لكننا نجد فائدة أخرى: فالشاعر هنا يتحسر على مقامه بالمدينة بعيدًا عن الأهل والوطن، فهو ينظر حوله فيجد الناس جميعًا هانئين بالمقام سعداء باجتماع الشمل أما هو فقد اشتدت به تباريح النوى والتهب وجدانه بالشعور بالغربة وأحس بأنه ليس ثمة من يشاركه شعوره أو يحس بمثل إحساسه سوى هذا الحيوان الأعجم (قَيَّار) الذي ابتلي بالغربة معه والمقام في غير داره، فحذف المسند (غريب) هنا للإيحاء بتوحد الإحساس والمشاركة الوجدانية التي يتخيلها الشاعر بينه وبين فرسه، فليست هنا غربة للشاعر وغربة لفرسه، ولكنها غربة واحدة عانيا مرارتها معًا فوحدت بينهما في الشعور والشكوى والألم.
وينقسم الحذف إلى نوعين رئيسين: أولهما يتصل بالصيغ، والنوع الآخر يتصل بالتراكيب.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] الصحاح في اللغة 1 / 120.
[2] لسان العرب: 9 / 40.
[3] أبو حيّان الأندلسي (654 - 745هـ، 1256 - 1344م)، محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيّان، الإمام أثير الدين الأندلسي الغرناطي، نحويّ عصره ولغويّه ومفسّره ومحدّثه ومقرؤه ومؤرخه وأديبه، ولد في حاضرة غرناطة. وأخذ القراءات عن أبي جعفر بن الطباع، والعربية عن أبي الحسن الأبذي وجماعة. وتقدم في النحو، وأقرأ في حياة شيوخه بالمغرب، وسمع الحديث بالأندلس وأفريقية والإسكندرية ومصر والحجاز من نحو خمسين وأربعمائة شيخ، من تصانيفه: "البحر المحيط" في التفسير، ومختصره "النهر"؛ و"التذييل والتكميل في شرح التسهيل"، و"ارتشاف الضَّرَب"، وتُعَدّ هذه الكتب من أجمع الكتب وأحصاها في موضوعاتها.
[4] انظر البحر المحيط: 1/ 643.(/10)
[5] الشهاب الخفاجي (977 - 1069 هـ = 1569 - 1659 م)، أحمد بن محمد بن عمر، شهاب الدين الخفاجي المصري: قاضي القضاة وصاحب التصانيف في الأدب واللغة، ولد ونشأ بمصر، ورحل إلى بلاد الروم، واتصل بالسلطان مراد العثماني فولاه قضاء سلانيك، ثم قضاء مصر، ثم عزل عنها؛ فرحل إلى الشام وحلب وعاد إلى بلاد الروم؛ فنفي إلى مصر وولي قضاء يعيش منه فاستقر إلى أن توفي، من أشهر كتبه "شفاء العليل فيما في كلام العرب من الدخيل" و "شرح درة الغواص في أوهام الخواص للحريري" و "طراز المجالس".
[6] حاشيته على تفسير البيضاوي تسمى "عناية القاضي وكفاية الراضي"، وتقع في ثمانية مجلدات.
[7] ابن مضاء القرطبي (511 - 592 هـ = 1118 - 1196 م)، أحمد بن عبد الرحمن بن محمد، ابن مضاء، ابن عمير اللخمي القرطبي، أبو العباس: عالم بالعربية، له معرفة بالطب والهندسة والحساب، وله شعر، أصله من قرى شذونة Sidona ومولده بقرطبة، ووُلي القضاء بفاس وبجاية، ثم بمراكش سنة 578 هـ، وتوفي باشبيلية.
[8] انظر الرد على النحاة:130.
[9] انظر أسرار البلاغة 379/380.
[10] عبدالقاهر الجرجاني (400 - 471هـ، 1010 - 1078م)، أبو بكر عبدالقاهر بن عبدالرحمن بن محمد الفارسي الأصل، الجرجاني الدار، وُلِدَ وتوفي في جرجان. تتلمذ على أبي الحسين بن عبدالوارث، ابن أخت أبي علي الفارسي، وكان يحكي عنه كثيرًا، لأنه لم يلق شيخًا مشهورًا في العربية غيره لعدم خروجه من جرجان في طلب العلم. ويُعد عبدالقاهر واحدًا من الذين تفخر بهم الحضارة الإسلامية في مجال الدرس اللغوي والبلاغي، إذ تقف مؤلفاته شامخة حتى اليوم أمام أحدث الدراسات اللغوية، ويُعد كتابه "دلائل الإعجاز" قمة تلك المؤلفات؛ حيث توصل فيه إلى نظريته الشهيرة التي عُرفت باسم نظرية التعليق أو نظرية النظم، التي سبق بها عصره، ومازالت تبهر الباحثين المعاصرين، وتقف ندًّا قويًا لنظريات اللغويين الغربيين في العصر الحديث.(/11)
أراد عبدالقاهر بكتابه "دلائل الإعجاز" أن يرد على من كانوا يرجعون إعجاز القرآن إلى الألفاظ، ورفض أن يكون الإعجاز راجعًا إلى المفردات أو حتى معانيها؛ أو جريانها وسهولتها وعذوبتها وعدم ثقلها على الألسنة. كما رفض أن يكون الإعجاز راجعًا إلى الاستعارات أو المجازات أو الفواصل أو الإيجاز، وإنما رد إعجاز القرآن إلى حسن النظم. ومجمل نظريته أنه لا اعتداد بمعاني الكلمات المفردة إن لم تنتظم في سياق تركيبي، وهو ما يعرف بالنحو، فهو يرى أن الدلالة المعجمية معروفة لمعظم أهل اللغة ولكن دلالة اللفظة التي تكتسبها خلال نظمها في سياق تركيبي هي التي يسعى إليها مستخدم اللغة، لاختلاف دلالة اللفظة تبعًا للتركيب النحوي الذي تنتظم فيه، والمواضع المختلفة التي تحتلها في السياقات الناتجة عن أصل سياقي واحد.
تصدر عبدالقاهر مجالس جرجان يفيد الراحلين إليه والوافدين عليه. وقصده طلاب العلم من كُلِّ صوب، ومن تلامذته المشهورين الواردين إلى العراق والمتصدرين ببغداد على بن زيد الفصيحي، وأبوزكريا التبريزي، والإمام أبوعامر الفضل بن إسماعيل التميمي الجرجاني وأبو النصر أحمد بن محمد الشجري.
انتقل إلى عبدالقاهر علم السابقين فتأثر به، وظهر ذلك جليًا في مؤلفاته مثل : "المغني والمقتصد؛ الإيجاز"؛ "التكملة"؛ "التذكرة"؛ "المفتاح"؛ "الجمل"؛ "العوامل المائة"؛ "النحو"؛ "التخليص"؛ "العمدة في التصريف"؛ "كتاب شرح الفاتحة"؛ "إعجاز القرآن الصغير"؛ "إعجاز القرآن الكبير"؛ "الرسالة الشافية"؛ "دلائل الإعجاز"، "أسرار البلاغة".(/12)
يلاحظ المشتغلون بعلم اللغة أن عبدالقاهر قد سبق في دلائل الإعجاز الكثير من الباحثين الغربيين بعدّة قرون في عديد من الأفكار؛ فقد سبق الفيلسوف الإنجليزي جون لوك في الإشارة إلى عملية الاتصال اللغوي، وسبق العالمين دي سوسير وأنطوان مييه في كثير من أصول التحليل اللغوي، وسبق العالم الألماني فنت في أصول مدرسته الرمزية، وسبق العالم الأمريكي تشومسكي في الكثير من أصول مدرسته التحويلية التوليدية.
[11] دلائل الإعجاز ج1/ص121
[12] انظر المخصص 4 / 263.
[13] انظر كتاب سيبويه 1 / 44.
[14] جمال الدين ابن هشام (708 - 761 هـ = 1309 - 1360 م)، عبد الله بن يوسف بن أحمد بن عبد الله ابن يوسف، أبو محمد، جمال الدين، ابن هشام: من أئمة العربية، مولده ووفاته بمصر. قال ابن خلدون: "ما زلنا ونحن بالمغرب نسمع أنه ظهر بمصر عالم بالعربية يقال له ابن هشام أنحى من سيبويه".
من تصانيفه: "مغني اللبيب عن كتب الأعاريب" و "عمدة الطالب في تحقيق تصريف ابن الحاجب" مجلدان، و "رفع الخصاصة عن قراء الخلاصة" أربع مجلدات، و "الجامع الصغير" نحو، و " الجامع الكبير" نحو، و "شذور الذهب" و "قطر الندى" و "التذكرة" خمسة عشر جزءًا، و "التحصيل والتفصيل لكتاب التذييل" كبير، و "أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك" و "نزهة الطرف في علم الصرف" و "موقد الاذهان" في الألغاز النحوية.
[15] انظر مغني اللبيب 2/156- 170.(/13)
[16] سيبويه (148 - 180 هـ = 765 - 796 م)، عمرو بن عثمان بن قنبر الحارثي بالولاء، أبو بشر، الملقب بـ (سيبويه): إمام النحاة، وأول من بسط علم النحو، ولد في إحدى قرى شيراز، وقدم البصرة، فلزم الخليل بن أحمد ففاقه، وصنف كتابه المسمى " كتاب سيبويه" في النحو، لم يصنع قبله ولا بعده مثله، ورحل إلى بغداد، فناظر الكسائي، وأجازه الرشيد بعشرة آلاف درهم، وعاد إلى الأهواز فتوفي بها، وقيل: وفاته وقبره بشيراز، وكانت في لسانه حبسة، توفي شابًّا. وفي مكان وفاته والسنة التي مات بها خلاف.
[17] انظر الكتاب ج2/ص346.
[18] انظر الكتاب ج1/ ص592.
[19] رواه الحاكم والبيهقي.(/14)
العنوان: ظاهرة الصراع والتناقض في الفكر الغربي بين الفردية والجماعية
رقم المقالة: 316
صاحب المقالة: أبو زيد بن محمد مكي
-----------------------------------------
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فإن من حكمة الله سبحانه وتعالى في خلقه للإنسان أن جعل فيه صفات تبدو في الظاهر متضادة متناقضة، مثل صفة الحب مع البغض، والخوف مع الرجاء، والاتجاه إلى الواقع مع الاتجاه إلى الخيال، والسلبية مع الإيجابية، وهذه الصفات إذا أعملها الإنسان في مجالها الصحيح، فإنه لا يحدث بينها أي تضاد أو صراع، بل يكون بينها من التوافق ما يؤدي إلى سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة.
وإن من أخطر الصفات التي تبدو في الظاهر متضادة متناقضة: إحساس الإنسان بفرديته، وإحساسه بالميل إلى الاجتماع بالآخرين، وقد انقسم الناس تجاهها إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: من اهتم بالجانب الفردي على حساب الجانب الجماعي.
القسم الثاني: من اهتم بالجانب الجماعي على حساب الجانب الفردي.
القسم الثالث: من اعتقد الانفصام بينهما، فحاول التوفيق بمحاولة خاطئة.
وإن السبب الحقيقي لهذا الاختلاف يعود إلى عدم فهم حقيقة النفس البشرية، وأنها لن تسعد وتستقيم إلا بالاهتمام بالجانبين المتضادين معاً، وإعطاء كل واحد منهما غذاءه المناسب له، وهذا ما يقدمه الإسلام للإنسان، فإنه كما يغذي الجانب الروحي، يغذي الجانب المادي، وكما يغذي الحب في مجاله، هو يغذي الكره في مجاله، وكما يغذي الخوف فهو يغذي الرجاء، وهنا: كما يغذي الفردية، فهو يغذي الجماعية، ويوفق بينهما توفيقاً يؤدي لصلاح الفرد والمجتمع، بإذن الله تعالى.
وقد أحببت الكتابة في موضوع الفردية والجماعية عبر المباحث التالية:
المبحث الأول: المذهب الفردي.
المبحث الثاني: المذهب الجماعي.
المبحث الثالث: المذهب التلفيقي.
المبحث الرابع: المذهب الإسلامي.(/1)
وقد قسمت كل مبحث إلى مطالب تفصيلية، ثم ختمت المباحث بخاتمة ذكرت فيها أبرز النتائج، سائلاً الله تعالى الإعانة والإخلاص والتوفيق.
المبحث الأول: المذهب الفردي
وفيه المطالب التالية:
المطلب الأول: حقيقة المذهب الفردي.
المطلب الثاني: أبرز روَّاد المذهب الفردي.
المطلب الثالث: فلسفة التربية الحديثة في المذهب الفردي.
المطلب الرابع: نقد المذهب الفردي.
المطلب الأول: حقيقة المذهب الفردي.
يقصد بالفردية: اهتمام المرء بنفسه، ومحافظته على ذاتيته، واستقلاله وكيانه [1].
يرى أصحاب المذهب الفردي أن الإنسان فردي النزعة، وأن المجتمع مفروض عليه من خارج نفسه، متحكم فيه بغير إرادته، ومن ثَّم فهو مكره، وتفتيته وتفكيكه حلال [2].
يقوم المذهب الفردي على إبراز كيان الفرد حتى يجعله مقدساً، يحرم على المجتمع المساس بحريته، وليس له أن يحَّرج عليه، وليس له أن يقول له: هذا خطأ وهذا صواب [3].
وقد نتج المذهب الفردي في الغرب لعدة أسباب أبرزها [4]:
1- ردة فعل للطغيان الكنسي، وفرضه سلطاناً مذلاً على كاهل الناس.
2- ردة فعل لاستبداد الإقطاعيين بالأفراد، وسلبهم حقوقهم وحرياتهم.
3- الانقلاب الصناعي الذي حدث في عصر النهضة الأوروبية، والذي أحدث تغيراً كاملاً في صورة المجتمع، وقدوم العمال فرادى من الريف، كل منهم يسعى لتحقيق ذاته، ونفع نفسه.
4- تشجيع الرأسمالية للمذهب الفردي، لقيامها على أساسه، ومدافعتها عنه دفاعاً عنيفاً، وكان شعارهم الذي رفعوه: "دعه يعمل. دعه يمر"، أي: دفع الفرد يعمل ما يشاء بلا حواجز، دعه يمر بلا عوائق، فكانت دعوة للانطلاق من القيود. [5]
المطلب الثاني: أبرز روَّاد المذهب الفردي:(/2)
1- يعتبر، كارل روجرز، عالم النفس الأمريكي، رائد هذا المذهب، والذي وجهه إلى ميدان علم النفس والتربية، وهو ينادي بوجوب إتاحة الفرصة للأفراد للعيش في عالم متحرر من ضغوط المجتمع، وليختاروا القيم التي تنبع من داخلهم. فهو يود تحرير الأفراد من القيود المدمَّرة – كما يسميها – التي يفرضها المجتمع عليهم. [6]
2- ويعتبر المذهب الفردي امتداداً لآراء فرويد وآراء مدرسة التحليل النفسي، والذين يزعمون بأن الفرد هو الضحية الدائمة للمجتمع، وأن المجتمع شئ مفروض على الإنسان من خارج كيانه، وضاغط عليه، وكابت لرغباته، ومعوَّق لنموه الأصيل. [7]
3- وتعتبر الرأسمالية في الغرب قائمة على أساس فردية الإنسان، فتوسع له في حدود فرديته، وتترك له حرية التصرف في كثير من الأمور حتى يصل إلى حد إيذاء نفسه وإيذاء الآخرين، تحت ستار الحرية الشخصية. [8]
4- وكذلك يتبنى هذا المذهب علماء النفس الفرديون، والذين ينظرون إلى المجتمع من وجهة نظر الفرد، فيبالغون في تقديره كشخصية مستقلة، لها كيانها المنفصل عن الآخرين، كما يبالغون في الحجر على حق المجتمع في تأديب الفرد الخارج على طاعته [9].
5- وكذلك ينادي بهذا المذهب: الوجوديون وغيرهم من المنحلين، الذين يقولون بأن المجتمع لا يضره شيء في أن يستمتع الفرد بحريته في شئونه الشخصية، لأن الفرد هو الأصل، وهو الذي ينبغي أن يتحقق له وجوده الكامل، رضي الآخرون أو غضبوا [10].
المطلب الثالث: فلسفة التربية الحديثة في المذهب الفردي:
يرى أصحاب المذهب الفردي أن التربية يجب أن تنطلق من الفرد وتنتهي بالمجتمع، وعليها أن تساعد الأفراد للتحرر من القيود التي فرضها عليهم المجتمع.(/3)
إنهم يرون أن الأفراد يتسترون خلف قناعات زائفة تخفي حقيقتهم الأساسية، هذه القناعات الزائفة هي القيم التي يفرضها المجتمع عليهم، وهم في الواقع يؤمنون بأشياء أخرى غيرها، فلابد إذن أن تساعدهم التربية على إخراج القيم النابعة من داخلهم، وتحطيم القيود المفروضة عليهم من خارجهم، وبذلك يتعامل الأفراد مع بعضهم طبقاً لرغباتهم الفطرية المتحررة من القيود التي نسجتها اتجاهات المجتمع وقيوده[11].
المطلب الرابع: نقد المذهب الفردي:
1) أول نقد يوجه للمذهب الفردي أنه اهتم بجانب من الإنسان – بغض النظر عن كيفية الاهتمام – وأهمل جانباً آخر، وبالتالي فلن يتوازن الإنسان، ويكتمل نموه، فهو قد أهمل الجانب الجماعي في الإنسان، وهو حاجة ورغبة ملحة فيه. ففي الإنسان هذه الطبيعة المزدوجة: الميل إلى الفردية، والميل إلى الجماعية، وكلاهما أصيل فيه، فلابد من العناية بهما معاً، وإلا حصل الاضطراب في باطن النفس، وفي واقع الحياة [12].
2) لقد وسعوا في دائرة الفردية حتى خرجوا بالإنسان إلى الأنانية المرذولة، وساهموا في تفكيك المجتمع، وتشتيت طاقاته[13].
3) اعتبارهم المجتمع مفروضاً على الفرد خطأ، لأن المجتمع ناشئ من داخل كيان الفرد، ناشئ من رغبته في الاجتماع بالآخرين، ونقصد بالمجتمع: المجتمع الطبيعي الذي ينشأ من تلاقي الأفراد، لا نقصد به المجتمع المنحرف، وهم كذلك لا يقصدونه، وإنما يقصدون أي مجتمع هو مفروض على الفرد، معوَّق لنموه، والصحيح بأنه ما هو إلا تكملة طبيعية للفرد، وامتداد طبيعي يجد فيه الفرد وجوده المتكامل السليم[14].
4) إن خروج الأفراد على تقاليد المجتمع الصحيحة دون رادع، وتنازل المجتمع عن تقاليده تلك نتيجة الحتمية: انهيار المجتمع بكارثة تصيبه من الداخل أو الخارج، وتؤدي في النهاية إلى حرمان أولئك الأفراد أنفسهم مما كانوا غارقين فيه من المتاع المباح [15].(/4)
5) إن المذهب الفردي ينفي عن الإنسان كل هدف أبعد من هدف المصلحة المباشرة القريبة، وينفي عن الإنسان عنصر التطلع إلى ما هو أبعد من الذات [16].
المبحث الثاني: المذهب الجماعي:
وفيه المطالب التالية:
المطلب الأول: حقيقة المذهب الجماعي.
المطلب الثاني: أبرز رواد المذهب الجماعي.
المطلب الثالث: فلسفة التربية الحديثة في المذهب الجماعي.
المطلب الرابع: نقد المذهب الجماعي.
المطلب الأول: حقيقة المذهب الجماعي:
يقصد بالجماعية: ميل الإنسان إلى العيش في الجماعة، والتعايش معها[17].
يرى أصحاب المذهب الجماعي أن الإنسان جماعي النزعة، وأن الواجب على الفرد أن يغمس نفسه في المجتمع، ويفنى فيه من أجل صالح المجموع.
ويرون أن الوجود المستقل للأفراد عن الجماعة وهم من الأوهام [18].
ويبالغ أصحاب المذهب الجماعي في إبراز كيان المجتمع حتى يجعلون منه كياناً مقدساً، والفرد لا قداسة له ولا كيان، ولا يحق له أن يملك، ولا يحق له أن يصوغ أفكاره وعقائده وأخلاقه وتقاليده. لا يحق له أن يعترض على عمل المجتمع، أو يصفه بأنه خطأ أو صواب. إنهم في الحقيقة يؤلهون المجتمع، ويجعلونه يصنع ما يحلو له، ويجعلون الفرد عبداً خاضعاً له[19].
وقد قام المذهب الجماعي لعدة أسباب أهمها:
1- رد فعل للمذهب الفردي الرأسمالي.
يقول سيد قطب– رحمه الله-: "إنه جموح جديد ينشأ من رد فعل لجموح قديم، وداء جديد تعالج به البشرية من داء قديم. وتحطيم لخصائص الإنسانية في جانب لإنقاذه تحطم خصائصه الأساسية في جانب آخر"[20].
2- ولأنهم يرون أن الذات الإنسانية محدودة بالزمان والمكان، بخلاف الجماعة، وأن الفرد إنما وجد من أجل نفع الجماعة، ولذلك فالقوي الاجتماعية هي التي تشكل الفرد من أوله لأخره، وليس لكيان الفرد الداخلي أي دور[21].
المطلب الثاني: أبرز روَّاد المذهب الجماعي.(/5)
1) يعتبر هيجل من أول من دعا للمذهب الجماعي، ونادى بأن يكون الأفراد تروساً نافعة في أجهزة المجتمع المعقد، وأن يفنوا فيه من أجل صالح المجموع.
2) وقد قام ماركس بهذا المذهب بكل قوة، ودعا المجتمع أن يكبت بوحشية الذاتية الفردية بمساعدة الذاتية الجماعية، حتى يثور الإنسان ضد ضميره الأخلاقي، وضد الحقيقة والعدل، وضد رب الوجود [22].
3) وكذلك يرى هذا المذهب عالم الاجتماع "دور كايم"، ويقول بأن المجتمع قوة قائمة بذاتها، غير نابعة من كيان الأفراد، ومؤثرة في الأفراد بإرادة مستقلة عن إرادتهم[23].
4) وقد قامت الشيوعية في الشرق على هذا الأساس، فوسعت في دائرة الجماعة (الدولة)، وحجرت على نشاط الأفراد إلا فيما يتعلق بالنشاطات الحسية الغليظة، ومنعت مشاركتهم الفعلية في سياسة الحكم وسياسة المجتمع، وفرضت عليهم النظم بدعوى أنها أعرف منهم بمصالحهم [24].
المطلب الثالث: فلسفة التربية الحديثة في المذهب الجماعي.
يرى أصحاب المذهب الجماعي – دور كايم وأمثاله – أن وظيفة التربية هي نقل الثقافة الاجتماعية إلى الفرد الناشئ. فالتربية تبدأ بالمجتمع وتنتهي بالفرد.
إنهم يرون أن الحياة الحقيقية النافعة تكون بقيام المجتمع وتوثيق روابطه، وبالتالي فالمجتمع يحتل عندهم المكانة الأولى ثم يأتي بعده الفرد، فوظيفة التربية يجب أن تكون منصبة في تطوير الروح الجماعية عند الأفراد، فمحور أهداف التربية في المذهب الجماعي هو المجتمع وليس الفرد.
كذلك يرى أصحاب المذهب الجماعي أن مسئولية التربية تقع على الدولة، والتي عليها أن تعد المعلمين والمدارس إعداداً مناسباً للقيام بالوظيفة بالشكل الذي ترغب به الدولة [25].(/6)
يهتم أصحاب المذهب الجماعي في تربيتهم للأفراد بتقديم معلومات محددة مناسبة للعمل والوظيفة التي يقوم بها أولئك الأفراد، ويهتمون بقضية التعويد على الإذعان والخضوع للسلطة، ويرون أنها من أهم مقومات نجاح الفرد، فالتربية للعمل في المصانع، لا تتطلب عمالاً يناقشون في الصواب والخطأ والحقوق والواجبات. ولذلك فإن علاقة المعلم بتلاميذه، والمدير بمعلميه علاقة تنفيذية، قائمة على السلطة والتعليمات، وإصدار الأوامر، وتنفيذ القرارات ، مثل التربية العسكرية التي تجفف إرادة الفرد، وتجعله ينفذ الأوامر دون تساؤل أو تفكير[26].
المطلب الرابع: نقد المذهب الجماعي
1) يقوم المذهب الجماعي بالاهتمام بجانب من الإنسان – بغض النظر عن كيفية الاهتمام – وإهمال جانب آخر فيه، وهو الجانب الفردي، وبالتالي يختل كيان الإنسان، ويفقد سعادته[27].
2) إن معاملة الفرد على أنه حركة لا إرادة في أيدي المجتمع الشديدة إنكار للعلاقة الفردية بين العبد وربه، وهي علاقة فطرية ضرورية للإنسان، لا صلاح للفرد بدونها، والعبد مسئول فرداً يوم القيامة عن أعماله، ولذلك فليس هو ملك للمجتمع يصرفه كيفما يشاء، بل له القدرة والاختيار في أعماله وأقواله[28].
3) إن اعتبار الجماعة أسمى من الأفراد خطأ، وإنما وجدت الجماعة كقوة تكميلية للأفراد [29].
4) إن المذهب الجماعي يقضي على تميز الأفراد، ولا ينشئ إلا مجتمعاً مستضعفاً خانعاً، لأن أفراده أصفار لا وجود واقعي لهم، ليس لديهم القدرة على رفع ظلم عن مظلوم، لا بكلمة ولا بفعل، طالما أن المجتمع أراد ذلك. أي: الحاكم والسلطان على الحقيقة[30].
5) إن الواقع المحسوس يرد على المذهب الجماعي كما يرد على المذهب الفردي وهو أن كل فرد هو في ذات الوقت كائن مستقل، وعضو في جماعة، ولا تكاد توجد لحظة واحدة ولا فكرة ولا عمل يمكن أن يزاوله الفرد بإحدى صفتيه دون الأخرى، وإن بدا في ظاهر الأمر أن هذا مستطاع[31].(/7)
المبحث الثالث: المذهب التلفيقي، وفيه عدة مطالب:
المطلب الأول: حقيقة المذهب التلفيقي.
المطلب الثاني: أبرز رواد المذهب التلفيقي.
المطلب الثالث: فلسفة التربية الحديثة في المذهب التلفيقي.
المطلب الرابع: نقد المذهب التلفيقي.
المطلب الأول: حقيقة المذهب التلفيقي
يراد بالمذهب التلفيقي: المذهب القائم على وجود انفصام بين النزعة الفردية والنزعة الجماعية عند الإنسان، وعلى وجود صراع بين الفرد والمجتمع، فيلفِّق مذهباً لا فردياً ولا جماعياً، وإنما مذهباً نفعياً قائماً على استغلال تبادل العلاقة بينهما إلى أقصى حد.
يرى أصحاب المذهب التلفيقي أن أساس الخطأ عند المذهب الفردي وعند المذهب الجماعي هو الفصل بين الفرد والمجتمع، ووضح مصلحة كل واحد منهما ضد مصلحة الآخر، وأن أياً منهما لا يحقق وجود إلا بالتغلب على الآخر، فهو يوافقونهم على وجود الانفصام لكن يخالفونهم في طريقة العلاج، فالمعالجة عندهم تكون على وفق ما يحقق المصلحة والمنفعة للجميع[32].
المطلب الثاني: أبرز روَّاد المذهب التلفيقي
يعتبر جون ديوي من أبرز دعاة هذا المذهب [33]، فديوي يعتقد بوجود تأثير كبير للبيئة والمجتمع في أفكار الناس ومعتقداتهم وميولهم [34]، ويرى في الوقت ذاته أن للفرد قدرة كبيرة في تغيير نظم المجتمع بما يوافق مصلحته. فمذهب ديوى كما هو معروف قائم على النفعية، وقد يسمى بالذرائعية، وهو محارب لكل شيء من شأنه أن يقف أمام الحرية الشخصية، أو يضع العقبات في سبيل التطور الاجتماعي، فهو يشجع كل مسعى يراد به تنظيم الهيئة الاجتماعية من جديد [35].
المطلب الثالث: فلسفة التربية الحديثة في المذهب التلفيقي
يرى ديوي أن الفلسفة بإمكانها معالجة انفصام العلاقة بين الفرد والمجتمع، وأن وظيفة التربية تقوم على استغلال تبادل العلاقة بينهما إلى أقصى حد.(/8)
ويرى أن الوسيلة لتحقيق هذا الهدف هو الذكاء الإنساني، المتضمن لقوة الملاحظة التي تمكن الفرد من تحديد المشكلات وتحليلها وتقييمها ثم حلها.
فيرى أن بالذكاء يمكن للفرد إعادة تقييم المهارات والعادات والتقاليد الاجتماعية، وتقرير النافع منها.
ويقرر بأن العقل لا ينمو من خلال فرد يطيع المجموع طاعة عمياء، ولا من خلال مجموع يصب الأفراد في قوالب محددة من السلوك، وإنما ينمو من خلال الحوار وحرية الرأي التي تؤدي إلى إيجاد العقل الاجتماعي.
ويريد ديوي بالعقل الاجتماعي: المؤسسات الاجتماعية التي تفكر بمصلحة الجميع، وتحسين نوعية الفرد.
إذن فديوي يرى أن التربية واجب عليها أن لا تقيد الفرد أثناء تعليمه بقيود، بل توفر له الفرصة للتدرب على حل المشكلات، وتعطيه الفرصة ليتعلم بنفسه، ويتفهم آراء الآخرين، ومن هؤلاء الناضجين تتكون المؤسسات الاجتماعية والتي من شأنها أن تضع القرارات والقيود، وتشكل القيم التي تضع بعد ذلك ضوابط للأفراد[36].
المطلب الرابع: نقد المذهب التلفيقي [37]:
1) يقوم المذهب التلفيقي على اعتقاد انفصام العلاقة بين النزعتين الفردية والجماعية عند الإنسان، وهذا خطأ أيضاً، فكما تقدم أن لكل نزعة دور مهم تقوم به في حياة الإنسان، وأن إعمال كل منهما في مجاله يؤدي لسعادة الإنسان في الدنيا والآخرة.
2) يعتبر هذا المذهب متناقض مع نفسه، ففي الوقت الذي ينادي بوضع أهداف تربوية متمركزة حول إعداد الفرد، وجعل التلميذ سيَّد نفسه، يضع أهدافاً متمركزة حول المصالح الاقتصادية، ويطالب بتربية الطالب على الخضوع والانقياد لمتطلبات العمل في المؤسسات الصناعية.(/9)
فهو في الوقت الذي يدعو فيه إلى توسيع المعلومات لإعداد الفرد، يطالب بإعطاء الطالب معلومات محددة تعده للوظيفة المناسبة، وفي الوقت الذي يدعو فيه إلى تربية الطالب على التأمل والتفكر، يربيه على الخضوع والإذعان للسلطة ولأصحاب العمل، وفي الوقت الذي يدرب فيه الطالب بأن يخطط مستقبله باستقلال ووعي، يدربه على كيفية تقبل أي وظيفة تسند إليه.
ولذلك فقد احتار المربون الأمريكيون في هذه المشكلة، فمنهم من مال إلى أسلوب النعامة أي: دفن الرؤوس في الرمال، وتجاهل هذا التناقض، ومنهم من يرى بأن الحل لذلك أن يقال بانفصال أهداف التربية، فأهداف تربية الفرد منفصلة عن أهداف المجتمع الصناعي.
3) ينتهي مذهب جون ديوي إلى خدمة المذهب الاقتصادي الرأسمالي فهو حقيقته تربية ترويضية للناشئة على تقبل النظام الاقتصادي القائم، وتنفيذ سياساته، والدفاع عنه، وعدم الانتباه لنقائصه، لأنه صادر عن العقل الاجتماعي، فهو صادر عن حرية الفرد، ولذلك تؤخذ المناهج والنظريات التي تدرس للطلاب عن طريق أصحاب العمل.
المبحث الرابع: المذهب الإسلامي في الفردية والجماعية:
وفيه المطالب التالية:
المطلب الأول: حقيقة المذهب الإسلامي.
المطلب الثاني: أبرز روَّاد المذهب الإسلامي.
المطلب الثالث: فلسفة التربية في المذهب الإسلامي.
المطلب الأول: حقيقة المذهب الإسلامي في الفردية والجماعية.
إن سبب اختلاف المذاهب السابقة في الفردية والجماعية يعود إلى اختلاف تصوراتهم عن الطبيعة البشرية[38]، ولقد هدى الله أهل الإسلام إلى الحق في ذلك بما علَّمهم في القرآن، وفي السنة، من بيان لحقيقة النفس البشرية، والطبيعة الآدمية، وأنها مخلوقة من قبضة من الطين، سرت فيها نفخة من روح الله، ولذلك فطبيعتها فيها المتضادات: الطين والروح، والحب والكره، والخوف والرجاء، وكذلك الفردية والجماعية[39].(/10)
يرى أصحاب المذهب الإسلامي أن الفردية والجماعية من أخطر الخطوط في الطبيعة البشرية، وعليهما – في صورتهما الصحيحة أو المنحرفة – تقوم نظم الحياة كلها، صالحها أو فاسدها، وعلاقات الحياة كلها، سويها أو منحرفها، وسلوك الأفراد والجماعات[40].
وتقوم نظريتهم على أساس الاهتمام بالنزعتين معاً، دون إغفال لإحداهما، أو المبالغة في تقدير واحدة منهما على حساب الأخرى[41].
يقول محمد قطب: "ففي كل نفس سوية ميل للشعور بالفردية المتميزة، بالكيان الذاتي، وميل مقابل للاندماج في الجماعة والحياة معها وفي داخلها، ومن هذين الميلين معاً تتكون الحياة، ومن ثم لا يكون الإنسان فرداً خالصاً، ولا يكون أيضاً جزءاً مهماً في كيان المجموع"[42].
ويقول: "لا تمر على الإنسان لحظة واحدة يكون فيها فرداً خالص الفردية قائماً بذاته، ولا تمر عليه لحظة واحدة يكون جزءاً من القطيع غير متميز الكيان، عملية مستحيلة، غير قابلة للتحقيق.
في أشد اللحظات فردية يحمل الإنسان في قلبه مشاعر تربطه بالآخرين.
وفي أشد اللحظات جماعية يحس بأنه- على الأقل- هو الذي ينفذ رغبة الجماعة بذاته، بكيانه الفردي[43].
المطلب الثاني: أبرز روَّاد المذهب الإسلامي.
مما لاشك فيه أن المذهب الإسلامي في الفردية والجماعية قد جاء واضحاً جلياً في القرآن والسنة، وقد تربى عليه جيل الصحابة والتابعين، ومن بعدهم. فقد جاء في القرآن بأن كل إنسان يحاسب على عمله فرداً، وجاء فيه الأمر بالتعاون مع المجتمع على البر والتقوى، وجاء فيه حث الإنسان أن لا يكون إمَّعة، فيسير مع المجتمع كيف سار، بل عليه أن يحسن إذا أحسنوا، ولا يسئ إذا أساءوا، وجاء فيه الحث على السمع والطاعة لولاة الأمر ما لم يأمروا بمعصية، فالسمع والطاعة إنما تكون في حدود الشرع، وهكذا.(/11)
وعندما ظهرت في العصور المتأخرة الرأسمالية متبنية للمذهب الفردي، وظهرت الشيوعية متبنية المذهب الجماعي، قام مفكرو الإسلام يوضحون موقف الإسلام من الفردية والجماعية، فكان من أوائل من تصدى لهذا الموضوع: سيد قطب -رحمه الله- في كتابيه: الإسلام ومشكلات الحضارة، والسلام العالمي والإسلام.
ثم تناول محمد قطب– حفظه الله – هذه القضية بشيء من التفصيل في العديد من كتبه مثل: الإنسان بين المادية والإسلام، ودراسات في النفس الإنسانية، ومنهج التربية الإسلامية، وفي النفس والمجتمع، وغيرها من الكتب، ثم تتابع بعد ذلك علماء النفس وعلماء الاجتماع وعلماء الاقتصاد ممن يتبنى الإسلام عقيدة ومنهجاً بإيضاح هذه القضية[44].
المطلب الثالث: فلسفة التربية في المذهب الإسلامي:
يمكننا أن نقول بأن فلسفة التربية في المذهب الإسلامي تقوم على الأسس التالية:
الأساس الأول: تغذية الفردية في الإنسان.
الأساس الثاني: تغذية الجماعية في الإنسان.
الأساس الثالث: التوفيق بين الفردية والجماعية في الإنسان.
الأساس الأول: تغذية الفردية في الإنسان:
إنَّ الاهتمام بالجانب الفردي في الإنسان، والعناية به، يثمر ثمرات عديدة منها:
1- عدم تعلق القلب بغير الله تعالى، وإخلاص العبادة له.
فإن الفرد الذي لا يربى نفسه على الاستغناء عن المخلوقين، والزهد عما في أيديهم من أموال ومناصب ومتع الدنيا، فإن قلبه يتعلق بهم تعلقاً قد يصل به إلى الشرك بالله، وقد يصل به الذي الذلة والمهانة لهم، وقد يناله العذاب منهم من جرَّاء ذلك.
2- الثبات على دين الله تعالى، والقدرة على مواجهة المصاعب والمشاق.
إن الفرد الذي ربى جانب الفردية فيه، لديه من الاستعدادات والقدرات ما يجعله يثبت عند المحن والشدائد، بخلاف الذي أسلم قيادة نفسه للجماعة، تفكر له، وتعتني به، فإنه بمجرد انفراده عنها يضيع وينحرف.
3- مضاعفة النشاط والجهد.(/12)
لأنه يعلم أن المحاسبة على الأعمال يوم القيامة فردية، وأن جهده في الدنيا يحقق مصلحة نفسه، ويحقق ذاتيته.
4- تحرير العقل والإرادة من اعتداء الآخرين عليهما.
إن الذي ربى نفسه على أن يفكر لها، وينظر فيما يصلحها، ويسير وفق ذلك، بالضوابط الشرعية، فإنه يصعب على الآخرين السيطرة عليه بأهوائهم، ولذلك تجده سرعان ما ينجو من انحرافات الجماعات، ويتحرر من استبداد الطغاة، ويدافع عن نفسه، ويجهر بالحق، ويشارك بالرأي، ولا يسلم نفسه لتقاد بغير شرع الله.
ولما كان لتنمية الجانب الفردي هذه الفوائد العديدة وغيرها كثير، فقد حرص الإسلام على تغذية هذا الجانب من نواحي متعددة منها:
1- رب القلب البشرى بالله تعالى [45]:
ويكون ذلك بتعريف الفرد بنعم الله تعالى عليه، وتعريفه بأسماء الله وصفاته وأفعاله ومنها: سعة علم الله، وسعة قدرته، وعظيم إبداعه، وأن الخير بيده، والشر بيده، والحياة والموت بيده، وأن المخلوقين لا يملكون له نفعاً ولا ضراً، ولا موتاً ولا حياة، وأن المالك لذلك كله هو الله.
هذا التعلق القلبي بالله، يجعل الشخص يشعر بوجوده المستقل، ويشعر بالقوة النفسية، والتحرر من عبادة العباد.
2- إشعاره بالمسئولية عن أعماله [46].
كما قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ}[المدثر:38]، وقال تعالى: {لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً}[البقرة: من الآية48]{مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}[الإسراء:15].
فإذا تربى الإنسان على هذا الشعور، فإنه ولاشك سيدفعه للعمل من أجل مصلحة نفسه ونفعها في الدنيا والآخرة، وسيقوم بمحاسبتها ومراقبتها، حتى تحقق له ما يرجو من الأهداف.
3- دعوته إلى الاعتزاز بنفسه، والبعد بها عن سفاسف الأمور [47].(/13)
قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}[المنافقون: من الآية8] وقال صلى الله عليه وسلم: ((لا يحقر أحدكم نفسه، قالوا: يا رسول الله، وكيف يحقر أحدنا نفسه؟ قال: يرى أمراً لله عليه فيه مقال، ثم لا يقول فيه، فيقول الله عز وجل له يوم القيامة: ما منعك أن تقول في كذا وكذا؟ فيقول: خشية الناس، فيقول: فإيأي كنت أحق أن تخشى)).
4- تحذيره من متابعة الجماعة دون فهم ووعي [48].
قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} [البقرة:170].
وقال صلى الله عليه وسلم: ((لا تكونوا إمَّعة، تقولون: إن أحسن الناس أحسنا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطٌنوا أنفسكم، إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساؤوا فلا تظلموا)).
5- حثه على أداء كثير من العبادات بمفرده، وحثه على الإسرار بها:
مثل: قيام الليل، وصيام النوافل، والصدقات، والنصيحة الفردية لآحاد الناس، وغير ذلك.
الأساس الثاني: تغذية الجماعية في الإنسان:
إن اهتمام الإنسان بجانب الجماعية له ثمرات عديدة منها[49]:
1- التعاون على البر والتقوى، ومقاومة الظلم والعدوان.
2- تجديد النشاط والهمة.
3- اكتشاف عيوب النفس، والقيام بإصلاحها، وخاصة العيوب التي لا تظهر إلا من خلال حياة الإنسان في الجماعة: كالأنانية والكبر، والعجلة والغضب.
4- أداء العبادات التي يتطلب أداؤها وجود الجماعة، كالصلوات المفروضة، والجهاد وغيرهما.
5- تكامل الطاقات والقدرات، وتحقيق الحاجات النفسية وللمجتمع.
ولما كان للتربية الجماعية هذه الثمرات، فضلاً عن كون الحاجة للجماعة نزعة فطرية في الإنسان، فقد اهتمت التربية الإسلامية بهذا الجانب اهتماماً عظيماً، ومن ذلك:[50]
1- الربط بين صحة العقيدة وبين حسن الخلق مع المجتمع.(/14)
فجعل الدليل على صحة عقيدة الإنسان حسن الخلق مع المجتمع، وجعل سوء الخلق مع الناس دليلاً على فساد العقيدة.
قال تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ* فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ* وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الماعون:1-3]، فجعل الله من أخص صفات المكذبين بيوم القيامة، مَّمن فسدت عقائدهم: سوء أخلاقهم مع المجتمع، وخاصة ممن لا يرجون من ورائه نفعاً دنيوياً عاجلاً كاليتامى والمساكين، ومعنى ذلك أن من صحت عقيدته في الله وفي اليوم الآخر، فإنه يحسن خلقه مع المجتمع، سواء رأي مردود ثمرته في الدنيا أم لا، لأنه سيجده عند الله تعالى.
2- وضَّح الإسلام أن المقصود من تشريع العبادات إكساب الناس التقوى.
ووضح أن التقوى هي حسن الخلق بقسميه: حسن الخلق مع الخالق، وحسن الخلق مع الناس.
فمن أدى العبادات، وساء خلقه مع الناس، فإن ذلك يدل على نقص تقواه، وأن عبادته ما أنتجت الثمرة المطلوبة منها.
ويدل على ذلك قصة المرأة صائمة النهار، قائمة الليل، ولكنها سليطة اللسان تؤذي جاراتها، أخبر عنها النبي- صلى الله عليه وسلم- أنها في النار.
ويدل على ذلك حديث المفلس، الذي يأتي يوم القيامة بعبادات عظيمة ومتنوعة، ولكنه يأتي بسوء خلق مع المجتمع، فيتقاسم الغرماء حسناته، حتى إذا فنيت حسناته، أخذ من سيئاتهم فوضعت عليه، فطرح في النار.
3- حث الإسلام على التآخي في الله، وجعل لذلك منزلة رفيعة، وحسنات عظيمة.
4- حث الإسلام على أداء بعض الشعائر جماعة تأكيداً على الجماعة.
5- أمر الإسلام بلزوم الجماعة.
6- حض الإسلام على الشورى.
7- شرع الإسلام الزواج، ورتب على ذلك الأجور الكثيرة.
8- حث على السماحة في المعاملة من بيع وشراء ونحو ذلك.
9- نهى عن كل ما يضر بالمسلم من أقوال أو أعمال كالسخرية والاستهزاء، والكبر والخيلاء، والتناجي.(/15)
10- رتب على الأعمال الخيرية التي يقدمها الفرد للمسلمين أجوراً عظيمة، وفضلها على أداء النوافل من الصلوات.
الأساس الثالث: التوفيق بين الفردية والجماعية:
هذا التوفيق بين الفردية والجماعية في الإنسان هو من أعظم مميزات التربية الإسلامية عن غيرها من مناهج التربية، ويقوم هذا التوفيق على المبادئ التالية [51]:
1- تأكيد الإسلام على أن العلاقة الفردية التي بين العبد وربه، لابد أن تبرز في الخارج في نظام اجتماعي عادل متحرر من كل أشكال التسلط والقهر.
2- جعل الإسلام في شرائعه من الأوامر والنواهي ما يحقق التوازن بين الفردية والجماعية، فإذا انضبط المسلم بالشرع حقق فرديته، وخدم مجتمعه، دون تجاوز من أحدهما على الآخر.
3- بدأ الإسلام في بناء المجتمع من خلال ضمائر الأفراد ووجدانهم، فغرس فيها بذر الحب والرحمة للمؤمنين، وجعل محبتهم من حقيقة الإيمان بالله، ومن الأمور الجالبة لسعادة الإنسان في الدنيا والآخرة.
4- جعل الإسلام العلاقة بين أفراد المجتمع علاقة تكافلية، وأقام السلام على أساس مصلحة الفرد والمجتمع، على خلاف المذاهب الأرضية، فقد جعلت العلاقة بين أفرادها علاقة صراع وتنافس، وأقامت سلامها إما على مصلحة الفرد دون المجتمع، أو العكس.
5- جعل الإسلام قيماً منظمة لعلاقة الفرد بربه، وقيماً منظمة لعلاقة الفرد بنفسه، وقيماً منظمة لعلاقة الفرد بالآخرين، هذه القيم لو ربى المسلم نفسه عليها لأصبح نموذجاً فريداً، تشرأب الأنظار إليه، ولتكوّن من هؤلاء الأفراد مجتمعات سوية، ولعادت الأمة الإسلامية إلى مكانتها من القيادة والريادة، ولحلَّ السلام الحقيقي بالعالم أجمع.
الخاتمة
وفيها أبرز النتائج:
1- من أبرز الصفات في الإنسان التي تبدو في الظاهر متضادة متناقضة: إحساس الإنسان بفرديته، وإحساسه بالميل إلى الاجتماع بالآخرين.(/16)
2- انقسمت المذاهب الفلسفية تجاه الفردية والجماعية إلى ثلاثة أقسام، وكلها ترى أن العلاقة بينهما علاقة صراع وتضاد.
3- يقوم المذهب الفردي على تقديس الفرد، ويقوم المذهب الجماعي على تقديس المجتمع، ويحاول المذهب التلفيقي الجمع بينهما من ناحية المنفعة، فازداد التناقض والصراع عنده من ناحية التربية، فهو يربيه ليكون فرداً، وفي الوقت ذاته يفرض عليه آراء وقيود أرباب العمل دون قناعة منه بذلك، ويربيه على تقبلها دون تفكير.
4- يتبنى المذهب الفردي: الرأسمالية، وعلماء النفس الفردي، والوجوديون، وأصحاب المدرسة التحليلية من أتباع فرويد.
ويتبنى المذهب الجماعي: الشيوعية، ويعتبر هيجل وماركس ودور كايم من أبرز من دعا إليه.
ويتبنى المذهب التلفيقي: جون ديوي، وينتشر فكره حالياً في أمريكا.
5- تنطلق الرؤية الإسلامية لحقيقة الفردية والجماعية من القرآن والسنة، ولذلك ترى أهمية الفردية وأهمية الجماعية، فتربيهما جميعاً في الإنسان بتوازن وشمول وتكامل، فينتج من ذلك الوفاق في داخل الإنسان، وبين الفرد ومجتمعه، ولا يطغى أحدهما على الآخر.
وصلى الله على محمد وآله وسلم.
المراجع
1) دراسات في الفلسفة المعاصرة، د. زكريا إبراهيم، مكتبة مصر، مصر.
2) آفاق الفلسفة، د. فؤاد زكريا، مكتبة مصر، مصر.
3) فلسفة المحدثين والمعاصرين. تأليف: أ. وولف. ترجمة: أبو العلا عفيفي. مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، بمصر، 1944م.
4) في فلسفة الحضارة. د. أحمد صبحي + د. صفاء جعفر. دار المعرفة الجامعية، مصر.
5) علم الأخلاق، بروفيسور: ألكسندر تيتارينكو، ترجمة: دار التقدم، طبعة الاتحاد السوفيتي 1990م.
6) تقاليد أول أيار. ألكسندر خرامتسوف. ترجمة دار التقدم. طبعة الاتحاد السوفيتي 1988م.
7) أهداف التربية الإسلامية. د. ماجد عرسان الكيلاني. مؤسسة الريان، بيروت ط(1)، 1419 هـ.(/17)
8) العلوم الطبيعية والاجتماعية من وجهة النظر الإسلامية. إعداد: د. إسماعيل الفاروقي، ود. عبد الله عمر نصيف، ترجمة: د. عبد الحميد الخريبي. ن. شركة مكتبات عكاظ. ط (1)، 1404هـ.
9) مفهوم إسلامي للتاريخ. بقلم: عبد الحميد صديقي. بحث: ضمن بحوث الكتاب السابق.
10) مفهوم إسلامي جديد لعلم الاجتماع. (الجزء الأول: الجماعة) د. محمد علوان، دار الشروق، جدة، ط(1) 1404هـ.
11) شخصية المسلم بين الفردية والجماعية. د. السيد محمد نوح. دار الوفاء، بمصر، ط (3)، 1411هـ.
12) منهج التربية الإسلامية، محمد قطب، دار الشروق، القاهرة، 1415هـ.
13) دراسات في النفس الإنسانية، محمد قطب، دار الشروق القاهرة، ط (6) 1403هـ.
14) الإنسان بين المادية والإسلام، محمد قطب، دار الشروق، القاهرة، ط (8) 1403هـ.
15) جاهلية القرن العشرين، محمد قطب، دار الشروق، القاهرة، 1403هـ.
16) في النفس والمجتمع، محمد قطب، دار الشروق، القاهرة، ط(10) 1413هـ.
17) السلام العالمي والإسلام، سيد قطب، دار الشروق، القاهرة، ط(11).
18) الإسلام ومشكلات الحضارة، سيد قطب، دار الشروق، القاهرة، ط (11) 1412هـ.
19) بحوث ندور خبراء "أسس التربية الإسلامية". الناشر: مركز البحوث التربوية والنفسية، ط(2) 1400هـ. من ضمنها:
1- الإنسان في القرآن الكريم (الجانب العقلي). د. أحمد توفيق شاولي.
2- أسس التربية الاجتماعية في الإسلام. د. محمد الشاذلي.
3- أسس التربية الإسلامية. د. صالح نابي.
4- البناء القيمي للشخصية كما ورد في القرآن الكريم. د. عبد الحميد الهاشمي+ د. فاروق سيد عبد السلام.
5- النظرية التربوية في الإسلام. د. محمود السيد سلطان.
6- نظرية التربية الإسلامية للفرد والمجتمع. د. محمد الغزالي.
7- النظرية التربوية الإسلامية. د. محمد قطب.
20) السلوك الاجتماعي في الإسلام. حسن أيوب. دار الندوة الجديدة، بيروت.(/18)
21) التربية الذاتية من الكتاب والسنة، هاشم علي أحمد، الأهدل للنشر والتوزيع، مكة. ط (1) 1413هـ.
22) التربية والتجديد، د. ماجد عرسان الكيلاني، مؤسسة الريان، بيروت، ط (1) 1418هـ.
---
[1] انظر: شخصية المسلم (12).
[2] انظر: منهج التربية الإسلامية (163).
[3] انظر: جاهلية القرن العشرين (130).
[4] انظر: المصدر السابق (131-136).
[5] انظر: المصدر السابق (141- 142).
[6] انظر: أهداف التربية الإسلامية (468).
[7] انظر: دراسات في النفس الإنسانية (139)، والبحث السابق "مدارس علم النفس": عرض ونقد.
[8] انظر: منهج التربية الإسلامية (162).
[9] انظر: الإسلام بين المادية والإسلام (111).
[10] انظر: المصدر السابق (115).
[11] انظر: أهداف التربية الإسلامية (468 – 469).
[12] انظر: منهج التربية الإسلامية (163).
[13] انظر: دراسات في النفس الإنسانية (133).
[14] انظر: دراسات في النفس الإنسانية (139)، والإنسان بين المادية والإسلام (112).
[15] انظر: الإنسان بين المادية والإسلام (120).
[16] انظر: السلام العالمى والإسلام (104).
[17] انظر: شخصية المسلم (12). وانظر: علم الأخلاق، ألكسندر تيتارينكو (150-152).
[18] انظر: مفهوم إسلامى للتاريخ (68-69). ضمن كتاب "العلوم الطبيعية والاجتماعية من وجهة النظر الإسلامية".
[19] انظر: جاهلية القرن العشرين (131).
[20] انظر: الإسلام ومشكلات الحضارة (104)، وانظر: في فلسفة الحضارة (234).
[21] انظر: مفهوم إسلامى للتاريخ (69).
[22] انظر: مفهوم إسلامى للتاريخ (69)، وانظر: آفاق الفلسفة (387).
[23] انظر: دراسات في النفس الإنسانية (139).
[24] انظر: منهج التربية الإسلامية (162-163). وانظر: تقاليد أول أيار، ألكسندر خرامتسوف.
[25] انظر: أهداف التربية الإسلامية (467، 468).
[26] انظر: المصدر السابق (471، 472).
[27] انظر: الإسلام بين المادية والإسلام (111).(/19)
[28] انظر: مفهوم إسلامى للتاريخ (71).
[29] انظر: مفهوم إسلامى جديد لعلم الاجتماع (50).
[30] انظر: منهج التربية الإسلامية (164).
[31] انظر: الإنسان بين المادية والإسلام (112).
[32] انظر: أهداف التربية الإسلامية (469).
[33] انظر ترجمته في: دراسات في الفلسفة المعاصرة، د . زكريا إبراهيم (58 – 65).
[34] انظر: المصدر السابق (59).
[35] انظر: فلسفة المحدثين والمعاصرين، أ . وولف، ترجمة: أبو العلا العفيفي (110).
[35] انظر: أهداف التربية الإسلامية (469 – 470).
[37] انظر: أهداف التربية الإسلامية (469 – 480).
[38] انظر: كلام رودمان ويب، في كتاب "أهداف التربية الإسلامية لماجد الكيلانى (470).
[39] انظر: منهج التربية الإسلامية (126).
[40] انظر: دراسات في النفس الإنسانية (130).
[41] انظر: الإنسان بين المادية والإسلام (128).
[42] انظر: دراسات في النفس الإنسانية (130، 131).
[43] انظر: المصدر السابق (132).
[44] انظر: بحوث ندور خبراء "أسس التربية الإسلامية"، مجموعة في مجلد بهذا العنوان.
[45] انظر: منهج التربية الإسلامية (165)، وشخصية المسلم بين الفردية والجماعية (52-55).
[46] انظر: التربية الذاتية من الكتاب والسنة (56-60).
[47] انظر: شخصية المسلم (60)، أسس التربية الاجتماعية في الإسلام (2-5).
[48] انظر: شخصية المسلم (56).
[49] انظر: شخصية المسلم (25-37).
[50] انظر: السلوك الاجتماعى في الإسلام، حسن أيوب (11-20)، ومنهج التربية الإسلامية.
[51] انظر: مفهوم إسلامى للتاريخ (71)، وأسس التربية الإسلامية (2)، والإنسان في القرآن (8، 17)، والبناء القيمى للشخصية كما ورد في القرآن الكريم (3، 4، 13)، والنظرية التربوية في الإسلام (16،17)، والتربية والتجديد، وتنمية الفاعلية عند المسلم المعاصر (43-59).(/20)
العنوان: ظاهرة شَغَب الأطفال في المساجد
رقم المقالة: 1112
صاحب المقالة: أنس محمد خير يوسف
-----------------------------------------
أكتبُ هذه الكلمات والدمُ ينزف من أسفل قدمي بسبب هذه الظاهرة.. لعلّ الجرح يلتئم...
فقد خرجتُ لأداء صلاة العشاء وقدّمت رجلي للدخول إلى المسجد بين المصلِّين، فشعرت بوخزة مؤلمة أسفلَ قدمي، فرفعتها فإذا بأحد دبابيس اللوحة الحائطيّة قد دُكَّ في قدمي، فلم آبَهْ بالأمر، واستخرجتُه بصعوبة وظننته قد وقع عَرضاً، وقلت: الحمد لله أنها قد جاءت في قدمي وقد خصّني الله بها.. ولكن بعد أن تقدّمتُ قليلاً رأيت صبيَّين أحدُهما بيده هذه (الدبابيس) وهو واقفٌ وكأنه يريد تعليق الأوراق بجانب الباب، فهرعتُ إليه بعرجة.. وقلت له: ألا تخاف الله يا ولد؟! ألا تستحي..؟! فقال ببراءة: لا لا لا تظلمني لا تظلمني.. فمسحتُ رأسه وقلتُ له: لا تثريب عليك يا ولد، وأنا أعتذر لأني اتّهمتك.. وأسعفتني عرجتي إلى الركوع.. عندها شاهدت قدمي فإذا هي ملطّخةٌ بالدّماء من كلّ جانب.. وأنا أنظر إليها سمعتُ الأطفال خلفي يضحكون ويقهقهون عند الباب وجانبَ اللوحة.. فقطعتُ صلاتي -بسبب الدم المنصبّ- وهرعتُ إليهم فإذا بهم يمسحون الدّم بمنديل بأيديهم ليغطّوا فعلتهم المنكرة...
قد تكون هذه لعبة أطفال جديدة يلعبون بها في المساجد، أو قد تكون ظاهرة جديدة عند الأطفال –المزعجين– من روّاد المساجد، فأرجو من القرّاء الكرام أن ينتبهوا قبل دخولهم المساجد وأن يمشوا رويداً رويداً، وأن لا ينسوا دعاء الدخول إليه...
ليس المغزى من القصّة شرح مدى الألم الذي اعتصرني والموقف الذي حدث.. بل المغزى تربويٌ صرف.. فكم سمعنا من قصص تحصل مع الكبار الذين يذمّون تربية الأبناء.. فضلاً عن العلماء والمشايخ الذين يلاقون الأذى من هؤلاء الأطفال في الشوارع والطرقات.. وذلك بسبب سوء تربيتهم أو بعبارةٍ ألطف (عدم الاهتمام بهم)..(/1)
تخيّلوا معي أن مسلماً جديداً حصل له هذا الموقف..!
أو تخيّلوا أنّ أحد المصابين بداء السكّري حصل معه ما حصل معي ولم يتوقّف النزيف..!
وتخيّلوا أيضاً -لو أحببتم- أن أحد كبار السّن قد وُخز بهذا الدبوس بسبب عدم التربية السليمة للأطفال وعدم متابعتهم..!
كثيرةٌ هي المواقف حول لهو الأطفال ولعبهم في المساجد.. أرى الكثير من الناس يسوّغون ذلك بأنها فرصة لتعويد الأبناء دخول المساجد وأداء الصلوات.
نعم! المسجدُ محضنٌ تربوي للجميع بلا استثناء، ولكن ليس لهذه الدّرجة من الإهمال وعدم المتابعة، أعتقد أن الكثير من أولياء أمورهم يرسلون أبناءَهم فقط للتخلّص منهم، وليرتاحوا قليلاً من (وجع الرأس الذي يُحدثونه في البيت!)، ولكن في المقابل هم يؤلمون رؤوساً أُخرى تسجد للخالِق..! ويجرحون أقداماً وقلوباً.. ويقطعون خشوع المصلّين.. فضلاً عن جرح القلب الذي يتركونه، وجرح المسلمين وإزعاجهم وأذيتهم.
أليس من المُفترض أن يكون هؤلاء الأطفال بُناةَ مستقبل، ولبِنات بنيان هذه الأمّة، عزّ هذه الأمة وفخرها ورجالها الذين نتطلّع إلى مستقبل الإسلام من خلالهم؟!
في لقاء مع بعض المصلّين وما حصل معهم من مواقف ورد الكثير من القصص التي تدلّ على تسيّب واضح من ذوي هؤلاء الأبناء نذكر منها:
- يقول أحدهم:
أصلي كأنني لا أصلّي، لو صلّيت بجانب أحد الأولاد، لا أحس بأي خشوع لأسباب كثيرة منها: كثرة حركة هؤلاء الأولاد، ولعبهم في الصلاة، وضحكهم، واستهتارهم.. ونصيحتي لأولياء الأمور أن يأتوا مع أولادهم ويصلّوا معهم وينظروا إليهم كيف يصلّون.
- ويقول أحدهم:(/2)
أتربّص كثيراً قبل أن أصلّي وأختار المكان المناسب لأصلّي، والعجيب -لو تُصدّق- أن المكان المناسب في المسجد بالنسبة لي ليس يمين الإمام، ولكن -مع هؤلاء الأطفال- أصبح المكان المناسب بالنسبة لي في المسجد هو أن أكون بين رجُلين وبعيداً عن أي طفل، فإذا رأيتُ أيّ صبيّ في المسجد انتظرتُ حتى أرى أين سيقف، وحتى أتيقن أنه لن يصلّي بجانبي.. كي أصلّي ببعض الاطمئنان.
- ويقول أحدهم:
أصبح المسجد كأنه ملعب للأطفال، والله إنه شيء يشيب له الرأس، تراهم يركضون ويقفزون بين يدي المصلين، ولا حيلة لنا إلا الكلام إن استطعنا أن نكلّمهم، لا حول ولا قوّة إلا بالله.
- ويقول أحدهم:
نهرتُ أحد الأطفال، وسألته: لماذا تلعب في المسجد، وتزعج المصلين؟ فاستهزأ بي وأخذ يضحك منّي ومن كلامي، وأخذ يصدر حركات عجيبة غريبة، لدرجة أنني استحييت أن يشاهدنا أحد، وقد ندمت على كلامي معه، وأخذت جرعةً جعلتني لا أكلّم أحداً من الأولاد في هذا الموضوع أبداً مهما فعل أمامي.
- ويقول أحدهم:
صلّى بجانبي أحد الأولاد مع ولد آخر صديقٍ له، فصليت بجانبهما، فإذا بالأوّل يسحب ثوب الثاني، ثمّ تبادلا أطراف الثياب، وبعد ذلك تبادلا أطراف الحديث، ثمّ أخذ كلّ منهما يؤشّر للآخر بالوعيد بيديه..وبعد ذلك قطع أحدهم صلاته وذهب إلى الحمّامات على ما أعتقد، وعاد ليسحب يد صديقه مرة أخرى... وهكذا.. إلى قُبيل التسليم، وأصبحت كأني أمام مسلسل كرتوني...
- ويقول أحدهم:
صلّى بجانبي صبيّان، أخذا يتقاتلان بلطف من أوّل الصلاة إلى آخرها، ولا يخلو الأمر من لمسات وصلت إلى جسدي، ومن بعض الأذى الواضح.. لدرجة أنّي -في الصلاة- أمسكت بملابسي وجيبي خشية أن يسقط مني شيء أو أن يأخذوا من جيبي شيئاً ليتقاذفوا به..
- ويقول أحد الأساتذة الجامعيين:
أعتقد أن المفروض أن لا يذهب الصبي إلى المسجد إلا بعد سنّ العاشرة، برفقة والده، لكي يعلّمه الأدب واحترام المسجد.
- ويقول أحدهم:(/3)
إن أخي الصغير يشتكي دائماً من الأولاد في الحيّ، ولا يقف مع هؤلاء الشباب بعد الخروج من المسجد إلا نادراً ويعتذر منهم دائماً، والحمد لله أنه يعي ذلك ويعرف الأصدقاء الأخيار من الأشرار، أما أخي الأصغر منه فإنه دائماً معه ولا أدعه يذهب إلى المسجد وحدَه أبداً، وإذا رأيته مع أحد الأولاد المشاغبين بعد الصلاة أنهره وأنصحه؛ ولكنه يقول إنهم يصرّون عليّ أن أقف معهم، وأن أتكلّم معهم مع أنّي لا أريد ذلك!!.
أخيراً.. فالمسؤوليةُ عظيمة، وهذه بعض التوصيات لعلّها تساهم في حل هذه المشكلة إن شاء الله:
• توصيات :
1 - أن لا يذهب الأطفال إلى الجامع إلا بصحبة الكبار؛ وبخاصة إن كان المسجد يحوي الأطفال المشاغبين.
2 - جمع المشاغبين واستلطافهم ببعض الحلوى والموالح والألعاب ونصحهم باللطف.. فاللطف آسر. والتعامل معهم بقسوة يولد نتيجة عكسية أو غير متوقعة.
3 - حلقة تحفيظ القرآن عليها عبء كبير من حيث توجيه أطفال الحي لاحترام الجامع. وكذلك إمام المسجد والمؤذن.. المعلمون في المدارس.
4 - اللومُ الأكبر على الآباء والأمهات في مثل هذه التصرّفات التي تبدر من أبنائهم.
5 - نركز في ذلك على المواسم؛ وبخاصة رمضان وصلاة التراويح؛ التي يكثر فيها شغب الأطفال.. في مُصليَي النساء والرجال.(/4)
العنوان: ظن السوء (1)
حكمه وأهله
رقم المقالة: 1575
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله - تعالى - وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها المؤمنون: حسن الظن بالله - تعالى - من آكد واجبات التوحيد، وسوء الظن به - تعالى - يعارض التوحيد حتى ينفي أصله أو كماله؛ ذلك أنه لا يتم للعبد إيمان ولا توحيد حتى يعتقد بجميع ما أخبر الله - تعالى - به من أسمائه وصفاته وكماله، وتصديقه بكل ما أخبر به وأنه يفعله، وما وعد به من نصر الدين، وإحقاق الحق، وإبطال الباطل. فاعتقاد هذا من الإيمان، وطمأنينة القلب بذلك من الإيمان، وكل ظن ينافي ذلك فإنه من ظنون الجاهلية المنافية للتوحيد: سوء ظن بالله، ونفي لكماله، وتكذيب لخبره، وشك في وعده[1].
وحسن الظن بالله - تعالى - يُبنى على العلم برحمة الله وعزته، وإحسانه وقدرته، وعلمه وحسن اختياره، وقوة المتوكل عليه، فإذا تم العلم بذلك أثمر للعبد حسن الظن بالله تعالى[2].(/1)
وجزاء الظن من الله - تعالى - للعبد على حسبه، إن ظن ظنًّا حسنًا مع الإيمان والعمل كان الجزاء حسنًا، وإن ظن بربه سوءًا كان جزاؤه سوءًا، قال الله - تعالى - في الحديث القدسي: ((أنا عند ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء))؛ أخرجه أحمد بسند صحيح[3] وفي حديث قدسي آخر قال - تعالى -: ((أنا عند ظن عبدي بي، إن ظن خيرًا فله، وإن ظن شرًّا فله))؛ أخرجه الشيخان وابن حبان واللفظ له[4].
ولبالغ أهمية إحسان الظن بالله - تعالى - فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوصى به قبل موته، قال جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما -: "سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول قبل موته بثلاث: ((لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله جل وعلا))؛ أخرجه مسلم[5]. وأخبر - عليه الصلاة والسلام - أن حسن الظن من حسن العبادة كما في حديث أبي هريرة عند أحمد وأبي داود[6].
وبيَّن - صلى الله عليه وسلم - أن حسن الظن ينفع في الآخرة لمن أراد الله به خيرًا كما روى أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم – ((يخرج رجلان من النار، فيُعرضان على الله، ثم يؤمر بهما إلى النار، فيلتفت أحدهما فيقول: يا ربَّ، ما كان هذا رجائي! قال: وما كان رجاؤك؟ قال: كان رجائي إذ أخرجتني منها أن لا تعيدني، فيرحمه الله؛ فيدخله الجنة))؛ أخرجه مسلم وابن حبان واللفظ له[7].(/2)
مع ذلك كله ينبغي أن يعلم أنه لابد أن يجتمع العمل مع حسن الظن، ويقترن الخوف بالرجاء؛ لأنه إن ترك العمل اعتمادًا على حسن الظن؛ فقد أساء الظن بالله؛ إذ ظن أن الله - تعالى - لا يعاقب من يعصيه، وذلك مخالف لحكمته من الخلق والابتلاء. وإن أساء الظن بالله يئس من رَوْحِه، وقنط من رحمته فكان من الهالكين، والموازنة في ذلك يتحقق بها التوحيد: حسن ظنٍ مع عمل واجتهاد، وخوف مع رجاء، وقد عنون لذلك ابن حبان رحمه الله - تعالى - فقال: "ذكر البيان بأن حسن الظن الذي وصفناه يجب أن يكون مقرونًا بالخوف منه جل وعلا"[8]، ثم أدرج تحته حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يرويه عن ربه - جل وعلا - قال: ((وعزتي لا أجمع على عبدي خوفين وأمنين، إذا خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة، وإذا أمنني في الدنيا أخفته يوم القيامة))[9].
إن كثيرًا من الناس غفلوا عن هذا الأمر، تجدهم يقصرون في الفرائض، ويأتون المحرمات، وإذا قيل لهم اتقوا الله، احتجوا بمغفرة الله ورحمته مع إصرارهم على ترك طاعته، وفعل معصيته، وهذا من سوء ظنهم بالله - تعالى - {اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 98]، {إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ العِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأعراف: 167]، {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ العِقَابِ} [الرعد: 6] {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ العَذَابُ الأَلِيمُ} [الحجر: 49-50]. وكثيرًا ما يقرن الله - تعالى - بين هاتين الصفتين: المغفرة والعذاب؛ حتى يكون العبد مع إيمانه وعمله الصالح خائفًا راجيًا[10].(/3)
لقد ذكر القرآن العظيم طوائف ممن سبقونا، ساء ظنهم بربهم فهلكوا، حتى يكون العبد على حذر من الوقوع فيما وقعوا فيه. ظنوا أن الله - تعالى - خلق الخلق عبثًا، وأنه لن يحاسب أحدًا، وأن الساعة غير آتية، وأن الدنيا قرارهم.
لقد ظن كفار الإنس وكفار الجن قبيل بعثة محمد - صلى الله عليه وسلم - أن فترة الرسل باقية، وأنَّ إرسال نبي ممتنع كما قال الله عنهم {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا * وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَدًا} [الجنّ: 6-7].
وظن المشركون والماديون وبعض أهل البدع والضلال أن حكمة الخلق منتفية، وأن التقدير كان لمشيئة مجردة[11]؛ فرد الله عليهم في هذا الظن السيئ بربهم فقال - تعالى -: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [ص: 27] وفي آية أخرى قال - تعالى -: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الدُخان: 38-39].
والذين أنكروا البعث والحساب ساء ظنهم بربهم؛ فلم يقروا له بالحكمة والعدل والرحمة {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً} [الكهف: 35-36]. {وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الجاثية: 32].(/4)
وأشهر طوائف الضلال اتصافًا بسوء الظن بالله - تعالى -: طائفةُ المنافقين، ظنوا أن الله - تعالى - لا ينصر عباده؛ فانسحبوا من جيش المسلمين في أُحُد. فلما كانت الهزيمة أظهروا الفرح والشماتة.
وكان سوء الظن بالله - تعالى - ملازمًا للمنافقين - ولا يزال - في كل عصر وفي كل أرض {وَيُعَذِّبَ المُنَافِقِينَ وَالمُنَافِقَاتِ وَالمُشْرِكِينَ وَالمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [الفتح: 6]. {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الحَقِّ ظَنَّ الجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ للهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ القَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران: 154].(/5)
والمعذبون من أهل الظن السيئ بربهم يوبخون على سوء ظنهم، ويخبرون أن ظنهم أرداهم وأهلكهم {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الخَاسِرِينَ * فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ المُعْتَبِينَ} [فصِّلت: 22-24].
نفعني الله وإياكم بهدي القرآن العظيم وسنة سيد المرسلين.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده وأشكره وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحديد: 28].
أيها الإخوة: إذا اكتملت النعم، وانفتحت الدنيا على العباد وهم مع ذلك يزدادون عصيانًا وكفورًا، ثم ظنوا أن الأيام لا تدور، وأن النعم لا تزول فأمنوا واطمأنوا فقد أساؤوا الظن بربهم؛ لأنه - تعالى - يقول {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7].(/6)
ويسبق الغرورَ بالدنيا الظنُّ بأن الله - تعالى - لا يعاقب على الكفران، وهو ظن سوءٍ به - تعالى - {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [يونس: 24].
إن حضارة اليوم أورثت سوء الظن هذا؛ حتى ظن بعض الناس أن الإنسان سيطر على الطبيعة تصرفًا وتدبيرًا وتسخيرًا وتعالى أقوام على ربهم حتى حكموا بأن عقل الإنسان وطاقاته وقدراته غير محدودة بحد، ولا مقيدة بشرط؛ فكانت المذاهب الإلحادية المادية، التي جعلت الإنسان سيد الطبيعة، ومركز الأرض، وألغت رسالات الأنبياء، ووحي رب العالمين بحجة أن ذلك يعيق العقل ويحبسه، حتى انتشر بين أرباب هذه النظريات: الإلحاد المطلق، والكفر الشامل.
وأما أكثر الناس فأورثهم تعلقهم بالدنيا ومتعها وزخرفها سوء ظن بالله - تعالى - فيرضى الواحد منهم إذا أعطي، ويسخط إذا منع، ولا يشكر الله على نعمه بل يطلب المزيد والمزيد؛ حتى لا يرضيه شيء.(/7)
يقول ابن القيم - رحمه الله تعالى -: "أكثر الخلق إلا من شاء الله يظنون بالله غير الحق، وظن السوء؛ فإن غالب بني آدم يعتقد أنه مبخوس الحق، ناقص الحظ، وأنه يستحق فوق ما أعطاه الله - تعالى - ولسان حاله يقول: ظلمني ربي، ومنعني ما أستحقه. ونفسه تشهد عليه بذلك، وهو بلسانه ينكره، ولا يتجاسر على التصريح به. ومن فتش نفسه، وتغلغل في معرفة دقائقها وطواياها رأى ذلك فيها كامنًا كمون النار في الزناد؛ فاقرع زناد من شئت ينبئك شررها عما في زناده. فليعتنِ اللبيب الناصح لنفسه بهذا الموضع، وليتُبْ إلى الله ويستغفره في كل وقت من ظنه بربه ظن السوء، وليظن السوء بنفسه، التي هي مأوى كل سوء، وصنيع كل شر، المركبة على الجهل والظلم، فهو أولى بظن السوء من أحكم الحاكمين، وأعدل العادلين، وأرحم الراحمين..."[12].
فاتقوا الله ربكم، وجاهدوا قلوبكم في مقاومة هذا الداء الخبيث الذي إن لم يذهب بالتوحيد كله أخلَّ به، وأنقص كماله، وشوه جماله، وماذا يبقى للعبد إن ذهب توحيده وإيمانه؟! ألا وصلوا وسلموا على نبيكم محمد بن عبدالله كما أمركم بذلك ربكم.
---
[1] انظر: "القول السديد على كتاب التوحيد" للشيخ عبدالرحمن السعدي (143) و"القول المفيد" للشيخ محمد العثيمين (3/143).
[2] "تيسير العزيز الحميد" (685).
[3] أخرجه أحمد (3/491) وابن المبارك في "الزهد" (909) والطبراني في الكبير (22/210) وصححه ابن حبان (633 - 634).
[4] أخرجه البخاري في التوحيد باب (يريدون أن يبدلوا كلام الله) (7505) ومسلم في الذكر والدعاء: باب فضل الذكر والدعاء والتقرب إلى الله (2675) والترمذي في الزهد باب ما جاء في حسن الظن بالله - تعالى - (2388) وابن حبان (639) واللفظ له من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[5] أخرجه مسلم في صفة الجنة باب الأمر بحسن الظن بالله - تعالى - عند الموت (2877) وأبو داود في الجنائز باب ما يستحب من الظن بالله - تعالى - عند الموت (3113).(/8)
[6] أخرجه أحمد (2/297) وأبو داود في الآداب باب في حسن الظن (4993) والترمذي في الدعوات باب (146) (3604) والحاكم وصححه على شرط مسلم، ووافقه الذهبي (4/241) وصححه ابن حبان (631) والشيخ أحمد شاكر في شرحه على المسند (7943).
[7] أخرجه ابن حبان بإسناد على شرط مسلم (632)، ومسلم بلفظ آخر في الإيمان باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها (192).
[8] انظر: "الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان" (20/406).
[9] أخرجه ابن حبان (640) وله شاهد عند ابن المبارك في الزهد (157) وذكره الهيثمي مرسلاً ومسندًا وقال: "رواهما البزار عن شيخه محمد بن يحيى بن ميمون، ولم أعرفه وبقية رجال المرسل رجال الصحيح ، وكذلك رجال المسند غير محمد بن عمرو بن علقمة وهو حسن الحديث"، انظر: "مجمع الزوائد" (10/308)، وصححه الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب" (3376).
[10] انظر: تفسير ابن كثير (44112) عند تفسير الآية (167) من سورة الأعراف.
[11] انظر: "تيسير العزيز الحميد" ففيه تفصيل أكثر (691).
[12] "تيسير العزيز الحميد" (696 - 697).(/9)
العنوان: ظن السوء (2)
المنافقون وظن السوء
رقم المقالة: 1576
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
الحمد لله، خلق الخلق بقدرته، وأفاض عليهم من نعمته، وابتلاهم بحكمته، أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ تفرد بصفات الجلال والكمال، وتنزه عن النظراء والأشباه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشُّورى: 11].
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ أكمل الخلق إيمانًا، وأعظمهم يقينًا، وأحسنهم بربه ظنًّا ساومه المشركون على دينه، وآذوا أصحابه؛ فما زاد إلا استمساكًا بدينه، واستسلامًا لأمر ربه. وتبعه المشركون في هجرته؛ حتى وقفوا على باب غاره، وخاف صاحبه، فكان يقينه بربه أعظم حيث قال: ((الله معنا))، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه؛ كانوا نِعْم صحب لأفضل نبي، هجروا ديارهم، وتركوا أهلهم وأموالهم؛ نصرةً لدين الله - تعالى - والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله أيها المؤمنون؛ فإن التقوى نور يضيء الطريق في الظلمات، وسبيل إلى المغفرة وتكفير السيئات {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ} [الأنفال: 29].
أيها المؤمنون: قوة الإيمان واليقين، وصحة المعتقد والتوحيد مع حسن العمل؛ طريق الأمن والسعادة في الدنيا، والفوز والفلاح في الآخرة· من آمن بالله - تعالى -، وسلم الأمر إليه، وتوكل عليه، وأحسن الظن به مع حسن عمله فلن يزيغ أو يضل؛ بل سيكون من المهديين الفائزين.(/1)
ومهما تكالب العدوان على المؤمن، وتحاوشته الفتن، وتناوشته المحن فإن يقينه بربه، وحسن ظنه به عاصم له من كل فتنة، ومخفف عليه كل بلية، ومن هنا كان حسن الظن بالله - تعالى - من صفات المؤمنين، وسوء الظن به من صفات المنافقين.
إن المؤمنين صدقًا مؤمنون أنهم على الحق، وموقنون بنصر الله - تعالى - ووعده، وإن المنافقين يتقلبون في الشكوك والأوهام والظنون الفاسدة، ولا تصيح صيحة إلا فزعوا يحسبونها عليهم، قلوبهم مريضة، وظنونهم فاسدة {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا} [آل عمران: 120] وهم على هذا النهج الباطل منذ عصر الرسالة وإلى يومنا هذا، وعبر الزمن الطويل. كم غموا بعزٍّ للإسلام، وظَفَرٍ للمسلمين. وكم فرحوا بدائرة دارت على أهل الحق واليقين.
لما حصل ما حصل في غزوة أُحُد من هزيمة المسلمين، وكان من المنافقين من انخذل من الجيش فرحوا بذلك أشدَّ الفرح، وظنوا أنه لا قائمة للإسلام بعد ذلك: {وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران: 154].
عن ابن جريج قال: "قيل لعبدالله بن أُبَي: قتل بنو الخزرج؟ قال: وهل لنا من الأمر من شيء"[1].(/2)
قال ابن القيم - رحمه الله تعالى -: "وقد فسر هذا الظن الذي لا يليق بالله – سبحانه - بأنه لا ينصر رسوله، وأن أمره سيضمحل، وأنه يسلمه للقتل، وفسر بظنهم أن ما أصابهم لم يكن بقضاء الله وقدره ولا حكمة له فيه"[2].
ثم لما كانت غزوة الخندق عاود المنافقين ظنُّهم السيئ وقالوا مقولاتهم المرجفة: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ القُلُوبُ الحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ المُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا * وَإِذْ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} [الأحزاب: 10-12]. قال الحسن - رحمه الله تعالى -: "ظنون مختلفة، ظن المنافقون أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه يستأصلون، وأيقن المؤمنون أن ما وعد الله ورسوله حق، وأنه سيظهره على الدين كله ولو كره المشركون"[3].
لقد ظهر في الساعة العصيبة نفاق المنافقين؛ لأن ظنهم السيئ هداهم إلى أن دعوة الإسلام على مشارف الانتهاء والاضمحلال، وأخذوا يشككون في وعد الله ورسوله، حتى قال قائلهم: "كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا لا يقدر أن يذهب إلى الغائط"[4]!
وخيب الله ظنهم، فحفظ المؤمنين، ورد الكافرين على أعقابهم لم ينالوا خيرًا {وَكَفَى اللهُ المُؤْمِنِينَ القِتَالَ وَكَانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} [الأحزاب: 25].
ويتواصل الظن السيئ مع المنافقين؛ لأن قلوبهم قد مردت على النفاق، فتكون غزوة الحديبية التي ما خرج فيها مع المؤمنين أَحد من المنافقين؛ لأنهم لا يحبون أن يراهم المشركون متلبسين بأعمال المسلمين، مظاهرين لهم، وكانوا يحسبون أن المشركين يدافعون المسلمين عن مكة، وأن النصر سيكون للمشركين.(/3)
لقد ظنوا أن الله - تعالى - لم يَعِدْ رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالفتح، ولا أمره بالخروج إلى العمرة، ومن ثم لن يُنصرَ لقلة أتباعه، وقوة أعدائه[5] فسجل القرآن عليهم هذا الظن السيئ، وجعل عليهم دائرة السوء {وَيُعَذِّبَ المُنَافِقِينَ وَالمُنَافِقَاتِ وَالمُشْرِكِينَ وَالمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [الفتح: 6].
وتمادى بهم ظنهم السيئ، وامتلأت به قلوبهم، وزينه لهم شياطينهم؛ حتى اعتقدوا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لن يرجع من الحديبية سالمًا، وهذا هو شأن العقول الواهية، والنفوس الهاوية أن لا تأخذ من الصورة التي تتصور بها الحوادث إلا الصورة التي تلوح لها في بادئ الرأي[6] والتي تهواها وتحبها. وما أحقر المنافقين: يعيشون بين المؤمنين، وينعمون بحمايتهم، وتبادل المنافع معهم، وهم يودون لهم الشر والهلاك. تخلفوا عن الحديبية ثم جاؤوا بأعذار كاذبة، وطلبوا من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يستغفر لهم؛ لكن القرآن كان أسرع في تنزله؛ إذ راحت آياته تفضحهم وتبين مخازيهم: {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا} [الفتح: 12].
إنهم تخلفوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وظنوا أن أهل مكة سيقتلون محمدًا وصحبه، ويستأصلون شأفتهم، ويبيدون خضراءهم؛ فلا يرجع منهم مخبر[7] حتى كانوا يقولون: إن محمدًا وأصحابه أكلة رأسٍ لا يرجعون. وذلك كناية عن القلة، أي: يشبعهم رأس بعير من قلتهم، فما هم بالنسبة لقريش والأحابيش وكنانة ومن في حلفهم[8]؟!(/4)
هكذا ظنوا وتمنوا ولكن الله - تعالى - خيب ظنهم، ونكس أمانيهم فعاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الحديبية سالمًا مظفرًا، وقد فات المنافقين شرف صحبته، وفضل بيعة الرضوان.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {سَيَقُولُ لَكَ المُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا * بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا * وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِالله وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا}. {الفتح: 11-13]. بارك الله لي ولكم في القران العظيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن الظن السيئ بالله - سبحانه وتعالى - هو نتاج قلب فاسد جاهل بالله - تعالى - وأسمائه وصفاته، خالٍ من ذكر الله - تعالى – وتعظيمه. وهكذا كان حال المنافقين مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا يتعلقون بأي شيء فيه إضعاف للحق، وإرجاف بين المؤمنين؛ رجاء أن يزول هذا الحق الذي لا يريدونه، وتكررت منهم الظنون السيئة في مواقف كثيرة، سجل القرآن منها ظنونهم في أُحدٍ والأحزاب والحديبية، واستمر المنافقون منذ ذلك الوقت إلى اليوم على هذا المنهج الفاسد، تدفعهم إليه قلوبهم المريضة.(/5)
ومع بالغ الأسف فإن كثيرًا من المسلمين يقعون في الظن الفاسد الذي هو من خصال المنافقين من حيث لا يعلمون، فقد ينظر بعض المسلمين إلى أحوال الأمة الإسلامية، وما أصابها من الضعف والهوان؛ فيصيبه اليأس من صلاح أحوالها؛ فيقعد عن العلم والدعوة، ويتخلف عن الخير والصلاح. يظن ظنًّا سيئًا أنه لا صلاح يرجى، ولا خير ينتظر.
ويبصر البعضُ الآخرُ الكفارَ وما يملكون من أسلحة متطورة، وصناعة متقدمة، وقوة ضاربة، ويقارن ذلك بأحوال المسلمين، الذين يقتلون ويشردون ويمنعون أبسط الحقوق الضرورية للعيش على الأرض!! فلربما يقدح الشيطان في قلوبهم أن تلك القوة عند الكفار دليل على الحق، وأن ذلك الضعف عند المسلمين دليل على الباطل، فيطلقون لأنفسهم العنان في هذه الأوهام الفاسدة، والظنون السيئة؛ حتى ربما خرجوا من الإسلام وهم لا يشعرون.
ويساعد على ذلك الطرْقُ الإعلامي الذي يصف الكفار بكل مدحة، بينما يصف المسلمين بكل نقيصة؛ حتى طفحت كتابات كثير ممن ينتسبون للإسلام بمدائح الكفار، والتشكيك في كونهم يدخلون النار، ويكتب أحدهم مستغربًا أن تدخل هذه المليارات كلها النار وتكون الجنة حكرًا على المسلمين، ويتساءل آخر قائلاً: هل يعقل أن تكون النار من نصيب صناع الحضارة ومن أسهموا في رفاهية الإنسان؟ وتكون الجنة للمتخلفين الإرهابيين الأصوليين[9]؟!
وهذا الطرق والتشكيك يزداد يومًا بعد يوم؛ ليزعزع المسلم في إيمانه، ويشككه في معتقده. وأقل شيء يورثه: سوء الظن بالله - تعالى - الذي هو بوابة من بوابات الكفر والنفاق.
ولكن المسلم الحق مؤمن بدينه، واثق بربه، مستمسك بعقيدته، داعٍ إلى سبيل ربه. لا يهتم لقول المنافقين، ولا يضره تخاذل المتخاذلين، في قلبه من الطمأنينة بدينه، والثقة بربه، ما يجعله ثابتًا لا يتزحزح عن إيمانه ولو كفر الناس جميعًا وهكذا يكون المؤمن حقًّا.(/6)
فاتقوا الله ربكم، وجانبوا سبيل المنافقين، واحذروا ظن السوء برب العالمين، وأحسنوا الظن به؛ فإنه - تعالى - عند ظن عبده به، إن ظن العبد خيرًا وجد خيرًا، وإن ظن شرًّا وجد شرًّا، وصلوا وسلموا على محمد بن عبدالله كما أمركم بذلك ربكم.
---
[1] انظر: "فتح المجيد شرح كتاب التوحيد" (680).
[2] "زاد المعاد" (3/228) وانظر: "تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد" (688).
[3] تفسير ابن كثير (3/753) عند تفسير الآية (10) من سورة الأحزاب.
[4] تفسير ابن كثير (3/753) عند تفيسر الآية (10) من سورة الأحزاب.
[5] انظر: "التحرير والتنوير" لابن عاشور (26/153 - 154).
[6] "التحرير والتنوير" (26/164).
[7] تفسير ابن كثير (4/290) عند تفسير الآية (12) من سورة الفتح.
[8] "التحرير والتنوير" (26/164).
[9] المقالات التي مؤداها مثل هذه المقولات الكفرية كثيرة، وانظر على سبيل المثال: صحيفة الشرق الأوسط عدد (5824) تاريخ 4/6/1415هـ.(/7)
العنوان: عاشوراء والهجرة النبوية
رقم المقالة: 1912
صاحب المقالة: الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ
-----------------------------------------
عاشوراء والهجرة النبوية
ملخَّص الخطبة:
1- الأشهر الحرم.
2- التأريخ الهجري.
3- يوم عاشوراء واستحباب صيامه.
4- قصة موسى عليه السَّلام.
5- الهجرة النبويَّة.
-------------------------
الخطبة الأولى
أما بعد:
فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عباد الله:
صحَّ عن رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم - أنّه قال: ((أفضل الصِّيام بعد رمضان شهرُ الله المحرَّم، وأفضل الصَّلاة بعد الفريضة قيامُ الليل))[1].
أيُّها المسلمون:
شهر الله المحرَّم أحدُ الأشهر التي قال الله فيها: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماوات وَالأرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذالِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ} [التوبة: 36].
والأشهر الحُرُم: ذو القعدة، وذو الحجَّة، ومحرَّم، ورجب - كانت أشهرًا يَحْرُم فيها القتال لتعظيمها ولعظيم أمرها، وكانوا في الجاهلية يحتالون على استباحتها، فإذا بدا لهم أمرٌ وأرادوا فعله في الشَّهر الحرام؛ استباحوا الحرام، ونقلوه إلى شهر آخَر، ولذا قال الله عنهم: {إِنَّمَا النَّسِيء زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا ليُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوء أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [التوبة: 37].(/1)
واليوم العاشر من محرَّم له شأنُه العظيم، ولكن قبل ذلك شهر الله المحرَّم هو مبدأ التَّاريخ الهجريِّ لأمَّة الإسلام، فإنَّ المسلمين في عهد عمر - رضيَ الله عنه - فكَّروا بأيِّ شيءٍ يؤرِّخون كتبهم ويعرفون الأحوال، فاستشار عمر المسلمين في ذلك، فاتَّفق رأيهم على أن الشَّهر المحرَّم هو مبدأ العام الهجري[2]، هجرةِ محمَّد – صلَّى الله عليه وسلَّم - لأنَّهم رأوا أنه آخَّر أشهر الحُرُم، فابتدؤوا به العام لينتهي العام بشهرٍ حرامٍ - أيضًا - وهو ذو الحجَّة.
يوم عاشوراء، اليوم العاشر من هذا الشَّهر له شأنه، فهو يومٌ عظيمٌ من أيَّام الله، إنَّ الأنبياء كانت تصومه، ولكن صحَّ عندنا صيام نبيَّيْن من أنبياء الله لهذا اليوم، فأولُّهما: صيام موسى بن عمران - كليم الرَّحمن - بهذا اليوم، وثانيهما: صيام سيد الأوَّلين والآخِرين؛ محمد بن عبدالله - صلوات الله وسلامه عليه.
موسى بن عمران - كليم الرَّحمن - أحد أُولي العَزْم من الرُّسل، هذا النبيّ الكريم، عظَّم الله ذِكْرَه في كتابه، فجاءت قصَّته في القرآن ما بين مبسوطةٍ وما بين موجَزَة، وفي قصص الأنبياء عبرةٌ للمعتبِرين: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأوْلِي الأْلبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْء} [يوسف: 111]، {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [يوسف: 3]، {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود: 49].(/2)
نبيُّ الله موسى بن عمران قصَّته في القرآن عجيبةٌ، ذلك النبيُّ الكريم الذي اختاره الله لأن يبلِّغ ذلك الطَّاغية الذي ادَّعى أنَّه الربُّ الأعلى- ليبلِّغه رسالة الله إليه، ذكر الله قصَّته منذ وُلِدَ إلى آخِر قصَّته.
وُلد هذا النبيُّ الكريم في زمنٍ كان فرعون يقتل فيه الذُّكور من بني إسرائيل ويستبقي النِّساء، وُلِدَ هذا النبيُّ في ذلك العام، فألهم الله أمَّه أن تُرضعه وتلقيه في البحر، إلى أن يصبح فوق النَّهر: {إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى * أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَّهُ} [طه: 38-39].
كانت ترضعه وتضعه في صندوق وتلقيه في اليَمِّ! تلقيه في البحر! ثمَّ إذا احتاجت إليه جذبته إليها، لتتَّقي شرَّ مَنْ يريد قتله، فشاءت إرادة الله أن يصل ذلك الصندوق الذي فيه هذا الرَّضيع إلى بيت آل فرعون، فجاء مَنْ يوُكَّلون بقتل الذُّكور ليقتلوه، ولكن أمر الله فوق كلِّ شيءٍ: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} [يوسف: 21].
لقد أوحى الله في قلب امرأة فرعون حبَّ ذلك الطفل، والشَّفقة والحنان عليه، وقالت مخاطبةً لفرعون: {لاَ تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} [القصص: 9].(/3)
جاء هذا الطِّفل الصَّغير الرَّضيع، يريدون مَنْ يرضعه، فجاؤوا له بجميع المرضعات؛ فلم يقبل ثدي أيِّ امرأةٍ منها، ولما أوقع الله حبَّه في قلب امرأة فرعون، ضاقت ذَرْعًا بذلك الأمر، وأهمَّها الأمر، طفلٌ في بيتها لم يقبل ثديَ أيِّ امرأةٍ كائنًا مَنْ كان! ولكن لما لله من حكمة، ولوعده الصَّادق الذي وعده أمَّه أن يرجعه إليها في أمنٍ وأمان - بعثَتْ أخته لتنظر ماذا حاله، وماذا انتهى إليه أمر هذا الطفل، قال الله عنها: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمّ مُوسَى فَارِغًا إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [القصص: 10]. تلك محبة الأم لطفلها: {فَارِغًا إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ}، من كِبَر المصاب الذي حلَّ بها، قالت لأخته: {قُصِّيهُ}، وتتبَّعي أثره، واستمعي حاله، فعسى أن تهتدي إليه: {فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} [القصص: 11]، يبحثون له عن مرضعة في المدينة كلِّها؛ فقالت لهم: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} [القصص: 12]؟ نعم إنهم ناصحونَ له، وإنَّها أمُّه الشَّفيقة عليه؛ قال الله: {فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلاَ تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [القصص: 13]. ترضعه على أنها مرضعةٌ أجيرةٌ، وهي أمُّه الشَّفيقة عليه، ومنذ أن التَقَمَ ثديها ارتَضَعَ رضاعًا جيِّدًا؛ فأعطوا أمَّه أجرته، وأكرموها وهم لا يعلمون أنَّها أمَّه، ولله الحكمة فيها يقضي ويقدِّر.
شاءت إرادة الله، ترعرع هذا الصبيُّ في بيت آل فرعون، ولما لله من حكمة بالغة.(/4)
وجرت أمورٌ وأحوالٌ، حتى أرادوا قتل موسى؛ فخرج فارًّا منهم، وهداه الله إلى أهل مَدْيَنَ، وشاءت إرادة الله إلى أن كان ما كان، حتى أوحى الله إليه، ليبلِّغ رسالته لذلك الطَّاغية الذي يقول: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات: 24].
وأيَّده الله بأخيه هارون؛ استجابةً لدعاء موسى - عليه السَّلام - فجاءا آل فرعون قائليْن: {إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرائيلَ وَلاَ تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مّن رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} [طه: 47]، والله أمرهما أن يقولا له قولاً ليِّنًا؛ لعلَّه يتذكَّر أو يخشى، فلمَّا أبلغاه رسالات ربِّه استهزأ بهما وقال: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:23]، مَنْ ربُّ العالمين؟! من باب الاستنكار والجحود، وإلا فهو يعلم في باطن أمره أنَّ ربَّ العالمين حقٌّ على الله، {وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [النمل: 14].(/5)
دعاه إلى الله، وقال: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَاواتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ * قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلاَ تَسْتَمِعُونَ} [الشعراء: 23-25]، من باب السُّخرية والاستهزاء، {قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} [الشعراء: 28]. فعند ذلك لجأ إلى القوة قال: {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهًا غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء: 29]، وقال: {إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} [الشعراء:27]، عند ذلك زاده موسى: {أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيءٍ مُّبِينٍ} [الشعراء:30]، يدلُّ على صدق ما جئتَ به، وأنِّي رسول الله إليك حقًّا، قال من باب الاستنكار: {فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الشعراء: 31]، وقد أعطى الله موسى آيتين دالَّتَيْن على صدق رسالته كما قال : ((ما بعث الله من نبيٍّ إلا آتاه من المعجزات ما على مِثْلِه آمن البشر، وإن الذي أوتيته وحيٌ أوحاه الله إليَّ، فأرجو أن أكون أكثر تابعًا))[3].(/6)
بِيَد موسى عصا ألقاها على فرعون، فإذا هي بقدرة ربِّ العالمين ثعبانٌ مبينٌ، كادت أن تلتهم فرعون وملأه، {وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ} [الشعراء: 33]، دالة على صدق رسالته، وعند ذلك مضى موسى بدعوته إلى الله، وقوَّته في الحقِّ، لِمَا ظهر من صدقه وذلِّ فرعون ومَنْ معه، ولكن فرعون تمادى في طغيانه، واستعان بالسَّحَرة، وأغراهم وأعطاهم ومنَّاهم إن هم هزموا موسى، وإن هم تغلَّبوا على موسى؛ لأنه يرى أنَّ تلك العصا واليد سحرٌ، وأنَّ فرعون عنده من السِّحر ما يتغلَّب به على سحر موسى في ذلك، والتقوا واجتمعوا، وتواعدوا موعدًا كما قال الله عنهم: {مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} [طه: 59]. فلما اجتمعوا، {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى} [طه: 67]، وجاء السَّحرة بقضِّهم وقضيضهم، وملؤوا الوادي عصيًّا وحِبالاً، يظنُّه من يراها حيَّات وأشياء كثيرة، وموسى وحده إنما يحمل عصاه التي بيده، والله يقول له: {لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الأعْلَى} [طه: 68].
ألقى العصا التي معه؛ فالتَقَمَتْ كلَّ ما في الوادي، وظهر من عجائب قدرة الله العظيمة التي لا تقاوَم ما أبهر السَّحرة وأيقنهم أنَّهم على باطل، وأنَّ تلك معجزةٌ ربانيَّةٌ، لا قدرة لهم بمقاومتها، فعند ذلك خرَّوا لله سجَّدًا وقالوا: {آمَنَّا بِرَبّ هَارُونَ وَمُوسَى} [طه: 70].(/7)
توعَّدهم فرعون: {آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السّحْرَ فَلأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مّنْ خِلاَفٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى * قَالُواْ لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِى هَذِهِ الْحياةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 71-73]. أصبحوا سحرة، وأمسوا كرامًا بررة، ولأنَّ الحقَّ يعلو ولا يُعلَى عليه، والسِّحر والشَّعوذة والباطل إذا قابلهم الحقُّ فلن يستطيعوا لذلك سبيلاً.
وما زال موسى في دعوته، ماضٍ في سبيله، فلما أَيِسَ فرعون من أمره، ورأى أنَّه لا سبيل له بمقاومة موسى ومجادلته، أراد أن يقهرهم بجنده، فخرج بمئات الآلاف تابعًا موسى وبني إسرائيل، فلما اقتربوا من البحر قالوا: يا موسى، البحر أمامنا وفرعون خلفنا، وأوحى الله إليه: {أَنِ اضْرِب بّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء: 63]، فسلك موسى ومَنْ معه البحر في أمن واطمئنان، واتَّبعهم فرعون سالكًا مسلكهم، فأغرق الله فرعونَ ومَنْ معه، وأنجى موسى ومَنْ معه، فعند ذلك صام نبيُّ الله موسى يوم العاشر من محرَّم شكرًا لله على نعمته وفضله بإنجائه وإغراق عدوه.(/8)
ومحمَّدٌ – صلَّى الله عليه وسلَّم - أمره الله أن يقتدي بمَنْ مضى من قبله: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]، وكان هذا اليوم يصومه أهل الجاهلية في جاهليَّتهم، فكان محمَّد – صلَّى الله عليه وسلَّم - قبل البعثة يصومه مع قريش، وصامه في المدينة، فلما افتُرِضَ عليه رمضان؛ لم يلزِم النَّاس بصومه، وخيَّرهم بين صومه وفِطْرِه[4]، لكنه صامه إلى أن لقيَ ربَّه.
وكذا اليهود يصومون هذا اليوم، فسألهم عليه الصَّلاة والسَّلام في ذلك فقالوا: "يوم أنجى الله فيه موسى وقومه، وأغرق فيه فرعون وقومه، فصامه موسى؛ فنحن نصومه"؛ فقال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((نحن أحقُّ وأَوْلَى بموسى منكم))[5].
نعم، محمَّد وأمَّته أَوْلَى النَّاس بموسى، فهم آمنوا بجميع أنبياء الله: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 68].
فصامه وأمر النَّاس بصيامه، من باب التطوع لا من باب الفرض، كان قبل أن يُفرَض رمضان أمر الناس بصيامه، فلما فرُِضَ رمضان صار مَنْ صامه فَحَسَنٌ، ومَنْ لم يصمْهُ فلا شيءَ عليه، لكنَّه رغَّب في صيامه؛ فيروى عن عبدالله بن عباس - رضيَ الله عنهما – أنه كان يقول: "ما رأيتُ النبيَّ صام يومًا يتحرَّى فضله على الأيام إلاَّ هذا اليوم؛ يوم عاشوراء"[6]، وقال أبو قَتادَة: سمعتُ رسولَ الله – صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((صيام يوم عاشوراء أحتسبُ على الله أن يكفِّر سنةً ماضية))[7].
ورسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم - في آخِر حياته لمَّا أُخبِرَ أنَّ اليهود والنَّصارى يصومونه قال: ((لئن عشتُ إلى قابلٍ - إن شاء الله - لأصومنَّ التَّاسع))[8]، ولكنه توفِّيَ قبل أن يصومه، وقال للمسلمين: ((صوموا يومًا قبله، أو يومًا بعده؛ خالِفوا اليهود))[9].(/9)
إذًا فالمسلم يصوم يوم العاشر، ويصوم يومًا قبل العاشر، أو يصوم يومًا بعد العاشر، وإن جمع الأيام الثلاثة كلها فحَسَنٌ.
فصيامنا لعاشوراء يكون يوم الثلاثاء التَّاسع من محرَّم، ويوم الأربعاء هو العاشر من محرَّم؛ لأنَّ ذي الحجة استُكمِلَ بيوم الأحد؛ فهو ثلاثون يومًا، وابتدأ شهر الله المحرَّم من يوم الإثنين، فيوم الثلاثاء هو اليوم التاسع ويوم الأربعاء يوم العاشر، فالمسلم يصوم يوم الثلاثاء ويوم الأربعاء، أو يصوم يوم الأربعاء ويوم الخميس، وإن جمع الأيام كلها فحَسَنٌ.
فصيامه سُنَّة، وكان المسلمون يصومُونه، ويُصوِّمونه صبيانهم، ويعطونهم اللّعب من العِهْن، تسليةً لهم عن الفِطْر في ذلك اليوم[10].
فصيامه سنَّة نبيِّكم محمَّد – صلَّى الله عليه وسلَّم - فصُمْهُ أخي المسلم، فهو قربةٌ تتقرَّب بها إلى ربِّكَ.
أسأل الله لنا ولكم التَّوفيق والسَّداد، والعَوْن على كلِّ خير؛ إنه على كلِّ شيءٍ قديرٌ.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه إنَّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثَّانية
الحمد لله، حمدًا كثيرًا طيِّبًا مبارَكًا فيه، كما يحبُّ ربُّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله صحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدِّين.
أمَّا بعد:
فيا أيُّها النَّاس، اتَّقوا الله تعالى حقَّ التَّقوى.
عباد الله:(/10)
كلما أرَّخ المسلم تاريخ يوم أو شهر، يقول: هذا اليوم العاشر من محرَّم من هجرة النبيِّ – صلَّى الله عليه وسلَّم - فأشْهُرُنا الهجريَّة تُنسَب إلى هجرة محمد – صلَّى الله عليه وسلَّم - تلك الهجرة العظيمة التي انتقل الإسلام فيها من حالٍ إلى حال، ذلكم أنَّ نبيَّكم – عليه الصَّلاة والسَّلام - بُعِثَ على رأس أربعين من عمره، فمكث بمكَّة قرابة ثلاث عشرة سنة، يدعو إلى الله وإلى دِينه، صابرًا محتسبًا، واشتد عليه البلاء من قومه، وهمُّوا وفكَّروا في القضاء عليه لمَّا رأوا أنَّ دعوته قبلتها النفوس، وأنَّ مَنْ سمع قوله تأثَّر به، ولما رأوا أنَّ الأوس والخزرج قد بايعوه وسينتقل إليهم؛ خافوا من ذلك، وفكَّروا إما أن يقتلوه أو يخرجوه أو يقيِّدوه - وكلُّ مكرٍ باء بالفشل - واتَّفقوا على قتله وتآمروا، ولكنَّ الله حال بينهم وبين ذلك، جاؤوا لبيته محيطين به، اتَّفقوا على أن يخرج إليه شبابٌ مجموعة من قريش ومفرَّقة من بيوتهم، ليُجهِزوا عليه فيقتلوه، فبنو هاشم يقبلون بالدِّيَة؛ فاتَّفقوا ليلةً على أن يقتلوه، فخرج عليهم، وحثا التُّراب على رؤوسهم وهو يقول: {وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} [يس: 9]. وتلك قدرة الله.
أمره الله أن يهاجر إلى المدينة بعدما انتشر الإسلام في أهلها، فهاجر وأصحابه إلى المدينة، تلك الهجرة التي انتقل الإسلام بها من حالٍ إلى حال، كان النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم - بمكَّة مستضعفًا خائفًا، وفي المدينة عزيزًا كريمًا معظَّمًا، انتقل إلى المدينة لمَّا أصبحت دار إسلام؛ فصارت معقِلاً لأهل الإسلام، وبقيَ فيها عشر سنوات، أكمل الله فيه الدِّين، وأتمَّ به النِّعمة، وفرض عليه الفرائض، وأوجب عليه الواجبات.(/11)
تلك الهجرة التي انتقل فيها النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم - وأصحابه من بلادهم وأموالهم وأهليهم طاعةً لله: {لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر: 8].
آخَى النبيُّ بين المهاجرين والأنصار، تلك الأخوَّة الصَّادقة المبنيَّة على المحبَّة لله ورسوله: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ * لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} [الأنفال: 62-63]. ألَّف بينهم بالإسلام؛ فصاروا بالإسلام إخوانًا متحابِّين متناصرين في ذات الله، مجاهدين في الله حقَّ جهاده؛ فرضيَ الله عنهم وأرضاهم، وجزاهم عن الإسلام والمسلمين خيرًا.
ولقد عاش المهاجرون والأنصار في غايةٍ من التآلف والمحبَّة لهذا الدِّين ولمحمَّد – صلَّى الله عليه وسلَّم - ولمَّا قسَّم النبيُّ – صلَّى الله عليه وسلَّم - غنائم حُنَيْن ولم يُعْطِ الأنصار شيئًا، كأنهم وجدوا في أنفسهم، وقالوا: يرحم الله رسول الله، لقد وجد أهله وقومه، فدعاهم وحدهم. ولكنه – عليه الصَّلاة والسَّلام – قال لهم: ((يا معشر الأنصار، ألم أجدكم ضلاَّلاً فهداكم الله بي؟! ومتفرِّقين فألَّفكم الله بي؟! وعالةً فأغناكم الله بي؟!)). فكلَّما قال شيئًا قالوا: الله ورسوله أمنُّ. قال: ((أوجدتم عليَّ أن أعطيتُ قومًا أتألَّفُهم في الإسلام؟! المحيا محياكم، والممات مماتكم))[11]. فصلوات الله وسلامه عليه.(/12)
تلك الهجرة الصَّادقة التي ألَّف الإيمان فيها بين أولئك القوم، وما كانوا في جاهليَّتهم يتعارفون إلا في ميدان الوَغَى، والبغضاء والعداوة سائدةٌ بينهم، فجاء الله بالإسلام فجمع به القلوب، ووحَّد به الصفَّ، فصلوات الله وسلامه عليه أبدًا دائمًا إلى يوم الدِّين.
واعلموا - رحمكم الله - أنَّ أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهَدْي هَدْيُ محمَّد – صلَّى الله عليه وسلَّم - ...
ــــــــــــــــــــــ
[1] أخرجه مسلم في: الصيام، باب: فضل صوم المحرم (1163)، من حديث أبي هريرة - رضيَ الله عنه - بنحوه.
[2] قصة تأريخ عمر أخرجها الحاكم (3/15) من طريق سعيد بن المسيّب، قال: "جمع عمر الناس ..."، قال الحاكم: "هذا حديثٌ صحيح الإسناد، ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي، لكن في سماع سعيد من عمر خلاف، وأخرج الطبري سبب تأريخ عمر في تاريخه (2/3) من طريق الشَّعبي قال: "كتب أبو موسى الأشعري إلى عمر ..."، وهو مرسلٌ، وفيه مجالِد ابن سعيد، وهو ضعيفٌ.
[3] أخرجه البخاري في: الاعتصام بالكتاب والسنة، باب: قول النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((بُعثتُ بجوامع الكلم)) (7273)، ومسلم في: الإيمان، باب: وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد (152) من حديث أبي هريرة - رضيَ الله عنه - بنحوه.
[4] أخرج ذلك البخاري في: الصوم، باب: صيام يوم عاشوراء (2002)، ومسلم في: الصيام، باب: صوم يوم عاشوراء (1125) من حديث عائشة - رضيَ الله عنها.
[5] أخرجه البخاري في: الصوم، باب: صيام يوم عاشوراء (2004)، ومسلم في: الصيام، باب: صوم يوم عاشوراء (1130) من حديث ابن عباس - رضيَ الله عنهما.
[6] أخرجه البخاري في الصوم (2006)، ومسلم في الصيام (1132) بنحوه.
[7] أخرجه أحمد (5/296)، وأصله في مسلم كتاب: الصيام، باب: استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر (1162).
[8] أخرجه مسلم في: الصيام، باب: أي يوم يصام في عاشوراء (1134)، من حديث ابن عباس - رضيَ الله عنهما - بنحوه.(/13)
[9] أخرجه أحمد (2154)، والبزار (1052- كشف الأستار)، والحميدي (485)، والبيهقي (4/287)، وصحَّحه ابن خزيمة (2095)، لكن في سنده محمد بن عبدالرحمن بن أبي ليلى؛ سيئ الحفظ، قال الهيثمي في المجمع (3/188-189): "رواه أحمد والبزار وفيه محمد بن أبي ليلى، وفيه كلامٌ"، وضعَّفه الألباني في ضعيف الجامع (3508)، وصحَّ موقوفًا عند عبدالرزاق (7839) والطحاوي (2/78)، والبيهقي (4/287).
[10] ثبت ذلك في صحيح البخاري، كتاب: الصوم (1960)، ومسلم في الصيام (1136)، من حديث الربيِّع بنت معوِّذ - رضيَ الله عنها.
[11] أخرجه البخاري في: المغازي، باب: غزوة الطائف في شوال سنة ثمان (4330)، ومسلم في: الزكاة، باب: إعطاء المؤلَّفة قلوبهم على الإسلام (1061) من حديث عبدالله بن زيد - رضيَ الله عنه - بنحوه.(/14)
العنوان: عاصم بن محمد بهجة البيطار علم من أعلام الشام
رقم المقالة: 205
صاحب المقالة: أيمن بن أحمد ذوالغنى
-----------------------------------------
الحمد لله المتفرِّد بالبقاء، القاضي على خَلقه بالهُلْك والفناء، والصَّلاة والسَّلام على خَير الأنبياء، وسيِّد الأصفياء، نبيِّنا محمَّد، وعلى آله وصحبه الخُلَصاء.
لعَمرُكَ ما الرَّزِيَّةُ فَقْدُ مالٍ ولا شاةٌ تَموتُ ولا بَعيرُ
ولكنَّ الرَّزِيَّةَ فَقْدُ قَرْمٍ يَمُوتُ بِمَوتِهِ بَشَرٌ كَثيرُ
في يوم الجمعة 17 من جُمادى الأولى 1426هـ الموافق لـ 24 من حَزِيران 2005م قضى الله قضاءه الحقَّ بوفاة أستاذنا الكبير العالم اللغَويِّ المربِّي عاصِم بن محمَّد بَهْجَة البَيْطار عن 78 سنةً حافلةً بالبذل والعطاء في ميادين العلم والتَّربية.
ومع رحيل الأستاذ عاصم يكونُ قد هوى للعلم نجمٌ، وانطفأ للمعرفة سِراج، مصداقَ قول النبِّي الأمين صلى الله عليه وسلم : ((إن الله لا يَقبِضُ العِلمَ انتِزاعًا يَنتَزِعُهُ من صُدور الناس، ولكنْ يَقبِضُ العِلمَ بِقَبْضِ العُلَماء، حتَّى إذا لم يَتْرُك عالماً اتَّخذَ الناسُ رؤوسًا جُهَّالاً..))[1]، ومن هنا كان موتُ العلماء مصيبةً لا تَعْدِلُها مصيبة، وفاجِعَةً لا تُدانيها فاجِعَة، فبموتهم يضيعُ علمٌ غزير، وتَخْبو أنوار نُصْح وهداية، وينزلُ الناس درجة.
ولقد كان الأستاذُ في مَسيرته العلميَّة والعمليَّة منارةَ رشادٍ وقدوةَ صلاحٍ، في علوِّ الهمَّة ونَزاهَة السِّيرة، وأخذ النفس بالجِدِّ، مع خَفْض الجَناح لطلاَّبه، وبذل الوُكْد في رعايتهم وحسن تعهُّدهم.(/1)
مضى الأستاذُ إلى بارئه سبحانه مُخَلِّفًا بصمةً واضحةً متميِّزة في سِجِلِّ العاملين المحسنين، الذين يُعطونَ أكثرَ مما يأخذون، ويَعيشونَ للآخرين أكثرَ مما يعيشون لأنفُسهم، يَجدونَ سعادتهم في البذل والعطاء، وهم لايَرَونَ لأنفسهم فضلاً ولامَزِيَّة، ولايَرجونَ من الناس جزاءً ولا شُكورًا.
أجل.. مات الأستاذُ ورحل عن دُنيانا الفانية، ولكنَّ أثرَهُ باقٍ خالد، فكلُّ كلمة مُضيئة حبَّرَتها يراعَتُه، أو نطَقَ بها مِقْوَلُه، ستبقى حيَّةً ثابتةً ما بقيَ على وجه الأرضِ قارئٌ أو سامع، وستبقى تعمَلُ عملَها في نفوس من علَّم وربَّى ورَعى، وسيَحمِلُها خَلَفٌ عن سَلَف علمًا وعمَلاً وكِفاحًا ورسالةَ حياة.
موتُ النقيِّ حياةٌ لا نَفادَ لها قَد ماتَ قَومٌ وهُم في الناسِ أحياءُ
ولعلَّ أهمَّ ما ميَّز أستاذنا - رحمه الله - وبوَّأه المنزلةَ السامية التي ارتَقاها وحازَها : جمعُه بين النبوغ العلميِّ الأصيل، والكِفايَة التعليميَّة والتربويَّة العالية، مع حُسن الخُلُق ولين الجانب، والغَيرة الصادقة على العلم والفضيلة.
أما نبوغُهُ العلميُّ وأخلاقُه العاليةُ فقد اكتسبهما بفطرته الغَضَّة، كما يكتسبُ المولودُ لسانَ أبيه وأمِّه، ولا غَرْوَ فهو الناشئُ في بيت علم ودين وصِيانَة، لأُسرةٍ مغربيَّة الأصل هاجرت من الجزائر قديمًا وألقت عَصا تَرحالها في حيِّ المَيْدان بدمشقَ الشام، وآثرت سُكناها على بِقاع الأرض كافَّةً.(/2)
في هذه الأُسرة الشريفَة وُلِدَ الطفلُ عاصم سنة (1927م) ليجدَ الرعايةَ والعناية تَحوطانه من كلِّ جانب، وتفَتَّحت عيناهُ أولَ ما تفتَّحت على بيت أبيه وقد غَدا دارَةَ علم وفقه وفَتوى، يؤُمُّه العلماءُ والكبراء والطلاَّبُ ينهَلون من معارف أبيه العلاَّمَة.. نعم، فقد كان أبوهُ الشيخ محمد بهجة البَيْطار (ت 1396هـ = 1976م) عَلَمًا من أعلام الشام، ودُرَّةً نفيسةً من دُرَرِها، وأحدَ رجالات النهضَة العلميَّة السلفيَّة فيها، وهو التلميذُ الأكبرُ للشيخ السلفيِّ المجدِّد المحدث جمال الدين القاسِمي (ت 1332هـ = 1914م)، وتَلْمَذَ كذلك لجدِّه لأمِّه العالم المؤرِّخ عبد الرزَّاق البَيْطار (ت 1335هـ = 1916م) صاحب كتاب ((حِلْيَة البَشَر في تاريخ القَرْن الثالثَ عشَر))[2]، ودَرَسَ أيضًا على الشيخ بدر الدين الحَسَني الملقَّب بالمحدِّث الأكبر! (ت 1354هـ = 1935م).
وكانت دعوةُ الشيخ بهجة قائمةً على العمل بالكتاب والسنَّة، ونبذ التقليد والعَصَبيَّة والجُمود، وتَحرير العقل من إسار التصوُّف وخُرافات أصحاب الطُّرُق، والتزام العقيدة السلفيَّة الصافية شِرعةً ومنهجَ حياة. وقد لقيَ في تلك السبيل مشقَّةً وعَنَتًا من مشايخ عصره الجامِدين المتعَصِّبين، ولكنه واجَهَ ذلك كلَّه بصبر جميل، وسعة صَدر، وقوَّة حُجَّة.
نَعِمَ الأستاذُ عاصم برعاية والده وإرشاده، وتَشَيَّمَ سيرتَه وطريقَتَه، وطلب العلمَ عليه، وتخرَّج به في علوم شتَّى، واكتسبَ منه قبل العلم والمعرفة الخُلُقَ الرضِيَّ، والتواضعَ الجمَّ، ولطفَ المَعْشَر، وعفَّة اللسان.
وقد وجد في نفسه مَيلاً شديدًا إلى علوم العربيَّة (نحوها وصَرفها وبلاغَتها وعَروضها) ورغبةً فيها، فشَمَّر عن ساعد الجِدِّ، وكَدَّ في تحصيلها، ورَوَّى نفسَه من علومها وفُنونها وآدابها، حتى قطع شوطًا بعيدًا في مِضْمارها فاق به كثيًرا من أصحابه وعَصْريِّيه.(/3)
ومما صَقَلَ موهبتَه الأدبيَّة، وأغنى ثقافتَه اللغويَّة، وأثرى معرفتَه العلميَّة : ما كان يسمَعُه بأُذُنَيه ويَعيه بقلبه؛ من أحاديث العلم والفكر والثقافة، تَدورُ في مجالس أبيه العامرة بكلِّ شاذَّة وفاذَّة، من نوادر الفوائد وشَوارد الفرائد، مما تُشَدُّ إليه الرِّحال، ويُدفَع في طلبه الجَمُّ من المال. ولقد كان لأبيه العلاَّمةِ ندوةٌ علميَّة ثقافيَّة تنعَقِدُ كلَّ يوم جمعة في داره، تمتدُّ من بعد صلاة الجمعة إلى وقت صلاة العصر، وكان يَغشاها أساطينُ العلم والثقافَة، ونوابغُ البيان والبلاغَة، وحسبُكَ أن تعلمَ أعضاءها لتُدركَ قيمتَها وأيَّ مجالس كانت، إنهم : أديبُ الفقهاء وفقيهُ الأدباء العالم القاضي الشيخ علي الطنطاوي (ت 1420هـ = 1999م)، وعديلُه أستاذ أساتيذ العربيَّة في الشام الشيخ سعيد الأفغاني (ت 1417هـ = 1997م)، والعالمُ المحقِّق الأديب المُتَبَحِّر عز الدين علم الدين التنوخي (ت 1386هـ = 1966م)، وشاعرُ دمشقَ وغِرِّيدُها المِفَنُّ أنور العطار (ت 1392هـ = 1972)، رحمة الله عليهم جميعًا، كانوا يحضُرون خُطبةَ الجمعة في جامع كريم الدين (المعروف بالدقَّاق) بحيِّ المَيْدان، حيثُ يخطُب الشيخ بهجة، وما إن يَفرُغوا من الصلاة حتى يَلجُوا روضَتَهم الغَنَّاءَ العطرةَ الأثيرَة، يَغْذُون أجسادَهم بطعام الغَداء، وأرواحَهم بأحاديث العلم والفكر والأدب، وقد تركَت تلك المجالسُ في نفس أستاذنا أطيبَ الأثر، وأفادَ منها ما لم يُفِدْه في الجامعة ولا في مَعاهد العلم.(/4)
ولقد شَرُفتُ بمجاورة الأستاذ عاصم في حيِّ الورود بمدينة الرياض، في آخر سنةٍ من سِنيْ إقامته فيها، وكنتُ كثيرًا ما ألقاهُ بعد صلاة الجمعة في جامع عليِّ بن أبي طالب بحيِّنا، فيتكرَّم عليَّ بجَلسة قصيرة يُؤنِسُني فيها بإيراد أطرافٍ من ذكرياته المشرقَة، ومن تلك الذِّكريات أخبارٌ وقصصٌ عن ندوة أبيه يقصُّها عليَّ ويُنبِئُني نبأها، وعَيناهُ تَرَقْرَقان حَنينًا إلى تلك الأيام الخَوالي، وإلى أولئكَ النفَر الكريم من الرجال العِظام الأعلام، الذين قلَّ أن يَجودَ بأمثالهم الزمان.
ومن حديث تلك المجالس: أن الشيخَ بهجة وأهلَ ندوته تعاهَدوا ذات يومٍ على ألا يتكلَّموا إلا شِعرًا، ولا يُسمَح لأحدٍ أن يَنْبِسَ بكُلَيمة في غير شِعر، وحقًّا مضَت الجلسةُ كلُّها يناقشون فيها مسائلَ من العلم، ويتجاذبون أطرافَ الحوار بالشِّعر والشِّعر فقط، لم يقصِّر أحدٌ منهم أو يُفَرِّط. ومن تلك الذكريات: بعضُ ما كان يدور في رحلات أبيه وأصحاب أبيه، ومن ذلك أنَّهم مَضَوا مرةً في رحلة إلى تُركيَّا، وركبوا ثَمَّ سفينةً في بحر أوبُحَيرة، وكان الشيخُ عز الدين التنوخي قاعدًا على حافَةِ السفينة في مُقَدَّمَتها، فأقبل عليه الأستاذُ عاصم وبرفقته خِدْنُ شبابه وزميلُ دراسته الجامعيَّة - الذي غَدا اليومَ عالمًا كبيرًا وأديبًا مَرْموقًا - د. عبدالكريم الأشتر، وسأل الأشترُ الشيخَ عن رأيه بصديقه بهجة البيطار، فأجابَ على البديهَة عفوَ الخاطر: (الشيخُ بهجَةُ بهجَةُ الأشْياخِ) وسكت هُنَيهَةً ثم أكمل: (وإذا تُؤاخي فمثلَ بهجةَ آخِ).(/5)
وأما كفايَتُه التعليميَّةُ والتربويَّةُ فأثرٌ أيضًا من آثار نُصح أبيه وثمرةٌ من ثَمَرات رعايته، أخبرني أنه لمَّا حصَّل إجازةَ اللغة العربيَّة وآدابها من قسم اللغة العربيَّة بجامعة دمشقَ سنة (1952م) مع دبلوم التربية وأهليَّة التعليم الثانويِّ= عزمَ على أن يخوضَ لُجَجَ التعليم؛ لما كان يجدُه في نفسه من قُدرَة عليه، ومحبَّة لهذه المهنة الشَّريفة؛ التي هي عملُ الأنبياء والدُّعاة والمصلحين، وليُسْلَكَ فيمن قال عنهم شَوقي أميرُ الشعراء :
أرأيتَ أشرفَ أو أجَلَّ منَ الَّذي يَبني ويُنشِئُ أنفُسًا وعُقُولا؟
وهنا يُقبل عليه أبوه المربِّي القُدوة يسأله : ها قد تخرَّجتَ يا ولدي، وأنت مُقْدمٌ على التدريس والتعليم، فهل أعدَدتَّ للأمر عُدَّتَه ؟ ويُجيب الابنُ : بفضل الله تعالى لم آلُ في تحصيل العربيَّة ومُلازمة أهلها، وصَرف الجُهْد والطاقة في التمكُّن منها والإحاطَة بعُلومها، وتثقيف نفسي وإعدادها للاضْطِلاع بهذه المسؤولية الجَسيمة والعِبْء الثقيل. ويُسْفِرُ وجهُ الشيخ الحكيم عن ابتسامة رضًا، ويقول : أحسنتَ يا بنيَّ، أحسنتَ، فكلُّ ما ذكَرتَهُ مهمٌّ ومطلوب، وهو من أدوات التعليم التي لا غِنى لكَ عنها، ولكنَّ قبلَ ذلك كلِّه لا بدَّ من أمر مُهمٍّ يجب أن تضَعَه في حُسبانك، وأن توليَه قَدْرًا كبيرًا من عنايتك واهتمامِك، هو أن تَكسِبَ قلوبَ طلاَّبك، وأن تَحملَهُم على محبَّتك واحترامك، فإذا ما نَجحتَ في هذا الأمر، أدَّيتَ رسالتَكَ على الوجه الأكمَل الأتَمِّ؛ لأن طلاَّبَك إذا ما أحبُّوكَ أحبُّوا مادَّتَك واعتَنَوا بما تُقدِّم لهم من علم ونُصح وفائدة، وانتَفَعوا بها.(/6)
ومنذ تلك اللحظة أخذَ الأستاذُ عاصم على نفسه عهدًا أن يبذُل وُسعَه في التزام وصيَّة أبيه الذهبيَّة، وأن يأخذَ نفسه أخذًا غيرَ رفيق في تمثُّلها والحفاظ عليها، وحقًّا لقد نجح في ذلك النجاحَ كلَّه، فكان نعمَ المعلِّمُ المربِّي؛ لا يتعالى على طلاَّبه ولا يترَفَّع، بل يَحنو عليهم ويتَواضَع.
وزادَ من نجاح الأستاذ وتألُّقه في أداء رسالته : ما أُوتِيَه من قُدرَة وبراعة متميِّزة على إفهام الطلاَّب، والأخذ بأيديهم برِفْق ومحبَّة، والمضيِّ بهم رُوَيدًا رُوَيدًا في رحاب العربيَّة، يُدنيهم منها، ويُحبِّبُها إليهم، ويَبذُر في نفوسهم بذورَ تذوُّقها وتفَهُّمها، وكان في ذلك حاذقًا ماهرًا ألمعيًّا، يُعينه عليه أيضًا ما رُزقَه من صفاء ذِهْن، ورُوح دُعابَة، وحُضور بَديهَة، فكان يرطِّبُ جفافَ مادَّة النحو ببعض المُلَح والطَّرائف التي تُنَشِّطُ الطلابَ وتجتذبُهم اجتذاباً، وهذا ما جعلَ الأستاذَ قِبْلَةً لطلاَّب العربيَّة، يأنَسُون بدروسه وتتَشَوَّفُ إليها أبصارُهُم؛ لما يلقَون فيها من علم وفائدَة ومتعة. وقد تخرَّج عليه في الجامعة - ومن قبلُ في المدارس الثانويَّة - أجيالٌ وأجيال، ما زالت تعرفُ له الفضلَ السَّابغَ، وتذكُرُه بالخير، وتشكُرُ له أياديه البِيْض، وإن جلَّ أساتذتنا الأفاضل الذين تلقَّينا على أيديهم العلمَ وتخرَّجنا بهم في قسم اللغة العربية بجامعة دمشق = كانوا من طلاَّبه وتلامذته ومحبِّيه، فهو أستاذُ أساتيذنا، وشيخُ مشايخنا رحمه الله تعالى رحمة واسعة.
وكان الأستاذُ يحرِصُ كلَّ الحِرْص على أن يتولَّى تدريسَ النحو لطلاَّب السنة الأولى، وكان يصرُّ على ذلك إصرارًا في كلِّ مكان يعملُ فيه؛ لأنه كان ذا رسالة ساميَة، همُّه الأولُ والأخير تأسيسُ الطلاَّب التأسيسَ العلميَّ المتين، وإعدادُهم الإعدادَ الجيِّدَ المكين، لمتابعة طريق الطَّلَب والتحصيل على الوَجْه المرضِيِّ.(/7)
وممن شهدَ له بالمَكِنَة العلميَّة وحُسن أُسلوب التعليم : شيخُه وصَفيُّ أبيه الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله، بقوله: الأستاذُ عاصمٌ من أعلم مدرِّسي النحو اليومَ، وأحسنهم طَريقة[3]، وعدَّه أحدَ تلامذة الأستاذ سعيد الأفغاني النجَباء الذين حفظَ الله بهم العربيَّةَ في الشام، إلى جَنْب الأساتذة الكبار: أحمد راتب النفَّاخ، ود.مازن المبارَك، والشيخ عبدالرحمن الباني، ود. عبدالرحمن رأفت الباشا[4].
ولا يفوتُني الإشارةُ إلى أثر العلاَّمة الشيخ سعيد الأفغاني في شخصيَّة أستاذنا العلميَّة والتربويَّة، وهو الأثرُ الأبلغُ بعد أثر أبيه فيه، وقد أبانَ عن شيءٍ من ذلك في كلمة الوَفاء التي دبَّجَها لمجلَّة التراث العربيِّ الصادرة عن اتحاد الكتَّاب العرب بسورية[5]، والتي جعلَ عنوانَها : (الأستاذ المعلِّم المربِّي سعيد الأفغاني وحديثُ الذِّكريات)، يقول فيها: ((وإني لأعترفُ بأن أستاذَنا الأفغانيَّ كان له أثرٌ بعيدٌ جدًّا في تكوين فِكرنا النحويِّ، وأن أكثرَ ما نعرفُه من أصول تدريس النحو والصَّرف يعودُ إلى هذه السَّنة الجامعيَّة الأولى التي كان الأستاذُ الأفغانيُّ الرُّبَّانَ الماهرَ لسفينتها، والقائدَ الحكيمَ لمسيرتها... وكان لأستاذنا الكبيرِ فضلٌ كبيرٌ في إعدادنا لنكونَ مدرِّسين، وإنَّ ما أصابَهُ بعضُنا من نجاحٍ مَرموق في أداء رسالته يعودُ في كثيرٍ من جَوانبه إلى العلاَّمة الأفغانيِّ)).
امتدَّ عطاءُ الأستاذ عاصم امتدادًا واسعًا في الزمان والمكان، فقد تولَّى التدريسَ والعملَ داخل بلده وخارجَه، ولم تُقْعِدهُ الشيخوخَةُ أو تفُتَّ في ساعده، بل ظلَّ متصلَ العطاء مُتدَفِّقَهُ حتى وافَته منيَّتُه رحمه الله؛ ليمتدَّ عطاؤه زُهاء 60 سنة.(/8)
وكان بَدء عطائه في وقتٍ مبكِّر جدًّا وهو ما يزالُ في طَراءة الصِّبا ورَيْعان الشَّبيبة، حينما اصطَحَبه أبوه معَهُ إلى بلاد الحجاز نحوَ سنة 1944م؛ تلبيةً لدعوَة الملك عبد العزيز آل سعود رحمه الله إلى إنشاء دار التَّوحيد في مدينة الطَّائف؛ لتكونَ مدرسةً داخليَّةً لأبناء نجد، وقد اعتمدَ الشيخُ بهجة في هذا العمل على همَّة ولده النابه الطُّلَعَة، وكلَّفَه التعليمَ فيها، فكان الابنُ يعمل إلى جَنب أبيه، ولولا ثقةُ الشيخ بولده لما كلَّفه بما كلَّفه، وفي نحو سنة 1946م استأذنَ أباه في العودَة إلى دمشقَ لمواصلَة دراسته الثانويَّة وتقديم اختبارات السنة الأخيرَة منها فأَذِنَ له.
بعد تخرُّجه في جامعة دمشق عُهدَ إليه التدريسُ في ثانويَّة المَيدان الكواكِبيِّ بحيِّ المَيدان، ولبثَ فيها سبعَ سنين من (1952 - 1959م)، ثم أُعيرَ إلى دولة قَطَر مُفَتِّشًا للغة العربيَّة فيها، عامًا دراسيًّا واحدًا، وفي سنة 1963م انتقَلَ إلى الرِّياض مدرِّسًا لمادَّتَي النحو والصرف بكليَّة اللغة العربيَّة (الكلِّيَّات والمعاهد)، التي غَدَت فيما بعدُ جامعةَ الإمام محمَّد بن سُعود الإسلاميَّة، واستمَرَّ فيها إلى سنة 1968 م، ثم عاد إلى دمشقَ وتولَّى تدريسَ النحو والصرف في قسم اللغة العربيَّة من كليَّة الآداب بجامعتها من سنة (1970 – 1986م)، وبعد نحو عشرينَ عامًا من مُغادَرته الرِّياض قَفَلَ إليها مدرِّسًا في كليَّة الآداب بجامعة الملك سُعود من سنة (1989 - 1994م)، ثم انتقلَ إلى مركز الملك فَيصل مشرفًا لغويًّا ومستشارًا ثقافيًّا، وبقيَ في عمَله هذا نحو 8 سنوات من (1994 - 2002م)، حين آثرَ عدم تجديد العَقْد، والعودةَ إلى مَدْرَج صِباهُ دمشقَ، ليُخْلِدَ إلى شيءٍ من الراحَة، وليرفَعَ عن كاهله عِبْءَ خمسٍ وسبعينَ سنةً قضاها في عمل دائب، وعَزيمة ماضِيَة.(/9)
وقد أحسنت دمشقُ استقباله، وأنزلَهُ أهلُها المنزلةَ اللائقةَ به وبأمثاله من العُلَماء، فكان أن ندَبَهُ الشيخ د.محمَّد حسام الدِّين فُرْفُور رئيسُ قسم التخصُّص بمعهد الفتح الإسلاميِّ إلى توَلِّي تدريس النحو لطلاَّب السنة الأولى وطلاَّب الدراسات العليا في القسم؛ لتتجَدَّد ذكرياتُ شبابه مع رُفَقاء الأمس وزُمَلاء الطَّلَب والتدريس من قبل: الأستاذ محمَّد علي حَمْد الله، ود. عبد الحفيظ السَّطْلي، ود. مازن المبارك.
وتقديرًا لمكانته الرَّفيعة السامية، ولسيرته الزكيَّة العطِرَة، اختارَه أعضاءُ مَجْمَع اللغة العربيَّة بدمشقَ عضوًا عاملاً فيه، بتاريخ 25 من ربيع الآخر 1424هـ = 25 / 6 / 2003م، فانضَمَّ إلى مَجْمَع الخالدين، وكان نعمَ العونُ والنصيرُ لزُمَلائه المجمعيِّين، ليتوِّجَ مسيرةَ عطائه الطويلة بتاج الفَخار الذي تُوِّجَه من قبلُ أبوه العلاَّمة، فقد كان الشيخُ بهجة عضوًا عاملاً في مجمع دمشقَ، وعضوًا مراسلاً في مجمع بغداد[6].
لم يَصْرف الأستاذُ همَّه إلى تصنيف الكتب وتحقيقها؛ إذ كان همُّه مُتَّجهًا إلى التربية والتعليم، وتأليف الرِّجال وإعداد العلماء، فلم يَترُك سوى عدَدٍ يَسيرٍ من الكتُب هي :
- (النحو والصرف): وهو أجلُّ كتبه وأشهَرُها، ألَّفه لطلاَّب السنة الأولى في قسم اللغة العربية بكلية الآداب، وكلية الشريعة، منذ أكثرَ من ربع قرن، وقد انتفعَ به - وما يزال - أجيالٌ وأجيال، وأفادوا منه، وقبل سُنَيَّات حين تولَّى أستاذُنا د.نبيل أبو عمشة رئاسةَ قسم اللغة العربيَّة بجامعة صَنعاء في اليمَن قرَّرَه على الطلاَّب ثَمَّ؛ لإعجابه به وإدراكه قيمتَه ونفاسَةَ مادَّته، وقرَّرَه كذلك أستاذُنا د.محمد أحمد الدَّالي على طلاَّبه بجامعة الكويت.(/10)
- (من شواهد النحو والصرف فوائدُ وتعليقاتٌ): وهو كتاب تطبيقيٌّ أوردَ فيه شواهدَ كتابه السابق، مُبيِّنًا في كلِّ نصٍّ من نُصوصها موضعَ الشاهد ووَجْهَ الاستشهاد، مع التفسير والإعراب.
- (أضواء على شرح ابن عَقيل) 3 أجزاء: بمشاركة الأستاذَين: عبد الفتَّاح الغُنْدور، وحسَن عبده الريِّس، وقد استقلَّ كلٌّ منهم بجُزء من الكتاب، وهو مقَرَّر على طلاَّب المرحلة الثانويَّة في المعاهِد الدينيَّة في الرياض منذ عام 1968م.
- (فهارس شرح المفصَّل لابن يعيش النحوي [ت 643هـ]).
- (التسهيل) بمشاركة د. عبد الكريم الأَشْتَر، و(الدليل) بمشاركة الأديب خَليل هِنْداوي، ود.مازن المبارك، و(المنهج الجديد): وهي كتبٌ مدرسيَّةٌ لطلاَّب المرحلة الثانويَّة.
وله في التحقيق :
- (موعظَة المؤمنين من إحياء عُلوم الدِّين): للعلاَّمة الشيخ محمَّد جمال الدين القاسميِّ (ت 1332هـ = 1914م).
- (الفَضلُ المبين على عِقْد الجَوهَر الثمين في شرح الأربعين (العجلونية)): للجمال القاسميِّ أيضًا.
- (أسرارُ العربيَّة): لأبي البركات الأَنْباري (ت 577هـ)، أعاد تحقيقه، بعد أن كان حقَّقه قديمًا أبوه الشيخ بهجة.
ولا يسعُني في الختام إلا أن أدعوَ المولى سبحانه وتعالى وأضرَعَ إليه بأسمائه الحُسنى وصفاته العُلى أن يرحمَ أستاذنا الكبيرَ وفقيدَنا الغاليَ، وأن يتوَلاَّه برحمته وكرَمه وفضله، وأن يُنزلَه منازلَ الأبرار من النبيِّين والصدِّيقين والشُّهَداء، وحَسُنَ أولئك رفيقًا.
ـــــــــــــــــــــ
[1] متفق عليه من حديث ابن عَمرو.
[2] ملاحظة: ذكر الأخُ الأستاذ خليل الصمادي في مقالته عن الأُستاذ عاصم، المنشورة في موقع رابطة أدباء الشام على شبكة المعلومات (الإنترنت): أن الشيخَ عبد الرزَّاق البيطار جدُّ الأستاذ عاصم لأمِّه، وهو خطأٌ، صوابُه: أنه جدُّ أبيه الشيخ بهجة لأمِّه.
[3] رجال من التاريخ ص 418.
[4] ذكريات الطنطاوي 5 / 266.(/11)
[5] العدد 92، ذوالقَعدة 1424هـ.
[6] ملاحظة : توهَّم الدكتور شوقي المعَرِّي في كلمة له عن الأستاذ عاصم، نشرَها في شبكة المعلومات (الإنترنت)، أن الشيخَ بهجة كان رئيسًا لمجمع اللغة العربية بدمشق، وهذا خطأٌ؛ إذ توالى على رئاسة المجمع منذ افتتاحه سنة 1919 م حتَّى اليوم خمسةٌ من العلماء الأجلاَّء ليس فيهم المذكور، وهم: محمَّد كُرْد عَلي، وخَليل مَرْدَم بك، والأمير مصطفى الشِّهابي، ود. حُسني سَبَح، ود.شاكر الفَحَّام وهو الرئيس الحالي.(/12)
العنوان: عام مضى
رقم المقالة: 352
صاحب المقالة: د. عبدالكريم بكار
-----------------------------------------
نحن اليومَ في بداية عام جديد – سعيد ومبارك بإذن الله – وقد ودَّعنا عاماً مملوءاً بالصعوبات والأزمات، ومملوءاً أيضاً بالمبادرات الخيرة؛ والذي أحبُّ أن أركِّز عليه في هذه المقالة هو التغيراتُ الثقافية والسلوكية التي باتت تترسَّخ في واقع كثير من المسلمين.
من الواضح جداً أن (العولمة) آخذةٌ في التمدُّد يوماً بعد يوم، وماضيةٌ في تغيير المناخ الفكري والنفسي والقيمي على نحو يُثير الاهتمام؛ ولعلي أشير في هذا المقام إلى الملاحظات التالية:
1 – العولمةُ حركةٌ كونية شاملة، تقوم على (المال) واستثماره، واتخاذه أداة للنفوذ والتمكُّن. أما التغيُّرات الثقافية فهي ليست مما يُتَّهم به صنَّاع العولمة والمستفيدون منها، لكنها تأتي تبعاً للتجديدات والإبداعات التقنيَّة، وتبعاً للتنظيمات الفنيَّة والإدارية المستحدَثة. إذن نحن فعلاً مغمورون اليوم بتيَّار مادي عنيف ومُتلاطم الأمواج، ومعرفةُ كُنْهِ هذا التيار تشكِّل نقطة الانطلاق على طريق مقاومته.(/1)
2 – في العام المنصرم يُلاحظ المرء أن معظمَ الناس أخذوا يستجيبون لمغريات الدِّعاية والإعلان، وصار هناك يقينٌ بأن الناسَ يندفعون نحو استهلاك أيِّ شيء يتمكَّن أصحابه من تعريف الناس به، وكأنهم يُراهنون على جهل معظم الناس وعدم قُدرتهم على التفريق بين ما ينفعهم وما يضرُّهم، ومما يؤلم في هذا السياق أن أموالاً هائلة يبدِّدها الأثرياء والميسورون في شراء ما يسمَّى بـ(الماركات العالمية) وذلك من أجل المباهاة والمفاخَرة، على حين أن الأمةَ في حاجة إلى الكثير الكثير من أجل سدِّ حاجات الفقراء وتحسين مستوى الاقتصادات الوطنيَّة، وما ذلك إلا لأن لدينا أعداداً متزايدة من الشباب والشابات، تحيا فراغاً روحيّاً وفكريّاً مخيفاً، وهم يتوهَّمون أنهم عن طريق التملُّك والتمتُّع يشعرون بأن لهم قيمةً أو دوراً في الحياة!.
3 – هل أصبح الناس أكثرَ دنيويَّة؟ وهل صار إحساسُهم بمباهج الحياة العاجلة أقوى من إحساسهم بمعاني القُرب من الله – تعالى – وبمسرَّات ذكره والثناء عليه؟ هذا ما يمكنُ لكلِّ واحد منا أن يلمسَه في نفسه وفي أُسرته وبين إخوانه وزملائه، إن حركةَ الإنتاج الماديِّ الهائل والمتنوِّع والمتنامي قد جعلت وعيَ الناس محاطاً بل غارقاً في التفكير بالمرفِّهات، وغارقاً في هموم تلبية حاجات البَدَن ومستلزمات المتعة الشخصيَّة، وهذا كلُّه يجعل إحساسنا بما وراء المادَّة ضعيفاً، وهذا هو الواقع، فنحن نفكِّر في طرق الحصول على المال، وفي طرق الاستمتاع به في أشدِّ المواقف الروحيَّة إثارة لوجدان المسلم! وليس في هذا أيُّ مبالغة، وهذا في الحقيقة ما يحدث بالنسبة إلى من نعدُّهم مسلمينَ صالحين أو ملتزمين. أما المسلمون غيرُ الملتزمين فإن دنيويَّتهم تتجسَّد في إرواء رغباتهم عن طريق الوقوع في الموبقات وعن طريق الرِّشوة وأكل أموال الناس بالباطل وهضم الموظَّفين والعمال لديهم حقوقَهم المشروعة...(/2)
4 – أما على الصعيد الفكريِّ والعَقَدي فإن مرحلةَ (ما بعد الحداثة) تترك بصماتٍ قويةً في موقف الناس من المرجعيَّات ومن الأصول والثوابت التي يجب احترامُها والعمل على أساسها وفي إطارها. ومن الممكن القول: إننا نتعرَّض اليوم لحملة هائلة ومنسَّقة تستهدف كلَّ ماهو عزيز ومقدَّس لدى المسلمين، فالمسلمُ الملتزم مَظِنَّةٌ لأن يكونَ متطرفاً أو خرافياً أو إرهابياً، أو مستبداً. والرسومُ المسيئة التي نُشِرت في الدنمارك، وتصريحاتُ البابا الجديد دلَّت بوضوح على الاستهانة بمشاعر المسلمين ومعتقداتهم، وكلُّ هذا لا يشكِّل شيئاً أمام تحلُّل الجبهة الداخليَّة تجاه هذه الهجمة، فحين نُشِرت الرسومُ المشؤومة، وأحدثت الضجَّةَ الكبرى المعروفة، قامت صحفٌ عديدة، تَصدر في دول عربيَّة مختلفة بإعادة نشر تلك الرسوم، مما يدلُّ أن مشكلةَ الاستخفاف بمشاعر المسلمين صار جزءٌ منها داخلياً!!.
5 – حيال هذه الوضعيَّة الصعبة تفتَّح وعيُ كثير من المسلمين على ضرورة العمل الجادِّ لتحسين ردود أفعال المسلمين على العولمة، وصارت من ثَمَّ صورتُها في الأذهان أوضحَ، كما أن الثورةَ التي حدثت في عالم البثِّ وعالم الاتصالات جعلت إدراكَ المسلمين للواقع وتحدِّياته ومتطلَّباته أفضلَ بكثير مما كان عليه الأمرُ في السابق. وأستطيع أن أنوِّه هنا -وعلى نحو خاص- بإدراك الناس لقيمة التعليم الممتاز والتدريب المتقدِّم في تطوير الحياة العامَّة والشخصيَّة، وهذا شيء كبير بكلِّ المقاييس.
السؤالُ الذي يطرح نفسه هو: ما الذي ينبغي أن نركِّزَ عليه في العام الجديد، من أجل مواجهة المشكلات التي أشرتُ إليها؟(/3)
إن التيار الماديَّ الجارفَ الذي تنشره العولمة والذي يتمثَّل في إرواء الشهوات واقتناص الملذَّات من غير إبطاء، إن هذا التيارَ لا يمكن مقاومتُه من غير إنشاء تيار روحيٍّ يقوم على حبِّ الله ورسوله، والتمسُّكِ بتعاليم الإسلام؛ وإنشاءُ هذا التيار من مسؤوليَّة الدعاة الناصحين والإعلاميين الغَيورين على الإسلام والمسلمين، فلنركِّز من الآنَ إذن على التربية الروحيَّة المنضبطة بآداب الشريعة الغرَّاء.
وعلينا في مواجهة الأنانيَّة والأَثَرَة الآخذة في الاتِّساع أن نعمِّق في نفوس النَّشء فضيلةَ (التعاطف) مع الأشياء، وفضيلة (حب الخير) للناس؛ لأن ذلك يقلِّل من التمحور حولَ الذات، ويساعد على مُداواة بعض الجراح التي تتركها (العولمة) في نفوس الفُقراء والمساكين والأرامل والأيتام وسائر المستضعَفين.
عامٌ جديد، أهلَّ علينا هلالُه، لا يتسع لكل الأعمال والمبادرات الخيِّرة التي علينا القيامُ بها، لكنه بالتأكيد يصلُح لأن نتخذَ منه نقطةَ انطلاق نحو الانتقال من وضعيَّة الدفاع والاستِخذاء والتراجع إلى وضعيَّة التقدم والبناء والعطاء، والمزيد المزيد من الأَوْبَة والتوبة إلى الصراط المستقيم.
والله الموفق.(/4)
العنوان: عبادة التفكُر
رقم المقالة: 1554
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70-71 ].
أما بعد: فيا أيها الإخوة المؤمنون: لعبادة التفكر والاعتبار في الإسلام أهمية عظمى، وتظهر هذه الأهمية لمن أدرك أن وسيلة التفكر هي مناط التكليف، فلا تَفكُّر إلا بالعقل، ولا تكليف على مَن فقد عقله.
وهذه العبادة العظيمة تنعدم أو تقل كثيرًا حينما تغلب الماديات على حياة الناس؛ فينشغلون باللهو والترف، مع أن هذه العبادة تقرب إلى الله – تعالى - وتظهر حقيقة الدنيا ومتعها وزخرفها.(/1)
بها يستدل العبد على عظمة الله بآياته الكونية، ويدرك سننه الشرعية، ويعلم حقيقة الوجود، وأهمية العمل لليوم الموعود، {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 190- 191]. قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله تعالى -: "ومعنى الآية أن الله – تعالى - يقول: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي: هذه في ارتفاعها واتساعها، وهذه في انخفاضها وكثافتها واتضاعها، وما فيهما من الآيات المشاهدة العظيمة من كواكب وسيارات وثوابت وبحار، وجبال وقفار، وأشجار ونبات، وزروعٍ وثمار، وحيوانٍ ومعادن، ومنافعَ مختلفة الألوان والطعوم والروائح والخواصّ {وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} أي: تعاقبُهما وتقارضهُما الطول والقصر، فتارة يطول هذا ويقصر هذا، ثم يعتدلان، ثم يأخذ هذا من هذا فيطول الذي كان قصيرًا، ويقصر الذي كان طويلاً، وكل ذلك تقدير العزيز العليم". ا هـ[1].(/2)
وهذا التفكر في خلق السموات والأرض إنما يفعله أولو الألباب، المؤمنون بالله تعالى، ويحرم منه الكافرون والماديّون ومن غلبت شهواتُهم عقولَهم؛ فعطلتها عن التفكر والاعتبار {وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ} [غافر: 13] {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ * وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق: 37- 38]. لذا كان القرآن يعجب من عقول الكافرين والماديين كيف لم تدرك عظمة الله بآياته الكونية {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 185] {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ * وَالأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ المَاهِدُونَ * وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الذاريات: 47 - 49] {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا للهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 22] {وَفِي الأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ} [الذاريات: 20] {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالجِبَالَ أَرْسَاهَا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} {النَّازعات: 27- 33].(/3)
وفي خلق الإنسان من مواضع التفكر والاعتبار، ما يدل على إتقان خلق الجبار - تبارك وتعالى - {وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ} [الرُّوم: 20]، خلقه الله من منيٍّ يمنى، وحوَّله من نطفة قذرة إلى إنسان سويّ مكرم، وسخر له المخلوقات {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ} [عبس: 17- 22] {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ المُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [الزُّمر: 6] {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا العَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا المُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا العِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ} [المؤمنون: 12- 14].
آيات بينات في هذا المخلوق الضعيف، آياتٌ في لحمه وعظمه، وجسده وروحه، وحركته وسكونه، وعقله وإدراكه.
هذا العقل الصغير الذي أعطاه الله من العلم ما استطاع به أن يبني هذه الحضارة العظيمة، في مبانيها وصناعاتها ومكتشفاتها، أرأيتم لو أن الله خلق الإنسان بلا عقل، هل يصل إلى ما وصل إليه في الماضي والحاضر؟! وما الذي كان سيميزه عن سائر الحيوان؟ وانظروا كيف يكون حالُ الإنسان حينما يُسلبُ العقل؟(/4)
هذا العقل الذي حيّر العقولَ وأرباب العلم والطب الحديث، صنع الإنسانُ الحاسوبَ لعله يؤدي وظيفة العقل البشري؛ لكن ظهر أن العقل البشري يفهم ويميز، والحاسوب يحفظ فقط؛ بل إن مخزون العقل البشري من الذاكرة أكبرُ من مخزون الحاسوب، والعقل البشري يحفظ من المعلومات ما لا يستطيع أكبرُ حاسوب على وجه الأرض أن يحفظها، حتى أفاد علماء الحاسوب وصنّاعه أنهم إذا أرادوا صناعة حاسوب يختزن من المعلومات مثل ما يختزنُ العقل البشري - حفظًا فقط ومن دون فهم - فإن عليهم أن يصنعوا حاسوبًا في حجم الأرض كلها.
فالعقل البشري يحفظ في اليوم الواحد ما يستطيع الحديث عنه في أسبوع أو شهر أو سنة مما يمُرّ به من أحداث، وما اطلع عليه من مراكب وملابس ومآكل ومشارب، وما رآه من بشرٍ وحيوان ونبات وجماد وغير ذلك مما يطول عده، يحفظها الإنسان وقد خرج من بطن أمه لا يستطيع التمييز بينها، ولا يعرف منها شيئًا {وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78].
فالنفس البشرية وما فيها من عجائبَ وأسرار موضوع للتفكر والاعتبار {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21].
وفي أنواع الحيوان والنبات، وعجائب البحار وسائر المخلوقات، ما يستحق أن يتفكر فيه العبد {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ} [يس: 36] {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الذاريات: 49].(/5)
وما لا نعلمه أكثر وأكثر تخبر عنه الآية القرآنية {وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 8]، آية موجزة في حروفها، محكمة في مبناها، عظيمة في معناها، تشمل ما خلق الله في الماضي والحاضر، وما سيخلقه في المستقبل مما لا يعلمه البشر، ويدخل في معناها كل ما يوجد على وجه الأرض من مكتشفات ومخترعات وصناعات، مما لا يعلم أسراره وكنهَه كُلُّ البشر أو أكثرُهم، فلو أخبر الله – تعالى - عن كل مخلوق لأشكل ذلك على البشر؛ لأن مخلوقاتٍ كثيرة غابت عنهم ظهرت لغيرهم حسب اختلاف الزمان والمكان، فلو أخبر الله مثلاً عن مخلوق يسمى السيارة أو الطائرة، يختصر المسافات، وينقل كثيرًا من البشر والبضائع؛ لتواردت الأسئلةُ الكثيرةُ على أذهانِ الصحابة ومن بعدهم ممن لم يشاهدوها، ما كيفيتها؟ وما صفتها؟ وكيف تسير أو تطير؟ وغيرُ ذلك من الأسئلة التي يطرحها من ذُكِر له شيءٌ لكنه لم يره.
فهذه الآية تنتظم هذه المخلوقات وغيرها: {وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} كما تنتظم ما سيظهر بعد زوال جيلنا، وقدوم أجيال أخرى عندها من المخترعات والمكتشفات والمخلوقات ما لم نره أو ندركه؛ فسبحان من خلقها وأبدعها، له الحمد والثناء لا نحصي ثناءً عليه كما أثنى هو على نفسه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا العَالِمُونَ * خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} [العنكبوت: 43- 44].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
الخطبة الثانية
الحمد لله، حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده وأشكره وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين.(/6)
أما بعد: فيا أيها الإخوة المؤمنون: عبادة التفكر من أعظم العبادات التي حُرِمها كثير من الناس بأسباب المعاصي والمحرمات، التي بها قست القلوب أن تلين لذكر الله؛ فصار من مظاهر ذلك: التكاسلُ والتقاعسُ عن الطاعةِ والعبادة، والفرائض والواجبات.
ومن صفات المتفكرين: الإسراعُ في الطاعات، والبعدُ عن المحرمات {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 191].
ومن صفات المشركين: عدم التفكر فيما خلق الله – تعالى - {وَكَأَيِّنْ مِنْ آَيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ * وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 105- 106].(/7)
وأكثرُ الناس تفكّرًا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخرج ابن حبان في صحيحه بإسناد جيد عن عطاء بن أبي رباح قال: قلت لعائشة: "أخبريني بأعجب ما رأيت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم –" قالت: "وأيُّ شأنه لم يكن عجبًا! إنه أتاني ليلة فدخل معي في لحافي، ثم قال: ((ذريني أتعبدُ لربي)). فقام فتوضأ، ثم قام يصلي فبكى حتى سالت دموعه على صدره، ثم ركع فبكى، ثم سجد فبكى، ثم رفع رأسه فبكى فلم يزل كذلك حتى جاء بلال فآذنه بالصلاة، فقلت: يا رسول الله! ما يبكيك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر"؟ قال: «أفلا أكون عبدًا شكورًا، ولمَ لا أفعل وقد أُنزل علي هذه الليلة {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 190-191] ثم قال: ((ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها))[2]. قيل للإمام الأوزاعي: "ما غاية التفكر فيهن"؟ قال: "يقرؤهن وهو يعقلهن"[3].(/8)
وقال أبو سليمان الداراني - رحمه الله -: "إني لأخرج من منزلي فما يقع بصري على شيء إلا رأيت لله عليّ فيه نعمة، ولي فيه عبرة"[4]، وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: "تفكُّر ساعة خير من قيام ليلة"[5]، وفي قوله تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آَيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ} [الأعراف: 146]. قال الحسن - رحمه الله -: معناه: "أمنع قلوبهم التفكر في أمري"[6]، وقال بشر الحافي: "لو تفكر الناس في عظمة الله لما عصوه"[7]، وقال عمر بن عبدالعزيز: "الفكرة في نعم الله أفضل العبادة"[8]، وبكى - رحمه الله - يومًا بين أصحابه فسئل عن ذلك فقال : "فكَّرت في الدنيا ولذاتها وشهواتها فاعتبرت منها بها، ما تكاد شهواتها تنقضي حتى تكدرها مرارتُها، ولئن لم يكن فيها عبرةٌ لمن اعتبر إن فيها مواعظ لمن ادَّكر". ا هـ[9].
أيها الإخوة المؤمنون: هذه منزلة تلك العبادة العظيمة، وهذا هو حال السلف مع التفكر، فما حالنا معه؟
لابد أن نراجع أنفسنا، ونحاول إصلاح قلوبنا التي صارت كالحجارة أو أشدَّ قسوة؛ وذلك بالرجوع إلى الله تعالى، والمسارعة في الطاعات، واكتسابِ الخيرات، والبعد عن المحرمات، والتجافي عن الشهوات، والتخفيف من اللهاث وراء الدنيا وحظوظها، وكلُّ ذلك يحتاج إلى مجاهدةٍ للنفس والهوى والشيطان، مع المصابرة والمرابطة على الفرائض والواجبات؛ حتى ينالَ العبد لذة هذه النعمة العظيمة.
أسأل الله – تعالى - أن لا يحرمنا إياها بذنوبنا، وأن يرزقنا الاعتبار والتفكر، وأن يجعلنا من عباده الصالحين، إنه سميع مجيب.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون. وسلام على المرسلين. والحمد لله رب العالمين. وأقم الصلاة...
---
[1] تفسير ابن كثير (1/657).(/9)
[2] أخرجه ابن حبان (620) وأبو الشيخ في أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - (186) وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" إلى عبد بن حميد، وابن أبي الدنيا في التفكر، وابن المنذر وابن مردويه في الترغيب، وابن عساكر (1/195) وجوّد إسناده الألباني في السلسلة الصحيحة (68) وانظر: "الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان" (620) و"موارد الظمآن" (523).
[3] "الدر المنثور" للسيوطي (1/195) و"إتحاف السادة المتقين" للزبيدي (13/309).
[4] تفسير ابن كثير (1/958).
[5] أخرجه أبو الشيخ في العظمة (42) والديلمي، كما في "فردوس الأخبار" (2215) عن ابن عباس - رضي الله عنهما - وأخرجه أحمد في "الزهد" (172) وأبو نعيم في الحلية (1/209) والبيهقي في الشعب (118) عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - وأخرجه الديلمي كما في "فردوس الأخبار" (2215) عن أنس - رضي الله عنه - بنحوه، وأخرجه أبو الشيخ في العظمة من حديث أبي هريرة مرفوعاً (43) ولا يصح مرفوعاً، انظر: "الموضوعات" لابن الجوزي (143-144) و"اللآليء المصنوعة" (2/327) و"تنزيه الشريعة المرفوعة" (2/305) و"الفوائد المجموعة" (242) وسلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة (173).
[6] "إتحاف السادة المتقين" (13/310).
[7] تفسير ابن كثير (1/658).
[8] "إتحاف السادة المتقين" (13/310).
[9] تفسير ابن كثير (1/658).(/10)
العنوان: عبادة الرسول صلى الله عليه وسلم
رقم المقالة: 1161
صاحب المقالة: الشيخ عائض بن عبدالله القرني
-----------------------------------------
إنَّ الحمد لله، نحمدهُ ونستعينهُ ونستغفرهُ، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا وسيِّئات أعمالنا، من يهد الله فلا مُضِلَّ له، ومن يضللْ فلا هاديَ له، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء: 1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب: 70-71].
أما بعد:
فإن أصدقَ الحديثِ كتابُ الله، وأحسنَ الهديِ هديُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ محدثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعة ضلالةٌ، وكلَّ ضلالةٍ في النار.
أيها الناس:
إن الأمم والشعوب والدول، تفتخر بعظمائها، وتبني بهم أمجادها وتؤسس التاريخ لمنقذيها، وما علمنا، ولا عرفنا، ولا رأينا، رجلاً أسدى لبني جنسه ولأمته من المجد والعطاء والتاريخ، أعظم ولا أجل من رسول الله، صلى الله عليه وسلم.(/1)
أما ترى ما يفعل الإنجليز والألمان والفرنسيون والأمريكان بعظمائهم، وعظماؤهم سفكة للدماء، ملاحدة وخونة، بنوا مجدهم على الجماجم والأشلاء، وسقوا زروع تاريخهم بدماء الضحايا والأبرياء، قتلوا الأطفال والنساء، وحاربوا الفضيلة والشرف، ونشروا العهر والرذيلة بين الشعوب.
فحرام حرام، أن يذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع هؤلاء، أو أن يجعل في مصافهم، أو يقارن بهم، إنه - صلى الله عليه وسلم - من نوع آخر، إنه نبي وكفى، إنه رسول فحسب، تلقى تعاليمه من ربه تبارك وتعالى.
والعجيب أنهم مع تعظيمهم لهؤلاء الجبناء، الأذلاء، الرخصاء، يُزرون على نبينا، صلى الله عليه وسلم.
غريب هذا الأمر، وعجيب هذا التصرف.
إِذَا عَيَّرَ الطَّائِيَّ بِالْبُخْلِ مَادِرٌ وَعَيَّرَ قَشّاً بِالْفَهَاهَةِ بَاقِلُ
وَقَال السُّهَا لِلشَّمْسِ أَنْتِ كَسِيفَةٌ وَقَالَ الدُّجَى لِلْبَدْرِ وَجْهُكَ حَائِلُ
فَيَا مَوْتُ زُرْ إِنْ الْحَيَاةَ ذميمةٌ وَيَا نَفْسُ جِدِّي إِنَّ دَهْرَكِ هَازِلُ
الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو أعظم الناس، وإذا سمعت عن عظيم فاعلم أنك إذا رأيته كان أقلَّ مما سمعت، إلا الرسول - صلى الله عليه وسلم - إنه أعظم وأعظم مما تسمع عنه.
واليوم نتحدث عن جانب العبودية في حياته - صلى الله عليه وسلم - كيف عاش عبداً؟ ما هي عبادته - صلى الله عليه وسلم -؟ كيف كانت صلاته؟ كيف كان يصوم؟ ما هو ذكره لله تبارك وتعالى؟
الله - عزَّ وجلَّ - يمدحه في القرآن بالعبودية في أشرف أحواله - صلى الله عليه وسلم - فيقول عنه: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى} [الإسراء: 1].
ويقول عنه: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} [الجن: 19].(/2)
ويقول أيضاً: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} [الفرقان: 1].
محمد - صلى الله عليه وسلم - أعبد الناس لله، وأشدهم له خشية.
يقول الله له: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99].
يعني الموت لا كما قال المنحرفون: اعبد ربك حتى تتيقن بوحدانيته ثم اترك العبادة، وقد كذبوا على الله، إنما المعنى: اعبد ربك في الشتاء والصيف، في الحلِّ والترحال، في الصحة والسقم، في الغنى والفقر، حتى يأتيك الموت.
{يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل: 1-5].
يا أيها المزمل قم لإصلاح الإنسان، يا أيها المتدثر في لحافه، قم لهداية البشرية، يا أيها المزمل في فراشه، قم لهداية الإنسانية، فقام - صلى الله عليه وسلم - ثلاثاً وعشرين سنة، ما نام ولا استراح، أعطى الإسلام دمه ودموعه، أعطى الدعوة ماله وكيانه، أعطى الإسلام ليله ونهاره، فما نام ولا فتر ولا هدأ، حتى أقام لا إله إلا الله.
يأتيه الحزن والهم والغم، فيقول: ((أرحنا بها يا بلال))[1] أي: بالصلاة، تأتيه المصائب والكوارث فيقول: ((أرحنا بها يا بلال)) تأتيه الفواجع والزلازل فيقول: ((أرحنا بها يا بلال)) يموت أبناؤه وأحبابه وأصحابه، ويقتل جنوده، ويهزم جيشه، فيقول: ((أرحنا بها يا بلال)).
يقول - صلى الله عليه وسلم -: ((وجعلت قرة عيني في الصلاة))[2] ما كان يرتاح إلاَّ إذا قام يصلي، إذا قال الله أكبر، كبر بصوت تكاد تنخلفع لصوته القلوب، فيضع يده على صدره فيكون الله أعظم من كل شيء؛ لأنه الكبير – سبحانه وتعالى - فيقف متواضعاً متبتلاً متخشعاً متذللاً أمام الواحد الأحد.(/3)
يقول عبد الله بن الشخير: دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوجدته يصلي ولصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء[3] والمرجل: القِدْرُ إذا استجمع غلياناً.
ويقول حذيفة: قام - صلى الله عليه وسلم - يصلي صلاة الليل بعد العشاء، قال: فدخلت معه في الصلاة فافتتح سورة البقرة، فقلت: يسجد عند المائة فختمها، فافتتح سورة النساء فاختتمها، فافتتح سورة آل عمران ثم اختتمها، لا يمرّ بآية رحمة إلا سأل الله، ولا بآية عذاب إلا استعاذ بالله، ولا بتسبيح إلا سبح، قال: ثم ركع، فكان ركوعه قريباً من قيامه، ثم قام فكان قيامه قريباً من ركوعه، ثم سجد فكان سجوده قريباً من قيامه وركوعه، ثم صلى الركعة الثانية قريباً من الأولى[4] ما يقارب الست ساعات أو السبع ساعات مع الفقر والجوع، ومع الجهاد في النهار، ومع الزهد، ومع الدعوة إلى الله، ومع تربية الأطفال، ومع شئون البيت، ست أو سبع ساعات وهو يتبتل إلى الله، تفطرت قدماه، وتشققت رجلاه فتقول له زوجته عائشة - رضي الله عنه - يا رسول الله كيف تفعل هذا بنفسك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، قال: ((أفلا أكون عبداً شكوراً))[5].
يقول عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأطال حتى هممت بأمر سوء. قيل: وما هممت به؟ قال: هممت أن أجلس وأدعه[6].
الرسول - صلى الله عليه وسلم - قام ليلة من الليالي فقال: بسم الله الرحمن الرحيم ثم بكى، ثم قال: بسم الله الرحمن الرحيم ثم بكى، ثم قال: بسم الله الرحمن الرحيم ثم بكى، ثم قال: ((ويل لمن لم تدركه رحمة الله، ويلٌ لمن لم تدركه رحمة الله، ويلٌ لمن لم تدركه رحمة الله)).(/4)
يسجد - صلى الله عليه وسلم - السجدة الواحدة مقدار ما يقرأ الواحد منا خمسين آية، ويركع الركعة الواحدة مقدار ما يقرأ القارئ منا خمسين آية، هذا في صلاة الليل، يدعو ويبكي إلى الصباح، حتى تسقط بردته من على كتفيه، كما في ليلة بدر، يناجي ربه، ويقرأ كتابه، ويتبتل إلى الله؛ لأن العبادة أقرب باب إلى الله.
ونحن أيها المسلمون في سعد ورغد، في عيش رضيٌّ، في أمن وصحة، الموائد الشهية، المساكن البهية، المراكب الوطية، ومع ذلك نترك صلاة الجماعة إلا من رحم الله، أيُّ أمة نحن، أي كيان نحن، أي قلوب نحملها، إذا لم نقم بالصلوات الخمس كما أرادها الله - عزَّ وجلَّ؟
قال بلال كما روى ابن جرير وابن مردويه: مررت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل صلاة الفجر، فسمعته يبكي فقلت: ما لك يا رسول الله؟ قال: ((أُنزلت عليَّ هذه الليلة آيات، ويلٌ لمن قرأها ولم يتدبرها)) قلت: ما هي يا رسول الله، فأخذ يقرؤها ويبكي:
{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 190-191].
كَيْفَ تَرْقَى رُقِيّكَ الأَوْلِيَاءُ يَا سَمَاءً مَا طَاوَلَتْهَا سَمَاءُ
إِنَّمَا مَثَّلُوا صِفَاتَك لِلنَّاسِ كَمَا مَثَّل النُّجُومَ المَاءُ
حَنَّ جِذْعٌ إِلَيْكَ وَهْوَ جَمَادٌ فَعَجِيبٌ أَنْ يَجْمُدَ الأَحْيَاءُ(/5)
كان - صلى الله عليه وسلم - يصوم، فيواصل الليل بالنهار ثلاثة أيام أو أربعة أيام، لا يأكل شيئاً فأراد الصحابة أن يواصلوا كما يواصل فقال: ((لا إنكم لستم كهيئتي، إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني))[7] لا يطعمه طعامً، ولا يسقيه شراباً، إنما حكماً، ومعارف، وفتوحات ربانية، وإلهامات إلهية.
لَهَا أَحَادِيثٌ مِنْ ذِكْرَاكَ تَشْغَلُهَا عَنِ الطَّعَامَ وَتُلْهِيهَا عَنِ الزَّادِ
لَهَا بِوَجْهِكَ نُورٌ تَسْتَضِيءُ بِهِ وَمِنْ حَدِيثِكَ فِي أَعْقَابِهَا حَادِ
يصوم - صلى الله عليه وسلم - في السفر وقد التهب الجو، قال أبو الدرداء - رضي الله عنه - كنا في شدة الحر حتى والله الذي لا إله إلا هو، إن أحدنا ليضع يده على رأسه من شدة حرارة الشمس، وما فينا صائم إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وابن روحة.
يجلس مع الصحابة، فيقول لابن مسعود - رضي الله عنه -: ((اقرأ عليَّ القرآن))، فيندفع يقرأ عليه حتى بلغ قوله - تعالى -: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيداً} [النساء: 41] قال: ((حسبك)) قال ابن مسعود: فنظرت فإذا عيناه تذرفان[8]، وفي رواية: فإذا دموعه تسيل على لحيته - صلى الله عليه وسلم.
يبكي - صلى الله عليه وسلم - تواضعاً لله تبارك وتعالى - وشفقة على هذه الأمة.
قالت عائشة - رضي الله عنه - استفقت ليلة من الليالي فبحثت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - فوقعت يدي على بطن قدميه وهو في المسجد، وهما منصوبتان وهو يقول:
((اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك))[9].
أيها المسلمون:
متى يقدّم الإنسان للقبر ما لم يقدم هذه الليالي؟! متى يصلي إذا لم يصل هذه الأيام؟! متى يذكر الله إن لم يذكر الله في هذه الأوقات؟!
إذا دفن الإنسان فلن يصلي عنه أحد، ولن يصوم عنه أحد، ولن يذكر عنه أحد.(/6)
أَتَيْتُ الْقُبُورَ فَنَادَيْتُهَا فَأَيْنَ الْمُعَظَّمُ وَالْمُحْتَقَرْ
تَفَانَوْا جَمِيعاً فَمَا مُخْبِرٌ وَمَاتُوا جَمِيعاً وَمَاتَ الْخَبَرْ
تَرُوحُ وَتَغْدُوا بَنَاتُ الثَّرَى فَتَمْحُو مَحَاسِنَ تِلْكَ الصُّوَرْ
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو أعبد الخلق لله، وأشدهم له خشية، وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ومع ذلك أجهد نفسه في العبادة، في صلاة الليل، في الذكر، في تلاوة القرآن، في التسبيح والتهليل.
فتمسكوا – رحمكم الله – بهديه، وعضوا على سنته بالنواجذ، ففي الأثر الإلهي: لو جاءوني من كل طريق واستفتحوا عليّ من كل باب، ما فتحت لهم حتى يأتوا خلفك يا محمد.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، والصلاة والسلام على من بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أيها الناس:
نقل عن الصحابة والتابعين - رضي الله عنهم - أن المارَّ إذا مرَّ بهم في السّحر سمع لبيوتهم دويّاً كدوي النحل، من البكاء وقراءة القرآن والدعاء، هذا في مدينة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعاءٌ، وبكاءٌ، ومناجاةٌ وقت السّحر، فما هو حالنا مع حالهم؟! كيف نعيش بالنسبة إليهم؟ إن تلك التلاوة، وذاك الدعاء، وهذا البكاء من خشية الله، أبدل في بيوتنا – إلا من رحم الله – بالغناء والموسيقى والعود والوتر.(/7)
روى ابن أبي حاتم أنه - صلى الله عليه وسلم -: كان يمر في ظلام الليل يتفقد أصحابه، كيف كانوا يصلون، وكيف كانوا يدعون، كيف كانوا يبكون، فسمع عجوزاً تقرأ من وراء الباب وتبكي، عجوز مسنة، تقرأ قوله - تعالى -: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية: 1] تبكي وتعيد الآية وتبكي، فوضع رأسه على الباب وبكى - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: ((نعم أتاني، نعم أتاني)) هذه عجوز ضعيفة، فأين شباب الأمة، أين أهل القوة والعضلات، أين أهل البروز والإجادة؟
إن القويَّ هو القويُّ في طاعة الله، وإن المفلح هو السائر في طريق الله، وإن المتقدم هو المتقدم إلى مرضاة الله، إذا علم هذا فإنه - صلى الله عليه وسلم - في جانب الذكر كان أكثر الناس ذكراً لله – تبارك وتعالى - نفسه ذكر لله، وفتواه ذكر لله، وخطبه ذكر، وكلامه وليله ونهاره، وحركاته وسكناته ذكر لله - تبارك وتعالى.
قال ابن عباس - رضي الله عنهما - كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قام من الليل يتهجد قال:
((اللهم لك الحمد أنت قيم السماوات والأرض ومن فيهن ولك الحمد، لك ملك السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد، أنت نور السماوات والأرض ولك الحمد، أنت ملك السماوات والأرض ولك الحمد، أنت الحق، ووعدك الحق وقولك الحق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت، وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت))[10].
وعن عائشة - رضي الله عنه - قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام من الليل افتتح صلاته:
((اللهم ربَّ جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم))[11].(/8)
هل سمعتم بعد كلام الله أحسن من هذا الكلام، ما أجمل وقت السحر، يوم تناجي الله، يوم ينزل إلى سماء الدنيا فيقول: هل من سائل فأعطيه، هل من مستغفر فأغفر له، هل من داعٍ فأجيبه.
يقول محمد إقبال شاعر الإسلام:
"يا رب لا تحرمني أنَّة السّحر، يا رب اجعلني من البكائين الخاشعين لك في السحر، يا رب إذا حرمتني جلسة السحر فإن قلبي يقسو ولن يلينه شيء".
فيا عباد الله:
هذا هو الرسول - صلى الله عليه وسلم -: في عبادته، في صلاته وصيامه، في قراءته وذكره، وهو أسوتكم وقائدكم إلى الجنة، ونجاتكم مرهونة بإتباعه، وعقدكم وسيركم إذا لم يكن على سنته، فهو الهلاك والدمار، وهو العار والخسار، في الدنيا والآخرة: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21].
فيا من أراد الجنة، يا من أراد النجاة: يا من أراد الفلاح، يا من أراد الخير والعدل والسلام، والله ليس لك قدوة، لا زعيم، ولا رائد، ولا مصلحٌ، ولا إمامٌ، ولا عابدٌ، ولا منقذٌ، ولا معلم، إلا رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أيها الناس:
وصلوا وسلموا على مَنْ ضوعنا المجلس بذكره - صلى الله عليه وسلم - فقد أمركم بذلك ربكم فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب: 56].
---
[1] أخرجه أبو داود (4/296)، رقم (4985، 4986)، وأحمد في المسند (5/364، 371)، وصححه الشيخ الألباني كما في صحيح الجامع رقم (7892).
[2] أخرجه النسائي (7/61، 62)، رقم (3939، 3940)، وأحمد في المسند (3/128، 199، 285)، وصححه الشيخ الألباني – رحمه الله – كما في صحيح الجامع رقم (3098).
[3] أخرجه أبو داود (1/238) رقم (904)، والنسائي (3/13) رقم (1214) وأحمد في المسند (4/25، 26).
[4] أخرجه مسلم (1/536، 537) رقم (772)، وأحمد في المسند (5/384، 397).(/9)
[5] أخرجه البخاري (2/44)، ومسلم (4/2171)، رقم (2819، 2820).
[6] أخرجه مسلم (1/537) رقم (773).
[7] أخرجه البخاري (2/232، 242، 243)، ومسلم (2/774) رقم (1102، 1103).
[8] أخرجه البخاري (5/180).
[9] أخرجه مسلم (1/352) رقم (486).
[10] أخرجه البخاري (2/41، 42) ومسلم (1/532، 533) رقم (769),
[11] أخرجه مسلم (1/534) رقم (770).(/10)
العنوان: عباس،،، نسألك الرحيلا
رقم المقالة: 333
صاحب المقالة: أحمد الفلو
-----------------------------------------
يبدو أن الشعار الذي أطلقه مؤسس الحركة الصهيونية ((إن فلسطين أرض بلا شعب لشعب بلا أرض)) لم يعد شعاراً يعبر عن حلم يهودي قديم فحسب، بل إن السبل بدأت تُمهَّد لتحقيقه، ولم تعد القوى التي جذبتها الوعود الصِّهيونية بإنشاء سلطة وهمية على جزء صغير من فلسطين لا يزيد على 12% من مِساحتها.
