أنّ الجاني لم يوجدْ منه إلا جنايةٌ واحدةٌ، والواجب في العقل دِيَة النَّفس من حيث المعنى؛ لأنَّ جميع منافع النفس تتعلَّق بالعقل، وإذا ذهب العقل اختلَّت منافع النَّفس، فكان تفويته مُسْقِطًا للتَّكاليف مُشبِهًا للموت، فتتداخل الدِّيَات، كما تتداخل في دِيَة النَّفس[114].
ونوقش: بأنَّ منافع الأعضاء لا تبطُل بذَهَاب العقل؛ فإنَّ المجنون تُضْمَن منافعه وأعضاؤه بعد ذَهَاب عقله بما تضمن به منافع الصحيح وأعضاؤه، ولو ذهبت منافعه وأعضاؤه لم تُضْمَن، كما لا تُضْمَن منافع الميِّت وأعضاؤه، وإذا جاز أن تضمن بالجناية عليها بعد الجناية عليه، جاز ضمانها مع الجناية عليه، كما لو جنى عليه فأَذَهَب سمعه وبصره بجراحه في غير مَحَلِّهما[115].
الدليل الثاني:
أنّه لو ضربه فأَوْضَحه[116] وذهب عقله لكان العقل زائلاً عن مَحَلِّه وهو مَحَلُّ الجناية التي هي المُوضِحَة؛ لأنَّ العقل في الرأس، فلا تتعدَّد الدِّيَة كما لا تتعدَّد الدِّيَة فيما لو قطع أذنيه وذهب سمعه، لأنَّ المنفعة التي تذهب مع مَحَلِّها ليس فيها إلا دِيَةٌ واحدةٌ[117]:
ويُنَاقَشُ بأنَّ هذا الدليل قائمٌ على اعتبار أنَّ العقل في الرأس، وليس هذا صحيحًا كما تقدَّم في بيان مَحَلِّ العقل ومسكنه.
ثانيًا: حُجَّة القائلين بعدم التَدَاخُل
الدليل الأوَّل:
أنَّ عُمَرَ – رَضِيَ الله عنْه – قَضَى في رَجُلٍ رَمَى رَجُلاً بِحَجَرٍ في رَأْسِه فذَهَبَ سمْعُه ولسَانُه وعقْلُه وذَكَرُه فلمْ يَقْرَبِ النِّسَاءَ، فقَضَى فيه بأرْبَعِ ديَاتٍ[118].
فهذا القضاء بتعدُّد الدِّيَات لتنوُّع أثر الجناية -: دليلٌ واضحٌ على عدم تداخل الدِّيَات بما فيها دِيَة العقل التي كانت واحدةً من الدِّيَات الواجبة بسبب هذه الجناية.
الدليل الثاني:(/20)
أنَّ مَحَلَّ العقل القلبُ، والجناية التي زال بها العقل لم تكن على مَحَلِّه وهو القلب، فاختَلَف المَحَلُّ، وما اختَلَف مَحَلُّه لا يتداخل فيما دون النَّفس، كما لو قُطِع أنفه وقطع يده وجبت دية الأنف ودية اليد، أو أوضحه فذهب بصره أو سمعه[119].
الدليل الثّالث:
أنَّه لو جنى على أذنه أو أنفه فذهب سمعه أو شمُّه لم يدخل أَرْشهما في دية الأنف والأذن مع قربهما منهما فهاهنا أولى[120].
القول الرَّاجح:
يظهر من خلال النَّظر في أقوال العلماء في هذه المسألة، وما استدلَّ به كلُّ فريق، أنَّ أرجح القولين هو عدم تداخل الدِّيَات في هذه المسألة، وذلك لسلامة أدلَّة هذا القول من الاعتراض، وورود المناقشة على أدلَّة القول بالتَّداخل. والله أعلم.
المطلب الثاني: دِيَة ذَهَاب العقل عند رجاء عَوْد العقل:
قد يزول العقل بسبب الجناية عليه زَوالاً مُؤقَّتًا، وذلك حينما يقرِّر أهل الخِبْرة العدولُ أنَّ عَوْد العقل أمرٌ مُحْتمَل، ولا يخلو الأمر من:
أولاً: أن يقول أهل الخِبْرة: يُرجى عَوْد العقل، لكن لا نعرف له مدَّة، فتجب الدِّيَة؛ لأنَّ انتظار عَوْد العقل إلى غير غاية يُفْضي إلى إسقاط موجب الجناية، أو تأخير حقِّ المجنيِّ عليه إلى ما لا نهاية.
ثانيًا: أن يقوى الاحتمال بعَوْد العقل، ويضرب الخُبراء أمدًا لعوده، فيُنْتَظر إلى مُضِيِّ هذه المدَّة وانقضائها ثمَّ لا يخلو:
1- أن تمضي المدَّة ولا يزول العارض الحادث، أي لا يعود العقل، فهنا تجب الدِّيَة؛ لأنَّ زوال العقل لم يعد مُؤقَّتًا، وأصبح عوده مَيئوسًا.
وتجب الدِّيَة أيضًا فيما لو مات المجنيُّ عليه قبل الاستقامة، وقبل أن تمضي المدَّة المقرَّرة.
2- أن يعود العقل في المدَّة المذكورة، فلا يخلو:
(أ) أن تكون الدِّيَة قد دُفِعت لمسْتحقِّها، فهنا تُرَدُّ الدِّيَة إلى الجاني، لأنَّه قد تبيَّن أنَّ الدِّيَة لم تكن واجبة.(/21)
(ب) أن يعود العقل قبل أن يسلِّم الجاني الدِّيَة فلا يَجب عليه شيءٌ.
وقد بيَّن ذلك العلماء – رحمهم الله تعالى - واعتبروا لوجوب الدِّية في ذَهَاب العقل أن يُؤْمَنَ من عَوْده وإلَّا فلا تجب الدِّيَة، ومثل العقل السَّمع، والبصر، والشَّم، وشعر الرَّأس، والكلام، والذَّوق، واللَّمس، والمشي ونحو ذلك[121].
المبحث الرَّابع: دِيَة ذَهَاب بعض العقل:
وفيه مطلبان:
المطلب الأوَّل: نقصان العقل وزيادته:
لم يتَّفق العلماء على القول بتفاوت العقل وقابليَّته للزيادة والنُّقصان، ويمكن عرض الخلاف في قولين:
القول الأوَّل: ويقضي بأنَّ العقل يتفاوت ويزيد وينقص، فمن الناس من يكون عقله كثيرًا، ومنهم من يكون عقله قليلاً، وبه قال بعض الحنابلة[122]، وأبو حامد الغزَّاليُّ فيما عدا العقل بمعنى بعض العلوم الضَّروريَّة[123].
القول الثّاني: أنَّ العقل شيءٌ واحدٌ في جميع الناس لا يزيد ولا ينقص، وبه قالت الأشعريَّة، والمُعْتزِلَة[124]، وبعض الحنابلة[125].
الأدلة والمناقشات:
أولاً: حُجَّة القائلين بأنَّه شيء واحد لا يزيد ولا ينقص:
الدليل الأوَّل:
أنَّ العقل هو بعض العلوم المعلومة بالضَّرورة؛ كالعلم باستحالة اجتماع الضِّدَّين، والعلم باستحالة كون الجسم في مكانين، والعقلاء في هذا متساوون، وهذا يدلُّ أنَّ العقل واحد[126].
ونوقش: بأنَّ العقلاء في هذا الأمر متساوون، لكن من كان عقله كثيرًا فإنَّه يَتَدبَّر دقائق العلوم، ويتفكَّر في الأشياء بقوَّة عقله، وليس هذا لمن دونه، فإنَّه ليس كلُّ الأجسام تظهر، ولا كلُّ ضدٍّ يُعرف، فيحصل الاختلاف ويكون التّفاوت[127].
الدّليل الثّاني:
أنَّ العقل لو تفاوت لأدَّى ذلك إلى أنَّ بعض العقلاء لا يستقرُّ له أمرٌ، ولا يصلح له شأنٌ، لأنَّه لا يتفكَّر في غوامض الأمور.(/22)
ونُوقِشَ: بأنَّ من لا يتفكَّر في غوامض الأمور من العقلاء يستتبُّ أمره، ويستقرُّ حاله، لكن من عقله أكثر فشأنه أصلح، لأنَّه يتفكَّر فيما يؤول أمره إليه، وفيما يصلحه وما يفسده، فيكون أصلح شأنًا من عاقل قليل العقل[128].
ثانيًا: حُجَّة القائلين بزيادة العقل ونقصانه
الدَّليل الأوَّل:
عَنْ أبي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ – رَضِيَ الله عنْه – عَنِ النَّبِيِّ – صلَّى الله علَيْه وسلَّم – قالَ: ((ما رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ ودِينٍ أذْهَبَ لِلُبِّ الرَّجُلِ الحَازِمِ مِنْ إحْدَاكُنَّ)) قُلْنَ: وما نُقْصَانُ دِينِنَا وعَقْلِنَا يا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: ((أَلَيْسَ شَهَادَةُ المَرْأَةِ مِثْلَ نِصْفِ شَهَادَةِ الرَّجُلِ؟ قُلْنَ: بَلَى. قَالَ: ((فَذَلِكَ مِنَ نُقْصَانِ عَقْلِهَا. أَلَيْسَ إِذَا حَاضَتْ لمْ تُصَلِّ وَلَمْ تَصُمْ))؟ قُلْنَ: بَلَى. قَالَ: ((فَذَلِكَ مِنْ نُقْصَانِ دِينِهَا)) أخْرجَه البُخاريُّ[129].
فبيَّن عليه الصَّلاة والسَّلام أنَّ مِن علامة نقص العقل عند المرأة، ما يكون لها من عدم ضبط الأمر حتّى احتاجت عند الشَّهادة إلى امرأة أخرى تذكِّرها كما في القرآن الكريم، وهذا يدلُّ على تفاوت الناس في العقل، والتفاوت يشعر بإمكانيَّة الزيادة والنَّقص.
قال الحافظ ابنُ حَجَر في مَعْرِض عدِّه فوائدَ الحديث: "وأنَّ العقل يقبل الزِّيادة والنُّقصان، وكذلك الإيمان كما تقدَّم"[130].
الدَّليل الثَّاني:
أنَّ كلَّ الناس يقولون "عقل فلان قليل"، "وعقل فلان أكثر من عقل فلان"، "وفلان غير عاقل"[131]. وهذا الكلام يدلُّ على التَّفاوت في العقل بزيادة ونقصان، وإلَّا لكان من لَغْو الكلام الذي لا فائدة منه.
ونُوقِشَ: بأنَّ المراد من هذا كلِّه الأكثر استعمالاً وتفكُّرًا وتدبُّرًا من الآخر، فيكون عقل فلان أرجح من عقل فلان من هذا الوجه، وليس المقصود أنَّه يزيد وينقص[132].(/23)
وأُجِيبَ بأنَّ كَثْرة التَّدبُّر والتَّفكُّر علامةٌ على كثرة العقل، فإنَّه لو كان ذلك العقل كغيره من العقول لما تفكَّر وتدبَّر أكثر[133].
القول الرَّاجح:
إذا تأمَّلنا ما ذكره العلماء، واستعرضنا الأدلَّة والمناقشات؛ فإنَّه يظهر أنَّ القول بزيادة العقل ونقصانه أرجح من القول بنفي ذلك، وذلك لعدم نهوض الاستدلال له لما ورد من المناقشة، ولقوَّة دليل القول بالزِّيادة والنقصان واستناده إلى نص صحيح، والجواب عن المناقشة التي وردت على الدَّليل الثاني.
قال شيخ الإسلام ابْنُ تَيْميَّة: "ولهذا كان الصَّواب عند جماهير أهل السُّنَّة – وهو ظاهر مذهب أحمد وأصحُّ الروايتين عنه، وقول أكثر أصحابه–: أنَّ العلم والعقل ونحوهما يقبل الزِّيادة والنُّقصان"[134].
المطلب الثّاني: الواجب من الدِّيَة في حال النَّقص
إذا فات العقل كلُّه وجَبَت فيه الدِّيَة كاملةً، وإذا فات بعضه وأمكن ضبطه بمقدار، فيجب من الدِّيَة بنسبة ما فات، وهذه قاعدةٌ في فوات العقل وغيره من المنافع والمعاني[135]، وبناءً على هذا؛ فإنَّه إذا نقص العقل فلا يخلو:
أولاً: أن يكون النَّقص معلومًا فيجب من الدِّيَة بقدر النَّاقص؛ لأنَّ ما وجبت فيه الدِّية وجب بعضها في بعضه.
ويُعلَم النَّقص بالزَّمان أو بمقابلة الصَّواب من قوله وفعله بالخطأ.
فمثال العلم بالنَّقص عن طريق الزَّمان: أن يُجَنَّ يومًا ويُفِيق يومًا أو أكثر أو أقلَّ، فلو جُنَّ من الشَّهر يومًا فله جزءٌ من ثلاثين جزءًا من الدِّيَة. وهذه الطريقة أقرب إلى ضبط النَّقص من الطَّريقة التَّالية.
ومثال معرفة النَّقص بغير الزَّمان: أن يُنْظَر إلى صوابه في أقواله وأفعاله وإلى الخطأ فيهما، وتُعْرف النِّسبة بينهما، فيجب من الدِّيَة قِسْط الزَّائل بحسب هذه النسبة. وإن كان يُجَنُّ في يَوْمين ويَعْقِل في يوم لزم الجاني ثلثا الدِّيَة.(/24)
وهذه الطريقة مَحَلُّ نظر؛ لأنَّ الإنسان مهما كان عاقلاً فإنَّه يُخطئ، ومن ثَمَّ؛ فإنَّ في إيجاب قِسْط الزائِل بحسب هذه النسبة جَوْرًا على من وجبت عليه الدِّيَة وإضرارًا به. وفي المقابل فإنَّ الإنسان مهما كان مَجنونًا فإنَّه قد يصيب، واحتساب هذا الصواب جَوْر في المجنيِّ عليه. والوقوف على الخطأ الحقيقيِّ والصَّواب الحقيقيِّ منه غير ممكن. ولا يمكن أن نحمل الخطأ المتوقَّع حال الصواب على المتوقَّع حال الخطأ؛ لأنَّه يتفاوت ويختلف من شخص إلى آخر، ولا سبيل إلى العلم به.
وقد أشار الفقهاء إلى اعتبار قول أهل الخبرة العدول في ضرب أمد لعود العقل والانتظار تبعًا لذلك، ومن هنا فإنَّه يمكن أيضًا القول بالرجوع إلى أهل الاختصاص في الطِّبِّ واعتبار أقوالهم في حساب نسبة الزائل إذا أمكنهم حساب ذلك.
ثانيًا: أن يكون قدْر النَّقص مَجْهولاً. ومثاله: أن يصير مدهوشًا، أو يفزع ممَّا لا يُفْزَع منه، أو يَسْتَوْحش إذا انفرد، أو إذا سَمِع صيحةً زال عقله ثُمَّ يعود[136]. فتجب فيه حُكُومة، وهذا هو الذي ذهب إليه جمهور الفقهاء من الحنفيَّة والشَّافعيَّة والحنابلة[137]؛ لأنَّه تعذَّر إيجاب جزء مقدَّر من الدِّية فُعِدل إلى الحكومة.
ويرى المالكيَّة فيما لو ذهب بعض العقل أنَّ على الجاني من الدِّيَة بحساب ما ذهب، ولم يفرِّقوا بين ما إذا عُلِم النَّقص أو لم يُعْلَم[138]، وهو قولٌ بعيدٌ فيما يظهر؛ لتعذُّرِ حساب ما نقص في هذه الحالة.
المبحث الخامس: إنكار الجاني زوال عقل المجنيِّ عليه:(/25)
إذا أنكر الجاني زوال عقل المجنيِّ عليه ونَسَبَه إلى التَّجانُن وافتعال الجنون؛ فإنَّ المجنيَّ عليه يُرَاقب في مواطن خَلَواته من حيث لا يشعُر؛ لأنَّه في الغالب لا يُعْرف ذَهَاب عقله من عوده إلَّا من ذلك، ولابدَّ من تَكرار الخَلَوات. والمراد أنَّه يُخْتَبر بما يغلب على الظَّنِّ عدم التَّحيُّل والتَّصنُّع فيه، ويُستغْفَل فيها ونطَّلع عليه بحيث لا يشعر بنا هل يفعل أفعال العقلاء أم غيرهم؟
ويَحْتمل أن نجلس معه فيها، ونُحادثه ونُسايره في الكلام، ونَنْظر خطابه وجوابه، فإن كانت أحواله مُستقيمةً مُنْضبطةً، صُدِّقَ الجاني، وعليه يمينٌ لأنَّه يحتمل أن تكون الأحوال المستقيمة صادرةً منه اتِّفاقًا وجَرْيًا على العادة فوافقت المراقِب.
أمَّا إذا كانت أحواله في أقواله وأفعاله غير مُنْضَبطة وجبت الدِّيَة، وليس على المجنيِّ عليه يمينٌ؛ لأنَّه غير مؤهَّل، ولأنَّ يمينه تُثْبت جنونه[139].
ويمكن أن يُستفاد من أقوال أهل الطِّبِّ والخبرة والاختصاص إذا أمكن الوقوف على حال المجنيِّ عليه من خلال الوسائل والمُكتَشَفات التي يَثْبُت بها صدقه أو كذبه إذا لم يطْرُقها الاحتمال.
والعِلْم عند الله، وصلَّى الله وسلَّم وبارَك على رسول الله محمَّد بن عبدالله خير خلق الله، وعلى من سار على هداه إلى يوم الدِّين.
ــــــــــــــــــــــــــــ
[1] الجامع لأحكام القرآن للقُرْطُبيِّ: 10/294.
[2] رَوْضَة العقلاء ونزهَة الفُضَلاء لابْن حِبَّان: ص17. وأورَده الماورْدِيُّ في أدَبِ الدُّنيا والدِّين" ص17، 18، وعزَاه للشاعر إبْرِاهيم بن حسَّان، وترتيب الأبيات مختلِف ومعها غيرها. وصدْرُ البيتِ الثالث هكذا: يَعِيشُ الفَتَى بِالعَقْلِ فِي النَّاسِ إِنَّهُ.
[3] الموافقات: 2/8.
[4] لسان العرب: 15/383، مادة (وَدَى)، والمصباح المنير: 2/813 مادة (وَدَى)، والقاموس المحيط: 4/399 مادة (الدِّية).(/26)
[5] سمي بها لأنَّها تؤدَّى عادةً؛ لأنَّه قلَّما يجري فيه العفو لعظم حرمة الآدميِّ، ولم يسمَّ قيمة، لأن قيمة اسمها يقوم مقام النائب، وفي قيامه مقام الفائت قصورٌ لعدم المماثلة بينهما. وضمان المال سُمِّي قيمة ولا يُسمَّى دِيَة؛ لأنَّ معنى القيام فيه أكمل؛ لوجود المماثلة المطلقة. ينظر: البناية في شرح الهداية: 10/122.
[6] كفاية الطَّالب 2/272، وفي حاشية العدويِّ على الكفاية 2/272 (ويسمى ذلك المال دِيَة أي في اللغة والاصطلاح تسمية بالمصدر).
[7] مُغْني المحتاج 4/53.
[8] الإقْناع 4/199، والمبدِع 8/327.
[9] شرح مُنتهى الإرادات 2/142.
[10] الاخْتيار لتعليل المُخْتار 5/58.
[11] المغْني: 12/39.
[12] الاختيار لتعْليلِ المختار: 5/58.
[13] فتْح الباري: 12/246.
وقال الأزْهريُّ: والعقل في كلام العرب الدِّيَة، سمِّيت عقلاً لأنَّ الدِّيَة كانت عند العرب في الجاهلية إبلاً؛ لأنها كانت أموالهم، فسمِّيت الدِّية عقلاً لأنَّ القاتل كان يكلَّف أن يسوق الدّية إلى فِناء ورثة المقتول فيعقلها بالعقل ويسلّمها إلى أوليائه. ينظر: لسان العرب: 11/461 مادة (عقل).
[14] لسان العرب 11/458 وما بعدها مادة (عَقَل)، والقاموس المحيط 4/18 مادة (عَقَل).
[15] التَّمهيد في أصول الفقه: 1/43.
ولمزيد اطلاع يُنْظر: تيسير التَّحرير على كتاب التَّحرير: 2/245، وحاشية العدويِّ على الخِرَشيِّ: 8/36، وإحياء علوم الدِّين: 1/84. والمنخول من تعليقات الأصول: 44، وأدب الدُّنيا والدِّين: 18، 19، وصحيح مسلم بشرح النَّوويِّ: 2/68، ومغني المحتاج 1/32، المسَوَّدة لابن تيميَّة: 496، والمختصر في أصول الفقه لابن اللَّحَّام: 37، وشرح الكوكب المنير لابن النَّجَّار: 1/79، والمطلع على أبواب المقنع: 24، وحاشية الروض المربع لابن قاسم: 1/193.
[16] سورة البقرة من الآية 73.
[17] سورة الحج من الآية 46.
[18] سورة آل عمران من الآية 118.(/27)
[19] سُورة المُلْك من الآية 10.
[20] المستصفى للغزَّالي: 1/23، وإحياء علوم الدِّين: 1/85، والمسوَّدة: 499، ومجموع فتاوَى شيخ الإسلام ابن تيميَّة: 9/271.
وقال الغزَّاليُّ في المستصفى 1/23: (وقد يطلق على من جمع العمل إلى العلم حتى إن المفسد وإن كان في غاية من الكياسة يمنع من تسميته عاقلاً. فلا يقال للحجَّاج عاقلٌ. بل (داهية)، ولا يقال للكافر عاقل وإن كان مُحيطًا بجملة العلوم الطبية والهندسية، بل إما فاضل، وإما داهية وإما كيِّس).
ويقسم ابن القيِّم العقل إلى قسمين: عقل غريزة وهو أب العلم ومربِّيه ومثمره، وعقل مكتسب وهو ولد العلم وثمرته ونتيجته. ينظر: مفتاح دار السَّعادة 1/117.
[21] سورة النساء من الآية 92.
[22] الحاوي الكبير 12/210.
[23] سورة البقرة من الآية 178.
[24] سورة البقرة من الآية 178.
[25] سورة البقرة من الآية 178.
[26] صحيح البُّخاري مع الفتح: 12/205، رقم: 6881.
[27] سنن النّسائي 8/37.
[28] صحيح البّخاري مع فتح الباري: 12/205، رقم: 6880، وصحيح مسلم: 2/988-989، رقم: 1355.
[29] هو خُوَيْلد بن عَمْرو الخُزَاعِيُّ ثمَّ الكَعْبِيُّ، مختلَفٌ في اسمه، أسلم قبل الفتح، وكان معه لواء خُزاعة يوم الفتح، مات بالمدينة سنة ثمان وستين، ينظر: الإصابة في تمييز الصحابة 4/102.
[30] أخْرَجه التِّرْمِذِي بلفْظِهِ في سُنَنه 2/430، رقم 1427، وقال: حديث حسن صحيح، وأخرجه أبو دَاود في سُنَنِه: 4/172، رقم: 4504، والإمام أحمدُ في المُسْنَد: 6/385، والبَيْهَقِيُّ في السُّنَن الكُبْرى 8/52. وقال الألْبَانِي: صحيح. ينظر: إرواء الغَلِيل 7/276.(/28)
[31] عمْرو بن شُعَيب: هو أبو إبراهيم أو أبو عبدالله عمرو بن شعيب بن محمد بن عبدالله بن عمرو بن العاص القُرَشِيُّ السَّهْمِي. سكن مَكَّة، وكان يخرج إلى الطائف، روى عن أبيه، وكان جُل رِوايته عنه، وروى عن عَطاء والزُّهْرِيِّ وسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وجماعة، وروى عنه جمْعٌ منهم الأَوْزَاعِيّ والحَكَم بن عُتَيْبَةَ وقَتَادَةُ ومَكْحُولٌ، مختلَف في الاحتجاج بروايته فضعَّفه ناس مطلقًا ووثَّقه الجمهور، مات سنة 118هـ. ينظر: تهذيب الأسماء واللغات: 2/28، وتَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ: 8/48 وما بعدها.
[32] أخْرَجه التِّرْمِذِي بلفْظِه في سُنَنه 2/424، رقم 1406، وابنُ ماجَة في سُنَنه 2/877 رقم 2626، والبَيْهَقِيُّ في السُنَنِ الكُبْرى 8/53، والإمام أحمد في المُسْنَد 2/183.
قال التِّرْمِذِي: (حديث حَسن غريب). وقال الألبَاني: (هو كما قال وإنما لم يصحِّحه والله أعلم؛ للخلاف المعروف في عمرو بن شُعَيْب عن أبيه عن جَدِّه) ينظر: إرْواءُ الغَليلِ 7/259.
[33] هو أبو الضَّحَاك عَمْرُو بن حَزْم بن زيدٍ بن لوذان الأنْصَاريُّ، صحابي شهد الخَندق وما بعدها، واستعمله النبي – صلى الله عليه وسلم – على نَجْرَان، واشتُهِر بالكتاب الذي رواه في الفرائض والزكاة والدِّيَات، مات بعد الخمسين، وقيل قبل ذلك، ينظر: الإصَابة في تَمْييزِ الصَّحابَة 2/525.(/29)
[34] أخرجه الحَاكِم في المُسْتَدْرك 1/397، والبَيْهَقِي في السُنَن الكُبْرَى 4/89، وابن حَزْمٍ في المُحَلَّى 10/411، وأخرج الدَّارِمِي شِقَّه الأوَّل في سننه 2/109، برقم 3257، وشِقَّه الآخَرَ في سُنَنِه 2/113، 114 برقم 2170. وفي سند الحديث سُلَيْمَانُ بن داود، سمَّاه الحاكِم: سُلَيْمَانَ بنَ داود الدِّمَشْقِي الخَوْلانِي، وسمَّاه ابن حَزْم: سُلَيْمَانَ بنَ داود الجَزَرِيَّ. وقال ابن حَزْم في المُحَلَّى 10/412: "أما حديث ابن حَزْم فإنه صحيفة ولا خير في إسناده؛ لأنه لم يسنده إلا سُلَيْمَانُ بنُ داود الجَزَرِيُّ، وسُلَيْمَانُ بنُ قَرْم وهما لا شيء). وأخرجه الإمام مَالِك في المُوَطَّأ مُرْسلاً بلفظ "أن في النَّفْس مائةً مِنَ الإبل"؛ الموطأ 611 رقم 1545.
