فيجب على كل حاج إذا أراد أن يخرج من مكة أن يودع البيت، كما أمر – صلى الله عليه وسلم - وأن ينصرف مباشرةً بعد الوداع ولا يبقى بمكة، فإن بقي فيها وعمل ما يدل على رغبته في البقاء، فإنه يُعيد؛ لأن النبي – صلى الله عليه وسلم - أمر أن يكون آخر عهدهم بالبيت الطواف، فإذا بقي بمكة فعليه أن يُعيد الطواف، وأما لو اشترى شيئًا في طريقه، أو انتظر رفقته فإنه لا يُعيد الطواف. والله أعلم.
مسألة: ما حُكْم مَنْ نوى مع طواف الإفاضة طوافَ الوداع؟
الجواب: طواف الوداع وقته بعد الانتهاء من مناسك الحج، فإذا انتهى الحاج من مناسك الحج، فإنه يطوف طواف الوداع، كما أمر النبي – صلى الله عليه وسلم - لكن لو أخَّر طواف الإفاضة، فإن طواف الوداع يدخل فيه ضمنًا؛ لأن النبي – صلى الله عليه وسلم - أمر أن يكون آخر العهد بالبيت، ومَنْ أخَّر طواف الإفاضة، فإن آخر عهده بالبيت هو الطواف؛ فيدخل فيه طواف الوداع، لكن يطوف بنية طواف الإفاضة، ويجزئه ذلك.
مسألة: هل صلاة ركعتين خلف المقام تصلى بعد طواف الوداع أو لا؟
الجواب: هاتان الركعتان سُنة مؤكدة لا ينبغي للإنسان أن يخل بها، وبعض العلماء يرى وجوبها، وتُفعل بعد كل طواف، سواء كان طواف وداع أو غيره.
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:(/103)
"ويستحب له إذا طاف أن يقف في المُلْتَزَم بين الركن والباب، فيلتزم البيت ويقول: "اللهم هذا بيتك، وأنا عبدك وابن عبدك وابن أَمَتك، حملتني على ما سخرت لي من خلقك، وسيرتني في بلادك حتى بلغتني بنعمتك إلى بيتك، وأعنتني على أداء نسكي، فإن كنت رضيت عني فازدد عني رضا، وإلا فمن الآن قبل أن تنأى عن بيتك داري، فهذا أوان انصرافي إن أذنت لي، غير مستبدِل بك ولا ببيتك، ولا راغب عنك ولا عن بيتك. اللهم أصحبني العافية في بدني، والصحة في جسمي، والعصمة في ديني، وأحسن منقلبي، وارزقني طاعتك ما أبقيتني، واجمع لي بين خيري الدنيا والآخرة، إنك على كل شيء قدير"، ويدعو بما أحب، ثم يصلي على النبي، صلى الله عليه وسلم".
أولا ً: مسألة الوقوف بالملتزم، هذه مسألة فيها خلاف بين العلماء، و نُقل عن ابن عباس وابن عمر وغيرهما آثارٌ في هذه المسألة: أنهم وقفوا في الملتزم - والملتزم بين الحجر والباب - وهذه الآثار الواردة في الوقوف بالملتزم لا تخلو من ضعف، وقد ذَكَرَ الوقوفَ بالملتزم بعضُ العلماء، منهم شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى - وابن قدامة وغيرهم، وقالوا: "يستحب للإنسان أن يقف بالملتزم". وإذا وقف يُرجى أن يكون لا شيء فيه؛ لأن هذه الآثار، وإن كانت ضعيفة، لكن ربما يُقال إنها تقوي بعضها بعضًا.
ثانيًا: هذا الدعاء الذي ذكره المؤلف - رحمه الله تعالى - لم أقف عليه إلا أنه قال في "المغني": "قال بعض أصحابنا يستحب أن يقول..." وذكره، والله تعالى أعلم.
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"فمَن خرج قبل الوداع رجع إليه إن كان قريبًا، وإن بَعُدَ بعث بدم، إلا الحائض والنفساء فلا وداع عليهما، ويستحب لهما الوقوف عند باب المسجد والدعاء".
يعني من خرج قبل أن يطوف طواف الوداع له حالتان:(/104)
الحالة الأولى: ألا يتباعد عن مكة؛ أي يكون قريبًا منها، وهو من كان بينه وبين مكة أقل من مسافة القصر، فالمذهب في هذا أنه يرجع قالوا: "لأن عمر أرجع رجلاً من مرِّ الظهران لم يطف طواف الوداع"، فإذًا هذا يرجع ويطوف، ولا شيء عليه.
الحالة الثانية: أن يتباعد عن مكة؛ يعني سار مسافة القصر، فهذا عليه دم، فيبعث دمًا إلى الحرم.
ويستثنى من هذا الحائض والنفساء فلا وداع عليهما؛ لحديث ابن عباس: "إلا أنه خُفِّف عن الحائض"، وكذلك النفساء في حُكْم الحائض، ويدل عليه أن عائشة - رضي الله عنها - قالت لرسول الله – صلى الله عليه وسلم -: "إن صفية قد حاضت"، قال: ((أحابستُنا هي؟))، قالوا: "إنها قد أفاضت"، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((فلتنفر إذًا))، فلم يأمرها بطواف الوداع.
وقول المؤلف - رحمه الله تعالى -: "ويستحب لهما الوقوف عند باب المسجد والدعاء" لم يثبت عن النبي – صلى الله عليه وسلم - أنه أمر الحائض والنفساء أن تقف عند الباب، فإذا لم يثبت عن النبي – صلى الله عليه وسلم - فإن الاستحباب حُكْمٌ يحتاج إلى دليل. والله أعلم.
باب أركان الحج والعمرة
الأركان في اللغة: جمع ركن، والركن هو جانب الشيء الأقوى.
أما في الاصطلاح: جزء الماهية، يعني جزء حقيقة الشيء.
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"أركان الحج: الوقوف بعرفة، وطواف الزيارة".
ذكر المؤلف - رحمه الله تعالى - هنا ركنين للحج فقط، وعن الإمام أحمد ثلاث روايات:
الرواية الأولى: أن أركان الحج اثنان: الوقوف بعرفة، وطواف الإفاضة، وهذه الرواية هي التي اختارها المؤلف، رحمه الله تعالى.
الرواية الثانية: أن أركان الحج ثلاثة: الإحرام، والوقوف بعرفة، وطواف الإفاضة.
الرواية الثالثة: أن أركان الحج أربعة وهي: الإحرام، والوقوف بعرفة، وطواف الإفاضة، والسعي.
والذي يظهر - والله أعلم - أن أركان الحج أربعة، وهي:
الركن الأول: الوقوف بعرفة:(/105)
وهو ركن من أركان الحج بإجماع العلماء، لا يصح الحج بدونه، والدليل على ركنيته:
1- ما ثبت في مسند أحمد - رحمه الله تعالى - وعند أصحاب السنن، وفي سنن البيهقي والدارقطني، ومستدرك الحاكم من حديث عبدالرحمن بن يعمر قال: "شهدت رسول – صلى الله عليه وسلم - وهو واقفٌ بعرفة، وجاءه أُناس من أهل نجد، فقالوا: "يارسول الله:
كيف الحج؟"، قال الرسول – صلى الله عليه وسلم -: ((الحج عرفة، فمن أدرك عرفة قبل صلاة الفجر من ليلة جَمْعٍ فقد تم حجه))، ووجه الدَّلالة أن النبي – صلى الله عليه وسلم -
قال: ((الحج عرفة))؛ يعني هذا هو الركن الأعظم والمهم في الحج.
2- فِعْل النبي – صلى الله عليه وسلم - وفعل الصحابة من بعده.
وقد تقدم معنا شروط الوقوف بعرفة في باب صفة الحج.
الركن الثاني: طواف الإفاضة:
وهو ركنٌ بإجماع العلماء، لا يصح الحج بدونه، والدليل عليه:
1- قوله – تعالى -: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29]، فإن المراد بذلك طواف الإفاضة.
2- قول الرسول – صلى الله عليه وسلم - في صفية: ((أحابستنا هي؟))، قالوا: "إنها قد أفاضت يارسول الله"، قال: ((فلتنفر إذًا))؛ فدلَّ هذا على أن مَن لم يأتِ بطواف الإفاضة
لا يخرج حتى يأتي به، يعني يحبس مَن معه من الرفقة حتى يأتي بطواف الإفاضة.
وقد تقدم معنا شروط صحة الطواف، ذكرناها في باب دخول مكة، ولكن مما يخص طواف الإفاضة (أو طواف الزيارة) من الشروط:
1- أنه لا بد أن يكون في الوقت، والوقت عند الحنابلة والشافعية يبدأ من منتصف ليلة النحر، وهذا عندهم مطرد في الدفع من مزدلفة، وفي رمي جمرة العقبة، وفي طواف الإفاضة، فكل هذه الأشياء عندهم تجوز بعد منتصف الليل.
وعند الحنفية والمالكية أنه لا يصح إلا بعد الفجر من يوم النحر.
والذي يظهر - والله أعلم - أنه لا يصح إلا بعد الفجر من يوم النحر؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما طاف بعدما نحر.(/106)
2- أن يكون بعد الوقوف بعرفة والمبيت بمزدلفة، فلو أن إنسانًا جاء في الليل ثم طاف بنية طواف الإفاضة، ثم ذهب إلى عرفة، ثم إلى مزدلفة؛ لكان هذا الطواف غير صحيح، فيما يظهر
والله أعلم.
الركن الثالث: السعي:
والسعي اختُلف فيه: هل هو ركن أو واجب أو سنة؟ والمؤلف - رحمه الله تعالى - ذكر السعي في الواجبات.
وأصح الأقوال فيه - والله أعلم - أنه ركنٌ من أركان الحج، وذلك:
1- لأن الله - عز وجل - قال: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158]، والشعائر أمرها عظيم، لا يجوز التساهل بها ولا تركها.
2- لما ثبت في الصحيح عن هشام بن عروة عن أبيه، أنه قال لعائشة - رضي الله عنها -: "إني لأظن أن رجلاً لولم يطف بين الصفا والمروة ما ضره ذلك"، قالت: "لِمَ قلتَ هذا؟!"، قال: "لأن الله يقول: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158] - فقوله:{فلا جناح عليه}؛ أي رفع الله عنه الجناح، وذلك لا يدل على الوجوب - فقالت: "ما أتمَّ اللهُ حجَّ امرئٍ ولا عمرته لم يطف بين الصفا والمروة!"، فإذا كان لا يتم حجه، فمعنى هذا أن حجه غير صحيح.
3- لما ثبت عن النبي – صلى الله عليه وسلم - في حديث أم حبيبة بنت أبي تِجْراه أنها قالت: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي))؛ أخرجه الحاكم، والطبراني، وابن سعد في "الطبقات".
4- فِعل النبي – صلى الله عليه وسلم - وفعله يدل على الإلزام من جهتين:
الجهة الأولى: أنه امتثال للأمر، وإذا جاء فعله امتثالاً لأمر، أو بيانًا لمُجْمَل؛ فإنه يأخذ حُكْمه.
الجهة الثانية: أنه – صلى الله عليه وسلم - قال: ((لتأخذوا عني مناسككم)).
وقد تقدم معنا في صفة الحج شروط السعي في باب صفة الحج.
الركن الرابع: الإحرام:(/107)
وهو: نية الدخول في النسك؛ يعني ليست مجرد النية أنه سيحج هذا العام، فهذه لا تسمى إحرامًا، وليس الإحرام هو لبس الإحرام كما تقدم - بل هو نية الدخول في النسك.
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"وواجباته: الإحرام من الميقات، والوقوف بعرفة إلى الليل، والمبيت بمزدلفة إلى نصف الليل، والسعي، والمبيت بمنى والرمي، والحلق، وطواف الوداع".
واجبات الحج هي:
الواجب الأول: الإحرام من الميقات:
وقد تقدم معنا في باب المواقيت حديث ابن عباس قال: "وقَّت رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ..."، فإذا كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم - وقَّت ذلك؛ فلا يجوز لأحدٍ أن يتجاوز ما وقَّته الرسول – صلى الله عليه وسلم - وكذلك تقدم معنا في حديث ابن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: "فرض رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ...".
الواجب الثاني: الوقوف بعرفة إلى الليل:
عرفنا أن الوقوف بعرفة ركن؛ لكن الركن أن يوجد بعرفة، ولو لحظة في وقت الوقوف، أما الوقوف إلى الليل فهذا هو واجب، فمَن خرج من عرفة قبل الغروب له ثلاث حالات:
الحالة الأولى: ألا يرجع إليها، فهذا يلزمه دمٌ عند جمهور العلماء.
الحالة الثانية: أن يرجع إليها قبل الغروب، فهذا في مذهب الحنابلة لا شيء عليه.
الحالة الثالثة: أن يرجع إليها بعد أن تغرب الشمس، فهذا في ظاهر المذهب أنه لا شيء عليه، وقال بعضهم: عليه دم؛ لأن المطلوب منه أن يقف حال الغروب، كما ثبت في حديث جابر أن الرسول – صلى الله عليه وسلم -: "لم يزل واقفًا حتى غربت الشمس، وذهبت الصفرة قليلاً، حتى غاب القرص"، وقال – صلى الله عليه وسلم -: ((لتأخذوا عني مناسككم)).
والظاهر والله أعلم: أن الدم مستقر عليه بمجرد خروجه من عرفه، كما قلنا في ما لو تجاوز الميقات ثم أحرم، ورجع إلى الميقات أن الدم لا يسقط عنه.
الواجب الثالث: المبيت بمزدلفة:
اختلف العلماء في المبيت بمزدلفة: هل هو ركن أو واجب أو مستحب؟(/108)
والصحيح من هذه الأقوال الثلاثة: أنه واجب، وليس بركن، والدليل على عدم الركنية أن الرسول – صلى الله عليه وسلم - قال في حديث عبدالرحمن بن يعمر السابق: ((من جاء عرفة قبل صلاة الفجر فقد تم حجه))، قال العلماء: يلزم من هذا أنه إذا وقف في آخر جزء من الليل بعرفة أن حجه صحيح، وإذا وقف في آخر لحظة من الليل بعرفة فمعنى هذا أنه فاته المبيت بمزدلفة، ولو كان المبيت بمزدلفة ركنًا لم يصح حجه، فدلَّ هذا على أن الوقوف بمزدلفة ليس ركنًا؛ لكنه واجب لفعل الرسول – صلى الله عليه وسلم - وقال: ((لتأخذوا عني مناسككم))، ولأن الرسول – صلى الله عليه وسلم - رخَّص للضعفة أن يخرجوا من مزدلفة قبل الفجر، والرخصة لا تكون إلا في مقابل عزيمة، أو في مقابل واجب، وأن النبي – صلى الله عليه وسلم - لم يأذن لغيرهم.
مسألة: متى يخرج من مزدلفة؟
الجواب: بَيْنَ العلماءِ خلافٌ في القدر الذي يجب أن يمكثه الإنسان في مزدلفة، فالمؤلف - رحمه الله تعالى - يقول: "يبقى بمزدلفة إلى نصف الليل"؛ أي إذا انتصف الليل جاز له أن يخرج من مزدلفة، وهذا مذهب الشافعية والحنابلة - كما تقدم - أنهم حددوا الخروج من مزدلفة بمنتصف الليل، وبناءً عليه أجازوا رمي جمرة العقبة بعد منتصف الليل، وأجازوا طواف الإفاضة بعد منتصف الليل.
وبعض العلماء يرى: أنه لا يجوز الخروج من مزدلفة إلا بعد طلوع الفجر.
ومنهم من يقول: يكفي الوقوف بها ولو لحظة واحدة، وهو قول المالكية.
والصحيح والله أعلم: أنه لا يجوز الخروج من مزدلفة إلا بعد طلوع الفجر؛ وذلك:
1- لفعل النبي، صلى الله عليه وسلم.(/109)
2- أنه لم يأذن لأحدٍ أن ينصرف منها إلا للضعفة، كما ثبت في الصحيحين عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كانت سودة امرأةً ضخمةً ثَبِطَةً، فاستأذنت الرسول – صلى الله عليه وسلم - ليلة جَمْعٍ أن تفيض بليلٍ، فأذن لها النبي – صلى الله عليه وسلم –"، ولما ثبت في الصحيحين عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: "أنا ممَّن قدَّم رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم - في ضعفة أهله".
مسألة: متى ينصرف الضعفة؟
الجواب: الظاهر - والله تعالى أعلم - أنه يجوز لهم الانصراف بعد مغيب القمر؛ لما في الصحيحين عن عبدالله مولى أسماء - رضي الله عنها -: "أن أسماء نزلت ليلة جَمْع عند المزدلفة، فصلَّتْ ساعة، ثم قالت: "يابني هل غاب القمر؟" قال: قلت: لا ، فصلَّت ساعة، ثم قالت: "يابني هل غاب القمر؟" قال: قلت: نعم، قالت: "فارتحلوا"، فارتحلنا، فمضتْ حتى رمتْ جمرة العقبة، ثم رجعت فصلَّت الصبح في بيتها، فقلت: يا هَنْتَاهْ: ما أُرانا إلا قد غلَّسنا، قالت: "إن رسول الله – صلى الله عليه وسلم - أَذِنَ للظُّعُن".
فهذا يدل على أن الضعفة يخرجون من مزدلفة إذا غاب القمر، والله تعالى أعلم.
الواجب الرابع: المبيت بمنى:
تقدم في صفة الحج أن المبيت بمنى المراد به: المكث بمنى أكثر الليل، وذهب إلى وجوبه جمهور العلماء، والدليل على ذلك:
1- فعل النبي، صلى الله عليه وسلم.
2- ترخيص النبي – صلى الله عليه وسلم - للعباس أن يبيت ليالي منى بمكة من أجل السقاية.
3- قول عمر - رضي الله عنه -: "لا يبيتن أحد من الحاج وراء جمرة العقبة"؛ أي
لا بد أن يبيتوا بمنى.
مسألة: إذا قلنا إنه واجب، فمن تركه فعليه دم، لكن هل يجب الدم بترك مبيت ثلاث ليالٍ؟ أو بترك مبيت ليلة واحدة؛ لأنه مَن تعجل فله ليلتان، ومَن لم يتعجل فله ثلاث ليالٍ؟.(/110)
الجواب: ظاهر مذهب الحنابلة أن مَن لم يَبِتْ ليلة واحدة، فإنه يتصدق أو لا شيء عليه، وأما مَن فاته المبيت ثلاث ليالٍ، فعليه دم، وبين العلماء اختلاف كبير في هذه المسألة فيما يجب فيه الدم.
الواجب الخامس: الرمي:
لفعل النبي – صلى الله عليه وسلم - فمَن فاته الرمي، فحُكْم الرمي حكم المبيت. فإذا فات الإنسان الرمي كاملاً، فعليه دم؛ لأنهم اعتبروا النسك هو المبيت كاملاً، أو الرمي كاملاً، ولم يعتبروا بعضه، ولم يوجبوا فيه دمًا، والله أعلم.
الواجب السادس: الحلق:
كان ينبغي أن يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -: "الحلق أو التقصير"، والحلق أفضل؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: ((اللهم ارحم المُحَلِّقِين))، قالوا: "والمقصِّرين!"، قال: ((اللهم ارحم المحلقين))،.... ثم قال بعد ذلك: ((اللهم ارحم المحلقين والمقصرين))، فدعا للمحلقين ثلاث مرات، ودعا للمقصرين مرة واحدة.
والتقصير هو أن يأخذ الإنسان من جميع رأسه؛ لأنه بدل عن الحلق، والبدل يأخذ حكم المبدل منه، ولا يجزئ أن يقصر الإنسان ثلاث شعرات، كما هو قول الشافعية.
الواجب السابع: طواف الوداع:
تقدم أنه واجب من واجبات الحج في صفة الحج.
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"وأركان العمرة: الطواف، وواجباتها: الإحرام، والسعي، والحلق".
المؤلف - رحمه الله تعالى - لم يذكر إلا ركنًا واحدًا للعمرة، وذكر ابن قدامة في "المقنع" أن الإحرام والسعي فيه روايتان: رواية أنهما ركن، ورواية أنهما واجب.
والصحيح أن العمرة أركانها ثلاثة:
1- الإحرام، الذي هو نية الدخول في النسك.
2- الطواف.
3- السعي.
ولها واجبان:
1- الإحرام من الميقات.
2- الحلق أو التقصير.
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"فمَن تَرَكَ ركنًا لم يتم نسكه إلا به".
مَن ترك ركنًا فحجه باطل؛ إلا إذا أمكنه أن يتدارك ذلك الركن ويأتي به.
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"ومن ترك واجبًا جبره بدم".(/111)
وهذه قاعدة عند العلماء، وأصلها ما ثبت في الموطأ عن ابن عباس - رضي الله عنه -:
"أن من نسي نسكه أو تركه فليهرق دمًا"، فهذا أصل هذا القول.
والظاهر - والله أعلم - أن قول ابن عباس - رضي الله عنه - لا يخلو من حالين:
الحالة الأولى: إما أن يكون مما لا مجال للرأي فيه؛ فيكون حُكْمه الرفع، فهنا يجب الأخذ به.
الحالة الثانية: أن يقال إنه اجتهاد صحابي وفتوى صحابي، فمَن يأخذ بقول الصحابي
يأخذ به.
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"ومَن ترك سُنة فلا شيء عليه".
من ترك سنة فلا شيء عليه، لكن لا ينبغي للإنسان أن يتساهل في السنن، فإن هذه التي يراها سنة في مذهب من المذاهب، قد تكون واجبًا؛ بل قد تكون ركنًا في مذهب آخر، وربما يكون الصواب مع مَن رأى أنها ركن أو واجب؛ فلا ينبغي للإنسان أن يتساهل في السنن، كما أن في السنن فائدة عظيمة، وهي رفع الدرجات، وتحصيل الثواب والمغفرة من الله عز وجل.
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"ومن لم يقف بعرفة حتى طلع الفجر يوم النحر؛ فقد فاته الحج، فيتحلل بطواف وسعي، وينحر هديه إن كان معه هدي، وعليه القضاء".
تقدم حكم الفوات وتكلمنا عنه في باب الفدية، وذكرنا أن دليل هذا هو ما قضى به عمر في حق هَبَّار بن الأسود، وفي حق أبي أيوب الأنصاري.
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"وإن أخطأ الناس العدد، فوقفوا في غير يوم عرفة أجزأهم ذلك، وإن فعل ذلك نفر منهم فقد فاتهم الحجُّ".(/112)
إن وقف جميع الحجاج يوم عرفة خطأ؛ كأن يقفوا بها يوم الثامن؛ أو يقفوا بها يوم العاشر، فإن هذا الوقوف يجزئهم، لكن لو وقف بعض الحجاج خطأ؛ فحجهم ليس بصحيح، والأصل أنهم إذا أجمعوا على أمرٍ أن إجماعهم صحيح، فجماعة المسلمين لو أخطؤوا جميعًا فلا شيء عليهم؛ لأنهم لو أُمروا بذلك لحصلت مشقة، ثم النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((الأضحى يوم تضحون))، فدل ذلك على اعتبار هذا الأمر، لكن لو وقف البعض دل على خطئهم وتفريطهم؛ فلم يصح حجهم.
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"ويُستحب لمَن حجَّ زيارةُ قبر النبي – صلى الله عليه وسلم - وقبري صاحبيه، رضي الله عنهما".
كان الواجب أن يقول - رحمه الله تعالى -: "يستحب زيارة مسجد النبي – صلى الله عليه وسلم -" بدلاً من أن يقول: "يستحب زيارة قبر النبي – صلى الله عليه وسلم –"؛ فزيارة القبر في حد ذاتها مشروعة؛ لكن شدَّ الرحال إلى القبور لا يجوز؛ لقول الرسول – صلى الله عليه وسلم -: ((لا تُشدُّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد))، وهذه المسألة تكلم عنها شيخ الإسلام، وفهم منه خصومه فَهْمًا خاطئًا، فقالوا: "شيخ الإسلام يمنع زيارة قبر النبي – صلى الله عليه وسلم –"، وهو لم يمنع زيارة قبر النبي – صلى الله عليه وسلم - ولكن مَنَعَ شدَّ الرحال إلى قبر النبي – صلى الله عليه وسلم - أما أصلُ الزيارة فيُزار قبر النبي – صلى الله عليه وسلم - كما تزار بقية القبور؛ لكن شد الرحال والسفر من أجل زيارة القبر، فهذا لا يجوز.
باب الهدي والأضحية
الهدي هو ما يُهدى إلى الحرمِ من النَّعَمِ وغيرها.
وأما الأضحية فهي بضم الهمزة (أُضْحِيَّة)، وكسرها (إِضْحِيَّة)، وتقال أيضًا: ضَحِيَّة بوزن سرية، وأَضْحَاه بوزن أرطاه، وهي ما يُذبح يوم النحر وفي أيام التشريق.
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"والهدي والأضحية سُنة لا تجب إلا بالنذر".(/113)
أما الهدي فإنه سنة لا يجب إلا بالنذر، ومنه أيضًا قسم واجب، وهو هدي التمتع والقِران، وأما الأضحية فاتفق العلماء على مشروعيتها، ومشروعيتها ثابتة في الكتاب والسنة والإجماع:
أما الكتاب، فقوله – تعالى -: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2]، وقالوا: إنه ذبح الأضحية بعد الصلاة.
وأما السنة، فما ثبت عن النبي – صلى الله عليه وسلم - مِن فعل الأضحية.
وأما الإجماع، فقد أجمع العلماء على مشروعيتها، واختلفوا في حكمها، هل هي سنة مؤكدة أو واجبة؟ اختلفوا في ذلك على قولين:
القول الأول: أن الأضحية سنة مؤكدة، فلو تركها الإنسان فلا شيء عليه، ذهب إلى هذا جمهور العلماء من المالكية والشافعية، والحنابلة في المشهور عندهم، واستدلوا على ذلك
بما يلي:
1- ما في صحيح مسلم من حديث أم سلمة - رضي الله عنها - أن رسول – صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا دخلت العشر وأراد أحدكم أن يضحي؛ فلا يَمَسَّ من شعره وبشره شيئًا)). قالوا: علَّق الحكم على إرادة الأضحية، فدل على أنها ليست واجبة؛ لأنها لو كانت واجبة لما وكلت إلى إرادة المكلف.
والجواب عن هذا: أن هذا لا يدل على عدم الوجوب، كما يقال: إذا أردت أن تصلي فتوضأ، فلا يدل على أن الوضوء ليس شرطًا في الصلاة، أو ليس واجبًا فيها.
2- ما ورد عند أحمد وأبي داود والترمذي من حديث جابر: قال: "شهدت مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم - صلاة عيد الأضحى، فأتي بكبش فذبحه، وقال: ((بسم الله والله أكبر، اللهم هذا عني وعن مَن لم يضحِّ من أمتي))، قالوا: فمن لم يضحِّ، فقد ضحى عنه رسول – صلى الله عليه وسلم - فليست واجبة في حقه.
القول الثاني: أنها واجبة على الموسر، ذهب إلى هذا الحنفية، والحنابلة في رواية، وهي اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - واستدلوا على ذلك بما يلي:(/114)
1- ما ورد في الصحيحين من حديث جندب أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَن ذبح قبل الصلاة فليُعِدْ مكانها أخرى، ومَن لم يذبح فليذبح))، قالوا أمر النبي – صلى الله عليه وسلم - مَن ذبح قبل الصلاة أن يعيد، ولو لم تكن واجبة لما أمره النبي – صلى الله عليه وسلم - بالإعادة.
2- ما في مسند أحمد وسنن ابن ماجه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَن وجد سَعَةً ولم يضحِّ فلا يقربن مُصلاَّنا))؛ وهو حديث حسن، وصححه الحاكم، فقالوا: دل ذلك على وجوبها.
فمن خلال هذه الأدلة، يظهر أن القول الصحيح أنها واجبة على الموسر المستطيع القادر، أما غير المستطيع فإنها ليست بواجبة في حقه.
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"والتضحية أفضل من الصدقة بثمنها".
يعني ذبح الأضحية أفضل من أن يتصدق الإنسان بثمنها، حتى ولو كان الثمن أكثر؛ وذلك
لأمور:
1- أنها شعيرةٌ مقصودةٌ لذاتها، لقوله - تبارك وتعالى -: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2]، فأَمَرَه بالنحر بعد الصلاة ولم يأمره بالصدقة عنها. ولما روي عن النبي – صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((ما عمل ابن آدم يوم النحر عملاً أحب إلى الله من إراقة الدم، وإنها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأظلافها وأشعارها، وإن الدم ليقع من الله بمكانٍ قبل أن يقع على الأرض، فطيبوا بها نفسًا))، فهي شعيرة ظاهرة من شعائر الإسلام، لا ينبغي أن تخفى وأن يوزع بدلاً منها المال.
2- أن الرسول – صلى الله عليه وسلم - ضحى وداوم على ذلك، ولا يفعل – صلى الله عليه وسلم - إلا الأفضل والأكمل، وكذلك من بعده من الصحابة، رضوان الله تعالى عليهم.
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"والأفضل فيهما الإبل ثم البقر ثم الغنم".(/115)
استُدل لهذا القول بما ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة أن رسول – صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَن اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة، ثم راح في الساعة الأولى فكأنما قرَّب بدنة، ومَن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشًا، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر))، قالوا: ذكر أفضل ما يُهدى وهي الإبل ثم البقر ثم الغنم، فجعلهم مراتب: أعظمهم مرتبة مَن قرَّب بدنة، ثم من قرب بقرة، ثم من قرب شاة.
فقالوا: هذا يدل على الأفضل.
لكن حقيقةً هذا الحديث عارضه فِعلُ النبي – صلى الله عليه وسلم - فإن المعروف عن النبي – صلى الله عليه وسلم - أنه لم يَرِدْ عنه في حديث صحيح أنه ضحى بالإبل ولا بالبقر، فمداومة النبي – صلى الله عليه وسلم - على التضحية بالغنم يدل على أفضليتها في الأضحية، أما في الهدي فالأفضل الإبل، وهذا التفصيل عند المالكية، وهو قوي من حيث المأخذ أن الإبل هو الأفضل في الهدي، والغنم أفضل في الأضحية؛ لمداومة النبي – صلى الله عليه وسلم - ولا يفعل – صلى الله عليه وسلم - إلا الأفضل والأكمل.
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"ويستحب استحسانها واستسمانها".(/116)
وذلك لقوله - تبارك وتعالى -: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32]،قال ابن عباس - رضي الله عنه -: "تعظيمها: استسمانها واستعظامها واستحسانها"، فتعظيم الأضحة - التي هي شعيرة من شعائر الله - يكون باستسمانها واستحسانها، واختيار الأحسن منها والأفضل من حيث السمن، ومن حيث الصورة، فإن أفضل الأضاحي ما كان على صفة أُضحية النبي – صلى الله عليه وسلم - كما ثبت في حديث عائشة - رضي الله عنها - في صحيح مسلم: "أن النبي – صلى الله عليه وسلم - أمر بكبشٍ أقرن، يطأ في سواد، ويَبْرُك في سواد، وينظر في سواد"، فهذه هي أُضحية النبي – صلى الله عليه وسلم - وثبت في حديث أنس في الصحيح أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: "ضحَّى بكبشين أملحين أقرنين". قال بعض العلماء: الأملح هو الأبيض الخالص، وقال بعضهم: هو الأبيض المشوب بالسواد.
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"ولا يجزئ إلا الجَذَعُ من الضأن، والثَّنِيُّ مما سواه".
يدل على هذا ما ثبت في صحيح مسلم من حديث جابر - رضي الله عنه -: أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا تذبحوا إلا مُسِنَّة؛ إلا أن يَعسُرَ عليكم، فتذبحوا جَذَعَةً من الضأن))، والمسنة: هي الثنية من الإبل والبقر والغنم.
لكن ظاهر هذا الحديث أنه لا يذبح الجذعة من الضأن؛ إلا إذا تعسرت المسنة، لكن ثبت في أحاديث أخرى؛ كحديث مجاشع بن سُليم عند أبي داود وغيره، أن رسول – صلى الله عليه وسلم - قال: ((يوفي الجذع من الضأن ما توفي به الثنية))، فهذا الحديث يدل على أنه يجزئ مطلقًا؛ مع وجود الثنية، ومع عدمها.
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
وثني المعز ما له سنة، وثني الإبل ما كمل له خمس سنين، ومن البقر ماله سنتان.(/117)
الجذع من الضأن ما له ستةُ أشهر، والثنية من البقر مالها سنتان ودخلت في الثالثة، ومن الإبل ما لها خمس سنين ودخلت في السادسة، ومن الغنم ما لها سنة ودخلت في الثانية.
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"وتجزئ الشاة عن واحد، والبدنة والبقرة عن سبعة".
هذا هو الاشتراك في الأضحية وهو على قسمين:
القسم الأول: اشتراك مِلْك.
القسم الثاني: اشتراك ثواب.
أما اشتراك الملك، فلا تجزئ الشاة إلا عن واحد، وأما الإبل والبقر فتجزئ عن سبعة؛ لحديث جابر - رضي الله عنه -: "أنهم كانوا ينحرون الإبل عن سبعة، والبقر عن سبعة".
وأما تشريك الثواب - وهو أن يُشرك أحدًا معه في ثواب أضحيته - فهذا لا حدَّ له لا في الإبل، ولا في الغنم، ولا في البقر؛ لأن الرسول – صلى الله عليه وسلم - ذبح كبشًا فقال: ((اللهم هذا عني وعن مَن لم يضحِّ من أمتي))، وقال: ((اللهم هذا عن محمد وآل محمد، وعن أمة محمد))، وهو كبش عن هؤلاء جميعًا، فهذا تشريك في الثواب.
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"(1) ولا تجزئ العوراء البيِّن عَوَرُها، (2) ولا العجفاء التي لا تنقي، (3) ولا العرجاء البيِّن ظَلْعُها، (4) ولا المريضة البيِّن مرضُها، (5) ولا العضباء التي ذهب أكثر قرنها أو أذنها".
ذكر المؤلف - رحمه الله تعالى - خمسة عيوب لا تجزئ معها الأضحية، أما الأربعة الأولى التي ذكرها، فهي واردة في حديث البَرَاء بن عازب - رضي الله عنه - قال: ((أربعٌ
لا تجوز في الأضاحي - وفي رواية لا تجزئ في الأضاحي - العوراء البين عورها، والمريضة البين مرضها، والعرجاء البين ضَلْعُها، والعجفاء التي لا تنقي))، وقد نقل المؤلف - رحمه الله تعالى - في "المغني" أنه لا تجزئ باتفاق العلماء.
ويلحق بهذه الأربعة ما كان أشد منها في الصفات أو العيوب، وأما إذا كان أقل من ذلك فإنه مجزئ عن طريق المفهوم.
فعندنا الآن: نص، ومفهوم موافقة، ومفهوم مخالفة، في حديث البراء بن عازب:(/118)
((العوراء البين عورها)): وهي التي انخسفت عينها (هذا نص)، أما العوراء التي لا تبصر بعينها؛ لكنه ليس بيِّنًا ذلك، فهذه تجزئ، أما العمياء: فهذا مفهوم موافقة؛ يعني أنه مثل المنطوق وزيادة، وأما إذا كان أقل من ذلك؛ كالشاة التي على عينها شيء؛ لكنه ليس بيِّنًا فهذه عن طريق المفهوم، نفهم منه أنه تجزئ؛ لأنه قال: ((البين عورها))، فإذا انتفى هذا البيان والظهور، انتفى الحكم.
((المريضة البين مرضها)): وهي التي ظهرت عليها آثار المرض، وأثَّر ذلك في جسمها؛ فهذه
لا تجزئ في الأضحية.
((والعرجاء البين ضلعها)): وضابط ذلك قالوا: إنها لا تستطيع المشي مع الصحيحة؛ بل تسبقها الصحاح إلى المرعى، فهنا نص على العرجاء؛ فمقطوعة الساق من باب أولى؛ لكن التي فيها ضلع بسيط ليس بيِّنًا؛ فهذه لا تمنع الإجزاء.
((والعجفاء التي لا تنقي)): يعني الهزيلة التي لا مخ فيها؛ فهذه لا تجزيء في الأضحية.
"ولا العضباء التي ذهب أكثر قرنها أو أذنها": هذه في المذهب أنه لا تجزئ، واستدلوا على ذلك بحديث علي - رضي الله عنه - قال: "نهى رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم - عن العَضَبِ في القَرْن والأذن)) قال قتادة: "سألتُ سعيد بن المسيب عن ذلك، فقال: العَضَبُ نصف القرن فأكثر"؛ يعني العضب ما ذهب نصف القرن أو أكثر، وكذلك الأذن، فهذه لا تجزئ، وكذلك في حديث علي - رضي الله عنه - قال: "أمرنا رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم - أن نستشرف العين والأذن؛ فلأنضحي بمُقَابَلَة، ولا مُدَابَرَة، ولا شَرْقَاء، ولا خَرْقَاء".
والمقابلة: هي التي شُقَّتْ أذنُها من الأمام عرضًا، والمدابرة: هي التي شُقَّت أُذنُها من الخلف عرضًا، أما الشرقاء: فهي التي شُقت أذنها طولاً، والخرقاء: وهي التي خُرقت أذنها.
لكن في هذا الحديث ليس فيه النهي على أنها لا تجزئ في الأضحية؛ بل أمرهم أن يستشرفوا؛
أي هذا من باب الأفضل، ويكره التضحية بهذه.
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:(/119)
"وتجزئ الجَمَّاء والبَتْرَاء والخصي، وما شقت أذنها أو خرقت، أو قطع أقل من نصفها".
الجماء: هي التي ليس لها قرن؛ أي التي لم يُخلق لها قرون، فهذه تجزئ؛ لأن هذا من أصل الخلقة، ولا يؤثر في لحمها.
البتراء: هي التي لا ذنب لها إما خلقة، أو كان ذلك مقطوعًا، قال بعض العلماء: القطع في ألية الضأن يعتبر عيبًا مانعًا من الإجزاء.
الخصي: وهو ما قُطعت خصيتاه، فهذا مجزئ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ضحى بكبشين موجوءين، وهما في معنى واحد، ولأنه ذهاب عضو غير مستطاب، فلا يضر ذلك في الإجزاء.
وما شُقت أذنها أو خرقت: فهذه مجزئة؛ لأن التحرز من هذه العيوب فيه عسر ومشقة.
أو قُطع أقل من نصفها: هذا احتراز من العضب الذي ذكره سابقًا؛ لأن العضب هو ذهاب أكثر من النصف، فما كان أقل فهو مجزئ.
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"والسُّنة نحر الإبل قائمة معقولة يدها اليسرى، وذبح البقر والغنم على صفاحها، ويقول عند ذلك: (بسم الله والله أكبر، اللهم هذا منك ولك)".
السنة في نحر الإبل قائمة معقولة يدها اليسرى: قال ابن عباس في قوله – تعالى -: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} [الحج: 36]: "قائمة على ثلاث قوائم، معقولة يدها اليسرى"، وثبت في الصحيح أن ابن عمر - رضي الله عنه - رأى رجلاً ينحر بدنة له فقال له ابن عمر - رضي الله عنه -: "ابعثها قائمةً مقيدة؛ سُنة أبي القاسم – صلى الله عليه وسلم –".
وأما الغنم فعلى صفاحها: أي على جنوبها، ومستقبلاً بها القبلة.
التسمية على الذبيحة واجبة لا بد منها، والنبي – صلى الله عليه وسلم - كما في حديث أنس - رضي الله عنه -: "أنه أتى بكبشين أملحين أقرنين، فذبحهما بيده، وسمَّى وكبَّر"، وأما التكبير فمستحب.
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"ولا يُستحب أن يذبحها إلا مسلمٌ، وإن ذبحها صاحبها فهو أفضل".(/120)
التوكيل في الجملة جائز؛ لأن النبي – صلى الله عليه وسلم – "نحر ثلاثًا وستين بدنة، ووكَّل عليًّا في ما بقي"، وإن كان الإنسان الأفضل أن يذبحها بنفسه؛ لأنه ربما يبحث عن مساكين يعرفهم، وأهل البلد أولى بذلك.
مسألة: هل يجوز للمسلم أن يوكل على أضحيته كِتَابِيًّا؟ ظاهر كلام المؤلف - رحمه الله تعالى - أنه يجوز؛ لكن الأفضل ألا يذبحها إلا مسلم.
وبعض العلماء منع من ذلك وقال: إن هذه قُرْبَى، والكتابي ليس من أهلها.
والظاهر الجواز؛ لأن ذبيحتهم حلال وجائزة؛ فيجوز أن يوكّل كتابيًّا؛ لكن الأفضل أن يوكّل مسلمًا، والأفضل من ذلك أن يذبحها بنفسه؛ لأن النبي – صلى الله عليه وسلم – "أتى بكبشين أملحين أقرنين، فذبحهما بيده، وسمَّى وكبَّر".
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"ووقت الذبح يوم العيد بعد صلاة العيد إلى آخر يومين من أيام التشريق".
والوقت يتعلق به في بدايته ونهايته، أما بداية الذبح لأهل الأمصار، تكون بعد صلاة الإمام:
1- لما تقدم من قول النبي – صلى الله عليه وسلم - في الصحيح: ((مَن ذبح قبل الصلاة فليُعِدْ مكانها أُخرى، ومَن لم يذبح فليذبح)).
2- قوله – صلى الله عليه وسلم -: ((مَن صلى صلاتنا، ونسك نُسكنا؛ فقد أصاب النسك، ومَن ذبح قبل ذلك؛ فشاتُه شاةُ لحم)).
أما غير أهل الأمصار؛ كأهل القرى الذين لا تُصلَّى فيهم صلاةُ العيد، فيبدأ الذبح عندهم بمقدار وقت الصلاة؛ يعني المقدار الذي تمضي فيه وقت الصلاة، ثم يحل لهم الذبح بعد ذلك.
أما آخر وقت، فالمؤلف يقول: "يوم النحر وبعده يومان"، يعني ينتهي الذبح ثاني أيام التشريق، قالوا: لأن الرمي في اليوم الثالث ليس واجبًا؛ فلا يجوز فيه الذبح.
والصحيح أن الذبح يمتد إلى آخر أيام التشريق؛ لأن النبي – صلى الله عليه وسلم - قال:(/121)
((أيام التشريق أيام أكل وشرب، وذكر لله – تعالى -))، وكذلك ورد عن ابن عباس في تفسير قوله – تعالى -: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [الحج: 28]، قال: "هذه الأيام المعلومات: هي يوم النحر، وثلاثة أيام بعده".
إذًا شروط الأضحية أربعة شروط:
الشرط الأول: أن تكون من بهيمة الأنعام.
الشرط الثاني: أن تبلغ السن المعتبرة شرعًا.
الشرط الثالث: أن تكون سالمةً من العيوب.
الشرط الرابع: أن تُذبح في الوقت المحدد لذبحها.
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"وتتعين الأضحية بقوله: هذه أضحية، والهدي بقوله: هذا هدي، وإشعاره وتقليده، مع النية".
يتكلم المؤلف هنا عما يحصل به تعيين الأضحية، وتعيينها يحصل بأحد أمرين:
الأمر الأول: بالقول، وذلك بأن يقول: هذه أضحية، يقصد بها إنشاء التعيين، وأن يُعيِّن أنها أضحية؛ فتقع أضحية.
الأمر الثاني: أن يذبحها بنية الأضحية، فإذا ذبحها بنية الأضحية؛ كانت أُضحية.
ومن العلماء مَن قال تتعين بأمر ثالث، وهو: النية عند الشراء؛ أي إذا اشتراها بنية الأضحية، وذهب إلى هذا بعض العلماء، واختاره شيخ الإسلام، رحمه الله تعالى.
ماذا نستفيد من تعيين الأضحية؟
متى ما قلنا إن الأضحية تتعين؛ يعني يتعلق الحكم بعينها، وإذا تعلق الحكم بعينها؛ فإنه يترتب على ذلك جملة من الأحكام، منها:
1- أنه لا يجوز نقل المِلْك فيها، فلا يجوز للإنسان أن يبيعها ولا يهبها؛ لكن يجوز له أن يبدلها بخيرٍ منها، أو أن يشتري خيرًا منها بدلاً عنها.
2- أنه لا يجوز له أن يتصرف فيها فيما يخصه؛ فلا يجوز له أن يحنث عليها، ولا أن يركبها إلا إذا احتاج إلى ذلك، ولا أن يحلب لبنها فيما ينقصها أو يضر بولدها، ولا أن يجز صوفها إلا إذا كان ذلك أنفع لها.(/122)
3- إذا تعيَّبتْ عيبًا يمنع من الإجزاء، أو ضاعت، أو سُرقت، أو تلفت بأي نوع من أنواع التلف، فإن كان عن تفريط منه؛ فإنه يضمنها، وإن كان بغير تفريط؛ فإنه لا يضمن.
أما الهدي، فيقول المؤلف يتعين بأحد أمرين:
الأمر الأول: بقوله: هذا هديٌ، ويقصد بذلك إنشاء التعيين؛ يعني يقصد به أن يجعلها هديًا؛ ففي هذه الحالة تتعين.
الأمر الثاني: أن يُشْعِرَها أو يُقَلِّدَها.
والإشعار هو: شق صَفْحَة سنام الإبل اليمنى حتى تدمى، ويدل على هذا:
1- ما في الصحيحين عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "فَتَلْتُ قلائد هدي النبي – صلى الله عليه وسلم - فأَشْعَرَهَا وقَلَّدَهَا".
2- حديث ابن عباس - رضي الله عنه – "أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – صلى الظهر بذي الحليفة، ثم أمر ببدنةٍ فأشعرها من صَفْحَةِ سنامها الأيمن، ثم سَلَتَ الدم بيده".
والإشعار خاص بالإبل والبقر دون الغنم؛ لأنها ضعيفة، ولأن شعرها وصوفها يستر مكان الإشعار.
والتقليد: هو جعل النعال وأفواه القِرَب وعراها في أعناق الهدي، سواء كان إبلاً أو بقرًا أو غنمًا، وقال بعض العلماء لا تُقَلَّد الغنم، والصحيح أنها تقلد؛ لما ثبت في الصحيح عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كنت أفتل قلائد النبي – صلى الله عليه وسلم - فيقلد الغنم"، فالغنم تقلد كما تقلد الإبل والبقر؛ وذلك حتى لا تختلط بغيرها، ولتعرف من بين سائر الأنعام.
ويقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"ولا يعطي الجزار بأجرته شيئًا منها".
لما ثبت في صحيح مسلم عن علي - رضي الله عنه -قال: "أمر النبي – صلى الله عليه وسلم - أن أقوم على بدنه، وأن أتصدق بلحومها وجلودها وأجلتها - وفي رواية: وبجلالها - وألا أُعطي الجزار منها"، وقال: ((نحن نعطيه من عندنا))، ولأن هذه الذبيحة تعينت لله(/123)
- عز وجل - وجُعلت قربةً لله؛ فلا يجوز بيع شيء منها، ولا المعاوضة على شيء منها، لكن يعطيه الإنسان بأمر خارج من عنده، أما أن يجعل لحمها أو جلودها، أو شيئًا منها عوضًا عن أُجرةٍ أو غيرها فلا يجوز.
لكن لو كان هذا الجزار فقيرًا، فهل يجوز أن يعطى منها أو لا؟ نعم، يجوز أن يعطى منها لفقره؛ لا لأجرته، أو يجوز أن يعطى منها هدية؛ لكن أن يعطى من أجل جزارته فلا.
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"والسُّنة أن يأكل ثلث أضحيته، ويهدي ثلثها، ويتصدق بثلثها، وإن أكل أكثر جاز".
النصوص في الجملة دلت على أن الإنسان يأكل من الهدي، ومن الأضحية، ويتصدق، قال الله - تعالى -: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28]، وقال: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج: 36]؛فدلت على أن في الهدي إطعامًا للمساكين، وأنهم يُعطون منها، فقسمتها إلى قسمين، ولهذا قال بعض العلماء: تكون أنصافًا؛ أي نصف يأكله صاحب الأضحية، ونصف يعطيه للفقراء، وهذا قول عند الشافعية. وبعض العلماء قال: تجعل أثلاثًا: ثٌلث يأكله، وثلث يتصدق به، وثلث يهديه لمن شاء، واستدلوا على ذلك بما روي عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال علقمة: "أمرني عبدالله - يعني ابن مسعود - أن أقوم على هديه، وأن آكل ثلثه، وأن أُعطي أهل أخيه عتبة ثلثًا، وأن أتصدق بثلث"، وكذلك ورد عن ابن عمر أنه قال: "الهدايا والضحايا: ثلث لك، وثلث لأهلك، وثلث للمساكين"، والمراد: بأهلك يعني الذين لا تنفق عليهم، فتهدي لهم.
وقوله: "وإن أكل أكثر جاز"؛ لأن توزيعها أثلاثًا ليس على سبيل الوجوب، وإنما هو على سبيل الاستحباب، فلو أكل أكثرها جاز.
مسألة: إذا أكلها كلها ولم يتصدق منها، هل يجوز أو لا يجوز؟(/124)
مذهب الحنابلة أنه إذا أكلها كلها؛ فإنه يضمن مقدار أُوقية من لحمها؛ لأنه لم يَصْدُق عليه أنه تصدق بشيء منها، والله - عز وجل - قد أمره بأن يطعم الفقراء، وأن يطعم القانع والمعتر، وأن يطعم البائس والفقير، والأمر للوجوب، وهذا لم يفعل.
وقال الشافعية: له أن يأكلها كلها.
والصحيح هو أنه يجب عليه أن يطعم من أضحيته.
مسألة: لو أنه لم يأكل من الأضحية؛ بل تصدق بها كلها، هل يجوز أو لا يجوز؟ أي هل يجب الأكل من الأضحية أو لا يجب؟
اختلف العلماء في هذا، والصحيح أنه لا يجب؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحر خمس بدنات، ولم يأكل منها شيئًا وقال: ((من شاء فليقتطع))ـ فدل ذلك على أنه ليس بواجب، أما الأمر بالأكل الوارد في القرآن، فهو كالأمر بالأكل الوارد في الثمار، فإنه ليس للوجوب؛ بل للاستحباب أو للإباحة، ويصرح المؤلف أنه للاستحباب.
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"وله أن ينتنفع بجلدها ولا يبيعه، ولا يأكل شيئًا منها".
لأن الجلد جزء من الأضحية أو الهدي، فله أن ينتفع به كما ينتفع بسائر لحمها وأجزائها؛ ولكن ليس له أن يبيعه، ولا أن يبيع شيئًا منها، لما تقدم من أنها قربة لله - عز وجل - فلا يجوز له أن يبيع شيئًا منها.
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"فأما الهدي - إن كان تطوعًا - استحب له الأكل منه؛ لأن النبي – صلى الله عليه وسلم - أمر مِن كل جزورٍ ببضعة فطُبخت، فأكل من لحمها، وحسا من مرقها، ولا يأكل من واجب؛ إلا من هدي المتعة والقِران".
قول المؤلف: "إن كان تطوعًا"، هذا القيد يُفهَم منه أنه إذا لم يكن تطوعًا لم يَجُزْ له أن يأكل منه؛ إلا في هدي القِران والمتعة؛ كما صرح بهذا في الأخير، يعني أن الهدي الذي كان بسبب فعل محظور، أو ترك مأمور، لا يجوز له أن يأكل منه، لأنه كفارة، وكذلك يدخل تحت هذا العموم أشياءُ كثيرة سنبينها، إن شاء الله تعالى.(/125)
أما قوله: "يستحب أن يأكل منه"؛ فلأن النبي – صلى الله عليه وسلم - لما نحر بدنه أَمَرَ من كل بدنة ببضعة منها، فجعلت في قِدْرٍ وطُبخت، فأكل الرسول – صلى الله عليه وسلم - من لحمها، وشرب من مرقها، كما في صحيح مسلم من حديث جابر: "أن الرسول – صلى الله عليه وسلم - أخذ من كل بدنة جزءًا أو قطعة، ووضعها في قِدْر وطبخت، فشرب من مرقها، وأكل من لحمها)).
وقوله: "ولا يأكل من كل واجب" يدخل تحت هذا ما بسبب محظور، أو ترك مأمور؛ فإنه
لا يأكل منه، ويدخل تحته أيضًا الكفارات، ويدخل تحته ما تعيَّن على الإنسان بالنذر أو بغيره، فإنه لا يأكل منه؛ إلا دم المتعة والقِران، فإنه يأكل منه؛ لأنه دم شكران، وليس دم جبران.
باب العقيقة
العقيقة لغةً: فَعِيلَة من العَقِّ، وهو القطع، ومنه عقوق الوالدين؛ أي قطعهما.
أما العقيقة شرعًا: فهي الذبيحة التي تذبح عن المولود.
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"وهي سنة، عن الغلام شاتان متكافئتان، وعن الجارية شاة".
قوله: "وهي سنة" يحتمل احتمالين: يحتمل أنه أراد أنها مشروعة، ويحتمل أنه أراد السُّنة المقابلة للواجب، لأن السنة تطلق على عدة إطلاقات؛ تطلق على السُّنة المقابلة للبدعة، يقال: هذا العمل سُنة؛ يعني مشروع، ويقال: هذا العمل بدعة؛ أي ليس بمشروع، ولهذا يقال: أهل السُّنة، وأهل البدعة.(/126)
فيكون مراد المؤلف حينئذ الرد على الذين ينكرون مشروعية العقيقة، ويحتمل أن يكون أراد أنها سُنة على ما يقابل الواجب، فأراد المؤلف أن ينفي وجوبها، فإذا كان المراد الاحتمال الثاني، فإنه ظاهرٌ في نفي الوجوب، وأما إذا كان الأول، فإنه لا يدل على نفي الوجوب، ولهذا لو قال الإنسان في أمر: أنه سُنة، وأراد المعنى الأول؛ فإنه يشمل المستحب والواجب، وأما المعنى الثاني؛ فإنه لا يشمل إلا الواجب، وأحيانًا تطلق السُّنة على ما كان عليه العمل في الصدر الأول في عصر السلف، فيقال: هذا سُنة، يعني عمل به الصحابة والتابعون، ومن بعدهم من سلف الأمة.
والأقرب هو الاحتمال الثاني: أنها مشروعة ومستحبة، والدليل على مشروعيتها:
1- ما في صحيح البخاري أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم - قال: ((مع الغلام عقيقة، فأهريقوا عنه دمًا، وأميطوا عنه الأذى)).
2- ما في السنن من حديث سَمُرَة - رضي الله عنه - أن النبي – صلى الله عليه وسلم - قال: ((كل غلامٍ رهينةٌ بعقيقته، تُذبح عنه يوم سابعه، ويُسمَّى، ويُحلق رأسه)).
3- ما في مسند أحمد، وسنن أبي داود، والنسائي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن الرسول – صلى الله عليه وسلم - سأُل عن العقيقة، فقال: ((لا أُحب العقوق - فكأنه كره الاسم -))، فقالوا: "يارسول الله: إنما نسألك عن أحدنا يولد له ولد؟))، فقال الرسول – صلى الله عليه وسلم -: ((مَن أحبَّ أن ينسك عن ولده فليفعل، عن الغلام شاتان مكافئتان، وعن الجارية شاة))؛ وهو حديث حسن، فهذا الحديث يدل على أن قوله – صلى الله عليه وسلم -: ((كل غلام رهينةٌ بعقيقته))، أنه ليس للوجوب؛ بل للاستحباب لأنه قال: ((من أحب أن ينسك عن ولده فليفعل))، فهذا دليل على الاستحباب.
قوله: "متكافئتان"؛ أي متماثلتان سنًّا وشبهًا.
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"تذبح يوم سابعه، ويحلق رأسه، ويتصدق بوزنه وَرِقًا".(/127)
قوله: "تذبح يوم سابعه" لحديث سمرة المتقدم: ((كل غلامٍ رهينةٌ بعقيقته، تذبح عنه يوم سابعه، ويسمى، ويُحلق رأسه)).
وقوله: "يتصدق بوزنه وَرِقًا"؛ أي فضة، وهذا ورد عند الترمذي، والحاكم أن الرسول – صلى الله عليه وسلم -: "عَقَّ عن الحسن، وأمر فاطمة أن تَحلِقَ رأسَه، وأن تتصدق بوزنه وَرِقًا".
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"فإن فات يوم سابعه ففي أربعة عشر، فإن فات ففي أحد وعشرين".
هذا مروي عن عائشة - رضي الله عنها - عند الحاكم، وصححه ووافقه الذهبي، فهو موقوف عليها، فمعنى هذا أنه إذا مرت السبعة الأولى، ففي السبعة الثانية، أو في السبعة الثالثة.
فإذا زاد عن واحد وعشرين هل يعتبر السابع عنه، فيقال: تذبح في الثامن والعشرين، أو في خمس وثلاثين، أو في الثاني والأربعون... أو لا يعتبر؟ فيه احتمال أنه يعتبر، واحتمال آخر أنه لا يعتبر، والظاهر أنه لا يعتبر ذلك، فليس هذا واجبًا؛ بل للإنسان أن يذبح قبل السابع، وليس شيء في ذلك.
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"وينزعها أعضاء، ولا يكسر لها عظمًا".
استحباب هذا مروي عن عائشة - رضي الله عنها - فإنه يفعل ذلك تفاؤلاً بسلامة المولود، وليس في هذا دليل مقنع كافٍ في المسألة، والظاهر أنه لا بأس بكسر عظمها، ومسألة التفاؤل مسألة تحتاج إلى توقيف من الشارع في مثل هذه الأمور.
والمراد بقوله: "ينزعها أعضاء"؛ أي ينزعها من المفصل، ولا يكسر العظم.
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"وحُكْمها حكم الأضحية فيما سوى ذلك".
فالعقيقة تشترك مع الأضحية في بعض الأحكام، وتخالفها في بعض الأحكام:
فتشترك معها في شروطها: فلابد أن تكون من بهيمة الأنعام، وأن تبلغ السن المعتبرة شرعًا، وأن تكون سليمةً من العيوب، وتشترك معها أيضًا في صفة التوزيع؛ فتوزع أثلاثًا كما توزع الأضحية.(/128)
وتخالف الأضحية فيما ذكر المؤلف، أنه تنزع أعضاءً ولا تكسر، وتخالفها أيضًا أنه لا يُشتَرك في العقيقة؛ يعني لأنذبح جملاً عن سبعة أولاد، فلو أن إنسانًا جاء له سبعة أولاد، وقال أذبح عنهم جملاً، فإن هذا لا يجزئ، قالوا: لأنها لم تَرِد، ولأن هذه فدية، والفدية لا تكون بالبعض.
مسائل:
س1: إذا تجاوز الميقات ولم يُحرِم بسبب النسيان، ثم تذكر وأحرم، فما الحُكْم؟
ج1: النسيان لا أثر له في إسقاط المأمورات، فمَن ترك مأمورًا فعليه أن يأتي به، فالنبي – صلى الله عليه وسلم - كما في رواية ابن عمر فرضَ هذه المواقيت، فإن أحرم من مكانه - وإن كان ناسيًا - فعليه دم.
س2: شخص أحرم من الميقات بالعمرة؛ ولكنه ذهب إلى جدة، ثم نزل منها إلى مكة، هل يجوز فعله؟
ج2: إذا أحرم من الميقات وبقي على إحرامه، فإنه لا شيء عليه، حتى وإن أخر فترة الإحرام؛ فبقي مُحرِمًا عشرة أيام أو أكثر من ذلك، لا يضر.
س3: كثيرٌ من الحجاج ينزلون بمطار جدة، ثم يتجهون إلى المدينة، ويمكثون بها عدة أيام قبل الحج، ثم يُحرِمُون من ذي الحُلَيْفة، فما حُكْم ذلك؟
ج3: هذا إذا كان يريد عند أول خروجه المدينةَ، ولا يريد الحج منذ قدومه من بلده، فهذا ليس عليه إحرام، فمثل هذا إن كان يريد المدينة ابتداءً؛ فإنه يأتي إلى المدينة ولا شيء عليه، وإن كان يريد من هناك مكةَ؛ أي من بلده يريد مكة للعمرة أو الحج، فعليه أن يذهب إليها، ويمكن أن يأتي بعمرة، ثم يأتي إلى المدينة.
لكن هناك محظور عظيم يقع فيه بعض الحجاج؛ أنه يأتي مُحرِمًا ثم يفسخ إحرامه في مطار جدة، ثم يأتي إلى المدينة، فهذا لا ينفسخ إحرامه؛ بل يبقى مُحرِمًا، فلو ارتكب محظورًا فعليه ما يترتب على ذلك المحظور؛ يعني كثير من الناس يقع في هذا، وهو لا يشعر أن الإحرام(/129)
لا ينفسخ بفسخ الإنسان له، قال – تعالى -: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]، فلا ينفسخ الحج إلا إذا اشترط في بداية الإحرام: إن حبسه حابس فمحِلُّه حيث حَبَسَه، أو يُحصَر عن الحج، أو يُتم الحج، وأما من تلقاء نفسه فلا يجوز، فكثير من الناس يقع في هذا الأمر العظيم، فبعض الناس يأتي بعمرة، ثم ينتظر رفيقه في الطريق فلا يلحق به، فيفسخ إحرامه ويرجع، هذا من التلاعب بهذه العبادة، فينبغي على الإنسان ألا يدخل فيها ابتداءً، أما أن يدخل فيها ثم لا يتمها فهذا جهل.
س4: ما الحِكمة من الإحرام لأهل مكة بالحج من منازلهم، وبالعمرة من الحِلِّ؟
ج4: الحِكمة من إحرام أهل مكة بالحج من منازلهم؛ لأنهم في الحج يجمعون بين الحل والحرم، لأن عرفة من الحل، ومنى ومزدلفة من الحرم، وأما في العمرة لا يجمعون إلا إذا خرجوا إلى الحل، ولأن العمرة الزيارة، ولا يَصْدُق ذلك إلا على مَنْ وفد على البيت من خارج الحرم.
س5: هل يجوز أن ينوي العمرة من الميقات، ثم يلبس إحرامه إذا تجاوز الميقات؟
ج5: هذا أحسنَ من جهة، وأساء من جهة أُخرى، فهو أحرم من الميقات؛ ولكنه أتى بمحظور وهو أنه لبس مخيطًا، فعليه دم؛ ولكن إذا كان هذا لابسًا ثيابًا ليس فيها مخيط، فإحرامه صحيح، ولا شيء عليه.
س6: ما هي حدود الحِل بمكة؟
ج6: مكة موجود بها علامات، فمثلاً العمرة من الحل، كذلك من جهة عرفة هذه من الحل، وأيضًا من جهة الحديبيه فهي من الحل.
س7: شخص أراد الذهاب إلى الطائف لزيارة الأقارب وهو من أهل المدينة، ثم أراد مكة وأحرم من السيل الكبير، فما الحُكْم؟(/130)
ج7: هذا إذا كان يريد العمرة من المدينة، فلا يجوز له أن يتجاوز الميقات إلا مُحرِمًا، أما إذا كان ليس عنده نية جازمة، فيقول مثلاً: أذهب إلى الطائف فإذا وجدت أحدًا يوافقني للعمرة اعتمرنا، أو يقول إن تيسرت الظروف أعتمر أو أحج، فهذا يُحرم من السيل الكبير، أما إذا كانت عنده نية جازمة للعمرة أو الحج من المدينة، فلا يتجاوز الميقات إلا مُحرِمًا، ثم يذهب إلى الطائف بإحرامه، فلا مانع من ذلك.
س8: إذا أرادت المرأة أن تحج، فماذا يشترط عليها أن تلبسه؟
ج8: المرأة ليس لها لبس تختص به، يعني في أي لون من الثياب، وفي أي شيء من الثياب لها أن تحرم، لكن لا تغطي وجهها؛ إلا إذا كان هناك أجانب فلها أن تغطي، ولا تنتقب ولا تلبس القفازين (المعروف بالجونتي)، المهم أنها ممنوعة من هذا الأمر، أما غير ذلك فلها أن تلبس ما شاءت من الثياب.
س9: إذا لم يشترط الإنسان، فعاقه عائقٌ، فما الحكم؟
ج9: إذا لم يشترط فإنه يكون كالمحصَر، والمُحْصَر عليه هدي للحرم، ويحلق، ويحل.
س10: ما حكم مَن أمسك إحرامه بمجموعة من الأزارير أو بالمشابك؟
ج10: هذا لا ينبغي؛ لأن هذا في حكم الخياط، لكن لو كان شيء يشده على إحرامه؛ كالكمر أو غيره الذي يوضع لحفظ المال، فهذا لا بأس به، أما غير هذا فلا.
س11: هل مَن رجع إلى أهله يكون متمتعًا، ويلزمه دم أو لا؟
ج11: هذه المسألة فيها خلاف:
من العلماء من قال: مَن خرج عن مكة مسافة قصر، فلا يكون متمتعًا.
ومنهم من قال: إن رجع إلى أهله فإنه لا يكون متمتعًا، وإن رجع إلى مكان آخر فإنه يكون متمتعًا؛ لأنه إذا رجع إلى أهله لم يترفَّه بترْك أحد السفرين؛ بل يكون أتى بسفر للعمرة وسفر للحج، أما إذا رجع إلى مكان آخر بقي ترفهه بأحد السفرين، ولعل هذا هو الأظهر، والله تعالى أعلم.
س12: ما هو الفسخ؟ وما حِكْمته؟(/131)
ج12: الفسخ هو أن يفسخ الحج إلى عمرة، كما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم – أصحابه. وقال العلماء: حكمة الفسخ أن المشركين كانوا لا يرون العمرة في أشهر الحج، ويرونها من أفجر الفجور، فأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يبيِّن فساد هذا الاعتقاد، فأمر أصحابه أن يفسخوا الحج إلى عمرة، ولما قال له سراقة بن مالك - رضي الله عنه -: "أرأيت عمرتنا هذه، ألنا خاصة أم للأبد؟"، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إلى الأبد، وشبك بين أصابعه))، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة))، فدل على أن هذا الحكم ثابت، وأن العمرة داخلة في الحج، وأنه يجوز فعلها في أشهر الحج.
وبعض العلماء قال: هذا كان واجبًا في حق الصحابة؛ لأنهم هم الذين عنوا بهذا الأمر، وليس واجبًا في حق غيرهم،واختاره شيخ الإسلام.
ومن العلماء من قال: هذا واجب في حق الجميع، وكان ابن عباس - رضي الله عنه - يرى ذلك ويقول: "من طاف بين الصفا والمروة فقد حلَّ، شاء أم أبى"، وذهب إلى هذا الظاهرية، واختاره ابن القيم، رحمه الله تعالى.
لكن الصحيح الذي عليه جمهور العلماء - رحمهم الله تعالى - وعليه الخلفاء الراشدون - رضي الله عنهم - أنه يجوز للإنسان أن يُحرِم بأي الأنساك الثلاثة السابقة شاء. انتهى.(/132)
العنوان: شرح كتاب الصيام من الشرح الممتع على "زاد المستنقع" (1)
رقم المقالة: 1303
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
كِتَابُ الصِّيَامِ
قوله: "كتاب الصيام" سبق لنا أن الفقهاء - رحمهم الله - يسمون بالكتاب، والباب، والفصل.
فالكتاب للجنس، والباب للنوع، والفصل لمفردات المسائل.
فمثلاً كتاب الطهارة جنس، أنواعه: باب المياه، باب الآنية، باب الوضوء، باب الغسل، باب التيمم، باب الحيض وغيرها.
فكتاب الصيام هذا جنس؛ لأن ما سبقه في الصلاة والزكاة وهذا هو الصيام.
ورتب العلماء - رحمهم الله - الفقه في باب العبادات على حسب حديث جبريل - عليه السلام[1] - وحديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - في بعض ألفاظه[2] فقدموا الصلاة، ثم الزكاة، ثم الصيام، ثم الحج.
وقدمت الطهارة قبل الصلاة لأنها شرط، وهي مفتاح الصلاة فقدموها على الصلاة، وإلا لأدرجوها ضمن شروط الصلاة، أي: في أثناء كتاب الصلاة، لكن لما رأوا أنها مفتاحها، وأن الكلام عليها كثير قدموها على كتاب الصلاة.
الصيام في اللغة مصدر صام يصوم، ومعناه أمسك، ومنه قوله تعالى: {فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَن صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} [مريم:19] فقوله: {صَوْمًا} أي: إمساكًا عن الكلام، بدليل قوله: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا} أي: إذا رأيت أحدًا فقولي: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَن صَوْمًا} يعني إمساكًا عن الكلام {فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا}.
ومنه قولهم: صامت عليه الأرض، إذا أمسكته وأخفته.
وأما في الشرع فهو التعبد لله سبحانه وتعالى بالإمساك عن الأكل والشرب، وسائر المفطرات، من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.(/1)
ويجب التفطن لإلحاق كلمة التعبد في التعريف؛ لأن كثيرًا من الفقهاء لا يذكرونها بل يقولون: الإمساك عن المفطرات من كذا إلى كذا، وفي الصلاة يقولون هي: أقوال وأفعال معلومة، ولكن ينبغي أن نزيد كلمة التعبد، حتى لا تكون مجرد حركات، أو مجرد إمساك، بل تكون عبادة
وحكمه: الوجوب بالنص والإجماع.
ومرتبته في الدين الإسلامي: أنه أحد أركانه، فهو ذو أهمية عظيمة في مرتبته في الدين الإسلامي.
وقد فرض الله الصيام في السنة الثانية إجماعًا، فصام النبي - صلّى الله عليه وسلّم - تسع رمضانات إجماعًا، وفرض أولاً على التخيير بين الصيام والإطعام؛ والحكمة من فرضه على التخيير التدرج في التشريع؛ ليكون أسهل في القبول؛ كما في تحريم الخمر، ثم تعين الصيام وصارت الفدية على من لا يستطيع الصوم إطلاقًا.
ثم اعلم أن حكمة الله - عزّ وجل - أن الله نوع العبادات في التكليف؛ ليختبر المكلف كيف يكون امتثاله لهذه الأنواع، فهل يمتثل ويقبل ما يوافق طبعه، أو يمتثل ما به رضا الله عزّ وجل؟
فإذا تأملنا العبادات: الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، وجدنا أن بعضها بدني محض، وبعضها مالي محض، وبعضها مركب، حتى يتبين الشحيح من الجواد، فربما يهون على بعض الناس أن يصلي ألف ركعة، ولا يبذل درهمًا، وربما يهون على بعض الناس أن يبذل ألف درهم ولا يصلي ركعة واحدة، فجاءت الشريعة بالتقسيم والتنويع حتى يعرف من يمتثل تعبدًا لله، ومن يمتثل تبعًا لهواه.
فالصلاة مثلاً عبادة بدنية محضة، وما يجب لها مما يحتاج إلى المال، كماء الوضوء الذي يشتريه الإنسان، والثياب لستر العورة تابع، وليس داخلاً في صلب العبادة.
والزكاة مالية محضة، وما تحتاج إليه من عمل بدني كإحصاء المال وحسابه، ونقل الزكاة إلى الفقير والمستحق فهو تابع، وليس داخلاً في صلب العبادة.
والحج مركب من مال وبدن إلا في أهل مكة فقد لا يحتاجون إلى المال، لكن هذا شيء نادر، أو قليل بالنسبة لغير أهل مكة.(/2)
والجهاد في سبيل الله مركب من مال وبدن، ربما يستقل بالمال وربما يستقل بالبدن.
فالجهاد من حيث التركيب أعم العبادات؛ لأنه قد يكون بالمال فقط، وقد يكون بالبدن فقط، وقد يكون بهما.
والتكليف أيضًا ينقسم من وجه آخر، إلى: كف عن المحبوبات، وإلى بذل للمحبوبات، وهذا نوع من التكليف أيضًا.
كف عن المحبوبات مثل الصوم، وبذل للمحبوبات كالزكاة؛ لأن المال محبوب إلى النفس، فلا يبذل المال المحبوب إلى النفس إلا لشيء أحب منه.
وكذلك الكف عن المحبوبات، فربما يهون على المرء أن ينفق ألف درهم، ولا يصوم يومًا واحدًا أو بالعكس، ومن ثم استحسن بعض العلماء استحسانًا مبنيًا على اجتهاد، لكنه سيء حيث أفتى بعض الأمراء أن يصوم شهرين متتابعين بدلاً عن عتق الرقبة في الجماع في نهار رمضان.
وقال: إن ردع هذا الأمير بصيام شهرين متتابعين، أبلغ من ردعه بإعتاق رقبة؛ لأنه ربما يعتق ألف رقبة ولا يهون عليه أن يصوم يومًا واحدًا.
لكن هذا اجتهاد فاسد لأنه مقابل للنص، ولأن المقصود بالكفارات التهذيب والتأديب وليس تعذيب الإنسان، بل تطهيره بالإعتاق، فقد أخبر النبي - صلّى الله عليه وسلّم -: ((أن من أعتق عبدًا فإن الله يعتق بكل عضو منه عضوًا من النار)) [3] فهو فكاك من النار، فيكون أفضل وأعظم، فالحاصل أنك إذا تأملت الشريعة الإسلامية والتكاليف الإلهية وجدتها في غاية الحكمة والمطابقة للمصالح.
"يَجِبُ صَوْمُ رَمَضَانَ بِرُؤْيَةِ هِلاَلِهِ، فَإِنْ لَمْ يُرَ مَعَ صَحْوِ لَيْلَةِ الثَّلاَثِينَ أَصْبَحُوا مُفْطِرِينَ، وَإِنْ حَالَ دُونَهُ غَيْمٌ، أوْ قَتَرٌ فَظَاهِرُ المَذْهَبِ يَجِبُ صَوْمَهُ........."
قوله: "يجب صوم رمضان برؤية هلاله" هذه الجملة لا يريد بها بيان وجوب الصوم؛ لأنه مما علم بالضرورة، ولكن يريد أن يبين متى يجب، فذكر أنه يجب بأحد أمرين:
الأول: رؤية هلاله: أي هلال رمضان(/3)
1 - لقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185].
2 - وقوله - صلّى الله عليه وسلّم -: ((إذا رأيتموه فصوموا)) [4].
وعلم منه أنه لا يجب الصوم بمقتضى الحساب، فلو قرر علماء الحساب المتابعون لمنازل القمر أن الليلة من رمضان، ولكن لم ير الهلال، فإنه لا يصام؛ لأن الشرع علق هذا الحكم بأمر محسوس وهو الرؤية.
وقال بعض المتأخرين: إنه يجب العمل بالحساب إذا لم تمكن الرؤية، وبه فسر حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - وفيه قول النبي - صلّى الله عليه وسلّم -: ((فإن غُمّ عليكم فاقدروا له))، وقال: إنه مأخوذ من التقدير، وهو الحساب ولكن الصحيح أن معنى (اقدروا له) مفسر بكلام النبي - صلّى الله عليه وسلّم - وأن المراد به إكمال شعبان ثلاثين يومًا.
وقوله: "برؤية هلاله" يعم ما إذا رأيناه بالعين المجردة أو بالوسائل المقربة؛ لأن الكل رؤية.
الثاني: إتمام شعبان ثلاثين يومًا؛ لأن الشهر الهلالي لا يمكن أن يزيد عن ثلاثين يومًا، ولا يمكن أن ينقص عن تسعة وعشرين يومًا، وعلى المذهب يزيد أمر ثالث، وهو أن يحول دون منظره غيم أو قتر، وسيأتي البحث فيه.
قوله: "فإن لم ير مع صحو ليلة الثلاثين أصبحوا مفطرين" أي: من شعبان، فإن لم ير الهلال مع صحو السماء، بأن تكون خالية من الغيم، والقتر والدخان والضباب، ومن كل مانع يمنع الرؤية ليلة الثلاثين من شعبان أصبحوا مفطرين؛ حتى وإن كان هلَّ في الواقع، وفي هذه الحال لا يصومون إما على سبيل التحريم وإما على سبيل الكراهة؛ لقول النبي - صلّى الله عليه وسلّم -: ((لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين، إلا رجل كان يصوم صومًا فليصمه))[5].
قوله: "وإن حال دونه غيم، أو قتر فظاهر المذهب يجب صومه" أي: إن حال دون رؤية الهلال غيم، والغيم هو السحاب.
وقوله: "أو قتر" وهو التراب الذي يأتي مع الرياح، وكذلك غيرهما مما يمنع رؤيته.(/4)
وقوله: "فظاهر المذهب" هذا التعبير غريب من المؤلف لأنه ليس من عادته، ولأنه كتاب مختصر فلعله عبر به لقوة الخلاف.
وقوله: "المذهب" المراد به هنا المذهب الاصطلاحي لا الشخصي، وذلك لأن الإمام أحمد - رحمه الله - ليس عنه نص في وجوب صوم هذا اليوم خلافًا لما قاله الأصحاب.
وقوله: "يجب صومه" أي وجوبًا ظنيًا، احتياطيًا.
فالوجوب هنا مبني على الاحتياط والظن، لا على اليقين والقطع؛ لأنه ربما يكون الهلال قد هَلَّ، لكن لم ير، وذلك لوجود الغيم أو القتر، أو غير ذلك ويحتمل أنه لم يظهر.
هذا هو المشهور من المذهب عند المتأخرين[6] حتى قال بعضهم: إن نصوص أحمد تدل على الوجوب، واستدلوا بما يلي:
1 - حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال النبي - صلّى الله عليه وسلّم -: ((إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غم عليكم فاقدروا له)) [7].
فقوله: (فاقدروا له) من القدر وهو الضيق وبهذا فسره الأصحاب فقالوا: اقدروا له: أي ضيقوا عليه، قالوا: ومنه قوله تعالى: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق: 7] أي: من ضُيق عليه، قالوا: والتضييق أن يجعل شعبان تسعة وعشرين يومًا.
2 - أن ابن عمر - رضي الله عنهما -: "كان إذا كان ليلة الثلاثين من شعبان، وحال دونه غيم أو قتر أصبح صائمًا" [8].
3 - أنه يحتمل أن يكون الهلال قد هَلَّ، ولكن منعه هذا الشيء الحاجب، فيصوم احتياطًا.
ويجاب عما استدلوا به:
أما حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - فيقال: إذا سلمنا ما قلتم فلماذا لا نقول القدر أن يجعل رمضان تسعة وعشرين فتجعل التضيق على رمضان لأنه لم يهل هلاله إلى الآن، فليس له حق في الوجود فيبقى مضيقًا عليه، ولكننا نقول: الصواب أن المراد بالقدر هنا ما فسرته الأحاديث الأخرى، وهو إكمال شعبان ثلاثين يومًا إن كان الهلال لرمضان وإكمال رمضان، ثلاثين يومًا إن كان الهلال لشوال.
أما الاحتياط:(/5)
فأولاً: إنما يكون فيما كان الأصل وجوبه، وأما إن كان الأصل عدمه، فلا احتياط في إيجابه.
ثانيًا: ما كان سبيله الاحتياط، فقد ذكر الإمام أحمد وغيره أنه ليس بلازم، وإنما هو على سبيل الورع والاستحباب، وذلك لأننا إذا احتطنا وأوجبنا فإننا وقعنا في غير الاحتياط، من حيث تأثيم الناس بالترك، والاحتياط هو ألا يؤثم الناس إلا بدليل يكون حجة عند الله تعالى.
وأما أثر ابن عمر - رضي الله عنهما - فلا دليل فيه أيضًا على الوجوب لأن ابن عمر - رضي الله عنهما - قد فعله على سبيل الاستحباب؛ لأنه لو كان على سبيل الوجوب لأمر الناس به، ولو أهله على الأقل.
القول الثاني: يحرم صومه[9] واستدل هؤلاء بما يأتي:
1 - قول الرسول - صلّى الله عليه وسلّم -: ((لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين، إلا رجل كان يصوم صومًا فليصمه)) [10] وإن لم يكن يصوم صومًا فصام هذا اليوم الذي فيه شك فقد تقدم رمضان بيوم.
2 - وبحديث عمار بن ياسر - رضي الله عنهما - الذي علقه البخاري، ووصله أصحاب السنن -: "من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم - صلّى الله عليه وسلّم" [11] ولا شك أن هذا يوم يشك فيه؛ لوجود الغيم والقتر.
3 - قول النبي - صلّى الله عليه وسلّم -: ((الشهر تسع وعشرون ليلة، فلا تصوموا حتى تروه، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين))[12] فقوله: ((أكملوا العدة ثلاثين)) أمر، والأصل في الأمر الوجوب، فإذا وجب إكمال شعبان ثلاثين يومًا حرم صوم يوم الشك.
4 - قوله - صلّى الله عليه وسلّم -: ((هلك المتنطعون)) [13] فإن هذا من باب التنطع في العبادة، والاحتياط لها في غير محله.
القول الثالث: أن صومه مستحب، وليس بواجب.
واستدلوا: بفعل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما[14].
القول الرابع: أن صومه مكروه، وليس بحرام[15] ولعله لتعارض الأدلة عندهم.
القول الخامس: أن صومه مباح، وليس بواجب، ولا مكروه، ولا محرم ولا مستحب[16] لتعارض الأدلة عندهم.(/6)
القول السادس: العمل بعادة غالبة فإذا مضى شهران كاملان فالثالث ناقص، وإذا مضى شهران ناقصان فالثالث كامل، فإذا كان شهر رجب وشعبان ناقصين، فرمضان كامل، وإذا كان رجب وجمادى الثانية ناقصين، فشعبان كامل[17].
القول السابع: أن الناس تبعٌ للإمام[18]، فإن صام الإمام صاموا، وإن أفطر أفطروا، لقول النبي - صلّى الله عليه وسلّم -: ((الفطر يوم يفطر الناس، والأضحى يوم يضحي الناس)) [19].
وأصح هذه الأقوال هو التحريم، ولكن إذا رأى الإمام وجوب صوم هذا اليوم، وأمر الناس بصومه، فإنه لا ينابذ، ويحصل عدم منابذته بألا يظهر الإنسان فطره، وإنما يفطر سرًا.
والمسألة هنا لم يثبت فيها دخول الشهر، أما لو حكم ولي الأمر بدخول الشهر فالصوم واجب.
وَإِنْ رُئيَ نَهَارًا فَهْوَ للَّيْلَةِ المُقْبِلَةِ.
قوله: "وإن رئي نهارًا فهو لليلة المقبلة" الضمير يعود على الهلال، والمؤلف لم يرد الحكم بأنه لليلة المقبلة، ولكنه أراد أن ينفي قول من يقول: إنه لليلة الماضية، فإن بعض العلماء يقول: إذا رئي الهلال نهارًا قبل غروب الشمس من هذا اليوم فإنه لليلة الماضية، فيلزم الناس الإمساك.
وفصل بعض العلماء بين ما إذا رئي قبل الزوال أو بعده.
والصحيح أنه ليس لليلة الماضية، اللهم إلا إذا رئي بعيدًا عن الشمس بينه وبين غروب الشمس مسافة طويلة، فهذا قد يقال: إنه لليلة الماضية، ولكنه لم ير فيه لسبب من الأسباب، لكن مع ذلك لا نتيقن هذا الأمر.
وقوله: "لليلة المقبلة" ليس على إطلاقه أيضًا؛ لأنه إن رئي تحت الشمس بأن يكون أقرب للمغرب من الشمس فليس لليلة المقبلة قطعًا؛ لأنه سابق للشمس، والهلال لا يكون هلالاً إلا إذا تأخر عن الشمس.
فمثلاً: إذا رئي قبل غروب الشمس بنصف ساعة، وغرب قبل غروبها بربع ساعة، فلا يكون للمقبلة قطعًا لأنه غاب قبل أن تغرب الشمس، وإذا غاب قبل أن تغرب الشمس فلا عبرة برؤيته؛ لأن العبرة برؤيته أن يُرى بعد غروب الشمس متخلفًا عنها.(/7)
وَإِذَا رَآهُ أَهْلُ بَلَدٍ لَزِمَ النَّاسَ كُلَّهُم الصَّوْمُ.
قوله: "وإذا رآه أهل بلد لزم الناس كلهم الصوم" المراد بأهل البلد هنا من يثبت الهلال برؤيته، فهو عام أريد به خاص، فليس المراد به جميع أهل البلد، من كبير وصغير وذكر، وأنثى، فإذا ثبتت رؤيته في مكان لزم الناس كلهم الصوم في مشارق الأرض ومغاربها، ويدل على ذلك:
1 - قول النبي - صلّى الله عليه وسلّم -: ((صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته)) [20]؛ والخطاب موجه لعموم الأمة.
2 - أن ذلك أقرب إلى اتحاد المسلمين، واجتماع كلمتهم، وعدم التفرق بينهم بحيث لا يكون هؤلاء مفطرين وهؤلاء صائمين، فإذا اجتمعوا وكان يوم صومهم ويوم فطرهم واحدًا كان ذلك أفضل وأقوى للمسلمين في اتحادهم، واجتماع كلمتهم، وهذا أمر ينظر إليه الشرع نظر اعتبار.
وعلى ذلك إذا ثبتت رؤيته وقت المغرب في أمريكا وجب الصوم على الموجودين في الصين رغم تباعد مطالع الهلال.
القول الثاني: لا يجب إلا على من رآه، أو كان في حكمهم بأن توافقت مطالع الهلال، فإن لم تتفق فلا يجب الصوم.
قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: تختلف مطالع الهلال باتفاق أهل المعرفة بالفلك، فإن اتفقت لزم الصوم، وإلا فلا، واستدلوا بالنص والقياس.
أما النص فهو:
1 - قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]، والذين لا يوافقون من شاهده في المطالع لا يقال إنهم شاهدوه لا حقيقة؛ ولا حكمًا، والله تعالى أوجب الصوم على من شاهده.
2 - قوله - صلّى الله عليه وسلّم -: ((صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته)) [21] فعلل الأمر في الصوم بالرؤية، ومن يخالف من رآه في المطالع لا يقال إنه رآه لا حقيقة، ولا حكمًا.(/8)
3 - حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - وفيه أن أم الفضل بنت الحارث بعثت كريبًا إلى معاوية بالشام فقدم المدينة من الشام في آخر الشهر فسأله ابن عباس عن الهلال فقال: رأيناه ليلة الجمعة فقال ابن عباس: لكننا رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه، فقال: أو لا تكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ فقال: لا، هكذا أمرنا رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم -[22].
وأما القياس فلأن التوقيت اليومي يختلف فيه المسلمون بالنص والإجماع، فإذا طلع الفجر في المشرق فلا يلزم أهل المغرب أن يمسكوا لقوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ} [البقرة: 187]، ولو غابت الشمس في المشرق، فليس لأهل المغرب الفطر.
فكما أنه يختلف المسلمون في الإفطار والإمساك اليومي، فيجب أن يختلفوا كذلك في الإمساك والإفطار الشهري، وهذا قياس جلي
وهذا القول هو القول الراجح، وهو الذي تدل عليه الأدلة.
ولهذا قال أهل العلم: إذا رآه أهل المشرق وجب على أهل المغرب المساوين لهم في الخط أن يصوموا؛ لأن المطالع متفقة، ولأن الهلال إذا كان متأخرًا عن الشمس في المشرق فهو في المغرب من باب أولى؛ لأن سير القمر بطيء كما قال الله تعالى: {وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاَهَا} [الشمس:2].
وإذا رآه أهل المغرب هل يجب الصيام على أهل المشرق؟ الجواب: لا؛ لأنه ربما في سير هذه المسافة تأخر القمر.
القول الثالث: أن الناس تبع للإمام فإذا صام صاموا، وإذا أفطر أفطروا، ولو كانت الخلافة عامة لجميع المسلمين فرآه الناس في بلد الخليفة، ثم حكم الخليفة بالثبوت لزم من تحت ولايته في مشارق الأرض أو مغاربها، أن يصوموا أو يفطروا لئلا تختلف الأمة وهي تحت ولاية واحدة، فيحصل التنازع والتفرق، هذا من جهة المعنى.(/9)
ومن جهة النص: فلقوله - صلّى الله عليه وسلّم -: ((الصوم يوم يصوم الناس والفطر يوم يفطر الناس)) [23]، فالناس تبع للإمام، والإمام عليه أن يعمل - على القول الراجح - باختلاف المطالع.
وعمل الناس اليوم على هذا أنه إذا ثبت عند ولي الأمر لزم جميع من تحت ولايته أن يلتزموا بصوم أو فطر، وهذا من الناحية الاجتماعية قول قوي، حتى لو صححنا القول الثاني الذي نحكم فيه باختلاف المطالع فيجب على من رأى أن المسألة مبنية على المطالع، ألا يظهر خلافًا لما عليه الناس.
القول الرابع: أنه يلزم حكم الرؤية كل من أمكن وصول الخبر إليه في الليلة، وهذا في الحقيقة يشابه المذهب في الوقت الحاضر؛ لأنه يمكن أن يصل الخبر إلى جميع أقطار الدنيا في أقل من ليلة، لكن يختلف عن المذهب فيما إذا كانت وسائل الاتصالات مفقودة.
مسألة: الأقليات الإسلامية في الدول الكافرة، إن كان هناك رابطة، أو مكتب، أو مركز إسلامي؛ فإنها تعمل بقولهم، وإذا لم يكن كذلك، فإنها تخيَّر، والأحسن أن تتبع أقرب بلد إليها.
ويُصَامُ بِرُؤْيَةِ عَدْلٍ وَلَوْ أُنْثَى. فَإنْ صَامُوا بِشَهَادَةِ وَاحِدٍ ثَلاثِينَ يَوْمًا، فَلَمْ يُرَ الهِلاَلَ، أَوْ صَامُوا لأَجْلِ غَيْمٍ لَمْ يُفْطِرُوا.
قوله: "ويصام" مبني للمجهول، ونائب الفاعل يعود إلى رمضان.
قوله: "برؤية عدل" وبعضهم يعبر بقوله: "برؤية ثقة" وهذا أعم.
والمراد بسبب رؤية العدل يثبت الشهر.
والدليل حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: "تراءى الناس الهلال فأخبرت النبي - صلّى الله عليه وسلّم - أني رأيته فصامه وأمر الناس بصيامه" [24].(/10)
وكذلك حديث الأعرابي الذي أخبر النبي - صلّى الله عليه وسلّم - أنه رأى الهلال فقال: أتشهد ألا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله. قال: نعم فقال لبلال: ((قم يا بلال فأذن بالناس أن يصوموا غدًا)) [25]. فهذان الحديثان وإن كانا ضعيفين لكن أحدهما يسند الآخر. والصيام بشهادة واحد مقتضى القياس؛ لأن الناس يفطرون بأذان الواحد ويمسكون بأذان الواحد، قال النبي - صلّى الله عليه وسلّم -: ((إن بلالاً يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم)) [26].
والعدل في اللغة: هو المستقيم، وضده المعوج.
وفي الشرع: من قام بالواجبات، ولم يفعل كبيرة، ولم يصر على صغيرة.
والمراد بالقيام بالواجبات أداء الفرائض كالصلوات الخمس.
والمراد بالكبيرة كل ذنب رتب عليه عقوبة خاصة، كالحد والوعيد واللعن ونحو ذلك مثاله النميمة، وهي نقل كلام الناس بعضهم إلى بعض لقصد الإفساد بينهم، كأن يذهب شخص لآخر فيقول له: فلان قال فيك كذا وكذا، مما يؤدي إلى العداوة والبغضاء بينهم، ولهذا قال النبي - صلّى الله عليه وسلّم -: ((لا يدخل الجنة قتات))[27] أي: نمام، وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "مرّ النبي - صلّى الله عليه وسلّم - بقبرين، فقال: إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستنزه من بوله، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة" [28] فإذا نم الإنسان مرة واحدة ولم يتب فليس بعدل.
ومن الكبائر أيضًا الغيبة وهي ذكرك أخاك بما يكره من عيب خلقي، أو خُلقي، أو ديني.
فالخلقي كأن تقول: إن هذا الرجل أعور، أو أنفه معوج، أو فمه واسع، وما أشبه ذلك.
والديني مثل أن تقول: هذا متهاون بالصلاة، وهذا لا يبر والديه، وما أشبه ذلك.(/11)
والخُلُقي كأن تقول: هذا أحمق، سريع الغضب، عصبي، وما أشبه ذلك إذا كان في غيبته أما إذا كان في حضوره، فإنه يسمى سبًّا وليس بغيبة، والفقهاء يزيدون على ذلك في وصف العدل ألا يخالف المروءة، فإن خالف المروءة فإنه ليس بعدل، ومثلوا لذلك بمن يأكل في السوق، وبمن يتمسخر بالناس أي: يقلد أصواتهم أو حركاتهم وما أشبه ذلك.
وقياس كلام أحمد في قوله: إن من ترك الوتر فهو رجل سوء لا ينبغي أن تقبل له شهادة، أن من ترك عبادة مؤكدة أنه تسقط عدالته.
ولكن ينبغي أن يقال: إن الشهادة في الأموال ليست كالشهادة في الأخبار الدينية، ففي الأموال يجب أن نشدد، لا سيما في هذا العصر لكثرة من يشهدون زورًا، لكن في الشهادة الدينية يبعد أن يكذب الإنسان فيها، إلا أن يكون هناك مغريات توجب أن يكذب.
مثل ما يقال في بعض الدول إذا شهد شخص بدخول رمضان أعطوه مكافأة، أو بشهادة شوال أخذ مكافأة هذه الأشياء ربما تغري ضعيف الإيمان فيشهد بما لا يرى.
ولو قلنا بقول الفقهاء لم نجد عدلاً؛ فمن يسلم من الغيبة، والسخرية بالناس، والتهاون بالواجبات، وأكل المحرم، وغير ذلك؛ ولهذا كان الصحيح بالنسبة للشهادة أنه يقبل منها ما يترجح أنه حق وصدق؛ لقوله تعالى: {مِمَنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282]؛ ولأن الله لم يأمرنا برد شهادة الفاسق بل أمرنا بالتبين فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6].
ويشترط مع العدالة أن يكون قوي البصر بحيث يحتمل صدقه فيما ادعاه، فإن كان ضعيف البصر لم تقبل شهادته، وإن كان عدلاً؛ لأنه إذا كان ضعيف البصر وهو عدل، فإننا نعلم أنه متوهم.(/12)
والدليل على ذلك أن القوة والأمانة شرطان أساسيان في العمل، ففي قصة موسى مع صاحب مدين قالت إحدى ابنتيه: {يَاأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص: 26] وقال العفريت من الجن الذي التزم أن يأتي بعرش ملكة سبأ {وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ} [النمل: 39] ومن ذلك الشهادة لا بد فيها من الأمانة التي تقتضيها العدالة، ولا بد فيها من القوة التي يحصل بها إدراك المشهود به ففات المؤلف هنا أن يقول: قوي البصر، لكن لو أراد شخص أن يعتذر عن المؤلف، فيقول: إن العدل إذا كان ضعيف البصر فلا يمكن أن يشهد بما لا يرى.
فنقول: هذا ليس بعذر؛ لأن العدل إذا توهم أنه رأى الهلال فسوف يصر على أنه رآه؛ لما عنده من الدين الذي يرى أنه من الواجب عليه أن يبلغ ليصوم الناس أو يفطروا، لذلك فلا بد من إضافة قوي البصر.
مسائل:
الأولى: لو تراءى عدل الهلال مع جماعة كثيرين، وهو قوي البصر ولم يره غيره فهل يصام برؤيته؟
الجواب: نعم يصام، وهذا هو المشهور من مذهبنا وعليه أكثر أهل العلم، وقال بعض العلماء: إنه إذا لم يره غيره مع كثرة الجمع فإنه لا يعتبر قوله؛ لأنه يبعد أنه ينفرد بالرؤية دونهم.
والصحيح الأول لعدالته وثقته.
الثانية: من رأى الهلال وهو ممن يفعل الكبيرة، كشرب الخمر يلزمه أن يخبر أنه رأى الهلال، ولا يخبر أنه يفعل كبيرة؛ لأن الأحكام تتبعّض.
الثالثة: على المذهب لا تقبل شهادة مستور الحال؛ للجهل بعدالته.
وعندي أن القاضي إذا وثق بقوله فلا يحتاج للبحث عن عدالته.(/13)
قوله: "ولو أنثى" "لو" غالبًا تأتي إشارة للخلاف، والمسألة هنا كذلك فإن بعض العلماء قال: إن الأنثى لا تقبل شهادتها لا في رمضان، ولا في غيره من الشهور؛ لأن الذي رأى الهلال في عهد رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - رجل[29]؛ ولأن النبي - صلّى الله عليه وسلّم - قال: "فإن شهد شاهدان فصوموا وأفطروا" [30] والمرأة شاهدة وليست شاهدًا.
لكن الأصحاب يقولون: إن هذا خبر ديني يستوي فيه الذكور والإناث، كما استوى الذكور والإناث في الرواية، والرواية خبر ديني؛ ولهذا لم يشترطوا لرؤية هلال رمضان ثبوت ذلك عند الحاكم، ولا لفظ الشهادة، بل قالوا لو سمع شخصًا ثقة يحدث الناس في مجلسه بأنه رأى الهلال فإنه يلزمه أن يصوم بخبره.
قوله: "فإن صاموا بشهادة واحد ثلاثين يومًا، فلم ير الهلال أو صاموا لأجل غيم لم يفطروا" "إن صاموا" أي: الناس "بشهادة واحد" أي: في دخول شهر رمضان ولم يروا هلال شوال، فإنهم لا يفطرون فيصومون واحدًا وثلاثين يومًا؛ لأنه لا يثبت خروج الشهر إلا بشهادة رجلين، وهنا الصوم مبني على شهادة رجل فهو مبني على سبب لا يثبت به خروج الشهر، فلو أفطروا لكانوا قد بنوا على شهادة واحد وهذا لا يكون في الفطر، هذا هو المشهور من المذهب[31].
وقال بعض أهل العلم: بل إذا صاموا ثلاثين يومًا بشهادة واحد لزمهم الفطر؛ لأن الفطر تابع للصوم ومبني عليه، والصوم ثبت بدليل شرعي وقد صاموا ثلاثين يومًا، ولا يمكن أن يزيد الشهر على ثلاثين يومًا، أو يقال يلزمهم الفطر تبعًا للصوم؛ لأنه يثبت تبعًا ما لا يثبت استقلالاً وهذا القول هو الصحيح.
وقوله: "أو صاموا لأجل غيم لم يفطروا" إذا صاموا لأجل غيم، فإنهم لا يفطرون؛ لأن صيامهم في أول الشهر ليس مبنيًا على بينة، وإنما هو احتياط.
وعلى القول الصحيح لا ترد هذه المسألة؛ لأنه لن يصام لأجل غيم، فهذه المسألة إنما ترد على قول من يلزمهم بالصيام لأجل الغيم.(/14)
تنبيه: كل الأشياء المعلقة بدخول شهر رمضان لا تحل في ليلة الثلاثين من شعبان إذا كان غيم أو قتر، وإنما يجب الصوم فقط لأن الشهر لم يثبت دخوله شرعًا، وإنما صمنا احتياطًا، مثال ذلك، لو قال رجل لزوجته: إذا دخل رمضان فأنت طالق، فإنه لا يقع الطلاق بتلك الليلة، وكذا الديون المؤجلة إلى دخول شهر رمضان فإنها لا تحل بتلك الليلة، وكذا المعتدة بالأشهر إذا كانت عدتها تنتهي بتمام شعبان فإنها لا تنتهي بتلك الليلة.
مسألة: لو صام برؤية بلد، ثم سافر لبلد آخر قد صاموا بعدهم بيوم، وأتم هو ثلاثين يومًا ولم ير الهلال في تلك البلد التي سافر إليها، فهل يفطر، أو يصوم معهم؟
الصحيح أنه يصوم معهم، ولو صام واحدًا وثلاثين يومًا، وربما يقاس ذلك على ما لو سافر إلى بلد يتأخر غروب الشمس فيه، فإنه يفطر حسب غروب الشمس في تلك البلد التي سافر إليها.
وقيل: - وهو المذهب - إنه يفطر سرًا؛ لأنه إذا رؤي في بلد لزم الناس كلهم حكم الصوم والفطر.
وَمَنْ رَأَى وَحْدَهُ هِلاَلَ رَمَضَانَ، وَرُدَّ قَولُهُ، أوْ رَأى هِلاَلَ شَوَّالٍ صَام..........
قوله: "ومن رأى وحده هلال رمضان، ورد قوله، أو رأى هلال شوال صام" "وحده" أي: منفردًا عن الناس، سواء كان منفردًا بمكان أو منفردًا برؤية.
مثال ما إذا كان منفردًا بمكان، إذا كان الإنسان في برية ليس معه أحد فرأى الهلال، وذهب إلى القاضي فرد قوله إما لجهالته بحاله، أو لأي سبب من الأسباب.
ومثال الانفراد بالرؤية، أن يجتمع معه الناس لرؤية الهلال فيراه هو، ولا يراه غيره لكن رد قوله فيلزمه الصوم؛ لقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] ولقول النبي - صلّى الله عليه وسلّم - "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته" [32] وهذا الرجل رآه فوجب عليه الصوم، وكل ما يترتب على دخول الشهر؛ لأنه رآه.(/15)
وقال بعض العلماء: لو رأى هلال رمضان وحده لم يلزمه الصوم؛ لأن الهلال ما هلَّ واشتهر لا ما رئي.
وقوله: "أو رأى هلال شوال صام" أي: وجوبًا ففرق المؤلف بين من انفرد برؤية هلال رمضان، ورد قوله بأنه يصوم مع مفارقته الجماعة، وبين من انفرد برؤية هلال شوال فإنه يصوم ولا يفطر برؤيته؛ ووجه ذلك أن هلال شوال لا يثبت شرعًا إلا بشاهدين، وهنا لم يشهد به إلا واحد، فلا يكون داخلاً شرعًا فيلزمه الصوم مع أنه رآه.
وأما هلال رمضان فيثبت بشهادة واحد وقد شهد به فلزمه الصوم.
وقال بعض العلماء: بل يجب عليه الفطر سرًا لقول النبي - صلّى الله عليه وسلّم -: ((صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته)) وهذا الرجل قد رآه فيلزمه الفطر، ولكن يكون سرًا؛ لئلا يظهر مخالفة الجماعة.
واختار شيخ الإسلام - رحمه الله - في هاتين المسألتين أنه يتبع الناس؛ فلو رأى وحده هلال رمضان لم يصم؛ ولو رأى هلال شوال وحده لم يفطر؛ لأن الهلال ما هَلَّ واستهل، واشتهر، لا ما رئي.
والذي يظهر لي في مسألة الصوم في أول الشهر ما ذكره المؤلف أنه يصوم، وأما في مسألة الفطر فإنه لا يفطر تبعًا للجماعة، وهذا من باب الاحتياط، فنكون قد احتطنا في الصوم والفطر، ففي الصوم قلنا له: صم، وفي الفطر قلنا له: لا تفطر بل صم.
مسألة: تبين مما سبق أن دخول رمضان يثبت بشهادة واحد، ودليل ذلك حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: "تراءى الناس الهلال فأخبرت النبي - صلّى الله عليه وسلّم - أني رأيته فصام وأمر الناس بصيامه" [33].(/16)
وهلال شوال وغيره من الشهور لا يثبت إلا بشاهدين لقول النبي - صلّى الله عليه وسلّم -: ((فإن شهد شاهدان فصوموا وأفطروا)) [34] ومثله دخول شهر ذي الحجة لا يثبت إلا بشاهدين، فلو رآه شخص وحده لم يثبت دخول الشهر بشهادته؛ وعلى هذا فإذا وقف رجل بعرفة في اليوم التاسع عنده الذي هو الثامن عند الناس فإن ذلك لا يجزئه. وإن أراد أن يصوم اليوم التاسع عنده الذي هو عند الناس الثامن بنية أنه يوم عرفة، فإن ذلك لا يجزئه عن صوم يوم عرفة، ولو صام اليوم التاسع عند الناس الذي هو العاشر عنده، هل يجوز أن يصومه؟
الجواب: نعم يجوز أن يصومه؛ لأنه وإن كان عنده حسب رؤيته العاشر فإنه عند الناس التاسع، فلم يثبت شرعًا دخول شهر ذي الحجة بشهادة هذا الرجل، وعلى هذا فإذا وقف في العاشر عنده، وهو التاسع عند الناس أجزأه الوقوف.
وقول المؤلف هنا: "ومن رأى وحده هلال رمضان، ورد قوله" ولم يقل في هلال شوال ورد قوله؟ لأن هلال شوال لا يثبت برؤية واحد مطلقًا حتى لو قبل وصدق، بخلاف هلال رمضان.
وَيَلْزَمُ الصَّوْمُ لِكُلِّ مُسْلِمٍ مُكَلَّفٍ قَادِرٍ..........
قوله: "ويلزم الصوم لكل مسلم مكلف قادر" هذا شروع في بيان شروط من يلزمه الصوم قوله (لكل مسلم) اللام زائدة، أي: يلزم كل مسلم.
هذا هو الشرط الأول، والإسلام ضده الكفر، فالكافر لا يلزمه الصوم، ولا يصح منه.
ومعنى قولنا لا يلزمه أننا لا نلزمه به حال كفره، ولا بقضائه بعد إسلامه، والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ} [التوبة].
فإذا كانت النفقات ونفعها متعد لا تقبل منهم لكفرهم، فالعبادات الخاصة من باب أولى.(/17)
وكونه لا يقضي إذا أسلم؛ دليله قوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38]، وثبت عن طريق التواتر عن الرسول - صلّى الله عليه وسلّم - أنه كان لا يأمر من أسلم بقضاء ما فاته من الواجبات.
ولكن هل يعاقب على تركها في الآخرة إذا لم يسلم؟
الجواب: نعم، يعاقب على تركها في الآخرة، وعلى ترك جميع واجبات الدين؛ لأنه إذا كان المسلم المطيع لله الملتزم بشرعه قد يعاقب عليها، فالمستكبر من باب أولى، وإذا كان الكافر يعذب على ما يتمتع به من نعم الله من طعام وشراب ولباس، ففعل المحرمات وترك الواجبات من باب أولى.
والدليل ما ذكره الله تعالى عن أصحاب اليمين أنهم يقولون للمجرمين: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ *قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ *وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ *وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ *وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} [المدثر]. فذكروا أربعة أسباب منها ترك واجبات
فإن قال قائل: تكذيبهم بيوم الدين كفر وهو الذي أدخلهم سقر؟
فالجواب: أنهم ذكروا أربعة أسباب ولولا أن لهذه المذكورات، مع تكذيبهم بيوم الدين أثرًا في إدخالهم النار، لم يكن في ذكرها فائدة، ولو أنهم لم يعاقبوا عليها ما جرت على بالهم.
فالسبب الأول: {لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ}الصلاة.
والثاني: {وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} الزكاة.
والثالث: {وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ} مثل الاستهزاء بآيات الله.
والرابع: {وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ}.
وقوله: "مكلف" هذا هو الشرط الثاني، وإذا رأيت كلمة مكلف في كلام الفقهاء فالمراد بها البالغ العاقل؛ لأنه لا تكليف مع الصغر ولا تكليف مع الجنون.(/18)
والبلوغ يحصل بواحد من ثلاثة بالنسبة للذكر: إتمام خمس عشرة سنة وإنبات العانة، وإنزال المني بشهوة، وللأنثى بأربعة أشياء هذه الثلاثة السابقة ورابع، وهو الحيض، فإذا حاضت فقد بلغت حتى ولو كانت في سن العاشرة.
والعاقل ضده المجنون، أي: فاقد العقل، من مجنون ومعتوه ومهزرٍ؛ فكل من ليس له عقل بأي وصف من الأوصاف فإنه ليس بمكلف، وليس عليه واجب من واجبات الدين لا صلاة ولا صيام ولا إطعام بدل صيام، أي: لا يجب عليه شيء إطلاقًا، إلا ما استثني كالواجبات المالية، وعليه فالمهذري أي: المخرف لا يجب عليه صوم، ولا إطعام بدله لفقد الأهلية وهي العقل.
وهل مثل المهذري من أضل عقله بحادث؟
فالجواب أنه إن كان كالمغمى عليه فإنه يلزمه الصوم؛ لأن المغمى عليه يلزمه الصوم فيقضيه بعد صحوه، وإن وصل به فقد العقل إلى الجنون، ومعه شعوره فله حكم المجنون، وكذلك من كان يجن أحيانًا، ففي اليوم الذي يجن فيه لا يلزمه الصوم، وفي اليوم الذي يكون معه عقله يلزمه.
ودليل ذلك قوله - صلّى الله عليه وسلّم - "رفع القلم عن ثلاثة النائم حتى يستيقظ وعن الصغير حت يبلغ وعن المجنون حتى يفيق" [35].
وقوله: "قادر" هذا هو الشرط الثالث، أي: قادر على الصيام احترازًا من العاجز، فالعاجز ليس عليه صوم لقول الله تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184].
لكن بالتتبع والاستقراء تبين أن العجز ينقسم إلى قسمين: قسم طارئ، وقسم دائم.
فالقسم الطارئ هو الذي يرجى زواله، وهو المذكور في الآية فينتظر العاجز حتى يزول عجزه ثم يقضي لقوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}.(/19)
والدائم هو الذي لا يرجى زواله وهو المذكور في قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184] حيث فسرها ابن عباس - رضي الله عنهما - بالشيخ والشيخة إذا كانا لا يطيقان الصوم فيطعمان عن كل يوم مسكينًا[36]، والحقيقة أنه بالنظر إلى ظاهر الآية ليس فيها دلالة على ما فسره ابن عباس - رضي الله عنهما -؛ لأن الآية في الذين يطيقون الصوم {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 184] وهذا واضح أنهم قادرون على الصوم، وهم مخيرون بين الصوم والفدية، وهذا أول ما نزل وجوب الصوم كان الناس مخيرين إن شاؤوا صاموا، وإن شاؤوا أفطروا وأطعموا، وهذا ما ثبت في الصحيحين عن سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه - قال: "لما نزلت هذه الآية: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} كان من أراد أن يفطر ويفتدي، حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها"[37].
لكن غور فقه ابن عباس وعلمه بالتأويل يدل على عمق فقهه - رضي الله عنه -؛ لأن وجه الدلالة من الآية أن الله تعالى جعل الفدية عديلاً للصوم لمن قدر على الصوم، إن شاء صام وإن شاء أطعم، ثم نسخ التخيير إلى وجوب الصوم عينا، فإذا لم يقدر عليه بقي عديله وهو الفدية، فصار العاجز عجزًا لا يرجى زواله، يجب عليه الإطعام عن كل يوم مسكينًا.
أما كيفية الإطعام، فله كيفيتان:
الأولى: أن يصنع طعامًا فيدعو إليه المساكين بحسب الأيام التي عليه، كما كان أنس بن مالك - رضي الله عنه - يفعله لما كبر.(/20)
الثانية: أن يطعمهم طعامًا غير مطبوخ، قالوا: يطعمهم مد برٍ أو نصف صاع من غيره، أي: من غير البر، ومد البر هو ربع الصاع النبوي، فالصاع النبوي أربعة أمداد، والصاع النبوي أربعة أخماس صاعنا، وعلى هذا يكون صاعنا خمسة أمداد، فيجزئ من البر عن خمسة أيام خمسة مساكين، لكن ينبغي في هذه الحال أن يجعل معه ما يؤدمه من لحم أو نحوه، حتى يتم قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}.
وأما وقت الإطعام فهو بالخيار إن شاء فدى عن كل يوم بيومه، وإن شاء أخر إلى آخر يوم لفعل أنس رضي الله عنه.
وهل يقدم الإطعام قبل ذلك؟
الجواب لا يقدم؛ لأن تقديم الفدية كتقديم الصوم، فهل يجزئ أن تقدم الصوم في شعبان؟
الجواب: لا يجزئ.
الشرط الرابع: أن يكون مقيمًا، ولم يذكره المؤلف - رحمه الله - اعتمادًا على ما سيذكره في حكم الصوم في السفر، فإن كان مسافرًا فلا يجب عليه الصوم؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185] وقد أجمع العلماء أنه يجوز للمسافر الفطر، واختلفوا فيما لو صام، فذهبت الظاهرية وبعض أهل القياس إلى أنه لا يصح صوم مسافر، وأنه لو صام فقد قدم الصوم على وقته وكان كمن صام رمضان في شعبان.
وحجتهم في هذا قوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185] لأن "عدة" مبتدأ خبرها محذوف والتقدير فعليه عدة من أيام أخر، والأخر بمعنى المغايرة وقول الرسول - صلّى الله عليه وسلّم -: ((ليس من البر الصوم في السفر)) [38] وإذا لم يكن برًا صار إثمًا.(/21)
ولكن قولهم ضعيف، فلقد ثبت أن النبي - صلّى الله عليه وسلّم - صام في سفره في رمضان، وثبت أن الصحابة كانوا يصومون في سفرهم في رمضان فلا يعيب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم[39]، وكذلك حديث حمزة بن عمرو الأسلمي - رضي الله عنه - أنه سأل النبي - صلّى الله عليه وسلّم - قال: إنه يصادفني هذا الشهر وأنا في سفر فقال له: "إن شئت فصم وإن شئت فأفطر" [40]، وحيئذ يكون المراد بالآية بيان البدل أن عليه عدة من أيام أخر، لا وجوب أن تكون عدة من أيام أخر.
وعليه فإن المسافر لا يلزمه الصوم، لكن يلزمه القضاء كالمريض.
وأيهما أفضل للمريض والمسافر أن يصوما، أو يفطرا؟
نقول: الأفضل أن يفعلا الأيسر، فإن كان في الصوم ضرر كان الصوم حرامًا لقوله تعالى {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29] فإن هذه الآية تدل على أن ما كان ضررًا على الإنسان كان منهيًا عنه.
فإذا قال قائل: هذا في القتل فقط لا في مطلق الضرر؟
فالجواب: نعم هذا ظاهر الآية، لكن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - استدل بها على نفي الضرر فأقره النبي - صلّى الله عليه وسلّم - على ذلك، وذلك أنه بعثه مع سرية فأجنب فتيمم ولم يغتسل، فقال له النبي - صلّى الله عليه وسلّم -: ((أصليت بأصحابك وأنت جنب؟)) فقال: يا رسول الله ذكرت قول الله تعالى {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا}، وكانت الليلة باردة فتيممت، فضحك الرسول - صلّى الله عليه وسلّم -[41] تقريرًا لفعله، وهذا يدل على أن الآية تتضمن النهي عن قتل النفس، وكل ما كان فيه ضرر.
وعليه فنقول: إذا كان الصوم يضر المريض كان الصوم حرامًا عليه.
فإذا قال قائل: ما مقياس الضرر؟
قلنا: إن الضرر يعلم بالحس، وقد يعلم بالخبر؛ أما بالحس فأن يشعر المريض بنفسه أن الصوم يضره، ويثير عليه الأوجاع، ويوجب تأخر البرء، وما أشبه ذلك.(/22)
وأما الخبر فأن يخبره طبيب عالم ثقة بذلك، أي: بأنه يضره؛ فإن أخبره عامي ليس بطبيب فلا يأخذ بقوله، وإن أخبره طبيب غير عالم، ولكنه متطبب، فلا يأخذ بقوله، وإن أخبره طبيب غير ثقة فلا يأخذ بقوله.
وهل يشترط أن يكون مسلمًا لكي نثق به؛ لأن غير المسلم لا يوثق؟
فيه قولان لأهل العلم، والصحيح أنه لا يشترط، وأننا متى وثقنا بقوله عملنا بقوله في إسقاط الصيام؛ لأن هذه الأشياء صنعته، وقد يحافظ الكافر على صنعته وسمعته، فلا يقول إلا ما كان حقًا في اعتقاده، والنبي - صلّى الله عليه وسلّم - وثق بكافر في أعظم الحالات خطرًا، وذلك حين هاجر من مكة إلى المدينة استأجر رجلاً مشركًا من بني الدَيَّل، يقال له: عبد الله بن أريقط؛ ليدله على الطريق[42] وهذه المسألة خطرة؛ لأن قريشًا كانت تبحث عن الرسول - صلّى الله عليه وسلّم - وجعلت مائة ناقة لمن يدل عليه، ولكن الرسول - صلّى الله عليه وسلّم - كان واثقًا منه، فدل هذا على أن المشرك إذا وثقنا منه فإننا نأخذ بقوله.
مسألة: هل الأولى للمسافر أن يصوم أو الأولى ألا يصوم؟
فالجواب أما مذهب الحنابلة[43] فالأولى ألا يصوم؛ بل كرهوا الصوم للمسافر وقال الشافعية: الأولى أن يصوم، وقال آخرون: إنه على التخيير، لا نفضل الفطر ولا الصوم.
والصحيح التفصيل في هذا، وهو أنه إذا كان الفطر والصيام سواء، فالصيام أولى لوجوه أربعة:
الأول: أن ذلك فعل الرسول - صلّى الله عليه وسلّم - كما في حديث أبي الدرداء رضي الله عنه قال: كنا مع النبي - صلّى الله عليه وسلّم - في يوم شديد الحر حتى إن أحدنا ليضع يده على رأسه من شدة الحر وما فينا صائم، إلا رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - وعبد الله بن رواحة [44].
الثاني: أنه أسرع في إبراء الذمة.
الثالث: أنه أيسر على المكلف وما كان أيسر فهو أولى.
الرابع: أنه يصادف صيامه رمضان، ورمضان أفضل من غيره وعلى هذا نقول الأفضل الصوم.(/23)
وإذا كان يشق عليه الصيام فالفطر أولى، والدليل على هذا: أن النبي - صلّى الله عليه وسلّم - كان صائمًا في السفر، ولم يفطر إلا حين قيل له إن الناس قد شق عليهم الصيام، وينتظرون ما ستفعل، ولم يفطروا - يريدون التأسي بالرسول - صلّى الله عليه وسلّم - فدعا الرسول - صلّى الله عليه وسلّم - بقدح من الماء بعد العصر ورفعه على فخذه حتى رآه الناس، فشرب، والناس ينظرون إليه ليقتدوا به، فجيء إليه وقيل: إن بعض الناس قد صام، فقال عليه الصلاة والسلام: "أولئك العصاة أولئك العصاة" [45]، لأنهم صاموا مع المشقة، ولأنهم خالفوا رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - حيث أفطر وبقوا هم صيامًا.
وإن كانت المشقة شديدة يخشى منها الضرر فالصوم حرام لقوله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ}.
وأما قول الرسول - صلّى الله عليه وسلّم -: ((ليس من البر الصوم في السفر)) [46] الذي استدل به الحنابلة، فهذا خاص بالرجل الذي رآه النبي - صلّى الله عليه وسلّم - قد ظلل عليه والناس حوله، فقال - صلّى الله عليه وسلّم -: ما هذا؟ فقالوا: هذا صائم، فقال: "ليس من البر الصوم في السفر".
فإن قيل: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب؟
فنقول: الخصوصية نوعان:
خصوصية شخصية، وخصوصية نوعية.
فالخصوصية الشخصية: أن يقال: إن هذا الحكم خاص بهذا الرجل لا يتعداه إلى غيره وهذا يحتاج إلى دليل خاص، وهذا هو الذي تقول فيه: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فآية اللعان وردت في قصة رجل معين، وآية الظهار كذلك، فالعبرة بالعموم فكل أحد يثبت له هذا الحكم.
والخصوصية النوعية: وإن شئت فقل الخصوصية الحالية، أي: التي لا يثبت بها العموم إلا لمن كان مثل هذا الشخص، أي مثل حاله، فيقال: ليس من البر الصوم في السفر لمن شق عليه، كهذا الرجل، ولا يعم كل إنسان صام.(/24)
الشرط الخامس: الخلو من الموانع، وهذا خاص بالنساء، فالحائض لا يلزمها الصوم، والنفساء لا يلزمها الصوم؛ لقول النبي - صلّى الله عليه وسلّم - مقررًا ذلك: "أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم" [47] فلا يلزمها إجماعًا ولا يصح منها إجماعًا، ويلزمها قضاؤه إجماعًا، فهذه ثلاثة إجماعات، والنفساء كالحائض في هذا.
وإذا قَامَتْ البَيِّنَةُ في أثْنَاءِ النَّهارِ وَجَبَ الإِمْسَاكُ والقَضَاءُ عَلى كلِّ مَن صَارَ في أثْنائِهِ أهلاً لِوُجوبِهِ.........
قوله: "وإذا قامت البينة في أثناء النهار وجب الإمساك والقضاء على كل من صار في أثنائه أهلاً لوجوبه" قوله: البينة أي: بينة دخول الشهر، إما بالشهادة وإما بإكمال شعبان ثلاثين يومًا. وقوله "وجب الإمساك" يعني الإمساك عن المفطرات.
ودليل ذلك أن النبي - صلّى الله عليه وسلّم - حين أمر الناس بصيام عاشوراء في أثناء اليوم أمسكوا في حينه[48]؛ ولأنه ثبت أن هذا اليوم من رمضان فوجب إمساكه.
وقوله "والقضاء" أي يلزم قضاء ذلك اليوم الذي قامت البينة في أثنائه أنه من رمضان، ووجه ذلك أن من شرط صحة صيام الفرض أن تستوعب النية جميع النهار، فتكون من قبل الفجر والنية هنا كانت من أثناء النهار فلم يصوموا يومًا كاملاً، وقد قال النبي - صلّى الله عليه وسلّم -: ((إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى)) [49].(/25)
ووجوب القضاء في هذه المسألة - أي: ما إذا قامت البينة أثناء النهار - هو قول عامة العلماء، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: يلزمهم الإمساك ولا يلزمهم القضاء ووجه ذلك أن أكلهم وشربهم قبل قيام البينة كان مباحًا، قد أحله الله لهم فلم ينتهكوا حرمة الشهر، بل كانوا جاهلين بنوا على أصل وهو بقاء شعبان فيدخلون في عموم قوله تعالى: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِيْنَا أَوْ أَخْطَأْنَا} فهم كمن أكل ظانًا بقاء الليل فتبين أن الفجر قد طلع، أو أكل ظانًا غروب الشمس فتبين أنها لم تغرب وقد ثبت في صحيح البخاري عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، قالت: أفطرنا في يوم غيم على عهد النبي - صلّى الله عليه وسلّم - ثم طلعت الشمس [50]، ولم ينقل أنهم أمروا بالقضاء.
وأجاب - رحمه الله - عن كونهم لم ينووا قبل الفجر بأن النية تتبع العلم ولا علم لهم بدخول الشهر، وما ليس لهم به علم فليس بوسعهم، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، ولهذا لو أخروا النية بعد علمهم بدخول الشهر لم يصح صومهم.
وتعليله وجوابه - رحمه الله - قوي ولكن لا تطيب النفس بقوله، وقياسه على من أكل يظن بقاء الليل أو غروب الشمس، فيه نظر؛ لأن هذا كان عنده نية للصوم لكن أكل يظن الليل باقيًا أو يظنه داخلاً، ولهذا كان الخلاف في المسألتين أشهر من الخلاف في المسألة الأولى.
وقوله "على كل من صار في أثنائه أهلاً لوجوبه" أي: بأن كان مسلمًا بالغًا عاقلاً.
وهذه المسألة لها ثلاث حالات:
الأولى: أن يكون من أهل الوجوب من قبل الفجر فيلزمه الإمساك بمجرد قيام البينة في أثناء النهار.
الثانية: أن يصير من أهل الوجوب في أثناء النهار قبل قيام البينة مثل أن يسلم أو يبلغ أو يفيق في الضحى، ثم تقوم البينة بعد الظهر فحكمها كالأولى.(/26)
الثالثة: أن يصير من أهل الوجوب بعد قيام البينة مثل أن تقوم البينة في الضحى، ويسلم أو يبلغ أو يفيق بعد الظهر، فلا يلزمه الإمساك بمجرد قيام البينة، بل حتى يصير من أهل الوجوب.
(تتمة) أفادنا المؤلف - رحمه الله تعالى - أن من قام به سبب الوجوب أثناء نهار رمضان مثل أن يسلم الكافر أو يبلغ الصغير أو يفيق المجنون فإنه يلزمهم الإمساك والقضاء، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد وهو قول أبي حنيفة وسبق دليله وتعليله.
القول الثاني: لا يلزمهم إمساك ولا قضاء وهو الرواية الثانية عن أحمد.
والقول الثالث: يلزمهم الإمساك دون القضاء وذكر رواية عن أحمد واختيار الشيخ تقي الدين (شيخ الإسلام ابن تيمية) وهو مذهب مالك وهو الراجح؛ لأنهم لا يلزمهم الإمساك في أول النهار لعدم شرط التكليف وقد أتوا بما أمروا به حين أمسكوا عند وجود شرط التكليف، ومن أتى بما أمر به لم يكلف الإعادة.
وَكَذا حَائِضٌ وَنَفْسَاءُ طَهرَتَا وَمُسافِرٌ قَدِمَ مُفْطِرًا وَمَنْ أَفْطَرَ لِكِبَرٍ أَوْ مَرَضٍ لاَ يُرْجَى بُرْؤُهُ أَطْعَمَ لِكُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا.
قوله: "وكذا حائض ونفساء طهرتا ومسافر قدم مفطرًا" أي: ومثل الذي كان أهلاً للوجوب في أثناء النهار من حيث وجوب الإمساك والقضاء، حائض ونفساء طهرتا ومسافر قدم مفطرًا، فهذه ثلاثة مسائل وثمت مسألة رابعة وهي مريض برئ ويعبر عن هذه المسائل بما إذا زال مانع الوجوب في أثناء النهار، فهل يجب الإمساك والقضاء؟
والجواب أما القضاء فلا شك في وجوبه لأنهم أفطروا من رمضان فلزمهم قضاء ما أفطروا لقوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185] وقوله عائشة رضي الله عنها: "كنا نؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة" [51] تعني الحيّض.(/27)
وأما الإمساك فكلام المؤلف - رحمه الله - يدل على وجوبه وهو المذهب؛ لأنهم إنما أفطروا لمانع وقد زال والحكم يزول بزوال علته، وعن أحمد رواية أخرى لا يلزمهم الإمساك؛ لأنهم يجوز لهم الفطر في أول النهار ظاهرًا وباطنًا، فقد حل لهم في أول النهار الأكل والشرب وسائر ما يمكن من المفطرات، ولا يستفيدون من هذا الإمساك شيئًا، وحرمة الزمن قد زالت بفطرهم المباح لهم أول النهار، وقد روي عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: "من أكل أول النهار فليأكل آخره" [52] يعني أن من حل له الأكل في أول النهار حلَّ له الأكل في آخره، وهذا القول هو الراجح وعلى هذا لو قدم المسافر إلى بلده مفطرًا ووجد زوجته قد طهرت أثناء ذلك اليوم من الحيض وتطهرت جاز له جماعها.
وإذا أفطر لإنقاذ غريق فأنقذه لم يلزمه الإمساك آخر النهار.
وإذا أفطرت مرضع خوفًا على ولدها ثم مات في أثناء اليوم لم يلزمها إمساك بقيته.
والقاعدة على هذا القول الراجح أن من أفطر في رمضان لعذر يبيح الفطر، ثم زال ذلك العذر أثناء النهار لم يلزمه الإمساك بقية اليوم.
قوله: "ومن أفطر لكبر أو مرض لا يرجى برؤه أطعم لكل يوم مسكينًا" قوله "من أفطر لكبر" اللام هنا للتعليل أي: بسبب الكبر، فإن الإنسان إذا كبر فإنه يشق عليه الصوم، والكبر لا يرجى برؤه؛ لأن الرجوع إلى الشباب متعذر، فالكبير لا يمكن أن يرجع شابًا. كما قال الراجز:
ليتَ وهل ينفعُ شيئًا ليتُ ليتَ شبابًا بُوعَ فاشتريتُ(/28)
فإذا أفطر لكبر فإنه ميؤوس من قدرته على الصوم، ولذلك فإنه يلزمه الفدية، وكذلك من أفطر لمرض لا يرجى برؤه، ويمثل له كثير من العلماء فيما سبق بالسل يقولون: إنه لا يرجى برؤه، لكن هذا المثال في الوقت الحاضر لا ينطبق؛ لأن السل صار مما يمكن برؤه، لكن يمكن أن نمثل له في وقتنا هذا بالسرطان، فإن السرطان لا يرجى برؤه، فإذا مرض الإنسان بمرض السرطان، وعجز عن الصوم صار حكمه كحكم الكبير الذي لا يستطيع الصوم، فيلزمه فدية عن كل يوم.
وهنا نحتاج إلى أمرين:
الأول: أن وجه سقوط الصوم عنه عدم القدرة الدائم، وليس كالمريض الذي قال الله فيه: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] لأن هذا يرجى برؤه، والآخر لا يرجى برؤه فسقط وجوب الصوم عنه للعجز عنه.
الثاني: إن قيل: ما الدليل على وجوب الفدية، مع أنه اتقى الله ما استطاع في قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]؟ فالجواب: ما ثبت عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال في الشيخ والشيخة إذا لم يطيقا الصوم: "يطعمان لكل يوم مسكينًا" وقد استدل على ذلك بقوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}[53] [البقرة: 184]، والقول هنا صادر من صحابي، ومعروف خلاف العلماء في قول الصحابي، هل هو حجة أو ليس بحجة؟ لكنه هنا قول صحابي في تفسير آية، وإذا كان في تفسير آية، فقد ذهب بعض العلماء إلى أن تفسير الصحابي له حكم الرفع، وإن كان هذا القول ضعيفًا، ولكن لا شك أنه إذا قال الصحابي قولاً واستدل بآية، فإن استدلاله أصح من استدلال غيره.
فما وجه الاستدلال بالآية؟(/29)
فالجواب: أن استدلال ابن عباس - رضي الله عنهما - بهذه الآية استدلال عميق جدًا، ووجهه أن الله قال: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 184] فجعل الفدية معادلة للصوم، وهذا في أول الأمر لما كان الناس مخيرين بين الصوم والفدية، فلما تعذر أحد البديلين ثبت الآخر، أي: لما تعذر الصوم ثبتت الفدية، وإلا فمن أخذ بظاهر الآية قال: إن الآية لا تدل على هذا، فالآية تدل على أن الذي يطيق الصيام، إما أن يفدي أو يصوم، والصوم خير ثم نسخ هذا الحكم.
والجواب: أن الله تعالى لما جعل الفدية عديلاً للصوم في مقام التخيير دل ذلك على أنها تكون بدلاً عنه في حال تعذر الصوم، وهذا واضح، وعلى هذا فمن أفطر لكبر، أو مرض لا يرجى برؤه، فإنه يطعم عن كل يوم مسكينًا.
ولكن ما الذي يُطْعَم، وما مقداره؟
الجواب: كل ما يسمى طعامًا من تمر أو بر أو رز أو غيره.
وأَمَّا مقداره فلم يقدر هنا ما يعطى فيرجع فيه إلى العرف، وما يحصل به الإطعام، وكان أنس بن مالك - رضي الله عنه - عندما كبر يجمع ثلاثين فقيرًا ويطعمهم خبزًا وأدمًا[54] وعلى هذا فإذا غدّى المساكين أو عشاهم كفاه ذلك عن الفدية.
وقال بعض العلماء: لا يصح الإطعام؛ بل لا بد من التمليك[55]، وعليه فاختلفوا فقال بعضهم: إن الواجب مُدٌ من البر أو نصف صاع من غيره.
وقيل: بل الواجب نصف صاع من أي طعام كان.
فالذين قالوا بالأول قالوا: إن مُد البر يساوي نصف صاع من الشعير؛ لأنه أطيب وأغلى في نفوس الناس.
والذين قالوا إنه نصف صاع على كل حال، قالوا: لأن النبي - صلّى الله عليه وسلّم - قال لكعب بن عجرة في فدية الأذى: "أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع" [56]، قالوا: وهذا نص في تقدير النبي - صلّى الله عليه وسلّم - فيقاس عليه في كل فدية، ويكون نصف صاع.(/30)
فإن قيل: ما المراد بنصف الصاع، هل يرجع فيه إلى العرف، أو يرجع فيه إلى الصاع النبوي؟
فالجواب: لم أعلم أن أحدًا من العلماء قال: إنه يرجع في الصاع إلى العرف، حتى شيخ الإسلام لم يرجع في الأصواع إلى العرف، وإنما رجع فيها إلى صاع النبي - صلّى الله عليه وسلّم -.
وعلى هذا فنقول: المراد نصف صاع من صاع النبي - صلّى الله عليه وسلّم -.
وقد حرر علماؤنا الصاع القصيمي، فوجدوه يزيد على الصاع النبوي ربعًا، أي الصاع النبوي أربعة أخماس الصاع القصيمي، فصاعنا الموجود خمسة أمداد نبوية، وصاع النبي - صلّى الله عليه وسلّم - أربعة أمداد.
أما عدد المساكين فعلى عدد الأيام، فلا يجزئ أن يعطي المسكين الواحد من الطعام أكثر من فدية يوم واحد، ويدل لهذا القراءة المشهورة السبعية الثانية {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} بالجمع فإنها تدل على أنه لا بد أن يكون عن كل يوم مسكين.
والخلاصة أن من عجز عن الصوم عجزًا لا يرجى زواله وجب عليه الإطعام، عن كل يوم مسكينًا، سواء أطعمهم أو ملكهم على القول الراجح.
مسألة: إذا أعسر المريض الذي لا يرجى برؤه أو الكبير، فإنها تسقط عنهما الكفارة؛ لأنه لا واجب مع العجز، والإطعام هنا ليس له بدل.
ويُسَنُّ لِمَرِيضٍ يَضُرُّهُ،........
قوله: "ويسن لمريض يضره" الضمير في قوله "يسن" يعود على الفطر، فإذا كان الإنسان مريضًا يضره الصوم فالإفطار في حقه سنة، وذلك على ما قاله المؤلف - رحمه الله - وإن لم يفطر فقد عدل عن رخصة الله - سبحانه وتعالى - والعدول عن رخصة الله خطأ، فالذي ينبغي للإنسان أن يقبل رخصة الله.
والصحيح أنه إذا كان الصوم يضره فإن الصوم حرام، والفطر واجب؛ لقول الله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] والنهي هنا يشمل إزهاق الروح، ويشمل ما فيه الضرر.(/31)
والدليل على أنه يشمل ما فيه الضرر، حديث عمرو بن العاص - رضي الله عنه - "عندما صلى بأصحابه وعليه جنابة، ولكنه خاف البرد فتيمم، فقال له النبي - صلّى الله عليه وسلّم -: ((صليت بأصحابك وأنت جنب؟ قال: يا رسول الله ذكرت قوله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] وإني خفت البرد، فأقره النبي - صلّى الله عليه وسلّم - على ذلك))[57].
والمريض له أحوال:
الأول: ألا يتأثر بالصوم، مثل الزكام اليسير، أو الصداع اليسير، أو وجع الضرس، وما أشبه ذلك، فهذا لا يحل له أن يفطر، وإن كان بعض العلماء يقول: يحل له لعموم الآية {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا} [البقرة: 185] ولكننا نقول: إن هذا الحكم معلل بعلة، وهي أن يكون الفطر أرفق به فحينئذ نقول له الفطر، أما إذا كان لا يتأثر فإنه لا يجوز له الفطر ويجب عليه الصوم.
الحال الثانية: إذا كان يشق عليه الصوم ولا يضره، فهذا يكره له أن يصوم، ويسن له أن يفطر.
الحال الثالثة: إذا كان يشق عليه الصوم ويضره، كرجل مصاب بمرض الكلى أو مرض السكر، وما أشبه ذلك، فالصوم عليه حرام.
ولكن لو صام في هذه الحال هل يجزئه الصوم؟
قال أبو محمد ابن حزم رحمه الله: لا يجزئه الصوم؛ لأن الله - تعالى - جعل للمريض عدة من أيام أخر، فلو صام في مرضه فهو كالقادر الذي صام في شعبان عن رمضان، فلا يجزئه ويجب عليه القضاء.(/32)
وقول أبي محمد هذا مبني على القاعدة المشهورة، أن ما نهي عنه لذاته فإنه لا يقع مجزئًا، فإذا قلنا بالتحريم فإنَّ مقتضى القواعد أنه إذا صام لا يجزئه؛ لأنه صام ما نهي عنه كالصوم في أيام التشريق، وأيام العيدين لا يحل، ولا يصح، وبهذا نعرف خطأ بعض المجتهدين من المرضى الذين يشق عليهم الصوم وربما يضرهم، ولكنهم يأبون أن يفطروا فنقول: إن هؤلاء قد أخطأوا حيث لم يقبلوا كرم الله - عزّ وجل - ولم يقبلوا رخصته، وأضروا بأنفسهم، والله - عزّ وجل - يقول: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29].
ولمُسافرٍ يَقْصُر.........
قوله: "ولمسافر يقصر" أي: يسن الفطر لمسافر يحل له القصر، وهو الذي يكون سفره بالغًا لمسافة القصر، فأما المسافر سفرًا قصيرًا فإنه لا يفطر، وسفر القصر على المذهب ورأي جمهور العلماء يقدر بمسافة مسيرة يومين قاصدين للإبل، وهي مسافة ستة عشر فرسخًا، ومقدارها بالكيلو، واحد وثمانون كيلو وثلاثمائة وسبعة عشر مترًا بالتقريب لا بالتحديد، فعلى هذا نقول: إذا نوى الإنسان سفر هذه المسافة فإنه يحل له القصر، وحينئذ يسن له أن يفطر.
فإذا قال قائل: لو صام المسافر فما الحكم؟
فالجواب: اختلف العلماء - رحمهم الله - هل الفطر أفضل، أو أن الصوم مكروه، أو أن الصوم حرام، فعلى رأي أبي محمد الصوم حرام[58] ولو صام لم يجزئه، ولكن هذا قول بعيد من الصواب؛ لأن هذا من باب الرخصة.
والدليل على هذا: أن أصحاب النبي - صلّى الله عليه وسلّم - "يصومون ويفطرون مع النبي - صلّى الله عليه وسلّم - في السفر، ولم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم" [59]، والنبي - صلّى الله عليه وسلّم - نفسه كان يصوم.
فالصواب أن المسافر له ثلاث حالات:
الأولى: ألا يكون لصومه مزية على فطره، ولا لفطره مزية على صومه، ففي هذه الحال يكون الصوم أفضل له للأدلة الآتية:(/33)
أولاً: أن هذا فعل الرسول - صلّى الله عليه وسلّم - قال أبو الدرداء - رضي الله عنه -: "كنا مع النبي - صلّى الله عليه وسلّم - في رمضان في يوم شديد الحر حتى إن أحدنا ليضع يده على رأسه من شدة الحر وما فينا صائم إلا رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - وعبد الله بن رواحة" [60] والصوم لا يشق على الرسول - صلّى الله عليه وسلّم - هنا؛ لأنه لا يفعل إلا الأرفق والأفضل.
ثانيًا: أنه أسرع في إبراء الذمة؛ لأن القضاء يتأخر.
ثالثًا: أنه أسهل على المكلف غالبًا؛ لأن الصوم والفطر مع الناس أسهل من أن يستأنف الصوم بعد، كما هو مجرب ومعروف.
رابعًا: أنه يدرك الزمن الفاضل، وهو رمضان، فإنَّ رمضان أفضل من غيره؛ لأنه محل الوجوب، فلهذه الأدلة يترجح ما ذهب إليه الشافعي - رحمه الله - أن الصوم أفضل في حق من يكون الصوم والفطر عنده سواء.
الحال الثانية: أن يكون الفطر أرفق به، فهنا نقول: إن الفطر أفضل، وإذا شق عليه بعض الشيء صار الصوم في حقه مكروهًا؛ لأن ارتكاب المشقة مع وجود الرخصة يشعر بالعدول عن رخصة الله عزّ وجل.
الحال الثالثة: أن يشق عليه مشقة شديدة غير محتملة فهنا يكون الصوم في حقه حرامًا.
والدليل على ذلك أن النبي - صلّى الله عليه وسلّم - لما شكى إليه الناس أنه قد شق عليهم الصيام، وأنهم ينتظرون ما سيفعل الرسول - صلّى الله عليه وسلّم - دعا بإناء فيه ماء بعد العصر، وهو على بعيره فأخذه وشربه، والناس ينظرون إليه، ثم قيل له بعد ذلك: إن بعض الناس قد صام فقال: ((أولئك العصاة، أولئك العصاة)) [61] فوصفهم بالعصيان.
فهذا ما يظهر لنا من الأدلة في صوم المسافر.
ويتفرع على هذا مسألة، وهي لو سافر من لا يستطيع الصوم لكبر أو مرض لا يرجى زواله فماذا يصنع؟
الجواب: قال بعض العلماء: إنه لا صوم ولا فدية عليه؛ لأنه مسافر، والفدية بدل عن الصوم، والصوم يسقط في السفر، ولا صوم عليه؛ لأنه عاجز[62].(/34)
لكن هذا التعليل عليل؛ لأن هذا الذي على هذه الحال، لم يكن الصوم واجبًا في حقه أصلاً، وإنما الواجب عليه الفدية، والفدية لا فرق فيها بين السفر والحضر، وعلى هذا فإذا سافر من لا يرجى زوال عجزه فإنه كالمقيم يلزمه الفدية، فيطعم عن كل يوم مسكينًا، وهذا هو القول الصحيح، والقول بأنه يسقط عنه الصوم والإطعام قول ضعيف جدًا لما تقدم.
وَإِنْ نَوَى حَاضِرٌ صِيَامَ يَوْمٍ، ثُمَّ سَافَرَ فِي أَثْنَائِهِ فَلَهُ الفِطْرُ..........
قوله: "وإن نوى حاضر صيام يوم، ثم سافر في أثنائه فله الفطر" الحاضر يجب عليه أن يصوم، فإذا سافر في أثناء اليوم، فهل له أن يفطر أو لا يفطر؟ في هذه المسألة قولان لأهل العلم:
القول الأول: أن له أن يفطر، ولكن بشرط كما سنذكره.
القول الثاني: أنه ليس له أن يفطر.
والقول الأول: هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله[63].
واستدلوا على ذلك: بعموم قول الله تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] يعني فأفطر فعدة من أيام أخر، وهذا الآن سافر، وصار على سفر فيصدق عليه أنه ممن رخص له بالفطر فيفطر.
واستدلوا أيضًا بما ثبت في السنة من إفطار النبي - صلّى الله عليه وسلّم - في أثناء النهار[64].
وأهل القول الثاني: عللوا بأن الإنسان شرع في الصوم الواجب فلزمه إتمامه، كما لو شرع في القضاء فإنه يلزمه أن يتمه، وإن كان لولا شروعه لم يلزمه أن يصوم، يعني لو أن إنسانًا عليه يوم من رمضان، فقال: أصومه غدًا أو بعد غد، نقول أنت بالخيار غدًا أو بعد غد.
لكن إذا صامه غدًا فليس له أن يفطر في أثنائه ليصوم بعد غد؛ لأن من شرع في واجب حرم على قطعه إلا لعذر شرعي.(/35)
والصحيح القول الأول أن له أن يفطر إذا سافر في أثناء اليوم لما سبق، وأما قياسه على من شرع في صوم يوم القضاء فقياس فاسد لوجهين، الأول أنه في مقابلة النص، والثاني أن من شرع في صوم القضاء شرع في واجب فلزمه، وأما صوم المسافر فغير واجب فلا يلزمه إتمامه.
ولكن هل يشترط أن يفارق قريته، إذا عزم على السفر وارتحل فهل له أن يفطر؟
الجواب: في هذا أيضًا قولان عن السلف.
ذهب بعض أهل العلم إلى جواز الفطر إذا تأهب للسفر ولم يبق عليه إلا أن يركب، وذكروا ذلك عن أنس - رضي الله عنه - أنه كان يفعله[65]، وإذا تأملت الآية وجدت أنه لا يصح هذا؛ لأنه إلى الآن لم يكن على سفر فهو الآن مقيم وحاضر، وعليه فلا يجوز له أن يفطر إلا إذا غادر بيوت القرية.
أما المزارع المنفصلة عن القرية فليست منها، فإذا كانت هذه البيوت والمساكن الآن، وانفصلت عنها المزارع فإنه يجوز الفطر، فالمهم أن يخرج عن البلد أما قبل الخروج فلا؛ لأنه لم يتحقق السفر.
فالصحيح أنه لا يفطر حتى يفارق القرية، ولذلك لا يجوز أن يقصر الصلاة حتى يخرج من البلد، فكذلك لا يجوز أن يفطر حتى يخرج من البلد.
وإذا جاز أن يفطر خلال اليوم، فهل له أن يفطر بالأكل والشرب أو بأي مفطر شاء؟
الجواب: له أن يفطر بالأكل والشرب وجماع أهله، وغير ذلك من المفطرات.
وَإِنْ أَفْطَرَتْ حَامِلٌ، أَوْ مُرْضَعٌ خَوْفًا عَلَى أَنْفُسِهِمَا قَضَتَاه فَقَطْ، وَعَلَى وَلَدَيْهِمَا قَضَتَاه وَأَطْعَمَتَا لِكُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا.(/36)
قوله: "وإن أفطرت حامل، أو مرضع خوفًا على أنفسهما قضتاه فقط، وعلى ولديهما قضتاه، وأطعمتا لكل يوم مسكينًا" أفادنا المؤلف - رحمه الله - أنه يجوز للحامل والمرضع أن تفطرا، وإن لم تكونا مريضتين وهذا يشمل أول الحمل وآخر الحمل، وأول الإرضاع وآخر الإرضاع؛ وذلك لأن الحامل يشق عليها الصوم من أجل الحمل، لا سيما في الأشهر الأخيرة، ولأن صيامها ربما يؤثر على نمو الحمل إذا لم يكن في جسمها غذاء، فربما يضمر الحمل ويضعف.
وكذلك في المرضع إذا صامت يقل لبنها فيتضرر بذلك الطفل، ولهذا كان من رحمة الله - عزّ وجل - أن رخص لهما في الفطر.
وإفطارهما قد يكون مراعاة لحالهما، وقد يكون مراعاة لحال الولد الحمل أو الطفل، وقد يكون مراعاة لحالهما مع الولد.
وعلى كل حال فيجب عليهما القضاء؛ لأن الله تعالى فرض الصيام على كل مسلم، وقال في المريض والمسافر: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185] مع أنهما مفطران بعذر، فإذا لم يسقط القضاء عمن أفطر لعذر من مرض أو سفر، فعدم سقوطه عمن أفطرت لمجرد الراحة من باب أولى.
وأما الإطعام فله ثلاث حالات:
الحال الأولى: أن تفطرا خوفًا على أنفسهما فتقضيان فقط، يعني أنه لا زيادة على ذلك.
الحال الثانية: أن تفطرا خوفًا على ولديهما فقط، فتقضيان، وتطعمان لكل يوم مسكينًا.
أما القضاء فواضح؛ لأنهما أفطرتا، وأما الإطعام فلأنهما أفطرتا لمصلحة غيرهما، فلزمهما الإطعام، وقال ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله:{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184] قال: "كانت رخصة للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة وهما يطيقان الصيام يفطران ويطعمان عن كل يوم مسكينًا، والمرضع والحبلى إذا خافتا على أولادهما أفطرتا وأطعمتا"، رواه أبو داود[66].
وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما[67].(/37)
الحال الثالثة: إذا أفطرتا لمصلحتهما، ومصلحة الجنين، أو الطفل فالمؤلف سكت عن هذه الحال، والمذهب أنه يُغلب جانب مصلحة الأم.
وعلى هذا فتقضيان فقط، فيكون الإطعام في حال واحدة وهي: إذا كان الإفطار لمصلحة الغير، الجنين أو الطفل، وهذا أحد الأقوال في المسألة[68].
والقول الثاني: أنه لا يلزمهما القضاء، وإنما يلزمهما الإطعام فقط سواء أفطرتا لمصلحتهما أو مصلحة الولد أو للمصلحتين جميعًا واستدلوا بما يأتي:
1 - حديث: "إن الله وضع الصيام عن الحبلى والمرضع" [69].
2 - أثر ابن عباس رضي الله عنهما: "... والمرضع والحبلى إذا خافتا على أولادهما أفطرتا وأطعمتا" [70] ولم يذكر القضاء.
القول الثالث: التخيير بين القضاء والإطعام.
القول الرابع: يلزمها القضاء فقط دون الإطعام[71]، وهذا القول أرجح الأقوال عندي؛ لأن غاية ما يكون أنهما كالمريض، والمسافر، فيلزمهما القضاء فقط، وأما سكوت ابن عباس - رضي الله عنهما - عن القضاء فلأنه معلوم.
وأما حديث: "إن الله تعالى وضع الصيام عن الحبلى والمرضع" فالمراد بذلك وجوب أدائه، وعليهما القضاء.
وسبب الخلاف أنه ليس هناك نص قاطع صحيح وصريح في وجوب أحد هذه الأمور.
مسألة: إذا قال قائل: أرأيتم لو أفطر شخص لمصلحة الغير في غير مسألة الحبلى والمرضع، مثل أن يفطر لإنقاذ غريق أو لإطفاء حريق، فهل يلزمه القضاء والإطعام؟
الجواب: أما على القول الذي رجحناه من أنه ليس على الحامل والمرضع إلا القضاء، فليس على المنقذ إلا القضاء، وأما على القول بوجوب القضاء والإطعام عليهما في محله ففيه قولان:
القول الأول: يلزمه القضاء والإطعام، قياسًا على الحامل والمرضع إذا أفطرتا لمصلحة الولد.
والقول الثاني: لا يلزمه إلا القضاء فقط، واستدل لذلك بأن النص إنما ورد في الحبلى والمرضع دون غيرهما.
وأجيب عن هذا بأنه، وإن ورد النص بذلك، فالقياس في هذه المسألة تام، وهو أنه أفطر لمصلحة الغير.(/38)
والإفطار لمصلحة الغير له صور منها:
1 - إنقاذ غريق، مثل أن يسقط رجل معصوم في الماء، ولا يستطيع أن يخرجه إلا بعد أن يشرب، فنقول: اشرب وأنقذه.
2 - إطفاء الحريق، كأن يقول: لا أستطيع أن أطفئ الحريق حتى أشرب، فنقول: اشرب وأطفئ الحريق.
وفي هذه الحال إذا أخرج الغريق وأطفأ الحريق، هل له أن يأكل ويشرب بقية اليوم؟
الجواب: نعم له أن يأكل ويشرب بقية اليوم، لأنه أذن له في فطر هذا اليوم، وإذا أذن له في فطر هذا اليوم، صار هذا اليوم في حقه من الأيام التي لا يجب إمساكها، فيبقى مفطرًا إلى آخر النهار.
3 - وكذلك لو أن شخصًا احتيج إلى دمه، بحيث أصيب رجل آخر بحادث ونزف دمه، وقالوا: إن دم هذا الصائم يصلح له، وإن لم يتدارك هذا المريض قبل الغروب فإنه يموت، فله أن يأذن في استخراج دمه من أجل إنقاذ المريض، وفي هذه الحال يفطر بناءً على القول الراجح، في أن ما ساوى الحجامة فهو مثلها، وسيأتي الخلاف في هذه المسألة، وأن المذهب لا يفطر بإخراج الدم إلا بالحجامة فقط دون الفصد والشرط، والصحيح أن ما كان بمعناها يأخذ حكمها.
تنبيه: قول المؤلف - رحمه الله - "أطعمتا لكل يوم مسكينًا".
ظاهره أن الإطعام واجب على الحامل والمرضع، وهو ظاهر أثر ابن عباس - رضي الله عنهما -.
والمذهب أن الإطعام واجب على من تلزمه النفقة، فمثلاً إذا كان الأب موجودًا فالذي يطعم الأب؛ لأنه هو الذي يلزمه الإنفاق على ولده دون الأم، وعلى هذا فلا نخاطب الأم إلا بالصيام فقط، وأما الإطعام فنخاطب به الأب، ولو أن الأب لم يطعم، فليس على الأم في ذلك إثم، ولهذا يعتبر كلام المؤلف - رحمه الله - مخالفًا للمذهب في هذه المسألة.
وَمَنْ نَوَى الصَّوْمَ، ثُمَّ جُنَّ أوْ أغْمِيَ عَلَيْهِ جَمِيعَ النَّهَارِ، وَلَم يُفِقْ جُزْءًا مِنهُ لَمْ يَصحَّ صَوْمُهُ، لاَ إن نَامَ جَمِيعَ النَّهَارِ، وَيَلْزَمُ المُغْمَى عَلَيهِ القَضَاءُ فَقط............(/39)
قوله: "ومن نوى الصوم، ثم جن أو أغمي عليه جميع النهار، ولم يفق جزءًا منه لم يصح صومه، لا إن نام جميع النهار، ويلزم المغمى عليه القضاء فقط" قوله: "فقط" في عبارته هذه فيه شيء من الخلل؛ لأن قوله: "فقط"، يوهم أن المراد بلا إطعام وليس هذا هو المراد، بل المراد أن المغمى عليه من بين هؤلاء الثلاثة هو الذي يلزمه القضاء، ولهذا لو قال: ويلزم المغمى عليه فقط القضاء لكان أبين.
هذه ثلاثة أشياء متشابهة: الجنون، والإغماء، والنوم، وأحكامها تختلف.
أولاً: الجنون، فإذا جن الإنسان جميع النهار في رمضان من قبل الفجر حتى غربت الشمس فلا يصح صومه؛ لأنه ليس أهلاً للعبادة، ومن شرط الوجوب والصحة العقل، وعلى هذا فصومه غير صحيح، ولا يلزمه القضاء، لأنه ليس أهلاً للوجوب.
ثانيًا: المغمى عليه، فإذا أغمي عليه بحادث، أو مرض - بعد أن تسحر - جميع النهار، فلا يصح صومه؛ لأنه ليس بعاقل، ولكن يلزمه القضاء؛ لأنه مكلف، وهذا قول جمهور العلماء[72].
وقال صاحب الفائق أحد تلاميذ شيخ الإسلام ابن تيمية ويسمى ابن قاضي الجبل، وله اختيارات جيدة جدًا، قال: إن المغمى عليه لا يلزمه القضاء كالإنسان الذي أغمي عليه أوقات الصلاة، فإن جمهور العلماء لا يلزمونه بالقضاء، وقال: إنه لا فرق بين الصلاة والصوم.
ولو فرض أن الرجل أغمي عليه قبل أذان الفجر، وأفاق بعد طلوع الشمس لصح صومه، وأما صلاة الفجر فلا تلزمه على القول الراجح؛ لأنه مر عليه الوقت وهو ليس أهلاً للوجوب[73].
الثالث: النائم، فإذا تسحر ونام من قبل أذان الفجر، ولم يستيقظ إلا بعد غروب الشمس، فصومه صحيح، لأنه من أهل التكليف ولم يوجد ما يبطل صومه، ولا قضاء عليه.
والفرق بينه وبين المغمى عليه أن النائم إذا أوقظ يستيقظ بخلاف المغمى عليه.
وَيَجِبُ تَعْيِينُ النِّيَّةِ مِنْ اللَّيْلِ لِصَوْمِ كُلِّ يَوْمٍ وَاجِبٍ، لاَ نِيَّةَ الفَرْضِيَّةِ.........(/40)
قوله: "ويجب تعيين النية" النية، والإرادة، والقصد معناها واحد، فقصد الشيء يعني نيته، وإرادة الشيء يعني نيته، والنية لا يمكن أن تتخلف عن عمل اختياري، يعني أن كل عمل يعمله الإنسان مختارًا فإنه لا بد فيه من النية، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: ((إنما الأعمال بالنيات))[74] يعني أنه لا عمل بلا نية، حتى قال بعض العلماء: لو كلفنا الله عملاً بلا نية لكان من تكليف ما لا يطاق، يعني لو قال الله لنا توضؤوا بلا نية، أو صلوا بلا نية، أو صوموا بلا نية، أو حجوا بلا نية، لكان هذا من تكليف ما لا يطاق، فمن يطيق أن يفعل فعلاً مختارًا، ولا ينوي؟
وبذلك نعرف أن ما يحصل لبعض الناس من الوسواس؛ حيث يقول: أنا ما نويت! أنه وهم لا حقيقة له، وكيف يصح أنه لم ينو وقد فعل.
وذكروا عن ابن عقيل - رحمه الله - وهو من المتكلمين والفقهاء، أنه جاءه رجل فقال له: يا شيخ إنني أغتسل في نهر دجلة، ثم أخرج وأرى أنني لم أطهر؟ فقال له ابن عقيل: لا تصل، فقال: كيف؟ قال: نعم، لأن النبي - صلّى الله عليه وسلّم - قال: "رفع القلم عن ثلاثة... عن المجنون حتى يفيق" [75] وأنت تذهب إلى دجلة، وتنغمس فيه، وتغتسل من الجنابة، ثم تخرج وترى أنك ما تطهرت هذا الجنون، فارتدع الرجل عن هذا.
فإن قيل: ما هي النية؟
فالجواب النية تختلف، ولهذا قال النبي - صلّى الله عليه وسلّم -: ((إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى)) وبهذا التقرير يتبين أن الجملتين في الحديث ليس معناهما واحدًا.
وقوله: "ويجب تعيين النية" أفادنا بهذه العبارة أن النية واجبة، وأنه يجب تعيينها أيضًا، فينوي الصيام عن رمضان، أو عن كفارة، أو عن نذر، أو ما أشبه ذلك.(/41)
قوله: "من الليل لصوم كل يوم واجب" أي: قبل طلوع الفجر، فيشمل ما كان قبل الفجر بدقيقة واحدة، وإنما وجب ذلك؛ لأن صوم اليوم كاملاً لا يتحقق إلا بهذا، فمن نوى بعد طلوع الفجر لا يقال إنه صام يومًا، فلذلك يجب لصوم كل يوم واجب، أن ينويه قبل طلوع الفجر، وهذا معنى قول المؤلف: "من الليل"، وليس بلازم أن تبيت النية قبل أن تنام، بل الواجب ألا يطلع الفجر إلا وقد نويت، لأجل أن تشمل النية جميع أجزاء النهار، إذ أنه قد فرض عليك أن تصوم يومًا، فإذا كان كذلك، فلا بد أن تنويه قبل الفجر إلى الغروب.
ودليل ذلك حديث عائشة مرفوعًا: "من لم يبيِّت الصيام قبل طلوع الفجر فلا صيام له" [76] والمراد صيام الفرض أما النفل فسيأتي.
وقوله: "لصوم كل يوم واجب" أي: يجب أن ينوي كل يوم بيومه، فمثلاً في رمضان يحتاج إلى ثلاثين نية.
وبناءً على ذلك لو أن رجلاً نام بعد العصر في رمضان، ولم يستيقظ من الغد إلا بعد طلوع الفجر لم يصح صومه ذلك اليوم؛ لأنه لم ينو صومه من ليلته.
وهذا الذي ذكره المؤلف هو المشهور من المذهب.
وعللوا ذلك بأن كل يوم عبادة مستقلة، ولذلك لا يفسد صيام يوم الأحد بفساد صيام الاثنين مثلاً.
وذهب بعض أهل العلم إلى أن ما يشترط فيه التتابع تكفي النية في أوله، ما لم يقطعه لعذر فيستأنف النية، وعلى هذا فإذا نوى الإنسان أول يوم من رمضان أنه صائم هذا الشهر كله، فإنه يجزئه عن الشهر كله، ما لم يحصل عذر ينقطع به التتابع، كما لو سافر في أثناء رمضان، فإنه إذا عاد للصوم يجب عليه أن يجدد النية.
وهذا هو الأصح؛ لأن المسلمين جميعًا لو سألتهم لقال كل واحد منهم: أنا ناو الصوم من أول الشهر إلى آخره، وعلى هذا فإذا لم تقع النية في كل ليلة حقيقة فهي واقعة حكمًا؛ لأن الأصل عدم قطع النية، ولهذا قلنا: إذا انقطع التتابع لسبب يبيحه، ثم عاد إلى الصوم فلا بد من تجديد النية، وهذا القول هو الذي تطمئن إليه النفس ولا يسع الناس العمل إلا عليه.(/42)
مسألة: رجل عليه صيام شهرين متتابعين، يلزمه أن ينوي لكل يوم نية جديدة، على ما مشى عليه المؤلف، وعلى القول الذي اخترناه لا يلزمه؛ لأن هذا يلزم فيه التتابع، فإذا أمسك في أوله فهو في النية حكمًا إلى أن ينتهي، وعليه فإذا نوى حينما شرع في صوم الشهرين المتتابعين فإنه يكفيه عن جميع الأيام، ما لم يقطع ذلك لعذر، ثم يعود إلى الصوم فيلزمه أن يجدد النية.
وبناءً على هذا القول لو نام رجل في رمضان بعد العصر، ولم يفق إلا من الغد بعد الفجر صح صومه؛ لأن النية الأولى كافية، والأصل بقاؤها ولم يوجد ما يزيل استمرارها.
قوله: "لا نية الفرضية" أي: لا تجب نية الفريضة، يعني لا يجب أن ينوي أنه يصوم فرضًا، لأن التعيين يغني عن ذلك، فإذا نوى صيام رمضان، فمعلوم أن صيام رمضان فرض، وإذا نوى الصيام كفارة قتل أو يمين، فمعلوم أنه فرض، كما قلنا في الصلاة إذا نوى أن يصلي الظهر لا يحتاج أن ينوي أنها فريضة؛ لأنه معروف أن الظهر فريضة، وعلى هذا فنية الفريضة ليست بشرط.
ولكن هل الأفضل أن ينوي القيام بالفريضة أو لا؟
الجواب: الأفضل أن ينوي القيام بالفريضة، أي: أن ينوي صوم رمضان على أنه قائم بفريضة؛ لأن الفرض أحب إلى الله من النفل.(/43)
قال في الروض: "من قال أنا صائم غدًا إن شاء الله مترددًا فسدت نيته، لا متبركًا" أي: إذا قال أنا صائم غدًا إن شاء الله ننظر هل مراده الاستعانة بالتعليق بالمشيئة لتحقيق مراده، إن قال: نعم، فصيامه صحيح؛ لأن هذا ليس تعليقًا، ولكنه استعانة بالتعليق بالمشيئة لتحقيق مراده؛ لأن التعليق بالمشيئة سبب لتحقيق المراد، ويدل لهذا حديث نبي الله سليمان بن داود - عليهما الصلاة والسلام - حين قال: "والله لأطوفن الليلة على تسعين امرأة تلد كل واحدة منهن غلامًا يقاتل في سبيل الله، فقيل له: قل: إن شاء الله، فلم يقل، فطاف على تسعين امرأة يجامعهن، ولم تلد منهن إلا واحدة شق إنسان" فقال النبي - صلّى الله عليه وسلّم -: ((لو قال إن شاء الله لكان دركًا لحاجته)) [77]، وإن قال ذلك مترددًا يعني لا يدري هل يصوم أو لا يصوم، فإنه لا يصح؛ لأن النية لا بد فيها من الجزم، فلو بات على هذه النية بأن قال: أنا صائم غدًا إن شاء الله مترددًا، فإنّ صومه لا يصح إن كان فرضًا، إلا أن يستيقظ قبل الفجر وينويه.
وقال في الروض: "ويكفي في النية الأكل والشرب، بنية الصوم"[78] أي: لو قام في آخر الليل وأكل على أنه سحور لكفى؛ حتى قال شيخ الإسلام: إن عشاء الصائم الذي يصوم غدًا يختلف عن عشاء من لا يصوم غدًا، فالذي لا يصوم عشاؤه أكثر، لأن الصائم سوف يجعل فراغًا للسحور.
النَّفْلُ بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَارِ قَبْلَ الزَّوَالِ أَوْ بَعْدَهُ،........
قوله: "ويصح النفل بنية من النهار قبل الزوال أو بعده" أي: يصح صوم النفل بنية من النهار قبل الزوال أو بعده، وهذا مقابل قوله: "يجب تعيين النية من الليل لصوم كل يوم واجب" فصيام النفل يصح بنية أثناء النهار، ولكن بشرط ألا يأتي مفطِّرًا من بعد طلوع الفجر، فإن أتى بمفطر فإنه لا يصح.(/44)
مثال ذلك: رجل أصبح وفي أثناء النهار صام، وهو لم يأكل، ولم يشرب، ولم يجامع، ولم يفعل ما يفطّر بعد الفجر، فصومه صحيح مع أنه لم ينو من قبل الفجر.
ودليل ذلك أن النبي - صلّى الله عليه وسلّم - دخل ذات يوم على أهله فقال: "هل عندكم من شيء؟ قالوا: لا، قال فإني إذًا صائم" [79].
وقوله "إذًا" في الحديث ظرف للزمان الحاضر فأنشأ النية من النهار، فدل ذلك على جواز إنشاء النية في النفل في أثناء النهار، فإذا قال قائل: قد ننازع في دلالة هذا الحديث ونقول معنى "إني إذًا صائم" أي: ممسك عن الطعام، من الذي يقول: إن المراد بالصوم هنا الصوم الشرعي؟ قلنا: عندنا قاعدة شرعية أصولية وهي أن الكلام المطلق يحمل على الحقيقة في عرف المتكلم به، والحقيقة الشرعية في الصوم هي التعبد لله بالإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، فلا يمكن أن نحمل لفظًا جاء في لسان الشارع على معناه اللغوي وله حقيقة شرعية.
نعم لو فرض أنه ليس هناك حقيقة شرعية حملناه على الحقيقة اللغوية، أما مع وجود الحقيقة الشرعية فيجب أن يحمل عليها، ولهذا لو قال قائل: والله لا أبيع اليوم شيئًا، فذهب فباع خمرًا، هل عليه كفارة يمين؟ نقول ليس عليه كفارة يمين، لأن هذا البيع ليس بيعًا شرعيًا فهو حرام وكل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وكل عقد ليس في كتاب الله فهو باطل، نعم إذا قال أنا قصدي بالبيع مطلق البيع شرعيًا أو غير شرعي، حينئذ نقول هذا يصدق عليه أنه بيع، فيحنث؛ لأن النية مقدمة على دلالة اللفظ في باب الأيمان.
ولكن هل يثاب ثواب يوم كامل، أو يثاب من النية؟
في هذا قولان للعلماء:
القول الأول: أنه يثاب من أول النهار؛ لأن الصوم الشرعي لا بد أن يكون من أول النهار.
القول الثاني: أنه لا يثاب إلا من وقت النية فقط[80]، فإذا نوى عند الزوال، فأجره أجر نصف يوم.(/45)
وهذا القول هو الراجح لقول النبي - صلّى الله عليه وسلّم -: ((إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى)) [81] وهذا الرجل لم ينو إلا أثناء النهار فيحسب له الأجر من حين نيته.
وبناءً على القول الراجح لو علق فضل الصوم باليوم مثل صيام الاثنين، وصيام الخميس، وصيام البيض، وصيام ثلاثة أيام من كل شهر، ونوى من أثناء النهار فإنه لا يحصل له ثواب ذلك اليوم.
فمثلاً صام يوم الاثنين ونوى من أثناء النهار، فلا يثاب ثواب من صام يوم الاثنين من أول النهار؛ لأنه لا يصدق عليه أنه صام يوم الاثنين.
وكذلك لو أصبح مفطرًا فقيل له: إن اليوم هو اليوم الثالث عشر من الشهر، وهو أول أيام البيض، فقال: إذًا أنا صائم فلا يثاب ثواب أيام البيض؛ لأنه لم يصم يومًا كاملاً، وهذه مسألة يظن بعض الناس أن كلام المؤلف يدل على حصول الثواب حتى في اليوم المعين من النفل.
ويشترط في صحة النية من أثناء النهار في النفل ألا يفعل قبلها مفطرًا، فلو أن الرجل أصبح مفطرًا بأكل، وفي أثناء الضحى قال: نويت الصيام فلا يصح؛ لأنه فعل ما ينافي الصوم.
فلو قال قائل: ألستم تقولون إنه لا يثاب على أجر الصوم إلا من النية؟
قلنا: بلى، لكن لا يمكن أن يكون صومٌ، وقد أكل أو شرب في يومه.
وقوله: "قبل الزوال وبعده" إذا قال قائل: لا حاجة لقوله قبل الزوال وبعده لأنه قال: "يصح النفل بنية من النهار" فلا حاجة إلى قوله: "قبل الزوال وبعده" قلنا: نعم هذا صحيح، لكن احتاج المؤلف إلى هذا؛ لأن في المسألة قولاً آخر، وهو أنه لا يصح نية النفل بعد الزوال؛ وتعليلهم أنه مضى أكثر اليوم مفطرًا بدون نية، والحكم في الأشياء للأغلب والأكثر، فما دام أكثر النهار مر عليه بدون نية فإذا نوى بعد الزوال لم يكن صومًا؛ ولهذا احتاج المؤلف أن يقول: "قبل الزوال وبعده".
وَلَوْ نَوَى إِن كَانَ غَدًَا مِنْ رَمَضَانَ فَهُوَ فَرْضِي لَمْ يجْزِهِ............(/46)
قوله: "ولو نوى إن كان غدًا من رمضان فهو فرضي لم يجزه" هذه مسألة مهمة ترد كثيرًا، فلا يجزئ الإنسان إذا نوى أنه إذا كان غدًا من رمضان فهو فرضي، سواء قال: وإلا فنفلٌ، أو قال: وإلا فأنا مفطر.
مثال ذلك: رجل نام في الليل مبكرًا ليلة الثلاثين من شعبان، وفيه احتمال أن تكون هذه الليلة هي أول رمضان، فقال: إن كان غدًا من رمضان فهو فرضي، أو قال: إن كان غدًا من رمضان فأنا صائم، أو قال: إن كان غدًا من رمضان فهو فرض، وإلا فهو عن كفارة واجبة، أو ما أشبه ذلك من أنواع التعليق.
فالمذهب أن الصوم لا يصح؛ لأن قوله: إن كان كذا فهو فرضي، وقع على وجه التردد، والنية لا بد فيها من الجزم، فلو لم يستيقظ إلا بعد طلوع الفجر، ثم تبين أنه من رمضان، فعليه قضاء هذا اليوم، على المذهب.
والرواية الثانية عن الإمام أحمد: أن الصوم صحيح إذا تبين أنه من رمضان، واختار ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - ولعل هذا يدخل في عموم قوله - صلّى الله عليه وسلّم - لضباعة بنت الزبير - رضي الله عنها -: "فإن لك على ربك ما استثنيت" [82] فهذا الرجل علقه لأنه لا يعلم أن غدًا من رمضان، فتردده مبني على التردد في ثبوت الشهر، لا على التردد في النية، وهل يصوم أو لا يصوم؟ ولهذا لو قال من يباح له الفطر ليلة الواحد من رمضان، أنا غدًا يمكن أن أصوم، ويمكن ألا أصوم، ثم عزم على الصوم بعد طلوع الفجر، لم يصح صومه لتردده في النية.
لكن إذا علق الصوم على ثبوت الشهر، فهذا هو الواقع فلو لم يثبت الشهر لم يصم، وعلى هذا فينبغي لنا إذا نمنا قبل أن يأتي الخبر ليلة الثلاثين من شعبان، أن ننوي في أنفسنا أنه إن كان غدًا من رمضان فنحن صائمون، وإن كانت نية كل مسلم على سبيل العموم أنه سيصوم لو كان من رمضان، لكن تعيينها أحسن، فيقول في نفسه إن كان غدًا من رمضان فهو فرضي، فإذا تبين أنه من رمضان بعد طلوع الفجر صح صومه.(/47)
ولو قال ليلة الثلاثين من رمضان إن كان غدًا من رمضان فأنا صائم، وإلا فأنا مفطر قالوا: إن هذا جائز، مع أن فيه ترددًا في النية ولكنه مبني على ثبوت الشهر، فإذا كان كذلك فينبغي أن يكون في أول الشهر كما كان في آخره، لكن فرقوا بأنه في أول الشهر الأصل عدم الصوم؛ لأنه لم يثبت دخول الشهر، وفي آخره بالعكس الأصل الصوم لأن الغد من رمضان ما لم يثبت خروجه، ولكن هذا التفريق غير مؤثر بالنسبة للتردد؛ فكلاهما متردد، والاحتمال في كليهما وارد، فيوم الثلاثين من شعبان فيه التردد هل يكون من رمضان أم لا؟ ويوم الثلاثين من رمضان فيه التردد هل يكون من رمضان أم لا؟
وَمَنْ نَوَى الإِْفْطَارَ أَفْطَرَ.
قوله: "ومن نوى الإفطار أفطر" والدليل قوله - صلّى الله عليه وسلّم -: ((إنما الأعمال بالنيات)) [83] فما دام ناويًا الصوم فهو صائم، وإذا نوى الإفطار أفطر، ولأن الصوم نية وليس شيئًا يفعل، كما لو نوى قطع الصلاة فإنها تنقطع الصلاة.
ومعنى قول المؤلف "أفطر" أي: انقطعت نية الصوم وليس كمن أكل أو شرب.
وبناء على ذلك لو نواه بعد ذلك نفلاً في أثناء النهار جاز، إلا أن يكون في رمضان، فإن كان في رمضان فإنه لا يجوز؛ لأنه لا يصح في رمضان صوم غيره.
مسائل:
الأولى: إنسان صائم نفلاً، ثم نوى الإفطار، ثم قيل له: كيف تفطر لم يبق من الوقت إلا أقل من نصف اليوم؟ قال: إذًا أنا صائم، هل يكتب له صيام يوم أو من النية الثانية؟
الجواب: من النية الثانية؛ لأنه قطع النية الأولى وصار مفطرًا.
الثانية: إنسان صائم وعزم على أنه إن وجد ماء شربه فهل يفسد صومه؟
الجواب: لا يفسد صومه؛ لأن المحظور في العبادة لا تفسد العبادة به، إلا بفعله ولا تفسد بنية فعله.
وهذه قاعدة مفيدة وهي أن من نوى الخروج من العبادة فسدت إلا في الحج والعمرة، ومن نوى فعل محظور في العبادة لم تفسد إلا بفعله.
ولهذا أمثلة منها ما ذكرناه هنا في مسألة الصوم.(/48)
ومنها ما لو كان متحريًا لكلام من الهاتف فدخل في الصلاة ومن نيته أنه إن كلمه من يتحراه، أجابه، فلم يكلمه فصلاته لا تفسد.
الثالثة: سبق أن من نوى الإفطار أنه يفطر، فهل يباح له الاستمرار في الفطر بالأكل، والشرب، مثلاً؛ وهو في رمضان؟
الجواب: إن كان ممن يباح له الفطر؛ كالمريض والمسافر فلا بأس، وإن كان لا يباح له الفطر، فيلزمه الإمساك والقضاء، مع الإثم.
وقولنا يلزمه القضاء؛ لأنه لما شرع فيه ألزم نفسه به فصار في حقه كالنذر؛ بخلاف مَنْ لم يصم من الأصل متعمدًا، فهذا لا يقضي، ولو قضاه لم يقبل منه؛ لقوله - صلّى الله عليه وسلّم -: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)) [84]. وأما حديث: ((من أفطر يومًا من رمضان متعمدًا لم يقضه صوم الدهر)) [85] فهذا حديث ضعيف وعلى تقدير صحته، يكون المعنى أنه لا يكون كالذي فعل في وقته.
ــــــــــــــــــــــــــ
[1] أخرجه البخاري في الإيمان/ باب سؤال جبريل النبي - صلّى الله عليه وسلّم -...(50)؛ ومسلم في الإيمان (8) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في الإيمان/ باب دعاؤكم أيمانكم...(8)؛ ومسلم في الإيمان/ باب بيان أركان الإسلام ودعائمه العظام (16) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وتقديم الصيام على الحج رواية مسلم.
[3] أخرجه البخاري في العتق/ باب في العتق وفضله (2517)؛ ومسلم في العتق/ باب فضل العتق (1509) (22) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[4] سيأتي تخريجه
[5] أخرجه البخاري في الصوم/ باب لا يتقدم رمضان بصوم يوم ولا يومين (1914)؛ ومسلم في الصيام/ باب ((لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين)) (1082) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[6] ((زاد المعاد)) (2/42)، و((غاية المنتهى)) (1/343).(/49)
[7] أخرجه البخاري في الصوم/ باب هل يقال: رمضان، أو شهر رمضان؟ ومن رأى كله واسعًا (1900) ومسلم في الصوم/ باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال، والفطر لرؤية الهلال وأنه إذا غم أوله أو آخره أكملت عدة الشهر ثلاثين يومًا (1080) (8).
[8] أخرجه أحمد (2/5، 13)؛ وأبو داود في الصيام/ باب الشهر يكون تسعًا وعشرين (2320)؛ والدارقطني (2/161)؛ والبيهقي (4/204).
وفي ((الإرواء)): (4/9): ((وإسناده صحيح على شرطهما)).
[9] انظر: ((زاد المعاد)) (2/46)؛ و((الإنصاف)) (2/269).
[10] سبق تخريجه
[11] رواه البخاري في صحيحه معلقًا بصيغة الجزم في الصوم/ باب قول النبي - صلّى الله عليه وسلّم -: ((إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا)) ووصله أبو داود في الصيام/ باب كراهية صوم يوم الشك (2334)؛ والترمذي في الصوم/ باب ما جاء في كراهية صوم يوم الشك (686)؛ والنسائي في الصيام/ باب صيام يوم الشك (4/153)؛ وابن ماجه في الصيام/ باب ما جاء في صيام يوم الشك (1645)؛ وصححه ابن خزيمة (1914)؛ وابن حبان (3585)؛ وأخرجه الدارقطني (2/157) وقال: ((هذا إسناد حسن صحيح ورواته كلهم ثقات)) وصححه أيضًا الترمذي.
[12] أخرجه البخاري في الصوم/ باب قول النبي - صلّى الله عليه وسلّم -: ((إذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا)) (1907) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
[13] أخرجه مسلم في العلم/ باب هلك المتنطعون (2670) عن ابن مسعود رضي الله عنه.
[14] سبق تخريجه
[15] انظر: ((زاد المعاد)) (2/46)؛ و((الإنصاف)) (2/270).
[16] انظر: ((الإنصاف)) (2/270).
[17] انظر: ((الإنصاف)) (2/270).
[18] انظر: ((الإنصاف)) (2/270).(/50)
[19] أخرجه الترمذي في الصوم/ باب ما جاء في الفطر والأضحى متى يكون (802) عن عائشة رضي الله عنها، وقال: ((حسن غريب، صحيح من هذا الوجه))، وأخرجه أبو داود في الصيام/ باب إذا أخطأ القوم الهلال (2324)؛ وابن ماجه في الصيام/ باب ما جاء في شهري العيد (1660) عن أبي هريرة رضي الله عنه ولفظه: ((الفطر يوم تفطرون والأضحى يوم تضحون)) قال ابن مفلح في ((الفروع)) (2/14): و((الإسناد جيد)).
[20] أخرجه البخاري في الصوم/ باب قول النبي - صلّى الله عليه وسلّم -: ((إذا رأيتم الهلال فصوموا وإن رأيتموه فأفطروا)) (1909)؛ ومسلم في الصيام/ باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال، والفطر لرؤية الهلال وأنه إذا غم أوله أو آخره أكملت عدة الشهر ثلاثين يومًا (1081) (19) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[21] سبق تخريجه
[22] أخرجه مسلم في الصيام/ باب بيان أن لكل بلد رؤيتهم، وأنهم إذا رأوا الهلال ببلد لا يثبت حكمه لما بعد عنهم (1087).
[23] أخرجه الترمذي في الصوم/ باب ما جاء أن الصوم يوم تصومون (697)؛ والدارقطني (2/164) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه أبو داود في الصيام/ باب إذا أخطأ القوم الهلال (2324)؛ وابن ماجه في الصيام/ باب ما جاء في شهري العيد (1660) ولفظه عندهما ((الفطر يوم تفطرون والأضحى يوم تضحون)).
[24] أخرجه أبو داود في الصيام/ باب في شهادة الواحد على رؤية هلال رمضان (2342)؛ وصححه ابن حبان (3447)؛ والحاكم (1/423).
[25] أخرجه أبو داود في الصيام/ باب في شهادة الوافد على رؤية هلال رمضان (2340)؛ والترمذي في الصيام/ باب ما جاء في الصوم بالشهادة (691)؛ والنسائي في الصوم/ باب قبول شهادة الرجل الواحد على هلال شهر رمضان (4/132)؛ وابن ماجه في الصوم/ باب ما جاء في الشهادة على رؤية الهلال (1652) انظر: ((نصب الراية)) (2/443).(/51)
[26] أخرجه البخاري في الأذان/ باب أذان الأعمى...(617)؛ ومسلم في الصيام/ باب بيان أن الدخول في الصوم...(1092) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
[27] أخرجه البخاري في الأدب/ باب ما يكره من النميمة (6056)؛ ومسلم في الإيمان/ باب بيان غلظ تحريم النميمة (105) (169)، عن حذيفة رضي الله عنه.
[28] أخرجه البخاري في الجنائز/ باب الجريدة على القبر (1361)؛ ومسلم في الطهارة/ باب الدليل على نجاسة البول ووجوب الاستبراء منه (292) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
[29] سبق تخريجه
[30] أخرجه أحمد (4/321)؛ والنسائي في الصوم/ باب قبول شهادة الرجل الواحد على هلال شهر رمضان (4/133)؛ والدارقطني (2/167) عن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب عن أصحاب النبي - صلّى الله عليه وسلّم -، وصححه في ((الإرواء)) (4/16).
[31] ((المبدع)) (3/9)؛ و((كشاف القناع)) (2/305).
[32] سبق تخريجه.
[33] سبق تخريجه.
[34] سبق تخريجه.
[35] سبق تخريجه.
[36] أخرجه البخاري في التفسير/ باب قوله تعالى: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} (4505).
[37] أخرجه البخاري في التفسير/ باب: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (4507)؛ ومسلم في الصيام/ باب بيان نسخ قول الله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} بقوله تعالى {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (1145).
[38] أخرجه البخاري في الصوم/ باب قول النبي - صلّى الله عليه وسلّم - لمن ظلل عليه واشتد الحر: ((ليس من البر الصيام في السفر)) (1946) ومسلم في الصيام/ باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر في غير معصية... (1115) عن جابر رضي الله عنه.(/52)
[39] أخرجه البخاري في الصوم/ باب لم يعب أصحاب النبي (ص) بعضهم بعضًا في الصوم والإفطار (1947)؛ ومسلم في الصيام/ باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر من غير معصية... (1118) عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
[40] أخرجه البخاري في الصوم/ باب الصوم في السفر والإفطار (1943)؛ ومسلم في الصيام/ باب التخيير في الصوم والفطر في السفر (1121) عن عائشة رضي الله عنها.
[41] أخرجه البخاري معلقًا بصيغة التمريض في التيمم/ باب إذا خاف الجنب على نفسه المرض أو الموت...، ووصله أبو داود في الطهارة/باب إذا خاف الجنب البرد أيتيمم؟ (334)، والدارقطني (1/178) وصححه ابن حبان (1315) والحافظ في الفتح.
[42] أخرجه البخاري في الإجارة/ باب استئجار المشركين عند الضرورة أو إذا لم يوجد أهل الإسلام (2263) عن عائشة رضي الله عنها.
[43] ((الإنصاف)) (3/289).
[44] أخرجه البخاري في الصوم (1945)؛ ومسلم في الصيام/ باب التخيير في الصوم والفطر في السفر (1122).
[45] أخرجه مسلم في الصيام/ باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر في غير معصية (1114) عن جابر رضي الله عنه.
[46] سبق تخريجه
[47] أخرجه البخاري في الحيض/ باب ترك الحائض الصوم (304) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
[48] البخاري في الصوم/ باب إذا نوى بالنهار صومًا (1924) عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه.
[49] سبق تخريجه
[50] أخرجه البخاري في الصوم/ باب إذا أفطر في رمضان ثم طلعت الشمس (1959).
[51] سبق تخريجه
[52] أخرجه ابن أبي شيبة (3/54).
[53] سبق تخريجه، ص(324).
[54] أخرجه الدارقطني (2/207) وصححه الألباني في ((الإرواء)) (4/21).
[55] وهو المذهب. ((الروض مع حاشية ابن قاسم)) (3/371).
[56] سبق تخريجه
[57] سبق تخريجه
[58] ((المحلى)) (6/247).
[59] سبق تخريجه
[60] سبق تخريجه
[61] سبق تخريجه(/53)
[62] وبه قال الأصحاب، ورتبوا على ذلك فقالوا: يعايا بها، فيقال: مسلم مكلف أفطر في رمضان لم يلزمه قضاء ولا كفارة.
وجوابه: كبير عاجز عن الصوم كان مسافرًا.
[63] ((الإنصاف)) (3/289).
[64] سبق تخريجه
[65] أخرجه البيهقي (4/247) وانظر: ((الإرواء)) (4/64).
[66] أخرجه أبو داود في الصيام/ باب من قال هي مثبتة للشيخ والحبلى (2318)، والدارقطني (2/207) وصححه.
[67] أخرجه الشافعي (1/266)؛ والدارقطني (2/207) وصححه؛ والبيهقي (4/230). وصححه في ((الإرواء)) (4/20).
[68] وهو المذهب.
[69] أخرجه الإمام أحمد (4/347)؛ وأبو داود في الصيام/ باب في الصوم في السفر (2408)؛ والترمذي في الصيام/ باب ما جاء في الرخصة في الإفطار للحبلى والمرضع (715)؛ والنسائي في الصوم/ باب وضع الصيام عن المسافر (4/180)؛ وابن ماجه في الصيام/ باب ما جاء في الإفطار للحامل والمرضع (1667) عن أنس بن مالك - أحد بني قُشَير - رضي الله عنه، وحسنه الترمذي، وفي تخريج ((المشكاة)) (2025) ((سنده جيد)).
[70] سبق تخريجه
[71] وهو مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما كما في ((مصنف عبد الرزاق)) (7564).
[72] وهو المذهب. وقال بعض الأصحاب: لا يلزمه، قال في ((الفائق)): وهو المختار ((الإنصاف)) (3/293).
[73] انظر: وجوب القضاء على المغمى عليه في الجزء الثاني.
[74] سبق تخريجه
[75] سبق تخريجه
[76] أخرجه الدارقطني (2/172)؛ والبيهقي (4/203). ووثق رواته الدارقطني وأقرهُ البيهقي، وانظر: ((الجوهر النقي)) (4/203)؛ و((نصب الراية)) (2/433)؛ و((التلخيص)) (881)؛ و((الإرواء)) (4/25).
[77] أخرجه البخاري في النكاح/ باب قول الرجل، لأطوفن الليلة على نسائي (5242)؛ ومسلم في الأيمان/ باب الاستثناء في اليمين وغيرها (1654) (23) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[78] ((الروض المربع)) (3/385).(/54)
[79] أخرجه مسلم في الصيام/ باب جواز صوم النافلة بنية من النهار قبل الزوال (1154) (170) عن عائشة رضي الله عنها.
[80] وهو المذهب ((الإنصاف)) (3/298).