إن ما يحصل الآن في الساحة الفلسطينية ما هو إلاَّ نتيجة طبيعية لتراكم ذلك الكم الهائل من الفساد المالي والسياسي عبر أربعين عاماً من السكوت عن الخطأ وتركز السلطة بيد قلة من القيادات التي كانت تقود الفلسطينيين وفق عقلية القطيع وشراء الذمم، واستغلت تلك الفئة الحاكمة مبدأ الشرعية الثورية غطاءً تمرر من وراءه مختلف أنواع الإنحطاط والغباء السياسي،،تتعامل من خلالها تلك القيادات الحاكمة مع الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة على أنهم جهلة وأغبياء بينما نخبة الأبوات الفتحاويين هي التي قال عنها الشاعر ((ومثلك لم ترَ قط عيني،،ومثلك لم تلد النساء )).(/1)
كانت اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية قد تشكلت عام 1964م بمثابة حكومة في المنفى و المجلس الوطني الفلسطيني هيئة تمثيلية للشعب،لكن الذي حصل أن المجلس الوطني ومنذ ترؤس عرفات لمنظمة التحرير لم يعد هيئة تمثل طموحات الشعب إنه أصبح كسائق أجرة تحت الطلب، فالمجلس أساساً تكون من 397 عضوا عام 1964م ثم بدأ عرفات يزيد العدد تدريجيا إلى أن أصبح العدد في جلسة إلغاء الميثاق الوطني 850 عضوا ولا ندري إن كان عدد أعضاء البرلمان الهندي أو الصيني إلى مثل هذا،،وكان عرفات يمنح عضوية المجلس حسب مزاجه الشخصي كمكافأة لمن ينال إعجابه من الناس وليس عن طريق الإنتخاب، كما كان يستخدم المجلس لتمرير مشاريعه واتفاقاته المأساوية ومهمة المجلس الأولى هي التصفيق لكل ما يقوله الختيار كما كتنوا يلقبونه.
لقد كان تغييب المثقفين والأكاديميين الفلسطينيين عن المشاركة في صنع القرار الفلسطيني جريمة كبرى ينبغي أن يحاسب عليها قياديو فتح (كما قال البروفيسور إدوارد سعيد) إذ بدا جليا خوف القيادة الفتحاوية من فسح المجال لهذه النخبة المفكرة والواعية لأن نهج عرفات قائم على أساس النفعية الذاتية والمصالح الفردية وهذا ما يناسب عقلية الأبوات الذين لا يفهمون أصلاً معنى المسؤولية ولا النزاهة.
إن استمرارية ذات النهج السابق بل و تفعيله بشكل أكبر، وتصور هؤلاء القادة أن البلاد هي مزرعة أو أملاك خاصة، قد زاد من الفلتان الأمني والسياسي وذلك لإعتقاد السيد أبو مازن أن ذلك النهج سيبقيه على كرسي الرئاسة بعيداً عن المحاسبة والسؤال، وربما كان أهم أسباب تصعيده للموقف ضد الشرعية هو إصرار حكومة حماس على فتح ملفات الفساد والتي يعرف عباس تمام المعرفة بأنها ستطاله شخصيا وتطال معاونيه الأشاوس الذين لم نرى من بطولاتهم شيئاً خلال الإقتحامات الإسرائيلية للضفة وغزة، ولكننا نراها الآن صارخة عبر الصناديد رجوب و دحلان وبقية الأزلام.(/2)
إن قيام عباس بالمراهنة على مجموعة المرتزقة والمنتفعين لا يمكن أن تليق به باعتباره رئيساً حيث لا يمكن أن يتناسب مقام الرئاسة مع التفكير المليشيوي، كما أن الإستقواء بأولمرت ضد حماس يخفض من رصيده الشعبي المنخفض أصلاً، هذا بالإضافة إلى سلسلة التنازلات المجانية التي قدمها للإسرائيليين مثل تنازله عن حق العودة للآجئين وتفريطه بالقدس المحتلة، ومع أنه لا يملك مثل هذا الحق و مع انعدام شرعية هذا التنازل إلا أن ذلك قد جعل منه ألعوبة إسرائيلية في نظر شعبه وبالتالي قد سقط شعبياً وأصبح عبئاً يمثل الجانب المخزي في التاريخ الفلسطيني المعاصر.(/3)
إن تراقص عباس فوق الخطوط الحمراء وتلاعبه بالثوابت الوطنية هي نوع من المراهقة السياسية الحمقاء وعبث جنوني يدفع بالأوضاع نحو الحرب الأهلية، ولولا التعقل الذي يتمتع بهِ قادة حماس لكانت الأوضاع أسوأ،،فلماذا لا تكن على قدر من المسؤولية يا سيادة الرئيس ؟ ولمصلحة من تدخل شعبك في أتون الصراعات المميتة ؟ لماذا تتحالف مع من يقتلون الشعب الفلسطيني كل يوم ؟؟ لماذا تدافع عن الفساد والمفسدين ؟ خزينة قصرك ملئى بمئات ملايين الدولارات والشعب جائع، رئيس وزرائك يفني نفسه للحصول على المساعدات، وبأوامرك أنت تمنع دخولها، فازت حماس بطريقة سليمة وصحيحة، فلماذا تضع العراقيل في طريقها وبالتواطؤ مع أعداء الشعب، عرضت حماس عليكَ أن يتنازل هنية عن رئاسة الوزارة فطلبت لأعوانك الخارجية فتنازلوا عنها فعدت وطلبت الإعلام فقالوا تفضل وأخيراً تقول لهم اذهبوا إلى بيوتكم وأزلامي يتولون الأمور، هل خوفك من حكومة وحدة وطنية يدفعك إلى كل هذا ؟ وهل يضايقك أن تكون وزارة المال في عهدة رجال أُمناء ربما يحرمك ورجالك من ثراء كنت تسعى إليه أو أن تزيد من ثروتك ؟ أرجوك سيدي الرئيس أبو مازن لك يبق بيت في فلسطين أو خارجها إلاّ وقدّم شهيد من أجل فلسطين، فلا تحرم الأمهات الفلسطينيات من إبن آخر يموت من أجل كرسيك.ألا يكفيك أنك قتلت حلمنا الجميل بالعودة لديارنا في فلسطين ؟ ألا يكفيك غضب الله وجميع المسلمين حين تحرمنا من بيت المقدس لتعطينا جبل أبو غنيم ؟ ألا يكفيك ما تملكه من فنادق في دبي؟؟
إترك الحكم أرجوك،، نسألك الرحيلا.(/4)
العنوان: عبد الحميد البسيوني .. رجلٌ ملأ العلمُ إهابَه
رقم المقالة: 273
صاحب المقالة: د. محمد حسان الطيان
-----------------------------------------
يا دَهرُ بِعْ رُتَبَ المعالي بعدَهُ بيعَ السَّماحِ ربحتَ أم لم تَربَحِ
قدِّم وأخِّر مَن تشاءُ فإنه قد ماتَ من قد كنتَ منه تَستحي
رحم الله شيخنا البسيوني فقد كان جديراً بالتقديم , وكان الدهر يستحي منه , فلا يقدم عليه إنساناً مهما علت رتبته , وكثرت شهاداته, وعلا في أندية العلم صياحه ! .
قد طَلبنا فلم نجدْ لكَ في السُّؤ دَدِ والمجدِ والمكارِمِ مِثْلا
ولم يكن الشيخ - أعلى الله في الجنان مقامه - صاحب شهادات , وأستاذ جامعات , ومحاضر مؤتمرات .. لكنه كان رجلاً ملأ العلمُ إهابَه, وأنار الحق كتابَه .. فهو يقرأ على بصيرة .. وهو يفهم على نور .. وهو يجزل العطاء بسخاء وكرم وجود .
صحب العلم وأهله مذ كان غضَّ العود طريّه, فنهل منه, ورضع لبانه كما يرضع الوليد لبن أمه, فلما استدَّ ساعدُه واستحصد أمرُه , كان العلم معه على مثل أمره , سداداً واستحصاداً .
سنّى له الله معايشة الأكابر .. فتقلب في نُعمى رياضهم .. ونهل من معين علمهم .. وتدرج في معارف فهمهم .. ما بالك برجل كان صاحب العقاد ؟! و جليس محمود شاكر ؟! و أنيس السيد صقر؟! وخدين النفاخ ؟! وصفيّ الطناحي ؟! وغيرهم من أوعية العلم وعدوله .. وأساطينه وأركانه .. إنه بهم تخرج .. وبسنا عقولهم أورى وأزنَد ..(/1)
استمعْ إلى صفيّه الطناحي يقول عنه في بحث له عن دار العلوم ومكانتها في بعث التراث العربي وإحيائه: "وأعرف أناسا ذوي أقدار الآن, عملوا زماناً في مهنة التصحيح, أذكر منهم ابنا عظيماً من أبناء الدار, هو جامع العلوم والفضائل, المقرئ المحدث الحافظ الأديب الشاعر, الذكي القلب واللسان, عبد الحميد البسيوني, المتخرج من الدار عام 1961م, جاء من قريته "الباجور" من أعمال المنوفية, يبحث عن المعرفة, ويلتمس طرق العلم, بنفس مشوقة, وحس دقيق, وعين ناقدة, فصحب من الأشياخ عباس محمود العقاد, والسيد أحمد صقر, وشيخنا محمود محمد شاكر, رحمهم الله أجمعين, كما صحب من قراء القرآن الكريم الشيخين محمد صديق المنشاوي، وعلي حزين, رحمهما الله. " (في اللغة والأدب 2/837).
لقدكان هامةً في العلم تطأطأت لها الهامات .. وكان رأساً في الفهم انحنت له الرؤوس .. وكان ينبوعاً ثراً من ينابيع المعرفة أثرى مَن حوله .. ورفد مَن قصده .. " ومن قصد البحر استقلَّ السواقيا ".
وقد قصدناه فرفدَنا .. ووردناه فأوردَنا .. واستقيناه فروّانا , وبتنا نرقب يوم السبت على أحر من الجمر .. نسَّمَّع قراءة الشيخ .. ونتلذَّذ بإلقائه.. ونهيم في حسن بيانه.. ونحلق في أرجاء فكره .. ونجني أطايب أدبه وبصره .. فكان مما قرأنا عليه: شرح معلقة لبيد, ومقالات محمود شاكر " نمط صعب ونمط مخيف ", وعينية أبي ذؤيب الهذلي في رثاء أولاده . دع عنك ما كان يتحفنا به من قراءة روائع القصائد القديمة. فأكرم به من معلم ! وأنعم به من قارئ ! .. وأعظم به من عالم !! .
همُ القومُ إن قالوا أصابوا وإن دُعُوا أجابوا وإن أعطَوا أطابوا وأجزَلوا
إن أنسَ لا أنسَ مجلساً ضمنا بصحبته في ديوانية الشيخ علي الصباح العامرة , فقرأ علينا قصيدة الشريف الرضي :
ما أسرعَ الأيامَ في طيّنا تمضي علينا ثم تمضي بنا
في كلِّ يومٍ أملٌ قد نأى مَرامُه عن أجَلٍ قد دَنا(/2)
أنذَرَنا الدهرُ وما نَرعَوي كأنَّما الدهرُ سوانا عَنى
تَعاشَيا , والموتُ في جِدّهِ ما أوضَحَ الأمرَ وما أبيَنا !
حتى بلغَ آخرها . أنشدها بصوته المعبر .. وأشهد أني لم أسمع منشداً للشعر يحاكي إنشاده ..كنت أتسمَّع من إنشاده أنين الموت , وفجيعة المصيبة , وشَجَن الفراق , فرأيتُني أقضي ليلتي تلك ميتاً , إي وربي رأيت فيما يرى النائم أني قد فارقتُ.. واستقبلني ركبُ السابقين , على كره مني لتلك المفارقة وذلك الاستقبال !! ووجدتني أفيق من غمراتي فزعاً جزعاً ولساني يردد :
كيف دفاعُ المرءِ أحداثَها فَرداً وأقرانُ الليالي ثُنى ؟
وكانت صلاةٌ في جُنح الليل .. وكانت مناجاةٌ طالما حنَّت روحي إليها .
وتتابعت اللقاءات مع أستاذنا البسيوني, وكانت تضم نخبة من أهل العربية والأدب, أذكر منهم د.يوسف الحشاش, ود.محمد الدالي, ود.يحيى مير علم, ود. عدنان غزال, ود.هزاع سعد, ود.طاهر الحمصي, ود. فؤاد نعناع, والأساتذة وائل الرومي, ومحمد الزمامي, وأسامة العمري, وعبد الرحمن الحقان, ورائد الشلاحي, وعصام شقير, وغيرهم. يحفهم بالرعاية والتكريم رب المجلس الشيخ علي ناصر الصباح جزاه الله عن العربية وأهلها خير الجزاء. " إن الكلام يزين رب المجلس "
وكان آخر ما قرأ علينا عينية أبي ذؤيب الهذلي المشهورة:
أمِنَ المَنونِ ورَيبِها تَتوجَّعُ والدهرُ ليس بمُعتِبٍ من يَجزَعُ
أودى بَنيَّ وأعقَبوني حَسرةً عندَ الرُّقادِ وعَبرةً لا تُقلِعُ
ولقد حرَصتُ بأن أدافعَ عنهُمُ فإذا المنيةُ أقبلَت لا تُدفَعُ
وإذا المنيةُ أَنشبَت أظفارَها ألفَيتَ كلَّ تَميمةٍ لا تَنفعُ(/3)
قرأها بشرح ابن الأنباري, وكان معجباً بها, مفتوناً بصورها, مذهولاً بفلسفتها, بل كان يعدُّها أبدعَ ما قيل من شعرٍ في فلسفة الموت, وتصوير لوعة المفجوع به. حتى إذا أتى على آخرها فجَأَنا بالقول: إن هذه القصيدة آخرُ ما أقرأ عليكم, ولن أقرأ بعدها شيئاً, بل سأكتفي بالاستماع إليكم, ففيكم علماء أجلاء, يُستفاد من علمهم, ويُنصَت إليهم, وكان يخصُّ أخانا الدالي بالإجلال والتقدير - وهو أهل لذاك - وكثيراً ما طلب إليه مراجعة قضايا في اللغة والنحو والتحقيق. ولم يدُر بخَلَدِنا آنئذٍ أن كلام الشيخ هذا قرارٌ لا رجعةَ فيه, ولقد حاول بعض روَّاد المجلس أن يثنيه عن عزمه, ولكنه أصر!.
وهكذا كان..ففي الأسبوع التالي قرأ أخونا الدالي مبحثا له كان كتبه يردُّ على من خطّأ المعري في قوله:
تعبٌ كلُّها الحياةُ فما أَعْـ جَبُ إلا من راغبٍ في ازدِيادِ
وحضر الشيخ البسيوني, ولما انتهى المجلس التفت إليّ قائلاً: وأنت ما موضوعُك عن القرآن, زوِّدني بالآيات التي تريد تناولها كي أناقشك فيما سوف تقول, فقلت :لقد قذفت في قلبي الرعبَ ياسيدي! فأردف قائلاً: لابأس عليك, ولكن إياك أن تقرأ بحثك في الأسبوعين القادمين, فأنا على سفر, وسأعود إن شاء المولى لأستمع إليك وأناقشك.
وطويت نفسي يومئذٍ على تهيُّب جميل!
فما أصعب أن تلقي بحثاً يناقشك فيه رجل كالبسيوني بعلمه وقامته!
وما أجمل أن تلقي بحثاً يحثّك عليه ويشرِّفُكَ بحضوره رجل كالبسيوني بفضله ونبله!
ورحت أهيئ نفسي, وأعد العُدَّةَ ليوم اللقاء, ولكن هيهات..!
لم يكن ثمة يوم ولا لقاء, بل كان يومٌ.. ولالقاء! وكان مجلس.. بلا إشراق! مجلس خيم عليه الحزن..وغشيته الكآبة..وحُفَّ بلوعة الفراق..
فقد نعى الناعي أبا تميم.. وانهدَّ من جبال العلم جبل ..وثلمت في الإسلام ثلمة..!
بانَ الخليطُ برامَتَين فودَّعوا أو كُلَّما جَدُّوا لبَينٍ تَجزَعُ(/4)
كيفَ العَزاءُ ولم أجِد مُذ بِنتُمُ قَلباً يَقرُّ ولا شَراباً ينقَعُ
ثم لما عدنا إلى الرشد تبين لنا أن الشيخ كان يودعنا, فقد تحقق حدسه حين ودعنا غِبَّ انتهائه من قراءة المرثية, ثم راح يحثُّ الخطا نحو أرض الكنانة ليودع الأهل والأحباب هناك, حيث كان على موعد مع الأجل المحتوم, مع قضاء الله الذي لا رادّ له.
فرحم الله روحك أيها الشيخ الجليل.. وغفر لك .. وأتمَّ نعمته عليك بصحبة النبيّين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً يوم الدين .. والحمد لله رب العالمين .
{إنَّ الذينَ قالُوا ربُّنا اللهُ ثمَّ استقامُوا تتنزَّلُ عليهمُ الملائكةُ ألا تخافوا ولاتحزنوا وأبشروا بالجنَّةِ التي كنتُم توعدونَ}.(/5)
العنوان: عبدالغني الدَّقر.. النَّحوي الفقيه والمؤرِّخ الأديب
رقم المقالة: 1962
صاحب المقالة: أحمد بن محمود الداهن
-----------------------------------------
لمحاتٌ من حياته:
مولده ونشأته:
ولد عبدالغنيِّ بن محمد عليِّ بن عبدالغنيّ الدَّقر سنة 1335هـ-1917م، في باب الجابية من أحياء دمشق، لأبوين فاضلين، فوالده الشيخ محمد علي صاحب نهضةٍ علميةٍ في بلاد الشَّام، ووالدته السَّيدة الجليلة بدرية المرادي، توفيت وهي ابنة خمس وعشرين سنة، وعمر صغيرها عبدالغني حينئذ سنتان ونصف، فنشأ الطِّفل يتيم الأمِّ ينقصه الحنان، فكان أبوه يعوِّضه شيئاً منه باصطحابه معه إلى حَلَقات كبار العلماء.
أرسل الوالد صغيره إلى معلمة القرآن الكريم للصغار، فقرأ عندها القرآن كاملاً، وتلا من سورة النَّاس إلى سورة الضُّحى.
ثم ألحقه والده بالكتَّاب، وهو ابن خمس سنين، فقرأ فيه ختمةً كاملةً نظراً على الشِّيخ المقرئ عزّ الدِّين العرقسوسي، وأقيم له حفل الختم ولم يتجاوز عمره سبع سنين.
ألحقه والده بعد ذلك بالمدرسة التِّجارية بدمشق لصاحبها الشيخ محمود العقَّاد رحمه الله، وتخرَّج فيها سنة 1928م وعمره اثنا عشر عاماً، ولم تكن تلك المدرسة تمنح شهادات لخرِّيجيها، ولم يحصل بعدها الشيخ على شهادةٍ قطّ.
ثمَّ ترك الدِّراسة مدَّة من الزَّمن، اتَّجه فيها إلى ممارسة هوايته في الصَّيد وركوب الخيل والسِّباحة في مزارع أسرته في المزَّة وداريَّا.
وما لبث حبُّه للعربية أن أعاده إلى نطاق العلم، فقد أهداه صديقه وأستاذه الشيخ منير الفقير كتاب (في سبيل التاج) للمنفلوطي، فقرأه كلَّه في مجلسٍ واحدٍ وأُعجب به، وطلب على إثر ذلك من صديقه أن يوفِّر له كتب المنفلوطي كاملة، وعكف على قراءتها، واستخرج الألفاظ الغريبة منها، ورتَّبها هجائياً، واستخرج معانيها من القاموس المحيط، وحفظها عن ظهر قلب، فكان ذلك ثروةً لغويَّة له، وعمره لم يتجاوز الرَّابعة عشرة.(/1)
اتَّجه بعد ذلك لمطالعة كتب الأقدمين، فقرأ للجاحظ، والمبرِّد، والقالي.
وعاد الشيخ إلى حِلَق العلم طالباًً ومدرساً، إذ عقد له والده مجلساً لإقراء النَّحو في جامع السِّنانية بدمشق، فبدأ مع الطلبة بمتن الأجرومية، ثم شرحها للأزهري، ثم انتقل إلى (قطر الندى) لابن هشام، ثم إلى (شذور الذهب)، ثم إلى (شرح ابن عقيل على الألفية).
حوَّل درسه بعد ذلك إلى (مسجد العدَّاس) بدمشق، حيث تسلَّم غرفة فيه ووضع فيها مكتبته، وبقي فيها قرابة خمس وعشرين سنة.
نبوغه:
ظهر نبوغ الشيخ مبكِّراً، إذ قُيِّد في الصف الرابع مباشرة أول ما أُلحق بالمدرسة التِّجارية، وقد كان عمره يوم أن خصَّص له والده حلقة إقراء النَّحو نحو خمسة عشر عاماً.
كما دُعي إلى زيارة مصر من قبل رئيسها آنذاك، ضمن وفد يمثل علماء الشام عام 1956م وعمره أربعون سنة.
وكان الرَّئيس شكري القوتلي الذي حكم سورية في الخمسينيات، يناديه طالباً منه تصحيحاً لغوياً، أو استشارة في ذلك، على حداثة سنِّه ووجود أعلامٍ في العربية في عصره.
وعنه كتب الشيخ علي الطنطاوي في مذكراته فقال: "... كذلك يحيي الله بالرَّجل الواحد بلداً ميتاً في الأدب والعلم، وربَّ رجلٍ واحدٍ يكون على يده نهضةُ شعب.. فعليكم بالبقية الباقية من أقطاب الأدب. أطلقوا أيديهم في مناهج العربية وكتبها، ولا تجعلوا الشَّهادات وحدها هي الميزان، فإنَّ كثيراً ممن أعرف اليوم معرفة بالأدب العربي الحقّ، ممن درس كتبه الكبرى؛ لم يكونوا يحملون شهادة، وإن كان يقعد بين أيديهم يتلقَّى عنهم حملةُ الشَّهادات من أساتذة الجامعات، من هؤلاء: محمود شاكر في مصر، وعبدالغني الدَّقر في الشام".
وكان الشيخ عبدالوهاب دبس وزيت فقيه دمشق ومقرئها يقول: إذا أردت أن تتقن القرآن اذهب إلى الشيخ عبدالغني ثمَّ تعال إليَّ.
شيوخه:(/2)
قرأ الشيخ عبدالغني الدِّقر العلوم الشرعية والعربية على كبار علماء عصره؛ فقرأ التَّوحيد، والتَّفسير، والحديث، والفقه الشافعي وأصوله، والنَّحو والأدب والمنطق.
أما العلماء الذين قرأ عليهم فهم:
الشيخ بدر الدِّين الحسني، الشيخ محمد أمين سويد، والده الشيخ علي الدَّقر، الشيخ محمود العطَّار، الشيخ عبدالرحمن الخطيب، الشيخ عبدالقادر المغربي، الشيخ محمد هاشم الخطيب، الشيخ واصف الخطيب، الأستاذ عزُّ الدِّين التَّنوخي، الشيخ عبدالوهاب دبس وزيت، الشيخ حسن حبنَّكة الميداني، والشيخ أبو اليسر عابدين، رحم الله الجميع.
مطالعته مع أقرانه:
كان للشيخ الدَّقر مع أقرانه مدارسات، ومذاكرات، من ذلك مدراسته مع الشيخ عبدالكريم الرِّفاعي رحمه الله لكتابي (المحلَّى) و(الإحكام) لابن حزم رحمه الله.
كما كان له مجلس مع الشيخ علي الطنطاوي والأستاذ سعيد الأفغاني رحمهما الله، بعد صلاة الجمعة، يقرؤون فيه كتاب (الرِّسالة) للإمام الشافعي رحمه الله.
كما تدراس العربية مع الشيخ يوسف بن صادق عرار، قرآ معاً كتاب (المزهر في علوم اللغة) للسيوطي.
وتدارس مع الشيخ نايف العباس علم البيان.
مطالعته ومكتبته:
كان الشيخ مولياً القراءة النصيبَ الأوفر من حياته، فهو يقرأ من بعد صلاة الفجر حتى صلاة المغرب، وقد جَرَدَ بنفسه عدداً من المطوَّلات في التَّفسير والفقه، والحديث، واللُّغة، والأدب، مثل: (مغني المحتاج) للشرييني، و(نهاية المحتاج) للرملي، و(مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية)، و(المحلَّى) و(الإحكام في أصول الأحكام)، و(الفصل في الملل والأهواء والنِّحل) لابن حزم، و(فتح الباري) لابن حجر، و(شرح صحيح مسلم) للنووي، و(تاريخ الطبري)، و(الأغاني) لأبي الفرج الأصبهاني، وكتب الأدب المشهورة جميعها.
وتضمُّ مكتبته المرتبة على الفنون؛ أصنافَ المعرفة الإسلامية والعربية جميعها؛ من تفسير، وحديث، وفقه، ولغة، وأدب، وتاريخ، وتراجم، وغير ذلك.(/3)
وقد فرضَت عليه مطالعاتُه الكثيرة أن يكون رجلاً نقَّاداً، فهو إما متعقِّب، أو مستدرك، أو مصحِّح، كما يقول عن نفسه: "لا أستسلم لكتاب، ولا رأي".
آراؤه:
تنمُّ آراء الشيخ عن شخصيته الفكرية والعلمية، وأورد هنا اتجاهاته في العلوم المختلفة:
- في علم الكلام: يميل إلى رأي السَّلف، ويحبُّ عقيدة الإمام أحمد وورعه وزهده.
- في علم المنطق: يذهب مذهب الغزالي بأن الفلاسفة كفروا في ثلاثة أشياء: قدم العالم، وأن الله يبعث الأرواح دون الأجساد، ولا يعلم الجزئيات.
- في علم الفقه: يميل إلى الأخذ بالدَّليل الصَّحيح، ويتتبَّعه، ولو كان مخالفاً لمذهبه الشافعي، ويرى أن طالب العلم المتمكِّن يسوغ له الأخذ بالدَّليل، غير أنه لم يخرج عن مذهب الشَّافعي إلاَّ في مسألةٍ واحدة.
- في علم الحديث: لا يرى الأخذ بالحديث الضَّعيف مطلقاً، ولا حتى في فضائل الأعمال، ومتى ثبت الحديث لديه يعمل بما فيه.
ويرى أن البدع يجب محاربتها، وهي سنَّة السَّلف الصَّالح والعلماء العاملين.
- وفي التَّاريخ: قرأ التاريخ الإسلامي، ودرس كتب الشيخ الخضري.
- وفي اللُّغة: له تعقبات على (القاموس المحيط)، في نحو من ثمانمئة صحيفة، ويعدُّ الجوهريَّ صاحب (الصِّحاح) من أدقِّ اللغويين، ويقاربه ابن منظور في (لسان العرب).
ويأخذ على علماء الشَّام عدم عنايتهم باللُّغة والحديث.
مروياته:
للشيخ مرويَّات وإجازات من عددٍ من شيوخه، وهي:
سماعه من الشيخ المحدِّث بدر الدِّين الحسني بعض الأحاديث المسلسلة، وقد أجازه إجازةً عامَّة.
وأجازه العلامة الشيخ محمد أمين سويد إجازةً عامةً بسائر مرويَّاته.
كما أجازه العلامة الشيخ محمود العطَّار إجازةً عامةً بسائر مرويَّاته.
وأجازه العلَّامة المقرئ الشيخ عبدالوهاب دبس وزيت إجازتين: إجازة خاصة بالقرآن الكريم، و إجازة عامة بسائر مرويَّاته.
وأجازه العلامة الشيخ حسن حبنَّكة الميداني إجازةً عامةً بسائر مرويَّاته.(/4)
كما أجازه الشيخ أبو اليسر عابدين إجازةً عامةً بسائر مرويَّاته.
وقد جمع له الأستاذ نور الدِّين طالب مرويَّاته في جزء أسماه (غيمة العمر بأسانيد ومرويَّات الشيخ عبدالغني الدَّقر) طبع بدمشق.
الوظائف التي تولاها، والأعمال التي شغلها:
تولَّى الشيخ عدداً من الوظائف، وشغل عدداً من الأعمال، وهي:
1- مدرِّس بإدارة الإفتاء العام من عام 1946م حتى وفاته.
2- درَّس في ثانوية السَّعادة الأدبَ العربيَّ لطلاب الشَّهادة الثَّانوية.
3- مدرِّس بالمعهد الشَّرعي بجامع تنكز للعلوم العربية.
4- أستاذ العلوم العربية في كثير من الثَّانويات.
5- عهِد له والده بحلقةٍ يدرس فيها النَّحو في جامع السنانية.
6- فتح له عمُّه والد زوجه متجراً بالحريقة، فعمل فيه ثلاث سنوات ثم تركه.
7- رئيس مجلس إدارة الجمعية الغرَّاء.
8- رأس تحرير مجلَّة (المرأة) وكتب فيها.
رحلاته:
لم يُعن الشيخ بالرِّحلة، ولم يُكثر منها، إلا أنَّه زار تركية سياحةً، والمملكة العربية السعودية، ولبنان، والأردن، ومصر، وحجَّ حجَّتين: الأولى مع زوجه سنة 1970م، والثانية بدعوةٍ من الملك فهد بن عبدالعزيز سنة 1978م.
حليته:
كان رحمه الله ربعة، ممتلئ الجسم، أبيض البشرة، له لحيةٌ خفيفة، عيناه زرقاوان، يلبس البزَّة، ويعتمُّ على طربوشه من الأغباني، متواضعاً، بهيَّ الطَّلعة، لا تفارق الابتسامة محيَّاه.
وفاته:
توفِّي الشيخ عبدُالغنيِّ مساء يوم الخميس الخامس عشر من شوال عام 1423هـ، الموافق التاسع عشر من كانون الأول سنة 2002م، صُلِّي عليه في جامع الحمد بعد صلاة الجمعة من اليوم التَّالي، ودفن في مقبرة الباب الصَّغير عن خمس وثمانين عاماً قضاها في طلب العلم وبذله لطلابه، رحمه الله وأجزل له المثوبة.
تعريف بمؤلَّفاته:(/5)
اعتنى الشيخ عبدالغنيِّ الدَّقر بالكتابة والتَّأليف، فصنَّف وحقَّق وكتب المحاضرات والمقالات، وفهرس المخطوطات، أما أهم آثاره وعمله فيها فهي على النَّحو التالي:
أ- في مجال العلوم والدِّراسات الإسلامية:
1- مختصر تفسير الخازن لعلاء الدِّين البغدادي، اختصار وتهذيب.
2- قواعد الأحكام في قواعد الأنام للعزِّ بن عبدالسَّلام، تحقيق.
3- محاضرات في الدِّين والتَّاريخ والاجتماع، تأليف.
4- لمحات من الكتاب والنبوَّة والحكمة، تأليف.
5- فهرس مخطوطات دار الكتب الظاهرية، الفقه الشافعي، فهرسة.
6- صحيح الأدعية والأذكار، تأليف.
7- صحيح الآثار في الأدعية والأذكار، تصنيف.
8- قصَّة إبليس والرَّاهب، تأليف.
9- الدَّعوة من القرآن وإلى القرآن، تأليف.
ب- في مجال العلوم العربية:
1- شرح شذور الذهب في معرفة كلام العرب لابن هشام الأنصاري، ترتيب وتعليق وشرح الشواهد.
2- معجم النَّحو، تصنيف.
3- معجم القواعد العربية في النَّحو والتَّصريف وذيل الإملاء، تصنيف.
4- تحرير ألفاظ التَّنبيه أو لغة الفقه للنووي، تحقيق وتعليق.
ج- في مجال التاريخ والتراجم:
1- الإمام مالك بن أنس، تأليف.
2- الإمام الشافعي، فقيه السُّنة الأكبر، تأليف.
3- أحمد بن حنبل، إمام أهل السُّنة.
4- سفيان بن عيينة شيخ شيوخ مكَّة في عصره، تأليف.
5- الإمام سفيان الثوري أمير المؤمنين في الحديث، تأليف.
6- الإمام النووي شيخ الإسلام والمسلمين، وعمدة الفقهاء والمحدِّثين، وصفوة الأولياء والصالحين.
7- تاريخ مدينة دمشق حماها الله وذكر فضلها وتسمية من حلّها من الأماثل أو اجتاز بنواحيها من وارديها وأهلها، لابن عساكر، تحقيق.
د- المقالات:
شارك الشيخ في الكتابة في الصُّحف والمجلات، فكتب مقالاتٍ وبحوثا كثيرة في صحيفة (الأيَّام)، و (المرأة) السُّوريتين، وفي (الرِّسالة) القاهرية، وكتب في مجلَّة (حضارة الإسلام)، و(مجلَّة مجمع اللغة العربية) بدمشق.
المرجع:(/6)
كتاب (عبدالغني الدَّقر، النَّحوي الفقيه والمؤرِّخ الأديب)، تأليف: إياد خالد الطَّباع، وهو الكتاب رقم (22) في سلسلة: (علماء ومفكرون معاصرون، لمحات من حياتهم وتعريف بمؤلفاتهم) التي تصدرها دار القلم بدمشق، الطبعة الأولى، 1424هـ - 2003م.(/7)
العنوان: عبدالقادر الأرناؤوط المحدث الحافظ والإمام القدوة
رقم المقالة: 346
صاحب المقالة: أيمن بن أحمد ذوالغنى
-----------------------------------------
صورة من قرب
قبلَ زُهاء خمسَ عشرةَ سنة انتسبتُ إلى المعهد الشرعيِّ لطلاَّب العلوم الإسلاميَّة (الأمينيَّة سابقًا)، الدَّوام الصَّيفي، وأنا يومئذ طالبٌ في المرحلة الثانويَّة، وكان اسم الشيخ عبد القادر الأرناؤوط مُدرجًا في جَدول الحِصَص المقرَّرة، مدرِّسًا لمادَّتَي الفقه ومصطلح الحديث، وقد سبقَت شهرةُ الشيخ إلى أُذُنيَّ، قبل أن أبصرَه بمقلَتَيَّ، فكنت أسمعُ من زملائي الطلاَّب الثناء العطرَ عليه، وأنه أحدُ كبار علماء السنَّة في عَصرنا.
رسمتُ للشيخ صورةً في نفسي، فكنتُ أتوقَّع أن أرى شيخًا تحفُّه أُبَّهَةُ المشيخَة المصطَنعَة التي اتَّخَذها بعض أشياخ عصرنا، تراهُم يمشون في زَهْو وعُجْب كالطَّواويس، والناسُ متعلِّقون بأذيالهم، يحيطون بهم من كلِّ جانب، يتسابقون إلى تَقبيل الأيدي، والتمسُّح بالثياب، والفَوز بعبارة ثناء.
دخل علينا الشيخُ بتواضع جَمٍّ، وجلس على كرسيِّ التدريس، مرحِّبًا بنا في بداية هذه الدورة الصيفيَّة الجديدة بكلمات تَفيض رقَّةً وأُنسًا، بلهجَة أب غَيور شديد الحرص على بَنيه، كنت أُصغي إلى كلماته العَذبة الصادقة وأكاد أسمعُ معها وَجيب قلبه، وأتأمَّل في وجهه فأرى في قَسماته أماراتِ الصدق والتقوى مُشعَّة بادِيَة، زادت حُمرةَ وجهه جمالاً على جمال، وكانت عيناه الزرقاوان تلتمعان ذكاءً كنجمَين مضيئين أو جوهرتَين كريمتَين نادرتَين، وقد زاده الله بَسطةً في العلم والجسم، فكان ممتلئَ الجسد، قويَّ البنيَة، كما امتلأ فقهًا وحكمةً وعلمًا، ووالله لقد ملأت صورةُ الشيخ نفسي هَيبةً وتوقيرًا وإجلالاً.
مَدَحتُكَ بالحَقِّ الذي أنتَ أهلُهُ ومِنْ مِدَحِ الأقوامِ حَقٌّ وباطِلُ(/1)
لم أنقطع عن هذه الدورات العلميَّة الصيفيَّة ستَّ سنين متتالية، وكانت دروسُ الشيخ فيها أحبَّ الدروس إلي؛ لما فيها من فوائدَ علميَّة، ونصائحَ تربويَّة. قرأنا عليه فيها غيرَ كتاب من كتب مصطلح الحديث، وبحقٍّ لقد بهَرَنا الشيخ بقوَّة حفظه وحُضور ذهنه، وبخاصَّة حفظُه لمتون الأحاديث، ولوَفَيات رواة السنَّة. وقد حبَّب إلينا في دروس الفقه العملَ بالحديث الصحيح، وعدمَ التعصُّب لاجتهادات الفُقَهاء المخالفة للأدلَّة الصحيحَة الصريحَة، وكذلك وجَّه أنظارنا إلى أهميَّة علم المصطَلح، الذي يعدُّ السبيلَ لتمييز السنَّة النبويَّة، ومعرفة صَحيحها من سَقيمها.
توثَّقَت صلَتي بالشيخ مع الأيام، وازددتُ منه قربًا، وما كنت أشعرُ معه إلا أنني مع أبي الرحيم الشفيق، وما أكثرَ ما كنت أرتادُ مكتبتَه العامرةَ التي فتح أبوابَها لتكون مثابةً لطلاب العلم، أبحثُ في كتبها عن بعض المسائل الشرعيَّة، أقضي فيها ساعات، من بعد صلاة العصر إلى صلاة العشاء، أسأله عن كلِّ ما يَعرض لي من مسائلَ تعتاصُ علي، وأنتفعُ بما يجيب به سائليه من ضُيوف وطلاب علم ومُستَفتين.
ومع اغترابي في السنوات الأخيرَة عن الشام، لم أنقطع عن شيخنا المفضال، فقد كان من أوَّل من أسعى إلى لقائه في زياراتي لدمشق، وكذا كنتُ أحرِصُ كلَّ الحرص على لقائه كلَّما زار الرياض.
جُمهور سيرته العَطرَة
أَرومَتُه واسمُه :
ترجعُ أصول شيخنا إلى يوغسلافيا من بلاد البُلقان، فقد ولد في قرية (فريلا/ vrela) من إقليم كوسوفا، سنة 1347هـ الموافق سنة 1928م، وسمَّاه أبوه باسم: قَدْري، غير أنه أطلق على نفسه في أوائل شبابه اسم: عبد القادر الأرناؤوط، وبه اشتُهر بين الناس، وهو الاسمُ الذي يثبتُه على أغلفة كتبه وتحقيقاته، غير أن اسمَه بقي في الأوراق الرسمية: قَدْري بن صُوقَل الأرناؤوط، أما نسبُه العالي فهو: قَدْري بن صُوقَل بن عَبْدول بن سِنان بْلاكاي الأرناؤوط.(/2)
لم تطُل إقامةُ الطفل قَدْري في موطنه، فقد رحلَ به أهله وهو ابنُ ثلاث سنين، (عام 1931م)، مُهاجرين إلى الشام، فرارًا بدينهم من الهجمَة الشُّيوعيَّة الوحشيَّة على بلادهم، واستقرَّ بهم المقامُ بدمشق، فنشأ فيها وترعرَع، واكتسب لسانَ أهلها وعاداتِهم، فلا تحسَبُه إلا دمشقيًّا عتيقًا أصيلاً، مع مُحافظته على لسان أجداده، فبقي مُجيدًا للغته الأولى الألبانيَّة قراءة وكتابة وتحدثًا.
دراستُه وأشياخُه :
انتسب شيخُنا في أول دراسته الابتدائيَّة إلى مدرسة الأدب الإسلاميِّ، ودرس فيها سنةً واحدة فقط، ثم تلقَّى سائرَ تعليمه الابتدائيِّ بمدرسة الإسعاف الخيريِّ، ونال منها الشهادةَ الابتدائيَّة، وهي الشهادةُ الوحيدة من شهادات الدِّراسة النِّظامية التي حصَّلها، فلم يتابع بعدَها في المدارس الرسميَّة، بل اختَلَف إلى حَلَقات العلم في المساجد، يقرأُ على بعض العُلَماء والمشايخ، وهو ما يزالُ في رَيْعان الفُتوَّة وطَراءة الصِّبا.
ومن العُلَماء والمشايخ الذين قرأ عليهم وتخرَّج بهم:
- الشيخ صُبحي العَطَّار رحمه الله: وهو مَغربيُّ الأصل، وقد كان أستاذَه في مدرسة الإسعاف الخيريِّ، قرأ عليه خَتمةً من القرآن الكريم مع التجويد والإتقان، وأفاد منه كثيرًا في الفقه الحنَفيِّ.
- الشيخ المقرئ محمود فايز الدَّيرعَطاني رحمه الله: وهو تلميذُ شيخ قرَّاء الشام محمد الحُلواني الكبير رحمه الله، قرأ عليه شيخُنا القرآن كاملاً بالمدرسة الكامليَّة، وكان بصَدَد جمع القراءات عليه، إلا أنه آثرَ التفرُّغَ لعلم الحديث الشريف وحفظ السنَّة النبويَّة. وقد كان الشيخُ الدَّيرعَطاني شديدَ الإعجاب بقراءة تلميذه، لا يَفتَأُ يقولُ له: إنك تقرأ القرآنَ بالسَّليقَة.
- الشيخ سُلَيمان غاوْجي الألباني رحمه الله: قرأ عليه الشيخ في علمَي النحو والصَّرف.(/3)
- الشيخ محمد صالح الفُرْفور رحمه الله: وهو مؤسِّسُ جمعيَّة الفتح الإسلاميِّ ومعهدها الشرعيِّ، وقد لازمَه الشيخ زُهاءَ عشر سنوات، وتخرَّج به في الفقه الحنَفيِّ، والتفسير، وعلوم العربيَّة.
- وقرأ الشيخ على غيرهم من العُلَماء، وحضَرَ دروسَ كثير من المشايخ في مسجد بني أميَّة الكبير.
مهنتُه وعمَلُه:
رغبَ والدُ شيخنا - بعد تخرُّج ولده في المدرسة الابتدائيَّة- أن يكتسبَ مهنةً تكون له سندًا وأمانًا، يستعين بها على مُتطَلَّبات الحياة في قابل الأيام، ويتَّقي بها صُروفَ الدهر وغِيَرَهُ، فأخذ بيده ومضى به إلى حيِّ (المِسْكِيَّة) القريب من المسجد الأُمَويِّ، يبحث له عن مهنةٍ شريفةٍ يتعلَّمُها، وبينا هما يبحثان أبصرَ الأب شيخًا ساعاتيًّا ذا لحيةٍ سوداءَ وعِمامَةٍ بيضاءَ وجُبَّة، فأحسن الظنَّ به، وعرَضَ عليه أن يعلِّمَ ولدَه مهنة إصلاح الساعات، ولما عرَفَ الرجل أنهما غَريبان، ممَّن هاجر من كوسوفا إلى الشام، استجابَ لطلَبهما؛ حبًّا وكرامة.
ذاك الشيخُ الساعاتيُّ اسمه: سعيد الأحمَر التَّلِّي، وكان متخرِّجًا في الأزهر الشريف، وقد لاحَظَ على شيخنا حبَّه للعلم، وتطلُّعَه إلى تحصيله، فرأى أن يختبرَه ببعض العُلوم، فطلب منه أن يُسمعَه شيئًا من القرآن، فقرأ له آياتٍ منه مرتَّلَةً مجَوَّدَة، فسُرَّ بقراءته الحسَنة المتقَنة، ثم اختبَرَه في بعض أبواب النحو والصَّرف، فأظهرَ براعةً ومعرفة، وكان الوقتُ رمضان فسأله عمَّن لا يجبُ عليه صومُ رمضان، فأجابَهُ ببيتَين من النَّظْم كان حَفظَهُما من شيخه صبحي العَطََّار في المدرسة، وهما:
وعَوارضُ الصَّومِ التي قد يُغتَفَرْ للمَرءِ فيها الفِطرُ تسعٌ تُستَطَرْ
حَبَلٌ وإرضاعٌ وإكراهٌ سَفَرْ مَرَضٌ جهادٌ جُوعُه عطَشٌ كِبَرْ(/4)
ولم يكتف الشيخ سعيدٌ بهذه الإجابَة، بل طلبَ منه تفسيرَ البيتَين، ولما أجابَه ابتَهَج وقال: يا بُنيَّ، أنت يجب أن تكونَ طالبَ علم، وشجَّعَه على ذلك، ومضى به إلى جامع بني أُمَيَّة، وضمَّه إلى حَلْقَة الشيخ محمد صالح الفُرْفور، ثم مضى به إلى المدرسة الكامليَّة؛ ليقرأ القرآن على الشيخ محمود فايز الدَّيرعَطاني.
لزمَ شيخُنا معلِّمَه سعيدًا الأحمر يتعلَّم منه مهنتَه، ويقرأ عليه في الفقه واللغَة، ولم ينقطع في أثناء ذلك عن حَلَقات العلم، يَحضُرها بعد صلاة الفجر، وعَقِبَ صلاتَي المغرب والعشاء. ومع انصِرام خمس سنواتٍ من المواظبة افتَتَح شيخُنا لنفسه محلاًّ للساعات، بعد أن مَهَر في إصلاحها، وحَذِقَ صَنعَتَها.
طلبُه لعلم الحديث وتَحصيلُه:
كان المشايخُ المدَرِّسون في الجامع الأمويِّ كثيري الاعتماد على كتاب الحافظ السُّيوطيِّ ((الجامع الصغير))، يَرْوون أحاديثَه ويستشهدون بها، وقد حُبِّب إلى شيخنا الرجوعُ إلى كتاب ((فيض القدير بشرح الجامع الصغير)) للمُناوي، يراجع فيه أحكامَه على الأحاديث التي أوردها السُّيوطي، وقد أحزَنَ الشيخ وأمضَّه ما كان يراه من كثرة استشهاد المشايخ والخُطَباء بالأحاديث الضَّعيفَة والمنكَرة والموضوعَة، ومن هنا تحفَّز لحفظ الأحاديث الصَّحيحة، ونشرها وإشهارها.
كان صحيحُ الإمام مسلم أوَّلَ كتاب من كتب السنَّة يقرؤه، ثم قرأ بعدَه صحيح البُخاريِّ، والسُّنَنَ الأربعة.(/5)
وقد كَلِفَ بحفظ السنَّة النبويَّة، فكان دَيدَنَه وهِجِّيراهُ حفظُ عدد من الأحاديث الصَّحيحة كلَّ يوم، يُعينه على ذلك ما أكرمَه الله به من هِمَّة عاليَة، وحافظَة واعِيَة، ومَضاء عَقل، ونَفاذ بَصيرَة، وكان حصادُ ذلك كلِّه المنزلةَ الساميَةَ التي تبوَّأَها بين أهل العلم عامَّة، وأهل الحديث خاصَّة، حتى غَدا أُمَّةً في الحفظ والرِّواية غيرَ مزاحَم، يقرُّ له بذلك المخالفُ قبل الموافق، وقد زادَت محفوظاتُه من الأحاديث على عَشرة آلاف حديث.
ومما تميَّز به شيخُنا أيضًا: حفظُ أسماء رُواة السنَّة وأنسابِهم، وحفظُ تواريخ وَفَياتِهم، وكان في ذلك آيةً قليلَ النظير.
وإن تعجَب فعَجَبٌ ما تراهُ من استحضار الشيخ للأحاديث النبويَّة، وسرعته في استخراجها من مَظانِّها، حتى لَتَخالُ السنَّة ماثلةً بين ناظرَيه، وما كان ليَتأتَّى له هذا لولا إدمانُه النظرَ في كتب السنَّة الشريفة وكثرةُ مدارستها.
عمَلُه في البَحث العلميِّ وتَحقيق التُّراث:
وكان من صُنع الله به أن سَنَّى له العملَ فيما يرغَبُ فيه ويَحرِصُ عليه، فقد تركَ العمل في مهنَة الساعات وانضَمَّ - سنة 1377هـ الموافق سنة 1957م - إلى فريق البَحث العلميِّ وتحقيق التُّراث بالمكتب الإسلاميِّ لفضيلة شيخنا المجاهد زهير الشَّاويش حفظَ الله مُهجَتَه، إلى جانب كَوكَبَة من أعلام السنَّة والحديث والعلم في هذا العَصر، منهم: الشيخ محمَّد ناصر الدين الألباني رحمه الله، والشيخ شُعَيب الأرناؤوط حفظه الله، وشيخُنا المربِّي الدكتور محمَّد بن لطفي الصبَّاغ أنسأ الله في الخير أجلَه، والشيخ عبد القادر الحتَّاوي الدُّومي رحمه الله.
هذا، ويظنُّ بعض طلاَّب العلم أن الشيخَ عبد القادر شقيقٌ للشيخ شُعَيب، وليس الأمرُ كذلك، بل هما أخَوان في الله، وزَميلا دراسة، وعمَل، ودَعوة.(/6)
استمرَّ شيخُنا في المكتب الإسلامي زُهاءَ عشر سنوات كانت من أخصَب سني عُمُره، أفاد منها إفادةً كبيرة في معرفة كتُب تراثنا الإسلاميِّ في شتَّى علومه وفنونه، وأحكَمَ فيها صَنعَةَ التحقيق العلميِّ إحكامًا، واضْطَلَعَ فيها بتحقيق عدد كبير من الكتُب العلميَّة الشرعيَّة ومراجعتها، منفردًا ومشاركًا.
فممَّا شارك في تحقيقه الشيخَ الألباني: ((مشكاة المصابيح)) للتِّبْريزي، أما الشيخُ شُعَيب فقد شاركَه في تحقيق غير قليل من الكتُب، منها: ((روضَة الطالبين)) للإمام النَّوَوي، في الفقه الشافعيِّ، و((الكافي)) للإمام موفَّق الدين بن قُدامَة المقدِسي، في الفقه الحنبليِّ، و((زادُ المسير في علم التفسير)) للإمام ابن الجَوزي.
وتولَّى الشيخُ إدارةَ المكتب الإسلاميِّ مدَّةً من الزمَن، في إبَّان غياب الشيخ زهير عن سورية؛ لظُروف قاهرَة. وبقيَ الشيخ متعاونًا مع المكتب الإسلاميِّ حتى وافَتْه منيَّتُه، وكان من آخر ما عملَه للمكتب: إعادة تحقيق ((شرح ثُلاثيَّات الإمام أحمد بن حنبل)) للسَّفَّاريني.
نتاجُهُ العلميُّ :
حُبِّب إلى شيخنا نشرُ تراث أسلاف أمَّتنا من العُلَماء الصالحين العاملين، وتحقيقُه، والعنايةُ به، وكان يفضِّل تحقيقَ التراث على التأليف، وكان في تحقيقه صاحبَ رسالة، يرى أن غايةَ المحقِّق في عمَله هي إخراجُ نصٍّ صحيح سليم، خالٍ من شَوائب التصحيف والتحريف والسَّقَط، وأن أَوْلى ما على المحقِّق القيام به: تخريجُ الأحاديث الواردة في الكتاب، والحكمُ عليها صحَّة وضَعفًا، أو نقلُ أحكام نُقَّاد الحديث عليها؛ لما في ذلك من نُصْح لطلاَّب العلم، ولجمهور المسلمين؛ لئلاَّ يغتَرَّ امرؤٌ بحديث تتناقَلُه ألسنَةُ الخُطَباء، ورسولُ الله منه بريء.
وقد أكثرَ شيخُنا من التحقيق، حتى أربَت كتُبه المحقَّقة على خمسينَ كتابًا، ومن أهمِّ ما أخرجه زيادةً على ما تقدَّم:(/7)
((جامعُ الأصول في أحاديث الرسول)) لابن الأثير الجَزَري، في خمسةَ عشرَ مجلَّدًا، و((مختصَر مِنهاج القاصِدين))، و((لُمعَة الاعتقاد))، و((كتاب التوَّابين)) لابن قُدامَة المقدِسيِّ، و((الأذكار))، و((التِّبيان في آداب حَمَلَة القُرآن)) للنَّوَوي، و((مُختَصَر شُعَب الإيمان)) للبَيْهَقي، و((الحِكَمُ الجَديرَةُ بالإذاعَة)) لابن رجَب الحنبَليِّ، و((فتحُ المجيد شرح كتاب التَوحيد)) لعبد الرَّحمن بن حسن آل الشيخ، و((الإذاعَةُ لما كان ويكونُ بين يدَي الساعَة))، و((يقَظَةُ أولي الاعتِبار بذِكْر الجنَّة والنار)) لصِدِّيق حسن خان، و((كِفايَةُ الأخيار في حَلِّ غايَة الاختِصار)) للحِصْني، و((الفِتَنُ والملاحِم))، و((شَمائلُ الرَّسول)) لابن كَثير، و((السُّنَن والمبتَدَعات)) للقُشَيري.
وكان للشيخ عنايةٌ خاصَّة بكتُب شيخَي الإسلام ابن تيميَّة وتلميذه ابن القيِّم، فممَّا أخرجه لابن تيميَّة:
((رَفعُ الملام عن الأئمَّة الأعلام))، و((المسائل الماردينيَّة))، و((قاعِدَةٌ جَليلَة في التوَسُّل والوَسيلَة))، و((الفُرقان بين أولياء الرَّحمن وأولياء الشَّيطان))، و((الكَلِمُ الطيِّب)).
ومما أخرجه لابن القيِّم:
((زادُ المعاد في هَدْي خَير العباد)) بالاشتراك مع الشيخ شُعَيب، و((جِلاء الأفهام))، و((الوابِلُ الصَّيِّب))، و((الفُروسيَّة))، و((عِدَةُ الصابرين))، و((فَتاوى رسول الله صلى الله عليه وسلم)).(/8)
أما التأليفُ فقد تقدَّم الإلماعُ إلى عدَم اهتمام الشيخ به، فلم يؤلِّف سوى رسالتين صَغيرتَين، الأولى بعنوان: ((الوَجيز في مَنهَج السَّلَف الصالح))، وهي على وَجازَتها عظيمة النَّفع في بيان الفرق بين المقلِّد والمتَّبع والمجتَهد، وبيان وجوب اتِّباع الكتاب والسنَّة بمنهَج سلَفِنا الصالح من أهل القُرون الثلاثة الأولى، التي شَهد لها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالخيريَّة. والرسالةُ الأُخرى بعنوان: ((وَصايا نبويَّة))، اشتملت على خمسة أحاديثَ نبويَّة شريفَة، اختارها الشيخُ وشرحها شرحًا موجَزًا مُفيدًا، وهي من جَوامع كلمه صلى الله عليه وسلم ، يوصي فيها أمَّته بما فيه فلاحُهم ونجاحُهم في الدارَين.
عمَلُه في التعليم والدَّعوَة :(/9)
سلَخَ الشيخُ من عُمره المبارك أكثرَه بين المنابر والمحابر؛ مُدرِّسًا ومُحاضرًا وخطيبًا، وكان تولَّى الخطابةَ وهو في أوائل العِقْد الثالث، نحو سنة 1369هـ الموافق سنة 1948م، في جامع الأرناؤوط بحيِّ الدِّيوانيَّة، حيثُ استوطَنَت الأُسَر اليوغسلافيَّة المهاجرة، وكان الشيخ الألبانيُّ رحمه الله ممَّن يشهد خُطبتَه ويصلِّي خلفَه، وقد استمرَّ في خَطابَة هذا الجامع نحو خمسَ عشرةَ سنة، ثم انتقل إلى جامع عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه، وكان سعى في إنشائه مع بعض أهل الخير في حيِّ القَدَم جنوبيِّ دمشق، وبقيَ فيه عِقْدًا كاملاً، ثم كُلِّف بالخَطابة بجامع الإصلاح بحيِّ الدَّحاديل، ودامَت خُطبتُه فيه أكثرَ من عشر سنين، لينتقلَ بعده إلى حيِّ المِزَّة غربيِّ دمشق خطيبًا لجامع المحَمَّدي، الذي استقطَبَ آلافَ المصلِّين، جلُّهم من شباب الصَّحوة وطلاَّب العلم، وكان للشيخ درسٌ عامٌّ يعقده بعد كلِّ خُطبة، يجيب فيه عن أسئلة المستَفتين، وقد كنتُ ممَّن شرَّفهُم الله تعالى بحُضور تلك الخُطَب والدروس والانتفاع بها سَنوات، وما زال الشيخُ خطيبًا لجامع المحَمَّدي حتى صدر القرارُ بعَزْله عن الخَطابة، بعد ثماني سنوات قَضاها فيه، وذلك سنة 1415هـ، وأدعُ الحديثَ لشيخنا يُخبرنا بقصَّة مَنْعه من الخَطابة، يقول: ألقيتُ في رأس السنة الميلاديَّة خُطبةً قويَّة، نصحتُ فيها شبابَ المسلمين بعدم تقليد النصارى، وتَرك مُجاراتهم في احتفالاتهم، وقد كان بعضُ المسلمين - ولا حولَ ولا قوَّةَ إلا بالله - يُشاركون النصارى في عيدهم، ويَشربون معَهُم الخمرَ، ويُراقصون نساءهُم .. فناديتُهُم من على المِنبَر: أن اتَّقوا الله، وذَروا ما أنتم عليه من مُتابعة للنصارى، وأورَدتُ في ذلك بعضَ الآيات فيهم، كقوله تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ اليَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُم}، ومن هنا قيل: إن هذا الشيخَ يُثير النُّعَرات(/10)
الطائفيَّة ويَدعو إليها، وكان قرارُ المنع.
كان الشيخ يعطي خُطَبه حقَّها من التحضير وحُسن الإلقاء؛ أداءً لأمانة المنبَر التي ضيَّعها اليومَ كثيرٌ من الخُطَباء، وأداءً لحقِّ المستمعين الذين قَدِموا إلى جامعِه من كلِّ صَوْب، وكان رحمه الله خطيبًا مُفوَّهًا مِصْقعًا، أمَّارًا بالمعروف نَهَّاء عن المنكَر، صادرًا في ذلك عن علم غَزير، وفكر سَديد، وبيان مُشرق، وحَميَّة لدين الله جَيَّاشَة.
وقد أحسنَ الله إليه بأن وهَبَه قُدرةً على التأثير عَظيمة، فإذا ما انطَلَق في خُطبته رأيت الناسَ قد تعلَّقَت به أبصارُهم، وكأن على رؤوسهم الطَّير.
وكان الغالبُ على خُطَب شيخنا أن يبدأَها بسَرد حديث نبويٍّ شريف، مع ذكر الصَّحابيِّ راوي الحديث، والأئمَّة المخرِّجين، ثم يُتَرجمُ بإيجاز للصَّحابي والمخرِّجين، ثم يَشرَعُ في تفسير الحديث، واستنباط الفَوائد والعِبَر منه، يُدير الخطبَة كلَّها عليه، مُستشهدًا بعشَرات الآيات والأحاديث الدَّاعمَة للفكرَة، لا يذكُر حديثًا منها إلا مُخرَّجًا.
أما التعليمُ والتدريس فقد وَلَجَ مَيدانَه في وقت مُبكِّر أيضًا، حين انتُدبَ للتدريس في المدرسة الابتدائيَّة التي تخرَّج فيها، وهي مدرسةُ الإسعاف الخَيريِّ، في نحو سنة 1373هـ، وقد أُنيطَ به تدريسُ القرآن والتجويد وبعض العُلوم الأخرى، وفيها تجدَّد لقاؤه بشيخه صُبحي العَطَّار، الذي فرح فرحًا عظيمًا بتلميذ الأمس الصَّغير، الذي غَدا زميلَه في التدريس.(/11)
وفي سنة 1381هـ تحوَّل الشيخُ إلى المعهَد العربيِّ الإسلاميِّ، مدرِّسًا للقرآن والفقه، واستمرَّ فيه زمنًا، ثم انتقلَ إلى معهَد الأمينيَّة، الذي سُمِّي فيما بعد: المعهَد الشرعيَّ لطلاَّب العُلوم الإسلاميَّة، ثم أُطلق عليه اسم: معهَد الشيخ بدر الدِّين الحَسَني، وبقي يعلِّم فيه إلى ما قبل سنتين تقريبًا، وكان الشيخُ من المدرِّسين في دَوراتِه الصيفيَّةِ المكثَّفَةِ عظيمةِ النَّفْع، وقد كنتُ من المنتَسبينَ إليها كما ذكرتُ في بداية المقالة، وقرأنا على الشيخ فيها عددًا من الكتُب، ففي الفقه الشافعيِّ درَّسَنا كتابَ الإمام الحِصْني ((كفاية الأخيار في حلِّ غاية الاختصار))، وفي علم مُصطَلَح الحديث قرأنا عليه كتابَ الإمام النَّوَوي ((إرشاد طلاَّب الحقائق إلى معرفة سُنَن خير الخلائق))، و((الباعث الحَثيث شَرح اختصار علوم الحَديث)) للشيخ أحمد شاكر، و((قواعد التحديث)) لجمال الدِّين القاسِمي، و((تدريب الرَّاوي)) للسُّيوطي، و((شَرح ثُلاثيَّات الإمام أحمد)) للسَّفَّاريني.
وكان للشيخ رِحْلاتٌ دعويَّة كثيرة إلى عدَد من دُوَل الخليج، يُلقي فيها المحاضرات ويَلتقي أهلَ العلم والفَضل، إضافةً إلى رِحْلاتِه المتَتابعَة إلى بلده كوسوفا وما حولَها؛ لدَعوَةِ أهالي تلكَ البلادِ إلى الدِّين القَويم، وتَبصيرِهم بأحكام الإسلامِ العظيم، مُستفيدًا من إتقانه للُّغَة الألبانيَّة، وكان انتَدَبه للسَّفَر إليها سَماحَةُ الشيخ عبد العَزيز بن باز مُفتي المملكة العربيَّة السعوديَّة رحمه الله تعالى، وقد كانت تَربطُه بالشيخ علاقَةٌ من الوُدِّ والمحبَّة والتقدير وَثيقَة.
فكرُه ومَنهَجُه:(/12)
لقد كان من نعَم الله السَّابغة على شيخنا أن هيَّأ له في مَطلَع شبابه رجُلاً كريم الخِلال حَميد المناقِب، ذا شخصيَّة فذَّة في العلم والأخلاق، لا تحسَبُه إلا من جيل الصَّحابة الكرام، ممَّن تتلمَذ لسيِّد الخلق صلى الله عليه وسلم ، تأخَّر به الزمان فعاشَ بيننا؛ ليكونَ مثالاً يُقْتَفى، وقُدوَة تتَّبَع، إنه فضيلةُ شيخنا المعَمَّر بقيَّة السلَف الصالح العلاَّمة المربِّي عبدالرَّحمن الباني، حفظه الله تعالى وأمتَع به، وبارك في عُمره = هيَّأه الله ليكونَ ناصحًا أمينًا للشابِّ عبد القادر الأرناؤوط، يأخُذ بيده ويدلُّه على الجادَّة اللاَّحِبَة الآمِنَة، ولقد بَهَرت شخصيةُ الباني فقيدَنا، فأقبل عليه يَنهَلُ من خُلُقه الرَّضِي، ومن علمه النافِع، وما أكثرَ ما سمعتُ - وسمع إخواني - شيخَنا الأرناؤوط يُثني على العلاَّمة الباني، ويُرجع إليه الفضلَ، بعد فضل الله سبحانه، في تَعريفه بمنهَج السلَف الصالح، وبالفكر السلَفي النَّقي، ولنُصْغ إليه يُنْبئنا خبرَه، يقول:(/13)
كنتُ في شبابي خطيبًا مِقْوَلاً، أعتَلي المنبَرَ وأخطُب الناس بحماسة واندفاع، يكادُ المسجد يَزَّلزَلُ من قُوَّة خُطبتي وارتفاع صَوتي، وكنت حينَها أرتدي عِمامَةً عاليةً كالأبراج، وجُبَّةً سابغةً أكمامُها كالأخْراج، فكانت نفسي تخدَعُني وتُوَسوسُ إليَّ بأنْ ليس على الأرض مثلي، وحينما أفرُغُ أنزل من على المنبَر وشُعوري كمَن خرجَ من معركة ضارية غالبًا مُنتصرًا، وكان يُقبل إليَّ بعدَ الصلاة رجُلٌ مهذَّب وَديع، يسلِّم عليَّ بابتسامة عَذبة آسِرَة، ويُثني عليَّ وعلى خُطبتي، بعبارات تملأُ نفسي سعادةً وغِبطَة، ثم كان يستأذنُني في إبداء بعض الملاحظات، بأُسلوب في غايَة الرِّقَّة، فكنت أرحِّبُ بملاحظاته، وأفتَح لها قلبي قبل أُذني، فيقولُ لي: يا بُنَيّ، بارك الله فيكَ، وجزاكَ خيرًا، خُطبتُك رائعةٌ ممتازة، ولكنْ ليتَك لم تستَشْهد بالحديث الفُلاني، فإنه موضوع، ولا يَنبغي يا ولدي الاستشهادُ بما لا يَصحُّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد وَرَدَ عن رسولنا في مَعناه أحاديثُ صحيحةٌ يحسُن الاستشهادُ بها، منها... ويذكُر لي بعضَها، وهكذا كان بعدَ كلِّ خُطبة يُسدي إليَّ نصائحَ ذهبيَّة، يَنهاني فيها عن بدعَة كنتُ بها جاهلاً، أو يَلفتُني إلى سُنَّة مَهجورَة كنتُ عنها غافلاً، كلُّ ذلك يقدِّمه بتَواضُع جَم، يُجبرُني معه على الاستِجابَة، عن رضًا وسعادَة، ولساني يَلهَجُ بالدعاء له، والشُّكر لصَنيعه، ولقد كان لي في أُسلوبه الحكيم أُسوةً حسنَة، جزاهُ الله عنِّي خيرَ الجزاء.(/14)
قلتُ: ولعلَّ الشيخَ الباني هو الذي دلَّه على كتُب شيخ الإسلام رحمه الله، ورغَّبه فيها، حتَّى استَحكَم حبُّ شيخ الإسلام من قَلبه، وارْتَضى طَريقَته القَويمَة، ومَنهَجه الحقَّ، دينًا يعبُد به ربَّه، ويَزدَلفُ به من رضوانه، وقد دفَعَ ثمنَ حبِّه لشيخ الإسلام - ومطالعة كتُبه وكتُب تلميذه ابن القيِّم- غاليًا، فلم يكُن يَدري يومَذاك أن النظرَ في كتب الشيخَين جَريمةٌ لا يَغفرُها مشايخُ عصره - الذين نَشَؤوا في أعطاف التصَوُّف، ورَضَعوا معَه العصَبيَّة والتقليدَ والجُمود - ولا بدَّ معها من مُحاكمة وعُقوبة، وحقًّا حوكم شيخُنا لقراءته كتابَ ((الوابل الصَّيِّب)) لابن القيِّم، وصَدَرَ الحُكمُ بطَرده من حَلْقَة شيخه الفُرْفور؛ جَزاءً وِفاقًا!! وطُردَ معه الشيخ شُعَيب؛ إذ كان رفيقَه فيها!
ويتلخَّصُ فكرُ شيخنا ومَنهَجُه: باتِّباع سلَف الأمَّة من الصحابة والتابعين والعُلَماء العاملين رضوان الله عليهم، واقتفاءِ خُطاهُم، والنَّسج على نَوْلِهم، في التمسُّك بكتاب الله وسنَّة نبيِّه الصحيحة، والعمَل بمُقتَضاهما.
ومن تَمام نِعَمِ الله عليه أن أُوتيَ فطرةً في طلب العلم سَليمَة، تدعوه إلى البَحث عن الحقِّ، والحِرص على الصَّواب، من غير تَقديسٍ للأشخاص، أو تعَصُّب لرأي إمامٍ أو فَقيه، أيًّا كانت مَنزلَتُه في العلم، أو مكانَتُه في الفَهم، رائدُه في ذلك قولُ الإمام مالك: ((كلٌّ يؤخَذ من قَوله ويُترَك إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم)).
شَمائلُه وسَجاياه:(/15)
للقَول في أخلاق شَيخنا ونُعوته أُفُقٌ رَحبٌ وفَضاءٌ واسِع، وحَسبُك أن تعلم أن كلَّ من عَرَفَه من قُرب، واتَّصَلَت أسبابُه بأسبابه، رآهُ صورةً صادقَة، وأُنموذجًا فَذًّا، لما كان عليه سلَفُ الأمَّة؛ رفعَةَ خُلُق، وجَمالَ عِشرَة، ولينَ جانب. ولا غَرْوَ، فقد عاش حياتَه بصُحبَة سيرة سيِّد الخلق صلى الله عليه وسلم ، وسيَر أصحابه شُموس الهِدايَة رُضوان الله عليهم، فتخلَّق بأخلاقهم، وتحلَّى بشَمائلهم، وإننا لنَرجو له أن يكونَ يومَ القيامَة من أقرب الناس مَجلسًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لتحقُّق أسباب ذلك فيه، فقد كان دَمِثَ الأخلاق، موَطَّأ الأكناف، يألَفُ الناسَ ويألفونَه. ووالله، لا أعرف رجُلاً اجتمعَت على محبَّته القلوب، وائتلَفَت على مودَّته النفوس، كالشيخ رحمه الله تعالى.
كان مِلْءَ العَينِ خُلْقا عاليًا ومُروءاتٍ وفَضلاً و وَفا
جمعَ الأخلاقَ والعلمَ معًا فهُما في بُردتَيه ائتَلَفا
وهو إلى هذا شديدٌ في الحقِّ، لا يُماري فيه ولا يُداري، بل يَصدَع بالنصح، غيرَ هيَّاب ولا متردِّد، وإذا ما انتُهكَت حُرمةٌ من حُرَم الله، تراه كالبُركان ثائرًا فائرًا، يكادُ يتميَّز من الحَنَق والغَيظ، يقول ما يُرضي ربَّه، ولا يخافُ في الله لومةَ لائم.
وكان فيه شُموخٌ وأنَفَة بيِّنَة، وعزَّة بالله ودينه عظيمَة، يَمقُت النفاق والمنافقين، ويشنأ طرائقَهم الملتوية وتسلُّقَهم على أكتاف الآخرين؛ في سبيل تحقيق مَنافعهم الخَسيسة، والفوز بمآربِهم الذَّميمة.
وكان الشيخُ رحمه الله عفَّ اللسان، واسعَ الصدر، حَليمًا، لا يغتاب أحدًا، ولا يُحبُّ أن يُغتابَ في مجلسه أحدٌ. ولقد سمعتُه مرارًا يُسأل عن بعض العُلَماء والدعاة المخالفين له في المنهَج، فلا يُجيب إلا بما يُرضي الله، مقدِّمًا حسنَ الظن والتماس العُذر.(/16)
ولقد حضَرتُ في مجلسه ذاتَ يوم شابًّا من طلاَّب العلم! بذل وُكْدَه في استدراج الشيخ للوَقيعَة بأحد العُلَماء، ولكنَّ الشيخ خيَّبَ مسعاه وأبى أن يَفوهَ إلا بالخير، وما زال الطالبُ يناقش ويُجادل حتى ضاقَ أهل المجلس به ذَرعًا، والشيخ صابر عليه، يدفَعُ قولَه بالَّتي هي أحسَن.
أما كرَمُه وسَخاءُ نفسه فالحديثُ عنهما ذو شُجون، فقد كان الشيخُ ذا يدٍ حانيَة، رَقيقًا عَطوفًا، لا يرُدُّ سائلاً، ولا يقصِّر في عَون، ما قَدَر على ذلك.
تَراهُ إذا ما جئتَهُ مُتَهَلِّلاً كأنَّكَ تُعطيهِ الذي أنتَ سائِلُه
وأذكرُ أنني زُرتُه - أيام الدراسة الجامعيَّة - مع عدد من زُمَلائي الأضِرَّاء، فرَقَّ لهم جدًّا، وأخذ يشجِّعُهم على تحصيل العلم ومُواصَلة الدراسة، ويُعَزِّيهم بمُصابِهم الذي ابتلاهُم الله به، وروى لهم عددًا من الأحاديث الشريفَة في فضيلة الصَّبر على فقد البَصَر، وما أعدَّه الله للصابرين من أجر يومَ الحساب، ولم يكتَفِ الشيخُ بهذا، بل أمسك بأيديهم ودخلَ بهم إلى الحُجرَة المجاورة، ثم لم يلبَثوا أن عادوا، ولما خرَجنا من بيت الشيخ علمتُ أنه أعطى كلَّ واحدٍ منهم مبلغًا من المال؛ تَطييبًا لخاطرهم، ومساعدةً لهم.
وأما تواضُعُه وإنكارُه ذاتَه، فشيءٌ دون وَصْفه خَرْطُ القَتاد، فقد بلَغَ مرتبةً من التواضُع عالية - مع الحفاظ على العزَّة والهيبَة - متأسِّيًا في ذلك برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتَراه منبَسطًا في الحديث مع ضُيوفه وزوَّاره، يصغي إليهم ويوليهم من اهتمامه وعنايتِه ما يشعُرُ معه كلُّ واحد منهم أنه هو ربُّ المجلس، وكان من عادَته المحبَّبة التي يتألَّف بها قُلوبَ العامَّة، أنه لا يَدخُل بيتَه زائرٌ إلا رحَّب به بحرارة، وسأله عن اسمه ونسبه ومهنَته ومن أيِّ بلد هو، مع ما في ذلك من مشقَّة وإرهاق لشيخ يحبو نحو الثَّمانين، ولكنه كان يتقرَّب إلى الله بإدخاله السعادَة إلى قلوب الناس.(/17)
ومن المواقف الدالَّة على تواضُعه، وبُغضه للشُّهرة والظهور: لما توفي المربِّي الشيخ أحمد الشامي مُفتي الحنابلة بدُوْمَة سنة 1414هـ، تدفَّقَت جُموع المشيِّعين من دمشق ودُوْمَة بالآلاف، وتجمَّعوا عند بيت الشيخ أحمد ينتظرونَ خروجَ الجِنازة، وكنتُ فيمن حضَر فرأيت شيخَنا الأرناؤوط بين الجموع مُتنحيًا جانبًا يذكر الله تعالى، فأقبَلتُ عليه مُسلِّمًا وبقيتُ معه نتبادل بعضَ الأحاديث، وكان أحدُ المشايخ قد تولَّى تنظيمَ الجنازة، فكان يَصيح بالجُموع يدعوهُم إلى التزام السنَّة في الجنازَة إنفاذًا لوصيَّة المُتَوفَّى، ثم طلبَ من العُلَماء والمشايخ التقدُّمَ ليسيروا في مقدمة المشيِّعين، وكرَّر النداءَ مرات، وبدأ المشايخُ يتقدَّمون، وشيخُنا لا يبرَحُ مكانَه، فقلتُ له: ألا تتقدَّم يا شيخَنا إلى الأمام؟! فأجابني: شيخي هو يُنادي أهلَ العلم والمشايخ، وأنا طالبُ علم لا عالم! ثم قال: تعرفُ جامع دُوْمَة الكبير الذي سيُصلَّى فيه على الشيخ؟ فقلتُ له: نعم، فأخذ بيَدي، وقال: هلمَّ بنا إليه قبل أن تَحولَ بيننا وبينه هذه الجُموع، ومَضَينا إليه سالكين بُنيَّات الطريق، مُتَجنِّبين الجُموع الغَفيرَة المتدافعَة.
ومن خِصال شيخنا الحَميدَة عظيمُ وَفائه لأصحاب الأيادي البِيْض عليه، وحتى شَيخُه محمَّد صالح الفُرْفور - الذي طرَدَه من حَلْقَته لقراءته في كتُب شيخَي الإسلام ابن تيميَّة وابن القيِّم - فإنه كان يذكُرُه بالخير دائمًا، ويدعو الله له بالرَّحمة والمغفرَة، بل كثيرًا ما كان يقول: لقد تعلَّمتُ من الشيخ صالح مَخافَةَ الله عزَّ وجَلَّ.(/18)
ووَفاءً لذكرى شيخِه ولمعهَده الشرعيِّ الذي أسَّسَه وهو معهَد الفتح الإسلامي: أهدى - قُبَيلَ وفاته - جزءًا من مكتبته العامِرَة الغَنيَّة [ 17 صُندوقًا ] إلى مكتبة المعهَد؛ لتكون وَقفًا على طلاَّب العلم الشَّرعي، وقد خُتمَت الكتُب كلُّها بالعبارَة التالية: (صدَقَةٌ جاريَةٌ لطلاَّب العلم، تقديمُ: عبد القادر الأرناؤوط، رجاءَ دعوةٍ صالحةٍ له ولزوجَته وأولاده).
وَفاتُه وجِنازَتُه :
فجرَ يوم الجمعة، الثالثَ عشرَ من شوَّال، من سنة 1425هـ، (الرابعَ عشرَ بتأريخ المملكة؛ لاختلاف رؤية الهلال)، قَضى الله تعالى قَضاءَه الحقَّ بوَفاة شيخنا أبي محمود، وهو أوفَرُ ما يكون نشاطًا وصحَّة، عن ثمانٍ وسبعينَ سنةً قضاها في مَيادين العلم والتعليم، والنُّصح والتربية، فارسًا من فُرسانها غيرَ مُدافَع.
وقالوا: الإمامُ قَضى نحبَهُ وصَيحةُ مَن قد نعاهُ علَتْ
فقلتُ: فما واحدٌ قد مَضى ولكنَّهُ أمَّةٌ قد خَلَتْ
ولعل من بِشارات الخير لشيخنا أن تكونَ وفاتُه عقبَ عبادات متتالية، فقد اعتمَر الشيخُ في شعبان، ثم صام رمضان، ثم أتبعَه بصوم الستِّ من شوَّال، وكان اليومُ السادس منها هو يومَ الخميس السابقَ ليوم وفاته، وقد أخبرَني أحدُ المقرَّبين منه أنه عندما أفطر مَغرِبَ الخميس قال لأمِّ أولاده: ((الآن عيَّدنا يا أم أحمد))، أو عبارة نحوَها، فكانت وفاتُه فجرَ اليوم التالي، رحمَه الله تعالى رحمةً واسعة.
وفي مَشهَد مَهيب خرج آلافُ المشيِّعينَ من العلماء والعامَّة تُجلِّلُهم الأحزانُ إلى جامع الشيخ زَيْن العابدين التُّونُسي بحيِّ المَيدان؛ لأداء حقِّ الشيخ الجليل عليهم، وتقدَّم ولدُه الكبير محمود للصَّلاة عليه عَقِبَ صلاة الجُمعة، وكان ألقى خطيبُ الجامع فضيلةُ شيخ قرَّاء الشام محمَّد كريِّم راجِح خُطبَةً مؤثِّرة بكى فيها وأبكى، أشاد فيها بمناقب فَقيد العلم والدعوة، ونوَّه بفقهه وفضله ونُبْل أخلاقه.(/19)
ثم وُوريَ الشيخ في مَثواه الأخير من دار الدنيا في مَقبَرة الحَقْلَة بحيِّ الميدان، لتُطوى صفحةٌ جديدَةٌ من صَفَحات العلم والدَّعوة والإرشاد.
رحمَ الله الشيخَ رحمةً واسعة، وجعَلَ قبرَه روضَةً من رياض الجنَّة، وأنزله منازلَ الشُّهَداء والصِّدِّيقين، وعَوَّض أمَّتنا خيرًا، ولا نقولُ إلا ما يُرضي ربَّنا: إنَّ لله ما أعطى، ولله ما أخذ، وكلُّ شيء عندَه بأجَل، وإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حولَ ولا قُوَّة إلا بالله العَليِّ العَظيم.(/20)
العنوان: عبدالقادر الحسيني قائد جيش الجهاد
رقم المقالة: 1566
صاحب المقالة: أحمد أبو زيد
-----------------------------------------
عبدالقادر الحسيني
قائد جيش الجهاد المقدس عام 1947
• أعلَنَ قيامَ الثورة المسلحة ضد القوات البريطانية والعصابات الصهيونية عام 1936م،وتولى قيادة جيش الجهاد المقدس الفلسطيني عام 1947م.
• مزَّقَ شهادةَ تخرجه في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، وفضح الأثر الخفي لها، ووصفها بأنها بؤرة إفساد ديني.
• الملك عبدالعزيز آل سعود تدخل لدى الإنجليز للإفراج عنه وعن عائلته واستضافهم في المملكة العربية السعودية عام 1944م لمدة عامين فأكرم السعوديون وفادتهم.
• • • • •
ما زال تاريخُ القضية الفلسطينية يقدم لنا النماذجَ الرائعة من الرجال المجاهدين الأفذاذ، الذين أخلصوا لقضية بلادهم، ووقفوا بكل قوة في وجه الأطماع الاستعمارية والصهيونية في أرض القدس والأقصى، وأعلنوا الجهادَ المقدس دفاعًا عن أرضهم وديارهم وأوطانهم.
وعلى رأس هؤلاء يأتي البطل والمجاهد الفلسطيني (عبدالقادر الحسيني)، الذي ارتبط اسمُه بتاريخ مدينة القدس، وكانت له بصماتٌ واضحة في سجل الكفاح العربي والإسلامي ضد الصهيونية، وتاريخ مشرف في التصدي لمحاولات تهويد القدس وفلسطين وتزييف تاريخ هذه الأرض العربية الإسلامية.
ولد "عبدالقادر بن موسى كاظم باشا الحسيني" في مدينة القدس عام 1908م، وفي هذه البيئة الثائرة نشأ وتشبع بروحها ومبادئها، ثم اندرج في سلك الوطنيين الذين تأججت جذوةُ الحرية في قلوبهم.(/1)
وقد درس هذا المناضل في كلية روضة المعارف، وأنهى دراسته الثانوية في مدرسة صهيون العربية بالقدس، ثم سعى لمعايشة الحركة الوطنية المصرية التي كانت في أَوْجِها حينئذ، فانطلق إلى القاهرة، ليحيا في رحاب العروبة والإسلام، ويتعرَّف تاريخَه الإسلامي المجيد في كنف الأزهر الشريف، وليتم تعليمه الجامعي بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، إذ كان طالبًا مُجدًا اجتاز اختباراتها بنشاط.
• الأثر الخفي للجامعة الأمريكية:
ولأنه كان عميقَ الفهم، دقيقَ الملاحظة، فقد أدرك في أثناء دراسته بهذه الجامعة الأثر السلبي الخفي الذي كانت تؤديه تلك الجامعة، واكتشف مدى خطورة الأثر السياسي الذي تؤديه الجامعةُ الأمريكية، فانتهز فرصة حفل التخرج الذي أقامته الجامعة في صيف سنة 1932م، ووقف خطيبًا في الحضور، بينهم الوزراءُ ورجال السلطة، فكشف زيف الأثر العلمي الذي تزعمُ الجامعةُ الأمريكية القيام به، واتهمها بأنها بؤرة إفساد ديني، إذ يطعنون في الدين الإسلامي، ولم يتوانَ حين تسلم شهادة تخرجه عن تمزيقها، وخاطب رئيسَ الجامعة قائلاً: "إني لست في حاجة إلى شهادة من معهدكم الاستعماري"، وانتهى إلى أن طالب المصريين بمقاطعة الجامعة الأمريكية، وبعد عدة أيام وزع بيانًا تفصيليًا على الصحف المصرية، ضمنه اتهاماتِه للجامعة الأمريكية، وإثر ذلك أصدرت الحكومةُ المصرية أمرًا بطرد الحسيني من مصر، مع نهاية سنة 1932م، فعاد إلى فلسطين ليعمل محررًا في صحيفة الجامعة الإسلامية، التي كان يترأس تحريرها الشيخ (سليمان التاجي الفاروقي)، ثم انضم إلى الحزب العربي الفلسطيني، الذي ترأسه (جمال الحسيني)، ثم عمل مأمورًا في دائرة تسوية الأراضي في فلسطين، وفي هذه المرحلة تمكن من إحباط أكثر من محاولة للاستيلاء على الأراضي العربية.
• الثورة على الاحتلال:(/2)
وبعد أقل من سنتين استقال من عمله في تسوية الأراضي، حتى يجهز للثورة على الاحتلال البريطاني والحركة الصهيونية، وبدأ في تكوين بعض الخلايا السرية لمقاومة الاحتلال.
وعندما دعا داعي الجهاد، واشتعلت ثورة 1936م، هاجمت قوات بريطانية مكتب الحزب العربي الفلسطيني بهدف اعتقال عبدالقادر ورفاقه، لكنهم لم يعثروا عليه، وظهر فجأة في إحدى المناطق الجبلية، وأعلن قيام الثورة المسلحة، وبدأت بعضُ الفصائل بمهاجمة القوات البريطانية وتجمعات العصابات اليهودية، وكلَّف البريطانيين الكثيرَ من الخسائر، وتولى في بعض مراحل الثورة قيادةَ منطقة القدس الشريف.
• التدريب في ألمانيا:
ولما وجد (عبدالقادر الحسيني) أن المواجهات القادمة ستكون أكثر حدة وأهمية،قرر بالتشاور مع بعض رفاقه أن يتوجه إلى ألمانيا عدو بريطانيا للوقوف على أحدث أساليب صنع المتفجرات، وبالفعل مكث هناك ستة أشهر أفاد خلالها كثيرًا من المعلومات الحربية الحديثة.
وعاد إلى فلسطين سرًا، وأغار مع رفاقه على بعض المعسكرات البريطانية الحربية، وتمكنوا من السيطرة على أجزاء منها، بعد أن غنموا الكثير من السلاح، واستاء الإنجليز من الوضع، فقرروا ملاحقة الثوار، وضربوا في خريف عام 1938م حصارًا واسع النطاق حول منطقة بني نعيم الواقعة بين بيت لحم، والخليل، وقدر أحدُ المجاهدين عدد القوات البريطانية المهاجمة بخمسة آلاف جندي، ونشِبت معركةٌ حامية بين الطرفين غير المتكافئين، واستمرت المعارك أكثر من عشر ساعات، واستطاعت الطائراتُ البريطانية حسم المعركة لصالحها، وأصيب عبدالقادر بإصابات متوسطة، فنقله رفاقه إلى المستشفى بالخليل، ثم نقلوه سرًا حتى الحدود السورية، وحكمت عليه السلطات البريطانية بالإعدام.
• رحلته إلى العراق:(/3)
وإثر اندلاع الحرب العالمية الثانية، هدأت الثورة في فلسطين، وانصرف كثير من المجاهدين لممارسة حياتهم الاعتيادية، بينما توجه (عبدالقادر الحسيني) إلى بيروت،حيث حصل من القنصل العراقي فيها على جواز سفر عراقي تحت اسم "يوسف الصايغ"، وأصبح عبدالقادر عراقيًا خلال نصف ساعة،وبعد يومين كان يطوفُ شوارع بغداد هازئًا بالإنجليز ساخرًا من الفرنسيين.
وأقام عبدالقادر وأسرته بحي الكرادة الشرقية ببغداد، وكان موضعَ حفاوة وتَرحاب من الشعب العراقي، وعمل أستاذًا لمادة الرياضيات في المدرسة العسكرية بمعسكر الرشيد، وكذلك في مدرسة التفيض المتوسطة، والتحق كذلك بدورة لضباط الاحتياط بالكلية العسكرية أول شهر إبريل عام 1940م، وبعد ستة أشهر انتهت الدورة،وتخرج عبدالقادر بعدها برتبة ضابط.
وحدث في عام 1941 أن أقدم الإنجليزُ على تنفيذ عدة أعمال انتقامية استفزازية ضد الحكومة الوطنية الشرعية في العراق بزعامة "رشيد علي الكيلاني" رئيس الوزراء. ووقع الصدام المتوقع بين الجانبين، ورأى الثوارُ الفلسطينيون في العراق حتمية مساندتهم للشعب العراقي في محنته، فاشتركوا بصورة فعلية ومؤثرة في القتال بقيادة عبدالقادر الحسينى، فأبلوا في المعارك بلاء حسنًا خاصة في منطقة صدر أبي غريب.(/4)
وبعد شهر من القتال استطاع الجيشُ البريطاني الكثيف في عَدده وعُدته أن يتغلب على المقاومة الوطنية، وأذاع راديو لندن في حينه أن المقاتلين الفلسطينيين هم آخر من انسحب من ميدان المعركة، واتقاء لبطش الإنجليز فقد اضطروا لمغادرة العراق لجوءاً إلى إيران برًا، لكن السلطات الإيرانية لم تسمح لهم بدخول أراضيها، فعادوا ثانية إلى بغداد، وحاولوا التسلل إلى الحدود السورية، لكن المخابرات البريطانية تعقبت بعضهم،وقبض على (عبدالقادر الحسيني)، وسيق للمحاكمة أمام محكمة عسكرية عراقية بتهمة أنه ومن معه من الفلسطينيين أوقفوا الجيش البريطاني عشرة أيام، وأخروا زحفه على بغداد، وحكم عليه وعلى عدد من إخوانه بالسجن، كما ذكر المؤرخ عارف العارف في كتاب "النكبة".
وفور صدور الحكم هب الكثيرون من أحرار العراق لنصرته بسبب تدني صحته، وفي مقدمتهم (سعيد ثابت) و(إبراهيم عطار باشي)، فوافقت السلطاتُ المسؤولة على تغيير الحكم إلى النفي والإقامة الجبرية له ببلدة زاخو بأقصى شمال العراق قرب الحدود مع تركيا. كما مثلت أمام المحاكمة زوجته المجاهدة "وجيهة الحسيني"، بحجة مساعدتها وإيوائها للثوار، فحكم عليها بالإقامة الجبرية، في بيتها ببغداد، وقد أمضت عشرين شهرًا تحت الحراسة في المرحلة الأولى، وهى المدة نفسها التي قضاها زوجها في زاخو.
• تدخل الملك عبدالعزيز:
وتطاير خبر اعتلال صحة الحسيني في أرجاء الوطن العربي، وطالب أحراره بإطلاق سراحه، وأبرق مفتي فلسطين الحاج أمين الحسيني إلى الملوك والرؤساء العرب، راجيًا تدخلهم لإنقاذ حياة القائد الفلسطيني، وسرعان ما استجاب الملك "عبدالعزيز آل سعود" للنداء، فاتصل بالسلطات المسؤولة، وطلب السماح لعبدالقادر بالحضور إلى المملكة العربية السعودية، وبالفعل نجح المسعى وحضر عبدالقادر الحسيني وعائلته إلى السعودية أواخر عام 1944م، فأكرم السعوديون وفادتهم، وأمضوا فيها مدة تزيد على السنتين.(/5)
وارتأى المجاهدون الفلسطينيون أن المصلحة الوطنية تستوجب حضور عبدالقادر إلى مصر لاعتبارات كثيرة، فوصل القاهرة في مطلع عام 1946م، وباشر اتصالاته بالمجاهدين، وحرَص منذ البداية على توفير السلاح ونقله إلى فلسطين، فكلَّف بعضَ إخوانه بهذه المهمة، كما دعا لعقد لقاءات سريعة ومكثفة ببعض المجاهدين، فحضروا إلى القاهرة وتشاوروا فيما بينهم في الخطة القادمة، كما استنار بآراء ضباط من مصر وسوريا والعراق، ولقد كان النقص في السلاح من أعقد المشاكل التي اعتورت حركة الجهاد الفلسطيني،وواجهت لجان شرائه وتخزينه وتوصيله كثيرًا من المشاق والمخاطر.
وفي تلك الأثناء تطورت الأوضاعُ في فلسطين تطورا سريعا ومتلاحقا على المستويين المحلي والدولي، ومن أبرز التطورات: السماح بإدخال مئة ألف مهاجر يهودي إلى فلسطين من ضحايا الاضطهاد النازي والفاشي، ورفع القيود لتسهيل تمليك الأراضي الفلسطينية إلى اليهود، ووصلت لجان دولية لتقصي الحقائق في فلسطين، وهي في مجملها لا تعدو أن تكون تحذيراً للعرب، وفرصة لتثبيت اليهود في فلسطين.
• جيش الجهاد المقدس:
وإزاء هذه الأوضاع، اجتمع مجلسُ الجامعة العربية في مصيف "بلودان" بسوريا في يونيو 1946م، وقرر إنشاء الهيئة العربية العليا لفلسطين برئاسة مفتي فلسطين الحاج أمين الحسيني، وبعد أربعة أشهر من إنشائها اجتمعت الهيئة العربية العليا في الإسكندرية، وقررت مواجهة الخطط الاستعمارية الصهيونية بالقوة المسلحة.
وعندما أصدرت الأمم المتحدة قرارَها القاضي بتقسيم فلسطين قررت الهيئة تكوين "منظمة الجهاد المقدس المسلحة"، وعين محمد أمين الحسيني رئيس الهيئة العربية العليا قائدًا أعلى للجهاد المقدس، في حين اتخذ عبدُالقادر الحسيني موقعَ القائد العام لهذه المنظمة، وانتقل إلى فلسطين في الثاني والعشرين من ديسمبر عام 1947م.(/6)
واستطاع عبدالقادر الحسيني أن يكلِّفَ العدو الصهيوني الكثيرَ من الخسائر، واستطاع المجاهدون تحت إمرته أن يسيطروا على القدس بعد حصار طويل، كما نصبت قواتُ الجهاد المقدس عدةَ كُمَناء ناجحة للقوات الصهيونية، ونسفت بعضَ المؤسسات الصهيونية الهامة مثل مقر الوكالة اليهودية في القدس، ودار الصحافة اليهودية في القدس، فضلا عن نسف حي منتفيوري وشارع بن يهودا في القدس. وتمكنت قواتُ الجهاد المقدس من السيطرة على منطقة القدس ومن التحكم في خطوط المواصلات التي تربط بين أغلب المستعمرات الصهيونية في فلسطين.
وفي أواخر مارس عام 1948م، توجه عبدالقادر الحسيني إلى دمشق طلبا للسلاح من جامعة الدول العربية، لكن رجاءه خاب، وفي أثناء غيابه عن القدس سقطت قريةُ القسطل في أيدي اليهود، ووصل عبدالقادر إلى القدس صباح السابع من إبريل عام 1948 فنظم هجومًا مسلحًا على القسطل، واستطاعت قواتُه أن تسترد الموقع في اليوم التالي، ولكن هذا القائد البطل كان قد فارق الحياة، وهو ممسك بسلاحه مقبلا غير مدبر، ودفن في القدس بجوار قبر أبيه موسى كاظم الحسيني.(/7)
العنوان: عتاب - قصيدة
رقم المقالة: 1790
صاحب المقالة: أغيد الطباع
-----------------------------------------
عتاب
تعاتبني هُنَيدُ و قد رأتني شريد البال قد أسندتُ خدي
أهندٌ ، لا تلوميني فإني وَلِعتُ بأنجمٍ فنسيتُ أرضي
أرى العلياءَ تهوى كلَّ حرٍ أبيِّ النفسِ شيمتُه التحدي
و تأبى أن يلوذَ بها جبانٌ يردّ على المهانة بالترجي
فعش ما عشت في الدنيا كريماً ولا تَحني* لغيرِ الله وامضي
فانك إن تمت ترثيكَ أرضٌ و إن تحيا* جنانُ الخلدِ تبكي
و حَسبكَ من جنودٍ لا تراها تعدُّ عليك أنفاساً وتُحصي
سهام الموت لن تُخطيكَ يوماً فحاذرها تجيكَ وأنت تعصي
تعليق (حضارة الكلمة):
الأخ الكريم/ أغيد..
سرّنا استمراركم مع شعراء الألوكة.. بهذه القطعة المستقاة روحها من ينابيع الكتاب والسنة، والمبطنة بوعظ رقيق وإشارة خاطفة إلى مراقبة النفس:
وحَسبكَ من جنودٍ لا تراها تعدُّ عليك أنفاساً وتحصي!
وإلى المزيد من التألق في الشعر الإسلامي.
ونلاحظ:
* تحني، تحْيا: تصحيحهما: تحنِ، تحيَ.. ولكن، تم الخروج فيها عن القاعدة بإشباع الحركتين بحرفَي المدّ لضرورة الشعر..
ونأمل أن نحاول جهدنا ترك أمثال هذه الضرورات، فمن الممكن تبديل الكلمات بسهولة، بدون وقوع في التجاوز. كأن نقول مثلاً (ولا تركعْ لغير الله وامضِ، وإنْ أُبقيتَ فالجنات تبكي).
نرجو لكم التوفيق، وننتظر المزيد.(/1)
العنوان: عتب اللغة العربية على أَهلها
رقم المقالة: 106
صاحب المقالة: خليل مطران
-----------------------------------------
سَمِعْتُ بِأُذْنِ قَلْبِي صَوْتَ عتْبٍ لَهُ رقْرَاقُ دَمْعٍ مُسْتَهَلِّ
تَقُولُ لأَهْلِهَا الْفُصْحَى: أَعَدْلٌ بِرَبِّكُمُ اغْتِرَابِي بَيْنَ أَهْلي؟
أَلَسْتُ أَنَا الَّتِي بدَمِي وَرُوحي غَذَتْ مِنْهُمْ وَأَنْمَتْ كُلَّ طِفْلِ؟
أَنَا الْعَرَبِيَّةُ المشْهُودُ فَضْلِي أَأَغْدُو الْيوْمَ، وَالمَغْمُورُ فَضْلِي؟
إِذَا مَا الْقَوْمُ بِاللُّغَةِ اسْتَخَفُّوا فَضَاعَتْ، مَا مَصِيرُ الْقَوْمِ؟ قُل لِي
وَمَا دَعْوى اتِّحادٍ فِي بِلاَدٍ وَمَا دَعْوَى ذِمَارٍ مُسْتَقِلِّ؟
فَسَادُ الْقَوْلِ فِيهِ دَلِيلُ عَجْزٍ فَهَلْ مَعَهُ يَكُونُ صَلاَحُ فِعْلِ؟
بُنَيَّاتِ الْحِمَى أَنْتُنَّ نَسْلِي فَإِنْ تَنْكِرْنَنِي أَتَكُنَّ نَسْلي؟
وَيَا فِتْيَانَهُ إِنْ أَخْطَأَتْنِي مَبَرَّتُكُمْ، فَإِنَّ الثُّكْلَ ثَكْلِي
يُحَارِبُنِي الأُلَى جَحَدُوا جَمِيلِي وَلَمْ تَرْدَعْهُمُ حُرُمَاتُ أَصْلي
وَفِي الْقُرْآنِ إِعْجَازٌ تَجَلَّتْ حِلاَيَ بِنُورِه أَسْنَى تَجَلِّ
وَلِلْعُلَمَاءِ وَالأُدَبَاءِ فِيمَا نَأَت غَايَاتُهُ مَهَّدْتُ سُبْلِي
إذَا مَا كَانَ فِي كَلِمِي صِعَابٌ فَلاَ تَأْخُذْ كَثِيري بِالأَقَلِّ
وَهَلْ لُغَةٌ قَدِيماً أَوْ حَدِيثاً تُعَد بِوَفْرَةِ الْحَسنَاتِ مِثلِي؟
فيَا أُمَّ اللُّغاتِ عَدَاكِ مِنا عُقُوقُ مَسَاءَةٍ وَعُقوقُ جَهْلِ
لَكِ الْعَوْدُ الْحَمِيدُ فأَنتِ شمْسٌ وَلم يَحْجبْ شُعاعَك غيْرُ ظِلِّ
دَعَوْتِ فهَبَّ مِن شَتَّى النوَاحِي مَيَامِينٌ أُولُُو حَزْمٍ وَنُبْلِ
بِرَأْيٍ فِيكِ يَكْفُلُ أَنْ تُرَدِّي مُكَرَّمَةً إلى أَسْمَى مَحَلِّ
يُنَوِّرُ شِعْرُهُمْ فِي كلِّ وَادٍ وَيُزْهِرُ نَشْرُهُمْ فِي كُلِّ حَقلِ(/1)
فَكَيْفَ بِهِ إِذَا مَا شَنَّ حَرْبًا عَلَى بِدْعِ الضَّلُولِ أَوِ المُضِلِّ؟(/2)
العنوان: عثمان بن مظعون.. راهبٌ صومعتُه الحياة!
رقم المقالة: 1647
صاحب المقالة: خالد محمد خالد
-----------------------------------------
إذا أردتَ أن ترتّبَ أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفق سبقهم الزمني إلى الإسلام فاعلم إذا بلغت الرقم الرابع عشر أنَّ صاحبه هو عثمان بن مظعون.
واعلم أنَّه كان أول المهاجرين وفاة بالمدينة، وأول المسلمين دفنا بالبقيع.
واعلم أخيرًا أنَّ هذا الصحابيَّ الجليل الذي تطالع الآن سيرته كان راهبا عظيما.. لا من رهبان الصوامع، بل من رهبان الحياة!!
فقد كانت رهبانيته عملاً دائبًا في سبيل الحق، وتفانيًا في سبيل الخير والصلاح.
فعندما كان الإسلام يتسرّب ضوؤه الباكر االنديّ من قلب الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان عثمان بن مظعون هناك، واحدًا من القلَّة التي سارعت إلى الله والتفّتْ حول رسوله.
ولقد نزل به من الأذى والضر، ما كان ينزل يومئذ بالمؤمنين الصابرين الصامدين.
وحين آثر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه القِلَّة المؤمنة المضطهدة بالعافية، آمرًا إيّاها بالهجرة إلى الحبشة، كان عثمان بن مظعون أميرَ الفَوْجِ الأوَّل من المهاجرين، مصطحبًا معه ابنه السائب مولِّيًا وجهه شطر بلاد بعيدة عن مكايد عدو الله أبي جهل، وضراوة قريش.
وكشأن المهاجرين إلى الحبشة في كلتا الهجرتين: الأولى والثانية، لم يزدد عثمان بن مظعون - رضي الله عنه - إلا استمساكًا بالإسلام، واعتصامًا به.
وفي الحبشة عاش المهاجرون آمنين مطمئنين. وهناك، لم ينس عثمان بن مظعون - رضي الله عنه - في غربته مكايِدَ ابْنِ عمّه أمية بن خلف، فراح ويتوعده:
ترِيشُ نِبَالاً لا يُوَاتِيكَ رِيشُهَا وَتَبْرِي نِبَالاً رِيشُهَا لَكَ أَجْمَعُ
وَحَارَبْتَ أَقْوَامًا كِرَامًا أَعِزَّةً وَأَهْلَكْتَ أَقْوَامًا بِهِمْ كُنْتَ تَفْزَعُ(/1)
سَتَعْلَمُ - إِنْ نَابَتْكَ يَوْمًا مُلِمَّةٌ وَأَسْلَمَكَ الأَوْبَاشُ - مَا كُنْتَ تَصْنَعُ
وبينما المهاجرون في دار هجرتهم يعبدون الله، ويتدارسون ما معهم من القرآن، إذِ الأنباءُ تواتيهم أنَّ قريشًا أَسْلَمَتْ، وسجدت مع الرسول لله الواحد القهار.
هنالك حمل المهاجرون أمْتِعَتَهُم وطاروا إلى مَكَّة تَسْبِقُهم أشواقُهم، ويحدوهم حنينهم.
بَيْدَ أنَّهم ما كادوا يقتربون من مشارِفِها حتَّى تبيَّنوا كذب الخبر الذي بلغهم عن إسلام قريش، فرأوا أنهم قد عجلوا، ولكن أنّى يذهبون وهذه مكة على مرمى البصر؟!
وقد سمع مشركو مكة بمقدَم الصَّيد الذي طالما رَدُّوه ونصبوا شباكهم لاقتناصه.
ويومئذٍ، كان الجوار تقليدًا من تقاليد العرب، فإذا دخل رجلٌ مُستَضْعَف جوار سيّد قرشي، أصبح في حمًى منيع.
لم يظفَر بِالجوار إلاّ قليلٌ منهم، أمَّا عثمان بن مظعون فقد ظفِر بجوار الوليد بن المغيرة، ودخل مكة آمنًا مطمئنًا.
ولكن .. !
لمَّا رأى عثمان بن مظعون ما فيه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من البلاء، وهو يغدو ويروح في أمان الوليد بن المغيرة، قال: والله إن غدوّي ورواحي آمنًا بجوار رجل من أهل الشرك، وأصحابي وأهل ديني يَلْقَوْنَ من البلاء والأذى ما لا يُصيبُني - لنقص كبير في نفسي.
فمشَى إلى الوليد بن المغيرة فقال له:
يا أبا عبدشمس وَفَتْ ذِمَّتك، وقد ردَدْتُ إليك جوارك.
فقال له:
لم يا ابن أخي؟ لعله آذاكَ أحدٌ من قومي؟
قال: لا، ولكني أرضى بجوار الله، ولا أريد أن أستجير بغيره.
فانطلِقْ إلى المسجِدْ فارْدُدْ عَلَيَّ جِواري علانيةً.
فانطلقا حتَّى أتيا المسجد، فقال الوليد: هذا عثمانُ قد جاء يردُّ عليَّ جواري.
قال عثمان: صدق، ولقد وجدتُه وفيًّا كريمَ الجوار، ولكنني أحبَبْتُ ألاّ أستجيرَ بِغَيْرِ الله.
ثُم انصرف عثمان - ولبيد بن ربيعة في مجلس من مجالس قريش ينشدهم - فجلس معهم عثمان فقال لبيد:(/2)
أَلا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلا اللَّهَ بَاطِلُ
فقال عثمان: صدقت.
قال لبيد:
وَكُلُّ نَعِيمٍ لا مَحَالَةَ زَائِلُ
قال عثمان: كذبت؛ نعيم الجنة لا يزول.
فقال لبيد: يا معشر قريش، واللهِ ما كان يؤذَى جليسُكم، فمتى حدث هذا فيكم؟
فقال رجلٌ مِنَ القَوْمِ: إن هذا سفيهٌ فارَقَ دِينَنَا، فلا تجِدَنّ في نفسك من قوله.
فردَّ عليه عثمان بن مظعون حتى سرى أمرهما. فقام إليه ذلك الرجل فلطم عينه فأصابها، والوليد بن المغيرة قريب، يرى ما يحدث لعثمان، فقال: أما والله يا بن أخي إن كانت عينك عمّا أصابها لغنيّة، لقد كانت في ذمة منيعة.
فقال عثمان: بل - والله - إن عيني الصحيحة لفقيرة إلى مثل ما أصاب أختها في الله.. وإني لفي جوار مَنْ هو أَعَزُّ منك وأقدرُ يا أبا عبدشمس!
فقال له الوليد: هلمَّ يا ابن أخي، إن شِئْتَ فَعُدْ إلى جواري.
قال ابن مظعون: لا.
وغادر ابن مظعون هذا المشهد وعينه تضجّ بالألم، ولكنَّ روحه تتفجر عافية، وصلابة، وهو ينشد:
فَإِنْ تَكُ عَيْنِي فِي رِضَا اللَّهِ نَالَهَا يَدَا مُلْحِدٍ فِي الدِّينِ لَيْسَ بِمُهْتَدِي
فَقَدْ عَوَّضَ الرَّحْمَنُ مِنْهَا ثَوَابَهُ وَمَنْ يَرْضَهُ الرَّحْمَنُ يَا قَوْمِ يَسْعَدِ
فَإِنِّي وَإِنْ قُلْتُمْ غَوِيٌّ مُضَلَّلٌ لأَحْيَا عَلَى دِينِ الرَّسُولِ مُحَمَّدِ
أُرِيدُ بِذَاكَ اللَّهَ وَالْحَقُّ دِينُنَا عَلَى رَغْمِ مَنْ يَبْغِي عَلَيْنَا وَيَعْتَدِي
وَيُهَاجِرُ عُثْمَانُ إِلَى الْمَدِينَةِ، حَيْثُ لا يُؤَرِّقُهُ أَبُو جَهْلٍ هُنَاكَ، وَلا أَبُو لَهَبٍ.... وَلا أُمَيَّةُ.. وَلا عُتْبَةُ..
وَفِي دَارِ الْهِجْرَةِ الْمُنَوَّرَةِ، يَتكشفّ جوهر عثمان بن مظعون وتستبين حقيقته العظيمة الفريدة، فإذا هو العابد، الزاهد، المتبتل، الأوّاب، وإذا هو الراهب الجليل، الذكي الذي لا يأوي إلى صومعة يعتزل فيها الحياة؛ بل يملأ الحياة بعمله، وبجهاده في سبيل الله..(/3)
أجل.. راهب الليل فارس النهار، بل راهب الليل والنهار، وفارسهما معًا!
وما إن ذاق حلاوة الاستغراق في العبادة حتى همّ بتقطيع كل الأسباب التي تربط الناس بمناعم الحياة.
دخل المسجدَ يومًا، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابُه جلوس، وكان يرتدي لباسًا تمزق، فرقّعه بقطعة من فروة، فرق له قلبُ الرسول - صلى الله عليه وسلم - ودمعت عيون أصحابه، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: ((كيف أنتم يوم يغدو أحدكم في حلة، ويروح في أخرى، وتوضع في قصعة، وترفع أخرى، وسترتم بيوتكم كما تستر الكعبة؟!))
قال الأصحاب: وددنا أن يكون ذلك يا رسول الله، فنصيب الرخاء والعيش.
فأجابهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - قائلا: ((إنَّ ذلك لكائنٌ، وأنتم اليومَ خيرٌ منكم يومئذ)).
وكان بديهيًّا - وابن مظعون يسمع هذا - أن يزداد إقبالاً على الشظف وهربًا من النعيم.
وأحبّه الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - حبّا عظيما.
وحين كانتْ رُوحه الطاهرة تتهيَّأُ لِلرَّحيل ليكونَ صاحِبُها أوَّلَ المُهَاجِرِينَ وَفاةً بالمدينة، وأوَّلَهُمْ ارْتِيَادًا لِطَرِيق الجنَّة، كان الرسول - عليه الصلاة والسلام - هناك إلى جواره.
ولقد أكبّ على جبينه يقبله، ويعطّره بدموعه. وقال الرسول - صلى الله عليه وسلم - يودّع صاحبه الحبيب: ((رحمك الله يا أبا السائبِ.. خرجتَ من الدنيا وما أصبتَ منها، ولا أصابتْ منك)).
ولم ينس الرسول الودود صاحبَه بعد موته، بل كان دائمَ الذِّكر له، والثناء عليه.
حتى لقد كانتْ كلمات وداعه - عليه السلام - لابنته رقيّة، حين فاضت روحها: ((الحقي بسلفنا الخير، عثمان بن مظعون)).
بتصرف واختصار من كتاب "رجال حول الرسول صلى الله عليه وسلم"
تأليف الأستاذ: خالد محمد خالد.(/4)
العنوان: عُدَّة المصحِّح اللغويِّ
رقم المقالة: 174
صاحب المقالة: د. طه محسن
-----------------------------------------
شرَّف الله اللغة العربية إذ أنزل بها كلامه المجيد، وبه وهبها من الإكبار ما جعلها طوال القرون لغة الفقه، والسياسة، والقضاء، والفلسفة، والأدب ولغة العلوم كافة. وكان للرعيل الأول من أبنائها وأحبَّائِها، حين عرفوا هذا التشريف، فضلُ القيام بجمعها، وتدوينها بعد ما جابوا آفاق بلاد العرب وبواديها، يستنطقون أهلها ويستملونهم. فكان الحصاد تراثاً كبيراً يضاف إلى لغة الكتاب العزيز، والحديث الشريف.
ثم نظر هؤلاء ومن جاء بعدهم إلى هذا المحصول نظراً سديداً، فاستنبطوا منه القواعد والضوابط، والأصول، وتركوا في ذلك تآليفَ تشهد على علوِّ همتهم، وجميل صبرهم، وأبدعوا علوماً تقوم على خدمة اللغة، وخدمة القرآن الكريم بها.
ونفرت من هذه الفرق طوائف تحقق كلام الناس، وكتابات المنشئين، وتراقب الألسن والأقلام مراقبة دقيقة، وتسجل ما تراه غلطاً في استعمال الألفاظ والتراكيب، وما تجده مخالفاً للفصيح. ودونوا آراءهم في كتب ورسائل مستقلة علاوة عما سجل في مصنفات الأدب، واللغة، والطبقات، وكتب الأمالي، ومجالس العلماء من مادة غزيرة في الموضوع.(/1)
وسار الزمن، وتوالت القرون ورجال التصحيح لا يألون نقداً للغة العلماء والأُدباء وسائر أرباب الفنون، واستجدت دوافع حفزتهم على ذلك؛ منها: رواج الترجمة إلى اللغة العربية، وكثرة الكتابة في الجرائد والمجلات، وسرعة النشر وتشعب سبله بعد ظهور الطباعة. وتهيأت فئة لانتشال الكتابة من الأساليب المستحدثة واللغات الضعيفة، والوقوف دون ظهورها على لغة الضاد. وبرز كتاب في مصر والشام، والعراق، والمغرب، وجهات أُخرى كتبوا مقالات، وألّفوا الكتب، وتحاوروا في الأنديات، وطلعوا على الناس بتأليفات تدور عنواناتها حول اللغة العربية. وتقويم الأساليب، مثل: (أخطاؤنا في الصحف والدواوين)، و(إصلاح الفاسد من لغة الجرائد)، و(مغالط الكتاب ومناهج الصواب) و(نحو وعي لغوي) و(عثرات اللسان) و(معجم الأخطاء الشائعة) و(لغة الجرائد) و(تذكرة الكتاب) و(الكتابة الصحيحة) و(قل ولا تقل).
وكان لهؤلاء المتأخرين وأُولئك الأقدمين أثر واضح في كتّاب يرومون الآن تخليص اللغة من الشوائب، فراحوا يتداركون ما يرونه غلطًا في التراكيب، وأذاعوا آراءهم بوسائل الإعلام المرئية والمسموعة. واعتادت الجرائد اليومية على تخصيص أعمدة تتضمن موضوعات في التوعية اللغوية ونقد الأساليب.
ونهدت أقسام اللغة العربية في الجامعات إلى نشر الوعي اللغوي، وجعلت له نصيبًا في المؤتمرات والندوات، والحلقات الدراسية.
فالحركة إذن نشطت في هذا العصر، وهانحن أولاء نجد مؤيديها وحاملي ألويتها تتنوع ثقافتهم الأدبية، وتختلف مشاربهم اللغوية، وتتقارب أساليبهم في البحث والاستقراء. فمنهم العارف باللغة المختص بها، ومنهم دون ذلك معرفة واختصاصًا وتمكنًا من التصويب والنقد، والحال هذه، في أن يرافق البحوث شيء من التزمت، والتشدد، والتقليد الضعيف، والصرامة في قبول الكلم، والخطأ في النقد، والتسرع في الأحكام، فينتج عنه ذبذبة واضطراب وتراجع عن الآراء أحيانًا.(/2)
وإذا كان علماء اللغة الأقدمون الآخذون الفصاحة من منابعها أو قريب منها لم يسلموا من المؤاخذة والغفلة من الاستقراء التام فيما حكموا عليه بالخطأ، فما بالك بمن بعُد من هذه الموارد، وأخذ بقسط من كلام العرب قليل؟.
قال أبو الفتح بن جني ت393هـ: (قال أبو حاتم[1]: كان الأصمعي[2] ينكر "زوجة" ويقول: إنّما هي "زوج".
ويحتج بقول الله تعالى: "أمسك عليك زوجك" [الأحزاب 37]. قال: فأنشدته قول ذي الرمَّة[3]:
أذو زوجة في المصر أم ذو خصومة أراك لها بالبصرة العام ثاويا
فقال: ذو الرمة طالما أكل الملح والبقل في حوانيت البقالين[4]. وتبقى كلمة "زوجة" فارضة وجودها. ولا أرى إثبات تائها إلا رافعًا للّبس في مواطن. منها على سبيل المثال مراسلات الدعاوي الفضائية، والمراسلات الأُسرية الرسمية، وغيرها.
ومثل "زوجة" ألفاظ أُخرى كثيرة، وأساليب أنكرها العلماء ومنعوا استعمالها[5].
ومثل الأصمعي لغويون تشبثوا بالفصيح، على زعمهم، حتى غلوا وتعسفوا. وهذا أبو محمد الحريري ت516هـ في (درة الغواص في أوهام الخواص) ينكر طائفة من الألفاظ، وقد كان شيء منها في الشعر الجاهلي، وشيء في الحديث الشريف[6].
وإذا كان هؤلاء المتقدمون قد أخلُّوا في استقرائهم، فحملوا على الخطأ جمهرة من الألفاظ والتراكيب. بحجة أن العرب ما استعملتها، ثم تبين أن ما نبهوا على عدمه هو شيء من كلامهم يؤيده شعر ونثر.
وأقول: إذا كان ذلك، فهل يحق لأهل هذا العصر أن يسلكوا الطريق نفسه فيكتبوا "تصحيحًا" و"إصلاحًا" إلاّ بعد الاكتهال، وأنا أطلع على مقالات أهل التصحيح، إنهم يؤتون أحيانًا من جانب القصور عن العدة اللغوية، والتقصير في تلك الصفات.
ولذلك كان هذا المقال يهدف إلى وضع المعالم المفيدة في طريق أولئك لتعينهم على بلوغ الصواب، وهي تلخَّص في الأمور الآتية:
الأمر الأول – حسن النية وسلامة القصد:(/3)
قد يتعرض الناقد لغيره فيبين هفواته لسوء علاقة بينهما، ويندفع في تحامله، ويترصد ما يخيل إليه أنه خطأ، فيجانب القصد في النقد.
والذي يتابع مناظرات التصحيح اللغوي في القرن الماضي بين أصحابه يعرف شيئًا سودت به صفحات نابعًا من موقف كهذا. وفي ذلك ما فيه من ضرر على العربية. وأذكر يوم كنت طالبًا في الكلية إذ سلّمني أُستاذ سنة 1967م ورقات وطلب نشرها في مجلة (الأقلام). فلما اطلعت عليها وجدتها نقدًا موجعًا لبحث عنوانه (الخليل بن أحمد الموسيقي) كتبه أُستاذ فاضل.
وتدور التنبيهات حول (ما جاء فيه مخالفًا للأساليب الفصيحة) على ما ذكره الناقد الذي صارحته بما في المقال من انتقاص من علم الرجل. فقال: تصرف فيها وانشرها.
ما زلت أحتفظ بمسودة الرد بخط كاتبه، ولذلك سأنقل مما عدّه مخالفًا لسنن العربية، وما وضعه بديلاً إزاءه:
- من أصوات غريبة عليها =.... غريبة عنها.
- العمل من أجلها...= العمل لمصلحتها. أو: العمل لمنفعتها.
- لا يكتفي بالأداء الآلي والصوتي = لا يكتفي بالأداء الآلي والأداء الصوتي.
- دارت عند من بعده = دارت عند من هو بعده.
- لا يتبقى عليه = لا يبقى. أو: لا يتبقاه.
- ولا زال الكتابان مفقودين إلى اليوم = ما زال... (مع حذف: إلى اليوم، لزيادتها).
- وإذا بنا أمام رأيين = وإذا نحن إزاء رأيين.
ثم ختم تصحيحاته قائلاً: (هذا ما بدا لي أن أسجله إشارة إلى ما عرض للأساليب من جنوح عن سنن العربية الفصيحة).(/4)
وفي الوقت الذي ذهب فيه الأستاذ هذا المذهب وجدته ينعى على المعاصرين هذا النمط من النقد، ويوجه إليهم لومه. يقول: (إن المعاصرين لا يحق لهم أن يقولوا: إنّ هذا الاستعمال خطأ، وإنّ هذا البناء لا تعرفه العربية، وذلك لأن استقراءهم للعربية أبعد ما يكون عن النمط الوافي الكافي... ولأن من العسير أن يحيط المرء بما قالته العرب وما لم تقله... لقد فات هؤلاء أن الكثير مما يشدد النكير عليه ينبغي أن ينظر إليه على أنه لغة جديدة أو عربية معاصرة وليس خطأ.
إن القول بالخطأ يأخذ علينا الأقطار، ولا ييسر علينا أن نواجه الجديد الذي تفرضه علينا حضارة جديدة وعصر جديد، إن عامة ما يكتب في الصحف في حيز الأخبار السياسية والتعليقات شيء من هذا الجديد، فكيف يسوغ لنا أن نحمله على الخطأ؟)[7].
الأمر الثاني – الاطلاع على قرارات المجامع اللغوية:
فهذه المجامع لم تكن نائية عن هذا الموضوع القديم الجديد، فهي تابعت آراء أصحابه، وألَّفت اللجان لدراستها، والتحكيم فيها تجويزًا أو منعًا، ونشرت قراراتها في محاضر جلساتها وفي مجلاتها.
وفات قسمًا من المتصدين لنقد الأساليب معرفةُ هذا، ودخلوا الميدان مكررين منع استعمال أساليب أجازتها المجامع.
الأمر الثالث – النظر في ردود العلماء على النقاد:
قيض الله لهذه اللغة علماء أوتوا العلم بخصائصها ودقائق نحوها وصرفها، وقواعد اشتقاقها، وطرق مقاييسها وبلاغتها. ولاحظوا بدقة ما صدر عن المصوبين من أحكام. ومازوا جيدها من رديئها، وسمينها من هزيلها، وردُّوا غير المصيب بالدليل، واحتجوا عليهم بالشاهد الصحيح، ونشروا التصويبات على صفحات المجلات، وفي الصحف، وأخرجوها في كتب مستقلة.
إن الرجوع إلى هذه الآراء، والإفادة منها ضروريّ لمن يتصدى لتقويم الكلام. والذي ينقل من كتب التصويب اللغوي ولا يعرف ما كتب عنها من ردود وتصويبات، وما سجل على أصحابها من مآخذ سيقع فيما أراد أن ينتشل منه الآخرين.(/5)
الأمر الرابع – معرفة قوانين البلاغة وفن القول:
قد يأتي الاعتراض على الصحيح من قلة المعرفة بتنوع الأساليب في أداء المعنى الواحد. فقد يتوخى المنشئ لكلامه الجمال فيزينه بزينة المجاز، ويستعير له ثياب البلاغة، ويرفعه مكانًا يكلُّ دونه بصر الناقد، فيمنع استعمال ألفاظه التي جازت إلى تلك المعاني الدقيقة.
وهذا جهل قديم دفع المصابين به إلى تسديد سهامهم نحو الشعراء والأُدباء حين جهلوا أسرار البيان العربي.
إن ملاحظة الجانب البلاغي يجنب أهل التصحيح اللغوي الوقوع في المزلقات؛ إذ مالهم بد من أن يحسبوا لتغير دلالة اللفظ، وتقلب الكلمة بين معناها الحقيقي ومدلولات مجازية حسابه في الاستعمال.
ولهذا الجانب عند علماء العربية اهتمام واسع، إذ انتهوا، عند أول العهد بالتأليف إلى توسع العرب في استعمال الكلمة لأكثر من معنى، فقسموا الكلام إلى حقيقة ومجاز.
والمجاز عندهم هو: استعمال اللفظ في غير ما وضع له في أصل اللغة لعلاقة بين الوضعين.
ثم ذهبوا يحققون في هذه العلاقات التي سوغت ذلك التوسع، وثبتوها في مصنفاتهم.
وحتى الحقيقة تقسم إلى: الحقيقة اللغوية والحقيقة الشرعية، والحقيقة العرفية. ويختلف اللفظ في كلِّ واحدة عنه في الأخرى.
إنَّ هذه الصفات التي جُبلت عليها العربية مكّنتها من الاتساع، ودَعَم ذلك طابع المرونة الذي انمازت به، فكانت أهلاً لأن تستوعب العلوم والفنون والمعارف، وتنفتح على الأدب، وتتسع لأدق الأفكار غير منطوية على نفسها.
وأحسن جمع من اللغويين والبلاغيين بعدما عرفوا هذا الأمر فدرسوا الألفاظ على أساس دلالتها المجازية، أو اتساع استعمالها لتحقيق الأغراض الشرعية والعلمية وغيرها. وفي الرجوع إلى معجم (أساس البلاغة) لجار الله الزمخشري ت538هـ و(المصباح المنير) لأحمد الفيُّومي ت770هـ وكتب المجازات ما ينور القارئ، ويزيد من يفيد.(/6)
ولا أريد أن يفهم من هذا الكلام أني أدعو إلى التساهل في التجاوز بالألفاظ إلى مدلولات اعتباطية من غير تقيد بالقواعد، سيرًا في موكب دعوة التقليد الأعمى لمدارس الغرب في الغموض والرمز السفساف.
الأمر الخامس – الاعتدال في قبول الشاهد أو رفضه:
يقرُّ بعض المعترضين على الأساليب أحيانًا بورود مثلها قديمًا، ولكنه لا يعتدُّ به دليلاً على جوازها لقلته، ثم يكتفي بذكر شاهد واحد يتشبث به في دعواه، ويتخذ من القلة وسيلة إلى القول بالخطأ. وربما يكون هذا الشاهد هو أغرب ما في الباب، وقد توجد شواهد لا يذكرها.
نعم قد يكون هذا مفيدًا لو تعلق الأمر ببنية الكلمة، وبقواعد الإعراب وعلاماته، إذ يفضي القياس على الشاهد الضعيف الفرد إلى التفريع والتشعيب وضياع القاعدة الإعرابية المطّردة. فبات والحال هذه تجاوز الشاذ والنادر، وتجنب القياس عليهما في حدود المعقول مفيدًا.
أما ما يتعلق بدلالة اللفظ، وتركيب العبارة، وأُسلوب التعبير فأرى التريث الشديد في حمل مسائله على الخطأ، لأنه لا يدخل في الفاحش من الخطأ. وأريد به الخطأ النحوي، والخطأ في الأبنية والغلو في استعمال اللفظ العجمي.
ويتصل بهذا الأمر تحكيم بعض من أُولع بالتصويب اللغوي الذوق دون الشاهد؛ فهذا القول جائز عنده لأنه يناسب الذوق مع الدليل ويمتنع من التعبير بسبب ضعف هذه المناسبة حتى لو كان شاهدًا عربيًا، وهذا المذهب في المنع من غير الجنوح إلى الشاهد قبل كلّ شيء مخالف لقانون السماع، فالصواب هو الصواب، والمتذوق من يختار من الصواب ما يطابق مقتضى الحال بعد تجاوز الخطأ.
الأمر السادس: التأني في القول بالخطأ والتحقيق الدقيق:(/7)
يحلو لبعض المصوبين أن يستبق إظهار الخطأ. وقد يندفع بعضهم الآخر إلى تلمُّس الأخطاء، والحكم على الأساليب بالضعف معتمدًا على ما يجد في نفسه من اطلاع ومن معرفة باللغة من غير أن يراجع مرجعًا أو يتبع قاعدة لغوية. وهذا التسابق، وتلك العجلة تورثان الضلال في القصد، وتوقعان في سوء التدبير اللغوي.
أذكر أن أستاذًا كان يعرف العربية والإنكليزية. وكان يُملي نصًّا في حياة أديب، وعرضت له في أثناء الإملاء جملة (وَقضَى من عمره أربعين ربيعًا) فوقف عليها معلقًا ثم قال: (أربعين ربيعًا!) ممّا لم تعرفه العربية، وهو من الإنجليزية، فقلت له: إن مثل هذا التركيب موجود في لغتنا، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أربعين خريفًا)[8].
وأُستاذ آخر كان مولعًا بالمنع والتصويب أنكر لفظ (العاديّ) في الاستعمال؛ لأنه المنسوب إلى (عاد) من الأُمم القديمة، يقال للشيء القديم: عاديّ. فقال مستمع حضر مجلسه هذا صحيح، ولكن كيف تنسب إلى (العادة) كما تنسب إلى (البصرة) وشبهها؟ ألا نقول: بصريّ عاديّ؟ فكان هذا الاعتراض مفيدًا للأُستاذ.
وإن تعجب فعجب أن يصير هذا المذهب همّ أناس؛ فإذا دعوا مثلاً إلى ندوة لمناقشة كتاب في العربية، أو تكلموا في مؤتمر بعدوا عن الموضوع الرئيس لقلة زادهم فيه وقصروا كلامهم على (قل ولا تقل). واجتهدوا في التخطيء، وصوبوا سهامهم متعجلين إلى نصوص أعدت للنقاش، والمستمعون بين عالم يربأ بنفسه عن الرد لئلا يضيع الوقت، ويخرج عن الهدف، ومستمع غير مختص باللغة يندهش من عجيب الأخطاء، وغريب الهفوات، فيمتلئ بالشك في قدرة من تناقش دراسته.
وقل مثل هذا في مناقشة الرسائل الجامعية للشهادات العالية حين ينقلب الأستاذ المناقش مصوبًا للأساليب، مخطئًا للتراكيب، تاركًا الأُصول، موحيًا للجالسين بكثرة علمه وعلو فهمه.
الأمر السابع – الفهم السليم وحسن الإدراك:(/8)
عُرَّيت طائفة من غير أهل العلم بترديد ما ذكره أهل التصحيح من المتقدمين ومن تبعهم في هذا القرن فراحوا يستعيرون أشتاتًا مما صُنِّف قبلهم، ويُسيئون الاستعارة أحيانًا، لأنهم أساءوا الفهم، ولأنهم لم يملكوا من العلم ما اتصف به أولئك الأجلّة، فالتبس الأمر عليهم، واقترفوا الخطأ من حيث أرادوا الصواب.
ومن ذلك ما فهمه بعضهم من ضعف زيادة الواو قبل "الذي" وشبه من الأسماء الموصولة أو الخطأ إثباتها في مثل (قرأت في كتاب القواعد والذي فيه نصوص كثيرة) فكان يعدُّ الواو قبل الاسم الموصول زائدة ممنوعًا إثباتها حتى في مثل (الكتاب الذي ألفه ابن عقيل والذي يدرسه الطلبة هو شرح الألفية)، غير عارفٍ الفرق بين التركيبيين.
الأمر الثامن – التقصي الواسع في غير معجمات اللغة:
يمنع الكاتب أحيانًا استعمال كلم أو عبارة بحجة أنها لم ترد بهذا المعنى أو بتلك الصيغة، ويصدر حكمه من خلال استفتائه معجمًا أو أكثر من معجمات اللغة ظنًا منه أن المعجم القديم كامل وتام، وما درى أن كلام العرب واسع وكثير، والمعجم لا ينبض دليلاً وحده على المنع في أحيان كثيرة، لأن أشياء ليست قليلة ندت عن معجماتنا على الرغم مما بذله مصنفوها من جهد في إحكامها، ففي كتب الأدب الأصول، وكتب الحديث الشريف، والسيرة النبوية، ودواوين الشعراء وشروحها، وكتب اللغة بأنواعها صيغ وأساليب ومشتقات، ومواد، وتراكيب لم تدخل في المعجمات. وما الاستدراكات عليها والتكميلات التي يصنعها اللاحقون والحواشي والتتمات إلا دليل على أن الاعتماد عليها وحدها في المنع غير كاف.
الأمر التاسع – الأمانة في النقل ونسبة المسائل إلى أهلها:(/9)
يكرر بعض المعاصرين ملاحظاتٍ في الإصلاح اللغوي ليست جديدة سمعنا بها وقرأناها حتى إننا لنجد الفكرة الواحدة تدور في أكثر من مكان ويسجلها أكثر من كتاب في أوقات متقاربة أحيانًا على أنّ هناك من تجرأ على النقل التام من كتب التصويب اللغوي حين قصر به شأو التحقيق والتدقيق.
إنّ الاغتراف مما كتبه المصححون واستنساخ آرائهم من غير إشارة إلى مصدرها أو إلى أصحابها مجانب للأمانة وغمط لفضل المتقدم؛ إذ يوحي إلى القارئ أنه من بنات فكر الكاتب (الناقل). والحق يوجب الإشارة إلى صاحب الرأي أو إلى مصدره أو إلى كليهما.
الأمر العاشر – الاهتمام بما يغني اللغة وينفع المنشئين:
مضى بعض أهل التصويب بعيدًا حين أولعوا بتصيُّد الهفوات، ودفعهم هذا إلى أن يتشبثوا بخطأ نادر أو يركضوا وراء كلمة أو عبارة لا تقدم في معنىً، ولا تؤخر في أُسلوب، سقطت من فم من لا يحسب لكلامه حساب، أو وقعت في رقعة من لا يُؤبه له، ثم اتخذوها موضوعًا يغنون به مقالهم. وربما انساقوا في هذا النهج فعدُّوا أغاليط الشداة من هذا الباب.
وذلك فيما أرى لا يقدم منفعة، ولا يزيد وعيًا ما دام القصد منه تكثير الكلام، وتسمين المقال. وهو اهتمام بما لا يستحق أن يوقف عنده.
إن النقد الذي يغني اللغة، وينفع الباحثين هو تعديل ما شاع بينهم، وسرى على ألسنتهم.
إنّ معرفة هذه الأُمور، وحسن الاستعانة بها يبعد أهل التصحيح عن العثار، ويجنبهم الغلو في التخطيء، ذلك أن المتتبع يجد لطائفة منها حاجة إلى التصحيح، إذ لم تصدر عمن احتاط للأمر كثيرًا، وأخذ بما ذكرت.
والمثال الذي سأُقدمه الآن يعزز ما ذهبت إليه من أخطاء المصوبين في ما اعترضوا عليه. ورأيت أن يكون قريبًا من متناول قارئ (مجلة التعريب) وسأنشر فيها.
ففي العدد (22) لسنة (2001م) تصدى الأستاذ الدكتور كاصد الزيدي في مقاله (نظرات في أساليب التعريب) لتصويب تراكيب استعملها مترجمون معاصرون.(/10)
ومما صوبه من أساليب إدخال حرف الجر في مفعول الفعل المتعدي بنفسه. يقول: (فمن ذلك الفعل (لاحظ) الذي كثيرًا ما يعديه المعربون فيما تبين لي بحرف الجر الباء فيقولون (لاحظ بأن) والصواب: لاحظ أنَّ. ومثله "يرى بأن" وصوابه: يرى أنّ، لأنه لا يقال رأيت بذلك الشيء بل يقال: رأيت ذلك الشيء. ومثله قولهم: يسمى بعلم اللغة. والصحيح: يسمى علم اللغة، من غير باء. والشاهد عليه القرآن الكريم. فقد قال تعالى: {وإنِّي سمَّيتها مريم} [آل عمران 36][9].
ويضيف إلى ذلك ما رآه من (تعدية الفعل إلى مفعوله مباشرة بغير حرف جرّ مع أن المعنى يقتضي تعديته إليه بهذا الحرف).
ومن أمثلة ما خطأه (هذه العبارة "لكي تسمح للإلكترونات أن تصل" والصحيح: بأن تصل، إذ لا يقال في العربية يسمح له الوصول، بل يقال: يسمح له بالوصول)[10].
هذا جانب من التصويب في مقال موجز سأعقب على ثلاث مسائل وردت فيه، وهي:
المسألة الأولى – قول المعربين:
(لاحظ بأن، ويرى بأن) والصواب عنده حذف الباء؛ لأنه لا يقال رأيت بذلك الشيء بل يقال: رأيت ذلك الشيء.
أقول: هذه الباء وقعت مقوية للفعل، ومزيدة للتوكيد الحدث، وثبت مثلها كثير في النصوص الفصيحة. ولكثرته أجاز العلماء القياس على أنماط منه. فقد زيدت مع الفاعل، ومع المبتدأ، ومع خير المبتدأ، وخير ناسخه، ومع الحال، ثم مع المفعول به[11].
وزيادتها في مفعول الفعل المتعدي هو موضوع حديثي، الذي أختار شواهد له في ما يأتي: فمما ورد في نصوص القرآن الكريم:
- قول الله تعالى: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} [البقرة: 195].
- وقول الله تعالى: {وهزي إليك بجذع النخلة} [مريم: 35].
- وقول الله تعالى: {ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم} [الحج: 25].
- وقول الله تعالى: {فستبصر ويبصرون. بأيكم المفتون} [القلم 5-6].
ومما ورد في الشعر:
- قول النابغة الجعديّ[12]:
نحن بنو جعدة أرباب الفلج نحن منعنا سيله حتى اعتلج(/11)
نضرب بالسيف ونرجو بالفرج
- وقول الراعي النميري[13]:
هنَّ الحرائر لاربَّات أحمرة سودِ المحاجر لا يقرأن بالسور
- وقول حسان بن ثابت[14]:
تبلت فؤادك في المنام فريدة تسقي الضجيج ببارد بسام
- وقول دريد بن الصمة[15]:
دعاني أخي والخيل دوني ودونه فلما دعاني لم يجدني بقعدد
- وقول عنترة[16]:
شربت بماء التحرضين فأصبحت زوراء تنفر عن حياض الديلم
وقول أبي ذؤيب الهذلي[17]:
تروت بماء البحر ثم تنصبت على جمثيات لهن تثيج
وفي رواية (شربن بماء البحر) قال ابن جني: (يعني السحاب. والباء فيه زائدة. إنما معناه: شربن ماء البحر. هذا هو الظاهر. والعدول عنه تعسف)[18].
هذه النصوص وغيرها مما لم أذكره دخلت فيها الباء على المفعول الصريح مزيدة ومقوية للفعل المتعدي. وإذا كان المفعول هنا صريحًا، أعني غير منسبك من (أنّ) أو (أنَّ) أو (ما) المصدرية وصلاتها فالمنسبك تصديره بالباء أسهل وأكثر قولاً، وهو الذي منع استعماله الدكتور الزيدي في (لاحظ بأن) و(يرى بأن).
واستدل على دخول الباء في مثل هذا التركيب بالآتي:
- قول الله تعالى: {ألم يعلم بأنَّ الله يرى} [العلق: 14].
وتجردت من الباء في الآية: {ألم تعلم أنَّ الله يعلم ما في السماء والأرض} [الحج: 70].
- وقول أشعرَ الرقبانِ الأسدي[19]:
بحسبك في القوم أن يعلموا بأنك فيهم غني مضر
وقد علم المعشر الطارقو ن أنك للضيف جُوعٌ وقُرّ
فزاد الباء أولاً في مفعول (يعلموا) وجرد مفعول (علم) منه ثانيًا.
هذا ولكثرة إدخال الباء على المفعول صرح النحويون باتساع أمره، وبجواز زيادتها في مفاعيل طائفة من الأفعال المتعدية بنفسها.
قال ابن جني: (قوله تبارك اسمه: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} [البقرة: 195] تقديره والله أعلم: ولا تلقوا أيديكم. وهذا واسع عنهم جدًا)[20].
وقال جمال الدين بن مالك ت672هـ: (وكثرت زيادتها في مفعول "عرف" وشبهه، وقلت زيادتها في مفعول ذي مفعولين...)[21].(/12)
وقال رضي الدين الإستراباذي ت686هـ: (وتزاد قياسًا في مفعول علمت وعرفت وجهلت وسمعت وتيقنت وأحسنت)[22]. وهذه الأفعال المتعدية بنفسها تخص المعاني القلبية والفكرية، والعرفان و(شبيهه) كما قال ابن مالك.
لا شك في أنَّ "لاحظ" و"يرى" داخلان في هذه المعاني، فدلالة كلٍّ منهما على المعرفة واضحة وقد يقال: ما ذهبت إليه وجهة نظر، ومن الشواهد ما يحتمل التأويل.
فأقول: لا أُماري، ولكن لا خلاف فيما ساء ذكره في المسألتين اللاحقتين.
المسألة الثانية – قول الكاتب الفاضل:
(ومثله قولهم: يسمَّى بعلم اللغة. والصحيح: يسمى من غير باء. والشاهد عليه القرآن الكريم، فقد قال تعالى: {وإنِّي سمَّيتها مريم}.
وإيضاح هذا الوجه أيسر؛ فإن اللغويين صرحوا بأن الفعل (سمى) يتعدى بنفسه وبالباء.
- قال ابن جني: (فأما قولهم: سميته زيدًا وبزيد، وكنيته أبا عبدالله فليست الباء فيه زائدة، وإنما أوصلوا بها الفعل تارة إلى المفعول، وأوصلوه تارة أخرى بنفسه)[23].
- وجاء في معجم (مختار الصحاح): (وسميت فلانًا زيدًا وسميته يزيد بمعنى، وأسميته مثله)[24]. أما أن القرآن الكريم استعمل الفعل من دون باء فهذا لا يعني حظر ما عداه إذا صح عن العرب الفصحاء وقد تقدم استعمال القرآن تركيبيين في الآيتين {ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض} و{ألم تعلم بأن الله يرى}.
المسألة الثالثة – منع الدكتور الزيدي استعمال قولهم:
(لكي يسمح للإلكترونات أن تصل) قال (والصحيح: بأن تصل؛ إذ لا يقال في العربية: يسمح له الوصول، بل يقال: يسمح له بالوصول).
وهذا التصحيح غير صحيح، فحرف الجرِّ هنا دخل على المفعول المصدَّر بالحرف المصدري (أنَّ). وإذا صُدِّر المفعول بالحرفين (أنْ) و(أنَّ) (فيجوز حذف حرف الجرِّ معهما قياسًا مطَّردًا بشرط أمن اللبس، كقولك: عجبت أن يدوا. والأصل: عجبت من أن يدوا. أي من أن يُعطوا الدِّيَةَ)[25].(/13)
وعلى هذا فلا حاجة لتعليل الحظر بأنه (لا يقال في العربية: يسمح له الوصول بل يقال: يسمح له بالوصول) فنمنع لذلك: (يسمح له أن يصل) من دون باء.
وبعد:
فإن ادعاء المرء أنَّ هذا قالته العرب وهذا لم يجرِ على ألسنتهم مسلك لابد من أن يسلكه المحقق اللغوي حذرًا متوقيًا مما يعرض له فيه من زلل، مزودًا بما يجب عليه أن يتزود من الأدوات، ومتحليًا بصفات تفتح عليه مغاليق الصواب. وفي الوصايا العشر التي تقدمت معين على ذلك.
وإذا كان لابدّ من كلمة أختم بها هذا المقال فإني أُقدم التوصيات الآتية:
الأولى – أنْ يوسد الأمر إلى أهله، فلا يفسح مجال النشر في هذا الموضوع لأيٍّ كان إلا المختصين باللغة الأعلام الأخذ بهذا المبدأ، والكفُّ عن ترويج الفتاوى اللغوية ما لم تطمئنّ إلى كفاية الكاتب اللغوية.
الثانية – أنْ تعطي المجامع اللغوية والجهات ذات العلاقة رأيها، وتتثبّت من سلامة ما ينشر، وتغربل الآراء وتصوبها على وفق منهج علمي تتولاه لجنة يوضع بين أيدي أعضائها اللغويين ما كتب في الموضوع قديمًا وحديثًا لدرسه مسألة، وتقرّ السليم، وتصدر القرار وتذيعه.
الثالثة – صنع فهرس تفصيليٍّ متخصص دقيق لمصنفات التصحيح اللغوي، يجمع أسماء ما صنعه المحدثون من كتب، وبحوث، ومحاضرات، وما اتخذ من قرارات في المجامع اللغوية والندوات، والمؤتمرات.
الرابعة – ويكون هذا الفهرس دليلاً على صنع معجم جديد للأخطاء اللغوية الشائعة، يصحح فيه من الكلم والأساليب ما ثبت أنه خطأ ضار لا تُقرُّه اللغة العربية، وتتولاه مؤسسة ذات صلة بالحفاظ على سلامتها، يكون قرارها ملزمًا، ورأيها محترمًا.(/14)
الخامسة – ولابدّ من أن يسير إلى جنب هذا العمل، إن لم يسبقه، وضع (المعجم التأريخي للغة العربية) الذي يدرس حياة ألفاظها، ويتتبع خطوات نمو مدلولاتها، ويتلمس تأريخها، ويرصد تقلبها على أكثر من معنى بحكم العوامل الاجتماعية، والفكرية، والشرعية، والحضارية، ويحدد أُسس انتقال الكلمة في النصوص الفصيحة إلى مدلولات مجازية اقتضاها تطور الفكر العربي بعد ظهور الدين الإسلامي، لتتبين منه دقة المصطلحات العلمية والثقافية والسياسية التي يستوجب التعبير عن شؤون الحياة وضعها، وليكون هذا المعجم واحدًا من موارد المصحح اللغوي، ومعينًا له في الحكم على فصاحة الكلام أو خطئه.
المصادر:
- الجنى الداني في حروف المعاني، حسن بن قاسم المرادي ت749هـ، تحقيق طه محسن، الموصل 1976م.
- الخصائص، أبو الفتح بن جنّي ت393هـ، تحقيق محمد علي النجار (ج3) دار الشؤون الثقافية، بغداد 1990م.
- دراسة في حروف المعاني الزائدة، عباس محمد السامرائي، بغداد 1987م.
- درة الغواص في أوهام الخواص، أبو محمد الحريري ت516هـ، مصورة عن نشرة ليبسك 1871م.
- ديوان ذي الرمة، نشرة كار ليل مكارثي، كمبرج 1919م.
- ديوان عنترة، تحقيق محمد سعيد مولوي، المكتب الإسلامي، ب.ت.
- ديوان الهذليين، دار الكتب المصرية 1965م.
- سرُّ صناعة الإعراب، أبو الفتح بن جني (جـ1) تحقيق مصطفى السقا، ومحمد الزفزاف، وإبراهيم مصطفى، وعبدالله أمين، القاهرة 1954م.
- شرح ألفية ابن مالك، بهاء الدين بن عقيل ت769هـ، (ط14) تحقيق محمد محي الدين عبدالحميد، القاهرة 1964م.
- شرح تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد، جمال الدين بن مالك، ت672هـ، مخطوطة مكتبة عاطف أفندي باستنبول رقم 2493 (مصورتي).
- شرح التصريح على التوضيح، خالد الأزهري ت905هـ، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة ب.ت.
- شرح ديوان حسان بن ثابت الأنصاري، عبدالرحمن البرقوقي، مطبعة السعادة بمصر ب.ت.(/15)
- شرح الكافية، الرضي الإستراباذي ت686هـ، طبع (1310هـ).
- شعر الراعي النميري، تحقيق الدكتور نوري حمودي القيسي، وهلال ناجي، بغداد 1980م.
- شعر النابغة الجعدي، دمشق 1964م.
- صحيح مسلم (بشرح النووي) نشرة محمد محمد تامر، (جـ9) القاهرة 1999م.
- مختار الصحاح، محمد الرازي ت666هـ، الكويت 1983م.
- النوادر في اللغة، أبو زيد الأنصاري ت205هـ، (ط3) بيروت 1967م.
_________________________________
[1] سهل محمد السجستاني ت248هـ.
[2] عبدالملك بن قريب ت217هـ.
[3] ديوانه ص653.
[4] الخصائص 3/298.
[5] يراجع كلام ابن جني في الخصائص (باب في سقطات العلماء) 3/285-312.
[6] ينظر تضعيفه لغة (قاما الرجلان) ص108 وردّ شهاب الدين الخفاجي عليه في (شرح درّة الغواص) ص152.
[7] مع المجلات العربية ومسألة التصحيح اللغوي (مقال)... الدكتور إبراهيم السامرائي، مجلة البحوث والدراسات العربية، ص10 وص23-24/العدد15/سنة 1988م.
[8] ومنه الحديث الشريف (إن فقراء المهاجرين يسبقون الأغنياء يوم القيامة إلى الجنة بأربعين خريفًا). صحيح مسلم (بشرح النووي) 9/294.
[9] ص16 من مقال (نظرات في أساليب التعريب).
[10] ص17 من المصدر نفسه.
[11] ينظر: دراسة في حروف المعاني الزائدة. عباس محمد السامرائي، المبحث الرابع (الباء الزائدة) ص31-48.
[12] شعره ص216. والجَنَى الداني ص113.
[13] شعره ص101. والجَنَى الداني ص235.
[14] ديوانه ص362.
[15] شرح التصريح على التوضيح، خالد الأزهري 1/202.
[16] ديوانه ص201. وسرّ صناعة الإعراب 1/150.
[17] ديوان الهذليين 1/5.
[18] سرّ صناعة الإعراب 1/152.
[19] النوادر في اللغة، أبو زيد الأنصاري ص73. والبيت الأول في سرّ صناعة الإعراب 1/154.
[20] سرّ صناعة الإعراب 1/153.
[21] شرح تسهيل الفوائد، الورقة 184 و(مخطوط). والجَنَى الداني ص113.
[22] شرح الكافية 2/328. ودراسة في حروف المعاني الزائدة ص45.(/16)
[23] سرّ صناعة الإعراب ص153.
[24] مختار الصحاح، محمد الرازي (ت666هـ) ص316.
[25] شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك 1/539.(/17)
العنوان: عذب القصائد
رقم المقالة: 718
صاحب المقالة: د. محمد رائد الحمدو
-----------------------------------------
زيدي فُديتِ تألُّقَ الإصباحِ
وتمرَّغي في عِطرِكِ الفوَّاحِ
عذبُ القصائدِ للأحِبَّةِ وَحدَهُم
ولِغَيرِهم فالشِّعرُ طَعنُ رِماحِ
فإذا الأحبَّةُ في دِيارٍ بُورِكَتْ
مِن رَبِّها كلُّ الحُروفِ أَقاحي
وشقائقُ النُّعمانِ ذاكرةٌ لهُم
للخالِدينَ لأَنبَلِ الأَرواحِ
للباذِلينَ الرُّوحَ وهِيَ سَخِيَّةٌ
في دَربِ مَكرُمَةٍ ودَربِ كِفاحِ
فالقُدسُ مُلكُ الذَّائِدينَ حِياضَها
لا مُلكُ رِعديدٍ ولا نَبَّاحِ
بَيروتُ مُلكُ الذَّائِدينَ حِياضَها
لا مُلكُ رِعديدٍ ولا نَبَّاحِ
بغدادُ مُلكُ الذَّائِدينَ حِياضَها
لا مُلكُ رِعديدٍ ولا نَبَّاحِ
الأرضُ مُلكُ الذَّائِدينَ حِياضَها
لا مُلكُ رِعديدٍ ولا نَبَّاحِ
أحفادُ خالد والبطولةُ خَلَّةٌ
مَوروثةٌ والبيتُ بيتُ فَلاحِ
مِن أُمَّةٍ ما زالَ يَنبِضُ قَلبُها
بدَمِ الجِهادِ سَبيلِ كلِّ نَجاحِ
مِن أُمَّةٍ ما زال طُهرُ كِتابِها
خيرَ الدَّليلِ لنَيلِ كُلِّ صَلاحِ
ماذا نقولُ وقُدسُنا في أَسرِها
والمسجِدُ الأَقصى مَهيضُ جَناحِ
نَجري وَراءَ السِّلمِ مع أعدائِنا
كَذبيحَةٍ تَجري إلى الذَّبَّاحِ
طُمِسَت عُيونُ اللاهِثينَ فكُلُّهُم
في الذُّلِّ يَنشُدُ رحمةَ السَّفَّاحِ
عُميُ البَصائرِ أَصبَحوا بِهَوانِهِم
كالرِّيشِ يُلقى في مَهَبِّ رِياحِ
شُكراً لكُلِّ مُقاوم ٍ لا يَنحَني
عالي الجَبينِ مُزَمجِراً في السَّاحِ
شُكراً لأطفالِ الحِجارَة إنَّهُم
في لَيلِنا مِثلُ السَّنا اللَّمَّاحِ
الباعِثونَ حَياتَنا مِن غَفوَةٍ
طالَت على الأجسادِ والأَرواحِ
تِرياقُ أمراضِ النُّفوسِ فإنَّهُم
كالبَلسَمِ الشَّافي لكُلِّ جِراحِ
يَتساقَطونَ أَعِزَّةً ونعدهم
بدُموعِنا وغِنائِنا الصَّدَّاحِ
فإذا البُكاءُ غَدا جَليلَ سِلاحِنا
تَبّاً لَهُ مِن عُدَّةٍ وسِلاحِ(/1)
العنوان: عربي.. في مطار أوروبي
رقم المقالة: 216
صاحب المقالة: د. وليد قصّاب
-----------------------------------------
أنا عربي؟
أتسأَلُني؟
أجل عربي
وجهلُكَ بي
وربِّ العرشِ
من عَجَبِ
فألفُ علامةٍ
لو شئتَ
قد دلَّتْ على نسَبي
ألم تقرأْ حروفَ الذلِّ
في حَدَقي؟
ألم تلمَح على وَجهي
ظلالَ البؤس والأرَقِ؟
ألم أُوقَف لساعاتٍ
أيوقَفْ هاهنا أحدٌ
كما قد يُوقفُ العربي؟
فحيثُ مضيتُ متَّهمٌ
ومَشبوهٌ
وسيفُ الذلِّ في عُنُقي
ومن كفيَّ بصْماتٌ.. وبصْماتٌ
كما شاهدتَ
قد نسخوا على الورقِ
أُفتَّش حيثما يمَّمتُ
من قَدَمي إلى رأسي
أُعَرَّى من سَراويلي
وأُسألُ عن عَناويني
وعن صحبي
وعن عمِّي.. وعن خالي
وعن أَصلي
وعن فَصلي
وعن خمسينَ من أجداديَ النُّجُبِ
ومَشبوهٌ أنا
إن قلتُ.. أو ما قلتُ
مَشبوهٌ
ولا أنجو منَ الرِّيَبِ
وذنبي
أنني عربي
وبالإرهاب موصومٌ
كما قالوا
وقتلُ الناس من أَرَبي
وتوَّاقٌ إلى الظلماتِ
أعشقُ غَيبة الألقِ
رخيصٌ أنني عربيْ
كرَمل الأرض والتُّرَبِ
ومسفوحٌ دمي
كالماء عند منافذِ الطُّرقِ
ولا دِيةٌ له
من درهمٍ يُعْطاهُ
أو وَرِقِ
عرفتَ الآن
ما نسَبي.. وما حسَبي؟
سأُوقفُ هاهنا.. فانظُرْ
لساعاتٍ وأيامِ
ولا يَعنيهِ
لا سِنِّي
ولا مَرَضي
ولا تَعَبي
سيسأَلُني.. ويَسألُني
بلا داعٍ.. ولا سببِ
أيوقفُ هاهنا أحد
كما قد يُوقفُ العربي؟(/1)
العنوان: عزاء اليتيم
رقم المقالة: 534
صاحب المقالة: محمد بن ظافر الشهري
-----------------------------------------
فوقَ الثَّرَى مُستوحشٌ يَذرفُ
دمعاً لشَمسٍ تحتَهُ تُكْسَفُ
هُنا يتيمٌ وهنا مَيِّتٌ
تَشَابهَ الحِرمانُ والأحرُفُ
فنِصفُ ذا مَيْتٌ وذا نصفُهُ
حَيٌّ بدارِ الفَقْدِ مُسْتَخلَفُ
لوْ كُلُّ حِضْنٍ دافئٍ ضَمَّهُ
لمْ يَجِد الدِّفءَ الذي يَعرِفُ
كأنما عيناهُ نَبعُ الأسى
فكلُّ حُزنٍ منهما يُغرَفُ
لا تَعذلِ الأقدارَ يا رائِفاً
واللهِ لَلَّهُ بهِ أَرْأَفُ
قد يَتَّمَ اللهُ أحبَّ الوَرى
إليهِ، فاليُتْمُ بهِ يَشْرُفُ(/1)
العنوان: عزيزة
رقم المقالة: 338
صاحب المقالة: د. وليد قصّاب
-----------------------------------------
توقفتَ عند عتبة الباب. لم تكمل الدخول. لمحتَ شبح امرأة غريبة محجبة تجلس مع أمك. أردتَ أن تصعد إلى غرفتك فوراً، ولكن أمك نادتك:
- صلاح.. صلاح.. تعال.. لن تصدِّق منْ عندنا..
وأكملتْ أمكَ تدعوك:
- هذه عزيزة يا صلاح..
عزيزة؟ كدتَ ألا تكون سريع البديهة. هممتَ أن تتابعَ طريقك إلى غرفتك. ولكن أمك نادتك بإلحاح.
- هذه عزيزة بنت أم سليم رحمها الله.. نسيتَها؟
كاد قلبكَ يسقط بين جنبيك. عزيزة بنت أم سليم؟.. آه يا زمان.. معقول؟ كيف أنساها؟
وفي لحظات معدودة اشتغل حاسوب الرأس الرباني. رحتَ تستحضر كل شيء. بدأ الحاسوب يسترجع شريطَ ذكريات قديماً عمره عشرون سنة..
كنتَ في العاشرة، وكانت عزيزة في الثامنة، طفلان يدرجان في الحارة، جاران الحائطُ لِصْقُ الحائط.
أم سليم – رحمها الله – صديقة حميمة لأمكَ، لا تكادان تفترقان إلا في سواد الليل. الأكلة والشربة معاً، كأنهما أختان تسكنان بيتاً واحداً وليستا جارتين كلٌّ في بيتها.
أنتَ وحيد أهلك. وعزيزة وحيدة أهلها بعد أن استشهد أخوها سليم في حرب 1967 مع اليهود.
عزيزة دائماً عندكم أو أنت عندهم. كنتَ تعدُّها مثل أختك تماماً، إلى أن تناهى إلى سمعك وسمع عزيزة ذات يوم حديثٌ يدور بين المرأتين. سمَّرك في مكانك قول أمك:
- عزيزة لصلاح.. وصلاح لعزيزة.
وردُّ أم سليم:
- إن شاء الله يا أم صلاح.. أمنيتي..
نظر الصغيران كلٌّ إلى الآخر ببراءة ومودة. ولكنكَ من يوم ذاك ربطتَ مشاعرك بعزيزة. أصبح يغمرك فرح طفولي رائع كلما رأيتها، ليس فرحَ الأخ بأخته على كلِّ حال، بل فرحاً ذا طعم آخر، تنسى معها الدنيا وما فيها. تحس أنك غارق في بحر من النشوة لا تعرف لها كنهاً ولا تفسيراً.. وإذا مرَّ يوم لم ترَ فيه عزيزة اسودَّت الدنيا في عينيك، وسقطتَ من فوق الغيم.(/1)
مرَّة مرَّ أسبوع لم ترها. لم تعد تستسيغ طعاماً ولا شراباً، شُغلت عن دروسكَ ومذاكرتك. استحييتَ منذ سمعتَ ما سمعتَ أن تسأل عنها في أول الأمر، ثم عصرك الشوق فلم تطق، قلتَ بلهفة وعتاب لم تستطع إخفاءهما:
- أين عزيزة يا أمي؟
ضحكت أمك، قرأتك سطراً سطراً. قالت لك وهي تحتضنك:
- ذهبتْ تزور خالتها فاستبقتها أياماً.. اشتقتَ إليها يا صغيري؟
لا تدري إلى الآن لمَ انتحبتَ بالبكاء يومذاك؟ ورأيتَ نفسك تندفع ببراءة الأطفال لتقول:
- سمعتُكِ تقولين لخالتي أم سليم: عزيزة لصلاح.. وصلاح لعزيزة.. ماذا تعنين يا أمي؟.
ضحكت أمكَ حتى كادت تنقلب على ظهرها:
- أيها العفريت.. سمعتَ إذن كلَّ شيء.. أنت أذكى من قرد، وفاهمٌ والله كل شيء..
ومضت إلى شأنها. ولم تزد.
* * *
عرف كلٌّ منكما أنه للآخر. لم تعد المعاني – على صغركما – ملتبسة. صرتَ تغار عليها كالرجال، وصرت تحسُّ أنك مسؤول عنها، بل صرتَ تشعر أن عليك أن تمارس عليها رجولة الرجال.
أصبحتَ تأمرها وتنهاها كما يأمر أبوك أمك وينهاها. ومن عجب أنها كانت تستلذ ذلك، تبدو طروباً أن تكون طوع أمرك، وأن تخفض لك جناحها، وأن تتمسح بك كما تتمسح القطة بصاحبتها.
كنت تحسُّ بالفحولة والفتوة وأنت تقول لها:
- عزيزة.. ادرسي حتى تكوني الأولى في الصفّ.
وكان يسوءُك أن تقول لك:
- أنا لا أحب الدراسة كما تحبها يا صلاح.. الدراسة همّ وغمّ.. وتلبس ثوب الواعظين فتقول لها:
- بل الدراسة علم وفهم.. ادرسي يا عزيزة..
ثم تضيف:
- أريدكِ مثقفة متعلِّمة..
فتستحي، وتغض أهدابها الوطفاء، وتحس أنت بالرجولة.
* * *(/2)
مرت الأيام، وكبرت عزيزة – كعادة الفتيات – بسرعة، راحت تستدير نحو الصبا، نضج فيها كلُّ شيء، كنت تراقب ذلك مبهوراً منتشياً، ولكنْ كان لذلك كله ثمن باهظ؛ حُرِمتَ رؤية عزيزة الصبية، لم تعد تأتي مع أمها إلا نادراً، وإذا أتت لم تعد تخلو بها كأيام زمان، تظلُّ إلى جانب أمها لا تتبعك، تظلان تتبادلان النظر من بعيد، ويقرأ كلٌّ منكما أعماق الآخر..
ثم انقطعت عن الحضور مع أمها، لم يعد أبوها يسمح بذلك، وعندما فاض بك الكيل ذات يوم، اندفعتَ تسأل أمك وأنت تعرف الجواب:
- لماذا لم تعد عزيزة تأتي مع أمها؟
ضحكت أمك وقالت بمودة:
- ألا تعرف أيها العفريت؟ عزيزة صارت صبية.. ولا يجوز أن تظهر أمام غريب..
غريب! صفعتك الكلمة.. أنت غريب الآن عن عزيزة التي قضيت سنوات تلعب معها ولا تفترقان أبداً؟
أحست أمك – كالعادة – بكل ما في داخلك. عجَّلت تخفِّف عنك:
- استعجل.. تخرَّج من الجامعة وتوظف حتى أخطُبها لك..
لكنكَ ما تزال في السنة الثانية.. مشوارك طويل طويل... هل من أمل أن تظلَّ عزيزة بانتظارك؟
إن البنت اليوم كالزهرة الناضرة، كالبدر الساطع في كبد السّماء، كلَّ يوم يطرق باب أبيها خاطبون جاهزون.
* * *
علمتَ يوماً – كما قد كنت تتوقع – أن عزيزة قد خُطبت، ومع ذلك لم تكد تصدِّق أذنيك. وقع الخبر عليك كالصاعقة. أهكذا بهذا اليسر ينتهي كل ما كان بينكما؟ أين كلام أم سليم – رحمها الله – وكلام أمك:
- صلاح لعزيزة.. وعزيزة لصلاح؟..
قرأت أمكَ ما في داخلك من غير أن تتكلَّم، قالت لك مواسية:
- البنت يا ولدي بلغت سن الزواج من سنوات.. انتظروك طويلاً، لم يكونوا يؤثرون عليك أحداً.. ولكنك ما زلتَ في أول الطريق، مشوارك يا صلاح طويل طويل.. الجامعة والدراسات العليا والوظيفة: ((البنت يا ولدي تكبر بسرعة.. قطار الزواج يغادرها على عجل..)).
سكتتْ دامعةَ العينين، ثم أكملت:(/3)
- صعبٌ أن نربطها بمستقبل غامضةٍ ملامحُه.. جاءها عريس رضي أبوها دينه وخلقه وحالته الاجتماعية.. فقلتُ: أنتِ في حِلٍّ يا أم سليم.. وكل شيء قسمة ونصيب.
وتزوجتْ عزيزة، وانشغلتَ أنتَ بدراستك الجامعية، ثم سافرتَ سنواتٍ لإكمال دراستك العليا... سرقتك الدراسة والتحصيل عن كل شيء، أو سرقتْ منك كلَّ شيء.. صرت دكتوراً كبيراً..
فكرتَ طويلاً في عزيزة، كانت تضيء في جوانح نفسك بين الحين والحين، ولكنك كنت تنشغل بسرعة. استسلمتَ لقدرك، وعلمتَ أن عزيزة لم تخلق لك.
* * *
ما الذي أتى بعزيزة اليوم؟ عشرون سنة مضت. علمتَ أنها تزوجت خارج دمشق زيجة موفقة. كان زوجها رجلاً صالحاً تقياً ميسور الحالة، رزقت منه بناتٍ وبنين. فرحتَ لها كما لم تفرح لأحد في عمرك.
– تعال يا صلاح.
ما زالت أمك تناديك. وأنت مغمض العينين عند عتبة الباب تتابع شريط السنين.
- تعال يا صلاح.. هذه عزيزة بنت أم سليم جارة حارتنا القديمة.. دنوت حييّاً. كأنك ما زلت ذلك الطفل الصغير:
- السلام عليكم..
أسدلتْ عزيزة خمارها على وجهها كما اعتادت أن تفعل أمام الرجال الغرباء مذ بلغت..
ردَّتْ عليك:
- وعليكم السلام.. كيف حالك يا دكتور صلاح؟
((دكتور صلاح)) لم تدرِ لمَ لمْ يطربك هذا اللقب من فمها؟ أحسستَ أنك تفضِّل أن تناديك بصلاح فقط حتى تشمَّ عبق السنين، ولكن عبق السنين قد تلاشى، وجدتَ نفسك تردُّ عليها بالمثل:
- الحمدلله.. وأنتِ كيف حالكِ يا مدام عزيزة؟
لم تجرؤ أن تنظر إليها لترى ماذا أحدث الزمن فيها، ولكنك كنتَ على يقين أنك لو قابلتها بعد خمسين سنة لعرفتها.
كان معها طفلان في مثل سنَّيكما يوم افترقتما: ولد وبنت، قالت:
- هذا عمر.. وهذه صفاء... وعندي ثلاثة آخرون..
رحتَ تنظر إليهما بحبٍّ ومودَّة. رأيت في صفاء صورة عزيزة التي تعرف، حملتَها تقبلها، ثم انحنيتَ على عمر تقبله.
انسللتَ إلى غرفتك بعد أن استأذنت، ومضى يتتابع أمامك شريط العمر..(/4)
العنوان: عَشْر ذي الحجَّة وأوضاع الأمَّة
رقم المقالة: 1730
صاحب المقالة: الشيخ عكرمة بن سعيد صبري
-----------------------------------------
عَشْر ذي الحجَّة وأوضاع الأمَّة
ملخَّص الخطبة:
1- الغاية العظمى.
2- حاجة المسلمين إلى اللجوء إلى الله تعالى.
3- فضل عَشْر ذي الحجَّة.
4- ما يُشرَع في عَشْر ذي الحجَّة.
5- حرمة الدِّماء والأموال والأعراض.
6- دعوة للوحدة والائتلاف.
7- التنديد بالجدار العنصري.
8- الحرب على الإسلام.
الخطبة الأولى
أما بعد:
فيقول الله - سبحانه وتعالى - في كتابه العزيز: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ * وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُم مّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 55-58]، صدق الله العظيم.
أيها المسلمون:
هذه الآيات الكريمة من سورة الذاريات، وهي مكيَّة، وفيها يطلب الله - سبحانه وتعالى - من رسوله الكريم أن يستمرَّ في التَّذكير لمَنْ تنفعه الذِّكرى، ولديه الاستعداد لقبول الإرشاد والنصيحة والهِداية، ويخبره أنَّ الله ربَّ العالمين ما خلق الجن والإنس إلا ليأمرهم وليكلِّفهم بعبادته، وذلك ليعرفوه ويشكروه على نعمه، لا لأنه محتاجٌ إليهم في تحصيل الرِّزق؛ فالله العلي القدير هو الرزَّاق ذو القوَّة المتين.
ويقول - سبحانه وتعالى - في سورة التوبة: {وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا واحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31].
ويقول في سورة البيِّنة: {وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُواْ الصلاةَ وَيُؤْتُواْ الزكاةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ} [البينة: 5].
أيها المسلمون:(/1)
من هنا حدَّد الله - عزَّ وجلَّ - للجنِّ والإنس رسالةً ساميةً واضحةً، ألا وهي عبادة الله الواحد الأحد، الفرد الصَّمد، الذي لم يلِد ولم يولد، إنها العبادة الشاملة التي تتمثَّل في العبادات والطَّاعات، والالتزام بأحكام الله في التصرُّفات، والإخلاص في الأعمال والحركات والسَّكنات.
أيها المسلمون:
نحن في وقتٍ أحوج ما نكون فيه إلى اللُّجوء إلى الله ربِّ العالمين، وأن نستغيث بربِّ السماوات والأرْضين؛ ليفرِّج كربنا، وليوحِّد صفَّنا، ولينصرنا على أعدائنا.
نحن في وقتٍ أحوج ما نكون فيه إلى الحياة التعبُّديَّة؛ لنكون طائعين لله - عزَّ وجلَّ - ولنتحرَّر من عبادة المادَّة، ومن عبادة العباد إلى عبادة ربِّ العباد، ولنعتِق أنفسنا من زخارف الدُّنيا ومشاغلها وتعقيداتها؛ فكلَّما انغمس الإنسان في شؤون الدُّنيا الفانية - ابتعد عن الله ربِّ العالمين، وأصبحت دنياه شغله الشَّاغل، لا يفكِّر في موته ولا في آخِرته، في حين يقول الله - سبحانه وتعالى - في سورة القصص: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأرْضِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 77].
الصحابي الجليل عبدالله بن عمر - رضيَ الله عنهما - يحدِّثنا قائلًا: أخذ رسول الله بمنكبي فقال: ((كُنْ في الدنيا كأنك غريبٌ أو عابر سبيل))، وكان ابن عمر يقول: "إذا أمسيتَ فلا تنتظر الصباح، إذا أصبحتَ فلا تنتظر المساء، وخُذْ من صحَّتك لمرضكَ، ومن حياتك لموتكَ".
أيها المسلمون:(/2)
يا أحباب الله، ندخل في شهر ذي الحجَّة، والعبادة فيه ليست منحصرة بالحجيج، فقد هيَّأ الله ربُّ العالمين للمسلمين أن يكسبوا الثواب العظيم تِلْوَ الثواب في العَشْر الأوائل من شهر ذي الحجَّة، التي لها فضلٌ كبيرٌ من الله - سبحانه وتعالى - على غيرها من الأيام والليالي، وقد أقسم الله - عزَّ وجلَّ - بهذه الليالي؛ لبيان فضلها، ولتعظيم شأنها، بقوله: {وَالْفَجْرِ * وَلَيالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} [الفجر: 1-3]، وقال معظم المفسِّرين: إن المراد من هذه الليالي هو الليالي العَشْر الأوائل من ذي الحجَّة، وأنَّ الفجر هو فجر يوم النَّحر؛ أي: يوم عيد الأضحى المبارك.
أيها المسلمون:
يا أحباب الله، إنَّ الله - عزَّ وجلَّ - يضاعف العمل الصَّالح في هذه الأيام؛ فعليكم أن تغتنموها، لقول رسولنا الأكرم – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ما من أيامٍ العمل الصالح فيهنَّ أحبُّ إلى الله من هذه الأيام العَشْر)). قيل: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ((ولا الجهاد في سبيل الله، إلاَّ رجلٌ خرج بنفسه وماله، فلم يرجع من ذلك بشيءٍ))؛ أي: إذا رزقه الله الشَّهادة، حينئذٍ تفوق الشَّهادةُ العملَ الصَّالح في هذه الأيام.
أيها المسلمون:
يا أحباب الله، من الأعمال الصالحة التي يحرص المسلم على أدائها في هذه الأيام صوم التطوُّع، والإكثار من صلوات النافلة، والاستغفار والتوبة والدعاء، وتلاوة القرآن، والتصدُّق، وصِلَة الأرحام، وتقديم الأضاحي بعد أداء صلاة العيد؛ فإن الله - سبحانه وتعالى - يزيد الثَّواب فيها. يقول العلماء: إن زيادة الفضل في هذه الأيام لوجود يوم عرفة ويوم عيد الأضحى ضِمْنها.
أيها المسلمون:(/3)
يا أحباب الله، يلزم الإشارة إلى أنه يُستثنَى الصوم يوم العيد؛ حيث لا يجوز الصَّوم فيه؛ فصوم النافلة فيها يشمل تسعة أيام، كما لا يُطلَب من الحجيج أن يصوموا يوم عرفة؛ حتى يتقوَّى الحاجُّ على العبادة والدُّعاء في عرفة، أما غير الحاجِّ؛ فإنه يصوم في يوم عرفة؛ لقول رسولنا الأكرم – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((صوم يوم عرفة يكفِّر سنتَيْن))، وهذا يؤكِّد أنَّ الثَّواب في هذه الأيام ليس منحصرًا بالحجيج، وأنه يمكن للمسلمين جميعًا أن يغتنموا هذه الأيام العشرة بصِلَة الرَّحِم، وبالصَّوم والتنفُّل، وغير ذلك من العبادات والأعمال الصالحة.
أيها المسلمون:
يا أحباب الله، حينما ألقى رسولنا الأكرم خطبته الشهيرة - خطبة الوداع - في السنة العاشرة للهجرة - فإنه لم يخاطب الحجيج وحدهم وقتئذٍ، وإنما خاطب جميع المسلمين في كلِّ زمانٍ ومكانٍ، إلى أن يَرِثَ الله الأرض ومَنْ عليها.
ومن المبادئ العامة التي وردت في خطبة الوداع: حرمة سفك الدِّماء، وحرمة غَصْب الأموال والممتلكات؛ فيقول عليه الصَّلاة والسَّلام من حديثٍ مطوَّلٍ: ((أيها الناس، إن دماءكم وأموالكم عليكم حرامٌ إلى أن تلقوا ربَّكم، كحُرْمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا)).
لقد شدَّد ديننا الإسلامي العظيم على حرمة سفك الدِّماء، وعلى حرمة غَصْب الأموال، سواءٌ كانت الأموال أموالًا عامَّة أو أموالًا خاصَّة، وسواءٌ كانت الأموال أموالًا منقولةً أو غير منقولة كالأراضي والعقارات، فأين نحن من هذه المبادئ الرفيعة؟! أين نحن من آخِر وصيَّةٍ من نبيِّ الإسلام لأمَّة الإسلام؟!
إن ما نشاهده في العالم الإسلامي من خلافات ومنازعات وانقسامات لَأَقْرَبُ دليلٍ على بُعد المسلمين عن دينهم، وعلى عدم التزامهم بالأحكام الشرعية التي أوصانا بها رسولنا الأكرم.
أيها المسلمون:(/4)
يا أحباب الله، لا تصلح الأمور بسفك الدِّماء وبالخلافات والتناقضات فيما بين المسلمين، وإنما تصلح الأمَّة بعقيدة الإسلام، وبحقن الدِّماء وبالإحسان والتودُّد فيما بين المسلمين، وأن يتعاملوا فيما بينهم على ضوء الأحكام الشرعية المستمدَّة من الكتاب والسنَّة؛ لقوله - سبحانه وتعالى - مخاطبًا نبيَّه الكريم - عليه الصَّلاة والسَّلام -: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159]، وطلب عزَّ وجلَّ من موسى وأخيه هارون - عليهما السلام - أن يخاطِبا فرعون خطابًا ليِّنًا بقوله: {فَقُولاَ لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44]، فإذا كان الخطاب الموجَّه إلى فرعون خطابًا ليِّنًا؛ فكيف يكون خطاب المسلمين بعضهم بعضًا؟!
أيها المسلمون:
يا أحباب الله، لقد وصف القرآن الكريم النبيَّ محمدًا - عليه الصَّلاة والسَّلام - وأصحابه الكرام - رضوان الله عليهم - بأنهم متراحمون فيما بينهم أشداء على أعدائهم بقوله - سبحانه وتعالى -: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مّنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح: 29]، هكذا يجب أن يكون المسلمون فيما بينهم في كل زمان ومكان، هذه هي طريقة رسولنا الأكرم في دعوته، فلا يصلُح آخِرُ هذا الأمر إلا بما صَلَح به أوَّله.
اللهم اجعلنا ممَّن يستمعون القول فيتَّبعون أحسنه، اللهم احقن دماء المسلمين، وحقِّق لهم النَّصر المبين.
ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فيا فوز المستغفرين.
الخطبة الثانية(/5)
نحمد الله ربَّ العالمين حمد عباده الشَّاكرين الذَّاكرين، ونصلِّي ونسلِّم على المبعوث رحمةً للعالمين سيدنا محمَّد، صلاةً وسلامًا دائمَيْن عليه إلى يوم الدِّين، اللهم صلِّ على سيِّدنا محمَّد وعلى آل سيِّدنا محمَّد، كما صلَّيْت على سيِّدنا إبراهيم، وعلى آل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيِّدنا محمَّد وعلى آل سيدنا محمَّد، كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، في العالمين، إنَّك حميدٌ مجيدٌ.
أيها المسلمون:
يا إخوة الإيمان في كلِّ مكان، حدَثان ساخنان لا يزالان يزدادان سخونة:
الحدث الأول: بشأن الجدار العنصري الفاصل الذي يجعل من المدن والقرى والمخيمات الفلسطينية (كنتونات) وسجون كبيرة، ويمزِّق البلاد، ويشتِّت العباد، وقد سبق أن تناولنا هذا الموضوع، وحذَّرنا من نتائج إقامته قبل تنفيذه، ولا نزال نتناول هذا الموضوع المرَّة تِلْوَ المرَّة؛ حيث إن سلطات الاحتلال - وبتأييد من أمريكا - ماضيةٌ في غيِّها وفي عنادها، غير مباليةٍ بأيِّ اعتراض ولا استنكار، وإنَّ الاستمرار في إقامة هذا الجدار العنصري لمؤشِّرٌ على تفكُّك الأنظمة العربية وضعفها، وتساقط هيبتها وكرامتها، ومؤشِّرٌ أيضًا على أنَّ سلطات الاحتلال لا تنوي سلامًا؛ بل تريد حربًا وقتالًا، وهذا ما كشفه القرآن الكريم بحقِّهم بقوله - سبحانه وتعالى - في سورة الحشر: {لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلاَّ فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ} [الحشر: 14]، فالقرى المحصَّنة تتمثَّل في المستعمرات والمستوطنات، والجُدُر تتمثَّل بالجدار الفاصل المقام الآن.(/6)
ونؤكِّد رفضنا لهذا الجدار، وأنه لا استسلام للأمر الواقع، ليقضي الله أمرًا كان مفعولًا، والله يُمْهِل ولا يُهْمِل، ويتوجَّب علينا أن نتمسَّك بحقوقنا المشروعة، التي لا مجال للتفريط فيها، ولا للتنازل عنها.