وفي نَصْبِ الرَّايَةِ 2/341، 343 ذكر الاختلاف في ثبوت الحديث من أقوال أهل العلم، ونقل الصَّنْعَانِي في كتابه سُبُل السَّلام 3/470-471 أقوالاً في تصحيحه وشهرته، وأخرى في تضعيفه.ثم قال: وإذا عرفْتَ كلام العلماء هذا عرفْتَ أنه معمول به، وأنه أولى من الرأي المحْض.
وفي إرواء الغليل 7/303 ذكر؛ "وفي النَّفْسِ مِائةً مِنَ الإبل" وقال: (صحيح. وهو مُرسَل صحيحُ الإسناد). وكان قد قال عند كلامه على جزء منه: (أما حديث عَمْرِو بنِ حَزْمٍ فهو ضعيف، فيه سُلَيْمَانُ بن أَرْقَمَ وهو ضعيف جدًّا. وقد أخطأ بعضُ الرواةِ فسمَّاه سليمان بن داود وهو الخَوْلَانِيُّ وهو ثِقة، وبناء عليه توهَّم بعض علماء صِحَّته وإنما هو ضعيف من أجل ابن أَرْقَمَ هذا) إلى أن قال: (الصواب فيه أنه من رواية أبي بكر بن محمد بن عمْرِو بن حَزْمٍ مُرْسَلاً فهو ضعيف لإرساله).
[35] الإقناع لابن المنذر 1/358.
[36] مراتب الإجماع 140.
[37] المغني 12/5.
[38] مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية: 9/303.
[39] حاشية العدويّ على الخرشيّ: 8/36. وحاشية العدوي على شرح أبي الحسن: 2/276.(/30)
[40] مغني المحتاج: 1/33، وحاشية الشّرقاويّ والعدويّ: 2/319، صحيح مسلم بشرح النّووي: 2/68.
[41] التمهيد في أصول الفقه: 1/48، شرح الكوكب المنير: 1/83، والمطلع: 24.
[42] التمهيد في أصول الفقه 1/48.
[43] تيسير التحرير: 2/247.
والقاضي أبو زيد هو عبدالله بن عمر الدّبوسيّ من كبار علماء الحنفيّة وهو أول من وضع علم الخلاف، من مؤلفاته: تأسيس النظر، وتقويم الأدلة، وغيرهما، توفي ببخارى سنة 430هـ.
ينظر: الفتح المبين في طبقات الأصوليين 1/236.
وشمس الأئمة السَّرَخْسِيِّ هو محمد بن أحمد بن أبي سهل الفقيه الأصوليّ، له مؤلفات من أبرزها: المبسوط في الفقه، وله كتاب في الأصول يسمى أصول السَّرَخْسِيِّ. تُوفِّيَ سنة 482هـ وقيل غير ذلك.
ينظر: الفتح المبين 1/264.
[44] المختصر في أصول الفقه لابن اللَّحام ص38. وفي شرح الكوكب المنير 1/83.
[45] المسَوَّدة 500، والمطلع 24، ومغني المحتاج 1/33.
[46] الجامع لأحكام القرآن 12/77، وذكر العدويُّ والشَّرقاويُّ أن أبا حنيفة قال: مَحَلُّه الرأس. ينظر: العدويّ على الخرشيّ 8/36، وحاشية الشّرقاويّ: 2/368 وفي شرح الكوكب المنير 1/84 ذكر أن الحنفيّة قالت: محلّه الدّماغ.
[47] العدوي على الخرشي: 8/36.
وابن الماجشون هو: أبو مروان عبدالملك بن عبدالعزيز بن عبدالله بن أبي سلمة الماجشون المدنيّ، فقيهٌ فصيح اللسان دارت عليه الفتيا في أيامه بعد أبيه، تفقّه على الإمام مالك وعلى أبيه، ومن تلامذته سحنون وابن حبيب، توفي سنة 212هـ، ينظر: الدّيباج المذهب: 153.
[48] شرح الكوكب المنير 1/84، والتمهيد في أصول الفقه 1/48 والمسوّدة 500، والأمنيّة في إدراك النّيّة: 17.
[49] تيسير التّحرير: 2/247، وفي شرح العدويّ على الخرشيّ 8/36 قاله أكثر الفلاسفة.
[50] مغني المحتاج 1/23 التمهيد في أصول الفقه 1/48.
[51] تيسير التحرير 2/247.(/31)
وأبو المعين النّسفيّ هو عبدالعزيز بن عثمان المعروف بالقاضي النّسفيّ الحنفي من أهل الكوفة، كان عالمًا في النظر والفقه والأصول وأحد علماء الحنفية الذين يرجع إليهم في الفتاوى والوقائع، من تصانيفه: المنقذ من الزّلل من مسائل الجدل، وكفاية الفحول في علم الأصول، توفي سنة 563هـ.
ينظر: الفتح المبين 2/35.
[52] حاشية الشّرقاويّ 2/369.
[53] أضواء البيان 5/715.
[54] شرح الكوكب المنير 1/85.
[55] التمهيد في أصول الفقه 1/51.
[56] التمهيد في أصول الفقه 1/52.
[57] التمهيد في أصول الفقه 1/52 وتيسير التّحرير 2/247، والأمنية في إدراك النّيّة 17، وإزالة السّتار عن الجواب المختار لهداية المحتار 67.
[58] التمهيد في أصول الفقه 1/52.
[59] تيسير التحرير 2/247.
[60] الأمنية في إدراك النّيّة 17.
[61] إزالة السّتار عن الجواب المختار لهداية المحتار 67، 68.
[62] سورة الملك الآية 14.
[63] سورة الإسراء الآية 85.
وينظر: إزالة السّتار عن الجواب المختار لهداية المحتار 67.
[64] سورة الأعراف آية 179.
[65] التمهيد في أصول الفقه 1/49.
[66] سورة الحج آية 46.
[67] الجامع لأحكام القرآن للقرطبيّ 12/77.
[68] مفتاح دار السّعادة 1/195.
[69] إزالة السّتار عن الجواب المختار لهداية المحتار ص66.
[70] سورة ق آية 37.
[71] تيسير التّحرير 2/247، وشرح الكوكب المنير 1/83.
[72] صحِيح البُخَارِيِّ معَ الفتْح 1/126، رقم 52، وصحِيح مُسْلِمٍ 3/1220، رقم 1599.
[73] إزالة السّتار 66، وذكر من الآيات قوله تعالى: {أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور}.
[74] فتح الباري 1/129.
[75] مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 9/303، ومفتاح دار السّعادة 1/195، وتيسير التّحرير 2/247.
[76] مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 9/304.
[77] إزالة السّتار عن الجواب المختار لهداية المحتار 71.
[78] حاشية الروض المربع لابن قاسم 7/262.(/32)
[79] المبسوط 26/69، وبدائع الصّنائع 7/311، والبناية 10/141، وحاشية ابن عابدين 6/575.
[80] شرح الخرشيّ 8/35، والشرح الكبير للدّردير 4/271، والتّاج والإكليل 6/260 وحاشية العدوي على شرح أبي الحسن 2/276.
[81] الحاوي الكبير 12/248، روضة الطّالبين 9/289، وفتح الوهَّاب 2/140، ومغني المحتاج 4/68.
[82] الكافي لابن قدامة 4/101، وكشّاف القناع 6/50.
[83] الإجماع 117.
[84] الإفصاح 2/209.
[85] المغني 12/151.
[86] المحلّى 10/435.
[87] المحلّى 10/435.
[88] ذكره ابن حزم في باب ديات الجراح والأعضاء فيما دون النفس في العمد والخطأ، مستندًا إلى قوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيكُم جُنَاحٌ فيما أَخْطَأْتُمْ به ولَكَنْ مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} وحديث ابن عباس مرفوعًا: (( إنَّ اللَّه تَجَاوزَ عَنْ أُمَّتي الخَطأ والنِّسيان وما اسْتُكْرهُوا عَلَيْه))؛ ينظر: المحلَّى 10/404.
[89] الحاوي الكبير 12/246، 247.
[90] سورة الأحزاب من الآية 5.
[91] الجامع لأحكام القرآن للقرطبيِّ 14/120، وتفسير القرآن العظيم لابْن كثير 3/467.
[92] سورة البقرة من الآية 286.
[93] صحيح مسلم 1/116 رقم 126.
[94] جامع العلوم والحكم 328، 329.
[95] السُّنَن الكُبْرَى 8/85، 86.
ويذكر في الاستدلال في كِتاب النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – لعمْرِو بن حَزْم: "وفي العقْل الدِّيَةُ" وقال الأَلْبَانيُّ: ضعيف. وليس في نُسْخَةِ عمْرِو بن حَزْم – أي (وفي العقْلِ دِيَةٌ) – كما قال الحافظ في التَّلْخِيصِ؛ ينظر: إرْوَاءِ الغَلِيلِ 7/322.
وقد رَجَعْتُ إلى كتاب عمرو بن حزم في السُنَنُ الكبرى 4/89 والمسْتَدْرك 1/365-367 ولم أجد هذه القطعة فيه.
[96] هو أبو أَيُوبَ عبْدُالرحمن بن زِيَاد بن أنعم القاضي الأفريقيُّ، كان رجلاً صالحًا، مات سنة ست وخمسين ومائة وقيل غير ذلك. واختلف في عمره، ينظر: تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ 6/173 وما بعدها.(/33)
[97] تَقْرِيبُ التَّهْذِيب 1/480، وتَهْذِيب التَّهْذِيبِ 6/173، 176 وينظر: إرْوَاء الغَليلِ 7/322، 323.
[98] أخرجه ابنُ أبي شَيْبَة في المُصَنَّف 9/167، وكذلك 9/266 وعن ابن أبي شيبة أخرجه البَيْهَقِيُّ في السُّنَنُ الكُبْرَى 8/86، وأخرجه في موضع آخَرَ من طريق أُخْرى وفي آخره (وهو حيّ) والأثر حَسَّنَه الأَلْبَاني في إرواء الغليل 7/322.
[99] هو أبو المهلَّب عبدالرحمن بن عمرو، تابعيٌّ من أهل البصرة، مختلف في اسمه، ينظر: تهذيب التهذيب 12/250.
[100] المحلّى 10/435.
[101] تهذيب التهذيب 12/250.
[102] أخرجه البيهقي من طريقَيْنِ في السنن الكبرى 8/86، وأخرجه ابن حَزْمٍ في المُحَلَّى 10/434، وأخرجه ابن أبي شَيْبَةَ عن حَجَّاجٍ عن مَكْحُولٍ عن زَيْد قال: في العقْلِ الدِّيَة. مُصَنَّف ابن أبي شَيْبَةَ: 9/265، وهي إحدى الطريقَيْنِ عند البَيْهَقِيِّ. ولهذا شواهِدُ عنِ الحَسَنِ ومُجَاهِدٍ: فقد روى ابن أبي شَيْبَةَ 9/266، عنِ الحَسَن في رجل أَفْزَعَ رَجُلاً فذهب عقْلُهُ، قال: لو أَدْرَكَهُ عُمَرُ لَضَمَّنَهُ، وأخرجه البَيْهَقِيُّ في السنن الكبرى 8/86. وروى ابن أبي شَيْبَة في مُصَنَّفه 9/266، وابن حَزْم في المُحَلَّى 10/434 عن مجاهد قال: في العقل الدية.
[103] المحلّى 10/424.
[104] المبسوط 36/69، وبدائع الصّنائع 7/312، والبناية 10/141 والاختيار 5/37، والحاوي الكبير 12/247، والمهذَّب 2/203 ومغني المحتاج 4/68، والمغني 12/152، والكافي لابن قدامة 4/101 وكشّاف القناع 6/50.
[105] الحاوي الكبير 12/248، ومغني المحتاج 4/68.
[106] المدوّنة 4/435.
[107] حاشية الدُّسوقي 4/272، والشَّرح الكبير للدَّردير 4/279، وشرح الخِرَشيِّ 8/36-43.
[108] الحاوي الكبير 12/248.
[109] المغني 12/152، والكافي 4/102، وكشّاف القناع 6/50.
[110] بدائع الصّنائع 7/317، وينظر: التّشريع الجنائيّ الإسلاميّ لعبد القادر عودة 2/276.(/34)
[111] بدائع الصّنائع 7/311، 317.
[112] حاشية الدّسوقيّ 4/272، وشرح الخرشي 8/36.
[113] الحاوي الكبير 12/248، ومغني المحتاج 4/68، 69.
[114] بدائع الصنائع 7/317، والحاوي الكبير 12/248.
[115] المغني 12/153.
[116] الموضحة: هي الشَّجَّة في الرأس أو الوجه التي تصل إلى العظم وتظهره، وسمّيت مُوضِحَة؛ لأنها أبدت وضح العظم وهو بياضه، وديتها خمْسٌ من الإبل. ينظر: المغني 12/158، 159.
[117] الخرشي 8/43، والشرح الكبير للدردير 4/279.
[118] أخرجه ابن أبي شَيْبَةَ في المصنَّف 9/167، وكذلك 9/266 وعن ابن أبي شَيْبَةَ أخرَجَهُ البَيْهَقِيُّ في السنن الكبرى 8/86، وأخرجه في موضع آخَرَ من طريقٍ أُخْرَى وفي آخِره (وهو حَيٌّ). والأثر حَسَّنَهُ الأَلْبَانِيُّ في إرواء الغليل 7/322. وقد تقدم ما ورد عليه من نقاش وجواب في ص29.
[119] بدائع الصنائع 7/317، والحاوي الكبير 12/249، والمغني 12/152.
[120] المغني 12/152.
[121] بدائع الصنائع 7/312، والشرح الكبير للدردير 4/279، وشرح الخرشيّ 8/43، وروضة الطّالبين 9/289، 290، ومغني المحتاج 4/68، والمغني 12/107، 117، 118، 119، وكشّاف القناع 5/550، 6/35، 50.
[122] التمهيد في أصول الفقه: 1/52.
[123] ذكر الغزّالي أن العقل يتفاوت على ثلاثة معان ولا يتفاوت على معنى واحد:
أ- العقل الغريزيّ: وهو الوصف الذي يفارق الإنسان به سائر الحيوان، فهذا يتفاوت؛ فإنه مثل نور الصبح فإنه أوائله يخفى خفاءً يشقّ إدراكه ثم يتدرج إلى الزيادة إلى أن يكمل بطلوع قرص الشمس، فالعقل يبدأ إشراقه عند سنّ التمييز ثم لا يزال ينمو ويزداد نموًا خفيّ التدريج إلى أن يتكامل بقرب الأربعين سنة.
ب- علوم التَّجارِب، إذ تسمى عقلاً، فهذا يتفاوت، والناس يختلفون بكثرة الإصابة وسرعة الإدراك، ويكون سببه إما تفاوتًا في الغريزة وإما تفاوتًا في الممارسة.(/35)
ج- انتهاء قوة الغريزة إلى معرفة عواقب الأمور وقمع الشهوات الداعية إلى اللذة العاجلة وقهرها، وهذا يتفاوت الناس فيه وتتفاوت أحوال الشخص الواحد فيه، ويكون سبب التفاوت إما تفاوت الشهوة، فيقدر العاقل على ترك بعض الشهوات دون بعض، وإما التفاوت في العلم المعرّف لغائلة تلك الشهوة، ولهذا يقدر الطبيب على الاحتماء من بعض الأطعمة المضرّة، وقد لا يقدر من يساويه في العقل على ذلك إذا لم يكن طبيبًا وإن كان يعتقد على الجملة أن فيه مضرَّة. ولكن إذا كان علم الطبيب أتمّ كان خوفه أشدّ، وكذلك يكون العالم أقدر على ترك المعاصي من الجاهل لقوّة علمه بضرر المعاصي.
د- العلم الضروريّ بجواز الجائزات واستحالة المستحيلات، كالعلم بأن الاثنين أكثر من الواحد، وأن الشخص الواحد لا يكون في مكانين في وقت واحد – وهو الذي عناه بعض المتكلِّمين – فهذا لا يتفاوت لأن من عرف أن الاثنين أكثر من الواحد عرف أيضًا استحالة كون الجسم في مكانين.
ينظر: إحياء علوم الدّين 1/87.
ويرى الماورديّ أن العقل على قسمين: غريزيٌّ ومكتسب، فالغريزيّ هو العقل الحقيقي، وله حدٌّ يتعلّق به التكليف، لا يجاوزه إلى زيادة، ولا يقصر عنه إلى نقصان. والمكتسب فهو نتيجة العقل الغريزيّ، وهو نهاية المعرفة، وصحة السياسة، وإصابة الفكر، وليس لهذا حدٌّ، لأنه ينمو إن استعمل، وينقص إن أهمل. ينظر أدب الدنيا والدين 18، 20.
[124] التمهيد في أصول الفقه 1/53.
[125] المسوَّدة ص 500، وشرح الكوكب المنير 1/86.
[126] التمهيد في أصول الفقه 1/56.
[127] التمهيد في أصول الفقه 1/56.
[128] الاستدلال والمناقشة في التمهيد في أصول الفقه 1/56، 57، ولمزيد اطلاع ينظر: المسوّدة 498، 500، وشرح الكوكب المنير 1/76-88.
[129] صحيح البُخَارِيِّ مع الفتح: 1/405، رقم: 304، وهو عند مسلم من حديث عبدالله بن عمر صحيح مسلم 1/86، 87، رقم 132.(/36)
[130] فتح الباري 1/406. وقال – رحمه الله -: "وليس المقصود بذكر النقص في النساء لومهنّ على ذلك؛ لأنه من أصل الخلقة، لكن التنبيه على ذلك تحذيرًا من الافتتان بهنّ، ولهذا رتّب العذاب على ما ذكر من الكفران وغيره لا على النّقص، وليس نقص الدّين منحصرًا فيما يحصل به الإثم؛ بل في أعمّ من ذلك قاله النّوويّ، لأنه أمرٌ نسبيٌّ، فالكامل مثلاً ناقص عن الأكمل".
[131] التمهيد في أصول الفقه 1/57.
[132] التمهيد في أصول الفقه 1/56.
[133] التمهيد في أصول الفقه 1/56.
[134] مجموع فتاوى شيخ الإسلام 10/721، 722.
[135] التشريع الجنائي الإسلامي: 2/279.
[136] ردّ المحتار: 6/576، والمهذَّب: 2/203 وروضة الطَّالبين 9/289، والمغني 12/152، والكافي لابن قدامة 4/101، 102.
[137] الحكومة: أرْش ما ليس فيه مقدّرٌ من الشرع، وطريقة تقديرها أن يقوّم المجنيّ عليه كأنه عبدٌ لا جناية به ثم يقوّم وهي به قد برئت، فما نقصته الجناية فله مثله من الدّية، كأن تكون قيمته وهو عبدٌ صحيحٌ عشرةً، وقيمته وهو عبدٌ به الجناية تسعةً، فيكون فيه عشر ديته. فيتمّ استخراج الأرْش بهذه النّسبة.
ينظر: بدائع الصّنائع 7/324، والمغني 12/178، والكافي 4/102، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 34/165، 171، وكشّاف القناع 6/36، 58.
[138] التّاج والإكليل 6/260، والشرح الكبير للدَّردير وحاشية الدُّسوقيِّ 4/272.
[139] روضة الطَّالبين 9/290، وكشَّاف القِنَاع 6/50.(/37)
العنوان: ذكاء الأطفال
رقم المقالة: 1127
صاحب المقالة: أنس محمد خير يوسف
-----------------------------------------
أذهلَت الباحثين نتائجُ الدراسات الأخيرة حولَ ما يتمتّعُ به الصغارُ من مقدرةٍ وموهبةِ نضج مبكّر؛ لأن الأطفال يهتمّون ويتمتّعون بالحياة أكثر مما نتوقع... وكثير ممّن اطّلع على هذه النتائج -من الغرب خاصّة- راح ينظر إلى أطفاله من منظار جديد...
إن اللعب الجماعي يكون ذا أثر واضح على الطفل وسلوكه وتأثره؛ فاجعله يلعب مع أطفال متميّزين ليستفيد منهم؛ فمثلاً لو تمكّن الطفل من اللعب مع من يتعلّم الرسم والتلوين لزاد ذلك من مداركه وتطوّرت مواهبه وأخذ خلفيّة عن الموضوع وقد يتعلّق به، وقد تتحرّك قدراته، ويساعده بعد ذلك بعضُ الاهتمام من والديه على تطوير ما اكتسبه من معلومات وتدريب.. فإن أداء أية وظيفة فكرية يصبح أكثر فعالية مع التحفيز والممارسة. فكلّما زادت إمكانيات الطفل وتعمّقت رغبتُه في اكتساب المزيد كان لمساعدته الأثر الإيجابي في التقدّم والتطوّر الذهني له، ولا أعني هنا التشديد على وظائفه الفكرية أو محاولة أن يسبق سنّه، ولكن هذا لا يعني أيضاً اعتماد الموقف السلبي من تصرّفات الطفل وجعله لا يستفيد منها. كما أن التربية من منظار الاهتمام بوظائف الطفل الفكرية وتطويرها لا تهدف إلى صنع أطفال عباقرة؛ بل إلى تربيتهم في جوٍّ مشجّع، وأن تأخذ العمليّةُ الفكرية مكانَها الطبيعي والذي من خلاله يبدأ الطفل في الانطلاقة السليمة لتصرفاته.(/1)
والذكاءُ مقدرة مركبة ومتنوعة، وليست عملية وراثيّة، فجميع الأطفال لديهم حب الاستطلاع والاستكشاف، ويحاولون تذليل جميع حواسهم في ذلك، لذا نجدهم يضعون كل شيء في أفواههم في بداية مرحلة الاستكشاف؛ فالفم بالنسبة لهم يُعد مركزاً يستطيع استكشاف طبيعة الأشياء من حوله خلالَها، وأيضاً لا ننسى أمراً مهماً، وهو أن حب الاستكشاف هذا ينقلب إلى حاجة؛ ولا سيّما إذا كان من الصعب الحصول عليه؛ فالاستكشاف فضول فطري وميل إلى النمو والتقدّم، ولا مانع من إجهاد الطفل قليلاً إذا كانت الغاية هي الوصول إلى الهدف، ومن الأفضل أن يكون هذا الجهد ضمن جو مرح مليء بالحيويّة واللعب.