[81] سبق تخريجه
[82] سيأتي تخريجه
[83] سبق تخريجه
[84] سبق تخريجه
[85] أخرجه البخاري معلقًا بصيغة التمريض عن أبي هريرة رضي الله عنه - مرفوعًا - في الصوم/ باب إذا جامع في رمضان؛ ووصله أبو داود في الصيام/ باب التغليظ فيمن أفطر عمدًا (2396)؛ والترمذي في الصوم/ باب ما جاء في الإفطار متعمدًا (723)؛ والنسائي في ((الكبرى)) (3265) ط/ الرسالة؛ وابن ماجه في الصيام/ باب ما جاء في كفارة من أفطر يومًا من رمضان (1672).
وروي موقوفًا على ابن مسعود رضي الله عنه أخرجه البخاري معلقًا في الصوم/ باب إذا جامع في رمضان، ووصله عبد الرزاق (7467)؛ وابن أبي شيبة (3/105)؛ والبيهقي (4/228)؛ وانظر: ((تغليق التعليق)) (3/169).(/55)
العنوان: شرح كتاب الصيام من الشرح الممتع على "زاد المستقنع" (2)
رقم المقالة: 1304
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
بَابُ مَا يُفْسِدُ الصَّوْمَ، وَيُوجِبُ الكَفَّارَةَ
مَنْ أَكَلَ،.......
قوله: "باب ما يفسد الصوم" أي: يبطله، والصوم يشمل الفرض والنفل.
والعلماء - رحمهم الله - لهم أساليب في تسمية الأبواب معناها واحد، ولكن تختلف لفظًا، ففي الوضوء يسمون المفسدات نواقض، وفي الغسل يسمونها موجبات الغسل، وفي باب الصلاة يسمونها مبطلات الصلاة، وفي الصوم يسمونها مفسدات الصوم، وفي باب الإحرام يسمونها محظورات الإحرام، وكل هذه المعنى فيها واحد.
والمفسد للصوم يسمى عند العلماء المفطِّرات، وأصولها ثلاثة ذكرها الله - عزّ وجل - في قوله: {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187]. وقد أجمع العلماء على أن هذه الثلاثة تفسد الصوم، وما سوى ذلك سيأتي إن شاء الله الكلام عليه.
قوله: "ويوجب الكفارة" الكفارة "ال-" هنا للعهد الذهني، فهي الكفارة المعروفة: عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينًا.
قوله: "مَن أكل" "من" هذه شرطية وجوابه قوله "فسد صومه"، والأكل هو إدخال الشيء إلى المعدة عن طريق الفم.
وقولنا إدخال الشيء يشمل ما ينفع وما يضر، وما لا يضر ولا ينفع، فما ينفع كاللحم والخبز وما أشبه ذلك، وما يضر كأكل الحشيشة ونحوها، وما لا نفع فيه ولا ضرر مثل أن يبتلع خرزة سبحة أو نحوها؛ ووجه العموم إطلاق الآية {كُلُوا وَاشْرَبُوا} وهذا يسمى أكلاً.(/1)
وقال بعض أهل العلم: إن ما لا يغذي لا فطر بأكله، وبناءً على هذا فإنّ بلع الخرزة أو الحصاة أو ما أشبههما لا يفطر.
والصحيح أنه عام، وأن كل ما ابتلعه الإنسان من نافع أو ضار، أو ما لا نفع فيه ولا ضرر، فإنه مفطر لإطلاق الآية.
"أَوْ شَرِبَ أوْ اسْتَعَطَ،........"
قوله: "أو شرب" الشرب يشمل ما ينفع وما يضر، وما لا نفع فيه ولا ضرر، فكل ما يشرب من ماء، أو مرق، أو لبن، أو دم، أو دخان، أو غير ذلك، فإنه داخل في قول المؤلف "أو شرب".
ويلحق بالأكل والشرب ما كان بمعناهما، كالإبر المغذية التي تغني عن الأكل والشرب.
قوله: "أو استعط" أي: تناول السعوط، والسعوط ما يصل إلى الجوف عن طريق الأنف، فإنه مفطر؛ لأن الأنف منفذ يصل إلى المعدة، ودليل ذلك قول النبي - صلّى الله عليه وسلّم - للَقِيط بن صَبُرة: ((وبالِغْ في الاستنشاق إلا أن تكون صائمًا))[1] وهذا يدل على أن الصائم لا يبالغ في الاستنشاق، ولا نعلم لهذا علة إلا أن المبالغة تكون سببًا لوصول الماء إلى المعدة، وهذا مخل بالصوم، وعلى هذا فنقول: كل ما وصل إلى المعدة عن طريق الأنف أو الفم فإنه مفطر.
أوِ احْتَقَنَ،...........
قوله: "أو احتقن" الاحتقان: هو إدخال الأدوية عن طريق الدبر، وهو معروف، ولا يزال يعمل، فإذا احتقن فإنه يفطر بذلك، لأن العلة وصول الشيء إلى الجوف، والحقنة تصل إلى الجوف، أي: تصل إلى شيء مجوف في الإنسان، فتصل إلى الأمعاء فتكون مفطرة، فإذا وصل إلى الجوف شيء عن طريق الفم، أو الأنف، أو أي منفذ كان، فإنه يكون مفطرًا، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد[2]، وعليه أكثر أهل العلم.(/2)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: لا فطر بالحقنة؛ لأنه لا يطلق عليها اسم الأكل والشرب لا لغة ولا عرفًا، وليس هناك دليل في الكتاب والسنة، أن مناط الحكم وصول الشيء إلى الجوف، ولو كان لقلنا: كل ما وصل إلى الجوف من أي منفذ كان فإنه مفطر، لكن الكتاب والسنة دلاَّ على شيء معين وهو الأكل والشرب.
وقال بعض العلماء المعاصرين: إن الحقنة إذا وصلت إلى الأمعاء فإن البدن يمتصها عن طريق الأمعاء الدقيقة، وإذا امتصها انتفع منها، فكان ما يصل إلى هذه الأمعاء الدقيقة كالذي يصل إلى المعدة من حيث التغذي به، وهذا من حيث المعنى قد يكون قويًّا.
لكن قد يقول قائل: إن العلة في تفطير الصائم بالأكل والشرب ليست مجرد التغذية، وإنما هي التغذية مع التلذذ بالأكل والشرب، فتكون العلة مركبة من جزأين:
أحدهما: الأكل والشرب.
الثاني: التلذذ بالأكل والشرب؛ لأن التلذذ بالأكل والشرب مما تطلبه النفوس، والدليل على هذا أن المريض إذا غذي بالإبر لمدة يومين أو ثلاثة، تجده في أشد ما يكون شوقًا إلى الطعام والشراب مع أنه متغذٍ.
فإن قيل: ينتقض قولكم إن العلة مركبة من جزأين إلى آخره أن السعوط مفطر مع أنه لا يحصل به تلذذ بالأكل والشرب. فالجواب أن الأنف منفذ معتاد لتغذية الجسم، فألحق بما كان عن طريق الفم.
وبناء على هذا نقول: إن الحقنة لا تفطر مطلقًا، ولو كان الجسم يتغذى بها عن طريق الأمعاء الدقيقة.
فيكون القول الراجح في هذه المسألة قول شيخ الإسلام ابن تيمية مطلقًا، ولا التفات إلى ما قاله بعض المعاصرين.
ومن الحقن المعروفة الآن ما يوضع في الدبر عند شدة الحمى، ومنها أيضًا ما يدخل في الدبر من أجل العلم بحرارة المريض وما أشبه ذلك، فكل هذا لا يفطر.
ثم لدينا قاعدة مهمة لطالب العلم، وهي أننا إذا شككنا في الشيء أمفطِّر هو أم لا؟ فالأصل عدم الفطر، فلا نجرؤ على أن نفسد عبادة متعبِّدٍ لله إلا بدليل واضح يكون لنا حجة عند الله، عزّ وجل.(/3)
أوِ اكْتَحَلَ بِمَا يَصِلُ إِلَى حَلْقِهِ، أوْ أدْخَلَ إِلَى جَوْفِهِ شَيْئًا مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ،......
قوله: "أو اكتحل بما يصل إلى حلقه" الكحل معروف، فإذا اكتحل بما يصل إلى الحلق فإنه يفطر؛ لأنه وصل إلى شيء مجوف في الإنسان وهو الحلق، هذا هو تعليل من قال إن الكحل يفطر ولكن في هذا التعليل نظر، ولذلك ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - إلى أن الكحل لا يفطر ولو وصل طعم الكحل إلى الحلق[3]، وقال: إن هذا لا يسمى أكلاً وشربًا، ولا بمعنى الأكل والشرب، ولا يحصل به ما يحصل بالأكل والشرب، وليس عن النبي - صلّى الله عليه وسلّم - حديث صحيح صريح يدل على أن الكحل مفطر، والأصل عدم التفطير، وسلامة العبادة حتى يثبت لدينا ما يفسدها. وما ذهب إليه - رحمه الله - هو الصحيح.
وبناءً على هذا لو أنه قطر في عينه وهو صائم فوجد الطعم في حلقه، فإنه لا يفطر بذلك. أما إذا وصل طعمها إلى الفم وابتلعها فقد صار أكلاً وشربًا.
قوله: "أو أدخل إلى جوفه شيئًا من أي موضع كان" قوله: "إلى جوفه" أي: إلى مجوف في بدنه كحلقه وبطنه وصدره، والمراد أنه يفطر بذلك، فلو أن الإنسان أدخل منظارًا إلى المعدة حتى وصل إليها، فإنه يكون بذلك مفطرًا.
والصحيح أنه لا يفطر إلا أن يكون في هذا المنظار، دهن أو نحوه يصل إلى المعدة بواسطة هذا المنظار فإنه يكون بذلك مفطرًا، ولا يجوز استعماله في الصوم الواجب إلا للضرورة.
ولو أن الإنسان كان له فتحة في بطنه، وأدخل إلى بطنه شيئًا عن طريق هذه الفتحة، فعلى المذهب يفطر بذلك كما لو داوى الجائفة، والصحيح أنه لا يفطر بذلك إلا أن تجعل هذه الفتحة بدلاً عن الفم بحيث يدخل الطعام والشراب منها لانسداد المريء أو تقرحه، ونحو ذلك؛ فيكون ما أدخل منها مفطِّرًا كما لو أدخل من الفم، وهذا هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية.(/4)
غَيْرَ إحْلِيلِهِ، أوِ اسْتَقَاءَ أوِ اسْتَمْنَى، أَوْ بَاشَرَ فَأَمْنَى، أَوْ أَمْذَى، أو كَرَّرَ النَّظَرَ فَأَنْزَلَ،.........
وقوله: "غير إحليله" أي: قناة الذكر، فلو أدخل عن طريق الذكر خيطًا فيه طعم دواء فإنه لا يفطر؛ لأن الذكر لا يصل إلى الجوف ما دخل عن طريقه، فإن البول إنما يخرج رشحًا، هكذا علل الفقهاء - رحمهم الله - ومرادهم بذلك أن البول يجتمع في المثانة عن طريق الرشح؛ لأنه ليس لها إلا منفذ واحد.
والحمد لله نحن في غنى عن هذه التعليلات من الأصل إذا أخذنا بالقول الراجح، وهو أن المفطر هو الأكل والشرب، وما أدخل من طريق الإحليل فإنه لا يسمى أكلاً ولا شربًا، وإذا كانت الحقنة وهي التي تدخل عن طريق الدبر لا تفطر على القول الراجح، فما دخل عن طريق الإحليل من باب أولى.
قوله: ((أو استقاء)) أي: استدعى القيء، ولكن لا بد من قيء، فلو استدعى القيء ولكنه لم يقئ فإن صومه لا يفسد، بل لا يفسد إلا إذا استقاء فقاء، ولا فرق بين أن يكون القيء قليلاً أو كثيرًا.
أما ما خرج بالتعتعة من الحلق فإنه لا يفطر، فلا يفطر إلا ما خرج من المعدة، سواء كان قليلاً أو كثيرًا، لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلّى الله عليه وسلّم - قال: ((من استقاء عمدًا فليقضِ، ومن ذرعه القيء فلا قضاء عليه))[4]. ((ذرعه)) أي: غلبه.
واستدعاء القيء له طرق: النظر، الشم، والعصر، والجذب، وربما نقول السمع أيضًا.
أما النظر: فكأن ينظر الإنسان إلى شيءٍ كريهٍ فتتقزز نفسه ثم يقيء.
وأما الشم: فكأن يشم رائحة كريهة فيقيء.
وأما العصر: فكأن يعصر بطنه عصرًا شديدًا إلى فوق ثم يقيء.
وأما الجذب: بأن يدخل أصبعه في فمه حتى يصل إلى أقصى حلقه ثم يقيء.
أما السمع: فربما يسمع شيئًا كريهًا.(/5)
وقال بعض العلماء: إنه لا فطر في القيء ولو تعمده بناءً على قاعدة قعدوها، وهي: "الفطر مما دخل لا مما خرج، والوضوء مما خرج لا مما دخل"، وضعفوا حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - وقالوا: إنه مخالف للقياس مع ضعف سنده. والجواب: أن يقال أين الدليل على هذه القاعدة، فهذا لحم الإبل ينقض وهو داخل؟! فسيقولون لا ينقض الوضوء إلا على مذهب الإمام أحمد فقاعدتنا سليمة. قلنا لهم: إنزال المني من الصائم خارج، ويفسد الصوم.
والصواب أن القيء عمدًا مفطر؛ لأن الحديث دل عليه والقاعدة التي أسسوها غير صحيحة، والحكمة تقتضي أن يكون مفطرًا؛ لأن الإنسان إذا استقاء ضعف واحتاج إلى أكل وشرب. فنقول له لا يحل لك في الصوم الواجب سواء رمضان أو غيره أن تتقيء إلا للضرورة، فإن اضطررت إلى القيء فتقيأ، ثم أعد على بدنك ما يحصل به القوة من الأكل الشرب، فهذا القول كما هو مقتضى الحديث فهو مقتضى النظر الصحيح، أما رأيهم فهو يعارض النص، والرأي المقابل للنص، المعارض له، فاسد لا عبرة به، ونقول لصاحبه: أأنت أعلم أم الله؟ فما دام هذا حكم الله فإنه خير من الرأي.
قوله: "أو استمنى" أي: طلب خروج المني بأي وسيلة، سواء بيده، أو بالتدلك على الأرض، أو ما أشبه ذلك حتى أنزل، فإنّ صومه يفسد بذلك، وهذا ما عليه الأئمة الأربعة - رحمهم الله - مالك، والشافعي، وأبو حنيفة، وأحمد.
وأبى الظاهرية ذلك وقالوا: لا فطر بالاستمناء ولو أمنى[5][(360)]، لعدم الدليل من القرآن والسنة على أنه يفطر بذلك، فإن أصول المفطِّرات ثلاثة، وليس هذا منها فيحتاج إلى دليل، ولا يمكن أن نفسد عبادة عباد الله إلا بدليل من الله ورسوله، صلى الله عليه وسلم.
ولكن عندي - والله أعلم - أنه يمكن أن يستدل على أنه مفطر من وجهين:(/6)
الوجه الأول: النص: فإن في الحديث الصحيح أن الله - سبحانه وتعالى - قال في الصائم: ((يدَع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي))[6] والاستمناء شهوة، وخروج المني شهوة، والدليل على أن المني يطلق عليه اسم شهوة قول الرسول - صلّى الله عليه وسلّم -: ((وفي بضع أحدكم صدقة.)) قالوا: "يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له أجر؟!" قال: ((أرأيتم لو وضعها في الحرام أكان عليه وزر، كذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر))[7] والذي يوضع هو المني.
الوجه الثاني: القياس، فنقول: جاءت السنة بفطر الصائم بالاستقاء إذا قاء، وبفطر المحتجم إذا احتجم وخرج منه الدم، وكلا هذين يضعفان البدن.
أما خروج الطعام فواضحٌ أنه يضعف البدن؛ لأن المعدة تبقى خالية فيجوع الإنسان ويعطش سريعًا.
وأما خروج الدم فظاهر أيضًا أنه يضعف البدن، ولهذا ينصح من احتجم أو تبرع لأحد بدم من جسمه، أن يبادر بالأكل السريع الهضم، والسريع التفرق في البدن؛ حتى يعوض ما نقص من الدم، وخروج المني يحصل به ذلك فيفتر البدن بلا شك، ولهذا أمر بالاغتسال ليعود النشاط إلى البدن، فيكون هذا قياسًا على الحجامة والقيء، وعلى هذا نقول: إن المني إذا خرج بشهوة فهو مفطِّر للدليل والقياس.
قوله: "أو باشر فأمنى" أي: باشر زوجته سواء باشرها باليد، أو بالوجه بتقبيل، أو بالفرج، فإنه إذا أنزل أفطر، وإذا لم يُنزل فلا فطر بذلك.
ونقول في الإنزال بالمباشرة ما قلنا في الإنزال بالاستمناء: إنه مفطر.
وعلم من كلام المؤلف، أنه لو استمنى بدون إنزال فإنه لا فطر، وأنه لو باشر بدون إنزال فإنه لا فطر في ذلك أيضًا، وسيأتي بيان حكم المباشرة.(/7)
قوله: "أو أمذى" أي: فإنه يفطر، والمذي هو ماء رقيق يحصل عقيب الشهوة بدون أن يحس به الإنسان عند خروجه، وهو بين البول والمني من حيث النجاسة، فالمني طاهر موجب لغسل جميع البدن، والبول نجس موجب لغسل ما أصاب من البدن والملابس، والمذي يوجب غسل الذكر والأنثيين، ولا يوجب الغسل إذا أصاب الملابس، بل يكفي فيه النضح كما ثبت عن النبي - صلّى الله عليه وسلّم - ذلك[8].
فالمذهب أن خروج المذي مفسد للصوم كالمني، أي: إذا استمنى فأمذى، أو باشر فأمذى فإنه يفسد صومه، والذين يقولون لا يفسد بالمني يقولون لا يفسد بالمذي من باب أولى، والذين يقولون إن الصوم يفسد بالمني اختلفوا في المذي على قولين:
فالمذهب أنه يفطر، ولا دليل له صحيح، والصحيح القول الثاني أنه لا يفطر؛ لأن المذي دون المني لا بالنسبة للشهوة ولا بالنسبة لانحلال البدن، ولا بالنسبة للأحكام الشرعية حيث يخالفه في كثير منها بل في أكثرها أو كلها، فلا يمكن أن يلحق به.
وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - والحجة فيه عدم الحجة، أي عدم الحجة على إفساد الصوم به؛ لأن هذا الصوم عبادة شرع فيها الإنسان على وجه شرعي فلا يمكن أن نفسد هذه العبادة إلا بدليل.
قوله: "أو كرر النظر فأنزل" يعني فإنه يفسد صومه، وتكرار النظر يحصل بمرتين، فإن نظر نظرة واحدة فأنزل لم يفسد صومه لقول النبي - صلّى الله عليه وسلّم -: ((لك الأولى وليست لك الثانية))[9]. ولأن الإنسان لا يملك أن يجتنب هذا الشيء، فإن بعض الناس يكون سريع الإنزال وقوي الشهوة؛ إذا نظر إلى امرأته أنزل، ولو قلنا: إنه يفطر بذلك لكان فيه مشقة.
فصار النظر فيه تفصيل، إن كرره حتى أنزل فسد صومه، وإن أنزل بنظرة واحدة لم يفسد، إلا أن يستمر حتى ينزل فيفسد صومه؛ لأن الاستمرار كالتكرار، بل قد يكون أقوى منه في استجلاب الشهوة والإنزال.(/8)
وأما التفكير بأن فكر حتى أنزل فلا يفسد صومه، لعموم قول النبي - صلّى الله عليه وسلّم -: ((إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم))[10] إلا إن حصل معه عمل يحصل به الإنزال كعبث بذكَره ونحوه.
والخلاصة:
أولاً: المباشرة إذا أنزل فيها، فسد صومه وكذلك إذا أمذى على المذهب.
ثانيًا: النظر: إن كان واحدة فأنزل أو أمذى فلا شيء عليه في ذلك، وإن كرر فأمذى فلا شيء في ذلك، وإن كرَّر فأنزل فسد صومه.
وهنا فرَّق المؤلف - رحمه الله - بين الإمذاء والإمناء، فإذا كرر النظر فأمذى فلا يفسد صومه، وإذا كرره فأمنى فسد صومه.
والصواب أنه لا فرق بينهما في هذه الحال الثانية وغيرها؛ وأنه لا يفسد صومه بالإمذاء مطلقًا سواء كان بمباشرة أو بنظر.
ثالثًا: التفكير لا يفسد به صومه سواءٌ أمنى أو أمذى على ما سبق.
مسألة: لو تحدث الرجل مع امرأته حتى أنزل هل نلحقه بالمباشرة؛ فنقول: يفسد صومه أو نلحقه بالنظر؟ الظاهر أنه يلحق بالنظر فيكون أخف من المباشرة، وعليه يلحق تكرار القول بتكرار النظر، فإن الإنسان مع القول قد يكون أشد تلذذًا من النظر.
أَوْ حَجَمَ أوِ احْتَجَمَ وَظَهَرَ دَمٌ،.........
قوله: "أو حجم أو احتجم وظهر دم" "حجم" أي: حجم غيره.
"احتجم" بمعنى طلب من يحجمه، فإذا حجم غيره أو احتجم، وظهر دم فسد صومه، فإن لم يظهر دم؛ لكون المحجوم قليل الدم، ولم يخرج منه شيء لم يفسد صومه.
وظاهر قول المؤلف: "وظهر دم" أنه لا فرق بين أن يكون الدم الظاهر قليلاً أو كثيرًا، وسواء كانت الحجامة في الرأس، أو في الكتفين، أو في أي مكان من البدن.
ومواضع الحجامة وأوقاتها وأحوال المحجوم، ومن يمكن أن يحجم، ومن لا يمكن، معروفةٌ عند الحجامين، ولهذا يجب على الإنسان إذا أراد الحجامة أن يحتاط، ويختار لمن يحجمه من هو معروف بالحِذْق؛ لئلا ينزف دمه من حيث لا يشعر.(/9)
وهذه المسألة اختلف العلماء فيها كثيرًا وهي من مفردات الإمام أحمد، فأكثر أهل العلم يرون أن الحجامة لا تفطر ويستدلون بالآثار والنظر. فالآثار يقولون إنه ثبت في البخاري عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي - صلّى الله عليه وسلّم -: "احتجم وهو صائم، واحتجم وهو محرِم"[11]، واستدلوا أيضًا بأحاديث أخرى من رواية أنس وغيره، وفي بعضها التفصيل بأن الحجامة كانت من أجل الضعف[12]، ثم رخص فيها، واستدل القائلون بالإفطار بحديث شداد بن أوس وغيره أن النبي - صلّى الله عليه وسلّم - قال: ((أفطر الحاجم والمحجوم))[13].
وهذا الحديث ضعفه بعض أهل العلم، وقالوا: إنه لا يصح عن النبي - صلّى الله عليه وسلّم -، فمن ضعفه فإنه لا يستدل به ولا يأخذ به؛ لأنه لا يجوز أن يحتج بالضعاف على أحكام الله - عزّ وجل -، ومن العلماء من صححه كالإمام أحمد، وشيخ الإسلام ابن تيمية وغيرهما من الحفاظ، وعلى هذا يكون الحديث حجة.
فإذا كان حجة وقلنا: إنه يفطر بالحجامة الحاجم والمحجوم، فما هي الحكمة؟
الجواب قال الفقهاء - رحمهم الله -: إن هذا من باب التعبد[14]، والأحكام الشرعية التي لا نعرف معناها تسمى عند أهل الفقه تعبدية، بمعنى أن الواجب على الإنسان أن يتعبد لله بها سواء عَلِمَ الحكمة أم لا.
ولكن هل لها حكمة معلومة عند الله؟
الجواب: نعم لا شك؛ لأن الله - سبحانه وتعالى - قال: {ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الممتحنة: 10] فما من حكم من أحكام الشريعة إلا وله حكمة عند الله - عزّ وجل - لكن قد تظهر لنا بالنص أو بالإجماع أو بالاستنباط، وقد لا تظهر لقصورنا، أو لتقصيرنا في طلب الحكمة.(/10)
وهذه الأحكام التعبدية لها أصل أشارت إليه أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - حين سألتها معاذة بنت عبدالله العدوية قالت: "ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟!" قالت: "كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة"[15] فوكلت الأمر إلى حكم الله ورسوله، ولم تقل: لأن الصلاة تتكرر، والصيام لا يتكرر، وما أشبه ذلك مما ذكره الفقهاء، ولأن المؤمن إذا قيل له هذا حكم الله انقاد، فهذه هي الحكمة لقول الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36].
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -[16]: إن إفطار الصائم بالحجامة له حكمة، أما المحجوم فالحكمة هو أنه إذا خرج منه هذا الدم أصاب بدنه الضعف، الذي يحتاج معه إلى غذاء لترتد عليه قوته، لأنه لو بقي إلى آخر النهار على هذا الضعف فربما يؤثر على صحته في المستقبل، فكان من الحكمة أن يكون مفطرًا، وعلى هذا فالحجامة للصائم لا تجوز في الصيام الواجب إلا عند الضرورة، فإذا جازت للضرورة جاز له أن يفطر، وإذا جاز له أن يفطر، جاز له أن يأكل، وحينئذ نقول احتجم وكُلْ واشرب من أجل أن تعود إليك قوتك وتسلم، مما يتوقع من مرض بسبب هذا الضعف.
أما إذا كان الصوم نفلاً فلا بأس بها؛ لأن الصائم نفلاً، له أن يخرج من صومه بدون عذر، لكنه يكره لغير غرض صحيح.
وأما الحكمة بالنسبة للحاجم، فيقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: إن الحاجم عادة يمص قارورة الحجامة، وإذا مصها فإنه سوف يصعد الدم إلى فمه، وربما من شدة الشفط ينزل الدم إلى بطنه من حيث لا يشعر، وهذا يكون شربًا للدم فيكون بذلك مفطرًا. ويقول: هذا هو الغالب ولا عبرة بالنادر.(/11)
وقوارير الحجامة عبارة عن قارورة من حديد، يكون فيها قناة دقيقة يمصها الحاجم، ويكون في فمه قطنة إذا مصها سدها بهذه القطنة؛ لأنه إذا مصها تفرغ الهواء، وإذا تفرغ الهواء فلا بد أن يجذب الدم، وإذا جذب الدم امتلأت القارورة ثم سقطت، وما دامت لم تمتلئ فهي باقية.
والحكمة إذا كانت غير منضبطة فإنه يؤخذ بعمومها، ولهذا قال: لو أنه حجم بآلات منفصلة لا تحتاج إلى مص، فإنه لا يفطر بذلك.
أما الذين قالوا العلة تعبدية فيقولون: إن الحاجم يفطر، ولو حجم بآلات منفصلة لعموم اللفظ.
والذي يظهر لي - والعلم عند الله - أن ما ذهب إليه شيخ الإسلام أولى، فإذا حجم بطريق غير مباشر ولا يحتاج إلى مص فلا معنى للقول بالفطر؛ لأن الأحكام الشرعية ينظر فيها إلى العلل الشرعية.
فإن قيل: العلة إذا عادت على النص بالإبطال دل ذلك على فسادها، وهذا حاصل في قول شيخ الإسلام إذا حجم الشخص بآلات منفصلة؟
فالجواب أن يقال: إن الرسول - صلّى الله عليه وسلّم - يتكلم عن شيء معهود في زمنه، فتكون "أل" في "الحاجم" للعهد الذهني المعروف عندهم.
والقول بأن الحجامة مفطرة هو مذهب الإمام أحمد - رحمه الله -، وهو منفرد به عن المذاهب، وانفراد الإمام أحمد عن المذاهب لا يعني أن قوله ضعيف؛ لأن قوة القول ليست بالأكثرية، بل تعود إلى ما دل عليه الشرع، وإذا انفرد الإمام أحمد بقول دل عليه الشرع فإنه مع الجماعة[17].
مسألة: هل يلحق بالحجامة الفصد، والشرط، والإرعاف، وما أشبه ذلك، كالتبرع بالدم؟
الفصد: قطع العرق، والشرط: شق العرق. فإن شققته طولاً فهو شرط، وإن شققته عرضًا فهو فصد.(/12)
فالمذهب لا يلحق بالحجامة؛ لأن الأحكام التعبدية لا يقاس عليها، وهذه قاعدة أصولية فقهية "الأحكام التعبدية لا يقاس عليها"؛ لأن من شرط القياس اجتماع الأصل والفرع في العلة، وإذا لم تكن معلومة فلا قياس. فيقولون: إن الفطر بالحجامة تعبدي، فلا يلحق به الفصد والشرط والإرعاف ونحوها؛ فتكون هذه جائزة للصائم فرضًا ونفلاً.
أما على ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو أن علة الفطر بالحجامة معلومة، فيقول: إن الفصد والشرط يفسدان الصوم، وكذلك لو أرعف نفسه حتى خرج الدم من أنفه، بأن تعمد ذلك ليخف رأسه، فإنه يفطر بذلك، وقوله - رحمه الله - أقرب إلى الصواب.
وأما مغالاة العامة بحيث إن الإنسان لو استاك وأدمت لثته قالوا: أفطر، ولو حك جلده حتى خرج الدم قالوا: أفطر، ولو قلع ضرسه وخرج الدم قالوا: أفطر، ولو رعف بدون اختياره قالوا: أفطر، فكل هذه مبالغة، فقلع الضرس لا يفطر ولو خرج الدم؛ لأن قالع ضرسه لا يقصد بذلك إخراج الدم، وإنما جاء خروج الدم تبعًا، وكذلك لو حك الإنسان جلده، أو بط الجرح حتى خرجت منه المادة العفنة فكل ذلك لا يضر.
عامدًا ذَاكِرًا لِصَوْمِهِ فَسد لا ناسيًا،.........
قوله: "عامدًا" حال من فاعل "أكل" وما عطف عليه، اشترط المؤلف لفساد الصوم بما ذكر شرطين:
الشرط الأول: أن يكون عامدًا، وضده غير العامد، وهو نوعان، أحدهما: أن يحصل المفطر بغير اختياره بلا إكراه، مثل أن يطير إلى فمه غبار أو دخان أو حشرة أو يتمضمض، فيدخل الماء بطنه بغير قصد فلا يفطر، والدليل على ذلك قول الله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب: 5] وهذا لم يتعمد قلبه فعل المفسد؛ فيكون صومه صحيحًا.(/13)
الثاني: أن يفعل ما يفطر مكرهًا عليه فلا يفسد صومه لقوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: 106] فإذا كان حكم الكفر يعفى عنه مع الإكراه، فما دون الكفر من باب أولى، وعلى هذا فلو أكره الرجل زوجته على الجماع، وهي صائمة، وعجزت عن مدافعته فصيامها صحيح، ويشترط لرفع الحكم أن يفعل هذا الشيء لدفع الإكراه لا للاطمئنان به، يعني أنه شرب أو أكل دفعًا للإكراه، لا رضًا بالأكل أو الشرب بعد أن أكره عليه، فإن فعله رضًا بالأكل أو الشرب بعد أن أكره عليه؛ فإنه لا يعتبر مكرهًا، هذا هو المشهور من المذهب، وقيل: بل يعتبر مكرهًا؛ لأن أكثر الناس لا سيما العوام لا يفرقون بين أن يفعلوا هذا الشيء لدفع الإكراه أو أن يفعلوه اطمئنانًا به؛ لأنهم أكرهوا وعموم قوله - صلّى الله عليه وسلّم -: ((رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه))[18] يشمل هذه الصورة، وهذا اختيار شيخ الإسلام.
قوله: "ذاكرًا لصومه فسد لا ناسيًا" هذا هو الشرط الثاني: أن يكون ذاكرًا، وضده الناسي.
فلو فعل شيئًا من هذه المفطرات ناسيًا، فلا شيء عليه لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلّى الله عليه وسلّم - قال: ((من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه))[19].
وقوله - صلّى الله عليه وسلّم -: ((وهو صائم)) يشمل الفريضة، والنافلة.
وانظر قوله في الحديث ((أطعمه الله)) فلم ينسب الفعل إلى الفاعل، بل إلى الله؛ لأنه ناسٍ لم يقصد المخالفة والمعصية، ولهذا نُسب فعله إلى من أنساه وهو الله - عزّ وجل - وهذا دليل خاص.(/14)
ولدينا دليل عام وهو قاعدة شرعية من أقوى قواعد الشريعة وهي قوله تعالى: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِيْنَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] فقال الله تعالى: ((قد فعلت)).
فصار في النسيان دليلان عام وخاص، وإذا اجتمع في المسألة دليلان عام وخاص، فالأولى أن نستدل بالخاص؛ لأننا إذا استدللنا بالعام، فإنه قد يقول قائل هذا عام، والمسألة هذه مستثناة من العموم، فقد يدعي هذا، مع أنه لو ادعاه لكانت الدعوى مردودة؛ لأن الأصل أن العموم شامل لجميع أفراده؛ والدليل على أن العام شامل لجميع أفراده، قوله - صلّى الله عليه وسلّم -: ((إنكم إذا قلتم السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين فقد سلمتم على كل عبد صالح في السماء والأرض))[20]؛ لأن ((عباد الله الصالحين)) عامة؛ ولذلك قال: ((فقد سلمتم على كل عبد صالح في السماء والأرض)) فلو استدللنا على أن الناسي إذا أكل أو شرب لا يفسد صومه بآية البقرة، فإنه استدلال صحيح، ولو ادعى مدعٍ أن هذا خارج عن العموم، قلنا له أين الدليل؟ لأن الأصل أن العام شامل لجميع أفراد العموم.
لكن لو أكل ناسيًا أو شرب ناسيًا، ثم ذكر أنه صائم واللقمة في فمه، فهل يلزمه أن يلفظها؟
الجواب: نعم يلزمه أن يلفظها؛ لأنها في الفم وهو في حكم الظاهر، ويدل على أنه في حكم الظاهر، أن الصائم لو تمضمض لم يفسد صومه. أما لو ابتلعها حتى وصلت ما بين حنجرته ومعدته لم يلزمه إخراجها، ولو حاول وأخرجها، لفسد صومه لأنه تعمد القيء.
أفادنا المؤلف - رحمه الله - بعموم كلامه أن الجماع كغيره، والجماع على المشهور من المذهب لا يشمله هذا الحكم، والصحيح أنه كغيره والدليل عدم الدليل على الفرق، ونحن لا نفرق إلا ما فرق الله ورسوله - صلّى الله عليه وسلّم - بينه، ولم يفرق الله - عزّ وجل - ورسوله - صلّى الله عليه وسلّم - بين الجماع وغيره إلا في مسألة واحدة وهي الكفارة.
أَوْ مُكْرهًا،........(/15)
قوله: "أو مكرهًا" يعني أنه إذا كان مكرهًا على المفطرات، فإنه لا يفطر، فيشترط أن يكون عمدًا، لقول الله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب: 5][21].
قال في "الروض": "ولو بوجود مغمى عليه معالجة" أي: إذا أغمي عليه وهو صائم، فصبوا في فمه ماء لعله يصحو فصحا فلا يفطر بهذا؛ لأنه غير قاصد، فالذي صب في فمه الماء شخص آخر، وهو مغمى عليه لا يحس، كما لو أتيت إلى شخص نائم وصببت في فمه ماء فإنه لا يفطر؛ لأنه بغير قصد، وإذا صببت في فمه الماء فسوف يبتلعه وهو نائم، ولكنه يبتلعه وهو غير تام الشعور فلا يفسد صومه.
ومقتضى كلام المؤلف، أنه لا يشترط أن يكون عالمًا؛ لأنه لم يذكر إلاّ شرطين، العمد والذكْر، فإن كان جاهلاً فإنه يفطر.
والصحيح اشتراط العلم، لدلالة الكتاب والسنة عليه، فتكون شروط المفطرات ثلاثة: العلم، والذكْر، والعمد.
وضد العلم الجهل، والجهل ينقسم إلى قسمين:
1- جهل بالحكم الشرعي، أي: لا يدري أن هذا حرام.
2- جهل بالحال، أي: لا يدري أنه في حال يحرم عليه الأكل والشرب، وكلاهما عذر.
والدليل لذلك قوله تعالى: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِيْنَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286]. وإذا انتفت المؤاخذة انتفى ما يترتب عليها، وهذا دليل عام.
وهناك دليل خاص في هذه المسألة للنوعين من الجهل:(/16)
أما الجهل بالحكم، فدليله حديث عدي بن حاتم - رضي الله عنه – "أنه أراد أن يصوم وقرأ قول الله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ} [البقرة: 187]. فأتى بعقال أسود - حبل تربط به يد البعير - وأتى بعقال أبيض، وجعلهما تحت وسادته، وجعل يأكل وينظر إلى الخيطين؛ حتى تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود." فهذا أخطأ في فهم الآية؛ لأن المراد بها أن الخيط الأبيض بياض النهار، والأسود سواد الليل، فلما جاء إلى النبي - صلّى الله عليه وسلّم - أخبره قال له: ((إن وسادك لعريض أن وَسِعَ الخيط الأبيض والأسود))[22] ولم يأمره بالقضاء؛ لأنه جاهل لم يقصد مخالفة الله ورسوله - صلّى الله عليه وسلّم -، بل رأى أن هذا حكم الله ورسوله - صلّى الله عليه وسلّم - فعُذر بهذا.
وأما الجهل بالحال: فقد ثبت في الصحيح عن أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنهما - قالت: "أفطرنا في يوم غيم على عهد النبي - صلّى الله عليه وسلّم - ثم طلعت الشمس"[23] فأفطروا في النهار بناءً على أن الشمس قد غربت فهم جاهلون، لا بالحكم الشرعي ولكن بالحال، لم يظنوا أن الوقت في النهار، ولم يأمرهم النبي - صلّى الله عليه وسلّم - بالقضاء، ولو كان القضاء واجبًا لأمرهم به، لأنه من شريعة الله، وإذا كان من شريعة الله كان محفوظًا تنقله الأمة؛ لأنه مما تتوافر الدواعي لنقله، فلما لم يحفظ، ولم ينقل عن النبي - صلّى الله عليه وسلّم -، فالأصل براءة الذمة، وعدم القضاء.
وهذه قاعدة مهمة أشرنا إليها من قبل وهي أننا إذا شككنا في وجوب شيء أو تحريمه فالأصل عدمه، إلا في العبادات فالأصل فيها التحريم.(/17)
ولكن من أفطر قبل أن تغرب الشمس إذا تبين أن الشمس لم تغرب، وجب عليه الإمساك، لأنه أفطر بناءً على سبب، ثم تبين عدمه، وهذا يجرنا إلى مسألة مهمة وهي أن من بنى قوله على سبب، تبين أنه لم يوجد فلا حكم لقوله، وهذه لها فروع كثيرة من أهمها:
ما يقع لبعض الناس في الطلاق، يقول لزوجته مثلاً: إن دخلت دار فلان فأنت طالق، بناءً على أنه عنده آلات محرمة مثل المعازف أو غيرها، ثم يتبين أنه ليس عنده شيء من ذلك، فهل إذا دخلت تطلق أو لا؟
الجواب: لا تطلق، لأنه مبني على سبب تبين عدمه، وهذا هو القياس شرعًا وواقعًا.
مسألة: لو أن رجلاً صائمًا أكل ناسيًا حتى بقي عليه قليل من الطعام، فأكله متأولاً بأنه، إن كان ما سبق أكلُهُ ناسيًا لا يفطر مع أنه أكثر، فأقله لا يفطر تبعًا، وإن كان ما سبق مفطرًا فهو الآن غير صائم فله أكل البقية، فهل يكون معذورًا بذلك؟ فالمذهب أنه غير معذور بالجهل فلا يكون هذا معذورًا، وعلى القول الراجح وهو العذر بالجهل يحتمل أن يكون معذورًا لتأوله، ويحتمل ألاّ يكون معذورًا لتفريطه؛ لأن الواجب عليه هنا أن يسأل، وعلى كل حال فقضاء الصوم أحوط، والله أعلم.
أوْ طَارَ إِلَى حَلْقِه ذُبَابٌ، أوْ غُبَارٌ،..........
قوله: "أو طار إلى حلقه ذباب، أو غبار" أي: فلا يفطر؛ لأنه بغير قصد، لكن لو طار إلى أقصى الفم فإنه يمكنه أن يخرجه، إنما لو ذهب إلى الحلق فلا يمكن أن يخرجه، وربما لو حاول إخراجه تقيأ، لذلك يعفى عنه، وكذلك إذا طار إلى حلقه غبار، فإنه لا يفطر؛ لعدم القصد، ولا يقال للعامل الذي يعمل في التراب لا تعمل وأنت صائم؛ لأنك لو عملت وأنت صائم لطار إلى حلقك غبار؛ لأننا نقول: إن طيران الغبار إلى حلقه ليس بمقصود، لكن أفلا يقال: ما دام هذا العمل سببًا لإفطاره لا يجوز أن يعمل؟
الجواب: ليس هذا سببًا لإفطاره؛ لأنه إذا طار إلى حلقه غبار بلا قصد فإنه لا يفطر.(/18)
أوْ فَكَّرَ فَأَنْزَلَ، أوِ احْتَلَمَ، أَوْ أَصْبَحَ فِي فِيهِ طَعامٌ فَلَفَظَهُ،..........
قوله: "أو فكر فأنزل" أي: فكر في الجماع، فأنزل سواء كان ذا زوجة، ففكر في جماع زوجته، أو لم يكن ذا زوجة ففكر في الجماع مطلقًا، فأنزل فإنه لا يفسد صومه بذلك.
ودليله: قول النبي - صلّى الله عليه وسلّم -: ((إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم))[24]. وهذا لم يعمل، ولم يتكلم، إنما حدث نفسه وفكر فأنزل.
وعُلم من كلامه "فكر فأنزل" أنه لو حصل منه عمل فإنه يفطر؛ بأن تدلك بالأرض حتى أنزل، أو حرك ذكره حتى أنزل، أو قبل زوجته حتى أنزل، أو ما أشبه ذلك فإنه يفطر.
قوله: "أو احتلم" أي: فلا يفطر حتى لو نام على تفكير، واحتلم في أثناء النوم؛ لأن النائم غير قاصد، وقد رفع عنه القلم، وأحيانًا يستيقظ الإنسان حينما يتحرك الماء الدافق، فهل يلزمه في هذه الحال أن يمسكه؟
الجواب: لا؛ لأنه انتقل من محله ولا يمكن رده؛ لأن حبسه بالضغط على الذكر مضر، كما لو تحركت معدته ليتقيأ، فإنه لا يلزمه أن يحبسها لما في ذلك من الضرر.
قوله: "أو أصبح في فيه طعام فلفظه" أي: لا يفسد صومه؛ لأنه لم يبتلع طعامًا بعد طلوع الفجر.
ويتصور ذلك إذا كان الإنسان مثلاً يأكل تمرًا، وصار في أقصى فمه شيء من التمر، ولم يحس به إلا بعد طلوع الفجر ففي هذه الحال يلفظه، وصومه صحيح ولا بأس.
أوِ اغْتَسَلَ، أوْ تَمَضْمَضَ، أو اسْتَنْثَرَ أوْ زَادَ عَلَى الثَّلاَثِ، أَوْ بَالَغَ فَدَخَلَ المَاءُ حَلْقَهُ لَمْ يَفْسُدْ.
قوله: "أو اغتسل" أي: اغتسل فدخل الماء إلى حلقه، فإنه لا يفطر بذلك؛ لعدم القصد.
قوله: "أو تمضمض" أي: فدخل الماء إلى حلقه، حتى وصل إلى معدته، فإنه لا يفطر؛ لعدم القصد.(/19)
قوله: "أو استنثر" والمراد استنشق؛ لأن الاستنثار يخرج الماء من الأنف، فإما أن يكون هذا من المؤلف سبقة قلم، أو سهوًا، أو أراد الاستنثار بعد الاستنشاق، ولكن حتى لو أراد هذا لم يستقم؛ لأن الاستنثار إخراج ما في الأنف لا إدخال شيء إليه.
فإذا استنشق الماء في الوضوء مثلاً، ثم نزل الماء إلى حلقه، فإنه لا يفطر؛ لعدم القصد.
قوله: "أو زاد على الثلاث" أي: في المضمضة، أو الاستنشاق، فدخل الماء إلى حلقه، فإنه لا يفسد صومه.
وأتى المؤلف بقوله: "زاد على الثلاث"؛ لأن ما قبل الثلاث في المضمضة والاستنشاق مشروع ومأذون فيه، والقاعدة عند العلماء أن ما ترتب على المأذون فليس بمضمون، فإذا تمضمض في الأولى والثانية والثالثة، فوصل الماء إلى حلقه، فإنه لا يفطر بذلك؛ لأنه لم يفعل إلا شيئًا مشروعًا، وهذا ترتب على شيء مشروع فلا يضر.
والزيادة على الثلاث في الوضوء إما محرمة، وإما مكروهة كراهة شديدة؛ لقول النبي - صلّى الله عليه وسلّم -: ((من زاد على ذلك فقد أساء وتعدى وظلم))[25] فأدنى أحوالها أنها مكروهة، فإذا زاد على الثلاث ووصل الماء إلى حلقه، فإنه لا يفطر لعدم القصد؛ لأنك لو سألت هذا الذي تمضمض أكثر من ثلاث، أتريد أن يصل الماء إلى حلقك؟ لقال: لا.
قوله: "أو بالغ فدخل الماء حلقه لم يفسد" أي: لو بالغ في الاستنشاق أو المضمضة، مع أنه مكروه للصائم أن يبالغ فيهما، ودخل الماء حلقه فإنه لا يفطر بذلك؛ لعدم القصد.(/20)
تنبيه: ذكر المؤلف - رحمه الله - ست مسائل علق الحكم فيها بوصول الماء إلى حلق الصائم، فجعل مناط الحكم وصول الماء إلى الحلق لا إلى المعدة، وظاهر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية أن مناط الحكم وصول المفطِّر إلى المعدة، ولا شك أن هذا هو المقصود؛ إذ لم يرد في الكتاب والسنة أن مناط الحكم هو الوصول إلى الحلق، لكن الفقهاء - رحمهم الله - قالوا: إن وصوله إلى الحلق مظِّنة وصوله إلى المعدة، أو إن مناط الحكم وصول المفطر إلى شيء مجوف والحلق مجوف.
مسألة: لو يبس فمه - كما يوجد في أيام الصيف، ومع بعض الناس - بحيث يكون ريقه قليلاً، ينشف فمه، فيتمضمض من أجل أن يبتل فمه، أو تغرغر بالماء ونزل إلى بطنه، فلا يفطر بذلك؛ لأنه غير مقصود، إذ لم يقصد الإنسان أن ينزل الماء إلى بطنه، وإنما أراد أن يبل فمه، ونزل الماء بغير قصد.
ويتفرع على هذا، هل يجوز للصائم أن يستعمل الفرشة والمعجون أو لا؟
الجواب: يجوز، لكن الأولى ألا يستعملهما؛ لما في المعجون من قوة النفوذ والنزول إلى الحلق، وبدلاً من أن يفعل ذلك في النهار يفعله في الليل، أو يستعمل الفرشة بدون المعجون.
وَمَنْ أَكَلَ شَاكًّا فِي طُلُوع الفَجْرِ صَحَّ صَوْمُهُ، لاَ إِنْ أَكَلَ شَاكًّا في غُرُوبِ الشَّمْسِ أَوْ مُعْتَقِدًا أَنَّهُ لَيْلٌ فَبَانَ نَهَارًا.
قوله: "ومن أكل شاكًا في طلوع الفجر صح صومه" أي: من أتى مفطرًا، وهو شاك في طلوع الفجر فصومه صحيح، لأن الله - سبحانه وتعالى - قال: {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187] وضد التبين الشك والظن، فما دمنا لم يتبين الفجر لنا؛ فلنا أن نأكل ونشرب؛ لقوله تعالى: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِيْنَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] وهذا من الخطأ.(/21)
ولحديث أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنهما - حيث أكلوا يظنون غروب الشمس، ثم طلعت[26]؛ وإذا كان هذا في آخر النهار فأوله من باب أولى؛ لأن أوله مأذون له في الأكل والشرب حتى يتبين له الفجر.
وهذه المسألة لها خمسة أقسام:
1 - أن يتيقن أن الفجر لم يطلع، مثل أن يكون طلوع الفجر في الساعة الخامسة، ويكون أكله وشربه في الساعة الرابعة والنصف فصومه صحيح.
2 - أن يتيقن أن الفجر طلع، كأن يأكل في المثال السابق في الساعة الخامسة والنصف فهذا صومه فاسد.
3 - أن يأكل وهو شاك هل طلع الفجر أو لا؟ ويغلب على ظنه أنه لم يطلع، فصومه صحيح.
4 - أن يأكل ويشرب، ويغلب على ظنه أن الفجر لم يطلع فصومه صحيح أيضًا.
5 - أن يأكل ويشرب مع التردد الذي ليس فيه رجحان، فصومه صحيح.
كل هذا يؤخذ من قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187].
وهل يقيد هذا فيما إذا لم يتبين أنه أكل بعد طلوع الفجر؟
الراجح أنه لا يقيد، حتى لو تبين له بعد ذلك أن الفجر قد طلع، فصومه صحيح بناءً على العذر بالجهل في الحال.
وأما على المذهب: فإذا تبين أن أكله كان بعد طلوع الفجر؛ فعليه القضاء بناءً على أنه لا يعذر بالجهل، والصواب أنه لا قضاء عليه ولو تبين له أنه بعد الصبح؛ لأنه كان جاهلاً؛ ولأن الله أذن له أن يأكل حتى يتبين، ومن القواعد الفقهية المقررة "أن ما ترتب على المأذون فليس بمضمون". أي: ليس له حكم لأنه مأذون فيه.(/22)
قوله: "لا إن أكل شاكًّا في غروب الشمس" أي: فلا يصح صومه؛ لأن الله يقول: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187]. فلا بد أن يتم إلى الليل، ولقول النبي - صلّى الله عليه وسلّم -: ((إذا أقبل الليل من هاهنا - وأشار بيده إلى الشرق - وأدبر النهار من هاهنا - وأشار إلى المغرب - وغربت الشمس)) فلا بد أن تغرب الشمس ((فقد أفطر الصائم))[27].
والفرق بين من أكل شاكًّا في طلوع الفجر، ومن أكل شاكًّا في غروب الشمس، أن الأول بانٍ على أصل وهو بقاء الليل، والثاني أيضًا بانٍ على أصل وهو بقاء النهار، فلا يجوز أن يأكل مع الشك في غروب الشمس، وعليه القضاء ما لم نعلم أنه أكل بعد غروب الشمس، فإن علمنا أن أكله كان بعد الغروب، فلا قضاء عليه.
ويجوز أن يأكل إذا تيقن، أو غلب على ظنه أن الشمس قد غربت، حتى على المذهب إذا غلب على ظنه أن الشمس قد غربت، فله أن يفطر ولا قضاء عليه ما لم يتبين أنها لم تغرب.
مسألة: إن أكل ظانًّا أن الشمس غربت، ولم يتبين الأمر فصومه صحيح، وهذا يؤخذ من قول المؤلف "شاكًّا في غروب الشمس" فعُلم منه أنه لو أكل وقد ظن أن الشمس قد غربت، فإنه يصح صومه ما لم يتبين أنها لم تغرب.
فإن تبين أنها لم تغرب فالصحيح أنه لا قضاء عليه، والمذهب أن عليه القضاء.
فإن قال قائل: ما الدليل على أنه يجوز الفطر بالظن مع أن الأصل بقاء النهار؟
فالجواب: حديث أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنهما - قالت: "أفطرنا في يوم غيم على عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم"[28] وإفطارهم بناءً على ظن قطعًا؛ لقولها في هذا الحديث "ثم طلعت الشمس"، فدل ذلك على أنه يجوز أن يُفطر بظن الغروب، ثم إن تبين أن الشمس غربت فالأمر واضح، أو لم يتبين شيء فالأمر أيضًا واضح، وإن تبين أنها لم تغرب وجب القضاء على المذهب، وعلى القول الراجح لا يجب القضاء.
مسألة: رجل غابت عليه الشمس وهو في الأرض وأفطر، وطارت به الطائرة ثم رأى الشمس؟(/23)
نقول: لا يلزم أن يمسك؛ لأن النهار في حقه انتهى، والشمس لم تطلع عليه بل هو طلع عليها، لكن لو أنها لم تغب وبقي خمس دقائق ثم طارت الطائرة ولما ارتفعت، إذ الشمس باقٍ عليها ربعُ ساعة أو ثلث، فإن صيامه يبقى؛ لأنه ما زال عليه صومه.
قوله: "أو معتقدًا أنه ليل فبان نهارًا" أي: لو أكل يعتقد أنه في ليل، فبان نهارًا لم يصح صومه، سواء من أول النهار أو آخره، أكل يعتقد أنه ليل بناءً على ظنه، أو بناءً على الأصل فبان نهارًا فعليه القضاء، فالفقهاء - رحمهم الله - لا يعذرون بالجهل ويقولون العبرة بالواقع.
مثاله: أكل السحور يعتقد أن الفجر لم يطلع، فتبين أنه طالع فالمذهب يجب عليه القضاء، وهذا يقع كثيرًا، يقوم الإنسان من فراشه، ويقرب سحوره ويأكل ويشرب، وإذا بالصلاة تقام فيكون قد أكل في النهار، فعليه القضاء على المذهب. والقول الراجح أنه لا قضاء عليه وسبق دليله.
وكذلك إذا أكل يعتقد أن الشمس غربت، ثم تبين أنها لم تغرب، فهو أكل يعتقد أنه في ليل فبان أنه في نهار، فيلزمه على المذهب القضاء، وعلى القول الراجح لا يلزمه. ودليله حديث أسماء السابق، حيث لم يأمرهم النبي - صلّى الله عليه وسلّم - بالقضاء، وهذا دليل خاص، ومن الأدلة العامة قوله تعالى: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِيْنَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286].
إذًا الفرق بين أول النهار وآخره، أنه يجوز في أول النهار الأكل مع الشك، وفي آخر النهار لا يجوز الأكل مع الشك.
مسألة
فَصْلٌ
وَمَنْ جَامَعَ فِي نَهَارِ رَمَضَان فِي قُبُلٍ أوْ دُبُرٍ فَعَلَيْهِ القَضَاءُ والكَفَّارَةُ، وَإِنْ جَامَعَ دُونَ الفَرجِ فأَنْزَلَ أَوْ كَانَتِ المرأةُ معذورةً، أوْ جَامَعَ مَنْ نَوَى الصَّوْمَ فِي سَفَرِهِ؛ أفْطَرَ وَلاَ كَفَّارَةَ.
قوله: "فصل" عقد المؤلف - رحمه الله - فصلاً خاصًّا للجماع؛ لكونه أعظم المفطرات تحريمًا وأكثرها تفصيلاً، ولهذا وجبت فيه الكفارة.(/24)
والجماع من مفطرات الصائم، ودليله الكتاب، والسنة، والإجماع، أما الكتاب فقوله تعالى: {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187].
وأما السنة فستأتي.
وأما الإجماع فهو منعقد على أنه مفطر.
قوله: "ومن جامع في نهار رمضان" "مَن" مِن صيغ العموم؛ لأنها اسم شرط، فيشمل كل من جامع في نهار رمضان وهو صائم، وجوابها قوله "فعليه القضاء والكفارة"، ولكن ليس هذا على العموم بل لا بد من شروط:
الشرط الأول: أن يكون ممن يلزمه الصوم، فإن كان ممن لا يلزمه الصوم، كالصغير، فإنه لا قضاء عليه ولا كفارة.
الشرط الثاني: ألاَّ يكون هناك مسقط للصوم، كما لو كان في سفر، وهو صائم، فجامع زوجته، فإنه لا إثم عليه، ولا كفارة، وإنما عليه القضاء فقط لقوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185].
مثال آخر: رجل مريض صائم، وهو ممن يباح له الفطر بالمرض، لكنه تكلف وصام، ثم جامع زوجته فلا كفارة عليه، لأنه ممن يحل له الفطر.
الشرط الثالث: أن يكون في قُبُل أو دبر وإليه الإشارة بقوله: "في قبل أو دبر فعليه القضاء والكفارة" والقبل يشمل الحلال والحرام، فلو زنى فهو كما لو جامع في فرج حلال.
وقوله: "أو دبر" الجماع في الدبر غير جائز، لكن العلماء يذكرون المسائل بقطع النظر عن كونها حلالاً أو حرامًا.(/25)
وقوله: "فعليه القضاء"؛ لأنه أفسد صومه الواجب، فلزمه القضاء كالصلاة، وهذا هو الذي عليه جمهور أهل العلم، وذهب بعض العلماء إلى أن من أفسد صومه عامدًا بدون عذر، فلا قضاء عليه وليس عدم القضاء تخفيفًا، لكنه لا ينفعه القضاء، وإلى هذا ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - لكن لو قال قائل يرد على هذا القول: إنكم إذا قلتم بذلك فمعناه أن المفطرات لا فائدة منها؛ لأنكم تشترطون في المفطرات أن يكون متعمدًا، وأنتم تقولون: إذا أفطر متعمدًا فلا قضاء فكيف ذلك؟
الجواب: نقول على هذا الرأي تكون المفطرات نافعة فيما إذا جاز الفطر لعذر، أما إذا كان لغير عذر فإن هذه المفطرات تفسد صومه ولا يلزمه القضاء، لكن جمهور أهل العلم على أنه يلزمه القضاء، ولو تعمد الفطر، بخلاف الرجل الذي لم يصم ذلك اليوم أصلاً وتركه متعمدًا، فإن الراجح ما ذهب إليه شيخ الإسلام من أنه لا ينفعه القضاء، والفرق بين هذه المسألة وبين من شرع في الصوم، أن من شرع في الصوم فقد التزمه وألزم نفسه به، فإذا أفسده؛ ألزم بقضائه كالنذر، بخلاف من لم يصم أصلاً.
وقوله: "والكفارة" احترامًا للزمن، وبناء على ذلك لو كان هذا في قضاء رمضان، فعليه القضاء لهذا اليوم الذي جامع فيه، وليس عليه كفارة؛ لأنه خارج شهر رمضان.
وظاهر كلام المؤلف أنه لا فرق بين أن ينزل أو لا ينزل، فإذا أولج الحشفة في القبل أو الدبر، فإنه يلزمه القضاء والكفارة.
قوله: "وإن جامع دون الفرج فأنزل، أو كانت المرأة معذورة" هاتان مسألتان:(/26)
الأولى: إذا جامع دون الفرج فأنزل، فقد ذكر المؤلف أن عليه القضاء دون الكفارة؛ لأنه أفسد صومه بغير الجماع، ومثاله أن يجامع بين فخذي امرأته وينزل، وعن أحمد رواية أنه تلزمه الكفارة؛ لأن الإنزال موجب للغسل فكان موجبًا للكفارة كالجماع، ولكن هذا القياس فيه نظر؛ لأن الإنزال دون الجماع وإن كان موجبًا للغسل؛ فلو أن إنسانًا تمتع بامرأة حتى أنزل فإنه لا يقام عليه الحد، ولو جامعها أقيم عليه الحد. ولو أن إنسانًا باشر امرأة حتى أنزل، في الحج لم يفسد حجه بخلاف الجماع، ولو أنه فعل ذلك في الحج فأنزل لم يكن عليه بدنة على القول الراجح؛ لأنه دون الجماع. فالإنزال دون الجماع بالاتفاق فلا يمكن أن يلحق به؛ لأن من شرط القياس مساواة الفرع للأصل، فإذا لم يساوه امتنع القياس، فالمذهب هو الصحيح في هذه المسألة.
الثانية: إذا كانت المرأة معذورة بجهل، أو نسيان، أو إكراه؛ فإن عليها القضاء دون الكفارة وسيأتي الكلام عليها.
وعُلم من قوله: "أو كانت المرأة معذورة" أنه لو كانت مطاوعة فعليها القضاء والكفارة كالرجل.
فإن قال قائل: ما الدليل على وجوب الكفارة بالجماع؟
فالجواب: حديث أبي هريرة الثابت في الصحيحين "أن رجلاً أتى رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - فقال: "هلكت"، قال: ((ما أهلكك؟)) قال: "وقعت على امرأتي في رمضان، وأنا صائم))، فسأله النبي - صلّى الله عليه وسلّم -: ((هل تجد رقبة؟)) فقال: "لا"، قال: ((هل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟)) قال: "لا"، قال: ((هل تستطيع أن تطعم ستين مسكينًا؟)) قال: "لا"، ثم جلس الرجل، فجيئ إلى النبي - صلّى الله عليه وسلّم - بتمر فقال: ((خذ هذا تصدق به))، قال: "أعلى أفقر مني يا رسول الله؟! والله ما بين لابَتَيْها أهل بيت أفقر مني". فضحك النبي - صلّى الله عليه وسلّم - ثم قال: ((أطعمه أهلك))[29] فرجع إلى أهله بتمر".(/27)
فإن قال قائل: ما الدليل على وجوب الكفارة على المرأة، والنبي - صلّى الله عليه وسلّم - لم يذكر في هذا الحديث أن على المرأة كفارة، مع أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يمكن، أي لا يمكن أن يؤخر النبي - صلّى الله عليه وسلّم - بيان الحكم مع دعاء الحاجة إليه؟
فالجواب: أن هذا الرجل استفتى عن فعل نفسه، والمرأة لم تستفتِ، وحالها تحتمل أن تكون معذورة بجهل أو إكراه، وتحتمل أن تكون غير معذورة، فلما لم تأتِ وتستفتِ؛ سكت عنها النبي - صلّى الله عليه وسلّم - ولم يذكر أن عليها كفارة، والفتوى لا يشترطُ فيها البحث عن حال الشخص الآخر، ولهذا لما جاءت امرأة أبي سفيان للنبي - صلّى الله عليه وسلّم - تشتكيه بأنه لا ينفق، لم يطلب أبا سفيان ليسأله، بل أذن لها أن تأخذ من ماله ما يكفيها ويكفي ولدها[30].
فإذا قال قائل: ما الدليل على الوجوب عليها؟ أليس الأصل براءة الذمة؟
فالجواب: الدليل على ذلك أن الأصل تساوي الرجال والنساء في الأحكام إلا بدليل، ولهذا لو أن رجلاً قذف رجلاً بالزنى لجلد ثمانين جلدة إذا لم يأتِ بالشهود، مع أن الآية في النساء {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4].
فالمرأة مسكوت عنها فهي قضية عين؛ لا يمكن أن تستدل بها على انتفاء الوجوب في حق المرأة، ولا على الوجوب، ولكن القياس يقتضي أن تكون مثله، فإذا كان الفعل واحدًا وكان موجبًا لحد الزنى على المرأة، والحد كفارة للزاني فإنه يلزم أن يكون موجبًا للكفارة هنا، كما يجب على الزوج، وهذا هو الأقرب من أقوال أهل العلم، وبعض العلماء يقول لا كفارة عليها للسكوت عنها في الحديث، وبعضهم يقول: إذا أكرهت فكفارتها على الزوج؛ لأنه هو الذي أكرهها، ولكن الصواب أنها إذا أكرهت لا شيء عليها.(/28)
فإذا قال قائل: ظاهر كلام المؤلف أنه لو كان الرجل هو المعذور بجهل أو نسيان فإنّ الكفارة لا تسقط عنه؟
قلنا: نعم هذا ظاهر قوله؛ لقوله: "أو كانت المرأة معذورة" ففهم منه أنه لو كان الرجل هو المعذور؛ فإنّ الكفارة لا تسقط عنه، وهذا المشهور من المذهب.
والصحيح أن الرجل إذا كان معذورًا بجهل، أو نسيان، أو إكراه، فإنه لا قضاء عليه ولا كفارة، وأن المرأة كذلك إذا كانت معذورة بجهل أو نسيان أو إكراه، فليس عليها قضاء ولا كفارة.
والمذهب أن عليها القضاء، وليس عليها الكفارة، وهذا من غرائب العلم أن تعذر في أحد الواجبين دون الآخر؛ لأن مقتضى العذر أن يكون مؤثرًا فيهما جميعًا، أو غير مؤثر فيهما جميعًا وقد علمت الصحيح في ذلك.
مسألة مهمة: وهي: أن الفقهاء - رحمهم الله - قالوا: لا يمكن الإكراه على الجماع من الرجل، أي: لا يمكن أن يُكره الرجلُ على الجماع؛ لأن الجماع لا بد فيه من انتشار وانتصاب للذكر، والمكره لا يمكن أن يكون منه ذلك.
فيقال: هذا غير صحيح؛ لأن الإنسان إذا هُدد بالقتل أو بالحبس أو ما أشبه ذلك، ثم دنا من المرأة فلا يسلم من الانتشار، وكونهم يقولون هذا غير ممكن نقول: بل هذا ممكن.
فإن قال قائل: الرجل الذي جاء إلى الرسول - صلّى الله عليه وسلّم - أليس جاهلاً؟(/29)
فالجواب: هو جاهل لما يجب عليه، وليس جاهلاً أنه حرام، ولهذا يقول "هلكت"[31]، ونحن إذا قلنا إن الجهل عذر، فليس مرادنا أن الجهل بما يترتب على هذا الفعل المحرم، ولكن مرادنا الجهل بهذا الفعل، هل هو حرام أو ليس بحرام، ولهذا لو أن أحدًا زنى جاهلاً بالتحريم، وهو ممن عاش في غير البلاد الإسلامية، بأن يكون حديثَ عهدٍ بالإسلام، أو عاش في بادية بعيدة لا يعلمون أن الزنى محرّم؛ فزنى فإنه لا حدّ عليه، لكن لو كان يعلم أنّ الزنى حرام، ولا يعلم أن حده الرجم، أو أن حده الجلد والتغريب، فإنه يُحد لأنه انتهك الحرمة، فالجهل بما يترتب على الفعل المحرم ليس بعذر، والجهل بالفعل هل هو حرام أو ليس بحرام، هذا عذر.
قوله: "أو جامع من نوى الصوم في سفره أفطر ولا كفارة" قوله: "من نوى الصوم في سفره" أي كان صائمًا في سفره أفطر أي: فسد صومه بجماعه.
مثاله: إنسان مسافر سفرًا يبيح الفطر فصام، ثم في أثناء النهار جامع زوجته، فهذا يُفطر لأنه جامع، والجماع من المفطرات وليس عليه كفارة؛ لأنه لم ينتهك حرمة الصوم، حيث إن الصوم لا يجب عليه في السفر، ويلزمه القضاء. وعليه فالذين يذهبون إلى العمرة في رمضان، ويصومون هناك، ثم يجامع أحدهم زوجته في النهار ليس عليه كفارة؛ لأنه مسافر، والمسافر يباح له الفطر فيباح له الجماع والأكل، هذا إذا نوى أقل من أربعة أيام، أما إذا نوى أكثر من أربعة أيام، فالمسألة خلافية معروفة. والصحيح أنه مسافر حتى لو أقام الشهر كله يجوز له الفطر.
وقوله: "أفطر ولا كفارة" هذا جواب الشرط وهو يشمل الصور الثلاث:
1 - إذا جامع دون الفرج فأنزل.
2 - إذا كانت المرأة معذورة.
3 - إذا جامع من نوى الصوم في سفره.
وإنْ جَامَعَ فِي يَوْمَيْنِ، أَوْ كَرَّرَهُ فِي يَوْمٍ وَلَمْ يُكَفِّر؛ فَكَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ في الثانية، وفي الأولَى اثْنَتَانِ. وإنْ جَامَعَ ثُمَّ كَفَّرَ، ثُمَّ جَامَعَ فِي يَوْمِهِ فَكَفَّارَةٌ ثَانِيَةٌ.(/30)
قوله: "وإن جامع في يومين، أو كرره في يوم ولم يكفر فكفارة واحدة في الثانية وفي الأولى اثنتان. وإن جامع ثم كفر ثم جامع في يومه فكفارة ثانية".
ذكر المؤلف - رحمه الله - مسألتين:
المسألة الأولى: إذا جامع في يومين بأن جامع في اليوم الأول من رمضان، وفي اليوم الثاني؛ فإنه يلزمه كفارتان، وإن جامع في ثلاثة أيام فثلاث كفارات، وإن جامع في كل يوم من الشهر فثلاثون كفارة أو تسع وعشرون حسب أيام الشهر؛ وذلك لأن كل يوم عبادة مستقلة، ولهذا لا يفسد صوم اليوم الأول، بفساد صوم اليوم الثاني.
وقيل: لا يلزمه إلا كفارة واحدة إذا لم يكفر عن الأول، وهو وجه في مذهب الإمام أحمد، وهو مذهب أبي حنيفة؛ وذلك لأنها كفارات من جنس واحد، فاكتفي فيها بكفارة واحدة، كما لو حلف على أيمان متعددة، ولم يُكفِّر، فإنه إذا حنث في جميعها فعليه كفارة واحدة، وكما لو أحدث بأحداث متنوعة، فإنه يجزئه وضوء واحد، ويقال هذا أيضًا في كفارة الظهار إذا لم يكفر عن الأول.
وأما قتل النفس فتتعدد الكفارة؛ لأنها عوض عن النفس، كما لو قتل المحرم صيدًا في الحرم.
وهذا القول وإن كان له حظ من النظر والقوة، لكن لا تنبغي الفُتيا به؛ لأنه لو أفتي به لانتهك الناس حرمات الشهر كله، لكن لو رأى المفتي الذي ترجح عنده عدم تكرر الكفارة مصلحة في ذلك، فلا بأس أن يفتي به سرًّا، كما يصنع بعض العلماء فيما يفتون به سرًّا كالطلاق الثلاث.
المسألة الثانية: إذا جامع في يوم واحد مرتين، فإن كفر عن الأول لزمه كفارة عن الثاني، وإن لم يكفر عن الأول أجزأه كفارة واحدة؛ وذلك لأن الموجَب والموجِب واحد، واليوم واحد، فلا تتكرر الكفارة.(/31)
ومذهب الأئمة الثلاثة - وهو قول في المذهب - لا يلزمه عن الثاني كفارة؛ لأن يومه فسد بالجماع الأول، فهو في الحقيقة غير صائم، وإن كان يلزمه الإمساك، لكن ليس هذا الإمساك مجزئًا عن صوم، فلا تلزمه الكفارة؛ لأن الكفارة تلزم إذا أفسد صومًا صحيحًا، وهذا القول له وجه من النظر أيضًا.
مثاله: رجل جامع في أول النهار بعد طلوع الشمس بربع ساعة، ثم كفر بعتق رقبة، ثم جامع بعد الظهر، فعلى المذهب يلزمه كفارة ثانية؛ لأنه كفر عن الأولى، وهو الآن وإن كان ليس صائمًا صومًا شرعيًّا لكنه يلزمه الإمساك. وعلى القول الثاني لا تلزمه الكفارة؛ لأن الجماع لم يرد على صوم صحيح، وإنما ورد على إمساك فقط. وإذا تأملت المسألة وجدت أن القول الثاني أرجح، وأنه لا يلزمه بعد أن أفسد صومه كفارة؛ لأنه ليس صائمًا الآن، أما الإمساك فيلزمه الإمساك؛ لأن كل من أفطر لغير عذر حرم عليه أن يستمر في فطره.
ولا فرق بين أن يكون الجماع واقعًا على امرأة واحدة أو اثنتين؛ فلو جامع الأولى في أول النهار، والثانية في آخره، ولم يكفر عن الأول، فعليه كفارة واحدة.
وَكَذَا مَنْ لَزِمَه الإِمْسَاكُ إِذَا جَامَعَ، وَمَنْ جَامَعَ وَهُوَ مُعَافى ثُمَّ مَرِضَ، أوْ جُنَّ، أَوْ سَافَرَ لَمْ تَسْقُطْ.،........
قوله: "وكذا من لزمه الإمساك إذا جامع" أي: وكالصائم الذي كرر الجماع أو فعله مرة واحدة من لزمه الإمساك إذا جامع.
هذا له صور منها:(/32)
لو قامت البينة في أثناء النهار بدخول الشهر، وكان الرجل قد جامع زوجته في أول النهار قبل أن يعلم بالشهر، فيجب عليه القضاء، وتجب عليه الكفارة، لأنه لزمه الإمساك في هذا اليوم، ولذلك يقول الفقهاء: يُكره للإنسان أن يجامع زوجته في يوم الثلاثين من شعبان؛ لاحتمال أن تقوم البينة أثناء النهار، ثم يلزم بالكفارة، وهذا القول ضعيف لقوله تعالى: {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187]. ولقول الرسول - صلّى الله عليه وسلّم -: ((إذا رأيتموه فصوموا))[32].
ومنها لو كان الرجل مسافرًا، وكان مفطرًا فقدم إلى بلده، فالمذهب يلزمه أن يمسك، مع أن هذا الإمساك لا يعتد به، ولو جامع فيه فإن عليه الكفارة؛ لأنه يلزمه الإمساك.
ومثل ذلك أيضًا إذا كان مريضًا يباح له الفطر وقد أفطر، ثم شفاه الله وزال عنه المرض الذي استباح به الفطر، فإنه على المذهب يلزمه الإمساك، فإن جامع فعليه الكفارة.
وكذلك بالنسبة للمرأة لو طهرت من الحيض في أثناء النهار فيلزمها على المذهب الإمساك، فلو جامعها زوجها الذي يباح له الفطر فعليها الكفارة.
والقول الثاني: أنه لا يلزمهم الإمساك؛ لأن هذا اليوم في حقهم غير محترم، إذ إنهم في أوله مفطرون بإذن من الشرع، وليس عندنا صوم يجب في أثناء النهار، إلا إذا قامت البينة، فهذا شيء آخر، وعلى هذا لا تلزمهم الكفارة إذا حصل الجماع.
وهذا هو القول الراجح، قال عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه -: "من أفطر أول النهار فليفطر آخره"[33]. أي: من أبيح له أن يفطر في أول النهار، أبيح له أن يفطر في آخر النهار.(/33)
تنبيه: ظاهر قوله: "من لزمه الإمساك إذا جامع" يشمل ما إذا جامع في أول النهار قبل ثبوت دخول الشهر، ثم ثبت دخوله بعد ذلك؛ فيلزمه الإمساك والكفارة، والصحيح أن الكفارة لا تلزمه لأنه جاهل.
مسألة: من أفسد صومه بالأكل والشرب، يجب عليه الإمساك والقضاء مع الإثم، ولو جامع زوجته فعليه الكفارة؛ لأن أكله وشربه محرم عليه.
قوله: "ومن جامع وهو معافى، ثم مرض، أو جن، أو سافر لم تسقط". هذه عكس المسألة السابقة، أي: أنه جامع وهو معافى صائم، ثم مرض في أثناء النهار بمرض يبيح له الفطر، فتلزمه الكفارة، مع أنه في آخر النهار يباح له أن يفطر، لكن هو حين الجماع كان ممن لم يؤذن له بالفطر؛ فلزمته الكفارة.
وكذلك أيضًا من جامع وهو عاقل، ثم جن في أثناء النهار، فالصوم يبطل بالجنون، وعليه الكفارة؛ لأنه حين الجماع من أهل الوجوب.
وكذلك من جامع في أول النهار، ثم سافر في أثنائه، فإنه يباح له الفطر، وتلزمه الكفارة.
فإذا قال: قد أذن لي بالفطر آخر النهار فلا كفارة علي، كالذي أذن له بالفطر أول النهار وجامع في آخره، ورجحتم أنه لا كفارة عليه. فما الفرق؟
فالجواب: أن الفرق ظاهر جدًّا، فأنت حينما جامعت لم يؤذن لك بالفطر، بل أنت ملزم بالصوم، وما طرأ من العذر فهو طارئ بعد انتهاكك لحرمة الزمن، فظهر الفرق.
وَلاَ تَجِبُ الكَفَّارَةُ بِغَيْرِ الجِمَاعِ فِي صِيَامِ رَمَضَانَ.،.......
قوله: "ولا تجب الكفارة بغير الجماع في صيام رمضان" أراد المؤلف - رحمه الله - أن يبين ما تجب به الكفارة من المفطِّرات، فبين أنها لا تجب بغير الجماع في صيام رمضان. فهذان شرطان:
الأول: أن يكون مفسد الصوم جماعًا. والثاني: أن يكون في صيام رمضان. ونزيد شرطين آخرين؛ أحدهما: أن يكون الصيام أداء. والثاني: أن يكون ممن يلزمه الصوم.(/34)
فلا تجب الكفارة بالجماع في صيام النفل، أو في صيام كفارة اليمين، أو في صيام فدية الأذى، أو في صيام المتعة لمن لم يجد الهدي، أو في صيام النذر، ولا تجب الكفارة إذا جامع في قضاء رمضان، ولا تجب إذا جامع في رمضان وهو مسافر، ولا تجب الكفارة في الإنزال بقبلة، أو مباشرة، أو نحو ذلك؛ لأنه ليس بجماع.
وإنما نص المؤلف على هذه المسألة مع أن الأصل عدمها، وقد ذكرت سابقًا؛ لأن الفقهاء إذا نفوا حكمًا معلومًا انتفاؤه، فإنما يريدون الإشارة إلى الخلاف أي خلافًا لمن قال بذلك، وهذه المسألة فيها ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن الفطر بالإنزال كالجماع؛ لأنه من جنسه فيقولون: تجب الكفارة فيما إذا أفطر بالإنزال من مباشرة أو تقبيل أو ما أشبه ذلك، وهو رواية عن الإمام أحمد، ولكنها ضعيفة.
القول الثاني: أنه إذا قصد انتهاك حرمة رمضان، فإنه يلزمه القضاء والكفارة؛ لأن هذا لم يقصد مجرد الفطر، بل قصد انتهاك الحرمة، وهذا ضعيف أيضًا.
القول الثالث: أن الكفارة لازمة بالأكل والشرب إن كان للغذاء أو للدواء، بخلاف الأكل والشرب الذي ليس للدواء ولا للغذاء، فإنه يفطر لكن ليس فيه كفارة.
وكل هذه أقوال مبنية على آراء ليس لها أصل لا من الكتاب ولا من السنة، والصواب أن الكفارة لا تجب إلا بالجماع في نهار رمضان؛ لأن الكفارة لم ترد إلا في هذه الحال، والأصل براءة الذمة وعدم الوجوب، فنقتصر على ما جاء به النص فقط.
وظاهره أن الكفارة تجب بالجماع، وإن لم يحصل إنزال، وهو كذلك؛ لأن الكفارة مرتبة على الجماع؛ لقوله في حديث الأعرابي: "وقعت على امرأتي" فجعل العلة الوقاع، ولم يذكر الإنزال.
مسألتان(/35)
الأولى: قال في "الروض": "والنزع جماع": أي لو كان الرجل يجامع زوجته في آخر الليل، ثم أذن مؤذن، وهو ممن يؤذن على طلوع الفجر، فنزع في الحال، فإنه يترتب عليه ما يترتب على الجماع من القضاء والكفارة، وهذا من غرائب العلم؛ فكيف يكون الفارُّ من الشيء كالواقع فيه؟!! ولهذا كان القول الراجح أنه ليس جماعًا بل توبة، وأنه لا يفسد الصوم وليس عليه كفارة.
الثانية: وقال في "الروض" أيضًا: "والإنزال بالمساحقة كالجماع". والمساحقة تكون بين المرأتين، فلو أنزلتا فليس عليهما إلا القضاء، ولا كفارة، وإن أنزلت إحداهما فعليها القضاء فقط دون الكفارة، هذا على الصحيح.
وَهْيَ عِتْقُ رَقْبَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِيِّنَ مِسْكِينًا، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ سَقَطَتْ.
قوله: "وهي" أي: كفَّارة الوطء في نهار رمضان.
قوله: "عتق رقبة" أي: فكّها من الرّق، ووجه المناسبة هو أنّ هذا الرجل لمَّا جامع في نهار رمضان مع وجوب الصوم عليه، استحقّ أن يعاقب ففدى نفسه بعتق الرقبة.
قوله: "فإن لم يجد" يعني إن لم يجد رقبة، أو لم يجد ثمنها.
قوله: "فصيام شهرين متتابعين": "فصيام" الفاء رابطة للجواب، وصيام مبتدأ، وخبره محذوف، والتقدير فعليه صيام شهرين متتابعين بدلاً عن عتقه الرقبة.
قوله: "فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينًا" أي: فعليه إطعام ستين مسكينًا، والمسكين هنا يشمل الفقير والمسكين؛ لأن الفقير والمسكين إذا ذكرا جميعًا كان الفقير أشد حاجة، وإذا أفرد أحدهما عن الآخر صارا بمعنى واحد، فإذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا.(/36)
ودليل ذلك أنّ النبي - صلّى الله عليه وسلّم - قال للرجل الذي قال إنّه أتى أهله في رمضان: ((اعتق رقبة))، فقال: "لا أجد". قال: ((صم شهرين متتابعين)). فقال: "لا أستطيع". قال: ((أطعم ستين مسكينًا)). قال: "لا أجد"[34] فجعلها النبي - صلّى الله عليه وسلّم - مرتبةً، وهذه أغلظ الكفّارات، ويساويها كفّارة الظهار، الذي وصفه الله بأنّه منكر من القول وزور، ويليها كفّارة القتل؛ لأن القتل ليس فيه إلاّ خصلتان، العتق والصيام، وليس فيه إطعام.
وقوله: "صيام شهرين متتابعين" هل المعتبر الأهلّة، أو المعتبر الأهلّة في شهر كامل، والأيام في الشهر المجَزَّأ؟
في هذا قولان للعلماء، والصحيح أن المعتبر الأهلّة؛ سواء في الشهر الكامل، أو في الشهر المجَزَّأ.
فإن قيل: ما الفرق بين القولين؟
فالجواب: يظهر ذلك بالمثال، فإذا ابتدأ الإنسان هذين الشهرين من أول ليلة ثبت فيها الشهر - ولنقل إنّه شهر جُمادى الأولى - ابتدأه من أول يوم منه فيختمه في آخر يوم من شهر جمادى الآخرة، ولنفرض أن جُمادى الأولى تسعة وعشرون يومًا، وكذلك جمادى الآخرة - فيكون صومه ثمانية وخمسين يومًا، وهذا لا شك أنّه يعتبر بالهلال.
لكن إذا ابتدأ الصوم من نصف شهر جمادى الأولى فجمادى الآخرة معتبرة بالهلال لأنّه سوف يدرك أوّل الشهر وآخر الشهر فيعتبر بالهلال يقينًا.
أما الشهر الثاني الذي ابتدأهُ بالخامس عشر من جُمادى الأولى فيكمله ثلاثين يومًا، ويكون آخر صومه اليوم الخامس عشر من رجب على القول الثاني الذي يعتبر الشهر المجزأ ثلاثين يومًا، أمّا على القول الراجح الذي يعتبر الأهلّة مطلقًا: فإنّ آخر أيام صومه هو الرابع عشر من شهر رجب، إذا كان شهر جمادى الأولى تسعة وعشرين يومًا؛ فإذا قدرنا أن شهر جمادى الأولى ناقص، وكذلك شهر جمادى الثانية فيكون صومه ثمانية وخمسين يومًا.(/37)
وقوله: "متتابعين" أي: يتبع بعضهما بعضًا بحيث لا يفطر بينهما يومًا واحدًا، إلاّ لعذر شرعيّ كالحيض والنفاس بالنسبة للمرأة، وكالعيدين وأيام التشريق، أو حسّي كالمرض والسفر للرجل والمرأة بشرط ألا يسافر لأجل أن يفطر، فإن سافر ليفطر انقطع التتابع.
وقول المؤلف: "فإطعام ستين مسكينًا": هنا قدّر الطاعم دون المُطعم، فهل المطعم مقدّر؟
المشهور من المذهب أنّه مُقدّر، وهو مدٌّ من البُرِّ أو نصف صاع من غيره لكل مسكين، والمد ربع الصاع، أعني صاع النبي - صلّى الله عليه وسلّم -، وعلى هذا فتكون الأصواع لستين مسكينًا خمسة عشر صاعًا بصاع النبي - صلّى الله عليه وسلّم - من البُرِّ، وصاع النبي - صلّى الله عليه وسلّم - ينقص عن الصاع المعروف الآن هنا في القصيم الخُمس، وعلى هذا يكون الصاع في القصيم خمسة أمداد، ويكون إطعام ستين مسكينًا اثني عشر صاعًا بأصواع القصيم.
وقيل: بل يطعم نصف الصاع من البُر أو غيره، واحتج هؤلاء بأن النبي - صلّى الله عليه وسلّم - قال لكعب بن عجرة - رضي الله عنه - حين حلق رأسه في العمرة، قال: ((أطعم ستّة مساكين، لكل مسكين نصف صاع))[35] وأطلق، ولم يقل من التمر أو من البُر، وهذا يقتضي أن يكون المقدر نصف الصاع، وإذا كان كذلك فزد على ما قلنا النصف، فيكون بالنسبة لصاع النبي - صلّى الله عليه وسلّم - ثلاثين صاعًا، وبالنسبة لصاعنا أربعة وعشرين صاعًا.
والأمر في هذا قريب، فلو أن الإنسان احتاط، وأطعم لكل مسكين نصف صاع لكان حسنًا.
وقيل: إنه لا يتقدر بل يطعم بما يعد إطعامًا، فلو أنه جمعهم وغداهم أو عشاهم أجزأ ذلك؛ لأن النبي - صلّى الله عليه وسلّم - قال للرجل الذي جامع أهله في نهار رمضان: ((هل تستطيع أن تطعم ستين مسكينًا))[36]؟ وهذا هو الصحيح.
مسألة: الطعام والمُطْعَم ينقسم في الشرع إلى ثلاثة أقسام:
الأول: ما قُدر فيها الطعام دون المطعَم.
الثاني: ما قدر فيها المطعَم دون الطعام.(/38)
الثالث: ما قدر فيها الطعام والمطعَم.
مثال الأول: زكاة الفطر فإنها صاع من طعام، تعطى لواحد أو اثنين، أو تجمع صاعين أو ثلاثة لواحد، لا مانع.
مثال الثاني: هذه المسألة ومثل كفارة اليمين.
مثال الثالث: مثل فدية الأذى، كحلق الرأس في الإحرام، قال تعالى: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196]. وانظر إلى الآية يقول الله: {صَدَقَةٍ} لم يقل أو إطعام وبيَّنها الرسول - صلّى الله عليه وسلّم - فقال لكعب بن عجرة: ((تطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع))[37]، والمشهور من المذهب يقولون إن الإطعامات المطلقة تحمل على هذا المقيد، فكل إطعام لا بد أن يكون نصف صاع، لكن يقال لهم: أنتم تقولون نصف صاع من غير البُر، ومدٌّ من البُر، مع أن حديث كعب بن عجرة نصف صاع مطلقًا، فأنتم الآن قستم ولا قستم، والصواب أن ما لم يُقيد يكفي فيه الإطعام.
قوله: "فإن لم يجد سقطت" أي: الكفّارة، ودليل ذلك من الكتاب، والسنّة، أمّا من الكتاب فقوله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7]، وهذا الرجل الفقير ليس عنده شيءٌ فلا يكلَّف إلا ما آتاه الله، والله - عزّ وجل - بحكمته لم يؤته شيئًا. ودليل آخر قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]. ودليلٌ ثالثٌ العموم، عموم القاعدة الشرعيّة، وهي أنّه "لا واجب مع عجزٍ"؛ فالواجبات تسقط بالعجز عنها، وهذا الرجل الذي جامع لا يستطيع عتق الرقبة ولا الصيام ولا الإطعام، نقول إذًا لا شيء عليك وبرئت ذمّتك.
فإن أغناه الله في المستقبل فهل يلزمه أن يكفِّر أو لا؟
فالجواب: لا يلزمه لأنها سقطت عنه، وكما أنّ الفقير لو أغناه الله لم يلزمه أن يؤدي الزكاة عمّا مضى من سنواته لأنّه فقير، فكذلك هذا الذي لم يجد الكفارة إذا أغناه الله تعالى لم يجب عليه قضاؤها.(/39)
أمّا الدليل من السنّة فهو أن الرجل لمّا قال: "لا أستطيع أن أطعم ستين مسكينًا" لم يقل النبي - صلّى الله عليه وسلّم - أطعمهم متى استطعت، بل أمره أن يطعم حين وجد، فقال: ((خذ هذا تصدّق به)). فقال: "أعلى أفقر مني يا رسول الله"؟!... فقال: ((أطعمه أهلك))، ولم يقل: والكفارة واجبة في ذمتك، فدل هذا على أنها تسقط بالعجز.
وقال بعض العلماء: إنها لا تسقط بالعجز، واستدلوا بالحديث، قالوا: لأن الرجل قال: "لا أجد" فلمّا جاء النبيَّ - صلّى الله عليه وسلّم - التمرُ، قال: ((خذ هذا تصدّق به)) ولو كانت ساقطة بالعجز لم يقل ((خذ هذا تصدّق به)).
فيقال: الجواب: إِنَّ هذا وجده في الحال، يعني وجده في المجلس الذي أفتاه النبي - صلّى الله عليه وسلّم - به، فكان كالواجد قبل ذلك، ولهذا لمّا قال: ((أطعمه أهلك)) لم يقل: وعليك كفّارة إذا اغتنيت.
والقول الراجح أنّها تسقط، وهكذا أيضًا نقول في جميع الكفارات، إذا لم يكن قادرًا عليها حين وجوبها؛ فإنها تسقط عنه، إمّا بالقياس على كفارة الوطء في رمضان، وإما لدخولها في عموم قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]. {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7]. وما أشبه ذلك.
وعلى هذا فكفّارة الوطء في الحيض إذا قلنا: إن الوطء في الحيض يوجب الكفّارة، فإنّها تسقط. وفدية الأذى إذا لم يجد ولم يستطع الصوم تسقط، وهكذا جميع الكفارات، بناءً على ما استدللنا به لهذه المسألة، وبناءً على القاعدة العامة الأصوليّة التي اتفق عليها الفقهاء في الجملة، وهي أنّه "لا واجب مع عجز".
والغريب أن بعض العلماء سلك مسلكًا غريبًا وقال: إن الرسول - صلّى الله عليه وسلّم - قال له: ((أطعمه أهلك)) أي: كفارة، لا أنه دفعٌ لحاجتهم، وهذا ليس بصواب لأمرين:(/40)
أولاً: أنه لا يمكن أن يكون الرجل مصرفًا لكفارته كما لا يكون مصرفًا لزكاته، أرأيت لو أن شخصًا عنده دراهم تجب فيها الزكاة، وهو مدين فإنه لا يصرف زكاته في دينه، وهذا أيضًا لا يمكن أن يصرف كفارته لنفسه.
ثانيًا: أن الكفارة إطعام ستين مسكينًا، وهذا الرجل - الذي يظهر والله أعلم - أنه ليس عنده إلا زوجته أو ولد أو ولدان أو أكثر، ولو كانت كفارة لقال له النبي - صلّى الله عليه وسلّم -: هل عندك ستون شخصًا تعولهم؛ حتى يثبت الأمر. فهذا المسلك مسلك ضعيف.
والمذهب لا يسقط من الكفّارات بالعجز إلاّ اثنتين: كفّارة الوطء في الحيض، وكفّارة الوطء في رمضان، وباقي الكفارات لا تسقط بالعجز بل تبقى في ذمته؛ لأن الدَّيْن لا يسقط بالعجز عنه. أرأيت لو أن شخصًا يطلبك دراهم وعجزت، فلا يسقط دينه بل يبقى في ذمتك، والنبي - صلّى الله عليه وسلّم - يقول: ((دين الله أحق بالقضاء))[38].
مسألة: كلما جاءت الرقبة مطلقة فلا بد من شرط الإيمان؛ لأن النبي - صلّى الله عليه وسلّم - لما جاء معاوية بن الحكم يستفتيه في جارية، غضب عليها ولطمها، فأراد أن يعتقها، فدعاها الرسول - صلّى الله عليه وسلّم - وقال: ((أين الله))؟ فقالت: "في السماء"، فقال: ((اعتقها فإنها مؤمنة))[39]؛ ولأن إعتاق الكافرة قد يستلزم ذهابها إلى الكفار؛ لأنها تحررت فتذهب إلى بلاد الكفر، ولا يرجى لها إسلام.
مسألة: اشتراط سلامة الرقبة من العيوب فيه خلاف:
فقيل بالاشتراط، وقيل: لا نشترط سوى ما اشترط الله وهو: الإيمان، واستدل من قال بالاشتراط، أن إعتاق المعيب عيبًا يخل بالعمل خللاً بينًا؛ فإن إعتاقه يكون به عالة على غيره، وعدم إعتاقه أحسن له.
والمسألة تحتاج لتحرير، لكن الذي يظهر لي أنه لا يشترط.
ــــــــــــــــــــــــــــ(/41)
[1] أخرجه أبو داود في الطهارة: باب في الاستنثار (142)، والنسائي في الطهارة: باب المبالغة في الاستنشاق (1/66)، والترمذي في الصوم: باب ما جاء في كراهية مبالغة الاستنشاق للصائم (788)، وصححه ابن خزيمة (150)، وابن حبان (1087).
[2] "الإنصاف" (3/299).
[3] "حقيقة الصيام"، ص(37).
[4] أخرجه أحمد (2/498)؛ وأبو داود في الصيام: باب الصائم يتقيء عمدًا (2380)؛ والترمذي في الصوم: باب ما جاء فيمن استقاء عمدًا (720)؛ وابن ماجه في الصيام: باب ما جاء في الصائم يقيء (1676)؛ والنسائي في "الكبرى" (3117)؛ وصححه ابن خزيمة (1960)؛ وابن حبان (3518)؛ والحاكم (1/427)، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[5] "المحلى" (6/203).
[6] أخرجه البخاري في الصوم: باب فضل الصوم (1894)؛ ومسلم في الصيام: باب حفظ اللسان للصائم (1151) (164) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[7] أخرجه مسلم في الزكاة: باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف (1006) عن أبي ذر رضي الله عنه.
[8] أخرجه البخاري في العلم: باب من استحيا فأمر غيره بالسؤال (132)، ومسلم في الحيض: باب المذي (303) عن علي رضي الله عنه.
[9] أخرجه الإمام أحمد (5/351)؛ وأبو داود في النكاح: باب في ما يؤمر به من غض البصر (2149)؛ والترمذي في الأدب: باب ما جاء في نظرة الفجاءة (2777)؛ والحاكم (2/194)، عن بريدة - رضي الله عنه - ولفظه: ((وليست لك الآخرة)). وقال الترمذي: "حسن غريب"، وصححه الحاكم على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وحسنه الألباني في "غاية المرام" (183).
[10] أخرجه البخاري في العتق: باب الخطأ والنسيان في العتاقة والطلاق ونحوه (2528)؛ ومسلم في الإيمان: باب إذا هم العبد بحسنة (127) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[11] أخرجه البخاري في الصوم: باب الحجامة والقيء للصائم (1938).
[12] أخرجه البخاري في الصوم: باب الحجامة والقيء للصائم (1940).(/42)
[13] أخرجه أحمد (4:123)؛ وأبو داود في الصيام: باب في الصائم يحتجم (2368)؛ والنسائي في "السنن الكبرى" (3126) ط:الرسالة؛ وابن ماجه في الصيام: باب ما جاء في الحجامة للصائم (1681)؛ وصححه ابن حبان (3533)؛ والحاكم (1:428).
وقال عبدالله بن أحمد في مسائله (682): "سمعت أبي يقول: هذا من أصح حديث يروى عن النبي - صلّى الله عليه وسلّم - في إفطار الحاجم والمحجوم".
ونقل الحاكم عن إسحاق بن راهويه تصحيحه، وصححه علي بن المديني والبخاري كما في "التلخيص" للحافظ (2:193).
وقال النووي في "شرح المهذب" (6:350): "على شرط مسلم". وانظر في طرق هذا الحديث "السنن الكبرى" للنسائي.
[14] "المبدع" (3:16).
[15] سبق تخريجه ص(287).
[16] "حقيقة الصيام" ص(81 - 84).
[17] وللإمام أحمد مفردات منظومة شرحها الشيخ منصور البهوتي، وهي مفيدة.
[18] أخرجه ابن ماجه في الطلاق: باب طلاق المكره والناسي (2043) عن أبي ذر - رضي الله عنه - ولفظه: ((إن الله تجاوز لي عن أمتي...))؛ وأخرجه عن ابن عباس - رضي الله عنهما - (2045) ولفظه: ((إن الله وضع عن أمتي...)) وصححه ابن حبان (7219)، وصححه الحاكم (2:198) على شرط الشيخين ووافقه الذهبي.
[19] أخرجه البخاري في الصوم: باب الصائم إذا أكل أو شرب ناسيًا (1933)؛ ومسلم في الصيام: باب أكل الناسي وشربه وجماعه لا يفطر (1155).
[20] أخرجه البخاري في الأذان: باب التشهد في الآخرة (831) ومسلم في الصلاة: باب التشهد في الصلاة (402) عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه.
[21] وقد تقدم الكلام على هذا الشرط عند قول المؤلف: "عامدًا".
[22] أخرجه البخاري في التفسير: باب {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187] (4509)؛ ومسلم في الصيام: باب بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر (1090) عن عدي بن حاتم رضي الله عنه.(/43)
[23] سبق تخريجه ص(333).
[24] سبق تخريجه ص(377).
[25] أخرجه أحمد (2:180)؛ وأبو داود في الطهارة: باب الوضوء ثلاثًا ثلاثًا (135)؛ والنسائي في الطهارة: باب الاعتداء في الوضوء (1:88)؛ وابن ماجه في الطهارة: باب ما جاء في القصد من الوضوء وكراهية التعدي (422)؛ وصححه ابن خزيمة (174)؛ وصححه الحافظ في "التلخيص" (82).
[26] سبق تخريجه ص (333).
[27] أخرجه البخاري في الصوم: باب متى يحل فطر الصائم (1954)؛ ومسلم في الصيام: باب بيان وقت انقضاء الصوم وخروج النهار(1100) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
[28] سبق تخريجه ص(333).
[29] أخرجه البخاري في الصوم: باب إذا جامع في رمضان، ولم يكن له شيء، فتصدق عليه، فليكفر (1936)؛ ومسلم في الصيام: باب تحريم الجماع في شهر رمضان... (1111).
[30] أخرجه البخاري في البيوع: باب من أجرى الأمصار على ما يتعارفون بينهم... (2211)؛ ومسلم في الأقضية: باب قضية هند (1714) عن عائشة رضي الله عنها.
[31] سبق تخريجه ص (402).
[32] سبق تخريجه ص (303).
[33] أخرجه ابن أبي شيبة (3:54).
[34] سبق تخريجه ص (402).
[35] سبق تخريجه ص (185).
[36] سبق تخريجه ص (402).
[37] سبق تخريجه ص (185).
[38] سبق تخريجه ص (46).
[39] أخرجه مسلم في المساجد: باب تحريم الكلام في الصلاة (537).
: الناس الذين على الجبال أو في السهول والعمارات الشاهقة، كلٌ منهم له حكمه، فمن غابت عنه الشمس حلَّ له الفطر، ومن لا فلا.(/44)
العنوان: شرح كتاب الصيام من الشرح الممتع على "زاد المستقنع" (3)
رقم المقالة: 1305
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
بَابُ مَا يُكْرَهُ، وَيُسْتَحَبُّ، وَحُكْم القَضَاءِ
قوله: "باب ما يكره ويستحب وحكم القضاء" هذه ثلاثة عناوين جمعها المؤلف في باب واحد.
فقوله: "ما يكره" أي: في الصيام، "ويستحب" أي: في الصيام، "وحكم القضاء" أي: قضاء رمضان.
والمكروه عند الفقهاء: هو الذي نهى عنه الشرع لا على وجه الإلزام بالترك؛ لأنه إن نهى عنه على وجه الإلزام بالترك صار حرامًا، وأمثلته كثيرة، ففي الصلاة مكروهات، وفي الوضوء مكروهات، وفي الصيام مكروهات، وفي الحج وفي البيع وغيرها.
أما حكمه فإنه يثاب تاركه امتثالاً، ولا يعاقب فاعله، وبهذا ظهر الفرق بينه وبين الحرام، فالحرام إذا فعله الإنسان استحق العقوبة، أما هذا فلا.
وأما في لسان الشرع فإنَّ المكروه يطلق على المحرم، بل قد يكون من أعظم المحرمات، قال الله - تبارك وتعالى - في سورة الإسراء حين نهى عن منهيات عظيمة قال: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} [الإسراء:28]، وفي الحديث عن النبي - صلّى الله عليه وسلّم -: ((إن الله كره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال))[1]
وقوله: "ويستحب"، المستحب: هو المسنون، وهو ما أمر به لا على وجه الإلزام بالفعل، فإن أمر به على وجه الإلزام كان واجبًا.
وحكم المستحب أن يثاب فاعله امتثالاً ولا يعاقب تاركه، ولكنَّ ثوابَ المستحب أو المسنون، أقل من ثواب الواجب، بالدليل الأثرى والنظري.
أما الدليل الأثري: فقوله تعالى في الحديث القدسي: "ما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضت عليه" [2]، فصلاة ركعتين فريضة، أحب إلى الله من صلاة ركعتين نافلة.(/1)
وأما الدليل النظري: فإن إيجاب الله للواجب يدل على أنه أوكد، وأنَّ المكلف محتاج إليه أكثر من احتياجه إلى النوافل.
وهل يفرَّق بين المستحب والمسنون؟
الجواب: فرق بعض العلماء بينهما: بأن المستحب ما ثبت بقياس، والمسنون ما ثبت بسنة، أي بدليل.
ولكن الصحيح أنه لا فرق والمسألة اصطلاحية، فعند الحنابلة لا فرق بينهما، فلا فرق بين أن نقول: يستحب أن يتوضأ ثلاثًا، وأن نقول: يسن أن يتوضأ ثلاثًا، وهذا مجرد اصطلاح؛ أي: لو أن أحدًا قال في مؤلف له: أنا إن عبَّرت بيسن فإنما أعبِّر عن ثابت بسنة، وإن عبرت بيستحب فإنما عبرت عن ثابت بقياس، ثم مشى على هذا الاصطلاح لم ينكر عليه.
وقوله: "وحكم القضاء" سيأتي إن شاء الله حكمه، وأنه يجب القضاء، ولكن ليس على الفور؛ وإنما يكون على التَّراخي، فلك أن تؤخر قضاء رمضان، ولو بلا عُذْر إلى أن يبقى بينك، وبين رمضان الثاني مقدار ما عليك، فحينئذ يجب عليك أن تقضي.
يُكْرَهُ جَمْعُ رِيقِهِ فَيَبْتَلِعَهُ، وَيَحْرُمُ بَلْعُ النُّخَامَةِ، وَيُفْطِرُ بِهَا فَقَطْ إِنْ وَصَلَتْ إِلَى فَمِهِ.
قوله: "يكره جمع ريقه فيبتلعه"، "يبتلع": فعل مضارع منصوب بأن مضمرة جوازًا؛ لأنه عطف على اسم خالص صريح، وابن مالك يقول:
وإِنْ عَلَى اسْمٍ خَالِصٍ فِعْلٌ عُطِفْ = تَنْصِبُهُ أَنْ ثَابتًا أو مُنْحَذِفْ.
وهنا "يبتلع": معطوفة على "جمع"، وجمع اسم خالص أي أنه مصدر، ومنه قول الشاعر:
ولُبْسُ عَبَاءَةٍ وتَقَرَّ عَيْنِي أَحَبُّ إليَّ مِنْ لُبْسِ الشُّفُوفِ.
"وتقر": بالنصب معطوف على "لُبْس"، وهنا "يبتلع": بالنصب معطوفة على "جمع"، يعني يكره أن يجمع ريقه فيبتلعه، سواء فعل ذلك عبثًا، أو فعله لدفع العطش، أو لأي سبب آخر.
قال في "الروض" معللاً ذلك: للخروج من الخلاف، أي: خلاف من قال: إنه إذا فعل ذلك أفطر، فإن من العلماء من يقول: "إن الصائم إذا جمع ريقه، فابتلعه أفطر".(/2)
ولكن التعليل بالخلاف ليس تعليلا صحيحًا تثبت به الأحكام الشرعية، ولهذا كلما رأيت حكمًا علل بالخروج من الخلاف، فإنه لا يكون تعليلاً صحيحًا، بل نقول: الخلاف إن كان له حظ من النظر بأن كانت النصوص تحتمله، فإنه يراعى جانب الخلاف هنا، لا من أجل أن فلانًا خالف، ولكن من أجل أن النصوص تحتمله، فيكون تجنبه من باب الاحتياط، وإلا لزم القول بالكراهية في كل مسألة فيها خلاف، خروجًا من الخلاف، ولكانت المكروهات كثيرة جدًا؛ لأنك لا تكاد تجد مسألة إلا وفيها خلاف، وهنا ليس فيه دليل يدل على أن جمع الريق يفطر إذا جمعه إنسان وابتلعه، وإذا لم يكن هناك دليل، فإنه لا يصح التعليل بالخلاف.
وعلى هذا فنقول: لو جمع ريقه فابتلعه فليس بمكروه، ولا يقال إن الصوم نقص بذلك؛ لأننا إذا قلنا: إنه مكروه، لزم من ذلك أن يكون الصوم ناقصًا لفعل المكروه فيه.
وعلم من كلام المؤلف أنه لو بلع ريقه بلا جمع، فإنه لا كَرَاهَة في ذلك وهُوَ ظاهِر، وعليه فلا يجب التفل بعد المضمضة، ولا بعد شرب الماء عند أذان الفجر، ولا عند تجمع الريق بسبب القراءة، فإنه لم يعهد عن الصحابة - رضي الله عنهم - فيما نعلم - أن الإنسان إذا شرب عند طلوع الفجر، يتفل حتى يذهب طعم الماء، بل هذا مما يسامح فيه، لكن لو بقي طعم طعام؛ كحلاوة تمر، أو ما أشبه ذلك فهذا لا بد أن يتفله ولا يبتلعه.
قوله: "ويحرم بلع النخامة" بلع النخامة حرام على الصائم وغير الصائم؛ وذلك لأنها مستقذرة، وربما تحمل أمراضًا خرجت من البدن، فإذا رددتها إلى المعدة، قد يكون في ذلك ضرر عليك، لكنها تتأكد على الصائم؛ لأنها تفسد صومه، ولهذا قال:
"ويفطر بها فقط إن وصلت إلى فمه" وقوله: "فقط": التفقيط هنا لإخراج الريق، فالريق ولو كثر لا يفطر به الإنسان.(/3)
وقوله: "إن وصلت إلى فمه" هو ما يتبين فيه ذوق الطعام، فإن لم تصل النخامة إليه بأن أحس بها نزلت من دماغه، وذهبت إلى جوفه فإنها لا تفطر، وذلك لأنها لم تصل إلى ظاهر البدن، والفم في حكم الظاهر، فإذا وصلت إليه ثم ابتلعها بعد ذلك أفطر، وأما إذا لم تصل إليه فإنها ما زالت في حكم الباطن، فلا تفطر.
وفي المسألة قول آخر في المذهب، أنها لا تفطر أيضًا ولو وصلت إلى الفم وابتلعها، وهذا القول أرجح؛ لأنها لم تخرج من الفم، ولا يعد بلعها أكلاً ولا شربًا، فلو ابتلعها بعد أن وصلت إلى فمه، فإنه لا يفطر بها، لكن نقول قبل أن يفعل هذا: لا تفعل، وتجنب هذا الأمر، ما دام أن المسألة بهذا الشكل، وليست النخامة؛ كبلع الريق، بل هي جرم غير معتاد وجوده في الفم، بخلاف الريق، فالخلاف بالتفطير بها أقوى من الخلاف بالتفطير بجميع الريق والأمر واضح، ولكن كما قلنا أولاً إن ابتلاع النخامة محرَّم؛ لما فيها من الاستقذار والضرر.
مسألة: إذا ظهر دم من لسانه أو لثته، أو أسنانه، فهل يجوز بلعه؟
الجواب: لا يجوز لا للصائم ولا لغيره؛ لعموم قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة: 3] وإذا وقع من الصائم فإنه يفطر، ولهذا يجب على الإنسان أن يلاحظ الدم الذي يخرج من ضرسه إذا قلعه في أثناء الصوم، أو قلعه في الليل، واستمر يخرج منه الدم ألا يبتلع هذا الدم؛ لأنه يفطره وهو أيضًا حرام.
وَيُكْرَهُ ذَوْقُ طَعَامٍ بِلاَ حَاجِةٍ، وَمَضْغُ عِلْكٍ قَوِيٍّ، وإنْ وَجَدَ طَعْمَهَما فِي حَلقِهِ أَفْطَرَ،....(/4)
قوله: "ويكره ذوق طعام بلا حاجة" أي: يكره أن يذوق الصائم طعامًا؛ كالتمر؛ والخبز والمَرَق، إلا إذا كان لحاجة فلا بأس؛ ووجه هذا أنه ربما ينزل شيء من هذا الطعام إلى جوفه من غير أن يشعر به، فيكون في ذوقه لهذا الطعام تعريض لفساد الصوم، وأيضًا ربما يكون مشتهيًا الطعام كثيرًا، ثم يتذوقه لأجل أن يتلذذ به، وربما يمتصه بقوة، ثم ينزل إلى جوفه.
والحاجة مثل أن يكون طباخًا يحتاج أن يذوق الطعام؛ لينظر ملحه، أو حلاوته؛ أو يشتري شيئًا من السوق يحتاج إلى ذوقه، أو امرأة تمضغ لطفلها تمرة، وما أشبه ذلك.
قوله: "ومضغ علك قوي" أي: يكره للصائم أن يمضغ علكًا قويًا، والقوي هو الشديد الذي لا يتفتت؛ لأنه ربما يتسرب إلى بطنه شيء من طعمه، إن كان له طعم.
فإن لم يكن له طعم فلا وَجْه للكراهة، ولكن مع ذلك لا ينبغي أن يمضغه أمام الناس؛ لأنه يساء به الظن إذا مضغه أمام الناس فما الذي يدريهم أنه عَلَك قوي أو غير قوي، أو أنه ليس فيه طعم أو فيه طعم؛ وربما يقتدي به بعض الناس، فيمضغ العلك دون اعتبار الطعم، وعلل ذلك في "الروض" بأنه يجلب البَلْغَم، ويجمع الريق، ويورث العطش[3]، فهذه ثلاث علل.
قوله: "وإن وجد طعمهما في حلقه أفطر" أي: وجد طعم الطعام الذي ذاقه ولو لحاجة، وطعم العلك القوي في حلقه أفطر، أي: فسد صومه، وهذا يعم صيام الفرض والنفل.
وعُلِمَ من قول المؤلف في حلقه أن مَنَاط الحكم، وصول الشيء إلى الحلق لا إلى المَعِدَة.(/5)
وخالف في ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - وقال: ليس هناك دليل يدل على أن مناط الحكم وصول الطعم إلى الحلق[4]، وهو واضح؛ لأنه أحيانًا يصل الطعم إلى الحلق، ولكن لا يبتلعه ولا ينزل، ويكون منتهاه الحلق فمثل هذا لا يمكن أن نتجاسر، ونقول: إن الإنسان يفطر بذلك، ثم إنه أحيانًا عندما يتجشأ الإنسان، يجد الطعم في حلقه؛ لكن لا يصل إلى فمه، ومع ذلك يبتلع الذي تجشأ به ولا نقول إنه أفطر؛ لأنَّه ربما يتجشأ، ويخرج بعض الشيء لكن لا يصل إلى الفم؛ بل ينزل وهو يحس بالطعم.
ويَحْرُمُ العِلْكُ المُتَحَلِّلُ إِنْ بَلَعَ رِيقَهُ، وَتُكْرَهُ القُبْلَةُ لِمَنْ تُحَرِّكُ شَهْوَتَهُ
قوله: "ويحرم العلك المتحلل إن بلع ريقه"، العلك المتحلل: هو الذي ليس بصلب بل إذا علكته تحلل، وصار مثل التراب، فهذا حرام على الصائم؛ لأنه إذا علكه لابُدَّ أن ينزل منه شيء؛ لأنه متحلل يجري مع الريق، وما كان وسيلة لفساد الصوم، فإنه يكون حرامًا إذا كان الصوم واجبًا، ويفسد الصوم إذا بلع منه شيئًا.
وقوله: "إن بلع ريقه"، فإن لم يبلع ريقه فإنه لا يحرم، فإذا كان الإنسان يعلك العلك فلما تحلل لَفَظَه فإنه ليس بحرام، أو كان يعلكه ويجمعه ثم يلفظه ولا ينزل، فإنه على كلام المؤلف لا يحرم؛ لأن المحظور من مضغ العلك المتحلل أن ينزل إلى الجوف وهذا لا ينزل.
فإن قال قائل: هل يقاس ما يكون في الفرشة من تدليك الأسنان بالمعجون على العلك المتحلل، أو على العلك الصلب القوي؟
فالجواب: قياس على المتحلل أقرب، ولهذا نقول: لا ينبغي للصائم أن يستعمل المعجون في حال الصوم، لأنه ينفذ إلى الحلق بغير اختيار الإنسان، لأن نفوذه قوي، واندراجه تحت الريق قوي أيضًا، فنقول: إن كنت تريد تنظيف أسنانك، فانتظر إلى أن تغرب الشمس ونظفها، لكن مع هذا لا يفسد الصوم باستعمال المعجون.
قوله: "وتكره القبلة لمن تحرك شهوته" القبلة تنقسم إلى ثلاثة أقسام:(/6)
القسم الأول: ألا يصحبها شهوة إطلاقًا، مثل تقبيل الإنسان أولاده الصغار، أو تقبيل القادم من السفر، أو ما أشبه ذلك، فهذه لا تؤثر ولا حكم لها؛ باعتبار الصوم.
القسم الثاني: أن تحرك الشهوة، ولكنه يأمن من إفساد الصوم بالإنزال، أو بالإمذاء، - إذا قلنا: بأن الإمذاء يفسد الصوم -، فالمذهب أن القبلة تُكْرَه في حقه.
القسم الثالث: أن يخشى من فساد الصوم إما بإنزال وإما بإمذاء - إن قلنا بأنه يفطر بالإمذاء، وسبق أن الصحيح أنه لا يفطر - فهذه تحرم إذا ظن الإنزال، بأن يكون شابًا قوي الشهوة، شديد المحبة لأهله، فهذا لا شك أنه على خطر، إذا قبل زوجته في هذه الحال، فمثل هذا يُقال في حقه يحرم عليه أن يقبل؛ لأنه يعرض صومه للفساد.
أما القسم الأول: فلا شك في جوازها؛ لأن الأصل الحل حتى يقوم دليل على المنع، وأما القسم الثالث فلا شك في تحريمها.
وأما القسم الثاني: وهو الذي إذا قبَّل تحركت شهوته لكن يأمن على نفسه، فالصحيح أن القبلة لا تُكْره له وأنه لا بأس بها؛ لأن النبي - صلّى الله عليه وسلّم – "كان يقبل وهو صائم"[5]، وسأله عمر بن أبي سلمة - رضي الله عنهما - عن قبلة الصائم، وكانت عنده أم سلمة فقال له: سل هذه، فأخبرته أن النبي - صلّى الله عليه وسلّم - يُقَبل وهو صائم، فقال السائل: "أنت رسول الله، قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر"، قال: ((إني لأخشاكم لله، وأعلمكم به)) [6]، وهذا يدل على أنها جائزة سواء حركت الشهوة؛ أم لم تحرك، ويروى عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: "ما أبالي قبلت امرأتي أو شممت ريحانًا" [7]، وشم الريحان لا يفطر الصائم لكنه ينعش النَّفَس ويسرها، وتقبيل الزوجة كذلك يسر، وينعش الإنسان؛ لكن ليس جماعًا ولا إنزالاً، فبأي شيء تكون الكَرَاهة.(/7)
وأما ما يُروى من أن النبي - صلّى الله عليه وسلّم – "سأله رجل عن القبلة فأذِن له، وسأله آخر فلم يأذَنْ له، فإذا الذي أذن له شيخ؛ والذي لم يأذن له شاب"[8]، فحديث ضعيف لا تقوم به الحجة، ضَعَّفَه ابن القيم - رحمه الله - وقال: لا يثبت عن النبي - صلّى الله عليه وسلّم -[9].
إذًا القبلة في حق الصائم تنقسم إلى ثلاثة أقسام: قسم جائز؛ وقسم مكروه؛ وقسم مُحَرَّم؛ والصحيح أنهما قسمان فقط:
قسم جائز، وقسم مُحَرَّم، فالقسم المحرم: إذا كان لا يأمن فساد صومه، والقسم الجائز له صورتان:
الصورة الأولى: ألاَّ تُحَرِّك القبلةُ شهوته إطلاقًا.
الصورة الثانية: أن تحرك شهوته، ولكن يأمن على نفسه من فساد صومه.
أما غير القبلة من دواعي الوطء؛ كالضم ونحوه، فحكمها حكم القبلة ولا فَرْق.
وَيَجِبُ اجْتِنَابُ كَذِبٍ، وَغِيبَةٍ، وشَتْمٍ.........
قوله: "ويجب اجتناب كذب"، قوله "اجتناب"؛ أي البعد، والكذب هو الإخبار بخلاف الواقع سواء كان عن جهل أم عَمْد، مثاله عن الجهل: قول النبي - صلّى الله عليه وسلّم -: كذب أبو السنابل، وكان أبو السنابل قد قال لسبيعة الأسلمية - التي وضعت حملها بعد موت زوجها بليال، فمر بها وقد تجملت للخطاب -، فقال لها: لن تحلي للأزواج حتى يأتي عليك أربعة أشهر وعشرًا، فلما ذكرت قوله لرسول الله - صلّى الله عليه وسلّم -قال: كذب أبو السنابل[10]، ومثاله عن العمد: قول المنافقين إذا أتوا رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم -: "نشهد إنك لرسول الله".
قوله: "غِيبة" بكسر الغين، وهي ذِكْرك أخاك بما يكره من عيب خِلقي؛ أو خُلقي؛ أو عملي؛ أو أدبي.
قوله: "شتم" هو القدح بالغير حال حضوره.(/8)
وهذه الأشياء حرام على الصائم وغيره، ولكنهم ذكروا هذا من باب التوكيد؛ لأنه يتأكد على الصائم من فعل الواجبات، وترك المُحَرَّمات، ما لا يتأكد على غيره. ودليل ذلك قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183]. هذه هي الحكمة من فرض الصيام أن يكون وسيلة لتقوى الله - عزّ وجل - بفعل الواجبات، وترك المحرمات.
ودليله من السنة: قول النبي - صلّى الله عليه وسلّم -: ((من لم يَدَعْ قول الزور، والعمل به، والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه))[11]؛ أي لم يرد الله منا بالصوم أن نترك الطعام أو الشراب؛ لأنه لو كان هذا مراد الله لكان يقتضي أن الله يريد أن يعذبنا، والله تعالى يقول: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ}[النساء:147] وإنما يريد منا - عزّ وجل - أن نتقي الله لقوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، وقوله - صلّى الله عليه وسلّم - في الحديث: ((من لم يدع قول الزور))؛ أي: الكذب، وإن شئت فقل الزور: كل قول مُحَرَّم؛ لأنه ازْوَرَّ عن الطريق المستقيم.
وقوله: ((والعمل به))؛ أي: بالزور، وهو كل فعل مُحَرَّم.
وقوله: ((والجهل))؛ أي: السَّفَاهة، وعدم الحلم، مثل الصخب في الأسواق، والسب مع الناس، وما أشبه ذلك، ولهذا قال النبي - صلّى الله عليه وسلّم -: ((إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يصخب - يعني لا يرفع صوته؛ بل يكون مؤدَّبًا - ولا يرفث، وإن أحد سابه أو قاتله، فليقل إني صائم))[12]، فينبغي أن يكون مؤدبًا، وبهذا نعرف الحكمة البالغة من مشروعية الصوم، فلو أننا تربينا بهذه التربية العظيمة لخرج رمضان، والإنسان على خلق كريم من الالتزام، والأخلاق، والآداب؛ لأنه تربية في الواقع.(/9)
مسألة: ذهب بعض السلف إلى أن القول المحرم والفعل المحرم في الصوم يبطله؛ كالغيبة، ولكن الإمام أحمد - رحمه الله - لما سُئِل عن ذلك، وقيل له: إن فلانًا يقول: إن الغيبة تفطر؟ قال: لو كانت تفطر ما بَقِيَ لنا صيام.
والقاعدة في ذلك أن المحرم إذا كان محرمًا في ذات العبادة أفسدها، وإن كان تحريمه عامًّا لم يفسدها، فالأكل والشرب يفسدان الصوم، بخلاف الغيبة، ولهذا كان الصحيح أن الصلاة في الثوب المغصوب، وبالماء المغصوب صحيحة؛ لأن التحريم ليس عائدًا للصلاة؛ فلم يقل الرسول - صلّى الله عليه وسلّم -: "لا تصلوا في الثوب المغصوب أو بالماء المغصوب"، فالنَّهْي عام.
وسُنَّ لِمَنْ شُتِمَ قَوْلُهُ: إِنِّي صَائِمٌ،.............
قوله: "وسن لمن شتم قوله: إني صائم" أي: إن شتَمَهُ أحد، أي: ذكره بعيب أو قَدْح فيه أمامه، وهو بمعنى السَّبِّ، وكذلك لو فعل معه ما هو أكبر من المُشَاتمة، بأن يقاتله أي: يتماسك معه؛ يسن له أن يقول: إني صائم، لقول النبي - صلّى الله عليه وسلّم -: ((إن امرؤ شاتمه أو قاتله، فليقل: إني امرؤ صائم)).
وهل يقولها سرًّا، أو جهرًا؟
قال بعض العلماء: يقولها سرًا. وقال بعض العلماء: جَهْرًا.
وفصل بعض العلماء بين الفرض والنفل، فقال: في الفرض يقولها جهرًا لبعده عن الرياء، وفي النفل يقولها سرًّا خوفًا من الرياء.
والصحيح أنه يقولها جهرًا في صوم النافلة والفريضة؛ وذلك لأن فيه فائدتين:
الفائدة الأولى: بيان أن المشتوم لم يترك مقابلة الشاتم إلا لكونه صائمًا، لا لعجزه عن المقابلة؛ لأنه لو تركه عجزًا عن المقابلة لاستهان به الآخر، وصار في ذلك ذل له، فإذا قال: إني صائم؛ كأنه يقول أنا لا أعجز عن مقابلتك، وأن أبين من عيوبك أكثر مما بينت من عيوبي، لكني امرؤ صائم.(/10)
الفائدة الثانية: تذكير هذا الرجل بأن الصائم لا يشاتم أحدًا، وربما يكون هذا الشاتم صائمًا؛ كما لو كان ذلك في رمضان، وكلاهما في الحضر، سواء حتى يكون قوله هذا متضمنًا لنهيه عن الشتم، وتوبيخه عليه.
وينبغي للإنسان أن يبعد عن نفسه مسألة الرياء في العبادات؛ لأن مسألة الرياء إذا انفتحت للإنسان لعب به الشيطان؛ حتى إنه يقول له لا تطمئن في الصلاة، وأنت تصلي أمام الناس؛ لئلا تكون مرائيًا، وحتى يقول له لا تتقدم للمسجد؛ لأنهم يقولون إنك مراءٍ، ويقول لا تنفق؛ لأنهم يقولون مراءٍ، وأيضًا أنه إذا اتبع السنة قد يكون قدوة لغيره، فمثلا: لو دعاك أحد لغداء في أيام البيض، وقلت: إني صائم حصل بذلك تمام العذر لأخيك فعذرك، وربما يقوده ذلك إلى أن يصوم فيقتدى بك، فالمهم أن باب الرياء ينبغي للإنسان ألا يكون على باله إطلاقًا، والله - سبحانه - مدح الذين ينفقون أموالهم سرًّا وعلانية، حسب الحال؛ قد يكون السر أفضل، وقد تكون العلانية أفضل.
وَتَأخِيرُ سُحُورٍ، وَتَعْجِيلُ فِطْرٍ............
قوله: "وتأخير سحور" أي سن تأخير سحور.
السُّحور: بالضم، لأن سَحورًا بالفتح اسم لما يتسحر به، وسُحور بالضم اسم للفعل، ولهذا نقول: وَضوءًا بفتح الواو اسم للماء، ووُضُوء بضم الواو اسم للفعل، ونقول: طَهور اسم لما يتطهر به، وطُهور بضم الطاء اسم لفعل الطهارة، وهذه قاعدة مفيدة تعصم الإنسان من الخطأ في مثل هذه الكلمات.
إذًا يسن تأخير السُّحور - بالضم -، أي: أن الإنسان إذا تسحر - والسحور سنة أيضًا - ينبغي له أن يؤخره؛ اقتداءً برسول الله - صلّى الله عليه وسلّم -؛ واحتسابًا للخيرية التي قال فيها الرسول - صلّى الله عليه وسلّم -: ((لا يزال الناس بخير، ما عجلوا الفطر، وأخروا السحور)) [13]، ففيه سنة قولية؛ وسنة فعلية، ورفقًا بالنفس؛ لأنه إذا أخر السحور، قَلَّتِ المدة التي يمسك فيها، وإذا عَجَّلَ فإنها تطول بحسب تعجيل السحور.(/11)
ولكن يؤخره ما لم يَخْشَ طلوع الفجر، فإن خَشِيَ طلوع الفجر فليبادر، فمثلاً إذا كان يكفيه ربع ساعة في السحور فيتسحر إذا بقي ربع ساعة، وإذا كان يكفيه خمس دقائق فيتسحر إذا بقي خمس دقائق؛ أي: يكون ما بين ابتدائه إلى انتهائه؛ كما بينه وبين وقت الفجر.
والدليل على هذا أن النبي - صلّى الله عليه وسلّم - كان يُؤَخر السحور؛ حتى إنه لم يكن بين سحوره، وبين إقامة الصلاة إلا نحو خمسين آية[14]، ويقدرون بالآيات؛ لأنه لم تكن ساعات في ذلك الوقت، ولهذا ذكر العلماء - رحمهم الله - في بيان البناء على غلبة الظن في دخول وقت الصلاة علامات، منها إذا كان من عادته أن يقرأ حزبًا من القرآن، فإذا قرأ هذا الحزب، وكان من عادته أنه إذا أتمه دخل الوقت، فإنه يحكم بدخول الوقت، ويقدرون الأعمال بقدر ما تنحر الناقة، وما أشبه ذلك.
وتعتبر الآيات التي يقدر بها، والتلاوة بالوسط؛ لأننا لو اعتبرنا أطول آية مع الترتيل لطال الوقت.
قوله: "وتعجيل فطر" أي وسن تعجيل فطر.
أي: المبادرة به إذا غربت الشمس، فالمعتبر غروب الشمس، لا الأذان، لا سيما في الوقت الحاضر حيث يعتمد الناس على التقويم، ثم يعتبرون التقويم بساعاتهم، وساعاتهم قد تتغير بتقديم أو تأخير، فلو غربت الشمس، وأنت تشاهدها، والناس لم يؤذنوا بعد، فلك أن تفطر. ولو أذنوا وأنت تشاهدها لم تغرب، فليس لك أن تفطر؛ لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم قال: ((إذا أقبل الليل من هاهنا - وأشار إلى المشرق -، وأدبر النهار من هاهنا - وأشار إلى المغرب -، وغربت الشمس فقد أفطر الصائم))[15].
ولا يضر بقاء النور القوي، فبعض الناس يقول: نبقى حتى يغيب القرص، ويبدأ الظلام بعض الشيء فلا عِبْرَة بهذا، بل انظر إلى هذا القرص متى غاب أعلاه فقد غربت الشمس، وسن الفطر.
ودليل سنية المبادرة:(/12)
1 - قوله - صلّى الله عليه وسلّم -: ((لا يزال الناس بخير ما عَجَّلُوا الفطر)) [16]، وبهذا نعرف أن الذين يؤخرون الفطر إلى أن تشتبك النجوم؛ كالرافضة أنهم ليسوا بخير.
2 - ويُرْوَى أن الله - سبحانه وتعالى - قال: ((أحب عبادي إلي أعجلهم فطرًا)) [17] وذلك لما فيه من المبادرة إلى تناول ما أحله الله - عزّ وجل - والله - سبحانه وتعالى - كريم، والكريم يحب أن يتمتع الناس بكرمه، فيحب من عباده أن يبادروا بما أحل الله لهم، من حين أن تغرب الشمس.
فإن قال قائل: هل لي أن أفطر بغلبة الظن، بمعنى أنه إذا غلب على ظني أن الشمس غربت، فهل لي أن أفطر؟
فالجواب: نعم، ودليل ذلك ما ثبت في صحيح البخاري عن أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنهما - قالت: "أفطرنا في يوم غيم على عهد النبي - صلّى الله عليه وسلّم -، ثم طلعت الشمس"[18]، ومعلوم أنهم لم يفطروا عن علم؛ لأنهم لو أفطروا عن علم ما طلعت الشمس، لكن أفطروا بناءً على غلبة الظن أنها غابت، ثم انجلى الغيم فطلعت الشمس.
عَلَى رُطَبٍ، فَإِنْ عُدِمَ فَتَمْرٌ، فَإِنْ عُدِمَ فَمَاءٌ.
قوله: "على رطب" أي سن كون الفطور على رطب، والرطب هو التمر اللين الذي لم يَيْبَس، وكان هذا في زمن مضى لا يتسنى إلا في وقت معين من السنة، أما الآن ففي كل وقت يمكن أن تفطر على رطب، والحمد لله.
قوله: ((فإن عُدِمَ فتمر"؛ أي إن عدم الرطب فليفطر على تمر وهو اليابس، أو المجبن، والمُجَبَّن: هو المكنوز الذي صار؛ كالجبن مرتبطًا بعضه ببعض.(/13)
قوله: "فإن عُدِمَ فماء"؛ أي: إن عدم التمر فليفطر على ماء؛ لأن النبي - صلّى الله عليه وسلّم - قال: ((إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمر، فإن لم يجد فليفطر على ماء فإنه طهور)) [19]، وثبت عنه - صلّى الله عليه وسلّم - من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: "كان رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - يفطر قبل أن يُصَلِّي على رطبات، فإن لم تكن رطبات فتميرات، فإن لم تكن تميرات حَسَا حسوات من ماء))[20].
مسألة: إذا كان عند الإنسان عَسَل وماء، فأيهما يُقَدِّم الماء أو العسل؟
فالجواب: يقدم الماء؛ لأن الرسول - صلّى الله عليه وسلّم - قال: ((فإن لم يجد فعلى ماء فإنه طهور))، فإن لم يجد ماء؛ ولا شرابًا آخر؛ ولا طعامًا؛ نوى الفطر بقلبه، ويكفي.
وقال بعض العوام: إذا لم تجد شيئًا فمص إصبعك، وهذا لا أصل له.
وقال آخرون: بُلَّ الغترة ثم مصها؛ لأنك إذا بللتها انفصل الريق عن الفم، فإذا رجعت ومصصتها أدخلت شيئًا خارجًا عن الفم إلى الفم، وهذا لا أصل له أيضًا.
بل نقول: إذا غابت الشمس وليس عندك ما تفطر به تنوي الفطر بقلبك، حتى إن بعض العلماء قال: إن قوله - صلّى الله عليه وسلّم -: ((إذا أقبل الليل من هاهنا، وأدبر النهار من هاهنا، وغابت الشمس فقد أفطر الصائم)) [21]، أن المعنى أفطر حُكمًا، وإن لم يفطر حِسًّا، لكنه يسن له أن يبادر، وليس هذا ببعيد، إلا أنه يضعفه أن الرسول - صلّى الله عليه وسلّم -: "أذن لهم بالوِصال إلى السحر"[22].
ولم يتكلم المؤلف هنا عن الوِصال، لكن ربما نأخذ حكمه من قوله: "سن تعجيل فطر"؛ لأن الوصال لا يكون فيه تعجيل للفطر، فيكون خِلافًا للمسنون.
والوصال: أن يقرن الإنسان بين يومين في صوم يوم واحد، بمعنى ألا يفطر بين اليومين.
وحكمه قيل: إنه حرام، وقيل: إنه مكروه، وقيل: إنه مباح لمن قدر عليه، فالأقوال فيه ثلاثة.(/14)
والذي يظهر فيه التحريم؛ لأن النبي - صلّى الله عليه وسلّم - نهاهم عن الوصال، فأبوا أن ينتهوا فتركهم، وواصل بهم يومًا ويومًا حتى دخل الشهر، أي: شهر شوال، فقال - صلّى الله عليه وسلّم -: ((لو تأخر الهلال لزدتكم؛ كالمنكل لهم)) [23]، وهذا يدل على أنه على سبيل التحريم، فالقول بالتحريم أقواها، ولكن مع ذلك ليس عندي فيه جزم؛ لأنه لو كان حرامًا؛ كما تحرم الميتة؛ ولحم الخنزير لمنعهم الرسول - صلّى الله عليه وسلّم - من فعله منعًا باتًّا، لكنه نهاهم عن ذلك رِفقًا بهم، ولهذا ذهب بعض الصحابة - رضي الله عنهم - إلى جواز الوِصال لمن قدر عليه؛ معلِّلاً ذلك بأنه إنما نُهِيَ عن الوِصال من أجل الرفق بالناس؛ لأنه يشق عليهم، فكان عبد الله بن الزبير - رضي الله عنه - يواصل إلى خمسة عشر يومًا[24]؛ لكنه - رضي الله عنه - تأول.
والصواب خلاف تأويله، وأن أدنى أحواله الكراهة، وأن الناس لا يزالون بخير ما عَجَّلُوا الفِطْر، لكن قال النبي - صلّى الله عليه وسلّم -: ((فأيكم أراد أن يواصل، فليواصل إلى السحر))[25].
وَقَوْلُ مَا وَرَدَ............
قوله: "وقول ما ورد"؛ أي: سن قول ما ورد يعني عن النبي - صلّى الله عليه وسلّم - عند الفطر، ومعلوم أنه ورد عند الفطر، وعند غيره التسمية عند الأكل أو الشرب، وهي - على القول الراجح - واجبة، أي يجب على الإنسان إذا أراد أن يأكل أو يشرب أن يسمي، والدليل على ذلك:
1 - أمر النبي - صلّى الله عليه وسلّم - بذلك[26].
2 - إخباره أن الشيطان يأكل مع الإنسان، إذا لم يُسَمِّ[27].
3 - إمساكه بيد الجارية والأعرابي حين جاءا؛ ليأكلا قبل أن يسميا، وأخبر أن الشيطان دفعهما، وأن يد الشيطان مع يديهما بيد النبي - صلّى الله عليه وسلّم -؛ ليأكل من الطعام[28].
ولكنه لو نَسِيَ فإنه يسمي إذا ذكر، ويقول: "بسم الله أوله وآخره"[29].(/15)
كذلك أيضًا مما ورد عند الفطر وغيره الحمد عند الانتهاء، فإن الله يرضى عن العبد يأكل الأكلة فيحمده عليها، ويشرب الشربة فيحمده عليها[30].
وأما ما ورد قوله عند الفطور، فمنه قول: ((اللهم لك صُمْت، وعلى رزقك أفطرت، اللهم تقبل مني إنك أنت السميع العليم)) [31]، ووردت آثار أخرى والجميع في أسانيدها ما فيها، لكن إذا قالها الإنسان فلا بأس.
ومنها إذا كان اليوم حارًّا وشرب بعد الفطور، فإنه يقول: "ذهب الظمأ، وابتَلَّتِ العروق، وثبت الأجر إن شاء الله" [32]، وذهاب الظمأ بالشرب واضح، وابتلال العروق بذلك واضح، فالإنسان إذا شرب وهو عطشان يحس بأن الماء من حين وصوله إلى المعدة، يتفرق في البدن، ويحس به إحساسًا ظاهرًا، فيقول بقلبه: سبحان الله الحكيم العليم الذي فرقه بهذه السرعة، وظاهر الحديث أن هذا الذكر فيما إذا كان الصائم ظمآن، والعروق يابسة.
وَيُسْتَحَبُّ القَضَاءُ مُتَتَابِعًا، وَلاَ يَجُوزُ إِلَى رَمَضانٍ آخَرَ مِن غَيْرِ عُذْرٍ
قوله: "ويستحب القضاء متتابعًا" الاستحباب منصب على قوله: "متتابعًا" وليس على قوله: "القضاء"؛ لأن القَضَاء واجب، والمستحب كونه متتابعًا، ولو قال المؤلف: ويستحب التتابع في القضاء، لكان أحسن، أي: لا يفطر بين أيام الصيام، وذلك لثلاثة أوجه:
أولاً: أن هذا أقرب إلى مشابهة الأداء؛ لأن الأداء متتابع.
ثانيًا: أنه أسرع في إبراء الذمة، فإنك إذا صمت يومًا، وأفطرت يومًا تأخر القضاء، فإذا تابعت صار ذلك أسرع في إبراء الذمة.
ثالثًا: أنه أحوط؛ لأن الإنسان لا يدري ما يحدث له، قد يكون اليوم صحيحًا وغدًا مريضًا، وقد يكون اليوم حيًّا وغدًا ميتًا، فلهذا كان الأفضل أن يكون القضاء متتابعًا.
وينبغي أيضًا أن يبادر به بعد يوم العيد، فيشرع فيه أي: في اليوم الثاني من شوَّال؛ لأن هذا أسرع في إبراء الذمة، وأحوط.(/16)
قوله: "ولا يجوز إلى رمضان آخر من غير عذر" أي: لا يجوز تأخير القضاء إلى رمضانٍ آخر - ويجب التنوين هنا؛ لأن رمضان نكرة لا يراد به رمضان معين، بدليل قوله "آخر"، وزيادة الألف والنون لا تمنع من الصرف إلا إذا انضاف إلى ذلك علمية أو وصفية، وهنا ليس علمًا ولا وصفًا.
والضابط أن ما شرطه العلمية إذا كان نكرة فإنه ينْصَرِف. وقوله: "آخر" ممنوع من الصرف للوصفيَّة والعَدْل.
وعُلم من كلام المؤلف؛ أنه يجوز أن يؤخر القضاء إلى أن يبقى عليه عدد أيامه من شعبان، لقوله: "ولا يجوز إلى رمضان آخر" فيجوز أن يقضيَه في أي شهر متتابعًا ومتفرقًا، بشرط ألاَّ يكون الباقي من شعبان بقدر ما عليه، فإذا بقي من شعبان بقدر ما عليه فحينئذٍ يلزمه أن يقضي متتابعًا.
وقوله: "من غير عذر" عُلِم منه أنه لو أخره إلى رمضان آخر لعذر فإنه جائز، مثل أن يكون مسافرًا فيستمر به السفر، أو مريضًا فيستمر به المرض، أو تكون امرأة حاملاً ويستمر بها الحمل، أو مرضعًا تحتاج إلى الإفطار كل السنة؛ لأنه إذا جاز أن يفطر بهذه الأعذار في رمضان وهو أداء، فجواز الإفطار في أيام القضاء من باب أولى.
وقوله: "ولا يجوز إلى رمضانٍ آخرَ مِنْ غير عُذر" لم يتكلم المؤلف عن الصيام قبل القضاء، فهل يجوز أن يصوم قبل القضاء، وهل يصح لو صام؟
والجواب إن كان الصوم واجبًا؛ كالفدية؛ والكفارة فلا بأس، وإن كان تطوعًا، فالمذهب لا يصح التطوع قبل القضاء، ويأثم. وعللوا أن النافلة لا تُؤَدَّى قبل الفريضة.
وذهب بعض أهل العلم إلى جواز ذلك ما لم يضق الوقت، وقال: ما دام الوقت موسعًا فإنه يجوز أن يتنفل، كما لو تنفل قبل أن يصلي الفريضة مع سعة الوقت، فمثلاً الظهر يدخل وقتها من الزوال، وينتهي إذا صار كل ظل شيء مثله، فله أن يؤخرها إلى آخر الوقت، وفي هذه المدة يجوز له أن يتنفل؛ لأن الوقت موسع.
وهذا القول أظهر وأقرب إلى الصواب، يعني أن صومه صحيح، ولا يأثم؛ لأن القياس فيه ظاهر.(/17)
ولكن هل هذا أَوْلى أو الأَوْلى أن يبدأ بالقَضَاء؟
الجواب: الأَوْلى أن يبدأ بالقضاء، حتى لو مَرَّ عليه عشر ذي الحجة، أو يوم عرفة، فإننا نقول: صُم القضاء في هذه الأيام، وربما تدرك أجر القضاء، وأجر صيام هذه الأيام، وعلى فرض أنه لا يحصل أجر صيام هذه الأيام مع القضاء، فإن القضاء أفضل من تقديم النفل.
والجواب عن التعليل الذي ذكره الأصحاب أن نقول: الفريضة وقتها في هذه الحال موسع، فلم يُفْرَض عليَّ أن أفعلها الآن؛ حتى أقول إنني تركت الفرض، بل هذا فرض في الذمة وسع الله - تعالى - فيه، فإذا صمت النفل فلا حَرَج.
وهنا مسألة ينبغي التنبه لها:
وهي أن الأيام الستة من شوال لا تقدم على قضاء رمضان، فلو قدمت صارت نفلاً مطلقًا، ولم يحصل على ثوابها الذي قال عنه الرسول - صلّى الله عليه وسلّم -: ((من صام رمضان ثم أتبعه ستًا من شوال كان؛ كصيام الدهر)) [33]؛ وذلك لأن لفظ الحديث ((من صام رمضان)) ومن كان عليه قضاء، فإنه لا يصدق عليه أنه صام رمضان، وهذا واضح، وقد ظن بعض طلبة العلم أن الخلاف في صحة صوم التطوع قبل القضاء، ينطبق على هذا، وليس كذلك، بل هذا لا ينطبق عليه؛ لأن الحديث فيه واضح؛ لأنه لا ستة إلا بعد قضاء رمضان.
والدليل على جواز تأخير القضاء قوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185].
وأما الدليل على أنه لا يؤخر إلى ما بعد رمضان الثاني، فما يلي:
1 - حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كان يكون عليَّ الصوم من رمضان، فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان" [34]، فقولها: "ما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان" دليل على أنه لا يؤخر إلى ما بعد رمضان، والاستطاعة هنا الاستطاعة الشرعية، أي: لا أستطيع شرعًا.
2 - أنه إذا أخره إلى بعد رمضان صار؛ كمن أخر صلاة الفريضة إلى وقت الثانية من غير عذر، ولا يجوز أن تؤخر صلاة الفريضة إلى وقت الثانية إلا لعذر.(/18)
فإن قال قائل: قول عائشة - رضي الله عنها - "فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان" دليل على وجوب الفورية في القضاء لمن استطاع، فنقول: لو كان ذلك واجبًا شرعًا لما مكَّنَها الرسول - صلّى الله عليه وسلّم - من تركه. والاستطاعة هنا استطاعة شرعية؛ وذلك مراعاة للرسول - صلّى الله عليه وسلّم -، وحسن عشرته، وليست استطاعة بدنية.
فَإِنْ فَعَلَ فَعَلَيْهِ مَعَ القَضَاءِ إِطْعَامُ مِسْكِينٍ لِكُلِّ يومٍ............
قوله: "فإن فعل فعليه مع القضاء إطعام مسكين لكل يوم"؛ أي: لو أخر القضاء إلى ما بعد رمضان الثاني بلا عذر كان آثمًا، وعليه مع القضاء إطعامُ مسكين لكل يوم.
أما وجوب القضاء؛ فلأنه دين في ذمته لم يقضه فلزمه قضاؤه.
وأما الإطعام فجبرًا لما أخل به من تفويت الوقت المحدد، فيطعم مع كل يوم يقضيه مسكينًا، فإذا قدرنا أن عليه ستة أيام، فإنه يصومها، ويطعم معها ستة مساكين، وقد روي في هذا حديثٌ مرفوعٌ عن النبي - صلّى الله عليه وسلّم - أنه أمر بالإطعام مع القضاء فيمن أخر إلى ما بعد رمضان[35]، لكنه حديث ضعيف جدًّا لا تقوم به حجة، ولا تشغل به ذِمَّة.
وروي أيضًا عن ابن عباس، وأبي هريرة - رضي الله عنهم - أنه يلزمه الإطعام[36]، وما ذكر عنهما فإنه محمول على أن ذلك من باب التشديد عليه؛ لئلا يعود لمثل هذا الفعل، فيكون حكمًا اجتهاديًّا، لكن ظاهر القرآن يدل على أنه لا يلزمه الإطعام مع القضاء؛ لأن الله لم يوجب إلا عِدَّة من أيام أخر، ولم يوجب أكثر من ذلك، وقول الصحابي حجة ما لم يخالف النص، وهنا خالف ظاهر النص فلا يُعْتَدّ به، وعليه فلا نلزم عِبَاد الله بما لم يلزمهم الله به، إلا بدليل تَبْرَأُ به الذمة، على أن ما روي عن ابن عباس وأبي هريرة - رضي الله عنهم - يمكن أن يُحْمَل على سبيل الاستحباب لا على سبيل الوجوب.
فالصحيح في هذه المسألة، أنه لا يلزمه أكثر من الصيام، الذي فاته إلا أنه يأثم بالتأخير.(/19)
وذهب بعض أهل العلم إلى أنه إذا أَخَّره إلى ما بعد رمضان الثاني، بلا عذر وجب عليه الإطعام فقط، ولا يَصِحّ منه الصيام[37]، بناءً على أنه عمل عملاً ليس عليه أمر الله ورسوله - صلّى الله عليه وسلّم - فيكون عمله باطلاً مردودًا؛ لقول النبي - صلّى الله عليه وسلّم – ((مَنْ عَمِلَ عملاً ليس عليه أمرنا، فهو رد)) [38]، كما لو صلى الصلاة بغير وقتها، فإنها لا تُقْبَل منه إذا لم يكن هناك عذر يبيح تأخيرها، فتكون الأقوال ثلاثة وجوب القضاء فقط، ووجوب الإطعام فقط، والجمع، والراجح الأول.
وَإِنْ مَاتَ وَلَوْ بَعْدَ رَمَضَانٍ آخَرَ. وَإِنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَوْمُ أوْ حَجُّ، أو اعْتِكَافُ، أوْ صَلاَةُ نَذْرٍ اسْتُحِبَّ لِوَلِيِّهِ قَضَاؤُهُ.
قوله: "وإن مات، ولو بعد رمضان آخر"؛ أي: إن مات من عليه القضاء بعد أن أخره، فإنه ليس عليه إلا إطعام مسكين لكل يوم؛ لأن القضاء في حقه تعذر.
مثاله: رجل أَخَّرَ القضاء إلى ما بعد رمضان الثاني ثم مات فعليه الإطعام، والقضاء هنا متعذر؛ لأنه مات قبل أن يتمكن منه بعد رمضان الثاني، ولا يمكن أن يُصَام عنه على المذهب، لأنه صيام واجب بأصل الشرع فلا تدخله النِّيَابة.
وقيل: يلزمه إطعامان، إطعامٌ عن القضاء، وإطعامٌ عن التأخير، وهذا لا شك أنه أقيس، إذا قلنا بأنه يجب الإطعام إذا أَخَّرَ القضاء إلى ما بعد رمضان الثاني بلا عذر، لكن الغريب أن المذهب في هذه المسألة، يقولون: ليس عليه إلا إطعام واحد فَقَط.(/20)
وكيفية الإطعام على المذهب لها وَجْه واحِد، وهو أن يطعم مُدًَّا من البُرِّ، أو نصف صَاع، من غيره، والذي غيره على المذهب هو التمر، والشعير، والزبيب، والأَقِط؛ لأنهم يرون أن الفِدْية وصدقة الفطر لا تجزئ إلا من خمسة أصناف وهي البر؛ والتمر؛ والشعير؛ والزبيب؛ والأَقِط، فإذا قالوا مُدًّا من البُرِّ أونصف صاع من غيره، فإنهم يرون الغير هذه الأشياء الأربعة، ويريدون أيضًا غير هذه الأشياء الأربعة إذا عُدِمَت، ويدخل في كلامهم الأُرز إذا عدمت الأصناف الخمسة، والصواب في هذه المسألة، أن الأرز؛ كالبر، فإذا أجزأ المد من البر أجزأ المد من الأرز؛ لأن الصحابة الذين عدلوا عن الصاع إلى نصف الصاع في البُرِّ، إنما عَدَلوا؛ لأنَّ البُرَّ أطيب من الشَّعِير، وأنفع ونحن لا نشك أن الأرز أنفع من الشعير، وأنه بمنزلة البر؛ بل هو في الوقت الحاضر عند الناس أفضل من البر، فيجزئ مُدّ من الأرز وتكون الثلاثون يومًا فيها ستة أصواع بالصاع الحاضر؛ لأنه خمسة أمداد وزيادة يسيرة بمد النبي - صلّى الله عليه وسلّم - فيكون الصاع لخمسة فقراء هذا وجه من أوجه الطعام، والوجه الثاني: أن تصنع طعامًا أنت بنفسك، وتدعو إليه المساكين بقدر الأيام التي عليك.
مسألة: إذا مَرَّ رمضان على إنسان مريض ففيه تفصيل:
أولاً: إن كان يُرْجَى زوال مرضه، انتظر حتى يشفى لقوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184]، فلو استمر به المرض حتى مات، فهذا لا شيء عليه؛ لأن الواجب عليه القضاء ولم يدركه.
مثاله: إنسان أصيب في رمضان بزكام في العشر الأواخر من رمضان مثلاً، والزكام مما يُرْجَى زواله، وتضاعف به المرض حتى مات، فهذا ليس عليه قضاء؛ لأن الواجب عليه عِدَّة من أيام أخر، ولم يتمكن من ذلك فصار؛ كالذي مات قبل أن يدركه رمضان، فليس عليه شيء.(/21)
الثاني: أن يرجى زوال مرضه، ثم عُوفِيَ بعد هذا، ثم مات قبل أن يَقْضِيَ، فهذا يُطْعَم عنه كل يوم مسكين بعد موته من تَرِكَتِهِ، أو من متبرع.
الثالث: أن يكون المرض الذي أصابه لا يُرْجى زواله، فهذا عليه الإطعام ابتداءً، لا بدلاً؛ لأن من أفطر لعُذْر لا يُرْجى زواله، فالواجب عليه إطعام مسكين عن كل يوم؛ كالكبر؛ ومرض السرطان؛ وغيره من الأمراض التي لا يرجى زوالها.
ولو فرض أن الله عافاه، والله على كل شيء قدير، فلا يلزمه أن يصوم؛ لأنه يجب عليه الإطعام وقد أطعم، فبرئت ذمته وسقط عنه الصيام.
وقوله: "ولو بعد رمضان آخر" هذا إشارة للخلاف الذي سبق ذكره.
قوله: "وإن مات وعليه صوم"؛ "إنْ" شرطية، وفعل الشرط: "مات"، وجوابه: "استحب لوليه قضاؤه".
وقوله: "وعليه صومُ" تقرأ بدون تنوين على نيَّة المضاف إليه، أي: وإن مات، وعليه صوم نذر، استحب لولِيِّه قضاؤه، ولا يجب، وإنما يستحب أن يقضيه لما يلي:
1 - قول النبي - صلّى الله عليه وسلّم -: ((مَنْ مات وعليه صيام، صام عنه وليه))[39]، وهذا خبر بمعنى الأمر.
2 - أن امرأة أتت إلى النبي - صلّى الله عليه وسلّم - وسألته: "أن أمها ماتت، وعليها صوم نذر فهل تصوم عنها؟ فقال لها النبي - صلّى الله عليه وسلّم -: ((نعم)) - يعني صومي عنها - وشَبَّه ذلك بالدين تقضيه عن أمها، فإنه تبرأ ذمتها به فكذلك الصوم"[40].
فلو قال قائل: إن قوله - صلّى الله عليه وسلّم – ((صام عنه وليه)) أمر فما الذي صرفه عن الوجوب؟
فالجواب: صرفه عن الوجوب قوله تعالى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] ولو قلنا: بوجوب قضاء الصوم عن الميت لَزِمَ من عدم قضائه أن تحمل وَازِرَة وِزْر أُخْرَى، وهذا خلاف ما جاء به القرآن.
إذًا يستحب لوليه أن يقضيه فإن لم يفعل، قلنا: أطعم عن كل يوم مسكينًا قياسًا على صوم الفريضة.
مسألة: إذا مات وعليه صوم فرض بأصل الشرع، فهل يُقضى عنه؟(/22)
الجواب: لا يُقْضَى عنه؛ لأنَّ المؤلف خَصَّصَ هذا بصوم النَّذْر، والعبادات لا قياس فيها، ثم لا يصح القياس هنا أيضًا؛ لأنَّ الواجب بالنذر أخف من الواجب بأصل الشرع، فلا يقاس الأثقل على الأخف، فصار ما وجب بالنذر تدخله النيابة؛ لخفته بخلاف الواجب بأصل الشرع[41]، فإن الإنسان مطالب به من قِبَلِ الله - عَزَّ وَجَلَّ - وهذا مطالب به من قِبَلِ نفسه، فهو الذي ألزم نفسه به، فكان أهون ودخلته النيابة.
إذًا من مات وعليه صوم رمضان، أو كفارة، أو غيرها فلا يُقْضَى عنه.
والقول الراجح: أن من مات وعليه صيام فرض بأصل الشرع، فإن وليه يقضيه عنه، لا قياسًا ولكن بالنص، وهو حديث عائشة - رضي الله عنها - "من مات وعليه صوم، صام عنه وليه" [42]، "وصوم" نكرة غير مقيدة بصوم معين، وأيضًا كيف يقال: إن المراد به صوم النذر، وصوم النذر بالنسبة لصوم الفرض قليل؟؛ يعني ربما يموت الإنسان وما نذر صوم يوم واحد قط، لكن كونه يموت وعليه صيام رمضان هذا كثير، فكيف نرفع دلالة الحديث على ما هو غالب ونحملها على ما هو نادر؟! هذا تصرف غير صحيح في الأدلة، والأدلة إنما تحمل على الغالب الأكثر، والغالب الأكثر في الذين يموتون وعليهم صيام، أن يكون صيام رمضان أو كفارة أو ما أشبه ذلك، وهم يقولون حديث المرأة خصص حديث عائشة فيقال: إن ذكر فرد من أفراد العام بحكم يوافق العام، لا يكون تخصيصًا، بل يكون تطبيقًا مبينًا للعموم، وأن العموم في حديث عائشة: "من مات وعليه صوم" شامل لكل صور الواجب، وهذا هو القول الصحيح، وهو مذهب الشافعي، وأهل الظاهر.
لكن من هو الذي إذا مات كان القضاء واجبًا عليه؟
الجواب: هو الذي تمكن من القضاء فلم يفعل، فإذا مات قلنا لوليه: صم عنه؛ لقول النبي - صلّى الله عليه وسلّم -: ((من مات وعليه صوم، صام عنه وليه)).(/23)
والولي هو الوارث، والدليل قول النبي - صلّى الله عليه وسلّم -: ((أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا فَمَا بَقِيَ فَهُوَ لِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ)) [43]، فذكر الأولوية في الميراث، إذًا الولي هو الوارث. وقيل: الولي هو القريب مطلقًا، والأقرب أنه الوارث.
وحتى على القول بأنه القريب، فيقال: أقرب الناس وأحق الناس به هم ورثته، وعلى هذا فيصوم الوارث.
مسألة: هل يلزم إذا قلنا: بالقول الراجح إِنّ الصومَ يشمل الواجب بأصل الشرع، والواجب بالنذر - أَنْ يقتصر ذلك على واحد من الورثة؛ لأن الصوم واجب على واحد.
الجواب: لا يلزم؛ لأن قوله - صلّى الله عليه وسلّم -: ((صام عنه وليه))، مفرد مضاف فيعم كل ولي وارث، فلو قُدِّرَ أن الرجل له خمسة عشر ابنًا، وأراد كل واحد منهم أن يصوم يومين عن ثلاثين يومًا فيجزئ، ولو كانوا ثلاثين وارثًا، وصاموا كلهم يومًا واحدًا، فيجزئ؛ لأنهم صاموا ثلاثين يومًا، ولا فرق بين أن يصوموها في يوم واحد، أو إذا صام واحد صام الثاني اليوم الذي بعده، حتى يتموا ثلاثين يومًا.
أما في كفارة الظهار ونحوها، فلا يمكن أن يقتسم الورثة الصوم لاشتراط التتابع؛ ولأن كل واحد منهم لم يصم شهرين متتابعين.
وقد يقول قائل: يمكن بأن يصوم واحد ثلاثة أيام، وإذا أفطر صام الثاني ثلاثة أيام، وهلم جرًّا؛ حتى تتم؟
فيجاب بأنه لا يصدق على واحد منهم أنه صام شهرين متتابعين، وعليه فنقول: إذا وجب على الميت صيام شهرين متتابعين، فإما أن ينتدب له واحد من الورثة ويصومها، وإما أن يطعموا عن كل يوم مسكينًا.
قوله: "أو حجُّ" تقرأ بدون تنوين لما سبق.
أي: مَنْ مات وعليه حج نذر، فإن وليه يحج عنه.
والدليل على ذلك: أن امرأة سألت النبي - صلّى الله عليه وسلّم -: "أن أمها نذرت أن تحجَّ، فلم تحج حتى ماتت أفأحج عنها؟ قال: نعم" [44]وكذلك أيضًا حج الفريضة بأصل الإسلام، والدليل على ذلك:(/24)
1 - حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - سمع رجلاً يقول لبيك عن شبرمة قال: ((من شبرمة؟)) قال: "أخ لي أو قريب لي"، قال: ((أحججت عن نفسك؟))، قال: "لا"، قال: ((حج عن نفسك، ثم حج عن شبرمة))[45].
2 - حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - "أنَّ امرأة قالت: يا رسول الله إن فريضة الله على عباده بالحج، أدركت أبي شيخًا كبيرًا لا يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: ((نعم))[46]، فإذا جازت النيابة عن الحَيّ لعدم قدرته على الحج، فعن الميت من باب أولى
قوله: "أو اعتكافُ" تقرأ بدون تنوين لما سبق أي: اعتكاف نذر.
مثاله: رجل نذر أن يعتكف ثلاثة أيام من أول شهر جمادى الآخرة، ولم يعتكف ومات، فيعتكف عنه وليه؛ لأن هذا الاعتكاف صار دَيْنًا عليه، وإذا كان دَيْنًا فإنه يُقْضَى؛ كما يقضى دين الآدمي.
وقوله: "اعتكاف نذر" قد يفهم منه أن هناك اعتكافًا واجبًا بأصل الشرع وليس كذلك؛ لأن الاعتكاف لا يكون واجبًا إلا بالنذر.
قوله: "أو صلاة نذر استحب لوليه قضاؤه"؛ أي: وإن مات وعليه صلاة نذر، مثاله: رجل نذر أن يصلي لله ركعتين، فمضى الوقت ولم يصلِّ، ثم مات فيستحب لوليه أن يصلي عنه؛ لأن هذا النذر صار دينًا في ذمته، والدين يقضى؛ كدين الآمدي، وإن كانت فريضة بأصل الشرع لا تُقْضَى؛ لأن ذلك لم يرد.
لو قال قائل: الأصل في العبادات: أنه لا قياس فيها، فكيف قلتم: إن الاعتكاف والصلاة المنذورين يفعلان عن الناذر؟
فنقول: إن النبي - صلّى الله عليه وسلّم - قاس العبادات على الأمور العاديات، فقال: ((أرأيت لو كان على أمك دين...))، وهذا الاعتكاف المنذور - مثلاً - صار دَيْنًا على الناذر، فهو إلى الحج المنذور أقرب من الدَّيْن.
وعلى هذا:
- فالحج يُقْضَى عنِ الميت فرضًا كان، أو نذرًا قولاً واحدًا.(/25)
- والصوم يُقْضَى إن كان نذرًا، وإن كان فرضًا بأصل الشرع؛ ففيه خلاف. والراجح قضاؤه، فإن لم يقضِ الولي فإن خلف الميت تَرِكَة، وجب أن يطعم عنه في الصيام، لكل يوم مسكينًا.
- والصلاة لا تقضى قولاً واحدًا، إذا كانت واجبة بأصل الشرع، وإن كانت واجبة بالنذر فإنها تقضى على المذهب.
والاعتكاف لا يمكن أن يكون واجبًا بأصل الشرع، وإنما يجب بالنذر فيعتكف عنه وليه.
وقد استدل من قال بقضاء الصلاة، والاعتكاف المنذورين: بقوله - صلّى الله عليه وسلّم -: ((أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟)) قالت: "نعم"، فقال: ((اقضوا الله))[47] ؛ فجعل النبي - صلّى الله عليه وسلّم - النذر دَيْنًا؛ وإذا كان النذر دَيْنًا وقد قاس النبي - صلّى الله عليه وسلّم - دَيْن الله على دَيْن الآدمي، فنقول: لا فرق بين دَيْن الصلاة، ودَيْن الصيام.
وقال بعض العلماء: إنَّ الصلاة والاعتكاف المنذورين لا يقضيان؛ لأنهما عبادتان بدنيتان لا يجبان بأصل الشرع.
مسائل:
الأولى: هل يصح استئجار من يصوم عنه؟
الجواب: لا يصح ذلك؛ لأن مسائل القرب لا يصح الاستئجار عليها.
الثانية: لو نذر صيام شهر محرم فمات في ذي الحجة؛ فلا يُقْضَى عنه؛ لأنه لم يدرك زمن الوجوب؛ كمن مات قبل أن يدرك رمضان.
الثالثة: إذا قال الولي: أنا لن أعتكف أو قال: لن أصلي، أو قال: لن أحج؟ فله ذلك، ولا بديل عن هذه الثلاثة.
أما إذا قال: لن أصوم فإنه يطعم عن الصوم لكل يوم مسكينًا، إن خَلَّف تَرِكَة، وقياس المذهب في الاعتكاف أن يقام من يعتكف عنه، وأن يقام من يصلي عنه؛ لأنَّ هذا عمل يجب قضاؤه وخلف تَرِكَة، فعلى مُقْتَضَى قواعد المذهب، أنه يُدفع للمعتكف عنه، أو يصلي عنه؛ لكن ما رأيتهم صرحوا به.
ـــــــــــــــــــــــــ(/26)
[1] أخرجه البخاري في الزكاة، باب قول الله - عز وجل -: {لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} (1477)؛ ومسلم في الأقضية، باب النهي عن كثرة المسائل من غير حاجة (593) عن المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه -.
[2] أخرجه البخاري في الرقاق، باب التواضع (6502).
[3] "الروض مع حاشية ابن قاسم" (3/424).
[4] انظر: "حقيقة الصيام"ص(52، 54).
[5] أخرجه البخاري في الصوم، باب المباشرة للصائم (1927)، ومسلم في الصيام، باب "بيان أن القبلة في الصوم ليست محرمة على من لم تحرك شهوته" (1106) (65) عن عائشة - رضي الله عنها -.
[6] أخرجه مسلم في الباب السابق (1108) عن عمر بن أبي سلمة - رضي الله عنه -.
[7] أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (505).
[8] أخرجه أبو داود في الصيام، باب كراهيته للشاب (2387) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.
[9] زاد المعاد (2/58).
[10] أخرجه الإمام أحمد (1/447)، وأصله في الصحيحين.
[11] أخرجه البخاري في الصيام، باب"من لم يدع قول الزور والعمل به في الصوم"(1903) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -
[12] أخرجه البخاري في الصوم، باب هل يقول إني صائم إذا شتم؟ (1904)؛ ومسلم في الصيام، باب فضل الصيام (1151) (163) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.
[13] أخرجه البخاري في الصوم، باب تعجيل الإفطار (1957)؛ ومسلم في الصيام، باب فضل السحور (1098) عن سهل بن سعد - رضي الله عنه -.
[14] أخرجه البخاري في الصوم، باب قدر كم بين السحور وصلاة الفجر (1921)؛ ومسلم في الصيام، باب فضل السحور (1097) عن زيد بن ثابت - رضي الله عنه -.
[15] أخرجه البخاري في الصوم، باب متى يحل فطر الصائم؟ (1954) ومسلم في الصيام، باب بيان وقت انقضاء الصوم... (1100) عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -.
[16] سبق تخريجه ص(433).(/27)
[17] أخرجه أحمد (2/329)، والترمذي في الصوم؛ باب "ما جاء في تعجيل الإفطار" (700)، وابن خزيمة (2062)، وابن حبان (3507) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.، وقال الترمذي: "حديث حسن غريب"، وضعفه الألباني في التعليق على ابن خزيمة.
[18] سبق تخريجه ص(333).
[19] أخرجه أحمد (4/17، 18)، وأبو داود في الصيام، باب ما يفطر عليه (2355)، والترمذي في الصوم؛ باب ما جاء ما مستحب عليه الإفطار (695) وصححه، والنسائي في الكبرى (3300) ط/الرسالة، وابن ماجه في الصيام ؛ باب ما جاء على ما يستحب الفطر (1699)، وصححه ابن خزيمة (2067)، وابن حبان (3514)، والحاكم (1/430) عن سلمان بن عامر - رضي الله عنه -.
[20] أخرجه الإمام أحمد (3/164)، وأبو داود في الصيام؛ باب ما يفطر عليه (2356)، والترمذي في الصوم؛ باب ما جاء ما يستحب عليه الإفطار (699)، والدارقطني (2/185)، والحاكم (1/432) عن أنس - رضي الله عنه -، قال الترمذي: "حسن غريب"، وقال الدارقطني: "إسناده صحيح"، وصححه الحاكم على شرط مسلم، ووافقه الذهبي.
[21] سبق تخريجه ص(435).
[22] أخرجه البخاري في الصوم؛ باب الوصال إلى السحر (1967)؛ عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -.
[23] أخرجه البخاري في الصوم؛ باب التنكيل لمن أكثر الوصال (1965)، ومسلم في الصيام؛ باب النهي عن الوصال (1103) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.
[24] أخرجه ابن أبي شيبة (3/84).
[25] سبق تخريجه ص(438).
[26] لحديث عمر بن أبي سلمة - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - قال له: ((سَمِّ الله، وكُل بيمينك، وكل مما يليك)) أخرجه البخاري في الأطعمة؛ باب التسمية على الطعام، والأكل باليمين (5376)، ومسلم في الأشربة؛ باب آداب الطعام والشراب وأحكامهما (2022).
[27] أخرجه مسلم في الأشربة؛ باب آداب الطعام والشراب وأحكامهما (2017)، عن حذيفة - رضي الله عنه -.
[28] سبق تخريجه حاشية (4) ص(439).(/28)
[29] أخرجه الإمام أحمد (6/246)، وأبو داود في الأطعمة؛ باب التسمية على الطعام (3767)، والترمذي في الأطعمة؛ باب ما جاء في التسمية على الطعام (1858)، وابن ماجه في الأطعمة؛ باب التسمية عند الطعام (3264) عن عائشة – رضي الله عنها -، وقال الترمذي: "حسن صحيح"، وصححه الألباني في الإرواء (7/24).
[30] أخرجه مسلم في الذكر والدعاء؛ باب استحاب حمد الله - تعالى - بعد الأكل والشرب (2734)، عن أنس - رضي الله عنه -.
[31] أخرجه الدارقطني (2/185)، وابن السني في "عمل اليوم والليلة" (481) عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، وضعفه ابن القيم في "الزاد" (2/51)، والهيثمي في "المجمع" (3/156).
[32] أخرجه أبو داود في الصيام؛ باب القول عند الإفطار (2357)، وابن السني في "عمل اليوم والليلة" (472)، والدارقطني (2/185)، والحاكم (1/422)؛ عن ابن عمر - رضي الله عنهما -، قال الدارقطني: "إسناده حسن"، وصححه الحاكم على شرطهما، ووافقه الذهبي.
[33] أخرجه مسلم في الصيام؛ باب استحباب صوم ستة أيام من شوال اتباعًا لرمضان (1164)؛ عن أبي أيوب الأنصاري - - رضي الله عنه -.
[34] أخرجه البخاري في الصوم؛ باب متى يقضى قضاء رمضان (1950)، ومسلم في الصيام؛ باب جواز تأخير قضاء رمضان، ما لم يجئ رمضان آخر (1146).
[35] أخرجه الدارقطني (2/197)، والبيهقي (4/253) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، وضعفاه.
[36] أما أثر ابن عباس فأخرجه الدارقطني (2/197)، والبيهقي (4/253). وقال النووي في "المجموع" (6/364)، "إسناده صحيح". وأما أثر أبي هريرة فأخرجه الدارقطني (2/197)؛ والبيهقي (4/253)، وضعفه الدراقطني.
[37] انظر: "الفروع" (3/93).
[38] سبق تخريجه ص (172).
[39] أخرجه البخاري في الصوم، باب من مات وعليه صوم (1952)، ومسلم في الصيام؛ باب قضاء الصوم عن الميت (1147) عن عائشة - رضي الله عنها -.(/29)
[40] أخرجه البخاري في الصوم؛ باب من مات وعليه صوم (1953)، ومسلم في الصيام؛ باب قضاء الصوم عن الميت، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - (1148) (155).
[41] وهذا هو المذهب "الإنصاف" (3/336).
[42] سبق تخريجه ص(449).
[43] أخرجه البخاري في الفرائض؛ باب ميراث الولد من أبيه وأمه (6732)، ومسلم في الفرائض؛ باب ألحقوا الفرائض بأهلها (1615) عن ابن عباس - رضي الله عنهما -.
[44] سبق تخريجه ص(46).
[45] أخرجه أبو داود في المُحْصَر؛ باب النحر قبل الحلق في الحصر (1811)، وابن ماجه في المناسك؛ باب الحج عن الميت (2903)، وابن خزيمة (3039)، وابن حبان (3988)، والدارقطني (2/267)، والبيهقي (4/336)، وصححه ابن خزيمة، وابن حبان. وانظر: "نصب الراية" (3/155)، و"التلخيص" (958)، و"الإرواء" (4/171).
[46] أخرجه البخاري في الحج؛ باب وجوب الحج وفضله... (1513)، ومسلم في الحج؛ باب الحج عن العاجز لزمانة وهرمٍ ونحوهما، أو للموت (1334).
[47] سبق تخريجه (46)(/30)
العنوان: شرح كتاب الصيام من الشرح الممتع على "زاد المستقنع" (4)
رقم المقالة: 1306
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
بَابُ صَوْمِ التَّطوُّعِ
قوله: "باب صوم التطوع"، "صوم" مضاف، و"التطوع" مضاف إليه، والإضافة هنا لبيان النوع، وذلك أن الصيام نوعان: فريضة؛ وتطوع. وكلاهما بالمعنى العام يسمى تطوعًا، فإن التطوع: فعل الطاعة، لكنه يطلق غالبًا عند الفقهاء على الطاعة التي ليست بواجبة، ولا مُشَاحَة في الاصْطِلاح، فإذا كان الفقهاء - رَحِمهم الله - جعلوا التطوع في مقابل الواجب، فهذا اصطلاح ليس فيه محظورٌ شرعيٌّ، إذًا فصَوْم التطوع: هو الصوم الذي ليس بواجب.
واعلم أن مِنْ رَحْمَةِ اللهِ وحكمته أن جعل للفرائض ما يماثلها من التطوع؛ وذلك من أجل ترقيع الخلل الذي يحصل في الفريضة من وجه، ومن أجل زيادة الأجر والثواب للعاملين من وجه آخر؛ لأنه لولا مشروعية هذه التطوعات لكان القيام بها بدعة وضلالة، وقد جاء في الحديث أن التطوع تكمل به الفرائض يوم القيامة[1].(/1)
واعلم أن الصوم من أفضل الأعمال الصالحة، حتى ثبت في الحديث القدسي أن الله - عزّ وجل - يقول: "كل عمل ابن آدم له إلا الصوم، فإنه لي، وأنا أجزي به"[2]، فالعبادات ثوابها الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، إلا الصوم فإن الله هو الذي يجزي به، ومعنى ذلك أن ثوابه عظيم جدًّا، قال أهل العلم: لأنه يجتمع في الصوم أنواع الصبر الثلاثة: وهي الصبر على طاعة الله، وعن معصية الله، وعلى أقداره، فهو صبر على طاعة الله؛ لأن الإنسان يصبر على هذه الطاعة ويفعلها، وعن معصيته؛ لأنه يتجنب ما يحرم على الصائم، وعلى أقدار الله؛ لأن الصائم يصيبه ألم بالعطش، والجوع، والكسل، وضعف النفس، فلهذا كان الصوم من أعلى أنواع الصبر؛ لأنه جامع بين الأنواع الثلاثة، وقد قال الله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10].
ثم إن صوم التطوع سرده المؤلف سردًا عامًّا بدون تفصيل، ولكنه ينقسم في الواقع إلى قسمين: تطوع مُطْلَق؛ وتطوع مُقَيَّد.
والمقيد أَوْكَد من التطوع المُطْلَق؛ كالصلاة أيضًا، فإن التطوع المُقَيَّد منها أفضل من التطوع المُطْلَق.
يُسَنُّ صِيَامُ أيَّامِ البِيضِ............
قوله: "يسن صيام أيام البيض" لو عبر المؤلف بتعبير أعم، فقال: يسن صيام ثلاثة أيام من كل شهر، والأفضل أن تكون في أيام البيض، لكان أحسن.
وقوله: "يسن"، المسنون: في اصطلاح الأصوليين ما أثيب فاعله امتثالاً ولم يُعَاقَبْ تاركه، وهو درجات ومراتب من حيث الأفضلية، وكثرة الثواب؛ كالواجب. لكن الواجب أحب إلى الله - تعالى - لما ثبت في الحديث الصحيح القدسي أن الله قال: "ما تقرب إليَّ عبدي بشيءٍ أحب إلي مما افترضت عليه))[3].
وقوله: أيام البيض هي اليوم الثالث عشر من الشهر، والرابع عشر، والخامس عشر، ودليل مسنونيتها أن النبي - صلّى الله عليه وسلّم - أمر بصيامها[4].(/2)
وسميت بِيضًا؛ لابيضاض لياليها بنور القمر، ولهذا قيل أيام البيض، أي أيام الليالي البيض، فالوصف للَّيالي؛ لأنها بنور القمر صَارَتْ بيضاء، وذكر أهل العلم بالطب أن فيها فائدة جسمية في هذه الأيام الثلاثة؛ لأنه وقت فوران الدَّمِ وزيادته، إذ إن الدَّمَ - بإذن الله - مَقْرُونٌ بالقمر، وإذا صام فإنه يخف عليه ضغط كثرة الدم فهذه فائدة طبية، لكن كما قلنا كثيرًا بأن الفوائد الجسمية ينبغي أن يجعلها في ثاني الأمر بالنسبة للعبادات، حتى يكون الإنسان مُتعبِّدًا الله لا للمصلحة الجسمية أو الدنيوية، ولكن من أجل التقرب إلى الله بالعبادات.
وهذه الثلاثة تُغْنِي عن صيام ثلاثة أيام من كل شهر، التي قال فيها النبي - صلّى الله عليه وسلّم -: ((صيام ثلاثة أيام من كل شهر؛ صوم الدهر كله))[5]؛ لأنَّ الحسنة بعشر أمثالها، فثلاثة أيام بثلاثين حسنة عن شهر، وكذلك الشهر الثاني والثالث، فيكون كأنما صام السنة كلها، وكان النبي - صلّى الله عليه وسلّم - يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، تقول عائشة: "لا يبالي هل صامها من أول الشهر، أو وسطه أو آخره"[6]، وأمر بها النبي - صلّى الله عليه وسلّم - ثلاثة من أصحابه: أبو هريرة؛ وأبو الدرداء؛ وأبو ذر[7]، فعندنا أمران:
الأمر الأول: استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر، سواء أكانت في أول الشهر، أم في وسطه، أم في آخره، وسواء أكانت متتابعة أم متفَرِّقَة.
الأمر الثاني: أنه ينبغي أن يكون الصيام في أيام البيض الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر، فتعيينها في أيام البيض تعيين أفضلية؛ كتعين الصلاة في أول وقتها، أي: أنَّ أفضل وقت للأيام الثلاثة هو أيام البيض، ولكن من صام الأيام الثلاثة في غير أيام البيض حصل على الأجر، وهو أجر صيام ثلاثة أيام من كل شهر، لا صيام أيام البيض، وحصل له صيام الدهر.
وَالاثْنَيْنِ والخَمِيسِ،............
قوله: "والاثنين والخميس"؛ أي ويُسَنّ صيام الاثنين، والخميس.(/3)
وصوم الاثنين أَوْكَد من الخميس، فيُسَنّ للإنسان أن يصوم يَوْمَي الاثنين والخميس من كل أسبوع.
وقد علل النبي - صلّى الله عليه وسلّم - ذلك: ((بأنهما يومان تُعْرَض فيهما الأعمال على الله - عزّ وجل -)) قال: ((فأحب أن يُعْرَض عملي، وأنا صائم)) [8]، وهذا الحديث اختلف المُحَدِّثُون فيه: فمنهم من ضعفه؛ وقال: لا تقوم به حجة؛ ومنهم من قال: إنه صحيح؛ كابن خزيمة، ومنهم من سكت عنه فلم يحكم له باضطراب ولا تصحيح، وعلى كل حال، فإن الفقهاء اعتبروه واستشهدوا به، واستدلوا به.
وسئل عن صوم يوم الاثنين فقال: ((ذاك يوم ولدت فيه، وبُعِثْتُ فيه، أو أنزل علي فيه))[9]، فبين الرسول - صلّى الله عليه وسلّم - أن صيام يوم الاثنين مطلوب، وعلى هذا فيُسَنّ صيام يومين من كل أسبوع، هما يوم الاثنين والخميس.
وأما صيام يوم الثلاثاء والأربعاء فليس بسنة على التعيين، وإلا فهو سنة مُطْلَقة، يسن للإنسان أن يكثر من الصيام، لكن لا نقول يسن أن تصوم يوم الثلاثاء، ولا يسن أن تصوم يوم الأربعاء، ولا يكره ذلك.
وأما الجمعة فلا يسن صوم يَوْمها، ويكره أن يفرد صومه، والدليل على ذلك:
1 - قول النبي - صلّى الله عليه وسلّم -: ((لا تصوموا يوم الجمعة إلا أن تصوموا يومًا قبله، أو يومًا بعده))[10].
2 - قوله - صلّى الله عليه وسلّم - لإحدى أمهات المؤمنين، وكانت صامت يوم جمعة: ((أصُمْتِ أمس؟))، قالت: "لا"، قال: ((أتصومين غدًا؟)) قالت: "لا"، قال: ((فأفطري))[11]، فدل ذلك على أن يوم الجمعة لا يُفْرَد بصوم؛ بل قد وَرَد النهي عن ذلك.
3 - قوله - صلّى الله عليه وسلّم -: ((لا تخصوا يوم الجمعة بصيام، ولا ليلتها بقيام))[12]، وأما السبت فقيل: إنه؛ كالأربعاء؛ والثلاثاء يباح صومه.
وقيل: إنه لا يجوز إلا في الفريضة، وقيل: إنه يجوز لكن بدون إفراد.(/4)
والصحيح أنه يجوز بدون إفراد، أي: إذا صُمْتَ معه الأحد، أو صمت معه الجمعة، فلا بأس، والدليل على ذلك قوله - صلّى الله عليه وسلّم - لزوجته ((أتصومين غدًا؟)) أي: السبت.
وأما الحديث الذي رواه أبو داود: ((لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افْتُرِضَ عليكم، ولو لم يجد أحدكم إلا لحاء شجر))[13]؛ يعني فليأكله، فهذا الحديث مختلف فيه؛ هل هو صحيح أو ضعيف؟ وهل هو منسوخ؛ أو غير منسوخ؟[14]، وهل هو شاذ أو غير شاذ؟ وهل المراد بذلك إفراده دون جَمْعِهِ إلى الجمعة أو الأحد؟ وسبق بيان القول الصحيح أن المكروه إفراده، لكن إن أفرده لسبب فلا كراهة، مثل أن يصادف يوم عرفة أو يوم عاشوراء، إذا لم نقل بكراهة إفراد يوم عاشوراء.
وأما الأحد: فبعض العلماء استَحَبَّ أن يصومه الإنسان. وَكَرِهَه بعض العلماء.
أما من استحبه فقال: إنه يوم عيد للنصارى، ويوم العيد يكون يوم أكل وسرور وفرح، فالأفضل مخالفتهم، وصيام هذا اليوم فيه مُخَالَفَة لهم.
وأما من كَرِه صومه فقال: إن الصوم نوع تعظيم للزمن، وإذا كان يوم الأحد يوم عيد للكفار فصومه نوع تعظيم له، ولا يجوز أن يُعَظَّم ما يعظمه الكفار على أنه شعيرة من شعائرهم.
والخلاصة: أن الثلاثاء والأربعاء حكم صومهما الجواز، لا يسن إفرادهما ولا يكره، والجمعة؛ والسبت؛ والأحد يكره إفرادها، وإفراد الجمعة أشد كراهة؛ لثبوت الأحاديث في النهي عن ذلك بدون نزاع، وأما ضمها إلى ما بعدها فلا بأس، وأما الاثنين والخميس فصومهما سنة.
وَسِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ،..........
قوله: "وست من شوال"؛ أي: ويسن صوم ست من شوال؛ لقول النبي - صلّى الله عليه وسلّم -: ((من صام رمضان، وأتبعه ستًّا من شَوَّال فكأنما صام الدهر كله))[15]، فيسن للإنسان أن يصوم ستة أيام من شوال.
فائدة: قوله - صلّى الله عليه وسلّم -: ((وأتبعه ستًا من شوال)) والمعروف أن تذكير العدد يدل على تأنيث المعدود، والذي يصام اليوم لا الليل فلم لم يقل ستة؟(/5)
الجواب: أن الحكم في كون العدد يذكر مع المؤنث، ويؤنث مع المذكر، إذا ذُكِرَ المعدود فتقول ستة رجال، وست نساء، قال تعالى: {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ} [الحاقة: 7].
أما إذا حذف المعدود فإنه يجوز التأنيث والتذكير، فتقول صمت ستًّا من شوال، وصمت ستة من شوال، ومنه قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] والمراد عشرة أيام لكنه ذكَّرها؛ لأن المعدود لم يُذْكَرْ، والظاهر أن الأفصح التذكير؛ لأنَّ هذا هو الذي جاء بلفظ الحديث، وهو أيضًا أخف على اللسان، وهذه القاعدة ما لم يحصل اشتباه، فإن حصل فإنه يجب أن يراعي الأصل؛ أي: لو كان اللفظ يحتمل أن يراد به المذكر أو أن يراد به المؤنث والحكم يختلف، فإن الواجب الرجوع إلى الأصل؛ كالقاعدة العامة في جميع ما يجوز في النحو يقيدونها بما لم يُخْشَ اللبس، فإن خيف اللبس وجب إرجاع كل شيء إلى أصله.
قال الفقهاء - رحمهم الله -: "والأفضل أن تكون هذه الست بعد يوم العيد مباشرة؛ لما في ذلك من السبق إلى الخيرات.
والأفضل أن تكون متتابعة؛ لأن ذلك أسهل غالبًا؛ ولأنَّ فيه سَبْقًا لفعل هذا الأمر المشروع.
فعليه يسن أن يصومها في اليوم الثاني من شوال ويتابعها حتى تنتهي، وهي ستنتهي في اليوم الثامن، من شهر شوال، وهذا اليوم الثامن يسميه العامة عيد الأبرار، أي: الذين صاموا ستة أيام من شوال.
ولكن هذا بِدْعَة فهذا اليوم ليس عِيدًا للأبرار، ولا للفُجَّار.
ثم إن مُقْتَضَى قولهم، أن من لم يصم ستة أيام من شوال ليس من الأبرار، وهذا خطأ، فالإنسان إذا أدى فرضه فهذا بر بلا شك، وإن كان بعض البر أكمل من بعض.(/6)
ثم إنَّ السَّنَة أن يصومها بعد انتهاء قضاء رمضان لا قبله، فلو كان عليه قضاء ثم صام الستة قبل القضاء فإنه لا يحصل على ثوابها؛ لأن النبي - صلّى الله عليه وسلّم - قال: ((من صام رمضان))، ومن بقي عليه شيء منه، فإنه لا يصح أن يقال إنه صام رمضان؛ بل صام بعضه، وليست هذه المسألة مبنيَّة على الخلاف في صوم التطوع قبل القضاء؛ لأن هذا التطوع - أَعني صوم الست - قَيَّدَهُ النبي - صلّى الله عليه وسلّم – بقيد، وهو أن يكون بعد رمضان، وقد توهم بعض الناس، فظن أنه مبني على الخلاف في صحة صوم التطوع قبل قضاء رمضان، وقد تقدم ذكر الخلاف في ذلك، وبيَّنَّا أن الراجح جواز التطوع وصحته، ما لم يضق الوقت عن القضاء.
تنبيه: لو أُخِّر صيام الست من شوال عن أول الشهر ولم يبادر بها، فإنه يجوز لقوله - صلّى الله عليه وسلّم -: ((ثم أتبعه ستًّا من شوال)) فظاهره أنه ما دَامَت الست في شوال، ولو تَأَخَّرَتْ عن بداية الشهر فلا حَرَج، لكن المبادرة وتتابعها أفضل من التأخير والتفريق، لما فيه من الإسراع إلى فعل الخير، ويستثنى من قول المؤلف "ستًّا من شوال" يستثنى يوم العيد؛ لأنه لا يجوز صومه.
مسألة: لو لم يتمكن من صيام الأيام الستة في شوال لعذر؛ كمرض؛ أو قضاء رمضان كاملًا حتى خرج شوال، فهل يقضيها ويكتب له أجرها، أو يقال هي سنة فات محلها فلا تُقْضَى؟
الجواب: يقضيها ويكتب له أجرها؛ كالفرض إذا أَخَّرَهُ عن وقته لعذر؛ وكالراتبة إذا أخرها لعذر حتى خرج وقتها، فإنه يقضيها؛ كما جاءت به السنة.
فائدة: كَرِه بعض العلماء صيام الأيام الستة كل عام؛ مخافة أن يظن العامة أن صيامها فرض، وهذا أصل ضعيف غير مستقيم؛ لأنه لو قيل به لزم كراهة الرواتب التابعة للمكتوبات، أن تصلى كل يوم، وهذا اللازم باطل، وبطلان اللازم يدل على بطلان الملزوم، والمحذور الذي يخشى منه يزول بالبيان.
وَشَهْرِ المُحَرَّمِ،...........(/7)
قوله: "وشهر المحرم"؛ أي: يسن صوم شهر المحرم، وهو الذي يلي شهر ذي الحجة، وهو الذي جعله الخليفة الراشد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أول شهور السنة، وصومه أفضل الصيام بعد رمضان، كما قال النبي - صلّى الله عليه وسلّم -: ((أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المُحَرَّم))[16].