أيها المسلمون:
يا إخوة الإيمان في كلِّ مكان، أما الحَدَث الآخَر الساخن ويزداد الآن سخونة؛ فهو موضوع الحجاب في فرنسا، وقد سبق أن قلنا: إنَّ منع الحجاب من خلال سنِّ القوانين في فرنسا هو بمثابة حربٌ ضدَّ الإسلام كدِينٍ، يؤكِّد ذلك ما نُشِرَ أمس في الصحف المحلية بأن الموضوع سوف لا يقتصر على الحجاب؛ بل سيشمل المنديل الذي يوضع على الرَّأس، وكذلك سيشمل الحظر الرجالَ الذين يطلقون اللحى من منطلقٍ دينيٍّ، وهكذا أقحمت الحكومة الفرنسية نفسها في موضوعٍ شائك، وكان الأجدر بها ألا تُقْحِم نفسها فيه.(/7)
ومع الأسف، ومن المؤلم أنَّ الشابَّ إذا تصرَّف تصرُّفًا لا أخلاقيًّا، من ارتكاب للموبقات ومصاحبة المومسات - فهو مرضيٌّ عنه في الشرق وفي الغرب، وملفُّه أبيض، في حين أنَّ الشابَّ الملتزم بدينه ويطلق لحيته يُفتَح له ملفٌ لملاحقته ومراقبته، والتحقيق معه والتضييق عليه في الشرق وفي الغرب، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، هذا يؤكِّد أنَّ الإسلام هو المستهدَف كدِين، وأن الحرب الصليبية المُبْطَنَة تُظهر رأسها من جديد لتحارب أيَّ مظهر إسلامي؛ فعلى المسلمين جميع المسلمين أن يعتزُّوا بدينهم، وأن يتمسُّكوا بأحكامه أينما وجِدوا، في الشرق وفي الغرب، وصدق الله العظيم إذ يقول في سورة التوبة: {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة: 32]، ويقول في سورة الصف: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف: 8]، فلابدَّ للَّيل أن ينجلي، ولابدَّ للقَيْد أن ينكسر.
سبحان الله، والحمد الله، ولا إله إلا الله، والله وأكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.(/8)
العنوان: عشر ذي الحجة
رقم المقالة: 1793
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
اختيارها وتفضيلها
الحمد لله العلي الأعلى؛ خلق فسوى، وقدر فهدى، وإليه الرجعى، نحمده كما هو أهل أن يحمد، ونشكره كما ينبغي له أن يشكر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ عمَّ فضله على العالمين فخلقهم ورزقهم وهداهم إلى ما ينفعهم، ودفع عنهم ما يضرهم، ووسعت رحمته كل شيء فرحم بها خلقه، ونال المؤمنون الحظ الأوفر منها {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف:156] وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ لا خير إلا دلنا عليه، ولا شر إلا حذرنا منه، تركنا على بيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه؛ أتقى هذه الأمة قلوبا، وأزكاهم عملا، وأكثرهم علما، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فأوصي نفسي وإياكم بتقوى الله عز وجل؛ فإن الأيام قد أسرعت بنا إلى قبورنا، وأنقصت شهورنا وأعوامنا، وما ذاك إلا من أعمارنا، ولن نجد أمامنا إلا أعمالنا، فتزودوا من العمل الصالح في حياتكم ما يكون سببا لنجاتكم وفوزكم في آخرتكم {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ} [الأنبياء:94].(/1)
أيها الناس: من المتقرر في عقيدة المسلم أن الخلق والاصطفاء والأمر بيد الله عز وجل، وأن ذلك من خصائص ربوبيته سبحانه وتعالى؛ فالرب تبارك وتعالى يخلق ما يشاء، ويصطفي من خلقه ما شاء، ويأمر عباده بما يريد، وعلى عبيده القبول والامتثال والتسليم والإذعان {أَلَا لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ} [الأعراف:54] وفي آية أخرى {اللهُ يَصْطَفِي مِنَ المَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [الحج:75].
إن الله سبحانه وتعالى خلق الملائكة وفضل بعضهم على بعض؛ كما فضل جبريل على سائر الملائكة عليهم السلام، وفضل من شهدوا بدرا من الملائكة على من لم يشهدوها.
وخلق البشر ففضل بعضهم على بعض؛ فاختص المؤمنين منهم بالإيمان، واختص الأنبياء من المؤمنين بنبواتهم، واختص الرسل من الأنبياء برسالاتهم، واختص أولى العزم منهم بما وهبهم من العزم، واختص الخليلين إبراهيم ومحمد عليهما السلام بالخلة، واختص الكليمين موسى ومحمد عليهما السلام بكلامه. والاصطفاء ثابت في القرآن فإن الله تعالى قال {قُلِ الحَمْدُ لله وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل:59] وعباده الذين اصطفى هم المؤمنون به عز وجل، الموحدون له، من الملائكة والنبيين والإنس والجن؛ فإن الله تعالى اصطفاهم من سائر خلقه بالإيمان، وخرج عن هذا الاصطفاء إبليس اللعين ومن تبعه من الكافرين والمنافقين.(/2)
ولما استعظم المشركون أن يُختار محمد عليه الصلاة والسلام من سائرهم نبيا ورسولا {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا القُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ القَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزُّخرف:31] كانت حجة الله تعالى عليهم {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} [الزُّخرف:32] ولما اعترض المشركون على الاصطفاء واشترطوا ليؤمنوا فقالوا {لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ الله} كانت حجة الله تعالى عليهم {اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:124].
واصطفى الله تبارك وتعالى لعباده من الدين أحسنه وأقومه وأنفعه، فارتضاه لهم دينا، وأبى غيره {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ الله الإِسْلَامُ} [آل عمران:19] وفي الآية الأخرى {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآَخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ} [آل عمران:85] وبالإسلام وصى النبيون عليهم السلام أتباعهم وذرياتهم {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة:132].
وخلق الله عز وجل الأرض ففضل بعضها على بعض؛ كما فضل أرض الحجاز بمكة والمدينة، وفضل مكة بحرمها ومسجدها ومشاعرها المقدسة عرفات ومزدلفة ومنى، التي هي مواضع الحج والنسك وتعظيم شعائر الله تعالى، وفضل المدينة بحرمها ومسجدها وبمسجد قباء وجبل أحد، ووادي العقيق المبارك، وفضل أرض الشام فباركها، وجعلها موطنا لأنبياء بني إسرائيل، وبارك مسجدها وما حوله، وجعله مسرى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.(/3)
وخلق الله تعالى الزمان ففضل بعضه على بعض؛ كما فضل رمضان على سائر الشهور، وفضل أيام الجمعة وعرفة والنحر على سائر الأيام، وفضل ليلة القدر على سائر الليالي، وفضل ثلث الليل الآخر على سائر أجزاء الليل، وفضل ساعة الجمعة على سائر الساعات، وفضل العمل في الليالي العشر الأخيرة من رمضان فاختصها بالاعتكاف والاجتهاد دون سائر الليالي، وفضل العمل في أيام عشر ذي الحجة على العمل في غيرها، واختصها بأمهات الأعمال والعبادات.
وليس لأحد من الخلق أن يعترض على ذلك، أو يناقش فيه، أو يزعم تفضيل إنسان أو مكان أو زمان أو عمل لم يفضله الله تعالى، وإلا كان منازعا لله تعالى في ربوبيته، مشاقٍّ له عز وجل في أمره وحكمه {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الخِيَرَةُ سُبْحَانَ الله وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [القصص:68] وفي الآية الأخرى {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب:36].(/4)
وعشر ذي الحجة عشر عظيمة مباركة، فضلها الله تعالى على غيرها من الأيام، فأقسم سبحانه بها في كتابه العزيز {وَالفَجْرِ* وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر:2] جاء في حديث جابر عند أحمد: أنها عشر ذي الحجة، واختصها الله تعالى بذكره سبحانه {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج:27] فالأيام المعلومات هي عشر ذي الحجة، وقد اختار الله تعالى أن يكون العمل الصالح فيها أفضل منه في غيرها؛ كما جاء في حديث ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال: (ما الْعَمَلُ في أَيَّامِ العشرِ أَفْضَلُ من العمل في هذه، قالوا: ولا الْجِهَادُ؟ قال: ولا الْجِهَادُ إلا رَجُلٌ خَرَجَ يُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فلم يَرْجِعْ بِشَيْءٍ) رواه البخاري.
وفي لفظ لأبي داود: (ما من أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فيها أَحَبُّ إلى الله من هذه الْأَيَّامِ يَعْنِي أَيَّامَ الْعَشْر، قالوا: يا رَسُولَ الله، ولا الْجِهَادُ في سَبِيلِ الله؟ قال: ولا الْجِهَادُ في سَبِيلِ الله إلا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فلم يَرْجِعْ من ذلك بِشَيْءٍ).
وفي رواية للدارمي: (ما من عمل أزكى عند الله عز وجل ولا أعظم أجرا من خير يعمله في عشر الأضحى... وكان سعيد بن جبير رحمه الله تعالى: إذا دخل أيام العشر اجتهد اجتهادا شديدا حتى ما يكاد يقدر عليه).
وما اختار الله تعالى فضيلة العمل الصالح في عشر ذي الحجة على غيرها إلا لعظيم منزلتها عنده عز وجل، وهو سبحانه يخلق ما يشاء ويختار، ويفضل من الأيام والأعمال ما يشاء.(/5)
وقد دل على فضلها حديث جابرٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من أيام أفضل عند الله من أيام عشر ذي الحجة، قال: فقال رجل: يا رسول الله، هنَّ أفضل أم عِدَّتُهن جهادا في سبيل الله؟ قال: هنَّ أفضل من عِدَّتِهِن جهادا في سبيل الله) صححه ابن حبان.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: (والذي يظهر أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة لمكان اجتماع أمهات العبادة فيه وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج ولا يتأتى ذلك في غيره) اهـ.
ومما يدل على فضل عشر ذي الحجة وقوعُ يومين عظيمين فيها هما يوم عرفة ويوم النحر:
أما يوم عرفة فقد قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من يَوْمٍ أَكْثَرَ من أَنْ يُعْتِقَ الله فيه عَبْدًا من النَّارِ من يَوْمِ عَرَفَةَ وَإِنَّهُ لَيَدْنُو ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمْ الْمَلَائِكَةَ فيقول ما أَرَادَ هَؤُلَاءِ) رواه مسلم.
وأما يوم النحر فجاء فيه حديث عبدِ الله بن قُرْطٍ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إِنَّ أَعْظَمَ الْأَيَّامِ عِنْدَ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَوْمُ النَّحْرِ ثُمَّ يَوْمُ الْقَرِّ) رواه أبو داود.
وقد ذكر ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله تعالى أن أيام عشر ذي الحجة أفضل من أيام عشر رمضان باعتبار أيام التروية وعرفة والنحر، وأن ليالي عشر رمضان أفضل من ليالي عشر ذي الحجة باعتبار ليلة القدر فيها.
وذكر ابن رجبٍ رحمه الله تعالى: ((أن مجموع عشر ذي الحجة أفضل من مجموع عشر رمضان وإن كان في عشر رمضان ليلة لا يفضل عليها غيرها)) اهـ.
أسال الله تعالى أن يرزقنا الفقه في الدين، وأن يوفقنا للعمل الصالح الذي به يرضى عنا، وأن يقبل منا ومن المسلمين صالح الأقوال والأعمال، إنه سميع قريب.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله....
الخطبة الثانية(/6)
الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- وجِدُّوا واجتهدوا في هذه العشر المباركات، واقدروها حق قدرها كما فضلها الله تعالى على سائر أيام العام، وعظموا فيها حرمات الله عز وجل {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ الله فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [الحج:30] وفي الآية الأخرى {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ الله فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى القُلُوبِ} [الحج:32].
أيها المسلمون: مما يلاحظ على الناس في هذه الأزمان المتأخرة عناية كثير منهم بعشر رمضان الأخيرة حتى إن كثيرا منهم يعتكفون في المساجد، أو يشدون رحالهم فيجاورون في الحرمين أو المسجد الأقصى، وهذا عمل طيب، وسعي مشكور، ولكن كثيرا منهم يَغْفُلُون عن عشر ذي الحجة رغم أن العمل فيها أفضل من العمل في عشر رمضان؛ كما هو ظاهر الأحاديث.
ومع انفتاح الدنيا على كثير من الناس باتوا يستغلون كل إجازة قصيرة أو طويلة، بما في ذلك إجازة عيد الأضحى في الترفيه واللعب والغفلة، بالنزهة في البراري والمنتجعات والاستراحات، وكثير منهم يشدون رحالهم فيسافرون للترويح واللهو، فيقضون الأيام المباركة التي فُضِّل العمل فيها على سائر الأيام فيما لا ينفعهم، ولربما ألحقوه بما يضرهم من تضييع الجمع والجماعات، والتهاون بالصلوات، وترك نوافل العبادات، والغفلة عن ذكر الله تعالى وشكره، وقد يشاهدون في أسفارهم ومنتزهاتهم منكرات لا يستطيعون إنكارها، ولا يفارقونها فيتحملون آثام سكوتهم عنها، ولاسيما من يسافرون خارج البلاد، وقد يوقعون أنفسهم أو أولادهم فيما حرم الله تعالى عليهم وهم في غنى عن ذلك.(/7)
فالحجاج يقدمون من كل فج، ويتحملون كثرة النفقات، ومشقة السفر، وشدة الزحام والانتظار في المطارات؛ لأداء مناسكهم، وتعظيم شعائر الله تعالى، وذكره في الأيام المعلومات، وهؤلاء على العكس من ذلك، يتحملون مشقة الرحلة، وعَنَتَ السفر ونفقاته فيما يشغلهم عن عمارة هذه الأيام بذكر الله تعالى وعبادته، وحري بكثير منهم -ولو احتاطوا- أن يقعوا في الوزر، ولا يسلموا من الإثم هم ورفقتهم من أهلٍ وولد في أيام عظمها الله تعالى، وفضل العمل الصالح فيها، فأي حرمان ينتظر هؤلاء! وأي خسارة يخسرونها في هذا الموسم المعظم؟!
ألا فاتقوا الله ربكم، واستعدوا لما تستقبلونه من عشركم، بالعمل الصالح الذي تجدونه ذخرا لكم؛ فإن مشقة العمل الصالح تزول ويبقى الأجر، وإن لذة المعاصي تزول ويبقى الوزر. وإن من الخسران أن تكون هذه العشر المباركة عند الناس كغيرها من الأيام، فلا يعظمونها كما عظمها الله تعالى، ولا يخصونها بمزيد عمل واجتهاد، فكيف إذا قضوها في الرحلات والأسفار والترويح والغفلة عن ذكر الله تعالى؟!
عباد الله: أكثروا في هذه العشر المباركة من ذكر الله تعالى فقد وصاكم نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم بذلك؛ كما في حديث ابنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنِ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من أَيَّامٍ أَعْظَمُ عِنْدَ الله وَلاَ أَحَبُّ إليه الْعَمَلُ فِيهِنَّ من هذه الأَيَّامِ الْعَشْرِ فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنَ التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ والتحميد) رواه أحمد.
(وكان ابنُ عُمَرَ وأبو هُرَيْرَةَ يَخْرُجَانِ إلى السُّوقِ في أَيَّامِ الْعَشْرِ يُكَبِّرَانِ وَيُكَبِّرُ الناس بِتَكْبِيرِهِمَا) رواه البخاري معلقا.(/8)
والأضحية عمل مبرور، وسعي مشكور، ونفقة لله تعالى مخلوفة، مع ما يستفيده المضحي من الانتفاع بلحمها، وشكر الله تعالى عليها، فهو المنعم بها، وهو المكافئ عليها، ولا يأخذ سبحانه منها شيئا {لَنْ يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ المُحْسِنِينَ} [الحج:37].
ومن كان في نيته أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره من أول ليالي العشر؛ لما جاء في حديث أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دَخَلَتْ الْعَشْرُ وَأَرَادَ أَحَدُكُم أَنْ يُضَحِّيَ فلا يَمَسَّ من شَعَرِهِ وَبَشَرِهِ شيئا) وفي رواية (فلا يَأْخُذَنَّ شَعْرًا ولا يَقْلِمَنَّ ظُفُرًا) رواه مسلم.
وصلوا وسلموا على نبيكم....(/9)
العنوان: عشر مباركة
رقم المقالة: 1674
صاحب المقالة: الشيخ فهد بن عبدالله آل طالب
-----------------------------------------
ملخص الخطبة
الله يخلق ما يشاء ويختار.
نعمة موسم الخيرات.
فضل العشر من ذي الحجة.
ما يشرع في العشر من ذي الحجة.
من أحكام المضحي.
الخطبة الأولى
أيها المؤمنون، إن من حكمة الله – تعالى - ودلائل ربوبيته ووحدانيته وصفاتِ كماله - تخصيصَ بعضِ مخلوقاته بمزايا وفضائل، وقد قال - جل جلاله -: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص: 68].
هيأ لعباده مواسم عظيمة وأيامًا فاضلة؛ لتكون مغنمًا للطائعين، وميدانًا لتنافس المتنافسين، قال ابن رجب: "وما من هذه المواسم الفاضلة موسم إلا ولله – تعالى - فيه وظيفة من وظائف طاعاته يُتقرب بها إليه، ولله فيه لطيفة من لطائف نفحاته يصيب بها من يعود برحمته وفضله عليه، فالسعيد من اغتنم مواسم الشهور والأيام والساعات، وتقرب فيها إلى مولاه بما فيها من وظائف الطاعات، فعسى أن تصيبه نفحة من تلك النفحات، فيسعدَ بها سعادة يأمن بها من النار وما فيها من اللفحات".
أيها المؤمنون، أروا الله من أنفسكم خيرًا، فإنكم على أبواب عشر مباركة، أقسم الله بها في كتابه، فقال: {وَالفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر: 1 – 2]، والعظيم لا يقسم إلا بعظيم.
وعشركم هذه هي خاتمةُ الأشهر المعلومات، أشهرِ الحج التي قال الله فيها: {الحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197]، وهي شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة.(/1)
وعشركم هذه في قول جمهور العلماء هي الأيام المعلومات، التي شرع الله ذكره فيها على ما رزق من بهيمة الأنعام، فقال: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج: 27 - 28].
وعشركم هذه من جملة الأربعين التي واعدها الله - عز وجل - لموسى عليه السلام، قال الله – تعالى -: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [الأعراف: 142]؛ رواه عبدالرزاق عن مجاهد، رحمه الله.
وعشركم هذه فيها يوم عرفة ويوم النحر.
وعشركم هذه قال فيها: ((ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام))، قالوا: "يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟!"، قال: ((ولا الجهاد في سبيل الله؛ إلا رجل خرج بنفسه وماله، ثم لم يرجع من ذلك بشيء))؛ أخرجه البخاري من حديث ابن عباس.
قال ابن رجب - رحمه الله -: "وقد دل هذا الحديث على أن العمل في أيام العشر أحبُّ إلى الله من العمل في أيام الدنيا من غير استثناء شيء منها، وإذا كان أحبَّ إلى الله فهو أفضل عنده، وإذا كان العمل في أيام العشر أفضلَ وأحبَّ إلى الله من العمل في غيره من أيام السنة كلِّها، صار العمل فيه وإن كان مفضولاً أفضلَ من العمل في غيره وإن كان فاضلاً".
قال ابن حجر: "والذي يظهر أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة؛ لمكان اجتماع أمهات العبادة فيه، وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج، ولا يتأتى ذلك في غيره".(/2)
وقال ابن رجب: "فإن قيل: قوله: ((ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام))، هل يقتضي تفضيل كل عمل صالح وقع في شيء من أيام العشر على جميع ما يقع في غيرها، وإن طالت مدته؟ قيل: الظاهر - والله أعلم - أن المراد أن العمل في هذه الأيام العشر أفضلُ من العمل في أيام عشر غيرها، فكل عمل صالح يقع في هذا العشر فهو أفضل من عمل في عشرة أيام سواها من أي شهر كان، فيكون تفضيلاً للعمل في كل يوم منه على العمل في كل يوم من أيام السنة غيره".
فأيام عشر ذي الحجة خير أيام السنة بنص هذا الحديث، قال ابن رجب: "وأما لياليه فمن المتأخرين مَن زعم أن ليالي عشرِ رمضان أفضلُ من لياليه؛ لاشتمالها على ليلة القدر، وهذا بعيد جدًّا.. قال: والتحقيق ما قاله أعيان المتأخرين من العلماء أن يقال: مجموع هذا العشر أفضل من مجموع عشر رمضان، وإن كان في عشر رمضان ليلةٌ لا يفضل عليها غيرها".
واستدل على هذا بأمرين:
الأول: أن الأيام إذا أطلقت دخلت فيها الليالي تبعًا، وكذلك الليالي تدخل أيامها تبعًا.
والثاني: أن الله أقسم بلياليه فقال: {وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر: 2].
أيها المؤمنون، وفي عشر ذي الحجة أعمال فاضلة ينبغي الحرص عليها، فمن ذلك الصيام، فيُسنُّ للمسلم صيام تسع ذي الحجة؛ لأن النبي حث على الصيام فيها، والصيام من أفضل الأعمال، وروي عن بعض أزواج النبي أن النبي كان لا يدع صيام تسع ذي الحجة.(/3)
وأمَّا ما ورد عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: "ما رأيتُه - تعني النبي - صائمًا في العشر قط"؛ أخرجه مسلم، فقال ابنُ القيم - رحمه الله - بعد أن أوردَ هذه المسألةَ: "والمُثْبِتُ مُقدَّمٌ على النَّافي إن صحَّ"، وقال ابن حجَر بعد أن ذكر فضلَ الصومِ في هذه العشر: "ولا يرِد على ذلك حديثُ عائشةَ لاحتِمال أن يكونَ ذلك لكونِه - وهو الرحيم المشفِق - كان يترك العمَلَ وهو يحب أن يعمَلَه خشيةَ أن يُفرَضَ على أمَّته". قال النووي - رحمه الله -: "فيُتأوَّل قولُها: "لم يصُمِ العشرَ" أنه لم يصمه لعارضِ مرضٍ أو سفَر أو غيرهما، أو أنها لم ترَه صائمًا فيها، ولا يلزم من ذلك عدمُ صيامِه في نفس الأمر"، وقال: "صيامها مستحب استحبابًا شديدًا".
الثاني: يسن التكبير أيام العشر، وإظهار ذلك في المساجد والمنازل والطرقات وكلِّ موضع يجوز فيه ذكر الله تعالى، يجهر به الرجال، وتخفيه المرأة، ذكر البخاري في صحيحه عن ابن عمر وأبي هريرة أنهما كانا يخرجان إلى السوق في العشر، فيكبران ويكبر الناس بتكبيرهما.
وأصحُّ ما ورد في صيغِ التكبير ما أخرجَه عبدالرزاق بسندٍ صحيح عن سلمان قال: "كبِّروا الله: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر كبيرًا)، وصحَّ عن عمر وابن مسعود صيغة: "الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر، ولله الحمد)، ويصح التكبير بكل صيغة.(/4)
الثالث من أعمال هذه العشر: أداء الحج، وقد فرض الله الحج على المستطيع مرة في العمر، وجعله ركنًا من أركان دينه، قال – تعالى -: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97]، وقال – صلى الله عليه وسلم -: ((بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان))؛ متفق عليه. وقد حذرنا النبي من تأخير الحج مع الاستطاعة أشد تحذير، فقال: ((تعجلوا إلى الحج فإن أحدكم؛ لا يدري ما يعرض له))؛ أخرجه أحمد وحسنه الألباني، وقال عمر بن الخطاب: "من أطاق الحج فلم يحج، فسواء عليه مات يهوديًّا أو نصرانيًّا)، قال ابن كثير: "وهذا إسناد صحيح إلى عمر".
أبعد هذا يبقى مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر تاركًا للحج وقد استطاع؟! كيف يلقى الله وقد ترك ركنًا من أركان دينه؟! ومن يضمن له البقاء إلى السنة القادمة حتى يؤدي فريضة الحج؟! فإن الأعمار بيد الله، فربما مات قبل أن يحج، أو عرض له أمر؛ من مرض أو فقر، أو تغير في الأحوال في السنة القادمة، فلم يستطع الحج. ألا ترونَ الكثير من المسلمين يأتون من المشرق والمغرب من بلاد بعيدة، قد تركوا الأهل والأوطان، وعرضوا أنفسهم لمخاطر الطرق والأسفار، ليصلوا إلى بيت الله الحرام، مع ما هم فيه من فقر وحاجة؟! فما بالنا نحن الذين في بلاد الحرمين، وقد أنعم الله علينا بنِعَمٍ عظيمة، ومع ذلك نفرط في الحج برغم قربه وتيسر أموره؟!
الرابع من الأعمال: الإكثار من الأعمال الصالحة، فاعمر هذه الأيام بطاعة الله عز وجل، من صلاة وقراءة قرآن وذكر ودعاء وصدقة وصلة وأمر بمعروف ونهي عن منكر، وأبواب الخير مشرعة.(/5)
الخامس: التوبة، وهي واجبة في جميع الزمان، متأكدة في هذه العشر المباركة، {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31]، وإذا اجتمع للمسلم توبة نصوح مع أعمال صالحة في زمان فاضل، فذاك عنوان الفلاح، {فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ} [القصص: 67].
الخطبة الثانية
أيها المؤمنون، ومما يستحب في هذه العشر الأضحية، ومن أراد أن يضحي فلا يمس من شعره وبشرته شيئًا، روى مسلم عن أم سلمة - رضي الله عنها - قال – صلى الله عليه وسلم -: ((إذا رأيتم هلال ذي الحجة، وأراد أحدكم أن يضحي؛ فليمسك عن شعره وأظفاره حتى يضحي)). والأمر للوجوب، والحكم متعلق بالمضحي، سواء وكَّل غيره أم لا، والوكيل لا يتعلق به نهي. والحكم أيضا خاص بصاحب الأضحية، ولا يعمُّ الزوجة والأولاد؛ لأن النبي كان يضحي عن آل محمد، ولم ينقل أنه نهاهم عن الأخذ.
والحكمة من النهي عن ذلك - كما قال ابن القيم - توفير الشعر والظفر ليأخذه مع الأضحية، فيكون ذلك من تمام الأضحية عند الله وكمالِ التعبد بها. وقد شهد لذلك أيضًا أنه شرع لهم إذا ذبحوا عن الغلام عقيقته أن يحلقوا رأسه، فدل على أن حلق رأسه مع الذبح أفضل وأولى.
ومَن أخذ مِن شعره أو ظفره أول العشر، لعدم إرادته الأضحية، ثم أرادها في أثنائها أمسك من حين الإرادة، وإن حلق أو قلم أظافره ناسيًا فلا شيء عليه؛ لأن الله تجاوز عن الناسي، ولو تعمد إنسان وأخذ؛ فعليه أن يستغفر الله ولا فدية عليه، ولا حرج في غَسل الرأس للرجل والمرأة أيام العشر.(/6)
العنوان: عشر مباركة
رقم المقالة: 1753
صاحب المقالة: فهد بن عبدالله آل طالب
-----------------------------------------
عشر مباركة
فهد بن عبدالله آل طالب
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأزمنة والأمكنة
الرياض
28/11/1426
جامع الأمير حسن بن عبدالله آل سعود
محامد وأدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- الله يخلق ما يشاء ويختار.
2- نعمة موسم الخيرات.
3- فضل العشر من ذي الحجة.
4- ما يشرع في العشر من ذي الحجة.
5- من أحكام المضحي.
الخطبة الأولى
أيها المؤمنون، إن من حكمة الله – تعالى - ودلائل ربوبيته ووحدانيته وصفاتِ كماله - تخصيصَ بعضِ مخلوقاته بمزايا وفضائل، وقد قال - جل جلاله -: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص: 68].
هيأ لعباده مواسم عظيمة وأيامًا فاضلة؛ لتكون مغنمًا للطائعين، وميدانًا لتنافس المتنافسين، قال ابن رجب: "وما من هذه المواسم الفاضلة موسم إلا ولله – تعالى - فيه وظيفة من وظائف طاعاته يُتقرب بها إليه، ولله فيه لطيفة من لطائف نفحاته يصيب بها من يعود برحمته وفضله عليه، فالسعيد من اغتنم مواسم الشهور والأيام والساعات، وتقرب فيها إلى مولاه بما فيها من وظائف الطاعات، فعسى أن تصيبه نفحة من تلك النفحات، فيسعدَ بها سعادة يأمن بها من النار وما فيها من اللفحات".
أيها المؤمنون، أروا الله من أنفسكم خيرًا، فإنكم على أبواب عشر مباركة، أقسم الله بها في كتابه، فقال: {وَالفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر: 1 – 2]، والعظيم لا يقسم إلا بعظيم.
وعشركم هذه هي خاتمةُ الأشهر المعلومات، أشهرِ الحج التي قال الله فيها: {الحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197]، وهي شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة.(/1)
وعشركم هذه في قول جمهور العلماء هي الأيام المعلومات، التي شرع الله ذكره فيها على ما رزق من بهيمة الأنعام، فقال: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج: 27 - 28].
وعشركم هذه من جملة الأربعين التي واعدها الله - عز وجل - لموسى عليه السلام، قال الله – تعالى -: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [الأعراف: 142]؛ رواه عبدالرزاق عن مجاهد، رحمه الله.
وعشركم هذه فيها يوم عرفة ويوم النحر.
وعشركم هذه قال فيها: ((ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام))، قالوا: "يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟!"، قال: ((ولا الجهاد في سبيل الله؛ إلا رجل خرج بنفسه وماله، ثم لم يرجع من ذلك بشيء))؛ أخرجه البخاري من حديث ابن عباس.
قال ابن رجب - رحمه الله -: "وقد دل هذا الحديث على أن العمل في أيام العشر أحبُّ إلى الله من العمل في أيام الدنيا من غير استثناء شيء منها، وإذا كان أحبَّ إلى الله فهو أفضل عنده، وإذا كان العمل في أيام العشر أفضلَ وأحبَّ إلى الله من العمل في غيره من أيام السنة كلِّها، صار العمل فيه وإن كان مفضولاً أفضلَ من العمل في غيره وإن كان فاضلاً".
قال ابن حجر: "والذي يظهر أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة؛ لمكان اجتماع أمهات العبادة فيه، وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج، ولا يتأتى ذلك في غيره".(/2)
وقال ابن رجب: "فإن قيل: قوله: ((ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام))، هل يقتضي تفضيل كل عمل صالح وقع في شيء من أيام العشر على جميع ما يقع في غيرها، وإن طالت مدته؟ قيل: الظاهر - والله أعلم - أن المراد أن العمل في هذه الأيام العشر أفضلُ من العمل في أيام عشر غيرها، فكل عمل صالح يقع في هذا العشر فهو أفضل من عمل في عشرة أيام سواها من أي شهر كان، فيكون تفضيلاً للعمل في كل يوم منه على العمل في كل يوم من أيام السنة غيره".
فأيام عشر ذي الحجة خير أيام السنة بنص هذا الحديث، قال ابن رجب: "وأما لياليه فمن المتأخرين مَن زعم أن ليالي عشرِ رمضان أفضلُ من لياليه؛ لاشتمالها على ليلة القدر، وهذا بعيد جدًّا.. قال: والتحقيق ما قاله أعيان المتأخرين من العلماء أن يقال: مجموع هذا العشر أفضل من مجموع عشر رمضان، وإن كان في عشر رمضان ليلةٌ لا يفضل عليها غيرها".
واستدل على هذا بأمرين:
الأول: أن الأيام إذا أطلقت دخلت فيها الليالي تبعًا، وكذلك الليالي تدخل أيامها تبعًا.
والثاني: أن الله أقسم بلياليه فقال: {وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر: 2].
أيها المؤمنون، وفي عشر ذي الحجة أعمال فاضلة ينبغي الحرص عليها، فمن ذلك الصيام، فيُسنُّ للمسلم صيام تسع ذي الحجة؛ لأن النبي حث على الصيام فيها، والصيام من أفضل الأعمال، وروي عن بعض أزواج النبي أن النبي كان لا يدع صيام تسع ذي الحجة.(/3)
وأمَّا ما ورد عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: "ما رأيتُه - تعني النبي - صائمًا في العشر قط"؛ أخرجه مسلم، فقال ابنُ القيم - رحمه الله - بعد أن أوردَ هذه المسألةَ: "والمُثْبِتُ مُقدَّمٌ على النَّافي إن صحَّ"، وقال ابن حجَر بعد أن ذكر فضلَ الصومِ في هذه العشر: "ولا يرِد على ذلك حديثُ عائشةَ لاحتِمال أن يكونَ ذلك لكونِه - وهو الرحيم المشفِق - كان يترك العمَلَ وهو يحب أن يعمَلَه خشيةَ أن يُفرَضَ على أمَّته". قال النووي - رحمه الله -: "فيُتأوَّل قولُها: "لم يصُمِ العشرَ" أنه لم يصمه لعارضِ مرضٍ أو سفَر أو غيرهما، أو أنها لم ترَه صائمًا فيها، ولا يلزم من ذلك عدمُ صيامِه في نفس الأمر"، وقال: "صيامها مستحب استحبابًا شديدًا".
الثاني: يسن التكبير أيام العشر، وإظهار ذلك في المساجد والمنازل والطرقات وكلِّ موضع يجوز فيه ذكر الله تعالى، يجهر به الرجال، وتخفيه المرأة، ذكر البخاري في صحيحه عن ابن عمر وأبي هريرة أنهما كانا يخرجان إلى السوق في العشر، فيكبران ويكبر الناس بتكبيرهما.
وأصحُّ ما ورد في صيغِ التكبير ما أخرجَه عبدالرزاق بسندٍ صحيح عن سلمان قال: "كبِّروا الله: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر كبيرًا)، وصحَّ عن عمر وابن مسعود صيغة: "الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر، ولله الحمد)، ويصح التكبير بكل صيغة.(/4)
الثالث من أعمال هذه العشر: أداء الحج، وقد فرض الله الحج على المستطيع مرة في العمر، وجعله ركنًا من أركان دينه، قال – تعالى -: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97]، وقال – صلى الله عليه وسلم -: ((بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان))؛ متفق عليه. وقد حذرنا النبي من تأخير الحج مع الاستطاعة أشد تحذير، فقال: ((تعجلوا إلى الحج فإن أحدكم؛ لا يدري ما يعرض له))؛ أخرجه أحمد وحسنه الألباني، وقال عمر بن الخطاب: "من أطاق الحج فلم يحج، فسواء عليه مات يهوديًّا أو نصرانيًّا)، قال ابن كثير: "وهذا إسناد صحيح إلى عمر".
أبعد هذا يبقى مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر تاركًا للحج وقد استطاع؟! كيف يلقى الله وقد ترك ركنًا من أركان دينه؟! ومن يضمن له البقاء إلى السنة القادمة حتى يؤدي فريضة الحج؟! فإن الأعمار بيد الله، فربما مات قبل أن يحج، أو عرض له أمر؛ من مرض أو فقر، أو تغير في الأحوال في السنة القادمة، فلم يستطع الحج. ألا ترونَ الكثير من المسلمين يأتون من المشرق والمغرب من بلاد بعيدة، قد تركوا الأهل والأوطان، وعرضوا أنفسهم لمخاطر الطرق والأسفار، ليصلوا إلى بيت الله الحرام، مع ما هم فيه من فقر وحاجة؟! فما بالنا نحن الذين في بلاد الحرمين، وقد أنعم الله علينا بنِعَمٍ عظيمة، ومع ذلك نفرط في الحج برغم قربه وتيسر أموره؟!
الرابع من الأعمال: الإكثار من الأعمال الصالحة، فاعمر هذه الأيام بطاعة الله عز وجل، من صلاة وقراءة قرآن وذكر ودعاء وصدقة وصلة وأمر بمعروف ونهي عن منكر، وأبواب الخير مشرعة.(/5)
الخامس: التوبة، وهي واجبة في جميع الزمان، متأكدة في هذه العشر المباركة، {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31]، وإذا اجتمع للمسلم توبة نصوح مع أعمال صالحة في زمان فاضل، فذاك عنوان الفلاح، {فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ} [القصص: 67].
الخطبة الثانية
أيها المؤمنون، ومما يستحب في هذه العشر الأضحية، ومن أراد أن يضحي فلا يمس من شعره وبشرته شيئًا، روى مسلم عن أم سلمة - رضي الله عنها - قال – صلى الله عليه وسلم -: ((إذا رأيتم هلال ذي الحجة، وأراد أحدكم أن يضحي؛ فليمسك عن شعره وأظفاره حتى يضحي)). والأمر للوجوب، والحكم متعلق بالمضحي، سواء وكَّل غيره أم لا، والوكيل لا يتعلق به نهي. والحكم أيضا خاص بصاحب الأضحية، ولا يعمُّ الزوجة والأولاد؛ لأن النبي كان يضحي عن آل محمد، ولم ينقل أنه نهاهم عن الأخذ.
والحكمة من النهي عن ذلك - كما قال ابن القيم - توفير الشعر والظفر ليأخذه مع الأضحية، فيكون ذلك من تمام الأضحية عند الله وكمالِ التعبد بها. وقد شهد لذلك أيضًا أنه شرع لهم إذا ذبحوا عن الغلام عقيقته أن يحلقوا رأسه، فدل على أن حلق رأسه مع الذبح أفضل وأولى.
ومَن أخذ مِن شعره أو ظفره أول العشر، لعدم إرادته الأضحية، ثم أرادها في أثنائها أمسك من حين الإرادة، وإن حلق أو قلم أظافره ناسيًا فلا شيء عليه؛ لأن الله تجاوز عن الناسي، ولو تعمد إنسان وأخذ؛ فعليه أن يستغفر الله ولا فدية عليه، ولا حرج في غَسل الرأس للرجل والمرأة أيام العشر؛ لأن النبي إنما نهى عن الأخذ.(/6)
العنوان: عشر وقفات للنساء في رمضان
رقم المقالة: 1261
صاحب المقالة:
-----------------------------------------
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.. أمَّا بعد:
فهذه كلماتٌ وجيزة، ونداءات غالية، نهديها إلى المرأة المسلمة والفتاة المؤمنة، بمناسبة قُدُوم شهر رمضان المبارك، نسأل الله أن ينفع بها كل من قرأتها من أخواتنا المؤمنات، وأن تكون عونًا لهن على طاعة الله تعالى والفوز برضوانه ومغفرته في هذا الشهر العظيم.
الوقفة الأولى: رمضان نعمة يجب أن تشكر:
أختاه! إن شهر رمضان من أعظم نعم الله تعالى على عباده المؤمنين، فهو شهر تتنزل فيه الرحمات، وتغفر فيه الذنوب والسيئات، وتضاعف فيه الأجور والدرجات، ويعتق الله فيه عباده من النيران؛ قال النبيّ - صلى الله عليه وسلّم -: ((إذا دَخَلَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أبوابُ الجنَّة، وَغُلِّقَتْ أبوابُ جَهَنَّم، وَسُلْسِلَتِ الشَّياطِينُ))؛ متفق عليه.
وقال صلى الله عليه وسلّم: ((من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه))؛ متفق عليه.
وقال تعالى في الحديث القدسي: ((كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به))؛ متَّفَقٌ عليه.
وقال صلى الله عليه وسلّم: ((إن لله في كل يوم وليلة عتقاء من النار في شهر رمضان، وإن لكل مسلم دعوة يدعو بها، فيستجاب له))، رواه أحمد بسندٍ صحيحٍ.
وفيه ليلة القدر؛ قال تعالى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْر مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 3].(/1)
فيا أختي المسلمة: هذه بعض فضائل هذا الشهر الكريم،وهي تُبَيِّنُ عظم نعمة الله تعالى عليك بأن آثرك على غيرك، وهيأك لصيامه وقيامه، فكم من الناس صاموا معنا رمضان الغابر، وهم الآن بين أطباق الثرى مُجَنْدَلِين في قبورهم. فاشْكُرِي اللهَ أُخْتِي المُسْلِمَة على هذه النعمة، ولا تُقَابِلِيها بِالمَعَاصِي والسيئات فتزول وتَنْمَحِي، وَلَقَدْ أَحْسَنَ القائِلُ:
إِذَا كُنْتَ فِي نِعْمَة فَارْعَهَا فَإِنَّ المَعَاصِي تُزِيلُ النِّعَمْ
وَحُطْهَا بِطَاعَةِ رَبِّ العِبَادِ فَرَبُّ العِبادِ سَرِيعُ النِّقَمْ
الوقفة الثانية: كيف تستقبلين رمضان؟!
1- بالمبادرة إلى التوبة الصادقة كما قال سبحانه: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31].
2- بالتخلُّص من جميع المنكرات من كذبٍ وغيبةٍ ونميمةٍ وفحشٍ وغناءٍ وتبرّجٍ واختلاطٍ وغيرِ ذَلِكَ.
3- بعقد العزم الصادق والهمة العالية على تعمير رمضان بالأعمال الصالحة، وعدم تضييع أوقاته الشريفة فيما لا يفيد.
4- بكثرة الذكر والدعاء والاستغفار وتلاوة القرآن.
5- بالمحافظة على الصلوات الخمس في أوقاتها، وتأديتها بتؤدة وطمأنينة وخشوع.
6- بالمحافظة على النوافل بعد إتيان الفرائض.
الوقفة الثالثة: تعلمي أحكام الصيام:
يجب على المسلمة أن تتعلم أحكام الصيام، فرائضه وسننه وآدابه، حتى يصح صومها ويكون مقبولاً عند الله تعالى، وهذه نبذة يسيرة في أحكام صيام المرأة:
1- يجب الصيام على كل مسلمة بالغة عاقلة مقيمة (غير مسافرة) قادرة (غير مريضة) سالمة من الموانع كالحيض والنفاس.
2- إذا بلغت الفتاة أثناء النهار لزمها الإمساك بقية اليوم؛ لأنها صارت من أهل الوجوب، ولا يلزمها قضاء ما فات من الشهر؛ لأنها لم تكن من أهل الوجوب.(/2)
3- تشترط النية في صوم الفرض، وكذا كل صوم وواجب، كالقضاء و الكفارة؛ لحديث: ((لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل))؛ رواه أبو داود، فإذا نويت الصيام في أي جزء من أجزاء الليل ولو قبل الفجر بلحظة صحَّ الصيام.
4- مفسدات الصوم سبعة:
أ – الجماع.
ب - إنزال المنيّ بمباشرة أو ضم أو تقبيل.
جـ - الأكل والشرب.
د - ما كان بمعنى الأكل والشرب كالإبر المغذية.
هـ - إخراج الدم بالحجامة والفصد.
و - التقيؤ عمدًا.
ز- خروج دم الحيض والنفاس.
5- الحامل إذا رأت القصة البيضاء - وهو سائل أبيض يدفعه الرحم بعد انتهاء الحيض - التي تعرف بها المرأة أنها قد طهرت، تنوي الصيام من الليل وتصوم، وإن لم يكن لها طهر تعرفه احتشت بقطن ونحوه، فإن خرج نظيفًا صامت، وإن رجع دم الحيض أفطرت.
6- الأفضل للحائض أن تبقى على طبيعتها، وترضى بما كتبه الله عليها، ولا تتعاطى ما تمنع به الحيض، فإنه شيء كتبه الله على بنات آدم.
7- إذا طهرت النفساء قبل الأربعين صامت واغْتَسَلَتْ للصلاة، وإذا تجاوزت الأربعين نوت الصيام واغتسلت، وتعتبر ما استمر استحاضة، إلا إذا وافق وقت حيضها المعتاد فهو حينئذ حيض.
8- دم الاستحاضة لا يؤثر في صحة الصيام.
9- الراجح قياس الحامل والمرضع على المريض، فيجوز لهما الإفطار، وليس عليهما إلا القضاء؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلّم: ((إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة، وعن الحامل والمرضع الصوم))؛ رواه الترمذي، وقال: حسن.
10- لا بأس للصائمة بتذوق الطعام للحاجة، ولكن لا تبتلع شيئًا منه، بل تمجه وتخرجه من فيها، ولا يفسد بذلك صومها.
11- يستحب تعجيل الفطر قبل صلاة المغرب، وتأخير السحور، قال صلى الله عليه وسلّم: ((لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر))؛ متفق عليه.
الوقفة الرابعة: رمضان شهر الصيام لا شهر الطعام:(/3)
أختي المسلمة: فرض الله صيام رمضان ليتعود المسلم على الصبر وقوة التحمل، حتى يكون ضابطًا لنفسه، قامعًا لشهوته، متقيًا لربه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].
وقد سئل بعض السلف: لم شرع الصيام؟ فقال: ليذوق الغني طعم الجوع فلا ينسى الفقير!
وإن مما يبعث على الأسف ما نراه من إسراف كثير من الناس في الطعام و الشراب في هذا الشهر، حيث إن كميات الأطعمة التي تستخدمها كل أسرة في رمضان أكثر منها في أي شهر من شهور السنة! إلا من رحم الله. وكذلك فإن المرأة تقضي معظم ساعات النهار داخل المطبخ لإعداد ألوان الأطعمة وأصناف المشروبات!!.
فمتى تقرأ هذه القرآن؟
ومتى تذكر الله وتتوجه إليه بالدعاء والاستغفار؟
ومتى تتعلم أحكام الصيام وآداب القيام؟
ومتى تتفرغ لطاعة الله عز وجل؟
فتحذري - أختاه - من تضييع أوقات هذا الشهر في غير طاعة الله وعبادته، فقد خاب وخسر من أدرك رمضان ولم يغفر له، قال النبي صلى الله عليه وسلّم: ((ما ملأ ابن آدم وعاء شرًّا من بطنه، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان ولا بد فاعلاً فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه))؛ رواه أحمد والترمذي وصححه الألباني.
الوقفة الخامسة: رمضان شهر القرآن:(/4)
لشهر رمضان خصوصية بالقرآن ليست لباقي الشهور، قال الله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ القُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة: 185]. فرمضان والقرآن متلازمان، إذا ذكر رمضان ذكر القرآن، وفي الصحيحين عنِ ابن عباسٍ - رضي الله عنهما - قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلّم - أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جِبْريلُ يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فَلَرَسُولُ الله حين يلقاه جبريلُ أجود بالخير من الريح المرسلة)). في هذا الحديث دليل على استحباب تلاوة القرآن ودراسته في رمضان، واستحباب ذلك ليلاً، فإن الليل تنقطع فيه الشواغل، وتجتمع فيه الهمم، ويتواطأ فيه القلب واللسان على التدبر كما قال تعالى: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً} [المزمل: 6]. وكان بعضهم يختم القرآنَ في قيام رمضان في كل ثلاثِ ليالٍ، وبعضهم في كل سبع، وبعضهم في كل عشر، وَكانَ قتادةُ يَخْتِمُ في كل سبعٍ دائمًا، وفي رمضان في كل ثلاث، وفي العشر الأواخر كل ليلة.
وكان الزهري إذا دخل رمضان قال: فإنما هو تلاوة القرآن، وإطعام الطعام.
وقال ابن عبدالحكم: كان مالك إذا دخل رمضان ترك قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم، وأقبل على تلاوة القرآن من المصحف.
وقال عبد الرازق: كان سفيان الثوري إذا دخل رمضان ترك جميع العبادة وأقبل على تلاوة القرآن.
وأنت - أختي المسلمة - ينبغي أن يكون لك ورد من تلاوة القرآن، يحيا به قلبك، وتزكو به نفسك، وتخشع له جوارحك، وبذلك تستحقين شفاعة القرآن يوم القيامة. قال النبي - صلى الله عليه وسلّم -: ((الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة ؛ يقول الصيام: أي رب منعته الطعام والشهوة، فشفعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه. قال: فيشفّعان))؛ رواه أحمد والحاكم بسند صحيح.(/5)
الوقفة السادسة: رمضان شهر الجود والإحسان:
أختي المسلمة: حث النبي - صلى الله عليه وسلّم - النساء على الصدقة فقال عليه الصلاة والسلام: ((يا معشر النساء، تصدقن وأكثرن الاستغفار، فإني رأيتكن أكثر أهل النار))؛ رواه مسلم، وقال - صلى الله عليه وسلّم -: ((تصدقن يا معشر النساء ولو من حليكن..))؛ رواه البخاري.
ويروى عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها تصدقت في يوم واحد بمائة ألف، وكانت صائمة في ذلك اليوم، فقالت لها خادمتها: أما استطعت فيما أنفقت أن تشتري بدرهم لحمًا تُفْطِرِينَ عَلَيْهِ؟ فقالت: لَوْ ذَكَّرْتِنِي لَفَعَلْتُ!
أما الجود في رمضان فإنه أفضل من الجود في غيره، ولذلك كان النبي - صلى الله عليه وسلّم - في رمضان أجود بالخير من الريح المرسلة، وكان جوده - صلى الله عليه وسلّم - شاملاً جميع أنواع الجود، من بذل العلم والمال، وبذل النفس لله تعالى في إظهار دينه وهاية عباده، وإيصال النفع إليهم بكل طريق، من إطعام جائعهم، ووعظ جاهلهم، وقضاء حوائجهم، وتحمل أثقالهم.
ومن الجود في رمضان إطعام الصائمين: فاحرصي - أختي المسلمة - على أن تفطري صائمًا، فإن في ذلك الأجر العظيم، والخير العميم، قال النبي - صلى الله عليه وسلّم -: ((من فطَّر صائمًا كان له مثل أجره غير أنه لاينقص من أجر الصائم شيئًا))؛ رواه أحمد والترمذي، وقال: حسن صحيح.
واحرصي كذلك على الصدقة الجارية، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلّم: ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له))؛ رواه مسلم.
الوقفة السابعة: رمضان شهر القيام:(/6)
أختي المسلمة: كان النبي - صلى الله عليه وسلّم - يقوم من الليل حتى تَتَفَطَّرَ قدماه، فقالوا له: يارسول الله! تفعل ذلك وقد غُفِرَ لَكَ ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر؟ فقال: ((أفلا أكون عبدًا شكورًا))؛ متَّفق عليه. وقال النبي - صلى الله عليه وسلّم -: ((من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه))؛ متفق عليه.
وللمرأة أن تذهب إلى المسجد لتؤدي فيه الصلوات ومنها صلاة التراويح، غير أن صلاتها في بيتها أفضل، لقول النبي صلى الله عليه وسلّم: ((لا تمنعوا نساءكم المساجد، وبيوتهن خير لهن))؛ رواه أحمد وأبو داود وصححه الألباني.
قال الحافظ الدمياطي: "كان النساء في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلّم - إذا خَرَجْنَ من بُيُوتِهِنَّ إلى الصلاة يخرجن متبذلات متلفعات بالأكسية، لا يعرفن من الغلس - أي الظلمة - وكان إذا سلَّمَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلّم - يقال للرجال: مكانكم حتى ينصرف النساء، ومع هذا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلّم - إنَّ صلاتَهُنَّ في بيوتهن أفضل لهن.. فما ظنك فيمن تخرج متزينة، متبخة، متبهرجة، لابسةً أحْسَنَ ثِيابِها، وقد قالَتْ عائِشَةُ - رضي الله عنها -: لو علم النبي - صلى الله عليه وسلّم - ما أَحْدَثَ النِّساء بعده لمنعهن الخروج إلى المسجد. هذا قولها في حق الصحابيات ونساء الصدر الأول، فما ظنك لو رأت نساء زماننا هذا ؟!)) ا.هـ.
فعلى المرأة الرشيدة إذا أرادتِ الخُرُوجَ إلى المسجد أن تخرج على الهيئة التي كانت عليها نساء السلف إذا خرجن إلى المساجد.
وعليها كذلك استحضارُ النِّيَّةِ الصالحة في ذلك، وأنها ذاهبة لأداء الصلاة، وسماع آيات الله عزَّ وَجَلَّ، وهذا يدعوها إلى السكينة والوقار وعدم لفت الأنظار إليها.
بعض النساء يذهبن إلى المسجد مع السائق بمفردهن فيكن بذلك مرتكبات لمحرم سعيًا في طلب نافلة، وهذا من أعظم الجهل وأشد الحمق.(/7)
ولا يجوز للمرأة أن تتعطر أو تتطيب وهي خارجة من منزلها، كما أنه لا يجوز لها أن تتبخر بالمجامر لقوله صلى الله عليه وسلّم: ((إيّما امرأةٍ أَصابَتْ بُخُورًا فلا تَشْهَدْ مَعَنَا العِشاءَ))؛ رواه مسلم.
وعلى المرأة ألا تَصْطَحِبَ معها الأطفال الذين لا يَصْبِرُونَ على انشغالها عنهم بالصلاة، فيؤذون بقية المصلين بالبكاء والصراخ، أو بالعبث في المصاحف وأمتعة المسجد وغيرها.
الوقفة الثامنة: صيام الجوارح:
أختي المسلمة: اعلمي أن الصائم هو الذي صامت جوارحه عن الآثام، فصامت عيناه عن النظر إلى المحرمات، وصامت أذناه عن سماع المحرمات من كذب وغيبة ونميمة وغناء وكل أنواع الباطل، وصامت يداه عن البطش المحرم، وصامت رجلاه عن المشي إلى الحرام، وصام لسانه عن الكذب والفحش وقول الزور، وبطنه عن الطعام والشراب، وفرجه عن الرفث، فإن تكلم فبالكلام الطيب الذي لاحت فائدته وبانت ثمرته، فلا يتكلم بالكلام الفاحش البذيء الذي يجرح صيامه أو يفسده. ولا يفري كذلك في أعراض المسلمين كذبًا وغيبة ونميمة وحقدًا وحسدًا ؛ لأنه يعلم أن ذلك من أكبر الكبائر وأعظم المنكرات - ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلّم: ((من لم يدع قول الزور والعمل به و الجهل فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه))؛ رواه البخاري.
وقال صلى الله عليه وسلّم: ((.. وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث، ولا يصخب، فإن سابَّه أحدُ أو قاتله فليقل:إني امرؤ صائم))؛ متفق عليه.
وأمَّا من يصوم عن الطعام والشراب فقط، ويفطر على لحوم إخوانه المسلمين وأعراضهم فإنه المعني بقوله صلى الله عليه وسلّم: ((رب صائمٍ حظُّه من صيامه الجوعُ والعطشُ))؛ رواه أحمد وابن ماجه بسند صحيح.
الوقفة التاسعة: خطوات عملية للمحافظة على الأوقات في رمضان:(/8)
ينبغي على المرأة أن تستثمر أوقات هذا الشهر العظيم فيما يجلب لها الفوز والسعادة يوم القيامة، وأن تغتنم أيامه ولياليه فيما يقربها من الجنة ويباعدها عن النار، وذلك بطاعة الله تعالى والبعد عن معاصيه، وحتى تكون المرأة صائنة لأوقاتها في هذا الشهر الكريم فإن عليها ما يلي:
1- عدم الخروج من البيت إلا لضرورة، أو لطاعةٍ لله محققة، أو حاجة لابد منها.
2- تجنب ارتياد الأسواق وبخاصة في العشر الأواخر من رمضان، ويمكن شراء ملابس العيد قبل العشر الأواخر أو قبل رمضان.
3- تجنب الزيارات التي ليس لها سبب، وإن كان لها سبب كزيارة مريض فينبغي عدم الإطالة في الجلوس.
4- تجنب مجالس السوء، وهي مجالس الغيبة والنميمة والكذب و الاستهزاء والطعن في الآخرين.
5- تجنب تضييع الأوقات في المسابقات وحل الفوازير ومشاهدة الأفلام و المسلسلات وتتبع القنوات الفضائية. فإذا انشغلت المسلمة بذلك فعلى رمضان السلام!
6- تجنب السهر إلى الفجر؛ لأنه يؤدي إلى تضييع الصلوات والنوم أغلب النهار.
7- تجنب صحبة الأشرار وبطانة السوء.
8- الحذر من تضييع أغلب ساعات النهار في النوم، فإن بعض الناس ينامون بعد الفجر، ولا يستيقظون إلا قرب المغرب، فأي صيام هذا؟!
9- الحذر من تضييع الأوقات في إعداد الطعام وتجهيزه، وقد سبق التنبيه على ذلك.
10- الحذر من تضييع الأوقات في الزينة والانشغال بالملابس وكثرة الجلوس أمام المرآة.
11- الحذر من تضييع الأوقات في المكالمات الهاتفية، فإنها وسيلة ضعفاء الإيمان في كسر حدة الجوع والعطش، ولو أقبل هؤلاء على كتاب الله تلاوة ومدارسة لكان خيرًا لهم.
12- الحذر من المشاحنات والخلافات التي لا طائل من ورائها إلا إهدار الأوقات والوقوع في المحرمات، وإذا دعيت - أختي المسلمة - إلى شيء من ذلك فقولي: إني امرأة صائمة.
الوقفة العاشرة: العشر الأواخر:(/9)
أيتها الأخت في الله، مضى من الشهر عشرون يومًا ولم يبق إلا هؤلاء العشر، فالفرصة ما زالت أمامك قائمة، والأجور ما زالت معدة، فإذا كنت قد فرطت فيما مضى من الأيام، فاحرصي على اغتنام هذه الليالي والأيام، فإنما الأعمال بخواتيمها.
وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلّم – ((إذا دخل العشر شَدَّ مِئْزَرَهُ وَأَحْيَا لَيْلَهُ، وأيقظ أهله))؛ متفق عليه. فهي والله أيام يسيرة، وليالٍ معدودة، يفوز فيها الفائزون، ويخسر فيها الخاسرون.
كانت امرأة حبيب أبي محمد تقول له بالليل: قد ذهب الليل وبين أيدينا طريق بعيد، وزادنا قليل، وقوافل الصالحين قد سارت قدامنا، وونحن قد بقينا!!
ومن فضل الله تعالى أن جعل ليلة القدر إحدى ليالي العشر الأواخر، وهي في أوتار العشر الأواخر من رمضان، فقد قالت عائشة - رضي الله عنها -: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: ((تَحَرَّوْا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان))؛ متفق عليه. وليلة القدر ليلة عظيمة، وفرصة جليلة، العبادة فيها خير من عبادة ألف شهر، ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلّم -: ((إنَّ هذا الشهر قد حضركم وفيه ليلة خير من ألف شهر، من حرمها فقد حرم الخير كله، ولا يحرم خيرها إلا محروم))؛ رواه ابن ماجه وصححه الألباني.
فاجتهدي - أختي المسلمة - في تَحَرِّي هذه الليلة العظيمة، ولا تحرمي نفسك من هذا الأجر الكبير، واعلمي أنك إذا قمت ليالي العشر كلها، وعمرتيها بالعبادة و الطاعة، فقد أدركت ليلة القدر لا محالة، وفزت - إن شاء الله - بعظيم الأجر وجزيل المثوبة.
الوقفة الحادية عشرة: دعاء ليلة القدر:
قالت عائشة - رضي الله عنها - للنبي - صلى الله عليه وسلّم -: أرأيت إن وافقت ليلة القدر ما أقول فيها؟ قال: ((قولي: اللَّهُمَّ إنَّكَ عفوٌّ تُحِبُّ العَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي))؛ رواه أحمد والترمذي، وقال: حسن صحيح.(/10)
العنوان: عصر البغال!
رقم المقالة: 950
صاحب المقالة: د. خالد الغيث
-----------------------------------------
... احتدَّ النقاشُ، وتعالت الأصواتُ، في صحيفة (عيني عينك) عند مناقشة قضية حوادث السيارات.
أكثر من أربعين ألف قتيل ومصاب سنويا، ضحايا حوادث الطرق!
إنها إحصائية مفزعة.
لكنْ من المتسببُ؟ من الجاني؟ من المقصر؟
هل هو المواطن؟ أو المرور؟ أو الإعلام؟ أو اليابان والأمريكان؟
وبعد فاصل من العصف الذهني في مكتب رئيس التحرير، صرَخ الجميعُ بصوت واحد: إنها السيارة!
نعم إنها السيارة، سر مصائبنا، لقد رَمَّلَت النساء، ويُتِّمَت الأطفالُ، إنها أم الخبائث!
حطموها، أخرجوها، ما بنا إليها حاجة.
إننا على استعداد لركوب البغال!
نعم نركب البغال، وما عيب إلا العيب...
أجل خشونة البغال، ولا جحيم السيارات ...
ولكن كيف نُقنِعُ الناس بركوب البغال!؟
الأمرُ جِدُّ بسيط... بِحُزمة مقالات في صحيفتنا (عيني عينك)، وبمسلسل مكسيكي، وآخر هندي، في قناتنا الفضائية عن أم الخبائث (السيارة)، وبحملة إعلانية مكثفة تحمل شعار (مع البغال تجد راحة البال!)
نستطيع إقناع الناس بركوب البغال، والحمير أيضا!
بمثل هذه العبثية، والفوقية، والتسطيح، والسطحية، تقوم بعض وسائل الإعلام، بتناول مشكلات هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتتوجَّه إلى القراء والمشاهدين بخطاب تحريضي، (مُؤَدْلَج)، مُوغِل في السطحية والإسفاف والتخلف. وتناست تلك الصحفُ والقنوات أننا نعيش في وطن لا مكانَ فيه لتلك المسرحيات، وتلك البكائيات.
إنه وطن العلم والإيمان.
إنه وطني الحبيب.(/1)
العنوان: عطشى ويحملون الماء فوق ظهورهم
رقم المقالة: 1956
صاحب المقالة: أحمد حلمي
-----------------------------------------
.. تولى منصبًا جديدًا..
وقد طلب منه مديرُه أن يكون متميزًا في عمله..
أصبح شعلة نشاط..
دخل عليَّ مكتبي ذات صباح سائلاً: أي الكتب أقرأ لأكون ناجحًا؟
وأردف سؤاله بسؤال آخر: لماذا يكون هناك توثيق للشخصيات الناجحة في العالم العربي؟ وأخذ يعدد ما كتب عن رجالات الغرب أمثال: بيل جيتس، وهنرى فورد، أريكسون... وغيرهم.
انتهت جلستُنا ذلك الصباح بعد أن كشفتُ له أنَّ هناك كتاباتٍ كثيرةً لشخصيات عربية معاصرة غيرت مجرى التاريخ، أو بلفظ أدق (غيروا مجرى حياتهم إلى النجاح)؛ عظماء بلا مدارس.
ولكن بعد أيام أخذ الموضوعُ أبعادًا جديدة في رأسي، وسألت نفسي: لماذا نطلبُ الماء من غيرنا ونحن نحملُ الماء المعين؟
وكانت شرارة الكتابة في هذا الموضوع افتتاحية العدد التاسع والستين من مجلة الرسالة التي تصدرُها الشؤونُ الدينية بمجموعة الجريسي في زاوية إضاءة مقالاً بعنوان (كفى بالنبي –صلى الله عليه وسلم- قدوةً لنا).
فقد قال المولى عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]، إنه توجيه رباني لكل من أراد الأسوة والقدوة في تعامله مع الناس، في تربية أبنائه، في تجارته، في قيادته لمن تولى أمرَهم، ومن أصدقُ من الله حديثًا، لكننا تركنا هذا الميراثَ النبوي الكريم، وبحثنا في الآفاق، فوجدنا قومًا سبقونا فنقلنا عنهم نظرياتهم، وترجمنا مسيرة كبرائهم وعلمائهم ظانين بذلك أننا سنلحق بهم ونواكب ما هم فيه بخيره وشره.. كلا...(/1)
إنَّ حياةَ النبي -صلى الله عليه وسلم- أعظمُ مثال يجب أن يحتذيه المسلمون للوصول إلى التخلق بأشرف الأخلاق، والتحلي بأكرم الخصال، وأحسن مدرسة يجب أن يتعلموا فيها كيف يكون الصدقُ في القول، والإخلاص في العمل، والثبات على الرأي، وسيلةً إلى النجاح، وكيف يكون الجهاد في سبيل الحق سببًا في علوه على الباطل.
لا حاجة لنا بتاريخ حياة فلاسفة اليونان، وحكماء الرومان، وعلماء الغرب، فلدينا في تاريخنا حياة شريفة مملوءة بالجد والعمل، والبر والثبات، والحب والرحمة، والحكمة والسياسة، والشرف الحقيقي، والإنسانية الكاملة، وهي حياة نبينا –صلى الله عليه وسلم- وحسبنا بها وكفى.
ولم ينتهِ الموضوعُ عند هذا الحد، بل في محاضرة للشيخ الدكتور/ عبد الرحمن المحرج سأله سائل: أي الكتب أقرأ؛ فإني مقبل على الزواج؟ أطرق الشيخ مفكرًا، ثم أجاب: هناك كتب كثيرة.. ولكن يغنيك عنها سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم-. وقد ذكرها لي أحد الإخوان بعد المحاضرة بيوم عند صدور عدد المجلة وقراءته لافتتاحيتها.
فبحثت في سوق الكتب قدر المستطاع فوجدتُ أن الكتب التي تتحدث عن صفات النجاح كثيرة، منها: حكايات كفاح، 25 قصة نجاح، كيف نجح هؤلاء، عظماء بلا مدارس، كيف تصبح مليونيرًا... وغيرها من العناوين التي تدور حول النجاح في الحياة إداريًا أو ماليًا أو سياسيًا أو اجتماعيًا... ويتبين من قوائم البيع مدى رواج هذه الكتب وإقبال الناس الشديد عليها... وهنا السؤال الأول والأخير: ألم يفكر هؤلاء في الانكباب على قراءة سيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- قراءةَ فهم لا قراءة نظر.
وأقول لمن أراد القدوة، ولمن أراد المثل الأعلى، ولمن أراد الفلاح والنجاح، ولمن أراد القيادة والريادة... بين يديك صفات المعلم الأول، وقائد البشرية، رسول الثقلين، الرحمة المهداة والنعمة المسداة، محمد بن عبد الله –صلى الله عليه وسلم-.(/2)
فلنحاول جميعًا أن نقتفي أثره في القول والعمل، وأن نتحلى قدر المستطاع بكريم شمائله، ومكارم أخلاقه.(/3)
العنوان: عظمة الله تعالى
رقم المقالة: 193
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
الحمد لله العظيم ؛ تعاظم في ذاته عن الإحاطة والتكييف وجل في صفاته عن النقائص والتشبيه، وتعالى في ملكه ومجده فهو العلي العظيم ، نحمده كما ينبغي له أن يحمد ، ونشكره فهو أحق أن يشكر ، ونستغفره فهو الذي يستغفر..
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ؛ ذلت لعظمته جميع الموجودات ، وتلاشت عظمة المخلوقات ، فكل الكائنات مفتقرة إليه وهو غني عنها (يخرج الخبء في السموات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون ، الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم)
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ؛ كان يقول عند الكرب:(لا إله إلا الله العليم الحليم ، لا إله إلا الله رب العرش العظيم ، لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض رب العرش الكريم، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فأوصيكم -أيها الناس-ونفسي بتقوى الله عز وجل فاتقوه حق التقوى ، اتقوا من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه ، واتقوا من رفع السموات بغير عمد ترونها وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم ، وبث فيها من كل دابة ، اتقوا من (يمسك السموات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليما غفورا)
أيها الناس: من أسماء الله تعالى الحسنى :اسم العظيم ، ومن صفاته العلى :صفة العظمة ؛ فهو العظيم الذي خضع كل شيء لأمره ، ودان لحكمه ، والكل تحت سلطانه وقهره ، وهو ذو العظمة الذي كل شيء دونه فلا شيء أعظم منه (وسع كرسيه السموات والأرض ولا يؤده حفظهما وهو العلي العظيم) وكرسيه الذي وسع السموات والأرض ما السماوات السبع فيه إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة ، وعظمة العرش بالنسبة للكرسي كعظمة تلك الفلاة على تلك الحلقة ، والله تعالى مستو على عرشه.(/1)
علم ملائكته المقربون عظمته فخافوه وأذعنوا وعظموه وسبحوا ، ولم يستنكفوا عن عبادته ولم يستكبروا (ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون * يسبحون الليل والنهار لا يفترون)
وهم عليهم السلام ماضون في تنفيذ أمره ، ومع ذلك فهم وجلون مشفقون (لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون * يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون)
إن عظماء الدنيا مهما علو وبلغوا فإنهم لا يعلمون إلا ما يشاهدون أو ينقل إليهم ؛ ولذلك احتاجوا إلى خدمة رعاياهم، وما يخفى عليهم من أمور ممالكهم أكثر مما يظهر لهم وقد يخدعهم بعض المقربين إليهم ، ولا تخافهم رعيتهم في السر ولو أظهروا الخضوع لهم في العلن ، والرب جل جلاله كلف الملائكة وهو غني عنهم ، ولا يخفى عليه شيء من أحوال خلقه ولو لم ينقل إليه ؛ بل إن الملائكة يخبرونه الخبر وهو عز وجل أعلم منهم بما أخبروا ، وهذا من عظمته جل في علاه.
والخلق يفرون من عظماء الخلق فيطلبونهم ولا يجدونهم ، ويسخرون ما يملكون فيعجزون في طلبهم ، وأما ذو العظمة فلا فرار للخلق منه إلا إليه ، ولا معاذ منه إلا به:(حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا)
قال الإمام أبو القاسم الأصبهاني رحمه الله تعالى:العظمة صفة من صفات الله تعالى ، لا يقوم لها خلق ، والله تعالى خلق بين الخلق عظمة يعظم بها بعضهم بعضا ، فمن الناس من يعظم لمال ، ومنهم من يعظم لفضل ، ومنهم من يعظم لعلم ، ومنهم من يعظم لسلطان ، ومنهم من يعظم لجاه، وكل واحد من الخلق إنما يعظم بمعنى دون معنى ، والله عز وجل يعظم في الأحوال كلها ؛ فينبغي لمن عرف حق عظمة الله تعالى أن لا يتكلم بكلمة يكرهها الله عز وجل ، ولا يرتكب معصية لا يرضاها الله عز وجل ؛ إذ هو القائم على كل نفس بما كسبت)(/2)
علمت الرسل عليهم السلام عظمة العظيم ؛ فنصبوا في عبادته ودعوا أقوامهم إلى خشيته ، وخوفوهم من نقمته ، فأولهم نوح عليه السلام قال لقومه (ما لكم لا ترجون لله وقارا * وقد خلقكم أطوارا) أي :ما لكم لا ترون لله تعالى عظمة.
وخاتمهم وأفضلهم محمد صلى الله عليه وسلم خاطبه ربه عز وجل فقال :(فسبح باسم ربك العظيم )فقال لأصحابه رضي الله عنهم:( اجعلوها في ركوعكم )
وكان عليه الصلاة والسلام يكثر من تعظيم ربه عز وجل وتسبيحه في ركوعه وسجوده ، وفي كل أحيانه ويقول :(سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي)
وبين عليه الصلاة والسلام شيئا من عظمة ربه فيما خلق فقال صلى الله عليه وسلم:(أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله من حملة العرش إن ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام)رواه أبو داود من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه
فإذا كانت صفحة عنق هذا الملك الكريم بهذا الحجم فما حجمه كاملا ، وهو خلق واحد من خلق الله العلي العظيم ، فكيف إذا بمخلوقاته الأخرى ،فسبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم.
وروى أبو هريرة رضي الله عنه فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(أذن لي أن أحدث عن ملك قد مرقت رجلاه الأرض السابعة ، والعرش على منكبه وهو يقول: سبحانك أين كنت وأين تكون ) رواه أبو يعلى
وروى أبو الشيخ ومحمد بن نصر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:( إن لله ملائكة ترعد فرائصهم من خيفته ما منهم ملك يقطر دمعه من عينه إلا وقعت ملكا قائما يصلي وإن منهم ملائكة سجودا منذ خلق الله السموات والأرض لم يرفعوا رؤسهم لا يرفعونها إلى يوم القيامة وإن منهم ركوعا لم يرفعوا رؤسهم منذ خلق الله السموات والأرض فلا يرفعونها إلى يوم القيامة فإذا رفعوا رؤسهم ونظروا إلى وجه الله قالوا: سبحانك ما عبدناك كما ينبغي لك ).(/3)
وسئل بعض السلف عن عظمة الله تعالى فقال للسائل:(ما تقول فيمن له عبد واحد يسمى جبريل له ست مئة جناح ، لو نشر منها جناحين لستر الخافقين) فسبحان الله وبحمده عدد كل شيء.
والمؤمنون بربهم ، المتفكرون في خلقه ؛ يدركون عظمته ، فيقرون بربوبيته ، ويخضعون لألوهيته ، ويخلصون في عبادته ، ولا يشركون معه غيره ، لا في محبة ولا رجاء ولا خوف ، يتأملون آياته ، ويتفكرون في مخلوقاته ، فتخشع قلوبهم ، وتقشعر أجسادهم ، وتفيض بالدمع أعينهم ؛ إجلالا لله تعالى وتعظيما وإخلاصا ، وتلهج ألسنتهم بذكره عز وجل وتسبيحه وتكبيره وحمده قائلين (ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار)
لقد دلت دلائل الوجود على عظمة ربنا جل في علاه ، وخضعت له المخلوقات ، وبهذا الخضوع انتظم العالم ، وصلحت أحوال الخلق ، فقنوت الكل له عز وجل دليل على عظمته (وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل له ما في السموات والأرض كل له قانتون * بديع السموات والأرض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون) وفي الآية الأخرى: (وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون )
ولما أشرك بعض عباده به ، وادعوا له الولد ؛ فزعت الموجودات من هذا الإفك العظيم ، وأوشك الكون أن يضطرب ويختلط ؛ تعظيما لله تعالى وفرقا منه أن يشرك به بعض خلقه ، لولا أن الله تعالى قدر له أن يسكن وينتظم (تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا * أن دعوا للرحمن ولدا * وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا )
ومن عظمته عز وجل: أنه لا قيام للموجودات إلا به تبارك وتعالى (ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون * وله من في السموات والأرض كل له قانتون)(/4)
وما يجري في القيامة من أهوال وأحوال ، وأوصاف الجنة والنار ، كل ذلك من دلائل عظمة الكبير المتعال ،ومن ذلك ما روى سلمان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(يوضع الميزان يوم القيامة فلو وزن فيه السماوات والأرض لوسعت ، فتقول الملائكة: يا رب لمن يزن هذا ؟ فيقول الله تعالى: لمن شئت من خلقي ، فتقول الملائكة: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك ، ويوضع الصراط مثل حد الموسى فتقول الملائكة: من تجيز على هذا ؟ فيقول عز وجل: من شئت من خلقي، فيقول الملائكة: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك)رواه الحاكم وقال : صحيح على شرط مسلم .
فهو جل جلاله عظيم في ربوبيته ، عظيم في ألوهيته ، عظيم في أسمائه وصفاته ، عظيم في ملكه وخلقه ، عظيم في حكمته ورحمته ، عظيم في افتقار خلقه إليه وغناه هو عنهم ، عظيم في تدبيره شؤون خلقه ، عظيم في الفصل بين عباده ، وكل عظمة في الوجود فهي دليل على عظمة خالقها ومدبرها ؛ جل في علاه ، وتعاظم في مجده.
ومن تأمل أعظم آية في القرآن وهي آية الكرسي علم أنها قد جمعت أوجه العظمة للخالق سبحانه فاستحقت أن تكون أعظم آية في كلامه عز وجل كما استحقت الفاتحة أن تكون أعظم سورة ؛ لأنها دلت المؤمنين على عظمة العلي العظيم ..
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، بسم الله الرحمن الرحيم (الحمد لله رب العالمين * الرحمن الرحيم *مالك يوم الدين * إياك نعبد وإياك نستعين * إهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين)
(الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السموات وما في والأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السموات والأرض ولا يؤده حفظهما وهو العلي العظيم).
آمنا بالله العلي العظيم ، وعليه توكلنا ، وإليه أنبنا وإليه المصير،سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم.
الخطبة الثانية(/5)
الحمد الله حمدا يليق بجلال ربنا وعظيم سلطانه ؛ أحمده حمدا كثيرا، وأشكره شكرا مزيدا ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه إلى يوم الدين..
أما بعد:فاتقوا الله تعالى وأطيعوه (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا * يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما)
أيها المسلمون:عظمة الخالق العظيم ، يقر بها كل مسلم ، ولا يماري فيها إلا زنديق أو ملحد ، وقدماء أهل الشرك في البشر كانوا يقرون بعظمته ، ولكنهم لا يخلصون له الدين بل يشركون معه آلهة أخرى.
والإيمان بعظمة الله تعالى له ثمار يجنيها المؤمن بالله عز وجل ، وله آثار تدل على أن العبد معظم لله تعالى.
ومن أعظم ثمار الإيمان بعظمة الكبير المتعال وتعظيمه عز وجل:فرح القلب وسروره وطمأنينته ؛ لأنه صرف التعظيم لمن يستحق التعظيم ، وتلك هي جنة الدنيا التي من دخلها دخل جنة الآخرة.
ومن عظم الله عز وجل وصفه بما يستحق من الأوصاف ، وأقر بأفعاله ، ونسب النعم إليه دون سواه (وما بكم من نعمة فمن الله )
ومن عظم الله تعالى ؛ خضع لهيبته ، ورضي بقسمته ، ولم يرض بدونه عوضا ، ولم ينازع له اختيارا ، ولم يرد عليه حقا...وتحمل في طاعته كل مقدور ، وبذل في مرضاته كل ميسور.
وكلما قوي تعظيم الله تعالى في قلب العبد استصغر العبد نفسه ، واستقل عمله ؛ لأن الله عز وجل إذا تجلى لشيء خشع له.
إن من عظم الله تعالى عظم شريعته ، وأجل أهلها وحملتها والعاملين بها ؛ إذ إن إجلالهم من إجلال الله تعالى وتعظيمه .
ومن عظم الله تعالى وقف عند حدوده ، وامتثل أوامره ، واجتنب نواهيه ، وعظم شعائره (ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه) (ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب).(/6)
ومن عظم الله تعالى قدم محبة الله تعالى ، ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ومحبة ما يحبه الله ورسوله على محبة نفسه وشهواته وأهله وولده وماله وكل محبوب ؛ لأن ما قام في قلبه من تعظيم الله تعالى قضى على كل المحبوبات سواه عز وجل، فإذا دعته نفسه الأمارة بالسوء لمعصية الله تعالى من أجل محبوب يحبه ، وشيء يطلبه ، ردعه تعظيمه لله تعالى عن ذلك.
ومن عظم الله تعالى أكثر من ذكره ؛ فإن البشر لا يزالون يمدحون من يعظمون ، فكيف يزعم زاعم أنه معظم لله تعالى وذكره لا يجري على لسانه إلا لمما.
ومن عظم الله تعالى توكل عليه ، واعتصم به ، ولم يخف عظماء الخلق ؛ فما في قلبه من تعظيم الله عز وجل أقوى وأمكن من المخلوقين مهما بلغت قوتهم وكثرتهم.
ومن عظم الله تعالى لم يقدم على كلامه أي كلام ، بل هو مستديم النظر في كتابه العظيم ، تلاوة وحفظا وتدبرا وعملا ، يتأمل بقراءته صفات العلي العظيم ، ويستخرج حكمه من أحكامه ، ورحمته وعدله في أفعاله ، فلا يهجر كتاب ربه تبارك وتعالى ، ولا يغمض له جفن في يومه وليلته حتى يقرأ ورده ، ويرتل جزءه ، واضعا نصب عينيه (يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم)
ومهما عمل الخلق من تعظيم لله تعالى ، فإنهم عاجزون عن قدر الله تعالى حق قدره ، وتعظيمه كما ينبغي له أن يعظم ؛ فحقه عز وجل أعظم ، وقدره أكبر ، ولكن المؤمنين يسعون في ذلك جهدهم ، ويبذلون وسعهم ؛ والعظيم لا يخيب سعيهم ، ولا يضيع عملهم ، ويجزيهم على قليل سعيهم أعظم الجزاء ، وأجزل المثوبه ، وهو الجواد الكريم (وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون).
وصلوا وسلموا .....(/7)
العنوان: عقدة البقرة
رقم المقالة: 1338
صاحب المقالة: الشيخ عائض بن عبدالله القرني
-----------------------------------------
إنَّ الحمد لله، نحمدهُ ونستعينهُ ونستغفرهُ، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا وسيِّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومن يضللْ فلا هاديَ له، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء: 1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب: 70-71].
أما بعد:
فإن أصدقَ الحديثِ كتابُ الله، وأحسنَ الهديِ هديُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ محدثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعة ضلالةٌ، وكلَّ ضلالةٍ في النار.
* أيها الناس:
تعنَّت العقل البشري أمام الوحي، وخاصم الإنسان الفاجرُ ربَّه، واعترض على خالقه، واستكبر عن عبادة سيده ومولاه.
ومعنا اليوم صورة من صور اعتراض البشر الضعفاء على الله القويّ، صورة من صور الاستكبار والطغيان، صورة من صور تعنُّتِ بني إسرائيل على أنبياء الله ورسله.
نتحدث اليوم عن ((عقدة البقرة)) وهي العقدة التي تعقَّد بها بنو إسرائيل، واضطرب حَالهم فيها، وسألوا، وناقشوا، وجادلوا، وشددوا على أنفسهم، فشدَّد الله عليهم.(/1)
الله – عز وجل – تكلم في القرآن عن عالم النبات؛ لأنه خالق النبات، وتكلم عن عالم الطيور، وعن عالم الحيوان، وعن عالم الحشرات؛ لأنه خالقها ورازقها ومدبر أمورها.
وكان - صلى الله عليه وسلم - يقرأ السور التي فيها هذه الكائنات، فسورة النمل، وسورة النحل، وسورة العنكبوت، وسورة البقرة، وسورة الفيل، وغير ذلك من السور التي فيها مخلوقات الله تعالى، فكبُر ذلك الأمر على المشركين، فقال كفار قريش: إن محمداً يستهزئ بكم، يأتينا بكلام يزعم أنه وحيٌ، يتكلم فيه عن عالم الحيوانات والعجماوات والطيورِ والحشراتِ، فما دَخْل الذباب والعنكبوت والكلاب والحمير بهذا الوحي، وما بالها تذكر في القرآن، فرد الله عليهم: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة: 26].
فالذي خلق البعوضة هو الله، والذي خلق الذباب هو الله، والذي جعل الفيل على هيئته هو الله، والذي صور البقرة هو الله، والذي ركّب الطير هو الله، لا إله إلا هو ولا ربَّ سواه.
وقد أشار ابن القيم – رحمه الله – أن من الناس من هم على ضروب الحيوانات وصفاتها وأخلاقها.
ففي الناس مَنْ طبيعتُه كطبيعة الخنزير تماماً، لا يقع إلا على القاذورات، ليس عنده غيرة على محارمه، لا يسمع إلا الفحش من القول، وإذا سمع الجميل فكأنه لم يسمع: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} [فصلت: 5].
ومن الناس من هو على صفة الذباب لا يقع إلا على الجرح، يذهب إلى نقاط الضعف ويتصيد أخطاء الآخرين، أما المحاسن فلا يذكرها ولا يلتفت إليها.
ومن الناس من هو على هيئة الجمل في حلمه، وصبره، وقوة تحمله في الشدائد، وقطع المفاوز والقفار.(/2)
والمقصود: أن الله – عز وجل – يقول: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي ...} [البقرة: 26] وَمَنْ يمنعه - تبارك وتعالى - أن يتكلم بما شاء، من يمنعه أن يضرب الأمثال، من يمنعه: {أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ...} [البقرة: 26]. {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ} [البقرة: 26] وهم حزب الله من أهل التوحيد، ومن حملة {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] أهل الوضوء والصلاة والصيام، أما هؤلاء فيعلمون أن كل ما عند الله – عز وجل – هو صدقٌ وحقٌّ وعدلٌ، {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ} [البقرة: 26]، ولذلك تراهم يقولون: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7]، {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ} [البقرة: 26]، ثم يقصُّ الله علينا قصة البقرة، وسميت أكبر سورة في القرآن باسم البقرة، فتُعْرَفُ بين الناس بهذا الاسم من أجل آيات خمس، فلا يعرف المسلمون هذه السورة إلا بسورة البقرة.
وهذه السورة فيها نسف وإبادة لبني إسرائيل، وفيها أحكام شرعية كثيرة، وقواعد عقلية، وآداب وتوجيهات، يصلح بها الفرد والمجتمع وتهتدي بنورها الأمم والشعوب.(/3)
أما قصة البقرة فذلك ما قال الله – عز وجل – فيها: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لّنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ * قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاء فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ * قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِن شَاء اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ * قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا قَالُواْ الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ} [البقرة: 67-71].
عباد الله:
هذه هي قصة البقرة كما حكاها القرآن العظيم مصوراً تعنت بني إسرائيل وجدالهم البغيض لأوامر الله – عز وجل – واستكبارهم عن طاعة نبي الله موسى عليه السلام، وهذا شأن هذه الفئة الضالة في كل زمان وموضع.
{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً} [البقرة: 67].
لماذا يأمرهم الله – عز وجل – بذلك؟ وما الحكمة في ذبح هذه البقرة؟ وما وجه التكليف في هذا الأمر؟
قال العلماء: قدم الله قصة البقرة ثم ذكر بعد ذلك سبب الأمر بذبحها، وذلك قوله تعالى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة: 72].(/4)
قال أهل التفسير: كان رجل من بني إسرائيل غنيّاً ثريّاً فعدا عليه ابن أخيه في الليل فذبحه!! اغتيال رهيب، وقتل للنفس التي حرَّم الله إلا بالحق، وبعد هذه الجريمة الشنعاء ذهب هذا القاتل المجرم إلى موسى عليه السلام؛ ليخفي جريمته، ويبعد التهمة عن نفسه فبكى بين يدي موسى عليه السلام، قال: ما لك؟ قال: قتل عمي البارحة، ولا أعرف مَنْ قتله!! وأنت نبي الله فسل ربك مَنْ قتله؟
فجمع موسى بني إسرائيل وقال: من قتل عمَّ هذا الرجل؟ فقالوا: لا ندري عن ذلك يا موسى، وإن كنت نبيّاً فسل ربك يخبرك.
فقام مبتهلاً إلى الله – عز وجل – وأخذ يدعو الله ويبكي قائلاً: اللهم أخبرنا خبر هذا الرجل. فأوحى الله إليه يا موسى مُرْ بني إسرائيل أن يأخذوا بقرة فيذبحوها، ثم يؤخذ عضو منها فيضرب به الميت، فسوف يَحيا بإذني ويتكلم ويخبر عن قاتله.
فقال موسى: اذبحوا بقرة .. أمر يسير، لا تعقيد فيه ولا مشقة .. اذبحوا بقرة. قال ابن عباس –: ((لو ذبحوا أي بقرة لأجزأتهم))[1] ولكنهم تعنتوا وتنطعوا وجادلوا في ذلك، قالوا: ما هي البقرة، ما لونها؟ ما صفتها؟ ما سنها؟
الله – عز وجل – يأمرهم بأمر يسير من كلمتين اثنتين: {تَذْبَحُواْ بَقَرَةً} [البقرة: 67] فجادلوا في ذلك، وأظلمت عقولهم عن إدراك هذا الأمر، وهذه عادة بني إسرائيل.
أنزلهم الله وادٍ فيه منٌّ وسلوى – حمام مشوي وعسل مصفى – وقال: كلوا من هذه الطيبات، فماذا قالوا؟ قالوا: لا، {فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا} [البقرة: 61].
أخرجهم من البحر، [وأقدامهم مبتلة بالماء] فلما خرجوا وذهب موسى يكلِّم ربه عبدوا العجل من دون الله!!
قالوا: ظمئنا، أين الماء؟ فضربَ الحجر بالعصا؛ فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً.(/5)
قالوا: أين ربك؟ قال: أكلمه. قالوا: اذهب فكلِّمه، فذهب فعبدوا العجل، فلما رجع وجدهم يركعون له ويسجدون، فبكى موسى منهم، وقال: يا ربِّ ما توبة بني إسرائيل؟ قال: خذ من خيارهم سبعين رجلاً، واذهب بهم إلى طور سيناء، وادعوني لأتوب عليكم، قال ابن عباس: وكان فيما دعوا قالوا: اللهم أعطنا ما لم تعط أحداً قبلنا، ولا تعطه أحداً بعدنا، فكره الله ذلك من دعائهم، فأخذتهم الرجفة، فقال موسى: {رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا}[2] [الأعراف: 155].
وقال محمد بن إسحاق: اختار موسى من بني إسرائيل سبعين رجلاً من خيارهم، وقال: انطلقوا إلى الله، فتوبوا إليه مما صنعتم، أي: من عبادة العجل، سلوا الله التوبة على ما تركتم من الأموال والأولاد، وصوموا وطهروا ثيابكم فخرج بهم إلى طور سيناء لميقات وقَّته له ربه، فقال السبعون رجلاً لموسى عليه السلام: اطلب لنا أن نسمع كلام الله؟! فقال: أفعل، فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه عمود من الغمام حتى تغشى الجبل كله؛ ودنا موسى فدخل فيه، وقال للقوم: ادنوا، فدنا القوم حتى إذا دخلوا وقعوا سجوداً، فسمعوه وهو يُكلَّم، يأمره وينهاه، فلما فرغ إليه من أمره وانكشف عن موسى الغمام أقبل إليهم، فقالوا: يا موسى {لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة: 55]، فأخذتهم الصاعقة فماتوا جميعاً، فقام موسى يناشد ربه ويدعوه ويرغب إليه ويقول: {رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ} [الأعراف: 155]. ربِّ قد سفهوا، أفتهلك مَنْ ورائي من بني إسرائيل بسببهم[3]؟
هؤلاء هم خيار بني إسرائيل فما بالك بعامتهم، وما ظنك بشرارهم؟
أيها الناس:(/6)
نعود إلى ((عقدة البقرة)) والتي تبدأ من قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً} [البقرة: 67]، وهذه كلمة أبي جهل، وكلمة الخونة العملاء أمام الدعاة والعلماء، تتكرر هذه الكلمة في كل زمان ومكان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً} [البقرة: 67] أتضحك علينا؟ أتُضَلِّلنا؟ نسألك عن القتيل فتقول: اذبحوا بقرة!! {قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة: 67].
قال العلماء: مَنْ سخر من الوحي فقد جهل، ومن عبث في التعليم فقد جهل، ومن أتى بالهزل في موطن الجد فقد جهل، ونبي الله موسى عليه السلام، مبرَّأ مِنْ هذا كلّه.
قال بنوا إسرائيل: {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لّنَا مَا هِيَ} [البقرة: 68] ألا يعلمون ما هي؟ أم هو الجدال بالباطل والغي والضلال!!
{قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} [البقرة: 68]، أي: ليست بالكبيرة المسنة ولا بالبكر الصغيرة، وإنما هي بين البكر والهرمة، {فَافْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ} [البقرة: 68]، على وجه المسارعة والفور.
ولكنهم أتوا بتعنتٍ آخر فقالوا: {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا} [البقرة: 69]، وهذا من التشدد والتنطع؛ لأن الله – عز وجل – لم يحدد لوناً معيناً، ولم يلزمهم بالبحث عن ذلك، ولكن العقول الخربة والقلوب الميتة هي التي تشتغل بما لم تؤمر به، وتعرض عما أمرت به.(/7)
{قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاء فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} [البقرة: 69] فهي بقرة صفراء صافٍ لونها، ليس فيها سواد ولا بياض، تعجب الناظرين إذا رأوها. ولكنَّ بني إسرائيل لا يعجبهم أن تنتهي القضية عند هذا الحدّ، فرجعوا إلى موسى وقالوا: {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِن شَاء اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} [البقرة: 70].
قال أبو العالية: لو أن القوم حيث أُمروا أن يذبحوا بقرة، استعرضوا بقرة فذبحوها، لكانت إياها، ولكنهم شددوا على أنفسهم، فشدد الله عليهم، ولولا أن القوم استثنوا فقالوا: {وَإِنَّا إِن شَاء اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} [البقرة: 70] لما هُدوا إليها أبداً[4].
{قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا} [البقرة: 71]. أي: إنها بقرة لم يذللها العمل، فهي ليست بذلول تثير الأرض، وكذلك فهي لا تسقي الحرث، أي: لا تعمل في الحرث، إنما {مُسَلَّمَةٌ} [البقرة: 71] أي: سالمة من العيوب { لاَّ شِيَةَ فِيهَا} [البقرة: 71] أي: لا بياض فيها، أو أي بقعة تخالف اللون الأصفر.
{قَالُواْ الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} [البقرة: 71]، وانظر إلى تعدي بني إسرائيل على نبي الله موسى عليه السلام، وكأنه قبل ذلك لم يأتهم بالحق، كأنه قبل ذلك كان يلعب معهم، أو يضحك عليهم، أو يستهزئ بهم كما ظنوا في بادئ الأمر. {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ} [البقرة: 71]، ومما ورد في ذلك أنهم لم يجدوا هذه البقرة إلا عند عجوز تقوم على يتامى وهي القيِّمةُ عليهم، فلما علمت أنه لن تُجْزِئهم غير هذه البقرة ضاعفت عليهم الثمن، فقال موسى: إن الله قد خفَّف عليكم فشددتم على أنفسكم فأعطوها ما تريد، ففعلوا واشتروها بملء جلدها ذهباً!!(/8)
فَقُلْ للعيونِ الرُّمْدِ للشَّمْسِ أعينٌ تراها بحقٍّ في مغيبٍ ومطلعِ
وسامحْ عيوناً أطفأ الله نورها بأبصارها لا تستفيقُ ولا تعِ
قال بعض العلماء: مَثَلُ بني إسرائيل الذين تشددوا في معرفة أوصاف هذه البقرة فشدَّد الله عليهم حتى غرِموا وزنها ذهباً، مثلهم كمثل بعض هذه الأمة من الذين ثقُلت عليهم التكاليف الشرعية الميسرة والعبادات التي فرضها الله – عز وجل – فكان جزاؤهم جهنم وبئس المصير، ولقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم قوماً توضؤوا على عَجَلٍ فلم يمس الماء أعقابهم فقال عليه الصلاة والسلام: ((ويلٌ للأعقاب من النار، أسبغوا الوضوء))[5].
قال أهل العلم: فمن لم يتحمل مشقة الماء البارد في إسباغ الوضوء حمَّله الله نار جهنم في عقبيه؛ لأنه تهاون في تنفيذ أوامر الله – عز وجل – وضيعها فضيعه الله يوم القيامة.
{فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ} [البقرة: 71]. فلما ذبحوها أمرهم موسى عليه السلام أن يأخذوا عظماً منها فيضربوا به القتيل فلما فعلوا رجعت إليه روحه بإذن الله وقام ينتفض، فسأله موسى: مَنْ قتلك؟ قال: ابن أخي هذا، ثم خرَّ ميتاً كما كان. فجاء موسى بالقاتل المجرم فقتله على جريمته قصاصاً.
* أيها الناس:
هذه قصة البقرة كما ذكرها أهل التفسير، والبقر في الرؤيا بشرى خير، فإذا رئيت ربما كان ذلك دليلاً على شهادة في سبيل الله، أو على الخير والصلاح والإيمان، ولا يؤخذ من الرؤى أحكام شرعية؛ وإنما ذلك للاستئناس فقط.(/9)
* وقد ورد في "الصحيح" عن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((رأيت في المنام أني أهاجر من مكة إلى أرض به نخل، فذهب وَهْلي[6] إلى أنها اليمامة أو هَجَرُ[7]، فإذا هي المدينة يثرب[8]، ورأيت في رؤياي هذه أني هززت سَيْفاً، فانقطع صدره فإذا هو ما أصيب من المؤمنين يوم أُحد، ثم هززتُه أخرى فعاد أحسن ما كان، فإذا هو ما جاء الله به من الفتحِ واجتماعِ المؤمنين. ورأيت فيها أيضاً بقراً[9]، والله خيرٌ، فإذا هم النفر المؤمنين يومَ أحد ..)) الحديث[10].
ويستفاد من هذا أن بني إسرائيل لما أمروا بذبح البقرة اعترضوا وجادلوا وناقشوا، أما أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم فقد قدموا أنفسهم رخيصة في سبيل الله، سمعوا قوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} [التوبة: 111]. فقالوا: ربح البيع .. ربح البيع، لا نُقيل ولا نستقيل.
يأتي عمير بن الحمام فيسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول - وقد دنا المشركون من بدر -: ((قوموا على جنة عرضها السماوات والأرض)) فقال: يا رسول الله جنة عرضها السماوات والأرض؟ قال: ((نعم)) قال: بخٍ بخٍ[11]. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وما يحملك على قولك بخٍ بخٍ؟)) قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها. قال: ((فإنك من أهلها)) فأخرج تمرات مِن قَرَنه، فجعل يأكل منهنَّ، ثم قال: لئن أنا حَييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة!! فرمى بما كان معه من التمر، ثم قاتل حتى قتل[12].
هؤلاء هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا يرون الجنة والنار رأي العين في حديثه عليه الصلاة والسلام، هذا هو الصنف الخالد الذي قدمه عليه الصلاة والسلام للبشرية، قال تعالى: {وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} [الزمر: 33].(/10)
قال بعض المفسرين: {وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ} [الزمر: 33] رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَصَدَّقَ بِهِ} [الزمر: 33] أبو بكر رضي الله عنه[13].
لقد صدّق أبو بكر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كذّبه الناس، وآواه حين طارده قومه، وواساه بنفسه وماله حين تخلَّى عنه أهله وعشيرته.
إن هناك مدرسة اسمها: ((مدرسة أبي بكر الصديق)) هذه المدرسة تسمع كلام الله، وتلتزم أحكامه، وتصدق بالوحي فلا تفعل إلا ما يرضي الله - تبارك وتعالى .
وهناك مدرسة أخرى هي مدرسة: ((أبي جهل)) وهذه المدرسة أسسها المارقون وأهل النفاق والعلمنة، وأصحاب عقدة البقرة من الذين طمس الله بصائرهم.
والقائمون على هذه المدرسة يعملون على التكذيب بالوحي، فلا يريدون للوحي أن يتدخَّل في حياة الناس؛ لينير لهم الطريق، فهم يحولون دون سماع صوت الوحي أو نشره، أو فهمه، أو تدريسه، أو تربية الأجيال عليه، أو كتابته، أو التأليف فيه.
إن هذه الفئة فئة أبي جهل، والمغيرة بن شعبة، وأهل الضلال من أصحاب عقدة البقرة، ليقفون حجر عثرة في وجه أتباع موسى ومحمد عليهما السلام، وجميع الأنبياء المرسلين: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} [الفرقان: 31].
* عباد الله:
ويستفاد من قصة بني إسرائيل أمورٌ ثلاثة:
الأول: لا يحقُّ للعقل أن يعترض على الوحي، ويوم يبدأ بالاعتراض والتشكيك تبدأ اللعنة تنصبُّ من السماء، فإما أن يرجع عن غَيّه وضلاله، وإما الهلاك المحتوم والمصير المظلم.
الثاني: على المسلم أن يتلقَّى هذه الرسالة، وأن يتوجَّه إلى الله بالانقياد والرضا، وأن يسلم قياده لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأن يسجد لله – عز وجل – وأن يعلن انكساره وفقره أمام خالق السماوات والأرض.(/11)
الثالث: فضل الأمة المحمدية التي سارت على منهج النبي المصطفى - صلى الله عليه وسلم - يوم قالت لرسولها صلى الله عليه وسلم: لو استعرضت بنا عرض البحر لخضناه معك، اذهب أنت وربُّك فقاتلا إنَّا معكما مقاتلون، وليس كما قالت بنو إسرائيل: {فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24].
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين؛ فاستغفروه وتوبوا إليه؛ إنه هو التواب الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وليُّ الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وقائد الغر المحجلين، وعلى آله وصحبه والتابعين.
وبعد: ففي العالم اليوم أطروحة تسمى: أطروحة التعايش السلمي بين الأمم والشعوب، وهذه الأطروحة تدعو إلى نبذ الأديان التي تعمل على التفرقة بين البشر بسبب اختلاف الدين. قالوا: إن سبب النزاع والصراع بين الناس هو الدين، فيجب نبذه والتخلص منه؛ ليعيش الناس في محبة وسلام تحت مظلة الإنسانية التي تجمع الناس جميعاً بزعمهم.
وهذه هي مبادئ الماسونية، وهي في صورتها تعمل على نبذ جميع الأديان لتنتشر المحبة بين الناس، ولكن في حقيقتها دعوة خاصة ليتخلى المسلم عن عقيدته، ويتبرَّأ من انتمائه للإسلام، فبينما صدَّق كثير من المنتسبين للإسلام هذه الدعوى، نجد أن الأمر على النقيض من ذلك بين أصحاب الديانات الأخرى، فاليهود يحاولون الرجوع إلى أصولهم المحرَّفة، والنصارى في عودة مستمرة إلى دينهم الباطل، والمسلمون ينتظرون حلول مشاكلهم بتطبيق النظام العالمي الجديد!! ويستسلمون لقوى البغي والعدوان بدعوى التعايش السلمي المزعوم.
والله – عزَّ وجلَّ – يحذِّرنا بعد قصة البقرة من هذا الخداع، ويقطع علينا خطَّ الرجعة حتى لا نطمع في بني إسرائيل، فاليهود هم اليهود في كل عصر ومصر.(/12)
إِنَّ الْعَصَا مِنْ هَذِهِ الْعُصَيَّهْ لا تَلِدُ الحَيَّةُ إِلاَّ حَيَّهْ
ولو نسيت الكلاب نباحها، والخيول صهيلها، والغنم غثاءها، والحمام هديره، ما نسي اليهودي عداءَه للرسول صلى الله عليه وسلم، فالخيانة مكنونة في دمائهم، والحقد والحسد أصل من أصولهم، وعداؤهم لـ: - لا إله إلا الله – طبع من طباعهم، يتشربونه في طفولتهم، وفي مدارسهم وجامعاتهم ومنتدياتهم، وفي ذلك يقول الله تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 75] {أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ} [البقرة: 75] أتظنون أنهم سوف يسالمونكم، ويؤمنون لمبادئكم ويكونون إخوةً لكم {أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ} [البقرة: 75]؟ لا، لا تطمعوا في ذلك، فهي قلوب قست، وأفئدة أظلمت، وأبصار عميت، وآذان أصابها الوقر، وعقولٌ خراب: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة: 74]. والقلب الذي هو كالحجارة، أو أشد قسوة لا يُطمع في إخباته، ولا يرجى إيمانه!!
إن الله – عز وجل – قد أنعم على بني إسرائيل بنعم لا تحصى، أطعمهم المنَّ والسلوى، وأنقذهم من فرعون الطاغية، وأراهم الآيات، وأرسل إليهم الرسل وأنزل عليهم الكتب، فماذا قالوا: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة: 64].
وقالوا: {إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء} [آل عمران: 181].(/13)
فقابلوا النعمة بالجحود والكفران، فضربت عليهم الذلة أينما ثُقفوا، وأصابتهم اللعنة أينما حَلّوا: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ * كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} [المائدة: 78-79].
* أيها الناس: وفي قصة البقرة لطائف أذكرها للاستملاح كما ذكرها أهل العلم، وكما نبَّه عليها المفسرون:
الأولى: قالوا لإمام أهل السُّنَّة والجماعة أبي عبد الله أحمد بن حنبل: أتذبح البقرة أم تُنحر ما السنة في ذلك؟ فقال الإمام أحمد: بل تذبح: قالوا وما الدليل؟ قال: قوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً} [البقرة: 67]، وقد بوَّب الإمام البخاري في "الصحيح" في كتاب الحج، قال: باب ذبح الرجل البقر[14].
والمقصود من ذلك هو بيان فقه أئمتنا وعلمائنا، وهذه العقول المدركة، والآذان الواعية والقلوب النَّيرة التي رفعت مستوى الثقافة والإدراك والفهم عند المسلمين، حتى صار المسلمون أمة مرهوبة الجانب، قوية الأركان، صلبة المراس، فشرفُنا أحمد بن حنبل، وتاريخُنا ابن تيمية، ومجدُنا مالك، وفخرُنا الشافعي، وسؤددنا أبو حنيفة، هذا ميراثنا، علمٌ نافعٌ موصولٌ بمشكاة النبوة: {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ} [النور: 35].
أما ميراثُ العملاء، أما تاريخ الخونة، أما مجد المنافقين والعلمانين، إما وَتَرٌ، أو بلوت، أو موسيقى حالمة، أو ضياع، أو مجون، {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} [النور: 40].(/14)
الثانية: جواز بيع السَّلَم: وانظر إلى عقل الإمام مالك كيف حلّق به في سماء الاستنباط، فاستنتج من قصة البقرة أن من باع غرضاً بصفة كصفة بقرة بني إسرائيل جاز بيعه بصفة معلومة؛ لأن هذه البقرة وصفت لهم من الله – عز وجل – فبحثوا عنها فوجدوها.
الثالثة: أنه لا ينبغي للمسلم أن يتشدد، أو يتعنت أمام المسائل الشرعية، ولا ينبغي أيضاً أن يسأل العلماء على وجه التعنت والإفحام، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الغَلوطات[15]. بل ينبغي على طالب العلم أن يكون سؤاله للعلم لا للترف الذهني، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللّهُ عَنْهَا وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ * قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَافِرِينَ} [المائدة: 101-102].
الرابعة: ويؤخذ من هذه القصة - أيضاً - أن الدين يسر، وأن الله إذا أمر بمر فينبغي أن يؤخذ على ظاهره حتى يثبت خلاف ذلك، فعلى المسلم أن يسارع إلى تنفيذ هذا الأمر دون جدال أو تنطع.
الخامسة: ويستفاد من هذه القصة - أيضاً - أن مَنْ سارع في تنفيذ الأمر في أول وقته هو المأجور، فمن صلى الصلاة في أول وقتها كان أجره أعظم من الذي أخَّرها عن وقتها، قال ابن مسعود: يا رسول الله أي العمل خير؟ قال: ((الصلاةُ على وقتها))، هذه عند البخاري[16]، وعند مسلم[17]: ((الصلاة لوقتها))، وعند الترمذي[18]: ((الصلاة على مواقيتها)).
وكذلك من حج في أول عمره، ومن تاب في أول عمره، أفضل ممن ترك الحج أو التوبة حتى بلغ الستين، أو السبعين.
تَفِرُّ مِنَ الْهَجِيرُ وتَتَّقِيهِ فَهَلاَّ مِنْ جَهَنَّمَ قَدْ فَرَرْتَا
وَتُشْفِقُ للمُصِرِّ على الخَطَايَا وتَرْحَمُهُ ونَفَسُكَ مَا رَحِمْتَا(/15)
وَيَقْبُحُ بالفتى فِعْلُ التَّصَابِي وأَقْبَحُ مِنْهُ شيخٌ قَدْ تَفَتَّا
ولذلك فإن من أخَّر التوبة، وسوَّف بها، وفعل الأفعال الشنيعة، فإنه قد أساء إساءتين؛ إساءة المعصية، وإساءة عدم الإعذار من الله، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: ((ثلاثة لا ينظر الله إليهم، ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم)) وذكر منهم: ((الشيخ الزاني))[19].
فإن مثل هذا يأتي يوم القيامة ولا حجة له. قال عليه الصلاة والسلام: ((أعذر الله إلى امرئ بلَّغه ستين سنة))[20]. ومعنى الحديث أن الله – عز وجل – قد قطع عليه الحجة والعذر فلا حجة له ولا عذر عنده، قال تعالى:
{أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر: 37].
قال ابن عباس: النذير الشيب والمقصود: البدار البدار، لا نصبح كبني إسرائيل نسمع الموعظة فلا نتأثَّر، ولا نُلقي لها بالاً، وإن تأثَّر البعض فتأثر وقتي سرعان ما يزول.
إن المطلوب هو الإسراع في صعود سفينة النجاة، ومخالفة أصحاب الجحيم من اليهود والنصارى وسائر ملل الكفر، وقد أمرنا الله – عز وجل – أن نتبرأ منهم ونستعيذ من طريقتهم في كل ركعة من أي صلاة فنقول: {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 6-7].
والمغضوب عليهم هم اليهود، والضالون هم النصارى.
قال سفيان بن عيينة – رحمه الله -: من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود، ومن فسد من عبَّادنا ففيه شبه من النصارى، والأمة اليوم فيها مدرسة تشابه مدرسة اليهود والنصارى؛ في أفكارها، والتوائها، ومحاربتها لدين الله – عز وجل – يظهر ذلك في أطروحاتها المقدمة، وفي أقلامها العملية التي تهدم الأخلاق وتحارب الفضيلة وتعمل على تنحية الهوية الإسلامية لهذه الأمة واستبدالها بغيرها من آراء وأفكار اليهود والنصارى.(/16)
نسأل الله تعالى أن يهدينا صراطه المستقيم، وأن يجنبنا جميعاً صراط المغضوب عليهم والضالين.
* عباد الله: صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب: 56]. وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((من صلَّى عليَّ صلاة صلَّى الله عليه بها عشراً))[21].
---
[1] ((تفسير الطبري)) (1/389).
[2] ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (2/239).
[3] ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (2/239).
[4] ((تفسير الطبري)) (1/390).
[5] أخرجه البخاري (1/49) ومسلم (1/214) رقم (26).
[6] وهلي: ظني واعتقادي.
[7] هجر: مدينة معروفة، وهي قاعدة البحرين.
[8] يثرب: هو اسمها في الجاهلية فسماها الله تعالى: المدينة، وسمَّاها الرسول صلى الله عليه وسلم طيبة وطابة.
[9] قال النووي: قد جاء في غير مسلم زيادة في هذا الحديث: ((ورأيت بقراً تنحر))، وبهذه الزيادة يتم تأويل الرؤيا بما ذكر، فنحر البقرة هو قتل الصحابة – رضي الله عنهم – الذين قتلوا بأحد.
[10] أخرجه البخاري (4/183) كتاب المناقب، ومسلم (4/1779) كتاب الرؤيا، رقم (2272).
[11] كلمة تطلق لتفخيم الأمر وتعظيمه في الخير.
[12] أخرجه مسلم (3/1510) كتاب الإمارة، رقم (1091).
[13] ذكره السيوطي في ((الدر المنثور)) (5/615)، وعزاه لابن جرير، والبارودي في ((معرفة الصحابة)) وابن عساكر.
[14] انظر: (صحيح البخاري) (4/184) كتاب الحج، باب (115).
[15] أخرجه أبو داود (3/321) كتاب العلم رقم (3656)، وأحمد (5/435) والغلوطات: بفتح الغين المعجمة وضم اللام، وهي المسائل التي يغالط بها العلماء ليزلوا بها فيحصل بذلك شرٌّ وفتنة. وقال الأوزاعي: هي شداد المسائل وصعابها.
[16] (صحيح البخاري)) (1/134) كتاب المواقيت، باب (5).(/17)
[17] ((صحيح مسلم)) (1/88) كتاب الإيمان رقم (135).
[18] ((سنن الترمذي)) (1/326) رقم (173)، وقال الترمذي: حسن صحيح.
[19] أخرجه مسلم (1/103) كتاب الإيمان رقم (172).
[20] أخرجه البخاري (7/171) كتاب الرقاق.
[21] أخرجه مسلم (1/288) رقم (384).(/18)
العنوان: عقوبة الزنا واللواط
رقم المقالة: 762
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحمد لله الذي شرع عقوبة العصاة ردعاً للمفسدين وصلاحاً للخلق أجمعين وكفارة للطاغين المعتدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين، وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله أفضل النبيين وقائد المصلحين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً.
أما بعد، أيها الناس: اتقوا الله تعالى واعرفوا نعمة الله عليكم بهذا الدين القويم الجامع بين الرحمة والحكمة، رحمة في إصلاح الخلق وحكمة في اتباع الطريق الموصل إلى الهدف الأسمى.
أيها الناس: إن من طبيعة البشر أن يكون لهم نزعات متباينة، فمنها نزعات إلى الخير والحق، ومنها نزعات إلى الباطل والشر كما قال الله تعالى: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى}.(/1)
ولما كانت النفوس الشريرة والنزعات الخاطئة والأعمال السيئة لا بد لها من رادع يكبح جماحها ويخفف من حدتها، شرع رب العباد وهو الحكيم العليم الرؤوف الرحيم حدوداً وعقوبات متنوعة بحسب الجرائم لتردع المعتدي وتصلح الفاسد وتقيم المعوج وتكفر عن المجرم جريمته، إذ لا يجمع الله عليه بين عقوبة الدنيا والآخرة، فأوجب إقامة الحدود على مرتكبي الجرائم كل بحسب جريمته. فالسارق تقطع يده لأنه يسرق بها غالباً، وقطاع الطريق إذا قتلوا قتلوا وإن أخذوا المال فقط قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف لأنهم يستعينون على قطع الطريق بأرجلهم وأيديهم، فقطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف نكالاً وجزاء من جنس العمل. وقاذف المحصنات والمحصنين يجلد ثمانين جلدة حتى لا تنتهك الأعراض، وشارب الخمر عقوبته يحصل بها الردع عند تناول هذا الشراب الذي وصفه النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه أم الخبائث ومفتاح كل شر. أما جريمة فساد الأخلاق وانهيار المجتمع، تلك الجريمة التي تكمن في فعل الزنا واللواط فإنها جريمة عظيمة رتب الشارع عليها عقوبة أكبر، فالزاني الذي يطأ فرجاً حراماً إما أن يكون محصناً وأما أن يكون غير محصن، فالمحصن هو البالغ العاقل الذي تزوج امرأة ووطئها بنكاح صحيح، فإذا زنى فإنه يرجم بالحجارة حتى يموت ثم يغسل ويكفن ويصلى عليه ويدفن مع المسلمين إذا كان مسلماً، وأما غير المحصن وهو من لم يتزوج على الوصف الذي ذكرناه فإنه إذا زنى جلد مئة جلدة ويسفر عن البلد سنة كاملة. أيها المسلمون، وإذا كان الزنا بالفرج موجباً لهذه العقوبة، فإن هنا زنى آخر دون ذلك يوجب الإثم والعقوبة الأخروية وربما كان سبباً للوقوع في الزنا الأكبر، ألا وهو زنى الجوارح الأخرى، وهو ما أشار إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: ((العينان زناهما النظر والأذنان زناهما الاستماع واللسان زناه الكلام واليد زناها البطش والرجل زناها الخطى والقلب يهوى ويتمنى)).(/2)
أما اللواط وهو وطء الذكر الذكر، فذلك الفاحشة الكبرى والجريمة النكراء إنه مفسدة الدنيا والدين، إنه هدم للأخلاق ومحق للرجولة، إنه فساد للمجتمع وقتل للمعنويات، إنه ذهاب للخير والبركات وجالب للشرور والمصيبات، إنه معول خراب ودمار وسبب للذل والخزي والعار، والعقول تنكره والفطر السليمة ترفضه والشرائع السماوية تزجر عنه وتمقته، ذلكم بأن اللواط ضرر عظيم وظلم فاحش فهو ظلم للفاعل بما جر إلى نفسه من الخزي والعار وقادها إلى ما فيه الموت والدمار، وهو ظلم للمفعول به حيث هتك نفسه وأهانها ورضي لها بالسفول والانحطاط ومحق رجولتها، فكان بين الرجال بمنزلة النسواني لا تزول ظلمة الذل من وجهه حتى يموت وهو ظلم للمجتمع كله بما يفضي إليه من حلول المصائب والنكبات. ولقد قص الله علينا ما حصل لقوم لوط حيث أنزل عليهم رجزاً من السماء أي عذاباً من فوقهم، أمطر عليهم حجارة من سجيل فجعل قريتهم عاليها سافلها وقال بعد أن قص علينا عقوبتهم {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ}.(/3)
أيها المسلمون، متى فشت هذه الفاحشة في المجتمع ولم يعاقبه الله بدمار الديار فإنه سيحل به ما هو أعظم من ذلك، سيحل به انتكاس القلوب وانطماس البصائر وانقلاب العقول حتى يسكت على الباطل أو يزين له سوء عمله فيراه حسنا، وأما إذا يسر الله له ولاة أقوياء ذوي عدل أمناء يقولون الحق من غير مبالاة وينفذون الحد من غير محاباة، فإن هذا علامة التوفيق والصلاح. أيها المسلمون، ولما كانت هذه الجريمة، أعني جريمة فاحشة اللواط، من أعظم الجرائم كانت عقوبتها في الشرع من أعظم العقوبات فعقوبتها القتل والإعدام، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به)). واتفق جمهور الصحابة أو كلهم على العمل بمقتضى هذا الحديث، قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: لم يختلف أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قتله سواء كان فاعلاً أم مفعولا به، ولكن اختلفوا كيف يقتل، فقال بعضهم يرجم بالحجارة، وقال بعضهم يلقى من أعلى مكان في البلد حتى يموت، وقال بعضهم يحرق بالنار. فالفاعل والمفعول به إذا كان راضياً كلاهما عقوبته الإعدام بكل حال سواء كانا محصنين أم غير محصنين لعظم جريمتهما وضرر بقائهما في المجتمع، فإن بقاءهما قتل معنوي لمجتمعهما وإعدام للخلق والفضيلة، ولا شك أن إعدامهما خير من إعدام الخلق والفضيلة. أيها المسلمون: إن علينا كمجتمع إسلامي قوامه الدين والأخلاق، ولله الحمد، أن نجتهد بقدر ما نستطيع على التمسك بديننا والتخلق بالأخلاق الفاضلة وأن يسعى كل منا من الولاة فمن دونهم لمنع الفساد والمفسدين وإصلاح المجتمع وأن نتخذ الحيطة ونتبع مواقع الفساد لتطهيرها. على كل منا أن يراقب حال أولاده وأهله الذكور والإناث فيمنع نساءه من الخروج متبرجات بثياب الزينة والطيب وغيره مما يلفت النظر، ويتفقد أولاده أين ذهبوا وأين غابوا ومن أصحابهم ومن جلساؤهم وأن يمنعهم من مخالطة السفهاء(/4)
ومعاشرة من يخشى الفساد بمعاشرتهم، وعلى كل أهل حارة ومحلة أن يتفقدوا محلتهم وحارتهم ويتعاونوا على منع الشر والفساد، فإذا أصلح الرجل أهله وأصلح أهل الحارة جيرانهم وحرص الولاة على إصلاح بلدهم حصل بذلك من الخير ما يكفل السعادة للمجتمع، وإن أهمل الناس واجبهم في هذا فاتهم من الخير بقدر ما فوتوا من الواجب.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ}[الأعراف:170].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.(/5)
العنوان: عقوق آخر زمن.. آهات وأحزان
رقم المقالة: 837
صاحب المقالة: تحقيق: إيمان الحلواني
-----------------------------------------
عقوق آخر زمن ..
في دار المسنين آهات وأحزان
• د. يسرى عبدالمحسن: الغرب يستقى من الإسلام أسس التربية ونحن نستورد منهم مظاهر الانحراف.
• د. آمنه نصير: بر الوالدين بعد عبادة الله.
• د. نادية حليم: المفاضلة بين الأبناء يدمر الأسرة.
• د. أحمد المجدوب: كما تدين تدان.
* * *
يتخذ الجحود أبشعَ صوره عندما يرى الأبناءُ أنه لا مكان للأب أو الأم- بعد أن بلغا من الكبر عتيا- إلا دار المسنين، فيحرمونهما من أبسط حقوقهما في بيت دافئ تسوده المودة والرحمة والعرفان بالجميل، وقد يكونان هما من شيداه بجهد جهيد ونتاج سنوات عمر طويلة.
وإذا كان في ظاهر هذه الآفة الاجتماعية ضرب من التدني السلوكي لبعض الأبناء الذين انتحرت في داخلهم مشاعر الحنان والرحمة والرأفة بالأبوين، فإن في باطنها كثيراً من الوحشية، ومخالفة جسيمة لما أكد عليه ديننا الحنيف من البر بالوالدين والرأفة بهما والحنو عليهما ورعايتهما في كبرهما.
وفي الأبعاد الاجتماعية لهذه القضية، ورأى الشرع في الأبناء الذين يعُقُّون آباءهم .. كان هذا التحقيق.
في زيارة لأحد دور المسنين التقينا بعدد من الآباء والأمهات النزلاء وسألناهم عن سبب وجودهم في الدار؟ وهل يزورهم الأبناء من حين لآخر أم لا؟
غريب في بيتي:(/1)
بكلمات حزينة قال الأب ج.ح: لم يعد لي مكان في بيتي بعد أن نبذني أبنائي عندما تزوجوا واحتلوا غرف المنزل بالكامل وأصبحت أنام على الأرض، فلا أجد من يرعاني ويحنو على شيبتى، وتمنيت كثيراً أن ألحق بزوجتي وأنتقل إلى رحاب الله - عز وجل - فمنذ وفاتها وأنا أفتقد إلى الأنيس والصديق، وحسبت أنني سأجد في أبنائي عوضاً عنها لكنني لم أجد سوى البعد والرفض والإهمال، واخترت بنفسي أن أعيش وسط ذكرياتي في دار المسنين انتظاراً للموت بعد ما عشت غريباً في بيتي الذي شيدته بجهدي وعرقي، وبرغم ما فعله بي أبنائي فمازلت أدعو لهم بمزيد من السعادة والهناء.
بيت الذكريات:
وبصوت منخفض مليء بدموع الحسرة والألم قال الأب س.ر: لا أدرى لماذا أتى بي ابني الوحيد إلى هنا؟ كنت استمتع بوجودي في بيتي الذي قضيت فيه خمسين عاماً وأحسست وأنا أغادره كأنني أغادر حياتي، فبعد أيام قليلة من وفاة زوجتي التي هي والدته فوجئت به يختلق لي عدداً من الأعذار الوهمية ثم ألقى في وجهي قنبلته أنه لم يعد لي مكان هنا، وعلىَّ أن أستعد لدخول دار المسنين، انهمرت دموعي وحمدت الله أن أمَّه ماتت قبل أن تشهد تلك اللحظة المريرة وتذكرت وقتها يوم ولادته حينما قالت لي أمه "هذا هو سندنا" فتمنيت أن أعيش حتى أرى حصاد السنين، وأريد أن أسأله الآن: هل هذا حصاد تربيتي وإكرامي لك؟ ولم يتمالك الأب نفسه فانهمرت دموعه واحتبست كلماته، فلم أتحمل دموعه التي مزقت قلبي.(/2)
أما السيدة ش.م: التي بدت في ريعان شبابها وعندما سألتها عن سبب وجودها في الدار غابت في رحلة شرود قصيرة ثم ردت بتنهيدة وابتسامة شاحبة، ثم قالت: عندي ثلاث بنات وولدين، كلهم تزوجوا، أصغرهم منذ خمسة شهور، وهو الذي جاء بي إلى هنا ليتزوج في مسكني بعد أن اتفق مع إخوته على ذلك، برغم أنه كان أقرب أبنائي إلى قلبي، ولكن كما يقول المثل: "قلبي على ولدى انفطر، وقلب ولدى علىّ حجر"، وحاولت الأم إخفاء دمعة تسللت إلى وجنتيها بالرغم عنها واستكملت حديثها: "ليته أتى بي إلى هنا دون إهانة، بل تمادى في معايرتي بأنني أصبحت عالة عليه وعلى زوجته الشابة التي ضاقت بي ذرعاً، وعندها لجأت لبناتي فوجدتهن قد التمسن بعض الأعذار لأخيهن وتهربن منى، فبعت قطعة أرض صغيرة ورثتها عن زوجي - رحمه الله - الذي كان يشعر بما سيفعله أولادنا بي بعده، وأتيت إلى الدار كي أحفظ ما تبقى من كرامتي.
الرد الفاتر:
التقيت بنزيلة أخرى داخل الدار تدعى ر.س وجدتها منهمكة معها قلم وبعض الأوراق، وبسؤالها عما تكتب قالت: "إنني أحب الكتابة جداً، ومنذ شهور أكتب لعلي أنسى، فأروى قصة حياتي التي توقفت بوفاة زوجي، فبالرغم من سهري الليالي على راحة أبنائي لأوفر لهم حياة كريمة وجدت أنني أصبحت عبئاً عليهم خصوصاً بعد تخَرُّجِهم من الجامعة، فعرضت عليهم فكرة أن أقضي بقية حياتي في إحدى دور المسنين، وفوجئت بفتور شديد قطع نياط قلبي فانسحبت بهدوء دون أن أسبب لهم أيَّ إزعاج حتى لا يكرهوني.
وها أنا أعيش وكأنهم ماتوا بموت زوجي الذي كان يخاف علي من ذلك المصير، وقد كنت دائماً أقول له : "اللي خلف لم يمت" لكنني الآن - في نهاية المطاف - كم أتمنى لو كنت عقيمة فلم أنجب ابناً يعق والدته ولا يرحمها في آخر أيامها.
دور التربية الإسلامية:(/3)
الدكتورة آمنه نصير- العميدة السابقة لكلية الدراسات الإسلامية بجامعة الأزهر- تقول: أكد الله الوصية بالوالدين في كتابه وجعل ذلك من أصول البر التي اتفقت عليها الأديان جميعاً، فوصف الله يحيى بقوله: {وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً} [مريم:32]، وكذلك وصف عيسى على لسانه في المهد: {وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً} [مريم:41]، وكذلك جاء القرآن فجعل الأمر ببر الوالدين بعد عبادة الله وحده: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [الإسراء:23]، والقرآن جعل للوالدين المشركَين حقاً، قال- تعالى- في سورة لقمان: {وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان:15]، حتى مع محاولة التكفير والصد عن طريق الله وعن الإيمان أمرنا الله ألا نطيعهما ولكن نصاحبهما في الدنيا معروفاً.
هذا ما جاء به الإسلام، فكيف يرفع الابن على أبيه قضية حجر ويودِع أباه أو أمَّه دار المسنين إذا ما أصبحا عبئاً عليه؟
أسس ضائعة:
الدكتور يسرى عبد المحسن – أستاذ الطب النفسي بجامعة القاهرة – يرى: أن كثيراً من الآباء والأمهات يشكون عقوق الأبناء أو سلوك الأبناء وينسى الآباء أن فرصة التربية قد ضاعت منهم إما في زجر الأبناء في وقت لا يستدعى الأمر فيه إلى زجر أو في التقليل من شأن الأبناء في وقت هم في أمس الحاجة فيه إلى من يعتني بهم ويرعاهم.(/4)
فالأب إما غافل عن أبنائه بالتجاهل لحياتهما، وإما بالغرق في زحمة الحياة بعيداً عن ضرورة رعاية الأبناء. والأم كذلك لاهية عن الأبناء في أمور أنستها مهمتها الأساسية في الحياة، فلا تأخذ الابنة عن أمها حناناً في أشد أوقات احتياجها إليه، ولا تتبع الحزم في الوقت المناسب، فنحن كنا أصدقاء لأمهاتنا, وبعد أن تعلمنا لم نصادق بناتنا، هل هذا معقول؟!
ويضيف: لقد ساد جوَّ الصداقة والفهم كثيرٌ من التنافر، وإذا نظرنا إلى المجتمعات التي نطلق عليها لقب "معاصرة" لوجدنا أن علماء تلك المجتمعات يستقون من الإسلام الأسس السليمة للتربية، فالإسلام يحثنا على الاحترام والحنان والمودة بين الزوجين، فينشأ الطفل متمتعاً بالوجدان الصافي لتلقى مسؤوليات الحياة، فالحزمُ واحترامُ ذاتية الطفل وتعليمه منهج الدين من السابعة إلى الرابعة عشر ليعرف أن المؤمن هو الإنسان الذى يتقن عمله حتى تصلح حياته بهذا العمل، وأن يعطى من الجهد والتعليم ما يجعله متدرباً على تحمل المسؤولية ومعرفة فن إدارة الحياة وفق منهج الله تعالى.
ويحذر د. يسرى كل أب وأم يعتقد أن العلاقة مازالت مقدسة من جانب الآباء على أبنائهم، فإنها تغيرت بصورة كبيرة في زماننا الحالي, وحتى طابع الخوف الذي كان يدفعهم إلى الصمت قبل ذلك تغير ولم يعد أمامنا سبيل سوى التسامح والمودة والألفة.
عمل غير مقبول:(/5)
الدكتورة نادية حليم - أستاذة علم الاجتماع بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية - تتفق مع ما ذهب إليه الدكتور يسرى عبد المحسن في أن غياب المنهج الإسلامي وتبني أنماط غريبة لا تتناسب ومجتمعاتنا الإسلامية كان وراء انحراف الشباب وعقوقهم لوالديهم، وتشير د. نادية إلى أن الأبناء يرون الدنيا من خلال آبائهم، فهم في أعين أبنائهم رمز الفضيلة والرحمة والحنان، فإن وجد الفتى ما يناقض ذلك في سلوكيات أبويه كان ذلك إيذاناً بأول شرخ في الجدار النفسي وأول ما يشب عليه الأبناء هو ما يتعلق مباشرة بالمفاضلة بين شقيقتين وإذا ما تعمق هذا الشعور بالنفس كانت له آثاره السيئة التي لا تتحملها الطفولة البريئة وقد تصل إلى العدوانية وربما إلى الجريمة.
وتضيف: أشد ما يؤلمني أن أطالع الصحف فأجد أُمَّا تقتل طفلها الوحيد من أجل عشيقها وأب يقتل أولاده الثلاثة ويقول إنهم لا يسمعون الكلام.
كيف؟! لقد جعل الله -لحكمةٍ جليلةٍ- محبةَ الأبناء غرساً أصيلاً لصيقاً بنسيج القلوب, وكفلت الشريعة الإسلامية الحقوق للأبناء على الآباء، أما الطبيعة السوية تقول إن الأبناء أمل الأبوة وأحلامها وكنوزها المدخرة وعالمها الممتد المجدد لوجودها الدنوي الفاني، لذلك كان الاحتواء بالتربية والرعاية والحضانة والسعي للرزق من أجلهم للتملك والتوريث ومحاولة الترقي لبلوغ الأمنية.
وتشير د. نادية حليم إلى أن: قراءة متأنية في صفحات عقيدتنا سيجد المؤمن فيها الشريعة الإسلامية تقدم المنهج الصحيح في التعامل وأركز على دور الإعلام في التوعية الدينية والاجتماعية وضرورته.
حصاد تنشئة فاسدة:(/6)
الدكتور: أحمد المجدوب – أستاذ علم الاجتماع بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية - يرى: أنه عندما يتجرأ الشاب أو الفتاة على والديه بالقول والإشارة، فلا يمكننا أن نلقي بالعبء كله على كاهل ذلك الشاب أو تلك الفتاة، ولكن المسؤولية كاملة تقع على عاتق الوالدين، فالطفل يولد صفحةً بيضاءَ كما يقول الرسول عليه الصلاة والسلام ((كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)) وأراد- عليه الصلاة والسلام- بهذا الحديث أن يشير إلى أن الفطرة على الإسلام.
لذا فأي تلوين في هذه الصفحة البيضاء يتم بواسطة الوالدين، وما ينقلانه للطفل من عادات وأخلاقيات.
ويضيف د. المجدوب: إننا ندور في حلقة مفرغة، فعقوق الأبناء لآبائهم هو مجرد حصاد لما زرعه هؤلاء الآباء، فإساءة التربية نتائجها وخيمة.
فعندما يكون الأب مثلاً قاطعاً لرحمه، لا يجوز له أن يطالب أبناءه أن يصلوا رحمه فيما بعد، فلا ذنب للأبناء في عقوق الوالدين، فالتنشئة محاكاة وليست أوامر موجهه من الآباء إلى الأبناء، فالإنسان يلجأ بطبيعته للمحاكاة سواءٌ أكانت حسنة أم سيئة؛ لذا فإن جرائم الأبناء ضد الآباء هي حصاد لتنشئة فاسدة.(/7)
العنوان: عقيدة العنف والإرهاب في الفكر الصهيوني
رقم المقالة: 997
صاحب المقالة: أحمد أبو زيد
-----------------------------------------
عقيدةُ العنف والإرهاب في الفكر الصهيوني المعاصر
قراءةٌ لشخصياتِ الواقع الإسرائيلي عبرَ مئة عام
• الدولة الصهيونية في فلسطين قامت على العنف والإرهاب واتخذته استراتيجية ثابتة لبقائها.
• هرتزل أصر على ربط المشروع الصهيوني بأوربا الاستعمارية، وسعى لتذليل كل العقبات أمام تنفيذ المؤامرة الصهيونية.
• جابوتنسكي التحق بعصابات الهاجاناه الصهيونية لقمع المظاهرات العربية في القدس، وروج لإقامة الدولة الصهيونية بالقوة.
• بن جوريون آمن بالفكر التوسعي وترك حدود إسرائيل مفتوحة، وكان من مؤيدي مقاطعة العرب وطردهم من أراضيهم.
• شامير دعم بشدة التوسع في سياسة الاستيطان، وكان يعد الضفة الغربية وغزة جزءا من أراضي إسرائيل.
• رابين تبنى أساليب وحشية منظمة لقمع الانتفاضة الفلسطينية عُرفت باسم سياسة "تكسير العظام".
• نتنياهو سفاح تربى على كراهية كل ما هو عربي، ووصفته صحيفة "هاآرتس" اليهودية بأنه شخصية مدمرة خربة يمكنها تدمير المنطقة.
• باراك يؤمن بأن إبادة العرب هو هدف الإسرائيليين الأول.
• شارون قاد عشرات المذابح ضد الشعب الفلسطيني الأعزل، وكان يتلذذ بقتل المدنيين من النساء والأطفال.
* * * *
تضم دولةُ الكيان الصهيوني مجموعةً من القتلة والسفاحين ومجرمي الحرب الذين لا هدف لهم جميعا إلا إبادة الشعب الفلسطيني، واغتصاب الحقوق العربية، وتدنيس المقدسات، والحيلولة دون قيام الدولة الفلسطينية.(/1)
ومن المهم لكي نفهم الواقع الصهيوني المعاصر، وكيف يفكر هؤلاء اليهود؛ أن نتعرف الشخصيات اليهودية التي خططت لتأسيس الكيان الصهيوني، منذ أكثر من قرن، وقيامه على أرض فلسطين العربية الإسلامية، وكيف كانوا يفكرون، ومواقفهم من العرب والمسلمين، ومن أكملوا دورهم وأعلنوا قيام الدولة الصهيونية في 15 من مايو 1948م، ومن قادوا هذه الدولة التي قامت على أشلاء الشعب الفلسطيني، واغتصبت أرضه ودياره، واتخذت العنف والإرهاب والمذابح الجماعية سياسة ثابتة لها على مدى 59 عاما، وما زال من خلفهم يواصل هذه السياسة بشراسة لا حدود لها لاغتصاب المزيد من الأرض الفلسطينية في غزة ورفح، وتشريد المزيد من الفلسطينيين العزل.
ولا غرابة من دولة نشأت من سفاح، واغتصبت الحقوق العربية والإسلامية في فلسطين ودنست المقدسات، وارتكبت عشرات المذابح في حق الفلسطينيين العزل، أن تلد مجموعة من القتلة والسفاحين ومصاصي الدماء، سواء كانوا قادةً أو مستوطنين أو يهودَ متطرفين، وليس هذا بجديد على اليهود، فهم قتلة الأنبياء، وناقضو العهود والمواثيق، وأبناء القردة والخنازير، الذين غضب الله عليهم ولعنهم؛ لكفرهم وعنادهم وعصيانهم وسوء طباعهم، وحياة اليهود منذ نشأتهم الأولى وإلى الآن تقوم على المؤامرات والفتن والدسائس وإشعال الحروب والمنازعات والفساد في الأرض، وصدق الله سبحانه إذ يقول: {كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين} [المائدة: 64]، ولقد فضحهم القرآن الكريم في عشرات الآيات، وبين أنهم أشد الناس عداوة للمسلمين {لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا} [المائدة: 82](/2)
ولقد ضم تاريخُهم المعاصر ودولتهم اللقيطة التي ترعاها أمريكا مجموعةً كبيرة من السفاحين والقتلة الذين أدوا دورا خطيرا في الصراع العربي الصهيوني، وارتكبوا الكثير من الجرائم والمذابح في حق الشعب الفلسطيني المسلم صاحب الحقوق الشرعية في الأرض والمقدسات.
• هرتزل الشيطان الأكبر:
ويأتي هرتزل على رأس السفاحين الصهاينة، بل هو شيطانهم الأكبر، الذي خطط لقيام دولة السفاحين، ودعا لمؤتمرات عالمية لهذا الشأن.
ولد ثيودور هرتزل (1860م-1904م) بمدينة بودابست لأب يعمل في التجارة، والتحق بمدرسة يهودية دون أن يستكمل التعلم فيها حتى إنه لم يعرف العبرية، لكنه التحق بمدرسة ثانوية فنية، ثم بالكلية الإنجيلية منهياً دراسته عام 1878م، وأكمل دراسته الجامعية في جامعة فينا؛ حيث حصل على درجة الدكتوراه في القانون الروماني، وعمل في المحاماة، ولم يستطع التخلص من رواسبه القانونية عندما ألّف مسرحيات وروايات لم تصب حظها من النجاح.
وعمل هرتزل في صحيفة (نويه فرايه بريسي) بين عامي 1891م-1895م، وفي العام التالي أصدر كتيباً بعنوان "دولة اليهود.. محاولة لحل عصري للمسألة اليهودية"، طُبع ونُشر بخمس لغات، وتضمن القواعد التي تقوم عليها الصهيونية في صورتها الجديدة، والتي تهدف إلى جمع اليهود في دولة خالصة لهم.
استهل هرتزل نشاطه بالدعوة إلى عقد مؤتمر يضم ممثلين لليهودية الأوروبية بمدينة بازل السويسرية، وفي عام 1897م انتُخب رئيساً للمؤتمر، ثم رئيساً للمنظمة الصهيونية. وهذا المؤتمر هو الذي أصدر "برنامج بازل" الشهير الذي تضمن محاولة الحصول على موافقة دولية على مشروعية الهجرة اليهودية الجماعية لفلسطين لبناء دولة يهودية خالصة. وتوالى عقد هذا المؤتمر في كل عام برئاسة هرتزل، مما يدل على دوره الكبير في نشاط الحركة الصهيونية.(/3)
ويرتبط اسم هرتزل بمحاولة مخاطبة السلطات العثمانية، والبابوية، والسلطات الاستعمارية لتذليل كل العقبات أمام تنفيذ المؤامرات الصهيونية، وهو صاحب فكرة تحويل الأنظار عن فلسطين وسيناء إلى مستعمرة أوغندا البريطانية، ورُفضت هذه الفكرة من قبل المؤتمرين بشدة.
تُوفي هرتزل ببلدة أولاخ في الثاني من يونيو 1904م، ثم نُقلت رفاته إلى فلسطين المحتلة.
ومن أفكار هرتزل الأساسية إيمانه بأن اليهود - وخصوصاً في أوروبا - شعب عضوي منبوذ بدافع العداء الناجم عن المنافسة التجارية واستقلال اليهود ماليّاً وقوتهم الاقتصادية الرهيبة، وهذا هو جوهر هوية اليهود كشعب، ومع ذلك فإن هرتزل أصر على ربط المشروع الصهيوني بأوربا الاستعمارية، فهو يرى أن الانقلاب الصناعي وحركة المواصلات العالمية هما ضمان حل المشكلة السكانية عموماً والمشكلة اليهودية خصوصاً. أما إقامة وطن يهودي فلن يعود على أوروبا بفضائل اقتصادية فحسب، بل سيحقق لها قوة إمبريالية مهمة في المنطقة العربية.
• جابوتنسكي صهيونيّ منذ صباه:
وبعد هرتزل يأتي جابوتنسكي (1873م-1917م) الذي ولد في روسيا لعائلة تنتمي إلى الطبقة الوسطى، وبرغم ضآلة معرفته باليهودية فإنه أظهر نزوعاً صهيونيّاً منذ صباه، فقد درس القانون في سويسرا وإيطاليا وفيها استوعب الرؤية الإمبريالية للأمور، ومن ذلك أنه تأثر بواقعية ثوماس هوبز معلناً أن العالم ساحة لصراع الجميع ضد الجميع، كما تأثر بفكر داروين ونيتشه والفاشية، وبأفكار أنطونيو لابريولا عن الإرادة وقدرة الإنسان على تغيير المستقبل بالإرادة.(/4)
بدأ جابوتنسكي نشاطه الصهيوني الفعلي عام 1903م بحضور المؤتمر الصهيوني السادس، فاطلع على كتابات الصهاينة الأوائل لا سيما هرتزل وبفسكر وليلينبوم، وحاول تنظيم بعض خلايا الدفاع اليهودية في روسيا، وعرف عنه معارضته لمشروع وطن قومي في شرقي أفريقيا لإدراكه العميق لوثاقة الصلة بين الموقع الاستراتيجي لفلسطين ومصالح أوروبا.
وأصبح جابوتنسكي في أوائل العشرينيات من القرن المنصرم مسؤولاً عن أجهزة الدعاية والصحافة الصهيونية في الدولة التركية بعد سقوط الخلافة، ثم التحق بعصابات الهاجاناه الصهيونية لقمع المظاهرات العربية في القدس، مؤمناً بسياسة فرض الواقع بالقوة العسكرية.
وفي عام 1923م - إثر خلافه مع المنظمة الصهيونية العالمية ذات الصبغة العمالية - انشق عن المنظمة الصهيونية، وأسس المنظمة الصهيونية الجديدة، داعياً إلى التعامل مع القضية الصهيونية بالمزيد من الحسم والتطرف وإقامة الدولة الصهيونية بالقوة.
• بن جوريون وسياسة طرد العرب:
أما دافيد بن جوريون (1886م-1973م) فهو الشخصية المحورية الذي قامت إسرائيل على يديه، وقاد عدة حروب ضد العرب، وقد بدأ نشاطه الصهيوني وهو فتى، إذ هاجر إلى فلسطين سنة 1906م، وبدأ التأكيد على الاهتمام بالمستوطنين الصهاينة، وإحياء اللغة العبرية. وإبّان الحرب العالمية الأولى (1914م-1918م) ذهب إلى الولايات المتحدة، وأسس جماعة "الرواد"، وشارك في تكوين الفيلق اليهودي في الجيش البريطاني. ثم عاد بن جوريون إلى فلسطين سنة 1918م، وشارك في تأسيس اتحاد النقابات العمالية "الهستدروت" على أساس ألا يقتصر هذا التنظيم على العمل النقابي العمالي، بل ليكون وسيلة صهيونية استيطانية أيضاً، وتولى رئاسة الهستدروت من عام 1921م-1932م، كما شارك في سنة 1930م في تأسيس حزب الماباي وفرض نفسه زعيماً سياسيّاً على الحركة الصهيونية في الثلاثينيات.(/5)
وأسس بن جوريون فرق الحراسة التي تحولت فيما بعد إلى الهاجاناه. ونجح من خلال عضويته في اللجنة التنفيذية الصهيونية واللجنة التنفيذية للوكالة اليهودية في وضع برنامج بلتمور، الذي تبنته المنظمة الصهيونية العالمية، والذي أعلن انتقال الرعاية الإمبريالية للصهيونية بإنشاء دولة إسرائيل، وكان ذلك انتصاراً مركزيّاً لمدرسة بن جوريون في صراعه مع قيادة المنظمة الصهيونية لجَعْل تجميع اليهود في فلسطين مهمة رئيسية للمنظمة الصهيونية، كما كان من مطالب بن جوريون المستمرة جَعْل الهجرة إلى إسرائيل الدليل الحاسم على صهيونية أي زعيم أو فرد من أبناء الشعب اليهودي.
• إعلان الدولة الصهيونية:
وقام بن جوريون في 15/5/1948م بإعلان قيام دولة إسرائيل على أرض فلسطين. وترأس الحكومة المؤقتة للدولة الجديدة التي تكونت من أعضاء اللجنة التنفيذية للوكالة اليهودية، في حين ترأس الدولة حاييم وايزمن رئيس المنظمة الصهيونية، وبقي في رئاسة الحكومة حتى استقال سنة 1955م.
وفي سنة 1965م استقال من حزب "الماباي" وأسس حزب "رافي" مع بعض أعوانه أمثال موشيه دايان وشيمون بيريز.
وقد آمن بن جوريون بالفكر التوسعي، وترك حدود إسرائيل مفتوحة، كما طالب بجعل القدس عاصمة الدولة الصهيونية، وأدى دوراً رئيسيّاً في بلورة الفكر الصهيوني في فلسطين، وكان من مؤيدي مقاطعة العرب وطردهم من أراضيهم.
وبعد إقامة الدولة أقدم على حل كل المنظمات العسكرية الصهيونية وحولها إلى "جيش الدفاع الإسرائيلي"، وأولاه اهتمامه، وشغل منصب وزير الدفاع في معظم الوزارات التي كان يرأسها.
واعتمد في سياسته على التحالف مع القوى الإمبريالية بعد أن أكد دور إسرائيل كحامية للمصالح الإمبريالية في المنطقة العربية، فتحالف مع بريطانيا وفرنسا، واشترك في شن العدوان الثلاثي على مصر سنة 1956م، وشهد هزيمة إسرائيل السياسية والعسكرية في حرب أكتوبر 1973م.
• إسحق شامير الصهيوني المتطرف:(/6)
ويأتي إسحق شامير، وهو من مواليد بولندا، درس القانون في جامعة وارسو، وعمل قبل هجرته إلى فلسطين محاميا تحت التمرين، وعند وصوله الى فلسطين عام 1935م انضم إلى عصابة "أرجون"، ثم رأس عصابة "شتيرن" التي دبرت اغتيال الوسيط الدولي الكونت "فولك برنادوت"، فضلا عن أعمالها الإرهابية ضد العرب في فلسطين.
وبعد إعلان دولة إسرائيل عمل شامير عميلا سريا للمخابرات الصهيونية "الموساد" حتى عام 1970م، وكان نشاطه طوال تلك الفترة يتركز في أوربا الغربية، وبعد عودته إلى إسرائيل انضم إلى حزب "حيروت"، ثم صعد بسرعة إلى الصفوف الأولى، حيث انتخب رئيسا للكنيست عام 1976م، وشغل منصب وزير الخارجية بعد بضعة أشهر من استقالة موشيه دايان عام 1980م، ثم تولى رئاسة الحكومة بعد حكومة مناحم بيجن في الثمانينات.
وكان شامير من أشد الإسرائيليين تطرفا في معتقداتهم الصهيونية، ويعرف عنه أنه صاحب "اللاءات الثلاث" التي صرح بها عقب توليه وزارة الخارجية، وهي لا لعودة إسرائيل إلى حدود 1967م، ولا لقيام دولة فلسطينية، ولا لتقسيم القدس.
وكان يدعم بشدة التوسع في سياسة الاستيطان في الأراضي العربية المحتلة، وكان يعد الضفة الغربية وغزة جزءا من أراضي إسرائيل، وعارض بشدة إزالة المستوطنات من سيناء. وهو صاحب اقتراح إصدار القانون الذي يحظر الاتصال بأعضاء منظمة التحرير الفلسطينية، والذي صدر في بداية عام 1983م.
وقد امتنع عن التصويت على معاهدة "كامب ديفيد"، وقت الاقتراع عليها في الكنيست – وكان رئيسا له – حيث كان يرى أنها لا تحقق أهداف السياسة الإسرائيلية بالقدر المطلوب، وأن بيجن قدم تنازلات. كما كان يرى أن أعظم إنجازات حكومة سلفه – مناحم بيجن – هي: المستوطنات ونسف المفاعل النووي العراقي والحرب ضد منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان، وكان يرى أيضا ضرورة أن يكون لإسرائيل وجود عسكري في جنوب لبنان.(/7)
وكان شامير سفاحا عتيدا؛ فعصابة شتيرن التي كان يرأسها وعصابة أرجون التي شارك فيها ارتكبتا مذبحة "دير ياسين" المشهورة عام 1948م، كما نفذتا عشرات المذابح الأخرى ضد الشعب الفلسطيني الأعزل، وفي عام 1982م وجهت لجنة التحقيق في مذابح مخيمي صبرا وشاتيلا في بيروت – التي راح ضحيتها أكثر من ثلاثة آلاف ما بين شاب وشيخ وامرأة وطفل - لوما شديدا إلى شامير لأنه تجاهل عندما تلقى تحذيرا من "موردخاي تزيبوري" وزير المواصلات آنذاك بأن هناك مذبحة تجرى في المخيمات، ولم يتخذ أي إجراء.
• إسحق رابين وسياسة تكسير العظام:
وبعد شامير يأتي رابين (1922م-1995م) الذي ولد في القدس، ودرس في مدرسة زراعية، ثم اندرج ابتداءً من عام 1940م في منظمة صهيونية إرهابية تدعى "البالماخ" وتحول إلى الهجوم على حكومة الانتداب، وفي حرب 1948 عمل كضابط عمليات، واشترك في الاستيلاء على القدس، وما لبث أن صار قائداً للواء عسكري ثم ضابطاً مسؤولاً عن الجبهة الجنوبية.
وخلال الأعوام العشرين التالية شغل مناصب عسكرية متصاعدة، فكان قائداً للمنطقة الشمالية (1956م-1959م) ثم رئيساً لشعبة العمليات ونائباً لرئيس الأركان ثم رئيساً لها (1964م-1968م) وقائداً للجيش خلال حرب 1967م.
وتقاعد رابين في عام 1968م، وعمل سفيراً لإسرائيل في أمريكا، وبعد عودته في 1973م نشط حزبيّاً، ودخل وزارة جولدا مائير وزيراً للعمل، وعقب سقوط الحكومة بسبب حرب 1973م، انتخب رابين من قبل حزب العمل لخلافة مائير، وفي ظل حكومته وُقّعت اتفاقية الفصل بين القوات الإسرائيلية والسورية والمصرية (1974م) والاتفاق المرحلي مع مصر (1975م) وأول مذكرة تفاهم بين أمريكا وإسرائيل (1975م)، إلى أن سقطت حكومته بدعوى انتهاك حرمة يوم السبت.(/8)
وبقي رابين - برغم ارتباط اسمه بفضيحة مالية بسبب زوجته - في طليعة الصف الأول من السياسيين الإسرائيليين. وفي الأعوام التي سبقت 1982م وقف رابين مع الغزو الإسرائيلي للبنان، واقترح انسحاب الجيش من لبنان مع الاحتفاظ بشريط أمني، وذلك في أثناء توليه وزارة الدفاع في حكومة الوحدة بين حزبي العمل والليكود (1984م-1990م).
وفي أثناء الانتفاضة الفلسطينية (1987م-1991م) انتهج رابين سياسة عُرفت باسم "تكسير العظام"، وهي التي ألجأته إلى تبني أساليب وحشية منظمة لقمع الفلسطينيين، وكانت مثار انتقاد واسع عربيّاً ودوليّاً.
وبعد انطلاقة عملية التسوية في مدريد، وعقب سقوط حكومة الليكود، لمع نجم رابين من جديد فتولى رئاسة حزب العمل ثم رئاسة الحكومة في عام 1993م، ووقَّعت حكومته اتفاق "أوسلو" مع منظمة التحرير الفلسطينية، واتفاقية "وادي عربة" مع الأردن 1994م، وخاضت مفاوضات مطولة مع سوريا أفضت إلى ورقة عُرفت بوديعة رابين نصت على انسحاب كامل من الجولان لقاء ترتيبات أمنية وتطبيع للعلاقات.
وانتهت حياة هذا السفاح الصهيوني باغتياله على يد يميني متطرف سنة 1995م احتجاجاً على سياسته في عملية التسوية.
• بنيامين نتنياهو الإرهابي المدمر:
أما بنيامين نتنياهو فقد وصل إلى رئاسة الوزراء في إسرائيل عام 1996م، حتى هزمه باراك وسقطت حكومته أمام حزب العمل في الانتخابات التي أجريت في مايو 1999م، وكان نتنياهو ضابطا في وحدة كوماندوز بالجيش الإسرائيلي، حيث خدم فيها خمس سنوات وخرج من الجيش برتبة نقيب قبل أن يتولى منصب مندوب إسرائيل في الأمم المتحدة، ونائبا للسفير الإسرائيلي في واشنطن.
وقد خاض نتيناهو الانتخابات التي فاز بها بوعد عدم احترام اتفاقات السلام الموقعة عام 1993م، وكثيرا ما تعرض بعد ذلك لانتقادات لتقويضه عملية السلام.(/9)
وواجه نتنياهو عقب سقوطه في الانتخابات السابقة اتهامات بالفساد لكنها أسقطت مؤخرا مما يمهد أمامه الطريق للعودة لرئاسة الحكومة.
ولا ينسى العرب والمسلمون هذا الصهيوني المتغطرس الذي يفكر اليوم في العودة للعمل السياسي - فهو سفاح تربى على كراهية كل ما هو عربي، ووصفته صحيفة "هاآرتس" اليهودية عقب توليه رئاسة الوزراء بأنه شخصية مدمرة خربة يمكنها تدمير المنطقة، ووصفته صحيفة معاريف أيضا على لسان "روتي بن آرتس" شقيقة زوجته بأنه شخص متكبر، متغطرس، قاس، لا يعرف ماذا يريد، يكره أولاده وأسرته، ويهدد أمن إسرائيل والمنطقة بأكملها بالوصول إلى مرحلة الجنون. وقالت شقيقة زوجته: إن نتنياهو شخصية غير سوية، وشخص شرير بطبعه، وهو غير مناسب - على حد قول والديه - سوى لتمثيل أدوار القتلة واللصوص في أفلام السينما وفي الجيش الإسرائيلي فقط، ثم تقول: لقد أعلنت أسرته عن خوفها من أن تقوم حرب جديدة بين العرب وإسرائيل بسبب ابنهم المتطرف، فرأيُ الأسرة فيه رأيٌ قاس لأنه خرج عن المألوف، وبدأ يهدد حياة الشعب كله، وترى عائلته أنه لن يبقى طويلا في الحكومة لأنها ستنهار بناء على رغبة الشعب الذي صوت لحسابه، كما ترى العائلة أنه شخص غامض غير محدد المعالم، ولا يمكن لأحد أن يخمن ما سيفعله بعد ساعة واحدة من الزمن، وترى أن الائتلاف الديني الحاكم مع نتنياهو كارثة محققة؛ لأن هذا الائتلاف سيدفعه للنهاية المحتومة لأمثاله في التاريخ، بل وأعلنت العائلة – كما تقول صحيفة "معاريف" أنها ترى في حكومة ابنهم حكومة للنازيين الجدد في إسرائيل.
ولقد أظهر نتنياهو غطرسته وغروره منذ توليه الحكومة، فوضع ثلاثة عراقيل في طريق عملية السلام المزعومة بين الفلسطينيين واليهود، إذ أعلن معارضته الشديدة لقيام دولة فلسطينية مستقلة، وأكد أن القدس الكاملة عاصمة إسرائيل الأبدية، تقع تحت سيادتها، وغير قابلة للتقسيم، وأبدى رفضه التام للانسحاب من هضبة الجولان.(/10)
وعن رأيه في العرب فإن نتنياهو لديه القناعة الكاملة بأن الأسلوب الأمثل للتعامل معهم هو استخدام أسلوب القوة والقمع والردع.. والتي طالما رددها في أثناء دعايته الانتخابية بقوله: "أنا أعرف العرب جيدا؛ إذا رأوا أنك مستعد للتنازل والضعف يطلبون منك أكثر، وإذا رأوك قويا صلبا مصرا على رأيك يتنازلون"!!
• باراك السفاح المخادع:
وأما باراك - رئيس وزرائهم المستقيل بعد عجزه عن وقف انتفاضة الأقصى - فهو واحد من السفاحين القتلة الذين تشربوا العنف والحقد تجاه العرب منذ نعومة أظفارهم، وتاريخ ذلك الصهيوني البغيض ملطخ بدماء الآلاف من أطفال الانتفاضة الفلسطينية الذين حطم عظامهم عام 1987م، وهذا التاريخ الدموي للسفاح باراك هو الذي وقف وراء اختيار الإسرائيليين له لرئاسة الوزراء، خلفا لبنيامين نتنياهو، فهو صاحب التاريخ الأكثر سوادا في الجيش الإسرائيلي، وأكثر من حصل على أوسمة في تاريخها القصير، وعرف باراك - بحكم صهيونيته - بأن إبادة العرب هو هدف الإسرائيليين الأول، فكان شعاره الذي رفعه في أثناء الانتخابات "من قتل من العرب أكثر مني!"، حاملا برنامجا انتخابيا مكتوباً بدماء المئات من الفلسطينيين والعرب، وبخاصة دماء الأسرى المصريين ممن قتلهم باراك غدرا عام 1967م وعام 1973م.
ولقد أفصح باراك عن دمويته واستعداده للاستمرار في ارتكاب المجازر ضد الفلسطينيين العزل في سبيل تحقيق الأمن لإسرائيل، عندما صرح لإذاعة إسرائيل باللغة العبرية في منتصف نوفمبر 2000م - بما يكشف عن وجهه الحقيقي - أنه على استعداد لقتل 2000 فلسطيني دفعة واحدة بدلا من 200 حاليا، لو كان ذلك يضع حدا للعنف، ويوقف انتفاضة الأقصى، وطالب الإسرائيليين بالاستعداد لمعركة طويلة، وقال إن دولته لا تتبع سياسة ضبط النفس فى تعاملها مع الفلسطينيين، ولكن الرد الملائم والمطلوب، وأعلن أن إسرائيل ستخوض حربا طويلة تحدد المستقبل.(/11)
واعترف باراك بأنه أعطى أوامره للجيش لتنفيذ كل ما تراه هيئةُ الأركان مناسبا من أجل وقف الانتفاضة، مؤكدا أن أوامره للجيش كانت أكثر قساوة من الأوامر التي أصدرتها جميع الحكومات الإسرائيلية التي واجهت الانتفاضة السابقة، سواء كانت حكومات حزب العمل أو الليكود أو حكومات الوحدة الوطنية.
فقد أمر قوات الشرطة والجيش بضرب الفلسطينيين في أحداث الأقصى بالرصاص الحي في مشهد مأساوي أقرب إلى الحرب الهمجية التي تقوم بها مدججة بكل الأسلحة ضد شعب أعزل لا يملك أطفاله سوى الحجارة.
وباراك يحمل درجة البكالوريوس في الفيزياء من الجامعة العبرية، وشهادة الماجستير في النظم الهندسية الاقتصادية من جامعة "ستانفورد" في كاليفورنيا، وقد برزت مواهبه كمقاتل شرس، وتدرج في مناصبه العسكرية حتى أصبح في إبريل 1991م رئيساً لهيئة الأركان، ثم عين في يوليو 1995م وزيراً للداخلية، وفي يونيو 1996م وزيراً للخارجية، وانتخب في نفس العام رئيساً لحزب العمل خلفاً لشيمون بيريز، ثم رئيسا لوزراء إسرائيل عام 1999م
• نشأته الدموية:(/12)
وتاريخ باراك الأسود لا يرجع فقط إلى أنه يتبنى الفكر الصهيوني، ولكن تعود أسبابه إلى سيرته الذاتية وبالتحديد عائلته، فهناك حقيقة يعرفها رجالُ التاريخ، وهي أن أكثر السفاحين الذين عرفهم العالم، دائما ما توجد في سجلاتهم العائلية قصصٌ دموية، استلهموا منها فيما بعد نزعتَهم نحو القتل وسفك الدماء، وإذا ما استعرضنا عائلة إيهود باراك التى عاشت فى روسيا البيضاء لمدة طويلة قبل انتقالهم إلى فلسطين المحتلة، نجد أن جده "روبن بروج" تعرض هو وزوجته وأطفاله في روسيا لعملية سطو مسلح عام 1912م راح ضحيتها جميعُ أفراد العائلة ما عدا والد باراك "يسرائيل" الذي لم يكن قد تجاوز السادسة في ذلك الوقت، وعمه الرضيع "مائير" الذي بذلت الجدة "إيتلسع" - ذات الشخصية الفولاذية، المثابرة، القيادية - جهودا خارقة لإنقاذه بعد أن تركه اللصوص بين الحياة والموت.
ولم تستسلم إيتسلع - التي يبدو أن باراك قد ورث كثيرا من صفاتها - للأحزان، بل إنها حاولت جمع شمل ما تبقى من الأسرة، وانتقلت بهم من روسيا البيضاء - مسقط رأس العائلة - إلى أوكرانيا مع ظهور نذر الحرب العالمية الأولى، حيث استقرت هناك إلى أن قرر العم "مائير" عام 1925م السفر إلى تلك الأرض التي طالما صورتها الصهيونيةُ العالمية أنها "جنة اليهود في الأرض"، "أرض الخلاص"، وصدم مائير بالوضع في فلسطين؛ فلم تكن إلا أرضا جرداء بلا شعب، ولم يجد تلك الأوهام التي صورتها له المنظمات اليهودية، ولم يجد بديلا عن العمل في إحدى محطات الكهرباء، وبعد عامين لحق "يسرائيل" بأخيه الأصغر، واستقر فور وصوله في أحد الكيبوتسات التى مولت المنظمات الصهيونية بنائها.
• الحقد المقدس تجاه العرب:(/13)
وفي كيبوتس "مشمار هشارون" القريب من تل أبيب، تلقى يسرائيل والد باراك دروسا مكثفة من الحقد (المؤدلج) تجاه العرب، أرضعها بعد ذلك لأبنائه المنتظرين، وانضم يسرائيل إلى العمل في الكيبوتس، وبعد فترة تزوج إحدى فتيات الكيبوتس "أستر جودين"، التى كان أكثر ما يميزها سلاطة لسانها، وذلك مع مطلع عام 1940م.
وبعد عامين جاء الإرهابي إيهود باراك إلى الحياة، في نفس يوم مقتل الإرهابي الصهيوني "يائير شتيرن" زعيم حركة "ليحي" المتطرفة على يد المباحث البريطانية، واختار الأب لوليده هذا الاسم تيمناً بالبطل التوراتي العسكري "إيهود بن جبرا".
وقام باراك بأول عملية سطو في حياته قبل أن يبلغ السابعة، وكان مقصده مخازن الكيبوتس، بينما تلاعبت أصابعه بالديناميت عندما وصل إلى الثانية عشر، وظل يفجرها مساء كل يوم حتى احترقت أصابعه.
ومع بلوغه التاسعةَ عشرة، كان عليه أن يلتحق بالجيش لمدة ثلاث سنوات، وأحس باراك أنه اقترب من تحقيق الحلم، وكان إسحق رابين أحد القادة العسكريين الذين طالما تمنى باراك أن يتعرفه، وسنحت له الفرصة في عام 1962م عندما كان رابين يشغل منصب رئيس الأركان، في حين كان باراك قد اجتاز لتوه دورة مدرعات، وسلمه رابين شهادة الدورة، وتكررت اللقاءات بعد ذلك بين الاثنين كثيرا، إلى أن تولى باراك منصبا وزاريا في وزارة رابين الأخيرة، التي انتهت باغتيال رابين عام 1996م.
وفي عام 1965م قرر باراك أن ينضم للخدمة الدائمة في الجيش الإسرائيلي، وحصل في 1967م على ترقية استثنائية بعد مشاركته في عملية ميدانية لم يعلَن عنها حتى الآن، وشارك باراك في عدوان 67 على جبهات سيناء وغزة، ثم انتقل للعمل على جبهة الجولان.(/14)
وفي مارس 1968م، ذاق باراك لأول مرة في حياته العسكرية طعم الهزيمة، وذلك عندما شارك في عملية الكرامة داخل الأراضي الأردنية، ونجحت القوات الأردنية وقوات المقاومة الفلسطينية في تحميل الإسرائيليين خسائر فادحة، ولم ينس باراك طوال عمله بالجيش تلك المعركة، واستقرت في أعماقه كراهيةٌ لكل ما هو فلسطيني أو عربي، وقرر أن لا يرحم أي عربي يقع تحت يده.
وفي عام 1964م وبينما كان باراك يحمل رتبة نقيب، تعرف السفاح أرييل شارون، قائد القطاع الأوسط في ذلك الوقت، ومنذ اللقاء الأول حمل باراك في داخله احتراما وتقديرا كبيرا لذلك الرجل الذي شارك - بما سفكه من دماء العرب - في تدعيم الكيان الصهيوني، وقام تعاونٌ كبير بين السفاحَيْن؛ إذ أتاح شارون لرجال دورية هيئة الأركان العمل بحرية في غزة والضفة الغربية.
وحمل عامُ 1971م دفعةً قوية لمسيرة باراك داخل الجيش الإسرائيلي، إذ تولى في إبريل قيادة دورية هيئة الأركان، وتوالت الأحداث لتخضع الدورية لأول اختبار حقيقي تحت رئاسة باراك، من خلال عملية "مطار اللد" عام 1972م، عندما نجحت منظمة "أيلول الأسود" في اختطاف طائرة أسبانية على متنها 67 إسرائيليا، وهبط الخاطفون بالطائرة في مطار اللد الإسرائيلي، وكلفت دورية الأركان بالتعامل مع المختطفين، وبعد اشتباك سريع نجحت الدورية في تحرير الطائرة.
• اغتيال قادة منظمة التحرير:(/15)
وفي 10 من إبريل 1973م قام باراك بالعملية التى أحدثت تحولا حاسما في حياته العسكرية، عندما قاد عملية اغتيال ثلاثة من كبار قادة منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان بعد أن انتزعهم من فراشهم، وقد تخفى باراك في ملابس فتاة شقراء، وتم خلال العملية اغتيال كل من "محمد يوسف النجار" قائد منظمة "أيلول الأسود"، و"كمال عدوان" رئيس شعبة العمليات الخاصة في "فتح"، و"كمال ناصر" الناطق باسم عرفات، ولم يجد باراك حرجا في اغتيال قادة سياسيين وسط أسرهم، بل تم خلال العملية قتلُ زوجة أحد القادة الثلاثة، الأمر الذي سوغه باراك بعد ذلك "بأن الظروف اقتضت ذلك"، وقد وصف باراك مشاعره إزاء ما لاحظه على الضحايا من ذهول وفزع ذاكراً أنه لم يتردد في إطلاق النار عليهم واصفاً ما تناثر من دمائهم وأجزاء أجسامهم، ورجع باراك إلى بيته منتشيا ليحكي لزوجته تفاصيل العملية.
وفي يونيو 1973م منح باراك الوسام الخامس خلال خدمته العسكرية، وودع في العام نفسه دورية الأركان، وقرر الحصول على إجازة من الجيش وتوجه إلى الولايات المتحدة لاستكمال تعليمه.
وعندما نشبت حرب أكتوبر 73، عاد باراك مسرعا إلى إسرائيل، وتم إرساله على رأس لواء مدرعات احتياط إلى شبه جزيرة سيناء، لإنقاذ القوات الإسرائيلية، التي كانت شبه منهارة، وذهل باراك من حجم التخبط في أداء الإسرائيليين، والخسائر الفادحة التى تحملها الجيش، وأرسل باراك إلى منطقة المزرعة الصينية لإنقاذ القوات المحاصرة هناك، وتحملت قواته خسائر فادحة على يد رجال المشاة المصريين، وكانت أوامره لجنوده أن يدهسوا المصريين تحت دباباتهم، وخرج لواء باراك من المعركة شبهَ مدمر، ولكن الأوامر صدرت إليه بالمشاركة في ثغرة الدفرسوار، لمساندة قوات شارون، وهناك ارتكب باراك مذبحة قام خلالها بقتل أكثر من مائتي أسير مصري بحجة أنه لا يملك قوات كافية لحراستهم.(/16)
وقد غيرت حرب أكتوبر كثيرا من قناعات باراك، خاصة فيما يتعلق بالجيش الإسرائيلي، وكذلك نظريته بإمكانية التعايش مع العرب، وبعد الحرب تم تعيين باراك قائدا للواء مدرع 104، وفي عام 1976م شارك في قيادة عملية "مطار عنتيبي"، وازدادت في ذلك الوقت قوة العلاقة بين باراك وشارون، وقاتل الأخير بشدة من أجل تولى باراك قيادة الجيش الإسرائيلي عام 82، لكنه أخفق، وتم تعيين باراك نائبا لقائد الجيش.
• تشكيل فرق "المستعربين":
وفي عام 1986م عين باراك قائدا للقطاع الأوسط، وقام في أثناء قيادته للقطاع بتشكيل فرق "المستعربين" المسئولة عن اغتيال مئات الفلسطينيين خلال الانتفاضة، وأطلق على تلك القوات في الضفة "دوفدفان" أما في غزة فسميت "شمشون"، كما أنه اعتمد خلال تعامله مع الانتفاضة على سياسة "تكسير العظام" ضد أطفال الانتفاضة.
وكان لا بد من مكافأة باراك على جهوده في قمع الانتفاضة، فعين عام 87 نائبا لرئيس الأركان، ليصل في عام 92 إلى المنصب الذي طالما حلم به "رئاسة الأركان".
وبعد توليه لقيادة الأركان عمل باراك على إجراء تعديلات على تشكيل القوات الإسرائيلية، بما يتيح لها القيام بمهام هجومية بسرعة وكفاءة أكثر مما جرى في لبنان عام 82، كما أنشأ قطاعا رابعا في الجيش الإسرائيلي، هو قطاع المؤخرة، ويضم تل أبيب وحيفا ومدن الداخل الإسرائيلي مما يعطي القطاعات الأخرى فرصة القيام بمهام قتالية، دون أن تتحمل عبء الدفاع عن العمق الإسرائيلي.
ومع خروج باراك من الجيش عام 94، نجح رابين في جذبه إلى حزب العمل، محاولا الاستفادة من سمعته لدى الإسرائيليين كقائد عسكري، بذل الكثير من أجل إسرائيل.(/17)
ويتسم باراك - كما وصفه المقربون منه - بالصرامة والشدة، والاعتداد بالنفس الذي يصل إلى درجة الغرور، والميل إلى الاستبداد على نحو عبَّر فيه قادةٌ في حزب العمل عن تبرمهم من تجاهله لهم، كما عُرف عنه أيضاً مراوغته السياسية، وقدرته على إخفاء نياته الحقيقية وأهدافه الرئيسية، ويتضح من أحاديث باراك الصحفية أن مفهومه للصراع العربي مع إسرائيل يقوم على الأساس الصهيوني العنصري، ففي حين يعترف بأنه قد حل بالفلسطينيين نوع من الظلم (نتيجة إقامة إسرائيل) إلا أن هذا الظلم أقل من العدل الذي حصل عليه اليهود، وأقل من الظلم الذي كان يلحق اليهود، لو لم يستولوا على أرض فلسطين.
واستخلص فريقٌ من المراقبين السياسيين من تاريخ باراك العسكري واعتداده بهذا التاريخ وترديده أنه الرجل الحاصل على أكبر عدد من الأوسمة ما مفاده أنه ليس الزعيم القادر على صنع التسوية مع العرب، بل همه الأول هو أمن إسرائيل والمبالغة في تحقيقه على حساب الأرض والحقوق العربية، وقد تأكَّد لديهم هذا الاعتقادُ بما بدأ به باراك حكمه بترديد لاءاته الخمس المعروفة؛ فلا عودة لحدود ما قبل الخامس من يونيو 1967م، ولا للتراجع عن القدس الموحدة عاصمة لإسرائيل وتحت سيادتها، ولا تراجع عن ضم مستوطنات الضفة الغربية تحت سيطرة إسرائيل، ولا سماح بوجود جيش أجنبي أو عربي في الضفة الغربية وقطاع غزة، ولا لعودة اللاجئين الفلسطينيين.(/18)
ولقد تعرض باراك لانتقاد شديد من قبل بعض الطوائف اليهودية نتيجة سياسته الدموية، ورغبته المحمومة لقتل الفلسطينيين، فاتهمت "شولاميت ألوني" الرئيسة السابقة لحركة "ميريتس" باراك بأنه "مقاول للقتل"، وفي تصريحات أدلت بها للإذاعة الإسرائيلية قالت ألوني: إن باراك يمارس سادية غير مسبوقة في تعامله مع الفلسطينيين، وتساءلت: "كيف يتسنى لباراك أن يفرض نظام حظر التَّجْوال على أكثر من مئة وعشرين ألفاً من الفلسطينيين في الخليل لمجرد أن يسمح لبضع مئات من مستوطني الخليل اليهود أن يستعرضوا بسلاحهم". وقالت ألوني: إنه لو كان هناك أدنى درجة من العدل لكان جميع مستوطني الخليل في السجن، ووصفت ألوني مستوطني الخليل بأنهم أقرب للنازيين في تربيتهم وممارساتهم، وباراك يدافع عن "نازيين".
• السفاح شارون:
وفي نهاية المطاف يأتي أريل شارون، الذي كتب الله عليه أن ينساه العالم وهو حي، وأن يطلب الموت فلا يجده، فها هو ذا منذ أكثر من عام ينام في سرير مرضه، وقد وضعوا جسده تحت مجموعة من الأجهزة التي تخفف عنه آلام المرض.
ويتمتع هذا السفاح الصهيوني - كغيره من قادة إسرائيل - بكراهية هائلة في العالم العربي والإسلامي، فقد كتب تاريخه بدماء آلاف الفلسطينيين الذين استشهدوا في مذابح قادها بنفسه أو تسبب فيها، وتختلف نظرة الإسرائيليين لشارون، ففي حين يراه البعض الحامي الوحيد للحقوق اليهودية، يراه آخرون الزعيم العنيد الذي قوض جهود السلام، لكن نظرة العرب له واحدة وثابتة إذ يحمِّلونه مسؤولية مقتل الآلاف من الفلسطينيين في مذابح واشتباكات وقعت على مدى عدة عقود ماضية، ولا ينسون دوره في مذابح صبرا وشاتيلا في لبنان عام 1982م.(/19)
وهو السبب في تفشي أعمال العنف في القدس والأراضي المحتلة، التي ذهب ضحيتها آلاف الشهداء الفلسطينيين، وكان أبرزهم الطفل الفلسطيني محمد الدرة الذي استشهد برصاصات الجنود الصهاينة على مرأى ومسمع من العالم كله، هذا علاوة على آلاف الجرحى الذين سقطوا في هذه المصادمات، التي اندلعت عقب زيارته المستفزة تحت حراسة مئات الجنود الصهاينة للحرم القدسي الشريف.
ولد شارون في كفر ملال عام 1928م لأسرة روسية مهاجرة إلى فلسطين، وتربى في مزرعة في غرب فلسطين تحت الانتداب البريطاني، والتحق بالجيش عام 1942م عندما كان الجيش الصهيوني عبارة عن عصابات، وفي عام 1948م شارك في الحرب وجرح، ومن عام 1949م عمل لمدة عام قائدا لوحدة الجولاني، ثم ضابط مخابرات للقيادة المركزية والشمالية من 1951م إلى 1952م، وفي عام 1953م قام بتشكيل القوة 101 عمليات خاصة التي أغارت على بعض المعاقل الفلسطينية ردا على هجمات شنها الفلسطينيون، وكانت القوة 101 مصدر كره عميق من جانب الفلسطينيين، إذ يتهمونها باستهداف المدنيين الأبرياء، وفي إحدى الغارات قتلت الوحدة تسعة وستين فلسطينيا غالبيتُهم من النساء والأطفال في قرية أردنية.
وفي 1956م عين قائدا لفرقة مظلات في الحرب، وفي 1958م تولى قيادة مدرسة المشاة، كما تولي قيادة كتيبة مشاة وأخرى للمدرعات حتى عام 1964م، عندما أصبح رئيس أركان قيادة الشمال حتى 1965م، وقاد شارون وحدة مدرعة في أثناء حربي 1967م و1973م بين إسرائيل والعرب.
وعندما اعتزل الحياة العسكرية بعد حرب 1973م تفرغ للسياسة فانتخب عضوا بالكنيست عام 1974م، ثم تولى عددا من الوزارات منها وزارة الزراعة عام 1977م، والدفاع عام 1981م، والصناعة والتجارة عام 1984م، والبناء والإسكان عام 1992م.(/20)
والسفاح شارون له باع طويل في قتل الأسرى المصريين والشرب من دمائهم حتى الثمالة، ففي عام 1956م عندما صدرت أوامر الانسحاب للقوات المصرية خلال العدوان الثلاثي، لم تكن هناك خطة منظمة لانسحاب القوات، فسقط في الأسر آلاف الجنود المصريين، فأوقف شارون المئات من الأسرى، وطلب من كل أسير أن يحفر بيديه حفرة كبيرة أمامه، ثم أمر ببدء المذبحة وإطلاق النار عليهم، وهذا المشهد تكرر في أنحاء كثيرة من سيناء وبقيادة شارون.
وفي عام 1967م جاءت له الفرصة مرة أخري لاحتساء دماء المصريين، وعلى نطاق أوسع، فقد انسحبت القوات المسلحة المصرية من سيناء عشوائيا، وكان لا بد أن يسقط آلاف الأسرى في أيدي السفاحين الإسرائيليين وعلى رأسهم شارون، فكانوا يجبرون الأسرى على إغماض عيونهم، ثم تقييدهم بالحبال، وإصدار الأوامر لهم بالانبطاح على بطونهم في طابور طويل، ثم تأتي الدبابات لتسير عليهم، وبهذه الوحشية استشهد مئات الجنود المصريين.
وبعد النكسة تم تعيين شارون قائدا للقوات الإسرائيلية في الجبهة الجنوبية "مصر" وظل قائدا لها حتى عام 1972م، وفي أثناء عمله على هذه الجبهة لم يعجبه وجودُ رفح مصرية ورفح فلسطينية، وقرر تفريغ رفح المصرية، وكانت عملية التفريغ واحدة من المجازر البشعة التي قام بها هذا السفاح، فقد قاد قواته ودخل المدينة وطلب من سكانها المصريين مغادرتها ومن رفض كان مصيره القتل في مذبحة غير مسبوقة إلا على أيدي السفاحين الإسرائيليين.
ويصف "عوزي هوفمان" كاتب سيرة شارون، مذبحة رفح بقوله: "قرر شارون إخلاء منطقة رفح المصرية من سكانها المصريين، حيث شرد سبعة آلاف مصري، واستشهد عدد كبير منهم"
ثم يقول: "لقد نفذ شارون عملية الإخلاء بمنتهى الوحشية، وتفنن هو وجنوده في مصادرة أملاك البدو، وطرد أكثر من سبعة آلاف مصري من محل إقامتهم، وأجبر المصريين على الرحيل من رفح، وكل من رفض كان نصيبه الذبح كالنعاج".(/21)
أما أكثر اللحظات إثارةً للجدل في تاريخ شارون الحافل بالجرائم والمذابح بعد مذبحة الأسرى، فقد جاءت عام 1982م عندما دبر - كوزير للدفاع في ذلك الوقت - الغزو الإسرائيلي للبنان لطرد المقاتلين الفلسطينيين منه، وهذه هي العملية التي خرج على إثرها الزعيم الفلسطيني (ياسر عرفات) ورفاقه من لبنان، لكنها أيضا خلفت واحدة من أبشع المذابح في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، إذ قامت الميليشيات المسيحية في لبنان - وتحت إشراف وحماية القوات الإسرائيلية - بقتل مئات اللاجئين الفلسطينيين في مخيمي صبرا وشاتيلا غرب بيروت في سبتمبر 1982م.
وأجبر شارون على التنحي عن منصبه بعد أن أثبت تحقيق إسرائيلي رسمي في المذبحة مسؤوليته غير المباشرة عنها. وبدلا من أن تنتهي حياته السياسية، عززت الحرب في لبنان صورة شارون في أعين الكثير من الإسرائيليين باعتباره القائد القوي، وظل شارون في الحكومة متقلدا العديد من المناصب، وتنقل شارون بين عدد من الوزارات قبل المذبحة وبعدها، فقد تولى منصب المستشار الأمني الخاص لرئيس الوزراء إسحق رابين، ثم وزيرا للزراعة والدفاع والتجارة والصناعة والإسكان والخارجية.