الاهتمام بالطفل ... طريق إلى الإبداع:
يظهر الإبداع عندما يكون الطفل قادراً على التفكير للتوصّل إلى إنتاج متنوّع وجديد بالنسبة له سواء من خلال بعض ألعاب تنمية مهارات الذكاء، أو من خلال إعطائه بعض القيم الحسابية، أو في أي مجال من مجالات الحياة المختلفة، فقد أودع الله قدرة الإبداع في البشر وترك لهم أمر تنميتها وصقلها.. والاهتمام بجانب الإبداع عند الطفل يجعلهم يتمتّعون بصحة جيّدة، ويبتعدون عن النزعات العدوانية والرغبة في السيطرة، ويتخلّصون من كثير من المشكلات السلوكية والدراسية.. كما تشير بعضُ الدراسات أن الاهتمام بإبداعهم يجعلهم بعيدين عن القلق النفسي ويوفر لهم فرصة الكشف عن الذات أمام زملائهم، كما يساعد في تكوين صفات القيادة فيهم، فيعرف الصغير منهم كيف يقود أصدقاءه وينظم الأدوار فيما بينهم.. فما أحوجَنا إلى الاهتمام بهذا الجانب عند الأطفال في زمن عدم فيه حُب التحصيل عند الأطفال.(/2)
إن الطفل يُولَد وعنده استعدادٌ للإبداع بدرجة ما، حينما يبدأ اللعب بالأشياء وتحريكها بصورة مختلفة.. فالإبداع قدرة عقلية موجودة عند كل فرد، فلو حلّ الطفل مسألة رياضية بطريقة تختلف عن المكتوب في الكتاب الذي أمامه فيعد ذلك بداية وتمهيداً لإبداع حقيقي، كما يمكن أن تظهر علامات الإبداع عند الأبناء من خلال التعبير عن المشاعر والأفكار بالكلمات والرسوم التي ينتجونها عن طريق رؤية ما حولهم رؤية غير عادية.(/3)
العنوان: ذكر الله يكون بالقلب وباللسان وبالجوارح
رقم المقالة: 699
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحمد لله الذي جعل ذكره سبباً للفوز بدار السلام، ومكفراً للذنوب والآثام، وجعل الإعراض عنه سبباً للخسارة والحرمان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ذو الجلال والإكرام، وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله أفضل الأنام، ومصباح الظلام صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الكرام وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم المقام، وسلم تسليماً.(/1)
أما بعد: فيا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً، وسبحوه بكرة وأصيلاً، واعلموا أن في ذكر الله حياة القلوب والقرب من علام الغيوب، وفي ذكر الله كشف الغموم وتفريج الكروب وفي ذكر الله زوال المكروه، وحصول المطلوب، وفي الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول الله عز وجل: ((أنا عند ظن عبدي، وأنا معه حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن اقترب إلى شبراً اقتربت إليه ذراعاً، وإن اقترب إلي ذراعاً اقتربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة)). وذكر الله تعالى محله القلب واللسان والجوارح، فأما ذكر الله بالقلب، فمعناه أن يكون ذكر الله تعالى دائماً في قلبه يفكر في أسماء الله الحسنى ومعاني صفاته العليا، وأفعاله التي بهرت العقول وأحكامه التي بلغت من الحكمة غايتها القصوى، وأما ذكر الله باللسان، فمعناه أن ينطق بلسانه بذكر ربه بذكر أسمائه وصفاته وأحكامه، فالتهليل والتكبير والتسبيح والحمد والثناء من ذكر الله، ودرس القرآن، والعلوم الدينية، وتعليمها، وتعلمها من ذكر الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر من ذكر الله، وأما ذكر الله بالجوارح، فإن كل فعل تفعله متقرباً إلى الله متبعا فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو من ذكر الله أيها المؤمنون اذكروا ربكم قياماً وقعوداً، وعلى جنوبكم، فإن ذلك هو الحياة والصلاح، واعرفوا، رحمكم الله، الأذكار الواردة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - واعملوا بها، فإنها خير وبركة، فمن ذلك أن النبي صلىالله عليه وسلم قال: ((من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير في يوم مئة مرة كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مئة حسنة، ومحيت عنه مئة سيئة، وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا أحد عمل أكثر من ذلك، ومن قال: سبحان الله وبحمده في(/2)
يوم مئة مرة حطت خطاياه، ولو كانت مثل زبد البحر)). وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد، وهوعلى كل شيء قدير عشر مرات كان كمن أعتق أربعة أنفس من ولد إسماعيل))، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم)). وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((لأن أقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر أحب إلى مما طلعت عليه الشمس))، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((لقيت ليلة أسري بي إبراهيم الخليل عليه السلام، فقال: أقرئ أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأنها قيعان، وأن غراسها سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر)). وفي صحيح مسلم عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه ((أن أعرابياً قال: يا رسول الله علمني كلاماً أقوله قال: (قل: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله رب العالمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم، قال هؤلاء لربي فما لي قال: قل: اللهم اغفر لي، وارحمني، واهدني، وارزقني، ولازموا الاستغفار، فإن من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ورزقه من حيث لا يحتسب)) قال ابن عمر رضي الله عنهما: كنا نعد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المجلس الواحد مئة مرة ربي اغفر لي، وتب علي إنك أنت التواب الرحيم. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً * تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ(/3)
أَجْراً كَرِيماً} [الأحزاب:42-44].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.. الخ.(/4)
العنوان: ذكر بعض الأمور التي تقع يوم القيامة
رقم المقالة: 654
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحمد لله جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة نرجو بها النجاة يوم التناد وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله أفضل الرسل وخلاصة العباد الذي دعا أمته بالحكمة والموعظة الحسنة وهداها إلى سبيل الرشاد صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان في الأقوال والأفعال والاعتقاد وسلم تسليماً.(/1)
أما بعد أيها الناس: اتقوا الله تعالى واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه يوم يحشر الناس ذاهلة عقولهم شاخصة أبصارهم عارية أجسامهم حافية أقدامهم يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بلقب سليم يوم يحشر الناس على ثلاثة أصناف صنف مشاة وصنف ركباناً وصنف يمشون على وجوههم يوم تكون السماء كالمهل وتكون الجبال كالعهن وهو الصوف المنفوش يوم تدنو الشمس من رؤوس الخلائق قدر ميل فيعرقون على قدر أعمالهم فمنهم من يكون العرق إلى كعبيه ومنهم من يكون إلى ركبتيه ومنهم من يكون إلى حقويه ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً ليس هناك ليل ولا نهار ولا قمر ولا شمس قد كورت الشمس وانكدرت النجوم وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همساً وعنت الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل ظلماً ويومئذ تنصب الموازين لوزن الأعمال: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [المؤمنون:102،103] يوم يؤتى بالرجل له صلاة وصيام وزكاة قد ضرب هذا وأخذ مال هذا وشتم هذا فيأخذ هذا من حسناته وهذا من حسناته وهذا من حسناته حتى تفنى فإن بقي لهم حق أخذ من سيئاتهم فطرح عليه ثم طرح في النار فلتؤدين الحقوق إلى أهلها حتى يقتص للشاة الجلحاء من الشاة القرناء وعن أنس رضي الله عنه قال ((بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس إذ رأيناه ضحك حتى بدت ثناياه فقال له عمر ما أضحكك يا رسول الله بأبي أنت وأمي قال رجلان من أمتي جثياً بين يدي رب العزة فقال أحدهما يا رب خذ مظلمتي من أخي فقال الله كيف تصنع بأخيك ولم يبق من حسناته شيء قال يا رب فليحمل من أوزاري وفاضت عينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالبكاء ثم قال إن ذلك ليوم(/2)
عظيم يحتاج الناس أن تحمل عنهم من أوزارهم)) ويومئذ تتطاير صحائف الأعمال: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً * وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً * وَيَصْلَى سَعِيراً * إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً * إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ} [الانشقاق:7-14]، أي ظن أنه لا يبعث، هناك تبيض وجوه المؤمنين وتسود وجوه الكفار المعتدين هناك تحدث الأرض أخبارها أتدرون ما أخبارها إنها تشهد على كل أحد بما عمل على ظهرها تقول عمل كذا وكذا. إخواني كلنا ولله الحمد يؤمن بيوم الحساب وما عندنا فيه من شك ولا ارتياب غير أننا في غفلة ساهون وعن الاستعداد له معرضون وفي دنيانا الدنيئة ولذائذنا منغمسون ولاهون إننا لنعمل لها كأننا نعمر فيها وإننا لنفرط بأعمال وأوقات لا يمكننا تلافيها فاتقوا الله أيها المسلمون وابتدروا الأعمال الصالحة ففي ذلك فليتنافس المتنافسون فما بعد الشباب إن قدر للإنسان البقاء إلا الهرم وحينذاك يقرب الموت ويستولي الهم والحزن والندم.
وفقني الله وإياكم لاغتنام الفرص والأوقات وجعل أعمالنا مقرونة بالتسديد والإخلاص وغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين يوم الأخذ بالنواصي إنه سميع مجيب رحيم قريب.(/3)
العنوان: ذكر بعض الآيات الكونية
رقم المقالة: 625
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحمد لله الملك الحق المبين الذي أبان لعباده من آياته ما به عبرة للمعتبرين وهداية للمهتدين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله المبعوث رحمة للعالمين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً.(/1)
أما بعد أيها الناس: اتقوا الله تعالى واحمدوه على ما أراكم من آياته الدالة على وحدانيته وعلى كمال ربوبيته فإن في كل شيء له آية تدل على أنه إله واحد كامل العلم والقدرة والرحمة فمن آياته خلق السماوات والأرض فمن نظر إلى السماء في حسنها وكمالها وارتفاعها وقوتها عرف بذلك تمام قدرته تعالى: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا}، {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ}، {فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك:3،4]، {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} [ق:9] ومن نظر إلى الأرض كيف مهدها الله وسلك لنا فيها سبلاً وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها ويسرها لعباده فجعلها لهم ذلولاً يمشون في مناكبها ويأكلون من رزقه فيحرثون ويزرعون ويسخرجون منها الماء فيسقون ويشربون وكيف جعلها الله تعالى قراراً للخلق لا تضطرب بهم ولا تزلزل بهم إلا بإذن الله: {وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ}، {وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ} مختلفة في ذاتها وصفاتها ومنافعها وفي الأرض جنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل فمن تأمل ذلك علم كمال قدرة الله تعالى ورحمته بعباده ومن آياته ما بث الله تعالى في السماوات والأرض من دابة ففي السماء ملائكته لا يحصيهم إلا الله تعالى ما من موضع أربع أصابع إلا وفيه ملك قائم لله تعالى أو راكع أو ساجد يطوف منهم كل يوم بالبيت المعمور في السماء السابعة سبعون ألف ملك لا يعودون إليه إلى يوم القيامة وفي الأرض من أجناس الدواب وأنواعها ما لا يحصى أجناسه فضلاً عن أنواعه وأفراده هذه(/2)
الدواب مختلفة الأجناس والأشكال والأحوال فمنها النافع للعباد الذي به يعرفون كمال نعمة الله عليهم ومنها الضار الذي يعرف الإنسان به قدر نفسه وضعفه أمام خلق الله وهذه الدواب المنتشرة في البراري والبحار تسبح بحمد الله وتقدس له وتشهد بتوحيده وربوبيته: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44] وكل هذه الدواب رزقها على خالقها وبارئها: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا} [هود:6] ومن آياته تعالى الليل والنهار الليل جعله الله تعالى سكناً للعباد يسكنون فيه وينامون ويستريحون والنهار جعله الله تعالى معاشاً للناس يبتغون فيه من فضل الله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ * وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [القصص:71-73]، ومن آيات الله تعالى الشمس والقمر حيث يجريان في فلكهما منذ خلقهما الله تعالى حتى يأذن بخراب العالم يجريان بسير منتظم لا تغير فيه ولا انحراف ولا فساد ولا اختلاف: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}{وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لاَ الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلاَ(/3)
اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس:39،40] ومن آياته تعالى هذه الكواكب والنجوم العظيمة التي لا يحصيها كثرة ولا يعلمها عظمة إلا الله تعالى فمنها السيارات ومنها الثوابت ومنها المتصاحبات التي لا تزال مقترنة ومنها المتفارقات التي تجتمع أحياناً وتفترق أحياناً تسير بأمر الله تعالى وتدبيره زينة للسماء ورجوماً للشياطين وعلامات يهتدي بها فالكون كله من آيات الله جملة وتفصيلاً هو الذي خلقه وهو المدبر له وحده لا يدبر الكون نفسه ولا يدبره أحد غير الله يقول الله تعالى مبرهناً على ذلك: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لاَ يُوقِنُونَ} [الطور:35،36] نعم فالعالم لم يخلق نفسه ولم يكن مخلوقاً من غير شيء بل لا بد له من خالق يخلقه ويقوم بأمره وهو الله سبحانه لا خالق غيره ولا رب سواه أيها الناس: لو حدثتم بقصر مشيد مكتمل البناء قد بنى نفسه لقلتم هذا من أكبر المحال ولو قيل لكم إن هذا القصر وجد صدفة لقلتم هذا أبلغ محالاً إذن فهذا الكون الواسع كون العالم العلوي والعالم السفلي لا يمكن أن يوجد نفسه ولا يمكن أن يوجد صدفة بلا موجد بل لا بد له من موجد واحد عليم قادر وهو الله سبحانه وتعالى أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ} إلى قوله تعالى: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.. الخ.(/4)
العنوان: ذكر بعض آيات الله الكونية أيضاً
رقم المقالة: 626
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وجعل في ذلك من المصالح العظيمة والحكم البالغة ما تتقاصر دونه فهوم ذوي الأفهام وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك القدوس السلام وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله سيد الأنام ومصباح الظلام صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان ما تعاقبت الليالي والأيام وسلم تسليماً.
أما بعد أيها الناس: اتقوا ربكم واشكروه على ما هداكم وعلمكم ما لم تكونوا تعلمون علمكم ما فيه صلاح دينكم ودنياكم وحجب عنكم من العلم ما لا تدركه عقولكم ولا تتعلق به مصالحكم رحمة بكم وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً.
علمكم كيف ابتدأ خلق هذا العالم وهو الأمر الذي لا يمكن علمه إلا من طريق الرسل صلوات الله وسلامه عليهم فكل من ذكر شيئاً عن كيفية خلق السماوات والأرض فإن الواجب أن نعرض قوله على ما جاءت به الرسل فإن طابقه فهو مقبول وإن خالفه فهو مردود وإن كان مسكوتاً عنه فيما جاءت به الرسل فإننا نتوقف فيه حتى يتبين لنا أمره من حق أو باطل.(/1)
لقد علمنا الله أنه خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ابتدأ خلق الأرض في يومين وجعل فيها رواسي من فوقها وهيأها لما تصلح له من الأقوات في يومين آخرين فتلك أربعة أيام ثم استوى إلى السماء وهي دخان فسواهن سبع سموات في يومين وأوحي في كل سماء أمرها فتلك ستة أيام خلق الله فيها السماوات والأرض وأودع فيهن مصالحهن فأخرج من الأرض ماءها ومرعاها وقدر الأقوات فيها تقديراً يناسب الزمان والمكان لتكون الأقوات متنوعة ومستمرة أنواعها في كل زمان وليتبادل الناس الأقوات فيما بينهم يصدر هذا إلى هذا وهذا إلى هذا فيحصل بذلك من المكاسب والاتصال بين الناس ما فيه مصلحة الجميع وزين الله السماء الدنيا بمصابيح وهي النجوم وجعلها رجوماً للشياطين التي تسترق السمع من السماء وعلامات يهتدي بها الناس في البر والبحر.
وسخر لعباده الليل والنهار يتعاقبان على الأرض لتقوم مصالح العباد في دينهم ودنياهم وقد بين الله تعالى فضله علينا في ذلك حيث يقول لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ * وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [القصص:71-73].(/2)
واختلاف الليل والنهار يكون بسبب دوران الشمس على الأرض فإن الله سخر لنا الشمس والقمر دائبين وجعلهما آيتين من آيات الله الدالة على كمال قدرته وسعة رحمته فمنذ خلقهما الله تعالى وهما يسيران في فلكيهما على حسب أمر الله لا يرتفعان عنه صعوداً ولا ينحدران عنه نزولا ولا يميلان يمينا ولا شمالاً وقدرهماً منازل لتعلموا عدد السنين والحساب فباختلاف منازل القمر تختلف الأهلة والشهور وباختلاف منازل الشمس تحتلف الفصول فإذا حلت الشمس آخر البروج الشمالية انتهى النهار في الطول ودخل فصل القيظ ثم ترجع شيئاً فشيئاً حتى ترجع إلى البروج اليمانية فإذا حلت آخر برج منها انتهى الليل في الطول ودخل فصل الشتاء وفي اختلاف الفصول من المصالح وتنوع الأقوات ما يعرف به قدر نعمة الله ورحمته وحكمته.
وهكذا تسير الشمس والقمر في فلكيهما في انتظام باهر وسير محكم كل يجري إلى أجل مسمى إلى أن يأذن الله بخراب هذا العالم فتخرج الشمس من مغربها كما في صحيح البخاري عن أبي ذر رضي الله عنه قال: ((قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث غربت الشمس: أتدري أين تذهب قلت: الله ورسوله أعلم قال: فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش فتستأذن فيؤذن لها وتوشك أن تسجد فلا يقبل منها وتستأذن فلا يؤذن لها يقال لها ارجعي من حيث جئت فتطلع من مغربها)). وفي هذا الحديث دليل ظاهر على أن الشمس تسير بنفسها كما يدل على ذلك قوله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} قوله: {كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} وقوله: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} فهذه الأدلة تكذب ما يقال من أن الشمس ثابتة لا تدور وتدل على أنه قول باطل يجب رده وتكذيبه.(/3)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم قال الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم:32-34] أقول قولي هذا... الخ.(/4)
العنوان: ذكر شيء من أوصاف اليوم الآخر
رقم المقالة: 651
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحمد لله الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً وهو العزيز الغفور قسم عباده إلى قسمين فمنهم شاكر ومنهم كفور وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله البشير النذير والسراج المنير صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن اقتدى بهديهم إلى يوم الحشر والمصير وسلم تسليماً.
أما بعد أيها الناس: اتقوا الله واخشوا يوماً لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئاً.(/1)
عباد الله: اعلموا أن هذه الحياة الدنيا دار ممر وعبور ودار عمل وكدح للعباد فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور فتذكروا ما أنتم إليه صائرون من الموت وما بعده يوم تحشرون تذكروا حالتكم عند حلول الآجال ومفارقة الأوطان والأهل والعيال تذكروا حينما تشاهدون الآخرة أمامكم وأنتم مقبلون إليها مدبرين عن الدنيا تذكروا حينما ينقسم الناس إلى قسمين فمنهم من توفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم: {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت:21-23] ومنهم من توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلاَئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ}: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلاَئِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأنعام:93] تذكروا إذا حملتم على الرقاب إلى القبور فانفردتم بها عن الأهل والأولاد والأموال والقصور جليسكم الأعمال فإما خير تسرون به إلى يوم القيامة وإما شر تجدون به الحسرة والندامة {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} [الأنعام:94] تذكروا إذا نفخ في الصور فصعق من في السماوات والأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون يقومون من قبورهم لرب العالمين حفاة عراة(/2)
غرلاً يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه.
عباد الله: تذكروا هذا اليوم العظيم الذي يجمع فيه الأولون والآخرون في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم الصبر: {قُلْ إِنَّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الواقعة:49،50] هذا اليوم الذي تندك فيه الجبال وتعظم فيه الأهوال وينزل فيه للقضاء بين العباد الملك الكبير المتعال يوم يجعل الولدان شيباً السماء منفطر به كان وعده مفعولا تذكروا هذا اليوم الذي سماه الله يوم التغابن لأنه هو الذي فيه الغبن العظيم الغبن الحقيقي لأن الناس يحشرون على حسب أعمالهم فمنهم المتقون الذين يحشرون إلى الرحمن وفداً فنعم الوفد ونعم الموفود إليه الوفد عباد الرحمن والموفود إليه الملك الكريم المنان ومنهم المجرمون الذين يساقون إلى جهنم ورداً يظمئون عطشاً فتمثل لهم النار كأنها السراب يساقون إليها ولكن لا ترويهم من ظمأ وإنما يجدون فيه النار والسعير والحر والزفير: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} [الروم:15،16] فما أعظم هذا اليوم وما أشد هوله لقد قال الله في وصفه: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:1،2]مقداره خمسون ألف سنة تدنو فيه الشمس من الناس حتى تكون بقدر ميل فقط ويبلغ العرق منهم كل بحسب عمله إن التغابن والله في هذا اليوم هو التغابن(/3)
وليس التغابن في نيل عرض الدنيا وزخارفها فإنما هي لهو ولعب وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد تزدهر قليلاً ثم تزول سريعا: {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَ مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد:20] فتنافسوا أيها المسلمون في أعمال الآخرة لتدركوا بذلك الدنيا والآخرة وإياكم أن تؤثروا الدنيا عليها فتخسروا الدنيا والآخرة فإن الدنيا مزرعة الآخرة فإذا لم يزرع فيها لآخرته فقد خسرها وخسر آخرته. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم قال الله عز وجل: {فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى * يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ مَا سَعَى * وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى * فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات34-40]. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.. الخ.(/4)
العنوان: ذكر شيء من أوصاف اليوم الآخر
رقم المقالة: 653
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحمد لله الذي بدأ الخلق ثم يعيده وهو على كل شيء قدير والحمد لله الذي خلق الخلق ليعبدوه فيجازيهم بعملهم والله بما يعملون بصير فسبحانه من رب عظيم وإله غفور رحيم وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في الخلق والملك والتدبير وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله البشير النذير والسراج المنير أرسله الله بين يدي الساعة فختم به الرسالة وأكمل له الدين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً.(/1)
أما بعد أيها الناس: اتقوا ربكم واخشوا يوماً لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئاً اتقوا يوماً يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة ووجوه يومئذ عليها غبرة ترهقها قترة أولئك هم الكفرة الفجرة. اتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون يوماً يجمع الله فيه الخلائق الأولين منهم والآخرين في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر، أجسامهم عارية وأقدامهم حافية وقلوبهم وجلة خائفة مهطعين إلى الداع يقول الكافرون هذا يوم عسر: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:1،2] لا تغرنكم الحياة الدنيا بزخارفها ولذاتها فإنها فيء زائل عن قريب ثم تنقلون إلى الدار الآخرة لتجزوا بما كنتم تعملون فحققوا رحمكم الله عبادة ربكم واتقوه لعلكم تفلحون ومن عذاب الآخرة تسلمون فلا سلامة من عذاب الله إلا بتقوى الله كونوا من الذين قالوا سمعنا وأطعنا فالقرآن يتلى عليكم وأنتم تتلونه بأنفسكم وفيه موعظة وشفاء لما في الصدور فاتعظوا بما فيه ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون قالوا علمنا وهم لا يعلمون ألم تعلموا أن أمامكم يوماً تشيب فيه الولدان وتندك صم الجبال ويذهل فيه المرء عن القريب والصديق والخلان ألم يبلغكم أن الله يطوي السماوات بيمينه ثم يقول أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون، وأن الأرضين بيده الأخرى ثم يقول أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون ألم يبلغكم ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال ((يقول الله تعالى يا آدم فيقول لبيك وسعديك والخير كله في يديك(/2)
فيقول الله له أخرج بعث النار من ذريتك قال آدم وما بعث النار قال من كل ألف تسع مئة وتسعة وتسعون فعنده يشيب الصغير وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد)) ولما حدث النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بهذا الحديث فتح الله عليهم أن يسألوا نبيهم يا رسول الله وأينا ذلك الواحد فقال أبشروا فإن منكم رجلاً ومن يأجوج ومأجوج ألفاً ثم قال والذي نفسي بيده إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة فكبروا وحمدوا الله فقال أرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة فكبروا وحمدوا الله فقال أرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة فكبروا وحمدوا الله ثم قال ما أنتم في الناس إلا كالشعرة السوداء في جلد ثور أبيض أو كشعرة بيضاء في جلد ثور أسود أيها المسلمون ألم تعلموا أن الأرض يومئذ تحدث أخبارها فتشهد على كل أحد بما عمل عليها من خير أو شر ألم تعلموا أن الرجل يختم على فمه ويقال لأركانه انطقي فتنطق بما عملت: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} [النور:24،25] وفي الكتاب والسنة من تفاصيل أحوال ذلك اليوم ما هو عبرة للمعتبرين وموعظة للمتقين اقرؤوا قوله تعالى أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} إلى قوله {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق:16-30] فإن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.. الخ.(/3)
العنوان: ذكر شيء من آيات الرسل الكرام
رقم المقالة: 643
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحمد لله الذي له ملك السماوات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له نعم المولى ونعم النصير وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله البشير النذير والسراج المنير صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم المعاد والمصير وسلم تسليماً.(/1)
