي ذر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ((إنه من قام مع الإمام حتى ينصرف، كتب له قيام ليلة )) فينبغي الحرص عليها، والاعتناء بها؛ رغبة في الخير وطلبا للأجر، فيصلي المرء مع الإمام حتى ينصرف؛ ليحصل له أجر قيام ليلة .
وإن أحب أن يصلي من آخر الليل، ما كتب له - فله ذلك - ليفوز بفضائل صلاة جوف الليل فإنها - كما سبق - مشهودة مكتوبة يسمع فيها الدعاء ويستجاب، وتقضى المسألة ويغفر الذنب، إلى غير ذلك مما جاء في فضله .
فقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ((صلاة الليل مَثْنَى مَثْنَى)) فلم يقيد الصلاة بعدد، فيصلي ما شاء الله، غير أنه لا يوتر إن كان أوتر مع الإمام أول الليل، لقوله، صلى الله عليه وسلم : ((لا وتران في ليلة )).
والمقصود أن أوقات شهر رمضان أوقات شريفة مباركة، ينبغي للموفق أن يغتنمها في جليل القرب، والإلحاح على الله بالطلب لخيري الدنيا والآخرة، والتوفيق من الله، فإنه هو الرحمن المستعان وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، فهو حسبنا ونعم الوكيل.(/2)
العنوان: فضل لا إله إلا الله
رقم المقالة: 1408
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
الحمد لله، ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، تفرد بالجلال والكمال، وتنزه عن النظراء والأمثال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يتعبَّد الموحّدون بذكره {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44] وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله الله حتى يقرر أن لا إله إلا الله؛ فأقام الدين، ونشر التوحيد، وأوضح الشريعة، حتى توفَّاه الله تعالى، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، أئمة الهدى، وأنوار الدجى، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فيأيها الناس، اتقوا الله - تعالى - وأطيعوه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر: 18].
أيها المؤمنون: كلمةُ التقوى هي كلمةُ الإخلاص والتوحيد، لا إله إلا الله، وهي شهادةُ الحق ودعوةُ الحق، وبراءةٌ من الشرك. لأجلها خُلِق الخلق، وأرسل الرسل، وأنزلت الكتب {وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25] {يُنَزِّلُ المَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ} [النحل: 2] قال سفيانُ بنُ عيينة - رحمه الله تعالى -: "ما أنعم الله على عبد من العباد نعمة أعظم من أن عرّفهم لا إله إلا الله"[1].(/1)
لأجلِ هذه الكلمة أُعدَّت دارُ الثَّوابِ ودارُ العقاب، ولأجلها أمرت الرسل بالجهاد؛ فمن قالها عصم ماله ودمه، ومن أباها فماله ودمه هدر.
هي مفتاحُ الجنةِ وثمنُها، وهي دعوة الرسل، وبها كلّم الله موسى كفاحًا، ومن كانت آخر كلامه من الدنيا دخل الجنة كما صح ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[2] وهي موجبةٌ للمغفرة، ومنجاةٌ من النار، سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - مؤذنًا يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، فقال: ((خرج من النار))؛ أخرجه مسلم[3] ، وقال أبوذرٍ - رضي الله عنه -: قلت: "يا رسول الله، كلمني بعملٍ يقربني من الجنة ويباعدني من النار". قال: ((إذا عملت سيئةً فاعمل حسنة، فإنها عشرُ أمثالها)). قلت: "يا رسول الله، لا إله إلا الله من الحسنات"؟ قال: ((هي أحسن الحسنات))؛ أخرجه أحمد[4].