ويستمر شارون منذ تولى رئاسة وزراء الكيان الصهيوني في ممارسة العنف والإرهاب ضد الشعب الفلسطيني بكل صوره وأشكاله، واجتياح الأراضي الفلسطينية واغتيال قيادات الجهاد الإسلامي بالصواريخ الموجهة والطائرات، ليسجل لنفسه أعلى الأسهم في عدد من قتلهم من أفراد الشعب الفلسطيني، وليصبح أعتى مجرم حرب عرفته البشرية في هذا العصر.. وعندما أقعده المرض خلفه في القيادة أيهود أولمرت ليبدأ هو أيضا تسجيلَ تاريخه الأسود بممارسة كل أشكال العنف والإرهاب ضد الشعب الفلسطيني.
وبعد..(/22)
فماذا ينتظر العربُ والمسلمون من هؤلاء السفاحين القتلة، مجرمي الحرب الذين يحكمون الكيان الصهيوني؟ هل يرجى منهم الحفاظُ على عهود السلام ومواثيقه، وقد نقضوا عهودهم مع الله ورسله، وعاثوا في الأرض فسادا، وأهلكوا الحرث والنسل؟
إننا كعرب يجب أن نعيد حساباتنا مع هؤلاء القتلة والسفاحين الذين يتبادلون الأدوار على ساحة السياسة الإسرائيلية لينفذوا مخططاتهم في إقامة إسرائيل الكبرى، ويتمادوا في خداع العرب والمسلمين باسم السلام المزعوم، وهم أبعد ما يكونون عنه، اذ تقوم حياتهم على الحرب والمكر والخداع ونقض العهود والمواثيق.
المراجع:
1. مصر ولبنان يفتحان ملف الجرائم "الإسرائيلية" - الأهرام العربي - مصر- 4 أكتوبر 2000م.
2. جريدة الجمهورية – القاهرة - 12 أكتوبر 1995م.
3. باراك.. من قتل عربا أكثر مني - مصطفى عبد الجواد - محيط - 23 أكتوبر 2000م.
4. باراك.. لو كان قتْل 2000 فلسطيني يوقف الانتفاضة لفعلت! - القدس – محمد الصالح – إسلام أون لاين 16-11-2000م.
5. قرار إسرائيلي بتجويع الفلسطينيين – وكالات الأنباء وإسلام أون لاين/ 16-11-2000م.
6. مجلة الأهرام الاقتصادي – 9 أكتوبر 2000م.
7. بنو إسرائيل فى الكتاب والسنة - د. محمد سيد طنطاوى – مجلة نور الإسلام.
8. صحيفة "القبس" الكويتية - السبت 23 يونيه 2001م.
9. جريدة الأهرام – 9 يوليو 2001م.
10. موسوعة "بيت المقدس" الإلكترونية - شركة العريس للكمبيوتر والبرمجيات – القاهرة.(/23)
العنوان: عقيدتي .. قصيدة تفعيلة
رقم المقالة: 1600
صاحب المقالة: حضارة الكلمة
-----------------------------------------
الدكتور عماد الدين خليل.. المؤلّف الإسلامي المعروف، أتحف المكتبة الأدبية قبل عشر سنوات بديوان "ابتهالات في زمن الغربة"، وقد اخترنا لكم من قصيدته الإيمانية:
عقيدتي
عَقِيدَتِي تَقُودُنَا عَبْرَ الطَّرِيقْ
يَصُونُهَا الْيَقِينْ
تَكْلَؤُهَا رِعَايةُ الرَّحْمَنِ مِنْ مَخَاطِرِ الطَّرِيقْ
فَتَطْمَئِنُّ لِلْوُصُولِ فِي يَقِينْ
وَغَيْرُنَا تَاهُوا عَلَى الطَّرِيقْ
إِذْ آثَرُوا أَنْ يَرْحَلُوا بِلا يَقِينْ
فَاضْطَرَبَتْ مَسَالِكُ الْمَسِيرِ.. ضَلَّ عَنْهُمُ الطَّرِيقْ
• • •
عَقِيدَتِي تُلاَحِقُ الضَّلالْ
تُطَهِّرُ الأَرْضَ مِنَ الْفُجُورِ وَالْآثَامْ
تُرِيدُهَا دُنْيَا يَسُودُهَا النَّقَاءُ وَالكَمَالْ
وَتَخْتَفِي الأَوْجَاعُ وَالآلامْ
تُرِيدُهَا دَفْقًا مِنَ الآمَالْ
تَخْفِقُ فِي جَنَّاتِهَا الأَحْلامْ
يَنْصَبُّ فِي بُسْتَانِهَا الشَّلاَّلْ
• • •
عَقِيدَتِي تُجَاهِدُ الشَّقَاءْ
تَرُدُّ لِلإِنْسَانِ مَا ضَيَّعَهُ الأَرْبَابْ
تَهَبُهُ الأَرْضَ ثُمَّ تَفْتَحُ الطَّرِيقَ لِلسَّمَاءْ
تَقُودُهُ إِلَى دُنْيَا مُشْرَعَةِ الأَبْوَابْ
تَمْنَحُهُ الأَفْعَالَ وَالأَشْيَاءَ.. وَالأَسْمَاءْ
فَتَغْمُرُ الدُّنْيَا وَتَزْهُو فِي رُبُوعِهَا الْأَطْيَابْ
يَدُرُّ ضَرْعُ التِّينِ وَالزَّيْتُونِ.. تُعْطِي وَعْدَهَا الْحنَّاءْ!
• • •
عَقِيدَتِي تُقَطِّرُ الْفُيُوضَ فِي الأَرْوَاحْ
تَمْنَحُهَا الطُّيُوبْ
فَتَنْطَلِقْ فِي رِحْلَةِ الْمَسَاءِ وَالصَّبَاحْ
تَجْتَازُ فِي طَرِيقِهَا الْغُيُوبْ
رُبَّانُهَا مَلاَّحْ!
عَقِيدَتِي تَكْسِرُ رَيْنَ الإِلْفِ عَنْ مَسَارِبِ الْقُلُوبْ
وَتَمْنَحُ الْمِفْتَاحْ!
• • •
عَقِيدَتِي شَرِيعَةُ الْحُرِّيَّهْ
تَرْفَعُ سَيْفَ الْحَقِّ فِي مَنَازِلِ الطَّاغُوتْ(/1)
تُقَاتِلُ الإِرْهَابَ وَالْوَحْشِيَّهْ
تَمْضِي إِلَى فَرْعَوْنَ أَوْجَالُوتْ
وَتَفْتَحُ الطَّرِيقَ لِلإِنْسَانِ صَوْبَ الْبَهْجَةِ الْكَوْنِيَّهْ
تُزِيلُ فِي مَسَارِهَا الأَسْرَارَ، وَالأَغْلالَ، وَاللاَّهُوتْ
تَمْضِي لِكَيْ تُقِيمَ حُكْمَ اللهِ فِي حَيَاتِنَا الأَرْضِيَّهْ(/2)
العنوان: علاج الاكتئاب في الصيدلية الإسلامية
رقم المقالة: 341
صاحب المقالة: نعيمة عبد الفتاح ناصف
-----------------------------------------
400 مليون شخص مصابون به في العالم
* مليون حالة انتحار سنوياً من بين عشرة ملايين محاولة بسبب الاكتئاب والضغوط النفسية.
* نسبة الاكتئاب تقل في المناطق التي تدين بالإسلام وترتفع في الدول غير الإسلامية.
* التحصن بالإيمان، والمحافظة على الصلاة، والمواظبة على الذكر والدعاء.. خير علاج.
* * *
الانتشار الواسع لمرض الاكتئاب في العالم، يثير القلق، ويؤكد أنه من أخطر أمراض هذا العصر، وأوسعها انتشاراً، فقد ذكرت منظمة الصحة العالمية أن الاضطرابات العقلية والعصبية كالاكتئاب والتشنج تصيب 400 مليون شخص في العالم، وهذا الرقم في طريقه للزيادة بوضوح خلال العقدين القادمين، وتوقعت المنظمة التابعة للأمم المتحدة أن يقفز الاكتئاب بحلول عام 2020م ليحتل المرتبة الثانية بين أهم أسباب الوفاة والإعاقة في جميع أنحاء العالم بعد أمراض القلب، ومعروف أن الاكتئاب يحتل اليوم المرتبة الخامسة بين المسببات العظمى للوفاة والإعاقة.
ومما يلفت النظر في تقرير المنظمة الدولية عن الاكتئاب تأكيده أن معظم ضحايا الاكتئاب هم من الأمريكيين وسكان مناطق غرب المحيط الهادي واليابان، وأن أقل نسبة للإصابة به في أفريقيا، وهذا يعني أن الاكتئاب تقل نسبته في المناطق التي تدين بالإسلام، في حين ترتفع نسبته في الدول والمناطق التي تعتنق ديانات أخرى غير الإسلام دين الله الحق.
ويذكر التقرير أن هناك مليون حالة انتحار في العالم سنوياً من بين عشرة ملايين محاولة، وأعداد الأشخاص المقبلين على الانتحار على مستوى العالم في تزايد مستمر، وجميع الدول العشر التي تتصدر قائمة حالات الانتحار من دول الاتحاد السوفييتي السابق، وتتقدمها روسيا، حيث يعاني الكثير من سكانها تغيرات اقتصادية واجتماعية هائلة.(/1)
ويُعَدّ الاكتئاب من الأمراض القاتلة، فإن 15 % من المصابين ينتهي بهم الأمر إلى الانتحار، كما أثبتت الدراسات أن 50 % من المنتحرين سبق أن شخصت لهم حالات اكتئاب في وقت من الأوقات.
برنامج إسلامي:
بشأن موقف الإسلام من مرض الاكتئاب وغيره من الأمراض النفسية، والعلاج الذي يقدمه المنهج الإسلامي لمثل هذه الأمراض، يقول الدكتور يوسف القرضاوي: لا يوجد في الدنيا داء عضال لا دواء له، ولا شفاء منه، فقد أخبرنا رسول الإسلام - صلى الله عليه وسلم -، أن الله تعالى ما أنزل داء إلا أنزل له شفاء، علمه من عمله، وجهله من جهله، فإذا أصاب الدواء الداء برئ بإذن الله تعالى، وهذا ينطبق على الأدواء العضوية، والأدواء النفسية سواء، بل هو يشمل الأدواء الفردية، والأدواء الاجتماعية، فكلها قابلة للشفاء بإذن الله، إذا أصبنا دواءها.
ونحن - المسلمين - أقل الناس نصيباً من هذه الأمراض النفسية كالاكتئاب وغيره، وإن لم يخل من بيننا من يشكو مثل هذه الأمراض، وعلاج الاكتئاب متوافر في الصيدلية القرآنية النبوية، وتتلخص هذه الوصفة الدوائية أو (الروشتة) الدينية، في الخطوات التالية:
الاعتصام بالله تعالى:(/2)
1- الاعتصام بالله تعالى واللجوء إليه، والتحصن بحصنه الحصين، والأمل في فضله، والرجاء في رحمته، هذا هو الأصل، أن يضع الإنسان نفسه في يد مولاه عز وجل، وأن يؤمن بأنه لن يضيعه، ولن يتخلى عنه، وأنه أبر به من نفسه، وأرحم به من أمه وأبيه، ولا ييئس من روحه أبدًا، ولا يقنط من رحمته أبدًا، {فإنه لا ييئس من روح الله إلا القوم الكافرون}، والله تعالى لا يستعصي عليه مرض، ولا مشكلة مادية ولا معنوية، فكم من مريض شفاه، وكم من فقير أغناه، وكم من سائل أعطاه، وكم من مشرف على الهلاك نجَّاه، وكم من ضال هداه، وكم من مشرَّد آواه، وكم من ضعيف قواه، وكم من مبتلىً عافاه، فهو سبحانه لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء. ألم تر كيف كشف غمة يعقوب عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وجمع بينه وبين أولاده، حين قال: {إنما أشكو بثِّي وحزني إلى الله}، {فصبر جميل، عسى الله أن يأتيني بهم جميعًا، إنه هو العليم الحكيم}، ألم تر كيف كشف الضر عن أيوب، بعد مرض طويل، {إذ نادى ربَّه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين * فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر ووهبنا له أهله ومثلهم معهم، رحمة من عندنا وذكرى للعابدين}.
وهذه الثقة الوطيدة بالله هي بداية العلاج، وهي المشعل الذي يضيء الطريق، إن حط المرء أعماله وأفعاله عند باب الله، وتمرَّغ على عتبته، ولم يبرح هذا الباب أبدًا، فهو سبحانه لا يرد من طرق بابه، وخصوصًا إذا دعاه دعاء المضطر الذي لا ملجأ له من الله إلا إليه، ولا جناب يلوذ به إلا جنابه، فهو يدعوه بحرقة وحرارة واضطرار وافتقار. وليعلم أن أشد ساعات الليل ظلمة وسوادًا، هي السويعات التي تسبق انبلاج الفجر، وأن سنة الله أن يجعل بعد العسر يسرًا، وبعد الضيق فرجًا.
الصلاة زاد روحي:(/3)
2- من أهم ما يلجأ إليه المسلم في شدته وكربه واكتئابه – كما يؤكد الدكتور القرضاوي - الصلاة التي يقف فيها المسلم بين يدي ربه خائفًا متضرعًا، فهي عدة للإنسان المؤمن في معركة الحياة، تمده بروح القوة، وقوة الروح، وتمنحه طاقة نفسية، وزاداً روحيًا يعينه على مواجهة الشدائد، قال تعالى في توجيه المؤمنين: {يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة، إن الله مع الصابرين}، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر، أي اشتد عليه، فزع إلى الصلاة.
ولا سيما إذا اجتهد المسلم أن يسبغ وضوءها، ويتم ركوعها وسجودها وخشوعها، ويستحضر فيها جلال الله تعالى ومعيته له، وخصوصًا مع قوله تعالى: {إياك نعبد وإياك نستعين، اهدنا الصراط المستقيم} فهو يستعين برب العالمين، الذي يجيب دعاء المضطرين، ويكشف حزن المحزونين، وينبغي له أن ينتهز فرصة السجود ليدعوه تعالى بما يحب، ففي الحديث: ((أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فاجتهدوا في الدعاء)).
مساعدة الضعفاء:
3- مما يساعد المسلم على الخروج من حالة الكرب والاكتئاب، الاجتهاد في مساعدة الناس، وخصوصًا الضعفاء منهم، مثل الفقراء واليتامى والأرامل والمعوقين وأصحاب الحاجات، والعمل بجد لإغاثة الملهوفين، وتفريج كربة المكروبين، ومسح دمعة المحزونين، وإدخال البسمة على شفاههم، والبهجة على قلوبهم، فهذا يفيد الإنسان المكروب والمكتئب عدة فوائد منها:
- إنه يتعبَّد بهذا العمل لله، وهو من أحب ما تقرب به عباد الله تعالى إلى ربهم، وأحبهم إليه أنفعهم لعياله، وفي الحديث: ((أحب الناس إلى الله أنفعهم، وأحب الأعمال إلى الله تعالى سرور تدخله على مسلم، تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه دينًا، أو تطرد عنه جوعًا، ولأن أمشي مع أخي المسلم في حاجة أحب إليّ من أن أعتكف في المسجد شهرًا.(/4)
- إنه يخرج المرء المكتئب من سجن الوحدة والوحشة، الذي فرضه على نفسه، ويشعره بكيانه، وبأنه قادر على أن ينجز ويؤثر، ويشغله بهموم غيره، بعد أن كان مشغولاً بهم نفسه، لا ينظر إلا إليها، ولا يدور إلا حولها، كما يدور الوثني حول صنمه.
- إن نجدته للناس، ومعونته للمستضعفين وأهل الحاجة، تكسبه حبهم له، ودعاءهم له بإخلاص، من أعماق قلوبهم، لا من أطراف ألسنتهم، وهذا الدعاء له أثره وقبوله عند الله تعالى.
أدعية نبوية لعلاج الكرب:
4- هناك مجموعة من الأذكار والأدعية النبوية لعلاج الكرب والهم والحزن، أو ما يسمى في عصرنا بـ (الاكتئاب) أو (القلق المرضي) وقد ذكرها الإمام ابن القيم رحمه الله في كتابه القيم (زاد المعاد في هدي خير العباد) حين تحدث عن هديه صلى الله عليه وسلم في علاج الأمراض الحسية المختلفة، وأطال فيها، ثم تحدث في فصل خاص عن علاجه للمكروب والمهموم والمحزون، وهو علاج يقوم على الأذكار والدعوات التي تصل الإنسان بربه عز وجل.
ومن هذه الأدعية:
((لا إله إلا الله العليم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات السبع، ورب الأرض رب العرش الكريم)).
وفي "جامع الترمذي" عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا حزبه أمر قال: ((يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث)).
وفي "سنن أبي داود" عن أبي بكرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: دعوات المكروب: ((اللهم رحمتك أرجو، فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين، وأصلح لي شأني كله، لا إله إلا أنت)).
وفيها أيضًا عن أسماء بنت عميس قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا أعلمكِ كلمات تقوليهنَّ عند الكرب، أو في الكرب: الله ربي لا أشرك به شيئًا)). وفي رواية أنها تقال سبع مرات.(/5)
وفي "مسند الإمام أحمد": عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما أصاب عبدًا هم ولا حزن فقال: ((اللهم إني عبدك، وابن عبدك، وابن أمتك ناصيتي بيدك، ماض فيَّ حكمك، عدل فيَّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي، إلا أذهب الله حزنه وهمه، وأبدله مكانه فرحًا)).
وفي الترمذي عن سعد بن أبي وقاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((دعوة ذي النون إذ دعا ربه وهو في بطن الحوت: ((لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين))، لم يدع بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجيب له))، وفي رواية: ((إني لأعلم كلمة لا يقولها مكروب إلا فرَّج الله عنه: كلمة أخي يونس)).
وفي "سنن أبي داود" عن أبي سعيد الخدري، قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم المسجد، فإذا هو برجل من الأنصار يقال له: أبو أمامة، فقال: ((يا أبا أمامة مالي أراك في المسجد في غير وقت الصلاة؟)) فقال: هموم لزمتني، وديون يا رسول الله، فقال: ((ألا أعلمك كلامًا إذا أنت قلته أذهب الله عز وجل همك وقضى دينك ؟)) قال: قلت: بلى يا رسول الله، قال: ((قل إذا أصبحت وإذا أمسيت: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال))، قال: ففعلت ذلك، فأذهب الله عز وجل همي، وقضى عن ديني.
وصفة إسلامية للاكتئاب:(/6)
يضع الشيخ محمد صالح المنجد علاجاً من القرآن والسنة للهم والحزن الكآبة أو الاكتئاب المسمى بمرض العصر، يقول: إن من طبيعة الحياة الدنيا الهموم والغموم التي تصيب الإنسان فيها، فهي دار الأدواء والشدة والضنك، ولهذا كان مما تميزت الجنة به عن الدنيا أنه ليس فيها هم ولا غم: {لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين}، وأهلها لا تتكدر خواطرهم ولا بكلمة: {لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيماً إلا قيلاً سلاماً سلاماً}، وطبيعة الحياة الدنيا المعاناة والمقاساة التي يواجهها الإنسان في ظروفه المختلفة وأحواله المتنوعة، كما دل عليه قول الحق تعالى: {لقد خلقنا الإنسان في كبد}، فهو حزين على ما مضى، مهموم بما يستقبل، مغموم في الحال.
أما من اهتدى بهدي الإسلام فإنه يجد العلاج فيما أتى من لدن العليم الخبير الذي خلق الخلقَ وهو أعلم بما يصلحهم {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير}، ومن أنواع العلاجات التي جاءت بها شريعتنا الغراء:
أولاً: التسلُّح بالإيمان المقرون بالعمل الصالح: قال الله تعالى: {من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينّه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون}، وسبب ذلك واضح، فإن المؤمنين بالله الإيمان الصحيح، المثمر للعمل الصالح المصلح للقلوب والأخلاق والدنيا والآخرة، معهم أصول وأسس يتعاملون بها مع كلِّ ما يرد عليهم من أنواع المسرَّات والأحزان. فيتلقون النِّعم والمسارَّ بقبول لها، وشكر عليها، ويستعملونها فيما ينفع، ويتلقَّون المكاره والمضارَّ والهمَّ والغمَّ بالمقاومة لِما يمكنهم مقاومته وتخفيف ما يمكنهم تخفيفه، والصبر الجميل لما ليس لهم عنه بد.(/7)
ثانياً: النظر فيما يحصل للمسلم من تكفير الذنوب وتمحيص القلب ورفع الدرجات، إذا أصابته غموم الدنيا وهمومها، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلا وَصَبٍ وَلا هَمٍّ وَلا حُزْنٍ وَلا أَذًى وَلا غَمٍّ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا إِلا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ)) رواه البخاري. فليعلم المهموم أن ما يصيبه من الأذى النفسي نتيجة للهمِّ لا يذهب سدى بل هو مفيد في تكثير حسناته وتكفير سيئاته.
ثالثاً: معرفة حقيقة الدنيا: فإذا علم المؤمن أن الدنيا فانية، ومتاعها قليل، وما فيها من لذة فهي مكدَّرة ولا تصفو لأحد، وإن أضحكت قليلاً أبكت طويلاً، وإن أعطت يسيراً منعت كثيراً، والمؤمن فيها محبوس كما قال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: ((الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَجَنَّةُ الْكَافِرِ)) رواه مسلم.
رابعاً: ابتغاء الأسوة بالرسل والصالحين واتخاذهم مثلاً وقدوة: وهم أشد الناس بلاءً في الدنيا، والمرء يبتلى على قدر دينه، والله إذا أحب عبداً ابتلاه وقد سأل سعد رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((يا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلاءً؟ قال: الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ، فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْباً اشْتَدَّ بَلاؤُهُ وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ الْبَلاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ)) رواه الترمذي.(/8)
خامساً: أن يجعل العبد الآخرةَ همَّه: لكي يجمع الله له شمله لما رواه أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ، وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلا مَا قُدِّرَ لَهُ)) رواه الترمذي.
سادساً: ذكر الموت: لقوله صلى الله عليه وسلم: ((أكثِروا ذِكرَ هاذِمِ اللَّذَّات ؛ الموت فإنَّه لم يَذكُره أحَدٌ في ضِيقٍ من العَيشِ إلاَّ وَسَّعَهُ عَليهِ، ولا ذَكَرَهُ في سَعَةٍ إلاَّ ضَيَّقَها عَليهِ)) رواه البزَّار عن أنس وحسَّنه الألباني.
سابعاً: دعاء الله تعالى: فقد أخبرنا أنس بن مالك رضي الله عنه عن حال النبيِّ صلى الله عليه وسلم معه بقوله: ((كنت أخدم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل فكنتُ أسمعه كثيراً يقول: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَالْبُخْلِ وَالْجُبْنِ وَضَلَعِ الدَّيْنِ وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ)) رواه البخاري.
ثامناً: الصلاة على النبيِّ صلى الله عليه وسلم: وهي من أعظم ما يفرِّج الله به الهموم.
تاسعاً: التوكُّل على الله عز وجل وتفويضُ الأمر إليه: ولعلم الإنسان أن الله على كلِّ شيء قدير، وأنه المتفرِّد بالاختيار والتدبير، وأن تدبيرَه لعبده خيرٌ من تدبير العبد لنفسه، وأنه أعلم بمصلحة العبد من العبد وأقدر على جلبها وتحصيلها منه، وأنصح للعبد من نفسه وأرحم به منه وأبرُّ.
عاشراً: الاهتمام بعمل اليوم الحاضر، والتوكُّل على الله فيه وفيما سيكون في المستقبل، وعدم الحزن:(/9)
لهذا استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من الهمِّ والحزن، فالحزن على الأمور الماضية التي لا يمكن ردها ولا استدراكها، والهم الذي يحدث بسبب الخوف من المستقبل، فيكون العبد ابن يومه، يجمع جِدَّه واجتهاده في إصلاح يومه ووقته الحاضر، فإن جمعَ القلب على ذلك يوجب تكميل الأعمال، ويتسلَّى به العبد عن الهمِّ والحزن.
الحادي عشر: الإكثارُ من ذكر الله: فإن لذلك تأثيراً عجيباً في انشراح الصدر وطمأنينته، وزوال همِّه وغمِّه، قال الله تعالى: {ألا بذكر الله تطمئنُّ القلوب}.
الثاني عشر: اللجوء إلى الصلاة: قال الله تعالى: {واستعينوا بالصبر والصلاة} وعَنْ حُذَيفَةَ قَالَ كانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وسَلَّمَ إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ صَلَّى. رواه أبو داود.
الثالث عشر: التحدُّث بنعم الله الظاهرة والباطنة: فكلما طال تأمُّل العبد في نِعم الله الظاهرة والباطنة، الدينية والدنيوية، رأى أن ربَّه قد أعطاه خيراً كثيراً ودفع عنه شروراً عديدة، ولا شك أن هذا يدفع الهموم والغموم، ويوجب الفرح والسرور، ومن أنفع الأشياء في هذا الموضع استعمال ما أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((انْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، وَلا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ، فَإِنَّهُ أَجْدَرُ أَلا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ)) رواه الترمذي.
الرابع عشر: أن يعلم المهموم والمغموم أن بعد العسر يسراً، وأن بعد الضِّيق فرجاً:(/10)
فليُحسن الظنَّ بالله فإنه جاعل له فرجاً ومخرجاً، وكلما استحكم الضِّيق وازدادت الكُربة قرب الفرج والمخرج. وقد قال الله تعالى في سورة الشرح: (فإن مع العسر يسراً، إن مع العسر يسراً )، فذكر عسراً واحداً ويسرين، لأن العسرَ المقترن بأل في الآية الأولى هو نفس العسر في الآية الثانية، أما اليسر في الآية الثانية فهو يسرٌ آخر غير الذي في الآية الأولى.
الخامس عشر: استشارة أهل العلم والدين وطلب النصيحة، فإن نصائحهم وآراءهم من أعظم المثبتات في المصائب. وقد شكا الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما كانوا يلقَون من تعذيب...
السادس عشر: ومن الأمور النافعة عدم السماح بتراكم الأعمال والواجبات، والتوقع المستمر والاستعداد النفسي لجميع الاحتمالات، والانشغال بعمل من الأعمال أو علم من العلوم النافعة، والنظر إلى الجوانب الإيجابية للأحداث التي يظهر منها بعض ما يُكره، ومعرفة القيمة الحقيقية للحياة وأنها قصيرة وأنَّ الوقت أغلى من أن يذهب في الهمِّ والغمِّ.(/11)
العنوان: علاج دون معالج
رقم المقالة: 1885
صاحب المقالة: د. عبدالستار إبراهيم
-----------------------------------------
علاج دون معالج
الأساليب الحديثة في العلاج الذاتي
تمهيد:
أَشَرْنا في فصلٍ سابق إلى أنَّ إحساسَ المعالِجِينَ السُّلوكيِّينَ بحاجة الناس إلى طرق سريعة وفعَّالة لمساعدتِهم على تنمِيَةِ قُواهُمُ الذَّاتيَّة، وتعديل أنماط وأساليب التكيُّف السيئة، التي تعلموها من خلال عمليات تشريط اجتماعي سيئ، جعلتهم (أي المعالجين) يفكّرون في ابتكار طرق سريعة وفعَّالة يُمكن للمريض أن يمارسها بنفسه دون حاجة للالتجاء المستمر للمعالج إلا في حالات وأوقات قليلة.
وتناقَش هذه الأساليب أحيانًا على أنَّها طرق للعلاج الذَّاتيّ، وأحيانًا أُخْرَى توجيهٌ ذاتيّ، وأحيانًا ثالثةً على أنها أساليب للضبط الذاتي، غير أنَّها تتَّفِقُ جميعًا – بالرغم منِ اختلاف المسمَّيات – في أنَّها تستهدي بقوانين علم النَّفس ونظريَّاته، والمعرفة النَّفْسِيَّة بِشَكْلٍ عامّ في تطبيق مبادئ العِلاج ذاتيًّا، بعبارةٍ أخرى فإنَّ ما قاله سقراط من قبل: "اعرف نفسك" يتحوَّل هنا ليصبح "عالج نفسك، مستهديًا بقوانين المعرفة العلمية".
ولفترة قريبة، لم تكن أساليب الضبط الذاتي موضوعًا لتفكير المعالجين النفسيين على الإطلاق، ويبدو أنَّ تأخُّر ظهور هذا المنهج إلى مسرح العلاج النفسي السلوكي، إنما يعود إلى حد كبير إلى سيطرة المنهج الطبي العضوي على حركة العلاج النفسي، فالعلاج النفسي فيما أشرنا في مواقع متفرّقة كان من حيث الممارسةُ مقتصِرًا على الأطباء، ولا زال الأمر كذلك في كثير من الدّول.
والطبيب فيما نعلم يتبنَّى وجهة نظر عضوية تنعكس في علاقته بمريضه؛ فالطبيب هو صاحب السلطة الرئيسة في تشخيص المرض، ووصفه للدواء والعلاج، وما على المريض إلا أن ينفذ التعليمات، ويتعاطَّى الدَّواء إن كان يريد العلاج.(/1)
هذا الفَهْم لطبيعة العلاقة بين المريض والطَّبيب انعكست آثاره على العلاج النفسي كما مثَّله فرويد، فالتحليل النفسي أيضًا يقوم على نفس النموذج، المريض والمعالج: المريض السلبي، والمعالج الإيجابي، الذي يفسر ويوجِّه. وفي هذا السياق قام ألبورت Allport – من هارفارد - إذ ذاك في سنة 1960 بتحليل للبحوث الرئيسة في علم النفس، وأساليب العلاج النفسي، فوجد أنَّ هذا التصوّر يُسيْطِرُ على كثير من مفاهيم عُلماء النفس في تفسيرهم للظواهر الإنسانية، فنسبة كبيرة من تصورات العلماء للإنسان كانت تراه – أي الإنسان - على أنه يخضع بشكل سلبي لقوى خارجة عن إرادته، تمامًا كما تفعل القطط والأرانب في تجارب المختبرات.
وقد شهدتِ الحقبة الأخيرة منَ النمو في علم النفس وأساليب العلاج النفسي، ما يشبه مراجعة النفس فيما يتعلق بحقيقة موقفهم من مفاهيمَ تعوق خُطا نموِّهِم، فبدأنا نشهد رفضًا للتصوّرات السلبيَّة للإنسان، وبدأ التَّأكيدُ على أنَّ هناك حاجاتٍ في داخِلِ كُلّ شخص تدفعه إلى الارتقاء وتحقيق الذات، والتغيير عن خصال شخصيته مقصودة.(/2)
والحقيقة أنَّ ذلك الاتّجاه قد بدأ بجهد طائفة من المعالجين النفسيين، الذين يُعرفون في الوقت الحالي باسم طائفة علماء النفس الإنساني Human Psychologests عندما أخذوا يعيدون تفسير نظريات العلاج النفسي بالتأكيد على قدرة الإنسان على توجيه نفسه ذاتيًّا من خلال قدرته على التعلم الذاتي، وتوظيفه لقدراته وإمكاناته[1]، ويُعتبر كارل روجرز carl Rogers من طائفة المعالجين الإنسانيين، وممن حاولوا الاستناد إلى معطيات علم النفس الحديث بوضع نظرية رئيسة في العلاج النفسي تقوم على التوجيه الذاتي، والممارسة الشخصية لتغير السلوك، وتعتبر نظريته أيضًا من أوائل النظريات التي قلبت العلاقة التقليدية بين المريض والمعالج، فجعلتها تنصبُّ على المريض (أو العميل)[2]، بحيث يكون المريض هو صاحبَ الدَّور الأساسي والفعال في عملية العلاج، وتغيير الشخصية، ونمو هذا التغيير؛ بل إن روجرز يرى أن دور المعالج النفسي لا يزيد على خلق شروط علاجية غير مباشرة، وغير موجهة، من شأنها أن تيسر فهم الذات والنضوج النفسي السليم، ويؤكد "روجرز" أنَّ نُمُوَّ قدرات الإنسان الإبداعية، وقدرته على تنمية ذاته وتوجيهها، فضلاً عن قدراته على الاختبار وحل المشكلات، أمورٌ ليست ممكنة نظريًّا وعمليًّا فحسب؛ بل إنَّها جزءٌ من قوانين الطبيعة، وهدف يجب أن يعلو كل الأهداف في العلاج النفسي الناجح [3].(/3)
وقد أعطَتْ حركة علماء النفس الإنساني، وتصورها للإنسان، أعطت دَفعة قوية للعلاج السلوكي الحديث في اتجاه فهم عمليات الضبط أو التوجيه الذاتي من خلال مفاهيم نظرية التعلم ذاتها، التي كانت في شكلها التقليدي ترفض مثل هذه المفاهيم من قبل؛ لعدم اتساقها مع منطق النظرية السلوكية، القائم على تصور السلوك كمحصلة للشروط البيئية الخارجية، بالشكل الذي وجدناه بها عند "بافلوف" و"سكينر"، ولعل هذا ما يعبر عنه "باندورا" Bandura رئيس جمعية علم النفس الأمريكية السابق، بوضوح في هذه العبارة:
"تمر النظرية السلوكية في الوقت الحالي بتغيرات حاسمة، فمنذ سنواتٍ اقْتَصَر تصوّر علماء النفس السلوكي للإنسان على أنَّه كائن يستجيب أساسًا للتغيّرات البيئية، التي تشكل آليًا أفعاله وتحكمها؛ لكن نظرة متفحّصة للإنسان تبين أنه أكثر فاعلية، وأن تأثيرات البيئة لا تتم بشكل آلي؛ فالتغيرات التي كان من المعتقد أنَّها تؤثّر في السلوك بشكل آلي، يكون تأثيرها في الحقيقة محدودًا ما لم يدعمها وعي الإنسان بها...".
"إن السلوك يخلق – جزئيًّا – البيئة[4] بمقدار ما تؤثر البيئة في ظهور وإبراز السلوك، ولهذا فمن المهم أن نحلل كيفية تشكيل الإنسان للشروط البيئية التي تحكمه، بنفس القدر من الاهتمام الذي نوليه لدور البيئة، والشروط المختلفة التي تحكم ظهور سلوك معين".
"إن من أهم الخصائص التي تميز الإنسان أنه يستطيع خلق تأثيرات في ذاته، نابعة من ذاته ومن توجيهه الذاتي لسلوكه، ومن خلال دوره كمؤثر وموضوع للتأثير في نفس الوقت يمتلك الإنسان قوة رئيسة في توجيه ذاته"[5].
لعلَّ مغزَى عبارة "باندورا" واضح للقارئ: أن حياة الإنسان تتوجه ذاتيًّا وبأغراض خاصة، دون أن ينفي ذلك وجود قوانين سببية تضعها البيئة بشروطها الخاصة، ودون تعارض بينهما.(/4)
وعلى هذا فهدَفُ هذا الفصل إذًا هو تبسيط لبعض الأساليب أو التكتيكات التي ابتكرها المعالجون لمساعدة مرضاهم على تطوير ذواتهم، ومواجهتهم لما يثور من مشكلات، ولكن علينا أوَّلاً أن نعرض للأساس النظري لهذه الأساليب كما تتبنَّاه مدارس العلاج السلوكي الحديثة.
الرأي السلوكي الحديث في مفهوم العلاج الذاتي:
لنفرضْ أنَّ شخصًا حاول جاهدًا الإقلاع عن تدخين السجائر، فانتهت محاولاته للفشل، فكيف نفسر ذلك؟
من التفسيرات المبكرة القول بأن هذا الشخص ليست لديه الإرادة الكافية للإقلاع عن التدخين، هذا ما يمكن أن يثور أول وهلة، لكن لنفرض أننا تساءلنا: وما هو الدليل على ضعف إرادته؟! حسنًا! ألم يحاول أن يتبع خطة معينة ففشل؟ من الواضح إذًا أننا بهذا التفسير لم نفعل شيئًا إلا التحرك في دائرة لا تنتهي بنا إلى حقائق نافعة، فنحن نفسر فشله بوجود إرادة ضعيفة، ونستدل على ضعف إرادته بفشله في الانقطاع عن التدخين، والحقيقة أن هذا ما يؤخذ على التفسيرات القديمة المختلفة؛ كالغريزة وقوة الإرادة، وقوى التطور النفسي... إلخ. إنها لا تضيف شيئًا لمعرفتنا، وتنطوي على خطأ منطقي كبير في الاستنتاج، فنحن نفسر الشيء بشيء آخر يفسره نفس الشيء الأول: "الفشل في تدخين السجائر راجع لضعف الإرادة، وضعف الإرادة راجع للفشل في تدخين السجائر... إلخ".
وهناك خطران يُمكِنُ أن تؤدّي إليْهِما مثلُ هذه التفسيرات الدائرية، فمن ناحية لا تنتهي بنا لأسباب واضحة تساعد على تقدُّم المعرفة العلمية، ومن ناحية أخرى قد يؤدي التفسير بقوة الإرادة أو ضعفها على المستوى العلاجي إلى فِقدان حماس المريض، وبالتالي فشل العلاج؛ فنحن عندما نبيّن له أنَّ فشله راجع إلى ضعف الإرادة، فقد يقتنع بأن فشله يرجع لأمر ليس بإمكانه أن يغيره؛ فلِمَ المحاولة؟!(/5)
ولعلّي لا أبالغ إن قلت بأن كثيرًا من فشل الناس – الذين ألتقي بهم بين الحين والآخر – في تعديل سلوكهم، وتوجيهه في مسار سليم، إنما يرجع إلى أنهم يضعون أنفسهم في أسْر تفسيرات من هذا القبيل، ويفسّرون أخطاءهم مَرَّةً بِطَريقةٍ قَدَرِيَّة، ومَرَّةً بِقُوَى لا تَخْضَعُ لِضَبْطِهم، ومرَّةً بِوُجود غريزة من هذا النوع أو ذاك، إلى غَيْرِ ذلِكَ منَ التفسيرات التي تدفَعُ دَفعًا قويًّا لِلتَّقاعُسِ واليأس، وتقبل الأخطاء والعجز.
هل هناك تفسيرٌ آخَرُ إذًا يُمكن أن يكون أكثر إيجابيَّة؟ أجل، وهو التفسير الذي تتبناه البحوث الحديثة، فمن وجهة نظر علماء السلوك المحدَثين نجد أنَّ عَجْزَ الشَّخص عن الإقلاع عن التدخين في المثال السابق، إنَّما يرجع إلى عدم معرفته بالشروط الملائمة للإقلاع عن التدخين، وبالتالي فإنه لم يضع نفسه في الشروط، أو في المواقف الاجتماعية أو النفسية الملائمة التي يمكن أن تحول قراره إلى التنفيذ العمليِّ.
بِعبارةٍ أُخْرى: فإنَّ قُدرةَ الشَّخص على التَّعديل الذاتي لأفعاله وأنماطه السُّلوكيَّة تُعتَبَرُ نِتاجًا لِمَعْرِفته بالشروط المحيطة به، وقدرته على تغييرها؛ وبهذا تزداد مهارة الشَّخص في تعديل سلوكه، وتوجيه ذاته الوجهات التي يرغبها، كلَّما ازدادت قدرته على معرفة الشّروط الملائمة، والحوادث السابقة لظهور السلوك، والمدعمات التي يؤدي لها هذا السلوك، وبهذا المعنى لا تزيد قُدرةُ الشخص على تعديل سُلوكِه ذاتيًّا عن كونها ببساطة: "اعرفِ المتغيرات والشروط التي تَحكُم أفعالك، وضع نفسك فيها".(/6)
لهذا فإنَّ النَّجاحَ في تقوِيَةِ جانبٍ مرغوب منَ الشخصية، أو تعديل جانب سيئ منها يجب أن يتضمن فهمًا واضحًا للعوامل المؤثرة في السلوك، مع التحكم فيها بطريقة تؤدي إلى التغيير المطلوب، ولعلَّ هذا ما دفع "سكينر" إلى استنتاج أن محددِّات الضبط الذاتي ونجاحه جزء من محدِّدات الضَّبْطِ السّلوكيّ بِشكلٍ عامّ: "الإنسان قد يضبط سلوك إنسان آخر بإعداد شروط ملائمة لهذا الضبط[6]، وبالمثل يمكنه أن يضبط سلوكه الذاتي بأن يضع نفسه في شروط ملائمة تساعده على هذا الضبط، وعلى هذا فإن الضبط الذاتيَّ يتحدد من خلال خلق شروط تدعيمية مماثلة للشروط التدعيمية التي تطور بها أي سلوك آخر"[7].
ومن ناحيةٍ ثانية، يتَّفق المعالجون السلوكيون على أنَّ أساليب الضَّبطِ الذَّاتِيّ تكتسب من خلال عمليات تعلم اجتماعي، ومهارة في وضع الشخص لنفْسِه فِي شروط بيئيَّة وبيولوجيَّة قادرة على إحداث التغييرات المطلوبة، أو التحكّم في البيئة الاجتماعيَّة والبيولوجيَّة، بحيثُ تَتَحَوَّل إلى الصورة المطلوبة من حيثُ إحداثُ التغير.
نماذج من أساليب الضبط الذاتي:
هدفُنا الأساسيُّ هُنا إذًا هو أن نُبيّن أنَّ عملية التغير العلاجي من خلال التوجه الذاتي أمر لا يمكن فصله عن الظروف البيولوجية، والاجتماعية، والمعرفيَّة التي سبق وأن أفضنا فيها في الفصول السابقة، كلّ ما هُنالك أن خلق أو تغيير الظروف أو الشروط الضرورية لإحداث العلاج يتم من خلال قدرة الفرد على ممارسة التغيير بنفسه، وبتوجيه من معالجه.(/7)
ولهذا نجد أن كثيرًا من الأساليب العلاجية التي عرضنا لها في الفصول السابقة يمكن أن تستخدم مع بعض التحوير، بحيثُ يُمكن لِلفَرْدِ أن يُمارِسها بجهده الشخصيّ، مُوَجّهًا عمليَّات العلاج بِنَفْسِه، وينصب جزء كبير من نشاط المعالجين السلوكيين على تحوير تلك الأساليب بحيث تصبح قابلةً لِلمُمَارَسَة الذاتية. وهكذا نَجِدُ أنَّ التطوّراتِ المعاصرةَ في العلاج الذاتي تنطلق تقريبًا من نفس مفاهيم تعديل الجوانب الوجدانية، والمعرفية، والسلوكية، والاجتماعية بالشكل الذي استوعبتْهُ الفصول السابقة، وسنعرِضُ في الفصول الباقية من هذا الفصل نماذج من التحويرات التي تَمَّت أو يمكن أن تتم في هذه الأساليب بحيث يمكن استخدامها ذاتيًّا.
1 – التَّعديل الذاتِيّ لِلجوانِب الانفعاليَّة منَ الاضطراب:
عرضنا لأساليب العلاج السلوكي القائمة على مبدأ الكف المتبادل؛ كالاسترخاء، والتطمين المتدرّج، وتأكيد الثقة بالنفس. ويمدّنا المعالجون المعاصرون بعديد من الاقتراحات عن كيفية تحسين هذه الطرق بحيث يصلح استخدامها ذاتيًّا.
فالاسترخاء، مثلاً يمكن استخدامه خارج عيادة المعالج، وفي المواقف التي تستثير التوتر، ويتوقف على المعالج بعد أن يدرب مريضه على الاسترخاء المنظم أن يوضح له بعد ذلك أن هذا الأسلوب يستمد نفعه الأساسي، إذا ما استخدمه المريض في المستقبل عندما تواجهه مشكلات مماثلة لتلك المشكلات التي دفعته لطلب العلاج، خاصة إذا ما كان طالب العلاج من النوع الذي يشمله الاضطراب والانفعال والقلق في مواقف متعددة ليلاً أو نهارًا.(/8)
وقد رأينا نموذجًا لذلك حالة الشاب الذي عالجه "سالتر" في الفصل الخامس، وتبين ملاحظات المعالجين السلوكيين في هذا الصدد أن قدرة الفرد على ممارسة الاسترخاء في المواقف، التي تعتبر بالنسبة له موضوعًا لإثارة القلق والتوتر (كالحديث مثلاً أمام مجموعة من الأشخاص) ستساعده على مواجهة جوانب الإحباط، التي قد تحدث بطريقة أكثر إيجابية، بعبارة أخرى: فإن السلوك (الاسترخاء) سيغير من طريقة إدراك البيئة، فيحولها إلى عنصر أقل تهديدًا.
ويقترح كاوتلا cautela – من مشاهير العلاج السلوكي الحديث، ورئيس جمعية العلاج السلوكي سابقًا – طريقة تساعد على التوترات التي تنشأ في جو العمل لدى مرضاه؛ فقد كان يقترح على طلاب العلاج – خاصة إذا كان مصدر الاضطراب هو التوتر والصراع الذي يستثيره جو العمل – أن يجلس الشخص مسترخيًا على مكتبه في العمل، وأن يهتف بصوت عالٍ أثناء ذلك بكلمة "استرخ" لمدة 10 مرات، وكان يؤكد على مرضاه اتباع هذا الأسلوب مهما بدا له بسيطًا أو مستهجنًا، فإذا اتَّبع المريض التعليمات؛ كأن يطلب منه بعد ذلك أن يسترخي في وضع واقف، وأن يمارس الاسترخاء في المنزل مرة يوميًّا على الأقل في كِلا الوضعين (الجالس والواقف).
وفي كل مرة يطلب منه أن يقول لنفسه "استرْخِ" بِصَوْتٍ عالٍ لعشر مرات في هذين الوضعين، إلى أن تحدث رابطة بين كلمة التنبيه "استرخ" والاستجابة (اختفاء التوتر والاسترخاء)، وبعد أن يتبين للمعالج أنَّ المريض يستطيع الاسترخاء بنجاح في كلا الوَضْعَيْنِ، يؤكّدُ له بَعْدَ ذَلِكَ ضرورة استخدام هذا الأسلوب في كلّ مواقف القلق بعد ذلك[8].(/9)
ومنَ الطريف أنَّ "كاوتلا" قد أجرى عددًا من الدراسات التتبعية على الأشخاص الذين يستخدمون هذا الأسلوب، بناء على توجيهه لهم، فتبين أنهم يتحمسون لهذا الإجراء، ويحسون بفاعليته، كذلك تبيَّن أنَّ تدعيمَ الرابطة بين كلمة "استرخ" ووضع الاسترخاء يساعد على ممارسة الاسترخاء، والتمكُّن منه بطريقة سريعة حالما يهتف الشخص لنفسه في موقف التوتر بكلمة "استرخ".
كذلك يستخدم أسلوب التطمين المتدرج كأسلوب من أساليب العلاج الذاتي في مواجهة المخاوف المرضية، ويكون ذلك بأن يقوم الفرد بتخيل المنبهات المثيرة للقلق بعد تدريجها، وهو في حالة من الاسترخاء.
وفي الولايات المتحدة تدرج المنبهات المثيرة للقلق؛ كالخوف من الثعابين، أو الظلام، أو الامتحانات، أو الحديث أمام الناس، وتُسجل على أشرطة تسجيل "كاسيت"، وتباع للمرضى، أو للأشخاص الذين يرغبون في التخلص من أعراض الخوف والقلق في تلك المواقف وغيرها، ويمكن أن يقوم بتشْغِيلِها وهو في وَضْعِ الاسترخاء إلى أن يتم له تحييد تلك المصادر من شحناتها الانفعالية الشديدة، وتبيّن بعض التجارب أنَّ النجاح في التخلص من الخوف من الثعابين مثلاً بهذه الطريقة (الاستماع لأشرطة التسجيل في المنزل بوضع الاسترخاء) يتساوى مع العلاج بطريقة التعرض للمنبهات الدافعة للخوف مباشرة، أو مع المعالج؛ مما يدل على الإمكانات الجيدة التي يمكن أن تتطور لها أساليب العلاج الذاتي.(/10)
غير أنَّ هناك بعض المشكلات التي تثور نتيجةً لاستخدام أشرطة التسجيل في عملية التطمين المتدرج، فمِن ناحية لا يزال هذا الأسلوب في بداياته الأولى، ومن ناحية أخرى يثير التسجيل مسألة تَتَعَلَّق بالتفاوت في تقدير المدرجات المثيرة للقلق؛ فقد يثير مدرج معين؛ كتخيل ثعبان مرسوم على بِطاقَةٍ بَيْضاءَ درجةً أكْبَرَ منَ القَلَقِ لدى شخصٍ دُون شخصٍ آخر، فضلاً عن هذا لا يُوجَدُ اتّفاقٌ مُطْلَقٌ بَيْنَ المرضى على المنبّهات التي تستثير لديْهِم تلك المخاوف، فالخوف من مجابهة الآخرين بحديث أو خطبة – على سبيل المثال – قد يكون مصدره عند أحد الأشخاص هو حجم الجماعة، بينما يكون مصدره عند شخص آخر هو سلطة الأفراد الذين تتكوَّن منهم هذه الجماعة، وقد ناقشنا هذه القضايا من قبل.
ولهذا فمِنْ رَأْيِنا أن يتمَّ تدريجُ المواقف المثيرة للقلق لكل شخص على حدة، ومن خلال اقتراحات الفرد نفسه، وبتوجيه المُعالِج، ثُمَّ يُمكن أن تسجل لكي تمارس ذاتيًّا بعد ذلك، فهذا أفضل من الحصول على" كاسيتات" معدة في ظروف مختلفة، ولأناس مختلفين.(/11)
أما أسلوب تأكيد الذات فهو بطبيعته أسلوب من أساليب الضبط الذاتي؛ أي إنه لا يكتسب فاعليته إلا من خلال ممارسة الفردِ نفسِهِ لهذا الأسلوب، ووضعه موضع التنفيذ العملي، صحيح أن المعالج قد يُعلِّم مريضه بعض أساليب تأكيد الذات في داخل العيادة، أو مختبر العلاج السلوكي بطريق تمثيل الأدوار مثلاً، إلا أن نجاح أسلوب تأكيد الذات لا يتم إلا إذا حاول الفرد نفسه تعميم الاستجابات التي طورها مع معالجه إلى مواقف اجتماعية جديدة (كالأسرة أو العمل)، ومع أناس آخرين (كالرؤساء والزملاء... إلخ)، أي أن يمارس تأكيد الذات متعمِّدًا كُلَّما شعر بأنَّ غَبْنًا أو ظُلْمًا قد وَقَعَ عَلَيْهِ منَ الآخَرِينَ؛ بلْ إنَّ كثيرًا منَ المُعالجين مثل كاوتلا[9]، يرون أنَّ التدريبَ المَعْمَلِيَّ مِنْ خِلال توجيهات المعالج بطريقة تمثيل الأدوار، يجب أن يكون لاحقًا وليس سابقًا لاستخدام أساليبِ التَّأْكِيدِ الذَّاتِيّ ذاتيًّا، خاصَّة عندما يفشل الفرد في الممارسة الذاتية لتأكيد الذات.
2 – العلاج الذاتي من خلال ملاحظة الذات:
منذ أنِ ابْتَكَر فرويد نظرية التحليل النفسي، أصبحت مفاهيم الاستبصار، والوعي، والشعور من أهمِّ الأُسُسِ الَّتي تتضمَّنُها أيُّ نظريَّة لِلعلاج النفسي، ولعلَّ "فرويد" هو أوَّلُ مَنْ أكَّد أن وَعْيَ الفردِ بِالحوادِثِ التَّاريخيَّة الانفعاليَّة الَّتي يمرُّ بِها يؤدّي إلى تغييرات مباشرة في سلوكه، كذلك أكد "كارل روجرز" دور الوعي في فهم الفرد لذاته وتَقَبُّله لها؛ لكنَّنا رأينا أنَّ معالجة "فرويد" لهذا المفهوم لم تؤدِّ إلى نتائج علاجية ناجحة ذات شأن؛ بسبب ربطه لعملية الاستبصار بخبرات طِفْلِيَّة قديمة، فالاستبصار عند "فرويد" يُشيرُ إلى قُدرةِ الشَّخص – من خِلال المحلّل النفسي – على الوعي بتشكيل شخصيته في السنوات المبكرة من العمر.(/12)
ويستخدم المُعالِجون المُعاصِرُون الوَعْي والاستِبْصار في العلاج لكن بطريقة أخرى، فنقول بأنَّ الشَّخص على استبصار بمشكلاته عِندما يكون مدركًا إدراكًا دقيقًا للشروط السابقة لظهور المشكلة، والنتائج أو الاستجابات البيئيَّة الَّتي يُثيرُها ظهور هذه المشكلة، ولهذا يَجِبُ على المريض وعلى المعالج كليْهِما أن يقوما بِجَمع المعلومات الدقيقة السابقة لظهور المرض، وذلك قبل الدخول في أي برنامج للتعديل أو العلاج السلوكي، وعندما يشترك المريض بتوجيه المعالج في حصر المعلومات التي أدت لظهور اضطراباته، وأنواع التدعيم التي أدى لها ذلك؛ فإنه يقوم بعملية ملاحظة للذات، وهي مرحلة ضرورية من مراحل العلاج السلوكي بشكل عام.
لكن ملاحظة الذات (أو الكشف عن الذات) لا تعتبر طريقة لجمع وحصر المعلومات الضرورية عن تكون الأعراض؛ بل قد تؤدي – بمفردها – إلى بعض التغييرات السلوكية العلاجية، بمعنى أن الفرد عندما يلاحظ سلوكه، أو يحاول أن يجمع المعلومات التي أدت لظهور أفعاله غير المرغوبة، فإن هذه المعرفة – مجرد المعرفة – قد تؤدي إلى تأثيرات مباشرة في الأفعال، أو السلوك الذي يلاحظه الفرد[10].(/13)
ولِلْمَزِيدِ منَ التَّفاصيل والإيضاح لنلاحظْ ما يَحْدُثُ أثناءَ مُلاحَظَةِ الذَّات: إنَّ الفَرْدَ عِندما يُحاوِلُ الْقِيامَ بِجَمْعِ المعلومات الَّتي أدَّتْ إلى أنماطِه السُّلوكيَّة التي يرغب في تعديلها، إنَّما يقوم في الحقيقة بعمليَّة انتقاءٍ أو "غربلةٍ" لِلشُّروط أوِ الأسباب الهامَّة – في نظره – الَّتي أدَّت إلى تكوُّن الأعراض المَرَضِيَّة، فهو يُبْعِدُ بَعْضَ الشُّروط الهامِشِيَّة، ويبقي على بعض الشروط التي يرى أنها أساسية من حيث تأثيرُها على ظهور المرض أو استمراره، وهذه "الموازنة" بين الشروط المختلِفة تعتبر في حد ذاتها ذاتَ وظيفة إيجابية؛ لأنها ستضع إصْبَعَ الشَّخْصِ مُباشرة على الشروط المطلوبِ تعديلُها، أو ضبطها لتحقيق التغير، وستمنحه – فضلاً عن ذلك - وعيًا واستبصارًا جديدَيْنِ بمواقف الحياة المؤثّرة، فمن الطبيعي أنه سيحاول بعد أن عرف الشروط الرئيسة أن يتجنبها، أو أن يخلق شروطًا أخرى معارضة للشروط السيئة الأصلية، إلى غير ذلك من تصرفات مستقبلية.(/14)
وتتطلَّبُ ملاحظةُ الذَّات بالشكل العلمي أن يسجل الفرد في كراسة خاصة الاستجابات، أو أنماط السلوك المرضي عندما يلاحظه مباشرة، فهو يسجل مثلاً عدد المرات التي يشعر فيها بالرغبة في تدخين سيجارة، أو تعاطي بعض الخمر، أو بالرغبة في السبِّ والعداوة، أو عدد المرات التي تتملَّكُه فيها الأفكارُ الحوازية، أو عدد الهلاوس السمعيَّة الَّتِي يَسْمَعُها.. إلخ، ومثل هذا التسجيل يعوق ظُهُورَ السلوك غيرِ المرغوب، وعلى سبيل المثال تبين في إحدى الدراسات أنَّ مُجَرَّد قيام الشخص بتسجيل عدد المرات التي يشعر فيها برغبة قوية في تدخين سيجارة، يؤدّي مباشرة إلى إعاقة التدخين؛ ولهذا نلاحظ في مستشفيات الطب النفسي، وعيادات العلاج النفسي في الولايات المتحدة أنَّهُم يَستخدمون هذا الأسلوب في العلاج من الإدمان على الخمر، والكحوليات، وغيرها من الأفعال القهرية، بأن يكون لِكُلِّ مريض لديه الدوافعُ في التخلُّص من مشكلاته كراسةٌ يسجل فيها ما يفعله إزاء هذه المشكلة يوميًّا.(/15)
ولأن ملاحظة الذات تتطلب قدرة على التحكم في التغيرات السلوكية التي تطرأ على الشخص، فإن هذا التحكم – في اعتقادنا – يؤدي إلى خلق تغيرات آلية في البيئة المحيطة بطريقة تجعلها تخلق تدعيمات إضافية في الاتجاه المرغوب. تصوَّرْ – على سبيل المثال – أننا طلبنا من شخص يفتقر إلى تأكيد الذات في المواقف التي تتطلب منه المعارضة، أو الدفاع عن النفس، أو الاحتجاج على ظلم معين، فطلبنا منه كخطوة أولى من خطوات العلاج أن يسجّل مباشرة عَدَدَ المرَّات التي قال فيها "نعم"، أو "أوافق" على أمر أو حكم معين صادر له من زميل أو رئيس، وعدد المرات التي قال فيها "لا"، أو "أرفض" هذه الأوامر أو الأحكام غير المقبولة، إن مجرد قيامه بتسجيل ذلك في المواقف الحية يخلق – في تصورنا – نوعًا من التعديل في استجابات البيئة المحيطة به (الاهتمام والتساؤل عمَّا يفعل.. إلخ)، ومثل هذا التعديل أو الاهتمام الذي يظهر على الآخرين، قد يتحوَّلُ إلى قُوَّة أخرى تساعد الشخص على التغير الإيجابي.
ويكتشف الشخص من خِلال مُلاحظاته الذاتيَّة أنَّه استطاع أن يتوصَّل للشروط الرئيسة، الَّتِي تساهم في تشكيل جوانب سلوكه وشخصيته، وعندما يحاول مستقبلاً أن يتجنَّب الشروط السَّيّئة، أو يخلق شروطًا جَيِّدة، وعندما يكتشف أنَّه نَجَحَ في تحقيق بَعْضِ الأَهْدَاف؛ أي: إنَّ هُناك أَهْدافًا أُخْرَى تَبَلْورت، وشروطًا أمْكنَ التَّغَلُّبُ عليها، وشروطًا أخرى يجب التغلُّبُ عليها.. إلخ، فإن مثل هذا التغير سيكون بمثابة التدعيم الذاتي للممارسة تعديلات إضافية أخرى؛ فالنجاح فيما أشرنا يخلق نجاحًا آخر، والثقة بفاعلية الذات تخلق ثقة أخرى.(/16)
وقبل أن ننتقل إلى وصف إحدى الحالات، التي تم علاجها بنجاح باستخدام أسلوب الملاحظة الذاتية، نجمل القول بأن هذه الطريقة تعتبر من الطرق ذات النتائج القوية في تعديل السلوك، أما أسباب قوتها فمتعددة ومعقدة إلى حدٍّ كبير، وتأثيراتها على السلوك تختلط بعواملَ أخرى، ولا زال الباحثون يجاهدون في تحديد المتغيراتِ النوعيَّةَ التي تساعد على كفاءة هذه الطريقة، غير أن جهد الباحثين في هذا المجال، وزيادة علامات الاستفهام لا يجب أن تقلِّل من آثارها واستخداماتها في ميدان العلاج الذاتي، حتَّى فِي أكثر الحالات العقليَّة والنفسية اضطرابًا.
ولْنَتَأَمَّل معًا فيما يلي حالة توضيحيَّة، أمكن معها - باستخدام أسلوب ملاحظة الذات والتسجيل - تحقيقُ قدر رائع من النجاح:
حالة المرأة ذات الهلاوس السمعية:
المريضة في السابعة والأربعين من العمر، تقيم في مستشفى للطب العقلي في الوقت الذي بدأ فيه المعالج السلوكي محاولاته العلاجية معها، شَخَّصَها الأطباء على أنها فِصاميَّة، ظلت محجوزةً في المستشفى لثلاثة عشر عامًا، وذلك بسبب هلاوس سمعية تحدث بصورة يوميَّة متكررة ومطردة، وقد أدَّتِ الهلاوس إلى حالة من الاكتئاب الشديد والقلق، ومن الغريب أن هذه الهلاوس تدخَّلت في حياة هذه المرأة البائسة بطريقة لا تطاق؛ لقد أصبح سلوكها كله محكومًا "بالأوامر" و"النواهي" التي تعطيها لها الأصوات، وبلغ ذلك إلى حدّ أنَّها لم تكن لتستطيعَ الذَّهابَ لِلحمَّام لقضاء حاجتها الحيوية ما لم تسمع تلك الأصوات تأمرها بذلك!
وعندما عَرضتْ هذه المرأةُ مشكلتها للمعالج أظهرت كراهية شديدة لسيطرة هذه الأصوات عليها، وأبدتْ رَغْبَةً قويَّة في العلاج منها، وعبرت بصراحة بأنها لو استطاعت أن توقف تلك الأصوات، فإن مشكلتها الأساسية قد تُحَلُّ، وأنها ستصبح قادرة على التوافق الجيد بعد ذلك، كذلك أبدت الهيئة العامة بالمستشفى هذا الحكم.(/17)
ولأن هذه المرأة أبدت دافعًا قويًّا للعلاج، فلقد رأى المعالج أن يستخدم معها أُسلوب ملاحظة الذات؛ وذلك لبساطة هذا الأسلوب في التطبيق، ولأنَّ المرأة أبدت رغبة في التعاون مع المعالج في تنفيذ التعليمات الخاصة بتسجيل التغيرات التي تسيطر عليها، وملاحظة الذات.
طَلَبَ المُعالِجُ منها أوَّلاً أن تسجل بطريقتها الخاصة عدد المرات التي تحدث فيها تلك الأصوات لثلاثة أيَّام متتالية، ثم طلب منها بعد ذلك أن تُسجِّل جهرًا أمام المريضات الأخريات في العنبر على جدولٍ عدَدَ المرات التي تسمع فيها هذه الهلاوس يوميًّا، وقد وضع الجدول في مكان ظاهر، بحيثُ يُمْكِنُ للممرضات الأخريات أن يلاحِظْنَه، وكنتيجة لهذا المكان الظاهر الذي وضع فيه الجدول، كان يسهل على كل شخص في العنبر أن يلاحظ مدى التقدم في سلوك المريضة, فمن الواضح إذًا أنَّ الهدف من الجدول هو أن يعطي المرأة نتيجة فورية لتطوُّرها، كما أنَّه كان يحرِّك عواملَ التدعيم الاجتماعي من قِبَل الممرضات، والمجربين، والعاملات بالمستشفى... إلخ.
وقد تَضَمَّنَتْ تعليمات المعالج للعاملين بأن يُظهِروا تشجيعهم بالمدح والاهتمام والتشجيع كلَّما لاحظوا تناقُصًا في الهلاوس اليومية (تناقص الأصوات)، وعندما كانت تفشل المرأة في إنقاص هلاوسها، كان التدعيم الاجتماعي يتوقف.
ومن الطريف أنَّ هذا الأسلوب قد أدَّى إلى تناقص ملحوظ في الهلاوس السمعية لدى المرأة في فترة قصيرة من الزمن، لقد قلَّت الأصوات والهلاوس من 181 مرة في اليوم الأول (الذي بدأت فيه المرأة بوضع علامة على الجدول في كل مرة تسمع فيها الأصوات) إلى 11 مرة في اليوم الثالث، ولم تظهر أي هلاوس في اليوم الرابع، ثم زادت بعد ذلك إلى 16 مرة، ثم قلت تدريجيًا إلى أن وصلت الصفر، واختفت الأصوات بعد ذلك تمامًا من حياة المريضة طوال فترة متابعتها لمدة ستة شهور، ولحين نشر تلك الدراسة.(/18)
ومن الطريف أيضًا أنه بتناقص هلاوس المرأة حدثت تغيرات إيجابية أخرى في سلوكها، لقد أصبحت أقلَّ قلقًا، وقادرة على التَّفاعُل الاجتماعيِّ مع المريضات الأُخريات، وتحسن مظهرها الخارجي، وبدأت تطالب بالبحث عن عمل، كذلك أصبحت تعبر بصراحة عن سعادتها وغِبطَتِها إلى حدٍّ بعيد (كدليل على أن التغير في الأعراض يشمل تغيرات إيجابية أخرى في الشخصية ككل).
وغنيٌّ عنِ القول، أن هذه الدراسة تُقدِّم برهانًا قويًّا على أن ملاحظة الذات، وتسجيل السلوك يؤديان إلى محو كثير من الاضطرابات، حتى ما ينتمي منها إلى عالم الأمراض العقلية، وبنفس القدر من المهارة يمكن بالطبع استخدام أساليب الملاحظة الذاتية بالشكل السابق في حالة المرأة ذات الهلاوس السمعية، في علاج وتعديل كثيرٍ منَ الجوانب السلوكية المَرَضِيَّة، ويتم بالفعل استخدامُ هذا الأسلوب من أجل زيادة الوقت الذي نُكَرِّسُهُ للعمل (والمذاكرة)، وضبط السِّمْنَة بملاحظة التناقص اليومي للوزن وتسجيله، وعلاج مشكلات الأطفال في المدارس؛ كالبكاء الذي ليس له سبب، وذلك بوضع علامة في جدول أمام الطفل في كل مرة يبكي فيها دون سبب، وحديثًا أمكن تطويع أسلوب الملاحظة الذاتية في علاج المخاوف المرضية من الأماكن المغلقة لدى مريضة، وذلك بسؤالها أن تُحصي الزمن الذي تقضيه في مكان مغلق (حجرتها) باستخدام ساعة إيقاف، مِمَّا أدَّى إلى تزايد تدريجي في الزمن الذي تقضيه في الأماكن المغلقة بشكل عام، كما أمكن للكاتب أن يُمارس هذا الأسلوب لزيادة الوقت المخصص لكتابة بحث مطلوب في فترة زمنية محدودة، فأمكن تخصيصُ 6 ساعات يوميًّا تقريبًا للكتابة (بعد أن كان الوقت المستخدم لذلك لا يزيد عن ساعة ونصف يوميًّا، وبطريقة متقطعة).(/19)
والجميل في أسلوب الملاحظة الذاتية هو بساطته، ونتائجه الإيجابية في زيادة السلوك المرغوب، ومحو السلوك غير المرغوب في فترات محدودة لا تتجاوز السنة في الحالات المعقدة، وتصل إلى أسابيع قليلة في حالات أخرى، فضلاً عن إمكانيَّة استخداماتِه في تعديل قطاعات متنوّعة ومتعدّدة منَ الاضطرابات، بما في ذلك الاضطرابات التي تُصيب الناس الساديين (كالسِّمْنَة، أو الهروب من النشاطات الإبداعية كالكتابة)، والعصابيين (كالمخاوف المرضية)، والمرضى العقليين (كالهلاوس والأفكار المسيطرة)، كما يستخدم كطريقة لتخفيض ارتفاع ضغط الدم، وذلك بتشجيع الفرد على قياس ضعطه بنفسه ثلاث أو أربع مرات يوميًّا في مواقف مختلفة، وتسجيل ذلك على بطاقة أو جدول يمكن أن يعده الفرد بنفسه، ولهذا تباع أجهزة ضغط الدم في الوقت الحالي بأسعار زهيدة للجمهور الأمريكي؛ لتشجيع عمليات العلاج الذاتي.
إثابة الذات والتدعيم كطريقة للعلاج الذاتي:
إذا كانت مجرد الملاحظة الذاتية تُعتَبَر مصدرًا خصبًا لتعديل السلوك بطريقة ذاتيَّة، فالأمر صحيح كذلِكَ بِالنسبة لتدعيم الذَّات عند ظهور السلوك الجديد، البديل للسلوك المرضي، والخلاف بين الملاحظة الذاتية والتدعيم الذاتي، أنه في الملاحظة الذاتية يقوم الشخص بمراقبة تصرفاته التي يعتقد بخطئها، أو بآثارها المرضية السيئة على شخصيته - إلى أن يتوقف ظهور هذه الأمراض، أو يحل محلها سلوك آخر، أما التدعيم الذاتي فيمكن للشخص أن يستخدمه بعد أن يتكون السلوك المرغوب، ويتم تدعيم الذات بأن يقوم الشخص بإثابة نفسه فورًا عند ظهور السلوك المرغوب، وخير مثال على هذا الطالب الذي يكافئ نفسه بكوب من الشاي، أو فنجان من القهوة، أو الالتقاء بالأصدقاء بعد أن يكون قد نفذ خطة مكنته من قضاء وقت ملائم لإنهاء بحوثه أو دروسه.(/20)
وفي ميدان العلاج النفسي الذاتي أصبحت طرق الإثابة أو التدعيم الذاتي جزءًا رئيسًا من العلاج، يوصي به المعالج في مشكلات سلوكية متعددة؛ كالتدخين، والقلق الجنسي (أي القلق في حضور الجنس الآخر)، والاكتئاب، والوساوس، وتسلط الأفكار غير المنطقية على تفكير الشخص... إلخ.
ولكي يزداد استبصارنا بتطبيق هذا الأسلوب في هذه المجالات الآنفة الذكر، قد يحسن أن نستشهد ببعض الدراسات الملائمة لهذا الغرض. ومن أوائل الدراسات التي أجريت للكشف عن أهمية هذا الأسلوب دراسةٌ تمت سنة 1967 في الولايات المتحدة على يدي "جاتمان" Gutmann و"مارستون" Marston ، وقد استعانا بالطلبة الذين يعانون من مشكلة التدخين، وقالا إنهما اختارا هذه المشكلة بالذات؛ لأن هؤلاء الطلاب كانوا يرغبون في الإقلاع عن التدخين، وحاولوا ذلك من قبل، ولكنهم فشلوا، وقد قسم الباحثان الطلاب إلى مجموعتين:
الأولى أطلقا عليها المجموعة التجريبية، وتتكون من 15 شخصًا، طلب الباحثان من أفرادها أن يدخن كل منهم سيجارتين إذا ما نجح في التوقف عن التدخين لمدة أربع ساعات متتالية (إثابة ذاتية أو مكافأة للذات)، وقد طلب الباحثان من أفراد هذه المجموعة أيضًا أن يسجل كل فرد منهم التناقص اليومي في عدد السجائر التي يدخنها كل منهم في كل يوم من أيام التجربة.
أما المجموعة الثانية، وتسمى بالمجموعة الضابطة فلم يطلب من أفرادها القيام بالإثابة الذاتية (التدخين عقب النجاح في التوقف عن التدخين)، ولكن طلب منهم أيضًا تسجيل التناقص اليومي في التدخين.
وقد بينت هذه الدراسة أنه بالرغم من أن الدراسة قد استغرقت فترة قصيرة، فإن أفراد المجموعة الأولى نجحت في إنقاص السجائر بشكل مطرد، وأقلع ما يقرب من 80 % من أفرادها عن التدخين نهائيًّا ، بينما لم يحدث تغيير يذكر في المجموعة الضابطة[11].(/21)
ويزعم باحثان آخران أن أسلوب المكافأة الذاتية نجح في إيقاف القلق النفسي لدى مجموعة من الطلاب، ممن وصفوا علاقاتهم بالجنس الآخر بأنها مصدر "عنيف" للقلق والتوتر، لدرجة أنهم كانوا يضطربون عندما يتبادلون الحديث مع الزميلات بطريقة تضعهم في كثير من جوانب الحرج والاكتئاب، في هذه الدراسة طلب الباحثان من الطلاب الذين تقدموا لطلب التوجيه والعلاج بأن يحصروا كلَّ المواقف التي تتطلَّب علاقة بالجنس الآخر، على أن تدرج هذه المواقف وفق ما تستثيره من قلق، بحيث يأتي الموقف الذي يستثير درجة قليلة من القلق أولاً، وتتلوه بعد ذلك مواقف القلق الأخرى موقفًا موقفًا، وبناء على هذا طلب الباحثان من الطلاب أن يسجلوا مدى تقدمهم في التخلص من القلق في المواقف المتدرجة موقفًا وراء الآخر، على أن يستخدموا شتى أساليب الإثابة والتدعيم الذاتيين (بما في ذلك مدح النفس) كلما نجح الواحد منهم في تخطي القلق، الذي يثيره موقف التفاعل مع الجنس الآخر، ولم ينجح الطلاب في التخلُّص منَ القلق فحَسْبُ؛ بل تبيَّن أيضًا أنهمُ استطاعوا أن يتخلَّصوا منَ القلق في مواقفَ أخرى لا تتعلق بالجنس الآخر؛ كالخوف من الامتحانات، ومن الرسوب، فضلاً عن ازدياد الثقة بالنفس، وغير ذلك. (المرجع السابق).
وفي تعليق الباحثَيْنِ على ذلك أكدا أنه ليس ضروريًّا للتقليل من آثار القلق في موضوع معين أن تقوم بتغيير الشخصية ككُلّ، كما يزعم علماء التحليل النفسي، كما أن من الممكن التخلص من كثير من المشكلات المماثلة بتدعيم الذات عندما تنجح في تحقيق الأهداف المرسومة.
وقد سجل "ألبرت أليس" الذي عرضنا لنظريته في العلاج المنطقي في الفصل السابق، نجاحًا ملحوظًا في تشجيع مرضاه على استخدام المكافأة، أو الإثابة الذاتية عند النجاح في التخلص من الأفكار والاتجاهات الانهزامية، ويقول في هذا الصدد:(/22)
"لقد نجحتُ شخصيًّا في مساعدة مرضاي في السنوات العشر الأخيرة على التخلص من المعتقدات غير المنطقيَّة، من خلال تشجيعهم على تدعيم أنفسهم بشيء مرغوب (كالطعام، أو الشراب، أو الاتصال الجنسيّ)، بعد أن ينجح الواحد منهم في الدحض المستمر للاعتقادات الخاطئة التي تتملَّكه، وتؤدي للمرض والهزيمة، أو بعقاب أنفسهم بالتعرض لمُنَبِّهٍ غيرِ سارٍّ (كالقيام بالنظافة المنزلية، أو أداء تمرين رياضي مُمِلٍّ، أو المساهمة في نشاط جماعة أو حزب سياسي مخالف لقِيَم الشخص)، وذلك إذا لم يقم الشخص منهم بالعمل على دحض معتقداته المرضية يوميًّا"[12].
وقد يتساءل القارئ: هل من الأفضل أن تأتيَ المكافأة أو الإثابة عند النجاح في تحقيق هدف علاجي معين، من الخارج (الآباء والمعالجون، والمدرسون)، أم من الذات؟ هنا أيضًا تفيد بضع دراسات في تقديم إجابة جيدة عن هذا السؤال: فقد تبيَّن أن التدعيم الذاتي لا يقل فاعلية عن التدعيم البيئي أو الخارجي من حيث التأثير على تأكيد ظهور السلوك التكيفي الجديد، أما إذا راعينا الفاعلية على المدى الطويل، فإن التدعيم الذاتي يتفوق على التدعيم من الخارج من حيث إنه يؤدي إلى آثار علاجية تستمرُّ وقتًا أطول مما لو كان مصدر التدعيم آتيًا من البيئة؛ بل إن كثيرًا من المعالجين يرون أنَّ فاعلية التدعيمات البيئية تتوقف في الحقيقة على قُدرة الشخص على أن يتحول بها إلى تدعيمات داخلية أو ذاتية، عندما يكون التقدم في العلاج مصدرًا لسعادة الشخص وراحته الذاتية، بدلاً من إسعاد أو إرضاء المعالج.(/23)
ويرتبط بالتدعيم الذاتيّ ما يسمى بعقاب الذات، وقد رأينا نموذجًا له في عبارة "أليس" التي سبق ذكرها توًّا؛ فقد رأينا أنه كان يكلف مرضاه بواجبات منزليَّة ثقيلة، عندما يفشل الواحد منهم في تحقيق الهدف المنشود للعلاج، وقد أمكن لأحد المعالجين السلوكيين في إحدى عيادات العلاج النفسي بأمريكا أن يستخدم أسلوب عقاب الذات في علاج عيوب الكلام واللجلجة، وذلك بأن ابتكر جهازًا يصدر أصواتًا منفرة (صفير حادّ ومتَقَطِّع؛ كالذي نسمعه على محطات الإذاعة قبل بدئها) إذا ما قام الشخص بالضغط على زرار معيَّن مثبَّت بالجهاز، وقد تبين أن هذا الأسلوب قد نجح نجاحًا ملحوظًا في علاج اللجلجة، إذا ما قام المريض بتشغيل الجهاز عندما يبدأ في التهتهة أثناء قراءته لموضوع معين بصوت عالٍ، وقد أدى النجاح في استخدام هذا الجهاز إلى تعميمه، بحيث أصبحت أمثال هذه الأجهزة تعطى للمرضى في المستشفيات لاستخدامها وتشغيلها في حالات الهلاوس السَّمعية والبصرية، كما أمكن تطوير أجهزة مماثلة تعطي صدمات كهربائية خفيفة، وكانت التعليمات التي طلب من المريض تنفيذها هي أن يوجه لنفسه صدمة كهربائية حالما يسمع تلك الأصوات، وفي خلال بضعة أيام قرر المريض بأن تلك الهلاوس قد توقفت، فضلاً عن هذا، استطاع المريض الخروج من المستشفى بعد خمسة وثلاثين يومًا بعد أن توقفت تلك الهلاوس التي أدت به إلى الالتحاق بالمستشفى عددًا من المرات[13].
وتقييمنا الخاص للدلائل المتوفرة الآن هو أن توظيف العناصر الذاتية – بما فيها الملاحظة الذاتية ومكافأة الذات أو عقابها في العلاج – قد أحرز قوة واضحة في السيطرة على كثير من الاضطرابات وبقليل من الجهد، وبتجنّب كثير من المشكلات الخلقية التي قد يثيرها العلاج السلوكي بشكل عام.
والأسلوب الآخَر الذي أودُّ أن أناقشه هنا قبل أن نختتم الحديث عن أساليب العلاج الذاتي يتعلَّق بما شرحناه في الفصل السابق، والمتعلِّق بالتعديل المعرفي:(/24)
لقد حاولنا أن نعرض صورة أمينة عن تعديل أساليب التفكير، والاتجاهات غير المنطقية؛ فتبيَّن لنا أنَّ هذا المجال من المجالات الواعدة في العلاج السلوكي، ولأنَّ تعديلَ أساليب التفكير يعتبر بطبيعته أسلوبًا من الأساليب التي تزداد فاعليتها إذا ما حاول الفرد ممارستها بوحي من إرادته الخاصة، فإنَّ تحوير تلك الأساليب لِلاستخدام في ميدان العلاج الذَّاتِيّ كان ميسورًا وحافلاً بكثير من الابتكارات والطرق الخلاقة.
منَ الأفكارِ الأساسيَّة في النظرية المعرفيَّة أنَّ الإنسان يسلك بحَسَبِ ما يفكر، وفي ميدان ممارسة العلاج الذاتي ينصبُّ جزء من دور المعالج على تدريب الأشخاص لتعديل مُحتَوَى أفكارِهم (أي ما يقولونه لأنفسهم) في مواقف الحياة المختلفة، خاصَّة المواقف التي تستثير الاكتئاب، والقلق، والمخاوف، وعدم الثقة.. إلخ؛ ذلك لأنَّنَا نعرف – مِمَّا عَرَضْنَاهُ من قبل – أنَّ كُلَّ تَصَرُّف عصابي؛ كالقلق مثلاً من التعبير عن النفس أمام الآخرين، إنما يتأكد من خلال الأفكار التي يرددها الشخص بداخله، فما يردده الشخص، ومجموع حواراته الداخلية مع النفس، هي التي تستثير شتى المشاعر في شتى المواقف، ولأمر ما تنبه الأدباء والروائيون منذ القدم إلى ما تلعبه الحوارات الداخلية في توجيه الشخصية، إن مسرحيات "شكسبير" على سبيل المثال تمتلئ بأنماط وشخصيات تمارس تلك الأحاديث الداخلية "المونولوجات" عند التعرض للكثير من جوانب النشاط؛ كالعدوان (عند عُطَيْل)، والوشاية (عند إياجو)، والاكتئاب (عند هَامْلِت).
وفي ميدان العلاج الذاتي يطلب من الشخص أن يتبنى محتوى من العبارات الداخلية ذات الطابع التكيفي، قبل تعرُّضه لمصادر القلق والاكتئاب، كأن يستعيض الشخص عن العبارة "إن ما سأقوله تافه ومثير للسخرية" قبل إلقائه لخطاب، أو إعلانه عن رأي أمام مجموعة بعبارة ذات محتوى تكيفي مثل "لا بأس من الكلام، ولا يهم ما سأقوله؛ بل يجب أن أقوله".(/25)
ومن الطرق المرتبطة بأسلوب تعديل المحتوى الفِكري والحوار الداخلي، ما يسمى بالإيقاف المتعمد للأفكار غير المرغوبة، إذ يطلب المعالج من طالب العلاج أن يفكر بطريقة متعمدة في الفكرة التي تسبب له التعاسة والضيق (إنني إنسان غير مفيد، أو إن أهلي يريدون التخلص مني، أو إنني فقدت جاذبيتي وقدرتي على التأثير في الآخرين.. إلخ)، ثم يطلب منه بعد ذلك أن يشير بإصبعه عندما تكون الفكرة قد تبلورت، وفَوْرَ ظهور الإشارة الدالة على تكوُّن الفكرة وتبلورها، يهتف المعالج "توقف الآن عن هذا"، وتُبَيِّنُ الحالات التي استخدمت معها هذه الطريقة أن الفكرة التي تتكون عندما يهتف المعالج "توقَّف" تختفي من الذهن.
أما لماذا تختفي الفكرة أو التصور المرضي عندما يأتي الأمر بالتوقف، فالأمر بسيط وسَبَقَ أن أشرنا إلى المبدأ الذي يفسِّره، ولكن في إطار آخَرَ، لقد سبق أن تحدثنا عما يسمَّى بمبدأ الكف المتبادل، وبيَّنَّا أن الشخص لا يمكن أن يكون قلقًا ومطمئنًا في وقت واحد، أي أنه لا يمكن أن يشعر بشعورين متناقضين في نفس الوقت، ولهذا فنحن نعلمه أن يسترخي عندما يواجهه تهديد نفسي معين، وهذا الاسترخاء يكف قلقه أو تخوفه، الذي اعتاد أن يواجه به مثل هذه التهديدات.(/26)
ونفس الأمر ينطبق هنا على مجالات التفكير، فالشخص لا يمكن أن يفكر في فكرتين في وقت واحد؛ أي فكرته المرضية، وتركيزه على صوت المعالج، وهو يهتف: "توقف"! وبالطبع من الممكن استخدام هذا الأسلوب ذاتيًّا باستبدال أوامر المعالج بأوامر من الذات، وقد سجل "وولبي" نجاحًا عندما طبق هذا الأسلوب على نفسه إثر تعرضه لمشكلة قانونية مع شخص آخر، وبعد أن أمكن تذليلها صباح أحد الأيام، ففي نفس اليوم تملكته بعض الأفكار، وسيطرت عليه بعض الوساوس بأنه عالج المسألة بطريقة خرقاء، لقد أخذت هذه الفكرة تشغل ذهنه، وتستغرق تفكيره طوال اليوم، لهذا حاول في مساء نفس اليوم أن يقوم بعملية علاج ذاتي بأسلوب بلورة الفكرة التي تبعث على الضيق "معالجة المشكلة بطريقة خرقاء"، مع الهتاف العالي "توقفْ". وفي تعليق "وولبي" على ذلك يقول: "بالرغم من أن الأسلوب لم يُثْمِر معي في البداية؛ ربما بسبب سيطرة انفعالي الشديد، وضيقي بالموقف، فإنَّه أمكن لي أن أحقّق نجاحًا كاملاً في اليوم التالي، لقد أزيلت وساوسي وانمحت تمامًا"[14].
تلك إذًا هي بعض الوسائل المستخدمة على نطاق واسع لمساعدة الناس على توجيه ذواتهم، وتعديل جوانب سلوكهم، وأفكارهم واتجاهاتهم، وانفعالاتهم بحيث تمكن السيطرة على كثير من أفعال القلق والخوف، والاكتئاب، وغيرها من اضطرابات، قد استنتجنا – دون شك – آثارها المدمرة على حياة الإنسان، وهناك الكثير من هذه الأساليب؛ ولكنها أكثر تعقيدًا من الناحية التكنيكية بما لا يناسب هذا المجال.
أما وقد أصبحت لدينا الآن بعض الحقائق الرئيسة عن هذا الميدان، فقد بقي تعليق أو تعليقان يتطلبان الإضافة:
فمن ناحية قد تأخذ هذه الأساليب مظهر البساطة والهزل؛ لكن فاعليتها لن تظهر على الإطلاق ما لم تُحْمَل محمَلَ الجِدِّ الخالصِ، والجهد في تنفيذها؛ عندئذ ستتحول بساطتها الظاهرة إلى أمر مستساغ ومفيد.(/27)
ثم إن هناك بعض الجوانب الإيجابية التي صاحبت ظهور أساليب العلاج الذاتي؛ فمن ناحية لا يقتصر استخدام هذه الطرق على حالات المرضى، أو المحجوزين في المستشفيات، أو الذين يذهبون للأطباء النفسيين طلبًا للعلاج من المخاوف المرضية المحددة؛ بل إنها تستخدم بنجاح كبير في مختلف أنواع الاضطرابات، وسوء التكيف، طالما وجد الدافع للتغيير.
وبالنظر إلى تلك الأساليب على أنَّها مظهر من مظاهر التطوُّر في حركة العلاج السلوكي، أصبح من الواضح أنه لن تكون هناك مشكلاتٌ أخلاقيةٌ تثار ضد العلاج السلوكي بنفس الحِدَّة التي كانت تثار بها منذ سبع أو عَشْر سنين؛ فالشخص الذي يمارس هذه الأساليب يأتي طالبًا المشورة شخصيًّا، كما أنه يتصرف وَفْقًا لإرادته الخاصَّة الحُرَّة، إنه يأتي وهو مستعِدٌّ لأن يفعل ما يستطيع لكي يتخلص من تعاسته، وهو عندما يمارس هذه الأساليب يمارسها دون ضغط من المعالج، ودون أن يزج شخص خارجي (ولو كان المعالجَ النفسيَّ) بقيمه واتجاهاته، بطريقة قد تكون مصدرًا للتحوُّطات الخلقية.
وعلى أية حال: فنحن نشعر بالرضا التامِّ إن كنا قد نجحنا في أن نقدم في هذا الكتاب للقارئ ما يكفي أن يطلعه على صورة من الانتصار العلميّ في ميدان كان من العسير – بسبب تاريخ طويل منَ الخرافة أحيانًا، والخداعات شِبْهِ العلمية أحيانًا أخرى – أن يقدم العلم فيه انتصارًا مماثلاً لانتصاراته في الميادين الأخرى، ورغم أن النصر قد يبدو ضئيلاً إذا ما قِيسَ بالمشكلات المثيرة للتحدي، التي تطرحها الحياة بدأب، فإننا نعتقد أن جهد المحاولة، وبعض النتائج المتجمعة، تبشر بأن خطانا قد وضعت في الطريق الصحيح، أجل الطريق الصحيح ليس أكثر!.
---
[1] للاطلاع على نظريات وآراء "كارل روجرز" يمكن الرجوع بين عشرات المؤلفات والكتب إلى الكتابين الآتيين احتويا على أفكاره الرئيسة:(/28)
[2] تمشيًا مع نظريته الإنسانية لا يستخدم "كارل روجرز" كلمة مريض؛ بل يفضل بدلاً منها كلمة عميل client
[3] A. Rogers.C.Counseling and Psychotherapy: newer Concepts in Practice Boston: Houghton. 1942.
B – Rogers. C. Client – Centered therapy: Its current implications. and theory – Boston : Houghton. 1951.
[4] يشير بهذا إلى تأثير البيئة الواحدة على شخصين يختلف باختلاف الطريقة التي يدرك كل منهما بها بيئته وعالمه، بالطريقة التي أشرنا لها في الفصل السابق عن تعديل أساليب التفكير.
[5] Bandura. A. Principles of behavior modification: New York : Holt, 1969 .
[6] الإنسان يضبط سلوك إنسان آخر من خلال خلق شروط ملائمة تساعده على إحكام قبضته؛ مثل العقاب، والترغيب، وخلق احتياجات في الشخص الذي نرغب في التحكم فيه، أو تدعيم استجابات الخضوع.. إلخ.
[7] Skinner. B. F Science and human behavior. New York :Macmilan, 1953.
[8] Cautela J.R Treatment of compulsive behavior by covert sensitization. Psychological Record, 1966 . 16 . 33 – 41.
[9] cautela . J. R Behavior therapy and self – control . inc – franks and co. Wilson) eds. Behavior therapy: Appraisal and status. New York: Mc Graw – Hill . 1969 (pp. 323 , 340)
[10] Hagen . R . Behavioral Therapies and the treatment of schzophrenics Schizophrenia Bulletin 1975 : 13 .pp. 70 – 96.
[11] Gutman . m & Marston . A. Problems of subject's moti – vation in abehavioral Program for the reduction of cigarette smoking . psychological Reports 1967 , 20 , 1107 – 1114
[12] Ellis, A. The essence of rational psychotherapy: A Com – prehensive approach to treatment New York: institute for Rational Living. 1970.(/29)
[13] عن تأثير العقاب والصدمات الكهربائية – الذاتية في علاج الفصام انظر:
Hagen . R. op. cit. 1975
[14] انظر ما في ذلك مرجع ولبي:
Wolpe. J. & Lazarus .A. Behavior therapy techniques, New York: Pergamon, 1966.
كذلك للمزيد عن أساليب الضبط الذاتي وتوظيف العلاج السلوكي في ميدان العلاج الذاتي انظر:
Mahoney . M .J Clinical issues in self – control training – Paper presented at the American psychological Asscitation , Montreal . August . 1973.
Mahoney . M .J Toward an analysis of coverant control Behavior Therapy, 1970 , 1 , 510.
Mahoney . M .J & thoresen C.F Self – control: Power to the Person, Belmont Calif: Brooks/ cole , 1974(/30)
العنوان: علاجات بكاء وآلام الأطفال (1)
رقم المقالة: 1276
صاحب المقالة: غفران يوسف
-----------------------------------------
عزيزتي الأم!
مما يزعجك ويزعج الأب أنه عندما يبكي الطفل لا تعرفين ممَّ يشكو، هذا صحيح، فعندما نجهل مم يشكو الطفل الذي يبكي باستمرار نتألم ونتمنى أن نجد علاجا سريعا يهدّئه ويخفف عنه.
جربي هذه العلاجات الخفيفة والسهلة بحسب بكاء طفلك، أو إن عرفتي مم يشكو ولم يفد الدواء، أو لم يكن الدواء موجودا بجانبك... وأيضا ربما احتاج طفلُك إلى أشياء لا تعرفينها.. ولا شك أن الطبيب أبصرُ بحالة الطفل.. ولكن قد تكون الظروف لا تسمح بزيارة الطبيب..
لا تتجاهلي حين بكاء الطفل، مع أن البكاء مفيد له في أسابيعه الأولى، ولكن المبالغة في البكاء ولمدة طويلة تعني أنه بالتأكيد يحتاج إلى شيء أو يشكو من شيء، فلا تدعيه يبكي كثيرا؛ لأن البكاء الكثير قد يسبب الفتق أو نقص الأكسجين للطفل.
وسأكتب هنا ما يمكن أن يتعرض له الطفل ويبكيه:
أولا وقبل كل شيء يجب أن يتعلم الأب والأم معًا الإسعافات الأولية بكل أنواعها للطفل ولأفراد الأسرة كلها؛ لأن الإصابة لا تنتظر طبيبا أو قراءة كتاب، بل قد تتوسع أو تسبب أخطاراً كبيرة إذا لم يتم معالجتها سريعا، لذلك فإن تعلم الإسعافات الأولية ضرورة إلى حين وصول الإسعاف -وقاكم الله من كل سوء- ويمكن تعلمها من الكتب، أو الدورات المتخصصة في ذلك، أو من مواقع كثيرة في الإنترنت متخصصة في ذلك.
ولكن الموضوع الآن هو عن علاجات متنوعة لبكاء طفلك..
* غالبا ما تعرف الأم لماذا يبكي طفلها، وماذا يحتاج، ولكن الأمهات الحديثات لا يعلمن ما سبب بكاء الطفل أحياناً..
- يكون الصراخ الحاد وانقطاع نفس الطفل قليلا بسبب الألم أو الخوف.
- البكاء القصير والمتباعد هو البكاء للجوع، وخصوصا إذا كان الطفل يمص إصبعه وهو يبكي، ويهدأ عندما تحملينه.
- بكاءٌ خفيف رقيق يحاول الطفل النعسان أن ينام بعدها.(/1)
- قد يبكي الطفل بكاءً عادياً لأنه ينظر إلى أمه أو أبيه ويريد أن يحملوه.
العلاجات:
أول وأفضل علاج هو بالأدعية والآيات الشافية من كل شيء بحول الله وهذه بعض منها:
- أي آية في القرآن فيها طمأنينة للقلب ويهدأ من يسمعها وفيها شفاء؛ لأن القرآن كله شفاء بإذن الله..
- عوّدي نفسك قراءةَ أذكار الصباح والمساء على نفسك وأطفالك كل يوم فهي حارسة للإنسان بإذن الله، أذكار الصباح تحفظنا من المخاطر إلى المساء، وأذكار المساء تحفظنا بإذن الله إلى الصباح.
- آية الكرسي حارسة للإنسان وطاردة للشياطين من المنزل وبذلك تدخل الطمأنينة.
- آخر آيتين من سورة البقرة قبل النوم تكفي من كل شر بإذن الله.
- المعوذتان (الفلق، الناس) وسورة الإخلاص قبل النوم تحفظ من شر الجان وعين الإنسان وهي من أذكار الصباح والمساء أيضاً.
- (لا حول ولا قوة إلا بالله) شفاء من كثير من الأدواء، وهي كنز من كنوز الجنة.
- (بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيءٌ في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم) ثلاث مرات في الصباح وثلاث مرات في المساء حامية من كل ضرر، ومن ذكرها لا يصيبه بلاء..
- (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق) ثلاث مرات في الصباح وثلاثاً في المساء حفظ من السم ومحصنة للأماكن، فقبل الجلوس في أي مكان لم يُجلس فيه من قبل أو مكان قد تأتي عليه حشرات أو فيها خوف يقرأ هذا الحصن يقي من الأذى بإذن الله.
- الأذكار والأدعية على المريض: إما أن تقرأ في ماء ويشرب، أو على زيت زيتون ويدهن به؛ لأنها شجرة مباركة، بتدبر وخشوع وفهم للآية، والدعاء والإيمان بأن قراءتها ستشفي بإذن الله وتنفث على المريض مباشرة ووضع اليد على مكان الألم وتحريك الشفتين في القراءة أو قراءتها بصوت مسموع.
- سورة الفاتحة، فهي مطمئنة للقلب وشافية بإذن الله عند قراءتها.
- دعاء: (اللهم رب الناس أذهب الباس اشفِ أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقما) ثلاث مرات.(/2)
- دعاء: (اللهم أذهب عنه حرها وبردها ووصبها).
- دعاء: (حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم) سبع مرات.
- اقرأي دائما ما كان الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- يقرأ على حفيديه الحسن والحسين (أعيذكما بكلمات الله التامّة من كل شيطانٍ وهامّة ومن كل عينٍ لامّة) ثلاث مرات، فهي واقية من العين والحسد بإذن الله.
- دعاء: (أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك) سبع مرات.
العلاجات المتنوعة:
- الطفل يجب أن يرفع بعد الرضاعة ويربت على ظهره خفيفاً ليتجشأ ويخرج الغاز وإلا سيعاني المغص.. وربما لا يُخرج الطفل الغازات كلها مرة واحدة، فينبغي الربت على ظهره حتى يخرجها مرتين أو ثلاثة..
- الإمساك والمغص يعانيها معظم الأطفال الرضع.. فينبغي فرك البطن حول السرّة بحركة دائرية بزيت الزيتون الدافئ أو بدونه ليذهب الإمساك، ويطرد الغازات.. مع تدفئة بطن الطفل بعد الدهن والفرك.
- أيضا ثني رجل الطفل باتجاه البطن برقّة والضغط خفيفاً على البطن يطرد الغازات للطفل.
- أيضاً ممكن شرب ملعقة زيت الزيتون على الريق للأطفال الكبار (زيت الزيتون يجب أن يكون بكراً معصوراً على البارد وعصرة أولى.. لتؤخذ منه الفائدة).
- ومن المعروف أن اليانسون أو الشمر يذهب المغص وهو مهدئ، فيغلى الماء ثم يضاف إليه اليانسون ولا يغلى ويغطى لمدة ربع ساعة ثم يُسقى الطفل القليل منه.
وبإمكانك وضع القليل جدا من السكر أو سكر الأطفال إليه إذا لم يستسغه طفلك.
- ومما يذهب المغص أيضاً الكمون والنعناع غير المجفف بأن يغلى الكمون قليلا في ماء ثم يسقى الطفل منه ملعقة أو اثنتين، والنعناع أوراقه تترك في ماء مغلي ربع ساعة ويسقى منه الطفل كمية قليلة.
- وهناك وصفة تذهب الإمساك وهي: الماء مع السكر كانت تعطى للطفل أول يومين لعدم توفر حليب الأم.(/3)
- ولا تحاولي إعطاء الأطفال الحبة السوداء أو الحلبة أو أي أعشاب أخرى لأنها ليست معروفة أنها مفيدة للطفل، ولكن من الممكن أن تشربها الأم، ولن تكون لها مضرة للطفل الرضيع.
- اغلي الماء العادي جيداً قبل إضافة الحليب إليه، والماء المعدني لا يغلى أبداً، ولا تعطيه الحليب بارداً أو ساخناً بل دافئاً، ولا تعطيه الحليب بعد مرور أربع ساعات عليه في الرضّاعة...فكل ذلك قد يسبب له المغص.
- أيضا زيت اللوز الحلو الطبيعي ملين للأطفال.
- زيت الزيتون يفيد الطفل المتألم من أي منطقة؛ فقومي بتدفئته ودلكي به المكان بلطف.
- زيت الزيتون بالإضافة إلى أنه من شجرة مباركة فهو يحتوي على فيتامين (د) وَ (أ) وهو ملطف وملين، لذلك من الممكن أن يدهن به جسم الطفل المصاب بالكساح، وأيضا بالإمكان وضع القليل منه في طعام الطفل وقت الفطام لتجنب نقص فيتامين (د) و (أ).
- يُقال: إن بذور الزيتون عند تسخينها ووضعها على الأسنان تشفي الأسنان بحول الله.
- أحيانا يبكي الطفل لأن حليب الأم لا يكفيه.. فإذا بكى الطفل بعد الرضاعة الطبيعية فهذا يعني أنه لم يشبع بعد، فبإمكان الأم أن تشرب الحلبة وهي غنية عن التعريف فهي تدر الحليب وهي تحتوي على الكالسيوم والفيتامينات، وهي من أصل طبيعي وغير مضرة للمرأة، ويمكن أكل ملعقة منها ويُشرب بعدها كوب حليب أو ماء، أو يمكن إضافتها إلى كوب حليب أو ماء وتحريكها جيدا ثم شربها.
- وهذه وصفة لإدرار الحليب ومسمنة: توضع في الماء البارد ملعقتان كبيرتان من بذر الكراوية وتغلى على النار قليلاً ثم تصفى ويشرب كوب منها بعد وجبات الطعام.
- ومن المعروف أن الجزر المحتوي على الألياف مفيد جدا لذلك يمكن أكله طازجا أو مع السلطة يوميا أو عصير الجزر. وكذلك العدس المطبوخ مفيد.(/4)
- الطفل الكثير الحركة والأطفال عموما قد يصابون بكدمات نتيجة الحركة أو البدء بالمشي، فعند وقوع الطفل لا تهلعي أو تصرخي مثلا، فعندها سيخاف الطفل وسيصرخ كلما وقع.. الأفضل أن تضميه عند وقوعه وتهدّئي من روعه، وإذا ظهرت كدمات فضعي عليها قطعة ثلج ملفوفة بمنديل أو ثوب لبعض الوقت كي لا تكبر الكدمة.
- قد نتضايق عندما يلعب الطفل ونطلب منه الهدوء قليلا فيبكي حينها لأننا منعناه اللعب، مع أن اللعب وظيفة للطفل، منها نفهم سلوكه وتظهر مشكلاته، ومن خلال نوع اللعب يظهر ما إن كان لدى الطفل مخاوف أو توترات نفسية، فعلينا أن ندع الطفل يعبر عن مشاعره، ونساعده في ذلك كي لا يكون عنيفا في اللعب أو أن لا يلعب أبدا فهذا أيضا يحدث لديه مشكلة ويجب أن يعبر عنها.. فيظهر فنه في الرسم وألعاب الرمل مثلا واللعب مع العرائس.. أيضا يظهر التعبير من خلال الكتابة..
- أيضا قد يعاني طفلك الرضيع وجعًا في أذنه أو التهابًا، ولتفادي ذلك يجب أن لا تدعيه يرضع من الزجاجة ورأسه مباشرة على الأرض أو على وسادة خفيفة بل ضعي تحت رأسه وسادتين، المهم أن يكون الرأس مرفوعا قليلاً ولكن ليس كثيراً كي لا يتضايق في أثناء الشرب، وأيضاً عند الأكل يأكل جالسا، هكذا عوِّديه من البداية؛ لأن السوائل والمواد المغذية إذا كان نائماً قد تدخل إلى الأذن وتسبب الالتهاب الذي يؤدي إلى وجود البكتيريا في الأذن الوسطى، ويجب علاجها قبل تكاثرها..
أيضا يقال: إن دخان السجائر يسبب التهاب أذن الطفل..
ولجعل الطفلِ الملتهبةِ أذنُه يشعر بالراحة توضع كمادات دافئة على الأذن مع إبقاء رأس الطفل مرفوعاً قدر الإمكان فيخف الألم.. أو توضع وسادة كبيرة أو وسادتان تحت رأس الطفل للأطفال الكبار.(/5)
- أيضاً يعاني كثير من الأطفال وجع اللوزتين، ولتطهيرهما تؤخذ ملعقة عسل وملعقة زيت زيتون وملعقة ليمون؛ تخلط وتؤكل لتطهير اللوزتين، أيضاً غسل الفم واللسان بمنظف اللسان الذي يوجد في الصيدليات وأحيانا يرافق فرشاة الأسنان من الخلف، وإذا لم يوجد منظف اللسان فتنظيف اللسان بقطعة ثوب قطنية ملفوفة حول الإصبع يمكن أن تحافظ على اللوزتين.
- وإذا كان الحلق ملتهباً يغلى الزنجبيل ثم يضاف إليه الحليب للطفل غير الرضيع.
- مغلي البابونج يستعمل كغرغرة لعلاج التهاب اللوزتين.
- لو حصل نزيف للطفل -لا قدر الله- فعصير الليمون والبرتقال يقللان من النزيف.
- إذا كنت تعانين مع طفلك من التبول غير الإرادي فإنه يعطى ملعقة كمون وعسل وملح ثلاث مرات في اليوم..
وجربي أولا أن لا تعطيه السوائل ليلاً إلا الماء، ولكن لا تجعليه يشرب الكثير منه.. ولا تعطيه أكلا في الليل يحتاج من بعده أن يشرب الكثير من الماء خاصة الطعام المالح..
وأعطيه ملعقة عسل قبل النوم ليمتص الماء الزائد في جسمه..
أيضا أيقظيه في الليل بعد ساعتين أو ثلاث من نومه ليذهب للحمام.
- اللدغات من الحشرات لا يتحملها الطفل، وإذا لُدغ طفلك في فمه أو على لسانه فأعطيه مكعبا صغيراً من الثلج ليمصه، وبالإمكان تجنب قرص الناموس أو الحشرات باستخدام مستحضرات توضع على الجسم تطرد الحشرات، واسألي الطبيب قبل ذلك عن المستحضر.. والتطعيم ضد الملاريا أفضل وسيلة ضد المرض في البلد الذي يكثر فيه البعوض.(/6)
العنوان: علاجات بكاء وآلام الأطفال (2)
رقم المقالة: 1333
صاحب المقالة: غفران يوسف
-----------------------------------------
عزيزتي الأم!
كان الحديث في الحلقة الأولى عن بكاء الأطفال وأسبابه، وبعض النصائح الشرعيّة والأذكار الواردة في حفظ الأولاد، وطرق لعلاج الإمكساك والتبول اللاإرادي والكدمات ولدغات الحشرات وغيرها.. وتتمةً للحديث:
ارتفاع درجة الحرارة:
- عند ارتفاع درجة حرارة الطفل، الطريقة المعروفة هي: وضع الكمادات الباردة على جبهته وكامل جسمه، وهي أفضل طريقة لامتصاص الحرارة، وتلاحظين من بعدها عودة نشاط الطفل، ويلزم تكرارها مع أخذ شراب أو تحاميل الحرارة، وحسب عمر الطفل تساعد في الإسراع من عملية الشفاء بإذن الله.
- أيضا القطن يصرف الحرارة، لذلك فالملابس القطنية أفضل له، وكذا شرب الكثير من الماء، ولا تضعيه في غرفة باردة أو حارة بل تكون درجة حرارة الغرفة عادية.
- أيضا مما يخفض حرارة الطفل أن تعطيه شرابًا مخفضًا للحرارة قبل الاستحمام بنصف ساعة ويستحم بماء دافئ. وتلبّس ملابسه في غرفة دافئة بدون تكييف.
الزُّكام والكحّة:
- أكثر شيء يزعج الأطفال والكبار هو الرشح والكحة، لذلك الشراب الساخن والتدفئة مهمان في هذه الحالة، البابونج مفيد جدا للأطفال، واليانسون مهدئ ودافئ لهم، والاثنان يعطيان بكمية قليلة.
- أيضا عصير الجزر مفيد لسعال الأطفال ومن الممكن تحليته، والعسل مع الماء الدافئ- للأطفال بعد عمر سنة- (الأقوال متضاربة حول عدم إعطاء العسل للطفل قبل السنة لأنه خطر له، أو يجوز إعطاؤه الطفل قبل السنة لأنه مفيد للأمعاء ويمنع المغص وهو مبارك في كتاب الله).
- وأيضا لنزلات البرد والسعال عند الأطفال: يغلى الشوفان والخزامى، فهما شرابان يساعدان على القضاء على السعال.(/1)
- وعند غلي البابونج يستنشق الطفل البخار، وهذا فعال جدا ضد الزكام والكحة وأعراضها وضيق التنفس، أو يغلى الماء العادي وتوضع منشفة على الرأس لتغطية البخار واستنشاق بخار الماء لضيق التنفس.
- وعند تناول مغلي البابونج في الصباح يقوي المناعة ويهدئ الأعصاب.
- وبلسم الليمون يستخدم لعلاج الأطفال من الحمى ونزلات البرد.
- عصير البرتقال يخفف من آثار الزكام، ويقال إن أكل البصل يخفف من الزكام.
- مرهم الفكس يدهن على رقبة وصدر الطفل، وفي السن الثالثة يرتاح عليها الطفل كثيراً.
الطّفح الجلدي:
- يشتكي كل الأطفال من الطفح الجلدي سواء في الوجه أو الجسم أو في منطقة الحفاض، لذلك فأهم شي الحرص على أن لا تغسلي الطفح بالصابون العادي بل بصابون طبي جيد؛ لأنه قد يتفاقم ويحمر أكثر ويسبب الحكة الزائدة، ويجب استخدام مرهم لمداواة هذا الطفح في منطقة الحفاض -وهو ما يعاني منه كل رضيع- يمكن أن تضعي الفازلين عند كل تغيير للطفل وقبل النوم تضعين له مرهمًا لعلاج الطفح..
وليس من الضروري غسل المنطقة بالصابون بعد كل تغيير أو مسحه بالمناديل المبللة المعطرة لأنها قد تزيد المشكلة.. يكفي غسله بالماء الجاري، أو مسح المكان بمنديل أو فوطة ناعمة مبللة بالماء فقط... فجلد الطفل رقيق جدا...
أيضا يكون الطفل جافا دائما ولا تدعي الحفاض عليه وقتا طويلا ..
قد يكون الحفاض غير ملائم للطفل؛ إذ من الممكن أن يمنع مرور الهواء إلى جلد الطفل إذا كان صغيرا عليه أو أن يكون مشدودا عليه عند إغلاقه.. وإذا كان الحبل المطاطي الذي عند الساقين يزعج الطفل فاقطعيه..
أكسيد الزنك مرهم يساعد على حماية الجلد من البلل بعد تنظيف المنطقة وتجفيفها.
لا تضعي بودرة التّلك على المنطقة؛ لأنها لن تعالجها، وهو أمر غير مرغوب...
ومن العلاجات أيضا للطفح أو الحساسية في الجلد أو الالتهابات الجلدية مسحوق زهرة البابونج فهو يفيد كثيراً برشه على المنطقة المصابة.(/2)
- زيت اللوز الحلو الطبيعي يعمل كملطف للجلد ومنعم.
ظهور الأسنان عند الطفل:
- تسنين الطفل يزعجه ويتعب الأم، ويكون الطفل دائم الانزعاج بسبب ظهور أسنانه، وتظهر الأسنان عادة من الشهر السادس إلى السنة الثانية من عمره، وقد تتأخر أو تبكر في الظهور فلا تقلقي، وأيضا من الممكن أنه حتى من بعد السنتين يستمر ظهور أسنانه إذا تأخرت.. و(اللهاية) أو (العضاضة) المطاطية الباردة مهمة جدا للطفل في بداية ظهور أسنانه؛ لأنها تجعل الأسنان تخرج متساوية وتخفف من الألم أيضا بحيث يعض عليها الطفل ويخرج الألم.
وخافض الحرارة يخفف الألم أيضا، فبإمكانك إعطاؤه للطفل إذا اشتد عليه الألم... ويرافق التسنين عند بعض الأطفال الإسهال، والحرارة، والإمساك، والقيء، ولكنها كلها ليست بسبب خروج الأسنان، وإنما لأن الطفل بحاجة إلى العض على أي شي يجده أمامه، فيلقط الأشياء من الأرض ويضعها في فمه، وهي تكون ملوثة، لذلك نظفي وعقمي كل ما خصّصتيه للطفل إذا حملها ووضعها في فمه.. كي لا تعالجي مشكلة التسنين فتخرجي بمشكلة أخرى.. اغسليها بالماء جيدا أو عقميها بمحلول ثم اغسليها بالماء كي لا يمص طفلك المحلول.
وبإمكانك علاج الإسهال بما يلي:
- الموز يسبب الإمساك، لذلك يعطى للطفل المصاب بالإسهال.
- يغلى قشر الرمان ويعطى للطفل المصاب بالإسهال أو يسقى من عصير الرمان الطازج.
- اللبن الزبادي مفيد جدا لبطن الطفل فهو يساعد على التخلص من التعفن.. وبإمكانك تحليته ولكن في البداية أعطيه بغير سكر ولا عسل عدة مرات ليتعود طعمها، فإذا لم يحبها فحلّيه لأنه مهم فهو يخلصه من الإسهال.. وعصير التفاح أيضاً.
- من الممكن إعطاء الطفل جزرة باردة ليعض عليها مع مراقبته كي لا يبتلع أجزاء منها
- دلكي لثة الطفل بإصبعك النظيف والمقلم الأظفار أو باستخدام قطعة قماش قطنية نظيفة باردة لتنظيف لثة الطفل من الجراثيم ولتسهيل خروج الأسنان وتقليل الألم عليه.(/3)
- لا تستخدمي جِلْ أو المرهم الذي يوضع على لثة الطفل لتخديرها وتخفيف الألم؛ لأنها ستسبب له المرض المزمن.
- قد يرفض طفلك الطعام من الملعقة لأنها تسبب له الألم، لذلك من الممكن أن تخففي طعامه وتضعيه له في كوب الأطفال وتدعيه يشرب منها أو من (الرضّاعة) كي لا تفسدي نظامه الغذائي
- وأخيرا.. الصبر مع طفلك وتفهّم مشكلته؛ لأنه ينزعج ويتألم كما تنزعجين بل أكثر..
منوّعات:
- الطفل حديث الولادة يبكي أيضا من الحر، فلا تكثري الملابس عليه، وحتى في فصل الشتاء لا تلفيه بلفافة ثقيلة وملابس ثقيلة وتغطيه ببطانية وتشغلي التدفئة، فلا تظني أنه إذا لم يكثر من الحركة فإنه سيبرد كثيرا.. فهو يبرد أكثر منا بقليل، فاختاري إما أن تلبسيه ملابس ثقيلة وتلفيه بلفافة خفيفة وإما أن تغطيه ببطانية ولا تشغلي التدفئة.. ولكن احرصي على تغطية الرجلين والرأس في الشتاء، وتغطية الرأس في الصيف بعد الاستحمام؛ لأن ذلك يقي الطفل من المرض بإذن الله.. أما في الصيف فألبسيه ملابس عادية، وغطيه بغطاء خفيف، وأبعديه عن التكييف المباشر؛ كي لا يبكي من الحر أو البرد.. فينام مرتاحاً.
- بعض الأطفال يستيقظون من النوم ويبكون، فعليك أن تستكشفي السبب بعمل أشياء تريح الطفل وتجعله ينام مرة أخرى:
- مثلا إذا كان الطفل خائفا فضميه إليك واقرئي عليه وحسّسيه بالأمان، واجعليه بين ذراعيك قليلا ليذهب خوفه ثم أرجعيه إلى مكان نومه بهدوء.
- إذا كان الطفل يشعر بالحر فاحملي غطاءً أو وسادة، ثم عليك بتهويته من بعيد كي لا يبرد الطفل فجأة ويمرض.
- من الممكن أن لا يكون قد تجشأ كفاية وبقي بعض الهواء في بطنه مما سبب له المغص فاربتي على ظهره قليلا ليخرج الهواء وينام مرتاحا.(/4)
- بعض الأطفال لا ينامون إلا (باللهاية) أو (المصاصة)، فإذا اضطررتِ إلى استخدامها لأي ظرف فيجب عليك استبدالها إذا طرأ عليها تغيير؛ كوجود رائحة فيها أو تغير لونها أو تقطعها قليلا؛ لأنها ستسبب له الأذى.
- من الممكن أن يكون لف الطفل المشدود جدًا قد أزعجه، لذلك لا تبالغي في لف الطفل في أي وقت؛ لأن ذلك قد يؤثر في نموه الطبيعي.. وخصوصا أنه يقضي معظم وقته في النوم لتنمو خلاياه، فهو مهم للطفل في الأسابيع الأولى خاصة لأنه يشعر أنه في أمان.. ولكن لا يرتاح الطفل حين يكون مشدودا جدا باللفافة.. وخصوصا أننا نرى الطفل كثيرا يريد إخراج يديه من اللفافة فحينها أريحيه قليلا منها وافتحي اللفافة ليتحرك...
- أيضا قد يكون الطفل قد نام ساعات طويلة في النهار ويرفض النوم في وقت مبكر من الليل..
- اعتمدي أسلوبا واحدا ترين أن الطفل يرتاح عليه وينام بسرعة؛ فمثلا: هزيه بين يدك هزا خفيفا إلى أن يغفو، أو قومي (بالطبطبة) عليه بعد قلبه على الجانب الذي يريحه في النوم، أو ضعي وسادة على قدميك وضعي عليه الطفل وهزيه هزا خفيفا في جو هادئ إلى أن يغفو.. مع أن تعليم الطفل أساليب متعددة للنوم قد يريحك أنت عند السفر أو الإقامة في مكان آخر...
- والسبب المعروف لبكاء الطفل بالليل هو الجوع وطلب الحليب.. وبعد إعطائه الحليب اربتي على ظهره كي ينام بعدها مرتاحا..
- تحققي من الحفاض؛ فقد يكون متسخا أو فيه شيء يضايق الطفل.
- قد يكون المكان الذي ينام فيه الطفل به شيء يضايقه، ففتشي المكان أولا قبل نوم الطفل، أو أنه انزعج من قرص حشرة وقت نومه فتحققي من ذلك.
- الطفل الرضيع لا يحب الضجيج ولا يستطيع النوم فيه.. ولا يحب الانتقال من يد إلى أخرى في حال وفود ضيوف كثر إلى المنزل.. لذلك نجده قد يبكي لأنه لا يشعر بالراحة..(/5)
- ربما لا يبكي الطفل لأنه بحاجة إلى الماء -لأنه لا يعطش إلى الشهر السادس- بسبب أن حليب الأم أغلبه ماء، أما إذا كان في فصل الصيف فمن الممكن إعطاء الطفل القليل من الماء العادي بعد غليه أو الماء المعدني الذي لا يجوز غليه.
- قد يبكي طفلك الكبير بسبب الغيرة من الطفل الصغير حديث الولادة؛ لأنه يرى أن اهتمامك به زائد وتفعلين للصغير أشياء لا تفعلينها للكبير، لذلك أخبري الطفل منذ بداية الحمل بأن هناك طفلا قادما، وأنه صغير جدا وسيحبه كثيرا، ورغبيه في رؤية الطفل الجديد بأسلوب حسن.. واحضنيه كثيرًا وساوي بينهما في العاطفة كي لا يسبب لكِ المشاكل مع الطفل الصغير..
- ربما لا يكون بكاء الطفل بسبب شيء معين، أو أنك لا تعرفين سبب بكائه، لذلك تكلمي معه وأضحكيه وابتسمي له، وضعي لعبة في يديه، أو أريه شيئا يضيء ويتحرك فقد ينسى بكاءه.
- حمّميه؛ فالطفل ينام سريعا بعد الحمام..
- إذا كان الطفل ينام لوحده في غرفة؛ فبعد إطفاء النور اجعلي الباب مفتوحا قليلا ليرى طفلك النور وينام بدون خوف.
- اللعب الكثير يسبب التعب، فيريد الطفل بعده النوم، لذلك لو لم يرد طفلك النوم فمن الممكن أن تجعليه يتعب من اللعب لينام.. أو إذا كان الطفل ناعسا ولكنه لا يستطيع النوم فاقرئي له قصة واجعلي النور خافتا في الغرفة كي ينام..
- والصبر مع الطفل مهم للأم والأب وللطفل، فالصراخ لكليهما لن يفيد، فالطفل لم يولد متعلماً أو قادرا على الفهم بسرعة.. ولنتذكر أننا في يوم من الأيام كنا أطفالاً...(/6)
العنوان: علاقة النصارى بالمسلمين
رقم المقالة: 255
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
الحمد لله؛ أنار الطريق للسائرين، وأقام الحجة على العالمين أحمده على ما هدانا، وأشكره على ما أعطانا، فهو خالقنا ورازقنا، وهو ربنا ومعبودنا، لا رب لنا سواه، ولا نعبد إلا إياه مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ وفق للهدى من شاء له السعادة، وضلَّ عن دينه من كتبت عليه الشقاوة (فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون) وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ ختم الله تعالى به النبوة والرسالة، وأوجب على من أدركه من النبيين تصديقه واتباعه (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين) صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين0
أما بعد: فأوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله عز وجل، والثبات على الحق إلى الممات، فتلك وصية آبائكم من النبيين إليكم (ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون)0
أيها الناس: بعث الله تعالى عيسى بن مريم عليهما السلام إلى أمة بني إسرائيل مصدقا لدين موسى عليه السلام، ومبشرا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، فانقسم بنوا إسرائيل حيال دعوته عليه السلام إلى فريقين: فريق آمن به وهم النصارى، وفريق كفر به وهم اليهود (كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة)0(/1)
ثم إن الكفار بدين عيسى عليه السلام أوغلوا صدر الحاكم الروماني عليه، وزعموا أنه ينازعه الملك، فصدر حكم ملك الرومان في فلسطين بقتله عليه السلام، فاختفى هو وأتباعه من جند الرومان، ووشى به أحد أصحابه، ودلهم على مكانه، فألقى الله تعالى شبه عيسى عليه السلام على هذا الواشي فقتل وصلب، ورفع الله تعالى عيسى إليه، واشتد الأذى على أتباعه رضي الله عنهم فطوردوا وعذبوا وسجنوا، وقتل منهم من قتل، وظل الباقون على التوحيد الذي جاءهم به عيسى عليه السلام0ثم إن أحد اليهود الذين بالغوا في تكذيب عيسى عليه السلام، وتلطخت يداه بتعذيب أتباعه زعم أنه رأى عيسى عليه السلام، وأظهر الإيمان به، وتظاهر بندمه على ما فعل بأتباعه، فلما تمكن عند النصارى، وعلا شأنه، أدخل كثيرا من العقائد الوثنية اليونانية واليهودية في النصرانية، ودعا إلى عقيدة الحلول والاتحاد بزعم أن الرب جل جلاله حلَّ في المسيح عليه السلام، ثم قال بالتثليث، وبعبادة الصليب، فحرَّف هذا اليهودي النصرانية عن التوحيد إلى الشرك، وقاوم أفكاره بعض الموحدين من النصارى، لكن بعد ثلاثة قرون تمكنت الوثنية من دين النصارى، التي تولى كبر إحداثها ونشرها اليهودي بولس الذي يسمى في الكتب اليهودية والغربية شاوول0(/2)
ولأن عقيدة التثليث مستمدة من العقائد الوثنية القديمة المبنية على تعدد الآلهة، وهي عقيدة تتعارض مع العقل والفطرة؛ فإن النصارى اختلفوا اختلافا كبيرا فيها، وجمعوا فيها بين نقيضين فقالوا:تثليث في وحدانية أو وحدانية في تثليث، ولا يستطيع نصرانيان أن يتفقا على معنى محدد لهذه العقيدة المتناقضة لا يختلفان فيه0ومن هنا فإن زعم بابا الفاتيكان أن مشيئة الله تعالى في العقيدة الإسلامية منقطعة عن العقل إنما هو في واقع الأمر وصف لعقيدته الباطلة التي يعتنقها، ويضحك هو ورهبانه بها على الشعوب النصرانية التي أضلوها، وإلا فأي عقل في زعمهم بحلول الله تعالى في عيسى عليه السلام، ثم قولهم بنبوته له سبحانه، وهو عز وجل لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، ولم يكن له كفوا أحد، وأي عقل ومنطق في عقيدة تجعل الإله ثلاثة الأب والابن وروح القدس، فمن يعبدون ومن يدعون، وعند الشدائد إلى أي الثلاثة يلجأون، وأي عقل ومنطق في الخلط بين اللاهوت والناسوت، ثم عدم القدرة على الفصل بينهما، بل والعجز عن إفهام أتباعهم مبادئ تلك العقيدة التي تجمع النقائض؛ ولذا فإنه على الرغم مما ينفقه المنصرون من أموال طائلة، وما يبذلونه من جهود جبارة في سبيل إقناع الناس بعقيدتهم فإنهم لا يستطيعون إقناعهم بها، وجلُّ الذين تنصروا إنما فعلوا ذلك جريا خلف منافع مادية، وليس قناعة بدين الضالين من النصارى0
ثم إن النصارى بعد هذا الضلال الذي أدخل في عقيدتهم اختلفوا في مقدار ما في عيسى عليه السلام من الإلهية وما فيه من البشرية، وهو ما يعرف بالخلاف على اللاهوت والناسوت، فانقسم النصارى بسببه إلى طائفتين: الكاثوليك والأرثذوكس، فكان الكاثوليك هم نصارى الغرب وعاصمتهم رومية، وكان الأرثذوكس هم نصارى الشرق وعاصمتهم القسطنطينية0(/3)
ولما أكرم الله تعالى البشرية ببعثة خاتم النبيين محمد بن عبد الله القرشي صلى الله عليه وسلم انقسم النصارى تجاه دعوته إلى طائفتين:فطائفة آمنوا به وصدقوه، وعرفوا أن ما جاءهم به هو الحق من عند الله تعالى، قد بشرت به كتبهم، وعلى رأس هذه الطائفة: صهيبٌ الرومي، وتميمٌ الداري، والنجاشي الحبشي رضي الله تعالى عنهم 0وفيهم وأمثالهم ممن آمنوا بنبيهم ثم آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم لما بعث نزلت آيات كثيرة تمدحهم، وتثني عليهم، وتبين عظيم ثوابهم (وإنَّ من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب) وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(ثلاثة يؤتَوْن أجرهم مرتين ..) وذكر منهم:(ومؤمن أهل الكتاب الذي كان مؤمناً، ثم آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم فله أجران) متفق عليه0(/4)
والطائفة الأخرى من النصارى لم يؤمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم وهم فريقان:فريق خضعوا لسلطان الإسلام قبل القتال، وصالحوا النبي صلى الله عليه وسلم، ودفعوا الجزية، فكانوا من أهل الذمة؛ ومن هذا الفريق: نصارى نجران، ونصارى دومة الجندل . وفريق آخر لم يخضعوا لسلطان الإسلام، وقاتلوا المسلمين، وهؤلاء خرج النبي صلى الله عليه وسلم لقتالهم، وأرسل السرايا إليهم؛ ومن هؤلاء: نصارى مؤتة، ونصارى تبوك، وأول مواجهة قتالية بين المسلمين والنصارى كانت في مؤتة، ثم عزم النبي صلى الله عليه وسلم على مواجهتهم في تبوك لكن الله تعالى لم يقدِّر قتالاً، ثم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم سارت الجيوش الإسلامية في عهد الخلفاء الراشدين ومن بعدهم، ففتحت كثيرا من بلاد النصارى، وأخضعتها لسلطان الإسلام، ورفعت عن أهلها عسف الرهبان، وتسلط القياصرة، واعترف كثير من المؤرخين النصارى بأن المسلمين كانوا أرحم بهم من ساستهم ورهبانهم، وأن أكثر الشعوب النصرانية إنما دخلت في الإسلام طواعية لما رأوه من عدل المسلمين معهم، ورحمتهم بهم يقول المؤرخ النصراني جوستاف لبون: وما كانت انتصارات العرب لتعمي أبصارهم لأول أمرهم، وتحملهم على الإفراط المألوف عند الفاتحين في العادة، ولا اشتدوا في إرهاق المغلوبين على أمرهم، ولا فرضوا عليهم بالقوة دينهم الجديد الذي كانوا يريدون بثه في أقطار العالم، ولو عملوا ذلك لأهاجوا عليهم جميع الشعوب التي لم تخضع لهم، فاتقوا حق التقاة هذه التهلكة التي لم ينج منها الصليبيون الذين دخلوا الشام في القرون اللاحقة، بل رأيناهم حيث دخلوا في الشام ومصر وأسبانيا يعاملون الشعوب بمنتهى الرفق تاركين لهم أنظمتهم وأوضاعهم ومعتقداتهم، غير ضاربين عليهم في مقابل السلام الذي ضمنوه هم إلا جزية ضئيلة كانت على الأغلب أقل من الضرائب التي كان عليهم أداؤها من قبل، وما عرفت الشعوب فاتحاً بلغ هذا القدر من المسامحة، ولا ديناً حوى(/5)
في مطاويه هذه الرقة واللطف0
ومن هنا نعرف أن وصف البابا الضال للإسلام بالدموية، وبأنه إنما انتشر بحد السيف، هو من الكذب المكشوف الذي يحاول فيه أئمة النصارى المحرفة صرف الناس عن الدخول في الإسلام، وتلك الأوصاف التي أطلقها إنما هي أوصاف دينه المحرف، وأوصاف حملته الذين يضلون الناس عن الحق إلى الباطل0
إن الأمة الكاثوليكية التي يتزعم دينها المحرف باباهم المنحرف هي أسوأ أمم النصارى، وأكثرهم دموية في التاريخ، بل لا يبالغ من يقول: لم يمر على البشرية أمة سفكت من الدماء، ومزقت من الأشلاء أكثر من الكاثوليك، ورغم فداحة ما عمله التتار الهمجيون بالمسلمين إبان إسقاطهم للخلافة العباسية فإن ما فعله الكاثوليك بالمسلمين في الحروب الصليبية وفي إسقاط الأندلس كان أشد وأنكى مما فعله المغول في بغداد، ولست أعلم أمة عانى المسلمون منها الويلات طوال تاريخهم كما عانوا من اليهود والكاثوليك0
وفي أخريات شهر شعبان من عام اثنين وتسعين وأربع مئة للهجرة دخلت جحافل الصليبين بيت المقدس في الحملة الصليبية الأولى ففعلوا بالمسلمين ما لا يحيط به الوصف، وأنقل لكم شهادة مؤرخين صليبيين حضرا تلك النازلة، وسجلا ما شاهدا بكل فخر واعتزاز، يقول المؤرخ الصليبي فوشيه الشارتري:(ولو أنك كنت موجودا هناك لغاصت قدماك حتى العقبين في دماء المذبوحين، ترى ماذا أقول ؟ لم نترك منهم أحدا على قيد الحياة، ولم ينج حتى النساء والأطفال 00ثم ذكر أنهم كانوا يبقرون بطون المسلمين بحثا عن ذهب فيها، وأنهم جمعوا في أزقة بيت المقدس أكواما من جثث المسلمين وأحرقوها)(/6)
وذكر المؤرخ الصليبي ريمون الأجويلري بأن جنودهم كانوا يعذبون المسلمين ثم يقذفونهم في النار وهم أحياء، يقول: وكانت أكوام الرؤوس والأيدي والأرجل تسترعي النظر في شوارع المدينة، وكان المرء يشق طريقه بصعوبة بين جثث الرجال والخيول، ولكن هذه كانت أمورا صغيرة إذا قورنت بما جرى في معبد سليمان، ترى ما الذي حدث هناك ؟ إذا ذكرت الحقيقة فإنها ستتعدى قدرتكم على التصديق؛ ولذا يكفي أن أقول: إنه في معبد سليمان كان الرجال يخوضون في الدماء حتى ركبهم وحزام ركابهم0
وذكر المؤرخ الغربي ديورانت أن النساء كن يقتلن طعنا بالسيوف والحراب، والأطفالَ الرضع يختطفون بأرجلهم من أثداء أمهاتهم، ويُقذف بهم من فوق الأسوار، أو تهشم رؤوسهم بدقها بالعمد0(/7)
وفي مقابل هذه الصورة الدموية التي رسمها الكاثوليك فإن صلاح الدين رحمه الله تعالى لما افتتح بيت المقدس عفا عن الصليبيين، وسمح لهم أن يخرجوا منها بأولادهم ونسائهم وأموالهم آمنين لا يمسهم أحد بسوء، فهل كانت الدموية والعنف في دين الإسلام كما يزعم البابا وأتباعه، أم هي في دين الكاثوليك المشركين، ولست أعلم أن المرجعية الكاثوليكية في هذا الزمن وهي الفاتيكان قد اعتذرت للمسلمين عما فعله أجدادهم بأهل بيت المقدس في الحملة الصليبية الأولى، بل إن بابا الفتيكان الهالك يوحنا بولس الثاني لما زار الشام قبل سنوات قلائل عزَّ عليه أن يعتذر لأهلها ما فعله أجداده بأجدادهم، مما يدل على أن المتأخرين منهم يحملون ذات العقلية الدموية التي حملها أجدادهم من قبل، ولو استطاعوا لأبادوا المسلمين عن بكرة أبيهم، وتلك حقيقة مقررة في كتاب الله تعالى في مواضع كثيرة (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم) (ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم) (ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون) (اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون)0
حمى الله تعالى المسلمين من شرهم وكفرهم، وأدار دوائر السوء عليهم إنه سميع مجيب، أقول ما تسمعون000
الخطبة الثانية
الحمد الله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، ولا أمن إلا للمؤمنين، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله النبي الأمين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين0
أما بعد: فاتقوا الله - عباد الله - وراقبوه، والزموا طاعته ولا تعصوه (ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون)0(/8)
أيها المسلمون: الحملة الفكرية التي يشنها أئمة الباطل على أهل الإسلام ليست مستنكرة، وهذا دأبهم من قديم الزمان، وهي حملة في هذا العصر تصاحب الحملات السياسية والعسكرية الرامية إلى احتلال بلدان المسلمين وتقسيمها، ونهب ثرواتها، وإشغال المسلمين في أنفسهم عن نشر دينهم0
كما تصاحبها حملات الإفساد المنظم في وسائل الإعلام المختلفة التي يتولى كبرها، ويحمل وزرها المنافقون والشهوانيون في فضائياتهم وإذاعاتهم، وصحفهم ومجلاتهم، وأكثرهم يقوم بنفس الدور الذي يقوم به اليهود والنصارى ضد الإسلام والمسلمين0
أيها الإخوة: إنْ كان كبير النصارى قد اعتدى على النبي صلى الله عليه وسلم بما قال عليه من الله تعالى ما يستحق فإن جمعا من أبناء المسلمين يعتدون على دين النبي صلى الله عليه وسلم، ويسخرون بشريعته، ويهزأون بشعائرها، ويدعون الناس إلى نبذها وتركها0
وفي كل سنة يخصصون رمضان الكريم بجملة جديدة من مشاهد السخرية بشعائر دين النبي صلى الله عليه وسلم كإكرام اللحى، وتقصير الثياب، وسنة السواك، وحجاب المرأة، وتحريم الخلوة بها أو سفرها بلا محرم، كما يسخرون بشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في مشاهد هزلية يفطر عليها الصائمون، بل ويسخرون من عادات الناس وتقاليدهم، وألسنتهم ولهجاتهم، ويصورونهم في صور الدراويش والمغفلين، ويزعمون هم ومن وراءهم أنهم ينتهجون النقد البناء الذي يكون سببا للإصلاح، وأن عملهم هو خدمة للوطنية التي يتشدقون بها، ثم مع زعمهم هذا ما رأيناهم ينتقدون المفسدين من أصحاب الفرق الضالة، في عقائدهم الفاسدة، وشعائرهم الباطلة التي يتقزز منها الأسوياء من بني البشر، ولا رأيناهم ينقدون مشاريع المنحرفين من أهل التوجهات المشبوهة، الذين يتربصون الدوائر بالبلاد والعباد، وينشرون الفساد، ويكيدون للمسلمين أعظم الكيد!!(/9)
ومن عجيب أمر الناس أنهم يغضبون إذا انتهك علج كافر دينهم، أو سخر بنبيهم، ولكنهم يرضون ذلك من أبناء جلدتهم، فما الفرق بين الأمرين، إلا أن المنافق والمنحرف أشد خطرا من الكافر الذي قد عُرِف حقده، واتقي خطره0
إن حضور المجالس التي يسخر فيها بشيء من دين الله تعالى هو مشاركة ممن حضرها في تلك السخرية، ولو كانت السخرية بشعيرة واحدة، أو بحكم شرعي قد لا يهتم به بعض الناس، ولا شك أن من يشاهد مثل تلك المشاهد عبر الشاشات متفكها بها، غير منكر لها؛ فإنه مشارك لأهل السخرية في سخريتهم بدين الله تعالى، كيف وقد أمرنا الله تعالى بمجانبة مثل تلك المجالس المشؤمة التي يسخر فيها بدين الله تعالى (وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين) فسماهم الله تعالى ظالمين، ونهى عن القعود معهم، وأمر بالإعراض عنهم؛ مما يوجب على المسلم الإعراض عن تلك الشاشات التي تبث مشاهد السخرية بشيء من شعائر الإسلام0(/10)
بل إن الله تعالى حكم في الآية الأخرى على أن من شهدها فهو مثل المستهزئ بآيات الله تعالى (وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا) يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: أي إنكم إذا ارتكبتم النهي بعد وصوله إليكم ورضيتم بالجلوس معهم في المكان الذي يكفر فيه بآيات الله ويستهزأ وينتقص بها، وأقررتموهم على ذلك فقد شاركتموهم في الذي هم فيه0وأي إقرار أعظم من التفكه والضحك أثناء السخرية بشيء من شعائر الإسلام، بل حتى السخرية بالناس لا يحل لمسلم أن يحضر مجالسها إلا على وجه الإنكار، وما كانت السخرية في يوم من الأيام سبيلا للإصلاح، ولا عرف عقلاء البشر ذلك لا في القديم ولا في الحديث، ولكنه عمى البصائر، واستحكام الأهواء، واستعلان الفساد والنفاق0
وليس من شكر الله تعالى على نعمة إدراك رمضان قضاء أوقاته في تلك المشاهد الهازلة، وليس من الفرح برمضان الفرح بها، ومن فعل ذلك فهو يفرح بالمعصية في رمضان، نعوذ بالله تعالى من الخذلان، ونسأله تعالى أن يكف السفهاء والمنافقين عن غيهم، وأن يبطل سعيهم، ويرد عليهم كيدهم كما نسأله تعالى أن يبلغنا هذا الشهر العظيم، وأن يعيننا على صيامه وقيامه، وان يقبل منا ومن المسلمين، إنه سميع قريب0
وصلوا وسلموا000(/11)
العنوان: عَلِّمُونِي (شعر)
رقم المقالة: 1601
صاحب المقالة: أغيد الطباع
-----------------------------------------
عَلِّمُونِي
عَلِّمُونِي كَيْفَ أَحْيَى* عَلِّمُونِي أَنْ أَمُوتْ
عَلِّمُونِي كَيْفَ يَغْدُو الْ مَوْتُ عُنْوَانَ الْخُلُودْ؟
كَيْفَ يَمْضِي النَّسْرُ لِلْعَلْيَاءِ لا يَخْشَى السُّقُوطْ؟
كَيْفَ يَحْيَى* الْحُرُّ فِي سِجْنٍ وَفِي السِّجْنِ يَجُودْ؟
عَلِّمُونِي لَسْتُ أَدْرِي عَلِّمُونِي كَيْ أَعُودْ
كَيْ أَرَى الإِسْلامَ حُرًّا بَعْدَ مَا فَكَّ الْقُيُودْ
يَا نُجُومًا قَدْ أَنَارَتْ فَانْتَشَى مِنْهَا الْوُجُودْ
لَيْتَ شِعْرِي كَيْفَ أَحْيَى* دُونَمَا نَجْمٍ يَقُودْ
كَيْفَ أَمْضِي فِي سَبِيلِي دُونَ عِلْمٍ بِالصُّعُودْ؟
أَمْ أَعِيشُ الْعُمْرَ لَهْوًا كَجِرَاءٍ أَوْ قُرُودْ؟
عَلِّمُونِي لَسْتُ أَدْرِي عَلِّمُونِي كَيْ أَعُودْ
كَيْ أَرَى الإِسْلامَ حُرًّا بَعْدَ مَا فَكَّ الْقُيُودْ
كَيْفَ أَلْقَى اللهَ رَبِّي وَبِنَفْسِي لَمْ أَجُودْ؟
كَيْفَ أَلْقَاهُ وَتُرْبِي بَاتَ مِلْكًا لِلْيَهُودْ؟
يَوْمَ يَسْأَلْنِي إِلَهِي بَيْنَ جَمْعٍ وَحُشُودْ
لِمْ رَضِيتَ الذُّلَّ عَبْدِي؟ لِمْ جَلَسْتَ وَلَمْ تَزُودْ؟
عَلِّمُونِي لَسْتُ أَدْرِي عَلِّمُونِي كَيْ أَعُودْ
كَيْ أَرَى الإِسْلامَ حُرًّا بَعْدَ مَا فَكَّ الْقُيُودْ
قَدْ عَزَمْتُ الْيَوْمَ أَنِّي سَوْفَ أَمْضِي لَنْ أَعُودْ
وَرَفَعْتُ الْيَوْمَ إِنِّي رَايَةٌ تَأْبَى الْوُعُودْ
فِي ثَنَايَاهَا تَرَاءَتْ حِمَمٌ حَرَّى تَجُودْ
تعليق "حضارة الكلمة":
الأخ أغيد الطباع.. حياكم الله بين مبدعي "الألوكة.. الرسالة"،
تبادر إلى ذهني - بعد قراءة البيت الأول - قولُ البردّوني:
لِكَيْ نَعِي أَنَّنَا نَحْيَا: نَمُوتُ! كَمَا تَفْنَى الأَهِلَّةُ كَيْ تَنْسَابَ أَقْمَارَا!
هنا، أحببتَ أن تتناول المألوف بشكل مغاير إلى حدٍّ ما..(/1)
ولكنَّ المباشرة امتزجَتْ بِالرُّموز الخاصَّة والعامَّة؛ فأدَّى ذلك إلى بعض الاضطراب في النصِّ، ولدى المتلقِّي؛ ومن المعروف أن القصيدة لابُدَّ لها من أن تسير على خط موحَّد ثابت؛ حتى لا يتذبذب القارئ، الذي نكتب من أجله.
مثال على ما ذُكِر:
لَيْتَ شِعْرِي كَيْفَ أَحْيَى دُونَمَا نَجْمٍ يَقُودْ
[لاحظ: أحيا؛ وليست أحيى].. تخييل وترميز جميل، تلتْهُ مباشرة واضحة في الأسلوب، مثلاً:
أَمْ أَعِيشُ الْعُمْرَ لَهْوًا كَجِرَاءٍ أَوْ قُرُودْ؟
كَيْ أَرَى الإِسْلامَ حُرًّا بَعْدَ مَا فَكَّ الْقُيُودْ
السؤال الإيجابي "عَلِّمُونِي".. والإصرار، وإخلاص النية، والعزم على المضيِّ في سبيل الله؛ هي محور النصّ.
وكما قال الغزالي: "الحياة في سبيل الله؛ كالموت في سبيل الله!".
مرحبًا بِشُعراء دمشق في كوكبة شعراء الألوكة.
ونطمح إلى المزيد من محاولاتكم وإبداعكم.. بالتوفيق.
أَحْيَى* الصحيح أحيا
يَحْيَى* الصحيح يحيا
أَحْيَى* الصحيح أحيا(/2)
العنوان: (على السَّفُّود) لشيخ أدباء العربية الرافعي
رقم المقالة: 442
صاحب المقالة: أيمن بن أحمد ذوالغنى
-----------------------------------------
غلاف الطبعة الدمشقية
لم يكن الرافعيُّ شهابًا لاحَ في سماء الأدب لم يلبَث أن مضى وتَلاشى، بل كان كوكبًا مُتلألئًا مُضيئًا، لم يبرَح كبدَ السماء، ولم تَزده الأيامُ إلا ألَقًا وبَريقًا.
ولا غَرْوَ فقد تملَّك الرافعيُّ ناصيةَ البيان، وتربَّع على عَرش الأدب، وأُوتيَ من جمال التعبير وحُسن الديباجَة ما يأخُذُ بعقول قارئيه، صادرًا في ذلك كلِّه عن ثقافة إسلاميَّة أصيلَة، ومعرفة لغويَّة عميقة، وإحاطة بالتُّراث العربيِّ واستظهار له، مع نظرة فلسفيَّة متأمِّلة، وزاد معرفيٍّ جبَّار، حتى لتَخالُه قد قُدَّ عودُه من العربيَّة بعبقريتها وروعَتها وجَلالها، ولقد صدقَت فيه نُبوءَةُ الزعيم المصري الكبير مُصطفى كامل، فيما كتب إليه مقرِّظًا ديوانه: «سيأتي يومٌ إذا ذُكرَ فيه الرافعيُّ قال الناسُ: هو الحكمةُ العاليةُ مَصوغَةً في أجملِ قالَبٍ من البيان».
تقلَّب الرافعيُّ في عصرٍ فيه كلُّ ألوان الطَّيف، تراه زاهرًا في جوانبَ منه، مُضطَربًا مُتقَلقلاً في جوانبَ أخرى، ومن مظاهر ذلك الاضطراب: كثرةُ الصراعات الفكريَّة والأدبيَّة، وهو مظهَرٌ فيه ما لهُ وفيه ما عليه، ولعلَّ من أهمِّ ما يُحسَبُ له ما تمخَّضَت عنه تلكَ المعاركُ من نتاج فكريٍّ وثقافيٍّ وأدبيٍّ، أغنى الحياةَ الثقافيَّةَ في مصرَ والعالم العربيِّ، وما زالت آثارُه بيِّنةً جليَّةً في ثقافة أُدَبائنا وفكر مفكِّرينا في أيامنا هذه.
وقد عاشَ الرافعيُّ عصرَه كما هو، راكبًا فيه الصَّعبَ والذَّلول، لابسًا لكلِّ موقفٍ لَبوسَه، فارسًا من فُرسان المَيدان غيرَ مُدافَع.(/1)
ومن أشهر معاركه الأدبيَّة وصراعاته الفكريَّة التي حَميَ فيها الوَطيسُ واشتَدَّ الأُوار، ما كان بينه وبينَ الأديب الكبير الأستاذ عباس محمود العقَّاد، فقد كتب الرافعيُّ في نقده مجموعةَ مقالات دامغة بعنوان: «على السَّفُّود»، أصلاه بها نارًا حامية، نائيًا فيها عن حُدود النقد الأدبيِّ، إلى التشهير والسُّخرية، وما لا يَليق[1].
بَدْءُ الخلاف بينَ الرافعيِّ والعقَّاد:
ذهب صفيُّ الرافعيِّ الأستاذُ الأديبُ محمد سعيد العُريان في كتابه «حياة الرافعي»[2] إلى أن ابتداءَ الخصام بينَ الرافعيِّ والعقَّاد كان بسبب كتاب الرافعيِّ «إعجاز القرآن والبلاغة النبوية» الذي صَدرت طبعتُه الأولى سنة 1912م[3]، ثم أمر الملك فؤاد بطبعه على نفقَته تقديرًا للكتاب ولصاحبه، وقد صدرت هذه الطبعة الملكيَّة سنة 1928م.
ويُضيف العُريان أنه لم يكن بينَ الرجُلَين قبل صدور الطبعة الملكيَّة من الكتاب إلا الصفاءُ والوُدُّ.
ولاقى «إعجاز القرآن» قَبولاً كبيرًا من الأدباء والنقاد، ونالَ به الرافعيُّ مكانةً ساميةً بينهم، حتى كَتبَ في تقريظه والثناء عليه زعيمُ مصرَ سعد زُغْلول كلمتَه الذائعةَ السيَّارة: «وأيَّدَ [كتابُ الرافعيِّ] بلاغةَ القُرآن وإعجازَه بأدلَّة مُشتقَّة من أسرارها، في بَيانٍ يَستمدُّ من رُوحها، بَيانٍ كأنه تنزيلٌ من التنزيل، أو قَبَسٌ من نُور الذِّكر الحكيم».
ويلتقي الرافعيُّ العقَّادَ في مقَرِّ مجلَّة المقتطَف، سنة 1929م، ويسألُه عن رأيه في كتابه، فيَفْجَؤُه العقَّادُ برأيٍ شديد، فيه قسوةٌ وغلظَةٌ، يسفِّه فيه كتابَه، ويتعَدَّى إلى الخَوض في حُرمة القرآن، يطعُن في إعجازه، ويُزْري ببيانه[4]، ولم يكتَفِ بذلك - على قُبحه وسُوئه - حتى اتَّهَم الرافعيَّ بتزوير تقريظ سعد زُغْلول - آنف الذِّكر - ونَحْله إياه؛ دعايةً للكتاب وترويجًا له.(/2)
غضبَ الرافعيُّ من افتراءات العقَّاد أشدَّ الغضَب، وحَنِقَ عليه كلَّ الحَنَق، وكتَمَ نفسَه على مثل البُركان يوشِكُ أن يَثور.
وما ذهبَ إليه العُريان من أن هذا اللقاءَ كان أوَّلَ الصراع بين الأديبَين فيه نظرٌ، فقد تقدَّم من العقَّاد نقدٌ للرافعيِّ فيه شدَّةٌ وسُخريةٌ وتَجَنٍّ[5].
ففي سنة 1914م كتبَ العقَّاد مقالةً نشرها في صحيفة المؤَيَّد بعنوان: (فائدةٌ من أُفْكوهَة) عقَّبَ فيها على قول للرافعيِّ في الجزء الأوَّل من كتابه «تاريخ آداب العرب»، وختمَ مقالتَه بقوله: «فإن شاءَ عَدَدْنا كتابَه كتابَ أدبٍ، ولكنَّا لا نَعدُّه كتابًا في تاريخ الأدب؛ لأن البحثَ في هذا الفنِّ متطَلِّبٌ من المنطِق والزَّكانَة ومعرفة النُّطق الباطنيِّ ما يتطَلَّبُه الرافعيُّ من نفسه ولا يَجدُه في استعداده».
وفي سنة 1920م نشرَ الرافعيُّ نقدًا لنشيد أمير الشُّعراء أحمد شوقي الذي مَطلَعُه:
بَني مِصْرٍ مكانُكُمُ تَهَيَّا فهيَّا مَهِّدوا للمُلْكِ هيَّا
فتصدَّى له العقَّادُ سنة 1921م بمقالةٍ نشرها في الجزء الثاني من «الديوان في الأدب والنقد» بعنوان: (ما هذا يا أبا عمرو؟!)، اتَّهَمَه فيها بسرقةِ ما كتبَه في الجزء الأول من «الديوان» في نقد نشيد شوقي آنف الذِّكر، وقد اتَّسمَت مقالةُ العقَّاد بالشدَّة والقَسوة، والسُّخرية اللاَّذعة، والهُجوم العَنيف على شخص الرافعيِّ.
وإذن لم يكُن ما جَرى بين الأديبَين الكبيرَين في لقاء دار المقتطَف أوَّلَ الخصومة بينهما.
غلاف الطبعة الملكيَّة من كتاب الرافعي (إعجاز القرآن)
العَفيفي (على السَّفُّود):
السَّفُّودُ في اللغة: هو الحديدَةُ يُشْوى بها اللَّحمُ، ويُسمِّيها العامَّةُ: (السِّيخ). ويُجمَع السَّفُّود على سَفافيد، ومن تَناوَلَه السَّفُّودُ يقال فيه: مُسَفَّد؛ لأن تَسْفيدَ اللحمِ نَظْمُه في تلك الحَديدَة للاشْتِواء.(/3)
ولم يكُن العقَّادُ أولَ من سفَّدَه الرافعيُّ، بل سفَّدَ قبله الشاعرَ عبد الله عَفيفي الذي كان يطمَحُ أن يكونَ شاعرَ الملك فؤاد بدلاً من الرافعيِّ[6]، ونظَمَ في مدح الملك عددًا من القَصائد، وكان الرافعيُّ يراه لا يَرقى أن يكونَ ندًّا له، بَلْهَ أن يحتلَّ مكانَه، فوَجَدَ عليه مَوجِدَةً عظيمة، وانقَضَّ عليه بثلاث مقالات عَنيفة نشرها بمجلَّة العُصور لصاحبها إسماعيل مَظهَر، وجعلَ عنوانَ مقالاته: (على السَّفُّود)، وَصَمَ فيها عبد الله عَفيفي بالغَفلَة وضعف الرَّأي وقلَّة المعرفة وفساد الذَّوق، وقد اختارَ لمقالاته ذاك العُنوان؛ إشارةً إلى ما تضمَّنتهُ من نقد مؤلم لاذع، أشبه بنار متأجِّجة لا تذَرُ من شيء أتت عليه إلا جَعَلتهُ كالرَّميم.
ولكنَّ الرافعيَّ لم يكن موفَّقًا حين اختارَ - في مقالاته الثلاث - نقدَ ثلاثِ قصائدَ لخصمه في مَديح الملك؛ فقد جرَّ ذلك عليه غَضَبَ القصر الملكيِّ، ومن ثَمَّ قُطعت حبالُ الودِّ بينه وبين القصر، ليفوزَ العَفيفيُّ بمكانه شاعرًا للملك[7].
العقَّاد (على السَّفُّود):
عرضَ الأستاذُ إسماعيل مَظهَر على الرافعيِّ أن يكتبَ في نقد شعراءَ آخرين، فلاقى ذلك في نفسه هوًى، وأسرع إلى ذاكرته لقاؤُه بالعقَّاد في دار المقتطَف، ولم يكن ناسيًا مقالتَيه: (فائدةٌ من أُفكوهة)، و(ما هذا يا أبا عمرو؟!)، فألفاها فرصةً سانحةً للانتقام من العقَّاد، وللثأر لكرامته، فافترسَهُ بسبع مقالات طاحنَة، نشرها تباعًا في مجلَّة العُصور، مُغْفَلَةَ النسبة، وجعلَ عنوانَها أيضًا: (على السَّفُّود)، نقد فيها ديوانَ العقَّاد، وحشدَ فيها من مُرِّ الهجاء، وقَوارص القَول، وصُنوف الذمِّ والقَدْح المُقْزِع، ما يمكن أن يُستخرَجَ منه معجمٌ لألفاظ الثَّلب والشَّتم.
وإليكم عناوينَ السَّفافيد السَّبعة، مع ذكر تواريخ نشرها:
السفود الأول: عباس محمود العقَّاد، نشر في عدد شهر تموز (يوليو)، 1929م.(/4)
السفود الثاني: عَضَلات من شَراميط، نشر في عدد شهر آب (أغسطس)، 1929م.
السفود الثالث: جبَّار الذِّهْن المُضْحك، نشر في عدد شهر أيلول (سبتمبر)، 1929م.
السفود الرابع: مِفتاحُ نفسِه وقُفْلُ نفسِه، نشر في عدد شهر تشرين الأول (أكتوبر)، 1929م.
السفود الخامس: العقَّادُ اللصُّ، نشر في عدد شهر تشرين الثاني (نوفمبر)، 1929م.
السفود السادس: الفَيلَسوف، نشر في عدد شهر كانون الأول (ديسمبر)، 1929م.
السفود السابع: ذُبابةٌ لكنْ من طِراز زِبْلِن، نشر في عدد شهر كانون الثاني (يناير)، 1930م.
وقدَّم الرافعيُّ بين يدَي كلِّ سفُّود من تلك السَّفافيد بيتَين من الشعر، ناطقَين بما تضمَّنته تلك المقالات من نقد فاتك مُحرق، يقول فيهما:
وللسَّفُّودِ نارٌ لو تلَقَّتْ بجاحِمِها حَديدًا ظُنَّ شَحْما
ويَشْوي الصَّخرَ يترُكُه رَمادًا فكيفَ وقد رميتُكَ فيه لَحْما؟!
غلاف ديوان العقّاد الذي انتقده الرافعيُّ بمقالات (على السفود)
الدَّافعُ إلى مَقالات (السَّفُّود):
يصرِّحُ الرافعيُّ بأن الدافعَ لكتابته هذه المقالات هو الغَيرةُ على القُرآن الكريم وإعجازه الذي أنكره العقَّاد، يقول: هذا أسلوبٌ من الردِّ قصَدتُ به الكشفَ عن زَيْف هذا الأديب والزِّرايَة بأدبه، حتى إذا تقرَّرَت منزلتُه الحقيقيَّةُ في الأدب عندَ قرَّاء العربيَّة، لا تراهم يستمعونَ لرأيه عندما يَهُمُّ بالحديث عن إعجاز القُرآن، وهل يُحسِنُ الحديثَ عن إعجاز القُرآن من لا يستقيمُ منطقُ العربيَّة في فكره، ولا يستقيمُ بيانُها على لسانه[8]؟!
ويشكِّكُ العُريان في أن تكونَ مقالاتُ السفود غَضبةً خالصةً لله وللقُرآن؛ لأن هذه المقالات خَلَت من أيِّ ذكر لقضيَّة إعجاز القُرآن، وليس فيها إلا نقدٌ ونقضٌ لديوان العقَّاد!(/5)
أما الدكتور علي عبد الحليم محمود فإنه يقطَعُ بنفي أن تكونَ هذه المقالاتُ كتبت انتصارًا لإعجاز القُرآن، ومن هنا يرفُضُ أن يَعُدَّ ما كتبَه الرافعيُّ فيها اتجاهًا إسلاميًّا في أدبه[9].
ومما يُرجِّح هذا الرأيَ أن الرافعيَّ لم يكُن ليُغفلَ في نقده للعقَّاد قضيَّةَ الإعجاز بتَّةً، على خُطورتها، إذا ما كانت المحرِّضَ الرئيسَ على إنشاء تلك المقالات، وهو الذي أثارَ زوبعةً من الهُجوم الكاسح على طه حسين ردًّا على آراءَ له في كتابه «في الشعر الجاهلي» تُناقض القُرآن، وتشكِّك في بعض آياته، وكتبَ في ذلك كتابه القيِّم «تحت راية القُرآن»،لم يُدارِ فيه ولم يُجَمجِم.
بيدَ أن ذلكَ لا يمنعُ أن تكونَ قضيَّة الإعجاز أحدَ أسباب غَضبة الرافعيِّ الكبرى، بل هو كذلك، ينضَمُّ إلى أسباب أُخرى، مَدارُها على اختلاف وجهَة الرجُلَين في الفكر والنظَر، وأن لكلٍّ منهما في الأدب طريقًا ومذهبًا.
يقول محمد الكتَّاني[10]: «ولو أخَذنا بالخلاف بين الأديبَين في أية مناسَبة من مُناسَبات الخلاف بينهما، فإن هذا الخلافَ يرتَدُّ إلى ذلك التبايُنِ في النظرة إلى الأدب، ومنهَج الدرس، والموقِف النقدي، وكلِّ ما يتصلُ بعد ذلك بالكتابة الفنيَّة، والشعر، وفَهْم النصوص، ونوعيَّة القيم المنشُودَة فيها، ودراسة التُّراث الأدبيِّ، وكلِّ ما يتفرَّع عن هذه القَضايا من وسائلَ مختلفةٍ يُعنى بها النقَّاد».
أُسلوبُ مَقالات (السَّفُّود) ومَضمونُها:
لم تكُن الحدَّةُ والتجنِّي والشَّتم - التي تقدمت الإشارةُ إليها مرَّات - هي كلَّ ما في مقالات السَّفُّود، بل مادَّةُ تلك المقالات قبلَ ذلك نموذَجٌ فَذٌّ في النقد الأدبيِّ المحكَم، ونظراتٌ في نقد الشعر بصيرةٌ، وصُوَرٌ من عُمق التحليل بديعَة، وهو المتوقَّع والمَرْجُوُّ من نقد مُنشِئُه الرافعيُّ، وهو من عرفتَ علوَّ كعبٍ في الأدب والنقد وعلوم العربيَّة.(/6)
ويكاد يُجمعُ محبُّو الرافعيِّ - وبعضُ الشانئيه - أن هذه المقالات لو بَرئت مما شانَها من مُنكَر القول ومُرِّ الهجاء، لكانت آيةً من آيات الإبداع، ومثالاً يُحْتَذى في النقد الأدبيِّ.
ويذهبُ العلاَّمة الدكتور عز الدين البدوي النجَّار[11] إلى أن الذي أخذَ فيه الرافعيُّ من نقد ديوان العقَّاد بابٌ من نقد الشعر هو أصعَبُ أبوابه، وأبعَدُها متناولاً من طالبه، هو بابُ ما في الفنِّ الواحد من دقائق الصَّنعة التي تكشفُ عن سرائره، وتنزيلُ هذه الدقائق في مَنازلها: من سموٍّ وارتفاع، أو توسُّط، أو غير ذلك، ومُقابلَة ذلك بما يكشفُه ويُوَكِّدُه من النماذج المعتَبَرة في ذلك الفنِّ.
ثم يقول: والذي قَدَرَ عليه الرافعيُّ في هذا الباب خاصَّة - في عامَّة ما تكلَّم عليه، في مقالات السفُّود وفي غيرها - لم يَقدِر عليه من أهل عَصره أحدٌ، ولا اقتربَ منه، إلا ما كانَ من العلاَّمة الكبير محمود محمد شاكر، وهو عَبقريَّةٌ فنيَّة أُخرى بالمعنى الكامل للكلمة.
ودونَكُم اقتباساتٍ من مقدِّمة الرافعيِّ لمقالاته، صريحةَ الدَّلالة على وجهته فيها:(/7)
«وأما بعدُ، فإنا نكشفُ في هذه المقالات عن غُرورٍ مُلَفَّف، ودَعوى مُغَطَّاة، وننتقدُ فيها الكاتبَ الشاعرَ الفيلسوف!! (عباس محمود العقاد)، وما إياه أردنا، ولا بخاصَّته نعبَأُ به، ولكن لمن حولَه نكشفُه، ولفائدة هؤُلاء عرَضنا له... وقد يكونُ العقَّاد أستاذًا عظيمًا، ونابغةً عبقريًّا، وجبَّارَ ذهن كما يَصفون، ولكنا نحنُ لا نعرفُ فيه شيئًا من هذا، وما قُلنا في الرجُل إلا ما يقولُ فيه كلامُه، وإنما ترجَمنا حُكمَ هذا الكلام، ونقَلناه من لغة الأغلاط والسَّرقات والحَماقات إلى لغة النقد... في هذه المقالات مُثُلٌ وعَيِّنات تَؤولُ بك إلى حقيقة هذا الأديب من كلِّ نَواحيه، وفيها كافٍ، إذ لا يَلزَمُنا أن نأتيَ على كلِّ كلامه، إذا كان كلُّ كلامه سخيفًا... وسترى في أثناء ما تقرؤه ما يُثبت لك أن هذا الذي وصَفوه بأنه جبَّارُ الذهن، ليس في نار السفُّود إلا أديبًا من الرصاص المصهور المُذاب. ونرجو أن تكونَ هذه المقالاتُ قد وَجَّهَت النقدَ في الأدب العربيِّ إلى وجهه الصَّحيح، وأقامَته على الطَّريق المستويَة؛ فإن النقدَ الأدبيَّ في هذه الأيام ضَربٌ من الثَّرثَرة، وأكثرُ من يكتبون فيه يَنْحَون مَنحى العامَّة، فيجيئون بالصُّورة على جُملتها، ولا يكونُ لهم قولٌ على تفصيلها، وإنما الفنُّ كلُّه في تشريح التفاصيل، لا في وَصْف الجملة... هذا وقد كتبنا مقالات (السفُّود) كما نتحدَّث عادةً؛ لهوًا بالعقَّاد وأمثاله؛ إذ كانوا أهونَ علينا وعلى الحقيقة من أن نتعبَ فيهم تعبًا، أو نصنعَ فيهم بيانًا، فهم هلاهيلُ لا تَشدُّ أحدَهُم حتى يتهتَّكَ وينفتقَ وينفلق...».(/8)
وعبارةُ الرافعيِّ الأخيرةُ تلخِّصُ الجادَّةَ التي سلكَها في مقالاته، والأُسلوبَ الذي انتهَجَه فيها، وقد أفصَحَت عن ذلك إفصاحًا؛ فهو كتب مقالات السفُّود (من رأس القلم)، كأنه يمضي مع خِلٍّ له على سجيَّته في حديثٍ مرسَل، لا يتقصَّد تجويدًا، ولا يلتفتُ إلى صنعة، وما ذاك إلا استخفافًا بالعقَّاد ومن اقتفى أثرَه، فهؤلاء وأمثالُهم أهوَنُ على الرافعيِّ وعلى الحقيقَة من أن يُنصِبَ نفسَه بسببهم، أو أن يُنشِئَ فيهم بيانًا عاليًا.
مُجمَل مآخذ الرافعيِّ على العقَّاد:
تقدَّم فيما اقتبسنا من مقدِّمة الرافعيِّ إشارةٌ إلى شيء من مآخذه على العقَّاد، ونذكُر هنا بإيجاز جملةً من ذلك:
من أوَّل مآخذه عليه: ما يراه فيه من ضَعف في اللغة والأُسلوب والصَّنعة البيانيَّة، وقد صرَّح بذلك في (السفُّود الأوَّل)[12] يقول: «ويدَّعي العقَّاد أنه إمامٌ في الأدب، فخُذ معَنا في تحليله؛ أما اللغةُ فهو من أجهَل الناس بها وبعُلومها، وقلَّما تَخلو مقالةٌ له من لحن، وأسلوبُه الكتابيُّ أحمقُ مثله، فهو مُضطَرب مُختَل، لا بلاغةَ فيه، وليست له قيمةٌ، والعقَّاد يقرُّ بذلك، ولكنه يُعلِّلُه أنه لا يريدُ غيرَه، فنفهَمُ نحن أنه لا يُمكنُه غيرُه».
ويُلحُّ الرافعيُّ على أن العقَّاد لا يَعدو أن يكونَ مترجمًا ناقلاً، وأحسنُ ما يكتبُه هو أحسنُ ما يَسرقُه؛ كأن اللغةَ الإنكليزيةَ عنده ليست لغةً، ولكنها مفاتيحُ كتب، وآلاتُ سرقة.
ويؤكِّد الرافعيُّ أن أكثرَ شعر العقَّاد قائمٌ على سرقَة المعاني وانتحالها، من غَير أن يضعَ لها تعليلاً أو يزيدَ فيها زيادةً، أو يجعلَ لها سياقًا ومَعرِضًا، أو نحو ذلك مما يسوِّغ أخذَه إياها، وقد استشهَد الرافعيُّ لذلك بغير قليل من شعره، يُورد أبياتَه أوَّلاً، ثم يُتبعُها بالشعر القَديم الذي سَطا عليه العقَّاد، مبيِّنًا البَوْنَ البعيدَ ما بين الأصل الجيِّد والمسروق المزيَّف، في دقَّة المعاني ورُواء الأُسلوب.(/9)
ويرى الرافعيُّ أن للعقَّاد بضعةَ أبيات حسنة لا بأسَ بها، وألوفًا من الأبيات السَّخيفَة المُخْزيَة، التي لا قيمةَ لها في المعنى، ولا في الفنِّ، ولا في البيان؛ وذلك دليلٌ قاطعٌ لا شكَّ فيه أن الأبياتَ الحسنةَ مسروقةٌ، جادَت بها قريحَةٌ أُخرى، هيهاتَ أن يكونَ عند العقَّاد قليلٌ منها. ولا يفوتُنا التنبيهُ على أن السفُّودَ الخامسَ عَنْوَنَه الرافعيُّ بـ: (العقَّاد اللصُّ).
ومما يُنكرُه عليه أيضًا: تكرارُه المعاني في الأبيات، وكثرةُ أخطائه في التشبيه وفي العَروض، وأنه لا يَفهَم ما يكتبُه، مما يجعل شعرَه ككلام الجرائد!
وأزرى به مُدَّعيًا جهله باستعمال الألفاظ؛ اختيارًا، ومَزجًا، وتَركيبًا، ومُلاءمةً بينها، وإخراجًا للألوان المعنويَّة من نظمها وتَركيبها.
كما نفى الرافعيُّ عن العقاد الخيالَ الشعريَّ، وذوقَ الشعر، والقُدرةَ على العبارة الصَّحيحة الشاعرَة عنه، فيكونُ العقَّاد بذلك شاعرًا بلا شاعريَّة!
ولعلَّ من نافلة القَول أن نذكِّرَ: أن الرافعيَّ لم يكُن محقًّا في كلِّ ما نبَزَ به العقَّاد، بل في مقالاته هذه غيرُ قليلٍ من التجنِّي والتهويل والمبالغَة!!
مَقالاتُ السَّفُّود في كتاب:
طبعة دار العُصور:
تقدَّم أن مقالات (على السفُّود) نُشرت متتابعةً سنة 1929م، وفي العام التالي (1348هـ - 1930م) أعاد نشرَها الأستاذُ إسماعيل مَظهَر مجموعةً في كتاب، صدر عن داره دار العُصور، ولم يصرِّح باسم مؤلِّفه - على ما كانت الحالُ في المقالات - وأثبتَ على غلافه: بقلم إمام من أئمَّة الأدب العربيِّ.(/10)
قدَّم الأستاذُ مَظهَر للكتاب بمقدَّمة بإمضائه بعُنوان: التعريف بالسفُّود، أفصَحَ فيها عما دفعَه إلى نشر الكتاب؛ وأن السببَ الأوَّلَ في ذلك هو إفساحُ المجال لعَلَمٍ من أعلام الأدب، وحُجَّة ثَبْت من رجالات العَصر، (يعني الرافعيَّ)؛ ليعبِّرَ عن رأيه في صَراحة وجَلاء، في أديبٍ امتازَ بين الأدباء بشيءٍ من الصَّلَف، والزَّهْو بالنفس، والإغْراب في تَقدير الذَّات، (وهو العقاد).
وثَمَّ سببٌ آخرُ لنشر مقالات السفُّود هو: وَضْعُ النقد في موضعه الصَّحيح، بعيدًا عن المَدْح لمجرَّد المدح، أو الذَّمِّ لمجرَّد النفْع الماديِّ، ولإعطاء الكُتَّاب الحريَّةَ التامَّةَ في التعبير عن آرائهم؛ لتحرير النقد من تقديس الأشخاص.
ويَختمُ مقدَّمتَه بقوله: «وعسى أن يكونَ (السفُّود) مدرسةَ تهذيبٍ لمن أخذَتهُم كبرياءُ الوَهم، ومثالاً يَحتَذيه الذين يُريدون أن يحرِّروا بالنقد عُقولَهم من عبادة الأشخاص، ووثنيَّة الصِّحافَة في عَهدها البائد».
ويتعَقَّبُه العُريان في «حياة الرافعي»[13] قائلاً: أما أن تكونَ هذه المقالاتُ مدرسةً للتهذيب، ومثالاً يَحتَذيه النَّقَدَة، فلا... فليس بنا من حاجَة إلى أن يَحتَذيَ النقَدَةُ هذا المثالَ في أسلوب النقد والجَدَل، فيَزيدوا عيبًا فاحشًا إلى عُيوب النقد في العربيَّة. إننا لنريدُ للناقدينَ في العربيَّة أن يكونوا أصحَّ أدبًا، وأعفَّ لسانًا من ذاك.
الطبعةُ الدمشقيَّة:
غَبَرَت سنواتٌ طويلةٌ على طبعة دار العُصور، حتى باتَت أعزَّ من بَيْض الأَنُوق قلَّةً ونُدرَةً، فنهضَ الأستاذُ الدمشقيُّ حسن السَّماحي سُوَيدان بالعناية بالكتاب تصحيحًا وتعليقًا، وأخرجَه في طبعة جَديدة بحُلَّة قَشيبَة وإخراج حَسَن، صَدَرَت طبعتُه عن دار البشائر بدمشق، لصاحبها الأُستاذ عادل عسَّاف، في سنة 1421هـ - 2000م، واشتركَت في توزيعها دار المعلَمَة بالرياض.(/11)
ولولا هَناتٌ هيِّنَة يَسيرَة فيها لجازَ لنا أن نقولَ: لقد بلغَت هذه الطبعةُ الكمالَ أو كادَت.
تميَّزت الطبعةُ الدمشقيَّةُ ببعض المزايا، زادَت من أهميَّتها، وأَثْرَت الفائدةَ فيها، منها:
أ- التصديرُ البديعُ الذي كتبه العلاَّمة الدكتور عز الدين البدوي النجَّار عضوُ مجمَع اللغة العربية بدمشق، وهو أحدُ عُمُد المدرسة الرافعيَّة الأصيلَة، ومن أصفياء شيخ العربيَّة محمود محمد شاكر والآخذين عنه، وقد بلغَ تصديرُه خمسًا وخمسين صفحةً، صاغَها بقلمٍ مِفَنٍّ صَناع، وبنمَطٍ رافعيٍّ أسلوبًا ومَضمونًا، كشفَ فيها كشفًا دقيقًا عن مُلابسات الصراع الأدبيِّ بين الرافعيِّ والعقَّاد، واضعًا ذلك في سياقه التاريخيِّ الصحيح، نافذًا إلى أعماق الرجُلَين، مُحلِّلاً لنفس كلٍّ منهما ولانتحاءات فكره التي أدَّت إلى ما عَرَفنا من خصامٍ شديد بينهما، وانتهى الدكتور إلى أن كلاًّ من الرجُلَين عبقريَّةٌ عظيمةٌ في تاريخ أدبنا العربيِّ، لها سَماؤُها وأُفُقُها العالي، وأن كتابَ (السفُّود) فصلٌ من فُصول الأدب والنقد الحديث، لا بُدَّ للدارس والمؤرِّخ منه، وقد رَجَعَ بعد تناسُخ الأيام من دونه كتابًا للتاريخ وحدَه، يحكُم له أو عليه، وما كان كذلك لم يكُن لغير الفنِّ الخالص، أو العلم الخالص، حظٌّ يَخلُدُ به أو يَبيدُ.
ب- تقديمُ الأستاذ سُوَيدان للكتاب في خمس صفحات، عرَضَ فيه لقِدَم المعارك الأدبيَّة في تارخ الأدب العربيِّ، وذكر مُسَوِّغات إعادة نشر الكتاب في طبعة جديدة، ثم عرَضَ لصنعَته في الكتاب، وما بذل من جهد في خدمته.
ج- ترجمةٌ للرافعيِّ اختصرَها الأستاذ سُوَيدان من كتاب «حياة الرافعي» للعُريان، بلغت تسعَ صفحات.(/12)
د- ما أُثبت بين يدَي الكتاب: (مقدِّمة في الشِّعر)، وهي المقدِّمة التي كان كتبَها الرافعيُّ لديوانه الأوَّل الذي نشره سنة 1903م، وقد رأى الأستاذ سُوَيدان ضمَّها إلى الكتاب؛ لما اشتملَت عليه من فَوائد، لعلَّ أهمها تقديمُ صورة جليَّة عن نظرة الرافعيِّ المتغَلغِلَة في الشعر، ورؤيته النقديَّة لمذاهب شُعَراء العربيَّة.
هـ- مُلحَقاتُ الكتاب، وهي:
- سَفُّودٌ صغيرٌ، ضمَّنه قطعةً من مَقال العقَّاد: (أُدَباؤنا على المِشرَحَة)، الذي كان نُشر في مجلَّة (الاثنين والدنيا) في 26 إبريل 1943م، وهذه القطعةُ في ذَمِّ الأديب الشاعر الدكتور زكي مُبارك، وأُثبت بعدَها ردُّ الدكتور مُبارك بعنوان: (ماذا يريد العقاد؟!)، نُشر في المجلَّة نفسها والتاريخ نفسه ! ومقالةٌ أُخرى للدكتور زكي مُبارك بعنوان: (جنايةُ العقَّاد على العقَّاد)، نشرها في مجلة (الصباح) في 6 مايو 1943م.
- قصيدةٌ للشاعر الضَّرير المُرهَف أحمد الزَّين: (شُعَراء العَصْر في مِصْر)، فيها بيانُ منزلة خمسةٍ وعشرينَ شاعرًا من شُعَراء مصرَ المحدَثين، وفيها يقولُ في العقَّاد:
ألا أبْلِغا العقَّادَ تَعقيدَ لَفظِهِ ومَعْناهُ مثلُ النَّبْتِ ذاوٍ ومُثْمِرُ
يُحاولُ شعرَ الغَربِ لكنْ يَفوتُهُ ويَبْغي قَريضَ العُرْبِ لكنْ يُقَصِّرُ
ويقولُ في الرافعيِّ:
تَضيعُ مَعاني الرافعيِّ بلَفظِهِ فلا نُبصِرُ المعنى وهَيهاتَ نُبصِرُ
مَعانيهِ كالحَسْناءِ تأبى تبَذُّلاً لِذاكَ تَراها بالحِجابِ تَخَدَّرُ
- سَفُّودٌ من نوع آخرَ، وهو قصَّة عَبَثِ الدكتور طه حسين بالعقَّاد حينَ بايعَه بإمارة الشِّعر، وصَدى هذه البيعة، ومن ذلك ما قالَه الأستاذُ الشاعر محمد حسن النَّجْمي ساخرًا متهَكِّمًا:
خَدَعَ الأعْمى البَصيرْ إنَّهُ لَهْوٌ كَبيرْ
أَضْحَكَ الأطفالَ منهُ إذْ دَعاهُ بالأميرْ
أصْبَحَ الشِّعرُ شَعيرًا فاطْرَحوهُ للحَميرْ(/13)
و- وزُيِّنَت الطبعةُ ببعض الصُّوَر المتَّصلة بالكتاب، هي: صورةٌ للرافعيِّ، صورةُ غلاف طبعة دار العُصور الأولى، صورةُ غلاف ديوان العقَّاد، صورةُ غلاف الطبعة الملكيَّة لكتاب الرافعيِّ «إعجاز القرآن والبلاغة النبوية»، صورةٌ مزدَوجَة للرافعيِّ والعقَّاد، صورةُ خطِّ دُعاء الشيخ محمد عبده للرافعيِّ وثنائه على أدبه.
ز- وذُيِّلَت الطبعةُ بثمانية فهارسَ عامَّةٍ كاشفةٍ، هي فهارسُ: الآيات، الأحاديث، الأمثال، الشعر، الأعلام، الأماكن، الكتب والمجلات، الموضوعات.
وتميَّز فهرسُ الموضوعات بتلخيص رؤوس موضوعات المسائل الدائرة في الكتاب، وما في ثَناياهُ من فوائد.
الخاتمة:
وبعدُ، فقد بلَغْنا الغايةَ من الحديث عن المعركةِ بين الرافعيِّ والعقَّاد التي أثمرَت كتاب (السفُّود)، ولقد «تنفَّسَ العُمُر بالعقَّاد دَهرًا بعد الرافعيِّ، وخرجَ من كثير مما كان يَشغَلُه في معتَرَك الحياة العامَّة ومطالبها ونَكَدها أحيانًا، وفرَغَ لجُملَة من مَباحث الفكر والأدب العربيَّين، اقتربَ فيها أشواطًا كثيرة مما كانَ الرافعيُّ أخلصَ له نفسَه، إلا أنه صنعَ ذلك بأُسلوبه، وبانتحاءات فكره، وطَريقَته التي يُقبِلُ بها على الأشياء.
والرافعيُّ والعقَّاد كلٌّ منهما عبقريَّةٌ على حِدَة، وكلاهُما بحرٌ زاخرٌ، وأُفُقٌ من الفكر والأدب عظيمٌ، وقد رَجَعَ الرجُلانِ كلاهما تُراثًا من تُراث الفكر والأدب العربيَّين، يَعتدُّ به المعاصِرُ، ويَشُدُّ به يدَه، ويَحرِصُ عليه»[14].
مَراجعُ المقالة:
1- حياة الرافعي: محمد سعيد العريان، القاهرة، ط3/ 1955م.
2- مصطفى صادق الرافعي الناقد والموقف: إبراهيم الكوفحي، دار البشير/ عمان – مؤسسة الرسالة/ بيروت، ط1/ 1418هـ- 1997م، سلسلة أعلام المسلمين في العصر الحديث.