أما بعد أيها الناس اتقوا الله تعالى واعلموا أن الله تعالى له تمام الملك وكمال الحمد فمن تمام ملكه وكماله أنه لا يعجزه شيء في السماوات ولا في الأرض وأنه ما من شيء في السماوات والأرض إلا وهو خالقه ومالكه ومدبره ومن تمام حمده وكماله أنه لم يقدر شيئاً ولم يشرع مشروعاً إلا لحكمة وعلى وفق الحكمة ومن ذلك ما يقدره الله تعالى من الآيات الدالة على صدق الرسل تأييداً لهم وإقامة للحجة على أممهم فهذه النار الحارة المهلكة كانت بردا وسلاماً على إبراهيم نبي الله وخليله عليه الصلاة والسلام حين ألقاه فيها كفار قومه قال ابن عباس رضي الله عنهما لولا أن الله قال وسلاماً لآذى إبراهيم بردها وهذا نبي الله موسى - صلى الله عليه وسلم - ضرب بعصاه البحر فانفلق اثني عشر طريقاً حتى ظهرت أرض البحر يبساً وكان الماء السائل من بين هذه الطرق كالجبال راكداً لا يسيل ولما استسقى لقومه أمر أن يضرب بعصاه الحجر فتفجر الحجر عيوناً اثنتي عشرة عيناً وكان يضع عصاه فتنقلب حية تسعى فإذا أخذه رجع على حاله الأولى وهذا عيسى ابن مريم - صلى الله عليه وسلم - كان يحيي الموتى بإذن الله فيأتي إلى القبر فيدعو صاحبه فيخرج بإذن الله وكان يخلق من الطين على صورة الطير فينفخ فيه فيكون طيراً يطير بإذن الله وهذا رسول الله وخليله محمد - صلى الله عليه وسلم - جرى له من الآيات الدالة على صدقه شيء كثير فمن ذلك أن أهل مكة سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يريهم آية فأراهم القمر شقين حتى رأوا حراء بينهما ثبت ذلك بطرق متواترة قطعية واتفق عليه العلماء والأئمة وكان إذا قحط المطر يستسقي فما ينزل حتى يجيش كل ميزاب قال أنس رضي الله عنه ((رفع النبي - صلى الله عليه وسلم - يديه يستسقي وما رأينا في السماء قزعة فوالذي نفسي بيده ما وضعها حتى ثار سحاب أمثال الجبال ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته قال: فمطرنا إلى الجمعة الأخرى فقام(/2)
ذلك الأعرابي أو غيره فقال: يا رسول الله تهدم البناء وغرق المال فادع الله لنا فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يديه وقال: " اللهم حوالينا ولا علينا " فما يشير بيده إلى ناحية من السماء إلا انفرجت حتى صارت المدينة في مثل الإكليل والمطر حولها يميناً وشمالاً)) وعطش الناس يوم الحديبية وبين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - ركوة (الركوة إناء من جلد يشرب منه الماء) يتوضأ منها فجهش الناس نحوه فقال ما لكم قالوا ليس عندنا ماء نتوضأ ولا نشرب إلا ما بين يديك فوضع يده في الركوة فجعل الماء يفور من بين أصابعه كأمثال العيون فشربنا وتوضأنا قيل لجابر كم كنتم قال لو كنا مئة ألف لكفانا كنا ألفاً وخمس مئة أو قال ألفاً وأربع مئة وكان المسلمون في سفر مع نبيهم - صلى الله عليه وسلم - فاحتاجوا إلى الطعام فدعا ببقايا طعام كانت معهم فدعا الله فيها بالبركة ثم أمرهم أن يأتوا بأوعيتهم فجاؤوا بها فملأها وفضل فضل كثير فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند ذلك: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أني عبد الله ورسوله ومن لقي الله عز وجل بهما غير شاك دخل الجنة وكان له - صلى الله عليه وسلم - جذع نخلة يسند ظهره إليه يوم الجمعة فلما صنع له المنبر وخطب عليه جعل الجذع يئن كما يئن الصبي حتى نزل النبي - صلى الله عليه وسلم - فسكنه كما يسكن الصبي حتى سكن. ولله تعالى من الآيات وخوارق العادات ما يشهد بتمام ملكه وقدرته وما هو أعظم برهان على علمه وحكمته قال الله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت:53] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.(/3)
العنوان: ذكر شيء من آيات النبي - صلى الله عليه وسلم -
رقم المقالة: 642
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحمد لله الذي أيد رسوله محمداًً - صلى الله عليه وسلم - بالآيات البينات واختصه بالفضائل الكثيرة والكرامات وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في الألوهية والربوبية والأسماء والصفات وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله المصطفى على جميع المخلوقات المبعوث رحمة للعالمين وقدوة للسالكين إلى رب الأرض والسماوات صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان في الأقوال والأعمال والاعتقادات وسلم تسليماً.(/1)
أما بعد أيها الناس: اتقوا الله تعالى واعرفوا ما أيد الله به نبيكم - صلى الله عليه وسلم - من الآيات والمعجزات فإن الله أعطاه من الآيات ما يؤمن على مثله البشر وأبلغ ما أوتيه - صلى الله عليه وسلم - هذا القرآن العظيم ففيه عبرة لمن اعتبر، فيه خبر ما قبلكم ونبأ ما بعدكم وفصل ما بينكم اشتمل على ذكر أخبار الأولين والآخرين وعلى الفصاحة والبلاغة اللتين عجزت عنهما مدارك الجن والإنس السابقين منهم واللاحقين: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الإسراء:88] أي معاوناً ألا وإن من أعظم آياته سيرته في عبادته ومعاملاته وأخلاقه كان - صلى الله عليه وسلم - أتقى الناس لله تعالى وأجود الناس وأشجعهم وأصبرهم وأحسنهم مجالسة وألطفهم مكالمة وألينهم جانباً وأبلغهم في جميع صفات الكمال ألا وإن من آياته - صلى الله عليه وسلم - انشقاق هذا القمر فرقتين كل فرقة منهما على جبل حين طلب أهل مكة من النبي - صلى الله عليه وسلم - آية ألا وإن من آياته - صلى الله عليه وسلم - إجابة دعائه في استسقائه واستصحائه وغير ذلك ففي صحيح البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: ((بينما النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب في يوم الجمعة قام أعرابي فقال: يا رسول الله هلك المال وجاع العيال فادع الله لنا فرفع يديه وما نرى في السماء قزعة يعني قطعة غيم فوالذي نفسي بيده ما وضعها حتى ثار السحاب أمثال الجبال ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته حتى الجمعة الأخرى فقام ذلك الأعرابي أو قال غيره فقال: يا رسول الله تهدم البناء وغرق المال فادع الله لنا فرفع يديه فقال: " اللهم حوالينا ولا علينا" فما يشير إلى ناحية من السماء إلا انفرجت وصارت المدينة في مثل الجوبة)) يعني أن ما فوقها صحو وما على جوانبها ليس بصحو وإنما يمطر(/2)
ومن آياته - صلى الله عليه وسلم - أنه حضرت الصلاة ذات يوم وهو في أصحابه وليس عندهم ما يتوضئون به فجيء بقدح فيه ماء يسير فأخذه نبي الله - صلى الله عليه وسلم - فتوضأ منه ثم مد أصابعه الأربع على القدح فجعل الماء ينبع من بين أصابعه حتى توضأ القوم أجمعون وكانوا ثمانين رجلاً. وأتى بإناء فيه ماء يسير لا يغطي أصابعه فوضع يده فيه فجعل الماء ينبع من بين أصابعه فتوضأ القوم أجمعون وكانوا ثلاث مئة رجل ومن آياته - صلى الله عليه وسلم - أنه أراد ذات يوم أن يقضي حاجته فنظر فلم ير شيئاً يستتر به فإذا بشجرتين بشاطئ الوادي فانطلق إلى إحداهما فأخذ بغصن من أغصانها فقال: انقادي علي بإذن الله فانقادت عليه كالبعير الذي يصانع قائده ثم فعل بالأخرى مثلها ثم جمعهما فقال التئما علي بإذن الله فالتأمتا عليه فلما فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - افترقتا وقامت كل واحدة منهما على ساق وقال له جبريل: أتحب أن أريك آية قال نعم فنظر إلى شجرة من وراء الوادي فقال: ادع تلك الشجرة فدعاها فجاءت تمشي حتى وقفت بين يديه فقال جبريل: مرها فلترجع فأمرها فرجعت إلى مكانها ((وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة فخرجنا في بعض نواحيها فما استقبله جبل ولا شجر إلا قال: السلام عليك يا رسول الله))، ((وجاء قوم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يا رسول الله إن لنا بعيراً قد ند في حائط فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى البعير فقال تعال فجاء البعير مطأطئاً رأسه حتى خطمه وأعطاه أصحابه فقال أبو بكر: يا رسول الله كأنه علم أنك نبي فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ما بين لابتيها أحد لا يعلم أني نبي الله إلا كفرة الجن والإنس)).(/3)
وآياته الدالة على أنه رسول الله كثيرة جدا. فسبحان من أيد هذا النبي بأنواع الآيات البينات ورفع له ذكره بين جميع المخلوقات اللهم فأحينا على سنته وتوفنا على ملته وأوردنا حوضه واسقنا منه إنك جواد كريم رؤوف رحيم.(/4)
العنوان: ذكر شيء من نعيم الجنة
رقم المقالة: 656
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحمد لله الذي جعل جنات الفردوس لعباده المؤمنين نزلاً ونوع لهم الأعمال الصالحة ليتخذوا منها إلى تلك الجنات سبلاً وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله الذي شمر للحاق بالرفيق الأعلى والوصول إلى جنات المأوى ولم يتخذ سواها شغلاً صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان ما تتابع القطر والندى وسلم تسليماً.(/1)
أما بعد أيها الناس: اتقوا الله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران:133-136]. سارعوا إلى دار فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر مفتاحها قول لا إله إلا الله وأسنانه شرائع الإسلام فمن جاء بمفتاح له أسنان فتح له ومن جاء بمفتاح بلا أسنان أوشك أن لا يدخل أبوابها ثمانية فمن أنفق زوجين في سبيل الله دعي من أبواب الجنة يا عبد الله هذا خير فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان وقد يدعى الإنسان من جميع الأبواب ما بين مصراعين من مصاريعها كما بين مكة وهجر بناؤها لبنة من ذهب ولبنة من فضة ملاطها المسك وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت وترابها الزعفران فيها غرف يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها للمؤمن فيها خيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة طولها ستون ميلاً في الجنة شجرة يسير الراكب الجواد المضمر في ظلها مئة عام لا يقطعها قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} قال الظل الممدود شجرة في الجنة على ساق ظلها قدر ما يسير الراكب في نواحيها مئة عام يخرج إليها أهل الجنة(/2)
أهل الغرف وغيرهم فيتحدثون في ظلها غراسها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر جنتان فيهما من كل فاكهة زوجان وجنتان فيهما فاكهة ونخل ورمان وليست تلك الفواكه والنخل والرومان كهيئتها في الدنيا وإنما الاسم هو الاسم والمسمى غير المسمى قد ذللت قطوفها تذليلا إن قام تناولها بسهولة وإن قعد تناولها بسهولة وإن اضطجع تناولها بسهولة كلما قطع منها شيئاً خلفه آخر كلما رزقوا منها من ثمرة رزقاً قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأوتوا به متشابها في اللون والهيئة مختلفاً في الطعم ولهم رزقهم فيها بكرة وعشياً يدعون فيها بكل فاكهة آمنين من الموت آمنين من الهرم آمنين من المرض آمنين من كل خوف ومن كل نقص في نعيمهم أو زوال خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ فيها أنهار من ماء غير آسن أي لم يتغير ولا يتغير أبداً وأنهار من لبن لم يتغير طعمه بحموضة ولا فساد وأنهار من خمر لذة للشاربين لا يصدع الرؤوس ولا يزيل العقول وأنهار من عسل مصفى تجري هذه الأنهار من غير حفر سواق ولا إقامة أخدود يصرفونها كما يشاؤون يطوف عليهم ولدان مخلدون إذا رأيتهم حسبتهم في جمالهم وانتشارهم في خدمة أسيادهم لؤلؤاً منثوراً يطوفون عليهم بكأس من معين بيضاء لذة للشاربين بآنية من فضة وأكواب كانت قوارير قوارير من فضة قدروها تقديراً يعطى الواحد منهم قوة مئة في الطعام والشراب ليأكلوا من جميع ما طاب لهم ويشربوا من كل ما لذ لهم ويطول نعيمهم بذلك ثم يخرج طعامهم وشرابهم جشاء ورشحا من جلودهم كريح المسك فلا بول ولا غائط ولا مخاط لهم فيها أزواج مطهرة من الحيض والنفاس والبول وكل أذى وقذر هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون لهم فيها فاكهة ولهم ما يدعون سلام قولاً من رب رحيم أنشأهن الله إنشاء فجعلهن أبكاراً كلما جامعها زوجها عادت بكراً وجعلهن عرباً أترابا والعروب هي المرأة المتوددة إلى زوجها؛ أترابا على سن(/3)
واحد فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وهم فيها خالدون لا يبغون عنها حولا ولا هم عنها مخرجون ينادي مناد إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبداً وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبداً وفوق ذلك كله أن الله أحل عليهم رضوانه فلا يسخط عليهم أبداً وفوق ذلك كله ما يحصل لهم من النعيم برؤية ربهم البر الرحيم الذي من عليهم حتى أوصلهم بفضله إلى دار السلام والنعيم فإنهم يرونه عيانا بأبصارهم كما قال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - ((إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر)) فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها فافعلوا فإن سألتم عن أهل هذه الجنات وساكني تلك الغرفات فهم الذين وصفهم الله في محكم الآيات بقوله: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون:1-11].
اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل اللهم تب علينا واغفر لنا وارحمنا إنك أنت التواب الغفور الرحيم.(/4)
العنوان: ذكر عدد من أشراط الساعة
رقم المقالة: 650
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب فمنه بدأ وإليه يعود والحمد لله الذي بوأ لإبراهيم مكان البيت للركوع والسجود وتبارك الذي له ملك السماوات والأرض وعنده علم الساعة وإليه المآب والرجوع وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء شهيد وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله سيد الرسل وخلاصة العبيد صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم في التقوى والقول السديد وسلم تسليماً.(/1)
أما بعد أيها المؤمنون: اتقوا الله تعالى فإن تقوى الله سبب لسعادة الدنيا والآخرة ومن يتق الله يجعل له من كل هم فرجاً ومن كل ضيق مخرجاً وييسر له أمره وينور له قلبه ويغفر له ذنبه ألا وإن التقوى هي اتخاذ ما يقي من عذاب القبر وعذاب الجحيم ولا يكون ذلك إلا بفعل الأوامر واجتناب النواهي والخوف من الرب العظيم ولا يكون ذلك إلا بتقديم العدة والاستعداد لليوم الآخر العظيم ذلك اليوم الذي تحشرون فيه إلى الله حافية أقدامكم عارية أجسامكم شاخصة أبصاركم ذاهلة عقولكم ولما كان هذا اليوم عظيم الأهوال شديد الأحوال قدم الله بين يديه من العلامات والدلائل ما يبين به اقترابه ليستعد له ويحذر عذابه وقد سبق لنا من علامات الساعة خروج الدجال ونزول عيسى بن مريم وخروج يأجوج ومأجوج، ألا وإن من علامات الساعة طلوع الشمس من مغربها ففي صحيح البخاري ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي ذر حين غربت الشمس أتدري أين تذهب قلت الله ورسوله أعلم قال فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش فتستأذن فيؤذن لها ويمكن أن تسجد فلا يقبل منها وتستأذن فلا يؤذن لها فيقال لها ارجعي من حيث جئت فذلك قوله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ})). وعن أبي هريرة رضي الله عنه ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون وذلك حين لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا))، وإنما كان طلوع الشمس من مغربها من علامات الساعة لأن هذه الشمس من آيات الله ولم يتغير مجراها منذ خلقها الله تعالى حتى يأتي أمر الله فإذا تغير نظامها دل ذلك على أن العالم قد آذن بالخراب والزوال ألا وإن من أشراط الساعة بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن أشراطها رفع هذا القرآن العظيم عندما يعرض الناس عن العمل به إعراضاً كلياً فإنه من(/2)
كرامته أن يرفع عن الناس حتى لا يبقى بين قوم يمتهنونه فلا يصدقون أخباره ولا يعملون بأحكامه يرفع فلا يبقى في المصاحف منه آية ولا في الصدور منه كلمة. ومن أشراط الساعة هدم الكعبة المكرمة بيت الله العظيم فإنه يهدمه في آخر الزمان رجل حبشي أسود أفحج دقيق الساقين ينقضها حجراً حجراً حتى يأتي إلى آخرها.
فهذه الأشراط وأمثالها مما جاء به كتاب الله أو صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجب على المسلمين أن يقروا بها ويعتقدوها وأن يعتقدوا أنها حق على حقيقتها فلا يحرفوها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} [محمد:18].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم... الخ.(/3)
العنوان: ذكر نماذج من عذاب النار
رقم المقالة: 657
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحمد لله مستحق الحمد وأهله المجازي خلقه جزاء دائراً بين عدله وفضله وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ملكه وحكمه وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله أفضل خلقه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وتابعي هديه وسلم تسليماً.
أما بعد أيها الناس: اتقوا الله تعالى واتقوا النار التي أعدت للكافرين وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون اتقوا ذلك بامتثال أوامر الله واجتناب نواهيه فإنه لا نجاة لكم من النار إلا بهذا اتقوا النار فإنها دار البوار والبؤس ودار الشقاء والعذاب الشديد دار من لا يؤمن بالله واليوم الآخر ساكنوها شرار خلق الله من الشياطين وأتباعهم قال الله تعالى لإبليس: {فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ * لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص:84،85] دار فرعون وهامان وقارون وأبي بن خلف وغيرهم من طغاة الخلق وفجارهم ولئن سألتم عن مكانها فإنها أسفل السافلين وأبعد ما يكون عن رب العالمين طعام أهلها الزقوم وهو شجر خبيث مر المطعم كريه المنظر لا يسمن ولا يغني من جوع وفي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ((اتقوا الله حق تقاته فلو أن قطرة من الزقوم قطرت في بحار الدنيا لأفسدت على أهل الأرض معايشهم)) رواه النسائي والترمذي وقال حسن صحيح هذا طعامهم إذا جاعوا فإذا أكلوا منها التهبت أكبادهم عطشا وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل وهو الرصاص المذاب يشوي وجوههم حتى تتساقط لحومها فإذا شربوه على كره وضرورة قطع أمعاءهم ومزق جلودهم هذا شرابهم كالمهل في حرارته وكالصديد في نتنه وخبثه يضطر شاربه إلى شربه اضطراراً يتجرعه ولا يكاد يسيغه ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ومن ورائه عذاب غليظ أما لباسهم فلباس الشر والعار قطعت لهم ثياب من(/1)
نار سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار فلا يقيهم هذا اللباس حر جهنم وإنما يزيدها اشتعالاً وحرارة ولا يستطيعون أن يقوا به وهج النار وحرها عن وجوههم: {يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ * كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الحج:20-22].
عباد الله اتقوا النار فإن حرها شديد قد فضلت على نار الدنيا كلها بتسع وستين جزءا يصلاها المجرمون فتنضج جلودهم قال الله تعالى: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً} يرتفع بهم اللهب حتى يصلوا إلى أعلاها وكلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذبون عذابهم فيها دائم لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون يتكرر عليهم فلا يستريحون ويسألون الخلاص منه ولو ساعة فلا يجابون يقولون لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوماً من العذاب فتقول الملائكة لهم أولم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى قالوا فادعوا وما دعاء الكافرين إلا في ضلال فلن يستجاب لهم لأنهم لم يستجيبوا للرسل حينما دعوهم إلى الله تعالى فكان الجزاء من جنس العمل قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوماً ضالين ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون فيقول الله لهم على وجه الإهانة والإذلال اخسؤوا فيها ولا تكلمون فحينئذ ييئسون من كل خير ويعلمون أنهم فيها خالدون فيزدادون بؤساً إلى بؤسهم وحسرة إلى حسرتهم كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار: {خَالِدِينَ فِيهَا أبداً لاَ يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً * يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَالَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَ}(/2)
[الأحزاب:65،66].
عباد الله اتقوا النار فإن قعرها بعيد وأخذها شديد قال أبو هريرة رضي الله عنه ((كنا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فسمعنا وجبة أي صوت شيء وقع فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أتدرون ما هذا قلنا الله ورسوله أعلم قال هذا حجر أرسله الله في جهنم منذ سبعين خريفاً أي سنة فالآن حين انتهى إلى قعرها)) رواه مسلم إذا رأت أهلها من مكان بعيد سمعوا لها تغيظاً وزفيراً تتقطع منه القلوب فإذا ألقوا فيها سمعوا لها شهيقاً وهي تفور تكاد تتميز من الغيظ أي تكاد تتقطع من شدة الغيظ والغضب على أهلها فهي دار حانقة غاضبة على أهلها وهم في جوفها فما ظنك أن تفعل بهم؟
عباد الله اتقوا النار احذروا أن تكونوا من أهلها ولقد بين الله لكم صفات أهل النار وصفات أهل الجنة جملة وتفصيلاً لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل قال الله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى}.
اللهم إنا نسألك النجاة من النار والفوز بدار القرار... إلخ.(/3)
العنوان: رئاسة تركيا في قبضة غول
رقم المقالة: 1350
صاحب المقالة: معمر الخليل
-----------------------------------------
بفارقٍ كبير عن باقي المرشحين لمنصبِ رئاسة الجمهورية التركية، حقَّق وزيرُ الخارجية (عبد الله غول) النسبةَ الكافيةَ لتولي منصب الرئاسة، بـ339 صوت من مجموع أصوات البرلمان ذي الـ550 مقعد، متخطياً مرشح حزب الحركة القومية بفارق كبير، إذ حصل على 70 صوتاً فقط، في حين حصل مرشحُ حزب اليسار الديمقراطي على 13 صوتاً.
غول -الذي خطا خلال المرحلتين السابقتين من الانتخابات البرلمانية خطواتٍ نحوَ الفوز بهذا المنصب- يدرك أنه أمام مهمة ليست سهلة، بدءًا من حجاب زوجته المحتشم، وصولاً إلى المؤسسة العسكرية العلمانية، التي أعلنت أنها تقف على مسافة قصيرة جدًا من الرئاسة لمراقبة ضمان عدم المساس بالعلمانية!!
الوصول إلى القصر الرئاسي:
لم يكن أمام الحزب الحاكم بقيادة طيب رجب أردوغان إلا الدعوة لانتخابات مبكرة، بعد أن أخفق البرلمان السابق في منح مرشح الحزب غول، النصابَ الكافي من الأصوات لرئاسة البلاد، إثر قرب انتهاء ولاية الرئيس أحمد نجدت سيزار. وربما ساعد هذا الأمر بطريقة فعالة على تحفيز المسلمين في البلاد، للمشاركة بالعملية الانتخابية. ففي السابق، بعد أن أطاح الجيش العلماني بأربع حكومات دستورية، خوفاً من تحول البلاد للإسلام، استسلم الشعب التركي -وغالبيتُه من المسلمين- للقوة العلمانية، ونأى عن المشاركة في الانتخابات، إلا أن وجود مرشح مسلم لتولي منصب الرئاسة، ساعد بفعالية في توجه المسلمين إلى مراكز الاقتراع، وذلك أدى إلى فوز حزب العدالة والتنمية بنسبة كبيرة، تجاوزت النصف.. إذ صارت 340 مقعد من مقاعد البرلمان البالغ عدده 550 في يد أعضاء الحزب. الأمر الذي أعاد الأمل كبيراً بفوز غول بالانتخابات، ولو بالجولة الثالثة.(/1)
حسَبَ القانون التركي، فإنه على المرشح لمنصب رئاسة البلاد الحصولُ على نسبة ثلثي عدد مقاعد البرلمان، في الجولتين الأولى والثانية، وفي حال عدم حصوله على هذه النسبة، وإصرار الحزب الحاكم على المرشح نفسه، فإن نسبة الأغلبية (51%) تكون كافية لوصوله إلى القصر الرئاسي، خلال الجولة الثالثة.
وهذا ما حدث فعلياً؛ إذ حصل عبد الله غول على 341 صوت خلال الجولتين الأولى والثانية، وهي أقل من العدد المطلوب (367)، في حين حصل وزير الدفاع السابق صباح الدين أغلو على 70 صوتاً فقط. إلا أن الجولة الثالثة ضمنت له الفوز بالمنصب، ومن ثم دخول القصر الرئاسي، وفق عملية ديمقراطية شرعية.
غول البالغ من العمر 57 عاماً، أصبح أول رجل مسلم يدخل القصر الرئاسي كزعيم لتركيا، بعد 80 عاماً من العلمانية المسيطرة على الحياة السياسية والعسكرية في البلاد, وبعد أزمة سياسية وقعت الشهر الماضي بسبب ترشيحه للمنصب، وذلك يشير إلى إصرار الحزب الحاكم على دعم غول وصولاً إلى هذا المنصب، دون أن يستطيع أحدٌ تحديد القدر الذي قد يستطيع غول القيام به خلال مدة توليه لهذا المنصب.
التهديد المستمر للجيش التركي:
أرسى (مصطفى كمال أتاتورك) مقوِّمات الدولة العلمانية قبل 80 عاماً، واضعاً في حسبانه أن العدد الأكبر من الأتراك هم من المسلمين، ومن ثم فإن العملية الديمقراطية قادرة في أي وقت على دعم الأحزاب الإسلامية، وتغيير نسبة تمثيل البرلمان لصالح الأحزاب المسلمة، ومن ثم إيصال حكومة مسلمة للبلاد، وصولاً إلى ترشيح وانتخاب رئيس مسلم لها. لذلك فقد فصل أتاتورك العملية السياسية في البلاد عن المؤسسة العسكرية، التي لم تعد مؤسسة تحت سيطرة الحكومة، ومن ثم لا يمكن تغيير قياداتها بالانتخاب. وبات الوصول إلى قياداتها العليا لا يتم إلا من خلال القوانين والأعراف التي تضمن وصول العلمانيين وأنصاره فقط لهذه القيادات.(/2)
هذا الفصل جعل المؤسسة العسكرية مؤسسة مراقِبة للحياة السياسية في تركيا، يضمن تدخلها إطاحة أي حكومة لا تخدم التوجه العلماني للبلاد.
وقد سبق لهذه المؤسسة أن تدخلت لإسقاط أربع حكومات سابقة في تركيا منذ عام 1960، لصالح بقاء العلمانية حية ومسيطرة على البلاد، كان آخرها الحكومة الإسلامية لحزب الرفاه عام 1997. لذلك لم يكن من الغريب أن يهدد الجنرال يشار بويوكانيت (رئيس هيئة الأركان المشتركة) ضد أي مساس بالعلمانية في البلاد. وليس غريباً أيضاً أن يستبق بويوكانيت مناسبة الاحتفالات بذكرى النصر الذي يوافق 30 أغسطس، وينشر كلمته الخاصة بالمناسبة قبل يوم واحد من تصويت البرلمان للجولة الثالثة، بتاريخ 27 أغسطس، أي قبل المناسبة بثلاثة أيام. وهو ما يشير إلى محاولة تسييس هذه المناسبة، واستغلالها لإطلاق جملة من التهديدات الموجهة للحكومة والبرلمان، والرئيس الجديد أيضاً.
قال الجنرال التركي في كلمته: "مع الأسف! في كل يوم تتكشّف مخططاتٌ خبيثة بصور مختلفة، تهدف إلى الرجوع عن خطوات التطور الحديث، وتحطيم الهيكل العلماني والديمقراطي للجمهورية التركية".
وأضاف بالقول: "لن تحيد القواتُ المسلحة التركية، كالعهد بها دائماً، عن موقفها الحاسم، وعن واجبها في حراسة الجمهورية التركية الديمقراطية العلمانية وحمايتها".
وبرغم أن الكلمة لم تشر إشارة مباشرة إلى الحكومة والرئيس الجديد، إلا أن توقيت نشر الكلمة، ومعانيها التي تؤكد أهمية الدفاع عن العلمانية بالنسبة للمؤسسة العسكرية التركية، تشير إشارة واضحة إلى الجهة الثانية من هذا الصراع، والتي كانت تقترب بخطىً واثقة وثابتة باتجاه المنصب.(/3)
في الواقع، لا تستند العلمانية في تركيا على الجيش وحده، بل هناك مئات الآلاف من الأتراك الذين يساندونها، ويعملون على تقويض أي نظام آخر. وهو ما تجلى في المظاهرة الحاشدة التي خرج فيها نحو 1.5 مليون تركي في مايو/ أيار الماضي، والتي وصفت بأنها "أكبر مظاهرة للعلمانيين" ضد حكومة حزب العدالة والتنمية، شهدتها مدينة إزمير، ثالث أكبر المدن التركية.