واختلف العلماء - رحمهم الله - أيهما أفضل صوم شهر المحرم، أم صوم شهر شعبان؟
فقال بعض العلماء: شهر شعبان أفضل؛ لأن النبي كان يصومه، إلا قليلاً منه ولم يحفظ عنه أنه كان يصوم شهر المحرم؛ لكنه حث على صيامه بقوله: ((إنه أفضل الصيام بعد رمضان)).
قالوا: ولأن صوم شعبان ينزل منزلة الراتبة قبل الفريضة، وصوم المحرم ينزل منزلة النفل المطلق، ومنزلة الراتبة أفضل من منزلة النفل المطلق، وعلى كل فهذان الشهران يسن صومهما، إلا أن شعبان لا يكمله.
وآكَدُهُ العَاشِرُ، ثُمَّ التَّاسِعُ، وَتِسْعِ ذِي الحِجَّةِ..........
قوله: "وآكده العاشر ثم التاسع" يعني آكد صوم شهر المحرم العاشر ثم التاسع؛ لأن النبي - صلّى الله عليه وسلّم -: "سُئِل عن صوم يوم عاشوراء؟ فقال: ((أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله))[17]، فهو آكد من بقية الأيام من الشهر.
ثم يليه التاسع؛ لقوله - صلّى الله عليه وسلّم -: ((لئن بقيت، أو لئن عشت إلى قابل لأَصُومَنَّ التاسع))[18] يعني مع العاشر.
وهل يكره إفراد العاشر؟
قال بعض العلماء: إنه يكره؛ لقول النبي - صلّى الله عليه وسلّم -: ((صوموا يومًا قبله، أو يومًا بعده خالفوا اليهود))[19].
وقال بعض العلماء: إنه لا يكره، ولكن يفوت بإفراده أجر مخالفة اليهود.
والراجح أنه لا يكره إفراد عاشوراء.
فإن قال قائل: ما السبب في كون يوم العاشر آكد أيام محرم؟(/8)
فالجواب أن السبب في ذلك أنه اليوم الذي نَجَّى الله فيه موسى وقومه، وأهلك فرعون وقومه؛ كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح، عن النبي - صلّى الله عليه وسلّم -، وفي هذا الحديث دليل على أن التوقيت كان في الأمم السابقة بالأهِلَّة، وليس بالشهور الأفرنجية؛ لأن الرسول - صلّى الله عليه وسلّم - أخبر بأن اليوم العاشر من مُحَرَّم، هو اليوم الذي أهلك الله فيه فرعون وقومه، ونجى موسى وقومه[20].
قوله: "وتسع ذي الحجة"؛ أي: ويسن صوم تسع ذي الحجة.
وتسع ذي الحِجَّة تبدأ من أول أيام ذي الحجة، وتنتهي باليوم التاسع، وهو يوم عرفة، والحِجَّة بكسر الحاء أفصح من فتحها، وعكسها القَعْدة.
ودليل استحبابها قول النبي - صلّى الله عليه وسلّم -: ((ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله، من هذه الأيام العشر))[21]، والصوم من العمل الصالح.
وقد ورد حديثان متعارضان في هذه الأيام، أحدهما أن الرسول - صلّى الله عليه وسلّم - لم يكن يصوم هذه الأيام التسعة[22]، والثاني أنه كان يصومها[23]، وقد قال الإمام أحمد - - رحمه الله - في التعارض بين هذين الحديثين: إن المثبت مُقَدَّم على النافي، ورجح بعض العلماء النفي؛ لأن حديثه أصح من حديث الإثبات، لكن الإمام أحمد جعلهما ثابتين كليهما، وقال: إن المثبت مُقَدَّم على النافي، ونحن نقول: إذا تعارضا تساقطا بدون تقديم أحدهما على الآخر، فعندنا الحديث الصحيح العام: ((ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه العشر)) [24]، فالعمل الصالح في أيام عشر ذي الحجة، ومن ذلك الصوم أحب إلى الله من العمل الصالح في العشر الأواخر من رمضان، ومع ذلك فالأيام العشر من ذي الحِجَّة، الناس في غفلة عنها، تَمُرُّ والناس على عاداتهم لا تجد زيادة في قراءة القرآن، ولا العبادات الأخرى بل حتى التكبير بعضهم يشح به.
وآكَدُهُ يَوْمُ عَرَفَةَ لِغَيْرِ حَاجٍّ بِهَا،.............(/9)
قوله: ((وآكده يوم عرفة))؛ أي: آكد تسع ذي الحجة، صيام يوم عرفة لغير حاج بها، ويوم عرفة هو اليوم التاسع، وإنما كان آكد أيام العشر؛ لأن النبي – صلى الله عليه وسلم – "سُئِل عن صوم يوم عرفة فقال - صلّى الله عليه وسلّم -: ((أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله، والسنة التي بعده)) [25]، وعلى هذا؛ فصوم يوم عرفة أفضل من صوم عاشوراء؛ لأنَّ صوم عاشوراء قال فيه الرسول - صلّى الله عليه وسلّم -: ((أحْتَسِب على الله أن يكفر السنة التي قبله)) فقط.
قوله: "لغير حاج بها" الباء بمعنى في، وقوله "لغير حاج بها" اشترط المؤلف شَرْطَيْن: الأول: لغير حاج، الثاني: بها، أي: في عَرَفة، فظاهره أنه لو كان الحاج في غير عرفة، مثل أن يصادفه يوم عرفة في الطريق، ولم يصل إلى عرفة إلا في الليل، فظاهر كلام المؤلف أن صوم هذا اليوم مشروع، وظاهره أيضًا أنه لو كان الإنسان بِعَرفة لكنه لم يحج مثل العمال وشبههم فإنه يصوم، فالحاج في عَرَفَة لا يصوم، وليس مشروعًا له الصوم؛ لأن النبي - صلّى الله عليه وسلّم -: ((نهى عن صوم يوم عرفة بعرفة)) [26]، وهذا الحديث في صحته نَظَر، لكن يؤيده أن الناس شَكُّوا في صومه - صلّى الله عليه وسلّم - يوم عرفة، فأرسل إليه بقدح من لبن فشربه ضُحَى يوم عرفة والناس ينظرون إليه[27]؛ ليتبين لهم أنه لم يَصُم؛ ولأن هذا اليوم يوم دُعاء وعَمَل، ولاسيَّما أن أفضل زمن الدعاء هو آخر هذا اليوم، فإذا صام الإنسان فسوف يأتيه آخر اليوم وهو في كسل وتعب، لاسيما في أيام الصيف وطول النهار وشدة الحر، فإنه يتعب وتزول الفائدة العظيمة الحاصلة بهذا اليوم، والصوم يدرك في وقت آخر؛ ولهذا فالصواب أن صوم يوم عرفة للحاج مكروه، وأما لغير الحاج فهو سُنَّة مؤكدة.
وَأَفْضَلُهُ صَوْمُ يَوْمٍ وَفِطْرُ يَوْمٍ.............
قوله: "وأفضله صوم يوم وفطر يوم"؛ أي: أفضل صوم التطوع صوم يوم، وفطر يوم.(/10)
فإذا قال قائل: لماذا لم يفعله الرسول - صلّى الله عليه وسلّم -، والرسول ينشر الأفضل وهو أخشانا لله، وأتقانا له؟ قلنا: لأن الرسول - صلّى الله عليه وسلّم - يشتغل بعبادات أخرى أَجَلّ من الصيام، منَ الدعوة إلى الله، والأعمال الأخرى الوظيفية التي تستدعي أن يفعلها، ولهذا ثبت عنه فضل الأَذَان، وأن المؤذنين أطول الناس أعناقًا يوم القيامة [28]، ومع ذلك لم يُبَاشِرْه؛ لأنه مشغول بعبادات أخرى جليلة لا يتمكن من مراقبة الشمس في طلوعها، وزوالها وما أشبه ذلك، وقال في الرجل الذي دَخَل وصَلَّى وحده: من يتصدق على هذا ؟ فقام بعض أصحابه فصلى معه [29]، فلا يقول قائل: لماذا لم يقم هو لأنها صدقة، وهو أسبق الناس إلى الخير؟ فالجواب؛ لأنه مشتغل بما هو أهم، من تعليم الناس، والتحدث إليهم وتأليفهم وما أشبه ذلك، المهم أنه لا يُظن أن الرسول - صلّى الله عليه وسلّم - إذا ندب إلى فعل شيء، وبين أنه أفضل ولم يفعله هو، فهو قصور منه - صلوات الله وسلامه عليه - ولكن اشتغاله بما هو أَوْلَى وأهم، ولهذا لما سُئِل عن صوم يوم وإفطار يومين؟ قال: ((ليت أنا نقوى على ذلك)) [30]، يعني أنه ما يقوى على ذلك مع أعماله الأخرى الجليلة، التي لا يقوم بها غيره.
وعلى هذا إذا جاءنا طالبُ علم، وقال: إنني إذا صمت قصرت عن طلب العِلْم، وصار عندي خَورٌ وضَعْف وتَعَب، وإذا لم أصم نشطت على العلم، فهل الأفضل في أن أصوم يومًا وأفطر يومًا؛ لأنه أفضل الصيام، أو أن أقوم بطلب العلم؛ نقول: الأفضل أن تقوم بطلب العلم.(/11)
وإذا جاءنا رجل عابد ليس له شُغل، لا قيام على عائلة، ولا طلب علم، وقال: ما الأفضل لي، أن أصوم يومًا وأفطر يومًا، أو لا أصوم؟ نقول: الأفضل أن تصوم يومًا وتفطر يومًا، فالمهم أن التفاضل في العبادات، وتمييز بعضها عن بعض، وتفضيل بعضها على بعض، أمر ينبغي التفطن له؛ لأن بعض الناس قد يلازم طاعة معينة، ويترك طاعات أهم منها وأنفع، وقد جاء وفد إلى النبي - صلّى الله عليه وسلّم - فجلس يتحدث إليهم، وترك راتبة الظهر ولم يصلها إلا بعد العصر[31]، فعلى هذا ينبغي للإنسان أن يعادل بين نوافل العبادات، وإذا ترك شيئًا لما هو أهم منه، فلا يقال إنه تركه، بل فعل ما هو خير منه، فلا يعد ذلك قصورًا.
ودليل ذلك أن عبد الله بن عمرو بن العاص - رَضِي الله عنهما - قال: "لأصومن النهار ولا أفطر، ولأقومن الليل ولا أنام"، فبلغ ذلك النبي - صلّى الله عليه وسلّم - فسأله: ((أنت الذي قلت كذا؟)) قال: "نعم"، فقال له النبي - صلّى الله عليه وسلّم -: ((صُمْ كذا، صم كذا))، قال: "إني أطيق أكثر من ذلك"، حتى قال له: ((صم يومًا وأفطر يومًا فذلك أفضل الصيام، وهو صيام داود))، وقال له في القيام: ((نَمْ نصف الليل، وقم ثلث الليل، ونم سدس الليل، فذلك أفضل القيام وهو قيام داود)) [32]؛ لأن هذا الصيام يعطي النفس بعض الحرية، والبدن بعض القوة؛ لأنه يصوم يومًا ويفطر يومًا، وكذلك القيام إذا نام نصف الليل، ثم قام ثلثه، ثم نام سدسه، فإن تعبه في قيام الثلث سوف يزول بنومه السدس، فيقوم في أول النهار نشيطًا.(/12)
ولكن هذا - أي: صوم يوم وفطر يوم - مشروط بما إذا لم يضيع ما أَوْجَبَ الله عليه، فإن ضَيَّعَ ما أوجب الله عليه كان هذا مَنْهِيًّا عنه؛ لأنه لا يمكن أن تضاع فريضة من أجل نافلة، فلو فرض أن هذا الرجل إذا صام يومًا وأفطر يومًا، تخلف عن الجماعة في المسجد، لأنَّه يتعب في آخر النهار، ولا يستطيع أن يَصِلَ إلى المسجد، فنقول له: لا تفعل؛ لأن إضاعة الواجب أعظم من إضاعة المستحب، فهذا مستحب لا تأثم بتركه، فاتركه.
كذلك لو انشغل بذلك عن مؤونة أهله، أي: انقطع عن البيع والشراء والعمل الذي يحتاجه لمؤونة أهله، فإننا نقول له: لا تفعل؛ لأنَّ القيام بالواجب أهم من القيام بالتَّطَوُّع، وكذلك لو أدى هذا الصيام إلى عدم القيام بواجب الوظيفة، كان منهيًا عنه.
وقد التزم عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - بذلك حتى كبر فتمنى أنه قبل رخصة النبي - صلّى الله عليه وسلّم - أن يصوم من كل شهر ثلاثة أيام، حتى اجتهد - رضي الله عنه - فصار يصوم خمسة عشر يومًا مُتتابعة، ويفطر خمسة عشر يومًا متتابعة، ويرى أن هذا بدل عن صيام يوم، وإفطار يوم.(/13)
ونأخذ من هذا فائدة، وهي أن الإنسان ينبغي ألا يقيس نفسه في مستقبله على حاضره، فقد يكون الإنسان في أول العبادة نشيطًا يرى أنه قادر، ثم بعد ذلك يلحقه الملل، أو يلحقهُ ضعف وتعب، ثم يندم، لهذا ينبغي للإنسان أن يكون عمله قَصْدًا، ولهذا قال النبي - صلّى الله عليه وسلّم - مُرْشِدًا أمته: ((اكْلَفُوا مِنَ العَمَلِ مَا تُطِيقُونَ)) [33]؛ أي: لا تكلفوا أنفسكم، وقال: ((استعينوا بالغدوة والروحة، وشيء من الدلجة، والقصد القصد تبلغوا)) [34]، وقال ((إن المنبت لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى)) [35]،والمنبت هو الذي يسير ليلاً ونهارًا، فالإنسان ينبغي له أن يقدر المستقبل، لا يقول أنا الآن نشيط سأحفظ القرآن، والسنة، وزاد المستقنع، وألفية ابن مالك كلها في أيام قليلة، فهذا لا يمكن، فأعط نفسك حقها، وقد قال النبي - صلّى الله عليه وسلّم -: ((أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل)) [36]، وكثير من الناس يكون عنده رغبة إما في العبادة، أو طلب العلم أو غير ذلك، ثم بعد هذا يكسل، فالذي ينبغي للإنسان، أن ينظر للمستقبل؛ كما ينظر للحاضر.
وفي حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - دليل على أن صوم يوم الجمعة أو السبت، إذا صَادَفَ يومًا غير مقصود به التخصيص فلا بأس به؛ لأنه إذا صام يومًا، وأفطر يومًا فسوف يصادف الجمعة والسبت، وبذلك يتبيَّن أن صومهما ليس بحرام، وإلاَّ لقال النبي - صلّى الله عليه وسلّم -: صُمْ يومًا، وأفطر يومًا، ما لم تصادف الجمعة والسبت.
وَيُكْرَهُ إِفرَادُ رَجَبٍ، والجُمُعَةِ، وَالسَّبْتِ، والشَّكِ............
قوله: "ويكره إفراد رجب"؛ يعني بالصوم.(/14)
علَّلُوا هذا بأنه من شعائر الجاهلية، وأن أهل الجاهلية هم الذين يُعَظِّمُون هذا الشهر، أما السنة فلم يرد في تعظيمه شيء، ولهذا قالوا: إن كل ما يروى في فضل صومه، أو الصلاة فيه من الأحاديث، فكَذِب باتفاق أهل العلم بالحديث، وقد ألَّف ابن حجر - رحمه الله - رسالة صغيرة في هذا، وهي "تبيين العجب فيما ورد في فضل رَجَب".
ويؤخذ من قوله: "إفراد رجب" أنه لو صامه مع غيره، فلا يُكْرَه؛ لأنه إذا صام معه غيره لم يكن الصيام من أجل تخصيص رجب، فلو صام شعبان ورجبًا فلا بأس، ولو صام جمادى الآخرة ورجبًا فلا بأس.
قوله: "والجمعة" أي يكره إفراد الجمعة، والدليل أن النبي - صلّى الله عليه وسلّم - قال: ((لا تصوموا يوم الجمعة إلا أن تصوموا يومًا قبله، أو يومًا بعده))[37]، وقال: ((لا تخصوا يوم الجمعة بصيام، ولا ليلتها بقيام))[38]، وقال لإحدى أمهات المؤمنين، وقد وجدها صائمة يوم الجمعة: ((أَصُمْت أمس؟)) قالت: "لا"، قال: ((أتصومين غدًا؟)) قالت: "لا"، قال: ((فأفطري))[39]، فإن صامها مع غيرها فلا يكره، فلو صام الخميس والجمعة فلا بأس، أو الجمعة والسبت فلا بأس.
وإن صامها وحدها لا للتخصيص، لكن لأنه وقت فراغه؛ كرجل عامل يعمل كل أيام الأسبوع، وليس له فراغ إلا يوم الجمعة، فهل يُكْرَه؟
الجواب: عندي فيه تردد، فإن نظرنا إلى ما رواه مسلم: ((لا تَخُصُّوا يوم الجمعة بصيام)) قلنا: لا بأس؛ لأنَّ هذا لم يخصه، وإن نظرنا إلى حديث ((أصمت أمس؟)) قالت: "لا"، قال: ((أتصومين غدًا؟)) قالت: "لا"، قال: ((فأفطري))، فإن هذا قد يُؤْخذ منه أنه يكره إفرادها، وإن كان في الأيام الأخرى لا يستطيع، وقد لا يؤخذ منه، فيقال: إن قول الرسول - صلّى الله عليه وسلّم -: ((أَصُمْتِ أمس؟ أو أتصومين غدًا؟))، يدل على أنها قادرة على الصوم.(/15)
فالحاصل أنه إذا أفرد يوم الجمعة بصوم لا لقصد الجمعة، ولكن لأنه اليوم الذي يحصل فيه الفراغ، فالظاهر - إن شاء الله - أنه لا يكره، وأنه لا بأس بذلك.
قوله: "والسبت"؛ أي: يُكْره إفراده؛ لحديث: ((لا تصوموا يوم السبت، إلا فيما افترض عليكم))[40]، فيُحْمَل - إن صح - على النهي عن إفراده، وأمَّا جمعه، مع الجمعة، فلا بأس؛ لقول النبي - صلّى الله عليه وسلّم - لجويرية: ((أتصومين غدًا؟))، فَدَلّ هذا على أن صومه مع الجمعة لا بأس به، وهذه المسألة قد يلغز بها فيقال: يومان إن أفرد أحدهما بالصوم كره، وإن اجتمعا فلا كراهة؟ مع أن الذي يتبادر أن المكروه إذا ضم إلى مكروه ازدادت الكراهة، لكن هذا إذا ضم المكروه إلى مكروه زالت الكراهة، فيجاب أن الكراهة هي الإفراد، فإذا صام الجميع فلا كراهة، فإن قيل حديث النهي عن صوم السبت عام ليس فيه تفصيل، فالجواب أنه إذا ورد ما يخصص العام وجب العمل به، وقد ورد ما يدل على جواز صومه مع الجمعة، وهذا تخصيص.
قوله: "والشك"؛ أي: يُكْرَه صوم يَوْم الشك، ويوم الشك هو ليلة الثلاثين من شعبان، إذا كان في السماء ما يمنع رؤية الهلال؛ كغيم؛ وقتر.
وقيل: هو يوم الثلاثين من شعبان، إذا كانت السماء صَحْوًا.
والأول أرجح؛ لأنَّه إذا كانت السماء صحوًا، وتراءى الناس الهلال، ولم يروه، لم يبق عندهم شك أنه لم يَهِلّ، والشك يكون إذا كان هناك ما يمنع رؤية الهلال، ولكن لما كان فقهاؤنا - رحمهم الله - يرون أنه إذا كان ليلة الثلاثين، وحال ما يمنع رؤيته من غيم أو قتر يجب صومه، حملوا الشك على ما إذا كانت السماء صحوًا، وهذه آفة يلجأ إليها بعض العلماء، وسبب هذه الآفة أن الإنسان يعتقد قبل أن يستدل، وهذا خطأ، والواجب أن تجعل اعتقادك تابعًا للدليل، فتستدل أولاً، ثُمَّ تَحْكُمُ ثانيًا.(/16)
فالأرجح: أن يوم الشك هو يوم الثلاثين من شعبان، إذا كان في السماء ما يمنع رؤية الهلال، وأما إذا كانت السماء صحوًا فلا شكَّ.
وهل صومه مكروه؛ كما قال المؤلف أو محرم؟
الجواب: في هذا خلاف بين العلماء:
القول الأول: أنه مُحَرَّم.
القول الثاني: أنه مكروه.
والصحيح أن صومه مُحَرَّم إذا قصد به الاحتياط لرمضان، ودليل ذلك:
1 - قول عمار بن ياسر - رضي الله عنهما -: ((من صام اليوم الذي يشك فيه، فقد عصى أبا القاسم - صلّى الله عليه وسلّم -))[41].
2 - قوله - صلّى الله عليه وسلّم -: ((لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين إلا رجل كان يصوم صومًا فليصمه))[42].
3 - ولأنه نوع من التعدي لحدود الله، فإن الله يقول في كتابه: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]، ورسوله - صلّى الله عليه وسلّم - يقول: ((إذا رأيتموه فصوموا، فإن غَمَّ عليكم فأكملوا العِدَّة ثلاثين))[43].
وَيَحْرُمُ صَوْمُ العِيدَيْنِ وَلَوْ فِي فَرْضٍ، وَصِيَامُ أيَّامِ التَّشْرِيقِ، إلاَّ عَنْ دَمِ مُتْعَةٍ وَقِرَانٍ.
قوله: "ويحرم صوم العيدين" هما يوم عيد الفطر، ويوم عيد الأضحى، والدليل على ذلك:
1 - أن النبي - صلّى الله عليه وسلّم -: "نهى عن صوم يومي العيدين، عيد الفطر، وعيد الأضحى" [44]، وخطب عمر - رضي الله عنه - في ذلك على المنبر، وقال: "هذان يومان نهى رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - عن صومهما يوم النحر، ويوم الفطر" [45]، والحكمة في ذلك، أما يوم الفطر: فلأنه يوم الفطر من رمضان ولا يتميز تحديد رمضان إلا بفطر يوم العيد، وأما الأضحى فلأنه يوم النحر، ولو صام الناس فيه لعدلوا فيه عما يحبه الله - عزّ وجل - مما أمر به في قوله: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28] وكيف يأكل منها من كان صائمًا؟!
2 - أن العلماء - رَحِمَهم الله - أجمعوا على أن صومهما محرم، فلا يجوز لإنسان أن يصوم يوم العيدين.(/17)
ولكن لو أن العيد كان عندنا هنا، وكان في شرق آسيا مثلًا ليس يوم العيد، فهل يحرم عليهم الصوم؟
الجواب: نقول على مذهب من يَرَى أنه إذا ثبتت الرؤية في مكان من الأرض بطريق شرعي، فهي للجميع يكون صوم الذين في شرق آسيا حرامًا؛ لأن هذا اليوم يوم عيد لهم، وإذا قلنا إن كل قوم لهم رؤيتهم وهم لم يروه ونحن رأيناه، فإنه لا يحرم عليهم، ويحرم علينا نحن.
قوله: "ولو في فرض"؛ أي: ولو كان في فرض، فإنه يحرم أن يصوم يومي العيدين، فلو كان على الإنسان قضاء من رمضان، وقال: أحب أن أبدأ بالقضاء من أول يوم من شوال، قلنا: هذا حَرَام، ولو أنه نذر أن يصوم يوم الاثنين فصادف يوم العيد، فإنه حرام عليه.
قوله: "وصيام أيام التشريق إلا عن دم متعة وقران"؛ أي: يحرم؛ لأن النبي - صلّى الله عليه وسلّم - قال فيها: ((أيام التشريق أيام أكل؛ وشرب؛ وذكر لله - عزّ وجل -)) [46]، وهذا يدل على أن هذه الأيام لا تصلح أن تكون أيام إمساك، إنما هي أيام أكل وشرب وذكر لله، وأيام التشريق ثلاثة بعد يوم النحر هي الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر، وهذه الأيام تسمى أيام التشريق؛ لأن الناس كانوا يشرقون فيها اللحم، أي: يقددونه، ثم ينشرونه في الشمس من أجل أن ييبس حتى لا يتعفَّن، ويَفْسد.
وقوله: ((إلا عن دم متعة وقران"؛ أي: فيجوز صيامها فإذا حج الإنسان وكان متمتعًا، والمتمتع هو الذي يأتي بالعمرة أولاً في أشهر الحج، ثم يحل، ويأتي بالحج في عامِه بعد ذلك، فعليه الهَدْي، فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رَجَع، والقارن؛ كالمتمتع، وهو الذي يحرم بالعمرة والحج جميعًا، فيقول: لبيك عمرة وحجًا، أو يحرم بالعمرة أولاً، ثم يدخل الحج عليها قبل الشروع في طوافها، فعليه الهدي، فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجع من الحج.(/18)
ودم المتعة والقران إذا لم يجدهما الحاج، فإنه يصوم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رَجَع، وتبتدئ هذه الأيام الثلاثة في حين الإحرام بالعمرة، ولو كان قبل شهر ذي الحجة، فإذا كان مُتَمَتِّعًا، وأحرم بالعمرة في آخر ذي القعدة، وهو يعلم أنه لن يجد الهدي، لأنه ليس معه دراهم، فله أن يصوم.
فإن قيل: كيف يصوم في العمرة والآية الكريمة يقول الله فيها: {ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 196]؟
فالجواب، قول النبي - صلّى الله عليه وسلّم -: ((دخلت العمرة في الحج))[47].
وينتهي صوم الثلاثة بآخر يوم من أيام التشريق، وعلى هذا فإذا لم يصم قبل ذلك، فإنه يصوم الأيام الثلاثة الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر.
ودليل ذلك حديث عائشة، وابن عمر - رضي الله عنهم - أنهما قالا: "لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدي)) [48]،وقول الصحابي لم يرخص، أو رخص لنا، أو ما أشبه ذلك يعتبر مرفوعًا حكمًا.
مسألة: اختلف الفقهاء في حكم صوم أعياد الكفار.
فقيل: بالكراهة؛ لأن ذلك يعطي الكفار قوة؛ حيث يقولون: هؤلاء المسلمون يعظمون أعيادنا!
وقيل: بعدم الكراهة؛ لأن الصوم ضد الفطر، وفي الفطر فرح وسرور، فكأنه يقول للكفار: أنتم تبتهجون بهذا اليوم، ونحن نقابلكم بالصوم والإمساك.
والأولى أن يقال بالكراهة، وألا نهتم بأعياد الكفار، إلا على سبيل التحذير منها.
قوله: "ومن دخل في فرض موسع حرم قطعه".
الواجبات ثلاثة أقسام: مُوَسَّعَة، ومُضَيَّقَة من أصل المشروعية، ومضيقة تضييقًا طارئًا، مثال التضييق الطارئ" لو لم يبق على طُلُوع الشمس إلا مقدار ما يصلي صلاة الفجر، فيكون الوقت مضيقًا فإذا شرع في صلاة الفجر، فلا يجوز قطعها.
كذلك قضاء رمضان موسع فإذا لم يبق بينه وبين رمضان إلا مقدار الأيام التي عليه صار مضيقًا.
وَمَنْ دَخَلَ فِي فَرْضٍ مُوَسَّعٍ حَرُمَ قَطْعُهُ. وَلاَ يَلْزَمُ فِي النَّفلِ، وَلاَ قَضَاءُ فَاسِدِهِ.......(/19)
وقوله: "ومن دخل في فرض موسع حرم قطعه"؛ أي: من شرع في فرض موسع، فإنه يحرم عليه قطعه، ويلزمه إتمامه إلا لِعُذْر شرعي.
مثال ذلك: لما أُذِّنَ لصلاة الظهر قام يصلي الظهر، ثم أراد أن يقطع الصلاة، ويصلي فيما بعد؛ فإنه لا يحل له ذلك، مع أن الوقت موسع إلى العصر؛ لأنه واجب شرع فيه، وشروعه فيه يشبه النذر، فيلزمه أن يتم.
ومن دخل في فرض مضيق حرم قطعه من باب أولى، فلو دخل في الصلاة، ولم يبق في الوقت إلا مقدار ركعات الصلاة، حرم عليه القطع من باب أولى؛ لأنه إذا حرم القطع في الموسع ففي المضيق من باب أولى.
لكن يستثنى ما إذا كان لضرورة، مثل أن يشرع الإنسان في الصلاة، ثم يضطر إلى قطعها لإطفاء حريق، أو إنقاذ غريق، أو ما أشبه ذلك ففي هذه الحال له أن يقطع الصلاة.
وهل يجوز أن يقطع الفرض ليأتي بما هو أكمل، مثل: أن يشرع في الفريضة منفردًا، ثم يحس بجماعة دخلوا؛ ليصلوا جماعة فيقطعها من أجل أن يدخل في الجماعة؟
الجواب: نعم، له ذلك؛ لأن هذا الرجل لم يعمد إلى معصية الله ورسوله - صلّى الله عليه وسلّم - بقطع الفريضة، ولكنه قطعها؛ ليأتي بها على وجه أكمل، فهو لمصلحة الصلاة في الواقع، فلهذا قال العلماء في مثل هذه الحال له أن يقطعها لما هو أفضل.(/20)
وربما يستدل لذلك بقصة الرجل الذي أتى النبي - صلّى الله عليه وسلّم - في مكة وقال: "يا رسول الله، إني نذرت إن فتح الله عليك مكة أن أصلي ركعتين في بيت المقدس، قال: ((صلِّ هاهنا))، فأعاد عليه مَرَّتَيْنِ أو ثلاثًا، فقال: شأنك"[49]، فأذن له بالصلاة في مكة؛ لأنها أفضل، وإن كان ذهابه لبيت المقدس فيه نوع من المشقة والتعب، ولكن تَقَصُّد التعبِ في العبادة ليس بمشروع لقوله تعالى: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} [النساء: 147]، لكن إذا كانت العبادة لا تأتي إلا بالتعب كانت أفضل، وهذه مسألة ينبغي للإنسان أن ينتبه لها، وهي هل تقصد التعب في العبادة أفضل أم الراحة؟
الجواب الراحة أفضل، لكن لو كانت العبادة لا تأتي إلا بالتعب والمشقة، كان القيام بها مع التعب والمشقة أعظم أجرًا؛ ولهذا قال النبي - صلّى الله عليه وسلّم - فيما يرفع الله به الدرجات ويكفر به الخطايا: ((إسباغ الوضوء على المكاره))[50]، ولكن لا نقول للإنسان إذا كان يمكنك أن تسخن الماء، فالأفضل أن تذهب إلى الماء البارد ولا تسخنه لا نقول هذا، ما دام الله يَسَّرَ عليك، فيَسِّرْ على نفسك.
قوله: "ولا يلزم في النفل" أي: لا يلزم الإتمام في النفل؛ ودليل ذلك: أن النبي - صلّى الله عليه وسلّم - دخل على أهله ذات يوم فقال: ((هل عندكم شيء؟)) قالوا: "نعم، عندنا حيس"، قال: ((أرينيه - يقوله لعائشة - فلقد أصبحت صائمًا))، فأرته إياه فأكل"[51]، وقال: ((إنما مثل الصوم، أو قال صوم النفل؛ كمثل الصدقة يخرجها الرجل من ماله، فإن شاء أمضاها، وإن شاء ردها))[52]، وهذا الصوم نفل، فقطعه النبي - صلّى الله عليه وسلّم - وأكل، فدَلّ هذا على أن النفل أمره واسع للإنسان أن يقطعه، ولكن العلماء يقولون: "لا ينبغي أن يقطعه إلا لغرض صحيح".(/21)
ومنه إذا دعيت إلى وليمة وأنت صائم، فإنك تدعو ولا تأكل لكن إن جبرت قلب صاحبك فإنك تأكل، ومعنى ذلك أنك ألغيت الصوم؛ لكن خروجك من الصوم هنا لغرض صحيح، وهو جبر قلب أخيك المسلم.
ولو أن رجُلاً واعد جماعة في مسجد، ثم حضر إلى المسجد فإذا هم لم يحضروا فقام يُصَلِّي نفلاً، فحضروا فله أن يقطع النفل، ومثله رجل عيَّن دراهم معينة لفلان الفقير، يريد أن يتصدق بها عليه، فيجوز أن يعدل عن ذلك ما دام أنه لم يقبضها الفقير فهي ملكه، إن شاء أمضاها، وإن شاء لم يمضها.
وبهذا نعرف خطأ ما يفعله بعض العامة، يكون قد اعتاد أن يؤدي فطرته لشخص معين، فيحجزها له حتى إنه في بعض الأحيان يفوت وقت الدفع وهو حاجزها له، فنقول: حتى لو نويتها لفلان فإذا جاء وقت الدفع فعليك أن تدفعها إلى غيره.
واستدلوا لقولهم بالآتي:
1 - بعموم قوله تعالى: {وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33].
2 - أن النبي - صلّى الله عليه وسلّم - قال لعبد الله بن عمرو - رَضِيَ الله عنهما -: ((لا تكن مثل فلان كان يقوم من الليل فترك قيام الليل))[53]، فإذا كان النبي - صلّى الله عليه وسلّم - انتقده لترك قيام الليل، فكيف بمن تلبس بالنافلة، فإنّ انتقاده إذا تركها من باب أولى؟ ولهذا نقول للإنسان إذا شرع في النافلة: لا تقطعها إلا لغرض صحيح.
وهل من الغرض الصحيح إذا دخل في صلاة النافلة، فنادته أمه أن يرد عليها، فيقطع الصلاة؟
الجواب: فيه تفصيل: إذا كانت الأم إذا علمت أنه في صلاة فلا ترضى أن يقطعها، بل تحب أن يمضي في صلاته، فهنا لا يقطعها؛ لأنه لو قطع الصلاة، وقال لأمه: أنا قطعت الصلاة من أجلك، قالت: لِمَ قطعتها؟
أما إذا كانت ممن لا يعذر في مثل هذه الحال؛ لأن بعض النساء، لا يعذرن في مثل هذه الحال، ففي هذه الحال نقول: اقطعها.(/22)
أما لو ناداه الرسول - صلّى الله عليه وسلّم - وهذه المسألة لا تَرِد الآن، لكن فرضها نظريًّا وعلميًّا، فيجب عليه أن يقطع الصلاة؛ لقول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24].
ولكن لو قال قائل: إن الآية فيها: {إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}، فلا بد أن نعلم أنه دعانا لشيء ينفعنا؟
فالجواب: أن هذا القيد ليس قيد احتراز، ولكنه قيد لبيان الواقع، فإن رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - لا يدعونا إلا لما فيه حياتنا، ومثل هذا القيد - أعني القيد الذي لبيان الواقع – يكون؛ كالتعليل للحكم؛ فكأنه قال هنا؛ لأنه لا يدعوكم إلا لما يحييكم.
قوله: "ولا قضاء فاسده"؛ أي: لو فَسَدَ النَّفْل فإنه لا يلزمه القضاء، مثال ذلك: رجل صام تَطَوُّعًا ثم أفسد الصوم بأكل، أو بشرب، أو جماع، أو غير ذلك، فإنه لا يلزمه القضاء؛ لأنه لو وجب القضاء لوجب الإتمام، فإذا كان لا يجب الإتمام؛ فإنه لا يجب القضاء من باب أولى.
وإن شرع في صوم منذور، فهل يجوز قطعه؟
الجواب: لا؛ لأنه واجب، فإن قطعه لزمه القضاء.
إِلاَّ الحَجَّ وَتُرْجَى لَيْلَةُ القَدْرِ فِي العَشْرِ الأواخِرِ مِنْ رَمَضان وأوتاره آكد. وَلَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ أبلَغُ ويَدْعُوا فِيها بِمَا وَرَدْ.
قوله: "إلا الحج"؛ أي: إلا الحج فإنه يلزمه إتمامه، ولو كان نَفْلاً، ويجب قضاء فاسده، ولو كان نفلاً لقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالَعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]، وهذه الآية نزلت قبل فرض الحج؛ لأنها نزلت في السنة السادسة في الحديبية، والحج إنما فرض في السنة التاسعة أو العاشرة، ومع هذا أمر الله بإتمامهما مع أنهما نفل لم يُفْرَضَا بعد، ودلَّتِ السنة على وجوب قضائه.(/23)
والحِكْمَة من ذلك أن الحج والعمرة لا يحصلان إلا بمَشَقَّة، ولاسيَّما فيما سَبَقَ من الزَّمَنِ، ولا ينبغي للإنسان بعد هذه المشقة أن يفسدهما؛ لأن في ذلك خسارة كبيرة، بخلاف الصلاة، أو الصوم، أو ما أشبه ذلك.
وقوله: "إلا الحج" لم يذكر المؤلف العُمْرَة، فهل هذا من باب الاكْتِفَاء، أو هناك قول آخر بأنّ العُمْرَة لا يلزم إتمامها.
الجواب: الظاهر أنه من باب الاكتفاء، والعمرة تسمى حَجًّا أَصْغَر؛ كما في حديث عمرو بن حزم المشهور المرسل الذي تلقته الأمة بالقبول وفيه: ((العمرة الحج الأصغر))[54]، وعليه فالعمرة مثل الحج إذا شرع في نفلها لزمه الإتمام، وإن أفسده لزمه القضاء.
مسألة إذا فسد الحج وهو نفل، فهل يلزمه أن يقضيه؟
الجواب: نعم؛ لأن قوله: "إلا الحج" مُسْتَثْنًى من قوله: "ولا يلزم في النفل، ولا قضاء فاسده إلا الحج" وعلى هذا فلو أن الرجل أحرم بالعمرة، وفي أثناء العمرة جامع زوجته، فإنه يلزمه المضي في هذه العمرة، ثم القَضَاء؛ لأنه أفسدها بالجِمَاع، فإن فعل مَحْظورًا فهل تفسد العمرة؟
الجواب: لا؛ لأنه لا يفسد العمرة ولا الحج من المحظورات، إلا الجماع قبل التحلل الأوّل، وهذا والذي قبله مما يخالف فيه الحج والعمرة بقية العبادات.
قوله: "وترجى ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان" البحث في ليلة القدر ليس هذا محله فيما يبدو لنا، ومحله إمَّا الاعْتِكَاف، وإما صلاة التَّطَوُّع.
أما الاعتكاف: فلأن النبي - صلّى الله عليه وسلّم - لم يعتكف إلا رجاء؛ إصابة ليلة القدر.
وأما صلاة التطوع: فلأن ليلة القدر يشرع إحياؤها، ولا مناسبة بين ليلة القدر وبين صوم التطوع فيما نرى، ولكنهم - رحمهم الله - لما أتَمّوا ذكر الصيام، وما يتعلق به، ذكروا ليلة القدر.
وليلة القدر اختلف العلماء في تعيينها على أكثر من أربعين قولاً، ذكرها الحافظ ابن حجر في شرح البُخَارِيّ.
وفي ليلة القدر مباحث:
المبحث الأول: هل هي باقية أو رفعت؟(/24)
الجواب: الصحيح بلا شك أنها باقية، وما ورد في الحديث أنها رفعت، فالمراد رفع علم عينها في تلك السنة؛ لأن النبي - صلّى الله عليه وسلّم - رآها ثم خرج؛ ليخبر بها أصحابه فتلاحى رجلان فرفعت[55]، هكذا جاء الحديث.
المبحث الثاني: هل هي في رمضان، أو غيره؟
الجواب: لا شك أنها في رمضان وذلك لأدلة منها:
أولا: قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185]، فالقرآن أنزل في شهر رمضان، وقد قال الله - تعالى -: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر:1]، فإذا ضممت هذه الآية إلى تلك تعين أن تكون ليلة القدر في رمضان؛ لأنها لو كانت في غير رمضان ما صَحَّ أن يُقَالَ: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ}.
وهذا دليل مُرَكَّب، والدليل المركب لا يتم الاستدلال به إلا بضم كل دليل إلى الآخر، والأدلة المركبة لها أمثلة منها هذا المثال.
ومنها أقل مدة الحمل الذي إذا ولد عاش حيًّا، هي ستة أشهر، علمنا ذلك من قوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15]، وقال في آية أخرى: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان: 14] فإذا أسقطنا العامين من ثلاثين شهرًا، بقي ستة أشهر فتكون مدة الحمل.
المبحث الثالث: في أي ليلة من رمضان تكون ليلة القدر؟.(/25)
الجواب: القرآن لا بَيَان فيه؛ في تعيينها، لكن ثبتت الأحاديث أنها في العشر الأواخر من رمضان، فإن الرسول - صلّى الله عليه وسلّم –: "اعتكف العشر الأولى من رمضان، يريد ليلة القدر، ثم اعتكف العشر الأوسط، ثم قيل: إنها في العشر الأواخر، وأريها - صلّى الله عليه وسلّم -، وأنه يسجد في صبيحتها في ماء وطين، وفي ليلة إحدى وعشرين من رمضان، وكان معتكفًا - صلّى الله عليه وسلّم - فأمطرت السماء فوكف المسجد - أي: سال الماء من سقفه - وكان سقف مسجد النبي - صلّى الله عليه وسلّم - من جريد النخل، فصلى الفجر - صلّى الله عليه وسلّم بأصحابه -، ثم سجد على الأرض، قال أبو سعيد: فسجد في ماء وطين، حتى رأيت أثر الماء والطين على جبهته"[56]، فتبيَّن بهذا أنها كانت في ذلك العام ليلة إحدى وعشرين.
وأُرِيَ جماعة من أصحابه ليلة القدر في السبع الأواخر، فقال - صلّى الله عليه وسلّم -: ((أرى رُؤياكم قد تَوَاطَأَتْ في السّبْعِ الأَوَاخِر))؛ أي اتَّفَقَتْ: ((فمن كان مُتَحَرِّيها فليتحرها في السبع الأواخر))، وعلى هذا فالسبع الأواخر أرجى العشر الأواخر، إن لم يكن المراد بقوله - صلّى الله عليه وسلّم -: ((أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر))[57]؛ أي في تلك السنة، فهذا محتمل؛ لأن النبي - صلّى الله عليه وسلّم - كان يعتكف العشر الأواخر كلها إلى أن مات، فيحتمل أن يكون معنى قوله: ((أرى رؤياكم قد تواطأت))؛ أي: في تلك السنة بعينها، لم تكن ليلة القدر إلا في السبع الأواخر، وليس المعنى في كل رمضان مستقبل تكون في السبع الأواخر، بل تبقى في العشر الأواخر كلها.
المبحث الرابع: هل ليلة القدر في ليلة واحدة كل عام أو تنتقل؟
في هذا خلاف بين العلماء.(/26)
والصحيح أنها تتنقّل فتكون عامًا ليلة إحدى وعشرين، وعامًا ليلة تسع وعشرين، وعامًا ليلة خمس وعشرين، وعامًا ليلة أربع وعشرين، وهكذا؛ لأنه لا يمكن جمع الأحاديث الواردة إلا على هذا القول، لكن أرجى الليالي ليلة سبع وعشرين، ولا تتعين فيها كما يظنه بعض الناس، فيبني على ظنه هذا، أن يجتهد فيها كثيرًا ويفتر فيما سواها من الليالي.
والحكمة من كونها تتنقل أنها لو كانت في ليلة معينة، لكان الكسول لا يقوم إلا تلك الليلة، لكن إذا كانت متنقلة، وصار كل ليلة يحتمل أن تكون هي ليلة القدر صار الإنسان يقوم كل العشر، ومن الحكمة في ذلك أن فيه اختبارًا للنشيط في طلبها من الكسلان.
المبحث الخامس: في سبب تسميتها ليلة القدر.
فقيل: لأنه يقدر فيها ما يكون في تلك السنة، فيكتب فيها ما سيجري في ذلك العام، وهذا من حكمة الله - عزّ وجل - وبيان إتقان صنعه، وخلقه فهناك:
كتابة أولى وهذه قبل خلق السموات والأرض، بخمسين ألف سنة في اللوح المحفوظ، وهذه كتابة لا تتغير، ولا تتبدل؛ لقول الله تعالى: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ } [الرعد:39]؛ أي: أصله الذي هو مرجع كل ما يكتب.
الكتابة الثانية عُمُرية، فيكتب على الجنين عمله، ومآله، ورزقه، وهو في بطن أمه، كما ثبت هذا في الحديث الصحيح حديث ابن مسعود المتفق عليه[58].
الكتابة الثالثة، الكتابة السنوية، وهي التي تكون ليلة القدر، ودليل هذا قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: 4] يفرق، أي: يفصل ويبين كل أمر حكيم، وأمر الله كله حكيم.
وقيل: سميت ليلة القدر، من القدر وهو الشرف، كما تقول: فلان ذو قدر عظيم، أي: ذو شرف؛ لقوله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ } [القدر:1-2].(/27)
وقيل: لأن للقيام فيها قدرًا عظيمًا، لقول النبي - صلّى الله عليه وسلّم -: ((من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا، غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ))[59]، وهذا لا يحصل في قيام ليلة سوى ليلة القدر، فلو أن الإنسان قام ليلة الاثنين والخميس أو غيرهما، في أي شهر لم يحصل له هذا الأجر.
المبحث السادس: ورد أن من قام ليلة القدر غُفِرَ له ما تَقَدَّم من ذنبه وما تأخر، لكن قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة - رَحِمَه الله -: كل حديث ورد فيه ((وما تأخر)) غير صحيح؛ لأن هذا من خصائص النبي - صلّى الله عليه وسلّم - حتى أهل بدرٍ ما قيل لهم ذلك؛ بل قيل: ((اعْمَلُوا ما شئتم فقد غفرت لكم))[60]؛ لأنهم فعلوا هذه الحسنة العظيمة في هذه الغزوة، فصارت هذه الحسنة العظيمة كفارة لما بعدها، وما قاله - رحمه الله - صحيح.
قوله: "وأوتاره آكد"؛ أي: أوتار العشر آكد؛ لقول النبي - صلّى الله عليه وسلّم – ((التمسوها في كل وتر))[61] فما هي أوتاره؟
الجواب: إحدى وعشرون، ثلاث وعشرون، خمس وعشرون، سبع وعشرون، تسع وعشرون، هذه خمس ليال هي أرجاها، وليس معناه أنها لا تكون إلا في الأوتار، بل تكون في الأوتار وغير الأوتار.
تنبيه: هنا مسألة يفعلها كثير من الناس، يظنون أن للعمرة في ليلة القدر مزية، فيعتمرون في تلك الليلة، ونحن نقول: تخصيص تلك الليلة بالعمرة بدعة؛ لأنه تخصيص لعبادة في زمن لم يخصصه الشارع بها، والذي حث عليه النبي - صلّى الله عليه وسلّم - ليلة القدر، هو القيام الذي قال الرسول - صلّى الله عليه وسلّم - فيه: ((من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا، غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ))[62]، ولم يرغب في العُمْرة تلك الليلة، بل رَغَّبَ فيها في الشهر فقال: ((عُمْرة في رمضان تَعْدِل حجًّا))[63]، فتخصيص العمرة بليلة القَدْر، أو تخصيص ليلة القدر بعُمْرَة، هذا مِنَ البِدَع.(/28)
ولما كانت بدعة صار يلحق المعتمرين فيها من المشقة الشيء العظيم، حتى إن بعضهم إذا رأى المشقة في الطواف، أو في السعي انصرف إلى أهله، وكثيرًا ما نُسْأَلُ عن هذا، شخص جاء يعتمر ليلة السابع والعشرين، فلما رأى الزحام تَحَلَّلَ، فانظر كيف يؤدي الجهل بصاحبه إلى هذا العمل المحرم، وهو التحلل من العمرة بغير سبب شَرْعِيّ.
إذًا ينبغي لطلبة العلم، بل يجب عليهم أن يُبَيِّنُوا هذه المسألة للناس.
أما إكمال هذه العمرة فواجِبٌ؛ لأنَّه لما شرع فيها صارت واجِبَة؛ كالنذر أصله مكروه ويجب الوفاء به إذا التزمه، ولا يحل له أن يحل منها، وإنما البدعة هي تخصيص العمرة بتلك الليلة.
قوله: "وليلة سبع وعشرين أبلغ" أي: أبلغ الأوتار وأرجاها أن تكون ليلة القدر، لكنها لا تتعين في ليلة السابع والعشرين.
فإن قال قائل: هل ينال الإنسان أجرها، وإن لم يعلم بها؟
فالجواب: نعم، ولا شك، وأما قول بعض العلماء: إنه لا ينال أجرها إلا من شعر بها، فقول ضعيف جدًّا؛ لأنَّ النبي - صلّى الله عليه وسلّم - قال: ((مَنْ قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا))[64]، ولم يقل عالمًا بها، ولو كان العلم بها شرطًا في حصول هذا الثواب لبينه الرسول - صلّى الله عليه وسلّم -.
المبحث السابع: في علامات ليلة القدر.
ليلة القدر لها علامات مقارنة وعلامات لاحقة.
أما علاماتها المقارنة فهي:
1 - قوة الإضاءة والنور في تلك الليلة، وهذه العلامة في الوقت الحاضر لا يحس بها إلا من كان في البر بعيدًا عن الأنوار.
2 - الطُّمأنينة، أي: طُمَأنينة القلب، وانشراح الصدر من المؤمن، فإنه يجد راحة وطمأنينة، وانشراح صدر في تلك الليلة، أكثر مما يجده في بقيَّة الليالي.
3 - قال بعض أهل العلم: إن الرياح تكون فيها ساكنة، أي: لا يأتي فيها عواصف أو قواصف، بل يكون الجو مناسبًا[65].
4 - أن الله يُري الإنسانَ الليلةَ في المنام، كما حصل ذلك لبعض الصحابة.(/29)
5 - أن الإنسان يجد في القيام لَذَّة ونَشاطًا، أكثر مما في غيرها من الليالي.
أمَّا العلامات اللاحقة:
فمنها: أن الشمس تطلع في صبيحتها ليس لها شعاع صافية، ليست كعادتها في بقية الأيام[66].
وأما ما يذكر أنه يَقِلّ فيها نباح الكلاب، أو يعدم بالكلية، فهذا لا يستقيم، ففي بعض الأحيان ينتبه الإنسان لجميع الليالي العشر، فيجد أن الكلاب تنبح ولا تَسْكُتْ، فإن قال قائل ما الفائدة من العلامات اللاحقة؟ فالجواب: استبشار المجتهد في تلك الليلة، وقوة إيمانه وتصديقه، وأنه يعظم رجاؤه فيما فعل في تلك الليلة.(/30)
قوله: "ويدعو فيها بما ورد"؛ أي: يستحب أن يدعو فيها بما ورد عن النبي - صلّى الله عليه وسلّم - ومنه: ((اللهم إنك عَفُوّ تحبُّ العفو فَاعْفُ عَنِّي))، لحديث عائشة أنها قالت: "أرأيت يا رسول الله إن وافقت ليلة القدر، فما أقول فيها؟ قال: ((قولي اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني)) [67]، فهذا من الدعاء المأثور، وكذلك الأدعية الكثيرة الواردة عن النبي - صلّى الله عليه وسلّم -، ولا يمنع من الزيادة على ما ورد فالله - عَزَّ وَجَلَّ - قال: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[68] وأطلق، والنبي - صلّى الله عليه وسلّم - قال: ((ليسأل أحدكم ربه حاجته حتى شِرَاك نعله))[69]، والناس لهم طلبات مختلفة متنوعة، فهذا مثلاً يريد عافية من سَقَم، وهذا يريد غِنًى من فَقْر، وهذا يريد النكاح من إعدام، وهذا يريد الولد، وهذا يريد عِلْمًا، وهذا يريد مالاً، فالناس يَخْتَلِفون.
وليعلم أن الأدعية الواردة خير وأكمل وأفضل من الأدعية المَسْجُوعة، التي يسجعها بعض الناس، وتجده يطيل، ويذكر سطرًا أو سطرين في دعاء بشيء واحد؛ ليستقيم السجع، لكن الدعاء الذي جاء في القرآن أو في السنة، خير بكثير مما صُنِع مَسْجوعًا؛ كما يوجد في بعض المنشورات.
ـــــــــــــــــــــــــ(/31)
[1] أخرجه الإمام أحمد (2/425)، وأبو داود في الصلاة؛ باب قول النبي - صلّى الله عليه وسلّم -: ((كل صلاة لا يتمها صاحبها تتم من تطوعه)) (864)، والترمذي في الصلاة؛ باب "ما جاء أن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة" (413)، والنسائي في الصلاة؛ باب المحاسبة على الصلاة (1/232)، وابن ماجه في الصلاة؛ باب ما جاء في أول ما يحاسب به العبد الصلاة (1425)، والحاكم (1/262) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، وحسنه الترمذي، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
[2] أخرجه البخاري في الصوم؛ باب فضل الصوم (1894)، ومسلم في الصيام؛ باب حفظ اللسان للصائم (1151) (164) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.
[3] أخرجه البخاري في الرقاق؛ باب التواضع (6502) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.
[4] أخرجه أحمد (5/152)، والترمذي في الصوم؛ باب ما جاء في صوم ثلاثة أيام من كل شهر (761)، والنسائي في الصيام؛ باب ذكر الاختلاف على موسى بن طلحة... (4/222)، وابن حبان (3655) عن أبي ذر - رضي الله عنه - وحسنه الترمذي، وصححه ابن حِبَّان.
[5] أخرجه البخاري في الصوم؛ باب صوم داود - عليه السلام - (1979)، ومسلم في الصيام؛ باب النهي عن صوم الدهر لمن تضرر به (1159) عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما -.
[6] أخرجه مسلم في الصيام؛ باب استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر (1160).
[7] أما حديث أبي هريرة فقد أخرجه البخاري في التهجد؛ باب صلاة الضحى في الحضر (1178)، ومسلم في الصلاة؛ باب استحباب صلاة الضحى (721)، وحديث أبي ذر أخرجه الإمام أحمد (5/173)، والنسائي في الصيام؛ باب صوم ثلاثة أيام من الشهر (4/217)، وصححه ابن خزيمة (2128)، وحديث أبي الدرداء فقد أخرجه مسلم في الصلاة؛ باب استحباب صلاة الضحى (722).(/32)
[8] أخرجه أحمد (5/200، 204، 208)، وأبو داود في الصيام؛ باب في صوم يوم الاثنين (2436)، والترمذي في الصوم؛ باب ما جاء في صوم يوم الاثنين والخميس (747)، والنسائي في الصيام؛ باب صوم النبي – صلى الله عليه وسلم - (4/201) عن أسامة بن زيد - رضي الله عنهما -، وحسنه الترمذي، والمنذري في "مختصر السنن" (3/320)، وصححه في "الإرواء" (4/103).
[9] أخرجه مسلم في الصيام؛ باب استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر (1162) (198) عن أبي قتادة - رضي الله عنه-.
[10] أخرجه البخاري في الصوم؛ باب صوم يوم الجمعة (1985)، ومسلم في الصيام؛ باب كراهة إفراد يوم الجمعة بصوم لا يوافق عادته (1144) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.
[11] أخرجه البخاري في الصوم؛ باب صوم يوم الجمعة (1986) عن جويرية بنت الحارث - رضي الله عنها -.
[12] أخرجه مسلم في الصيام؛ باب كراهة إفراد يوم الجمعة بصوم لا يوافق عادته (1144) (148) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.
[13] أخرجه أحمد (6/368)، وأبو داود في الصيام؛ باب النهي أن يخص يوم السبت بصوم (2421)، والترمذي في الصوم؛ باب ما جاء في صوم يوم السبت (744)، والنسائي في "الكبرى" (2773)، وابن ماجه في الصيام؛ باب ما جاء في صيام يوم السبت (1726) عن الصماء - رضي الله عنها -.
[14] انظر: "سنن أبي داود"، و"شرح معاني الآثار" (2/80)، و"التلخيص الحبير" (938)، و"الإرواء" (4/118).
[15] سبق تخريجه ص (444).
[16] أخرجه مسلم في الصيام؛ باب صوم المحرم (1163)، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.
[17] أخرجه مسلم في الصيام؛ باب استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر (1162) عن أبي قتادة - رضي الله عنه -
[18] أخرجه مسلم من الصيام؛ باب أي يوم يصام في عاشوراء (1134) عن ابن عباس - رضي الله عنهما -.
[19] أخرجه أحمد في "المسند" (1/241)، وابن خزيمة (2095)، والبزار (1052) عن ابن عباس - رضي الله عنهما -.(/33)
قال الهيثمي في "المجمع" (3/188) "فيه محمد بن أبي ليلى وفيه كلام"، وضعفه الألباني في "التعليق على ابن خزيمة".
وأخرجه عبد الرزاق (7839)، والبيهقي (4/287) موقوفًا على ابن عباس بلفظ: "صوموا اليوم التاسع والعاشر، وخالفوا اليهود" وسنده صحيح؛ كما قال الألباني في "التعليق على ابن خزيمة".
[20] أخرجه البخاري في الصوم؛ باب صوم يوم عاشوراء (2004)، ومسلم في الصيام؛ باب صوم يوم عاشوراء (1130) (128).
[21] أخرجه البخاري في العيدين؛ باب فضل العمل في أيام التشريق (969) عن ابن عباس - رضي الله عنهما -.
[22] أخرجه مسلم في الصيام؛ باب صوم عشر ذي الحجة (1176) عن عائشة - رضي الله عنها -.
[23] أخرجه أبو داود في الصيام؛ باب في صوم العشر (2437)، والنسائي في الصيام؛ باب "كيف يصوم ثلاثة أيام من كل شهر (4/220)، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود" (2129).
[24] سبق تخريجه ص (469).
[25] سبق تخريجه من حديث قتادة ص (468).
[26] أخرجه أحمد (2/304، 446)، وأبو داود في الصيام؛ باب في صوم يوم عرفة (2440)، والنسائي في "الكبرى" (2843)، وابن ماجه في الصيام؛ باب صوم يوم عرفة (1732)، وابن خزيمة (2101) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، وفي إسناده مَهْدِي بن حرب الهجري، وهو ضعيف، انظر: "التلخيص" (929).
[27] أخرجه البخاري من الصوم؛ باب صوم يوم عرفة (1988)، ومسلم في الصيام؛ باب استحباب الفطر للحاج بعرفات يوم عرفة (1123) عن أم الفضل بنت الحارث - رضي الله عنها -.
[28] أخرجه مسلم في الصلاة؛ باب فضل الأذان، وهرب الشيطان عند سماعه (387) عن مُعاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنهما -.
[29] أخرجه الإمام أحمد (3/64)، وأبو داود في الصلاة؛ باب في الجمع في المسجد (574)، والترمذي في الصلاة؛ باب ما جاء في الجماعة في مسجد قد صلي فيه مرّة (2220) عن أبي سعيد الخُدْرِيّ - رضي الله عنه -، وحسنه الترمذي، وصححه الألباني في "الإرواء" (2/316).(/34)
[30] سبق تخريجه من حديث أبي قتادة - رضي الله عنه – ص (468).
[31] أخرجه البخاري في الجمعة؛ باب إذا كُلم وهو يصلي... (1233)، ومسلم في الصلاة؛ باب معرفة الركعتين اللتين كان يصليهما النبي - صلّى الله عليه وسلّم - بعد العصر (834).
[32] سبق تخريجه ص (459).
[33] أخرجه البُخَارِيّ في الصوم، باب التنكيل لمن أكثر الوصال (1966) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.
[34] أخرجه البخاري في الإيمان؛ باب الدين يسر (39) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.
[35] أخرجه البزار (74) "كشف الأستار" قال الهيثمي في "المجمع" (2/62): "فيه يحيى بن المتوكل أبو عقيل وهو كذاب"، وأخرجه البيهقي من طريق أخرى (3/19) عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما -، وإسناده ضعيف؛ كما في الضعيفة (1/64)، وأخرجه ابن المبارك في الزُّهْد (334) عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما – موقوفاً.
[36] أخرجه البخاري في الرقاق؛ باب القصد والمداومة على العمل (6464)، ومسلم في الصلاة؛ باب فضيلة العمل الدائم من قيام الليل وغيره (782) عن عائشة - رضي الله عنها -.
[37] سبق تخريجه ص(462).
[38] سبق تخريجه ص(463).
[39] سبق تخريجه ص(462).
[40] سبق تخريجه ص(463).
[41] سبق تخريجه ص(305).
[42] سبق تخريجه ص (305).
[43] سبق تخريجه ص (303).
[44] أخرجه البخاري في الصوم؛ باب صوم يوم النحر (1993)، ومسلم في الصيام؛ باب تحريم صوم يومي العيدين (1138) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.
[45] أخرجه البخاري في الصوم؛ باب صوم يوم الفطر (1990)، ومسلم في الصيام؛ باب تحريم صوم يومي العيدين (1137).
[46] أخرجه مسلم في الصيام؛ باب تحريم صوم أيام التشريق (1141) عن نبيشة الهذلي - رضي الله عنه -.
[47] أخرجه مسلم في الحج؛ باب حجة النبي – صلى الله عليه وسلم - (1218) عن جابر - رضي الله عنه -.
[48] أخرجه البخاري في الصوم؛ باب صيام أيام التشريق (1997)، (1998).(/35)
[49] أخرجه الإمام أحمد (3/263)، وأبو داود في الأيمان والنذور؛ باب من نذر أن يصلي في بيت المقدس (3305)، والحاكم (4/304) عن جابر - رضي الله عنه -، وصححه الحاكم، وابن دقيق العيد، انظر: "التلخيص" (2067).
[50] وتمامه: ((وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط))؛ أخرجه مسلم في الطهارة؛ باب فضل إسباغ الوضوء على المكاره (251) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.
[51] أخرجه مسلم في الصيام؛ باب جواز صوم النافلة بنية من النهار قبل الزوال... (1154) (170) عن عائشة - رضي الله عنها -.
[52] أخرجه النسائي عن عائشة - رضي الله عنها - في الصيام؛ باب النية في الصيام (4/194)، وصححه الألباني في "الإرواء" (4/135).
[53] أخرجه البخاري في التهجد؛ باب ما يكره من ترك قيام الليل (1152)، ومسلم في الصيام؛ باب النهي عن صوم الدهر لمن تضرر به (1159) (185).
[54] أخرجه الدَّارقُطْني (2/285)، وابن حبان (6559)، والبيهقي (4/89).
[55] أخرجه البخاري في فضل ليلة القدر؛ باب "رفع معرفة ليلة القدر لتلاحي الناس" (2023) عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه -.
[56] أخرجه البخاري في الأذان؛ باب هل يصلي الإمام بمن حضر (669)، ومسلم في الصيام؛ باب فضل ليلة القدر، والحث على طلبها (1167) عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -.
[57] أخرجه البخاري في فضل ليلة القدر؛ باب التماس ليلة القدر في السبع الأواخر (2015)، ومسلم في الصيام؛ باب فضل ليلة القدر، والحث على طلبها (1165) عن ابن عمر - رضي الله عنهما -.
[58] أخرجه البخاري في بدء الخلق؛ باب ذكر الملائكة - صلوات الله عليهم - (3208)، ومسلم في القدر؛ باب كيفية خلق الآدمي... (2643).
[59] أخرجه البخاري في الإيمان؛ باب قيام ليلة القدر من الإيمان (35)، ومسلم في الصلاة؛ باب الترغيب في قيام رمضان، وهو التراويح (760) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.(/36)
[60] أخرجه البخاري في الجهاد والسير؛ باب إذا اضطر الرجل إلى النظر إلى شعور أهل الذمة، والمؤمنات إذا عصين الله وتجريدهن (3081)، ومسلم في الفضائل؛ باب من فضائل حاطب بن أبي بلتعة وأهل بدر - رضي الله عنهم - (2494) عن علي - رضي الله عنه -.
[61] سبق تخريجه ص (491).
[62] سبق تخريجه ص(493).
[63] أخرجه البخاري في العمرة؛ باب عمرة في رمضان (1782)، ومسلم في الحج؛ باب فضل العمرة في رمضان (1256) عن ابن عباس - رضي الله عنهما -.
[64] سبق تخريجه ص(493).
[65] ويدل لذلك حديث جابر أن رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - قال: ((إني كنت أريت ليلة القدر ثم نُسيتها، وهي في العشر الأواخر، وهي طَلْقَةٌ بَلْجَةٌ، لا حارة ولا بادرة؛ كأن فيها قمرًا، يفضح كوكبها لا يخرج شيطانها حتى يخرج فجرها)). صححه ابن خزيمة (2190)، وابن حبان (3688) إحسان.
وحديث عبادة بن الصامت، وفيه أن رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - قال: ((إن أمارة ليلة القدر أنها صافية، بلجة كأن فيها قمرًا ساطعًا ساكنة ساجية، لا برد فيها ولا حر، ولا يحل لكوكب أن يرمى به فيها حتى تصبح، وإن أمارتها أن الشمس صبيحتها تخرج مُسْتوية ليس لها شعاع مثل القمر ليلة البدر، ولا يحل لشيطان أن يخرج معها يومئذٍ)). أخرجه أحمد (5/324)، وقال الهيثمي في "المجمع" (3/175): "ورجاله ثقات". وقوله ((طلقة بلجة)): أي: مشرقة لا برد فيها ولا حر، ولا مطر ولا قُرَّ.
[66] ويدل له حديث أُبيِّ بن كعب - رَضِي الله عنه - مرفوعًا ((وأمارتها أن تطلع الشمس في صبيحة يومها لا شعاع لها))؛ أخرجه مسلم في الصلاة؛ باب الندب الأكيد إلى قيام ليلة القدر (762). وحديث عُبَادة السَّابِق.(/37)
[67] أخرجه أحمد (6/171، 182، 183)؛ والترمذي في الدعوات/ باب في فضل سؤال العافية والمعافاة (3513)؛ وابن ماجه في الدعاء/ باب الدعاء بالعفو والعافية (3850)؛ والحاكم (1/530)، وقال الترمذي: "حسن صحيح"، وصححه الحاكم على شرطهما، وأَقَرَّهُ الذَّهَبِيّ.
[68] [المائدة:3].
[69] أخرجه الترمذي في المناقب؛ باب "ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها" (3604)، وابن حبان (894)، (895) عن أنس - رضي الله عنه -، قال الترمذي: غريب.(/38)
العنوان: شرح كتاب الصيام من الشرح الممتع على "زاد المستنقع" (5)
رقم المقالة: 1307
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
بَابُ الاعتِكَافِ
هُوَ لُزُومُ مَسْجِدٍ لِطَاعَةِ اللهِ تَعَالَى..........[1]
قوله: "الاعتكاف" افتعال من العكوف،، افتعل أي دخل في العكوف مأخوذ من عكف على الشيء، أي: لزمه ودوام عليه، ومنه قول إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - لقومه: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء: 52] أي: لها ملازمون، وقول الله تعالى: {يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ} [الأعراف: 138] أي: يلازمونها، ويداومون عليها.
وفي الشرع عرفه المؤلف بقوله: "لزوم مسجد لطاعة الله تعالى".
واعلم أن التعريفات الشرعية أخص من التعريفات اللغوية، أي: أن التعريفات اللغوية غالبًا تكون أعم وأوسع من التعريفات الشرعية.
فالزكاة مثلاً في اللغة النماء وفي الشرع ليست كذلك.
والصلاة في اللغة الدعاء، وفي الشرع أخص، إلا شيئًا واحدًا وهو الإيمان، فإن الإيمان في اللغة التصديق والإقرار، ولكنه في الشرع قول، وعمل، واعتقاد، وهذا مذهب أهل السنة والجماعة، فإنهم يجعلون الإيمان مدلوله شرعًا أوسع من مدلوله لغة.
قوله: "هو لزوم مسجد لطاعة الله" خرج به لزوم الدار، فلو اعتكف في بيته، وقال: لا أخرج إلى الناس فأفتتن بالدنيا، ولكن أبقى في بيتي معتكفًا فهذا ليس اعتكافًا شرعيًا، بل يسمى هذا عزلة، ولا يسمى اعتكافًا.
وهل العزلة عن الناس أفضل أم لا؟
الجواب، في هذا تفصيل:
فمن كان في اجتماعه بالناس خير، فترك العزلة أولى، ومن خاف على نفسه باختلاطه بالناس لكونه سريع الافتتان قليل الإفادة للناس، فبقاؤه في بيته خير، والمؤمن الذي يخالط الناس، ويصبر على أذاهم خير من المؤمن الذي لا يخالط الناس، ولا يصبر على أذاهم.(/1)
وخرج به أيضًا لزوم المدرسة، ولزوم الرباط، لو كان هناك ربط لطلبة العلم يسكنونها ويبقون فيها، فإن لزومها لا يعتبر اعتكافًا شرعًا.
وخرج به لزوم المصلى، فلو أن قومًا في عمارة ولها مصلى، وليس بمسجد فإن لزوم هذا المصلى لا يعتبر اعتكافًا.
والدليل على ذلك، قوله تعالى: {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] فجعل محل الاعتكاف المسجد.
وقوله: "لطاعة الله" اللام هنا للتعليل، أي: أنه لزمه لطاعة الله، لا للانعزال عن الناس، ولا من أجل أن يأتيه أصحابه ورفقاؤه يتحدثون عنده، بل للتفرغ لطاعة الله عزّ وجل.
وبهذا نعرف أن أولئك الذين يعتكفون في المساجد، ثم يأتي إليهم أصحابهم، ويتحدثون بأحاديث لا فائدة منها، فهؤلاء لم يأتوا بروح الاعتكاف؛ لأن روح الاعتكاف أن تمكث في المسجد لطاعة الله - عزّ وجل - صحيح أنه يجوز للإنسان أن يتحدث عنده بعض أهله لأجل ليس بكثير كما كان الرسول - صلّى الله عليه وسلّم - يفعل ذلك[2].
وهل ينافي روح الاعتكاف أن يشتغل المعتكف في طلب العلم؟
الجواب: لا شك أن طلب العلم من طاعة الله، لكن الاعتكاف يكون للطاعات الخاصة، كالصلاة، والذكر، وقراءة القرآن، وما أشبه ذلك، ولا بأس أن يَحضر المعتكف درسًا أو درسين في يوم أو ليلة؛ لأن هذا لا يؤثر على الاعتكاف، لكن مجالس العلم إن دامت، وصار يطالع دروسه، ويحضر الجلسات الكثيرة التي تشغله عن العبادة الخاصة، فهذا لا شك أن في اعتكافه نقصًا، ولا أقول إن هذا ينافي الاعتكاف.
مَسْنُونٌ..........
قوله: "مسنون" خبر ثان لـ(هو)، والخبر الأول (لزوم).
ففي الخبر الأول ذكر تعريفه، وفي الخبر الثاني ذكر حكمه؛ لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، أي: يذكر الشيء وتعريفه، ثم بعد ذلك يذكر حكمه، حتى يكون الحكم منطبقًا على معرفة الصورة.
والمسنون اصطلاحًا: ما أثيب فاعله امتثالاً ولم يعاقب تاركه.(/2)
وقوله: "مسنون" لم يقيده المؤلف بزمن دون زمن، ولا بمسجد دون مسجد، وعلى هذا فيكون مسنونًا كل وقت وفي كل مسجد، فكل مساجد الدنيا مكان للاعتكاف، وليس خاصًا بالمساجد الثلاثة كما روي ذلك عن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - أن النبي - صلّى الله عليه وسلّم - قال: ((لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة)) [3] فإن هذا الحديث ضعيف.
ويدل على ضعفه أن ابن مسعود - رضي الله عنه - وهنه، حين ذكر له حذيفة - رضي الله عنه - أن قومًا يعتكفون في مسجد بين بيت حذيفة، وبيت ابن مسعود - رضي الله عنه - فجاء إلى ابن مسعود زائرًا له، وقال: إن قومًا كانوا معتكفين في المسجد الفلاني، وقد قال النبي - صلّى الله عليه وسلّم -: ((لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة))، فقال له ابن مسعود - رضي الله عنه -: "لعلهم أصابوا فأخطأت وذكروا فنسيت" [4] فأوهن ابن مسعود هذا الحديث حكمًا ورواية.
أما حكمًا ففي قوله: "أصابوا فأخطأت" وأما رواية ففي قوله: "ذكروا فنسيت" والإنسان معرض للنسيان.
وإن صح هذا الحديث فالمراد به لا اعتكاف تام، أي أن الاعتكاف في هذه المساجد أتم وأفضل، من الاعتكاف في المساجد الأخرى، كما أن الصلاة فيها أفضل من الصلاة في المساجد الأخرى.
ويدل على أنه عام في كل مسجد قوله تعالى: {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187].
فقوله تعالى: {فِي الْمَسَاجِدِ} (الـ) هنا للعموم، فلو كان الاعتكاف لا يصح إلا في المساجد الثلاثة لزم أن تكون (الـ) هنا للعهد الذهني، ولكن أين الدليل؟ وإذا لم يقم دليل على أن (الـ) للعهد الذهني فهي للعموم، هذا الأصل.(/3)
ثم كيف يكون هذا الحكم في كتاب الله للأمة من مشارق الأرض ومغاربها، ثم نقول: لا يصح إلا في المساجد الثلاثة؟! فهذا بعيد أن يكون حكم مذكور على سبيل العموم للأمة الإسلامية، ثم نقول: إن هذه العبادة لا تصح إلا في المساجد الثلاثة، كالطواف لا يصح إلا في المسجد الحرام.
فالصواب أنه عام في كل مسجد، لكن لا شك أن الاعتكاف في المساجد الثلاثة أفضل، كما أن الصلاة في المساجد الثلاثة أفضل.
وقوله: "مسنون" قد دل على هذا الكتاب، والسنة، والإجماع.
أما الكتاب: فقول الله تعالى لإبراهيم عليه السلام: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة: 125] ومن هذه الآية نعرف أن الاعتكاف مشروع حتى في الأمم السابقة، وقال تعالى: {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187].
وأما السنة: فواضحة مشهورة مستفيضة أن الرسول - صلّى الله عليه وسلّم -: ((اعتكف، واعتكف أصحابه معه)) [5] و "اعتكف أزواجه من بعده" [6].
وأما الإجماع فقد نقله غير واحد من أهل العلم.
وهو مسنون في كل وقت، هكذا قال المؤلف وغيره، حتى لو أردت الآن - ونحن في شهر جمادى - أن تعتكف غدًا أو الليلة وغدًا، يكون ذلك مسنونًا، ما لم يشغل عما هو أهم، فإن شغل عما هو أهم، كان ما هو أهم أولى بالمراعاة.(/4)
وهذه المسألة فيها نظر؛ لأننا نقول الأحكام الشرعية تتلقى من فعل الرسول - صلّى الله عليه وسلّم - ولم يعتكف الرسول - صلّى الله عليه وسلّم - في غير رمضان إلا قضاءً، وكذلك ما علمنا أن أحدًا من أصحابه اعتكفوا في غير رمضان إلا قضاءً، ولم يرد عنه لفظ عام أو مطلق، في مشروعية الاعتكاف كل وقت فيما نعلم، ولو كان مشروعًا كل وقت لكان مشهورًا مستفيضًا لقوة الداعي لفعله وتوافر الحاجة إلى نقله وغاية ما ورد أن عمر بن الخطاب استفتى النبي - صلّى الله عليه وسلّم - "بأنه نذر أن يعتكف ليلة أو يومًا وليلة في المسجد الحرام فقال: أوف بنذرك"[7] ولكن لم يشرع ذلك لأمته شرعًا عامًا، بحيث يقال للناس: اعتكفوا في المساجد في رمضان، وفي غير رمضان فإن ذلك سنة.
فالذي يظهر لي أن الإنسان لو اعتكف في غير رمضان، فإنه لا ينكر عليه بدليل أن الرسول - صلّى الله عليه وسلّم - أذن لعمر بن الخطاب أن يوفي بنذره ولو كان هذا النذر مكروهًا أو حرامًا، لم يأذن له بوفاء نذره، لكننا لا نطلب من كل واحد أن يعتكف في أي وقت شاء، بل نقول خير الهدي هدي محمد - صلّى الله عليه وسلّم - ولو كان الرسول - صلّى الله عليه وسلّم - يعلم أن في الاعتكاف في غير رمضان، بل وفي غير العشر الأواخر منه سنة وأجرًا لبينه للأمة حتى تعمل به؛ لأنه قد قيل له: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: 67]، وانظر في حديث أبي سعيد اعتكف الرسول - صلّى الله عليه وسلّم -: ((العشر الأول، ثم الأوسط، ثم قيل له: إن ليلة القدر في العشر الأواخر فاعتكف العشر الأواخر))[8] ولم يعتكف السنة الثانية العشر الأول، ولا الأوسط، مع أنه كان زمنًا للاعتكاف من قبل، والشهر شهر اعتكاف.(/5)
وعلى هذا فإنه لا يسن الاعتكاف، أي: لا يُطلب من الناس أن يعتكفوا إلا في العشر الأواخر فقط، لكن من تطوع وأراد أن يعتكف في غير ذلك، فإنه لا ينهى عن ذلك، استئناسًا بحديث عمر - رضي الله عنه - ولا نقول: إن فعله بدعة، لكن نقول: الأفضل أن تقتدي بالرسول - صلّى الله عليه وسلّم.
ولحديث عمر نظائر:
منها: الرجل الذي كان يقرأ بأصحابه فيختم بـ{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، لم ينكر عليه الرسول - صلّى الله عليه وسلّم -[9]، لكنه لم يشرع ذلك لأمته، فلا يشرع للإنسان كلما قرأ في صلاة أن يختم بـ{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، كما فعل هذا الرجل لكن لو فعل لم ينكر عليه.
ومنها: سعد بن عبادة رضي الله عنه "استأذن النبي - صلّى الله عليه وسلّم - في أن يجعل مخرافه في المدينة صدقة لأمه فأذن له"[10]، لكن لم يقل للناس تصدقوا عن أمهاتكم بعد موتهن حتى يكون سنة مشروعة، ففرق بين هذا وهذا.
فإن قال قائل: أليست السنة ثبتت بقول النبي - صلّى الله عليه وسلّم - وفعله وإقراره، فالجواب بلى، ولذلك قلنا: لو فعل أحد فعل الرجل الذي كان يختم بـ{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}[11] أو تصدق بشيء عن أمه لم ينكر عليه اتباعًا لسنة النبي - صلّى الله عليه وسلّم - حيث أقر ذلك، ولولا إقراره عليه لأنكرنا على فاعله.
مسألة: من اعتكف اعتكافًا مؤقتًا كساعة، أو ساعتين، ومن قال: كلما دخلت المسجد فانو الاعتكاف، فمثل هذا ينكر عليه؛ لأن هذا لم يكن من هدي الرسول - صلّى الله عليه وسلّم -.
وَيَصِحُّ بِلاَ صَوْمٍ وَيَلْزَمَانِ بِالنَّذْرِ..........
قوله: "ويصح بلا صوم" أي: يصح الاعتكاف بلا صوم.
وهذه المسألة فيها خلاف بين العلماء:
القول الأول: أنه لا يصح الاعتكاف إلا بصوم.
واستدلوا بأن النبي - صلّى الله عليه وسلّم - لم يعتكف إلا بصوم[12] إلا ما كان قضاءً.(/6)
القول الثاني: أنه لا يشترط له الصوم، واستدلوا بحديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وبأنهما عبادتان منفصلتان، فلا يشترط للواحدة وجود الأخرى.
وهذا القول هو الصحيح.
لكن ما الفائدة من قولنا: يصح بلا صوم، وقد قلنا: ليس مشروعًا إلا في رمضان في العشر الأواخر؟
الجواب: الفائدة لو كان الإنسان مريضًا يباح له الفطر فأفطر، ولكن أحب أن يعتكف في العشر الأواخر فلا بأس؛ وهنا صح بلا صوم.
لو قال قائل: هل يؤخذ من قضاء النبي - صلّى الله عليه وسلّم - للاعتكاف في شوال أن الاعتكاف واجب عليه؟
فالجواب: أن ذلك لا يؤخذ منه؛ لأن من هدي النبي - صلّى الله عليه وسلّم - أنه إذا عمل عملاً أثبته؛ حتى إنه لما فاتته سنة الظهر حين جاءه الوفد، قضاها بعد العصر[13]، وأثبت هذا العمل.
قوله: "ويلزمان بالنذر" أي: الصوم والاعتكاف يلزمان بالنذر، فمن نذر أن يصوم يومًا لزمه، ومن نذر أن يعتكف يومًا لزمه، ومن نذر أن يصوم معتكفًا لزمه، ومن نذر أن يعتكف صائمًا لزمه.
ولكن هناك فرق بين الصورتين الأخيرتين:
الأولى: من نذر أن يصوم معتكفًا لزمه أن يعتكف من قبل الفجر إلى الغروب، لأنه نذر أن يصوم معتكفًا فلا بد أن يستغرق الاعتكاف كل اليوم.
الثانية: من نذر أن يعتكف صائمًا فإنه يعتكف، ولو في أثناء النهار ولو ساعة من النهار؛ لأنه يصدق عليه أنه اعتكف صائمًا، قد لا يعرف الفرق كثير من الطلبة في هذه المسألة.
وهذا التفريع مبني على أن الاعتكاف مشروع في أي وقت كان، فإن قال قائل: ما الدليل على وجوبهما بالنذر؟
فالجواب: الدليل قوله - صلّى الله عليه وسلّم - ((من نذر أن يطيع الله فليطعه)) [14] والصوم طاعة، والاعتكاف طاعة.
لكن أحيانًا يراد بنذر الطاعة واحد من هذه الأربعة: الامتناع، أو الحث، أو التصديق، أو التكذيب، فيكون بمعنى اليمين فهل يجب الوفاء به؟
الجواب: يقول العلماء: لا يجب الوفاء، بل يخير بين الوفاء وكفارة اليمين.(/7)
ومثاله في الامتناع، إذا قال: إن كلمت فلانًا، فللَّه عليَّ نذر أن أصوم أسبوعًا، فكلمه ومراده الامتناع، ولم يرد الطاعة، لكنه رأى أنه لا يتأكد الامتناع إلا إذا ألزم نفسه بهذا النذر.
فقال أهل العلم: هذا حكمه حكم اليمين، بمعنى أنه إن شاء صام هذا الأسبوع، وإن شاء كفر عن يمينه، لقوله - صلّى الله عليه وسلّم -: ((إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى)) [15].
ومثاله في الحث إذا قال: إن لم أكلم فلانًا اليوم فللَّه علي نذر أن أصوم عشرة أيام، قصد بهذا الحث على تكليمه، فإذا مضى اليوم ولم يكلمه قلنا له: أنت مخير، إن شئت فصم عشرة أيام، وإن شئت فكفر عن يمينك.
ومثاله في التصديق إذا قال لمن كذبه: إن لم أكن صادقًا فيما قلت، فللّه عليَّ نذر أن أصوم شهرًا، ومثاله في التكذيب، إذا قال لشخص: إن كان ما تقوله صدقًا، فللَّه علي نذر أن أصوم شهرين.
وَلاَ يَصِحُّ إِلاَّ فِي مَسْجِدٍ يُجَمَّعُ فِيهِ، إِلاَّ المَرْأَةُ فَفِي كُلِّ مَسْجِدٍ، سِوَى مَسْجِدِ بَيْتِهَا..........
قوله: "ولا يصح إلا في مسجد يجمع فيه" أي: لا يصح الاعتكاف إلا في مسجد تقام فيه الجماعة، ولا يشترط أن تقام فيه الجمعة؛ لأن المسجد الذي لا تقام فيه الجماعة، لا يصدق عليه كلمة مسجد بالمعنى الصحيح، هذا من جهة ومن جهة أخرى أنه لو اعتكف في مسجد لا تقام فيه الجماعة، مثل أن يكون هذا المسجد قد هجره أهله، أو نزحوا عنه، فإما أن يترك صلاة الجماعة ويبقى في المسجد الذي لا تقام فيه، وهذا يؤدي إلى ترك الواجب لفعل مسنون، وإما أن يخرج كثيرًا لصلاة الجماعة، والخروج الكثير ينافي الاعتكاف.
ولهذا قالوا: لابد أن يكون في مسجد تقام فيه الجماعة؛ إلا إذا كان اعتكافه ما بين الصلاتين، أو صلاة واحدة على - القول بأنه يصح في أي وقت - فهذا لا يشترط أن يكون مما تقام فيه الجماعة، لأنه ليس بحاجة إلى ذلك؛ إذ إن زمن الاعتكاف لا يتجاوز ساعتين، أو ثلاث ساعات.(/8)
قوله: "إلا المرأة ففي كل مسجد" أي: فيصح اعتكافها ويسن في كل مسجد، فالمرأة تعتكف ما لم يكن في اعتكافها فتنة، فإن كان في اعتكافها فتنة فإنها لا تمكن من هذا؛ لأن المستحب إذا ترتب عليه الممنوع وجب أن يمنع، كالمباح إذا ترتب عليه الممنوع وجب أن يمنع، فلو فرضنا أنها إذا اعتكفت في المسجد صار هناك فتنة كما يوجد في المسجد الحرام، فالمسجد الحرام ليس فيه مكان خاص للنساء، وإذا اعتكفت المرأة فلا بد أن تنام إما ليلاً وإما نهارًا، ونومها بين الرجال ذاهبين وراجعين فيه فتنة.
والدليل على مشروعية الاعتكاف للنساء، اعتكاف زوجات الرسول - صلّى الله عليه وسلّم - في حياته، وبعد مماته[16].
لكن إن خيف فتنة فإنها تمنع؛ لأن النبي - صلّى الله عليه وسلّم - منع فيما دون ذلك، فإنه لما أراد أن يعتكف - صلّى الله عليه وسلّم - خرج ذات يوم، وإذا خباء لعائشة، وخباء لفلانة، وخباء لفلانة، فقال - صلّى الله عليه وسلّم -: ((آلبر يردن؟!)) ثم أمر بنقضها، ولم يعتكف تلك السنة، وقضاه في شوال[17] وهذا يدل على أن اعتكاف المرأة إذا كان يحصل فيه فتنة، فإنها تمنع من باب أولى.
لكن لو اعتكفت في مسجد لا تقام فيه الجماعة، فلا حرج عليها؛ لأنه لا يجب عليها أن تصلي مع الجماعة، وعلى هذا فاعتكافها لا يحصل فيه ما ينافيه.
ولكن قد يقال: كيف تعتكف في مسجد لا تصلى فيه الجماعة؟ أليس في هذا فتنة؟
الجواب: ربما يكون، وربما لا يكون؛ فقد يكون المسجد هذا محرزًا محفوظًا لا يدخله أحد، ولا يخشى على النساء فتنة في اعتكافهن فيه، وقد يكون الأمر بالعكس، فالمدار أنه متى حصلت الفتنة، منع من اعتكاف النساء في أي مسجد كان.
مسألة: من لا تجب عليه الجماعة هل هو كالمرأة؟
الجواب: نعم، فلو اعتكف إنسان معذور بمرض، أو بغيره مما يبيح له ترك الجماعة في مسجد لا تقام فيه الجماعة، فلا بأس.(/9)
قوله: "سوى مسجد بيتها" أي: فلا يصح اعتكافها فيه، ومسجد بيتها هو المكان الذي اتخذته مصلى، وكان الناس فيما سبق يتخذون للنساء مصليات في بيوتهم، فيجعلون حجرة معينة خاصة تصلي فيها النساء، فهذا المصلى لا يصح الاعتكاف فيه، لأنه ليس بمسجد حقيقة ولا حكمًا، ولهذا لا يعتبر وقفًا، فلو بيع البيت بما فيه هذا المصلى، فالبيع صحيح، ولو دخل أحد البيت، وقال: أنا أريد أن أصلي في هذا المكان لأنه مصلى كالمسجد، لا تمنعوني من مساجد الله، قلنا له: نمنعك؛ لأن هذا ليس بمسجد، ولو لبثت المرأة فيه وهي حائض فلا بأس، ولو بقي فيه الإنسان بلا وضوء وهو جنب فلا بأس، ولو دخله وجلس فيه ولم يصل ركعتين فلا بأس، ويجوز فيه البيع والشراء، وكل ما يمنع في المسجد، ومثل ذلك المصليات التي تكون في مكاتب الأعمال الحكومية لا يثبت لها حكم المسجد، وكذلك مصليات النساء في مدارس البنات لا يعتبر لها حكم المسجد، لأنها ليست مساجد حقيقة، ولا حكمًا.
وَمَنْ نَذَرَهُ، أَوْ الصَّلاَةَ فِي مَسْجِدٍ غَيْرِ الثَّلاَثَةِ، وأَفْضَلُهَا الحَرَامُ، فَمَسْجِدُ المَدِينَةِ، فَالأَْقْصَى لَمْ يَلْزَمْهُ فِيهِ.
وقوله: "ومن نذره، أو الصلاة في مسجد غير الثلاثة" "من نذره" الهاء تعود على الاعتكاف، أي: من نذر الاعتكاف، أو الصلاة في مسجد غير الثلاثة لم يلزمه، فلو نذر رجل أن يعتكف في أي مسجد من المساجد، في أي بلد فإنه لا يلزمه أن يعتكف فيه، إلا المساجد الثلاثة؛ ولهذا قال المؤلف: "غير الثلاثة".
ومراده بالثلاثة المسجد الحرام، والمسجد النبوي، والمسجد الأقصى.(/10)
وقوله: "وأفضلها الحرام، فمسجد المدينة، فالأقصى" أي: أفضل المساجد الثلاثة المسجد الحرام، ويليه مسجد المدينة، ويليه المسجد الأقصى، فالمسجد الحرام هو مسجد الكعبة التي هي أول بيت وضع للناس، وهو أشرف البيوت وأعظمها حرمة، وله من الخصائص ما ليس لغيره، ولا يوجد مسجد في الأرض قصده من أركان الإسلام إلا المسجد الحرام.
ويليه مسجد المدينة وهو المسجد النبوي الذي بناه النبي - صلّى الله عليه وسلّم - حين قدم المدينة.
ويليه المسجد الأقصى، وهو مسجد غالب أنبياء بني إسرائيل وهو في فلسطين.
فهذه المساجد الثلاثة هي التي إذا نذر الصلاة فيها تعينت، لكن سيأتي التفصيل في ذلك.
والدليل على أن المسجد الحرام أفضلها، قول النبي - صلّى الله عليه وسلّم - فيما صح عنه: ((صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا مسجد الكعبة)) [18] وفي حديث آخر: ((إلا المسجد الحرام)) [19].
مسألة: التضعيف في المساجد الثلاثة:
مضاعفة الصلاة في المسجد الحرام، أنها أفضل من مائة ألف صلاة، فإذا أدى الإنسان فيه فريضة، كان أفضل ممن أدى مائة ألف فريضة فيما سواه، وجمعة واحدة أفضل من مائة ألف جمعة.
والمسجد النبوي الصلاة فيه خير من ألف صلاة فيما سواه.
والمسجد الأقصى: "الصلاة فيه بخمسمائة صلاة"[20] فهذا ترتيب المساجد الثلاثة في الفضيلة، فإن قال قائل: هل هذا التفضيل في صلاة الفريضة والنافلة؟
فالجواب: أن فيه تفصيلاً فالفرائض لا يستثنى منها شيء، وأما النوافل فما كان مشروعًا في المسجد، شمله هذا التفضيل كقيام رمضان وتحية المسجد وما كان الأفضل فيه البيت، ففعله في البيت أفضل كالرواتب ونحوها.
فإن قال قائل: وهل تضاعف بقية الأعمال الصالحة هذا التضعيف؟(/11)
فالجواب: أن تضعيف الأعمال بعدد معين توقيفي، يحتاج إلى دليل خاص ولا مجال للقياس فيه، فإن قام دليل صحيح في تضعيف بقية الأعمال أخذ به، ولكن لا ريب أن للمكان الفاضل والزمان أثرًا في تضعيف الثواب، كما قال العلماء - رحمهم الله -: إن الحسنات تضاعف في الزمان والمكان الفاضل، لكن تخصيص التضعيف بقدر معين يحتاج إلى دليل خاص.
فإن قال قائل: وهل تضاعف السيئات في الأمكنة الفاضلة والأزمنة الفاضلة؟
فالجواب: أما في الكمية فلا تضاعف لقوله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ *} [الأنعام: 160] وهذه الآية مكية لأنها من سورة الأنعام، وكلها مكية لكن قد تضاعف السيئة في مكة من حيث الكيفية لقوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25].
مسألة: هل الصلاة خاصة في المكان المعين في المساجد الثلاثة أو كل ما حوله فهو مثله؟
الجواب: أما المسجد الأقصى فليس له حرم بالاتفاق؛ لأن العلماء مجمعون على أنه لا حرم إلا للمسجد الحرام والمسجد النبوي، على خلاف في المسجد النبوي، وواد في الطائف يقال له: وادي وج على خلاف فيه أيضًا، وما عدا هذه ثلاثة الأماكن فإنها ليست بحرم بالاتفاق.
وأما المسجد النبوي فالتضعيف خاص في المسجد الذي هو البناية المعروفة، لكن ما زيد فيه فهو منه، والدليل على ذلك أن الصحابة - رضي الله عنهم - صلوا في الزيادة التي زادها عثمان - رضي الله عنه - مع أنها خارج المسجد الذي كان على عهد النبي - صلّى الله عليه وسلّم -.
وأما المسجد الحرام ففيه خلاف بين العلماء، هل المراد بالمسجد الحرام كل الحرم، أو المسجد الخاص الذي فيه الكعبة؟.
يقول صاحب الفروع: إن ظاهر كلام أصحابنا يعني الحنابلة، أنه خاص بالمسجد الذي فيه الكعبة فقط، وأما بقية الحرم فلا يثبت له هذا الفضل.(/12)
وقال بعض العلماء: إن جميع الحرم يثبت له هذا الفضل، ولكل دليل فيما ذهب إليه، أما الذين قالوا إنه خاص في المسجد الذي فيه الكعبة فاستدلوا بما يلي:
1 - قول النبي - صلّى الله عليه وسلّم -: ((صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا مسجد الكعبة)) [21] ولا نعلم في مكة مسجدًا يقال له مسجد الكعبة إلا المسجد الذي فيه الكعبة فقط، فلا يقال عن المساجد التي في الشبيكة والتي في الزاهر، والتي في الشعب، وغيرها لا يقال: إنها مسجد الكعبة، وهذا نص كالصريح في الموضوع.
2 - قول النبي - صلّى الله عليه وسلّم -: ((لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى)) [22]، ومعلوم أن الناس لا يشدون الرحال إلى المساجد التي في العزيزية والشبيكة، والزاهر، وغيرها، وإنما تشد الرحال إلى المسجد الذي فيه الكعبة، ولهذا اختص بهذه الفضيلة، ومن أجل اختصاصه بهذه الفضيلة صار شد الرحل إليه من الحكمة؛ لينال الإنسان هذا الأجر.
3 - قول الله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى} [الإسراء: 1] وقد أسري بالنبي - صلّى الله عليه وسلّم - من الحِجْر - بكسر الحاء - الذي هو جزء من الكعبة.(/13)
4 - قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28] فالمسجد الحرام هنا المراد به مسجد الكعبة، لا جميع الحرم، لأن الله قال: {فَلاَ يَقْرَبُوا} ولم يقل: فلا يدخلوا، ومن المعلوم أن المشرك لو جاء ووقف عند حد الحرم ليس بينه وبينه إلا شعرة لم يكن ذلك منهيًا عنه، ولو كان المسجد الحرام هو كل الحرم، لكان ينهى المشرك أن يقرب حدود الحرم، لأن الله قال: {فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} نسأل هل يحرم على المشرك أن يدخل داخل الأميال، أو أن يأتي حولها؟
الجواب: الأول هو المحرم؛ لأنه إذا دخل الأميال، وهي العلامات التي وضعت تحديدًا للحرم، لو دخلها لكان قاربًا من المسجد الحرام.
واستدل أهل الرأي الثاني: بأن النبي - صلّى الله عليه وسلّم - في الحديبية نزل في الحل، والحديبية بعضها من الحل وبعضها من الحرم، ولكنه كان يصلي داخل الحرم، أي: يتقصد أن يدخل داخل الحرم للصلاة[23].
وهذا لا دليل فيه عند التأمل؛ لأن هذا لا يدل على الفضل الخاص، وهو أن الصلاة أفضل من مائة ألف صلاة، وإنما يدل على أن أرض الحرم أفضل من أرض الحل، وهذا لا إشكال فيه، فلا إشكال في أن الصلاة في المساجد التي في الحرم، أفضل من الصلاة في مساجد الحل.
واستدلوا أيضًا بقوله تعالى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] فإن من المعلوم أن الهدي لا يذبح في الكعبة، وإنما يذبح داخل حدود الحرم في مكة أو خارجها.
والجواب عنه أنه لا يمكن أن يتبادر إلى ذهن المخاطب، أن المراد به وصول الهدي إلى الكعبة، والكلام يحمل على ما يتبادر إلى الذهن، ولذلك حملنا قوله - صلّى الله عليه وسلّم - "مسجد الكعبة" [24] على المسجد الخاص الذي فيه بناية الكعبة؛ لأن ذلك هو المتبادر إلى ذهن المخاطب.(/14)
لو قال قائل: إذا امتلأ المسجد الحرام، واتصلت الصفوف وصارت في الأسواق وما حول الحرم، فهل يثبت لهؤلاء أجر من كان داخل الحرم؟
فالجواب: نعم؛ لأن هذه الجماعة جماعة واحدة، وهؤلاء الذين لم يحصل لهم الصلاة إلا في الأسواق خارج المسجد لو حصلوا على مكان داخله لكانوا يبادرون إليه، فما دامت الصفوف متصلة، فإن الأجر حاصل حتى لمن كان خارج المسجد.
وأما المسجد الأقصى فخاص بالمسجد؛ مسجد الصخرة، أو ما حوله حسب اختلاف الناس فيه، ولا يشمل جميع المساجد في فلسطين.
قوله: "لم يلزمه فيه" الجملة هنا جواب "من" أي: من نذر الاعتكاف أو الصلاة في مسجد غير المساجد الثلاثة لم يلزمه، أي: في المسجد الذي عينه.
وقوله: "لم يلزمه" ظاهر كلامه الإطلاق حتى ولو كان تعيينه للمسجد الذي نذر الاعتكاف فيه، أو الصلاة لمزية شرعية، ككثرة الجماعة وقدم المسجد؛ لأن لكثرة الجماعة وقدم المسجد مزية، ولهذا قال العلماء: المسجد العتيق أفضل من المسجد الجديد؛ لتقدم الطاعة فيه.
ولكن في النفس من هذا شيء؛ فنقول: إذا عين المسجد لمزية شرعية، فإنه لا يتنازل عنه إلى ما دونه في هذه المزية، ولهذا قالوا: لو عين المسجد الجامع، وكان اعتكافه يتخلله، جمعة لم يجزه في مسجد غير جامع؛ لأن المسجد الجامع له مزية، وهو أنه تقام فيه الجمعة، ولا يحتاج المعتكف إلى أن يخرج إلى مسجد آخر؛ ولأن التجميع في هذا المسجد يؤدي إلى كثرة الجمع.
فالصحيح في هذه المسألة أن غير المساجد الثلاثة إذا عينه لا يتعين إلا لمزية شرعية، فإنه يتعين؛ لأن النذر يجب الوفاء به، ولا يجوز العدول إلى ما دونه.
وَإنْ عَيَّنَ الأَفْضَلَ لَمْ يُجْزِ فِيمَا دُونَهُ، وَعَكْسُه بِعَكْسِهِ.(/15)
قوله: "وإن عين الأفضل لم يجز فيما دونه وعكسه بعكسه" يعني إن عين الأفضل من هذه المساجد لم يجزه فيما دونه، فإذا عين المسجد الحرام لم يجز في المدينة، ولا في بيت المقدس، وإن عين المدينة جاز فيها وفي مسجد مكة "المسجد الحرام"، وإن عين الأقصى جاز فيه وفي المدينة، وفي المسجد الحرام؛ ولهذا قال: "وعكسه بعكسه" أي: من نذر الأدنى جاز في الأعلى.
والدليل على هذا: أن رجلاً جاء يوم فتح النبي - صلّى الله عليه وسلّم - مكة وقال: إني نذرت إن فتح الله عليك مكة، أن أصلي في بيت المقدس - يعني شكرًا لله - فقال - صلّى الله عليه وسلّم -: ((صلِّ هاهنا))، فسأله فقال: صلِّ هاهنا، فسأله الثالثة فقال: شأنك إذًا"[25] فدل ذلك على أنه إذا نذر الأدنى جاز الأعلى لأنه أفضل، وأما إذا نذر الأعلى فإنه لا يجوز الأدنى؛ لأنه نقص على الوصف الذي نذره.
واستدل شيخ الإسلام - رحمه الله - وبعض أهل العلم بهذا الحديث على أنه يجوز نقل الوقف من جهة إلى جهة أفضل منها، وهذا الاستدلال استدلال واضح، وذلك لأن النذر يجب الوفاء به، فإذا رخص النبي - صلّى الله عليه وسلّم - بالانتقال إلى ما هو أعلى في النذر الواجب، فالوقف الذي أصله مستحب من باب أولى.
وهذا في الأوقاف العامة، أما الأوقاف الخاصة كالذي يوقف على ولده مثلاً، فإنه لا يجوز أن ينقل إلا إذا انقطع النسل، وذلك لأن الوقف الخاص خاص لمن وقف له.
وَمَنْ نَذَرَ زَمَنًا معَيَّنًا دَخَلَ مُعْتَكَفَهُ قَبْلَ لَيْلَتِهِ الأُولَى، وَخَرَجَ بَعْدَ آخِرِهِ وَلاَ يَخْرُجُ المُعْتَكِفُ إِلاَّ لِمَا لاَ بُدَّ لَهُ مِنْهُ، وَلاَ يَعُودُ مَرِيضًا، وَلاَ يَشْهَدُ جَنَازَةً إِلاَّ أَنْ يَشْتَرِطَهُ.
قوله: "ومن نذر زمنًا معينًا دخل معتكفه قبل ليلته الأولى، وخرج بعد آخره".
مثاله: نذر أن يعتكف العشر الأول من رجب، فإنه يدخل عند غروب الشمس من آخر يوم من جمادى الآخرة.(/16)
وإذا نذر أن يعتكف العشر الأواخر من رمضان، فإنه يدخل عند غروب الشمس من يوم عشرين من رمضان، ولهذا قال: "دخل معتكفه قبل ليلته الأولى".
ويخرج إذا غربت الشمس من آخر يوم من الزمن الذي عينه.
مثال آخر: لو قال: لله علي نذر بأن أعتكف الأسبوع القادم، فإنه يدخل عند غروب الشمس يوم الجمعة، ويخرج بعد غروب الشمس ليلة السبت؛ لأنه لا يتم أسبوعًا إلا بتمام سبعة أيام، ولا يتم سبعة أيام إلا إذا بقي إلى غروب الشمس من يوم الجمعة.
وهل يلزمه التتابع؟
الجواب: إذا نذر زمنًا معينًا لزمه التتابع لضرورة تعيين الوقت، فإذا قال: لله علي نذر أن أعتكف الأسبوع القادم، لزمه التتابع، وإن قال: لله علي نذر أن أعتكف العشر الأول من شهر كذا، يلزمه التتابع، وإن قال: لله عليَّ أن أعتكف الشهر المقبل يلزمه التتابع لضرورة التعيين.
أما إذا نذر عددًا بأن قال: لله علي أن أعتكف عشرة أيام، أو أسبوعًا أو شهرًا ولم يعين الأسبوع ولا الشهر، فله أن يتابع وهو أفضل، وله أن يفرق؛ لأنه يحصل النذر بمطلق الصوم إن كان صومًا، أو بمطلق الاعتكاف إن كان اعتكافًا.
وكذلك يلزمه التتابع إذا نواه لقول النبي - صلّى الله عليه وسلّم -: ((إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى)) [26].
والحاصل، أنه إذا نذر عددًا، فإما أن يشترط التتابع بلفظه، أو لا، فإن اشترطه فيلزمه، وإن لم يشترطه فهو على ثلاثة أقسام:
الأول: أن ينوي التفريق؛ فلا يلزمه إلا مفرقة.
الثاني: أن ينوي التتابع، فيلزمه التتابع.
الثالث: أن يطلق فلا يلزمه التتابع، لكنه أفضل؛ لأنه أسرع في إبراء ذمته.
أما إذا نذر أيامًا معينة فيلزمه التتابع.
قوله: "ولا يخرج المعتكف إلا لما لا بد لَهُ منه" أي: لا يخرج من المسجد الذي يعتكف فيه.
شرع المؤلف - رحمه الله - في بيان حكم خروج المعتكف من معتكفه، فذكر قسمين:
القسم الأول: أن يخرج لما لا بد له منه حسًا أو شرعًا، فهذا جائز سواء اشترطه أم لا.(/17)
مثال الأول: الأكل والشرب، والحصول على زيادة الملابس إذا اشتد البرد، وقضاء الحاجة من بول أو غائط، وهذا مما لا بد له منه حسًا.
ومثال الثاني: أن يخرج ليغتسل من جنابة، أو يخرج ليتوضأ فهذا لا بد له منه شرعًا.
وقد سألني بعض من يعتكف في المسجد الحرام، وقال: إذا أردنا حضور درس علمي يقام في سطح المسجد، لا نستطيع ذلك أحيانًا، إلا إذا خرجنا من المسجد ودخلنا من باب آخر فهل يبطل الاعتكاف بهذا؟
فقلت: إنه لا يبطل بذلك؛ لأن هذا لحاجة، ولأنه ليس خروج مغادرة، ولكنه يريد بذلك الدخول للمسجد وقد سألت الشيخ عبد العزيز بن باز، فقال كما قلت.
قوله: "ولا يعود مريضًا، ولا يشهد جنازة إلا أن يشترطه" هذا هو القسم الثاني من خروج المعتكف وهو خروجه لمقصود شرعي له منه بد.
مثاله: عيادة المريض وشهود الجنازة؛ لأن عيادة المريض له منها بد لكونها سنة يمكن للإنسان أن يدعها ولا يأثم، وكذلك شهود الجنازة، لكن لو فرض أنه تعين عليه أن يشهد جنازة بحيث لم نجد من يغسله، أو من يحملها إلى المقبرة، صار هذا من الذي لا بد منه.
وعلم من قوله: "إلا أن يشترطه" جواز اشتراط ذلك في ابتداء الاعتكاف، فإذا نوى الدخول في الاعتكاف، قال: أستثني يا رب عيادة المريض أو شهود الجنازة.
ولكن هذا لا ينبغي، والمحافظة على الاعتكاف أولى، إلا إذا كان المريض أو من يتوقع موته، له حق عليه، فهنا الاشتراط أولى، بأن كان المريض من أقاربه الذين يعتبر عدم عيادتهم قطيعة رحم، فهنا يستثني، وكذلك شهود الجنازة.
فإن قال قائل: ما الدليل على جواز اشتراط ذلك؛ لأن الأصل أن العبادات إذا شرع فيها أتمها إما وجوبًا أو استحبابًا حسب حكم هذه العبادة؟(/18)
فالجواب: ليس هناك دليل واضح في المسألة إلا قياسًا على حديث ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب - رضي الله عنها - حيث جاءت تقول للرسول - صلّى الله عليه وسلّم -: إنها تريد الحج وهي شاكية، فقال لها: "حجي واشترطي أن محلي حيث حبستني، فإن لك على ربك ما استثنيت" [27]؛ فيؤخذ من هذا أن الإنسان إذا دخل في عبادة، واشترط شيئًا لا ينافي العبادة، فلا بأس.
فإن قيل: القياس لا يصح في العبادات؟
فالجواب: أن المراد بقول أهل العلم لا قياس في العبادات، أي: في إثبات عبادة مستقلة، أما شروط في عبادة وما أشبه ذلك، مع تساوي العبادتين في المعنى فلا بأس به، وما زال العلماء يستعملون هذا، كقولهم تجب التسمية في الغسل والتيمم قياسًا على الوضوء، وليس هناك فرق مؤثر بين المحرم إذا خشي مانعًا، وبين المعتكف إذا خشي مانعًا.
مسألة: لو شرع في الاعتكاف على سبيل النفل، ثم مات والده، أو مَرِضَ، فهل له قطعهُ؟
الجواب: له قطعه؛ لأن استمراره فيه سنة، وعيادة والده أو قريبه الخاص قد تكون واجبة؛ لأنها من صلة الرحم، وكذلك شهود جنازته.
تتمة: بقي قسم ثالث في خروج المعتكف وهو الخروج لما له منه بدٌ وليس فيه مقصود شرعي، فهذا يبطل به الاعتكاف سواء اشترطه أم لا، مثل أن يخرج للبيع والشراء والنزهة ومعاشرة أهله ونحو ذلك.
وَإِنْ وَطِئَ فِي فَرْجٍ فَسَدَ اعْتِكَافُهُ.
قوله: "وإن وطئ في فرج" أي: المعتكف.
قوله: "فسد اعتكافه" أي: بطل، والفساد والبطلان بمعنى واحد إلا في موضعين، الأول: الحج والعمرة، فالفاسد منهما ما كان فساده بسبب الجماع، والباطل ما كان بطلانه بالردة عن الإسلام، والموضع الثاني: في باب النكاح، فالباطل ما أجمع العلماء على بطلانه كنكاح المعتدة، والفاسد ما اختلفوا فيه كالنكاح بلا شهود.(/19)
ودليل فساد الاعتكاف بالوطء قوله تعالى: {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] فإنه يدل على أنه لا تجوز مباشرة النساء حال الاعتكاف، فلو جامع بطل اعتكافه؛ لأنه فعل ما نهي عنه بخصوصه، وكل ما نهي عنه بخصوصه في العبادة يبطلها، وهاهنا قواعد:
الأولى: النهي إن عاد إلى نفس العبادة فهي حرام وباطلة.
مثاله: لو صام الإنسان يوم العيد فصومه حرام وباطل؛ لأن النبي - صلّى الله عليه وسلّم - نهى عن صوم يوم العيد، ولو أن المرأة صامت وهي حائض لكان صومها حرامًا باطلاً؛ لأنها منهية عنه، لقول النبي - صلّى الله عليه وسلّم -: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)) أي: مردود، وما نهى عنه فليس عليه أمر الله ورسوله؛ ولأننا لو صححنا العبادة مع النهي عنها لكان في هذا نوع مضادة لأمر الله تعالى.
الثانية: أن يكون النهي عائدًا إلى قول أو فعل يختص بالعبادة، فهذا يبطل العبادة أيضًا.
مثال ذلك: إذا تكلم في الصلاة، ولو بأمر بمعروف، بطلت صلاته.
مثل آخر: الأكل في الصوم، فإذا أكل الصائم فسد صومه؛ لأن النهي عائد إلى فعل يختص بالعبادة الذي هو الصوم.
ومثال ثالث: إذا جامع وهو محرم، فسد إحرامه، والدليل قوله تعالى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197].
وإذا حلق رأسه وهو محرم فالنهي هنا عن فعل يختص بالعبادة لقول الله تعالى: {وَلاَ تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] فهل يفسد الإحرام؛ لأن النهي يعود إلى فعل يختص بالعبادة؟
الجواب: إما أن يوجد دليل يخصص هذه المسألة، وإما أن يفسد الإحرام بالحلق.
فالظاهرية ذهبوا إلى فساد الإحرام، وقالوا: إن فعل المحظورات في الإحرام مفسد للإحرام.(/20)
وأما حديث كعب بن عجرة[28] - رضي الله عنه - فجوابه أن الله - عزّ وجل - أذن لمن كان مريضًا أو به أذى من رأسه، أن يحلق ويفدي، فهذا مأذون له للعذر، ولا يستوي المعذور وغير المعذور، ولما صار معذورًا صار الحلق في حقه حلالاً ليس حرامًا، فإذا فعله في هذه الحال لم يكن فعل محظورًا.
ثم قالوا: ونحن نخاصمكم بالقياس مع أننا لا نقول به، لكن نلزمكم إياه؛ لأنكم تقولون به، لماذا تقولون إنه إذا جامع فسد إحرامه، فأي فرق بين الجماع وبين سائر المحظورات؟!
لكننا نجيبهم بما جاء في القرآن، فالصيد حرام في الإحرام، وقال الله فيه: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا} أي: غير معذور {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] ولم يبطل الله الإحرام، فدل هذا على أن الحج والعمرة لهما أحوال خاصة؛ لقوة لزومهما وثبوتهما، فلا يفسدهما المُحَرَّمُ فيهما إلا ما أجمع العلماء عليه، وهو فيما أعلم الجماع، ثم إنه أي: المحظور ينجبر بالبدل، ثم إن العذر في المفسد لا يقتضي رفع البطلان، أرأيت الصائم إذا كان مريضًا وأفطر من أجل المرض أفليس يفسد صومه، مع أنه معذور.
فالظاهرية عند سماع حجتهم ينبهر الإنسان بادي الرأي، لكن عند التأمل نجد أن الفقه مع الذين يتبعون الدليل؛ ظاهره وباطنه، ويحملون النصوص الشرعية بعضها على بعض، حتى تتفق، وهم أهل المعاني والآثار.
الثالثة: إذا كان النهي عامًا في العبادة وغيرها، فإنه لا يبطلها.
مثاله: الغيبة للصائم حرام، لكن لا تبطل الصيام؛ لأن التحريم عام.
وكذا لو صلى في أرض مغصوبة، فالصلاة صحيحة؛ لأنه لم يرد النهي عن الصلاة فيها، فلو قال: لا تصلوا في أرض مغصوبة فصلى، قلنا لا تصح؛ لأنه نهي عن الصلاة بذاتها.
وكذلك لو توضأ بماء مغصوب، فالوضوء صحيح؛ لأن التحريم عام، فاستعمال الماء المغصوب في الطهارة، وفي غسل الثوب، وفي الشرب، وفي أي شيء حرام.(/21)
ولو صلى وهو محدث لا تصح الصلاة؛ لأن هذا تَرْكُ واجبٍ، ووقوع في المنهي عنه لقوله - صلّى الله عليه وسلّم -: ((لا صلاة بغير طهور)) [29].
وإذا صلى في المقبرة لا تصح صلاته؛ لأن فيها نهيًا خاصًا قال النبي - صلّى الله عليه وسلّم -: ((الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام)) [30].
وإذا صلى إلى قبر أي: جعل القبر قبلته لم تصح صلاته؛ لأن النهي عن نفس الصلاة قال النبي - صلّى الله عليه وسلّم -: ((لا تصلوا إلى القبور)) [31].
وقوله: "إن وطئ في فرج فسد اعتكافه".
علم من أنه إذا وطئ في غير فرج، مثل أن وطئ زوجته بين فخذيها، فإنه لا يفسد اعتكافه قالوا إلا أن ينزل؛ لأن المحرَّمَ الجماع، أما مقدماته فتحرم تحريم الوسائل.
مسألة: لو اشترط عند دخوله في المعتكف أن يجامع أهله في اعتكافه لم يصح شرطه؛ لأنه محلِّلٌ لما حرم الله، وكل شرط أحل ما حرم الله فهو باطل، لقول النبي - صلّى الله عليه وسلّم - "كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط" [32].
وَيُسْتَحَبُ اشْتِغَالُهُ بالقُرَبِ، وَاجْتِنَابُ مَا لاَ يَعْنِيهِ.
قوله: "ويستحب اشتغاله بالقرب" أي: يستحب للمعتكف أن يشتغل بالقرب، جمع قربة، ومراده العبادات الخاصة، كقراءة القرآن، والذكر، والصلاة في غير وقت النهي، وما أشبه ذلك، وهو أفضل من أن يذهب إلى حلقات العلم، اللهم إلا أن تكون هذه الحلقات نادرة، لا تحصل له في غير هذا الوقت، فربما نقول: طلب العلم في هذه الحال، أفضل من الاشتغال بالعبادات الخاصة، فاحضرها لأن هذا لا يشغل عن مقصود الاعتكاف.(/22)
قوله: "واجتناب ما لا يعنيه" يستحب للمعتكف أن يجتنب ما لا يعنيه، أي: ما لا يهمه من قول أو فعل، أو غير ذلك وهذا سنة له، ولغيره، قال النبي - صلّى الله عليه وسلّم -: ((من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)) [33] وهذا من حسن إسلام المرء، ومن حسن أدبه، ومن راحة نفسه أن يدع ما لا يعنيه، أما كونه يبحث عن شيء لا يعنيه فسوف يتعب.
وكذلك أيضًا إذا كان يتتبع الناس في أمور لا تعنيه، فإن من حسن إسلام المرء، وأدبه، وراحته أن يدع ما لا يعنيه، ولهذا تجد الرجل السماع، الذي ليس له هم إلا سماع ما يقوله الناس، والاشتغال بقيل وقال، يضيع وقته فيما يضره ولا ينفعه.
مسألة: هل يجوز أن يزور المعتكفَ أحدٌ من أقاربه ويتحدث إليه ساعة من زمان؟
الجواب: نعم؛ لأن صفية بنت حيي زارت النبي - صلّى الله عليه وسلّم - في معتكفه، وتحدثت إليه ساعة[34] وهو مما يعني الإنسان أن يتحدث إلى أهله؛ لأنه إذا تحدث إليهم أدخل عليهم السرور، وحصل بينهم الألفة، وهذا أمر مقصود للشرع، ولهذا ينبغي ألا يكون الإنسان منا كلاً، يجلس إلى أهله لا يكلمهم، ولا يتحدث إليهم، إن كان طالب علم فكتابه معه، وإن كان عابدًا يقرأ القرآن أو يذكر الله ولا يتكلم، ثم إذا سُئل لماذا لا يتكلم قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت" [35].
نقول له: النبي - صلّى الله عليه وسلّم - قال: "فليقل خيرًا" والخير إما أن يكون في ذات الكلام، أو في غيره مما يؤدي إليه الكلام، ولا شك أنك إذا تكلمت مع أهلك، أو مع أصحابك بكلام مباح في الأصل وقصدك إدخال الأنس والسرور عليهم، صار هذا خيرًا لغيره، وقد يكون خيرًا لذاته أيضًا مثل أن يلقي عليهم مسألة فقهية أو قصة يعتبرون بها، أو نحو ذلك، فالمهم أن تجتنب ما لا يعنيك، ولا شك أن ذلك خير للمعتكف ولغيره.(/23)
وقد سمعنا أن واحدًا من الناس قال: أنا لن أتكلم بكلام الآدميين أبدًا، لا أتكلم إلا بكلام الله فإذا دخل إلى بيته وأراد من أهله أن يشتروا طعامًا قال: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ} [الكهف: 19].
وقد قال أهل العلم: يحرم جعل القرآن بدلاً من الكلام، وأنا رأيت زمن الطلب قصة في جواهر الأدب، عن امرأة لا تتكلم إلا بالقرآن، وتعجب الناس الذين يخاطبونها، فقال لهم من حولها: لها أربعون سنة لم تتكلم إلا بالقرآن، مخافة أن تزل فيغضب عليها الرحمن.
نقول: هي زلَّت الآن، فالقرآن لا يجعل بدلاً من الكلام، لكن لا بأس أن يستشهد الإنسان بالآية على قضية وقعت كما يذكر عن النبي - صلّى الله عليه وسلّم - أنه كان يخطب فخرج الحسن والحسين يمشيان ويعثران بثياب لهما فنزل فأخذهما، وقال صدق الله: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ}" [التغابن: 15] فالاستشهاد بالآيات على الواقعة إذا كانت مطابقة تمامًا لا بأس به.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[1] أخرجه البخاري في الاعتكاف/ باب هل يخرج المعتكف لحوائجه إلى باب المسجد (2035)؛ ومسلم في الآداب/ باب بيان أنه يستحب لمن رئى خاليًا بامرأة... (2175) عن صفية بنت حيي رضي الله عنها.
[2] أخرجه الطحاوي في "شرح مشكل الآثار" (2771) ط الرسالة؛ والبيهقي (4/316).
[3] أخرجه عبد الرزاق (8014)، وابن أبي شيبة (3/91).
[4] سبق تخريجه.
[5] أخرجه البخاري في الاعتكاف/باب الاعتكاف في العشر الأواخر (2026)؛ ومسلم في الصيام/ باب اعتكاف العشر الأواخر من رمضان (1172) (5) عن عائشة رضي الله عنها.
[6] أخرجه البخاري في الاعتكاف/ باب الاعتكاف ليلاً (2032)؛ ومسلم في النذر/ باب نذر الكافر، وما يفعل فيه إذا أسلم (1656).
[7] سبق تخريجه.(/24)
[8] رواه البخاري معلقًا بصيغة الجزم في الأذان/ باب الجمع بين سورتين في ركعة، (774م)، ووصله الإمام أحمد (3/141)؛ والترمذي من طريق البخاري في فضائل القرآن/ باب ما جاء في سورة الإخلاص وسورة إذا زلزلت (2901)؛ وصححه ابن خزيمة (537)؛ وابن حبان (792)، (794)؛ وصححه الحاكم (1/240) على شرط مسلم ووافقه الذهبي.
[9] أخرجه البخاري في الوصايا/ باب إذا قال: أرضي أو بستاني... (2756).
[10] سبق تخريجه.
[11] سبق تخريجه.
[12] سبق تخريجه.
[13] أخرجه البخاري من الأيمان والنذور/ باب النذر في الطاعة (6696) عن عائشة رضي الله عنها.
[14] سبق تخريجه.
[15] سبق تخريجه.
[16] أخرجه البخاري في الاعتكاف/ باب اعتكاف النساء (2033)؛ ومسلم في الصيام/ باب متى يدخل من أراد الاعتكاف في معتكفه (1173) عن عائشة رضي الله عنها.
[17] أخرجه مسلم في الحج/ باب فضل الصلاة بمسجدي مكة والمدينة (1396) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
[18] أخرجه مسلم في الحج/ باب فضل الصلاة بمسجدي مكة والمدينة (1394) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[19] عزاه الهيثمي في المجمع (4/7) للطبراني في الكبير عن أبي الدرداء رضي الله عنه مرفوعًا وقال هو حديث حسن وأخرجه ابن عدي (7/2670) عن جابر رضي الله عنه، قال الحافظ في التلخيص (2069) إسناده ضعيف.
[20] سبق تخريجه
[21] أخرجه البخاري في فضل الصلاة في مكة والمدينة/ باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة (1189)؛ ومسلم في الحج/ باب فضل المساجد الثلاثة (1397) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[22] أخرجه الإمام أحمد (4/323) عن مروان والمسور بن مخرمة.
[23] سبق تخريجه.
[24] سبق تخريجه.
[25] سبق تخريجه.
[26] أخرجه البخاري (5089) في النكاح/ باب الأكفاء في الدين؛ مسلم في الحج/ باب جواز إشتراط المحرم التحلل... (1207) عن عائشة رضي الله عنها؛ وأخرجه مسلم (1208) عن ابن عباس رضي الله عنه.(/25)
وقوله: "فإن لك على ربك ما استثنيت" أخرجه النسائي (5/168) في مناسك الحج/ باب كيف يقول إذا اشترط، عن ابن عباس رضي الله عنهما، وهو صحيح كما في "الإرواء" (4/186).
[27] سبق تخريجه.
[28] أخرجه مسلم في الطهارة/ باب وجوب الطهارة للصلاة (224) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
[29] أخرجه الإمام أحمد (2/83) وأبو داود في الصلاة/ باب في المواضع التي لا تجوز فيها الصلاة (492)؛ والترمذي في الصلاة/ باب ما جاء أن الأرض كلها مسجد (317)؛ وابن ماجه في الصلاة/ باب المواضع التي تكره فيها الصلاة (745)؛ وابن خزيمة (791) وصححه شيخ الإسلام في الاقتضاء (2/677).
[30] أخرجه مسلم في الجنائز/ باب النهي عن الجلوس على القبر والصلاة عليه (972) عن أبي مرثد الغنوي رضي الله عنه.
[31] أخرجه البخاري في البيوع/ باب إذا اشترط في البيع شروطًا لا تحل (2168)؛ ومسلم في العتق/ باب بيان أن الولاء لمن أعتق (1504)؛ عن عائشة رضي الله عنها.
[32] أخرجه الترمذي في الزهد/ باب حديث من حسن إسلام المرء... (2317)؛ وابن ماجه في الفتن/ باب كف اللسان في الفتنة (3976)؛ وصححه ابن حبان (229) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وحسنه النووي في الأربعين، الحديث الثاني عشر، وانظر جامع العلوم والحكم (2/287).
[33] سبق تخريجه.
[34] أخرجه البخاري (6018) في الأدب/ باب من كان يؤمن بالله واليوم الآخر..؛ ومسلم (47) في الإيمان/ باب الحث على إكرام الجار... عن أبي هريرة رضي الله عنه.(/26)
[35] أخرجه الإمام أحمد (5/354)؛ وأبو داود في الصلاة/ باب الإمام يقطع الخطبة للأمر يحدث (1109)؛ والترمذي في المناقب/ باب حلمه ووضعه (ص) الحسن والحسين بين يديه (3774) وحسنه، والنسائي في الجمعة/ باب نزول الإمام عن المنبر قبل فراغه... (3/108)؛ وابن ماجه في اللباس/ باب لبس الأحمر للرجال (3600)؛ وصححه ابن حبان (6038) (6039) إحسان؛ والحاكم (1/287) عن أبي بريدة رضي الله عنه، وصححه الحاكم على شرط مسلم ووافقه الذهبي.(/27)
العنوان: شروط استلهام القرآن الكريم
رقم المقالة: 1637
صاحب المقالة: خاص: الألوكة
-----------------------------------------
شروط استلهام القرآن الكريم والاقتباس منه
الأديبة الناقدة د. إخلاص فخري عمارة، كتبتْ في مكة المكرمة كتاباً لطيفاً بعنوان: "استلهام القرآن الكريم في شعر أمل دُنْقُل"، وهو غاية في الأهمية؛ حيث يتطرَّقُ إلى استلهام القرآن الكريم وأنواعِه لدى أحد الشعراء المعاصرين، ممَّن لم يوجِّهوا أدبهم التَّوجيه الصحيح ... تقول في الصفحة (35):
شروط استلهام القرآن الكريم والاقتباس منه
لأنَّ القرآن نزل باللفظ والمعنى، ولأنَّه مُعْجِزٌ بنصِّه وبيانه؛ فيترتَّب على ذلك مراعاة كلِّ الوسائل والأساليب التي تؤدِّي إلى المحافظة عليه، وحمايته من أيِّ تحريفٍ أو تبديلٍ أوْ خطأٍ في الفَهْم والتَّأْويل.
ومن ذلك: الالتزام بمعنى اللفظ القرآني حسَب السياق الذي وَرَدَ فيه؛ فلا نعزله عن سياقه ونلتمس له دلالات ومعانيَ أخرى يتَّسع لها إذا كان مفردًا مستقلاًّ، وإنما يتحتَّم إذا اقتبسنا أحدَ ألفاظ الكتاب العزيز أن نحافظ على دلالة المناسبة لموضعه من الآية والسورة، وأن نُورِدَه في موقف مُشابه وموافق لتلك الدلالة.
ومن هنا كان على الناقد الدَّارس أن يبيِّن مدى مخالفة الشاعر أحيانًا للمعنى القرآني عندما يكون قد اقتبس لفظًا أو عبارةً قرآنيةً.
ولا يصحُّ قَبول أو استساغة تَأْويل وتفسير يُعارض القرآن؛ "ذلك أنَّ المبدأ أو الحُكْم أو الرأي الذي تؤيِّده آياتُ القرآن يحظى على الفور بصفة استحقاق القَبول من جماهير المسلمين، كما أنَّ الرأي الذي تُعارضه آيات القرآن مكانُه هو الرَّفض المطلَق من جماهير المسلمين وعلمائهم، أما الرأي الذي يعجز أصحابه عن تأييده بأيَّة آيةٍ من آيات القرآن؛ فإنَّ في عجزهم دلالةً أكيدة على بُعْد هذا الرأي عن رُوح الإسلام ومقرَّراته"[1].(/1)
وتتنوَّع الأشكال التي يمكن أن يفيد فيها الشاعر بنصوص الكتاب العزيز؛ فهو قد يُورِد كلمة أو عبارة بنصِّها خلال شِعره، وذلك ما يُعرف بـ"الاقتباس" أو "التَّضْمين"، وتحدَّثتْ عنه البلاغة العربية القديمة، وأوردتْ له نماذجَ كثيرةً من الشِّعر العربي، كما تحدَّث عنه المفسِّرون والدَّارسون للقرآن الكريم، ومن ذلك قول السُّيوطي في "الإتقان": "هو تضمينُ الشِّعر أو النَّثر بعضَ القرآن، لا على أنَّه منه، بألاَّ يُقال فيه: قال تعالى ونحوه، فإنَّ ذلك حينئذٍ لا يكون اقتباسًا"[2].
كما أجازه الشيخ عزُّ الدين بن عبدالسلام في النَّثر فقط، مستدِلاًّ على ذلك بما وَرَد من أدعيةٍ عن الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - وعن أبي بكرٍ، تتضمَّن آياتٍ من القرآن، ولكنَّه منع ذلك في الشِّعر، على أننا نرى جَوازَه في الشِّعر؛ فإنَّ دواوين حسَّان بن ثابت، وكعب بن مالك، وعبدالله بن رَواحَة، وغيرهم من صحابة الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - والتابعين - اقتبسوا كلماتٍ وعباراتٍ قرآنيةً في أشعارهم، ولم ينكرها عليهم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم.
وللشيخ تاج الدين السُّبْكي رأيٌ أوْرَدَه في "طبقاته"، معقِّبًا على بيتَيْن لأحد كبار الشَّافعية، هما:
يَا مَنْ عَدَا ثُمَّ اعْتَدَى ثُمَّ اقْتَرَفْ ثُمَّ انْتَهَى ثُمَّ ارْعَوَى ثُمَّ اعْتَرَفْ
أَبْشِرْ بِقَوْلِ اللهِ فِي آيَاتِهِ [إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفْ]
يقول الشيخ السُّبْكي معلِّقًا: "هذا الاقتباس في شِعره له فائدةٌ؛ فإنَّه جليلُ القَدْر، والناس يَنْهَوْنَ عن هذا، وربما أدَّى بحثُ بعضهم إلى أنَّه لا يجوز، وقيل: إنَّ ذلك إنما يفعله الشُّعراء الذين هم في كلِّ وادٍ يهيمون، ويَثِبُون على الألفاظ وَثْبَةَ مَنْ لا يُبالي، وهذا هو الأستاذ أبو منصور من أئمة الدِّين، وقد فعل هذا"[3]!!(/2)
وبعد أن يُورِد السُّيوطي في "الإتقان" عددًا من الأبيات التي تَقْتَبِسُ كلماتٍ قرآنيةً، يُعقِّب قائلاً: "الكلمة من القرآن الكريم أو الآية، يقتبسها المقتبِس في كلامه، مهما بلغ هذا الكلام من الفصاحة والبلاغة؛ فتُضفي على الكلام نورًا وبهاءً وروعةً وفخامةً، وتكون متميِّزةً عمَّا قبلها وما بعدها تميُّزَ الدُّرَّة اليتيمة الثمينة بين حبَّات العِقْد"[4].
وقد ظهرت في العصر الحديث أشكال متنوعة يمكن أن نُطلق عليها عامَّةً (استلهامًا) أو استفادةً من إحدى قصص القرآن المجيد، فيوظّف مغزى القصة في التعبير عن وِجهة نظره تجاه أحداث معاصرة.
وأحيانا يكتفي الشاعر بموقفٍ واحد من القصة، يرى فيه تصويرًا لموقف عصري أراد أن يحكيَ عنه.
وربما لجأ الشاعر إلى إحدى الشخصيات القرآنية، فاستعار ملامحها وسماتها لتجسيد شخصية حديثة.
وقد تظهر أشكالٌ أخرى للاستلهام مع الدراسة التطبيقية لدى الشعراء المحدَثين.
ومن الواجب على الشاعر في كل الحالات السابقة وما يَجِدُّ من أمثالها ونظائرها أن يلتزم بالشروط التي أشرنا إليها، وأن يضع في اعتباره دائمًا أنَّه يتعامل مع نصٍّ إلهيٍّ له قداسته ومكانته العالية، ويجب تنزيهه والسموُّ به عن أيِّ استعمال أو فَهْم تبدو عليه شُبْهَة الإساءة وعدم الإجلال والتَّنْزيه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] دراسات في التفسير، ص11.
[2] المدخل، ص 469 (عن الإتقان للسيوطي).
[3] المدخل، ص 471.
[4] السابق، ص 472( عن الإتقان، جـ1، ص 113/114).(/3)
العنوان: شروط الفطر بالمفطرات وما لا يفطِّرُ وما يجوز للصائم
رقم المقالة: 1313
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحمدُ لله الحكيم الخالق، العظيم الحليم الصادق، الرحيِمِ الكريمِ الرازِق، رَفَعَ السَّبْع الطرائق بدون عمَدٍ ولا عَلائقِ، وثبَّتَ الأرضَ بالجبالِ الشواهِق، تَعرَّفَ إلى خلْقه بالبراهينِ والحقائِق، وتكفَّلَ بأرزاقِ جميع الخلائق، خلق الإِنسان من ماء دافق، وألزمه بالشرائع لوصل العلائق، وسامَحَه عنِ الخطأ والنسيانِ فيما لا يُوَافق.
أحْمَدُه ما سكتَ ساكتٌ ونطقَ ناطِق، وأشْهَد أنْ لا إِله إلاَّ الله وحدَه لا شريكَ له شهادةَ مُخلِصٍ لا منافِق، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه الذي عمَّتْ دعوتُه النازل والشَّاهِق، صلى الله عليه وعلى صاحبه أبي بكرٍ القائمِ يومَ الرِّدَّةِ بالْحَزم اللائق، وعلى عُمَرَ مُدَوِّخ الكفارِ وفاتِح المَغْالِقَ، وعلى عثمانَ الذي مَا اسْتَحَلَّ حُرْمَتَه إلاَّ مارِق، وعلى عليٍّ الذي كان لِشَجاعَتِه يَسْلُك المَضَايق، وعلى آلِهِ وأصحابِه الذين كُلٌّ منهم على من سِواهُم فائِق، وسلَّم تسليمًا.
إخواني: إن المُفطِّراتِ السابقةَ ما عدا الحيضَ والنِّفاس، وهي الجماعُ والإِنزالُ بالمباشرةِ والأكلُ والشربُ وما بمعناهما والحجامةُ والقيءُ لاَ يُفطِّرُ الصائمَ شَيءٌ منها إلاَّ إذا تَنَاولها عالمًا ذاكرًِا مختارًا فهذه ثلاثة شروطٍ:(/1)
الشرطُ الأوَّلُ: أنْ يكونَ عالمًا، فإن كان جاهِلاً لم يُفطِرُ، لقوله تعالى في سورةِ البقرةِ {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَآ إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا} [286] فقال الله: قد فَعَلْت[1] ، وقوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} [الأحزاب:5]، وسواءٌ كان جاهِلاً بالْحُكْمَ الشَّرْعِيِّ، مِثْلُ أن يظُنَّ أنَّ هذا الشيءَ غير مُفَطِّرٍ فيَفْعَلَه أو جاهِلاً بالحَالِ أيْ بالْوقْتِ، مِثْلُ أن يظُنَّ أنَّ الْفَجْرَ لم يَطلُع فيأْكُلَ وهو طالِعٌ، أو يظنَّ أنَّ الشمسَ قد غَربَتْ فيأكلَ وهي لم تَغْرُب، فلا يُفْطِر في ذلك كلِّه، لما في الصحيحين عن عَدِيِّ بن حاتِم رضي الله عنه قال: لمَّا نزَلتْ هذه الاية: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ} [البقرة: 187] عمَدتُ إلى عِقالَين: أحَدُهما أسْودُ والآخَرُ أبْيَضُ فجعلتُهما تحت وِسادتِي وجعلتُ أنظُرُ إليهما فلما تبيَّن لِي الأبيضُ من الأسْودِ أمسكتُ، فلمَّا أصبحتُ غدوتُ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلّم - فأخْبرتُه بالَّذِي صَنعتُ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلّم: ((إنَّ وِسادَك إذنْ لعرِيضٌ إن كان الخيطُ الأبيضُ والأسودُ وسادك إنَّما ذلك بياضُ النهارِ وسوادُ الليل))، فقد أكلَ عدّي بعد طلوعِ الْفَجْر ولم يمسكْ حتى تبين له الخيطانِ ولم يأمُرُه النبيُّ - صلى الله عليه وسلّم - بالقضاءِ لأنه كان جاهلاً بالْحُكْمِ، وفي صحيح البخاريِّ من حديثِ أسْماءَ بنتِ أبي بكرٍ رضي الله عنهما قالَتْ: أفْطرْنَا في عهدِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلّم - يوم غيم ثم طلعت الشمس، ولم تذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلّم - أمرَهُمْ بالقضاءِ، لأنهم كانوا جاهِلينَ بالوقتِ ولو أمَرهُمْ بالقضاءِ لنُقِلَ، لأنه ممَّا توَفَّرُ الدَّواعِي على(/2)
نقلِهِ لأهميَّتِه، بل قالَ شيخُ الإِسلام ابن تيمية في رسالةِ (حقيقة الصيام): إنه نَقَل هشامُ بنُ عُرْوةَ أحدُ رواة الحديث عن أبيهِ عروةَ أنهم لم يؤمَرُوا بالقضاءِ، لَكنْ متى علِم ببقاءِ النهارِ وأن الشَّمسَ لم تغب أمْسكَ حتى تغيبَ.
ومثْلُ ذَلِكَ لَوْ أكَلَ بعد طلوع الفجرِ يظنُّ أنَّ الْفَجْر لَمْ يطْلُعْ، فتبيَّن له بعد ذلك أنه قد طلعَ فصيامُه صحيحٌ ولا قضاءَ عليه لأنَّه كان جاهِلاً بالوقتِ، وقد أباحَ الله له الأكل والشربَ والجِماعَ حَتَّى يتبيَّنَ له الْفَجرُ، والمُباحُ المأذونُ فيه لا يُؤمَر فاعِلهُ بالقضاء، لكن متى تبيَّنَ له وهو يأكلُ أو يشربُ أن الشمسَ لم تغربْ أو أن الفجرَ قد طلع أمسكَ ولفَظَ ما في فمه إن كان فيه شيء لزوال عذرِه حينئذٍ.
الشَّرطُ الثاني: أنْ يكونَ ذاكِرًا، فإنْ كان ناسيًا فصيامهُ صحيحٌ ولا قضاءَ عليه لمَا سبق في آيةِ الْبقرةِ، ولما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلّم - أنَّه قال: ((من نَسِي وهُوَ صائمٌ فأكَلَ أو شرِب فليُتِمَّ صَوْمَه فإنَّما أطْعمَه الله وسقاه))؛ متفق عليه واللَّفظ لمسلم.
فأمْرُ النبي - صلى الله عليه وسلّم - بإتْمامِه دليلٌ على صحتِه، ونِسْبَةُ إطعام النَّاسِي وسقْيهِ إلى الله دليلٌ على عدم المؤاخذةِ عليه. لكن متى ذَكَرَ أو ذُكِّرَ أمْسَكَ ولَفَظَ ما في فَمِه إن كان فيه شيءٌ لِزَوال عُذْره حِيْنَئذٍ، ويجب على من رأى صائمًا يأكلُ أو يشربُ أن يُنبِّههُ لقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة:5].(/3)
الشَّرطُ الثالثُ: أنْ يكونَ مُخْتارًا، أي مُتَنَاولاً لِلْمُفَطِّر باخْتيَاره وإرادته، فإنْ كانَ مُكرَهًا فصيامُه صحيحٌ ولا قضاءَ عليه لأنَّ الله سبحانَه رَفَعَ الْحُكمَ عَمَّنْ كَفَرَ مُكْرَهًا وقلْبُهُ مُطمَئِنٌّ بالإِيمانِ فقال تعالى: {مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: 106] فإذا رَفَع اللهُ حكْمَ الكفرِ عمن أُكْرِهَ عليه فمَا دونه أوْلى، ولقولِهِ صلى الله عليه وسلّم: ((إنَّ الله تجاوز عن أمَّتِي الْخَطأ والنسيانَ وما اسْتُكرهوا عليه))؛ رواه ابنُ ماجة والبيهقيُّ وحسَّنَه النَّوَوِيُّ. فلوْ أكْرَهَ الرجلُ زوجتَه على الوطءِ وهي صائمة فصيامها صحيح ولا قضاء عليها. ولا يحل له إكراهها على الوطءِ وهي صائمةٌ إلاَّ إنْ صامتْ تطوُّعًا بغير إذنه وهو حاضرٌ، ولو طارَ إلى جوفِ الصائم غُبارٌ أو دخل فيه شيءٌ بغير اختياره أو تمَضْمَضَ أوْ استَنْشَقَ فنزل إلى جوفِه شيء من الماءِ بغيرِ اختيارِهِ فصيامهُ صحيحٌ ولا قضاءَ عليه.(/4)
ولا يُفْطِرُ الصائمُ بِالْكُحْلِ والدواءِ في عينِه ولو وجد طعْمَه في حلْقِه لأنَّ ذلك ليس بأكْلٍ ولا شُربٍ ولا بمعناهُما، ولا يُفْطِر بِتَقْطير دواءٍ في أذُنِه أيْضًا، ولا بوضع دواءٍ في جرحٍ ولو وجد طعم الدواء في حَلْقِه لأنَّ ذلك ليس أكْلاً ولا شُربًا ولا بمعنى الأكْلِ والشُّرب. قال شيخ الإِسلام ابن تيميةَ في رسالةِ (حقيقةُ الصيام): ونحْنُ نعلَمُ أنه ليس في الكتابِ والسُّنَّةِ ما يَدلُّ على الإِفْطارِ بهذه الأشَياءِ، فعَلِمْنَا أنَّها ليست مُفَطِّرةً، قال: فإنَّ الصيامَ من دينِ المسلمين الَّذِي يحتاج إلى معرفته الخاصُّ والعامُّ. فلَوْ كانتْ هذه الأمورُ مما حَرَّمه الله ورسولُه في الصيامِ ويفْسُدُ الصومُ بها لكانَ هذا مما يجبُ على الرسولِ - صلى الله عليه وسلّم - بَيانُهُ، ولو ذكر ذلك لَعَلِمَهُ الصحابة وبَلَّغُوه الأمة كما بلغوا سائر شرعه. فلما لم ينقُلْ أحدٌ من أهْلِ العلمِ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلّم - في ذلك لا حَديثًا صحيحًا ولا ضعِيفًا ولاَ مُسْندًا ولا مُرسَلاً عُلِم أنَّه لم يَذكُرْ شَيْئًا من ذلك، والحديث المَرويُّ في الكْحلِ يعني أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلّم - أمر بالإِثمد المُرَوَّح عندَ النَّوم وقال: ((ليتَّقهِ الصائِمُ))، ضعيفٌ؛ رواه أبو داود في السنن ولم يرْوهِ غيرُه. قال أبو داود: قال لي يحيى بن معين هذا حديث منكر. وقال شيخ الإِسلام أيضًا. والأحكام التي تحتاجُ الأمَّةُ إلى معرفتها لا بُدَّ أن يُبيِّنها النبيُّ - صلى الله عليه وسلّم - بيانًا عامًا ولا بُدَّ أنْ تَنْقُلها الأمَّةُ. فإذا انْتَفَى هذا عُلِمَ أن هذا ليس مِنْ دِيْنهِ. انتهى كلامُه رحمه الله وهو كلامٌ رَصِينٌ مبنيٌ على براهينَ واضحةٍ وقواعد ثابتةٍ.(/5)
ولا يُفطِرُ بِذَوْق الطعامِ إذا لم يَبْلعْه ولا بشمِّ الطيب والْبخُورِ، لكن لا يسْتَنْشِقْ دُخانَ البَخُور لأنَّ لَهُ أجزاءً تصعدُ فربَّما وصلَ إلى المَعِدَة شيءٌ منه، ولا يُفْطِرُ بالمضمضمةِ والاستنشاقِ، لَكِنْ لا يُبالغُ في ذلك لأنَّه ربَّما تَهَّرب شيءٌ من الماءِ إلى جوفِه، وعن لَقِيْطِ بن صَبَرَةَ رضي الله عنه أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلّم - قال: ((أسْبغِ الوضوء وخَلِّلْ بينَ الأصابع وبالِغْ في الاستنشاق إلاَّ أنْ تكون صائمًا))؛ رواه أبو داود والنسائيُّ وصححه ابنُ خزيمةَ.
ولا يُفْطِرُ بالتَّسَوُّكِ، بل هو سُنَّةٌ له في النهار وآخره كالمُفْطِرينَ لقولِ النبي صلى الله عليه وسلّم: ((لولا أنْ أشقَّ على أمَّتِي لأَمرْتُهم بالسواكِ عندَ كلِّ صلاةٍ))؛ رواه الجماعة. وهذا عامٌ في الصائمينَ وغيرِهم في جميع الأوْقاتِ، وقال عَامِرُ بنُ ربيعةَ رضي الله عنه: ((رأيتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلّم - ما لا أحْصِي يتسوَّك وهو صائمٌ))؛ رواه أحمد وأبو داود والترمذي[2].
ولا يَنْبَغِي للصائمِ تَطْهيرُ أسنانِهِ بالمعجُون لأنَّ له نفوذًا قويًَّا ويُخشَى أنْ يتَسرَّبَ مع ريِقِهِ إلى جوفه وفي السِّواكِ غُنيْةً عنه.(/6)
ويجوزُ للصائمِ أنْ يفعلَ ما يخفِّفُ عنه شِدَّة الحرِّ والْعَطشِ كالتَّبَرُّدِ بالماءِ ونحوه لما رَوى مَالكٌ وأبو داودَ عن بعض أصحابِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلّم - قالَ: رأيتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلّم - بالُعَرْجِ (اسم موضع) يصبُّ المَاءَ على رأسهِ وهو صائم مِنَ الْعَطشِ، أوْ من الْحَر[3]. وبلّ ابنُ عُمَر رضي الله عنهما ثَوْبًا فألْقَاه على نفْسِهِ وهو صائمٌ، وكان لأنس بن مالكٍ رضي الله عنه حجَرٌ منْقُورٌ يشبِهُ الحَوضَ إذا وجدَ الحرَّ وهو صائمٌ نَزلَ فيه وكأنه والله أعلم مملوءٌ ماءً. وقال الْحَسَنُ لا بأسَ بالمضمضمةِ والتَّبرُّدِ للصائمِ، ذكَرَ هذه الاثارَ البخاريُّ في صحيحِه تعْلِيقًا.
إخواني: تَفقَّهوا في دين الله لتعبدوا الله على بَصيرةٍ فإنَّه لا يستوي الَّذِين يعلمون والَّذِين لا يَعْلمُون. ومنْ يُردِ الله به خيرًا يُفَقِّههُ في الدِّينِ.
اللَّهُمَّ فقهْنا في ديْنِنا وارزقْنا العمل به، وثبِّتنَا عليه وتوفَّنَا مؤمِنين وألْحِقنَا بالصالحين. واغفر لنا ولِوالِدِينا ولجميع المسلمينَ برحمتِك يا أرحم الراحمينَ وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمدٍ وعلى آلِهِ وصحبهِ أجْمعينَ.
ــــــــــــــــــــــــــــ
[1] رواه مسلم
[2] ذكره البخاري معلقًا بصيغة التمريض . وحسنه الترمذي. وقال الحافظ ابن حجر في موضع من التلخيص: إسناده حسن.
[3] صحيح.(/7)
العنوان: شروط النكاح وكيفية طلاق السنة أيضاً
رقم المقالة: 754
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحمد لله الذي خلق من الماء بشراً فجعله نسباً وصهراً وكان ربك قديراً والحمد لله الذي بين لعباده الحلال والحرام ليسيروا على حسب ما شرع لهم وكان الله سميعاً بصيراً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة نرجو بها النجاة حين لا يجد الظالمون ولياً ولا نصيراً، وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله المرسل بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد، أيها الناس: {اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كثيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] اشكروا نعمة الله عليكم بما شرعه لكم من الاتصال بعضكم ببعض بسبب عقد النكاح الذي حث الشارع عليه وأمر به وأخبر أنه من سنن المرسلين قال الله تعالى {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} وقال {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً} [الرعد:38] قال - صلى الله عليه وسلم -: ((يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج)) وقال: ((تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة)).(/1)
والنكاح له شروط عند الدخول فيه وشروط عند الخروج منه يجب على الإنسان مراعاتها. فمن الشروط التي عند دخوله أن يكون كل من الزوج والزوجة راضياً بالنكاح، فلا يجوز إجبار الزوج على النكاح ولا إجبار الزوجة ولو كانت بكراً، ولا يجوز إجبارها على أن تتزوج بمن لا ترضاه، فلو قالت لا أرضى إلا بفلان وكان غير كفؤ في دينه فإنها تمنع ولا تزوج حتى تختار كفؤاً في دينه. ومن الشروط الولي، فلا نكاح إلا بولي، والولي هو العاصب الأقرب فالأقرب فالأقرب، إلا أن الآباء وإن علوا يقدمون على الأبناء وإن نزلوا.(/2)
وأما الأقارب غير العصبة فلا ولاية لهم إلا أن يوكلهم من له الولاية من العصبة، وذلك مثل الأخ من الأم والخال والجد من قبل الأم فهؤلاء ونحوهم ليس لهم ولاية التزويج إلا بتوكيل من الولي العاصب، وإذا لم يكن الولي الأقرب أهلاً للولاية فإنه يزوجها الولي الذي بعده، وإذا لم يكن للمرأة أولياء من العصبة فإن الذي يزوجها القاضي إما بنفسه أو يوكل من شاء. ومن الشروط أن يحضر العقد رجلان مقبولان في الشهادة. قال الفقهاء: ولا يصح أن يشهد على عقد النكاح من كان من آباء الزوج أو أبنائه أو آباء الزوجة أو أبنائها أو آباء الولي أو أبنائه. ومن الشروط أن يعين الولي الزوجة باسمها أو وصفها الذي تتميز به. فلو قال زوجتك بنتي لم يصح إلا أن يكون ليس له بنت سواها فلا بأس، ويجوز العقد على المرأة ولو كانت حائضاً أو صائمة أو غائبة عن البلد إذا علم رضاها. وأما الواجب عند الخروج من النكاح فإن الزوج مأمور إذا رأى من زوجته ما يكره أن يعظها ثم يهجرها في المضجع ثم يضربها ضرباً غير مبرح ويصبر عليها فلا يطلقها، فقد تستقيم حالها وقد يرزق منها أولاداً يكون فيهم خير كثير، فإذا لم يتمكن من الصبر جاز له أن يطلقها ولكن يجب عليه أن يطلقها لعدتها قال الله تعالى {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق:1] وذلك بأن يطلقها وهي طاهر طهراً لم يجامعها فيه، فلا يجوز طلاق المرأة وهي حائض ولا أن يطلقها في طهر وطئها فيه، إلا أن يتبين حملها أو تحيض بعد ذلك فيطلقها بعد الحيض قبل أن يطأها. وإني أذكركم بمسألة من فروع تلك المسألة، إذا كانت لك زوجة ترضع وقد جامعتها بعد نفاسها وأردت أن تطلقها فلا يجوز أن تطلقها حتى تحيض ولو طال الزمن، فإذا حاضت وطهرت فطلقها إن شئت.(/3)
وإذا أراد أحدكم الطلاق في الحال التي يجوز فيها فليطلق مرة واحدة لا أكثر ليكون في ذلك توسيع على نفسه إذا أراد أن يراجع، ولأن ما زاد على الطلقة الواحدة فهو طلاق بدعة إما مكروه وإما محرم، وأنت إذا طلقتها واحدة فماذا تخاف؟ أتخاف أن ترجع عليك؟ إنها لن ترجع عليك إلا باختيارك. إذا فلماذا تتجاوز الواحدة فتطلق أكثر منها؟ وإذا أراد أحدكم الطلاق فليشهد رجلين على طلاقه، وإذا طلقتموهن فلا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه، فلا يحل للزوج أن يخرج زوجته إذا طلقها طلاقاً له فيه رجعة من بيته حتى تنقضي عدتها، ولا يحل لها أن تخرج من بيت زوجها حتى تنقضي عدتها قال الله تعالى {وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [الطلاق:2] هذا قضاء الله وحكمه {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً * مُبِيناً} [الأحزاب:36]. أما إذا كانت الزوجة مطلقة طلاقاً بائناً وهي التي لا تحل لزوجها إلا بعقد فإنها لا بأس أن تخرج من بيت زوجها وتعتد في بيتها. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً}[الأحزاب:71،72].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم... إلخ.(/4)
العنوان: شروط وجوب الحج
رقم المقالة: 713
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحمد لله الذي أكمل لهذه الأمة شرائع الإسلام، وفرض على المستطيع منهم حج بيته الحرام، ورتب عليه جزيل الفضل والإنعام، فمن حج البيت، ولم يرفث، ولم يفسق خرج كيوم ولدته أمه نقيا من الذنوب والآثام، وذلك هو الحج المبرور ليس جزاء إلا الفوز بالجنة دار السلام أحمده، وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله هو الملك القدوس السلام، وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله أفضل من صلى، وزكى، وحج، وصام صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه البررة الكرام، وعلى التابعين لهم بإحسان ما تعاقبت الليالي والأيام، وسلم تسليماً.(/1)
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله، واحمدوا ربكم أن أكمل لكم الدين، وأتم عليكم النعمة، ويسر لكم سبل الخيرات حتى أصبحت في متناول أيديكم من غير كلفة، فلقد كان الناس فيما مضى يعانون من الوصول إلى البيت أنواع الكلفة والمشقات، يعانون كثرة النفقات المالية والمشقة البدنية، وتحمل الأخطار، أما اليوم، ولله الحمد، فقد أصبح الأمر يسيراً، ويسر الله بنعمته وفضله ما كان عسيراً، فأصبحتم تصلون إلى البيت الحرام بكل سهولة نفقات يسيرة ومراكب مريحة، وأمن وافر وطمأنينة كاملة، وعيش رغد، فاشكروا الله أيها المسلمون على هذه النعمة، واغتنموها، وانتهزوا فرص الخيرات، وابتدروها، وأدوا ما فرض الله عليكم من الحج، وتزودوا من التطوع به، فإن التطوع تكمل به الفريضة. واعلموا أن الله فرض الحج على المسلم، إذا تمت فيه شروط أربعة (الأول): أن يكون بالغا، فأما الذي لم يبلغ، فإنه لا يجب عليه الحج، ولكن إذا حج، فله أجره، وإذا بلغ حج فريضة الإسلام، وإذا سافرتم بالصغار إلى الحج، فأنتم بالخيار إن شئتم، فحججوهم، وإن شئتم، فاتركوهم، وإذا حججتموهم، فلهم أجر الحج، ولكم أجر المعونة، والسبب (الشرط الثاني): أن يكون عاقلا، فأما المجنون الذي لا يعقل، فلا حج عليه إلا أن يكون عاقلاً بعد بلوغه، ووجب عليه الحج، ثم حصل له الجنون بعد ذلك. (الشرط الثالث): أن يكون حراً، فأما العبد الرقيق الذي يباع، ويشترى، فلا حج عليه (الشرط الرابع): أن يكون مستطيعاً بماله، وبدنه، فمن لم يكن مستطيعاً بماله، وهو الفقير، فلا حج عليه لقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران:97]. وإذا كان على الإنسان دين، فإنه يقضي دينه، ثم يحج؛ لأن براءة الذمة أهم. وإذا كان الإنسان عاجزاً عن الحج بنفسه، وعنده مال، فإن كان عجزا مستمراً لا يرجى زواله، فلينوب من يحج عنه مثل الكبير الذي لا يستطيع بنفسه، والمريض مرضاً لا(/2)
يرجى برؤه، وإن كان يرجى زوال عجزه، فإنه لا ينيب، بل يصبر حتى يزول العجز، ثم يؤدي الفريضة بنفسه ومن الاستطاعة أن يكون للمرأة محرم، فأما المرآة التي لا محرم لها، فإنه لا يجب عليها الحج، ولا يجوز لها أن تسافر بلا محرم، فإن سافرت بلا محرم، فهي في إثم ومعصية لله ولرسوله من حين تخرج من بلدها حتى يرجع إليه، فلتمكث في بيتها حتى ييسر الله لها محرماً، وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب يقول: ((لا يخلون رجل بامرأة، إلا ومعها ذو محرم، ولا تسافر المرأة، إلا مع ذي محرم، فقام رجل، فقال يا رسول الله: إن امرأتي خرجت حاجة، وإني اكتتبت في غزوة كذا وكذا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: انطلق، فحج مع امرأتك)). والمحرم هو زوجها، وكل من تحرم عليمه تحريماً مؤبداً بنسب أو رضاع أو مصاهرة مثل الأب والجد والابن والأخ وابن الأخت والعم والخال من نسب أو رضاع، ومثل أبي الزوج، وإن علا وابنه، وإن نزل، وزوج البنت، وإن نزلت، وزوج الأم، وإن علت لكن زوج الأم لا يكون محرماً لبنتها حتى يطأ الأم، فكل هؤلاء محارم للمرأة، والحكمة في وجوب استصحاب المحرم حفظ المرأة، وصاينتها، وأما قول بعض العوام: إن ذلك من أجل أن يفكك حزائمها لو ماتت، فهو غير صحيح؛ لأن كل أحد يجوز أن يفكك حزائم المرأة، إذا ماتت سواء كان محرماً لها، أو غير محرم، فقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جلس على قبر ابنته، وهي تدفن، وعيناه تدمعان، فأمر أبا طلحة أن ينزل في قبرها، فنزل والرسول - صلى الله عليه وسلم - حاضر زوجها وعثمان رضي الله عنه حاضر. أيها الناس: لقد شاع عند كثير من العوام أن الإنسان إذا لم يتمم له أي: يعق عنه فإنه لا يحج، والواقع أنه لا علاقة بين الحج، وبين التميمة، فالإنسان إذا حج، فله حجه سواء تمم له، أو ما تمم له. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي(/3)
بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران:96،97].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.. الخ.(/4)
العنوان: شريكُ العمر.. حُلم كل فتاة
رقم المقالة: 1551
صاحب المقالة: منال الجريان
-----------------------------------------
استطلاع - منال الجريان
شريكُ العمر.. حُلم كل فتاة، فكيف تنتقيه لتسعَدَ معه؟
مع انفتاحِ العالم وتقاربِه، وتوفرِ وسائل الاتصال فيه حتى كاد يكون قريةً صغيرة، إلا أنه لم يساعد بعضًا من الفتيات والشباب في التقاء شريك عمرهما اللذي يحلمان به.
فنجد مثلا بعضَ الفتيات يعزفن عن الزواج بحجة أنه لم يأتِ من تتوفر فيه جميعُ مواصفات شريك عمرها.
وبعضهن تتركُ الاختيارَ والموافقة المبدئية والنهائية لأهلها، وكأنها ليست الطرف الأساسي بالموضوع.
ولأهمية اختيار شريك العمر المناسب -إذ إنه أول خطوة من الخطوات الصحيحة لحياة زوجية سعيدة- طرحنا عددًا من الأسئلة، وهي (كيفية البحث عنه - مواصفاته - على ماذا تبنين اختيارك لشريك حياتك)، على بعض الفتيات في مختلف الأعمار لنرى مدى وعيهن وقدرتهن على اختيار شريك العمر.
ونقول لكل من التقت شريك عمرها: مبارك وألف مبارك.
التوافقُ الطبقي.. أساسُ الاختيار الصحيح لزوج المستقبل:
بدايةً شاركتنا حنان المحمود (فتاة في العشرين من عمرها) قائلة: (بدايةً الزواجُ سنة من السنن الإلهيه التي دعت إليها الشريعةُ الإسلامية وحثت الشبابَ والشابات على الزواج؛ لأنه تحصين من النزوات الشيطانية.
لذا يحرص كثيرٌ من الشباب والفتيات على البحث عمّن يرتضونه شريكًا، ومن ناحيتي فأنا أرى أن مهمة البحث تدخل فيها العاداتُ والتقاليد، وتحكمها حكمًا مباشرًا، وتختلف هذه العادات من مجتمع إلى آخر).
وتضيف: (فبيئتي تؤدي الأسرةُ فيها دورًا مهمًا في البحث عن زوج المستقبل؛ فمهما كانت قناعتي الكاملة فيه، إلا أن الأهل لهم الرأي الأكبر في اختياره.
كما أن التوافق الطبقي يؤدي دورًا مهما في الاختيار، وهذا يدخل من عدة مداخل أهمها (الجانب الاقتصادي – الجانب الاجتماعي).(/1)
ولو سألتِ أي فتاة سوية عن مواصفات شريك العمر فسيكون ردها بكل ثقة وتأمل: أن يكون على خلق ودين وعلم، قادر ومقدر للحياة الزوجية، غير مكره عليها.
والاختيار يُبنى على أساس قوي متين؛ ألا وهو تقوى الله -سبحانه وتعالى- والحب، هذا رأيي، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين).
كما شاركتنا نورة محمد (فتاة في الثامنة عشرة من عمرها) التي بدأت حديثها قائلة: (أتمنى من الله أن يرزقني ويرزق جميع أخواتي المسلمات من يرتضينه زوجًا لهن وشريك عمرها.
كما أتمنى من الله أن يطرق بابَنا من أرتضيه دينًا وخلقًا؛ فأنا لدي أختان تكبراني سنا، وكانتا تغاليان في مواصفات زوج المستقبل حتى توقف من يطرقُ البابَ لخطبتهما، لذا استفدتُ من هذا الدرس ولن أغالي في المواصفات المطلوبه بمن أرتضيه زوجًا، وأكتفي بما قاله رسولُنا الكريم: ((إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه؛ إلا تفعلوا تكن فتنةٌ في الأرض وفساد كبير)).
وعن كيفية البحث عنه قالت نورة: (برأيي الشخصي أن الطريقة المثلى هي أن تظهر الفتاةُ ظهورًا كبيرًا في المجتمعات النسائية حتى يطرق بابَها خُطّاب كُثر ويتسنى لها اختيارُ الأفضل).
كما التقينا هدى العتيبي (فتاة في الثامنه والعشرين من عمرها) فقالت: (التقاءُ من سيشاركُك حياتَك وعمرك ويكون سندًا لك هو حلمُ كل فتاة، لكن كيف نلتقيه؟ هذا ما يؤرقني؛ فالخُطّاب الذين يتقدمون لي قليلون جدًا، ولخوفي من تقدم عمري أكثر لجأتُ إلى مواقع الزواج بالإنترنت، لكنها لم تفلح، وأثبتت لي بالدليل القاطع إخفاقها.
لذا أرى أن طريقة البحث المثلى هي الطريقة التقليدية من البروز في التجمعات النسائية، وتوصية أهل الخير لجمع رأسين بالحلال.
أما عن مواصفاته فيكفيني أن يكون ذا خلق عالٍ، يخافُ الله ويعاملني بإحسان).(/2)
وأما على أي أساس أختيار زوج المستقبل فقد قالت هدى: (أختاره على أساس السؤال عن شخصيته، ومدى تحمله المسؤولية، وعن دينه وخلقه، والله يكتب ما فيه الخير لي، ويرزق جميع أخواتي المسلمات).
السبيلُ الصحيح للبحث عن زوج المستقبل هو انتظار نصيبك:
كما التقينا أشواق سعد (فتاة في السابعة عشرة من عمرها) فقالت: (هناك معتقدات خاطئة عند بعض الفتيات هداهن الله في البحث عن زوج المستقبل؛ منها التعرف إلى شاب، ومحادثته ظنًا منها أنه سيخطبها ويتزوجها، لكن هيهات أن يفعل؛ فنحن لنا عاداتنا وتقاليدنا، لكن مع الأسف، كثيرًا ما نسمع القصص المأسوية لكثير من الفتيات اللاتي تعرفن إلى شباب فوعدوهن بالزواج، وانتهت بفقد الفتاة عفافها وسمعتها، لكن بعض الفتيات لم تستفد من تجارب الآخرين لاعتقادها أن هذا الشئ لن يحدث لها.
وتضيف: (وبالنسبة لي أرى أن الفتاة تنتظر رزقَها الذي كتبه اللهُ لها، وسيأتي إلى باب دارها من يشاركها حياتها).
وعن مواصفاته قالت أشواق: (أتمنى من الله أن يرزقني زوجًا صالحًا طيبَ القلب ذا شخصية متزنة قوية، يحبني وأحبه، أما عن أساس اختياري لشريك حياتي فهو السؤال من قبل الأهل عن الخاطب، واستخارة الله تعالى.
وشاركتنا نوف فهد (فتاة في الخامسة والعشرين من عمرها) قائلة: (أرى أن الفتاة لا تبحث عمّن سيتزوجها، ولكن هو من يبحث عنها، فأنا لا أفضل مسألة أن الفتاة تُختار لمجرد شكلها، ولكن سمعة الفتاة، وحسن خلقها، ورزانة عقلها، وقوة دينها هي التي تجلب الخطاب لها.
أنا أحرصُ كثيرًا عند اختيار زوج المستقبل؛ إذ إن الحياة الزوجية السعيدة تُبنى على حسن الاختيار؛ فأنا أتمنى من الله أن يرزقني زوجًا يخشى الله، ذا عقل راجح وشخصية قوية وثقافة عالية، يحمل درجة علمية، طيبَ المعشر، هادئ الطباع، عاطفيًا وسخيًا، هذا ما أتمناه ولن أتنازل عن أي صفه بزوج المستقبل التي أراها مهمه جدًا.(/3)
وعن كيفية بناء اختيارها لشريك حياتها قالت: (بصراحه أبني اختياري على خمسة أمور أساسية هي:
1- السؤال
2- الاستخارة
3- الاستشارة
4- الرؤية الشرعية
5- التحليل النفسي عند رؤية الخاطب؛ من خلال طريقة حديثه وملامحه، ومن خلالها أحلل شخصيته وأعرف إن كان يناسبني أو لا.
كما شاركتنا ريتال عبدالله (فتاة في الرابعة والعشرين من عمرها) قائلة: (أرى أن طريقة البحث الجيدة عن زوج المستقبل هي عن طريق الخاطبات اللاتي يلتمسن الأجرَ عند الله أو عن طريق معرفة من هم قريبون من الفتاة نفسها).
وعن مواصفاته قالت ريتال: (أهم شئ أن يضع مخافةَ الله بين عينيه، وأن يكون على خلق عال، يحمل درجة علمية تناسبني؛ فأنا جامعيه، وأتمنى أن يكون جامعيًا، كما أود أن يكون مقتدرًا ماديا ويكبرني بفارق يسير).
أما عن كيفية بناء اختيارها لزوج المستقبل فقالت ريتال: (أرى أن الأساس في اختيار زوج المستقبل هو الرؤية الشرعية؛ فهي التي توضح ما إذا كان الطرفين مرتاحين لبعضهما أو لا.
فكم من فتاة تقدم إليها خطابٌ أكفاء، لكن عند الرؤية الشرعية ينفر أحدُ الطرفين من الآخر، كما أني أؤمن بالتحليل النفسي لشخصية الخاطب من خلال تصرفاته العادية، ويأتي بعد ذلك الاستخارة والاستشارة، وأسأل الله أن يرزقني ما أتمناه، ويرزق جميع أخواتي المسلمات.(/4)
العنوان: شطر الإيمان
رقم المقالة: 1290
صاحب المقالة: الشيخ عائض بن عبدالله القرني
-----------------------------------------
إنَّ الحمد لله، نحمدهُ ونستعينهُ ونستغفرهُ، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا وسيِّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومن يضللْ فلا هاديَ له، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70-71].
أما بعد:
فإن أصدقَ الحديث كتابُ الله، وأحسنَ الهدي هديُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - وشرَّ الأمور محدثاتُها، وكلَّ محدثة بدعةٌ، وكلَّ بدعة ضلالةٌ، وكلَّ ضلالةٍ في النار.
أيها المسلمون:
يا لسعادة أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يحدثهم عن الجنة، وعن نعيم الجنة، وعن راحة الجنة؛ لأن من جعل هذه الدنيا دارًا ومستقرًا، فقد أصابه الله بالحرمان، وقد كتب الله عليه الخذلان.
يا مُتْعَبَ الجِسْمِ كم تسعى لراحته أتْعَبْتَ جِسْمَكَ فيما فيه خُسْرانُ
أَقْبِلْ على الرُّوحِ واستكمِلْ فضائلَها فأنت بالرُّوح لا بالجسم إِنسانُ
يا عامرًا لخرابِ الدارِ مجتهدًا بالله هل لخراب الدارِ عُمْرانُ(/1)
خرج عليهم - صلى الله عليه وسلم - وهو يتحدث لهم عن نعيم الجنة، ثم قال لبلال رضي الله عنه: ((حدثني بأرجى عمل عملته في الإِسلام، فإني سمعت دفَّ نعليك بين يديّ في الجنة)) قال: ما عملت عملاً أرجى عندي؛ إني لم أتطهر طُهورًا، في ساعة ليلٍ أو نهار، إلا صليت بذلك الطُّهور ما كتب لي أن أصلي[1].
إن الوضوء مَعْلَمٌ من معالم هذا الدين، وليس في الدين قضايا بسيطة فرعية، بحيث يستخف بها الإِنسان، وليس فيه ظاهر وباطن، أو قشرٌ ولباب، بل كله أصلٌ ولبٌّ ووحيٌ من عند الله - عزَّ وجلَّ.
أعظم قضاياه لا إله إلا الله، وأيسرها إماطة الأذى عن الطريق، لكن من قصد بكل قضية وجه الله، أدخله الله الجنة، من أي أبوابها الثمانية شاء.
يقول عقبة بن عامر – رضي الله عنه وأرضاه -: كنا نتداول رعية الإِبل بيننا – وهذه رواية الإِمام أحمد في المسند – فأصابني رعية الإِبل، فروّحتها بعشي، فأدركت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو قائم يحدث الناس، فأدركت من حديثه وهو يقول: ((ما منكم من أحد يتوضأ، فيسبغ الوضوء، ثم يقوم، فيركع ركعتين، يقبل عليهما بقلبه ووجهه، إلا وجبت له الجنة، وغفر له)). فقلت: ما أجود هذا!! فقال قائل بين يَدَي: التي قبلها يا عقبة أجود منها. فنظرت فإذا عمر بن الخطاب. فقلت له: وما هي يا أبا حفص. قال: إنه قال قبل أن تأتي: ((ما منكم من أحد يتوضأ، فيسبغ الوضوء، ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية، يدخل من أيِّها شاء))[2].
زاد الترمذي بعد الشهادة: ((اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين))[3].
فهنيئًا لكم أيها المتوضئون، وهنيئًا لكم أيها المتطهرون، أبشروا وأملوا في ربكم ما يسركم.
هنيئًا لكم .. تتوضؤون وغيركم من الملايين، تمر عليهم السنوات لا يعرفون الوضوء.(/2)
وهنيئًا لكم الطهارة .. تتطهرون وغيركم من الملايين، يعيشون عيشة الكلاب والخنازير لا يتطهرون.
وهنيئًا لكم .. يعرفكم رسولكم - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة بوضوئكم متطهرين، متجملين للعرض الأكبر على الله.
* يقول أبو هريرة – رضي الله عنه وأرضاه -: أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المقبرة فقال: ((السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون. وددتُ أنا قد رأينا إخواننا)) قالوا: أولسنا إخوانك يا رسول الله؟ قال: ((أنتم أصحابي، وإخواننا الذين لم يأتوا بعد)) فقالوا: كيف تعرف من لم يأت بعد من أمتك يا رسول الله؟ فقال: ((أرأيت لو أن رجلاً له خيلٌ غرٌّ مُحَجَّلَةٌ[4] بين ظهري خيل دُهْمٍ بُهْمٍ[5]، ألا يعرف خيله؟)) قالوا: بلى يا رسول الله. قال: ((فإنهم يأتون غُرًّا مُحَجَّلين من الوضوء، وأنا فَرَطُهم على الحوض))[6].
فالرسول - صلى الله عليه وسلم - سيعرف أتباعه يوم القيامة، وسط الأمم التي هي كالذر؛ أمة موسى، وعيسى، ونوح، وإبراهيم، يعرفهم - صلى الله عليه وسلم - بعلامة الوضوء.
إذا رآك عرف أنك من أمته، ومن أهل حزبه وملته، وأنك من الذين يَردُون حوضه، ويشربون من كوثره.
إذا رأى وجهك يبرق كالقمر من آثار الوضوء، وقد امتلأت أركانك بالنور، علم أنك من أتباعه، فسقاك من يده الشريفة شربة هنيئة لا تظمأ بعدها أبدًا.
أما أهل النفاق والضلال، الذين لم يهتدوا بهديه - صلى الله عليه وسلم - أما الذين لا يتوضؤون، ولا يركعون، ولا يسجدون، فيقول - صلى الله عليه وسلم - كما في تتمة الحديث السابق: ((ألا ليُذَادنَّ[7] رجالٌ عن حوضي كما يُذَادُ البعير الضال. أناديهم .. ألا هَلُمَّ[8]! فيقال: إنهم قد بدَّلوا بعدك. فأقول: سُحْقًا سُحْقًا))[9].
فَقُلْ لبلالِ العزم من قلبٍ صادقٍ أرحنا بها إنْ كنت حقًّا مصليًّا
توضأ بماءِ التوبة اليومَ مخلصًا به تَرْقَى أبوابَ الجِنَانِ الثَّمانيا(/3)
في الأثر: أن الله - عزَّ وجلَّ - ينظر لعبده المؤمن إذا قام من فراشه لصلاة الفجر، ينتفض خائفًا وجلاً، فيعمد إلى الماء البارد، فيتوضأ به في شدة البرودة، ثم يأتي للصلاة، فيقول الله لملائكته: يا ملائكتي انظروا لعبدي المؤمن ترك فراشه الدفيء، ولحافه الوثير، وقام إلى الماء البارد يتوضأ، وقام إليَّ يناجيني ويتملقني، أشهدكم أني قد غفرت له، وأدخلته الجنة.
فيا لعظمة المسلم، يوم يقوم من فراشه مع صلاة الفجر، وأهل النفاق، وأهل الفجور، وأهل الإعراض عن الله، وأهل الغفلة في فرشهم، متغمِّصون بنفاقهم وفجورهم، فيقوم إلى الماء البارد، فيتوضأ ويرفع سبابته، ويقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله.
* وفي حديث حسن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((عجب ربنا من رجلين)) – ولله أن يعجب من عبده؛ يوم خلقه، ويوم سواه، ويوم رزقه، وعجبه سبحانه وتعالى يليق بجلاله – ((عجب ربنا من رجلين؛ رجلٍ ثار من وطائه ولحافه، من بين حبِّه وأهله إلى الصلاة، فيقول الله جلّ وعلا: انظروا إلى عبدي، ثار من فراشه ووطائه؛ من بين حبِّه وأهله إلى صلاته؛ رغبة فيما عندي، وشفقة مما عندي. ورجل غزا في سبيل الله، فانهزم أصحابه، وعلم ما عليه في الانهزامِ، وما له في الرجوع، فرجع حتى هُرِيق دمُه، فيقول الله لملائكته: انظروا إلى عبدي، رجع؛ رجاءً فيما عندي، وشفقًا مما عندي حتى هُريق دمه!!))[10] فالله - عزَّ وجلَّ - يعجب من هذا العبد، الذي يقوم في الليل، يترك فراشه الوثير، ولحافه الدفيء، ويعمد إلى الماء البارد يتوضأ، وهو ينتفض من البرودة، ثم يصلي ما كتب الله له أن يصلي.
فأيُّ عبدٍ ذلك العبد! وأيُّ جزاءٍ له يوم القيامة!!
* وعن أبي مالك الأشعري – رضي الله عنه وأرضاه – قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:(/4)
((الطُّهورُ شطرُ الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآنِ (أو تملأ) ما بين السماوات والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك. كلُّ الناس يغدو، فبائعٌ نفسه، فمعتقُها أو موبقُها))[11].
وإنما - صلى الله عليه وسلم - جعل الطهور شطر الإيمان؛ لأنه يتعلق بالطهارة الظاهرة وأما الباطن فأمره عند الله، فإذا طهر العبد باطنه فقد استكمل الإيمان.
فجعل الله الطهارة أو الوضوء نصف الإيمان؛ لأنه علامة اليقين. ووالله، ثم والله، ثم والله، لا يحافظ على الوضوء إلا المؤمن؛ لأنه سر بين العبد وبين ربه، ولا يعلم السر وأخفى إلا الله.
ولا يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور إلا الله، ولا يعلم ما تضمر وتسر القلوب إلا الله؛ بإمكان الرجل أن يصلي وعليه جنابة، فلا يعلم الناس ذلك، وبإمكانه أن يدخل المسجد ويصلي بغير وضوء، ولكنه يعلم أن الله يراه، وهو مُطّلعٌ عليه، فيعمد إلى الوضوء، فإذا توضأ، حصَّل شطر الإيمان؛ لأنه يراقب ربَّه في السر والعلانية.
يقول أبو هريرة – رضي الله عنه وأرضاه – قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات)). قالوا: بلى يا رسول الله. قال: ((إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخُطا إلى المسجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة. فذلكم الرباط، فذلكم الرباط))[12].
ومعنى إسباغ الوضوء على المكاره، أن تسبغ وضوءك في شدة البرد، يوم ألا يمس المنافقون الماء البارد، ويتأذون من الماء البارد، فتقوم تشرشر بالماء البارد على أعضائك الدفيئة؛ طلبًا للفضل والأجر من الله، فيحط الله عنك الخطايا، كما تحات الشجرة ورقها في شدة البرد، أو في الرياح الهوج.(/5)
* وقال أبو هريرة – رضي الله عنه -: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا توضأ العبد المسلم (أو المؤمن) فغسل وجهه، خرج من وجهه كلُّ خطيئة نظر إليها مع الماء – أو مع آخر قطر الماء – فإذا غسل يديه، خرج من يديه كلُّ خطيئة بطشتْها يداه، مع الماء – أو مع آخر قطر الماء – فإذا غسل رجليه، خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه، مع الماء – أو مع آخر قطر الماء – حتى يخرج نقيًا من الذنوب))[13] فهل يطلب المسلم أجرًا بعد هذا أو يريد أكثر من هذا الترغيب لينشط للعبادة!
فيا من أراد نعيم الجنة، دونكها أبواب ثمانية فتحت لك، فتوضأ، وادخل على الله من أيها شئت، وتعال إلى المسجد طاهرًا مطهرًا من الذنوب والخطايا.
فما أعظمك أيها المسلم حينما تطيع ربك - عزَّ وجلَّ، وهنيئًا لك يوم تتوضأ كل يوم خمس مرات، وهنيئًا لك يوم تتطهر بالماء البارد، فتخرج خطاياك من أعضائك، هنيئًا لك يوم تطلب رضوان الله وجنة الله.
فَاعْمَلْ لدارٍ غدًا رضوانُ خَازِنُها الجَارُ أحمدُ والرَّحْمَنُ بَانِيهَا
قصورُها ذهبٌ والمِسْكُ تُرْبَتُهَا والزَّعْفَرَانُ حَشِيشٌ نَابِتٌ فيها
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم، ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وإمام المتقين، وحجة الله على الناس أجمعين، صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فإن أعظم نعمة مَنَّ الله تعالى بها علينا؛ أن جعلنا مسلمين، وأن هدانا صراطه المستقيم.
فنسأله سبحانه كما رزقنا وإياكم الإسلام، أن يسترنا وألا يفضحنا، وأن يصلح بواطننا وظواهرنا، وأن يعمر قلوبنا بالتقوى والمراقبة.
عباد الله:(/6)
إن النعيم كلَّ النعيم؛ أن تتلذذ بطاعة الله، بذكر الله، بالوضوء لأداء فرائض الله، بتلاوة كلامه - سبحانه وتعالى - بالصيام له، بمناجاته في غلس الليل، بالصدقة، بطلب مرضاته، بحسن الخلق لرفع الدرجات عنده.
ولقد كان العلم عند السلف الصالح سهلاً يسيرًا، كان العلم عند أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام، يقصد منه العمل والتقرب إلى الله، ما عرفوا هذا التنظير العلمي، الذي شغل أوقاتنا، وهذا الجدل العقيم، الذي ضيع ساعاتنا، علمهم سهل، يعلمون المسألة، فيعملون بها، فيرزقهم الله علمًا إلى علمهم.
يروى أن عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام قال: "من عمل بما علم، ورَّثه الله علم ما لم يعلم"[14].
ولذلك دعا عثمان – رضي الله عنه وأرضاه – أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - فاجتمعوا إليه فجلسوا خارج المسجد. أتدرون لماذا دعاهم؟ هل أراد أن يلقي عليهم محاضرة تستغرق الساعات الطوال، فيحدثهم عن مسائل غامضة لا يمكن أن يعملوا بها؟ لا، إنما دعاهم ليعلمهم قضية سهلة من قضايا الإسلام دعا عثمان بإناءٍ، فأفرغ على كفيه ثلاث مراتٍ، فغسلهما، ثم أدخل يمينه في الإناء، ثم تمضمض، واستنشق، واستنثر، ثم غسل وجهه ثلاثًا، ويديه إلى المرفقين ثلاثًا. ثم قال: رأيت النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ نحو وضوئي هذا، وقال: ((من توضأ نحو وضوئي هذا، وصلى ركعتين، لا يحدِّث فيهما نفسه، غفر الله له ما تقدم من ذنبه))[15].
هذا هو الإسلام، وهذا هو العلم، وهذه هي طريقة الصحابة في عرض العلم والإسلام على الناس، لا تكلف، لا تنطع، لا تفلسف، وإنما تكليف عملي، وتدريب ميداني، وهكذا كانوا في كل أمورهم – رضي الله عنهم.(/7)
ولذلك يقول سيف الله المنتضى، أبو الحسن علي بن أبي طالب – رضي الله عنه -: إني كنت رجلاً إذا سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثًا، نفعني الله منه بما شاء أن ينفعني، وإذا حدثني رجل من أصحابه، استحلفته، فإذا حلف لي، صدقته، وإنه حدثني أبو بكر، وصدق أبو بكر! قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((ما من رجل يذنب ذنبًا، ثم يقوم فيتطهر، ثم يصلي، ثم يستغفر الله، إلا غفر له))[16]، ثم قرأ هذه الآية: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 135].
وهذا الحديث صحيح فاستبشروا به، فإذا ألَّم أحدكم بخطأ، أو بفاحشة، أو بظلم كبير، فليذهب إلى الماء البارد، وليتوضأ بالماء البارد، وليطفئ نار الذنب، ونار الخطيئة، وليصلي ركعتين، ثم ليستغفر الله؛ لأنه لا يغفر الذنوب إلا الله، ولا يستر العيوب إلا الله، ولا يتجاوز عن السيئات إلا الله، ولا يعفوا عن الزلات إلا الله. فهو الذي يغفر للعبد، ويرحم العبد، ويستر العبد، ويهدي العبد، لا إله غيره ولا ربَّ سواه.
{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53].
فاستبشروا بسنةِ الوضوء، واستصحبوا السواك إذا توضأتم، ثم ارفعوا سباباتكم إلى الحي القيوم، وأعلنوا الوحدانية قوية حيّة، وقولوا: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله؛ يفتح الله لكم أبواب الجنة الثمانية، وتسلم عليكم الملائكة، ويدعو لكم المقربون، ويشهد لكم الأنبياء والرسل.(/8)
فسلام على كل من توضأ، وأتى إلى بيت من بيوت الله منيبًا، وسلام على من تطهر لله ظاهرًا وباطنًا.
اللهم فاجعلنا من التوابين، واجعلنا من المتطهرين.
اللهم كما طهرت أعضاءنا بالماء البارد، فطهر قلوبنا من النفاق والكفر، ومن الغش والكِبْرِ ومن الحقد والحسد، ومن الرياء والغلِّ يا رب العالمين.
اللهم كما سترت ظواهرنا من العيوب، والجروح، والأمراض، فاستر بواطننا يا أرحم الراحمين.
اللهم كما أضفيت علينا لباس الستر في الدنيا، فلا تفضحنا على رؤوس الأشهاد، يوم نأتيك حفاة عراة غرلاً.
عباد الله:
وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56].
* وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: ((من صلى عليَّ صلاة، صلى الله عليه بها عشرًا))[17].
اللهم صلِّ على نبيك وحبيبك محمد، واعرض عليه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة يا رب العالمين.
---
[1] أخرجه البخاري (2/48)، ومسلم (4/1910) رقم: (2458).
[2] أخرجه أحمد (4/146، 153). وصححه العلامة أحمد شاكر كما في تحقيقه لكتاب ((سنن الترمذي)) (1/79-83). وأخرجه أبو داود (1/43) رقم: (169).
[3] أخرجه الترمذي (1/78) رقم: (55). قال الترمذي: وهذا حديث في إسناده اضطراب.
[4] الغُرّة: بياض في جبهة الفرس. والتحجيل: بياض في يديها ورجليها.
[5] خيل دُهمٍ بهم: أي سود، لا يخالط لونها لون آخر.
[6] وأنا فرطهم على الحوض: أي متقدمهم عليه. قال ابن الأثير: يقال: فَرَط يفرِط، فهو فارِطٌ وفَرَطٌ: إذا تقدم وسبق القوم، ليرتاد لهم الماء. والحديث أخرجه مسلم (1/218) رقم: (249).
[7] يُذَاد: يُطرد.
[8] ألا هَلُمَّ: أي تعالوا.
[9] سحقًا سحقًا: أي بعدًا بعدًا.(/9)
[10] أخرجه أحمد (1/416). وأخرجه أبو داود بعضه (3/19) رقم: (2536). وأخرجه البيهقي (9/164). وابن حبان في صحيحه، كما في الإحسان (6/297، 298) وصححه الأرناؤوط.
[11] أخرجه مسلم (1/203) رقم: (223).
[12] أخرجه مسلم (1/219) رقم: (251).
[13] أخرجه مسلم (1/215) رقم: (214).
[14] وهذا الحديث يروى مرفوعًا عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يصح. أخرجه أبو نعيم في الحلية (10/15) ثم قال: ذكر أحمد بن حنبل هذا الكلام عن بعض التابعين، عن عيسى ابن مريم عليه السلام، فوهم بعض الرواة، أنه ذكره عن النبي صلى الله عليه وسلم، فوضع الإسناد عليه لسهولته وقربه، وهذا الحديث لا يحتمل بهذا الإسناد عن أحمد بن حنبل.
[15] أخرجه البخاري (1/48، 49). ومسلم (204، 205) رقم: (226).
[16] أخرجه الترمذي (5/213) رقم: (3006). وابن ماجه (1/446) رقم: (1395). وأحمد (1/10).
وقد صحح هذا الحديث الحافظ المزي، وجود إسناده ابن حجر. انظر: ((تهذيب التهذيب)) (1/227، 228) عند ترجمة: أسماء بن الحكم الفزاري.