3- مصطفى صادق الرافعي والاتجاهات الإسلامية في أدبه: د. علي عبد الحليم محمود، شركة مكتبات عكاظ، السعودية، ط2/ 1402هـ- 1982م.(/14)
4- مصطفى صادق الرافعي: د. كمال نشأت، سلسلة أعلام العرب (81)، القاهرة، نوفمبر 1968م.
5- مقدمة د. ياسين الأيوبي لتحقيقه لديوان الرافعي، بعنوان: مصطفى صادق الرافعي (في سيرته وأحواله وآثاره)، المكتبة العصرية، بيروت، 1423هـ- 2003م.
6- مقدمة د. عز الدين البدوي النجار لكتاب الرافعي: «على السفود»، تصحيح وتعليق: حسن السماحي سويدان، دار البشائر، دمشق، 1421هـ- 2000م.
ـــــــــــــــــــــ
[1] من هنا رأى الدكتور ياسين الأيوبي في تقديمه لديوان الرافعيِّ، طبعة المكتبة العصرية، ص 24: أن الأَوْلى بكتاب الرافعيِّ ((على السفود)) أن يُلحقَ بكتب الحقد الأدبيِّ، لا بكتب النقد الأدبيِّ.
[2] انظر ص 185 منه.
[3] وهو الجزء الثاني من كتابه: ((تاريخ آداب العرب))، الذي صدر جزؤه الأول سنة 1911 م، وقد طَبعَ الرافعيُّ الجزء الثاني مفردًا بعنوان: ((إعجاز القرآن)).
[4] كان ذلك من العقاد موقفًا قديمًا، فاءَ بعده إلى جادَّة الحقِّ والصواب، ونتاجُه المتأخِّر دالٌّ على ذلك قاطعٌ به.
[5] انظر ((مصطفى صادق الرافعي الناقد والموقف)) لإبراهيم الكوفحي ص 185 – 190.
[6] استمرَّ الرافعيُّ شاعرًا للملك فؤاد من نحو سنة 1926 إلى سنة 1929م.
[7] انظر تفاصيلَ الخصومة بين الرافعيِّ والعَفيفي في: ((حياة الرافعي)) ص 168 – 181.
[8] حياة الرافعي ص 191.
[9] انظر كتابه: ((مصطفى صادق الرافعي والاتجاهات الإسلامية في أدبه)) ص 183.
[10] في كتابه: ((الصراع بين القديم والجديد))، نقلا عن كتاب الأستاذ إبراهيم الكوفحي ((مصطفى صادق الرافعي الناقد والموقف)) ص 19.
[11] في تصديره للطبعة الدمشقية ص 58 – 59.
[12] ص 66 من الطبعة الدمشقية.
[13] ص 191.
[14] من تصدير الدكتور عز الدين البدوي النجار للطبعة الدمشقية.(/15)
العنوان: علي الطنطاوي.. أثره في إرساء قواعد "الوسطية الأدبية"
رقم المقالة: 1897
صاحب المقالة: عبدالعظيم بدران
-----------------------------------------
(1)
جمع الشيخُ (علي الطنطاوي) مجموعةً من الخصائص التي يندر أن تتوفر لدى غيره من الفقهاء الأدباء؛ فهو مصريُّ الأصل -فجده من إقليم طنطا المصري- شاميُّ المولد والنشأة، أقام أعوامًا طوالا في دمشق، والعراق، ومصر، ثم استقر به المقامُ في أرض الحجاز بعد أسفار مضنية طوى فيها نصفَ الأرض أو يزيد، وساح فيها سنين عددًا، ليجمع بين جنبيه -نتيجة هذا كله- ثقافةً أدبية وعلمية مصبوغة بكل ألوان البلاد وثقافات العباد، الذين نزل بهم وتفاعل معهم.
ومن النادر أن تجمع شخصيةٌ بين حُزمة من الخصائص والميزات التي تجعلها في مكانة تمزج فيها بين ثقافات بلدان الوطن العربي خاصة، والإسلامي عامة، ثم تخضها خضَّ البخيلة حليبَ ناقتها، لتصنع من هذا المزيج الغني أدبًا خالصًا وسائغًا للقارئين.
ولقد كتب الطنطاوي في معظم الفنون الأدبية: المقالة، والقصة، والمسرحية، والذكريات. ومع أنه لم ينظم الشعر[1] فإن قارئه لا يفتقدُ عنده طلاوةَ التعبير، وعذوبةَ اللفظ، وعمق المعنى، وإحكام النظم، وسلامة التركيب، ورقة الأسلوب وجاذبيته، وسهولته الممتنعة في خصوصيةٍ يتميزُ بها.
ولقد كان العصرُ الذي شهده الطنطاوي مائجًا بتياراتٍ فكرية متباينة، منها ما كان يذهب ذات اليمين، ومنها ما كان يجنح ذات الشمال، وبين هذا وذاك ظهر تيارٌ سمي حينها "الأدب القومي" الذي دعا إلى تسخير الفنون الأدبية كافة لخدمة القضايا العربية والإسلامية الكبرى حينئذ، وعلى رأسها قضايا التحرر من الاحتلال في معظم البلاد العربية.(/1)
ويذكر "علي" أن أولَ من جرى اصطلاح (القومي) و(القومية) على قلمه –فيما يعلم– هو خاله "محب الدين الخطيب"، وهو أول (أو من أوائل) من دعا إلى إحياء لغة العرب، وتاريخها وأمجادها، ردًا لفتنة "التتريك" التي جاء بها الاتحاديون[2].
ويقرر الطنطاوي أن الدعوة إلى الأدب القومي بدأ يتولاها (أحمد أمين) في مصر، و(أمين الريحاني) في الشام. ثم قال "علي" بأنه أيضا من دعاتها[3].
وقد اشتبك الطنطاوي مع كثيرين في معارك أدبية وثقافية، وكان حريصًا على ألا يوجه تهمة لخصمه إلا بدليل واضح، وحجة بينة، ومن ثم يشرع في تفنيد خطئها، وبيان تصويبها. وكان -مع ذلك- إذا بدا له في بعض الأحيان خطأ رأيه -حتى ولو بعد نشره في الصحف أو المجلات- فإنه يسارع إلى الاعتراف بخطئه، والإقرار بالحقيقة، والاعتذار مِمَّا بدر منه.
وكان من النادر أن يتكشَّف لعلي خطأُ وجهة نظره في معركة أدبية، أو أن يتحول الشخص المنقود من حال سيئة إلى حال أفضل. ومن ذلك ما حدث مع الشاعر السوري "شفيق جبري" الذي كان من دعاة (الفن للفن)، وعارضه "علي" حين كان الأولُ مديرًا لديوان المعارف، ثم مدحه بعد أن تحول عن موقفه.(/2)
وللطنطاوي في منازلة أصحاب مذهب (الفن للفن) صولات وجولات، فقد كان أستاذ الطنطاوي "شفيق جبري" قد ألقى محاضرته الأولى في كلية الآداب[4] وقرر فيها أن الأدب أُلهية من الألاهي، فكتب "علي" يحلل نظريته هذه وينتقدها ويقول: "وهذا مذهب في الأدب. ولكنه اختار أسوأ الأوقات لإعلانه؛ فقد كنا في عهد نضال للاستقلال نحاول أن نسخر له قوى الأمة كلها، فطلع علينا بهذه النظرية يثبط بها الهمم، ويحل العزائم، ذلك لما قال في محاضرته الأولى يوم 9-11-1929م: (فكرت في شيء من الكلام أمهد به السبيل إلى دراسة الأدب، قلت: دراسة الأدب، وكان يجب عليَّ أن أقول: أحاديث الأدب؛ لأن كلمة "الدراسة" تدل على شيء من جهد الذهن وعنت الفكر، وما ينبغي للأدب أن يكون إلا ألهية يتلاهى بها العقل، ولكنها ألهية شريفة لا تشبه غيرها من الألاهي، وما ينبغي للأدب أن يكون إلا لذة الفكر وراحة البال)"[5].
وقد حاول الطنطاوي أن يناقش أستاذه في ذلك، وكان -كما يحكي عنه– لا يحب الأسئلة، ويتضجر منها، ويجيب عنها على مضض، فلم يجد علي بُدًا من أن يكتب ما سماه رسالة "الأدب القومي"[6]، وينشرها ردًا على ما دعا إليه أستاذه في هذا الحين.
ويبين الطنطاوي أن الأستاذ (شفيق جبري) يدعو إلى أدب مجرَّدٍ يمارَس ليُدرك به جمالُ الوجود، ويفرَّج به غمّ الحياة وكربها، ويصور من النفس عواطفها وما تميل إليه، ومن الطبيعة جمالها وجلالها، ووحيها وإلهامها، لا يعنيه أخلاق تُقوَّم، ولا عادات تصحَّح، ولا تهمه أمة ولا وطن.. ثم يقول: "كلا يا أستاذ، فنحن في حرب، في نضال للاستقلال، في معركة، وأدباؤنا قوادنا، فماذا تكون حال جيش تَرَكَه قوادُه في المعركة تحت أزيز الرصاص ودوي القنابل، وراحوا يفتشون عن الجمال في ميدان المعركة ليصفوه وينظموا فيه الأشعار، ويتخذوا من أدبهم (أُلهية شريفة) يفرجون بها عن أنفسهم همَّ أنفسهم وغمها"[7].
ويُجمل "علي" خلاصة دعوته فيقول:(/3)
"الأديبُ في الأمة لسانُها الناطق بمحاسنها، الذائد عن حماها، وقائدها إلى مواطن الفخر، وذرى مجدها... إن الأدب لا يجدي إن لم يكن أدب الحياة، ولا يكون أدب الحياة حتى يحكم صلته بها، ويداخلها، فيعرف مواطن الخير فيها فيدل عليها، وأماكن الشر فينفر منها"[8].
حول ظهور وتطور مفهوم (الأدب القومي):
تتبع الدكتور "محمد أبو الأنوار" كيف ظهر هذا المصطلح بمفهومه الضيق الذي دعا أول الأمر إلى "الالتفاف حول البيئة الإقليمية في تاريخها القديم والحديث، والارتباط بها وحدها"، وأوضح أن هذه الدعوة كانت –بهذا المفهوم- من نتائج "التأثر بالحملات الاستعمارية حول الإسلام". ثم ذكر الحوار الأدبي الذي تداوله الكثيرُ من الكتاب في ذلك الحين على صفحات الصحف والمجلات الأدبية، ومنهم: عبد الحميد العبادي، والدكتور أحمد ضيف (بعد عودته من البعثة)، والأستاذ أحمد حسن الزيات، والدكتور محمد حسين هيكل، والأستاذ محمد زكي عبد القادر، ومحمد أمين حسونة، والأستاذ العقاد، والأستاذان محمود أمين العالم، وعبد العظيم أنيس.. إلى أن انتهى هذا السجالُ الأدبي بحسم مجلة الرسالة له، إذ أكدت ضرورة احترام التراث والحرص عليه، وذلك مع التطلع إلى الجديد والإفادة منه. ثم يؤيد ذلك الدكتور أبو الأنوار ويقول: "إنها –يعني مجلة الرسالة– كانت بحق معلمًا بارزًا على متن الطريق السوي لمن اهتدى"[9].
وهكذا يبدو أن الشيخ عليا الطنطاوي -رحمه الله- كان ممن أرسَوْا مبادئ الوسطية ودافعوا عنها خلال مدة طويلة من القرن الماضي.
(2)
الطنطاوي والأدب الرومانسي:(/4)
لم يرُقْ للطنطاوي ما غلَّبه الشبابُ الشاميون من نزَعات الرومانسية المفرطة بطريقة تغذي النزعات الفردية والالتفاف حول الذات، بعيدًا عن المجتمع وما يجري فيه. وانتقد عند هؤلاء إفراطَهم في التشاؤم واليأس والانزواء بعيدًا عن الآخرين، والنظرية السوداوية للحياة، يقول في ذلك: "مَن الذي حجب عن عينيك أيها الشاعر ملذاتِ الحياة ومفارحها، ولم يُرك إلا آلامها وأحزانها؟ لماذا ترى سواد الليل ولا ترى بياض الضحى؟ لماذا تصف بكاء السماء بالمطر في الشتاء وتدع ضحك الأرض بالزهر في الربيع؟ لماذا تصور حشود المآتم وتهمل حفلات الولادة؟ الدنيا ليل ونهار، وشتاء وربيع، وموت وولادة، إنها كالقمر؛ له جانب مظلم وجانب مضيء، فمن ملأ قلبه ظلامُ اليأس لم ير إلا الجانب المظلم مع أنه خفي لا يرى".
ولم يقتصر "علي" على هذه التساؤلات الاستنكارية الموجهة لهذه الطائفة من الشعراء، ودعوتهم إلى الانفتاح على الكون والحياة بكل ما فيها من خير وتفاؤل، ولكنه أتبع ذلك أيضا بدعوة صريحة وجَّهها إليهم لتوظيف ملكاتهم الشعرية في خدمة القضايا القومية العامة، بجانب اهتماماتهم الذاتية الداخلية.
يقول في ذلك:
"لا تعِشْ لنفسك وحدها، بل عش لها ولأمتك، فكر بعقلها، اشعر بشعورها، وأدِّ ما يجب عليك لها، أما أن تقول: هذا حبي، وهذه عاطفتي، فاشتغلوا بها معي، فلا.. إن أدبك يكون إذن مخدرًا للحس الوطني".
ويجمل الطنطاوي دعوته هذه فيقول:
"حسبُنا بكاءً ويأسًا، ورثاءً للماضي، وفزعًا مما يخبئ لنا المستقبل. كفى تبرمًا بالحياة، وشكوى منها، ودعونا من أدب لامارتين وموسيه"[10].
نقده لـ"نزار قباني" بسبب أحد دواوينه:(/5)
في مارس 1946م كتب الطنطاوي بمجلة الرسالة عن نزار قباني بعد أن أصدر ديوانه الأول "قالت لي السمراء"، يقول "علي": "طبع في دمشق كتابٌ صغير زاهي الغلاف ناعمُه، ملفوف بالورق الشفاف الذي تلف به علب (الشيكولاتة) في الأعراس، معقود عليه شريط أحمر كالذي أوجبَ الفرنسيون أولَ العهد باحتلالِهم الشامَ وضعَه في خصور بعضهن ليعرفن به، فيه كلام مطبوع على صفة الشعر، فيه أشطار طولها واحد إذا قستها بالسنتيمترات"!.
وإذ يصف الطنطاوي ويستعرض "شكل" الديوان، ينتقل إلى عرض "مضمونه" ساخرًا من كليهما، كما هو بيِّن في كلمته هذه، يقول: "ويشتمل (ديوان نزار) على وصف ما يكون بين الفاسق القارح والبغي المتمرسة الوقحة وصفًا واقعيًا لا خيال فيه؛ لأن صاحبه ليس بالأديب الواسع الخيال، بل هو مدلل غني، عزيز على أبويه، وهو طالب في مدرسة، وقد قرأ كتابه الطلابُ في مدارسهم والطالبات...".
وعلى قِصَر هذه الكلمة فقد شحنها الطنطاوي بما يدعو به قارئَه لمشاركته التخوفَ من آثار مثل هذه الدواوين. ويكمل "علي" نقدَه الساخر للجانب الفني في الديوان فيقول: "وفي الكتاب مع ذلك تجديد في بحور العروض، يختلط فيه البحر البسيط والبحر الأبيض المتوسط!، وتجديد في قواعد النحو؛ لأن الناس قد ملوا رفع الفاعل ونصب المفعول ومضى عليهم ثلاثة آلاف سنة وهم يقيمون عليه، فلم يكن بد من التجديد"[11]!.
لقد جاءت هذه الكلماتُ في نقد نزار عنيفة وساخرة بدرجة كبيرة، ولعل ذلك كان من سمة النقد والعراك الأدبي في ذلك الحين، إلا أن الطنطاوي تعفف عن هذا الأسلوب فيما بعد، وكف عنه، وصرح بأنه لا يمكنه الاستمرارُ على طريقة نقاد هذا الوقت في معالجتهم لسجالات النقد حينئذ.
(3)
الطنطاوي وأدب الحداثة:(/6)
إذا كانت الحداثة للتجديد والإحياء فهذا ما يرحب به "علي"، أما إذا اتُّخذت سبيلا لما يسمى حرية وهو في حقيقته فوضى فهذا ما لا يقبله. يقول في "دروس الأدب في بغداد" لدى حديثه عن زيارته لوالد الشاعرة "نازك الملائكة": "وقد نشرت أول العهد بها في الرسالة شعرًا نفيسًا أثار إعجابَنا وتقديرنا، لا هذا الشعر الذي سموه حرًا أو شعر الحداثة، فهل يبقى الحدث حدثا أم يشب ويعقل؟! وسموه حرًا، ومن الحرية ما هو فوضى"!.
وعلى عادته في إجلاء صورته بمهارة التمثيل الأدبي يقول: "فإن رأيت الجند يمشون صفًا واحدًا مرتبًا منظومًا نظم اللآلئ في العقد، فخرج واحدٌ منهم على الصف وعلى نظامه، فمشى على غير مشيتهم، وبسرعة غير سرعتهم.. أليس هو ما يسمونه بشعر التفعيلة، شعرٌ تفعيلاته صحيحة الوزن ولكن لا ارتباط بين أبياته ولا تناسق بينها".
ثم يقرر الحقيقة التي يراها مخالفةً للواقع الذي يتحدث بصدده، فيقول: "وإن الشعر الحق هو الذي يثير الشجون، ويحرك العواطف مع اتساقه في الآذان ومحافظته على الإيقاع".
ثم يجمل ما يريد قوله:
"إن علينا أن نقول الحق ولو على أنفسنا، والحق أن معاني الشعر الغربي –الفرنسي والإنجليزي– أوسع مدى وأكثر عمقًا، وأن ميزة شعرنا في النظم، في الموسيقى الشعرية، تلك الميزة التي يحاول هؤلاء أن يحرمونا منها"[12].(/7)
والحق أنه لا يمكننا التسليم بصحة رأي الطنطاوي هذا؛ مع أننا نقر بأن من الشعر الغربي ما هو أوسع مدى وأكثر عمقًا، ولكن لا يمكن إطلاقُ هذه العبارة وتعميمها، والاكتفاء بالنظم والموسيقى الشعرية على أنها ميزات الشعر العربي. فإن من الشعر العربي المنظوم، ذي الموسيقى الشعرية الأصيلة والممتعة في جَرْسها والرائقة في إيقاعها ما هو جيد المعنى، عميق الفكرة، جزل الأسلوب، متين البناء، عالي الجودة.. ومنه ما هو دون ذلك. كما أن الشعر الغربي مبني أيضًا على الموسيقى والإيقاع، وشأنه شأن سائر العلوم الإنسانية يعلو أحيانا ويهبط أخرى.
ولو كان الشعر العربي لا يميزه إلا النظم والموسيقى لما تبوأ امرؤ القيس، وزهير، وحسان، وكعب، والمتنبي، وأبو تمام، والبحتري، وبشار، والبارودي، وشوقي، وغيرهم من حكماء الشعراء وعظمائهم، مكانةً سامقة على مر العصور.
• • • •
وفي حديثه عن أدب الحداثة يكتب الطنطاوي بعنوان: "عندكم نابغون فتشوا عنهم بين الطلاب"، فيقول: "جنِّبوا كتبَ المطالعة هذا الأدبَ الذي تسمونه يومًا بأدب الحداثة، ويومًا بالشعر المنثور، ويومًا بالنثر المشعور، كما قال المازني -رحمه الله- مازحًا ساخرًا لما سألوه عنه، ويومًا بقصيدة النثر، وكل ذلك من مظاهر العجز عن نظم الشعر البليغ".
ثم يمثل حال هؤلاء فيقول: "كالثعلب لما لم يصل إلى عنقود العنب، قال: إنه حامض"!.
ثم يقترح الحل الأمثل فيما يرى، فيقول: "واختاروا لهم مما يقوي ملكتهم العربية؛ لأن العربية والإسلام لا يكادان يفترقان".(/8)
ويذكر "علي" أنه حاقت بالعربية نَكَباتٌ، واعترضت طريقَها عقباتٌ ونزلت عليها من نوازل الدهر المعضلات، ولكن ما مر بها يوم هو أشد عليها وأنكى أثرًا فيها من هذا "الأدب المزور" الذي أطلق عليه أدب الحداثة. ويسوق أسباب رفضه لهذا اللون من الكتابة فيقول: "إنه ليس انتقالا من مذهب في الشعر إلى مذهب، ولا من أسلوب إلى أسلوب، ولكنه لون من ألوان الكيد للإسلام، بدأ به أعداؤه لما عجزوا عن مس القرآن؛ لأن الله الذي أنزله هو الذي تعهد بحفظه، فداروا علينا دورة وجاءونا من ورائنا".
ويمثل الطنطاوي فعل هؤلاء بفعل الشيطان؛ يأتي الناس من بين أيديهم وعن أيمانهم ومن وراء ظهورهم. ثم يُجمل غرضهم من ذلك فيقول بأنهم عمَدوا إلى إضعاف الإسلام بإضعاف العربية[13].
(4)
الطنطاوي والأدب الرمزي:
هاجم الطنطاوي الرمزيين بعنف، وعدهم ممن لا يمتلك أدوات البيان والفصاحة، ويريدون في الوقت نفسه أن يحشروا أنفسهم في طائفة الأدباء، فراحوا يتحايلون على ذلك ويقولون ما يشاءون مما لا يسيغه عقلٌ ولا تقره قوانينُ اللغة والبيان. من ذلك ما كتبه بعنوان "أنا والإذاعة"، يقول مُجْملاً: "ومَن عجز عن أن يفكر كما يفكر أبناءُ آدم -عليه السلام- ويتكلم كما يتكلمون، ففكر تفكيرًا غير آدمي وتكلم كلامًا ليس بإنساني فهو شاعر رمزي، وإنَّ في الرمزية متسعًا لجميع الأغبياء والأدعياء إذا شكا القراءُ أنهم لا يفهمون هذا الأدب الرمزي فالقراءُ جاهلون رجعيون جامدون"![14].
ويرحب الطنطاوي بالتجديد مع المحافظة على الثوابت:
فمع أنه هاجم العبث في اللغة، وأعلن تمسكه بجيد التراث؛ فقد رحب مع ذلك بتطور الأساليب والتجديد فيها لكن مع الالتزام بقواعد العربية. فهو يظهر إعجابه بـ(ميخائيل نعيمة) وأسلوبه الجديد، ولكنه لا يرتضي تجاوزاته لقواعد اللغة، يقول الطنطاوي: "وتمنيت لو أن مثله يجيء صحيحا بنفَس عربي فيكون نادرة الأساليب ومفخرة الأدب"[15].(/9)
ومع ذلك لم ينحَزْ "علي" لكل ما جاء بالتراث لمجرد أنه قديم، ولكنه -مثلا- مع إعجابه بقصيدة أبي فراس الحمداني[16] "أراك عصيَّ الدمع" يرفض قوله: "إذا مت ظمآناً فلا نزل القطرُ"، يقول الطنطاوي: انظروا كم بين قوله هذا وبين قول المعري[17]:
فلا نزلت عليَّ ولا بأرضي سحائبُ ليس تنتظم البلادا
أبو فراس ينحط إلى أدنى دركات الأثرة والأنانية، لا يرتفع درجة فيهتم بأهل ولا ولد، ولا يرتفع درجة أخرى فيهتم ببلد أو وطن، إنه لا يبالي إلا بنفسه، فإذا مات عطشاناً فلينقطع المطر ويحترق الزرع ولتقفر الأرض وليعم القحط وليهلك القريب والبعيد والصديق والعدو، ولا يبقى أحد!.
والمعري يرتفع إلى أعلى درجات الإيثار فلا يرضى أن ينزل المطر عليه ولا على أرضه، لا يرتضي إلا غيثا عامًا يشمل خيره البلاد والعباد"[18].
لكن حكم "الطنطاوي" هنا قد جاء قاسيا على "أبي فراس" حين انتزع شطر بيته هذا من بقية القصيدة التي نظمها، والظروف التي كان يعيشها حينئذ، فقد كان أبو فراس أسيرًا في سجن القسطنطينية، وطال به الأسرُ في قبضة أعدائه، وهو ينتظر افتداء ابن عمه -سيف الدولة أمير حلب حينئذ- له، والأخير ينساه وينشغل عنه، فانطلقت هذه الكلمات آهاتٍ حادة تستصرخ وتنادي بافتدائه.
وإذا أخذنا بالاعتبار أن التعابير الشعرية قد يُقبل فيها من المبالغة ما لا يُقبل في غيرها؛ فإنه يبدو لنا عذر أبي فراس فيما يقول. كما أن الناقد لا يستطيع أن يحكم على سيرة شاعر من شطر بيت قاله، دون النظر إلى عموم أشعاره ومبادئه التي تبناها في مسيرة حياته.
(5)
بعض سخريات الطنطاوي الهادفة:
للطنطاوي كتاب طريف وثري بعنوان "صور وخواطر" ضمنه -في جزء منه- مقالاتٍ نقديةً بأسلوب مبتكر وساخر ومشوق في الوقت نفسه، استطاع من خلاله أن يوصل إلى قارئه ما يريد مع إشاعة روح الفكاهة والمرح في هذا الجو النقدي الأدبي الفريد.(/10)
من ذلك مقالته الطريفة "ديوان الأصمعي" التي خلط فيها القدامى بالمعاصرين، وألغى الزمان والمكان، وجاء في مقالته هذه بإشاراتٍ سريعة ولماحة لا يفهمُها إلا من كان ذا خبرة واطلاع على العلوم والآداب، ويعرف الأدباء والعلماء في مختلف العصور[19]، فقد تحدث عن أحمد شوقي وحافظ إبراهيم والمازني وغيرهم، ومما قاله فيها: "قال الأصمعي[20]: سألت أبا عمرو بن العلاء لم سمي أحمد بالشوقي؟ قال: لقد سألت عن هذا جدي أبا العلاء (يعني المعري) قلت: وهو غير أبي علي المصري. فقال: سمي بذلك لأنه أكثر في شعره من ذكر الشوق. قلت: فلم لقب إبراهيم بالحافظ؟ قال: لكثرة حفظه الحديث!.
قال: وحدثني إبراهيم المازني عن جده أبي عثمان المازني، أنه قال: لقد لقيت من الحفاظ من لا أحصي، فما وجدت مثل الحافظ إبراهيم. قلت: فما بلغ من حفظه؟ قال: إنه كان يحفظ أيام الأسبوع، وشهور السنة، ويعد الخلفاء الراشدين لا يغيب عن ذهنه أحدٌ منهم!.
قال إبراهيم بن عبد القادر المازني: فعجبت من ذلك ورويته في كتابي (قبض الريح في أخبار رواة الصحيح). قال: والمازني لم يكن من بني مازن، ولكنهم ادعوه، وسبب ذلك أنهم سمعوا قصيدته المشهورة:
لو كنت من مازن لم تستبح إبلي بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا[21]
فأعجبهم، فردوا عليه إبله، وأكرهوا بني اللقيطة على تقبيل يده، وسؤاله الدعاء. قلت: وزعم أبو عبيدة أن اللقيطة أمهم. والصحيح أن (اللقيطة) قصة مطبوعة في مصر"[22].
مع توفيق الحكيم:
تعرَّض الطنطاوي بالنقد والتعليق لأعمال الأديب المصري الشهير "توفيق الحكيم"، وقد اختلفت نقداته وتعليقاته حسب المادة الأدبية موضع التعليق.(/11)
فعند تعرضه للقصة الشهيرة "عصفور من الشرق" يقول "علي": "الأستاذ توفيق الحكيم من أكبر أدبائنا القصصيين، لا يكاد ينازع في ذلك أحد، ومن أكثر الأدباء إنتاجًا وأخصبهم قريحة، عالج أنواعًا من القصة فوفق فيها، وأتى بالمعجب المطرب، ومن ذلك قصته... عصفور من الشرق... أحسست كأني كنت في جنة سحرية، ثم هبطت إلى الأرض، وتمنيت لو طال نفس الأستاذ فيها حتى ما تنتهي".
ويمدح الطنطاوي منهج القصة ومضمونها، فيقول: "... وهذه ميزة كبيرة للقصة ترتفع فيها إلى صف القصص العالمية، التي لم تنشأ لمجرد اللهو، ولإمتاع القارئ بالجمال الفني، وإنما جمعت إلى الجمال الفني نظرة تحليلية إصلاحية عميقة".
ولكنَّ عليا يسجل بعض مآخذه عليها فيقول: "غير أني أخذت على القصة أشياء: منها ما يتصل بالفن، ومنها ما يمس الدين، ومنها ما يعود إلى اللغة، أسأل عنها الأستاذ الحكيم ليوضح منها ما خفي ويفتح ما استغلق". ويسرد الطنطاوي مآخذه على القصة، ثم يثني على كاتبها فيقول: "هذا وإني أهتبل هذه الفرصة لأرفع إلى الأستاذ الحكيم تحياتي وإكباري"[23].
ويبدو أن الطنطاوي لم ترُقْه بعضُ أعمال "الحكيم"، فوجه إليه نقدًا لاذعًا، ولكن بطريقة ساخرة وفكهة، يقول في كلمة له سماها "ديوان الأصمعي": "قال الأصمعي: وكان حمار هذا من كبار الحكماء، ولكن أهل مصر اطرحوه انتصارًا منهم للقفطي، فلم يذكره إلا رجل من أبناء عمومته يقال له توفيق الحكيم.
قال النووي: وتوفيق الحكيم وضَّاع لا يقبل له حديث، ذهب إلى قرى مصر نائبًا في الأرياف فأهمل عملَه وخان أمانته، وصار يفكر في الرقص والغناء، وهو على كرسي النيابة في المحكمة، والقاضي ينتظر مطالعته، والظنين يرقب ما تنفرج عنه شفتاه، فلما أفاق زعم أن نومه معجزة، وأنه كان مع أهل الكهف.(/12)
قلت: وكان يكتب في القهوات وعلى أرصفة الشوارع ويزعم في (الرسالة) أنه يكتب من البرج العاجي"[24]. وتنتقد كلمة الطنطاوي هذه كتابي: "حماري قال لي"، و"يوميات نائب في الأرياف"، كما تعيب على الحكيم بعض سلوكياته، وأسلوبه في الكتابة.
(6)
الطنطاوي معتزًا بالأدب ومدافعًا عنه:
يرى "علي" أنه لا غنى للإنسانية عن العلوم الأدبية، وخاصة الشعر، ويذكر أن الأدب أسبق من العلم؛ وأن البشرية عاشت قرونًا طويلة بعلوم أولية ومحدودة، ولكن الآداب والفنون كانت وما زالت على طول الدهر محل الاهتمام ومنشأ التأثير. يقول: "فكيف يكون فيها –أي الدنيا– من يكره الشعر وهو جمال القول وفتنة الكلام؟ وهو لغة القلب، فمن لم يفهمه لم يكن من ذوي القلوب، وهو صورة النفس، فمن لم يجد فيه صورته لم يكن إلا جمادًا، وهو حديث الذكريات والآمال، فمن لم يذكر ماضيًا ولم يرج مستقبلا ولم يعرف من نفسه لذة ولا ألمًا فليس بإنسان"[25].
لكن هذا لا يعني أن الطنطاوي قد قبل بكل ما ألقي للساحة الأدبية من أعمال ادَّعى أصحابُها أنها من الأدب، يقول ساخرًا ومتهكمًا: "رحم الله الأستاذ العقاد عندما كان رئيس لجنة الشعر، قدموا إليه بعض هذا الذي يسمونه شعر الحداثة، فأحاله إلى لجنة النثر؛ لأنه أراد أن يدخل مدينة الشعر بجواز سفر مزوَّر فرده إلى موطنه، ولولا أنه رحمه وأشفق عليه لأحاله إلى محكمة الجنايات بتهمة التزوير"![26].
وفي موضع آخر يبين أن عظمة الأدب تستمد من عبقرية المبدع وسحر بيانه وفصيح لسانه، ولا يزيدها كرُّ الزمان إلا رسوخًا وإجلالا، يقول: "من هنا جاءت عظمةُ الأدب وجاء خلوده، إنه ليس كالعلوم، إن قرأ طالبُ الطب في كتاب قبل أربعين سنة سقط في الامتحان، أما طالب الأدب فيقرأ شعرًا من ألف وخمس مئة سنة ولا يزال جيدًا، كأنه قيل اليوم".(/13)
ثم يفصل بعد إجمال فيقول: "لا أعني الشعر الذي هو الرنات والأوزان، ولا الألفاظ المنمقة التي لا تحمل معنى، ولكن أعني بالشعر حديثَ النفس ولغةَ القلب، وكل ما يهز ويشجي، ويبعث الذكريات، وينشئ الآمال، ويقيم النهضات، ويحيي الأمم، الشعر الذي يشعرك أنه يحملك إلى عالم غير هذا العالم"[27].
وهكذا يأخذ "علي" على عاتقه عبءَ ترسيخ قواعد الوسطية في زمانه، فمع أنه يدفع عن الأدب ويعتز به، فإنه يوجه الأدباء إلى تحمل مسئولياتهم من أجل نهضة الأمة وصلاح المجتمع، مع سمو اللغة والبيان.
(7)
الطنطاوي وأدباء مصر:
ينادي "علي" أدباء مصر فيمدحهم ويهجوهم، ويثني عليهم ويذمهم. وفي مقالة له نشرها سنة 1943م، بعنوان "نداء إلى أدباء مصر"، يقول: "أتممت البارحة قراءة كتاب جبران لمؤلفه (نعيمة)، فأعجبني أسلوبه على ما فيه من مخالفة لقانون اللغة وقواعد العربية".
ويذكر أن إشادته بالكتاب جاءت لما حمل من الصور البيانية والمجازات المستحدثة والتشبيهات التي لا نظير لها، والاستعارات التي لم تتحدث عنها كتب البلاغة؛ لأن علماءها لم يقرءوا مثلها ولأنه أسلوب مستمد من قلب حي وخيال قوي.. ثم يتمنى الطنطاوي لو أن مثله يجيء صحيحا بنفس عربي فيكون نادرة الأساليب ومفخرة الأدب، ولكنه يستبعد ذلك تمامًا[28].
ولكن موضوع الكتاب لم يعجب "عليا"؛ لأنه وجد حياة جبران كما يصفها صديقه المؤلف: "سلسلة آثام". ويستنكر الطنطاوي أن تكون هذه هي وظيفة الأدب، فيقول: "الذي أعرفه أن الفن هو الذي يبحث عن الجمال بحثَ العلم عن الحقيقة، وأنه يدرك بالعاطفة كما يدرك العلم بالعقل، فمن قال إن الجمال لا يكون إلا في الفحشاء والمنكر؟"[29].
ويدفع الطنطاوي عن نفسه تهمة طالما قرأها وسمعها من كثيرين، يقول:(/14)
"سيقول قوم: أنت رجل رجعي جامد، هذا هو الفن، يغتفر لصاحبه ما لا يغتفر لغيره. ولئن كنتُ جامدا فهم والله مائعون، والجامد يستقر ويتماسك، أما المائع فيسيل ويضيع. ولئن كنت رجعيًا فالرجعية مشتقة من الرجوع، وهي في الغرب سب؛ لأنها عودة إلى ظلام القرون الوسطى وجهالة الماضي الذميم، وهي عندنا مدح؛ لأنها رجوع إلى مثل ما كان عليه أجدادُنا في عصور العلم والنور"[30].
وهكذا يستخدم الطنطاوي المعجم اللغوي والأحداث التاريخية والقلم الأدبي ببراعة منقطعة النظير في محاورة خصومه والظهور عليهم.
ثم يخلص إلى نداء أدباء مصر فيقول:
"يا أدباء مصر: إن العالم العربي ليسمع منكم ويقتدي بكم، فإن أنتم لم تسلكوا به سبيلَ الإصلاح وتدلُّوه على طريق الخير كان عليكم أكبرُ الوزر"[31].
وكأنه كان يقرأ مستقبل الأيام، فرحمه الله.
وبعد، فلعله يتضح لنا بعد استعراض هذا الموضوع عدة ملاحظات، هي:
- أن الطنطاوي سخَّر إمكاناتِه الأدبية لقضايا أمته الكبرى وحث الأدباء والكتاب على ذلك.
- وأنه شارك في خدمة هذه القضايا بتراث كبير من المقالات والقصص والروايات التاريخية.
- وأنه اختار "الأدب للحياة"، وحمل على أصحاب "الأدب للفن" مستنكرًا عليهم وساخرًا منهم.
- وأنه كشف النقص العميق لدى كل من الرمزيين والرومانسيين والحداثيين من أصحاب شعر التفعيلة والشعر الحر وقصيدة النثر.(/15)
لكني مع تقديري لاختيار الطنطاوي لمذهب الأدب للحياة، أجدني منحازًا لرأي الدكتور (محمد رجب البيومي) في تعليقه على ذلك حين قال بأن الاكتفاء بهذا المذهب غير كاف، أو بالأحرى: غير واقعي، في حياتنا الأدبية؛ لأن أحدًا لا يمكنه أن ينكر أن المقطوعة إذا استوفت عناصرها الأدبية صارت أدبًا، ولكن –كما يقول الأستاذ أحمد أمين رحمه الله-: "يجب أن يكون للمصلحين سلطة فوق سلطة الأدباء، فإذا رأى المصلحون أن ضربًا من الأدب يحل الأخلاق، ويفك عرى المجتمع حاربوه بكل قوة، وإذا رأوا أن ضربًا من الأدب في الأمة ضعيف يجب أن يقوى طالبوا بالإكثار منه بشتى الوسائل"[32].
وهكذا يتضح جليًا كيف كان "علي الطنطاوي" ممن رسخوا قواعد الوسطية الأدبية في زمانه، ناهيك بالوسطية الفكرية بصفة عامة.
وللحديث بقية إن شاء الله ...
ـــــــــــــــــــــــــــ
[1] يذكر "علي" سبب عدم قرضه الشعر، فيقول: "كنت أنظم أبياتًا من الشعر أو أسرقها، كما ينظم كل مبتدئ ويسرق، حتى إذا اجتمع عندي كثير من القطع عرضتها على أستاذ العربية، وكان لسوء الحظ تركيًا يسمى إسماعيل حقي أفندي، يعلمنا النحو العربي باللسان التركي، فلما قرأه سخر مني وسبني وتهكم علي، وجاء من بعدُ أخي أنور العطار فنظم كما كنت أنظم، حتى إذا اجتمع عنده كثير من القطع عرضه على الأستاذ كرد علي، رئيس المجمع العلمي العربي، فأقام له حفلة تكريمية، فكانت النتيجة أني عجزت عن الشعر، حتى لنَقلُ البحر بفمي أهون علي من نظم خمسة أبيات، وأن أخي أنور العطار غدا شاعرَ الشباب السوري، وسيغدو شاعر شباب العرب". فكر ومباحث، ص157-158.
[2] ذكريات، علي الطنطاوي، 2/289.
[3] ذكريات، علي الطنطاوي، 2/290.
[4] وكان علي الطنطاوي قد التحق بهذه الكلية؛ لأن الباب كان مفتوحًا لكل مدرس ومعلم للحصول على شهادة عالية. ذكريات، علي الطنطاوي، 2/201.
[5] ذكريات، علي الطنطاوي، 2/203.(/16)
[6] يقول الطنطاوي عن مصطلح "القومي": لم تكن –هذه الكلمة– قد أخذت المعنى الذي نفهمه منها الآن. ذكريات، علي الطنطاوي، 2/203.
[7] ذكريات، علي الطنطاوي، 2/205.
[8] ذكريات، علي الطنطاوي، 2/206.
[9] الحوار الأدبي حول الشعر، د. محمد أبو الأنوار، ص462-465.
[10] ذكريات، علي الطنطاوي، 2/290-291.
[11] نزار قباني، قصته مع الشعر، ص88-89، عن مجلة الأدب الإسلامي، 9/83.
[12] ذكريات، علي الطنطاوي، 3/315.
[13] ذكريات، علي الطنطاوي، 8/335.
[14] صور وخواطر، علي الطنطاوي، ص 177.
[15] مجلة الأدب الإسلامي، 9/83.
[16] أبو فراس الحارث بن سعيد بن حمدان بن حمدون الحمداني، (320 هـ-357هـ) وهو صاحب البيت الشهير:
الشعر ديوان العربْ أبدًا وعنوان الأدبْ
شاعر وأمير عربي من الأسرة الحمدانية، واشتهر بقصائده المعروفة بالروميات.
ابن خلكان، وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، تحقيق إحسان عباس، 1/149، و2/51.
[17] أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان التنوخي المعري، الضرير الشاعر الفيلسوف المؤلف، (363-449هـ =973 -1057م) له شعر كثير ومؤلفات كثيرة، منها: رسالة الغفران، وديوان اللزوميات، وديوان سقط الزند، ورسالة الصاهل والشاحج، ورسالة الملائكة، ورسالة الهناء، ورسالة الفصول والغايات. الأعلام، خير الدين الزركلي، ط7، 1/157.
[18] مقالات في كلمات، علي الطنطاوي، 1/230، ومجلة الأدب الإسلامي، 9/83.
[19] مجلة الأدب الإسلامي، 9/103.
[20] عبد الملك بن قُرَيب، الأصمعي (122-216هـ=740-831م) من باهلة، بصري، راوية وإمام باللغة والشعر والبلدان،الأعلام، 4/162. و"بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة"، لجلال الدين السيوطي، ص313.(/17)
[21] البيت لقريط بن أنيف العنبري التميمي، شاعر جاهلي، في حياته غموض، انفرد "معمر بن المثنى" برواية خبر عنه مفاده أن جماعة من بني ذهل بني شيبان أغاروا عليه فأخذوا له ثلاثين بعيراً، فاستنجد قومه فلم ينجدوه. فأتى على بني مازن التميميين فركب معه نفر فاستاقوا من إبل بني ذهل مئة بعير دفعوها إليه، ثم خرجوا معه حتى أوصلوه إلى قومه؛ فمدحهم لصنيعهم هذا، وعير قومه ضعفهم وذلهم، وأنشد قصيدته الشهيرة التي استهلها بهذين البيتين:
لو كنت من مازن لم تستبح إبلي بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا
إذاً لقام بنصري معشرٌ خشنٌ عند الحفيظة إنْ ذو لوثة لانا
وهي من عيون الشعر، افتتح "أبو تمام" كتابه "ديوان الحماسة" بمختارات منها، وقال: إنها لبعض بلعنبر (بني عنبر)، ولم يسمه. الأعلام، 5/195.
[22] صور وخواطر، علي الطنطاوي، ص298.
[23] مقالات في كلمات، علي الطنطاوي، 1/189-191.
[24] صور وخواطر، علي الطنطاوي، ص302.
[25] فكر ومباحث، علي الطنطاوي، ص32.
[26] ذكريات، علي الطنطاوي، 8/343.
[27] رجال من التاريخ، علي الطنطاوي، ص167.
[28] صور وخواطر، علي الطنطاوي، ص263.
[29] صور وخواطر، علي الطنطاوي، ص265.
[30] صور وخواطر، علي الطنطاوي، ص265.
[31] صور وخواطر، علي الطنطاوي، ص269.
[32] الرسالة العدد 24.(/18)
العنوان: على النَّجيل، الشجرة (نصّان نثريان)
رقم المقالة: 1621
صاحب المقالة: مازن محمود عبدالحميد غراب
-----------------------------------------
على النَّجيل
فِي سَاعَةِ الأَصِيلْ
حِينَ أَرْقُدُ عَلَى النَّجِيلْ
طَارِحًا يَدَيَّ الْمُجْهَدَتَيْنِ عَلَى جَانِبَيْ جِسْمِيَ النَّحِيلْ
مُلْتَحِفًا السَّمَاءْ
وَيُقَبِّلُ بَصَرِي الْعَلِيلْ
زُرْقَتَهَا فِي اشْتِهَاءْ -
يَنْسَالُ* مِنْ غُرْبَتِي، فَمِنْ عَيْنِيَ (مَاءُ الدُّمُوعِ)، دَمْعِي الْجَمِيلْ
يُطَهِّرُنِي كَمَاءْ
مِنْ سَوَادِي الأَثِيمِ الثَّقِيلْ
فَأَطْمَئِنُّ؛
أَطْمَئِنُّ عَلَى قَلْبِي
أَنَّهُ مَا زَالَ (يَبْكِي)، يَعْرِفُ طَعْمَ الْبُكَاءْ!!
الشجرة
شَجَرَةٌ فِي تُرْبَةِ الأَرْضِ مُقَيَّدَهْ
لا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَطِيرْ
لا تَسْتَطِيعُ حَتَّى أَنْ تَسِيرْ؛
لأَنَّهَا فِي تُرْبَةِ الأَرْضِ مُقَيَّدَهْ
جُذُورُهَا مُسْتَمْسِِكَةٌ بِعُمْقِ التُّرْبَهْ
رَغْمَ الظُّلْمَةِ .. رَغْمَ الْغُرْبَهْ
تَتَطَاوَلُ سَاقُهَا
تَيْنَعُ ثِمَارُهَا
يَنْضُرُ جَمَالُهَا .. وَهِيَ مُقَيَّدَهْ!!
تعليق "حضارة الكلمة":
الأخ/ مازن..
تحيةٌ لكَ وشكٌر على التَّواصل مع "حضارة الكلمة".
هاتان محاولتان في الشعر المنثور، ففي النَّثِيرَة الأولى محاولةٌ وبحثٌ عن تَطَهُّرٍ جُوَّانيِّ، بسَبْرٍ للنَّفس، وبإضفاء نكهةٍ ما على المكان! وفي الثانية ما يشير إلى الثَّبات في أقسى الأحوال، وشتَّى تقلُّبات الحياة.(/1)
كلاهما يعتمد الاختصارَ أكثر من اعتماده التَّكثيف، والأفضل في النصوص القصيرة هو التكثيف؛ تكثيف الأفكار في صورٍ مُصْطَادَة بعناية ودقَّة، وهذا النوع من النثر لا يقيَّد بقوافٍ كما هو الحال في القطعتين أعلاه؛ فقد كانتِ التَّقْفِيَة في النثر في عصور معينة لأمور خاصَّة، ثم انتهت تِلْكُم العصور، ولم يَعُدْ هنا مجالٌ مناسبٌ لكتابة ذلك النوع من النثر الأدبي المسجوع المسمَّى بالمقامات.
ولدينا هنا إشارات إسلامية قليلة خفيَّة؛ من مِثْل: (سوادي الأثيم الثقيل)، يَفْهَم منها القارئ مرادًا طيِّبًا؛ وحبَّذا لو وضَّحْتَه أكثر وعمَّمْتَه على معظم النصوص، واحرصْ على أن تبقى هذه الإشارات بهذا الأسلوب الخفيِّ لا المباشر.
وفَّقكم الله لخدمة الأدب الصحيح.
* ملحوظة: ينسالُ؛ ربما تقصد: ينساب، أو ينثال.(/2)
العنوان: عُليا اللغات
رقم المقالة: 456
صاحب المقالة: د. عبدالمعطي الدالاتي
-----------------------------------------
((كما تغار نجومُ السماء من تراب الحجاز.. تغار لغاتُ العالم من لغة العرب.. فكلُّ اللغات تهرم وتندثر إلا العربية، لأن الله وعد بحفظها في كتابه الكريم. فهي لغةُ منغّمة مخلّدة وعصيّة على الفناء، لا كما يتمنى المتغرّبون والأعداء.
يقول الدكتور فرحان سليم: ((اللغة العربية تمثّل خصائص الأمة وشخصيتها، وهي أساس وحدتها، ومرآة حضارتها، ولغةُ قرآنها وبه اكتست ثوب الإعجاز[1])).
وتقول الشهيدة الإسبانية صبورة أوريبة: ((إن الأمة العربية ينتمي بعض الناس إليها، أما اللغة العربية فننتمي إليها جميعًا، وتحتل لدينا مكانًا خاصًا[2])).
فالعربية من الدين، فتذوّقوا جمالها يا أبنائي، حتى تذوقوا جمال الإسلام..
واعتصموا بحصونها في القرآن والسنة، واخدموها كي لا تَذِلّوا، ((فما دَلَّتْ لغة شعب إلا ذَلَّ، فلا جَرَم كانت لغة الأمة هي الهدف الأول للمستعمرين[3])).
ووصيتي يا أبنائي: أن تتقنوا العربية ثم العربية ثم العربية..)).
شعّ في مكة نورٌ وسنًا في يثربِ[4]
فأضاءتْ كلّ أرضٍ بالكلامِ الطَّيِّبِ
وإذا شمسُ الكتابِ في سماء العَرَبِ
وإذا جيلُ الصّحابِ عَربيٌّ عربي
ونَبِينا عَربيٌّ وهوانا عَرَبي
لُغتي عُليا اللّغاتِ قد سمتْ كالكوكبِ
لغتي أُختُ الخلودِ شمسُها لم تَغرُبِ
جَرسُها بين اللغاتِ كرنينِ الذّهبِ[5]
نورُها إشراقُ ماسٍ حُسنُها لم يَذهبِ
فيكِ يا خير اللُّغاتِ جاءَ خيرُ الكُتُبِ
فاحفظوها يا صغاري في ضمير العصبِ
واقرؤوها في الكتاب أو أحاديثِ النّبي
نَغِّموها، ثم قولوا: ((هكذا وصَّى أبي))
ـــــــــــــــــــــ
[1] ((اللغة العربية ومكانتها بين اللغات)) الأستاذ الدكتور فرحان السليم.
[2] عن كتاب ((ربحتُ محمدًا ولم أخسر المسيح)) للمؤلف.
[3] الكلمة للرافعي رحمه الله ((وحي القلم)) (3/33).(/1)
[4] القرآن المكي والمدني.
[5] اليوم تنافس اللّغات الغربية لغتنا العربية، ولكنْ عندما تغرب شمس الحضارة في الغرب، وتشرق في الشرق، سيختفي البريقُ الزائف ويتألق بريق الذهب.. يقول د.محمد إقبال: ((في الليل قد يُنافس النحاسُ الذهب، عندئذٍ ينتظر الذهب شروق النهار)).(/2)
العنوان: عمود الإسلام
رقم المقالة: 347
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
الركوع والسجود
الحمد لله رب العالمين؛ هدانا إلى الصراط المستقيم، وشرع لنا الدين الحنيف، ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين، نحمده حمد الشاكرين، ونستغفره استغفار المذنبين، ونسأله من فضله العظيم، فهو الغني الحميد، الجواد الكريم، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له {تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا} وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ أعلم الخلق بالله تعالى، وأشدهم خشية منه، وأكثرهم تعظيما له، صلى ذات ليلة فبكى فلم يزل يبكي حتى بل حجره، ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بل لحيته، ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بل الأرض فجاء بلال يؤذنه بالصلاة فلما رآه يبكي قال: يا رسول الله، لم تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبدا شكورا، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله - عباد الله - وأطيعوه، وأخلصوا له دينكم، واقدروه حق قدره، واعبدوه حق عبادته {يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون}.
أيها الناس: الدنيا ملهاة للعباد، وزخارفها تصدهم عن ذكر الله تعالى، وتنسيهم الدار الأخرى، ومع شدة الاغترار بها وزخارفها يحتاج العباد إلى ما يذكرهم حقوق ربهم عليهم، وينبههم حال غفلتهم، ومن رحمة الله تعالى بعباده أن شرع لهم الصلوات، وفرضها عليهم خمس مرات في اليوم والليلة، تقربهم من ربهم، وتذكرهم آخرتهم .. تنشرح بها صدورهم، وتخفف همومهم وغمومهم. وإنها والله لمن أعظم النعم لمن هدي إليها، وواظب عليها.(/1)
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: (لما كان العبد خارج الصلاة مهملا جوارحه، قد أسامها في مراتع الشهوات والحظوظ أُمر بالعبودية والإقبال بجميع جوارحه على ربه ...واقفا بين يديه، مقبلا بكله عليه، معرضا عمن سواه، متنصلا من إعراضه عنه، وجنايته على حقه، ولما كان هذا طبعه ودأبه أُمر أن يجدد هذا الركوع إليه، والإقبال عليه، وقتا بعد وقت؛ لئلا يطول عليه الأمد فينسى ربه، وينقطع عنه بالكلية، وكانت الصلاة من أعظم نعم الله تعالى عليه، وأفضل هداياه التي ساقها إليه).اه
والصلاة شأنها عند الله تعالى عظيم، ومقامها في الإسلام كبير؛ فهي عمود الإسلام، وهي آخر ما يفقد منه، ولا حظ في الإسلام لمن ضيعها.
هي دليل محبة الله تعالى ورجائه وخوفه، وهي أكثر المقامات ذلا لله تعالى، في تكرارها، وفي أقوالها وأفعالها، وفي هيئة المصلي فيها.
وأبين المواضع فيها ذلا لله تعالى:الركوع والسجود، وهما ركنان من أركانها لا تصح الصلاة بدونهما؛ لأمر الله تعالى بهما {يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا}، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمن يعلمه الصلاة (ثم اركع حتى تطمئن راكعا) وقال له في السجود( ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا) رواه الشيخان.
إن الركوع والسجود عملان جليلان يستسلم بهما المصلي لربه، ويثبت أنه عبده، ويعلن كامل ذله، منزها ربه عن كل ذل ونقص، مقرا له بالكمال والعز، فما أروع هيئة المصلي حين يراغم الشيطان المستكبر بالتذلل لله تعالى فعلا وقولا.
والكفار قد استكبروا عن عبادة الله تعالى، وأبوا الركوع له سبحانه {وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون} ولذلك يعذبون.
والركوع انحناء يقصد به التعبد لله تعالى وتعظيمه وإجلاله، يسوي فيه المصلي ظهره، وقد حكت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ركع لم يشخص رأسه ولم يصوبه ولكن بين ذلك)رواه مسلم.(/2)
وفي حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(لا تجزي صلاة لا يقيم الرجل فيها صلبه في الركوع والسجود) صححه الترمذي وابن حبان. ولا يتأتى للمصلي أن يقيم صلبه في هذين الركنين العظيمين إلا بالطمأنينة في صلاته.
وحري بالمصلي إذا ركع أن يفهم معنى الركوع، وأن يستحضر مقامه، وليعلم أنه ما ركع إلا خضوعا لله تعالى، موقنا بأن الله تعالى مطلع عليه، قد رضي منه هذا الخضوع له، ولا يكون ركوعه مجرد حركة يؤديها في صلاته.
ومن تأمل أذكار الركوع علم مكانته من الصلاة، فالراكع يسبح الله تعالى، ويصفه بالعظمة، فيقول: سبحان ربي العظيم، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في صلاته.
ولما نزل قول الله تعالى {فسبح باسم ربك العظيم} قال عليه الصلاة والسلام:(اجعلوها في ركوعكم) فلما نزلت {سبح اسم ربك الأعلى} قال:اجعلوها في سجودكم)رواه أبو داود.
وفي حديث عائشة رضي الله عنها :أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في ركوعه: ( سبوح قدوس رب الملائكة والروح) رواه مسلم.
والمصلي يناجي ربه في ركوعه مقرا بربوبيته، معلنا إيمانه به، مثبتا خشوع جوارحه كلها لربه جل وعلا، كما روى علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا ركع قال: (اللهم لك ركعت وبك آمنت ولك أسلمت خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظمي وعصبي) رواه مسلم.
والراكع وهو يستشعر عظمة من يركع له، يعلن ذله له، ويقر بفقره إليه، فيحني ظهره، ويخفض جبهته، متفكرا في عظمته سبحانه وفي كبريائه وسلطانه وملكوته وجبروته، وقد جاء في حديث عوف بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في ركوعه: (سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة) رواه أبو داود.(/3)
والراكع يستحضر حال ركوعه ذنوبه وخطاياه، وتقصيره في طاعة مولاه فيسبحه ويسأله المغفرة، ويقول كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه وسجوده:(سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي) رواه الشيخان.
والملاحظ أن الصفة المشتركة بين هذه الأذكار العظيمة هي صفة التسبيح، فقد جاء التسبيح فيها كلها. والتسبيح هو تنزيه الله تعالى عن أي نقص، وإثبات الكمال له سبحانه وتعالى، والراكع يؤكد هذا المعنى بإضافة صفة العظمة إليه سبحانه بعد تنزيهه عن النقص ( سبحان ربي العظيم) وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (فأما الركوع فعظموا فيه الرب عز وجل) رواه مسلم.
والراكع قد جمع بركوعه وذكره فيه بين التعظيم الفعلي بانحنائه، وبين التعظيم القولي بتسبيحه وذكره.
وإذا كان هذا شأن الركوع فإن شأن السجود أعظم، وهو أبلغ في الذل لله تعالى، وما الركوع إلا بمثابة التهيؤ للسجود، والمقدمة بين يديه، والتوطئة له، وقد فعل السجود تعبدا لله تعالى أشرف الخلق وأكرمهم عند الله تعالى من الملائكة المقربين، والأنبياء والمرسلين (إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون).
وجاء الأمر بالسجود لله تعالى في كثير من آيات السجدات في كتاب الله تعالى {ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون}.
وأما الكفار فكما استنكفوا عن الركوع لله تعالى فهم كذلك يستكبرون عن السجود له سبحانه {وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفورا}.
والسجود في الصلاة ركن من أركانها، يجب أن يمكن المصلي أعضاءه السبعة من الأرض ؛ كما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم:( أمرت أن أسجد على سبعة أعظم: على الجبهة- وأشار بيده على أنفه- واليدين والركبتين وأطراف القدمين) متفق عليه.(/4)
وكان النبي صلى الله عليه وسلم في سجوده لا يتقي الأرض بوجهه قصدا، بل إذا اتفق له ذلك فعله؛ ولذلك سجد في الماء والطين.
إن أشرف شيء في الإنسان وجهه، ولذا كانت العرب إذا أهانت أحدا قبحت وجهه، وإذا أرادوا النكاية بشخص جدعوا أنفه؛ مبالغة في إهانته وتحقيره، وفي وعيد الله تعالى لمن كذب بآياته (سنسمه على الخرطوم) أي: على وجهه أو أنفه، وأشق شيء على الإنسان أن يوسم في وجهه؛ لأنه عنوان كرامته، وبه يستقبل الناس، وهو أول ما ينظر إليه، والمصلي حين يهوي بجسده على الأرض فإنه يمرغ فيها أكرم شيء عليه وهو وجهه؛ ذلا لله تعالى وتعظيما وإجلالا، ويضع جبهته وأنفه موضع الأقدام، فأي شرف يستحقه المسلم وهو يفعل ذلك في صلاته؟!
ومع كون السجود سفولا بالعبد إلى الأرض، وبعدا عن التعالي والسمو، والرب جل جلاله مستو على عرشه، متعال على خلقه، منزه عن السفول، مع ذلك كله فإن العبد حال سجوده أقرب إلى ربه من حاله في قيامه أو قعوده أو ركوعه، وما كان ذلك إلا إكراما من الله تعالى لمن عبده، فوضع أكرم شيء فيه وهو وجهه موضع الأقدام؛ ذلا له سبحانه وتعظيما وإجلالا. روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء).(/5)
إن سجود العبد لله تعالى باب عريض من أبواب الذل والعبودية لله تعالى، ينتج عنه استجابة الدعاء؛ لأن الرب الكريم إذا رأى ذل عبده بين يديه، وافتقاره إليه، مع سؤاله وإلحاحه عليه لا يرده خائبا؛ ولذا كان الدعاء أرجى إجابة في حال السجود من أي حال أخرى، وأمر المصلي بالإكثار فيه من الدعاء، ونهي عن قراءة القرآن حال ركوعه وحال سجوده؛ لأنهما موضعا ذل وسفول، والقرآن أشرف الكلام، فلا يناسب أن يقرأ في تلك الحال، بل المناسب تنزيه الله تعالى وتعظيمه ودعاؤه؛ ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم :(إني نهيت أن اقرأ القرآن راكعا أو ساجدا، فأما الركوع فعظموا فيه الرب عز وجل، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقمن أن يستجاب لكم) رواه مسلم.
وناسب في أذكار السجود أن يقرن الساجد بين تنزيه الله تعالى وبين إقراره بعلوه فيقول: سبحان ربي الأعلى، مستحضرا علو الله تعالى، وأنه سبحانه عليٌ بذاته، وعليٌ بأسمائه وصفاته، وأنه جل في علاه أعلى من كل شيء.
وينبغي للعبد أن يتذكر حال سجوده ذله بين يدي ربه، وحاجته وفقره إليه، وهو ما تطامن بجسده، ومرغ في الأرض وجهه إلا إقرارا بذله، وعلو ربه، فليكن كذلك في قلبه كما أداه بجسده.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: لما كان السجود غاية سفول العبد وخضوعه سبح اسم ربه الأعلى فهو سبحانه الأعلى، والعبد الأسفل، كما أنه الرب، والعبد العبد وهو الغنى، والعبد الفقير، وليس بين الرب والعبد إلا محض العبودية، فكلما كمَّلها قرب العبد إليه؛ لأنه سبحانه برٌ جواد محسن، يعطى العبد ما يناسبه، فكلما عظم فقره إليه كان أغنى وكلما عظم ذله له كان أعز؛ فإن النفس لما فيها من أهوائها المتنوعة، وتسويل الشيطان لها تبعد عن الله تعالى حتى تصير ملعونة بعيدة من الرحمة، واللعنة هي البعد ومن أعظم ذنوبها إرادة العلو في الأرض، والسجود فيه غاية سفولها.اه(/6)
ومن عظيم أمر السجود أنه أشرف ركن في الصلاة، وتذكر الصلاة به، وكثير من النصوص التي يذكر فيها السجود إنما يراد بها الصلاة، فجعل لشرفه علامة عليها، ولما قال ربيعة الأسلمي رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم: (أسألك مرافقتك في الجنة، قال عليه الصلاة والسلام: فأعنى على نفسك بكثرة السجود) رواه مسلم.
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإكثار منه، وعده أفضل الأعمال؛ كما جاء في حديث ثوبان رضي الله عنه أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (أخبرني بعمل أعمله يدخلني الله به الجنة أو قال: أخبرني بأحب الأعمال إلى الله فقال صلى الله عليه وسلم: عليك بكثرة السجود لله فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة وحط عنك بها خطيئة) رواه مسلم.
ومن شرف السجود عند الله تعالى أن المعذبين في النار من عصاة المؤمنين تحفظ مواضع سجودهم فلا ينالها العذاب، وإذا انتهت فترة عذابهم، وأراد الملائكة إخراجهم من النار إلى الجنة يعرفونهم بأعضاء سجودهم؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حتى إذا أراد الله رحمة من أراد من أهل النار أمر الله الملائكة أن يُخْرِجوا من كان يعبد الله فيخرجونهم، ويعرفونهم بآثار السجود، وحرَّم الله على النار أن تأكل أثر السجود، فيُخرجون من النار، فكلُ ابنِ آدم تأكله النار إلا أثر السجود) رواه البخاري.
وأكثر شيء يحزن الشيطان، ويذكره بشقائه وعذابه: أن يرى ابن آدم يسجد لله تعالى، فيظل يبكي حسرة على ما فاته من طاعة الله تعالى، وما سبقه به المؤمنون من بني آدم من سجودهم لله عز وجل؛ كما روى أبو هريرة رضي الله عنه فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:( إذا قرأ بن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي يقول: يا ويلي، أُمِر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار) رواه مسلم.(/7)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {أم من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب}.
بارك الله لي ولكم...
الخطبة الثانية
الحمد حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله - عباد الله - وأطيعوه.
أيها المسلمون: الركوع والسجود من خصائص الألوهية، فلا يصرفان إلا لله تعالى؛ ولذا نهي عن الانحناء حال التحية كما يفعله كثير من الأعاجم للكبراء والرؤساء؛ وذلك لما فيه من مشابهة الركوع، والركوع لا يكون إلا لله تعالى، وقد روى الترمذي وحسنه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (قال رجل: يا رسول الله، الرجل منا يلقى أخاه أو صديقه أينحني له؟ قال: لا، قال: أفيلتزمه ويقبله؟ قال: لا، قال: أفيأخذ بيده ويصافحه؟ قال: نعم).
قال ابن علان رحمه الله تعالى:من البدع المحرمة الانحناء عند اللقاء بهيئة الركوع، أما إذا وصل انحناؤه للمخلوق إلى حد الركوع قاصداً به تعظيم ذلك المخلوق كما يعظم الله سبحانه وتعالى، فلا شك أن صاحبه يرتد عن الإسلام، ويكون كافراً بذلك، كما لو سجد لذلك المخلوق.
وأما السجود فأشد من الركوع؛ لأنه أقصى مراتب العبادة، ونهاية التعظيم، ولا يليق إلا بمن كان أشرف الموجودات وأعظمها، فكان لا بد من تخصيصه بالله عز وجل، والنهي عن السجود لغيره، وقد كان تحية في بعض الشرائع السابقة كما في سجود إخوة يوسف عليه السلام له، لكنه مُنِع في شريعتنا التي أكملها لنا ربنا، وختم بها الشرائع.(/8)
روى قيس بن سعد رضي الله عنه فقال: (أتيت الحيرة فرأيتهم يسجدون لمرزبان لهم، فقلت: رسول الله أحق أن يسجد له، قال: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: إني أتيت الحيرة فرأيتهم يسجدون لمرزبان لهم فأنت يا رسول الله أحق أن نسجد لك، قال: أرأيت لو مررت بقبري أكنت تسجد له؟ قال: قلت: لا، قال: فلا تفعلوا، لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت النساء أن يسجدن لأزواجهن لما جعل الله لهم عليهن من الحق) رواه أبو داود.
وفي حديث عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه قال: (لما قدم معاذ من الشام سجد للنبي صلى الله عليه وسلم، قال: ما هذا يا معاذ؟ قال: أتيت الشام فوافقتهم يسجدون لأساقفتهم وبطارقتهم فوددت في نفسي أن نفعل ذلك بك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلا تفعلوا فإني لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لغير الله لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها) رواه ابن ماجه.
إن الركوع والسجود لله تعالى نعمتان عظيمتان أنعم الله تعالى بهما على عباده المؤمنين؛ تعبدا له، وقربا منه، وهذه النعمة العظيمة قد حرمها إبليس باستكباره وعلوه، وهو يبكي لأجلها، وقد حرمها كثير من البشر بسبب استكبارهم أو جهلهم، وحقيق على من هداه الله تعالى للإسلام أن يشكر نعمة الله تعالى، وأن يحافظ على الصلوات المفروضة؛ ليكون من الراكعين الساجدين الذين أثنى الله تعالى عليهم في كتابه العزيز، وليلحق بركب السابقين الأفاضل من هذه الأمة المباركة الذين وصفهم الله تعالى بقوله سبحانه: (محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود).(/9)
ومن كان قادرا من المسلمين على الركوع والسجود فليقدر هذه النعمة حق قدرها، وليعرف فضل الله تعالى عليه إذ هداه وعافاه فأقدره عليهما؛ فإن القدرة علىهما من أعظم النعم التي يغفل عنها كثير من الناس، قال مسروق رحمه الله تعالى: ما بقي شيء يرغب فيه إلا أن نعفر وجوهنا في التراب وما آسى على شيء إلا السجود لله تعالى.
وكم في المسلمين من عاجز عن الركوع والسجود لعلة أصابته قد عرف قدر هذه النعمة بعد أن حرمها، وود لو ركع لله تعالى، وتمنى أن يعفر وجهه في الأرض تعبدا لله تعالى، وذلا وتعظيما.
وحسب من عجز عن ذلك من المسلمين أن الله تعالى مطلع على قلبه، عالم بأمنيته، وأن إيماءه للركوع والسجود يكفيه ما دام عاجزا، ويقبله سبحانه منه كما لو ركع وسجد حقيقة؛ وذلك من تخفيف الله تعالى على عباده، ورحمته بهم، {هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج}.
فأقيموا لله تعالى - أيها المسلمون - دينكم، واحنوا له جباهكم، وعفروا له وجوهكم، ولتركع قلوبكم ولتسجد مع ركوع أبدانكم وسجودها؛ فإن ركوع القلب لله تعالى وسجوده له تذللا ومحبة ورجاء أهم وأولى من ركوع الأبدان وسجودها، بل ما شرع ركوع الأبدان وسجودها إلا لتركع القلوب وتسجد لخالقها ومدبرها.
ومن صلى لله تعالى وركع وسجد وهو مستشعر لهذه المعاني العظيمة وجد لذة في ركوعه وسجوده، ونهته صلاته عن المحرمات؛ لأن الله تعالى يقول:(إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) وهي الصلاة التي يركع فيها القلب ويسجد مع ركوع البدن وسجوده.
وصلوا وسلموا على نبيكم كما أمركم بذلك ربكم...(/10)
العنوان: عمود الإسلام
رقم المقالة: 1541
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
فرضها في كافة الشرائع
الحمد لله رب العالمين؛ هدى عباده إلى دينه القويم، ودلهم على صراطه المستقيم، فمنهم من قَبِلَ عن الله تعالى هداه فكان من المهتدين، ومنهم من زاغ عنه فحقت عليهم الضلالة {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ} [الأنعام:161] نحمده على ما هدانا، ونشكره على ما أعطانا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ فرض علينا من الفرائض ما يصلحنا في الدنيا، وينجينا في الآخرة، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ جعل الله تعالى قرة عينه في الصلاة، فيرتاح بها، وإذا حزبه أمر فزع إليها، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- وأطيعوه واعلموا أن أعماركم مستودع أعمالكم، وأن أعمالكم لا تنتهي إلا بموتكم، فلا تتركوا العمل بعد رمضان؛ فإن الله تعالى يعبد في كل زمان ومكان {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ اليَقِينُ} [الحجر:99].
أيها الناس: خلق الله تعالى الخلق لعبادته، وشرع لهم من الدين ما يقربهم إليه، وينجيهم من عذابه، وشرائع الله تعالى متنوعة متفاضلة: فمنها ما يجب في العمر مرة واحدة كالحج، ومنها ما يجب في الحول كالزكاة والصيام، ومنها ما يعود في الأسبوع كالجمعة، ومنها المتكرر في اليوم والليلة كالصلاة، وما شرع الله تعالى هذه الشرائع إلا لمصالح العباد في معاشهم ومعادهم.(/1)
والصلاة المفروضة أمرها عظيم، وشأنها كبير، وهي عمود الإسلام، وآخر ما يفقد الناس من دينهم.. هي الشعيرة الظاهرة المتكررة في اليوم والليلة، يتميز بها المسلم عن غيره.. هي برهان الإيمان، ودليل الإسلام، وما كان الصحابة رضي الله عنهم يرون شيئا من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة، ولو علم الناس ما في الصلاة لحافظوا عليها، وما تهاونوا بها، ولا قدموا شيئا عليها.
إن الصلاة أجلُّ عمل يُتَقرب به إلى الله تعالى، قد جمعت من الأقوال أجلها وأعلاها، ومن الأفعال أكثرها ذُلّاً وخضوعا لله تعالى، مع ما فيها من أعمال القلب، كالتدبر والخشوع والرجاء والخوف والمناجاة، ولا يحافظ عليها إلا مؤمن، ولا يتركها إلا كافر أو منافق، وهي أحب الأعمال إلى الله سبحانه..
وفي السماء ملائكة لا يحصيهم إلا الله تعالى يصلون له فيقنتون ويركعون ويسجدون وفي حادثة الإسراء والمعراج قال النبي عليه الصلاة والسلام: (فَرُفِعَ لي الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ فَسَأَلْتُ جِبْرِيلَ، فقال: هذا الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ يُصَلِّي فيه كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ إذا خَرَجُوا لم يَعُودُوا إليه آخِرَ ما عليهم) رواه الشيخان واللفظ للبخاري.
والصلاة أهم أعمال الأنبياء عليهم السلام، وأولى شيء دعوا الناس إليه بعد توحيد الله تعالى؛ ولذا جاءت في شرائعهم، وأثنى الله تعالى بها عليهم، ودعاهم إليها، وبشر بعضهم بمرادهم فيها.
وقد جاء في الحديث ما يدل على أن الأنبياء قبل النبي عليه الصلاة والسلام قد فرضت عليهم الصلاة، وأنهم كانوا يصلون في أوقات وقتها الله تعالى لهم؛ كما روى ابنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما فقال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم (أمَّنِي جِبْرِيلُ عليه السَّلاَمُ عِنْدَ الْبَيْتِ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ قال: يا محمد، هذا وَقْتُكَ وَوَقْتُ النَّبِيِّينَ قَبْلَكَ) رواه أحمد وأبو داود وصححه ابن خزيمة.(/2)
وفي القرآن الكريم ما يدل على أنهم عليهم كانوا يسجدون لله تعالى، والسجود من أعظم أركان الصلاة وأخصها {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آَدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم:58]. ثم لما أثنى سبحانه وتعالى عليهم ذم الخلوف التي تضيع الصلاة {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم:59].
وشعيب عليه السلام كان مصليا، وأنكر قومه عليه ما يدعوهم إليه من الإيمان وقالوا {يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} [هود:87].
وخليل الرحمن إبراهيم عليه السلام لما وضع هاجر وابنها إسماعيل عليهما السلام في مكة وهي مقفرة دعا الله عز وجل أن تُعْمَر ويئوب الناس إليها، وتجبى إليها الثمرات والأرزاق، وعلل دعوته بإقامة الصلاة فيها، فقال عليه السلام {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم:37] قال محمد بن نصر رحمه الله تعالى: ولم يذكر عملا غير الصلاة، فدل ذلك على أنه لا عملَ أفضلُ من الصلاة ولا يوازيها.اهـ.(/3)
وهذا يدل على فخامة الصلاة، وعظيم شأنها، وعلو مكانتها، وأن من مقاصد بناء البيت الحرام إقامَ الصلاة فيه وإليه، واستجاب الله سبحانه دعوة الخليل عليه السلام؛ فمن يؤمون البيت الحرام في هذا الزمن للصلاة فيه خلق كثير جدا، ولا سيما في المواسم الفاضلة كرمضان والحج، ومن يفدون إليه منذ دعوة إبراهيم عليه السلام إلى قيام الساعة لا يحصيهم إلا الله تعالى، وعيسى عليه السلام حين ينزل في آخر الزمان سيقصد البيت الحرام حاجا أو معتمرا، ومصليا فيه.
بل إن الله تعالى ذكر أن إقام الصلاة مقصد من مقاصد بناء البيت الحرام، وتطهيره من عبادة غير الله تعالى {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة:125] وفي الآية الأخرى {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ البَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج:26] والقائمون هم المصلون كما قال قتادة رحمه الله تعالى.
ومن عظيم أمر الصلاة أن الخليل إبراهيم عليه السلام دعا ربه لنفسه ولذريته من بعده بإقامتها؛ فمن أصابته دعوة الخليل وفق لها، فأقامها، وحافظ عليها، ومن لم تصبه لم يوفق لها، ولم يحافظ عليها. قال إبراهيم عليه السلام {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ} [إبراهيم:40].
وخلف إبراهيمَ عليه السلام في البيت الحرام ابنُه الذبيحُ إسماعيلُ عليه السلام، وكان من المصلين، الآمرين بالصلاة، أثنى الله تعالى عليه بذلك فقال سبحانه {وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} [مريم:54-55].(/4)
كما خلف إبراهيمَ عليه السلام في بيت المقدس ولدُه إسحاقُ وآلُه عليهم السلام، وقد كانوا أئمة مصلين، قال الله تعالى ممتنا عليهم {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} [الأنبياء:73].
ومن نسل إسحاق عليه السلام بُعث الكليم موسى عليه السلام، فاصطفاه ربه عز وجل برسالاته، واختصه بكلامه؛ فساقه إلى الوادي المقدس، فأمره سبحانه بعبادته، ونص على الصلاة بخصوصها -وإن كانت داخلة في مسمى العبادة- وما ذاك إلا لعظيم شأنها عند الله تعالى {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالوَادِ المُقَدَّسِ طُوًى * وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى * إِنَّنِي أَنَا اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه:11-14].
ولما اشتد أذى فرعون وجنده على بني إسرائيل لم يرخص الله تعالى لهم في ترك الصلاة اتقاء للعذاب، بل أمر الله تعالى موسى وهارون عليهما السلام أن يتخذا من بيوت بني إسرائيل مكانا للصلاة بدل البيع والكنائس، وأمرهم بها {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآَ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ} [يونس:87].(/5)
وفي المناظرة الكبرى بين موسى والسحرة لم يُلْهَم السحرةُ بعد توبتهم طاعةً يرجعون بها إلى الله تعالى ويترضونه بها ظنا أن يغفر لهم عما كان منهم إلا السجود وهو أعظم هيئات الصلاة قال الله عز وجل {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ العَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الشعراء:46-48] فعفروا وجوههم في التراب خضوعا لله تعالى، فلم يجعل الله تعالى لهم مفزعا إلا إلى الصلاة مع الإيمان به، وهي مفزع كل منيب.
ومن أنبياء بني إسرائيل زكريا عليه السلام، سأل الله تعالى الولد، فبشر به وقد بلغ من الكبر عتيا فجاءته البشارة وهو يصلي {فَنَادَتْهُ المَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي المِحْرَابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ الله وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران:39].
قال ثابت البُنَاني رحمه الله تعالى: الصلاة خدمة الله تعالى في الأرض ولو علم الله تعالى شيئا أفضل من الصلاة ما قال: فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب.اهـ.
ومريم عليها السلام لما بُشرت بتطهير الله تعالى لها، واصطفائه لها على نساء العالمين أُمرت بالصلاة؛ لأن الاصطفاء لا يناله إلا من يستحقه، وكانت مريم ممن يستحقه؛ طاعة لله تعالى، وكثرة ركوع وسجود {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران:43]
لقد كانت مريم عليها السلام كثيرة التعبد لله تعالى كثيرة الصلاة، قد اتخذت لها محرابا عرفت به، لا تكاد تبارحه من كثرة صلاتها وتعبدها، ورزقها يساق إليها في محرابها؛ كرامة من الله تعالى لها {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ الله إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران:37].(/6)
أسأل الله تعالى أن يلهمنا رشدنا، وأن يرزقنا المحافظة على ما به يرضى عنا، وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله....
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وثقلوا موازين حسناتكم بالأعمال الصالحة، وخففوا موازين سيئاتكم باجتناب المعاصي {وَالوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَظْلِمُونَ} [الأعراف:8-9].
أيها المسلمون: تتابع رسل الله تعالى عليهم الصلاة والسلام على العناية بالصلاة، والاهتمام بها، وجاءت بها شرائعهم، وأوحى الله تعالى إليهم بها؛ حتى كانت الصلاة مما أجمعت عليه الشرائع.
ومن أولي العزم من الرسل بُعِث عيسى بعد موسى عليهما السلام، وتكلم في المهد آية من الله تعالى؛ ليدرأ عن أمه عليها السلام أي تهمة، وأخبر أن الله تعالى قد اصطفاه بالنبوة، وآتاه الكتاب، وأوصاه بالصلاة، والوصية إنما تكون بما هو مهم، وهذا يدل على عظيم أمر الصلاة عند الله تعالى؛ إذ وصاه الله تعالى بها {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي المَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ الله آَتَانِيَ الكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} [مريم:29-31].(/7)
ونبي الله تعالى داود عليه السلام لما جاءه الخصمان للحكم بينهما إنما تسورا عليه محرابه، وهو مكان عبادته وصلاته، وهذا يدل على أنه كان كثير الصلاة {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا المِحْرَابَ} [ص:21].
ثم لما أخطأ عليه السلام فحكم بينهما وقد سمع حجة أحدهما دون الآخر، وعلم أن الله تعالى قد ابتلاه بهما، وأراد التوبة من ذلك؛ لم يجد لتوبته مفزعا إلا إلى الصلاة، قال الله تعالى واصفا إياه {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} [ص:24].
وورث الملك من بعده ابنُه سليمانُ عليه السلام، وكان محبا للخيل حبا شديدا، فعُرضت عليه فانشغل بها حتى فات وقت الصلاة، فتنبه وأَسِف لذلك، فأمر بإرجاعها وهي أحب ما تكون إليه، فعقرها وضرب أعناقها لأنها شغلته عن صلاته {وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ العَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الجِيَادُ * فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالحِجَابِ * رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ} [ص:30-33].
وقد سخرت الجن لخدمته وطاعته، فلما قبضه الله تعالى إليه قبضه وهو قائم يصلي قد توكأ على عصاه، فما علمت الجن بذلك إلا لما أكلت الأرضة عصاه فخرَّ إلى الأرض {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ المَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي العَذَابِ المُهِينِ} [سبأ:14].(/8)
ويونس عليه السلام نجاه الله تعالى من بطن الحوت بكثرة تسبيحه وصلاته {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ المُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصَّفات:143-144] قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان من المصلين، وقال قتادة رحمه الله تعالى: كان كثير الصلاة في الرخاء فنجا.
وأهل الكتاب من اليهود والنصارى أمروا بالصلاة مع التوحيد؛ كما قال الله تعالى {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البَيِّنَةُ * وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ} [البيِّنة:4-5].
وأخذ الله تعالى عليهم الميثاق للقيام بجملة من الشرائع من أجلها وأعظمها الصلاة، ووعدهم بتكفير سيئاتهم، وإدخالهم الجنة إن وفوا بما عاهدوا الله تعالى عليه {وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآَتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآَمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [المائدة:12].
ثم كانت الصلاةُ في الإسلام ثانيَ أركانه بعد الشهادتين، وأعظمَ عملٍ يَتقربُ به العبدُ لربه جل جلاله، وكلَّم اللهُ تعالى بها نبيَه محمدا عليه الصلاة والسلام لما عُرج به إلى السماء، ولم يكن بينه عز وجل وبين نبيه عليه الصلاة والسلام أيُّ واسطة في فرضها، وهذا يدل على عظيم شأنها في الإسلام، وعلو منزلتها.(/9)
وإذا كانت الصلاة كذلك في كل الشرائع الربانية، وقد توارد الرسل عليهم السلام كلهم على العناية بها، حتى كانت شريعة خاتمهم عليه الصلاة والسلام التي تكررت الصلاة فيها خمس مرات في اليوم والليلة.إذا كان الأمر كذلك فهل يليق بأتباع الرسل عليهم السلام أن يفرطوا فيها، أو يتهاونوا بها، أو يخلوا بما يجب لها؟! والله تعالى قد أمرنا بالاقتداء برسله عليهم السلام {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90].
وتعظيمُ أمر الصلاة، والعنايةُ بها، والمحافظة عليها، والإتيان بما يجب لها هو من الاقتداء برسل الله تعالى الذين دلَّت قصصهم في القرآن الكريم على تعظيمهم لقدر الصلاة، وعنايتهم بها.
إن المساجد في رمضان كانت تكتظ بالمصلين، وهكذا في كل عام، ولكن ما أن ينتهي رمضان حتى يتهاون كثير من المسلمين بالصلاة، فربما هجروا المساجد، أو أخروا الصلاة عن وقتها، وهذا من التهاون بها، وهو يدل على عدم تعظيمهم لشأنها. ومنهم من يضيع فروضا ويأتي بفروض، ومنهم من يتركها كلية إلى رمضان القابل، وكل هذا من الخذلان والحرمان، وإلّا فهل يفرط فيما هو صلة بينه وبين ربه أحد؟!
ألا فاتقوا الله ربكم في صلاتكم، حافظوا عليها، وأقيموها في أوقاتها مع جماعة المسلمين حيث ينادى بها في المساجد، ولا تلهينكم عنها الدنيا؛ فإنها متاع الغرور.
وصلوا وسلموا....(/10)
العنوان: عن الجوع .. والحرب (قصة شعرية رمزية)
رقم المقالة: 2027
صاحب المقالة: محمود توفيق حسين
-----------------------------------------
وقفَ الوالدُ يُعْلِمُ حمدانَ ابْنَهُ ذاكَ الطفلْ:
أنّي ذاهبٌ في سَفرةٍ للبَنْدَرْ
فاحذرْ
مِن تلكَ العصافيرِ الجَوعانَةِ أنْ تهجُمَ حقْلَ الفُولْ.
قدْ ردَّ الطفلْ:
لكنْ يا أبتاه،
ينقصُنا بعضُ الفَزّاعاتِ هُنا وهناكْ
وشراكٌ، وشِباكْ
ينقصُنا بعضُ اليقَظَةِ، بعضُ الجُهدْ .
والوالدُ يمشي من فورِه
والإِبنُ تململَ مِن دَورِه
وتراجع للبيتِ عَجُولاً
.. نظرةُ حمدانَ إلى تلكَ الخِرْبةِ خلْفَ البيتِ مُريبَهْ..
جِدُّ مُريبهْ!
.. إلى أكوامٍ متكدّسةٍ مِن خِلْفاتِ الجُندْ:
الخُوْذات
والشارات
والبزّات
والأحذيةُ الجلدْ .
تُلقيها تلكَ الثُّكْنَةُ ، تَنْعَمُ بالسُّكْنَى، خَلْفَ كثيبٍ واعِرْ؛
يمنحَها السُّترةَ والظلّ.
.. بعدَ مرورِ الأيامْ
عاد الرجلُ الغائبُ من حاجتهِ،
ذهبَ على الفَورِ إلى الحقلْ
يسبِقُهُ الشوقُ إلى أرضه.
وتصلّبَ في وقفتهِ حَسيرًا!
وجدَ الحقلَ الأخضرَ ماتْ،
فِرقة جُندٍ من خَشبٍ، وانتصبت فوق يبابٍ،
في البزّات
والشارات
والخوذات،
لا فولَ هُناكَ ولا عصافير...
• برواز:
10% مما تنفقُ دولُ العالم على التسلّح، كافٍ وزيادة للقضاءِ على مشكلةِ الجوعِ حولَ العالم، حيث يموت جوعاً 25.000 إنسان يوميًّا!!(/1)
العنوان: عن الصيام - عن التائبين
رقم المقالة: 1469
صاحب المقالة: الشيخ عبدالعزيز بن عبدالفتاح قاري
-----------------------------------------
ملخص الخطبة
فضل شهر رمضان , ومنزلة الصائمين - تصفيد الشياطين في رمضان ومعناه - فضل الصوم مطلقاً , والأيام المستحب صومها - فضل الجمع بين جهاد النفس بالصيام وجهاد أعداء الله بالجهاد - قَصص التائبين وأثرها في ترقيق القلوب - توبة أُمَّة يونس عليه السلام.
-------------------------
الخطبة الأولى
إن الحمد لله نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل الله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70-71]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} . اعلموا أن أحسن الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد بن عبد الله، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أما بعد:
فقد قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].(/1)
إن ربنا سبحانه قد شرع لنا من الأعمال ما نتقرب به إليه ومن أجلها وأفضلها الصوم، وعين لنا مواسم وأوقات مباركات نتعبد له فيها ومن أجلها وأعظمها شهر رمضان، هذا الشهر الكريم الذي أنزل الله فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، وقد جعل الله ثواب الصوم له لعظم قدره عنده.
قال رسول الله يقول الرب عز وجل: ((كل عمل بن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به يدع شهوته وطعامه من أجلي))[1].
ومعنى قوله: ((إلا الصوم)) أن الحسنات تُضاعف في هذه العبادة أكثر من أي عبادة أخرى لأن الرب عز وجل يتولى هو بنفسه تقدير ثواب هذه العبادة وأجرها.
وعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((إن في الجنة بابًا يسمى: الريان لا يدخل منه إلا الصائمون يوم القيامة لا يدخل منه غيرهم فينادي منادي أين الصائمون، فيدخلون منه حتى إذا دخلوا أُغلق فلم يدخل منه أحد)) متفق عليه[2].
وعن أبي إمامة رضي الله عنه قال سألتُ رسول الله فقلتُ يا رسول الله مُرني بأمر آخذه عنه فقال: ((عليك بالصوم فإنه لا مثل له))[3].
وهذه العبادة العظيمة قد شرع الله عز وجل لها أوقاتًا متعددة ومواسم متنوعة أجلها وأفضلها وأعظمها شهر رمضان المبارك، فصيام هذا الشهر الكريم هو أفضل وأعظم أنواع الصيام، وهذا الشهر الكريم هو أفضل وأجل مواسم الصيام يقول رسول الله : ((إذا دخل رمضان فُتحت أبواب السماء وغُلِّقت أبواب جهنم وسُلسلت الشياطين)) متفق عليه[4].
وللترمذي[5] وابن ماجه[6] قال : ((إذا كان أول ليلة من رمضان صُفدت الشياطين ومُردة الجن وغُلقت أبواب جهنم فلم يُفتح منها باب وفتحت أبواب الجنة فلم يُغلق منها باب، وينادي منادي: يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر اقصر، ولله عتقاء من النار وذلك في كل ليلة)).(/2)
وقال رسول الله : ((من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه))[7] أما تصفيد الشياطين وسلسلتهم فليس معناه أنه لا يبقى شيطان ولا جني إلا وصُفد وسُلسل في هذا الشهر الكريم إنما المراد مردة الشياطين أي: رؤوسهم وطواغيتهم الذين هم أكثرهم خبثًا وشرًا وفسادًا وإفسادًا وإغواءً لبني آدم وتبقى بقية من الشياطين الصغار والجن الأتباع يوسوسون لكثير من الناس ولولا ذلك لم تر في رمضان أحدًا يعصى الله عز وجل.
فهذه العبادة العظيمة إذا أخلص الإنسان النية فيها واحتسبها عند الله عز وجل تُفتح فيه أبواب الجنة وأبواب السماء وتغلق فيه أبواب جهنم.
وقد كان رسول الله لذلك يبشر أصحابه بقدوم هذا الشهر فيقول: ((أتاكم رمضان شهر مبارك فرض الله عليكم صيامه تُفتّح فيه أبواب الجنة - أو قال: أبواب السماء - وتُغلّق فيه أبواب النار وتُصفد فيه مردة الشياطين ولله فيه ليلة خير من ألف شهر من حُرم خيرها فقد حُرم))[8].
واعلموا أيها المؤمنون أن رسولكم سن لكم من الصيام في غير رمضان أنواعًا من الصيام تتقربون بها إلى الرب عز وجل.
فسن لكم صيام ست من شوال قال : ((من صام رمضان واتبعه ستًا من شوال كان كصيام الدهر))[9]، وسن لكم ثلاثة أيام من كل شهر وهي الأيام البيض الأيام الغر، رأى رسول الله أعرابيًا صائمًا فقال: ((إن كنت صائمًا فصُم الغُر))[10] أي الأيام البيض الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من كل شهر وأفضل الصيام بعد رمضان هو صيام داود عليه السلام كان يصوم يومًا ويفطر يومًا كما أخبرنا بذلك المصطفى [11].
ودل هذا على أن هذا الصيام هو أفضل من صيام الدهر كله، أفضل ممن صام سائر الأيام، بل إن من صام الدهر فقد خالف سنة المصطفى فقد نهى الرسول عن صيام الدهر.
عن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله سُئل عن صيام الدهر أو عمن صام الدهر فقال: ((ما صام وما أفطر))[12].(/3)
وسُئل عن صيام يومين وإفطار يوم فقال : ((ومن يطيق ذلك)).
فسُئل عن صيام يوم وإفطار يومين فقال: ((لو أن الله عز وجل قوانا على ذلك)).
وسُئل عن صيام يوم وإفطار يوم: ((ذاك صيام أخي داود)).
وقال : ((صيام ثلاثة أيام من كل شهر ورمضان إلى رمضان كصيام الدهر))، أي يعدل صيام الدهر.
وسُئل عن صيام يوم عرفة فقال: ((يكفر السنة الماضية والباقية)).
وسُئل عن صيام يوم عاشوراء فقال : ((يُكفر السنة الماضية))[13] روى كل ذلك مسلم في صحيحه.
ومن أفضل الصيام بعد رمضان صيام شهر الله المحرم كما أخبر بذلك فقال: ((أفضل الصيام بعد رمضان صيام شهر الله المحرم وأفضل الصلاة فيه بعد الفريضة صلاة الليل))؛ رواه مسلم[14].
وما رؤى صائمًا أكثر منه في شهر شعبان. فمما سنه لنا أيضًا صيام شهر شعبان[15]. وكذلك سن لنا رسول الله صيام العشر الأوائل من ذي الحجة، وأما الصيام في الجهاد فمن أعظم الأعمال قال: ((من صام يومًا في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار مسيرة مائة عام))[16].
ما أعظم أن يجمع المؤمن بين الجهادين جهاد النفس بالصيام وجهاد أعداء الله بالقتال في سبيل الله فإن هذا من أعظم المراتب وأفضل الأعمال.
نسأل الله العظيم أن يعيينا على صيام هذا الشهر الكريم وعلى قيامه وأن يجعلنا من عتقاء النار فيه وأن يوفقنا لفعل الخيرات في سائر الأوقات والمواسم المباركات إنه قريب مجيب الدعوات.
أقول هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.(/4)
أما بعد: فالتوبة التوبة يا عباد الله: توبوا إلى الله جميعًا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون [النور:31]. فقد تفشت الغفلة وقست القلوب واستحكمت الأهواء وسيطرت الشهوات وغفل أكثر الناس عن ربهم ونحن الآن في موسم كريم وشهر مبارك فتُب إلى الله أيها العاصي واستيقظ من رقدتك يا أيها الغافل.
ولعل مما يرقق القلوب ويوقظ البصائر ويحرك النفوس ويذكر الناس بربهم أن نقص عليكم في كل جمعة من جمع هذا الشهر الكريم قصة صحيحة ثابتة من قصص التائبين من الأمم كانوا أو من الأنبياء، ومن الصحابة أو من التابعين، من الرجال أو من النساء، من الرعاة أو الرعية.
ولنبدأ اليوم بقصة أمة من الأمم تابت بأجمعها إلى الله عز وجل تابت بعد أن كفرت وكذبت بآيات الله. تابت عند معاينة العذاب ولم يكون ينفع الإنسان أن يتوب في مثل هذا الوقت لكن هذه الأمة نفعها إيمانها ونفعتها توبتها في هذا الوقت العصيب.
إنها أمة يونس بن متى عليه السلام فقد أرسله الله عز وجل إلى أهل نينوى بالموصل وهم مائة ألف أو يزيدون، أرسله الله عز وجل إليهم ليدعوهم إلى توحيده وعبادته، وكان يونس رجلاً حاد الطبع سريع الغضب فكذبه قومه وكفروا بما جاء به وسخروا منه وآذوه.(/5)
فتوعدهم عذاب الله عز وجل ثم خرج من بينهم فنظرت تلك الأمة فإذا بالعذاب قد أقبل ظهر بوادره وأقبلت حممه وجعل يطوف على رؤوسهم كأنه قطع الليل المظلم فلما رأوا ذلك فكأنما سُقط في أيديهم وعلموا أن يونس عليه السلام قد صدقهم فبحثوا عنه فلم يقدروا عليه لم يعثروا عليه، فقال بعضهم لبعض: نجتمع جميعًا إلى الله فنتوب إليه فخرجوا جميعًا الرجال والنساء والعواتق والأطفال وأخرجوا معهم أنعامهم وبهائمهم فرقوا بين كل مرضع وولدها من الناس والأنعام وجعلوا الرماد على رؤوسهم ولبسوا المسوح وعجوا إلى ربهم عز وجل جأروا بالبكاء والدعاء واستجاروا من عذاب الله وغضبه ولبثوا كذلك فلما علم الرب الرحمن صدقهم كشف عنهم العذاب، وقد كانت مضت سنته أنه لا تنفع التوبة عند معاينة العذاب لكنه استثنى قوم يونس فنفعهم إيمانهم ونفعتهم توبتهم بعد معاينة العذاب، وقبل أن يحل بهم وكيف لا يرحمهم الرحمن ويحن عليهم الحنان ويمن عليهم المنان وقد وقفوا جميعًا بين يديه نادمين باكين يعجون ويجأرون مع صغارهم أجمعين فسبحانه وتعالى ما أكرمه وما أرحمه سبقت رحمته غضبه ووسعت رحمته كل شيء.(/6)
أما نبيهم يونس بن متى عليه السلام فلما خرج من بين قومه وعلم بعد ذلك أن العذاب لم ينزل بهم ظن أنه بذلك يُعد كاذبًا فخرج مغاضبًا لربه، فركب سفينة فماج البحر بهم فاقترعوا أيهم يلقونه في البحر، فخرجت القرعة على يونس فألقوه في البحر فالتقمه الحوت وذلك قوله سبحانه: إذ أبق إلى الفلك المشحون فساهم فكان من المدحضين [الصافات:140-141] فلما صار يونس في تلك الظلمات في ظلمات بطن الحوت جأر إلى ربه عز وجل واستجار به، توسل إلى الله عز وجل بالتوحيد والتهليل والتسبيح وصار ينادي وهو في تلك الظلمات السحيقة: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فنجاه الرب عز وجل ببركة التوحيد وببركة هذا التهليل والتسبيح، ببركة هذا الدعاء نجاه من تلك الظلمات السحيقة التي لا يظن إنسان إذا وقع فيها أنه ينجو منها.
قال تعالى: فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يُبعثون فنبذناه بالعراء وهو سقيم وأنبتنا عليه شجرة من يقطين [الصافات:143-146].
فسبحانك يا أرحم الراحمين. الحمد لله رب العالمين، سبحانه يقبل توبة التائبين ويفرح بأوبة العاصين ويفتح لهم أبوابه فتوبوا إلى الله يا عباد الله، توبوا إلى الله جميعًا لعلكم تفلحون. اغتنموا هذا الموسم الكريم وهذا الشهر المبارك فتوبوا إلى الله العظيم من ذنوبكم ومعاصيكم وتفريطكم في جنب الله.
أما بعد ... فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار.
واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة ومنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تُدان.(/7)
ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا [الأحزاب:56].
وقال : ((من صلى علىّ واحدة صلى الله عليه بها عشرًاْ))[17](17)[1].
فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.
---
[1] صحيح البخاري (5927)، صحيح مسلم (1151).
[2] صحيح البخاري (1896)، صحيح مسلم (1152).
[3] مسند أحمد (5/249)، سنن النسائي (2220).
[4] صحيح البخاري (1899)، صحيح مسلم (1079).
[5] سنن الترمذي (682).
[6] سنن ابن ماجة (1642).
[7] صحيح البخاري (1901)، صحيح مسلم (760).
[8] مسند أحمد (2/230)، سنن النسائي (2106) سنن ابن ماجة (1644).
[9] صحيح مسلم (1164).
[10] سنن النسائي (2421).
[11] صحيح البخاري (1977)، صحيح (1159).
[12] صحيح مسلم (1159).
[13] صحيح مسلم (1159).
[14] صحيح مسلم (1163).
[15] عن عائشة رضي الله عنها قالت: لم أره - تعني رسول الله صلى الله عليه وسلم - صائماً من شهر أكثر من صيامه من شعبان ن كان يصوم شعبان في كله ، كان يصوم شعبان إلا قليلاً))، صحيح مسلم (1156).
[16] سنن النسائي (2254).
[17] صحيح مسلم (408).(/8)
العنوان: عن كتاب: "تطور الأساليب النثرية".. رد على مؤلفه
رقم المقالة: 1894
صاحب المقالة: محمود محمد شاكر
-----------------------------------------
"عن كتاب تطور الأساليب النثرية"
رد على مؤلفه [1]
غَضِبَ الأستاذ أنيس المقدسي مِمَّا نَقَدْناهُ بِهِ في مقالِنا الأوَّل، ورمانا بكلمته الفاتكة في "مقطم" الثلاثاء 13 أغسطس سنة 1935، ظنًّا منه أنَّ ما أتى به يُعَدُّ دليلاً جديدًا يُقْنِعُنا بما في كتابه، والحقيقة أنه دليلٌ جديدٌ يُعَضِّد رأيَنا في الكتاب، ودليلٌ أيضًا على أنَّ المؤلِّف إنما يأخذ معانيَ الأشياء من ظواهرها، ولا همَّ له بما في باطنها.
ونحن لا نقول هذا هِجاءً ولا طَعْنًا كما يقول في مقاله؛ فما في العلم هِجاءٌ ولا طعنٌ، وأنت إذا قلتَ في قضيَّة من قضايا العلم أنها فاسدةٌ، وأنَّ صاحبها مخطئٌ، وأن هذا الخطأ دليلٌ على أنه لم يفكِّر في القضية، وأنَّ إلقاءَه القضيَّةَ بغير تفكيرٍ فيها إنَّما هو تهجُّمٌ على الخطأ – فلا تعني بذلك هجاءً ولا طعنًا ولا تنقُّصًا، فإذا جئت مع ذلك بالدليل على ما تقول؛ لم يبقَ لصاحبها عذرٌ في غضبه أو فَوْرَته.
أراد الأستاذ الأديب أن يَدفع عن نفسه وعن كتابه ما قلناه، وأراد أيضًا أن يعلِّمنا – علَّمه اللهُ الخير – كيف نكتب حين نَنْقُدُ في هذا القرن العشرين، وسنكون عند حُسن ظنِّه بنا إن شاء الله.(/1)
يدَّعي الأستاذ – أكرمه الله – أن نَقْدَنا: "مُشْبَعٌ بروحٍ لا نجدها اليوم إلا في الأوساط الجدليَّة، البعيدة عن الحرية العلميَّة؛ فنحن ننظر إلى الحياة من خلال (العُرف المَوْروث)، وأننا نعتبر (التقاليد القديمة) قضايا مُنَزَّلة لا سبيل للعلم إليها، وأنَّنا حين رأيناهُ خرج عنِ السُّنَّة المعهودة - قامت قيامتُنا، واتَّهَمْنا الخارجَ بالضعف وسُوء القَصْد، وانصرفنا عنِ المناقشة العلمية الهادئة إلى الطعن والتنقُّص، وأنَّ كلامنا قد وَرَدَ فيه ما يجب أن يَتَنَزَّه عنه ناقدٌ من نقَّاد القرن العشرين؛ إذ أخذنا نعالِجُ عِلْمَه معالجةَ الغيور على معتقَدٍ موروثٍ نخاف فِقْدانَهُ، وذلك من جرَّاء الغَيْرة التقليديَّة التي اتَّهَمَنا بها.
وإذا كان الأستاذ قد أباح لنفسه أن يفهم كلَّ هذا من كلمتي عن كتابه، ثم رضيَ أن يصرِّح بذلك تصريحًا عجيبًا في بابه، ثم لم يتورَّعْ عن أن يقول: إنَّا أَخَذَتْنَا الغَيْرةُ على (معتقَدٍ موروث نخاف فِقْدانَهُ)، إذا كان الأستاذ قد أباح لنفسه ذلك كلَّه؛ فلا أقلَّ من أن يُبيح لنا أيضًا أن نُترجِم للقرَّاء معنى هذا الكلمات التي ذكرها في كلامه؛ فإن هذه (الطريقة الأمريكانيَّة في الأساليب الكتابية والنقدية) مما لا نتعاطاه، ولا نَدَعُ لأحدٍ سبيلاً إلى الاختفاء وراءه، ولعلَّ الأستاذ يعرف أنَّنا نَقْبَل كلَّ ما يُقال تصريحًا، ولو كان في كل كلمةٍ منه سيفٌ مسمومٌ، ولا نقبل شيئًا مِمَّا يقال تعريضًا ولو كان في كل كلمة منه رحيقٌ مختومٌ؛ فإنَّ أَدْوَأَ الأدْوَاء هذه المخادَعةُ التي يتَّخذها بعض الناس، ولا يزالون يُلِحُّون في الإتيان بها عند كلِّ حديث؛ ليُوقِعوا في النفوس معانيَ تأتي من وراء العقل مأتَى اللصِّ من وراء الجَدار!(/2)
ونحن لا نظنُّ بقرَّائنا إلا خَيْرَ الظنِّ، فما من أحدٍ إلا وقد فَهِمَ أنَّ الأستاذ يريد بقوله (العُرف الموروث والتقاليد القديمة والمعتَقَد المَوْروث): القرآن والحديث؛ فإنَّ الكلام في مقالنا كان منحَصِرًا فيهما، وفَهِمَ أنَّه يريد بقوله (الغَيْرة التقليدية): قيامنا لردِّ شُبَهِ الأستاذ التي أتى بها وبَثَّها في كتابه، وأكثَرُها مما لا يقتضيه البحث الذي يبحثه، ولْيَعلمِ الأستاذ أننا أخذنا كتابه أَرْفَقَ مأخذٍ، ولم نُرِدْ أن نَفْجَعَهُ فيه دَفْعَةً واحدةً، فوضَعْنا له كلماتٍ هي أُسٌّ عظيمٌ لمن يتدبَّر، فظنَّ الأستاذُ أنَّ قليلَ عِلْمِنا وقف لنا حيث وقف القلم، فإن كان ذلك ظَنَّهُ، وكان ذلك هو الذي حَفَزَهُ إلى أن يجعل القرآن والأحاديث من التقاليد الموروثة؛ فخيرٌ له أن يردَّ ظَنَّهُ إلى حيث كان، وإن كان هذا أيضًا هو الذي استَفَزَّه حين قال: إننا كتبنا غَيْرةً منا على (معتقَد موروث نخاف فِقْدانَهُ)؛ فسيعلم أنَّا ما كتبنا أوَّلاً إلا لإقرار الحقِّ في العلم، وتزييف العلم الناقص أوِ العلم الصناعي، الذي راج الآن في أسواق الأَدَبِ رواجَ بضائع اليابان في أسواق البِزَازة.
ولْيعلمْ أيضًا أنَّ هذا (المعتقَد الموروث) ليس مما يُخشى عليه طوارقُ الحَدَثانِ التي تسمَّى أساتذةً وفلاسفةً وكُتَّابًا وشُيُوخًا في الأدب في هذا الزمان.
وبعد هذا كله؛ سيعلم الأستاذ أيضًا أنَّنا لسنا نقلِّد أحدًا فيما نكتب حتى نصبح من المدافعين عن التقاليد، وأنَّ كلامنا عنِ السجع مما نَقَضْنا به أقوالَ الأئمَّة من علمائنا - رضي الله عنهم - وأننا نأخذ هذا العلم من طريق الفهم لا من طريق الرواية وَحْدَها، وأننا لا نستعمل الطريقة (التجارية الأميركية) في تقسيم الأشياء وترتيبها وهَنْدَمَتِها وتزيينها للإغراء لا للفائدة.(/3)
حَصَرَ الأستاذ أنيس (نظريَّاتِنا العلميةَ) - كما سمَّاها - في كلمات خمسٍ لا ندري كيف وقعت له على الصورة التي كَتَبَها بها، وردَّ عليها ردًّا طريفًا يقف بالمسألة كلِّها على الباب، لا تريد أن تدخل ولا تريد أن تنصرف.
وقد نبَّهْنا الأستاذَ في مقالنا الأوَّل - حين تكلمنا عن كلمة الجاحظ في سَجْع الخُطباء عند الخلفاء الراشدين - أنَّ الوقوف عند النصوص وتدبُّرَها لِفَهْمِها أمرٌ لابدَّ منه، وأن فيلسوف الصين الأكبر يقول: "مَنْ تعلَّم من غير تفكير فهو في حَيْرةٍ، ومن فكَّر من غير تعلُّمٍ فهو في خطرٍ". وسنقرِّر ذلك نفسَهُ في مقالنا هذا من بابٍ آخَرَ، وسنقرِّر أيضًا أنَّ الفَوْضَى التي عمَّت أدباءنا في فهم الألفاظ، ثم القدرة على اختراع كلماتٍ وتوهُّم معنى لهذه الكلمات، ثم بناء التاريخ على هذا الوهم - إنما هو إفسادٌ للعلم وللعقل وللتراث الإنساني كلِّه.
فالأستاذ أولاً قدِ ادَّعى أنَّ العرب كانت لهم (حَلْقاتٌ دينيَّة)!! وأن رأس هذه الحَلقات هو (الكاهن)، وأن هذا الكاهن كان (يَسْجَعُ) كلامه في هذه الحَلقات؛ فالسجع إذًا من (آلات) صناعة الكاهن في الحَلقات الدينية، ومن هنا خرج إلى مقارنته بالقرآن.
أما مسألة (الحَلْقات الدينيَّة) عند العرب فما هي إلا وهمٌ توهَّمه الأستاذ، وفَجَأَ القرَّاءَ به في أوَّل صفحةٍ من كتابه، كأنَّه شيءٌ مقرَّرٌ ثابتٌ، قدْ أجمعتْ عليه الرُّواة وتواترت به الأخبار!
وكان من حقِّ القرَّاء الَّذين يقرؤون كتابه أن يُبَيِّن لهم أُستاذُهم الأصلَ الذي جاء منه بهذا البيان عن دِين العرب في الجاهلية، ثم يَصِفَ لهم هذه الحَلْقات مِمَّا استنبطه هو من أُصول التاريخ، ونحن ننفي هنا أنَّ العرب كانت لهم حَلْقاتٌ دينية كما يقول الأستاذ، وإلاَّ فَلْيَأْتنا الأستاذ بالدليل الذي يُعَضِّد رأيَه، فما قَرَأْنَا مرةً واحدةً شيئًا من هذا، لا في تاريخ قديم ولا حديث يوثَق به.(/4)
وإذا صحَّ ذلك واستطاع الأستاذ أن يأتيَنا بالدليل؛ فليبيِّنْ لنا أيضًا كيف كان الكاهن هو رأسَ هذه الحَلْقات الدينيَّة.
ونحن من الآن نقول لقُرَّائنا: إنَّ الأستاذ لن يستطيع أن يفعل شيئًا من هذا، وإنَّه كان أوْلى به أن يَدَعَ أمر كِتَابه، ويقفَ به حيث وقفنا به منَ النقد؛ فهذه واحدةٌ في القدرة على اختراع كلماتٍ، ثم تَوَهُّم معنًى فيها، ثم بِناءُ تاريخ على هذا الوهم.
وننصرف عن هذا إلى القول في الفوضى في فهم الألفاظ العربية؛ فالكاهن عند العرب إجماعًا: هو الرجل الذي يتعاطَى الكَهانة، وهي الخبر عنِ الكائنات والحوادث في مستقبَلِ الزمان، ويدَّعي لنَفْسِه معرفة الأسرار واستظهارها، وكانتِ العرب تسمِّي كلَّ مَنْ أخبر بشيءٍ قبلَ وُقوعِهِ، أو أنذَر به قبل أن يقضى أمره (كاهنًا)؛ فكانوا يلجؤون إلى الكَهَنَةِ لفضِّ النزاع القائم بينهم في خصوماتهم، أو عند إرادة السفر من مكانٍ إلى مكان؛ لِيعرف الرجل منهم ما يصيبُه في سفره من خيرٍ أو شرٍّ، إلى غير ذلك مِمَّا هو من هذا الباب.
وليس في كتابٍ منَ الكُتُب ما يَدُلُّ على أنَّ الكُهَّان كانوا من رؤساء الدِّين، أو أنهم كانوا قائمين بشرائِعِ الجاهلية في شيْءٍ أبدًا، والكاهن عند العرب والعرَّاف والمنجِّم من بابةٍ واحدة، مع اختلافٍ يسيرٍ يَدُلُّ عليه اشتقاق هذه الألفاظ؛ فالأستاذ قد وقع في هذا الخَلْط بين معنى الكاهن عند العرب والرئيس الديني - كما يُسَمُّونه - من أنَّه إنَّما اعتمد في فهمه هذا على ما يَرِدُ في ألفاظ المتَرْجِمين الذين ترجموا كُتُب المستشرقين، حين كتبوا عن تاريخ الشرق القديم؛ كمِصْرَ والهند وآشور وغيرها، فإنَّ هؤلاءِ المُتَرْجِمين لم يجدوا في ألسنتهم كلمةً يعبِّرون بها عن الرئيسِ الدِّيني إلا قولهم (الكاهن). فهذا اللفظ عند الأستاذ هو - كما ترى - عامِّيٌّ لا عربيٌّ، فَهِمَهُ على عامِّيَّته لا على عربيَّته.(/5)
بقيَ أن نَذْكُرَ لقُرَّائنا كلمة (الكاهن) التي وَرَدَتْ فِي القرآن، ثم ننتَقِلُ بهم إلى معنى (سجع الكُهَّان)، موجِزِينَ في ذلك، غيرَ ناظرين إلى رأي الأستاذ فيما نقوله؛ فإنَّ المعنَى العامِّيَّ الذي فَهِمَهُ من هذه الكلمة يَجْعَلُ بيننا وبينه سَدًّا مُحْكَمًا.
فالذي ورد في القرآن آيتانِ، إحداهُما في سورة الطُّورِ؛ وهي قولُه تعالى لرسوله - صلى الله عليه وسلم -: {فَذَكِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ * أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ * قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُتَرَبِّصِينَ} [الطور: 29-31]
والأخرى في سورة الحاقَّة: {فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لا تُبْصِرُونَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ * وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ} {الحاقة: 38-43}.
ومن أسباب نزول هاتين الآيتينِ أنَّ الوليدَ بنَ المُغِيرَةِ اجتمع ونفرٌ من قريش، وكان ذا سِنٍّ فيهم، وقد حَضَرَ المَوْسِمُ، فقال: إنَّ وُفود العرب ستَقْدَمُ عليكم فيه، وقد سمعوا بأمر صاحبكم؛ فأَجْمِعُوا فيه رأيًا واحدًا، ولا تختلفوا؛ فيكذِّبَ بعضكم بعضًا، ويردَّ قول بعضكم بعضًا. فقيل: يا أبا عبدشمس، فقُلْ وأَقِمْ لنا رأيًا نقوم به، فقال: بل أنتم، فقالوا: نقول مجنونٌ! فقال: ما هو بمجنون، ولقد رأيتُ الجُنون وعرفناه، فما هو بخَنْقِهِ ولا تَخَالُجِه[2] ولا وَسْوَسَتِهِ، فقولوا أسمع، فقالوا: نقول كاهنٌ! فقال: ما هو بكاهنٍ، رأيت الكُهَّان، فما هو بزَمْزَمَةِ[3] الكُهَّان، فقالوا: نقول شاعرٌ... إلخ. وسنعود بعدُ إلى تفسير هاتين الآيتَيْن مع هذا الحديث.(/6)
فذِكْر الكاهن في القرآن ليس مِمَّا يُقيم لأستاذنا - أبقاه الله - حُجَّةً فيما يَدَّعِيهِ من أنَّ هذا الاتهام مبنيٌّ على ما رأوه من الشَّبَه بين أُسلوب كُهَّانهم وأسلوب السُّوَر الأولى من القرآن، وليتدبَّر الأستاذُ هذا الموضع فَضْلَ تَدَبُّرٍ؛ فإنَّا لن نُفَسِّرَهُ له إلا بعد أن يُقِرَّ بأوهامه التي ذكرناها، ويَقِينُنا أنَّ القرَّاء قد فهِموا الآن موضع التفسير الصحيح لمسألة الكهانة.
أمَّا سجع الكُهَّان؛ فموجَزُ الرأْيِ فيه عندنا: أنه هو طريقة الكُهَّان في الإخبار بالغيوب، ثم زَمْزَمَتُهُمْ عليها، ثم الاستعانة على إيقاع التأثير على السامع في زَمْزَمَتِهِمْ بالاتزان والتعديل الذي وضعوه لكلامهم، وفي هذه الكلمة الكفايةُ بَعْدُ، ونُتِمُّ قولَنا عنِ الكُهَّان وسَجْعِهِم مُفَصَّلاً بعضَ التفصيل في المقال الآتي[4]، مختصِرِينَ القولَ اختصارًا؛ لأنَّ الرأيَ الذي نَقَضْنَا به أقوال علمائنا في فَهْمِ (سَجْع الكُهَّان) كثيرُ الأدلَّة، مبنيٌّ على تفسيرٍ دقيقٍ لمعاني الألفاظ التي تداوَلها العلماءُ، ولم يُبَيِّنوا لنا وَجْهَها بيانًا شافيًا.
---
[1] هذه المقالة تتمة للمقالة السابقة التي عنوانها: (في حلبة الأدب).
[2] تَخَلّج المجنون في مِشيته: تجاذب يمينًا وشمالاً، أي: تمايل.
[3] الزَّمزمة: صوتٌ خفيٌّ لا يكاد يُفهم.
[4] لم يكتب الأستاذ شاكر هذا المقال، ولم يتابِع قوله عن سجع الكهان في أيِّ مكانٍ آخَر.(/7)
العنوان: عند الركن والحجر
رقم المقالة: 266
صاحب المقالة: أحمد محمد الصديق
-----------------------------------------
ضيفٌ على الله لا ضيفٌ على البَشَرِ كطائرٍ حَطَّ بين الماءِ والشَّجَرِ
أُسبِّحُ الله مَبهورًا بكَعبَتِهِ عندَ المَقامِ ورُكنِ البيتِ والحَجَرِ
مُرَدِّدًا بلسانِ الرُّوحِ ما اعتَلَجَت مِن أَضلُعِي من مَعاني الشَّوقِ والذِّكرِ
ويَستثيرُ هُمومي.. ما تُكابِدُهُ شُعوبُنا مِن صُنوفِ الكَيدِ والضَّرَرِ
تَكالبَ الحِقدُ مَغرورًا بسَطْوَتِهِ حتَّى غَدَت أُمَّةُ التوحيدِ في خَطَرِ
يا رَبِّ ندعوكَ والآلامُ تَنهَشُنا مُسْتَنصِرينَ فأَدرِكْنا على أَثَرِ
واجْمَع على عِزَّةِ الإسلامِ وَحدَتَنا لكي تُحَلِّقَ فيها رايَةُ الظَّفَرِ(/1)
العنوان: عند وداعِ رمضانَ الماضي.. خاطرةُ ألم ودمعةُ ندم
رقم المقالة: 1518
صاحب المقالة: صلاح عبدالشكور
-----------------------------------------
في آخر يوم من رمضان الماضي.. وبعد الإفطار بلحظاتٍ جلستُ متكئاً على سارية من سواري المسجد.. وحولي المصلون يؤدون راتبة المغرب.. ويسألُ بعضُهم بعضاً: أجاء العيد..؟ والكل ينتظر أسيكون غداً آخر يوم من رمضان أم أول أيام عيد الفطر المبارك..؟ وبينما تداخلت أصواتهم وارتفعت قليلاً.. أخذني هاجسُ التفكير، وطار بي صوب بداية الشهر.. تأملت في حالي إذ ذاك هنيهة.. سابحاً في بحر الذكريات.. ورجعتُ إلى نفسي متذكراً مطلعَ شهر رمضان المبارك.. وكيف كانت البهجة قد عمت جوانحنا.. والسعادة خالطت كل جزء من أجزاء جوارحنا.. فعاشت قلوبنا فرحة اللقيا بعد طول فراق.. فتعطرت أفواهُنا بتلاوة القرآن، وتهذبت قلوبُنا بالصيام.. وزكت نفوسُنا بالقيام...
غير أني عشت تلك اللحظات وأنا أتجرع مرارة الندم وغصص التأنيب على انقضاء هذا الشهر وتَصَرُّم أيامه ولياليه.. فقد قررتُ في بدايته أن أختم القرآن كذا وكذا فلم أفعل.. وخططت أن أعمل كذا وكذا من أبواب الخير من دعوة وتزكية وصدقة وبذل للمعروف فلم أفعل.. ورتبت جدولاً يومياً للتلاوة فلم أُمضِ معه إلا أسبوعين فقط.. آه!! لقد فرطتُ وسوَّفتُ وربما الليلة تُوزع الجوائز من لدن الرحمن على عباده المؤمنين، فكيف تكون نتيجتي..؟ وهل أكون من الفائزين المقبولين في شهري وقد قصرت..؟ ليتني كنت جاداً مع نفسي، وهل تنفع ليت..؟ ليتني جاهدت نفسي وأخذتها بالعزيمة وعوَّدتها الجَلَدَ في شهر الصبر والمصابرة.. ليتني لم أترك وردي اليومي، ليتني لم أتوانَ في أذكار الصباح والمساء.. ليتني تصدقت أكثر، وصليت أكثر، ودعوت الله أكثر...(/1)
وتمثلت أمامي وأنا غارق في لهيب الندم كل فضائل رمضان.. من مضاعفة الحسنات، وفتح أبواب الجنان، وغلق أبواب النيران، وتصفيد الشياطين.. وغفران ما تقدم من الذنوب لمن صام وقام رمضان إيماناً واحتساباً.. والعتق من النار، وفضيلة ليلة القدر ونزول الملائكة.. وصرت أتخيل بواقعيةٍ عِظَمَ الخسارة والغبن الفاحش الذي وقعتُ فيه.. عندها جاءني الشيطان قائلاً: مهلاً أيها النادم فلئن قصرتَ وفرطت في هذا العام.. فدونك عمر مديد وأنت في ريعان الشباب وميعته.. فلا داعي للندم ما دمت حياً ترزق.. وسيأتي رمضان القادم فتفعل فيه ما لم تفعله في رمضان المنصرم وتعوض ما فاتك فلا تحزن...
استجبت على مضض لهذا الهاجس الخبيث الذي خفف من حرقة الندم الذي توقد بداخلي.. ومنّيتُ نفسي برمضان القادم وأنا أكفكف دمعتي وأهدّئ لوعتي.. وقبل أن أنصرف من مجلسي تذكرتُ قصر الأعمار ودنو الآجال وغياب موعد الرحيل عن هذه الدنيا.. وعرفتُ خسة وسوسة الشيطان وقبح إيحاءاته.. حين يجعل الإنسان يعيش على الأمل وهو كالدخان لا يُدرى متى ينجلي وكيف ينجلي.. عُدت إلى نفسي وسألتها: هل تضمنين لي يا نفس أن أعيش إلى رمضان القادم.. وبيني وبين بلوغه سنة؟! هل نسيتِ أن الموت حق مقدر لا يتقدم ولا يتأخر؟! عندها سألت الله بقلب خاشع صادق أن يبلغني رمضان القادم.. وأن يتقبل مني ما كان من عمل صالح ويغفر زللي وذنبي ويجبر كسري.. ويجعل نيتي سابقة خير إلى ربي إن كان الله قد قدر قرب منيتي قبل بلوغ شهري...
لم أستفق من سباتي وتفكيري إلا على يد صديق جاء يهنئني بإتمام النعمة ودخول شهر العيد (تقبل الله منا ومنكم صالح القول والعمل) (كل عام وأنتم بخير)...(/2)
مضت الشهور والأيام حتى وقفَتْ بي على لحظة كتابة هذه الكلمات.. وقد بقي على شهر رمضان شهر الخير والرحمة أقل القليل.. وعدتُ إلى نفسي النادمة أقول لها: أيتها النفس، ها قد رزقك الله نعمةَ الحياة.. وأطال في بقائك ومدَّ في عمرك.. وأسبغ عليك نعمة الصحة والعافية.. وقد قرب الحبيب ودنا، فاستقبليه خير استقبال، واجعليه مطيةً لإدراك الرحمة والعتق من النار.. وصيريه سبيلاً إلى زيادة الحسنات وملاحقة النفحات.. وحذار أن يغلبك الشيطان فيعميك عن حظك وبُلغتك ويثنيك عن عزمك ومنيتك...
اللهم بلغنا رمضان مرارًا، وارزقنا فيه حسن القول والعمل، وتقبل منا، واعتق رقابنا ورقاب والدينا من النار، برحمتك يا رحمن...(/3)
العنوان: عندما تغلِبُك لِفافة
رقم المقالة: 2041
صاحب المقالة: حامد الإدريسي
-----------------------------------------
عزيزي المدخن...
أيها الشاب القوي العزم، أيها الأب المسؤول، أيها الكهل الذي حنكته الأيامُ وأحكمت عقلَه التجاربُ...
هل غَلَبَتْكم لِفافةٌ!!
لست محتاجًا إلى أن أبين خطر الدخان، أو أن أذكّر بأضراره الصحية، بل لعل أحدكم يكونُ أعلمَ بها مني، أو أن يكون عايش من أعراضه وأمراضه ما يغنيه عن كل تقرير وكل خطاب. لكني أحاول هنا أن أضع نفسي طرفًا في الصراع، لأتصور القضية، لفافة صغيرة، في مواجهة إنسان عاقل راشد مكلف مسؤول، قطعة من ورق، أُحكم لفها، وحُشي جوفها، واستعرت سمومها، تأخذُها بإرادتك، وتشعلُها بأصابعك، لتحرق فيك العافية، وتكسر في نفسك الإرادة، وتهزم فيك القرار!!
تراها تحترق بين عينيك، وأنت تعلم أنها تحرق صحتك، وتشاهدها تذوي بين إصبعيك، وأنت تعرف أن سمومها تذيب جسدك، تُقدِم على شرائها والضميرُ يصرخ، والذات تؤنب، والطبيب ينصح، والواعظ يذكر، والزوجة تدعو وتتمنى، والأطفال يرجون ويأمُلون، والأمراض تتربص، والسيئات تكتب، والباري -عز وجل- ينظر، فتتابع خطاك، وتلقي بدراهمك، وتمسكها بين يديك في عناد، وتمصها في إصرار، فيطأطئ الضمير، وتنطفئ الإرادة، وتتلاشى كل تلك الأصوات.
في هذه اللحظة بالذات، تتولد نشوة ممزوجة بندم، ومتعة ممزوجة بكره، وفرح مكدر بهزيمة الإرادة، ولذة مصاحبة للشعور بالذنب والإحساس بالضعف، فتزيد الهوة بين الشخص وضميره، ويفقد مزيدًا من السيطرة على ذاته، والتحكم في شهوته، ويعلن هزيمته أمام الهوى، يعلنها هذه المرة، وفي كل مرة، حتى تألف نفسه الهزيمة، وتضعف فيه الهمة، وينقاد كما ينقاد الفرس الجموح الذي أرهقته السياط...(/1)
الكثير منا يعرف الأضرار الصحية لهذه اللفافة، لكن أشد أضرارها خطورة، وأكثرها فتكا وتدميرًا هو ما تلحقه من أضرار نفسية واجتماعية، وما تتركه من آثار على السلوك والأخلاق.
إن أخبث ما تقوم به هذه القطعة الخبيثة أنها تضرب المثالية عند أبناء المدخن وزوجته، وهذه –لعمري- من أخطر ما يمكن أن يدمر الأسرة، ويشتت شملها، نعم، إن التدخين يشتت الأسرة، ويدمر بنيتها الاجتماعية، بضربه لأساس عظيم من أسس السلطة الأبوية، ألا وهو المثالية، أو القدوة.
إن الزوج في عين زوجته، والأب في عين أبنائه، هو القدوة التي يتبعونها، والسلطة التي يخشونها، والمثال الذي يحذون حذوه، والبطل الذي يفتخرون به، وهو عماد الأسرة وأساس نظامها، فإذا هوى هوت، وإذا فرط فرطت، وإذا رأى الأبناء أن أباهم يُؤثِر شهوته، وينقاد لرغبته، ولا يمنعه من ذلك إنكارُ المنكرين، ولا تحذيرُ العاقلين، تلاشت مكانتُه، وذهبت مصداقيته، وأصبحت أقواله مردودة بقول الشاعر:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله عارٌ عليك إذا فعلتَ عظيمُ
وأصبح حالُ هذه الأسرة كما قال الآخر:
إذا كان رب البيت للدف ضاربا فشيمة أهل البيت كلهم الرقص
وأيضا فإن انهزام المدخن أمام لفافته، يجعله منقادًا لرغباته، وعبدًا لنزواته، إذ يتعود تجاوزَ الحدود، واقتراف الخبائث، ويجد المسوغات من نفسه، ويقوى في مواجهة تأنيب الضمير، ويصفق وجهه أمام الناس، فتجده في البداية متسترًا، ثم لا يفتأ أن يصبح دخانه له شعارًا، ورائحته بين الناس مألوفة، ويأخذ الدخان من أسنانه ولون شفتيه، ما يكون سمة مصاحبة، وعلامة مميزة، فيألف من نفسه صفة العاصي، ويستثمر الشيطان هذا الإحساس، ويغذيه ويثريه، حتى تصبح المعاصي عنده شيئا معتادًا، ويصير الذنب ذبابة يذبها عن أنفه، فيتهاوى في دركات المعاصي، ويخسر من أسرته وأولاده ودنياه وآخرته الكثير، ولا حول ولا قوة إلا بالله.(/2)
قد تكون هذه حال المدخن الذي انصرفت له الآن مخيلتك أو قد لا تكون هذه حاله، وليس ما ذكرته حتمي الوقوع، لكن السبب الذي ذكرته حتمي المسبب، وقد يتخلف المسبب لأسباب خارجية أخرى، وقد يسلك الإنسان طريقًا ثم لا يمشي إلى آخرها، لكن من يفتح الباب يلج، ومن يمر على الدار يعرج، كما قال -صلى الله عليه وآله وسلم-: (ضرب الله مثلا صراطا مستقيما، وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى باب الصراط داعٍ يقول يا أيها الناس ادخلوا الصراط جميعًا ولا تعوجوا، وداع يدعو من جوف الصراط، فإذا أراد أن يفتح شيئًا من تلك الأبواب، قال: ويحك، لا تفتحه فإنك إن تفتحه تلجه، والصراط الإسلام، والسوران حدود الله، والأبواب المفتحة محارم الله، وذلك الداعي على الصراط كتاب الله، والداعي من فوق واعظ الله في قلب كل مسلم).
إن هذه اللفافة الخبيثة وهي في جيبك، لتسعى جاهدة في هدم دينك، وتدمير صحتك، وتشتيت أسرتك، وتفريق شملك، بل تَجُرُّك إلى النار جرًّا، فكم من بيوت شتتتها، وكم من أمراض سببتها، وكم من أبناء أفسدتهم، أفلا تستيقظ! أفلا تعقل! ما الذي تنتظره منها، ليس لها والله إلا غايتان، إما أن ترمي بك على سرير المرض، وإما أن تهوي بك في قعر جهنم، ارمها لا خير فيها، ارمها وحرر نفسك من إسارها، استعذ بالله منها كما تستعيذ به من الشيطان الرجيم، وتجنبها كما تتجنب المجذوم، وفر منها فرارَك من الأسد.
أخرجها الآن من مخبئها الذي عششت فيه، ومزقها الآن بين يديك، لتخزى ويخزى صانعوها...
أعلن النصر العظيم، وزف الفرحة إلى أهلك وأسرتك، وأرح صدرك ورئتيك، وحنجرتك وشفتيك، وتمتع برضا الضمير، وسرور النفس، وابتسامة الأهل، تعطر بالطيب، واستنشق الحياة، وامسح ذلك الماضي المليء بالدخان. واستغفر الله ربك، وابتسم فقد انتصرت على اللفافة.(/3)
العنوان: عندما زارني المتنبي
رقم المقالة: 459
صاحب المقالة: د. حسين علي محمد
-----------------------------------------
قال لي صديقي، وكنا نشترك في لجنة واحدة في تصحيح الشهادة الإعدادية، ونتذاكر – أثناء التصحيح – أخبار الشعر والشعراء، من العصور المختلفة: سأرسل لك المتنبي اليوم.
وحينما رآني أرفع حاجبي متعجبًا دون أن أنبس بكلمة، أضاف: ألا تعجبك أشعار المتنبي وشوقي وبدوي الجبل وعمر أبي ريشة وأحمد الصافي النجفي ومن في طبقتهم؟
- بلى.
قال جادًا: عثرت في مدينتنا الصغيرة على شاعر من طبقتهم، وأسمعني بعض قصائده الرائعة في الغزل والوطنيات.
كدت أتعلق برقبته وأنا أسأله: أين هو؟ وأين يعمل؟
قال متثاقلاً: سيقول لك بنفسه عندما يزورك في بيتك اليوم: من هو، وأين يعمل! وأضاف وهو يرشف القطرات الأخيرة من كوب الشاي: سيزورك عصر اليوم، ويعرض عليك قصائده.
بعد العصر كان على باب بيتي من ينادي: هل هذا بيت الأستاذ حسين؟
أجاب ابني الصغير: نعم.. تفضل.. أقول له من؟
- المتنبي.
...
رحبت به، وسألته عن اسمه، قال: المتنبي.
وحينما فتحت فمي تعجبًا، ضحك بصوت عال، وقال: أنا واحد من خمسة في مصر يحملون اسم المتنبي.
قاطعته: لقب المتنبي..
قال غاضبًا: أقول لك اسمي: المتنبي، تقول: لقبًا؟!
قلت صادقًا: آسف.. يا صديقي.
قال جادًا: قبلت اعتذارك (وأضاف) أشهرنا الأستاذ المتنبي وهو ناظر مدرسة إعدادية في دمياط، وأنا أقلهم.. المتنبي سعد، حاصل على الثانوية العامة من الأزهر الشريف، وأعمل بإدارة المياه بالزقازيق.
طلبت منه أن يسمعني قصائده، فقرأ لي بعض أبيات (كلها مكسور)، فقاطعته: ألم تعرض قصائدك على أحد؟
أجاب غاضبًا: .. هل تسخر مني يا أستاذ؟.. أقول لك أنا المتنبي.. تقول لي: عل عرضت قصائدك على أحد؟
* * *(/1)
غضب مني حينما أخبرته أن بعض قصائده مكسورة، وقال لي: يبدو أنك لا تعرف العروض، فأنت تكتب ((الشعر الحر)).. أما أنا فقد درسته في معهد الزقازيق الديني على أيدي شيوخه!
جلس برهة بعدها، ثم استأذن في الانصراف.
... وقابلني عدة مرات بعدها، سألته في مرة، وكنا نشتري بعض مواد التموين: هل تنشر قصائدك الآن؟
أجاب في انكسار يشوبه الحزن: نفسي مسدودة! الناس مشغولون بكأس العالم (كان ذلك عام 1982م) وتركوا إسرائيل تقتحم بيروت وتجتاح لبنان، وجعلوا خليل حاوي ينتحر.
سألته: هل قرأت شعر خليل حاوي؟
قال: قرأته ولم أستسغه، لأنه يكتب نثرًا، ويدعي أنه شعر!!
وابتسم وهو يمد يده إلى ((مخطوط)) يحمله تحت إبطه: هل أسمع إحدى قصائدي الأخيرة؟
فاعتذرت لأن هذا موعد أخذ ابني من ((دار الحضانة)).
فقال: لا بأس.. أسمعك آخر ما جادت به مشاعري، وأنت في طريقك للحضانة. وبدأ يلقي ((قصيدته)) بصوت عال، والناس ينظرون إلينا.. مستنكرين!(/2)
العنوان: عندما يستمد إعلامنا قضاياه من الأعداء
رقم المقالة: 530
صاحب المقالة: خليل محمود الصمادي
-----------------------------------------
أما زلنا في مؤخرة الركب الإعلامي؟
أما زال إعلامنا يستمدُّ قضاياه الثقافية والمصيرية من أعداء الأمة؟
هل نحن بحاجة إلى اعتراف مسؤول معادٍ للأمة من أجل تسليط الضوء على اعترافه، ثم إدانته؛ تطبيقًا للمبدأ القديم: " من فمك أدينك يا إسرائيل"؟!
قد يكون الأمر مقبولاً قبل عقود من السنيين؛ إذ كان البث الفضائي محتكراً لأصحاب المال والنفوذ في العالم، أي لكل من يسبح في فضاء الاتجاه الآخر، البعيد عن الدين والقيم.
أما الآن فلا عذر في عصر الثورة الفضائية، التي أصبحت متاحة للجميع؛ للأقوياء، وللضعفاء، وللمتدينين، وللمتأمركين، وللقوميين، وللأصوليين، وللتافهين، وللمشعوذين، ولكل من (هبَّ ودبَّ) على وجه الأرض.
ما فائدة الإعلام العربي الذي أصبح يُبث ليل نهار، وبقنوات لا حصر لها - إن لم يوجه اهتمامه أو جزءاً من اهتماماته، إلى قضايا الأمة، وإن لم يحمل رسالة واضحة ذات مغزى يفهمها المتلقي، في أي مكان ومن أي جنسية، أو لون أو عرق؟!
ماذا لو كان عدد المحطات الجادة بعدد المحطات الساقطة؟!
ماذا لو كانت البرامج الهادفة بقدر البرامج التافهة؟!
ماذا لو أُنفق على البرامج الهادفة معشار مما يُنفق على برامج السوبرات والستارات والأكاديميات المبتذلة؟
طبعا سيكون واقعنا أفضل؛ لأن الإعلام أداة للتربية والتغيير والارتقاء.
قبل أيام طالعنا الإعلام العربي بجريمة مروعة، اقترفها وزير البنى التحتية الإسرائيلي "بنيامين اليعازر"، واعترف - خلال برنامج تلفازي بثَّ فيلماً وثائقيّاً - باقترافه الجريمة المروعة، التي ذهب ضحيتها 250 أسير مصري، في حرب 1967م، أي قبل أربعين عاماً!(/1)
لم يهدأ الإعلام العربي في بحث هذه القضية: أخباراً، وتحليلات، وندوات في الصِّحافة، والمحطات الفضائية، وعلى الشابكة (الإنترنت)، وكأن القوم وجدوا مفارقة عجيبة، واكتشافاً مدهشاً، في هذه المادة الإعلامية المثيرة.
ولعل من نافلة القول ذكر أن بعض الإعلاميين العرب وغيرهم - ممن يعملون في محطات العولمة، أو محطات النظام الدولي الجديد، الذين يهمُّهم أن تتوثق العلاقات بين دول الشرق الأوسط الكبير -: صرحوا أن المغدورين الأسرى لم يكونوا مصريين، ولكنهم فلسطينيون، وكأنَّ الدم الفلسطيني مباح في زمن الرويبضة!!
وفي مطلع القرن الحالي اكتشف أحد الأكاديميين الإسرائيليين - خلال بحثه الجامعي - أن القوات الإسرائيلية - أو العصابات اليهودية - اقترفت مجزرة رهيبة في قرية الطنطورة الساحلية الجميلة، التابعة لقضاء حيفا، وذهب ضحيتها مئات الشهداء غدراً في المسجد والبيوت والطرقات، سكت إعلامنا خمسين عاماً ونيفاً بالرغم من إخبار أهل الطنطورة لوسائل الإعلام العربية بهذه المجزرة، ولكن لا مجيب!!
وبعد أن اعترفت إسرائيل بجريمتها عام 2000م، عرفها العرب والإعلام العربي، فعُقِدت الندوات والمحاضرات بأثر رجعي، واستُضيف عشرات المعلقين السياسيين بملابسهم الأنيقة؛ يحللون، ويستذكرون، ويقرؤون التاريخ، ويضعون الخطط والإستراتيجيات؛ من أجل إفشال المجازر القادمة، وقد سجلت بعض القنوات الفضائية فتحاً مبيناً؛ وذلك باستضافتها بعض من بقوا على قيد الحياة من أهل الطنطورة ممن نجوا من المجزرة المروعة.(/2)
وفي عام 1948م اقترفت عصابات الكوماندوس 89، التابعة للواء الثامن الصهيوني، بقيادة موشيه ديان، التي تألفت من جنود خدموا في عصابتي (شتيرن، والآرغون) - مجزرة بشعة في قرية الدوايمة، القريبة من مدينة الخليل، ذهب ضحيتها أكثر من 800 شهيد، وهرب من تبقى من أهل الدوايمة، وساحوا في فلسطين، والبلاد العربية، وأخبروا من حولهم بالجريمة النكراء، ولكن لا مجيب!!
وكالمعتاد اعترف أحد قادة المجزرة - بعد خمسة وثلاثين عاماً بأن قواته اقترفت المجزرة الرهيبة بحق أهل الدوايمة، عندها تنبه الإعلام العربي لهذه المجازرة التي دخلت في موسوعة الإرهاب الصهيوني بعد 35 عاماً، فكتب المقالات الكثيرة في الصحف والمجلات، وأُلفت الكتب، وأُلقيت المحاضرات و...
إذا قالتْ حذامِ فصدِّقوها فإنَّ القولَ ما قالتْ حذامِ
القضية خطيرة، ليس المهم أن يعترف اليعازر أو شارون أو بيريز أو ديان أو غيرهم بجرائمهم؛ فهم مجرمون في اعتقادنا، بالرغم من التزييف العالمي لحقيقتهم وحجبها عن وسائل الإعلام.
المهم هو تخلف إعلامنا عن طرح مثل هذه الأمور، التي يعرفها سكانها المحليون أكثر من غيرهم، والأخطر تجاهل مثل هذه الأخبار بحجج واهية.
والأكثر خطورة وضع العراقيل أمام المنتجين والفنانين، الذين يهتمون بقضايا الأمة ومصيرها؛ فمؤلف مسلسل " نقطة نظام" الذي يصور دفن الأسرى أحياء في سيناء عام 1967م عانى الأمرَّين من أجل تنفيذ العمل منذ خمس سنوات.
وكلنا علم بالحملة المغرضة التي تعرَّض لها التلفاز السوري، وقناة المنار، قبل ثلاثة أعوام؛ لبثهما مسلسل "الشتات" المعادي للسامية - بحسب احتجاج الخارجية الأمريكية - وليس تصريح الفنان محمد صبحي الأخير - في الاعتزال - إلا صرخة أمام الذين يضعون العراقيل أمام المبدعين؛ حمايةً للشرق الأوسط الجديد، أو للعولمة، التي ما زالوا يبشرون بها في عصر الضحك على اللحى.(/3)
لا حجة للإعلاميين العرب - لاسيما في عصر الفضائيات والانفتاح الإعلامي - في الابتعاد عن ترسيخ المفاهيم الصحيحة، وكشف الجرائم الصهيونية، وإظهار القضايا المصيرية، وصناعة الإعلام الموجه، عن طريق الأفلام الوثائقية، أو المسلسلات، أو البرامج التلفازية، إذ ليس من المقبول أبداً نتظار اعتراف مسؤول صهيوني عن مجزرة جديدة، من لنتحرك وننتج مثل هذه الأعمال.(/4)
العنوان: عندما ينهض الشيعة
رقم المقالة: 202
صاحب المقالة: والي نصر [مترجم]
-----------------------------------------
الكاتب: والي نصر: أستاذ في قسم الدراسات العليا بالكلية البحرية، زميل وأستاذ مشارك في مجلس العلاقات الخارجية، ومؤلف كتاب "صحوة الشيعة.. وهل الصراع داخل الإسلام بين الفرق المختلفة من شأنه تغيير صورة المستقبل؟".
ترجمة: موقع الألوكة
ملخص: إن الإدارة الأمريكية- عندما أسقطت صدام حسين- نجحت في إعطاء جميع الصلاحيات والحريات للأغلبية الشيعية؛ مما ساعد على انطلاق البعث الشيعي من جديد وعلى نطاق واسع، وهذا من شأنه إخلال التوازن الطائفي والديني في العراق والشرق الأوسط لسنوات قادمة.
النموذج العراقي:
الحرب في العراق أثرت تأثيراً بالغاً في تغيير منطقة الشرق الأوسط، ولكن ليس على الوجه الذي كانت تتوقعه واشنطن، فعندما أسقطت الحكومة الأمريكية صدام حسين في عام 2003م ظنت أن تغيير النظام سوف يساعد على جلب الديمقراطية للعراق، ومن ثم إلى باقي المنطقة، وظنت إدارة بوش أن معنى السياسة هو العلاقة بين الأفراد والدولة، لذا فشلت في هذا حيث إن الناس في الشرق الأوسط يرون أن معنى السياسة أيضاً هو وجود توازن في القوى بين طوائف المجتمع، إضافة إلى أن كثيراً من العراقيين يرون أن سقوط صدام هو فرصة لإقامة ديمقراطية حرة إلا أنهم يرون أيضاً في سقوطه فرصة لتصحيح الأوضاع، من حيث توزيع القوة بين القوى الرئيسة الفاعلة في المجتمع. وبإسقاط صدام حسين تكون الإدارة الأمريكية قد نجحت في إعطاء كافة الصلاحيات والحريات للأغلبية الشيعية، مما ساعد على انطلاق البعث الشيعي من جديد وعلى نطاق واسع، وهذا من شأنه إخلال التوازن الطائفي والديني في العراق والشرق الأوسط لسنوات قادمة.(/1)
وعلى الرغم من أنه لا يوجد شيء يُسَمِّى كل الشيعة، أو حتى قيادة موحدة للمجتمع الشيعي؛ إلا أن الشيعة يشتركون في عقيدة متماسكة، فمنذ الانشقاق على السنة في القرن السابع الميلادي- إثر خلاف على أحقية من يأتي للخلافة بعد النبي محمد- فإنهم قد طوروا مفهوماً واضحاً لهم من حيث رؤيتهم للشريعة الإسلامية والإسلام بجميع ممارساته، والعدد الكبير للشيعة اليوم يجعلهم كيانًا قويّاً وفاعلاً؛ حيث إن الشيعة أكثر من 90% من سكان إيران، وأكثر من 70% من السكان في منطقة الخليج الفارسي، وحوالي 50% ممن يسكنون الدول من لبنان إلى باكستان –يعني أكثر من 140 مليون شيعي العدد الإجمالي- والكثير منهم ممن ظلوا لفترة طويلة مهمشي الدور بدؤوا يطالبون بحقوق أكبر، ودور سياسي أكثر فعالية.
وقد أسهمت الأحداث الأخيرة في العراق في استنفار شيعة السعودية (وهم حوالي 10% من عدد السكان الإجمالي بالمملكة)، ففي أثناء الانتخابات المحلية لعام 2005م ظهر أن المناطق ذات الأغلبية الشيعية كانت نسبة من أدلوا بالأصوات ضعف مثيلاتها في المناطق الأخرى. وقد حث حسن الصفار- أحد قادة الشيعة في السعودية- الشيعة على الذهاب للانتخاب، مقارناً السعودية بالعراق، مضمناً أن الشيعة ينبغي أن يقفوا كي يستفيدوا من المشاركة، وكان الشعار: "فرد واحد، صوت واحد"، الذي كان يحث الشيعة على المشاركة في الانتخابات تسمع صداه في كل مكان، فشيعة لبنان (الذين يصل عددهم إلى 45% من إجمالي عدد سكان لبنان) قد انتهجوا الأسلوب نفسه، وكذلك سيفعل شيعة البحرين (الذين يمثلون حوالي 75% من تعداد السكان هناك)؛ حيث سيتدفقون إلى صناديق الاقتراع في الانتخابات البرلمانية المقبلة في الخريف القادم .(/2)
إن تحرير العراق قد ولَّد روابط ثقافية واقتصادية وسياسية بين الطوائف الشيعية في الشرق الأوسط منذ عام 2003م، فقد زار مئات الآلاف من الحجاج الشيعة- من لبنان وحتى باكستان- النجف وبعض المدن المقدسة الشيعية في العراق، مما أوجد شبكة انتقالية تضم: المدارس الشيعية، والمساجد، والحسينيات، ورجال الدين الشيعة؛ الذين يربطون العراق بكل المجتمعات الشيعية الأخرى، بما في ذلك إيران وهي الأهم. وفي البحرين تصدرت صور المرجع الشيعي الإيراني آية الله خامنئي، والزعيم الشيعي محمد حسين فضل الله- الزعيم الروحي لحزب الله- وبدأت العروض الدينية الشيعية في الظهور، وبدأ الشيعة في ارتداء العمائم والعباءات الشيعية التقليدية والظهور بها دون خوف.
لذا فمن اليقين أن مأساة العراق لن تجعل الشرق الأوسط أكثر ديمقراطية، ولكن من الواضح أنها ستجعل للشيعة نفوذاً أقوى في الشرق الأوسط، والأسوأ من ذلك أنه بمجرد صعود الشيعة للسلطة تجدد الأمل لدى الشيعة في منطقة الشرق الأوسط، مما تسبب في إحداث الاضطرابات في المناطق السنية.
إن اجتثاث حزب البعث أزال عقبات كبيرة أمام الشيعة للوصول إلى السلطة في العراق، وهذا سبب هام في تمرد السنة المستمر، ورد الفعل السني راح ينتشر إلى أوسع من حدود العراق من سوريا إلى باكستان؛ مما سمح لشبح الصراع على الحدود من أجل السلطة بالظهور بين السنة والشيعة؛ مما يهدد استقرار المنطقة، وقد حذر الملك عبد الله- ملك الأردن- من ظهور هلال شيعي، من بيروت إلى طهران في الشرق الأوسط ذي السيادة السنية.(/3)
إن إيقاف السياسات العدائية الطائفية سوف يتطلب إرضاء المطالب الشيعية، وتهدئة غضب السنة، وإزالة مخاوفهم في العراق وعبر المنطقة بأسرها، وحركة التوازن هذه سوف تكون مركزية في السياسات الشرق أوسطية للعقد القادم. وهذا من شأنه أيضاً إعادة تعريف العلاقات بين أمريكا والمنطقة، فما زرعته أمريكا في العراق سوف تحصده في البحرين ولبنان والسعودية، وبعض المناطق الأخرى في الخليج الفارسي .
ومع هذا فإن ظهور الشيعة لا يحتاج لأن يكون مصدر قلق الولايات المتحدة، ومع أنه أثار قلق بعض حلفاء أمريكا في المنطقة؛ فهو في الحقيقة يهدي الولايات المتحدة فرص جديدة لمتابعة مصالحها في المنطقة، وبناء الجسور مع شيعة المنطقة يمكن أن يعد أوضح إنجازات واشنطن نتيجة تدخلها المشبوه في شؤون المنطقة.
والنجاح في هذه المهمة من شأنه أن يشغل اهتمام إيران- الدولة ذات الأغلبية الشيعية والقوة المتنامية في المنطقة- التي لها شبكة واسعة ومعقدة من التأثير على الشيعة في الشرق الأوسط، وبصورة ملحوظة في العراق، والعلاقات الأمريكية الإيرانية اليوم تميل إلى التركيز على المسائل النووية والخطاب العسكري لقادة إيران، وعلى خلفية الحرب في العراق، فهم لديهم تضمينات مباشرة للمستقبل السياسي للشيعة ولمنطقة الشرق الأوسط نفسها.
العلاقات الإيرانية:(/4)
منذ عام 2003م قد لعبت إيران دوراً بناءً في العراق؛ حيث كانت الدولة الأولى التي ترسل وفداً رسمياً إلى بغداد للمحادثات مع مجلس الحكم العراقي، وبهذا اعترفت بالسلطة التي نصَّبتها الولايات المتحدة، وقد أمدت إيران العراق بالدعم المالي، وإمكانية الدفع الآجل للصادرات، وساعدت في إعادة أعمار البنية التحتية للطاقة والكهرباء في العراق، وبعد وصول رئيس الوزراء السابق إبراهيم الجعفري- الزعيم الشيعي للحكومة العراقية المؤقتة- إلى مكتبه في بغداد في أبريل 2005م، زار طهران وفد عراقي على أعلى مستوى، وتوصلوا إلى اتفاقات تتعلق بالتعاون الأمني مع إيران، واتفقوا على أن ترسل إيران مساعدةً ماليةً بقيمة مليار دولار والعديد من الصفقات التجارية، وشملت إمداد إيران للعراق بالكهرباء، في مقابل البترول العراقي الخام والمنتجات البترولية المكررة.(/5)
والتأثير غير الرسمي لإيران في العراق أوسع مجالاً، في آخر ثلاثة أعوام؛ فقد نجحت إيران في بناء شبكة غير عادية من الحلفاء والعملاء- مابين عملاء المخابرات السريين، والمسلحين، ورجال العصابات- وبصورة تبدو جلية وذلك لوجود رجال لها في الأحزاب الشيعية المختلفة، كما أن العديد من القادة في الأحزاب الشيعية المختلفة مثل المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق، وحزب الدعوة- ومنهم اثنان يعتبران من كبار القادة الناطقين بلسان الأحزاب، إبراهيم الجعفري رئيس الوزراء السابق ورئيس الوزراء الحالي، ونوري المالكي- قد قضوا سنوات النفي في إيران قبل رجوعهم للعراق في عام 2003م. (مليشيا المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق، وفيالق بدر، قد تلقت تدريباتها في إيران وزُودت المعدات من قِبَل الحرس الثوري الإيراني)، ووطدت إيران أيضاً الصلات بمقتدى الصدر الذي ألهب المشاعر ذات مرة بخطاباته القاسية ضد إيران، كما أنها ساندت المنشقين عن حركة الصدر، مثل حزب الفضيلة في البصرة، ودعم الحرس الثوري الإيراني جيش الصدر الملقب بالمهدي، في مواجهاته ضد القوات الأمريكية في النجف عام 2004م، ومنذ ذلك الحين فقد دربت إيران الكوادر السياسية والعسكرية لجيش الصدر، وقد مولت إيران الأحزاب الشيعية في الانتخابات لمرتين متتاليتين، واستخدمت القناة الفضائية الإيرانية "العالم" ذات الشعبية في تقديم الدعم والمساعدة لهم، وساعدت في صفقات السمسرة مع الأكراد، وقد جذبت الأحزاب الشيعية أصوات الناخبين بالاعتماد على شبكات العمل في مجال الخدمة الاجتماعية، وفي مجال السياسة عبر جنوب العراق وذلك في أحوال كثيرة وقد تم هذا عن طريق الدعم المالي والمساندة من قبل إيران.(/6)
ومدى هذه الصلات لم يسعد الحكومة الأمريكية حيث إنها لم تتوقع حدوث مشكلات منها ولكنها في الواقع سببت العديد من المشكلات لأمريكا، وتشكوا أمريكا من أن إيران تدعم المقاتلين والعصابات الإجرامية والمسلحين في العراق، وتتهم أمريكا طهران بتسميم الرأي العام العراقي بكل ما هو ضد أمريكا، وبتسليح المقاتلين، وقد فشلت أمريكا فشلاً ذريعاً في توقع التأثير الإيراني في العراق لأنها لم تدرك مدى التعقيد في العلاقات بين الدولتين؛ وبخاصة للإرث الناتج عن الحرب التي تمت بين الدولتين في الثمانينات.
ولكن إرث الحرب لم يقسم شيعة العراق وإيران كما ظن المخططون الأمريكان، وقد اختفت عن الذاكرة المذبحة التي تمت ضد الشيعة في العراق، إثر محاولة الانتفاضة الفاشلة التي تمت عام 1991م واليوم يقلق شيعة العراق من سيطرة السنة على بغداد أكثر من قلقهم من التأثير الإيراني في العاصمة العراقية، إضافة إلى الروابط العسكرية والسياسية فهناك العديد من الروابط الأسرية بين شعوب الدولتين وذلك نتيجة موجات الهجرة الشيعية من وإلى البلدين.
وفي أوائل السبعينيات، وفي إطار حملته لفرض العروبة على العراق، طرد صدام حسين عشرات الآلاف من شيعة العراق ذوي الأصول الإيرانية، وقد استقر المقام بهؤلاء في دبي، والكويت، ولبنان، وسوريا، والجزء الأكبر منهم بالطبع استقر في إيران.(/7)
وبعض اللاجئين العراقيين في إيران قد حققوا إنجازات ملموسة، حيث برز منهم رجال دين شيعة، وأيضاً قادة في الحرس الثوري الإيراني. وهناك نقطة أخرى وهي أن آية الله محمد تسخيري-وهو أحد كبار مستشاري خامنئني وعميد المدرسة المحافظة ذات التأثير الكبير والمسماة بالمدرسة الحقانية في قم- قد تلقى مع غيره من الكثير من كبار المسؤولين الرسميين، وكبار رجال الدين الشيعة تعليمهم هناك- أي في قم- وقد رجع تسخيري إلى النجف في عام 2004م لفترة قصيرة للإشراف على العمل في مؤسسته المسماة بأهل البيت، التي تستثمر عشرات الملايين من الدولارات في تشييد مشاريع ومنشآت طبية في جنوب العراق، وتشجيع الصلات الثقافية والتجارية بين إيران والعراق، وقد رجع الآن إلى طهران حيث يقدم الدعم والمشورة لسياسات الحكومة تجاه العراق.
وخلال الثمانينات وبعد المذابح التي تمت ضد الشيعة عام 1991م، لجأ أكثر من 100 ألف عراقي عربي شيعي إلى إيران، وفي السنوات المظلمة للشيعة في التسعينات نجد أن إيران وحدها هي التي قدمت لهم الدعم والمأوى، ومنذ حرب العراق فإن الكثير من اللاجئين رجعوا إلى العراق ويمكن أن تجدهم الآن مشتغلين في المدارس، ومراكز الشرطة، والمساجد، والمتاجر، والمحاكم، والمليشيات والمجالس القبلية من بغداد إلى البصرة، كما يشتغلون في الحكومة أيضاً.
والانتقال المتكرر للشيعة بين العراق وإيران عبر السنوات أوجد العديد من العلاقات العميقة بين المجتمعات الشيعية في الدولتين، ونتيجة لذلك فإن القومية العراقية التي أملت الحكومة الأمريكية أن تكون بمثابة الحصن ضد إيران أثبت بطرق عديدة أنه ملئ بالثقوب أمام الهوية الشيعية.(/8)
والروابط بين المجتمعات الدينية في الدولتين متقاربة بطريقة خاصة، فالمنفيون العراقيون في إيران اقتربوا من أن يكونوا "آيات الله" مثل محمد شهرودي- رئيس السلطة القضائية الإيرانية- كاظم الحائري- آية الله سابق من الاتجاه الصدري- محمد باقر الحكيم - قتل عام 2003م الزعيم السابق لحزب الثورة الإسلامية في العراق- الذي أشرف على تأسيس العديد من المؤسسات الدينية العراقية في طهران وقم، وهذه المؤسسات كان لها أكبر تأثير على إيران في الثمانينيات، بفضل الدور الذي لعبته بعد ذلك في انفتاح شيعة لبنان، الذين اتجهوا كالمعتاد إلى النجف حيث التأثير الإيراني، وكثير من كبار رجال الدين الشيعة وخريجي المدارس الشيعية العراقية في إيران قد التحقوا بالمؤسسة السياسية الإيرانية، والعديد من القضاة في السلطة القضائية الإيرانية- منهم الشهرودي- هم عراقيون وقريبون بصورة كبيرة من خامنئي، وقد رجع هؤلاء "المرجعيات الدينية" العراقيون إلى بلدهم الأصلي بعد عام 2003م؛ ليتولوا المناصب في العديد من المساجد والحسينيات في جنوب العراق وقد أوجدوا محوراً هاماً للتعاون بين قم والنجف.
وكان سائداً بصورة كبيرة بعد ذلك طبقاً للحكمة الأمريكية التي انتشرت في واشنطن قبل الحرب أنه بمجرد أن تصبح العراق حرة فإن النجف ستعادي قم، وتتحدى آيات الله الإيرانيين، ومنذ 2003م نجد المدينتين تعاونتا سوياً، ولا يوجد أي شقاق مذهبي بين المرجعيات الشيعية في المدينتين، أو أي هجرة جماعية للمنشقين من مدينة إلى أخرى، والمرجع الأكبر- العراقي- آية الله السيستاني له موقع مشهور على الإنترنت هو: www.sistani.org والمقر الرئيس له في قم، ومعظم أموال الزكاة التي يجمعها ممثلوه تحفظ في إيران.(/9)
وعلى الرغم من التوسلات من أصوات منشقين في إيران؛ إلا أن المرجعيات الدينية في النجف تحافظ على هدوئها بصورة يملؤها الشك تجاه السياسات الإيرانية، وهم يعمدون إلى عدم إزعاج السلطات الدينية في قم وطهران.
وهذه العلاقات لا تشمل فقط الصفوة بل تمتد إلى عوام الناس؛ فالذهاب المتكرر للمدن ذات الأضرحة في العراق كان له تأثير عاطفي ديني على الإيرانيين وبخاصة الطبقات الاجتماعية الأكثر تدنياً التي تساند النظام، فمنذ 2003م هناك مئات الآلاف من الإيرانيين زاروا المدن المقدسة في النجف كربلاء، وهذه النزعة عززت الشعبية المتزايدة للنزعة الدينية في إيران، والكثير من الشباب الإيراني في أثناء العشر سنوات الماضية اعتادوا على التعبير عن تقديسهم للرموز الدينية للشيعة، وبخاصة الإمام الثاني عشر- المسيح الشيعي المنتظر- وقد اعتاد الكثير من الإيرانيين على اعتبار آية الله السيستاني المرشد الروحي لهم منذ 2003م أكثر من ذي قبل، والكثيرون يدفعون له زكاواتهم. وعلى الرغم من أن الكثير من الإيرانيين لا يثقون في قادتهم ومرجعياتهم الدينية، فإنهم يرحبون كثيراً بإحياء الهوية والثقافة الإيرانية في العراق.
والتجارة والأعمال التجارية تبعت في ازديادها العلاقات الدينية المتزايدة بين الدولتين، فالحجاج الإيرانيون الذين يأتون في أفواج كبيرة إلى الفنادق والأسواق في النجف وكربلاء يأتون ومعهم الاستثمارات في الأراضي والبناء والسياحة، والبضائع الإيرانية منتشرة في كل مكان في جنوب العراق، والمدينة الحدودية مهران تعتبر من أكبر النقاط إدخالاً للبضائع الإيرانية في العراق، ويصل الآن حجم التجارة بين الدولتين إلى أكثر من مليار دولار، ومثل هذه الروابط التجارية أوجدت لدى الإيرانيين وبخاصة تجار الأسواق– وهم الأنصار التقليديون للقيادة المحافظة في إيران– الاهتمام بإرساء الاستقرار في جنوب العراق للحفاظ على مصالحهم.(/10)
وعلى الرغم من حقيقة الإرث الذي تركته الحرب العراقية الإيرانية، والقومية العراقية، وبخاصة الاختلافات العرقية بين العرب والفرس، التي سببت تاريخياً الخلافات بين إيران والعراق، ولكن هذه العوامل لا ينبغي أن نغالي في التأكيد عليها؛ فالعداء العرقي لا يمكن أن يكون هو كل شيء، فأكبر مرجع شيعي في العراق إيراني، ورئيس السلطة القضائية الإيرانية عراقي وعلى الرغم من أن العرقية سوف تستمر في التأثير على العلاقات العراقية الإيرانية، ولكن الآن صدام سقط، وبدأ شيعة العراق في الظهور، وهذا من شأنه أن يلقي بظلاله على العلاقات المعقدة والعميقة بين المجتمعات الشيعية في الدولتين.
وهذه العلاقات تطورت إلى درجة التكاتف بين المجتمعين الشيعيين لإدراكهما أنهما يواجهان خطراً مشتركاً من السنة، ولا شيء يقرب شيعة العراق من إيران أكثر من شراسة واستبسال المقاومة السنية، وبخاصة في الوقت الذي ضعفت ثقتهم في واشنطن، التي قررت حل الميليشيات الشيعية وإعطاء تنازلات أكبر للسنة على حساب الشيعة.
- مخاوف السنة: منذ خمس سنوات، كانت إيران ما تزال محاطة بجدار من الأنظمة السنية المعادية: العراق والسعودية من الغرب، وباكستان وحكومة طالبان في أفغانستان من الشرق، وقد رحب الإيرانيون بانهيار الجدار السني، وهم يرون صعود الشيعة في المنطقة كحارس ضد رجوع القومية السنية العدائية، وقد استراحوا كثيراً بسقوط صدام؛ حيث إن السياسة الخارجية الإيرانية انشغلت تماماً بالعراق خلال الخمسين عاماً الماضية منذ سقوط المملكة العراقية أمام القومية العربية عام 1958م، فقد أقلق العراق البعثي الشاه في إيران، وهدد الجمهورية الإسلامية، وقد سيطرت الحرب العراقية الإيرانية على أول عشر سنوات من ثورة آية الله الخميني، وضربت الاقتصاد الإيراني، وأثرت بالسلب على المجتمع الإيراني.(/11)
فلو وجدت إستراتيجية إيرانية كبيرة في العراق اليوم، فلكي تضمن عدم عودة العراق من جديد كتهديد لها وتضمن عدم استعادة السيطرة للقومية العربية المعادية لإيران التي يتزعمها السنة، الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد وكثير من قادة الحرس الثوري الإيراني وكل من شارك في حرب العراق على إيران يرون أن التهدئة في العراق هي تنفيذ لهدف استراتيجي افتقدوه في أثناء الصراع، ويعتقد الإيرانيون أن العراق الذي يحكمه الشيعة سيكون مصدراً للأمن، وهم يعتقدون أن من البديهي ألا يقاتل الشيعة بعضهم بعضاً وهم يحكمون الدولتين.
كل هذا عزاء صغير للسنة في المنطقة، الذين يتذكرون نتائج تطلعات إيران الأيديولوجية في الثمانينيات، وهم قلقون الآن بشأن طموحاتها في المنطقة، فمنذ حوالي ربع قرن, دعمت طهران الأحزاب الشيعية والميليشيات وحركات التمرد في البحرين والعراق والكويت، لبنان، باكستان والسعودية، وقد ربطت الثورة الإيرانية الهوية الشيعية بالنظرة المتطرفة تجاه الغرب كما عكس ذلك أزمة الرهائن عام 1979م وتفجير الثكنات العسكرية التابعة للبحرية الأمريكية عام 1983م في بيروت، واستمرت طهران في دعم الإرهاب الدولي، وفي النهاية، فإن الثورة الإيرانية لم تمض في تحقيق أهدافها في أي مكان- عدا لبنان- حيث المد الشيعي الذي أثرت فيه إيران أضحى لا شيء.
البعض يقول أن الجمهورية الإسلامية الآن أصبحت دكتاتورية منهكة،، والآخرون مع هذا قلقون من تجدد طموحات إيران في المنطقة، وهي تدعم ذلك ليس بالأيديولوجية ولكن بالقومية، وترى طهران نفسها قوة إقليمية، ومركز التأثير الشيعي والفارسي في المنطقة، بدأ من العراق وإلى وسط آسيا، وحيث إن إيران تحررت من تهديد طالبان في أفغانستان وصدام في العراق، فإنها تركب موجة المد الشيعي، وتسعى في ذلك بكل قوتها، من خلال القوة النووية التي تمتلكها، إلى المطالبة باعتراف دولي بمصالحها.(/12)
القادة في طهران- الذين يحاولون إيجاد منطقة أكبر من النفوذ الإيراني إلى حد ما قريبة من فكرة روسيا "الخارج القريب"- يرون أنشطة إيران في جنوب العراق إظهاراً لحالة تعاظم القوة التي عليها إيران- ولكن أحد منهم لا يصر على تحقيق حلم الخميني بأن يحكم شيعة العراق، وإلى حد ما فإن هدف طهران في جنوب العراق هو بذل ذلك النوع من التأثير الاقتصادي والثقافي والسياسي مثل ذلك الذي بذلته في غرب أفغانستان منذ التسعينات.
وعلى الرغم من أن طهران تتوقع بصورة جلية أن تلعب دوراً رئيساً في العراق، فهي لا تهدف أو لا تقدر على جعل الدولة تتحول إلى جمهورية إسلامية.
ويمكن التنبؤ أن النمو البارز لإيران يعقد العلاقات بين الطوائف الدينية في المنطقة، فالحكومات السنية استخدمت طموحات طهران كحجه لمقاومة كلٍ من: مطالب السكان الشيعة في تلك الدول، ونداءات واشنطن للإصلاح السياسي، فمنذ 2003م بدأ قادة السنة في مصر، والأردن، والسعودية، توجيه اللوم لإيران من أجل الفوضى التي سببتها في العراق، محذرين أن إيران سوف يكون لها تأثير ونفوذ كبير في المنطقة إذا وصل الشيعة إلى مقاليد الحكم في بغداد، وقد ردد الرئيس المصري حسني مبارك ذلك التحذير في أبريل الماضي قائلاً: "الشيعة ولاؤهم لإيران وليس للدول التي يقطنوها".(/13)
العلاقات السيئة مع السنة تقلق القيادة الإيرانية، وعلى الرغم من تزايد نفوذها فإن طهران تحتاج إلى مساندة جيرانها وتريد خطب ود الشارع العربي لمقاومة الضغط الدولي على برنامجها النووي، وحتى الآن نجد أن إيران تتحاشى الخلافات العقدية المذهبية، وتتجنب معاداة السنة، وبدلاً من ذلك حاولت كسب الدعم في المنطقة لتصعيد وتيرة الموقف في المنطقة مع الولايات المتحدة وإسرائيل، وقد لام الإيرانيون العنف الطائفي في العراق بما في ذلك تفجير ضريح العسكري في سامراء في فبراير متهمين بذلك "عملاء الصهيونية" بمحاولة إحداث انشقاق بين المسلمين، وإيران في نفس الوقت تواصل نشاطها النووي بدرجة كبيرة؛ لكي تؤكد وضعها في المنطقة؛ ولتقلل قدرة واشنطن على الوقوف في طريقها.
- تلاقي العقول: إن التطلعات الإيرانية تترك واشنطن وطهران في مواجهة معقدة وغاضبة، وبعد كل ذلك فإن إيران استفادت كثيراً من التغيرات التي أحدثتها أمريكا في كل من كابول وبغداد، ولكن واشنطن يمكنها عرقلة تنامي التأثير الإيراني في كل من أفغانستان والعراق، والوجود العسكري في المنطقة يهدد الجمهورية الإسلامية في العراق بصفه خاصة، فإن الأهداف قصيرة المدى للحكومة يبدو أنها مختلفة تماماً، فحين كانت واشنطن تحاول الخروج من المأزق، كانت إيران غير سعيدة برؤية القوات الأمريكية متورطة هناك، فطهران فضلت سياسة الفوضى الخلاقة (أي التي يمكن التحكم فيها) في العراق، بوصفها طريقة لإبطاء التقدم الذي تحرزه حكومة الولايات المتحدة ومن ثم تثبط حماسها تجاه سعيها لتغير النظام في إيران.(/14)
وهذه الإستراتيجية – تجعل الموقف الحالي مختلفاً عن ذلك الذي حدث في أفغانستان بعد سقوط طالبان في أواخر عام 2001م، عندما عملت إيران مع أمريكا على تنصيب حكومة حامد كرزاي، وقد تم ذلك بكيفية غير متقنة؛ تعاونت طهران بصورة كبيرة مع أمريكا لأنها كانت في احتياج لذلك بمعنى أن: العملاء والشيعة ومتحدثي الفارسية في أفغانستان يكونون أقلية من حيث عدد السكان ولم يكونوا في موقع يسمح بحماية مصالح إيران، وحسابات طهران بعد حرب العراق مختلفة؛ فلم تنحز المصالح الإيرانية المباشرة مع نظيرتها في الولايات المتحدة وذلك لأن موقع طهران في العراق أقوى مما كانت في أفغانستان وذلك بفضل حالة الأغلبية الشيعية في العراق، وهم يرون أن مبدأ بوش الذي ثبت خطؤه في العراق هو طريقه غير مباشرة لقادة إيران للتشكيك في صدق النوايا وراء نداءات واشنطن بتغيير النظام في إيران، ورغبتهم الحديثة في تصعيد وتيرة التوتر في المنطقة على واشنطن، بشأن نشاطاتها النووية، وذلك يدل على أنهم يعتقدون أنهم نجحوا إلى حد كبير في هذا الهدف، بمعنى أن إيران الآن تعتبر نظير أقوى لأمريكا مما كانت عليه في بداية الحرب على العراق.(/15)
ومع هذا وعلى المدى البعيد فإن المصالح الأمريكية والإيرانية في العراق يمكن أن تتفق، فكل من واشنطن وطهران تريدان استقراراً دائماً هناك، واشنطن لأنها تريد سبباً للفرار من الورطة التي وقعت فيها؛ وطهران لأن الاستقرار في العراق يحفظ أمن موقعها داخلياً ويحافظ على تأثيرها في المنطقة، فإيران تخاف كثيراً من نشوب حرب أهليه في العراق، فالحرب من شأنها أن تقسِّم المنطقة وستطول إيران، حيث ستنتشر إلى مناطق العرب والبلوش والأكراد في إيران، وحيث تصاعدت وتيرة النزاعات العرقية. وقد أوضح نائب وزير الخارجية الإيراني عباس مالكي أن الفوضى في العراق لا تخدم المصالح القومية الإيرانية، فإذا كان بيت جارك يحترق فمعنى ذلك أن بيتك في خطر. ويبدو أن إيران لا تشعر بالاطمئنان حيث إنها وضعت نفسها في متاعب وذلك بتعيين مسئوليها الأمنيين وقادة الحرس الثوري في مناصب محافظين للمناطق الإيرانية.
وهناك مجموعتان داخل العراق تستطيعان أن تقنعا القيادة الإيرانية بالتعاون مع واشنطن من أجل مصلحتها، المجموعة الأولى هم اللاجئون العراقيون الذين يمثلون لوبي لمصالح شيعة العراق في طهران، وقد شجعوا إيران على المضي قدماً في إجراء المحادثات مع الولايات المتحدة بشأن العراق؛ لأنهم يرون أن إيران وأمريكا هم القطبان الأساسيان اللذان عليهما ترتكز قوتهم، وتصعيد وتيرة الأحداث بين الحكومتين لا يخدم المصالح الخاصة بشيعة العراق وهذا اللوبي لا يريد أن يرى العراق وهي تصبح رهينة للموقف الدولي تجاه برنامج إيران النووي، والمجموعة الثانية مؤلفه من العديد من الإيرانيين ذوي الاهتمام الكبير بقدسية المدن العراقية ذات الأضرحة الشيعية.(/16)
فكل التفجيرات الكبيرة التي حدثت في النجف وكربلاء أودت بحياة الكثير من الإيرانيين، والرأي العام الإيراني يتوقع من طهران التأكيد على أمن هذه المدن، وتأثير هذه المجموعة أعطى لخامنئي الحجة للدخول في حوار مباشر مع واشنطن بخصوص العراق.
وما زالت إيران تسعى جاهدة لتحقيق الاستقرار في العراق، إذا لم تستفد من الفوضى المنظمة هناك، أي عندما لا تعد تشعر بالتهديد نتيجة الوجود الأمريكي، والمصالح الإيرانية طويلة المدى في العراق لا تتواءم مع نظيرتها في الولايات المتحدة، فسياسة الولايات المتحدة الحالية تجاه العراق هي التي جعلت سياسات البلدين في العراق على وشك التصادم، ومن ثم فإن التحدي الرئيس لواشنطن في العراق هو تغيير كامل لموقفها من إيران وإشراك طهران في المساعدة على مواجهة أكثر المشاكل الملحة في العراق.
تجهيز مسرح الأحداث:
أهم مشكلة تواجه العراق في الشهور المقبلة ستكون المناقشات الدستورية، وبخاصة تلك التي تتناول مسائل مثل: الفدرالية، وكيفية توزيع عوائد النفط، وقد حدث بعد زيارة زلماي خليل زاده السفير الأمريكي في العراق أن أقنع الشيعة والأكراد بالموافقة على تغيير الدستور، الذي شارك فيه السنة في الاستفتاء الذي تم الاتفاق عليه في أواخر عام 2005م، ومنذ ذلك الحين تأمل واشنطن في اتفاق يعيد السنة المعتدلين إلى العملية السياسية، مما يؤدي بدوره إلى إضعاف المقاتلين في المقاومة السنية، ولكن الطموحات في هذا الاتفاق ليس أكيدة، فالشيعة والسنة والأكراد مختلفين على الحكمة من وجود حل وسط بدون ضغط خارجي,كما أن حكومة الولايات المتحدة لم تعد لديها القوة السياسية لإجبار أحد على تقديم تنازلات أو تلبية مطالب حزب ما دون المخاطرة بإبعاد حزب آخر.
إن إضعاف موقف الولايات المتحدة في العراق جعل من الضروري بالنسبة لواشنطن أن تتجه إلى جيران العراق.(/17)
وإذا فشلت المناقشات الدستورية فقد يترك السنة العملية السياسية برمتها، وحتى لو شارك السنة فإن التفاهم مع الشيعة قد يصبح أكثر تعقيداً؛ وبخاصة في ظل وجود إشارات لتصاعد العنف في جنوب العراق.
وخلال السنوات الثلاث الأخيرة، شارك الشيعة في الأنشطة السياسية كما قاوموا استفزازات المقاتلين السنة، وكان هذا بوجه عام من أجل اعتقادهم بأن مساندة السياسة الأمريكية من شأنها أن تخدم مصالحهم، ولكن لو أنهم أدركوا أن واشنطن الآن حريصة على شراء تعاون السنة أكثر من مكافأتهم على ثباتهم فقد يديرون ظهورهم إلى العملية السياسية، وهذا من شأنه إشعال ثورة الشيعة، وقد لا يحتاج الشيعة إلى استخدام سلاحهم بالضغط على الولايات المتحدة؛ حيث أن عددهم وحده يكفي لتغيير التوازن السياسي للدولة، ففي يناير 2004م جمع السيستاني الحشود لخمسة أيام للتظاهر ضد خطط الولايات المتحدة لجعل انتخابات ما بعد صدام بنظام القائمة الحزبية.
وفي أوائل العام الحالي جمع الحشود في الشوارع للاحتجاج على تفجير ضريح العسكري، وكي يتيقن من أن حكومة الولايات المتحدة قد فهمت مدى قوة الشيعة، وتعتمد إيران على نفوذها بين الشيعة في جنوب العراق وهذا يجعلها قادرة على حفظ النظام هناك إلى حين تأخذ المناقشات الدستورية طريقها. وتؤكد إيران أن العداء المتنامي بين الأحزاب الشيعية- مثل مجلس الثورة الإسلامية في العراق وقوات مقتدى الصدر- لم يخرج عن نطاق السيطرة ولم يهدد استقرار جنوب العراق كما لم يقوض سلطة الحكومة في بغداد.
إن الحفاظ على اتحاد الشيعة والبقاء على الهدوء في جنوب العراق من أهم أهداف الولايات المتحدة، والتعاون مع إيران ضروري جداً من أجل تحقيق هذا الهدف، والتعاون الإيراني يلبي احتياجات الأمن وإعادة الإعمار في العراق، كما يدعم الحكومة المركزية في بغداد.(/18)
ولكن الحفاظ على هذا التعاون يتطلب من الولايات المتحدة أن تواجه قضايا أوسع في إطار علاقتها مع إيران، فسوف تنهي إيران دعمها المالي والعسكري للميليشيات الشيعية والعصابات الإجرامية في جنوب العراق إذا تلقت من واشنطن ضمانات أمنية كبيرة.
الموقف الحالي في العراق مشابه لمثيله في أفغانستان عام 2003م بالطريقة التي تظهر فيها المصالح الإيرانية والأمريكية متشابكة ولكن الفرق أنها أكثر تعقيداً والرهان أعلى، فبعد سقوط طالبان في أفغانستان عملت إيران مع الولايات المتحدة على إحضار تحالف الشمال ومن فيه من الشيعة إلى المجرى الرئيس للعملية السياسية.
وقد ناقشت إيران وأمريكا بصورة مكثفة على خلفية مؤتمر بون مستقبل أفغانستان، وطرح الاتفاقات التي تساعد في تأكيد النجاح المبكر لنظام كرزاي، وقد وعدت عملية بون بفتح فصل جديد في تاريخ العلاقات الأمريكية الإيرانية، ولكن لم تكترث أمريكا بتدعيم الصلة بنظام كانت تعتقد أنه سيسقط سريعاً، وقد فقدت فرصة هامة آنذاك.