مهمة غول الصعبة:
برغم المعارضة الواضحة من قبل الجيش لترشح غول لمنصب رئيس البلاد، إلا أنه أخفق في الوقوف ضد هذه العملية السياسية، التي اتخذت طابعاً ديمقراطياً مثالياً. وفي هذا الصدد، علقت صحيفة (ميليت) التركية بالقول: "انتخاب غول سيكون نقطة تحول في تاريخنا السياسي الذي يخطو بنا خطوة نحو النضج الديمقراطي".
في حين تقول هاندي كولبان (مراسلة وكالة فرانس برس من أنقرة): "إن قادة النظام العلماني في تركيا، ينظرون إلى خصومهم السياسيين على أنهم (الشر المخيف)، ولكنهم غير قادرين على مجاراة تزايد شعبيتهم"، وتضيف في تقريرها الذي نشر بتاريخ 28 أغسطس باللغة الإنكليزية، بالقول: "إنهم يرون في (غول) رئيساً رمزياً لصعود المحافظين وجماهير الفقراء الذين يكوّنون العمود الفقري للبلاد، والذين طالما ظلوا على هامش السياسة، بسبب الجيش والنخبة العلمانية التي تساندها".
لذلك كتبت صحيفة (فاتان) الشعبية تقول عن مهمة غول الصعبة في منصبه الجديد: "لن يكون عمل غول سهلاً في البداية، فستكون كل خطوة يخطوها موضع بحث وتدقيق من قبل المؤسسات وشرائح المجتمع الموالية للنظام العلماني".(/4)
وربما كانت أول مهمة صعبة له، هي إدخال زوجته إلى القصر الرئاسي، الذي لا يزال حكراً على غير المحجبات. فالنظام العلماني يحظر ارتداء الحجاب في مؤسسات الدولة والمدارس وغيرها، ومن بينها القصر الرئاسي، الذي سيضطر غول إلى النظر في هذا القانون، أو ربما التفكير بتغييره، الأمر الذي قد يثير معه زوبعة من ردود الأفعال العلمانية. خاصة وأن الأكثرية التركية توافقه الرأي، إذ نشرت صحيفة (ميليت) يوم الثلاثاء 28 من أغسطس، نتائج دراسة أجرتها حول موقف الأتراك من دخول أول سيدة محجبة للقصر الرئاسي، مؤكدة أن نسبة 72.6% لم يُبدوا أي اعتراض على ذلك، في حين أشار 19.8% فقط بأنهم لا يرغبون في رؤية ذلك.
موقف الشارع التركي من غول:
يعد (عبدالله غول) شخصية سياسية محببة لدى الكثيرين من الأتراك، فمع الحركة السياسية التي أطلقها خلال ترشيحه لمنصب رئاسة البلاد، تبيّن وجود ملايين الناس الذين صوتوا لصالح وصوله إلى هذا المنصب، عبر تغيير البرلمان لصالح أكثرية لحزب العدالة والتنمية.
كذلك فإن منصبه في وزارة الخارجية، قد يعطي الآمال الكبيرة للأتراك، باستمرار عمله وبذل جهده في سبيل إدخال تركيا إلى منظومة الاتحاد الأوروبي. في حين يُنظر إليه على أنه إسلامي معتدل، يقف في منتصف الطريق بين التمسك بدينه، والابتعاد عن التشدد في الآراء والمواقف السياسية والاجتماعية وغيرها. لذلك فإن من السهل عليه إطلاقَ وعود للأتراك بالمحافظة على العلمانية في البلاد، وعدم المساس بالأسس المنظمة للعملية السياسية هناك. وبالبقاء وفياً لمبادئ العلمانية والدستور، حسبما صرّح أكثر من مرة خلال الشهر المنصرم.(/5)
ويتمتع حزبُه الحاكم بصيت جميل داخلياً وخارجياً، فخلال مدة حكمه، شهدت تركيا الكثير من التغييرات والتطورات. على سبيل المثال، نما الاقتصادُ القومي بنسبة 7% سنوياً، ولم يعد الكثير من الأتراك مضطراً للخروج من البلاد بحثاً عن عمل في أماكن أخرى, فضلاً عن جملة تغييرات في الدستور، لمسايرة الدستور الأوروبي، بحثاً عن التقارب الموصل للانضمام للاتحاد. من ضمنها إصلاحات ديمقراطية وسياسية.
يتمتع غول بشعبية واسعة عربياً وإسلامياً، إذ لم ينسَ الكثيرون المواقف التي التزم بها هو وحزبه من عدة قضايا مصيرية، كالموقف المعارض لاحتلال العراق من قبل الولايات المتحدة، والموقف المعارض للسياسة الإسرائيلية في فلسطين المحتلة، أدى إلى تعطيل بعض الصفقات المشتركة مع تل أبيب بسبب التعامل الظالم والدموي من قبل الإسرائيليين ضد الشعب الفلسطيني الأعزل، وزيارة الأراضي الفلسطينية برغم معارضة تل أبيب، وإبداء دعمه للفلسطينيين سياسياً واقتصادياً.
الموقف الأمريكي من الانتخابات:
برغم تدهور العلاقات بين البلدين، منذ بداية احتلال العراق عام 2003، لم تجد الولايات المتحدة بُداً من إظهار تأييدها لفوز مرشح حزب العدالة والتنمية لرئاسة الجمهورية التركية. فواشنطن التي تعد نفسها راعية للديمقراطية في العالم (!!)، وصاحبة مشروع الشرق الأوسط الكبير (!) ونشر الديمقراطية فيه، ستكون مرغمة على قبول نتائج الانتخابات، وتأييد الفائز، حتى ولو كان من أعدائها.
يذكرنا هذا الأمر ببعض الانتخابات التي جرت في المنطقة، والتي أدت إلى فوز أحزاب وجماعات معادية للولايات المتحدة، قبل إلغاء مشروعها الخاص بالشرق الأوسط الكبير الديمقراطي (!!)، منها فوز الإخوان المسلمين في مصر، وسيطرة حركة المقاومة الإسلامية (حماس) على البرلمان والحكومة الفلسطينية.(/6)
وبهذا الصدد، كتب الصحفي جيرارد بكر مقالة نشرتها شبكة نيوز الأمريكية الأسبوع الماضي، قال فيها: "إن آخر شيء تريده واشنطن، هو وصول إسلاميين إلى السيطرة الكاملة للحكم في أنقرة؛ لأن ذلك سيكون نكسة خطيرة في محاولات إضعاف الإسلام الراديكالي في العالم، كما أنه قد يكون خبراً غير سار للدبلوماسية بين تركيا وأمريكا".
مشيراً إلى خوف واشنطن من مشاركة أنقرة حلف طهران ودمشق وحماس، لتكوين قوة معارضة في المنطقة لسياسة الولايات المتحدة، خاصة وأن تركيا كانت قد عارضت الاحتلال الأمريكي للعراق بشدة منذ البداية.
ويتابع الكاتب بالقول: "وبرغم ذلك، فإن الولايات المتحدة سوف تنصح تركيا بالتمسك بالعملية الديمقراطية، وتنصح الجيش بعدم التدخل في الانتخابات".
وهو ما يعني أن حزب العدالة استطاع إرغام واشنطن على قبولها كمشارك سياسي في المنطقة، داخلياً وخارجياً.
الهم الأكبر الذي يقع على حزب العدالة والتنمية، وعلى قادته (أردوغان وغول) هو تسيير دفة الحكم في تركيا، لصالح أهداف الحزب وتوجهاته، خدمةً للإسلام والمسلمين، وخدمة لمستقبل أفضل لتركيا.(/7)
العنوان: رؤى العيد في قَوَافِي الشُّعراء
رقم المقالة: 1849
صاحب المقالة: محمد شلال الحناحنة
-----------------------------------------
قراءات في الأدب السعودي المعاصر
[رؤى العيد في قَوَافِي الشُّعراء]
لِمَ تصبح أعيادُنا بُكائِيَّات يَعْزِفُها الشعراء؟! ولِمَ تأتِي حروفُ العيد مُثْخَنَة بالجِرَاح؟! ولِمَ تكون كلمات أَهَازِيجِنَا مخنوقةً؟! أليس العيد رمزًا للفرح والسعادة، وشكر الله وحمده على توفيقه لنا في الطاعاتِ؟! فلِمَ يخيِّم الحزن على قصائد شُعرائنا؟! هذه الأسئلة أَلَحَّتْ على مشاعِري في قراءتي لقصيدة (العيدُ جاء) للشاعر السعودي محمد الأحمدي، وقد كرر العنوان؛ ليَغْدُوَ لازمةً في خمسةِ مقاطع من مقاطعها السبعةا، ولا شكَّ أن العنوان قبل تقديم الفاعل الذي أضحى مبتدأً، هو (جاء العيد)، ولم يكن التقديم إلا لاستحضارِ هذا الحدث العظيم بكل مَبَاهِجِه وآلامِه!
الْعِيدُ جَاءْ
لِكِنَّ طِفْلاً لَمْ يَزَلْ
يَبْكِي لِفَقْدِ أُبُوَّةٍ مَدْفُونَةٍ فِي بَيْتِهِ
ذَاكَ الْمَسَاءْ
خَطَفَتْ قُوَى الْعُدْوَانِ بَسْمَتَهُ الصَّغِيرَةَ ،
غَيْرَ أَنَّ شُمُوخَهُ عِنْدَ السَّمَاءْ
وَعَلَى رَوَابِي الْقُدْسِ تَشْدُو لَحْنَهَا الأَطْيَارُ
تَحْلُمُ أَنْ تَرَى الأَقْصَى طَلِيقًا فِي رَخَاءْ!(/1)
أي عيد يُقْبل والطفل يفقد أُبُوَّته المدفونة؟! أي عيد هذا وقُوى العدوان تخطف البسمات الصغيرة؟! إن شاعرنا الأحمدي يحس بقدوم؛ ولكنه يتألم كثيرًا حين يرى أطفال فلسطين يدفنون آباءهم، وأطيار الأقصى مسجونة، تحلم أن تكون طليقةً في رخاء! إذن للعيد معنى آخر لدى شاعرنا الأحمدي هو معنى الحرية، وعزة الأمة على أعدائها، وليس العيد ملابسَ جديدة، أو حلوى فاخرة، أو بَهْجَة على أَنَّات الجَرْحَى من المسلمينَ!! ولذلك ينقلنا إلى الصورة المقابلة صورة المُجَاهدة، والمصابرة، ومُقارَعَة الأعداء، صورة الإيمان الصادق، هكذا هو العيد كما يراه الشاعر:
الْعِيدُ جَاءْ
وَمَآذِنُ الإسْلامِ تَصْدَحُ بِالتِّلاوَةِ وَالدُّعَاءْ
وَمُجَاهِدٌ لِلَّهِ يَرْفُضُ أَنْ يَعِيشَ عَلَى الْمَهَانَةِ
أَوْ يُدَنِّسُ أَرْضَهُ الإفْرِنْجُ أَحْفَادُ الْبِغَاءْ
فَمَضَى يَدُكُّ عُرُوشَهُمْ
وَيُذِيقُهُمْ كَأْسَ الرَّدَى
وَسِلاحُهُ الإيمَانُ
يَدْفَعُهُ الإِبَاءْ!
هذا الشعر يتفتح من خلال السهولة لا الغُموض، يُخاطب ثُلَّة من المجاهدينَ القابضِينَ على دينهم والزِّناد، يُبَشِّر بالنصر بالرغم من جِراحنا المثْخَنَة، وبالرغم من كثرةِ الأعداء، ونُكُوص الأحبابِ والأصدِقاء، لذا تَنْحُو القصيدة إلى بُؤَرٍ مُضيئة، تبث الأمل مكان الشَّجَن.
أمَّا الشاعر سالم بن زُرَيْق بن عوض، فإنَّ للعيد لديه طعمًا خاصًّا، وهو بهجته حين يكون شذى الرّوح، وفرحة تملأ الكون تحايا، ولذلك يربطه في استعاراته، وتَشبيهاته بالطبيعة الساجدة لله من خلال حقل لُغَوِي ينهَل من أَنْدائِهَا، وعطاءاتها، ونعيمها؛ ولذلك يقول في قصيدته المنشورة في ديوانه: "شيء من الروح"، والتي بعنوان: "فرحة العيد":
كَانْبِثَاقِ الصَّبَاحِ فِي الأَرْجَاءِ كَالشَّذَى كَالنَّسِيمِ فِي الْخَضْرَاءِ
كَالْهَنَاءِ الْعَمِيمِ يَقْتَحِمُ الرُّوحَ وَيُلْقِي السُّرُورَ فِي الأَحْشَاءِ(/2)
كَالْوَلِيدِ الْوَلِيدِ يَشْدُو مَعَ الْ فَجْرِ تَحِيَّةَ الآبَاءِ
كَالرَّبِيعِ البَدِيعِ يَخْتَصِرُ الْعُمْرَ وَيَذْرِي الرَّبِيع فِي الْبَيْدَاءِ
فَرْحَةُ الْعِيدِ السَّعِيدِ تَبَدَّتْ كَالنَّدَى كَالنَّعِيمِ فِي النَّعْمَاءِ
فَرْحَةٌ تَمْلأُ الْوُجُودَ تحايا وَشُعورًا مُقَدَّسًا لِلسَّمَاءِ
وتأتي وقْفَتنا الأخيرة مع شاعرنا الكبير عبدالرحمن العشماوي، الذي يبث مشاعره بقلب مَكْلُومٍ حزين، فيحْزننا معه في قصيدته النازفة: "غِبْ يا هلال":-
غِبْ يَا هِلالْ
إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكَ قَهْرَ الرِّجَالْ
قِفْ مِنْ وَرَاءِ الْغَيْمِ
لا تَنْشُرْ ضِيَاءَكَ فَوْقَ
أَعْنَاقِ التِّلالْ
غِبْ يَا هِلالْ
إِنِّي لأَخْشَى أَنْ يُصِيبَكَ
حِينَ تَلْمَحُنَا الْخَيَالْ
أَنَا يَا هِلالْ
أَنَا طِفْلَةٌ عَرَبِيَّةٌ فَارَقْتُ
أُسْرَتَنَا الْكَرِيمَةْ
لِي قِصَّةٌ دَمَوِيَّةُ الأَحْدَاثِ بَاكِيَةٌ أَلِيمَةْ
أَنَا يَا هِلالْ
أَنَا مِنْ ضَحَايَا الاحْتِلالْ
هذا هو العيد لدى شاعرنا عبدالرحمن العشماوي، إنه العيد الذي يَغْدُو قصة طفلة مسلمة باكية متألّمة في فِلَسْطين! هكذا تَتَشَظَّى الذَّاتُ الإسلاميَّة عنده إلى مزيد من الجِرَاح والآلام؛ لكنَّها المعاناةُ والأحزان والفجائع التي تُحَرِّضُنا على الفعل، وتمضي بنا إلى ذاك التفاؤل في مُخَاطَبَة الروح المُحَلِّقَة الأبيَّة للضَّيْم:
غِبْ يَا هِلالْ
وَاطْلُعْ عَلَيْنَا حِينَ يَبْتَسِمُ الزَّمَنْ
لا تَأْتِ بِالْعِيدِ السَّعِيدِ
مَعَ الأَنِينْ
أَنَا لا أُرِيدُ الْعِيدَ
مَقْطُوعَ الْوَتِينْ
أَتَظُنُّ أَنَّ الْعِيدَ فِي حَلْوَى
وَأَثْوَابٍ جَدِيدَةْ
أَتَظُنُّ أَنَّ الْعِيدَ تَهْنِئَةٌ فِي جَرِيدَةْ(/3)
إِنَّ دلالة العيدِ في ذاكرة العَشماوي الشعرية تأخُذُ أبعادًا عميقة تتخَطَّى السعادة الحسيَّة والمظاهر الدُّنيوية البَرَّاقة، إنها تتعدَّى ذلك إلى رُؤًى معنوية، إلى بعث طاقة عِزٍّ للإسلام، وفَرَحٍ حقيقيٍّ بالنصر على أعداء الله أينَما وُجِدُوا! وهل من مَرح وفرح في العيد مع الأَنِين؟! أَنَّى يكون العيد وبراعم الأقصى ثَكَالى وجائِعُون؟ من هنا يُشْعِل الشاعر جراحنا النازفة بكثير من الصور الساخرة المُؤْلِمَة، فهل يُوقِظُنا ذلك؟!
عِيدٌ سَعيدٌ يَا صِغَارْ
وَبَرَاعِمُ الأَقْصَى عَرَايَا جَائِعُونْ
وَالطِّفْلُ فِي لُبْنَان يَجْهَلُ مَنْشَأَهْ
وَاللاَّجِئُونَ يُصَارِعُونَ الأَوْبِئَةْ
تنهض القصيدة هنا من خلال الجملة الاسمية؛ لاستحضار الهَمِّ الكبير عن الأمة، ونرى العشماوي ينفذ إلى بعض جزئياته في القُدْس الشريف ولبنان، وقد وُفِّقَ الشاعر في استقراءِ أشْجَان الطفولة؛ لما للأعياد من مَعانٍ بريئة دافئةٍ بل صغيرةٍ كبيرةٍ لدى الأطفال!
غِبْ يَا هِلالْ
أَنَا مَنْ وُلِدْتُ
وَفِي فَمِي ثَدْيُ الْهَزِيمةْ
شَاهَدْتُ يَوْمًا عِنْدَ مَنْزِلِنَا
كَتِيبَةْ
فِي يَوْمِهَا كَانَ الظَّلامُ مُكَدَّسًا
مِنْ حَوْلِ قَرْيَتِنَا الْحَبِيبَةْ
فِي يَوْمِهَا
سَاقَ الْجُنُودُ أَبِي
وَفِي عَيْنَيْهِ أَنْهَارٌ حَبِيسَةْ
وَتَجَمَّعَتْ تِلْكَ الذِّئَابُ الْغُبْرُ
فِي طَلَبِ الْفَرِيسَةْ
وَرَأَيْتُ جُنْدِيًّا يُحَاصِرُ جِسْمَ وَالِدَتِي
بِنَظْرِتِهِ الْمُرِيبَةْ
مَا زِلْتُ أَسْمَعُ يَا هِلالْ
مَا زِلْتُ أَسْمَعُ صَوْتَ أُمِّي
وَهْيَ تَسْتَجْدِي الْعُروبَةْ
إذن هي طفولة بائسة، طفولة محاصرة في هذا العيد بدبابات الاحتلال، وقَمْع جُنوده، طفولة تُواجِهُ ذئابًا بشرية حاقِدة من اليهود، طفولة تستغِيثُ بالأمة الغافِلة، فتعجب كيف تُصْغِي لموسيقى الفرح، وتَرَانِيم المَرَح؟!(/4)
أما عيدنا الحقيقي؛ كما يراه شاعرنا عبدالرحمن العشماوي، فهو الذي يَعْبَق بشذا النصر يوم تكون الأمة قد اتَّحَدَتْ على دين الإسلام، ومن هنا يكون هلال العيد رمزًا منيرًا زاخرًا بنضارة الحُلْم القادم بالرغم من المواجع القديمة الجديدة، فيُخاطِبه بأسلوب طَلَبِي يقطف أزهارَ التفاؤُل والإشراق!
اطْلُعْ عَلَيْنَا بِالشَّذَا
بِالعِزِّ بِالنَّصْرِ المُبِينْ
اطْلُعْ عَلَيْنَا بِالْتِئَامِ الشَّمْلِ
بَيْنَ الْمُسْلِمِينْ
هَذَا هُوَ الْعِيدُ السَّعِيدْ
وَسِوَاهُ لَيْسَ لَنَا بِعِيدْ
غِبْ يَا هِلاَلْ
حَتَّى تَرَى رَايَاتِ أُمَّتِنَا
تُرَفْرِفُ فِي شَمَمْ
فَهُنَاكَ عِيدٌ
أَيُّ عِيدْ
وَهُنَاكَ يَبْتَسِمُ الشَّقِيُّ
مَعَ السَّعِيدْ!!(/5)
العنوان: رؤية إسلامية لمواجهة البطالة
رقم المقالة: 1639
صاحب المقالة: أحمد أبو زيد
-----------------------------------------
رؤية إسلامية لمواجهة البطالة
واستغلال الطاقات المعطلة في المجتمع الإسلامي
• 13 مليون عاطل في الدول العربية، والتوقعاتُ تؤكد وصول عددهم إلى 32 مليون شخص عام 2010م.
• الآثار السلبية للعولمة وراء تفاقم البطالة ونمو معدلاتها في الكثير من دول العالم.
• الأمية، وتدني المستوى التعليمي، وضعف الأداء الاقتصادي، وسوء سياسات التنمية الاقتصادية، وعدم مواكبة السياسة التعليمية والتدريبية لمتطلبات سوق العمل.. أسباب الظاهرة.
• الإسراع في إنشاء السوق الإسلامية المشتركة لتشجيع تبادل الأيدي العاملة، وانتقال رؤوس الأموال بين الدول الإسلامية، بما يقلل من حدة الظاهرة.
• عودة الأموال المهاجرة للاستثمار في الدول العربية والإسلامية يساعد على كبح جماح البطالة، ويساعد على توفير فرص عمل لا حصر لها للشباب المسلم.
• إتاحة فرص العمل التى تصونها الضوابط العادلة من شرع الله، والتى تهتم بالحاجات العامة للمسلم.
• رفع الإسلام قيمة العمل والفرد العامل، وعالج البواعث النفسية والمعوقات العملية التي تقود إلى البطالة.
• • • •
البطالةُ من أخطر المشكلات الاقتصادية والاجتماعية التي تتفاقم يومًا بعد يوم على المستوى العالمي، وخاصة في الدول الفقيرة والنامية، فقد كشف تقريرٌ حديث حول "العولمة والبطالة" عن أن هناك ما يزيد على مليار شخص متعطل عن العمل، في دول الجنوب مجتمعة.(/1)
وقال التقرير: إن الآثارَ السلبية للعولمة تزيدُ زيادةً كبيرة من الصعوبات التى تواجهُها شعوبُ الدول النامية، وتقلصُ من قدرة هذه الدول على التغلب على النتائج الاجتماعية السلبية للفقر. وأضاف التقرير أنه يجبُ على منظمة العمل الدولية أن تضطلعَ بتحليل الآثار الاجتماعية والاقتصادية للأزمة المالية على اقتصاديات الدول التى تأثرت بالأزمة، بالإضافة إلى إعداد دراسات حول أثر الأزمة على الأسواق المالية، مع التركيز بصورة خاصة على تخفيف حدة الفقر والبطالة فى هذه الدول.
وعلى المستوى العربي والإسلامي نجد تقاريرَ منظمة العمل العربية التابعة لجامعة الدول العربية التي تؤكد أن عدد الشبان العرب العاطلين عن العمل يبلغ نحو 13 مليون شخص، ويمثلون 14% من القوة العربية العاملة التي تبلغ في الوقت الحاضر نحو 98 مليون شخص. وتوقعت التقارير أن يصل عددُ الباحثين عن فرص عمل في المنطقة العربية سنة 2010م إلى أكثر من 32 مليون شخص.
كما تؤكد تقاريرُ المنظمة أن الوطن العربي -الذي ترتفع فيه نسبة البطالة بين أبنائه- يعمل فيه 6 ملايين أجنبي، إلى جانب وجود أكثر من 800 مليار دولار يستثمرُها العربُ خارجَ الأقطار العربية، فلو استُثمِرت هذه الأموالُ في الوطن العربي لتمكنّا من تشغيل نسبة كبيرة من اليد العاملة، والحد من الخسائر السنوية التي تتحملها الدول العربية.
• مفهوم البطالة:
والبطالة بالمفهوم الاقتصادي هى التوقفُ عن العمل، أو عدمُ توافر العمل لشخصٍ قادرٍ عليه وراغب فيه، وقد تكون بطالةً حقيقية أو بطالة مقنّعة، كما قد تكون بطالة دائمة أو بطالة جزئية وموسمية، وتتضاعف تأثيراتُها الضارة إذا استمرت لمدة طويلة وخاصة فى أوقات الكساد الاقتصادي، وكان الشخص عائلا أو ربًا لأسرة، إذ تؤدى إلى تصدع الكِيان الأسرى، وتفكك العلاقات الأسرية، وإلى إشاعة مشاعر البلادة والاكتئاب.(/2)
وأيًا ما كانت الأسبابُ المؤدية إلى البطالة -كأن تكون أثرًا لما يوجد فى المجتمع من تناقضات فى بناء فرص العمل، أو نتيجة للتخصص المتزايد والتنافس الشديد في الإنتاج الرأسمالى- فلا سبيل إلى مكافحتها إلا بإتاحة فرص العمل التى تصونها الضوابط العادلة من شرع الله، والتى تهتم بالحاجات العامة للإنسان، فالدينُ والعمل هما طوق النجاة من شرور البطالة والأزمات الاقتصادية.
• خطورة الظاهرة:
ومما يزيدُ من خطورة ظاهرة البطالة على المستوى العربي والإسلامي ارتفاعُ معدلاتها السنوية التي تقدرها الإحصاءاتُ الرسمية بنحو 1.5% من حجم قوة العمالة العربية في الوقت الحاضر، إذ تشير هذه الإحصاءات إلى أن معدل نمو قوة العمل العربية خلال الأعوام 1995- 1996 - 1997 كانت نحو 3.5%، وارتفع هذا المعدل إلى نحو 4% في الوقت الحاضر، وإذا كانت الوظائفُ وفرص التشغيل تنمو بمعدل 2.5% سنوياً، فإن العجزَ السنوي سيكون 1.5%، وعليه فإنَّ عدد العمال الذين سينضمون إلى طابور العاطلين عن العمل سنوياً سيبلغ نحو 1.5 مليون شخص.