لا إله إلا الله تمحو الذنوب والخطايا، وتجدد ما درس من الإيمان في القلب، وهي أفضلُ الذكر، وأثقلُ شيء في الميزان، كما روى عبدُالله بنُ عمر - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم –: (( أن نوحًا قال لابنه عند موته: آمرك بلا إله إلا الله، فإن السموات السبع والأرضين السبع لو وضعت في كفة ووضعت لا إله إلا الله في كفة رجحت بهن لا إله إلا الله، ولو أن السموات السبع والأرضين السبع كنّ في حلْقة مبهمة فصمتهن لا إله إلا الله))؛ أخرجه أحمد بسند صحيح[5].(/2)
إن هذه الكلمة العظيمةَ إذا قالها المسلم صعدت إلى السماء، وخرقت الحجب؛ حتى تصل إلى الله - تعالى - أخرج الترمذي وحسنه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما قال عبدٌ لا إله إلا الله مخلصًا إلا فتحت له أبواب السماء حتى تفضي إلى العرش ما اجْتُنبت الكبائر))[6]. هذه الكلمةُ أفضلُ الأعمال، وأكثرُها تضعيفًا، تحفظ العبد من الشيطان، وتعدلُ عتق الرقاب؛ كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ((من قال: لا إله إلا الله وحده لاشريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزًا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأتِ أحد بأفضل مما جاء إلا رجل عمل أكثر منه))؛ متفق عليه[7].
وهي التي تفتح أبواب الجنة؛ كما جاء في حديث عمر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ أو فيسبغ الوضوء ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن مُحمدًا عبده ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء))؛ أخرجه مسلم[8].
تَحرمُ النارُ على من قالها مخلصًا؛ كما في حديث عتبانَ بن مالك رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((إن الله حرَّم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله))؛ أخرجه الشيخان[9]، وعندهما أيضًا أن الله - تعالى - يقول: ((وعزتي وجلالي لأخرجن من النار من قال: لا إله إلا الله))[10]؛ ولهذا السبب فهي تقطع ظهر إبليس، كما قال سفيانُ الثوري: "ليس شيءٌ أقطع لظهر إبليس من لا إله إلا الله"[11].
أيها الإخوة: هذا بعض من فضل لا إله إلا الله؛ ولكن هل ينالُ فضلها وبركتها من قالها بلسانه فقط؟(/3)
كلا؛ حتى يستيْقِنَ بها قلبُه كما جاء في بعض الأحاديثِ ((مستيقنًا))[12]، وفي آخر ((خالصًا من قبل نفسه))[13]، وفي آخر ((مخلصًا))[14]، وفي آخر ((يبتغي بذلك وجه الله))[15]، وفي آخر ((يقولها حقًّا من قلبه))[16]؛ إذ تفيد هذه الأحاديث أنَّه لا يكفي قولُ اللسان.
نعم يكفي قولُ اللسان في حَقْنِ دمه وماله، ومعاملته في الدنيا كمسلمٍ ما لم يأتِ بناقض لها، كما ثبت أن أسامة - رضي الله عنه - قتل رجلاً بعد أن قال: لا إله إلا الله فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((يا أسامة، قتلته بعد أن قال لا إله إلا الله))؟ قال: "يا رسول الله، إنما قالها خوفًا من السلاح". قال: ((أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا))؟ وفي رواية ((كيف تصنعُ بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة))؟! قال: "يا رسول الله، استغفر لي". قال: ((وكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة))؟! قال أسامة - رضي الله عنه -: "فما زال يكررها حتى تمنَّيت أني أسلمت يومئذ"؛ أخرجه الشيخان واللفظ لمسلم[17].