[17] أخرجه مسلم (1/288) رقم: (384).(/10)
العنوان: شعر عن الحج (1)
رقم المقالة: 1644
صاحب المقالة:
-----------------------------------------
قال ابن القيم - رحمه الله - يصف حال الحجيج في بيت الله الحرام:
فَلِلَّهِ كَمْ مِنْ عَبْرَةٍ مُهَرَاقَةٍ وَأُخْرَى عَلَى آثَارِهَا لا تَقَدَّمُ
وَقَدْ شَرِقَتْ عَيْنُ الْمُحِبِّ بِدَمْعِهَا فَيَنْظُرُ مِنْ بَيْنِ الدُّمُوعِ وَيَسْجُمُ
وَرَاحُوا إِلَى التَّعْرِيفِ يَرْجُونَ رَحْمَةً وَمَغْفِرَةً مِمَّنْ يَجُودُ وَيُكْرِمُ
فَلِلَّهِ ذَاكَ الْمَوْقِفُ الأَعْظَمُ الَّذِي كَمَوْقِفِ يَوْمِ الْعَرْضِ بَلْ ذَاكَ أَعْظَمُ
وَيَدْنُو بِهِ الْجَبَّارُ جَلَّ جَلالُهُ يُبَاهِي بِهِمْ أَمْلاكَهُ فَهْوَ أَكْرَمُ
يَقُولُ عِبَادِي قَدْ أَتَوْنِي مَحَبَّةً وَإِنِّي بِهِمْ بَرٌّ أَجُودُ وَأُكْرِمُ
فَأُشْهِدُكُمْ أَنِّي غَفَرْتُ ذُنُوبَهُمْ وَأُعْطِيهِمُ مَا أَمَّلُوهُ وَأُنْعِمُ
فَبُشْرَاكُمُ يَا أَهْلَ ذَا الْمَوْقِفِ الَّذِي بِهِ يَغْفِرُ اللَّهُ الذُّنُوبَ وَيَرْحَمُ
فَكَمْ مِنْ عَتِيقٍ فِيهِ كَمَّلَ عِتْقَهُ وَآخَرُ يَسْتَسْعِي وَرَبُّكَ أَكْرَمُ
ويتمنَّى الشاعر لو كان مِمَّن حضر مع النَّبيّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - حجَّة الوداع فيقول:
أَحِبَّتِي عَادَ ذِهْنِي بِي إِلَى زَمَنٍ مُعَظَّمٍ فِي سُوَيْدَا الْقَلْبِ مُسْتَطَرِ
كَأَنَّنِي بِرَسُولِ اللَّهِ مُرْتَدِيًا مَلابِسَ الطُّهْرِ بَيْنَ النَّاسِ كَالْقَمَرِ
نُورٌ وَعَنْ جَانِبَيْهِ مِنْ صَحَابَتِهِ فَيَالِقٌ وَأُلُوفُ النَّاسِ بِالأَثَرِ
سَارُوا بِرُفْقَةِ أَزْكَى مُهْجَةٍ دَرَجَتْ وَخَيْرِ مُشْتَمِلٍ ثَوْبًا وَمُؤْتَزِرِ
مُلَبِّيًا رَافِعًا كَفَّيْهِ فِي وَجَلٍ لِلَّهِ فِي ثَوْبِ أَوَّابٍ وَمُفْتَقِرِ
مُرَنِّمًا بِجَلالِ الْحَقِّ تَغْلِبُهُ دُمُوعُهُ مِثْلُ وَبْلِ الْعَارِضِ الْمَطِرِ(/1)
يَمْضِي يُنَادِي خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ لَعَلَّ هَذَا خِتَامُ الْعَهْدِ وَالْعُمُرِ
وَقَامَ فِي عَرَفَاتِ اللهِ مُمْتَطِيًا قَصْوَاءَهُ يَا لَهُ مِنْ مَوْقِفٍ نَضِرِ
تَأَمَّلَ الْمَوْقِفَ الأَسْمَى فَمَا نَظَرَتْ عَيْنَاهُ إِلاَّ لأَمْوَاجٍ مِنَ الْبَشَرِ
فَيَنْحَنِي شَاكِرًا للهِ مِنَّتَهُ وَفَضْلَهُ مِنْ تَمَامِ الدِّينِ وَالظَّفَرِ
يَشْدُو بِخُطْبَتِهِ الْعَصْمَاءِ زَاكِيَةً كَالشَّهْدِ كَالسَّلْسَبِيلِ الْعَذْبِ كَالدُّرَرِ
مُجَلِّيًا رَوْعَةَ الإِسْلامِ فِي جُمَلٍٍ مِنْ رَائِعٍ مِنْ بَدِيعِ الْقَوْلِ مُخْتَصَرِ
دَاعٍ إِلَى الْعَدْلِ وَالتَّقْوَى وَأَنَّ بِهَا تَفَاضُلَ النَّاسِ لا بِالْجِنْسِ وَالصُّوَرِ
مُبَيِّنًا أَنَّ للإِنْسَانِ حُرْمَتَهُ مُمَرِّغًا سَيِّءَ الْعَادَاتِ بِالْمَدَرِ
يَا لَيْتَنِي كُنْتُ بَيْنَ الْقَوْمِ إِذْ حَضَرُوا مُمَتَّعَ الْقَلْبِ وَالأَسْمَاعِ وَالْبَصَرِ
وَأَنْبَرِي لِرَسُولِ اللَّهِ أَلْثُمُهُ عَلَى جَبِينٍ نَقِيٍّ طَاهِرٍ عَطِرِ
أُقَبِّلُ الْكَفَّ كَفَّ الْجُودِ كَمْ بَذَلَتْ سَحَّاءَ بِالْخَيْرِ مِثْلَ السَّلْسَلِ الْهَدِرِ
أَلُوذُ بِالرَّحْلِ أَمْشِي فِي مَعِيَّتِهِ وَأَرْتَوِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ بِالنَّظَرِ
أُسَرُّ بِالْمَشْيِ إِنْ طَالَ الْمَسِيرُ بِنَا وَمَا انْقَضَى مِنْ لِقَاءِ الْمُصْطَفَى وَطَرِي
أَمَّا الرِّدَاءُ الَّذِي حَجَّ الْحَبِيبُ بِهِ يَا لَيْتَهُ كَفَنٌ لِي فِي دُجَى الْحُفَرِ
يَا غَافِلاً مِنْ مَزَايَاهُ وَرَوْعَتِهَا يَمِّمْ إِلَى كُتُبِ التَّارِيخِ وَالسِّيَرِ
يَا رَبِّ لا تَحْرِمَنَّا مِنْ شَفَاعَتِهِ وَحَوْضِهِ الْعَذْبِ يَوْمَ الْمَوْقِفِ الْعَسِرِ
وقال الأديب أبو بكر محمد بن محمد بن عبدالله بن رشد البغدادي في ذكر البيت والطواف:(/2)
فَفِي رَبْعِهِمْ لِلَّهِ بَيْتٌ مُبَارَكٌ إِلَيْهِ قُلُوبُ الْخَلْقِ تَهْوِي وَتَهْوَاهُ
يَطُوفُ بِهِ الْجَانِي فَيُغْفَرُ ذَنْبُهُ وَيَسْقُطُ عَنْهُ جُرْمُهُ وَخَطَايَاهُ
فَكَمْ لَذَّةٍ كَمْ فَرْحَةٍ لِطَوَافِهِ فَلِلَّهِ مَا أَحْلَى الطَّوَافَ وَأَهْنَاهُ
نَطُوفُ كَأَنَّا فِي الْجِنَانِ نَطُوفُهَا وَلا هَمَّ لا غَمَّ فَذَاكَ نَفَيْنَاهُ
فَوَاشَوْقَنَا نَحْوَ الطَّوَافِ وَطِيبِهِ فَذَلِكَ شَوْقٌ لا يُعَبَّرُ مَعْنَاهُ
فَمَنْ لَمْ يَذُقْهُ لَمْ يَذُقْ قَطُّ لَذَّةً فَذُقْهُ تَذُقْ يَا صَاحِ مَا قَدْ أُذِقْنَاهُ
فَوَاللَّهِ مَا نَنْسَى الْحِمَى فَقُلُوبُنَا هُنَاكَ تَرَكْنَاهَا فَيَا كَيْفَ نَنْسَاهُ
تُرَى رَجْعَةٌ هَلْ عَوْدَةٌ لِطَوَافِنَا وَذَاكَ الْحِمَى قَبْلَ الْمَنِيَّةِ نَغْشَاهُ
وقال أيضًا في رؤية البيت:
وَمَا زَالَ وَفْدُ اللَّهِ يَقْصِدُ مَكَّةً إِلَى أَنْ بَدَا الْبَيْتُ الْعَتِيقُ وَرُكْنَاهُ
فَضَجَّتْ ضُيُوفُ اللَّهِ بِالذِّكْرِ وَالدُّعَا وَكَبَّرَتِ الْحُجَّاجُ حِينَ رَأَيْنَاهُ
وَقَدْ كَادَتِ الأَرْوَاحُ تَزْهَقُ فَرْحَةً لِمَا نَحْنُ مِنْ عُظْمِ السُّرُورِ وَجَدْنَاهُ
تُصَافِحُنَا الأَمْلاكُ مَنْ كَانَ رَاكِبًا وَتَعْتَنِقُ الْمَاشِي إِذَا تَتَلَقَّاهُ
وقال أيضًا:
فَمَنْ كَانَ بِالْمَالِ الْمُحَرَّمِ حَجُّهُ فَعَنْ حَجِّهِ وَاللَّهِ مَا كَانَ أَغْنَاهُ
إِذَا هُوَ لَبَّى اللَّهَ كَانَ جَوَابَهُ مِنَ اللَّهِ لا لَبَّيْكَ حَجٌّ رَدَدْنَاهُ
كَذَلِكَ جَانَا فِي الْحَدِيثِ مُسَطَّرًا فَفِي الْحَجِّ أَجْرٌ وَافِرٌ قَدْ سَمِعْنَاهُ
وقال آخر مناجاة وتوجُّعًا:
إِلَيْكَ إِلَهِي قَدْ أَتَيْتُ مُلَبِّيَا فَبَارِكْ إِلَهِي حَجَّتِي وَدُعَائِيَا
قَصَدْتُكَ مُضْطَرًّا وَجِئْتُكَ بَاكِيًا وَحَاشَاكَ رَبِّي أَنْ تَرُدَّ بُكَائِيَا(/3)
كَفَانِيَ فَخْرًا أَنَّنِي لَكَ عَابِدٌ فَيَا فَرْحَتِي إِنْ صِرْتُ عَبْدًا مُوَالِيَا
إِلَهِي فَأَنْتَ اللَّهُ لا شَيْءَ مِثْلُهُ فَأَفْعِمْ فُؤَادِي حِكْمَةً وَمَعَانِيَا
أَتَيْتُ بِلا زَادٍ وَجُودُكَ مَطْعَمِي وَمَا خَابَ مَنْ يَهْفُو لِجُودِكَ سَاعِيَا
إِلَيْكَ إِلَهِي قَدْ حَضَرْتُ مُؤَمِّلاً خَلاصَ فُؤَادِي مِنْ ذُنُوبِي مُلَبِّيَا
وَكَيْفَ يَرَى الإِنْسَانُ فِي الأَرْضِ مُتْعَةً وَقَدْ أَصْبَحَ الْقُدْسُ الشَّرِيفَ مَلاهِيَا
يَجُوسُ بِهِ الأَنْذَالُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ وَقَدْ كَانَ لِلأَطْهَارِ قُدْسًا وَنَادِيَا
مَعَالِمُ إِسْرَاءٍ وَمَهْبِطُ حِكْمَةٍ وَرَوْضَةُ قُرْآنٍ تُعَطِّرُ وَادِيَا
وذكروا في التاريخ العربي أن البرعي في حجه الأخير، أُخِذَ محمولاً على جمل، فلما قطع الصحراء مع الحج الشامي، وأصبح على بعد خمسين ميلاً من المدينة، هبَّ النسيم رطبًا عليلاً معطرًا برائحة الأماكن المقدسة، فازداد شوقه للوصول؛ لكن المرض أعاقه عن المأمول، فأنشأ قصيدة لَفَظَ مع آخر بيت منها نَفَسَه الأخير.. يقول فيها:
يَا رَاحِلِينَ إِلَى مِنًى بِقِيَادِي هَيَّجْتُمُو يَوْمَ الرَّحِيلِ فُؤَادِي
سِرْتُمْ وَسَارَ دَلِيلُكُمْ يَا وَحْشَتِي الشَّوْقُ أَقْلَقَنِي وَصَوْتُ الْحَادِي
وَحَرَمْتُمُو جَفْنِي الْمَنَامَ بِبُعْدِكُمْ يَا سَاكِنِينَ الْمُنْحَنَى وَالْوَادِي
وَيَلُوحُ لِي مَا بَيْنَ زَمْزَمَ وَالصَّفَا عِنْدَ الْمَقَامِ سَمِعْتُ صَوْتَ مُنَادِ
وَيَقُولُ لِي يَا نَائِمًا جِدَّ السُّرَى عَرَفَاتُ تَجْلُو كُلَّ قَلْبٍ صَادِ
مَنْ نَالَ مِنْ عَرَفَاتِ نَظْرَةَ سَاعَةٍ نَالَ السُّرُورَ وَنَالَ كُلَّ مُرَادِ
تَاللَّهِ مَا أَحْلَى الْمَبِيتَ عَلَى مِنًى فِي لَيْلِ عِيدٍ أَبْرَكِ الأَعْيَادِ
ضَحَّوْا ضَحَايَا ثُمَّ سَالَ دِمَاؤُهَا وَأَنَا الْمُتَيَّمُ قَدْ نَحَرْتُ فُؤَادِي(/4)
لَبِسُوا ثِيَابَ الْبِيضِ شَارَاتِ اللِّقَاءِ وَأَنَا الْمُلَوَّعُ قَدْ لَبِسْتُ سَوَادِي
يَا رَبِّ أَنْتَ وَصَلْتَهُمْ صِلْنِي بِهِمْ فَبِحَقِّهِمْ يَا رَبِّ فُكَّ قِيَادِي
فَإِذَا وَصَلْتُمْ سَالِمِينَ فَبَلِّغُوا مِنِّي السَّلامَ أُهَيْلَ ذَاكَ الْوَادِي
قُولُوا لَهُمْ عَبْدُالرَّحِيمِ مُتَيَّمٌ وَمُفَارِقُ الأَحْبَابِ وَالأَوْلادِ
صَلَّى عَلَيْكَ اللَّهُ يَا عَلَمَ الْهُدَى مَا سَارَ رَكْبٌ أَوْ تَرَنَّمَ حَادِ(/5)
العنوان: شعر عن الحج (2)
رقم المقالة: 1645
صاحب المقالة:
-----------------------------------------
قصيدة ابن الأمير الصنعاني المشهورة
في ذكر الحج وبركاته
أَيَا عَذَبَاتِ الْبَانِ مِنْ أَيْمَنِ الْحِمَى رَعَى اللَّهُ عَيْشًا فِي رُبَاكِ قَطَعْنَاهُ
سَرَقْنَاهُ مِنْ شَرْخِ الشَّبَابِ وَرَوْقِهِ فَلَمَّا سَرَقْنَا الصَّفْوَ مِنْهُ سُرِقْنَاهُ
وَجَاءَتْ جُيُوشُ الْبَيْنِ يَقْدُمُهَا الْقَضَا فَبَدَّدَ شَمْلاً بِالْحِجَازِ نَظَمْنَاهُ
حَرَامٌ بِذِي الدُّنْيَا دَوَامُ اجْتِمَاعِنَا فَكَمْ صَرَمَتْ لِلشَّمْلِ حَبْلاً وَصَلْنَاهُ
فََيَا أَيْنَ أَيَّامٌ تَوَلَّتْ عَلَى الْحِمَى وَلَيْلٌ مَعَ الْعُشَّاقِ فِيهِ سَهِرْنَاهُ
وَنَحْنُ لِجِيرَانِ الْمُحَصَّب جِيرَةٌ نُوَفِّي لَهُمْ حُسْنَ الْوِدَادِ وَنَرْعَاهُ
وَنَخْلُو بِمَنْ نَهْوَى إِذَا رَقَدَ الْوَرَى وَيَجْلُو عَلَيْنَا مَنْ نُحِبُّ مُحَيَّاهُ
فَقُرْبٌ وَلا بُعْدٌ وَشَمْلٌ مُجَمَّعٌ وَكَأْسُ وِصَالٍ بَيْنَنَا قَدْ أَدَرْنَاهُ
فَهَاتِيكَ أَيَّامُ الْحَيَاةِ وَغَيْرُهَا مَمَاتٌ فَيَالَيْتَ النَّوَى مَا شَهِدْنَاهُ
فَيَا مَا أَمَرَّ الْبَيْنَ مَا أَقْتَلَ الْهَوَى أَمَا يَا الْهَوَى إِنَّ الْهَنَا قَدْ سُلِبْنَاهُ
فَوَاللهِ لَمْ يُبْقِ الْفِرَاقُ لَذَاذَةً فَلَوْ مِنْ سَبِيلٍ لِلْفِرَاقِ فَرَقْنَاهُ
فَأَحْبَابَنَا بِالشَّوْقِ بِالْحُبِّ بِالْجَوَى لِحُرْمَةِ عَقْدٍ عِنْدَنَا مَا حَلَلْنَاهُ
لِحَقِّ هَوَانَا فِيْكُمُ وَوِدَادِنَا لِمِيثَاقِ عَهْدٍ صَادِقٍ مَا نَقَضْنَاهُ
أَعِيدُوا لَنَا أَعْيَادَنَا بِرُبُوعِكُمْ وَوَقْتَ سُرُورٍ فِي حِمَاكُمْ قَضَيْنَاهُ
فَمَا الْعَيْشُ إِلاَّ مَا قَضَيْنَا عَلَى الْحِمَى فَذَاكَ الَّذِي مِنْ عُمْرِنَا قَدْ عَدَدْنَاهُ(/1)
فَيَالَيْتَ عَنَّا أَغْمَضَ الْبَيْنُ طَرْفَهُ وَيَا لَيْتَ وَقَتًا لِلْفِرَاقِ فَقَدْنَاهُ
وَتَرْجِعُ أَيَّامُ الْمُحَصَّبِ مِنْ مِنًى وَيَبْدُو ثَرَاهُ لِلْعُيُونِ حَصَبْنَاهُ
وَتَسْرَحُ فِيهِ الْعِيسُ بَيْنَ ثُمَامَةٍ وَتَسْتَنْشِقُ الأَرْوَاحُ نَشْرَ خُزَامَاهُ
وَنَشْكُو إِلَى أَحْبَابِنَا طُولَ شَوْقِنَا إِلَيْهِمْ وَمَاذَا بِالْفِرَاقِ لَقِينَاهُ
فَلا كَانَتِ الدُّنْيَا إِذَا لَمْ يُعَايِنُوا هُمُ الْقَصْدَ فِي أُولَى الْمَشُوقِ وَأُخْرَاهُ
عَلَيْكُمْ سَلامُ اللَّهِ يَا سَاكِنِي الْحِمَى بِكُمْ طَابَ رِيَّاهُ بِكُمْ طَابَ سُكْنَاهُ
وَرَبِّكُمُ لَوْلاكُمُ مَا نَوَدُّهُ وَلا الْقَلْبَ مِنْ شَوْقٍ إِلَيهِ أَذَبْنَاهُ
أَسُكَّانَ وَادِي الْمُنْحَنَى زَادَ وَجْدُنَا بِمَغْنَى حِمَاكُمْ ذَاك مَغْنًى شَغَفْنَاهُ
نَحِنُّ إِلَى تِلْكَ الرُّبُوعِ تَشَوُّقًا فَفِيهَا لَنَا عَهْدٌ وَعَقْدٌ عَقَدْنَاهُ
وَرَبٍّ يَرَانَا مَا سَلَوْنَا رُبُوعَكُمْ وَمَا كَانَ مِنْ رَبْعٍ سِوَاهُ سَلَوْنَاهُ
فَيَا هَلْ إِلَى رَبْعِ الأَعَارِيبِ عَوْدَةٌ فَذَاكَ وَحَقِّ اللَّهِ رَبْعٌ حَبَبْنَاهُ
قَضَيْنَا مَعَ الأَحْبَابِ فِيهِ مَآرِبًا إِلَى الْحَشْرِ لا تُنْسَى سَقَى اللَّهُ مَرْعَاهُ
فَشُدُّوا مَطَايَانَا إِلَى الرَّبْعِ ثَانِيًا فَإِنَّ الْهَوَى عَنْ رَبْعِكُمْ مَا ثَنَيْنَاهُ
ذِكْرُ الْبَيْتِ وَالطَّوَافِ:
فَفِي رَبْعِهِمْ لِلَّهِ بَيْتٌ مُبَارَكٌ إِلَيْهِ قُلُوبُ الْخَلْقِ تَهْوِي وَتَهْوَاهُ
يَطُوفُ بِهِ الْجَانِي فَيُغْفَرُ ذَنْبُهُ وَيَسْقُطُ عَنْهُ جُرْمُهُ وَخَطَايَاهُ
فَكَمْ لَذَّةٍ كَمْ فَرْحَةٍ لِطَوَافِهِ فَلِلَّهِ مَا أَحْلَى الطَّوَافَ وَأَهْنَاهُ
نَطُوفُ كَأَنَّا فِي الْجِنَانِ نَطُوفَُهَا وَلا هَمَّ لا غَمَّ فَذَاكَ نَفَيْنَاهُ(/2)
فَوَاشَوْقَنَا نَحْوَ الطَّوَافِ وَطِيبِهِ فَذَلِكَ شَوْقٌ لا يُعَبَّرُ مَعْنَاهُ
فَمَنْ لَمْ يَذُقْهُ لَمْ يَذُقْ قَطُّ لَذَّةً فَذُقْهُ تَذُقْ يَا صَاحِ مَا قَدَ أُذِقْنَاهُ
فَوَاللَّهِ مَا نَنْسَى الْحِمَى فَقُُلُوبُنَا هُنَاكَ تَرَكْنَاهَا فَيَا كَيْفَ نَنْسَاهُ
تُرَى رَجْعَةً هَلْ عَوْدَةٌ لِطَوَافِنَا وَذَاكَ الْحِمَى قَبْلَ الْمَنِيَّةِ نَغْشَاهُ
وَوَاللَّهِ مَا نَنْسَى زَمَانَ مَسِيرِنَا إِلَيْهِ وَكُلُّ الرَّكْبِ قَدْ لَذَّ مَسْرَاهُ
وَقَدْ نُسِيَتْ أَوْلادُنَا وَنِسَاؤُنَا وَأَمْوَالُنَا فَالْقَلْبُ عَنْهُمْ شَغَلْنَاهُ
تَرَاءَتْ لَنَا أَعْلامُ وَصْلٍ عَلَى اللِّوَى فَمِنْ أَجْلِهَا فَالْقَلْبُ عَنْهُمْ لَوَيْنَاهُ
جَعَلْنَا إِلَهَ الْعَرْشِ نُصْبَ عُيُونِنَا وَمَنْ دَونَهُ خَلْفَ الظُّهُورِ نَبَذْنَاهُ
وَسِرْنَا نَشُقُّ الْبِيدَ لِلْبَلَدِ الَّذِي بِجَهْدٍ وَشِقٍّ لِلنُّفُوسِ بَلَغْنَاهُ
رِجَالاً وَرُكْبَانًا عَلَى كُلِّ ضَامِرٍ وَمِنْ كُلِّ ذِي فَجٍّ عَمِيقٍ أَتَيْنَاهُ
نَخُوضُ إِلَيْهِ الْبَرَّ وَالْبَحْرَ وَالدُّجَى وَلا قَاطِعٌ إِلاَّ وَعَنْهُ قَطَعْنَاهُ
وَنَطْوِي الْفَلا مِنْ شِدَّةِ الشَّوْقِ لِلِّقَا فَتُمْسِي الْفَلا تَحْكِي سِجِلاًّ قَطَعْنَاهُ
وَلا صَدَّنَا عَنْ قَصْدِنَا فَقْدُ أَهْلِنَا وَلا هَجْرُ جَارٍ أَوْ حَبِيبٍ أَلِفْنَاهُ
وَأَمْوَالُنَا مَبْذُولَةٌ وَنُفُوسُنَا وَلَمْ نُبْقِ شَيْئًا مِنْهُمَا مَا بَذَلْنَاهُ
عَرَفْنَا الَّذِي نَبْغِي وَنَطْلُبُ فَضْلَهُ فَهَانَ عَلِينَا كُلُّ شَيءٍ بَذَلْنَاهُ
فَمَنْ عَرَفَ الْمَطْلُوبَ هَانَتْ شَدَائِدٌ عَلَيْهِ وَيَهْوَى كُلَّ مَا فِيهِ يَلْقَاهُ
فَيَا لَوْ تَرَانَا كُنْتَ تَنْظُرُ عُصْبَةً حَيَارَى سَكَارَى نَحْوَ مَكَةَ وُلاَّهُ(/3)
فَلِلَّهِ كَمْ لَيْلٍ قَطَعْنَاهُ بِالسُّرَى وَبَرٍّ بِسَيْرِ الْيَعْمَلاتِ بَرَيْنَاهُ
وَكَمْ مِنْ طَرِيقٍ مُفْزِعٍ فِي مَسِيرِنَا سَلَكْنَا وَوَادٍ بِالْمَخَاوِفِ جُزْنَاهُ
وَلَوْ قِيلَ إِنَّ النَّارَ دُونَ مَزَارِكُمْ دَفَعْنَا إِلَيْهَا وَالْعَذُولَ دَفَعْنَاهُ
فَمَوْلَى الْمَوَالِي لِلزِّيَارَةِ قَدْ دَعَا أَنَقْعُدُ عَنْهَا وَالْمَزُورُ هُوَ اللَّهُ
تَرَادَفَتِ الأَشْوَاقُ وَاضْطَرَمَ الْحَشَا فَمَنْ ذَا لَهُ صَبْرٌ وَتُضْرَمُ أَحْشَاهُ
وَأَسْرَى بِنَا الْحَادِي فَأَمْعَنَ فِي السُّرَى وَوَلَّى الْكَرَى نَوْمَ الْجُفُونِ نَفَيْنَاهُ
الإِحْرَامُ مِنَ الْمِيقَات:
وَلَمَّا بَدَا مِيْقَاتُ إِحْرَامِ حَجِّنَا نَزَلْنَا بِهِ وَالْعِيسُ فِيهِ أَنَخْنَاهُ
لِيَغْتَسِلَ الْحُجَّاجُ فِيهِ وَيُحْرِمُوا فَمِنْهُ نُلَبِّي رَبَّنَا لا حُرِمْنَاهُ
وَنَادَى مُنَادٍ لِلْحَجِيجِ لِيُحْرِمُوا فَلَمْ يَبْقَ إِلاَّ مَنْ أَجَابَ وَلَبَّاهُ
وَجُرِّدَتِ الْقُمْصَانُ وَالْكُلُّ أَحْرَمُوا وَلا لُبْسَ لا طَيبَ جَمِيعًا هَجَرْنَاهُ
وَلا لَهْوَ لا صَيْدَ وَلا نَقْرَبُ النِّسَا وَلا رَفَثًا لا فَسْقَ كُلاًّ رَفَضْنَاهُ
وَصِرْنَا كَأَمْوَاتٍ لَفَفْنَا جُسُومَنَا بِأَكْفَانِنَا كُلٌّ ذَلِيلٌ لِمَوْلاهُ
لَعَلَّ يَرَى ذُلَّ الْعِبادِ وَكَسْرَهُمْ فَيَرْحَمَهُمْ رَبٌّ يُرَجُّونَ رُحْمَاهُ
يُنَادُونَهُ: لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ ذَا الْعُلا وَسَعْدَيْكَ كُلَّ الشِّرْكِ عَنْكَ نَفَيْنَاهُ
فَلَوْ كُنْتَ يَا هَذَا تُشَاهِدُ حَالَهُمْ لأَبْكَاكَ ذَاكَ الْحَالُ فِي حَالِ مَرْآهُ
وُجُوهُهُمُ غُبْرٌ وَشُعْثٌ رُؤُوسُهُمْ فَلا رَأْسَ إِلاَّ لِلإِلَهِ كَشَفْنَاهُ
لَبِسْنَا دُرُوعًا مِنْ خُضُوعٍ لِرَبِّنَا وَمَا كَانَ مِنْ دِرْعِ الْمَعَاصِي خَلَعْنَاهُ(/4)
وَذَاكَ قَلِيلٌ فِي كَثِيرِ ذُنُوبِنَا فَيَا طَالَمَا رَبُّ الْعِبَادِ عَصَيْنَاهُ
إِلَى زَمْزَمٍ زُمَّتْ رِكَابُ مَطِيِّنَا وَنَحْوَ الصَّفَا عِيسُ الْوُفُودِ صَفَفْنَاهُ
نَؤُمُّ مَقَامًا لِلْخَلِيلِ مُعَظَّمًا إِلَيْهِ اسْتَبَقْنَا وَالرِّكَابَ حَثَثْنَاهُ
وَنَحْنُ نُلَبِّي فِي صُعُودٍ وَمَهْبِطٍ كَذَا حَالُنَا فِي كُلِّ مَرْقًى رَقَيْنَاهُ
وَكَمْ نَشَزٍ عَالٍ عَلَتْهُ رُفُودُنَا وَتَعْلُو بِهِ الأَصْوَاتُ حِينَ عَلَوْنَاهُ
نَحُجُّ لِبَيْتٍ حَجَّهُ الرُّسْلُ قَبْلَنَا لِنَشْهَدَ نَفْعًا فِي الْكِتَابِ وُعِدْنَاهُ
دَعَانَا إِلَيْهِ اللَّهُ قَبْلَ بِنَائِهِ فَقُلْنَا لَهُ لَبَّيْكَ دَاعٍ أَجَبْنَاهُ
أَتَيْنَاكَ لَبَّيْنَاكَ جِئْنَاكَ رَبَّنَا إِلَيْكَ هَرَبْنَا وَالأَنَامَ تَرَكْنَاهُ
وَوَجْهَكَ نَبْغِي أَنْتَ لِلْقَلْبِ قِبْلَةٌ إِذَا مَا حَجَجْنَا أَنْتَ لِلْحَجِّ رُمْنَاهُ
فَمَا الْبَيْتُ مَا الأَرْكَانُ مَا الْحِجْرُ مَا الصَّفَا وَمَا زَمْزَمٌ أَنْتَ الَّذِي قَدْ قَصَدْنَاهُ
وَأَنْتَ مُنَانَا أَنْتَ غَايَةُ سُؤْلِنَا وَأَنْتَ الَّذِي دُنْيَا وَأُخْرَى أَرَدْنَاهُ
إِلَيْكَ شَدَدْنَا الرَّحْلَ نَخْتَرِقُ الْفَلا فَكَمْ سُدَّ سَدٌّ فِي سَوَادٍ خَرَقْنَاهُ
كَذَلِكَ مَا زِلْنَا نُحَاوِلُ سَيْرَنَا نَهَارًا وَلَيْلاً عِيسُنَا مَا أَرَحْنَاهُ
إِلَى أَنْ بَدَا إِحْدَى الْمَعَالِمِ مِنْ مِنًى وَهَبَّ نَسِيمٌ بِالْوِصَالِ نَشَقْنَاهُ
وَنَادَى بِنَا حَادِي الْبِشَارَةِ وَالْهَنَا فَهَذَا الْحِمَى هَذَا ثَرَاهُ غَشِينَاهُ
رؤية البيت:
وَمَا زَالَ وَفْدُ اللَّهِ يَقْصِدُ مَكَةً إِلَى أَنْ بَدَا الْبَيْتُ الْعَتِيقُ وَرُكْنَاهُ
فَضَجَّتْ ضُيُوفُ اللَّهِ بِالذِّكْرِ وَالدُّعَا وَكَبَّرَتِ الْحُجَّاجُ حِينَ رَأَيْنَاهُ(/5)
وَقَدْ كَادَتِ الأَرْوَاحُ تَزْهَقُ فَرْحَةً لِمَا نَحْنُ مِنْ عُظْمِ السُّرُورِ وَجَدْنَاهُ
تُصَافِحُنَا الأَمْلاكُ مَنْ كَانَ رَاكِبًا وَتَعْتَنِقُ الْمَاشِي إِذَا تَتَلَقَّاهُ
طواف القدوم:
فَطُفْنَا بِهِ سَبْعًا رَمَلْنَا ثَلاثَةً وَأَرْبَعَةً مَشْيًا كَمَا قَدْ أُمِرْنَاهُ
كَذَلِكَ طَافَ الْهَاشِمِيُّ مُحَمَّدٌ طَوَافَ قُدُومٍ مِثْلَ مَا طَافَ طُفْنَاهُ
وَسَالَتْ دُمُوعٌ مِنْ غَمَامِ جُفُونِنَا عَلَى مَا مَضَى مِنْ إِثْمِ ذَنْبٍ كَسَبْنَاهُ
وَنَحْنُ ضُيُوفُ اللَّهِ جِئْنَا لِبَيْتِه نُرِيدُ الْقِرَى نَبْغِي مِنَ اللَّهِ حُسْنَاهُ
فَنَادَى بِنَا أَهْلاً ضُيُوفِي تَبَاشَرُوا وَقَرُّوا عُيُونَا فَالْحَجِيجُ قَبِلْنَاهُ
غَدًا تَنْظُرُونِي فِي جِنَانِ خُلُودِكُمْ وَذَاكَ قِرَاكُمْ مَعْ نَعِيمٍ ذَخَرْنَاهُ
فَأَيُّ قِرًى يَعْلُو قِرَانَا لِضَيْفِنَا وَأَيُّ ثَوَابٍ مِثْلَ مَا قَدْ أُثِبْنَاهُ
وَكُلُّ مِسِيءٍ قَدْ أَقَلْنَا عَثَارَهُ وَلا وَزَرٌ إِلاَّ وَعَنْكُمْ وَضَعْنَاهُ
وَلا نَصَبٌ إِلاَّ وَعِنْدِي جَزَاؤُهُ وَكُلُّ الَّذِي أَنْفَقْتُمُوهُ حَسَبْنَاهُ
سَأُعْطِيكُمُ أَضْعَافَ أَضْعَافِ مِثْلِهِ فَطِيبُوا نُفُوسًا فَضْلُنَا قَدْ فَضَلْنَاهُ
فَيَا مَرْحَبًا بِالْقَادِمِينَ لِبَيْتِنَا إِلَيَّ حَجَجْتُمْ لا لِبَيْتٍ بَنَيْنَاهُ
عَلَيَّ الْجَزَا مِنِّي الْمَثُوبَةُ وَالرِّضَى ثَوَابُكُمُ يَوْمَ الْجَزَا أَتَوَلاَّهُ
فَطِيبُوا سُرُورًا وَافْرَحُوا وَتَبَاشَرُوا وَتِيهُوا وَهِيمُوا بَابُنَا قَدْ فَتَحْنَاهُ
وَلا ذَنْبَ إِلاَّ قَدْ غَفَرْنَاهُ عَنْكُمُ وَمَا كَانَ مِنْ عَيْبٍ عَلَيْكُمْ سَتَرْنَاهُ
فَهَذَا الَّذِي نِلْنَا بِيَوْمِ قُدُومِنَا وَأَوَّلُ ضِيقٍ لِلصُّدُورِ شَرَحْنَاهُ
المبيت بمنى والمسير إلى عرفات:(/6)
وَبِتْنَا بِأَقْطَارِ الْمُحَصَّبِ مِنْ مِنًى فَيَا طِيبَ لَيْلٍ بِالْمُحَصَّبِ بِتْنَاهُ
فَفِي يَوْمِنَا سِرْنَا إِلَى الْجَبَلِ الَّذِي مِنْ الْبُعْدِ جِئْنَاهُ لِمَا قَدْ وَجَدْنَاهُ
فَلا حَجَّ إِلاَّ أَنْ نَكُونَ بِأَرْضِهِ وُقُوفًا وَهَذَا فِي الصَّحِيحِ رَوَيْنَاهُ
إِلَيْهِ ابْتَدَرْنَا قَاصِدِينَ إِلَهَنَا فَلَوْلاهُ مَا كُنَّا لِحَجٍّ سَلَكْنَاهُ
وَسِرْنَا إِلَيْهِ قَاصِدِينَ وُقُوفَنَا عَلَيْهِ وَمِنْ كُلِّ الْجِهَاتِ أَتَيْنَاهُ
عَلَى عَلَمَيْهِ لِلْوُقُوفِ جَلاَلَةٌ فَلا زَالَتَا تَحْمِى وَتَحْرُسُ أَرْجَاهُ
وَبَيْنَهُمَا جُزْنَا إِلَيْهِ بِزَحْمَةٍ فَيَا طِيبَهَا لَيْتَ الزَّحِامَ رَجَعْنَاهُ
وَلَمَّا رَأَيْنَاهُ تَعَالَى ضَجِيجُنَا نُلَبِّي وَبِالتَّهْلِيلِ مِنَّا مَلأنَاهُ
وَفِيهِ نَزَلْنَا بُكْرَةً بِذُنُوبِنَا وَمَا كَانَ مِن ثُقْلِ الْمَعَاصِي حَمَلْنَاهُ
الوُقُوفُ بِعَرَفَة:
وَبَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ كَانَ وُقُوفُنَا إِلَى اللَّيْلِ نَبْكِي وَالدُّعَاءَ أَطَلْنَاهُ
فَكَمْ حَامِدٍ كَمْ ذَاكِرٍ وَمُسَبِّحٍ وَكَمْ مُذْنِبٍ يَشْكُو لِمَوْلاهُ بَلْوَاهُ
فَكَمْ خَاضِعٍ كَمْ خَاشِعٍ مُتَذَلِّلٍ وَكَمْ سَائِلٍ مُدَّتْ إِلَى اللَّهِ كَفَّاهُ
وَسَاوَى عَزِيزٌ فِي الْوُقُوفِ ذَلِيلَنَا وَكَمْ ثَوْبِ عِزٍّ فِي الْوُقُوفِ لَبِسْنَاهُ
وَرَبٌّ دَعَانَا نَاظِرٌ لِخُضُوعِنَا خَبِيرٌ عَلِيمٌ بِالَّذِي قَدْ أَرَدْنَاهُ
وَلَمَّا رَأَى تِلْكَ الدُّمُوعَ الَّتِي جَرَتْ وَطُولَ خُشُوعٍ مَعْ خُضُوعٍ خَضَعْنَاهُ
تَجَلَّى عَلَيْنَا بِالْمَتَابِ وَبِالرِّضَى وَبَاهَى بِنَا الأَمْلاكَ حِينَ وَقَفْنَاهُ
وَقَالَ انْظُرُوا شُعْثًا وَغُبْرًا جُسُومُهُمْ أَجِرْنَا أَغِثْنَا يَا إِلَهًا دَعَوْنَاهُ
وَقَدْ هَجَرُوا أَمْوَالَهُم وَدِيَارَهُمْ وَأَوْلادَهُمْ وَالْكُلُّ يَرْفَعُ شَكْوَاهُ(/7)
إِلَيَّ فَإِنِّي رَبُّهُمْ وَمَلِيكُهُمْ لِمَنْ يَشْتَكِي الْمَمْلُوكُ إِلاَّ لِمَوْلاهُ
أَلا فَاشْهَدُوا أَنِّي غَفَرْتُ ذُنُوبَهُمْ أَلا فَانْسَخُوا مَا كَانَ عَنْهُمْ نَسَخْنَاهُ
فَقَدْ بَدَأَتْ تِلْكَ الْمَسَاوِي مَحَاسِنًا وَذَلِكَ وَعْدٌ مِنْ لَدُنَّا وَعَدْنَاهُ
فَيَا صَاحِبِي مَنْ مِثْلُنَا فِي مَقَامِنَا وَمَنْ ذَا الَّذِي قَدْ نَالَ مَا نَحْنُ نِلْنَاهُ
عَلَى عَرَفَاتٍ قَدْ وَقَفْنَا بِمَوْقِفٍ بِهِ الذَّنْبُ مَغْفُورٌ وَفِيهِ مَحَوْنَاهُ
وَقَدْ أَقْبَلَ الْبَارِي عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ وَقَالَ ابْشُرُوا فَالْعَفْوُ فِيكُمْ نَشَرْنَاهُ
وَعَنْكُمْ ضَمِنَّا كُلَّ تَابِعَةٍ جَرَتْ عَلَيْكُمْ وَأَمَّا حَقُّنَا فَوَهَبْنَاهُ
أَقَلْنَاكُمُ مِنْ كُلِّ مَا قَدْ جَنَيْتُمُ وَمَا كَانَ مِنْ عُذْرٍ لَدَيْنَا عَذَرْنَاهُ
فَيَا مَنْ أَسَى يَا مَنْ عَصَى لَوْ رَأَيْتَنَا وَأَوْزَارُنَا تُرْمَى وَيَرْحَمُنَا اللَّهُ
ذِكْرُ خِزِيِ إِبْلِيسَ اللَّعِين:
فَإِبْلِيسُ مَغْمُومٌ لِكَثْرَةِ مَا يَرَى مِنَ الْعِتْقِ مَحْقُورًا ذَلِيلاً دَحَرْنَاهُ
عَلَى رَأْسِهِ يَحْثُو التُّرَابَ مُنَادِيًا بِأَعْوَانِهِ: وَيْلاهُ ذَا الْيَوْمَ وَيْلاهُ
وَأَظْهَرَهُ مِنْ حَسْرَةٍ وَنَدَامَةٍ وَكُلُّ بِنَاءٍ قَدْ بَنَاهُ هَدَمْنَاهُ
تَرَكْنَاهُ يَبْكِي بَعْدَمَا كَانَ ضَاحِكًا فَكَمْ مُذْنِبٍ مِنْ كَفِّهِ قَدْ سَلَلْنَاهُ
وَكَمْ أَمَلٍ نِلْنَاهُ يَوْمَ وُقُوفِنَا وَكَمْ مِنْ أَسِيرٍ لِلْمَعَاصِي فَكَكْنَاهُ
وَكَمْ قَدْ رَفَعْنَا لِلإِلَهِ مَطَالِبًا وَلا أَحَدًا مِمَّن نُّحِبُّ نَسَيْنَاهُ
وَخُصِّصَتِ الآبَاءُ وَالأَهْلُ بِالدُّعَا وَكَمْ صَاحِبٍ دَانٍ وَنَاءٍ ذَكَرْنَاهُ
كَذَا فَعَلَ الْحُجَّاجُ هَاتِيكَ عَادَةً وَمَا فَعَلَ الْحُجَّاجُ فِيهِ فَعَلْنَاهُ(/8)
وَظَلَّ إِلَى وَقْتِ الْغُرُوبِ وُقُوفُنَا وَقِيلَ ادْفَعُوا فَالْكُلُّ مِنْكُمْ قَبِلْنَاهُ
الإِفَاضَةُ وَالْمَبِيتُ بِمُزْدَلِفَةَ وَذِكْرُ اللهِ عِنْدَ الْمَشْعَر:
أَفِيضُوا وَأَنْتُمْ حَامِدُونَ إِلَهَكُمْ إِلَى مَشْعَرٍ جَاءَ الْكِتَابُ بِذِكْرَاهُ
وَسِيرُوا إِلَيْهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَهُ فَسِرْنَا وَفِي وَقْتِ الْعِشَاءِ نَزَلْنَاهُ
وَفِيهِ جَمَعْنَا مَغْرِبًا وَعِشَاءَهَا تَرَى عَائِدًا جَمْعًا لِجَمْعٍ جَمَعْنَاهُ
وَبِتْنَا بِهِ حَتَّى لَقَطْنَا جِمَارَنَا وَرَبًّا شَكَرْنَاهُ عَلَى مَا هَدَانَاهُ
وَمِنْهُ أَفَضْنَا حَيْثُمَا النَّاسُ قَبْلَنَا أَفَاضُوا وَغُفْرَانَ الإِلَهِ طَلَبْنَاهُ
نُزُولُ مِنًى وَالرَّمْيُ وَالْحَلْقُ وَالنَّحْرُ:
وَنَحْوَ مِنًى مِلْنَا بِهَا كَانَ عِيدُنَا وَنِلْنَا بِهَا مَا الْقَلْبُ كَانَ تَمَنَّاهُ
فَمَنْ مِنْكُمُ بِاللَّهِ عَيَّدَ عِيدَنَا فَعِيدُ مِنًى رَبُّ الْبَرِيَّةِ أَعْلاهُ
وَفِيهِ رَمَيْنَا لِلْعِقَابِ جِمَارَنَا وَلا جُرْمَ إِلاَّ مَعْ جِمَارٍ رَمَيْنَاهُ
وَبِالْجَمْرَةِ الْقُصْوَى بَدَأْنَا وَعِنْدَهَا حَلَقْنَا وَقَصَّرْنَا لِشَعْرٍ حَضَرْنَاهُ
وَلَمَّا حَلَقْنَا حَلَّ لُبْسُ مَخِيطِنَا فَيَا حَلْقَةً مِنْهَا الْمَخِيطُ لَبِسْنَاهُ
وَفِيهَا نَحَرْنَا الْهَدْيَ طَوْعًا لِرَبِّنَا وَإِبْلِيسَ لَمَّا أَنْ نَحَرْنَا نَحَرْنَاهُ
وَمِنْ بَعْدِهَا يَوْمَانِ لِلرَّمْي عَاجِلاً فَفِيهَا رَمَيْنَا وَالإِلَهَ دَعَوْنَاهُ
وَإِيَّاهُ أَرْضَيْنَا بِرَمْيِ جِمَارِنَا وَشَيْطَانَنَا الْمَرْجُومَ ثَمَّ رَجَمْنَاهُ
وَبِالْخِيفِ أَعْطَانَا الإِلَهُ أَمَانَنَا وَأَذْهَبَ عَنَّا كُلَّ مَا نَحْنُ نَخْشَاهُ
النَّفْرَةُ مِنْ مِنًى:
وَرُدَّتْ إِلَى الْبَيْتِ الْحَرَامِ وُفُودُنَا تَحِنُّ لَهُ كَالطَّيرِ حَنَّ لِمَأْوَاهُ(/9)
وَطُفْنَا طَوَافًا لِلإِفَاضَةِ حَوْلَهُ وَفُزْنَا بِهِ بَعْدَ الْجِمَارِ وَزُرْنَاهُ
وَمِنْ بَعْدِ مَا زُرْنَا دَخَلْنَاه دَخْلَةً كَأَنَّا دَخَلْنَا الْخُلْدَ حِينَ دَخَلْنَاهُ
وَنِلْنَا أَمَانَ اللَّهِ عِنْدَ دُخُولِهِ كَذَا أَخْبَرَ الْقُرْآنُ فِيمَا قَرَأْنَاهُ
فَيَا مَنْزِلاً قَدْ كَانَ أَبْرَكَ مَنْزِلٍ نَزَلْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَبَيْتًا وَطِئْنَاهُ
تُرَى حَجَّةٌ أُخْرَى إِلَيهِ وَدَخْلَةٌ وَهَذَا عَلَى دَرْبِ الْوَرَى نَتَمَنَّاهُ
فَإِخْوَانَنَا مَا كَانَ أَحْلَى دُخُولَنَا إِلَيْهِ وَلُبْثًا فِي ذُرَاهُ لَبِثْنَاهُ
طَوَافُ الإِفَاضَة:
نَطُوفُ بِهِ وَاللَّهُ يُحْصِي طَوَافَنَا لِيُسْقِطَ عَنَّا مَا نَسِينَا وَأَحْصَاهُ
وَبِالْحَجَرِ الْمَيْمُونِ عُجْنَا فَإِنَّهُ لِرَبِّ السَّمَا وَالأَرْضِ لِلْخَلْقِ يُمْنَاهُ
نُقَبِّلُهُ مِنْ حُبِّنَا لإلَهِنَا وَكَمْ لَثْمَةٍ طَيَّ الطَّوَافِ لَثَمْنَاهُ
وَذَاكَ لَنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَاهِدٌ وَفِيهِ لَنَا لِلَّهِ عَهْدٌ عَهِدْنَاهُ
وَنَسْتَلِمُ الرُّكْنَ الْيَمَانِيَّ طَاعَةً وَنَسْتَغْفِرُ الْمَوْلَى إِذَا مَا لَمَسْنَاهُ
وَمُلْتَزَمٌ فِيهِ الْتَزَمْنَا لِرَبِّنَا عُهُودًا وَعُقْبَى اللَّهِ فِيهِ لَزِمْنَاهُ
وَكَمْ مَوْقِفٍ فِيهِ يُجَابُ لَنَا الدُّعَا دَعَوْنَا بِهِ وَالْقَصْدَ فِيهِ نَوَيْنَاهُ
الصَّلاةُ بِالْمَقَامِ وَالشُّرْبُ مِنْ زَمْزَمَ وَالسَّعْي:
وَصَلَّى بِأَرْكَانِ الْمُقَامِ حَجِيجُنَا وَفِي زَمْزَمٍ مَاءً طَهُورًا وَرَدْنَاهُ
وَفِيهِ الشِّفَا فِيهِ بُلُوغُ مُرَادِنَا لِمَا نَحْنُ نَنْوِيهِ إِذَا مَا شَرِبْنَاهُ
وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ الْوَفْدُ قَدْ سَعَى فَإِنَّ تَمَامَ الْحَجِّ تَكْمِيلُ مَسْعَاهُ
فَسَبْعًا سَعَاهَا سَيِّدُ الرُّسْلِ قَبْلَنَا وَنَحْنُ تَبِعْنَاهُ فَسَبْعًا سَعَيْنَاهُ(/10)
نُهَرْوِلُ فِي أَثْنَائِهَا كُلَّ مَرَّةٍ فَهَذَاكَ مِنْ فِعْلِ الرَّسُولِ فَعَلْنَاهُ
تَمَامُ الْحَجِّ وَالتَّحَلُّل الثَّانِي:
وَبَعْدَ تَمَامِ الْحَجِّ وَالنُّسْكِ كُلِّهَا حَلَلْنَا وَبَاقِي عِيسِنَا قَدْ أَنَخْنَاهُ
فَمَنْ شَاءَ وَافَى الصَّيْدَ وَالطِّيبَ والنِّسَا وَقَدْ تَمَّ حَجٌّ لِلإِلَهِ حَجَجْنَاهُ
وَلَمَّا اعْتَمَرْنَا كَانَ أَبْرَكُ عُمْرِنَا زَمَانًا نَرَاهُ بِاعْتِمَارٍ عَمَرْنَاهُ
ذِكْرُ أَقْسَامِ الدُّعَاءِ بَعْدَ تَمَامِ النُّسُك:
وَلَمَّا قَضَيْنَا لِلإِلَهِ مَنَاسِكًا ذَكَرْنَاهُ وَالْمَطْلُوبُ مِنْهُ سَأَلْنَاهُ
فَمِنْ طَالِبٍ حَظًّا بِدُنْيَا فَمَا لَهُ خَلاقٌ بِأُخْرَاهُ إِذَا اللَّهُ لاقَاهُ
وَمِنْ طَالِبٍ حُسْنًا بِدُنْيَا لِدِينِهِ وَحُسْنًا بِأُخْرَاهُ وَذَاكَ يُوَفَّاهُ
وَآخَرُ لا يَبْغِي مِنَ اللَّهِ حَاجَةً سِوَى نَظْرَةٍ فِي وَجْهِهِ يَوْمَ عُقْبَاهُ
طَوَافُ الْوَدَاع:
وَبَاتَ حَجِيجُ اللَّهِ بِالْبَيْتِ مُحْدِقًا وَرَحْمَةُ رَبِّ الْعَرْشِ ثَمَّتَ تَغْشَاهُ
تَدَاعَتْ رِفَاقًَا بِالرَّحِيلِ فَمَا تَرَى سِوَى دَمْعِ عَيْنٍ بِالدِّمَاءِ مَزَجْنَاهُ
لِفُرْقَةِ بَيْتِ اللَّهِ وَالْحَجَرِ الَّذِي لأَجْلِهِمَا صَعْبَ الأُمُورِ سَلَكْنَاهُ
وَوَدَّعَتِ الْحُجَّاجُ بَيْتَ إِلَهِهَا وَكُلُّهُمُ تَجْرِي مِنَ الْحُزْنِ عَيْنَاهُ
فَلِلَّهِ كَمْ بَاكٍ وَصَاحِبِ حَسْرَةٍ يَوَدُّ بَأَنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَفَّاهُ
فَلَوْ تَشْهَدُ التَّوْدِيعَ يَوْمًا لِبَيْتِهِ فَإِنَّ فِرَاقَ الْبَيْتِ مُرٌّ وَجَدْنَاهُ
فَمَا فُرْقَةُ الأَوْلادِ وَاللَّهِ إِنَّهُ أَمَرُّ وَأَدْهَى ذَاكَ شَيءٌ خَبَرْنَاهُ
فَمَنْ لَمْ يُجَرِّبْ لَيْسَ يَعْرِفُ قَدْرَهُ فَجَرِّبْ تَجِدْ تَصْدِيقَ مَا قَدْ ذَكَرْنَاهُ(/11)
لَقَدْ صُدِّعَتْ أَكْبَادُنَا وَقُلُوبُنَا لِمَا نَحْنُ مِنْ مُرِّ الْفِرَاقِ شَرِبْنَاهُ
وَوَاللَّهِ لَوْلا أَنْ نُّؤَمِّلُ عَوْدَةً إِلَيْهِ لَذُقْنَا الْمَوْتَ حِينَ فُجِعْنَاهُ
ذِكْرُ الرَّحِيلِ إِلَى طَيْبَةَ وَزِيَارَةُ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلام -
وَمِنْ بَعْدِ مَا طُفْنَا طَوَافَ وَدَاعِنَا رَحَلْنَا لِمَغْنَى الْمُصْطَفَى وَمُصَلاَّهُ
وَوَاللَّهِ لَوْ أَنَّ الأَسِنَّةَ أُشْرِعَتْ وَقَامَتْ حُرُوبٌ دُونَهُ مَا تَرَكْنَاهُ
وَتُمْلَكُ مِنَّا بِالْوُصُولِ رِقَابُنَا وَيُسْلَبُ مِنَّا كُلُّ شَيءٍ مَلَكْنَاهُ
لَكَانَ يَسِيرًا فِي مَحَبَّةِ أَحْمَدٍ وَبِالرُّوحِ لَوْ يُشْرَى الْوِصَالُ شَرَيْنَاهُ
وَرَبِّ الْوَرَى لَوْلا مُحَمَّدُ لَمْ نَكُنْ لِطَيْبَةَ نَسْعَى وَالرِّكَابَ شَدَدْنَاهُ
وَلَوْلاهُ مَا اشْتَقْنَا الْعَقِيقَ وَلا قِبًا وَلَوْلاهُ لَمْ نَهْوَ الْمَدِينَةَ لَوْلاهُ
هُوَ الْقَصْدُ إِنْ غَنَّتْ بِنَجْدٍ حُدَاتُنَا وَإِلاَّ فَمَا نَجْدٌ وَسَلْعٌ أَرَدْنَاهُ
وَمَا مَكَّةٌ وَالْخِيفُ قُل لِي وَلا مِنًى وَمَا عَرَفَاتٌ قَبْلَ شَرْعٍ أَرَدْنَاهُ
بِهِ شَرُفَتْ تِلْكَ الأَمَاكِنُ كُلُّهَا وَرَبُّكَ قَدْ خَصَّ الْحَبِيبَ وَأَعْطَاهُ
لِمَسْجِدِهِ سِرْنَا وَشُدَّتْ رِحَالُنَا وَبَيْنَ يَدَيْهِ شَوْقُنَا قَدْ كَشَفْنَاهُ
قَطَعْنَا إِلَيْهِ كُلَّ بَرٍّ وَمَهْمَهٍ وَلا شَاغِلٌ إِلاَّ وَعَنَّا قَطَعْنَاهُ
كَذَا عَزَمَاتُ السَّائِرِينَ لِطَيْبَةٍ رَعَى اللَّهُ عَزْمًا لِلْحبَيِبِ عَزَمْنَاهُ
وَكَمْ جَبَلٍ جُزْنَا وَرَمْلٍ وَحَاجِزٍ وَلِلَّهِ كَمْ وَادٍ وَشِعْبٍ عَبَرْنَاهُ
تُرَنِّحُنَا الأَشْوَاقُ نَحْوَ مُحَمَّدٍ فَنَسْرِي وَلا نَدْرِي بِمَا قَدْ سَرَيْنَاهُ
وَلَمَّا بَدَا جِزْعُ الْعَقِيقِ رَأَيْتَنَا نَشَاوَى سُكَارَى فَارِحِينَ بِرُؤْيَاهُ(/12)
شَمَمْنَا نَسِيمًا جَاءَ مِنْ نَحْوِ طَيْبَةٍ فَأَهْلاً وَسَهْلاً يَا نَسِيمًا شَمَمْنَاهُ
فَقَدْ مُلِئَتْ مِنَّا الْقُلُوبُ مَسَرَّةً وَأَيُّ سُرُورٍ مِثْلَ مَا قَدْ سُرِرْنَاهُ
فَوَا عَجَبَاهُ كَيْفَ قَرَّتْ عُيُونُنَا وَقَدْ أَيْقَنَتْ أَنَّ الْحَبِيبَ أَتَيْنَاهُ
وَلُقْيَاهُ مِنَّا بَعْدَ بُعْدٍ تَقَارَبَتْ فَوَاللهِ لا لُقْيَا تُعَادِلُ لُقْيَاهُ
وَصَلْنَا إِلَيْهِ وَاتَّصَلْنَا بِقُرْبِهِ فَلِلَّهِ مَا أَحْلَى وُصُولاً وَصَلْنَاهُ
وَقَفْنَا وَسَلَّمْنَا عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَيَسْمَعُنَا مِنْ غَيْرِ شَكٍّ فَدَيْنَاهُ
وَرَدَّ عَلَيْنَا بِالسَّلامِ سَلامَنَا وَقَدَ زَادَنَا فَوْقَ الَّذِي قَدْ بَدَأْنَاهُ
كَذَا كَانَ خُلْقُ الْمُصْطَفَى وَصِفَاتُه بِذَلِكَ فِي الْكُتْبِ الصِّحَاحِ عَرَفْنَاهُ
وَثَمَّ دَعَوْنَا لِلأَحِبَّةِ كُلِّهِمْ فَكَمْ مِنْ حَبِيبٍ باِلدُّعَاءِ خَصَصْنَاهُ
وَمِلْنَا لِتَسْلِيمِ الإِمَامَيْنِ عِنْدَهُ فَإِنَّهُمَا حَقًّا هُنَاكَ ضَجِيعَاهُ
وَكَمْ قَدْ مَشَيْنَا فِي مَكَانٍ بِهِ مَشَى وَكَمْ مَدْخَلٍ لِلْهَاشِمِيِّ دَخَلْنَاهُ
وَآثَارُهُ فِيهَا الْعُيُونُ تَمَتَّعَتْ وَقُمْنَا وَصَلَّيْنَا بِحَيْثُ مُصَلاَّهُ
وَكَمْ قَدْ نَشَرْنَا شَوْقَنَا لِحَبِيبِنَا وَكَمْ مِنْ غَلِيلٍ فِي الْقُلُوبِ شَفَيْنَاهُ
وَمَسْجِِدُهُ فِيهِ سَجَدْنَا لِرَبِّنَا فَلِلَّهِ مَا أَعَلَى سُجُودًا سَجَدْنَاهُ
بِرَوْضَتِهِ قُمْنَا فَهَاتيِكَ جَنَّةٌ فَيَا فَوْزَ مَنْ فِيهَا يُصَلِّي وَبُشْرَاهُ
وَمِنْبَرُهُ الْمَيْمُونُ مِنْهُ بَقِيَّةٌ وَقَفْنَا عَلَيْهَا وَالْفُؤَادَ كَرَرْنَاهُ
كَذَلِكَ مِْثلُ الْجِذْعِ حَنَّتْ قُلُوبُنَا إِلَيْهِ كَمَا وَدَّ الْحَبِيبُ وَدِدْنَاهُ
وَزُرْنَا قِبًا حُبًّا لأَحْمَدَ إِذْ مَشَى عَسَى قَدَمًا يَخْطُو مَقَامًا تَخَطَّاهُ(/13)
لِنُبْعَثَ يَوْمَ الْبَعْثِ تَحْتَ لِوَائِهِ إِذَا اللَّهُ مِنْ تِلْكَ الأَمَاكِنِ نَادَاهُ
وَزُرْنَا مَزَارَاتِ الْبَقِيعِ فَلَيْتَنَا هُنَاكَ دُفِنَّا وَالْمَمَاتَ رُزِقْنَاهُ
وَحَمْزَةَ زُرْنَاهُ وَمَنْ كَانَ حَوْلَهُ شَهِيدًا وَأُحْدًا بِالْعُيُونِ شَهِدْنَاهُ
وَلَمَّا بَلَغْنَا مِنْ زِيَارَةِ أَحْمَدٍ مِنَانًا حَمِدْنَا رَبَّنَا وَشَكَرْنَاهُ
وَمِنْ بَعْدِ هَذَا صَاحَ بِالْبَيْنِ صَائِحٌ وَقَالَ ارْحَلُوا يَا لَيْتَنَا مَا أَطَعْنَاهُ
سَمِعْنَا لَهُ صَوْتًا بِتَشْتِيتِ شَمْلِنَا فَيَا مَا أَمَرَّ الصَّوْتَ حِينَ سَمِعْنَاهُ
وَقُمْنَا نَؤُمُّ الْمُصْطَفَى لِوَدَاعِهِ وَلا دَمْعَ إِلاَّ لِلْوَدَاعِ صَبَبْنَاهُ
وَلا صَبْرَ كَيْفَ الصَّبْرُ عِنْدَ فِرَاقِهِ؟ وَهَيْهَاتَ إِنَّ الصَّبْرَ عَنْهُ صَرَفْنَاهُ
أَيَصْبِرُ ذُو عَقْلٍ لِفُرْقَةِ أَحْمَدٍ فَلا وَالَّذِي مِنْ قَابِ قَوْسَيْنِ أَدْنَاهُ
فَوَاحَسْرَتَاهُ مِنْ وَدَاعِ مُحَمَّدٍ وَأَوَّاهُ مِنْ يَوْمِ التَّفَرُّقِ أَوَّاهُ
سَأَبْكِي عَلَيْهِ قَدْرَ جَهْدِي بِنَاظِرٍ مِنَ الشَّوْقِ مَا تَرْقَى مِنَ الدَّمْعِ غُرْبَاهُ
فََيَا وَقْتَ تَوْدِيعِي لَهُ مَا أَمَرَّهُ وَوَقْتُ اللِّقَا وَاللَّهِ مَا كَانَ أَحْلاهُ
عَسَى اللَّهُ يُدْنِينِي لأَحْمَدَ ثَانِيًا فَيَا حَبَّذَا قُرْبُ الْحَبِيبِ وَمَدْناَهُ
فَيَا رَبِِّ فَارْزُقْنِي لِمَغْنَاهُ عَوْدَةً تُضَاعِفْ لَنَا فِيهَا الثَّوَابَ وَتَرْضَاهُ
رَحَلْنَا وَخَلَّفْنَا لََدَيْهِ قُلُوبَنَا فَكَمْ جَسَدٍ مِنْ غَيْرِ قَلْبٍ قَلَبْنَاهُ
وَلَمَّا تَرَكْنَا رَبْعَهُ مِنْ وَرَائِنَا فَلا نَاظِرٌ إِلاَّ إِلَيْهِ رَدَدْنَاهُ
لِنَغْنَمَ مِنْهَ نَظْرَةً بَعْدَ نَظْرَةٍ فَلَمَّا أَغََبْنَاهُ السَّرُورَ أَغَبْنَاهُ(/14)
فَلا عَيْشَ يَهْنَى مَعْ فِرَاقِ مُحَمَّدٍ أَأَفْقِدُ مَحْبُوبِي وَعَيْشِيَ أَهْنَاهُ
دَعُونِي أَمُتْ شَوْقًا إِلَيْهِ وَحُرْقَةً وَخُطُّوا عَلَى قَبْرِي بِأَنِّيَ أَهْوَاهُ
فَيَا صَاحِبي هَذِي الَّتِي بِيَ قَدْ جَرَتْ وَهَذَا الَّذِي فِي حَجِّنَا قَدْ عَمِلْنَاهُ
فَإِنْ كُنْتَ مُشْتَاقًا فَبَادِرْ إِلَى الْحِمَى لِتَنْظُرَ آثَارَ الْحَبِيبِ وَمَمْشَاهُ
وَتَحْظَى بِبَيْتِ اللَّهِ مِنْ قَبْلِ مَنْعِهِ كَأَنَّا بِهِ عَمَّا قَلِيلٍ مُنِعْنَاهُ
أَلَيْسَ تَرَى الأَشْرَاطَ كَيْفَ تَتَابَعَتْ فَبَادِرْهُ وَاغْنَمْهُ كَمَا قَدْ غَنِمْنَاهُ
إِلَى عَرَفَاتٍ عَاجِلِ الْعُمْرَ وَاسْتَبِقْ فَثَمَّ إِلَهُ الْخَلْقِ يُسْبِغُ نُعْمَاهُ
وَعَيِّدْ مَعَ الْحُجَّاجِ يَا صَاحِ فِي مِنًى فَعِيدُ مِنًى أَعْلاهُ عِيدًا وَأَسْنَاهُ
وَضَحِّ بِهَا وَاحْلِقْ وِسرْ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْبَيْتِ وَاصْنَعْ مِثْلَ مَا قَدْ صَنَعْنَاهُ
وَكُنْ صَابِرًا إِنَّا لَقِينَا مَشَقَّةً فَإِنْ تَلْقَهَا فَاصْبِر كَصَبْرٍ صَبَرْنَاهُ
لَقَدْ بَعُدَتْ تِلْكَ الْمَعَالِمُ وَالرُّبَا فَكَمْ مِنْ رَوَاحٍ مَعْ غُدُوٍّ غَدَوْنَاهُ
فَبَادِرْ إِلَيْهَا لا تَكُنْ مُتَوَانِيًا لَعَلَّكَ تَحْظَى بِالَّذِي قَدْ حَظِينَاهُ
وَحُجَّ بِمَالٍ مِنْ حَلالٍ عَرَفْتَهُ وَإِيَّاكَ وَالْمَالَ الْحَرَامَ وَإِيَّاهُ
فَمَنْ كَانَ بِالْمَالِ الْمُحَرَّمِ حَجُّهُ فَعَنْ حَجِّهِ وَاللَّهِ مَا كَانَ أَغْنَاهُ
إِذَا هُوَ لَبَّى اللَّهَ كَانَ جَوَابُهُ مِنَ اللَّهِ لا لَبَّيْكَ حَجٌّ رَدَدْنَاهُ
كَذَلِكَ جَانَا فِي الْحَدِيثِ مُسَطَّرًا فَفِي الْحَجِّ أَجْرٌ وَافِرٌ قَدْ سَمِعْنَاهُ
وَمِنْ بَعْدِ حَجٍّ سِرْ لِمَسْجِدِ أَحْمَدٍ وَلا تُخْطِهِ تَنْدَمْ إِذَا تَتَخَطَّاهُ(/15)
فَوَا أَسَفَ السَّارِي إِذَا ذُكِّرَ الْحِمَى إِذَا رَبْعُ خَيْرِ الْمُرْسَلِينَ تَخَطَّاهُ
وَوَالَهَفَ الآتِي بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ إِذَا لَمْ يُكَمِّلْ بِالزِّيَارَةِ مَمْشَاهُ
يُعَزَّى عَلَى مَا فَاتَهُ مِنْ مَزَارِهِ فَقَدْ فَاتَهُ أَجْرٌ كَثِيرٌ بِأُخْرَاهُ
نَظَرْنَاهُ حَقًّا حِينَ بَانَتْ رِكَابُنَا عَلَى طَيْبَةٍ حَقًّا وَصِدْقًا نَظَرْنَاهُ
وَزَادَتْ بِنَا الأَشْوَاقُ عِنْدَ دُنُوِّنَا إِلَيْهَا فَمَا أَحْلَى دُنُوَّا دَنَيْنَاهُ
وَلَمَّا بَدَتْ أَعْلامُهَا وَطُلُولُهَا تَحَدَّرَتِ الرُّكْبَانُ عَمَّا رَكِبْنَاهُ
وَسِرْنَا مُشَاةً رِفْعَةً لمِحُمَّدٍ حَثَثْنَا الْخُطَا حَتَّى الْمُصَلَّى دَخَلْنَاهُ
لِنَغْنَمَ تَضْعِيفَ الثَّوَابِ بِمَسْجِدٍ صَلاةُ الْفَتَى فِيهِ بِأَلْفٍ يُوَفَّاهُ
كَذَلِكَ فَاغْنَمْ فِي زِيَارَةِ طَيْبَةٍ كَمَا قَدْ فَعَلْنَا وَاغْتَنِمْ مَا غَنِمْنَاهُ
فَإِذْ مَا رَأَيْتَ الْقَبْرَ قَبْرَ مُحَمَّدٍ فَلا تَدْنُ مِنْهُ ذَاكَ أَوْلَى لِعُلْيَاهُ
وَقِفْ بَوَقَارٍ عِنْدَهُ وَسَكِينَةٍ وَمِثْلُ رَسُولِ اللَّهِ حَيٌّ بِمَثْوَاهُ
وَسَلِّمْ عَلَيْهِ وَوَزِيرَيْنِ عِنْدَهُ وُزُرْهُ كَمَا زُرْنَا لِنَحْصُدَ عُقْبَاهُ
وَبَلِّغْهُ عَنَّا لا عَدِمْتَ سَلامَنَا فَأَنْتَ رَسُولٌ لِلرَّسُولِ بَعَثْنَاهُ
وَمَنْ كَانَ مِنَّا مُبْلِغًا لِسَلامِنَا فَإِنَّا بِمِبْلاغِ السَّلامِ سَبَقْنَاهُ
فَيَا نِعْمَةً لِلَّهِ لَسْنَا بِشُكْرِهَا نَقُومُ وَلَوْ مَاءَ الْبُحُورِ مَدَدْنَاهُ
فَنَحْمَدُ رَبَّ الْعَرْشِ إِذْ كَانَ حَجُّنَا بِزَوْرَةِ مَنْ كَانَ الْخِتَامَ خَتَمْنَاهُ
عَلَيْكَ سَلامُ اللَّهِ مَا دَامَتِ السَّمَا سَلامٌ كَمَا يَبْغِى الإِلَهُ وَيَرْضَاهُ(/16)
ملاحظة: هذه القصيدة ذكرها الحافظ تقي الدين محمد بن أحمد بن علي الفاسي المكي المالكي المتوفَّى سنة 823 هـ في كتابه "شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام"، ونسبها إلى الأديب أبي بكر محمد بن محمد بن عبدالله بن رشد البغدادي، وذكر أن صاحبها سماها "الذهبية في الحجة المالكية، والذروة المحمدية" وعلى هذا فليستِ القصيدة هذه للصنعاني المتوفى سنة 1182 هـ، حيث إن الفاسي قبله بنحو أربعة قرون .
ومن باب الأمانة في الأداء ذكرناها بالنص والحرف، والله من وراء القصد.
من كتاب "حكم وأقوال" محمد الطريري ..(/17)
العنوان: شعراء قتلهم شعرهم
رقم المقالة: 1426
صاحب المقالة: نعيمة عبد الفتاح ناصف
-----------------------------------------
مع كتاب
(شعراء قتلهم شعرهم)
للباحث: سمير مصطفى فراج
شعر الهجاء والغزل والتشبيب بالنساء
قتل عدداً من شعراء الجاهلية والإسلام
• أبو الطيب المتنبي هجا امرأة؛ فقتله أخوها.
• بشار بن برد هجا المهدي؛ فأمر بضربه بالسوط حتى مات.
• قصيدة أبي نُخَيلة أضاعت ولاية العهد من عيسى بن موسى، وعقدتها للمهدي؛ فقُتل الشاعر بسببها!.
• وَضَّاح اليمن تَغَزَّل بقصائده في أم البنين، زوجة الوليد بن عبد الملك؛ فقتله.
• طَرَفَة بن العبد هجا عمرَو بن هند، ملك الحيرة؛ فأمر بقتله.
• • • •
الشعر صورة من صور البيان والبلاغة، وفن محبب الى النفوس، والشعر العربي سِجل حافل بأحوال العرب الاجتماعية والسياسية عبر العصور، وتصوير شامل لما كان عليه المجتمع في العهود السابقة، ولقد كان الشعر -في الماضي- الوسيلة الإعلامية الأولى التي تؤثِّر في الناس، وكان الحكام والسلاطين يستثمرون الشعراء في مدحهم وتحسين صورتهم، والدفاع عن مواقفهم وسياساتهم، وكانت تقام الأسواق والمنتديات التي يجتمع فيها الشعراء، ويتبارون في تقديم ما لديهم من قصائد وأشعار، مثل سوق عكاظ في الجاهلية، الذي بلغت شهرته الآفاق.
غير أن هناك من الشعراء من شذَّ عن الطريق، وأمعن في هجاء بعض الأفراد، سواء كانوا أشخاصاً عاديين، أو أمراء، أو سلاطين، وقام بمناصرة فرق وتيارات معادية لبعض الخلفاء وأصحاب النفوذ؛ حتى قاده شعره ولسانه الى الموت؛ فصار صريعاً لشعره، وقتله لسانه!!
وهذا الكتاب الذي صدر بالقاهرة للباحث سمير مصطفى فراج، تحت عنوان "شعراء قتلهم شعرهم" يلقي الضوء على عدد من هؤلاء الشعراء الذين سلكوا هذا السبيل الشائك، ولقوا حتفهم ضحية شعرهم.(/1)
والكتاب يقدم نماذج لفطاحل الشعراء في الجاهلية والإسلام؛ من أمثال المتنبي، وطرفة بن العبد، وبشار بن برد، ووضَّاح اليمن، وعبيد بن الأبرص، وكعب الأشقري.
ويتضح من سطور هذا الكتاب أن هناك عوامل مشتركة من أغراض الشعر ساهمت في مصرع هؤلاء الشعراء؛ أوَّلها الهجاء والمخاصمة، وثانيها الغزل والتشبيب بالنساء، وثالثها الفخر.
فالشعراء الذين قتلهم شعرهم: إما هجَّاءٌ أمعن في مخاصمة بعض الولاة أو الحكام أو الشعراء، وانطلق في النيل من شرفه والتشهير به وإظهار نقائصه، وإمَّا عاشق أمعن في التغزل بالنساء والتشبيب بهم؛ حتى جاء حتفه على يد ولي المرأة أو أخيها أو زوجها أو ابنها. وهذا ما سوف يتضح من عرضنا للنماذج التي شملها هذا الكتاب.
• الغزل ونهاية شاعرين:
وأول النماذج التي يقدمها الكتاب هو الشاعر "هُدْبة بن خَشْرَم"، من بني عامر، من بادية الحجاز، وكان شاعراً متقدماً فصيحاً، وراوية للحطيئة، وقد بدأ الشعر يرسم نهايته، هو وشاعر آخر من شعراء عصره، وهو "زياد بن زيد"، وهما من شعراء العهد الأموي، حيث كانا مع رَهْط من قومهم قاصدين الحج، وكان مع هدبة أخته فاطمة، فتغزل بها زياد قائلاً:
عُوجِي عَلَيْنَا وارْبَعِي يا فَاطِمَا ما دُونَ أنْ يرَى البْعيرُ قَائِماً
أَلا تَرَيْنَ الدَّمْعَ مِني ساجِمَا حِذارَ دارٍ مِنْكِ لَنْ تُلائِمَا
فَعَرَّجَتْ مُطَّرِداً عُراهِما فَعْماً يَبُذُّ القطفَ الرَّوَاسِما
وأطال زياد في قصيدته، فغضب هدبة، ورد عليه بأن تغزل في أخته، وكانت تسمى أم حازم، فقال:
لَقَدء أُرَانَي وَالغُلامَ الحازِمَا نُزْجِي الْمطيَّ ضُمراً سَوَاهِما
متى تَظُنُّ القُلَّصُ الرَّوَاسِما والجّلة النَّاجِية الْعَياهِمَا
يَبْلُغْنَ أمَّ حَازِمٍ وَحَازِمَا إذَا هَبْطنَ مُستَحيراً قَاتِما(/2)
فسبه زياد، ورد عليه هدبة، وطال بينهما ذلك؛ حتى صاح بهما القوم، فسكتا، كل منهما على ما في نفسه، ولكن هدبة كان أشد حنَقاً على زياد، ورأى أنه قد غلبه وضامه، فقد تغزل في أخته فاطمة، وهي حاضرة سامعة، بينما تغزل هدبة في أم حازم، وهي غائبة لا تسمع غزله فيها.
ومن هذا اليوم صارت عداوة بين هدبة وزياد، ظهرت بوادرها في المعارضات الشعرية بينهما، ولم يشف هدبة ما قاله من الشعر، وتحيَّن الفرصةَ لقتل زياد حتى قتله، فأمسك سعيد بن العاص والي المدينة به، وأرسله الى معاوية بن أبي سفيان، فأقر أمامه بقل زياد، وحبس بالمدينة ثلاث سنوات، حتى يبلغ "المِسْوَر" ولد زياد الحلم، ويخير بين أخذ الدية أو القصاص.
وبعد أن بلغ الغلام أراد سعيد بن العاص بذل محاولة أخيرة مع عبد الرحمن أخي زياد بأن يقبل دية أخيه ويعفو عن هدبة، ولكن عبد الرحمن أصر على قتله، وقال للوالي: انه قال بيتاً من الشعر؛ لو لم يقله لقبلت الدية، أو صفحت بغير دية! والله، لو أردت شيئاً من ذلك؛ لمنعني قوله:
لَنَجْدَعَنَّ بأيدينا أنوفَكم ويذهَب القَتلُ فيما بينَنَا هَدْراً
فدفع الوالي بهدبه ليقتل، فبدت في عينه حسرة، وما ندم بشر على قول؛ كما ندم هدبة على قوله هذا البيت الذي قاده إلى الموت! والتفت هدبة الى قوم زياد وهو مقيد بالحديد قائلاً:
فإِن تَقْتُلُوني في الحَدِيدِ فإِنَّني قَتَلْتُ أَخاكُمْ مُطْلَقاً لم يُقيَّد
فقال عبد الرحمن: والله لا نقتله إلا مطلقاً من وثاقه، ثم قال:
قَدْ عَلِمَتْ نفسي وأنتَ تَعلَمُهْ لأَقْتُلَنَّ اليومَ مَنْ لا أَرْحَمُهْ
ودفع السيف الى "المسور بن زياد" فضرب هدبة ضربتين مات فيهما.
• كعب الأشقري:(/3)
وينتقل المؤلف الى نموذج أخر من الشعراء الذين قتلهم شعرهم، وهو كعب الأشقري من قبيلة الأزد، وكان خطيباً وشاعراً، من أصحاب المهلب بن أبي صفرة، وقد مدحه، ومدح أبناءه، ورافقهم في حروبهم مع الأزارقة، وقد أوفده المهلب الى الحجاج مبشراً بانتصاره على الأزارقة، فأنشده من مدائحه فيهم قوله:
لولا المهلَّبُ ما زُرْنا بلادَهم ما دامتِ الأرضُ فيها الماءُ والشجرُ
وما من الناسِ من حيِّ علمْتُهُمُ إلاَّ يُرَى فيهمُ من سيبِكمْ أثرُ
فَما يجاوِزُ بابَ الجسرِ من أحدٍ! قد عضتِ الحربُ أهلَ الجسرِ فانجحروا!
فضحك الحجاج، وقال إنك لمنصف يا كعب، المهلب كان أعلم بك حيث بعثك.
واستمر ولاء كعب للمهلب وأبنائه من بعده، وكانوا لا يسمحون للشعراء بهجائه، ولما عزل يزيد بن المهلب عن خرسان ووليها قتيبة بن مسلم؛ مدحه كعب ونال من يزيد، وثلبه وهجاه، ولما بلغه أن يزيد قد وليها مرة أخرى؛ هرب الى عُمانَ، وأقام بها مدة، ثم كرهها، فكتب ‘لى يزيد بن المهلب معتذراً، ولكن يزيد لم يسامحه، ولم يصْفُ له، وداهنَه حتى رجع خرسان، وتخير له قاتلاً من قرابته؛ هو ابن أخيه الذي كانت بينهما عداوة وتباعد، وهجاه كعب بقوله:
إنَّ السَّوَادَ الذي سَرْبَلْتَ تعرِفُهُ ميراثُ جدِّكَ عن آبائِه النُّوبِ
أشبهتَ خالَكَ خالَ اللؤمِ مؤتسياً بهديه سالكاً في شرِّ أسلوبِ
وهكذا أغرى يزيد بن المهلب هذا الفتى بالمال؛ فقتل عمه الذي هجاه بلسانه.
• عبيد بن الأبرص:
ويتعرض الكتاب لواحد من فحول الشعراء في الجاهلية، وهو عبيد بن الأبرص من بني أسد، وقد عاصر امرؤ القيس، وكانت له جولة معه، بعد أن رفض امرؤ القيس ما عرضه بنو أسد؛ من دية لقتل أبيه أو تقديم شريف من أشرافهم مقيَّداً ليُقتل بدم حجر؛ فكتب عبيد قصيدة فخر لقومه، وهجاءٍ لقيس وقومه، ومما جاء فيها:
ياذاَ المُخَوَّفُنَا بقَتْـ ـلِ أَبيهِ إِذْلالاً وحَينَا(/4)
أَزَعَمْتَ أَنَّكَ قد قَتَلْـ ـتَ سَرَاتَنا كَذِباً ومَينَا؟
هَلاَّ على حُجْر بْنِ أُ مِّ قَطَامِ تَبْكى لا عَلَيْنَا!
إِنَّا إِذَا عضَّ الثَِّقا فُ بِرَأَسِ صَعْدَتنَا لَوَيْنَا
نَحْمِى حَقِيقَتَنَا وبَعْـ ـضُ القَوْمِ يَسقُطُ بَيْنَ بَيْنَا
هَلاَّ سَأَلْتَ جُمُوعَ كِنْـ ـدَةَ يَوْمَ وَلوْا أَيْنَ أَيْنَا!
ولكن امرؤ القيس كان مشغولاً بثأر أبيه، فلم يرد عليه.
وقد بدأت نهاية هذا الشاعر على يد الملك المنذر بن ماء السماء؛ فهذا الملك كان له يومان يوم بؤس ويوم نعمة؛ فإذا كان في يوم نعمة أتي بأول من يراه؛ فَحَباه، وكساه، وأعطاه من إبله مئة، ونادمه يومَه، وإذا كان في يوم بؤسه؛ أتى بأول من يراه، فيأمر به فيذبح.
وبينما هو جالس في يوم بؤسه؛ إذ أشرف عليه عبيد بن الأبرص، فقال لرجل كان معه: من هذا الشقي؟ فقال له: هذا عبيد بن الأبرص الأسدي الشاعر، فأتي به، فقال له الرجل الذي كان معه: اتركه فاني أظن أن عنده من حسن الشعر أفضل مما تدركه في قتله، فاسمع منه، فقبل الملك، وقال لعبيد: أنشدني:
أقفر من أهله ملحوب
لكن عبيداً لم يستطع أن يقوله، وعزَّت عليه نفسه، فرثاها بقوله:
أَقْفَرَ من أهلِهِ عبيدُ فليس يُبدي ولا يُعيدُ
عنتْ له خُطَّةٌ نَكُودُ وَحَانَ منها له وُرودُ
وأبى عبيد أن ينشدهم شيئاً مما أرادوا، فأمر به المنذر فقتله.
• نهاية المتنبي:
ويصل المؤلف الى المتنبي الذي كان بعض شعره سبباً لمقتله، والمتنبي شاعر العربية الكبير الذي شغلت حياته وشعره حيزاً كبيراً من دراسات المتخصصين في الأدب العربي؛ حيث كان يكتب للنفس العربية، والإحساس العربي، والنبض العربي، الذي لا يرتبط بحدود أو فواصل تاريخية.
وكان المتنبي يستعلي على الشعراء، ويكثر من السخرية منهم ومن شعرهم، على نحو جعله هدفَهم جميعاً، وكان يكثر من الفخر بنفسه، فهو القائل:
سيعلمُ الجميعُ ممن ضَمَّ مجلسُنا بأنني خيرُ من تَسعى بِهِ قَدَمُ(/5)
أنا الذي نَظَرَ الأعمى إلى أدبي وأسمعتْ كلماتي مَن به صَمَمُ
وفي إحدى قصائده التي كتبها في صباه يقول:
إن أكن معجَباً فعُجْبُ عجيبٍ لم يجد فوق نفسهِ من مزيدِ
أنا تربُ الندى وربُّ القوافي وسمامُ العِدَى وغيظُ الحسودِ
أنا في أمةٍ تداركها اللـ ـهُ غريبٌ كصالحٍ في ثمودِ
ويقول:
أيُّ محلٍّ أرتقي أيُّ عظيمٍ أتقي؟
وكلُّ ما خلقَ اللَّـ ـهُ وما لم يخلقِ
محتقرٌ في همَّتي كشعرةٍ في مَفْرِقي
هكذا كان المتنبي في تقديره لذاته، يراها الأعلى دائماً، والأحق بالمجد والشرف، ولا يتنازل عن هذه الرؤية تحت أي ظروف كانت!.
• الهجاء القاتل:
والغريب أن المتنبي قتل بسبب الهجاء؛ على الرغم من أن الهجاء لا يمثل ركناً أساسياً في ديوانه؛ فعندما ترك المتنبي سيف الدولة أمير حلب الذي كتب الكثير من القصائد في مدحه ومناقبه؛ بعد أن وشي بينهما الواشون؛ اتجه إلى مصر لمدح واليها كافور الإخشيدي الذي كان عبداً أسود مثقوب الأذن، ولكن كافور خذله؛ فأطلق المتنبي فيه لسانه يهجوه وشعبَ مصر، فنجده في قصيده يبالغ في هجائه لكافور، ويصفه بكل صفات الرجل الدنيء؛ من الكذب، وإخلاف الوعد، والغدر، والخيانة، وخسة الأصل، والجبن؛ فيقول:
أُرِيكَ الرِّضَا لو أخْفَتِ النَّفْسُ خافيا وما أنا عن نفسي ولا عنك راضيا
أَمَيْناً؟ وإخلافاً؟ وغَدْراً؟ وخِسَّةً؟ وجُبْناً؟ أَشَخْصاً لُحْتَ لي أم مَخازيا؟
وإنك لا تدري: ألونُكَ أسودٌ من الجهلِ؟ أم قد صار أبيضَ صافيا؟!
ثم يقول وهو راحل عن مصر:
العَبدُ لَيسَ لُحرٍّ صَالِحٍ بأخٍ لَو أنَّهُ في ثِيابِ الحُرِّ مَولُودُ
لا تشترِ العبدَ إلاّ والعصا معه إنَّ العبيد لأنجاسٌ مناكيدُ!
ما كنت أحْسِبُني أحيا إلى زمنٍ يسيء بي فيه عبدٌ وهو محمودُ(/6)
ومع هذا الهجاء الشديد اللهجة لكافور؛ استطاع المتنبي الخروج من مصر دون أن يمسه سوء، وجاء مقتله بسبب قصيدة هجا بها رجلاً يسمى "ضبة بن زيد"، يتعرض فيها لحادثة مقتل أبي ضبة، وقد فر وترك أباه، وهو يستخف به فيقول فيها:
ما أنصفَ القومُ ضُبَّهْ وأمّه الطُّرطُبّهْ
وَمَا عليكَ مِنَ القَتْـ ـلِ إنَّما هيَ ضَرْبَهْ
وَمَا عليكَ مِنَ الغَدْ رِ إنَّما هِيَ سُبَّهْ
ثم يقول:
ما كنت إلا ذُباباً نفتكَ عنّا مِذبّه
وإنْ بَعُدْنا قليلاً حملْت رُمحاً وحَرْبَهْ
إن أوحشتْك المَعَالي فَإِنَّها دارُ غُرْبَهْ
أو آنستْك المَخَازِي فإنَّهَا لكَ نِسْبَهْ
وفي القصيدة أبيات كثيرة؛ يتعرض فيها المتنبي لأم ضُبة، ويرميها بأفحش التهم، وكان لأم ضبة أخ يسمى "فاتك بن أبي جهل الأسدي"؛ فلما بلغته القصيدة أخذ الغضب منه كل مأخذ، وأضمر السوء لأبي الطيب، وعندما علم أبو نصر محمد الحلبي بِنية فاتك؛ حذر المتنبي، فلم يزده هذا التحذير الا عناداً، وركب المتنبي وسار، فلقيه فاتك في الطريق، فأراد المتنبي أن ينجو بنفسه، فقال له غلامه: ألستَ القائل:
الخيلُ والليلُ والبَيداءُ تعرفني والسيفُ والرُّمح والقرطاسُ والقلمُ؟
فثبت المتنبي حتى قتله فاتكٌ، وقتل ابنَه محمداً وغلامَه، وهكذا كانت نهاية هذا الشاعر العربي الكبير التي جاءت بسبب شعره ولسانه.
• قصيدة أضاعت خلافة:
وينتقل المؤلف إلى شاعر آخر من الشعراء الذين قتلهم شعرهم، وهو الشاعر أبو نُخَيْلَةَ، الذي تخصص في مدح كل من آلت إليه الخلافةُ من بني أمية وبني العباس؛ فعندما كان الأمر بيد بني أمية مدحهم، وعندما انتقل إلى بني العباس مدحهم! وكانت قصائده معلقة على كرسي الخلافة يتناولها الجالس عليه؛ بغض النظر عن شخصه وسلوكه!!.
وقد تضمنت قصائد مدحه لبني العباس هجاء لبني أمية، ولأن شخصيته الشعرية كانت مهتزة؛ فقد كان مهيئاً أن يصيبه -من جراء شعره- شر عظيم، وهذا ما حدث بالفعل، ووضع نهاية لحياته.(/7)
فعندما علم أبو نخيلة أن أبا جعفر المنصور يريد تولية ابنه المهدي ولاية العهد، بدلاً من ابن أخيه عيسى بن موسى؛ وجدها فرصة للتقرب من أبي جعفر بقصيدة يؤيد بها رأيه، ويشيعُه بين الناس، ويطالب بخلع عيسى بن موسى، وبالبيعة للمهدي، فقال:
إلى أميرِ المؤمنينَ فاعْمِدِي إلى الذي يَنْدَى ولا يندى ندي
سيري إلى بحرِ البِحارِ المُزْبِدِ إلى الذي إن نَفِدَتْ لم يَنْفَدِ
ليسَ وليُّ عهدِنا بالأسعدي عيسى! فَزَحْلِقْها إلى محمدِ
فقدْ رضينا بالغلامُ الأمردِ وقد فَرَغْنَا غيرَ أن لم نشهدِ
وغير أن العقدَ لم يؤكدِ فلو سمعنا قولَك: امدد امددِ
كانَتْ لنا كدَعْقَةِ الوِرْدِ الصَّدِي فنادِ للبيعةِ جمْعاً نحشدِ
وقد أشاع أبو نخيلة هذه القصيدة؛ حتى رواها الخدم والخاصة، وتناشدها العامة، فبلغت المنصور، فدعا به، وعيسى بن موسى جالس عن يمينه، فأنشده إياها، وأنصت له حتى سمعها عن آخرها، وظهر على وجهه السرور.
ثم قال لعيسى بن موسى: ولئن كان هذا عن رأيك؛ لقد سررتَ عمك، وبلغتَ من مرضاته أقصى ما يبلغه الولد البار السار.
فقال عيسى: "لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين".
وهكذا خُلع عيسى، وعقدت البيعة للمهدي بولاية العهد، فأراد عيسى أن ينتقم من هذا الشاعر الذي تسببت قصيدته في ضياع الخلافة التي عاش عمره ينتظرها.
واشتد عيسى في طلب أبي نخيلة؛ حتى فر الى خراسان، فأرسل خلفه مولى له يسمى قِطْرِيّاً ومعه عدد من الرجال، فلحقوه في الطريق، فأخذوه، وكتفوه، وأضجعه قطري، وذبحه، وسلخ وجهه، وألقى جسمه إلى النسور، ولم يبرح مكانه حتى لم يبق منه إلا عظامه!.
• طَرَفَة بن العبد:
ويقف المؤلف مع شاعر جاهلي مشهور، هو طرفة بن العبد الذي قُتل وهو في السادسة والعشرين من عمره، ومع حداثة سنه؛ الا أنه استطاع أن يشمخ بقامته أمام كبار شعراء عصره، وتميز عليهم بحكمة كانت وليدة ظروفه الخاصة، وظهرت في بعض أشعاره، ومنها قوله:(/8)
إذا قلَّ مالُ المَرءِ قَلَّ بَهَاؤُه وضاقَتْ عليه أرضُهُ وسماؤُه
وأصبحَ لا يدري وإن كان حازماً أَقُدَّامُهُ خيرٌ لَهُ أمْ وَرَاؤُه
ولم يمشِ في وجهٍ على الأرضِ واسعٍ من الناسِ إلا ضَاقَ عنه فضاؤُه
فإن غابَ لم يُشْفِقْ عليه صديقُهُ وإن آبَ لم يفرحْ به أصفياؤُه
وإن ماتَ لم يَفْقِدْ وليٌّ ذهابُهُ وإن عاشَ لم يَسْرُرْ صديقاً لقاؤُه
وقوله:
إذا تمَّ عقلُ المرء ِتمت أمورُهُ وتمتْ أياديه وطابَ ثناؤُه
وان لم يكن عقلٌ تبيَّنَ نقصُهُ وإن كان مفضالاَ كثيراً عطاؤُه
وقد بدأت نهاية هذا الشاعر الشاب عندما رحل من اليمامة إلى الحيرة، وادعى جوار ملكها عمرو بن هند، وعندما أساء إليه الملك يوماً، ولم يكرِم وفادته، كما كان يفعل من قبل؛ هجاه، وهجا أخاه قابوساً، ولكن الهجاء لم يصل إلى أسماع عمرو بن هند إلا عن طريق رجل يسمى عبدعمرو بن بشر الذي هجاه طرفة أيضاً، وقد قال طرفة يهجو بن هند:
ليت لنا مكانَ المَلكِ عَمْرٍو رَغُوثاً حَول قُبتَّنا تَخُورُ
من الزَّمِرات أَسْبل قادِمَاها وضَرَّتُها مُرَكَّنة دَرُورُ
يشاركُنا لنا رِخْلانُ فيها وتعلوها الكِبَاش فلا تنورُ
لَعَمْرُكَ إن قابوسَ بنَ هند ليخلِطُ مُلكَهُ نوكٌ كَثيرُ!
في هذه الأبيات يرى طرفة عمرو بن هند ملكاً لا يصلح للمُلك، وخير منه نعجة تخور، وإن كانت قليلة الصوف؛ فربما كان لبنها كثيراً يكفي رضيعها وحالبها، وهي لا تنفر من الكباش، فقد اعتادت أن يقع عليها الذكور!.
فغضب عمرٌو، وأضمر في نفسه الانتقام من طرفة، ثم أرسله إلى عامله على البحرين برسالة، وأمره فيها بقتله، فقتله.
• صريع أم البنين:(/9)
ويتحدث المؤلف عن شاعر آخر صرعه شعره، هو "وضَّاح اليمن" عبد الرحمن بن إسماعيل بن عبد كُلال، وسمي وضاحاً لجمالة، وكان أحدَ ثلاثةٍ من العرب يردون المواسم مقنَّعين يسترون وجوههم خوفاً من العين، وحذراً على أنفسهم من النساء لجمالهم! وهؤلاء الثلاثة هم: المقنع الكِندي، وأبو زيد الطائي، ووضاح.
وقد بدأ وضاح يدق أول مسمار في نعشه عندما استجاب لأم البنين زوجة الخليفة الوليد بن عبد الملك، وقال فيها شعراً، والقصة بدأت عندما كانت أم البنين تؤدي فريضة الحج، وكتب الوليد يتوعَّد الشعراءَ جميعاً؛ إن ذكرها أحد منهم، أو ذكر أحداً ممن معها، ولكنها عندما وقعت عيناها على وضاح اليمن؛ هوتْه، وطلبت منه، ومن كُثَيِّرٍ أن ينسبا إليها شعراً، ولكن كثيراً أدرك عاقبة ذلك فلم ينسب لها، ولم يكن وضاح على ذلك القدر من الحذر والحيطة، وانطلق لسانه برقيق الشعر نسيبا في أم البنين، متغافلا عن مكانتها ومكانة زوجها وهو خليفة المسلمين.
ومما قاله فيها:
أَصَحوتَ عن أم البنيـ ـنَ وذكرِهَا وعنائِها؟
وَهَجَرْتَهَا هجرَ امرئٍ لم يسل صَفْوَ صفائِها
قرشيةٌ كالشمسِ أشـ ـرقَ نورُهَا ببهائِهَا
زادتْ على البِيضِ الحِسَا نِ بحسْنِهَا ونَقَائِهَا
لولا هوى أمِّ البني نَ وحاجتي للقائِها
قد قربت لي بغلةً محبوسةً لنجاتِها
ثم يقول في جرأة على زوجة الخليفة أكثر من ذلك:
صَدَعَ البينُ والتَّفَرُّقُ قلبي وتولَّتْ أمُّ البنينَ بِلُبِّي
ثوتِ النفسُ في الحُمُولِ لَدَيها وَتَوَلَّى بِالجِسْمِ مِنِّي صَحبي
وِلِقِد قُلتُ والمدامعُ تجري بدموعٍ كأنها فَيْضُ غَرْبِ
جَزَعاً للفراقِ يومَ تَوَلَّتْ: حَسْبيَ اللهُ ذو المَعَارِجِ حَسْبي!(/10)
وهذا الأقوال الصريحة في أم البنين كانت دوافع قوية لدى الوليد؛ للتخلص من هذا الرجل الذي ملأ الدنيا بها شعراً، وقد أحسَّ وضَّاحٌ بما يحيط به من خطر؛ فراح يبتغي السبل لإرضاء الخليفة، وقد وعدتْه أم البنين أن تَرْفِدَه عنده، وتقوِّيَ أمره؛ فمدحه الوضاح بعدة قصائد، ولكن هذه القصائد لم تشفع له، ودبر الوليد لقتله، وقيل أنه دفنه حياً، في حفرة حفرها له في قصره.
• بشار الهجاء:
ويقف المؤلف عند شاعر عربي آخر، عاش في العصر العباسي، واشتهر بشعر الهجاء، وهو الشعر الذي كان سبباً في مقتله، وهذا الشاعر هو بشار بن برد، الذي احترف الهجاء منذ صباه المبكر، وذاع صيته بهجائه الذي كان يؤرق ويتعب من يتوعدهم به، ولم يكن يخشى -في هجائه- شخصية كبيرة في الدولة، حتى ولو كان الخليفة ذاته؛ فقد هجا العباس بن محمد أخا الخليفة المنصور، وهجا الخليفة المهدي نفسه، ووزيره يعقوب بن داود.
وكان الهجاء يمثل الخطوة التالية؛ بعد أن يمدح فيخيب أمله ولا يعطى، فكان هجاؤه رجوعاً عن المدح.
وقد مدح الخليفة المهدي فلم يعطه شيئاً؛ فقال يهجوه:
خَليفةٌ يَزْني بعمّاتِهِ يَلْعَبُ بالدّبُّوقِ والصَّولجَانْ
وقد وصل هذا الشعر إلى المهدي عن طريق وزيره يعقوب، فكاد ينشق غيظاً، ثم قصد البصرة، وقبض على بشار، وأمر بضربه بالسوط حتى الموت، فأخذ إلى سفينة، وضرب سبعين سوطاً حتى مات، فألقوا به في الماء، فحمله الماء فأخرجه إلى دجلة، فأخذ فأتي به أهله فدفنوه.
• حماد عجرد:(/11)
أما آخر الشعراء الذين يعرض لهم المؤلف في كتابه؛ فهو شاعر من شعراء العصر العباسي، لا يختلف كثيراً عن بشار بن برد، وهو حَمَّادُ عَجْرَد، الذي كان واحداً من كبار هَجَّائي عصره، وكانت بينه وبين بشار جولات كثيرة من الهجاء المتبادل، وتميز هجاء حماد بفحشه الشديد، وامتلائه بالألفاظ المستنكرة التي يأباها الذوق وتَمُجُّهَا الآذان؛ حتى بدا بشار أمامه شاعراً مهذَّباً، عفيف اللفظ، رقيق الصورة!!!.
وكما جمع بينهما الهجاء؛ اشتركا في المصير الذي صار إليه كل منهما، وهو القتل بسبب الشعر؛ فقد رأينا كيف قتل بشار بسبب هجائه للمهدي، وسترى هنا مصير حماد، وكيف قُتل بسبب تشبيبه بامرأة تسمى زينب بنت سليمان.
فقد كان محمد بن أبي العباس السفاح يهوى زينب؛ فخطبها فلم يزوجوه، وكان حماد صديقه ونديمه، فقال له محمد: قل فيها شعراً. فقال حماد على لسان محمد:
زَيْنَبُ، ماذَنْبِي؟ ومَاذا الذَّي غَضِبْتُمْ فيِه وَلَمْ تُغْضَبُوا؟!
وَاللهِ، ما أَعْرِفُ لِي عِنْدَكُمْ ذَنْباً! فَفِيمَ الهَجْرُ يا زَيْنَبُ؟!
إن كنت قد أغضبتكم ضلة فاستعتبوني إنني أعتب
عودوا على جهلي بأحلامكم إنني وإن لم أذنب المذنب
فلما بلغ هذا الشعر مسامع محمد بن سليمان -أخو زينب- نَذَر دمَه، وأصر على قتله؛ لكنه لم يستطع لمكانة حماد من محمد بن أبي العباس. فلما مات محمد؛ جَدَّ ابنُ سليمان في طلب حماد، فلم يجد حماد من يستجير به، فاستجار بقبر سليمان بن علي، والد محمد بن سليمان، وراح يمدحه ويمدح سليمان، فقال:
مِنْ مُقِرّ بِالذَّنْبِ[1] لَم يُوجِبِ اللـ ـهُ عَلَيْهِ بِسَىِّءٍ إقرارَا
يا ابْنَ بِنْتِ النَّبِيِّ إنِّيَ لاَ أَجْـ عَلُ إلاَّ إلَيْك مِنْكَ الْفِرارَا
يا ابْنَ بِنْتِ النَّبيِّ أَحْمَدَ لا أَجْـ عَلُ إلاَّ إليكَ مِنْكَ الفِرَارَا
غَيْرَ أني جَعَلْتُ قَبْرَ أَبِي أَيْـ يُوبَ لِي مِنْ حَوَادِثِ الدَّهْرِ جَارَا(/12)
وَحَرِيٌّ مَنِ اسْتَجَارَ بِذَاكَ الْـ قَبْرِ أَنْ يَأْمَنَ الرَّدَى وَالعِثَارَا
لمْ أَجِدْ لِي مِنَ العِبَادِ مُجِيرا فَاسْتَجَرْتُ التُّرَابَ وَالأَحْجَارَا
لكن محمد بن سليمان لم يرض بهذا، وقال: والله لأبُلَّنَّ قبر أبي من دمه، فلم يجد حمادُ بُدّاً من الفرار إلى بغداد؛ ليستجير بجعفر بن المنصور الذي أجاره، واشترط لذلك أن يهجو محمد بن سليمان، فقال فيه حماد:
قُلْ لِوَجْه اَلخِصيِّ ذِي اْلعارِ إنِّي سَوْفَ أُهْدي لزَيْنَبَ الأْشْعارَا
قَدْ لَعَمْرِي فَرَرْتُ مِن شِدَّةِ الخَوْ فِ وَأَنْكَرْتُ صَاحِبي نَهارَا!
وَظَنَنتُ القُبُورَ تَمْنَعُ جَارا فَاستجرْتُ التُّرَابَ والأَحْجَارَا!
كُنتُ عندَ استجارَتي بِأبي أَيْـ يُوبَ أَبغي ضَلالةً وخسارَا
لم يُجِرْني وَلمْ أَجَدْ فِيهِ حَظّا أَضْرَمَ اللهُ ذَلِكَ القَبْرَ نارَا
فلما بلغ محمداً قولُه؛ قال: "والله لا يفلتني أبداً، وإنما يزداد حتفاً بلسانه، ولا والله لا أعفو عنه، ولا أتغافل أبداً".
وظل ابن سليمان يطلب حماداً، وحماد ينتقل من مكان إلى مكان يبحث عن مأوى وملاذ؛ حتى أدركه ابن سليمان في منطقة تسمى الأهواز، فأرسل مولى له فظفر به، فقتله.
ــــــــــــــــــــــــــ
[1] إنه الضلال والخسران المبين؛ كيف ينسي -وهو في شدة بلائه- أن يدعو ربه القائل: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَْرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل:62]؟!.
أعرض عن ربه؛ ولجأ إلى أحجار لا تضر ولا تنفع، وأشرك بربه؛ فكان عاقبته أن تخلى عنه من كان حوله، ومات ميتة سوء.
(التحرير)(/13)
العنوان: شعيب الأرنؤوط المحقق المحدث
رقم المقالة: 968
صاحب المقالة: أحمد بن محمود الداهن
-----------------------------------------
لَمَحَاتٌ من حياته
اسمه ونسبه ونشأته:
هو شعيب بن محرم الأرنؤوط، ينحدر نسبه من أسرة ألبانيَّة الأصل، هاجرت إلى دمشق سنة 1926م واستقرَّت بها، لسبب يعود رُبَّما إلى اعتقاد والده فضل الشَّام وسُكناها، فقد كان والده محبّاً للعلماء حريصاً على مصاحبتهم.
وُلد الشيخ شعيب الأرنؤوط في مدينة دمشق سنة 1928م، ونشأ في ظلِّ والدَيه نشأةً دينية خالصة، تعلَّم في خلالها مبادئَ الإسلام، وحفظ أجزاءً كثيرة من القرآن الكريم، ولعلَّ الرَّغبة الصَّادقة في الفهم الدَّقيق لمعاني القرآن الكريم، وإدراك أسراره، هي من أقوى الأسباب التي دفعته إلى دراسة اللُّغة العربيَّة في سنٍّ مبكِّرة، فمكث ما يربو على السَّنوات العشر يختلف إلى مساجد دمشق ومدارسها القديمة، قاصداً حَلَقات اللُّغة في علومها المختلفة، من نحو وصرف وأدب وبلاغة وما إلى ذلك.
طلبه للعلم وشيوخه:
تَلْمَذ الشيخُ في علوم العربيَّة لكبار أساتذتها وعلمائها في دمشق آنذاك، منهم الشيخ صالح الفرفور، والشيخ عارف الدُّوَجي - اللذان كانا من تلاميذ علامة الشَّام في عصره الشيخ بدر الدين الحسَني - فقرأ عليهم أشهر مصنَّفات اللُّغة والبلاغة العربيَّة؛ منها: شرح ابن عقيل، و(كافية) ابن الحاجب، و(المفصَّل) للزمخشري، و(شذور الذهب) لابن هشام، و(أسرار البلاغة) و(دلائل الإعجاز) للجُرجاني.
وممن قرأ عليه أيضاً: الشيخ سليمان الغاوجي الألباني، الذي كان يشرح لطلاَّبه كتاب (العوامل) للبَركوي، و(الإظهار) للأطَهْلي، وغيرهما.(/1)
وبعد هذه الرِّحلة الطَّويلة الشاقَّة مع العربيَّة، اتجَّه الشيخ لدراسة الفقه الإسلامي، فلزم أكثر من شيخ يقرأ عليه كتب الفقه، ولا سيَّما تلك المصنَّفة في الفقه الحنفي، مثل: (مراقي الفلاح) للشرنبلالي، و(الاختيار) للمَوْصلي، و(الكتاب) للقدوري، وحاشية ابن عابدين.
وقد استغرقت دراسته للفقه سبعَ سنوات أخرى، تخللها دراسة أصول الفقه، وتفسير القرآن، ومصطلح الحديث، وكتب الأخلاق، وكان في تلك المرحلة قد جاوز الثلاثين.
اشتغاله بالتحقيق:
لمس الشيخ - في أثناء دراسته للفقه - القصورَ الواضح عند شيوخه ومن عاصرهم في معرفة صحيح الحديث من سقيمه، وذلك جعله يدرك أهميَّة التخصص في علم السُّنة ليتسنَّى تحقيق كتبها، ومن ثمَّ تمييز صحيحها وضعيفها، فعقد العزم على الاضطلاع بهذه المهمَّة الصَّعبة، فترك لأجلها مهنةَ تدريس اللُّغة العربيَّة التي كان يزاولها منذ سنة 1955م، وفرَّغ نفسه للاشتغال بتحقيق التُّراث العربي الإسلامي.
وكانت بدايته الأولى في (المكتب الإسلامي) بدمشق سنة 1958م، حيث رَأَسَ فيه قسم التَّحقيق والتَّصحيح مدَّة عشرين عاماً، حقَّق فيها أو أشرف على تحقيق ما يزيد على سبعين مجلداً من أمَّهات كتب التُّراث في شتَّى العلوم.
ثم بدا له أن ينتقل إلى العمل مع (مؤسَّسة الرِّسالة) في مكتبها بعَمَّان سنة 1982م، ليترأَّس من جديد قسم تحقيق التُّراث التَّابع لها، فكان عملُه فيها أنضجَ وأرحب مدى، ويمكن القول: إنَّ أهمَّ إنجازاته في تحقيق التُّراث قد تمَّت في أثناء عمله في هذه المؤسَّسة التي تُعد بحقٍّ رائدةَ بعث التُّراث العربي الإسلامي.(/2)
ولعلَّ ما كتبه الدكتور (بشَّار عوَّاد معروف) في مقدمته لكتاب (سير أعلام النُّبلاء) في معرِض حديثه عن تحقيق الكتاب، يجلِّي نواحيَ مهمَّة من طبيعة العمل الذي نهض به الشيخ الأرنؤوط في قسم تحقيق التُّراث بالمؤسَّسة، يقول: ".. ثم توَّج عمله - صاحب الرسالة - بأن ندب لمراجعة الكتاب والإشراف على تحقيقه، عالماً بارعاً، متأبهاً عن الشُّهرة، قديراً على تذليل الصعاب، فطيناً لإيضاح المبهم، كفياً بتيسير العسير، هو الأستاذ المحدِّث الشيخ شعيب الأرنؤوط، وقد عرفتُ لهذا العالم فضلَه الكبير على هذا السِّفر النَّفيس، آثِرَ ذي أثير حين اشترط أن يُقام التَّحقيق على أفضل قواعده.. وهو اليوم فارسُ هذا الميدان الخطير الذي ضرب آباطه ومغابنه، واستشفَّ بواطنه".
تلاميذه:
تخرَّج على يد الشيخ شعيب الأرنؤوط في التحقيق عددٌ غير قليلٍ من طلبة العلم، منهم: محمد نعيم العرقسوسي، وإبراهيم الزيبق، وعادل مرشد، وعمر حسن القيَّام، وأحمد عبد الله، وعبد اللَّطيف حرز الله، وأحمد برهوم، ورضوان العرقسوسي، وكامل قره بللي.
وقد قرَّ الشيخ عيناً حين رأى كل واحدٍ من هؤلاء قادراً على القيام بأعباء التعامل الصَّحيح مع علوم السُّنة والاستقلال بعمله.
وأثَرُ الشيخ الأرنؤوط واضحٌ جليٌ في الكتب التي حقَّقها هؤلاء، الذين حفظوا له فضلَه عليهم ورعايته لهم.
يقول الشيخ نعيم العرقسوسي في مقدمة تحقيقه لكتاب (توضيح المشتبه) لابن ناصر الدين: "وأخَصُّ الشكر وأجزَلُه، وعظيمُ الوفاء وأجملُه، إلى من لولا رعايتُه وعنايته ما كنت في عِداد من يُعنى بتحقيق التُّراث، إلى من هو جديرٌ بكل تقديرٍ واحترامٍ، وأهلٌ لكل تكريمٍ وإعظامٍ، إلى فضيلة الشيخ المفضال المعطاء المحتسب أستاذي شعيب الأرنؤوط حفظه الله".(/3)
ويقول الأستاذ إبراهيم الزيبق أيضاً في مقدمة تحقيقه لكتاب (طبقات علماء الحديث) لابن عبد الهادي: "وبعدُ.. هل تكفي كلمة شكر أزجيها لأستاذي وشيخي شعيب الأرنؤوط؟ وهل تجزي عني كلمة ثناء أكتبها له بحروف المحبة والصدق؟.. إن ما بعنقي له أوسعُ من الشكر، وأجزل من الثناء، إنَّ ما فتح عليه عينيَّ من أمر الحياة، وأنا أتلمَّس طريقي بعقلٍ غضٍّ وقلبٍ مرهفٍ جعل أيامي معه سنين في عمقها وغناها، ثم أخذ بيدي في عالم التَّحقيق، فمنحني ثقتَه وما أغلاها، وأنار دربي بعلمه وما أغزرَه، فلَك يا أستاذي شكرٌ أوسع من الشُّكر، وثناءٌ أعظم من الثَّناء، والله يتولَّى عنِّي حُسنَ جزائك".
ويقول الأستاذ عمر حسن القيَّام في مقدمة تحقيقه لرسالة ابن رجب الحنبلي (شرح حديث اللهمَّ بعلمك الغيب): "وشجَّعني على المضيِّ قُدُماً في هذا الطَّريق شيخي المحدِّث العلاَّمة شعيب الأرنؤوط أحد شيوخ هذا الفنِّ في هذا العصر، والعَلَم الذي نشر من نفائس السُّنة النَّبوية ما يقضي بنبالة قدره، ومن ارتضاني للعمل في هذا العلم الشَّريف بعد سياحة غير قصيرة في علوم اللُّغة والأدب، فله منِّي أجزل شكرٍ وأوفاه على حُسْن صنيعه معي، وإيثاره إياي بنفيس أوقاته".
وقد كانت علاقةُ الشيخ بتلاميذه علاقةَ الصَّديق بأصدقائه، فكان قريباً منهم، حريصاً على نفعهم وهدايتهم، ولم يكن يفرض عليهم آراءه وأحكامه، بل كان يحثُّهم على أن يُعملوا عقولهم، ويبدوا حجَّتهم، وكثيراً ما كان يستشيرهم، وينزل عند رأيهم، مما كان له أثره الطَّيب في نشأتهم وتعلُّمهم.
منهجُه في التَّحقيق:(/4)
للشيخ منهجٌ واضحٌ مستتبٌّ في التحقيق، تجده مطبَّقاً في معظم الكتب التي حقَّقها، أو أشرف على تحقيقها، وكثيراً ما كان يعرض هذا المنهج في مقدماته الضافية التي كان يصدِّر بها هذه الكتب، والتي تشتمل في الغالب - فضلاً عن (منهج التَّحقيق) - على ترجمةٍ وافيةٍ للمؤلِّف ودراسةٍ شاملةٍ للكتاب ووصفٍ دقيقٍ للنُّسخ التي اعتمدها، ونماذجَ من هذه النُّسخ.
إنَّ المحقِّق الأصيل عند الشيخ الأرنؤوط، لا ينحصرُ عملُه في أن يُخرج النصَّ مصحَّحاً كما كتبه المؤلِّف وحسْب، وإنما يتعدَّى ذلك إلى تتبُّع ما أورده المؤلِّف من أفكار، ورجَّحه من أقاويل، وبيان ما جانبَ فيه الصَّوابَ، ولذا كثيراً ما نجده يخالف مؤلِّفي الكتب التي يحقِّقها في بعض آرائهم وأحكامهم، كما قد يخالف كبارَ العلماء المحقِّقين ممن سبقوه، القدماء منهم كالحافظ ابن حجر، والمحدَثين كأحمد محمد شاكر. على أنه إذ يخالفهم، ويسجِّل مؤاخذته عليهم، يحرص كلَّ الحرص على أن يؤكِّد أن مخالفته إيَّاهم وانتقاده لهم، لا ينقص من قَدْرهم الجليل، ولا يغضُّ من قيمتهم، متمثِّلاً قول الإمام أحمد رحمه الله: "لم يعبر الجسر إلى خراسان مثلُ إسحق بن راهويه، وإن كان يخالفنا في أشياء، فإن النَّاس لم يزل يخالف بعضهم بعضاً".
والواقع أنَّ هذا الأسلوب المتَّزن في النَّقد مِن أَظهر ما يتميَّز به منهج الشيخ الأرنؤوط في التَّحقيق، إذ قلَّما تجده في كتابات المشتغلين بهذا الفن في الوقت الحاضر.
آثاره في التحقيق:
بلغ ما حقَّقه الشيخ شعيب الأرنؤوط أو أشرف على تحقيقه، نيِّفاً وأربعين ومئتي مجلد، شملت كتب السُّنة النَّبوية، والفقه، وتفسير القرآن، والتَّراجم، والعقيدة، ومصطلح الحديث، والأدب وما إلى ذلك.
أما أهمُّ هذه الأعمال وأبرزها فهي:
أ- في المكتب الإسلامي:
1- (شرح السُّنة) للبغوي، ستة عشر مجلَّداً.(/5)
2- (روضة الطَّالبين) للنَّووي، بالاشتراك مع الشيخ عبد القادر الأرنؤوط، اثنا عشر مجلَّداً.
3- (مهذَّب الأغاني) لابن منظور، اثنا عشر مجلَّداً.
4- (المبدع في شرح المقنع) لابن مفلح الحنبلي، عشرة مجلَّدات.
5- (زاد المسير في علم التَّفسير) لابن الجوزي، بالاشتراك مع الشيخ عبد القادر الأرنؤوط، تسعة مجلَّدات.
6- (مطالب أولي النُّهى في شرح غاية المنتهى) للرحيباني، بالاشتراك مع الشيخ عبد القادر الأرنؤوط، ستَّة مجلَّدات.
7- (الكافي في فقه الإمام المبجَّل أحمد بن حنبل) لابن قدامة، بالاشتراك مع الشيخ عبد القادر الأرنؤوط، ثلاثة مجلَّدات.
8- (منار السَّبيل في شرح الدَّليل) لابن ضويان، مجلّدان.
9- (المنازل والدِّيار) لأسامة بن منقذ، مجلّدان.
10- (مسند أبي بكر) للمروزي، مجلّد.
ب- في مؤسَّسة الرِّسالة:
1- (سير أعلام النُّبلاء) للذَّهبي، خمسةٌ وعشرون مجلَّداً.
2- (الإحسان في تقريب صحيح ابن حبَّان) بترتيب الأمير علاء الدِّين الفارسي، ثمانية عشر مجلَّداً.
3- (سنن النَّسائي الكبرى)، بالاشتراك مع حسن شلبي، اثنا عشر مجلَّداً.
4- (العواصم والقواصم في الذبِّ عن سنة أبي القاسم) لابن الوزير، تسعة مجلَّدات.
5- (سنن التِّرمذي)، ستة مجلَّدات.
6- (سنن الدَّارقطني)، بالاشتراك مع حسن شلبي، خمسة مجلَّدات.
7- (زاد المعاد في هدي خير العباد) لابن القيِّم، بالاشتراك مع الشيخ عبد القادر الأرنؤوط، خمسة مجلَّدات.
8- (تاريخ الإسلام) للذهبي، بالاشتراك مع الدكتور بشار عواد معروف، صدر منه أربعة مجلَّدات.
9- (التعليق الممجَّد شرح موطَّأ محمد) لأبي الحسنات اللَّكنَوي، أربعة مجلَّدات.
10- (مسند الإمام أحمد)، صدر في خمسين مجلداً، ضمن (الموسوعة الحديثيَّة الكبرى) التي تنوي مؤسَّسة الرِّسالة إخراجها بإشراف الشيخ.
11- (الآداب الشَّرعيَّة والمنح المرعية) لابن مفلح الحنبلي، بالاشتراك مع عمر حسن القيَّام، أربعة مجلَّدات.(/6)
12- (طبقات القرَّاء) للذهبي، بالاشتراك مع الدكتور بشار معروف، مجلَّدان.
13- (موارد الظمآن بزوائد صحيح ابن حبَّان) للهيثمي، بالاشتراك مع رضوان عرقسوسي، مجلَّدان.
14- (شرح العقيدة الطحاويَّة) لابن أبي العز، بالاشتراك مع الدكتور عبد الله التُّركي، مجلَّدان.
15- (رياض الصَّالحين) للنَّووي، مجلَّد.
16- (المراسيل) لأبي داود، مجلَّد.
المرجع:
كتاب: (المحدِّث شعيب الأرنؤوط، جوانبُ من سيرته وجهوده في تحقيق التُّراث)، تأليف: الدكتور إبراهيم الكوفحي، صادر عن دار البشير بعمَّان، الطبعة الأولى، 1423هـ - 2002م.(/7)
العنوان: شُكرًا لك يا ربّ
رقم المقالة: 1424
صاحب المقالة: خيرية الحارثي
-----------------------------------------
شكراً لك يا رب على عظيم نعمك، شكراً لك وحمداً على عطاياك التي هي أفضل العطايا وأهنؤها!
نِعَمُك علينا جليلةٌ لا تُعَدُّ ولا تُحصى، فاجعلنا من الشاكرين..
نَعم! إنها نِعم ضخمة أُسبغت علينا، ونعم عظيمة تكتَنِفنا.. ومن أعظمها أن جعلَنا مِن خير أمة أُخرجت للناس، تكريم خاص ينبغي أن نعتز به ونفتخر بعزته.
ثم مَنّ علينا برسولِ هذه الأمة المصطفى الحبيب، صاحب الرسالة الخالدة؛ الشمسِ التي لا يلحقها أفولٌ، فأسرَجَ مصابيحَ الهدى لهذه الأمة بفضل من الله..
ثم تفضَّلَ علينا بهذا القرآن العظيم الذي يصعد بالنفس الإنسانية إلى الكمال المنشود، يسمو بعقل المسلم وخلقه وإيمانه.. أحسن الحديث.. وفصَّله تفصيلاً يتخللُ النفس ليوصلها بخالقها آناء الليل وأطراف النهار.
ثم نوّع لنا العباداتِ، فهو عالم بطبع عباده من البشر أنهم يميلون إلى الملل..
ومن هذه العبادات صيامُ شهر رمضان الذي يحمل من الفضائل والخيرات المتتالية التي تعجز الجبال عن حملها.. أجورٌ عظيمة، وثوابٌ مضاعف، وما نعجز عن وصفه ووضعه في مكانته التي يستحقها.
ثم ليلة القدر التي هي أعظم تلك الثمار وأشهاها فضلاً من الله ونعمة..
فله الحمد حمداً يليق بجلاله، وله الحمد حمداً.....(/1)
اللهم اجعلنا نستشعر نعمة إدراك هذا الشهر إن أدركناه، وأتم علينا فيه نعمة العافية، واجعلنا نسخرها لعبادتك؛ فإنه لا حول لنا ولا قوة إلا بك.. لقد كان سلفُنا الصالح يبتهلون إلى الله أن يبلغهم رمضان قبل ستة أشهر من بلوغه، ونحن تمضي علينا الأيامُ سريعاً ولا نشعر بقدومه إلا عندما توقظنا وسائلُ الدعاية والإعلام عن العروض الرمضانية كما يسمونها من أنواع الأطعمة وأواني الطبخ، وأدهى من ذلك الغفلةُ التي أصابت المفسدين في الأرض، من التسابق على شغل الناس؛ إذ تُعمر الفضائيات بالبرامج الهابطة والفوازير التي تجعل من ليالي رمضان نزهةً للمفرّطين، وذلك جعل المسلمين في ضياع وإبادة ونقص لأجور هذا الشهر الكريم، حتى تُولِّي أعمارُهم في سهو ولهو وخسران.
إذا لم يكن في السمع مني تصاوُنٌ وفي بصري غضٌّ وفي منطقي صمتُ
فحظّي إذاً من صومِيَ الجوعُ والظما فإن قلتُ إني صمتُ يومي فما صمتُ
رمضانُ عبادةٌ تقيمُها قلوبٌ ساجدة وأنفس خاشعة، تعمرُها التقوى التي صعُب على كثير من أهل هذا الزمان تحقيقُها.. التقوى زكاةُ النفس، فمتى زكت نفسُ العبد رضِيَه الله ولياً، وأحبّه وتولاه، ولا تتحقق التقوى إلا بأداء المحبوبات إلى الله والبعد عن مكارهه.. إنها الطريق الموصل إلى رضوان الله وجنته، التقوى التي كتب الصيام من أجلها؛ إذ يقول عز من قائل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].
رمضانُ يا حبيب الصالحين، ولهفة المشتاقين، يستبشر المؤمنُ بقدومك رجاء في بره سبحانه، وارتقاب فضله وإحسانه.. فيه تلين القلوب، وتصفو النفوس، وتسمو الهمم، وتُشغَل الجوارح بالأعمال الصالحة
شهر ضبط النفس، وملكة التقوى..(/2)
فيك يا رمضان تتفجر عواطفُ الرحمة، فيتضاعف الإحسان.. فيك تُضاء المساجد بنور القرآن وتنبعث أصواتُ الأئمة تملأ الأرجاء بتلاوات عاطرات، تخشع لها الأفئدةُ فتسيل الدموع التي طالما جفت من أشغال الدنيا ولهوها.. فتجلو هموم المهمومين، وترتاح صدور المغمومين.
وحُقّ لعين أن تُريق دُموعَها ولا خير في عينٍ بذلك تبخلُ
ضيفٌ غالٍ، وعزيزٌ يطول الشوقُ إليه، يستحق الحفاوة والتكريم، كيف لا؟! وهو صفقة تِجارية رِبْحُها تكفيرُ السيئات، ومغفرة الذنوب، والجنة والرضوان من الغفور المنان بإذن الله لمن صامه إيماناً واحتساباً.. فينطبق علينا قوله صلى الله عليه وسلم: ((من صام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه)).
يشرفنا في كل عام مرة واحدة، يتفضل به علينا الرحمن فيرحم به عباده الغافلين ويوقظهم اللطيف بلطفه.. يتفضل على عباده بفتح أبواب الرحمة والجنان، وإغلاق أبواب الجحيم..
اللهم أعنا على مجاهدة أنفسنا، واجعلنا فيه من الفائزين، ومن عتقائك من النار..
اللهم اجعلنا من الصفوة الذين امتثلوا لأمرك، القانتين الصابرين الصادقين، وارزقنا فيه همة ونشاطا، وأعذنا من العجز والكسل، واكفنا باليسير من النوم..(/3)
العنوان: شموخ
رقم المقالة: 100
صاحب المقالة: يحيى الحاج يحيى
-----------------------------------------
قد تملِكُ سوطًا يكويني وتحُزُّ القلبَ بسكّين
قد تجعل غُلَّك في عُنُقي وتضجّ تئنُّ شراييني
أو تغرز سهمَك في كبدي وبمُرِّ عذابك ترميني
وتصادر شعرًا، أكتبُه بشماليَ إنْ عزَّ يميني
وتجوّع طفلي من بعدي واهًا للطفلِ المسكين
لكنْ لن أخضَعَ في يومٍ للظّلم بضعفٍ أو لينِ
أنا لست أخاصمُ للدّنيا دنياكم ليست تُغريني
أنا لي هدفٌ أسمى أعلى نفسي لا ترضى بالدّونِ
مالي للجنةِ أدعوكم ولنار جهنّمَ تدعوني؟!
قد تَبعثُ عينًا[1] يتبعني يحصي خطواتي وشؤوني
كالظّلِّ يلاحقني طمعًا؛ إِن ألفظ حرفًا يرديني
قد تفعلُ أفعالاً شَتَّى وتظنُّ بأنك تثنيني
لكنْ سلطانُك لن يرقى لِذرى إيماني ويقيني
كلُّ الأحرارِ قد انتظموا في صفِّ الفكرةِ والدّين
وستبقى وحدَكَ منبوذًا في سجن الوهمِ وفي الهون
فتباشيرُ الفجر انطلقتْ من جُرحِ شهيدٍ وسجين
________________________________________
[1] عينًا: رقيبًا، وعان على القوم عيانةً، إذا كان عينًا عليهم، وتعيَّنَ عينًا يتعيَّن لنا أي يتبصَّر ويتجسس.(/1)
العنوان: شهر التجديد
رقم المقالة: 1442
صاحب المقالة: وسمية سليمان
-----------------------------------------
لقد حل علينا شهر رمضان المبارك، ولا يخفى ما لهذا الشهر من الفضائل الجمة.
ويتزامن هذا مع عرض رأيته عن الصقر، وياله من طير! وهو أطول الطيور عمراً، وإذا شاخ انعكف منقاره بشدة، وضعفت مخالبه، وسقط ريشه.. فماذا عليه أن يفعل ليعيش حتى لا يفقد حياته؟! كيف سيصطاد فريسته؟؟!
إنه عندئذ يذهب إلى أعلى قمة لجبل، ويضرب بمنقاره حتى يتكسر، وينتظر لينمو منقار جديد مدة 30 يوماً، ثم يضرب بمخالبه حتى تتكسر؛ لتنمو من جديد، وينتف ما تبقى من ريشه؛ لينمو من جديد، بعد ذلك يصبح صقراً قوياً يعود بقوة ليحلق في السماء؛ ليعيش كما بدا له سعيداً قوياً!!.
هذه القصة تعلمنا الشيء الكثير الذي يبعث في النفس التجديد؛ فالصقر يخلو بنفسه، وجدير بالإنسان أن يراجع نفسه وماضيه؛ ينتزع من نفسه تلك العادات والأفكار السيئة، ويحدث ذلك في شهرنا الكريم؛ حيث يقوم الإنسان بعملية البرمجة من جديد؛ يزيل عنه قلق الماضي وهم المستقبل، ويحل محلهما حسن الظن بالله: ((أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي فَلْيَظُنَّ بِي مَا شَاءَ)). رواه أحمد وغيره
يزيل عنه الحقد والحسد الذي يحيك في الصدر، ويحل محلهما التسامح والعفو، وابتسامة عريضة ترسم على ذلك الوجه الطاهر.
يزيل عنه التشاؤم والتطير، ويحل محله التوكل على الله {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [ التحريم:3]، ((وَمَنْ تَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ كَفَاهُ)) رواه ابن ماجه، يكفيه ما أهمه من أمر الدنيا والآخرة.
يزيل عنه كل ما علق بعقله وقلبه وجسده من عادات وأفكار سيئة، ويحل محلها عادات حسنة وأفكاراً إيجابية، وبرامج فعالة.(/1)
وهذا ما يحصل عند أداء الصلوات عموماً، وصلاتي التراويح والتهجد خصوصا؛ فيستشعر أنه يقف بين يدي الله، وأن الله مالكَ يوم الدين يملك قلوب عباده، وقادرٌ على تسخيرها لك، وأن يكف شرها عنك.
وفي هذا الشهر تجري برمجة كاملة؛ ليحل يوم العيد والوجوه سعيدة تعكس القلوب الصافية كصفاء السماء، وقد حفرت فيها آيات الله الدالة على التعبد والتفكر وكل المعاني العظيمة، فأصبحت كالقمر يتوسط كبد السماء في قلب العبد، وتلك الأيادي البيضاء التي تعكس نورها عند المصافحة والسلام.
يقول صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَاناً وَاحْتِسَاباً؛ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ)). رواه البخاري من حديث أبي هريرة
فليتذوق طعم الإيمان، وأن ذنوبه قد غسلت، وأنه قد تطهر من ذنوبه وخطاياه، وغدا كيوم ولدته أمه؛ لا معصية ولا ذنب!!.
فلنجدد حياتنا مع رمضان! فإن كانت البهائم تفعل ذلك لتعيش؛ فنحن أولى بذلك. نريد أن نتذوق طعم الإيمان والتقوى والسعادة، فلنستمتع مع رمضان 1428هـ!!(/2)
العنوان: شهر الصيام
رقم المقالة: 1355
صاحب المقالة: رامي بن أحمد ذوالغنى
-----------------------------------------
الحمد لله الذي جعل رمضان شهر صيام وقيام وبر وإحسان وتوبة وغفران تفتح فيه أبواب الجنان وتغلق أبواب النيران وتصفد مَرَدَة الشياطين والجان. أوله الرحمة وأوسطه المغفرة وآخره العتق من النار. فهلم بنا نستقبل رمضان بما يستحقه واسمع لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب وينادي مناد يا باغي الخير أقبل، يا باغي الشر أقصر. ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة)) فيا باغي الخير هذا رمضان قد أقبل فتزود له وتزود منه فهو مدرسة المتقين: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 197]. فلا تضيع الفرصة واحرص على الدقيقة بل الثانية بل النفس أن يكون في طاعة الله -تعالى - ومرضاته لعلك تكون في أول دقيقة من أول ليلة من المعتقين وإياك أن تكون من المبعدين فقد قال الصادق الأمين -صلى الله عليه وسلم-: ((إن جبرائيل - عليه السلام - أتاني فقال: من أدركه شهر رمضان فلم يغفر له فدخل النار فأبعده الله قل آمين. فقلت: آمين)).
فاستقبل الشهر بتوبة صادقة وإنابة خالصة وأظهر الذل والانكسار وأكثر الاستغفار وسارع الخطى فإن وصلت عتبة بابه صحح النيات واجعلها خالصة لرب الأرض والسماوات ولا ترج إلا الله والدار الآخرة وادخل بعزم وثبات تجد أبواباً للخير قد فتحت ويا فوز الداخلين القائلين: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا} [الإسراء: 80]، ودونك تذكير ببعضها:-
أولاً: باب الصيام:(/1)
أخا الإيمان، باغي الخير قد ناداك ربك: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].
فصم صياماً يحبه الله ويرضاه واحرص على قطف جناه { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} ولا تجعل نصيبك منه الجوع والعطش فتحصد الندامة والآلام يوم ينادى أهل الصيام ليدخلوا الجنان من باب الريان واسمع لقول إمام المتقين محمد - عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم -:
((من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)).
((الصيام جنة وإذا كان أحدكم صائماً فلا يرفث ولا يجهل وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل: إني صائم إني صائم. والذي نفسي بيده لخلوف في الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، يترك طعامه وشرابه من أجلي، الصيام لي وأنا أجزي به والحسنة بعشر أمثالها)).
((من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه)).
وعلى الله البيان وعلى الرسول البلاغ وعلينا التطبيق وهنيئاً لمن صام حق الصيام.
ثانياً: باب القيام:
يا باغي الخير إذا جن ليل رمضان فنافس القائمين وتدبر قول رب العالمين: {أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر: 9].
وحقق قوله - صلى الله عليه وسلم -:
((من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)).(/2)
واحرص على أن يكون قليلاً والقيام طويلاً فما هي إلا ليال معدودات بادر من الليلة الأولى بأداء صلاة التراويح واحمل أهلك على أدائها ولا تقنع بصلاة قصيرة. اخشع في صلاتك وتدبر الآيات، عظم الرب وسبحه في ركوعك وتقرب إليه وألح بالدعاء في سجودك وادعه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى ولا تنسنا وسائر المسلمين. وإياك ثم إياك أن تضيع الليل بالنوم أو السهر على الملهيات وكثرة القيل والقال مع الأهل والأصحاب أو الذهاب إلى الأسواق فذلك والله عين الخسران.
ثالثاً: باب القرآن:
يا باغي الخير أقبل على كتاب ربك تلاوة وتدبراً وعملاً واجعله شغلك الشاغل فرمضان شهر القرآن. هذا جبريل - عليه السلام - يلقى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كل ليلة من رمضان يدارسه القرآن وعلى هذا أئمة الإسلام فمالك - رحمه الله - يترك مجالس الحديث في رمضان ويقبل على القرآن. والزهري يقول عن رمضان إنما هو تلاوة القرآن وإطعام الطعام. وقتادة يختم القرآن في غير رمضان كل سبع ليال فإذا أقبل ختم كل ثلاث ليال. وتذكر قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول ألم حرف ولكن (ألف) حرف و(لام) حرف و(ميم) حرف.)).
رابعاً: باب الإنفاق:
يا باغي الخير أنفق من الخير الذي رزقك الله ورب درهم يسبق ألف درهم ولا تحقرن من المعروف شيئاً ولو تمرة تفطر بها صائماً. تفقد الفقراء والمساكين وليذكرك صيامك بالجائعين فلا تجعلن موائدك وقفاً على الأغنياء من أهلك وأصحابك وتنسى المحتاجين. ابذل في سبيل الله من أطيب مالك فالله طيب لا يقبل إلى طيباً وأجرك عند ربك محفوظ قال تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 274].(/3)
وقال أيضاً: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 272].
وكلما أكثرت فأنت الرابح: {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}[البقرة: 261].
وخير نفقة في رمضان تصرف في إطعام الطعام فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من فطَّر صائماً كان له مثل أجره غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيئاً)).
خامساً: باب العشر الأواخر من رمضان:
يا باغي الخير إن بلغك الله هذه العشر فاحمده سبحانه وتعالى لما فيها من الخير العظيم والأجر الكبير واسأله الإعانة والتوفيق لحسن الاستغلال فقد كان نبيك - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل العشر شد مئزره وأحيى ليله وأيقظ أهله.
واحرص أخي على التماس ليلة القدر فهي خير من ألف شهر قال - صلى الله عليه وسلم -:
((من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)).
والله عز وجل يقول:
{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران: 133].
{سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [الحديد: 21].
فكن من المجتهدين لتنال مغفرة رب العالمين:
{وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 268].
سادساً: باب الخير:
يا باغي الخير هذا باب أعرض عنه كثير من المسلمين فاحرص على دخوله تجد ما تبغي قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
((لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر وأخروا السحور)).
وجاء في الحديث القدسي:
((أحب عبادي إلى أعجلهم فطراً))
وتمسك بهذا الخير واعلم أنه من أخلاق النبوة. قال - عليه الصلاة والسلام - :
((ثلاث من أخلاق النبوة: تعجيل الإفطار وتأخير السحور ووضع اليمين على الشمال في الصلاة)).
وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يصلي المغرب حتى يفطر ولو على شربة ماء وكان يؤخر السحور ويقول:
((تسحروا فإن في السحور بركة))
ويقول أيضاً:(/4)
((السحور أكلة بركة فلا تدعوه ولو أن يجرع أحدكم جرعة من ماء فإن الله وملائكته يصلون على المتسحرين))
واعلم أخي أن ما يفعله بعض المسلمين اليوم بحجة الاحتياط من الإمساك عن الطعام والشراب عند الأذان الأول وتأخير الفطور مدة بعد الغروب من التنطع الذي قال عنه محمد - صلى الله عليه وسلم -:
((هلك المتنطعون))
والله عز وجل يقول:
{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 268].
ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:
((إذا أقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار من هاهنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم))
وصلى الله وسلم على محمد القائل:
((خير الكلام كلام الله وخير الهدى هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -)).
وختاماً أرجو الله - تعالى - أن يجعلنا من المقبولين وأن يكرمنا بعتق رقابنا من النار ويجعلنا مع الأبرار إنه ولي ذلك والقادر عليه ولتعلم أخي أن ما ذكرناه غيض من فيض وأبواب الخير لا يمكن حصرها في طلبها وإن علم الله في صدرك خيراً آتاك خيراً وتذكر دائماً أن الجنة غالية وثمنها نفسك ومالك
{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:111].
فهل من باذل؟(/5)
العنوان: شهر الله المحرم (موسم بين يديك)
رقم المقالة: 402
صاحب المقالة: سالم بن صالح النقيب
-----------------------------------------
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ، أحمده سبحانه وأشكره على جزيل الأعطيات ، وعظيم المنح والهبات ، وأصلي وأسلم على المبعوث للعالمين بواسع الرحمات محمد بن عبد الله خير البريات، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وزوجاته الطاهرات، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.. أما بعد،
مواسم متعاقبة .. هل من مشمر ؟
أحبتي في الله:
ما إن ينقضي موسم من مواسم الطاعات حتى يأتي بعده موسم آخر.. ولا تنتهي نفحة من نفحات الرحمات حتى تعقبها نفحات جديدة .. كل ذلك فضل من الله ومنة على هذه الأمة .. فبالأمس ودعنا شهر الخير رمضان بعبقه الإيماني الفوَّاح، ثم أعقبناه بصيام الست من شوال، لنكمل صيام الدهر، ثم دخلنا في أشهر الحج؛ هذا الموسم الإسلامي العظيم الذي تجتمع فيه أركان الإسلام الخمسة ولا تجتمع في غيره من الأيام .. وسرعان ما مضى ومضت أيامه ولياليه العاطرة بروح الإيمان .. وها نحن الآن نستقبل موسماً آخرَ من مواسم الطاعة والإيمان، إنه شهر الله المحرم، الذي خصه ديننا الحنيف بخصائص وميزات ليست في غيره، وأخبر صلى الله عليه وسلم أن صيامه أفضل الصيام بعد رمضان.
صيامه أفضل الصيام بعد رمضان
ثبت في الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل )[1].(/1)
وهذا حديث واضح الدلالة بين الإشارة في فضل هذا الشهر وفضل صيامه، كيف لا وقد جعله النبي صلى الله عليه وسلم بعد رمضان في الفضل والثواب و الأجر. فهيا إخوتي لنشمر عن ساعد الجد ولنجتهد في طاعة الله في هذه الأيام المباركة والأجور المضاعفة، فإنما عمرنا لحظات فهيا نستغلها بالطاعة والعمل الصالح ..هيا لنكثر من الصيام والصلوات، وسائر النوافل والقربات علنا ندرك من سبقنا من الصالحين والصالحات ..
يوم من أعظم الأيام
أحبابي :
في هذا الشهر المبارك يوم عظيم من أعظم أيام العام ألا وهو يوم عاشوراء، وهو اليوم العاشر من الشهر المحرم، وقد صامه النبي صلى الله عليه وسلم وأمر بصيامه، فصيامه سنة مؤكدة.
وقصته أنه عندما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وجد اليهود يصومونه فسأل عنه فقالوا: هذا يوم صالح؛ هذا يوم نجَّى الله فيه بني إسرائيل من عدوهم فصامه موسى – عليه السلام - قال: ( فأنا أحق بموسى منكم ، فصامه وأمر بصيامه)[2].
فصيام هذا اليوم سنة مؤكدة لهذا ولما جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : (إن عاشوراء يوم من أيام الله ، فمن شاء صامه ومن شاء تركه)[3].(/2)
كما يسن صيام يوم قبله أو بعده لأن الصحابة –رضوان الله عليهم أجمعين- قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم حين صامه وأمر بصيامه : يا رسول الله إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى فقال عليه الصلاة والسلام: (فَإِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ، إِنْ شَاءَ اللّهُ، صُمْنَا الْيَوْمَ التَّاسِعَ) - أي مع العاشر كما قال أهل العلم - قال ابن عباس-رضي الله عنهما- راوي الحديث: فَلَمْ يَأْتِ الْعَامُ الْمُقْبِلُ، حَتَّى تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ[4] ، ولحديث ابن عباس-رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: (صوموا يوم عاشوراء وخالفوا اليهود، وصوموا قبله يوماً أو بعده يوماً)[5]، وصيام يوم قبله أو بعده مستحب لا واجب قال ابن القيم - رحمه الله تعالى-: (مراتب صومه ثلاث، أكملها أن يصام قبله يوم وبعده يوم، ويلي ذلك أن يصام التاسع والعاشر، وعليه أكثر الأحاديث، ويلي ذلك إفراد العاشر وحده بالصوم)[6] ا.هـ.
ويستحب حَثُّ الصبيان على صيامه؛ كما في حديث الربيِّع بنت معوذ – رضي الله عنها- قالت : أرسل رسول الله – صلى الله عليه وسلم- غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار: (مَن أصبح مفطراً فليتم بقية يومه، ومن أصبح صائماً فليصم) قالت: فكنا نصومه بعد ونصوِّمه صبياننا ونجعل لهم اللعبة من العهن، فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناه ذاك حتى يكون عند الإفطار[7].
صيام عاشوراء يكفر السنة التي قبله
جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي قتادة رضي الله عنه أنه قال: (صيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفِّر السنة التي قبله)[8].
وهذا فيه دلالة واضحة على فضل هذا اليوم وما رتبه الله عز وجل من الأجر والمثوبة لمن صامه صادقاً محتسباً أن يكفر عنه السنة التي قبله ما اجتنب الكبائر من الذنوب .
إخواني.. أخواتي(/3)
وبعد هذا العرض الموجز لما في هذا الشهر من نسائم الرحمات ، ونفائح البركات .. ينبغي على المسلم أن يجتهد في المسارعة إلى الطاعة و المثابرة في العبادة في هذا الموسم المبارك و هذا الشهر الفضيل، وذلك بما يعود عليه بخير الدنيا والآخرة قال تعالى: {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين}[9].
ما اجتنبت الكبائر
ولا ينبغي للمسلم أن يتَّكل على ما في صيام يوم عاشوراء وما شابهه من الأيام من الأجر الجزيل فيتقاعس عن الأعمال الصالحات ،ويُفْرِط في ارتكاب المحرمات متعللاً بقوله: صيام يوم عاشوراء يكفر السنة الماضية كلها وصيام يوم عرفة زيادة في الأجر ،ثم هو يستمر في معصيته لربه، بل ربما ارتكب بعض الكبائر -والعياذ بالله- قال الإمام ابن القيم -رحمه الله تعالى- : "وكاغترار بعضهم على صوم يوم عاشوراء أو يوم عرفة حتى يقول بعضهم : يوم عاشوراء يكفر ذنوب العام كلها ويبقى صوم عرفة زيادة في الأجر ولم يدر هذا المغتر أن صوم رمضان والصلوات الخمس أعظم وأجل من صيام يوم عرفة ويوم عاشوراء، وهي إنما تكفر ما بينهما إذا اجتنبت الكبائر، فرمضان والجمعة إلى الجمعة لا يقويا على تكفير الصغائر إلا مع انضمام ترك الكبائر إليها فيقوي مجموع الأمرين على تكفير الصغائر فكيف يكفر صوم تطوع كل كبيرة عملها العبد وهو مصر عليها غير تائب منها هذا محال، على أنه لا يمتنع أن يكون صوم يوم عرفة ويوم عاشوراء يكفر لجميع ذنوب العام على عمومه ويكون من نصوص الوعد التي لها شروط وموانع ويكون إصراره على الكبائر مانعاً من التكفير، فإذا لم يصر على الكبائر تساعد الصوم وعدم الإصرار وتعاونا على عموم التكفير كما كان رمضان والصلوات الخمس مع اجتناب الكبائر متساعدين متعاونين على تكفير الصغائر، مع أنه سبحانه قد قال: ( إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم) فعلم أن جعل الشيء سبباً للتكفير لا يمنع أن يتساعد هو وسبب آخر على(/4)
التكفير ويكون التكفير مع اجتماع السببين أقوى وأتم منه مع انفراد أحدهما وكلما قويت أسباب التكفير كان أقوى وأتم وأشمل[10]" ا.هـ.
فهلم بنا جميعاً نبادر إلى التوبة ونُتْبِع الطاعةَ بطاعة جديدة، عسى ربنا سبحانه وتعالى أن يتقبل منا، فعلامة قبول الطاعة الطاعة بعدها، كما قال أهل العلم .
أسأل الله بمنه وكرمه أن يوفقنا إلى عمل الصالحات، وأن يقينا شر الفتن ما ظهر منها وما بطن إنه ولي ذلك والقادر عليه .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
ــــــــــــــــــــ
[1] أخرجه مسلم ( كتاب الصيام ح 1982) والترمذي [(كتاب الصلاة – باب ما جاء في فضل صلاة الليل ح 438 وقال حسن صحيح) و(كتاب الصوم – باب ما جاء في صوم المحرم ح 740 وقال حسن صحيح)] والنسائي ( كتاب الصلاة – باب فضل صلاة الليل ح 1613) من طريق قتيبة بن سعيد به . ومن طريقه وطريق مسدد أخرجه أبو داود ( كتاب الصوم – باب في صوم المحرم ح 2429).
[2] رواه البخاري (1900).
[3] رواه مسلم (1136) من حديث عبد الله بن عمرو –رضي الله عنهما-.
[4] رواه مسلم ( 2619).
[5] رواه أحمد (1/241)، وابن خزيمة (2095 ( من طريق محمد بن أبي ليلى وفيه كلام ، قال ابن رجب رحمه الله تعالى : " وصح عن ابن عباس من قوله " ا.هـ لطائف المعارف /108.
[6] زاد المعاد (2/75).
[7] رواه البخاري (1690) ومسلم (1136).
[8] رواه أحمد (5/296)، ومسلم (1163).
[9] سورة آل عمران :133.
[10] الجواب الكافي /13.(/5)
العنوان: شهر رمضان وقفات وأحكام
رقم المقالة: 1150
صاحب المقالة: عبدالله الإسماعيل
-----------------------------------------
يتضمن شهر رمضان مسائل مهمة يحتاج كل مسلم إلى مذاكرتها، أُوجزها في هذه الوقفات:
الوقفة الأولى: حكم الصيام:
إن أول ما فرض صيام رمضان في السنة الثانية من الهجرة كان على التخيير: فمن شاء صامه وهو أفضل، ومن شاء أفطر وأطعم عن كل يوم مسكيناً، ثم أُلزم الناس بصيامه حين نزل قوله - تعالى -: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]، وكان الحكم في أول الأمر: أن من نام بعد غروب الشمس وجب عليه الإمساك عن المفطرات، ولو استيقظ ليلاً، حتى تغرب الشمس من الغد؛ فعن البراء - رضي الله عنه - قال: ((كان أصحاب محمد إذا كان الرجل صائماً، فحضر الإفطار فنام قبل أن يفطر لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسي، وإنّ قيس بن حرمة الأنصاري كان صائماً، فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال لها: أعندك طعام؟ قالت: لا، ولكن أنطلق فأطلب لك. وكان يومه يعمل، فغلبته عيناه، فجاءته امرأته، فلما رأته، قالت: خيبةً لك. فلما انتصف النهار غُشي عليه، فذُكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، فنزلت هذه الآية: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187]، ففرحوا بها فرحاً شديداً، ونزلت: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حََتَّى يَتََبَيَّنَ لََكُمُ الخَيْطُ الأََبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأََسْوَدِ}[1] [البقرة: 187].
الوقفة الثانية: حكمة الصيام:(/1)
قال - تعالى -: {يَا أََيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]، في هذه الآية إشارة إلى حكمة من حكم الصيام، وهي تحقيق تقوى الله؛ فإن النفس إذا تركت ما هو مباح في الأصل وهو الأكل والشرب امتثالاً لأمر الله في نهار رمضان كان ذلك داعياً لترك المحرمات الأخرى، ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من لم يَدَعْ قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه))[2]، وقد هيأ الله لنا هذا الشهر بإضعاف كيد الشيطان وشره كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وسُلْسِلت الشياطين))[3].
ولابد من توطين النفس وتهيئتها في أيام الصيام لتحقيق هذه الحكمة كما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم- بذلك فقال: ((والصيام جنة، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم)) [4].
الوقفة الثالثة: فضل الصيام:
ورد في فضل الصيام نصوص كثيرة، وأعظم ما ورد فيه حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي -صلى الله عليه وسلم - قال: ((يقول الله - عز وجل - كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وأكله وشربه من أجلي والصوم جنة[5]، وللصائم فرحتان: فرحة حين يفطر، وفرحة حين يلقى ربه، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك))[6].
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً: ((من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه))[7].
الوقفة الرابعة: أحكام الصيام:(/2)
أولاً: يثبت دخول شهر رمضان برؤية الهلال؛ فإن لم يُرَ أو حال دون رؤيته غيم أو قتر أُتِم شهر شعبان ثلاثين يوماً؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال أبو القاسم: ((صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته؛ فإن غُبِّيَ عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين))[8].
والراجح أنه يكفي في ثبوت الرؤية خبرُ واحدٍ من المسلمين.
وهو مذهب الشافعي[9]، والحنابلة[10]، وقول ابن حزم[11] واختيار ابن تيمية[12] وابن القيم[13].
والدليل عليه قول ابن عمر - رضي الله عنهما -: "تراءى الناس الهلال، فأخبرت النبي - صلى الله عليه وسلم - أني رأيته، فصام، وأمر الناس بصيامه"[14].
ثانياً: يحرم صيام آخر يومين من شعبان أو آخر يوم منه إلا أن يوافق ذلك يوماً كان من عادته صيامه كالاثنين، والخميس؛ فيجوز عندئذٍ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ قال: ((لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين إلا أن يكون رجل كان يصوم صومه فليصمْ ذلك اليوم))[15].
ثالثاً: يحرم على القول الراجح وهو مذهب الشافعي[16] صيام يوم الشك وهو يوم الثلاثين من شعبان إذا حال دون رؤية الهلال غيم أو قتر؛ لحديث أبي هريرة السابق، ولقول عمار - رضي الله عنه -: "من صام يوم الشك فقد عصى أبا القاسم"[17].
رابعاً: شروط وجوب الصيام ثلاثة:
1- العقل.
2- البلوغ.
3- القدرة عليه.
شروط صحة الصيام أربعة:
1- الإسلام.
2- العقل.
3- انقطاع دم الحيض والنفاس.
4- النية من الليل لكل يوم واجب.
لحديث حفصة - رضي الله عنها - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: ((من لم يبيِّت الصيام من الليل فلا صيام له))[18].
وهذا نص صريح لاشتراط النية لكل ليلة؛ فمن كان مسافراً وقد نوى الفطر من الليل، ثم عزم على الصوم بعد طلوع الفجر لم يصح صومه.
وينبغي على العبد أن يبتعد عن وسواس الشيطان في النية؛ فإن النية لا تحتاج إلى تكلف؛ فمتى خطر بقلبه أنه صائم غداً فقد نوى.(/3)
خامساً: فرض الصيام:
الإمساكُ عن المفطرات من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس، لقوله - تعالى -: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حََتَّى يَتََبَيَّنَ لََكُمُ الخَيْطُ الأََبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأََسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ ثُمَّ أََتِمُّوا الصِّيَامََ إلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187].
سادساً: مفطرات الصوم:
1- الأكل والشرب.
2- ما كان في معنى الأكل والشرب، وهو ثلاثة أشياء:
أ- القطرة في الأنف التي تصل إلى الحلق، وهو مأخوذ من قوله: ((وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً)) أخرجه مسلم، فإنه يفهم أنه لو دخل الماء من الأنف إلى الجوف أفطر.
ب- الإبر المغذية؛ فإنها تقوم مقام الأكل والشرب فتأخذ حكمها، وكذا المغذي الذي يصل إلى المعدة عن طريق الأنف.
ج- حقن الدم في المريض؛ لأن الدم هو غاية الأكل والشرب فكان بمعناه[19].
3- الجماع: وهو من المفطرات بالإجماع[20] .
4- إنزال المني باختياره بمباشرة أو استمناء، أو غير ذلك؛ لأنه في معنى الجماع، ولأنه من الشهوة التي يدعها الصائم كما سبق في حديث أبي هريرة مرفوعاً وفيه: ((يدع شهوته وأكله وشربه من أجلي))[21] ومعلوم أن من أنزل المني عامداً مختاراً باستمناء أو غيره، فقد أنفذ شهوته ولم يدعها، أما الاحتلام فليس مفطراً بالإجماع[22].
5- التقيؤ عمداً، وهذا مفطر أيضاً بالإجماع[23]، أما من غلبه القيء فلا يفطر؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من ذرعه القيء فليس عليه قضاء، ومن استقاء فليقض))[24].
6- خروج دم الحيض والنفاس، بالإجماع[25]؛ فمتى وُجد دم الحيض أو النفاس في آخر جزء من النهار، أو كانت حائضاً فطهرت بعد طلوع الفجر فسد صومها؛ ومن الأدلة عليه حديث أبي سعيد الخدري مرفوعاً: ((أليس إذا حاضت لم تُصَلِّ ولم تَصُمْ؟))[26] .
7- اختلف أهل العلم في الحجامة: هل تفطر أو لا؟(/4)
وسبب الخلاف في هذه المسألة: التعارض الظاهر بين حديث ثوبان مرفوعاً: ((أفطر الحاجم والمحجوم))[27] ، وحديث ابن عباس: ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - احتجم وهو صائم))[28]، واختلف أهل العلم في طريق الترجيح بينهما لتعذر الجمع بينهما فاختار ابن تيمية[29] وابن القيم[30] وهو مذهب الحنابلة[31] تقديم حديث: ((أفطر الحاجم والمحجوم)) لأنه ناقل عن الأصل، أما حديث ابن عباس فمبقٍ على الأصل، والناقل عن الأصل مقدم على المبقي، كما هو مقرر في قواعد الترجيح بين الأدلة المتعارضة.
والراجح تقديم حديث ابن عباس وأن الحجامة ليست من المفطرات وهو مذهب الجمهور؛ وذلك أنه لا يُصار إلى إعمال قواعد الترجيح بين الأدلة إلا إذا جهل التاريخ، أما إذا علم فيجب العمل بالمتأخر ويكون ناسخاً للمتقدم[32]، وقد علم هنا بخبر الصحابي من حديثين:
الأول: حديث أنس بن مالك قال: ((أول ما كُرِهَت الحجامة للصائم، أن جعفر بن أبي طالب احتجم وهو صائم فمر به النبي - صلى الله عليه وسلم- فقال: أفطر هذان، ثم رخص النبي - صلى الله عليه وسلم - بعدُ في الحجامة للصائم، وكان أنس يحتجم وهو صائم))[33].
الثاني: حديث أبي سعيد الخدري قال: "رخص رسول الله في القبلة للصائم والحجامة"[34]، والرخصة إنما تكون بعد العزيمة فيكون الحديثان نصاً في النسخ فوجب العمل بهما[35] .(/5)
8- الراجح في القطرة في العين أو الأذن والكحل، ومداواة الجروح الغائرة، وشم الطيب، والإبر غير المغذية، وإدخال علاج لمريض من الفرج: أنها لا تفطر؛ لأنه ليس أكلاً ولا شرباً ولا في معناهما، فتبقى على الأصل وهو الجواز، وما أحسن كلام شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في هذا حيث قال: "فإن الصيام من دين الإسلام الذي يحتاج إلى معرفته الخاص والعام، فلو كانت هذه الأمور مما حرمها الله ورسوله على الصائم، وأفسد الصوم بها، لكان هذا مما يجب على الرسول بيانه، ولو ذكر ذلك لعلمه الصحابة وبلغوه الأمة كما بلغوها سائر شرعه، فلما لم ينقل أحد من أهل العلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك لا حديثاً صحيحاً ولا ضعيفاً ولا مسنداً ولا مرسلاً، علم أنه لم يذكر شيئاً من ذلك"[36].
سابعاً: من أفطر ناسياً أو مخطئاً فصومه صحيح ولا قضاء عليه كمن ظن أن الفجر لم يطلع فأكل وهو طالع، أو ظن أن الشمس غربت فأكل وهي لم تغرب.
ومن الأدلة على ذلك:
1- حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً: ((من أكل ناسياً وهو صائم فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه))[37].
2- عن أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنهما - قالت: "أفطرنا على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم غيم ثم طلعت الشمس"[38] .
ولم يُنقل أنهم قضوا ذلك اليوم؛ ولو أُمِرُوا بقضائه لنُقل إلينا كما نُقِلَ فطرهم[39].
ثامناً: مسائل القضاء:
1- الحائض والنفساء يجب عليهما القضاء بالإجماع[40]؛ فعن معاذة - رحمها الله - قالت: سألتُ عائشة - رضي الله عنها - فقلت: ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ قالت: أحروريةٌ[41] أنتِ؟ قلت: لست بحرورية، ولكني أسأل. فقالت: "كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة"[42].(/6)
2- المسافر يجوز له الفطر ولو لم يكن عليه مشقة بالصيام لقوله - تعالى - {وَمَن كَانَ مَرِيضاً أََوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أََيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ} [البقرة: 185].
وعن حمزة بن عمرو الأسلمي - رضي الله عنه - أنه قال: يا رسول الله أجد بي قوة على الصيام في السفر فهل عليّ جناح؟
فقال رسول الله: ((هي رخصة من الله، فمن أخذ بها فحسن، ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه))[43] .
3- من أفطر متعمداً في رمضان بغير عذر فهو آثم إثماً عظيماً؛ وعليه التوبة إلى الله،ويجب عليه قضاء ما أفطر على القول الراجح وهو قول الجمهور[44].
والدليل على وجوب القضاء:
أ - حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله: ((من ذرعه القيء وهو صائم فليس عليه قضاء، ومن استقاء فليقضِ))[45].
ب - قوله - صلى الله عليه وسلم- للمُجامع في نهار رمضان بعد أن ذكر له الكفارة: ((وصم يوماً، واستغفر الله))[46].
أما إذا كان الإفطار بالجماع فيجب مع القضاء الكفارة وهي عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في الصحيحين.
4- المريض الذي شق عليه الصوم: يجوز له الفطر؛ بل قد يجب إذا ترتب على صيامه إلحاق ضرر به، ويقضي ما أفطر، ومثله في الحكم الحامل والمرضع إذا خافتا على نفسيهما أو ولديهما[47].
5- العاجز عن الصيام عجزاً مستمراً كالشيخ الكبير والمريض مرضاً لا يرجى برؤه، فهذا لا يجب عليه الصوم، ويجب عليه أن يطعم مكان كل يوم مسكيناً، فعن عطاء سمع ابن عباس - رضي الله عنه -يقرأ: {وَعَلَى الَذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184]، قال ابن عباس: "ليست بمنسوخة، هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فليطعما مكان كلّ يوم مسكيناً"[48].(/7)
6- الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة إذا بلغا الهذيان وعدم التمييز، لا يجب عليهما الصيام ولا الإطعام؛ لسقوط التكليف.
الوقفة الخامسة: سنن الصيام:
1- تأخير السحور؛ لحديث أنس - رضي الله عنه - عن زيد بن ثابت - رضي الله عنه - قال: "تسحرنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ثم قام إلى الصلاة. قلت: كم كان بين الأذان والسحور؟ قال: قدر خمسين آية"[49].
2- تعجيل الفطر لحديث سهل بن سعد - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر))[50].
3- أن يفطر على رطب؛ فإن لم يكن فعلى تمرات، فإن لم تكن فعلى ماء. لحديث أنس - رضي الله عنه -قال: "كان يفطر على رطبات قبل أن يصلي، فإن لم يكن فعلى تمرات، فإن لم تكن تمرات حسا حسوات من ماء"[51].
4- لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعاءٌ عند الإفطار إلا ما جاء في حديث ابن عمر - رضي الله عنه -: كان رسول الله إذا أفطر قال: ((ذهب الظمأ، وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله)) حديث حسن[52].
5- أهم السنن وآكدها أكل السحور لقوله: ((تسحروا فإن في السحور بركة))[53]، وقال: ((فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السّحَر))[54].
6- أن يكون في سحوره تمر لقوله: ((نعم سحور المؤمن التمر))[55].
7- أن يقول لمن سابه أو شاتمه: إني امرؤ صائم.
8- والسنّة في عدد ركعات التراويح أن لا تزيد عن إحدى عشرة ركعة؛ لحديث عائشة - رضي الله عنها -قالت: "ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة"[56]، والزيادة جائزة لحديث ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: إن رجلاً قال: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف صلاة الليل؟ قال: مثنى مثنى، فإذا خفت الصبح فأوتر بواحدة))[57].
الوقفة السادسة: زاد الصائم:(/8)
ينبغي أن يكون شعار المؤمن في رمضان قوله - تعالى -: {وَتَزَوَّدُوا فَإنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: 197]، وأن يقتدي بحال النبي - صلى الله عليه وسلم - في رمضان كما في حديث ابن عباس - رضي الله عنه -قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان، فيدارسه القرآن، فلرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجود بالخير من الريح المرسلة"[58].
وإليك أخي المسلم بعض ميادين المسابقة في الخيرات في رمضان:
1- قيام الليل: فلا تخلو ليلة من قيام ليحصل على الأجر الوارد في قوله: ((من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه))[59]، وأن يصلي التراويح مع الإمام حتى ينتهي لحديث أبي ذر - رضي الله عنه - قال: صُمنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم- رمضان فلم يقم بنا شيئاً من الشهر حتى بقي سبع، فقام بنا حتى ذهب ثلث الليل، فلما كانت السادسة لم يقم بنا، فلما كانت الخامسة قام بنا حتى ذهب شطر الليل. فقلت: يا رسول الله: لو نفلتنا قيام هذه الليلة. قال: فقال: ((إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف حُسبَ له قيام ليلة)). قال: فلما كانت الرابعة لم يقم، فلما كانت الثالثة جمع أهله ونساءه والناس فقام بنا حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح. قال: قلت: وما الفلاح؟ قال: السحور.ثم لم يقم بنا بقية الشهر[60].
وقد قام النبي - صلى الله عليه وسلم - بأصحابه ثلاث ليال ولم يخرج الرابعة خشية أن يفرض عليهم.
وليس معنى ذلك أن يقتصر على صلاة التراويح فقط؛ فإن أمكنه أن يصلي من آخر الليل وحده فهو من تمام القيام.
2- قراءة القرآن: قال: ((اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه))[61].
وقال - عليه الصلاة والسلام -: ((من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنه والحسنة بعشر أمثالها))[62].(/9)
3- تفطير الصائمين: قال: ((من فطر صائماً كان له مثل أجره غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيئاً))[63].
4- العمرة: قال: ((... فعمرة في رمضان تعدل حجة)) وفي رواية: ((حجة معي))[64].
5- الصدقة: والنصوص في فضلها مستفيضة من الكتاب والسنة، وقد اختصها الله - تعالى -؛ فكأن المتصدق يقرض الله؛ ومَنْ أعظمُ وأجزل وفاءً من الله؟ قال - تعالى -: {مَن ذَا الَذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} [الحديد: 11]
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله: ((من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ولا يقبل الله إلا الطيب فإن الله يقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فُلُوّه، حتى تكون مثل الجبل))، وهي من أسباب دخول الجنة كما قال: ((يا معشر النساء تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار))[65]، واعلم أخي المسلم أن الصدقة لا تنقص المال، كما ثبت من حديث أبي هريرة مرفوعاً: ((ما نقصت صدقة من مال))[66].(/10)
وتأمل معي الحديث التالي: الذي يبين سبب تراجع الكثيرين وترددهم في الصدقة؛ فعن بريدة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: ((ما يُخرج رجلٌ شيئاً من الصدقة حتى يَفك بها لحيي سبعين شيطاناً))[67]، وبعد هذا العرض المؤثر من نصوص الصدقة أدعوك يا أخي ألا تترك أيّ فرصة للصدقة: على فقير، أو بناء مسجد، أو طبع كتاب، أو غير ذلك، في البيت، أو المسجد، أو في اللجان الخيرية، حتى تلك الصناديق التي تشاهدها في بعض المحلات التجارية، ولو أن تضع شيئاً يسيراً لتدحر بها شياطين الجن والإنس، وتكفر سيئاتك، وتثقل موازينك يوم القيامة، فتراها كالجبال العظيمة، وتفوز كل يوم بدعاء الملائكة؛ كما ثبت في حديث أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً))[68].
وما أجمل أن يكون المسلم واسطة خير في الصدقة والزكاة بين الناس ومن يستحقها. عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: "الخازن المسلم الأمين الذي يُنفِّذ ما أُمر به كاملاً موفوراً طيباً بها نفسه فيدفعه إلى الذي أمر له به أحدُ المتصدقين"[69].
محاذير وتنبيهات:
1- يمسك بعض الناس قبل الفجر بوقت (عشر دقائق مثلاً) احتياطاً، وهذا لم يفعله النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أصحابه؛ فهو غير مشروع.
2- بعض المؤذنين يحتاط للناس فيؤذن قبل الوقت وهذا خطأ، والصواب أن يؤذن عند دخول الوقت؛ فهذا هو المشروع، وحتى لا يغتر بأذانه بعض النساء في البيوت فيصلين قبل الوقت.
3- بعض الناس في رمضان يصلون بعد الأذان بوقت يسير؛ والأوْلى أن يتأخروا بوقت تطمئن نفوسهم بدخول الوقت؛ فقد ثبت أن عدداً من التقاويم غير دقيقة وأنها تسبق دخول الوقت بنحو ربع إلى ثلث ساعة.(/11)
4- هذا شهر الصيام وبعض الناس يجعله شهر الطعام، فتضيع الأوقات الطويلة وخصوصاً على المرأة في صنع ألوان الطعام.
5- الحذر من الوقوع في المحرمات وخصوصاً ما يتفنن به شياطين الإنس من أفلام ومسلسلات.
6- ينبغي على المرأة المسلمة أن تحذر الخروج إلى الأسواق متطيبة، أو متبرجة، أو بدون حاجة، أو بدون محرم، وكم يتألم المؤمن من امتلاء الأسواق بالنساء ليالي رمضان وخصوصاً في العشر الأواخر منه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
ــــــــــــــــــــــــــ
[1] أخرجه البخاري، ح/1915.
[2] أخرجه البخاري، ح/1903.
[3] أخرجه البخاري، ح/1899، ومسلم، ح/1079.
[4] أخرجه البخاري، ح/1904.
[5] أي شر ووقاية من الآثام والنار (فتح الباري 4/125).
[6] أخرجه البخاري، ح/1894، 1904، 7492، ومسلم ح/1151.
[7] أخرجه البخاري، ح/1901.
[8] أخرجه البخاري، ح/1909.
[9] انظر: روضة الطالبين (2/207).
[10] انظر: الفروع (3/14).
[11] انظر: المحلى (4/373).
[12] انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية (25/105).
[13] انظر: زاد المعاد (2/38).
[14] أخرجه أبو داود والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، وقال ابن حزم: (هذا خبر صحيح)؛ وصححه الألباني (انظر الإرواء 4/16).
[15] أخرجه البخاري، ح/1914، ومسلم، ح/1082.
[16] المهذب والمجموع (6/275).
[17] حديث صحيح أخرجه البخاري معلقاً بصيغة الجزم، ووصله أبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم (انظر فتح الباري 4/144) ومختصر صحيح البخاري للألباني (1/444).
[18] صحيح أبي داود، ح/2454.
[19] انظر مجالس شهر رمضان لابن عثيمين، ص 66.
[20] حكاه النووي في المجموع (4/348).
[21] انظر المغني 4/361 363، والمجموع 6/349، وحقيقة الصيام لابن تيمية، ص 23.
[22] انظر المجموع 6/349.
[23] حكاه ابن المنذر في كتاب الإجماع، ص 15.
[24] صحيح أبي داود، ح/380.
[25] حكاه ابن قدامة وغيره، انظر المغني 4/397.
[26] أخرجه البخاري، ح/304.(/12)
[27] أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجة وغيرهم، وصححه الإمام أحمد والبخاري والدارمي وغيرهم، انظر فتح الباري، 4/409.
[28] أخرجه البخاري، ح/5694.
[29] حقيقة الصيام، ص 23.
[30] زاد المعاد، 2/60.
[31] الفروع، 3/47.
[32] انظر البحر المحيط للزركشي (6/140).
[33] أخرجه الدار قطني وصححه وأقره البيهقي في السنن الكبرى، وصححه الألباني (انظر الإرواء 4/73).
[34] أخرجه الطبراني والدار قطني. قال ابن حزم: إسناده صحيح. وصححه الألباني (انظر الإرواء 4/74).
[35] انظر الإرواء 4/75.
[36] حقيقة الصيام، ص 37.
[37] أخرجه البخاري، ح/6669.
[38] أخرجه البخاري، ح/1960.
[39] انظر حقيقة الصيام، ص 34.
[40] حكاه ابن حزم في مراتب الإجماع، ص 47.
[41] يقال لمن اعتقد مذهب الخوارج: حروري؛ نسبة إلى حروراء، وهي بلدة قرب الكوفة، وكان أول اجتماع للخوارج بها للخروج على عليّ فاشتهروا بالنسبة إليها، انظر: فتح الباري، 1/502.
[42] أخرجه البخاري، ح/321، ومسلم واللفظ له، ح/335.
[43] أخرجه مسلم، ح/1121.
[44] أخرجه أبو داود، ح/2363، وابن ماجة، ح/1676، وأحمد 2/498، والدار قطني وقال: رواته ثقات كلهم، (2/184) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي في التلخيص (1/427) وصححه ابن تيمية في حقيقة الصيام ص 14، وقال أحمد شاكر: (إسناده صحيح)، (شرح المسند 10/111) وصححه الألباني في الإرواء (4/51).
[45] أخرجه أبو داود، ح/2376، وابن ماجة بلفظ: (وصم يوماً مكانه)، ح/1671، ومالك، ح/29 وغيرهم، قال النووي: (رواه البيهقي بإسناد جيد) (المجموع 3/76) وصححه أحمد شاكر في شرح المسند (6/147) والألباني في الإرواء (4/90).
[46] انظر بداية المجتهد (1/302).
[47] انظر: مجالس شهر رمضان، ص 33، 36.
[48] أخرجه البخاري، ح/4505.
[49] أخرجه البخاري، ح/922.
[50] أخرجه البخاري، ح/1957، ومسلم، ح/1098.
[51] صحيح أبي داود، ح/2356.
[52] صحيح أبي داود، ح/2357.(/13)
[53] أخرجه البخاري، ح/1923، ومسلم، ح/1095.
[54] أخرجه مسلم، ح/1096.
[55] صحيح أبي داود، ح/ 2345.
[56] أخرجه مسلم، ح/738.
[57] أخرجه البخاري، ح/1137.
[58] متفق عليه.
[59] متفق عليه.
[60] صحيح أبي داود، ح/1375.
[61] أخرجه مسلم، ح/804.
[62] صحيح الترمذي، ح/3087.
[63] صحيح النسائي، ح/811.
[64] متفق عليه.
[65] متفق عليه.
[66] أخرجه مسلم، ح/2588.
[67] السلسلة الصحيحة، ح/1268.
[68] أخرجه البخاري، ح/1442.
[69] أخرجه البخاري، ح/1438.(/14)
العنوان: شهر محرم ومبدأ التاريخ الإسلامي
رقم المقالة: 776
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحمد لله الذي خلق كل شيء فقدره تقديراً وأتقن ما شرعه وصنعه حكمة وتدبيراً وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وكان الله على كل شيء قديراً وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله أرسله إلى الخلق بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليماً كثيراً.(/1)
أما بعد، أيها الناس: اتقوا ربكم واعلموا ما لله من الحكمة البالغة في تعاقب الشهور والأعوام وتوالي الليالي والأيام فإن الله جعل الليل والنهار خزائن للأعمال ومراحل للآجال يعمرها الناس بما يعملون من خير وشر حتى ينتهي إلى آخر أجلهم ومن رحمته بعباده أن جعل لهم ليلاً ونهاراً وجعل لكل منهما آيتين آية النهار وهي الشمس وآية الليل وهي القمر جعل الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصراً ليبتغوا فيه فضلاً من الله ويطلبوا فيه معايشهم وجعل كل نهار يتجدد بمنزلة الحياة الجديدة يستجد فيه العبد قوته ويستقبل عمله ولذلك سمى الله النوم بالليل وفاة واليقظة بالنهار بعثاً فقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأنعام:60] ومن رحمته بعباده أن جعل الشمس والقمر حسبانا ففي الشمس معرفة الفصول وفي القمر حسبان الشهور وجعل الله السنة اثني عشر شهراً قال الله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة:36].(/2)
والأربعة الحرم ثلاثة منها متوالية وهي ذو القعدة الفطر التالي وذو الحجة والمحرم والرابع منها مفرد وهو رجب بين جمادى وشعبان وإن من تيسير الله تعالى أن جعل الحساب الشرعي العربي مبنيا على الشهور الهلالية لأن لها علامة حسية يفهمها الخاص والعام وهي رؤية الهلال في المغرب بعد غروب الشمس فمتى رئي الهلال فقد دخل الشهر المستقبل وانتهى الشهر الماضي وبذلك عرفنا أن ابتداء التوقيت اليومي من غروب الشمس لا من زوالها لأن أول الشهر يدخل بغروب الشمس وأول الشهر هو أول الوقت.
ولقد كان ابتداء التاريخ الإسلامي منذ عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- حيث جمع الناس ست عشرة أو سبع عشرة من الهجرة فاستشارهم من أين يبدأ التاريخ فقال بعضهم يبدأ من مولد النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال بعضهم يبدأ من بعثته وقال بعضهم يبدأ من هجرته وقال بعضهم يبدأ من وفاته ولكنه -رضي الله عنه- رجح أن يبدأ من الهجرة لأن الله فرق بها بين الحق والباطل فجعلوا مبتدأ تاريخ السنين في الإسلام سنة الهجرة لأنها هي السنة التي كان فيها قيام كيان مستقل للمسلمين وفيها تكوين أول بلد إسلامي يسيطر عليه المسلمون فاتفق فيه ابتداء الزمن والمكان ثم إن الصحابة الذين جمعهم عمر تشاوروا من أي شهر يبدؤون السنة فقال بعضهم من ربيع الأول؛ لأنه الشهر الذي قدم فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - مهاجراً إلى المدينة، وقال بعضهم: من رمضان؛ لأنه الشهر الذي نزل فيه القرآن واتفق رأي عمر وعثمان وعلي -رضي الله عنهم- على ترجيح البداءة بالمحرم لأنه شهر حرام ويلي ذي الحجة الذي فيه أداء الناس حجهم الذي به تمام أركان الإسلام لأن الحج آخر ما فرض من الأركان الخمسة ثم إنه يلي الشهر الذي بايع فيه النبي - صلى الله عليه وسلم – الأنصار على الهجرة وتلك المبايعة من مقدمات الهجرة فكان أولى الشهور بالأولية شهر المحرم.(/3)
عباد الله: إن علينا أن نشكر الله على ما يسره لنا من هذا الحساب البسيط الميسر وإن على الأمة الإسلامية أن تجعل لنفسها وجوداً وكياناً مستقلين مستمدين من روح الدين الإسلامي وأن تكون متميزة عن غيرها في كل ما ينبغي أن تتميز به من الأخلاق والآداب والمعاملات لتبقى أمة بارزة مرموقة لا تابعة لغيرها هاوية في تقليد من سواها تقليداً أعمى لا يجر إليها نفعاً ولا يدفع عنها ضرراً وإنما يظهرها بمظهر الضعف والتبعية وينسيها ما كان عليه أسلافها ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها فالتاريخ اليومي يبدأ من غروب الشمس والشهري يبدأ من الهلال والسنوي يبدأ من الهجرة هذا ما جرى عليه المسلمون وعملوا به واعتبره الفقهاء في كتبهم في حلول آجال الديون وغيرها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم قال الله تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ * وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لاَ الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلاَ اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس:37-40]. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.. إلخ.(/4)
العنوان: شهيد القسطنطينية
رقم المقالة: 1145
صاحب المقالة: الشيخ عائض بن عبدالله القرني
-----------------------------------------
إنَّ الحمد لله، نحمدهُ ونستعينهُ ونستغفرهُ، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا وسيِّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومن يضللْ فلا هاديَ له، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء: 1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب: 70-71].
أما بعد:
فإن أصدقَ الحديث كتابُ الله، وأحسنَ الهدي هديُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - وشرَّ الأمور محدثاتُها، وكلَّ محدثة بدعةٌ، وكلَّ بدعة ضلالةٌ، وكلَّ ضلالة في النار.
أيها المصلون، أيها الساجدون، أيها المؤمنون، عنوان هذه الخطبة: (شهيدُ القسطنطينية) من هو هذا الشهيد؟ إنه رجل مؤمن ولد في الجزيرة، وقتل في الثمانين، وقد اشتعل رأسه شيباً، قتل في سبيل الله تحت أسوار القسطنطينية، والمسلم ليس له أرض واحدة، البلاد كلها بلاده، لأنها بلاد الله كما قال الشاعر:
أنا الحجازُ أنا نجدٌ أنا يمنُ أنا الجنوبُ بها دمعي وأشجاني
بالشام أهلي وبغدادُ الهوى وأنا بالرُّقْمَتَيْنِ وبالفُسْطاطِ جيراني(/1)
النيلُ مائي ومن عَمَّان تذكرتي وفي الجزائر إِخواني وتَطْواني
فأينما ذُكر اسمُ اللهِ في بلدٍ عدَدْتُ ذاك الحمى من صُلبِ أوطاني
فمن هو هذا الرجل الشهيد؟ إنه الذي استقبل الرسول - صلى الله عليه وسلم - يوم فر عليه الصلاة والسلام، من مكة من الإرهاب، فر من السيوف التي تقطر حقدً ودماً، باع أهل مكة أملاكه، وحاصروه وآذوه وشتموه، ووضعوا الشوك في طريقه، والسَّلاَ على ظهره، وضاقت به الدنيا بما رحبت، فخرج يحمل مبادئه ودعوته التي رفض أن يتنازل عن أي جزئية منها مهما كانت الظروف، ومهما كان حجم الإيذاء والحصار الذي تتعرض له الفئة المؤمنة.
وانطلق - صلى الله عليه وسلم - متوجهاً إلى المدينة إلى الأنصار، إلى أحباب الله، إلى كتيبة الإسلام.
أخذ، عليه الصلاة والسلام، عشرة أيام في السفر، تتلهب أقدامه من حرارة الصحراء، وقد امتلأ جوعاً وتعباً وظمأ وسهاداً ومشقة، لكن كلُّها في سبيل الله، كانت الأنصار تخرج مع الظهيرة، يخرجون جميعاً على بكرة أبيهم ليستقبلوا أعظم فاتح عرفه التاريخ، وأعظم رجل مشى على وجه الأرض، أما الرجال فكانوا يخرجون بالسيوف والرماح ليحيوا الزعيم المنتظر والرسول الكريم، وأما النساء فكن يصعدن على أسطحة المنازل، علَّهن يظفرن بنظرة واحدة إلى وجهه المشرق بالنور واليقين، وأما الأطفال فكانوا ينتشرون كالدرر والجواهر على جنبات الطريق، يصفقون وينشدون ويرددون.
طلعَ البدرُ علينا من ثَنِيَّات الوداع
وجبَ الشكر علينا ما دعا لله داع
أيها المبعوث فينا جئت بالأمر المطاع
جئتَ شرَّفت المدينة مرحباً يا خير داع
وفي ظهيرة اليوم الخالد الذي لا يُنسى أبداً، إذا بالصائح يصيح في قوة وفرحة: قدم الرسول، عليه الصلاة والسلام فخرج الأنصار بسيوفهم، كأنهم خرجوا من المقابر، بُعثوا من جديد، وسال الحب في دمائهم من جديد، وعادت لهم الحياة من جديد، يقول أحد الناس في الرسول - صلى الله عليه وسلم -:(/2)
سافَرَتْ نفسُه الكريمةُ فيضا فالليالي محسودةٌ بالليالي
وعلى يثرب أهازيجُ نَصرٍ طلع البدرُ نفحةُ الأطفالِ
واستفاقَتْ على صَبَاحٍ جديدٍ مِلْءُ آذانها أذانُ بلال
وصلى عليه الصلاة والسلام على ناقته، يقول أنس: والله الذي لا إله إلا هو، ما كنت أظن أن أحداً يبكي من الفرح، حتى رأيتُ الأنصارَ يبكون من الفرح، لمقدم الرسول، عليه الصلاة والسلام.
طَفَحَ السرورُ عليَّ حتى إنني من عِظَمِ ما قد سرَّني أبكاني
ووقف - صلى الله عليه وسلم - يحيي القبائل قبيلة قبيلة، يأخذون زمام ناقته؛ ليكون ضيفهم، فيقول دعوها فإنها مأمورة، أمرها الله، الله يأمر ناقته، الله يتولى ناقته من فوق سبع سماوات، اتركوا الناقة إذا نزلت الناقة في مكان فأنا معها، فيمر ببني بياضة، فيخرجون بالسيوف، يغمرهم الفرح والغبطة لرؤية الرسول - صلى الله عليه وسلم.
فيقولون: أنت ضيفنا، قال: دعوها فإنها مأمورة، ويشير لهم، ويبتسم لهم، ويشكرهم، ويمر ببني عمرو بن عوف، وقد اصطفوا على جنبات الطرق يحيونه، قالوا: أنت ضيفنا، قال: دعوها فإنها مأمورة، وتخترق الصفوف، وتسير إلى أن تأتي بني النجار، فيخرج أطفال بني النجار وطفلات بني النجار، يقلن:
نحنُ جَوَارٍ من بني النجَّارِ يا حبَّذَا محمدٌ من جَارِ
فتبسم - صلى الله عليه وسلم - ويُرفع له الأطفال على ناقته فيقبلهم، ويتركهم - صلى الله عليه وسلم - لكنه يأسر قلوبهم، فلا تعودُ لهم أبداً.(/3)
ثم أناخت الناقة في مكان مسجده الآن، ولما أناخت، انتظر قليلاً، ولم ينزل من على ظهرها، فقامت، ثم مضت قليلاً، ثم رجعت إلى مكانها، فأناخت وبركت، ونزل - صلى الله عليه وسلم - ولما نزل سارع هذا الشيخ الذي قُتِل في أرض الروم، إلى متاع الرسول - صلى الله عليه وسلم - وإلى ملابسه، وإلى ما كان محمولاً على الناقة، فأخذه، فقال بنو النجار، عندنا يا رسول الله، أنت ضيفنا قال: لا، الرجل مع رحله، فذهب وراء الشيخ، الذي هو أبو أيوب الأنصاري، ووصل معه إلى البيت، فقال: يا رسول الله: عندي هذا البيت، سُفْلَى وعُلِّيَّة يعني طابقين، دورين اثنين، أنت يا رسول الله اسكن في الأعلى وأنا هنا، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((أريد أن أكون قريباً من الناس، قريباً من المسجد، فأريد هذا)) يريد الأرضي، فأسكنه، وصعد أبو أيوب الأنصاري وزوجته الطاهرة النقية الشريفة إلى الدور الأعلى، وأتى النوم، فأخذ يتقلب أبو أيوب الأنصاري، كأنه يتقلب على الرمضاء لا ينام، قالت له زوجته: ما لك يا أبا أيوب لا تنام؟ قال: والله ما أتاني النوم، كيف أنام في العُلِّية، والرسول - صلى الله عليه وسلم - ينام أسفل مني، وفي الصباح حاول أبو أيوب، مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - مرة أخرى فأبى.
كان الطعام يقدم لأبي أيوب، فيرفع يده، وترفع زوجته يدها، ويقولان: والله لا نأكل حتى يأكل الرسول - عليه الصلاة والسلام - فينزل بالقصعة، وينزل بالصحفة، ويقدم الثريد، ويشوي اللحم ويُضيف أحسن ضيافة عرفها التاريخ.