وتقدِّر منظمةُ العمل العربية أن كل زيادة في معدل البطالة بنسبة 1% سنوياً تنجُم عنها خسارةٌ في الناتج الإجمالي المحلي العربي بمعدل 2.5%، أي نحو 115 مليار دولار، وهو ما يعني ارتفاعَ المعدل السنوي للبطالة إلى 1.5 وارتفاعَ الخسائر السنوية إلى أكثر 170 مليار دولار. وهذا المبلغ يمكن أن يوفر نحو 9 ملايين فرصة عمل، ومن ثم تخفيض معدلات البطالة في الوطن العربي إلى ربع حجمها الحالي.(/3)
والأرقام السابقة تدق ناقوس الخطر، وتشير إلى أن ظاهرة البطالة باتت تؤرقُ أغلبَ البلدان العربية والإسلامية، خاصة وأن عدد المتعطلين في ازدياد مستمر بالنظر إلى أن حجم القوى العاملة العربية صار يزداد أيضا ازديادا مطردًا؛ فقد ارتفع من 65 مليون نسمة عام 1993، إلى 89 مليونًا في العام 1999، ويتوقع أن يصل إلى 123 مليونًا في العام 2010، في حين يقدَّر حجم الداخلين الجدد في سوق العمل العربية بنحو 3 ملايين عامل سنويًا، وتقدر حجم الأموال اللازمة لتوفير فرص عمل لهم بنحو 15 مليار دولار سنويًا.
وتشير المنظمة إلى أن غالبية العاطلين من الداخلين الجدد في سوق العمل، أي من الشباب، ويمثل هؤلاء تقريبًا ثلاثةَ أرباع العاطلين عن العمل في دولة البحرين و84% في الكويت، وما يزيد على الثلثين في مصر والجزائر، أما معدلاتُ البطالة بين الشباب نسبةً إلى القوى العاملة الشابة فقد تجاوزت 60% في مصر والأردن وسورية وفلسطين، و40% في تونس والمغرب والجزائر.
فضلاً عن ذلك، فقد برزت منذ سنوات بطالةُ حملة الشهادات التعليمية، واستفحلت في الكثير من الدول العربية؛ إذ تبلغ معدلاتُها الضعفين في الأردن، وثلاثةَ أضعاف البطالة بين الأميين في الجزائر، وخمسة أضعاف في المغرب، وعشرة أضعاف في مصر.
• قوة العمل العربية:
وتستحوذ دولُ اتحاد المغرب العربي على الجانب الأكبر من قوة العمل العربية بنسبة 37.8%؛ إذ يوجد بها حاليًا 33.5 مليون عامل، ومن المتوقع زيادتها إلى 47 مليونًا عام 2010، ثم دول مصر والأردن واليمن والعراق، وبها 25.2 مليونًا تصل إلى 35 مليونًا عام 2010 بنسبة 27.7 %، ودول مجلس التعاون الخليجي، وبها 8.3 ملايين تصل عام 2010 إلى 11.4 مليونًا بنسبة 9.3 % من قوة العمل، في حين يتوزع الباقي، وهم 22.6 مليونًا، على بقية الدول العربية، ومن المنتظر زيادتهم إلى 30 مليونًا عام 2010.(/4)
وتتفاوت معدلات البطالة من دولة عربية لأخرى، ففي الدول ذات الكثافة السكانية العالية، ترتفع حدة الظاهرة، فيأتي العراق في المرتبة الأولى بين الدول العربية بنسبة بطالة تزيد عن 60% من حجم قوة العمل، وتبلغ 25% في اليمن، و21% في الجزائر، و19% في الأردن، و17% في السودان، و15% في لبنان والمغرب، و12% في تونس، و9% في مصر، و8% في سورية. وفي المقابل تنخفض في دول الخليج العربي ذات الكثافة السكانية المنخفضة، ففي سلطنة عمان يوجد نحو 330 ألف عاطل عن العمل، وفي السعودية نحو 700 ألف، وفي الكويت يصل العدد إلى 3 آلاف فقط.
• ضعف الأداء الاقتصادي:
والتقارير الصادرة عن منظمة العمل العربية تؤكد أن هناك مؤشراتٍ على اتساع مشكلة البطالة وقصور العلاجات التي طرحت لها حتى الآن، سواء على المستوى القطري أو المستوى العربي، نتيجة ضعف الأداء الاقتصادي، وسوء سياسات التنمية الاقتصادية، وضعف محتوى المؤسسات التعليمية والتدريبية، وعدم الترابط بينهما، وما أفرزته الإصلاحات الاقتصادية، إضافة إلى نمو القوى العاملة المرتفع.
ومما سيساعد على زيادة معدلات البطالة مستقبلاً -وخاصة في الدول العربية ذات الكثافة السكانية والمصدرة للعمالة -انحسارُ فرص هذه العمالة في دول الخليج العربي وإحلالُ العمالة المحلية مكانَها، وفي هذا الإطار تشير دراسة حديثة أعدتها منظمة "الأسكوا" إلى أن عدد سكان الدول الخليجية الست سيصل بحلول العام 2010 إلى نحو 40 مليون نسمة مما سيرفع القوة العاملة فيها إلى حدود 21 مليون نسمة، ومن ثم تتناقص فرصُ العمل أمام العمال الوافدين على العموم والعرب على الخصوص، إذ يبلغ مجموع العمالة الوافدة في الوقت الحاضر نحو 8 ملايين عامل وافد، يشكل العمال غير العرب منهم نسبة 58%.(/5)
وتقول دراسة عن واقع العمالة في دول الخليج: إن نسبتها بلغت عام 1997 ما يقارب 93% في الإمارات، و84% في الكويت، و76% في قطر، و68% في عمان، و65% في البحرين، و61% في السعودية.
• خطط التنمية الاقتصادية:
ويرجع خبراءُ الاقتصاد تفاقمَ البطالة في المنطقة العربية أيضا إلى إخفاق خطط التنمية الاقتصادية في الدول العربية على مدار العقود الثلاثة الماضية، وخاصة بعد الفورة النِّفْطية مطلع السبعينيات، وغياب التخطيط الاقتصادي المنهجي، وعدم تطابق برامج التعليم في معظم الدول العربية مع الحاجات الفعلية لسوق العمل، علاوة على أن التكوين المنهجي في معظم الدول العربية لم يواكب التطورات التكنولوجية السريعة الجارية في العالم.
هذا إلى جانب تطبيق برامج الخصخصة التي أدت إلى تسريح أعداد كبيرة من العاملين في شركات ومؤسسات القطاع العام. وإخفاق معظم برامج التصحيح الاقتصادي التي طبقتها الدولُ العربية بالتعاون مع صندوق النقد الدولي في إحداث أي نمو اقتصادي حقيقي، وبنسب معقولة تساعد على التخفيف من مشكلة البطالة، بل على العكس من ذلك تماماً فقد ساعدت هذه البرامجُ على زيادة عدد العاطلين عن العمل، وكذلك إفقار قطاعات كبيرة من الشعب نتيجة: رفع الدعم عن السلع والخدمات الأساسية، واستنزاف معظم الموارد العربية خلال حقبة ازدهار أسعار النفط في الإنفاق على التسلح، وتمويل الحروب التي اندلعت في المنطقة، وبعد ذلك وقوعها في شراك الديون وخدمتها الباهظة.(/6)
يضاف إلى ذلك تسارعُ ظاهرة العولمة ومسارعةُ الدول العربية للالتحاق بقطار منظمة التجارة العالمية، والاستجابة لشروطها في فتح الأسواق العربية أمام السلع والمنتجات الأجنبية المنافسة، مما أدى إلى إعلان الكثير من المصانع والشركات الإفلاسَ كما يحدث الآن في مصر، الأمر الذي يعني اتساعَ ظاهرة البطالة اتساعًا أسرع مما مضى. كما أن العولمة ستؤدي إلى تفاقم ظاهرة الهجرة من الدول العربية إلى الخارج، وخاصة في صفوف الكفاءات والخبرات العلمية المتميزة، الأمر الذي يعني خسارة مزدوجة.
• الإسلام والبطالة:
وأيًا ما كانت الأسبابُ المؤدية إلى البطالة -كأن تكون أثرًا لما يوجد فى المجتمع من تناقضات فى بناء فرص العمل، أو نتيجة للتخصص المتزايد والتنافس الشديد في الإنتاج الرأسمالى- فلا سبيل إلى مكافحتها إلا بإتاحة فرص العمل التى تصونها الضوابطُ العادلة من شرع الله، والتى تهتم بالحاجات العامة للإنسان، فالدين والعمل هما طوق النجاة من شرور البطالة والأزمات الاقتصادية.(/7)
ولقد أخذ العملُ في الإسلام مكانة لا تدانيها مكانة فلم يحدث أن دينًا من الأديان السابقة أكد قيمة العمل وقيمة الفرد العامل كما فعل الإسلامُ الذي جعل العملَ واجباً إسلامياً مفروضاً على كل إنسان مهما علا شأنه أو صغر، وقرر منذ بدء دعوته أن الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل، وأنه قول باللسان وتصديق بالقلب وعمل بالجوارح، ومن هنا كان الارتباط والاقتران بين الإيمان والعمل في آيات كثيرة من كتاب الله الكريم؛ قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} [الكهف: 30]، {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا} [الكهف: 107]، {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} [يونس: 9]، فلا إيمان إلا بالعمل الصالح الذي يؤكد هذا الإيمان تأكيداً عملياً من خلال الكد والاجتهاد والبحث عن الرزق وإعمار الأرض.
ولقد حرَص الإسلام على دفع المسلمين إلى العمل، وحضهم عليه، وترغيبهم فيه، وفتَحَ أمامهم أبوابَ العمل الصالح على مصراعيها؛ ليختار كلُّ إنسان ما يناسبُ قدراتِه وإمكانياتِه ومهاراته من عمل طيب، وجاء الأمرُ بالانتشار في الأرض بعد الصلاة طلبا للرزق؛ فقال تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 10].
وحث الإسلام على المهن والحرف اليدوية، وجعل كل كسب حلالٍ عملاً شريفاً وإن نظر إليه بعضُ الناس نظرة استهانة واحتقار، فقد روى البخاري عن الزبير بن العوام -رضي الله عنه- أن رسول الله قال: "لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة الحطب على ظهره فيبيعها فيكف الله بها وجهه خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه".(/8)
ووردت أحاديث كثيرة تبين فضل الكسب والمهن والحرف اليدوية؛ فعن المقدام بن معدي كرب أن رسول الله قال: "ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده". وفي الحث على المزارعة والغرس روى البخاري عن أنس بن مالك أن رسول الله قال: "ما من مسلم يزرع زرعاً أويغرس غرساً فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة".
ولقد كان الرسلُ والأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم من أحرص الناس على العمل إلى جانب الدعوة إلى الله فكان نوحٌ نجاراً، وكان إدريس خياطاً، وكان داود خواصاً، وكان موسى أجيراً عند شعيب، وكان نبينا يرعى الغنم ويعمل بالتجارة قبل البعثة.
وقد اقتدى به الصحابة الكرام -رضوان الله عليهم- فحرَصوا على العمل والسعي في طلب الرزق؛ فكان منهم الصانع والتاجر والزارع، وكانوا يتمتعون بالغنى وسعة الرزق ويمارسون أعمالهم مع انشغالهم في الدعوة والجهاد في الغزوات والحروب والفتوحات التي كانوا يحققون فيها النصر والظفر.
• أضرار البطالة:
ولا شك أن للكسل والبطالة والقعود عن العمل أضراراً وأمراضاً خطيرة تهدد المجتمعَ بالخراب والدمار، فالإنسان الذي يركن إلى البطالة ويُضرب عن العمل مع توفر فرصه يضيع نفسه ويضيع ذويه، ويصبح عالة على غيره وعضواً مشلولا يعوق حركة المجتمع وتقدمه، ثم نجده يُعرّض نفسَه ومن يعول للذل والهوان، ولا يلقى من الناس إلا الاحتقارَ والسخرية، ويجني من كل ذلك ضياع الدين والخلق والكرامة.
وهذا العاطل عن العمل قد يدفعه تعطلُه وبطالتُه إلى أحد أمرين: إما أن يتكفف الناس ويتسول، وإما أن يتجه إلى ارتكاب الجرائم والمنكرات للحصول على الأموال.(/9)
فأما التسول فهو من أخطر الأمراض التي تضر المجتمع، وتشوه صورته، والمتسول -وخاصة إذا كان من القادرين على العمل- إنسان حقر نفسه، وأراق ماء وجهه، وخلع حياءه وكرامته، وفقد إنسانيته، وبدأ يمد يده للناس أعطوه أو منعوه، أما غيرُ القادر على العمل فهذا له عذرُه في الحاجة إلى غيره، ومن أجله كانت فريضة الزكاة التي تغنيه عن الحاجة والمسألة.
ولكن الشيء الغريب أن التسول أصبح اليوم مهنة لبعض الناس، وانتشر في بعض الدول الإسلامية انتشارا سرطانيًا مدمرًا؛ حتى إن بعض القادرين على العمل من الكسالى قد استسهلوا التسول وانطلقوا في الشوارع والمركبات العامة يمدون أيديهم للناس بغير حياء.
ولقد حارب الإسلامُ هذه العادةَ السيئة وبالغ في النهي عن مسألة الناس؛ فقد روى البخاري ومسلم عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله قال: "ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم". وروى الإمامُ أحمد عن عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله قال: "لا يفتح عبدٌ بابَ مسألة إلا فتحَ الله عليه بابَ فقر". وروى البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله قال: "اليد العليا خير من اليد السفلى".
• البطالة والجريمة:
وأما الأثر الثاني للبطالة والتعطل عن العمل بعد التسول فهو الاتجاهُ إلى الجريمة طلبًا للمال، وهذا الأثر أخطرُ بكثير من التسول؛ لأنه إن كان المتسولُ يأخذ من مال الإنسان بمحض إرادته وبطيب نفس منه، فإن السارق يأخذُ المالَ عَنوة، وقد يعتدي على صاحب المال إذا ما اعترضه وهو يسرق، ويرتكب جريمة أخرى غير السرقة وهي: القتل، ومن هنا تنتشر الجرائم وتصبح حياةُ الإنسان وماله وعرضه في خطر من هؤلاء المجرمين المتعطلين، وقد أثبتت الدراساتُ والبحوث أن أكثر الذين يرتكبون الجرائم في هذه الأيام هم من العاطلين الذين أخفقوا في عملهم أو في دراستهم وعجزوا عن أن يشغلوا أنفسهم بالحق فشغلتهم هي بالباطل.(/10)
ومن هنا تتضح عظمة الإسلام حين حضّ على العمل، ورغب الناس فيه، وجعل بعض الأعمال تصل إلى منزلة الجهاد في سبيل الله.
• بواعث التعطل:
والإسلام عندما دعا إلى العمل وحضّ عليه عالج البواعث النفسية والمعوقات العملية التي تثبط الناس عن العمل والسعي والمشي في مناكب الأرض، وتقودهم إلى البطالة، فمن الناس من يعرض عن العمل والسعي بدعوى التوكل على الله وانتظار الرزق من السماء، والإسلام قد خطّأ هؤلاء؛ لأن التوكل على الله لا ينافي العمل واتخاذ الأسباب، فالطير نفسه قد فقه مفهوم التوكل على الله فنجده يغدو ويروح طلبا للرزق، كما قال الرسول: "لو أنكم تتوكلون على الله حقَّ توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خِماصًا وتروح بِطانًا".
وقد رتب الله سبحانه الأكل من رزقه على المشي في مناكب أرضه فقال تعالى: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك: 15]، فمن مشى أكل، ومن كان قادراً على المشي ولم يمش كان جديراً ألا يأكل.
• لا رهبانية في الإسلام:
ومن الناس من يدَعُ العمل بحجة التبتل والانقطاع للعبادة، وهذه نظرة غير صحيحة للإسلام الذي يعد العمل الصالح عبادة من العبادات، ويدعو إلى العمل والكسب، ويقرر أنه لا رهبانية في الإسلام، وأن سعي الإنسان على معاشه -ليعف نفسه أو يعول أهله أو يحسن إلى أرحامه وجيرانه أو يعاون في عمل الخير ونصرة الحق- إنما ذلك ضرب من الجهاد في سبيل الله.
وقد دعا القرآن الكريم إلى الجمع بين نصيبي الدنيا والآخرة؛ فقال تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص: 77].(/11)
ومن الناس من يدعُ العملَ استهانةً به واحتقاراً له، كما كان الحالُ عند كثير من العرب الذين يحتقرون الحرف والعمل اليدوي، وقد بدّل الإسلام هذه المفاهيم المغلوطة، ورفع من قيمة العمل أياً كان نوعُه، وحقر من شأن البطالة، وجعل النبيُّ جمعَ الحطب وبيعَه خيراً للمرء من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه.
ومن الناس من يدع العمل لأنه لم يتيسر له في بلده ومسقط رأسه وموطن أهله وعشيرته، ويرضى بالبطالة والفقر بدلاً من الهجرة والضرب في الأرض والسفر مع السعة والغنى، فإن هؤلاء قد حثهم الإسلام على الهجرة، وشجعهم على الغربة، وبين لهم أن أرض الله واسعة، وأن رزق الله غير محدد بمكان ولا محصور في جهة، قال تعالى: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً} [النساء: 100]، وقال تعالى: {وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [المزمل: 20].
وعن عبد الله بن عمرو قال: توفى رجل بالمدينة ممن ولدوا فيها، فصلى عليه رسول الله وقال: "ليته مات في غير مولِدِه"، فقال رجل: ولِمَ يا رسول الله ؟ قال: "إن الرجلَ إذا مات غريباً قِيسَ له من مولده إلى منقَطَعِ أثرِه في الجنة".
وقد انطلق المسلمون الأوائلُ على هدى هذه الأحاديث في فجاج الأرض؛ ينشرون الدينَ، ويلتمسون الرزقَ، ويطلبون العلم، ويجاهدون في سبيل الله.
ومن الناس من يركن إلى البطالة اعتمادًا على أخذه من الزكاة أو غيرها من الصدقات والتبرعات التي تجيء إليه من الآخرين بغير تعب ولا عناء، وفي سبيل ذلك يستبيحُ المسألةَ مع قوة بنيته وسلامة أعضائه وقدرته على الكسب، فالإسلام يحارب هذه الفئة، ولا يقرر لها أي حق في الزكاة ولا في غيرها من الصدقات ما داموا أقوياء مكتسبين أو مستطيعين للكسب، ولذلك قال النبي: "لا حظ فيها -أي في الزكاة- لغني ولا لقوي مكتسب".(/12)
وقال: "لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مِرّة سويّ"، فمدلول الحديث واضحٌ، ومعنى المرة: القوة، والسوي: السليم الأعضاء، وبهذا لم يجعل الرسول لمتبطل كسول حقًّا في صدقات المسلمين، وذلك ليدفع القادرين إلى العمل والكسب الحلال ولا يدع لهم فرصة للقعود وترك العمل والسعي.
• توفير فرص العمل للقادرين عليه:
وأما من يدع العمل والسعي عجزًا عن تدبير عمل لنفسه مع قدرته على العمل وذلك لقلة حيلته وضيق معرفته بوسائل العيش وطرائق الكسب، فهذا يوجب الإسلام أن يُيسّر له سبيل العمل الملائم له يعاونه في ذلك أفرادُ المجتمع عامة وأولو الأمر خاصة حتى ولو دفعت له الدولة من مؤسسة الزكاة ما يساعدُه في توفير فرصة العمل الذي يحقق له دخلاً ثابتاً يكفيه هو ومن يعول. ولقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم- كيف نساعد المتعطل عن العمل على اكتساب رزقه من عمل يده، وذلك في موقفه مع الأنصاري الذي جاءه يطلب الصدقة فوجهه إلى الاحتطاب كوسيلة للرزق الحلال، وجعله يعتمد على نفسه في توفير الأدوات التي يعتمد عليها في هذه الحرفة؛ إذ أمره بإحضار ما في بيته فإذا هو حِلْس (كساء يفرش ويلبس) وقَعْب يوضع فيه الماء، فأخذهما النبي - صلى الله عليه وسلم- وعرضهما للبيع على الصحابة، ودفع بثمنهما إلى الأنصاري ليشتري طعاماً لأهله وقَدُومًا لحرفته، ونجحت توجيهات النبي صلى الله عليه وسلم- وتمكن الأنصاري من اكتساب قوته بعمل يده.
• استراتيجية إسلامية شاملة:(/13)
ويجب على المجتمع الإسلامي بدُوَله وشعوبه أن يأخذ بهذه التوجيهات الإسلامية في مواجهة البطالة، التي باتت كالقنابل الموقوتة تهدد الاستقرارَ في الدول العربية والإسلامية، ويضع استراتيجية إسلامية شاملة في هذا الشأن، يتم من خلالها الإسراعُ بإنشاء السوق الإسلامية المشتركة التي طال انتظارُها، إذ أن إنشاء هذه السوق سوف يساعد في تشجيع تبادل الأيدي العاملة، وانتقال رؤوس الأموال بين الدول العربية والإسلامية، بما يؤدي إلى التقليل من حدة الظاهرة، هذا إلى جانب تحسين الأداء الاقتصادي العربي والإسلامي، وتحسين مناخ الاستثمار في الدول الإسلامية، وإزالة القيود التنظيمية والقانونية التي تحول دون اجتذاب الأموال العربية في الخارج، والتي يقدرها بعضُ الخبراء بنحو 800 مليار دولار، ولا شك أن عودة هذه الأموال للاستثمار في الدول العربية والإسلامية سوف يساعد في كبح جماح مشكلة البطالة، ويساعد على توفير فرص عمل لا حصر لها للشباب المسلم.
• المراجع:
- د. يوسف القرضاوي - مشكلة الفقر وكيف عالجها الإسلام - مكتبة وهبه القاهرة 1980م.
- د. زيدان عبد الباقي - العمل والعمال والمهن في الإسلام - مكتبة وهبه القاهرة 1978م.
- أحمد أبو زيد - مكانة العمل في الإسلام - مجلة الجندي المسلم - العدد 102 - ذو الحجة 1421هـ - مارس 2001م.
- تقارير منظمة العمل العربية التابعة لجامعة الدول العربية لعام 2000م.
- د.محمود أبو زيد – البطالة: موسوعة المفاهيم الإسلامية، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية - وزارة الأوقاف - مصر.
- تقرير حول "العولمة والبطالة" - القمة العاشرة لمجموعة الـ15 - القاهرة - يونيه 2000م.
- تقارير الدورة الثامنة والعشرين لمؤتمر العمل العربي - عمان - إبريل 2001م.
- العولمة تزيد من أزمة البطالة في الوطن العربي - الإسلام على الإنترنت - 26 يونيه 2000م.(/14)
- محمد شعبان - العاطلون العرب قنابل موقوتة - الإسلام على الإنترنت - 10 إبريل 2001م.(/15)
العنوان: رؤية شخصية لمستقبل الأمم المتحدة
رقم المقالة: 1764
صاحب المقالة: د. حسن نافعة
-----------------------------------------
رؤية شخصية لمستقبل الأمم المتحدة بين الواقع والطموح
مقدمة
المبحث الأول: عن الطموح
المبحث الثاني: عن الواقع
• • • • •
مقدمة
إن من يتأمل ما يجري على ساحة النظام الدولي سَرعان ما يكتشف وجود ظاهرتين تعملان في اتجاهين متعاكسين تمامًا:
الأولى: تدفع في اتجاه الكونية والتوحد والانفتاح، محيلةً الكونَ كله إلى مجتمع واحد، يستحيل على أي جزء فيه أن يستقل بنفسه، أو ينفصل عن حركة بقية الأجزاء الدائرة في فَلَك الكل، وهو ما يفرض إقامة مؤسسات عالمية، تعالج كافَّة القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية، استنادًا إلى قواعد عامَّة مقبولة ومتفق عليها.
أما الثانية: فتدفع في اتجاه الانشطار، والتفتت، والعزلة، والانغلاق الفكري والثقافي والعِرْقيّ؛ خوفًا من ضياع الهُوية، أو فِقدان الذات، وهو ما من شأنه أن يُعقِّد من عملية التنظيم الدولي، ويحيلها إلى عملية باهظة التكاليف، إن لم تكن مستحيلة، وفي هذا السياق تتجه الدول الغنية، والدول الديموقراطية إلى التعاون معًا، والتجمع في أُطُرٍ تنظيمية ومؤسسية خاصة بها، بعيدًا عن الأمم المتحدة، بينما تجد الدولة الفقيرة أو النامية نفسها غارقة في مستنقع الديون، والحروب العِرْقِيَّة والطائفية، والتخلف العلمي والتكنولوجي، دون أيّ إطار مؤسَّسي فاعل يجمعها، حتى الأُطُر المؤسسية التي كانت قد استطاعت أن تقيمها خلال الخمسينيات والستينيات؛ مثل حركة عدم الانحياز، أو مجموعة الـ 77 بدأت بدورها تنهار.(/1)
والواقع أنَّه إذا استمرَّ تطوّر الأحداث على نفس المنوال، وفي نفس الاتجاه؛ أيْ: اتجاه الدولة الغنية إلى تنظيم أمورها بعيدًا عن الأمم المتحدة، والتجمّع في أُطُر مؤسَّسية خاصة بها، واتجاه الأطر التنظيمية للدول الفقيرة نحو التفكّك والانهيار، فلن يساعد ذلك على إصلاح الأمم المتحدة على النحو الذي يكفل إقامةَ نِظام فعَّال للأمن الجماعي، أو الأمن التعاوني.
وسوف نحاول في هذا الفصل أن نعالج مستقبل الأمم المتحدة في مبحثين:
يحاول الأول أن يطرح رؤية عامة لما يجب أن تكون عليه الأمم المتحدة، إذا أرادت أن تلعب دورًا فعالاً لتحقيق السلم والأمن الدوليين.
ويحلل الثاني الأسباب، ويستعرض العوائق التي تعترض تحقيق هذا الطموح.