أما في الآخرة فلا تكون سببًا في دخول الجنة والنجاة من النار إلا باستكمال شروطها، وانتفاء موانعها، كما تواترت بذلك النصوص، قيل للحسن - رحمه الله -: "إن ناسًا يقولون: من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة"؟ فقال: "من قال: لا إله إلا الله فأدى حقها وفرضها دخل الجنة". ولما سُئل وهبُ بنُ منبه - رحمه الله -: "أليس مفتاحُ الجنة لا إله إلا الله"؟ قال: "بلى، ولكن ما من مفتاح إلا وله أسنان؛ فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك، وإلا لم يفتح لك. وقال الحسنُ للفرزدقِ وهو يدفن امرأته: "ما أعددت لهذا اليوم"؟ قال: "شهادة أن لا إله إلا الله منذُ سبعين سنة". قال الحسن: "نعم العُدَّة، لكنَّ لـ (لا إله إلا الله) شروطًا فإياك وقذف المحصنات"[18].(/4)
قال الحافظ ابن رجب - رحمه الله تعالى - : "وتحقيق هذا المعنى وإيضاحُه أن قولَ العبد: لا إله إلا الله يقتضي أنْ لا إله له غيرُ الله، والإله: هو الذي يطاع فلا يعصى هيبة له وإجلالاً، ومحبة وخوفًا ورجاءً، وتوكلاً عليه، وسؤالاً منه، ودعاءً له، ولايصلح ذلك كلُه لغير الله – عز وجل - فمن أشرك مخلوقًا في شيء من هذه الأمور - التي هي من خصائص الإلهية - كان ذلك قدحًا في إخلاصه في قول: لا إله إلا الله، ونقصًا في توحيده، وكان فيه من عبوديةِ المخلوق بحسب ما فيه من ذلك، وهذا كلُه من فروع الشرك؛ ولهذا ورد إطلاق الكفر والشرك على كثير من المعاصي، التي منشؤها طاعةُ غير الله أو خوفه أو رجاؤه أو التوكل عليه والعمل لأجله". اهـ[19]
فمن ظن أن مجرَّد النطق بهذه الكلمة ينجيه من النار ويدخلُه الجنة، ولو لم يستيقن بها قلبُه، وتعمل بهذا اليقين جوارحُه، فقد أخطأ في ظنه؛ لأن كثيرًا ممن يقعون في نواقض الإسلام يقولونها، وكثيرٌ ممن يحاربون الإسلام وأهله من المنافقين يقولونها، ومنافقو عهد الرسالة الذين مردوا على النفاق كانوا يقولونها بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - حقنًا لدمائهم وأموالهم! ومع ذلك أخبر الله أن المنافقين بفعلهم هذا يخادعون الله وهو خادعهم؛ فكان جزاؤهم أنهم في الدرك الأسفل من النار.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} [محمد: 19] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده وأشكره وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.(/5)
أما بعد: فاتقوا الله - تعالى - فإنَّ الإيمان مع التقوى، يجعلُ العبد من الأولياء، وأولياءُ الله لهم البشرى {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ البُشْرَى فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ} [يونس: 62-64].
أيها الإخوة المؤمنون: اتباعُ الهوى من أعظم ما يعارض كلمة التوحيد؛ لأن لا إله إلا الله تقتضي عدم طاعةِ الهوى، وإلا كان الإلهُ هو الهوى كما قال - تعالى -: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية: 23] قال قتادة: "هو الذي كلما هوِيَ شيئًا ركبه، وكلما اشتهى شيئًا أتاه، لا يحجزه عن ذلك ورع ولا تقوى"[20]، ويشهد لهذا قولُ النبي - صلى الله عليه وسلم - : ((تعس عبدُ الدينار، تعس عبدُ الدرهم، تعس عبدُ القطيفة، تعس عبدُ الخميصة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش))؛ أخرجه البخاري[21].
فدل هذا على أن كلَّ من أحبَّ شيئًا وأطاعه وكان غاية قصده ومطلوبه، ووالى لأجله، وعادى لأجله، فهو عبده وكان ذلك الشيءُ معبودَه وإلهَه؛ ولذلك سمى الله طاعة الشيطان في المعصية عبادة للشيطان {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آَدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [يس: 60-61]. فمن لم يتحقق بعبودية الرحمن وطاعته؛ فإنه يعبُد الشيطان بطاعته له، ولم يخلُص من عبادة الشيطان إلا من أخلص عبودية الرحمن.(/6)
ومن قال لا إله إلا الله بلسانه، ثم أطاع الشيطان وهواهُ في معصية الله ومخالفته فقد كذّب فعلُه قولَه، ونقص من كمال توحيده بقدر معصية الله - تعالى - في طاعة الشيطان والهوى {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللهِ} [القصص: 50] {وَلَا تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ الله} [ص: 26].