وفي ليلة من الليالي، يقوم أبو أيوب ليصلي، فيصطدم بجرة الماء فتنكسر، فينسكب الماء على الأرض، فيأخذ شملته لينشف الأرض، لئلا يتصبب الماء على المصطفى، عليه الصلاة والسلام، ثم يقول: يا رسول الله، أسألك بالله، أن تصعد في العُلية وأنا في السفلى، فصعد، عليه الصلاة والسلام.(/4)
قدم له من الإكرام ما لم يقدمه تلميذ لشيخ، ولا مسلم لإمام عظيم، ولا مضيف لضيف، كان عليه الصلاة والسلام إذا أراد أن يخرج، قدَّم أبو أيوب حذاءه وألبسه في رجليه، كان يقف ليستقبله، ويقف ليودعه، حوَّل نفسه إلى طباخ في البيت، يقدم جهده، وعرقه، وكل ما يملك؛ ليفي بالضيافة، وحفظها له، عليه الصلاة والسلام، ولم يضيعها أبداً، كان يدعو له، وكان يتفقده، وكان يرى أنه الشيخ المبارك، الذي أصبح فيه كل شيءٍ أبيض، دينه، ولحيته، وقلبه، ومبادؤه.
وهذه قصة أذكرها وهي تدل على زهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وصاحبيه في هذه الدنيا، وتدل أيضاً على فضل أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه وكرمه.
يجوع - صلى الله عليه وسلم - فلا يجد في بيته لقمة، ولا تمرة، ولا شيئاً يؤكل، فيخرج إلى الطريق، وإذا بأبي بكر وعمر – رضي الله عنهما – فيقول لهما: ((ما أخرجكما هذه الساعة؟)) قالا: والله ما أخرجنا إلا ما نجده في بطوننا من حاقّ الجوع[1]، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((وأنا والذي نفسي بيده .. ما أخرجني غيره، فقوما))، فانطلقوا فأتوا باب أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه وكان أبو أيوب يدّخر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - طعاماً كان أو لبناً، فأبطأ عليه يومئذٍ، فلم يأت لحينه، فأطعمه لأهله، وانطلق إلى نخله يعمل فيه.
فلما انتهوا إلى الباب خرجت امرأته فقالت: مرحباً بنبي الله وبمن معه، قال لها نبي الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أين أبو أيوب؟)) فسمعه أبو أيوب – وهو يعمل في نخل له – فجاء يشتد فقال: مرحباً بنبي الله، وبمن معه، يا نبي الله ليس بالحين الذي كنت تجيء فيه، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((صدقت)). قال: فانطلق، فقطع عذقاً[2] من النخل فيه كلٌّ من التمر، والرطب، والبُسر، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((ما أردت إلا هذه، ألا جنيت لنا من تمره؟)) قال: يا رسول الله: أحببت أن تأكل من تمره ورطبه وبسره، ولأذبحن لك مع هذا.(/5)
قال: ((إن ذبحت فلا تذبحنَّ ذاتَ درّ))، فأخذ عناقاً أو جدياً فذبحه، وقال لامرأته اخبزي واعجني لنا وأنت أعلم بالخبز، فأخذ نصف الجدي فطبخه وشوى نصفه، فلما أدرك الطعام ووضع بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، أخذ من الجدي فجعله في رغيف وقال: يا أبا أيوب، أبلغ بهذا فاطمة؛ فإنها لم تصب مثل هذا منذ أيام. فذهب أبو أيوب إلى فاطمة.
فلما أكلوا وشبعوا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((خبز، ولحم وتمر وبسرٌ، ورطب، ودمعت عيناه، والذي نفسي بيده إن هذا هو النعيم الذي تسألون عنه يوم القيامة))[3].
ولكن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يموت كما يموت البشر، ولكن مبادئه لم تمت، ظلت مبادؤه وأخلاقه عند أبي أيوب وغيره من أعلام الصحابة، بقي أبو أيوب شابّاً وهو في الثمانين، وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد أخبر أن أصحابه سوف يركبون البحر غزاة في سبيل الله دخل - صلى الله عليه وسلم - عند عجوز، هي أم حرام بنت ملْحَان[4]، فنام عندها في الظهيرة، في القائلة، ثم استفاق - صلى الله عليه وسلم - وهو يضحك، قالت: ما لك يا رسول الله! أضحك الله سنك. قال: ((رأيت الآن أناساً من أمتي يركبون البحر غزاة في سبيل الله، كالملوك على الأَسِرة، قالت: ادع الله أن يجعلني منهم، قال: أنت منهم))[5].
وتستمر الأيام، وينادي المسلمون كتائب الإسلام، أن تجاهد في سبيل الله؛ لتفتح القسطنطينية وتغزو بلاد الروم؛ لتوسع دائرة الإسلام.
ولما سمع أبو أيوب منادي الجهاد أخذ سيفه ورمحه، وركب بغلته وذهب إلى ساحة القتال، قل أبناؤه: أنت شيخ كبير في الثمانين، قال: لا.
حَمَلْتَ الثَّمَانِينَ الطِّوَالَ مُجَاهِداً كَأَنَّكَ في العِشْرِين تَقْرا وتَكْتُبُ(/6)
قالوا: عذرك الله، أنت شيخ كبير ومريض، ولا تستطيع القتال، قال: لا والله، إن الله يقول: {انْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ} [التوبة: 41]. وأنا ثقيل، والله لأنفرنَّ، وذهب إلى الجهاد.
وانظر إلى هذا العمر المبارك، أين كثير من أهل الثمانين الآن، الذين حولوا آخر المطاف إلى شهادة الزور، واللهو واللعب، والظلم والجور والعياذ بالله.
وَيَقْبُحُ بِالفَتَى فِعْلُ التَّصَابِي وَأَقْبَحُ مِنْهُ شَيْخٌ قَدْ تَفَتَّى
إِذَا مَا لَمْ يُفِدْكَ العِلْمُ خَيْراً فَلَيْتَكَ ثُمَّ لَيْتَكَ مَا عَلِمْتَ
شيوخ كبار وما تابوا، والرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، وهم عذاب أليم، أُشَيْمط زان، وعائل مستكبر، ورجل جعل الله بضاعته، لا يشتري إلا بيمينه، ولا يبيع إلا بيمينه))[6]. شيخ كبير ويزني، وتفاجأ بشيخ كبير ويسرق، وشيخ كبير ويحلف أيماناً غموساً، وشيخ كبير يقطع الأرحام، وشيخ كبير يؤذي الجيران، وشيخ كبير يمضي بالنميمة بين الناس.
أما أبو أيوب فجعل الثمانين طاعة لله، وركب مع الجيش، وصعد على السفينة، وعبرت به البحر، وهو ينشد نشيد الخلود: لا إله إلا الله محمد رسول الله.
وتبدأ المعركة، فيغتسل، ويلبس أكفانه، ويتطيب، ويتحنط، ويقول للمسلمين: أسألكم الله، إذا قُتلت اليوم، فالتمسوا آخر أرض من أراضي المسلمين تجاه الروم، فادفنوني تحت أسوار القسطنطينية، علَّ الله أن يبعثني يوم القيامة، مؤمناً بين كافرين.
الله أكبر يبعث يوم القيامة، وحيداً مؤمناً بين كافرين.
إذا قامت القيامة، وبعثر ما في القبور، وحصل ما في الصدور، خرج أبو أيوب من قبره، ينفض التراب عن رأسه، وهو يقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك.(/7)
وبدأت المعركة فقاتل قتالاً شديداً، وهو في الثمانين، وقُطع رأسه الطاهر الذي طالما سجد لله - عزَّ وجلَّ -:
يا عابدَ الحَرَمَيْن لو أبصرتَنَا لعَلِمْتَ أنَّكَ بالعبادة تلعبُ
مَنْ كان يَخْضِبُ خَدَّهُ بدُمُوعِهِ فنُحُورُنا بدمائنا تَتَخَضَّبُ
أو كان يُتْعِبُ خَيْلَهُ في باطلٍ فخُيُولُنَا يومَ الصَّبِيحَةِ تَتْعَبُ
قُتل - رحمه الله - وهو مدفون هناك، من وصل منكم هناك، فليسلم عليه، وليبلغه سلام الأمة الإسلامية، وليقف على قبره طويلاً، وليشكره على حسن الضيافة، وعلى حسن الاستقبال وعلى حسن الحياة، وعلى حسن العطاء والفداء والتضحية، سلام عليك يا أبا أيوب الأنصاري، من جزيرة العرب، وجزاك الله خير ما جزى وليّاً عن أمة محمد، عليه الصلاة والسلام، وأحسن الله إليك، كما أحسنت إلينا، وجمعنا الله بك في دار الكرامة.
ذلكم هو شهيد القسطنطينية، وهو من أجدادنا، ومن أراد أن يسير على طريقه فما ذاك ببعيد، وإنه ليسير على من يسره الله عليه.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم، ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين.(/8)
أيها الناس: إنما وضع المنبر في كل جمعة؛ لنتدارس أخطاءنا، ولنعود إلى حساباتنا، ونعرض مشاكلنا أمام أعيننا، نحلها بكتاب الله - عزَّ وجلَّ - وبسنة رسوله، عليه الصلاة والسلام، وقد أخطأنا جميعاً خطأ اجتماعيّاً، مرت عليه سنوات، وقليل من ينبِّه عليه، وقليل من يستنكره، وقليل من يلاحظه، حتى أصبح سائداً بين الناس، وكأنه من الكتاب والسنة، وقد أضرَّ هذا الخطأ الجسيم بكثير من الناس، ألا وهو: الإسراف في الزواجات، ومن صور هذا الإسراف، الذي لا يرضاه الإسلام، الإسراف في صالات الأفراح، وفي الولائم التي يقوم بها الناس في وقت الزواج، وكيف جعلهم يستدينون أموال الناس، لينفقوها على هذه المظاهر الكاذبة، وهم كارهون، ولكن يرفض العرف الجاهلي، إلا البطر والرياء والسمعة والإسراف.(/9)
تصوروا .. شابٌّ مقدم على حياة جديدة، وبيت جديد، راتبه زهيد، ودخله حقير، يريد زوجة يسكن إليها، وينشئ بيتاً إسلاميّاً، فأول ما يواجهه من العقبات؛ صالة الأفراح، عشرون ذبيحة، إلى ثلاثين، إلى أربعين، إلى خمسين، من أين يدفعها؟ يذهب إلى الناس؛ ليستجدي من أجل العرف الجاهلي، الذي ما أنزل الله به من سلطان، فأين العقلاء؟ وأين أهل الرأي؟ وأين أهل العلم؟ وأين القضاة؟ وأين الدعاة؟ وأين العلماء الذين يقفون أمام هذا الخطأ الفادح؟ إن هذا يجرُّ إلى أمور محظورة وخطيرة على الأمة، منها الإسراف الذي نهى الله عنه: {وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً} [الإسراء: 26-27]. ثلاثون ذبيحة ترمى، والفقراء في البادية وفي تهامة، لا يجدون كسرة الخبز، ثلاثون ذبيحة ترمى، والشعوب الإسلامية بعضها يأكل أوراق الشجر. ثلاثون ذبيحة ترمى للقطط والكلاب، وكثير من المساجد لم تُعْمر منذ عشر سنوات، أليس هذا هو البطر بعينه؟ {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَراً وَرِئَاء النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ} [الأنفال: 47].
في العطلة الماضية في أبها، وقع أكثر من اثنين وستين زواجاً، كلها مغالاة، ومفاخرة، ومراءاة في صالات الأفراح، وعلمت من كثير ممن تزوج، أنهم اقترضوا لإقامة الولائم وتأجير الصالات، وشراء الهدايا، وغير ذلك، فهل يرضى الإسلام بهذا؟ وهل يقر ذلك المسلمون؟
إن العالم الكافر الآن، أصبح يتعامل بالعقل في أموره الاجتماعية، وأموره الاقتصادية، ويقنن مساراته، ويعرف دخله وما ينفقه، ويعرف أموره النافعة من الضارة، ونحن أمة الكتاب والسنة، منا العلماء، وأهل الرأي، والأخيار، والأبرار، ونسكت بالإجماع على هذا الخطأ.(/10)
ثم إن ذلك يورث أيضاً، إحجام كثير من الشباب عن الزواج إذا كان المجتمع يصرُّ على هذه التكاليف، من الشرعة، والوليمة، وإيجار الصالة، وكثرة الذبائح، والحلي، والمهر، فمن يجمع هذا لهذا الشاب؟ حينها تقع العنوسة ويتوقف الشباب والشابات عن الزواج، وتقع أمور لا تحمد، ولا يرضاها الله، فما هو الحل؟ الحل عند محمد، عليه الصلاة والسلام، أن نفعل كما فعل – بأبي هو وأمي – فهو أغنى الناس، وأبر الناس، وأحلم الناس أن نقتصد، ولا نساير الناس في أفكارهم، ولا في آرائهم؛ بل علينا بما يرضي الله - عزَّ وجلَّ - ففي الحديث: ((من أرضى الناس بسخط الله، وكَّلَهُ الله إلى الناس، ومن أسخط الناس برضى الله، كفاه الله مؤونة الناس))[7].
أما الرسول - صلى الله عليه وسلم - فتزوج تسعاً من النسوة أو أكثر، بعضهن لم يجد لها ذبيحة واحدة، وإنما قدَّم زبيباً، وشيئاً من شعير، وشيئاً من سويق، فأكله الصحابة، وتمضمضوا وقاموا يصلون، وزواج آخر، وجد ذبيحة واحدة، جمع عليها أكثر من ثمانين من الصحابة.
لماذا لا تقام هذه الحفلات في البيوت، ولماذا نأخذ أموال الناس، ديناً في رقابنا، لنباهي الناس، ونرائي الناس، ونفاخر الناس، أما تكفي الذبيحة والذبيحتان فحسب، أليس هذا هو العقل؟ أليس هذا هو الدين؟ أليس هذا هو الترشيد؟
ومن عنده فائض من المال، فمشاريع الخير وأبواب الجنة ثمانية، يدخل بماله من أي باب شاء.
أما هذه الأموال التي يصرفها رياءً وسمعةً، فسوف تمنعه أن ينجو كفافاً، لا له ولا عليه، بل سيحاسب عليها عند الله يوم القيامة. {فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [الأنفال: 36].
أيها المسلمون:
كلكم رشيد، أو الغالب منكم أهل العقل، والواجب أن يبدأ الرشيد، بعمل يرضي الله - عزَّ وجلَّ - فإنه: ((من سَنَّ في الإسلام سنَّة حسنة، فله أجرها، وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة))[8].(/11)
أسأل الله أن يحفظنا وإياكم من المتالف، ومن الأخطاء، ومن المخالفات الشرعية.
عباد الله:
وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب: 56].
وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: ((من صلى عليَّ صلاة، صلى الله عليه بها عشراً))[9].
اللهم صلّ على نبيك وحبيبك محمد، واعرض عليه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة يا رب العالمين، وارض اللهم عن أصحابه الأطهار، من المهاجرين والأنصار، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
---
[1] حاق الجوع: أي صادقُه.
[2] العِذق: هو الغصن من النخل.
[3] أخرجه الطبراني وابن حبان في صحيحه، وانظر حياة الصحابة (1/288)، وأخرجه مسلم مختصراً (3/1609) رقم (2038) ولم يسم الرجل الأنصاري، وأخرجه الترمذي (4/504، 505) رقم (2369)، ومالك في الموطأ (2/932) رقم (28) بلاغاً، وعندها أن الرجل الأنصاري هو أبو الهيثم بن التَّيْهان الأنصاري.
قال المنذري في الترغيب والترهيب: (5/167): والظاهر أن هذه القصة اتفقت مرّة مع أبي الهيثم ومرة مع أبي أيوب – رضي الله عنهما -.
[4] اتفق العلماء على أنها كانت محرماً للرسول، عليه الصلاة والسلام، واختلفوا في كيفية ذلك، فقال ابن عبد البر وغيره: كانت إحدى خالاته من الرضاعة، وقال آخرون: بل كانت خالة لأبيه أو جده.
[5] أخرجه البخاري (8/73)، ومسلم (3/1518)، رقم (1912).
[6] الحديث أخرجه الطبراني في الكبير والبيهقي في الشعب، عن سلمان، وصححه الألباني، كما في صحيح الجامع رقم (3072).
[7] أخرجه ابن حبان في صحيحه، وعبد بن حميد، وأبو نعيم في الحلية، عن عائشة، وصححه الألباني كما في صحيح الجامع رقم (6010).(/12)
[8] أخرجه مسلم (4/2059) رقم (1017) من حديث جرير بن عبد الله – رضي الله عنه -.
[9] أخرجه مسلم (1/288) رقم: (384).(/13)
العنوان: شوال
رقم المقالة: 778
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحمد لله الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً ووفق من شاء من عباده لعمارتها بالطاعات المتنوعة ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم وأولئك كان سعيهم مشكوراً وخذل من أعرض عن ذكره واتبع هواه وأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وكان الله على كل شيء قديراً وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله أرسله بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعهم وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد أيها الناس: فقد كنتم ترتقبون مجيء شهر رمضان ولقد جاء شهر رمضان وخلفتموه وراء ظهوركم وهكذا كل مستقبل سوف ينتهي إليه العبد ويصل إليه ويخلفه وراءه حتى الموت أيها الناس ولقد أودعتم شهر رمضان ما شاء الله تعالى أن تودعوه من الأعمال فمن كان منكم محسناً فليبشر بالقبول فإن الله لا يضيع أجر المحسنين ومن كان منكم مسيئاً فليتب إلى الله فالعذر قبل الموت مقبول والله يحب التوابين.
أيها الناس: لئن انقضى شهر الصيام فإن زمن العمل لا ينقضي إلا بالموت ولئن انقضت أيام صيام رمضان فإن الصيام لا يزال مشروعاً ولله الحمد في كل وقت فقد سن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صيام يوم الاثنين والخميس وقال: ((إن الأعمال تعرض فيهما على الله تعالى فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم)) وأوصى أبا هريرة رضي الله عنه بصيام ثلاثة أيام من كل شهر وقال: ((صوم ثلاثة أيام من كل شهر صوم الدهر كله)) وأمر أن تكون هذه الأيام الثلاثة أيام البيض وهي اليوم الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر فمن أمكنه أن يجعل الثلاثة في أيام البيض فهو أفضل وإلا فلو في غيرها.(/1)
ولئن انقضى قيام رمضان فإن قيام الليل مشروع في كل ليلة من ليالي السنة ولله الحمد وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ((أن الله تعالى ينزل إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: ((من يدعوني فأستجيب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له)). فيا عباد الله اتقوا الله تعالى وبادروا أعماركم بأعمالكم وحققوا أقوالكم بأفعالكم واغتنموا الأوقات بالأعمال الصالحات فإن حقيقة العمر ما أمضاه العبد بطاعة الله وما سوى ذلك فذاهب خساراً.
أيها المسلمون: لقد يسر الله لكم سبل الخيرات وفتح أبوابها ودعاكم لدخولها وبين لكم ثوابها.
فهذه الصلوات الخمس آكد أركان الإسلام بعد التوحيد هي خمس في الفعل وخمسون في الميزان مفرقة في أوقات مناسبة لئلا يحصل الملل للكسلان وليحصل لكل وقت حظه من تلك الصلوات فسبحانه الحكيم الديان.
وهذه النوافل التابعة للفرائض اثنتا عشرة ركعة أربع قبل الظهر بسلامين وركعتان بعدها وركعتان بعد المغرب وركعتان بعد العشاء الآخرة وركعتان قبل الفجر من صلاهن بنى الله له بيتاً في الجنة.(/2)
وهذا الوتر سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قولاً وفعلاً وقال: ((إن الله وتر يحب الوتر)) وأقل الوتر ركعة وأكثره إحدى عشرة ركعة ووقته من صلاة العشاء الآخرة إلى طلوع الفجر وهو سنة مؤكدة لا ينبغي للإنسان تركه حتى قال بعض العلماء إنه واجب وقال الإمام أحمد من ترك الوتر فهو رجل سوء لا ينبغي أن تقبل له شهادة وهذه الأذكار خلف الصلوات المفروضة من سبح الله دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين وحمد الله ثلاثاً وثلاثين وكبر الله ثلاثاً وثلاثين فتلك تسع وتسعون وقال تمام المئة لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير غفرت خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر وهذا الوضوء من توضأ فأسبغ الوضوء ثم قال أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء.
وهذه النفقات المالية إذا أنفق الإنسان نفقة يبتغي بها وجه الله أثيب عليها حتى ولو كان الإنفاق على نفسه أو أهله أو ولده وإن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة فيحمده عليها ويشرب الشربة فيحمده عليها والساعي على الأرملة والمساكين كالمجاهد في سبيل الله أو كالصائم لا يفطر وكالقائم لا يفتر والساعي عليهم هو الذي يسعى بطلب الرزق لهم ويقوم بحاجتهم ولا شك أن عائلتك التي لا تستطيع القيام بنفسها من الأولاد الصغار وغيرهم هم من المساكين فالساعي عليهم كالمجاهد في سبيل الله.
فيا عباد الله إن طرق الخير كثيرة فأين السالكون وإن أبوابها لمفتوحة فأين الداخلون وإن الحق لواضح لا يزيغ عنه إلا الهالكون.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج:77]. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.. الخ.(/3)
العنوان: شوقُ وحنين
رقم المقالة: 1220
صاحب المقالة: حميدان بن عجيل الجهني
-----------------------------------------
الحمد لله الكريم المنَّان، وصلى الله وسلم على خير الأنام، وعلى آله وصحبه الكرام، وبعد:
حمدًا لك اللهم على نعمة الإيمان، ولك الحمد على القرآن، ولك الحمد على شهر الصيام، والقيام والبِرِّ والإحسان، فكم تمر بنا الأيام عَجْلى، يطوي بعضها بعضا، ويُنسي يومها أمسها، ونحن في غفلة!
كما قال الله: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ} [الأنبياء: 1-3].
فذاك رمضان المنصرِم منذ حَوْلٍ من الزمان - كأنه أمسٌ القريب؛ لقُرْب العهد به، أو كأنه ما كان لبُعْدِ أثره! وها هو قد أقبل هلال رمضان وليدًا؛ لنستمتع بلذَّة صيامه، وحلاوة قيامه، ونترنَّم بآيات كتابه، ونُرِيقَ دمعةً - ولو كرأس الذُّبابة - نجد حلاوتها في سويداء قلوبنا.
فما أجمل جلسات الإفطار، وما أحلى تفطير الصائمين، وليل رمضان شيءٌ آخر؛ بل ونهاره ما كأنه النهار الذي نعرف!
في رمضان كم نسعد ونحن نرى شفاهً تُتَمْتِم بالذِّكر قائمةً وقاعدةً، وأيدي تمتد بالصَّدقات عَيْنِيَّةً ومادِّيةً، ووجوهٌ ذابلةٌ قد أحاط بها نور الطاعة، كأنها ورقةٌ صفراء، وأختٌ أو زوجةٌ أو بنتٌ تضع قِدرَها على النَّار وهي تقلِّب أوانيها، وتستمع لإذاعة القرآن.(/1)
وما تلبث أن تجد (فرصةً) لتفتح كتاب الله، وتقرأ فيه بعض آياتٍ، ثم تعود لإعداد الفطور؛ فلا نملك إلا أن ندعو الله أن يسقيها من سلسبيل الجنة ورحيقها، ويطعمها من ثمار الجنة، ويمتِّعها بنعيمها، والنفس التوَّاقة تتهيأ لاستغلال أغلى اللحظات، وبذل المجهود لنَيْل أعلى الدرجات، والذهاب بالأجور، وتأمل من ربها الجواد مغفرةً تطهِّرها، ورحمةً تزكِّيها، وعِتقًا من النار يُنْجِيها.
وأبواب الخيرات فيه مُشْرَعَةٌ؛ ليَلِجَ باغي الخير من أيِّ أبواب الجنة شاء حين تُفتّح لطالبيها، وتُصفَّد شياطين الضلالة؛ فلا تبلغ من الغِوَاية ما تريد؛ فيُقْصِر بُغاة الشرِّ، وتُغلَّق أبواب النيران عن هاربيها.
يا لها من فضائل، وأكرِم بها من خصائصٍ لا تفوت إلا على محروم، ولا يُعْرِضُ عنها إلا مذموم.
فلنحاسب أنفسنا، ولنستحثَّها إلى المعالي، ولننافس في الخيرات، ونسابق إلى الجنَّات، ونبادر إلى الصالحات، ولنسارع بتوبة نصوحًا نغسل بها حَوْباتنا، ونمحو بها زلاَّتنا، ونُصلِح بها أحوالنا.
فقد جاء جبريل - عليه السلام - إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو على المنبر، وقال له: ((رغم أنف من بلغه رمضان ثم خرج ولم يُغْفَر له، قل: آمين))؛ فقال - صلى الله عليه وسلم: ((آمين)).
فكم من إنسان سيُرغَم أنفه، ويندب حاله، وتذهب نفسه حسراتٍ، حين لا ينفع الندم، ويقول: {رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون: 99-100].
ومع ذلك كله؛ لا يزال في الناس أناسٌ هم (نوابٌ لإبليس)، جعلوا من أنفسهم دعاةَ ضلالةٍ ورُسُل رذيلةٍ، جمعوا من الصفات أقبحها، ومن الأعمال أسوأها، وتمنوا على الله الأماني؛ فصاروا من الأخسرين أعمالاً، الذين ضلَّ سعيهم في الحياة الدنيا، وهم يحسبون أنهم يُحسنون صنعًا، فيالسوء ما فعلوا، ويالقبح ما اجترحوا.
فلنحذر أن نكون منهم، ولنحذر من زيف باطلهم.(/2)
العنوان: شيخ العربية محمود محمد شاكر
رقم المقالة: 808
صاحب المقالة: د. محمد حسان الطيان
-----------------------------------------
(ولو قد يسَّرَ الله لكل شاعر أو كاتب أو عالم صديقاً وفيًّا ينقله إلى الناس أحاديث وأخباراً وأعمالاً - كما يسَّر الله للرافعي - لما أضلّت العربية مجد أدبائها وعلمائها، ولما تفلّت من أدبها علم أسرار الأساليب، وعلم وجوه المعاني التي تعتلج في النفوس وترتكض في القلوب حتى يُؤذن لها أن تكون أدباً يُصطفى وعلماً يتوارث)
محمود محمد شاكر
وما كان قيسٌ هُلكُه هُلكُ واحِدٍ ولكنَّهُ بُنيانُ قَومٍ تَهَدَّما
شهد عام 1997م رحيل رجالات علم وأئمة بيان وفكرٍ لا نظير لهم ولا خلف عنهم، بدءاً من شيخ نحاة العصر الأستاذ سعيد الأفغاني (18 فبراير/شباط 1997م) وانتهاءً بشيخ أدباء العصر محمود محمد شاكر (7 أغسطس/آب 1997م) ومروراً بشيخ شعراء العصر محمد مهدي الجواهري (29 يوليو/تموز 1997م) وبشيخ مؤرخي العصر د. شاكر مصطفى (1 أغسطس/آب 1997م).
حَلَفَ الزَّمانُ لَيأتِيَنَّ بِمِثلِهِم حَنِثَتْ يَمينُكَ يا زَمانُ فكَفِّرِ
لكنَّ أبعدهم أثراً في حمل راية العربية ونصرتها والدفاع عنها، والذَّود عن حماها، والتَّصدي لمن ابتلاها[1]، أبو فهر محمود محمد شاكر الذي تفرَّد بالسؤدد بعد أن مضى عصرُ العمالقة، وغيَّب الثرى كبار أئمة البيان أمثال الرافعي والعقاد والمازني والزيات ومحمد كردعلي وزكي مبارك وطه حسين، فكان أبو فهر الشاهدَ الوحيد على ذلك العصر، والبقيةَ الباقية لثلَّة نفحت العربية بروح نابضة حيَّة بعد أن أتى عليها حينٌ من الدهر لم تعد شيئاً مذكوراً، ولكم كان يسوءُه هذا التفرُّد فينشد بيت حارثة بنِ بدرٍ الغُداني:
خَلَتِ الدِّيارُ فسُدتُ غيرَ مُسَوَّدٍ ومِنَ الشَّقاءِ تفَرُّدي بالسُّؤدَدِ
ولعلَّ خير عزاء لنا في فقده قول الآخر:
لقد عزَّى ربيعةَ أن يوماً عليها مثلَ يومِكَ لن يَعودا(/1)
لقد كان أبو فهر صاحب بيانٍ لا يُجارى في دنيا الأدب، وأسلوب لا يُبارى في دنيا الكتابة، تقرأ له فتسمو نفسك وتعلو مشاعرك حتى تكاد تلامس نجوم السماء، يأسرك أسلوبه الجزل، ويروعك تركيب جمله وعباراته، ويبهرك روعة استشهاده وحسن تأتِّيه، ويخلبك تخيُّره لمفرداته وانتقاؤه لكلماته:
في نظامٍ منَ البلاغَةِ ما شَكْ كَ امرُؤٌ أنَّهُ نظامٌ فريدُ
بل يصح فيها قول القائل:
هيَ السِّحرُ الحلالُ لمُجتَليهِ ولم أرَ قبلَها سِحراً حَلالا
وإذا وقع الاختيار منه على كلمة غريبة أو غير مألوفة، لم يدعها حتى يشرحها، فإذا ما شرحها استبان لك أنَّ كل مرادفاتها التي قد تخطر في البال لا يمكن أن تفيَ بمعناها، أو أن تحِل محلَّها في بنيان ذلك التركيب. استمع إليه يبيِّن طبيعة ما سمَّاه (مَيدان ما قبل المنهج): ((وأمرٌ النازلين فيه أمر شديد الخطر، يحتاج إلى ضبط وتحرٍّ وحذر، ولا يغرُرك ما غَرِي به (أي أُولع) بعض المتشدقين المموِّهين: أن القاعدة الأساسية في منهجِ ديكارت هي أن يتجرَّد الباحث من كلِّ شيءٍ كان يعلمه من قبلُ، وأن يستقبل بحثه خالي الذهن خلوًّا تامًّا مما قيل [في الشعر الجاهلي: 1] فإنه شيء لا أصل له، ويكاد يكون، بهذه الصياغة، كذباً مصفى لا يشوبه ذرو من الصدق (والذَّرو: دقيق التراب)، بل هو بهذه الصورة خارج عن طوق البشر))[2].
نمط فرد في القراءة والنقد
وكان أبو فهر القارئ الفهم، والمتذوق الحصيف، والناقد المتبصِّر لإبداعات العرب في شتى فنون الفكر والتاريخ والأدب ولاسيما الشعر.
فقد نشأ مشغوفاً بالشعر، منهوماً بالأدب، كلفاً بالتاريخ، وسلخ شبابه يعمل في العربية حتى أمكنته اللغة من قيادها وألقت إليه بأسرارها.(/2)
ولا أحسب أحداً أوتي في ملكة النقد الأدبي وتذوُّق الكلام العربي عموماً والشعر العربي خصوصاً، واكتناه أسراره وتحسس خباياه ودفائنه - بعد الإمام الجرجاني- مثلما أوتي أبو فهر، ومن شاء الوقوف على حقيقة ذلك فليقرأ كتابه (أباطيل وأسمار) حيث قرأ أبو فهر شيئاً من شعر أبي العلاء ففهمه على وجهه، وهدى الناس إلى فهمه، وأماط عنه ما لحقه من أذى أدَّى إليه سوء الفهم ؛ وَلْيقرأ مقالاته التي جعل عنوانها (نمط صعب ونمط مخيف) حيث تناول القصيدة اللامية المنسوبة إلى تأبَّط شرًّا:
إنَّ بالشِّعبِ الذي دونَ سَلْعٍ لَقَتيلاً دَمُهُ ما يُطَلُّ
في سبع مقالات طوال، دار فيها الكلام على كل مسائل التحقيق والعروض وعلاقة البحر العروضي باللغة والمعنى، وتذوق الشعر ونقده، ونقد السند والرجال، وتمحيص الكتب والروايات، وقضية الوحدة العضوية في القصيدة الجاهلية، وترجمة الشعر من لغة إلى لغة.
بل ليقرأ ما كَتب عن سيد شعراء العربية (المتنبي)، حيث أعاد أبو فهر قراءة شعر أبي الطيِّب ليخرج لنا عمود صورته من خلال شعره على نحوٍ يغاير كل ما كتب الناس وألفوا عن المتنبي مذ كان يسعى بينهم حتى يومهم هذا.
واستمع إليه إن شئت يصف منهجه في القراءة وطريقته في التذوق:(/3)
((ويومئذ طويت كلَّ نفسي على عزيمة حذّاء ماضية: أن أبدأ وحيداً منفرداً، رحلة طويلة جدًّا، وبعيدة جدًّا، وشاقّة جدًّا، ومثيرةً جدًّا. بدأت بإعادة قراءة الشعر العربي كلّه، أو ما وقع تحت يدي منه يومئذ على الأصح، قراءة طويلة الأناة عند كلّ لفظ ومعنى، كأنّي أقلِّبُهما بعقلي وأروزهما (أي: أزنهما مختبراً) بقلبي، وأجُسّهما جسًّا ببصري وببصيرتي، وكأني أريد أن أتحسسهما بيدي، وأستنشي (أي: أشُمّ) ما يفوح منهما بأنفي، وأسَّمّع دبيب الحياة الخفيَّ فيهما بأذني، ثم أتذوقهما تذوُّقاً بعقلي وقلبي وبصيرتي وأناملي وأنفي وسمعي ولساني، كأني أطلب فيهما خبيئاً قد أخفاه الشاعر الماكر بفنه وبراعته، وأتدسَّسُ إلى دفين قد سقط من الشاعر عفواً أو سهواً تحت نظم كلماته ومعانيه دون قصد منه أو تعمُّد أو إرادة))[3] أي كلام هذا وأيُّ بيان ؟!!
قراءة لا تحقيق:
وكان أبو فهر المحقق الثبت الذي لا يُشقّ له غبار، بل كان شيخ المحققين كما نعته كثير من علماء عصره، وما أجمل ما وصفه به الأستاذ عباس محمود العقاد حين قال: ((هو على رأس المحققين لأنه أديب فنّان))[4]. أخرج لقراء التراث أسفاراً لا يقوى عليها إلا أمثاله من فحول التحقيق، من أشهرها (طبقات فحول الشعراء) لابن سلاّم في جزأين كبيرين، و(تفسير الطبري) الذي حقق منه ستة عشر جزءاً في كل منها علم غزير هو علم الأوائل الفحول، و(دلائل الإعجاز) للجرجاني في مجلد ضخم ألحق به (الرسالة الشافية في وجوه الإعجاز وأسرار البلاغة) للجرجاني أيضاً، و(تهذيب الآثار) للطبري، و(جمهرة نسب قريش وأخبارها) للزبير بن بكّار.(/4)
وكان في التحقيق أمّة وحده، لم يرتض أن يوصف بالمحقّق وإنما أصرّ على أن يضع على أغلفة ما أخرجه من كتب التراث: (قرأه وشرحه) وكأن في هذه العبارة الحدَّ الفاصل بين طبيعة عمله وطبيعة عمل غيره من أعلام التحقيق. يقول مبيناً ذلك: ((وكذلك نبذتُ أيضاً مُستنكفاً لفظ (حقق، وتحقيق، ومحقّق) وما يخرج منها نبذاً بعيداً دَبْرَ أُذني، لما فيه من التبجُّح والتعالي والادّعاء، واقتصرت على (قرأ) لأن عملي في كل كتاب لا يزيد على هذا، أن أقرأ الكتاب قراءة صحيحة، وأؤديه للناس بقراءة صحيحة، وكلُّ ما أعلّق به عليه فهو شرح لغامضه، أو دلالة للقارئ من بعدي على ما يعينه على فهم الكلام المقروء والاطمئنان إلى صحّة قراءته وصحّة معناه لا أكثر، ولا أقل، إن شاء الله))[5]. إنه يوجّه النص، ويبيّن معناه على نحو يجعل منه النص المحرّر المقروء الميسّر لطلاب المعرفة، ذلك لأنه يصدر عن قراءة ترفدها خبرة عالية موسوعية عميقة بطريقة الكتابة العربية ونمط منطقها وطبيعة أساليبها، وهو إذا مال بالقراءة ناحية معينة أتى شرحه مقارباً، وضبطه مقنعاً، وأفق فهمه واسعاً، فخلع على النص بعض تفسيره، وأصبح كأنّه صاحبه ومبدعه[6].
ولا غرو في ذلك فكلام الشيخ محمود شاكر - كما يقول الدكتور الطناحي - موصول بكلام الأوائل، منتزع منه، ودالٌّ عليه، ومكمّل له، وهو يسير في طريق الفحول من علماء أمتنا المتقدمين لا تخرِم مِشيته مِشية واحد منهم[7].
فن لا يغني عن فن:(/5)
وكان أبو فهر العالم الموسوعي الذي نُشرت أمامه العربية كلُّها فراح يعُبُّ منها ويرفدنا بسيل من المعارف، ففي آثاره ما شئت من فقه باللغة، وبصرٍ بالعربية، وتذوّق للشعر، ومعرفة بالتفسير، ودراية بالحديث، ورواية للأخبار، وتتبُّع للآثار، وحفظ للشواهد، وتمثّل للتاريخ، وتحليل لوقائعه تحليلاً لا يرقى إليه نوابغ المختصين فيه. وإلى هذا كله ذهن لمّاح، وبصر حديد نافذ. وحسن مواتاة أوفى فيه على الغاية، وصار مضرب المثل.
ولا غرو فعلم الأمة عنده كلّ متكامل لا يستغني بعضه عن بعض، ولا يغني فن عن فن.
وكثيراً ما كان يُسأل عن مسائل أعيت أصحابها بحثاً عنها في المظانّ وتنقيراً في المصادر والمراجع فيستخرجها من غير مظانِّها.
تحسّس دبيب المكر الخفي:
والأستاذ شاكر - فوق ذلك كلّه وقبل ذلك كله - قلب نابض بحبِّ أمته وتحقيق آمالها، وعقل واعٍ لتاريخها وثقافتها، وعينٌ راصدة لعالمها المتراحب، وحارس أمين يحرسُها من كلِّ خطر دقّ أو جلَّ، ومن كل عدو تخفّى أو تبدّى.
يقول في مقدمة تحقيقه لدلائل الإعجاز: ((وأسأله أن يُعينني على ما أقحم نفسي فيه من عمل أريد به وجهه سبحانه، ثم ما أضمره من خدمة هذه اللغة الشريفة النبيلة التي شرّفها الله وكرّمها بتنزيل كتابه بلسان عربي مبين))[8].
ونذر نفسه لفضح ما دُسّ من دسائس، وما حيك من مؤامرات، وما دُبّر من مكر ضدّ هذه الأمة وتاريخها ورجالاتها ودينها ولغتها.
وكان شعاره في ذلك قول رسول الله:
((ألا لا يمنعنَّ رجلاً هيبة الناس أن يقول بحقٍّ إذا علمه))[9].
هاهو ذا يصف تحسُّسه لدبيب المكر الخفي يتسرّب من وراء سطور قرأها: ((ولكني كنت امرأ نهماً يأخذه للكلام المكتوب سُعار، فتناولت الصحيفة وبدأت أقرأ سطراً بعد سطر، وكان الضحك يشقُّ عن حلقي، ويباعد بين فكي.. حتى فوجئت بشيء أمسك عليَّ ضحكي، وكظمه في بلعومي، شيء سمعت حسّ دبيبه من تحت الألفاظ، فجعلت أستسمِعُه فإذا هو:(/6)
كَشيشُ أفعى أجمَعَت لعَضِّ فهيَ تحُكُّ بَعضَها ببَعضِ[10]
وفي كلامه هذا من لطافة الحسِّ، وخفة الروح، ورحابة النفس ما لا يخفى على أحد، وهذا ديدنه وهجِّيراه في كلِّ ما كتب، فروح الفكاهة لا تكاد تخطئه، ولو كان يهجو ويشتُم[11] وقد أعانه عليها استحضارٌ للشواهد عجيب، وتمثّلٌ للأمثال غريب، وقلب واعٍ، وفؤاد ذكيّ لمّاح، وفيضٌ من عذوبة ماء النيل الذي حبا الله به مصر وأهل مصر.
يقول بعد أن فضح أساليب المستشرقين وغطرستهم المتعالية معلّلاً غفلة أحدهم عن كتاب كان منه على طرف الثُّمام: ((ولكنَّ العلة في الحقيقة هي أن الأهواء الكامنة المتسترة تحت التعالم تارة، وتحت التظاهر بالإنصاف تارة أخرى، هي من الحدّة والشراسة بحيث تجعل العقل المستشرق يمشي في كتب لغة العرب، بصفة أبي النجم التي وصف بها نفسه عندما يخرج من بيت صديقه زياد ثملاً يترنح:
أخرُجُ مِن عندِ زيادٍ كالخَرِفْ تخُطُّ رِجلايَ بخَطٍّ مُختلِف
كأنّما تُكَتِّبانِ لامَ الفْ[12](/7)
ويقول بعد أن قرأ مقالة المستشرق مرجليوث عن الشكل في الشعر الجاهلي في مجلة الجمعية الملكية الآسيوية: ((ثم بعد أيام لقيتُ أحمد تيمور باشا، وأعدتُ إليه المجلة، فسألني: ماذا رأيت ؟ قلتُ: رأيت أعجميًّا بارداً شديد البرودة، لا يستحي كعادته ! فابتسم وتلألأت عيناه، فقلتُ له: أنا بلا شكٍّ أعرف من الإنجليزية فوق ما يعرفه هذا الأعجم من العربية أضعافاً مضاعفة، بل فوق ما يمكن أن يعرفه منها إلى أن يبلغ أرذلَ العمر، وأستطيع أن أتلعّب بنشأة الشعر الإنجليزي منذ شوسر إلى يومنا هذا تلعُّباً هو أفضل في العقل من كل ما يدخل في طاقته أن يكتبه عن الشعر العربي، ولكن ليس عندي من وقاحة التهجّم وصفاقة الوجه، ما يسوِّل لي أن أخط حرفاً واحداً عن نشأة الشعر الإنجليزي. ولكن صروف الدهر هي التي ترفعُ أقواماً وتخفض آخرين، قد أنزلت بنا وبلغتنا وبأدبنا ما يبيح لمثل هذا المسكين وأشباهه من المستشرقين أن يتكلموا في شعرنا وأن يجدوا فينا من يستمع إليهم، وأن يجدوا أيضاً من يختارهم أعضاء في بعض مجامع اللغة العربية !!))[13].
وأبو فهر - كما هو بيّن - من أعلم الناس بمواطن السخرية في الكلام، كيف تكون ؟ ومتى تكون ؟ ومع من تكون ؟ وقلّ من الكتّاب من يجيدها أو يتقنها، لأنها كما يقول: ((من أشقِّ ضروب الكتابة، وليس يغني فيها أن يشتري المشتهي قلماً بقرش، وورقاً بقرشين، فإذا هو كاتب ساخر..))[14].
تربية الرجال:
وكان أبو فهر - أحسن الله جزاءه - أستاذاً إماماً تخرّج به رجال صاروا ملء السمع والبصر علماً وفضلاً، ورواية ودراية، في شتى صنوف المعرفة اللغوية والأدبية والتاريخية والنقدية.
يَبني الرِّجالَ وغيرُه يَبني القُرى شَتَّانَ بينَ قُرًى وبينَ رجالِ(/8)
فقد خلص إليه طلاب العلم وروَّاد المعرفة ينهلون من معينه، ويهتدون بسديد رأيه، ويسترشدون بطويل خبرته ونفاذ بصره وبصيرته، يفزعون إليه في مشكلاتهم، ويفيدون من خزائن كتبه ونفائس مخطوطاته ونوادر مقتنياته. وكان شيخنا النفاخ واحداً منهم. وهو الذي يقول في تقديم ما صنعه من ديوان ابن الدمينة: ((ولا يسعني في ختام هذه الكلمة إلا أن أتقدَّم بأعمق الشكر إلى الأخ الكبير العلاَّمة الراوية المحقق الأستاذ محمود محمد شاكر الذي طالما أفدت من علمه ومكتبته - لا زالت معمورة - وطالما فزعت إليه فيما اعترضني من مشكلات، فكان لي من علمه الجمّ وبصره النافذ خير معين))[15].
وهكذا غدا بيته مثابة للعلماء والباحثين، وقبلة لعشّاق العربية ودارسيها، أَمُّوه من كل مكان على اختلاف أوطانهم وأعمارهم واختصاصاتهم وميولهم وانتماءاتهم ومشاربهم، فانتفعوا بعلمه، وصار لكثير منهم به نباهة وشأن وذكر.
فمن سورية أستاذنا العلامة أحمد راتب النفاخ رحمه الله، وهو الذي عرّفنا فضل الأستاذ شاكر وسَبْقه، ودلَّنا على آثاره، وأتاح لنا الاطلاع على بعض ما لم يكن مطبوعاً منها في كتاب[16].
ومنهم أستاذنا الكبير الدكتور شاكر الفحام رئيس مجمع اللغة العربية بدمشق حفظه الله وعافاه، والأستاذ الدكتور إحسان النص نائب رئيس المجمع، والأستاذ الدكتور مازن المبارك والأخ الدكتور عز الدين البدوي النجار. وغيرهم كثير.
ومن السعودية علاّمة الجزيرة الأستاذ حمد الجاسر (وهو صنو الأستاذ وقرينه)، والأستاذ الدكتور عبد الرحمن بن سليمان العثيمين، والأستاذ الدكتور عبد الله العسيلان. وغيرهم كثير.
ومن الكويت الأستاذ الدكتور يعقوب يوسف الغنيم وزير التربية والتعليم الأسبق وشقيقه الأستاذ الدكتور عبد الله يوسف الغنيم وزير التربية الحالي[17]، والأستاذ الدكتور عبد الله محارب، والأستاذ جمعة محمد الياسين، والأستاذ جاسم المطوّع.. وغيرهم كثير.(/9)
ومن الأردن الأستاذ الدكتور ناصر الدين الأسد وزير التعليم العالي، والأستاذ الدكتور محمد حسن عواد وغيرهما.
ومن العراق الأستاذ الدكتور عبد الله الجبوري، والأستاذ الدكتور إبراهيم السامرائي، والدكتور نوري القيسي والدكتور بشار عواد.. وغيرهم كثير.
ومن فلسطين الأستاذ الدكتور إحسان عباس وغيره.
ومن المغرب الأستاذ الدكتور محمد بن شريفة وغيره.
ومن تونس الأستاذ الدكتور إبراهيم شبوح وغيره.
ومن أرض الكنانة خلق لا يحصون، أذكر منهم الأستاذ الدكتور محمد رشاد سالم، والأستاذ الوزير فتحي رضوان، والأستاذ الوزير الدكتور حسن الباقوري، والشاعر حسن كامل الصيرفي، والأستاذ الدكتور حسين نصار، والروائي المعروف الأستاذ يحيى حقي، والشاعر محمود حسن إسماعيل، والأستاذ الدكتور محمود الطناحي، والأستاذ العروضي الحساني حسن عبدالله، والأستاذ الأديب عبد الحميد البسيوني، والأستاذ الدكتور محمود الربيعي.. وغيرهم وغيرهم كثير كثير[18].
وكان أبو فهر - أكرم الله مثواه - حفيًّا بأصحابه وإخوانه، وفيًّا لعهدهم برًّا بهم، ألوفاً لصحبتهم، كالذي قال أبو الطيّب:
خُلقتُ أَلوفاً لو رَجَعتُ إلى الصِّبا لَفارَقتُ شَيبي مُوجَعَ القلبِ باكِيا
يتبدى ذلك جليًّا في حاله ومقاله، وحلِّه وترحاله، ويعرف ذلك عنه كلُّ من قرأ له عن بعد أو من زاره فعرفه من كثب وقرب، أو دنا منه ووصل سببه بأسبابه فجالسه وخالطه، وآكله وسامره وأكرِم به من جليس، وأعظِمْ به من عشير.(/10)
ولعل خير شاهد على برِّه بشيوخه ما كان من موقفه لدى وفاة أستاذه الرافعي، فقد بلغ به الأمر أن أوقف معركته المشهورة مع الدكتور طه حسين، يقول في مقدمة الجزء الثاني من كتابه المتنبي: ((ثم لم أثبت شيئاً مما كتب عن كتابي هذا مما فيه ثناء عليه لقلَّة انتفاع هذا الجيل به، إلا كلمةً واحدةً أثبتها، لا لما فيها من ثناء، بل لأنَّ صاحبها كان أستاذي وصديقي، ولأن وفاته كانت أحدَ الأسباب الداعية إلى ترك الاستمرار في نقد كتاب الدكتور طه، رحم الله الرافعيَّ، وغفر له، ولنا جميعاً))[19].
وهو في هذه المقدمة نفسها يضرب أروع الأمثلة في نسبة الفضل إلى أهله، والثناء على أصحابه، وإن كانوا من طلاّبه:
((... وأما التراجم الثلاث الأخر فقد بيّنتُ أمرهن في مقدمة الطبعة السابقة، وكان الفضل كل الفضل في الوقوف على هذه التراجم الثلاث الأخيرة مصروفاً إلى أخي وصديقي الأستاذ الجليل أحمد راتب النفاخ عضو مجمع اللغة العربية بدمشق، نقل بعضها قديماً بخطّه، وصوّر لي بعضها. وشكري له لا يفي بقليل كرمه، فكيف بالكثير الذي غمرني به آسياً ومُواسياً في كل ضرّاء لحقتني، أو آتياً ومواتياً في كل سرّاء زادها بهجة إسراعه إليَّ، وهو أنا، وأنا هو، أطال الله بقاءه ونفع به))[20].
أسمعتم شيخاً يشكر تلميذه بمثل هذا الضرب من التبجيل والتكريم والحفاوة والتعظيم ؟!
إنه كرم في النفس وسموٌّ في البيان يفوق كل وصف أو تقدير، بل لقد وصل به الأمر إلى أن سمّاه - أي الأستاذ النفاخ - أستاذه في موضع آخر من الكتاب نفسه حيث يقول: ((وذات يوم دخل عليّ يتهلَّل وجهه، وتنير أساريره صديقي وتلميذي، وأستاذي فيما بعد، الأستاذ أحمد راتب النفاخ، وهو اليوم عضو مجمع اللغة العربية بدمشق، ومدّ يده بورقات مكتوبة بخطه..))[21].
فلسفته في إتقان العمل:(/11)
وكان الإتقان ديدنه في الحياة، حين يكتب، وحين يحقق، وحين يبدع، وحين ينقل إلينا إبداع المبدعين، بل حين يُزاول أيّ عمل من الأعمال، حتى صار كما قال في مقدمة (القوس العذراء): ((وإذا كلُّ عمل يفصم عنه متقناً، وكأنّه لم يجهد في إتقانه، وإذا هو مشرف فيه على الغاية، وكأنه مسلوب كلّ تدبير ومشيئة، ولكنه لا يفصم عنه حين يفصم، إلا مطويًّا على حُشاشة من سرِّ نفسه وحياته، موسوماً بلوعة مُتضرِّمة على صبوة فنيت في عشرته ومعاناته))[22].
وما قوسُه العذراء هذه سوى عصارةِ فلسفته في إتقانه العمل:
ما هيَ قوسٌ في يَدَيْ نابِلٍ وإنَّما ألواحُ سِحرٍ نَزَلْ[23]
وذلك لأنه استلهمها من عمل رجل أتقن عمله حتى أوفى به على الغاية، إنه عامرٌ أخو الخُضر الذي جاء وصفه في قصيدة الشماخ رجلاً يتعيش بكدِّ يديه، صابرَ الفاقةَ عامين، ثم شمّر عن ساعد الجدِّ فتخيّر قوساً من أطيب الشجر وأحسنه، وتوفّر عليها، فأحسن قطعها وصنعها وتمظيعها [ أي وضعها في الشمس لتشرب ماء لحائها ] وتثقيفها وتقويمها وذوقها مختبراً شدّتها ولينها، حتى إذا استوت في يديه آيةً في الإبداع:
إذا أنبَضَ الرامُونَ عَنها تَرنَّمَتْ تَرَنُّمَ ثَكْلى أَوجَعَتها الجَنائِزُ
وافى بها أهل الموسم، فأغراه مقتنصٌ خبير رائز للنفائس بما بهره، وكاد يُنسيه ما عانى من صنعها وكابد في إتقانها، ولكنه تماسك وجعل يناجي نفسه متردّداً بين بؤس مخلٍّ وثراءٍ مذلٍّ، بين حنين تخالطه الفاقة والفقر وأنين دونه النُّعمى والغنى:
يَرى نِعمةً لَبِسَتْ نِقمَةً ونُوراً تَدَجَّى وسِحراً بَطَل[24]
وقطع عليه ترددَه أصواتٌ أحاطت به من كل ناحية تستحثه على البيع فباعها، وما إن شعر بفقدها حتى بكاها (وفي الصَّدر حزَّازٌ منَ الوَجدِ حامِزُ).(/12)
وصف الشماخ هذا القوّاس وقوسه فأجاد الوصف، ولا غرو فهو أحد الشعراء الوصّافين، أُنشِدَ الوليد بنُ عبد الملك شيئاً من شعره في صفة حُمُرِ الوحش فقال: ((ما أوصفَه لها ! إنّي لأحسَب أحدَ أبويه كان حماراً))[25].
وقرأ أبو فهر ما جاء في هذا الوصف فافتُتن به، أعجب بالواصف كما أعجب بالموصوف، وفيه يقول: ((لم أعرفه، ولكن حدثني عنه رجل مثْلُهُ، عملُهُ البيان، ذاك فطرته في يديه، وهذا فطرتُه في اللسان))[26] وكان أن عمد إلى هذا المقطع من قصيدة الشمّاخ - في وصف القوس وصاحبها - ذي الثلاثة والعشرين بيتاً فاستلهم منها بيانها الحافل، وتذوّقها غائصاً في أغوار دلالة ألفاظها وتراكيبها ونظمها، فأثار بهذا التذوق دفائن نظمها ولفظها، واستدرج خباياها المتحجِّبة من كامنها، وأماط اللثام عن أخفى أسرارها المكتّمة وأغمض سرائرها المغيّبة، فبعثها من مرقدها ضمن قصيدة تزيد على ثلاث مئة بيت، كلُّ ما فيها نبيثة مستخرجة من بيان أبيات الشمّاخ ومن رِكاز نظمها وكلماتها[27].
وكان أبو فهر يتوخّى في كل ما يعمل وجه ربه، ويرجو أن يكون عمله خالصاً له لا تشوبه شائبة من أمر الدنيا، أحسبه كذلك - وعلى هذا مدار عمله كله - ولا أزكي على الله أحداً، يتبدّى ذلك جليًّا في كل ما كتب وحقق وأخرج للناس، ولعل خير ما يجلو هذا المعنى كلمته في مستهل تحقيقه لتفسير الطبري:
((وبعد فقد بذلت جهدي، وتحرّيت الصواب ما استطعت، وأردت أن أجعل نشر هذا الكتاب الإمام في التفسير، زُلفى إلى الله خالصة. ولكن كيف يخلص في زماننا عمل من شائبة تشوبه ! فأسأل الله أن يتقبّل مني ما أخلصت فيه، وأن يغفر لي ما خالَطَهُ من أمر هذه الدنيا، وأن يتغمّدني برحمته يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم...))[28].
خاتمة:(/13)
وبعد، فإن أبا فهر أعظم من أن يحيط بفضله مقال، أو يحصي مناقبَه ويُعدّد مزاياه كتاب أو خطاب، وكم في القلب من معنى أجدني عاجزاً عن التعبير عنه، وكم في النفس من شعور لم يستطع قلمي أن يترجمه كلاماً يكتب أو بياناً يُؤثر. إنها مشاعر كل محبّ للعربية وأهل العربية، وما أحسن ما عبّر أبو فهر عن مثل هذا بقوله:
((وقد وجدت في نفسي شيئاً طلبت الإبانة عنه فلا أدري أأحسنت أم أسأت، أبلغت أم قصرت، وما كل ما تحسُّه واضحاً في نفسك تستطيع أن تحسن الإبانة عنه، ورحم الله إمامنا الشافعي فقد قال عندما سئل عن مسألة: إني لأجد بيانَها في قلبي ولكن ليس ينطلق بها لساني))[29].
وأنت يا أبا فهر، كأنّي بأبي العلاء المعري ما يعني إلاّك في قوله:
مِنَ الناسِ مَن لَفظُهُ لُؤلؤٌ يُبادِرُهُ اللَّقطُ إذ يُلفَظُ
ويعني شانئيك من دعاة الحداثة والتجديد وتمزيق التركيب العربي وكسر رقبة الشعر العربي بقوله:
وبَعضُهُم قَولُه كالحَصا يُقالُ فيُلغى ولا يُحفَظُ
ستبقى آثارك الرائعة شاهدَ صدق على علمك وعلوِّ بيانك، وحجّةَ حقٍّ على إيمانك وجهادك، وأرجو أن تكون زُلفى لك عند ربك تنال بها رضاه، وتبلغ بها غايتك وسؤلك.
{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [ الأحزاب: 23 ].
رحمك الله الرحمة الواسعة وأجزل لك الأجر والمثوبة.
ــــــــــــــــــــــــ
[1] أي: من ابتلاها بسوء، والبلاء يكون في الخير والشر، يقالُ: ابتليته بلاءً حسناً وبلاءً سيئاً، والله تعالى يُبلي العبدَ بلاءً حسناً ويُبليه بلاءً سيئاً، نسأل الله تعالى العفو والعافية.
[2] رسالة في الطريق إلى ثقافتنا، ص 41.
[3] المرجع السابق، ص7.
[4] دراسات عربية وإسلامية، ص610.
[5] برنامج طبقات فحول الشعراء، ص158.(/14)
[6] الشيخ الذي لم يكن تقليدياً، للدكتور محمود الربيعي، مجلة العربي العدد (469).
[7] من كلمة للدكتور محمود الطناحي في مقدمة كتاب الشعر لأبي علي الفارسي، 1/69.
[8] مقدمة دلائل الإعجاز، صفحة ل.
[9] رسالة في الطريق إلا ثقافتنا، ص5. وثمة تخريجه.
[10] أباطيل وأسمار، ص11 - 12.
[11] كان العقاد يقول: ((إن مفتاح شخصية الكاتب أو الأديب هو روح الفكاهة عنده))، وقد شهد أن حظ الأستاذ محمود شاكر منها عالٍ زائد، انظر مقدمة الدكتور الطناحي لكتاب الشعر، 1/56، حاشية رقم (1).
[12] برنامج طبقات فحول الشعراء، ص124.
[13] المتنبي، 1/12.
[14] نمط صعب ونمط مخيف، ص391.
[15] ديوان ابن الدمينة، ص7.
[16] أطلعني رحمه الله على كتاب المتنبي يوم لم يكن منه نسخة واحدة في السوق، وكان الأستاذ محمود قد خصّه بعدد من النسخ، وأعارني - أحسن الله مثوبته - مقالاته السبع (نمط صعب ونمط مخيف) وأشفق عليّ آنذاك من وعورة مسالكها وصعوبة نمطها.
[17] كان ذلك عند كتابة المقال، أما اليوم فهو مدير مركز البحوث والدراسات الكويتية.
[18] أعتذر عن الإحاطة بهم جميعاً، فالمقام والمقال لا يتسعان لكل هذا، وهم حفظهم الله أجلُّ من أن يعتبوا.
[19] المتنبي، 2/395.
[20] المتنبي، 2/396.
[21] المتنبي، 1/54.
[22] القوس العذراء، ص 28 - 29.
[23] من قصيدة (فيها) للشاعر محمود حسن إسماعيل، القوس العذراء، ص8.
[24] القوس العذراء، ص 67.
[25] القوس العذراء، ص 10.
[26] القوس العذراء، ص 30.
[27] رسالة في الطريق إلى ثقافتنا، ص 27.
[28] مقدمة تفسير الطبري، 1/20.
[29] نمط صعب ونمط مخيف، ص116.(/15)
العنوان: شين بلال لم تكن سيناً قط!!!
رقم المقالة: 877
صاحب المقالة: د. حيدر عيدروس علي
-----------------------------------------
شين بلال لم تكن سيناً قط.
وسائر الحروف عنده محققة!!!
لقد سررتُ كثيراً بدخولي - عبر الشَّبكة الأثيرية - إلى "موقع معهد مبارك قسم الله للبحوث والتدريب"، لمعرفتي بالعلامة مبارك قسم الله زايد - رحمه الله، وتقبل بذله في العاملين - فقد كان الرجل ركناً شديداً من أركان العمل الإسلامي في السودان، وإفريقيا، والعالم، وعلى عاتقه وعواتق المهتمين قامت منظمة الدعوة الإسلامية في أحلك الظروف، فقادها حتى استغلظت واستوت، وقد شهد المقربون منه بأنه كان عفَّ اليدِ، واللسانِ، وكان آيةً في الزهد، وكان ممن يدل على الله حالُه، قبل مقاله، فنسأل الله أن يتقبله في المخلصين، ولقد أحسن من اقترح إنشاء معهد باسمه بعد وفاته تقديراً لجهوده، وتعبيراً عن الوفاء لشخصه، على الرغم من أنه لم يكن يهتم لذلك أبداً، فقد تعلقت همته بما هو أرفع، نحسبه كذلك، والله حسيبه، ونسأل الله أن يكون قد حقق مبتغاه.
وكان من ضمن ما قرأت في موقع معهد مبارك قسم الله مقالةً، أضيفت في شهر الله المحرم من هذا العام، بعنوان: ((وفي ذكرى الهجرة النبوية - إن سين بلال عند الله شين!!))، كتبتها إحدى الداعيات، وقد حاولتِ الكاتبةُ أن تجد عذراً لعُجمةِ الطلاب الذين لا يجيدون العربية في نطقهم للآيات القرآنية، فاستشهدت بما تداوله الناس من قولٍ كذبٍ: ((إن سين بلال عند الله شين!!))، وقد أساءت الكاتبة من حيث أرادت الإحسانَ؛ إن كانت كما نظن.(/1)
وإساءتها إساءةٌ مركبةٌ؛ إذ ذكرتْ حديثاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يُحَدِّثْ به أبداً!! وهو حديث: ((إن سِينَ بلالٍ عند الله شِين))، وذلك في الشهادتين في الأذان، وذكره آخرون بقولهم: ((إن بلالاً يبدل الشين سيناً))، وهذا أمرٌ جللٌ، قد يقع فيه كثيرٌ من الناس، وهم لا يشعرون؛ لكونه كذباً على النبي - صلى الله عليه وسلم - فكيف يكل الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - الأذانَ إلى بلال؛ إذا كان لسانُه غير مستقيم، وفي الصحابة من هو أفصح منه، وفي المدينة اليهود، والذين كفروا؛ ممن كانوا يتربصون للنفاذ من أية ثغرة من شأنها أن تكون منفذاً للطعن والإزراء بالإسلام والمسلمين؟؟!!
والذي يقرأ في الحديث النبوي الشريف يعرف قدر بلالٍ - رضي الله عنه - ويعرف أنه كان فصيحَ اللسان، نديَّ الصوت؛ فقد روى أبو داود، من حديث عبد الله بن زيد، قال:(/2)
((لما أَمَر رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بالناقوس يُعمَلُ، ليضرب به للناس لجمع الصلاة؛ طاف بي - وأنا نائم - رجلٌ يحملُ ناقوساً في يده، فقلت: يا عبد الله! أتبيع الناقوس؟ قال: وما تصنع به؟ فقلت: ندعو به إلى الصلاة. قال: أفلا أدلك على ما هو خير من ذلك؟ فقلت له: بلى! قال: فقال: تقول: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله. قال: ثم استأخر عني غير بعيد، ثم قال: وتقول إذا أقمت الصلاة: الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله. فلما أصبحت أتيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته بما رأيت. فقال: ((إنَّهَا لَرُؤْيا حَقٍّ - إن شاءَ اللهُ - فَقُمْ مَعَ بِلالٍ، فَأَلْقِ عَلَيهِ مَا رَأَيْتَ، فَلْيُؤَذِّنْ بِهِ، فَإِنَّهُ أَنْدَى صَوْتاً مِنْكَ)). فقمت مع بلال، فجعلت ألقيه عليه ويؤذن به، قال: فسمع ذلك عمر بن الخطاب - وهو في بيته - فخرج يجرُّ رداءَه، ويقول: والذي بعثك بالحق - يا رسول الله - لقد رأيتَ مثل ما رأى، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((فلله الحمد!)).
قال أبو داود: هكذا رواية الزهري عن سعيد بن المسيب، عن عبد الله بن زيد، وقال فيه ابن إسحاق، عن الزهري: ((الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر))، وقال معمر ويونس، عن الزهري فيه: ((الله أكبر، الله أكبر)) لم يثنيا[1].
وفي هذا ما يؤكد أن بلالاً - رضي الله عنه - كان فصيحاً، نديَّ الصوت.(/3)
أما معرفتُه بالعربية، ومقدرتُه على نظم الشعر؛ فيدل عليها ما أخرجه البخاريُّ في الصحيح، عن أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: ((لما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينةَ وُعِك أبو بكرٍ وبلالٌ، قالت: فدخلتُ عليهما فقلت: يا أبتِ! كيف تجدك؟ ويا بلالُ كيف تجدك؟ قالت: فكان أبو بكر إذا أخذته الحمى، يقول:
كلُّ امرئٍ مُصبَّحٌ في أَهلِهِ والموتُ أدنَى من شِراكِ نَعْلِهِِ
وكان بلالٌ إذا أقلعَ عنه يرفعُ عقيرتَه[2]، ويقول:
أَلا ليت شِعري هل أَبيتنَّ ليْلةً بِوَادٍ وحَوْلي إِذخَرٌ وجَلِيلُ
وهل أَرِدَنْ يوماً مِياه مَجنّةٍ وهل يبدوَن لي شَامَة وطَفِيلُ
قالت عائشةُ: فجئتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته فقال: ((اللهمَّ! حَبِّبْ إِلَيْنَا المدينةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أو أَشَدَّ، وَصَحِّحْهَا، وَبارِكْ لَنَا في صَاعِهَا وَمُدِّهَا، وَانْقُلْ حُمَّاهَا فَاجْعَلْهَا بِالجُحْفَةَ))[3].
ولئن أحب بلالٌ - رضي الله عنه - مكةَ المكرمةَ، وعَبَّر عن هذا الحب (بالشعر)؛ فهذا يدل على أنها وطنه، وفيها نشأ، ومن نشأ في بلد أجاد لغة قومه وإن لم يكن أصله منهم، ولم يكن حبه لمكة بأكثر من حبه للنبي- صلى الله عليه وسلم - وبادله النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الحبَّ ذاتَه، فجعله أمينَ المال، ووَكَل إليه الأذانَ، والناسُ يعرفون فضلَ من يُنْتَدب إلى أمانةِ المال، وأمانةِ الأذان، فماذا لو كان المنتدِب هو رسولُ الله صلى الله عليه وسلم؟ ومن الصحابة من تمنى الأذان لنفسه!(/4)
وقد سَعِدَ بلالٌ - رضي الله عنه - في حبه هذا، فلما انتقل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلى الرفيق الأعلى، قلى بلالٌ - رضي الله عنه - القَرارَ في المدينة؛ إذ الناسُ إليها يزِفُّون؛ لأن وَجْده كان فيَّاضاً، ورحابُ المدينةِ تُذكِّرُهُ الحبيبَ، فلم يقدر على العيش فيها! بل لم يقدر حتى على الأذان! وهو مَن قد عُرف بحرصه على الخير، وعلى الأجرِ.
وعن هذا الحب روى ابنُ سعدٍ، عن إبراهيم التيمي، قال: ((لما تُوفِّيَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أذَّنَ بلالٌ، ورسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لم يُقبر، فكان إذا قال: أشهدُ أنَّ محمداً رسولُ الله، انتحبَ[4] الناسُ في المسجدِ، قال: فلما دُفِنَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال له أبو بكر: أذِّن! فقال: إن كنتَ إنما أعتقتني لأن أكونَ معكَ؛ فسبيلُ ذلك، وإن كنت أعتقتني لله؛ فَخَلِّني وَمَنْ أعتقتني له! فقال: ما أعتقتك إلا لله! قال: فإني لا أُؤَذِّنُ لأحدٍ بعدَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم! قال: فذاك إليك، قال: فأقام حتى خرجتْ بعوثُ الشام، فسارَ معهم، حتى انتهى إليها))[5].
ووقع في تاريخ دمشقَ للحافظ ابن عساكرَ في أخبار بلالٍ - رضي الله عنه - إتماماً لهذا السياق: ((فلم يزلْ مجاهداً؛ حتى فتحَ اللهُ عليهمُ الشامَ، وقدمَ عمرُ بنُ الخطابِ - رضي الله عنه - الجابيةَ[6]، فسأل المسلمونُ عمرَ مسألةَ بلالٍ بالأذان لهم، ليسمعوا تأذينه، ففعل عمرُ، وأَذَّنَ بلالٌ يوماً واحداً، أو قالا[7]: أَذَّنَ لصلاةٍ واحدةٍ، فما رُئِيَ أكثر باكياً من بكاء المسلمين يومئذ بالجابية، أَذْكَرَهم رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وما كانوا يسمعون من تأذينه له، وعرفوا من صوتِهِ، فلم يزلِ المسلمونَ بالشامِ يقولون: إن تَأْذِينَهم هذا الذي هُم عليه مِن تأذينِ بلالٍ يومئذ))[8].
وهذا دليل آخر على أن شين بلال ليست مهملة!
والأمر الثاني:(/5)
أن الكاتبة اعتذرت عن اللُّكْنَةِ في القراءةِ وهي - في واقع الأمر - ليست مما يُعْتَذَرُ منه؛ لأنها عَرَضيةٌ، تزولُ بالتعلُّمِ، فإن هؤلاء الذين ذكرتهم سيصبر عليهم شيخُهم إلى أن يتقنوا القراءة الصحيحة، والشواهد على ذلك كثيرة، ومسابقات القرآن الكريم العالمية التي تعقد في أنحاء العالم الإسلامي تؤكد ذلك، فكثير من حفظة كتاب الله - من شتى بلاد المسلمين - ممن لا يعرفون اللغة العربية؛ تجدُهم يقرؤون القرآن قراءةً صحيحةً لا لُكْنَةَ فيها، أما معانيه فتجدهم لا يعرفون منها إلا اليسير اليسير! بل لو طلبت من أحدهم التحدثَ باللغة العربية فربما تجده لا يتكلم بها إلا قليلاً، وبلُكنة ظاهرة، فإذا قرأ القرآن كان عجباً في الطلاقة.
أما الحديث المنسوب للنبي - صلى الله عليه وسلم - في سين بلال - رضي الله عنه - فقد رده علماء الحديث:
قال الإمام الزركشي في "التذكرة في الأحاديث المشتهرة": (قال الحافظ جمال الدين المِزِّيُّ: اشْتُهرَ على ألسنة العوامِّ أن بلالاً - رضي الله عنه - كان يبدل الشين في الأذان سيناً، ولم نره في شيء من الكتب. قال الزركشي: كذا وجدته عنه[9]، بخط الشيخ برهان الدين السفاقسي)[10].اهـ.
وقال المُلَّا علي بن سلطان القارئ في "الأسرار المرفوعة": (قال المِزِّيُّ - فيما نقله عنه البرهان السفاقسي -: إنه اشتهر على ألسنة العوام، ولم نره في شيء من الكتب)[11].اهـ.
وقال العجلوني في "كشف الخفاء ومزيل الإلباس": (قال في الدرر: لم يرد في شيء من الكتب، وقال القارئ: ليس له أصل، وقال البرهان السفاقسي - نقلاً عن الإمام المِزِّيِّ-: أنه اشتهر على ألسنة العوام، ولم يرد في شيء من الكتب)[12].اهـ.(/6)
قال حيدر: إذا قال الإمام المِزِّيُّ فصدقوه؛ فإن القولَ ما قال الإمامُ. فالإمام المِزِّي - لمن لا يعرفه - هو مصنف كتاب تهذيب الكمال في أسماء الرجال، وهو كتابٌ في الجرح والتعديل لرواة أحاديث الكتب الستة؛ البخاري، ومسلم، وسنن أبي داود، وجامع الترمذي، وسنن النسائي، وسنن ابن ماجة، وقد ذكر روايات هذا الجمع الغفير من الأعلام في الكتب الستة هذه، وفي غيرها من دواوين السنة، وله كتابٌ ثانٍٍ هو: ((تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف)) ذكر فيه أطراف الكتب الستة، وهذان الكتابان من الكتب العظيمة النفع، وهما كتابان لا غنى لطالب الحديث عنهما، وقد توفي في سنة اثنتين وأربعين وسبع مئة هجرية.
إن في عدم ظهور هذا الحديث في الكتب حتى عهد الإمام المِزِّي يوضح أنه حديث لا أصل له، وهو من الموضوعات المتأخرة، فرضي الله عن بلال الذي سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم خَشْفَ نعْلَيْه بين يديه في الجنة، بحرصه على الطهارة، والنوافل، وهو ما رواه الشيخان؛ البخاري، ومسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم لبلالٍ عندَ صلاةِ الغداة: يا بلالُ حدِّثْني بأرجَى عملٍ عملتَهُ عندَكَ في الإسلامِ منفعةً فإنِّي سمعتُ الليلةَ خَشْفَ نعْلَيْكَ بينَ يديَّ في الجنَّةِ؟ قال بلالٌ: ما عملتُ عملاً في الإسلامِ أرجى عندي منفعةً من أنَّي لا أتطهَّرُ طُهُوراً تاماً، في ساعةٍ من ليلٍ، ولا نهارٍ، إلا صليتُ بذلكَ الطُّهُورِ ما كتب اللهُُ لي أن أصَلِّيَ[13].
ـــــــــــــــــــــــــ
[1] أخرجه في السنن (499).(/7)
[2] العَقِيرة: عَقِيرةُ الرجل: صوتُه إِذا غَنَّى أَو قَرَأَ أَو بَكى، وقيل: أَصله أَن رجلاً عُقِرَت رِجْلُه فوضع العَقِيرةَ على الصحيحةِ، وبكَى عليها بأَعْلى صوتِه، فقيل: رفَع عَقِيرَته، ثم كَثُرَ ذلك حتى صُيِّر الصوتُ بالغناء عَقِيرةً. قال الجوهري: قيل لكل مَن رفعَ صوتَه: قد رفع عَقِيرته، ولم يقيّد بالغناء. لسان العرب (4/593عقر).
[3] أخرجه البخاري (3926).
[4] انتحب: النحيب: هو رفع الصوت بالبكاء، وفي المحكم: أشد البكاء. انظر لسان العرب (1/749نحب).
[5] أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى (3/236-237).
[6] قرية من قرى دمشق من ناحية الجولان، وقد نزلها عمر رضي الله عنه، وبدمشق بابٌ يسمى "باب الجابية" منسوبٌ إلى هذا الموضع. معجم البلدان (2/91).
[7] روى هذا السياق راويان، لذا جاء اللفظ بالتثنية.
[8] تاريخ دمشق (14/403-404).
[9] أي: عن المِزِّي.
[10] التذكرة في الأحاديث المشتهرة (ص207-208).
[11] الأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة (1/121رقم 76).
[12] كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس (1/263 رقم 695).
[13] أخرجه البخاري (1149)، ومسلم (2458)، واللفظ له.(/8)
العنوان: صاحب التفكير العَجول
رقم المقالة: 1727
صاحب المقالة: حضارة الكلمة
-----------------------------------------
يصف لنا د. عبد الكريم بكار، في كتابه "خطوة نحو التفكير القويم"، المتسرّعَ المندفع في طريقة تفكيره وفي اتخاذ قراراته ومناقشاته وأعماله كافّة، بدون النظر في العواقب المضرة لهذا التفكير..
فيقول:
• يتَّسم صاحب التفكير العَجُول بسرعة التصديق للأفكار والخطوط البيانية الجديدة، مع أنها تظل موضِع شدٍّ وجذبٍ حتى تُخْتَبَر وتُبَلْوَر.
• لا يناقش الكلام الذي يسمعه بعقلانية؛ بل يقبل ما وافق مِزاجه وهواه دون إعمال الفِكر فيه، وإذا خالف مِزاجه اتَّخذ منه موقفًا سلبيًّا سريعًا.
• يسمع ما يحبُّ أن يسمعه، ولا يعطي للتَّنْظير والتَّخْطيط الأهمية التي يستحقَّانِها.
• تغلب النَّمطية والقَوْلِيَّة عليه، فهو قد تعوَّد اتِّباع طرق تقليدية في إنجاز أموره والوصول إلى أهدافه، وحين تُعْرَض عليه بدائل جديدة؛ فإنه في الغالب لا يَأبَه بها.
• ينغمس في أعماله، لكن يغلب عليه ضعف الإحساس بأهداف العمل وغاياته.(/1)
العنوان: صاحب الفكر المتصلّب
رقم المقالة: 1623
صاحب المقالة: حضارة الكلمة
-----------------------------------------
عن صفات هذا النوع من الناس، وعن أثره على مَن حوله، يحدثنا د. عبدالكريم بكار في كتابه "خطوة نحو التفكير القويم"، ومما قاله:
- صاحبُ الفكر المتصلّب شديدُ الجمود على أفكاره، وهو غير قادر على التخلي عن آرائه حتى لو بدا خطؤها، على حين أن صاحب الفكر المرن يُذعن للحق، ويتشوَّق إلى معرفة الجديد، سواءٌ أكان مُوافقًا لما يرى أم مخالفًا له.
- اللغة التي يستخدمها صاحب الفكر المتصلّب تميلُ إلى المغالاة والقطعية، نحو قوله: فلان دائمًا يكذب، أنا لا أقول هذا أبدًا، كلامك لا يمكن قبوله.
- حساسيتُه لمشاعر الآخرين ضعيفةٌ؛ فهو يلقي الكلام على عواهنه، غير آبهٍ بما يسببه لسامعيه من أذى وحرج...
- يعطيك انطباعًا بأنَّ لديه جوابًا لكل سؤال، والسبب في ذلك أنَّ ممارسته للمشاركة في التحدّث قائمةٌ على عدد قليل من المبادئ والمفاهيم الجاهزة والمحدَّدة، ولذا فهو يحفظها عن ظهر قلب، ويسارع إلى استخدامها في محاوراته.
- ميَّال إلى المثالية، تأبَى طبيعةُ الأشياء تحقيقها.
- ظنّه أنَّ ما اهتدى إليه لا بدائل له، ولذا فهو لا يعطي أي اهتمام لمسألة البحث عن بدائل أكثر نفعًا وأقلَّ تكلفة[1].
ــــــــــــــــــــــــــــ
[1] باختصار وتصرّف من كتاب "خطوة نحو التفكير القويم" عبدالكريم بكار، ص 67.(/1)
العنوان: صافرة البداية
رقم المقالة: 1497
صاحب المقالة: مروان محمد أبو بكر
-----------------------------------------
في إحدى المنافسات العالمية الرياضية، التي كان من بين أنشطتِها السباحةُ، اصطفَّ المتسابقون، وجميعهم قد أرهف سمعه ينتظر صافرة البداية، التي تأذن بالانطلاق، ولا شك أن جميعهم كان يُمَنِّي نفسَه بالفوز، والتغلب على منافسيه، وتحطيم الأرقام القياسية في هذا الميدان.
وقبل أن يدوي صفيرُ البداية المنتَظَرَةِ، إذْ بأحد المتسابقين - ينتمي إلى قطر عربي- يقتحم المسبَح، مطلقاً لذراعيه ويديه العِنانَ، في مدافعة المياه ولطْمِها!! وعلى الفور حُرِمَ من المنافسة، وأبعد عنها، حسب القوانين واللوائح..
إن هذا اللاعب لم يذق مرارةَ الخسارةِ لكونه كسولاً، أو لأن منافسيه أجدرُ منه، أو لأنه جَهِلَ قوانينَ اللعبةِ، أو نحو ذلك من أسباب الخسارة.. إنه أُتي فقط من باب الحَماسِ غير المُنْضَبِطِ، الذي يؤدي في كثير من الأحيان إلى مثل هذه الخسارات الثقيلة.
إن الحماسَ مطلوبٌ؛ لإنجاز الأعمال، وتحقيق الأهداف، وقد استعاذ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- من العجزِ والكسلِ، ولكنَّ الحماسَ الذي يبلغ بصاحبه ذُرى النجاحِ هو الحماسُ المنضبطُ لا المنفلت! فقد يخسر الإنسان بسبب الحماس الذي من نوع حماس لاعبنا هذا أكثر مما يربح، بل قد يخسر دون تحقيق أي ربح.
إن الحماس المنضبط هو الذي يسير صاحبُه نحو هدف واضحِ المعالِمِ على ضوء خُطَّةٍ مدروسة، خطةٍ تستصحب الإمكانات، وتأخذ بعين الاعتبار العقباتِ والمُعَوِّقاتِ، وتراعي المآلات، حماسٌ لا يَفقِدُ الإنسان فيه السيطرةَ على نفسه، وتهذيبِ انفعالاته.(/1)
والحماسُ المنفلتُ هو الذي لا يأخذ صاحبُه في الحسبان المؤثِّراتِ المحيطة، والإمكانات المتاحة، بل أحياناً لا يكون الهدف واضحاً، فقط يحس صاحبه أن هنالك طاقةً تحركه، لكن إلى المجهول! طاقة تتملك الإنسان، وتفقده الشعورَ بنفسه ومَن حولَه، وتُعميه عن كل شي؛ فلا يرى نفسه إلا متحركاً!!
وتتفاوت درجات الحماسِ غير المنضبط، من شخص إلى آخر، ومن حالة إلى أخرى. إن حماساً من هذا النوع هو الذي أطلقَ لذلك اللاعبِ صافرةَ البداية، فسمعها هو دون الآخرين!!
بلغ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- خبرُ أحدِ شبابِ الصحابةِ، يتدفقُ حماساً، ويستكثر من العبادات، ويتزود من الطاعات، على نحو لا تطيقهُ قدراتُ البشر إلا نادراً، فخشي النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أن يكون حماسُ ذاك الصحابيِّ حماساً منفلتاً، فتكونَ له نتائجُ عكسيةٌ لم يُرِدْها ذلك الصحابيُّ، رضي الله عنه، ولنتركه يروي لنا حوارَه مع رسولِ اللهِ، صلى الله عليه وسلم..
(أُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنِّي أَقُولُ: وَاللَّهِ لأَصُومَنَّ النَّهَارَ، وَلأَقُومَنَّ اللَّيْلَ مَا عِشْتُ، فَقُلْتُ لَهُ: قَدْ قُلْتُهُ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي!
قَالَ: ((فَإِنَّكَ لاَ تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ! فَصُمْ وَأَفْطِرْ، وَقُمْ وَنَمْ، وَصُمْ مِنْ الشَّهْرِ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَذَلِكَ مِثْلُ صِيَامِ الدَّهْرِ)).
قُلْتُ: إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ!
قَالَ: ((فَصُمْ يَوْماً، وَأَفْطِرْ يَوْمَيْنِ!)).
قُلْتُ: إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ!
قَالَ: ((فَصُمْ يَوْماً، وَأَفْطِرْ يَوْماً! فَذَلِكَ صِيَامُ دَاوُدَ -عَلَيْهِ السَّلَام- وَهُوَ أَفْضَلُ الصِّيَامِ)).
فَقُلْتُ: إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ!
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لاَ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ!)) )[1].(/2)
لقد كانتنظرة النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- أعمقَ وأبعدَ من نظرةِ عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- فالنفسُ البشريةُ لا تطيق ما عزم عليه عبد الله، والاستمرار في هذا الكم الهائل من العبادات يُعدُّ تجاوزاً لحدودِ الممكن في أحوالٍ كثيرةٍ، ولذا أدرك عبدُ الله -رضي الله عنه- أنه كان مخطِئاً، إذ لم يضبط ذلك الحماسَ، كما نصحَه رسولُ الله، صلى الله عليه وسلم.
(قَالَ مُجَاهِدٌ:
فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو -حَيْثُ ضَعُفَ وَكَبِرَ- يَصُومُ الأَيَّامَ كَذَلِكَ، يَصِلُ بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ؛ لِيَتَقَوَّى بِذَلِكَ، ثُمَّ يُفْطِرُ بِعَدِّ تِلْكَ الأَيَّامِ.
قَالَ: وَكَانَ يَقْرَأُ فِي كُلِّ حِزْبِهِ كَذَلِكَ، يَزِيدُ أَحْيَاناً، وَيَنْقُصُ أَحْيَاناً، غَيْرَ أَنَّهُ يُوفِي الْعَدَدَ، إِمَّا فِي سَبْعٍ، وَإِمَّا فِي ثَلاثٍ.
قَالَ: ثُمَّ كَانَ يَقُولُ بَعْدَ ذَلِكَ: لأَنْ أَكُونَ قَبِلْتُ رُخْصَةَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا عُدِلَ بِهِ، أَوْ عَدَلَ، لَكِنِّي فَارَقْتُهُ عَلَى أَمْرٍ أَكْرَهُ أَنْ أُخَالِفَهُ إِلَى غَيْرِهِ)[2].
ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ شِرَّةً[3]!))[4].
فالإنسانُ -أحياناً- تنتابه موجةٌ من حماسٍ تشبه نَهْمَةَ الجائع، الذي يأكلُ حتى يصلَ إلى حدٍّ؛ لو ألقي إليه أشهى طعامٍ ما استطاع أن يزيد.
فكذا الحماسُ؛ يبذلُ الإنسانُ ما لا تطيقه نفسه من عظيم الجهد، فَتَمَلُّ النفسُ، وتسأمُ العملَ، فلو طلب منه -بعد ذلك- أيسرَ الأعمال؛ ما استطاع أن يقوم بها!
ولكي يكون الحماسُ منضبطاً مثمراً؛ يجب التأكدُ -أولاً- من سلامةِ الهدف، ووضوحِه، وحسابُ عواقبِ إنجازِهِ، وكم يكلف من ثمنٍ، حسي أو معنوي؟ وهل يستحقُّ ذلك الثمنَ؟ وهل تحقيقه متاحٌ؟ وهل يوجد تصورٌ للوصولِ إلى ذلك الهدفِ؟(/3)
وفي هذا يقول الإمام ابن القيم رحمه الله:
"والعبدُ إذا عزمَ على فعلِ أمرٍ؛ فعليه أن يعلم -أولاً- هل هو طاعة لله أم لا؟ فإن لم يكن طاعةً؛ فلا يفعله؛ إلا أن يكون مباحاً يستعين به على الطاعة، وحينئذ يصير طاعة، فإذا بان له أنه طاعة؛ فلا يقدم عليه، حتى ينظرَ هل هو مُعَانٌ عليه أم لا؟ فإن لم يكن معاناً عليه؛ فلا يقدم عليه، فيذلّ نفسه، وإن كان معاناً عليه؛ بقي عليه نَظَرٌ آخرُ، وهو أن يأتيه من بابه، فإن أتاه من غير بابه؛ أضاعه، أو فرط فيه، أو أفسد منه شيئاً، فهذه الأمورُ الثلاثةُ أصلُ سعادةِ العبدِ وفلاحِهِ"[5].
وبعد هذا كلِّه؛ ينبغي للعاقل ألا يعطيَ الهدفَ أكبرَ من حجمه، ولا يَقْدِرَ الفشلَ فوقَ قَدْرِهِ؛ حتى لا يفقدَه حماسُهُ السيطرةَ على نفسِهِ، والإحساسَ بمن حولَه، فينطلقَ قبل صافرةِ البدايةِ!!
ــــــــــــــــــــــــــــ
[1] رواه البخاري، 2/697، (1875)، ومسلم، 2/812، (1159).
[2] رواه أحمد 2/158، (6477).
[3] الشِّرَّةُ: الرغبةُ والنشاطُ.
[4] رواه الترمذي، 4/635، (2453).
[5] إعلام الموقعين، 2/179.(/4)
العنوان: صَبا رمضان
رقم المقالة: 1325
صاحب المقالة: بدر بن محمد عيد الحسين
-----------------------------------------
الرُّوحُ تَسمُو والنَّقاءُ سَبَاني وَشَذَا الزُّهُورِ معَ السُّحُورِ شَجاني
وَتَألَّقتْ فَرَحاً أَحَاسِيسُ التُّقَى وَتزيَّنتْ نفسي بِحِسِّ أَمانِ
وَتَمَلْمَلتْ خَجلى تَجُرُّ ذُيُولَها وَتَضَرَّعتْ تَرجُو رِضا الرَّحمنِ
أَنِسَتْ بقُربِ اللهِ يَحْدُوها الرَّجا لماَّ سَرى الإيمانُ في الوجدانِ
يَحلُو السُّجُود إذا البَشَائرُ هَلَّلَتْ وتَضَمَّخَتْ بِنَسَائِمِ الإيمانِ
وَيَصِيُر كُلُّ الكَون يَأْمَنُ بَعْضُهُ بَعْضاً إذا هبَّتْ صَبا رَمَضَانِ
وتُفتِّحُ الفِرْدَوسُ أَبْوابَ الرِّضَا وَتدَفَّقُ البَركاتُ في الرَّيَّانِ
يَا أَدْمُعي، صُبِّي تَبَارِيحَ الهَوى وَدَعِي الكَرى يَنْأى عَنِ الأَجْفَانِ
صُبِّي، وَقَرِّي، واسْعَدي، وَتَمَتَّعِي إِنَّ الدُّمُوعَ مَظَنَّةُ الغُفْرَانِ
طَعْمَ السَّعَادَةِ ذُقْتُهُ لَمَّا شَدَتْ في دَاخِلي أَطْيَارُ غُصْنِ البَانِ
مَا أَحْسَنَ الإنْسانَ حَيْنَ تَقُودُهُ نَحْوَ الحَيَاةِ مَبَادِئُ القُرْآنِ!(/1)
العنوان: صحتك في شهر الصيام
رقم المقالة: 1395
صاحب المقالة: مروة يوسف
-----------------------------------------
أغلبُ الناس يكون متلهفًا لاستقبال شهر رمضان المبارك، ويعاهد ربه على فعل كذا وكذا من الطاعات.
وبعد مرور أيام قليلة من هذا الشهر الفضيل إذا بالهمم تضعف، والقوى تخور، ولا تقوى ربما حتى على صلاة القيام، وبالكاد يستطيع أغلب الناس تأدية أعمالهم الاعتيادية بشكل شبه طبيعي!!
فأين الخلل ولماذا هذا الفتور الشديد؟ أليس في الصوم صحة الأبدان؟
يرجع ذلك لعدم دراية أغلب الناس بالأسلوب الغذائي الصحيح، ولعدم وجود التوعية الصحية الجيدة، وجهل الكثير بالنظام الواجب اتباعه لتأدية الغرض الصحي والشرعي من الصيام.
وسوف نستعرض باختصار بعض العادات غير الصحيحة بالنسبة للإفطار والسحور في هذا الشهر المبارك:
أخطاء في الإفطار:
- بدايةً من المعلوم أن تعجيل الفطر من السنة؛ يقول صلى الله عليه وسلم: "لا تزال أمتي بخير ما عجلوا الفطر".
ويخطئ من كان يظن أن تأخير الفطر لما بعد الصلاة أفضل له ولصحته ظنا منه أنه بذلك يستطيع الصلاة بخشوع, وهذا فهم غير صحيح على الإطلاق, فبعد يوم كامل من الصوم يكون الجسم في أشد الاحتياج لتعويض ما حصل له من نقص السكر في الدم, مما قد يؤدي بزيادة تأخير الفطر إلى حدوث هبوط في الدورة الدموية.
- من الخطأ الفطر على بعض المقبلات كالسمبوسة المقلية و(الشوربات) الدسمة والأطعمة المحتوية على كمية كبيرة من النشويات التي ترهق المعدة وتسبب عسر الهضم, فقد كان صلى الله عليه وسلم يحب التمر في الفطور لما فيه من فوائد عظيمة خاصة للصائم؛ فالتمر يحتوي على كمية طيبة من الحديد والفسفور، ويحتوي على سكر الفركتوز والجلوكوز ونسبة كبيرة من الفيتامينات التي يكون الجسم في احتياج لها بعد الصوم.
أيضا ثبتت فاعلية التمر في علاج الإمساك والوقاية منه؛ إذ يتعرض الصائم للإصابة بالإمساك لنقص السوائل طوال النهار.(/1)
- من الخطأ أن يسرع الصائم لتناول ما تشتهي نفسه من الأطعمة المقلية في الزيوت والنشويات (كالمكرونة) والأرز، ويكثر من هذه الأصناف المشبعة بالدهون، فيحدث لمعدته صدمة غذائية لا تقوى على هضمها, فعلى الصائم أن يهتم بنوعية الطعام على مائدته كأن يحتوي على قدر لا بأس به من السلطات المحتوية على الخضراوات الطازجة والتي تعطي شعورًا بالامتلاء، وتحتوي على نسبة عالية من الفيتامينات والمعادن التي يحتاجها الجسم، وتحتوي أيضا على نسبة طيبة من الماء، وتكون سهلة الهضم خفيفة على المعدة, فيبدأ بها أولا ثم ينتاول قدرًا من العناصر الغذائية الأخرى مثل القليل من النشويات والبروتين وغيرها.
- بعد يوم كامل من الصيام يكون الصائمُ في حالة جوع شديد ولا يقوى على الصبر؛ فيندفع وبسرعة كبيرة لالتهام أكبر كمية من الطعام، ولا يعطي للمعدة فرصة لتستريح، فيفاجأ بعد الإفطار بأنه بحاجة إلى خمس ساعات على الأقل ليتمكن من التنفس والحركة بصورة طبيعية, فينبغي أن تتم عملية الإفطار على مرحلتين كما أسلفنا, فيفطر على تمر أو طعام حلو خفيف مع القليل من الماء على ألا يكون شديد البرودة, ثم يذهب إلى الصلاة, وفي هذه الأثناء تكون المعدة قد تنبهت واستطاعت أن تمتص الطعام للتأهب بعد دقائق لإكمال وجبة الإفطار على وجه صحيح.
- ذم الله تعالى السرف المسرفين عمومًا وفي الطعام على وجه الخصوص, فيقول عز وجل: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31] فالمبادرة لملء المعدة بكمية كبيرة من الطعام من الأمور الضارة جدا بالجهاز الهضمي والتي تسبب عسر هضم وتلبك في الأمعاء، فيصاب الصائم بالدوار ويشعر بالإجهاد الشديد وكأنه كان في معركة شرسة، ومن ثم يحتاج للراحة بعد هذه العملية, مما يفوّت عليه فرصة التعبد على الوجه الصحيح.
أخطاء في السحور:(/2)
- يظن الكثير من الناس أنه من المناسب لوجبة السحور أن تحتوي على مواد غذائية صعبة الهضم, فيسارع بأكل أكبر كمية من الطعام المسبك, وذلك حتى يضمن بقاءَها في معدته أطول مدة ممكنة مما يقيه الشعور بالجوع!!!
وهذا غير صحيح, فالمعدة ليست صندوقًا يعبأ فيه الطعام لوقت الحاجة, بل هي عضو ضعيف ينبغي التعامل معه برفق وحكمة, فيتناول الصائم في سحوره الأطعمة الغنية بالعناصر الغذائية سهلة الهضم كثيرة السوائل كمنتجات الألبان والخضر الطازجة، ومن المفيد تناول بعض أنواع الحَساء كحَساء العدس لما فيه من عناصر غذائية قيمة ومفيدة ومقاومة للعطش.
- إن تغيير مواعيد النوم والطعام في هذا الشهر قد يصعب على البعض فيعمد لمحاولة المحافظة على المواعيد التي قد اعتادها قبل شهر رمضان إلا ما لا يقدر عليه, فيفضل تناول سحوره قبل النوم ويتسبب ذلك في تناوله في موعد مبكر أكثر مما ينبغي؛ فالبعض يفضل تناول وجبة السحور قبل منتصف الليل، وبذلك يكون قد أضر بمعدته التي لم تهضم وجبة الفطور بعد، وبجسده كله فيتعرض للجوع حال صيامه نتيجة زيادة ساعات الصيام, فمن الأفضل اتباع سنة الرسول صلى الله عليه وسلم في السحور بتأخيره إلى قبيل الفجر، وبإمكانه النوم مبكرا والاستيقاظ لنتاول السحور ومن ثم الاستعداد لصلاة الفجر وتلاوة بعض الآيات من القرآن الكريم وقت السحر.
- بعض الناس يحرص على تناول الموالح والمخللات والأطعمة الحارة في وجبة السحور، وذلك ليفتح شهيته فيتمكن من تناول أكبر قدر من الطعام فيأكل لجوع سابق وجوع لاحق!! وينسى أن تلك العادة تتسبب في الإضرار بالمعدة، وتسبب له شدة العطش في النهار فيجب أن تحتوي وجبة السحور على بعض الفواكه المحتوية على الماء والألياف لمنع حدوث العطش والوقاية من الإمساك.
أخطاء ما بين الوجبتين:(/3)
- يسارع الكثير من الصائمين إلى تناول أنواع شتى من الحلوى بعد وجبة الإفطار بقليل، ويسرف في ذلك كثيرًا، فتكون ربة البيت قد أعدت ما لذ وطاب من الحلوى المليئة بالسكريات والمواد الدهنية المشبعة التي هو في غنى عنها بما قد تناوله في بداية إفطاره من تمر أو رطب أو أي طعام حلو فلا يحتاج لكل هذه الكميات من الحلوى التي تسبب السمنة المفرطة وربما الإصابة بمرض السكري وارتفاع ضغط الدم.
- بعد هذه المعركة العنيفة التي انتهت بهزيمة هذا الصائم الذي يظن أنه الفائز! يسعى جاهدا في محاولات غير ناجحة لاستعادة شيء من نشاطه الذي فقده بعد كمية الإفطار وكمية الحلوى بعده, فيستعين بالمنبهات من القهوة والشاي وغيرها، فتعود عليه بالضرر البالغ, إذ يمنع الشاي امتصاص نسبة من الحديد الذي يحتوي عليه طعامه, ويجهد جهازه العصبي بذلك إجهادا بالغا, في حين أنه كان بإمكانه أن يتجنب ذلك بالاعتدال.
ولا بأس بتناول القليل من الشاي أو القهوة بعد وجبة الإفطار بساعتين على الأقل.
- يخشى البعض في أثناء النهار كثرة الحركة ظنا منه أن ذلك سوف يؤدي إلى سرعة الهضم ومن ثم يزيد شعوره بالجوع والعطش، فيحافظ على حركته فيمشي ببطء ويقوم ببطء ويفعل كل أعماله ببطء شديد, في حين إن ذلك يزيد من خموله ويقلل نشاطه ويعمل على إبطاء حركة الأمعاء فيتسبب في سوء الهضم وضعف جهازه الهضمي, وبعض التمارين الرياضية قد تفيد كثيرا في صباح اليوم؛ إذ تنشط الجهاز العصبي وتنشط الدورة الدموية فيقبل الصائم على عمله بنشاط وعزيمة فيما فيه النفع للقلب والأوعية الدموية وليس فيه ضرر عليه على الإطلاق.(/4)
العنوان: صدر حديثاً في الدراسات القرآنية
رقم المقالة: 529
صاحب المقالة: عبدالرحمن بن معاضة الشهري
-----------------------------------------
1 - جامع البيان في القراءات السبع لأبي عمرو الداني، تحقيق عبدالرحيم الطرهوني ويحيى مراد، 1427هـ في ثلاثة مجلدات.
2- النسخ في القرآن الكريم للدكتور مصطفى زيد في مجلدين، دار الحديث بالقاهرة، 1427هـ.
3- بلاغة النظم في آيات التحية للأستاذ الدكتور محمد الصامل، دار كنوز إشبيليا، 1428هـ.
4- التحريف في تأويل الآيات في أصول الكافي للكليني، للدكتور صلاح عبدالفتاح الخالدي، دار عمار، 1427هـ.
5- النكت في القرآن الكريم، لأبي الحسن علي المجاشعي، تحقيق الدكتور إبراهيم الحاج علي، مكتبة الرشد، 1427هـ.
6- المصاحف لابن أبي داود، تحقيق سليم بن عيد الهلالي، دار غراس، 1427هـ في مجلد واحد.
7- المدح والذم في القرآن الكريم : دراسة موضوعية بلاغية، للدكتور معن توفيق الحيالي، ط دار الكتب العلمية، 1427هـ.
8- المعجم الصغير لرواة الإمام ابن جرير الطبري في كتبه المطبوعة، تأليف أكرم زيادة الفالوجي، ط دار ابن عفان، 1426هـ.
9- أثر عبدالله بن عمر رضي الله عنهما في التفسير، تأليف الدكتور أحمد مناف القيسي، ط دار الكتب العلمية، 1427هـ.
10- تهذيب معاني القرآن وإعرابه للزجاج، لعرفان حسونة، ط دار النهضة.
11- أثر الاختلاف في مرجع الضمير في التفسير للدكتور صالح بن ناصر الناصر، بحث منشور بمجلة الحكمة في عددها 31 الصادر في محرم 1428هـ.
12- طبقات القراء للإمام الذهبي (ت748هـ)، تحقيق الدكتور أحمد خان، الطبعة الثانية 1427هـ، مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية.
13- دقائق الفروق اللغوية في البيان القرآني، للدكتور محمد ياس خضر الدوري، دار الكتب العلمية، 1427هـ.(/1)
14 - عناية ابن هشام النحوي بتفسير القرآن الكريم وإعرابه وتوجيه قراءاته للدكتور شايع عبده الأسمري، بحث بمجلة الجامعة الإسلامية العدد 132 سنة 1427هـ.
15- علوم القرآن بين البرهان والإتقان للدكتور حازم سعيد حيدر، الطبعة الثانية عن مكتبة دار الزمان بالمدينة المنورة وفيها زيادات وصف جديد، 1427هـ.
16- شرح الهداية للمهدوي في توجيه القراءات، تحقيق الدكتور حازم سعيد حيدر، الطبعة الأولى لدار عمار بالأردن 1427هـ في مجلد واحد.
17- كتاب الاجتباء والاختيار في القرآن الكريم للباحث فاضل الجواري، دار الكتب العلمية، 1427هـ.
18- الأجوبة العلمية على أسئلة ملتقى أهل التفسير، للأستاذ الدكتور غانم قدوري الحمد، دار عمار بالأردن 1428هـ.
19- الاتصال غير اللفظي في القرآن الكريم للدكتور محمد الأمين موسي أحمد، دائرة الثقافة والإعلام بالشارقة، 1427هـ.
20- كتاب (الكتاب الفريد في إعراب القرآن المجيد) للحافظ المنتجب الهمذاني (ت643هـ) في خمسة مجلدات، بتحقيق محمد نظام الدين الفتيّح، ط مكتبة دار الزمان بالمدينة المنورة، 1427هـ.
21- شرح مقدمة شيخ الإسلام ابن تيمية في أصول التفسير، للدكتور مساعد بن سليمان الطيار، دار ابن الجوزي، الطبعة الثانية 1428هـ.
22- المحرر الوجيز في التفسير لابن عطية الأندلسي (ت542هـ)، نشر وزارة الأوقاف القطرية، الطبعة الثانية، مزيدة ومصححة في ثمانية مجلدات فاخرة، 1427هـ.
23- بحث بعنوان (الإيضاح الأتم لآية ولقد همت به وهم) للدكتور صالح الفايز الأستاذ المشارك بالجامعة الإسلامية، مجلة الجامعة الإسلامية 1427هـ.
24- الكتاب الأوسط في علم القراءات، للمقرئ أبي محمد، الحسن بن علي بن سعيد العمانيّ،تحقيق الدكتور عزة حسن، طبع دار الفكر بدمشق، الطبعة الأولى 2006 م(/2)
25- المجيد في إعجاز القران المجيد للإمام كمال الدين عبد الواحد بن عبد الكريم الزملكاني المتوفى سنة 651من الهجرة، تحقيق الدكتور خالد أحمد المشهداني، دار عمار بالأردن، 1427هـ.
23/2/1428هـ(/3)
العنوان: صفاءُ الأعمال.. وتعيسُها
رقم المقالة: 1828
صاحب المقالة: خيرية الحارثي
-----------------------------------------
كلُّ عمل تصاحبُه النيةُ، فمن كانت نيتُه سيئةً كان عملُه سيئاً، وهذه النياتُ لا يعلمُها إلا علاَّمُ الغيوب، ومِن كرمِه وفضله أنَّ صفاءَ الأعمال تظهر بركاتُها في الدنيا، وتعيسَ الأعمال يظهر شؤمها على صاحبها، من عدم القبول، ومن نفرة الناس منه.
وكل أحد له عمل ونية، فالنيةُ المحموده هي التي يتقبلها الله ويثيب عليها، وهي أن تريد الله وحده بذلك العمل، والعملُ المحمود هو الصالح.
ولهذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه، يقول في دعائه: اللهم اجعل عملي كله صالحاً، واجعله لوجهك خالصاً، ولا تجعل لأحد فيه شيئاً.
فهذه كتبُ العلماء التي بين أيدينا؛ شلالاتٍ تتدفق عبر القرون والسنين، يستقي منها ملايين البشر علماً نافعاً يخدم الإسلام والمسلمين، وتتضاعفُ حسناتٍ على أصحابها المخلصين، أمثال وأحمد بن حنبل، وابن تيمية، وابن حجر، ممن أخلصوا أعمالهم لله، وكان رجاؤهم الله والدار الآخرة.
ولكنه الإخلاص أرخى رواقه عليهم ونهج المصطفى السمح مصدر
أما من كانت كتاباتهم لأغراض الدنيا، من كتب أهل البدع والأهواء، والروايات الماجنة التي تجر الويلات على مجد أمتنا، ممن شوهوا سمعة الدين وأهله، فماذا جنينا من أفعالهم وكتاباتهم؟
وماذا جنوا هم؟ حظوظًا اتخذوها وقدموها على شرع الله ودينه، فأذاقهم الله الخزي في الدنيا، وفي الآخرة مردُّهم إلى الله، فهو بصير بعباده؛ {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص: 28].
وقد كان إبراهيمُ التيمي يتضرع إلى الله بقوله: اللهم اعصمني بدينك وسنة نبيك من الاختلاف في الحق، ومن اتباع الهوى، ومن سبل الضلالة، ومن شبهات الأمور ومن الزيغ والخصومات..(/1)
ونحن نقول: اللهم إنا نبرأ إليك من كل أقلام مسمومة، تحمل أفكاراً منقوصة تُطوَّع لتعوق مسيرة الإسلام الخالدة.
يقول الشيخ أبو بكر الجزائري:
((إنَّ من أخطر المحن التي أصابت المسلمين -وهم يقاسون من ويلاتها ويعانون من شدائدها ضعفاً وفساداً وشراً- محنةَ جهل جماهير المسلمين بإسلامهم)).
والتربية الناجحة تعتمد على حقائق ومسلمات لا تقبل جدلاً، فإذا ساءت البيئةُ، فهيهات أن تنشأ أجيالٌ يُوثق بأدبها وعفافها وعدالتها؛ زين لهم الشيطان أعمالهم، وحسَّنها في قلوبهم، فاطمأنت لها نفوسهم.
يقول الله تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران:30].
إن المجتمع المسلم يعي المخاطر، ولا يقبل المجازفة بمستقبله، وما يجره علينا تدهور الأخلاق من مفاسد ومخازٍ، تتجرعها المجتمعاتُ بسبب غفلة الغيوريين، وكل امرئ مسلم صافي الفكر والعقيدة سيرفض أفكار هؤلاء الذين يصدون عن سبيل الله.. إن الكلمة في دين الله أشرف من أن تترك لأفواه العابثين والعابثات، فيعرى الدين من الحياء الذي هو جوهر الإيمان وحياته، فتشيع الفاحشة، ويصبح التبذل ديدنه، حتى إذا فاض الطوفان وانفرط العقد صعب علينا جمعه، وفاض علينا نتنه حتى يتأذى منه القاصي والداني.(/2)
العنوان: صفة الحج والعمرة
رقم المقالة: 714
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحمد لله الذي بعث محمداًً - صلى الله عليه وسلم - بالهدى ودين الحق رحمة للعالمين، وقدوة للعاملين، وحجة على العباد أجمعين، وجعل دينه مبنياً على تحقيق العبادة لله رب العالمين، ميسراً، سمحاً، سهلاً، لا حرج فيه، ولا مشقة، ولا تضيق، ولا تعسير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العلي القدير، وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله البشير النذير صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً.(/1)
أما بعد أيها الناس: إنكم تستقبلون في هذه الأيام السفر إلى بيت الله الحرام راجين من الله تكفير ذنوبكم والآثام والفوز بدار السلام والخلف العاجل عما انفقتموه في هذا السبيل من الأموال فيا أيها المسلمون إنكم تتوجهون إلى بيت ربكم وحرماته إلى أمكنة فاضلة تؤدون فيها عبادة من أفضل العبادات لستم تريدون بذلك نزهة، ولا فخرا، ولا رياء بل تريدون عبادة تتقربون بها إلى الله، وتخضعون فيها لعظمة ربكم، فأدوها أيها المسلمون كما أمرتم من غير غلو، ولا تقصير، ولا إهمال، ولا تفريط، وقوموا فيها بما أوجب الله عليكم من الطهارة والصلاة وغيرها من شرائع الدين إذا خرجتم مسافرين إليها، فاستحضروا أنكم خارجون لعبادة من أجل الطاعات، وفي سفركم التزموا القيام بالواجبات من الطهارة والجماعة للصلاة، فإن كثيراً من الناس يفرطون في الطهارة، فيتيممون مع إمكان الحصول على الماء، وإن من وجد الماء، فلا يجوز له أن يتيمم، وبعض الناس يتهاون بالصلاة مع الجماعة، فتجده يتشاغل عنها بأشياء يدركها بعد الصلاة، وإذا صليتم، فصلوا قصراً تجعلون الصلاة الرباعية ركعتين من خروجكم من بلدكم حتى ترجعوا إليه، إلا أن تصلوا خلف إمام يتم، فأتموها أربعاً تبعاً للإمام سواء أدركتم الصلاة، أو فاتكم شيء منها، وأما الجمع، فإن السنة للمسافر، ألا يجمع إلا إذا جد به السير، وأما النازل في مكان، فالسنة ألا يجمع، وأما الرواتب التابعة للمكتوبات، فالأولى تركها إلا سنة الفجر، وأما الوتر، وبقية النوافل، فإنهما يفعلان في الحضر والسفر، وتحلوا بالأخلاق الفاضلة من، السخاء، والكرم، وطلاقه الوجه، والصبر على الآلام، والتحمل من الناس، فإن الأمر لا يدوم، وللصبر عاقبة محمودة، وحلاوة لذيذة، وإذا وصلتم الميقات، فاغتسلوا، وتطيبوا في أبدانكم في الرأس واللحية، ثم أحرموا بالعمرة متمتعين، وسيروا إلى مكة ملبين، فإذا بلغتم البيت الحرام، فطوفوا سبعة أشواط طواف العمرة، واعلموا أن(/2)
جميع المساجد مكان للطواف القريب من الكعبة والبعيد لكن القرب منها أفضل، إذ لم تتأذ بالزحام، فإذا كان زحام، فأبعد عنه، والأمر واسع، ولله الحمد، فإذا فرغتم من الطواف، فصلوا ركعتين خلف مقام إبراهيم إما قريباً منه، إن تيسر، وإلا فلو بعيد المهم أن يكون المقام بينك وبين الكعبة، ثم اخرجوا لسعي العمرة، وابدأوا بالصفا، فإذا أكملتم الأشواط السبعة، فقصروا من رؤوسكم من جميع الرأس، ولا يجزئ التقصير من جانب واحد لا تغتروا بفعل الكثير من الناس، فإذا كان اليوم الثامن من ذي الحجة، فاغتسلوا، وتطيبوا، وأحرموا بالحج من مكان نزولكم، واخرجوا إلى منى، وصلوا بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة والفجر قصراً من غير جمع؛ لأن نبيكم - صلى الله عليه وسلم - كان يقصر بمنى، وفي مكة، ولا يجمع، فإذا طلعت الشمس يوم عرفة، فسيروا ملبين خاشعين لله إلى عرفة، واجمعوا فيها بين الظهر والعصر جمع تقديم على ركعتين، ثم تفرغوا للدعاء، والابتهال إلى الله، واحرصوا أن تكونوا على طهارة، واستقبلوا القبلة، ولو كان الجبل خلفكم؛ لأن المشروع إستقبال القبلة، وانتبهوا جيداً لحدود عرفة وعلاماتها، فإن كثيراً من الحجاج يقفون دونها، ومن لم يقف بعرفة، فلا حج له لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((الحج عرفة)). وكل عرفة موقف شرقيها وغربيها وجنوبيها وشماليها، إلا بطن الوادي وادي عرنة لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((وقفت ها هنا وعرفة كلها موقف)). فإذا غربت الشمس، وتحققتم غروبها، فادفعوا إلى مزدلفة ملبين خاشعين، والزموا السكينة ما أمكنكم كما أمركم بذلك نبيكم - صلى الله عليه وسلم - فلقد دفع من عرفة، وقد شنق لناقته الزمام، حتى أن رأسها ليصيب مورك رحله، وهو يقول بيده الكريمة: ((أيها الناس السَّكينة السَّكينة)). فإذا وصلتم مزدلفة، فصلوا بها المغرب والعشاء، ثم بيتوا بها إلى الفجر، ولم يرخص النبي - صلى الله عليه وسلم - لأحد في الدفع من(/3)
مزدلفة قبل الفجر إلا للضعفة رخص لهم أن يدفعوا في آخر الليل، فإذا صليتم الفجر، فاتجهوا إلى القبلة، وكبروا الله، واحمدوه، وادعوه حتى تسفروا جدا، ثم سيروا قبل طلوع الشمس إلى منى، ثم القطوا سبع حصيات، واذهبوا إلى جمرة العقبة، وهي الأخيرة التي تلي مكة، وارموها بعد طلوع الشمس بسبع تكبرون الله مع كل حصاة خاضعين له معظمين، واعلموا أن المقصود من الرمي تعظيم الله، وإقامة ذكره، ويجب أن تقع الحصاة في الحوض، وليس بشرط أن تضرب العمود، فإذا فرغتم من رمي الجمرة، فاذبحوا الهدي، ولا يجزئ في الهدي إلا ما يجزئ في الأضحية، ولا بأس أن توكل شخصاً يذبح لك ثم احلقوا بعد الذبح رؤوسكم، ويجب حلق جميع الرأس، ولا يجوز حلق جميع الرأس، ولا يجوز حلق بعضه دون بعض المرأة تقصر من أطراف رأسها بقدر أنملة، وبعد ذلك حللتم التحلل الأول، فالبسوا، وقصوا أظفاركم، وتطيبوا، ولا تأتوا النساء، ثم انزلوا قبل صلاة الظهر إلى مكة، وطوفوا للحج، واسعوا، ثم، ارجعوا إلى منى، وبالطواف والسعي مع الرمي، والحلق حللتم التحلل الثاني، وجاز لكم كل شيء حتى النساء. أيها الناس: إن الحاج يفعل يوم العيد أربعة أنساك رمي الجمرة، ثم النحر، ثم الحلق، ثم الطواف، والسعي، وهذا هو الترتيب الأكمل، ولكن لو قدمتم بعضها على بعض، فحلقتم قبل الذبح مثلاً، فلا حرج، ولو أخرتم الطواف والسعي حتى تنزلوا من منى، فلا حرج، ولو أخرتم الذبح، وذبحتم في مكة في اليوم الثالث عشر، فلا حرج لا سيما مع الحاجة والمصلحة، وبيتوا ليلة الحادي عشر بمنى، فإذا زالت الشمس، فارموا الجمرات الثلاث مبتدئين بالأولى، ثم الوسطى، ثم العقبة كل واحدة بسبع حصيات تكبرون مع كل حصاة، ووقت الرمي في يوم العيد للقادر من طلوع الشمس، وللضعيف من آخر الليل وآخره إلى غروب الشمس ووقته فيما بعد العيد من الزوال إلى غروب الشمس، ولا يجوز قبل الزوال، ويجوز الرمي في الليل، إذا كان الزحام شديداً في النهار، ومن(/4)
كان لا يستطيع الرمي بنفسه لصغر أو كبر أو مرض، فله أن يوكل من يرمي عنه، ولا بأس أن يرمي الوكيل عن نفسه، وعمن وكله في مقام واحد لكن يبدأ بالرمي لنفسه، فإذا رميتم اليوم الثاني عشر، فقد انتهى الحج، وأنتم بالخيار، إن شئتم تعجلتم، ونزلتم، وإن شئتم، فبيتوا ليلة الثالث عشر، وارموا الجمار الثلاث بعد الزوال، وهذا أفضل؛ لأنه فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - فإذا أردتم الخروج من مكة، فطوفوا للوداع، والحائض والنفساء لا وداع عليهما، ولا يشرع لهما المجيء إلى باب المسجد، والوقوف عنده. أيها المسلمون: هذه صفة الحج، فاتقوا الله فيه، ما استطعتم، واسمعوا، وأطيعوا. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:27-29]. بارك الله لي ولكم... الخ.(/5)
العنوان: صفة الحج
رقم المقالة: 1750
صاحب المقالة:
-----------------------------------------
صفة الحج
الحمد لله الذي أكمل لهذه الأمة شرائع الإسلام ، وفرض على المستطيع منهم حج البيت الحرام ، ورتب على ذلك جزيل الفضل والإنعام ، ووعد من حج البيت ولم يرفث ولم يفسق بأن يخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ، نقيًا من الآثام ، وذلك هو الحج المبرور الذي لم يجعل الله له جزاء إلا الجنة دار السلام .
أحمده وأشكره ، وأشهد أن لا إله إلا هو الملك القدوس السلام ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ، أفضل من صلى وحج وزكى وصام صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه البررة الكرام وعلى التابعين لهم بإحسان ما تعاقبت الليالي والأيام ، وسلم تسليمًا كثيرًا .
أيها الأخوة المؤمنون : اتقوا الله واحمدوه أن أكمل لكم الدين ، وأتم عليكم النعمة ، وإن مما أنعم الله سبحانه وتعالى علينا به أن أمرنا بالحج ، ويسر لنا سبله ، لقد كانت فريضة الحج في سالف الأزمان فريضة شاقة ، لها أعباء وتكاليف ، لا يطيقها إلا القليلون ، تترتب عليها كثير من المشاق في الأموال والأبدان ، ويتحمل الحاج كثيرًا من الأخطار ، أما في أيامنا هذه فقد يسر الله الأمر تيسيرًا وجعله بفضله ونعمته أمرًا هينًا ، وسفرًا يسيرًا ، فًاصبح المرء يصل إلى البيت الحرام بنفقات يسيرة ، وسبل كثيرة وفيرة ، فهناك الطائرات في أجواء السماء وهناك البواخر تمخر عباب البحار ، وهناك السيارات التي تطوى الفيافي والقفار ، وكل هذه الوسائل نعم من الله سبحانه وتعالى على الناس ، وعلى الناس أن يشكروا نعم الله عليهم ، وأن يغتنموا هذه الفرص لزيادة الخير وأداء الفرائض والتزود بالتقوى .
إن الله قد فرض الحج على المسلمين إذا ما اكتملت في المسلم شروط أولها : البلوغ وثانيها : العقل ، وثالثها : الاستطاعة بالمال والبدن .(/1)
فمن لم يكن بالغًا أو كان معتوهًا ، أو ناقص الاستطاعة في ماله أو في صحته فلا حج عليه لأن الله سبحانه وتعالى قال : { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا } .
وأما المدين ، الذي له مال ، ولكن عليه ديونًا كذلك فإنه يقضي ديونه أولًا ثم يحج بعد ذلك ، لأن براءة الذمة أهم . وإن عجز الإنسان عن الحج وعنده مال ، ومرضه لا يرجى برؤه ، فله أن ينيب عنه من يحج ، فمن تقدمت به السن أو أقعده المرض ، بحيث لم يعد قادرًا على أداء الحج ، ولديه مال ، جاز له أن ينيب امرءًا عنه ، يخرج من بلده بماله ليؤدي عنه هذه الفريضة .
وأما المرأة ، فيضاف إلى ما ذكرنا من الشروط أن يكون لها محرم يستطع أن يرافقها حتى تعود إلى منزلها ، والمحرم إما أن يكون زوجًا أو أخًا أو ولدًا أو أبًا أو جدًا أو نحوه ، لقوله عليه الصلاة والسلام : « لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم ، ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم " ، فقام رجل فقال : يا رسول الله إن امرأتي خرجت حاجة ، وإني اكتتبت في غزوة كذا وكذا ، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " انطلق فحج مع امرأتك » .
والمحرم كما قلنا هو من تحرم عليه المرأة تحريمًا مؤبدًا بنسب أو رضاع أو مصاهرة ، كالأب والابن والجد والأخ وابن الأخ ، وابن الأخت والعم والخال من نسب أو رضاع ، ومثل أب الزوج - وإن علا - وابنه - وإن نزل - وزوج البنت - وإن نزل - وزوج الأم - وإن علت - لكن زوج الأم لا يكون محرمًا لبنتها حتى يطأ الأم فكل هؤلاء محارم للمرأة .
والحكمة في وجوب اصطحاب المحرم للمرأة حفظها ، وصيانتها ، ورعاية شؤونها أثناء السفر .
ومن تعذر عليها أن تجد محرمًا ، جاز لها أن تخرج بصحبة نسوة أي مجموعة من النساء الثقات .
وأما صفة أداء الحج والعمرة ، فلا بد للمسلم أن يعرفها ، ليستطيع أن يؤدي حجه وعمرته على الوجه الأكمل .(/2)
وأول هذه الأمور أن يعرف المسلم أنه خارج لأداء فريضة من أهم الفرائض وركن من أهم الأركان ، فعليه ألا يخالط محرمًا ، ولا يرتكب معصية ، وعليه أن يطهر قلبه ، كما يطهر بدنه ، وعليه أن تكون نفقته مالًا حلالًا طيبًا طاهرًا لا يخالطه حرام ، وعليه أن يحرص على الصلاة وأدائها بشروطها جماعة ، وفي المساجد كلما أمكن ذلك .
وعليه أن يتحلى بالأخلاق الفاضلة من السخاء والكرم وطلاقة الوجه ، والصبر على الآلام وتحمل الناس ، وعدم إيذاء أحد .
فإذا وصل الميقات المؤقت لأهل بلده ، فعليه أن يغتسل ويتطيب في بدنه ورأسه ولحيته ، ثم يحرم بالعمرة متمتعًا ، سائرًا إلى مكة ملبيًا ، فإذا بلغ البيت الحرام ، فليطف سبعة أشواط بنية طواف العمرة ، وجميع المسجد الحرام مكان للطواف ، اقترب من الكعبة أو ابتعد ، لكن القرب منها أفضل ، إذا لم يتأذ بالزحام ، ولم يؤذ سواه . فإذا وجد زحامًا فعليه أن يبعد ، والأمر واسع ولله الحمد ، فإذا فرغ من الطواف فليصل ركعتين خلف مقام إبراهيم ، إن تيسر له ذلك ، وإلا يصلي في أي مكان من الحرم . ثم ليخرج بعد ذلك لأداء سعي العمرة ، فيبدأ بالصفا ، فإذا أكمل الأشواط السبعة فعليه أن يقصر من رأسه من جميع الرأس ، ولا يجزي التقصير من جانب واحد ولا يغتر بفعل الكثير من الناس .
وينبغي أن يحفظ جوارحه وذهنه وفكره عن كل معصية وعن كل ما يخل بحجه . فإذا كان اليوم الثامن من ذي الحجة ، فعلى الحاج أن يغتسل ويتطيب ويحرم بالحج من مكان النزول ثم ليخرج إلى منى ، وليصل بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة ، وفجر يوم عرفة قصرًا من غير جمع ، لأن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقصر بمنى ، وفي مكة ولا يجمع .(/3)
فإذا طلعت شمس يوم عرفة فليسر إلى عرفة ملبيًا ، خاشعًا لله ، ثم ليجمع بعد ذلك الظهر والعصر جمع تقديم ركعتين ركعتين لكل من الظهر والعصر ثم ليتفرغ بعد ذلك للدعاء والابتهال إلى الله ، وليحرص أن يكون على طهارة طيلة الوقت وليستقبل القبلة ، وليجعل الجبل خلفه ، فالمشروع استقبال القبلة ، ولينتبه الحاج جيدًا لحدود عرفة ، وعلاماتها ، فإن كثيرًا من الحجاج يقفون دونها ، أو بعيدًا منها ، ومن لم يقف بعرفة فلا حج له ، لقوله عليه الصلاة والسلام : « الحج عرفة » .
ومن وجد في عرفة ، فله أن يقف في أي موضع منها إلا بطن الوادي ، وادي عرنة لقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « وقفت ها هنا وعرفة كلها موقف » .
فإذا غربت شمس يوم عرفة ، وتحقق المسلم من الغروب فليدفع إلى مزدلفة ملبيًا خاشعًا ملتزمًا بالسكينة والوقار ما أمكن ، كما أمر بذلك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين كان ينادي بأصحابه : « أيها الناس السكينة السكينة " . فإذا وصل مزدلفة ، فليصل بها المغرب والعشاء ثم ليبت بها إلى الفجر » .
ولم يرخص النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأحد بالدفع من مزدلفة قبل الفجر إلا للضعفة ، فمن كان ضعيفًا أو واهنًا أو مريضًا أو ذا حاجة فله أن يدفع في آخر الليل .
فإذا صلى الحاج في مزدلفة فليتجه إلى القبلة وليكبر الله وليحمده ، وليدعه حتى يسفر جدًا ، ثم يسير قبل طلوع الشمس إلى منى ، ثم يلقط سبع حصيات ، وليذهب إلى جمرة العقبة وهى الأخيرة التي تلي مكة ، وليرمها بعد طلوع الشمس بسبع حصيات ، يكبر الله مع كل حصاة خاضعًا معظمًا له .(/4)
فالمقصود من الرمي تعظيم الله وإقامة ذكره ، وعليه أن يسقط الحصاة في الحوض ، وليس عليه أن يضرب العمود المنصوب هناك ، فإذا فرغ من رمي الجمرة فليذبح هديه إن كان قد ساق الهدي ، ولا يجزي في الهدي إلا ما يجزي في الأضحية ولا بأس أن يوكل شخصًا في الذبح ، ثم ليحلق رأسه بعد الذبح ويجب حلق جميع الرأس ، ولا يجوز حلق بعضه دون بعض ، والمرأة تقصر من شعرها بقدر أنملة وبذلك يكون قد حل التحلل الأول .
فله أن يلبس ، ويقص أظفاره ، ويتطيب وليس له أن يأتي النساء .
فإذا نزل قبل صلاة الظهر إلى مكة ، طاف طواف الإفاضة الذي هو طواف الحج ، وسعى ثم رجع إلى منى ، فبهذا الطواف والسعي بعد الرمي والحلق والذبح يكون قد تحلل التحلل الأخير ، وجاز له كل شيء بما في ذلك النساء .
أيها الأخوة المسلمون : إن الحاج يفعل يوم العيد أربعة أنساك : رمي الجمرة ثم النحر ، ثم الحلق ثم الطواف والسعي ، وهذا هو الترتيب الأكمل ، ولكن لو قدم بعضها على بعض كأن حلق قبل الذبح مثلًا فلا حرج .
ولو أخر الطواف والسعي حتى ينزل من منى فلا حرج ، ولو أخرَ الذبح ، فذبح بمكة في اليوم الثالث عشر فلا حرج ، لا سيما مع الحاجة والمصلحة ، وليبت ليلة الحادي عشر بمنى ، فإذا زالت الشمس فليرم الجمرات الثلاث ، مبتدئًا بالأولى ثم الوسطى ، ثم العقبة ، كل واحدة بسبع حصيات ، يكبر مع كل حصاة .(/5)
ووقت الرمي في يوم العيد للقادر من طلوع الشمس ، وللضعيف من آخر الليل وآخره إلى غروب الشمس ، ووقته فيما بعد العيد من الزوال إلى غروب الشمس ولا يجوز قبل الزوال إلا عند بعض العلماء . ويجوز الرمي في الليل إذا كان الزحام شديدًا في النهار ، ومن لم يستطع الرمي لنفسه لصغر أو كبر أو مرض فله أن يوكل من يرمي عنه ، ولا بأس أن يرمي الوكيل عن نفسه ، وعمن وكله في مقام واحد ، لكن يبدأ بالرمي لنفسه فإذا رمى اليوم الثاني عشر فقد انتهى الحج وهو بالخيار بعد ذلك إن شاء تعجل ونزل ، وإن شاء بات ليلة الثالث عشر ، وليرم الجمار الثلاث بعد الزوال وهذا أفضل لأنه فعل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فإذا أراد الخروج من مكة ، فليطف طواف الوداع . وأما الحائض والنفساء فلا وداع عليهما ، ولا يشرع لهما المجيء إلى باب المسجد والوقوف عنده .
هذه صفة الحج كما شرعها الله سبحانه وتعالى وكما أمر بها .
فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا ، قال تعالى : { وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ }{ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ }{ ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم .(/6)
العنوان: صفة العمرة
رقم المقالة: 1240
صاحب المقالة: سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز
-----------------------------------------
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه، وبعد:
فهذه نبذة مختصرة عن أعمال مناسك العمرة، وإلى القارئ بيان ذلك:
1- إذا وصل من يريد العمرة إلى الميقات استحب له أن يغتسل ويتنظف، وهكذا تفعل المرأة ولو كانت حائضا أو نفساء، غير أنها لا تطوف بالبيت حتى تطهر وتغتسل. ويتطيب الرجل في بدنه دون ملابس إحرامه. فإن لم يتيسر الاغتسال في الميقات فلا حرج، ويستحب أن يغتسل إذا وصل مكة قبل الطواف إذا تيسر ذلك.
2- يتجرد الرجل من جميع الملابس المخيطة، ويلبس إزارًا ورداءً، ويستحب أن يكونا أبيضين نظيفين، ويكشف رأسه، أما المرأة فَتُحرِم في ملابسها العادية التي ليس فيها زينة ولا شهرة.
3- ثم ينوي الدخول في النسك بقلبه، ويتلفظ بلسانه قائلا: "لبيك عمرة" أو "اللهم لبيك عمرة"، وإن خاف المحرم ألا يتمكن من أداء نسكه؛ لكونه مريضًا أو خائفًا من عدو ونحوه، شرع له أن يشترط عند إحرامه فيقول: "فإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني"؛ لحديث ضباعة بنت الزبير رضي الله عنها أنها قالت: "يا رسول الله، إني أريد الحج وأنا شاكية، فقال: حجي واشترطي أن محلي حيث حبستني"؛ متفق على صحته، ثم يلبي بتلبية النبي وهي: ((لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك)) ويكثر من هذه التلبية، ومن ذكر الله سبحانه ودعائه، فإذا وصل إلى المسجد الحرام سن له تقديم رجله اليمنى ويقول: (بسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله، أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم، اللهم افتح لي أبواب رحمتك)، كسائر المساجد، ثم يشتغل بالتلبية حتى يصل إلى الكعبة.(/1)
4- فإذا وصل إلى الكعبة قطع التلبية، ثم قصد الحجر الأسود واستقبله، ثم يستلمه بيمينه ويقبله إن تيسر ذلك، ولا يؤذي الناس بالمزاحمة. ويقول عند استلامه: (بسم الله والله أكبر) أو يقول: (الله أكبر)، فإن شق التقبيل استلمه بيده أو بعصا أو نحوها وقبل ما استلمه به، فإن شق استلامه أشار إليه وقال: (الله أكبر)، ولا يقبل ما يشير به. ويشترط لصحة الطواف: أن يكون الطائف على طهارة من الحدث الأصغر والأكبر؛ لأن الطواف مثل الصلاة غير أنه رخص فيه في الكلام.
5- يجعل البيت عن يساره، ويطوف به سبعة أشواط، وإذا حاذى الركن اليماني استلمه بيمينه إن تيسر، ويقول: (بسم الله والله أكبر)، ولا يقبله، فإن شق عليه استلامه تركه ومضى في طوافه، ولا يشير إليه ولا يكبر؛ لأن ذلك لم ينقل عن النبي. أما الحجر الأسود فكلما حاذاه استلمه وقبله وكبر - كما ذكرنا سابقا - وإلا أشار إليه وكبر. ويستحب الرمل - وهو: الإسراع في المشي مع تقارب الخطا - في جميع الثلاثة الأشواط الأولى من طواف القدوم للرجل خاصة.
كما يستحب للرجل أن يضطبع في طواف القدوم في جميع الأشواط، والاضطباع: أن يجعل وسط ردائه تحت منكبه الأيمن وطرفيه على عاتقه الأيسر. ويستحب الإكثار من الذكر والدعاء بما تيسر في جميع الأشواط. وليس في الطواف دعاء مخصوص ولا ذكر مخصوص، بل يدعو ويذكر الله بما تيسر من الأذكار والأدعية، ويقول بين الركنين: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ في كل شوط؛ لأن ذلك ثابت عن النبي. ويختم الشوط السابع باستلام الحجر الأسود وتقبيله إن تيسر، أو الإشارة إليه مع التكبير حسب التفصيل المذكور آنفا. وبعد فراغه من هذا الطواف يرتدي بردائه فيجعله على كتفيه وطرفيه على صدره.(/2)
6- ثم يصلي ركعتين خلف المقام إن تيسر، فإن لم يتمكن من ذلك صلاهما في أي موضع من المسجد. يقرأ فيهما بعد الفاتحة: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ في الركعة الأولى، و: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ في الركعة الثانية، هذا هو الأفضل، وإن قرأ بغيرهما فلا بأس. ثم بعد أن يسلم من الركعتين يقصد الحجر الأسود فيستلمه بيمينه إن تيسر ذلك.
7- ثم يخرج إلى الصفا فيرقاه أو يقف عنده، والرقي أفضل إن تيسر، ويقرأ عند بدء الشوط الأول قوله تعالى: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ ويستحب أن يستقبل القبلة على الصفا، ويحمد الله ويكبره، ويقول: (لا إله إلا الله، والله أكبر، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده)، ثم يدعو بما تيسر، رافعا يديه، ويكرر هذا الذكر والدعاء (ثلاث مرات).
ثم ينزل فيمشي إلى المروة حتى يصل إلى العلم الأول فيسرع الرجل في المشي إلى أن يصل إلي العلم الثاني. أما المرأة فلا يشرع لها الإسراع؛ لأنها عورة، ثم يمشي فيرقى المروة أو يقف عندها، والرقي أفضل إن تيسير، ويقول ويفعل على المروة كما قال وفعل على الصفا، ما عدا قراءة الآية المذكورة، فهذا إنما يشرع عند الصعود إلى الصفا في الشوط الأول فقط؛ تأسيا بالنبي، ثم ينزل فيمشي في موضع مشيه، ويسرع في موضع الإسراع حتى يصل إلى الصفا، يفعل ذلك سبع مرات ذهابه شوط ورجوعه شوط. وإن سعى راكبا فلا حرج ولا سيما عند الحاجة. ويستحب أن يكثر في سعيه من الذكر والدعاء بما تيسر، وأن يكون متطهرا من الحدث الأكبر والأصغر، ولو سعى على غير طهارة أجزأه ذلك.(/3)
8- فإذا كمل السعي يحلق الرجل رأسه أو يقصره، والحلق أفضل. وإذا كان قدومه مكة قريبا من وقت الحج فالتقصير في حقه أفضل؛ ليحلق بقية رأسه في الحج. أما المرأة فتجمع شعرها وتأخذ منه قدر أنملة فأقل. فإذا فعل المحرم ما ذكر فقد تمت عمرته - والحمد لله - وحل له كل شيء حرم عليه بالإحرام.
وفقنا الله وسائر إخواننا المسلمين للفقه في دينه والثبات عليه، وتقبل من الجميع، إنه سبحانه جواد كريم.
وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.(/4)
العنوان: صفة صوم النبي صلى الله عليه وسلم
رقم المقالة: 1151
صاحب المقالة: راجعها: الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن بن جبرين
-----------------------------------------
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فهذه نبذة في صفة صوم النبي - صلى الله عليه وسلم - وما فيها من واجبات وآداب وأدعية، وفى حكم الصيام وأقسام الناس فيه، والمفطرات، وفوائد أخرى على وجه الإيجاز، ونسأل الله تعالى أن يوفق المسلمين لتطبيق سنة نبيهم - صلى الله عليه وسلم - في كل صغيرة وكبيرة، والله الموفق.
تعريف الصيام:
هو التعبُّد لله تعالى بترك المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.
صيام رمضان:
أحد أركان الإسلام العظيمة، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم – ((بُنِيَ الإسلامُ على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأنَّ محمَّدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت الحرام))؛ متفق عليه.
الناس في الصيام:
• الصوم واجب على كل مسلم بالغ عاقل قادر مقيم.
• الكافر لا يصوم، ولا يجب عليه قضاء الصوم إذا أسلم.
• الصغير الذي لم يبلغْ لا يجب عليه الصوم، لكن يؤمر به ليعتاده.
• المريض مرضًا طارئًا يُنْتَظَرُ بُرْؤُه يفطر إن شق عليه الصوم ويقضي بعد برئه.
• المجنون لا يجب عليه الصومُ ولا الإطعامُ عنه وإن كان كبيرًا، ومثله المعتوه الذي لا تمييز له، والكبير المخرف الذي لا تمييز له.
• العاجز عن الصوم لسبب دائم كالكبير والمريض مرضًا لا يرجى برؤه - يطعم عن كل يوم مسكينًا.
• الحامل والمرضع إذا شقَّ عليهما الصوم من أجل الحمل أو الرضاع، أو خافتا على ولديهما، تفطران وتقضيان الصوم إذا سهل عليهما وزال الخوف.
• الحائض والنُّفَساء لا تصومان حال الحيض والنفاس، وتقضيان ما فاتهما.
• المضطر للفطر لإنقاذ معصوم من غرق أو حريق يفطر لينقذه ويقضي.(/1)
• المسافر إن شاء صام وإن شاء أفطر وقضى ما أفطره، سواءٌ كان سفره طارئًا كسفر العمرة أم دائمًا كأصحاب سيارات الأجرة؛ فيفطرون إن شاءوا ما داموا في غير بلدهم.
أحكام الصيام:
1- النية:
وجوب تَبْيِيتِ النية في صوم الفريضة قبل طلوع الفجر، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من لم يُجمِع الصيام قبل الفجر فلا صيام له))؛ صحيح أبي داود.
وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((مَنْ لم يبيت الصيام من الليل فلا صيام له))؛ صحيح النسائي. والنيَّة محلُّها القلب، والتلفُّظُ بها لم يَرْدِ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أحد من أصحابه رضي الله عنهم.
2- وقت الصوم:
قال تعالى: {وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187]. والفجر فجران:
• الفجر الكاذب: وهو لا يُحِلُّ صلاة الصبح، ولا يُحرِّمُ الطعام على الصائم، وهو البياض المستطيل الساطع المُصعَّد كذنب السرحان.
• الفجر الصادق: وهو الذي يحرم الطعام على الصائم، ويحلّ صلاة الفجر، وهو الأحمر المستطيل المعترض على رؤوس الشعاب والجبال.
فإذا أقبل الليل من جهة الشرق وأَدْبَرَ من جهة الغرب وغربت الشمس فليفطر. قال - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا أقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار من هاهنا، وغربت الشمس فقد أفطر الصائم))؛ متفق عليه. وهذا أمر يتحقق بعد غروب قرص الشمس مباشرة وإن كان ضوؤُها ظاهرًا.
3- السحور:(/2)
قال - صلى الله عليه وسلم -: ((فَصْلُ ما بَيْنَ صِيامِنَا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر))؛ رواه مسلم. وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((البركة في ثلاثة: الجماعة، والثريد، والسحور))؛ صحيح رواه الطبراني في الكبير، وكون السحور بركة ظاهرة لا يَنْبَغِي تركه، لأنه اتباع للسنة، ويقوي على الصيام، وهو الغذاء المبارك كما سمَّاه الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((هلمّ إلى الغذاء المبارك))؛ صحيح أبي داود، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((السُّحورُ أكلة بركة فلا تَدَعُوه ولو أن يجرع أحدُكم جرعةً من ماء، فإن الله وملائكته يُصَلّونَ على المُتَسَحِّرينَ))؛ حسنٌ رواه الإمام أحمد. وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((نعم سحور المؤمن التمور))؛ صحيح أبي داود. وكان من هَدْيِهِ تأْخِيرُ السحور إلى قُبَيْلِ الفجر.
4- ما يجب على الصائم تركه:
• قول الزور: قال - صلى الله عليه وسلم -: ((مَنْ لم يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ والعَمَلَ به فليس لله عَزَّ وجلَّ حاجةٌ أنَ ْيدَعَ طعامَهُ وَشَرابَهُ))؛ رواه البخاري.
• اللغو والرفث: قال - صلى الله عليه وسلم -: ((ليس الصيام من الأكل والشراب، وإنما الصيام من اللغو والرفث، فإن سابَّكَ أحدٌ أَوْ جَهِل عليك فقل: إني صائم))؛ صحيح ابن خزيمة.
5- ما يُباحُ لِلصَّائم:
• الصائِمُ يُصْبِحُ جُنُبًا: عن عائشة أنَّ النَّبيَّ - صلَّى الله عليه وسلم -: ((كان يدركه الفجر وهو جنب من أهله ثم يغتسل ويصوم))؛ متفق عليه.
• السواك للصائم: قال - صلى الله عليه وسلم -: ((لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء))؛ متفق عليه. فلم يخصَّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - الصائم من غيره، ففي هذا دَلالةٌ على أنَّ السواك للصائم ولغيره عند كل وضوء وكل صلاة عام، وفي كل الأوقات قبل الزوال أو بعده.(/3)
• المضمضة والاستنشاق: كان - صلَّى الله عليه وسلم - يَتَمَضْمَضُ ويَسْتَنْشِقُ وهو صائم، لَكِنَّهُ مَنَعَ الصَّائِمَ مِنَ المُبَالَغَةِ فِيهما، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((وبالِغْ في الاستنشاق إلا أن تكون صائمًا))؛ صحيح أبي داود.
• المباشرة والقبلة للصائم: عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُقَبّل وهو صائم، ويُبَاشِرُ وهو صائم، ولكنَّه كان أمْلَكَكُمْ لإرْبِهِ))؛ متفق عليه. ويُكْرَهُ ذلك للشباب دون الشيخ؛ قال - صلى الله عليه وسلم -: ((... إن الشيخ يملك نفسه))؛ صحيح رواه أحمد.
• تحليل الدَّمِ وضرب الإبر التي لا يُقْصَدُ بها التغذية: فإنها ليست من المفطرات؛ لأنَّها لَيْسَتْ مُغَذِّيَةً ولا تَصِلُ إلى الجَوْفِ.
• قلع السن: لا يفطر الصائم.
• ذَوْقُ الطعام: وهذا مُقَيَّدٌ بعدَمِ دُخُولِهِ الحَلْقَ، وكذلك الأمرُ بِمَعْجُونِ الأَسْنَانِ؛ لما وَرَدَ عنِ ابْنِ عبَّاسٍ - رضي الله عنه -: "لا باس أنْ يَذُوقَ الخَلًّ أوِ الشَّيْءَ ما لم يدْخُلْ حَلْقَهُ وَهُوَ صائِمٌ" رواه البخاري.
• الكُحْلُ والقَطْرةُ وَنَحْوُهُما مِمَّا يَدْخُلُ العَيْنَ: هذه الأمور لا تُفَطّر سواءٌ وَجَدَ طَعْمَهُ في حَلْقِهِ أم لم يَجِدْهُ، وقال الإمامُ البخاري في صحيحه: "ولم يَرَ أَنَسٌ والحسنُ وإبراهيمُ بِالكُحْلِ لِلصَّائِم بأسًا".
6- الإفطار:
• تعجيلُ الفِطْرِ مِنْ سُنَّةِ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - وفيه مخالفة اليهود والنصارى، فإنهم يؤَخِّرُون، وتأخيرُهم له أمدٌ، وهو ظهورُ النَّجم.. قال - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يزال الناس بخير ما عجَّلوا الفطر))؛ متفق عليه. وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تزال أمتي على سنتي ما لم تَنْتَظِرْ بِفِطْرِها النُّجوم))؛ صحيح ابن حِبَّان.(/4)
• الفطر قبل صلاة المغرب: عن أنس - رضي الله عنه - قال: ((كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يفطر قبل أن يصلي))؛ حسن رواه أبو داود.
• على ماذا يُفْطِرُ؟ عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفطر على رطبات قبل أن يصلي، فإن لم يكن رطبات فتمرات، فإن لم يكن تمرات حسا حسواتٍ من ماء))؛ صحيح أبي داود.
• ماذا يقول عند الإفطار؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: ((للصائم عند فِطْرِه دعوةٌ لا تُرَدّ))؛ صحيح ابن ماجه. وكان يدعو - صلى الله عليه وسلم - عند إفطاره: ((ذَهَبَ الظَّمَأُ وابْتَلَّتِ العُرُوقُ، وَثَبَتَ الأَجْرُ إِنْ شَاءَ اللهُ))؛ صحيح أبي داود.
7- مفسدات الصوم :
• الأكل والشرب مُتَعَمِّدًا: سواءٌ كان نافعًا أم ضارًّا كالدخان. أمَّا إذا فعل ذلك ناسيًا أو مخطئًا أو مُكْرهًا فلا شيءَ عَلَيْهِ إن شاء الله. قال - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا نسي فأكل وشرب فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، فإنَّما أطعمه الله وسقاه))؛ متفق عليه.
• تعمُّد القَيْءِ: وَهُوَ إِخْراج ما في المعدة عن طريق الفم؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من ذَرَعَهُ القَيْءُ فَلَيْسَ عليه قضاءٌ، وَمَنِ استقاء فَلْيَقْضِ))؛ صحيح أبي داود. فإنْ قاء من غير قصد لم يفطر.
• الجِماع: وإذا وَقَعَ في نهار رمضان مِنْ صائم يجب عليه الصوم فَعَلَيْهِ مع القضاء كفَّارة مُغَلَّظة وهي عِتْقُ رَقَبَةٍ، فإن لم يجد فصيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، فإن لم يستَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتّينَ مِسكينًا.
• الحُقَنُ الغِذَائِيَّة: وهي إيصال بَعْضِ المَوادّ الغِذائِيَّة إلى الأمعاء أو إلى الدم بقصد تغذية المريض، فهذا النوع يفطر الصائم، لأنه إدخال إلى الجوف.
• الحَيْضُ والنِّفَاس: خروج دم من المرأة في جزء من النهار سواءٌ وجد في أوله أو آخره أفطرت وقضت.(/5)
• إنزال المني: يقظة باستمناءٍ أو مباشرةٍ أو تقبيلٍ أو ضمٍّ أو نحو ذلك، وأما الإنزال بالاحتلام فلا يفطر لأنه بغير اختيار الصائم.
• حقن الدم: مثل أن يحصل للصائم نزيف فيحقن به دمه تعويضًا عما نزف منه.
8- القضاء:
• يستحب المبادرة إلى القضاء وعدم التأخير، ولا يجب التتابع في القضاء. أجمع أهل العلم أنَّ مَنْ مات وعليْهِ صلواتٌ فاتَتْهُ فلا يقضى عنه، وكذلك من عجز عن الصيام لا يصوم عنه أحد في حياته، بل يطعم عن كل يوم مسكينًا... ولكن من مات وعليه صوم صام عنه وليه، لقوله -صلى الله عليه وسلم-: ((مَنْ ماتَ وَعَلَيْهِ صومٌ صامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ))؛ متفق عليه.
9- الصَّوْمُ مع تَرْكِهِ الصلاة:
• مَنْ صامَ وَتَرَكَ الصلاة فَقد ترك الركن الأهمَّ من أركان الإسلام بعد التوحيد، ولا يفيده صومه شيئًا ما دام تاركًا للصلاة؛ لأن الصلاة عماد الدين الذي يقوم عليه، وتارك الصلاة محكوم بكفره، والكافر لا يقبل منه عمل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر))؛ صحيح رواه الإمام أحمد.
10- قيام الليل ( التراويح ):
• لقد سنَّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - قيام رمضان جماعة، ثم تركه مخافة أن يفرض على الأُمَّةِ فلا تستطيع القيام بهذه الفريضة. وَعَدَدُ ركعاتِها ثمان رَكَعَات دون الوتر؛ لحديث عائشة رضي الله عنها: "ما كان النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة" مُتَّفَقٌ عليه.
ولمَّا أحيا عُمَرُ بنُ الخطَّاب - رضي الله عنه - هذه السُّنَّة جمع إحدى عَشْرَةَ ركعة، وصلَّوْا في زمانِهِ ثلاثة وعشرين، وصلّوا بعده تِسعًا وثلاثين رَكْعَةً، والعمل على ثلاثَةٍ وعِشْرينَ كما في صلاةِ الحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ، وهو قول الأئمة الثلاثة وغيرهم.(/6)
وممَّا ابْتُلِيَ به المسلمون اليومَ في صلاة التَّراوِيحِ السُّرعةُ في القِراءَةِ وفي الرُّكوعِ والسُّجود وغَيْرِ ذلك. وهذا مُخِلٌّ بِالصلاة، مُذْهِبٌ لِخُشوعِها، وَقَدْ يُبْطِلُها في بعض الحالات... والله المستعان
11- زكاة الفطر:
• وهى فرضٌ؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنه: "فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زكاة الفطر من رمضان على الناس" متفق عليه. وتجب زكاة الفطر على الصغير والكبير، والذكر والأنثى، والحُرِّ والعبد من المسلمين ومقدارها صاع من غالب قوت البلد إذا كان فاضلاً عن قوت يومه وَلَيْلَتِهِ وَقُوتِ عِيالِهِ، والأَفْضَلُ فيها الأنفَعُ لِلْفُقَراءِ.
ووَقْتُ إخراجِها: يوم العيد قبل الصلاة، ويجوز قَبْلَهُ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، ولا يجوز تأخيرها عن يَوْمِ العيد.(/7)
العنوان: صفقة تبادل الأسرى الفلسطينيين
رقم المقالة: 580
صاحب المقالة: خاص: الألوكة
-----------------------------------------
أسماء لأطفال ونساء وأسرى قدامى يعودون بانتماءاتهم لحركة المقاومة الإسلامية "حماس"، وآخرين من قادة التنظيمات الفلسطينية، تضمنتها القائمة التي قدمها مؤخراً آسري الجندي الأسير للوفد المصري، ليقوم بدوره في التفاوض مع الاحتلال الإسرائيلي، وإتمام صفقة تبادل لإطلاق سراح الجندي الأسير جلعاد شاليط.
الأمل شق الوجوه الفلسطينية، وباتت الأمهات تعد قلوبهن لاستقبال الغوالي الذين غُيبوا سنوات وسنوات؛ فقط لأنهم أرادوا الحرية، وانتهجوا المقاومة أسلوباً للانتصار والفوز بالأرض والكرامة، وبات المسئولون الفلسطينيون يبذلون جهوداً جبارة، وينظرون بترقب لإنجاز صفقة التبادل، رغم مماطلات الجانب الإسرائيلي.
مصادر فلسطينية قالت: "إن القائمة التي تقدم بها آسري الجندي جلعاد تضمنت 1300 أسيرا فلسطينيا، من بينهم أطفال ونساء وقادة من التنظيمات المختلفة"، من بينهم عضو المجلس التشريعي مروان البرغوثي، والأمين العام للجبهة الشعبية أحمد سعدات، وعدد من النواب، ووزراء حماس؛ الذين اختطفوا بعد عملية أسر جلعاد، بالإضافة إلى القائد في الجهاد الإسلامي بسام السعدي، وكذلك عدد من قادة كتائب القسام في سجون الاحتلال؛ منهم يحيى السنوار، ومحمد شرانحة قائد الخلية التي قامت بعملية اختطاف جنديين إسرائيليين وقتلهما في غزة في العام 1998م، وعيد مصلح، وناصر دويدار، والمعتقلون عام 1992م، وعبد الفتاح دخان، وحازم العايدي المحكوم بالمؤبد، والمعتقل منذ عام 1991م وكذلك جمال عقل، وأحمد أبو الكأس.
الوفد المصري بدأ التفاوض(/1)
وفي تصريحات خاصة لموقع الألوكة، أكد المهندس إسماعيل الأشقر عضو كتلة حماس البرلمانية، ومقرر لجنة الداخلية والأمن في المجلس التشريعي، أن آسري الجندي قدموا قائمة بأسماء للأسرى الفلسطينيين المطالب بالإفراج عنهم للجانب المصري، ليتم التفاوض على إطلاق سراحهم مقابل الجندي جلعاد شاليط، وأضاف : "يجري الآن التفاوض مع الاحتلال الإسرائيلي"، واستدرك : "لكني أعتقد أن هذا الأمر ليس بالسهل، لأن الاحتلال لم يرد بعد على الجانب المصري" معلقاً : "الكرة الآن في ملعب جانب الاحتلال"، كما ألمح الأشقر إلى أن الدور الذي قام به الجانب المصري كان مركزياً وأساسياً، فهو الذي يفاوض نيابة عن الفصائل مع الاحتلال الإسرائيلي، واستطرد قائلاً: "أعتقد أن الأمور هناك متفق عليها حول الأسماء والمراحل، إلا أننا نشعر بالمماطلة وعدم الجدية من جانب الاحتلال الإسرائيلي".
إسماعيل أشقر: لا علم لنا بوساطة سعودية، ووساطة مصر قد تطلق سراح جلعاد.
ورداً على سؤال عن إمكانية وجود دور سعودي في صفقة التبادل، أكد الأشقر أنه لا يملك معلومات حول دور ووساطة سعودية في صفقة التبادل، قائلاً "ليس لديَّ علم".(/2)
من ناحية أخرى أشار الأشقر إلى رفض تل أبيب المبادرة لعقد اتفاقية تبادل أسرى إلا بعد تحرير جلعاد شاليط، لافتاً أن سبب الرفض يعود لإشكاليات في الجانب الإسرائيلي، حيث أن قادة الاحتلال الإسرائيلي بلغوا من الضعف ما لم تبلغه أي رئاسة وزراء في دولة الاحتلال، فهم غير قادرين على اتخاذ قرارات استراتيجية، بالإضافة إلى إشكاليات الأزمة الداخلية التي تعاني منها دولة الاحتلال الإسرائيلي، حيث الفساد في السياسة، والمال، والاتهامات المترامية هنا وهناك، مما يؤدي إلى إضعاف الطرف الإسرائيلي في اتخاذ قرارات استراتيجية أو كبيرة في هذا الأمر، وعلق قائلاً: " الجانب الإسرائيلي هو المرتبك، وهو الذي لا يستطيع أن يجيب على تساؤلات الطرف المصري فيما يتعلق بالجندي الأسير جلعاد شاليط"، واستطرد قائلاً "الجانب الإسرائيلي بتعنته يفشل جهود إتمام الصفقة".
وحول وجود تنسيق أو شراكة بين حركة المقاومة الإسلامية مع "حزب الله" بلبنان في تنفيذ عملية اختطاف الجندي جلعاد أو تبادل الأسرى، أوضح الأشقر بالقول: "على حد معرفتي لا في التنفيذ ولا في التبادل".(/3)
إلى ذلك يأمل الأشقر في أن يحتكم الجانب الإسرائيلي إلى العقل، وأضاف : "نحن بحاجة إلى إتمام صفقات تبادل أسرى ليذهب الجندي الأسير إلى أهله، ويعود أسرانا إلى أهلهم، خاصة وأن الجانب الإسرائيلي يريد إرباك الساحة الفلسطينية من خلال القتال الداخلي ومحاصرة الحكومة، وإغلاق المعابر وممارساته في القتل والاجتياح والتدمير، فهذه سياسته ومنهجه"، مؤكداً على أن الاحتلال يمارس تلك الإجراءات، من أجل تركيع وإذلال الشعب الفلسطيني، إلا أنه لن يركع إن شاء الله، لافتاً إلى رغبة كافة الفصائل والأطراف الفلسطينية، في إنجاز صفقة تبادل الأسرى لإنهاء جزء من معاناة الأسرى في السجون، وذويهم الذين تجرعوا الويلات والعذاب؛ ألماً، وحزناً، بسبب اعتقالهم، ويعلق الأشقر بالقول "القضية باتت قضية وطنية، تشمل الكل الفلسطيني، ولم تعد حكراً على الفصائل الآسرة للجندي شاليط" على حد تعبيره.
وبشيء من التفصيل أكد الأشقر أن صفقة التبادل تحتوي على ثلاث مراحل؛ الأولى سيتم خلالها الإفراج عن النساء والأطفال والأسرى القدامى من ذوي الأحكام العالية، بينما ستكون المرحلتين الأخيرتين للإفراج عن الأسرى أصحاب المؤبدات، لتشمل الصفقة 1400 أسيرا فلسطينياً.
لجنة لدراسة القائمة
على الرغم من التفاؤل الذي ساد الأوساط الفلسطينية بقرب إنجاز صفقة التبادل، إلا أن مصادر إعلامية في دولة الاحتلال الإسرائيلية أكدت أن التقدم في موضوع صفقة تبادل الأسرى ليس كبيراً، ولا يشعر بإنجاز عملية التبادل قريباً، وأشارت المصادر ذاتها أن التقدم كان في تشكيل الحكومة لجنة خاصة لدراسة قائمة الأسماء التي قدمها آسرو الجندي جلعاد شاليط للجانب المصري.(/4)
الوزير في دولة الاحتلال الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ أكد للإذاعة العبرية يوم الأحد 20 ربيع الأول الحالي، أن "اللجنة المشكلة ستدرس إمكانية إدخال تعديلات على المعايير الخاصة بالأسرى الذين قتلوا صهاينة، لزيادة القدرة على المناورة في إطار المفاوضات" على حد تعبير الإذاعة، بينما قال مصدر سياسي مسئول في حكومة الاحتلال: "إن حكومته علمت بمضمون قائمة الأسماء التي قدمها آسرو جلعاد شاليط"، وأضاف "إن القائمة تتضمن الكثير من المشاكل بإمكانها عرقلة إتمام الصفقة خاصة إذا ما تعلق الأمر بأسرى قتلوا صهاينة، الأمر يتطلب ضرورة فحص كل اسم على حدة، لمعرفة إذا ما كان الأسير الذي طلب الإفراج عنه ضمن القائمة ضالعاً في حادث قتل بصورة مباشرة أم لا"، بالإضافة إلى أن "الإفراج عن بعض الأسرى قد يحتاج إلى صدور عفو من قبل رئيس الكيان"، الغارق حالياً في سلسلة قضايا فساد أخلاقي، الأمر الذي يؤخر إنجاز الصفقة بصورة سريعة.
تفاؤل فلسطيني
حالة من التفاؤل اعتلت الوجوه الفلسطينية بقرب إنجاز صفقة تبادل الأسرى، على الرغم من المماطلة التي أبدتها حكومة الاحتلال الإسرائيلي، غير القادرة على اتخاذ إجراءات استراتيجية بشأن إتمام الصفقة.
النائب فتحي حماد - عضو القيادة السياسية لحركة المقاومة الإسلامية حماس- صرح أن صفقة التبادل باتت قاب قوسين أو أدنى، وأنها ستكون مشرفة لجميع الفلسطينيين، مؤكداً أن النهج الذي سارت عليه حركة المقاومة الإسلامية حماس في الثبات، ومواجهة كافة الضغوطات والتحديات، ستقودها بإذن الله إلى النصر، وإقامة الدولة المستقلة بإذن الله، خاصة وأن طريق التحرير تعبد بدماء الشهداء، والقادة الذين استطاعوا أن يقهروا المشروع الصهيوني، بعد الانتفاضتين المباركتين الأولى والثانية، وأضاف: "استطاعت المقاومة عبر عملية الوهم المتبدد أن تكشف زيف أسطورة الجيش الصهيوني بأسر الجندي جلعاد شاليط".(/5)
وبين تفاؤل دور الوساطة الجديدة لمصر، وضعف القرار السياسي للحكومة الإسرائيلية الحالية، لا يزال الفلسطينيون ينتظرون حدوث انفراج حقيقي، يضمن لهم عودة مئات الأسرى في السجون الإسرائيلية، قبل إطلاق سراح شاليط، الذي يرفض الجميع إطلاق سراحه بدون مقابل.(/6)
العنوان: صلاة الجماعة (1) فضل المشي إلى المسجد
رقم المقالة: 254
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
الحمد لله؛ فتح لعباده أبواب الخيرات، ودلهم على طرق اكتساب الحسنات، وحذرهم من أسباب السيئات، نحمده على ما منَّ به علينا من أنواع المنن، ونشكره على ما اختصنا به من النعم، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ دلت آياته ومخلوقاته على عظمته، فهو العظيم الذي صمد الخلق كلهم إليه فقام بهم، وقضى حوائجهم (ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره). وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ نصح لأمته أعظم النصح، فهداهم إلى ما ينفعهم، وحذرهم مما يضرهم؛ فجزاه الله تعالى عنا وعن المسلمين خير ما جزى نبيا عن أمته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه؛ أصلح هذه الأمة قلوبا، وأزكاهم أعمالا، وأهداهم سبيلا، رضي الله عنهم وأرضاهم رغم أنوف الكارهين لهم، الساخرين بهم، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، ولئن كان رمضان قد انتهى بما أودع العباد فيه من أعمالهم فإن الله تعالى يعبد في كل الأوقات، وليس بين العبد وبين عبادته إلا الموت، فبه ينقطع العمل، ويبتدئ الجزاء(واعبد ربك حتى يأتيك اليقين)
أيها الناس: يكدح الناس في الدنيا كأنهم مخلدون فيها، وينسى كثير منهم أعمال الآخرة كأنهم لا ينقلون إليها، وينتج عن ذلك تضييعهم لأعمال صالحة واجبة عظيمة الأجور لمصلحة أعمال دنيوية قد يربحون فيها شيئا من مال وقد يخسرون، وكم ضيع من الصلوات المكتوبة، وكم فاتت تكبيرة الإحرام من أجل شيء يسير من الدنيا، ذلك فضلا عن تضييع النوافل.
والكيس الحازم الفطن من رتب مهمات أعماله، وبدأ بالأهم منها، فما كان للآخرة قدمه على ما كان للدنيا؛ لأن كل المسلمين يتفقون على أن الآخرة أهم من الدنيا، فمن فعل ذلك سلمت له آخرته، ولم تفته الدنيا.(/1)
إن الله عز وجل قد رتب أجورا كبيرة على أعمال يسيرة دائمة مع العبد في يومه وليلته، ولا يحافظ على هذه الأعمال - رغم أنها يسيرة - إلا المرابطون على طاعة الله تعالى، ومن تلكم الأعمال: الصلوات الخمس، ففيها من الأجور والمنافع والخير، ما لا يحصيه المحصون، ولا يعده العادون، ولا سيما إذا أتم المصلي شروطها وأركانها، وأتى بواجباتها وسننها، وسابق غيره إليها في المساجد مع جماعة المسلمين حيث ينادى بها؛ حتى إن مشيه إلى المسجد قَرُبَ المسجد أو بَعُد عبادة تقربه إلى الله تعالى، ورتب على ذلك من الثواب ما لا يفرط فيه إلا محروم خسران.
فالمشي إلى المساجد يكفر الخطايا، ويرفع الدرجات كما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(من تطهر في بيته ثم مشى إلى بيت من بيوت الله ليقضي فريضة من فرائض الله كانت خطوتاه إحداهما تحط خطيئة والأخرى ترفع درجة) وفي حديث آخر عنه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط) روى الحديثين مسلم في صحيحه.
ولما أراد بعض الصحابة رضي الله عنهم الانتقال قرب المسجد أوصاهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يبقوا في مساكنهم؛ ليكتب لهم ممشاهم إلى المسجد؛ كما روى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما فقال:(خلت البقاع حول المسجد فأراد بنو سلمة أن ينتقلوا إلى قرب المسجد فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم: إنه بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا قرب المسجد، قالوا: نعم يا رسول الله قد أردنا ذلك، فقال: يا بني سلمة دياركم تكتب آثاركم دياركم تكتب آثاركم) رواه الشيخان.(/2)
وكلما بعد المسجد عن المنزل طال الممشى، وكثرت الخطى، فزاد الأجر، وكثرت الحسنات؛ كما روى أبو موسى رضي الله عنه فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(إن أعظم الناس أجرا في الصلاة أبعدهم إليها ممشى فأبعدهم، والذي ينتظر الصلاة حتى يصليها مع الإمام أعظم أجرا من الذي يصليها ثم ينام)رواه الشيخان.
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى: وكلما شق عليك المشي إلى المساجد كان أفضل؛ ولهذا فضل المشي إلى صلاة العشاء وصلاة الصبح، وعدل بقيام الليل كله؛ كما في صحيح مسلم عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:(من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما صلى الليل كله).
ولذلك كانت هاتان الصلاتان أثقل الصلاة على المنافقين؛ لأن المنافقين يريدون بصلاتهم في المسجد أن يراهم الناس، وهاتان الصلاتان ليليتان، فلا يحافظ عليهما، ويمشي إليهما إلا مؤمن.
والخطوة الواحدة من الخطى إلى المسجد تعدل صدقة كاملة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:(وكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة) رواه مسلم.
ولأجل ذلك كان من السلف الصالح من يقارب بين الخطى في المشي إلى المساجد لتكثير الأجر قال أنس رضي الله عنه: (مشيت مع زيد بن ثابت إلى المسجد فقارب بين الخطى وقال: أردت أن تكثر خطانا إلى المسجد) رواه ابن أبي شيبة.
ومن عظيم فضل الله تعالى على عباده، ورحمته بهم، وتوسيع مجالات الخير لهم: أن الرجوع من المسجد عقب الصلاة يحتسب كما يحتسب الذهاب، روى أبي بن كعب رضي الله عنه فقال: (كان رجل لا أعلم رجلا أبعد من المسجد منه وكان لا تخطئه صلاة، قال: فقيل له أو قلت له: لو اشتريت حمارا تركبه في الظلماء وفي الرمضاء، قال: ما يسرني أن منزلي إلى جنب المسجد، إني أريد أن يكتب لي ممشاي إلى المسجد ورجوعي إذا رجعت إلى أهلي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد جمع الله لك ذلك كله) رواه مسلم(/3)
قال العلماء:في هذا الحديث إثبات الثواب في الخطى في الرجوع كما يثبت في الذهاب .
ومن عظيم ما جاء في فضل المشي إلى المساجد لأداء الصلوات: ما جاء في حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم احتبس عنهم ذات غداة فلما سألوه قال عليه الصلاة والسلام: أما إني سأحدثكم ما حبسني عنكم الغداة، إني قمت من الليل فتوضأت وصليت ما قدر لي فنعست في صلاتي حتى استثقلت، فإذا أنا بربي تبارك وتعالى في أحسن صورة فقال: يا محمد، قلت: لبيك رب، قال: فيم يختصم الملأ الأعلى ؟ قلت:لا أدري، قالها ثلاثا قال: فرأيته وضع كفه بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين ثديي فتجلى لي كل شيء وعرفت، فقال: يا محمد، قلت: لبيك رب، قال: فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: في الكفارات، قال: ما هن؟ قلت: مشي الأقدام إلى الحسنات، والجلوس في المساجد بعد الصلوات، وإسباغ الوضوء حين الكريهات) صححه البخاري والترمذي.
وفي رواية للإمام أحمد (قال: يا محمد، فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قال: قلت: في الكفارات، قال: وما الكفارات؟ قلت: المشي على الأقدام إلى الجماعات، والجلوس في المسجد خلاف الصلوات، وإبلاغ الوضوء في المكاره، قال: من فعل ذلك عاش بخير، ومات بخير، وكان من خطيئته كيوم ولدته أمه).
والمشي إلى صلاتي العشاء والفجر سبب للنور يوم القيامة؛ كما جاء في حديث بريدة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة) رواه أبو داود والترمذي، وفي لفظ لابن خزيمة من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(ليبشر المشاؤن في الظلام إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة).(/4)
ويفرح الله تعالى بمشي عبده إلى المسجد لأداء الصلاة فإن الله تعالى يحب الطاعة لعباده، ويكره لهم المعصية (إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم) قال الحافظ ابن خزيمة رحمه الله تعالى:باب ذكر فرح الرب تعالى بمشي عبده إلى المسجد متوضياً، ثم ساق تحته حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يتوضأ أحد فيحسن وضوءه ويسبغه ثم يأتي المسجد لا يريد إلا الصلاة فيه إلا تبشبش الله إليه كما يتبشبش أهل الغائب بطلعته).
ولأجل ذلك فإن الله تعالى يعد لزوار المساجد ضيافة في الجنة في كل غدوة يغدونها إلى المسجد، فالمشاءون إلى المساجد في ضيافة الله تعالى حتى يعودوا إلى منازلهم، روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له في الجنة نزلا كلما غدا أو راح) رواه مسلم، والنزل:ما يهيأ للضيف عند قدومه.
ومن خرج إلى المسجد يريد الصلاة فهو في صلاة إلى أن يرجع؛ كما روى الحاكم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم:(إذا توضأ أحدكم في بيته ثم أتى المسجد كان في صلاة حتى يرجع).
وإذا تأخر العبد عن صلاة الجماعة مع حرصه على إدراكها، ومشييه إليها، كتب له أجرها ولو فاتته ؛ كما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(من توضأ فأحسن وضوءه ثم راح فوجد الناس قد صلوا أعطاه الله مثل أجر من صلاها أو حضرها لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا) رواه أحمد. وهذا يدل على عظيم أمر الخروج لصلاة الجماعة عند الله تعالى.(/5)
بل جاء ما هو أعظم من ذلك في حديث أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(من خرج من بيته متطهرا إلى صلاة مكتوبة فأجره كأجر الحاج المحرم ومن خرج إلى تسبيح الضحى لا ينصبه إلا إياه فأجره كأجر المعتمر وصلاة على إثر صلاة لا لغو بينهما كتاب في عليين) رواه أبو داود بإسناد حسن.
ومن خرج من بيته إلى الجماعة فهو في رعاية الله تعالى وحفظه، وله أن يعود إلى منزله سالما غانما، فإن توفاه الله تعالى أدخله الجنة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:(ثلاثة كلهم ضامن على الله عز وجل وذكر منهم:رجلا راح إلى المسجد فهو ضامن على الله حتى يتوفاه فيدخله الجنة أو يرده بما نال من أجر وغنيمة)رواه أبو داود وصححه ابن حبان والحاكم.
فاحرصوا رحمكم الله تعالى على إدراك هذه الأجور العظيمة بالمشي إلى المساجد، وكثرة الخطى إليها، والمحافظة على الجماعات، وعودوا أبناءكم ومن ولاكم الله تعالى أمورهم على هذا الخير العظيم؛ ففي ذلك ثواب الدنيا والآخرة.
(من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة وكان الله سميعا بصير) بارك الله لي ولكم ...
الخطبة الثانية
الحمد الله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، ولا أمن إلا للمؤمنين، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله النبي الأمين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين0
أما بعد: فاتقوا الله - عباد الله - وراقبوه، والزموا طاعته ولا تعصوه (ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون).(/6)
أيها المسلمون: المحافظة على الجماعات، واعتياد المشي إلى المساجد يستطيعه المسلم إذا جاهد نفسه على ذلك، وروضها عليه، وقد رأينا كثيرا من الناس فعلوا ذلك في رمضان حتى إنهم كانوا يسابقون على الصف الأول، وعلى الدنو من الإمام، ومن استطاع ذلك في شهر كامل فإنه قادر على أن يستمر عليه العمر كله.
إن كثيرا من الناس يحجزهم عن المسابقة إلى ذلك كسلهم وتسلط الشياطين عليهم بالتسويف والتأجيل، فيسمع واحدهم النداء فيتعلل بعمل يعمله، أو يتأخر لأن الإقامة بقي عليها وقت، فما يزال الشيطان يتمادى به حتى تفوته الجماعة، أو التكبيرة الأولى.
ويظل كثير من الناس يمنون أنفسهم بأنه سيأتي اليوم الذي يحافظ فيه الواحد منهم على الجماعة، ويسابق على الصف الأول، ولا تفوته التكبيرة الأولى، ويعد نفسه بأن ذلك سيحصل إذا فرغ من شغله، وخف ارتباطه، وقلت مسؤولياته، وما هذا التسويف والعدة والأماني إلا حبائل الشيطان يصطاد بها العبد حتى يدركه الموت ولما يفرغ من شغله.
وما الذي يمنع المسلم أن يجعل المشي إلى المساجد، وحضور الجماعة من أهم مهماته، وأول أولوياته، حتى يعتاد ذلك، ويكون جزءا من حياته، ومن فعل ذلك في رمضان فهو قادر على أن يفعله العمر كله، ولن يفوته من الدنيا ما قد يدركه غيره ممن هجروا المساجد، وأضاعوا صلاة الجماعة، فخسروا كثيرا.(/7)
إن سلفنا الصالح قد أدركوا أهمية المشي إلى المساجد، وحضور الجماعة، وعلموا ما رتب على ذلك من عظيم الثواب والجزاء، فجعلوا ذلك من أهم أعمالهم، لا يقدمون عليه أمرا من أمور الدنيا مهما علا شأنه، وبعضهم قد عذرهم الله تعالى في ذلك لمرض مقعد، أو كبر معجز، وما تركوا المشي إلى المساجد، وحضور صلاة الجماعة يبتغون الأجر من الله تعالى على ذلك. منهم:محمد بن على الحفار الغرناطي رحمه الله تعالى، قال ابن الخطيب:قد بقى الحفار نحوا من عامين أو أزيد يخرج للصلوات الخمس يهادى بين رجلين لشيء كان برجله حتى كان بعض أصحابه يقول: الحفار حجة الله على من لم يحضر الجماعة.
وكان الربيع بن خيثم رحمه الله تعالى يقاد إلى الصلاة، وكان به الفالج فقيل له: يا أبا يزيد، إنه قد رخص لك في ذلك، قال: إني أسمع حي على الصلاة،حي على الفلاح، فإن استطعتم أن تأتوها ولو حبوا.
ومن عجز منهم عن المشي إلى المسجد كان يستأجر من يحمله إلى المسجد لحضور الجماعة يبتغي الأجر على ذلك كما وقع للعالم المالكي ابن خفيف رحمه الله تعالى إذ كان به وجع الخاصرة فكان إذا أصابه أقعده عن الحركة فكان إذا نودي بالصلاة يحمل على ظهر رجل، فقيل له: لو خففت على نفسك، فقال رحمه الله تعالى: إذا سمعتم حي على الصلاة ولم تروني في الصف فاطلبوني في المقبرة.
وربما أحس بعضهم بالموت قبل الصلاة فآثر أن يخرج إلى الجماعة ليشهدها، ويموت في المسجد كما وقع ذلك لعامر بن عبد الله بن الزبير رحمه الله تعالى إذ سمع المؤذن وهو يجود بنفسه ومنزله قريب من المسجد، فقال: خذوا بيدي، فقيل له:أنت عليل فقال: أسمع داعي الله فلا أجيبه؟! فأخذوا بيده فدخل في صلاة المغرب فركع مع الإمام ركعة ثم مات رحمه الله.(/8)
إن هؤلاء الصالحين كانوا بشرا مثلنا، ولهم أعمال وأولاد ومسئوليات، ولكنهم جعلوا من أهم مهماتهم المحافظة على الجماعة في المساجد، فما فاتتهم الدنيا، والله تعالى أعلم بما أعد لهم من الأجر في الآخرة، فسيروا يا عباد الله سيرتهم في المشي إلى المساجد، والمحافظة على الجماعة، والمسابقة على الصف الأول، وإدراك تكبيرة الإحرام؛ ففي ذلك الثواب الجزيل من الله تعالى، والفوز بخيري الدنيا والآخرة. وصلوا...(/9)
العنوان: صلاة الجماعة (آداب الخروج إلى المسجد)
رقم المقالة: 845
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
الحمدلله الجواد الكريم؛ فتح لعباده أبواب خيراته، وأفاض عليهم من جزيل عطائه، نحمده على ما شرع لنا من دينه القويم، ونشكره فقد جعلنا من خير أمم العالمين {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110] وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ فرض علينا من العبادات ما يرفع الدرجات، ويكفر السيئات، ويزيد الحسنات؛ تفضلا منه علينا، ورحمة بنا؛ ليجزينا بما عملنا {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرَّحمن:60].
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ لا خير إلا دلنا عليه وأمرنا به، ولا شر إلا حذرنا منه ونهانا عنه، وما فارق أمته إلا بعد أن تركها على بيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه؛ أصلح هذه الأمة قلوبا، وأزكاهم نفوسا، وأخلصهم أعمالا، فرضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، وجعل دار الخلد مأواهم، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واعلموا أنكم تفارقون بيوتكم إلى قبوركم، ولن تجدوا فيها إلا أعمالكم، فشمروا عن ساعد الجد فيما ينجيكم، واحذروا ما يكون سببا في هلاككم، فالفرصة واحدة.. فوزها كبير، وخسارتها عظيمة {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ *وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ} [الأعراف: 8-9].(/1)
أيها الناس: للصلاة شأن كبير عند الله تعالى، وهي الشعيرة التي كلم الله تعالى بها محمدا عليه الصلاة والسلام بلا واسطة، وهي عمود الإسلام، وركنه الأول بعد الشهادتين، وكثرت نصوص الكتاب والسنة في شروطها وأركانها وواجباتها ومستحباتها كثرة لا تقاربها فيها عبادة أخرى، وهي العبادة الوحيدة التي يؤذن في الناس بها كل يوم وليلة خمس مرات.
وصلاة الجماعة واجبة على الرجال، وفيها لهم من المنافع والمصالح الدينية والدنيوية ما يعز على الحصر، ولها في دين الله عز وجل فضائل عظيمة، ورتب عليها أجور كثيرة، ومرتاد المساجد في ضيافة الرحمن جل جلاله فمن أعظم شرفا منه، ومن غدا إلى المسجد أو راح أعد الله تعالى له نزلا في الجنة كلما غدا أو راح.
إن كل إنسان إذا دعي إلى ضيافة استعد لها بالغسل والطيب، واختار لها من اللباس بحسب نوعها ومنزلة صاحبها، وموقعه هو من الضيافة، ومن ضيفه ملوك الدنيا ليس كمن ضيفه سائر الناس، فما ظنكم بمن ضيفه ملك الملوك، ورب العالمين، وخالق الناس أجمعين؟!
ولما كان مرتاد المساجد لحضور الجماعة ضيفا على الله تعالى شرع له من الأعمال والآداب ما يلتزم به؛ لحق هذه الضيافة العظيمة، التي لا تقاربها ضيافة دنيوية مهما كانت، وللضيف فيها من الثواب الجزيل على قدر التزامه بما شرع الله تعالى له في هذه الشعيرة العظيمة.
ومن تلكم الأعمال والآداب: أن يخلص النية لله تعالى قبل خروجه إلى الصلاة، وأن يستحضر عظمتها ومكانتها من الدين، ومنزلتها عند الله عز وجل؛ حتى تعظم في قلبه، فلا ينازعه فيها مخلوق مهما كان عظيما، ولا يصده عنها شغل دنيوي وإن كان كبيرا، ويعطيها ما تستحق من التهيئة والاستعداد وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أتى المسجد لشيء فهو حظه) رواه أبو داود. وما من شك في أن من أتاه للصلاة فحظه عظيم؛ لمنزلتها عند الله تعالى، ولمكانتها من دين الإسلام.(/2)
إن كثيرا من الناس يغيب عنهم هذا المعنى المهم قبل الخروج إلى المسجد، وهو استحضار عظمة الصلاة عند الخروج إليها؛ وذلك لاعتيادهم عليها، وبسببه تثقل عليهم، ويجاهدون أنفسهم فيها، ولو وطنوا أنفسهم وجاهدوها قبيل كل صلاة على استحضار مكانتها من الدين، ومنزلتها عند رب العالمين؛ لوجدوا فيها أعظم اللذة والراحة، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يستريح بها، وهي قرة عينه.
ومما يدل على عظمة الصلاة في الدين ما شرع لها من التطهر والوضوء رغم أنها تتكرر خمس مرات كل يوم، ورتب على هذا الوضوء أجور عظيمة من تكفير الخطايا مع كل عضو يغسله، وفتح أبواب الجنة للمتوضئ إذا أنهى وضوءه، وأتى بالذكر الوارد عقبه.
وهذا التطهر لها مما يليق بحق هذه الضيافة العظيمة؛ ولذا شرع لها التزين باللباس، والطيب له تبع، والسواك لتطهير الفم {يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف:31] وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة) رواه الشيخان.
ومن الاستهانة بالمسجد وبالصلاة أن يحضرها المصلي بما لا يليق من لباس النوم أو الرياضة أو المهنة مع ما تعج به من روائح صنعته وحرفته أو نحوها من الألبسة التي لا يرضى أن يلبسها له ضيفه، ولا يلبسها هو إذا دعي إلى ضيافة؛ فكيف يرفضها في مجلس بيته، ويرضاها في مسجد ربه؟! وكيف لا يقبلها على نفسه في دعوة البشر، ويقبلها في دعوة رب البشر سبحانه وتعالى؟!(/3)
وجاء النهي الشديد عن حضور الجماعة بالروائح الكريهة؛ لأن ذلك ينافي عظمة الضيافة، ويتأذى به الملائكة والمؤمنون، روى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أكل ثوما أو بصلا فليعتزلنا وليقعد في بيته) رواه الشيخان، وفي رواية لمسلم: (من أكل البصل والثوم والكراث فلا يقربن مسجدنا فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم). وبلغ من أهمية هذا الموضوع الذي استهان به كثير من الناس في هذا الزمن أن عمر رضي الله عنه لما علم قرب وفاته برؤيا رآها أوصى الناس، فكان من وصيته قوله رضي الله عنه: (ثم إنكم أيها الناس تأكلون شجرتين لا أراهما إلا خبيثتين: هذا البصل والثوم لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وجد ريحهما من الرجل في المسجد أمر به فأخرج إلى البقيع) رواه مسلم. ولولا شدة النهي عن ذلك لما أمر بإخراجه إلى البقيع.
فلا يحل لمسلم أن يحضر المسجد بروائح الثوم أو البصل أو الدخان أو نتن جواربه أو ملابسه إذا كان لا ينظفها، ومن أكل ثوما أو بصلا طبا أو طعاما فليصل في بيته، ولا يؤذي المصلين برائحته، ولو لم يكن في الدخان سيئة إلا أن المدخن يؤذي الملائكة والمصلين برائحته لكان ذلك رادعا للمبتلى به أن يسعى جهده في الإقلاع عنه.
ومن ابتلي برائحة كريهة في جسده أو بخر في فمه فليسع قبل حضوره إلى المسجد إلى إزالتها بأنواع المطهرات والروائح الطيبة، فإن كانت لا تزول أبدا، فلا جماعة عليه، وليصل في بيته.
وإذا أكمل المسلم ما يلزم لصلاته، وأراد الخروج إلى المسجد قدم رجله اليسرى في خروجه من منزله، وأتى بالأذكار الواردة في ذلك؛ فإنها تدحر شيطانه، وتعينه على الخشوع في صلاته.(/4)
ومشيه إلى المسجد أفضل من ركوبه؛ لما رتب على الخطو إلى المساجد من رفع الدرجات، وزيادة الحسنات، وتكفير الخطيئات، ويقرب بين رجليه في خطواته؛ لتكثيرها وتحصيل ما رتب عليها من عظيم الثواب. عن أنس رضي الله عنه قال: (وضع زيد بن ثابت يده علي وهو يريد الصلاة فجعل يقارب خطوه) وقال ابن مسعود رضي الله عنه: (إن كنا لنقارب في الخطا).
وهذا الخير العظيم لا يتأتى إلا لمن استعد للصلاة قبل دخول وقتها، أو في أوله، وخرج إلى المسجد مبكرا، والتبكير إلى الصلاة سبب لتحصيل عبادات كثيرة تفوت على المتأخرين عن الصلاة إلى قرب الإقامة أو بعدها.
فإذا أقيمت الصلاة وهو يمشي فلا يسرع في مشيه لإدراك تكبيرة الإحرام أو الركعة أو الصلاة، لا خارج المسجد ولا داخله؛ لأنه لا يزال في صلاة ما أخرجته الصلاة، روى أبو هريرة رضي الله عنه فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون وأتوها تمشون وعليكم السكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا) رواه الشيخان، وفي رواية لمسلم: (فإن أحدكم إذا كان يعمد إلى الصلاة فهو في صلاة).
وما يفعله كثير من الناس من الجري وتسريع الخطا والجلبة والنحنحة ورفع الصوت والضرب بالأرجل لإدراك الركوع مما ينافي الوقار والسكينة، وفيه مخالفة للأحاديث الصحيحة، مع ما فيه من إزعاج للمصلين وتشويش عليهم ، فحري بالمصلي أن يجتنب ذلك، وأن يبكر للصلاة ما استطاع؛ لئلا يقع في هذه المخالفات.
ومن كبير الخطأ: تشويش كثير من الناس على إخوانهم المصلين بهواتفهم قبل الصلاة وأثناءها وبعدها، بما يصدر عنها من أصوات متنوعة، تزعج المصلين، وتذهب خشوعهم، سواء كانت قرآنا أم أذانا أم دعاء أم غير ذلك. فإذا كانت تصدر غناء أو موسيقى فالجرم أكبر، والأذية أشد؛ إذ كيف يرضى مسلم بمحرمات يجلبها إلى بيوت الله تعالى، مع ما في ذلك من أذية الملائكة والمصلين، فليتق الله تعالى من يتساهلون في ذلك.(/5)
فإذا أراد دخول المسجد قدم رجله اليمنى، وأتى بذكر دخول المسجد،قال أنس رضي الله عنه: (من السنة إذا دخلت المسجد أن تبدأ برجلك اليمنى وإذا خرجت أن تبدأ برجلك اليسرى) رواه الحاكم وصححه.
ويحرص على الصف الأول، وعلى القرب من الإمام ما استطاع، وعلى أن يكون في يمين الصف؛ لما رتب على ذلك من الأجور العظيمة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا، ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه) متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه
وفي حديث أبي مسعود رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليلني منكم أولو الأحلام والنهى) رواه مسلم.
وفي حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله وملائكته يصلون على ميامن الصفوف) رواه أبو داود وصححه ابن حبان.
وإذا أخذ مكانه في المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين؛ لحديث أبي قتادة بن ربعي رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين) رواه البخاري.