المبحث الأول: عن الطموح
أدت التطورات التي مرَّ بها النظام الدولي منذ الثورة الصناعية، التي اندلعت في أوروبا، والتي تواكبت تأثيراتها الفعلية زمنيًّا مع الثورة الفرنسية الكبرى، والحروب النابليونية في بداية القرن التاسعَ عَشَرَ، إلى تحول هائل في مفهوم ومضمون الأمن الجماعي؛ فقد أفرزت أول محاولة مؤسسية لبلورة وتطبيق هذا المفهوم في أعقاب الحروب النابليونية مباشرة من خلال صيغة "التحالف المقدس"، والذي تحول بسرعة إلى صيغة "الوفاق الأوروبي"، ثم بعد الحرب العالمية الأولى من خلال صيغة "عُصْبة الأمم"، ثم بعد حرب عالمية ثانية من خلال صيغة "الأمم المتحدة"، والتي لم تتح ظروف "الحرب الباردة" أمام ميثاقها أيَّ فرصة حقيقية نحو التطبيق الكامل، على الرغم من أنه ما زال معمولاً به حتى الآن من الناحية النظرية على الأقل.(/2)
وقد تصور البعض أن انتهاء الحرب الباردة يتيح فرصة حقيقية أمام دخول الميثاق حيِّزَ التنفيذ؛ لكن هذا الأمل لا يلوح في الأفق الآن؛ ذلك أن "الأمم المتحدة" في شكلها الحالي ما هي إلا نتاج الحرب الباردة، وابنها غير الشرعي، ومن ثَمَّ فإن من المشروع جدًّا أن نتساءل حول ما إذا كانت هذه الصيغة برمتها صالحة للتعامل مع حقائق النظام الدولي المعاصر.
ولقد برز خلال السنوات الخمسين الماضية تطوران على مستوى التنظيم الدولي لم تشهد لهما الإنسانية مثيلاً من قبل في تاريخها المعروف.
الأول: أن جميع دول وحكومات العالم قد أصبحت، ولأول مرة في التاريخ، داخل إطار مؤسسيّ واحد، وهي ظاهرة لم تعرفها موجات التنظيم الدولي المتعاقبة منذ ظهور الدولة القومية في أعقاب مؤتمر وستفاليا عام 1648؛ أي: إنه ولأول مرة تتطابق حدود "التنظيم الدولي" جغرافيًّا ووظيفيًّا مع حدود "النظام الدولي"، مع فارق مهم وهو أن العضوية في "التنظيم" هي للدول ممثلةً في حكوماتها، بينما هي في "النظام" لكل الفاعلين الدوليين، سواء كانوا دولاً أم لا.
الثاني: أنه ولأول مرة أيضًا في تاريخ البشرية، تتحول الكرة الأرضية كلها إلى وحدة واحدة، أو ما يشبه الجسد الواحد الذي ترتبط أجزاؤه معًا بشبكة هائلة ومعقَّدة من المصالح، تشبه الدورة الدموية أو الجهاز العصبي المحرِّك لوظائف الأعضاء في الجسم الإنساني؛ فلم يَعُدْ بمقدور أي دولة مهما بلغ شأنها أن تدير مواردها البشرية والمادية، أو فضاءها الجوي، أو إقليمها البحري أو الأرضي بمعزل عن الآخرين.(/3)
والواقع أنَّ من يتأمَّل الصورة الكلية لعالم اليوم - بصرف النظر عن التفاصيل - سوف يجد أن أهم مصادر التهديد لأمن البشر، وبصرف النظر أيضًا عن جنسياتهم، أو لون بشرتهم، أو انتماءاتهم العرقية أو الثقافية، الحضارية أو الدينية ـ: لم تعد هي الحروب بين الدول وحدها؛ بل إننا لا نتجاوز الحقيقة إذا قلنا إن هذا النوع من الحروب؛ أي الحروب الدولية، لم يعد هو المصدر الرئيس لهذا التهديد؛ فضحايا الحروب الأهلية أو المجاعات، أو تلوث البيئة، أو الأمراض الفتاكة، أو المخدرات، أو الإرهاب، أو الجريمة المنظمة قد أصبحت تماثل - إن لم تكن تفوق - ضحايا الحروب بين الدول.
من ناحية أخرى: لم تصبح الحدود الجغرافية والسياسية بين الدول قادرةً على عزل الشعوب والمجتمعات عن عوامل التأثير الخارجي، أو دفع الأضرار التي قد يتسبب فيها الآخرون؛ أي القادمة من الخارج، مهما كانت ضخامة ما تمتلكه الدول من موارد أو إمكانات؛ فالأضرار التي يمكن أن تنجم عن تآكل طبقة الأوزون، وما قد يترتَّبُ عليه منَ احتمال ارتفاع درجة حرارة الجو، أو عن تَسَرُّب الإشعاع النوويّ، أو عن تلوث مياه الأنهار والمحيطات، أو عنِ انتشار مرض نقص المناعة الطبيعية (الإيدز)، هي أضرار لا يمكن دفعها إلا في إطار عمل جماعيّ دوليّ منسَّق ومنظَّم على مستوى الكون.
من ناحية أخرى: فقد يؤدي انتشار الفقر أو المجاعة في دول العالم الثالث، وما قد ينجم عنه من موجات هجرة ونزوح جماعيّ، وحروب أهليَّة وعدمِ استقرار، إلى ضرب رفاهية واستقرار الدول الغنية أو الديموقراطية في الصميم، وكل ذلك يَدفع - كما قلنا - في اتجاه البحث عن حلول عملية، من خلال أُطُر مُؤَسَّسِيَّة عالمية فعالة، لمواجهة مخاطر وتهديدات متنوّعة المصادر والجذور، ولا تقتصر أبدًا على التهديدات العسكرية وحدها.(/4)
هذه الحقيقة تكفي وحدها دليلاً على أنَّ تطوُّر النظام الدولي قد تجاوز - من وجوه عدَّة - مفهومَ "الأمن الجماعيّ" كما عبر عنه الميثاق؛ فالميثاق ركَّز في الواقع صراحةً أو ضِمْنًا على مفهوم التهديد العسكري باعتباره مصدرَ الخطرِ الرئيس، والدليل على ذلك أن الميثاق لم يُخَوِّل مجلس الأمن سُلطة إصدار القرار الملزم إلا في حالة وجود تهديد للسِّلم والأمن الدوليّ، أو إخلال به، أو وقوع عدوان، صحيحٌ أنه لم يذكر صراحة أن هذا التهديد هو بالضرورة من نوع التهديد العسكري؛ ولكن ذلك مفهوم ضمنًا من نصوص الميثاق، والدليل على ذلك أن الرد الذي سمح به "الميثاق" حين خوَّل لمجلس الأمن صلاحياتِ وسلطاتِ التعامل مع هذا التهديد للسلم، أو الإخلال به، أو وقوع العدوان، هو رد عقابي، ومن طبيعة عسكرية في الأساس؛ لأنه يشتمل على إمكانية فَرْض حَظْر اقتصاديّ أو سياسيّ أو اجتماعيّ جزئي أو شامل، وكذلك على إمكانية استخدام القوة العسكرية؛ لقمع العدوان أو ردعه.
صحيحٌ أن وجود القوة العسكرية على نحوٍ دائم تحت تصرُّف مجلس الأمن، هو مسألة أساسيَّة؛ لأن الاعتقاد بعدم وجود أداة عسكرية تحت تصرُّف المجلس هو نوع من الضعف، الذي قد يُغري أو قد يُشَكِّل أحيانًا دعوة صريحة للعدوانية.
وصحيح أيضًا أن سلطة المجلس الملزمة في فرض العقوبات مطلوبةٌ أيضًا؛ لردع العدوان أو قمعه؛ لكن ذلك كله لم يعد يكفي للتعامل مع الأخطار المحدِقة بالسلم والأمن الدوليَّيْنِ، فعند وجود حالة تلوث بيئي مثلاً، أو مجاعة قد تُعرِّض حياة الملايين لخطر، فليس بوُسع المجلس أن يتخذ قرارًا ملزمًا وقابلاً للتنفيذ لمنع إقامة المفاعلات النووية من طراز معيَّن مثلاً، أو اتخاذ قرار بإسقاط ديون الدول النامية، أو فرض رسوم على الطيران، أو التجارة الدولية، أو لمواجهة كارثة من طبيعة بيئية أو اقتصادية أو اجتماعية، فذلك ليس من صلاحياته أو سلطاته.(/5)
إنَّ إحدى المفارقات الرئيسة في فلسفة الميثاق الحالي، وفي البِنية التنظيمية الحالية للأمم المتحدة، منظورًا إليهما من وجهة نظر التحوّلات التي طرأت على النظام الدولي الراهن -: تكمن في أن رؤيته الخاصة للسلم والأمن الدوليينِ قد انتهت به إلى خَلْق سلطة بوليس دولي، بينما التطورات العالمية الراهنة تدفع في اتجاه إيجاد سلطة لإدارة الموارد العالمية.
بعبارة أخرى: فقد أنشأ ميثاق الأمم المتحدة جهازًا هو مجلس الأمن، يبدو بصلاحياته وسلطاته الحالية وكأنه يماثل جهاز وسلطة الشرطة على الصعيد المحلي؛ إذ يبدو مجلس الأمن وكأنه يملك سلطة القبض على الخارجين على القانون ومحاكمتهم؛ ولكنه - على عكس جهاز وسلطة البوليس المحلي - ليس جزءًا من حكومة لها صلاحيات شاملة، ومسؤولة أمام الأجهزة الرقابية السياسية والقضائية، وخاضعة للمحاسبة على أساس القانون، ويبدو واضحًا من "خطة السلام" التي يقترحها الدكتور بطرس غالي أن المحافظة على السلم والأمن الدوليين في ظل التطورات الراهنة، تتطلب جهازًا قادرًا على القيام بوظائف "الدبلوماسية الوقائية"، و"صنع السلم"، و"حفظ السلم"، و"بناء السلم"، وتلك وظائف لا يستطيع أن يقوم بها جهاز شرطة؛ وإنما حكومة عالمية مسؤولة.
إن النشاط الذي ميز عمل مجلس الأمن في السنوات الأخيرة، بعد نهاية الحرب الباردة، والاتجاه نحو التقيد الذاتي لاستخدام حق الفيتو، قد أَدَّيَا إلى قيام المجلس بإصدار عدد كبير جدًّا من القرارات استنادًا إلى الفصل السابع من الميثاق، وفي حالات لم تكن تعتبر – تقليديًّا - من بين مصادر تهديد السلم والأمن الدوليين؛ فحماية حقوق الإنسان، وقوافل الإغاثة، والشرعية الدستورية قد توحي بأن مجلس الأمن لم يعد يعتبر الاعتداءات العسكرية وحدها هي مصادر التهديد للسلم والأمن الدوليين في مفهومه الحالي:(/6)
وقد يرى البعض في ذلك توجهًا جديدًا يسير في اتجاه الاستجابة لما تفرضه متطلبات التحوُّل نحو الكونية والتعددية من تغيير؛ لكننا لا نراه كذلك على الإطلاق؛ بل هو اتجاه ينطوي على مخاطرَ جسيمةٍ، إذا استمر العمل في إطار الميثاق والهيكل التنظيمي الحالي للأمم المتحدة، وذلك للأسباب التالية:
أوَّلاً: أنَّ السلطة الضخمة التي تمتع بها مجلس الأمن في ظل الميثاق الحالي، هي سلطة تكاد تكون مطلقة، فضلاً عن أنها سلطة تقديرية، هي سلطة مطلقة لأن مجلس الأمن يملك صلاحيات استخدام القوة على أي نحو يراه، ولأيّ سبب يراه، وفي أي وقت يراه، ما دامت قراراته صادرة بالأغلبية المنصوص عليها في القانون، وهي سلطة ملزِمة لا تملك الدول الأعضاء من الناحية القانونية أن تتحلَّل منها أو تعترض عليها، ويكفي أن يشير المجلس في قراراته إلى أنه يتصرف بموجب الفصل السابع من الميثاق، أيًّا كانت طبيعة هذا التصرف، حتى يصبح هذا التصرف جائزًا وملزمًا، دون أن يكون لأحد حقُّ التعقيب، أو التقويم، أو المحاسبة، أو النقد؛ فلا الجمعية العامة تملك أي سلطة سياسية لمحاسبة المجلس، الذي تحوَّل إلى حكومة فعلية مطلقة، أو إقالته أو سحب الثقة منه؛ كما يحدث في الأنظمة المحلية الديمقراطية، ولا محكمة العدل الدولية تملك صلاحية النظر في مدى دستورية القرارات الصادرة عن المجلس، وبالتالي لا تملك حق أو سلطة الرقابة القضائية في مواجهته.(/7)
ثانيًا: أن مجلس الأمن بتشكيله الحاليّ لا يمثل إرادة المجتمع الدوليّ، أو يعبر عن خريطة القوى العالمية والإقليمية في النظام الدوليّ الراهن، وربما كان هناك ما يبرر أن تقتصر العضوية الدائمة على خمس دول محددة بالاسم خلال السنوات الأولى لنشأة الأمم المتحدة، باعتبار أن هذه الدول هي الكبرى المنتصرة في الحرب العالمية الثانية، أو حتى خلال مرحلة الحرب الباردة كلها، على أساس أن وجود القوتين المتصارعتين معًا داخل المجلس يَكفل توازنًا يكفي للتغطية على عيوب التشكيل في حد ذاته.
أما الآن: فلم يعد هناك أيّ مبرر لأنْ يستمرَّ التشكيل على هذا النحو؛ فالدول المهزومة في الحرب العالمية الثانية تحولت إلى دول منتصرة في الحرب الباردة، وبعض الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية هُزِمت في الحرب الباردة، والمفروض أن يعكس تشكيل مجلس الأمن في نظام دولي كوني منطق التمثيل العادل وَفْقًا لاعتبارات الوظيفة، أو "الديمقراطية" أو "الإقليمية"، وليس منطق الاعتبارات الخاصة بالقوة أو الفرز على أساس المنتصرين والمهزومين في الحرب.
وتكفي نظرة واحدة على التشكيل الحالي للمجلس لكي نخلص إلى أن التشكيل الحالي للدول دائمة العضوية لا يقوم على أي أساس من "الوظيفة"، أو "الديموقراطية"، أو "الإقليمية"، ففي نظام دولي تُحرِّكه قُوى الاقتصاد، والعلم والتكنولوجيا بأكبرَ بكثير مما تحركه قوة السلاح، يَصعب قبول مجلس أمن لا تحتل فيه ألمانيا واليابان مقاعد دائمة العضوية، وفي نظام دولي يضم في إطاره جميع دول العالم من القارات الخمس، يصعب قبول مجلس أمن تحتل فيه القوى الغربية (الأورو – أمريكية) أربعة أخماس المقاعد الدائمة، ولا تمثل فيه على الإطلاق قارتا إفريقيا وأمريكا اللاتينية بأي مقاعد دائمة.(/8)
نحن إذن أمام نظام دولي تديره حكومة أقلية تتمتع بسلطات مطلقة، وربما كان من الممكن قبول هذه الحكومة، حتى ولو كانت حكومة أقلية أو حكومة ديكتاتورية، لو أنها كانت تملك صلاحيات الحكومة فعلاً؛ أي تدير العالم أمنيًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا... إلخ، لكنها ليست كذلك؛ لأن مجلس الأمن هو جهاز بوليس، وليس حكومة؛ وبالتالي فإن سلطاته الديكتاتورية يمكن أن يُساء استعمالها تمامًا؛ كما هو الحال في أنظمة القمع البوليسية.
في هذا السياق، وفي ضوء تجارِب الحِلْف المقدس، أو الوفاق الأوروبي، أو عُصبة الأمم، أو الأمم المتحدة قبل وبعد انتهاء الحرب الباردة، فإننا نعتقد أن نظام الأمن الجماعي غير قابل للعمل كنظام فعَّال إلا إذا تم تصميمه في سياق الفصل الكامل بين السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية والسلطة القضائية، والتوازن والرقابة المتبادلة بين هذه السلطات الثلاث، وإذا أُرِيدَ لسلطة تنفيذية في إطار نظام فعال للأمن الجماعي أن تقوم بوظائف الديبلوماسية الوقائية، وبناء السلم، بالإضافة إلى الوظائف التقليدية لحفظ وصنع السلم؛ فإنَّه يتعيَّن في هذه الحالة أن يصبح لمجلس الأمن اختصاصات ملزمة متساوية، ليس فقط في مجال قمع أو ردّ العدوان؛ وإنَّما أيضًا في مجال مواجهة كُلّ مصادر التهديد الأخرى للسلم والأمن الدوليَّين في عالمنا المعاصر، وعلى هذا الأساس نتصوَّر أنَّ الوقت قد حان لإقامة هيكل تنظيمي جديد للأمم المتحدة، يضَعُ اللَّبنات الأولى لشكل جنيني من أشكال تنظيم المجتمع الكوني، على أساس الفصل بين السلطات الثلاث، وعلى النحو المقترح التالي:
أولا: السلطة التنفيذية:(/9)
1 – نقترح أن يتحول مجلس الأمن إلى مجلس تنفيذي للأمم المتحدة، يتمتع بالسلطات والصلاحيات اللازمة لتمكينه من اتخاذ القرارات التنفيذية في كافة مجالات "الديبلوماسية الوقائية"، أو "صنع" أو "حفظ" أو "بناء" السلم، وهو ما يعني أن تكون له نفس الصلاحيات، ليس فقط في مجال قَمْع العدوان، وإنما أيضًا في مجالات حماية البيئة، أو معالجة الفقر، أو حماية حقوق الإنسان... إلخ، على أن يُشكَّل هذا المجلس من 25 – 30 مقعدًا، وتشغل دول دائمة العضوية نصف مقاعد هذا المجلس، يتم تحديدها على أساس مجموعة من المعايير تأخذ في اعتبارها مجمل عناصر القوة الشاملة: من عسكرية، واقتصادية، وديموغرافية... إلخ، وتضمن تمثيلاً متوازنًا للمجتمع الدولي بأقاليمه الجغرافية، وثقافاته وحضاراته الرئيسة، أما النصف الآخر فتشغله دول غير دائمة العضوية، يتم انتخابها دوريًّا من جانب الجمعية العامة وَفقًا لنفس النظام المعمول به حاليًّا في شَغْل مقاعد العضوية غير الدائمة بالمجلس.
وسوف يكون من الملائم جدًّا أن يجتمع هذا المجلس التنفيذي مرة واحدة على الأقل سنويًّا على مستوى القمة، ومرة كلّ ثلاثة أشهُر على الأقل على مستوى وزراء الخارجية، أو وزراء الاقتصاد والمالية، أو البيئية حسب طبيعة القضية المطروحة للنقاش.
2 – نقترح أيضًا أن ينبثق عن هذا المجلس التنفيذي أربعُ لجان، أو مجالسَ نوعيةٍ: "مجلس أمن" تكون مهمته متابعة وإدارة المسائل المتعلقة بتسوية المنازعات أو حَلِّها، ومجلس لشؤون التنمية المستدامة، تكون مهمته متابعة وإدارة قضايا البيئة والتنمية، والمعونة الفنية إلخ، ومجلس لشؤون حقوق الإنسان، والمساعدات الإنسانية، (وتوطين اللاجئين في حالات الكوارث الطبيعية، أو الحروب الأهلية، أو الدولية... إلخ).(/10)
وحتى لا تبدو هذه المقترحات وكأنها تحلق في عالم الخيال المطلق، وترفضها الدول الكبرى والغنية رفضًا مطلقًا، نقترح أن نتخذ القرارات على أساس نظام التصويت الترجيحيّ، مع إلغاء حق النقض، بحيث يضمن هذا النظام الحيلولة دون سيطرة أي مجموعة إقليمية أو سياسية على المجلس، وكذلك الحيلولة دون تمكين أيّ مجموعة منفردة من عرقلة صدور القرارات عن المجلس.
ثانيًا: السلطة التشريعية:
وتقوم بها الجمعية العامة للأمم المتحدة، باعتبارها الفرع العام الذي تمثل فيه كافة الدول الأعضاء، ولتمكين الجمعية من أن تلعب دورها التشريعي على نحو فعَّال، يتعين عليها أن تقتصر على وضع الخطوط العريضة للسياسات والتوجهات العامة في كافة المجالات، دون الدخول في التفاصيل، وإقرار مشروع البرنامج والميزانيَّة المقترح من جانب الأمانة العامة، بعد قراءته وإقراره مَبْدَئِيًّا من جانب المَجْلِس التنفيذي، ومراجعة أعمال المجلس التنفيذي، وتقويم أدائه، وإصدار التَّوْصِيات والملاحظات على التقارير التفصيليَّة، التي يتعيَّن عليه أن يقدمها دوريًّا للجمعية.(/11)
ولتجنُّب أيّ احتِمالٍ للتَّصادُمِ في المواقف بين الجمعية والمجلس ـ: يمكن وضع عدد من الضوابط والآليَّات لتنظيم العلاقة بينهما على نحْوٍ يضمن عدم تعدّي كل منهما على سلطة الآخر، بحيث يصبح للجمعية حقّ الإشراف والتوجيه، ويصبح لِلمجلس سلطة القرار والتنفيذ، وقد تتضمَّن هذه الضوابط والآليات اشتراط حصول القرارات التي قد تضع الجمعية في مواجهة مع المجلس على أغلبية خاصة، ومن خلال نظام خاص للتصويت المرجح يمكن الاتفاق عليه، حتى لا تتعرض الجمعية لهزات نتيجة لاحتمالات الانقسام الحادّ بين أغلبية عدديَّة، لا تملك عناصر القوة الضرورية لضمان فاعلية الأمم المتحدة، وبين أقليَّة يعتبر وجودها ضمانًا لتمكين الأمم المتحدة من العمل بفاعلية؛ ولكن يتعين الحيلولة دون احتكارها، أو سيطرتها المنفردة على سلطة الأمم المتحدة.
غير أن فُرَصَ نجاح نظام يقوم على مثل هذه التوازنات الدقيقة تبدو ضئيلة ما لم يتم الاتفاق مسبقًا وعن طريق القبول العام على نظام جديد لتمويل الأمم المتحدة، يحمي المنظمة ويجعلها بمنأًى عنِ احتمالات تُعَرِّضُها للابتزاز والضغوط من جانب الدول، التي تساهم بنصيب كبير في الميزانية، وسوف نشير إلى بعض ملامح هذا النظام التمويلي فيما بعد.
ثالثًا: السلطة القضائية:
ويتعيَّن أن تمارسها محكمة العدل الدولية، ويعتبر التشكيل الحالي للمحكمة، وكذلك وظائفها التي تحددها لائحتها الأساسية ملائمين، لكن الأمر قد يتطلب إعادة صياغة اللائحة الأساسية للمحكمة، بحيث يصبح الاختصاص القضائي للمحكمة إلزاميًّا، أو على الأقل توسيع نطاق هذا الاختصاص القضائي إلى أوسع حد ممكن، بحيث يشتمل على أكبر قدر من الحالات، وعلى النحو الذي يمكِّن الدول المختلفة من اللجوء بيسر وسهولة إلى جهاز قضائي دائم وثابت.(/12)
وكان الدكتور غالي قد أوصى في "خطة السلام" بأن تُقِرَّ جميع الدول الأعضاء بالولاية العامة للمحكمة الدولية، قبل انتهاء عقد الأمم المتحدة الحالي للقانون الدولي سنة 2000 "كما اقترح بالنسبة للحالات التي تحول فيها الهياكل المحلية دون قبول الاختصاص العام للمحكمة، أن تتفق الدول بصورة ثنائية أو متعددة الأطراف على قائمة شاملة بالمسائل التي ترغب في عرضها على المحكمة، وعلى ولاية المحكمة، فيما يتعلق بأحكام تسوية المنازعات الواردة في المعاهدات المتعددة الأطراف":
وهذا اقتراح ملائم تمامًا؛ لكنه قد لا يكون كافيًا لتحويل المحكمة إلى سلطة قضائية فعَّالة في مجتمع دولي منظم, ومن ثم يتعين أن تضاف إلى هذه المقترحات مقترحات أخرى، تتعلَّق بتطوير الوظيفة الإفتائية للمحكمة من ناحية، وتخويل المحكمة من ناحية أخرى سلطة الرقابة الدستورية على القرارات الصادرة عن الأجهزة المختلفة للأمم المتحدة، بما فيها المجلس التنفيذي.
وفيما يتعلق بتطوير الوظيفة الإفتائية، يقترح بعض الباحثين تمكين كل من الأمين العامِّ والمنظمات والأجهزة الدولية الأخرى؛ بل والدول نفسها، سلطة استفتاء المحكمة كمدخل لتطور اختصاصها الإفتائي.
وبصرف النظر عن اعتقادنا بأن مثل هذه المقترحات قد تنطوي على بعض المخاوف والمحاذير، إلا أننا نتفق تمامًا مع الآراء المطالبة بضرورة تطوير الوظيفة الإفتائية للمحكمة، وتوسيع نطاقها إلى أقصى حدٍّ ممكنٍ؛ نظرًا لأهميتها البالغة في تطوير قواعد القانون الدولي، وتحديد مضمون هذه القواعد بدقة.(/13)
أما بالنسبة للبُعد الخاص بضرورة مَنْح المحكمة سلطةَ الرقابة على دستورية القرارات الصادرة عن الأفرع الرئيسة للأمم المتحدة، فإن الذي دعا إلى ذلك، وأضفى عليه صيغة عاجلة ومُلِحَّةً هو ما أثارته العديد من قرارات المجلس الصادرة خلال العامين الأخيرين من تحفظات ومشكلات قانونية ودستورية، فعلى الرغم من أن البعض يعتقد أن ممارسات مجلس الأمن في الآونة الأخيرة، التي لا يتفق بعضها، أو يتطابق مع التفسير السليم للميثاق، تعتبر تطويرًا أو تعديلاً عرفيًّا له، إلا أن أصحاب هذا الرأي يعتقدون مع ذلك أن هذا التعديل أو التطوير العرفي "قد أدى إلى انهيار ضوابط الشرعية الدستورية الدولية، الواردة في ميثاق الأمم المتحدة في مجال تدابير الأمن الجماعي الدولي، سواء تعلقت هذه الضوابط بالناحية الموضوعية، أو بالناحية الإجرائية، وأصبحت الشرعية الدولية غير واضحة الحدود والمعالم والضوابط"، ومن أجل وقف هذا الانهيار، وإعادة الاعتبار إلى الشرعية الدولية، وضرورات احترام الميثاق نصًّا وروحًا؛ يطالب الكثيرون بإلحاح الآن بأن "يخضع مجلس الأمن لنوع من الرقابة؛ لضمان مشروعية أعماله وفقًا لنصوص الميثاق، وقواعد القانون الدولي، ومبادئ العدالة".