قال الحسن: "اعلم أنك لن تحب الله حتى تحب طاعته". وقال أبو يعقوب النَّهْرَجُوري: "كلُّ من ادعى محبةَ الله ولم يوافق الله في أمره فدعواه باطلة". وقال يحيى بن معاذ: "ليس بصادق من ادعى محبة الله ولم يحفظ حدوده"[22]. ومن هنا يُعلم أن من أتى بلا إله إلا الله ينجو من النار ويدخل الجنة برحمة الله - تعالى - بشرط أن يسلمَ من أنواع الظلم الثلاثة: ظلم الشرك، وظلم العباد، وظلم العبد نفسه بالمعاصي[23]، فمن أشرك دخل النار، ومن ظلم العباد كان منه القصاص، ومن ظلم نفسه بالكبائر كان تحت المشيئة.
فاتقوا الله ربكم، واقدروا كلمة التوحيد حق قدرها، واعرفوا لها فضلها، وحققوا شروطها، وجانبوا نواقضها؛ حتى يكون لكم الأمن في الدنيا والآخرة، ثم صلوا وسلموا على خير خلق الله.
---
[1] أخرجه ابن أبي الدنيا في "الشكر" (95) وأبو نعيم في الحلية (7/272).
[2] كما في حديث معاذ - رضي الله عنه - عند أحمد (5/233) وأبي داود في الجنائز باب في التلقين (3116) والحاكم وصححه (1/351-500) والبيهقي في الشعب (1/55) وفي الأسماء والصفات (176) والطبراني في الكبير (20/112) ونقل ابن علان في الفتوحات تصحيح الحافظ ابن حجر له في شرح المشكاة (4/109) وله شواهد من حديث حذيفة وأبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهم.
[3] أخرجه مسلم في الصلاة باب الإمساك عن الإغارة على قوم في دار الكفر إذا سمع فيهم الأذان (382) وأبو عوانة في مستخرجه (1/336) والنسائي في عمل اليوم والليلة (834).(/7)
[4] أخرجه أحمد في المسند (5/169) وفي الزهد (27) والطبري في تفسيره (8/81) وهناد في الزهد (1071) والبيهقي في الأسماء والصفات (201) وأبو نعيم في الحلية (4/218) وابن عبدالبر في التمهيد (6/550) وهو حديث صحيح.
[5] أخرجه أحمد (2/170-225) والبخاري في الأدب المفرد (548) والحاكم وصححه (1/48) والبيهقي في الأسماء والصفات (186) والبزار كما في كشف الأستار (3069) وصححه ابن كثير في البداية والنهاية (1/119) وعزاه الهيثمي للطبراني وقال: ورجال أحمد ثقات (4/220) ورجح الشيخ أحمد شاكر تصحيحه في تخريجه للمسند (6583) وصححه الألباني في الصحيحة (134) وفي صحيح الأدب المفرد (426).
[6] أخرجه الترمذي في الدعوات باب دعاء أم سلمة وقال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه (3590) والنسائي في عمل اليوم والليلة (839) وحسنه الألباني في صحيح الجامع (5648).
[7] أخرجه البخاري في الدعوات باب فضل التهليل (6403) ومسلم في الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار باب فضل التهليل والتسبيح والدعاء (2691).
[8] أخرجه مسلم في الطهارة باب الذكر المستحب عقب الوضوء (234).
[9] أخرجه البخاري في الصلاة باب المساجد في البيوت (425) ومسلم في المساجد ومواضع الصلاة باب الرخصة في التخلف عن الجماعة لعذر (33).
[10] أخرجه البخاري في التوحيد باب كلام الرب – عز وجل - يوم القيامة مع الأنبياء وغيرهم (7510) ومسلم في الإيمان باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها (193) وهو حديث الشفاعة الطويل.
[11] "سير أعلام النبلاء" (7/260).
[12] كما في حديث أبي هريرة عند مسلم في الإيمان باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعاً (31).