وهو لا يزال في صلاة ما دام ينتظر الصلاة، فإن شاء تنفل أو قرأ القرآن أو اشتغل بالذكر أو بالدعاء، ولا يشتغل بأمور الدنيا أو بالحديث مع غيره في شئونها وهو منتظر صلاته، ولا يعبث في المسجد بثوبه أو يديه أو ساعته أو جواله، ولا يشبك بين أصابعه؛ لحديث كعب بن عجرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا توضأ أحدكم فأحسن وضوءه ثم خرج عامدا إلى المسجد فلا يشبكن يديه فإنه في صلاة) رواه أبو داود وصححه ابن حبان.(/6)
ولا يرفع صوته بقرآن أو ذكر فيشوش على غيره؛ لما جاء في حديث أبي سعيد رضي الله عنه قال: (اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد فسمعهم يجهرون بالقراءة فكشف الستر وقال: ألا إن كلكم مناج ربه فلا يؤذين بعضكم بعضا، ولا يرفع بعضكم على بعض في القراءة أو قال في الصلاة) رواه أبو داود وصححه ابن خزيمة والحاكم.
وإذا أقيمت الصلاة فلا يصلي إلا المكتوبة؛ لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، ولأنها هي المقصود من مجيئه للمسجد.
فإذا صلى أتى بالأذكار عقب الصلاة، والسنة أن يجهر بها لما روى الشيخان عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم).
فإن كان للصلاة راتبة بعدية أتى بها في المسجد، وإن صلاها في بيته فذلك أفضل؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: (صلوا أيها الناس في بيوتكم فإن أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة) رواه الشيخان عن زيد بن ثابت رضي الله عنه، وروى مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده فليجعل لبيته نصيبا من صلاته فإن الله جاعل في بيته من صلاته خيرا).
أسأل الله تعالى أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن يرزقنا العمل بما علمنا، وأن يقبل منا ومن المسلمين أجمعين، والحمد لله رب العالمين، وأقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم....
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [البقرة:281].(/7)
أيها الناس: للمساجد حرمتها عند الله تعالى، وواجب على مرتاديها أن يراعوا تلك الحرمة، وأن يلتزموا فيها بآداب الشريعة، ومن فقد شيئا فلا يسأل عنه في المسجد رجاء أن يجده؛ فإن ذلك من انتهاك حرمة المساجد وابتذالها، وقد جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من سمع رجلا ينشد ضالة في المسجد فليقل: لا ردها الله عليك فإن المساجد لم تبن لهذا) رواه مسلم.وجاء في حديث بريدة رضي الله عنه: (أن رجلا نشد في المسجد فقال: من دعا إلى الجمل الأحمر؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا وَجَدْتَ إنما بنيت المساجد لما بنيت له) رواه مسلم.
ومن تعظيم المساجد تحريم البيع والشراء فيها وقد جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا: لا أربح الله تجارتك..) رواه الترمذي وصححه ابن خزيمة.
وكثير من الناس لا يحلو لهم الحديث عن الدنيا والبيع والشراء والتجارة والعقار والأسهم إلا في المساجد، وأثناء انتظار الصلاة، ولا سيما إذا جلس بجوار شريكه أو قرينه، وذلك من تزيين الشيطان لهم؛ لينقص من أجرهم، ويزيد في إثمهم، فالحذر الحذر من ذلك، فإن المساجد ما بنيت لهذا.
ويدخل في معنى ذلك: التسول في المساجد إذا كان فيه تشويش على الناس، وإشغال لهم عن الذكر، وإلحاح في المسألة، كما هو واقع في هذا الزمن؛ إذ لا يهنأ الواحد منهم حتى يصيح في الناس يفصل حاجته، ويستدر عواطفهم، وكل ذلك مما ينهى عنه في المساجد، وكان ابن عباس رضي الله عنهما يسب المتسولين ويقول: لا تشهدون جمعة ولا عيدا إلا للمسألة والأذى...قال الذهبي رحمه الله تعالى: فكيف إذا انضاف إلى ذلك غنى ما عن السؤال، وقوة على التكسب.(/8)
أيها المسلمون: تلك آداب عظيمة شرعت لمن أراد الخروج إلى الصلاة، وكان من رواد المساجد؛ ليكتمل أجره، ويعظم جزاؤه، فحري بنا وبكل مسلم أن يتعلمها ويعمل بها؛ التزاما بالسنة، وطلبا للأجر من الله تعالى {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ إِنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة:110].
وصلوا وسلموا على نبيكم كما أمركم بذلك ربكم....(/9)
العنوان: صلاة الفاتح تحت المجهر
رقم المقالة: 1049
صاحب المقالة: د. حيدر عيدروس علي
-----------------------------------------
صلاة الفاتح بين زعم التيجانية وذخائر الروايات
كنت قد قرأتُ عن صلاة الفاتح، وكيف جاءت عند التيجانية، وما ذكروه في فضلها، كما قرأتُ بعض الردود على ذلك، ولم يكن الأمرُ يشغلُني كثيراً لأنَّ فيما صح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كفايةً للمجتهد الحريص الدائب، فضلا عن مقتصد مفرِّط مثلي، مع يقيني الذي لا يتزعزع بأن المتأخرين مهما اجتهدوا فلن يبلغوا عُشر مِعشار ما بلغه الصحابة والتابعون، ومن تبعهم بإحسان؛ في دأبهم وحرصهم على متابعة النبي -صلى الله عليه وسلم- بمنهج منضبط رشيد، يرد الغالي، ويستنهض التالي، ومن ظن أنه أتبعُ لرسول الله -صلى الله وسلم- منهم فقد ركب مراكبَ الهوى، وأطلق أشرعتها في بحر لجي متلاطم، في ليل مدلهم حجبت زواهرَه الغيومُ.
ولم أهتم لأمر صلاة الفاتح إلا بعد أن وقفتُ على نصوصٍ في دواوين السنة تضمنت صيغاً مماثلة لهذه الصلاة، وزادت على نصها الكثير، فقادني ذلك إلى التأمل فيها، والبحث في شأنها على النحو الذي تراه.
فأما صلاة الفاتح عند التِّيجانية فنصها هو: ((اللهم صلِّ على سيدنا محمد الفاتح لما أغلق، والخاتم لما سبق، ناصر الحق بالحق، والهادي إلى صراطك المستقيم، وعلى آله حق قدره ومقداره العظيم)). ويذكر التيجانية أن هذا النص تلقاه أبو العباس التيجاني من البكري، ثم بعد ذلك تلقاه من النبي -صلى الله عليه وسلم- في اليقظة، وهذا هو المشهور والمتواتر عندهم، وقد طفحت به كتبهم.(/1)
وأما أبو العباس التيجاني الذي تنتسب إليه الطائفة التيجانية، فهو: أحمد بن محمد بن المختار بن أحمد بن محمد بن سالم أبو العباس التِّيجاني المضاوي[1]، الذي ولد في سنة خمسين ومئة وألف هجرية، بقرية "عين ماضي"، التي تقع الآن في الجزائر، وحفظ القرآن في صغره على يد الشيخ محمد التِّيجاني، ثم اشتغل بطلب العلوم الشرعية؛ فقرأ مختصر خليل، ومقدمة ابن رشد، والأخضري[2]. ثم مال إلى طريق التصوف، وكان لرحلاته الكثيرة أثرٌ في سلوكه هذا الطريقَ، وتُوفي في شهر شوال من سنة ثلاثين ومئتين وألف هجرية[3].
ويذكر عبد الحفيظ بنخويا؛ أن نسبة التيجاني إلى (بني توجين)[4]، وهم أخواله الذين نشأ فيهم، أو إلى (تيجانة)، إذ انتقل جدُّه الرابع إلى أحواز مدينة آسفي، بمنطقة (بني توجين)، أو (تيجانة)، واستقر بها فصار أتباعه، وأهل طريقته يعرفون بالتيجانيين[5]. وهذا اعتسافٌ منه في توجيه النسبة؛ إذ النسبة إلى (توجين): (توجيني). ولعل التوجيه السليم هو: إلى (تيجانة)، ولم أقف على رأي صواب في الدلالة عليها، إلا أن يتعسف متعسف فيقول: إن بني توجين هم بنو تيجانة، وهو ما لم يقل به أحد من أهل المعرفة بالأنساب. ومن العجيب جداً أن صحفياً يعمل محرراً بجريدة العلم المغربية ذكر بأن تيجانة قرية قريبة من المدينة المنورة، وهو ما لم يذكره أحد ممن حصر قرى الحجاز[6]، فأرجو من التيجانية أن يحرروا هذه النسبة لكونها تتعلق برأس طائفتهم.(/2)
وللتيجانية احتفاء كبير بصلاة الفاتح، ومن أقوالهم في فضلها ما يدهش القارئ ويحيره، ومن ذلك ما سطره الشيخ محمد بن سعد بن عبد الله الرباطابي[7] في كتابه: ((الدرر السنية، في فضل صلاة الفاتح، وجوهرة الكمال))[8]، فقال: فأما فضل صلاة الفاتح؛ فأكثر من أن يحصر، وأعظم من أن يسطر، فمن المقرَّر عند العلماء الأعلام العملُ بجميع ما يتلقاه العارفون من رسول الله - صلى الله عليه وسلم- سواء كان في اليقظة، أو في المنام، ما لم يصادم شيئاً من النصوص القطعية، أو يؤدي إلى انخرام قاعدة شرعية، وكلُّ ما ذكره شيخنا أحمد التيجاني -رضي الله عنه- في فضل صلاة الفاتح وجوهرة الكمال، هو مما تلقاه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقظة، لا مناماً، ليس فيه مصادمة للنصوص القطعية، ولا ما يؤدي إلى انخرام قاعدة شرعية، إذ غاية ما ذكره أنه إخبار عدل بما تلقاه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بذكر غير خارج عن دين الله القويم، وتضعيف الأجر الثابت أصله بالكتاب والسنة، قال الله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء} [البقرة: 261]، وفي الحديث: ((إن الحبة[9] بعشرة أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة))، وإذا عُلم ذلك فنقول: إن صلاة الفاتح لها من الفضائل ثماني مراتب، والمذكور من فضلها جزء من المرتبة الأولى، وغير ذلك كله مكتومٌ، ومما ذكر من فضلها غير المكتومِ: أن من قرأها مرة واحدة تضمن له سعادة الدارين، ومنه: أن من واظب على قراءتها كل يوم عشرات[10]، يموت على الإيمان[11].اهـ.(/3)
هكذا ذكر الشيخ (محمد بن سعد الرباطابي) فضل صلاة الفاتح، وذكر أن الشيخ (أبا العباس أحمد التيجاني) تلقاها من النبي -صلى الله عليه وسلم- كفاحاً في اليقظة، والشيخ محمد بن سعد من المُقَدَّمين الكبار في الطريقة التيجانية، وكتابه ((الدرر السنية)) من الكتب المعتمدة عندهم، وقد صدر في طبعته الأولى في عام خمسة وسبعين وثلاث مئة وألف من الهجرة المباركة، من مكتبة القاهرة، ومطبعة حجازي بالقاهرة. وله كتاب آخر سماه: ((الصراط المستقيم في الرد على ما نسب للسادة التيجانية بأن صلاة الفاتح أفضل من القرآن العظيم))، وقد طبعته، ونشرته الجهتان المذكورتان، وفي نفس العام الذي طبعت فيه ((الدرر السنية)).
وقد نفى الشيخ محمد بن سعد الرباطابي في كتابه الأخير ((الصراط المستقيم...)) القول المشهور الذي نسب إليهم بأن قراءة صلاة الفاتح مرة واحدة تعدل قراءة القرآن العظيم ست مرات، وكان لزاماً أن ينفي ذلك لأنَّ معتقِد ذلك خارج عن دين الإسلام، وهو ما يُحمد للشيخ محمد بن سعد، وأرجو أن لا يكون في التيجانية من يقول بذلك، لما فيه من خطر الكفر الذي يهرُب منه المسلم.
أما ما ذكره الشيخ محمد بن سعد في كتاب ((الدُّرر السَّنية)) في فضل هذه الصلاة، ففيه ما يفتقر إلى دليل يؤيده، ومن ذلك قوله بأن التيجاني تلقى هذه الصلاة من النبي -صلى الله عليه وسلم- في اليقظة، فهو قول حري بأن يتأمله طلابُ الحق من التيجانية وغيرهم ممن ينهلون من مشرب موافق، لا أن يجتهدوا في إثباته، إذ هو من جملة ما يخالَفون فيه، ويطالَبون بالرجوع عنه، وأسأل الله أن يوفقني في إظهار حجتي في رد كلام الشيخ محمد بن سعد الرباطابي -رحمه الله- في صلاة الفاتح، وما يتعلق بها، إذ كلٌ يؤخذ من قوله ويرد، إلا النبي -صلى الله عليه وسلم- فأقول وبالله التوفيق:-(/4)
أولا: قوله -رحمه الله-: ((فمن المقرر عند العلماء الأعلام؛ العمل بجميع ما يتلقاه العارفون من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سواء كان في اليقظة، أو في المنام، ما لم يصادم شيئاً من النصوص القطعية، أو يؤدي إلى انخرام قاعدة شرعية)).اهـ.
فهذا كلام عجيب، إذ كيف يتصادم ما تلقاه العارفون من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في اليقظة أو المنام مع النصوص القطعية، أو يؤدي إلى انخرام قاعدة شرعية؟!! فإذا كان الْمُلْقِي هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمتلقِّي هو العالم، الثقة، العارف، الورع، التقي، النقي، الزاهد،... إلى آخر الصفات الحميدة، فكيف يأتي بما يتصادم مع القواعد الشرعية، أو بما يؤدي إلى انخرامها؟! تأمل أخي طالب الحق، والله يلهمني وإياك الصواب. وإن كان التصادم، أو الانخرام يمكن أن يحدثا، ويترتب على أي منها عدم الأخذ بقول المتلقي حينئذ فهذا يدل على احتمال وقوع الكذب أو الخطأ من بعض من تحملوا ذلك، وإلا فيلزم أن يكون كلام الشيخ -رحمه الله- من قبيل تحصيل الحاصل، ولا داعي له!!!
وقد يعترض معترض بأن هذا قد حدث وقوعه في روايات الحديث النبوي الشريف كثيراً، وقد اجتهد العلماء في التوفيق بين هذه الروايات المتعارضة، المتصادمة، بالطرق المعروفة لديهم، أو اعتماد بعضها دون بعضها الآخر. ويُرد على هذا الاعتراض بأن هذا يتم انطلاقاً من مرتكزات، وقواعد علمية معروفة لدى المختصين من علماء الحديث؛ بما لديهم من معرفة واسعة بالأسانيد والمتون، أما في حالتنا هذه فالنص المتأخر لا سند له، ولا شاهد له مما صح عن الصحابة الكرام، فيلزم عند حدوث التصادم، أو التعارض أن يتم إسقاط النص المتأخر، لكونه لا سند، ولا شاهد له، وإذا قبلنا ذلك، ثبت لدينا أن الكلام المتقدم نقلُه عن الشيخ محمد بن سعد هو تحصيل حاصل، وإن رفضنا قبول المرتكزات والقواعد التي أسسها العلماء دخلنا في نفق مظلم، والعياذ بالله.(/5)
ثانيا: قوله: ((وفي الحديث: "إن الحبة بعشرة أمثالها، إلى سبع مئة ضعف، إلى أضعاف كثيرة")).اهـ.
فهذا الحديث لم أقف عليه بهذا اللفظ بعد بحث طويل، وواضح أن كلمة (حبة)، محرفة عن (حسنة)، فقد أخرج الشيخان من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم، فيما يرويه عن ربه -عز وجل- قال: قال: ((إن الله كتب الحسنات والسيئات، ثم بيَّن ذلك؛ فمن همَّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة، فإن هو همَّ بها وعملها كتبها الله له عنده عشرَ حسنات، إلى سبع مئة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة، فإن هو هم بها فعملها كتبها الله له سيئة واحدة))[12]، وله صيغ أخرى في الصحيحين، وغيرهما عن غير ابن عباس -رضي الله عنهما-، ويبدو أن الأمر قد نتج عن تداخل ألفاظ هذا الحديث بألفاظ الآية الكريمة {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: (261)]، وقد اعتنى علماءُ الأمة بكتابة حديث النبي - صلى الله عليه وسلم- بمنتهى الدقة، فكان حرياً بمن تولى طباعة هذا الكتاب ومقابلته أن يراعي ذلك؛ لأنه جانب جليل، وأمر مهم، فإن الرواية عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الأمور العظيمة، والمهام الجسيمة.
ثالثا: قوله: ((وإذا عُلم ذلك فنقول: إن صلاة الفاتح لها من الفضائل ثماني مراتب، والمذكور من فضلها جزء من المرتبة الأولى، وغير ذلك كله مكتومٌ، ومما ذكر من فضلها غير المكتومِ: أن من قرأها مرة واحدة تضمن له سعادة الدارين، ومنه: أن من واظب على قراءتها كل يوم عشرات[13]، يموت على الإيمان)).اهـ.
ولي عند هذا القول ثلاث وقفات:(/6)
الأُولى: من الذي حدَّدَ هذه المراتب؟ تنبه أخي القارئ الكريم للإجابة، وهي لا تخرج عن أحد احتمالين؛ فإن قيل: هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهو قول يحتاج لتوثيق؛ لأن ما جاء به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من خيرٍ فهو للمسلمين كافة، فحتى أهل بيته وخاصته -رضوان الله عليهم- لم يصح أنه خصَّهم بشيء دون غيرهم من المسلمين، ويدل على ذلك ما أخرجه الشيخان؛ البخاري ومسلم، من حديث إبراهيم التيمي، عن أبيه، قال: خطَبَنا عليٌّ، فقال: ما عندنا كتاب نقرؤه إلا كتاب الله، وما في هذه الصحيفة، فقال: فيها الجراحات، وأسنان الإبل، والمدينة حَرَمٌ ما بين عَيْرٍ إلى كذا، فمن أحدَثَ فيها حَدَثاً، أو آوى فيها مُحْدِثاً فعليه لعنة الله، والملائكة، والناس أجمعين، لا يُقبل منه صرفٌ، ولا عدلٌ، ومن تولَّى غيرَ مواليه فعليه مثلُ ذلك، وذمةُ المسلمين واحدة، فمن أخفر مسلماً فعليه مثل ذلك[14]. وأخرجه البخاري من وجه آخر، من حديث أبي جحيفة، قال: قلت لعلي -رضي الله عنه-: هل عندكم شيء من الوحي إلا ما في كتاب الله؟ قال: والذي فَلَقَ الحبةَ، وبرأَ النسمةَ، ما أعلمه، إلا فهماً يعطيه الله رجلاً في القرآن، وما في هذه الصحيفة، قلت: وما في الصحيفة؟ قال: العَقْل، وفَِكاك الأسير، وأن لا يُقتل مسلمٌ بكافر[15].اهـ. والصحابة هم أولى الناس بمعرفة هذا الفضل، والأخذ منه.
وإن قيل: إن الذي حدد هذه المراتب هو التيجاني، فهذا أمر يستحق التفكر والتأمل، إذ لا يجرؤ على ذلك أحد من الناس، لأنه من متعلقات الوحي الكريم!! فهل من وحي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!! وما أظن أن يخرج الأمر عن هذين الاحتمالين!
الثانية: قوله: ((وغير ذلك كله مكتومٌ)).اهـ.
والمكتوم حسب كلام الشيخ، هو: ما تبقى مما ورد في المرتبة الأولى، وما ورد في سائر المراتب السبع التي تليها!(/7)
ولسائل أن يسأل: من الذي كتمه؟ ولماذا حددت بثماني مراتب ثم كتم أمرها؟ وتنبه مرة أخرى أخي القارئ الكريم للإجابة؛ يا من تبحث عن الحقيقة، ويا من لا يحجبك حب الشيوخ عن تحري الحق، فإن قيل: كتمه الرسول -صلى الله عليه وسلم، وحاشاه أن يكتم- فإنه قول من أقوال الكفر الصريح؛ لأننا نشهد -فيما نشهد به- أنه -صلى الله عليه وسلم- قد بَلَّغ ما أرسل به، ولم يترك أمراً يقربنا إلى الجنة، أو يباعدنا عن النَّار إلا وبينه لنا. وروى الشيخان عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: من حدثك أن محمداً -صلى الله عليه وسلم- كتم شيئاً مما أنزل عليه فقد كذب، والله يقول: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ}...الآية[16] [المائدة: 67]، وإن قيل: كتمه أبو العباس التيجاني فهذا أمر آخر يستحق مراجعة قوية من التيجانية، إذ ثبت بالدليل القطعي الصحيح أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد بَلََّغَ ما أُنزل إليه من ربه، ولم يكتم منه شيئاً، وأنه ليس لأحد بعده أن يكتم شيئاً، ولم يقل بذلك إلا فرق الباطنية، ولا شك أن النزوع نحو الفكر الباطني أمر يأباه جلُّ المنتسبين إلى الطائفة التيجانية، فيما يظهر لين لأنهم يحرصون على الخيرات، وهم المعنيون بهذا الحوار.
الثالثة: قوله: ((ومما ذكر من فضلها غير المكتوم: أن من قرأها مرة واحدة تُضمن له سعادةُ الدارين، ومنه: أن من واظب على قراءتها كل يوم عشرات[17]، يموت على الإيمان)).اهـ.(/8)
وينشأ على هذا القول سؤال: إذا كان من قرأها مرة واحدة تضمن له سعادة الدارين، فما المكتومُ بعد ذلك؟ إذ ليس بعد سعادة الدارين مطلبٌ، وهي منتهى رغبة المسلم!!! وكذلك قوله: فيمن قرأها عشرات: يموت على الإيمان، فماذا يُكتم بعد هذه البشرى العظيمة؟ فإن من مات على الإيمان ينال حسن الخاتمة، وهو عجيب أيضاً، ومتصادم مع سابقه!!! فإن من قرأها مرة واحدة تضمن له سعادة الدارين، أما من قرأها عشرات يموت على الإيمان فقط، وفي ذلك اختلاف يحتار معه العاقل، فالأولى أن يقال: إن من واظب على قراءتها كل يوم عشرات، تضمن له سعادة الدارين، ومن قرأها مرة واحدة يموت على الإيمان؛ لأن الموت على الإيمان لا يلزم أن يكون صاحبُه سعيداً في الدنيا، كما أن سعادةَ الدار الآخرة قد تكون متفاوتة لمن يموت على الإيمان من غير تقييد؛ لأن الإيمان درجات، والمؤمنون في درجات متفاوتة في الجنة، فمن نال سعادة الدار الآخرة تحققت له أعلى درجات الفوز، بخلاف من مات على الإيمان على العموم!! والعجب يا أخي ألاَّ تتعجب من ذلك، فإن كانت هذه البشارات من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإن أولى الناس بها هم الصحابةُ الكرام رضوان الله عليهم، فإننا مهما اجتهدنا في الطاعات، وأتينا من الحسنات ما يوازي جبلَ أحدٍ ذهباً، فلن نبلغ مُدَّ أحدهم ولا نَصِيفَه. فإذا لم تكن هذه البشارات قد بُشِّر بها الصحابة في كتب السنة، فكيف نقتنِعُ بأن من يأتي بعدهم يمكنُ أن يحصل على فضل لم ينلْه الصحابةُ؛ كلُهم، أو بعضُهم، مهما بلغ المتأخرُ من الفضل؟!!(/9)
وأما صلاةُ الفاتح التي زعم أبو العباس التيجاني أنه تلقاه من البكري –من شيوخ الطريقة الخلوتية- فهي صيغة ناقصة، ومجتزأة من صيغ أخرى أوسعَ منها، وهي معروفة عن سيدنا علي -رضي الله عنه- فقد أخرج الحافظ سعيدُ بنُ منصور التميمي الخراساني المكي -المتوفَّى في سنة سبع وعشرين ومئتين بعد الهجرة- في سننه، فيما نقله الحافظ ابن كثير في التفسير، عنه-، عن نوح بن قيس، حدثنا سلامة الكندي، أن علياً -رضي الله عنه- كان يُعَلِّم الناس هذا الدعاء: ((اللهم داحي المدحوات، وبارئ المسموكات، وجبار القلوب على فطرتها؛ شقيها، وسعيدها، اجعل شرائف صلواتك، ونوامي بركاتك، وفضائل آلائك؛ على محمد عبدك ورسولك، الفاتح لما أغلق، والخاتم لما سبق، والمعلن الحق بالحق، والدامغ لجيشات الأباطيل، كما حمل فاضطلع بأمرك لطاعتك، مستوفزاً في مرضاتك، غير نكلٍ في قدم، ولا واهنٍ في عزم، واعياً لوحيك، حافظاً لعهدك، ماضياً على نفاذ أمرك، حتى أورى قبساً لقابس آلاء الله تصل بأهله أسبابه، به هديت القلوب بعد خوضات الفتن والإثم، وأبهج موضحات الأعلام، ونائرات الأحكام، ومنيرات الإسلام، فهو أمينك المأمون، وخازن علمك المخزون، وشهيدك يوم الدين، وبعيثك نعمة، ورسولك بالحق رحمة، اللهم افسح له في عدنك، واجزه مضاعفات الخير من فضلك، مهنآت له غير مكدرات، من فوز ثوابك المعلول، وجزيل عطائك المجمول، اللهم أعل على بناء البانين بنيانه، وأكرم مثواه لديك ونزله، وأتمم له نوره، واجزه من ابتعاثك له مقبول الشهادة، مرضي المقالة، ذا منطق عدل، وخطة فصل، وحجة وبرهان عظيم[18].اهـ.
وأخرجه الحافظ الطبراني في المعجم الأوسط عن سعيد بن مسعدة، عن سعيد بن منصور،به[19].وتابع الحافظَ سعيدَ بنَ منصورٍ على هذه الرواية -كما قال الحافظ ابن كثير- الإمامان الحافظان يزيدُ بنُ هارون، وزيدُ بنُ الحباب؛ رحم الله الجميع.(/10)
وأخرج الحافظ ابنُ أبي شيبة نحوَ ذلك في المصنف: فقال: حدثنا محمد بن فضيل، عن عبد الله الأسدي، عن رجل، عن علي قال: كان يقول: اللهم يا داحي المدحوات، ويا باني المبنيات، ويا مرسي المرسيات، ويا جبار القلوب على فطرتها؛ شقيها، وسعيدها، ويا باسط الرحمة للمتقين؛ اجعل شرائف صلواتك، ونوامي بركاتك، ورأفة تحننك، وعواطف زواكي رحمتك، على محمد عبدك ورسولك؛ الفاتح لما أغلق، والخاتم لما سبق، وفالج الحق بالحق، ودامغ جيشات الأباطيل، كما حملته فاضطلع بأمرك، مستنصرا في رضوانك، غير ناكل عن قدم، ولا مَثْني عن عزم، حافظ لعهدك، ماض لنفاذ أمرك، حتى أورى قبسا لقابس، آلاءُ الله تصل بأهله أسبابه، به هديت القلوب بعد خوضات الفتن والإثم، وأنهج موضحات الأعلام، ومنيرات الإسلام، ودائرات الأحكام، فهو أمينك المأمون، وشاهدك يوم الدين، وبعيثك رحمة للعالمين، اللهم افسح له مفسحا عندك، وأعطه بعد رضاه الرضا من فوز ثوابك المحلول، وعظيم جزائك المعلول، اللهم أتمم له موعدك، بابتعاثك إياه مقبول الشفاعة، عدل الشهادة، مرضي المقالة، ذا منطق عدل، وخطيب فصل، وحجة وبرهان عظيم، اللهم اجعلنا سامعين مطيعين، وأولياء مخلصين، ورفقاء مصاحبين، اللهم بلغه منا السلام واردد علينا منه السلام))[20].(/11)
وبهذا يتضح أن صيغة صلاة الفاتح موجودة ضمن نصٍ طويلٍ مشهورٍ موقوفٍ على عليٍ -رضي الله عنه-. وهذا النص مع كونه من المشهور عن أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه-، كما قال الحافظ ابن كثير في الموضع السابق- فإنه لم يرد بسندٍ صحيحٍ، ففي إسناد سعيد بن منصور، سلامة الكندي، وروايته عن علي -رضي الله عنه- غير متصلة، قال أبو حاتم الرازي: سلامة الكندي؛ روى عن علي بن أبى طالب -رضي الله عنه- مرسلً حديثَ الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- روى عنه نوح بن قيس الحُدانيِّ[21].اهـ. وقول الحافظ أبي حاتم الرازي هذا يثبت رواية الحافظ سعيد بن منصور، ويشهد لرواية ابن أبي شيبة!!
وأما إسناد الحافظ ابن أبي شيبة ففيه رجل مبهم، إذن فحتى هذه الصلاة التي رُويت موقوفةً على سيدنا علي -رضي الله عنه- ففي الصحيح غنىً عنها، وإن اهتم بها أهلُ العربية والأدب كابن قتيبة -رحمه الله- الذي أوردها في غريب الحديث، باعتبار ما فيها من بديع المعاني[22].(/12)
وأما ما ذكره الشيخ (محمد بن سعد الرباطابي) عن تلقي التيجاني لهذه الصلاة كفاحاً من النبي -صلى الله عليه وسلم- وفي اليقظة، فهذا أيضاً مما لم نسمع بمثله في أقوال الصوفية الأوائل، ولكن ذهب إليه المتأخرون من المنتسبين إلى الصوفية، بعد أن انخرمت لديهم قاعدة التلقي التي بناها أبو سليمان الداراني[23]، وشيدها من بعده أبو القاسم الجنيد[24] -سيد الطائفة الصوفية-رحمهما الله- فقد قال أبو سليمان -رضي الله عنه-: ليس ينبغي لمن أُلْهِمَ شيئاً من الخير أن يعملَ به حتى يسمعَه في الأثر، فإذا سمعه في الأثر عمِل به، وحَمِد الله -عز وجل- على ما وفق من قلبه[25].اهـ. وقال الجنيد -رحمه الله-: عِلمُنا مضبوطٌ؛ الكتابُ والسنةُ، من لم يحفظ القرآن، ولم يكتب الحديث، ولم يتفقَّه، لا يُقتدى به[26].اهـ. وهذا ما جعل العلماء من الصوفيةَ في عهودهم الأولى يحرصون على التزام العمل بالنصوص الصحيحة، كما يفهم من كلام الداراني، والجنيد -رضي الله عنهما-، أما المتأخرون فلم يلتزموا بتلك الضوابط.
وقد وافق التيجانية في ذلك الجمع الغفير من الصوفية في هذا العصر؛ ومن هؤلاء الأستاذ الشيخ عبد المحمود الحفيان[27] -رحمه الله- الذي قال في كتابه (نظرات في التصوف الإسلامي)، في كلامه عن شخصية الشيخ (حسن ولد حُسُونة ولد موسى): ((وترجع أصوله في الطريقة القادرية إلى المغرب العربي، إلا أن المشهور أنه أويسي المشرب، تلقى من الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- والسند المتصل بروح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإن كان سنداً منقطعاً لا تصح به رواية عند علماء الحديث؛ لأنهم يشترطون اللقيا: (شرط البخاري)، أو المعاصرة (عند مسلم)، وكل من يسند خبراً أو عملاً للرسول -صلى الله عليه وسلم- يعتبر إسناده منقطعاً، ما لم تتصل حَلَقاتُ هذا السند (رواته) بعضُها ببعض مع العدالة والضبط، وإمكان اللقيا، وإلا كان السند ضعيفاً بالانقطاع[28])).اهـ.(/13)
وهذا كلام عجيب جداً، فإن الشيخ حسن ولد حُسُونة، وُلِد في منطقة شرق النيل، في شمال سهل البُطانة المتاخم للحدود الشرقية، والجنوبية الشرقية لولاية الخرطوم في السودان، ووُلِد والده حُسُونة في ذات المنطقة أيضاً، أما جده موسى فقد قيل: إنه جاء من الأندلس، فألقى عصاه واستقر به النوى في ربوع المسلمية في المنطقة ذاتها[29]، فلو أن الشيخ الحفيان ذكر أن أصوله العِرْقيَّة ترجع إلى المغرب العربي لكان حسناً، ومقبولاً؛ لأن هذا هو المعروف، أما أن يقول: ((وترجع أصوله في الطريقة القادرية إلى المغرب العربي))، فهذا ما لا يمكن قبوله إلا بإسناد قدمه الشيخ حسن ولد حُسُونة نفسه، وورثه عنه أتباعه، ولكن المعروف أن الشيخ حسن لم يذكر أي سند له في الطريق القادري، لا هو بنفسه، ولا أتباعه، ومريدوه، من بعده، ولا والده، ولا جده من قبله!!!
وهو أيضا يتعارض مع قوله: ((إلا أن المشهور أنه أويسي المشرب، تلقى من الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- إلى آخر ما تقدم نقله في الفقرة الماضية.
ويتعارض مع قول آخر له جاء فيه: ((وقد كان سيدي الشيخ حسن بن حُسُونة من الذين دخلت روحهم عالم الأمر، فسمع وهو شهيد، فتأتى له أن يطوي مقامات عالم الخلق، ليتصل بحضرة النبوة في عالم الأمر[30]، إلا أن عهد الرسالة بالعلم قد أخذ على علماء الإرشاد أن يبينوا للناس ما علموا من سند، ولا يكتمونه حتى لا يتصل من يأتي بسلسلة منقطعة، ذلك لأن الإسناد الحسي والمعنوي[31] من الدين، ولا يؤذن بطي الإسناد في عالم الخلق -بعد الرسالة الخاتمة- إلا للمهدي عليه السلام، أو عيسى عليه السلام، وسواهما إذا طوى الإسناد مخبرا عن علو مكانته في عالم الأمر -تحدثا بنعمة الله- فإنه يلزمه ألا يكون حلقة في سند من يليه، خشية الانقطاع[32].اهـ.(/14)
ووجه التعارض المزدوج، أو المركَّب، هو: أن الشيخ الحفيان ذكر بأن الشيخ حسن ولد حُسُونة: قادري الطريقة، ثم ذكر مرة أخرى بأنه أويسي المشرب، ثم ذكر مرة أخرى أن روحه قد دخلت في عالم الأمر، فسمع وهو شهيد، أي تلقى كفاحا من النبي صلى الله عليه وسلم!!! ثم اعترف -بعد ذلك- بخطورة انقطاع السند، وأنه لا يؤذن بطي الإسناد إلا للمهدي المنتظر رضي الله عنه، أو لسيدنا عيسى صلى الله عليه وسلم[33].
وكان حرياً بالشيخ عبد المحمود الحفيان -رحمه الله- أن يلتزم بموافقة علماء الحديث؛ لأنهم أعلم الناس بما روي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهذا ما حمل أبا القاسم الجنيد -رحمه الله، وهو إمام الطائفة الصوفية قاطبة- أن يقول القول الذي نقلته عنه آنفاً، ولو التزم الشيخ الحفيان، والشيوخ المتأخرون بذلك؛ لسلمت لنا مناهجُنا العلمية التي شارك في تشييدها علماءُ الصوفية الأوائل، ممن قعَّدوا للتصوف قواعدَه، حتى يوافق المتأخرُ الأولَ في متابعة مستنيرة، بمنهج ضُمنتْ لنا فيه السلامة، فإذا غاب شيء عن أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، والبخاري، ومسلم، وأبي داود، والترمذي، وابن ماجة، والنسائي، وغيرهم من أئمة الحديث، وغاب كذلك عن العارفين بالحديث والآثار من الصوفية، مثل أبي سليمان الداراني، وتلميذه أحمد بن أبي الحواري، وأبي القاسم الجنيد، وتلميذه الحافظ أبي محمد جعفر بن محمد بن نصير الخواص المعروف بجعفر الخُلْدي، وأبي نصر السراج الطوسي -صاحب اللُّمَع، وأبي طالب المكي -صاحب قوت القلوب، وأبي عبد الرحمن السلمي-صاحب طبقات الصوفية، وأبي نعيم الحافظ الأصبهاني -صاحب الموسوعة الحديثية الصوفية (حلية الأولياء وطبقات الأصفياء)، وأبي القاسم القشيري -صاحب الرسالة، وأبي الحسن الهجويري الغزنوي -صاحب كشف المحجوب، وأبي حفص السهروردي -صاحب عوارف المعارف، وغيرهم ممن اعتنى بالتصوف؛ فإذا عَزَبَ علمُ ذلك عن أولئك -وهم أكثر جمعاً وتحصيلاً،(/15)
وأشد حرصاً على متابعة العلم- فمن أين للمتأخرين من الصوفية أن يحصلوه، أيها الأحباب الكرام؟!!
ولا يفوتني هنا أن أذكر ما حدث لجعفر الخُلْدي تلميذ الجنيد -رحمهما الله- الذي قال: لو تركني الصوفية لجئتكم بإسناد الدنيا، مضيت إلى عباس الدوري وأنا حدث، فكتبت عنه مجلساً واحداً، وخرجت من عنده، فلقيني بعض من كنت أصحبه من الصوفية، فقال: أيش هذا معك؟! فأريته إياه، فقال: ويحك تدع علم الخِرَق، وتأخذ علم الورق، قال: ثم خَرَّق الأوراق، فدخل كلامه في قلبي، فلم أعد إلى عباس!
وهذا الذي ذكره جعفر الخُلْدي من قبيل التحسر على ما فاته من علم عباس بن محمد الدوري -رحمه الله[34]-، لأنه جاء للتعلم منه، وهو حدث صغير، فلم يتركه صاحبه الصوفي، ليأخذ من علم عباس الدوري، ولو تركه لمواصلة الطلب مع عباس، لحصَّل إسناداً كثيراً، وعلماً غزيراً، ولكن عباس توفي بعد ذلك بسنوات قليلة، ولم يرجع إليه جعفر، وفاته علمه، ومثل هذا يحدث في الصوفية كثيراً، خاصة في العهود الأخيرة هذه، ولكن العزاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم-: ((من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم والله يعطي، ولن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله[35])). ومع ذلك فقد جمع جعفر الخُلْدي حكايات كثيرة جداً عن الصوفية، حتى قيل في هذه الحكايات: إنها إحدى عجائب بغداد الثلاث[36]، ولم يرد في حكاية واحدة منها أن واحداً الصوفية السابقين رأى النبي -صلى الله عليه وسلم-في اليقظة.(/16)
أما القول بأن أويساً القرني -رضي الله عنه- قد تلقى من النبي -صلى الله عليه وسلم- فهو قول لا يصح البتة؛ لأن كل الروايات التي وردت في كتب الحديث، وفي كتب التصوف، في ذكر أويسٍ -رضي الله عنه- لم تذكر ذلك، إذ لو ثبت ذلك لعُدَّ في الصحابة الكرام، وإنما جاء في الروايات أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ذكره، ووصفه[37]، وهذه الروايات لم تذكر بأنه تلقى عن النبي بعد انتقاله -صلى الله عليه وسلم-، إلى الرفيق الأعلى- حرفاً واحداً في اليقظة، ولمَّا لم يذكره أحد من أئمة الحديث في الكتب التي حصرت أسماء الصحابة، وترجمت لهم، عُلِم أنه من مخضرمي التابعين[38] الذين لم يروا النبي -صلى الله عليه وسلم- كما لم تذكر لنا الروايات المتقدمة أنه رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- في اليقظة، بعد انتقاله -صلى الله عليه وسلم- إلى الرفيق الأعلى، حتى ينسب إليه منسوب ممن يزعمون أنهم تلقوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقظة، فيقال: فلان أويسي المشرب!!!(/17)
وعاد الشيخ الحفيان ليسلك بنا منهج العرفان الصوفي في العهود المتأخرة، والذي لم يكن معروفاً لدى الصوفية الأوائل، فقال: إلا أن الأمر عندنا في علم التصوف ليس على ما اتفق عليه علماء مصطلح الحديث؛ ذلك لأن علاقة الصوفي بالرسول -صلى الله عليه وسلم- علاقة رُوحية، تلتقي فيها رُوح الرجل الصالح بروح المصطفى -صلى الله عليه وسلم- في عالم المثال؛ في نوم حالَ تعطل الحواس الظاهرة، أو في يقظة حالَ ترويض هذه الحواس حتى تنقاد إلى مقتضيات الروح، فتفنى الشهوات، وتسمو الغرائز[39].اهـ. ثم استطرد الشيخ الحفيان -رحمه الله- ليبرهن على ما قال، مستشهداً بحديث: ((من رآني في المنام فسيراني في اليقظة))[40]. وحديث: ((من رآني في المنام فقد رآني حقاً، فإن الشيطان لا يتمثل بي))[41]. ثم عرج الشيخ الحفيان على حديث المعراج[42]، ليبرهن به على مظاهر طي المقامات للأولياء وصولاً ووصلاً بهم بحضرة النبوة؛ كما قال.
وهذا يتعارض مع تحريضه للباحثين في كتابه: (نظرات في التصوف الإسلامي)، حيث شجع الباحثين على دراسة إسناد السلسلة القادرية السمانية، وناشد أصحاب الجَلَد من الباحثين الصوفيين خاصة أن يقوموا بذلك. ومن منطلق قوله: ذلك لأن الإسناد الحسي والمعنوي من الدين، ولا يؤذن بطي الإسناد في عالم الخلق -بعد الرسالة الخاتمة- إلا للمهدي عليه السلام، أو عيسى عليه السلام، وسواهما إذا طوى الإسناد مخبرا عن علو مكانته في عالم الأمر تحدثا بنعمة الله فإنه يلزمه ألا يكون حلقة في سند من يليه، خشية الانقطاع[43].اهـ.(/18)
ويفهم من كلام الشيخ الحفيان أنه أتى بمنهج لم يكن معروفاً لدى الصوفية الأوائل، وتابعه على ذلك الشيخ عبد الجبار المبارك[44] -رحمه الله- فهو من أشهر تلامذة الحفيان، وابن بنت عمه، وصهره، وقال ذلك في كلامه عن (حضرة الديوان)، في كتابه الذي ترجم فيه جده الأستاذ الشيخ عبد المحمود ولد نور الدائم -رحمه الله- معلقاً على كلام جدهما الأستاذ الشيخ أحمد الطيب بن البشير، فقال: ((ماذا نقول؟!! دار ما سبق من كلام عن الحضرة النبوية! والحضرة النبوية من المصطلحات الخاصة بالبيئة الصوفية[45]، وذلك بمفهوم هذه الحضرة الخاص بهم، حيث لا تجد هذا المصطلح عند علماء القرآن، ولا عند علماء الحديث، ولا علماء العقيدة، ولا علماء أصول الفقه، كما لا تجدها عند علماء الخلاف الفقهي، على تنوع مذاهبه، وتعددها)).اهـ.
وكأني بالشيخ عبد الجبار قد احتار في فهم كلام جده -الشيخ أحمد الطيب، وهو كلام لم يكن معروفاً لدى الصوفية السابقين أيضاً، فكان من الأحرى بالشيخ عبد الجبار أن يضمهم لفئات العلماء الذين ذكر أنهم لا يعرفون هذا المصلح- فعلق على ذلك بقوله: ((ماذا نقول؟!))، ولكنه لما اشتدت به الحيرة –لانعدام مرجعية سابقة لهذا القول في الأوائل- اجتهد في توجيهه على نحو يخالف منهج الصوفية في القرون الفاضلة!!!
فأقول -وبالله التوفيق-: والله لو كان الأمر معروفاً عند الصوفية الأوائل -وهم أهل القرون الفاضلة، وقد شهد لهم النبي -صلى الله عليه وسلم، بهذه الأفضلية- لما تجاسرتُ على رد كلامهم، أما أن يجهلوا هُمْ أمراً في الدين، ونعلمُه نحنُ المتأخرون! فهذا لعمرُ الله ما لا نقبله لأنفسنا، ولا نقبله من أحدٍ كائناً من كان!!(/19)
ولكن يبدو أن الشيخ عبد الجبار قد احتاط لهذا الاعتراض، فقال مستدركاً: ((والديوان في منهج العرفان الصوفي؛ مصطلحٌ له مفهومٌ تفردت به الطرق الصوفية، كطور متأخر من أطوار المنهج الصوفي، حيث لم يعرف هذا المصطلح (الديوان) بدلالته المعهودة في بيئة الطرق[46] الصوفية، عند كبار رجال المنهج الصوفي في بواكيره، خلال القرون الثلاثة الفاضلة، كما أنه مصطلح لا تعرفه العلوم الشرعية على تنوعها، وتعددها بالمفهوم الذي تعرفه الطرق الصوفية))[47].اهـ.
وهذا اعترافٌ واضحٌ من الشيخين: (الحفيان) و(عبد الجبار) بحداثة هذا المفهوم، وأن الأقدمين من الصوفية يجهلون هذا المفهوم، فإن كانا يقصدان أن الطرق الصوفية المتأخرة قد أحرزت سبقاً علمياً بهذه المعرفة فإننا بعرض قوليهما على قول أبي سليمان الداراني، وعلى قول أبي القاسم الجنيد -رحمهما الله- ندرك مدى خطورة هذا السبق غير المعتبر، ونعرف الفرق بين الاتجاهين، ونعرف المنهج السليم عند الأوائل، إذ لا سبقَ علمي في علوم الدين، لأنها لا تخضع للتجريب، ولأنها مرتبطة بمنهج التلقي المعروف، الذي ضمن لهذه الأمة تميزَها على سائر الأمم بكون الله تعالى قد اختصها بدين محفوظ من التحريف والتبديل فقد قال الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، فكان من تسخير الله -جل وعلا- لعلماء هذه الأمة أن عملوا على رسم قواعد وضوابط لتلقي العلم؛ مستمدة من القرآن العظيم والسنة المطهرة، فكان ذلك أقوى ضمان لحفظ هذا الدين، وهم في هذه الخدمة يتلذذون، ويجدون من المعاني ما لا يجده أهل الدعاوى في الأحوال، من الذين رد عليهم الإمام الزاهد والصوفي الكبير سهل التستري رحمه الله[48].(/20)
وأما هذا الذي قاله الشيخ الحفيان في مسألة رؤية المسلم للنبي -صلى الله عليه وسلم، في اليقظة، وهو ما وافق فيه التيجانية في قولهم بتلقي أبي العباس التيجاني لصلاة الفاتح من النبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة- فيقع ضمن خلافٍ قديمٍ تناوله العلماء السابقون، وشمر له الحافظ ابن حجر العسقلاني -رحمه الله- عن ساعد فتي فلمَّ شارده، وتكلم عليه بالشرح الموعب، وذكر اختلاف الرواة في اللفظ نفسه، فضلاً عن معناه، فقال -رحمه الله-: ((قوله: "من رآني في المنام فسيراني في اليقظة" زاد مسلم من هذا الوجه: أو فكأنما رآني في اليقظة. هكذا بالشك، ووقع عند الإسماعيلي في الطريق المذكورة: فقد رآني في اليقظة. بدل قوله: فسيراني. ومثله في حديث ابن مسعود، عند ابن ماجة، وصححه الترمذي، وأبو عوانة، ووقع عند ابن ماجة، من حديث أبي جحيفة: فكأنما رآني في اليقظة. فهذه ثلاثة ألفاظ: (فسيراني في اليقظة)... (فكأنما رآني في اليقظة)... (فقد رآني في اليقظة)... وجل أحاديث الباب كالثالثة، إلا قوله: في اليقظة)).اهـ. قلت: الثالثة هي: (فقد رآني في اليقظة)، واستثنى منها لفظ: (في اليقظة)!!
ثم قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: وحمله ابن أبي جمرة على محمل آخر، فذكر عن ابن عباس -أو غيره- أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في النوم، فبقي بعد أن استيقظ متفكرا في هذا الحديث، فدخل على بعض أمهات المؤمنين؛ ولعلها خالته ميمونة، فأخرجت له المرآة التي كانت للنبي -صلى الله عليه وسلم-، فنظر فيها فرأى صورة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولم ير صورة نفسه. ونقل عن جماعةٍ من الصالحين أنهم رأوا النبي -صلى الله عليه وسلم- في المنام، ثم رأوه بعد ذلك في اليقظة، وسألوه عن أشياء كانوا منها متخوفين، فأرشدهم إلى طريق تفريجها، فجاء الأمر كذلك.انتهى.(/21)
وعقَّب عليه الحافظ ابن حجر بقوله: قلت: وهذا مشكلٌ جداً، ولو حُمل على ظاهره لكان هؤلاء صحابة، ولأمكن بقاء الصحبة إلى يوم القيامة، ويعكِّر عليه أن جمعاً جماً رأوه في المنام، ثم لم يذكر واحدٌ منهم أنه رآه في اليقظة، وخبر الصادق لا يتخلف.انتهى تعقيب الحافظ ابن حجر.
وبعد ذلك استمر الحافظ ابن حجر -رحمه الله- في شرح هذه الألفاظ، وأطنب في ذلك إطناباً ممتعاً، خلص فيه إلى أن حاصل تأويلات العلماء لحديث رؤية النبي -صلى الله عليه وسلم، على تعدد ألفاظ الرواية- تنحصر في ستة أوجه:-
أحدها: أنه على التشبيه والتمثيل، ودل عليه قوله في الرواية الأخرى: فكأنما رآني في اليقظة.
ثانيها: أن معناها سيَرى في اليقظة تأويلَها بطريق الحقيقة أو التعبير.
ثالثها: أنه خاص بأهل عصره ممن آمن به قبل أن يراه.
رابعها: أنه يراه في المرآة التي كانت له -صلى الله عليه وسلم- إن أمكنه ذلك، وهذا من أبعد المحامل.
خامسها: أنه يراه يوم القيامة بمزيد خصوصية، لا مطلق من يراه حينئذ ممن لم يره في المنام.
سادسها: أنه يراه في الدنيا حقيقة ويخاطبه. وفيه ما تقدم من الإشكال.
واسترسل الحافظ ابنُ حجر العسقلاني في الكلام على هذه الألفاظ بما يستدل به على أن رؤية النبي -صلى الله عليه وسلم- ليست مقصورة على طائفة من الناس، دون غيرها من طوائف المسلمين، وإنما هي لكل من صدق في متابعة النبي -صلى الله عليه وسلم- من المسلمين كافة، وكلامُه المتقدم في ذكر الإشكال المترتب على مسألة رؤيته -صلى الله عليه وسلم- في اليقظة يقفل الباب على المتوسع في هذا الأمر، ويرد طالب الحق إلى الحق، إلا من أبى[49].(/22)
وقد وقفت على كلام للعلامة المفسر الشيخ محمود الألوسي –رحمه الله- صاحب تفسير روح المعاني، في تفسير قوله تبارك وتعالى: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الأحزاب:40]، ذكر فيه فوائد نفيسة عن حياة الأنبياء -صلوات ربي وسلامه عليهم- في قبورهم، ثم قال عقب ذلك: ((ثم إني أقول بعد هذا كله: إن ما نسب إلى بعض الكاملين من أرباب الأحوال من رؤية النبي -صلى الله تعالى عليه وسلم- بعد وفاته، وسؤاله والأخذ عنه،لم نعلم وقوع مثله في الصدر الأول، وقد وقع اختلاف بين الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- من حين توفي عليه الصلاة والسلام إلى ما شاء الله تعالى في مسائل دينية، وأمور دنيوية، وفيهم أبوبكر، وعلي -رضي الله تعالى عنهما-، وإليهما ينتهي أغلب سلاسل الصوفية الذين تنسب إليهم تلك الرؤية، ولم يبلغنا أن أحداً منهم ادعى أنه رأى في اليقظة رسول الله -صلى الله تعالى عليه وسلم-، وأخذ عنه ما أخذ، وكذا لم يبلغنا أنه -صلى الله تعالى عليه وسلم- ظهر لمتحير في أمر من أولئك الصحابة الكرام، فأرشده وأزال تحيره، وقد صح عن عمر -رضي الله تعالى عنه- أنه قال في بعض الأمور: ((ليتني كنت سألت رسول الله عليه الصلاة والسلام عنه))[50]. ولم يصح عندنا أنه توسل إلى السؤال منه -صلى الله تعالى عليه وسلم- بعد الوفاة نظير ما يحكى عن بعض أرباب الأحوال، وقد وقفتَ على اختلافهم في حكم الجد مع الإخوة، فهل وقفتَ على أن أحداً منهم ظهر له الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فأرشده إلى ما هو الحق فيه؟ وقد بلغك ما عرا فاطمة البتول رضي الله تعالى عنها من الحزن العظيم، بعد وفاته -صلى الله تعالى عليه وسلم-، وما جرى لها في أمر فدك، فهل بلغك أنه -عليه الصلاة والسلام- ظهر لها كما يظهر للصوفية فَبَلَّ لوعتها، وهوَّن حزنها، وبيَّن الحال لها؟ وقد سمعتَ(/23)
بذهاب عائشة -رضي الله تعالى عنها- إلى البصرة، وما كان من وقعة الجمل، فهل سمعت تعرضه -صلى الله عليه وسلم- لها قبل الذهاب، وصده إياها عن ذلك، لئلا يقع؟ أو تقوم الحجة عليها على أكمل وجه؟ إلى غير ذلك مما لا يكاد يحصى كثرة، والحاصل أنه لم يبلغنا ظهوره -عليه الصلاة والسلام- لأحد من أصحابه، وأهل بيته، وهم هم مع احتياجهم الشديد لذلك. وظهوره عند باب مسجد قباء -كما يحكيه بعض الشيعة- افتراء محض، وبهت بحت. وبالجملة عدم ظهوره لأولئك الكرام وظهوره لمن بعدهم مما يحتاج إلى توجيه يقنع به ذوو الأفهام.اهـ.
ثم حاول العلامة الألوسي -رحمه الله- أن يوفق بين ما ذكره بعض الصالحين من رؤيتهم للنبي -صلى الله عليه وسلم- يقظة، وبين ما أورده من حجج متقدمة، فذكر توجيهاً لطيفاً لم يظهر له -وهو قائله- أن فيه مقنعاً لذوي الأفهام، فقال عقب ذلك التوجيه: فإن قُبِلَ قولي وتوجيهي لذلك الأمر فبها ونعمت وإلا فالأمر مشكل فأطلب لك ما يحله، والله سبحانه الموفق للصواب.اهـ.(/24)
ولو أننا وضعنا هذه المسألة التي نسبت لأولئك الأكابر من متأخري الصوفية- في ميزان الإسناد، وطالبنا القائلين بها أن يسندوها إلى أولئك الأكابر بإسناد على الشروط التي وضعها أئمة المسلمين لما قدروا أن يسندوها، وهي مسألة تذكرني بما ذكره القاضي عياض -رحمه الله، في ترتيب المدارك له، في ترجمة الإمام سحنون بن سعيد التنوخي -رحمه الله[51]- من طريق المالكي، عن الجزري، قال: بينما أنا عند سحنون، إذ أتاه رجل، فسأله عن مسألتين أو ثلاثة[52]، ثم قال: ما اليوم وما غد وما بعد غد؟ فقال له سحنون مجيباً: اليوم عمل، وغداً حساب، وما بعد غد جزاء. فلما ولَّى تبعته، حتى دخل المقبرة. فلما خفت فواته، قلت له: بالله قف لي، فقال: ما تريد؟ أنا رجل من الجانّ، كنت أغشى مجلس أبي سعيد[53]، أسأله عن مسائل، فقد حرمتني المسائل، ثم غاب عني، فخطر لي الخروج إلى الحج، فبينا أنا في الطواف إذ [جبذ][54] بثوبي من ورائي، فالتفتُ فإذا بالجنيّ، فسلم عليّ وأخبرني بخبر من خلفته. ثم قال لي: رأيت الطلبة، يختلفون إلى شيخ، فمضيت إلى الرجل معه، فلما أشرفنا على الجماعة، [جبذني][55] الجني بثوبي، وقد تغير لونه، وقال لي: هذا إبليس، والله لو رآني لقتلني. قلت له: فما العمل؟ قال: ارجع فالطمه للرأس، وقل له: يا لعين، يا ملعون، إيش أتى بك ها هنا؟ ففعلت. فاضمحل حتى صار مثل الدخان وأخبرت الطلبة بالقصة، فعجبوا وخرقوا ما كتبوا عنه. وحكى ابن اللباد هذه الحكاية وزاد في أولها: كان فتى يغشى مجلس سحنون، ذا سكينة وصمت، لا يتكلم. فإذا كان آخر المجلس، سأله عن ثلاث مسائل أو أربعة[56] أو نحوها. ويستغرب لا يعرفه[57] أحد من الطلبة، فشغل أحد الطلبة نفسه به، وأتبعه حتى خرج، وذكر الحكاية، وفيها زيادة ألفاظ، وفيها: وها هنا قوم من صالحي الجن فهم يرسلونني أسأل عنهم، عن دينهم وما يحتاجون إليه. فقد قطعت حظهم من ذلك. وفيها أنه أخبره حين لقيه في الطواف بحال أهله،(/25)
وولده. وقال له: عهدي بهم بالأمس. فقال له: ها هنا شيطان قد تمثل في صورة شيخ، وحوله جمع يكتبون عنه، فإذا جئته فلا تهبه، وارفع العصا عليه. وذكر تمام الخبر بمعناه[58].
وهذا الذي ذكره القاضي عياض يؤيده ما رواه الإمام مسلم في مقدمة الصحيح، في باب النهي عن الرواية عن الضعفاء، والاحتياط في تحملها، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-، عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أنه قال: ((سيكون في آخر أمتي أناس يحدثونكم، ما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإياكم وإياهم)). وأخرج في نفس الموضع، عن عبد الله -رضي الله عنه[59]-: ((إن الشيطان ليتمثل في صورة الرجل، فيأتي القوم فيحدثهم بالحديث من الكذب، فيتفرقون، فيقول الرجل منهم: سمعت رجلاً أعرف وجهه، ولا أدري ما اسمه يحدث)). وأخرج أيضا في الموضع نفسه، عن عبد الله بن عمرو – بالواو بعد الراء- رضي الله عنهما، أنه قال: ((إن في البحر شياطين مسجونة؛ أوثقها سليمان، يوشك أن تخرج فتقرأ على الناس قرآنا)).(/26)
ويؤيده ما أخرجه الإمام البخاري رحمه الله، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، قال: ((وكلني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آت فجعل يحثو من الطعام، فأخذته وقلت: والله لأرفعنك إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال: إني محتاج وعلي عيال ولي حاجة شديدة، قال: فخليت عنه، فأصبحت، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة؟ قال: قلت: يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالا فرحمته، فخليت سبيله، قال: أما إنه قد كذبك، وسيعود، فعرفت أنه سيعود لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إنه سيعود، فرصدته، فجاء يحثو من الطعام، فأخذته، فقلت:لأرفعنك إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال: دعني، فإني محتاج وعلي عيال، لا أعود، فرحمته، فخليت سبيله، فأصبحت، فقال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: يا أبا هريرة ما فعل أسيرك؟ قلت: يا رسول الله شكا حاجة شديدة، وعيالا، فرحمته،فخليت سبيله، قال: أما إنه قد كذبك، وسيعود، فرصدته الثالثة، فجاء يحثو من الطعام، فأخذته، فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله، وهذا آخر ثلاث مرات، تزعم لا تعود، ثم تعود، قال: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها، قلت: ما هو؟ قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي: (الله لا إله إلا هو الحي القيوم...) حتى تختم الآية، فإنك لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربنك شيطان حتى تصبح، فخليت سبيله، فأصبحت، فقال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ما فعل أسيرك البارحة؟ قلت: يا رسول الله زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها، فخليت سبيله، قال: ما هي، قلت: قال لي: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم؛ (الله لا إله إلا هو الحي القيوم...)، وقال لي: لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح -وكانوا أحرص شيء على الخير- فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: أما إنه قد صدقك وهو كذوب، تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليال يا(/27)
أبا هريرة؟ قال: لا، قال: ذاك شيطان[60])).
على أني لا أقول: إن أولئك الأكابر كاذبون، ولكنني أقول هل صح ما نسب إليهم من ذلك؟ هذا سؤال ينبغي أن يقف عنده طلاب الحق، فيتثبتوا فيما يأتيهم من الأنباء، وإلا فسنة الله في خلقه أن يظل الناس مختلفين، قال الله جل ذكره: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ } [هود: (118)].
ولعل فيما تقدم بياناً ساطعاً ودليلاً قاطعاً على أن صيغة صلاة الفاتح -التي يدندن بها التيجانية- صيغة مجتزأة من صيغٍ جاءت في كتب الحديث الشريف، وأن القول بقصرها على البكري، ومن ثم على أبي العباس التيجاني -الذي تلقاها بعد ذلك في اليقظة من النبي -صلى الله عليه وسلم- قول تدحضه مناهجُ الأقدمين في هذه الأمة، وهي التي ضُمِنت لنا فيها السلامة، فلا يحزن لذلك أتباعُ الطريقة التيجانية الذين من أظهر حقوقهم التعليمية على شيوخهم، بل من أوجب واجباتهم العلمية؛ أن يطالبوا شيوخهم ببيان سندهم في الطريق، وسند أبي العباس التيجاني إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والعكس مطلوب أيضاً، لأنه قد ثبت لديَّ بعد دارسةٍ متأنيةٍ ستكتمل قريباً -إن شاء الله- أن أسانيد فروع الطريقة القادرية، والطريقة النقشبندية، والطريقة الخلوتية؛ التي جمعتُها من كتاب أزاهير الرياض، للشيخ عبد المحمود ود نور الدائم -رحمه الله-، وكتبٍ أخرى، كلها أسانيد غير متصلة، ولا يحل نشرها، وتداولها على زعم أنها متصلة بالنبي -صلى الله عليه وسلم- كما أن هذه الطرق جاءت متأخرة جداً، وهو ما سأبينه في الدراسة المشار إليها. ولعلي بذلك أكون قد حققت رغبة الشيخ الحفيان -التي تقدمت الإشارة إليها- بتحريضه للباحثين في كتابه: (نظرات في التصوف الإسلامي) على دراسة سلسلة إسناد الطريقة القادرية السمانية، وإن كانت النتيجة على النقيض مما توقعه الشيخ الحفيان.(/28)
ولينتبه أهلُ الوعي من أتباع الطريقة التيجانية، وسائر الطرق الصوفية الأخرى، وهم المعنيون بهذا الخطاب، أن الإسناد من الدين، فلينظروا عمَّنْ يأخذون دينهم، فإن كانت طرقُهم مبنيةً على تسلسل الإسناد، فليُخضِعوه للدراسة والكشف، فإن ثبت تحت مجهر النقد أنه سند صحيح متصل كان دليلاً يبعث الطمأنينة على سلامة المنهج، وإذا ثبت عكس ذلك فخير لهم أن يستبينوا الرشد قبل ضحى الغد، أما إن كان الإسناد من أبي العباس التيجاني إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بلا واسطة؛ فهو أمرٌ لا يثبت مع ما تقدم نقله عن الإمامِ الحافظِ شهاب الدين أبي الفضل أحمد بن علي ابنِ حجر العسقلاني، وعن العلامة المفسر الشيخ محمود الألوسي-رحمهما الله-، وكفى بهما عالِمَين، ويؤيدهما منهج الإمامين الداراني والجنيد رحمهما الله تعالى، كما أنه منسجم مع ما قرره الشيخ الحفيان نفسه -وهو أحد الذين أجازهم الشيخ محمد الحافظ التيجاني إجازة مطلقة- فقد قال في كتابه ((نظرات في التصوف الإسلامي)): إلا أن عهد الرسالة بالعلم قد أخذ على علماء الإرشاد أن يبينوا للناس ما علموا من سند، ولا يكتمونه حتى لا يتصل من يأتي بسلسلة منقطعة، ذلك لأن الإسناد الحسي والمعنوي من الدين، ولا يؤذن بطي الإسناد في عالم الخلق -بعد الرسالة الخاتمة- إلا للمهدي عليه السلام، أو عيسى عليه السلام، وسواهما إذا طوى الإسناد مخبراً عن علو مكانته في عالم الأمر -تحدثاً بنعمة الله- فإنه يلزمه ألا يكون حلقة في سند من يليه، خشية الانقطاع[61].اهـ.
والله المستعان، وبه البلاغ، وعليه التكلان.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[1] هذه النسبة إن لم تكن لعين ماضي، وهي قريته الآتي ذكرها، فما أدري ما هي، وإن كانت لها فهي على غير الصحيح، والله أعلم.
[2] هذه أسماء كتب في الفقه المالكي.(/29)
[3] موقع صيد الفوائد على الشبكة الأثيرية، نقلا عن كتاب التيجانية، لعلي بن محمد الدخيل الله (ص 48)، (بتصرف يسير)، انظر الرابط: http://saaid.net/feraq/sufyah/t/1.htm
[4] قال ابن خلدون في المقدمة (ص 133) أنهم من بني سليم.
[5] هكذا قال عبد الحفيظ بنخويا كما في الرابط
http://www.map.ma/mapfr/dossiers/afrique/special-ara/textes/senegal-tijania.htm
[6] موقع مدينة الأغواط على الشبكة الأثيرية بالرابط: http://www.laghouat.net/awissi.html .
[7] نسبة إلى جده رباط، وصيغة الجمع بالألف والباء مستخدمة عندنا في السودان، والرباطاب بطن واسع من بطون قبيلة الجعليين.
[8] جوهرة الكمال صيغة من صيغ الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وقد وقفت في لفظها على جملة غير مستقيمة، هي: ((...عين المعارف الأقوم؛ صراطك التام الأسقم...))، فما أعرف للأسقم معنى غير منتهى السقم، وعلى هذا المعنى تكون الجملة سقيمة جدا، فإن قصد القائل أن لفظ الأسقم مشتق من الاستقامة فقد جاء بقول لم يسبقه إليه أحد من العارفين بلغة العرب، وإن قصد الاشتقاق من السقم فهو سباب صريح للصراط يخرج صاحبه من دين الإسلام.
[9] كذا وجدتها في المطبوع، وانظر التعليق الآتي بعد قليل.
[10] كذا وجدتها، وما أدري إن كانت في الأصل المخطوط هكذا، أو أنها: (عشر مرات).
[11] الدرر السنية للرباطابي (ص23-25).
[12] أخرجه البخاري (6491)، ومسلم (131).
[13] انظر التعليق على هذا اللفظ في موضعه السابق.
[14] صحيح البخاري (3172)، وصحيح مسلم (1370).
[15] صحيح البخاري (3047).
[16] أخرجه البخاري (4612)، ومسلم (177).
[17] تقدم التعليق على هذا اللفظ.
[18] تفسير القرآن العظيم للحافظ ابن كثير: موافقة بين طبعة دار الفكر (3/510)، وبين طبعة الشعب (6/452-453)، تفسير الآية 56 من سورة الأحزاب، وأورد نحو ذلك الحافظ ابن حجر العسقلاني في فتح الباري (11/158)، وعزاه لسعيد بن منصور.(/30)
[19] رقم (9089) طبعة الأستاذ طارق عوض الله وآخرين.
[20] رقم (30134)، طبعة الأستاذ محمد عوامة.
[21] الجرح والتعديل لابن أبي حاتم الرازي (4/300).
[22] انظر غريب الحديث لابن قتيبة (2/143).
[23] هو: عبد الرحمن بن أحمد بن عطية العنسي، أحد أركان الزهد، والمعرفة، ودقة الاتباع، (ت205هـ) على المشهور، ترجمته في حلية الأولياء (9/254).
[24] هو الجنيد بن محمد البغدادي القواريري، كان من أكابر العلماء، ومن أحرص الناس على اتباع السنة، بدأ بمذهب أهل الحديث، كأبي عبيد القاسم بن سلام، وأبي ثور، ثم اجتهد في التطبيق، ترجمته في حلية الأولياء (10/255).
[25] حلية الأولياء (9/269).
[26] حلية الأولياء (10/255).
[27] هو: الشيخ عبد المحمود بن الشيخ الجيلي بن الشيخ عبد المحمود، عالم متصوف، وفقيه من فقهاء المالكية المتأخرين، ومن متقني العربية، ومُلاك البيان، وحصل على إجازة مطلقة من الشيخ محمد الحافظ التيجاني، فهو وإن لم يكن تيجانياً فهو من أقرب الناس إليهم، توفي في يوم الجمعة التاسع من شعبان عام ثلاثة وتسعين وثلاثمائة وألف من الهجرة عن ست وخمسين سنة.
[28] نظرات في التصوف الإسلامي (1/418).
[29] من الشيوخ المشهورين في السودان، قدم جده موسى من الجزيرة الخضراء بالأندلس، واستقر في ربوع المسلمية، وتزوج فيهم، وأنجب حسونة والد الشيخ حسن، فعاش الشيخ حسن بين المسلمية، وذكر ولد ضيف الله أنه توفي في سنة خمس وسبعين وألف بعد الهجرة. طبقات ولد ضيف الله (ص47-53).
[30] مصطلح؛ عالم الأمر، وعالم الخلق، من المصطلحات الفلسفية التي لم يعرفها المسلمون في القرون الثلاثة الفاضلة، فليحذر المسلم على دينه من الفلسفة.(/31)
[31] يقصد الشيخ بالإسناد الحسي: الإسناد المتصل المتسلسل بالرواة النقلة، ويقصد بالإسناد المعنوي: اتصال روح المسلم الشفاف بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وهذا التفاف من الشيخ على مسألة الإسناد الحسي التي يمكن أن تقفل الباب على كثير من الأقوال التي لا يقبلها إلا أتباع المتصوفة في القرون الأخيرة، أما أبتاع الصوفية في العهود الفاضلة فيكفيهم قول أبي سليمان رضي الله عنه: ليس ينبغي لمن أُلْهِمَ شيئاً من الخير أن يعملَ به حتى يسمعَه في الأثر، فإذا سمعه في الأثر عمِل به، وحَمِد الله -عز وجل- على ما وفق من قلبه.
[32] نظرات في التصوف الإسلامي (1/420-421).
[33] ما أدري من أين جاء الشيخ بهذا القول؟!
[34] وهو أشهر الرواة عن الإمام أحمد، ومن كبار علماء الحديث، توفي سنة إحدى وسبعين ومائتين، بينما ولد جعفر الخلدي في سنة ثلاث وخمسين ومائتين، انظر تاريخ بغداد (12/144-145 ترجمة عباس الدوري، و7/226-231 ترجمة جعفر الخلدي).
[35] متفق عليه من حديث معاوية بن أبي سفيان –رضي الله عنه-، أخرجه البخاري (71)، ومسلم (1037).
[36] انظر تاريخ بغداد (7/228).
[37] انظر ما أخرجه الإمام مسلم –رحمه الله- في الصحيح، باب: من فضائل أويس القرني برقم (2542).
[38] المخضرم من التابعين هو الذي ولد قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يتشرف بلقائه صلى الله عليه وسلم.
[39] المصدر السابق.
[40] متفق عليه من حديث أبي هريرة؛ أخرجه البخاري (6993)، ومسلم (2266)، وزاد مسلم: أو لكأنما رآني في اليقظة، وفيه زيادة:لا يتمثل الشيطان بي، عندهما كذلك.(/32)
[41] ذكره الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد (7/181)، بهذا اللفظ، وعزاه إلى المعجمين؛ الصغير، والأوسط، للحافظ الطبراني، من حديث أبي سعيد رضي الله عنه، ولم أجد فيهما لفظ (حقاً)، وله ألفاظ مقاربة في تاريخ دمشق للحافظ ابن عساكر (14/258) من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه، وفي تاريخ دمشق أيضا (46/322) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه، وأخرجه مسلم (2266) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، بدون لفظ (حقاً).
[42] أخرجه مسلم (163) من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
[43] نظرات في التصوف الإسلامي (1/420-421).
[44] هو: عبد الجبار المبارك موسى، كان من المدرسين في حقل التعليم العام، وله معرفة واسعة باللغة العربية، والأدب، وتلقى العلم على خاله الشيخ عبد المحمود الحفيان أثناء التحاقه بالمعهد العلمي المتوسط بطابت، ثم درس في معهد أم درمان العلمي، ودرس الخط العربي، وعلوم التوجيه التربوي في معهد التربية ببخت الرضا (جامعة بخت الرضا حالياً)، وكان خطيباً مفوهاً، وله مشاركة في العمل العام، وترك العمل في وزارة التربية والتعليم، وعمل رئيسا للهيئة الشرعية بالبنك الإسلامي السوداني، وتوفي في سنة 1423هـ.
[45] لا شك أبدا –وباعتراف الشيخ عبد الجبار- أن هذا المصطلح خاص بالبيئة الصوفية في العصور المتأخرة فقط، لأنه لم يكن معروفاً في عصور التصوف الأولى، ولا شك أن هذا يعتبر من قبيل التدليس على القراء المساكين، فعدم تقييد البيئة الصوفية بالعصور المتأخرة ينطلي على القارئ غير المتعمق في البحث.
[46] قوله: الطرق هنا لا يوافق عليه، لأن الطرق لم تكن معروفة في عهد الصوفية الأول، وإنما نشأت متأخرة حتى بعد وفاة الشيخ عبد القادر الجيلاني، والذي أذهب إليه أنها نشأت في القرن الثامن أو السابع، وهذا ما سأبينه في غير هذا المكان بإذن الله.(/33)
[47] من كتاب: (الأستاذ الشيخ عبد المحمود حياته وآثاره ص134-136)، للشيخ عبد الجبار المبارك موسى، وهو نقل لمقطعين متباعدين، قفزت بينهما، ولا ينزعج القارئ فإنني لم أبتر الكلام، وليراجعه القارئ في مصدره إن شك، فسيجد ما هو أعجب من هذا.
[48] هو: أبو محمد سهل بن عبد الله التستري الزاهد الكبير، ولد في أوائل القرن الثالث الهجري، واختلف في تاريخ وفاته، والراجح أنها في سنة ثلاث وثمانين ومائتين، كما في طبقات الصوفية لأبي عبد الرحمن السلمي (ص206)، تحقيق نور الدين شريبة، وانظر كتاب: المعارضة والرد على أهل الفرق وأهل الدعاوى في الأحوال، لسهل التستري، فهو كتاب قليل الصفحات كثير الفوائد.
[49] راجعه بتفصيل في فتح الباري (12/383-388).
[50] لم أقف عليه، وروي نحوه عن عثمان رضي الله عنه، انظر مسند أبي يعلى (124).
[51] هو: سحنون بن سعيد بن حبيب بن حسان بن هلال التنوخي قاضي أفريقية، يكنى أبا سعيد، اسمه عبد السلام، وسحنون لقب غلب عليه، إمام، فقيه، وعالم رباني زاهد، ولد في رمضان سنة ستين أو إحدى وستين ومائة، وتوفي يوم الثلاثاء، لسبع ليال خلون من رجب سنة أربعين ومائتين، وهو ابن ثمانين سنة. انظر ميزان الاعتدال (412).
[52] كذا في المطبوع من ترتيب المدارك، وأشك أن يكون كذلك في أصل القاضي عياض، لأن القاضي من الفصحاء.
[53] هذه كنية سحنون رحمه الله.
[54] في المطبوع من ترتيب المدارك: "جبن"، وهو تحريف لما أثبته.
[55] في المطبوع من ترتيب المدارك: "جبنني"، وهو تحريف لما أثبته.
[56] كذا في المطبوع من ترتيب المدارك، وأشك أن يكون كذلك في أصل القاضي عياض، لأن القاضي من الفصحاء.
[57] كذا في المطبوع من ترتيب المدارك.(/34)
[58] ترتيب المدارك للقاضي عياض (2/621-622)، وفي النص كلمات وجمل لا أشك في أنها مخالفة لأصل القاضي عياض، رحمه الله، لمخالفتها الأفصح، لأن القاضي كان ممن تملك زمام اللغة، والأدب، بيد أنني صوبت موضعين لا يحتملان وجها من وجوه التوجيه، وأبقيت على ثلاثة مواضع منها اثنان يحتملان التوجيه اللغوي، وآخر لا أعرف إن كان يحتمل التوجيه أم لا.
[59] ذكر البيهقي في دلال النبوة (6/550) أنه ابن مسعود رضي الله عنه.
[60] البخاري (2311).
[61] تقدم نقله وتكراره في فقرات سابقة، وناسب تكراره هنا أيضا لمزيد بيان، فعذراً، وإن كان تكرار مثله لا يمل.(/35)
العنوان: صلاة الكسوف
رقم المقالة: 698
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحمد لله الذي أظهر لعباده من آياته دليلاً وهدى من شاء من خلقه فاتخذ ذلك عبرة، وابتغى إلى نجاته سبيلاً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له المتفرد بالخلق والتدبير جملة وتفصيلاً، وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله أبلغ الخلق بياناً، وأصدقهم قيلا صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان، وسلم تسليماً.(/1)
أما بعد أيها الناس: اتقوا الله تعالى، وتفكروا في آياته، وما يخلقه في السماوات والأرض، فإن في ذلك لآيات لقوم يعقلون، تفكروا في هذه السماوات السبع الشداد التي رفعها الله بقوته، وأمسكها بقدرته ورحمته أن تقع على العباد، تفكروا كيف أحكم الله بناءها، فما لها من فروج ولا فطور، وكيف زينها الله بالمصابيح التي عمتها بالجمال والنور، وكيف جعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، ثم تفكروا كيف كانت هذه المصابيح والسراج والقمر تسير بإذن الله في فلكها الذي وضعها الله فيه منذ خلقها الله حتى يأذن بخرابها لا تنقص عن سيرها، ولا تزيد، ولا ترتفع عنه، ولا تنزل، ولا تحيد، فسبحان من سيرها بقدرته، ورتب نظامها بحكمته، وهو القوي العزيز. عباد الله: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله الدالة على كمال قدرته وكمال حكمته ورحمته، فإذا نظرت إلى عظمتهما، وانتظام سيرهما عرفت بذلك كمال قدرة الله، وإذا نظرت إلى ما في اختلاف سيرهما من المصالح والمنافع تبين لك كمال حكمة الله ورحمته، ألا وإن من حكمة الله في سيرهما ما يحدث فيهما من الكسوف، وهو ذهاب ضوءهما كله، أو بعضه، فإن هذا الكسوف يحدث بأمر الله يخوف الله به عباده ليتوبوا إليه، ويستغفروه، ويعبدوه، ويعظموه، وقد كسفت الشمس في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فخرج فزعاً يجر رداءه حتى أتى المسجد، ثم نودي الصلاة جماعة، فاجتمع الناس، فتقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - وصلى ركعتين في كل ركعة ركوعان وسجودان كبر، ثم قرأ الفاتحة، وسورة طويلة نحو سورة البقرة، حتى جعل أصحابه يخرون من طول القيام، ثم ركع، فأطال الركوع، ثم قال: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد، ثم قرأ الفاتحة، وسورة طويلة دون الأولى، ثم ركع ركوعاً طويلاً دون الأول، ثم قال: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد، وأطال القيام، ثم سجد، فأطال السجود، ثم جلس بين السجدتين، وأطال ثم سجد، فأطال، ثم قام إلى الركعة الثانية، فأطال(/2)
القيام، وهو دون القيام في الركعة الأولى، ثم ركع، فأطال الركوع، وهو دون الركوع في الركعة الأولى، ثم قال: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد، ثم قرأ، فأطال القراءة، وهي دون الأولى، ثم ركع الركوع الثاني، فأطال وهو دون الركوع الأول، ثم سجد سجدتين، ثم سلم، وقد انجلت الشمس، وسمع في سجوده، يقول: رب ألم تعدني أن لا تعذبهم، وأنا فيهم ألم تعدني أن لا تعذبهم وهم يستغفرون؟ ثم خطب الناس، ووعظهم موعظة بليغة، فأثنى على الله بما هوأهل له سبحانه وتعالى، ثم قال: ((إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد، ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك، فافزعوا إلى الصلاة، فافزعوا إلى المساجد، فافزعواإلى ذكر الله ودعائه واستغفاره)). وفي رواية ((فادعوا، وتصدقوا، وصلوا))، ثم قال: ((يا أمة محمد والله ما من أحد أغير من الله أن يزني عبده، أو تزني أمته يا أمة محمد، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيراً، وقال: ما من شيء توعدونه إلا قد رأيته في صلاتي هذه، وأوحي إلى أنكم تفتنون في قبوركم قريباً، أو مثل فتنة الدجال، ثم أمرهم أن يتعوذوا من عذاب القبر، وقال: لقد جيء بالنار يحطم بعضها بعضاً، وذلك حين رأيتموني تأخرت مخافة أن يصيبني من لفحها حتى رأيت فيها عمرو بن لحي يجر أقصابه أي: أمعاءه في النار، ورأيت صاحبة الهرة التي ربطتها، فلم تطعمها، ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض، حتى ماتت جوعاً قال: ثم جيء بالجنة، وذلك حين رأيتموني تقدمت حتى قمت في مقامي، ولقد مددت يدي، فأنا أريد أن أتناول من ثمرها لتنظروا إليه، ثم بدا لي أن لا أفعل)).(/3)
فيا أمة محمد إن كسوف الشمس أو القمر لحدث عظيم مخيف، وأكبر دليل على ذلك ما حصل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند كسوف الشمس من الفزع والصلاة، وما حصل له فيها من أحوال، ثم تلك الخطبة البليغة التي خطبها، فعلينا أن نفزع لحدوث الكسوف، وأن نلجأ إلى مساجد الله للصلاة والدعاء والاستغفار، وأن نتصدق لندفع البلاء، وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالإعتاق في كسوف الشمس؛ لأن عتق الرقبة فكاك للمعتق من النار، فأسباب البلاء والانتقام عند حدوث الكسوف قد انعقدت، والفزع إلى الصلاة، والدعاء، والاستغفار، والصدقة، والعتق يدفع تلك الأسباب. أيها المسلمون: فإذا حصل الكسوف في أي وقت، وفي أية ساعة من ليل ونهار، فافزعوا إلى الصلاة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بذلك، ولم يستثن وقتا من الأوقات، ولأنها صلاة فزع ومدافعة بلاء، وتصلى في أي وقت حصل ذلك، وليس عنها نهي، فتصلى بعد العصر، وبعد الفجر، وعند طلوع الشمس، وكل وقت، واعلموا أن السنة أن تصلى جماعة في المساجد كما صلاها النبي - صلى الله عليه وسلم - وصلى خلفه الرجال والنساء، فإن صلاها الإنسان وحده، فلا بأس بذلك لكن الجماعة أفضل. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لاَ تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت:37]. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم... الخ.(/4)
العنوان: "صلاح الدين" الإنسان
رقم المقالة: 1878
صاحب المقالة: د. شاكر مصطفى
-----------------------------------------
"صلاح الدين" الإنسان
حياته حتى سنة 560 هـ:
في ثمانٍ وعشرين صفحة كبيرة يرسم القاضي بهاءُ الدين أبو المحاسن يوسف بن رافع بن شداد صورة صلاح الدين الإنسان في مطلع كتابه الذي كتب فيه سيرته "النوادر السلطانية والمحاسن اليُوسُفِيَّة"، هذا القاضي كان لصيقًا بصلاح الدين في السنوات العشر الأخيرة من حياته لا يفارقه ليلاً ولا نهارًا، وكان معه في مرضه الأخير وعند وفاته، فالصورة إذًا أصدق الصُّوَرِ في رسم ملامح هذه الشخصية التاريخية الضخمة.
كان السلطان يَكْبُرُ القاضِيَ بسبع سنوات، ولكنَّ ابْنَ شدَّاد تُوُفِّيَ بعد صلاح الدين بأربعين سنة، ولا شك أنه كتب سيرة صاحبه وهو يتولى القضاء والتدريس في حَلَب بعد سنوات قد تكون طويلة من وفاة صلاح الدين، ونَجِدُ فيها من جهة ملامح هذا السلطان، وهو في منتهى فترة الأَوْجِ من السمعة المُدَوِّيَة، والسُّلْطَة المُطْلقة، والنضج في الفِكْر والتصرُّف، كما نجد من جِهَةٍ أُخْرَى أنَّ صاحبَ الكِتاب كَتَبَهُ لمجرد الوفاء لصاحبه في فترة لا يرجو منه فيها شيئًا، ولا يخشى شيئًا.
وثَمَّ اتفاقٌ بين المؤرخين جميعًا على عدد من ملامح نشأة صلاح الدين:
- فهم يَذْكُرون أنَّه مِن الأكراد الهَكَّارِيَّة الروادية، ومنَ البارِزين في هذه الجماعة، "وهذا النسل من أشرف الأكراد"[1].
- وأنَّ أصل أسرته من بلدة (دوين)، وهي في الزَّاوِيَة الجنوبيَّة الغربيَّة من بلاد أذربيجان.
- وأنَّ والده نجمَ الدين أيوبَ هاجَر معَ الأسرة إلى بلدة تَكْرِيتَ فيها، وقد عُيِّنَ مستحفَظًا فيها من قِبَل بهروز شحنة بغداد.(/1)
- وأنَّ عمَّه أسد الدين شيركوه كان من المُتطوِّعينَ في الجُنْدِ، وكان من الشَّهامة والشَّجاعة بحيثُ بَرَزَ في جيش زِنْكِي حينَ التَحَقَ بِه، "وشيركوه تَعْنِي أسد الجبل"[2].
- وأنَّ الأَخَوَيْنِ غادَرَا تَكْرِيتَ هارِبَيْنِ إلى المَوْصِلِ؛ إمَّا لمروءة نجم الدين وأخيه الأصغر أسد الدين شيركوه في تلقي زِنكي الهارب مهزومًا أمام جيش الخليفة، وتسهيل عُبوره نهرَ دِجْلَةَ وتقديم بعض المساعدات له حتى وصل المَوْصِلَ؛ وإمَّا لأنَّ أسد الدين شيركوه قَتَلَ أحد مماليك بهروز شحنة بغداد، فخاف انتقامَهُ هو وأخوه نجم الدين فخرجا مُولِّيَيْنِ شَطْرَ المَوْصِلِ حيثُ يُقيمُ زِنكي، ورُبَّما كان الحادثانِ معًا قد وَقَعَا، وقد أكرم زِنكي مَثْوَى الأَخَوَيْنِ عِرفانًا بجميلهما سنة 523 هـ، 1137 م.
- في اللَّيلة التي غادر بها الأخوان تَكْرِيتَ وُلِدَ لنجم الدين أيوب ولدٌ سمَّاه يُوسُفَ، ولُقِّبَ بصلاح الدين؛ وقد حمله معه إلى المَوْصِل[3].
- يبدو أنَّ الأخوينِ التحقا بِجُنْدِ زِنْكِي، ونزلا معه في حَلَب حين نزلها، وحَظِيَ الأخوانِ عنده، فكان شيركوه من أبرَزِ قُوَّاده، كما كان يعتَمِدُ على نجم الدين أيوب في عقله وحكمته، فلمَّا فتح بَعْلَبَكَّ سنة 532 هـ عهد بولايتها إلى نجم الدين، وعُمْر ابنه صلاح الدين يوسف سَنَتَانِ.
- في بَعْلَبَكَّ قضى يُوسفُ بنُ أيُّوبَ نشأته حتَّى الفُتُوَّة – اثنتا عَشْرَةَ سنةً - وحين كان في الرابعةَ عَشْرَةَ منَ العمر شَهِدَ دون شكٍّ - وقد يكون شَارَكَ - في عمليات الدفاع عن البلد ومنطقته، وفي المعارك مع الفرنج الذين كانوا يغزون السهول حول المدينة، ويُخَرِّبون الزروع وينهبون.(/2)
- حضر وهو في هذه السِّنِّ المبكِّرة مفاوضاتِ أبيه – بعد مقتل عماد الدين زنكي – لجيش دِمَشْقَ الذي جاء يستردُّ البلدَ منه، بعد أن اشتدَّ القِتالُ دون طائل؛ "وصبر نجم الدين أحسنَ صبر، فاتَّفق أنَّ الماء - لِما شاءَ الله - غار من حِصْن بَعْلَبَكَّ حتى لم يبقَ منه شيء، وأهل القلعة يستمِدُّون منَ البلد، فلمَّا مَلَكَ (صاحب دمشق) البلدَ، مَنَعَ مَن يُريد الماء منَ القلعة، فاشتدَّ الأمر فطلبوا الأمان والمُصالحة، فاستخلف صاحبُ دمشق نجم الدين، وأقرَّ الثُّلُث الذي كان أتابك (زنكي) قد جَعَلَهُ له فيها وأقرَّه فيها..."[4].
- أمَّا ابنُ الأَثِير فيَذْكُر " أنَّ نَجم الدين أخذ منه (من صاحب دمشق) إقطاعًا ومالاً، وملَّكه عدَّة قُرًى من بلد دِمَشْقَ، وانتقل أيُّوبُ إلى دِمَشْقَ فسكنها وأقام بها..."[5]:
ولا تعارُض بين النَّصينِ، ولو أنَّ حديث ابن الأثير هو الأرجح، فقد يكون صاحب دِمَشْقَ أعطاها أولاً لنجم الدين، ثم وجد الرجل أنه غير ثابت المقام عنده فاختار الانتقال لدِمَشْقَ.
- ويقول ابنُ القَلانِسِيِّ: "إنَّه بعد نزول معين الدين أنر (أتابك دمشق) على بَعْلَبَكَّ، وشحَّ الماء في القلعة أنَّ هذا الشُّحَّ في الماء دعاهم إلى النزول على حكمه، وكان الوالي بها (نجم الدين) ذا حزم وعقل ومعرفة بالأمور، فاشْتَرَطَ ما قام له به من إقطاع وغيرِه وسلَّم البلد والقلعة إليه، ووَفَّى له بما قرَّر الأَمْرَ علَيْهِ، وتسلَّم ما فيه من غَلَّةٍ وآلةٍ في أيَّامٍ من جُمادَى الأُولَى من السنة"[6].(/3)
يذكُرُ ابْنُ أَبِي طي: أنَّه "لمَّا بَلَغَ ذلك إلى نور الدين (يعني تسليمَ بَعْلَبَكَّ، وإقرارَ نجم الدين فيها إثر انتقالِه إلى دمشق)، خاف أن يَفِدَ عَلَيْهِ أَسَدُ الدين إلى صاحب دِمَشْقَ بِحُصول أخيه نجم الدين عنده، ومال نور الدين إلى مَجْدِ الدِّين أبي بكر ابنِ الدايةِ حتَّى ولاَّه جميعَ أُمُورِه وجميع مملكته، فشقَّ ذلك على أسد الدين..."[7].
- ولعلَّ نجم الدين أَيُّوبَ تلقَّى من أخيه بعض التأنيب أو العَتْب، إثر تَخَلِّيه عن الزنكيين؛ ولعلَّ هذا هو السَّبَبُ في سفر ابنِه يوسف صلاح الدين إلى حلب، والالتحاق بعمه سنة 547 هـ / 1152 م، ويبدو أنَّ نجم الدين بَقِيَ في دمشق مُؤْثِرًا البقاء مع إقطاعه، فيما شرح يوسف لعمه ظروف والده، ومِنَ الأرجح أن يكون نجم الدين قد أوصى ابنه بأن يذكر للعَمِّ أسدِ الدين أن مقامه بدمشق أفضل؛ لأنَّه يكون عَيْنًا للزنكيين فيها؛ لا سيما وأنه لم ينل فيما - سِوى الإقطاع والمال - أيَّ حَظْوَةٍ أو تَقَدُّم لدى أُمراء دمشق، وظلَّ غريبًا عن كُتْلَتِهم بِوَصفِه زنكيَّ الهَوَى، وقد شاء لابنه، مع الرسالة، أن يأخذ مكانه في دولة نور الدين برعاية عمِّه، بعد أن بدأت دولته بداية رائعة في استرداد الرها، وفي هزيمة الصليبيين إلى أنطاكية.
- ويبدو أنَّ أسد الدين شيركوه استردَّ بسرعة مكانته لدى نور الدين (ولعله اقتنع بوجاهة رأي نجم الدين بالبقاء في دمشق)، فأضْحَى شيركوه نائبَهُ الدائم تقريبًا في حلب، في حين التحق صلاح الدين بنور الدين بعد أن قدَّمه عمُّه إليه، وصار بعضًا من حاشيته بعد أن (أَقْطَعَهُ إقطاعًا حَسَنًا).(/4)
- يقول ابن الأثير: "فلمَّا أراد نور الدين مُلْك دمشق، أمر (شيركوه) فراسل أخاه أيوب وهو بِها، وطلب منه المساعدةَ على فَتْحِها؛ فأجاب إلى ما يُرادُ منه على إقطاعٍ ذَكَرَهُ (نور الدّينِ) لَهُ ولأخيه، وقُرًى يَتَمَلَّكانِها، فأعطاهُما ما طَلَبا، وفتح دِمَشْقَ..."[8]. ولعلَّنا نلاحظ تحيُّزَ ابنِ الأثير لِنُورِ الدّين ضِدَّ الأَخَوَيْنِ، فليس من المعقول أن يشترطا لمعونته إقْطاعًا مُعَيَّنًا، ولعلَّ الأَمْرَ بِالعكس، كان عَرْضًا من نور الدين قَبِلاه، وقد سَبَقَ مِثْلُ هذا التحيُّز في ذِكره لتسلُّم أيوبَ قلعةَ بَعْلَبَكَّ لإمارة دِمَشْقَ.
- بعد فَتْحِ دِمَشْقَ بَقِيَ صلاح الدين يتردَّد بين دِمَشْقَ وحَلَب، وكان نور الدين قد استقرَّ في دمشق وجعل ولاية أُمورِها لنجم الدين أيوب، فيما كان أسد الدين شيركوه نائبه في حلب سنة 549 هـ. ويبدو أن نور الدين جعل من صلاح الدين حلقة الوصل بينه وبين نائبه؛ فكان يرسله إلى عمه شيركوه، لاستشارته في أمور الدولة، وفي أمر المكوس والضَّمانات وإبقائها أو إلغائها؛ لأنَّ نور الدين كان لا يفعل شيئًا إلا بمشورته، ويبدو أن صلاح الدين كان أكثر التصاقًا بعمِّه مِنْهُ بأبيه؛ فقد ذكر ابن مَخْرَمَةَ أنه كان يتردد على بلاط نور الدين في دمشق[9].
- في سنة 551 هـ/ 1156 م خَلَفَ صلاحُ الدين أخاه الأكبر توران شاه كنائب لعمِّه (شيركوه) في ديوان الجيش بدمشق، لكنَّه تخلَّى عن المنصب بعد زمن قصير احتجاجًا على تصرفات المحتسِب في المدينة.
ملامح من شخصيته:(/5)
عاش صلاح الدين القسم الأوَّل من عمره، حتَّى السادسة والعشرين، دون عمل رسميٍّ تقريبًا، ولعلَّه كان أقربَ إلى الشابِّ اللاهي منه إلى صاحب المسؤوليَّة، ولم يُذكر له من عملٍ سوى السفارة بين دمشق وحلب، ولكنَّه قضى القسم الثاني من العمر في منتهى الإرهاق والعمل المتَّصِل، والتفكير بأمور السياسة، والجهاد، وحفظ الثغور، ومُكافَحَة الصليبيين، وإدارة الأمور الخارجيَّة والداخليَّة في دولةٍ اتَّسعت حتَّى اتَّصلت من ليبيا إلى اليَمَنِ إلى الشام وإلى الجزيرة العليا.
ونَجِدُه في سنواته الأخيرة وهو في أزمة "ساجدًا يبكي ودموعه تتقاطَرُ على شَيْبَتِهِ، ثم على سجادته"، وقد تكالبت عليه الأمراض: فالملاريا من جهة، والدمامل من وسطه إلى رُكْبَتَيْهِ؛ حتَّى لم يكن يستطيع الركوب، ولا الجُلوس لِلطعام من شدة المرض، "يمرض ويَصِحُّ وتَعْتَرِيهِ أحوال مَهُولة وهو صابر مرابط"[10]، "وكان مع ذلك كلِّه يركب من بَكْرَةِ النهار إلى صلاة الظهر يطوف على الأطلاب، ومن العصر إلى صلاة المغرب وهو صابر على شدة الألم وقوة ضربان الدمامل، وأنا أتعجَّب من ذلك، فيقول: إذا ركِبْتُ يزولُ عنِّي أَلَمُها حتى أنزل..."[11].
مرض سنة 581 هـ، 1186 م مرضًا شديدًا وهو في كَفْر زمار في الجزيرة العليا، وبلغ غاية الضعف، وجاءه أخوه العادل من حلب ومعه الأَطِبَّاء، فاستغلَّ صاحب المَوْصِل الفرصة لِمُصالحته بعد أن كان يستنجد للخلاص منه، يقول ابن شَدَّاد: "وعلم أهالي الموصل سرعة انقياده، ورقة قلبه فنَدَبُونِي لهذا الأمر وبهاء الدين الربيب لهذا الأمر... فسِرْنا حتى أتينا العسكر والناس كلهم آيِسون من السلطان... فاحترمَنا احترامًا عظيمًا، وجلس لنا... ومات رحمه الله (بعد 12 سنة) وهو على هذا الصلح لم يتغيَّر عليه"[12].(/6)
فكان صلاح الدين كأنه شُعلة نار في جسد هدمته الأمراض، فلا توازن بين صورته المادّيَّة وبين الحِمل الثقيل الذي يملأ هذا الجسد بالطموحات الكبرى، وقضاؤه السنواتِ الثلاثين الأخيرةَ من حياته على ظهر حصانه يكفي دليلاً على أنَّ وعاءه الجسديَّ كان أصغرَ بكثير من وعائه الروحيِّ.
وإذا قال ابن الأثير عنه إنه: "كان - رحمه الله - كريمًا، حليمًا، حَسَنَ الأخلاق، متواضِعًا، صبورًا على ما يَكْرَهُ، كثير التغافل عن ذنوب أصحابه، يسمع من أحدهم ما يكرَهُ ولا يُعْلِمه بذلك، ولا يتغيَّر عليه"[13]:(/7)
فإنَّ هذه الصفات الخُلُقيَّة لا تتوفَّر إلا فيمن أضحت نفسُهُ كالبحر، أوسعَ بكثير من أنْ تُعَكِّرَهُ السوَاقِي، وفيمن استغرقتِ الأحلام الكبيرة كلَّ ذاته، فهو في شغل بها كنسور القِمَم عن بُغاث الطير، ولا شك أن هذا الاستغراق الفكريَّ الروحيَّ، هو الذي كان يُنْسِيهِ آلامَهُ الجَسَدِيَّةَ، وقدْ رَوَى ابْنُ شدَّاد مَشْهدًا امتزج فيه الحرب مع المرض، وكان الضعف المرضي يَنْزَاح أمام الهمِّ الحَرْبِيِّ الكبير؛ قال: "مرض (السلطان) ونحن على الخروبة... وبلغَ الفرنجَ ذلك فخرجوا طمعًا في أن ينالوا شيئًا من المسلمين... ورحل العدو... يطلبنا، فَرَكِبَ على مَضَضٍ، وَرَتَّب العسكر لِلِقاء القوم تعبئة الحرب، ونزل هو وراء القوم... حتى يقطع بينهم وبين خِيامِهم، وهو يَسيرُ ساعة، ثم ينزل ويستريح، ويتظلَّل بِمِنْدِيلٍ على رأسه من شِدَّة وَقْع الشمس، ولا يَنْصِب له خيمة حتى لا يُرِي العدو ضعفًا... وبتُّ تلك الليلة أجمع أنا والطبيب نُمَرِّضُه ونُشاغِلُهُ، وهو ينام تارة ويستَيْقِظُ أُخْرى حتَّى لاح الصباح، ثم ضرب البوق وركب هو وركبت العساكر... وفي ذلك اليوم قدَّم أولاده بين يديه، ولم يزل يبعث مَنْ عِنده حتى لم يبقَ إلا أنا والطبيب وعارض الجيش والغِلمان بيدهم الأعلام والبَيَارِق لا غيرُ، فَيَظُنُّ الرائي عن بُعْدٍ أنَّ تَحْتَها خَلْقًا عظيمًا وليس تحتها إلا واحد يُعَدُّ بخلق عظيم... (وأخذ القتلُ الفرنج)... وبقي رحِمَهُ اللَّهُ في موضعه، والعساكر على ظهور الخيل قُبالَةَ العدو إلى آخِرِ النهار... وبِتْنَا على مثل ما بِتْنَا الليلة الماضية"[14].
ضمن هذا الإطار يمكن فهم مختلِف مناقبه الخلقية على تعدُّد وجوهها:(/8)
- فلا قيمة للمال عندَهُ "مَلَك ما مَلَك وماتَ ولَمْ يُوجَد في خِزانته من الفضة إلا سبعة وأربعون درهمًا ناصرية، ومن الذهب إلا جِرم واحد صوري..."، "وكان يهب الأقاليم ولا يسأل"، وأتتْهُ الوُفود بالقدس فباع قرية ووزَّع عليهم ثمنها. وكان يعطي في وقت الضيق كما يعطي في حال السعة..."، وقال مرَّةً: "يمكن أن يكون في الناس من ينظر إلى المال كما ينظر إلى التراب... وقد وهب من مرج عكَّا وحده عشرة آلاف فرس..."[15].
وذكر ابن الأثير "أنها كانت 18 ألف دابة سوى الجمال...."[16].(/9)
- وحِلْمُهُ الشديد نابع من المنبع نفسه: ذكر ابنُ الأثير أنَّه كان يومًا جالسًا وعِنْدَهُ جماعةٌ، فَرَمَى بعضُ المماليك بسرموز (حِذاء) فأخطأتْهُ ووصلتْ إلى صلاح الدين، فأخطأتْهُ ووَقَعَتْ بالقرب منه؛ فالتفت إلى الجهة الأخرى يكلُّم جَليسَهُ لِيتغافَل عَنْهُ... وطلبَ الماءَ في مجلسٍ واحد خمس مرات حتى قال: يا أصحابنا والله قتلني العطش، فأُحْضِر الماء، ولم ينكر التوانِيَ في إحضاره"[17]. وكان جالسًا بباب خيمَتِه وجاءه رجلٌ بقصَّة يُرِيدُ تَوقيعَها، فقال: ما عندي دواة، فقال الرجل: ها هي ذي في صدر الخيمة. فالْتَفَتَ فَرَآهَا، ومدَّ نَفْسَهُ وَأَتَى بِها ووقَّع الرُّقعة، وقال: ما ضَرَّنا شيءٌ، قضيْنَا حاجَتَهُ وحَصَلَ الثواب! وكانت طراحتُه تُداسُ عند التَّزاحُم عليه لعرض القصص، وهو لا يتأثَّر لِذَلِكَ... وكان عند يافا وعبَّأ الجُند للحرب فجابَهَهُ بعضُ الأمراء بَعْتِبُ فيه خشونة؛ لعدم توفُّر إقطاعه، فعَطَفَ عِنان فَرَسِهِ كالمغضب... وانصرف وأمر بِقلْعِ خَيْمته، وانفضَّ النَّاسُ عن العَدُوِّ مُتَيَقِّنين أنَّ السلطان رُبَّما صلَب وقَتَلَ جماعةً، ولم يتجاسَرِ ابنُه أن ينظُرَ في عيْنَيْهِ رغم بلائه في الحرب، ومَشَى حتَّى بلدة (يازور) وضَرَبَ خيمتَهُ هُناك... وما من الأمراء إلا من يَرْعَدُ خِيفَةً... ولم تُحَدّثني نفسي – كما يقول ابن شَدَّاد – بالدخول عليه حتَّى استدعاني، وكانتْ قد وَصَلَتْهُ فاكهةٌ كثيرة من دِمَشْقَ، فقال: اطلبوا الأمراء ليأكلوا شيئًا... وحضروا وهم خائفون، فوجدوا من بِشْرِهِ ما أحدث لهمُ الطمأنينة والسرور... كأن لم يجرِ شيء أصلاً..."[18].(/10)
في إطار هذا الجوِّ الخُلُقيِّ يدور التواضع، ويدور التسامح والرحمة حتَّى مع الكُفَّار، فهذه الصفات من تلك، وأساسُها في التكوين النفسي واحد؛ فكأنَّها ألوانٌ ووجوه لطبيعة واحدة منجذبة إلى مُثُلِها العليا، فلا تستطيع أن ترى ما تعتبره من صغائر الأمور، وتعتبر الترفُّع عنه من باب المروءة ومكارِمِ الأخلاق.
قال ابن الأثير: "... وأمَّا تَوَاضُعُه فإنَّه كان ظاهِرًا، لم يتكبَّر على أحدٍ من أصحابه، وكان يَعيبُ المُلوكَ المتكبِّرينَ بذلك. وكان يحْضرُ عِنْدَه الفُقَراء والصُّوفِيَّة ويعمَل لهم السماع، فإذا قام أحدُهم لرقص أو سماع يقوم له فلا يقعد حتى يفرغ الفقير"[19].(/11)
وقد روى ابن شَدَّاد أمثلة عديدة على هذه المواقف؛ ومنها: أن صاحب أنطاكية بعد صُلحه معه سنة 558 هـ فاجأه عند باب خيمته في الطريق بين بيت المقدس ودمشق وطلب منه شيئًا، فأعطاه سهل العمق (وكان أخذه منه سنة 584 هـ). ودخل عليه صاحب صيدا الصليبِي فاحترمه وأكرمه، وأَكَلَ مَعَهُ الطعام، وعرض عليه الإسلام وذكر له طرفًا من محاسنه. ومرَّ به سنة 584 هـ رجل عالم متصوّف، فتفرَّغ لِمُقابَلَتِه، ثُمَّ انْصَرَف الرجلُ مُسافِرًا دون أن يودّع صلاح الدين، فسأل عنه بعد ليالٍ، وقال: ما أكرمناه، وشدَّد النكير على ابن شداد لماذا لم يُخبره بسفره... فأعاد قاضي دمشق ذلك الرجل، فأمسكه عنده أيامًا، وخلع عليه وأعطاه مركبًا وثيابًا كثيرة له ولأهله وأتباعه وجيرانه، ونفقةً يرتفق بها!... وأدخلوا عليه مرَّة أسيرًا فرنجيًّا يَرْتَجِفُ من الرعب؛ فقال له: من أيّ شيء تخاف؟ فقال: كنت أخاف من أن أرى هذا الوجه، فلما رأيتُه اطمأنَّتْ نَفْسِي، فمنَّ عليه وأطلقه. وأضافَ ابْنُ شدَّاد: وكنتُ راكِبًا في خدمته مرة قُبالَةَ الفرنج، وقد وصل بعض اليزكية (طلائع الجيش) ومعه امرأة شديدة البكاء والتحرُّق تَطلُبُ الحُضورَ إِلَيْهِ، فعرف أنَّ بَعْضَ الجُنْد المسلمين اخْتَطَفُوا ابنتها، فرقَّ لها ودمعتْ عيناه، وأمر مَن ذَهَب إلى سُوق العسكر ليسأل عمَّنِ اشتراها، ويدفَعَ له ثَمَنَها ويستردَّها، وعاد الرجل بعد ساعة والصغيرة على كَتِفِه، فأعادَها لأُمِّها وهي تُعَفِّر وجْهَها في التُّراب، وترفع طرفها إلى السماء، ولا ندري ما تقول، وأرسل من أوصلها إلى عسكرهم"[20].(/12)
وضمن هذا الإطار نفسه تأتي رِقَّةُ القلب، ودموع الحزن، فقد كان صلاح الدين: "شديد الشغف والشَّفَقَة بأولاده الصغار – وهم كثيرٌ يبلغون 17 – وهو صابر على مُفَارَقَتِهم... راضٍ بِمُرِّ العَيْش وخُشونته مع القدرة التامة على غير ذلك. وحين وصله خبَرُ وفاةِ ابْنِ أخيه تقيِّ الدين، وهو في مقابلة الفرنج، كَتَمَ الخَبَرَ عن الجميع، حتى إذا فرَغَ مَجْلِسه إلا من أصحابه بَكَى وأَبْكَى الجماعة معه:
يقول ابن شداد: ثم عدت إلى نفسي وقلت: استغفروا الله.. وانْظُروا أين أنتم؟ وفيمَ أنتم؟ قال (صلاح الدين): نعم، أستَغْفِرُ اللَّه، واستدعى بشيء من الماورد فمسح عينيه، ثم استحضر الطعام. وكذلك فعل يومَ بلَغَهُ موتُ ابنِه إسماعيل، فقد كتَمَ الكِتَابَ بعد أن قَرَأَهُ ودمعت عيونه، ولم نعرف الخبر إلا من غيره..."[21].(/13)
إنَّ وَحْدَةَ الشخصيَّة لدى صلاح الدين تقتضي أن نفهم أبعاد الإيديولوجية التي كانت تقود حياته، وأخلاقه التي ألمحنا بملامحها من قبل، هي الصورة الظاهرية له، أمَّا شخصيَّته الحقيقية والمتمّمة لهذه الملامح (والتي لا شكَّ أن هذه الملامح تنبع منها) فتنكشف بكلمة واحدة: في الإيمان، هنا يكمن قطب شخصيَّته. صورته في التحليل الأخير كانت صورة صوفي يرى أنَّ القرب من الله لا يكون في التأمّل، ولا في مجاهدة النفس، ولا في الفلسفة الميتافيزيقية (التي لا يفهمها)، ولا في السماع والرقص الصوفي، ولا في الاعتزال عن الدنيا.. كان يرى – كما تدلّ أعماله – أن الإيمان يقتضي العمل، وأن العمل يعني الجهاد في إرضاء الله. إنَّها إيديولوجية مبسطة، شديدة الوضوح، ولكنه جعل منها – مع تكالُب الأمراض عليه – هدف الحياة الوحيد؛ فإذا هجر أولاده وبيته ليبيت في الخيام، وإذا ركب الخيل ثلاثين سنة في الجبهات، وإذا احتقر المال وبذله للناس، وإذا صَبَرَ على بلوى الأمراض، وهو مستغرِقٌ فِي الجهاد، وإذا بَكَى وهو ساجدٌ لِلَّه في الأزمات حتى بلَّل الدمع شيبتَهُ وسال على سجادته، فكل ذلك يندرج تحت كلمة الإيمان، الذي بلغ حدَّه الأقصى المسيْطِر عنده في السنوات العشر الأخيرة من حياته. لم تكن هذه الإيديولوجية الدينية كاملة الوضوح فيه من قبل، ولا كانتْ فِي الوَقْتِ نَفْسِه بنتَ ساعَتِها، ولكنَّها تكامَلَتْ في تَطَوُّرٍ طويل متَّصل في النصف الثاني من عمره، حين تمثَّل شخصيَّة نور الدين كبطل إسلامي.(/14)
وقد انفردَ المؤرّخ الشيعي ابن أبي طي – وهو من الذين يدسُّون عليه؛ حتَّى لم يعد النَّسَّاخون يستنسخون كُتُبَه رغم أهميَّتِها وتميُّزها؛ حتَّى ضاعَ تُراثُه كلُّه مَعَ الأَسَفِ – نقول إنَّه انفرد برواية يقول فيها – حسب ما نقل عنه – إنه: "لما استقر لصلاح الدين أمرُه بِالوِزارَةِ (فِي مِصر) والرّياسة قام في الرعِيَّة مقام من قام بالشريعة والسياسة، وقرَّب إليه أهل الفضل والأحباب، وتاب عن شُرْبِ الخمر وعدل عن اللهو، وتقمَّص بلباس الدين، وحفظ ناموس الشرع المبين..."[22].
ولسنا لندافع عن صلاح الدين بِوَصْفِه الإنسانَ الكامِلَ؛ فَلَيْسَ ثَمَّ إنسان كامل. وقد يكون ما ينسب إليه – كما يستنتج من الكلمة ذاتِها – إنما كان في شبابه الأول في حلب ودمشق، وإن كان من المستبعد أن يقرّبَهُ نور الدين ويُقْطِعُه الأقطاع وهو الشاب اللاهي، الشارب للخمر. ولا ننسى أن مثل هذه المفاسد كانت شائعة في الناس في ذلك العصر، وفي الجند أيضًا، وقد شربها صلاح الدين تقليدًا شبابيًّا ولهوًا لا معاقرة، وسرًّا لا مجاهرة.(/15)
وعلى أي حال فالواضح أنَّ صلاح الدين منذ تصدى ليكون رجل الجهاد أخذت حميته الدينيَّة في التَّصاعُدِ المتَّصل والمتكامل، ولم يكن عنده فرق بين الصلاة والجهاد، فكلاهما عبادة، وكلاهما فريضةٌ، وكلاهما مكرَّس لمرضاة الله. وابن شداد يروي في هذا السبيلِ العديدَ من القَصَصِ التي تكوّن في مجملها صورته (الصوفية) الخاصَّة: فهو يشهد بأنَّه: "كان كثيرَ الذّكر لِلَّه، وقد جمع له القُطْبُ النيسابوري عقيدة تجمع جميع ما يحتاج إليه، وكان من شِدَّةِ حرصه عليها يُعَلّمها الصغار من أولاده حتى ترْسَخ في أذهانهم في الصغر، ورأيته وهو يأخذها عليهم وهم يقرؤونها من حِفْظِهم بَيْنَ يديه. وكان شديد المواظبة على الصلاة جماعة؛ حتَّى إِنَّه ذكر يومًا أنَّ له سِنِينَ ما صلَّى إلا جماعةً، وكان إنْ مَرِضَ يَستَدْعِي الإمام وحده، ويكلّف نفسه القيام ويصلّي جماعةً... وكانت له ركعاتٌ يُصَلّيها إذا استيقظ بوقتٍ من الليل... وإلاَّ أَتَى بِها قَبْلَ صلاةِ الصُّبْحِ... ولقد رأيته يصلي في مَرَضِه الَّذِي مات فيه قائمًا... وكان إذا أدركته الصلاة وهو سائر نزل. ولم يكن يملك ما يوجب الزكاة. أمَّا الصّيام فكان عليه منه فوائتُ بِسبَبِ أمراض تَواتَرَتْ عليه في رمضانات متعددة، وبسبب الجهاد. وكان القاضي الفاضل قد تولَّى ثبت تلك الأيام، وشرع في قضاء تلك الفوائت في القدس في السنة التي توفي فيها، فكان يصوم وأنا أُثبِتُ؛ مع أنَّ الصوم لا يوافق مزاجه، وكان الطبيب يلومه وهو لا يسمع... وأمَّا الحجُّ فقد نواه في سنته الأخيرة وأمر بالتأهب له... وحالت المنية دون تحقيقه..."[23].(/16)
"وكان مُبْغِضًا لِلفلاسفة والمعطّلة والدهرية، ومن يُعانِدُ الشَّريعة"[24]. وضمن هذا الإطار من الروح الدينية المتَّقدة، والحرص على سلامة العقيدة؛ يُمْكِنُ أن نَفْهَمَ أَمْرَهُ الذي أصدره لابْنِه الظَّاهر في حلب بِقَتْلِ شِهابِ الدين السهروردي (5 رجب سنة 587 هـ/ 29 يوليو 1191 م). ونقف قليلاً عند مقتل هذا المتصوف عند نهاية هذا الفصل. على أنه كان بالمقابل: "يكرم مَن يَرِد عليه من المشايخ وأرباب العلم والفضل وذوي الأقدار، وكان يوصينا بأن لا نغفل عمَّن يَجتاز بالخيم من المشايخ المعروفين حتى نحضرهم عنده وينالوا إحسانه"[25].
ويحب الصوفية ويقف لهم حين السماع والأذكار حتى ينتهوا منها.
ولا يقف تُقاه العميق عند الأمور الشخصية، ولكنه يمتد إلى الأمور العامة (كالعدل الداخلي والجهاد الخارجي) بِوصْفِها جزءًا من الدين وواجبًا إلهيًّا. فباعتبار أنَّ " الواليَ العادلَ ظِلّ اللَّه في الأرض" كان (صلاح الدين) يجلس للعدل في كل يوم اثنين وخميس في مجلس عام يَحْضُرُه الفُقَهاء والقضاةُ والعُلماء، ويَفْتَحُ البَابَ لِلمُتَحاكِمِينَ حتَّى يَصِلَ إليْهِ كُلّ أحدٍ مِنْ كَبِيرٍ وصغير، وعجوز هرمة وشيخ كبير، وكان يفعل ذلك سفرًا وحضرًا؛ على أنَّه كان في جميع أزْمانِه قابلاً لجميع ما يُعْرَضُ عليْهِ من القصص، كاشفًا لما ينتهي إليه من المظالم. وكان يجمع القصص في كل يوم ويفتح باب العدل؛ ولم يَرُدَّ قاصدًا للحوادث والحكومات. وكان يجلس مع الكاتب ساعة إمَّا في اللَّيل أوْ فِي النَّهار، ويوقّع على كُلّ قِصَّة بِما يُطْلِقُ اللَّه على قلبه. ولم يَرُد منتحلاًً ولا طالب حاجة... وهو مع ذلك دائمُ الذّكْرِ والمواظبة على التّلاوة... ولقد رَأَيْتُه وَقَدِ اسْتَغَاثَ إليْهِ إنسانٌ من أهل دمشق يقال له ابن زهير على تقي الدين ابن أخيه، فأنفذ إليه يحضره إلى مجلس الحكم... واتَّجهت اليمين على تقي الدين.(/17)
وأعظمُ مِنْ هذِهِ الحِكاية قضيَّةٌ جَرَتْ له مَعَ إنسانٍ تاجِرٍ يُدْعى عمر الخلاطي في مجلس الحكم بالقدس الشريف... "وخلاصة الحكاية أنَّ هذا التاجر ادَّعى أنَّ مَمْلُوكَ السلطان سنقر الخلاطي هو مملوكُه اشتراه من فلان بتاريخ كذا، ولم يزل في ملكه بموجب كتاب في يده، وأنَّ المملوك شذَّ بِتاريخ كذا، وهو يطلب من السلطان أموالَهُ العظيمة التي تركها سنقر عند وفاته.. وعلم السلطان فَطَلَبَ منِ ابْنِ شدَّاد دعوةَ الرَّجُل إلى مجلس الحكم، ولمَّا جاء نَزَل السلطان عن طراحته حتى ساواه، وسمع ابن شداد شكوى المدَّعي، وأثبتَ السُّلْطانُ بِالشهود أنَّ سنقر المذكورَ كان في ملكه قبل سنة من تاريخ الكتاب الذي يَحْمِلُه الرجل"[26]. وأنَّه اشتراه مع ثمانية أَنْفُس، وتبيَّن أنَّ الدعوة تزويرٌ؛ فقال ابنُ شدَّاد للسلطان: "هذا الرجل ما فعل ذلك إلا طلبًا لِمراحم السّلْطان، ولا يَحْسُن أن يَرْجِعَ خائبًا، فقال السلطان: هذا بابٌ آخَرُ، وتقدم له بخلعة ونفقة بالغة".(/18)
أمَّا الجهاد والدفاع عن الأمة وأرضها وتحرير هذه الأرض؛ فقد كان قِمَّة الإيمان عنده والواجب الأسمى الذي أفنى فيه جسدَهُ الدنيوي، وليس من أحدٍ يُنْكِر عليه بُطُولَتَهُ الكبرى في هذا السبيل الذي كان هدف حياته، وسبب توحيده الجبهة الإسلامية وتحرير القُدْسِ، ويروي ابن شداد في بعض الصور الحية لهذا الجهاد من واقع ما رأى، يقول: "كان الفرنج نازلين... قرب القدس والسلطان فيها، فَوَصَلَتِ الأَخْبَارُ بِعَزْمِهم على حِصارها، واشتدَّ خوْفُ المُسْلِمين، فاستَحْضَرَ الأمراء وعرَّفهم ذلك وشاوَرَهُم، فَجَامَلُوهُ وباطِنُهم غَيْرُ ظاهِرِهم؛ لكنَّهم أصرّوا جميعًا على أنَّه لا مصلحة للمسلمين في إقامَتِه بِنَفْسِه فيها، ويُقِيمُونَ هم، ويكونُ السُّلطانُ مُطوّقًا لِلعدُوّ من الخارج كما كان الأمر في عكَّا؛ لكنَّه أصرَّ على البقاء؛ فلمَّا انفضَّ المجْلِسُ جاءَ مَنْ أَخْبَرَ السُّلطان أنَّهم لا يُقِيمُون في البلد إلا إذا أقام فيه أخوه العادل، أو أحدُ أولادِه، فعلم أنَّها إشارةٌ بأنَّهم لن يقيموا فيه، وضاق صدره واشتدَّت فكرته"، ويقول ابن شداد: ".... ولقد جلست في خدمته في تلك الليلة، من أوَّل الليل إلى أن قارب الصباح، وكان الزمان شتاء، وليس معنا ثالث إلا الله تعالى، ونحن نقسم أقسامًا ونُرَتّب على كل قسم بِمُقْتضاه، وأخذني الإشفاق عليه، فإن اليبس كان يغلب على مِزاجه، فشفعت إليه أن يأخذ مضجعه لعله ينام ساعة، فقال: لعلَّك جاءك النوم.. ثم نهض، فما وصلتُ بيتي إلا وأذَّن الصبح، وكنت أصلّيه معه، فدخلت عليه وهو يُمِرّ الماء على أطرافه، وقال: ما أخذني النوم أصلاً، فقلت: قد علمتُ، فقال: كَيْفَ؟ قلت: لأني لم أنم وما بقي وقت للنوم، ثم شغلنا بالصلاة..."، واقترح ابنُ شداد على السلطان أن يصلي ركعتين ويدعو الله – وهو يوم الجمعة – ففعل، "... ورأيْتُه ساجِدًا ودموعُه تَتَقَاطَرُ على شيبته ثُمَّ على سِجَّادَتِه...(/19)
فَلَمْ يَنْقَضِ ذلك اليوم حتَّى وصل الخبر بأن الفرنج مختبطون، وجاء الخبر في اليوم التالي أنَّ زُعماءهم تشاوروا وهم كعادتهم على الخيل، وجميعهم راكبون ثم جاء المبشّر بأنَّهم رحلوا..."[27].
وكان صلاح الدين في جهاده من عُظماء الشجعان، شديد البأس، عظيم الثبات، ولا يهوله شيء، ولا شكَّ أنَّ ذلك كان نتيجة تصعيد الإيمان بالله في الذات لدرجة التسليم النهائي للقدرة الإلهية؛ وإلا فإنَّ الخوف في مجال الموت أمر إنسانِيٌّ عادي، يقول ابن شداد: "ولقَدْ رأيْتُه - رحِمه الله - مُرابطًا في مقابلة عدة عظيمة من الفرنج، ونُجَدُهم تَتَوَاصِلُ وعساكِرُهم تَتَواتَرُ، وهو لا يزداد إلا قوة نفس وصبر، وقد وصل في ليلة واحدة منهم نيّفٌ وسبعون مركبًا على عكَّا، وأنا أعدّها من بعد صلاة العصر إلى غروب الشمس، وهو لا يَزْدَادُ إلا قُوَّة نفس... ولقد سألتُ (باليابدين بارزان) وهو من كِبار مُلوك الساحل، يومَ انعقاد الصلح عن عِدَّتِهم، فقال الترجمان: إنه يقول: كنتُ أنا وصاحب صيدا قاصديْنِ عسكرَنَا من صور فلما أشرفنا عليه تجاوزناه، فحزرهم هو بخمسمائة ألف، وحزرتُهم أنا بستمائة ألف، أو قال عكس ذلك. قلت: فكم هلك منهم؛ فقال: أمَّا بالقتل فقريب من مائة ألف، وأمَّا بالموت والغرق فلا نعلم، وما رجع من هذا العالم إلا الأقل...".(/20)
"وكان (صلاح الدين) لا بد له من أن يطوف حول العدو كل يوم مرَّة أو مرَّتين إذا كُنَّا قريبًا منهم، وكان إذا اشتدَّ الحرب يطوف بينَ الصَّفَّيْنِ ومعه صبي واحد، وعلى يده جنيب، ويخرق العساكر من المَيْمَنَة إلى الميسرة ويرتب الأطلاب... ويشارف العدو ويُجاوِرُه.. وما رأيتُه استكثر العدو أصلاً، ولا استعظم أمرهم قط... وقد انهزم المسلمون في يوم (المصاف الأكبر) بمرج عكا حتَّى القلب ورجاله، ووقع الكؤس والعلم، وهو - رضي الله عنه - ثابت القدم في نفر يسير قد انحاز إلى الجبل يجمع الناس ويردهم ويخجلهم حتى رجعوا... ولم يزل كذلك حتى نُصِرَ عسكر المسلمين في ذلك اليوم؛ وقتل (من العدو) زهاء سبعة آلاف ما بين راجل وفارس..."[28].
"ولقد كان - رحِمه الله - شديد المواظبة عليه (الجهاد) عظيم الاهتمام به، ولو حلف حالف أنه ما أَنْفَقَ بعد خروجه إلى الجهاد دينارًا ولا درهمًا إلا في الجهاد أو في الإرفاد لَصَدَقَ. ولقد كان الجهاد وحبُّه والشغَفُ به قد استولى على قلبه وسائر جوانحه استيلاء عظيمًا (نتيجة الإغراق التصوفي في الإيديولوجية الدينية) بحيث ما كان له حديث إلا فيه، ولا نظر إلا في آلته، ولا كان له اهتمام إلا برجاله، ولا ميل إلا إلى مَنْ يذكره ويَحُثُّ عليه, ولقَدْ هَجَرَ فِي مَحَبَّة الجهادِ فِي سبيل اللَّه أَهْلَهُ وأَوْلادَهُ ووَطَنَهُ وسَكَنَهُ وسائرَ ملاذّه، وقنع من الدنيا بالسكون في ظل خيمة تهب بها الرياح يمنة ويسرة. ولقد وقعتْ عليْهِ الخَيْمَةُ في ليلة ريّحة على مرج عكا، فلو لم يكن في البرج وإلا قتلته ولا يزيده ذلك إلا رغبةً ومصابرة واهتمامًا"[29].(/21)
وهذه الصفات التي يسجّلها ابن شداد لا تتفق إلا لمن وصل درجة التصوف في عشق إيديولوجيتة، وابن شداد يضيف قائلاً: "وكان الرجل إذا أراد أن يتقر ب إليه يحثه على الجهاد أو يذكر شيئًا من أخبار الجهاد. ولقد أُلِّفَ له كُتُبٌ عِدَّةٌ في الجهاد. وأَنَا مِمَّن جَمَعَ له فيه كِتابًا.. جَمَعْتُ فيهِ آدَابَهُ وكُلَّ آيَةٍ ورَدَتْ فيه. وكل حديث روي في فضله، وشرحْتُ غريبها؛ وكان - رحمه الله - كثيرًا ما يطالعه حتى أخذه منه ولده الملك الأفضل..."[30].
وروى ابن شداد حديثًا جرى بينه وبين صلاح الدين، وهما عائدان من عسقلان على الساحل... وكان الزَّمان شِتاء عظيمًا والبحر هائجًا هيجانًا شديدًا، وموجه كالجبال. وكنتُ حديثَ عَهْدٍ برؤية البحر، وخُيِّلَ إليَّ أنه لو قال قائِلٌ: إنْ جُزْتَ في البحر ميلاً واحدًا ملَّكْتُك الدنيا لما كنت أفعل... وإذا بالسلطان يقول وهو يلتفت إلي:
- أما أحكِي لك شيئًا؟ قُلْتُ: بَلَى؛ قال: في نَفْسِي أنَّه متَّى ما يسَّر الله تعالى فتح بقية الساحل قسمت البلاد وأوصيت وودَّعْتُ وركِبْتُ هذا البحر إلى جزائرهم أَتَتَبَّعُهم فيها حتى لا أبقي على وجه الأرض مَنْ يَكْفُر بِالله أو أموت!
فعَظُمَ وَقْعُ هذا الكلام عندي حيث ناقض ما في خاطري؛ فقلت:
- ليس في الأرْضِ أَشجع نفسًا من المولى.
- واستأذنْتُ في حكايةِ ما كان في خاطري من هول البحر فقال:
- أنا أستَفْتِيكَ... ما أشرفُ الميتات؟
قلت: الموتُ في سبيل الله.
فقال: غايةُ ما في الباب أن أموتَ أشرف الميتات![31]
ثقافته:
كان الجانِبُ الرّوحي في صلاح الدين أقوى وأشد بعدًا وعمقًا من جانبه الفكري، ولهذا غطَّى على التحدث عن ثقافته؛ كما غطت حطين على جوانب شخصيته؛ فليس يُذْكَرُ إلا لصيقًا بها وبمجدها.
في بعلبكّ – دون شك – حيث نشأ صلاح الدين كانتْ أُولى دروسه وتعليمه، وكانت هذه الدروسُ على نوعين:(/22)
- القراءة والكتابة والقرآن الكريم، وشيء من الفقه والعلوم الإسلامية، وتاريخ الرسالة.
- فنون الفروسيَّة والقِتال وركوب الخيل واستخدام السيف، والتمرُّس بفنون الحرب وألعابها.
ولا شكَّ أنَّه باعْتِبار كونه ابْنَ والي المدينة الساكن في قلعتها كان يلقى ما لا يلقى أمثالُه من أبناء أواسط الناس من العناية والاهتمام، وحين انتقل من بعلبكّ مع أبيه إلى دمشق، ثُمَّ تَرَكَهَا إلى حلب، وصار في حاشية نور الدين (مع عمّه شيركوه) قَبَسَ شيْئًا من العلوم المتداوَلَة أيضًا على يَدَيْ بعضِ العلماء؛ كالشيخ قطب الدين النيسابوري: الذي قدم دمشق سنة 540 هـ / 1145 م، واشتهَرَ بِها قبل وصول صلاح الدين إليها بست سنوات، وتردَّد على دور العلم والشيوخ وتمرَّس بفنون الفروسية وألعابها بحكم معاشرته للفرسان المحيطين مثله بنور الدين؛ وبرع في لعبة الجوكان (البولو) وهي تقاذف كرة من الخشب بمضارب طويلة واللاعبون على ظهور الخيل، وقد ذكر أنه كان يلعبها في مرج دمشق مع نور الدين بعد فتحِها.. دون أن ننسى تأثير أبيه نجم الدين الذي اشتهر بالصلاح والخير والطيبة[32]. وعمّه شيركوه في ثقافته الإسلامية والحربية، فقد كانا من الطبقة الحاكمة والمحاربة، فلا بدَّ أنَّهما تركا أثرهما الواضح في نشأته، لا سيما في وعيه الأول أيَّام معارك أبيه في بعلبك مع الفرنج، وفي الوقت نفْسِه كانَتْ سفاراتُه في الخمسينيات (550هـ) بين نور الدين في دمشق وعمه شيركوه في حلب، وما يسمعه ويراه كل يوم من الأحداث الفرنجية وأخبار عدوانها وظفرها وهزائمها، كل ذلك ترك في نفسه بصمات واضحة لواقع الحياة التي يحياها في الشام.(/23)
- ونضيف أخيرًا أنَّ مُرافَقَتَهُ لِنُورِ الدِّينِ تَرَكَتْ فِي ذاتِه الأَثَرَ الحاسِمَ: فَقَدْ أَخَذَ عَنْهُ أُصولَ الإدارة والعدل في الناس، وأخذ عنه ما أهم من كُلّ ذلك، وهو الإيمان بفريضة الجهاد[33] ضِدَّ أعداء الإسلام والمحتلّين لأرضه. ومن الواضح أن ثقافته في العلوم الإسلامية توقفت عند حد معين في حين اتَّسعت ثقافته الحياتية بعد ذلك سياسة وإدارة وحربًا، وقد ذكروا تردُّده في دِمَشْقَ على مجالس ابْنِ عساكِرَ مؤرّخ دمشق والمحدّث الكبير؛ لكنه لم يأخذ عنه سوى الاحترام الشديد للحديث النبوي.
- ولم يَكُنْ في طُمُوحِه أَنْ يَكُون من طالِبِي العلم، ولكنَّه من طلاب المناصب وأهل الإدارة والحروب. وهكذا بقيت ثقافته محدودة إن لم نقل سطحيَّة، وفي ظنّه أنَّ العُلَمَاءَ كثيرٌ، وأنَّ طريق أبيه وعمّه في الحياة أفضل. ويظهر دليلُ ذلك في قول ابن شداد: "إن صلاح الدين قد أخذ عقيدته عن الدليل بواسطة البحث مع مشايخ أهل العلم وأكابر الفقهاء، وتفهَّم من ذلك ما يحتاج إلى تفَهُّمِه بحيث إذا جرى الكلام بين يديه يقول فيه قولاً حسنًا، وإن لم يكن بعبارة الفُقَهاء، فتحصل من ذلك سلامة عقيدته من كدر التشبيه؛ غير ما دق منهم النظر فيها إلى التعطيل والتمويه، ... مُوافقة لقانون النظر الصحيح، مرضية عند أكابر العلماء...."، وهذا يعني أنه كان يعرف بوضوحٍ جميع أركان الدين على المذْهَبِ السُّنِّيّ، على أنه كان يغذي مخزونه الديني ويزيده أبعادًا روحية بأمرين:
- الأوَّل: "أنَّهُ كان يُحِبّ سماع القرآن الكريم حتَّى إنه كان يستخيرُ إمامه ويشترط أن يكون عالمًا بعلوم القرآن العظيم، متقنًا لحفظه، وكان يَسْتَقْرِئُ في مَجْلِسه العامّ من جرت عادته بذلك: الآية والعشرين والزائد على ذلك... وإذا سَمِعَ القرآنَ يخشع قلبه، وتدمع عينه في معظم أوقاته"(/24)
- الثاني: أنه كان "شديد الرغبة في سماع الحديث، ومَتَى سَمِعَ عن شيخٍ ذي رواية عالية وسماع كثير، فإنْ كان ممن يحضر عنده استحضره وسمع عليه، فأسمع من يحضره في ذلك المكان من أولاده ومماليكه المخْتَصّين به. وكان يأمر الناس بِالجُلوس عند سماع الحديث إجلالاً له. وإن كان الشيخ مِمَّن لا يطرق أبواب السلاطين ويتجافَى عن الحضور في مجالِسِهِمْ سعى إليه وسمع عليه.. تردد إلى الحافظِ الأصبهاني (أبي الطاهر السِّلَفِي المحدث المشهور المتوفى سنة 576هـ) بالإسكندرية وروى عنه أحاديثَ كثيرة، وكان - رحِمه الله تعالى - يحب أن يقرأ الحديث بنفسه، وكان يَسْتَحْضِرُنِي في خلوته ويُحْضِرُ شَيئًا من كتب الحديث ويقرؤها هو، فإذا مر بحديث فيه عبرة رق قلبه، ودمعت عينه"[34].
---
[1] ابن الأثير: ج11، ص341.
[2] ابن خلكان: "وفيات الأعيان" ج2، ص481.
[3] ابن الفرات: تاريخه "العسجد المسبوك" م4: 1/55، ابن شداد: "سيرة صلاح الدين" ص6.
[4] أبو شامة: "الروضتين" ج1، ص 124، (ط. قديمة ص 18).
[5] ابن الأثير: ج11، ص118.
6 ابن القلانسي: تاريخ دمشق ص 287 – 288.
[7] أبو شامة: الروضتين ج1، ص 124.
[8] ابن الأثير: الكامل ج11، ص342.
[9] ابن مخرمة: "قلادة النحر في وفيات أعيان الدهر"، م2: 2/772.
[10] انظر ابن شداد: "النوادر السلطانية"، ص 12 وص 20.
[11] ابن شداد: "النوادر" ص 24.
[12] ابن شداد، "النوار" ص 70، 71.
[13] ابن الأثير: "الكامل" ج12، ص 96.
[14] ابن شداد: "النوادر" ص 24 – 26.
[15] ابن شداد: ص 17 – 18.
[16] ابن الأثير: ج12 – ص96.
[17] ابن الأثير: ج12 – ص97.
[18] ابن شداد: "النوادر" ص 29 – 30.
[19] ابن الأثير: ج12، ص 97.
[20] ابن شداد: ص 32 – 33.
[21] المرجع السابق: ص26 – 27.
[22] أبو شامة: "الروضتين" ج1 ص 173؛ وابن شداد ص 40.
[23] ابن شداد: "النوادر" ص 7 – 9.
[24] المصدر السابق، ص 10.
[25] ابن شداد: "النوادر" ص 31.(/25)
[26] ابن شداد: "النوادر" ص 13 – 16.
[27] ابن شداد: "النوادر: ص 10 – 13.
[28] ابن شداد: "النوادر" ص 19 – 20.
[29] المصدر السابق، ص 21.
[30] ابن شداد: "النوادر" ص 21.
[31] المصدر السابق ص 22 – 23.
[32] ابن خلكان: ج1، ص 257.
[33] ابن خلكان: ج7، ص 149.
[34] ابن شداد: "النوادر" ص 9 – 10.(/26)
العنوان: صلاحُ الدين الأيوبي.. بطلٌ في صغره
رقم المقالة: 1558
صاحب المقالة: خليل محمود الصمادي
-----------------------------------------
نشأ يوسف في تكريت بين أحضان والديه جادًّا مثابِرًا، لا يعرفُ إلا الاجتهادَ والعملَ الصالحَ، فقد رضع العلم وحبَّ الجهادِ منذُ صغرِه، كانَ أبوهُ نَجْمُ الدينِ أيوبُ أحدَ الأبطالِ المجاهدين المرابطين على ثغورِ الإسلام، فقدْ جعله القائدُ نورُ الدينِ الشَّهيدُ نائبًا على تكريت، كمَا جعل عمَّه (شيركوه) قائدًا للجيوشِ هُناكَ.
أحَبَّ أيوبُ أن يكونَ ولَدُهُ يوسفُ على درجةٍ من العلمِ الشَّرعيِّ؛ فَاْهتمَّ به وأرْسَلهُ إلى دورِ العلم لينهل منها الزلالَ العذبَ، فحفِظَ القرآنَ الكريمَ منذُ نعومةِ أظْفارهِ، كَمَا حفِظَ الكثيرَ منْ أحاديثِ الرسولِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- ثمَّ انْطلقَ إلى نوادي الرمايةِ والفروسيةِ ليتعلمَ فنونَ القتالِ معَ أقرانهِ.
ولَمَّا اقتربَ عمرُهُ من الحاديةَ عشرةَ أحبَّ أيوبُ أن يرسلَهُ إلى حَلَبَ في بلادِ الشامِ؛ حتَّى يُكْمِلَ تعليمَهُ، فتكريتُ مدينةٌ صغيرةٌ لا تضاهِي حلبَ في مساجدها وعلمائِها، ودورِ العلمِ فيها.
ألْحقَهُ والدُه بقافلةٍ متجهةٍٍ هناكَ فيها عددٌ منَ التُّجارِ والمسافرينَ، وأرسلَ معَهُ خادمًا ليكونَ لهُ عَونًا في الطَّريق وَفِي حَلَبَ الشهباء أيضًا.
لم يكنِ الطَّريقُ آمنًا، فالعِصاباتُ الصَّليبيةُ تسْرحُ وَتمْرحُ في بَعضِ المناطقِ الَّتي استولتْ عليها؛ فهيَ تُرهبُ المسافرينَ وَتستولي على متاعهمْ، وفِي أحسنِ الأحوالِ يفرضُونَ عليهم ضَرائبَ ليمروا بأمانٍ!!
كانَ صلاحُ الدينِ مولعًا بتربيةِ الحمامِ، يشتري الأنواعَ المختلفة منه، ويقدم لها الحَبَّ والماءَ، ويستمتعُ برؤيتها وهيَ تطير منْ مكانٍ إلى مكان.(/1)
لمْ ينسَ صلاحُ الدينِ أنْ يأخذَ مَعَهُ عددًا منْ طيورِ الحمامِ الزاجلِ حتَّى يأْنسَ بها في أوقاتِ فراغهِ، وحتَّى يُراسِلَ أباه وأمَّه كلما اشتاق إليهما.
وَضَعَ الحماماتِ في قفصٍ خشبيٍّ، ووضَعَ لها الحبَّ والماءَ، وتركَها في آخرِ عربةٍ من القافلةِ.
سَارتِ القافلةُ عدةَ أميالٍ، وَمَا قَطعتْ تكريتَ وَأَصبحتْ بينَ الجبالِ والتِّلالِ حتَّى شَعَرَ يوسفُ أنَّ القافلةَ بدأتْ تسيرُ ببطْءٍ شديدٍ، وأنَّ الحاديَ الذي كانَ يبعثُ الهِمَّةَ في النفوسِ ويسلي المسافرينَ بصوتِهِ النَّديِّ قدْ كفَّ عنَ الشَّدوِ والغناءِ.
دهشَ الغلامُ الصَّغيرُ لمَّا رأى الصَّمتَ يزدادُ، والرجالَ يتهامَسونَ بينَهم.
اقْتربَ منْ خادمهِ وسألَهُ: ما الأمرُ؟
هَمَسَ الخادمُ: إنَّنَا في خطرٍ؛ الصليبيونَ خلفَ التِّلالِ، علَيْنا أنْ نَجْتازَ هذهِ المِنْطَقةَ بحذرٍ شديدٍ.
انقاد يوسفُ لأَوامرِ خادمهِ، وسَارَ معَ القافلةِ بخطًى وئيدة، وصارَ يدعُو اللهَ أنْ يمرُّوا بسلامٍ.
الموقفُ رهيبٌ، الرِّجالُ يَضَعونَ الكَمَّاماتِ على أفواهِ الجِمالِ، والألْجِمةَ على أفواهِ البغالِ والخيولِ، وعيونُ المسافرينَ ترقبُ التلالَ المحيطةَ بهم وهُمْ يحطونَ أقدامَهُم على الأرضِ بهدوءٍ وتؤدةٍ، حتَّى الهمسُ انقطعَ فجأةً منَ المكانِ...
في لحظةٍ لم تكنْ بِالحسبانِ وعَلى مقربةٍ من أحدِ التِّلالِ بَرَزَ نفرٌ مِنَ الفرسانِ الصَّليبينَ، شَاهرينَ سِلاحَهم، وَأََخَذُوا يصرخون: قِفوا قِفُوا، وإلا رَمَيْنَاكم بِالسهامِ والنبالِ.
تَوقَفتِ القَافلةُ وَبَدأتِ المعاناةُ...
أحاطَ الصليبيونَ بالقافلةِ من الجِهاتِ كلِّها، وأخذوا يُحذِّرونَ المسافرينَ منْ المقاومةِ، ثمَّ طلبوا منْهم أنْ يترَجَّلوا على الأرضِ.(/2)
نزلَ الجميعُ الأرضَ وفيهم يوسفُ، وفَجْأةً اقْتربَ مِنْهُ الخَادمُ قَائلا: إيَّاك أنْ تُفصحَ عنْ نَفْسكَ، إياكَ أنْ يعلمُوا مَنْ أبُوكَ أوْ عمُّكَ، فلوْ عَرَفُوكَ لأَخَذوكَ أسِيرًا، وَلَطلبُوا فديةً عَظِيمةً في المقابلَ، هذا إن لم يقتلوك!!
استمع يُوسفُ إلى نصائح خادمه، وَوعدَهُ ألا يَبُوحَ بالسِّرِّ، وَلكنَّه سَأَلَهُ: في أيّ مَكَانٍ نَحْنُ الآنَ؟ وكمْ نبعدُ عن تكريتَ؟
أَجَابَهُ الخَادمُ: عِنْدَ تِلالِ الصفوانِ، نبعدُ عَنْ تكريتَ نَحْوَ خَمْسة فراسِخَ.
أَجابَهُ يوسفُ: حسنٌ، حَسنٌ، يَا أخِي.
تَركَ الغلامُ الصغيرُ خادمَهُ واقفًا يرقبُ الصليبيينَ، وانْزَوى خَلْفَ القَافلةِ، فظنَّ الخادمُ أنَّه التحقَ بعربةِ النسَّاء والأطفالِ فانفرجتْ أساريرُ وجهِهِ، ثم مَا لبِثَ أنْ عادَ إلى المُقدمةِ، رَآَهُ الخادمُ فَطَلَبَ مِنْهُ أنْ يعودَ ثانيةً إلى المؤخرةِ حيْثُ النِّساء والصِّغار!!
لم ينفذ يوسفُ كلامَ خَادِمِهِ، وَأَصَرَّ على البَقَاءِ بَيْنَ الَّرجَالِ.
أَخَذَ الصَّغِيرُ ينظرُ إلى اللصُوصِ فَرَأَى وُجُوهَهم الحمر وشعورَهم الصفر كَأنَّهمُ الشَّياطينُ؛ فازْدَراهمْ وَتمنَّى لوْ كَانَ معهُ سيفٌ لينازلهم جَميعًا.
وَقَفَ زَعيمُ العصابة أَمَامَ القَافلَة يَصْرخُ بلغةٍ عَرَبيَّةٍ مُكَسَّرةٍ: أَنْتُمْ فِي أَرْضٍ صليبيةٍ؛ عليكمْ أنْ تَدْفعوا الجزيةَ مقابلَ السَّماحِ لكمْ بالمُرورِ، مِقدارُ الجزيةِ التي ستَدفَعُونَها: عَشرةُ دنانيرَ عنْ كلِّ رجلٍ، وَخَمْسةٌ عنْ كلِّ امْرأةٍ، وَدِيْنارانِ عنْ كلِّ طفلٍ، وَعَليْكمْ كَذَلكَ أنْ تَتْركوا نِصْفَ أحمالِكمْ، وَمَنْ يقاوم منكم نُصادر أحْمَالَهُ كلَّهَا ونقتلهُ، هيَّا أسْرِعُوا، أَمَا سَمِعْتُمُ الكَلامَ؟!(/3)
نَظَرَ الخادمُ إلى يوسفَ فرآهُ غاضِبًا، يكادُ الشَّررُ يتطايَرُ من عينيهِ، فخافَ عليهِ، واقْتَربَ منْهٌ وَأَمْسَكَ بِيَدِهِ، وَرَجَاهُ ألا يَنْفعلَ، وَأَوْصاهُ ثانيةً ألا يفْصِحَ عنِ اسْمِهِ.
تَرَجَّلَ فَارِسانِ منَ الصَّليْبِيْيِّنَ وغرسا رُمْحَينِ فِي الأرضِ، ثمَّ أحْضرا رمحًا ثالثًا وَرَبَطَاهُ بَيْنهمَا، ولمْ يشدَّا وثاقَهُ وَجَعَلاهُ يَتَحرَّكُ كمَا يحْلُو لهمَا، ولمَّا انْتهيا مِنْ مُهمَّتهِما صاحَ قائِدُهُم:
يَنْبَغِي لكُلِّ فردٍ منْكم أنْ يَمُرَّ أَولا مِنْ هذهِ البوابةِ، ثُمَّ يَدفعَ الجزيةَ للفارسِ الموجودِ هناكَ، وَلْيقفْ كلُّ واحدٍ في مكانِهِ بعدَ أنْ يصلَ هناكَ!!
ضحكاتُ الصليبيينَ تَتَعالى فِي المَكانِ وَهُمْ يَسْخرونَ من المارينَ، فالرجلانِ اللذانِ نصَبَا الرماحَ وَقَفَ كلُّ واحدٍ مِنْهُمَا يُمْسِكُ بطرفِ الرُّمحِ الثَّالثِ يتعمدانِ رفْعه وَخَفْضه حتَّى يَمُرَّ المرءُ رَاكعًا، وَإنْ لمْ يعجبا مِنَ الرَّجلِ خَفَضَا الرُّمحَ حتَّى يمرَّ سَاجدًا!!
وَقَفَ يُوسفُ يَتَأمَّلُ الرجالَ وَهمْ يمرُّونَ مِنَ البوَّابةِ فَلَمْ يَتََمالكْ أعصَابَهُ فَصَرَخَ بِأعلَى صَوْتِهِ: كَفَى أيُّها المجْرمونَ! أَلا توقرون كبيرًا؟ ألا تحترمون عاجزًا؟ ألا تشفقونَ على طفلٍ صغيْرٍ؟!!
سمعَ الصلبيونَ كلامَهُ فتوعدوهُ صائحينَ: وَأَنْتَ ستمرُّ كَمَا يمرُّ الباقونَ وَسَنرى شَجاعَتَكَ بَعْدَ قليلٍ.
صاحَ القائدُ: هيَّا يا غلامُ، يا بطلَ الأبطالِ، أَرِنا شَجَاعتكَ؛ ستمرُّ منْ هنَا، لا راكعًا ولا ساجدًا ولكنْ حبوًا.
وَفِي سُرعةِ البرقِ أمرَ القائدُ الرَّجلينِ أنْ يخفضَا الرُّمحَ إلى أَدْنَى مستوًى، وَصَرخَ في وَجْهِهِ: هيَّا تقدمْ.... ألمْ تسمعْ كَلامِي؟
رَمَقَهُ يوسفُ بِطَرَفِ عينهِ ولمْ يَتَحرَّك منْ مَكَانِهِ.(/4)
كرَّرَ القائدُ كلامَهُ: أيُّها الأبْلهُ أمَا تسمعُ؟.. هيَّا نفذِ الأوامرَ، وإلا جَعلتكَ عبْرةً لغيركِ.
صاح َيوسفُ: لنْ أنْحنِيَ إلا للهِ عزَّ وجلَّ.
كادَ قلْبُ الخادمِ يسْقطُ أرضًا، اقتربَ منْهُ راجيًا أنْ ينفذَ الأوامرَ، لكنَّ الغلامَ الشجاعَ قالَ لهُ: لنْ أمرَّ حتَّى لوْ قَتَلتمُونِي.
امْتطى قائدُ العصَابةِ جَوادَهُ وَهوَ فِي حَيْرةٍ منْ أَمْرِ هذا الغلامِ العنيدِ، وانْطلقَ يدورُ حولَهُ وَهُوَ يقولُ: مَنْ أنْتَ أيُّها الغلامُ حتَّى تعصِيَ أوَامرِي؟ لقدْ أخَّرتنَا كثيرًا.
صاحَ كثيرٌ مِن الرجالِ: نفذِ الأمرَ يا غلامُ، ودَعْنا نمشِي في سبِيلِنا، ولا تعاندْ كثيرًا.
أخذَ يلفُّ ويدورُ حولَه علَّه يُرهبُهُ وانْطلقَ نحوَهُ كالريحِ، اقتربَ أكثرَ وأكثرَ، لكنَّ البطل الصنديد ظلَّ راسخًا كالطود الشامخ.
شدَّ لجام فرسه، وترجلَ، واندفعَ نحوَهُ والشَّررُ يتطايرُ منْ عينَيْهِ وَهُوَ يرعد:
مَنْ تظنُ نفسكَ أيها العنيد، سأقتلك في الحالِ إن لم تنفذِ الأوامرَ!
رفعَ سيْفَه إلى أعْلى.. ولكنَّ الصبيَّ لمْ يهتزَّ، وظلَّ يحدِّق في رئيسِ العصَابةِ وكأنَّ شيئًا لا يعنيه.
غرسَ سيفهُ فِي الأَرْضِ وَصَاحَ بأَعْلى صَوْتِهِ: لمْ أرَ في حَياتي غُلامًا عَنيدًا مثلكَ!! آهٍ لوْ كنتَ كَبيرًا لقَتلتكَ، ولكنَّ الذي يَشْفَعُ لَكَ هُوَ صغرُ سِنِّكَ.
وَتَابَعَ حديثَهُ: سَأُسامحكَ في المبلغِ، ولكنْ عليكَ أن تمرَّ منْ بينِ الرِّماحِ مرتينِ.
- لنْ أمرَّ
- مَاذا تَقولُ؟
- الَّذي سَمِعْتَهُ الآنَ!!
تحير القائدُ من أمرِ هذا الغلامِ العنيدِ وأحبَّ أن ينهِيَ الموقفَ بحفظِ ماءِ وَجْهِهِ، فقالَ لَهُ:
- إذنْ علَيْكَ أنْ تَدْفَعَ خَمْسةَ دنانيرَ بدلَ الدِّينارينِ!!
- لنْ أدفعَ لكَ شيئا!!
- مَاذا تَقُولُ يَا غلامُ؟
- مَاذا سَمِعْتَ يَا علجُ؟(/5)
عِنْدهَا هُرِعَ الخَادمُ عنْدَ القائدِ وَهُوَ يَحْمِلُ الدنانيرَ الذَّهبيةََ الخَمْسةََ، فصَاحَ بِهِ يوسفُ: ارْجعْ مَكَانَكَ وَلا تُعْطِهِ شيئًا!!
أخذَ بعْضُ رجالِ القافلةِ يتَملْملونَ منَ الانْتظارِ، والخَوْفُ يعْلو وجُوهَهَم، وصَاروا يَرْجونَ يُوسفَ أنْ يحلَّ المشكلةَ ويتركَ الخادمَ يعطه النقودَ وَتنْتهي المشكلةََ التي طالتْ.
تَقَدَّمَ الخَادمُ مِنْ يُوسفَ ليسألهُ عَنْ سرِّ هذا العِنَادِ، فَقَالَ لَهُ: انْتظرْ قَليْلا وسَتَرى مَا يُعْجِبُكَ!!
وَمَا كادَ يُوسفُ يُنْهِي كَلامَه حتَّى كَانَ جُنُودُ (أيوبَ) وَ(شِيركُوه) قدْ أَحَاطُوا بِالجنودِ الصَّليبيينَ مِنْ كلِّ جَانبٍ، عِنْدَها صَاحَ النَّاسُ: الله أكبر، الله أكبر.
أمْسَكَ الجُنودُ بالصَّليبيينَ العَشرةِ وَأَحَضَرَ شيركوه حَبْلا غَليْظًا شَدَّهمْ بِهِ، وَأَخذوا منهمْ مَا سَلَبوهُ مِنْ المُسافرينَ وَرَدوهُ إِليهمْ.
صَاحَ أيوبُ: الحَمْدُ للهِ عَلى سَلامةِ الجَميع ِ، أَيْنَ أنْتَ يَا يوسفُ؟
صَاحَ الغُلامُ: أَنَا هُنَا يَا أبِي!!
واقتربَ يوسفُ منْ أبيهِ وَعَمِّهِ وَسلَّم عَليهمَا وَشَكَرَهُمَا عَلى مَا فعلا.
قالَ أبوهُ: الشُّكْرُ للهِ أولا ثُمَّ للحَمامةِ التِي أَوْصَلَتِ الرِّسَالَةَ.
ذُهِلَ الجَميعُ مِمَّا حَصَلَ، فَالمفاجأةُ نزلتْ كالصاعقةِ على أفْرادِ العصابةِ الأشرارِ، الذينَ سِيقُوا كالخِرفان أَمَامَ جنودِ المسلمينَ إلى قَلْعَةِ تكريت.
هذهِ سيرةُ البطل الصغير يوسف بن أيوب الذيْ عُرِفَ فيما بعدُ بالبطلِ صلاحِ الدينِ الأيوبي.(/6)
العنوان: صلاح الدين الأيوبي والفن الحربي العربي
رقم المقالة: 356
صاحب المقالة: مروان سعد
-----------------------------------------
شكلت الحملات الصليبية المتتالية، على الشام وفلسطين ومصر، الحدث التاريخي الأبرز، وعامل التحدي الأكبر، في وجه القضية العربية، طيلة قرون عدة. وإذا كانت الأطماع المادية والسياسية والدينية، قد حرّكت الملوك والأمراء ورجال الدين والجماهير الأوروبية، للزحف باتجاه الشرق، تباعاً، وبشكل موجات بشرية ضخمة في أولى الحملات، فإن الساحة الاسلامية في المقابل، كانت مشتتة ضعيفة، تتنازعها الدويلات الإسلامية المتنافسة، التي ورثت الدولة العباسية لحظة تفككها.
ففي بغداد، تواصلت الخلافة العباسية، من خلال رجال ضعاف، لا يتمتعون بأية سلطة حقيقية، واستمر تواترهم حتى منتصف القرن الثالث عشر الميلادي. وفي مصر والشام وشمالي أفريقيا، حكمت السلالة الفاطمية حتى الربع الأخير من القرن الثاني عشر الميلادي، أما السلاجقة العظام وسلاجقة الشام وسلاجة الروم، فقد امتد نفوذهم على الرقعة التي تضم العراق وفارس والشام وآسيا الصغرى، وتراوحت مدة سيطرتهم فيما بين القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين، بينما تمكن الدانشمنديون والزنكيون والأراتقة، من تأسيس دول لهم، في الأناضول والأراضي التركية والشام. ودام حكم الأراتقة في بلاد الأناضول، حتى أوائل القرن الخامس عشر الميلادي. وكان الطابع الغالب والعامل المشترك بين معظم هذه الدويلات، هو سيطرة الأثنية التركية عليها[1].
وكان لابد لمواجهة التحدي الصليبي الخطير، من توليد نقيضه الإسلامي، وأخذت قضية توحيد الساحة الإسلامية، وإنشاء جيشها القوي، تبرزان بإلحاح، وباتت المشاعر الوحدوية تشغل كل الناس. وقد أدرك كل من ((عماد الدين زنكي)) و((نور الدين محمود)) وصلاح الدين الأيوبي، هذه التطلعات الشعبية، وحققوا قدراً كبيراً منها.(/1)
لقد تمكن ((نور الدين محمود))، ابن ((عماد الدين زنكي))، بفضل نضاله الدؤوب وسياسته الحكيمة، من توحيد حلب ودمشق والموصل، بوجه الخطر الصليبي الذي كان قد ركّز قاعدة ثابتة له في بيت المقدس، بالإضافة إلى عدد آخر من المواقع الحصينة التي استولى عليها أو أنشأها على طول الساحل الممتد بين شمالي لبنان وجنوبي فلسطين. وقد اتبع ((نور الدين محمود)) عمليات قضم وهضم، أدت في النهاية، إلى تخليص عدد من المواقع العربية من براثن الصليبيين. كما نجح، قبل وفاته، في إنقاذ مصر من قبضة الفاطميين، الذين كانوا يرضخون، هم وسلاجقة الشام، للنفوذ الصليبي في بيت المقدس.
صلاح الدين يبني دولته:
تمكن ((أسد الدين شيركوه))، عم صلاح الدين من فتح مصر أخيراً في العام 1169م، بعد محاولتين سابقتين، ولكنه لم يلبث أن توفي بعد شهرين من الفتح، فتولى صلاح الدين القيادة مكانه، بفضل الإجماع الذي أمّنه له مستشاره الخاص ورجل المهمات الصعبة، الفقيه ((عيسى الهكاري))، في وجه أخواله وأقاربه الذين كانوا يطمعون بالسلطة[2]. ولم يلبث الخليفة الفاطمي ((العاضد)) أن توفي في العام 1171م، وانتهت بوفاته السلالة الفاطمية، وانتقلت مقاليد الحكم في مصر، بكاملها، إلى صلاح الدين الأيوبي.
كان على صلاح الدين أن يعمل على جبهتين في نفس الوقت: البناء وتركيز أوضاع الدولة في الداخل، وقتال الصليبيين وإبقاء التماس مفتوحاً معهم، في الخارج. وهكذا، وفي نفس العام الذي تولى السلطة فيه، قام صلاح الدين بهدم سجن في مصر، وبنى مكانه مدرسة للشافعية، وعزل القضاة الفاطميين، وعيّن مكانهم قضاة شافعيين في جميع البلاد[3]. وفي العام نفسه أيضاً، أغار صلاح الدين على الفرنج في عسقلان والرملة، وهجم على ربض غزة فنهبه، وقاتل ملك الفرنج وكاد أن يأسره، ثم عاد إلى مصر، وبنى ((مراكب مفصّلة، نقلها على الجمال، ثم جمعها وانطلق بها لحصار ((أيلة)) براً وبحراً، ففتحها ثم عاد إلى مصر))[4].(/2)
كانت عملية بناء الدولة في الداخل، بما فيها من حسم للخلافات والصراعات، وتأمين لكافة الاحتياجات الاجتماعية والاقتصادية للناس، تسير بشكل متلازم مع تطوير القدرات العسكرية، وشنّ هجمات متتالية على العدو المجاور، حتى لا يتمكن من الاستقرار والراحة.
وقد رضخ صلاح الدين، في البداية، لسلطة نور الدين محمود المركزية في حلب، وقام بتطبيق الإصلاحات الإدارية والسياسية التي أمره بها[5]، إلا أنه لم يلبث أن أخذ يستقل بأمور مصر، وبدأ خلاف خفي ينشأ بينه وبين نور الدين، يعززه خوفه من احتمال قيام نور الدين بعزله. وقد ضيّع هذا الخوف عدة فرص على المسلمين، حيث كان يفترض في صلاح الدين موافاة نور الدين إلى المملكة الصليبية وإحكام الطوق عليها من الشمال والجنوب، وكان نجاح هذه العملية مضموناً، في ذلك الوقت، بسبب ضعف الصليبيين وتفككهم، وبفضل الحشد الكبير الذي كان باستطاعة القائدين تأمينه من مصر والشام والعراق. ولكن صلاح الدين، الذي كان يتحاشى اللقاء لاستبعاد المواجهة مع نور الدين، كان يعود عن حصار الكرك والشوبك وغيرها، قبل وصول نور الدين إليها بوقت قصير، ويسير إلى مصر محتجاً بخوفه من غدر المصريين به حيناً، أو بمرض والده حيناً آخر[6] مما أضاع على المسلمين فرصاً استراتيجية هامة.
وبوفاة نور الدين محمود في العام 1174م، لم يبق، في الساحة العربية، منافس لصلاح الدين، يوازيه في الأهمية، وبرزت عندها أمامه مشكلتان استراتيجيتان أساسيتان، الأولى: لملمة أطراف الدولة من مصر إلى اليمن ومكة وليبيا والسودان، إلى الشام والعراق وبلاد الأناضول؛ والثانية كانت تتلخص بضرورة القضاء على المملكة الصليبية، وما يعنيه هذا من استعداد وتأهيل ذاتي.
الاستراتيجية العليا لدى صلاح الدين:(/3)
كان صلاح الدين واحداً من القادة الأفذاذ في عصره، الذين لا يتجاوز عددهم أصابع اليد، وقد أظهر هؤلاء صفات قيادية لم تكن من قبل، ولعبوا أدواراً تاريخية هامة في عملية التطوير والتحديث. وتقارنه المراجع الغربية المختصة بالسلطان ((محمود الغزنوي)) و((ريتشارد قلب الأسد)) و((ألكسيوس)) ملك بيزنطة، و((ألب أرسلان)) السلجوقي، و((روبير جيسكارد)) الصقلي النورماني[7]. ولا يمكننا بالطبع إغفال نور الدين محمود صاحب أهم المشاريع الوحدوية في عصره.
كان الهمّ الاستراتيجي الأول الذي يشغل فكر صلاح الدين هو إحكام قبضته على مصر، البلد الكبير الوافر الإمكانيات البشرية والاقتصادية، الذي يمنحه قاعدة قوية وأمينة، تدعّم موقفه في وجه الصليبيين، وتعطيه حرية الحركة في مواجهتهم، وتحميه من خطر الإقالة على يد قائده وصديقه نور الدين محمود.
وكان توجهه الثاني هو مقاتلة الصليبيين، وانتزاع بيت المقدس من أيديهم، والقضاء على دولتهم الهجين، التي تتوسط البلاد العربية، وتهدد طرق مواصلاتها.
أما شاغله الثالث، فقد كان توحيد البلاد التي تركها نور الدين محمود تحت رايته، وتوسيع رقعة الدولة العربية حتى تمتد من اليمن في الجنوب إلى بلاد الأناضول في الشمال، ومن المغرب إلى الموصل في الشرق.(/4)
وكان لابد لصلاح الدين من تسخير كافة الإمكانيات والطاقات البشرية والمادية والعسكرية لتحقيق هذه الأغراض. وقام بتنفيذ سياسة داخلية قوامها الإصلاح الإداري، وبناء دفاعات داخلية وساحلية قوية، لمواجهة أي احتمال طارئ، وشجع الصناعات الحربية، وأعاد بناء سور الاسكندرية[8]، وأمر بإعادة بناء سور القاهرة، وببناء قلعة فيها شبيهة بقلاع الفرنج[9]. كما اهتم بتحصين الثغور البحرية في الاسكندرية وفي دمياط، التي كانت تحتوي على حوض لبناء السفن، فأمر بشد السلاسل في دمياط بين برجين من الحجر، تسد المرفأ في وجه السفن الغازية، ووزع المقاتلين على البرجين لتأمين الحماية لهما. وفي الاسكندرية، التي كانت، هي الأخرى، تضم حوضاً لبناء السفن، أمر صلاح الدين باتخاذ إجراءات دفاعية فعالة، وكلفته التحصينات الساحلية التي أقامها في دمياط والاسكندرية، مئات الآلاف من الدنانير.
وفي نفس الوقت الذي كان يواصل فيه صلاح الدين هجماته وإغاراته على حصون الصليبيين وقلاعهم، قام بإرسال حملات أخرى لفتح طرابلس الغرب وأخرى لفتح اليمن وثالثة لفتح السودان، وذلك ضمن سياسة تمتين الصف الداخلي وتوسيع قاعدته الدفاعية والاستراتيجية في العمق.
فن العمليات لدى صلاح الدين الأيوبي:
برز صلاح الدين الأيوبي على المستوى الاستراتيجي العسكري كواحد من أكبر القادة المسلمين، وتخطت شهرته البلاد الإسلامية كما سبق وذكرنا بفضل قدراته القيادية والتنظيمية.
ولا تكاد سنة من السنوات تخلو من العمليات، التي كان يقوم بها، إمّا في الداخل لحفظ الأمن ولتوسيع رقعة سلطانه، وإما في الخارج العربي لضم الأجزاء العربية المتناثرة، أو في عمليات المناوشة والتحرش، والقضم والهضم التي كان يتوجه بها نحو الدولة الصليبية في فلسطين.(/5)
وكانت لديه المقدرة القيادية الكافية في تحديد الفكرة الأساسية للعملية المعينة، وكان ناجحاً في التخطيط الميداني لكيفية استخدام القوى والوسائط وانتقاء الأساليب والأشكال المرتبطة بحجم القوى الصديقة والقوى المعادية، ومسرح العمليات، والزمان والمكان، ومحددات العمل ومقومات نجاحه، كما برع في تنظيم التعاون العملياتي للقوى المشتركة في المعركة.
وقد أخذ صلاح الدين يشن حملات متتالية، إلى حمص وحلب في العام 1174م، وإلى الموصل في العام 1176م، ثم إلى تل الجزر عام 1177م، حيث واجه الهزيمة ونجا بنفسه بعد حصار الصليبيين له. وفي ربيع العام 1179م أرسل صلاح الدين ابن أخيه ((فروخشاه)) في إغارة على بانياس كادت تقضي على ((بلدوين الرابع)) ملك بيت المقدس، لولا أن افتداه ((همفري)) سيد تبنين بحياته. وقد أسفرت المراحل المتقدمة من هذه المعركة، والتي جرت في حزيران (يونيو) 1179م، عن هزيمة منكرة للصليبيين، أدت إلى أسْر عدد كبير من قادتهم من بينهم ((أودسانت أمان)) مقدم فرسان الداوية، و((بلدوين)) سيد يبنه، و((هيو)) سيد الجليل[10].
وفي العام 1180م، طلب ((بلدوين الرابع)) من صلاح الدين عقد هدنة، على أثر قيام الأسطول المصري بغارة ناجحة على السفن الراسية في ميناء عكا، وبعد إغارة برية أخرى على الجليل في مطلع ذلك العام. وقد وافق صلاح الدين على هذه الهدنة التي لم تعمر أكثر من عام واحد، بسبب قيام ((رينو دو شاتيون)) سيد إقليم ما وراء الأردن، وقتذاك، بنقضها. فقد شنّ ((رينو)) في صيف العام 1181م، غارة على قافلة تجارية في واحة تيماء، أثناء مسيرها إلى مكة، مما أدى إلى خرق الهدنة المتفق عليها وجرّ ذيولاً لم تكن في صالح الصليبيين[11].(/6)
وقد تتابعت المعارك بين العرب والصليبيين على هذا المنوال، وبقي خط التماس مفتوحاً بين الفريقين، يستفيد منه الطرف الأقوى، والذي يتمتع بالقدرة على حشد أضخم، وحركية أكبر. وكانت الغلبة، على وجه العموم، للمسلمين الذين استفادوا من توحيد قواهم تحت قيادة صلاح الدين الأيوبي، وأحسنوا تنسيق التعاون العملياتي بين القوى المختلفة، القادمة من مصر أو من الشام أو الموصل وغيرها.
ولقد كانت معركة حطين (1187م)، نموذجاً حياً لمقدرة صلاح الدين القيادية، ولتمكنه من تنظيم التعاون العملياتي للقوى المختلفة التي شاركت في المعركة، والتي قدمت من ديار بكر وحلب ودمشق وحمص والموصل وماردين[12]. وقد أحسن صلاح الدين اختيار زمان المعركة في أيام الحر الشديد، ومكان نشر قواته حيث تمتع جيشه بالقرب من مياه بحيرة طبرية، مما جعله يتلافى مشكلة خطيرة في وقت اشتد فيه القيظ. هذا بالإضافة إلى غزارة الرمي التي مارسها نبّالته، فلقد قام بعض جنوده بإشعال النار في الهشيم، مما زاد في الحر ونشر الدخان الكثيف. وقد أدت جميع هذه الأمور إلى حسم المعركة بشكل سريع، وتم لصلاح الدين أسر معظم قادة الصليبيين، وكان على رأسهم ((غي لوزينيان)) ملك بيت المقدس الجديد، وشقيقه ((أمالريك))، و((رينو دو شاتيون))، وغيرهم[13]. وقد أسفرت معركة حطين عن نتائج ذات طابع استراتيجي، حيث أخذت المواقع الصليبية تنهار الواحد تلو الآخر، تحت الضربات العربية، إلى أن سقطت بيت المقدس في 2/10/1187م، وهرب من تبقى من الصليبيين إلى صور وطرابلس اللتين استمرتا بالمقاومة لفترة أخرى من الزمن[14].
وبسقوط بيت المقدس، حقق صلاح الدين للعرب وللمسلمين نصراً استراتيجياً كبيراً، لما تعنيه هذه المدينة لهم من أهمية قدسية ومكانة معنوية.
التنظيم والتسليح والتكتيك لدى صلاح الدين الأيوبي:(/7)
عني صلاح الدين الأيوبي، على المستوى التكتيكي، ببناء جيشه، وبتحضير القوات المختلفة تنظيمياً، بما يتلاءم مع توجهه الاستراتيجي العام، وقد اهتم بتحويل معظم قواته إلى وحدات خيالة، لما تفرضه طبيعة المعارك، على مسارح عمليات واسعة، من ضرورة لخوض معركة الحركة والمناورة على خطوط مواصلات خارجية غالباً، ومعرضة للمخاطر. كما اهتم بالنبالة وكانت تسمى أيضاً ((الجالشيّة))، فأكثر من تدريبها، وزاد من إمدادها بالنبال، مما كان يعطي القوات العربية غزارة رمي مشهوداً لها.
ومن ناحية أخرى اشتهر السيف الدمشقي، أو السيف الأحدب، الذي يطلق عليه الغربيون اسم ((Scimitar ))[15]، وكان هذا السيف يمتاز، إلى جانب سيف طليطلة، بالشفرة المعدنية الحادة المصقولة مرة واحدة. وقد أورد ((مرضي الطرسوسي)) في مخطوطه المسمى ((تبصرة الألباب في كيفية النجاة من الحروب ومن الأسواء ونشر أعلام في العدد والآلات المعينة على لقاء الأعداء))[16]، معلومات مفصلة عن كيفية صناعة السيوف الحادة، والمعادن المستعملة، ونسب مزجها الخ... بالإضافة إلى معلومات مفصلة أخرى عن كيفية صنع عدد آخر من الأسلحة كالدروع والرماح والأقواس والمجانيق وغيرها، مما يدل على ازدهار الصناعة الحربية في زمن صلاح الدين الذي عاصره ((الطرسوسي)).
ومن ناحية أخرى، كان الفارس العربي يمتاز بخفة الحركة، وفعالية سلاحه، سيفاً أم قوساً، أو رمحاً، بينما كان الفرسان الصليبيون يثقلون كواهلهم بالدروع التي تغطي أجسادهم ومتون خيلهم، مما يزيد في وزنهم ويقلل من حرية الحركة لديهم.(/8)
وقد اشتهرت المجانيق العربية التي كانت ترمي الحصون، وبغزارة عالية، بالحجارة أو الحديد أو النفط المشتعل، ويروي ((ابن الأثير)) كيف صنع الصليبيون ثلاثة أبراج خشبية عالية جداً، وغطوها بالجلود والخل والطين والمواد التي تمنع النار من إحراقها، وأصلحوا الطرق لها، ودفعوها إلى عكا لحصارها في العام 1190م، مما اضطر أهالي عكا إلى الاستنجاد بأحد العلماء الدمشقيين الذي كان يسكن وقتها فيها، وكان قد اخترع مادة حارقة لا تنطفئ، وقد تم بفضل التطوير العلمي، الذي قدمه هذا العالم، التخلص من ازعاج الأبراج الثلاثة وإحراقها بعدما كانت قد بدأت بتهديد عكا بالسقوط[17].
وعلى صعيد آخر، فلقد كان الترتيب القتالي الذي استعمله صلاح الدين الأيوبي، ومعاصروه من القادة المسلمين، يعتمد على التنظيم الكلاسيكي العربي القديم، بشكل أساسي، أي قلب وجناحين، وميمنة وميسرة، وجالشية (نبالة) وساقة[18]. ولكن الفارق الجديد كان في قيام مجموعة القلب بمناورة تقدّم ثم تقهقر، لاستدراج العدو إلى الطوق الذي سرعان ما يتشكل ويتم الإطباق. هذا بالإضافة إلى تشكيلات وترتيبات قتالية أخرى عرفها العرب في زمن صلاح الدين، وكانت تشبه الأشكال الهندسية المختلفة، كالمستطيل، والزاوية الحادة والمعيّن والدائرة[19].
أما سرعة الاتصالات لنقل الأخبار والتعليمات القيادية والمعلومات الاستطلاعية، فكان يؤمنها الحمام الزاجل الذي اهتم صلاح الدين، ومن قبله نور الدين، باستخدامه.
وهكذا فرضت طبيعة المرحلة التاريخية والسياسية والاجتماعية، على المجتمع العربي في زمن صلاح الدين الأيوبي، اتباع استراتيجية مناهضة للاحتلال الصليبي، وَحْدويَّة الإطار الداخلي، وإصلاحية على الصعد الاقتصادية والاجتماعية والإدارية، كما فرضت على القوات المسلحة العربية اتباع فن عمليات وتكتيك قتالي مميزين، مما يشكل استجابة ضرورية لاحتياجات المرحلة العسكرية.
ـــــــــــــــــــــ(/9)
[1] ستيفن رنسيمان ، تاريخ الحروب الصليبية ، ج2 ، ترجمة السيد الباز العريني (بيروت : دار الثقافة ، 1968) ، ص843- 850 .
[2] ابن الأثير ، الكامل في التاريخ ، ج11 (بيروت : دار صادر ، 1980) ، ص341 .
[3] المصدر نفسه ، ص366 .
[4] المصدر نفسه ، ص365 .
[5] يذكر ((أبو شامة)) عن لسان أبي طي ، قيام صلاح الدين بإلغاء الضرائب والمكوس عن الصناعة ، مما وفر على الخزينة ملايين الدنانير ، وذلك بناء على تعليمات نور الدين محمود . أنظر : أبو شامة ، كتاب الروضتين في أخبار الدولتين : النورية والصلاحية ، ج1 (القاهرة : د. ن.، 1870) ، ص174 .
[6] المصدر نفسه ، ص206- 207 .
[7] R. Ernest Dupuy and Trevor N. Dupuy, The Encyclopedia of Military History (London: Macdonald & Jane's, 1974), p.278.
[8] أبو شامة ، مصدر سابق ، ص191 .
[9] المصدر نفسه ، ص192 .
[10] ستيفن رنسيمان ، مصدر سابق ، ص656- 678 .
[11] المصدر نفسه ، ص679- 697 .
[12] أبو شامة ، مصدر سابق ، ج2 ، ص75- 76 .
[13] المصدر نفسه .
[14] Joseph François Michaud, History of The Crusades (New York: Armstrong, 1895), pp. 485- 505.
[15] Dupuy, op. cit., p. 279.
[16] Bulletin d'Etudes Orientales, Tome XII, p. 106.
[17] ابن الأثير ، مصدر سابق ، ج12 ، ص45- 47 .
[18] المصدر نفسه ، ج11 ، ص531 .
[19] جرجي زيدان ، تاريخ التمدن الإسلامي ، ج1 ، مراجعة حسين مؤنس (د. م: د. ن: د. ت) ، ص207 .(/10)
العنوان: صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان
رقم المقالة: 1954
صاحب المقالة: د. صلاح الصاوي
-----------------------------------------
صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان
إذا سَلَّمْنَا أن الشريعة قد أدَّتْ دَوْرها إبَّانَ البعثة، وفيما تلا ذلك من القرون الأولى في صيانة المجتمع، والوفاءِ بحاجاته البسيطةِ يَوْمَئِذٍ، فهل تصلح اليوم للوفاء بحاجات مجتمعاتنا المعاصرة على تشابُكها وتنوُّعِها، وبُلوغها الغايةَ في التعقيد والتطوُّر؟!
إنَّ جوهر الإنسان هو التغيُّر، وجوهر الشريعة هو الثبات، فكيف للقوالب التشريعية الثابتة التي لبَّتْ حاجاتِ القرون الأولى أن تلبِّيَ حاجاتِ هذا القرن الذي فَجَّرَ الذَّرَّةَ، وغزا الفضاء؟! إنَّ النّصوصَ التَّشريعيةَ محدودةٌ ومتناهيةٌ، وحاجاتِ الإنسان متجدِّدَةٌ وغيرُ متناهية، فأنَّى للمحدود المتناهي أن يلبِّي حاجاتِ اللامحدود وأن يفِيَ بحاجاته؟! أليس منَ الأحفظ للشريعة أن نصونَها تراثًا مقدَّسًا نَذْكُرُه بكل الإكبار والإجلال؛ كظاهرة تاريخية فذَّة، ثم ننطلق نحن نُقيم بناءنا التشريعيَّ المعاصِرَ من وحي حاجاتنا المعاصرة، بعيدًا عنِ التقيُّد بهذه الظاهرة التاريخيَّة؛ فنصون بذلك تراثنا منَ العَبَث، ونحرِّر مسيرة تقدُّمِنا منَ الجُمُود والأَسْر؟! ألا تزال مَقولةُ صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان تفرض وِصايَتَها على عُقولنا المعاصرة، وتَحُول بيننا وبين الانعتاق التشريعيِّ، والانطلاقة الحرة نحو ما نصبو إليه من منجزات وطموحات؟!:
• • • • •(/1)
- صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان من المعلوم بالضرورة من الدين، وقدِ انعقد عليها إجماع السابقين واللاحقين منَ المسلمين، وهي تعتمد على أنَّ هذه الشريعة هي الشريعة الخاتمة، التي نسخ الله بها ما قبلها منَ الشرائع، وأوجب الحكم بها والتحاكُمَ إليها إلى أن يَرِثَ الله الأرض ومَن عليها، وتَوَجَّهَ الخطابُ بها إلى أهل الأرض كافَّةً، مَن آمن منهم بالله واليوم الآخر، فلا بد إذًا أن تكون منَ الصلاحية بحيث تُلَبِّي حاجاتِ البشرية في مختلِف أعصارها وأمصارها، وتُحَقِّقَ مصالحها في كل زمان ومكان.
وإنِّي أَعِظُكُمْ بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفُرَادَى، ثم تتدبروا في هذه الأسئلة:
- هل خُتِمَتِ الرسالات حقًّا بمحمد؟
لقد تَوَلَّى اللهُ الإجابة على ذلك بنفسه فقال: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40].
- هل أوجب الله الحكم بشريعته، وحذَّر منَ العُدُولِ عنها أوِ التحاكم إلى غيرها؟
لقد تولى الله سبحانه الإجابةَ على ذلك؛ فقال: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [المائدة: 49]، {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الجاثية: 18]، {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]، {وَيَقُولُونَ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} [النور: 47].(/2)
- هل نُسختْ هذه النصوص التي تُلزِم بهذه الشريعة، وتوجِب الحكمَ بها، وتَنْفِي الإيمان عمَّن خالفها؟
لا شكَّ أن الجواب على ذلك هو النفيُ القاطِعُ؛ فإن النسخ لا يكون إلا في زمن البَّعْثَةِ؛ لأن هذا الحق ليس لأحد من دون الله، ولا سبيل إليه إلا بالوحي المعصوم، وقد أكمل الله لنا الدين، وأتم علينا النعمة، وأحكم آياته، وتعبَّدَنا بها إلى قيام الساعة، قال – صلى الله عليه وسلم -: ((تركتُ فيكم ما إن تَمَسَّكتم به لن تضلوا بعدي أبدًا؛ كتاب الله وسُنَّتي)).
- هل يُعَنِّتُ الله عبادَهُ بتكليفِهم ما لا يُطِيقون؟ أو يُلْزِمُهم بما تضطَرِبُ به أمورهم؛ فيُفْتَنُون؟ أو يتعبَّدُهم بما يحول بينهم وبين التَّمكين في الأرض؛ فيُغْلَبون على أمرهم ويُقهَرون؟ أَيَلِيقُ بالحكيم أن يُلزِم أولياءه بما يَشْقَوْنَ به في دنياهم، ويقعُدُ عنِ الوفاء بمصالحهم، ويَهْوِي بهم إلى أغوارٍ قَصِيَّةٍ منَ التخلُّف والتَّبَعِيَّةِ؟! وهو الذي أخبر عن نفسه بأنه أرحم بهم منَ الوالدة بولدها؛ كما أخبر المعصوم؟!
- إن الجواب على ذلك كلِّه هو النفيُ القاطع، الذي يجزم به كل مَن عرف ربه، وهُدِيَ إلى تَدَبُّر آياته، وفَقِهَ عن الله قوله: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} [طه: 123].
وعن نبينا قوله: ((إنِّي تركت فيكم ما إنِ اعتصمت به فلن تضلِّوا بعدي أبدًا؛ كتاب الله وسُنَّة نبيه))[1].
فإذا استقرَّ ذلك كلُّه، فقدِ استَقَرَّ خُلُود الشريعة وصلاحِيَتُها لكلِّ زمان ومكان، وأن الإيمان بهذه الحقيقة من جنس الإيمان بالله ورسله.(/3)
وإنَّ مِمَّا يُؤْسَى له أن يتواصى العَلْمَانِيُّون في لقاءاتهم ومنتدياتهم بما سَمَّوْهُ (بالحلِّ الإيجابي الهجومي)، والذي تتمثل أبرزُ عناصرِهِ في ضرب هذه الثوابت الإسلاميَّة؛ للتأثير فيما سَمَّوْهُ بالأغلبية الصامتة، غافلينَ أو متغافلين عن أن هذه الضربات إنما تنال منَ الإسلام قبل أن تنال من الجماعات الإسلامية!
ففي الندوة التي عقدها هؤلاء تحت عنوان (التطرُّف السياسيُّ الدينيُّ) صرَّح أحدهم بأن: أحد المرتكزات الرئيسة للتأثير في الأغلبية الصامتة (الجماهير) هو ضرب المرتكزات الأساسية التي تنطلق منها هذه الاتجاهات الدينية، وأهم هذه المرتكزات قولهم: إن هناك نصوصًا ثابتةً، صالحةً للتَّطبيق في كل زمان ومكان، فإذا ألقينا الضوء على هذه النصوص، وبيَّنا أنَّها متغيِّرَة، تتغير باختلاف الزمان والمكان؛ سنكون قد خطونا خطوة كبيرة[2].
ويُعَلِّقُ عليه آخَرُ بقوله: من أهم عناصر الحلِّ، إزالةُ حاجز الخوف، الذي لا يجعلنا نُفْصِح بوضوح عن مواقفنا بكاملها تجاه هذا التيار المتطرف، إن بعضنا يخشى استخدام كلمة عَلْمَانِيَّة، وهي ليست مُخِيفَةً... يجب أن نكتب بوضوح مثلاً في صلاحية الشريعة الإسلامية لكل زمان ومكان؛ أي: أنْ نقول: إنه ليس هناك في أمور البشر قاعدة من هذا النوع[3]:
ولا نملِكُ أمام هذه الاستفزازات إلا أن نصبر على ما يقولون، وندعو الله لهم بالهداية! كما قال تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الجاثية: 14].
- ولكنك لم تُجِبْ عنِ الإشكالية التي يطرحها ما ذكرتُهُ لك من أنَّ الشريعة جَوْهَرُها الثبات، والإنسان جَوْهَرُهُ التغيُّر، فضلاً عن محدودية النصوص وعدم محدودية الحوادث التي يفترض أن تحكمها هذه النصوص؟(/4)
- ما تذكر من أن الشريعة جوهرُها الثباتُ والإنسان جوهرُه التغيُّر، يُعَدُّ في الواقع تغافُلاً عن حقيقة الشريعة وحقيقة الإنسان؛ فلا الشريعة ثابتة في كل أحوالها، ولا الإنسان متغيِّر في كل شؤونه، فالشريعة منها ما هو ثابت محكَم، وهو القطعيات ومواضِعُ الإجماع، ومنها ما هو متغيِّر نِسْبِيٌّ، وهو الظنيَّات وموارد الاجتهاد؛ بل إن منها منطقة العفو التي أحالت فيها إلى التجربة والمصلحة، في إطار من قواعد الشرع الكلية ومقاصده العامة.
ولقد كان منهجُ الشريعة في ذلك كلِّه إجمالَ ما يتغيَّر وتفصيلَ ما لا يتغير، ولهذا فصَّلَتِ القول في باب العقائد، وباب العبادات، وأحكام الأسرة ونحوه، وأجملَتِ القول في كثير من المعاملات التي تتجدد فيها الحاجات، وتكثر فيها المتغيرات، واكتفت فيها بإيراد المبادئ العامة والأُطُر الكليَّة، تاركةً للخبرة البشرية أن تتصرف في حدود هذه الأُطُر بما يحقق المصلحة ويدفع الحاجة، ولهذا جعلت الأصل في العقود والشروط هو الإباحةَ إلا أن يأتي نصٌّ بالتحريم، في الوقت الذي قررتْ فيه أن العباداتِ توقيفيَّةٌ، وجعلتِ الأصل فيها هو المنعَ، حتَّى يأتيَ دليلٌ يدل على المشروعية.
لقد أمرتِ الشريعة مَثَلاً بالشُّورَى وأكَّدت عليها، ولكنَّها أحالت في أساليبها إلى الخبرة والتجربة، لأن هذه الأساليب مِمَّا يتجدَّدُ بتجدد الزمان وتطوُّر الحاجات.(/5)
ولقد جعلتِ الشريعة السلطة للأُمَّة، تُمارس بها حقَّها في تَوْلِيَة حُكَّامِها، وفي الرَّقَابة عليهم؛ بل وفي عَزْلِهِم عندَ الاقتضاء، وأحالت في وسائل ذلك إلى الخبرة والتجربة، ولم تُلزِم بشكل معيَّن قد تتجاوزه ظروف الزمان والمكان، فلا يَفِي بالحاجة ولا يحقِّقُ الغَرَضَ وهكذا، ولكنَّها لمَّا أمرت بالصلاة أوِ الحجَّ فصَّلتِ القول في ذلك تفصيلاً دقيقًا، فصلَّى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: ((صلُّوا كما رأيْتُمونِي أُصَلِّي))، وحجَّ أمام أصحابه وقال: ((خذوا عني مَنَاسِكَكُمْ))، وجعل كلَّ مُحْدَثَةٍ في ذلك بِدْعَةً، وكلَّ بدعَةٍ ضَلالَةً، وكلَّ ضلالةٍ في النار!