والصعوبات التي في العراق اليوم تقدم فرصة ثانية كبيرة لواشنطن وطهران ليس فقط لتطبيع علاقاتهما؛ ولكن لتهيئة المجال لإدارة مستقبل التوتر بين السنة والشيعة، فصعود الشيعة للسلطة في العراق يعطي مثالاً للشيعة في كل مكان في الشرق الأوسط، وإقرار هذا النموذج واختباره من شأنه أن يفاقم التوتر بين السنة والشيعة.(/19)
فمن الأفضل لواشنطن أن تشغل طهران الآن في العراق بدلاً من أن تنتظر حتى تنتشر المشكلة في المنطقة، وعلى الرغم من أن واشنطن وطهران مختلفتان في تحليل خلافاتهما الرئيسة وبخاصة النزاع على برنامج إيران النووي، ولكنهم في أي وقت قريب قد يتفقان على بعض الخطوات شديدة الأهمية في العراق، مثل: تحسين الأمن في جنوب العراق، وحل الميليشيات الشيعية، وإقناع الأحزاب الشيعية بحل وسط، ولكن إن لم تستطع إيران والولايات المتحدة التوصل إلى أرضية مشتركة، وفشلت النقاشات الدستورية، فإن النتائج ستكون رهيبة، وفي أفضل الأحوال إن العراق سيقع في مجموعة من التخبطات و الاضطرابات، وفي أسوأ الأحوال فإنه سينزلق إلى حرب أهلية كاملة وتامة، وإذا انهار العراق فإن الحرب الإقليمية هي التي ستقرر مصيره. وقد تدخل تركيا وإيران وجيران العراق مع العرب إلى الصراع بغية حماية مصالحهم ومحاولة لملمة ما تبقى من العراق، وستكون الجبهة الرئيسة حتماً هي نفسها التي كانت في حرب العراق مع إيران ولكنها ستنتقل 200 ميل نحو الغرب، وستتبع نفس النهج في العمل من خلال بغداد، التي تفصل المناطق ذات السيطرة الشيعية عن المناطق ذات السيطرة السنية.
والدول التي ساندت إيران في حربها مع العراق في الثمانينيات من القرن الماضي ستساند الشيعة؛ والدول التي ساندت العراق سوف تساند السنة.(/20)
ويمكن مقارنة العراق أحياناً بفيتنام في أول السبعينيات أو يوغوسلافيا في أواخر الثمانينيات، ولكنها تتشابه بنسبة كبيرة مع الهند البريطانية في عام 1947م، فلم يكن هناك حرب أهلية في الهند، ولا ميليشيات مسلحة ولا تطهير عرقي مركزي منظم ولا خطوط معركة ولا نزاع على الأرض ومع هذا مات ملايين الناس أو أصبحوا لاجئين، ولقد تم تقسيم الجيش الهندي البريطاني المحترف إلى أقسام حيث الدولة نفسها قسمت إلى منطقة ذات غالبية هندوسية ومنطقة ذات أغلبية مسلمة، ولأنهم لم يستطيعوا تضييق الفجوة الواسعة بين المجموعتين أو التحكم في العنف بينهم فقد اضطرت الإدارة البريطانية المستعمرة إلى اتخاذ قرار سريع بالانسحاب.
والمشكلة في الهند- كما في العراق اليوم - تمثلت في أن الأقلية التي اعتقدت أن لها الحق الواضح بأن تحكم في مقابل قبول العملية السياسية؛ طلبت تنازلات من الأغلبية غير المستسلمة.
العنف الطائفي البشع والتطهير العرقي الذي أصاب العراق هو نذير شؤم لما حدث في الهند منذ 60 سنة. وسوف يكون أكثر شؤماً إذا استمر الوضع في العراق في التدهور مما يهدد منطقة الشرق الأوسط بأكملها بخطر الصراع الطائفي الديني بين السنة والشيعة.(/21)
العنوان: عنف الأزواج.. الظاهرة والحل
رقم المقالة: 807
صاحب المقالة: سحر فؤاد أحمد
-----------------------------------------
تشهد ساحات المحاكم في مجتمعاتنا العربية صراعات عنيفة بين الأزواج سببها العنف الأسري، وتشير إحصائيات العنف الأسري إلى أرقام مخيفة، حيث يصل معدل العنف ضد المرأة من واقع البيانات والإحصائيات إلى أن 60% من النساء اللاتي يتعرضن للعنف الأسري من الزوجات الأميات، و30% من الحاصلات على مستويات تعليمية أعلى، وأن 40% من الزوجات اللاتي تعرضن للضرب بحاجة إلى استشارة الطبيب بسبب تعرضهن للضرب المبرح، وهناك زوجة من بين كل ثلاث زوجات تتعرض للضرب بصور مختلفة أثناء الحمل.
ويرى الخبراء أن ظاهرة ضرب الزوجات ما هي إلا أحد أوجه ثقافة العنف التي بدأت تسود في بعض أوساط المجتمع العربي، ويجملون الأسباب الرئيسية وراء انتشار تلك الثقافة في الفقر والبطالة والتنشئة الخاطئة.
مرفوض حضارياً:
المهندسة كاميليا حلمي - مديرة اللجنة الإسلامية العالمية للمرأة والطفل - ترى أن العنف صورة من صور القصور الذهني تجاه موقف من المواقف، ودليل من دلائل النفس غير المطمئنة، وصورة للخوف من الطرف الآخر مهما تعددت وجوه ذلك الخوف، ونتيجة للقلق وعدم الصبر والتوازن، ووجه من وجوه ضيق الصدر وقلة الحيلة، ويعد – العنف - مؤشراً لضعف الشخصية، ونقصان في رباطة الجأش، وخلل في توازن السلوك، وأياًمَّا تكون العلة الفيزيولوجية أو البيئية فالعنف مرفوض حضارياً وأخلاقياً وسلوكياً واجتماعياً.(/1)
وتضيف: مشكلة ضرب النساء لا يعانيها عالمنا العربي والإسلامي فقط بسبب تخويل الشريعة للرجل حق تأديب زوجته ، بل هو شائع في جميع المجتمعات ، وقد يكون أشد ضراوة لدى الغير ، لأن هذا سلوك عدواني متسم بالعنف لا يستند إلى الدين في الغالب الأعم ، ويمثل نزعة إنسانية هدفها قهر الطرف الآخر وإقصاؤه وإبعاده ، ودُورُ القضاء في العالم أجمع تعطينا الصورة الحقيقية للمجتمع الذي نعيشه من حيث تراكم قضايا النساء في المحاكم وتكوين جمعيات عديدة للدفاع عن حقوقهن ، وإقامة المؤتمرات الدولية لأجل هذا برعاية أكبر الدول في العالم ، دليل قاطع على الأسلوب غير الحضاري الذي يسلكه بعض الرجال تجاه النساء .
إن مشكلة المرأة لا تكمن في وجود نص شرعي يبيح للرجل ضرب زوجته ، وإنما في الاعتداء الذي يتجاوز به الزوج حدوده، فيظلم زوجته ويستعرض قوته عليها ، ولم تكن الشريعة يوماً ما أزمةً للناس ، لكن التطبيق دائماً هو مشكلتنا الأساسية ، وفي عصر أصبحنا نرى فيه الآثار النفسية على الزوجة والأطفال من جراء العنف بات من الضروري تهذيب سلوك بعض الرجال .
العنف الأسري في المملكة:
في السعودية لا تتوافر الإحصائيات الكافية لرصد ظاهرة ضرب الزوجات ويرجع الاجتماعيون ذلك إلى خوف الزوجة من الفضيحة.(/2)
وتؤكد هذا الدكتورة هناء المطلق - أستاذة علم النفس - حيث ترى: أن الضرب يحدُث خلف الأبواب المغلقة والأسوار العالية في مجتمع يميل إلى التكتم ويخاف الشائعات والقلاقل، وتؤكد أنها لم تَطَّلِعْ على إحصائيات علمية تخص هذا الموضوع، حتى إن وجدت فالأمانة العلمية تجعلني أفكر مرتين قبل أن أستند إليها. فعادة ما تعتمد الإحصائيات على ما يصل إلى المحاكم أو المستشفيات. وتشير إلى قلة الحالات التي تصل إلى المحاكم أو المستشفيات نظراً لحساسية الموضوع وطبيعته الشخصية، ثم إن الزوجة في الغالب تتكتم على ما يحدث لها من ضرب، أو تبقيه في إطار عائلي ضيق وهو ما يجعل من الصعوبة حصره إحصائياً.
وفي ذات السياق تستطرد الدكتورة المطلق مشيرةً إلى: أنها ترى الكثير من الحالات المؤلمة إلا أنها لا تعتقد بانتشار الإيذاء الجسدي في المجتمع السعودي كما هو الحال في مظاهر أخرى كالإيذاء النفسي مثل الاستهانة بمشاعر الزوجة، وتبخيس قيمتها وأفكارها وآرائها، إضافة إلى التهديد بالزواج من أخرى دون وجه حق أو عدل، بل إن البعض يكررها كثيراً على مسامع زوجته وهو لايقصد ذلك فعلاً ولكنه يحب المزاح بالألعاب النارية. وأقول نارية لأن المرأة لا شعورياً (تأخذها جد) وتسقط في أحاسيس مريرة من الشعور بالعجز وقلة الحيلة وعدم الأمان لمستقبل بيتها وأطفالها، خصوصاً حين تتوفر لها أخت أو أم تعرضت إلى مزاح مشابه انتهى بـ(كارثة).(/3)
وترى الأستاذة عائشة الجار - المرشدة الاجتماعية بوزارة العمل والشؤون الاجتماعية - أن العنف اللفظي والمعنوي تجاه الزوجة أكثر شيوعاً في المجتمع السعودي من العنف الجسدي، فالعنف الأسري لا يقتصر على الجانب الجسماني فقط، وإنما قد يكون بصور مختلفة فهناك العنف النفسي والعاطفي، وهناك العنف غير اللفظي، وهناك العنف الاقتصادي، وغير ذلك؛ فمن الأزواج من يرعب زوجته بالنظرة، وهناك من يسيطر عليها عن طريق سلب راتبها، وبالمقابل هناك من الزوجات من تستخدم العنف تجاه زوجها بسلب وتبذير ماله، والتحكم في علاقاته الاجتماعية، وعملية خروجه ودخوله، ومن هنا نخلص إلى القول بأن القوة والتحكم لا تقتصر على الجانب الجسدي وإنما لها صور عدة وأوجه مختلفة.
الدكتور عبد الله الصبيح - أستاذ علم النفس الاجتماعي بجامعة الإمام محمد بن سعود في الرياض - الذي عمل متعاوناً لفترة زمنية في مركز الإرشاد الاجتماعي بوزارة العمل والشؤون الاجتماعية يؤكد ما سبق حيث يرى أن العنف اللفظي والمعنوي تجاه الزوجة أكثر شيوعاً في المجتمع السعودي من العنف الجسدي.
يقول الصبيح: الضرب المتبادل بين الأزواج لايكاد يخلو منه مجتمع من المجتمعات و بالنسبة إلى المجتمع السعودي لا أستطيع أن أعتبر الضرب ظاهرة. صحيح أن هناك احتقار للمرأة في بعض مناطق المملكة لكن لا يمكن تعميمه على الجميع؛ فالبعض يردف ذكره للمرأة بـ (أكرمكم الله) كناية عن النظرة الدونية لها، والبعض عندما يختلف مع زوجته يقول لها أنتي كحذائي أستطيع تغييره متى ما رغبت في ذلك إشارة إلى أنه المتحكم في مصيرها عبر تطليقها. ويرى الدكتور الصبيح أن ذلك تعبير عن الاحتقار والنظرة الدونية للمرأة عند أولئك، لكنها مرتبطة بحالات انفعالية وليست دائمة، وتختلف من منطقة لأخرى إلا أن ذلك كله لايستلزم الضرب في جميع الأحوال، فقيم المجتمع ترى أنه من العيب ضرب المرأة.(/4)
ويشير إلى أنه كان يتلقى العشرات من المكالمات الهاتفية اليومية تتركز معظمها في حالات متعددة من الخلاف العائلي وكان دور المركز لا يتجاوز الجانب الإرشادي.
ويضيف: بعض الاتصالات الهاتفية هي لزوجات تعرضن للضرب من قِبَلِ أزواجهن لكنها ليست بتلك الكثرة، ويعتقد أن معظم حالات الضرب لا تصل إلى المركز بل تذهب مباشرة إلى أقسام الشرطة والمحاكم أو تظل في البيوت لا يُعرَف عنها شيء.
نظرة تحليلية:
وتُحمِّل نوره الصويان - الباحثة الاجتماعية - الثقافة المجتمعية السائدة أسباب تفشي حالات عنف الأزواج وضربهم لزوجاتهم، لكنها تعود لتؤكد أنه لا يمكن وصفها بالظاهرة، وترى أن شيوع القيم الذكورية في المجتمع والنظرة الدونية للمرأة من الأسباب المحفزة لوجود حالات كهذه. وتقول الصويان: المشكلة أن بعض النساء لا يتخذن موقفاً صارماً برفض هذا الأسلوب بل يتعاملن معه كأنه حق مكتسب للزوج. وتضيف: قد يعود ضرب بعض الأزواج زوجاتهم إلى غياب العقاب القانوني المحدد لمثل هذا الاعتداء، إضافة إلى عدم التعامل بجدية من قبل أقسام الشرطة والمحكمة تجاه القضايا التي ترد إليهم. وتطالب الصويان بحملات إعلامية رسمية توضح للمرأة حقوقها، والإجراءات التي تتبعها لحماية كيانها من معتد آثم، مشيرة إلى أنه ليس صحيحاً أن كل من يقوم بضرب زوجته هو من متعاطي الكحول أو مدمني المخدرات.
المرأة والمجتمع:(/5)
وتتفق ليلى الكاظم - الباحثة والمعالجة النفسية السعودية - مع الصويان؛ حيث ترى أن المجتمع يعلم المرأة أحياناً أن تكون سلبية وخاضعة، ما يجعلها تقع فريسة السلوك العنيف من الرجل؛ فالمجتمع يعمل على ترسيخ رسائل معينة تساهم في تعليم المرأة كيف تكون راضية ومستسلمة، ترعى شؤون الآخرين، وتتقبل أخطاءهم، ولا يشجعها على أن تكون مسؤولة عن حياتها. فالمجتمع يغرس في الفتاة منذ الصغر ضرورة أن تحافظ على علاقتها الزوجية مهما كلف الثمن، وأنها من الأفضل بكثير أن تكون متزوجة حتى لو كانت حياتها الزوجية جحيماً، لأن قيمتها الشخصية تأتي من تلك العلاقة.
وتؤكد الكاظم : من أسباب تفشي ظاهرة العنف ضد المرأة في مجتمعنا أن الشخص المتسبب في العنف لا يلقى العقاب المناسب وأحياناً لا يعاقب نهائياً فلا توجد هناك نصوص واضحة حول العقوبات التي تخص العنف ضد الزوجة خصوصاً إذا كان هذا العنف معنوياً، وأن التطبيق الخاطئ لبعض المفاهيم الدينية التي تحث على (الستر) والقول المشهور "إذا بليتم فاستتروا" ليس - دائماً - في صالح الضحايا في هذه الحالة ويدفع بكثير من النساء إلى التكتم على العنف الحاصل في منزل الزوجية، إما خوفاً على فقدان العلاقة الزوجية، أو خوفاً من اللوم من الأهل والمجتمع، وإما للشعور بالعار وهو ما ترى فيه امتهاناً لكرامتها.
دراسات ميدانية:
في دراسة ميدانية خاصة أجرتها إحدى الصحف السعودية تكشف أن 285 سيدة سعودية من أصل300 سيدة سعودية شملتهن الدراسة يعانين عنف أزواجهن لهن، أي ما يعادل 92.5% من إجمالي عينة الدراسة.
وتؤكد نجاح العبد الله - الأخصائية الاجتماعية - أن ظاهرة العنف الأسري موجودة في كثير من الأسر سواءٌ من الزوج للزوجة أم العكس، ولكنها في الغالب من الزوج للزوجة، لعدم تقدير الزوج للحياة الزوجية، ولرسوخ بعض الأفكار القديمة في أهمية القسوة على النساء كعامل للتربية وكعامل آخر يسند قوة شخصية الرجل .(/6)
وتضيف العبد الله: أن العنف اللفظي من أكثر مظاهر العنف بين الأزواج فالزوج يطلق للسانه العنان في السب واللعن في أبسط الأمور لدرجة أن الأم تفقد هيبتها أمام أبنائها، وقد يعاقب الرجل زوجته بطرق شتى من بينها الزواج من امرأة أخرى، والتهديد بالطلاق، والحرمان من نفقات المنزل، وضرب الأبناء، والمنع من الخروج من المنزل.
وأشارت العبد الله إلى أن عنف الزوج ينجم عنه كثير من المشكلات النفسية للزوجة والأولاد، كشعور الزوجة بالخوف والتردد وعدم الأمان فضلاً عن ترسبات فكرية وسلوكية للأولاد بعد زواجهم وأثناء تعاملهم مع زوجاتهم مستقبلاً، فما تعاملت به الأم تتعامل به الزوجة.
وأكدت العبد الله أن علاج ظاهرة العنف الأسري هو العودة الحقيقية للنهج الإسلامي في التعامل الإنساني قبل أي شيء ثم التعامل بين الزوجين، إضافة إلى أهمية وجود عيادات للإرشاد الأسري في كل مركز صحي منتشر، وتكثيف الحملات الإعلامية والجرعات التثقيفية سواء عبر المنابر في المساجد أو في وسائل الإعلام المختلفة.
نحو الحل:(/7)
تقول ليلى الكاظم - الباحثة والمعالجة النفسية - لكي نستطيع معالجة مشكلة ما يجب أن نعترف بوجودها كظاهرة أولاً، حتى لو كانت تنقصنا الكثير من المعطيات والإحصائيات في الوقت الحاضر، ويحتاج المختصون في هذا المجال إلى رسم خطط بحثية ومنهجية واضحة، فيجمعوا المعلومات عن العنف الأسري، وأسبابه و نتائجه النفسية والاجتماعية والاقتصادية، نحتاج إلى نظام مؤسساتي متكامل يستجيب لتلك المتطلبات ويضمن للمرأة حقوقها بالقانون ويوفر لها الحماية اللازمة والأمان المادي. فكثير من النساء اللاتي يخضعن للعنف غير متعلمات وليس لهن مصدر مادي مستقل، إضافة إلى عدم الحصول على الدعم الاجتماعي عندما تقرر المرأة ترك بيت الزوجية، والكثير من الرجال يواصلون ممارسة العنف لأنهم يعون هذه الحقيقة، ويعون اعتماد المرأة الكامل عليهم وهذا ما يضمن لهم بقاء الموضوع سرّاً داخل المنزل.
وتضيف الكاظم: حتى نحل هذه المشكلة التي تفاقمت فإننا نحتاج إلى التدخل على مستويين.
1 - المستوى الفردي عبر العلاج النفسي والدعم المعنوي والتأهيل المهني.
2 - المستوى الاجتماعي من خلال تقديم دورات توعوية منظمة تركز على شرح طبيعة العنف الأسري، أسبابه ونتائجه النفسية والاجتماعية والاقتصادية ومصادر المساعدة المتوفرة. ويجب أن تكون هذه الدورات موجهة لطلبة المدارس وأيضاً للأشخاص المعنيين في المجال الطبي، ومجال الخدمات الاجتماعية، والصحة النفسية، خصوصاً القضاء.
ومن المهم كذلك توفير مراكز إيواء وإرشاد أسري لتقديم المساعدة لضحايا العنف الأسري، واستخدام وسائل الإعلام خصوصاً التلفاز لإبراز النتائج السلبية للعنف والوسائل السلمية البديلة لحل المشكلات الزوجية، فضلاً عن تقديم النموذج النبوي الراقي في العلاقات الزوجية للاقتداء به.(/8)
العنوان: عوامل النصر والهزيمة في ضوء القرآن الكريم
رقم المقالة: 632
صاحب المقالة: د. أنور صالح أبو زيد
-----------------------------------------
الحمدلله، خلق فسوَّى، وقدَّر فهدى، وأحاط كلَّ شيء علماً؛ فله الحمد في الآخرة والأولى، والصلاة والسلام الأتمَّان الأكملان على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن سار على نهجه، واتبع طريقه واهتدى بهداه إلى يوم الدين. أما بعد:
فأقولُ مستعيناً بالله:
لقد سنَّ الله - تعالى - النظر في سِيَر الأوَّلين والآخرين؛ لمعرفة أسباب الظفر والتمكين، وأسباب الفشل والتراجع، فهل كُتب على المسلمين عدم الاعتبار بحدث ماضٍ، وعدم التفكير فيما وقع لإخوانٍ لهم في زمن قريب؟! هل دُرست كل الحركات التي قامت سابقاً ولاحقاً؟ تلك الحركات التي أكبر أسباب فشلها ناتجٌ عن العجلة، وقلة الاستعداد المطلوب شرعاً وعقلاً؛ بل إن البعض الآن لا يتعجَّل قطف الثمار؛ لأنهم يعلمون - كما يصرِّحون - أن لا ثمار ولا نتيجة من وراء هذا العمل، ولكنهم يعملون لمجرد أنه لا يوجد طريق آخر بنظرهم!
- ففي القرآن:
التأكيد على هذه السنَّة العامة التي لا تختلف ولا تتبدَّل: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} [الشورى: 30]، ولذلك: فإنه حين تساءل المسلمون بعد هزيمة (أحد): أَنَّى هَذَا؟ جاءهم الجواب من الله: {قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ إنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 165].
وعن المشكلة ذاتها كان تعقيب القرآن على غزوة (حنين): {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ} [التوبة: 25].(/1)
كما تؤكد آيات القرآن وأحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّ سبب الهزائم ينشأ من داخل الأمة بـ(الوهن الحضاري)، الذي لا يُنْتج إلا الاستسلام للأعداء، والكفّ عن منازلتهم.. كذلك تشهد لهذه القاعدة آيات الآفاق والأنفس.
ونظرةٌ واحدة في تاريخ المسلمين تؤكِّد أن ما لحق بالأمة - ولا يزال يلحق بها - إنما هو في الحقيقة عقوبات مستحقَّة .. وأن كلَّ أمة تستسلم للنوم؛ فإن الله يبعث عليها سوطاً يوقظها، سواء كان هذا (السوط) عدوّاً من الخارج، أو اضطراباً في الداخل.
"فالنفس لا تنتصر في المعركة الحربية إلا حين تنتصر في المعارك الشعورية والأخلاقية والنظامية ...كما أنه لا قيمة ولا وزن في نظر الإسلام للانتصار العسكري أو السياسي أو الاقتصادي، ما لم يقم هذا كله على أساس المنهج الرباني في الانتصار على النفس، والغَلَبَة على الهوى، والفوز على الشهوة، وتقرير الحق الذي أراده الله في حياة الناس؛ ليكون كلُّ نصر نصراً لله ولمنهج الله، وليكون كل جهد في سبيل الله ومنهج الله؛ وإلا فهي جاهلية تنتصر على جاهلية"[1].(/2)
فالجماعة المسلمة التي تريد أن تنتصر على عدوِّها لابد وأن تتزوَّد بمادة الإعداد، وهذه المادة لا تقتصر على آلة الحرب؛ بل يتحتم عليها التعبئة الكاملة، تلك التي أشارت إليها آيات غزوة (أحد) في سورة (آل عمران)؛ حيث لم تقتصر على معالجة الجماعة المسلمة في ميدان المعركة فقط؛ بل في ميدان النفس البشرية والحياة الواقعية، "ومن ثمَّ عرَّج السياق القرآني على الربا فنهى عنه، وعرج على الإنفاق في السرَّاء والضرَّاء فحضَّ عليه، وعرَّج على طاعة الله ورسوله فجعلها مناط الرحمة، وعرَّج على كظم الغيظ والعفو عن الناس، وعلى الإحسان، والتطهُّر من الخطيئة بالاستغفار والتوبة وعدم الإصرار، فجعلها كلها مناط الرضوان، كما عرَّج على مبدأ الشورى وتقريره في أحرج الأوقات، وعلى الأمانة التي تمنع الغُلُول، وعلى البذل والتحذير من البخل، في نهاية ما نزل في التعقيب على الغزوة من آيات، عرَّج على هذا كله؛ لأنه مادة إعداد الجماعة المسلمة للمعركة في نطاقها الواسع"[2].
كما أننا لو تأملنا في هذه الغزوة: هل هي نصرٌ أم هزيمة؟ نجد اختلاف معايير النصر والهزيمة عند المؤرِّخين والعسكريين؛ فالمؤرِّخون يقوِّمون النصر والهزيمة على ضوء ما لحق الجيشين من الخسائر؛ فمن كانت خسارته أكثر فهو المهزوم، أما العسكريون فيقوِّمون النصر والهزيمة في المعارك على ضوء الأهداف التي تحقَّقت لكلٍّ من المتحاربَيْن؛ فالذي حقَّق أهدافه هو المنتصر، وإن كانت خسارته في القتلى والجرحى أكثر!
لقد أجمع المؤرِّخون على اعتبار أن نتيجة أحد نصرٌ للمشركين؛ لكن الحقائق العسكرية لا تتَّفق مع ما أجمع عليه المؤرِّخون؛ فإن فشل المشركين في القضاء على قوات المسلمين بعد إحاطتهم بقواتهم المتفوِّقة يعدُّ اندحاراً لهم، وإن نجاح المسلمين في الخروج من تطويق المشركين يعدُّ نصراً لهم[3].
وحتى نقف على التفسير الصحيح لهذه الحالة (الوهن)؛ فإنه لابد من أن نتعرَّف على أمور:(/3)
أولها: التعرف على الحكمة في قضاء الله وقدره:
فالله عزَّ وجلَّ - بعلمه الشامل، وحكمته البالغة - قدَّر وقضى أن يكون الصراع بين الحق والباطل موجوداً إلى أن يرث الله الأرض ومَنْ عليها، كما أن علينا أن ندرك طبيعة هذا الصراع، وأنه حربٌ ضروسٌ، لا يخمد لهيبها حتى تقوم الساعة، كما قال تعالى: {ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردُّوكم عن دينكم إن استطاعوا} [البقرة: 217].
وهذا من أبلغ الحجج والبراهين على دحض افتراءات العلمانيين والمنافقين، الذين يزعمون أن الحرب الدينية اليوم قد انتهت، وحريٌّ بالعالم أن يوحِّد رايته، ويلتقي في الطريق، تحت ستار الأسرة الواحدة والشرعية الدولية، وعلى المعتقدات أن تبقى حبيسة دور العبادة والمحاريب، ولا تتعداها!!
لكنَّ أمة التوحيد لا تقبل هذا الهراء؛ فهي تعي - تماماً - الدور المناط بها، وتوقن أن ما قدَّره الله هو الخير، ويحوي في طيَّاته الرحمة والنعمة، وإن كان ظاهره الألم والمشقَّة؛ فهي أمةٌ تتوكَّل على مولاها – سبحانه - آخذةً بالأسباب، وتعي آثار أسماء الله الحسنى؛ فتتعبَّد ربها بموجبها، وتظهر في القلوب ثمراتها؛ فتطمئن لوعد الله، وتثق بنصره، لكن في ظل استمرار الحملات الشرسة على ديار المسلمين وأعراضهم تظهر تساؤلات من هنا وهناك:
أما آن لهذه المهانة أن تنقشع؟ أما آن لهذا الليل أن ينجلي؟ متى يبزغ فجر الإسلام؟
إن هذا ما تجسده الآية الكريمة التي يقول الله فيها: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214]
وقد ذكر صاحب "الظلال" بعض الأمور التي يتأخَّر النصر بسببها[4]؛ فمن ذلك:(/4)
- أن النصر قد يبطئ؛ لأن بنية الأمة لم تنضج بعدُ نضجها، ولم تستكمل قوتها واستعدادها.
- وقد يبطئ حتى تبذل الأمة المؤمنة آخر ما في طوقها من قوة، وآخر ما تملكه من رصيد، فلا تستبقي عزيزاً ولا غالياً إلا وتبذله رخيصاً في سبيل الله.
- وقد يبطئ حتى تجرِّب الأمة المؤمنة آخر قواها، فتدرك أن هذه القوى وحدها - بدون سند من الله - لا تكفل النصر.
- وقد يبطئ لأن البيئة لا تصلح بعدُ لاستقبال الحق والخير والعدل، فلو انتصرت حينئذ للقيت معارضةً من البيئة، لا يستقر معها قرارٌ.
- وقد يبطئ لتُزيد الأمة المؤمنة صلتها بالله، فتعلم يقيناً أنه لا ملجأ ولا منجا منه - سبحانه - إلا إليه.
- وقد يبطئ لأن الأمة المؤمنة لم تتجرَّد بعدُ في كفاحها وتضحياتها لله ولدعوته، فهي تقاتل لمغنم تحققِّه، أو حميَّة لذاتها، أو شجاعة، والله يريد أن يكون الجهاد له وحده وفي سبيله.
- وقد يبطئ لأنَّ في الشرِّ الذي تكافحه الأمة المؤمنة بقية من خير، يريد الله أن يجرِّد الشرَّ منها؛ ليتمحض خالصاً.
- وقد يبطئ لأنَّ الباطل الذي تحاربه الأمة المؤمنة لم ينكشف زيفه للناس تماماً، فلو غلبه المؤمنون؛ فقد يجد له أنصاراً من المخدوعين فيه، فيشاء الله أن يبقى الباطل حتى يتكشَّف عارياً للناس، ويذهب غير مأسوف عليه من ذي بقية.
ثانيها: التعرف على سنن الله - تعالى - في نصرة دينه:
وبدون هذه المعرفة لن يُهتدى إلى الطريق، وحينها تضيع الجهود والأوقات ولمَّا يأت نصر الله، ومن هذه السُّنن: الابتلاء، التمحيص، التمكين، التغيير، التداول، النصر، وهي سنن نبَّه إليها القرآن الكريم.(/5)
فسنة الابتلاء؛ تضع المؤمن على محكِّ الاختبار، كما قال: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 2-3]، وقوله جلَّ ثناؤه: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 35]، وقوله عزَّ من قائل: {إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ وَإن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ} [المؤمنون: 30].
ومن ثبات هذه السنة أنها قد بُسطت في وحي الله، وعلمها أناس قبل أن تُقرأ في القرآن الكريم، فهذا (ورقة بن نوفل) - الذي كان لديه علمٌ بما عند أهل الكتاب - يقول للنبي – صلى الله عليه وسلم - بعد سماعه خبر نزول الوحي لأول مرة: "يا ليتني فيها جَذْعاً، ليتني أكون حيّاً إذ يخرجك قومك"، فيسأله النبي -صلى الله عليه وسلم- في تعجب: ((أَوَمُخرجيَّ هم؟!))، قال: "نعم، لم يأت رجلٌ قطُّ بمثل ما جئتَ به إلا عُودِيَ"... الحديث[5].
وهذا قيصر الروم يقول في حديثه مع أبي سفيان: "سألتُكَ: كيف كان قتالكم إياه؟ فزعمتَ أنَّ الحرب سجالٌ ودولٌ، فكذلك الرسل: تُبتلى، ثم تكون لهم العاقبة"[6].
وجاء في الحديث الصحيح: ((إنما بعثتُكَ لأبتليكَ وأبتلي بِكَ، وأنزلتُ عليك كتاباً لا يغسله الماء، تقرؤه نائماً ويقظان، وإن الله أمرني أن أحرق قريشاً، فقلتُ: ربي، إذاً يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة، قال: استَخْرِجْهم كما استخرجوكَ، واغزهم نُغْزِكَ، وأنفق فسننفقُ عليكَ، وابعثْ جيشاً نبعث خمسة مثله، وقاتل بمن أطاعك مَنْ عصاك))[7].(/6)
في هذا الحديث دلالة اعتبار ذلك الواقع الضخم ومراعاته، وكذلك ضخامة التكليف وبدء الحمل، كما يوضح مع ذلك كيف تلتقي السنن الربانية، ومنها سنة اشتراط الجهد البشري، وابتلاء بعض الناس ببعض، مع سنة العهد الربَّاني بنصر دينه وأوليائه وإن طال الابتلاء، فهما مقترنتان متضافرتان، تعملان عملاً واحداً في نهاية المطاف[8].
ولعلم الله - عزَّ وجلَّ - أن الابتلاء هو الوسيلة لتمييز الصفوف وتمحيص القلوب، جعله سنَّة ماضية، فحملُ الأمانة لا يصلح له كل الناس؛ بل يحتاج إلى قوم مختارين، وهم الصفوة الذين يعدّون لهذا الأمر إعداداً خاصّاً؛ ليحسنوا القيام به.
ويضرب الأستاذ (محمد قطب) مثلاً لذلك قائلاً: "أرأيتَ لو أنَّ قائداً أراد إعداد جنوده للفوز في معركة صعبة ضارية، أيكون من الرحمة بهم أن يخفِّف لهم التدريب، ويهوِِّن لهم الإعداد، أم تكون الرحمة الحقيقية بهم أن يشدد عليهم في التدريب، على قدر ما تقتضيه المعركة الضارية التي يعدِّهم من أجلها؟
والمؤمنون هم حزب الله وجنوده - ولله المثل الأعلى - والمعركة التي يعدُّهم من أجلها هي المعركة العظمى: معركة الحق والباطل، التي ينصر فيها الله الحقَّ على يد أولئك الجنود، حسبما اقتضت مشيئته وجرت سنَّته"[9].
ومن النتائج المترتبة على سنَّة الابتلاء لاحقاً:(/7)
سنَّة التمحيص؛ فالمؤمن من جهة يتعرض للمحنة، فيُصقل معدنه من أثرها، وينضج بها كما ينضج الطعام بالنار، والمنافق من جهة ثانية لا يستطيع الصمود أمام الفتنة؛ فتخور قواه، وتنحلُّ عُراه، وينكصُ على عقبيه؛ ولهذا جعل الله - تعالى - التمحيصَ مَعْبراً لتنقية الصفِّ المؤمن من أدعياء الإيمان، فيقع به التمييز بين الدرِّ الثمين والخرز الخسيس، كما في قوله – تعالى -: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران: 179]، وقوله – تعالى -: {وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران: 154].
وفي ضوء سنَّة التمحيص تتحقق سنة أخرى وهي:
سنَّة التمكين؛ إذ يمكِّن الله - عزَّ وجلَّ - للمؤمنين في الأرض بعد أن يثبتوا جدارتهم واستحقاقهم للنصر بلجوئهم إليه وحده في وقت المحنة، وتجرُّدهم له، وتطلُّعهم إليه في زمن الشدَّة، وتوكُّلهم عليه، مستيقنين من نزول نصره بعد الأخذ بكافَّة الأسباب المأمور بها شرعاً من صبر وتقوى وإعداد.
وقد أدرك أهل العلم والبصيرة هذه الحقيقة؛ فعندما سُئل الإمام الشافعي - رحمه الله -: "أيما أفضل للرجل: أن يمكَّن أو يُبتلى؟ فقال: لا يمكَّن حتى يُبتلى[10].
ومحصِّلة هذه السنن الثلاث أن بعضها يمسك برقاب بعض، كحلقات السلسلة يشدُّ بعضها بعضاً، فلا تمكين بلا تمحيص، ولا تمحيص بلا ابتلاء؛ إذ متى تحققت أوائلها تحققت أواخرها! إنها سننٌ ساطعة، وحقائقٌ ثابتة.(/8)
أما سنَّة التغيير؛ فالله - عزَّ وجلَّ - لا يغيِّر حال قوم حتى يبدلوا ويغيروا ما بأنفسهم؛ فالتغيير يبدأ من النفس، سواء بالارتقاء والارتفاع إلى أعلى، أو بالانتكاس والهبوط إلى أسفل: {إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد: 11]، فإذا وُجدت الأسباب فالنتائج تتبعها؛ إذ أن حدوث التغيير من الله - عزَّ وجلَّ - مترتبٌ على حدوثه من البشر سلباً وإيجاباً[11].
يقول إلإمام ابن كثير - رحمه الله - في تفسير قوله – تعالى – {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال: 53]: "يخبرُ - تعالى - عن تمام عدله وقِسطه في حكمه، بأنه - تعالى - لا يغيِّر نعمةً أنعمها على أحد إلا بسبب ذنب ارتكبه؛ لقوله - تعالى -: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}"[12].
"وهذه السنَّة الربَّانية ذات دلالتين في حالنا وواقعنا اليوم:
أولاهما: التباين الشديد بين حياة الأوَّلين من أسلافنا، وما كانوا عليه من القوَّة والعزَّة، وبين ما آل إليه حالنا من الضعف والهزيمة النفسية، خير شاهد على أننا غيَّرنا ما بأنفسنا فغيَّر الله حالنا.
ثانيهما: أن حالنا اليوم لن يغيِّره الله حتى نغيِّر ما بأنفسنا من تفشِّي البدع والشرك، بشتى صوره الجليّة والخفيّة، والتبعيَّة للغرب، ومحو آثار المعاصي والفجور التي لبست ثوب المباح والتقدُّم والرُّقي، والفرار إلى الله، وتحكيم شرعه في جميع شؤون الحياة"[13].(/9)
ومن السنن الربانية: مداولة الأيام بين الناس، من الشدَّة إلى الرخاء، ومن الرخاء إلى الشدة، ومن النصر إلى الهزيمة، ومن الهزيمة إلى النصر، قال – تعالى -: {إن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 140].
وهذه السُّنة نافذةٌ بحسب ما تقتضيه سنَّة تغيير ما بالأنفس: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الأنفال: 53].
وهنا يضع الله - عزَّ وجلَّ - أيدينا على سرٍّ عظيم، وهو ارتباط المداولة بين الأمم والدول والمجتمعات مع التغيير النفسي والذاتي في الأمة؛ فسقوط الحضارات ونهوضها، والأمم في ارتفاعها وهبوطها، مرتبطةٌ بهذا التغيير النفسي في مسارها عبر التاريخ والحاضر والمستقبل، وهي سنَّة ماضيةٌ ثابتةٌ لا تتغيَّر ولا تتبدَّل.
يقول (رشيد رضا) - رحمه الله - في "تفسير المنار": "إنَّ نعم الله - تعالى - على الأقوام والأمم منوطة - ابتداءً ودواماً - بأخلاق وصفات، وعقائد وعوائد، وأعمال تقتضيها، فما دامت هذه الشؤون لاصقة بأنفسهم، متمكِّنة منها، كانت تلك النعم ثابتةٌ بثباتها، ولم يكن الربُّ الكريم ينتزعها منهم انتزاعاً بغير ظلم ولا ذنب، فإذا هم غيّروا ما بأنفسهم من تلك العقائد والأخلاق، وما يترتَّب عليها من محاسن الأعمال؛ غيّر الله عندئذٍ ما بأنفسهم، وسلب نعمته منهم"[14] أهـ.
وهذا السلب يكون بالإدالة عليهم؛ بتسليط عدو عليهم يستأصل شأفتهم، ويكون ذلك سبباً في انهيارهم وزوال ملكهم، جزاء فسقهم وعصيانهم.(/10)
ومن أسباب الفتن وزوال النعم: أن يفشو فيهم الظلم، وعدم إقامة العدل، والجهر بالمعاصي، فيأخذهم الله - عزَّ وجلَّ - بالسُّنن، ويبتليهم بالأمراض والفقر، ويجعل بأسهم بينهم.
أخرج ابن ماجه بسنده إلى عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: إنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقبل علينا بوجهه، فقال: ((يا معشر المهاجرين، خمسُ خصالٍ أعوذ بالله أن تدركوهنَّ: ما ظهرت الفاحشة في قوم حتى أعلنوا بها؛ إلا ابتلوا بالطواعين والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا، ولا نَقَص قومٌ المكيالَ؛ إلا ابتلوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان، ولا خَفَر قومٌ العهد؛ إلا سلط الله عليهم عدوّاً من غيرهم، فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بما أنزل الله في كتابه؛ إلا جعل الله بأسهم بينهم))[15].
وقد تكون الإدالة على المسلمين بتخلُّف النصر عنهم، حين يتركون طاعة الرسول أو يطمعون في الغنيمة، كما حدث في غزوة أحد، أو حين يركنون لكثرة العدد، ويعجبون بأنفسهم، وينسون سندهم الأصيل، كما وقع في غزوة (حنين).
وحينئذ تكون الدُولة والغلبة لغيرهم بصفة مؤقتة، لحكمةٍ، هي استكمال حقيقة الإيمان ومقتضاه من الأعمال، ومتى تحقَّق ذلك جاء النصر؛ لأن "الهزيمة في معركة لا تكون هزيمة إلا إذا تركت آثارها في النفوس، هموداً وكلالاً وقنوطاً، فأما إذا بعثت الهمَّة، وأذكت الشعلة، وبصَّرت بالمزالق، وكشفت عن طبيعة المعركة، وطبيعة العقيدة، وطبيعة الطريق؛ فهي المقدمة الأكيدة للنصر الأكيد"[16](/11)
إن سنَّة النصر لا تتخلَّف متى استوفيت الشروط، وأهمها: الاستقامة على منهج الله، بطاعة أمره واتباع رسوله؛ قال – تعالى -: {إن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7]، وقال - جلَّ ذكره -: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المُرْسَلِينَ * إنَّهُمْ لَهُمُ المَنصُورُونَ * وَإنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغَالِبُونَ} [الصافات: 171-173].
وجاءت عوامل النصر جليَّة واضحة في قوله – تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا إذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 45-46].
إن من الحقائق التي استفدناها من دروس التاريخ: أن الحق لا ينتصر لمجرد أنه حقٌّ؛ بل لابد من قوة تسنده، وفئة تعاضده، وأنصارٌ يقومون به.
فلابدَّ إذن من سلطة تنصر الحق وتقمع المنكر، كما دلَّ عليه القرآن في قول الله - تعالى -: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [الحديد: 25]؛ "ولهذا كان قوام الدين بالمصحف والسيف"[17].(/12)
ولو أخذنا نموذجاً من تاريخنا المشرق، ننظر كيف كُتب لأهله النصر لمّا أخذوا بأسبابه، وهم الموحِّدون في دولة الأندلس، في معركة (الأرك) سنة 591هـ، ضد النصارى الذين كادوا يكتسحون الأندلس، مستفيدين من انشغال المسلمين بإخماد بعض الثورات التي قامت في إفريقية حتى لقد قُدِّرت القوات الأوروبية التي احتشدت في مواجهة القوات الإسلامية بـ(150) ألف جندي، تزيد عن ثلاثة أضعاف القوات الإسلامية، وقد تلمَّس بعض الدارسين[18] لتلك المرحلة بعض الأسباب التي أدَّت إلى انتصار الجيش المسلم؛ فمن ذلك:
الاهتمام بسلامة العقيدة، وتمثَّل ذلك في إعلان خليفة الموحِّدين (يعقوب بن يوسف) براءته من الاعتقاد بعصمة (ابن تومرت)، واستخفَّ بمن بالغوا في تقديسه، وشجَّع على الاهتمام بالقرآن وكتب الحديث المعتمَدة، وهذه محاولة جادة للاقتراب من منهج أهل السنة والجماعة.
1- اهتمام دولة الموحِّدين بالمرضى والفقراء والأيتام، وكان السلطان يشرف بنفسه على هذه الأعمال.
2- محاربة المنكر والظلم، ومعاقبة العمَّال الذين تشكو الرعية منهم، مع التشديد على إقامة الصلوات الخمس، ونشر العدل بين الناس.
3- فتح باب الاجتهاد، ومحاربة الجمود والتعصُّب للمذاهب.
4- احترام العلماء والقضاة والفقهاء.
5- الحزم والقيادة الرشيدة، المتمثلة في توحيد البيت الموحِّدي، والقضاء على الثورات، وإسناد المهامّ إلى أهلها.
6- الاهتمام بمدأ الشورى، فأعطى لأهل الاختصاص مكانتهم، واعتمد خطة (أبي عبدالله بن صناديد) ذات الأبعاد المتعددة.
7- جودة التخطيط، وظهر ذلك في حشد الألوف من المجاهدين، وتوفير العدَّة والعتاد، وتقسيم المواقع وإحكام الخطة في المعركة الفاصلة.
8- إذكاء روح الجهاد في الجنود؛ فقد أمر السلطان العلماء أن يجمعوا أحاديث الجهاد على الموحِّدين من أجل دراستها وحفظها، وأصبح ذلك الفعل سنَّة في دولة الموحِّدين.(/13)
9- تواضع القيادة، ويظهر ذلك عندما طلب أمير الموحِّدين من رعيَّته أن يسامحوه، وأن يتغافروا فيما بينهم، مما أثَّر في الناس.
10- الاهتمام بمعرفة النفسيات، خاصةً في أمر الجهاد؛ فقد جعل أمير الموحِّدين زعيم الأندلسيين منهم؛ ليكون أنشط لهممهم في القتال". أهـ.
ومما لا شك فيه أن هناك أسباباً تضاف إلى هذه، تناسب طبيعة المرحلة الراهنة لكل زمان ومكان.
ولكن إذا تخلفت هذه الأسباب تخلف النصر بطبيعة الحال، وربما حلَّت الهزيمة؛ لأنَّ سنن الله - تعالى - لا تحابي ولا تجامل أحداً من الخلق، ولا تجاري أهواء البشر، وإنما تساير أعمالهم، وإنَّ الذين يرثون الكتاب وراثةً بالاسم وشهادة الميلاد، ولا يترجمون ما فيه من الأوامر والنواهي واقعاً سلوكيّاً، ثم يقولون: سيُغفر لنا! لا يستجيب الله - عزَّ وجلَّ – لهم، حتى يعودوا إلى العمل بما أمرهم الله في كتابه المنزل: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الكِتَابَ يَاًخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإن يَاًتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَاًخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الكِتَابِ أَن لاَّ يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إلاَّ الحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الأعراف: 169].
وبناءً على ذلك؛ فإن السُّنن لا تحيد ولا تميل مع الأماني، وإنما تتأثر بالأعمال الجيدة، والجهود المنظَّمة، والمخطَّطات المحكمة؛ للوصول إلى النتائج المحدَّدة المطلوبة.
ومعنى ذلك: أنه لا يمكن أن يكون النصر بغير اتخاذ الأسباب، سواء تعلَّق الأمر بالمؤمنين أم بالكفار.
قد يتبادر إلى الذهن سؤالٌ وجيهٌ، وهو: ماذا يحدث لو وافق المسلمون السُّنن الإلهية في التغيير واستيفاء شروط النصر، فأخذوا بالأسباب، واستكملوا الإعداد للجهاد، غير أن أعداءهم كانوا أكثر كفاءة منهم، تخطيطْا وتنظيمْا وقوة؟(/14)
والجواب: إن المؤمنين حين يغيِّرون ما بأنفسهم، ويستكملون أدوات النصر؛ لا يضُّرهم تفوُّق الأعداء عليهم؛ لأن سنَّةً أخرى تتدخل، وهي وعد الله بالتمكين والنصر لعباده المؤمنين: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ} [الروم: 47]، {وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء: 14]، {إنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر: 51]
وقد يتأخَّر ويبطئ نصر الله لحكمة ما - كما ذكرناه سابقاً - لكن في نهاية المطاف هو آتٍ لا محالة: {حَتَّى إذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَاًسُنَا عَنِ القَوْمِ المُجْرِمِينَ} [يوسف: 110].
وقد يأتي النصر في غير صورته المعروفة، وهيئته المألوفة؛ فالابتلاء والمصائب قد تحمل من الخير الخفيِّ الكثيرَ، وقد تكون سبباً لنصر أعظم وأشمل!!
وعلينا ألاَّ نيأس من نَيْل النصر، وأن نبحث عن أسبابه، وأنْ نجتهد في أن نكون جنداً من جنده، {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40].
ثالثها: من تولى عن نصرة دين الله وإقامة شرعه؛ فإن الله يستبدل مَنْ هو خيرٌ منه:
قال - تعالى -: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38]، ويقول – تعالى -: {إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} [التوبة: 39].
ذلك أن نصر الله آتٍ لا محالة، ولو بعد حين، لكنه قريبٌ، إلا أن ثمَّة مانعٍ منه، وهو عدم التغيير من واقع الحال، فحينها يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه، أذلَّة على المؤمنين، أعزَّةً على الكافرين، يجاهدون في سبيل الله، ولا يخافون لومة لائم.
رابعها: عوائق النصر:(/15)
هناك عوائقٌ تقف في طريق النصر، منها ما هو من خارج الصف الإسلامي، ومنها ما هو من داخله، فهي على قسمين؛ عوائق خارجية وعوائق داخلية.
أما العوائق الخارجية؛ فتتمثل في أعداء هذا الدين، المتمثلين فيما يلي:
1- الكفار الصرحاء، الذين أسفروا عن عدائهم وحقدهم على الإسلام وأهله، كاليهود والنصارى والوثنيين وغيرهم.
2- المنافقون: المُظهرون للإسلام، والمبطنون للكفر والزندقة، وهؤلاء من بني جِلْدتنا، ويتكلمون بألسنتنا من العلمانين والباطنيين، والموالين لأعداء هذا الدين.
3- الأنظمة الحاكمة في أكثر بلدان المسلمين، التي مارست الضغط على شعوبها المسلمة باسم مكافحة التطرف والإرهاب، ووقفوا تجاه كل حركة إصلاحية تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر.
وأما العوائق الداخلية؛ فتتمثل في الانحراف الموجود في الفَهْم أو القَصْد، وهي كما يلي:
1- الفرقة المشينة، والاختلاف المذموم بين الدعاة.
2- الأمراض المتمثلة في الركون إلى الدنيا والتحاسد والكبر والرياء ... الخ في نفوس أفراد الأمة.[19]
وجديرٌ بالاهتمام: أن نعلم أنه لا يمكن أن يكون للعوائق الخارجية ضررٌ، إلا في ظلِّ وجود العوائق الداخلية، وهذا يحتِّم علينا أن نُسقط أسباب ضعفنا ومهانتنا على أنفسنا، ومن ثَمَّ نتوجه إلى إصلاحها؛ لتكون أهلاً لنصر الله - عزَّ وجلَّ.
خامسها: المبشرات بانتصار الإسلام:(/16)
"لقد دهش المؤرِّخون للسرعة التي أقام بها المسلمون دولتهم، وللسرعة التي انهارت بها أمامهم الإمبراطوريتان العظيمتان في ذلك الوقت، ولم يدرك الكثير منهم سرَّ عظمة هذه الأمة الناشئة، الذي يكمن في المدد الربَّاني لهؤلاء المجاهدين؛ ليس فقط بالإمداد بالملائكة، تثبِّت الذين آمنوا، لكن أيضاً بإمداد الله إيَّاهم بمفاهيم وقيم ومقوِّمات أهَّلتهم لقيادة البشرية، وانتزاع عجلة القيادة من قيم هابطة، ومفاهيم متخلفة، وعقائد فاسدة، ومُثُل مهترئة، فقد كانت المواجهة صراعاً بين حضارتين مختلفتين كل الاختلاف في القيم والمفاهيم والمنطلقات، وكان من الشأن أن تسري سنَّة الله في خلقه، ويمضي قانونه المحكم: أن البقاء للأصلح؛ {فأما الزبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض} [الرعد: 17]"[20].
والمبشرات بانتصار الإسلام كثيرةٌ، جاء بها القرآن والسنة والتاريخ، ففي التعرف على هذه المبشِّرات، وفي الوقوف عليها طمأنينة للمسلم، وتثبيت لقلبه، وإعانة له على الصبر، وترقُّب الفرج من الله.
وإنّ الكافرين وإنْ كانت لهم الغلبة الظاهرة، إلا أنَّ النصر الحقيقي يتمثَّل في الصبر والثبات، وفي خاتمة المسار والمطاف: {وَعْدَ اللَّهِ لاَ يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: 6-7].
لقد كانت النتائج العسكرية البحتة لكثير من الغزوات والمعارك تمثِّل هزائم ونكسات، ولكنها لم تكن القاضية، وكان بعدها جولات للمؤمنين غالبةٌ.
سادسها: دراسة أسباب سقوط الدول عبر التاريخ[21]:(/17)
فعندما يحدثنا التاريخ عن (برابرة التتار) وغارتهم الكاسحة التي خرَّبت بغداد، وقتلت أكثر من مليون مسلم - حسب رواية ابن كثير والسيوطي - فلم يسلم من القتل إلا من اختفى في بئر أو قناة! وقتل الخليفة رفساً وركلاً بأقدام التتار، وجرى النهر أربعين ليلة أحمر اللون من كثرة ما أريق فيه من دماء المسلمين!!
فهل كانت قوة التتار وحدها هي السبب وراء هذه المذبحة؟ أم أن الخيانة والتآمر من ابن العلقمي وبطانة السوء من جانب، وضعف الأمة من جانب آخر، هو السبب المباشر والأقوى؟
إن ابن كثير يحدِّثنا أمراً عجيباً عن جندي تتريٍّ أراد قتل مسلم، ولم يكن معه - أي: التتري – سلاحٌ؛ فقال للمسلم: "ابقَ هنا، لا تتحركْ"؛ فبقي المسلم - بسبب الهزيمة الداخلية - حتى غاب الجندي التتري، ثم عاد وبيده السلاح، فذبحه!! هكذا، لم يُبْدِ المسلم أدنى مقاومة، حتى لو كانت هذه المقاومة هي مجرد الفرار!!
بل إنَّ ابن كثير - رحمه الله - يحكي لنا قصة أخرى أقسى وأكثر دلالة على أن من يهزمه عدوَّه من داخله لا يبقى أمامه إلا أن يصفِّي ساحة المواجهة معه من فلوله العاجزة المذعورة، دون جهد أو تعب؛ يحكي لنا ابن كثير: أن مُلَثّماً من جنود التتار دخل خاناً فيه الكثير من المسلمين، فبدأ في قتلهم، وهو واحدٌ وهم كثرة، وهم لا يفعلون شيئاً إلا أن يسلِّموا رقابهم للذبح، حتى رأى أحدهم أنَّ مَنْ يقوم بقتل الجميع هي فتاة ضعيفة!! هنا - وهنا فقط!! - اجتمعوا عليها فقتلوها!![22]
ويتساءل المرء: ما الفرق بين أن تكون فتاة ضعيفة أو رجلاً قويّاً في مواجهة هذه الكثرة من المسلمين؟
ولكنه الوهن والهزيمة الداخلية، التي تُوجِدُ في النفوس الرهبة والخوف، فتشلها عن المواجهة، وتُقعدها عن المجاهدة، فتلقي بسلاحها قبل أن تبدأ المعركة.
كذلك ونحن نطالع المحاق الأندلسي لنقف على أسبابه:(/18)
فنجد أنه قد ظهرت القابلية للسقوط في الأندلس على مستوى الفرد والأمة، بدايةً من التناحر والصراع على السلطة، وإقامة الكيانات الطائفية الصغيرة، والاستعانة بأعداء الله لحماية تلك الكيانات الهزيلة.
وكانت هذه الأسباب - وغيرها من الأسباب التي نشأت في داخل الأمة - هي التي أعطت إشارة العمل والقوة لأعداء الأمة، فقاموا بتفريغ كل حقدهم الكاثوليكي على الإسلام والمسلمين، ومن ثمَّ: سقطت الأندلس، وشهد المسلمون هناك العمل المتواصل لإزالة كل ما هو إسلامي.
أمّا نحن؛ فقد علمتنا الأندلس "المعادلة الصحيحة في تفسير التاريخ: خروجٌ على سنن الله، إمهالٌ نسبيٌّ من الله، قد يغرى الخارجين على تلك السنن بالتمادي، ثم تتجمع عوامل الفناء لتكوِّن عامل إغلاق لباب العودة، إبادةٌ وموتٌ في صورة مجموعة من الكوارث"[23]تلك الكوارث التي تمثل النتيجة الحتمية لمقدمات موت الأمة، ووصولها إلى الطريق المسدود في حركتها داخل التاريخ.
سقوط آخر خلافة:(/19)
الدارس لسقوط الخلافة العثمانية على يد الطاغية (كمال أتاتورك) يوقن أن هذا الرجل لم يكن يملك قوة خارقة، أو يستند إلى قوة لا تقهر تمكِّنه من إسقاط ذلك الكيان، وإنما كان السقوط بسببٍ داخلي، هو الشيخوخة السياسية لدولة الخلافة، بسبب الاستبداد والشلل العلمي، بسبب إغلاق باب الاجتهاد، اللَّذين أدَّيا إلى تسكير الأبصار وتوقف الاعتبار، مما جعل الأمة عالةً على غيرها؛ فعاش كلُّ فرد فيها همّه الفردي في الطعام واللباس والمسكن، ومن ثمَّ تحولت الأمة إلى أمة ميتة، لم يدلنا على موتها إلاَّ (كمال أتاتورك) الذي قام بدور دابة الأرض، كما حصل ذلك في قصة موت سليمان عليه السلام: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ المَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَاًكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي العَذَابِ المُهِينِ} [سبأ: 14].
وهكذا حال كل أمة ميتة؛ قد تبقى زمناً دون أن تسقط؛ لأنها "تتكئ على منسأتها من أجهزة الأمن، فيخيل للرَّازحين تحت ظلمها أنها حية قائمة، فإذا بعث الله عليها عناصر مقاومة من الداخل، أو قوة غازية من الخارج، فتأكل منسأتها؛ فتخرُّ ساقطةً، وحينئذ يتبيَّن الرازحون تحت ظلمها أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين"!![24].
ويمكن إرجاع عوامل سقوطها إلى التالي[25]:
- البعد عن منهج الإسلام، الذي من مظاهره:
1- تعلُّق علية القوم وطبقات المجتمع بالنزعات الصوفية.
2- مظاهر الترف.
3- كثرة الجواري من أجناس مختلفة، ومنهنَّ اليهوديات والنصرانيات، وكان لهنَّ دورٌ كبيرٌ في تدبير المؤامرات.
- إخفاق محاولات الإصلاح في أواخر عهد الدولة:
والمقصود بذلك الإصلاح المبني على أسس إسلامية، لكن الغلبة كانت لتيار آخر، نادى بالإصلاح على أسس غربية، تلك الفكرة التي تبناها فؤاد باشا (وزير الدولة).(/20)
- تعدد العناصر، وتنوع الملل، وظهور الحركات القومية:
فقد كانت الدولة العثمانية تضمُّ عناصر كثيرة، وقوميَّات متعددة، مختلفة الأديان، متشعِّبة المذاهب، بسبب اتساع رقعتها، وكان هذا التنوع مصدر قلق للدولة في مرحلة ضعفها، ولعل أخطر إجراء سمح به العثمانيون: هو إعطاء الدول الأجنبية حقَّ حماية الأقليَّات في الأراضي العثمانية، فكانت امتيازات الحماية سبباً مباشراً للتدخُّل الأوروبي في مصالح الدولة العثمانية.
وأما الحركات القومية؛ فقد "استغل اليهود بعض مفكري العرب - وأكثرهم من النصارى - لإبراز مساوئ الخلافة، وقد اعترف مؤرِّخو النصارى من العرب أنَّ الروَّاد الأوائل لحركة القومية العربية كانوا من النصارى، وأنهم تعاونوا مع (الماسونية) ومحافلها في المشرق"[26].
- الحركات الباطنية:
حيث كانت الدولة (الصَّفوية) الشِّيعية في فارس شوكةً دامية في جوار الدولة العثمانية، خاصةً أيام (إسماعيل الصَّفوي) الذي كان يطمح إلى تأسيس امبراطورية رافضيَّة في العالم الإسلامي؛ فكان يشغل العثمانيين عن متابعتهم فتوحاتهم في أوروبا.
كذلك ثورات (الدَّروز) في لبنان وجبل حَوْران، كذلك (النُّصَيْريِّين)، وكانت تعتبرهم الدولة طائفةً نشازاً، ليسوا مسلمين ولا أهل ذمة؛ لذ لم تدخلهم في إطار (نظام الملل) الذي شرعته، وكانوا عوناً للدولة الصَّفوية ضد العثمانيين.
- الغزو الفكري والعسكري:
أما الغزو الفكري؛ فيتمثل في كثرة المدارس الأجنبية في الدولة العثمانية، ناهيك عن نشاط حركة الاستشراق والتنصير في استانبول ومدن الشام.
أما الغزو العسكري والاستعماري؛ فكان يخطَّط له منذ أمد بعيد، انتقاماً لسقوط القسطنطينية، وكان ذلك بالتعاون مع جمعيات (الماسون) السرية، وعصابات يهود الموتورة.
- مطامع الحركة الصهيونية ودسائس اليهود:(/21)
فهذه العوامل المتقدِّمة منها ما هو داخلي ومنها ما هو خارجي، ومَنْ يرى الحياة من خلال واقعه، وليس من خلال أمانيه يدرك أن واقع أمتنا لا يخرج عن أن يكون النتيجة البدهية للمقدمات التي صغناها نحن بأيدينا، وأنه لو زالت أمامنا كل عقبة خارجية تحول بيننا وبين التغيير، لما أمكننا أن نصنع شيئاً قبل أن نغير ما بأنفسنا وداخل أمتنا، وندرك - دون لَبْس أو غموض أو إيهام - الإجابة الشافية على السؤال التالي:
متى تبدأ هزائم أمتنا؟
إن سنَّة الله التي تحكم قيام الأمم أو سقوطها هي أن السقوط والهزيمة نتيجة تتكرر كلما جاء سببها، وهو الوهن الداخلي.
لقد فطن لتلك السنَّة أعداء أمتنا؛ بل وتحركوا من خلالها قديماً وحديثاً:
حكمة ملك الصين:
أرسل (يزدجرد) كسرى الفرس إلى ملك الصين، يطلب منه العون والنجدة بعد هزيمته في معركة (نهاوند)؛ فقال ملك الصين لرسول كسرى: قد عرفتُ أن حقّاً على الملوك إنجاد الملوك على من غلبهم، فصِفْ لي صفة هؤلاء القوم الذين أخرجوكم من بلادكم؛ فقال رسول يزدجرد: سلني عمَّا أحببت.
ملك الصين: أيوفون بالعهد؟
رسول يزدجرد: نعم.
ملك الصين: وما يقولون لكم قبل أن يقاتلوكم؟
رسول يزدجرد: يدعوننا إلى واحدة من ثلاث: إمّا دينهم، فإن أجبناهم أجرونا مجراهم، أو الجزية والمَنَعة، أو المنابذة.
ملك الصين: فكيف طاعتهم أمراءهم؟
رسول يزدجرد: أطوع قوم لمرشدهم.
ملك الصين: فما يُحلُّون وما يُحرِّمون؟ .. ويخبره رسول يزدجرد.
ملك الصين: أيحرِّمون ما حلَّل لهم، أو يحلون ما حرَّم عليهم؟
رسول يزدجرد: لا.
ملك الصين: فإن هؤلاء القوم لا يهلكون أبداً حتى يحلُّوا حرامهم، ويحرّموا حلالهم.(/22)
ثم كتب ملك الصين كتاباً إلى يزدجرد، جاء فيه: "إنه لم يمنعني أن أبعث إليك بجيش أوَّله بمَرْو وآخره بالصين الجهالة بما يحقُّ عليَّ، ولكنَّ هؤلاء القوم الذين وصف لي رسولك صفتهم لو يطاولون الجبال لهدُّوها، ولو خُليَّ سربهم أزالوني، ماداموا على ما وصف، فسالِمْهم، وارضَ منهم بالمساكنة، ولا تهيِّجهم ما لم يهيِّجوك[27].
هذه هي حكمة ملك الصين: "إن هؤلاء القوم لا يهلكون أبداً حتى يُحلّوا حرامهم، ويُحَرّموا حلالهم"..
إن الهزائم تبدأ من هنا .. من داخل الأمة، وليس من خارجها، وهذه الحكمة جديرةٌ بأن نضعها نصب أعيننا ونحن نقرأ الماضي، ونبصر الحاضر، حتى نقدر على القراءة الصحيحة لمستقبلنا.
درس من توينبي:
لم يتمكن علماء وفلاسفة الاجتماع والحضارة من الوصول إلى كثير من السنن التي تحكم البناء أو السقوط الحضاري. هذه حقيقة، ولكنَّ هذه الحقيقة لا تعني جهلهم التام بها؛ فقد أصاب المؤرخ البريطاني (توينبي) حين أشار إلى أن علَّة انهيار الأمم وهزيمتها هي الانتحار الداخلي، قبل أيِّ عامل خارجي، لا يعدو دوره الكَشْف عن هذا الانتحار[28].
ونحن هنا لا نستدل بآراء (توينبي)، فهذه الآراء ما زالت تستدعي الكثير من الحوار والنقاش، ولكن حسبنا أن هذه القاعدة التي ذكرها تدفعنا في رحلة للتفتيش عن مواطن الخلل الداخلي لاستدراكها، ومراجعة أسباب القصور الذاتي لعلاجها، ولتكن نتيجة هذه الرحلة خطوة في الطريق الصحيح.
الهزيمة والتحدي:
إن أعداءنا يدفعوننا دائماً إلى الزهد في أخطائنا الداخلية تحت دعوى أولويَّات مزعومة ننخدع لها نحن - أحياناً - بسذاجة غريبة، في حين أن هذه الأخطاء الداخلية هي في رأس قائمة الأولويات، ذلك أن التأثير القوي في الخارج إنما هو النتيجة البدهية لنظام دقيق وصحيح في الداخل.(/23)
إن من البدهي أن نتوقع من أعدائنا كل خبث وكيد وتخطيط موجَّه، وليس لنا أن نطالبهم بعدم الكيد لنا، والعمل على تحقيق ذلك الهدف؛ فهذا لونٌ من سَفَه العقل، وإنما سيطرتنا على أعدائنا لها طريق واحد، هو: تطهير أنفسنا من الداخل، من أخلاقيات الضعف والخوف، وممارسات الانعزال في دائرة الهموم الفردية، التي تمهد لقبولنا الاستعباد والخضوع.
إن واقعنا اليوم قد يكون أزمة كبرى، ولكنَّ الأزمات الكبرى هي التي توقظ الأمم من سباتها، وتحفِّزها للانطلاق من جديد.
فهل نقدر اليوم على أن نحوِّل الهزيمة النفسية - بعد شعورنا بوجودها - إلى دافع يفجِّر روح التحدي والرفض للواقع المزري، فنبدأ خطوةً في الطريق الصحيح تقضي على الخلايا الشائخة في الأمة، وتدفعها نحو بعث جديد من مرقدها الحضاري؟ هل نخطو هذه الخطوة في الطريق الصحيح، أم نُبْقي عجلة التحكم في مصير أمتنا بيد أعدائنا، بدعوى أن قوتهم هي التي تقتل بعثنا الحضاري، بينما الحقيقة المرّة: أننا نحن الذين نقتل هذا البعث الحضاري عبر ما بأنفسنا من (الانحراف الفكري)، و(القابلية للهزيمة)، و (الانتحار الداخلي)؟!
هذا نذيرٌ؛ فهل من مجيب؟
سابعها: التعرف على المنهج الصحيح للتغيير:
تعددت المناهج الدعوية في سلوك الطريق الأنسب لتغيير الواقع المرير، فمنهم مَنْ أصابه اليأس والإحباط، ينتظر خارقةً من السماء، ومنهم مَنْ ظنَّ أنَّ الحلَّ يكمن في التنازل للأعداء، والرضا بالحلول الوسط، ومنهم مَنْ سلك طريق المشاركة في المجالس البرلمانية؛ ليحقق بعض المكاسب للدعوة، أو يدفع بعض المفاسد عنها، ومنهم مَنْ يرى المواجهة واستعجال النصر، وكل ذلك – والله أعلم – بسبب شدة الوطأة على المسلمين، مع ما صاحبه من إغفال سنن الله - عزَّ وجلَّ - في التغيير.(/24)
وإن الحل الملائم لواقعنا اليوم يكمن في منهج الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - وبالذات في الجوانب المشابهة للحالة الراهنة، وذلك في بداية الدعوة واستضعافها.
وباستقراء معالم هذا المنهج يتبين أن أهمها ما يلي:
أولا: في مجال الدعوة والتوجيه.
والكمال المنشود فيه يتحقق بما يلي:
1- الطليعة تقود الأمة:
يضع الإسلام لقيادة الأمة الإسلامية شروطاً دقيقةً، ومواصفات خاصة، وهم (أولو الأمر)، وهم (العلماء والأمراء)، وبصلاح هذين الأصلَيْن يصلح حال الأمة.
ويرى بعض المفسرين أنهم (العلماء) وحدهم، ويعمِّم ابن تيمية الصفة؛ فيدخل فيهم الملوك والمشايخ، وأهل الديوان، وكل من كان متبوعاً؛ فإنه من أولي الأمر[29].
وعند الشوكاني: هم الأئمة والسلاطين والقضاة، وكل من له ولاية شرعية[30].
وعلى أي حال؛ فأولو الأمر: هم أصحاب التصرف في شأن الأمة، الذين يملكون زمام الأمور، وبيدهم قيادة الأمة[31].
ولا شك أن هذا الاهتمام بأمر القيادة في الأمة الإسلامية يرجع إلى أن الأمة التي يقودها ويتولى زمام أمورها (الفقهاء) و(أولو ألباب) تتقدم وتنتصر، أما الأمة التي يقودها ويتولى زمام أمورها (خطباء) لا يحسنون إلا التلاعب بالمشاعر والعواطف؛ فإنها تبقى تتلهى بـ(الأماني)، حتى إذا جابهت الأزمات لم (يفقه) حكامها من (الخطباء) ماذا يصنعون، وآل أمرهم إلى الفشل، وأحلُّوا أمتهم دار البوار.
ومن هنا؛ فإنه لا سبيل إلى الإحياء الحضاري للأمة الإسلامية إلا أن يوجد في الأمة (فقهاء) يتصفون بصفات المؤمنين، ويتحركون على أساس من الوعي بقيم الوحي؛ قرآناً وسنَّةً، مع الدراية بشؤون الواقع، (فقهاء) يتميزون بمنهجيتهم وموضوعيتهم في رؤية حقائق الواقع، ومواجهة تحديات العصر.(/25)
ولكي يستطيع هؤلاء الفقهاء حمل رسالة أمتهم، وتقديم العطاء الحضاري المنشود، فلابد أن يكون عملهم بـ(روح الفريق)، ولابد أن تربط بينهم شبكة من العلاقات العقائدية والاجتماعية، خيوطها الإيمان والتكامل، والتناصر والجهاد، في سبيل الخروج بالأمة الإسلامية من التَّبعية إلى الرِّيادة، ومن الاستضعاف إلى التمكين.
2- الانطلاق في الدعوة إلى الله - عزَّ وجلَّ - من أصلين عظيمين، ذكرهما الله في القرآن، في قوله - تعالى -: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي}[يوسف: 108]
فالأصل الأول: أن تكون الدعوة إلى الله وتوحيده والإخلاص له والموالاة والمعاداة على أساسه، لا يدعو إلى شخص، ولا إلى حزب، ولا إلى رأيه، لكن إلى الله وحده؛ ليتحقق له بذلك سلامة القصد.
والأصل الثاني: أن تكون الدعوة على بصيرة وعلم ودليل واتباع للرسول؛ ليتحقق له سلامة الفهم.
ثانياً: في مجال التربية والإعداد.
والكمال المنشود فيه يتحقق بما يلي:
1- الإيمان بالله وبوعده الذي لا يتخلَّف، كما قال - تعالى -: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}، وكان النبي - صلوات الله وسلامه عليه - يربي أصحابه على ذلك، وهم في حالة الاستضعاف والإيذاء[32].
2- السعي إلى توحيد صفوف أهل السنة، ونبذ الفرقة والتنازع والتفرُّق.
3- تزكية النفوس، وإحياء السلوك الإسلامي وأخلاق السلف الفاضلة.
4- التركيز على الجانب التعبُّدي.
5- توطين النفس على الصبر على البلاء، وسياسة النَّفَس الطويل، وتعويدها على أن يكون انطلاقها من الشريعة وقواعدها، لا من ردود الأفعال والعواطف الملتهبة.(/26)
6- إعداد النفوس إعداداً متكاملاً في باب الجهاد في سبيل الله - عزَّ وجلَّ - مع فقه الحديث القائل: ((من مات ولم يغزُ، ولم يحدِّث به نفسه؛ مات على شعبة من النفاق))؛ فلا يكفي أن يحدِّث الإنسان نفسه أنه سيغزو، مكتفياً بذلك، وهو متكئٌ على أريكته، قد أُشرب قلبه حب دنياه، فتحديث النفس هذا ليس هو الحديث المنجي، إنما الحديث المنجي هو أمور عملية وخطوات، من أهمها:
أ- الإعداد العلمي، والفقه في الدين، والبصيرة فيه، حتى يفقه لماذا يجاهد؟ وكيف يجاهد؟ ومَنْ يجاهد؟ وعلى أيِّ عقيدة يجاهد؟
ب- الإعداد التربوي والسلوكي، من إخلاص النية لله، والتقرُّب له بالطاعات، والتخلُّق بأخلاق الإسلام.
ج- التربية على الإنفاق في سبيل الله، وتخليص النفس من الشُّحِّ وحب الدنيا.
د- الإعداد الجسمي، وذلك بالرعاية الصحية، والرياضة البدنية، وركوب الخيل، والسباحة، والرماية، ونحو ذلك مما من شأنه أن يكون فيه إرهابٌ للعدو.
وفي ظل هذا الواقع؛ لابد أن نؤكِّد أن المسؤولية عن الإسلام هي مسؤولية كلِّ مَنْ شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، على تفاوتٍ في الدرجات بتفاوت الاستعدادات والقدرات، والمواقع والظروف، وأن العمل الإسلامي هو جهاد (أمة)، وليس جهاد (حزب) أو (جماعة) أو (تنظيم).
ومن هنا؛ فإن (إخراج الأمة المسلمة) هو العلاج الحاسم، والوقاية الحقيقية لكل المسلمين من نماذج الأنظمة الطاغية التي تُخرجها العلمانية، التي يراد بها حرق (المستضعَفين) من المسلمين في أتون الظلم والقهر والاستعباد.
7- إحياء الهوية الإسلامية التي تمثِّل الحافز العقدي والدافع النفسي، الذي يدفع الأمة في طريق التقدم والحضارة، ويقاوم في ذات الوقت الاجتياح الحضاري للأمم الأخرى، التي تزعم أن الإحياء الحضاري لشعوبها هو إحياء هويتها الوطنية أو القومية أو غير ذلك.
وفي ختام هذا البحث يمكن أن نخرج بالنتائج والتوصيات التالية:(/27)
إن بدايات الخطوات الصحيحة في طريق النصر - كما هدانا إليها القرآن - تكمن فيما يلي:
1- الحذر من الغفلة عن منهج الله، بتجاهل السُّنن الربانية التي تحكم حياة الأفراد والأمم.
2- فهم هذه السُّنن وتسخيرها على الوجه الصحيح.
3- سنَّة الله في الخلق تسري على كل شيء في هذا الوجود، من غير تمييز، سواء أكان هذا الشيء مادياً أم معنوياً، ونحن البشر خاضعون كغيرنا من خلائق هذا الوجود لسنن الله، شئنا أم أبينا، وهذه الحقيقة تحتم علينا مسايرة هذه السُّنن؛ لكي نتمكن من تسخيرها فيما ينفعنا، وإلا فإن مخالفة السُّنن أو معاندتها لا تأتي بخير.
4- يلزم معرفة السُّنة التي يقوم عليها أي عمل قبل الشروع فيه، فإذا عرفنا سنَّته؛ فعلينا أن نهيئ الشروط اللازمة لهذه السُّنة، فإذا فشلنا في إنجاز العمل المطلوب؛ فإن هذا الفشل يعني وقوع خللٍ ما في الخطة، هذا الخلل هو أول خطوة في طريق الهزيمة.
ويمكن أن نحصر مواضع الخلل في ثلاثة مواضع رئيسة:
1- عدم سلوك الطريق الصحيح نحو الهدف، أو عدم إصابة السُّنة التي توافق العمل.
2- وجود عوامل خارجية تحول دون تحقيق السُّنة وبلوغها.
3- وجود عوامل داخلية تؤدي إلى الإخلال بشرط - أو بأكثر - من الشروط اللازمة للسُّنة التي تتحكم بالعمل.
هذا وأرجو أن أكون قد وفِّقتُ في هذا البحث على الوجه المَرضي، وصلى الله وسلم على النبي وآله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
المصادر والمراجع
1- أوراق ذابلة من حضارتنا. عبد الحليم عويس. دار الوفاء.
2- إخراج الأمة المسلمة. ماجد الكيلاني. مكتبة دار الاستقامة، مكة المكرمة، ط1.
3- البداية والنهاية. أبو الفداء إسماعيل بن كثير. طبعة مكتبة المعارف. سنة 1966م، بيروت.
4- الحسبة في الإسلام. شيخ الإسلام ابن تيمية؛ تحقيق: محمد زهري النجار. المؤسسة السعيدية بالرياض، 1980م.
5- الرسول القائد. محمود شيت خطَّاب. ط2، دار ومكتبة الحياة، بغداد.(/28)
6- السلسلة الصحيحة. محمد ناصر الدين الألباني. المكتب الإسلامي، ط1.
7- الفوائد. محمد بن أبي بكر بن القيم.
8- المؤامرة الكبرى على بلاد الشام. محمد فاروق الخالدي. دار الراوي، ط1، 1421هـ.
9- تاريخ الأمم والملوك. محمد بن جرير الطبري. ط2، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان.
10- تفسير القرآن العظيم. أبو الفداء إسماعيل بن كثير. دار الفكر.
11- تفسير المنار. محمد رشيد رضا. ط2، دار المعرفة، بيروت.
12- تلخيص المستدرك. الحافظ الذهبي.
13- حول التفسير الإسلامي للتاريخ. محمد قطب. المجموعة الإعلامية السعودية، ط1.
14- سنن ابن ماجه؛ تحقيق: محمد فؤاد عبدالباقي. مطبعة دار إحياء الكتب العربية.
15- صحيح البخاري. محمد بن إسماعيل البخاري؛ ترقيم: محمد فؤاد عبدالباقي. الطبعة السلفية.
16- صحيح مسلم؛ ترقيم: محمد فؤاد عبد الباقي. دار إحياء الكتب العربية.
17- صفحات مشرقة من التاريخ الإسلامي. علي محمد الصلابي. دار القمة، الإسكندرية.
18- طاعة أولي الأمر. عبدالله الطريقي. ط1، 1414هـ، دار المسلم، الرياض.
19- طريق الدعوة في ظلال القرآن. سيد قطب؛ جمع: أحمد فائز. مؤسسة الرسالة، ط1.
20- ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي. سفر عبدالرحمن الحوالي. ط2.
21- ظلال القرآن. سيد قطب. دار الشروق، ط10.
22- علوّ الهمة. محمد بن إسماعيل المقدم. دار ابن الجوزي.
23- غزوة أحد .. دراسة دعوية. محمد بامدحج. ط1، دار إشبيليا.
24- فتح القدير. محمد بن علي الشوكاني. مؤسسة التاريخ العربي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان.
25- مختصر دراسة التاريخ. أرنولد توينبي؛ ترجمة: فؤاد محمد شبل. جامعة الدول العربية، ط1.
26- منهج كتابة التاريخ الإسلامي. محمد بن صامل السلمي. دار طيبة، ط1.
27- وقفات تربوية في ضوء القرآن الكريم. عبد العزيز بن ناصر الجليل. دار طيبة، ط2.
28- يقظة العرب. جورج أنطونيس. بيروت، 1966م؛ ترجمة: ناصر الدين الأسد وإحسان عباس.(/29)
ـــــــــــــــــــــــ
[1] سيد قطب – في ظلال القرآن 1/ 459.
[2] سيد قطب – في ظلال القرآن 1/ 458.
[3] محمد با مدحج – غزوة أحد – ص128، نقلاً عن محمود شيت خطاب في كتابه "الرسول القائد" ص124.
[4] طريق الدعوة في ظلال القرآن ص359.
[5] أخرجه البخاري في "الجامع الصحيح"، كتاب بدء الوحي، باب: حدثنا يحيى بن بكير، 1/3 قال في "فتح الباري": (جذعاً) بالنصب على أنه خبر كان المقدرة. قاله الخطابي، وفي رواية الأصيلي: (يا ليتني فيها جذع).
[6] أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير، باب: [قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إلاَّ إحْدَى الحُسْنَيَيْنِ]، والحرب سجال، 3/ 204، 205.
[7] أخرجه مسلم في "الجامع الصحيح"، باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار، كتاب الجنة، 17/ 197 198.
[8] سفر بن عبد الرحمن: ظاهرة الإرجاء، ص 16.
[9] محمد قطب: حول التفسير الإسلامي للتاريخ، ص 111.
[10] ابن القيم: الفوائد، ص227.
[11] محمد بن صامل السلمي: منهج كتابة التاريخ الإسلامي، ص 64.
[12] تفسير القرآن العظيم – سورة الأنفال آية رقم 53.
[13] انظر: وقفات تربوية في ضوء القرآن الكريم، للجليل ص209.
[14] تفسير المنار – رشيد رضا- 10 / 42.
[15] أخرجه ابن ماجه في "السنن"، كتاب الفتن، رقم 4019، 2 / 1332، والحاكم في "المستدرك"، وقال: صحيح. الإسناد، ووافقه الذهبي، 4/ 540، وأورده الألباني في السلسلة الصحيحة، 1/ 167.
[16] طريق الدعوة في ظلال القرآن، ص 248.
[17] مجموع فتاوى ابن تيمية 28/ 264.
[18] علي الصلابي – صفحات مشرقة من التاريخ الإسلامي 2/611.
[19] وقفات تربوية للجليل ص227 .
[20] من كتاب "علو الهمة" لمحمد بن إسماعيل المقدم، ص83.(/30)
[21] هناك بعض الكتب تناولت بالدراسة أسباب السقوط لبعض الدول الإسلامية، منها: كتاب "دراسة لسقوط ثلاثين دولة إسلامية" لعبد الحليم عويس، طبعة دار الوفاء بمصر، ومنها: كتاب "سقوط الدولة العثمانية" لعبداللطيف الحميد – طبعة مكتبة العبيكان، ومنها: كتاب "كيف سقطت الخلافة الإسلامية" لفتحي شهاب الدين – طبعة دار البشير بمصر، ومنها: كتاب "سقوط الأندلس" لناصر العمر – طبعة دار الوطن، ومنها: كتاب "سقوط غرناطة" لشوقي أبي خليل – طبعة دار الفكر.
[22] ابن كثير: البداية والنهاية، 13 / 200 وما بعدها.
[23] د عبد الحليم عويس: أوراق ذابلة من حضارتنا، ص 39.
[24] د. ماجد الكيلاني - إخراج الأمة المسلمة، ص 130 بتصرف.
[25] محمد فاروق الخالدي – المؤامر ة الكبرى على بلاد الشام، ص43 وما بعدها بتصرف يسير.
[26] جورج أنطونيس - يقظة العرب – ص149وما بعدها.
[27] تاريخ الطبري ج 4، ص 172، 173.
[28] أرنولد توينبي، مختصر دراسة التاريخ، 1 / 412.
[29] ابن تيمية – الحسبة في الإسلام – ص185.
[30] الشوكاني – فتح القدير – 1/ 481.
[31] عبد الله الطريقي – طاعة أولي الأمر – ص12.
[32] ومن ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - لخبَّاب بن الأرتّ، عندما جاءه يشكو إليه أذى المشركين، ويطلب نصر الله - تعالى -: ((قد كان مَنْ قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض، فيجعل فيها، فيُجاء بالمنشار فيوضع على رأسه، فيُجعل نصفين، ويمشَّط بأمشاط الحديد من دون لحمه وعظمه، فما يصدّه ذلك عن دينه ...)) الحديث؛ رواه البخاري في "صحيحه" – كتاب الإكراه (6943).(/31)
العنوان: عوانس بالجملة وشباب عازف عن الزواج!
رقم المقالة: 111
صاحب المقالة: سحر فؤاد أحمد
-----------------------------------------
أصبحت العنوسة شبحا يهدد الأسرة العربية، فقد أشارت دراسة حديثة إلى أن ثلث عدد الفتيات في الدول العربية بلغن سن الثلاثين دون زواج، ففي السعودية أكَّدت إحصائية صادرة من وزارة التخطيط أن ظاهرة العنوسة امتدت لتشمل حوالي ثلث عدد الفتيات السعوديات اللاتي في سن الزواج.
وقد ذكرت الدراسة أن عدد الفتيات اللواتي بلغن سن الزواج ولم يتزوجن 1529418 فتاة، وكانت مكة المكرمة قد شكلت النسبة الكبرى بوجود 396248 عانس، تليها منطقة الرياض بوجود 327427 عانس، ثم المنطقة الشرقية (228093)، ثم منطقة عسير (130812)، تليها المدينة المنورة (95542)، ثم جازان (84845)، ثم القصيم (74209)، ثم الجوف (5219)، وحائل (43275)، ثم تبوك (36689)، والمنطقة الشمالية (21543 عانس).
ووفقا لدراسة نُشرت في الإمارات فإن عدد العوانس قد وصل إلى 68% ممن في سن الزواج؛ أي أن في كل بيت إماراتي فتاة عانسًا، وكشفت دراسة حديثة أن 35% من الفتيات في كل من الكويت وقطر والبحرين بلغن مرحلة العنوسة، وانخفضت هذه النسبة في كل من اليمن وليبيا لتصل إلى 30%، بينما بلغت 20% في كل من السودان والصومال، و 10% في سلطنة عُمان والمغرب، وكانت أعلى نسبة قد تحققت في العراق إذ وصلت إلى85%.
أما في مصر فقد كشفت الدراسة التي أجراها مركز الدراسات الاجتماعية إلى وجود 9 ملايين فتاة فاتهن قطار الزواج.(/1)
وقد أوضحت الإحصائيات أن العنوسة لا تقتصر على النساء فقط، فالعزوبية فرضت نفسها بقوة على واقعنا العربي، ففي السعودية يمثل العزاب نسبة كبيرة من شريحة الشباب التي تمثل 60% من المجتمع السعودي، حيث يحجم عدد كبير من الشباب السعودي عن الزواج، ويشير تقرير صدر عن الهيئة السعودية العليا لتطوير مدينة الرياض إلى أن نسبة العزاب في العاصمة بلغت عام 2004 نحو 24%من إجمالي الذين تبلغ أعمارهم 22 عاما فأكثر.
وأرجع التقرير إحجام الشباب عن الزواج إلى عدة أسباب منها: الخوف من تحمل المسئولية، النظر إلى الزواج على أنه التزام وتقيد، وكذلك ارتفاع تكاليف الزواج بشكل كبير في المجتمع السعودي حيث يتراوح المهر في المتوسط من 50 إلى 65 ألف ريال أما باقي تكاليف الزواج قد تصل إلى 250 ألف ريال سعودي.
أما في الإمارات فقد كشفت دراسة أجراها صندوق الزواج حول التوقعات المستقبلية للعزاب والعازبات حتى عام 2015 في الفئة العمرية من 15-49 سنة زيادة عدد العزاب من الجنسين بشكل ملحوظ؛ حيث من المتوقع أن يصل عدد العزاب والعازبات إلى 198.8 ألفًا عام 2015.
وتتوقع الدراسة أن يصل عدد العزاب عام 2010 إلى 97.560 ألف عازبا، وسوف يتزايد العدد تدريجيًّا حتى يصل العدد إلى 110 آلاف عازب عام 2015 كما تتوقع الدراسة في المقابل أن يصل عدد العازبات من الفتيات الإماراتيات من نفس الفئة العمرية إلى 76.630 ألف عازبة عام 2010 ترتفع إلى 88.780 ألف عازبة عام 2015م.
ويعانى مجتمع الإمارات من ظاهرة عزوف الشباب عن الزواج رغم محاولات صندوق الزواج تقديم منح نقدية للشباب للتشجيع على الزواج.
وفي سورية بيّنت الأرقام الرسمية أن أكثر من 50% من الشبان السوريين لم يتزوجوا بعد، بينما لم تتزوج 60% من الفتيات اللواتي تتراوح أعمارهن ما بين 25 و29 عاماً، وبلغت نسبة اللواتي تخطين 34 عاماً دون زواج 37.2%، وهو ما يعني أن أكثر من نصف النساء غير متزوجات.(/2)
وفي لبنان أكدت إحصائية أجرتها وزارة الشؤون الاجتماعية والصحة اللبنانية أن نسبة الذكور غير المتزوجين ما بين 25 و30 سنة تبلغ 95.1% والإناث83.2%.
أما في مصر فقد أكدت دراسة صادرة عن المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية أن نسبة غير المتزوجين من الشباب من الجنسين بلغت بشكل عام حوالي 30%، وبالتحديد 29.7%للذكور و28.4% للإناث.
وأشارت نتائج دراسة أردنية مماثلة إلى تأخر عمر الفتيات عند الزواج الأول إلى 29، بينما يتأخر إلى 31 سنة لدى الذكور.
وفي الجزائر كشفت الأرقام الرسمية، التي أعلنها الديوان الجزائري للإحصاء أن هناك أربعة ملايين فتاة لم تتزوج بعد على الرغم من تجاوزهن الرابعة والثلاثين، وأن عدد العزاب تخطى 18 مليوناً من عدد السكان البالغ 30 مليون نسمة.
أما في تونس فقد أشارت إحصائيات جديدة قامت بها مصالح الأسرة التونسية إلى ارتفاع نسبة العزوبية بشكل كبير في أوساط الذكور والإناث، وأن 67% من المنتمين إلى الفئة العمرية (25- 29) هم في حالة عزوبة، وأن هذه النسبة اللافتة للانتباه مرتفعة لدى الذكور أكثر بـ 85%، مقابل 49% بالنسبة للإناث.
وقد شملت الظاهرة الشباب من 35 إلى 39 عاما حيث بلغت نسبة غير المتزوجين من هذه الفئة 20%، وكذلك الأمر لمن تتراوح أعمارهم بين 40 و 44 عاما، فقد شملت العزوبة من بينهم 6% من الذكورو 9% من الإناث.
* أسباب شتى:
في المجتمع الخليجي بصفة عامة والسعودي بصفة خاصة تتضح مشكلة العنوسة للفتيات وعزوف الشباب عن الزواج في قضية اجتماعية مزدوجة مرتبطة بالغلاء في المهور والعادات والتقاليد الاجتماعية البالية وعجرفة أولياء الأمور ومبالغة الفتيات في فتى الأحلام الذي تنتظره حتى يفوتهن قطار الزواج وأيضا مبالغة الشباب في المواصفات والمقاييس المطلوبة في زوجة المستقبل.(/3)
يقول عبد العزيز عبد الرحمن المالكي المدير التنفيذي للجنة البيت السعيد في قطر: من أهم أسباب العنوسة كثرة تكاليف الزواج والمبالغة فيها، وليس المقصود هنا المهر أو الصداق المسمى في عقد الزواج فقط لأنه قد يكون الصداق شيئا رمزيا، ولكن ما يتبع هذا الصداق هو متطلبات أهل الزوجة من تكاليف الزواج من حفلات عدة، مثل حفل ليلة عقد الزواج، ومن ثم حفلة الخطوبة، ولبس الشبكة، ثم هناك حفل الزفاف للرجال وللنساء، ثم هدية العروس في اليوم التالي للزواج وإقامة وليمة لأهل العروسين في ثاني يوم من الزواج، إضافة إلى ذلك يتم تأخير سن الزواج بالنسبة للفتاة بحجة إكمال دراستها الجامعية وإيجاد الوظيفة.
ويؤكد الباحث مازن الشيخ علي في دراسته عن ظاهرة العنوسة في العالم العربي لا سيما في دول الخليج أن لتعليم الفتاة دوراً في استفحال هذه الظاهرة، فالفجوة الثقافية التي نشأت بين الفتيات والشبان من جراء إقبال عدد متنام من الفتيات على التعليم جعل الشبان يحجمون عن الفتاة المتعلمة خوفا من تعاليها نتيجة عدم التكافؤ. وربما كان لتحرر الشبان أيضا دور في إحجامهم عن الارتباط بفتاة عربية لأنهم يرغبون في علاقات لا تتقبلها التقاليد العربية من جهة، ومن جهة أخرى تضطر الفتاة العربية حتى وان ابتعدت نظريا عن القيم السائدة في مجتمعها إلى أن تكون أكثر حذرا من الشاب وذلك لأن وضعها أكثر حساسية من وضعه والنتائج التي قد تترتب على تمردها على القيم الاجتماعية السائدة أكثر قسوة من تلك التي قد تواجه الرجل.
* الزواج أم الشهادة الجامعية؟
يربط الدكتور محمود علي أستاذ علم الاجتماع بين تعليم الفتاة وتأخر سن الزواج ويقول : وصول المرأة إلى مراحل متقدمة في التعليم قد يجعل الرجل يحجم عنها ولا يرغب بها كونها قد تضع نفسها موقع الند مع زوجها، ويرغب في الارتباط بصغيرة السن قليلة العلم اعتقاداً منه أنها أكثر طاعة ويمكن تشكيلها على الصورة التي يرغبها.(/4)
وفي المقابل فإن ضعف رغبة الشباب في إكمال التعليم العالي يحدث فجوة بينهم وبين رغبة الفتيات في الحصول على درجات عليا للتعليم وهو ما أشارت إليه إحصاءات دراسة أجراها مجموعة من الباحثين حيث طالب28% من العينة أن يقل مستوى تعليم المرأة عن تعليم الزوج، بينما أيد وفضل53% منهم تساوي تعليم المرأة والرجل.
وللفتيات رأي في إرجاع سبب العنوسة إلى إكمال الدراسة:
- تقول رقية: الشخص المناسب يمكن أن ينتظر إلى أن تنتهي الفتاة من دراستها، وإن كنت قد عايشت بعض الزيجات الناجحة التي تمت أثناء دراسة الفتاة ولكنها بالتأكيد قد عطلتها لبعض السنوات عن إكمال الدراسة، وبعضهن قد تركن الدراسة إلى الأبد لعدم استطاعتهن التوفيق بين شغل البيت ومتطلبات الدراسة، خاصة الدراسة العملية التي تستلزم الحضور والمتابعة والقيام بأبحاث وأشياء أخرى كثيرة تحتاج إلى تفرغ.
- أما زينب فتقول: أنا مع إكمال الفتيات لتعليمهن، وإذا جاء إحداهن شخص مناسب يمكنه الانتظار، وقد تكون الخطبة حلا وسطا.
بعض الفتيات يجدن أنه من الأهمية أن تواصل تعليمها، وتحصل على شهادات أعلى، وأن تلتحق بوظيفة ثابتة، وهذا لم يعد متاحاً الآن إلا بعد سنوات طويلة من الكفاح، خاصة في ظل صعوبات تواجه توظيف النساء والرجال، كما أن القطاع الخاص يفضل الرجال فقط، فتضطر الفتاة لأن تظل سنوات طويلة لتستقر في وظيفة محترمة، وبعد ذلك تبدأ في التفكير في الزواج.
* ضمان:
تقول الكاتبة أمجاد محمود رضا : تُروج دائماً فكرة مفادها أن المرأة بشغفها بالعلم تكون قد تسببت في عنوستها أو تُلصق التهمة بالأهل بترديد غلاء المهور..! ولكن هل شغف الفتاة بالعلم هو السبب أم أن المرأة بحكم الواقع أصبحت واثقة بأنه لا أمان لها سوى بالشهادة وأخشى أن تمتد المقولة ليكون الأمان بحصولها على الوظيفة وتكون في هذه الحالة دخلت في دائرة العنوسة فعلياً وذلك بسبب طول الانتظار..(/5)
والسؤال: ما الذي يدفع بالمرأة وحتى بأهلها لتفضيل إكمالها لتعليمها عن الزواج المبكر وذلك وفقاً لما جاء في دراسة د.أبو بكر باقادر أستاذ علم الاجتماع في جامعة الملك عبد العزيز.؟!
الدراسة لفتت الانتباه إلى إن هناك اتجاهاً إلى طلب مؤخر صداق باعتبار أنه نوع من الضمان المالي للزوجة كما كشفت عن ميل بعض الأسر إلى كتابة شروط في عقد الزواج كالاستمرار في عملها أو دراستها مع اشتراط نسبة ضئيلة لأن تكون العصمة بيد الزوجة!!
ولو أمعنا النظر في تلك الشروط لوجدناها تنبئ عن فقدان ثقة بالطرف الأخر " العريس" مما جعل الفتاة وأهلها يبحثون عن الضمانات.. أليسوا معذورين في ظل حدوث أكثر من 12 ألف حالة طلاق سنوياً في المملكة وزيادة في نسب الطلاق قبل الدخول بين الفتيات..!؟
* مبالغة:
- تقول مريم سلمان: الكلام عن ارتفاع تكاليف الزواج مبالَغ فيه؛ فهناك من الشباب من ينفق ما بين 700 ألف إلى مليون ريال سعودي في شراء سيارة ليتفاخر بها بين أقرانه، ويغيِّر هاتفه الجوال كل شهر أو شهرين، وينظم رحلتين سنويتين لأوروبا وأمريكا تكلفه مبالغ طائلة؛ ربما من أجل السياحة، وحين يفكر في الزواج فهو لا يعرف من الدين سوى تيسير المهور، أو "خيرهن أيسرهن مهرا"!
- وتتفق فاطمة ناصر مع مريم، وتقول: هناك مئات من العائلات على أتم استعداد لتزويج بناتهن بمهور قليلة؛ فغالبا ما تكون الفتاة من أسرة متواضعة، والمشكلة ليست في صعوبة الزواج ولا في ارتفاع تكاليف الزواج.. إنما المشكلة في أن الشاب يريد مستوى معينًا، يريد فتاة جميلة وغنية ذات أصل وحسب ونسب، ويريد كل ذلك بثمن زهيد، وحبذا بدون ثمن؛ بدعوى أن أهل الفتاة يجب أن يسعدوا بشراء رجل.
* يفضلونها أجنبية:(/6)
الباحثة سمر العتيبي تشير إلى ظاهرة الزواج من الأجنبيات كأحد أسباب مشكلة العنوسة؛ حيث يفضل الشباب خصوصا المبتعثين للدراسة في الخارج الزواج من الأجنبية على اعتبار أن تكاليف الزواج منها منخفضة مقارنة بالزواج من فتاة مواطنة أو خليجية، ولعل هذه الظاهرة هي التي دفعت الحكومات الخليجية للتدخل للحد من زواج مواطنيها من أجنبيات، وعلى الرغم من تفاقم هذه الظاهرة فلا توجد بيانات يمكن الاعتماد عليها لتقييم حجمها حتى الآن، إلا أن تداعياتها خطيرة على التقاليد والأعراف والثقافة واللغة في الخليج، وتقود في النهاية إلى أطفال "مسخ" ليس لهم ولاء سوى للمادة أو للدولة التي تنتمي إليها الأم، لأن المجتمع الخليجي يرفض زواج ذرية هؤلاء من عائلات "أصلية" المواطنة؛ ما يدفع هؤلاء إلى الاستمرار في الحلقة المفرغة والزواج من أقارب الأم الأجنبية فيزداد الطين بلة.
* عاطلون:
الخبير الاقتصادي محمد المطيري يرجع أسباب العنوسة للبنات وعزوف الشباب عن الزواج إلى ارتفاع نسبة البطالة بين مواطني الخليج، وما يزيد من عمق المشكلة عدم وجود أي توافق بين ما تخرجه الجامعات والمعاهد من تخصصات ومتطلبات سوق العمل، فضلاً عن تفضيل القطاع الخاص لتشغيل الوافدين نظراً لقلة رواتبهم، ناهيك عن احتكار جنسيات بعينها لبعض الأنشطة والقطاعات الاقتصادية المحلية، بالإضافة إلى التوزيع القطاعي المختل لقوة العمل المواطنة. كل هذا يجعل المواطن أمام خيارين لا ثالث لهما: إما التسليم بالأمر الواقع والاستسلام للقدر والاعتماد على الأبوين في توفير متطلباته الشخصية... وفي هذه الحالة لن يسعى إلى الزواج وتكوين أسرة.
* مؤثرات:
يضيف الدكتور أحمد المجدوب أستاذ الاجتماع بعض العوامل المسببة لمشكلة العنوسة منها:
* تعرض الفتاة والشاب إلى المؤثرات الإعلامية كالبرامج الفضائية (المسلسلات أو النجوم) والتي تغير من تطلعاتهم إلى الزواج.(/7)
* عمل الفتاة وتبوؤها المناصب العليا يولد تخوف عند الخاطب من الارتباط بها لما يحمله شباب مجتمعاتنا من اتجاهات خاطئة تجاه المرأة العاملة وبالذات التي تتقلد المناصب العليا، تحديدا تجاه أفكارها وسمات شخصيتها وكونها ناجحة كزوجة.
والعمل يؤثر بصورة مباشرة في تأخر زواج الفتاة بسبب انغماسها في العمل ورفضها العديد من المتقدمين والخطاب وقد يرجع هذا إلى كثرة الأحلام والطموحات في زوج المستقبل والاعتقاد الخاطئ لدى بعض الفتيات أو أولياء أمورهن من أن الخاطب لديه أطماع في الراتب لذلك يتم فرض شروط عدة من الفتاة أو ولي أمرها بهدف ضمان استقلاليتها الاقتصادية.(/8)
العنوان: عيد الأسبوع (1)
رقم المقالة: 1056
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
فضل يوم الجمعة
الحمد لله؛ خلق الخلق بقدرته، وفاضل بينهم بحكمته {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [القصص:68] نحمده على عظيم نعمه، ونشكره على جزيل عطائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ هدانا صراطه المستقيم، ومنَّ علينا بدينه القويم، وأرسل إلينا رسوله الأمين، وأنزل عليه كتابه العظيم، وكل خير وفضل اكتسبناه فمن فضل ربنا علينا، وكل شر أصابنا، وفتنة حلت بنا فمن شؤم ذنوبنا {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشُّورى:30] وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله؛ دلنا على ما ينفعنا، وحذرنا مما يضرنا، وما فارق أمته إلا بعد ما أدى أمانته، وبلغ دين ربه، وترك الأمة على بيضاء نقية لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه؛ كانوا أحرص هذه الأمة على الخير، وأبعدهم عن الشر، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه؛ ففي التقوى صلاح الحال والمآل، وفي التقوى سعادة الدنيا وفوز الآخرة {يَا بَنِي آَدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأعراف:35]
أيها الناس: من عظيم نعمة الله تعالى علينا أن كتبنا في آخر الأمم، وأرسل إلينا خاتم الرسل، وأنزل علينا آخر الكتب، وفضل أمتنا على سائر الأمم، وشرع لنا من الشرائع ما يكون سببا لنجاتنا من عذابه، وفوزنا بجناته.(/1)
وكما فضل سبحانه وتعالى هذه الأمة على سائر الأمم فإنه عز وجل هداها لأفضل الشهور والأيام والليالي والأوقات؛ ليعمرها العباد بطاعته وذكره، فتكفر عنهم سيئاتهم، وترفع درجاتهم.
ومن الأيام العظيمة التي اختص الله تعالى بها هذه الأمة: يوم الجمعة، وما فيه من عبادات عظيمة، وشعائر كبيرة، كان يسمى في الجاهلية يوم العَرُوبة، فسمي في الإسلام يوم الجمعة.
وقد دلت الأحاديث الكثيرة على أن الله تعالى قد هدى هذه الأمة المباركة ليوم الجمعة، وهو يوم عظيم عند الله عز وجل، وأضلته الأمم الأخرى فلم توفق لإصابته، وتعظيم الله تعالى فيه؛ حتى إن اليهود لما فرض عليهم اختلفوا فيه فأضاعوه، فجعلوا مكانه السبت، وبقي هذا اليوم العظيم محفوظا لتختص به آخر أمة على سائر الأمم، وفي قول الله تعالى في شأن اليهود {إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ} [النحل:124] قال قتادة رحمه الله تعالى: (أرادوا الجمعة فأخطئوا فأخذوا السبت مكانه). وروى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، ثم هذا يومهم الذي فرض عليهم فاختلفوا فيه فهدانا الله، فالناس لنا فيه تبع، اليهود غدا، والنصارى بعد غد) وفي رواية لمسلم: (فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه هدانا الله له قال:يوم الجمعة).(/2)
وروى حذيفة وأبو هريرة رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا فكان لليهود يومُ السبت، وكان للنصارى يوم الأحد، فجاء الله بنا فهدانا الله ليوم الجمعة، فجعل الجمعة والسبت والأحد، وكذلك هم تبع لنا يوم القيامة، نحن الآخرون من أهل الدنيا والأولون يوم القيامة المقضي لهم قبل الخلائق) ولإجل ذلك حسد أهل الكتاب من اليهود والنصارى أهل الإسلام على اختصاصهم بالجمعة وهم قد ضلوا عنه؛ كما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنهم لا يحسدوننا على شيء كما يحسدوننا على الجمعة التي هدانا الله لها ، وضلوا عنها) رواه أحمد.
ولفضل هذا اليوم العظيم، ومنزلته عند رب العالمين؛ امتاز عن غيره من الأيام بمزايا عظيمة، واختص بفضائل وعبادات كثيرة؛ فهو عيد من أعياد المسلمين بقول النبي صلى الله عليه وسلم (إن هذا يومَ عيد جعله الله للمسلمين) رواه ابن ماجه عن ابن عباس رضي الله عنهما، وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن يوم الجمعة يوم عيد فلا تجعلوا يوم عيدكم يوم صيامكم إلا أن تصوموا قبله أو بعده).
ومن أعظم خصائصه، وأفضل مزاياه: اختصاصه بساعة يجاب فيها الدعاء؛ كما روى الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن في الجمعة لساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يُصلي يسأل الله شيئاً إلا أعطاه إيَّاه، وأشار بيده يُقللَّها) وفي رواية لمسلم قال: (وهي ساعة خفيفة).
وجاء في هذه الساعة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها (ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تقضى الصلاة) كما جاء عنه عليه الصلاة والسلام أنها: (آخر ساعة بعد العصر) وفي حديث ثالث قال عليه الصلاة والسلام: (إني قد كنت أعلمتها ثم أنسيتها كما أنسيت ليلة القدر).(/3)
ويوم الجمعة يوافق يوم المزيد في الجنة، حيث يجمع فيه أهل الجنة في وادٍ أفيح، ويُنصب لهم منابرُ من لؤلؤ، ومنابر من ذهب، ومنابر من زبرجد، وياقوت على كثبان المسك، فينظرون إلى ربهم تبارك وتعالى ويتجلى لهم، فيرونه عياناً، ويكون أسرعهم موافاة أعجلَهم رواحاً إلى المسجد وأقربهم منه أقربهم من الإمام.
وفي حديث طويل عن أنس رضي الله عنه قال: عرضت الجمعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء جبريل في كفه كالمرآة البيضاء في وسطها كالنكتة السوداء فقال: ما هذه يا جبريل قال هذه الجمعة يعرضها عليك ربك لتكون لك عيدا ولقومك من بعدك ولكم فيها خير تكون أنت الأول ويكون اليهود والنصارى من بعدك وفيها ساعة لا يدعو أحد ربه بخير هو له قسم إلا أعطاه أو يتعوذ من شر إلا دفع عنه ما هو أعظم منه ونحن ندعوه في الآخرة يوم المزيد.....إلى أن قال: فليسوا هم في الجنة بأشوق منهم إلى يوم الجمعة؛ ليزدادوا نظراً إلى ربهم عز وجل وكرامته؛ ولذلك دعي يوم المزيد) رواه الطبراني في الأوسط.
وهو أفضل الأيام وخيرها وسيدها؛ كما روى أوس بن أوس رضي الله عنه فقال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن من أفضل أيامكم يومَ الجمعة فأكثروا علي من الصلاة فيه فإن صلاتكم معروضة علي) رواه أبو داود وصححه ابن حبان والحاكم. وروى ابن حبان في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تطلع الشمس ولا تغرب على يوم أفضل من يوم الجمعة).(/4)
وابتداء خلق البشر كان يوم الجمعة؛ فأبونا آدم عليه السلام خلق فيه، وقبضت روحه فيه، وصعق الناس يوم القيامة يكون يوم الجمعة، والنفخ في أرواحهم للحساب يوم القيامة يكون أيضا يوم الجمعة؛ كما روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خُلق آدم عليه السلام، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة) وقال صلى الله عليه وسلم: (إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة؛ فيه خلق آدم، وفيه قبض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة) رواه أبو داود.
ولذلك تشفق سائر المخلوقات منه؛ فرقا من يوم القيامة، إلا بني آدم؛ كما روى أبو لبابة بن عبد المنذر رضي الله عنه فقال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن يوم الجمعة سيد الأيام وأعظمها عند الله، وهو أعظم عند الله من يوم الأضحى ويوم الفطر، فيه خمس خلال: خلق الله فيه آدم، وأهبط الله فيه آدم إلى الأرض، وفيه توفى الله آدم، وفيه ساعة لا يسأل الله فيها العبد شيئا إلا أعطاه ما لم يسأل حراما، وفيه تقوم الساعة، ما من ملك مقرب، ولا سماء، ولا أرض، ولا رياح، ولا جبال، ولا بحر؛ إلا وهن يشفقن من يوم الجمعة) رواه ابن ماجه.
وروى أبو هريرة رضي الله عنه فقال: (قدمت الشام فلقيت كعبا فكان يحدثني عن التوراة وأحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أتينا على ذكر يوم الجمعة، فحدثته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن في الجمعة ساعة لا يوافقها مسلم يسأل الله فيها خيرا إلا أعطاه إياه، فقال كعب:....أتدري أي يوم هو؟ قلت: وأي يوم هو؟ قال: فيه خلق الله آدم، وفيه تقوم الساعة، والخلائق فيه مصيخة إلا الثقلين الجن والأنس خشية القيامة...) رواه أحمد.
والوفاة يوم الجمعة أو ليلتها علامة خير للمؤمن؛ لما جاء في الحديث: (من مات يوم الجمعة أو ليلة الجمعة وُقِيَ فتنة القبر) رواه أحمد.(/5)
والأعمال الصالحة فيه كالصدقة وغيرها خير من العمل في غيره من الأيام، قال ابن القيم رحمه الله تعالى: (والصدقة فيه بالنسبة إلى سائر أيام الأسبوع كالصدقة في شهر رمضان بالنسبة إلى سائر الشهور. ثم قال: وشاهدتُ شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه إذا خرج إلى الجمعة يأخذ ما وجد في البيت من خبز أو غيره فيتصدق به في طريقه سراً).
ومن أعظم ما اختص به يوم الجمعة: فرض هذه الصلاة العظيمة، وكان الأنصار رضي الله عنهم يقيمون الجمعة قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إليهم؛ كما روى عبد الرحمن بن كعب بن مالك رحمه الله تعالى فقال: (كنت قائد أبي حين كُفَّ بصره، فإذا خرجت به إلى الجمعة، فسمع الأذان بها استغفر لأبي أسامةَ أسعدَ بنِ زرارة، فمكث حيناً على ذلك فقلت: إن هذا لعجز! ألا أسأله عن هذا؟! فخرجت به كما كنت أخرج فلما سمع الأذان للجمعة استغفر له، فقلت: يا أبتاه، أرأيتَ استغفارك لأسعدَ بنِ زرارة كلما سمعت الأذان يوم الجمعة؟ قال: أي بني، كان أسعدُ أولَ من جمَّع بنا بالمدينة قبل مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم في هَزْم النَّبيتِ من حَرَّة بني بَياضة في نقيع يقال له: نقيع الخَضِمات. قلت : فكم كنتم يومئذ؟ قال: أربعون رجلاً) رواه أبو داود وصححه ابن حبان والحاكم وقال:على شرط مسلم.(/6)
وكان سبب اجتماعهم للجمعة قبل مقدم النبي صلى الله عليه وسلم ما روى عبد الرزاق عن ابن سيرين رحمه الله تعالى قال: (جمَّع أهل المدينة قبل أن يقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقبل أن تنزل الجمعة وهم الذين سموها الجمعة فقالت الأنصار: لليهود يوم يجتمعون فيه كل سبعة أيام، وللنصارى أيضا مثلُ ذلك فهلم فلنجعل يوما نجتمع ونذكر الله تعالى، ونصلي ونشكره فيه، فقالوا: يوم السبت لليهود، ويوم الأحد للنصارى، فاجعلوه يوم العروبة، وكانوا يسمون يوم الجمعة يوم العروبة، فاجتمعوا إلى أسعد بن زرارة فصلى بهم يومئذ، وذكرهم، فسموه الجمعة حتى اجتمعوا إليه، فذبح أسعد بن زرارة لهم شاة، فتغدوا وتعشوا من شاة واحدة؛ وذلك لقلتهم؛ فأنزل الله في ذلك بعد ذلك {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ الله} [الجمعة:9].
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: وهذا كان مبدأَ الجمعة، ثم قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقام بقباءِ في بني عمرو ابن عوف؛ كما قاله ابن إسحاق يوم الاثنين، ويوم الثلاثاء، ويوم الأربعاء، ويوم الخميس، وأسس مسجدهم، ثم خرج يوم الجمعة، فأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف فصلاها في المسجد الذي في بطن الوادي، وكانت أولَ جمعة صلاها بالمدينة، وذلك قبل تأسيس مسجده.اهـ
ومن خصائص يوم الجمعة فضيلة قراءة سورة الكهف فيه، فقد جاء في الحديث: (أن من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين) وفي لفظ: (أضاء له من النور فيما بينه وبين البيت العتيق) رواه الدارمي والحاكم.
ويوم الجمعة هو اليوم الذي يتواصل الناس فيه ويتزاورون، وفيه توصل الأرحام، ويوسع على الأهل والعيال، وفرح المسلمين به عظيم، ومنة الله تعالى عليهم به كبيرة، فنحمد الله تعالى على أن هدانا له، ونسأله سبحانه أن يوفقنا للعمل الصالح الذي يرضيه عنا، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا، إنه سميع قريب.(/7)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا البَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة:9-10]
بارك الله لي ولكم....
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، نحمده على نعمه العظيمة، وآلائه الجسيمة، ونسأله من مزيد فضله، وكريم عطائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- وأطيعوه.
أيها المسلمون: واجب على المسلم أن يشكر الله تعالى على ما اختصت به هذه الأمة من يوم الجمعة، وليس من شكر الله تعالى ما اعتاده كثير من الناس من الاستهانة بهذا اليوم العظيم، وعدم إعطائه حقه من الاهتمام والعناية والتعظيم، وكان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم تعظيمُ هذا اليوم وتشريفُه وتخصيصُه بعبادات دون غيره.
إن كثيرا من الناس قد فرطوا في فضل الجمعة، ويفوتهم كثير من خيره وأجره؛ إما جهلا بفضله، أو استهانة بشرفه؛ فليلة الجمعة يسهرون فيها إلى قبيل الفجر، وسَهَرُ كثير منهم في مجالس تغشاها المحرمات من كل مكان، ولا يسمع فيها ذكر الله تعالى إلا قليلا، وهذا السهر يفوت على كثير منهم صلاة الفجر التي اختصت يوم الجمعة بفضيلة قراءة سورتي السجدة والإنسان.(/8)
وهذا السهر المشئوم يؤدي في الغالب إلى تأخرهم عن صلاة الجمعة، فكثير منهم لا يدرك تقريب دجاجة ولا بيضة، ومنهم من لا يحضر المسجد إلا وقد طوى الملائكة صحفهم يستمعون إلى الذكر، بل يبلغ التفريط ببعضهم أن تفوتهم صلاة الجمعة إما نوما، وإما خروجا إلى متنزهات وحدائق لا يخرجون إليها إلا يوم الجمعة، والناس في مساجدهم يسألون ربهم، نعوذ بالله من الحرمان والخذلان.
وبعض الناس يقصر في الإكثار من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، مع أنه عليه الصلاة والسلام حث المؤمنين على الإكثار من الصلاة والسلام عليه يوم الجمعة، وأخبرهم أن ذلك يصله ويبلغه، ولو أن أحد الناس أيقن أنه لو كتب كتابا إلى ملك من ملوك الدنيا لبلغه ذلك الكتاب، وكافأه عليه، أو رفع عنه مظلمته؛ لبادر لكتابته، وأحسن فيها أشد الإحسان، فكيف إذن بصلاة وسلام تبلغان خير الخلق، وخاتم الرسل صلى الله عليه وسلم؟!
وبعض الناس يقصر في الدعاء يوم الجمعة، ويغفل عن ساعة الإجابة فيه، فيسأل الناس ربهم حاجاتهم وهو غافل عن ذلك، وكل هذا التفريط يعد حرمانا عظيما، وخذلانا كبيرا، وفيه تفويت لأجور رتبت على هذه الأعمال الصالحة، فكم يخسر صاحبه من الثواب الجزيل!!
ألا فاتقوا الله ربكم أيها المؤمنون، وأعطوا يوم الجمعة حقه من العناية والاهتمام، وفرغوا أنفسكم فيه لاكتساب الحسنات، وتكفير الخطيئات ، بالتبكير إلى الجمعات، والمحافظة على الجماعات، والإكثار من الباقيات الصالحات، والإلحاح على الله تعالى في الدعوات.
وصلوا وسلموا على نبيكم....(/9)
العنوان: عيد الأسبوع (2)
رقم المقالة: 1057
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
فضل صلاة الجمعة
الحمد لله رب العالمين؛ فتح أبواب الخير لعباده، وأمرهم بالمسارعة فيها، والمبادرة إليها {فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا} [المائدة:48] أحمده كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ كتب الأجور العظيمة على العمل القليل؛ رحمة منه بنا، وإحسانا إلينا، ومراعاة لعجزنا وضعفنا {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ} [البقرة:185] {يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء:28] فله الحمد لا نحصي ثناء عليه كما أثنى هو على نفسه، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله؛ لا خير إلا دلنا عليه، ولا شر إلا حذرنا منه، تركنا على بيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70-71].
أيها الناس: يوم الجمعة يوم عظيم مبارك، باركه الله عز وجل بهذه الصلاة العظيمة، وخصه بخصائص كثيرة، هدى أمة الإسلام إليه وهي الأمة المتأخر زمنها في تاريخ الأمم، وضلَّ عنه من كان قبلها من اليهود والنصارى، فلله الحمد على ما هدانا وفضلنا وأعطانا.(/1)
وصلاة الجمعة شعيرة من أعظم الشعائر الظاهرة في الإسلام، أنزل الله تعالى في شأنها سورة تتلى إلى يوم القيامة، وأمر المؤمنين فيها بأداء هذه الشعيرة العظيمة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ الله وَذَرُوا البَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة:9] فأمر سبحانه وتعالى بالسعي إلى عمل الآخرة وهو ذكره سبحانه في المساجد بهذه الصلاة العظيمة، كما أمر عز وجل بترك السعي إلى عمل الدنيا وهو البيع ونحوه.
قال الحسن البصري رحمه الله تعالى: أما والله ما هو بالسعي على الأقدام ولقد نهوا أن يأتوا الصلاة إلا وعليهم السكينة والوقار ولكن بالقلوب والنية والخشوع.أهـ
وقال عطاء رحمه الله تعالى: إذا نودي بالأذان حرم اللهو والبيع والصناعات كلها والرقاد وأن يأتي الرجل أهله وأن يكتب كتابا.أهـ
ولما حبس المصلون أنفسهم في الجوامع للقيام بفريضة الله تعالى أُمروا بالانتشار عقب أدائها لحاجاتهم ومعايشهم؛ رحمة من الله تعالى ولطفا بهم {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ الله وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة:10]
وقد جاء عن عراك بن مالك رضي الله عنه أنه كان إذا صلى الجمعة انصرف فوقف على باب المسجد فقال: اللهم إني أجبت دعوتك، وصليت فريضتك، وانتشرت كما أمرتني فارزقني من فضلك وأنت خير الرازقين.(/2)
ومن اشتغل بالتجارة أو الدنيا عن صلاة الجمعة فيُخشى عليه العذاب، وقد كاد بعض الصحابة رضي الله عنهم أن يُصابوا به لما خرجوا من المسجد لاستقبال قافلة قدمت وتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب؛ كما روى جابر رضي الله عنه فقال: (بينا النبي صلى الله عليه وسلم قائم يوم الجمعة إذ قدمت عير إلى المدينة فابتدرها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لم يبق معه إلا اثنا عشر رجلا فيهم أبو بكر وعمر، قال: ونزلت هذه الآية {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} [الجمعة:11] رواه الشيخان، وفي لفظ لابن حبان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لو تتابعتم حتى لا يبقى منكم أحد لسال لكم الوادي نارا).
ومن عظيم فضل هذه الصلاة أنها سبب لتكفير ذنوب الأسبوع، مع أن المبكر إليها يقضيها في سويعات قلائل، والمتأخر لا يمكث في المسجد ساعة كاملة، فتكون هذه الساعة سببا في تكفير ذنوب الأسبوع، فما أعظمه من فضل حبانا به ربنا جل جلاله، روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهن ما لم تغش الكبائر) رواه مسلم. وروى البخاري عن سلمان رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يغتسل رجل يوم الجمعة، ويتطهر ما استطاع من طهر، ويدهن من دهنه، أو يمس من طيب بيته ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين ثم يصلي ما كتب له، ثم ينصت إذا تكلم الإمام، إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى) رواه البخاري. وجاء في رواية أخرى عند مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه (غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى وفضل ثلاثة أيام).
والإنسان أحوج ما يكون إلى المغفرة وتكفير السيئات فإنه لا يزال يخطئ بالليل والنهار، والعاقل لا يفوت هذه الشعائر العظيمة التي تكفر الكثير من الذنوب.(/3)
وكان بعض الصحابة رضي الله عنهم يرى أن الخروج إلى الجمعة من الخروج في سبيل الله تعالى، وأنه سبب للنجاة من النار؛ كما روى البخاري من حديث عباية بن رفاعة رحمه الله تعالى قال: أدركني أبو عبس عبدُ الرحمنِ بنُ جبر رضي الله عنه وأنا أذهب إلى الجمعة فقال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار) ، فجعل رضي الله عنه الخروج إلى الجمعة من الخروج في سبيل الله تعالى، والمحدثون وضعوا هذا الحديث في أبواب الجمعة لأجل ذلك.
ومن أبين ما يدل على فضل صلاة الجمعة أن الله تعالى انتدب إليها كتبة من الملائكة عليهم السلام، يقفون على أبواب مساجد المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، يكتبون في صحفهم من يبكرون إليها؛ كما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا كان يوم الجمعة كان على كل باب من أبواب المسجد ملائكة يكتبون الأول فالأول، فإذا جلس الإمام طووا الصحف وجاؤوا يستمعون الذكر.....) رواه الشيخان، وفي رواية لابن حبان: (على كل باب من أبواب المسجد ملكان يكتبان الأول فالأول) وجاء في رواية ابن ماجه: (فمن جاء بعد ذلك فإنما يجيء بحق إلى الصلاة).
فكم من الخير العظيم يحرم منه من يتأخرون عن الجمعة إلى خروج الإمام؛ إذ يفوت عليهم تسجيل الملائكة لهم في صحفهم.
وما كانت هذه العناية بالجمعة حتى خصص لها ملائكة يكتبون المبكرين إليها إلا لعظيم منزلتها عند الله تعالى، وفخامة مكانتها من شريعته الغراء، فلا يحرم من هذا الخير العظيم إلا محروم.
أرأيتم يا عباد الله لو أن ملكا من ملوك الدنيا فتح مجلسه للناس، وجعل على أبوابه كتبة يكتبون الأول فالأول ليطلع الملك على أسمائهم، ويجزيهم بتبكيرهم إلى مجلسه، فماذا سيحصل؟!(/4)
إنه لو حلف حالف أن أنفسا تهلك من الزحام على أبواب مجلسه لما حنث في يمينه، فكيف يا عباد الله والداعي إلى الجمعة هو الله تعالى الخالق الرازق الذي بيده ملكوت كل شيء، والمساجد بيوته، والملائكة على أبوابها كتبته، وهو مطلع على من بادروا إلى الجمعة وبكروا، ومن ناموا عنها أو سوفوا فتأخروا.
ثم ما قيمتنا -نحن بني آدم- حتى يُنتدب ملائكة كرام لا يعصون الله تعالى طرفة عين، ينتظروننا على أبواب المساجد كل جمعة ليكتبونا في صحفهم، ويرفعوها إلى الله تعالى، ثم نُجزى بذلك أعظم الجزاء؟! ما قيمتنا لولا أن الله تعالى رفع قدرنا، وأعلى مكانتنا، وشرفنا بدينه، وألزمنا شريعته، فلنكن يا عباد الله على قدر تشريف الله تعالى لنا، ورفعه إيانا، ولن نبلغ ذلك مهما عملنا {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ الله لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم:34] ولكن سددوا وقاربوا، وجدوا واجتهدوا في طاعة ربكم، وأروه من أنفسكم خيرا؛ فإنه سبحانه متفضل عليكم، شرع لكم من العبادات ما يصلحكم، فاقبلوا عن الله تعالى شريعته، وسارعوا إلى طاعته، ونافسوا غيركم عليها، {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المُتَنَافِسُونَ} [المطَّففين:26] ولا تقدموا الدنيا على طاعة الله تعالى؛ فإنكم مفارقوها إلى قبوركم وآخرتكم، ولن تجدوا أمامكم إلا أعمالكم {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الغُرُورِ} [آل عمران:185].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم....
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.(/5)
أما بعد: فاتقوا الله ربكم {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} [البقرة:123].
أيها المسلمون: من عظيم الخطر، وكبير الإثم أن يتخلف المسلم عن صلاة الجمعة بلا عذر؛ وذلك باب من أبواب النفاق، وسبب للختم على قلب صاحبه حتى يموت قلبه فيكون من الغافلين؛ كما وردت بذلك الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، روى ابن عمر وأبو هريرة رضي الله عنهم أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على أعواد منبره: (لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونُنَّ من الغافلين) رواه مسلم.
وروى أبو الجعد الضمري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من ترك ثلاث جمع تهاونا بها طبع الله على قلبه) وفي لفظ لابن حبان: (من ترك الجمعة ثلاثا من غير عذر فهو منافق).
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: (من ترك الجمعة ثلاث جمع متواليات فقد نبذ الإسلام وراء ظهره)
ولقد هم النبي عليه الصلاة والسلام بمعاقبة من يتخلفون عنها بأشد العقوبة؛ كما روى ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لقوم يتخلفون عن الجمعة: لقد هممت أن آمر رجلا يصلي بالناس ثم أُحَرِّق على رجال يتخلفون عن الجمعة بيوتهم) رواه مسلم.
ولأجل ذلك كره كثير من العلماء السفر يوم الجمعة لأجل الصلاة، فإذا أذن الأذان الثاني وهو مقيم لزمه أن يصلي قبل أن ينشئ سفره إلا إذا كان سيصليها في الطريق في بلد قريب، أو يخشى فوات رحلة أو رفقة في سفره.
إن كثيرا من الناس يتهاونون بصلاة الجمعة في هذا العصر، ويتأخرون عنها، وربما فاتتهم بسبب سهرهم ليلتها، فيحرمون أنفسهم التبكير إليها، وفيه من الفضل ما فيه، وربما فاتت بعضهم فناموا عنها.(/6)
وكثير منهم قد اتخذوا ضيعات واستراحات أو إبل يخرجون إليها ثم يتثاقلون عن العودة لشهود الجمعة مع المسلمين، وهذا الصنيع قد خافه النبي عليه الصلاة والسلام على أمته؛ كما جاء في حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما أخاف على أمتي الكتاب واللبن، قيل: يا رسول الله، ما بال الكتاب؟ قال: يتعلمه المنافقون ثم يجادلون به الذين آمنوا، فقيل: وما بال اللبن؟ قال: أناس يحبون اللبن فيخرجون من الجماعات ويتركون الجمعات) رواه أحمد.
قال السندي رحمه الله تعالى: قوله (فيخرجون من الجماعات ويتركون الجمعات) أي لا يتيسر الإكثار منه إلا في البادية، فيخرجون إليها، فيؤدي ذلك إلى ترك الجمع والجماعات).
وهذا الحديث من أعلام نبوة النبي عليه الصلاة والسلام؛ إذ يقع ذلك كثيرا من أهل الزرع وأهل الإبل إلا من رحم الله تعالى فلم يشغلهم شيء من الدنيا عن فرائض الله تبارك وتعالى قال أبو الحسن السري رحمه الله تعالى: (لولا الجمعة والجماعة لطينت عليَّ الباب).
فاحرصوا رحمكم الله تعالى على هذه الشعيرة العظيمة، وبَكِّروا إليها، وتهيئوا لها بما يليق بمقامها، فإنها فريضة من فرائض الله تبارك وتعالى، وشعيرة من شعائره، شرعها لتقربكم إليه، ولتكون زيادة في حسناتكم، ورفعة لدرجاتكم، وتكفيرا لخطاياكم، وكم نقارف من الذنوب والعصيان خلال سبعة أيام، والجمعة إلى الجمعة مكفرة لما بينهما إذا اجتنبت الكبائر.
وصلوا وسلموا على نبيكم....(/7)
العنوان: عيد الأضحى
رقم المقالة: 1799
صاحب المقالة: الشيخ علي بن عبدالرحمن الحذيفي
-----------------------------------------
عيد الأضحى
الخطبة الأولى
أما بعد، فاتَّقوا الله أيها المسلمون، اتَّقوه حقَّ التقوى، والزموا عُرْوَة الإسلام الوثْقَى، فتقوى الله خير زادكم، وعدتكم ووسيلتكم إلى ربِّكم.
عباد الله:
إنَّ لكلِّ أمَّة من الأمم عيدًا يعود عليهم في يوم معلوم، يتضمَّن عقيدتها وأخلاقها وفلسفة حياتها، فمن الأعياد ما هو منبثقٌ ونابعٌ من الأفكار البشرية البعيدة عن وحي الله تعالى، وهي أعياد العقائد غير الإسلامية، وأما عيد الأضحى وعيد الفطر فقد شرعهما الله تعالى لأمَّة الإسلام؛ قال الله تعالى: {لِكُلّ أمَّة جَعَلْنَا مَنسَكًا} [الحج: 34]، روى ابن جرير في "تفسيره" عن ابن عباس – رضيَ الله عنهما - قال: "منسكًا؛ أي: عيدًا"[1]؛ فيكون معنى الآية أن الله جعل لكلِّ أمَّة عيدًا شرعيًّا أو عيدًا قدريًّا.
وعيد الأضحى وعيد الفطر يكونان بعد ركنٍ من أركان الإسلام؛ فعيد الأضحى يكون بعد عبادة الحجِّ، وعيد الفِطْر يكون بعد عبادة الصَّوْم.
عن أنسٍ - رضيَ الله عنه - قال: قدم رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم - المدينةَ ولهم يومان يلعبون فيهما، قال: ((ما هذان اليومان؟)). قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية. فقال: ((قد أبدلكم الله خيرًا منهما: يوم الأضحى ويوم الفِطْر))؛ رواه أبو داود والنَّسائي[2].(/1)
فعيد الأضحى جعله الله يوم العاشر من ذي الحجَّة، بعد الوقوف بعرفة ركنِ الحجِّ الأعظم، وشرع في هذا العيد أعمالًا جليلةً صالحةً يتقرَّب بها المسلمون إلى الله تعالى، وسمَّاه الله يوم الحجر الأكبر؛ لأن أكثر أعمال الحج تكون في يوم هذا العيد، والله - عزَّ وجلَّ - برحمته وحكمته وعلمه وقدرته شرع الأعمال الصالحة والقربات الجليلة، ودعا الناس كلهم إلى فعلها قربةً إلى الله وزُلْفى عنده، كما قال تعالى: {سَابِقُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالأرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 21]، وقال تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا} [المائدة: 48].
فإذا لم يُمكن أن يعمل المسلم بعض الطاعات لأجل اختصاصها بمكان أو بزمان - شَرَعَ الله له طاعات من جنس ونوع تلك الطَّاعات المختصَّة بالمكان أو الزَّمان، فيوم عرفة عيدٌ لحجَّاج بيت الله الحرام، واجتماعٌ لهم، وتضرُّعٌ لله عزَّ وجلَّ، فمَنْ لم يحجّ شَرَعَ الله له صلاة عيد الأضحى في جَمْع المسلمين، وشرع له صيام عرفة الذي يكفِّر السَّنة الماضية والآتية، وقربانُ الحاجِّ وذبائحهم شرع الله مقابل ذلك أُضحية المقيم، فأبواب الخيرات كثيرةٌ ميسَّرةٌ، وطرق البرِّ ممهَّدةٌ واسعةٌ؛ ليستكثر المسلم من أنواع الطَّاعات لحياته الأبدية بقدر ما يوفِّقه الله تعالى.
الله أكبر الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر، ولله الحمد.
أيُّها المسلمون:
إنَّ العيد من شعائر الإسلام العظيمة الظَّاهرة، والعيد يتضمَّن معانيَ سامية جليلة، ومقاصدَ عظيمة فضيلة، وحِكمًا بديعة.(/2)
أولى معاني العيد في الإسلام: توحيد الله تعالى؛ لإفراد الله - عزَّ وجلَّ - بالعبادة في الدُّعاء، والخوف والرَّجاء، والاستعاذة والاستعانة والتوكُّل، والرَّغبة والرَّهبة، والذَّبح والنَّذر لله تبارك وتعالى، وغير ذلك من أنواع العبادة. وهذا التَّوْحيد هو أصل الدِّين الذي ينبني عليه كلُّ فرع من الشريعة، وهو تحقيق معنى لا إله إلا الله، المدلولِ عليه بقوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]، الذي نقرؤه في صلاة العيد وغيرها من الصلوات.
والتَّوْحيد هو الأمر العظيم الذي بتحقيقه يدخل الإنسان جنَّات النَّعيم، وإذا ضيَّعه الإنسان لا ينفعه عمل، وخُلِّد في النار أبدًا. والمتأمِّل في تاريخ البشرية يجد أنَّ الانحراف والضَّلال والبدع وقع في التَّوْحيد أوَّلًا، ثم في فروع الدِّين.
فتمسَّك - أيها المسلم - بهذا الأصل العظيم، فهو حقُّ الله عليكَ، وعهد الله الذي أخذه على بني آدم في عالم الأرواح، وقد أكَّد الله في القرآن العظيم توحيد الله بالعبادة، وعِظَم شأنه؛ فما من سورة في كتاب الله إلا وهي تأمر بالتَّوْحيد نصًّا أو تضمُّنًا أو التزامًا، أو تذكر ثواب الموحِّدين أو عقوبات المشركين، فمَنْ وفَّى بحقِّ الله تعالى وفَّى الله له بوعده، تفضُّلًا منه سبحانه.
عن معاذ بن جبل - رضيَ الله عنه - قال: قال رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((حقُّ الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، وحقُّ العباد على الله أن لا يعذِّب مَنْ لا يشرك به شيئًا))؛ رواه البخاري[3]. فالتوحيد أوَّل الأمر وآخِره.(/3)
وثاني معاني العيد: تحقيق معنى شهادة أن محمدًا رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم - التي ننطق بها في التشهُّد في صلاة العيد وغيْرها من الصلوات، إنَّ معنى شهادة أنَّ محمدًا رسول الله: طاعة أمره، واجتناب نَهيه، وتصديق أخباره، وعبادة الله بما شرع، مع محبَّته – صلَّى الله عليه وسلَّم – وتوقيره.
قال الله تعالى: {قُلْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمّلَ وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النور: 54].
ومن حكم العيد ومنافعه العظيمة: شهود جَمْع المسلمين لصلاة العيد، ومشاركتهم في بركة الدعاء والخير المتنزِّل على جَمْعهم المبارَك، والانضواء تحت ظلال الرَّحمة التي تغشى المصلِّين، والبروز لربِّ العالَمين؛ إظهارًا لفقر العباد لربِّهم، وحاجتهم لمولاهم عزَّ وجلَّ، وتعرُّضًا لنفحات الله وهباته التي لا تُحدُّ ولا تُعدُّ، عن أمِّ عطيَّة - رضيَ الله عنها - قالت: "أمَرَنا رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – أن نخرجهنَّ في الفِطْر والأضحى؛ العواتق والحُيَّض وذوات الخُدور. فأما الحُيَّض فيعتزِلْنَ الصلاة، ويشهدن الخير ودعوة المسلمين"؛ رواه البخاري ومسلم[4]. فتشهد النساء العيد غير متبرِّجات وغير متعطِّرات.
الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر، ولله الحمد.
أيها المسلمون:(/4)
وإنَّ من حِكَم العيد ومنافعه العظمى: التَّواصل بين المسلمين، والتَّزاور، وتقارب القلوب، وارتفاع الوَحْشة، وانطفاء نار الأحقاد والضغائن والحسد. فاقتدار الإسلام على جَمْع المسلمين في مكان واحد لأداء صلاة العيد آيةٌ على اقتداره على أن يجمعهم على الحقِّ، ويؤلِّف بين قلوبهم على التَّقوى، فلا شيء يؤلِّف بين المسلمين سوى الحقّ؛ لأنه واحدٌ، ولا يفرِّق بين القلوب إلا الأهواء لكثرتها، فالتَّراحم والتَّعاون والتَّعاطف صفةٌ المؤمنين فيما بينهم، كما روى البخاري ومسلم من حديث النُّعمان بن بشير - رضيَ الله عنه - قال: قال رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَثَل المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم مَثَل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسَّهَر والحُمَّى))[5]، وفي الحديث: ((ليس منَّا مَنْ لم يرحم الصَّغير، ويوقِّر الكبير))[6]، وعن أبي الدَّرداء - رضيَ الله عنه - قال: سمعتُ رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((ابغوني في الضعفاء، فإنما تُنصرون وتُرزقون بضعفائكم))؛ رواه أبو داود بإسنادٍ جيِّد[7] .
والمحبَّة بين المسلمين والتوادُّ غايةٌ عظمى من غايات الإسلام؛ فعن أبي هريرة - رضيَ الله عنه - قال: قال رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابُّوا، أوَلا أدلُّكم على شيءٍ إذا فعلتموه تحاببتم؟! أفشوا السَّلام بينكم))؛ رواه مسلم[8] .
فجاهِد نَفْسَكَ - أيها المسلم - لتكون سليمَ الصَّدر للمسلمين، فسلامة الصَّدر نعيم الدُّنيا، وراحة البَدَن ورضوان الله في الأخرى.
عن عبدالله بن عمرو قال: قيل: يا رسول الله، أيُّ الناس أفضل؟ قال: ((كلُّ مَخْموم القلب، صدوق اللِّسان)). قالوا: فما مَخْموم القلب؟ قال: ((هو التَّقيُّ النَّقيُّ، لا إثم فيه ولا بغي، ولا غِلَّ ولا حسد))؛ رواه ابن ماجه بإسنادٍ صحيح، والبيهقي[9] .(/5)
الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر، ولله الحمد.
عباد الله:
إنَّ من غايات العيد ومنافعه: إعلان تعاليم شريعة الإسلام، ونشرها في المجامع ومشاهد المسلمين، وتبليغها على رؤوس الأشهاد، ليأخذها ويتلقَّاها الجيل عن الجيل، والآخِر عن الأوَّل، علمًا وعملًا مطبَّقًا، فتستقرُّ تعاليم الإسلام في سويداء القلوب، ويحفظها ويعمل بها الكبير والصغير، والذَّكر والأنثى، وخطبةُ العيد التي شرعها رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم - تشتمل على أحكام الإسلام السَّامية، وتشريعاته الحكيمة. وظهور فرائض الإسلام وتشريعاته وأحكامه هي القوة الذاتية لبقاء الإسلام خالدًا إلى يوم القيامة، فلا يُنسى، ولا يُغيَّر، ولا تُؤوَّل أحكامه، ولا تنحرف تعاليمه.
أيها المسلمون:
عيد الأضحى ترتبط فيه أمَّة الإسلام بتاريخها المجيد في ماضيها المشرق السحيق، الأمَّة المسلمة عميقة جذور الحقِّ في تاريخ الكون، متصلةُ الأسباب والوَشائج عبر الزَّمان القديم، منذ وطئت قدم أبينا آدم - عليه الصَّلاة والسَّلام - الأرضَ، وتنزَّل كلام الله على الأنبياء - عليهم الصَّلاة والسَّلام - عبر العصور الخالية.
قال الله تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أمَّة وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 92]، وختم الله الرُّسل - عليهم الصَّلاة والسَّلام - بسيِّد البشر محمد – صلَّى الله عليه وسلَّم - الذي أمره الله باتِّباع ملَّة إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - بقوله: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل: 123]، فكانت شريعة محمد - عليه الصَّلاة والسَّلام - ناسخةٌ لجميع الشَّرائع؛ فلا يقبل الله إلا الإسلام دينًا، ولا يقبل غيره.(/6)
قال الله تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85]، وفي الحديث: ((والذي نفسي بيده، لا يسمع بي يهوديٌّ ولا نصرانيٌّ ثم لا يؤمن بي - إلا دخل النار))؛ رواه مسلم[10].
فأنتم - معشر المسلمين - على الإرث الحقِّ والدِّين القيِّم، ملَّة الخليل إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - ودين الخليل محمد – صلَّى الله عليه وسلَّم - وعيد الأضحى يربطكم بهذين الخليلَيْن النبيَّيْن العظيمَيْن، عليهما الصَّلاة والسَّلام، لما شرع الله لكم في هذا اليوم من القربات والطَّاعات.
عن زيد بن أَرْقَم - رضيَ الله عنه - قال: قال أصحاب رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ما هذه الأضاحي يا رسول الله؟ قال: ((سنَّة أبيكم إبراهيم)). قالوا: فما لنا فيها يا رسول الله؟ قال: ((بكلِّ شعرة حسنةٌ))؛ رواه ابن ماجه[11] .
وذلك أنَّ الله أمر إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - بذبح ولده إسماعيل - عليه السَّلام - قربانًا إلى الله، فبادَرَ إلى ذبحه مسارعًا، واستسلم إسماعيل صابرًا، فلما تمَّ مرادُ الله تعالى بابتلاء خليله إبراهيم - عليه السَّلام - وتأكَّد عزمه، وشرع في ذبح ابنه، فلم يبقَ إلا اللَّحم والدم - فداه الله بذِبْحٍ عظيم، فعَلِم الله عِلم وجودٍ أنَّ خلَّة إبراهيم ومحبَّته لربِّه لا يزاحمها محبَّة شيءٍ، والأُضحية والقرابين في منى تذكيرٌ بهذا العمل الجليل الذي كان من إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام.
الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر، ولله الحمد.
عباد الله:(/7)
الصلاة الصلاة، فإنها عماد الإسلام، وناهيةٌ عن الفحشاء والآثام، وهي العهد بين العبد وربِّه، مَنْ حفظها حفظ دينه، ومَنْ ضيَّعها فهو لما سواها أضْيَع، وأوَّل ما يُسأل عنه العبد يوم القيامة هي الصلاة، فإن قُبِلَتْ قُبِلَتْ وسائر العمل، وإن رُدَّتْ رُدَّتْ وسائر العمل.
وأدُّوا زكاة أموالكم طيبةً بها نفوسكم، تطهِّروا بها نفوسكم، وتحفظوا بها أموالكم من المهالك، وتُحسِنوا بها إلى الفقراء، وتُثابوا على ذلك أعظم الثَّواب، فقد تفضَّل الله عليكم بالكثير، ورضيَ منكم بنفقة اليسير.
وصوموا شهر رمضان، وحجُّوا بيت الله الحرام، فإنَّهما من أعظم أركان الإسلام.
وعليكم ببرِّ الوالدَيْن وصِلَة الأرحام، والإحسان إلى الأيتام، وذلك عملٌ يعجِّل الله ثوابه في الدُّنيا، مع ما يدَّخر الله لصاحبه في الآخِرة من حسن الثَّواب، كما أنَّ العقوق والقطيعة ومَنْع الخير مما يعجِّل الله عقوبته في الدُّنيا، مع ما يؤجِّل لصاحبه في الآخِرة من أليم العقاب.
وارعوا - معشر المسلمين - حقوق الجار، وفي الحديث: ((لا يؤمن مَنْ لا يَأْمَن جاره بوائقه))[12]؛ يعني: شرَّه.
وأمُروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر؛ فإنهما حارسان للمجتمع، وسياجان للإسلام، وأمان من العقوبات التي تعمُّ الأنام، وإياكم وأنواع الشِّرك التي تُبطِل التَّوْحيد، التي يقع فيها مَنْ لا علم له؛ كدعاء الأنبياء والصَّالحين، والطَّواف على قبورهم، وطلب الغَوْث منهم، أو طلب كَشْف الكربات منهم والشَّدائد، أو دعائهم بجَلْب النَّفْع أو دَفْع الضُّرِّ، أو الذَّبح أو النَّذر لغير الله تعالى، أو الاستعاذة بغير الله تعالى؛ قال الله - عزَّ وجلَّ -: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18]، وقال - عزَّ وجلَّ -: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} [النساء: 48].(/8)
وإيَّاكم وقتل النفس المحرَّمة، والزنا، فقد قرن الله ذلك في كتابه بالشِّرك بالله - عزَّ وجلَّ - قال تعالى: {وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} [الفرقان: 69]، ومعنى {أَثامًا}: بئرٌ في قعر جهنَّم - والعياذ بالله. وفي الحديث: ((لا يزال المرء في فسحة من دينه، ما لم يُصِبْ دمًا حرامًا))[13] ، وعن الهيثم، عن مالك الطَّائي، عن النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((ما من ذنبٍ بعد الشِّرك أعظم عند الله من نُطُفةٍ وضعها رجلٌ في رَحِمٍ لا يحلُّ له))؛ رواه ابن أبي الدُّنيا[14] .
وعمل قوم لوط أعظم من الزِّنا؛ فقد لعن فاعله رسول الله[15] – صلَّى الله عليه وسلَّم - والسِّحاق نوعٌ من الزِّنا، وخبثٌ من الخبائث المحرَّمة.
وإيَّاكم والرِّبا؛ فإنه مَحْقٌ للكَسْب، وغضبٌ للرَّب، وعن البَرَاء بن عازِب - رضيَ الله عنه - مرفوعًا: ((الرِّبا اثنان وسبعون بابًا، أدناها مثل إتيان الرجل أمّه))؛ رواه الطَّبراني في "الأوسط[16] .
وإيَّاكم والتَّعرُّض لأموال المسلمين والمستضعَفين؛ فإن اختلاطه بالحلال دمارٌ ونارٌ.
وإيَّاكم والرِّشوة وشَهادة الزُّور؛ فإنها مضيعةٌ للحقوق، مؤيِّدةٌ للباطل، ومَنْ كان مع الباطل أحلَّه الله دار البَوَار، وجلَّله الإثم والعار؛ فقد لعن رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم - الرَّاشي والمرتشي[17] ، وقرن الله شهادة الزُّور بالشِّرك بالله - عزَّ وجلَّ.(/9)
وإياكم والخمر وأنواع المسكرات، والدخان والمخدِّرات، فإنها تفسد القلب، وتغتال العقل، وتدمِّر البَدَن، وتمسخ الخُلُق الفاضل، وتُغضب الرَّبَّ، وتفتك بالمجتمع، ويختلُّ بسببها التَّدبير، وعن جابر - رضيَ الله عنه - عن رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((كلُّ مُسْكِرٍ حرامٌ، وإنَّ على الله عهدًا لمَنْ يشرب المُسْكِر أن يسقيه من طينة الخَبال)). قالوا: يا رسول الله، وما طينة الخَبال؟ قال: ((عَرَقُ أهل النَّار)). أو: ((عُصارة أهل النَّار))؛ رواه مسلمٌ والنَّسائي[18] .
وإيَّاكم والغِيبة والنَّميمة؛ فإن المطعون في عِرْضه يأخذ من حسنات المُغتاب بقَدْر مَظْلَمَته، وعن حذيفة مرفوعًا: ((لا يدخل الجنَّة قَتَّاتٌ))؛ يعني: نَمَّامٌ، متَّفقٌ عليه[19] .
الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر، ولله الحمد.
قال الله تعالى: {وَأَنَّ هَاذَا صِراطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذالِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيَّاكم بما فيه من الآيات والذِّكْر الحكيم، ونفعنا بهَدْي سيِّد المرسلين، وبقوله القويم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر.
الحمد لله الواحد الأحد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، أحمد ربي وأشكره على نعمه وآلائه التي لا تحصى ولا تُعَدّ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الإله الصمد، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدًا عبده ورسوله الدَّاعي إلى سنن الرَّشَد، اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه ذوي الفضل والسؤدُد.
أما بعد:(/10)
فاتقوا الله - أيها المسلمون - بطلب مرضاته، والبُعْد عن محرَّماته، واعلموا أنَّ يومكم هذا يومٌ جليلٌ، وأن عيدكم عيدٌ فضيلٌ.
عن عبدالله بن قُرْطٍ – رضسَ الله عنه - أنَّ النبيَّ – صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((أفضل الأيام عند الله يوم النَّحر ويوم القرِّ))[20]. وهو اليوم الذي بعد يوم النَّحر، ولأن يوم عرفة - وإن كان فاضلًا من بعض الوجوه – فهو مقدمةٌ وتوطئةٌ ليوم النَّحر؛ ففي عرفة يتطهَّرون من الذُّنوب، ويدعون ويتضرَّعون، ويخشعون ويتوبون، فإذا هُذِّبوا ونُقُّوا وتطهَّروا من الآثام، وازدادوا خيرًا - ازدلفوا ليلة جَمْعٍ، وتضرَّعوا واستغفروا وتابوا، ثم ذبحوا قرابينهم لله تعالى، فأكلوا من ضيافة الله لهم في مِنى في يوم النَّحر، ثم أذِن الله لهم بزيارته، والطَّواف ببيته.
وأما غيرُ الحاجِّ فشرع الله له الأُضحية في هذا اليوم، مع الذِّكر وفعل الخيرات.
عن عائشة - رضيَ الله عنها - أنَّ رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((ما عمل ابنُ آدمَ يوم النَّحر عملًا أحبُّ إلى الله - عزَّ وجلَّ - من هراقة دمٍ، وإنه ليأتي يوم القيامة بقرونها وأظلافها وأشعارها، وإنَّ الدَّم ليقع من الله - عزَّ وجلَّ - بمكانٍ قبل أن يقع على الأرض، فطيبوا بها نَفْسًا))؛ رواه التِّرمذيُّ وابن ماجه [21].
وعن ابن عباس - رضيَ الله عنهما - عن النبيِّ – صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((ما عمل ابنُ آدمَ في يوم أضحى أفضل من دم يُهْراقُ، إلاَّ أن يكون رَحِمًا يُوصَل))؛ رواه الطَّبرانيُّ[22].
وعن أبي سعيد الخُدْرِيِّ - رضيَ الله عنه - عن النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((يا فاطمة، قومي إلى أُضحيتكِ، فاشْهَدِيها؛ فإنَّ لك بكلِّ قطرةٍ من دمها ما سَلَفَ من ذنوبكِ)). قالت: يا رسول الله، ألنا خاصةً أهل البيت، أو لنا وللمسلمين؟ قال: ((بل لنا وللمسلمين))؛ رواه الطَّبرانيُّ والبزَّارُ[23].
معشر المسلمين:(/11)
إنَّ الشَّاة تجزئ عن الرَّجل وأهل بيته في الأُضحية، وتجزئ البَدَنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة، ولا يجزئ من الضَّأن إلا ما تمَّ له ستَّة أشهر، ولا من المَعْز إلا الثَني، وهو ما تمَّ له سَنَة، ولا من الإبل إلا ما تمَّ له خمس سنين، ولا من البقر إلا ما تمَّ له سنتان، ويُستحبُّ أن يتخيَّرها سمينةً صحيحةً، ولا تجزئ المريضة البيِّن مرضها، ولا العوراء، ولا العجفاء - وهي الهزيلة - ولا العرجاء البيِّن ضَلْعها، ولا العضباء التي ذهب أكثر أذنها أو قرنها، وتجزئ الجمَّاء والخَصِيُّ.
والسُّنة نحر الإبل قائمةً، معقولة اليد اليسرى، والبقر والغنم على جنبها الأيسر، متوجِّهةً إلى القِبْلة، ويقول عند الذبح: "بسم الله" وجوبًا، و"الله أكبر" استحبابًا، "اللهم هذا منك ولك". ويُستحبُّ أن يأكل ثُلُثًا, ويُهدي ثُلُثًا، ويتصدَّق بثُلُثٍ؛ لقوله تعالى: {فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج: 36]، ولا يعطي الجزَّار أُجْرَتَه منها.
ووقت الذَّبح بعد صلاة العيد باتِّفاقٍ، واليوم الذي بعد ذلك فيه خلافٌ، والرَّاجح أنَّه زمنٌ للذَّبح مع فوات فضيلة.
الخطبة الثَّانية
الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر، ولله الحمد.
يا نساء المسلمين:(/12)
اتَّقينَ الله - تعالى - في واجباتكنَّ التي طوَّقت أعناقكنَّ، أَحْسِنَّ إلى أولادكنَّ بالتَّربية الإسلامية النافعة، واجتهدْنَ في إعداد الأولاد إعدادًا سليمًا ناجحًا؛ فإن المرأة أشدّ تأثيرًا على أولادها من الأب، وليَكُن هو مُعينًا لها على التربية. وأَحْسِنَّ إلى الأزواج بالعِشْرة الطيِّبة، وبحفظ الزَّوج في عِرْضه وماله وبيته، ورعاية حقوق أقاربه وضيفه وجيرانه؛ ففي الحديث عن النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إذا صلَّت المرأة خَمْسها، وصامت شهرها، وحجَّت بيت ربِّها، وحفظت فَرْجها، وأطاعت زوجها؛ قيل لها: ادخلي الجنَّة من أيِّ أبوابها شئتِ))[24].
وعليكِ - أيتها المرأة المسلمة - أن تشكري نعمة الله عليكِ؛ حيث حفظ لك الإسلام حقوقك كاملة، ولا تنخدعي بالدِّعايات الوافدة؛ فإن مكانتك في هذه البلاد أحسن مكانة في هذا العصر، واذكرنَ دائمًا قول الله تعالى: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهُتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [الممتحنة: 12].
فقد كان النبيُّ – صلَّى الله عليه وسلَّم - يُذكِّر النِّساءَ بهذه الآية في العيد، كما رواه البخاريُّ من حديث ابن عبَّاس - رضي الله عنهما -[25]، ومعنى {بِبُهُتَانٍ يَفْتَرِينَهُ}: لا يُلْحِقْنَ بأزواجهنَّ أولادًا من غيرهم.
أيها المسلمون:(/13)
اشكروا الله، واحمدوه على نعمه الظاهرة والباطنة، اشكروه على نعمة الإسلام، واحمدوه واشكروه على نعمة الأمن والإيمان، وتيسُّر الأرزاق والمنافع والمرافق، والتُّمتع بالطيِّبات التي لا تُحصى، واشكروه تعالى على اجتماع الكلمة في بلادكم هذه، وصَرْف الفِتَن عنكم، التي تُستحلُّ فيها الحرمات، وتختلف فيها القلوب. وشكر الله على ذلك بطاعة الله ودوامها، واجتناب معصيته، وملازمة التَّوْبة.
أيها المسلمون:
اعلموا أنه ليس السعيد مَنْ تزيَّن وتجمَّل للعيد، فلبس الجديد، ولا مَنْ خدمته الدُّنيا وأتت على ما يريد، لكنَّ السَّعيد مَنْ فاز بتقوى الله تعالى، وكُتب له النَّجاة من نارٍ حرُّها شديد، وقعرها بعيد، وطعام أهلها الزَّقُّوم والضَّريع، وشرابهم الحميم والصَّديد، وفاز بجنة الخُلْد التي لا يَنْقُص نعيمها ولا يَبيد.
واعلموا - عباد الله -: أنَّ التَّكبير المقيَّد لغير الحاجِّ يبدأ من فجر يوم عرفة إلى آخِر عصر أيام التشريق، وأما الحاجُّ فيبدأ من ظُهر يوم النَّحر، وأما التَّكبير المُطلَق فيكون في عَشْر ذي الحجَّة.
عباد الله:
تذكَّروا ما أنتم قادمون عليه من الموت وسكراته، والقبر وظلماته، والحشر وكرباته، وصحائف الأعمال والميزان والصراط وروعاته، واذكروا مَنْ صلَّى معكم في هذا المكان فيما مضى من الزَّمان، من الأخلاء والأقرباء والخلان، كيف اخْتَرَمَهم هادم اللذات، فأصبحوا في تلك القبور مرتهنين بأعمالهم، فأحدهم في روضةٍ من رياض الجِنان، أو في حفرةٍ من حُفَر النِّيران! فتيقَّنوا أنكم واردون على ما عليه وردوا، وشاربون كأس المنيَّة الذي شربوا، {فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان: 33].(/14)
أين الأمم الخالية؟ وأين القرون الماضية؟ أين منهم ذوو المُلْك والسُّلطان؟ وأين منهم ذوو الأكاليل والتِّيجان؟ وأين تلك العساكر والدَّساكر؟ أين الذين جمعوا الأموال، وغرسوا الأشجار، وأجروا الأنهار، وشيدوا الأمصار؟ أين منهم الغني والفقير؟ أتى عليهم الموت فنقلهم من القصور إلى ضيق القبور، ومن أُنْس الأهل والأصحاب إلى اللَّحْد والتُّراب!
فلا تركنوا إلى هذه الدنيا التي لا يُؤمَن شرها، ولا تفي بعهدها، ولا يدوم سرورها، ولا تُحصى آفاتها، ما مثلُها إلا كمائدة أحدكم؛ تُعجب صاحبها ثم تصير إلى فناء، دارٌ يَبلى جديدها، ويَهرم شبابها، وتتقلَّب أحوالها؛ فاتَّخذوها مزرعةً للآخِرة، فنِعم العمل فيها.
عباد الله:
{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56].
فصلُّوا وسلِّموا على سيِّد الأوَّلين والآخِرين، وحبيب الحقِّ - تبارك وتعالى.
اللهم صلِّ على محمَّد، وعلى آل محمَّد...
---
[1] أخرجه ابن جرير في تفسيره (17/198)، وعزاه السيوطي في الدر (6/47) لابن أبي حاتم.
[2] أخرجه أحمد (3/103)، وأبو داود في الصلاة (1134)، والنسائي في العيدين (1556)، وصححه الحاكم (1/434)، والضياء في المختارة (1911)، وصححه الحافظ في الفتح (2/442).
[3] أخرجه البخاري في الجهاد (2856)، وكذا مسلم في الإيمان (30).
[4]أخرجه البخاري في الحج (1652)، ومسلم في العيدين (890) واللفظ له.
[5] أخرجه البخاري في الأدب (6011)، ومسلم في البر (2586) واللفظ له.(/15)
[6] أخرجه الترمذي في البر، باب: ما جاء في رحمة الصبيان (1919) من طريق زربي عن أنس رضي الله عنه، وقال: "هذا حديث غريب، وزربي له أحاديث مناكير عن أنس بن مالك وغيره"، لكن للحديث شواهد منها عن عبد الله بن عمرو أخرجه أحمد (2/207)، والبخاري في الأدب المفرد (358)، والترمذي (1920) وقال: "حديث حسن صحيح"، وصححه الألباني في الصحيحة (2196).
[7] أخرجه أحمد (5/198)، وأبو داود في الجهاد (2594)، والترمذي في الجهاد (1702)، والنسائي في الجهاد (3179)، وقال الترمذي: "حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (4767) والحاكم (2/116، 157) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (779).
[8] أخرجه مسلم في الإيمان (54).
[9] أخرجه ابن ماجه في الزهد (4216)، والطبراني في مسند الشاميين (1218)، وأبو نعيم في الحلية (1/183)، قال أبو حاتم كما في العلل لابنه (2/127): "هذا حديث صحيح حسن"، وصحح سنده المنذري في الترغيب (3/349)، والبوصيري في مصباح الزجاجة، وهو في صحيح الترغيب (2889).
[10] أخرجه مسلم في الإيمان (153) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[11] أخرجه أحمد (4/368)، وعبد بن حميد (259)، وابن ماجه في الأضاحي (3127)، والطبراني في الكبير (5/197) من طريق عائذ الله المجاشعي، عن أبي داود، عن زيد بن أرقم رضي الله عنه، قال الحاكم (2/422): "صحيح الإسناد"، وتعقبه الذهبي والمنذري في الترغيب (2/99)، فقال: "بل واهيه، عائذ الله المجاشعي وأبو داود وهو نفيع بن الحارث الأعمى، وكلاهما ساقط"، وضعفه البوصيري في الزوائد، وقال الألباني في ضعيف ابن ماجه (672): "ضعيف جدًا".
[12] أخرجه البخاري في الأدب (6016) من حديث أبي شريح رضي الله عنه.
[13] أخرجه البخاري في الديات (6862) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.(/16)
[14] عزاه السيوطي في الجامع لابن أبي الدنيا، وأخرجه ابن الجوزي من طريقه في ذم الهوى (ص190) والهيثم بن مالك الطائي تابعي ثقة، فهو مرسل، والراوي عنه أبو بكر بن أبي مريم ضعيف، ولذا ضعفه الألباني في الضعيفة (1580).
[15] أخرج أحمد (1/309)، وأبو يعلى (2539)، والطبراني (11546)، والبيهقي (8/231) عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي قال: ((لعن الله من عمل عمل قوم لوط)) في حديث طويل. وصححه ابن حبان (4417)، والحاكم (4/356)، وذكره الألباني في صحيح الترغيب (2421).
[16] أخرجه الطبراني في الأوسط (7151)، قال الهيثمي في المجمع (4/117): "فيه عمر بن راشد وثقه العجلي وضعفه جمهور الأئمة"، وحكم عليه أبو حاتم بالانقطاع كما في العلل لابنه (1/381)، ولكن له شواهد يصحّ بها، ولذا صححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1871).
[17] أخرجه أحمد (11/87)، (6532)، وأبو داود في الأقضية (3580)، والترمذي في الأحكام (1337)، وابن ماجه في الأحكام (2313) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن الجارود (586)، وابن حبان (5077)، والحاكم (4/102، 103)، ووافقه الذهبي.
[18] أخرجه مسلم في الأشربة (2002).
[19] أخرجه البخاري في الأدب (6056)، ومسلم في الإيمان (105).
[20] أخرجه أحمد (4/350)، وأبو داود في المناسك (1765)، والنسائي في الكبرى (4098)، وصححه ابن خزيمة (2866)، وابن حبان (2811)، والحاكم (4/246)، وأقره الذهبي، ورمز له السيوطي بالصحة، وصححه الألباني في الإرواء (1958).
[21] أخرجه الترمذي في الأضاحي (1493)، وابن ماجه في الأضاحي (3126)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"، وصححه الحاكم (2/389)، وتعقبه الذهبي والمنذري، وضعفه الألباني في الضعيفة (527).
[22] عزاه الهيثمي في المجمع (4/18)للطبراني في الكبير، وقال: "فيه يحيى بن الحسن الخشني وهو ضعيف، وقد وثقه جماعة"، وضعفه الألباني في الضعيفة (525).(/17)
[23] أخرجه الحاكم (4/222) من طريق عطية عن أبي سعيد، قال الذهبي: "عطية واه"، وعزاه المنذري في الترغيب (2/100) للبزار ولأبي الشيخ في الضحايا وقال: "في إسناده عطية بن قيس وثق وفيه كلام"، وكذا قال الهيثمي في المجمع (4/17). وضعفه الألباني في الضعيفة (2/15).
[24] أخرجه أحمد (1/191) من حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، وليس فيه: ((وحجت بيت ربها))، قال المنذري في الترغيب (2/671): "رواة أحمد رواة الصحيح خلا ابن لهيعة، وحديثه حسن في المتابعات"، وعزاه الهيثمي في المجمع (4/306) للطبراني في الأوسط وقال: "فيه ابن لهيعة، وحديثه حسن، وبقية رجاله رجال الصحيح"، وقال الألباني في صحيح الترغيب (1932): "حسن لغيره".
[25] أخرجه البخاري في التفسير (4895)، وكذا مسلم في العيدين (884).(/18)
العنوان: عيد الأضحى
رقم المقالة: 1823
صاحب المقالة: حسين بن عبدالعزيز آل الشيخ
-----------------------------------------
عيد الأضحى
ملخَّص الخطبة:
1- حاجة الأمَّة في هذا العصر إلى التمسُّك بمبادئ الإسلام.
2- عِظَم مقاصد خطبة الوداع.
3- مبدأ حفظ الدماء والأموال والأعراض.
4- تحريم الرِّبا.
5- تقرير مبدأ العقوبات.
6- صيانة المرأة، والحرص على كرامتها.
7- ذمّ العصبيَّة والعنصريَّة.
8- حقوق الإنسان في الإسلام.
9- الوصية بالتمسُّك بالكتاب والسنَّة.
10- مشروعيَّة الأضحية وبعض أحكامها.
11- من آداب العيد.
• • • • •
الخطبة الأولى
معاشرَ المسلمين:
إنَّ الأمَّة اليومَ في حاجةٍ عظيمة للمبادئ التي تعالج واقعَها، وللأصول التي تحلّ مشكلاتها، وللقيَم التي ترسم لها الخطَّة الناجحةَ لمحاربة التحدِّيات التي تواجهها والمخاطر التي تحيط بها.
ومن هذا المنطلَق فإنَّ ضرورة المسلمين اليوم كبيرةٌ في مثل هذه المناسبة؛ للمراجعة الجادَّة، والتبصُّر الصَّادق في وثيقةٍ تاريخيةٍ عظيمة، صدرت من رجلٍ عظيم، في يومٍ عظيم.
إنها خطبةُ الوداع، التي تعرِض للأمَّة أعلى القِيَم، وتمدُّها بمقوِّمات الخير والصَّلاح لبناء الحاضر والمستقبل، وتعطيها أُسُسَ الفلاح ومبادئَ النَّجاح.
الله أكبر الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر الله أكبر، ولله الحمد.
إخوةَ الإسلام:
خطبةُ الوداع جاءت تذكِّر الأمَّة في كلِّ حين بأسباب الحياة المُثْلَى، وتبصِّرها بسُبل الوقاية من الشرور والفتَن، وهو تحقيقُ منهج الإسلام في هذه الحياة عقيدةً وشريعةً، حُكمًا وتحاكمًا، عملاً وسُلوكًا، يقول – صلَّى الله عليه وسلَّم - في هذه الخطبة: ((أوصيكم ـ عبادَ الله ـ بتقوى الله، وأحثُّكم على طاعته))[1].
أمَّةَ الإسلام:(/1)
وفي مضامين هذه الوثيقة أصلٌ مهمٌّ تقوم عليه سعادة الناس، وتصلح به حياتهم، إنه مبدأ حفظ النفوس والأموال والأَعْراض، يقول – صلَّى الله عليه وسلَّم - في هذه الخطبة: ((أيُّها الناس، إنَّ دماءكم وأموالَكم وأعراضكم عليكم حرامٌ، كحُرْمَة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا)) [2].
إنها المقاصد العامَّة والمصالح الكلّية التي جاءت الشريعةُ برعايتها والحفاظِ عليها، وبناء الأحكام على وفقها، وجعلها غايةً مستقرَّةً في تشريعاتها، ممَّا حدَا بأحدِ المستشرقين أن يقول: "لو طبَّق المسلمون تعاليمَ دينهم، وحرصوا عليها عملاً؛ فإنَّ دُورَ الشرطة والمحاكم والسجون ستُغلق؛ لأنه لم يبقَ لها عملٌ، وبذلك يوجد المجتمع المسلم الذي رسم الإسلام معالمَه". انتهى.
خطابٌ عالميٌّ يصدُر من سيِّد العالمين محمَّد عليه أفضل الصَّلاة والتَّسليم، يتضمَّن محاربةَ كلِّ تصرُّفٍ يترتَّب عليه ترويعُ الآمنين وإخافة المسلمين.
خطابٌ يتضمَّن في مشمول معانيه الحرصَ التامَّ من دين الإسلام على حفظ النفوس أن تهدَر، والأموال أن تُضيَّع، والأعراض أن تُنتهَك.
إنه خطابٌ كالسَّيف ضدَّ كلِّ تهمةٍ تُوجَّه للإسلام بأنه دينُ إرهابٍ وإرعاب، فأين المُنْصِفون؟! وأين المتبصِّرون؟!
الله أكبر الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر الله أكبر، ولله الحمد.
معاشرَ المسلمين، في موقفِ الوداع يُعلن المصطفى – صلَّى الله عليه وسلَّم - حكمَ الإسلام الأبديَّ في قضيةٍ خطيرة من قضايا الاقتصاد، إنها قضيَّة الرِّبا؛ فيقول عليه أفضل الصَّلاة والسَّلام: ((وإنَّ ربا الجاهليّة موضوعٌ، وإنَّ أوَّلَ ربًا أبدأ به ربا العباس بن عبد المطلَّب))[3]. سياسةٌ نبويّة لصيانة الاقتصاد من الهلاك والدمار، ولحماية المجتمعات من الشرور والأضرار، وذلك بتحريم الرِّبا بمختلف صُوَره، ومهما كان نوعُه وقدره.(/2)
الله أكبر الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر الله أكبر، ولله الحمد.
معاشرَ المسلمين:
إنَّه في الوقت الذي يُصدر الإسلام وصاياه النيّرةَ يتَّضح للعالم بعد قرونٍ بالتجارب الواقعية والكتابات المتعدِّدة والإحصاءات الدقيقة الصادرة من أساطين الاقتصاد العالمي - أنَّ النظامَ الربويَّ ليس هو العاجز على توفير الاقتصاد النامي المستقرِّ فحسب؛ بل إنَّه عنصرٌ مدمِّر لشروط ودعائم الاقتصاد ونموِّه واستقراره، فأين المدركون؟! وأين هم المتَّعظون؟!
الله أكبر الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر، ولله الحمد.
أيُّها المسلمون:
وتقرِّر هذه الخطبةُ التوديعيَّة لزومَ إصلاح النفوس وتهذيبها وحماية الجماعة وأفرادها، فيجيء الإعلانُ المؤكِّد لمبدأ العقوبات في الإسلام، قال – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((والعمدُ قوَد))[4].
إنّه حرصٌ من التشريع الإسلاميِّ لا مثيل له في القضاء على الخطر، والمنع من الشرِّ والضرر، حدودٌ تزجر الناسَ وتردعهم، وتصلح أحوالهم وشؤونهم، حسمٌ لباب الفساد، وإصلاحٌ لأحوال العباد؛ لتقوم حياةٌ كريمة وعيشٌ مطمئنٌّ مستقرٌّ، {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يا أُولِي الألْبَابِ} [البقرة: 179].
الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر، ولله الحمد.
أمَّةَ الإسلام:(/3)
المرأة في الإسلام شقيقةُ الرِّجال في إقامة الحياة على خير حال، علاقتها به علاقةُ مودَّةٍ ورحمة وسَكَنٍ وطمأنينة، يقول – صلَّى الله عليه وسلَّم - في خطبة الوداع: ((فاتَّقوا الله في النِّساء، فإنَّكم أخذتموهنَّ بأمانة الله، واستحللتم فروجهنَّ بكلمة الله))[5] ، ولئن حكى التاريخ تحقيرَ العصور الجاهليَّة الأولى للمرأة، وسلبَها حقوقها وكرامتَها - فإنَّ الحالَ اليوم أسوأُ منه في حضارات غير الإسلام، فهي في نظراتهم لا تعدو أن تكون مصيَدةً للآذان، يُتنافَس فيها بالبغي والعدوان، أو أن تكون عاملاً لاهثًا ومنتِجًا راكضًا بلا رحمة ولا إحسان، أمَّا المرأة في الإسلام فلها الشأنُ العظيم، حقوقها محفوظةٌ مُصَانة، تعيش كريمةً مُصانة، عُضوًا مشَرِّفًا وعنصرًا فعَّالا في إقامة حياةٍ سعيدةٍ ومجتمعٍ طاهرٍ نزيه، تمارس مسؤولياتها وفقَ الحِشمة والآداب، مستوعِبةً المفيدَ من الجديد، محافظةً على نفسها، لها ميادينها ومجالاتُها في الخير والعطاء والبَذْل والفداء، وحينئذ تجني لأمَّتها ولنفسها الثمراتِ الخيِّرةَ، ولمجتمعها القطوفَ الزَّاهرة، مجتنبةً الويلاتِ التي يعانيها المستسلِمات لصرخات التحرير الكاذبة الماكرة، والدعوات الخادعة السَّافرة.
أيُّها المؤمنون:
أعداءُ الإسلام حريصون على أن تنهجَ المسلمة السُّبُل العوجاء والأفكار الهوجاء، قال أحدهم: "لن تستقيمَ حال الشَّرق ما لم يُرفَع الحجابُ عن وجه المرأةِ ويعطَّ به القرآن"، وقال آخَر: "إنَّ التأثير الفكريَّ الذي يظهر في كلِّ المجالات، ويقلب المجتمعَ الإسلاميَّ رأسًا على عقِب - لا يبدو في جلاءٍ أفضل بما يبدو في تحرير المرأة". انتهى.
وهذا ليس بمستغرَبٍ على من مبادؤُه مهلِكة ومقاييسه فاسِدة، ولكن المستغرَب أن يتأثَّر بذلك ذوو أفهامٍ سقيمة أو نوايا خبيثة، فتجدهم يتَّجهون لمِثل تلك الدعوات، وينادون في ديار الإسلام بمثل تلك الصيحات!!(/4)
ألا فليت هؤلاء وغيرهم يدركون ما أدركه عقلاء القوم، ويستبصرون ما استبصروه من العواقب الوخيمة والآثار المدمِّرة لمثل تلك التوجُّهات؛ فترى أولئك منذرين نادمين على أرجاءِ حضارتهم الهابطة التي أوردتهم الموارد.
تقول إحدى كاتباتهم: "إنَّ الاختلاطَ الذي يألفُه الرجال قد طمعَت فيه المرأة بما يخالف فطرتَها، وهنا البلاء العظيم على المرأة ... إلى أن قالت: أما آن لنا أن نبحث عمَّا يخفِّف - إذا لم نقل: عمَّا يزيل - هذه المصائب؟!"، وتقول أخرى: "ألا ليتَ بلادَنا كبلاد المسلمين، فيها الحشمة والعفافُ والطَّهارة، تنعَم المرأة بأرغد عَيْش، تعمل كما يعمَل أولادُ البيت، ولا تُمسُّ الأعراض بسوء". انتهى.
ألا وقد استبان الأمرُ وانكشف الحال؛ فواجبُ مَنِ انبهر بهذه المبادئ الزائفة والشعارات المُرَونقَة - واجبهُ النظرُ المنصِف والتفكُّر الدقيق؛ ليعلم ما جرَّته تلك المفاهيمُ الزائفة من عواقبَ وخيمة على الفرد والمجتمع في كثيرٍ من العالم اليوم.
وإنّه لحريٌّ بالمسلمين التمسُّكُ بخصائصهم الدينيَّة والثقافية والاجتماعيَّة أمامَ طغيان الثقافات الأخرى ومفاهيمها في قضية المرأة وغيرها، وذلك باختيار الهَدْي الإلهيِّ ومبادئ التشريع الربَّانيِّ، وإظهار الاعتزاز بتلك الخصوصية وتطبيقها والالتزام بها، فذلك كافلٌ لها بموقع مشرِّفٍ في كلِّ المجالات وشتَّى الميادين.
الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر، ولله الحمد.
إخوةَ الإسلام:(/5)
جاء الإسلامُ والناسُ تموج بهم صراعاتُ الأجناس والألوانِ والطبقات، فأشرق نورُه، وجمع بين تلك المختلِفات على مبدأ المساواة بين النَّاس، لا تفاضُلَ فيه إلاَّ باعتبار التقوى التي تنطرِح معها كلَّ نزعةٍ عنصريَّة عصبيَّة أو قوميَّة، يقول المصطفى – صلَّى الله عليه وسلَّم - في خطابه التوعيديِّ: ((إن ربَّكم واحدٌ، وأباكم واحدٌ، كلّكم لآدمَ، وآدم من تراب، أكرمكم عند الله أتقاكم، لا فضلَ لعربيٍّ على عجميٍّ ولا لعجميٍّ على عربيٍّ، ولا لأحمر على أسود ولا لأسودَ على أحمر إلا بالتقوى))[6] .
فهل يستيقِن المسلمون اليوم أنَّ التَّفرُّقَ والتَّشرذُم الحاصِل والذلَّ والهوان الواقع إنما هو بسبب القوميَّات العرقيَّة والأحزاب الفكريَّة والمشارِب المتعدِّدة؟! فكم جرَّت على الأمَّة الإسلاميّة من ويلاتٍ وويلات، ودمَّرت مصالحَ ومقدَّرات، ونبيُّ الأمَّة – صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((ليس منَّا مَنْ دعا إلى عصبيَّة، أو قاتل على عصبيَّة، أو مات على عصبيَّة))[7] .
الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر، ولله الحمد.
معاشرَ المسلمين:
وفي ظلِّ هذا التشريع - فحقوق الإنسان وكرامتُه في الإسلام محفوظة مُصانة، ليست شعارًا عامّا فحسب؛ بل هي نظامٌ تشريعيٌّ داخلٌ في البناء العَقَديِّ والأخلاقيِّ والاجتماعيِّ.
قال أحد المنصفين من كبار القانونيّين بعد زيارةٍ لبلاد الحرمين حفظها الله، قال بصفتِه مسيحيًّا: "أعلنُ أنَّ حقوقَ الإنسان في القرآن بعد أن سمعتُها ورأيتُ الواقعَ في تطبيقها تتفوَّق بلا شكٍّ على ميثاق حقوق الإنسان". انتهى.(/6)
ومن هنا فما المبادئُ التي تدعو لحقوق الإنسان اليوم إلاَّ في الميزان المرجوح أمامَ نظرة الإسلام، ذلكم أنها مبادئ تقوم في غالب مفاهيمها على مصالح القويِّ، وإهدار الجانب الأخلاقيِّ، وإقصاء الدِّين عن الحياة والدَّعوة للحرية التي سيماها الانفلاتُ نحو الرَّذيلة والفساد، وفي محيط إهدار الفضائل والأخلاق بمقاييسَ عصريةٍ ماديةٍ تأباها الفِطَر الإنسانية والتَّشريعات الإلهية؛ بل إنّ هذه المبادئَ التي تدعو إليها هيئاتٌ ومؤسَّسات تتَّسِم باختلاف المفاهيم وازدواج المعايير عند الحكم والتقويم بحَسب المصالح المكانية والاختلافات البشرية والدينية، وإلاَّ فأينَ هي من حماية حقوق الأفراد في كثير من بقاع ديار المسلمين؟! وأين هي من حقوق بعض شعوب المؤمنين؟!