[13] كما في حديث أبي هريرة عند البخاري في الرقاق باب صفة الجنة والنار (6570).
[14] كما في حديث معاذ عند الحميدي (369) وأحمد (5/236) وابن منده في الإيمان واللفظ له (1/111) وابن حبان (20) وأبي نعيم (7/312).(/8)
[15] كما في حديث عتبان بن مالك المخرج في هامش (9).
[16] كما في حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - عند أحمد (1/63) والحاكم وصححه ووافقه الذهبي (1/72) وابن حبان (204) وأبي نعيم (2/296).
[17] أخرجه البخاري في المغازي باب بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - أسامة إلى الحرقات (7/517) ومسلم في الإيمان باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال لا إله إلا الله (96-97).
[18] انظر هذه الأثار في "كلمة الاخلاص وتحقيق معناها" للحافظ ابن رجب (21). وأثر وهب بن منبه ذكره البخاري تعليقًا في كتاب الجنائز باب ومن كان آخر كلامه: لا إله إلا الله.
[19] المصدر السابق لابن رجب (28).
[20] انظر: المصدر السابق لابن رجب (35).
[21] أخرجه البخاري في الجهاد والسير باب الحراسة في الغزو في سبيل الله.
[22] انظر هذه الآثار في: "كلمة الإخلاص وتحقيق معناها" لابن رجب (40-41).
[23] انظر: "العروة الوثقى في ضوء الكتاب والسنة" للدكتور سعيد بن وهف القحطاني (40).(/9)
العنوان: فضل ليلة القدر وقيام الليل
رقم المقالة: 709
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحمد لله الذي من على عباده بمواسم الخيرات، ووفق من شاء منهم لاغتنام هذه المواسم بفعل الخيرات، وخذل من شاء منهم، فكان حظه التفريط والخسران والندامات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رب الأرض والسماوات وواسع الكرم والجود والهبات، وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله أفضل المخلوقات صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان مدى الدهور والأوقات، وسلم تسليماً.(/1)
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى، واغتنموا مواسم الخير بعمارتها بما يقرب إلى ربكم، واحذروا من التفريط والإضاعة، فستندمون على تفريطكم وإضاعتكم. إخواني من لم يربح في هذا الشهر الكريم، ففي أي وقت يربح، ومن لم ينب فيه مولاه، ففي أي وقت ينيب، ويصلح، ومن لم يزل متقاعداً عن الخيرات، ففي أي وقت تحصل له الإستقامة، ويفلح، فبادروا يرحمكم الله فرص هذا الشهر قبل فواتها، واحفظوا نفوسكم عما فيه شقاؤها وهلاكها، ألا وإن شهركم الكريم قد أخذ بالنقص والاضمحلال، وشارفت لياليه، وأيامه الثمينة على الانتهاء والزوال، فتداركوا أيها المسلمون ما بقي منه بصالح الأعمال، وبادروا بالتوبة من ذنوبكم لذي العظمة والجلال، واعلموا أن الأعمال بالخواتيم، فأحسنوا الختام لقد مضى من هذا الشهر الكريم الثلثان، وبقي منه الثلث وقت العشر الحسان، فاغتنموها بالعزائم الصادقة، وبذل المعروف والإحسان، وقوموا في دياجيها لربكم خاضعين ولبره وخيراته راجين ومؤملين ومن عذابه وعقابه مستجيرين مستعيذين، فإنه تعالى أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين، وهو الذي يقول: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186]. وهو الذي ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيعرض على عباده الجود والكرم والغفران يقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟ وفي هذا العشر ليلة القدر المباركة التي يفرق فيها كل أمر حكيم، ويقدر فيها ما يكون في تلك السنة بإذن العزيز العليم الحكيم تنزل فيها الملائكة من السماء، وتكثر فيها الخيرات والمصالح والنعماء، من قامها إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من الذنوب، ومن فرط فيها، وحرم خيرها فهو الملوم المحروم، أبهمها الله تعالى في هذه العشر، فلم يبين عينها ليتزود(/2)