أما ما ذكرتَ من تغيُّر الإنسان، فإن ذلك ليس على إطلاقه؛ لأن من شؤون الإنسان ما هو ثابت، ومنها ما هو متغيِّر متجدِّدٌ؛ فالغرائز الفطرية والحاجات الأساسية للإنسان ثابتة مُحْكَمَة، وسيَظَلُّ الإنسان ما بَقِيَ الليلُ والنهار، ومهما تغيَّر الزمان والمكان في حاجة إلى عقيدة يعرف بها سِرَّ وجودِهِ واتصاله بخالقه، وإلى عبادات تُزَكِّي رُوحَه وتُطَهِّرُ قلبه، وإلى أخلاق تُقَوِّم سُلوكه وتُهَذِّبُ نفسَه، وإلى شرائعَ تُقِيمُ مَوَازِينَ القِسط بينه وبين غيره؛ فالَّذي يتغيَّر من الإنسان هو العَرَض لا الجوهر، الصورة لا الحقيقة، ولقد تعاملتْ نصوص الشريعة مع الإنسان على هذا الأساس؛ ففَصَّلَتْ له القول في الثابت الذي لا يتغير من حياته، وسكتتْ أو أجملتْ فيما من شأنه التغيُّر والتجدُّد، صُنْع الله الذي أَتْقَنَ كلَّ شيءٍ، ألا يَعلم مَن خَلَقَ وهو اللطيف الخبير؟!(/6)
ولماذا نُجهِد أنفسنا في إثبات هذه البَدَهِيَّة، وبين أيدينا شهادة الواقع العمليِّ ناطقة بما نقول؟ ألم تطبق هذه الشريعة زُهاءَ ثلاثةَ عَشَرَ قَرْنًا منَ الزمان، وحقَّقَتْ لهذه الأمَّة في ظِلها أقصى ما تصبو إليه أمَّةٌ من الأُمم في هذه الدنيا من العِزَّة والتمكين؟! ألم تصبح تركيا بالإسلام، وفي ظل تطبيق الشريعة هي الدولةَ التي تملأ عين الدنيا وسَمْعَها، وباتت تُخِيفُ جارَتها روسيا؛ بل وظلت عِدَّةَ قرون تُدِيرُ رَحَى الحرب داخلَ الأراضي الرُّوسيَّة نفسها، ثم تَنَكَّرَتْ للإسلام فأصبحتْ دُوَيْلَةً تعيش مرعوبةً فِي أقلَّ من 1 % من حدودها الأُولَى، وأقصى ما تتطلع إليه أن تُصبِحَ عضوًا في السوق الأوروبيَّة المشتركة، وأوروبا تَضِنُّ عليها بذلك!
والعجيب أن تُتهم الشريعة بالجمود وعدم الصلاحية من قِبَل فريق من جِلْدَتِنا ويتكلمون بأَلْسِنَتِنا، في الوقت الذي نرى فيه من فلاسفة الغرب وأصحاب الرأي فيه مَن يُشيد بهذه الشريعة، ويشهد لها بالخلود والحيوية والتفوق!:
ففي أسبوع الفقه الإسلامي الذي عقد بباريس، وقدمت فيه بعض البحوث الفقهية لم يلبث أحد الحضور وكان نقيبًا للمحامين أن أعلن دَهْشَتَهُ وعجَبَهُ قائلاً: "أنا لا أعرف كيف أُوَفِّق بين ما كان يُحكى لنا عن جمود الفقه الإسلامي، وعدم صلاحيته أساسًا تشريعيًّا يَفِي بحاجات المجتمع العصري المتطوِّر، وبين ما نسمعه الآن في المحاضرات ومناقشاتها، مما يثبت خلاف ذلك تمامًا ببراهين النصوص والمبادئ!"[4].
وفي مؤتمر القانون الدوليِّ الذي عُقِدَ بلاهاي 1948 وقدمت فيه بعض البحوث الفقهية، أصدر المؤتمر قرارًا باعتبار (أن الشريعة الإسلامية حية مرنة، تصلح للتطوُّر مع الزمن، وتُعتَبَرُ مصدرًا من مصادر القانون المقارن، وأن اللغة العربية قد دخلت من الآن فصاعدًا في عداد اللغات التي يجب أن تسمع في المؤتمر)[5].(/7)
ولقد تفرَّدَتْ هذه الشريعةُ بعِلم أصول الفقه الذي دَوَّنَ قواعِدَهُ الشافعيُّ - رحمه الله - وأنضجه الأئمةُ من بعده، وهو عِلم يضبط عملية استنباط الأحكام منَ الأدلة، ويحول بين الأُمَّة وبين الجمود من ناحية، كما يحول بينها وبين التحلُّل وخلع الرِّبْقَة من ناحية أخرى.
ومن القواعد المقرَّرَة في هذا العلم، والتي تمثل عوامل السَّعَةِ والمرونة في هذه الشريعة، وتَكْفُلُ وفاءها بمختلِف الحاجات المتجدِّدَة - ما ذكره أهل العلم من:
- أدِلَّة التشريع فيما لا نصَّ فيه؛ كالاستحسان، والاستصحاب والعُرف ونحوِهِ.
- ورعاية الضَّرورات والأعذار والظروف الاستثنائية، وتَغَيُّر الفتوى بتغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والأعراف إلى غير ذلك من قواعد الرُّشْد والحَيَوِيَّة في هذه الشريعة الخالدة، على أن يتِمَّ ذلك في إطارٍ مُنْضَبِط منَ الاجتهاد الشرعيِّ المُعْتَبَر، وليس بإطلاق العِنان للأهواء، والاسترسال مع دعوات التغريب تحت شِعار التقدُّم والتجديد والاستِنارة؛ حتَّى لا يُستباح حَرَمُ الشريعة أمام كل دَعِيٍّ جَهول![6]
---
[1] رواه الحاكم.
[2] راجع مجلة "فكر" عدد (8) ديسمبر 85.
[3] راجع مجلة "فكر" عدد (8) ديسمبر 85.
[4] نقلاً عن كتاب: "مشاكلنا في ضوء الإسلام". د/ عبدالمنعم النمر: 37.
[5] المصدر السابق: 39.
[6] يقول الشهرستاني - رحمه الله -: "وبالجملة نعلم قطعًا ويقينًا، أن الحوادث والوقائع مما لا يقبل الحصر والعد، ونعلم قطعًا أيضا، أن لم يرد في كل حادثة نص، ولا يتصور ذلك. والنصوص إذا كانت متناهية، والوقائع غير متناهية، وما لا يتناهى لا يضبطه ما يتناهى، علمنا قطعًا أن الاجتهاد والقياس واجب الاعتبار، حتى يكون بصدد كل حادثة اجتهاد، ثم لا يجوز أن يكون الاجتهاد مرسلاً، خارجًا عن ضبط الشارع، فإن القياس المرسل شرع، وإثبات حكم من غير مستند وضع آخر، والشارع هو الواضع للأحكام" "الملل والنحل للشهرستاني: 1/180".(/8)
العنوان: صلة الرحم... لا يدخل الجنة قاطع رحم
رقم المقالة: 1217
صاحب المقالة:
-----------------------------------------
من القرآن:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1].
{فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد: 22-23].
ماذا قال الحبيب صلى الله عليه وسلم:
• عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – ((أنَّ رجلاً قال: يا رَسُول اللَّهِ إن لي قرابة أَصِلُهُمْ ويقطعوني، وأحسن إليهم ويسيئون إلي، وأحلم عنهم ويجهلون علي. فقال: لئن كنت كما قلت فكأنما تُسِفُّهُمُ المل، ولا يزال معك من اللَّه ظهير عليهم ما دمت على ذلك))؛ رواه مُسْلِمٌ.
• وعن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - قال: ((مَنْ أحَبَّ أن يُبْسَطَ له في رِزْقِهِ، وَيُنْسَأَ له في أَثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ))؛ متفق عَلَيْهِ.
• وعن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - قال: ((ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها))؛ رواه الْبُخَارِيُّ.
• وعن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قالت: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - قال: ((الرحم معلقة بالعرش تقول: من وصلني وصله اللَّه، ومن قطعني قطعه الله))؛ متفق عَلَيْهِ.
والأحاديث في هذا الباب كثيرة....
أحلى ما قال السلف:
• علي بن الحسين:(/1)
- أنه قال لولده: يا بني لا تصحبن قاطع رحم فإني وجدته ملعونا في كتاب الله في ثلاثة مواضع.
- المقنع الكندي: (مُبيِّنًا نَهْجَهُ في التعامل مع أقاربه)
يعاتبني في الدين قومي وإنما ديوني في أشياء تكسبهم حَمْداً
أسُدُّ به ما قد أخلوا وضيعوا حقوق ثغور ما أطاقوا لها سداً
و لي جفنة لا يغلق الباب دونها مكللة لحماً مدفقة ثرداً
ولي فرس نهد عتيق جعلته حجاباً لبيتي ثم أخدمته عبداً
وإن الذي بيني وبين بني أبي وبين بني عمي لمختلف جداً
إذا أكلوا لحمي وفرتُ لحومهم وإن هدموا مجدي بنيتُ لهم مجداً
وإن ضيعوا غيبي حفظتُ غيوبهم وإن هُمْ هَووا غيِّي هويتُ لهم رشداً
وليسوا إلى نصري سراعاً وإن هُمُ دَعَوْني إلى نصر أتيتُهم شداً
وإن زجروا طيراً بنحس يمر بي زجرت لهم طيراً يمر بهم سَعْداً
ولا أحمل الحقد القديم عليهم وليس رئيسُ القوم من يحملُ الحقدا
لهم جلُّ مالي إنْ تتابع لي غنى وإن قلَّ مالي لم أكلفهم رفداً
وإني لعبد الضيف ما دام نازلاً وما شيمة لي غيرها تشبه العبدا
درس اليوم
صلة الرحم..... وجدي غنيم
http://media.islamway.com/lessons/wagdy//silatrahim.rm
صلة الرحم... تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم
لقد أمر الله بصلة الأرحام، والبر والإحسان إليهم، ونهى وحذر عن قطيعتهم والإساءة إليهم، وعدَّ صلى الله عليه وسلم قطيعة الأرحام مانعاً من دخول الجنة مع أول الداخلين، ومُصْلٍ للمسيئين لأرحامهم بنار الجحيم.
وعلى الرغم من وصية الله ورسوله بالأقارب، وعدِّ الإسلام صلة الرحم من الحقوق العشرة التي أمر الله بها أن توصل إلا أن جلّ المسلمين أضاعوا هذا الحق مثل إضاعتهم لغيره من الحقوق، أو أشد، مما جعل الحقد، والبغضاء، والشحناء، تحل محل الألفة، والمحبة، والرحمة، بين أقرب الأقربين وبين الأخوة في الدين على حد سواء.
• تعريف صلة الرحم:(/2)
الصلة: الوصل، وهو ضد القطع، ويكون الوصل بالمعاملة نحو السلام، وطلاقة الوجه، والبشاشة، والزيارة، وبالمال، ونحوها.
الرحم: اسم شامل لكافة الأقارب من غير تفريق بين المحارم وغيرهم، وقد ذهب بعض أهل العلم إلى قصر الرحم على المحارم، بل ومنهم من قصرها على الوارثين منهم، وهذا هو مذهب أبي حنيفة ورواية عن أحمد رحمهما الله، والراجح الأول.
• حكم صلة الرحم وقطعها:
صلة الرحم واجبة وقطيعتها محرمة، ومن الكبائر.
قال القرطبي رحمه الله: (اتفقت الملة على أن صلة الرحم واجبة وأن قطيعتها محرمة).
وقال ابن عابدين الحنفي: (صلة الرحم واجبة ولو كانت بسلام، وتحية، وهدية، ومعاونة، ومجالسة، ومكالمة، وتلطف، وإحسان، وإن كان غائباً يصلهم بالمكتوب إليهم، فإن قدر على السير كان أفضل).
• فضل وثواب واصل الرحم في الدنيا والآخرة:
لقد وعد الله ورسوله واصل الرحم بالفضل العظيم، والأجر الكبير، والثواب الجزيل، من ذلك:
أولاً: في الدنيا:
1- فهو موصول بالله تعالى في الدنيا والآخرة.
2- يُبسط له في رزقه.
3- يُنسأ له في أجله – أن يزاد في عمره بسبب صلته لرحمه.
4- تعمر داره.
5- صلة الرحم تدفع عن صاحبها ميتة السوء.
6- يحبه الله.
7- يحبه أهله.
ثانياً: في الآخرة:
صلة الرحم سبب من أسباب دخول الجنة مع أول الداخلين، عن أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه - أن رجلاً قال: يا رسول الله، أخبرني بعمل يدخلني الجنة؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "تعبد الله لا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصل الرحم".
• عقوبة وَوِزْر قاطع الرحم في الدنيا والآخرة:
أولاً: في الدنيا:
1- لا يرفع له عمل ولا يقبله الله.
2- لا تنزل الرحمة على قوم فيهم قاطع.
3- تعجيل العقوبة للعاق في الدنيا قبل الآخرة.
4- أبواب السماء مغلقة دون قاطع الرحم.
ثانياً: في الآخرة:
1- لا يدخل الجنة مع أول الداخلين.
2- لا تفتح له أبواب الجنة أولاً.(/3)
3- يدخر له من العذاب يوم القيامة مع تعجيل العقوبة في الدنيا إن لم يتب أويتغمده الله برحمته.
4- يُسف المَلّ، وهو الرماد الحار.
وأخيراً اعلم أيها الأخ الكريم أن العبرة بسلامة الصدر، وتقارب القلوب، ونقاء الطوية والسريرة، ولله در ابن عباس حين قال: "قد تقطع الرحم، وقد تكفر النعمة، ولا شيء كتقارب القلوب"؛ وفي رواية عنه: "تكفر النعمة، والرحم تقطع، والله يؤلف بين القلوب لم يُزحزحها شيء أبداً" ثم تلا: {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} [الأنفال: 63].
التطبيق العملي?
- صِل رحمك التي قطعتها وأحسن إلى من أساء إليك.
- زر من استطعت من أقاربك في رمضان ومن لم تزره اطمئن عليه بالهاتف.
- ادع أقاربك إلى الإفطار في بيتك تنل أجرين... أجر صلة الرحم وأجر إفطار الصائم.
هيا معا نحيي سنة الحبيب صلى الله عليه وسلم ?
عيادة المريض...
- وعن ثوبان رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم - قال: ((إن المسلم إذا عاد أخاه المسلم لم يزل في خرفة الجنة حتى يرجع قيل:يا رَسُول اللَّهِ وما خرفة الجنة؟ قال: جناها)) رواه مُسلِمٌ.
- وعن علي رَضِي اللَّهُ عَنهُ قال سمعت رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم - يقول: ((ما من مسلم يعود مسلماً غدوة إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي، وإن عاده عشية إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح وكان له خريف في الجنة))؛ رواه التِّرمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ.
أخي الكريم.... من أدب الإسلام أن يعود المسلم المريض ويتفقد حاله تطيباً لنفسه ووفاء بحقه.... وهي سنة الحبيب صلى الله عليه وسلم.... فهيا معاً نحيها..
الدعاء:(/4)
((اللهم إنا نشكو إليك غلبة الأعداء وتفشي الداء وتحكم الأهواء وتخاذل العلماء ونزول البلاء بعد البلاء... اللهم فاجمع شتات أمرنا وألف بين قلوبنا واصلح ذات بيننا واهدنا سبل السلام)).
وآخر دعوانا أنِ الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله و صحبه أجمعين.(/5)
العنوان: صوت الإرادة يدوي
رقم المقالة: 1221
صاحب المقالة: خالد الحليبي
-----------------------------------------
أخي الصائم:
الصيام مدرسةٌ رُوحيَّةٌ؛ لتهذيب النفس، وتوجيه السلوك، وتدريب الجسد والرُّوح على العزائم، لا يكون ذلك بقوة الأمر والنهي؛ ولكن بالحبِّ والطاعة المختارة؛ بل بالشَّوْق الذي لا حدود له.
فقبل أن يَفِدَ الشهر الكريم بأشهرٍ - تتطلَّع النُّفوس المؤمنة بلَهَفٍ شديدٍ إلى هلال رمضان، فإذا هلَّ بالبركة والأمان - تبادل المسلمون التهاني بينهم، وكأن العيد قد حلَّ قبل أوانه. فيا طيب روائح تلك التباريك الفَرِحة وهي تعطِّر الأفواه الصَّائمة، والمجالس العامرة، مصحوبةً بابتسامة الرِّضا والقَبول والتَّسليم.
عندها ترسخ في نفس المسلم عزيمةٌ ثابتةٌ، لا يتطرَّق إليها أدنى تردُّدٍ: أن تستقيم على هدي الله تعالى، وهدي رسوله - صلى الله عليه وسلم - في كل شؤون هذه العبادة، مهما تعارضت مع الهوى الشخصيِّ، والرغبة الخاصَّة، وهذا هو ميدان ترويض مُهْرَة النَّفس الشَّموس على خلق الإرادة، وتحقيق المراد دون ضعفٍ أو تخاذلٍ، وهو درسٌ لا تقتصر حاجتنا إليه في رمضان فقط؛ بل في جميع لحظات حياتنا حتى نلقي ربنا تعالى.
فما أحوجنا إلى الإرادة الرَّاسخة حين تعرض علينا رشوةٌ مغريةٌ لإبطال حقٍّ أو إحقاق باطلٍ، وما أحوجنا إلى الإرادة القوية حين نُدعى إلى مجلس فُحْشٍ، أو مصاحبة رِفقة سوءٍ، وما أحوجنا إلى وقفةٍ شامخةٍ حين تستذلَّنا إيماءةٌ من شهوةٍ دنيئة!!
وإذا كنَّا أعزَّةً حقًّا في داخل نفوسنا؛ فلماذا نخجل من إعلان إرادتنا العليا تلك، وتأبِّينا على كلِّ المراودات السلوكية الهابطة، بصوتٍ مسموع؟!
لماذا لا نصرخ بكل شجاعة في وجه مفاتيح الشر:
لا.. لن نسمح لكم أن تقتربوا من سياج مروءاتنا ..
لا.. لن نسمح لأنفسنا أن تكون فرائس سهلة لأنيابكم الشَّرسه ..(/1)
لا.. لن نسمح لأعصابنا وبطوننا أن تَجُرَّنا إلى الهاوية، بعد أن أعلى الله قدرنا..
إننا حين نرفض كل دعوةٍ إلى انحراف؛ فإننا نرتفع بمستوى إنسانيَّتنا إلى السُّمُوِّ الذي أراده الله تعالى لها، وهو ما نستشفَّه من قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ} [محمد: 12].
فتساوي القَدْر بين الإنسان والبهيمة في هذه الآية ليس لأنهما يشتركان في الحاجة إلى الطعام، ولكن لفقدان ضابط الإرادة عند الإنسان، فالكافر حين عُرِضَ عليه الإيمان اختار غيره، وحين عُرِضَ عليه ضبط سلوكه بما يصلح شأنه، وليس غير خالقه يَقْدِر أن يختار له، {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } [الملك: 14]، ولكنه أبى إلا أن يكون كالبهيمة، لا حدود لحريَّة إرادته.
فلله الحمد كله أن جعلنا مسلمين، وله الحمد حين مَنَّ علينا أن نثني رُكَبَنا بين يَدَي رمضان، نتعلَّم منه شيئًا مما يعيننا على كسب إرادة تحرُّرنا من قيود شهواتنا، مختارين حامدين شاكرين.(/2)
العنوان: صور الوفاء في ديوان: (ويورق الخريف) لعيسى جرابا
رقم المقالة: 816
صاحب المقالة: محمد شلال الحناحنة
-----------------------------------------
قراءات في الأدب السعودي المعاصر
صور الوفاء في ديوان: (ويورق الخريف)
للشاعر عيسى بن علي جرابا
يعدُّ الشاعر عيسى بن علي جرابا من أكثر الشعراء السعوديين الشباب ثراءً، فهو يكتب بوجدانية دافئة عميقة، محلِّقًا في آفاق إنسانية رحبة، وقد أصدر ثلاثة دواوين شعرية هي: (لا تقولي وداعًا)، وديوان: (وطني والفجر الباسم)، وديوانه الأخير: (ويورق الخريف) الصادر عن مكتبة العبيكان بالرياض عام 1425هـ، وجاء في مئة وثلاثين صفحة من القطع المتوسط، وضمَّ ثلاثاً وثلاثين قصيدة من الشعر الأصيل.
أنى يورقُ الخريف؟!
يُسلمنا - بدايةً - ديوان: (ويورق الخريف) إلى مفارقة موجِعة، فالخريف رمزٌ لتساقط أوراق الأشجار، رمزٌ للانكفاء والعُزلة والجدب، فأنى يورق؟! إن الاستعارة التعبيرية تتشكَّل لدى شاعرنا عيسى الجرابا من قلب حيٍّ، ونفس سامية أبية، وروح متفائلة، فيغدو الخريف هنا مورقًا مزهرًا بشذى رؤاه لا يابسًا مُجدبًا!
أمّا صور الوفاء في هذا الديوان فمتنوعةٌ متعددة، ففي قصيدته: (الراحل الحبيب) يرثي أباه في أبيات تقطر حزنًا وألَمًا بكل عفوية وصدق:
أبي رحَلتَ وفي عينيَّ أسئلةٌ حَيرى وبين ضُلوعي أُشعِلَتْ حُرَقُ
أبي رحَلتَ زكيَّ النفسِ مُتَّشحًا ثَوبًا يُزيِّنه الإحسانُ والخُلُقُ
أَهفُو إليكَ فُؤادًا فاضَ مَرحَمَةً على بَنيهِ ووَجهًا باتَ يأتَلِقُ
وقامةً في ثَباتٍ للعُلا سَمَقَتْ وحِكمَةً لم يَشِنْها في الوَرى نَزَقُ
أبي رحَلتَ وقد خلَّفتَ مُنتظرًا ما جاوزَ العَشرَ يَطوي جِسمَهُ الرَّهَقُ
أرجو منَ اللهِ أنْ ألقاكَ يا أبَتي في جنَّةٍ قد أُعِدَّتْ للأُلى صَدَقُوا(/1)
يمضي شاعرنا عيسى جرابا إلى الوفاء بأعظم عهدٍ بعد عهد المسلم لربِّه، وهو عهدُ الإخلاص في العبادة، عهدُ التوحيد، يمضي إلى الوفاء للوالدَين..
أمَّا صفاتُ والده الذي يحاول أن يفيَه بعض حقِّه في رثائه، فهي كثيرةٌ؛ فهو زكيُّ النفس، ذو خلق كريم ورحمة وإحسان، وثابتٌ على الحقِّ بحكمة وهدوء، يرنو إلى العُلا بوجهٍ مشرق...
ولعلَّ تكرار (أبي رحلتَ) في عدة أبيات مع النداء المؤلم يُشعل فينا أحاسيسَ مفعمةً بالحزن، ويجعل المصيبةَ الواقعة أشدَّ أسى على النفس.
ونراهُ يمزج في أبياته بين التعابير الحالية والوصفية، ممَّا أفاض على القصيدة صُورًا تزخر بالوفاء للفقيد الحبيب؛ فنقرأ: (أبي رحلتَ وفي عينيَّ أسئلة ...)، (أبي رحلتَ زكي النفس متشحًا ثوبًا ...)، (أبي رحلت وقد خلَّفت منتظرًا ...)، (أهفو إليك فؤادًا فاض مرحمة). ومع هذا نجد أن شاعرَنا خانه التعبير في البيت الرابع حين قال:
وقامةً في ثَباتٍ للعُلا سَمَقَتْ وحِكمَةً لم يَشِنْها في الوَرى نَزَقُ
فهل تسمَّى الحكمةُ حكمةً إنْ شانها نزَقٌ ؟! وهل تكون حكمتُه متميِّزة من غيرها إذا ما برئت من النزَق ؟!
ظلال الوفاء
أمّا وقفتنا مع قضية: (ظلال الوفاء) فهي تبدأ من العنوان الذي يُضيف فيه دلالة حسيَّة لدلالة معنوية، إنّها حروفٌ مضيئة عن المبدع الذي غاب جسدُه وبقي أثره، ومن المحزن أنَّه لا يُعرَفُ فضله، ولا يكرَّم في حياته في كثير من أقطارنا، فإذا ما ارتحلَ جرت الأقلامُ في رثائه، وبيان قدره، وهذا جحودٌ لمكانته برغم الاستدراك الذي لن يُجدي:
راعَ قلبي ما رأى مِن دَهرِهِ حينَ أَخفى جَهرَهُ في سِرِّهِ
وبَدا مِيزانُه مُضطَرِبًا ما عَرَفنا خَيرَهُ مِن شَرِّهِ
كم بهِ مِن مُبدِعٍ أقلامُه هَطَلَت فِينا بسُقيا فِكرِهِ
فإذا بالكَونِ يَغلِي حَسَدًا تَتلظَّى نارُهُ في صَدرِهِ
لم ينَلْ إلاَّ سَرابًا إنَّما عاشَ صَقرًا لمْ ينَلْ مِن قَدرِهِ(/2)
وإذا يومًا طَواهُ الموتُ كَم أعيُنٍ فاضَت أَسًى في إِثْرِهِ
عَجبًا يا أيُّها المبدِعُ مِن دَهرِنا بَل عَجَبًا مِن أَمرِهِ
لم يُفرِّقْ حينَ وافاهُ السَّنا مِن تُرابٍ شَعَّ أم مِن تِبْرِهِ؟
واستَوى مَن راحَ يُغْضي طَرفَهُ لكَ في إِكْبارِهِ أو كِبرِهِ
أيُّها المبدِعُ لا تيئَس وإنْ نالَكَ الدَّهرُ بِدامِي ظُفرِهِ
واحتَسِب إبداعَكَ السَّامي رُؤًى عندَ مَن يُعطيكَ أوفى أَجرِهِ
فلَكَ اللهُ، ومَن لاذَ بهِ نالَ ما يَرجُوهُ لو في قَبرِهِ
هذه القضيةُ الثقافية الاجتماعية التي تهزُّ الشاعر عيسى جرابا هي جديرةٌ بالتأمل حقًّا، لأنها تخصُّ كوكبة لها وزنُها المؤثر في المجتمع. وهي الكوكبةُ المبدعة التي لم تنل حقَّها ومنزلتها في كثيرٍ من مجتمعاتنا العربية، فأين الوفاءُ لها؟! وأين الوفاءُ لفكرها؟ وأين إظهارُ صوتها وإبداعها؟!
وتعدُّ هذه القصيدة جديدةً في موضوعها، وتوَجُّهها اللطيف، وخاتمتها التي تأوي إلى حسٍّ إسلاميٍّ في احتساب الإبداع عند الله؛ لأنَّه من الأعمال الصالحة إنْ أخلص النيَّة في مقاصده.. وبرغم هذه الجدَّة والتوجُّه فإن كثيرًا من أبيات القصيدة مثقلةٌ بالنثرية، وتخلو من وهَج الشعر في تجلِّياته وإيحاءاته، وانظر إلى قوله: (عجبًا أيُّها المبدع...)، و(أيُّها المبدع لا تيئس ...)، و(واحتسب إبداعك السامي...)، و(فلكَ الله، ومن لاذ به...)، و(ما عرفنا خيرَه من شرِّه...) وغيرها.
ومن لطائف الوفاء لدى شاعرنا الوفاءُ لذكريات الأمس، وما فيها من ذكريات الطفولة واللَّهو البريء، وتأتي قصيدة: (كيف أنساك؟) لتمثِّل إشراقات دافئة في مضمونها، وصورًا شعرية مبتكرة ومضيئة، لذا نُصغي إليه يقول:
مَن يَذُقْ لوعةَ الهوى ليسَ يَنسى لو غَدا قلبُهُ منَ الصَّخرِ أَقسى
يَرتَدي بُردةَ النَّهارِ خَلِيًّا ويُجافي مَضاجِعَ اللَّيلِ بُؤسا
ويُناجي النُّجومَ نَجمًا فنَجمًا ويَراها نَواطِقًا وهي خَرسا(/3)
وإذا البَدرُ غابَ أَطرَقَ حُزنًا وإذا ما بَدا تَبسَّمَ أُنْسا
إيهِ أَمسِي وما أُحَيلاكَ طَيفًا! كُلَّما لاحَ كالسَّنا طِبتُ نَفسا
كيف أنساكَ؟ لستُ ممَّن إذا طا لَ التَّنائي يَخونُ عَهدًا ويَنسى
لكَ عندي مَكانَةٌ وعلى ذِكـ ـراكَ كَم أَصبَحَ الفُؤادُ وأَمسى
عُدْ كما كُنتَ باكيًا أم ضَحوكًا إنَّ في مُقلتَيك بَحرًا ومَرسى
هذا الألقُ الشعري يؤوب إلى نوافذ الرُّوح، لأنَه يزهر من شجى الذاكرة، وكلَّما لاح كالسَّنا طابت نفوسُنا! فأنَّى يكون الوفاء للأمس حين يطولُ التنائي؟! وهل الشعر انفتاحٌ بريء على العالم بكلِّ بَياضه وسواده؟! هل هو بشارة لما سيكون برغم الشظايا المتناثرة في الضلوع؟! أهو معانقةٌ حميمة بين خَبايا الأرض وصفاء السماء؟! تلك معادلةٌ تحتاج منا إلى وقفات لنصغيَ للشعر فينا وبين جوانحنا الوارفة بغيوم الأسئلة، بل هي نفسها معادلةُ الوفاء حين يصبح القلبُ ويمسي على ذكريات الأمس، وحين يعود باكيًا أو ضاحكًا، لأنه وحدَه هو البحر والمرسى كما يرى شاعرنا عيسى جرابا.
قطوف الشعر
ومن أنصع ما نراه لدى الشاعر من الوفاء هو وفاؤه لشعراء الإسلام الذين يرى فيهم لسانَ حال الأمَّة في آمالها وآلامها، وهم يقفون على ثُغرة عظيمة من ثغور الإسلام؛ إذ يجاهدون الأعداء بألسنتهم، ويَسقون أشجار الأماني بأناشيدهم ومشاعرهم، ولذلك فمن وفائه عتبُه على الشاعر الكبير د. عبدالرحمن العشماوي الذي كتب قصيدته الدالية بعنوان: (من يُداويني من الشعر مع التحيَّة) فيردُّ عليه عيسى جرابا في قصيدة بعنوان: (قطوف الشعر) ويُهديها للشاعر العشماوي:
في سَماءِ الشِّعرِ أنتَ الفَرقَدُ وقَوافِيكَ نُجومٌ تَشهَدُ
لَحنُكُ الخالدُ ما أعذَبَهُ! كَم لَهُ رَقَّ الحَصى والجَلمَدُ
سِرْ بنا في رَوضَةِ الشِّعرِ وكَم سائرٍ في ظِلِّها لا يَجهَدُ
واسْقِ أشجارَ الأَماني وأَلِنْ مِن أَحاسِيسِ الوَرى ما يَجمُدُ(/4)
نُحْ على الأَقصى وأَشعِل ذِكرَهُ لَهَبًا حتَّى يَعودَ المسجِدُ
أَرشِدِ الأُمَّةَ واصبِر إنْ بَدا لَكَ لَومٌ كَم يُلامُ المُرشِدُ
أَنشِدِ اللحنَ شَجِيًّا فلَكَم طَرِبَ الكَونُ وأنتَ المُنشدُ
لعلَّ النزعة الذاتية عند الشاعر عيسى جرابا لا تنفصل عن الهمِّ الجماعي في كثير من قصائده، فإنْ كانت قصيدتُه هذه صدى لرؤى ذاتية في دور الشعر وأهميَّته، ووفاءً كذلك لرموزه ونماذجه، فإنَّ رؤيته تنصهر في الهمِّ العام، فالشعر لم يكن نشيدًا ذاتيًّا، بقدر ما هو الفضاء الفسيح لأشجان الكون، وأشجان الأمَّة، ولذا تتقاطر الأساليب الطلبيَّة في القصيدة في مواضع كثيرة: (سِر بنا...، واسقِ أشجار الأماني...، نُحْ على الأقصى وأشعل ذكره لهبًا...، أرشدِ الأمةَ واصبر...، أنشدِ اللحن شجيًّا...).
وممّا يؤخَذ على الشاعر في هذه الأبيات قوله في البيت الخامس:
نُحْ على الأَقصى وأَشعِل ذِكرَهُ لَهَبًا حتَّى يَعودَ المسجِدُ
فالنياحة ممَّا يأباه الإسلام، وهي ليست من طبائع الرِّجال، كما أنَّ النياحةَ لا تتلاءم مع إشعال ذكر الأقصى لهبًا ونيرانًا ومقاومة، وكان الأولى أنْ يقول: (سِر إلى الأقصى/ أو قم/ أو ذُدْ عن) مثلاً ليكون أكثر وقعًا في النفوس.
حين تكون الشهادة مولدًا
ومن أعظم صور الوفاء في هذا الديوان يأتي الوفاء لشهداء الأمَّة الذي سَقَوا بدمائهم أمجادها، فيرثي الشيخَ المجاهد أحمد ياسين رحمة الله عليه بقصيدته: (مولد شهيد)، وقد وُفِّق في حسن الاستهلال إذْ يقول بلوعة وحرقة:
سَئمنا الحياةَ سَئمنا الرَّدى يَجيءُ ولم نَبلُغِ المَقصَدا
تُخَدِّرُنا كَأسُ أَحلامِنا وتَسلُبُنا عِزَّةَ المبتَدا
ومِليارُنا ضَلَّ لا فارِسٌ أَطَلَّ ولا صارِمٌ جُرِّدا
وخُضنا بِحارًا منَ الشَّجبِ ما أَعَزَّ الإباءَ وما أَبعَدا
تَجلَّت لنا الشَّمسُ لكِنَّنا نَمُدُّ لها طَرْفَنا الأَرْمَدا
قَعَدنا وقَد جاهَدَ المُقعَدو نَ عَنَّا وما أَعظَمَ الْمُقْعَدا(/5)
تَوَشَّحَ بالصَّبرِ مُستَعصِمًا بِرَبٍّ يُنادِيهِ مُستَرفِدا
وها أنتَ تَسمو إلى غايَةٍ وتَلقى مُرادَكَ مُستَشهِدا
يعمِد شاعرنا إلى رسم مشهدٍ هجائي ساخر في أبياته لما آلت إليه أوضاعُنا، وذلك حين يقفُ أكثر من مِليار مسلم عاجزين أمام دُوَيلة يهود، وبدل أنْ يخوض فرساننا معاركَ البطولة والشهادة، نرى أنَّنا نخوض بحارًا من الشجب والاستنكار لمجازر العدوِّ بحقِّ أهلنا في فلسطين السليبة، ونحنُ نرى الشمسَ وقد تجلَّت لنا، ولكن نراها بأعيُن رمداء!! وقد قعدنا عن الجهاد، ولكن جاهد المقعدون وعلى رأسهم شيخُنا الشهيد البطل أحمد ياسين، فكيف لا نوفِّيه حقَّه ونسير على دربه، درب البطولة والإباء، ليعودَ للأمَّة عزُّها ونصرها من الله؟! هكذا تغدو هذه اللوحةُ زاخرة بمفارقة نازفة، واستفهام موجع:
أأَرثِيكَ؟ كَلاَّ أيا قامَةً تَسامَتْ رُؤًى واعْتَلَت سُؤدَدا
رأيتُكَ في رِفعَةٍ مَيِّتًا كَما كُنتَ حَيًّا تُغيظُ العِدا
وما كانَ نَعشًا ولا مَأتمًا ولكنَّهُ حَفلُ عُرسٍ بَدا
عَجِبتُ لمن عاشَ في عِزَّةٍ يَقُضُّ مَضاجِعَهُم مُقْعَدا
أَرادوا لهُ الموتَ موتًا وما دَرَوا أنَّ في مَوتِهِ مَولِدا(/6)
العنوان: صور من المعاملات المحرمة في البيوع
رقم المقالة: 1106
صاحب المقالة: الشيخ ناصر بن محمد بن مشري الغامدي
-----------------------------------------
الخطبة الأولى
الحمد لله كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، والشكر له على جزيل فضله وكريم إحسانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، اعترافاً بحق وبجوده وامتنانه، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله الداعي إلى جنته ورضوانه، والمبلغ للناس دينه وقرآنه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم القيامة.
أم بعد: فاتقوا الله - تعالى - أيها المسلمون اتقوا الله حق تقاته، اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة، واعتصموا بحبله، واسعَوا إلى مرضاته، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً}؛ [الأحزاب: 71 -72].
أيها الناس: شرائع الإسلام نوعان: عبادات، ومعاملات، ؛ فالعبادات هي كل ما يكون بين البعد وربه من صلاة وصوم وزكاة ونذر، وطاعة لأوامره، واجتناب لنواهيه. والمعاملات، هي ما يكون بين العبد وغيره، مما يتعامل به الناس من معاملات، وأهمها ما يتعامل به الناس في مجال الأموال بالبيع والشراء، والإجارة ونحوها.(/1)
والمسلم مطالب بأن تكون عبادته ومعاملاته صحيحة على المنهج الذي أمر الله به، وبينه رسوله الكريم - صلى الله عليه وسلم . ولما كان كثير من الناس يهتم بأمر العبادات ويسأل عنها، ويحرص على معرفة أركانها وشروطها وسننها ومستحباتها، وهذا هو المطلوب من المسلم أن يعبد الله - سبحانه - على بصيرة، وأن يتقرب إليه بما شرعه وعلى وَفق ما أمر به، لكن الكثير من الناس لا يهتم بجانب المعاملات مع الناس؛ بيعاً وشراءً وإجارة، مع أن البلية بها أعظم، والسلامة من الخطأ فيها أصعب، وهذا سببه جهل الناس بأحكامها، وظنهم أن المحاسبة عليها يسيرة.
أيها المسلمون: إن التعامل مع الناس؛ بيعاً وشراءً ونحو ذلك أمر خطير وعظيم، ولقد جاء الوعيد الشديد على من غش فيها أو خدع، أو أخذ مال أخيه المسلم بغير حق.
عن أبي أمامة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من اقتطع حق أمرئٍ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة)). فقال له رجل: وإن كان شيئاً يسيراً يا رسول الله؟ قال: ((وإن كان قضيباً من أراك))؛ رواه مسلم.
والله - تعالى - حين يجمع العباد يوم القيامة يقتص بحكمه وعدله لبعضهم من بعض، فلا يدع لصاحب حق حقاً، ولا لمظلوم مظلمة؛ حين يقضي - سبحانه - بين الخلائق، ويؤتي كل إنسان كتاباً لا يغادر صغير ولا كبيرة إلا أحصاها.
ومن عظم البلية، وخطر المصيبة أن فئاماً من الناس لا يلقون لجانب المعاملة مع الآخرين بالاً، فربما ترى الرجل كثير الصلاة والصوم، والزهد والعبادة، لكنه إذا باع أو اشترى غش الآخرين وخدعهم وأكل أموالهم بالباطل، بل لربما احتال بأنواع الحيل على ذلك.(/2)
لما كان الأمر كذلك - أيها الإخوة - أحببت أن أنبه على بعض المعاملات التجارية المحرمة؛ حتى لا يقع فيها المسلم الحريص على دينه، ونجاة نفسه من مظالم العباد، وليعلم العباد شرع الله - تعالى - فتقوم عليهم الحجة به، فيعلمه من جهله، فقد انتشرت المعاملات المحرمة بين التجار، وفشت في الأسواق ووقع الناس فيها، ما بين عالم بحرمتها متهاون فيها، ، وجاهل أنها محرمة، وهي أكثر من أن تحصى، وأعظم من أن تحيط بها خطبة الجمعة ولكن المسلم الحريص على صيانة ماله من الحرام يتعظ بالقليل، ويسأل عن المشتبه.
وأول هذه المحرمات التي عمت بها أسواقنا، وانتشرت في معاملاتنا: تطفيف الموازين، والتلاعب بالمكاييل، وهذا أمر محرم يجب البعد عنه والحذر منه؛ لأنه من صفات اليهود والنصارى والأمم الكافرة؛ قال الله – تعالى : {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوَهُمْ أَو وَزَنُوَهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلاَ يَظُنُّ أُوْلَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ العَالَمِينَ}؛ [المطففين: 1 -6].
وأمر الله - تعالى - بالوفاء بالكيل والوزن؛ لما فيه من تحقيق العدل، وصيانة الحقوق، {وَأَوْفُوا الكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ المُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}؛ [الإسراء: 35]. {وَأَقِيمُوا الوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُوا المِيزَانَ}؛ [الرحمن: 9].
والتطفيف في الميزان أمره عظيم؛ لما يؤدي إليه ذلك من الغش والخديعة بين الناس، وأكل المال بغير حقه، فكثير من الباعة إذا اكتال لنفسه وفّاها حقها، وإذا كال لغيره بخس الميزان والمكيال، وأنقصه عن حده، بل إن بعض ضعاف الإيمان ليغيروا في وزن العداد أو الميزان؛ ليظهر أن الوزن على حقيقته، وهو على غيرها، كل ذلك طمعاً في الحرام - أعاذنا الله جميعاً منه.(/3)
وأكثر ما يقع ذلك عند محلات الذهب والمجوهرات، ففيهم من يبيع بأكثر مما يشترى، ويبيع الذهب المخلوط بالخرز وغيره بسعر الذهب الخالص، ولا يشترى إلا ما كان خالصاً.
وكذا الجزارين الذين يبيع بعضهم اللحم، فيزن معه من العظام والشحم أضعاف ما يزن من اللحم. وغيرهم كثير وكثير.
وجزاء المطففين في المكيال والميزان عظيم عند الله، فقد أهلك الله - تعالى - أمة من الأمم ودمرها وعذبها تعذيباً على ما كانوا يبخسون الناس في الميزان، وينقصون المكيال، وهم أهل مدين قوم شعيب، وما ينتظرهم في الآخرة أعظم، وما هي من الظالمين ببعيد.
ومن المعاملات المحرمة في البيع والشراء: الغش والخديعة فيه، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مر عل صبرة طعام، فأدخل يده فيها، فنالت أصابعه بللاً، فقال: ((ما هذا يا صاحب الطعام؟!)). قال: أصابته السماء يا رسول الله. قال: ((أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس، من غش فليس مني))؛ رواه مسلم.
فهذا الحديث العظيم دليل واضح على تحريم الغش في البيع، وأن من باع سلعة وبها عيب وهو يعلمه، ثم لم يبينه للمشترى فقد برئت منه ذمة الله، واستحق الخروج عن هدي رسوله الأمين - صلى الله عليه وسلم - والعقاب الأليم من الله - تعالى - يوم الدين.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "والغش يدخل في البيوع بكتمان العيوب، وتدليس السلع؛ مثل أن يكون ظاهر المبيع خيراً من باطنه، كالذي مر عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنكر عليه، ويدخل في الصناعات؛ مثل الذين يصنعون المطعومات من الخبز، والطبخ، والشواء، وغير ذلك، أو يصنعون الملبوسات؛ كالنساجين والخياطين، ونحوهم، أو يصنعون غير ذلك من الصناعات، فيجب نهيهم عن الغش والخيانة والكتمان.(/4)
ويكثر مثل هذا الذي وقع للنبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه الأيام؛ فما أكثر من يدلس في البيع؛ فيظهر منه الطيَّب، ويخفي باطنه الفاسد عن الناس، لاسيما في محلات الفواكه والخَضْراوات والتمور، فالله حسيبهم.
ومما يجب على المسلمين من باب النصيحة لإخوانهم، وإبراء الذمة: أن إذا علم أحدهم عيباً في السلعة ورأي إنساناً يريد شراءها وهو لا يعلم بذلك العيب الذي فيها أن يبينه له، وينبهه عليه، فكثير من الناس لا يهتدون لمعرفه عيوب السلعة، فيمر الشخص فيرى رجلاً غراً يريد شراءها - والعيب فيها - فيسكت عن نصحه حتى يغشه البائع، ويأخذ ماله بالباطل، وما علم ذلك الساكت أنه شريك للبائع في الإثم والحرمة؛ فإن المؤمنين نصَحَه والمنافقين غشَشَة، والدين النصيحة.
عباد الله:
ومما عمت به البلوى في هذه الأيام: كثرة الحلف، فتجد البائع يكثر من الحلف، وقد يكون في بعضه كاذباً، لكي ينفق سلعته. وكثير منهم لا يقتصر على ذلك، فيدخل بهذا في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك))؛ رواه الترمذي، وأبو داود، وأحمد.
وكثيراً ما تكون تلك الأيمان كاذبة غموساً، تغمس صاحبها في الإثم في نار جهنم - عياذاً بالله. عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم)). قال فقرأها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث مرار، قال أبو ذر: خابوا وخسروا، من هم يا رسول الله؟! قال: ((المسبل، والمنان والمُنَفِّق سلعته بالحلف الكاذب))؛ رواه مسلم وغيره.(/5)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الحلف منفقة للسلعة، ممحقة للبركة))؛ متفق عليه؛ والمعنى: أن البائع إذا حلف على سلعته أنه أعطي فيها كذا وكذا، أو أنه اشتراها بكذا وكذا، أو أن فيها كيت وكيت من الصفات، فظنه المشترى صادقاً فيما حلف عليه، فأخذها بزيادة على قيمتها، والبائع كاذب، إنما حلف طمعاً في الزيادة، فيكون بذلك قد عصى الله وخالف أمره، فيعاقبه الله - تعالى - بمحق البركة، فإذا ذهبت بركة كسبه دخل عليه من النقص أعظم من تلك الزيادة التي دخلت عليه بسبب حلفه، وربما ذهب ثمن تلك السلعة رأساً، وما عند الله لا ينال إلا بطاعته، وإن تزخرفت الدنيا للعاصي فعاقبتها اضمحلال وذَهاب وعقاب.
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم؛ رجل كان له فضل ماء بالطريق فمنعه من ابن السبيل، ورجل بايع إماما، لا يبايعه إلا لدنيا, فإن أعطاه منها رضي، وإن لم يعطه منها سخط، ورجل أقام سلعته بعد العصر، فقال: والله الذي لا إله غيره لقد أعطيت بها كذا وكذا، فصدقة رجل، ثم قرأ هذه الآية: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنّاً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لاَ خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ الله وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}؛ [آل عمران: 77]))؛رواه البخاري.
وأعظم من ذلك خطراً، وأشد إثما أن يحلف وهو كاذب متعمد؛ فهذا من علامات النفاق، وقد أخبر المصطفى أن من تحرى الصدق والأمانة كان في زمرة الأبرار من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء))؛ رواه الترمذي وحسنه، والدارمي.
أيها المسلمون:(/6)
ومن المحرمات التي نهى الله - تبارك وتعالى - عنها: البيع على البيع، والشراء على الشراء، والسَّوْم على السوم؛ لأن ذلك كله مدعاة إلى التباغض والتحاقد بين المسلمين، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا يبع بعضكم على بيع بعض))؛ متفق عليه.
ومثال البيع على البيع: أن يقول لمن اشترى شيئاً ولم يحزه إلى رحله، أو كان ذلك في مدة الخيار التي بينه وبين البائع: افسخ هذا البيع وأنا أبيعك مثله بأرخص منه، أو أجود منه بثمنه، ونحو ذلك، فهذا حرام بنص الحديث السابق.
ومثال الشراء على الشراء: أن يقول للبائع في مدة الخيار: افسخ هذا البيع، وأنا أشتريه منك بأكثر من هذا الثمن الذي بعتَه به.
وأما السوم على السوم: فهو أن يكون مالك السلعة أو صاحبها قد اتفق مع الراغب فيها على البيع، ولم يعقده معه، فيقول الرجل للبائع: أنا أشترى منك السلعة بأغلى مما اشتراها به ذلك الشخص، وهذا حرام بعد استقرار الثمن؛ لما يؤدي إليه من فشوِّ العداوة بين المسلمين، وقطع أرزاق الذين لا يقدرون على الشراء بالغلاء، ووقوع الخصومة والحقد مما قد لا تحمد عقباه، والإسلام حريص على توثيق أواصر الإخاء والمحبة بين المسلمين.
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخواناً، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله، ولا يحقره، التقوى ها هنا - ويشير إلى صدره ثلاث مرات - بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام؛ دمه، وماله، وعرضه))؛ رواه مسلم، وأهل السنن.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله فاستغفروه وتوبوا إليه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية(/7)
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا اله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فاتقوا الله - عباد الله - واعلموا - رحمكم الله - أن من المعاملات التي حرمها الله - تعالى - ونهى عنها: البيع بعد النداء الثاني لصلاة الجمعة، وتخلف الباعة والمشترين عن الصلاة؛ قال الله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ الله وَذَرُوا البَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ الله وَاذْكُرُوا الله كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}؛ [الجمعة: 9 - 10].
ومع أن هذه الآيات لا يجهلها أحد من المسلمين إلا أن الكثير منهم لا يدرك معناها، ولا يعمل بما فيها، ويجتنب ما نهت عنه.
ويدخل في عموم هذا التحريم: الشراء، والسوم، وسائر العقود الأخرى كالإجارة ونحوها في قول كثير من المحققين من أهل العلم؛ كشيخ الإسلام ابن تيمية وغيره، وإنما ذكر البيع؛ لأنه الغالب، والأكثر. فتخلُّفُ الباعة عن صلاة الجمعة كثير في هذه الأيام لاسيما الذين يأتون ببضاعتهم ليبيعوا على أبواب المساجد، فتجد الأمام يخطب على المنبر ويعظ الناس، وهم في الخارج أو على باب المسجد ينادون على بضائعهم ويدللون، وينعقون، وكأنهم ليسوا مخاطبين بالصلاة، وبذلك جمعوا بين مصيبتين:(/8)
الأولى: اتخاذ المساجد مكاناً للتكسب، بالبيع في فنائها، وداخل أحواشها؛ وهذا محرم، بل لقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما صح عنه - من رأى إنساناً يبيع في المسجد أن يقول له: لا ربَّحك الله؛ لأن المساجد لم تبن لهذا، إنما بنيت للصلاة والعبادة.
والمصيبة الثانية: وقوعهم في البيع بعد النداء للصلاة، وهذا فعل محرم في هذا الوقت، دخلوا به تحت الوعيد الشديد في حق من تخلف عن صلاة الجمعة؛ عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول على أعواد منبره: ((لينتهين أقوام عن ودْعهم الجمعات، أو ليختمن الله على قلوبهم، ثم ليكونُنَّ من الغافلين))؛ رواه مسلم.
ومن البيوع المنهي عها التي كثرت في هذه الأيام: بيع النَّجش؛ وهو الزيادة في ثمن السلعة ممن لا يريد شراءها؛ ليقع غيره فيها، سمي بذلك؛ لأن الناجش يثير الرغبة في السلعة، ويقع ذلك بمواطأة البائع أحياناً، فيشتركان في الإثم، وقد يقع ذلك بغير علمه، فيختص ذلك بالناجش، وقد يختص به البائع وحده كمن يخبر اشترى سلعة بأكثر مما اشتراها به ليغر ممن يريد شراءها.
قال ابن عمر - رضي الله عنهما - إن النبي - صلى الله عليه وسلم - ((نهي عن النجش))؛ رواه البخاري ومسلم.
قال ابن أبي أوفي - رضي الله عنه -: "الناجش آكل رباً خائن". وقال البخاري - رحمه الله: "النجش؛ هو خداع باطل لا يصح".
عباد الله:
وما أكثر ما يقع النجش في معارض السيارات، أو أماكن الحراج؛ حين يتفق بعض الناس مع صديقه أو صاحبه ليرفع في ثمن سيارته، وهو لا يريد شراءها حقيقة، وإنما ليرفع ثمنها على المشترين، فيقعان في الحرام، ويبيعان دينهما بعرَض من الدنيا زائل.(/9)
ومن البيوع المحرمة - كذلك -: بيع الغرر؛ وهو كل بيع احتوى على جهالة، أو تضمن مخاطرةً أو قماراً، فقد نهي الشارع الحكيم عنه، ومنع منه، حفظاً لحقوق الناس، وصيانة لأموالهم. عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: ((نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر))؛ رواه مسلم وغيره.
قال الإمام النووي - رحمه الله -: "النهي عن بيع الغرر أصل عظيم من أصول البيوع، ويدخل فيه مسائل كثيرةٌ غير منحصرةٍ؛ كبيع الآبق - العبد المملوك الشارد - والمعدوم، والمجهول، ومالا يقدر على تسليمه، ومالا يتم ملك البائع عليه، وكبيع السمك في الماء، واللبن في الضرع، والحمل في بطن أمه، ونظائر ذلك، وكل هذا بيع باطل لا يجوز؛ لأنه غرر من غير حاجة.
ومن صور الغرر في البيوع - عباد الله -: أن يذهب الإنسان إلى محلات بيع التقسيط، فيتفق معهم على شراء سيارة، أو أجهزة أو نحو ذلك، وهي ليست عندهم، ثم يتعاقدون، ويدفع لهم عُربُوناً، أو قسطاً من الثمن، ثم يذهب صاحب المحل ويشترى السلعة من مكان آخر، ويحضرها للمشترى.
وقد يقع أحياناً أن يذهب المشترى إلى بنك من البنوك الربوية فيتق معه على الشراء، ثم يذهب إلى أحد المعارض أو المحلات التجارية ويشترى سلعته، على أن يدفع البنكُ لهذا المحل القيمة كاملة، في حين يدفعها المشترى للبنك على أقساط شهرية، فكل هذا ونظائره من الغرر والربا المحرَّم الذي لا يجوز؛ لما روى حكيم بن حزام - رضي الله عنه - قال: يا رسول الله يأتيني الرجل يسألني من البيع ما ليس عندى، أبتاع له من السوق ثم أبيعه؟ قال: ((لا تبع ما ليس عندك))؛ رواه الترمذي، وأبو داود، والنسائي، وأحمد.
فاتقوا الله عباد الله، وتعلموا أمور دينكم، وكونوا على بصيرة بها تفوزوا وتفلحوا.(/10)
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد بن عبد الله صلاة وسلاماً دائمين إلى يوم الدين، وارض اللهم عن أصحاب نبيك أجمعين وعن التابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.(/11)
العنوان: صوم الكبير
رقم المقالة: 1222
صاحب المقالة: عبدالله بن صالح القصير
-----------------------------------------
الكبير الذي لا يستطيع الصَّوْم, أو لا يستطيع إتمام كلِّ يومٍ؛ لهِرَمه وضعفه, ولكن معه عقله وتمييزه, ولكن يشقُّ عليه الصيام - فهذا أفتى ابن عباس وغيره من الصحابة - رضي الله عنهم -: "أنه يُفْطِرُ، ويُطْعِمُ عن كلِّ يومٍ مسكينًا, ولا قضاء عليه. إقامةً للإطعام مقام الصيام، رحمةً منَ الله وتخفيفًا".
قال ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله تعالى {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة : 184]: "نزلت في الشيخ الكبير، والمرأة الكبيرة، لا يطيقان الصيام - أن يُفْطِرا ويُطْعِما مكانَ كلِّ يومٍ مسكينًا"؛ أي: ولا قضاء عليهما.
وثبت في "الصحيح": أن أنس بن مالك - رضي الله عنه - لما كَبُرَ وضَعُفَ عنِ الصيام؛ أفْطَر وأطعم ثلاثين مسكينًا".
أما إذا كان الكبير قد فقد التمييز, وحصل منه التَّخريف والهذيان؛ فهذا لا يجب عليه صيامٌ ولا إطعامٌ؛ لسقوط التَّكليف عنه بزوَال تمييزه وتخريفه, فأشْبَهَ الصبيَّ قبل التمييز؛ فإن التَّكليف مرتبطٌ بالعقل, فإذا أخذ ما وَهَب؛ سقط ما وَجَب.
وأما إذا كان يميز أحيانًا, ويخرف أحيانًا؛ فإنه يجب عليه الصوم, أو الإطعام في حالة تمييزه دون حال تخريفه, والصلاة أيضًا كذلك.(/1)
العنوان: صوم المريض
رقم المقالة: 1223
صاحب المقالة: عبدالله بن صالح القصير
-----------------------------------------
المريض الذي دخل عليه شهر رمضان وهو مريضٌ, أو مرض في أثنائه - له حالتان:
أحدهما: أن يُرجى زَوَال مرضه, فهذا إذا خاف مع الصيام زيادةَ مرضه, أو طول مُدَّته؛ جاز له الفطر إجماعًا. وجعله بعض أهل العلم مستحبًّا؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة : 185]. ولما روَاه الإمام أحمد وغيره، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إنَّ الله يحبُّ أن تُؤْتَى رُخَصُه كما يَكرهُ أن تُؤْتَى معصيتُه)). فيُكره له الصوم مع المشقَّة؛ لأنه خروجٌ عن رخصة الله, وتعذيبٌ منَ المرْء لنفسه.
أمَّا إن ثَبَتَ أنَّ الصوم يضرُّه؛ فإنَّه يجب عليه الفِطْر, ويَحْرُم عليه الصيام؛ لقوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29]، ولما ثَبَتَ في "الصحيح"، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إنَّ لنفسك عليك حقًّا))؛ فمن حقِّها ألاَّ تضرَّها مع وجود رخصة الله تعالى. وإذا أفْطَر لمرضه الذي يُرجى زوَاله؛ قضى بعدد الأيام التي أفطرها ولا كفَّارة عليه.(/1)
الثانية: أن يكون المرض لا يُرجى زوَاله؛ كالسُّل والسَّرطان والسُّكر وغير ذلك من الأمراض - نعوذ بالله من عُضال الدَّاء وشرِّ الأسقام. فإذا كان الصوم يشقُّ عليه؛ فإنه لا يجب عليه؛ لأنه لا يستطيعه؛ وقد قال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} [البقرة : 286]؛ بل يُفْطِر ويُطْعِم عن كل يومٍ مسكينًا, ولا قضاء عليه؛ لأنه ليس له حالٌ يصير إليها، يتمكَّن فيها من القضاء، وفي هذا وأمثاله يقول تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة الآية: 184]. قال ابن عباس - رضي الله عنهما - في هذه الآية: "ليست بمنسوخة, هي للكبير الذي لا يستطيع الصوم"؛ رواه البخاري. والمريض الذي لا يُرجى بَرْؤه في حكم الكبير، وهذا مذهب الجمهور. قال ابن القيِّم - رحمه الله -: "ولا يُصار إلى الفِدية إلا عند اليأس منَ القضاء".(/2)
العنوان: صوموا لعلكم تتقون
رقم المقالة: 1467
صاحب المقالة: الشيخ صالح بن عبدالله بن حميد
-----------------------------------------
ملخص الخطبة
الوصية بتقوى الله وبيان فضلها - غاية الصوم تقوى الله , ومعنى ذلك - كيف يصوم القلب , وأثر صلاحه على الجوارح - حال الصائمين المتقين - كيف يكون الاستعداد لرمضان ؟
-------------------------
الخطبة الأولى
إن الحمد لله نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل الله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} . {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا}. اعلموا أن أحسن الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد بن عبد الله، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أما بعد:
فأوصيكم ونفسي ـ أيها الناس ـ بتقوى الله، فالعز والشرف في التقوى، والسعادة والعلا عند أهل التقوى.
التقوى ـ أيها السلمون ـ كنز عظيم، وجوهر عزيز، خير الدنيا والآخرة مجموع فيها: {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة:197].(/1)
القبول معلق بها: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27]. والغفران والثواب موعود عليها {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفّرْ عَنْهُ سَيّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً} [الطلاق:5]. أهلها هم الأعلون في الآخرة والأولى: {تِلْكَ الدَّارُ الاْخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83].
غير أن أزمنتنا المتأخرة، وعصورنا المادية كست قلوب أصحابها طبقات من الغفلة، وغشت على أبصارها سحب من الصدود كثيفة. فعموا عن الطريق، وحسن ظنهم بالتَّرَقي في جاه الدنيا وسلطانها، فالشقي في ميزانهم من قلت مادته وقدر عليه رزقه. وهذا لعمر الحق غفلة شنيعة، وجهل في المقاييس عريض. {وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْواجاً مّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحياةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:131،132].
نعم أيها الإخوة، المتقون تَقَرُّ أعينهم بالطاعات في الدنيا، وبعُلا الدرجات من الجنة في الأخرى.
يقال ذلك أيها المسلمون وقد أظلكم هذا الشهر الكريم المبارك، شهر فرض الله عليكم صيامه لعلكم تتقون.
أيها الإخوة، غاية الصيام تقوى الله عز وجل. تقوى يتمثل فيها الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والقناعة بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل. تقوى صادقة دقيقة يترك فيها الصائم ما يهوى حذرًا مما يخشى. ولئن كانت فرائض الإسلام وأحكامه وأوامره ونواهيه كلها سبيل التقوى، فإن خصوصية الارتباط بين الصيام والتقوى شيء عجيب.
أيها الإخوة، جوارح الإنسان عين وأذن ويد ولسان، وبطن وفرج، والقلب من ورائها أصلها وحاكمها.(/2)
صام القلب واتَّقى إذا جرد العبودية لله وحده، خضع لجلاله، وسعى لقربه، وأنس بمناجاته. خلص من الشرك، وسلم من البدع، وتطهر من المعاصي. قلب تقي يرى الهوى والشهوة والظن والبغي، والعداوة والبغضاء، والغل والحسد والجدل والمِراء - أمراضًا قلبية فتاكة تقتل الأفراد وتهلك الأمم. القلب التقي يرفضها ويأباها ويتقيها ويتقيَّؤُها، وصيامه ينفيها ويجفوها.
قلب صائم متدين لله بالطاعة، مستسلم له بالخضوع والاستجابة، منقاد لتنفيذ الشرع في الأمر والنهي. عبودية لله خالصة لا يصرفه عنها شهوة ولا شبهة، ولا يشوش عليه فيها أمان ولا طمع، قلب قوي تقي، لله صلاته وصيامه ونسكه ومحياه ومماته. ((فمن صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه)) [1].
وإذا صلح القلب صلحت الجوارح، فقامت بحق الطاعة وكفت عن الآثام. فالبطن محفوظ وما حوى، ترك الطعام والشراب والشهوة من أجل الله، تقىً عالٍ يقي النفس جماح غرائزها، وإرادة مستعلية مستحكمة تأخذ أمر ربها بقوة، وتزدجر عن النواهي باستسلام.
لقد كان على الهدى، وائتمر بالتقوى من منع جسده تخمة الغذاء ليمنع جوارحه السوء والأذى. قلة الشبع تكبح الجماح، وتبعد نزغات الشياطين، والشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم [2].
قلة الشبع تجعل الجوارح أقرب لفعل القربة، يرق القلب، ويغزر الدمع، ويخذل الشيطان. وانظر ـ حفظ الله دينك وزاد في تقاك ـ في ضعافٍ مهازيلَ؛ ممن جاع نهاره، وملأ في الليل بطنه، فهو صريع لذة عارمة، وعبد لشهوة جامحة. هل حقق معنى التقوى حين تفنن بأطايب الطعام وألوان الموائد؟! بينما قليل منه قد يشبع جياعًا ويسعد أسرًا، قليل منه قد يكفكف دموعًا ويوقف عبراتٍ؟هل أعطى واتقى ـ أم كيف أعطى؟ وماذا اتقى؟ ـ من جعل رمضان تبذيرًا، وفطره تخمة؟! مسكين بائس لا يرى في الصوم إلا جوعًا لا تتحمله معدته، وعطشًا لا تقوى عليه عروقه.(/3)
أي تقوى وأي مقاومة عند أمثال هؤلاء المهازيل؟! أولئك أقوام انهزمت عزائمهم أمام جوع بطونهم. لقد أورثهم الشبع قسوة، فجعلهم نَؤُومِين، وأقعدهم كسالى.
ألا فاقعدوا أنتم الطاعمون الكاسون، من أعلن استسلامه في معركة لقيمات لا تدوم سوى سويعات فليس جديرًا بأن يعيش عزة المتقين، وعلياء الشهداء والمجاهدين.
الله أكبر؛ لقد فرض الصيام لتمحيص التقوى، وليصبح المسلم صائمًا بقيامه بترك مطعمه ومشربه؛ قصده رضا محبوبِه: ((الصوم لي وأنا أجزي به))[3].
هذا حال البطن وما حوى. فيا ترى ما بال الرأس وما وعى؟ من لم يدع قول الزور والعمل به كيف صام؟ وماذا اتقى؟ حظه من صيامه الجوع والعطش ونصيبه من قيامه السهر والنصب. أين التقوى في أسماعهم وأبصارهم؟ لغو ولهو وقيل وقال، وأصوات معازف، وصور ماجنة، وقصص خالعة. في النهار نوم في تقصير، وفي الليل سهر في غير طاعة، متبرمون في أعمالهم، سيئون في معاملاتهم، ويتثاقلون في أداء مسؤولياتهم، نشاط في اللهو والسمر، وكسل في الجد والعبادة.
أيها الأحبة، شهركم شهر التقوى، شهركم موسم عظيم للمحاسبة، وميدان فسيح للمنافسة، تصفو فيه نفوس من داخلها، وتقترب فيه قلوب من خالقها. تفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق أبواب النار، وتصفد الشياطين، وتكثر دواعي الخير وأسباب المثوبة.
رحمة ومغفرة وعتق من النار. فأقبلوا على الطاعة، وتزودوا من التقى، واستروحوا روائح الجنة، وتعرضوا للنفحات.
الصائمون المتقون لا يزالون في صلاة وصيام وتلاوة وذكر وصلة وإحسان وجدٍ وعملٍ. فاطلبوا الخير دهركم، وتعرضوا لنفحات ربكم، فخيركم من طال عمره وحسن عمله، وشر الناس من طال عمره وساء عمله.
أيها المتقون الصائمون، فتشوا عن المحتاجين من أقربائكم والمساكين من جيرانكم والغرباء من إخوانكم، لا تنسوا برهم وإسعادهم، أشركوهم معكم في رزق ربكم. اذكروا جوع الجائعين، ولوعة الملتاعين، وعبرات البائسين، وغربة المشردين ووحشة المهجرين.(/4)
اسألوا في شهر التقوى والمحاسبة: هل قام بحق التقوى من بات شبعان وحوله جائع يستطيع إشباعه فلم يفعل؟ وهل قام بحق الشهر من رأى نفسًا مؤمنة بائسة يستطيع إسعادها فلم يفعل؟
أيها المسلمون، صوموا حق الصيام لعلكم تتقون. ومن يتق الله يكن معه، ومن كان الله معه فمعه الفئة التي لا تغلب، والحارس الذي لا ينام، والهادي الذي لا يضل، وإذا كان الله معك يا عبد الله فمن تخاف ؟ وإذا كان عليك فمن ترجو؟!
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَّعْدُوداتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:183-185].
الخطبة الثانية
الحمد لله جعل الصيام جنة، وسببًا موصلاً إلى الجنة، أحمده سبحانه وأشكره؛ هدى إلى خير طريق وأقوم سنة. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله بعثه إلينا فضلا منه ومنة، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمدٍ، وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:(/5)
فاتقوا الله أيها الناس، فالشهور والأعوام والليالي والأيام مواقيت الأعمال ومقادير الآجال، تمر سريعًا، وتنقضي جميعًا. إنها أيام الله خلقها وأوجدها وخص بعضها بمزيد من الفضل، فما من يوم إلا ولله فيه على عباده وظيفة من وظائف طاعاته، ولطيفة من لطائف نفحاته، يصيب بفضله ورحمته من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم.
وإن بين أيديكم شهرًا عظيمًا، وأيامًا فاضلة ولياليَ شريفة، فأحسنوا فيها الوفادة وجدُّوا فيها بالعمل. فلم يكن سلفكم يستعدون لها بمزيد من الأكل والشرب، ولكن بالطاعة والعبادة والجود والسخاء، فهم مع ربهم عباد طائعون، ومع إخوانهم بررة محسنون، والأسوة في ذلك والإمام نبيكم محمد عليه الصلاة والسلام فهو أجود ما يكون في رمضان[4]، ويجتهد فيه ما لا يجتهد في غيره، يحيي ليله ويوقظ أهله ويشد المئزر[5].
ذلكم هو مسلك التقوى، وهذه مراسم الاستقبال فاعملوا وأحسنوا وأبشروا.
---
[1] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب الإيمان - صوم رمضان احتساباً من الإيمان، حديث (38)، ومسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها - باب الترغيب في قيام رمضان... حديث (760 و_2203-2205).
[2] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب الاعتكاف - باب زيارة المرأة زوجها... حديث (2038)، ومسلم: كتاب السلام - بيان أنه يستحب لمن رئي... حديث (2174).
[3] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب الصوم - باب فضل الصوم، حديث (1894)، ومسلم: كتاب الصيام - باب فضل الصيام، حديث (1151).
[4] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب بدء الوحي - باب بدء الوحي (6)، ومسلم: كتاب الفضائل - باب كان النبي أجود الناس (2308).
[5] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب صلاة التراويح - باب العمل في العشر الأواخر من رمضان، حديث (2024)، ومسلم: كتاب الاعتكاف - باب الاجتهاد في العشر الأواخر من شهر رمضان، حديث (1174).(/6)
العنوان: صيام التطوع وفضائله
رقم المقالة: 1241
صاحب المقالة: مكتب الدعوة والإرشاد بسلطانة
-----------------------------------------
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستهديه، ونتوب إليه، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمدًا رسول الله. ونصلى ونسلم على معلم البشرية الخير محمد بن عبدالله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرًا.
أخي وأختى في الله..
أحييكم بتحية أهل الجنة...
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته أما بعد،،
فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله: ((إِنَّ اللَّهَ قَالَ مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ))؛ رواه البخاري.
هذا حديث جليل، فيه أن من سعى في نوافل العبادات تقربًا إلى الله الرحيم أحبه الله، وقربه منه، ووفقه في سمعه وبصره، وكان الله معه، يحيب دعاءه ويعيذه، مما يخاف ويحذر، وكفى بالله حسيبًا، والصيام من أحب الأعمال إلى الله، قال تعالى في الحديث القدسي: (( كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ؛ يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي))؛ رواه مسلم.
فمن صام يومًا تطوعًا حاز الدرجات العلى، وأحبه الرحمن، والاستمرار على ذلك جالب للأجر الجزيل والتوفيق العظيم.
وصوم التطوع أنواع:(/1)
1- صيام يوم وفطر يوم: وهوأفضل صيام التطوع. عن عبدالله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - أن رسول الله قال: (( إِنَّ أَحَبَّ الصِّيَامِ إِلَى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُدَ، وَأَحَبَّ الصَّلَاةِ إِلَى اللَّهِ صَلَاةُ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَام، كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَيَقُومُ ثُلُثَهُ وَيَنَامُ سُدُسَهُ، وَكَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا))؛ متفق عليه.
2- صيام ثلاثة أيام من كل شهر (أي ثلاثة أيام والأفضل أن تكون أيام البيض): عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: " أوصاني خليلي - صلَّى اللَّه عليه وسلَّم - بثلاثٍ؛ بصيامِ ثلاثة أيام مِن كل شهر وركعتي الضحى وأن أوتر قبل أن أرقد"؛ متفق عليه. عن ابن ملحان - رضي الله عنه - قال: " كان رسول اللَّه - صلَّى اللَّه عليه وسلَّم - يَأْمُرُنَا أن نصوم البِيضَ ثلاثَ عَشْرَةَ وأربعَ عَشْرَةَ وخمسَ عَشْرَةَ" قال: وقال: ((هُنَّ كَهَيْئَةِ الدَّهْرِ))؛ رواه أبوداود.
3- صيام التسعة الأولى من ذي الحجة وآخرها يوم عرفة: عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: قال رسول الله: ((مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ - يَعْنِي أَيَّامَ الْعَشْرِ -)) قَالُوا: "يا رسول اللَّه، ولا الجهادُ في سبيل اللَّه؟" قَال: ((وَلا الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلاَّ رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ))؛ رواه أبوداود.
4- صيام يوم عرفة: عن أبي قتادة - رضي الله عنه - قال: "سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلَّى اللَّه عليه وسلم - عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ" فقال: ((يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ وَالْبَاقِيَةَ))؛ رواه مسلم.(/2)
5- صيام العاشر من محرم: عن أبي قتادة - رضي الله عنه - أن رسول الله "وَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلَّى اللَّه عليه وسلَّم - عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ" فقال: ((يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ))؛ رواه مسلم. ويستحب صيام التاسع والعاشر من محرم؛ عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: قال رسول الله: ((لَئِنْ بَقِيتُ إِلَى قَابِلٍ لَأَصُومَنَّ التَّاسِعَ))؛ رواه مسلم. قوله قابل: العام المقبل.
6- صيام الإثنين والخميس: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله قال: ((تُعْرَضُ الأَعْمَالُ يَوْمَ الإثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ فَأُحِبُّ أَنْ يُعْرَضَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ))؛ رواه الترمذي وقال حديث حسن.
7- صيام ست من شوال: عن أبي أيوب – رضي الله عنه – أن رسول الله قال: (( مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ))؛ رواه مسلم.
خصال الخير سبب في دخول الجنة:
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله: (( مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ صَائِمًا؟)) قال أبو بكر - رضي اللَّه عنه - : " أنا" قال: ((فَمَنْ تَبِعَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ جَنَازَةً؟)) قال أبو بكر - رضي اللَّه عنه - : " أنا" قال: ((فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ مِسْكِينًا؟)) قال أبو بكر - رضي اللَّه عنه - : " أنا" قال: ((فَمَنْ عَادَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مَرِيضًا؟)) قال أبو بكر - رضي اللَّه عنه - : " أنا" فقال رسول اللَّه - صلَّى اللَّه عليه وسلَّم -: (( مَا اجْتَمَعْنَ فِي امْرِئٍ إِلاَّ دَخَلَ الجَنَّةَ))؛ رواه مسلم.
فضل تفطير الصائم:
عن زيد بن خالد الجهني - رضي الله عنه - عن النبي قال: (( مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ لا يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيْئًا))؛ رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.
فضل السحور:(/3)
عن أنس قال: قال رسول الله: (( تَسَحَّرُوا فَإِنَّ فِي السُّحُورِ بَرَكَةً))؛ متفق عليه. وعن ابن عمر – رضي الله عنهما – قال: قال رسول الله: ((إن الله وملائكته يصلون على المتسحرين))؛ رواه ابن حبان في صحيحه، والطبراني في الأوسط، وأبونعيم في الحلية، والحديث صحيح.
بعض فضائل وفوائد الصيام:
إن للصيام فضائل وفوائد نذكر منها ما يلي:
1- للصائمين باب لا يدخل منه أحد غيرهم: عن سهل بن سعد - رضي الله عنه - عن النبي قال: ((إِنَّ فِي الْجَنَّةِ بَابًا يُقَالُ لَهُ الرَّيَّانُ يَدْخُلُ مِنْهُ الصَّائِمُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يَدْخُلُ مَعَهُمْ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ يُقَالُ أَيْنَ الصَّائِمُونَ فَيَدْخُلُونَ مِنْهُ فَإِذَا دَخَلَ آخِرُهُمْ أُغْلِقَ فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ أَحَدٌ))؛ متفق عليه.
2- رائحة فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك: قال النبي: ((وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ))؛ متفق عليه.
3- له فرحة عند فطره: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله: (( كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ الْحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعمِائَة ضِعْفٍ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ فَرْحَةٌ عِنْدَ فِطْرِهِ وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ وَلَخُلُوفُ فِيهِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ))؛ رواه مسلم.
4- أن الصوم يهذب النفس ويدربها على الجوع والعطش والصبر، وكذلك الإحساس بأحوال إخواننا المسلمين، اللذين لا يجدون ما يأكلون ولا ما يشربون.(/4)
5- أن الصائم ينوي بصومه احتساب الأجر عند الله على الصبر بالصيام، قال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10].
6- للصائم عند فطره دعوة لا ترد.
7- الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة: عن عبدالله بن عمرو بن العاص – رضي الله عنهما – قال: قال رسول الله: ((الصِّيَامُ وَالْقُرْآنُ يَشْفَعَانِ لِلْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ يَقُولُ الصِّيَامُ: أَيْ رَبِّ مَنَعْتُهُ الطَّعَامَ وَالشَّهَوَاتِ بِالنَّهَارِ؛ فَشَفِّعْنِي فِيهِ. وَيَقُولُ الْقُرْآنُ: مَنَعْتُهُ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ؛ فَشَفِّعْنِي فِيهِ. قَالَ: فَيُشَفَّعَانِ.))؛ رواه الإمام أحمد.
فهنيئًا لمن تقرب إلى الله بفعل النوافل، وخشع قلبه ولانت جوارحه لله؛ فالأجر الجنة، وما أعظمه من أجر! فهيا إلى روضات الجنات بالإخلاص وعبادة الله، والتقرب إليه، ولنهتم بأمر الصيام – صيام النوافل – فهو أعظم العبادات أجرًا، وفقنا الله للصالحات.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.(/5)
العنوان: صيام رمضان فضله مع بيان أحكام مهمة تخفى على بعض الناس
رقم المقالة: 1153
صاحب المقالة: سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز
-----------------------------------------
من عبدالعزيز بن عبدالله بن باز إلى من يراه من المسلمين، سلك الله بي وبهم سبيل أهل الإيمان، ووفقني وإياهم للفقه في السنة والقرآن. آمين.
سلام الله عليكم ورحمة الله وبركاته:
أما بعد: فهذه نصيحة موجزة تتعلق بفضل صيام رمضان وقيامه، وفضل المسابقة فيه بالأعمال الصالحة، مع بيان أحكام مهمة قد تخفى على بعض الناس.
ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يبشر أصحابه بمجيء شهر رمضان، ويخبرهم - عليه الصلاة والسلام - أنه شهر تُفَتَّح فيه أبواب الرحمة وأبواب الجنة، وتُغْلق فيه أبواب جهنم، وتغل فيه الشياطين؛ يقول: ((إذا كانت أول ليلة من رمضان فتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، وغلقت أبواب جهنم فلم يفتح منها باب، وصُفِّدَت الشياطين، وينادي منادٍ: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة)).
ويقول عليه الصلاة والسلام: ((جاءكم شهر رمضان، شهر بركة، يغشاكم الله فيه، فينزل الرحمة، ويحط الخطايا، ويستجيب الدعاء، ينظر الله إلى تنافسكم فيه فيباهي بكم ملائكته، فأروا الله من أنفسكم خيرًا، فإن الشقي من حُرِمَ فيه رحمة الله)).
ويقول عليه الصلاة والسلام: ((من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا، غُفِرَ له ما تَقَدَّم من ذنبه، ومن قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِرَ له ما تَقَدَّم من ذنبه، ومن قام ليلة القدرة إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه)).(/1)
ويقول عليه الصلاة والسلام: ((يقول الله - عز وجل -: كل عمل ابن آدم له الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي، للصائم فرحتان: فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك)).
والأحاديث في فضل صيام رمضان وقيامه وفضل جنس الصوم كثيرة.
فينبغي للمؤمن أن ينتهز هذه الفرصة وهي ما من الله به عليه من إدراك شهر رمضان؛ فيسارع إلى الطاعات، ويحذر السيئات، ويجتهد في أداء ما افترض الله عليه ولا سيما الصلوات الخمس، فإنها عمود الإسلام، وهي أعظم الفرائض بعد الشهادتين. فالواجب على كل مسلم ومسلمة المحافظة عليها وأداؤها في أوقاتها بخشوع وطمأنينة.
ومن أهم واجباتها في حق الرجال: أداؤها في الجماعة في بيوت الله التي أذن الله أن تُرْفَع ويُذكر فيها اسمه كما قال - عز وجل -: {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة:43]، وقال تعالى: {حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238]، وقال عز وجل: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ}... إلى أن قال عز وجل: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون:1-11]، وقال النبي: ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر)).(/2)
وأهم الفرائض بعد الصلاة: أداء الزكاة كما قال عز وجل: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:5]، وقال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النور:56].
وقد دل كتاب الله العظيم وسنة رسوله الكريم على أن من لم يؤد زكاة ماله يعذب به يوم القيامة.
وأهم الأمور بعد الصلاة والزكاة: صيام رمضان، وهو أحد أركان الإسلام الخمسة المذكورة في قول النبي: ((بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصم رمضان، وحج البيت))؛ متفق عليه.
ويجب على المسلم أن يصون صيامه وقيامه عما حرم الله عليه من الأقوال والأعمال؛ لأن المقصود بالصيام هو طاعة الله سبحانه، وتعظيم حرماته، وجهاد النفس على مخالفة هواها في طاعة مولاها، وتعويدها الصبر عما حرم الله، وليس المقصود مجرد ترك الطعام والشراب وسائر المفطرات، ولهذا صح عن رسول الله أنه قال: {الصيام جُنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني صائم}. وصح عنه أنه قال: ((من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)).
فعلم بهذه النصوص وغيرها أن الواجب على الصائم الحذر من كل ما حرم الله عليه، والمحافظة على كل ما أوجب الله عليه، وبذلك يرجى له المغفرة والعتق من النار وقبول الصيام والقيام.
وهناك أمور قد تخفى على بعض الناس:(/3)
منها: أن الواجب على المسلم أن يصوم إيمانًا واحتسابًا، لا رياء ولا سمعة ولا تقليدًا للناس أو متابعة لأهله أو أهل بلده، بل الواجب عليه أن يكون الحامل له على الصوم هو إيمانه بأن الله قد فرض عليه ذلك، واحتسابه الأجر عند ربه في ذلك، وهكذا قيام رمضان يجب أن يفعله المسلم إيمانًا واحتسابًا لا لسبب آخر، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: {من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدرة إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه}.
ومن الأمور التي قد يخفى حكمها على بعض الناس: ما قد يَعْرُض للصائم من جِراح أو رِعاف أو قيء أو ذهاب الماء أو البنزين إلى حلقه بغير اختياره، فكل هذه الأمور لا تفسد الصوم، لكن من تَعَمَّدَ القيء فَسَد صومه؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ((من ذرعه القيء فلا قضاء عليه، ومن استقاء فعليه القضاء)).
ومن ذلك: ما قد يعرض للصائم من تأخير غسل الجنابة إلى طلوع الفجر، وما يعرض لبعض النساء من تأخير غسل الحيض أو النفاس إلى طلوع الفجر، فإذا رأت الطهر قبل الفجر فإنه يلزمها الصوم، ولا مانع من تأخيرها الغسل إلى ما بعد طلوع الفجر، ولكن ليس لها تأخيره إلى طلوع الشمس، بل يجب عليها أن تغتسل وتصلي الفجر قبل طلوع الشمس، وهكذا الجنب ليس له تأخير الغسل إلى ما بعد طلوع الشمس، بل يجب عليه أن يغتسل ويصلي الفجر قبل طلوع الشمس، ويجب على الرجل المبادرة بذلك حتى يدرك صلاة الفجر مع الجماعة.
ومن الأمور التي لا تفسد الصوم: تحليل الدم، وضرب الإبر غير التي يقصد بها التغذية، لكن تأخير ذلك إلى الليل أولى وأحوط إذا تيسر ذلك؛ بقول النبي: ((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك}. وقوله عليه الصلاة والسلام: ((من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه)).(/4)
ومن الأمور التي يخفى حكمها على بعض الناس: عدم الاطمئنان في الصلاة سواء كانت فريضة أو نافلة، وقد دلت الأحاديث الصحيحة عن رسول الله على أن الاطمئنان ركن من أركان الصلاة لا تصح الصلاة بدونه، وهي الركود في الصلاة والخشوع فيها وعدم العجلة حتى يرجع كل فقار إلى مكانه، وكثير من الناس يصلي في رمضان صلاة التراويح صلاة لا يعقلها ولا يطمئن فيها بل ينقرها نقرًا، وهذه الصلاة على هذا الوجه باطلة، وصاحبها آثم غير مأجور.
ومن الأمور التي قد يخفى حكمها على بعض الناس: ظن بعضهم أن التراويح لا يجوز نقصها عن عشرين ركعة، وظن بعضهم أنه لا يجوز أن يزاد فيها على إحدى عشرة ركعة أو ثلاث عشرة ركعة، وهذا كله ظن في غير محله، بل هو خطأ مخالف للأدلة.
وقد دلت الأحاديث الصحيحة عن رسول الله على أن صلاة الليل موسع فيها، فليس فيها حد محدود لا تجوز مخالفته، بل ثبت عنه أنه كان يصلي من الليل إحدى عشرة ركعة، وربما صلى ثلاث عشرة ركعة، وربما صلى أقل من ذلك في رمضان وفي غيره، ولما سئل عن صلاة الليل قال: ((مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلى))؛ متفق عليه.
ولم يحدد ركعات معينة لا في رمضان ولا في غيره، ولهذا صلى الصحابة في عهد عمر في بعض الأحيان ثلاثًا وعشرين ركعة، وفي بعضها إحدى عشرة ركعة، كل ذلك ثبت عن عمر وعن الصحابة في عهده.
وكان بعض السلف يصلي في رمضان ستًا وثلاثين ركعة ويوتر بثلاث، وبعضهم يصلي إحدى وأربعين، ذكر ذلك عنهم شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من أهل العلم، كما ذكر رحمة الله عليه أن الأمر في ذلك واسع، وذكر أيضًا أن الأفضل لمن أطال القراءة والركوع والسجود أن يقلل العدد، ومن خفف القراءة والركوع والسجود زاد في العدد. هذا معنى كلامه. رحمه الله.(/5)
ومن تأمل سنته علم أن الأفضل في هذا كله هو صلاة إحدى عشرة ركعة أو ثلاث عشرة ركعة في رمضان وغيره؛ لكون ذلك هو الموافق لفعل النبي في غالب أحواله؛ ولأنه أرفق بالمصلين وأقرب إلى الخشوع والطمأنينة، ومن زاد فلا حرج ولا كراهية كما سبق.
والأفضل لمن صلى مع الإمام في قيام رمضان ألا ينصرف إلا مع الإمام؛ لقول النبي: ((إن الرجل إذا قام مع الإمام حتى ينصرف كتب الله له قيام ليلة)).
ويشرع لجميع المسلمين الاجتهاد في أنواع العبادة في هذا الشهر الكريم من: صلاة النافلة، وقراءة القرآن بالتدبر والتعقل، والإكثار من التسبيح، والتهليل، والتحميد، والتكبير، والاستغفار، والدعوات الشرعية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله عز وجل، ومواساة الفقراء والمساكين، والاجتهاد في بر الوالدين، وصلة الرحم، وإكرام الجار، وعيادة المريض، وغير ذلك من أنواع الخير؛ لقوله في الحديث السابق: ((ينظر الله إلى تنافسكم فيه؛ فيباهي بكم ملائكته، فأروا الله من أنفسكم خيرًا، فإن الشقي من حرم فيه رحمة الله)). ولما روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: ((من تقرب فيه بخصلة من خصال الخير كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن أدى فيه فريضة كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه)).
ولقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: ((عمرة في رمضان تعدل حجة)) أو قال: ((حجة معي)).
والأحاديث والآثار الدالة على شرعية المسابقة والمنافسة في أنواع الخير في هذا الشهر الكريم كثيرة.
والله المسؤول أن يوفقنا وسائر المسلمين لكل ما فيه رضاه، وأن يتقبل صيامنا وقيامنا، ويصلح أحوالنا، ويعيذنا جميعًا من مضلات الفتن، كما نسأله سبحانه أن يصلح قادة المسلمين، ويجمع كلمتهم على الحق، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(/6)
العنوان: ضابط البدعة وما تدخله
رقم المقالة: 1936
صاحب المقالة: سليمان بن عبدالله الماجد
-----------------------------------------
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.. أما بعد..
فلم يتنازع المسلمون قديماً ولا حديثاً في كون البدعة في الدين محرمة مذمومة، وإنما وقع النزاع في الأعمال المعينة: هل تُعتبر بدعة، أو أنها صحيحة مشروعة، ومنشأُ هذا النزاع عدمُ اعتبار القواعد والضوابط.
وإذا ضاعت الأصول وقع الاضطراب في الحكم على القضايا المعينة؛ فترى الناس يفرقون بين المتماثلات، ويجمعون بين المتناقضات، وتصير القاعدة التي لا تنخرم - عند بعضهم - هي تحكيم العادات والمألوفات، وإذا بلغ الحال إلى ذلك فإن كثيراً من تنازع الناس إنما هو بين مألوف ومألوف؛ لا بين اجتهادين معتبرين.
وحينئذ يضيع التحقيق العلمي بين أقدام وجلبة المتعصبين ممن يُحكِّم مألوفه وبيئته.
فإن قال أحد سواه ببدعية أمر أو مشروعيته: رأى أنه لم يقل بذلك إلا تأثراً ببيئته ومحيطه، أو مجاملة لبيئة أو محيط آخرين؛ فيكون هذا أشبه بتنازع السوقة والدهماء؛ لا أهل الفقه والعلماء.
وبسبب اضطراب الناس فيما تدخله البدعة وما لا تدخله، أو ما هو محل جريانها؟ أخطأ بسبب ذلك فريقان:
الأول: من أجرى البدعة في العاديات، ومن مفاسد هذا نوعٌ من البدعة خفي، وهو: اعتبار ما ليس عبادةً من العبادة؛ كحال من اعتبر التعبد والتوقيف في الوسائل.
والثاني: من أجاز الحدث في محل التعبدات؛ فوقع في البدعة المذمومة.
ولهذا كان اعتبار القواعد والتعليل لها بعد التجرد للحق هو السبيل الصحيح لتحقيق الكلام في هذه المسائل.
الاتجاهات في المسألة:
وبتأمل ما يرى الناس جريان البدعة فيه وجدته لا يخرج عن أمور:
الأول: ما أريد به القربة في أصل شرعه: وذلك كالذكر والدعاء والصلاة والصيام والحج، ولم يُجروه في غيرها من المعاملات والعادات والمناكح؛ مما لم تُعتبر القربة في أصل مشروعيته.(/1)
الثاني: أنها تجري مع ما ذُكر في وسائل العبادات التي وجد المقتضي لفعلها على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وانتفى المانع من فعلها ثم لم تفعل.
وذلك لقربها من العبادة، ولأن للوسائل أحكام المقاصد، ولأن هذا هو فهم السلف؛ حيث أنكر ابن مسعود على الذين يسبحون بالحصى؛ فهو اعتبار منه للتوقيف في وسائل التعبدات.
فعلى قولهم هذا تكون كل وسيلة إلى عبادة قام المقتضي لفعلها على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وانتفى المانع من القيام بها ثم لم يفعلها صلى الله عليه وسلم فإن فعلها بدعة، ومن فروع ذلك عندهم: خطوط ضبط الصفوف في الصلاة، وخط بداية الطواف، والسبحة لعد الذكر، ووسائل الدعوة.
ولا يدخل في حكم البدعة - عندهم - ما جاءت به المخترعات الحديثة من وسائل العبادات؛ كمكبرات الصوت في الأذان والصلاة؛ لوجود المانع، وهو عدم التمكن من تحصيل هذه الوسيلة في عهده صلى الله عليه وسلم؛ فقالوا بمشروعيتها.
الثالث: ما كان تعبداً محضاً، وقُيِّد بأحوال مخصوصة؛ كالمكان أو الزمان أو الصفة أو العدد أو حال الأشخاص، والتعبد المحض هو الذي شُرع على وجه لا يُعقل معناه على التفصيل؛ ولو لم يكن قربة، وتكون البدعة فيه بإيقاعه على غير الوجه الوارد زماناً أو مكاناً أو صفة أو حالاً.
ولمناقشة هذه الاتجاهات يُقال:
أما الاتجاه الأول وهو اعتبار القربة:
فإنه مع افتقاره إلى دليل صحته فهو غير مانع ولا جامع:
فهو غير مانع لأنه يُخضِعُ لأحكام البدعة أعمالاً لا يراد منها في أصل شرعها إلا القربة والأجر؛ كالجهاد فِي سبيل الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذه الأمور مما لا تدخلها البدعة؛ فلم يقل أحد: إن هذه الأشياء من الأمور التوقيفية التي لا يُحدث فيها، ولا يُجدد في أعمالها إلا بدليل خاص.(/2)
وهو غير جامع لأنه يُخرج أعمالا تُعد من التعبدات المحضة، ويسمى المحدث فيها في الشريعة مبتدعاً، وهي مع ذلك ليست مما يُراد بها القربة؛ حيث يُخرج الطلاق فِي الحيض، ويُخرج الأعياد الزائدة على الأعياد الشرعية؛ فقد استقر عمل العلماء على تسمية الطلاق الذي وقع على غير الوجه المشروع بالبدعة، وتسمية العيد الجديد بالعيد المبتدع؛ فهو إذاً غير جامع.
وأما الثاني: وهو جملة "المقتضي والمانع" في وسائل العبادات:
فقد انتشر بين طلاب العلم اعتبارها ضابطاً يرون أنه فرقُ ما بين البدعة وغيرها.
والذي يظهر عند التحقيق - والله تعالى أعلم - أنها لا تصلح ضابطاً لا في العادات ولا في العبادات ولا في وسائلها؛ لوجهين:
الأول: أن كل قاعدة لا بد لها من أدلة تصححها، ولا أعلم دليلاً يوصل إلى المطلوب، وأما كون هذه السمات موجودة في البدع والسنن فلا يكفي لاعتبارها ضابطاً جامعاً مانعاً.
الثاني: أن هذه الجملة لم تتضمن تحرير المحل الذي تُجرى فيه: هل يكون في التعبدات، أو في العادات والمعاملات ؟
فإن قيل: لا تُجرى إلا في التعبدات؛ فيُقال: اعتبار جريان الحدث والبدعة في التعبدات لا يفتقر إلى هذه الجملة؛ فكل تغيير في بِنْيَة الفعل التعبدي بزيادة أو نقص كلي أو جزئي، أو إيقاعه في غير المحدد له شرعاً من: مكان أو زمان أو حال أو صفة نقول عن ذلك كله بأنه بدعة؛ كقولنا بالبدعة في التلفظ بالنية في الصلاة، والأذان للعيدين، ودعاء الختم في الصلاة، وصلاة الرغائب، وركعتي السعي، والتنفل بالسعي مفرداً في غير حج ولا عمرة، وغسل حصى الجمار تديناً، وعيد المولد والعيد القومي، ولا نحتاج أن نقول بعد ذلك: وجد المقتضي لهذه المحدثات وانتفى المانع منها فهي بدعة؛ وذلك لأن مجرد التغيير بالزيادة أو النقص فيما حدته الشريعة بدعة في الدين.(/3)
وإن قيل: تُجرى في العادات والمعاملات فهذا أظهر في البطلان؛ إذْ لا يُشترط في المعاملات إجراء هذه القاعدة؛ فهي كثيرة متجددة، وأغلبها وجد المقتضي لفعله وانتفى المانع من ذلك الفعل؛ ولم يقل أحد بجريان البدعة فيها.
وإن قيل تُجرى في وسائل العبادات دون غيرها من العادات والمعاملات؛ فهذا غير صحيح لما يلي:
أولاً: أن الأصل في الأشياء أن لا تكون تعبدية؛ فأين الدليل من الشريعة الذي يُخرج من ذلك الأصل؛ فيجعل الوسائل من جملة الدين المُنَزَّل الذي لا يجوز الإحداث فيه ؟
فاختيار الوسائل لحكم التوقيف دون غيرها نوع تحكم يعود على القول بالبطلان.
ثانياً: أن الشريعة لا تترك مثل هذا دون بيان، وهو من أعظم الأمور، وأكثر الحاجات؛ فدل ذلك على أن محل وسائل العبادة ليس توقيفياً.
ثالثاً: من المعلوم - من حيث الأصل - أنه لا مقصد لأي مطاع في نوع وكيفية وسائل إنفاذ أوامره على المتبوعين، وإنما مراده تحقيق المأمور به على الوجه المطلوب؛ فإذا كان هناك ما يُخرج أوامر الباري سبحانه وتعالى من ذلك الأصل فعلى مدعيه الدليل.
رابعاً: أن الأمة بعملها لا زالت تخترع وتجدد في وسائل العبادات دون نكير:
فمن ذلك نقط المصحف، وضبطه بالشكل، ثم تحزيبه وترقيمه.
ومن ذلك ما أحدثوه من تصنيف العلم على طرق ووسائل متعددة؛ فهناك السنن والآثار والمستدركات والمسانيد على الصحابة أو التابعين أو من بعدهم من الرواة، والتبويب على أبواب الفقه.
ومن ذلك جعل والٍ لتدبير شؤون العبادة والمساجد والأئمة، وإدارة هذه الولاية بالأنظمة الحديثة.
وأكثر هذه الأشياء وُجد المقتضي لفعلها، وانتفى المانع من ذلك فلم تُعدَّ بدعة، ولم يحكم عليها أحد بحدث.(/4)
ثم يقال أيضاً: إن من المعلوم أن التعبدات المحضة قد فُرغ منها بانقطاع الوحي، ولا يُمكن أن يتصور أن يكون التطور مؤثراً في حكمها من حيث المشروعية أو عدمها؛ كالذي قالوه في بعض الوسائل؛ كمكبرات الصوت في الأذان؛ بحيث تكون مشروعيتها مرتبطة بالإمكان أو عدمه.
وإذا كنت لا تتصور أن يكون التطور مؤثراً في عدد الركعات أو الجمرات أو المواقيت أو فترة الصيام - لأننا نقول: إنها توقيفية - فلا يجوز أن نتصور أن يؤثر التطور في نوع آخر من التوقيف.
ولا يصح أن نقول إن للوسائل حكماً بالتوقيف والتعبدية يختلف عن بقية ما حكمه التوقيف؛ كالصلاة والصيام والحج؛ إذْ لا بد من بيان الحدود والفواصل بين النوعين، وبيان الدليل على كل فرق؛ فإن وجدت هذه الحدود وإلا فالضابط باطل لا اعتبار له.
خامساً: أن أظهر سمة لما تدخله البدعة أنه تعبدي لا يُعقل معناه على التفصيل، وأظهر سمة للعاديات هي معقولية المعنى؛ فما هو الأشبه بالوسائل ؟ لا ريب أن الأشبه بحالها هو عقل المعنى لا التعبد؛ فعليه لا تدخل البدعةُ وسائل العبادات.
وفي هذا المعنى يقول الإمام الشاطبي في "الاعتصام" عن تبليغ الشريعة: (.. والتبليغ كما لا يتقيد بكيفية معلومة؛ لأنه من قبيل معقول المعنى؛ فيصح بأي شيء أمكن من الحفظ والتلقين والكتابة، وكذلك لا يتقيد حفظه عن الزيغ والتحريف بكيفية دون أخرى).
وأما تعليل البعض بقرب الشيء من العبادة أو ملابسته لها أو مجاورته إياها فليس دليلاً على أنه يأخذ حكمها، وإلا لأخذ اللباس أثناء الصلاة حكم التوقيف؛ بحيث يعتبر مبتدعاً كل من صلى في غير ما صلى فيه الرسول صلى الله عليه وسلم من إزار ورداء، أو قميص، واللباس وسيلة لشرطها، وهو ستر العورة.(/5)
وأما نقلهم قول بعض الأصوليين: إن للوسائل أحكام المقاصد؛ فإنما هو من حيث الحكم التكليفي؛ فالمقاصد الواجبة وسائلها واجبة، والمستحبة وسائلها مستحبة بشروط ذلك، ولم أجد أن أحداً منهم قال: إنها تأخذ جميع أحكامها حتى اعتبارَ التوقيف.
وأما إنكار ابن مسعود رضي الله عنه على قوم اجتمعوا يذكرون الله؛ فيقول أحدهم سبحوا فيسبحون، ويقول: كبروا فيكبرون، ويعدون ذلك بالحصى فلا دليل فيه على أن الأصل فِي وسائل العبادة هو التوقيف؛ لأن إنكاره رضي الله عنه يحتمل أشياء منها:
1. الاجتماع على الذكر.
2. الذكر بصوت واحد جماعة.
3. عد التسبيح في غير الصلاة؛ حيث يراه بعض السلف بدعة.
4. التسبيح بالحصى.
فما الذي أنكره ابن مسعود رضي الله عنه من هذه الأشياء؟ فالأمر محتمل للأربعة، وإذا كان أهل التوقيف فِي الوسائل يقولون بما اقتضته أصول البدعة من أن الذكر الجماعي بصوت واحد محدث، والاجتماع على الذكر ولو دون صوت واحد محدث أيضاً، كما أن بعض السلف يرى أن عد التسبيح في غير دبر الصلاة بدعة؛ فلماذا تخيروا التسبيح بالحصى ليجعلوه مناط إنكار ابن مسعود رضي الله عنه ؟
فالأقرب أنه إنما أنكر الأمور الثلاثة الأُوَل، أو بعضها، ومن ادعى توجه إنكاره على التسبيح بالحصى فعليه الدليل.
وهذا ما مال إليه الإمام السيوطي رحمه الله؛ كما في رسالة "الاتباع" ص 18 حيث قال عن الذكر: (.. وقد كره ابن مسعود وغيره من الصحابة اعتياد الاجتماع في مكان مخصوص).
ووجّه في "تبيين الحقائق" (1/166) إنكاره ذلك على عد التسبيح خارج الصلاة.
• • • • •
فإن قيل: إن بعض العلماء ذكر قاعدة المقتضي والمانع فما القول في ذلك؟
فالجواب أن هذه الجملة اُشتهرت عن إمامين جليلين هما الشاطبي وابن تيمية رحمهما الله، ولكن سياق كلامهما لا يدل على أنها ضابط للبدعة عندهما، وقد ساقوها لأغراض منها:(/6)
الأول: الإزراء على المبتدع، وإلزامه بلازم الاستدراك على الشريعة؛ فكأنهم يقولون: كيف ترى شرعية عملك وصحة تعبدك بهذا العمل التوقيفي مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنه م قد تركوه مع قيام المقتضي لفعله وانتفاء المانع من ذلك الفعل ؟ إلا أن يكون تركهم هذا لمعنى الحدث والبدعة.
وفي هذا المعنى يقول الإمام ابن تيمية - رحمه الله - كما في "اقتضاء الصراط المستقيم" (ص280) بعد ذكره هذه الجملة بحروفها: (.. فإن كل ما يبديه المحدث لهذا من المصلحة، أو يستدل به من الأدلة قد كان ثابتاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع هذا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم..).
وذكر رحمه الله في المرجع نفسه ص295 هذه القاعدة لمثل هذا الغرض، وذلك في حكمه بالبدعة على الاحتفال بالمولد فقال: (.. فإن هذا لم يفعله السلف مع قيام المقتضي له، وعدم المانع منه، ولو كان هذا خيرا محضاً، أو راجحاً، لكان السلف رضي الله عنه م أحق به منا..).
الغرض الثاني: التعليل لشرعية وسنية عبادات لم تُفعل في وقته صلى الله عليه وسلم لوجود مانع؛ كالمداومة على قيام رمضان جماعة في المسجد؛ وذلك لأجل خوف أن تُفرض على الناس، وبناء على ذلك يُعتبر الدوام عليها بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم سنة؛ ولو لم يداوم عليها.
فقد قال الإمام ابن تيمية رحمه الله كما في "مجموع الفتاوى" (21/318):
(.. السنة هي ما قام الدليل الشرعي عليه بأنه طاعة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، سواء فعله رسول الله، أو فعل على زمانه، أو لم يفعله، ولم يفعل على زمانه؛ لعدم المقتضي حينئذ لفعله، أو وجود المانع منه؛ فإنه إذا ثبت أنه أمر به أو استحبه فهو سنة) أهـ.
فهو هنا يُثبت سنية ومشروعية المداومة في قيام رمضان جماعة في المسجد، وأن ترك الرسول صلى الله عليه وسلم المداومة لا يسلبها وصف السنة؛ فهي في غير السياق الذي يقول به أهل التوقيف في الوسائل.(/7)
الثالث: أنهما لم يذكرا ضبط البدعة بهذه الجملة في "الوسائل"؛ كالذي ذكره بعض المتأخرين؛ فتخصيصها بالوسائل زيادة على كلامهما.
أما تطبيقاتهما في مسائل البدعة فهي تدل على أنهما لا يريان إجراءها في غير العبادات المحضة؛ فلم يوجد - فيما وقفت عليه في كلامهما - أنهما حكما بالبدعة في وسيلة عبادة، أو في أمر عادي مجاور لعبادة؛ كالذي تنازع فيه الناس اليوم؛ بل قال ابن تيمية بجواز التسبيح بالسبحة، وقال الشاطبي بشرعية كل وسيلة لتبليغ الدين؛ كما تقدم قريباً.
وكان كلامهما في هذه القاعدة إنما يدور على تعبدات محضة:
فالشاطبي قال في "الاعتصام" (1/361). بعد ذكره هذه القاعدة: (.. لأنه لما كان الموجب لشريعة الحكم موجوداً ثم لم يشرع كان صريحاً في أن الزائد على ما ثبت هنالك بدعة مخالفة لقصد الشارع؛ إذْ فُهم من قصده الوقوف عند ما حُدَّ هنالك بلا زيادة ولا نقصان منه).
فقوله: (الوقوف عند ما حُدّ هنالك) يدل على أن كلامه على محدود، وهو ما خُلص في هذا البحث بأنه التعبد الذي تدخله البدعة، والوسائل لا تحديد فيها.
وذكرها الإمام ابن تيمية في تعبدي محض، وهو الأذان للعيدين.
كما صرح فِي "مجموع الفتاوى" (26/172) بأنها تُجرى في التعبدات فقال بعد ذكره للقاعدة: (.. فأما ما تَرَكه من جنس العبادات مع أنه لو كان مشروعاً لفعله، أو أذن فيه ولفعله الخلفاء بعده والصحابة؛ فيجب القطع بأن فعله بدعة..).
ومتى صححت الإيرادات ببطلان هذه الجملة حداً بين السنة والبدعة؛ فرُدَّ المشتبه من كلام البشر إلى محكمات الأدلة، وصحيح التعليلات.(/8)
وقد كان اعتقادها ضابطاً صحيحاً للبدعة من أسباب التنازع والبغي والعدوان بين المختلفين؛ فالذي يستدل بها يجعل محل البدعة مضمراً في نفسه لا يعرف هو له خطاماً ولا زماماً؛ فيضطرب قوله، وتختلف أحكامه؛ فيرى منازعُه أنه يحكم على الشيء بالبدعة، ويحكم على مثله - بمقتضى القاعدة نفسها - بالسنة؛ مما يزيد غيض مخالفيه عليه، ويحصل له من ذلك التهمة بالهوى، ومجرد الخضوع لمعهود أو بيئة.
فكان تحرير مسألة ضابط البدعة وما تدخله من أهم مهمات هذا الباب؛ لما فيه من معرفة البدعة للحذر منها، وما يتضمنه أيضاً من عدم اعتقاد شيء من الدين بأنه تعبد محض، وليس هو كذلك؛ إذْ إن هذا ضرب من البدعة أيضاً.
• • • • •
الراجح بين هذه الاتجاهات:
وقد ظهر باستقراء الأدلة وكلام أهل العلم أن المحل الذي تدخله البدعة هو الذي عينت الشريعة له حدوداً بمكان أو زمان أو عدد أو اتجاه أو صفة أو حال، وكانت هذه الحدود مما لا يُعقل لها معنى على التفصيل.
وتدخل البدعة بهذا الاعتبار في أي عمل سواء أُريد به القربة؛ كالصلاة والصيام والحج والذكر والدعاء، أو لم تُرد به القربة؛ كالأعياد والطلاق وعٍٍدَد النساء.
فهذا هو المحل الذي تدخله البدعة.
كما ظهر أن الحكم بالبدعة على الشيء يدور على قواعد ثلاث:
القاعدة الأولى: أن كل تغيير في ذلك المحدود بالزيادة أو النقص أو الصفة أو إبدال المكان أو الزمان أو الموضع أو الحال على وجه لم يأذن به الله كله بدعة في الدين.
القاعدة الثانية: أن نية التعبد المحض في فعل وترك الأمور العادية على وجه لم ترد به الشريعة تحيل العمل والترك إلى عبادة محضة؛ فيصير بدعة.
وذلك كالتعبد بلبس نوع معين من الثياب، وإطلاق شعر الرأس والشارب شعثاً، والتعرض للشمس، والمشي إلى الحج مع توفر مراكب سريعة بلا كلفة، والتغني بالقصائد تعبداً.(/9)
هذا في الأفعال، ومثله في التروك، وذلك بأن يترك المسلم الشيء تعبداً؛ كترك الماء البارد وجميل الثياب التي لا إسراف فيها تقرباً إلى الله وابتغاء الأجر. أما تركها لمعارض أرجح؛ كالسرف في تبريد الماء، أو في تحصيل جميل الثياب؛ فهو مباح أو مستحب؛ لأجل عقل المعنى، ولهذا وصف العلماء الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه لا يرد موجوداً، ولا يتكلف مفقوداً.
القاعدة الثالثة: مضاهاة المكلف للتعبدات المحضة.
ويجري حكم البدعة بمضاهاة التعبدات في صورتين:
الصورة الأولى: تخصيص العبادة المحضة، أو تقييدها بمكان أو زمان أو حال أو صفة؛ سواء كان ذلك باعتقاد المشروعية على الوجه الخاص أو المقيد، أو أن يقع هذا التخصيص أو التقييد بمحض العادة، ومطلق المداومة.
والصورة الثانية: تخصيص العادات بمحدودات من مكان أو زمان أو حال أو صفة لا يُعقل لهذه المحدودات معنى على التفصيل؛ ولو لم يُرد بها القربة لله أو للبشر؛ كضرب المكوس والوظائف على الدوام، وتنكيس العلم أو الصمت حداداً، وزيارة نصب الجندي المجهول، والأعياد القومية.
أدلة ضابط ما تدخله البدعة وقواعد الابتداع:
وقبل أن نستدل لما رُجح هنا فيحسن أن نتأمل مصطلح "التعبد" عند العلماء؛ فهو مهم لفهم كثير من مسائل الباب؛ حيث تجده يُطلق، ويراد بها معان ثلاثة:
المعنى الأول: ما لم يُعقل له معنى على التفصيل من القربات المحضة التي لا تصرف إلا لله؛ كالصلاة والحج والصوم، وأنواع الذكر مطلقاً ومقيداً؛ فهذا تدخله البدعة؛ إذا وجد تغيير في بنية العبادة أو مكانها أو زمانها، ولا ينبغي أن يكون في ذلك خلاف.
ويدخل في هذا المعنى كل ما حدته الشريعة بحدود زمانية أو مكانية وأحوال مخصوصة لا يُعقل لحدودها معنى على التفصيل؛ كَعِدَد النساء، والأعياد، والطلاق.(/10)
المعنى الثاني: ما لم يُعقل له معنى في أصل شرعه في المعاملات، وهو ما اصطلح الأصوليون عليه بأنه المعدول به عن سَنَن القياس؛ كالنهي عن تلقي الركبان عند من يراه تعبداً لا يُعقل معناه: هل هو لحظ الجالب، أو هو لحظ أهل البلد حماية لهم من احتكار المتلقي أو رفعه الأسعار ؟ فلتزاحم الأوصاف التي يُحتمل تأثيرها امتنع القياس؛ فصار عند البعض تعبدياً، وكالنهي عن بيع الطعام قبل قبضه، وكالشفعة واللعان والعرايا عند من يرى امتناع القياس في هذا النوع من المعاملات؛ فلامتناع القياس سماه تعبداً؛ أي لا علة له.
وهذا المعنى لا تدخله البدعة؛ لعدم وجود مقدر ومحدود من زمان أو مكان أو صفة أو عدد؛ لأن إلحاق حكم البدعة لا يُتصور إلا بتغيير في محدود، ولا يوجد في هذا النوع شيء من ذلك؛ فالتعبد هنا إنما اعتبر في أصل شرع الحكم؛ لا في تفاصيله.
وآثار وصف "التعبد" هنا هي: منع إجراء القياس، لعدم وجود ركنه وهو العلة، أما الأحكام المعللة فهي التي تُعدى فيها العلة إلى الفرع محل النزاع؛ فالتعبدي هنا ثابت، والمعلل عرضة للتغير.
وانظر في منع القياس في التعبدات "المجموع" (3/342) للنووي، و"الاعتصام" (2/62) للشاطبي.
ومن آثار التعبدية هنا أيضاً: اعتبار الحكم الوضعي بالفساد بمجرد المخالفة؛ لعدم معرفة العلة التي يُعرف بها فساد الشيء وصحته.
ومعقول المعنى على التفصيل يُخرج معقول المعنى على الإجمال؛ فجميع الشرائع الربانية أريد بها مصالح العباد في الدين والدنيا؛ فهذا معنى إجمالي، ولكن تفاصيل الأحكام التعبدية؛ من الأعداد والأمكنة والأزمنة غير معقولة المعنى على التفصيل.(/11)
والمعنى الثالث للتعبد: هو المعنى العام للعبادة، والذي عرفه بعض العلماء بأنه: كل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة؛ فيدخل فِي ذلك الأعمال الصالحة التي شرعت فِي نفسها لتحصيل مقاصدها الشرعية على وجه الاستحباب أو الوجوب، ويُقصد منها آثارها الحسنة، وكذلك ما يترتب عليها من الثواب؛ كحسن الخلق وصلة الرحم وإغاثة الملهوف ونصرة المظلوم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتعليم العلم والدعوة إلى الله تعالى، وكالنفقة على العيال وطلب الرزق بنية الاستغناء به عن الناس، وكذلك الأكل والشرب والنوم بنية الاستعانة على الطاعة، أو الجماع بنية العفاف والولد، ونحو ذلك.
فهذا لا تدخله البدعة بلا خلاف أعلمه إلا بنية التعبد، أو حصول المضاهاة.
• • • • •
وإذا أردنا أن نلج إلى الأدلة فلنبدأ بضابط محل البدعة؛ حيث دل لصحته أن النصوص التي جاءت بها الشريعة في ذم البدعة بينت ذلك بطرق عديدة منها: الإحداث في "أمر الدين" في قوله صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" متفق عليه من حديث عائشة. ومنها: التحذير من محدثات الأمور في قوله صلى الله عليه وسلم: "وإياكم ومحدثات الأمور" رواه أحمد من حديث العرباض بن سارية.
فما هو الدين أو الأمر الذي نُهينا عن الإحداث فيه؟
فإن قيل: هو كل ما يباشره المرء في حياته من عادة ومعاملة ومأكل ومشرب وملبس ومركب ومسكن، وغيرها من أمور المعاش - لأنها محكومة بالدين - فإن من لازم ذلك إجراء حكم البدعة فيما اتفقت الأمة على عدم دخولها فيه مما ذُكرت أمثلته من العادات والمعاملات، وهذا باطل؛ فلم يبق من الدين الذي تدخله البدعة إلا ما حدته الشريعة بعدد أو صفة أو مكان أو زمان؛ لأنه هو الدين المُنَزَّل يقيناً.(/12)
ولك أن تقول بعبارة أخرى: إن لك التصرف في كل شيء - بمقتضى أصل الإباحة - من العادات والمعاملات والوسائل حتى تجد حدوداً وضعتها الشريعة؛ فهاهنا يكون الدين الذي منعنا من التصرف فيه، أو التغيير في محدوداته؛ ويُسمى هذا التغيير وذلك التصرف بدعة في الدين.
وهذا - كما ترى - سهلُ المدرك واضحُ التطبيق.
وكان من طريقة العلماء أنهم لم يجروا البدعة في عادة أو معاملة، وأجروها في جميع المحدودات التعبدية:
أما العبادات المحضة التي يراد بها القربة؛ كالصلاة والصيام والحج فالأمر فيها ظاهر، وأحكامهم فيها معلومة.
وأما ما سواها من المقدرات والمحدودات؛ فمنها:
1. الأعياد الزمانية؛ حيث قال العلماء بأن الأعياد المحدثة بدع مذمومة؛ كعيد المولد، والأعياد القومية؛ كالثورة والاستقلال، والأعياد التاريخية مما له أصول دينية، أو لم يكن؛ كالنيروز وشم النسيم.
ومن المعلوم أن العيد الزائد عن الأعياد الشرعية ليس عبادة محضة، وإنما وجدت البدعة فيه لكون الأعياد قد حُصرت في عيدين فقط؛ فالزيادة عليهما حدث.
2. نكاح التحليل؛ كما قال بذلك الشاطبي في "الموافقات" (2/290) أقول: وأقرب تعليل لذلك ما يتضمنه التحليل من تعطيل مقاصد الشريعة في المحدودات، وهي الطلاق الثلاث في أحوال مخصوصة وأعداد مقدرة، وآثارها من البينونة الكبرى، ويكون هذا التعطيل بمنع وقوعها على الوجه الذي حدته الشريعة.
3. إيقاع الطلاق الثلاث جملة؛ كما في "المبسوط" للسرخسي (6/4).
4. إيقاع الطلاق في الحيض الذي وقع على خلاف الحال الذي حددته الشريعة، رغم تجرده من معنى القربة؛ فسموه طلاق بدعة، وهذا محل اتفاق في كتب المذاهب الأربعة، وغيرها.
5. عدة المتوفى عنها زوجها، وانظر "الموافقات" للشاطبي (2/213).(/13)
وقد ذهب إلى اعتبار عدم معقولية المعنى لجريان حكم البدعة الإمام الشاطبي رحمه الله؛ فقال في "الموافقات" (2/222): (.. التعبد راجع إلى عدم معقولية المعنى، وبحيث لا يصح إجراء القياس، وإذا لم يعقل معناه دل على أن قصد الشارع فِي الوقوف عند ما حدّه لا يتعدى..).
وقال رحمه الله: (.. لأن ما لا يعقل معناه على التفصيل من المأمور به أو المنهي عنه؛ فهو المراد بالتعبدي، وما عقل معناه وعرفت مصلحته أو مفسدته فهو المراد بالعادي).
وقال في "الاعتصام" (1/347): (فإن كان مقيداً بالتعبد الذي لا يعقل معناه فلا يصح أن يُعمل به إلا على ذلك الوجه).
وفي "الشرح الكبير" (1/672) قال الدردير رحمه الله: (.. إن الشارع إذا حدد شيئاً كان ما زاد عليه بدعة).
• • • • •
والدليل على أثر النية في تحويل الفعل والترك العاديين إلى عبادة محضة قوله: "إنما الأعمال بالنيات" متفق عليه من حديث عمر بن الخطاب.
• • • • •
وأما تحقق وصف البدعة بالمضاهاة في التخصيص والتقييد أو بمجرد الإلف والعادة؛ فيُقال في تعليل ذلك: إن سمات التعبد المحض هي قصد الشريعة في العمل المعين أن يؤتى به على الوجه المعين، وأن أظهر سمات العبادات المحضة اعتبار محدودات منها:
1. مواضع معينة محددة من الجسم؛ كأعضاء الوضوء.
2. المكان؛ كما في الحج، وهو من أبرز سمات المناسك.
3. الزمان؛ كما في مواقيت الصلاة والصيام والحج.
4. الهيئة أو الصفة؛ كما في الصلاة.
5. الاجتماع؛ لصلاة الجمعة والعيدين؛ فلا تصحان إلا بالاجتماع، وبالحركة الموحدة في الأركان، وبالصوت الواحد في التأمين، وقد شُرع لضبطها وجود إمام للمصلين.
6. التكرار والمداومة؛ لمعنى التعبد، وتحصيل الأجر.
7. الاتجاهات؛ كما في القبلة في الصلاة والطواف في المناسك.
8. الأعداد والمقادير؛ كما هو في جميع التعبدات المحضة من الصلاة والصيام والزكاة والحج والطلاق وعدد النساء.(/14)
ولو تأملت في الجامع لهذه السمات في التشريع رأيته ضرباً من التخصيص والتقييد بهذه السمات أو بعضها دون معنى معقول على التفصيل؛ فقصد المكلف في العبادات إلى خصوصٍ أو تقييدٍ لم تدل عليه الشريعة هو ضرب من مضاهاة الشريعة في سنها للأحكام التعبدية؛ فيكون فعلها على هذا الوجه المعين ضرباً من البدع.
وذلك مثل الذكر جماعة بصوت واحد، وتخصيص ليلة النصف من شعبان بقيام من بين الليالي، وتحرى الدعاء الذي لله عند قبر من القبور، أو عند باب المسجد إذا هم بسفر، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند تناول البخور، والتعوذ عند التثاؤب، والمداومة في خطبة الجمعة على قراءة آية: "إن الله يأمر بالعدل والإحسان.." الآية، أو التزام خطيب الجمعة أمر الناس بالاستغفار نهاية الخطبة الأولى.
وكل هذه الأمثلة يُمكن أن يستدل لها صاحب البدعة بدليل عام أو مطلق.
وأظهر تعليل على أن العمومات والمطلقات لا تصح دليلاً على الصفات المخصوصات والمقيدات هو أنه يلزم من ذلك أن تُحدث صلاة سادسة على صفة صلاة الفجر أو المغرب يجتمع لها الناس ضحى ويؤدونها جماعة في المسجد، ويُستدل لها بمطلق الأمر بالصلاة أو الأمر بعبادة الله، وبمشروعية الجماعة للنوافل، وهذه الأدلة العامة أو المطلقة هي نفسها التي استدل بها المبتدع في الأمثلة المذكورة قريباً.
وقد أشار إلى هذا اللازم الإمام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (1/132).
فعلى هذا: إما أن يكون استدلال المبتدع بالمطلق والعام لاعتبار الصلاة السادسة صحيحاً، أو أن يكون استدلالنا بها لتصحيح ما ذُكر في هذه الأمثلة باطلاً؛ فلا مناص من أحد الأمرين إلا طريقة ثالثة وهي سنة المتبعين: أن الاستدلال بالعمومات على الصفات المخصوصات كله باطل، وما ينتجه هذا الاستدلال من صفات مركبة جميعه بدعة في الدين، حتى ولو كان كل واحد من هذه الصفات مشروعاً على الانفراد.(/15)
وقد قرر هذه القاعدة جمع من الأئمة منهم الإمام ابن دقيق العيد في كلامه عن دلالة العام على الخاص؛ فقال في "إحكام الأحكام" (1/200و201): (.. إن هذه الخصوصيات بالوقت أو بالحال والهيئة، والفعل المخصوص: يحتاج إلى دليل خاص يقتضي استحبابه بخصوصه..).
ورجح رحمه الله أن طلب الدليل الخاص على الشيء المخصوص أصح من إدراج الشيء المخصوص تحت العمومات، ثم استدل بطريقة السلف حين حكموا بالبدعة على أعمال؛ لأنه لم يثبت عندهم فيها دليل، ولم يروا إدراجها تحت العمومات.
وقال الإمام الشاطبي فِي تقرير هذه القاعدة: (ومن البدع الإضافية التي تقرب من الحقيقة: أن يكون أصل العبادة مشروعاً إلا أنها تخرج عن أصل شرعيتها بغير دليل توهماً أنها باقية على أصلها تحت مقتضى الدليل، وذلك بأن يُقيّد إطلاقها بالرأي..). انظر "الموافقات" (3/211) فما بعدها.
وقال في "الاعتصام": (.. فإن أتى به المكلف فِي ذلك الأمر بكيفية مخصوصة أو زمان مخصوص أو مقارناً لعبادة مخصوصة، والتزم ذلك بحيث صار مُتخيلاً أن الكيفية أو الزمان أو المكان مقصودة شرعاً من غير أن يدل الدليل عليه: كان الدليل بمعزل عن هذا المعنى المستدل عليه).
وذكر رحمه الله في "الموافقات" (3/123) جملة من نكير السلف على من داوم على بعض الأعمال دون دليل خاص، ثم قال: (.. هذا فيما لم يظهر الدوام فيه؛ فكيف مع الالتزام ؟ والأحاديث في هذا والأخبار كثيرة، جميعها يدل على أن التزام الخصوصات في الأوامر المطلقات مفتقر إلى دليل، وإلا كان قولاً بالرأي واستناناً بغير مشروع، وهذه الفائدة أنبنت على هذه المسألة؛ مع مسألة أن الأمر بالمطلق لا يستلزم الأمر بالمقيد).(/16)
وهذا هو رأي الإمام السبكي فقد ذكر ذلك العلامة ابن حجر الهيتمي في "فتاواه" (2/80) في كلامه على تخصيص ليلة النصف من شعبان بالقيام حيث قال: إن ذلك بدعة، ونقل عن السبكي تقريره بأن ما لم يرد فيه إلا مطلق طلب الصلاة، وأنها خير موضوع فلا يطلب منه شيء بخصوصه؛ فمتى خَصَّ شيئاً منه بزمان أو مكان أو نحو ذلك دخل في قسم البدعة، هذا ملخص كلامه رحمه الله.
وعبر الإمام ابن تيمية عن هذه القاعدة بقوله: (شرع الله ورسوله للعمل بوصف العموم والإطلاق لا يقتضي أن يكون مشروعاً بوصف الخصوص والتقييد؛ فإن العام والمطلق لا يدل على ما يختص بعض أفراده ويقيد بعضها؛ فلا يقتضي أن يكون ذلك الخصوص والتقييد مشروعاً ولا مأموراً به).
وتقع المضاهاة بالمداومة على الفعل أو التزامه دون دليل خاص على ذلك، وهو من التخصيص والتقييد غير المشروع؛ لعدم الدليل على الخصوص.
قال الإمام الشاطبي في "الاعتصام" (1/345) فِي أنواع المداومات: (.. ووجه دخول الابتداع هنا أن كل ما واظب عليه رسول الله من النوافل وأظهره فِي الجماعات، فهو سنة، فالعمل بالنافلة التي ليست بسنة عن طريق العمل بالسنة إخراج للنافلة من مكانها المخصوص بها شرعاً..).
ويرى رحمه الله أن العبد إذا خص يوماً للصيام مثلاً كالجمعة بعينه، أو أياما من الشهر بأعيانها لا من جهة ما عينه الشارع فإن ذلك ظاهر بأنه من جهة اختيار المكلف؛ كيوم الأربعاء مثلاً فِي الجمعة والسابع والثامن فِي الشهر، وما أشبه ذلك، وأنه إذا قيل له: لم خصصت تلك الأيام دون غيرها لم يكن له بذلك حجة غير التصميم، أو يقول: إن الشيخ الفلاني مات فيه، أو ما أشبه ذلك. ويرى أن هذا رأيٌ محض بغير دليل ضاهي به تخصيص الشارع أياما بأعيانها دون غيرها؛ فصار التخصيص من المكلف بدعة؛ إذ هي تشريع بغير مستند، هذا ملخص ما ذكره في "الاعتصام"(2/ 12).(/17)
وقال العلامة الدسوقي في "الحاشية" (1/317) (.. لا تصلى النافلة جماعة فِي مكان مشتهر ولو كانوا قلة، ولا يصلون كثرة ولو فِي مكان خفي، ولا يداوم عليها فِي سر ولا علن..).
وما ذكره العلامة الدسوقي ظاهر في الالتفات إلى خصائص التعبدات المحضة، وأن محاكاتها ضرب من الحدث والبدعة، وهذا بين؛ فلو أن الإمام قال لجماعته: لنصل نافلة العشاء جماعة لاستنكر الناس ذلك ورأوا أنه جاء ببدعة؛ رغم مشروعية النافلة، ومشروعية الجماعة فيها، ولكنها حين ضاهت المشروع مُنعت.
وقرر الإمام ابن تيمية رحمه الله؛ كما في "اقتضاء الصراط المستقيم" (ص303) أنه لا تُشرع المداومة على الجماعة في صلاة التطوع أو استماع القرآن أو ذكر الله ونحو ذلك، وأنه إذا فُعل أحياناً فهو حسن، وأن اتخاذ اجتماع راتب يتكرر بتكرر الأسابيع والشهور والأعوام غير الاجتماعات المشروعة يضاهي الاجتماعات للصلوات الخمس وللجمعة، وأن ذلك هو المبتدع المحدث، ونقل عن أحمد أنه سئل: هل يكره أن يجتمع القوم يدعون الله، ويرفعون أيديهم ؟ فقال: ما أكره للإخوان إذا لم يجتمعوا على عمد، وبنى هذا على: (.. أن العبادات المشروعة التي تتكرر بتكرر الأوقات حتى تصير سنناً ومواسم: قد شرع الله منها ما فيه كفاية للعباد؛ فإذا أُحدث اجتماع زائد على هذه الاجتماعات يعتاد: كان ذلك مضاهاة لما شرعه الله وسنه..).
إلى أن قال رحمه الله: (.. وكذلك تطوع القراءة والذكر والدعاء جماعة وفرادى. وتطوع قصد بعض المشاهد، ونحو ذلك كله من نوع واحد: يفرق بين الكثير الظاهر منه والقليل الخفي والمعتاد وغير المعتاد، وكذلك كل ما كان مشروع الجنس لكن البدعة اتخاذه عادة..).
وقرر في ذلك قاعدة بقوله في "مجموع الفتاوى" (20/197): (مضاهاة غير المسنون بالمسنون بدعة).
وانظر المرجع السابق (1/132).
المضاهاة في العادات:(/18)
التعبد - وهو الأمر بما لا يُعقل معناه على التفصيل - حق لله وحده، وإذا أوقع أحدٌ الفعل أو القول على هذا الوجه التعبدي، وجعلهما في عادة فقد اخترع عبادة جديدة وصرفها لغير الله، ومن هنا استحقت وصف البدعة؛ لأنه تشريع فهو من أعظم البدع.
فإحداث التعبد و صرفه لله بدعة عظيمة؛ فإن صُرف لغير الله كان أشنع وأشد.
وإذا أردنا أن نتصور هذه المسألة فلنضرب لها مثالاً: فلو أن أحداً أراد أن يُعظِّم أباه فكان عند استيقاظه يقف صامتاً متوجهاً إلى منزل والده، وهو مع ذلك يتمتم ببيت معين من الشعر، ويحرك يديه بطريقة معينة يداوم عليها؛ فإذا سئل عن ذلك قال: هذه مجرد عادة لا مدخل فيها لبدعة، ولي أن أعظم والدي بأي طريقة أراها!
فماذا نحن قائلون؟ لا ريب أن حكم كل من رآه أن يقول: إن هذا الفعل يشبه العبادة المشروعة، ومن هنا كان السلوك بالعادات مسلك التعبدات بدعة محرمة.
ولا يؤثر في الحكم أن تكون السمات التعبدية واحدة أو مجموعة؛ فإن كانت مجموعة؛ - كالذي قلنا في مثال تعظيم الوالد - كان أظهر في معنى الحدث، وإن كانت سمة واحدة فهي داخلة في دائرة التعبد؛ فكان ذلك من البدع.
إن الأشياء التعبدية المحضة التي لا يُعقل معناها على التفصيل لا تكون إلا من الله ولا تُصرف إلا إليه؛ ولهذا يصدق عليها اسم البدعة في الحالين.(/19)
قال الشاطبي في "الاعتصام" (2/80) بعد ذكره وضع المكوس في معاملات الناس بأن ذلك قد يكون على قصد حجر التصرفات وقتاً ما، أو لنيل حطام الدنيا؛ كعمل الغاصبين (.. أو يكون على قصد وضعه على الناس كالدِّين الموضوع، والأمر المحتوم عليهم دائماً، أو في أوقات محدودة علي كيفيات مضروبة بحيث تضاهى المشروع الدائم الذي يُحمل عليه العامة ويؤخذون به، وتوجه على الممتنع منه العقوبة؛ كما في أخذ زكاة المواشي... فأما الثاني فظاهر أنه بدعة إذ هو تشريع زائد، وإلزام للمكلفين يضاهي إلزامهم الزكاة المفروضة... فمن هذه الجهة يصير بدعة بلا شك؛ لأنه شرع مستدرك.. فتصير المكوس على هذا الفرض لها نظران: نظر من جهة كونها محرمة.. ونظر من جهة كونها اختراعاً لتشريع يؤخذ به الناس إلى الموت [أي دائماً]؛ كما يؤخذون بسائر التكاليف؛ فاجتمع فيها نهيان: نهىٌ عن المعصية، ونهى عن البدعة، وليس ذلك موجوداً في البدع في القسم الأول، وإنما يوجد به النهي من جهة كونه تشريعاً موضوعاً على الناس أمر وجوب أو ندب، إذ ليس فيه جهة أخرى يكون بها معصية؛ بل نفس التشريع هو نفس الممنوع).
بين البدعة والمعصية:
فإن قيل: إن المعصية بترك الواجب وفعل المحرم إيقاع للشيء على غير الوجه الذي أرادته الشريعة فلم لم تُدخل في البدع؟
فالجواب: أن هذا الإيراد من أسهل مسائل هذا الباب؛ وذلك للاتفاق على أن ترك الواجب، وفعل المحرم عزيمة لا خيرة فيها للمكلف؛ كوجوب الترك لما نتفق على كونه بدعة، بخلاف مسائل البدع الأخرى فالخلاف واقع في جواز الفعل.
وغاية ما يريده الباحثون في موضوع البدعة هو الوصول إلى صدق اسم البدعة ليُوصل به إلى حكم المنع، والمنع في المعصية متحقق باتفاق؛ فلأجل ذلك كان هذا المبحث سهلاً يسيراً.(/20)
ولو قيل: إن المعصية بدعة لكان له وجه؛ لما ذُكر في هذا الإيراد؛ لكن الأظهر أنها لا توصف بذلك؛ لأن النهي عن فعل المحرم عام مطلق لم يُحدد بزمان أو مكان أو صفة، وإنما أُريد من المكلف فيه مطلق الترك، وكذلك واجب الفعل إذا كان مطلقاً.
كما أن المخالف للأمر والنهي لا توجد عنده نية التعبد بالمخالفة، ولا إيقاعها على وجه محدد، ولم يقع فيها مضاهاة لما شرعه الله.
وقد تأيد هذا الأصل بترك جماهير السلف إطلاق اسم البدعة على المعصية المجردة.
مسائل تدخلها البدعة:
إعلان شعائر الصلاة في مكبرات الصوت الخارجية:
إعلان بعض الأعمال التعبدية مقصود للشريعة؛ كإعلان الأذان؛ حيث صار شعاراً لها؛ فإن وُجد عمل تعبدي الأصل فيه عدم الإعلان فلا يجوز أن يُسلك به هذا السبيل، وتُعتبر هنا قاعدة المضاهاة؛ فلا يُشرع تعمد إعلان شعائر الصلاة في مكبرات الصوت الخارجية.
ولا مجال هنا للتعليلات العقلية؛ كقول البعض: إن هذا ينبه الغافل على أن الصلاة قد أقيمت؛ فإن هذا تعبدي، وقد وجد المقتضي لفعل مثله في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وهو إعلان الإقامة على أبواب المساجد أو أسطحها ولم يُفعل فدل على أنه غير مشروع.
والله عز وجل قد شرع الأذان لإحاطة الناس بقرب إقامة الصلاة، وشرع الإقامة لإحاطة من في المسجد بأوان الشروع فيها؛ فلا يجوز أن تراعى معاني أخرى لم تقصدها الشريعة؛ فإن هذا عين الاستدراك عليها.
وإذا كان إعلان التلاوة مجردة من خلال هذه المكبرات غير مشروع، ويستنكره قلب كل من سمعه فإن إعلان شعائر الصلاة لا يختلف عن هذا.
كما أن الناس يستنكرون إعلان دعاء الأذان المشروع في المكبرات بعد أدائه، والذي حدث هو مجرد الإعلان.
ولنحذر في هذا المقام من تأثير الإلف والعادة؛ فإنها المانعة من التأمل والنظر.(/21)
ولا يسري هذا على نقل شعائر الصلاة من خلال وسائل الإعلام؛ فإن هذه الوسائل لا تُبث في أماكن عامة حتى تأخذ صفة الشعار؛ فالتحكم فيها بيد مالك الوسيلة من تلفاز أو مذياع؛ بخلاف إعلان شعائر الصلاة عبر مكبرات الصوت الخارجية فهي ظاهرة ملزمة.
وقارن في هذا بين الدعاء وشعائر الصلاة، وكلاهما تعبدي؛ فلو تم الدعاء في وسيلة إعلامية لم يظهر فيه ما يُستنكر، ولكن لو اُتخذت مكبرات المساجد الخارجية لهذا الغرض لظهرت هنا معاني الشعار ومضاهاة المشروع، وقل مثل ذلك في تلاوة القرآن تظهر شرعيتها في هذه الوسائل، ولا تظهر هذه الشرعية في إعلانها في مكبرات المساجد الخارجية.
السلام والمصافحة بعد السلام من الصلاة:
كثير من الناس يستدل لشرعية هذا العمل بعمومات النصوص، أو إطلاقاتها. والناس فِي هذه المسألة طرفان ووسط:
فمنهم من يستحب المصافحة بعد الصلاة مباشرة وقبل أداء الأذكار الواردة، حتى وإن كان قد سلّم على صاحبه قبل الصلاة، ولم يفصل بينهما إلا أداؤها، وتراه يداوم على ذلك؛ فهذا قد اعتقد الخصوص أو التقييد بغير دليل، وخالف بذلك القاعدة؛ لأنه لا معنى يفهم من ذلك إلا أن السلام مستحب بذاته بعد الصلاة مباشرة.
ومنهم من لا يسلم على من جاوره مطلقاً خشيةً من وقوعه فِي البدعة - على حد زعمه - فيثير الوحشة مع إخوانه المسلمين من غير مستند.
ومنهم وسط متبع للشريعة مؤد للحقوق؛ فإن كان قد سلم على صاحبه قبل الصلاة، ولم يفصل بينهما إلا الصلاة فإنه لا يُعيد السلام؛ لأن الصلاة لا تعتبر فِي الشريعة فاصلاً، ولأنه لا يتمحض من هذا السلام إلا اعتقاد استحباب السلام بعد الصلاة على الخصوص دون دليل خاص، وإن لم يسلم عليه قبل الصلاة؛ فسلم عليه بعد إتيانه بالأذكار المشروعة؛ فليس في فعله محظور ولا بدعة؛ بل هو مأجور مشكور، وكان بفعله هذا قد استعمل نصوص السلام على إطلاقها دون تقييد.(/22)
وممن قال بعدم مشروعية السلام بعد الصلاة عز الدين ابن عبد السلام والشاطبي وغيرهما.
وقال القرافي في "الفروق" (4/253): (.. ما يفعله أهل الزمان من المصافحة عند الفراغ من الصلاة بدعة غير مشروعة، وكان الشيخ عز الدين بن عبد السلام ينهى عنه، وينكره على فاعله).
دعاء ختم القرآن:
الأظهر أن دعاء ختم القرآن غير مشروع لا في الصلاة ولا خارجها، وهذا هو مذهب مالك رحمه الله؛ ففي "المدخل" لابن الحاج (2/299) أنه قال حين سئل عنه: (ما سمعت أنه يدعو عند ختم القرآن، وما هو من عمل الناس).
ودليل ذلك هو: عدم ثبوت فعله ولا إقراره عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يُقال: ربما فعله أو أقره ولم يُنقل؛ فالجواب أن ترك النبي صلى الله عليه وسلم للشيء التعبدي مع وجود المقتضي لفعله وانتفاء المانع من الفعل، وكون هذا الشيء مما تتوافر الهمم والدواعي على نقله فإن تركه، وعدم نقل فعله والحال هذه كالنص من الشارع على النهي عنه، أو الحكم عليه منه بأنه بدعة.
ودعاء ختم القرآن من هذا الجنس؛ إذْ يستحيل أو يكاد أن يفعله النبي صلى الله عليه وسلم ثم لا يُنقل، وقد نُقل عمن هو دونه، وهو أنس رضي الله عنه.
وأما فعل أنس رضي الله عنه فلا يدل على مشروعيته؛ فقد ترك المحققون من العلماء أفعال الصحابة أو أقوالهم إذا لم يكن عليها ظاهر هدي النبي صلى الله عليه وسلم قولاً أو فعلاً أو تركاً.
فمن ذلك: غرس الجريد على القبر؛ حيث ثبتت الوصية بذلك عن بريدة بن الحصيب رضي الله عنه.
ومن ذلك التعريف فِي الأمصار، وهو الاجتماع للدعاء فِي المساجد يوم عرفة من غير الحجاج؛ حيث ثبت فعل ابن عباس رضي الله عنه ما له.(/23)
ومن ذلك تعليق التمائم من القرآن والسنة؛ فقد ثبت في مسند أحمد وسنن أبي داود عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه ما في ذكر الفزع عند النوم وهو: "بسم الله أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه وشر عباده، ومن همزات الشياطين وأن يحضرون" أنه كان يعلمهن من عقل من بنيه، ومن لم يعقل كتبه فأعلقه عليه.
ومن ذلك قصد الصلاة في مواضع صلاة النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث ثبت عن ابن عمر رضي الله عنه ما أنه كان يتتبعها.
ومن ذلك الزيادة فِي الوضوء على أعضائه؛ كغسل العضد إلى الكتف مع اليد، والساق إلى الركبة مع الرِجْل؛ فقد ثبت عن أبي هريرة أنه كان يفعل ذلك.
وكل هذه المسائل لم يرها كثير من العلماء أعمالاً مشروعة يُستحب فعلها؛ بل نهوا عنها، وسماها كثيرون باسم البدعة.
قال الإمام ابن تيمية فِي "مجموع الفتاوى" (1/279) فِي معرض كلامه عن التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم: (.. ومثل هذا لا تثبت به شريعة؛ كسائر ما يُنقل عن آحاد الصحابة فِي جنس العبادات أو الإباحات أو الإيجابات أو التحريمات؛ إذا لم يوافقه غيره من الصحابة عليه - وكان ما يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم يخالفه لا يوافقه - لم يكن فعله سنة يجب على المسلمين اتباعها؛ بل غايته أن يكون ذلك مما يسوغ فيه الاجتهاد، ومما تنازعت فيه الأمة؛ فيجب رده إلى الله والرسول).
وقد ساق في "مجموع الفتاوى" (1/279) كلاماً مطولاً قرر فيه أن اجتهاد الصحابي لا يكون حجة إذا خالف جمهورهم، وضرب لذلك أمثلة، ثم قال رحمه الله: (.. ولا يقول عالم بالسنة: إن هذه سنة مشروعة للمسلمين. فإن ذلك إنما يقال فيما شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ ليس لغيره أن يسن، ولا أن يشرع).(/24)
وجاء فِي "المدخل" لابن الحاج: (3/280) نقلاً عن الطرطوشي قوله عن غرس الجريد على القبر: (.. وما نُقل عن واحد من الصحابة رضي الله عنه م؛ فلم يصحبه عمل باقيهم رضي الله تعالى عنهم؛ إذ لو فهموا ذلك لبادروا بأجمعهم إليه، وكانوا من أحرص الناس على الخير).
ودعاء ختم القرآن من جنس اجتهادات الصحابة المذكورة: فَعَلها آحاد الصحابة وخالفت الهدي التركي الظاهر للنبي صلى الله عليه وسلم، كما خالفت الهدي التركي لجملة الصحابة؛ فلا يعد مشروعاً.
وتأمل في غرس الجريد على القبر حيث اجتمع فيه فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع عدم وجود نهي صريح منه، وانضم إليه فعل صحابي على وفقه، ولم يُنقل عن أحد من الصحابة نهي عنه، وعلى مشروعيته نصوص جمع من علماء المذاهب الأربعة، ومع ذلك عَدَّه بعض العلماء غير مشروع، وبعضهم صرح بكونه بدعة؛ لكون عمل السلف لم يجر عليه، وهذا أصح. ولكن لماذا لم تُجر القاعدة ويُسحب الحكم على ما هو أولى من هذا: دعاء الختم الذي لم يثبت به أثر عنه ولا قول ولا عمل عن جمهور الصحابة رضي الله عنهم؟
ومما يدل على عدم جريان عمل بقية الصحابة على ذلك هو ترك أهل المدينة له؛ كما حكاه عنهم الإمام مالك وهو من كبار تابعي التابعين؛ فلا يُظن أن يكون الدعاء سنة مشروعة ثم لا يفعله الصحابة، ولا ينقله عنهم التابعون حتى يكون هدياً ظاهراً، وسنة متبعة.
أما جعله في الصلاة في قيام رمضان أو غيره، فهو أشد في معنى الحدث والبدعة؛ لأن الدعاء في نفسه تعبد محض، وقد وضعوه في تعبد محض وهو الصلاة، وكان فيها أغلظ؛ لأنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد من صحابته الكرام، وتعظم المفسدة إذا وضع في ليلة معينة، وخُص بالمداومة على كونه في القيام الأول دون الآخر؛ مما يضيف إليه بدعة العيد الزماني، وهو ما يعود كل سنة.(/25)
وتأمل مرة أخرى في حال مؤذن جهر بعد أذانه بدعاء الأذان الوارد: "اللهم رب هذه الدعوة التامة.. " في مكبرات الصوت بنفس لحن الأذان لقيل عن عمله: إنه بدعة، وصار هو مبتدعاً، رغم كونه خارج الصلاة، ورغم أن محله بعد انتهاء الأذان، والدعاء نفسه مشروع بخصوصه في هذا الموضع؛ فكيف تكون الحال في دعاء الختم وهو غير مشروع في أصله وقد أدخل في الصلاة؟
وكثيراً ما نقول للناس عن بعض المحدثات إنها بدعة، وكان من حجتنا على أصحابها أن نقول: لم يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم ولا الصحابة، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.
وهذا لم يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم ولا الصحابة؛ فلم رأيناه عملاً صحيحاً ؟
وقد روى ابن عبد البر في "التمهيد" (21/242) عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال: لن يفقه الرجل كل الفقه حتى يمقت الناس كلهم في ذات اللَّه، ثم يعود إلى نفسه فيكون لها أشد مقتاً.
التزام آيات وأدعية وأذكار في أحوال معينة:
يأخذ الإلف والعادة بعض الناس إلى الظن أن ما يفعله صحيح مشروع، والواجب أن يُخضع كل ما يقوله ويفعله للسنة، وقد تقدم في قاعدة المضاهاة والتخصيص والتقييد أن البدعة تقع بمجرد المداومة للشيء التعبدي؛ ولو لم يعتقد المداوم أن ما يفعله عبادة على هذا الوجه.
فمما يكون بدعة إذا وقعت المداومة فيه أشياء، منها:
1. تبليغ المؤذن صوت الإمام:
فُعل هذا فِي عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فعله أبو بكر حين مرض الرسول صلى الله عليه وسلم فضعف صوته فبلّغه أبو بكر رضي الله عنه.
فإذا زال السبب وجب ترك هذا التبليغ.
وفي "رد المحتار" (1/476): نقلاً عن السيرة الحلبية: فِي كلامه عن تبليغ صوت الإمام من المؤذن مع بلوغه للمأمومين قال: (.. اتفق الأئمة الأربعة على أن التبليغ حينئذ بدعة منكرة.. وأما عند الاحتياج إليه فمستحب).
2. الصلاة على النبي عند استلام المبخرة:(/26)
الصلاة على النبي فِي أي حال مشروعة؛ بل هي من أفضل القربات وأجل الطاعات؛ ولكن الكلام هنا إنما هو على التخصيص؛ فقد اعتاد بعض الناس عند رؤية البخور، أو عند تناول المبخرة أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ويعللون ذلك بأنه يحب الطيب ولأن رائحته هي الطيب، ولأن ذكره من أطيب الذكر، وهذا كله صحيح، ولكن الدين ليس بالرأي كما قال علي رضي الله عنه فِي المسح على أعلى الخفين، ولو كان بالرأي لكان ذكر الله عز وجل أولى من ذكر رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لذلك لا ينبغي أن يقيد هذا الذكر إلا بما ورد.
3. التكبير الجماعي يوم العيد بصوت واحد:
جاء فِي "الحاشية" للعدوي (1/394): (.. ويُكبِّر كل واحد وحده فِي الطريق وفِي المصلى ولا يكبرون جماعة؛ لأنه بدعة..).
وفِي "مواهب الجليل" (2/195): (.. ولا فرق فِي ذلك أعني فِي التكبير بين أن يكون إماماً أو مأموماً أو مؤذناً أو غيرهما؛ فإن التكبير مشروع فِي حقهم أجمعين على ما تقدم وصفه.. بخلاف ما يفعله بعض الناس اليوم؛ فكأن التكبير إنما شرع فِي حق المؤذن، فتجد المؤذنين يرفعون أصواتهم بالتكبير كما تقدم، وأكثر الناس يستمعون لهم ولا يكبرون وينظرون إليهم كأن التكبير إنما شرع لهم وهذه بدعة محدثة، ثم إنهم يمشون على صوت واحد وذلك بدعة؛ لأن المشروع أن يكبر كل إنسان لنفسه، ولا يمشي على صوت غيره).
4. افتتاح الحفلات بقراءة القرآن:
أنزل الله تعالى كتابه هداية وتعبداً؛ فلا ينبغي أن يقرأ إلا على الوجه المشروع: في العام والمطلق بعمومه وإطلاقه، وفي الخاص والمقيد بما ورد نصاً بخصوصه وتقييده، وإذا عرفنا في قواعد البدعة أن ما فيه سمة التعبد المحض، وقد وجد المقتضي لفعله على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وانتفى المانع منه فإن فعله بدعة؛ فإن هذا يرد في هذه المسألة؛ فعليه فإن الأقرب هو عدم شرعيته.
5. تخصيص خطبة الجمعة بالمداومة على شيء من ذلك:(/27)
فمن ذلك الدعاء للخلفاء الراشدين، وغيرهم في خطبة الجمعة:
جاء في "الاعتصام" (1/27) للإمام الشاطبي: (.. سئل أصبغ عن دعاء الخطيب للخلفاء المتقدمين؟ فقال: هو بدعة، ولا ينبغي العمل به، وأحسنه أن يدعو للمسلمين عامة. قيل له: فدعاؤه للغزاة والمرابطين ؟ قال: ما أرى به بأسا عند الحاجة إليه، وأما أن يكون شيئاً يصمد له فِي خطبته دائماً فإني أكره ذلك).
وجاء "السنن الكبرى" للبيهقي (3/ 217) عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله أنه كتب أن لا يسمى أحد فِي الدعاء .
ومن ذلك قراءة آية: "إن الله يأمر بالعدل.." الآية.
وأمر الناس بالاستغفار نهاية الخطبة الأولى.
وقول الإمام نهاية الخطبة الثانية: فاذكروا الله الجليل يذكركم، وضجيج الناس بالتهليل.
قال أبو العباس الصاوي فِي "بلغة السالك" (1/510): (.. ومن البدع المذمومة أن يقول الخطيب فِي آخر الخطبة الأولى: ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، ثم يجلس فتسمع من الجالسين ضجة عظيمة).
وإذا أردت أن تتصور ذلك فتأمل لو أن خطيباً يعظ في غير الجمعة جاء بجميع هذه الآيات والأذكار فماذا سيقول الناس؟ لا ريب أنهم سيقولون: إنه حوَّل كلمته إلى خطبة جمعة، وما ذلك إلا لاعتقادهم أن هذه الأمور تختص بخطبتها؛ فإذا كانت مستنكرة في المواعظ فما الذي جعلها معروفة مشروعة في الجمعة؟
ولو قلت للخطيب: اجعل قولك فاذكروا الله الجليل يذكركم فِي نهاية الخطبة الأولى: لقال لك بلسان حاله أو مقاله: إنك بدلّت، والتبديل فِي الحقيقة إنما وقع منه حين التزم ما لم يرد بخصوصه.
ولو سئل بعض المداومين على مثل هذه الأعمال عن مسألة يقول فيها السائل: أريد أن أداوم على تلاوة قول الله تعالى: "إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً" أتلوها كلما تثاءبت دون اعتقاد المشروعية لخصوص هذا العمل؛ لنفر منه قلبه، ولقال بفطرية عجيبة: لا تفعل شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم.(/28)
بينما هو يلتزم كثيراً من الأذكار والدعوات دون برهان، ولا حجة إلا إلفه وعادته، حيث جعلها كالدليل عند أهل الإتباع والأثر.
الأعياد الزمانية:
الزمان والمكان ظرفان جامدان لا تعظيم لهما إلا ما عظمه الإسلام، والتفات القلب إلى تعظيم شيء منها واعتباره إما أن يكون قربة لله وضرباً من العبودية له؛ لأنه عظَّمه، أو أن يكون بعداً عنه وضرباً من عوائد الوثنية؛ فلا وسط في هذه المسائل.
وللعيد فِي اللغة وفي عرف الناس سمات عدة: من أظهرها: أنه يعود في زمن محدد. ومنها: أنه تُظهر فيه البهجة والسرور، ويكون فيه الاجتماع وأعمال الفرح؛ كالتهاني واللعب والمآكل والمشارب.
ولا عيد فِي الإسلام سوى ما شرعه الله من الأعياد، وهي: عيد الفطر وعيد الأضحى.
فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قدم رسول الله المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما فقال صلى الله عليه وسلم: ما هذان اليومان ؟ قالوا: كنا نلعب فيهما فِي الجاهلية؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله قد أبدلكم بهما خيراً منهما يوم الأضحى ويوم الفطر". رواه أبو داود في "سننه" (1/295).
وقال صلى الله عليه وسلم: "يوم الفطر ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام، وهي أيام أكل وشرب" رواه أحمد من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه.
فقوله: "أبدلكم" دليل على إبطال كل عيد وإلا لزادهم من أعياد الإسلام دون إبطال الأعياد الحالية. وقوله: "عيدنا أهل الإسلام" دليل على أن ما سواها أعياد غير أهل الإسلام.(/29)
ثم تأيدت هذه الأدلة بالهدي الظاهر للسلف؛ فلم يظهر في ديار الإسلام بعد إيقاف الأعياد السابقة، وإبدالها بأعياد الإسلام أي عيد طيلة القرون الثلاثة المفضلة تعبدية كانت أو عادية؛ وذلك رغم أن للأمم المجاورة أو المخالطة للمسلمين أعياداً تعبدية وعادية؛ يقصد منها الاحتفاء بزمان أو شخص؛ كعيد الشعانين ومولد عيسى عليه السلام للنصارى، والنيروز للمجوس وغيرها من الأعياد؛ لا سيما والأمة فِي هذه القرون كانت تأخذ الكثير من المفيد النافع من الأمم الأخرى؛ فتركها لهذه الأعياد رغم وجودها دليل على إعراضها عنها ديانة.
فصارت الأعياد الأخرى بدعة من وجهين:
الأول: أن في أعياد الإسلام سمة التعبد المحض في اختيار زمانها، والزيادةُ على تعبدي محض بدعةٌ؛ كما تقرر آنفاً في تأصيل البدعة في صدر الورقة.
الثاني: أن في الأعياد المشهورة؛ كعيد المولد والعيد القومي ضرباً من التعبد المحض في اختيار الزمان دون معنى معقول، وفي هذا مضاهاة للمشروع. يوضح هذا أنه لا معنى عقلياً لاختيار الزمان ليكون وقتاً لتعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم أو الولي أو المناسبة القومية، وحب النبي والولي من أعظم القرب، وحب الوطن والعناية به - في حدود ما أقرته الشريعة - لا تثريب فيه، ولكن ما المعنى العقلي المفهوم من قصر الاحتفاء بما ذُكر في زمان دون آخر؛ بل إن المناسبة العقلية هي في اختيار غير الزمان الذي وقع فيه الحدث الذي يراد الاحتفاء به؛ لأنه وقت نسيانه، ولأن زمان حدوثه هو: وقت تذكره؛ فالصمود إلى الزمان المعين نوع تحكم وتصميم لم يُعهد إلا من الشريعة في اختيار الأزمنة والأمكنة؛ فههنا كانت المضاهاة، وتقدم في قاعدتها ما يدل على أن ما وقعت فيه المضاهاة فهو بدعة.(/30)
وقد استدل بعضهم لتصحيح عيد المولد بما أخرجه أحمد بسند صحيح عن ابن سيرين رحمه الله قال: (نبئت أن الأنصار قبل قدوم رسول صلى الله عليه وسلم المدينة قالوا: لو نظرنا يوماً فاجتمعنا فيه فذكرنا هذا الأمر الذي أنعم الله به علينا.. وفيه أنهم اختاروا الجمعة؛ فاجتمعوا فِي بيت أبي أمامه أسعد بن زرارة؛ فذُبحت لهم شاة فكفتهم.
وقالوا بأن هذا في حقيقته احتفال بالنبي صلى الله عليه وسلم في يوم معين.
فالجواب عن ذلك بعدم التسليم أن ذلك احتفال بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولو سُلم لكان قبل شرع صلاة الجمعة وخطبتيها؛ حيث جاء فِي رواية عبدالرزاق بسند صححه ابن حجر أن ابن سيرين قال: وقبل أن تنْزل الجمعة وفيها: فأنزل الله فِي ذلك بعد: "يأيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله" الآية.
فتركهم لهذا الاجتماع على يوم محدد - بعد نزول الجمعة - دليل على عدم مشروعية أي اجتماع آخر له سمة العيد، وفيه دليل أيضاً على أنهم يعرفون مثل هذه الطرق؛ فتركوها اكتفاء بما شرعه الله يوم الجمعة من الصلاة والتذكير والوعظ في خطبتيها.
ولو قيل: إن البدعة إنما تصدق على الأعياد التعبدية دون العادية؛ وذلك لأن لأصحاب هذه الأعياد أن يقولوا: نحن لا نتعبد بها؛ بل نفعلها محبة للرسول أو الولي؛ كمحبة الوطن، ويقولون أيضاً: إن التعبد فيها إنما يُعتبر بمعناه العام الذي لا بدعة فيه؛ لا بمعناه الخاص، وإذا أجزتم لأهل الدنيا التعبير عن شعورهم بإحداث عيد لمناسبة ترابية فبالأولى أن يجوز ذلك لمعنى صحيح لا يوجد فيه تعبد محض.
فالجواب: أن هذا لا يصح؛ فإن الأعياد الشرعية ذات صفات تعبدية محضة يظهر هذا في اختيار زمانها وبعض أعمالها، وقد تقرر في التأصيل أن ما كان عبادة محضة فهو من جملة الدين المنزل الذي لا يجوز الحدث فيه بالزيادة عليه، أو النقص منه، أو التصرف في أعماله التي حدتها الشريعة.(/31)
كما أن الأعياد التي تنازع الناس فيها قد سُلك بها طريق التعبد المحض باختيار الزمان دون مناسبة عقلية؛ فكانت إقامتها على هذا الوجه من المضاهاة التي تحيل العمل العادي إلى أمر تعبدي يصدق عليه وصف البدعة.
ولا يصح أن يُقصر مناط الحكم بالمنع على التشبه بالكفار في هذه الأعياد؛ فلو صح ذلك لم تكن هذه الأعياد ممنوعة حرمة؛ لأن القاعدة في التشبه: أن ما لم يكن من خصائص مَنْ نُهينا عن التشبه بهم فلا يُعتبر تشبهاً مذموماً، وهذه الأعياد ليست من خصائص الكفار؛ بل صار يشترك فيها المسلم والكافر؛ كبعض الملابس التي كانت خاصة بهم ثم صارت مشاعة بين الأمم؛ فلم يعد لبسها تشبهاً.
فتلخص من هذا أن كل ما فيه سمات العيد المذكورة في تأصيل المسألة فهو ممنوع؛ لأن الأعياد محدودة؛ فهي من جملة الشرائع والمناهج التي لا يزاد على الوارد فيها بشيء، ولما في الأعياد المحدثة من المضاهاة المذكورة؛ فكل عيد سوى أعياد الإسلام فهي أعياد محدثة سواء أريد به القربة وتعظيم الدين؛ كعيد المولد، أو عيد الإسراء والمعراج، أو كان عيداً عادياً؛ كعيد النيروز أو عيد الجلوس أو عيد الثورة أو عيد الاستقلال وغيرها من الأعياد التاريخية والقومية والعرقية.
التزام لباس معين لأهل العلم أو الزهد:
جاءت الشريعة باللباس المعين المحدود في المناسك؛ فلا يُشرع أن يتخذ أحد لباساً يدل على معان شرعية من العلم أو الزهد والتصوف؛ فإن في ذلك مضاهاة للمشروع.
ومن المعلوم أن من مقاصد هذه الشريعة سد كل باب يؤدي إلى الرياء والسمعة.
وقد كان الداخل على النبي صلى الله عليه وسلم لا يفرق بينه وبين أصحابه لا في لباسه ولا في موضعه.
مع ما في ذلك من التشبه باليهود والنصارى الذين نهينا عن مشابهتهم؛ حيث يجعلون لباساً لعلمائهم وعبادهم.
وانظر في ذلك كلاماً نفيساً لابن الحاج في "المدخل" (1/136).(/32)
وإذا كان اللباس مجرد زينة للمناسبات والمجامع، ولا يختص به العالم والزاهد عن غيره فلا حرج فيه.
تخصيص أيام الأعياد والجُمع لزيارة المقابر:
وذلك بدعوى عموم أدلة مشروعية الزيارة مطلقة أو عامة؛ وهذا مسلك غير صحيح؛ فيجب أن تبقى على عمومها أو إطلاقها ولا تقيد أو تخص بالرأي؛ فعليه حينئذ أن يعود نفسه على زيارة المقابر حسب الاتفاق.
أما إذا كان وقت الزيارة هو وقت الفراغ أو النشاط؛ دون أن يكون الزمان مقصوداً للزائر فلا شيء فِي ذلك؛ كمن لا يجد فراغاً مطلقاً إلا يوم الخميس أو الجمعة مثلاً؛ فله أن يجعل الزيارة فِي هذا الوقت؛ لأنها صارت معقولة المعنى فلم ينطبق عليها حد البدعة.
مما لا تدخله البدعة:
كل شيء خرج عن بِنْية العمل التعبدي المحض، ولم يُغير ذلك الشيء في العبادة المحدودة بشيء يُخرجها عن المحدود في الشريعة؛ فإن التغيير في ذلك الشيء والتجديد فيه لا يُعد بدعة، وإذا كان ذلك الشيء من الوسائل؛ فإن الوسيلة لها حكم مقاصدها؛ فمرة تكون مستحبة ومرة واجبة بحسب حال المقصد أو الوسيلة.
فمن هذه الفروع:
وسائل تبليغ الدين:
كوسائل تبليغ الدعوة، ووسائل التربية التعليم، ووسائل الحسبة والطرق الإدارية لتنظيم ذلك كله، وذلك لأنها عمل منفصل عن بنية العبادة المحضة.
وإذا تأملت في هذه الوسائل رأيت أنها تقع في رتبة متأخرة عن المقاصد التعبدية المحضة، وللإيضاح فهذه مراتبها:
الأولى: العمل التعبدي.
الثانية: الدعوة إليه، التي هي عمل الداعية أو المربي أو المحتسب أو المعلم لحمل الناس على الدين.
الثالثة: وسائل عمل الداعية أو المربي أو المحتسب أو المعلم.
فهي إذا في مرتبة بعيدة عن بنية العمل التعبدي.
وقد تفنن علماء المسلمين في هذه الوسائل؛ حيث بدأ ذلك في نقط المصحف، ثم ضبطه بالشكل، ثم تحزيبه وترقيم آياته.(/33)
وكذلك ما أحدثوه من تبويب للعلم؛ فهناك الآثار والسنن والمستدركات والمسانيد على الصحابة أو التابعين أو من بعدهم، والتصنيف على أبواب الفقه.
فكل هذه وسائل إلى تعبدات، ولم يدر في ذلك بينهم خلاف ولا جدل.
وقد رأينا أنه لا مجال فيها للبدعة؛ لكونها معقولة المعنى على التفصيل.
وفي هذا المعنى يقول الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى عن تبليغ الشريعة: (.. والتبليغ كما لا يتقيد بكيفية معلومة؛ لأنه من قبيل معقول المعنى؛ فيصح بأي شيء أمكن من الحفظ والتلقين والكتابة، وكذلك لا يتقيد حفظه عن الزيغ والتحريف بكيفية دون أخرى).
الذكر بالمسبحة:
ذهب بعضهم إلى أنها بدعة؛ لعدم فعل النبي صلى الله عليه وسلم لها، وإذا أجريت هذه القاعدة في ضبط المحل وجدت أن السبحة لا تدخل في تغيير بنية العبادة بشيء، وإنما هي وسيلة إلى تحقيق المشروع في عد التسبيح، وهي معقولة المعنى على التفصيل؛ فليست إذا بدعة ولا حدثاً في الدين.
وقد ثبت نحو المسبحة في إقرار النبي صلى الله عليه وسلم للمرأة على التسبيح بالحصى أو النوى.
فعن سعد بن أبي وقاص أنه دخل مع النبي صلى الله عليه وسلم على امرأة وبين يديها نوى أو حصى تسبح به فقال: "ألا أخبرك بما هو أيسر عليك من هذا أو أفضل ؟ سبحان الله عدد ما خلق في السماء وسبحان الله عدد ما خلق في الأرض وسبحان الله عدد ما بين ذلك وسبحان الله عدد ما هو خالق والله أكبر مثل ذلك والحمد لله مثل ذلك ولا إله إلا الله مثل ذلك ولا حول ولا قوة إلا بالله مثل ذلك". رواه الترمذي وأبو داود، وسكت عنه، وصححه المنذري وابن حجر.
وبجواز التسبيح قال جمع من الأئمة؛ منهم ابن تيمية والشوكاني ومحمد بن عثيمين وغيرهم.
ومن المعلوم أن لها بعض المفاسد؛ كغيرها من الوسائل فيجب على مستعملها اجتناب المفسدة، ولا علاقة لهذه المفسدة ببدعة ولا سنة؛ فمن ذلك جعلها شعاراً للصلاح، ومجالاً للرياء، وانظر في ذلك "مجموع الفتاوى" (22/187) و(22/505).(/34)
ويُحاذر من هذه المفاسد حتى في حمل السواك وإظهاره في الجيب، وفي حمل المصحف؛ فلا زال المخلصون المخبتون يخشون إظهار ما يدل على عبادتهم.
وأما ما فعله ابن مسعود رضي الله عنه من الإنكار على قوم اجتمعوا يذكرون الله فقد تقدم الجواب عنه.
وأما ما قيل إنها في التاريخ القديم عادات هندوسية؛ فلا يؤثر في حكم الجواز؛ لأن القاعدة في التشبه: أن الشيء إذا تحول وصار عادة عند المسلمين، ولم يكن من خصائص الكفار فلا يُعد استعماله تشبهاً، ولهذا أفتى العلماء في الألبسة الحديثة بأنها جائزة وإن كان أصلها من الكفار؛ لما ذُكر من هذه القاعدة.
خطا صف الصلاة وبداية الطواف:
تحرر هنا أنها وسيلة معقولة المعنى فلا تدخلها البدعة؛ بل لها حكم مقصدها؛ فمقصدها في الصلاة مستحب فهي مستحبة.
أما خط المطاف فالأصل جوازه على هذه القاعدة إلا إنه عرض لهذا الأصل ما هو خارج عن حكم البدعة والسنة، وهي مفسدة ازدحام الناس عند بداية الطواف بما يعرقل انسيابه، ويقع به من أذية الرجال للنساء الشيء الكثير؛ فيُعتبر لهذا السبب ممنوعاً، وأما قول بعض أهل العلم بضرورة وضعه حتى مع هذه المفسدة بحجة أن الطائف قد يترك جزءاً من الطواف ففيه تكلف لا يخفى؛ إذْ إن المكلف متعبد بغلبة الظن في المحاذاة عند البداية وعند النهاية؛ فإن أمكن تحقيق الوسيلة دون مفسدة جاز ذلك؛ وإلا وجب تركها.
حفلات تكريم الطلبة:
تقام حفلات تكريم الجامعيين وطلبة حلق تحفيظ القرآن العظيم؛ فهل تُعتبر بدعة لكونها تشبه العيد ؟
ذهب إلى ذلك بعض أهل العلم، والأظهر أن ذلك مرجوح؛ لكون هذه الحفلات معقولة المعنى على التفصيل، والزمن غير معين، ولا يُقصد لذاته؛ كما هي الحال في الأعياد الشرعية وغير الشرعية؛ كاحتفالات المولد والأعياد القومية، وإنما المقصود خاتمة الفترة الدراسية؛ فلو تأخرت أو تقدمت تبعتها في ذلك.
الحداء والنشيد:(/35)
النشيد من الأمور العادية، وحتى لو قصد به ترقيق القلوب فإنه إنما يدخل في باب الوسائل التي لا مدخل فيها للبدع، ولا تنطبق عليه قواعدها، وإذا وجد فيه ذكر، أو ترديد دعاء؛ كحداء الصوفية فإنما أدركته البدعة بذلك لا لأجل كونه نشيداً.
أما ابتلي به بعض هذه الأمة من التغني بالقصائد الملحنة بنية التعبد، أو ما يُسمى بالغناء الصوفِي، وهو الذي جُعل مضاهياً للقرآن فِي أحكام التلاوة؛ فإنما حكم عليه بذلك لأجل نية التعبد المحض التي تُحيل العمل العادي إلى عبادي مبتدع، وقد حكم العلماء على مثل هذا النشيد بالبدعة لهذا السبب، وكان فيه مضاهاة المشروع في أشياء منها:
- أن المغنين يتطهرون له.
- أنهم يستنْزلون رحمة الله به؛ كحِلِق الذكر.
- دعواهم حضور الملائكة والأنبياء؛ شأن الذكر والصلوات.
- تفضيله على القرآن قولاً وفعلاً، والأمر بالإنصات عند سماعه.
وانظر تفاصيل هذا الغناء التعبدي فِي "الاعتصام" للشاطبي (2/85، 87، 93) و"مجموع الفتاوى" لابن تيمية: (3/211 – 427، 359) و (4/77) و(10/71 و76 و170 و418 و419) و (11/532و298و562 إلى641) و(22/522) و (27/229).
وأما القصائد الملحنة التي لا يُراد بِها التعبد، ولا يقارنها ما يدل على ذلك فلا ينطبق عليها حد البدعة.
وبيان ذلك أنه قد عُهد من الشريعة إباحة مثلها؛ كحداء المسافرين، وغناء العيد، وأراجيز العاملين.
وقد فرّق ابن تيمية كما في "مجموع الفتاوى" (11/558 و631) بين سماع المتقربين وسماع المتلعبين، وأن هناك فرقاً بين ما يفعله الناس لقصد اللذة واللهو، ونحو ذلك من العادات، وبين ما يُفعل لقصد العبادة والتقرب إلى الله؛ كالذي يفعله النصارى فِي كنائسهم على وجه العبادة والطاعة؛ لا على وجه اللهو واللعب.
ومثّل لذلك بجواز كشف الرأس، ولبس الإزار والرداء على وجه العادة، ومنعه إذا فعله على وجه الإحرام؛ كما يحرم الحاج.(/36)
ومثّل لذلك أيضاً بما رواه البخاري فِي "صحيحه" (6210) عن ابن عباس رضي الله عنه ما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً قائماً فِي الشمس. فقال: من هذا ؟ قالوا: هذا أبو إسرائيل يريد أن يقوم فِي الشمس ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مره فليتكلم وليستظل وليقعد وليتم صومه".
فعلق على قصة أبِي اسرائيل هذه بقوله: (.. فهذا لو فعله لراحة أو غرض مباح: لم يُنهَ عنه؛ لكن لما فعله على وجه العبادة نُهي عنه..).
ونحو ذلك تمثيله رحمه الله بحلق الرأس تعبداً، أو على وجه مباح؛ كما في "الاستقامة" (1/256).
وقد قرر فِي المرجع المذكور (1/282) فِي رده على من استدل بسماع عبدالله بن جعفر على شرعية التقرب إلى الله بالقصائد الملحنة، بأنه لا يعده ديناً.
ولا يرد على هذا أن يُقال: إن الأناشيد يراد بها مقاصد شرعية؛ كالحث على أعمال الخير وترقيق القلوب فيُقصد بها - من هذا الوجه - القربة والتعبد؛ فهي بدعة، لا يرد هذا؛ لأن هذا التعبد إنما هو بمعناه العام لا معناه الخاص؛ كما تقدم تفصيله في الأدلة، ووجه تبديع أهل السماع بقصائدهم هو وجود حقيقة التعبد بالنية، أو بما يقارنها من أحوال تعبدية محضة؛ كالتطهر لها، أو دعوى حضور الملائكة؛ وغيرها مما مر آنفاً؛ مما لا يوجد في الأناشيد موضع البحث: من نية التعبد بها، أو قرائنه.
ولا يخلو الحال في إطلاق وصف البدعة عليها من اعتبار أحد أمرين: أحدهما: التلحين، والثاني: مقصد ترقيق القلب؛ فإن قيل: إن السبب هو التلحين فيُقال: إن المواعظ يراد بها ترقيق القلوب وقد لُحِّنت؛ كما فعله بعض العلماء في خطبهم، ولم تُعتبر بدعة. وإن كان السبب في الشعر الموزون المقفى فقد قاله الصحابة وسمعه النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يُقصد به إلا الحكمة، أو ترقيق القلوب.
فظهر بذلك أن مراد العلماء هو الحكم ببدعية الحداء المقترن بقصد التعبد المحض، أو وجود صورة العبادة؛ كما تقدم.(/37)
ولكن اعترى بعض النشيد فِي الوقت الحاضر مفاسد ظاهرة؛ كتقليد المطربين الفسقة والتشبه بهم فِِِي ألحانهم وطريقة أدائهم، واستعمال الآلات المحرمة بوساطة الحاسب الآلي مع مبالغة شديدة في تحسين الصوت وتطريبه، من ذلك ما هو محرم ومنه ما هو مكروه.
كما أن الإكثار من سماع القصائد والترنم بها ملهاة عن كتاب الله قراءة وسماعاً وتدبراً، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "لأن يمتليء جوف رجل قيحاً يَرِيَه خير من أن يمتليء شعراً" رواه البخاري في "صحيحه" (5689) ومسلم في "صحيحه" (2257) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ومعنى يريه: يفسد جوفه.
وانظر كلام الشاطبي في "الاعتصام" (2 / 96، 98، 99) في النشيد المجرد الذي لا تعبد فيه، وقد قرر في هذه المواضع نفسها ما فيه من تجاوز؛ كالمبالغة في تمطيط الصوت وتحسينه.
الحاجز بين الرجال النساء في المساجد:
حيث ذهب بعضهم إلى أنه بدعة لتعلقه بعبادة، وطار بها بعض دعاة التغريب لفتح باب الاختلاط في المدارس وغيرها، والصحيح أن هذا الحاجز معقول المعنى على التفصيل، وهو وسيلة محضة، وعلى ما حُقق هنا فلا تدخله البدعة؛ بل هو من الوسائل التي تُتخذ عد الحاجة.
فإن قيل: لماذا تركه النبي صلى الله عليه وسلم مع وجود المقتضي وانتفاء المانع؛ فالجواب: أن هذه الجملة لا ترد هنا، ولا تصح ضابطاً للبدعة لما تقدم تفصيله، وإنما نشتغل بالجواب على سبيل التبرع فنقول: لعل الحاجة لم تكن داعية إلى ذلك؛ لحرص الصحابيات على الحجاب، وحرص الصحابة على غض البصر؛ فإذا كان الناس على مثل حالهم فقد يقال: لا مانع من إزالته.
وإذا رأى المحتسبون الحاجة إلى ذلك كان صحيحاً مشروعاً.
فالحاصل في موضوع هذا البحث أن لا يقال: إن هذا الحاجز بدعة.
من فروع المضاهاة في العادات:
وضع المكوس الدائمة:
عدها الشاطبي - كما تقدم - من البدع لمضاهاتها لما ضرب الله حدوده من الزكوات فِي أنواع الأموال.
زيارة نصب الجندي المجهول:(/38)
ونصب الجندي المجهول يرمز إلى الشهداء من الجنود وغيرهم، وزيارته تكون تعظيماً لهم، وتنويهاً بشأنهم.
وهذه الزيارة لا يعرف لها معنى يقصده العقلاء عادة؛ فالذي يقصدونه عادة في مثل هذا هو ذكرهم، والثناء عليهم، أو الدعاء لهم، أو نفع ذريتهم إكراماً لهم.
أما وضع النصب وتخصيصه بالزيارة، والصمت عنده دقيقة ونحو ذلك؛ ففيها مضاهاة للتعبد المشروع؛ كقصد المشاعر والمساجد؛ فصارت من البدع.
الصمت حداداً:
في بعض المجتمعات يتخذون عادة يصمت فيها المرء مدة من الزمن تكون دقيقة واحدة أو أكثر حداداً على وفاة عظيم، وهذا قد يكون فِي المجتمعات والمحافل العامة.
وهناك طريقة أخرى بأن توقف السيارات فِي المدينة وينْزل منها أصحابها فيقفون مدة معينة: دقيقة أو دقيقتين حزناً على هالك أو إحياء لذكرى هالكين، واختيار الصمت والمدة لا يعقل لها معنى على التفصيل؛ فقد دخل فِي العادي شائبة التعبد؛ فكان من البدع.
التزام مدة معينة للتفرغ الدعوة:
يلتزم بعض الناس مدة معينة للدعوة يجعلها طريقة متبعة، ويداوم عليها؛ فيحدد لذلك مدة معينة؛ كأربعة أيام أو أربعين يوماً ونحو ذلك؛ فضرب هذه الأعداد لكل شخص لكل مكان ولكل زمان لا يُعقل لذلك معنى على التفصيل مضاهاةٌ لطريقة الشارع في سن الأحكام؛ فيُعتبر بدعة.
ولو كان في هذا معنى معقول يوافق فراغ الناس؛ كشهرين؛ لأنها إجازة الموظفين، وكيومين؛ لأنها إجازة نهاية الأسبوع لم يكن في هذا محذوراً؛ لخروجه عن محل البدعة بمعقولية معناه.
وهذا مخلص لأهم ما اشتملت عليه هذه الورقة:
1. أن المحل الذي تدخله البدعة هو الذي عينت الشريعة له حدوداً بمكان أو زمان أو عدد أو اتجاه أو صفة أو حال، وكانت هذه الحدود مما لا يُعقل لها معنى على التفصيل، سواء أُريد به القربة؛ كالصلاة والصيام والحج والذكر والدعاء، أو لم تُرد به القربة؛ كالأعياد والطلاق وعٍٍدَد النساء.
2. أن الحكم بالبدعة على الشيء يدور على قواعد ثلاث:(/39)
الأولى: أن كل تغيير في ذلك المحدود بالزيادة أو النقص أو الصفة أو إبدال المكان أو الزمان أو الموضع أو الحال على وجه لم يأذن به الله كله بدعة في الدين.
الثانية: أن نية التعبد المحض في فعل وترك الأمور العادية على وجه لم ترد به الشريعة تحيل العمل والترك إلى عبادة محضة؛ فيصير بدعة.
الثالثة: مضاهاة المكلف للتعبدات المحضة.
ويجري حكم البدعة بمضاهاة التعبدات في صورتين:
الأولى: تخصيص العبادة المحضة، أو تقييدها بمكان أو زمان أو حال أو صفة؛ سواء كان ذلك باعتقاد المشروعية على الوجه الخاص أو المقيد، أو أن يقع هذا التخصيص أو التقييد بمحض العادة، ومطلق المداومة.
والثانية: تخصيص العادات بمحدودات من مكان أو زمان أو حال أو صفة لا يُعقل لهذه المحدودات معنى على التفصيل؛ ولو لم يُرد بها القربة لله أو للبشر؛ كضرب المكوس والوظائف على الدوام، وتنكيس العلم أو الصمت حداداً، وزيارة نصب الجندي المجهول، والأعياد القومية.
وقد: ذكر الدليل على كل قاعدة.
3. أن جملة: (كل ما قام المقتضي لفعله على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وانتفى المانع من القيام به ثم لم يفعل فهو بدعة) ليست قاعدة ضابطة للبدعة؛ لما ذُكر من التعليلات في هذه الورقة، وأن اعتبارها قاعدة ليست قولاً لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
4. أن المعصية لا تعد من البدع إذا لم تكن في محدود.
5. تضمنت الورقة بعض التطبيقات التي تعتبر بدعة؛ كإعلان شعائر الصلاة في مكبرات الصوت الخارجية، ودعاء ختم القرآن، والتزام آيات وأدعية وأذكار في أحوال معينة، وتبليغ المؤذن صوت الإمام، وافتتاح الحفلات بقراءة القرآن، والأعياد الزمانية بضوابطها.
6. تضمنت الورقة أن البدعة لا تدخل الوسائل؛ كالدعوة والحسبة والتعليم، والذكر بالمسبحة بشروطه، وخطي صف الصلاة وبداية الطواف، وحفلات تكريم الطلبة، والحداء والنشيد.
هذا والله أعلم، وهو الهادي إلى سواء السبيل.(/40)
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(/41)
العنوان: ضرب الزوجات .. أما لهذا الليل من آخر؟
رقم المقالة: 491
صاحب المقالة: إيمان الحلواني
-----------------------------------------
* الزوجات: مفتر ويضرب لأتفه الأسباب بلا رحمة.
* الأزواج: مستفزات.. ويزعمن أنهن الضحية.
* د.عادل المدني: العنف يظهر من الخطبة فلا تتجاهليه.
* د.هبة عيسوي: تصعيد الأمر مطلوب والتهاون مع هذا الزوج ضعف.
* د.أحمد يوسف: الإسلام بريء من العنف الزوجي ويرفضه تماماً.
* * *
"أنت متسامح إذن أنت ضعيف" هذا هو شعار زماننا الذي نعيشه الآن؛ فقد أكدت آخر إحصائية بريطانية أن هناك ألف سيدة تموت يومياً بسبب عنف الأزواج، أما ملفات الجرائم بأقسام الشرطة فهي مليئة بالعديد من النماذج، منها على سبيل المثال:
* أب تزوج عرفياً، وأنجب طفلة جميلة أتمت عامها الأول، ورفض الأب نسْبَها إليه، وتكرر مطلب الأم فانهال عليها ضرباً هي والطفلة حتى ماتا.
* الزوج الغيور طلق زوجته ثلاث مرات، وطلب منها أن تعود إليه عن طريق "محلل" ولما رفضت أطلق عليها الرصاص.
* رجل مرضت زوجته فضاق بها، ودس لها سم الفئران في الدواء فلقيت مصرعها على الفور بعد عِشْرة عمر دامت 35 عاماً.
آلام من الواقع:
ليلى.أ.ك - متزوجة منذ ثلاث سنوات - أصبحت ضيفة دائمة لمركز الشرطة بعد أن اعتاد زوجها في السنة الأخيرة من زواجهما ضربها بسبب تعرفه على أصدقاء السوء وإدمانه للمخدرات وتقول: لأننيوحيدة أمي ووالدي متوفَّى لا أجد إلا مركز الشرطة رادعاً لزوجي وفى الأغلب لا أطلب إلا استدعائه وتوجيه إنذار له دون حبسه فأنا أخشى تفكك أسرتي.(/1)
** فايزة حسين 33 عاماً تروي مأساة عاشتها طيلة 8 سنوات هي عمر زواجها فتقول: قبل الزواج كنت مثل بقية الفتيات؛ أحلم بالبيت والأولاد وحياة تظللها السعادة والمودة، لكنني ابتليت بزوج لا يعرف معنى المسؤولية وفوق ذلك فهو فَظ وجاف وغليظ القلب يسيء معاملتي ويضربني ولا يكف عن توجيه إهانات مستمرة إلي، وهو ما دفعني إلى اللجوء إلى بيت أهلي لأحتمي به من بطش زوجي، لكن أبي أيضاً كان مثقلاً بهموم إخوتي، ومن ثم كنت أضطر إلى العودة مرة أخرى حتى يئست من إصلاح حاله فرفعت علية قضية طلاق للضرر، وشهد جيراني معي، وأخذت أولادي كي نعيش في سلام وأمان بعيداً عنه.
** قصة حب رائعة جمعت بين عزة سليمان وزوجها صاحب المتجر البسيط..تقول عزة: برغم فقره إلا أنني تمسكت به، ووقفت أمام أهلي كي أتزوجه، وتصورت أنني سأعيش معه حياة سعيدة إلا أنني فوجئت بعد الزواج بإنسان شرس يضربني كل يوم عدة مرات، وهو ما سبب لي عاهات مستديمة، تصورت أنه بعد إنجاب الأطفال سيتخلص من غضبه الشديد، وطباعه الفظة، إلا أنه أصبح لا يضربني وحدي بل أولاده أيضاً، ويعاملهم بقسوة فحملت أولادي وتركت المنزل متوجهة إلى أسرته لتحميني منه، وللأسف فإنه الآن بعد مرور 12 عاماً على زواجنا لم يتغير وأعتقد أنه لن يتغير إلا أن يشاء الله.
الأزواج يختلفون:
** خالد كمال - متزوج منذ5 سنوات - يقول: لا تظنوا أن كل النساء ملائكة، وكل الرجال شياطين؛ إن المرأة دائماً تفضل أن تعيش في دور الضحية.. وإن كان صحيحاً أن الضرب يعتبر جريمة إذا كان مبرحاً، فماذا يفعل الزوج إذا لم يجد أمامه خياراً آخر لتأديب زوجته عندما تكون غير مطيعة أو منحرفة؟!(/2)
** يختلف مع هذا الرأي هاني سليم ويقول: أنا لا أقبل أبداً أن أضرب زوجتي مهما فعلت؛ فهذا لا يحدث حتى بين الحيوانات، أما التفاهم الذي أقبله فهو الإقناع، ومحاولة تقريب وجهات النظر علماً بأن زوجتي امرأة عصبية إلى أقصى حد، ومع ذلك أتحملها، وأحاول إصلاحها بالتوجيه، وتحكيم أبيها وأخيها في بعض الأحيان.
فالمرأة التي يهينها زوجها ويضربها لن تستطع أن تغفر له ما فعله بها، وستحاول الانتقام منه ولو على الأقل بأن تزرع الكراهية تجاهه في نفوس أبنائه.
** ناجى منير يروى لنا مأساة صديق له يتعرض لضرب وإهانات من زوجته فيقول: إذا كنتم تتحدثون عن ضرب الزوجات، فالزوجة في نظري الآن أصبحت جانية وليس مجنياً عليها..لي صديق يتعرض للعنف من قبل زوجته برغم أن من يتعامل معها يشعر أنها في منتهى الرقة والأنوثة لكنها عندما تنفرد بزوجها تصبح وحشاً كاسراً، وللأسف هو مضطر للإبقاء عليها لأنها اشترطت في عقد الزواج مؤخر صداق كبيراً لا يستطيع توفيره.