أيُّها المسلمون:
وتُختَم كلمات الوداع من نبيِّ الأمَّة – صلَّى الله عليه وسلَّم - وهو يفارقها بوَصيَّة تضمَن لها السعادة والرِّفعةَ والنصرَ والعزِّ، إنها وصيَّةُ الالتزام بالتمسُّك بالوحيَيْن والاعتصام بالهديَيْن، قال – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((تركتُ فيكم ما إن أخذتم به لن تضلُّوا بعدي: كتابَ الله))[8] . تمسُّكٌ بهما في شتَّى الجوانب، واعتصامٌ بهما في جميع الأحوال، عقيدةً وعملاً، شريعةً وتحاكمًا.
ألا فليكن التنظيمُ في حياة المسلمين على وفقهما، وليُنهَج في ديار المسلمين الإصلاحُ في ضوء مذهبهما، نظامُ حياةٍ كامل، ودستور إصلاح شامِل، فالتاريخ الإسلامي في المدِّ والجَزْر، والنَّصْر والهزيمة، والقوَّة والضَّعف - برهانٌ ساطعٌ على أنَّ العِزَّةَ والسؤدَد والرخاءَ والازدهار يكون للمسلمين يوم يكون أمرهم على الوحيَيْن وشؤونُهم وَفقَ الهديَيْن.
وفَّق الله المسلمين جميعًا للعمل بكتابه وتحكيم شريعته.
الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر، ولله الحمد.
الخطبة الثانية(/7)
الحمد لله حمدًا لا ينفد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الأحَد الصمد، وأشهد أنَّ سيِّدنا ونبيَّنا محمَّدًا عبده ورسوله أفضلُ من تعبَّد، اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومَنْ تعبَّد، أما بعد:
فأوصيكم - عبادَ الله - بتقوى الله، فإنها سعادةُ الأبرار وقوامُ حياةِ الأطهار، تمسَّكوا بوثائقها، واعتصموا بحقائقها.
الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر، ولله الحمد.
عبادَ الله، الأضحيةُ مشروعةٌ بأدلَّة الشَّريعة المتنوِّعة، فضلُها عظيم، وأجرُها كبير، تتأكَّد مشروعيتُها لمن كان غنيًّا وعلى ثمنِها مقتدِرًا، روى ابن ماجه بسند حسَن عن النبيِّ – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَنْ كان له سعةٌ ولم يُضحِّ؛ فلا يقربَنَّ مصلاَّنا))[9] .
والشاةُ تجزئ عن الرجُل وأهلِ بيته من الأمواتِ والأحياء.
ومَن كان عنده وصايا؛ وَجَبَ عليه تنفيذُها، سواءً بسواءً، حَسبَ المنصوص.
ولا يجزئ للأُضحِيَة إلاَّ ما كان سليمًا من العيوب، فلا تجزئ العوراءُ البيِّنُ عَوَرها، وهي ما نتأت عينُها أو انخسفت، ولا تجزئ العرجاءُ البيِّن ضَلْعُها، وهي التي لا تستطيع المشيَ مع السَّليمة، ولا تجزئ المريضةُ البيِّنُ مرضُها بحيث يظهرُ أثرٌ في أحوالها أو فساد لحمها، والعجفاء التي لا تُنقي، وهي الهزيلة التي لا مُخَّ فيها، ثبت ذلك عن المصطفى – صلَّى الله عليه وسلَّم - في حديث البراء[10]. وقال أهل العلم: ويلحق بهذه العيوب ما كان مثلَها أو أشدّ.
ولا بدَّ أن يكتمل السنُّ المعتبَر في الأضاحي؛ ففي الإبل ما تمَّ له خمسُ سنين، وفي البقر ما تمَّ له سنتان، وفي المَعْز سنةٌ، وفي الضَّأن نصفُها.(/8)
ووقتُ الأُضحية المعتبرَ من بعد صلاة العيد، والأفضلُ بعد انتهاء الخُطْبَة؛ فقد ثبت عن النبيِّ – صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّه صلَّى ثم خطب ثم نَحَر[11] . ويستمرُّ الذَّبحُ إلى آخر أيَّام التشريق، يوم العيد وثلاثة بعده. فكُلوا وتصدَّقوا واهْدوا.
والسنَّة - أيها المسلمون - أن يذبحَ المسلم الأضحيةَ إن كان محسِنًا للذبح، وإلاَّ فليشهَدْ ذبحَها.
إخوةَ الإيمان:
في الأعياد تُظهر الأمُم زينتَها، وتعلن سرورَها، وتسرِّي عن نفسها ما يصيبها من مشاقِّ الحياة ولأوائها، ومن هنا شُرع للمسلمين عيدُ الفطر والأضحى، لا عيدَ في الإسلام غيرهما، ينعَم فيهما المسلمون، ويبتهجون لهوًا طيِّبًا مباحًا، وتعبُّدًا صالحًا حميدًا، قال – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أيَّام التشريق أيَّامُ أكلٍ وشرب وذكرٍ لله تعالى))[12].
والحذَر الحذَر أن تكون الأعيادُ موسمًا يُعَبُّ فيه من اللهو عَبًّا، بلا تحرُّز من حرام أو تباعُد عن باطل، فذلك ينافي تعاليمَ الإسلام، ويضادُّ مقاصدَه من الأعياد وغيرها.
الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر، ولله الحمد.
أيُّها المسلمون:
أفضلُ ما لهجت به ألسنتُنا بعد ذكر الله الإكثارُ من الصَّلاة والسَّلام على النبيِّ المصطفى.
اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك نبيِّنا محمَّد، وارضَ اللهمَّ عنِ الخلفاء الرَّاشدين.
ــــــــــــــــــــــــ
[1] أخرج مسلم في العيدين (885) عن جابر رضي الله عنه قال: شهدت مع رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم - الصلاةَ يوم العيد، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة بغير أذان ولا إقامة، ثم قام متوكئا على بلال، فأمر بتقوى الله وحثّ على طاعته. الحديث.
[2] أخرجه البخاري في العلم (67)، ومسلم في القسامة (1679) عن أبي بكرة رضي الله عنه، وأخرجه البخاري في الحج (1739) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
[3] أخرجه مسلم في الحج (1218) عن جابر رضي الله عنه بنحوه.(/9)
[4] أخرجه ابن أبي شيبة (5/436)، والدارقطني (3/94) عن ابن عباس رضي الله عنهما، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1986)، وهو في السنن بمعناه. وله شاهد من حديث عمرو بن حزم رضي الله عنه، قال الحافظ في التلخيص (4/21): "رواه الطبراني وفي إسناده ضعف"، وقال الهيثمي في المجمع (6/286): "رواه الطبراني وفيه عمران بن أبي الفضل وهو ضعيف". تنبيه: لم أقف على ما يدلُّ أنه – صلَّى الله عليه وسلَّم - قال ذلك في خطبة الوداع، والله أعلم.
[5] أخرجه مسلم في الحج (1218) عن جابر رضي الله عنه.
[6] أخرجه أحمد (5/411) عن أبي نضرة عمن شهد خطبة النبي في وسط أيام التشريق بنحوه، وليس فيه: ((كلّكم لآدم، وآدم من تراب))، قال الهيثمي في المجمع (3/266): "رجاله رجال الصحيح"، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (2700). وأخرجه الطبراني في الأوسط (4749) عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري مرفوعا. وأخرجه أبو نعيم في الحلية (3/100)، والبيهقي في الشعب (4/289) عن أبي نضرة عن جابر رضي الله عنه مرفوعا، قال البيهقي: "في هذا الإسناد بعض من يجهل". وفي الباب عن غير واحد من الصحابة رضي الله عنهم.
[7] أخرجه أبو داود في الأدب (5121)، وابن عدي في الكامل (3/146) عن عبد الله بن أبي سليمان عن جبير بن مطعم رضي الله عنه، قال المنذري في المختصر (8/19): "قال أبو داود في رواية ابن العبد: هذا مرسل، عبد الله بن أبي سليمان لم يسمع من جبير. هذا آخر كلامه. وفي إسناده محمد بن عبد الرحمن المكي، قال أبو حاتم الرازي: مجهول"، ولذا ضعفه الألباني في غاية المرام (304). ويشهد له ما أخرجه مسلم في الإمارة (1848) عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا: ((ومن قتل تحت راية عمية يغضب للعصبة ويقاتل للعصبة فليس من أمتي)).
[8] أخرجه مسلم في الحج (1218) عن جابر رضي الله عنه.(/10)
[9] سنن ابن ماجه: كتاب الأضاحي، باب: الأضاحي واجبة هي أم لا؟ (3123) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه أيضا أحمد (2/321)، والدارقطني (4/285)، والبيهقي (9/260)، والحاكم (4/231-232)، وقد اختلف في رفعه ووقفه، قال البيهقي (9/260): "بلغني عن أبي عيسى الترمذي أنه قال: الصحيح عن أبي هريرة موقوفًا"، وممن رجح الوقف أيضًا المنذري في الترغيب (2/155)، وصححه الألباني في التعليقات الرضية (3/126) مرفوعا وموقوفا.
[10] أخرجه أحمد (4/284، 301)، والترمذي في الأضاحي، باب: ما لا يجوز من الأضاحي (1497)، وأبو داود في الضحايا (2802)، والنسائي في الضحايا، باب: العجفاء (4369، 4370، 4371)، وابن ماجه في الأضاحي، باب: ما يكره أن يضحى به (3144)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن الجارود (907)، وابن خزيمة (2912)، وابن حبان (5889)، والحاكم (1/467)، وهو مخرج في إرواء الغليل (1148).
[11] أخرجه البخاري في العيدين (985)، ومسلم في الأضاحي (1960) عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه.
[12] أخرجه مسلم في الصيام (1141) عن نبيشة الهذلي رضي الله عنه.(/11)
العنوان: عيد الألفية الثالثة
رقم المقالة: 1578
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
الحمد لله؛ هدانا للإسلام، وعلمنا القرآن، وشرع لنا صيام رمضان، وجعلنا من خير أمة أخرجت للناس، أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ لا يحدث شيء إلا بعلمه، ولا يكون إلا بأمره، ولا يخرج شيء عن إرادته، إن أراد الضر بعباده حاق بهم، وإن أراد لهم النفع نالهم {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَهُوَ القَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الحَكِيمُ الخَبِيرُ} [الأنعام: 17-18].
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ ختم الله - تعالى - به النبوات، فلا نبي بعده، وكتب الله – سبحانه - بقاء شريعته إلى يوم القيامة، فلا تزال طائفة من أمته على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله - تعالى - وهم على ذلك، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه؛ خير صحب وآل، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فأوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله عز وجل؛ فإن الأيام في تقارب، والأحداث في تسارع، وما تكاد سنة تبتدئ إلا وتنتهي، وكل ذلك مؤذنٌ بنهاية الدنيا واقتراب الآخرة، فاعملوا لها عملها. وإن أمامكم شهر التقوى؛ فيه تفتح أبواب الجنة، وتغلق أبواب النار، وتسلسل الشياطين، فهو فرصة لتجديد التوبة، ولزوم التقوى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].(/1)
أيها المؤمنون: سوف تشهدُ عشر رمضان المبارك هذا العام نهاية القرن الميلادي، الذي بنهايته تنتهي الألفية الميلادية الثانية لميلاد المسيح ابن مريم - عليه الصلاة والسلام - كما هو مثبت في تواريخ النصارى، وتنتهي الألفية اليهودية الثالثة لبناء مدينة القدس، وتأسيس مملكة إسرائيل الأولى.
ولذا فإن أهل الكتاب - اليهود والنصاري - يستعدون لنهاية هذا القرن الميلادي، وسوف يحتلفون بأعياده احتفالاً عظيمًا يفوق احتفالاتهم بأعيادهم كل عام.
وإذا كانت الأرضُ تعجُّ باحتفالات النصارى في كل رأس سنة ميلادية فكيف سيكون احتفالهم بنهاية القرن العشرين، ونهاية الألفية الميلادية الثانية؟!
إنه حدث ضخم تستعد له الأمم النصرانية بما يناسب حجمه وضخامته عندهم، وبوادرُ ذلك ظاهرةٌ فيما خصص لهذا الحدث من ميزانيات طائلة، وعروضٍ سياحية ضخمة، وتهيئةٍ إعلامية كبيرة، حتى إن كثيرًا من التجارات والصناعات صارت مرتبطة بهذا العيد النصراني، فشركات عملاقة علقت افتتاحها على أول يوم من عام ألفين، وصناعات عدة سُميت باسمه.
ومع بالغ الأسف فإن الزخم الإعلامي لهذا الحدث العظيم عند أهل الكتاب قد أزال عند كثير من المسلمين حساسيةَ المشاركة في أعيادهم، التي هي من جملة شعائرهم وشرائعهم ومناهجهم، حتى صار كثير من المسلمين يتشوقون لاحتفالات الألفية أكثر من شوقهم لرمضان وصيامه وقيامه!! وأضحى من الملحوظ أن أسواقًا تجارية يملكها مسلمون علقت عروضًا مغرية من تخفيضات وجوائز ومسابقات؛ احتفاءً بهذه الألفية اليهودية النصرانية، ووعدت أكثر محطات التلفزة العربية بتغطية احتفالاتها، فما شأننا وشأنُ هذه الاحتفالات الكفرية!! إنها عيدُهم وليست عيدًا لنا، فلماذا يريد كثير من المسلمين اتباع الكفار في أعيادهم التي هي من كفرهم؟!(/2)
إن هذه الألفية الميلادية وما يجري فيها من احتفالات ومراسم هي من صميم دين عبَّاد الصليب، فالمشاركةُ في احتفالاتها مشاركة في شعيرةٍ من شعائر دينهم، والفرحُ بها فرحٌ بشعائر الكفر وظهوره وعلوه، وذلك مناقض لعقيدة المسلم المبنيةِ على كراهةِ الكفر وشعائره، والبراءةِ منه ومن أهله.
إن علماء الإسلام متفقون على تحريم حضور أعياد الكفار والتشبه بهم فيها[1]، وأقوال الصحابة متضافرة على ذلك، قال عمر - رضي الله عنه -: "لا تعلموا رطانة الأعاجم ولا تدخلوا على المشركين في كنائسهم يوم عيدهم؛ فإن السخطة تنزل عليهم"[2]. وقال عبدالله بن عمرو - رضي الله عنهما -: "من بنى ببلاد الأعاجم، وصنع نيروزهم ومهرجانهم، وتشبه بهم حتى يموت وهو كذلك؛ حُشر معهم يوم القيامة"[3]. قال شيخ الإسلام: "وهذا يقتضي أنه جعله كافرًا بمشاركتهم في مجموعِ هذه الأمور، أو جَعَل ذلك من الكبائر الموجبة للنار، وإن كان الأول ظاهر لفظه"[4].
وقال أيضًا: "لا يحل للمسلمين أن يتشبهوا بهم في شيء مما يختص بأعيادهم، لا من طعام ولا لباس ولا اغتسال ولا إيقاد نيران ولا تبطيل عادة من معيشةٍ أو عبادةٍ أو غير ذلك، ولا يحلُّ فعلُ وليمةٍ ولا الإهداءُ ولا البيعُ بما يستعان به على ذلك لأجل ذلك، ولا تمكينُ الصبيان ونحوهم من اللعب الذي في الأعياد ولا إظهارُ الزينة، وبالجملة: ليس لهم أن يخصوا أعيادهم بشيء من شعائرهم؛ بل يكون يومُ عيدهم عند المسلمين كسائر الأيام" اهـ[5].
وبناءً على ذلك فإنه يجبُ على المسلم أن تكون أيام هذه الاحتفالات بالألفية كسائر الأيام، لا يخصها باحتفالٍ ولا زينة، ولا تعلق التجارات عليها، ويحرم على التجار أن يربطوا تخفيضات السلع بها، أو يعلقوا افتتاح محلاتهم عليها؛ لأن فعل ذلك فيه نوع مشاركة في هذه الأعياد النصرانية، وللمسلمين ما يخصهم من الأعياد، وليسوا محتاجين إلى أن يتسولوا أعياد الآخرين، ويشاركوهم فيها.(/3)
قال الحافظ الذهبي - رحمه الله تعالى -: "فإذا كان للنصارى عيدٌ ولليهود عيدٌ كانوا مختصين به فلا يشركهم فيها مسلم، كما لا يشاركهم في شرعتهم ولا قبلتهم"[6].
بل حتى الركوب في المراكب، التي يركبها الكفار لحضور أعيادهم، ينهى المسلم عن ركوبها فقد قال مالك - رحمه الله تعالى -: "يكره الركوب معهم في السفن، التي يركبونها لأجل أعيادهم؛ لنزول السخطة واللعنة عليهم"[7]. فإذا كان ينهى عن ذلك فكيف إذًا بمشاركتهم أو التشبه بهم فيها؟! لا شك أن ذلك أكثر خطرًا وضررًا. وقد أفتى كبارُ العلماء في هذه البلاد المباركة بحرمة مشاركة أهل الكتاب في الاحتفال بألفيتهم، أو تهنئتهم بها، أو الإهداء لهم بمناسبتها، أو إشهارها وإعلانها، أو الدعوة إليها بأي وسيلة سواء كانت الدعوة إليها عن طريق وسائل الإعلام، أو نصبِ الساعاتِ، واللوحاتِ الرقمية، أو صناعة الملابس والأغراض التذكارية، أو طبع البطاقات أو الكراساتِ المدرسية، أو عمل التخفيضات التجارية والجوائز المادية من أجلها، أو الأنشطة الرياضية، أو نشر شعار خاص بها[8].
كل ذلك وغيره مما يرتبط بهذه الألفية لا يجوز لمسلمٍ أن يكون له فيه مشاركة؛ سلامة لدينه، ومخالفة لأهل الكفر في كفرهم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [المائدة: 48].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثانية(/4)
الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله - تعالى - أيها المسلمون واستمسكوا بدينكم؛ فإن أعظمَ نعمة أنعم الله – سبحانه - بها على المسلمين أن هداهم للإسلام وقد ضل عنه جموع من البشر لا يعلم عددهم إلا الله تعالى.
أيها المؤمنون: إنها لمفارقة عجيبة، ومقارنة بعيدة بين حال أهل الإسلام المستمسكين بدينهم، وبين حال المغضوب عليهم والضالين، ومن تبعهم في إفكهم وضلالهم.
إن النصارى وهم ينتظرون العيد الألفي، قد أنفق كثير منهم أموالاً طائلة من أجل حجز موقعه في بيت لحم في فلسطين المحتلة، حيث بلد عيسى - عليه السلام - وسيتجشمون صعوباتٍ بالغة، وسفرًا بعيدًا من أجل الوصول إليها من جميع أنحاء الغرب النصراني؛ لإحياء قُداس ليلة العيد الألفي فيها، ويظنون أنهم بذلك يتقربون إلى الله - تعالى - وينالون رضاه، وهم في الكفر يرتكسون، وفي الضلال يرتمسون، وأموالهم ينفقونها ثم تكون عليهم حسرة يوم القيامة. وهم مع ذلك يحسبون أنهم على صواب، وهم مخطئون ضالون عن طريق الحق والهداية {ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 104].
وبينما أهل الكتاب يقيمون شعائر الكفر، ظانين قُربَهم من الله - تعالى - وهم عن رضاه بُعداء؛ فإن أهل الإسلام المستمسكين بدينهم في مساجدهم يصلون ويقنتون، ويركعون لله - عز وجل - ويسجدون، ويسألون الله - تعالى - من فضله، ويعوذون به من غضبه، وذلك في قيام العشر الأخيرة من رمضان؛ فيرضى ربُّهم صنيعهم، ويباهي بهم ملائكته، ويغفر لمن قَبِلَهُ منهم.(/5)
الله أكبر، عمل قليل يعملُه المسلمون فيُرضي الله - عز وجل - لأنه كان موافقًا لما يحبه الله - تعالى - ويرضاه، وأما أهل الكتاب فيعملون عملاً كثيرًا، ويقطعون سفرًا بعيدًا، ويبذلون أموالاً طائلة، فلا يقبل منهم؛ لأن أعمالهم وافقت ما يحبه الشيطان ويرضاه من الكفر والعصيان، فاشكروا الله - عزَّ وجلَّ - على نعمة الإسلام؛ فإنها والله أعظم نعمه، وأكبر منة من ذي الجلال والإكرام.
ألا وإن من أبين علاماتِ الشكر: الاستمساك بالإسلام، والدعوة إليه، والحذر مما يخلُّ به، ولا يغرنكم بهرجُ الذين كفروا ولو غطى الأرض كلها، فلا يحق إلا الحق، ولا يبقى إلا الصحيح، ويوم الحساب سيجد كل عبدٍ ما عمل {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي البِلَادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المِهَادُ * لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ} [آل عمران: 196-198]. {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء: 227] {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآَخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85].
ألا وصلوا وسلموا على خير خلق الله - تعالى - كما أمركم بذلك ربكم.
---
[1] انظر: "اقتضاء الصراط المستقيم" (2/534) و"أحكام أهل الذمة" لابن القيم (2/722-725)، وقد نقل شيخ الإسلام إجماع الصحابة والتابعين على ذلك في "الاقتضاء" (1/454).
[2] أخرجه عبدالرزاق في "مصنفه" (1609) والبيهقي في "السنن الكبرى" (9/234).
[3] أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" (9/234) وصححه ابن تيمية في "الاقتضاء" (1/457).
[4] "اقتضاء الصراط المستقيم" (1/459).
[5] مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (25/329).(/6)
[6] تشبه الخسيس بأهل الخميس ضمن مجلة الحكمة عدد (4) ص (139).
[7] "اللمع في الحوادث والبدع" لابن التركماني (1/294)، ونقل نحوه شيخ الإسلام عن ابن القاسم المالكي كما في "الاقتضاء" (2/526).
[8] جاء ذلك في فتوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بمناسبة هذه الألفية.(/7)
العنوان: عيد الحب
رقم المقالة: 1896
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
قصته، شعائره، حكمه
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى اختار لنا الإسلام دينا كما قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإِسْلَامُ} [آل عمران:19] ولن يقبل الله تعالى من أحد دينا سواه كما قال تعالى {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآَخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ} [آل عمران:85] وقال النبي صلى الله عليه وسلم (والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار)[1].
وجميع الأديان الموجودة في هذا العصر سوى دين الإسلام أديان باطلة لا تقرب إلى الله تعالى، بل إنها لا تزيد العبد إلا بعدا منه سبحانه وتعالى بحسب ما فيها من ضلال.
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن فئاما من أمته سيتبعون أعداء الله تعالى في بعض شعائرهم وعاداتهم، وذلك في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم، قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى، قال: فمن؟!)[2] وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل مثلا بمثل حذو النعل بالنعل حتى لو كان فيهم من نكح أمه علانية كان في أمتي مثله)[3].(/1)
وقد وقع ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم وانتشر في الأزمنة الأخيرة في كثير من البلاد الإسلامية إذ اتبع كثير من المسلمين أعداء الله تعالى في كثير من عاداتهم وسلوكياتهم وقلدوهم في بعض شعائرهم، واحتفلوا بأعيادهم.
وكان ذلك نتيجة للفتح المادي، والتطور العمراني الذي فتح الله به على البشرية، وكان قصب السبق فيه في الأزمنة المتأخرة للبلاد الغربية النصرانية العلمانية، مما كان سببا في افتتان كثير من المسلمين بذلك لا سيما مع ضعف الديانة في القلوب، وفشو الجهل بأحكام الشريعة بين الناس.
وزاد الأمر سوءاً الانفتاح الإعلامي بين كافة الشعوب حتى غدت شعائر الكفار وعاداتهم تنقل مزخرفة مبهرجة بالصوت والصورة الحية من بلادهم إلى بلاد المسلمين عبر الفضائيات والشبكة العالمية -الانترنت- فاغتر بزخرفها كثير من المسلمين.
وفي السنوات الأخيرة انتشرت ظاهرة بين كثير من شباب المسلمين -ذكورا وإناثا- لا تبشر بخير، تمثلت في تقليدهم للنصارى في الاحتفال بعيد الحب؛ مما كان داعيا لأولي العلم والدعوة أن يبينوا شريعة الله تعالى في ذلك؛ نصيحة لله ورسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم؛ حتى يكون المسلم على بينة من أمره؛ ولئلا يقع فيما يخل بعقيدته التي أنعم الله تعالى بها عليه.
وهذا عرض مختصر لأصل هذا العيد ونشأته والمقصود منه، وما يجب على المسلم تجاهه.
قصة عيد الحب:
يعد عيد الحب من أعياد الرومان الوثنيين؛ إذ كانت الوثنية سائدة عند الرومان قبل ما يزيد على سبعة عشر قرنا. وهو تعبير في المفهوم الوثني الروماني عن الحب الإلهي.(/2)
ولهذا العيد الوثني أساطير استمرت عند الرومان، وعند ورثتهم من النصارى، ومن أشهر هذه الأساطير: أن الرومان كانوا يعتقدون أن (رومليوس) مؤسس مدينة (روما) أرضعته ذات يوم ذئبة فأمدته بالقوة ورجاحة الفكر، فكان الرومان يحتفلون بهذه الحادثة في منتصف شهر فبراير من كل عام احتفالا كبيرا وكان من مراسيم احتفالهم: أن يذبح فيه كلب وعنزة، ويدهن شابان مفتولا العضلات جسميهما بدم الكلب والعنزة، ثم يغسلان الدم باللبن، وبعد ذلك يسير موكب عظيم يكون الشابان في مقدمته يطوف الطرقات، ومع الشابين قطعتان من الجلد يلطخان بهما كل من صادفهما، وكان النساء الروميات يتعرضن لتلك اللطخات مرحبات؛ لاعتقادهن بأنها تمنع العقم وتشفيه.
علاقة القديس فالنتين بهذا العيد:
(القديس فالنتين) اسم التصق باثنين من قدامى ضحايا الكنيسة النصرانية قيل: انهما اثنان، وقيل: بل هو واحد توفي في روما إثر تعذيب القائد القوطي (كلوديوس) له حوالي عام 296م. وبنيت كنيسة في روما في المكان الذي توفي فيه عام 350م تخليدا لذكره.
ولما اعتنق الرومان النصرانية ابقوا على الاحتفال بعيد الحب السابق ذكره لكن نقلوه من مفهومه الوثني (الحب الإلهي) إلى مفهوم آخر يعبر عنه بشهداء الحب، ممثلا في القديس فالنتين الداعية إلى الحب والسلام الذي استشهد في سبيل ذلك حسب زعمهم. وسمي أيضا (عيد العشاق) واعتبر (القديس فالنتين) شفيع العشاق وراعيهم.
وكان من اعتقاداتهم الباطلة في هذا العيد: أن تكتب أسماء الفتيات اللاتي في سن الزواج في لفافات صغيرة من الورق وتوضع في طبق على منضدة، ويدعى الشبان الذين يرغبون في الزواج ليخرج كل منهم ورقة، فيضع نفسه في خدمة صاحبة الاسم المكتوب لمدة عام يختبر كل منهما خلق الآخر، ثم يتزوجان، أو يعيدان الكرة في العام التالي يوم العيد أيضا.(/3)
وقد ثار رجال الدين النصراني على هذا التقليد، واعتبروه مفسدا لأخلاق الشباب والشابات فتم إبطاله في إيطاليا التي كان مشهورا فيها؛ لأنها مدينة الرومان المقدسة، ثم صارت معقلا من معاقل النصارى. ولا يعلم على وجه التحديد متى تم إحياؤه من جديد. فالروايات النصرانية في ذلك مختلفة، لكن تذكر بعض المصادر أن الإنجليز كانوا يحتفلون به منذ القرن الخامس عشر الميلادي. وفي القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين انتشرت في بعض البلاد الغربية محلات تبيع كتبا صغيرة تسمى(كتاب الفالنتين) فيها بعض الأشعار الغرامية ليختار منها من أراد أن يرسل إلى محبوبته بطاقة تهنئة وفيها مقترحات حول كيفية كتابة الرسائل الغرامية والعاطفية.
أسطورة ثانية:
تتلخص هذه الأسطورة في أن الرومان كانوا أيام وثنيتهم يحتفلون بعيد يدعى (عيد لوبركيليا) وهو العيد الوثني المذكور في الأسطورة السابقة، وكانوا يقدمون فيه القرابين لمعبوداتهم من دون الله تعالى، ويعتقدون أن هذه الأوثان تحميهم من السوء، وتحمي مراعيهم من الذئاب.
فلما دخل الرومان في النصرانية بعد ظهورها، وحكم الرومان الإمبراطور الروماني (كلوديوس الثاني) في القرن الثالث الميلادي منع جنوده من الزواج؛ لأن الزواج يشغلهم عن الحروب التي كان يخوضها، فتصدى لهذا القرار (القديس فالنتين) وصار يجري عقود الزواج للجند سرا، فعلم الإمبراطور بذلك فزج به في السجن، وحكم عليه بالإعدام.
أسطورة ثالثة:
تتلخص هذه الأسطورة في أن الإمبراطور المذكور سابقا كان وثنيا وكان (فالنتين) من دعاة النصرانية وحاول الإمبراطور إخراجه منها ليكون على الدين الوثني الروماني، لكنه ثبت على دينه النصراني وأعدم في سبيل ذلك في 14 فبراير عام 270م ليلة العيد الوثني الروماني (لوبركيليا).(/4)
فلما دخل الرومان في النصرانية أبقوا على العيد الوثني (لوبركيليا) لكنهم ربطوه بيوم إعدام (فالنتين) إحياء لذكراه؛ لأنه مات في سبيل الثبات على النصرانية كما في هذه الأسطورة، أو مات في سبيل رعاية المحبين وتزويجهم على ما تقتضيه الأسطورة الثانية.
شعائرهم في هذا العيد:
1- إظهار البهجة والسرور فيه كحالهم في الأعياد المهمة الأخرى.
2- تبادل الورود الحمراء؛ وذلك تعبيرا عن الحب الذي كان عند الرومان حبا إلهيا وثنيا لمعبوداتهم من دون الله تعالى، وعند النصارى عشقا بين الحبيب ومحبوبته؛ ولذلك سمي عندهم بعيد العشاق.
3- توزيع بطاقات التهنئة به، وفي بعضها صورة (كيوبيد) وهو طفل له جناحان يحمل قوسا ونشابا. وهو إله الحب عند الأمة الرومانية الوثنية. تعالى الله عن إفكهم وشركهم علوا كبيرا.
4- تبادل كلمات الحب والعشق والغرام في بطاقات التهنئة المتبادلة بينهم عن طريق الشعر أو النثر أو الجمل القصيرة، وفي بعض بطاقات التهنئة صور ضاحكة وأقوال هزلية، وكثيرا ما كان يكتب فيها عبارة (كن فالنتنيا) وهذا يمثل المفهوم النصراني له بعد انتقاله من المفهوم الوثني.
5- تقام في كثير من الأقطار النصرانية حفلات نهارية وسهرات ليلية مختلطة راقصة، ويرسل كثير منهم هدايا منها: الورود وصناديق الشوكولاته إلى أزواجهم وأصدقائهم ومن يحبونهم.
الغرض من العرض السابق:(/5)
ليست الأساطير المعروضة آنفا حول هذا العيد ورمزه (القديس فالنتين) مما يهم العاقل فضلا عن مسلم يوحد الله تعالى؛ لأن الأساطير الوثنية عند الأمتين الرومانية والنصرانية كثيرة جدا كما هو ظاهر لكل مطلع على كتبهم وتواريخهم، لكن هذا العرض السابق لبعض هذه الأساطير مقصود لبيان حقيقة هذا العيد لمن اغتر به من جهلة المسلمين، فصاروا يحتفلون به تقليدا للأمة الضالة -النصرانية- حتى غدا كثير من المسلمين -مع الأسف- يخلط بين الآلة والأسطورة، والعقل والخرافة، ويأخذ كل ما جاء من الغرب النصراني العلماني ولو كان أسطورة مسطورة في كتبهم، أو خرافة حكاها رهبانهم. وبلغ من جهل بعض من ينتسبون للإسلام أن دعونا إلى لزوم أخذ أساطير النصارى وخرافاتهم ما دمنا قد أخذنا سياراتهم وطياراتهم وصناعاتهم. وهذا من الثمرات السيئة للتغريب والتقليد، الذي لا يميز صاحبه بين ما ينفعه وما يضره. وهو دليل على تعطيل العقل الذي كرم الله تعالى به الإنسان على سائر الحيوان، وعلى مخالفة الديانة التي تشرف المسلم بالتزامها والدعوة إليها، كما هو دليل على الذوبان في الآخر -الكافر- والانغماس في مستنقعاته الكفرية، وفقدان الشخصية والاستقلالية، وهو عنوان الهزيمة النفسية، والولع في اتباع الغالب ماديا في خيره وشره وحلوه ومره، وما يمدح من حضارته وما يعاب منها، دون تفريق ولا تمييز، كما ينادي بذلك كثير من العلمانيين المنهزمين مع أنفسهم، الخائنين لأمتهم.
ومن نظر إلى ما سبق عرضه من أساطير حول هذا العيد الوثني يتضح له ما يلي:(/6)
أولاً: أن أصله عقيدة وثنية عند الرومان، يعبر عنها بالحب الإلهي للوثن الذي عبدوه من دون الله تعالى. فمن احتفل به فهو يحتفل بمناسبة تعظم فيها الأوثان وتعبد من دون من يستحق العبادة وهو الخالق سبحانه وتعالى، الذي حذرنا من الشرك ومن الطرق المفضية إليه فقال تعالى مخاطبا الرسول صلى الله عليه وسلم {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ} [الزُّمر:65] وقضى سبحانه بأن من مات على الشرك الأكبر لا يجد ريح الجنة، بل هو مخلد في النار أبدا كما قال الله تعالى {إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء:116]. وقال تعالى على لسان عيسى عليه السلام أنه قال لقومه {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة:72] فالواجب الحذر من الشرك ومما يؤدي إليه.
ثانياً: أن نشأة هذا العيد عند الرومان مرتبطة بأساطير وخرافات لا يقبلها العقل السوي فضلا عن عقل مسلم يؤمن بالله تعالى وبرسله عليهم السلام.
فهل يقبل العقل السوي أن ذئبة أرضعت مؤسس مدينة روما وأمدته بالقوة ورجاحة الفكر، على ما في هذه الأسطورة مما يخالف عقيدة المسلم؛ لأن الذي يمد بالقوة ورجاحة الفكر هو الخالق سبحانه وتعالى وليس لبن ذئبة!!
وكذلك الأسطورة الأخرى التي جاء فيها أن الرومان يقدمون في هذا العيد القرابين لأوثانهم التي يعبدونها من دون الله تعالى اعتقادا منهم أن هذه أوثان ترد السوء عنهم وتحمي مراعيهم من الذئاب. فهذا لا يقبله عقل سوي يعلم أن الأوثان لا تضر ولا تنفع علاوة على ما فيه من الشرك الأكبر.(/7)
فكيف يقبل عاقل على نفسه أن يحتفل بعيد ارتبط بهذه الأساطير والخرافات فضلا عن مسلم منَّ الله تعالى عليه بدين كامل, وعقيدة صحيحة؟!
ثالثاً: أن من الشعائر البشعة لهذا العيد عند الرومان ذبح كلب وعنزة ودهن شابين بدم الكلب والعنزة ثم غسل الدم باللبن…الخ، فهذا الفعل مما تنفر منه الفطر السوية، ولا تقبله العقول الصحيحة.
فكيف يحتفل من رزقه الله تعالى فطرة سوية، وأعطاه عقلا صحيحا، وهداه لدين حق، يحتفل بعيد كانت تمارس فيه هذه الممارسات البشعة؟!
رابعاً: أن ارتباط القديس (فالنتين) بهذا العيد ارتباط مختلف فيه وفي سببه وقصته، بل إن بعض المصادر تشكك أصلا في هذا القديس وتعتبره أسطورة لا حقيقة لها. وكان الأجدر بالنصارى رفض هذا العيد الوثني الذي تبعوا فيه الأمة الرومانية الوثنية، لا سيما وأن ارتباطه بقديس من قديسيهم أمر مشكوك فيه!! فإذا عيب ذلك على النصارى الذين بدلوا دينهم وحرفوا كتبهم، فمن الأولى والآكد أن يعاب على المسلم إذا احتفل به. ثم لو ثبت أن هذا العيد كان بمناسبة إعدام القديس فالنتين بسبب ثباته على النصرانية، فما لنا وله، وما علاقة المسلمين بذلك؟!
خامساً: أن رجال الدين النصراني قد ثاروا على ما سببه هذا العيد من إفساد لأخلاق الشباب والشابات فتم إبطاله في إيطاليا معقل النصارى الكاثوليك. ثم أعيد بعد ذلك وانتشر في البلاد الأوربية، ومنها انتقل إلى كثير من بلاد المسلمين. فإذا كان أئمة النصارى قد أنكروه في وقتهم لما سببه من فساد لشعوبهم وهم ضالون فان الواجب على أولي العلم من المسلمين بيان حقيقته، وحكم الاحتفال به، كما يجب على عموم المسلمين إنكاره وعدم قبوله، والإنكار على من احتفل به أو نقله من النصارى إلى المسلمين وأظهره في بلاد الإسلام. وذلك يحتمه واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتواصي بالحق؛ إذ بيان الباطل وفضحه، والنهي عنه وإنكاره مما يجب على عموم المسلمين كل حسب وسعه وطاقته.(/8)
لماذا لا نحتفل بهذا العيد؟!
كثير ممن يحتفلون بهذا العيد من المسلمين لا يؤمنون بالأساطير والخرافات المنسوجة حوله سواء ما كان منها عند الرومان أم ما كان عند النصارى، وأكثر من يحتفلون به من المسلمين لا يعلمون عن هذه الأساطير شيئا، وإنما دفعهم إلى هذا الاحتفال تقليد لغيرهم أو شهوات ينالونها من جراء ذلك.
وقد يقول بعض من يحتفل به من المسلمين: إن الإسلام دعا إلى المحبة والسلام، وعيد الحب مناسبة لنشر المحبة بين المسلمين فما المانع من الاحتفال به؟!
وللإجابة على ذلك أوجه عدة منها:
الوجه الأول: أن الأعياد في الإسلام عبادات تقرب إلى الله تعالى وهي من الشعائر الدينية العظيمة، وليس في الإسلام ما يطلق عليه عيد إلا عيد الجمعة الأسبوعي وعيد الفطر وعيد الأضحى. والعبادات توقيفية، فليس لأحد من الناس أن يضع عيداً لم يشرعه الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم. وبناء عليه فان الاحتفال بعيد الحب أو بغيره من الأعياد المحدثة يعد ابتداعا في الدين وزيادة في الشريعة، واستدراكا على الشارع سبحانه وتعالى.
الوجه الثاني: أن الاحتفال بعيد الحب فيه تشبه بالرومان الوثنيين ثم بالنصارى الكتابيين فيما قلدوا فيه الرومان وليس هو من دينهم. وإذا كان يمنع من التشبه بالنصارى فيما هو من دينهم حقيقة إذا لم يكن من ديننا فكيف بما أحدثوه في دينهم، وقلدوا فيه عباد الأوثان!!
وعموم التشبه بالكفار -وثنيين كانوا أم كتابيين- محرم، سواء كان التشبه بهم في عقائدهم وعباداتهم -وهو أشد خطرا- أم فيما اختصوا به من عباداتهم وأخلاقهم وسلوكياتهم كما قرر ذلك علماء الإسلام استمدادا من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة رضي الله عنهم:(/9)
1- فمن القرآن قول الله تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:105] وقال تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16] فالله تعالى حذر المؤمنين من سلوك مسلك أهل الكتاب -اليهود والنصارى- الذين غيروا دينهم، وحرفوا كتبهم، وابتدعوا ما لم يشرع لهم، وتركوا ما أمرهم الله تعالى به.
2- ومن السنة قول النبي صلى الله عليه وسلم (من تشبه بقوم فهو منهم)[4] قال شيخ الإسلام:هذا الحديث أقل أحواله أن يقتضي تحريم التشبه بهم وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم كما في قوله تعالى {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51][5] وقال الصنعاني:فإذا تشبه بالكافر في زي واعتقد أن يكون بذلك مثله كفر، فان لم يعتقد ففيه خلاف بين الفقهاء: منهم من قال: يكفر، وهو ظاهر الحديث، ومنهم من قال: لا يكفر ولكن يؤدب[6].
3- وأما الإجماع فقد نقل ابن تيمية أنه منعقد على حرمة التشبه بالكفار في أعيادهم في وقت الصحابة رضي الله عنهم، كما نقل ابن القيم إجماع العلماء على ذلك[7].
والتشبه بالكفار فيما هو من دينهم -كعيد الحب- أخطر من التشبه بهم في أزيائهم أو عاداتهم أو سلوكياتهم؛ لأن دينهم إما مخترع وإما محرف، وما لم يحرف منه فمنسوخ، فلا شيء منه يقرب إلى الله تعالى، فإذا كان الأمر كذلك فان الاحتفال بعيد الحب تشبه بعباد الأوثان -الرومان- في عباداتهم للأوثان، ثم بأهل الكتاب في أسطورة حول قديس عظموه وغلوا فيه، وصرفوا له ما لا يجوز صرفه للبشر بأن جعلوا له عيدا يحتفلون به.(/10)
الوجه الثالث: أن المقصود من عيد الحب في هذا الزمن إشاعة المحبة بين الناس كلهم مؤمنهم وكافرهم وهذا مما يخالف دين الإسلام؛ فإن للكافر على المسلم العدل معه، وعدم ظلمه، كما أن له إن لم يكن حربيا ولم يظاهر الحربيين البر من المسلم إن كان ذا رحم عملا بقوله تعالى {لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ} [الممتحنة:8]. ولا يلزم من القسط مع الكافر وبره صرف المحبة والمودة له، بل الواجب كراهيته في الله تعالى لتلبسه بالكفر الذي لا يرضاه الله سبحانه كما قال تعالى {وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الكُفْرَ} [الزُّمر:7].
وقد أوجب الله تعالى عدم مودة الكافر في قوله سبحانه {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة:22] قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:فأخبر سبحانه أنه لا يوجد مؤمن يواد كافرًا، فمن واد الكفار فليس بمؤمن، والمشابهة الظاهرة مظنة المودة فتكون محرمة[8]. وقال أيضا:المشابهة تورث المودة والمحبة والموالاة في الباطن كما أن المحبة في الباطن تورث المشابهة في الظاهر[9].
ولا يمكن أن تجتمع محبة الله تعالى ومحبة ما يحبه مع محبة الكفر وأهله في قلب واحد، فمن أحب الله تعالى كره الكفر وأهله.
الوجه الرابع: أن المحبة المقصودة في هذا العيد منذ أن أحياه النصارى هي محبة العشق والغرام خارج إطار الزوجية. ونتيجتها: انتشار الزنا والفواحش؛ ولذلك حاربه رجال الدين النصراني في وقت من الأوقات وأبطلوه، ثم أعيد مرة أخرى.(/11)
وأكثر شباب المسلمين يحتفلون به لأجل الشهوات التي يحققها وليس اعتقادا بخرافات الرومان والنصارى فيه. ولكن ذلك لا ينفي عنهم صفة التشبه بالكفار في شيء من دينهم. وهذا فيه من الخطر على عقيدة المسلم ما فيه، وقد يوصل صاحبه إلى الكفر إذا توافرت شروطه وانتفت موانعه.
ولا يجوز لمسلم أن يبني علاقات غرامية مع امرأة لا تحل له، وذلك بوابة الزنا الذي هو كبيرة من كبائر الذنوب.
فمن احتفل بعيد الحب من شباب المسلمين، وكان قصده تحصيل بعض الشهوات، أو إقامة علاقات مع امرأة لا تحل له، فقد قصد كبيرة من كبائر الذنوب، واتخذ وسيلة في الوصول إليها ما يعتبره العلماء كفرا وهو التشبه بالكفار في شعيرة من شعائرهم.
موقف المسلم من عيد الحب:
مما سبق عرضه في بيان أصل هذا العيد، وقصته، والمقصود منه فإنه يمكن تلخيص ما يجب على المسلم تجاهه في الآتي:
أولاً: عدم الاحتفال به، أو مشاركة المحتفلين به في احتفالهم، أو الحضور معهم؛ لما سبق عرضه من الأدلة الدالة على تحريم الاحتفال بأعياد الكفار. قال الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى:فإذا كان للنصارى عيد ولليهود عيد كانوا مختصين به فلا يشركهم فيه مسلم كما لا يشاركهم في شرعتهم ولا قبلتهم[10].(/12)
ثانياً: عدم إعانة الكفار على احتفالهم به بإهداء أو طبع أدوات العيد وشعاراته أو إعارة؛ لأنه شعيرة من شعائر الكفر، فإعانتهم عليه إعانة على ظهور الكفر وعلوه، وإقرارهم له إقرار بالكفر وشعائره. والمسلم يمنعه دينه من إقرار الكفر والإعانة على ظهوره وعلوه. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:لا يحل للمسلمين أن يتشبهوا بهم في شيء مما يختص بأعيادهم لا من طعام ولا لباس ولا اغتسال ولا إيقاد نيران ولا تبطيل عادة من معيشة أو عبادة أو غير ذلك. ولا يحل فعل وليمة ولا الإهداء ولا البيع بما يستعان به على ذلك لأجل ذلك، ولا تمكين الصبيان ونحوهم من اللعب الذي في الأعياد ولا إظهار الزينة. وبالجملة: ليس لهم أن يخصوا أعيادهم بشيء من شعائرهم، بل يكون يوم عيدهم عند المسلمين كسائر الأيام[11].
وقال ابن التركماني: فيأثم المسلم بمجالسته لهم وبإعانته لهم بذبح وطبخ وإعارة دابة يركبونها لمواسمهم وأعيادهم[12].
ثالثاً: عدم إعانة من احتفل به من المسلمين، بل الواجب الإنكار عليهم؛ لأن احتفال المسلمين بأعياد الكفار منكر يجب إنكاره. قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى:وكما لا نتشبه بهم في الأعياد، فلا يعان المسلم المتشبه بهم في ذلك، بل ينهى عن ذلك. فمن صنع دعوة مخالفة للعادة في أعيادهم لم تُجَب دعوته، ومن أهدى من المسلمين هدية في هذه الأعياد مخالفة للعادة في سائر الأوقات غير هذا العيد لم تُقبل هديته خصوصا إن كانت الهدية مما يستعان بها على التشبه بهم كما ذكرناه، ولا يبيع المسلم ما يستعين به المسلمون على مشابهتهم في العيد من الطعام واللباس ونحو ذلك؛ لأن في ذلك إعانة على المنكر[13].(/13)
وبناءا على ما قرره شيخ الإسلام رحمه الله تعالى فإنه لا يجوز للتجار المسلمين أن يتاجروا بهدايا عيد الحب من لباس معين أو ورود حمراء أو غير ذلك؛ لأن المتاجرة بها إعانة على المنكر الذي لا يرضاه الله تعالى، ولا رسوله صلى الله عليه وسلم. كما لا يحل لمن أهديت له هدية هذا العيد أن يقبلها؛ لأن في قبولها إقرارا لهذا العيد.
رابعاً: عدم تبادل التهاني بعيد الحب؛ لأنه ليس عيدًا للمسلمين، وإذا هنئ المسلم به فلا يرد التهنئة. قال ابن القيم رحم الله تعالى:وأما التهنئة بشعائر الكفر المختصة به فحرام بالاتفاق مثل أن يهنئهم بأعيادهم وصومهم فيقول: عيد مبارك عليك، أو تهنأ بهذا العيد ونحوه، فهذا إن سلم قائله من الكفر فهو من المحرمات، وهو بمنزلة أن يهنئه بسجوده للصليب. بل ذلك أعظم عند الله وأشد مقتا من التهنئة بشرب الخمر، وقتل النفس، وارتكاب الفرج الحرام ونحوه. وكثير ممن لا قدر للدين عنده يقع في ذلك وهو لا يدري قبح ما فعل، فمن هنأ عبدا بمعصية أو بدعة أو كفر فقد تعرض لمقت الله وسخطه[14].
خامساً: توضيح حقيقة هذا العيد وأمثاله من أعياد الكفار لمن اغتر بها من المسلمين، وبيان ضرورة تميز المسلم بدينه والمحافظة على عقيدته مما يخل بها، وتذكيره بمخاطر التشبه بالكفار في شعائرهم الدينية كالأعياد أو بما اختصوا به من العادات والسلوكيات؛ نصحا للأمة، وأداء لواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي بإقامته صلاح العباد والبلاد، وحلول الخيرات، وارتفاع العقوبات كما قال تعالى {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود:117].
أسأل الله تعالى أن يحفظ المسلمين من مضلات الفتن، وأن يقيهم شرور أنفسهم، ومكر أعدائهم. إنه سميع مجيب. وصلى الله وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
ـــــــــــــــــــــــــ
[1] رواه مسلم (153).
[2] رواه البخاري (3269) ومسلم (2669).(/14)
[3] رواه الحاكم 1/129.
[4] رواه أحمد 2/50 وأبو داود (4021).
[5] الاقتضاء 1/314.
[6] سبل السلام 8/248.
[7] الاقتضاء 1/454 وأحكام أهل الذمة 2/722-725.
[8] الاقتضاء 1/490.
[9] الاقتضاء 1/488.
[10] تشبه الخسيس بأهل الخميس، رسالة منشورة في مجلة الحكمة 4/193.
[11] مجموعة الفتاوى 25/329.
[12] اللمع في الحوادث والبدع 2/519-520.
[13] الاقتضاء 2/519-520.
[14] أحكام أهل الذمة 1/441-442.(/15)
العنوان: عيد الظلل
رقم المقالة: 1895
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
عيد الظلل
ويسمى عيد المظلة، وعيد المظال وفي العبرية (السوكوت)، وسمي بذلك لأنهم يعتقدون أنه يجب عليهم خلاله الجلوس تحت عريش لا يحجب المطر، أو تحت مظلات مصنوعة من ورق الشجر، أو سعف النخل الأخضر، أو أغصان الزيتون.
كما يسمى عيد الحصاد؛ وذلك لأنهم يجمعون فيه غلة البيدر والمعصرة، وتقدم فيه الذبائح المقررة، وهو ثالث الأعياد اليهودية الكبرى في عقيدتهم.
اعتقاد اليهود في المظلة:
يعتقد اليهود في التظليل أو المظلة أنها تعبير عن الحماية الإلهية من الشر؛ كما جاء في المزامير أن المترنم بها يقول: (لأنه يخبئني في مظلته في يوم الشر، يسترني بستر خيمته)[1] ويعتقدون أن الله تعالى جعل الظلمة سترا له؛ كما جاء في المزمار (جعل الظلمة ستارا له، وصار ضباب المياه وسحب السماء الداكنة مظلته المحيطة به)[2] وجاءت ترجمة هذا النص عند الكاثوليك: (أي جعل الظلمة حجابا له، مظلة حوله ظلام مياه ودجن السحب)[3] تعالى الله عن إفكهم ووصفهم علوا كبيرا.
ويحتفلون بهذا العيد في (15) من شهر تشرى اليهودي وهو الشهر الأول في السنة العبرية ، الموافق لشهر (أكتوبر) ومدته سبعة أيام.
مناسبة هذا العيد:
يحتفل اليهود بهذا العيد إحياء لذكرى خيمة السعف التي آوت بني إسرائيل في العراء أيام التيه.وينسبون إلى الله تعالى أنه قال: (لكي تعلم أجيالكم أني في مظال أسكنت بني إسرائيل لما أخرجتهم من أرض مصر)[4] وعادتهم فيه أن يقيموا في أكواخ مصنوعة من أغصان الشجر في الخلاء، تدعى (سوكاه) ويصلون من أجل سقوط الأمطار بعد الصيف الجاف.
وفي هذا العصر صاروا يكتفون بإقامة مظلة صغيرة ينصبونها في إحدى شرفات منازلهم أو على سطوحها، أو ينصبون مظلات في الساحات وعلى الطرق يجلسون فيها.(/1)
واليوم الأول من أيام هذا العيد يعدونه مقدسا يحرم فيه العمل، أما اليوم الثامن فيعدونه الختامي لأعيادهم الكثيرة الواقعة في شهر تشري العبري[5].
وإذا كان العيد في السنة السابعة -سنة الإبراء- يوجبون قراءة التوراة فيه أمام كل اليهود[6].
وينسبون إلى زكريا عليه السلام أنه قال: (ويكون أن كل الباقي من جميع الأمم الذين جاءوا على أورشاليم يصعدون من سنة إلى سنة ليسجدوا للملك رب الجنود وليعيدوا عيد المظال)[7].
وقد فسر هذا النص بما يعتقدونه في من نبوة في الملك الألفي الذي ينتظرونه[8].
والواجب على المسلمين في فلسطين ، وعلى كل المسلمين الذين يخالطون اليهود أو يجتمعون معهم أو يجاورونهم في الدول الغربية أو الشرقية، وفي بلاد أهل الإسلام أو في بلاد الكافرين تجاه هذا العيد[9] ما يلي:
1 - عدم الاحتفال به، أو مشاركة المحتفلين به في احتفالهم.
2 - عدم إعانة الكفار على احتفالهم به بإهداء أو طبع أدوات العيد وشعاراته وبطاقاته أو إعارتهم ما ينتفعون به في هذا العيد، لأنه شعيرة من شعائر الكفر، فإعانتهم وإقرارهم عليه إعانة على ظهور الكفر وعلوه وإقرار به.
3 - عدم إعانة من احتفل به من المسلمين، بل الواجب الإنكار عليهم، لأن احتفال المسلمين بأعياد الكفار منكر يجب إنكاره.
4 - عدم تبادل التهاني بهذا العيد، لأنه ليس عيدًا للمسلمين. وإذا هنئ المسلم به من يهودي أو من مسلم فلا يرد التهنئة بل ينكر أو يسكت.(/2)
5 - توضيح حقيقة هذا العيد وأمثاله من أعياد الكفار لمن اغتر بها من المسلمين، وبيان ضرورة تميز المسلم بدينه والمحافظة على عقيدته مما يخل بها، وتذكيره بمخاطر التشبه بالكفار في شعائرهم الدينية كالأعياد أو بعاداتهم وسلوكياتهم، نصحا للأمة وأداء لواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي بإقامته صلاح العباد والبلاد، وحلول الخيرات، وارتفاع العقوبات كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 117].
أسأل الله تعالى أن يحفظ المسلمين من مضلات الفتن وأن يقيهم شرور أنفسهم ومكر أعدائهم انه سميع مجيب. وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
ـــــــــــــــــــــــــ
[1] المزامير 27/5.
[2] المزامير 18/11.
[3] دائرة المعارف الكتابية 5/145.
[4] المصدر السابق 5/145.
[5] الأعياد والمناسبات والطقوس لدى اليهود لغازي السعدي ص13.
[6] سفر التثنية 31/10-13.
[7] سفر زكريا 14/14-16.
[8] دائرة المعارف الكتابية 5/145.
[9] انظر تفصيل هذه الأحكام المترتبة على أعياد الكفار بأدلتها وأقوال العلماء في بحوث أعددتها بعناوين: عيد الحب، وعيد شم النسيم، وعيدي ميلاد المسيح (الكرسمس) ورأس السنة.(/3)
العنوان: عيد الغطاس
رقم المقالة: 1906
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
هذا العيد متعلق عند النصارى الشرقيين بالتعميد، والتعميد شعيرة من شعائرهم، أصلها حسب زعمهم أن يوحنا المعمدان (يحيى بن زكريا عليهما السلام) عمد المسيح عيسى عليه السلام في مياه نهر الأردن، وسمي عيد الغطاس لأنه يمثل ذكرى تغطيس المسيح عليه السلام في الماء.
والمقصود من التعميد تجديد الشخص المعمد وغسل ماضيه وإزالة خطاياه.
كما تزعم النصارى أن عيسى عليه السلام أمر تلاميذه بالتعميد فقال لهم (وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الأب والابن والروح القدس)[1].
وهم مختلفون في التعميد:
1 - فطائفة منهم ترى أن التعميد يكون للأطفال والبالغين، ويزعم هؤلاء أن التعميد بدل عن الختان الذي سنه الخليل إبراهيم عليه السلام، وسرى في اليهود بعد ذلك، فاستعاض النصارى عن الختان بالتعميد. لكن التعميد كان موجودا عند اليهود أيضا.
2 - وطائفة أخرى يرون أنه خاص بالبالغين.
ولهم نصوص كثيرة في أناجيلهم وأسفارهم يستدل بها كل طائفة على ما ذهبوا إليه لا فائدة من سوقها هنا[2]..
وللتعميد عندهم طرق ثلاث:
الأولى: التغطيس في الماء وهو الأصل.
الثانية: التعميد بالرش.
الثالثة: التعميد بالسكب.
والعجيب في الأمر أن مسألة التعميد وإن حاول النصارى إيجاد نصوص لها في كتبهم المقدسة فإنها من إرث اليونان الوثنيين، وكانوا يطلقون على هذا العيد (ثيوفانيا) وهكذا اللاتين أطلقوا عليه (ابيفانيا) ومعناه عندهم: الظهور الإلهي.(/1)
ومن هذه الفكرة الوثنية (الظهور الإلهي) أخذ رهبان النصارى مسألة تجلي الله تعالى في شخص عيسى عليه السلام أثناء التعميد بما يسمونه (ابن الله) وينسبون إلى يوحنا أثناء لقائه بعيسى عليه السلام قوله (هو ذا حمل الله الذي يرفع خطيئة العالم...وأنا لم أكن أعرفه، لكن ليظهر لإسرائيل... إلى أن قال: فهذا هو الذي يعمد بالروح القدس، وأنا قد رأيت وشهدت أن هذا هو ابن الله) تعالى الله عن شركهم علواً كبيراً[3].
كما أن هذا التقليد كان موجودا عند قدماء المصريين (الفراعنة) حيث يجوبون في يومه الطرقات وهم يحملون الشموع والمشاعل إلى أن يصلوا إلى نهر النيل فيغطسون فيه معتقدين أن مياهه تشفي من الأسقام[4].
وكانوا يعتقدون أن صنمهم (أوزيريس) رب لمياه النيل[5]. ولا ينفي الباحثون الغربيون الأصول الوثنية لأعيادهم، بل يثبتونها ويوجدون المخارج لها ففي كتاب (الأصول الوثنية للمسيحية) يثبت مؤلفوه -وهم نصارى غربيون- هذه الحقيقة فيقولون: (ودارس تاريخ الأديان الوثنية والمسيحية لابد أن يلاحظ أن الأعياد المسيحية قد وقتت بذكاء من قبل الكنيسة وصار يحتفل بها في أيام الأعياد الوثنية نفسها.... ثم يذكر المؤلفون الصراع بين الكنيسة والوثنية إلى أن يقولوا: لابد من الملاحظة أن الشعوب الوثنية أحبطت جهود الكنيسة لانتزاع الطابع الوثني عن بعض الأديان وجعلت ذلك مستحيلا مما أدى بالكنيسة نفسها إلى أن تتبنى التقاليد والشعائر الوثنية، وتخلع عليها ألقابا مسيحية...)[6] ا.هـ.(/2)
وفيما يخص عيد الغطاس يقول المؤلفون: وما يسمى بعيد الغطاس فإنه أيضا مزيج من التقاليد الوثنية المسيحية وكما أشرنا من قبل إلى أن يوم 6 كانون الثاني هو اليوم الأثبت لميلاد المسيح، وقد احتفظت به الكنيسة موعدا لتعميده وميلاده معا. واتخذت الكنيسة الكاثوليكية تقليدا بأن تبارك مجاري المياه في ذلك النهار، وخاصة الأنهر والمسايل والأغادير وبما يعود ذلك إلى أن العمادة كانت تتم بتغطيس المؤمن في النهر (نهر الأردن) أما السبب الرئيسي فهو أن الكنيسة أرادت بدون شك أن تمحو من ذاكرة البسطاء ذكرى العيد الوثني للماء الذي كان يحتفل به في ذلك اليوم سواء عند عبادة (ديونيزوس) أو عبادة (إيزيس) أو (أوزوريس) فخصصت عيد العماد لذلك[7] ا.هـ.
ولعيد الغطاس عند النصارى شأن عظيم؛ ولذلك يعطلون في يومه عن العمل، وأكثرهم اعتمده في يوم (19) يناير، لكن نصارى الشرق يحتفلون فيه بذكرى تعميد المسيح عليه السلام ويتبركون فيه بالماء المعمد. وأما نصارى الغرب من الكاثوليك والبروتستانت فيحيون به ذكرى تقديس الرضيع المسيح عليه السلام على يد الحكماء الثلاثة الذين قدموا من الشرق، ويتلون فيه نصوصا توراتية وإنجيلية في الكنائس[8].
وقد أفاض المؤرخون في وصف ما يعمله الأقباط في ذلك اليوم في مصر كالمسعودي في مروج الذهب، والمسبحي في تاريخه، والمقريزي في الخطط، وغيرهم بما يطول نقله هاهنا.
وهكذا نصارى الشام لهم فيه عادات واحتفالات في ليلة هذا العيد ويومه، ويصنعون له أطعمة خاصة ويهدون الهدايا[9].
ويتلخص من هذا العرض عن هذا العيد ما يلي:
1 - أنه شعيرة دينية من شعائر النصارى ربطها الشرقيون منهم بما يعتقدونه من تعميد المسيح عليه السلام، وربطه الغربيون بما يعتقدونه من ذكرى إرضاعه.(/3)
2 - أن أصل هذا العيد والشعائر التي فيه من الغطس والتعميد هو من صميم دين الوثنية الفرعونية واليونانية، وأن أرباب الكنائس لما لم يستطيعوا القضاء على الشعائر الوثنية اعترفوا بها، وأوجدوا لها أصلا في دينهم، واخترعوا لها قصة نسبوها للمسيح عليه السلام. وهكذا التحريف في الديانات المحرفة لا يقف عند حد معين.
3 - أن هذا العيد لا زال موجودا إلى اليوم، ويحتفل به النصارى، ويشاهد احتفالهم به مسلمون سواء في البلاد المسلمة التي فيها أقليات نصرانية، أم في البلاد الغربية النصرانية التي فيها جاليات مسلمة. مما يحتم التحذير من هذا العيد الوثني النصراني ومن شعائره لئلا يغتر به بعض المسلمين فيشاركون في شيء من شعائره واحتفالاته.
وعليه فالواجب على المسلم تجاه هذا العيد ما يلي:
1 - عدم الاحتفال به، أو مشاركة المحتفلين به في احتفالهم.
2 - عدم إعانة الكفار على احتفالهم به بإهداء أو طبع أدوات العيد وشعاراته وبطاقاته أو إعارتهم ما ينتفعون به في هذا العيد، لأنه شعيرة من شعائر الكفر، فإعانتهم وإقرارهم عليه إعانة على ظهور الكفر وعلوه وإقرار به.
3 - عدم إعانة من احتفل به من المسلمين، بل الواجب الإنكار عليهم، لأن احتفال المسلمين بأعياد الكفار منكر يجب إنكاره.
4 - عدم تبادل التهاني بهذا العيد، لأنه ليس عيدًا للمسلمين. وإذا هنئ المسلم به من يهودي أو من مسلم فلا يرد التهنئة بل ينكره، أو يرد على من هنأه بالدعاء له بالهداية أو يسكت.(/4)
5 - توضيح حقيقة هذا العيد وأمثاله من أعياد الكفار لمن اغتر بها من المسلمين، وبيان ضرورة تميز المسلم بدينه والمحافظة على عقيدته مما يخل بها، وتذكيره بمخاطر التشبه بالكفار في شعائرهم الدينية كالأعياد أو بعاداتهم وسلوكياتهم، نصحا للأمة وأداء لواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي بإقامته صلاح العباد والبلاد، وحلول الخيرات، وارتفاع العقوبات كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود:117].
أسأل الله تعالى أن يحفظ المسلمين من مضلات الفتن وأن يقيهم شرور أنفسهم ومكر أعدائهم انه سميع مجيب. وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] انجيل متى 28: 18-19.
[2] للمزيد تراجع: دائرة المعارف الكتابية (5/313-316).
[3] انظر: إنجيل يوحنا: (1/29-34) وعنه دائرة المعارف الكتابية (5/313) وانظر: معجم ديانات وأساطير العالم (1/177-178).
[4] الأعياد حسن نعمة 287.
[5] انظر: معجم المعبودات والرموز في مصر القديمة، مادة (ماء) تأليف: مانفرد لوركر (215).
[6] الأصول الوثنية للمسيحية تأليف:أندريه نايتون، وإدغار ويند، وكارل غوستاف يونغ، ترجمة سميرة عزمي الزين (ص51).
[7] المصدر السابق (ص53-54).
[8] انظر الموسوعة العربية العالمية (16/709).
[9] راجع: الأعياد حسن نعمة (285-286).(/5)
العنوان: عيد الفطر المبارك
رقم المقالة: 1521
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
حملات المفسدين على المصلحين
الحمد لله رب العالمين؛ هدى من شاء من عباده للإيمان، واختصهم بشعائر الإسلام، وشرع لهم الصيام والقيام، وجعلهم خير أمة أخرجت للناس.
الحمد لله قاسم الهبات، الحمد لله مقيل العثرات، الحمد لله منزل الرحمات، الحمد لله مجيب الدعوات.
الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى؛ نحمده حمد الشاكرين، ونستغفره استغفار المذنبين، ونسأله من فضله العظيم؛ فكم من نعمة أنزلها! وكم من بلية دفعها! نواصينا بيده، وأرزاقنا عنده، وآجالنا إليه، لا رب لنا سواه، ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله؛ كان يصوم حتى يقول القائل لا يفطر، ويفطر حتى يقول القائل لا يصوم، وكان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه من طول القيام، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله ربكم -أيها المسلمون- واشكروه على نعمه وآلائه؛ فإن شكر النعم يزيدها، وإن كفرها يمحقها ويزيلها.
اشكروا الله تعالى إذ هداكم للإسلام، وحبب إليكم الإيمان، وبلغكم رمضان، وأعانكم على الصيام والقيام، ووفقكم للخير والإحسان؛ فلولا الله تعالى ما آمنتم ولا عملتم صالحا {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ} [البقرة:198].
اشكروه عز وجل إذ هداكم للعيدين الكبيرين، وما شرع لكم فيهما من الشعائر والمناسك، التي تزيدكم قربا من ربكم، وتمسكا بدينكم، مع السرور والفرح بهما؛ فالحمد لله على ما هدانا وأعطانا.(/1)
ومن شكر الله تعالى على هذه النعمة العظيمة التمسك بالعيدين الشرعيين، والاقتصار عليهما، والحذر من مزاحمتهما أو مضاهاتهما بالأعياد البدعية المحدثة التي ما أنزل الله تعالى بها من سلطان، كيف؟ ونبيكم محمد صلى الله عليه وسلم المبلغ عن الله تعالى لما قدم المدينة ولأهلها يَوْمَانِ يَلْعَبُونَ فِيهِمَا قال: ( ما هَذَانِ الْيَوْمَانِ؟ قالوا: كنا نَلْعَبُ فِيهِمَا في الْجَاهِلِيَّةِ، فقال عليه الصلاة والسلام: إِنَّ اللَّهَ قد أَبْدَلَكُمْ بِهِمَا خَيْرًا مِنْهُمَا يوم الْأَضْحَى وَيَوْمَ الْفِطْرِ) رواه أبو داود.
كما أن من شكر الله تعالى على نعمة الأعياد الشرعية تعظيم شعائرها، واجتناب المنكرات فيها، من المعازف والغناء، واختلاط النساء بالرجال، وتضييع الجماعات، والتقصير في الواجبات.
أيها المسلمون، أيها الصائمون القائمون: في الليالي الماضية وعلى مدى شهر كامل أضاءت مساجد المسلمين بالتراويح والقيام، وعجت المآذن بآيات القرآن تتلى، ورفعت الأيدي إلى الكريم الجواد بالثناء والدعاء.. يقنتون ويركعون ويسجدون لخالقهم جل في علاه..ما سيقوا إلى المساجد مكرهين، ولا يرجون فيها شيئا من أمور الدنيا، بل سابقوا إليها مختارين راغبين؛ طاعة لله تعالى، يرجون ثوابه، ويحذرون عقابه، وأهل الملاهي في ملاهيهم، فكم لهم من الأجور عند الجواد الكريم؟!
أيها المسلمون: في هذا الزمن يواجه الموحدون لله تعالى، المستمسكون بدينهم حملات ضارية، وحربا ضروسا من الكفار والمنافقين وأعوانهم من الظالمين والشهوانيين.(/2)
حملات شملت جميع الميادين، وحروب ما أبقت مجالا فيه نشر للإسلام أو نفع للمسلمين إلا أتت عليه، يريدون تبديل كلام الله تعالى، وتحريف شريعته، وصرف الناس عن دينه، وإخراجهم منه إلى ما أحدثوه من أفكار ضالة، ومبادئ منحرفة، ويسوق لهذا الضلال المبين وكلاؤهم في بلاد المسلمين من أهل الحقد والضغينة أو الحمق والغفلة ممن يصنفون بالكتاب والمفكرين والمثقفين، وكثير منهم لا يرون أبعد من أنوفهم.
لقد كان في أجندة الدولة الأول في الاستكبار والظلم والاعتداء مشاريع استعمارية ضخمة؛ أرادوا بها تغيير خرائط العالم الإسلامي، وتقسيم ما قسم من دوله، وتفتيتها إلى دويلات، والاستيلاء على ما تبقى من ثرواته، وإخضاعه تماما لحكمهم وإملاءاتهم، زاعمين أن القرن قرنهم، وأن العالم قد خضع لجبروتهم؛ ولكن الله تعالى بلطفه وحكمته خيب مساعهم، وكسر شوكتهم، وأزال هيبتهم، فغرق جنودهم في أفغانستان والعراق، ولا زالوا يغرقون، ويبحثون عما يحفظ ماء وجوههم، ويعيد هيبتهم، فسولت لهم شياطينهم إحلال الفوضى الخلاقة في الدول التي لم يسيطروا عليها، وهو مصطلح تم سكه حديثا، ويعني التدمير لمن يعارضهم، ثم إعادة الصياغة والبناء وفق ما يريدون.
والتدمير يكون بأيديهم أو بأيدي وكلائهم في المنطقة؛ ومن وسائلهم في التدمير إحياء النعرات العرقية والطائفية، وإشعال الحروب الأهلية تحت إشرافهم، وبمعونتهم وإمدادهم؛ حتى يُفني الناس بعضهم بعضا، فإذا مَلوا من الحروب، وفني أكثرهم؛ عادوا مرة أخرى لترتيب أوراق المنطقة بما يحقق مصالحهم. والمطلوب الأكبر لما يسعرونه من حروب رأس الإسلام الذي جاء به محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند الله تبارك وتعالى.
لقد عظمت حربهم على الإسلام، وتواصوا بها بينهم؛ فدنسوا القرآن، ومزقوه وأهانوه، وكتبوا مصحفا جديدا سموه فرقان الحق وضعوا فيه خلاصة أفكارهم؛ ليجعلوه بديلا عن القرآن الذي تنزل من عند الله تعالى.(/3)
وسخروا من النبي عليه الصلاة والسلام في رسوماتهم وكتاباتهم، من الدنمارك إلى السويد، إلى غيرهما، واعتدوا على شريعة الله تعالى فسخروا منها، وطعنوا في أحكامها، ووضعوها على طاولة المناقشة والتجريح والتسفيه، وأسسوا قنوات فضائية وإذاعية عربية لهذه الغاية، وأعانوا بالمال والنفوذ القنوات العربية التي تسوق لمشاريعهم، وتتكلم بلسانهم، وليس لها من عربيتها إلا لسانها.
لقد تمالئوا في مؤتمراتهم على الجمعيات الخيرية، التي تطعم الجوعى، وتكفل الأيتام، وتقيم المشاريع التنموية في البلدان الفقيرة، كما تمالأ كفار مكة على بني هاشم فحصروهم في الشعب.
إنهم يحاربون الجمعيات الخيرية الإسلامية وقد أغلقوا أكثرها؛ ليفسحوا المجال لمنظماتهم التنصيرية لتعمل عملها في تنصير فقراء المسلمين، ونقلهم من الإيمان إلى الكفر بعد أن عجزوا عن إقناع الناس بما هم عليه من ضلال، فاستغلوا حاجتهم لفرض ضلالهم عليهم.
ولم يسلم من حربهم الضروس منديل تغطي به امرأة مسلمة شعرها، فحاربوها من أجله في أوربة المتحضرة التي تحفظ حقوق الإنسان، وتؤمن بالحريات كما يقولون!!
وكان من أخريات عدائهم للإسلام وصفهم إياه على ألسن رؤسائهم وكبارهم بالفاشية، وإصرارهم على محاربته وتبديله، وبعد عشرة أيام يبدأ أسبوع للتحذير من الفاشية الإسلامية في مائتي جامعة أمريكية تُلقى فيه المحاضرات، وتعرض الأفلام وتوزع الكتب والمنشورات المعادية للإسلام والمسلمين، فأي عداء للإسلام أعظم من هذا؟!
لقد آذوا المسلمين في ربهم جل جلاله، وفي نبيهم محمد عليه الصلاة والسلام، وفي قرآنهم، وفي دينهم، وفي بلدانهم، وفي أنفسهم، ولا زالوا، عجل الله تعالى كبتهم، وكفى المؤمنين شرهم.(/4)
وأما إخوانهم المنافقون في بلاد المسلمين فإنهم أبدوا ما كانوا يخفون، وكشروا عن وجه كالح قبيح، وقلوب تقطر حقدا على كل ما يمت للإسلام بصلة؛ فما أن رأوا الكفار قد سنوا حرابهم على الإسلام وأهله إلا انحازوا لصفهم، وأظهروا ما كانوا يبطنون من عداوتهم، وأضحوا عيونا للكفار على المسلمين، يتصلون بسفاراتهم، ويتلقون تعليماتهم، ويخضعون لتوصياتهم، ويطالبون بمطالب الأعداء ذاتها، ويحاربون ما يحاربه الأعداء، ويركزون هجومهم على القضاء الشرعي ليستبدلوا به القانون الوضعي، ويحاربون شعيرة الحسبة؛ ليقضوا على الفضائل، وينشروا الرذائل، ويحاربون التعليم الشرعي، وحلقات تحفيظ القرآن؛ لتجهيل النشء بشريعة الله تعالى، وتربيته على غير كتابه عز وجل، ويحاربون مؤسسات الإغاثة والدعوة؛ لأنها باب من أبواب الخير، وتحفظ الفقراء من الانحراف والضلال، ويحاربون حجاب المرأة؛ لأنه يميز المسلمة عن غيرها، وهم لا يريدونها أن تتميز بشيء، ويحاربون عزل النساء عن الرجال، ويطالبون بالاختلاط؛ لأنهم يريدون تسعير الشهوات، ويسعون في انحلال المجتمعات، ويكتبون تقارير عن كل ذلك يمدون بها أعداء الأمة من الصهاينة والملاحدة.
إنهم تحت شعار ما يسمونه إصلاحا -وهو الإفساد- يسخرون من دين الله تعالى وشريعته، ويهزءون بحملتها، ويحرفون نصوص الكتاب والسنة، ويتلاعبون بأحكام الشريعة، فيحلون ما حرم الله تعالى، ويحرمون ما أحل، ويلقون الأحكام الشرعية المحكمة على طاولة النقاش والمزايدة، ليلغوا منها ما لا يتوافق مع أهواءهم.
إنهم في وسائل إعلامهم يبثون الشائعات، ويختلقون الأكاذيب ضد المصلحين؛ لينفروا الناس منهم، ومن قبل اخترع قدوتهم في النفاق إفكا مفترى في عائشة رضي الله عنها، وطعن النبي صلى الله عليه وسلم في عرضه، أفترون يا عباد الله أن منافقي زمننا يتورعون عما فعله أسلافهم!!(/5)
إنهم يشعون الفاحشة، ويسوقون للرذيلة فيما امتلكوه من سائل إعلام مختلفة، ويريدون فرض الفساد والإفساد بما يشرعونه من قرارات الاختلاط في العمل، وما يطالبون به، ويحاولون الوصول إليه من قيادة المرأة للسيارة، وفرض الرياضة على البنات، والاختلاط في التعليم.
لقد أضحى إفساد الناس، ونشر الرذيلة، وتوسيع الاختلاط هو شغلهم الشاغل، وقضيتهم الكبرى, مع محاربتهم للطهر والعفاف، والصلاح والإصلاح، أخزاهم الله تعالى وأذلهم، وحفظ البلاد والعباد من مكرهم وشرهم.
إنها حرب ضروس على كافة الأصعدة يتولى كبرها أعداء الرسل، وأتباع الشياطين، من الكفار والمنافقين، ويعينهم فيها بعض الظالمين والشهوانيين.
إنها حرب يسعرها المفسدون على المصلحين، ويشعلها دعاة الرذيلة على دعاة الفضيلة.
إنه تحالف نجس نكد يقوده طواغيت أهل الكتاب وملاحدة الغرب، وينضوي تحت لوائهم المفسدون في بلاد المسلمين من المنافقين والشهوانيين ليجندوا أنفسهم للأعداء ضد أمتهم.
وهو تحالف يذكرنا بما كان بين اليهود في المدينة والمشركين في مكة من اتصالات وتحالفات ضد المسلمين، واتصالاتُ منافقي عصرنا بسفاراتهم تذكر باتصالات ابن سلول وأتباعه باليهود والمشركين آنذاك.
أنها محنة عظيمة، وأزمة كبيرة، عانى منها المصلحون خلال السنوات القليلة ولا زالوا؛ حتى دب اليأس إلى كثير من القلوب، فتغيرت قناعات، وزلت أقدام وأفهام، ونكص أقوام عن دين الإسلام فارتدوا بعد إيمانهم منتحلين ما يسمى بالإنسانية، راكبين قطار العلمانية، محاربين للدعاة والمصلحين، وهم محل حفاوة وإطراء من قبل الكفار والمنافقين، فتفرد لهم الصفحات، وتجرى معهم المقابلات؛ ليسوقوا ردتهم وزندقتهم على جمهور الناس، وليطعنوا في دين الله تعالى، وفي عباده الصالحين.(/6)
وآخرون اتخذوا من تمييع أحكام الشريعة، ولوي نصوصها، وتتبع الأقوال الشاذة والمهجورة طريقة لهم؛ ليقربوه مما يريد الأعداء، وليرضى المنافقون والشهوانيون عنهم؛ كيما يظهرونهم في فضائياتهم الهابطة، وصحفهم المنحرفة، فتركوا ما كانوا يدعون إليه من قبل، وتنكروا لمناهجهم، وأضحت هُجيراهم أقاويل فلاسفة الغرب ومفكريه بدل نصوص الكتاب والسنة، ولربما طوعوا النصوص لآرائهم وأفكارهم، نعوذ بالله تعالى من الهوى والردى.
وآخرون غيرهم تخلوا عن نصرة دين الله تعالى، والدعوة إليه، ورد حملات الكافرين والمنافقين على الصلاح والمصلحين، واشتغلوا بأمور الدنيا؛ إيثارا للسلامة، أو يأسا من واقع الأمة.
وكل هؤلاء وأولئك قد ضلوا الطريق، وما صبروا في الابتلاءات، ولا فقهوا حق الفقه سنن الله تعالى في المصلحين والمفسدين، ولا أخذوا من سير الأنبياء عليهم السلام مع المستكبرين دروسا وعبرا.
إن كل ما يجري في هذا العصر للمسلمين على أيدي الكافرين والمنافقين والظالمين من الحصار والمضايقة، والحرب الشاملة في كافة المجالات قد جرى مثله وأضعافه لأنبياء الله تعالى على أيدي الطغاة والمستكبرين؛ فأُخرج الأنبياء عليهم السلام والمؤمنون معهم من ديارهم، وأوذوا في الله تعالى {مَسَّتْهُمُ البَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ الله أَلَا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ} [البقرة:214] وما فت ذلك في عضدهم، ولا أوهن عزيمتهم، ولم يقعدهم عن نصرة دين الله تعالى، أو موافقة الكافرين والمنافقين فيما أرادوا، بل صبروا واتقوا حتى نالوا الظفر في الدنيا، وجزاء الآخرة أوفى وأعظم {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ الله وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:146].(/7)
إن دين الله تعالى منصور رغم أنوف الكافرين والمنافقين، وإن أهل الحق غالبون بإذن الله تعالى، والتمكين لا يكون إلا بعد البلاء، والشدة يعقبها الفرج {فَإِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا} [الشرح:6] {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ المَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الغَالِبُونَ} [الصَّفات:173] {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ} [آل عمران:160].
وبوادر النصر والظفر والتمكين لهذا الدين العظيم تلوح في الأفق، ويراها المستبصرون؛ ولكنها تحتاج منا إلى صبر وتقوى..
إننا يا عباد الله في هذا الزمن العصيب، نحتاج إلى صبر على أذى الكفار والمنافقين، وصبر على التمسك بالدين؛ وإن عظم البلاء، وتوالت المحن، واشتد الكرب.
نحتاج إلى صبر في الدعوة إلى الله تعالى، والدفاع عن دينه وحرماته، ومجاهدة المفسدين في الأرض من الكفار والمنافقين.
ونحتاج إلى تقوى تمنعنا من التنازل عن شيء من ديننا؛ إرضاء للمفسدين، وتحول بيننا وبين تسويغ الفساد والإفساد، أو الرضا بالمنكرات، أو السكوت عنها..
نحتاج إلى تقوى تدفعنا إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله تعالى، والتواصي بالحق، والنصح لكل مسلم.
وفي غزوة أحد حين غدر المنافقون بالمؤمنين، وانتصر المشركون، وقتل سبعون من الصحابة رضي الله عنهم، وجرح النبي عليه الصلاة والسلام، واشتدت المحنة بالمؤمنين، تنزلت الآيات القرآنية التي تتناول هذه الغزوة العظيمة؛ لتبين أن كيد المنافقين والكافرين لن يضر المؤمنين شيئا متى ما صبروا واتقوا {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [آل عمران:120].(/8)
وما أحوج المصلحين إلى عون الله تعالى وتوفيقه ومدده وجنده في مقارعة الباطل وأهله، ورد باطلهم، ودحض حججهم، وكشف زيفهم، ولن ينال المصلحون عون الله تعالى ومدده وتوفيقه إلا بالصبر والتقوى {بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آَلَافٍ مِنَ المَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} [آل عمران:125].
بل جاء في القرآن العظيم الأمر الصريح بلزوم الصبر والتقوى عندما يعظم البلاء، و تشتد المحن، ويتسلط الكافرون على المؤمنين {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [آل عمران:186].
وليس من الصبر ولا من التقوى موافقة المفسدين فيما يريدونه من تشريع الفساد، أو إذابة أحكام الشريعة الغراء لتوافق أهواءهم، أو لوي النصوص المحكمة مسايرة للناس، وموافقة لضغوط الواقع، بل الصبر والتقوى في الاستمساك بدين الله تعالى مهما زاغ الزائغون، وانحرف المنحرفون، وارتد المرتدون، ومهما عظمت الضغوط على أهل الحق {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الزُّخرف:43] فاستمسكوا يا أهل الحق بدينكم، ولا تتنازلوا عنه فتهلكوا.
إن أهل الحق أقوياء بما يتبعون من حق، وإن أهل الباطل ضعفاء بباطلهم وإن كانوا أكثر جمعا وقوة {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:249] {بَلْ نَقْذِفُ بِالحَقِّ عَلَى البَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء:18] {قُلْ جَاءَ الحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ البَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} [سبأ:49].(/9)
أيتها المرأة المسلمة، أيتها الصائمة القائمة: إن الجزء الأكبر من حملات المفسدين يتناول جوانب المرأة؛ لعلمهم أنها بوابة الصلاح والإصلاح متى ما تمسكت بحجابها، وجانبت الرجال، ودعت أخواتها إلى الله تعالى، وأنها قنطرة الفساد الإفساد متى ما نبذت حجابها، وخالطت الرجال، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم قال: (ما تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرَّ على الرِّجَالِ من النِّسَاءِ) رواه الشيخان من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما. وفي حديث أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم: (....فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ فإن أَوَّلَ فِتْنَةِ بني إِسْرَائِيلَ كانت في النِّسَاءِ)رواه مسلم.
فإياك -أختي المسلمة- أن تنجرفي لتياراتهم، أو تصغي لدعواتهم، فإنهم دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم قذفوه فيها.
كيف تجيبينهم إلى ما يريدون من معصية الله تعالى، وقد امتلأ قلبك بالإيمان، وبمحبة الله تعالى، والتزام دينه؟!
كيف تطيعينهم في معصية الله تعالى وأنت تصلين وتصومين وتعبدين الله تعالى؟! فكوني نصيرة للحق وجنده، واحذري أن تكوني عونا للباطل وأهله.
ادرئي عن حجابك وعفافك عدوان الأعادي من شياطين الإنس؛ فإنهم الأضعف متى ما جوبهوا بقوة الحق {فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء:76].(/10)
أيها المسلمون: افرحوا بعيدكم بعد تمام صيامكم، واشكروا الله تعالى إذ هداكم.. بَرُوا والديكم، وصلوا أرحامكم، وأحسنوا إلى جيرانكم، وطهروا قلوبكم على إخوانكم، وأقيموا على عهدكم، وأطيعوا ربكم، ولا تهجروا مساجدكم ومصاحفكم؛ فإن الله تعالى رب رمضان وغير رمضان {وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا} [النحل:92] أعاده الله تعالى علينا وعليكم وعلى المسلمين باليمن والإيمان، والسلامة والإسلام، وتقبل منا ومنكم ومن المسلمين صالح الأعمال.
إن الله وملائكته يصلون على النبي....(/11)
العنوان: عيدا الميلاد ورأس السنة النصرانيين
رقم المقالة: 1860
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
أصلهما، شعائرهما، وحكمهما
الحمد لله رب العالمين؛ هدانا صراطا مستقيما، وشرع لنا دينا قويما {مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ} [الأنعام:161] نحمده على ما هدانا، ونشكره على ما أعطانا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ وفق من شاء من عباده للإيمان والعمل الصالح، فكان عملهم مبرورا، وسعيهم مشكورا، وضَلَّ عن صراطه أممٌ لا تزيدهم عباداتهم وشعائرهم إلا مقتا من الله تعالى، وبعدا عما يرضيه {ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف:104] وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ تركنا على بيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واشكروه على ما هداكم؛ فأكثر الناس قد ضلوا عن دينه، وحادوا عن شريعته، واستوجبوه سخطه ونقمته جل في علاه، وقليل من هداهم إلى ما يحبه ويرضاه من الدين، وكنتم من هذا القليل بفضل الله تعالى عليكم، وهدايته لكم {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ} [البقرة:198] .
أيها الناس: تقع هذه الجمعة المباركة بين عيدين كبيرين من أعياد الأمة الضالة، التي ضلت عن دين المسيح عليه السلام، وجرى عليها ما جرى على الأمم التي حادت عن طريق الله تعالى ورسله عليهم السلام ضلالا وإضلالا، ووقع في دينها التحريف والتبديل والإحداث، والتقرب إلى الله تعالى بما لا يحبه ولا يرضاه من الأقوال والأعمال والعبادات والشعائر.(/1)
وقبل أيام كانت أيام عيد المسلمين الكبير: يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق التي شرعها الله تعالى لهم، وارتضاها من دينهم، وهداهم إليها، وجعلها ظرفا للتقرب إليه بأمهات الأعمال الصالحة من الذكر والدعاء والصيام والحج والأضاحي والهدايا، فما أبعد ما بين أعيادنا أهل الإسلام، وما بين أعياد الأمم الضالة من أهل الكتاب وعباد الأوثان!! فنحمد الله الذي لا إله إلا هو إذ هدانا لذلك، ونسأله أن يثبتنا على ما يرضيه إلى أن نلقاه.
أيها الإخوة: إن الأمة النصرانية أمة دخلت عليهم الوثنية مبكرا؛ فاستقوا من اليونان والرومان كثيرا من شعائرهم الوثنية، وجعلوها من أصل دينهم، ونسبوا بعضها للمسيح عليه السلام أو لحوارييه وهم مما أحدثوا بُرءاء.
ومن أعظم شعائرهم الباطلة ما يحتفلون به كل عام من الأعياد المحدثة التي ليست من دين المسيح عليه السلام، وقبل يومين احتفلوا بما يزعمونه عيد ميلاد المسيح عليه السلام المسمى(الكريسمس) وبعد يومين يحتفلون بعيد رأس السنة الميلادية، ولهم في هذين العيدين الكبيرين عندهم جملة من الشعائر والأعمال المملوءة بالشرك والبدعة، والمشتملة على أنواع من الشبهات المضلة، والشهوات المحرمة، والاعتقادات الفاسدة.(/2)
وهذه الأعياد الشركية تصل احتفالاتها وشعائرها إلى بيوت المسلمين في كل مكان عبر البث الفضائي، وأضحى كثير من المذيعين ومقدمي البرامج في أكثر الفضائيات والإذاعات يفتتحون برامجهم هذه الأيام بتهنئة جمهورهم بهذه الأعياد المحرمة؛ مما يحتم الحديث عنها، والتحذير منها؛ لعموم البلوى بها، وكثرة الواقعين في إثمها، المغترين بزخرفها؛ نصحا للأمة، وحماية لجناب الشريعة الربانية، وإلا فإن الشعائر الباطلة لا يكاد يحيط بها أحد من كثرتها، وليس من مهمات المسلم معرفتها إلا ما يُخشى على المسلمين وقوعهم فيه تحذيرا وتنفيرا، وذلك من معرفة الشر لاتقائه؛ كما قال حُذَيْفَةَ بنُ الْيَمَانِ رضي الله عنهما: (كان الناس يَسْأَلُونَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم عن الْخَيْرِ وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عن الشَّرِّ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي) متفق عليه.
إن عيد الميلاد عند النصارى قد أحدثوه لما يزعمونه تجديدا لذكرى مولد المسيح عليه السلام، مع أنه لم يثبت لدى مؤرخي النصارى يوم مولده عليه السلام، والخلاف بينهم في عامه كبير جدا!! فكيف بشهره ويومه؟!
وهذا العيد من أقدم أعيادهم؛ إذ أحدثوه في أواسط المائة الرابعة من التاريخ النصراني الميلادي، ومن شعائرهم فيه أنهم يذهبون إلى الكنائس، يقيمون الصلاة، ويرتلون الترانيم، وينشدون الأناشيد، ويقرءون قصة المولد من إنجيلي مَتَّى ولوقا، ويتبادلون الهدايا والتهاني به، وخصوا الأطفال بهدايا البابا نويل، وهو راهب يزعمون أنه يعيش في القطب الشمالي، ويحضر ليلة هذا العيد ليضع لعبا للأطفال النصارى وهم نائمون. وبعض النصارى يحرق كتلة من جذع شجرة عيد ميلاد المسيح، ثم يحتفظون بالجزء غير المحروق، ويعتقدون أن ذلك الحرق يجلب الحظ.(/3)
والذي عليه المحققون من مؤرخي النصارى أن عيد الميلاد عيد وثني أحدثه عباد الشمس لما يزعمونه مولدا للشمس التي لا تقهر، فلما تنصر الرومان في القرن الرابع الميلادي، نقله رهبان النصارى من كونه عيدا لمولد الشمس إلى عيدٍ لميلاد المسيح عليه السلام؛ مسايرة للرومان الوثنيين الذين اعتنقوا النصرانية المحرفة، وموافقة لهم في عيدهم؛ ولذا جعلوه في موعده.
وشجرة الميلاد التي هي من رموز عيدهم هذا مأخوذة من الوثنيين؛ إذ يعتقد الفراعنة والصينيون أن الشجرة رمز للحياة السرمدية، وأخذها عنهم الرومان الوثنيون، فلما اعتنقوا النصرانية اخترع الرهبان لها أصلا في دينهم على عادتهم في التحريف والتبديل، وتطويع الدين والشريعة لأهواء الناس ومتطلباتهم.
أما عيد رأس السنة الميلادية فهو يوافق عيدا يسمى عيد (البسترينة) وهي آلهة اتخذها اليونان والرومان الوثنيون رمزا للقوة، فلما اعتنق الرومان النصرانية أقرَّ الرهبان كثيرا من شعائرهم وأعيادهم، وأحدثوا لها أصولا دينية عندهم، فسموا هذا العيد الوثني (عيد الختانة) وزعموا أن المسيح عليه السلام خُتِنَ فيه.
ومن اعتقادات النصارى في هذا العيد الوثني: أن الذي يحتسي آخر كأس من قنينة الخمر بعد منتصف تلك الليلة سيكون سعيد الحظ، وإذا كان عازباً فسيكون أول من يتزوج من بين رفاقه في تلك السهرة، ومن الشؤم دخول منزل في هذا العيد دون أن يحمل المرء هدية، وكنسُ الغبار إلى الخارج فيه يُكنس معه الحظ السعيد، وغسل الثياب والصحون في ذلك اليوم من الشؤم، والحرص على بقاء النار مشتعلة طوال ليلة رأس السنة يحمل الحظ السعيد.... إلى آخر خرافاتهم ومعتقداتهم الباطلة فيه.(/4)
وكثير من الباحثين من نصارى الغرب يقرون بالجذور الوثنية لشعائرهم وأعيادهم وتعبداتهم، وألف مجموعة من باحثيهم كتابا بعنوان (الأصول الوثنية للمسيحية) قالوا فيه: دارس تاريخ الأديان الوثنية والمسيحية لا بد أن يلاحظ أن الأعياد المسيحية قد وُقتت بذكاء من قبل الكنيسة، وصار يُحتفل بها في أيام الأعياد الوثنية نفسها....لا بد من الملاحظة أن الشعوب الوثنية أحبطت جهود الكنيسة لانتزاع الطابع الوثني عن بعض الأديان، وجعلت ذلك مستحيلا مما أدى بالكنيسة نفسها إلى أن تتبنى التقاليد والشعائر الوثنية، وتخلع عليها ألقابا مسيحية.اهـ
وللاحتفال بهذين العيدين في هذا الزمن شأن عظيم عند الأمة النصرانية، وانتقل إلى الأمم الأخرى بسبب التقليد والمحاكاة، والتزيين الإعلامي لهما، ولا سيما عيد رأس السنة الميلادية التي تكاد مظاهر الاحتفال به تشمل الأرض كلها بسبب اعتماد التاريخ الميلادي تقويما لأكثر دول العالم، حتى إن المسلمين في أكثر دول أهل الإسلام يحفظون التاريخ الميلادي النصراني، ولا يحفظون التاريخ الهجري الإسلامي الذي أجمع عليه الصحابة رضي الله تعالى عنهم.
وأضحى الاحتفال برأس السنة الميلادية يتصدر نشرات الأخبار، والصفحات الأولى من الصحف والمجلات، وتنقل بالبث المباشر في شتى بقاع العالم احتفالات لحظة انتهاء العام الميلادي من منتصف آخر ليلة منه، وما يصاحبها من أنواع المحرمات والموبقات.
ويُنفق على هذا العيد وشعاراته واحتفالاته من النفقات ما يكفي لإطعام ملايين الجائعين، وإيواء مئات الألوف من اللاجئين والمشردين، ومعالجة المرضى، وتعليم الأميين، وفي إحصاءٍ قبل ست سنوات للدولة النصرانية الأولى في العالم بلغت نفقات هذين العيدين فيها خمسين مليار دولار!! فكيف ببقية دول أوربة والعالم أجمع؟!(/5)
وكلها نفقات غير مخلوفة، ولا أجر لأصحابها فيها؛ لأنها على أعيادٍ وثنية أدخلها الرهبان في دين النصارى، لا يحبها الله تعالى ولا يرضاها، ومن شارك من المسلمين فيها باحتفال أو حضور أو إهداء أو تهنئة، أو أظهر شيئا من الفرح بها فليعلم أن في ذلك إقرارا لشعائر لا يرضاها الله تعالى لعباده، ولا يحبها منهم، ولا تزيد أصحابها من الله تعالى إلا بعدا، وتستوجب سخطه عز وجل ونقمته، والله تعالى قد شرع لنا من الأعياد والشعائر التي تقربنا إليه، ويرضى بها عنا ما يغنينا عن تقليد الأمم الضالة في أعيادها الوثنية المحدثة {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ الله شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللهُ وَلِيُّ المُتَّقِينَ} [الجاثية:20]
أسأل الله تعالى أن يثبتنا والمسلمين على الحق المبين، وأن يرزقنا التمسك بأهداب الدين الحنيف، وأن يجنبنا صراط المغضوب عليهم والضالين، إنه سميع مجيب.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ...
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما أمر، ونشكره على نعمه وآلائه فقد تأذن بالزيادة لمن شكر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [البقرة:281](/6)
أيها المسلمون: في هذا الزمن عمت البلوى بالأعياد الوثنية النصرانية، وصار الاحتفال بها ظاهرا معلنا، وتساهل كثير من المسلمين في حضورها والمشاركة فيها، والإعانة عليها، والتهادي بمناسبتها، والتهاني بها، وهذا من التساهل في شعائر الكفر الظاهرة، ولا يحل لمسلم أن يستهين بذلك.
وواجب على من يؤمن بالله تعالى ويعظم شريعته أن يجتنب حضورها أو المشاركة فيها، أو الإعانة عليها ببيع أدوات العيد وشعائره ورموزه، أو إعارتها أو إجارتها أو هبتها، أو التهادي بمناسبتها، أو قبول هداياها، أو تهنئة الغير بها، أو الرد على تهنئتهم بمثلها، بل الواجب رحمتهم إذ ضلوا عن الهدى، وتمني الهداية لهم، وحمد الله تعالى على نعمته.
وقد أجمع الصحابة والأئمة بعدهم على إنكار أعياد الكفار؛ فإن اليهود كانوا في المدينة وخيبر وما نقل عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم مشاركتهم في أعيادهم، أو حضورها، أو إعانتهم عليها، أو التهادي بمناسبتها، أو تهنئتهم بها.
ولما فتحت كثير من بلدان النصارى في الشام ومصر وغيرها -وكان فيها نصارى بقوا على دينهم ودخلوا في ذمة المسلمين بالجزية- لم ينقل عن أحد من الصحابة وكبار التابعين مشاركتهم النصارى في شيء من ذلك، بل إن عمر رضي الله عنه لما صالح نصارى الشام وكتب شروطه عليهم كان منها أن لا يُظهروا الاحتفال بأعيادهم أمام المسلمين، وأجمع الصحابة رضي الله عنهم على هذه الشروط، ولو ساغ مشاركتهم في شيء منها أو تهنئتهم بها لما منعهم من إظهارها.(/7)
وكل النصوص الواردة في النهي عن التشبه بالكفار تتناول النهي عن التشبه بهم في أعيادهم أو مشاركتهم فيها، نحو قول الله تعالى {وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16] وقول النبي عليه الصلاة والسلام:( َمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ منهم)رواه أبو داود. وقد اتفق الأئمة الأربعة وغيرهم من الفقهاء على ما أجمع عليه الصحابة رضي الله عنهم من وجوب اجتناب الكفار في أعيادهم.
وقد يعجب بعض الناس من هذا التشديد في أعياد الكفار، وليس ذلك بعجيب عند من يفهم شريعة الله تعالى، ويعلم أن حمايتها لا تكون إلا بمنع شعائر الآخرين من الدخول فيها وذلك بتحريم التشبه بالكفار، ومنع الابتداع في دين الله تعالى، فيبقى الدين على صفائه ونقائه، لا يدخل في شريعته ما ليس منها، ولا يخرج عنها ما هو منها، وهذا هو حفظ الدين الذي تكفل الله تعالى به قَدَرَا في قوله سبحانه {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] وجعل من الأسباب الشرعية لذلك: المنع من التشبه والابتداع.
وقد عَلِمنا آنفا كيف أن الشعائر والأعياد الوثنية اليونانية والرومانية أُدخلت في دين النصارى، وابتدع الرهبان فيه ما ابتدعوا، فكان دينهم بعيدا عن شريعة عيسى عليه السلام بسبب التشبه والابتداع.
وأما المنع من تهنئتهم بأعيادهم فلأن أعيادهم من أعظم شعائرهم سواء كانت مبتدعة أم محرفة، وهي من دين الشيطان الذي لا يحبه الله تعالى ولا يرضاه دينا لعباده، والواجب على المسلم إنكار ذلك، وليس من الإنكار التهنئة بها؛ بل هي مشعرة بقبولها والرضا بها.(/8)
ولو أن وثنيا سجد لصنم، أو نصرانيا سجد لقديس أو صليب فهنأه مسلم على سجوده لاستعظم الناس منه ذلك؛ لما في تهنئته من إقرار السجود لغير الله تعالى، ويرون أن الواجب الإنكار عليه ودعوته إلى التوحيد، فإذا كان كذلك فكيف يعجبون من تحريم تهنئة الكفار بأعيادهم، وأعيادهم من أظهر شعائرهم وأبينها؟!
وأين التهنئة بشعيرة فردية خاصة سجد صاحبها لغير الله تعالى من التهنئة بشعائر ظاهرة معلنة هي من صميم الوثنية الذي أُدخل على النصرانية المحرفة؟!
ولكن الناس يستعظمون السجود لغير الله تعالى لقلة مشاهدتهم له، ولا يستعظمون شعائر الكفر الظاهرة المعلنة التي منها الأعياد ومظاهرها وهي تبلغ الآفاق لإلفهم لها، وكثرة الواقعين منهم فيها، وقد قيل: كثرة الإمساس تقلل الإحساس.
والله تعالى قد أمرنا بتعظيم شعائره، وأخبر سبحانه أن ذلك من التقوى {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ الله فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى القُلُوبِ} [الحج:32] وليس من تعظيم شعائر الله تعالى الاستهانة بشعائر الكفر التي من أظهرها وأعظمها الأعياد، فمن عَظَّم شعائر الله تعالى قام في قلبه إنكار شعائر الكفر الظاهرة والباطنة، فلا يداهن ولا يجامل أحدا فيها، ولو كثر الزائغون، وارتفعت أصوات المطبلين لها، المحتفين بها؛ فإن أهل الضلال أكثر من أهل الحق، وسكان النار أكثر من سكان الجنة {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ الله إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [الأنعام:116].
فاحذروا -عباد الله- مشاركة الأمة الضالة في أعيادها وشعائرها، أو إعانتهم عليها، أو التهادي بناسبتها، أو تهنئة أحد بها؛ لأن في ذلك رضا بشعائر الكفر ومناسكه، والمؤمن لا يرضى أن يُكفر بالله تعالى شيئا، بل ينكر ذلك ويأباه، ويحذر الناس منه، ويدعوهم إلى الحق الذي هداه الله تعالى إليه، وهذا من الاعتزاز بالإسلام والفخر به، والدعوة إليه.(/9)
ألا وصلوا وسلموا...(/10)
العنوان: عيدا النيروز والمهرجان
رقم المقالة: 1905
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
هذان العيدان أكبر أعياد الفرس وأشهرها، وعرفه العرب قبل الإسلام ولا سيما أهل المدينة، ولعل ذلك كان لشهرة هذين العيدين، أو لمجاورة العرب للفرس مما يجعل بعض العادات تنتقل بين الأمم والشعوب، وفي حديث أنس رضي الله عنه قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما فقال: (ما هذان اليومان؟ قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله قد أبدلكم بهما خيرا منهما يوم الأضحى ويوم الفطر)[1].
قال شراح الحديث: إن اليومين المذكورين في الحديث هما يوم النيروز ويوم المهرجان، وقد شرع بدلا عنهما الفطر والأضحى[2].
ولما دخلت بلاد فارس في الإسلام، بقي من الفرس من بقي على مجوسيته، فانتقلت شعائر هذين العيدين إلى جهلة المسلمين؛ ولذلك يكثر في كتب فقه علماء الحنفية الكلام عن هذين العيدين، بسبب أن بلاد فارس والبلاد المتاخمة لها كان أكثر أهلها على المذهب الحنفي، فيبدو أن علماء الحنفية قد عانوا من تقليد المسلمين للفرس في هذين العيدين، وفقهاء الحنفية من أشد الناس إنكارا لمراسم هذين العيدين الفارسيين وشعائرهما، والإهداء فيهما ومن ذلك:
1- قال أبو حفص الكبير الحنفي: من أهدى في النيروز بيضة إلى مشرك تعظيما لليوم فقد كفر بالله تعالى وأحبط أعماله[3].
2- وقال القاضي أبو المحاسن الحسن بن منصور الحنفي: من اشترى فيه شيئا لم يكن يشتريه في غيره أو أهدي فيه هدية إلى غيره فإن أراد بذلك تعظيم اليوم كما يعظمه الكفرة فقد كفر وإن أراد بالشراء التنعم والتنزه وبالإهداء التحاب جريا على العادة لم يكن كفرا لكنه مكروه كراهة التشبه بالكفرة حينئذ فيحترز عنه[4].(/1)
3- في الدر المختار وحاشيته: (والإعطاء باسم النيروز والمهرجان لا يجوز) أي الهدايا باسم هذين اليومين حرام (وإن قصد تعظيمه) كما يعظمه المشركون (يكفر)...
ولو أهدى لمسلم ولم يرد تعظيم اليوم بل جرى على عادة الناس لا يكفر وينبغي أن يفعله قبله أو بعده نفيا للشبهة ولو شرى فيه ما لم يشتره قبل إن أراد تعظيمه كفر وإن أراد الأكل كالشرب والتنعيم لا يكفر[5].
4- وفي تبيين الحقائق: (والإعطاء باسم النيروز والمهرجان لا يجوز) أي: الهدايا باسم هذين اليومين حرام بل كفر[6].
أولا: عيد النيروز:
معنى النيروز: اليوم الجديد، لأن (نو) بمعنى الجديد، و(روز) بمعنى اليوم،وأصل الكلمة (نوروز) لكنها عربت في الاستعمال إلى (نيروز) وهو ستة أيام؛ حيث كانوا في عهد الأكاسرة يقضون حاجات الناس في الأيام الخمسة الأولى، وأما اليوم السادس فيجعلونه لأنفسهم وخواصهم ومجالس أنسهم، ويسمونه النيروز الكبير، وهو أعظم أعيادهم[7].
ويذكر أن النيروز أنواع:
الأول: نيروز العامة، وهو أول يوم من (فروردين ماه) من شهور الفرس، وهو الحمل.
الثاني: نيروز الخاصة، وهو اليوم السادس منه.
الثالث: نيروز السلطان، وهو أول يوم تكون الشمس في نصف نهاره في أول درجة من درجات الحمل.
الرابع: نيروز الدهاقين -والدهقان هو رئيس الإقليم أو التاجر أو المختار (العمدة)- وهو اليوم الذي دخلت فيه الشمس في الحوت.
الخامس: نيروز الخوارزم شاهي، وهو يوم تكون الشمس في نصف نهاره في الدرجة الثامنة عشرة من الحمل[8].
ويحتفل بعيد النيروز أيضًا البهائيون، وذلك في ختام صيامهم الذي مدته (19) يومًا وذلك في (21آذار)[9].
والنيروز أيضاً أول يوم من السنة عند القبط ويسمى عندهم: (عيد شم النسيم) ومدته عندهم ستة أيام أيضاً تبدأ من (6حزيران)[10].
وقد أفردت عيد شم النسيم ببحث مستقل بينت أن أصله من الفراعنة فلا يمنع أن يكون الأقباط أخذوه من تراث الفراعنة وآثارهم، ولا سيما أن الجميع في مصر.(/2)
وذكر أصحاب الأوائل أن أول من اتخذ النيروز حمشيد الملك، وفي زمانه بعث هود -عليه السلام- وكان الدين قد تغيّر، ولما ملك حمشيد جدّد الدين وأظهر العدل، فسمي اليوم الذي جلس فيه على سرير الملك نيروزًا، فلما بلغ من عمره سبعمائة سنة ولم يمرض ولم يوجعه رأسه تجبر وطغى، فاتخذ شكلاً على صورته وأرسلها إلى الممالك ليعظموها، فتعبّدها العوام، واتخذوا على مثالها الأصنام، فهجم عليه الضحاك العلواني من العمالقة باليمن فقتله كما في التواريخ. ومن الفرس من يزعم أن النيروز هو اليوم الذي خلق الله فيه النور. ويعتبر النيروز عيد رأس السنة الفارسية الشمسية ويوافق الحادي والعشرين من شهر مارس من السنة الميلادية، وكان من عادة عوامهم إيقاد النار في ليلته ورش الماء في صبيحته[11].
والعجيب أن الرافضة يشاركون المجوس في تعظيم النيروز والاحتفال به، زاعمين أنه اليوم الذي قتل فيه عثمان رضي الله عنه[12].
ثانيا: عيد المهرجان:
كلمة (مهرجان) مركبة من (المهر) ومعناه: الوفاء، و(جان): السلطان، ومعنى الكلمة: سلطان الوفاء.
وأصل هذا العيد: ابتهاج بظهور (أفريدون) على الضحاك العلواني الذي قتل (حمشيد) الملك صاحب عيد النيروز. وقيل: بل هو احتفال بالاعتدال الخريفي.
قلت: لا يمنع أن يكون أصله ما ذكر أولاً لكنه وافق الاعتدال الخريفي فاستمر فيه. والاحتفال به يكون يوم (26 من تشرين الأول من شهور السريان) وهو كسابقه ستة أيام أيضًا، والسادس منها المهرجان الكبير، وكانوا يتهادون فيه وفي النيروز المسك والعنبر والعود الهندي والزعفران والكافور[13].
وفي تاريخ الطبري: إن اليوم الذي غلب فيه أفريدون الضحاك كان روزمهر من مهرماه فاتخذ الناس ذلك اليوم عيدا لارتفاع بلية الضحاك عن الناس وسماه المهرجان[14].(/3)
وقيل هو اليوم الذي عقد فيه التاج على رأس أردشير بن بابك، أول ملوك الفرس الساسانية، وكان لهم فيه شعائر وعادات منها: أن يدهن ملكهم بدهن ألبان تبركا فيقلده العوام في ذلك، ويتوج بتاج عليه صورة الشمس، وربما كانوا يذهبون إلى تفضيله على النيروز،وإن كان النيروز أشهر[15].
وفي العصر الحاضر لا يزال الفرس يحتفلون بعيد المهرجان، وهو لديهم عيد الشمس، ويذكر أنه يوافق عيد الميلاد عن النصارى[16].
والعجيب أن الفرس في اليوم الثاني للمهرجان يعودون للحزن مرة أخرى؛ لأن ذلك اليوم يوافق انتصار المسلمين بقيادة سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه في معركة القادسية على الفرس بقيادة يزدجرد، واضمحلال أمر الفرس، وأفول دولتهم[17].
وأعجب من ذلك أن الروافض يعتقدون أن سقوط مملكة فارس بيد سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه كان موافقا ليوم عاشوراء[18] وقد نقل ابن كثير عن ابن إسحاق أن يوم القادسية كان يوم الاثنين من محرم سنة أربع عسرة[19].
وساد في عصرنا هذا عرف بين الناس يستعملون فيه كلمة (المهرجان) على كل تجمع ضخم، فيقولون: مهرجان التسوق، ومهرجان الألعاب، ومهرجان التمور، ومهرجان الصيف، ومهرجان الكتب.... وقد حرر الشيخ بكر أبو زيد أن إطلاق ذلك على اجتماعات المسلمين من مواطن النهي الجلي، وأن في اللغة ما يغني عنه[20].
موقف المسلم من عيدي النيروز والمهرجان:(/4)
تبين بما سبق عرضه أن هذين العيدين من أعياد الأمة الفارسية الوثنية، وأنه انتقل للعرب في المدينة وأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر المسلمين أن الله تعالى قد شرع لهما الفطر والأضحى عوضا عن النيروز والمهرجان، مما يقتضي إبطالهما وعدم الاحتفال بهما، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: إن اليومين الجاهليين لم يقرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تركهم يلعبون فيهما على العادة بل قال: (إن الله قد أبدلكم بهما يومين آخرين) والإبدال من الشيء يقتضي ترك المبدل منه؛ إذ لا يجمع بين البدل والمبدل منه؛ ولهذا لا تستعمل هذه العبارة إلا فيما ترك اجتماعهما... وأيضا فإن ذينك اليومين الجاهليين قد ماتا في الإسلام فلم يبق لهما أثر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عهد خلفائه، ولو لم يكن قد نهى الناس عن اللعب فيهما ونحوه مما كانوا يفعلونه لكانوا قد بقوا على العادة؛ إذ العادات لا تغير إلا بمغير يزيلها لا سيما وطباع النساء والصبيان وكثير من الناس متشوقة إلى اليوم الذي يتخذونه عيدا للبطالة واللعب؛ ولهذا قد يعجز كثير من الملوك والرؤساء عن نقل الناس عن عاداتهم في أعيادهم لقوة مقتضيها من نفوسهم، وتوفر همم الجماهير على اتخاذها فلولا قوة المانع من رسول الله صلى الله عليه وسلم لكانت باقية ولو على وجه ضعيف. فعلم أن المانع القوي منه كان ثابتا وكل ما منع منه الرسول منعا قويا كان محرما؛ إذ لا يعني بالمحرم إلا هذا. وهذا أمر بين لا شبهة فيه فإن مثل ذينك العيدين لو عاد الناس إليهما بنوع ما مما كان يفعل فيهما إن رخص فيه كان مراغمة بينه وبين ما نهى عنه فهو المطلوب[21].اهـ.
ولذا فإن الواجب على المسلم تجاه عيدي النيروز والمهرجان ما يلي:
1 - عدم الاحتفال بهما، أو مشاركة المحتفلين بهما في احتفالاتهم.(/5)
2 - عدم إعانة الكفار من الفرس وغيرهم على احتفالهم بهما بإهداء أو طبع أدوات العيد وشعاراته وبطاقاته أو إعارتهم ما ينتفعون به في هذين العيدين؛ لأنهما شعيرتان من شعائر الكفر، فإعانتهم وإقرارهم عليهما إعانة على ظهور الكفر وعلوه والإقرار به.
3 - عدم إعانة من احتفل بهذين العيدين من المسلمين، بل الواجب الإنكار عليهم؛ لأن احتفال المسلمين بأعياد الكفار منكر يجب إنكاره.
4 - عدم تبادل التهاني بهذين العيدين؛ لأنهما ليسا من أعياد المسلمين. وإذا هنئ المسلم بهما من مجوسي أو من مسلم فلا يرد التهنئة بل ينكر على من هنأه أو يدعو له بالهداية أو يسكت.
5 - توضيح حقيقة هذين العيدين وأمثالهما من أعياد الكفار لمن اغتر بها من المسلمين، وبيان ضرورة تميز المسلم بدينه، والمحافظة على عقيدته مما يخل بها، وتذكيره بمخاطر التشبه بالكفار في شعائرهم الدينية كالأعياد، أو بعاداتهم وسلوكياتهم التي اختصوا بها؛ نصحا للأمة، وأداء لواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي بإقامته صلاح العباد والبلاد، وحلول الخيرات، وارتفاع العقوبات كما قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود:117].
أسأل الله تعالى أن يحفظ المسلمين من مضلات الفتن وأن يقيهم شرور أنفسهم ومكر أعدائهم انه سميع مجيب. وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
ـــــــــــــــــــــــــــ
[1] رواه أبو داود (1134) وأحمد 3/103وصححه الحاكم وقال على شرط مسلم 1/434 ووافقه شيخ الإسلام ابن تيمية في الاقتضاء 1/184.
[2] انظر: عون المعبود 3 /341 والعقود الدرية السلطانية ص32.
[3] انظر: الطبقات السنية للتقي الغزي 1/343 وتاج التراجم لابن قطلوبغا ص94.
[4] عون المعبود 3/342 والعقود الدرية ص33-34.
[5] الدر المختار وحاشيته 6/754-755.
[6] تبيين الحقائق 6/228.(/6)
[7] انظر في ذكر هذا العيد: العقود الدرية السلطانية فيما ينسب للأيام النيروزية لمحمد سلطان الخجندي الحنفي، وتاريخ الطبري 1/735 وتاريخ ابن الوردي 1/80 والكامل 1/125 وتاريخ ابن خلدون 2/147 ومجلة المشرق الكاثوليكية عدد (4)، ص241-253 والموسوعة العربية العالمية 16/709 والموسوعة العربية الميسرة 2/1247.
[8] العقود الدرية ص21-22.
[9] مجلة الأزهر، عدد (10)، ص1485.
[10] موسوعة الأديان والمذاهب المعاصرة (1/415).
[11] انظر: شرح ثلاثيات مسند الإمام أحمد، للسفاريني (1/578)، وحاشية الحلو والتركي على المغني لابن قدامة (4/428).
[12] العقود الدرية السلطانية ص34.
[13] شرح ثلاثيات مسند الإمام أحمد (1/578) ومجلة المنار عدد (6)، ص99 وحاشية الحلو والتركي على المغني (4/428).
[14] تاريخ الطبري ج1/ص132.
[15] موسوعة أغرب الأعياد سيد صديق عبد الفتاح ص277-278.
[16] الأعياد عبر التاريخ، حسن نعمة ص222.
[17] المصدر السابق 222.
[18] المصدر السابق 222.
[19] البداية والنهاية ط التركي 9/630-631.
[20] معجم المناهي اللفظية ص533.
[21] اقتضاء الصراط المستقيم 1/184-186.(/7)
العنوان: غايات الأدب الإسلامي (موضوعٌ تفاعليّ)
رقم المقالة: 1977
صاحب المقالة: خاص: الألوكة
-----------------------------------------
يؤمن الأديب المسلم بقول الله عز وجل: {قُلْ إنّ صلاتيْ ونُسُكيْ ومَحيَايَ ومَماتيْ للهِ ربِّ العالمينَ لا شريك لهُ وبذلكَ أُمرتُ وأنا أوّلُ المسلمينَ}. [سورة الأنعام، الآية 162]. وبقولهِ: {أفَحسِبتُمْ أنّما خَلقناكُمْ عَبَثاً وأنّكمْ إلينا لا تُرجَعونَ}. [سورة المؤمنون، الآية 115].
وهذا يعنيْ أنّ للأديب المسلم وجهةً واضحة، وهدفاً محدّداً، يستبينهما مِن قول الله عز وجل: {ومَا خلقتُ الجنَّ والإنْسَ إلاّ لِيعبُدونِ}. [سورة الذاريات، الآية 56].
والأدبُ مَنشطٌ مِن مناشطِ الحياةِ، ومَيدانٌ مِن ميادين الجهاد. وإذا كان الإنسانُ محاسَباً على أفعاله فإنه محاسب على أقواله، ولذا فإنّ الأديب المسلم لا يُطلق لموهبته العنان، بل يضبطها، انطلاقاً من قول الله عز وجلّ: {ما يَلفِظُ مِن قولِ إلاّ لديهِ رقيبٌ عتيدٌ}. [سورة ق، الآية 18].
وغايةُ الأدب في نظر الأديب المسلم تنطلق من غايتهِ في الحياة، وهي خِدمة العقيدة وتحقيق العبودية لله عز وجل، وهي غاية مركزية تتفرع عنها غايات جزئية:
-فهناك الغاية التربوية التي تهدف إلى نقل المُعتقدات والأفكار والعادات والتقاليد المرغوب فيها. وقد تنبّه إلى هذه الغاية عُمر بنُ الخطّاب رضي الله عنه، فكتب إلى أي موسى الأشعري: (مُرْ مَن قِبَلكَ بتعلّم الشعر، فإنه يدلُّ على معالي الأخلاق وصواب الرأي ومعرفةِ الأنساب).
-وهناك الغاية الجمالية التي تُشبع في الإنسان مَيلهُ إلى الجَمال، وتَصقُل ذوقه وترفعه ليعود قادراً على استكشاف مظاهره في مجالي الكون والحياة.
وإننا نلمس هذه الغاية في عدد كبير من آيات القرآن الكريم التي تقدم للقارئ لقطات رائعة من مظاهر الجمال في الوجود، ومن هذه الآيات، ومجال الاستشهاد رَحب:(/1)
{وَالشّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاَهَا * وَالنّهَارِ إِذَا جَلاّهَا * وَاللّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسّمَآءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالأرْضِ وَمَا طَحَاهَا...}. [سورة الشمس، الآيات 1-6].
{أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ * وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ * وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء مُّبَارَكًا فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ * رِزْقًا لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ}. [سورة ق، الآيات 6-11].
وإن الجمال أمرٌ يحبه الله عز وجل، وحريٌّ بالمؤمن أن يحبه، وقد بين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: (إنّ اللهَ جميلٌ يحبّ الجمال).
-وهناك الغاية الترويحية، التي تهدف إلى التخفيف من أعباء الحياة، وإعطاء النفس دفعة من النشاط، وقد تنبّه إلى ذلك علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقال: (روِّحوا القلوبَ ساعةً بعد ساعة، فإن القلبَ إذا أُكرِهَ عمي).
وقد حقّقَ شعراء الإسلام هذه الغاية في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهدِ خلفائه الراشدين، خلال الفتوح الإسلامية، فدافعوا عن الإسلام، وهجَوا أعداءه، ورثَوا شُهداءه، وبثّوا روحَ الحماسة بالحديث عن النصر على جيوش المشركين، وجيوش الفُرس والروم، وصاغوا شعرَ الحكمة، ووضّحوا مظاهر الجمال في الطبيعة.
إخوتنا وأخواتنا القرّاء..
رأينا أن تكون هذه الكلمات التي ذكرها الأديب الأستاذ/ مأمون فريز جرار، في كتابه القيّم (خصائص القصة الإسلامية)، رأينا أن تكون بداية لحوارنا وحديثنا حول غايات الأدب الإسلامي في هذه الحلقة النقاشية المصغرة..(/2)
-فهل للأدب الإسلامي غايات أخرى غير ما ذُكر ؟
-وما مصادر هذه الغايات.. ومن أين نستقيها ؟
-وهل تختلف الغايات من فن لآخر؟ ومن أديب لآخر؟
-وهل للغايةُ في الأدب دورٌ أساسي لدى النقّاد بصفة عامّة؛ أم أنها لدى الانطباعيين منهم بخاصّة؟ وما مدى تأثير ذلك على نقدهم؟
-وهل تغيّرت الغايات أو تطورت منذ بدء الشعر الإسلامي في عصر صدر الإسلام حتى الآن؟
- وهل ثمّة شواهدٌ تدل على ما سنقول؟
بشوقٍ وشغف.. سننتظر إثراءكم للموضوع، وحواركم الأنيق، وإجاباتكم عن هذه الأسئلة وغيرها..
ولا شكّ أن في ذلك دعماً للأدب الإسلامي، واكتشافاً وتنبيهاً إلى لأمور قد تُذكر هنا ولم يكن أحد قد انتبه إليها من قبل..
.. ننتظركم..(/3)
العنوان: غرائب مالك بن أنس
رقم المقالة: 1634
صاحب المقالة: أبو عبدالباري رضا بوشامة الجزائري
-----------------------------------------
غرائب مالك بن أنس لابن المظفر البزاز (ت379هـ)
تحقيق: طه بن علي بوسريح
أبو عبدالباري رضا بوشامة الجزائري
الجزائر
يعدّ موطأ الإمام مالك إمام دار الهجرة من أكثر الكتب ذيوعًا في العالم الإسلامي، وقد حظي بخدمة أجلة العلماء، فعكف عليه أسلافنا من بين شارح له ومختصر، ومرتّب له على أبواب معينة، وموصل لأحاديثه المقطوعة والمرسلة، ومبين لألفاظه الغريبة… إلى غير ذلك مما حواه من العلوم الجمة، والفوائد الكثيرة.
ومن تلك المؤلفات التي عنيت بالموطأ: ما وضعه الإمام الحافظ أبو الحسين محمد بن المظفر البزاز (ت 379هـ) في ذكر غرائب حديث مالك بن أنس رحمة الله عليه سندًا ومتنًا، وبيّن علل الروايات المخالفة للمشهور عن مالك، فخرج الكتاب لطيفًا في موضوعه، قويًّا في مادته، أسند المؤلف أحاديثه، وبيَّن العلل، وذكر المحفوظ والشاذ.
وقمت بتحقيق هذا الكتاب وخدمته - حسب القدرة والاستطاعة مع قلة البضاعة - ونشر في طبعته الأولى سنة (1418هـ) بدار السلف بالرياض، ونال إعجاب بعض الباحثين، ولله الحمد والمنة.(/1)
وبعد برهة قليلة من الزمن اطلعتُ على تحقيق آخر للكتاب قام بتحقيقه رجل من البلاد التونسية يسمى طه بن علي بوسريح، نشرته دار الغرب الإسلامي عام (1998م) في طبعته الأولى وهي الدار التي عنيت أيما عناية بإخراج الكتب التراثية التي تخدم مذهب إمام دار الهجرة سواء كانت الفقهية أم الحديثية - ولما وقفتُ على الكتاب أعجبني إخراجه الفني، وساءني إخراجه العلمي - ومن قبل عهدت المحقق مصحفًا بدءًا بكتاب الجوهري ((مسند الموطأ)) الذي أخرجه مع زميله لطفي الصغير وفيه من التصحيف والسقط الشيء الكثير، ولعل الله أن ييسر إخراج تلك الملاحظات حول الكتاب إن شاء الله، فبدأت أقرأ وأتصفح كتاب ((غرائب مالك)) لابن المظفر، فإذا بي أقف على عبث بتراث الأمة، وصورة من صور التحقيق المشوَّه، يذكِّرني بتحقيقات (تصحيفات) ذلك المصري المتسلط على تراث الأمة محمد زينهم محمد عزب، فبدأت أقارن النص المطبوع بالمخطوط فهالني ما فيه من الفروق والنسخة واحدة لا ثانية لها، فتحقيقه كما قيل:
أقول له زيدًا فيسمع خالدًا ويكتبه عمرًا ويقرؤه بشرًا
وبعد أن انتهيتُ من التعليق على كتابه وبيان تلك الفروقات نصحني بعض الغيورين على العلم وتراث السلف بكتابة مقال أبيِّن من خلاله ما وقع فيه المحقق! من أغلاط وأخطاء، فعزمت المضي في ذلك لا للتشهير بالمحقق وتعييره، وإنما نصحًا لله وكتابه، كيف لا والمحقق في كتابه أشار إلى بعض التصحيفات الواقعة في كتب من قبله من المحققين والمعلقين، فمذهبه بيان الأخطاء والتصحيفات الواقعة في الكتب، فانتهجنا مذهبه، بل هو المذهب الحق الذي يجب اتباعه لحماية التراث من الجناية عليه على أيدي العابثين[1].(/2)
قال السخاوي رحمه الله: ((وكذا صنف فيه[2] الخطابي وابن الجوزي، لا لمجرد الطعن بذلك من أحد منهم في واحد ممن صحف ولا للوضع منه، وإن كان المكثر ملومًا والمشتهر بين النقاد مذمومًا، بل إيثار لبيان الصواب وإشهار له بين الطلاب، ولهذا لما ذكر الخطيب في جامعه أنه عيب جماعة من الطلبة بتصحيفهم في الأسانيد والمتون، ودون عنهم ما صحفوه، قال: وأنا أذكر بعض ذلك ليكون داعيًا لمن وقف عليه إلى التحفظ من مثله إن شاء الله، لاسيما وينبغي لقارئ الحديث أن يتفكر فيما يقرؤه حتى يسلم منه، وقول العسكري: إنه قد عيب بالتصحيف جماعة من العلماء، وفضح به كثير من الأدباء وسموا الصحيفة، ونهي العلماء عن الحمل عنهم محمول على المتكرر منهم، وإلا فما يسلم من زلة وخطأ إلا من عصم الله، والسعيد من عدت غلطاته)) .
وقد وقع محقق كتاب ((غرائب حديث مالك)) في أخطاء كثيرة بعضها ناتج عن سوء قراءة النص، وبعضها عن جهل بالتحقيق وأصوله.
وقد انتهجتُ في بيان تصحيفاته وأخطائه المنهج التالي:
قسمت ما وقع فيه المحقق من أخطاء إلى أربعة أقسام:
الأول: السقط.
الثاني: التصحيف.
الثالث: أخطاء علمية.
الرابع: زيادات في النص.
الخامس: بياضات وفراغات تركها المحقق.
وقد تتداخل هذه النقاط في بعضها، كأن يكون النص مشتملًا على سقط وتصحيف، فأورده في مكان واحد، ويتبينها القارئ بالمقابلة بين النصين.
وقد لا أورد جميع التصحيفات التي وقع فيها المحقق؛ ليسر الأمر في بعضها كزيادة حرف أو إسقاطه، وهذا إذا لم يكن مخلًّا بالمعنى، ولو تقصيت جميع ذلك لطال الأمر.
كما أنه كثر في الكتاب الأخطاء المطبعية وهذه لا أنبه عليها لسهولة تداركها ومعرفتها، وكذا وقع فيه بعض الزيادات في الأسانيد والمتون، كنسبة الرجل وذكر اسم أبيه، وغير ذلك، ولعل هذا ناتج من أن صورة المخطوط عنده ليست واضحة فزاد فيها ما ظنه أنه مكمل لها، والله أعلم.(/3)
وقد أنقل بعض التخريجات وأقوال أهل العلم من تحقيق للكتاب، ولا أشير إلى صفحات الكتب، وإنما أكتفي بالإحالة إلى غرائب مالك بتحقيقي لمن شاء التأكد والاطمئنان.
وقبل البدء في ذلك هاهنا تنبيهات مهمة تتعلق بأول الكتاب وآخره:
1- اسم الكتاب:
قال المحقق: غرائب مالك بن أنس.
والصواب: غرائب حديث أبي عبد الله مالك بن أنس.
2- لم يذكر المحقق السماع الموجود في اللوحة الأولى من الكتاب، وإن كان ترجم لرواته في المقدمة، وهو كالتالي:
رواية: القاضي أبي العلاء محمد بن علي بن أحمد بن يعقوب الواسطي عنه.
رواية: الشيخ الأمين أبي الفضل أحمد بن الحسن بن خيرون الباقلاني عنه.
رواية: أبي الفتح محمد بن عبد الباقي بن أحمد بن سلمان بن البطي الحاجب عنه لإسماعيل بن عبد الله بن عبد المحسن بن الأنماطي الأنصاري وفق الله به آمين.
3- لم يذكر المحقق ما ورد في آخر الكتاب، وهو كالتالي:
آخر الجزء والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا.
كتبه لنفسه: إسماعيل بن عبد الله بن عبد المحسن بن الأنماطي الأنصاري المصري بدمشق في ربيع الآخر سنة ثنتي عشرة وستمائة.
4- لم يورد المحقق السماعات الموجودة في آخر النسخة مع أهميتها من حيث إثبات صحة نسبة الكتاب للمؤلف، وكذا تداول العلماء لهذه النسخة وسماعها، فلعله تركها لصعوبة قراءة بعض الأسماء فيها، ومن أرادها فلينظرها في تحقيقي للكتاب (ص253 - 254).
وهذا أوان الشروع في المقصود:
أولاً: السقط في النصوص، وقد أخلّ ذلك بالمعنى سواء من ناحية الإسناد أو المتن، وجعلتُ الساقط بين معقوفين فليتنبه له.
الحديث رقم (1):
أنا القاضي أبو العلاء محمد [بن علي] بن أحمد بن يعقوب الواسطي.
الحديث رقم (9):
حدثناه أبو الفضل جعفر بن الصقر بن الصلت [بمصر]، نا أبو الشريف.
الحديث رقم (25):
حدثنا [أبو بكر] محمد بن زبان.
ثم قدم الثوري فحدثنا به عنك.
الحديث رقم (35):(/4)
حدثنا الحسن [بن علي] الحلواني.
الحديث رقم (36):
أن رسول الله أكل كتف شاة [ثم صلى] ولم يتوضأ.
الحديث رقم (51):
وحدثنا [علي بن أحمد نا] أحمد بن سعيد.
الحديث رقم (52):
حدثي أبو بكر أحمد [بن محمد] بن عبد الوهاب.
الحديث رقم (70):
سقط في آخره قول المصنف: [في الموطأ: مالك، عن أبي بكر بن نافع].
الحديث رقم (96):
نا [إبراهيم] بن مرزوق.
الحديث رقم (137):
عن ابن وهب، حدثني مالك [والليث]، عن يحيى بن سعيد.
الحديث رقم (161):
عن أبي النظر [سالم]، ثنا عبيد الله بن أبي رافع.
ثانيًا: التصحيف والتحريف، وهذا كثير في الكتاب؛ مما جعل المحقق يقع في أوهام وأخطاء علمية شنيعة، وجعله يأتي بأشياء لا معنى لها، فغيّر المعنى واختلق أسانيد لا وجود لها.
الحديث رقم (4):
يسقطن في حجري.
الصواب: يسقطن في حجرتي.
الحديث رقم (9):
عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن مطيع عن نوفل.
الصواب: عن أبي بكر بن عبد الرحمن، عن عبد الرحمن بن مطيع عن نوفل.
الحديث رقم (11):
والله ما علمنا إلا عاملًا صالحًا.
وعلق المحقق على كلمة (عاملًا) فقال: الكلمة غير واضحة في الأصل.
الصواب: والله ما علمنا إلا عفافًا وصلاحًا.
قلت: والكلمة واضحة في الأصل لا تحتاج إلى تصحيف!
الحديث رقم (12):
أنتم تزرون على صاحبكم، قال: قلت: الشافعي ما رأى محمد بن الحسن مثل مالك.
ثم علق المحقق على كلمة (تزرون) وقال: الكلمة غير واضحة في الأصل.
الصواب: أنتم تزرون على صاحبكم، قال محمد بن طالب الشافعي: ما رأى محمد بن الحسن مثل مالك.
وقوله: ((تزرون)) واضحة في الأصل، وفي اللغة، قال ابن فارس: الزاء والراء والحرف المعتل يدل على احتقار الشيء والتهاون به، يقال: زريت عليه إذا عبت عليه، وأزريت به: قصرت به. انظر: معجم مقاييس اللغة (3/52).
الحديث رقم (16):
حدثني محمد بن غيلان، نا عبد الله بن يزيد.
الصواب: حدثني يحيى بن غيلان، نا عبد الله بن بزيع.
الحديث رقم (27):(/5)
فكان يبدأ فيغسل رأسه.
الصواب: فكان يبدأ فيغسل يديه.
الحديث رقم (30):
فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو واضع رأسه.
الصواب: فجاء ورسول الله واضع رأسه.
الحديث رقم (31):
فقام رسول الله على أثره.
الصواب: فقام رسول الله على التماسه. فجاء أبو بكر ورسول الله واضع رأسه على فخذي فعاتبني أبو بكر وقال ما شاء الله أن يقول.
الصواب: فجاء أبو بكر ورسول الله واضع رأسه على فخذي قد نام، فقال ما شاء الله أن يقول.
الحديث رقم (33):
وأبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة بحمص.
وعلق المحقق على كلمة (حمص) فقال: غير واضحة بالأصل، وأظنها بمصر، وما أثبته جاء في تاريخ بغداد.
قلت: الصواب أنها مصر كما هي واضحة في النسخة، وما جاء في تاريخ بغداد تصحيف.
- نا مالك بن أنس، نا ثور بن زيد الديلي.
الصواب: نا مالك بن أنس، عن ثور بن زيد الديلي.
الحديث رقم (34):
قلت لمالك بن أنس: قد حدثنا ابن جريج فحدثنا عن الثوري عنك.
الصواب: قلت لمالك بن أنس: قدم علينا ابن جريج فحدثنا عن الثوري عنك.
الحديث رقم (35):
عن يزيد بن عبد الله بن الهاد.
الصواب: عن يزيد بن عبد الله بن قُسيط.
الحديث رقم (42):
حدثنا أبو عروبة الحسين بن محمد بن مشدود.
ثم علق المحقق على كلمة (مشدود) فقال: غير واضحة بالأصل.
قلت: بل هي واضحة، وصوابها: مودود. ثم لو رجع المحقق إلى ترجمة الرجل لاتضحت له الكلمة!!
- من أكل من هذه الشجرة الخبيثة أو المنتنة - مالك يشك - .
الصواب: من أكل من هذه الشجرة الخبيثة أو المنتنة، قال: أنا أشك.
الحديث رقم (44):
نا هُوير بن معاذ.
الصواب: هَوبر بن معاذ.
قلت: والمحقق نقل ترجمته من الجرح والتعديل لابن أبي حاتم، وفيها هوبر (بالباء الموحدة)، مع ذلك صحف في الأصل وفي التعليق!!
الحديث رقم (45):
فأحكم له بقدر ما أسمع.
الصواب: فأقضي له بقدر ما أسمع.
الحديث رقم (48):
نا جعفر بن عبد الواحد قال لنا ابن حرب، نا مالك.(/6)
الصواب: نا جعفر بن عبد الواحد: قال لنا مطرف، نا مالك.
قلت: والمحقق لم يعرِّف لنا بهذا الراوي عن مالك المخترع (ابن حرب) !!
الحديث رقم (49):
عن عروة، عن عائشة، ((صامت هي وحفصة)).
الصواب: عن عروة: أن عائشة صامت هي وحفصة.
الحديث رقم (61):
قال له تميم الداري: يا رسول الله ألا أجعل لك منبرًا أتكئ عليه ما شئت أو افعل، فجعل له مرقاته بموضع لمجلسه.
الصواب: قال له تميم الداري: يا رسول الله ألا أجعل لك منبرًا تتكئ عليه؟ قال: ما شئت أو افعل، فجعل له مرقاتين وموضعًا لمجلسه.
الحديث رقم (63):
نا عمر بن مرزوق قال: نا مالك.
الصواب: نا عمرو بن مرزوق قال: نا مالك.
في الموطأ عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
الصواب: في الموطأ عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة نحو هذا الحديث.
الحديث رقم (66):
حدثنا أبو بكر محمد بن مسكين بن عبد الله.
الصواب: حدثنا أبو بكر محمد بن بشر بن عبد الله.
الحديث رقم (73):
نا ابن وهب، عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله، عن عبيد الله بن عتبة بن مسعود: دخل على طلحة يعوده.
الصواب: نا ابن وهب، أخبرني مالك، عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود: أنه دخل على أبي طلحة يعوده.
الحديث رقم (81):
الثيب أحق بأنفسهن من وليهن والبكر تُستأمر في نفسها.
الصواب: (الثيب أحق بأنفسهن من وليهن والبكر يستأذنها أبوها).
الحديث رقم (89):
الغسل يوم الجمعة واجب، فقالوا له: هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا تلقني.
الصواب: الغسل يوم الجمعة واجب، فقال رجل: عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا تلقني.
الحديث رقم (94):
نا سيلمان بن منيف.
الصواب: نا سيلمان بن سيف.
الحديث رقم (103):
حدثنا أحمد بن علي
الصواب: حدثنا أحمد بن عبد الله البيِّع.
الحديث رقم (108):(/7)
نا محمد بن حوان بن شعبة، نا خالد بن مخلد، عن مالك، عن أبي نعيم وهب بن كيسان، عن عمر بن أبي سلمة قال: قال رسول الله.
الصواب: نا محمد بن جُوان بن شعبة، نا خالد بن مخلد، نا مالك، عن أبي نعيم وهب بن كيسان، عن عمر بن أبي سلمة قال: قال لي رسول الله.
الحديث رقم (115):
نا عيسى بن أدهم.
الصواب: نا عيسى بن إبراهيم.
الحديث رقم (117):
حدثنا أبو حفص عمر بن أحمد بن علي الحضرمي.
الصواب: حدثنا أبو حفص عمر بن أحمد بن علي الجوهري.
الحديث رقم (119):
حدثنا علي بن أحمد بن سليمان.
الصواب: حدثنا محمد بن محمد بن سليمان.
الحديث رقم (121):
حدثنا يحيى بن محمد من أصل كتابه وأحمد بن عمرو بن جابر قالا: نا محمد بن عوف، قرأت على إسحاق بن إبراهيم الحُنيسي عن مالك عن نافع.
الصواب: حدثنا يحيى بن محمد، وأبو بكر أحمد بن عمرو بن جابر، قالا: نا محمد بن عوف: قرأت على إسحاق بن إبراهيم الحُنيني، عن مالك والعُمري، عن نافع.
الحديث رقم (122):
حدثناه يحيى بن محمد بن يحيى بن سليمان بن نضلة.
الصواب: حدثناه يحيى بن محمد، نا يحيى بن سليمان بن نضلة.
الحديث رقم (129):
نا ابن وهب، حدثني سعيد بن عبد الرحمن الجمحي، عن مالك بن أنس.
الصواب: نا ابن وهب، حدثني سعيد بن عبد الرحمن الجمحي، ومالك بن أنس.
الحديث رقم (154):
حدثنا عبد الله بن محمد بن محمد، نا طاهر بن خالد بن نزار ونا أبي.
الصواب: حدثنا عبد الله بن محمد بمصر، نا طاهر بن خالد بن نزار، نا أبي.
الحديث رقم (155):
حدثنا أحمد بن عمير، نا القاسم بن مروان بن يوسف.
الصواب: حدثنا أحمد بن عمير، نا الهيثم بن مروان بن يوسف.
ثم إن ذكر يوسف في الأصل المخطوط خطأ نبهت عليه في تحقيقي للكتاب.
الحديث رقم (158):
حدثنا أيوب بن محمد بن محمد بن داود القرى بمصر، نا ابن سهل الحضرمي.
الصواب: حدثنا أبو بكر محمد بن داود المقرئ بمصر، نا مسعود بن سهل الحضرمي.
الحديث رقم (159):(/8)
حدثني زيد بن يحيى بن عبيد الله، عن مالك.
الصواب: حدثني زيد بن يحيى بن عبيد، نا مالك.
الحديث رقم (163):
حدثنا أحمد بن نصر، نا محمد بن سهم الأنطاكي.
الصواب: حدثنا أحمد بن نصر، نا أحمد بن إبراهيم الأنطاكي.
الحديث رقم (165):
نا الوليد بن مسلم، حدثني مالك بن أنس.
الصواب: نا الوليد بن مسلم، حدثني مالك وغيره.
الحديث رقم (167):
حدثنا أبو الحسن علي بن عبد الله الواسطي، نا طليق بن محمد بن السكن الواسطي، نا عبيد الله بن موسى، عن إسماعيل …عن هانئ بن هانئ عن علي، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((استأذن عمار على النبي صلى الله عليه وسلم [ائذنوا] مرحبًا، للطيب المطيب)).
الصواب: حدثنا أبو الحسن علي بن إسماعيل الدقاق، نا طليق بن محمد بن السكن الواسطي، نا عبيد الله بن موسى عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي أسحاق، عن هانئ بن هانئ، عن علي، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: استأذن عمار على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((مرحبًا، ائذنوا للطيب المطيب)).
الحديث رقم (179):
حدثنا أسامة بن علي، نا عبد الرحمن بن خالد، نا عبد الرحمن بن الرصافي، نا زهير بن إسحاق السلولي، عن أبي عامر الخزاز، عن أبي بصرة، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله ^: ((إن آية النفاق أن تذكر القوم وما ذُكروا فإذا أمسكت عنهم لم يُذكروا، فلا تذكروا فلا تكونوا كاليهود إذا تليت عليهم التوراة ما دوالها وإذا لم يكن من وراء ذلك شيء)).
الصواب: حدثنا أسامة بن علي، نا عبد الرحمن بن خالد، نا عبد الرحمن بن زياد الرصاصي، نا زهير بن إسحاق السلولي،عن أبي عامر الخزاز، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن آية النفاق أن يذكر القوم ما ذكروا، فإذا أمسك عنهم لم يذكروا، فلا تكونوا كاليهود إذا تليت عليهم التوراة نادوا لها[3]، وإذا أمسك عنهم لم يكن من وراء ذلك شيء)).
الحديث رقم (194):(/9)
حدثنا إسحاق بن بيان بن معن الأنماطي، نا أبو همام الوليد بن يحيى شجاع.
الصواب: حدثنا إسحاق بن بنان بن معن الأنماطي، نا أبو همام الوليد بن شجاع.
ثالثًا: أخطاء علمية وقع فيها المحقق، وهذه كثيرة وهي أخطر ما في الكتاب، بعضها ناتج من قلة ممارسته لهذا الفن - أعني علم الحديث ودراسة الأسانيد - والكثير منها سببه التصحيف والتحريف، أنتجا له عدم الوقوف على تراجم كثيرة لرواة صحّف أسماءهم، ثم أداه اجتهاده أن يحكم على بعضهم بالجهالة، فبالتالي ضعف الأسانيد التي صحفها، وهذا فيه تسور وتجاسر على تراث الأمة، وهو أخطر شيء ينتجه التصحيف والتحريف، والله المستعان.
الحديث رقم (8):
ضعّف المحقق إسناد هذا الحديث بمخالفة عبد الرحمن بن إسحاق لابن أبي ذئب، وسرد بعض أقوال أهل العلم في عبد الرحمن بن إسحاق، وأنه متكلم فيه، وقال في آخر التعليق: من كان هذه حاله لا يقوى على مخالفة من هو أوثق منه ممن هو مثل ابن أبي ذئب، فيغلب على الظن أن زيادته تلك في الإسناد خطأ، والله أعلم.
قلت: يعني بالزيادة في الإسناد ما رواه عبد الرحمن بن إسحاق، عن الزهري، عن أبي بكر بن عبد الرحمن، عن عبد الرحمن بن مطيع، عن نوفل بن معاوية. وابن أبي ذئب يرويه عن الزهري، عن أبي بكر، عن نوفل بن معاوية، ولم يذكر عبد الرحمن بن مطيع.
فأعل المحقق رواية عبد الرحمن بن إسحاق برواية ابن أبي ذئب، وهذا صحيح لو انفرد بهذا الإسناد عبد الرحمن بن إسحاق، فكيف وقد تابعه ثقتان، صالح بن كيسان عند البخاري ومسلم، وإبراهيم بن سعد عند أحمد في المسند.
ثم إن ابن أبي ذئب متكلم في روايته عن الزهري.
وقد قال الحافظ ابن رجب: ((ورواه ابن أبي ذئب عن الزهري فأسقط من إسناده عبد الرحمن بن مطيع)). أتعليق المحقق يقبل أم تعليل ابن رجب رحمه الله؟ انظر: ((غرائب مالك)) بتحقيقي (ص45-46).
الحديث رقم (13):
قال المحقق معلقًا عليه: إسناده صحيح رجاله ثقات.(/10)
قلت: أنّى لإسناده الصحة، وشيخ المصنف متروك الحديث؟!
الحديث رقم (16):
علق المحقق على هذا الإسناد فقال: إسناده صحيح.
ثم أخرج الحديث من الموطآات كرواية ابن القاسم ويحيى وغيرهما.
قلت:
أولاً: الإسناد ضعيف، فيه عبد الله بن بزيع الذي صحفه المحقق إلى يزيد وهو ضعيف.
ثانيًا: الصواب في هذا الإسناد أن عبد الله بن بزيع يرويه عن روح بن القاسم عن الزهري عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعًا، وسقط من النسخة ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، والصواب إثباته، خاصة أن المصنف ذكر قبل هذا الحديث إسناد ابن وهب إلى مالك موقوفًا على أبي هريرة، ثم أردفه بهذا الإسناد الغريب عن مالك مرفوعًا. وهذا الذي ذكره ابن عبد البر في التمهيد، كما بينت ذلك في تحقيقي للكتاب (ص53).
الحديث رقم (20):
علق المحقق على أبي سبرة أحد رواه الحديث فقال في الحاشية(2): أبو سبرة محمد بن عبد الرحمن القرشي المدني، ذكره المزي في الرواة عن مطرف (28/72) ولم أجد ترجمته إلى الآن، ويبدو أنه مجهول.
قلت: كيف استساغ المحقق أن يحكم على رجل بالجهالة بحجة أنه لم يقف على ترجمته، فلعل المحقق من كبار الحفاظ؟!! أم أنه استقصى جميع كتب الرجال؟ أم أنه ادعاء وتطفل على العلم؟ كيف لا وكثير من كتب الرجال في عداد المفقود لم يطلع عليها كبار المحققين والعلماء، كالتمييز للإمام النسائي، وتاريخ نيسابور للحاكم، وغيرها كثير، فكيف بطالب علم، فكيف بمصحِّف جاهل؟!
وأما أبو سبرة فهو عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن أبو سبرة المدني، قال الدارقطني: يروي عن مطرف عن مالك أحاديث عدة يخطئ فيها عليه، وقال أيضًا: كثير الوهم. كما ضعفه أبو أحمد الحاكم والذهبي. انظر: تعليقي على الكتاب (ص57).
الحديث رقم (21):
نا محمد بن سعد البيروتي: قرأت في نسخة الأوزاعي: عطاء بن أبي العشرين عن أبيه، عن الزهري.(/11)
ثم علق المحقق الفاضل! على الحديث فقال: «إسناده ضعيف، عطاء وأبوه لم أجد ترجمتهما إلى الآن، ولم يذكروا في الرواة عن الزهري أبا العشرين)).
قلت: وعلى تعليقه عدة ملاحظات:
1- التصحيف الذي وقع فيه وصوابه: نا محمد بن سعد البيروتي: قرأت في نسخة ابن الأوزاعي بخط ابن أبي العشرين، عن أبيه، عن الزهري.
2- لا ينبغي أن يضعف إسناد حديث من هو مبتدئ في هذا الفن بزعم أنه لم يقف على ترجمة رجل من رجال الإسناد فضلًا عن مصحِّف لا يدري ما يكتب ولا ما يقرأ.
3- عطاء بن أبي العشرين لا وجود له في الدنيا، فلو بحث المحقق! كل كتب الرجال المؤلفة مخطوطها ومطبوعها لن يجد رجلًا اسمه عطاء بن أبي العشرين يروي عن أبيه وأبوه يروي عن الزهري!
4- نتج عدم وجود ترجمة عطاء وأبيه من تصحيف المحقق فابن الأوزاعي واسمه محمد بن عبد الرحمن ابن عمرو - ولم يعرِّج المحقق لبيان اسمه ولا من هو - يروي عن أبيه نسخة كتبها ابن أبي العشرين، واسمه عبد الحميد بن حبيب، وهو كاتب الأوزاعي كما في ترجمته. فلا عطاء في الإسناد ولا أبوه، وإنما هو: قرأت في نسخة ابن الأوزاعي بخط ابن أبي العشرين عن أبيه - أي الأوزاعي - والله المستعان.
الحديث رقم (24):
قال الشيخ: في الموطأ: مالك، عن الزهري، عن سعد.
علق المحقق على قول أبي المظفر فقال: «لم أجده في الموطآت التي اطلعت عليها المخطوطة والمطبوعة! فإما أن يكون في بعضها مما لم يصل إلينا أو سبق قلم من المؤلف رحمه الله تعالى.
قلت: لو اقتصر المحقق على التعليل الأول لكان مقبولًا، أما أن يكون سبق قلم من حافظ يدري ما يقول وما يكتب، فهل اطلع المحقق على الموطآت كلها وهو يعلم أنه روى عن مالك موطأه أكثر من سبعين رجلًا.
مع أن هذا الإسناد عزاه لأبي مصعب في موطئه أبو العباس الداني في أطراف الموطأ.(/12)
وهو في موطأ ابن وهب وابن القاسم كما في الجمع بين روايتهما (ل: 122/ب) والمحقق كثير العزو لهذه النسخة ولم يبين أنها جمع بين روايتين.
وأخرجه الدارقطني في غرائب مالك كما في فتح الباري لابن حجر من طريق ابن وهب.
وهو في موطأ محمد بن الحسن إلا أنه قال: عن ابن شهاب، بلغني عن سعد. انظر: تحقيقي للكتاب (ص61-62).
الحديث رقم (28):
علق المحقق في الحاشية (2) على هذا الحديث فقال: (... وتوسط فيه البخاري في التاريخ الكبير (1/791) فقال: مستقيم الحديث).
قلت: لم يَرِد هذا القول في التاريخ الكبير للبخاري بالمجلد نفسه والصفحة المذكورة، ولم يعهد عن البخاري أنه يقول في الراوي: مستقيم الحديث، وإنما هو قول ابن حبان في الثقات (9/107).
الحديث رقم (37):
حدثنا أبو الحسن علي بن سعيد بمصر.
ثم أخذ المحقق يترجم لعلي بن سعيد المعروف بعلِّيك!!
قلت: الصواب: حدثنا أبو رافع أسامة بن علي بن سعيد بمصر.
وأبو رافع هذا أيضًا من شيوخ المصنف وله ترجمة في تاريخ الإسلام للذهبي، وروى عنه المصنف في مواضع أخرى من هذا الكتاب!
الحديث رقم (39):
علق المحقق على هذا الحديث بكلام كثير وطويل رد فيه على بعض المحققين المعاصرين، وألصق الوهم في الحديث بمعن بن عيسى وذكر أنه فهمه من كلام أبي نعيم وابن عبد البر والمؤلف.
قلت: المؤلف ساق الإسناد ولم يتعقبه بشيء، وابن عبد البر لا يفهم من كلامه أن الخطأ فيه من معن، وأما أبو نعيم ففي كلامه ما يدل أن معنًا تفرد به عن مالك.
ولا يلزم من هذا كله أنه الخطأ فيه من معن، بل الخطأ فيه من الراوي عنه، وهذا الذي ذكره الدارقطني وأبو العباس الداني. انظر: تعليقي على الحديث (ص80).
الحديث رقم (40):
قال في تعليقه: أبو سبرة بن محمد بن عبد الرحمن مضى الكلام عليه تحت حديث رقم (20) وبينت هناك أنه مجهول.
قلت: كذا قال غفر الله له، مع أنه لم يذكر هناك أنه لم يجد له ترجمة، فهو مجهول عند المحقق الحافظ!(/13)
والواقع أن الرجل ليس بمجهول بل هو معروف كما تقدم التنبيه عليه.
الحديث رقم (58):
حدثنا أحمد بن سليمان.
ثم علق عليه المحقق فقال: زيادة من هامش الأصل، وعليه علامة التصحيح.
قلت: ما كان ينبغي له أن يعلق عليه بذلك؛ لأن ما كان ملحقًا مصححًا فهو عن الأصل، ثم إن الصواب أنه محمد بن محمد بن سليمان لا أحمد بن سليمان وهو واضح في هامش الأصل.
الحديث رقم (59):
علق المحقق الحافظ على إسناد هذا الحديث بقول: إسناده ضعيف من هذه الطريق والحديث صحيح.
ثم ذكر علة الإسناد وهو محمد بن عبد الرحيم بن شروس. ولم يجد فيه قولًا بجرح أو توثيق، ثم قال: ابن شروس ليس فيه من الكلام أكثر من هذا، والظاهر أنه مجهول الحال والله أعلم.
قلت: كذا قال، وكأنه استقرأ جميع كتب الرجال وحكم على الرجل بالجهالة مع أنه ثقة كما قال الخليلي في الإرشاد، فنسأل الله تعالى أن يرزقنا التواضع والمعرفة بقدر أنفسنا.
الحديث رقم (63):
علق المحقق على إسناد هذا الحديث. فقال: جعفر بن هاشم لم أجد ترجمته ولم يذكره المزي في الرواة عن عمرو بن مرزوق.
قلت: هو ابن يحيى أبو يحيى العسكري، وله ترجمة في تاريخ بغداد، وهو ثقة.
الحديث رقم (64):
علق فضيلة المحقق على الحديث فقال: تبين لي باستقراء صنيع المؤلف في هذا الكتاب أن قوله: (في الموطأ) يعني به المحفوظ عن مالك، أو الصحيح عن مالك ونحو هذا والله أعلم.(/14)
قلت: ومستند المحقق الحافظ المستقرئ أن الحديث لا يوجد في الموطآت المطبوعة، وكأنه تغافل أن المصنف يروي الأحاديث التي يقول فيها (في الموطأ) من طريق ابن وهب، وابن القاسم وغيرهما من أصحاب الموطأ، وعدم وجود الحديث في الموطآت المطبوعة لا يعني عدم وجوده في كل الموطآت، ثم إن المصنف يعبر في بعض الأحيان بقوله: (المحفوظ كذا) فهو إذا قال في الموطأ يعني أن الحديث في أحد الموطآت كذا، ثم يسرد الحديث من طريق أحد رواة الموطأ، فلا يحتمل كلامه ما ادعاه المحقق فليراجع استقراءه.
الحديث رقم (75):
علق المحقق على إسناد هذا الحديث فقال: (وأما زين فهو ابن شعيب المعافري روى عن مالك بن أنس ... روى عنه يحيى بن عبد الله بن بكير، وعبد الأعلى بن عبد الواحد أبو يزيد مرة، قاله، قال الدارقطني في المؤتلف والمختلف (3/1168)، فهو مجهول الحال والله أعلم).
قلت: كيف يكون مجهول الحال، وقد قال فيه ابن حبان: (مستقيم الحديث) وقال فيه تلميذه ابن بكير: (كان والله زينًا).
الحديث رقم (76):
حديثنا أبو بكر محمد بن محمد بن بشر بن عبد الله بمصر، نا أبو أمية محمد بن إبراهيم، نا عبيد الله ابن موسى، نا [من سمع] صفوان بن سليم، عن عطاء بن يسار.
علق المحقق على كلمة [من سمع] فقال: غير واضحة بالأصل، وأثبتها هكذا.
ثم قال: إسناده ضعيف لجهالة الراوي عن صفوان.
قلت: كلمة غير واضحة في الأصل، تجرّأ المحقق أن يضعف بها الإسناد فالذي لم يتضح عنده يجعله مجهولًا، بينما هي كلمة واضحة بل هو علَم من أعلام المحدثين وهو سفيان بن عيينة الذي جهّله المحقق! ولو خرّج المحقق الحديث لتبين له أنه سفيان بن عيينة؛ إذ خُرج من طريقه في مصادر عدة، ذكرتها في تحقيقي للكتاب.
الحديث رقم (78):(/15)
حدثني عبد الله بن الحسن الكاتب، أنا عبد الوهاب بن عبد الرحمن بن شبيب بن عبد الرحمن بن إسحاق قال: وجدت في كتاب جدي، نا إدريس بن يزيد، عن عمن رواه، عن صفوان بن سليم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله: «الغسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم)).
الصواب: حدثني عبد الله بن الحسن الكاتب، أنا عبد الوهاب بن عبد الرحمن بن شيبة بن عبد الرحمن بن إسحاق قال: وجدت في كتاب جدي، نا إدريس بن يزيد، عن عثمان بن واقد، عن صفوان بن سليم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله: «غسل الجمعة واجب على كل محتلم)).
ثم علق عليه فقال: (إسناده ضعيف؛ لجهالة الراوي عن صفوان بن سليم وللكلام في عبد الرحمن بن إسحاق، هذا ما تبين لي من ظاهر الإسناد وبعض رجاله لم أعرفهم وقد يكون فيه تصحيف).
قلت: بل المجهول عندك: [عن عمن رواه] معروف، والمحقق هو الذي وقع في التصحيف، والصواب: أنه عثمان بن واقد.
الحديث رقم (86):
نا ابن لهيعة، حدثني عيسى بن موسى بن أبي جهم العدوي، نا مالك بن أنس، عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبي هريرة يأثره قال.
وكلمة يأثره أي رفعه.
ثم علق المحقق على عيسى بن موسى، فقال: (لم أجد ترجمته ولم يذكره الخطيب ولا القاضي عياض في الرواة عن مالك، والله أعلم).
قلت: بل ذكره الخطيب في الرواة عن مالك كما في مختصر رشيد الدين العطار.
الحديث رقم (91):
علق المحقق على إسناده فقال: أبو سبرة بن محمد بن عبد الرحمن هو علة الإسناد، فإني لم أجد له ترجمة فيما لدّي من المصادر.
قلت: بل له ترجمة في أقرب المصادر لديك، الميزان ولسانه.
الحديث رقم (122):
وعلق المحقق على إسناده فقال: إسناده معضل، وهو غريب عن مالك .. ويبدو أنه تفرد برواية هذا الحديث عن مالك (أي يحيى بن سليمان) دون أصحابه الكبار، والله أعلم.
قلت: بل رواه أصحاب مالك الكبار في الموطأ، منهم: يحيى بن يحيى الليثي! وأبو مصعب الزهري ويحيى بن بكير.(/16)
الحديث رقم (126):
نا الوليد بن مسلم، حدثني مالك بن أنس، عن ابن شهاب، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك: (أن رسول الله نهى الذين قتلوا ..).
الصواب: نا الوليد بن مسلم، حدثني مالك بن أنس، عن ابن شهاب، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، [عن كعب بن مالك]: ((أن رسول الله نهى الذين قتلوا…)).
قلت: وما بين المعقوفين سقط من الأصل المخطوط؛ لذا لم يذكره المحقق في كتابه، وقال: (إسناده شاذ) ولم يبين وجه الشذوذ.
والشذوذ في رواية الوليد بن مسلم أنه رواه عن مالك موصولًا خالف أصحاب الموطأ الذين أرسلوه، ويدل عليه كلام المصنف بعد إذ قال: (في الموطأ مرسل) ثم الذين أخرجوا الحديث من طريق الوليد ذكروه عنه موصولًا، كالطحاوي، والطبراني، وابن عبد البر.
الحديث رقم (146):
نا معن، نا مالك بن أنس، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عبد الله بن واقد بن عمر: أن عبد الله بن عمر قال: (نهى رسول الله عن أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث) في الموطأ مرسل.
الصواب: نا معن، نا مالك بن أنس، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عبد الله بن واقد بن عبد الله بن عمر، عن عبد الله بن عمر قال: (نهى رسول الله عن أكل الأضاحي بعد ثلاث)، في الموطأ مرسل.
ثم علق المحقق على إسناده فقال: (شاذ بهذا الإسناد، معن وإن كان ثقة فقد خالف أكثر الرواة عن مالك، فزاد في هذا الإسناد عبد الله بن عمر! وتابعه محمد بن الحسن في موطئه).
قلت: كذا قال المحقق! وقال إمام علم العلل الدارقطني رحمه الله: (القولان محفوظان عن مالك).
الحديث رقم (167):
حدثنا أبو الحسن علي بن عبد الله الواسطي، نا طليق بن محمد بن السكن الواسطي، نا عبد الله بن موسى، عن إسماعيل .. عن هانئ بن هانئ، عن علي، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (استأذن عمار على النبي صلى الله عليه وسلم [ائذنوا] مرحبًا، للطيب المطيب).(/17)
الصواب: حدثنا أبو الحسن علي بن إسماعيل الدقاق، نا طليق بن محمد بن السكن الواسطي، نا عبيد الله بن موسى، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي إسحاق عن هانئ بن هانئ، عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: استأذن عمار على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((مرحبًا، ائذنوا للطيب المطيب)).
وعلق المحقق على هذا الحديث فقال: (وإسماعيل الراوي عنه (أي عن هانئ) يحتمل أن يكون إسماعيل بن عبد الملك بن أبي الصفير الأسدي لأنه روى عمن هو في طبقة هانئ بن هانئ، وذكروا أن من الرواة عنه عبيد الله بن موسى .. وهذا الرجل قال فيه ابن حجر: صدوق كثير الوهم).
قلت: وهذا التعليق ناتج عن تصحيف وعدم قراءة النسخة بتأنِّ، وإلا فإسماعيل هو ابن أبي خالد الأحمسي يروي عن أبي إسحاق السبيعي، عن هانئ بن هانئ، كما هو واضح في النسخة الخطية، والحديث مروي من طرق عدة عن أبي إسحاق، وإحدى طرقه أوردها المؤلف بعد هذا الحديث.
الحديث رقم (170):
عن أبي الأشهب جعفر بن حبان، عن عبد الرحمن بن طرفة، عن عرفجة بن أسعد قال: أصيب أنفي يوم الكِلاب في الجاهلية.
الصواب: عن أبي الأشهب جعفر بن حيان، عن عبد الرحمن بن طرفة، عن عرفجة بن أسعد قال: أصيب أنفي يوم الكُلاب في الجاهلية.
لطيفة: قال أبو أحمد العسكري: حدثني شيخ من شيوخ بغداد أثق به قال: كان حيان بن بشر قاضي الشرقية ببغداد، قد ولي القضاء بأصبهان، وكان من جلة أصحاب الحديث، قال: فروى يومًا أن عرفجة قطع أنفه يوم الكلاب -بكسر الكاف- وكان مستمليه رجلًا يقال له: كجة، فقال: أيها القاضي، إنما هو يوم الكُلاب. فأمر بحبسه. فدخل الناس إليه فقالوا: ما دهاك؟ فقال:قطع أنف عرفجة يوم الكُلاب في الجاهلية، وامتحنت أنا به في الإسلام.
انظر: تصحيفات المحدثين (1/15)، وأخبار المصحّفين (ص45) كلاهما للعسكري.(/18)
قلت: فهؤلاء حبسوا من نطق الكُلاب على الصواب ولم يصحّف، فما أجدر أن يحبس من تجرأ على تراث السلف فصحف الكلاب والكتب.
الحديث رقم (179):
عن أبي عامر الخزاز، عن أبي بصرة، عن أبي سعيد الخدري قال:قال رسول الله.
ثم علق المحقق على إسناد هذا الحديث، فقال: أبو بصرة هو حميل بن بصرة بن وقاص الغفاري، صحابي سكن مصر ومات بها.
قلت: بل هو أبو نضرة (بالنون)، المنذر بن مالك بن قطعة، مشهور بالرواية عن أبي سعيد.
رابعًا: زيادات في النص زادها المحقق، وسببها أن النسخة فيها بعض الطمس، ولعل المصورة التي اعتمدها أكثر، فزاد أشياء من عند نفسه، ولم ينبه عليها في حاشية الكتاب، وقد وضعت الزائد الذي زاده المحقق وليس في النسخة الخطية بين معقوفين.
الحديث رقم (1):
نا مالك [بن أنس]، عن عمرو.
الحديث رقم (5):
فقال عبادة [بن الصامت]: كذب أبو محمد.
الحديث رقم (31):
حدثني [جدي] ليث بن عاصم.
الحديث رقم (33):
ليس [هذا] في الموطأ.
الحديث رقم (39):
مالك، عن ربيعة، عن [سعيد] أبي الحباب.
قلت: ولا أدري لمَ أقحم المحقق كلمة (سعيد) بين معقوفين ولم يعلق عليها بشيء، والكلام واضح فأبو الحباب اسمه سعيد!!
الحديث رقم (55):
عن سالم، عن عبد الله بن عمر، [عن عمر]: أن غيلان.
الحديث رقم (159):
حدثنا [أبو جعفر محمد بن] أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي، نا علي بن معبد بن نوح، حدثني زيد بن يحيى بن عبيد [الله].
الحديث رقم (161):
حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر [بمصر].
خامسًا: بياضات وفراغات تركها المحقق ولم يستطع قراءتها، وذلك لسوء المصورة التي اعتمدها.
الحديث رقم (29):
حدثنا علي بن أحمد... بن ركيز، أخبرنا عبد الرحمن بن خالد بن نجيح، نا حبيب بن إبراهيم، نا مالك بن أنس، عن نافع، عن ابن عمر.
الصواب: حدثنا أحمد بن يحيى بن زكير بمصر، نا عبد الرحمن بن خالد بن نجيح، نا حبيب بن إبراهيم، نا مالك بن أنس، عن نافع. عن أبي سعيد.
الحديث رقم (43):(/19)
نا عقبة بن علقمة (عن مالك بن أنس، عن أبان ..) عن أنس بن مالك .. رجلًا يقرأ بالألحان فرفع حريرة كانت على حاجبه فأرانا ... من كان يعرف هذا على عهد رسول الله.
الصواب: نا عقبة بن علقمة، عن مالك بن أنس، عن أبان بن أبي عياش: سمع أنس بن مالك رجلًا يقرأ بألحان فرفع حريره كانت على حاجبه - فأرانا عقبة - فقال أنس: ما كان يعرف هذا على عهد رسول الله.
الحديث رقم (72):
حدثناه أبو الحسن بن سراج المصري، نا أبو زهير عبد .. بن إبراهيم الدمياطي.
الصواب: حدثناه أبو الحسن علي بن سراج المصري، نا أبو زهير عبد المجيد بن إبراهيم الدمياطي.
علق المحقق على الإسناد فقال: إسناده صحيح.
قلت: كيف يحكم على الإسناد وهو لم يستطع كتابته بكامله؟!
الحديث رقم (74):
حدثنا محمد بن أحمد بن ...، نا أبو محمد عبد الرزاق بن منصور، نا المغيرة بن عبيد الله بن عم حية بن حابس، نا ... بن صفوان بن سليم.
الصواب: حدثنا محمد بن أحمد الموصلي الصيرفي، نا أبو محمد عبد الرزاق بن منصور، نا المغيرة بن عبد الله بن حي بن حاتم، نا ابن سمعان، عن صفوان بن سليم.
الحديث رقم (75):
حدثنا محمد بن محمد بمصر، نا ... عبد اللطيف بن نباتة.
الصواب: حدثنا محمد بن موسى الحضرمي بمصر، نا عبد اللطيف بن نباتة.
الحديث رقم (138):
حدثنا .. محمد بن رمح.
الصواب: حدثناه محمد بن زبّان، نا محمد بن رمح.
الحديث رقم (143):
نا أبو جعفر أحمد بن موسى بن ...، نا يحيى بن السكن.
الصواب: نا أبو جعفر أحمد بن موسى بن عطاء بن بحر، نا يحيى بن السكن.
الحديث رقم (149):
قال لي سليمان بن بلال: قلت لربيعة ... والله ما رأيت عالمًا قط بعَيْبِك إلا ذلك الأصم.
الصواب: قال لي سليمان بن بلال: قلت لربيعة في شيء، فقال: والله ما رأيت عالمًا قط يعينك إلا ذلك الأصم.
الحديث رقم (177):(/20)
نا محمد بن .... بن عياش .. عبد الرحمن بن قيس، نا الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، قال: كان عليًّا عليه السلام خارجًا يوم الجمعة .. فتوجه للصلاة.
الصواب: نا محمد بن تمام بن عباس بن سابق، نا عبد العزيز بن قيس: نا الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة
قال: رأيت عليًا عليه السلام خارجًا يوم الجمعة من السدة فتوضأ للصلاة.
الحديث رقم (178):
نا محمد بن ....
الصواب: نا محمد بن بشير.
هذا آخر ما تيسر جمعه من تصحيفات وزيادات وأخطاء علمية… وغير ذلك مما وقع فيه طه بن علي بوسريح في تحقيقه لكتاب غرائب حديث الإمام مالك بن أنس، وتركت كثيرًا منها لئلا يطول هذا الفصل.
ولم أرد بهذا البيان التشهير بالمحقق ولا التعيير، وإنما هو بيان الحق والدفاع عن تراث الأمة الغالي، ثم هو دفاع عن الإمام مالك والكتب التي خدمت مذهبه الحديثي، ولا ريب أن كل أحد يقع منه شيء من السهو والغلط إلا أن العبرة بالكثرة والغالب.
قال الإمام مالك رحمه الله تعالى: (ونحن نخطئ ومن يسلم من الخطأ؟)[4].
قال الإمام مسلم رحمه الله: (فليس من ناقل خبر وحامل أثر من السلف الماضين إلى زماننا - وإن كان من أحفظ الناس وأشدهم توقيًا وإتقانًا لما يحفظ وينقل - إلا والغلط والسهو ممكن في حفظه ونقله)[5].
وتقدم قول الإمام السخاوي في ذلك، وأن العبرة في الرد والتحذير هو بالغالب من أمر الناس، والله أعلم، وعلى نبينا محمد وآله.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] انظر: ما كتبه الشيخ بكر أبو زيد في جزئه القيم: ((الرقابة على التراث دعوة إلى حمايته من الجناية عليه)) طبع دار العاصمة بالرياض، (1412هـ).
[2] أي في بيان التصحيف.
[3] هذا الأقرب في رسمها، وتحتمل غير هذا.
[4] انظر: فتح المغيث (1/238)، شرح الموطأ للزرقاني (3/116)، (4/85).
[5] التمييز، (ص170).(/21)
العنوان: غزو تنصيري لأفريقيا
رقم المقالة: 847
صاحب المقالة: أحمد أبو زيد
-----------------------------------------
تحت مظلة الإغاثة ومحاربة الفقر والجهل والمرض
• الخارجية المصرية تحذر.. وتطالب الأزهر بالتصدي.
• أفريقيا تواجه مدا تنصيرياً، أشبه بالطوفان الذي يوشك أن يغرقها وجحافل التنصير بدأت تتغلغل في أدغال القارة وصحاريها وسهولها وتلالها.
• انتشار عمليات التنصير في أوساط المسلمين بالعديد من الدول الأفريقية وعلى رأسها النيجر وسيراليون وتشاد وغينيا وليبيريا.
• الدوائر التنصيرية تسعى بجميع وسائلها الاغاثية والتعليمية والطبية والاعلامية إلى ملاحقة الإسلام في معاقله بأفريقيا.
• ميزانيات التنصير تأتي من كبريات الدول الاستعمارية القديمة والحديثة، وتقدر بمئات المليارات من الدولارات.
• قام البابا بثلاث زيارات خلال خمس سنوات لإفريقيا شرقاً وغرباً.. والكنيسة الكاثوليكية تملك في إفريقيا حوالي مليون ونصف مليون كنيسة.
• المنصرون في أفريقيا يملكون أكثر من 52 إذاعة و163 ملجأ للمكفوفين و8000 مستشفى و17 ألف مركز طبياً و171 كلية ومعهداً.
• لو قام المسلمون بربع الجهد الذي يقوم به المنصرون في أفريقيا لتحولت في غضون سنوات إلى قارة مسلمة خالصة.
* * *
من الحقائق المؤكدة أن أفريقيا تواجه مدا تنصيرياً، أشبه بالطوفان الذي يوشك أن يغرقها، إن لم تؤخذ التدابير اللازمة لمساعدتها على مقاومة هذه الجحافل التنصيرية التي بدأت تتغلغل في أدغال القارة وصحاريها وسهولها وتلالها وقمم جبالها الشامخة.(/1)
فالدوائر التنصيرية تسعى بجميع وسائلها التعليمية والطبية والإعلامية إلى ملاحقة الإسلام في معاقله في أفريقيا، وحمل أبنائه على التنصر، ونبذ عقيدتهم الإسلامية الحنيفة، وهذه الدوائر تملك وسائل وإمكانيات مادية وتعليمية وطبية وحتى سياسية هائلة، إلى جانب ميزانياتها التي تأتي من كبريات الدول الاستعمارية القديمة والحديثة، وتقدر بمئات المليارات من الدولارات.
ولقد حذرت وزارة الخارجية المصرية مؤخرا، في خطاب أرسلته إلى الأزهر الشريف، من انتشار عمليات التنصير في أوساط المسلمين بالعديد من الدول الأفريقية وعلى رأسها النيجر وسيراليون وتشاد وغينيا وليبيريا، على أيدي الجماعات التنصيرية التي تستغل المشاكل الاقتصادية والمجاعات والكوارث الإنسانية التي يعاني منها سكان هذه الدول.
وأوضحت أن منظمات التنصير تكثف من عملها خصوصا بالكونغو والنيجر تحت وطأة الفقر، وقد نجحت هذه المنظمات، والتي يأتي على رأسها منظمة "شهود ياهو" و"الإخوة الكومبنيون"، و"كاراتياس"، و"الكنيسة المعمدانية الأمريكية"، و"منظمة العمل من أجل المسيح"، و"منظمة العمل من أجل تنمية النيجر".
وحذرت الخارجية بشكل خاص، من المنظمة الأخيرة التي اتخذت من النيجر مقرًا لها للانطلاق إلى باقي الدول الأفريقية التي تعاني من الفقر، وقالت إن السفارة المصرية هناك أرسلت تقريرًا كاملاً عن أعمال هذه المنظمة وأساليب تنصير المسلمين عبر إلحاقهم بالمدارس وتقديم الخدمات الصحية.
ولفت التقرير إلى تراجع نشاط العديد من المنظمات الخيرية والإغاثة الإسلامية في النيجر، التي يشكل المسلمون 95 من سكانها البالغ عددهم 11 مليون نسمة، بسبب الحملة التي شنها الغرب ضد هذه المنظمات، بدعوى أنها تمول "الإرهابيين"، مما أتاح الفرصة أمام منظمات التنصير لزيادة نشاطها، والتواجد المسيحي في هذه الدولة الأفريقية.(/2)
وطالبت الخارجية المصرية في رسالتها إلى الأزهر، بضرورة التحرك وتقديم الدعم لمسلمي النيجر، لصد هذه الحملات التي تستهدف الوجود الإسلامي هناك[1].
• أفريقيا قارة مسيحية!!
وتحويل أفريقيا الى قارة مسيحية حلم تنصيري قديم، فمنذ عدة سنوات، وبالتحديد عام 1993م، وضع المخطط التنصيري العالمي هدفا رئيسيا، سخر له كل إمكانياته، وهو تحويل أفريقيا الى قارة مسيحية عام 2000م، نظراً لما يتمتع به المسيحيون من سيطرة على الحياة السياسية والتعليمية والاقتصادية في عدد من دول القارة، وأعلن هذا الهدف صراحة البابا " بولس الثاني " في كلمته التي ألقاها بمناسبة ذكرى ميلاد المسيح في روما عام 1993م لدى استقباله وفد أساقفة إفريقيا حيث قال: "ستكون لكم كنيسة إفريقية منكم وإليكم وآن لإفريقيا أن تنهض وتقوم بمهمتها الربانية وعليكم أيها الأساقفة تقع مسؤولية عظيمة ألا وهي تنصير إفريقيا كلها "، وكانت الميزانية الأولية المخصّصة للانطلاقة (3.5) مليار دولار
وقد جند النصارى كل طاقاتهم التنصيرية والمادية والعلمية بالتنسيق الكامل بين الفاتيكان ومجلس الكنائس العالمي وغيرها من الهيئات التنصيرية من أجل تحقيق مطامعهم في تنصير القارة، وقام البابا بثلاث زيارات خلال خمس سنوات زار فيها إفريقيا شرقاً وغرباً.