الناس في جميع ليالي العشر من التهجد والقراءة والإحسان، وليتبين بذلك النشيط في طلب الخيرات من الكسلان، فإن الناس لو علموا عينها لاقتصر أكثرهم على قيام تلك الليلة دون ما سواها. ولو علموا عينها ما حصل كمال الامتحان في علو الهمة وأدناها، فاطلبوها رحمكم الله بجد وإخلاص، واسألوا الله فيها الغنيمة من البر والخيرات والسلامة من الافلاس، فإذا مررتم بآية رحمة، فاسألوا الله من فضله، وإذا مررتم بآية وعيد، فتعوذوا بالله من عذابه، وأكثروا في ركوعكم من تعظيم ذي العظمة والجلال، وأما السجود، فاجتهدوا فيه بعد التسبيح بالدعاء بما تحبون، فإن أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، ويجوز للإنسان أن يدعو لنفسه ولوالديه وذريته وأقاربه ومن أحب من المسلمين، وأطيلوا القيام بعد الركوع والجلوس بين السجدتين لتتناسب أركان الصلاة من القيام والركوع والجلوس والسجود والقيام بعد الركوع محل حمد وثناء، فأكثروا فيه الحمد والثناء والجلوس بين السجدتين محل دعاء بالمغفرة والرحمة، فأكثروا فيه من الدعاء، وافتتحوا قيام الليل بركعتين خفيفتين؛ لأن الشيطان يعقد على قافية العبد إذا نام ثلاث عقد، فإذا قام، وذكر الله انحلت عقدة، فإذا تطهر انحلت الثانية، ثم إذا صلى انحلت الثالثة، ولكن إذا جاء أحدكم المسجد، وقد أقام الإمام، فليدخل معه، ولو لم يفتتح القيام بركعتين خفيفتين؛ لأن متابعة الإمام أهم، وهنا أمر ينبغي التفطن له، وهو أن بعض الناس يجعل فرجة في الصف للمؤذن أو القارئ بعد الشروع في الصلاة، وهذا خلاف المشروع، فإن المشروع سد فرج الصفوف والمراصة إذا شرعت الصلاة، فإذا جاء المؤذن أو القارئ دخل حيث ينتهي به الصف. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الله تعالى في فضل ليلة القدر: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلاَئِكَةُ(/3)
وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلاَمٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر:1-5].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم... الخ.(/4)
العنوان: فضيلة أئمة الدين
رقم المقالة: 610
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحمد لله ذي النعم الكثيرة والآلاء الغني الكريم الواسع العطاء وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو الأسماء الحسنى والصفات الكاملة العليا وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله المصطفى وخليله المجتبى صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الكرام النجباء وعلى أتباعهم في هديهم القويم إلى يوم الميعاد والمأوى وسلم تسليماً.(/1)
أما بعد أيها الناس اتقوا الله تعالى حق التقوى واستمسكوا بدينكم الذي شرعه نبيكم فهو العروة الوثقى واعرفوا نعمة الله عليكم بهذا الدين الذي تسعدون به في حياتكم وبعد مماتكم وعند قيامكم لرب العالمين أما ترون إلى هذه الأمم الكافرة الضالة كيف كانت في جهل عميق من دينها وفي شبهات وضلالات تبعدها عن إيمانها ويقينها أمم لا تريد سوى العلو في الأرض والفساد والاعتداء على دين الله تعالى واستعمار العباد ترقت في صناعتها ومادتها وانحطت في دينها وأخلاقها وشطحت عن سعادتها وأنتم ولله الحمد قد يسر الله لكم ديناً سليماً وصراطاً مستقيماً جعلكم من أمة محمد خير الأمم وأبرها وأزكاها وحفظ لكم دينكم حتى وصل إليكم ولله الحمد نقياً من البدع والإشراك وبريئاً من طرق الغي والهلاك بما أقام الله لكم من أئمة الدين والجهابذة المرشدين المخلصين فمن أولئك السادة الأبرار إمام الأئمة ناصر السنة وقامع البدعة أحمد بن حنبل فإنهم