الدوافع والأسباب:
الدكتور عادل مدني - أستاذ الطب النفسي بجامعة الأزهر - يؤكد أن هناك أسباباً كثيرة تجعل الرجل يقدم على هذا السلوك أهمها: المفاهيم الخاطئة المتعلقة بالرجولة المسؤولة عن تصور بعض الرجال أنهم أصحاب الكلمة الأولى والأخيرة ولا مكان لرأى الزوجة، فإذا أظهرت الزوجة عدم تقبلٍ لهذه الأفكار، أو رغبت في مناقشتها، أو أظهرت رفضها لها يثور الزوج، وينفعل، ويلجأ إلى هذا الأسلوب لفرض رأيه ولو بالقوة. هذا إضافة إلى المفاهيم الخاطئة المترسخة عن الزواج بصفة عامة لدى بعض الرجال الذين يعتقدون أن الزواج يعني شراء زوجة لتقوم بدور معين سواء إعداد الوجبات وتنظيف البيت وإشباع رغباته الجنسية وتربية الأبناء..وهى نظرة خاطئة للزواج الذي يعني في مفهومه الصحيح المودة والرحمة والمشاركة بين اثنين متساوين في الحقوق والواجبات وفى الأدوار التي يؤدونها في الحياة.(/3)
ويضيف د. مدني: من الأسباب التي تدفع الرجل إلى هذه الإساءة أيضاً الإحساس بالدونية، عندما يشعر الزوج أنه أقلُّ من زوجته في الذكاء أو الإمكانات أو المكانة الاجتماعية، ويدفعه الإحساس بالنقص إلى محاولات عدل الميزان؛ فلا يجد أمامه سوى القوة الجسدية التي يمتلكها ليثبت لها أنه أقوى منها، في حين أنه - في الحقيقة - عاجزٌ عن مواصلة الحوار معها، وغير قادر على مقاومة الفكرة بالفكرة.. وهناك سبب آخر لهذا العنف يتمثل في القدوة؛ فقد ينشأ الزوج في أسرة شاهد فيها والده يمارس العنف ضد والدته؛ فالدراسات النفسية أثبتت أن الإنسان يتبع دائماً نموذجاً معيناً في حياته يكون عادة صورة من الأب، والطفل الذي يتعرض لهذا الموقف قد يكره والده، ويبدي استياءً من سلوكه.. لكن الشيء العجيب أنه عندما يكبر يكرر نفس الأسلوب.
فموضوع القدوة له دور كبير لذلك أنصح الفتاة المقبلة على الزواج أن تحاول ملاحظة أسرة العريس جيداً، لأن الاحتمال كبير أن يكرر الابن نفس سلوك الأب، ويجب أن تراعي المستوى الاجتماعي والاقتصادي والثقافي لأسرته، لأن الفروق الاجتماعية الكبيرة بين الطرفين يمكن أن تجعل الزوج يشعر بالنقص، ويلجأ إلى السلوك العنيف لتعويض هذا الشعور.(/4)
ويشير الدكتور عادل المدني إلى أن فترة الخطوبة يمكن أن توضح الكثير من شخصية الرجل وتكشف عن سمات العنف فيه فإذا وجدته يثور لأتفه الأسباب، أو ينفعل بشدة يجب عليها أن تفسخ الخطبة على الفور، لأن هذه التصرفات تعد مؤشرات قوية وأكيدة على إمكانية أن يضربها بعد ذلك.. فإذا لم تلاحظ الفتاة هذه التصرفات لسبب أو لآخر وحدث أن ضربها زوجها، فإنها هنا يجب ألا تلتزم الصمت أبداً لأن أكبر غلطة قد ترتكبها في حق نفسها أن تسكت على الإهانة؛ لأنها بذلك تثبت في ذهنه فكرة أنه يمكن له أن يملي أوامره، أو رأيه بالقوة..فيزداد إيمانه بأن الضرب هو الوسيلة التي تمكنه من إسكات زوجته، أو إجبارها على طاعته، أو إخضاعها لأوامره فيتمادى في هذا السلوك.
تؤكد الدكتورة هناء الغريبي - أستاذة علم النفس - ما قاله الدكتور مدني، وتجمل أسباب ضرب الأزواج لزوجاتهم فيما يلي:
* ضعف شخصية الزوج وعدم ثقته في نفسه، وضعف الحجة عند مناقشة المشاكل العائلية فيلجأ إلى استخدام قوته العضلية لفرض نفوذه داخل الأسرة.
* الضعف الجنسي فيعوض ذلك بضرب زوجته ليثبت فحولته.
* قد يكون مقهوراً في عمله، ويعنفه رئيسه دائماً، ولا يكف عن توجيه النقد له، وهذا ما يشعره بالإحباط وبضآلة حجمه؛ فيرد هذا القهر بطريقة عكسية على زوجته.
* الشك والغيرة فيتحول هذا الشك إلى الإصابة بالاكتئاب الذي يؤدي إلى العنف.
* إدمان الزوج للمخدرات أو الكحول تجعل أداءه يتسم بالعنف، خاصة إذا رفضت الزوجة إعطاءه النقود أو ما يريد.
* قد ترجع جذور المشكلة إلى الصغر؛ بأن يكون قد نشأ على عدوانية أبيه تجاه أمه مع ضعفها واستسلامها له، فتتكون لديه فكرة أن الرجل هو القوي الذي يقهر المرأة، ويظن هذا الضرب نوعاً من إثبات الرجولة.
تصعيد المشكلات:(/5)
وتتفق معهما الدكتورة هبة عيسوي - أستاذة الطب النفسي - في ضرورة ألا تتنازل الزوجة عن حقها إذا ضربها زوجها، وتقول: يجب على الزوجة في هذه الحالة أن تصعد الأمر؛ لأن بعض الزوجات يبتلعن الإساءة، ويبررنها لأنفسهنَّ بأفكار مثل أنه يفرغ الكبت بداخله، أو يخطأ رغماً عنه بسبب الضغوط النفسية الكبيرة التي يتعرض لها، وأنه لن يكرر هذا الخطأ، ويَلُمْنَ أنفسهن للتسبب في ثورته، لكن هذه التبريرات مرفوضة تماماً؛ فالزوجة يجب ألا تلوم نفسها في هذه الظروف، لأن كل الأمور يمكن مناقشتها بين زوجين ناضجين بالعقل والمنطق، وليس بالضرب، ويجب على الزوجة في هذه الحالة أن تقول لزوجها بصورة واضحة وصريحة أن تصرفه غير مقبول، وأنها لن تسمح له أن يمد يده عليها أبداً، وأنها لن تسكت عن هذه التصرفات، وعادة ما تجدي هذه التهديدات.. لكن إذا تكرر الأمر مرة ثانية يجب أن تصعد الأمر إلى مرحلة التهديد الصريح، فإذا كان يخشى من الفضيحة تهدده بها، وإذا كان يخشى أهله تهدده بهم، وإذا كان يخشى أهلها تهدده بهم.
وتؤكد الدكتورة هبة عيسوي أن السنة الأولى من الزواج مهمة جداً لإرساء أساسيات العلاقة الزوجية بين الطرفين؛ فإذا اكتشف الزوج أن هذا الأسلوب العنيف في معالجة الأمور مرفوض تماماً من قبل الزوجة، فإنه يتقبله، وتستمر العلاقة بينهما، وتستقيم دون شروخ، لكن إذا استمر الضرب وخضعت الزوجة لهذا السلوك العنيف لسبب أو لآخر، فإنه يترك شرخاً فظيعاً في نفسيتها، ويؤثر في العلاقة الزوجية، ويضربها في مقتل، ويصعب بعد ذلك استقامة العلاقة من جديد، وأنصح كل أم أن تربي أطفالها منذ الصغر على مبدأ العدل بين الجنسين، واحترام حقوق الآخر لكي يشبوا على هذه المبادئ، ويتبعوها في حياتهم.
حق مقيد:(/6)
الدكتور أحمد يوسف سليمان - أستاذ الشريعة الإسلامية - يؤكد أن حق الزوج في ضرب زوجته ليس حقاً مطلقاً، لكنه حق قيدته الشريعة الإسلامية بمجموعة من القيود، وهي أن يتوَخَّ الزوج نشوزها أو خروجها عن طاعته، ومن أهم مظاهر نشوز الزوجة التي تبيح الضرب شرعاً، عصيانها زوجها في الفراش، والخروج من المنزل بغير إذنهوغيرها من الأمور التي تضر بحق الزوج والأسرة، ويجب ألا يلجأ الرجل إلى الضرب إلا عندما يتأكد له عدم نفع الوعظ والهجر في المضجع؛ لأنه مأمور أولاً بنصحها وهجرها، والضرب المباح شرعاً هو الضرب الرحيم الرقيق، وليس الضرب المبرح المؤذي؛ لأن الهدف منه هو التأديب وليس التشفي والانتقام، فعندما يلجأ الزوج إلى ضرب زوجته في غير هذه الأحوال يعرض نفسه للعقوبة التعزيرية من جانب القضاء في الدنيا، وعقاب الله في الآخرة.
ضرب الزوجات في ميزان الشرع:
يقول د. أحمد: الأصل في الإسلام منع الضرب، فعلى الزوج أن يحسن عشرة زوجته فلا يهينها ولا يضربها، وقد نزلت الآية الكريمة التي تسمح بالضرب في حال ظهور بوادر النشوز، فعن حكيم بن معاوية القشيري عن أبيه أنه قال: قلت يا رسول الله: ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال: أن تطعمها إذا طَعِمْت، وتكسوها إذا اكْتَسَيت، ولا تضرب الوجه ولا تقبّح، ولا تهجر إلا في البيت، وقد فهم أهل العلم من ذلك النهي عن الضرب المبرح مطلقاً- كما ورد في أحاديث أخرى- وعدم الضرب غير المبرح إلا لسبب شرعي هو النشوز، وذلك بشرط أن يكون له فائدة، فإن كان الزوج يعلم أو يشك في أن الضرب قد يزيد من نشوزها فليس له ذلك، لأن الضرب وسيلة إلى إصلاح حالها، والوسيلة لا تشرع عند ظن عدم ترتب المقصود منها.
شروط لا بد منها:
إذا عزم الزوج على ضرب زوجته الناشز فإن للضرب شروطاً حددها ديننا الحنيف منها ما يلي:
** لا يجوز أن يخفي الضرب باعثاً آخر غير التأديب كالانتقام أو التحقير أو الضرب لمجرد الإيذاء والتشفي.(/7)
** أن يتجنب الزوج الوجه والأماكن التي تتأذى من الضرب.
** لا يجوز أن يستعمل في الضرب عصاً أو أداةً جارحة أو مؤذية.
** لا يجوز أن يقُْدِم الرجل على الضرب وهو في حالة غضب لأنه مدعاة للبطش.
** لا يجوز أن يلجأ الزوج إلى الضرب قبل القيام بالوعظ والدعوة إلى التفاهم والقول بالحسنى ثم الهجر في المضجع.
** لا يجوز إيقاع الضرب أمام الأطفال أو غير الزوجين لأنه عندئذ يصبح إهانةً وتشهيراً.
** لا يجوز أن يقترن الضرب بألفاظ السب أو الشتم أو التقبيح؛ فهذه جريمة ولا تعد من التأديب.
** على الزوج أن يعلم أنه مسؤول مسؤولية كاملة عن النتائج الضارة المترتبة على ضرب زوجته.
وأخيراً يوجه الدكتور أحمد يوسف كلامه إلى كل رجل يضرب زوجته قائلاً: لقد أسأت لنفسك، وهتكت ستر بيتك، وارتكبت خطأ جسيماً لأن الله أمرك بحسن العشرة في قوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصانا بالنساء بقوله - عليه الصلاة والسلام – ((استوصوا بالنساء خيراً فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله)). فالرجل الكريم ينظر إلى المرأة نظرة يملأها الحب والتقدير، ويستر عيوبها، ولا يفشى أسرارها ويبدي إعجابه بها، ويشكرها على ما تقدمه له من خدمة بيته، ورعاية عياله، وحفظها لماله، وعرضه، وأسراره.(/8)
العنوان: ضوابط القرض في الشريعة
رقم المقالة: 1096
صاحب المقالة: الشيخ ناصر بن محمد بن مشري الغامدي
-----------------------------------------
الخطبة الأولى
اللهم إنا نحمدك ونستعينك ونستغفرك ونتوب إليك، ونثني عليك الخير كله، نحمدك اللهم كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، لك الحمد كله، وإليك يرجع الأمر كله، لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضى، لك الحمد كالذي نقول وخيراً مما نقول، ولك الحمد كالذي تقول، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، أرسله رحمة للعالمين، وحجة على الهالكين، فصلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحبه الغر الميامين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد فيا أيها الناس:
اتقوا الله ربكم فبتقواه - سبحانه وتعالى - تزكوا النفوس، وتصلح الأحوال؛ {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} [البقرة: 197]. {وَاتقوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [البقرة: 203].
أيها المسلمون:
من محاسن شريعتنا الغراء سعيها لتحقيق مصالح العباد في أمور المعاش والمعاد، وحرصها على إقامة المجتمع الإسلامي الفريد المتماسك المتعاضد، في بُعد عن الأنانية وحب الذات، وعدم الشعور والاهتمام بأحوال المسلمين وظروفهم.
ولذلك كله حرص الإسلام على إشاعة المحبة بين أفراد المجتمع، وتقوية الروابط والصلات والعلائق والمودات، ولا يكون ذلك إلا بالتعاون والتساعد والتعاضد بين أفراد المجتمع.
ومن جانب آخر فقد نظم الإسلام جوانب المعاملات في المجتمع بصورة فريدة لا مثيل لها في غيره، من الأنظمة البشرية، وما ذاك إلا لأن الإسلام شريعة إلهية من الإله الحق المبين سبحانه، العليم بمصالح عباده وما يدفع عنهم المفاسد ويقيهم المضار.
عباد الله:(/1)
ومن أبرز هذه الأمور التي شرعها الإسلام ونظمها ورغب فيها القرض والسلف. فالقرض في الإسلام من محاسن الشريعة، ومن نعم الله - تعالى - على البشرية؛ لأن الإنسان في هذه الحياة معرض للابتلاء والامتحان، ومعرض لمحن الدنيا ونائبات الدهر، فقد تظهر له حاجة، أو تُلم به فاقة لا يجد ما يسدها ولا ما يقضيها به، مما قد يوقعه في الحرج والكرب والضيق.
وبهذا - عباد الله - تبرز مكانة القرض في الشريعة، فحين يحتاج المسلم لبعض المال؛ لحاجة نازلة أو فاقة أو جائحة فإن الشريعة تبيح له الاقتراض من أخيه المسلم لسد حاجته، وإغناء فاقته، وتفريج كربته.
وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستقرض من الصحابة - رضي الله عنهم - عند حاجته، قال عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي - رضي الله عنه -: استقرض مني النبي - صلى الله عليه وسلم -أربعين ألفاً، فجاءه مال فدفعه إلي وقال: ((بارك الله لك في أهلك ومالك، إنما جزاء السلف الحمد والأداء))؛ أخرجه النسائي وابن ماجه.
كما ندب الإسلام إلى مساعدة المسلم عند حاجته، وأمر بإقراضه وتفريج كربته؛ حرصاً من الإسلام على ألا يقع المسلم بدافع الحاجة في ارتكاب أمور لا تحمد عقباها؛ كالسرقة والاختلاس، ونحو ذلك من الأمور المحرمة.
روى البخاري ومسلم في "صحيحيهما" عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم – ((من نفس عن مؤمن كربه من كرب الدنيا نفس الله عنه كربه من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه)).
وروى ابن ماجه من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما من مسلم يقرض مسلماً قرضاً مرتين إلا كان كصدقتها مرة)).(/2)
معاشر المسلمين: ولقد تواترت نصوص الكتاب والسنة وإجماع الأمة سلفاً وخلفاً على فضل القرض وثوابه؛ بل إن القرض في الشريعة الإسلامية من أبرز مبادئها، وأظهر معالمها الدالة على سعيها للتيسير والتسهيل على المسلمين.
يقول الله - سبحانه وتعالى -: {مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة: 24].
وقد ذكر الله هذه الآية في كتابه مراراً مبيناً فضل القرض وثوابه، وأنه - سبحانه - متكفل بالأجر العظيم، والثواب الكبير لمن أقرض مسلماً، ونفس عنه كربته.
وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((رأيت ليلة أُسري بي على باب الجنة مكتوباً: الصدقة بعشر أمثالها القرض بثمانية عشر، فقلت يا جبريل: ما بال القرض أفضل من الصدقة؟! قال: لأن السائل يسأل وعنده والمستقرض لا يستقرض إلا من حاجة))؛ رواه ابن ماجه.
وقال أبو الدرداء - رضي الله عنه -: "لأن أقرض مسلماً دينارين ثم يُردان ثم أقرضهما أحب إلى من أن أتصدق بهما".
وما ذاك - عباد الله - إلا لما في القرض من تفريج كرب المسلمين، وقضاء حوائجهم، والعون لهم على البعد عن الحرام.
أيها المسلمون:
وكما أمر الإسلام بالقرض وندب إليه أمر بالوفاء به وحرص عليه؛ وفاءً لحقوق الناس، وشكراً لجميلهم، وعرفاناً بفضلهم.
وقد بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجوب أداء الدين، والنية الحسنة في قضائه، وبين أن مدار الأعمال على ذلك، وأن من استدان الناسَ ناوياً الإيفاء لحقهم أعانه الله على قضاء دينه؛ فقد روى البخاري وغيره عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذ يريد إتلافها أتلفه الله)).(/3)
وعند ابن ماجه والدارمي والحاكم بإسناد حسن أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن الله مع المدين حتى يقضي دينه ما لم يكن فيما يكره الله)).
عباد الله:
ولكنه ومع شديد الأسف لما ضعف الإيمان عند كثير من الناس، وضيعوا الأمانة لم يعودوا يهتمون بوفاء ديون الناس، وإعطائهم حقوقهم؛ بل يماطلون صاحب الحق حقه، ولذلك أحجم كثير من الناس عن القرض والتسليف خوفاً على أموالهم من الضياع؛ لضعف ذمم الناس؛ حيث يأتي الإنسان إلى أخيه المسلم فيشكو إليه الحاجة والفقر حتى يُقرضه على أن يرد إليه حقه بعد شهر أو بعد سنة أو نحو ذلك.
فإذا استقرض منه مضى الشهر والشهران والسنة والسنون، وهو يماطله في الوفاء بحقه، حتى لربما شاب الإنسان ودخل في المتاهات التي ليس لها نهاية وهو يطالب بحقه فلا يجد وفاء. فإذا بالجميل ينقلب على صاحبه هماً وندماً، والكثير منهم قد يجحدون الحق.
وهذا من الأمور المحرمة التي نهى الإسلام عنها، فإنما يكون جزاء الإحسان بالإحسان، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لي الواجد يُحلَّ عرضه وعقوبته))؛ رواه أبو داود والنسائي، وصححه ابن حبان.
والمراد بذلك: أن مطل الغني لحقوق الناس يُحل التظلم عليه بقوله مطلني حقي، ويحل حبسه عقوبة له على ذلك حتى يفي بالدين لصاحبه.
ومثله ما ثبت في "الصحيحين" من قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((مطل الغني ظلم)).
عباد الله:
إن الواجب على المسلم إذا اقترض من أخيه شيئاً من المال، أو استلف منه شيئاً أن يرده إليه شاكراً لفضله، معترفاً بجميله، سائلاً له الأجر من الله - تعالى.(/4)
فقد ورد الترهيب والوعيد على عدم وفاء الحقوق والديون لأصحابها؛ عن جابر - رضي الله عنه - قال: توفى رجل، فغسَّلناه وحنطناه وكفناه ثم أتينا به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي عليه، فقلنا تصلي عليه، فخطا خطى، ثم قال: ((أعليه دين؟!)). قلنا: ديناران. فانصرف، فتحملهما أبو قتادة، فأتيناه فقال أبو قتادة: الديناران عليَّ. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أُحِقَّ الغريم وبرئ منهما الميت؟)). قال: نعم. فصلى عليه، ثم قال بعد ذلك بيوم: ((ما فعل الديناران؟)). فقال: إنما مات أمس. قال: فعاد إليه من الغد. فقال: لقد قضيتهما. فقال رسوله الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الآن بردت عليه جلده))؛ رواه أحمد وأبو داود، والنسائي وصححه وابن حبان والحاكم.
وفي رواية الحاكم: أنه - صلى الله عليه وسلم - جعل إذا لقي أبا قتادة يقول: ((ما صنعت الديناران؟)). حتى كان آخر ذلك أن قال: قضيتها يا رسول الله، قال: ((الآن بردت جلدته)).
وروى الشيخان عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يؤتى بالرجل المتوفى عليه الدين فيسأل: ((هل ترك لدينه فضلاً؟!)). فإن حُدث أنه ترك لدينه وفاء صلى، وإلا قال للمسلمين: ((صلوا على صاحبكم)).
فاتقوا الله - رحمكم الله - أدُّوا الحقوق لأصحابها، وإياكم ومماطلة ذي الحق حقه، وحاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن تُوزنوا، وتزينوا للعرض الأكبر على الله، يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية، واحذروا دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب، واستغفروا الله وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد فيا أيها الناس:
اتقوا الله - تعالى - واشكروه وأطيعوه وراقبوه، واعلموا أنكم ملاقوه.(/5)
عباد الله:
لقد وضعت الشريعة الإسلامية للقرض الحسن المشروع ضوابط شرعية تحقق المقصود منه دون ضرر أو إضرار، وتخرجه من الربا والشبهات المحرمة، ومن أهم هذه الضوابط:
أن يرد القرض كما هو دون زيادة أو نقصان. وألا يكون القرض وسيلة وحيلة توصله إلى المحاباة في بيع أو شراء أو نحوه. وألا يشترط المقرض شرطاً فيه ضرر على المقترض؛ كاشتراط الوفاء ببلد معين يكون في الوفاء فيه كلفة ومشقة على المقترض.
وذلك لما أخرجه الإمام البغوي وغيره من حديث العلاء بن مسلم أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: ((كل قرض جر منفعة فهو ربا)). وهذا الحديث ضعفه جمهور المحدثين لكن العمل عند أهل العلم بما دل عليه، وله من الأحاديث والآثار ما يعضده ويقويه، فقد روى البيهقي بسند صحيح عن أُبي بن كعب وابن مسعود وابن عباس - رضي الله عنهم أجمعين -: "أنهم نَهَوا عن قرض جر منفعة".
ومثله ما رواه البخاري والبيهقي والطبراني من حديث أبي بُرده عن أبيه - رضي الله - تعالى - عنه - قال: "أتيت المدينة فلقيت عبد الله بن سلام - رضي الله عنه - فقال: ألا تجيء فأطعمك سويقاً وتمراً وتدخل في بيت ثم قال: إنك بأرضٍ الربا بها فاش؛ إذا كان لك على رجل حق فأهدى إليك حمل تبن أو حمل شعير أو حمل قت فلا تأخذه فإنه ربا".
وعند البيهقي، وصححه الألباني من حديث الأثرم: "أن رجلاً كان له على سَمّاك عشرون درهماً، فجعل يُهدي إليه السَّمك، ويقومه حتى بلغ ثلاثة عشر درهماً، فسأل ابن عباس فقال: أعطه سبعة دراهم".
فلا يجوز أيها الإخوة الاقتراض بفائدة، كما هو الحال في البنوك الربوية وغيرها؛ فإن ذلك ربا محرم.(/6)
وأما ما رواه الإمام مسلم في "صحيحه" عن أبي رافع - رضي الله عنه - قال: "إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استسلف من رجل بَكْراً، فقدمت عليه إبل من إبل الصدقة فأمر أبا رافع أن يقضي الرجلَ بَكْره، فرجع إليه أبو رافع فقال: لم أجد فيها إلا خياراً رباعياً. فقال: ((أعطه إياه، إن خيار الناس أحسنهم قضاء)). فإنه محمول على حُسن القضاء منه - صلى الله عليه وسلم - ورده لجميل المقرض، واعترافه بفضله، وإحسانه إليه دون أن يكون هناك شرط من المقرض أن يرد إليه زيادة على قرضه. فأما إذا وجد الشرط بالزيادة عن الاقتراض؛ كأن يقرضه ألفاً، ويشترط عليه أن يرد ألفين - مثلاً - فهذا هو الربا الذي لا يجوز.
فاتقوا الله - تعالى - أيها المسلمون، واحرصوا على إقراض المسلمين، وعلى وفاء حقوقهم واحذروا من الربا في القرض فإنه من كبائر الذنوب.
ثم صلوا وسلموا على من أمركم الله - تعالى - بالصلاة والسلام عليه في قوله - عز من قائل -: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب: 56]. وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشراً))؛ رواه مسلم.(/7)
العنوان: ضوابط محبة الرسول، صلى الله عليه وسلم
رقم المقالة: 1278
صاحب المقالة: الشيخ عائض بن عبدالله القرني
-----------------------------------------
إنَّ الحمد لله، نحمدهُ ونستيعنهُ، ونستغفرهُ، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء: 1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب: 70-71].
أما بعد:
فإن أصدقَ الحديث كتابُ الله، وأحسنَ الهديِ هديُ محمد - صلى الله عليه وسلم - وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ محدثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعةٌ ضلالةٌ، وكلَّ ضلالةٍ في النار.
ذِكْرَيَاتٌ مَعَ الرَّسُولِ وَشَوْقٌ يَسْتَثِيرُ الشُّجُون مِنْهُ الأَجَلا
كُلَّمَا مَرَّ ذِكْرُهُ فِي فُؤَادِي قَالَ قَلْبُ الْمُحِبِّ أَهْلاً وَسَهْلا
حبُّه - صلى الله عليه وسلم - عبادة، حبه طاعة مفروضة، حبه إيمان وتصديق، يتقرب العبد به إلى الله الواحد الأحد.
* والناس في حبه - صلى الله عليه وسلم - أقسام ثلاثة:
قسم: أحبه - صلى الله عليه وسلم - حبّاً عظيماً، حبّاً شرعيّاً، حبّاً مسنوناً على الكتاب والسنة.(/1)
وقسم: جفا على حبه، وأعرض عنه، وعاداه، ونصب له الحرب الشعواء.
وقسم: غلا في حبه، حتى ضل الطريق، وربما خرج بذلك من الملة.
أما الذين جفوا عنه - صلى الله عليه وسلم - فقوم أطفأ الله بصائرهم، وأعمى أفئدتهم، قوم، جعلوه - صلى الله عليه وسلم - حامل لواء الشر في العالم، والمسؤول الأول عن تخلف المسلمين!!
{كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً} [الكهف: 5].
يأتي أحدهم، وهو رجل معتوه، فيصف الرسول عليه الصلاة والسلام بأنه رجعي، وأنه بدوي متخلف، أساء إلى العرب، فهو لا يعرف علم الاجتماع، ولا علم النفس، ولا علم التربية، ولا العمران ..
يا أيها المتكلم، عليك لعنة الله، أرسولنا - صلى الله عليه وسلم - لا يعرف التربية، ولا يعرف النفس، وهو الذي خرج الناس ببعثته من الظلمات إلى النور، ومن عبادة الحجر والشجر، إلى عبادة الله الواحد الأحد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة؟!
أتطلبون من المختار معجزة يكفيه شعبٌ من الأموات أحياه
أبوك وجدك يا معتوه، كانوا في مقابر الإلحاد، وفي زنزانات الشيوعية، وفي مقابض البغي والعدوان، حتى أخرجهم محمدٌ، عليه الصلاة والسلام، من الذل والمهانة، إلى العزة والكرامة.
لا تَعْجَبَنْ لِحَسُودٍ رَاحَ يُنْكِرُهَا تَجَاهُلاً وَهْوَ عَيْنُ الْحَاذِقِ الْفَهِمِ
قَدْ تُنْكِرُ الْعَيْنُ ضَوْءَ الشَّمْسِ مِنْ رَمَدٍ وَيُنْكِرُ الْفَهْمُ طَعْمَ الْمَاءِ مِنْ سَقَمِ
وهذا دجال آخر يقول في كتابه: إن لأئمتنا مقاماً، لا يصل إليه ملك مقرب، ولا نبيٌّ مرسل!! الأئمة عند هؤلاء، أرفع قدراً، وأكثر تأثيرً في العالم، من الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام.
أيُّ أئمة هؤلاء، أئمة الطقوس، والتمائم، والشعوذة، والسحر، والرشوة، وأكل أموال الناس بالباطل، إنها الخيانة المطلقة، والانسلاخ الواضح، والضلال المبين.(/2)
وهذا شاعر الجنس والغرام والضياع، عابد المرأة والكأس والأغنية، لا رفع الله شامته، ولا قبل حجته، تهكم بالشريعة، واستهزأ بالدين، وسخر من الرسالة الخالدة، بينما أتى هذا المجرم، إلى أحد الأصنام والطواغيت فقال له:
مَلأْنَا لَكَ الأَقْدَاحَ يَا مَنْ بِحُبِّهِ سَكِرْنَا كَمَا الصُّوفِيُّ بِاللهِ يَسْكَرُ
فَأَنْتَ أَبُو الثَّوَرَاتِ أَنْتَ وَقُودُهَا وَأَنْتَ لَنَا الْمَهْدِيُّ أَنْتَ الْمُحَرَّرُ
يقول هذا في رجل ضيع العرب والمسلمين، وتوالت علينا الهزائم والنكبات في عهده كالمطر.
ومن هؤلاء – ويا للأسف – أذناب ونابتة، يوجدون في بلادنا، ويشربون ماءنا، ويستنشقون هواءنا، هم أهل الحداثة، ناصبوا محمداً، عليه الصلاة والسلام العداء، واستهزءوا بالقرآن، وسخروا بالسنَّة، وحاربوا شباب الصحوة المباركة، ووصفوهم بالتطرف، والتخلف، والرجعية، وأهل القرون الوسطى!!
* ونقول لهؤلاء، مرة، وثانية، وثالثة، ومائة، أشباب الصحوة هم أهل التطرف، أم أنتم يا دعاة الحداثة؟ يا من روجتم للفاحشة والزنا.
أنتم الذين صدروا المخدرات إلى بلادنا.
أنتم الذين جلبوا كتب استالين، وماركس، ولينين.
أنتم الذين أركب إسرائيل على ظهورنا.
أنتم مخابرات الصهيونية العالمية، والشيوعية، والإلحاد، فلا تتكلموا، ولا تنطقوا بعد هذا أبداً.
* شباب الصحوة، هم أهل القرآن والسنة، شباب الصحوة هم أهل المساجد، هم أحفاد أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ، الذين دخلوا التاريخ من أوسع أبوابه.
عُبّادُ لَيْلٍ إِذَا جَنَّ الظَّلامُ بِهِمْ كَمْ عَابِدٍ دَمْعُهُ فِي الْخَدِّ أَجْرَاهُ
وَأُسْدُ غَابٍِ إِذَا نَادَى الْجِهَادُ بِهِمْ هَبُّوا إِلَى الْمَوْتِ يَسْتَجْدُونَ رُؤْيَاهُ
يَا رَبُّ فَابْعَثْ لَنَا مِنْ مِثْلِهِمْ نَفَراً يُشَيِّدُونَ لَنَا مَجْداً أَضَعْنَاهُ(/3)
أما الفريق الثاني: ففريق غلا في حب الرسول - صلى الله عليه وسلم - حتى أخرجه هذا الغلو، من دائرة عباد الله الموحدين، إلى دائرة الشرك، والبدعة، والضلال المبين.
فالرسول - صلى الله عليه وسلم - عبد لله، لا يملك لنفسه ضرّاً ولا نفعاً، لا يشفي مريضاً، ولا يعافي مبتلى، ولا يرزق أحداً، وإنما هو عبد الله ورسوله.
فمبلغ العلم فيه أنه بشرٌ وأنه خيرُ خلقِ الله كلهم
* جاءه - صلى الله عليه وسلم - وفد من بني عامر بن صعصعة، فقالوا: أنت سيدنا، فقال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((السيدُ الله - تبارك وتعالى -)) فقالوا: أنت أفضلنا فضلاً، وأعظمنا طَولاً، فقال:
((قولوا بقولكم، أو بعض قولكم، ولا يستَجْرِيَنَّكُمُ الشيطان))[1].
* جاءه أعرابي فقال: يا رسول الله جهِدَت الأنفسُ، وضاعت العيال، ونهكت الأموال، وهلكت الأنعام، فاستسق لنا، فإنا نستشفع بك على الله، ونستشفع بالله عليك.
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ويحك!! أتدري ما تقول؟)) وسبَّح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فما زال يسبح، حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه. ثم قال: ((ويحك!! إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه، شأنُ الله أعظم من ذلك))[2].
* ويحذر النبي - صلى الله عليه وسلم - من الغلو فيه فيقول: ((لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبده، فقولوا عبد الله ورسوله))[3].
* ويقول - صلى الله عليه وسلم - في سكرات الموت: ((اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد))[4].
هذا كلامه - صلى الله عليه وسلم - وهذا تحذيره من إطرائه، والغلو فيه.
أما القبوريون، والمشعوذون من غلاة التصوف، فما سمعوا كلامه، وما التزموا أوامره، حتى سلكوا في حبه طرقاً بدعية، لا توصل إلا إلى غضب الله وسخطه.
يقول البرعي، شاعر اليمن! صوفي، قبوري، غالٍ، أتى إلى قبر النبي عليه الصلاة والسلام في المدينة، فوقف عند القبر يبكي، ويطلب المغفرة من الرسول عليه الصلاة والسلام!! ويقول:(/4)
يا رسول الله يا مَنْ ذكرهُ في نهارِ الحشر رَمْزاً ومقاماً
فأقلني عثرتي يا سيدي في اكتساب الذَّنب في خمسين عاماً
سبحان الله! من الذي يقيل العثرات إلا الله؟ ومن الذي يغفر الزلات إلا الله؟ ومن الذي يشافي ويعافي إلا الله؟
{وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرّاً وَلَا نَفْعاً وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُوراً} [الفرقان: 3].
{وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر: 65-66].
إن هؤلاء الغلاة، من المتصوفة القبوريين، جعلوا محبته - صلى الله عليه وسلم - نشيداً، ورقصاً، وطرباً، وتمايلاً، وشعوذة، ومراسيم ما أنزل الله بها من سلطان.
اذهب إلى المدينة، وانظر ماذا يفعلون في مسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - يحمل أحدهم مسبحة، لا يستطيع الحمار حملها!!، لا يعرف من الإسلام شيئاً يأتي إلى القبر، ويأخذ بالعد في مسبحته ويبكي، ويتمسح بالجدران، ويقبل الحديد، وقد جهل السنَّة، وظن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يغفر الذنوب، ويشفي المرضى، ويرفع الحاجات، ويكشف الضرّ! وهذا فعله، كفعل أبي جهل تماماً.
النبي - صلى الله عليه وسلم - ميتٌ في قبره، وقد حرم الله على الأرض أن تأكل جسمه، لكنه لم يكن يملك لنفسه شيئاً في حياته، فكيف يملك لغيره بعد وفاته؟!
يأتي البوصيري ويقول:
يا أكرمَ الرُّْلِ ما لي مَنْ ألوذ به سواك عند حدوثِ الحَادِثِ العَمَمِ
إِن لم تكن في قيامي آخذاً بيدي فضلاً وإلاَّ فقل يا زلَةَ القدم
ولن يضيقَ – رسول الله – جَاهُك بي إذا الكريمُ تحلّى باسم مُنْتَقِمِ
فإِن من جودِك الدنيا وضُرَّتها ومن عُلومِك علمُ اللوحِ والقلم(/5)
فما أبقَى البوصيري لله - عزَّ وجلَّ -؟ جل الله، وتعالى عما يقول المبطلون علوّاً كبيراً {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً} [الكهف: 5].
لقد صرف هؤلاء الغلاة، الناس عن اتباع السنَّة، بمثل هذا الكلام، الذي هو شرك صراح، فتجد أحدهم عند القبر، حليقاً، مسبلاً، يلبس الذهب، يلبس الحرير، مُغنّ، مطبل، مزمر، دينه التمسح بالقبور، يتبرك بقبر البدوي تارة، وبقبر السيدة زينب تارة، وبقبر عبد القادر الجيلاني تارة، لا يعرف قرآناً، ولا سنة، ومع ذلك يزعم أحدهم أنه أعظم ولي لله تعالى، وأنه أشد الناس حبّاً للنبي - صلى الله عليه وسلم -!
* قال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [المائدة: 72].
أما الفريق الثالث، فهم أهل السنة، قوم أنار الله بصائرهم، وفتح للحق قلوبهم، نسأل الله أن يرفع قدرهم، وأن يعلي منزلتهم، وأن يكثر سوادهم.
أحبوه عليه الصلاة والسلام وقالوا: عبد الله ورسوله، يبلغ عن الله، وهو أفضل الخلق، لكنه لا يكشف الضر، ولا يشفي المريض، ولا يجيب السائل؛ لأنه لا يملك ضرّاً ولا نفعاً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً.
أحبوه عليه الصلاة والسلام؛ لأن حبه كحلٌ للعينين، وبلسم للأرواح، وتشنيف للآذان، وتضويع للمجالس، وطيب للأنوف. يقول عليه الصلاة والسلام: ((لا يؤمن أحدُكم حتى أكون أحبَّ إليه من ولده وولده والناس أجمعين))[5].
ولذلك فإن أهل السُّنَّة، يحبونه - صلى الله عليه وسلم - حبّاً جَمّاً، حبّاً شرعياً، حبّاً حقيقيّاً. الإمام مالك ما ركب دابة في المدينة احتراماً لثرىً دفن فيه محمدٌ - صلى الله عليه وسلم.(/6)
يَا مَنْ تَضَوَّعَ طِيب الْقَاعِ أَعْظُمُه فَطَابَ مِنْ طِيبِ ذَاكَ القَاعُ وَالأُكُمُ
نَفْسِي الْفِدَاءُ لِقَبْرٍ أَنْتَ سَاكِنُهُ فِيهِ الْعَفَافُ وَفِيهِ الْجُودُ وَالْكَرَمُ
يقرأ الإمام مالك كتابه "الموطأ" في أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - فتلدغه العقرب ثلاث عشرة مرة، فلا يقطع الحديث، فيقول له الناس: يا إمام، رأينا وجهك تغير مرات كثيرة وأنت في المجلس، فقال: لدغتني عقرب وأنا أقرأ الحديث، قالوا: فلم تقطع الحديث؟ قال: استحييتُ أقطع حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أجل نفسي!!
يُسأل سعيد بن المسيب – رحمه الله – عن حديث، وهو في سكرات الموت، فيقول: أجلسوني. قالوا: أنت مريض. قالوا أجلسوني، كيف أسأل عن كلام الحبيب - صلى الله عليه وسلم - وأنا مضطجع!
* يحدث عبد الله بن عمر رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لا تمنعوا نساءكم المساجد إذا استأذنَّكم إليها))، فقال بلال ابنه: والله لنَمْنَعُهنَّ! قال الم: فأقبل عليه عبد الله، فسبَّ سبّاً سيئً، ما سمعته سبَّه مثله قطٌّ. وقال: أخبرك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتقول: والله لنمنعهن! وفي رواية: فضرب عبد الله في صدره، وقال: أحدثك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتقول: لا[6].
هذا هو حب الرسول - صلى الله عليه وسلم - حبه عليه الصلاة والسلام طاعته، حبه عليه الصلاة والسلام اتباعه، حبه عليه الصلاة والسلام تعظيم سنته، وتحكيم شريعته.
أما الذين لا يقيمون للسنَّة وزناً، ولا للشريعة كياناً، فليس لهم من حبه - صلى الله عليه وسلم - نصيب.
كيف لا يحب أهل السنَّة محمداً عليه الصلاة والسلام، وقد أحبه الجماد، وبكى لفراقه، وشكى إليه الحيوان ما يجده من الظلم، وأهل السنَّة يرون ذلك.(/7)
* كان - صلى الله عليه وسلم - يقوم يوم الجمعة يخطب إلى جذع شجرة أو نخلة، فقالت امرأة من الأنصار، أو رجل: يا رسول الله، ألا نجعل لك منبراً؟ قال: ((إن شئتم)) فجعلوا له منبراً، فلما كان يوم الجمعة، صعد على المنبر، فصاحت النخلة صياح الصبي، ثم نزل النبي - صلى الله عليه وسلم - فضمه إليه، تئن أنين الصبي الذي يُسكَّنُ. قال: ((كانت تبكي على ما كانت تسمع من الذكر عندها))[7].
سمع ذلك أكثر من ألف من الصحابة، فكيف لا يحب أهل السنَّة محمداً - صلى الله عليه وسلم -؟!
* وفي حديث عبد الله بن مسعود قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر، فانطلق لحاجته، فرأينا حُمَّرَةً[8] معها فَرْخَانِ، فأخذنا فرخَيْها، فجاءت الحُمَّرةُ فجعلت تفرُشُ[9] فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((من فجع هذه بولدها؟ ردُّوا ولدها إليها))[10].
جَاءَتْ إِلَيْكَ حَمَامَةٌ مُشْتَاقَةٌ تَشْكُو إِلَيْكَ بِقَلْبِ صَبٍّ وَاجِفِ
مَنْ أَخْبَرَ الْوَرْقَاءَ أَنَّ مَقَامَكُمْ حَرَمٌ وَأَنَّكَ مَنْزِلٌ لِلْخَائِفِ
* يدخل النبي - صلى الله عليه وسلم - مزرعة لأحد الأنصار، فإذا جَمَل، فلما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - حنَّ وذرفت عيناه، فأتاه النبي - صلى الله عليه وسلم - فمسح ذفراه[11] فسكت، فقال: ((من ربُّ هذا الجمل، لمن هذا الجمل؟)) فجاء فتى من الأنصار فقال: لي يا رسول الله، فقال: ((أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي مَلَّككَ الله إياها، فإنه شكى إليَّ أنك تجيعُه، وتُدْئِبُه))[12].
هذا هو حبه - صلى الله عليه وسلم - الذي شمل الإنسان والحيوان والجماد، فكيف لا يحبه أهل السنة، هذا من أسخف الزعم وأبين الكذب.
هذا ولحبه عليه الصلاة والسلام علامات، وصفات، ومؤهلات، نعرض لها في الخطبة الثانية إن شاء الله.(/8)
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العزيز الجليل لي ولكم، ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التوب الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وإمام المتقين، وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وأصحابه والتابعين.
* عباد الله:
إن من ادعى شيئاً، طولب بالبينة، فإذا لم يأت بها فهو كاذب.
وَالدَّعَاوَى مَا لَمْ يُقِيمُوا عَلَيْهَا بَيِّنَاتٍ أَصْحَابُهَا أَدْعِيَاءُ
قال تعالى: {قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 111]. وقد ادعى نفر من الناس، وفئام من البشر، محبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - فطولبوا بالبينة، فلم تكن لهم بينة، ولو أعطى الناس بدعواهم، لادعى الخليُّ حُرقة الشجي، ولذهب قوم بأموال قوم وبدمائهم لكن جعل الله البينة على المدعي واليمين على من أنكر.
{قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} [الأنعام: 148].
وقوم من أهل السنة، تابعوا الرسول عليه الصلاة والسلام، ووافوا معه، وحكَّموا شريعته، وقدموا سنته، ولا يطلب من الإنسان أن يكون نسخة مكررة من النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن ذلك محال ولأن النقص من طبيعة البشر، و((إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث))[13].
أما هؤلاء الذين يدعون المحبة والقربة، ثم تنظر في أحوالهم، فتجدهم، لا سلوك، ولا عبادة، ولا استقامة، ولا خشوع، إنما هو القول باللسان فقط، ويشهد الله على ما في قلبه، أنه كذب، ودجل، وخرافة.
إن نفراً من اليهود زعموا محبة الله - عزَّ وجلَّ - إلا أنهم لا يتبعون النبي - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله - تبارك وتعالى - قوله: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [آل عمران: 31] فخرسوا، وما قامت لهم قائمة.(/9)
فمن علامات حبه - صلى الله عليه وسلم -: اتباع سنته، واقتفاء طريقته، والسير على هديه، فمن لم يتبع سنته - صلى الله عليه وسلم - قولاً، وعملاً، وسلوكاً، وحالاً، وظاهراً، وباطناً، وسرّاً، وعلانية، فهو من أكبر الكذابين، وهو من أعظم الدجاجلة، إذا ادعى محبة الرسول عليه الصلاة والسلام، فمثل هذا لا تسمع له ولا تلتفت إليه، واعلم أنه خائن للشريعة، لا ينظر الله إليه يوم القيامة، ولا يزكيه، وله عذاب أليم.
{لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 128]. {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21].
ومن علامات حبه - صلى الله عليه وسلم -: الشوق إليه، والحنين إلى رؤياه، والمسارعة إلى تنفيذ أوامره، ولو كلف ذلك فَقْدِ النفس والمال والولد.
ذكر ابن القيم وغيره من أهل العلم[14]، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى لينحر هديه في حجة الوداع، فأخذ الحربة؛ لينحر النوق وكانت مائة، فأخذت تتسابق إليه أيتها ينحر أولاً!! حبٌّ يكلف النفس، ولكن لا ضير ما دام المحبوب محمداً - صلى الله عليه وسلم.
* وهذا الحب عرفه الصحابة رضوان الله عليهم، عرفه الصديق، يوم هاجر مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخذ يمشي أمامه تارة، وخلفه تارة، وعن يمينه تارة، وعن شماله تارة، حتى إذا كان هناك شيء أو خطر أصابه هو، ولم يُصَب النبي - صلى الله عليه وسلم - بشيء!!(/10)
* وذكر ابن كثير في تفسيره، عن ابن جرير الطبري قال: جاء رجل من الأنصار إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو محزون، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((يا فلان؛ ما لي أراك محزوناً)) فقال: يا نبي الله، شيء فكرتُ فيه، فقال: ((ما هو؟)) قال: نحن نغدو عليك ونروح، ننظر إلى وجهك، ونجالسك، وغداً ترفع مع النبيين، فلا نصل إليك، فلم يرد عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئاً، فنزل جبريل بقوله تعالى: {وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} [النساء: 69]. فبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - إليه فبشره[15].
* يأخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - بيد عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيقول عمر: يا رسول الله، لأنت أحبّ إليّ من كل شيء إلا نفسي، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا والذي نفسي بيده، حتى أكون أحبَّ إليك من نفسك))، قال عمر: فأنت الآن والله، أحب إلي من نفسي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الآن يا عمر))[16]، أي الآن استكملت الإيمان.
ومن علامات حبه - صلى الله عليه وسلم -: عدم الاعتراض على شريعته، أو الاستهانة بشيء من سنته؛ كإماطة الأذى عن الطريق، أو تقصير الثياب، أو إعفاء اللحية، أو الأكل باليمين، أو الشرب جالساً، أو دخول المسجد باليمنى، والخروج باليسرى، أو غير ذلك.
ومن استهزأ بشيء من سنته - صلى الله عليه وسلم - بعد أن علم أنها سنة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو كافر، حلال الدم.(/11)
{قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤونَ * لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ} [التوبة: 65-66]. {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً} [النساء: 65].
{لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63].
ومن علامات حبه - صلى الله عليه وسلم -: كثرة الصلاة والسلام عليه، فالصلاة عليه نور، وإيمان وبرهان لك عند الله يوم القيامة، فضوع بها مجلسك، وعطر بها لسانك، ونور بها قلبك.
نَسِينَا فِي وِدَادِكَ كُلَّ غَالٍ فَأَنْتَ الْيَومَ أَغْلَى مَا لَدَيْنَا
نُلامُ عَلَى مَحَبَّتِكُمْ وَيَكْفِي لَنَا شَرَفٌ نُلامُ وَمَا عَلَيْنَا
ولمَّا نلقَكُم لكنَّ شوقاً يذكِّرُنا فكيف إذا التقينا؟!
تسلَّى الناسُ بالدنيا وإِنَّا لعمرُ الله بعدَكَ ما سَلَيْنَا
* يأتي أُبي بنُ كعب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فيقول: يا رسول الله، إني أكثر الصلاة عليك، فكم أجعل لك من صلاتي – يعني من دعائي – فقال: ((ما شئت)) قلت: الربع؟ قال: ((ما شئت، فإن زدت فهو خيرٌ لك)). قلت: النصف؟ قال: ((ما شئت، فإن زدت فهو خيرٌ لك)). قلت: أجعل لك صلاتي كلها؟ قال: ((إذاً تُكفى هَمَّك ويُغْفَر لك ذنبُك))[17].(/12)
فأحسن الدعاء، ما مزج بالصلاة والسلام عليه، فصلى الله وسلم وبارك عليه، ما تعاقب الليل والنهار، وما سالت بوجه الأرض الأنهار، وما تهطلت من السماء الأمصار، وما فاحت في ربُاها الأزهار، وما ذكره الذاكرون، وما غفل عن ذكره الغافلون.
أيها الناس:
صلوا عليه، وأحيوا ذكره بالصلاة عليه، واتباع سنته، ونشرها في الناس؛ تعليماً، وتدريساً، وقتياً، ودعوة، وتبليغاً، وأمراً بالمعروف، ونهياً عن المنكر.
* قال - صلى الله عليه وسلم -: ((بلغوا عني ولو آية))[18].
* وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((نضر الله امرئ سمع منا حديثاً فحفظه، حتى يُبَلِّغَهُ، فربَّ حامل فقهِ إلى من هو أفقه منه، وربَّ حامل فقه ليس بفقيه))[19].
فكتمان العلم، وعدم نشره في الناس، والبخل به، من شيم بني إسرائيل، وهم قوم غضب الله عليهم ولعنهم: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة: 159].
{وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران: 187].
هذه بعض علامات حبه عليه الصلاة والسلام، وإنما أفردنا أهل السنة بحبه - صلى الله عليه وسلم - لأنهم الذين أحبوه المحبة الشرعية، أما الغلاة والجفاة، فليسوا من أحبابه - صلى الله عليه وسلم - وليسوا من اتباعه عليه الصلاة والسلام، وإن زعموا ذلك بألسنتهم، قال تعالى: {وَلَوْ نَشَاء لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 30].
* عباد الله:(/13)
وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب: 56].
* ويقول - صلى الله عليه وسلم -: ((من صلى علي صلاة، صلى الله عليه بها عشراً))[20].
اللهم صلِّ على نبيِّك وحبيبك محمد، واعرض عليه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة يا رب العالمين، وارض اللهم عن أصحابه الأطهار، من المهاجرين والأنصار، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
---
[1] أخرجه أبو داود (4/254) رقم (4806).
[2] أخرجه أبو داود (4/232) رقم: (4726).
[3] أخرجه البخاري (4/142).
[4] أخرجه مالك في "الموطأ" (1/172) رقم: (85) عن عطاء بن يسار مرسلاً، وأخرجه أحمد (2/246) عن أبي هريرة. قال الألباني في المشكاة (1/234): وقد صحَّ موصولاً من حديث أبي هريرة. انظر: "تحذير الساجد" ص(17، 18).
[5] أخرجه البخاري (1/9)، ومسلم (1/67)، رقم (44).
[6] أخرجه مسلم (1/327، 328) رقم: (442).
[7] أخرجه البخاري (4/173).
[8] حمرة: بضم الحاء وفتح الميم المشددة – طائر صغير كالعصفور.
[9] تفرُش: أي ترفرف بجناحيها شاكية.
[10] أخرجه أبو داود (3/55) رقم: (2675)، وأخرجه أيضاً (4/367) رقم: (5268).
[11] ذفراه: مثنى ذِفْرَى، وهو العظم الشاخص خلف الأذن.
[12] تدئبه: تتعبه. والحديث أخرجه أبو داود (3/23) رقم: (2549).
[13] حديث صحيح أخرجه أبو داود (1/17) رقم (63). والترمذي (1/97) رقم (67) والنسائي (1/46) رقم: (52) وغيرهم. وصححه محدثاً الديار المصرية والشامية أحمد شاكر، كما في "سنن الترمذي" (1/98) ومحمد ناصر الدين الألباني، كما في "إرواء الغليل" رقم: (23).
[14] انظر: "زاد المعاد" (2/261)، وانظر الرواية عند أبي داود (2/149) رقم: (1765). وجوَّد إسنادها الأرناؤوط.(/14)
[15] انظر تفسير ابن كثير (1/495). قال الهيثمي في مجتمع الزوائد (7/10): رواه الطبراني في الصغير والأوسط، ورجاله رجال الصحيح، غير عبد الله بن عمران العابدي، وهو ثقة.
[16] أخرجه البخاري (7/218).
[17] أخرجه الترمذي (4/549) رقم: (2457) وقال: حسن صحيح.
[18] أخرجه البخاري (4/145).
[19] أخرجه أبو داود (3/322) رقم: (3660)، والترمذي (5/33، 34) رقم: (7657). وقال: حسن صحيح، ورقم (2658). وصححه الألباني كما في "مشكاة المصابيح" (1/78).
[20] أخرجه مسلم (1/288) رقم: (384).(/15)
العنوان: طالب العلم.. بين السعادة والشقاء!
رقم المقالة: 1119
صاحب المقالة: أبو مالك وائل العوضي
-----------------------------------------
يا لشقاء طالب العلم ويا لسعادته!
واعجبًا كيف يجمعهما؟!
إنْ توفر له كل شيء من وقتٍ ومؤنةٍ وكُتُبٍ وغيرِ ذلك، كان عليه أن يُكِدَّ نفسَه، ويَسْهَرَ الليالِيَ ليُحَصِّل!
فما بالُك ولا شيءَ مما سبق متوفر إلا القليل!
ولكن أعودُ فأقول: لا يبلغُ الكمالَ أحدٌ، ولا يأخذُ كلَّ النعم أحدٌ، فإن النعم إذا تمت زالت؛ لأن حياة الإنسان متغيرة، فإذا وصل إلى القمة - ولا بد له من تغير – لم يكن بُدٌّ من الهبوط والانحطاط، ولذا وجدنا الشاعر يقول:
إذا تَمَّ شيء بدا نقصه ترقبْ زوالا إذا قيل تَمَّ
إذا فرَّغ نفسَه وطلبَ.. غَمَزَه الناس، ولمزوه، وهمزوه، وسلقوه بألسنتهم!
وإن هو اقتحم الحياة في طلب الرزق.. أضاع عمره وأفناه!
والعلم يحتاج لعمر مديد مبارَكٍ فيه، مع جد واجتهاد، فما بالُك والوقتُ قصير ليس فيه بركة، ومع ذلك نطلُب مُتوانِينَ متخاذلِينَ!!، فما أبعدَنا من قول الحكيم:
أخي لن تنالَ العلم إلا بستة سأنبيك عن تفصيلها ببيان
ذكاء وحرص واصطبار وبلغة وإرشاد أستاذ وطول زمان
فلنفترض أنه قد جمع الذكاء والحرص والاصطبار، وأعانه الله على البلغة!
فما أبعدَه من إرشاد الأستاذ الماهر وطول الزمان!، هذا مع أن الصفات السابقة لا تجتمع إلا فَلَتات، فالذكاءُ يُبعد صاحبه - في الغالب - عن الاستظهار، والحرصُ والاصطبار والاجتهاد كل ذلك يؤثر في العقل؛ لأنه يحتاج لتفتح ذهن وصفاء نفس وعدم تكدر بالهموم، ويَعلَمُ مَنْ مدَّ يدًا إلى العلم أنَّ الجهدَ الزائد في الطلب يومًا يؤثر في صاحبه أيامًا، ما لم يهبْه الله الهمةَ العالية، كما قال الحكماءُ: لا يسمو المرءُ حتى يعلوَ أصغراه لسانُه وقلبُه، ويشرُفَ أكبراه هِمتُه ولُبه.
وصدق الشاعر إذ قال:
وما المرءُ إلا الأصغران لسانه ومعقوله والجسم خلق مصورُ(/1)
وصدق الأعور الشني حيث يقول:
لسانُ الفتى نصف ونصفٌ فؤاده فلم يبقَ إلا صورة اللحم والدم
فمن أراد هذا المنحى، وسلك هذا المسلك، فليجعل نصب عينيه قولَ الزمخشري:
سهري لتنقيح العلوم ألذُّ لي من وصل غانية وطيب عناقِ
وصريرُ أقلامي على صفحاتها أحلى من الدوكاة والعشاقِ
وألذُّ من نقر الفتاة لدفها نقري لألقي الرملَ عن أوراقي
وتمايُلي طربًا لحل عويصة في الدرس أشهى من مُدامةِ ساقي
وأبيتُ سهران الدجى وتبيتَه نومًا وتبغي بعد ذاك لَحاقي؟!
فِعْلا؛ من جَدَّ وَجَد، ومن زرع حصد، والطغرائي يقول:
الجد في الجد والحرمان في الكسلِ فانصَب تُصب عن قريب غاية الأملِ
والشاعر يقول:
بقدر الكد تُكتسب المعالي ومن طلب العلا سهِر الليالي
ومن طلب العلا من غير كد أضاع العمرَ في طلب المحالِ
تروم العز ثم تنامُ ليلا يغوصُ البحر من طلب اللآلي
والحكيم يقول:
سافر تَجِدْ عوضًا عمن تفارقُهم وانصَبْ فإن لذيذَ العيش في النصَبِ
وقد مر علي وقت أيقنت فيه بعجُز هذا البيت!
وقال الشاعر:
إذا نام غِرُّ في دجى الليل فاسهَر وقم للمعالي والعوالي وشَمِّرِ
وسارِعْ إلى ما رُمت ما دمت قادرا عليه وإن لم تُبصر النُّجْح فاصبِرِ
وفي معناه قول الآخر:
صِلِ السعيَ فيما تبتغيه مثابرا لعل الذي استبعدتَ منه قريبُ
وعاوِدْه إن أكدى بك السعيُ مرة فبين السهام المخطئاتِ مصيبُ
وبمعناه:
لا تيئسُن إذا كبوتُم مرة إن النجاح طريقُ كل مثابرِ
وهذا المعنى لا يُستقصَى في شعر الشعراء
جعلنا الله وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه!
إنه سميع مجيب.(/2)
العنوان: طالب العلم والنظافة
رقم المقالة: 1046
صاحب المقالة: د. خالد بن عبدالله المزيني
-----------------------------------------
في يومٍ حار من أيام الرياض القائظة، كنت واقفاً مع أحد مشايخنا، إذ اعترضه أحد الشباب يستفتيه، وكان واضحاً من السؤال الذي ألقاه على الشيخ أنه كان من المشتغلين بطلب العلم الشريف، إلا أن الذي أزعجني وأصابني بالاشمئزاز، سوء مظهر هذا الإنسان، فقد كان متسخ الثياب، منتشر الهيئة، كريه الرائحة، ولا أودُّ التصريح بما سوى ذلك؛ ضنَّاً بذوق القارئ الكريم.
فلا أدري هل أعجب من جرأة هذا على التعرض للشيخ وهو في هذه الحال، أو من حلم الشيخ عنه، وسعة صدره وتلطفه به، ولكنه حسن الخلق الذي يعرفه من خالط الشيخ.
نظافة المسلم - وطالب العلم خاصة - ليست من التكميليات، أو من لزوم ما لا يلزم، فقد ابتدأ الفقهاء كتب الفقه بأبواب الطهارة، وعرفوها بأنها النظافة والنزاهة من الأقذار، ليبدأ طالب العلم بالتخلية قبل التحلية، نجد هذا في كتب المذاهب الأربعة، كما نجده في مصنفات الحديث، عدا الموطأ الذي ابتدأه بكتاب الوقوت لنكتة عند مالك - رحمه الله - وهي أن الوضوء إنما يجب عند دخول الوقت، إلا أن الذي ارتضاه عامة المصنفين - سواه - الابتداء بأبواب الطهارة، وتناولوا فيها تعريف الطهارة والنظافة، وأدواتها وتقنياتها المعروفة في عصورهم، وقد صرح غير واحد ممن كتب في آداب العلم قديماً وحديثاً أن هذا الموضوع من المهمات.(/1)
إني لأعجب من بعض المتزهدة والمتنسكة ممن أهمل منظره، وترك تعاهد ثيابه، وترهَّب فيما يبدو للناس، كيف يغفلون عن الطبائع السوية، والسنن الرضية، القاضية بحسن النظافة والطهارة، ويبدو أن هذه الغفلة ليست حادثة، بل الخلل في هذا قديم، فقد قال أيوب السختياني -وذُكِرَ له هؤلاء الذين يتقشفون-: "ما علمتُ أنَّ القذر من الدين" اهـ، وقد انتقد هذه الظاهرة، وردَّ على أصحابها فأحسنَ الرد؛ أبو الفرج ابن الجوزي في كتابه: تلبيس إبليس، وقسَّمهم إلى قسمين: لصٍّ ليلي، ولصٍّ نهاري !، وأبو العباس ابن تيمية في رده على القلندرية من غلاة المتصوفة.
أين يُذهب بهؤلاء المتظاهرين باتباع السنة عن السنن الثابتة عن سيد ولد آدم - عليه الصلاة والسلام - من تعاهد ذلك كله، وقد صرح بأنه حبب إليه من الدنيا: النساء والطيب، وفي قصة التحريم المذكورة في مطلع سورة التحريم، لم تجد أمهات المؤمنين - رضي الله عنهن - شيئاً يهمُّ النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل أن يقلن له إن فيك ريحاً غير طيبة، وكنَّ يعلمن أنه يشتد عليه أن توجد منه الريح، فقلن له ما قلن، فبلغ منه الغم مبلغاً عظيماً، هذا وهو مجرد كلام، والقصة مخرَّجة في الصحيحين، فأين من هذا من يدعي اتباع سنته، ويخالفه في هديه.
رأيتُ في بعض زياراتي إلى بلاد الهند بعض نساك الهنادك، وهم قد توشحوا بالأسمال الرثة، ولبسوا الأزُر والأردية، ولطَّخوا جباههم بالطين، ونشروا شعورهم، يمشون حفاةً في الطرق والمطارات، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، فلله تعالى الحمد أن عافانا من هذه الآصار والأغلال.(/2)
لقد جاءت هذه الشريعة بأكمل الهدي وأصلحه للإنسان، حتى إن المحرم وهو في حال يُطلب منه التبذل والتجرد من الثياب المعتادة، يؤمر بتعاطي الأسباب المزيلة لما يُستقذر عادة، من تعاطي الغسل بالأُشنان والسدر، واستعمال ما يقطع رائحة العرق من ذريرة ونحوها، ثم التضمخ بالطيب في بدنه، واستعمال ما يسكن الشعر بتلبيده بالعسل وما شابه، كل ذلك صيانة للهيئة الإسلامية، حتى لا تخرج هيئة المسلم عن هيئة الآدميين، إلى ما يشبه هيئة السباع المتوحشة.
المتأمل في سير العلماء الكبار، يجدهم قد امتازوا عن غيرهم من العوام وجهلة المتنسِّكة بالعناية بالمظهر، وتعاهد سنن الفطرة، ونقاء الأردان، وطيب الريح، وفي عصرنا هذا لم تكن ترى الشيخ العلامة عبد العزيز بن باز - رحمه الله - إلا وهو في غاية التأنق، يعبق منه أطيب أنواع العود والغالية، يرتدي شماغ البسام الجيد النسج، الحسن الطرق، وثوباً أبيض ناصع البياض بلا رقبة، وعباءةً عودية اللون من الصنف الفاخر، إلا أنها مشمرة فوق الكعبين، تزين وجهه لحية لطيفة، لا تكاد تُرى إلا مخضبة بلون الحناء والكتم، ومع هذا يكون في غاية التواضع ولين الجانب.
وكذا كان تلميذه الشيخ العلامة محمد بن عثيمين - رحمه الله - إلا أنه كان أكثر تقشفاً في المرأى من شيخنا ابن باز، كان ابن عثيمين بسيطاً في ملبسه إلا أنه يشع بياضاً ونقاءً، أبيض اللحية إلا أنه منوَّرٌ مليح الشيبة، كان يرتدي غترةً بيضاء ناصعة البياض، لا تكون مكوية كياً جيداً في كثير من الأحيان، ولم أره يلبس الشماغ الأحمر قط، بخلاف ابن باز فلم أرَه يرتدي الغترة البيضاء قط، وكان ابن عثيمين يشتمل بعباءة نظيفة مشمرة، ولا تجد منه إلا دهن العود وأرج المندل الهندي، وهكذا سائر العلماء الذين أدركتهم وخالطتهم.(/3)
أين هذا من أناس يؤذيك منهم وضر المنظر، وخبث الريح، إذا جالست عالماً، أو شهدت صلاة الجماعة، أو حضرت مجمعاً، لا تنفك تجد من بعض الواردين غمراً، أو درناً، أو خبثاً في ريح، أو انتشاراً في هيئة، وإذا نُصح أحدهم أجاب بجواب بعض المتصوفة حين قيل له: ألا تسرح لحيتك ؟، قال: إني عنها لمشغول، [ذكره ابن الجوزي في تلبيس إبليس (193)].
لاريب أن التساهل في النظافة والطيب خروجٌ عن حدِّ الإنسانية، وانحدار إلى أولى درجات البهيمية، زاد في الدروشة ما زاد، ذلك أننا نرى أن التنزه والتنظف والتطيب على جهة التمام من خصائص الآدميين الكُمَّل، وكلما كانت النفس أكمل كانت الريح المنبعثة منه أطيب، ولهذا إذا فارقت الروح جسد الإنسان أنتن، ومن ثم سمَّت العرب النسَم وهو الهواء الخارج من الفم ريحاً، لخروجه من الروح، فقاربوا بينهما بالاشتقاق لتقارب معنييهما، كما سموا - أيضاً - الدم الخارج من الإنسان: نفْساً، ويسمون المرأة إذا ولدت وخرج منها الدم: نفساء، لهذا المعنى.
ولهذا أيضاً كانت أجساد الأنبياء - عليهم السلام - أطيب الأجساد، وكان عرق النبي - صلى الله عليه وسلم - أطيب الطيب، جعلت أم سليم تسلت عرقه وتصبه في قارورة، تطيب به أبناءها، وذلك لطيب روحه الشريفة.
وكان نافع المدني القارىء إذا تكلم يُشم من فيه رائحةُ المسك، وكان أسود اللون، فقيل له: كلما قعدت تتطيب ؟، فقال: "ما أمس طيباً ولا أقربه، ولكن رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام وهو يقرأ في فمي، فمن ذلك الوقت يُشم من فيَّ هذه الرائحة"اهـ [معرفة القراء الكبار؛ للذهبي (1/108)].(/4)
هذا؛ ولما كانت القِرَدَة أشبه شيء بتصرفات الإنسان؛ حتى إنها امتازت بالنباهة والفهم السريع مثله، وإذا أُلقيت في الماء غرقت كالإنسان الذي لا يحسن السباحة، لهذا الشبه كانت أشد البهائم تعاهداً لنظافة أنفسها، وكثيراً ما تُرى جماعات القردة ينظِّف بعضُها بعضاً، وتتفالى أي يفلي بعضها بعضاً.
نعم؛ إنه لتمرُّ على المرء أوقات يضطر إلى أن يخالط شيئاً من الدرن في ثوبه أو جسده، بسبب قدوم من سفر بعيد، أو إصلاح عطل في سيارته ونحو ذلك، فالواجب عليه أن يتحاشى اللقاء بالناس حتى يميط الأذى عنه، وقد انخنس أبو هريرة - رضي الله عنه - عن ملاقاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ببعض الطريق، إذ كان جنباً، حتى قال له: "سبحان الله إن المؤمن لا ينجس"، كما في البخاري، على أن سيد ملائكة السماء جبرائيل - عليه السلام - قد علمنا كيف يكون قدوم المسافر، حين دخل على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يُرى عليه أثر السفر !.
والشريعة جاءت بالأمر بذلك على وجه الاعتدال والاقتصاد، فكما أن إهمال تعاهد البدن والثوب مذموم، فإن المبالغة في التنظف، والتشدد في الاحتياط فيه مذمومة أيضاً، لأنه حينئذٍ يكون وسواساً أو تنطعاً وتكلفاً، أو مضاهاة لليهود، وقد قال تعالى: { وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ } [سورة ص(86)]، ولما دخل حذيفةُ وسلمان - رضي الله عنهما - على امرأةٍ أعجمية، قالا: أهاهنا مكانٌ طاهرٌ نصلي فيه ؟، قالت: طهِّر قلبك، وصلِّ حيث شئت، فقال أحدهما لصاحبه: فقهت، [أخرجه ابن أبي شيبة (7/122)، ولعبد الرزاق نحوه (1/412)]، وقوله: فقهت: أي حين علمت أن طهارة القلب هي الأصل، لا أن طهارة المحل غير لازمة.(/5)
ومن العجب أنه يثور أحياناً جدال بين طلبة العلم حول اللبس الموافق للسنة، أهو الشماغ، أو الغترة، أو العمامة، والحق أنه ليس في الشريعة لباس خاص لأهل العلم والدين، أو زيٌّ مقدَّس كما نجده في بعض الديانات، ففي النصرانية هنالك زي خاص للقسوس والكرادلة ورجال الكنيسة، لا تتم طقوسهم إلا به، ويروون في العهد القديم: " واصنع ثياباً مقدسة لهارون أخيك "، كما في سفر الخروج، فأما في الإسلام فيلبس المسلم عالماً كان أو ليس بعالم اللبس المعتاد في بلده، والمهم فيها أن تكون طاهرة، وألا تكون ثياب شهرة وشذوذ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يلبس ثياب قومه، نعم وجد في بعض مراحل التاريخ تخصيص لباس معين للفقهاء، كما ذكره الجاحظ في البيان والتبيين وغيره، ولعلهم اتخذوا ذلك لمصلحة تمييز العالم من غيره، ليمكن للناس سؤاله والانتفاع بعلمه، والعادة أن يكون لباس العلماء واسعاً فضفاضاً، فإن اللباس الضيق أشد إظهاراً للروائح السيئة لو وجدت، وعلى كل حال فالأصل أن يلبس المرء لباس أهل بلده كما تقدم، وقد قرر أبو العباس ابن تيمية أنه ليس ثمة لباس لأهل الدين والولاية مخالف للبس العامة، وقال: كم من صديق في قباء، وكم من زنديق في عباء، [مجموع الفتاوي (11/194)].
هذه دعوة إلى زكاء النفس، والثوب والنشر، والأخذ بالسنة النبوية الماضية في اقتناء أطيب الطيب، خصوصاً في المجامع وعند ملاقاة الآخرين، يضاف إلى هذا كله العناية بالمخبَر، إذ هو الأصل، ولما دخل عبد الرحمن بن محمّد بن الأشعث على الحجاج، قال له الحجاج: إنك لمنظراني، فقال عبد الرحمن: "نعم أيّها الأمير، ومخبراني"، والله المستعان.(/6)
العنوان: طبيعة الصراع على بيت المقدس
رقم المقالة: 1778
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
الحمد لله العليم الحكيم؛ خلق البشر فجعلهم فريقين:أهل حق وأهل الباطل، وقضى ببقاء الصراع بينهما إلى آخر الزمان؛ فلا يجتمعان ولا ينتفيان؛ ابتلاء منه سبحانه لعباده {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} [محمد:4] نحمده كما ينبغي له أن يحمد، ونشكره على عظيم منه وواسع فضله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ لا يقضي قضاء للمؤمنين إلا كان خيرا لهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فعليه السخط، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ ختم الله تعالى به النبوات، وقضى بهيمنة شريعته على الشرائع كلها، فلا حق يوصل إلى الله تعالى ورضوانه إلا ما جاء به محمد عليه الصلاة والسلام، وما عارضه فهو البعد عن الله تعالى ورضوانه {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الحَقِّ} [المائدة:48] صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه؛ قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله -أيها المؤمنون- واعملوا صالحا؛ فإن أمامكم كربات وشدائد لا ثبات فيها، ولا مخرج منها إلا بتقوى الله عز وجل، وقوة اليقين به، والالتجاء إليه، وصدق التوكل عليه {وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطَّلاق:3].(/1)
أيها الناس: من عدل الله تعالى في عباده أن جعل السيادة والريادة لمن يدين بدينه ويقيم شريعته، بغض النظر عن جنسه ولونه ولسانه وماله وسلطانه، وهؤلاء هم أهل الحق، والحق أقوى من الباطل وإن طغى أهله وظلموا {بَلْ نَقْذِفُ بِالحَقِّ عَلَى البَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء:18] وأهل الحق غالبون ولو كانوا قلة مستضامين مستضعفين؛ لأنهم جند الله تعالى، وقد قال سبحانه {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الغَالِبُونَ} [الصَّفات:173].
وبنو إسرائيل أمة قد فضلها الله تعالى على من كانوا قبلها من الأمم، بما آتاها الله تعالى من الحكم والنبوة {وَلَقَدْ آَتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الكِتَابَ وَالحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى العَالَمِينَ} [الجاثية:16] وفي الآية الأخرى {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى العَالَمِينَ} [الدُخان:32].(/2)
وإذا أطلق إسرائيل في القرآن فهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام، جعل الله تعالى النبوة في ذريته، وكان موطنهم بيت المقدس بعد أن اتخذه جدهم الخليل إبراهيم عليه السلام موضعا يعبد الله تعالى فيه، إلى أن جرى على يوسف ما جرى عليه في مصر من الرفعة والتمكين، فهاجر يعقوب ببنيه من بيت المقدس إلى مصر؛ كما في سورة يوسف عليه السلام {فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آَوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللهُ آَمِنِينَ} [يوسف:99] ومكثوا فيها أربعة قرون وزيادة، كان الكنعانيون الوثنيون فيها يحكمون بيت المقدس ويسمون العمالقة والجبارين، فلما بعث الله تعالى موسى من نسل يعقوب عليهما السلام، وجرى عليه ما جرى مع فرعون وقومه أنزل الله تعالى التوراة على موسى عليه السلام، وفرض فيها الجهاد على بني إسرائيل فأمروا بقيادة موسى عليه السلام أن يطهروا بيت المقدس من وثنية الكنعانيين؛ فامتنعت بنو إسرائيل عن القيام بأمر الله تعالى وقالوا {يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ} [المائدة:22] فعاقبهم الله تعالى بالتيه على عصيانهم أربعين سنة على ما جاء ذكره في سورة المائدة، توفي فيها موسى وهارون عليهما السلام، ونشأ جيل جديد من بني إسرائيل، أقوى إيمانا، وأصلب عودا، وأمضى عزيمة، فقادهم يوشع بن نون عليه السلام إلى بيت المقدس ففتح الله تعالى عليه، وطهرت الأرض المباركة من شرك الكنعانيين الوثنيين، وعمرها أتباع موسى بتوحيد الله تعالى، إلى أن دبَّ الشرك والعصيان في بعضهم، فكان من بني إسرائيل موحدون، كما كان فيهم مشركون، فلما كثر العصيان فيهم سلط الله تعالى عليهم الجبابرة من الكنعانيين، فاحتلوا بيت المقدس، ونكَّلوا بهم، فضاع بنو إسرائيل وتفرقوا، فعمدوا إلى نبي لهم لينصب عليهم ملكا يسوسهم،(/3)
ويعيد مملكة القدس لهم، فأرسل إليهم طالوت، فكانت المعركة العظيمة المذكورة في سورة البقرة، التي انتصر فيها بنو إسرائيل على الوثنيين، وبرز فيها نجم داوود عليه السلام حين قتل جالوت، ثم آل الملك إليه بعد طالوت، وآتاه الله تعالى النبوة، فافتتح بيت المقدس، وسميت مدينة داوود، فعزم على أن يبني لله تعالى مسجدا سماه اليهود بيت الرب أو الهيكل، وتوفي عليه السلام قبل أن يتم له ذلك فخلفه ابنه سليمان عليه السلام، وآتاه الله تعالى الملك والنبوة، فابتنى المسجد على هيئة عظيمة تليق بملكه وملك أبيه عليهما السلام.
وظل بنو إسرائيل يعبدون الله تعالى في المسجد أو الهيكل على وفق شريعة موسى عليه السلام والنبيين من بعده، ومع تقادم العهد كان بنو إسرائيل يتحللون من شرائع أنبيائهم شيئا شيئا، فيبعث الله تعالى لهم أنبياء يدعونهم إلى التوحيد وإقامة الدين، فربما صدوا عن سبيلهم أو آذوهم أو قتلوهم ، فيسلط الله تعالى عليهم من يسومهم سوء العذاب كما سلط عليهم الفراعنة والبابليين، ونتج عن ذلك هدم المسجد أو الهيكل، وخُرِّبت مدينة القدس في السبي البابلي، ثم أعيد بناؤها وبناء الهيكل لما انتصر الفرس على البابليين.
واستقر الحكم بعد حروب كثيرة للرومان على بيت المقدس، فاسترضوا بني إسرائيل، وتقربوا إليهم، ولكن بني إسرائيل تمادوا في البغي والظلم فبعث الله تعالى فيهم زكريا ويحيى عليهما السلام، وكان زكريا رئيس المسجد أو الهيكل، وهو الذي كفل مريم عليها السلام المنذورة لخدمة الهيكل، ومن مريم جاء المسيح عيسى عليه السلام بلا أب بمعجزة ربانية مذكورة في القرآن.(/4)
وبلغ من فساد بني إسرائيل أن قتلوا زكريا، ثم قتلوا ولده يحيى عليهما السلام لأنه رفض الفتيا لهم بجواز البغاء لأحد ملوكهم، ورموا مريم بالإفك والبهتان، ولما بعث فيهم عيسى عليه السلام انقسم بنو إسرائيل إلى فريقين: فريق آمن بعيسى وهم الأقل والأضعف وهم النصارى، وفريق كفر به وهم الأكثر والأقوى وهم اليهود، فوعظهم عيسى وذكرهم، وكانت عقائدهم وأخلاقهم قد بلغت المنتهى في الفساد والانحطاط حتى إنهم جعلوا مسجد داود ملهى لهم، وسوقا للمرابين منهم، فحذرهم عيسى عليه السلام من العقوبة قائلاً لهم (مكتوب أن بيتي بيت للصلاة وأنتم جعلتموه مغارة لصوص) ولما استيأس منهم حذرهم من أن الهيكل سوف يهدم فقال لهم (الحق أقول لكم: إنه لا يترك ها هنا حجر على حجر لا ينقض).
وانتشرت دعوة عيسى عليه السلام ومواعظه بين الناس، وتأثروا به، فخاف المتنفذون من رجال الدين والسياسة من اليهود على نفوذهم من دعوته، وحكمت المجامع الدينية اليهودية بقتل عيسى عليه السلام، وأغروا الحاكم الروماني بذلك، وفرَّ عيسى عليه السلام ومن معه بدينهم، وسمي المسيح لمسحه الأرض، وكثرة تنقله خوفا من اليهود، إلى أن عثروا عليه فنجاه الله تعالى منهم، ورفعه إليه.
وبعد سنوات من رفع عيسى عليه السلام، وأذية أتباعه بأيدي اليهود؛ سُلِّط اليهود على أنفسهم فحاولوا التمرد على الحاكم الروماني، فاستباحهم، وسبى كثيرا منهم إلى روما، وأحرق المدينة المقدسة، وهُدِم الهيكل للمرة الثانية، وتحققت فيهم نبوءة عيسى عليه السلام فلم يُبْق الرومان في المدينة المقدسة حجرا على حجر. وانتهى أمر اليهود في بيت المقدس، وتفرقوا في أرجاء الأرض، وانتقلت أحقية المدينة المقدسة من اليهود إلى النصارى لشرك اليهود وتوحيد النصارى.(/5)
ولكن أتباع عيسى عليه السلام وهم النصارى ما لبثوا إلا يسيرا حتى بدأ الانحراف يدب فيهم، ولم يبق على التوحيد منهم إلا طائفة قليلة؛ إذ بعد ثلاثة قرون من رفع المسيح عليه السلام أعلن حاكم الروم قسطنطين عقيدة التثليث عقيدةً موحدة للنصارى، ودخلت الأمة الرومانية في النصرانية المحرفة، وهرب الموحدون من أتباع عيسى عليه السلام في البراري والأدغال خوفا من بطش أهل الشرك والتثليث.
وابتنيت الكنائس في مدينة القدس وغيرها على هذه العقيدة الشركية، وأقيمت فيها التماثيل، وصورت فيها التصاوير التي تناقض دين المسيح عليه السلام.
وظل مسجد داوود عليه السلام سورا خاليا لا بناء فيه، ولما بعث الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم، وأسرى به إلى المسجد الأقصى، وأمَّ فيه الأنبياء عليهم السلام كان ذلك إيذانا بانتقال الحق في المدينة المقدسة من النصارى إلى المسلمين، وتم ذلك في فتوح الشام في عهد عمر رضي الله عنه، الذي رحل من المدينة إلى بيت المقدس ليتسلم مفاتيحه من كبار النصارى، ودخلت المدينة المقدسة ومسجدها -مسجد داود عليه السلام- في حظيرة الإسلام، وشرع شد الرحال إلى مسجدها كما شرع لحرمي مكة والمدينة، ولا حقَّ فيها لغير أهل الإسلام بناء على أنها من حق من يقيم دين الله تعالى، ولا دينَ حقا بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم إلا دينُ الإسلام، وأما اليهود والنصارى فانحرفوا عن شرائع أنبيائهم، فكان المسلمون أولى بأنبيائهم عليهم السلام منهم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لليهود (نَحْنُ أَوْلَى بِمُوسَى مِنْكُمْ) متفق عليه. وفي شأن عيسى عليه السلام قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا أَوْلَى الناس بِابْنِ مَرْيَمَ) متفق عليه. وعيسى عليه السلام حين ينزل آخر الزمان فإنه يقاتل اليهود والنصارى على شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، ويحكم بين الناس بها.(/6)
نسأل الله تعالى أن يثبتنا على الحق، وأن يجعلنا من أنصاره، وأن يكبت أعداء الإسلام والمسلمين، وأن يرد كيدهم إلى نحورهم، وأن يجعلهم خائبين خاسرين، إنه سميع مجيب.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله تعالى لي ولكم....
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [البقرة:281].
أيها المسلمون: كان المسجد الأقصى على مرِّ التاريخ مسجداً للمسلمين من قبل أن يوجد اليهود ومن بعد ما وجدوا؛ فإبراهيم عليه السلام هو أول من اتخذ تلك البقعة مسجداً، وقد قال الله تعالى عنه {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِياًّ وَلاَ نَصْرَانِياًّ وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ} [آل عمران : 67] ، وليس لبني إسرائيل يهودا ونصارى علاقة بالمسجد الأقصى إلا في الفترات التي كانوا فيها مسلمين مع أنبيائهم المسلمين عليهم السلام، أما بعد كفرهم بالله تعالى، وشتمهم إياه، وقتلهم الأنبياء فقد انبتت علاقتهم بهذا المسجد الذي تحول إلى إرث المسلمين المؤمنين بجميع الأنبياء عليهم السلام.(/7)
ولكن اليهود والنصارى في هذا الزمن لا يسلمون بذلك، ويحاربون المسلمين عليه؛ إذ يعتقد اليهود أن بناء الهيكل الثالث سيخرج ملكا من نسل داوود عليه السلام، يحكمون به العالم، ويقتلون غير اليهود، كما يعتقد صهاينة النصارى أن نزول المسيح سيكون في الأرض المباركة، وأنهم سيكونون أتباعه، ويقتلون به غير النصارى؛ فالصراع على بيت المقدس هو صراع ديني عقائدي، يعتقد صهاينة اليهود والنصارى أنهم لن يستطيعوا حكم العالم إلا بعد بناء الهيكل فيه؛ ولذا فلن يتنازلوا عنه مهما كلف الأمر.
وأما الملاحدة والعلمانيون من بني إسرائيل فيرون أن هذه العقائد الدينية التي تحرك صهاينتهم فرصة سانحة لإقناع شعوبهم وتحريكهم نحو استعمار منطقة الشرق الإسلامي، وبسط نفوذهم فيها؛ لتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية بهذه المعتقدات. والعجيب أن الأهداف الصهيونية الدينية والأهداف العلمانية عند اليهود والنصارى قد التقت على هذه البقعة المباركة، واتفقت على لزوم السيطرة عليها، وكل واحد من الفريقين وإن كانت له مسوغاته ومشاريعه فإنه يدعم الفريق الآخر ويؤيده. بخلاف المسلمين فإن العلمانيين منهم يريدون التخلي عن الأرض، وبيعها للأعداء بثمن بخس، بل بلا ثمن، ويحاربون من لا يوافقهم في خيانتهم بلا هوادة.
إن الأرض المباركة هي أرض الله تعالى، ومسجدها أقيم لتوحيده سبحانه، وليس من حق أحد -كائنا من كان- أن يتنازل عن شيء منها للأعداء؛ فهي ملك لله تعالى، وأمانة عند المسلمين، ولن تحرر من رجس اليهود إلا بالتزام دين الله تعالى، وتحكيم شريعته، والتوبة من الذنوب والمعاصي التي هي سبب الذل والهوان المضروبين على المسلمين.(/8)
إن الأرض المباركة بمسجدها المقدس لن تحررها مؤتمرات تقام هنا أو هناك، يعقدها من سعروا الحروب لإشباع نزواتهم؛ فاستعمروا البلدان، وخربوا العمران، ونهبوا الثروات، وقتلوا الرجال والنساء والولدان.. هم الخصم في مؤتمراتهم وهم الحكم، وهم من يملون الاتفاقيات، ويشترطون الشروط، ويفرضون إرادتهم الظالمة بالقوة والبطش والتخويف والتهديد، ما يعقدون مؤتمراتهم إلا طمعا في تنازلات جديدة، ولن يكون حظ المسلمين من مؤتمرهم الأخير إلا كحظهم من اتفاقات مدريد وأسلو وغيرها من مؤتمرات الأعداء.
لن ينال المسلمون منها إلا تكريس الاحتلال، ومكافأة الظلمة، وجلد الضحية، وتشريع الفساد في الأرض، فلا أمل فيهم ولا في مؤتمراتهم، وإنما الأمل في الله تعالى، ثم في رجال مؤمنين مرابطين في الأرض المباركة، قد تحملوا عن الأمة كلها مسئولية الدفاع عن المسجد الأقصى، ففدوه بدمائهم وأبنائهم وأموالهم.. ما وهنت لهم عزيمة، ولا لانت لهم عريكة، جوعهم أهل الأرض على ما اختاروا فصبروا وما ضجروا.. هدم اليهود ديارهم، وأتلفوا زروعهم، وفعلوا بهم ما لا يحتمله غيرهم، وهم صابرون صامدون مرابطون، فلهم على المسلمين حق الدعاء والتضرع بأن يفرج الله تعالى كربتهم، ويقوي عزيمتهم، ويربط على قلوبهم، وينصرهم على أعدائهم، ويحرر الأقصى على أيديهم {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ الله العَزِيزِ الحَكِيمِ} [آل عمران:126].
وصلوا وسلموا...(/9)
العنوان: طريق السعادة في القرآن الكريم
رقم المقالة: 330
صاحب المقالة: أحمد دعدوش
-----------------------------------------
سؤال جوهري لابد أن يؤرق كل شاب وفتاة مقبلين على دروب النضج؛ فعليه تتوقف سعادة الإنسان، وبه ترسم الأهداف، وعليه تدور كل صور الحياة، إنه السؤال الذي ما زال يعبث بعقول الفلاسفة، ويلهب خيال الشعراء، ويدير دفة التاريخ، وقلَّما اهتدى الإنسان إلى جوابه، بل لطَّخ تاريخه الطويل بالمحن التي ما كانت لتنزل به لو أنه أحسن السعي في طلبه والاهتداء إليه. فما أكثر لجوئه إلى الأساطير التي فر إليها من مواجهة الحقيقة، وما أقبح خيانته للأمانة التي حملها على عاتقه طائعاً غير مكره {وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب:32]
إنه سؤال الوجود الكبير، سؤال: كيف، ولماذا، ومن أين، وإلى أين، السؤال الذي يكاد يلاحق الإنسان حيثما أدار وجهه وهو يشق طريقه في هذه الحياة، وهو السؤال ذاته الذي ما فتئ الإنسان يصطنع الأعذار للإفلات من قبضته، بعد أن زين له الشيطان طول الأمل، فغمس نفسه في الشهوات غير عابئ بما كان وما يكون، يقول ابن الجوزي في (تلبيس إبليس): "ثم جاء إبليس يحث على العمل بمقتضى ما في الطبع، صعُبت المجاهدة، إلا أنه من انتبه لنفسه علم أنه في صف حرب وأن عدوه لا يفتر عنه، فإن فتر في الظاهر بطّن له مكيدة وأقام له كمينا"[1].(/1)
هذا السؤال هو الذي يجب أن يقف كل منا عنده، وأن يبذل كل جهده في سبيل الخلوص إلى جواب محكم عليه، كي يتصالح مع نفسه وقلبه، ويعيش حياة متوازنة توصله بثقة وثبات إلى بر الأمان، أما المتغافل عن حقيقة وجوده، وحكمة خلقه فهو كالذي شبهه الدكتور البوطي برجل دخل مغارة مظلمة في مكان موحش، فوجد عند مدخلها بقايا لجثة إنسان، فما كان منه إلا أن وضع رأسه وأسلم جفنيه للنوم، غير آبه بما يحتمل أن يكون في جوف هذه المغارة من وحوش ضارية، وهو يمنّي نفسه بالفرار إذا استيقظ، مع أن الموت قد يفاجئه في أية لحظة.
ولخطورة الأمر ولإلحاح عجلة الزمن، أرى أن أخوض معكم أحبتي القراء غمار هذا السؤال العنيد، ولا أقصد بذلك أن نخرج في هذه العجالة بجواب قاطع يريح العقول ويهدئ النفوس، فكل منيتي أن نضع أقدامنا معاً على درب النجاة، وأن نواجه شيطان الهوى بالسعي الدؤوب بحثاً عن الحقيقة، عسى أن نصل بإذن الله - تعالى - إلى مفاتيح السعادة في الدنيا والآخرة.
كيف نبدأ؟
لا شك في أننا جميعاً نؤمن بوجودنا الحقيقي ضمن هذا الزمان والمكان؛ فلم يشذ عن هذه القاعدة إلا بعض السفسطائيين الذين أمتعوا دارسي الفلسفة بخزعبلات شكوكهم التي لا تنتهي، فبداية بحثنا عن الحقيقة يجب أن تنطلق من تحديد مكاننا على طريق البحث، وهو واحد من احتمالات ثلاثة[2]:
1 - أن يكون أحدنا قد آمن بالله وكل ما جاء به رسوله بالفطرة والبداهة، ولم يخطر بباله شيء من الشك في أصول عقيدته، وهو مشغول بعمله والسعي في رزقه، فهذا الإنسان قد وصل إلى طريق النجاة بأقصر الطرق، ولن نكلفه شيئاً من البحث كي لا نفسد عليه إيمانه، لأن الرسول – صلى الله عليه وسلم - لم يطالب العرب بأكثر من الإيمان، ولم يكلف أحداً بمعرفة البراهين العقلية الموصلة إليه.(/2)
2 - أن يكون قد وصل إلى الإيمان بفطرته، ولكنه يتمتع بذكاء قد يحرك في عقله دائماً نوازعَ الشك والتساؤل حتى اهتزت طمأنينته، فعليه إذن ألا يتغافل عن هذه الشكوك، بل يبحث عن الحقيقة عند أهلها بالحجة والبرهان حتى تطمئن نفسه.
3 - ألا يكون الحظ قد حالفه في الوصول إلى الحقيقة بعد، فهو إما باحث عنها راغب فيها، وهو من نسعى للأخذ بيده وهدايته، وإما معاند مستكبر قد ختم الله على قلبه، فلا بد من ملاطفته بالحكمة، والموعظة الحسنة؛ لأن الهداية نور من الله يرسلها إلى من يشاء من قلوب عباده، ولا سلطة لنا على ما وراء ذلك.
وبعد أن يحدد كل فرد منا مكانه على هذه الخارطة، ينبغي عليه الانتقال إلى المرحلة التالية، فإن كان من الفئة الأخيرة، فعليه أن يبدأ إذن بالبحث الجدي عن حقيقة وجوده، وعن حقائق الكون الكبرى، وعن علاقته بكل المكونات من حوله، فإذا وصل معنا إلى الطمأنينة بالإيمان الكامل بالله - تعالى - خالقاً ومدبراً لهذا الكون بكل ما فيه، وبأن هذا الكون قد خُلق لغاية عظمى قد تَخفَى على عقولنا، وأن غاية وجودنا تتلخص في السعي إلى مرضاة الله - تعالى - بإعمار أرضه، والقيام بحقوقه، وحقوق عباده، آن له إذن البحث معنا عن الوسيلة التي يصل بها إلى تحقيق هذه الغايات الكبرى، وهي التي تقوم عليها فلسفة السعادة التي ضل عنها معظم البشر، وجاء بها القرآن الكريم في أكمل صورة وأبلغ بيان.
طريق السعادة:(/3)
لكي يصل الإنسان إلى طريق السعادة، بعد أن أدرك حقائق الوجود الكبرى، عليه أن يتطلع إلى الكشف عن الطريقة السليمة للتعامل مع المحاور الرئيسة لهذا الوجود، وهي: الله - جل وعلا - الإنسان، والكون[3]. ونبدأ بالموجود الأول الذي تخضع له كل الموجودات؛ فبعد أن يتعرف الإنسان إلى الله - سبحانه - من خلال ما ورد عنه في كتابه الكريم وفي سنة رسوله الخاتم - صلى الله عليه وسلم - أو من خلال الأدلة البرهانية التي أبدعها علماء الكلام بطريق المنطق والفلسفة، فإنه سيستنتج بالبداهة حقيقة الوجود الأولى، وهي أن السعادة في الدارين منوطة برضاه - تعالى - والامتثال لأوامره والوقوف عند حدوده.
أما المحور الثاني وهو الإنسان، فلعله من أكثر الألغاز استغلاقاً على العقول منذ القدم، ولا يقتصر ذلك على مرحلة ما بعد سقراط الذي صرف الفلاسفة عن البحث في الكون إلى البحث في الإنسان، بل إن البحث في الكون نفسه لم يكن عند القدماء الذي لم يصل إليهم نور الوحي إلا إسقاطاً لطبيعة الإنسان على ما حوله من ظواهر الوجود، بدءاً من التصور الحيوي للطبيعة - وكأنها مخلوق عاقل - ووصولاً إلى أنْسَنَة الآلهة المتعددة. أما القرآن الكريم فقد وضع للإنسان منهجاً متكاملاً ليتبصر ذاتَه عبر إدراكه للحقيقتين التاليتين:
1 - أنه مخلوق تافه، أصله من تراب وماء مهين، ومصيره إلى جثة هامدة، وهو فيما بينهما يحمل النجاسة في جوفه، ويستقذر كل ما يخرج من بدنه. يقول الله – تعالى – {قُتِلَ الإِنْسِانُ مِا أَكْفَرَهُ. مِنْ أَيِّ شَيءٍ خَلَقَهُ. مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ. ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ. ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} [عبس: 17- 21].(/4)
2 - أنه مع ذلك مكرم على سائر المخلوقات الأخرى[4]؛ فقد أمر الله الملائكة بالسجود لأبيه آدم، وسخّر له الأرض والدواب، وأكرمه بالعقل الذي صنع به المعجزات، قال – تعالى – {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [الإسراء: 70].
فجوهر الإنسان إذن لا يمكن فهمه إلا بتصور هاتين الحقيقتين معاً، وبهذا التصور يستقيم التوازن القائم على الإيمان بأن كل ما يحققه الإنسان من مجد، وعز، ومال، وعلم، وغير ذلك؛ فإنه ليس إلا من فيض الله - تعالى - عليه، أما الإنسان بذاته فليس إلا كتلة من اللحم والعظم تسمو بها نفسه التي يجب عليه تهذيبها وترويضها بالعلم النافع، والعمل الصالح، وأنه على الرغم من ضعفه وتفاهته إلا أن الله - تعالى - قد أكرمه بصفات تؤهله لحمل الأمانة التي لم تقدر عليها الكائنات الأخرى من حوله {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَّحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب: 72] وإذا أخل الإنسان في إيمانه بشرط التوازن بين الحقيقتين، فإما أن ينصرف ذهنه إلى حقيقته الأولى؛ فلا يرى من نفسه إلا جسداً قذراً شهوانياً لا هدف له ولا غاية، فيقبل على ملذاته كالبهائم حتى يقضي على نفسه بإذلالها كما هو حال الماديين (الماركسيين) الذين لم يروا في الإنسان أكثر من آلة. أو أن تطغى على فكره الحقيقة الثانية فتؤدي به إلى التكبر والتأله كما هو الحال عند الوجوديين[5].(/5)
وبعد أن يدرك الإنسان حقيقة وجوده، تتطلع نفسه إلى التأمل في كُنْهِ الحياة التي جُبل على التعلق بها؛ فهي الأساس الذي تقوم عليه كل ملذات الدنيا ومباهجها، وعليها يقوم الأمل في تحصيل ما ترغب فيه النفس وتميل إليه. وإذا عاد مرة أخرى إلى القرآن الكريم ليستشف منه تعريف الحياة فسيجد نفسه أمام منهج تربوي كامل يقوم على محورين:
الأول: أن الحياة ليست إلا جسراً تمر عليه الكائنات في طريقها نحو الآخرة، وأن هذه الدنيا في قصرها وسرعة زوالها لا تساوي شيئاً يذكر في جنب الخلود الذي سيعقبها، ثم إن الآخرة على امتدادها اللانهائي متوقفة على ما يكون عليه حال الإنسان في هذه الحياة الأولى.
فهو إذن في مرحلة امتحان دائم، وكل ما يراه من حوله من مباهج، وملذات، ومتع أو من مآسي، وجراح، وكوارث، فإن هذا كله ليس إلا أياماً قليلة سرعان ما تنقضي، وستوضع بكل ما تحتويه في كفة الميزان لتحدد مصيره الأبدي، قال - تعالى – {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64]. أما المحور الثاني فهو مكمل لهذا الأول، إذ يعمل على إعادة التوازن لهذه الرؤية، فلا تهون الحياة في نظر الإنسان، ولا ينصرف عن إعمار الأرض بالعلم، والعمل إلى التقشف وانتظار الموت. قال - تعالى – {هُوَ أَنْشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود: 61]، {وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكُ} [القصص: 77]، {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل: 97]. وقال المصطفى - صلى الله عليه وسلم - في خطبة الوداع ((فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا إلى يوم تلقون ربكم))، وأعلن أن زوال الدنيا أهون عند الله من قتل امرئ مسلم.(/6)
وبهذه الرؤية المتكاملة تغدو الحياة في نظر المسلم كنزاً ثميناً يتوجب عليه استثماره، فهي في جوهرها لا تستحق من الاهتمام أكثر من كونها جسراً للسعادة الأبدية، ثم إنه في الوقت نفسه مأمور بعدم التفريط فيها لقدسيتها، وقيمتها العظيمة عند الله – تعالى – {مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعَاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} [المائدة: 32]. أما المباهج وألوان المتع التي تصادفه فيها فليست إلا زخارف تتزين بها لإغواء ضعاف النفوس، ولكنها لا تُكرَه أيضاً لِذاتها إذا ما أحسن استخدامها {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ التِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يوْمَ الْقِيَامَة} [الأعراف: 32]. وبهذا الفهم يخوض المسلم غمار الحياة بملذاتها واثق الخطى، بعد أن استيقن أن كل ما ملكه فيها غير باق، فهو إذن في سعي دائم للاستمتاع بها دون إسراف، مع إيمان داخلي بأن ما امتلكه منها في قبضة يده وليس في قلبه {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} وهكذا فهم السلف الصالح الزهد أنه قصر الأمل، ليس بأكل الغليظ ولا بلبس العباء[6].(/7)
وبهذا ينتقل المسلم في تأمله إلى المحور الثالث والأخير في فهمه للوجود، وهو الكون الذي يحوي كل الكائنات المحيطة به، ويبدأ التأمل فيه من قوله - تعالى – {قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [يونس: 101]، ثم يمضي في دراسة عشرات الآيات التي تدعوه إلى التفكر في خلق الله وبديع صنعه، ليخرج منها بنتيجة مشابهة للتي حصل عليها من تأمله السابق في حقيقة وجوده وحياته، وسيكتشف أن فهمه للكون يجب أن ينطلق أيضاً من إدراك حقيقتين متكاملتين: الأولى هي حقيقة أن الله - تعالى - قد سخَّر له معظم ما يحيط به من كائنات، إذ إن تفضيله عليها ليس مقتصراً على تمتعه ببعض الميزات فقط، بل يعدوه إلى تسخير هذه الكائنات لخدمته وتحقيق رفاهيته. قال تعالى {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَة وَّبَاِطنَةً} [لقمان: 20]، {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَات لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونُ} [النحل: 12]، {هُوَ الذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك: 15]. وسيجد المسلم في مزيد من الآيات دلائل باهرة على تسخير هذا الكون له وتمكينه منه، وفي هذا إشارة لطيفة إلى ضرورة استئناسه بهذا الكون، واستبطانٌ للنهي عن الجزع مما قد يلاقيه فيه من كوارث ونوازل قد تحل به؛ فالطبيعة إذن ليست في تحدٍ دائم مع الإنسان الضعيف، والإنسان أيضاً ليس في صراع مستمر للتغلب على طغيان الطبيعة، أما الحقيقة الثانية فهي أن الكون لم يكشف للإنسان كل أسراره بعد، فعلى الرغم من التسخير والتمكين إلا أن طائفة أخرى من المكوَّنات ما زالت غائبة عن إدراك الإنسان أو خارجة عن سيطرته؛ فالكون يضج بالملائكة والجان، وقد(/8)
يحتوي أيضاً مخلوقات أخرى ليس في مُكنة الإنسان التعرف على حقيقتها أو حتى العلم بوجودها، ووجود الإنسان فيه لا يعدو أن يكون ذرة صغيرة لا تكاد تذكر أمام عظمة هذا الكون واتساعه.
وبهاتين الحقيقتين تتكامل رؤية المسلم للكون المحيط، فهو مدرك تماماً لمكانته المتميزة بين جميع المخلوقات، حيث جعله الله - تعالى - مركز الوجود الذي تُسخر له معظم الموجودات الأخرى، وهو في الوقت نفسه مدرك لحقيقة استغلاق بعض الأبواب عليه، وأن قدراته العجيبة مهما بلغت من سمو فإنها لن تطرق تلك الأبواب، ولكنه مع ذلك مدعوّ إلى البحث والفضول؛ فقد حث القرآن الكريم على التساؤل والنظر، وهذا ما فهمه إبراهيم الخليل - عليه السلام - عندما سأل ربه أن يريَه كيفية إحياء الموتى، لعلمه بأن التطلع إلى معرفه هذه الأسرار لا يتناقض والإيمان بها على الرغم من استغلاقها.
النتيجة:
بهذا الإيمان يتصالح المسلم مع خالقه ونفسه والكون الذي من حوله، فهو مدرك أولاً لحقيقة عبوديته لله - تعالى - وقائم بما يلزم عنها من واجبات، ومدرك ثانياً لقيمة نفسه كمخلوق أكرمه الله بتسخير الكائنات له، وأنه قد هبط إلى الأرض ليمتحن فيها قبل أن يعود إلى الجنة التي خُلقت له، فهو مكلف بإعمار هذه الأرض {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود: 61]، ومكلف أيضاً بترويض نفسه للأخذ من الشهوات ضمن قيود الشرع وحدود الحاجة.
فإذا انتهينا إلى هذا الفهم المتكامل للخالق - سبحانه - وللنفس والكون، فقد حقّ لنا الآن أن نتساءل عن النتيجة العملية التي يمكن أن نجنيها من تطبيق هذا المفهوم، ولعل خير إجابة عن هذا السؤال تتخلص في استقراء الواقع الذي عايشه أشخاص سبق لهم أن طبّقوه، ولن نجد مثالاً أفضل من الصحابة - رضي الله عنهم -.(/9)
لقد نشأ الرعيل الأول من أمة الإسلام على تربية قرآنية فريدة؛ فهي لا تقتصر في عرض المفهوم الشامل للوجود -السالف بيانه- على الجانب الفكري فحسب، بل تخاطب كُلاً من العقل والوجدان في تناسق بديع معجز، وقد لخص أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - هذا المنهج في وصيته لخليفته عمر بقوله "ألم تر يا عمر، إنما نزلت آية الرخاء مع آية الشدة، ونزلت آية الشدة مع آية الرخاء، ليكون المؤمن راغباً راهباً، لا يرغب رغبة يتمنى فيها على الله ما ليس له، ولا يرهب رهبة يلقي فيها بيديه"[7]، فكان الصحابة يقرؤون القرآن على حال من الرغبة والرهبة، وقلوبهم تتفطر شوقاً إلى لقاء الله وخوفاً منه في آن معاً[8]. وكان القرآن الكريم يتنزل تبعاً لتدرجهم في هذه التربية، فبعد أن انتصروا في أول غزوة لهم في بدر ووجدوا بين أيديهم الكثير من الغنائم، وكانوا قد تركوا لقريش أموالهم وهاجروا إلى يثرب محتسبين أجرهم على الله، عندها تنازع الشيوخ الذين بقوا تحت الرايات مع الشباب المحاربين في اقتسام الغنائم، فما أن لجؤوا إلى رسول الله ليقسم بينهم حتى تنزل الوحي ينهرهم {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ للهِ والرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ. إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِم يَتَوَكَّلُونَ. الذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ. أُولئِكَ هُمُ المُؤْمِنُونَ حَقاً لهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ ورِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال: 1-4]، عندئذ ارتدعوا جميعاً -رضي الله عنهم- وتركوا الغنائم للرسول فرحين بنصر الله تائبين إليه، وما أن عادت الطمأنينة إلى قلوبهم الطاهرة، وطردوا عنها علائق الدنيا حتى تنزل الوحي(/10)
بقسمة الغنائم {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِينِ وابنِ السَّبِيلِ...} الآية [الأنفال: 41]. وما أن نضج المفهوم المتكامل للإيمان في قلوب تلك الأمة حتى خرجوا ليفتحوا مشارق الأرض ومغاربها، غير آبهين بزخارف الدنيا التي انبسطت تحت أقدامهم، إلى أن دخل ربعي بن عامر بثوبه المرقع على قائد الفرس رستم وهو يمزق البُسط الفاخرة برأس رمحه، ويقف رافع الرأس وهو يتحسر على الرعية التي طأطأت الرؤوس للقائد قائلاً "أتينا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدالة الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة"، فيتهامس الجلوس من كبار القوم "والله لقد تحدث بكلام طالما تطلع إليه عبيدنا".
أما اليوم، فلن نفاجأ كثيراً بنتائج الاستقصاء الذي أجرته مجلة النيوزويك الأمريكية عن أكثر شعوب العالم سعادة، حيث تربّع الشعب النيجيري الفقير ذو الأغلبية المسلمة على رأس القائمة التي تضم خمساً وستين دولة، وتلته شعوب كل من المكسيك، فنزويلا، سلفادور وبورتوريكو، في حين احتلّت الدول المتقدمة - أمام دهشة معدّي التقرير- مراكز متأخرة على سلم السعادة. ولكننا قد نقف طويلاً أمام اعتراف معظم الأمريكيين المستجوبين في التقرير بأن السعادة لا تتعلق بالغنى والمال[9]، وهو ما يبدو مستغرباً في مجتمع براغماتي قام في تأسيسه على أكثر صور الرأسمالية تطرفاً. الأمر الذي دفع المجلة ذاتها فيما بعد لتقصي ظاهرة عودة الدين إلى الانتشار في الولايات المتحدة[10]، لتدور التساؤلات من جديد عن السعي اللاهث للأمريكيين في البحث عن السعادة، عبر وصفات التأمل العابرة التي تؤخذ كجرعات لعلاج النفوس المتعبة.(/11)
أما التساؤل الذي لم يجرؤ أحدهم على طرحه فهو: ماذا عن العلاج المتكامل الذي يفي بحاجات كل من الروح والجسد والمجتمع عامة في تناسق تام، ويهدي الإنسان إلى طريق السعادة الحقيقية في هذه الحياة، ثم يضمن له السعادة الأبدية في ما بعدها؟
هذا هو السؤال الذي ما زال الإنسان مصرّاً على التفلسف فيه، بعيداً عن مصدره الأصيل. قال تعالى {يَا حَسْرةً عَلَى العِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ} [يس: 30].
ـــــــــــــــــــــــــ
[1] ابن الجوزي، تلبيس إبليس، السطور الأخيرة من الكتاب.
[2] الإمام الغزالي، الاقتصاد في الاعتقاد، دار غار حراء، دمشق، ص 9- 13، بتصرف.
[3] هذا التصنيف مأخوذ بتصرف عن كتاب منهج الحضارة الإسلامية في القرآن الكريم للدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، فيرجى الرجوع إليه للاستزادة.
[4] يرى جمهور العلماء أن الإنسان مكرم حتى على الملائكة، انظر شرح العقائد النسفية ص 501.
[5] قد يظن القارئ لفكر الوجودية للوهلة الأولى أنها كرّمت الإنسان بجعله محور الوجود، وبقصرها للحقيقة على الإنسان وحده، بل على الفرد بحد ذاته، ولكني أرى أن تطرف هذا الفكر عند سارتر وأتباعه قد أدى إلى النقيض، وذلك بانطلاق سارتر في فلسفته من منح الفرد حريته المطلقة، وهو ما أدى به إلى الاعتراف بأن الوجود الإنساني ليس إلا مأساة، وأن حياته مجرد عبث تتصارع فيه الظروف القاسية مع الحرية التي لا تعترف بالقيود وهذا يؤدي إلى الصراع النفسي الذي عايشه كل الفلاسفة الوجوديين الأحرار وفاضت به آدابهم من أمثال سيمون دوبوفوار وأندريه جيد وفرانسواز ساغان، ولعل كتاب (الغثيان) لسارتر يغني عن الشرح.
[6] هذه المقولة للتابعي الجليل سفيان الثوري.
[7] الجاحظ، البيان والتبيين، 2/45.(/12)
[8] لمزيد من التفصيل عن هذا الموضوع، انظر كتاب: منهج تربوي فريد في القرآن، د. محمد سعيد رمضان البوطي، مكتبة الفارابي، ط1، ص 61 وما بعدها.
[9] نيوزويك، الطبعة العربية، 3/8/2004 ، ص 58.
[10] نيوزويك، الطبعة العربية، 6/9/2005.(/13)
العنوان: طفلك الغيور.. كيف تتعاملين معه؟
رقم المقالة: 801
صاحب المقالة: د. دعاء العدوي
-----------------------------------------
عندما يمتزج الغضب والخوف وحب التملك تحدث الغيرة، وعندما يشعر الطفل باغتصاب فرد آخر لما يعتبره حقاً لنفسه يصبح طفلاً غيوراً، فالغيرة عند الأطفال ليست - كما يعتقد البعض – مرضاً، بل هي ألم داخلي ومعاناة نتيجة منافسة حقيقية بغية الفوز والسيطرة.
ويرتبط الشعور بالغيرة بنمو المشاعر والعلاقات ، فالطفل يبني علاقته الحقيقية الأولى مع الأم، وهذا الإحساس "بتملك" الأم هو الذي يظهر شعور الغيرة لديه.
• الأسباب:
يرجع الخبراء أسباب الغيرة إلى ما يلي:
عوامل اجتماعية و ثقافية:
لا تزال عوامل تفضيل الذكر على الأنثى في المجتمع واضحة ولذلك نسبة الغيرة في البنات أكثر منها في البنين. وعند الأذكياء أكثر منها عند قليلي الذكاء. وبين الأطفال الذين لا يوجد فارق في السن بينهم.
عوامل فسيولوجية:
إن أغلب الأطفال لديهم شعور بالغيرة من الأخ الذي يولد جديداً ، و ذلك لاعتقادهم أنه سلبهم مركزهم المميز، ونقلهم من محور الاهتمام إلى المركز الثاني أو إلى زاوية الإهمال والنسيان باعتباره الأكبر.
عوامل نفسية:
الخوف من فقدان محبة والدَيهم أو أحدهما سبب رئيس في الغيرة بين الأخوة، ومن المنطقي أن يحاول الطفل الغيور- بصورة لا شعورية غالباً- إزالة منافسه بالاعتداء عليه، أو بالاستهزاء منه، بمحاولة تحقيره، بالمنافسات،أو بالمشاجرات، أو بالأحقاد أحياناً، وأحياناً أخرى بتفريغ غيرته بصورة رمزية بالانقضاض على لعبة، أو أي شيء يخص منافسه، فيضربها بقسوة، أو يدوسها ويحطمها أو يرسم منافسه "أخاه" بصورة غير جميلة. وقد يكبِت الطفل الميولَ العدوانية نتيجة تأثير والدَيه، و يسبب هذا الكبت تأثيراً نفسياً حسب شدته ومدى استمراره.
الأنانية:(/1)
من أهم العوامل التي تجعل الطفل راغباً في حيازة أكبر قدر من عناية والدَيه وخاصة عندما يلاحظ الطفل اهتمام الوالدَين أو أحدهما بأحد الأخوة لوجود تشابه بينهم وهذا الأخ، وقد ظهر هذا في معاملتهم له ويمس هذا التغيير صميم توزيع الحنان في الأسرة وعنايتها بالأخوة الآخرين.
الشعور بالنقص و المرور بمواقف محبطة:
أقسى أنواع الغيرة ينشأ من شعور بالنقص مع عدم إمكانية التغلب عليه كنقص الجَمال أو القدرة الجسمية أو الثياب و الممتلكات من الألعاب.
• مظاهر الغيرة:
العدوانية:
من مظاهر الغيرة عند الأطفال الضرب أو السب أو التخريب أو الثورة أو النقد لما يحدث في أحيان كثيرة.
الانطوائية:
من مظاهرها الميل إلى الصمت أو التجهم أو الانزواء أو الإضراب عن الأكل.
مظاهر فسيولوجية وجسمية:
منها فقدان الشهية واصفرار الوجه و نقص الوزن والصداع و شكوى الشعور بالتعب وقد يتطور إلى شعور بالقيء والاضطرابات المعوية.
أساليب التغلب على المشكلة:
إن رسولنا- صلى الله عليه وسلم- حبيبَنا وقدوتَنا أرشدنا إلى طرق علاج الغيرة بين الأخوة عندما دعا إلى المساواة بين الأبناء حتى في القُبلة، وخاصة أنَّ هناك فروقاً في القدرات والطباع بين الأبناء في الأسرة الواحدة، وهذا قد يقود الأم إلى التفرقة بينهم دون أن تعلم خطورة امتداح أحد الأبناء لنبوغه أو توجيه اللوم إلى الآخر بسبب فشله في الدراسة، فتقع الغيرة بين الأبناء وقد تصبح هذه الغيرة مدمرة.
وقد تسهم الأم في إحداث الغيرة داخل الأسرة من خلال طبيعتها إذا كانت تتسم بالغيرة فيتشرب الأبناء هذا الطبع، وعموماً فإن الأمر يتطلب أخذ الاعتبارات التالية باهتمام:(/2)
- تهيئة الأم لطفلها الأكبر لاستقبال المولود الجديد بإخباره قبل شهر أو شهرين بقدوم أخ جديد جميل مثله، و يمكن للأم أن تطلب من طفلها أن يساعدها إن أمكنه ذلك في رعاية هذا المولود الجديد في إعداد طعامه أو إحضار حاجياته للأم أو مداعبته واللعب معه بشرط ألا يكون ذلك فيه أذى لأي من الطفلين.
- عند قرب موعد الولادة يفضل أن تخفي الأم بعض الهدايا في البيت وبعد الولادة تخبر طفلها الأكبر عن مكان وجود الهدايا فيشعر أن والدته لم تتخل عنه بل تفكر فيه.
- لا يجب إبعاد الطفل الكبير عن البيت مع قدوم المولود الجديد لأن ذلك يجسد مخاوفه في إمكانية التخلي عنه مع عدم الانهماك مع المولود الجديد وإظهار أنهما ما يزالان يهتمان بطفلهما الأكبر و يحبانه مع مراعاة عدم مدح المولود الجديد كثيراً أمام الطفل الأكبر.
- توبيخ الطفل الأكبر إذا أظهر غيرته من أخيه الأصغر غالباً ما يثير مخاوف الطفل وغيرته، ومن الأفضل ترك الطفل يعبر عن شعوره الحقيقي فهذا التصرف يريحه وينفس عنه الحقد والغيرة دون أن يلحق الأذى بالطفل الصغير ومن الأفضل شراء دمية للطفل الأكبر حتى يصب عليها الغضب و يفرغ انفعالاته بدلاً من كبتها لتتفاعل داخله.
- عند محاولة الطفل الأكبر تقليد الأصغر بشرب الحليب، أو أن تتولى الأم إطعامه بنفسها فلا مانع من تلبية رغباته وعدم صده لأن ذلك سيساعده على التخلص من النكوص ومن تقليد أخاه الأصغر.
- أحياناً يطلب الطفل الأكبر من أحد والديه أن يكون حكماً بينه و أخيه الأصغر (من أقوى – من أحسن- من أجمل ) فعلى الوالدين أن يرضيا غروره وأنانيته وألا يطلقا لنفسيهما العنان في إظهار تفضيلهما لأحد الطفلين ومن المستحسن أن نجعل الطفل يشتهي أن يكبر بدون إكراه ولا مبالغة.
- قد يبالغ الوالدان في خوفهما من غيرة ابنهما فيمنحانه امتيازات تجعله أكثر غلظة وغيرة فيجب الاعتدال في المعاملة.(/3)
- لا مكان للعقاب الجسدي في علاج الغيرة لأن استخدام العنف يولد شعوراً بالإحباط والانتقام.
- من المستحسن أن نوجه الإرشادات و التنبيهات لكل طفل على حدة لا أمام إخوته.
- فيما يتعلق بتدخل الوالدَين في المشاجرات بين الأبناء ؛ فالأمر يتعلق بطبيعة هذه المشاجرات وعنفها فإذا تحولت إلى اقتتال فعلى الوالدين أن يوقفا هذا فوراً، وعندما يعود الهدوء إلى المنزل تبدأ الإرشادات والتحقيق في الموضوع، أما إذا كانت المشاجرة لا تتسم بالعنف الشديد فمن المستحسن عدم التدخل و تركهم يحلون مشاكلهم بأنفسهم. ومن الطرق الناجحة لتخفيف المشاجرات استضافة أصدقاء الأبناء لقضاء بعض الوقت، والخروج إلى المتنزهات وتغيير الجو.
- الحذر من الأخ المحتال الذي يحاول الإيقاع بأخيه و يجره إلى المشاكل ليجبر الأهل على التدخل ومعاقبته بحجة أنه المعتدي. وعلينا أن نواجه ذلك بالإيضاح الهادئ للطفل، بلغةٍ بسيطةٍ مفهومةٍ، بحنان وتفاهم، أما من قام بسلوك غير لائق ينبغي تجنبه، ولابد أن يفهم الطفل أن له مكانة وأهمية لا تتغير أبداً مهما حدث.
- إذا حدث و ظهرت علامات الغيرة على الطفل فينبغي ألا نجعلَها مصدراً للفكاهة، وينبغي على الوالدين أن يقنعا الطفل بأن الصغير مازال بحاجة إلى العطف والاهتمام والرعاية لبعض الوقت.
- لا يصح أن ينبهر الوالدان بما يقوم به بعض أبنائهم من مبالغة في الطاعة وإظهار الحب لأن بعض الأبناء لايجيدون التعبير وقد يعتادون النفاق بعد ذلك لكسب رضاء الآخرين، وعلى الوالدين تعليمهم التوسط والاعتدال في المشاعر.(/4)
العنوان: طلابُ العلم في أمريكا اللاتينيّة.. الهدف والمصير
رقم المقالة: 1272
صاحب المقالة: أنس محمد خير يوسف
-----------------------------------------
لم يفارق مخيّلتي المنظرُ الذي رأيته في الجامعة الإسلاميّة بالمدينة المنوّرة، عندما كنت في زيارة لبعض الإخوة.. وبعد أن انتهينا من صلاة الظهر، أحسست كأنّي في مكان مختلفٍ كليّاً عن الواقع الذي أعيش فيه، حيث رأيت طلاباً من جميع الأجناس والأشكال من الشّباب الذين يبدو في محيّاهم طلبُ العلم والسّعي له، فمن مجموعة تتذاكر كتابَ الله، ومن أخرى تتحدّث حول قضايا فكريّة شرعيّة، ومن أخرى تتدارس علوم الشريعة وتراجعها.. إلخ. كما لفت نظري تنوّعُ الجنسيّات من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب.. ومن أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب.. واقتربتُ من شخصٍ غريب الملامح، فسلّمت عليه وكان:
اسمه في الإسلام (عيسى): واسمه قبل الإسلام (كارلوس ألبرتو)
من دولة المكسيك
وسألته عن الجامعة، فقال: إن الجامعة رائعة ومتميّزة، وأتمنى أن يكون لدينا معلمون متخصصون في تعليم القرآن الكريم لطلاب أمريكا الجنوبية، كما أتمنى أن أحضر زوجتي لأستقر نفسياً في دراستي، وأتفرغ معها لطلب العلم، وأن أبني أسرةَ دعوةٍ إلى الله في المكسيك..
وقال شخص آخر:
اسمي: في الإسلام (يوسف حسن ): وكان اسمي قبل الإسلام (يوري)
من دولة: البرازيل
إن هذه الجامعة المباركة أفضل جامعة في العالم، ولذا أسأل الله أن يحفظها وأن يبارك في طلابها.
ثم قابلت آخرَ فقال:
اسمي: في الإسلام (يوسف): وكان اسمي قبل الإسلام (خسي فرناندو )
من دولة: بوليفيا
وقال: الحمد لله، نحن عندنا هذه الجامعة؛ وندرس فيها فهذا يعني أن لدينا خيرًا كثيرًا، وهي أفضل جامعة من جهة تدريس التوحيد.. ونحن نواجه صعوبة كبيرة في الدراسة والتكيف، وسنتغلّب على هذه المشكلات بإذن الله تعالى.
وقال آخر:(/1)
اسمي: في الإسلام (عبد الله): وكان اسمي قبل الإسلام (كارلوس روبيرتو ساليناس ميراندا)
من دولة: نيكاراغوا
وقال: إن الجامعة الإسلامية منبع كبير للعلم الذي ينفع الإسلام والمسلمين، وهي تخرج كثيرا من الدُعاة لأرجاء مختلفة في العالم، ولذا أشكر الله ثم أشكر المسؤولين أن جعلوا الجامعة الإسلاميّة مفتوحة ومتاحة لمن يريد أن يطلب العلم.
وقال آخر:
اسمي: في الإسلام (محمد يونس ): وكان اسمي قبل الإسلام (إدواردو لياتي)
من دولة: البرازيل
وقال: إن هذه الجامعة الإسلامية كبيرة، تقبل الطلاب من كل العالم، وفي كل سنة يأتي طلاب من بلاد مختلفة، وهذه الجامعة هي المكان المبارك للدراسة.
وقال آخر:
اسمي: في الإسلام (سليمان ): وكان اسمي قبل الإسلام (كرستيان زبيب بسديدس)
من دولة: فنزويلا
قال: هذه الجامعة مباركة، وهي أجمل شيء حصل في حياتي؛ لأني فيها أصبحت مسلماً وعرفت الإسلام، وأنا أواجه في هذه البلاد مشاكل الغربة وبعض المشكلات المادّية.. ولكن، الحمد لله على كلّ حال، وبارك الله فيكم جميعاً.
وقال آخر:
اسمي: ماريو خوسي آنصر "حديث عهد في الإسلام"
من دولة: فنزويلا
وقال: أشكر الجميع على الجهود التي يقومون بها..
وقال آخر:
اسمي في الإسلام (يونس ): وكان اسمي قبل الإسلام (هوليوساسر كمبوسانو )
والحمد لله؛ ففي الجامعة الإسلامية يتوافر العلم، وتفهيم المذاهب الأربعة.. وأشكر الله على أني أدرس فيها.. والله أعلم
وقال آخر:
اسمي في الإسلام (عبد الحميد ): وكان اسمي قبل الإسلام (جويل بريسينيو )
أشكر جميع القائمين على هذه الجامعة الرائعة..
وقال أحدهم: اسمي في الإسلام (موسى ): وكان اسمي قبل الإسلام (هكتور لينبن ):
الجامعة الإسلاميّة هي جامعة أبناء المسلمين في العالم، وأنا أشكرهم كثيراً، وأخص الذي أتاح لنا الفُرصة للدراسة فيها.
وقال آخر:
اسمي كارلوس ألبرتو آلنسر ميكليوري "حديث عهد بالإسلام"
من فنزويلا(/2)
والجامعة الإسلاميّة بالمدينة المنوّرة، ما شاء الله، هي جميلة جداً، وطلابها جاؤوا من بلدان مختلفة.. والحمد لله أننا ندرس فيها المواد الإسلاميّة والقرآن الكريم.
وأخيراً كان لقائي مع أحد الطلاب الفنزويليين، وهو الوحيد من أمريكا الجنوبيّة الذي سيحصل على الدبلوم العالي في الدراسات الإسلاميّة إذا تخرّج هذه السنة.. وقد كان يقول والدموع تكاد تذرف من عينيه (والذي أصبح اسمه في الإسلام عبدالرحمن مندول):
لقد سُررت كثيراً.. حتى إنني لا أجد كلاماً يعبّر عن شعوري بالفرحة التي تغمرني؛ لأني التحقت بالجامعة الإسلامية.. وهذا لأن حياتي قد تغيّرت كثيراً إلى الخير.. وكذلك فقد قضيت أفضل الأيام فيها، موازنةً بما سبقت في أيام الماضي.. وهي قد مكّنتني مِن أن أصبح داعية في أي مكان أكون أو سأكون فيه، وباستخدام وسائل متعددة، وذلك في سبيل الدعوة إلى الله.. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين..
وأخيراً... فإن قلّة من طلاب أمريكا الجنوبيّة يصبرون ويتخرّجون في الجامعات العربية والإسلاميّة في العالم.. بل إن الذين يكملون دراستهم منهم نادرون جدًّا... وذلك للاختلاف الجذري بين حياتهم في الدول العربية وحياتهم في بلدانهم... ولأنهم لا يجدون البيئة التي تتفهّمهم وتهتمّ بهم إلى أن يُكملوا مراحلهم الدراسيّة، كما أن المشكلة والعائق الوحيد أمام الدعوة الإسلاميّة في أمريكا الجنوبيّة هي اللغة ومخاطبة الشّعوب بلغاتهم ولهجاتهم وتفكيرهم ومنطقهم.(/3)
وأغلب الدّعاة في أمريكا الجنوبيّة هم من جنسيات عربيّة، ويمكننا القول: إن الدّعاة من أهل البلد الأصليين لا يكادون يُعدّون بين مئات الملايين من شعب أمريكا الجنوبيّة والوسطى.. علماً بأنهم هم القادرون وبشكل متميّز على التأثير في بني جلدتهم.. كما أني أعرف أحد طلاب العلم من المكسيك، وهو الوحيد المسلم من بين ثلاثة عشر مليون شخص (13.000000) في منطقته؛ قد فرّ بدينه وتزوّج من مسلمة ليترك بلاد الكفر.. فحريٌّ بنا أن نهتمّ بكل طالب من تلك البلاد ونقدّم له الدعم، حتى يقوى على البقاء والتخرّج وإكمال الدراسة.. وأن نشدّ من أزره لتحقيق هذا الهدف النبيل، ولنحافظ على هذه الشمعة ونجعلها فناراً يهتدي به الضائعون والتائهون في تلك البلاد.(/4)
العنوان: طلاق.. على زواج لم يبدأ!
رقم المقالة: 1969
صاحب المقالة: مجاهد مليجي وماجدة أبو المجد
-----------------------------------------
• طلاق في المسجد قبل إعلان العقد بسبب قائمة المنقولات.
• طلاق بسبب زجاجة مياه غازية وآخر لتأخر العروس نصف ساعة في الكوافير.
• عبدالصبور مرزوق: البعد عن الشرع في الزواج وراء نهاية الزيجات قبل أن تبدأ.
• ابتسام عطية: مؤشر خطير على انحدار علاقة المصاهرة.
• • • • •
لم تعد ليلة العمر من الليالي السعيدة للعروسين في كل الأحوال كما كانت في السابق، فقد أصبح من الممكن أن يهدم البيت وتنتهي العلاقة قبل أن تبدأ، وذلك بسبب ما قد يحدث من مشكلات في هذه الليلة فتزفّ العروس إلى عالم الأحزان لتعود إلى بيت أبيها بكامل زينتها لتجر وراءها ذُيُولاً من خَيبة الأمل ومرارة الأسى وقهر التقاليد البالية، وقد تأتيها الورود والهدايا إلى غرفة بإحدى مستشفيات الأمراض النفسية والعصبية، وقد تكون العقلية - في بعض الأحيان - بعد أن تصاب بصدمة عصبية عنيفة، وتصبح هذه الليلة ذكرى سيئة يصعب تذكرها لما تحمله من ألم.
لقد سادت المجتمعات العربية العديد من العادات، التي تدل على غياب الوعي بأهمية تكوين الأسرة المسلمة على شرع الله، وعلى أساس من المودة والرحمة بين الزوجين، بعيدًا عن حسابات المكسب والخسارة، فضلاً عن غياب معنى المصاهرة وحقوقها وواجباتها لتدخل أطراف كثيرة تفسد تلك العلاقة الإنسانية الراقية، التي تؤلّف القلوب وتجمع العائلات وتذيب الفوارق بين الجميع تحت مظلة تأسيس بيت مسلم جديد.
• طلاق يوم العقد!(/1)
في أحد المساجد وسط القاهرة وفي أثناء عقد الزواج، شبَّت مشاجرة بين أهل العريس وأهل العروس بسبب قائمة المنقولات التي قدرت بمبلغ كبير جدًّا، فعندما شرع المأذون في فتح دفاتره لإشهار عقد الزواج تَدَخَّل- فجأة - واحد من أهل العريس رافضًا ما أسماه بالابتزاز من جانب أهل العروس، وطلب من أهل العريس ألا يُوَقّعوا على قائمة المنقولات؛ لأن مبلغها كبير جدًا، وبرغم تدخل أصحاب الرأي السديد من المدعوّين لتهدئة الموقف ومطالبة الجميع بالتحلي بالحلم ومناقشة الموضوع بهدوء، وأن يتراضَوْا على مبلغ وسط يرضي الجميع فإن المشكلة لم تُحل وأصرَّ كلّ طرف على رأيه، فعَمُّ العروس رَفَضَ وتمسَّك برأيه مؤكدًا أن بنت أخيه ليست كأي بنت وأنَّ حَسَبَها ونَسَبَها كبير وأنها تُقَدَّر بأكثر من ذلك لكنهم وضعوا مبلغًا متواضعًا يتناسب وتواضع أهل العريس رحمة بهم وشفقة عليهم وأنهم لم يكلفوه شيئًا كثيرًا.
وهنا احتدَّ الشجار واحتدم الصراع وارتفع الصوت عاليًا في المسجد وانقسم الحضور إلى فريقين: الأول مع أهل العريس معترضين على كلام عَمّ العروس، ولا يمكن أن يحدث هذا النسب فمشاكله في المستقبل كثيرة جدًا، والآخر مع أهل العروس بحجة أن ابنتهم ليست قليلة في البلد ولماذا لا يوقعون على قائمة المنقولات واعتبروا عدم التوقيع دليلا على سوء النية، واختفى الفريق الثالث الذي يريد الإصلاح لينتهي الخلاف بأن أقسم عم العريس ألا تتم الزيجة وخرج الجميع من المسجد دون عقد زواج العريس والعروس وزف العريس إلى عزوبيته وزفت العروس من مركز التجميل بفستانها الأبيض إلى غرفتها بظلمتها الدامسة وباتت على أحزانها وأوجاعها.
• طلاق في ليلة الحنة!(/2)
انتهت ليله الحنة - كما تسمى في مصر - إلى ليلة طلاق زوجين قبل أن يدخلا عش الزوجية؛ وذلك بعد أن طلبت العروس من عريسها - الذي عقد زواجهما رسميًّا وبقي الإشهار حتى ليلة الزفاف - عشرين جنيها لأنها تحتاجها ضروري لاستكمال شراء بعض الاحتياجات التي تريدها، فازداد غيظه وأقسم عليها بالطلاق بحجة أنها قد أحرجته أمام أصدقائه وهو ما دفعه لهذا التصرف، فانفضَّ العُرْسُ وانسحَبَ العريسُ وحُبِسَتِ الزغاريد داخل حلق الأمهات والخالات والعمَّات وتحوَّل الإعداد ليوم الزفاف والفرح إلى مأتم وحزن ولم يجد توسل المصلحين لإثناء العريس عن رأيه.
وفي حالة أشدّ غرابة من سابقتيها فقد أنهى أهل العريس الفرح؛ بسبب تأخّر العروس في مركز التجميل نصف ساعة عن موعدها المتَّفق عليه؛ ليسطروا نهاية مأساوية لعش زوجية قبل أن يبدأ التكوين، وانهيار أحلام فتاة كانت تحلم بابن الحلال الذي جاء بعد طول انتظار، وضياع حلم شاب تمنَّى طويلاً أن يؤسّس حياة على شرع الله، لكن ماذا يفعلان أمام بشر لا تتقي الله في تصرفاتها، وعوقبت العروس على فعلٍ لم يكن لها ذنبٌ فيه فأنهيت حياتُها قبل أن تبدأ.
وفي حالة أخرى انتهت فيها الزيجة وكتبت نهايتها على ورقة الزواج بعد أن تشاجر أهل العريس وأهل العروس على زجاجة مياه غازية منعها أحدهم عن أحد أقارب العروس فقرَّر الأهل الانسحاب مدَّعين الغضب وأخذوا العروس معهم وأصرّوا على عدم إتمام تلك الزيجة رافضين ذلك النسب الخسيس كما قالوا.
• ثمن "الجاتوه" المر:
وفي حالة أخرى أكثر غرابة من سابقتها، حدث الطلاق بسبب ثمن "الجاتوه" والحلوى التي ستقدم للمدعوين، وأصرّوا على عدم إتمام العرس، وعلى الذهاب للمأذون لكتابة وثيقة الطلاق، رغم اعتراض العَرُوس والعريس، لكن لا حول لهم فقد سطرت الأيادي الخبيثة نهاية حياتهما قبل أن تبدأ رغمًا عنهما، وذلك بسبب تعنُّت الأهلِ في تصرُّفاتهم.(/3)
وبسبب شجار بين والدة العروس ووالدة العريس قبل موعد الدخلة بأسبوع واحد، أصرَّت كل منهما ألا تتم هذه الزيجة الشؤم كما أصرتا على فسخ عقد الزواج الذي وُقِّع عند المأذون من مدة، فكان دورهما كبيرًا في تحطيم الأسرة الوليدة قبل أن تبدأ، وتحت الضغط تمت مراسم الطلاق رغمًا عن أنف العريس والعروس وتحطم قلباهما بسبب ضعف عقل الأمهات.
• تحين الفرص:
وحول تقويم هذه الحالات قالت الدكتورة سنية عبدالوهاب - أستاذ علم الاجتماع بالجامعة الأمريكية بالقاهرة -: إنَّ هذه النماذج لا تعبر عن الشعب المصري بجميع فئاته وطوائفه بل تعبر فقط عن حالات فرديَّة لبشر قد نعتبرهم غيرَ أسوياء أو مادّيّين، كما لا يمكن تعميم هذه الحالات على مستوى المجتمع المصريّ ونبدأ في جلد أنفسنا.
وترى أنَّ إفشالَ الأهل لإتمام العرس يشير إلى احتمال رفضهم المسبق لذلك، فهي "تلكيكة" كما نقول بمصطلحاتنا الدراجة؛ لأن ما حدث يعني أن أحد الطرفين لا يرغب في الطرف الآخر؛ لذلك يتحيَّن الفرص لإنهاء علاقة المصاهرة أيًّا كان الوقت، حتى لو كان العروسان على الكوشة، فهم لا يتورعون في اختلاق بعض المبررات والمشاكل لإنهاء هذه العلاقة، التي كانوا يرفضونها منذ البداية.
وتؤكد دكتورة سنية أن الزواج لا يصح بهذه الطريقة (الهمجية) في التعامل بل هو علاقة بين عائلتين يجمعهما التفاهم والاتفاق، كما أن الزواج لا يمكن أن يتم بين شاب وفتاة دون حضور الآباء والشهود وغيرهم وإلا كان زواجًا عرفيًا، ورغم هذا فالأهل لا يقدرون مشاعر أبنائهم ويهتمون فقطْ بالمكاسب المادّيّة.
• رأي الشرع:(/4)
واتَّهم الدكتور عبدالصبور مرزوق - عضو مجلس البحوث الإسلامية - من يفعل ذلك بأنه ضعيف الدين و ليس عنده خلق ولا حتى عقل، وتساءل كيف تنتهي زيجة على أشياء مادّيّة يسيرة كهذه؟ وأي شرع يقبل هذا؟ فالزواج كما شرعه الله عز وجل شركة بين اثنين لابد أن يقوم على المودَّة والمحبَّة والتَّفاهم ولا يقوم على المادّيَّات البحتة.
ويرجع الدكتور مرزوق فشل هذه الزيجات قبل أن تبدأ إلى البعد عن دين الله عز وجل وإلى هجر تعاليمه وسنة رسوله وهديه عليه السلام في الزواج كما قال: "إن من يسر المرأة قلة مئونتها"، إضافة لعدم المغالاة في المهور، وأن يزوج الشاب المسلم إذا كان دينه وخلقه صالحين كما قال عليه الصلاة والسلام: "إذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه".
وفي النهاية ينصح دكتور عبدالصبور المسلمين بضرورة العودة لمبادئ الدين الإسلامي والشرع في التيسير في المهور، والبعد عن تحقيق مكسب مادي من وراء الزواج، إضافة إلى ضرورة أن يسود التفاهم بين أهل العروسين، فبالتفاهم بين أهل العروسين تصبح العائلتان عائلة واحدة.
• مؤشر خطير:
واعتبرت الدكتورة ابتسام عطية - عميد كلية الدراسات الإنسانية بجامعة الأزهر - الحالات السابقة مؤشّرًا خطيرًا على عدم التمسك بالقيم الإسلامية والأعراف والتقاليد، وهو ما أدى بعلاقة المصاهرة إلى الضياع والاندثار أحيانًا في بعض الفئات الاجتماعية، فلم يعد لها نفس القيمة التي كانت عليها في الماضي بين الأسرتين المتصاهرتين فقد كان قديمًا الرجل يتزوَّجُ لأُسرته وكذلك البنت تتزوَّج لأسرتها وليس لشخصها فقط، لدرجة أن المثل الشعبي كان يقرر: "إن العريس راجل ملو هدومه" أمَّا الآن فأصبح المقياس والمعيار ماذا فعل أبو وأم العريس له حتى يتزوج ويؤمن مستقبله وتبدل المثل فأصبح يقال: "حتة ولد أبوه وأمه عملوه له مستقبل".(/5)
فالعريس كان قديمًا يتحمل المسؤولية بمفرده أما الآن فيتحملها عنه والداه وتتدخل عوامل نفسية كثيرة تؤدي نفس النتيجة وتتحول المصاهرة إلى علاقة فردية وتصبح تلك النماذج واضحة خاصة مع الزيادة السكانية، ومن الخطأ أن ينظر إليها على إنها حالات قليلة، لذلك فمن الضروري أن يخضع العروسان المقبلان على الزواج وتكوين أسرة إلى دورات تدريبية على معنى وكيفية تأسيس الأسرة وتحمّل المسؤولية فكل منهما لابد أن يفكر في معنى تكوين الأسرة، لكن المشكلة أن أهل العروسين يريدون لهما الراحة المادية فقط، ويعتبران أن الحياة الزوجية لأبنائهم صفقة تجارية فيها الكاسب والخاسر، لذا فعليهم أن يحققوا أكبر مكسب مادي لأبنائهم.(/6)
العنوان: طيور العام .. من الشعر الطفلي
رقم المقالة: 1987
صاحب المقالة: أمل مطر الشلوي
-----------------------------------------
.. وفي بداية العام الجديد، 1429هـ، تُطل علينا الأخت/ أمل الشلوي بقصيدة متميزة للطفل..
تحمل هذه القصيدة رؤية ذات بصيرة تُدرك أهمية القيَم في التغيير.. هذه القيم هي قيم الإسلام التي يسعى الأدباء الإسلاميون المهتمون بالطفل إلى غرسها في أنفس النشء ليجسّدها ويفعّلها مستقبلاً.
والشاعرة كبقية الأدباء الإسلاميين، تحمل همَّ الأدب التوعويّ، الذي يصحح العلاقة بين الأدب والعقيدة ويحقق الانسجام بين المسلم وحسه الأدبي.. يظهر ذلك من خلال معجمها الثقافي الإسلامي والتربوي، ومن خلال الحرص على التطوير والتغيير فيما تكتب، بما يتلاءم وذهن الطفل، وبأسلوب ممتع متجدد:
(طُيور العامِ)
طيورُ العامِ قد طارتْ فتترُكُنا بلا رَجعهْ
لنقضيَ عامَنا القادِمْ بكلِّ الخَير والمُتعهْ
• • • •
أنا قرّرتُ في عاميْ كتابَ اللهِ أتلوْهُ
وأحفَظُهُ بإتقانٍ وذِكْرَ اللهِ أعلوهُ*
• • • •
سعيدٌ قال لي بُشرىً: لقدْ قرّرتُ فيْ عاميْ
أُصلّيْ الخمسَ كاملةً دواماً كلَّ أياميْ
• • • •
وهندٌ بعدَما أصغتْ لنا ، قالت : قراري حانْ !
أصومُ الشهرَ فيْ صَبْرٍ فما أحلاك يا رمضانْ ..!
• • • •
إذا كُنَّا عَلى العَهْدِ طوالَ العامِ يا إخوانْ
سنَحْيا عيشةً حُلَوهْ ويَرضى خالقُ الأزمانْ
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
* ملحوظة على كلمة "أعلوهُ": أعلاهُ؛ أي رفعه وجعله عالياً. وهو فعل واويّ، ولكن واوه تصبح ياءً مع المضارع (علا يعلوْ، فأعلاهُ وأعليتُهُ وأُعليهِ)، وهو كقولنا (بدا يبدو، فأبداهُ وأبدَيتُهُ وأُبديهِ).(/1)
العنوان: ظاهرة التقاء الساكنين
رقم المقالة: 1158
صاحب المقالة: خليل محمود الصمادي
-----------------------------------------
لا شكَّ أنَّ ظاهرةَ التقاء الساكنين تُحدِثُ تغييراً في بناء الكلمات في اللغة العربية ونطقها وإعرابِها، وهي ظاهرةٌ تستحق الوقوف والدراسة لتَكرارها في كلامنا الفصيح إعرابا ونطقا وضبطا.
فالتخلص من التقاء الساكنين قديمٌ قِدمَ لغتنا العربية، والشواهدُ عليه كثيرة من شعرنا الجاهلي والقرآن الكريم والحديث الشريف وأقوال العرب، أما في القرآن الكريم فقد أخذت ظاهرة التقاء الساكنين اهتماما عند الدارسين على مر العصور.
وخلاصة القاعدة في اللغة العربية تقول: إذا التقى ساكنان فيتم التخلص من أولهما؛ إما حذفا إذا كان معتلا، أو بتحريك أحدهما بالحركات إن كان الساكن صحيحا.
وفي أصل الكلمة الواحدة لا يجتمعُ ساكنان، وإنما الاجتماع يتم بتغيير الكلمة بسبب العوامل الداخلة عليها، أو عند وصلها بكلمة أخرى؛ فالأمرُ من (قَامَ) (قُمْ) ومن (وَفَى) (فِ) ومن (رَأى) (رَ) أو (رَهْ)، والمضارع المجزوم مِن (يقول) (لَمْ يَقُلْ) وهكذا.
مواضع التقاء الساكنين:
قيل: إنَّ العرب لا تبدأ بساكن ولا تقف على متحرك، ولكن عند تصريف بعض الأفعال يطرأ السكون على أوله فيتم التخلص منه بهمزة الوصل، ويغلِبُ ذلك في أمر الثلاثي والخماسي والسداسي (ذَهَبَ يَذْهَبُ اذْهَبْ), (اسْتَعَانَ اسْتَعِنْ اسْتِعَانَة)، فالقاعدة تقول: يأتي الأمرُ من المضارعِ بعد حذف حرف المضارعة كما في المثال السابق، وبما أنَّ فاء الفعل ساكنةٌ فلا بد من النطق بمتحرك، وتخلصا من هذه المشكلة جيء بهمزة الوصل للنطق بمتحرك بدايةً، وهذه الهمزة تسقط لفظا عند الوصل كما في (وقال لهُ اذْهَبْ).
وقول (إنَّ العرب لا تقف على ساكن) ليس على إطلاقه، وقد توسَّع علماء التجويد في ذلك وأجازوا الوقوف على متحرك في الروم أو الإشمام أو هاء السكت.(/1)
هل يلتقي ساكنان في الكلمة الواحدة؟
لا يلتقي ساكنان خطّاً في الكلمة الواحدة، وإنما الالتقاءُ يكون لفظا من أجل الوقوف العارض، ويكون ذلك في وسط الكلمة أو في نهايتها، ولا يكون في بداية الكلمة إطلاقا، ففي الوسط لا يكون إلا بعد مدٍّ مع التضعيف؛ كما في (الصَّاخَّة)، (الحاقَّة)، وما شابههما، وفي الطرف إذا وَلِيَ المدَّ سكونٌ عارض مثل (رحيْمْ) (عليْمْ)، ويكون أيضًا مع حرفين صحيحين؛ الأول ساكن أصلي والثاني عارض من أجل الوقف كما في {والفجْرْ. وليالٍ عشْرْ} [الفجر: 1-2].
أما النوع الأول فيُتخلص منه بالمد، وأما الثاني الذي فيه الحرفان الصحيحان فالنطق به صعب؛ إذ تشم رائحة الحرف الأخير شما؛ إذ يصعب نطق الساكن الأخير إذا سبقه ساكن صحيح. ويسمى "رَوْمًا" قال السيوطي: "ولم يَجمعوا (يقصد العرب) بين ساكنين في حشو الكلمة، ولا في حشو بيت، ولا بين أربعة أحرف متحركة؛ لأنهم في اجتماع الساكنين يبطئون، وفي كثرة الحروف المتحركة يستعجلون، والكثيرُ في التقاء الساكنين يكون في الوصل بين الكلمات كما في {قالت الأعراب آمنا} [الحجرات: 14] ومثله كثير في القرآن وغيره من كلام العرب[1].
إذًا يلتقي ساكنان في كلام العرب ولكن طرفاً، وزاد بعضهم: أنه تلتقي ثلاث سواكن طرفا، واستشهدوا على ذلك بالكلمات المشددة طرفا التي تقع بعد مد كما في (جانّ) (حاجّ) (صوافّ) (تتَّبعانّ) وكذلك في (أراْيْتْ) و(أاْنْتْ) في قراءة ورش بالإبدال.
كيف يتم التخلص من الساكنين؟
هناك طرق عدة للتخلص من الساكنين:
1- الحذف خطاً:
• يُحذف حرفُ العلة إذا وقع آخرَ الأمر (ادْعُ) (اجْرِ) (اسْعَ)، ويعود حرف العلة مفتوحا عند اتصال الفعل بنون التوكيد: (اجرِيَنْ) (ادنُوَنَّ).(/2)
• يُحذف حرف العلة إذا وقع في الفعل الأجوفَ وسكن آخرُه كما في (قُلْ) (بِعْ) (نَمْ) (لا تنَمْ) (لم يقلْ). وإذا تحرك آخره عادت العين المحذوفة كما في (قُولا), (نامُوا)، (خافِي) .... لعدم تتابع الساكنين، كما تحذف العين إذا اتصلت بالفعل ضمائر الرفع المتحركة نحو: (قُلتُ)، (بِعتُ)، (قُلنَ)، (هَبْنَ). فالأصل في (قُلْتُ) (قَوَلْتُ)؛ تحركت الواوُ بعد فتحة فقلبت ألفاً فصارت (قَالْتُ)، فاجتمع ساكنان فحذفت الألف لاجتماع الساكنين. وكذا (بِعت) (بَيَعْتُ) (باعْتُ) (بعْتُ). أما (يقلنَ) (يقْوُلْنَ) (يَقُوْلْنَ) (يقُلْنَ)؛ نقلت حركة الواو إلى الحرف الصحيح الساكن لأنه أولى بتحمل الحركة، ثم حذفت لالتقاء الساكنين.
• يحذف حرف العلة من الاسم المنقوص إذا نون بالرفع أو الجر كما في (قاضٍ)، وتبقى الياء بعد تنوين الفتح؛ لأنَّ الياء فتحت وتخلصت من التسكين.كما في (رأيت قاضياً).
• تحذف الألف المقصورة لفظا إذا نونت كما في (قرًى) رفعا ونصبا وجرا؛ لأن التنوين ساكن ويأتي بعد ساكن وهو حرف العلة، فيحذف تخلصا من التقاء الساكنين.
• إذا لحقت الفعلَ الماضي المعتل واوُ الجماعة أو تاء التأنيث يحذف المعتل من الفعل ويعوض عنه بحركة من جنس المحذوف قبل الألف للدلالة على أنَّ المحذوف ألف (رأى + و = رأَوْا) (غَزَى + تْ = غَزَتْ)، أما إذا وَلِيَ واوَ الجماعة الساكنة سكونٌ فتضم الواو كما في قوله تعالى {اشتَرَوُا الضلالة} [البقرة: 16]، فتم التخلص من سكون الواو بضمها؛ وذلك لمجيء الساكن بعدها. وإن كان أصل المعتل (لام الفعل) واوا فتحذف ويضم الحرف الذي قبلها لمناسبة الواو: (سَرُوا) بوزن (فَعُوا) فأصلها (سَرُوُوا)؛ تحركت الواو بالضمة لمناسبة واو الجماعة واستثقلت الضمة على الواو فحذفت، ثمَّ حذفت الواو نفسها دفعا لالتقاء الساكنين.(/3)
• يحذف حرف العلة من المضارع المعتل الآخر عند إسناده لواو الجماعة أو ياء المؤنثة المخاطبة كما في (يرمِي)، (يدنُو)، (يسعَى) فعند الإسناد تصبح (يرمُون)، (لم يدنُوا)، (لتسعَوْا). و(ترمِين)، و(تَدنِين)، و(تَسعِين). ويحرك بالفتح ما قبل المحذوف إن كان ألفا (يسعَوْن) وبالضم إن كان المحذوف واوا (يغزُون) وبالكسر إن كان المحذوف ياء (تغزِين). ويُعامل فعلُ الأمر معاملةَ المضارع؛ لأنه مأخوذ منه فيحمل عليه، (اسعَوْا) و(اسعَيْ) و(اغزُوا) و(ارمِي).
• يحذف حرف العلة من اسم المفعول المعتل العين كـ(مَقْوُول) من (قال)، (مقُوْوْل) ثم (مقُول) بحذف الواو تخلصا من التقاء الساكنين وكذلك (مَبْيُوع) من (باع)، (مَبِيْوْع) ثم (مَبيِع) نقلت حركة العين إلى الساكن قبلها فالتقى ساكنان فحذفت واو المفعول.
• تحذف ألفُ المصدر من (إفعال) و(استفعال) إذا كان الفعل معتل العين مثل "أقام إقامة واستقام استقامة" فأصلهما: (إقوام) و(استقوام)، نقلت حركة العين - وهي الفتحة - إلى الساكن قبلها، فالتقى ساكنان: عين الكلمة والألف، فحذفت الألف لالتقاء الساكنين فصارتا "إِقَوْمَا" (بكسر ففتح فسكون) و"استِقَوْما" (بكسر التاء وفتح القاف وسكون الواو) فقلبت العين ألفا لتناسب الفتحة قبلها، فصارتا "إقاما واستقاما" ثم عوض المصدر من ألف الإفعال والاستفعال المحذوفة تاء التأنيث. واختصاراً عندما نقول (أكرم) فالمصدر (إكرام) على وزن (إفعال) وفي (أعان) (إعاان) (إفعْال) فالتقى ساكنان فيحذف عين الفعل (الألف الأولى من إعاان) ويعوض عنها بتاء التأنيث فتصبح على وزن (إفالة) وكذا في (استعان).(/4)
• إذا لَحِقَ مضارعَ الأفعال الخمسة نونُ التوكيد مثل (ليقولونّ) فتصبح (ليقولُنّ)؛ لأنَّ أصل الكلمة (ليقولونْنَّ) ففي هذه الكلمة ثلاث نونات؛ نون الرفع والنون الأولى الساكنة المدغمة والنون المشددة المفتوحة الآخر ثم حذفت نون الرفع لتوالي الأمثال، فالتقى ساكنان واوُ الجماعة والنونُ الأولى الساكنة من النون المشددة المفتوحة الآخر, فحُذِفت واو الجماعة تخلصاً من التقاء الساكنين، وبقيت الضمة على اللام للدلالة على المحذوف. وهكذا فيما يقاس عليه.
• تعود الفتحة إلى آخر المضارع المجزوم إذا اتصلت به نون التوكيد الثقيلة أو الخفيفة مثل: (والله لتجتهدَنَّ)، ويعرب عندها فعلَ مضارع مبنياً على الفتح لاتصاله بنون التوكيد في محل جزم؛ وذلك لأنَّ التنوين ساكن و(لتجتهدْ) مجزوم فيتم التخلص من السكون الأول ببنائه على الفتح.
2- وأما الحذف لفظاً فكثير في لغتنا العربية وأهمه:
• تُحذف الألفُ المقصورة لفظا إذا نُوِّنت كما في قُرًى وهُدًى رفعاً ونصباً وجرّاً؛ لأن التنوين ساكن أتى قبله ساكنٌ وهو حرف العلة فتحذف الألف تخلصا من التقاء الساكنين.
• تُحذف حروفُ العلة إذا وَلِيَها ساكنٌ كما في (وفي السماء) و(على الأرض) ففي السماء تم حذف ثلاثة أحرف هي ياء (في) وهمزة الوصل واللام الشمسية من (السماء) التي عُوِّض عنها بتضعيف السين، أما (على الأرض) فحذف حرفان هما ألف (على) وهمزة الوصل من الأرض. وأمثلته كثيرة في اللغة العربية.
• تحذف همزات الوصل من (ابن) و(اسم) و(امرؤ) و(امرأة) وغيرها من الأسماء المبدوءة بهمزة وصل وكذلك المصادر والأفعال المبدوءة بهمزة وصل وأل التعريف إذا سبقت بساكن كما في (يا ابن الأكرمين) و{سبحِ اسْم ربك الأعلى} [الأعلى: 1]، و{قالوا اتخذ} [البقرة: 116]، تحذف الواو في (قالوا) وهمزة الوصل في (اتخذوا) وهذا كثير في لغتنا العربية.(/5)
• حذفت الهمزة من مضارع (رأى) لالتقاء الساكنين فأصل المضارع من رأى (يرْأَيُ) بوزن (يَفْعَلُ)، استثقلت الضمة على الياء فحذفت، ثم قلبت الياء ألفاً لمناسبة الفتحة، أو نقول: تحركت الياء بعد فتحة فقلبت ألفاً، ونقلت حركة الهمزة إلى الحرف الصحيح الساكن قبلها، ثم حذفت لالتقاء الساكنين: الهمزة والألف فأصبح الفعل (يرى)[2].
3- حذف التنوين والنون:
يحذف التنوين من اسم العلم إذا وصف بـ(ابن) كـ"محمدُ بْنُ عبد الله"؛ لأن محمداً ينتهي بتنوين، والتنوين ساكن الآخر وجاء بعده الباء الساكنة من (بن) فالتقى ساكنان وللتخلص من هذه الظاهرة تمَّ حذف التنوين من (محمدٍ) ولا يحذف التنوين من آخر العلم إذا كان (ابنٌ) خبراً كجوابنا: (محمدٌ ابنُ عبد الله) لمن يسأل (منْ محمد؟) فأثبتت همزة الوصل في (ابن) لأنها وقعت خبراً لا صفة، والواجب الوقف عند نهاية العلم الأول إن كان مصروفا ولفظ همزة (ابن) بالحركة. وعلى هذا يقرأ من يقرأ {قل هو الله أحدُ اللهُ الصمد} [الإخلاص: 1-2] ترك التنوين من (أحد) وأما من يقرأ في التوبة {وقالت اليهود عزيرٌ ابن الله} [التوبة: 30] بالتنوين فإنه ينون لأنه خبر وليس وصفا، وقد ذهب بعضهم إلى أنَّ التنوين إنما سقط لالتقاء الساكنين[3].
4- التخلص بالحركات:
ويكون التخلص من التقاء الساكنين بالحركات والمقصود بالحركة هنا: تحرك الحرف بأحد الحركات الثلاثة (الفتح، الضم، الكسر) وأشهرها:(/6)
• الكسر وهو الأصل في التخلص من التقاء الساكنين بالحركات وقاعدتُه إذا وَلِيَ الساكنَ حرفٌ صحيح ساكن يحرَّك الأول بالكسر كما في {قالتِ الأعراب} [الحجرات: 14] {قلِ الله} [النساء: 127] (لا تهملِ الواجب) وكذلك في قوله تعالى: {فنعِمَّا هي} [البقرة: 271] وأصله (فنِعْمَ ما) فأدغمت (نعم) بـ(ما) فلزم تسكين الميم الأولى فالتقت مع العين الساكنة وللتخلص من سكونها تمَّ كسر العين، وهناك من قرأ بإبقاء الساكنين في العين والميم وهي قراءة متواترة قرأ بها قالون عن نافع وأبو عمرو البصري وشعبة عن عاصم بخلاف وأبو جعفر بلا خلاف. وكذلك هي مرسومة متصلة للإدغام وكذلك {تَعْدُّوا} {يَهْدِّى} {اسْطَّاعوا}.
• ذكر ابن هشام في مغني اللبيب من أن (ذلك) أصلها ساكنة اللام مثل (تلك) فالتقى ساكنان (الألف واللام) فحركت الثانية بالكسر.
• تكسر واو (أوْ) إذا وليها ساكن كما في {أوِ اخْرجوا} [النساء: 66] {أوِ انْقُص} [المزمل: 3].
• إذا نون الظرف (إذْ) كما في (يومئذٍ) و(حينئذٍ) و(عندئذٍ) فإن (إذ) ظرف مبني على السكون دخل عليه التنوين (تنوين عوض عن جملة) فالتقى ساكنان: الذال والنون الساكنة (التنوين) فحركت الذال بالكسرة للتخلص من التقاء الساكنين فأصلهما (يومئذِنْ) - (حينئذِنْ) - (عندئذِنْ).
ويحرك بالفتح إذا كان المضارع المجزوم مشددا فنقول لم يشدَّ والأصل لم يشدْدْ فتوالى ساكنان فحرك الثاني بالفتح، والفتحة لخفتها، أو بالكسرة لأنها الأصل، وإذا كانت عين الفعل مضمومة جاز التحريك بالضم أو الكسر إتباعاً للعين فنقول: لم يَعُدَّ، لم يَعُدِّ، لم يَعُدُّ.
ويتخلص من السكون في مثل (كانتْ) إذا أضيف لها ألف كما في (كانتا) و(خانتاهما) فإن تاء التأنيث حرف مبني على السكون فدخلت عليها ألف التثنية وهي ساكنة ففتحت التاء للتخلص من التقاء الساكنين ولا يكون قبل الألف من الحركات إلا الفتح.(/7)
وكذلك مثل (ذالكما – تلكما) مما دخل فيه ألف التثنية على ميم الجمع الساكنة فتحركت الميم بالفتح تخلصاً من الساكنين. وكذلك كل فعل أمر مبني على السكون (آخره حرف صحيح) دخلت عليه ألف التثنية كما في (انطلقْ) – (اركبْ)، فصارا: (انطلقَا) – (اركبَا).
ويحرك بالفتح أيضاً نون (مِنْ) الجارة فالأصل في نون (من) الجارة أن تكون ساكنة إذا وليها متحرك كما في (منْ قبلك) أما إذا وليها (أل) التعريف فتحرك بالفتح كما في قوله {ومِنَ الناس من يقول} [البقرة: 8].
ويحرك بالضم ميم الجمع الساكنة: وهي ميم زائدة عن بنية الكلمة الدالة على جمع المذكر حقيقة أو مجازا، ولا يكون الساكن بعد ميم الجمع في القرآن إلا همزة وصل فإذا وليها متحرك تبقى ساكنة كما في قوله تعالى: {سواء عليهمْ أأنذرتهمْ أمْ لمْ تنذرهمْ لا يؤمنون} [البقرة: 6].
وإذا وليها ساكن كما في قوله تعالى: {فأخذتكمُ الصاعقة} [البقرة: 55]، {أنفسكمُ اسْتكبرتم} [البقرة: 78]، {وتقطعت بهمُ الأسباب} [البقرة: 166].
ويحرك بالضم واو الجماعة كما في {وعصَوُا الرسول} [النساء: 43] {فتمنوُا الموت} [البقرة: 94]؛ للتخلص من التقاء الساكنين، ولو وليها متحرك لبقيت ساكنة مثل: {واخشَوْا يوما} [لقمان: 33]، {لبَغَوْا في الأرض} [الشورى: 27]؛ لانتفاء السبب.
5- النبرة:
النبر عند العرب ارتفاع الصوت يقال نبر الرجل نبرة إذا تكلم بكلمة فيها علو وأنشدوا:
إني لأسمع نبرة من قولها فأكاد أن يغشى علي سرورا
والنبر صيحة الفزع، ونبرة المغني رفع صوته عن خفض، ونبر الغلام ترعرع، والنبرة وسط النقرة، وكل شيء ارتفع من شيء نبرة لانتباره[4].(/8)
ويقصد بالنبرة قرع الحرف حتى يظهر صوته دون غيره، والنبرة علامة لحذف الحرف المعتل إذا وليه ساكن وكان هذا المحذوف يخل بتركيب الجملة أو يحصل التباس بينه وبين غيره؛ فتقول للمفرد (كتب الواجب) ولا يفرق بينه وبين المثنى (كتبا الواجب) باللفظ إلا إذا نبرت اللام في الواجب للدلالة على حذف ألف كتبا.
ومثله: {وقالا الحمد} [النمل: 15] تحذف ألف التثنية في (قالا) حال الوصل للساكنين وينبر باللام من (الحمد) للدلالة على حذف الألف الأصلية لا الفتحة حتى لا يلتبس (قالَ الحمد) و(قالا الحمد).
6- المد:
المد هو إطالة الصوت بحرف من حروف المد الثلاثة عند ملاقاة همز أو سكون كما قال علماء التجويد، فالسكون ظاهر العلة، وأما الهمز فربما لأنه من أقوى الحروف فعند لفظه كأننا نلفظ حرفاً مضعفا أي حرفين ساكنا ومتحركا أو مقلقلا فأخذ حكم المد للتخلص من التقاء الساكنين، كما في (الملائكة)، (بما أنزل) ..... إلخ
"ووجه المد هو أن حرف المد ضعيف والهمز قوي فزيد في المد تقوية للضعيف عند مجاراة القوي. وقيل للتمكن من النطق بالهمز لأنه مهجور"[5].
والمتمعن في هذا التعريف يرى أن سبب المد هو التخلص من التقاء الساكنين فالهمزة عند لفظها وسطا وآخرا تتكون من صوتين الصوت الأول ساكن والثاني متحرك يخرج من أقصى الحلق، متميزا بنبرته عن باقي الحروف. فالمد يقوم مقام الحركة وذلك أن الحرف يزيد صوتا بحركاته كما يزيد الألف بإشباع مده.
أما المد الذي يليه سكون أصلي فيكون لازم المد ويكون بعد تضعيف وهو الأكثر كما في (الضالَّين) و(الحاقَّة) و(دابَّة) وهو ما سماه علماء التجويد كلميا مثقلا وأما الكلمي المخفف فملحق به لأنه قليل ويخلو من التضعيف ومواطنه قليلة وهي (ءالآن) في موضعين بسورة يونس. ويلحق به المد الحرفي أيضا بنوعيه المخفف والمثقل كما في (ألمـ).
7- المد العارض للسكون:(/9)
عرَّف علماء التجويد المد العارض للسكون بأنه مد لأجل السكون العارض إذا سبقه حرف مد، فالمد زيادة في صوت حرف المد بمقدار أربع حركات أو خمس أو ستٍ، وعند المد يتم التخلص من توالي الساكنين وهما حرف المد والساكن الذي يليه لفظا، وكل مد ساكن، ولكن إذا مد فإنه يشبه المتحرك كما في {الرحيمْ }{ الدين} ويلحق به مد اللين كما في (الصيف) و(خوف) وكل مثنى مجرور أو منصوب {عينين} { النجدين} ...... إلخ.
وهكذا نجد أنَّ العرب تتخلص من التقاء الساكنين إما بالحذف أو تحريك أحد الصحيحين أو بالمد أو بالنبرة وذلك لأن توالي الساكنين ولا سيما في وسط الكلمة ضعف في اللغة وبما أن العربية من أقوى وأجمل اللغات فإنها تنساب من متحرك إلى متحرك أو من متحرك إلى ساكن ثم تنطلق إلى متحرك وهذه الحركة المتناغمة تضفي عليها رونقا لا يشعر به إلا أصحاب الذوق السليم.
ــــــــــــــــــــــــ
[1] السيوطي، الأشباه والنظائر في النحو، تحقيق عبد الإله نبهان مطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق 1985 ج1/ص172.
[2] عاصم البيطار، النحو والصرف، جامعة دمشق 1988م.
[3] السيوطي، الأشباه والنظائر في النحو، تحقيق عبد الإله نبهان مطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق 1985 ج1/ص2.
[4] لسان العرب ج5/ص189.
[5] البرهان في تجويد القرآن، محمد صادق القمحاوي.(/10)
العنوان: ظاهرة الحذف.. بين النحو والبلاغة (1)
رقم المقالة: 1513
صاحب المقالة: سليمان أبو عيسى
-----------------------------------------
الحذف ظاهرة لغوية تشترك فيها اللغات الإنسانية، لكنها في اللغة العربية أكثر ثباتًا ووضوحًا؛ لأن اللغة العربية من خصائصها الأصيلة الميل إلى الإيجاز والاختصار، والحذف يعد أحد نوعي الإيجاز وهما: القصر والحذف، وقد نفرت العرب مما هو ثقيل في لسانها، ومالت إلى ما هو خفيف.
تعريف الحذف:
الحذف في اللغة: القطع والإسقاط؛ جاء في الصحاح: "حَذْفُ الشيءِ: إسقاطُه. يقال: حَذَفْتُ من شَعْري ومن ذَنَبِ الدابَة، أي أخذت... وحَذَفْتُ رأسَه بالسيف، إذا ضربته فقطعتَ منه قطعةً"[1]. وفي لسان العرب: "حذَفَ الشيءَ يَحْذِفُه حَذْفاً قَطَعَه من طَرَفه والحَجَّامُ يَحْذِفُ الشعْر من ذلك... والحَذْفُ الرَّمْيُ عن جانِبٍ والضرْبُ"[2].
لقد عني القدماء - من نحاة وبلاغيين - بدراسة هذه الظاهرة، لكن بعضهم خلط بين الحذف والإضمار؛ ولذلك قال أبو حيان[3]: "وهو موجود في اصطلاح النحويين، أعني أن يسمى الحذفُ إضماراً"[4].
وقال الشهاب الخفاجي[5] في حاشيته على تفسير البيضاوي[6]: "وقد يستعمل كلٌّ منهما بمعنى الآخر كما يعلم بالاستقراء".
لكن بعضهم تنبه إلى ضرورة التفريق بين الحذف والإضمار؛ ومن ذلك الفارسي حيث يقول: "وقد يحذف حرفُ الجر، فيصل الفعلُ إلى الاسم المحلوف به وذلك نحو: اللهَ لأفعلنَّ، وربما أُضمِر حرفُ الجر، فقيل: اللهِ لأفعلنَّ".
بل ونجد ابن مضاء القرطبي[7] ينتقد هذا الخلط بين المصطلحين واستعمالهما بمعنى واحد، ويفرق بينهما قائلاً: "الفاعل يضمر ولا يحذف"[8]، وذلك حيثما أمكن تقديره بضمير مستتر فهم يقصدون بالمضمر ما لا بد منه، وبالمحذوف ما يمكن الاستغناء عنه.(/1)
ويذكر البلاغيون ضرورة تقدير المحذوف؛ حتى لا يُحمل الكلام على ظاهره، وحتى يكون امتناع ترك الكلام على ظاهره ولزوم الحكم بالحذف راجع إلى الكلام نفسه، لا إلى غرض المتكلم[9].
قال عبدالقاهر الجرجاني[10]: "هو باب دقيق المسلك لطيف المأخذ، عجيب الأمر شبيه بالسحر؛ فإنك ترى به ترك الذكر أفصح من الذكر، والصمت عن الإفادة أزيد للإفادة، وتجدك أنطق ما تكون إذا لم تنطق، وأتم ما تكون بيانا إذا لم تبن"[11].
أسباب الحذف:
هي أسباب حاول بها النُّحاة تفسير الظاهرة في مواضعها وأنواعها المختلفة، وبعض هذه الأسباب قد لا يطَّرد في كل موضع، وبعضها يعلل الحذف لأكثر من سبب، ومواضع أخرى لا يُعَلَّلُ الحذف إلا بسببٍ واحد، ومن أسباب الحذف:
1- كثرة الاستعمال:
هذا التعليل كثير عند النحاة، وهو أكثر الأسباب التي يفسرون بها الظاهرة، ومن أمثلة ذلك: حذف خبر لا النافية للجنس كثيرًا مثل: لا إله إلا الله، لا ريب، لا شك، لا مفر، لاسيما. ومثل الأقوال التي كثر استعمالها؛ كقولنا: الجار قبل الدار. أي: تخير الجار قبل الدار. وقولنا: بسم الله. أي: بدأت بسم الله.
2- طول الكلام:
وذلك عندما تطول التراكيب؛ فيقع الحذف تخفيفًا من الثقل؛ كجملة الصلة التي طالت، وأسلوب الشرط، وأسلوب القسم؛ ومن ذلك قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [يس: 45]، فالجواب لم يُذكر، وتقديره: "أعرضوا"؛ بدليل سياق الآية التالية لها.
وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآَنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى} [الرعد: 31]، التقدير: لكان هذا القرآن.
3- الضرورة الشعرية: ومن أهم الضرائر الشعرية القائمة على الحذف:
أ- حذف حرف متحرك أو أكثر من آخر الكلمة:
مثل قول لبيد: دَرَسَ المَنَا بمُتَالِعٍ فأَبانا
الأصل: المَنَازل.(/2)
ب- حذف نون المثنى وجمع المذكر السالم؛ ومن ذلك قول امرئ القيس:
لها مَتْنَتَانِ خَظَاتا كَمَا أَكَبَّ عَلَى ساعِدَيْهِ النَّمِرْ
الأصل: خَظَاتان.
ج- حذف النون الساكنة أو التنوين من آخر الكلمة؛ ومن ذلك قول العباس بن مرداس السلمي:
فما كان حِصْنٌ ولا حَابِسٌ يَفُوقانِ مِرْدَاسَ في مَجْمَعِ
الأصل: مرداسًا.
د- حذف حرف المد أو ما يشبهه من آخر الكلمة؛ ومن ذلك قول الأعشى:
وأَخُو الغَوَانِ متى يَشأْ يَصْرِمْنَهُ ويَعُدْنَ أَعْداءً بُعَيْدَ ودادِ
الأصل: الغَوَانِي.
هـ- حذف إشباع الحركة أو حذف الحركة؛ ومن ذلك قول مالك بن خريم الهمداني:
فإِنْ يَكُ غَثَّاً أَوْ سَميناً فإنني سأَجْعَلُ عِينيهِ لِنَفْسِهِ مَقْنَعَا
الأصل إشباع الهاء في كلمة نفسه.
و- حذف حرف أو حركة من داخل الكلمة؛ ومن ذلك قول ابنُ الزِّبَعرَى:
حينَ ألْقَتْ بقُباءٍ بَرْكَها واسْتَحَرَّ القَتْلُ في عَبدِ الأشَلْ
يريد: عبد الأشهل.
ز- الاجتزاء؛ وهو حذف معظم الكلمة؛ ومن ذلك قول حكيم بن معية التميمي:
بالخَيْرِ خَيْراتٍ وإِنْ شَرًّا فَ ولا أُرِيدُ الشرَّ إِلا أَنْ تَ
أي: إن شرًّا فَشر، ولا أريد الشر إلا أن تشاء.
ح- حذف حرف من أحرف المعاني؛ ومن ذلك قول حسّان بن ثابت:
مَنْ يَفْعَلِ الحَسَناتِ اللهُ يشكرُها والشَّرُّ بالشرِّ عندَ الله مِثْلانِ
أي فالله يشكرها، حذفت الفاء الواجب اقترانها بجواب الشرط؛ حيث إن جواب الشرط جملة اسمية.
4- الحذف للإعراب:
مثل الحذف في حالة الجزم ومن ذلك حذف الحركة نحو: (لم أكتبْ). وحذف الحرف؛ مثل حذف النون من الأفعال الخمسة عند النصب أو الجزم نحو: (لم يلعبوا). وحذف لام الفعل الناقص في حالة الجزم؛ نحو قوله تعالى: {وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ} [القصص:88].
5- الحذف للتركيب:(/3)
فنجد حذف التنوين في التركيب الإضافي؛ نحو: (شاهدت طالبَ العلم) بدلاً من (طالبًا)، أو حذف النون؛ نحو: (مسلمو الهند متعاونون) بدلاً من (مسلمون).
6- الحذف لأسباب قياسية صرفية أو صوتية؛ وهي:
أ- التقاء الساكنين:
إذا التقى ساكنان في كلمة واحدة أو كلمتين، وجب التخلص من التقائهما بحذف أولهما أو تحريكه؛ ومن ذلك حذف لام الفعل الناقص عند الاتصال بواو الجماعة مثل: يسعون، وحذف عين الفعل الأجوف في حالة جزمه مثل: (لم يَصُمْ).
ب- توالي الأمثال:
ومن مظاهره: التقاء نون الرفع من الأفعال الخمسة مع نون التوكيد؛ حيث تحذف نون الرفع وتبقى نون التوكيد.
ج- حذف حروف العلة استثقالاً:
الفعل المثال الذي فاؤه واو تحذف في المضارع استثقالاً؛ نحو: (وقف - يقف) (وعد - يعد)، بدلاً من (يَوْقَفُ) و (يَوْعَدُ).
د- حذف الهمزة استثقالاً:
مثل همزة الفعل (رأى) تحذف في المضارع فيقال: (يرى) بدلاً من (يرأى).
هـ- الحذف للوقف:
ويكون في النطق لا الكتابة؛ مثل حذف الضمة والكسرة المنونتين عند الوقوف؛ نحو: (هذا زيد) و(مررت بزيد)؛ فننطق بالدال من كلمة (زيد) ساكنة.
و- صيغ الجمع:
فتحذف تاء التأنيث في الجمع بالألف والتاء؛ فنقول: (ورقات، عائلات، سرقات)، جمعًا لـ (ورقة، عائلة، سرقة).
ز- صيغ التصغير:
إذا صغرت (السَّفَرْجلة) كانت لك أوجه أحدها أن تقول (سُفَيْرِجَة) فتحذف اللام في التصغير وإن شئت قلتَ (سُفَيْرِلة) فتحذف الجيمَ[12].
وكذلك (عَنْدَلِيب) تصغر على (عَنَادِل) و (عَنَادِب).
ح- الحذف للنسب:
مثل حذف تاء التأنيث؛ فنقول في النسب إلى فاطمة: (فاطميّ)، وحذف بعض الحروف مثل (جُهَنِيّ) في النسب إلى جهينة، وحذف عجز الجملة المنسوب إليها وحذف عجز المركب المزجي، فتقول في تأبط شرًّا: "تأبطيّ"، وفي بعلبك "بعليّ".(/4)
أما المركب الإضافي، فإن كان صدره ابنا، أو كان معرفًا بعجزه، حُذِف صدره، وألحق عجزه ياء النسب، فتقول في ابن الزبير: "زبيريّ" وفي أبى بكر: " بكرىّ".
ط – الحذف للترخيم:
والترخيم حذفُ أواخر الأسماء المفرد تخفيفاً، من خصائص المنادى لا يجوز في غيره إلا لضرورة الشعر؛ كقولنا (يا سُعَا) في ترخيم (سُعَاد)[13].
7- الحذف لأسباب قياسية تركيبة:
أي في التركيب النحوي؛ حيث تُحذف كلمة أو جملة أو أكثر، ولابد من دليل حالي أو مقالي يدل على المحذوف؛ مثل حذف المبتدأ، وحذف الخبر،،، وغير ذلك.
ومن ذلك قولنا: (لولا الله ما اهتدينا)، التقدير: (لولا الله موجود ما اهتدينا)، وقولنا: (في البيت). لمن يسأل: (أين زيد؟).
والحذف لابد له من قرينة مُصاحِبة تَدُلُّ على المحذوف، وتكون هذه القرينة حالية أو عقلية أو لفظية، وقد وضع النُّحاة مجموعة من الشروط للحذف هي:
1- وجود الدليل على المحذوف إن كان المحذوف عمدة، أما إن كان فضلة فالشرط أن لا يكون في حذفه ضرر.
2- ألا يكون المحذوف كالجزء؛ فلا يحذف الفاعل، ولا نائبه ولا ما يشبهه.
3- ألا يكون مؤكَّدًا، فلا يُحذف العائد في نحو قولك: الذي رأيته نفسَه زيد.
4- ألا يكون عوضًا عن شيء محذوف؛ فلا تحذف (ما) في أما أنت منطلقاً ولا التاء من نحو : (عِدَةٌ وزِنَةٌ).
5- ألا يكون المحذوف عاملاً ضعيفًا؛ فلا يُحذف الجار والجازم والناصب للفعل، إلا في مواضع قويت فيها الدلالة، وكثر استعمالها ولا يمكن القياس عليها.
6- ألا يؤدي الحذف إلى اختصار المختصر؛ فلا يُحذف اسم الفعل دون معموله؛ لأنه اختصار للفعل.
7- ألا يؤدي الحذف إلى تهيئة العامل للعمل وقطعه عنه؛ فلا يحذف المفعول - وهو الهاء - من ضربني وضربته زيد؛ لئلا يتسلط على زيد ثم يقطع عنه برفعه للفعل الأول.(/5)
8- ألا يؤدي الحذف إلى إعمال العامل الضعيف مع إمكان إعمال العامل القوي؛ فلا يحذف الضمير في: زيد ضربته؛ لأنه يؤدي إلى إعمال المبتدأ وإهمال الفعل مع أنه أقوى.
أما أغراض الحذف: فنقصد بها الأهداف المقصودة للناطقين عندما يحذفون، فما ذكرناه من أسباب هو العِلل الظاهرة التي يقع الحذف عند وجودها.. أما الأغراض فنعني بها الأهداف البعيدة التي يقصدها الناطق حين يجنح إلى الحذف.
وكما أن أسباب الحذف عني بذكرها وتفصيل القول فيها النحاة، نجد أن الأغراض تعرض لها البلاغيون، وفَصَّلُوا القول فيها؛ فابن هشام[14] – مثلا – يرى أن الأغراض يتناولها البيانيون والمفسرون، وأنها ليست من عمل النحاة[15]، وأغراض الحذف هي:
1- التخفيف:
كثير من الأسباب الظاهرة للحذف غرضُها التخفيف، فكثرة الاستعمال تستلزم الحذف؛ رغبةً في التخفيف؛ كالتقاء الساكنين، لصعوبة النطق بهما، وأيضًا نجد التخفيف في نزع الخافض، وحذف الهمزة، وتوالي الأمثال.
يقول سيبويه[16]: "وقولهم ليس أحد أي ليس هنا أحد، فكل ذلك حُذِف تخفيفًا واستغناءً بعلم المخاطَب بما يعني"[17].
2- الإيجاز واختصار الكلام:
كثير من أنواع الحذف ناتجة عن رغبة المتكلم في الاختصار والإيجاز؛ فعند بناء الفعل للمجهول يُحذف الفاعل، ويذكر البلاغيون أغراضًا متعددة لذلك، منها الاختصار والإيجاز، ومن أمثلة ذلك ما يقع في القصص القرآني من حذف ما تدل عليه القرائن ويدل السياق عليه، ومن ذلك قوله تعالى: {... أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ * يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا...} [يوسف: 45، 46]. فالتقدير: فأرسلوه فذهب إليه وقال له.
3- الاتساع:(/6)
وهو نوع من الحذف للإيجاز والاختصار، لكنه ينتج عنه نوع من المجاز بسبب نقل الكلمة من حكم كان لها إلى حكم ليس بحقيقة فيها، ومثال ذلك حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه كما في قوله تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى} أي: بر من اتقى.
ويسميه البعض التوسع، يرى سيبويه أن الحذف للتوسع في اللغة أكثر من أن يحصى[18].
4- التفخيم والإعظام لما فيه من الإبهام:
مثل قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 73]، الجواب حُذِف؛ لأن وصف ما يجدونه لا يَتَنَاهى؛ فحُذِف تفخيمًا وإعظامًا له؛ حيث إن الكلام يضيق عن وصفه.
5- صيانة المحذوف عن الذكر في مقام معين تشريفا له:
ومن ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ اُبْتُلِيَ مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ بِشَيء، فَلْيَسْتَتِرْ بِسَتْرِ اللهِ))[19]، فالفعل ابتلي أسند إلى نائب الفاعل وحذف فاعله، وهو لفظ الجلالة صيانةً له عن ذكره في ذلك المقام، الذي سمى فيه الذنوب باسم (القاذورات).
6- تحقير شأن المحذوف:
ونجد ذلك في كتب السِّيَر، عندما يؤذى عُظَماء الإسلام، يُقال أوذي فُلان؛ ومن ذلك قوله تعالى {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} فلم يذكر المبتدأ تحقيرًا لشأنهم.
7- قصد البيان بعد الإبهام:
ويرى البلاغيون أن ذلك يتحقق في فعل المشيئة إذا وقع شرطًا كما في قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَهَدَاكُم أَجْمَعِينَ}؛ فمفعول فعل المشيئة محذوف تقديره: ولو شاء الله هدايتكُم لهداكُم. وسر حذفه هو البيان بعد الإبهام؛ لأنه لما قيل لو شاء علم أن هناك شيئًا تعلقت به المشيئة لكنه مبهم، فلما جيء بجواب الشرط وضح ذلك الشيء وعلم أنه الهداية وإذن فكل من الشرط والجواب دال على المفعول غير أن الشرط دال عليه إجمالاً والجواب دال عليه تفصيلاً.
والبيان بعد الإبهام، أو التفصيل بعد الإجمال أوقع في النفس؛ لأن السامع لا يظفر بمعرفة المحذوف إلا بعد تطلع ولهفة.(/7)
8- قصد الإبهام:
لا يتعلق مراد المتكلم بتعيين المحذوف؛ فيَتَعَمَّد الحذف حتى لا ينصرف ذهن المستمع له، لأن ذكره لا يؤثر في الكلام أو الحكم، ومن ذلك قوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُم}، فالمهم حدث الإحصار نفسه ولا يهم ذكر فاعله، بل إن ذكره قد يشغل المستمع عن الحدث وهو الأساس هنا، وربما يظن المستمع أن الحكم خاص به بالفاعل إذا ذكر، وقوله: {إِذَا حُيِّيتُم}، فلا يهم فاعل التحية المهم حدث التحية نفسه، وقوله: {إِذَا قِيلَ لَكُم تَفَسَّحُوا}، لا يهم من القائل وذكره يشغل القارئ وربما يظن أن الحكم خاص به.
9- الجهل بالمحذوف:
ومن ذلك قولنا: (قُتِل فُلان)، و(سرقت الدار)، عندما لا نعرف القاتل والسارق.
10- العلم الواضح بالمحذوف:
مثل قوله تعالى {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} و{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ}؛ بُني الفعلان (أُعِدَّتْ) و(كُتِبَ) للمجهول للعلم بالفاعل وهو الله عز وجل، {عَالِمُ الْغَيْبِ} المبتدأ محذوف للعلم به، والتقدير: الله عالم الغيب.
وقول الشاعر:
فَإِذَا رُزِقْتَ خَلِيْقَةً مَحْمُودَةً فَقَدِ اصْطَفَاكَ مُقَسِّمُ الأَرْزَاقِ
أسند الفعل رزقت إلى نائب الفاعل؛ فالرازق هو الله عز وجل، ولا داعي لذكره؛ لأنه معوم للمستمع، ولن ينصرف الذهن إلى غيره.
11- الخوف منه أو عليه:
قد يحذف الفاعل ويُبنى الفعل للمجهول حين يَخشى المُتكلِّم أن يناله أذى من الفاعل، وحين يخشى على الفاعل من الأذى.
12- الإشعار باللهفة وأن الزمن يتقاصر عن ذكر المحذوف:
وهذا غرض لباب الإغراء والتحذير نحو قوله تعالى: {نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا}، والتقدير: ذروا ناقة الله والزموا سقياها.
13- رعاية الفاصلة والمحافظة على السجع:(/8)
وهو غرض لفظي؛ حيث تحذف حرف أو أكثر لمراعاة الفاصلة؛ مثل قوله تعالى: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى}، فمفعول الفعل قلى وهو ضمير المخاطب صلى الله عليه وسلم، محذوف لرعاية الفاصلة والتوافق الصوتي مع أواخر الآيات قبلها وبعدها.
ومن براعة الإعجاز البلاغي في القرآن أننا نجد الحذف هنا يحقق – إلى جانب ذلك – غرضًا معنويًّا، فالآية تنفي التوديع والقلي أي الهجر والبغض، فالله عز وجل يطمئن نبيه بعد فترة انقطاع الوحي أنه لم يهجره أو يبغضه كما زعم ذلك أعداؤه من الكفار حين حدثت تلك الفترة.
ولما كان هناك فارق دلالي بين الهجر والبغض، (إذ الهجر لا يكون إلا للحبيب أما البغض فهو للخصوم والأعداء) جاءت الآية الكريمة مراعية ذلك حيث ذكرت ضميره - صلى الله عليه وسلم - في جانب نفي الهجر (ما ودعك) ولم تذكره في جانب نفي البغض (وما قلى) إعلاءً لشأنه عليه السلام أن يذكر ضميره في جانب المقت والكره حتى لو كان هذا الجانب منفيًّا.
14- المحافظة على الوزن في الشعر:
وهو – أيضا – غرض لفظي مثل قول ضابِئ بن الحارِث البُرْجُمِيّ:
ومَنْ يَكُ أمْسَى في المَدِينةِ رَحْلُهُ فإنِّي، وقَيَّارٌ، بِها لَغَرِيبُ
أي: فإني لغريب وقيار غريب، (وقيَّار اسم لفرس الشاعر)، فحذف المسند إلى قيار حتى لا ينكسر وزن البيت، ويرى البلاغيون أن في ذلك الحذف فائدة معنوية؛ حيث إن الموقف هنا موقف شكوى وتحسر؛ فكان مناسبًا له الحذف والاختصار لا الذكر والتطويل.(/9)