وعندما حل عام 2000م دون أن يتحقق هذا الحلم التنصيري، حيث استعصت القارة المسلمة على أن تتحول بسهولة إلى قارة مسيحية، سارع المخطط التنصيري إلى تغيير خططه وأساليبه، ووضع استراتيجية جديدة لتنصير القارة عام 2010 أو 2015م.
• اهتمام تنصيري بأفريقيا:
واهتمام المنصرين بهذه القارة له وجاهته، حيث تعد القارة الوحيدة التي يمكن تسميتها بالقارة المسلمة من بين قارات العالم، وكل شيء يشير إلى أن الإسلام هو دين المستقبل في هذه القارة، وأنها قارة المستقبل للإسلام. كما أن حاضر القارة يشهد واقعاً إسلامياً ملموساً تنطق به الحقائق التالية[2]:(/3)
1- قرابة 70% من المجتمع العربي المسلم في أفريقيا.
2- 75% من الأراضي العربية الإسلامية في أفريقيا.
3- أكثر من 60% من مجموع السكان مسلمون.
4- تشهد الدعوة الإسلامية صدى وتجاوباً لدى الأفارقة وتسير بخطى واسعة.. ولذلك فهي تستحق بجدارة تسميتها بلقب "القارة المسلمة".
والمنصرون يخافون الإسلام ويعلمون مدى انتشاره وخطورته على دعوتهم في أفريقيا وغيرها من قارات العالم، فقد قال المستر "بلس": "إن الدين الإسلامي هو العقبة القائمة في طريق تقدم التبشير بالنصرانية في إفريقيا، والمسلم فقط هو العدو اللدود لنا، لأن انتشار الإنجيل لا يجد معارضاً لا من جهل السكان، ولا من وثنيتهم، ولا من مناضلة الأمم المسيحية وغير المسيحية.."، ويقول فيليب فونداسي: "الإسلام يؤلف حاجزاً أمام مدنيتنا المبنية كلها على مؤثرات مسيحية ومن مادية ديكارتيهَ.. فإن الإسلام يهدد ثقافتنا الفرنسية في إفريقيا السوداء بالقضاء عليها"[3].
• التنصير والاستعمار:
ولقد بدأت مخططات التنصير في أفريقيا في وقت مبكر، مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالاستعمار ومواكبة له، بل إنها استمدت منه كل عون وتأييد وسعت لتثبيت نفوذها وانتشارها من خلاله، فدخل المبشرون الكاثوليك ربوع إفريقيا منذ القرن الخامس عشر، أي في أثناء الاكتشافات البرتغالية، وفي أواخر القرن السابع عشر وخلال القرن الثامن عشر أخذت الجمعيات البروتستانتية تظهر للوجود.
وبعد وفاة الرحالة " لنتجستون " عام 1873م، الذي قام برحلته التي رفعت الستار عن إفريقيا الوسطى، كانت منافذ إفريقيا الرئيسة مفتوحة على مصاريعها أمام ألبعثات التبشيرية الأوروبية.(/4)
والأرقام والحقائق تبين حجم وقوة النشاط التنصيري في أفريقيا، فتشير إحصائية قديمة صدرت عام 1976م إلى أن الكنيسة الكاثوليكية تملك في إفريقيا الجنوبية وحدها حوالي مليون ونصف مليون كنيسة، ومجموع الإرساليات الموجودة في (38) بلداً أفريقياً يبلغ (111000) إرسالية، وأن بعضها يملك طائرات تنقل الأطباء والأدوية والممرضات لعلاج المرضى في الأحواش.
وقد بلغ عدد المنصرين في إفريقيا عام 1985م أكثر من 113 ألف منصر يشرفون على تعليم أكثر من خمسة ملايين طالب، كما بلغت المستشفيات والمستوصفات التي أقامتها الإرساليات 1600 مستوصفا ومستشفى كنسي. وارتفعت قيمة الدعم المالي للمنصرين فبلغت 3.5 ألف مليون دولار سنوياً، ووصل عدد المدارس اللاهوتية لتخريج المنصرين والقسس في إفريقيا إلى 500 مدرسة لاهوتية بالإضافة إلى عشرين ألف معهد كنسي في أنحاء القارة، وكلها تعد المنصرين إعداداً خاصاً.
وفي عام 1985م زار البابا يوحنا بولس الثاني إفريقيا وتحدث فيها إلى 80 ألف شاب مسلم بملعب الدار البيضاء بالمغرب، ودشن كتدرائية القديس بولس بأبيدجان التي تتسع لثمانية آلاف شخص وهي أوسع معبد نصراني في إفريقيا ولا يتجاوزها في العالم إلا الفاتيكان.
وفي عام 1980م كانت "14" دولة في إفريقيا تمنع دخول المنصرين إليها، ولكنها في عام 1999م لم يبق منها إلا ثلاث دول فقط تمنع دخول المنصرين إليها. وفي عام 1996م كان المنصرون في أفريقيا يملكون أكثر من 52 إذاعة، وللملسمين إذاعة واحدة فقط[4].
• دعم أمريكي:(/5)
ولم يتوقف الدعم الأمريكي للتنصير وخاصة في القارة السوداء، فكارتر الرئيس الأمريكي الأسبق بدلا من أن يقيم ويرعى نشاطا اجتماعياً في أمريكا كغالبية الرؤساء الأمريكيين (مكتبة ريجان - مركز روزفلت - مركز كيندي - مركز هوفر - جامعة ايزنهاور) أقام مع زوجته مركز كارتر في مدينة اطلنطا مدعوما من كنيسته من أجل البحث عن السلام في العالم، أو على حد قوله: "إننا نقوم بفتح صدورنا وقلوبنا للناس ونشر كلمة الله"، وقام المركز الذي يعمل من خلاله بمهام بارزة في العالم مثل تقديم المساعدات الطبية للنساء في جورجيا وبناء مساكن للفقراء في فلوريدا وأفريقيا ولهم نشاط في أكثر من ثلاثين دولة افريقية ويتدخل المركز في جنوب السودان دائماً برجاله وإمكاناته وبمبشريه، ولم يخف كارتر اهتمامه بالسودان وبالذات الجنوب السوداني، وعبر عن ذلك صراحة.
ولأن حملات التبشير في أفريقيا تدخل تحت ستار المساعدات الإنسانية فهناك 5000 طبيب و7000 ممرض وممرضة و289 ملجأ للأيتام و195 ملجأ للعجائز و163 ملجأ للمكفوفين و1050 صيدلية توزع الأدوية مجاناً و8000 مستشفى متكامل الخدمات و17 ألف مركز طبياً و171 كلية ومعهداً عالياً و18 ألفاً و571 مدرسة ابتدائية و10 آلاف مدرسة ثانوية و2000 مدرسة مهنية[5].
• المنصرون وأزمة دارفور:
وأينما وجدت المعاناة والحروب والكوارث الإنسانية وجدت جماعات التنصير فهي مثل "البراغيث تعيش علي دماء البشر"، فقد تسللت منظمات التنصير الي اقليم دارفور تحت غطاء طلقات الرصاص وأعمال العنف المتبادل بين متمردي الإقليم والقوات الحكومية السودانية وبدأت تركيز جهودها خاصة في مخيمات اللاجئين الذين شردتهم الحرب حتي أن عدد منظمات التبشير في الإقليم وصلت الي نحو 30 منظمة تعمل تحت ستار المنظمات الإنسانية.(/6)
وأعلنت منظمة "كاريتاس" العالمية الكاثوليكية صراحة أنها تستهدف 125 ألف مسلم في دارفور، وهو الإقليم الذي لا توجد به كنيسة واحدة ونسبة المسلمين فيه 100%.وزعم دونكان ماكلارين - أمين عام المنظمة - أن هناك مليون شخص في دارفور معرضون للموت وفي حاجة الي الحماية وهذا العدد الضخم يعتبر صيدا سهلا لمنظمات التبشير.
واعترفت هيئة المعونة النرويجية الكنسية بأنها ترعي أكثر من 45 ألف لاجئ من دارفور في ثلاثة معسكرات في تشاد، وبالطبع يخضعون لسيل من الأفكار التبشيرية[6].
• الصومال والتنصير:
كما نجد أن الحرب الأهلية الطاحنة التي أنهكت الشعب الصومالي وشردت مئات الآلاف من المواطنين داخل وخارج الحدود الصومالية، دفعت جماعات التنصير الي الذهاب الي هناك خاصة داخل مخيمات الإيواء لنشر أفكارهم التنصيرية، ومنظمات التنصير لديها القدرة علي تلوين جلدها من أجل التعامل مع كل شعب حسب طبيعته وهدفها النهائي هو التسلل الي أبناء هذا الشعب من أجل إقناعه بالأفكار التنصيرية حتي وإن كان ذلك من خلال استغلال حاجة وعوز ومعاناة هذه الشعوب[7].
وفي مطلع عام 2000م أعلنت الخارجية الأمريكية عن إرسالها لـ70 فرقة تنصيرية الى جنوب أفريقيا، مؤهلين ومدربين على العمل في أحلك الظروف في قلب الغابات والحروب والأمراض. وبجانب المنصرين المحترفين تضم الفرقة الواحدة الأطباء والممرضات والمهندسين والفلاسفة والعلماء، وهذه الفرق هي طليعة أكثر من 3.5 مليون منصر أعلنوا استعدادهم للذهاب إلى أي مكان على الأرض للدعوة لدين المسيح ومعظمهم يعمل الآن في مؤسسات ومعاهد أوربية وأمريكية تخدم المنصرين العاملين خارج أوطانهم[8].
• التنصير في تشاد:
وتعتبر تشاد من الدول الأفريقية التي نالت اهتماما تنصيريا كبيرا، فالاستراتيجية الجديدة لتنصير القارة عام 2010 أو 2015م، تضمنت خطّطا جديدة لتنصير المسلمين في تشاد لكونهم أهل شوكة في هذه المنطقة.(/7)
وتاريخ الارساليات التنصيرية في تشاد تعود الى وقت مبكر، فقد كانت أول بدايات التنصير عام 1820م، و كان المنصرون يعملون تحت ستار الاستكشاف، وأخفي المنصرون أهدافهم، لأن الحكومة آنذاك كانت حكومة إسلامية، وهي مملكة ودّاي في شرق تشاد، وبعد بقاء المنصرين مدة طويلة في البلاد، دون أن يعرف الناس هويتهم وأهدافهم قرّروا الذهاب إلى جنوب البلاد.
وفي عام 1894م، عندما وصلت القوات الفرنسية بكثافة كبيرة الى تشاد، انتشرت فرق تنصيرية تابعة للكنيسة الكاثوليكية، وكان لوجود القوات الفرنسية دور كبير في تنصير مجموعة كبيرة من السكان. ومن ذلك التاريخ إلى يومنا هذا والتنصير يعمل بجميع إرسالياته، وقدراته، وأساليبه لإخراج المسلمين في تشاد من دينهم، وتنصير الوثنيين الذين لا دين لهم[9].
وقد بدا الاهتمام التنصيري الكبير بتشاد واضحا في الميزانية المخصصة لها من قبل المخطط التنصيري والتي بلغت عام 1993 م ثلاثة مليارات دولار، فعندما أجمع الكرادلة في روما لوضع خطّة شاملة لتنصير أفريقيا كلّها عام 1993م، أشاروا إلى تنصير الجزء المسلم من تشاد، فقالوا: "إنّ تشاد منطقة هامة وإنّ أيّة فكرة تظهر فيها تلقى سرعة انتشار كبيرة لوقوعها في مفترق الطرق في قلب أفريقيا، وهي مقبلة على مرحلة جديدة من الحياة الاقتصادية، وربّما تُصبح ثالث أهمّ منطقة اقتصادية في إفريقيا حسب الدوائر الاقتصادية الأمريكية"[10].(/8)
كما بدا واضحا في عدد المنظمات التنصيرية العاملة هناك والتي بلغت عام 2002م: (2160) منظمة كنسية من أهمّها: أوكسفام و الإغاثة الكاثوليكية، وورد فيزيون وهذه بلغت ميزانيتها عام 2002م: (40) مليون دولار أمريكي. أما عدد المنصّرين فقد بلغ في نفس العام (6534) منصّر، بينهم (260) منصر يتقنون اللغات المحليّة، و (15) يتقنون اللغة العربية الفصحى، و(7) يحفظون للقرآن الكريم، و(3) علماء في الحديث وأصول الفقه، و(30) منصر من أبناء المسلمين الذين تعلّموا في مدارسهم وتنصّروا بعد ان ارتدوا عن الاسلام. وهؤلاء جميعا يحصلون على رواتب عالية، ومزودين بوسائل المواصلات الحديثة من طائرات خفيفة وطائرات شحن، وسيارات وقوارب ودراجات نارية عادية أو صحراوية.
يُضاف إلى هذه الغارة الصليبية الهائلة، الصراع الفرنسي الأمريكي للهيمنة على ثروات تشاد، وسعي أمريكا الحثيث لنشر الثقافة الأمريكية والعلمانية وسط المسلمين، لتشكّل تحدّياً آخر أمام حركة الإسلام والمسلمين في تشاد، ومحاولة وضعها قوانين ولوائح تضمن لها البقاء في تشاد وفرض هيمنتها الصليبية البروتستنتية. ومن تلك المحاولات الداعية إلى العلمانية محاولتها طرح قانون تنظيم الأسرة (الأحوال الشخصية للمسلمين)، ومن أخطر بنود هذا القانون الحريّة الجنسية التي يدّعونها ويسمّونها بغير اسمها وهي تحرير المرأة!
ولتأكيد فرض هيمنتها على تشاد فإن 97% من مشروع بترول تشاد والذي تكلفته تُقدّر بنحو ( 5.24) مليار دولار، ممولة من مجموعة الشركات الأمريكية (أكسون موبيل 40% وبتروناس 35% وشفرون 25% ). أمّا الثروات الأخرى كالذهب فإن هناك شركات كورية تعمل لحساب أمريكا بدأت عملها في مناطق شاسعة من البلاد[11].(/9)
ومع ضخامة هذه الغارة وإمكانياتها الكبيرة يبقى أمام التشاديين كما أمام المسلمين جميعاً أن يعدّوا العدّة لمواجهة هذه الغارة، فليس من المعقول أن يوجد في تشاد 2160 منظمة تنصيرية، في مقابل ثماني منظمات دولية إسلامية فقط.
• أوغندا والمد التنصيري:
وتعتبر أوغندا من الدول الأفريقية التي تركز عليها إرساليات التنصير، فقد عانى مسلمو أوغندا في العقود الأخيرة من حالات تهميش سياسي واقتصادي، رغم أنهم كانوا يشكلون 40 % من سكان البلاد، إلا أن هذه النسبة قد تراجعت إلى 20% من عدد السكان البالغ تتعداهم 25 مليون، أي أن أعداد المسلمين تصل إلى حوالي 5 ملايين نسمة.
ويعاني مسلمو أوغندا حزمة من المشكلات يأتي في مقدمتها الفقر والمرض والجهل والتخلف، وذلك بسبب الأمية التي تتفشى فيهم، فكلنا يعلم أن التعليم في أوغندا قد بدأ على يد الإرساليات التبشيرية، مما أدى لابتعاد الأغلبية العظمى من المسلمين عنها خوفا على عقيدة أطفالهم الدينية، خصوصا أن أوغندا قد شهدت طوال تاريخها موجات تنصيرية شديدة استهدفت مناطق المسلمين مستغلة الفقر والحاجة، ومدت يدها إلى أهالي هذه المناطق عبر إنشاء المستشفيات والمدارس ورعاية الأيتام والجوعى متزامناً مع وجود يهودي مكثف خصوصا أن الصهيونية العالمية لم تنس أن أوغندا كانت إحدى ثلاث بلدان اختارهما وزير المستعمرات البريطاني تشمبرلين وطناً قومياً لليهود.(/10)
من ثم فإن هذا الإرث النصراني الصهيوني الشديد أثر بشدة على أوضاع المسلمين في أوغندا، فهم يعانون الفقر الشديد في مناطق توينا وامبالي وانكانكافورت وبورتل وسوروبي، وخلوها من أي خطط تنموية، مما أسهم في تزايد الفقر في أوساطهم وسمح لمنظمات التنصير التي تغرق البلاد، في مقدمتها الكنيسة الإنجيلية التي تعد أوغندا أرضا خصبة للعمل التنصيري، ومنظمة بلا حدود كموميشون والإرساليات المعمدانية، ويعزز عمل هذه الإرساليات وجود شبكة قوية من الإذاعات المحلية تضم 4 إذاعات على رأسها كرتولايف، وراديو أوغندا وراديو ماريا توب وراديووعد، ومن الأندية الماسونية مثل الروتاري والليونز[12].
ورغم المناخ المهيأ للجماعات التنصيرية وإمكاناتها الصحية إلا أن النتائج التي حققتها لا تقاس بقدر النفقات التي أنفقت عليها، فالمسلمون في أوغندا تحدوا كل الظروف وما زالوا متمسكين بدينهم، ناهيك عن أن أوغندا تعد من أكثر الدول التي يقبل فيها الوثنيون على اعتناق الإسلام يومياً؛ غير أن هذا الوجود المكثف لجماعات التنصير أسهم في تنامي نفوذها لدرجة أنها أوعزت إلى البرلمان الذي يضم 35 عضواً مسلما من جملة أعضائه الـ 308 ليتبنى تغييراً في قوانين الأحوال الشخصية.
وقد شجعت هذه الخطوة المسلمين على الشعور بأهميتهم في المجتمع وضرورة استغلال هذا الدور في انتزاع تنازلات من الحكومة وزيادة نصيب المسلمين في التشكيلة الوزارية التي يشغل المسلمون 3 مناصب وزارية فيها، ووصل الطموح الإسلامي في الدعوة التي أطلقها مفتي أوغندا شعبان رمضان موباجي الذي طالب فيها بحق المسلمين في الحصول على منصب نائب رئيس الجمهورية ونقل موباجي هذا الطلب إلى الرئيس موسيفيني الذي رحب به مما يدلل على أن المسلمين في أوغندا قد بدؤوا ينفضون غبار الماضي ليستعدوا للحصول على حقوق توازي أعدادهم.(/11)
هذا ولم يشهد المسلمون صعودا سياسيا إلا في عهد الرئيس الأوغندي الراحل الجنرال عيدي أمين الذي وصل إلى الحكم بانقلاب عسكري في ظل الرئيس الأوغندي حينذاك ميليون أبوتي وعمل خلالها على إعلاء شأن الإسلام في بلاده فقام بالحد من الحريات التي كانت تتمتع بها الإرساليات التبشيرية فطرد البعثة الدبلوماسية الإسرائيلية من كمبالا، وألقى القبض على أفرادها وقرر انضمام أوغندا إلى منظمة المؤتمر الإسلامي، وشن حرباً على الجماعات المرتدة مثل البهائية و القاديانية، التي عملت على إشعال الحرب بين أوغندا وتنزانيا وانتهت باندحار قوات عيدي وطرده من السلطة وعودة أبوتي إلى الحكم ومنذ ذلك التاريخ أي في نهاية حقبة السبعينات من القرن الماضي يعاني المسلمون من تهميش سياسي رهيب، فرغم أنهم يشكلون 20 % من سكان البلاد إلا أنهم محرومون من الوصول إلى مناصب قيادية في السلطة أو في الجيش[13].
• تقدم الإسلام في أفريقيا:
والسؤال المطروح الآن: هل ينجح المخطط التنصيري بكل هذه الإمكانيات في تحويل أفريقيا إلى قارة نصرانية ؟ ان واقع القارة يؤكد غير ذلك، فهناك أكثر من 365 مليون مسلم أفريقي تزيد نسبتهم عن 65% من سكان إفريقيا في مطلع الألفية الجديدة.
وقد يستطيع المنصرون بما في أيديهم من إمكانيات إغراء بعض فقراء القارة ممن يقتلهم الفقر والجوع والمرض، ولكن يظل الإسلام شامخا قويا في معقله الأفريقي، وهو يشهد مدا متناميا رغم قلة جهود الدعوة السلامية، ولو قام المسلمون بربع الجهد الذي يقوم به المنصرون في هذه القارة لتحولت في غضون سنوات الى قارة مسلمة خالصة ولتقلص عدد المسيحيين والوثنيين أمام المد الإسلامي الهادر.(/12)
ولقد أدرك المنصرون ما يحرزه الإسلام من تقدم مستمر في أفريقيا وأخذوا يحذرون من هذا التقدم، فقال الدكتور "ساس كونرادي"، من المنظمة التنصيرية (العالم الفقير) إن بعض قادة العمل التنصيري في أفريقيا، ومنهم "ديف سيفير" مدير الدراسات العليا في الكلية الإنجيلية في ألينوى، أصيب بصدمة كبيرة لتقدم العمل الدعوى الإسلامي في أفريقيا، إلى حد أنه طالب بعقد مؤتمر في أفريقيا للمنظمات التنصيرية، لبحث تقدم الإسلام في مناطق نفوذ النصرانية.
وحذر الدكتور كونرادي منظمات التنصير من أن مستقبل التنصير والنصرانية في خطر كبير بسبب انتشار الإسلام بين النصارى بعد مغادرة المنصرين الأجانب الغربيين، وإن مناطق الحدود بين الإسلام والنصرانية في أفريقيا تواجه فيها الكنائس والعمل المسيحي حاجة ماسة للدعم المالي، لأنها تواجه مصاعب مالية، وإنه إذا نفذت الأموال لدى الكنيسة على نشاطاتها فإن الإسلام سوف يخترق هذه الحدود، ويتقدم إلى قلب مناطق المسيحية في أفريقيا، وسيبقى أهل هذه المناطق فقراء ويكونون هدفا سهلا للدعاة المسلمين.
• سبل المواجهة:
ولا شك أن حاضر الإسلام ومستقبله في أفريقيا يدعونا إلى التيقظ والصحوة، فعلينا أن نقوم بتوعية إخواننا وتبصيرهم ومد يد المساعدة إليهم قدر الاستطاعة حتى يصمدوا أمام المد التنصيري الذي يجتاح القارة الأفريقية.
واذا بحثنا عن سبل مكافحة التنصير سنجد ان المكافحة هي مهمة كل مسلم، بما يستطيع تقديمه وحسب إمكاناته، حتى تتضافر الجهود ويتحد المسلمون في وجه أعدائهم، وما دمنا قد أدركنا خطر التنصير في إفريقيا والمأساة التي أحدثها في هذه القارة المسلمة فعلينا أن نقوم بواجبنا تجاه ديننا وإخواننا.. وقد حدد علماء الاسلام مجموعة من الوسائل المفيدة في هذا الشأن، منها[14]:
1- أن يعمل كل مسلم على إقامة دين الله عز وجل في نفسه وأهله ومن ولاه الله أمرهم فإن المجتمع يتكون من مجموع الأفراد.(/13)
2- الانتباه لنشاط المنصرين واليقظة التامة وإيجاد لجان أو جمعيات لمتابعة التنصير وكشف مخططاته وإصدار الكتب والنشرات التي تلاحقه بجميع لغات القارة الأفريقية.
3- إيجاد إذاعات قوية تصل إلى ربوع أفريقيا كلها وبجميع لغاتها لنشر الدين الإسلامي.
4- إقامة المؤتمرات العالمية الإسلامية لمناقشة خطط المنصرين وفضحهم، ونشر الدين الإسلامي.
5- إنشاء المؤسسات الطبية الخيرية الإسلامية من مستشفيات ومستوصفات مع وجود جهود دعوية فيها.
6- إنشاء المدارس الخيرية الإسلامية والجامعات والمعاهد العلمية والفنية لتعليم الناس الدين الإسلامي والعقيدة الصحيحة وإكسابهم خبرات علمية وانتشالهم من الجهل.
7- كفالة الدعاة في القارة الإفريقية من أبنائها حتى ينشروا الدين الإسلامي ويحاربوا التنصير والبدع والخرافات.
8- إنشاء مراكز رئيسة للدعوة الإسلامية وإنشاء فروع لها في كافة أنحاء إفريقيا وتزويدها بالكتب والنشرات والأشرطة الإسلامية.
9- إنشاء دور للعجزة والأيتام والأرامل والاهتمام بهم وتخريج الدعاة من بينهم.
10- استخدام جميع وسائل الإعلام في محاربة التنصير ونشر الدين الإسلامي من قنوات وشبكات كمبيوتر وإنترنت وصحف ومجلات وأشرطة وكتب ونشرات.
11- استخدام وسيلة المراسلة من خلال البريد والفاكس والبريد الإلكتروني.
12- التحرك في أوقات الكوارث والحروب والأزمات لإغاثة المسلمين ودعوتهم إلى دين الله الحق.
13- نشر اللغة العربية في إفريقيا وتدريب المعلمين الأفارقة وتعليمهم اللغة العربية والعلوم الشرعية للقيام بواجبهم التربوي والدعوي في بلادهم.
14- إرسال الدعاة وطلبة العلم من جميع أنحاء العالم الإسلامي إلى إفريقيا لتعليم الناس ودعوتهم إلى دين الإسلامي الحنيف.
15- إعمار المساجد في مختلف المناطق الإفريقية المحتاجة وتزويدها بالمكتبات والدعاة المؤهلين.
16- إنشاء المراكز الإسلامية المتكاملة التي تحوي المساجد والمدارس والمكتبات.(/14)
17- إيجاد برامج المنح الدراسية في الدول الإسلامية للطلاب الأفارقة في كافة التخصصات الشرعية والعلمية، وتأهيلهم ليصبحوا دعاة.
18- الدعوة إلى الله في أوساط غير المسلمين من النصارى وغيرهم وكما قيل خير وسيلة للدفاع الهجوم.
19- أن تعمل المؤسسات الإسلامية على تكثيف نشاطها في أوساط المسلمين في إفريقيا لاسيما الشباب وإقامة المخيمات لهم وبيان الأخطار التي تواجههم في عقر دارهم.
20- سعي الجماعات الإسلامية الموجودة في مناطق إفريقيا لمحاربة التنصير ووضع برامج لهذا الغرض.
21- نشر قصص المهتدين إلى الدين الإسلامي من النصارى.
ـــــــــــــــــــــ
[1] الخارجية المصرية تطالب الأزهر بالتصدي للمنظمات التنصيرية بالنيجر وتشاد - مجدي رشيد – موقع المصريون 11 - 3 – 2007م.
[2] حاضر العالم الإسلامي - د. جميل عبد الله محمد المصري – الجزء الثاني.
[3] الغارة على العالم الإسلامي أ.ل. شاتليه - ترجمة محب الدين الخطيب – ص25.
[4] التنصير في أفريقيا - د. مانع بن حماد الجهني - الجندي المسلم – العدد 99 – ربيع الأول 1421هـ.
[5] المرجع السابق.
[6] المبشرون! الجوع والمرض والتشرد.. سلاحهم لغزو مناطق الحروب والكوارث والأزمات الإنسانية - الوفد - الأربعاء 16 فبراير 2005م.
[7] المرجع السابق.
[8] فرق التنصير تحارب الإسلام فى آسيا وأفريقيا - محيط – رمضان 1420هـ.
[9] تشاد واحة إفريقيا المنسية - الشبكة الإسلامية - 16/12/2002م.
[10] الغارة الصليبية على تشاد - محمد البشير أحمد موسى - موقع المختار الإسلامي – 5/1/2005م.
[11] د. حقار محمد أحمد: التنصير في تشاد، ص:
[12] مسلمو أوغندا بين التهميش والمد التنصيري - الشبكة الإسلامية - 21/05/2006م.
[13] المرجع السابق.
[14] التنصير في أفريقيا - د. مانع بن حماد الجهني – مرجع سابق.(/15)
العنوان: غزو واغتصاب إفريقيا.. أكذوبة الاكتشافات الجغرافية
رقم المقالة: 1967
صاحب المقالة: د. جمال عبدالهادي
-----------------------------------------
غزو واغتصاب إفريقية
أُكْذُوبَةُ الاكتشافات الجغرافية
• أوروبا تتستَّر بما تُسمى الاكتشافات الجغرافية لاغتصاب إفريقية، وغيرها من أرض الله.
• العالم - ومنه إفريقية - كان معروفًا لدى المسلمين الأوائل قبل قيام أوربا بما تسمى الاكتشافات بزمن طويل.
• محمود شاكر يكشف في مقالة (الكشوف الجغرافية) عن حقيقتها ودوافعها.
• الرَّحَّالة والمؤرِّخون والجغرافيون المسلمون، يجوبون العالم منذ أقدم العصور، ويكتبون عنه قبل أوروبا بزمن طويل.
• • • • •
اعتاد الدارِس والقارئُ لِلمراجع التاريخية والجغرافية، أن يقرأ أنَّ كثيرًا من بلاد العالم - ومنها إفريقية، وآسيا، وما يسمَّى في عصْرنا (بالأمريكتينِ)، وبعض الجُزُر في البحار والمحيطات - كانت مجهولةً للإنسان من ذُرِّية آدم - عليه السلام - وأن الذين أخذوا زمام المبادرة وكشفوا هذه المجاهيل هم أبناء أوروبا، ومنهم الإسبان، والبرتغاليون، والإنجليز، والهولنديون.
وأنَّ أوربا حينما اكتشفتْ هذه المجاهيلَ وجدتْ فيها أناسًا يعيشون حياةً بدائِيَّة، لا تكاد تختلف عن حياة إنسان – ما سَمَّوه أيضًا – بالعصور الحجرية، أو عصور ما قبل التاريخ، ولذلك فإحساسًا منها – من أوروبا – بِمسؤوليتها أمام التاريخ، قرَّرت أن تحتل هذه البلاد؛ لكي ترتقي بهذه الأمم والشعوب في سلم الحضارة.
وهذا كله من باب الأكاذيب التي لم تجد من يتصدَّى لها، ويبيّن حقيقَتَها – وإن وجدت – فلا تكاد تَجِدُ لها صدًى كبيرًا لدى من يتعرفون على تلك الحقيقة؛ نظرًا لقلة عددهم، في مقابل الأعداد الضخمة من بني آدم الذين يتخرَّجون من دور العلم، وقد لُقّنوا تلك الأكاذيب على أنَّها حقائقُ، لا تقبل المناقشة أو التشكيك.(/1)
ومن الكتابات الجيِّدة التي تصدَّت لهذا الموضوع (مقالة للشيخ محمود شاكر)، عن "الكشوف الجغرافية حقيقتها ودوافعها".
ونظرًا لأنَّ من طبيعة الإنسان النسيان، وأن الله سبحانه وتعالى أوجب علينا التذكير بقوله سبحانه وتعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: 55] -: فإنني بعد الاستعانة بالله، قد قرَّرتُ كِتابةَ مقالةٍ أُخْرى انطلاقًا من المقالة التي كتبها الأستاذ محمود شاكر، وقبل ذلك انطِلاقًا من المصادر الإسلامية، لفَضْحِ الأكاذيب التي بثتها أوربا في ثنايا المصادر والمراجع، ورَبَّتْ عليها الكثيرَ من بني آدم، وهي اكتشاف البلاد المجهولة من العالم، وأنَّ إنسانَ تِلك البلاد كان يعيش مَعِيشَةً لا تَخْتَلِفُ عنِ الحيوانات المتوحِّشة، وأنَّها هي التي أخذتْ بِيَدِه إلى سُلَّمِ الحضارة، مع بيان وجه الحقيقة: وهي أنَّ ذلك العالَمَ لم يكن مجهولاً من قبلُ، وأنَّ إنسانَها من ذُرِّيَّة آدمَ كان أكْثَرَ تَحَضُّرًا وتمدينًا من هؤلاء الذين يعيشون على أرض الله من ذُرِّية آدمَ عليه السلام.
فالمصادر الإسلامية تبيّن لنا أنَّ:
آدم أبو البشر كان عملاقًا، وطولُهُ ستِّينَ ذراعًا:
إن أكمل صورة للخلق الإنسانيِّ، هي الصورة التي خلق الله سبحانه وتعالى عليها آدمَ عليه السلام[1]؛ فقد كان آدم - عليه السلام - عِملاقًا، طوله سِتُّونَ ذراعًا، وكان خَلْقُهُ من قَبْضَةٍ قَبَضَها الله - سبحانه وتعالى - من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قَدْرِ الأرض، فجاء منهم الأبيض والأحمر والأسود، ومن ذلك الخبيث والطيّب، والسهل والحزن[2]، كما بيَّن لنا ذلك رسولُنا مُحمَّدٌ صلَّى الله عليه وسلم.(/2)
وكان آدم – عليه السلام – نبيًّا مكلَّمًا[3]؛ أي إنه كان يتصل بالله – سبحانه وتعالى – اتصالاً دائمًا عن طريق الوحي، كما كان نبيًّا مسلِمًا، يعرف ربَّه وإلَهَهُ ودِينَهُ الذي لا يقبل اللهُ مِنَ الأَوَّلِينَ والآخِرين غيره؛ كما أنَّه كان قِمَّة في الحضارة الإنسانية، وهو الوحيد الذي عاش في عالَمٍ يرنو إليه المُسْلِمُ بِبَصَرِه صباحَ مَساءَ، ألا إنه عالم الجنة التي عرضُها السموات والأرض، {وَقُلْنَا يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا}[4]، لقد عاش آدم في الجنَّة مُدَّةً، لا يعلمُها إلا الله – عز وجل – ثم أُنْزِلَ إلى الأرض ابتلاءً وامتحانًا: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[5].
وكان آدم – عليه السلام – أيضًا عالمًا: {وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31].(/3)
لقد عَلَّمَهُ الله - سبحانه وتعالى - عِلْم كل شيء: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ}[6]؛ لأن الله قد استخلفه في الأرض، ومن رحمة الله - سبحانه وتعالى - أن زَوَّد آدم بكل مقومات الخلافة التي تُمَكّنه من أداء ما كلَّفه الله - سبحانه وتعالى - به، بعد أن سخر الله - سبحانه وتعالى - له ذلك الكون الذي نعيش فيه: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}[7]، لقد عَلَّم الله آدم - عليه السلام - كيف يصنع ثوبه ويستر عورته، وعلمه أيضًا كيف يرعى الأنعام، ويستفيد بِأَلْبانها وأشعارها وأوبارها ولحومها وجلودها؛ كما علَّمه صناعَةَ السفن وركوب البحار، وعلمه كيف يهتدي بالنجوم في ظلمات البَرّ والبحر؛ كما علمه اتخاذ المسكن والأثاث إلى غير ذلك من العلوم التي تنفعه في دنياه وأُخْراه[8].
ويهمّنا هنا أن نذكر (أنَّ الأرض التي صوَّر بعضُ أبناء آدم من سكان أوروبا أنهم قد اكتشفوها، قد ذللها الله - سبحانه وتعالى - لآدم وذريته: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ}[9]، وكون أن الله - سبحانه وتعالى - قد ذللها، واستخلف آدم وذريته فيها، فلا بد وأن آدم – عليه السلام – كان على علم بكل جزء من أجزائها، لأنه مكلَّفٌ من قبل الله - سبحانه وتعالى - بالنزول إليها والعيش عليها هو وذريته فترة الحياة الدنيا.
وهذه قضية مهمة جدًّا؛ لفهم حقيقة ما تسمى بالكشوف الجغرافية.(/4)
نزل آدم إلى الأرض هو وزوجُه، ومنَّ اللَّهُ عَلَيْهِما بِالذّرّيّة الكثيرة، وكان منها الصالح والضال، يُذكر من هذه الذرية "ابنا آدم" وقصَّتهما مبسوطة في القرآن[10]، وكثُر نسل آدم – عليه السلام – على الأرض، يدل على ذلك ما ورد عن الصادق المصدوق مُحمَّد – صلَّى اللَّه عليه وسلم – أنه قال فيما يرويه ابْنُ عبَّاس - رضي الله عنه -: ((بين آدمَ ونوح – عليهما السلام – عشرة قرون، كلهم على الإسلام))[11].
هذه القرونُ العَشَرَة، قد تكون عشرة أجيال، أي حوالي عشرة آلاف سنة، لأنَّ الأجيالَ الأولى كان تعمر حوالَيْ ألف سنة، مثل آدم ونوح - عليهما السلام - وقد تكون (1000) عام، إذا حسبنا القرن بمائة سنة، وقد يضاف إلى هذه القرون العشرة التي كانت على الإسلام، قرون أخرى لم تكن على الإسلام؛ كما قال بعض المُفَسّرين. ("البداية والنهاية"، الجزء الأول، ص 101).
وجاء وقتٌ استطاعَ الشَّيْطانُ فيه أن يَجْتَالَ أبناءَ آدَمَ عن دِينِهم، فأرسل اللَّهُ إليْهِمْ نوحًا – عليه السلام – يدعوهم إلى عبادة الله وحده، وبعدَ أَلْفِ عام إلا خمسين من الدعوة إلى الله، سخر الله الطوفان، فأهلك المُكَذّبين من ذرية آدم – عليه السلام – ونجَّى الله نوحًا ومن معه، وكان لنوح ثلاثة أبناء: سام وحام ويافث؛ لما رواه الترمذي عن سمرة بن جندب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((سام أبو العرب، وحام أبو الحبش، ويافث أبو الروم))، توجه سام إلى جزيرة العرب، وتوجَّه حام إلى إفريقية، وتوجه يافث إلى أوروبا، ومعهم بعض المسلمين الناجين من الطوفان، ليعمروا هذه الأجزاء من الأرض، ويتناسلوا، ويُربّوا أبناءهم وذراريهم على الإسلام، ومن هذه الحقائق يمكن أن نخلص إلى النتائج التالية:(/5)
(1) أنَّ الله قد خلقَ الأرض، وأنزلَ إليْهَا آدَم وذُرّيَّته، وليس من المتصوَّر أن الله - سبحانه وتعالى - قد أنزل آدم إلى الأرض لا يعرف عنها شيئًا، أو لا يعرف عن جزء من أجزائها شيئًا، لأنَّ الأصل أنَّ آدَم هو الذي ربَّى أبناءَهُ على الإسلام، وعلَّمهم مِمَّا علَّمه الله – عزَّ وجلَّ – وأنَّه لا بد وأنَّه قد أعطاهم معلومات عن الأرض التي سيعيشون عليها، وواجبهم من ناحية إقامة دين الله عليها، وذلك يستلزم علم أبناء آدم بالأرض وأجزائها (قاراتها) التي سيعيشون عليها.
(2) أن أول دين عرفته الأرض هو الإسلام، وأنه الدين الذي لا يقبل الله من الأولين أو الآخرين غيره (انظر: "أخطاء يجب أن تصحح في التاريخ"، "الإسلام دين الله"، الفصل الرابع).
(3) أنَّ القارات - كما يقول الجغرافيون - كانت بينها معابر أرْضِيّة أخرى غير الموجودة حاليًا أحدها عند بوغاز باب المندب، وكان يربط إفريقيا بآسيا، وآخر عند جبل طارق وكان يربط أوروبا بإفريقيا، وذلك يعني أن العبور من قارة إلى أخرى كان ممكنًا عن طريق البر، وكان ممكنًا عن طريق البحر؛ أي إن الارتباط بين القارات كان قائمًا منذ القِدم.(/6)
(4) إذا وُجِدَ أيُّ إنسانٍ على أيَّة بُقْعة من الأرض، فهو من ذُرّيَّة آدم عليه السلام، وليس من عنصر أو سلالة أخرى غير سلالة آدم عليه السلام، وهو إما أن يكون على الإسلام، أو أن الشيطان قد اجتاله عن دينه، وذلك يعني أيضًا أنَّ اللَّهَ - سُبحانه وتعالى - قد أرسل رُسُلاً إلى كُلّ بقعة من بقاع الأرض كان عليها أُنَاسٌ من ذُرّيَّة آدم: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}[12]، {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ}[13]، وهذا يعنِي أنَّ القارَّتَيْنِ المُغْتَصَبَتَيْنِ، واللَّتين أطلق عليهما اسم مغتَصِبهما (أمريكا نسبة إلى أمريكوس الفلورنسي) كان يعيش عليها أُناس من ذُرّيَّة آدم - عليه السلام - قد أرسل إليهم رسل، فمنهم مَنْ أَسْلَمَ ومِنْهُم مَن كفر؛ وإن كُنَّا لا نستطيع أن نُحَدّد مَن هُمُ الرسل، ولكن من المعلوم أنَّ الرسل ثلاثمائة وثلاثة عشر، جم غفير، والمذكور أسماؤهم في القرآن خمسة وعشرون، وهم الذين أُرْسِلوا في مناطق محددة، أرض الرافدين، وأرض السوس، وأرض الجزيرة العربية، ومصر، وبلاد الشام، والباقي من الرسل لا بُدَّ وأنْ يَكُونُوا قد أُرْسِلوا في بقاعٍ أُخْرَى من الأرض، قد تكون في وسط وجنوب أو شرق إفريقيا، وقد تكون في المنطقة التي سميت أمريكا الشمالية والجنوبية، وقد تكون في الجُزُر، المُهِمّ أنَّ اللَّه - سُبْحانَهُ وتَعالَى – لا بد وأن يكون قد أقام الحُجَّةَ على أهل كل عصر وعرصات.(/7)
إذًا ادِّعاء أهالي أوروبا أنهم قد خرجوا في القرن التاسع الهجري (الخامس عشر الميلادي)؛ ليَكْتَشِفوا مناطق وقارات لم تكن معروفة من قبل، فهو من باب الادِّعاء الذي لا يقوم على أساس، فكل بلاد العالم كانت موجودة ومعروفة للناس.
(5) أنَّ إنسانَ ما يُسمَّى بالعصر الحديث، هو أضعف بنية من الإنسان الأول، وهو آدم عليه السلام، وليس من وجه للمقارنة؛ كما أنَّه أقصرُ عمرًا، ما بين الستين والسبعين، وليس من وجه للمُقارنة، وأقلّ تديُّنا، فآدَمُ - عليه السلام - نَبِيّ مُكَلَّم، ولا وجه للمُقارنة أبدًا؛ كما أنَّ جميعَ أهلِ الجنَّة من ولد آدَم يدخُلون الجنَّة على صُورَتِه، كما أنَّ آدم عَلَّمَه الله علم كل شيء، وبالتالي عَلَّمَه آدم لذريته، فمثلاً قوم نوح - عليه السلام - كان لديهم علمٌ بالطب، يتمثل في معرفة أطوار الجنين: {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا}[14]، وعلم الفلك: {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا * وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا}[15]، وعلم بطبيعة الأرض: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا * لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا}[16].
ومن هنا نوجه نصيحةً إلى أبناء آدم، الذين نَسُوا فضل الله ونِعَمَهُ، وهُم من نَسْل أبناء آدم، ولكنَّ الشيطان قدِ اجتالهم عن دينهم الذي أخذ الله عليهم العهد به: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ}[17] أن يثوبوا إلى رشدهم، ويرجعوا إلى ربهم، والدِّين الذي كان عليه أبوهم.(/8)
قرائن أخرى
تُؤَكِّد
أولاً: أن المسلمين قد زاروا إفريقية والهند والصين وغيرها من البُلْدان، وجابوا البحار والمحيطات وما فيها من جُزُر، وأنَّهم كان يتجوَّلون بينها، ويقيمون بين ظهرانَيْ أهلها، وأنَّهم سلكوا طرقًا برّيّة وبحرية مطروقة ومعروفة قبل ما تُسَمّى باكتشافات أوروبا الجغرافية ببضعة قرون.
ثانيًا: أن الكثير من أهالي تلك البلادِ كانوا مسلمين بدليل تولِّي ابْنِ بطّوطة القضاء في دِلْهِي، وجُزُر الملاديف.
ثالثًا: أوروبا قدِ اعتَمدت في تعرُّفها على البلاد الَّتي لم تَكُنْ تَعْرِفُها، على المعلومات الَّتي قَدَّمَها لها الجغرافيّون، والمؤرّخون، والرَّحَّالة المسلمون.
ومن هؤلاءِ على سبيل المثال لا الحصر:
ابن حوقل[18] ( أبو القاسم محمد بن حوقل البغدادي الموصلي):
وهو رَحَّالة عربي مُسلم، وجغرافي مشهور، غادر بغداد عام 331 هـ، فجاب العالم الإسلامي من المشرق إلى المغرب، وكَتب في ذلك مصنف "المسالك والممالك" حوالي عام 367 هـ (977م)، والذي نشره مستشرق هو "ده غوي" de Goeje في المجلد الثاني من المكتبة الجغرافية Bilet – Geagr – Arab .
الإصطخري [19] (أبو إسحاق إبراهيم بن محمد الفارسي الإصطخري المعروف بالكرخي)
عربي مسلم، جُغرافي مشهور، عاش في النصف الأول من القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي)، له كتاب بعنوان "المسالك والممالك" نشره أيضًا ده غوي في المجلد الأول من المكتبة الجُغْرافية العربية، وقد حققه محمد جابر عبدالعال الحسيني، 1381هـ.
البيروني: (أبو الريحان محمد بن أحمد):
عربي مسلم، ولد عام 362 هـ، ذهب في حداثة عهده إلى الهند، له كتابات "الآثار الباقية في القرون الخالية"، و"تاريخ الهند".
المسعودي: (أبو الحسن علي بن الحسين بن علي الهذلي المسعودي):(/9)
ولد في الثلث الأخير من القَرْنِ الثالث الهجري ببغداد، وتوفي عام 346 هـ بمصر، زار بلاد فارس 203 هـ، والهِند سنة 304 هـ، وسرنديب (سيلان)، ورحل إلى الصين عن طريق البحر، وقبل ذلك كان في فارس وكرمان سنة 319 هـ، وطاف البحر الهندي، ورحل إلى ما وراء أذربيجان وجرجان، وزار إفريقية، وكتب عنها كتبا لم يبق منها إلا "مروج الذهب ومعادن الجوهر"[20]، الذي يعتَبَرُ حُجَّة على سَبْق المسلمين على أوروبا في معرفة إفريقية، وحجة على الرخاء والثراء الذي كان ينعم به إخواننا من أهل إفريقية، الذين يعانون اليوم من الموت جوعًا وعطشًا.
كتب المسعودي ما شاهده في زيارته لشرق إفريقية، لمدة ثلاث سنوات (اعتبارًا من 312هـ) انطلاقًا من عمان عبر البحر الأحمر، حيث انتقل من هناك إلى جنوب القارة الإفريقية.
وهذا دليل على أنَّ إفريقية كانت غنية وكانت معروفة، وكانت آمنة، وأنَّ الذين أفْقَرُوها هم أبناء أوروبا، وأنَّ الذين أجاعُوها هم أبناء أوروبا، وفيه دليل أيضًا على الأمانة التي يتصف بها أفراد الرعية، والرحمة التي كان عليها الحُكَّام.(/10)
وفي رحلة ثانية زار المسعودي شعوب إفريقية الغربية وممالِكَها[21]، ووصَفَ الأَقْوَامَ الَّذين سكنوا شرق إفريقيا وداخلها "ومساكن الزنج من الخليج المتشعب من أعلى النيل إلى بلاد سفالا - قرب ميناء بيرافي موزمبيق ولواق واق (الساحل الجنوبي من موزمبيق) - ومقدار مسافة مساكنهم واتصال مقاطنهم في الطول والعرض نحو سبعمائة فرسخ، أودية وجبال ورمال". ثم يصف أراضي مملكة الوقليمي الذين بنوا عاصمتهم في أقصى الجنوب من أرض سفالا حيث يقول: "أقاصي بحر الزنج هم بلاد سفالا وأقاصيه بلاد الواق واق، وهي أرض كثيرة الذَّهَب، كثيرة العَجائب، خِصْبة حارة، دوابهم البقر، وليس في أرضهم خيل ولا إِبل، ولا يعرفونها وكذلك لا يعرفون البرد أو الثلج، والزنج مع كثرة اصطيادهم لما ذكرنا من الفيلة وجمعهم لعظامها غير منتفعة من ذلك في آلاتها، وإنَّما تتحلَّى بالحديد بدلاً من الذهب والفضة، والغالب على أقواتهم الذرة، ومن غذائهم العسل واللحم"[22].
وذكر المسعودي "أن أقاصي بلاد الزنج إليها يقصد مراكب العمانيين والسيرافيين" (ص6)[23].
"وجزائرهم في البحر لا تحصى كثرة، ومن بعض تلك الجزائر جزيرة بينها وبين ساحل الزنج نحو من يوم أو يومين، فيها خلائق من المسلمين يتوارثها ملوك من المسلمين، يقال لها قنبلو" (ص17)[24].
وذكر المسعودي من القبائل الإفريقية (البجة) وهي قبائل نزلت بين بحر القلزم ونيل مصر، وفي أرضهم معادن الذهب وهو التِّبْر ومعادن الزُّمُرُّد (ص18).
الإدريسي: (أبو عبدالله محمد بن محمد بن عبدالله):(/11)
ابن إدريس الحمودي، عربي مسلم، ولد عام 493 هـ/1100 م بسبتة، وتوفي عام 560 هـ / 1166م بعد أسفار طويلة استقر في بلاط الملك النورماندي روجر الثاني في بالرمو، وقد أتم في بالرمو قبيل وفاة هذا الملك (548هـ/1154 م) وَصْفه للكرة الأرضية المصنوعة من الفضة في كتابه المشهور باسم "كتاب رُجَّار" أو "الكتاب الرجاري" أو "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق" (نشره دوزي ودي جوجه لايدن، 1866 م)، وهو الكتاب الذي نشر بعضه مع إحدى وسبعين خَرِيطة، في مُقدمتها خريطة مُستديرة للعالم[25]، موضح عليها مع الأقاليم السبعة المعروفة، ومنها إفريقية مع وصفها، وصنف الإدريسي لغليوم الأول (1154 – 1166م) كتابا كبيرًا في الجغرافية عنوانه "روض الأنس ونزهة النفس" أو كتاب "الممالك والمسالك" ولم يبق من هذا الكتاب إلا مختصر في مكتبة حكيم أوغلو علي باشا بإستانبول (رقم 688)، وقد طبع مختصر بسيط لكتاب رجار في روما حوالي عام 1592 م بعنوان "نزهة المشتاق في ذكر الأمصار والأقطار والبلدان والجزر والمدائن والآفاق"، ويُعْتَبَر كتابه أعظم مصنفات ما تسمى بالعصور الوسطى في الجغرافية.
مخطوطات الكتاب للأسف، في مكتبات باريس (مخطوطتان)، أكسفورد (مخطوطتان)، وإستانبول (مخطوطة واحدة في أيا صوفيا).
ابن بطوطة:(/12)
شمس الدين أبو عبدالله بن محمد بن إبراهيم اللواتي الطنجي، ولد في طنجة عام 703 هـ، 1304 وتوفي عام 776 هـ، 1368م، طاف مُعْظَم بقاع العالم المعروف في زمنه، وقد ترك لنا كتابا هو "تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار"[26]، وفيه وَصْف لرحلته الأخيرة عام 752 هـ، 1352 م إلى السودان الغربي وتجواله في مملكة مالِي، ووصل إلى تمبكتو التي كانت عاصمة للحضارة الإسلامية في ذلك الوقت، ثم توغَّل شرقًا إلى النيجر، حيث إنه هو أول من ذكر أن النيجر يسير إلى الشرق، وكان قبل ذلك قد زار شرق إفريقية، (بربرة، ومقديشو، وممباسا، وكلوا، وصوفالا) وزار مدنها الواحدة بعد الأخرى[27]، وقد رجع إلى مراكش عن طريق واحتي غات وتوات ("جغرافية إفريقيا"، تأليف د. فتحي محمد أبو عيانة، دار النهضة العربية، بيروت 1983).
وهذا دليل على سَبْق المُسلمين على أوروبا في معرفة معظم بقاع العالم، ودليل أيضًا على الأمن الذي كان عليه الطريق، وكانت عليه القارة الإفريقية، كما يدلنا ذلك أيضًا على الثراء الذي كانت عليه القارة الإفريقية (التي تموت جوعًا في القرن الرابع عشر الهجري).
ولقد أنتجت أسرة ابن بطوطة عدة قضاة، منهم الرحالة نفسه فهو وليد أسرة عريقة في الاشتغال بالعلوم الشرعية؛ درس العلوم الدينية وتفقه فيها، وفي سن الحادية والعشرين سافر ابن بطوطة وحده من طنجة لأداء فريضة الحج، وفي الطريق زار قاضي الإسكندرية فنزل عند أحد علمائها المسمَّى برهان الدين، ولقد توسم فيه برهان الدين حب التجوال، وأوصاه إن ذهب إلى الهند أو السند أو الصين أن يزور أفرادًا سماهم له، وهنا يتجلى اهتمام الرحالة المسلم بالدين وعلماء الدين في كل صحيفة من كتابه.(/13)
وقد زار ابن بطوطة القسطنطينية في حاشية الأميرة اليونانية زوجة السلطان محمد أوزبك، ومن الفلجا اخترق خوارزم، وبخارى، وأفغانستان في طريقه إلى الهند، وولي القضاء في دلهي، واشترك بعد سنتين في بعثة سياسية إلى الصين، وصل إلى جزر الملاديف حيث ولي القضاء مُدَّة عام ونصف، ووصل من هناك إلى الصين عن طريق جزيرة سيلان، والبنغال، والهند الأقصى، ثم رجع إلى بلاد العرب عن طريق جزيرة سومطرة؛ وكما أوردنا، زار تمبكتو ومالي، ثم رجع إلى مراكش عن طريق واحتي غات وتوات، وكانت له رحلة طويلة وأخرى إلى بلاد الزنج بإفريقية عام 753 و 754 هـ.
حسن بن الوزان (ليو الإفريقي):
ولد في غرناطة عام 893 هـ، 1493 م، من أصل مغربي، عاد مع أهله إلى المغرب، وأقاموا في فاس، قاده حبّ الاطّلاع إلى الترحال مع التجار الذين يُتاجرون مع بلدان جنوب الصحراء المجاورة في غرب إفريقية.
كتب عن دولة سنغاي والمناطق المجاورة لها في مالِي، والهوسا وبورنو، وعمَّا شاهده في رحلاته في إفريقية التي بدأت عام 910 هـ، 1510م.
أسرَهُ القَراصنة الأوربيّون، وأخذوه إلى البابا ليو العاشر، الذي أبقى على حياته للاستفادة من رحلاته ومُذكَّراته.
كتب كتابا سماه: "تاريخ ووصف إفريقية"، كان مصدرًا من المصادر التي استقى الأوروبيون منها معلوماتهم[28].
البكري (أبو عبدالله عبدالله بن عبدالعزيز بن محمد بن أيوب بن عمرو بن أبي مصعب):
ولد في قرطبة عام 439 هـ/1039 م، وتوفي في قشتالة عام 494 هـ/ 1094 م وهو أقدم جغرافي أندلسي له "معجم ما استعجم"، ومن أهم ما كتب "المسالك والممالك" الذي أتمه عام 468 هـ / 1068م، وقد نشر[29] منه الجزء الخاص بالممالك والأصقاع التي تمتد ما بين النيل شرقا والمحيط الأطلسي غربًا، ومن البحر المتوسط شمالاً والسفانا جنوبًا.(/14)
خصص جزءًا كبيرًا من كتابه للحديث عن إفريقية الغربية وملوكها تحت عنوان "تذكرة النسيان في أخبار ملوك السودان" وفيه يذكر عن (مملكة غانا) أنها احتكرت تجارة الذهب، واهتم ملوكها بالحفاظ على أسعاره: "كل كتلة من الذهب يجدها المنقبون يبعثون بها توًّا للملك يحرزها لنفسه، أما التبر فيتركه لشعبه يتصرف فيه كيف يشاء، ولولا احتياطه هذا لكثر الذهب في الأيدي، ولَقَلَّتْ قيمته تبعًا لكثرته".
"الاعتراف سيد الأدلة":
الكُتَّاب من أبناء أوروبا يُؤكِّدُون الحقائق السابقة، من هؤلاء الكُتَّاب أغناطيوس بوليا نوفتش كراتسكوفسكي Istoria Arabskoi Gergraficheskou literatury, Moskovo – Liningrad, 1957.
في كتابه الذي نقله إلى العربية صلاح الدين عثمان هاشم، جُزْءان في الإدارة الثقافية في جامعة الدول العربية، 1957م.
وفي الجُزْئينِ اعترافٌ واضحٌ وصريحٌ من الكاتب غير المسلم بسَبْق المسلمين الأوائل في الكشوف الجغرافية، وأنَّهم قد جابوا البحار والمحيطات، وعرفوا بقاع الأرض قبل أوروبا بزمن موغل في القِدم، وأنَّهم كانوا يعتمدون في رحلاتهم على أدوات ملاحية مُتطوّرة.
والاعتراف كما يقولون سيد الأدلة، فها هو كراتشكوفسكي في الجزء الثاني من كتابه، ص 563 يذكر:
"وعندما وضع فرامورو framauro مصوره الجغرافي في عام 1457 م (850هـ)، ذكر أن ملاحًا عربيًّا (أي مسلمًا) أبحر حوالي عام 1420 م (820 هـ) من المحيط الهندي حول القارة الإفريقية فظهر بالمحيط الأطلنطي".(/15)
"وقد شاهد فاسكوداغاما Vasco da Gama في عام 1497 – 1498م (897هـ) سُفُنًا عربية إلى الشمال من موزمبيق (تحمل البوصلة بيت الإبرة)، وخارطات بحرية، وعلى إحدى هذه السفن وجد فاسكوداغاما مخطوطات عربية بعث بها إلى الملك مانويل Manoel . أما مواطنه الشهير البوكرك Albuquerque فإنه يدين بفتوحاته (أي غزوه لبلاد الإسلام) في منطقة عمان والخليج الفارسي إلى خارطة بحْرية من عمل رُبَّان عربي ماهر يُدْعَى عمر؛ بل ويقول في مذكراته أنَّ ملاحًا مُسلِمًا وقع في أَسْرِ البرتغاليين عند جزيرة سقطرى (كان ربانًا عظيمًا ذا معرفة جيدة بهذا الساحل، وقد أعطاه مرشدًا للطرق البحرية Routier ) مُبَيَّنَة عليه جميع مواني مملكة هرمز، وهو من وضع ربان آخر يدعى عمر، كان قد صحبه ذلك الربان في البحر".
"ومن تقرير رفعه البوكرك إلى ملك البرتغال أول أبريل 1512م (912هـ) نعرف أنه قد بعث إلى الملك بصورة منقولة عن خارطة كبيرة، عملها ربان أصله من جاوة (مسلم)، ويظهر فيها رأس الرجاء الصالح، وأملاك البرتغال (أي البلاد التي اغتصبتها البرتغال في إفريقية)... والبحر الأحمر، وبحر فارس، وجزائر الملوكاس، والطرق البحرية لأهل الصين، وأهل فرموزا، وقد بينت الخطوط، والطرق التي تسلكها السفن؛ كما تبين عليها أيضًا الأجزاء الداخلية لتلك البلاد، وكتب الأسماء بالحروف الجاوية، وقد أرسلت في طلب رجل من أهل جاوة يعرف القراءة والكتابة ليفسرها لي..." المرجع السابق ص 563.
وفي الجزء الأَوَّل أوْرَد كراتشوفسكي الحقائق التالية:
أولاً: "فمارينو سانودوه Marino Sanudo ، وهي إحدى الشخصيات الأوروبية النشطة في القرن الرابع عشر الميلادي (الثامن الهجري) قد زود مصنفه، "كتاب الأرض المقدسة" بخارطة للعالم لتوضيح فكرته المبتكرة التي ترمي إلى محاصرة العالم الإسلامي حصارًا اقتصاديًّا: وهذه الخارطة على هيئة دائرة مركزها أورشليم" ص26.(/16)
وهكذا يتضح لنا الهدف اليهودي الصليبي من وراء ما أسمته المراجع بالكشوف الجغرافية: هذا الهدف هو محاصرة العالم الإسلامي والإجهاز عليه، (انظر أيضًا ص 272 من نفس المرجع).
ثانيًا: "أن نشاط الفزاري (حوالي 170هـ) ومعاصريه كان بلا شك فاتحة عهد جديد في تطور الفلك والجغرافيا الرياضية عند العرب، وكان هو ما شاء الله أول من وضع الإسطرلاب بين العرب" ص 72.
ثالثًا: "وهكذا فمهما بدا الأمر غريبًا اليوم فإن النظرية الجغرافية العربية قد لعبت دورًا هامًّا في كشف العالم الجديد (أي اغتصاب أوروبا للعالم الذي اعتبرته جديدًا، ولم يكن كذلك بالنسبة للمسلمين)" ص75.
رابعًا: " أكبر رياضي وفلكي في النصف الأول من القرن[30] هو محمد بن موسى الخوارزمي (ترك) ترجمة يمكن اعتبارها أول رسالة أصيلة في الجغرافيا الرياضية عند العرب وشاملة لجميع العالم المعروف لهم" ص 80.
"وقد صنف الخوارزمي عقب وفاة الخليفة المأمون بين عامي 221 هـ - 836 م، 232 هـ - 847م مصنفًا يطلق عليه اسم "صورة الأرض" (ص99)".
"فقد وضع كتابه في الجغرافيا على هيئة زيج، أي جداول فلكية، وتبدأ الجداول بعد البسملة مباشرة على هيئة عمودينِ في كل صفحة مع تبيان المواقع الجغرافية للأماكن الكبرى التي يصل عددها إلى خمسة وسبعة وثلاثين موضعًا، وهي موزعة على الأقاليم المختلفة بحسب الابتعاد التدريجي من خط الزوال الابتدائي الذي يمر بجزر السعادة (الخالدات = الكنارى) في أقصى الغرب من إفريقيا.
ويتلو جدول المدن جدول الجبال، ثم يلي ذلك وصف البحار فالجزر، ويشمل القسم الأخير منها، وهو أوسعها، وصفًا للأنهار في كل إقليم" ص 100.
"هذا ويسترعي النظر بصورة خاصة تقسيم الخورازمي للأقاليم السبعة حسب درجات العرض" ص101.
"وبالرغم من أن العرب (يقصد المسلمين) قد كشفوا في القرن التالي للخوارزمي عن وجود نقاط عديدة مأهولة على الساحل الشرقي لإفريقيا وفي الهند وجنوب شرقي آسيا" ص 101.(/17)
فهل بعد ذلك يجرؤ إنسان على الزعم بأن تلك المناطق كانت مجهولة بالنسبة للمسلمين، وأن الأوربيين هم الذين كشفوا لنا ذلك العالم.
أمَّا الأهمية الكبرى فتنالها دون منازع خارطة للنيل، التي يتضح منها أن مجراه كان معروفًا جيدًا في ذلك الوقت (أي نهاية القرن الثاني الهجري أي قبل ما تُسمى الاكتشافات الأوربية بسبعة قرون حسب شهادة أبناء أوروبا) ص 102.
خامسًا: "وقد اقتدى عرب المغرب بإخوانهم عرب المشرق فلم يقصروا اهتمامهم على المشرق وحده، الذي ربطه بالعرب (يقصد المؤلف بالعرب المسلمين) تاريخ طويل من العلاقات؛ بل جهدوا أيضًا في التعرُّف على الغرب والكشف عن بلاده غير المعروفة لهم" ص 136. وعرب الأندلس رغمًا من خوفهم من المحيط الأطلنطي الذي اقترن في أذهانهم ببحر الظلمات الرهيب، قد قاموا بمحاولات عديدة للكشف فيه.
"ويَروِي لنا المسعودي خبر إحدى تلك المغامرات في عبارات موجزة مع الإشارة إلى مصنف" ص 136 وما بعدها.
ولنا هنا تعليق، أليس في هذا دليلٌ لا يقبل الشك على أن المسلمين الأوائل، كما رحلوا لنشر دعوة التوحيد في بلاد الشرق، فإنهم قد قاموا بنشر دعوة لا إله إلا الله في بلاد الغرب.
ومعنى ذلك أنَّ المسلمين الأوائل قد وصلوا إلى ما يطلق عليه اسم الأمريكتين، والدليل أن الأسبان حينما وصلوا إلى هناك وجدوا سكانًا لهم حضارة فمن أين أتوا؟ ومنذ متى؟ وما هو الدليل؟(/18)
قام شخص يسمى دكتور باري فل بأبحاث يتتبع من خلالها أصول هذه الحضارة، التي كانت موجودة قبل أن يصل كولمبس إلى ما يسمى بالعالم الجديد (الأمريكتينِ) ونشر نتيجة أبحاثه في كتابينِ، الأول تحت عنوان "أمريكا قبل الميلاد" (1976)، والثاني "قصة حياة أمريكا" (1980م)، وقد حاول الكاتب أن يثبت في كتابه الأول والثاني أن عربًا من الشمال الإفريقي قد وصلوا إلى ما يسمى بالعالم الجديد في الألف سنة الأولى قبل ميلاد المسيح، مع غيرهم من الأقطار الأخرى مثل أيرلندا، ومن الجزر الإسكندنافية، ومن الصين ومن اليابان وأستراليا ونيوزيلندا.
"ويَجمَعُ الدكتور فل في كلا الكتابين من الأدلة عددًا كبيرًا من المكتشفات الأثرية، والآثار المعمارية، والمقارنة اللغوية، والرموز؛ ليقدّم الأدلَّة على نظريته المتعلّقة بأمريكا الشمالية ذات التاريخ الممتد ما يزيد على ألفي عام من السفر، والترحال، والاتجار، وكذلك التبادل الثقافي مع ثقافات وحضارات كانت قائمة في فترة وصول الرحالة والمسافرين.
ومن هذه الأدلة ما عثر عليه في حوض نهر الكولورادو المعروف بـ"منحنى الحوض الكبير"، من نقوش وكتابات شبيهة بالكتابات التي وجدت في جميع أنحاء الولايات الجنوبية الغربية، والمعروفة بالكتابة الدودية.
هذه الكتابات تتشابه إلى حد كبير مع الأبجدية البربرية والسابقة للعربية في ليبيا؛ كما أنها تشبه الخط الكوفي، والنسقي، والمغربي للكتابة العربية.
من هذه الكتابة لفظة "لا إله إلا الله، محمد رسول الله"، "بسم الله"، وأسماء عربية أخرى شائعة.
ومن النقوش عثر على حسابات رياضية، وأسماء لحاجيات، وأشياء عادية يومية، وكذلك خرائط حفرت على الصخر لرحلات وأسفار (انظر مقالة: "الدراسات العلمية التاريخية تؤكد: العرب اكتشفوا أمريكا قبل كولمبس". تأليف نور الدين دوركي.(/19)
سادسًا: وفي صفحة 138، 139 يُقدّم المؤلِّفُ قرائِن كثيرة تثبت أن التجارة عن طريق البحر مع الهند وأرخبيل الملايو والصين كانت قائمة بين أهالي تلك البلاد والمسلمين، وأنه كان في ميناء كانفون بالصين جاليات إسلامية، وأن المسلمينَ كانوا يعرفون (خمير Khmer )، وهو الاسم القديم لكمبوديا.
وتثبت أيضًا أن المسلمين كانوا يعرفون الطريق البري الذي يخترق آسيا الوُسْطى إلى الصين، وأنهم جابوا كثيرًا من المناطق ومنها روسيا الحالية ص 139، وسواحل إفريقية ص 143.
سابعًا: يورد المؤلف ص 143، ص 237 حديثًا يؤكد أن مرشدي فاسكوداغاما في المحيط الهندي كانوا من العرب المسلمين، انظر أيضًا الفصل الخامس وما بعده، وكلها تؤكد معرفة المسلمين وسكناهم للبلاد والقارات التي اغتصبتها أوروبا لتطويق العالم الإسلامي للإجهاز على الإسلام والمسلمين.
فَهَلْ يَجْرُؤ أحدٌ على الزَّعْم بعد ما قرأنا على أنَّ أوروبا قد اكتشفت عالمًا كان مجهولاً لبني البشر (انظر أيضًا ص 192، 199، 200، 201).
وفي صفحة 201 وما بعدها أورد المؤلف كلامًا عن كتاب ابن حوقل "كتاب صورة الأرض" (367 هـ = 977 م) تثبت أن العالم كان يعتبر عالمًا إسلاميًّا، وأنه كان معروفًا، إقليمًا إقليمًا وصقعًا صقعًا، وكورة كورة". يقول المؤلف: "من هذا يتَّضح أن ابن حوقل قد حصر اهتمامه على وجه التَّقريب في وصف دار الإسلام"؛ ولكنه كان يتجاوز في حالات معينة بالطبع نطاق العالم الإسلامي ص 203.(/20)
"يجب الاعتراف بأن ابن حوقل هو الخبير الأول في شؤون المغرب... ويتَّضح هذا بصورة أقوى من خلال المخطوطة التي نشرها كرامرس، ففيها يرد وصف مفصل لمنطقة البجة وتاريخهم ولإرتريا Eritrea ، مع ذكر ما لا يقل عن مائتين من قبائل البربر، ويصف الواحات، ص 204، وتقدم المادة التي جمعها لوحة طريفة لحضارة العالم الإسلامي في ذلك العهد. فهو قد التقى مثلا في سجلماسة بجنوبي مراكش بتجار عراقيّين من أهل البصرة والكوفة المقيمين هناك، ويمكن الحكم على مدى اتساع معاملاتهم التجارية من أنه قد أبصر صَكًّا بِدَيْنٍ على أحد سكان واحة أودغشت بداخل إفريقيا قيمته اثنان وأربعون ألف دينار (ص204).
ثامنًا: أورد المؤلف حديثًا عن البيروني (390 هـ = 1000 ميلادية) ومؤلَّفاته تؤكّد معرفته وعِلْمَه الدقيق بأرض العالم الإسلامي (ص245 وما بعدها)؛ كما أورد معلومات من كرديزي وكتابه "زين الأخبار" 440 هـ، ص 258، وعن: الرازي، والرحالة إبراهيم بن يعقوب، والمحدّث الأنْدَلُسيّ المشهور ابن عبدالبر النمري القرطبي (368 هـ، 463 هـ) الذي خلف كتابًا في الأثنوغرافيا بعنوان: "القصد والأَمَم في التعريف بأصول العرب والعجم"، وبه معلومات عن أهل الصين وعلاقتهم بسكان الملايو (ص 273).(/21)
كما ذكر المؤلف أيضًا أحمد بن عمر العذري (393 – 478 هـ) وكتابه "نظام المرجان في المسالك والممالك" ص 273 وما بعدها، وأبا عبيد عبدالله البكري ص 274، وكتابه "المسالك والممالك" (460هـ)، وكتابه "معجم ما استعجم" (ص267 وما بعدها)، والإدريسي (ص279، وما بعدها)، وكتابه "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق" (ص280)، وابن بطوطة (421) الذي قال عنه المؤلف: "وهو نفس الرحالة الذي لا يستغني عن الرجوع إليه أي باحث يود الخوض في تاريخ الأورو الذهبي، وآسيا الوسطى والذي رغمًا من هذا تقف رواياته عن الصين والهند في مستوى واحد مع "أسفار السندباد"، وعجائب الهند... ومن المستحيل إنكار أنه كان آخر جغرافي عالمي من الناحية العملية، أي أنه لم يكن نقالة اعتمد على كتب الغير؛ بل كان رحالة انتظم محيط أسفاره عددًا كثيرًا من الأقطار، وقد جاوَزَ تجواله مقدار مائة وخمسة وسبعين ألف ميل (ص421).
تاسعًا: وذكر المُؤلّف أيضًا ليون الإفريقي وكتابه "وصف إفريقيا" ص 450، وفي الجزء الثاني في الكتاب أكَّد الكاتب أنَّ فاسكوداغاما قد وفّق في الإفادة من تجربة العرب العملية، "فالمؤرخ البرتغالي باروش Barros ، يذكر في كتاب "آسيا البرتغالية" أنَّ فاسكوداغاما التقى في مالندي Malindi بمسلم من كجرات يُدْعَى المعلم كانا Malem cana وُجِدَ لديه عددٌ كبير من الخارطات والآلات، هذا وقد تَمكَّن البحَّاثة في بداية القرن العشرين من الكشف عن شخصيَّة "المعلم كانا" هذا، الذي دل فاسكوداغاما على الطريق من مالندي Malindi إلى قاليقوت Calicut بالهند (على ساحل ملبار) (ص563).(/22)
وهكذا رأينا أنَّه لا خلاف بين المصادر الإسلامية وغير الإسلامية في أنَّ مرشد فاسكودا غاما كان "مسلمًا" سواء كان ابنَ ماجد أم كان غيره، ولا خلاف بين هذه المصادر أنَّ البرتغاليين في رحلاتهم تلك كانوا يعتمدون على الخارطات والآلات التي سبق المسلمون إلى إعدادها منذ زمن بعيد وسادوا به - بفضل الله - البر والبحر.
أورد الكاتب نصًّا منقولاً عن قطب الدين النهروالي (917 – 990 هـ) "والذي يرجع تأليفه إلى ما بعد خمسين عامًا بالتقريب من ذلك الحادث الخطير"؛ أي وصول "البرتغاليين لطريق الشرق" لقد حفظ لنا قطب الدين في كتابه عن فتح العثمانيين لليمن "البرق اليماني في الفتح العثماني" رواية هامَّة عن ظهور البرتغاليين في المحيط الهندي؛ وكان هذا الحادث الخطير لا يزال عالقًا بأذهان المتقدمين في السن في عهد قطب الدين، كتب قُطب الدين يقول: "وقع في أوَّل القرن العاشر (ابتداءً من عام 1495) من الحوادث الفوادح النوادر دخول البرتغال اللعين من طائفة الفرنج المَلاعيين إلى ديار الهند، وكان طائفة منهم يَرْكَبُون من زقاق سبتة (مضيق جبل طارق)... إلى أن خلص منهم غراب (سفينة صغيرة) إلى بحر الهند، فلا زالوا يتوصَّلون إلى معرفة هذا البحر إلى أن دلهم شخص ماهر من أهل البحر، يقال له أحمد بن ماجد صاحَبَه كبير الإفرنج، وكان يقال له الأملندي (أي الأميرال)، وعاشره في سكره فعلمه الطريق في حال سكره، وقال لهم لا تقربوا الساحل من ذلك المكان (أي الساحل الإفريقي) وتوغَّلوا في البحر ثم عودوا (أي إلى ساحل الهند) فلا تنالُكم الأمواج، فَلَمَّا فعلوا ذلك صار يَسْلَمُ من الكسر كثيرٌ من مراكبهم، فكَثُروا في بَحْرِ الهِنْدِ... فصاروا يَقْطَعُونَ الطريق على المسلمين أسرًا ونهبًا ويأخذون كل سفينة غصبًا إلى أن كَثُرَ ضَرَرُهم على المسلمين، وعَمَّ أَذَاهُم على المسافرين فأرسل السلطان مظفر شاه بن محمود شاه بن محمد شاه سلطان كجرات يومئذ (917 –(/23)
932 هـ) إلى السلطان الأشرف قانصوه الغوري (906 – 922 هـ = 1501 – 1516 م، يستعين به على الإفرنج" صفحة 570 – 571.
وهكذا يتَّضِحُ لنا أنَّ المسلمين المعاصرين للهجمات البرتغاليَّة على العالم الإسلامي على أنها هجمات صليبية تستهدف الأمة المسلمة ودينها وعقيدتها، وأنها ما كانت لِتَجْرُؤَ على التجول في تلك البحار والأماكن إلا بمعاونة بعض أبناء العرب والمسلمين، كما تثبت أيضًا فضل السبق الذي كان للمسلمين في معرفة واستيطان تلك البلاد قبل أوروبا بقرون عديدة، وتثبت أيضًا التزييف والتحريف الذي تعرض له تاريخ اغتصاب العالم الإسلامي، وصُوِّرَ على أنَّه تاريخُ اكتشافاتٍ جغرافية لبلاد لم يكن يعرفها المسلمون ويستوطنونها قبل أوروبا بقرون طويلة.
---
[1] قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((خلق الله آدم وطوله ستون ذراعًا، ثم قال اذهب فسلِّم على أولئك من الملائكة، واستمع ما يجيبونك، فإنها تحيتك وتحية ذريتك، فقال: السلام عليكم، فقالوا: السلام عليك ورحمة الله، فزادوه ورحمة الله، فكل مَن يدخل الجنة على صورة آدم، فلم يزل الخلق ينقص حتى الآن))؛ رواه البخاري في باب الاستئذان؛ "فتح الباري"، ج6، ص 362 وما بعدها.
[2] رواه الإمام أحمد.
[3] لما رواه ابن حبان في صحيحه عن أبي ذر قال: قلت: "يا رسول الله، كم الأنبياء؟"، قال: ((مائة ألف وأربعة وعشرون ألفًا))، قلت: "يا رسول الله، كم الرسل؟" قال: ((ثلاثمائة وثلاثة عشر، جم غفير))، قلت: "يا رسول الله، من كان أولهم؟"، قال: ((آدم))، قلت: "يا رسول الله، نبي مرسل؟"، قال: ((نعم، خلقه الله بيده، ثم نفخ فيه من روحه، ثم سواه مثلاً))؛ "البداية والنهاية"، ج1، ص 89.
[4] البقرة: 35.
[5] البقرة: 38، 39.
[6] الرحمن: 3، 4.
[7] الجاثية: 13.(/24)
إن الرجوع إلى آيات الله سبحانه وتعالى، تؤكد لنا أن الله - سبحانه وتعالى - هو الذي سَخَّر لآدم وبنيه الشمس والقمر، وهو الذي سخر لهم الفلك؛ لتجري في البحر بأمره، وسخر لهم الليل والنهار، وسخر لهم البحر؛ ليأكلوا منه لحما طريًّا، كما سخر لهم ما في السموات والأرض؛ بل إنه - سبحانه وتعالى - كان يسخر الجبال يُسَبِّحْن مع داود - عليه السلام -:{وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ} [الأنبياء: 79].
انظر أيضًا: [إبراهيم: 32، 33]، [النحل:13، 14]، [الحج: 95]، [العنكبوت: 61]، [لقمان:20 – 29]، [فاطر: 13]، [الزمر: 13]، [ص: 18 - 36].
[8] انظر: "أخطاء يجب أن تصحح في التاريخ"، الرسالة الأولى دار الوفاء – المنصورة، دار طيبة – الرياض.
[9] تبارك: 15.
[10] المائدة: 27 – 33.
[11] "البداية والنهاية"، للإمام الحافظ ابن كثير، ج1، ص101. إن دراسة تاريخ الإنسان، وتاريخ الدين الصحيح الذي ارتضاه الله - سبحانه وتعالى - لبني آدم على هذا النحو، يُبيّن فساد مناهج التعليم عمومًا، ومناهج التاريخ القديم على وجه الخصوص، التي ربت أبناء آدم على أن بداية الخلق الإنساني هي الخلية الحية، التي نشأت في البِرَك والمستنقعات، وأن الدِّين من اختراع العقل البشري. انظر: "سلسلة أخطاء يجب أن تصحح في التاريخ".
[12] النحل: 36.
[13] فاطر: 24.
[14] نوح: 14.
[15] نوح: 15 – 16.
[16] نوح: 19 – 20.
[17] الأعراف: 172 – 173.
[18] ما تسمى دائرة المعارف الإسلامية، ط جمادى 1352 هـ، ص 145 – 146.
[19] المرجع السابق، م2، ص256. ونحن نورد هذه الأخبار نقلاً عن مرجع حريص على طعن الإسلام وتشويه التاريخ الإسلامي، من باب وشهد شاهد من أبناء أوروبا على سبق المسلمين الجغرافيين والمؤرخين وغيرهم إلى معرفة العالم.(/25)
[20] تحقيق محمد محيي الدين عبدالحميد، ط4، مطبعة دار السعادة، مصر، 1384 م، "إفريقية"، ص19 – 20 "الجغرافيا والجغرافيون بين الزمان والمكان"، تأليف د. محمد محمود محمدين، دار العلوم للطباعة والنشر، 1403 هـ، ص152.
سبق المسعودي في هذا المضمار، وهب بن منبه الذي دون الكثير من أخبار شعوب وممالك إفريقية عام 138 هـ تقريبًا في كتابه "قصة الهجرة العظمى"، وكذلك الفزاري أبو إسحاق إبراهيم الذي زار دولة غانة قبل عام 200هـ وسماها أرض الذهب. وهذا دليل على الأمن والرخاء الذي كانت تنعم به تلك البلاد.
[21] يعتبر ابن خلدون: المسعودي إمام المؤرخين، وحجة الجغرافيين. انظر "العبر وديوان المبتدأ والخبر".
[22] نشره ده سلاني ........... عام 1857 م.
[23] "إفريقية"، ص 24، "إفريقية تحت أضواء جديدة"، ص 142.
[24] "إفريقية"، ص 20؛ "مروج الذهب ومعادن الجوهر في تحف الأشراف والملوك" ج1، ص 6 وما بعدها، ص 2، 1384 هـ، 1964 م، ص 15، ص 17.
[25] ذكر شخص اسمه جوتييه مكانة الإدريسي (أبو عبدالله محمد، توفي 650هـ، له كتاب: "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق" وما قدمه بقوله: "إن الشريف الإدريسي الجغرافي كان أستاذًا للجغرافيا في أوروبا بطليموس، إذ لم يكن للعالم في ذلك اليوم مصور عن الأرض إلا ما رسمه" وانظر "إفريقية"، ص19.
[26] نشر دار التحرير، مصر، 1386هـ.
[27] "رحلة ابن بطوطة"، دار بيروت للطباعة والنشر 1384 هـ /1964 م ص 682 وما بعدها؛ "إفريقية"، ص 25.
[28] نشر بالإيطالية عام 1550 م، ثم ترجم إلى الإنجليزية عام 1600م.
ويقول بوفيل Bovill إنه قبل قدوم العرب لم نكن نعرف الكثير عن إفريقية جنوب بلاد المغرب، فنحن مدينون بمعلوماتنا عن التاريخ المبكر لداخل القارة إلى فئة قليلة من المؤلفين والرحالة من أهمهم: المسعودي؛ وابن حوقل؛ وابن خلدون، "تاريخ كشف إفريقية واستعماره"، تأليف د. شوقي الجمل، ص 47، إفريقية، ص 19.
[29] "إفريقية"، ص 24.(/26)
[30] الثالث الهجري.(/27)
العنوان: غزوة أحد (1)
الآيات، والكرامات، والمعجزات
رقم المقالة: 1613
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
الحمد لله؛ مالكِ الملك، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعزُّ من يشاء، ويذل من يشاء. لا يذل من والاه، ولا يعز من عاداه، وهو على كل شيء قدير. أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ لا يخرج شيء عن أمره، ولا يعجزه أحد من خلقه، وله الحكمة البالغة في أمره وشرعه: {لا إِلَهَ إِلا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص: 88].
وأشهد أنَّ سيِّدنا ونبيَّنا محمَّدًا عبد الله ورسوله؛ في غزوة أحد جرح وجهه، وكسرت رَبَاعِيَته، وهشمت البيضة على رأسه، فجعل يسلت الدم عن وجهه ويقول: ((كيف يفلح قوم شجّوا نبيهم، وكسروا رَبَاعِيَتَهُ وهو يدعوهم إلى الله))[1].
صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه؛ قوم بذلوا لله نفوسهم وأموالهم، {فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 146]. والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فأوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله - عزَّ وجلَّ - فنعم العدة للشدة تقوى الله – تعالى - وهي المخرج من الفتن، وهي المنجاة من عذابه - تبارك وتقدس -: {وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الزُّمر: 61]، {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} [مريم: 71 – 72].(/1)
أيها المسلمون: كانت غزوة أحد غزوة عظيمة في أحداثها ومجرياتها، عجيبة في آياتها ومعجزاتها، شديدة في ضرائها وابتلاءاتها، غزيرة في عبرها ودروسها.
وقعت في مثل هذه الأيام في شوال من السنة الثالثة من الهجرة، بعد عام واحد من غزوة بدر التي غَشِيَ المشركين فيها ما غشيهم من هزيمة جيشهم، وقتل سادتهم، وذهاب هيبتهم؛ فأجْمَعُوا أمرهم، وجمعوا حلفاءهم، وأعدوا عُدَّتهم، وعزموا على غزو المسلمين في المدينة، والثأر لما أصابهم في غزوة بدر الكبرى؛ فجرت أحداث عظام في هذه الغزوة المباركة، وظهر صدق الإيمان والتضحية والفداء، وابتلي المسلمون ابتلاءً عظيمًا؛ حتى رأوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد وصل إليه المشركون، ونالوا منه، وكانت الصاعقة الكبرى ما أشيع من قتله - عليه الصلاة والسلام - ولكن الله - تعالى - حَفِظَ نَبِيَّه - صلى الله عليه وسلم - وثبت قلوب المؤمنين، وتلك من أعظم النعم، وأكبر الآيات والمعجزات التي زخرت بها هذه الغزوة!
لقد أكرم الله - تعالى - الطائفة المؤمنة في غزوة أحد بآيات عظيمة، وخص نبيه - صلى الله عليه وسلم - بمعجزات باهرة، كانَتْ مُعِينًا للمؤمنين على ثباتهم رغم هزيمتهم، ومقوية لهم في مِحْنَتِهم رغم قلتهم وكثرة عدوهم. ولما اشتد الكرب على المؤمنين، وقوِيَ كَلَبُ الكافرين، وتمكنوا من رِقَاب المُؤْمِنين، وعظم خوف الصحابة - رضي الله عنهم - من نتائج هذه الغزوة، ودَبَّتِ الفوضى في أوساطهم، ونالهم من التعب ما نالهم، وعلاهم من الغم ما علاهم، وغشيهم من الكرب ما غشيهم؛ ألقى الله - تعالى - عليهم النعاس وهو النوم الخفيف؛ لينسيهم غمهم، ويزيل تعبهم، ويجدد نشاطهم، فكان ذلك كرامة من الله - تعالى - لهم، وسكينة عليهم: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ} [آل عمران: 154].(/2)
قال الزُّبَيْر بن العوام - رضي الله عنه -: "لقد رأيتني مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد حين اشتدَّ علينا الخوف، وأرسل علينا النوم، فما منا أحد إلا وذقنه في صدره..."[2].
وقال أبو طلحة الأنصاري - رضي الله عنه -: "كنت فيمن تغشاه النعاس يوم أحد، حتى سقط سيفي من يدي مرارًا، يسقط وآخذه، ويسقط فآخذه"؛ رواه البخاري[3].
وفي رِوَاية قال أبو طلحة: "رفعت رأسي يوم أحد فجعلت أنظر، وما منهم يومئذ من أحد إلا يميد تحت جحفته من النعاس؛ فذلك قوله – تعالى -: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا} [آل عمران: 154][4].
كان من آيات الله - تعالى - في هذه الغزوة، وإكرامه لعباده المؤمنين: استجابته - تبارك تعالى - لدعاء بعضهم، وإعطاؤهم ما سألوا؛ كما روى سعد ابن أبي وقاص - رضي الله عنه -: "أن عبدالله بن جحش قال له يوم أحد: ألا نَدْعُو الله، فَخَلَوَا في ناحية، فدعا سعد فقال: "يا رب إذا لقيت العدو، فلقني رجلاً شديدًا بأسه، شديدًا حَرَدُه - أي غضبه - أقاتله فيك ويقاتلني، ثم ارزقني الظفر عليه حتى أقتله، وآخذ سلبه، فأمَّن عبدالله بن جحش، ثم قال: "اللهم ارزقني رجلاً شديدًا حرده، شديدًا بأسه، أقاتله فيك ويقاتلني، ثم يأخذني، فيجدع أنفي وأذني، فإذا لقيتك غدًا، قلت: "يا عبدي، فيم جُدِع أنفك وأذنك، فأقول: فيك وفي رسولك، فتقول: صدقت". قال سعد: "يا بني، كانت دعوة عبدالله بن جحش خيرًا من دعوتي، لقد رأيته آخر النهار وإن أنفه وأذنه لمعلقان في خيط"؛ رواه الحاكم، وقال الذهبي: "صحيح مرسل"[5].
ولما دعا أحد المشركين على نفسه بالسوء استجاب الله دعاءه، فأصابه العذاب كما روى بُرَيْدَة - رضي الله عنه -: "أن رجلاً قال يوم أحد: اللهم إن كان محمدًا على الحق فاخسف بي، قال: فخسف به"؛ رواه البزار[6].(/3)
ومن الآيات العظيمة في غزوة أحد: أن الملائكة حضروها، ودافعوا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما روى الشيخان من حديث سعد - رضي الله عنه - قال: "رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد ومعه رجلان يقاتلان عنه، عليهما ثياب بيض كأشدِّ القتال، ما رأيتهما قبل ولا بعد"[7].
وقد ذكر العلماء أن الملائكة كانوا لحراسة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأن الله - تعالى - قد وعد المؤمنين بأنهم إن صبروا واتقوا أمدهم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين، وكان قد فعل، فلما عصوا أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتركوا مصافهم، وترك الرماة عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألا يبرحوا منازلهم رفع الله عنهم مدد الملائكة، فصدقهم الله وعده، وأراهم الفتح، فلما عصوا أعقبهم البلاء[8]. وبقي من بقي من الملائكة للدفع عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وحفظه من العدو.
ومن أعمال الملائكة في أحد: أنهم غسلوا من كان جُنُبًا من الصحابة - رضي الله عنهم - فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في شأن حنظلة ابن أبي عامر: ((إن صاحبكم تغسله الملائكة فاسألوا صاحبته))، فقالت: "إنه خرج لما سمع الهائعة وهو جُنُب، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لذلك غسلته الملائكة))؛ رواه الحاكم[9].
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "أصيب حمزة بن عبدالمطلب وحنظلة بن الراهب وهما جنب فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((رأيت الملائكة تغسلهما))؛ رواه الطبراني بإسناد حسن[10].
وأظلت الملائكة عبدالله بن حرام - رضي الله عنه - كما روى ابنه جابرٌ - رضي الله عنه - قال: "لما قتل أبي جعلت أكشف الثوب عن وجهه وأبكي، وينهوني عنه وهو لا ينهاني، فجعلت عمتي فاطمة تبكي، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((تبكين أو لا تبكين، فما زالت الملائكة تُظِلُّهُ بأجنحتها حتى رفعتموه))؛ رواه الشيخان[11].(/4)
وكان - رضي الله عنه - حريصًا على الشهادة، طالبًا لها، صادقًا في طلبه إيَّاها، قال جابر: "لمَّا حضر أحدٌ دعاني أبي من الليل فقال: "ما أراني إلا مقتولاً في أول من يقتل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وإني لا أترك بعدي أعز عليَّ منك، غير نفس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإن عليَّ دينًا فاقض، واستوص بأخواتك خيرًا، فأصبحنا فكان أول قتيل، ودفن معه آخر في قبر، ثم لم تطب نفسي أن أتركه مع الآخر، فاستخرجته بعد ستة أشهر، فإذا هو كيوم وضعته هُنَيَّةً غير أذنه"؛ رواه البُخَارِيّ[12].
وقد أكرمه الله - تعالى - بكرامة عظيمة، قال جابر - رضي الله عنه -: "قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم" -: ((يا جابر، مالي أراك منكسرًا؟)) قال: "قلت: يا رسول الله، استشهد أبي وترك عيالاً ودينًا"، قال: ((أفلا أبشرك بما لقي الله به أباك؟)) فقال: "بلى يا رسول الله". قال: ((ما كلم الله أحدًا قط إلا من وراء حجاب، وكلَّم أباك كفاحًا، فقال: "يا عبدي، تمن عليَّ أعطك". قال: "يا رب، تحييني فأقتل فيك ثانية"، فقال الرب – سبحانه -: "إنه سبق مني أنهم إليها لا يرجعون"، قال: "يا رب، فأبلغ من ورائي"، قال الله – تعالى -: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169]))؛ رواه الترمذي وابن ماجه[13].(/5)
ومن أعظم الآيات في هذه الغزوة: مصير قتلى الصحابة - رضي الله عنهم - فقد روى ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله - عزَّ وجلَّ - أرواحهم في جوف طير خضر ترد أنهار الجنة، تأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل معلقة من ذهب معلقة في ظل العرش، فلما وجدوا طِيْبَ مأكلهم ومشربهم ومقيلهم قالوا: "من يُبلِّغ إخواننا عنَّا أنا أحياءٌ في الجنة نرزق؛ لئلا يزهدوا في الجهاد، ولا ينكلوا عند الحرب"، فقال الله - عزّ وجلَّ -: "أنا أبلغهم عنكم؛ فأنزل الله - عزَّ وجلَّ -: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}))؛ أخرجه أحمد، وأبو داود بإسناد صحيح[14].
أيها الإخوة: كانت تلك بعض الآيات والكرامات التي منَّ الله - تعالى - بها على المؤمنين في هذه الغزوة العظيمة. وآياتها عظيمة، وكراماتها كثيرة، وما لا نعلمه منها أكثر وأكثر. ورغم مُصاب المُسلمين فيها فإن فيها خيرًا عظيمًا، لهم بما ناله الشهداء منهم من الدرجات، والمنازل العالية عند ربهم، وبما استفاده الأحياء منهم من الدروس والعبر، وفي مقدمة ذلك: التزام الطاعة، والبعد عن المعصية التي كانت من أهم أسباب الهزيمة.
أسأل الله - تعالى - أن يرزقنا الشهادة في سبيله، وأن يعزَّ دينه، ويُعْلِي كلمته، وينصر عباده المؤمنين، إنه سميع مجيب، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله، حمدًا كثيرًا طيِّبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واستقيموا على أمره، ولا تغرنكم الدنيا وزخرفها، ولا يغرنكم بالله الغرور.(/6)
أيها المؤمنون: من رحمة الله - تعالى - بعباده المؤمنين أن يجعل المِحَن والابتلاءات فرصة لمراجعة أنفسهم، وتصحيح أخطائهم، وتجديد العهد مع ربهم؛ فما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة.
ولقد كانت معصية الرماة سببًا للهزيمة في أحد؛ إذ أمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بعدم مبارحة أماكنهم مهما كان الأمر، فتركوا مواقعهم، ورأوا أن النصر تحقق، واشتغلوا بجمع الغنائم؛ فجاءهم عدوهم من حيث لم يحتسبوا، وانقلب ميزان المعركة، وتحول النصر إلى هزيمة؛ ليعلم المسلمون خطورة المعصية، وخطورة الأثرة بالرأي والفعل.
وعزا الله - تعالى -هذه المصيبة التي أصابتهم إلى أنفسهم؛ لأنها كانت بسبب ما كسبوا من العصيان الذي هو أكبر سبب للهزيمة في المعارك فقال – سبحانه -: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 165].
فهو - سبحانه وتعالى - كان قادرًا على نصرهم، بدليل إنزاله الملائكة معهم للقتال، وبدليل نصرهم على المشركين في بدر: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [آل عمران: 123]، ولكن طائفة منهم - هي طائفة الرماة - رضي الله عنهم - غيروا وبدلوا، وعصوا أميرهم الذي ثبت في نفر قليل، وكان ينهاهم عن ترك مواقعهم، فزال بمعصية الرماة سبب من أسباب تنزل نصر الله – تعالى - وهو الطاعة، وحلَّت محله المعصية، فتخلف النصر، وأحجم الملائكة عن القتال مع المؤمنين بسبب هذه المعصية، فكانت الهزيمة.(/7)
فإذا كان النصر قد تخلف في غزوة أحد بسبب معصية واحدة؛ فهل يستحق المسلمون النصر على أعدائهم، وتأييد الله - تعالى - لهم وفيهم من العُصاة ألوف بل ملايين، وفيهم من أنواع المعاصي والموبقات ما لا يعلمه إلا الله – تعالى -؟! معاص في البيوت والأسواق، معاص في الرجال والنساء، معاص في الشيب والشباب، معاص في الإعلام والتعليم والسياسة والاقتصاد، وفي كثير من شؤونهم.
إن الله - تعالى - ليس بينه وبين أحد من خلقه نسب، ولن يحابي أحدًا من خلقه مهما عظمت منزلته، فعدله - وهو العدل تبارك وتعالى - يأبى ذلك، وقد جعل في الكون سننًا لا تحابي أحدًا من الناس، وقوانين لا تجامل كائنًا من كان، ومن هذه السنن: أن المستحق لنصر الله - تعالى - هو من يقيم دينه، وينصر شريعته، ويلتزم طاعته؛ ويباعد عن معصيته، فمن حقق ذلك نصره الله - تعالى - سواء كان شريفًا أم وضيعًا، قريبًا كان أم بعيدًا، وسواء كان جيشه كثيرًا أم قليلاً.
وكم تحتاج الأمة المُسْلِمَة في هذا العصر الذي تكالبت فيه عليها اللأواء والمحن، واجتمع الشر كله من كفار ومنافقين؛ لإنهاء حياتها بإقصاء دينها، وفرض الكفر والنفاق عليها، تحتاج إلى صدق التوجه إلى الله – تعالى - وترك المعاصي والمحرمات، والاجتهاد في الطاعات، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله – تعالى - حتى لا نكون نحن سببًا في تخلف نصر الله - تعالى - عن الأمة المسلمة، فمن نصر دين الله – تعالى - استحق النصر العظيم، والفتح المبين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7].
وإن اختار المسلمون طريقًا غير ذلك، فبقوا على عصيانهم، وتخلفوا عن طاعة ربهم؛ فإن العاقبة ستكون أليمة، والمصيبة عظيمة، {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38].(/8)
فانصروا الله - عباد الله - بإقامة دينه، والتزام طاعته، والبعد عن معصيته؛ ينصركم على أعدائكم. أصلحوا بيوتكم وأولادكم، وانشروا الصلاح فيما بينكم فإنكم إن حققتم ذلك نصرتم على عدوكم، وإن حققه بعضكم، وتخلف الآخرون؛ فقد برئت ذمة الذين أصلحوا أنفسهم، ولن يعذبهم الله في الآخرة بذنوب غيرهم.
ألا وصَلُّوا وسلموا على نبيكم محمد، كما أمركم بذلك ربكم...
---
[1] أخرجه من حديث أنس - رضي الله عنه - البخاري معلقًا في المغازي في ترجمة باب: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128]، انظر: "الفتح" (7/365)، ومسلم في الجهاد والسير باب غزوة أحد (1791).
ونحوه حديث سهل - رضي الله عنه - عند البخاري في المغازي باب ما أصاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد (4075)، ومسلم (1790). ومثله أحاديث أخرى عن أبي هريرة وابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم.
[2] عزاه البوصيري في "مختصر اتحاف السادة المهرة" إلى إسحاق بن راهويه (5210)، و(5211)، وسكت عنه، وسكت عنه الحافظ أيضًا في "المطالب العالية" (4259)
[3] أخرجه البخاري في المغازي، باب {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا} [آل عمران: 154] (4068)، والترمذي في تفسير القرآن باب ومن سورة آل عمران (3008)، وأحمد (4/29).
[4] هذه الرواية للترمذي في تفسير القرآن باب، ومن سورة آل عمران (3007).
[5] أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" (6/307 ـ 308)، وابن الأثير في "أُسْد الغابة" (3/195)، وابن سعد في "الطبقات" (3/63)، والحاكم مرسلاً وقال: "صحيح على شرطهما لولا إرساله"، وقال الذهبي: "صحيح مرسل" (3/199 ـ 200)، وقال الهيثمي: "رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح" (9/301 ـ 302).
[6] أخرجه البزار كما في "كشف الأستار" (1799)، وقال الهيثمي في "الزوائد": "ورجاله رجال الصحيح" (6/122).(/9)
[7] أخرجه البخاري في المغازي باب: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللهُ وَلِيُّهُمَا} [آل عمران: 122]، (4054)، ومسلم في الفضائل باب قتال جبريل وميكائيل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد (2306).
[8] رواه البيهقي عن عروة، وقال مجاهد: "لم تقاتل الملائكة إلا يوم بدر" قال البيهقي: "مراده لم يقاتلوا يوم أحد عن القوم، عصوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يصبروا على أمرهم به". انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (2/149 ـ 150)، و"سبل الهدى والرشاد" للصالحي (4/205 ـ 206).
[9] أخرجه من حديث عبدالله بن الزبير البيهقي (4/15)، والحاكم وصححه وقال: "على شرط مسلم، ووافقه الذهبي" (3/204 ـ 205)، والطبراني في "الكبير" بنحوه، وحسنه الهيثمي في "الزوائد" (3/23).
[10] أخرجه الطبراني في الكبير، وحسنه الهيثمي (3/23).
[11] أخرجه البخاري في الجنائز باب الدخول على الميت بعد الموت إذا أدرج في أكفانه (1244)، ومسلم في الفضائل باب من فضائل عبدالله بن عمرو بن حرام (2471).
[12] أخرجه البخاري في الجنائز باب هل يخرج الميت من القبر واللحد لعلة؟ (1351)، و (1352)، والحاكم (3/203).
[13] أخرجه الترمذي في تفسير القرآن باب ومن سورة آل عمران وحسنه (3010)، وابن ماجه في المقدمة باب فيما أنكرت الجهمية واللفظ له (190)، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي (2043)، والطبري في تفسيره (4/173).
[14] أخرجه أحمد (1/265)، والآجري في "الشريعة" (392)، وعبد بن حميد في "المنتخب من مسنده" (667), وأبو داود في الجهاد باب فضل الشهادة واللفظ له (2520)، والطبري في "تفسيره" (4/113)، والحاكم وصححه وقال: "على شرط مسلم، ووافقه الذهبي" (2/88).(/10)
العنوان: غزوة أحد (2)
الابتلاءات والمصائب
رقم المقالة: 1615
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضْلِلْ فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70 – 71].
أما بعد: فإن أحسن الحديث كلام الله - تعالى - وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.(/1)
أيها المسلمون: لم يجعل الله - تعالى - الدنيا دار نعيم لأوليائه، ولا مستقرًّا دائمًا لعباده؛ ولكنه أرادها بحكمته دار ابتلاء واختبار وتمحيص، يمحصُ عباده بالبلايا، ويختبرهم بالمحن، ويبتليهم بالضراء؛ ليظهر الصادقُ من الكاذب، ويتمايز الخبيث من الطيب: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ العَالَمِينَ * وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ المُنَافِقِينَ} [العنكبوت: 10 – 11].
إنها ابتلاءات ومِحَن ذاق مصيبتها وألمها خير الناس، وأفاضل الخلق من النبيين والمرسلين، وأتباعهم المؤمنين المستضعفين، ولم يسلم من البلاء والمحنة خيارُ هذه الأمة الخاتمة: رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وصحبه الكرام - رضي الله عنهم - وأرضاهم، وكان من عظيم ما مرَّ بهم من بلاء، وما أصابهم من مصيبة: ما وقع عليهم في شهر شوال من السنة الثالثة من الهجرة[1]، حينما تسلط كفارُ مكة وحلفاؤهم عليهم، وغزوهم في ديارهم؛ فكانت وقعة أُحُد التي كانت مصيبتها شديدة، ومحنتها أليمة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحبه الكرام - رضي الله عنهم - وأرضاهم.(/2)
سمى الله - تعالى - ما أصابهم في هذه الغزوة من قتل وجراحات مصيبة، ونسب سبب هذه المصيبة إلى أنفسهم؛ لأنَّ الرُّمَاة عَصَوْا أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكان ما كان من قدر الله - تعالى - الذي قدَّره على عباده المؤمنين، وكان في هذا الابتلاء من الخير العظيم ما كشف نفاق كثير من المنافقين، قال الله - تعالى - في شأن هذه المصيبة التي نزلت بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وصحبه الكرام - رضي الله عنهم -: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ التَقَى الجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيَعْلَمَ المُؤْمِنِينَ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا} [آل عمران: 165 – 166].
كانت بوادر المصيبة قبل وقوعها في رؤيا رآها النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل الغزوة، روى ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((رأيت في سيفي ذِي الْفَقَارِ فَلًّا، فَأَوَّلْتُهُ فَلًّا يكون فيكم - أي انهزامًا - ورأيت أني مُرْدِفٌ كبشًا فأولته كبش الكتيبة، ورأيت أني في درع حصينة فأولتها المدينة، ورأيت بقرًا تذبح، فبقر والله خير، فبقر والله خير، فكان الذي قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم"؛ رواه أحمد والترمذي[2].
وفي حديث أبي موسى - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((رأيت في رؤياي أني هَزَزْتُ سيفًا فانقطع صدره، فإذا هو ما أصيب من المؤمنين يوم أحد، ثم هززته أخرى فعاد أحسن ما كان، فإذا هو ما جاء به الله من الفتح، واجتماع المؤمنين، ورأيت فيها بقرًا والله خير، فإذا هم المؤمنون يوم أحد))؛ رواه الشيخان[3].(/3)
لقد كان من بِدَايات ابتلاءات غزوة أحد ومصيبتها ما فعله المنافقون من التخذيل والإرجاف، وانخذالهم من الجيش، ورجوعهم عن الغزو في ساعة حرجة عصيبة، يقودهم في إرجافهم وانخذالهم من الجيش عبدالله بن أبي ابن سلول، الذي كان يقول وهو يخذل: "ما ندري علام نقتلُ أنفسنا ههنا أيها الناس"، فرجع بِمَنْ تَبِعَهُ من قومه من أهل الريب والنفاق، فأتبعهم عبدالله بن عمرو بن حرام يناصحهم وينشدهم الرجوع ويقول: "يا قوم، أذكركم الله ألا تخذلوا قَوْمَكُم ونبِيَّكم عند من حضر من عدوهم"، فقالوا: "لو نعلم أنَّكم تقاتلون لما أسلمناكم، ولكن لا نرى أنه يكون قتال"، قال: "فلما استعصوا عليه وأبوا إلا الانصراف قال: أبعدكم الله، أعداء الله، فسيغني الله عنكم نَبِيَّه"[4].
وعلى إثر انسحاب المنافقين كادَتْ أن تنسحب قبيلتان من الأنصار عن القتال؛ ولكن الله - تعالى - ثبتهم فبَقُوا. قال جابر بن عبدالله - رضي الله عنهما -: "نزلت هذه الآية فينا: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا} [آل عمران: 122] بني سلمة وبني حارثة، وما أحب أنها لم تنزل والله يقول: {وَاللهُ وَلِيُّهُمَا} [آل عمران: 122]"؛ رواه الشيخان[5].
مضى الجيش بعد انسحاب المُنَافِقِين إلى أرض المعركة، ورصَّ النبي – صلى الله عليه وسلم - الصُّفُوف، وقَسَّمَ المُهِمَّات، ووضع الرماة على الجبل وقال لهم: ((إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا من مكانكم هذا حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا هزمنا القوم وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم))[6].(/4)
وبدأت المعركة، والتحم الجيشان، وانتصر المسلمون، ولكن الرماة بارحوا أماكنهم، واشتغلوا بجمع الغنائم، فالتفت خيَّالة المشركين عليهم من ورائهم، قال الزبير بن العوم - رضي الله عنه -: "والله إني لأنظر يومئذ إلى خَدَم النساء مشمّرات يسعين حين انهزم القوم، وما أرى دون أخذِهِنَّ شيئًا، وإنا لنحسبهم قتلى ما يرجع إلينا منهم أحد.. فوالله إنا لكذلك قد علوناهم، وظهرنا عليهم؛ إذ خالفت الرماة عن أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأخذون الأمتعة، فأتتنا الخيلُ فحطمتنا، وكرَّ الناس منهزمين، فصرخ صارخ يَرَوْنَ أنّه الشيطان: ألا إنَّ محمَّدًا قد قتل، فأعظم الناس، وركب بعضهم بعضًا، فصاروا أثلاثًا: ثلثًا جريحًا، وثلثًا مقتولاً، وثلثًا منهزمًا"[7].
ونال النبي - صلى الله عليه وسلم - نصيبه من ابتلاءاتها ومصيبتها؛ فجرح - صلى الله عليه وسلم - وكسرت رباعيته، وهشمت البيضة على رأسه، فجعل يسلت الدم عن وجهه ويقول: ((كيف يفلح قومٌ شجوا نبيهم، وكسروا رباعيته، وهو يدعوهم إلى الله))، فأنزل الله - تعالى -: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128]"؛ رواه الشيخان[8].
لقد أصاب المسلمين شدةٌ شديدة، وكربٌ عظيم لما سمعوا بإشاعة مَقْتَل النبي - صلى الله عليه وسلم - ورأى منهم من رأى وجهه يدمى، واضطربت صفوفهم، وركبهم المشركون يقتلون ويجرحون، وصار المسلمون يضارب بعضهم بعضًا خطأ من شدة ما نزل بهم من ألم المصيبة، وعظيم البلاء.
روى البخاري من حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: "لما كان يوم أحد هُزم المسلمون فصرخ إبليس - لعنة الله عليه -: "أي عباد الله، أُخراكم، فرجعت أولاهم فاجتلدت هي وأخراهم، فبصر حذيفة فإذا هو بأبيه اليمان، فقال: أي عباد الله، أبي، أبي. قالت: فوالله ما احتجزوا حتى قتلوه"، فقال حذيفة: "يغفر الله لكم"[9].(/5)
فأراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يَدِيَه فتصدق حذيفة بديته على المسلمين، فزاده ذلك عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيرًا[10].
وبلغ من شدة مصيبة هذه الغَزْوة، وما لحق المسلمين فيها من ألم أن عليًّا - رضي الله عنه - ظَنَّ أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قد رفع إلى السماء، قال - رضي الله عنه -: "لما انجلى الناس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد نظرت إلى القتلى فلم أر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيهم، فقلتُ: واللهِ ما كان ليفِرَّ، وما أراه في القتلى، ولكن أرى اللهَ غضب علينا بما صنعنا فرفع نبيه - صلى الله عليه وسلم - فما فيَّ خير من أن أقاتل حتى أُقتل، فكسرت جفن سيفي، ثم حملته على القوم فأفرجوا إلي فإذا أنا برسول الله صلى الله عليه وسلم"؛ رواه أبو يَعْلَى بإسناد حسن[11].
ومع إصابة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجِرَاحات، ومقتل جمع من أصحابه - رضي الله عنهم - فإنه أصيب أيضًا بمقتل عمه حمزة بن عبدالمطلب - رضي الله عنه - روى كعب بن مالك - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال يوم أُحُد: "من رأى مقتل حمزة؟ فقال رجل أعزل: أنا رأيت مقتله، فقال: فانطلق وأرِنَاه، فخرج حتى وقف على حمزة، فرآه قد شُق بطنه، وقد مُثِّل به، فقال: يا رسول الله، مُثِّل به والله، فكَرِهَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ينظر إليه، ووقف بين ظهرانَيِ القتلى فقال: ((أنا شهيد على هؤلاء، كفنوهم في دمائهم، فإنه ليس جرح يجرح في الله إلا جاء يوم القيامة يدمَى، لونه لون الدم، وريحه ريح المسك، قدموا أكثرهم قرآنًا فاجعلوه في اللحد))[12].
اللهم ارْضَ عن شُهداء أحد، وعن الصحابة أجمعين، وعن شهداء المسلمين في كل زمان ومكان، واحشرنا في زمرتهم يا رب العالمين.(/6)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب: 23].
بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم..
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده وأشكره وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعْدُ: فاتقوا الله - تعالى - وأطيعوه، واثبتوا - عباد الله - على دينكم، واشكروا في النعماء، واصبروا في البلاء.
أيها الإخوة المؤمنون: لقد كان من ابتلاءاتِ غزوة أحد كثرة القتلى وقلة الثياب، قال أنس - رضي الله عنه -: "أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على حمزة يوم أحد فوقف عليه فرآه قد مُثِّل به"، فقال: ((لولا أن تجد صفية في نفسها لتركته حتى تأكله العافية حتى يحشر من بطونها))، قال: ثم دعا بنَمِرَة فكفَّنه فيها فكانت إذا مُدَّت على رأسه بدت رجلاه، وإذا مُدَّتْ على رجليه بدا رأسه، قال: فكثر القتلى، وقلَّت الثياب، قال: "فكُفن الرجل والرجلان والثلاثة في الثوب الواحد، ثم يدفنون في قبر واحد"[13].
وعن عبدالرحمن بن عوف - رضي الله عنه -: "أنه أُتي بطعام، وكان صائمًا، فقال: قُتل مصعب بن عمير، وهو خير مني، كفن في بردة، إن غُطي رأسه بدت رجلاه، وإن غُطي رجلاه بدا رأسه، وأراه قال: وقُتل حمزة وهو خير مني، ثم بُسط لنا من الدنيا ما بسط، أو قال: أعطينا من الدنيا ما أعطينا، وقد خشينا أن تكون حسناتنا عجلت لنا، ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام"؛ رواه البخاري[14].(/7)
وعن خَبَّاب بن الأَرَت - رضي الله عنه - قال: "هاجرنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - نُريد وجه الله، فوقع أجرنا على الله، فمِنَّا مَنْ مَضَى لم يأخذ من أجره شيئًا، منهم: مصعب بن عمير قتل يوم أحد، وترك نَمِرة، فكنا إذا غطينا رأسه بدت رجلاه، وإذا غطينا رجليه بدا رأسه، فأمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نغطي رأسه، ونجعل على رجليه شيئًا من الإذخر، ومنا من أيْنَعَتْ له ثمرته فهو يهدبها"؛ رواه الشيخان[15].
وبعد انتهاء المعركة، ورغم ما أصابهم فيها من ألم المصيبة؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأصحابه: ((استووا حتى أثني على ربي، فصاروا خلفه صفوفًا، ووقف طويلاً يثني على الله - تعالى - بما هو أهل له))[16].
إن ألم المصيبة، والجراحات التي نالته، وشدة الفاجعة بعمه حمزة وبأصحابه - رضي الله عنهم - ما أنساه نعم الله - تعالى - عليه، وعلى البقية الباقية من المؤمنين، وهي نعم كثيرة ليست هذه المصيبة أو غيرها من المصائب توازيها أو تدانيها. ثُمَّ إنَّ ما أصابهم كان بمعصية منهم؛ كما قال – سبحانه -: {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 165].
وهكذا يجب أن يكون حال المؤمن إذا أحاطت به الابتلاءات، وعظمت في حقه المصائب والنكبات أن ينظر إلى نِعَم الله - تعالى - عليه، ويقارنها بما أصابه؛ حتى يشكر الله - تعالى - على نعمه، ويصبر على مُصابه، ثم ليبحث عن أسباب هذه المصائب والابتلاءات فإنه سيجد أنها من عند نفسه بسبب ذنوب أصابها، أو حقوق ضيعها؛ فتكون تلك المصائب والابتلاءات تمحيصًا لذنوبه، وتكفيرًا لسيئاته؛ كما قال الله - تعالى - في سياق الحديث عن ابتلاء المؤمنين ومصيبتهم في غزوة أحد: {وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَمْحَقَ الكَافِرِينَ} [آل عمران: 141].
ألا فاتقوا الله ربكم، واشكروه على نعمه، واصبروا على ابتلاءاته، واعبدوه مخلصين له الدين ولو كره الكافرون والمنافقون.(/8)
وصلوا وسلموا على نبيكم، كما أمركم بذلك ربكم...
---
[1] كانت غزوة أحد يوم السبت النصف من الشوال في السنة الثالثة من الهجرة، انظر: "مغازي الواقدي" (1/199)، و"طبقات ابن سعد" (2/36)، و"تاريخ خليفة" (97)، و"سيرة ابن إسحاق" (324)، و"تفسير الطبري" (4/70)، و"المعجم الكبير" للطبراني (3/141)، برقم: (2929)، وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (6/124)، ورجاله ثقات.
[2] أخرجه أحمد (1/271)، واللفظ له، والترمذي في السير باب النفل (1561) وحسنه، وابن ماجه في الجهاد باب السلاح (2808)، والبيهقي (7/41)، والطبري في تفسيره (4/165)، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي (2/128)، وحسنه ابن كثير في "البداية والنهاية" (4/11)، وصححه الساعاتي في "الفتح الرباني" (7/221)، والشيخ أحمد شاكر في "شرحه على المسند" (2445)، وكبش الكتيبة المذكور في الحديث هو: عثمان بن أبي طلحة حامل لواء المشركين؛ كما جاء مُصرّحًابه في رواية الطبري.
وفي "الطبقات" (2/40)، أنه طلحة بن أبي طلحة، وقد بارزه علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقتله، فسر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[3] أخرجه البخاري في المغازي باب من قتل من المسلمين يوم أحد (4081)، ومسلم في الرؤيا باب رؤيا النبي - صلى الله عليه وسلم - (2272).
[4] "سيرة ابن هشام" (4/10)، و"الاكتفاء" للكلاعي (2/67)، و"تفسير الطبري" (4/168)، و"تاريخه" (2/60)، و"البداية والنهاية" (4/13)، و"السيرة الحلبية" (2/494).
[5] أخرجه البخاري في المغازي باب: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا} [آل عمران: 122] (4051)، ومسلم في فضائل الصحابة باب فضائل الأنصار (2505).
[6] أخرجه من حديث البراء بن عازب - رضي الله عنه - البخاري في المغازي باب غزوة أحد (4043)، وأبو داود في الجهاد باب في الكمناء (2662) واللفظ له، وأحمد (4/293 ـ 294).(/9)
[7] أخرجه إسحاق بن راهويه من حديث وهب بن جرير بن حازم حدثنا أبي قال: سمعت محمد بن إسحاق، يقول: حدثني يحيى بن عباد عن أبيه عن عبدالله بن الزبير - رضي الله عنه - فذكره كما في "المطالب العالية" لابن حجر، وقال: هذا إسناد صحيح له شاهد في الصحيح من حديث البراء (4257)، وصححه البوصيري في "إتحاف الخيرة المهرة" (4562)، والمقصود بخدم النساء: خلاخيلهن التي في أرجلهن، وهو جمع (خَدَمَة) ويجمع على (خِدَام) كما في "النهاية" (2/15)، و"القاموس" (1421) مادة (خدم).
[8] أخرجه من حديث أنس - رضي الله عنه - البخاري معلقًا في المغازي باب: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران: 128]، من حديث حميد الطويل وثابت "الفتح" (7/422)، وحديث حميد وصله أحمد (3/99) والترمذي في تفسير القرآن؛ باب من سورة "آل عمران" (3002 ـ 3003)، وابن ماجَهْ في الفتن باب: "الصبر على البلاء" (4027)، وأما حديث ثابت فوصله مسلم في الجهاد والسير؛ باب غزوة أحد (1791).
[9] أخرجه البخاري في "المغازي" باب: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا} (4065)، وابن أبي شيبة في "مصنفه" (36743)، والبيهقي (8/131).
[10] هذه الزيادة لابن إسحاق كما في "سيرة ابن هشام" (2/87 ـ 88)، وأخرجها دون الجملة الأخيرة: "فزاده ذلك عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم – خيرًا" أحمد في "المسند" (5/429)، والحاكم (3/380).
[11] أخرجه أبو يعلى (546)، وحسنه البوصيري في "إتحاف الخيرة المهرة" (4571).
[12] أخرجه ابن أبي شيبة في "مسنده" (502)، وفي "مصنفه" (7/372)، برقم: (36787)، وأحمد (5/431)، والبيهقي (4/11)، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" (3/13)، وقال البوصيري في "إتحاف الخيرة المهرة" (4576): "رواته ثقات".(/10)
[13] أخرجه أحمد (3/128)، وأبو داود في الجنائز باب في الشهيد يغسل (3136)، والترمذي في الجنائز باب ما جاء في قتلى أحد وذكر حمزة وحسنه (1016)، واللفظ له، وابن أبي شيبة (7/367)، برقم (36752)، وابن سعد في "الطبقات" (3/14)، والدارقطني (4/116)، والبيهقي (4/10)، والحاكم وصححه على شرط مسلم ووافقه الذهبي (3/196)، والطبراني في "الكبير" (3/144)، برقم: (2939).
[14] أخرجه البخاري في المغازي باب غزوة أحد (4045)، وابن المبارك في الجهاد (1/83) برقم: (96).
[15] أخرجه البخاري في مناقب الأنصار باب هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة (3897)، ومسلم في الجنائز باب كفن الميت (940).
[16] أخرجه أحمد (3/424)، والبخاري في "الأدب المفرد" (699)، والنسائي في عمل اليوم والليلة (609)، والطبراني في "الكبير" (5/47) برقم: (4549)، وأبو نُعَيْم في "الحلية" (10/127)، وصححه الألباني في صحيح "الأدب المفرد" (538).(/11)
العنوان: غزوة أحد فقه السنن الربانية (أ)
رقم المقالة: 257
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
الحمد لله العليم الحكيم؛ أبان الحق لمن أراد الحق برحمته، وأزاغ من زاغ قلبه بحكمته (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين) نحمده على الإيمان والهداية، ونشكره على الإمداد والرعاية، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ عظيم في ربوبيته وألوهيته، وأسمائه وصفاته، عليم حكيم في خلقه وحكمه وأمره (والله مولكم وهو العليم الحكيم) وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ أكمل الناس إيمانا، وأعظمهم يقينا، أحاطت به المحن والابتلاءات، فما زادته إلا قوة في الحق، وصلابة في الدين، ولا زاده أذى المشركين إلا صبرا وحلما، وفي أحد كسرت رباعيته، وشج وجهه شجة في جبهته حتى سأل الدم على وجهه، فقال عليه الصلاة والسلام:(كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم وهو يدعوهم إلى الله) ولكنه ما لبث أن قال:(اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون) صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله - عباد الله - وأطيعوه، واعلموا أنكم إليه راجعون، وعلى أعمالكم محاسبون (يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية) فأعدوا لذلك اليوم عدته بالإيمان والعمل الصالح.
أيها الناس: معرفة السنن الربانية في البشر تقوي إيمان العباد بالله تعالى، وتعينهم على الثبات على دينهم، وتزيل الحيرة من قلوبهم، وتدلهم على ما هو خير لهم. وهذه السنن الربانية تؤخذ من الكتاب والسنة، ومن السيرة النبوية، وتعرف من أخبار السابقين وأحوالهم؛ ففيهم الثابتون على دينهم، كما أن فيهم الناكصين على أعقابهم.(/1)
وفي أحوال الشدة والبأساء تكون الحاجة ملحة لفهم هذه السنن؛ تثبيتا للقلوب، وتقوية للإيمان، وترسيخا لليقين،وتلك هي طريقة القرآن؛ ففي غزوة أحد التي وقعت في شوال من السنة الثالثة، وأصيب فيها المؤمنون ما لم يصابوا قبلها نجد أن الآيات القرآنية التي عالجت هذه المصيبة قد عرضت لكثير من السنن الربانية، وأشارت إلى أحوال السابقين على هذه الأمة (قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين، هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين، ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين).
إن من سنن الله تعالى التي تستفاد من هذه الغزوة المباركة: أن الله تعالى قد جعل الأيام دولا بين أهل الحق وأهل الباطل؛ ففي أزمان تكون الغلبة لأهل الباطل، وتكون لأهل الحق أزمانا أخرى، والحق والباطل باقيان إلى آخر الزمان؛ ابتلاء للعباد وامتحانا . فأهل الحق قد يخسرون بعض المعارك، ولا يعني انهزامهم أنهم ليسوا على الحق، كما أن انتصار أهل الباطل لا يقلب باطلهم إلى حق، وتلك سنة ربانية في الابتلاء قلّ في البشر من يفهمها؛ ولذلك يتخلى كثير منهم عن الحق إن استبطئوا النصر، ورأوا غلبة أهل الباطل وقوتهم . والآيات القرآنية التي عرضت لغزوة أحد وما أصاب المسلمين فيها قد نصت على هذه السنة الربانية، وبينت الحكمة منها (إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس).
ومن حكم تلك المداولة بين الحق والباطل: تمييز الخبيث من الطيب، وإظهار الصادق من الكاذب، ومعرفة المؤمن من المنافق؛ فإن الصفوف لا تتمايز، ولا تصقل القلوب، ولا تعرف أقدار الرجال إلا بموجات البلاء والامتحان، وفي أحوال السلامة والعافية كل يدعي الصدق والإخلاص (ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب).(/2)
إن من الناس من ينحاز إلى من هم أقوى ولو كانوا على الباطل، ولا يتبع الحق إن كان أهله أضعف، بل أكثر الناس هم من هذا الصنف، ولو أن أهل الحق انتصروا دائما لانحاز لهم من لم يكن منهم، فجعل الله تعالى الابتلاءات والهزائم محطات تصفية وتمحيص؛ ولذا فإن الإسلام لما ظهر على الشرك في غزوة بدر، وقوي المسلمون قدّر الله تعالى على المؤمنين ما قدر في أحد؛ ابتلاء لهم وامتحانا؛ ليثبت على الإيمان - وإن انهزم أهله - من صدق إيمانه، ولينحاز إلى أهل الباطل من كذب في إيمانه، والجنة سلعة غالية، لا يستحقها إلا الصادقون في إيمانهم، الثابتون على دينهم، المضحون في سبيله بالغالي والنفيس، فمن كانوا كذلك اصطفى الله تعالى منهم في أحد من اصطفى فكانوا من شهدائها، وتلك نعمة ومنة من الله تعالى عليهم (وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين).
ثم إن هزيمة أهل الحق ابتلاء يكفر الله تعالى به سيئاتهم، ويرفع به درجاتهم، ويكون سببا في توبتهم من ذنوبهم، وإيابهم إلى ربهم، كما أن انتصار أهل الباطل سبب لمحقهم بما يداخل قلوبهم من الاستكبار عن الحق، والعلو على الخلق، والإمعان في الظلم، والفساد في الأرض؛ لتكون نهايتهم الهلاك والمحق.
وقد رأينا كيف أن زعماء الباطل في هذا العصر قد انتشوا بقوتهم، واغتروا بحضارتهم، وسعوا في فرض باطلهم ولكن غرورهم بقوتهم، كان سببا في جرهم إلى مستنقعات غرق فيها جندهم، وكانت سبب ذلهم وانكسارهم، وظهور أهل الحق عليهم، وفي الحديث عن غزوة أحد نجد ذلك صريحا في قول الله تعالى (وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين، أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين).(/3)
ومن الصدق في الإيمان: الثبات على الدين مهما عظمت المصائب، وعدم ربط الدين بالرجال، ولا معرفة الحق بالأشخاص؛ فإن الرجال يموتون ويبقى الدين، بل أن من الرجال من ينتكسون على أعقابهم، ويبدلون دينهم، فهل ينتكس أهل الحق بانتكاسهم؟!
وهذه السنة العظيمة منصوص عليها في سياق الحديث عن هذه الغزوة العظيمة (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين).
فإذا كان موت النبي صلى الله عليه وسلم أو قتله لا يسوغ لأتباعه التخلي عن لزوم الحق، ونصرة الدين فما دون ذلك أحرى ألا يكون مسوغا صحيحا لذلك.
وهذه الآية إنما عرضت لإشاعة قتل النبي صلى الله عليه وسلم التي سرت في المسلمين يوم أحد، فجاء القرآن يبين أن شرف النبي صلى الله عليه وسلم، وعلو منزلته عند الله تعالى، واختصاصه بما لم يختص به أحدا من خلقه لن يمنع الموت عنه، وأن سنة الله تعالى في عباده ستجري عليه، فيجب على أتباع الحق أن يثبتوا على الحق وإن مات داعية الحق؛ لأنهم تبعوا الحق تعبدا لله تعالى، ولم يتبعوا الحق عبادة للنبي صلى الله عليه وسلم.(/4)
وقد أحسن الصحابة رضي الله عنهم فهم هذه السنة العظيمة؛ فهذا الصديق أبو بكر رضي الله عنه يرمى بهذه السنة الربانية في أوساط المسلمين وقد ذهلوا من هول الفاجعة بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وهي أعظم مصيبة نالتهم، وأكبر فاجعة أصابتهم، وأفقدتهم صوابهم، فكان لها الصديق رضي الله عنه؛ إذ حضر الناس وعمر رضي الله عنه يخطب فيهم ويحلف أن النبي صلى الله عليه وسلم ما مات فخاطبه أبو بكر فقال:(أيها الحالف على رسلك، فلما تكلم أبو بكر جلس عمر، فحمد الله أبو بكر وأثنى عليه وقال: ألا من كان يعبد محمدا صلى الله عليه وسلم فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت وقال (إنك ميت وإنهم ميتون) وقال (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين فنشج الناس يبكون) وفي رواية: (والله لكأن الناس لم يكونوا يعلمون أن الله تعالى أنزلها حتى تلاها أبو بكر رضي الله عنه فتلقاها منه الناس فما يسمع بشر إلا يتلوها) رواه البخاري.
وأدرك هذه السنة الربانية العظيمة علي رضي الله عنه فصدع بها والنبي صلى الله عليه وسلم حي بين أظهرهم؛ كما روى ابن عباس رضي الله عنهما فقال:(كان علي يقول في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم:إن الله يقول (أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم) والله لا ننقلب على أعقابنا بعد إذ هدانا الله، والله لئن مات أو قتل لأقاتلن على ما قاتل عليه حتى أموت) رواه الحاكم.
قال القرطبي رحمه الله تعالى:(فهذه الآية من تتمة العتاب مع المنهزمين أي: لم يكن لهم الانهزام وإن قتل محمد، والنبوة لا تدرأ الموت، والأديان لا تزول بموت الأنبياء).(/5)
وما أحوج المسلمين إلى فهم هذه السنة الربانية حتى لا يغيروا دينهم، ولا يبدلوا شريعة ربهم بزعم الانفتاح على الحضارة المعاصرة، أو بدعوى اللحاق بركاب الأمم المتطورة أو بحجة تخفيف ضغوط الكافرين والمنافقين؛ فإن موت النبي صلى الله عليه وسلم كان أعظم مصيبة في هذه الأمة، كيف وقد كان المسلمون في معاركهم يحتمون به، ويستجلبون النصر بدعائه، وقد اجتمعت كلمتهم عليه، ولما مات ارتدت قبائل العرب، واشرأبت أعناق المنافقين، وطمع اليهود والنصارى في المسلمين، ولكن فهم الصديق رضي الله عنه لهذه السنة الربانية كان سببا في ثباته وتثبيت الصحابة رضي الله على الحق بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، ومقاتلة المرتدين.
أفإن طعن الكافرون والمنافقون في ديننا، واستخفوا بقرآننا ونبينا عليه الصلاة والسلام، وطالبونا بتغيير شعائرنا، والتخلي عن أوامر ربنا، وإتباعهم في ضلالهم، وساومونا على ذلك، أفإن فعلوا ذلك بنا يرتد أقوام من المسلمين على أعقابهم، وينبرون لهذه المهمة القذرة، فيصيحون في الناس إن أرادوا النجاة من كلب الكافرين والمنافقين فعليهم أن يتبعوهم فيما أرادوا، ويطيعوهم فيما أمروا، والله عز وجل يقول(ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين) والشاكرون هم الثابتون على دينهم وإن غير المغيرون، وحرف المحرفون، وبدل المبدلون.
وجزاء الله تعالى للشاكرين في الدنيا بأن تكون الغلبة في آخر المطاف من نصيبهم، والعاقبة لهم، ومن كتب الله تعالى عليهم الابتلاء بالهزيمة فقتلوا وهم يدرءون عن دينهم فقد اصطفاهم الله تعالى شهداء، كما اصطفى سبعين من الصحابة رضي الله عنهم في أحد شهداء، ومن مات منهم حتف أنفه قبل أن يتنزل النصر فقد لقي الله عز وجل ثابتا على دينه، لم ينقلب على عقبيه.(/6)
وأما جزاؤهم في الآخرة فهو جزاء من ثبتوا على دينهم، وواجهوا المحن والبلايا بقلوب مؤمنة بالله تعالى، موقنة بوعده،صابرة على ابتلائه، راضية بقضائه وقدره، وجزاء الإيمان واليقين، والصبر والرضا عند الله عز وجل عظيم؛ ولذا سمى أهله شاكرين، وأخبر سبحانه بأنه (سيجزي الشاكرين) وجزاء الكريم عظيم، والله عز وجل هو الجواد الكريم، فاثبتوا - رحمكم الله تعالى - على دينكم مهما كانت الابتلاءات، وثقوا بوعد ربكم لكم؛ فإن الدين دينه، والعز والنصر يستجلب بطاعته (وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم) بارك الله لي ولكم ....
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين0
أما بعد: فاتقوا الله - عباد الله - وأطيعوه (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا، يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما).(/7)
أيها المسلمون: من السنن العظيمة التي نص عليها القرآن الكريم في سياق الحديث عن غزوة أحد: أن المنافقين يتولون حال المحن عن المؤمنين، وينحازون إلى الكافرين، ويشتغلون عن نصر الأمة وتأييدها باللوم والنقد، والتخذيل والإرجاف في أوساط المسلمين، ولما انخذل المنافقون في أحد وكانوا ثلث الجيش، ثم كتب الله تعالى الهزيمة على المؤمنين فرح المنافقون وتشفوا من المؤمنين، وقالوا(لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا) فعابهم الله تعالى بذلك، وفضحهم في قرآن يتلى إلى يوم القيامة (وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين، وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والله أعلم بما يكتمون، الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا قل فادرؤوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين).(/8)
وقد حذر الله تعالى من اتخاذ المنافقين بطانة، أو توليتهم ولاية؛ لأن قلوبهم مع الأعداء وإن كانت أجسادهم مع المسلمين، ولا يزالون يتربصون بالمؤمنين الدوائر، ويحيكون لهم المكائد، وظهرت أفعالهم القبيحة الشنيعة في غزوة أحد؛ إذ خذلوا المؤمنين، ومالئوا الكافرين؛ ولذا حذر الله تعالى المؤمنين منهم في سياق الآيات التي تقص خبر غزوة أحد؛ لأن طبيعة المنافقين لا تتغير من زمان إلى زمان، ولا تكون في مكان دون مكان؛ فهم كارهون لدين الله تعالى، رافضون لشريعته فأي خير أو صلاح أو إصلاح يرتجى منهم (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون، ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور، إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا إن الله بما يعملون محيط).
كما أن من السنن العظيمة التي بانت في هذه الغزوة: أن طاعة الكافرين سبب للهزيمة والضعف والانحطاط والتبعية؛ لأن الكافرين لا يريدون الخير للمسلمين، كما أن النصر لا يستجلب من الكافرين مهما كانت قوتهم وغلبتهم، بل يطلب من الله تعالى، وفي سياق آيات غزوة أحد يقول الله تعالى محذرا عباده المؤمنين (يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين بل الله مولاكم وهو خير الناصرين).(/9)
وقد رأينا هذه السنة العظيمة ماثلة للعيان في كثير من القضايا المعاصرة، فلا يزال الكافرون يغدرون بالمسلمين، ولا يفون لهم، وفي أكبر قضاياهم وهي قضية بيت المقدس؛ رأينا المسلمين لما أطاعوا الكافرين فيها ما زادوهم إلا وهنا على وهنهم، وتفرقا إلى تفرقهم، وما حلت قضيتهم، بل جرأت اليهود عليهم، وأطمعتهم في بقية بلدانهم، وما نفعتهم وعود الكافرين لهم، إن هي إلا قرارات يمتصون بها غضبهم، ومبادرات يميتون بها إحساسهم، حتى بلغ عتو اليهود وظلمهم أن يقتلوا الأطفال والنساء، ويدمروا البيوت على ساكنيها، ويخربوا الزرع والثمار، ويجيعوا أمة كاملة من المسلمين ولا يحرك ذلك ساكنا في المسلمين،ولا يقدرون على نصرة إخوانهم أو نجدتهم، ولو برغيف خبز يرسلونه إليهم، أو دواء يعالجون به جرحاهم.
وما كان ذلك إلا لأن المسلمين منذ نصف قرن وهم يطيعون الكافرين في قضيتهم تلك؛ ولذلك خسروها، ولا يزالون يخسرون كل يوم جزءا منها، ولا تزيدهم الأيام إلا تنازلات ما كانوا يرضونها من قبل، وصدق الله تعالى إذ حذرنا من ذلك (يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين).
لقد كانت الآيات التي عرضت لغزوة أحد من سورة آل عمران زاخرة بالسنن الربانية التي لو فقهها المسلمون، وأحسنوا التلقي عن القرآن؛ لتبدل حالهم من ضعف إلى قوة، ومن ذل إلى عز، ومن هزيمة إلى نصر، فهل يفعل المسلمون ذلك وقد خسروا كثيرا بالتفريط في دينهم، وتقصيرهم في تدبر كتاب ربهم جل جلاله، وطاعتهم للكافرين والمنافقين.
عسى أن يكون ذلك، وأسأل الله تعالى بمنه وكرمه أن يفتح للمسلمين فتحا من عنده، وأن يردهم إلى دينهم ردا جميلا، وأن يجمع كلمتهم على الحق والهدى، وأن يكبت أعداءهم، إنه سميع مجيب.
وصلوا وسلموا على نبيكم ....(/10)
العنوان: غزوة أحد
رقم المقالة: 645
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحمد لله له ما في السماوات وما في الأرض وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله الذي جاهد في الله تعالى من غير توان ولا تقصير صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين اتبعوه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم يرجعون وسلم تسليماً.(/1)
أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى واعرفوا ما أبلاه سلف هذه الأمة من بلاء حسن في نصرة هذا الدين وما صبروا عليه من الشدائد في إعلاء كلمة رب العالمين فإنهم جاهدوا في سبيل الله لم يجاهدوا لعصبية ولا لوطنية ولا لفخر وخيلاء وفي شهر شوال من السنة الثالثة من الهجرة كانت غزوة أحد وهو الجبل الذي حول المدينة والذي قال فيه - صلى الله عليه وسلم -: ((أحد جبل يحبنا ونحبه))، وذلك أن المشركين لما أصيبوا بفادحتهم الكبرى يوم بدر خرجوا ليأخذوا بالثأر من النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه في ثلاثة آلاف رجل ومعهم مائتا فرس مجنبة فلما علم بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استشار أصحابه في الخروج إليهم فخرج بنحو ألف رجل فلما كانوا في أثناء الطريق انخزل عبد الله بن أبي رأس المنافقين بمن اتبعه من أهل النفاق والريب وقالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم فتعبأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للقتال في سبع مئة رجل فقط ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير رضي الله عنه وأمر على الرماة عبد الله بن جبير وقال: انضحوا عنا الخيل لا يأتونا من خلفنا إن كانت لنا أو علينا فاثبتوا مكانكم فأنزل الله نصره على المؤمنين وصدقهم وعده فكشفوا المشركين عن المعسكر وكانت الهزيمة لا شك فيها ولكن الله قضى وحكم ولا معقب لحكمه وهو السميع العليم فإن الرماة لما رأوا هزيمة الكفار ظنوا أنهم لا رجعة لهم فتركوا مركزهم الذي أمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلزومه فكر فرسان من المشركين ودخلوا من ثغر الرماة ففاجئوا المسلمين من خلفهم واختلطوا بهم حتى وصلوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فجرحوا وجهه وكسروا رباعيته اليمنى السفلى وهشموا البيضة بيضة السلاح على رأسه ونشبت حلقتان من حلق المغفر في وجهه فعض عليهما أبو عبيدة فنزعهما وسقطت ثنيتاه من شدة غوصهما في وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - ونادى الشيطان بأعلى صوته أن محمداًً قد قتل فوقع ذلك(/2)
في قلوب كثير من المسلمين وفر أكثرهم فبقي النبي - صلى الله عليه وسلم - في سبعة من الأنصار ورجلين من المهاجرين فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من يردهم عنا وله الجنة)) فتقدم الأنصار واحداً واحداً حتى قتلوا وترس أبو دجانة في ظهره على النبي - صلى الله عليه وسلم - والنبل يقع فيه وهو لا يتحرك واستشهد في هذه الغزوة سبعون رجلاً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - منهم أسد الله وأسد رسوله حمزة بن عبد المطلب عم النبي - صلى الله عليه وسلم – وسيد الشهداء ومنهم عبد الله بن جحش دفن هو وحمزة في قبر واحد ومنهم مصعب بن عمير رضي الله عنه صاحب اللواء ومنهم سعد بن الربيع رضي الله عنه بعث إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - زيد بن ثابت يقرئه السلام فوجده في آخر رمق وفيه سبعون ضربة فقال له: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ عليك السلام ويقول كيف تجدك قال: وعلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السلام قل له أجد ريح الجنة وقل لقومي الأنصار لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفيكم عين تطرف ثم فاضت نفسه رضي الله عنه ومر أنس بن النضر بقوم من المسلمين قد ألقوا بأيديهم فقال ما تنتظرون قالوا: قتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال ما تصنعون بالحياة بعده قوموا فموتوا على ما مات عليه ثم لقي سعد بن معاذ فقال يا سعد إني لأجد ريح الجنة من دون أحد فقاتل حتى قتل ووجد به نحوا من سبعين ضربة فلما انقضت الحرب أشرف أبو سفيان وكان رئيس المشركين يومئذ ثم أسلم بعد أشرف على الجبل يسأل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر فلم يجيبوه إهانة له واحتقاراً قال أبو سفيان لأصحابه أما هؤلاء فقد كفيتموهم فلم يملك عمر نفسه أن قال: كذبت يا عدو الله إن الذين ذكرتهم أحياء وقد أبقى الله لك ما يسوءك ثم قال أبو سفيان مفتخراً بصنمه اعل هبل فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((قولوا(/3)
الله مولانا ولا مولى لكم)) ثم انصرف أبو سفيان بأصحابه فلما كانوا في أثناء الطريق تلاوموا فيما بينهم ليرجعوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه فيستأصلونهم فبلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - فنادى في الناس ليخرجوا إلى عدوهم وقال: ((لا يخرج معنا إلا من شهد القتال في أحد)) فاستجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح والبلاء المبين حتى بلغوا حمراء الأسد على ثمانية أميال من المدينة فأنزل الله فيهم: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران:173،174].
رزقني الله وإياكم محبة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وأتباعهم ظاهراً وباطنا.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.. الخ.(/4)
العنوان: غزوة أحد
رقم المقالة: 1677
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
قل هو من عند أنفسكم
الحمد لله رب العالمين؛ يبتلي عباده بالسراء وبالضراء؛ ليجزيهم على صبرهم أعظم الجزاء، نحمده كما ينبغي له أن يحمد، ونشكره فقد تأذن بالزيادة لمن شكر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ عظيم في ملكه وربوبيته وألوهيته، حكيم في مقاديره وأحكامه، لا يقضي قضاء لمؤمن إلا كان خيرا له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ ابتلي بالسراء فشكر، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه؛ بذلوا أنفسهم وأموالهم، وأُخرجوا من ديارهم وأبنائهم في سبيل الله تعالى، وابتغاء مرضاته، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} [البقرة:123].
أيها الناس: طاعة الله تعالى سبب للفلاح في الدنيا والآخرة، ومعصيته عز وجل شؤم وبلاء على العباد في الحال والمآل؛ ولذا جاءت النصوص من الكتاب والسنة تأمر بالطاعة، وتنهى عن المعصية، وتبين عاقبة الفريقين.
ومن أسباب النصر على الأعداء، وتآلف القلوب، واجتماع الكلمة التزامُ طاعة الله تعالى، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم. كما أن المعصية سبب للتنازع والفشل والهزيمة، وذهاب القوة {وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال:46].
وهذه الآية الكريمة نزلت في سياق الحديث عن غزوة بدر، وقد التزم المؤمنون فيها بطاعة الله تعالى، وطاعة رسوله عليه الصلاة والسلام، فكان لهم الظفر على المشركين.(/1)
ولكن في غزوة أحد قدَّر الله تعالى عليهم الهزيمة لحكمة أرادها عز وجل، وكانت هذه الهزيمة بسبب معصية طائفة منهم، مما يدل على أن سنن الله تعالى لا تحابي أحدا من خلقه، ولو كانوا خيار هذه الأمة، ولو كان فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أكرم الخلق على الله تعالى.
لقد عاد المشركون للثأر من هزيمتهم في بدر بعد عام منها، وكان رأيُ النبي عليه الصلاة والسلام أن يتحصن المسلمون في المدينة، ولكن الحماسة للقتال دفعت كثيرا من المسلمين إلى أن يختاروا الخروج لملاقاة المشركين، فنزل النبي عليه الصلاة والسلام عن رأيه إلى رأيهم، ذكر عروة بن الزبير رحمه الله تعالى أن كثيرا من الناس أبو إلا الخروج إلى العدو، قال: (ولو تناهوا إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره كان خيرا لهم، ولكن غلب القضاء والقدر، قال: وعامة من أشار عليه بالخروج رجال لم يشهدوا بدرا، وقد علموا الذي سبق لأهل بدر من الفضيلة) رواه البيهقي.
ولما بلغوا أحدا رتب النبي عليه الصلاة والسلام مواقع المسلمين، وجعل خمسين من الرماة على الجبل ليحموا ظهر الجيش، وأمرهم أن لا يبارحوا أماكنهم، وأمَّر عليهم عبد الله بن جبير رضي الله عنه وقال لهم: (إن رَأَيْتُمُونَا تَخْطَفُنَا الطَّيْرُ فلا تَبْرَحُوا مَكَانَكُمْ هذا حتى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ، وَإِنْ رَأَيْتُمُونَا هَزَمْنَا الْقَوْمَ وَأَوْطَأْنَاهُمْ فلا تَبْرَحُوا حتى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ) رواه البخاري.(/2)
وتقابل الصفان، والتحم الجيشان، وانتصر المسلمون في بادئ المعركة، ورأى الرماة أن وقت الغنيمة قد حان، وأن المعركة انتهت؛ فعصوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزلوا عن مواقعهم فكشفوا ظهر الجيش، فالتفَّ عليهم طائفة من المشركين فأتوهم من خلفهم، ووقع قضاء الله تعالى، وانقلب النصر إلى هزيمة، وجُرح رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكُسرت رباعيته، وقُتل سبعون من أصحابه رضي الله عنهم، وأُشيع في الناس مقتلُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففرَّ كثير من المسلمين لا يلوون على شيء.
يُحدِّث عن ذلك الموقف العصيب البراءُ بن عازب رضي الله عنه فيقول: (فقال أَصْحَابُ عبدِ الله بنِ جُبَيْرٍ: الْغَنِيمَةَ، أَيْ قَوْمِ الْغَنِيمَةَ، ظَهَرَ أَصْحَابُكُمْ فما تَنْتَظِرُونَ؟ فقال عبدُ الله بنُ جُبَيْرٍ:أَنَسِيتُمْ ما قال لَكُمْ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: والله لَنَأْتِيَنَّ الناسَ فَلَنُصِيبَنَّ من الْغَنِيمَةِ، فلما أَتَوْهُمْ صُرِفَتْ وُجُوهُهُمْ فَأَقْبَلُوا مُنْهَزِمِينَ فَذَاكَ إِذْ يَدْعُوهُمْ الرَّسُولُ في أُخْرَاهُمْ، فلم يَبْقَ مع النبي صلى الله عليه وسلم غَيْرُ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا فَأَصَابُوا مِنَّا سَبْعِينَ) رواه البخاري.
وقال الزبير رضي الله عنه يحكي فعل الرماة: (فرغبوا إلى الغنائم وتركوا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلوا يأخذون الأمتعة فأتتنا الخيل من خلفنا فحطمتنا وكرَّ الناس منهزمين) رواه ابن راهويه.(/3)
وذكر ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي عليه الصلاة والسلام أقام الرماة في مَوْضِعٍ ثُمَّ قال: (احْمُوا ظُهُورَنَا فَإِنْ رَأَيْتُمُونَا نُقْتَلُ فَلاَ تَنْصُرُونَا وإنْ رَأَيْتُمُونَا قد غَنِمْنَا فَلاَ تَشْرَكُونَا، فلما غَنِمَ النبي صلى الله عليه وسلم وَأَبَاحُوا عَسْكَرَ الْمُشْرِكِينَ أَكَبَّ الرُّمَاةُ جَمِيعاً فَدَخَلُوا في الْعَسْكَرِ يَنْهَبُونَ، وَقَدِ الْتَقَتْ صُفُوفُ أَصْحَابِ رسول الله صلى الله عليه وسلم فَهُمْ كَذَا -وَشَبَّكَ بين أَصَابِعِ يَدَيْهِ- وَالْتَبَسُوا، فلما أَخَلَّ الرُّمَاةُ تِلْكَ الْخَلَّةَ التي كَانُوا فيها دَخَلَتِ الْخَيْلُ من ذلك الْمَوْضِعِ على أَصْحَابِ النبي صلى الله عليه وسلم فَضَرَبَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً وَالْتَبَسُوا، وَقُتِلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ نَاسٌ كَثِيرٌ) رواه أحمد.
ولما عرض الله تعالى لهذا الموقف من كتابه العزيز بيَّن عز وجل أن المعصية هي سبب ما لحق المسلمين من التنازع والفشل والهزيمة، وأخبر عز وجل أنه سبحانه قد أنالهم ما وعدهم من النصر لولا معصيتهم فقال عز وجل {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ} [آل عمران:152].
فكان النصر أولاً، ثم كان فشلُ الرماة وضجرهم من ملازمة أماكنهم خشية فوات الغنيمة، ثم تنازعهم مع أميرهم في النزول عن الجبل، ثم تصميم معظمهم على ما أرادوا متأولين أن المعركة قد انتهت، وأن النصر تحقق؛ فلحقهم شؤم المعصية، وانقلبت موازين المعركة، وكان وبال معصيتهم عليهم وعلى سائر الجيش، فاختلطوا يضرب بعضهم بعضا، وطوقهم المشركون من كل جانب، فحمى الله تعالى نبيه عليه الصلاة والسلام من كيد المشركين وشرهم.(/4)
والمعصية هي سبب الخلاف والتنازع، ثم هي سبب الفشل والهزيمة، كما أن الطاعة هي سبب التآلف واجتماع الكلمة كما أنها سبب النصر والظفر.
وفي مقام آخر بيَّن الله تعالى أن الهزيمة ما لحقتهم إلا بمعصيتهم له عز وجل {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:165] فهو سبحانه قدير على نصركم وعلى خذلانكم، فلما عصيتم وجررتم لأنفسكم الغضب قدَّر الله سبحانه لكم الخذلان؛ فالنصر يطلب من الله تعالى، ومن أسبابه لزوم طاعته، ومن خذله الله تعالى فلن ينتصر مهما كان جمعه وقوته، ومن أعظم أسباب الخذلان معصية الله تعالى، وفي سياق الآيات التي أخبرت عن هذه الغزوة العظيمة تأتي هذه القاعدة الجليلة ليستفيد منها قُرَّاءُ القرآن في كل زمان ومكان {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ} [آل عمران:160].
فيا لها من قاعدة عظيمة كانت غزوة أحد مثالا واضحا عليها، فهل ندرك ذلك -يا عباد الله- في زمن تكالبت فيه قوى الشر والطغيان على المسلمين يريدون تبديل دينهم، وسلبهم ما بقي من مقومات عزهم وقوتهم، ولن يظفروا بشيء منهم إلا إذا عصى المسلمون ربهم جل جلاله حيث يكون الخذلان، ومن خذله الله تعالى فلن ينتصر أبدا.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:7-8].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.....
الخطبة الثانية(/5)
الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله -أيها المسلمون- وأطيعوه؛ فإن في طاعته عز وجل فوز الدنيا والآخرة {وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَائِزُونَ} [النور:52].
أيها المسلمون: بلاء المعصية يتعدى أصحابها حتى يكون عاما على جماعة المسلمين، وفي غزوة أحد كان عدد الرماة قليلا بالنسبة لمجموع الجيش، ومن عصى منهم لا يشكلون إلا نسبة ضئيلة من المسلمين، ولكن شؤم هذه المعصية لحق الجيش كله فانكسر وقد كان منتصرا، ومن قتلوا من خيار الصحابة رضي الله عنهم كانوا أكثر من عدد الرماة كلهم، وكل هذا يدل على أن عموم الناس قد يؤخذون بذنوب بعضهم.
ولو نظرنا بعين البصيرة لمعاصينا لعلمنا كيف هانت أمتنا وخُذِلت وسُلِّط عليها أعداؤها؛ فكم فينا من العصيان، ومن التقصير في طاعة الله تعالى؟!
والذين فروا من معركة أحد بعد الهزيمة وهم الأكثر، ولم يثبت إلا النبي عليه الصلاة والسلام في نفر قليل جدا، إنما كان فرارهم وعدم ثباتهم بسبب ذنوبهم، وكان هذا أيضا من شؤم الذنوب وبلائها على المسلمين، وقد يكون في ثباتهم لو ثبتوا عودةُ نصر الله تعالى وتأييده، فَتُقْلَبُ موازين المعركة مرة أخرى للمؤمنين، فكانت معصية الرماة سببا في الهزيمة، وكانت معاصي الأفراد سببا في عدم ثباتهم لما دارت الدائرة على المؤمنين، يقول الله عز وجل عن أولئك الفارين يوم أحد {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ التَقَى الجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [آل عمران:155]. فقد سُلِّط عليهم ببعض ما كسبوا فكيف لو أخذوا بجميع ما كسبوا؟!(/6)
إن من الناس من يظن أن دين الله تعالى هو سبب البلاء، وأن المحنَّ إنما تتوارد عليه بسبب استمساكه بالدين، وهذا هو ظنُّ المنافقين الذين قالوا يوم أحد فيمن قُتِلوا {لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} [آل عمران:168] فكانت حجة الله تعالى عليهم {قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ المَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران:168].
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: وإذا أصابت العبدَ مصيبةٌ كانت بذنبه لا باتباعه للرسول، بل باتباعه للرسول صلى الله عليه وسلم يُرحم وينصر، وبذنوبه يعذب ويخذل قال تعالى {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشُّورى:30] ولهذا لما انهزم المسلمون يوم أحد وكانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم واستظهر عليهم العدو بيَّن الله تعالى لهم أن ذلك بذنوبهم.
وقال أيضا: وإذا كان في المسلمين ضعفا، وكان عدوهم مستظهرا عليهم؛ كان ذلك بسبب ذنوبهم وخطاياهم، إما لتفريطهم في أداء الواجبات باطنا وظاهرا، وإما لعدوانهم بتعدي الحدود باطنا وظاهرا.
وقال رحمه الله تعالى: ومن المعلوم بما أرانا الله تعالى من آياته في الآفاق وفى أنفسنا، وبما شهد به في كتابه أن المعاصي سبب المصائب؛ فسيئاتُ المصائبِ والجزاءِ من سيئات الأعمال، وأنَّ الطاعة سبب النعمة؛ فإحسانُ العمل سببٌ لإحسانِ الله تعالى.اهـ(/7)
عباد الله: إذا كان الأمر كذلك، وكانت هزيمة المؤمنين في غزوة أحد بمعصية بعضهم فإنه لا مخرج للأمة من ذلها وهوانها وتخلفها إلا بطاعة الله تعالى، واجتناب معصيته التي هي سبب البلاء والمصائب، ولا رادَّ لتسلط الأعداء على المسلمين إلا اللهُ تعالى، ونصر الله تعالى وتأييده وحفظه إنما يستجلب بطاعته. كما أن معصيته سبب للفشل والهزيمة والخذلان، ولا بدَّ أن يدرك كل مسلم هذه الحقيقة المقررة في القرآن، والتي دلت عليها سنن الله تعالى في عباده؛ فكل عاصٍ من أفراد الأمة مسئول أمام الله تعالى عن ضعف الأمة وهزيمتها بما ينتهك من حرمات الله تعالى، ويأتي من معاصيه، ويفرط في طاعته؛ إذ هو سبب من أسباب الهزيمة والخذلان، ومن منا يزكي نفسه عن المعصية، فإذا كان الأمر كذلك فلنتب من ذنوبنا طلبا لرضى ربنا، وخلاصا لأمتنا من ضعفها وانحطاطها، وتسلط الأعداء عليها.
وأما ما يردده كثير ممن ينعتون أنفسهم بالمفكرين والمثقفين من زعمهم أن الدين هو سبب تخلف الأمة وتقهقرها، وأن التخلي عنه سبب لعزها ورفعتها فلا يعدو أن يكون كمقولة المنافقين حين ظنوا أن دين الله تعالى هو السبب في قتل من قتلوا من المسلمين في غزوة أحد، ولئن أطاعهم الناس فيما يريدون من تبديل دين الله تعالى فلن يزدادوا إلا انحطاطا مع انحطاطهم، مع ما يستوجبونه لأنفسهم من عقوبة الله تعالى في الدنيا والآخرة.
فخذوا -يا عباد الله- من غزوة أحد معتبرا، واعلموا أن سنن الله تعالى لا تحابي أحدا، وأن معصية بعض المسلمين جرَّت هزيمة قاسية إلى جيش فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه خيار هذه الأمة، فكيف بنا ونحن في القرون المتأخرة، عسى الله تعالى أن يرحمنا ويعفو عنا.
وصلوا وسلموا....(/8)
العنوان: غزوة الأحزاب (1)
رقم المقالة: 1087
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
شدة البلاء والمحنة
الحمد لله؛ ابتلى عباده المؤمنين، وأجزل المثوبة للصابرين، أحمده على ما قدر من السراء والضراء، وأشكره على جزيل المنح والعطاء، وأستغفره من كل الذنوب والأخطاء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ تفرد بصفات الجلال والكمال، ونزه عن الأنداد والأمثال، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ مسته البأساء والضراء، وأحاطت به المصائب واللأواء، فصبر على عظيم الأذى، واحتمل في سبيل الله تعالى شدة الابتلاء، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه؛ أولي الصدق والنقاء، وأهل التضحية والفداء، ومن تبعهم بإحسان واهتدى0
أما بعد: فاتقوا الله تعالى - عباد الله - وأطيعوه؛ فلنعم زاد المؤمن تقوى الله تعالى وطاعته {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر:18].
أيها الناس: الإيمان والتقوى سببان للمحنة والابتلاء، وثمن الثبات عليهما جنة عرضها الأرض والسماء، وقد حفت الجنة بالمكاره كما حفت النار بالشهوات، وأفاضل الخلق من الرسل والأنبياء عليهم السلام كانوا أعظم الناس بلاء، وأشدهم امتحانا، وما أصابهم من البلاء لا يطيقه سواهم، {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ البَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214].(/1)
ولما سئل النبي صلى الله عليه وسلم: (أي الناس أشد بلاء ؟ قال: الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل فيبتلى الرجل على حسب دينه فإن كان دينه صلبا اشتد بلاؤه وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
وفي شوال من السنة الخامسة من الهجرة النبوية المباركة وقع ابتلاء شديد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصحابته الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم؛ إذ رمتهم العرب عن قوس واحدة، واجتمعت عليهم جموع المشركين مع غدر اليهود وتخذيل المنافقين، في واقعة سميت بغزوة الأحزاب، ونزل في وصف شدتها ومحنتها آيات بينات تتلى إلى آخر الزمان.
كانت قريش تريد الثأر لأسيادها الذين قتلوا في بدر، وشجعهم على حشد الحشود، وتحزيب الأحزاب جماعة من يهود بني النضير الموتورين بالجلاء عن المدينة إلى خيبر بعد نقضهم للعهد مع المسلمين، فوفد منهم وفد إلى مكة شجعوا المشركين على غزو المدينة، وأفتوهم بأن دين المشركين خير من دين المسلمين؛ كما روى ابن عباس رضي الله عنهما فقال: (كان الذين حزبوا الأحزاب من قريش وغطفان وبني قريظة حيي بن أخطب وسلام بن أبي الحُقَيق وأبو رافع ...وذكر جماعة ثم قال: فلما قدموا على قريش قالوا: هؤلاء أحبار يهود، وأهل العلم بالكتب الأول فاسألوهم: أدينكم خير أم دين محمد؟ فسألوهم فقالوا: بل دينكم خير من دينه، وأنتم أهدى منه وممن اتبعه، فأنزل الله تعالى فيهم: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا سَبِيلًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا} [النساء:51-52].(/2)
ثم انتقل وفد من هؤلاء اليهود إلى قبيلة غطفان وهي من أكبر قبائل نجد آنذاك فأغروها بالتحالف مع المشركين على أن لهم نصف ثمر خيبر، وخرج معهم جماعة من أشجع وبني سليم وبني مرة، وبني كنانة وأهل تهامة في جمع عظيم، سماه الله تعالى: الأحزاب، قاصدين المدينة النبوية، فلما علم النبي صلى الله عليه وسلم بقدومهم شاور أصحابه، فأشار سلمان الفارسي رضي الله عنه بحفر الخندق لمنع المشركين من الوصول إلى المدينة فحفره المسلمون.
واجتمع عليهم مع خوف عدوهم، وتكالب المشركين عليهم، ما يجدونه من المخمصة الشديدة، والجوع المؤذي، وهم يحفرون الخندق، وكان ذلك في زمن الشتاء، والشتاء لا يخفف برده إلا الطعام ولا طعام، والحفر شاق ومرهق ولا يقدر عليه جائع، والمسلمون جوعى، فتكالب عليهم قلة ذات يد، وشدة جوع، مع خوف عدو، قال أنس رضي الله عنه يصف ما يأتيهم من طعام وهم يعملون الخندق قال: (يؤتون بملء كفي من الشعير فيصنع لهم بإهالة سنخة توضع بين يدي القوم والقوم جياع وهي بشعة في الحلق ولها ريح منتن) رواه البخاري، والإهالة هي الدهن الذي يؤتدم به سواء كان زيتا أو سمنا أو شحما، وقوله: سنخة أي تغير طعمها ولونها من قدمها؛ ولهذا وصفها بكونها بشعة.
وهذا الطعام على رداءته وجوده أحسن من عدمه، وإلا فإنهم قد يعدمونه فلا يجدون ما يأكلون كما جاء في حديث جابر رضي الله عنه قال: (لما حفر الخندق رأيت بالنبي صلى الله عليه وسلم خمصا شديدا فانكفأت إلى امرأتي فقلت هل عندك شيء فإني رأيت برسول الله صلى الله عليه وسلم خمصا شديدا) رواه الشيخان.(/3)
ويستمر بهم الجهد والجوع أياما تباعا لا يجدون ما يأكلون حتى يبلغ بهم إلى عصب بطونهم بالحجارة؛ كما وقع ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، قال جابر رضي الله عنه: (إنا يوم الخندق نحفر فعرضت كُدْية شديدة فجاؤوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا هذه كُدْية عرضت في الخندق فقال أنا نازل ثم قام وبطنه معصوب بحجر ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقا ....وجاء في رواية أخرى: (أصابهم جهد شديد حتى ربط النبي صلى الله عليه وسلم على بطنه حجرا من الجوع).
وهذه الحال التي عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجهد والجوع جعلت جابرا رضي الله عنه يستأذن النبي صلى الله عليه وسلم ويغدوا إلى امرأته فيقول لها: (رأيت بالنبي صلى الله عليه وسلم شيئا ما كان في ذلك صبر فعندك شيء؟ قالت:عندي شعير وعناق فذبحت العناق وطحنت الشعير) فلما أصاب النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم من طعام جابر رضي الله عنه بعد أن بارك الله تعالى فيه بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم قال عليه الصلاة والسلام لامرأة جابر: (كلي هذا وأهدي فإن الناس أصابتهم مجاعة) وهذا يدل على شدة ما هم فيه من القلة والمسغبة.
وتتواصل المحن عليهم، ويعظم البلاء بهم، وهم على ما هم فيه من الأمر العصيب؛ إذ سرت في الناس شائعة أن اليهود داخل المدينة قد نقضوا عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأنهم سيحالفون المشركين على المسلمين، وأن الخطر قد أحاط بنساء المسلمين وذراريهم داخل حصون المدينة، واشتد الأمر على المسلمين فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من يأتيني بخبر القوم - يعني بني قريظة- قال الزبير: أنا، ثم قال: من ياتيني بخبر القوم ؟ قال الزبير: أنا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن لكل نبي حواريا وحواري الزبير)رواه الشيخان.(/4)
فأخبر الزبير رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ببوادر نقض قريظة للعهد، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم وفدا من سادة الأنصار لمحاورتهم واستظهار خبرهم وقال لهم: (انطلقوا حتى تنظروا أحق ما بلغنا عن هؤلاء القوم أم لا فإن كان حقا فالحنوا لي لحنا أعرفه ولا تفتوا في أعضاد الناس وإن كانوا على الوفاء فيما بيننا وبينهم فاجهروا به للناس) فخرجوا حتى أتوهم فوجدوهم على أخبث ما بلغهم عنهم ونالوا من رسول الله وقالوا:لا عهد بيننا وبين محمد ولا عقد، فشاتمهم سعد بن عبادة وشاتموه وكان رجلا فيه حدة فقال له سعد بن معاذ دع عنك مشاتمتهم فما بيننا وبينهم أربى من المشاتمة.
ثم أقبل السعدان ومن معهما إلى رسول الله فسلموا عليه ثم قالوا: عضل والقارة أي كغدر عضل والقارة بأصحاب رسول الله أصحاب الرجيع خبيب بن عدي وأصحابه - أرادوا ألا يعلم الناس بالأمر كما أوصاهم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم - عندها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله أكبر أبشروا يا معشر المسلمين).
إنها بشارة في شدة المحنة، وتفاؤل بقرب موعود الله تعالى مع عظم الكرب، واستحكام الأمر، فيا له من يقين بالله تعالى لا يتزحزح من قلب النبي صلى الله عليه وسلم مهما عظمت المحنة، واشتد الكرب، واستحكم البلاء.
انضم إلى هذه المحن والشدائد التي تتابعت على المسلمين شدة في إثر شدة، ومحنة تنسي الأخيرة منها ما قبلها، انضم إليها ظهور النفاق، وتخذيل المنافقين في أوساط المسلمين، وإضعاف معنوياتهم ببث الشائعات والأراجيف، وتخويفهم من قوة المشركين، مع الانسحاب من الجيش على ملأ من الناس، حتى قال قائل المنافقين: (كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر وأحدنا لا يقدر أن يذهب إلى الغائط) وقال آخر: (إن بيوتنا لعورة من العدو وذلك عن ملإ من رجال قومه فأذن لنا فلنرجع إلى دارنا).(/5)
إنها محنة عظيمة، وكرب شديد، لا يصمد أمامه إلا من كان قوي الإيمان واليقين، مع تثبيت الله تعالى وربطه على القلوب، وإلا فما ظنكم باجتماع الخوف والجوع على النفس البشرية الضعيفة.. عدو شرس قد حاصر المدينة يروم استئصال المسلمين، في أعداد كثيفة لا يبلغ المسلمون الثلث منها، وعدو في الداخل قد عزم على نقض العهد، وخيانة المسلمين، وخفرهم في نسائهم وذراريهم، ومنافقون مرجفون قد فرحوا بمصاب المسلمين، وصاروا يظهرون ما يخفون، فمن ذا الذي يثبت أمام هذا البلاء العظيم، ويواجه تلك المحن المتلاحقة بثبات ويقين؟!
لقد وصف القرآن العظيم هذا البلاء بأدق وصف وأبلغه، وأفصح عما أصاب المؤمنين من عظيم الشدة والكرب {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ القُلُوبُ الحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ المُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب:11].(/6)
نعم زاغت الأبصار من شدة البلاء والكرب، ونبت القلوب عن أماكنها من الخوف والرعب فبلغت إلى الحناجر، وهو خوف من طبيعة البشر مهما كانوا، ويبين حذيفة رضي الله عنه ما أصابهم آنذاك فيقول رضي الله عنه: (لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الأحزاب وأخذتنا ريح شديدة وقُرٌّ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا رجل يأتيني بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة؟ فسكتنا فلم يجبه منا أحد، ثم قال: ألا رجل يأتينا بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة؟ فسكتنا فلم يجبه منا أحد، ثم قال: ألا رجل يأتينا بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة؟ فسكتنا فلم يجبه منا أحد، فقال: قم يا حذيفة فأتنا بخبر القوم، فلم أجد بدا إذ دعاني باسمي أن أقوم، قال: اذهب فأتني بخبر القوم ولا تَذْعَرْهُم علي- أي لا تفزعهم حتى لا يشعروا بك -فلما وليت من عنده جعلت كأنما أمشي في حمام- أي: لم يجد البرد الذي يجده الناس- حتى أتيتهم فرأيت أبا سفيان يصلي ظهره بالنار فوضعت سهما في كبد القوس فأردت أن أرميه فذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ولا تذعرهم علي، ولو رميته لأصبته، فرجعت وأنا أمشي في مثل الحمام، فلما أتيته فأخبرته بخبر القوم وفرغت قُرِرْتُ – أي أصابه البرد بعد انتهاء مهمته وتلك كرامة عجيبة- فألبسني رسول الله صلى الله عليه وسلم من فضل عباءة كانت عليه يصلي فيها فلم أزل نائما حتى أصبحت فلما أصبحت قال قم يا نومان) رواه مسلم.(/7)
وقد حكى الله تعالى مقولات المنافقين التي أرادوا بها الإرجاف، وإضعاف المؤمنين، وتقوية الكافرين عليهم، فقال سبحانه: {وَإِذْ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا * وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا} [الأحزاب:13].
لقد ظن المنافقون أن المسلمين يستأصلون، وأيقن المؤمنون أن ما وعدهم الله تعالى حق وأنه سيظهره على الدين كله ولو كره المشركون.
وعند استحكام البلاء، وشدة الكرب يأتي الفرج من الله تعالى؛ إذ أرسل جنده على الكافرين، وخالف بينهم وبين اليهود فوقع الشر بينهم بخدعة نعيم بن مسعود رضي الله عنه الذي أسلم حينئذ وسعى بالوقيعة بين المشركين واليهود وهم لا يعلمون إسلامه، ورأى المنافقون ما يسوؤهم من بقاء الإسلام وأهله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} [الأحزاب:9].(/8)
وبعد رحيل المشركين أمر المسلمون بالمسير إلى الخونة بني قريظة ناقضي العهد واستئصال شأفتهم بحكم الله تعالى الذي نطق به حليفهم في الجاهلية سعد بن معاذ رضي الله عنه؛ كما روت عائشة رضي الله عنها فقالت: (أصيب سعد يوم الخندق رماه رجل من قريش يقال له بن العَرِقَةِ رماه في الأَكْحَل فضرب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خيمة في المسجد يعوده من قريب، فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق وضع السلاح فاغتسل، فأتاه جبريل وهو ينفض رأسه من الغبار فقال: وضعت السلاح والله ما وضعناه اخرج إليهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأين ؟ فأشار إلى بني قريظة، فقاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم الحكم فيهم إلى سعد، قال: فإني أحكم فيهم أن تقتل المقاتلة وأن تسبى الذرية والنساء وتقسم أموالهم،فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد حكمت فيهم بحكم الله عز وجل، وفي رواية: لقد حكمت بحكم الملك) رواه الشيخان واللفظ لمسلم.
وبعد أن حكم فيهم سعد بحكم الله تعالى دعا وهو جريح فقال: اللهم إنك تعلم أن ليس أحد أحب إلي أن أجاهد فيك من قوم كذبوا رسولك صلى الله عليه وسلم وأخرجوه، اللهم فإن كان بقي من حرب قريش شيء فأبقني أجاهدهم فيك، اللهم فإني أظن أنك قد وضعت الحرب بيننا وبينهم، فإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فافجرها واجعل موتي فيها فانفجرت من ليلته فلم يَرُعْهُم إلا والدم يسيل إليهم فقالوا يا أهل الخيمة ما هذا الذي يأتينا من قبلكم فإذا سعد جرحه يَغِذُّ دما فمات منها) رواه مسلم.
ولما وضعت جنازته بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عليه الصلاة والسلام: (اهتز لها عرش الرحمن) وفي رواية: (اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ) رواه مسلم.(/9)
رضي الله تعالى عن سعد وعن الصحابة أجمعين، وجمعنا بهم في دار النعيم، وبارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
الخطبة الثانية
الحمد الله حمدا يليق بجلال ربنا وعظيم سلطانه؛ أحمده حمدا كثيرا، وأشكره شكرا مزيدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه إلى يوم الدين...
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:71].
أيها المسلمون: كانت غزوة الأحزاب موطنا عصيبا من مواطن الامتحان والابتلاء، اجتازه المؤمنون الصادقون باقتدار، وأخفق فيه المنافقون، وتنزل القرآن يفضحهم، ويبدي ما أخفوه من مساوئهم، ويمدح المؤمنين على صبرهم وثباتهم، ومواجهتهم هذه الابتلاءات بالرضى والتسليم لله رب العالمين.
واللافت للنظر -أيها الإخوة- أن الآية الآمرة بالتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم جاءت متخللة الآيات التي عرضت لهذه الغزوة وتفصيلاتها {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَاليَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21].(/10)
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: (هذه الآية الكريمة أصل كبير في التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وأحواله ولهذا أمر تبارك وتعالى الناس بالتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب في صبره ومصابرته ومرابطته ومجاهدته وانتظاره الفرج من ربه عز وجل .... ثم قال تعالى مخبرا عن عباده المؤمنين المصدقين بموعود الله لهم وجعله العاقبة حاصلة لهم في الدنيا والآخرة فقال تعالى {وَلَمَّا رَأَى المُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب:22] قال ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة يعنون قوله تعالى في سورة البقرة {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ البَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214] اهـ.
وما أحوج المسلمين في هذا العصر إلى مطالعة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، واليقين بأن ما يعانونه في هذا العصر من أذى الكافرين، وتسلط المنافقين، وإرجافهم بالمؤمنين، قد وقع مثله وما هو أشد منه لأهل الصدر الأول من المسلمين، فصبروا على الأذى، وثبتوا على دينهم، ولم يغيروا أو يبدلوا إرضاء لأحد من الناس مهما كانت قوته، ومهما بلغ مكره وتخويفه؛ فأحسن الله تعالى لهم العاقبة في الدنيا بالنصر والتأييد على أعدائهم، ورضي فعلهم فأرضاهم ورضي عنهم، وما نال أعداؤهم إلا الهزيمة والحسرة في الدنيا والخسارة في الآخرة.(/11)
وهؤلاء المؤمنون الثابتون على دينهم في غزوة الأحزاب رغم ما مر بهم من ابتلاءات قد جعلهم الله تعالى لنا أسوة، وأمرنا بالاقتداء بهم في إيمانهم ويقينهم، وثباتهم على دينهم، وثقتهم بربهم، وتصديقهم بموعوده. فما أحوجنا -أيها الإخوة- إلى التأسي بهم، والثبات على الحق كما ثبتوا، إلى أن نلقى الله عز وجل غير مبدلين ولا مغيرين، ويتأكد ذلك في زمن اشتدت فيه المحنة على المسلمين، وزادت الضغوط والمضايقات والتسلط من الكافرين والمنافقين على المؤمنين، يريدون تبديل دينهم، وصرفهم عن شريعة ربهم، ولا ثبات على الحق إلا بتثبيت الله تعالى، فاسألوه سبحانه الثبات على الحق إلى الممات.
وصلوا وسلموا.....(/12)
العنوان: غزوة الأحزاب (2)
رقم المقالة: 1088
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
بين المؤمنين والمنافقين
الحمد لله؛ يثبت من شاء من عباده على الحق والإيمان؛ فلا تزعزعهم المحن والشدائد، ولا تميد بهم الفتن والابتلاءات، ويُضِّل من شاء من عباده فتتقاذفهم الفتن والأهواء، وتحرفهم الشبهات والشهوات {يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27] نحمده على هدايته، ونشكره على اجتبائه ورعايته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ نصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ حفظه الله تعالى من كيد الكافرين والمنافقين، وردهم على أعقابهم خاسرين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه؛ صدقوا في إيمانهم، وجاهدوا أعداءهم، وثبتوا على دينهم، حتى لقوا الله تعالى، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، ولا تطيعوا أهل الكفر والنفاق فإن الله تعالى نهى نبيه عليه الصلاة والسلام عن طاعتهم بعد أن أمره بالتقوى {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلَا تُطِعِ الكَافِرِينَ وَالمُنَافِقِينَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الأحزاب:1].(/1)
أيها الناس: لا يُعرف من كان صادقا في إيمانه من الكاذب، ولا المؤمن من المنافق إلا بالاختبار والابتلاء؛ ولذا كان من سنة الله تعالى في عباده أن يبتليهم بأنواع من الضراء والبأساء حتى يتميز صادقهم من كاذبهم، ومؤمنهم من منافقهم، وطيبهم من خبيثهم {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الكَاذِبِينَ} [العنكبوت:2-3].
وقد ابتلي خيار هذه الأمة: رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصحابته رضي الله عنهم وأرضاهم أعظم الابتلاء، فثبتوا على دينهم فنالوا الحسنيين: الظفر على أعدائهم، والأجر الكبير من ربهم عز وجل.
وكان من مواطن الابتلاء العظيمة التي مرَّ بها خيار هذه الأمة ما جرى عليهم في غزوة الأحزاب، حيث تحزبت أحزاب المشركين عليهم، ونقض اليهود عهودهم ومواثيقهم، وطعنوا المؤمنين في ظهورهم، وأظهر المنافقون نفاقهم، وبثوا أراجيفهم فكان موقفا عسيرا لا يثبت فيه إلا من ربط الله تعالى على قلبه بالإيمان واليقين، والإنابة إليه، والتوكل عليه، والتسليم لأمره، والتصديق بوعده، ويكفي في وصفه قول الله تبارك وتعالى {وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ القُلُوبُ الحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِالله الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ المُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدً} [الأحزاب10-11].
لقد كان موقفا عظيما بان فيه الصادق من الكاذب، وتميَّز المؤمن من المنافق:
أما المؤمنون فثبتوا مع النبي عليه الصلاة والسلام، وصبروا على عظيم البلاء، وقابلوه بالرضا والتسليم.(/2)
جاعوا أشد الجوع فما ضجروا، وتكالبت عليهم الأعداء فما انخذلوا ولا تراجعوا، وأرجف فيهم أهل النفاق فلم يطيعوهم، ولم يصغوا لأقاويلهم، ورأوا أن ما أصابهم من عظيم الابتلاء هو ما وُعدوا به في سورة البقرة {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ البَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ الله أَلَا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ} [البقرة:214]. ولذا لما رأوا ما رأوا في الأحزاب ما زادوا على أن قالوا {هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب:22].
إنه إيمان في أوج المحنة، ويقين حال الابتلاء والشدة، وتصديق بموعود الله تعالى في أحلك الظروف، وتوكل عليه في أصعب الساعات، فكانوا جديرين بتزكية الله تعالى لهم، حقيقين بثنائه عز وجل عليهم في قوله سبحانه {مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب:23].
إنهم ما بدلوا دينهم لردِّ عدوهم، ولا نكصوا على أعقابهم استبقاء لأرواحهم، ولم يتخلوا عن نبيهم للدفاع عن نسائهم وذراريهم، واليهود قد خفرتهم فيهم. بل قدموا رضا الله تعالى والثبات مع رسوله عليه الصلاة والسلام على كل محبوب من أنفسهم وأهلهم وأولادهم وأموالهم، فصدقوا في عهدهم، وما بدلوا تبديلا.(/3)