نصروا السنة وبينوها وقمعوا البدعة وهتكوها حتى صاروا يضرب بهم المثل في اتباع السنة والكتاب وبهم يوزن السني من البدعي من سائر الطوائف والأضراب ومنهم شيخ الإسلام والمسلمين أحمد بن تيمية تقي الدين الذي جاهد الكفار والمنافقين وهتك أستار المحرفين والمبتدعين وأظهر من صريح السنة وعلومها وأعلامها ما يتبين به الحق للمعتبرين وسلك طريقه تلامذته من العلماء المحققين حتى آلت النوبة لشيخ الجزيرة العربية وإمامها الأواب شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب فلم يزل مع خصومه في جلاد وجهاد وتبيين للسنة والتوحيد الخالص بين العباد ويسر الله له من يقوم بعونه من الملوك المخلصين حتى صفت هذه الجزيرة ولله الحمد بمساعيهم من الشرك والضلال المبين فلم تجد ولله الحمد قبة للمشرك ولا مشهداً ولا توسلا بالمخلوقين ولا مولداً ولا معبدا ولا تجد فيها ولله الحمد من يحرف نصاً من نصوص الصفات أو ينفي ما ثبت لله تعالى من النزول إلى السماء الدنيا(/2)
والاستواء على عرشه فوق المخلوقات فكل ما جاء من صفات الله تعالى فإنهم يقرون به ولا يؤلونه ولا يجحدون منه حرفاً ولا معنى ولا يكيفون فاحمدوا الله تعالى على هذه النعمة واشكروه واسألوه أن يثبتكم على دينه وسنة نبيه إلى أن تلاقوه أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 57،58] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.... الخ.(/3)
العنوان: فضيلة العلم
رقم المقالة: 608
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحمد لله الذي فقه من أراد به خيراً في الدين ورفع منازل العلماء فوق العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهد لنفسه بالوحدانية وشهد بها ملائكته والعلماء من المؤمنين وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله المبعوث هدى للعالمين وحجة على العباد أجمعين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً.(/1)
أما بعد أيها الناس اتقوا الله تعالى وتفقهوا في دينكم فمن يرد الله به خيراً يفقهه في الدين معرفة ما أنزل الله على رسوله من الأحكام بأدلتها وما يترتب عليها من ثوابها وعقوبتها فإنه بمعرفته ذلك يكون متعبداً لله على بصيرة ونافعاً لعباد الله في عباداتهم ومعاملاتهم الدقيقة والجليلة ولا شك أن هذا خير عظيم وفضل جسيم في التفقه في الدين يرفع الله الدرجات ويجرى للعبد عمله في الحياة وبعد الممات في التفقه في الدين يكون المرء وارثاً للأنبياء عليهم الصلاة والسلام في التفقه في الدين ييسر للمرء الطريق إلى الجنات والوصول إلى رب الأرض والسماوات في التفقه في الدين يكون المرء من العلماء أهل الخشية لله والمحسنين إلى عباد الله، طالب العلم تحفه الملائكة بأجنحتها وتضعها له رضاء بما يطلب فعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع، وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب وإن العلماء ورثة الأنبياء إن الأنبياء لم يورثوا درهماً ولا ديناراً وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر)) وقال: ((إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا، قالوا: يا رسول الله وما رياض الجنة؟ قال: مجالس العلم، وفي رواية: حلق الذكر))، كان ابن مسعود رضي الله عنه إذا ذكر هذا الحديث قال: أما إني لا أعنى القصاص ولكن حلق الفقه وفي مسند الإمام أحمد عن قبيصة رضي الله عنه قال: ((أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ما جاء بك فقلت كبر سني ورق عظمي وأتيتك لتعلمني ما ينفعني الله به فقال: يا قبيصة ما مررت بحجر ولا شجر ولا مدر إلا استغفر لك)) فهذه الأحاديث وأمثالها وأضعافها كلها دالة على فضل العلم الشرعي تعلمه وتعليمه كيف لا(/2)