ومنَ الواضح أنَّ إعادة تنظيم السلطات في الأمم المتحدة لكي تتضمن تحديدًا وفصلاً ورقابة متبادلة بين ما هو تشريعي وما هو تنفيذي، وما هو قضائي، تستوجب إدخال تعديلات جوهريَّة على ميثاق الأمم المتَّحدة، والواقع أنَّ القضيَّة الرئيسة لم تعد الآن هي ما إذا كان تعديل الميثاق أمرًا مرغوبًا فيه أم لا؛ لأنَّ هناك ما يُشْبِهُ الإجماع الآن على أنَّ هذا التعديل بات حتميًّا، على الأقلّ بالنسبة للجزئية الخاصة بتوسيع قاعدة العضوية في مجلس الأمن، لكن المشكلة الأساسية تكمن الآن فيما إذا كان المجتمع الدولي قد وصل إلى درجة النضج الكافي؛ لإقناعه بالإقدام على تعديل جذري على هذا النحو المقترح.(/14)
وفي تقديري أن هناك معيارَيْنِ يَصلُحان لاختبار مدى توافر النضج الدولي اللازم للتحرك بفاعلية نحو مجتمع دولي أكثر تنظيمًا وقدرة على وضع نواة لسلطة مؤسَّسِيَّة، مهما كانت متواضعة الصلاحيات، ولكنَّها سُلطة تتضمَّن فصلاً واضحًا، ورقابة متبادلة بين الجانب التنفيذيّ والتشريعيّ والقضائيّ فيها، وهذانِ المعياران هما:
1 ـ مدى استعداد المجتمع الدولي لوضع الترتيبات المنصوص عليها في المادة 43، والخاصة بإنشاء جيش دولي على نحو دائم وثابت، وذلك لا يقتضي تعديلاً في الميثاق، وإنما هو التزام قائم وموجود في الميثاق الحالي.
2 – مدى استعداد المجتمع الدولي لتزويد الأمم المتحدة بنظام مستقل لتمويل نفقاتها، يعتمد بالإضافة إلى الحِصَص الإلزامية على الدول أو المساهمات التطوعية، على فرض ضرائب أو رسوم على بعض المعاملات، أو الخدمات الدولية مثل: الطيران الدولي، مبيعات الأسلحة، العبور في الممرات والأنهار الدولية... إلخ.
وهناك من الباحثين الغَرْبِيِّين من يرى أنَّ مشكلات التخلف قد وصلت في الدول النامية حدًّا يهدد استقرار السِّلْم والأمن الدوليَّيْنِ على نحوٍ خطير، وهو ما أوجب التصدي بشكل فوري لمعالجته، ولذلك يقترح كل من دورفيل وناجمان على سبيل المثال، أنه يتعين أن تضع الدول تحت تصرف الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة مواردَ لا تقل عن 2% من الدخل القومي الإجمالي في العالم، فإذا ما قبلت الدول من حيث المبدأ وضْع هذه النسبة تحت تصرف الأمم المتحدة؛ فإن ذلك يعني حصيلة سنوية تقدر بحوالي 440 بليون دولار، وهو مبلغ ضروري جدًّا لحقن اقتصاديات الدول النامية - ومن خلالها الاقتصاد العالمي كله - بجرعة كافية للشفاء من أمراض التخلف، والوقاية من خطره أيضًا.(/15)
ويرى هذان الباحثان أنه من الممكن الحصولُ على هذا المبلغ الضخم عن طريق وسائل عديدة، من أهمها: فرض رسوم على رحلات الطيران والاتصالات، وخدمات البريد الدولية، وعلى بعض أنواع المبادلات، والتجارة الدولية، والمعاملات المالية الدولية.... إلخ.
وفي تقديري أن تبلور اتفاق دولي حول وضع المادة 43 موضع التنفيذ، وتمويل ميزانية الأمم المتحدة بوسائل من بينها الضرائب أو الرسوم المباشرة، وفي حدود تعادل 2% من الدخل الإجمالي لكل الدول، سوف يحيل كل القضايا الأخرى إلى مسائل فنية، يسهل إيجاد حلول علمية لها.
المبحث الثاني: عن الواقع
لا يكفي توافر شروط موضوعية، تدفع في اتجاه التجديد الكامل للمفاهيم، والآليات الخاصة بنظام الأمم المتحدة في مجال السلم والأمن الدولِيَّيْنِ لكي يصبح هذا التجديد ممكنًا؛ بل لا بد أن تتوافر إلى جانب ذلك شروط ذاتية، كافية لنقل عملية التجديد هذه من نطاق الحلم إلى أرض الواقع.
ونقصد بالشروط الذاتية تلك التي تتعلق بإدراك صناع القرار، والنُّخَب الحاكمة، وقادة الفكر، والرأي العام، ومدى اقتناعِهِم بضرورات هذا التجديد، واستعدادهم للعمل من أجل تحقيقه، أو تحمل ما قد يترتب عليه من أعباء وتضحيات.
لكن نظرة موضوعية فاحصة لما يجري على الساحة الدولية، تشير إلى أن المجتمع الدولي لا يبدو ناضجًا بَعْدُ للشروع في تشكيل جيش دولي، وفاءً بالالتزامات المنصوص عليها في المادة: 43 من الميثاق، أو لضَخِّ مواردَ ماليةٍ كبيرة في شرايين اقتصاديات الدول النامية، من خلال مشروع جماعي متعدد الأطراف من أجل التنمية، وشواهِدُنا على ضآلة احتمال التحرك الجِدِّيّ نحو تخطيط وتنفيذ مشروع جماعيّ لمكافحة الفقر كمصدر لتهديد الأمن، ما يلي:(/16)
1- أن الدول الغنيَّة والمتقدِّمة لا تنظر في الواقع إلى الأمم المتحدة باعتبارها المنبرَ الأصلح، أو الإطار المؤسَّسِيَّ المناسبَ لحل المشكلات الاقتصادية الدولية، وهي تُفَضِّل العمل من خلال مؤسسات بريتون وودز (الصندوق والبنك)، ومن خلال اتفاقية الجات، ومنظمة التجارة الدولية، وفي غياب تكتل دولي قادر وفعال من جانب دول العالم الثالث، لا تجد الدول المتقدمة نفسها مضطرةً أو راغبةً في أن تنقل ساحة المفاوضات حول أولويات النظام الدولي، والشروط الأفضل لتحقيق تنمية مستدامة إلى ساحة الأمم المتحدة.
2 – أن ظاهرة التكتلات الإقليمية التي برزت مزاياها النسبية، خاصةً بعد نجاح تجربة التكامل الأوروبي، بدأت تأخذ أبعادًا جديدة وخطيرة، خصوصًا بعد قيام منظمتي "النافتا" و"الآسيان"، مما يوحي بأن جهد الدول المتقدمة مركَّز على التكتل الاقتصادي الإقليمي، وليس معالجة المشكلات والمخاطر الدولية على الصعيد العالمي.
3 – ما تزال الدول المتقدمة تُفضِّل صيغةَ المساعدات الثنائية - والتي عادة ما تكون مصحوبة بشروط سياسية مصممة لتحقيق المصالح الخاصة بهذه الدول - على صيغة المساعدات الجماعية التي تُفقِد الدولَ المانحة أيَّ قدرة لها على توجيهها، وتُرَكِّز الدول المتقدمة الآن على تقديم مساعداتها إلى مناطق مختارة، أهمها جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق، وخصوصًا الجمهوريات التي لديها قدرات نووية؛ لاحتواء خطرها، واستيعابها لاحقًا في منظومة الدول المتقدمة والليبرالية.(/17)
4 – تسود الاقتصادَ العالمي حاليًّا موجةٌ من الكساد، تجعل التركيز الأساسي لكل دولة مُنْصَبًّا على قضاياها ومشكلاتها الداخلية، وفي مقدمتها قضايا ومشكلات البطالة والتضخم، والمخدرات، وتَفَشِّي الجريمة المنظَّمة... إلخ، يضاف إلى ذلك أن بعض الدول المتقدمة مشغولةٌ بقضايا ظرفية أو مزمنة، تدفعها في اتجاه الانكفاء على نفسها، وعدم التفكير مؤقتًا على الأقل في مشكلات الآخرين؛ فألمانيا تكاد تكون مستغرَقة بالكامل في محاولة احتواء الآثار الاقتصادية السلبية، الناجمة عن عملية دمج ألمانيا الشرقية، واستيعاب دول شرق ووسط أوروبا في الاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة تكاد تكون مستغرَقة بالكامل لإيجاد حل للمشكلات المزمنة في ميزان مدفوعاتها، وتجارتها مع العالم الخارجي، خاصة مع اليابان، وتُرَكِّز اهتمامها في الأمور الاقتصادية على كل ما من شأنه أن يخفِّف فقط من حِدَّة هذه المشكلات، دون التأثير على مكانتها أو وزنها الاستراتيجي في العالم.
وفي هذا السياق يصعب توافُرُ ظروف محلية داخل الدول المتقدمة، تجعلها راغبة أو قادرة على اتخاذ قرارات صعبة من قبيل الموافقة على تخصيص جانب أكبر مِن دخْلها لمساعدات خارجية، تُقدَّم من خلال الأمم المتحدة، أو القَبول بتخويل هذه الأخيرة صلاحيةَ فَرْض رسوم مباشرة على بعض أوجُه النشاط الدولي، أو حتى السماح للأمم المتحدة بأن تتحول إلى ساحة للتفاوض حول أولويات النظام الاقتصادي العالمي.
أما على صعيد القضايا الأمنية والسياسية المباشرة، فإن الوضع الدولي لا يفصح بدوره عن أيّ شواهدَ على تزايُد اهتمام المجتمع الدولي بالأمم المتحدة؛ كإطار مناسب لتسوية أو حل كل الأزمات الدولية، أو لمعاقبة كافة الخارجين على القانون الدولي والشرعية الدولية؛ ودليلنا على ذلك ما يلي:(/18)
1 – في مجال التسوية السِّلْمِيَّة للمنازعات: يلاحظ أنه على الرغم من الازدياد الملحوظ والمطَّرد في نشاط الأمم المتحدة، وتدخِّلها المتزايدِ في الشؤون الداخلية للعديد من الدول من خلال مبررات تتعلق بالإرهاب الدولي، أو حماية حقوق الإنسان، أو دعم الشرعية الدستورية، والتعددية السياسية.... إلخ ـ: إلا أن هناك العديدَ من الأزمات الحادَّة التي لا يراد للأمم المتحدة أن تتدخل بشأنها على الإطلاق، ومن أمثلة ذلك القضايا المتعلقة بالصراع العربي – الإسرائيلي.
2 – في مجال حفظ السِّلْم: نلاحظ أن بعض الدول الكبرى ما زالت عازفةً عن المشاركة في أي عمليات لحفظ السلم؛ فالصين لم تشارك حتى الآن بأيّ قوات، وكذلك فإن روسيا الاتحاديةَ تتعامل مع هذه المسألة بحَذَر شديد، يضاف إلى ذلك أن الولايات المتحدة رغم تَحَمُّسِها للمشاركة أحيانًا في بعض عمليات حفظ السلم، إلا أنَّها تَرْفُض رفْضًا قاطِعًا وضع قُوَّاتها لِلْمُشاركة في عمليات الأمم المتحدة تحت أيِّ قيادة غير أمريكية، وهي إمَّا أن ترفض رفضًا تامًّا إرسال أي قوات إلى مسرح الأزمة، كما في حالة أزمة البوسنة والهرسك، وإما أن تشارك من خلال عملية خاصَّة ترتبط بالأمم المتحدة رمزيًّا؛ ولكنها تخضع لإدارتها الكاملة، كما حدث في الصومال عندما قادَتِ الولايات المتحدة تحالُفًا دوليًّا في إطار قوة العمل الموحدة UNITAF للتدخل هناك، كمقدمة لتمكين الأمم المتحدة من التدخل فيما بعد، وفي أحيان كثيرة قامت الدول الكبرى باتخاذ قرارات بسحب قوَّاتها المشارِكة في عمليات حفظ السلام، دون تشاور مسبق مع الأمين العام... إلخ.(/19)
3 – في مجال نزع السلاح وخاصة أسلحة الدمار الشامل: يلاحظ اهتمام الدول الغربية الشديد، خاصَّة الولايات المتحدة الأمريكية، بموضوع تدمير هذه الأسلحة؛ ولكن بشكل انتقائي، وخارج إطار المؤسسات المَعْنِيَّة في الأمم المتحدة، يدل على ذلك موقف الولايات المتحدة من العراق، ومن كوريا الشمالية، ومن مساعداتها السخية لدول وسط آسيا؛ للتخلص من أسلحتها النووية... إلخ، لكنها لا تحرك ساكنًا لحمل إسرائيل على التوقيع على معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية.
4 – لم ترحّب معظم الدول، وخاصة الدول الكبرى، أو تتحمس كثيرًا لاقتراح الدكتور غالي بالدخول فورًا في مفاوضات لوضع الترتيبات المنصوص عليها في المادة 43 موضع التنفيذ، أو اتخاذ أي خطوات عملية للاستجابة لاقتراحه الخاصّ بتشكيل وحدات إنفاذ السلم، أو حتى بإبداء الاستعداد للالتزام مسبقًا بحجم معين من القوات التي تعلن عن رغبتها للمشاركها بها في عمليات حفظ السلام.
هذه الشواهد كلها وغيرها تؤكد أن المجتمع الدولي عامة، والدول الكبرى على وجه الخصوص، لم يبدأ بعد في اتخاذ أيّ خُطوة ملموسة على طريق التحرك الفعَّال في اتجاه تطوير نظام الأمن الجماعي، والواقع أنه ليس أمام المجتمع الدولي سوى أن يختار من بين بدائلَ ثلاثةٍ:
الأول: القيام بعملية تجديد شامل لهذا النظام، في سياق عملية إصلاح جَذْرِيٍّ لكل هياكلِ وآلياتِ صُنْعِ القرار في الأمم المتحدة.
الثاني: ترك الأمور على ما هي عليه دون تبديل.
الثالث: إدخال تعديلات على الشكل والمظهر الخارجي، دون مَساس بمضمون النظام القائم حاليًّا.(/20)
أما البديل الأول: فيبدو مستبعَدًا في الوقت الراهن بسبب عدم توافر الإرادة السياسية لدى الدول الكبرى لإحداث نَقْلَةٍ نوعيَّةٍ في أساليب عمل الأمم المتحدة، ولأن سياق تطور الأحداث الدوليَّة لا يوحي بوجود أيّ عنصر ضاغطٍ في هذا الاتجاه، ذلك أنَّ الإصلاح الجَذْرِيَّ لمؤسَّسات الأُمَم المتَّحدة معناه ببساطة، وفي التحليل النهائي: القَبول بإدارة جماعية مشتركة للنظام العالمي، وشرط توافر هذا القبول غير قائم، فلكي تقبل الدول الكبرى، وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية بأن يشاركها أحد في إدارة العالم، وَفْقًا لقواعدَ معروفةٍ سَلَفًا وملزِمة، ومؤسسات واضحة المعالم، يتعيَّن توافُر قَدْر معقول من توازن القُوى، وهي سِمة تبدو غائبة في تلك المرحلة الانتقاليَّة من مراحِل تطوّر النّظام الدولي؛ فهُناك خلل واضح في موازين القوة في النظام الدولي لصالح الولايات المتحدة، وليس من المفيد أو الملائم هنا بحث ما إذا كانت الولايات المتحدة تملك أو لا تملك مقومات الهيمنة المنفردة على العالم؛ لكن الأهمَّ من ذلك أنها تتصرف وكأنها يجب أن تكون القائدَ الفعليَّ لهذا النظام، دون أن تكون على استعداد لتحمل تبعات هذه القيادة، وهذا التوجُّه لا يساعد بالضرورة على تقوية ودعم مؤسسات السلطة الجماعية المشتركة، مُمَثَّلَةً في مؤسسات الأمم المتحدة، فحين تكون الدولة قادرة أو مرشحة لقيادة العالم فإنها لا تهتم عادة بتطوير المؤسسات التي تتيح للآخرين حُقوقًا لمزاحمتها، أو مشاركتها في هذه القيادة؛ وهذا يفسر تفضيل الولايات المتحدة استخدامَ مَعُونَاتِها الخارجيةِ في سياق علاقاتٍ ثنائية، تتحكَّمُ هي في مسارها وفي توجيهها، وكذلك استخدام قواتها المسلحة للتدخل فقط في الأزمات التي تمسُّ مصالحها الاستراتيجية الحيوية، بدلاً من وضعها تحت تصرف إدارة جماعية، قد لا يصبح بمقدورها أن تسيطر على آلياتها، أو تستخدمها بنفس القدر من الحرية.(/21)
البديل الثاني: وهو تَرْك الأمور على ما هي عليه يبدو مستبعدًا هو الآخر، ففي تقديري أن المجتمع الدولي لم يَعد يملك مثل هذا التصرف لأسباب عديدة؛ فقد فَجَّرَ الدور الذي لعبته الأمم المتحدة في أزمة الخليج آمالاً وطموحاتٍ ضخمةً في البداية، ولا شك أن تقييم الدور الحالي للأمم المتحدة بالقياس إلى ما حدث في الخليج يُلقي بأحمال وتَبِعات ثقيلة على عاتق التحالف الدولي، الذي أدار أزمة الخليج لكي يُحَسِّنَ من الصورة الحالية للأمم المتحدة.
من ناحية أخرى فإن الولايات المتحدة ترغب - لأسباب سياسية واقتصادية أيضًا - في إفساح الطريق أمام كلٍّ من اليابان وألمانيا للحصول على مقاعد دائمة في مجلس الأمن، فلم يَعُد بمقدور الولايات المتحدة أن تَقْمَعَ - إلى الأبد - الطموحاتِ السياسيةَ المشروعةَ لأكثر دول المجتمع الدولي ديناميكيةً وكفاءةً من الناحية الاقتصادية، وهي بالإضافة إلى ذلك ترغب في أن يتحمَّل غيرها جانبًا من الأعباء المالية التي تتزايد باطراد؛ بسبب التوسُّع الكبير في عمليات حفظ السلم، التي تَجِدُ الأممُ المتحدة نفسها مضطرة للقيام بها في مناطق كثيرة في العالم؛ لكن ذلك سوف يستدعي بالضرورة إدخالَ تعديل صريح على نصوص الميثاق، وهي مسألة حسَّاسة؛ فسوف يصبح من الصعب جدًّا - في ظل الظروف الدولية السائدة حاليًّا - إقناعُ العديد من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة بضرورة تعديل ميثاق الأمم المتحدة، لمجرد ضمّ كل من ألمانيا واليابان فقط إلى عضوية مجلس الأمن الدائمة، ولذلك فمن الأرجح ألا تتمكَّن ألمانيا واليابان منِ احتلال مقعدين دائمين في مجلس الأمن إلا في إطار عملية تعديل أوسع من ذلك لقاعدة العضوية في المجلس، وتوسيع قاعدة العضوية قد يفتح الباب أمام محاولات إدخال تعديلات أخرى أكثر جوهرية على الميثاق.(/22)
فإذا كان المُناخ الدوليّ السائد في النظام الدولي حاليًّا لا يشجع على إحداث نَقْلة كبرى في آليات وأساليب عمل الأمم المتحدة، وفي الوقت نفسه لا يسمح باستمرار الوضع الحالي على ما هو عليه الآن؛ بسبب ما قد يتولد عن ذلك من شعور بالإحباط المشحون بأوخم العواقب؛ فلم يتبقَ إذًا سوى البديل الثالث، وهو الأرجح؛ لذلك أتوقع أن تتم خلال السنوات القليلة المقبلة محاولة لإدخال بعض التعديلات على هياكل وآليات صُنع القرار في الأمم المتحدة، توحي بأن شيئًا ما يتحرك نحو الأفضل؛ ولكن ليس بالضرورة بالقَدْر أو في الاتجاه الذي يطمح إليه هؤلاء الذين يرغبون في إصلاح جَذْرِيٍّ، ومن المحتمل أن تَشْتَمِل هذه التعديلات على توسيع قاعدةِ العضوية في مجلس الأمن، وإعادة هَيْكَلَةِ أجهزة صنع القرار في المجالات الاقتصادية والاجتماعية، وأعادة تنظيم السكرتارية، وربما إشراك المنظمات الإقليمية بدور أكبر في تحمُّل أعباء عمليات حفظ السلم والأمن الدوليينِ، لكننا لا نتوقع أن يؤدي هذا التغيير إلى نقلة موضوعية أو جوهرية في طبيعة الأمم المتحدة، والارتقاء بها؛ كسلطة لإدارة المجتمع الدولي.
والواقع أنَّ الدول الكبرى تفضل أن تُبْقِيَ على الأمم المتحدة كقاطرة جاهزة، ومستعدة للحركة، بحيث تستطيع أن تبدأ الحركة حين تقدم لها هي ما تحتاجه من هذا الوقود، وما يكفي منه لقطع المسافة المطلوبة فقط لا غير.
بعبارة أخرى: يبدو من الواضح أن الدول الكبرى، وخاصة الولايات المتحدة، تفضل أن تتعامل الأمم المتحدة مع كل أزمة، وكل حالة على حدة؛ حتى تصبح حرة طليقة في اختيار الأدوات والأساليب التي تتناسب ومقتضيات ظروفها، ومصالحها المتغيرة.(/23)
أما دول العالم الثالث: فلا يبدو أنَّ لها استراتيجية خاصة مقبولة ومتفق عليها من جانب كل الأعضاء في الحركة لتطوير الأمم المتحدة، ولا شك أنها سوف تتصارع فيما بينها على المقاعد الدائمة، التي قد تخصَّص لزيادة تمثيل إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية في مجلس الأمن.
وعلى أي حال: فسوف يَظل أيّ تطوير فِعْلي للأمم المتحدة - بصرف النظر عن نطاقه - مرهونًا بإرادة الدول الخمس دائمةِ العضوية وحدها؛ ذلك أنه يتحتم قيام هذه الدول مجتمعةً بالتصديق على أيّ تعديل يتم إدخاله على الميثاق؛ لكي يصبح هذا التعديل نافذًا، ومعنى ذلك ببساطة ووضوح شديدينِ: أن أي دولة دائمة العضوية سوف يكون بمقدورها أن تَحُول دون إدخال أيّ تعديل على الميثاق لا ترضى هي عنه، وهذا الوضع يَحُدُّ كثيرًا من نطاق واحتمالات التغيير.
وللأسف فإن الدرس المستخلَص من تطوُّر التنظيم الدولي يشير إلى أن أوقات الحروب الكبرى وحدها هي التي تتيح أمام المبدعين من القادة والمفكرين الفرصة لكي يَمضوا قُدُمًا على طريق وضع أفكارهم الجريئة موضعَ التطبيق، لكن ما أن يتم ذلك حتى تبدأ مشكلات الواقع في الالتفاف حول عنق التجديد.
هكذا كان حُلم عصبة الأمم ممكنًا فقط بعد الحرب العالمية الأولى، وكان حُلم الأمم المتحدة ممكنًا فقط بعد الحرب العالمية الثانية، فهل يحتاج العالم إلى حرب عالمية ثالثة؛ لكي يحاول بناء منظمة حقيقية لإدارة شؤون الكون؟!:
المشكلة أن الحرب العالميَّة الثالثة إذا ما قامت، فلن تترك عالَمًا قابلاً للتنظيم، ومن ثَمَّ فإنَّه يتعيَّن على قادة الفِكر وصُنَّاع القرار في العالم أن يتعلَّموا كيف يحلُمون، ويحوِّلون أحلامهم إلى واقع في زمن السِّلْم.(/24)
العنوان: راتب الزوجة نعم للمشاركة ولا للمصادرة
رقم المقالة: 620
صاحب المقالة: سحر فؤاد أحمد
-----------------------------------------
قبل أن تخرج المرأة للعمل كانت الخلافات الزوجية محدودة ومعروفة، وعندما خرجت للعمل تفاقمت المشكلات، وازدادت الخلافات، وكان أكثرها صخباً وضجيجاً مشكلة راتبها الشهري، مادامت تقضي جزءاً من وقتها خارج المنزل للعمل، وتنوعت القضايا والحوادث في هذه المسألة، بين أزواج يطالبون الزوجات العاملات بضرورة الإسهام في نفقات البيت؛ نظراً لتقصيرهن في واجباتهن الزوجية، وزوجات يطالبن الأزواج بضرورة المساعدة في أعمال المنزل وتدبير شؤون الصغار؛ نظراً لإسهامهن في الإنفاق على الأولاد والمنزل.
وما زال السؤال مطروحًا، هل يظل الإنفاق مسؤولية الزوج حسب رأي الشريعة الإسلامية؟ أم اختلف الأمر في ظل الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية الجديدة؛ حيث أصبحت مسؤولية الإعالة قضية معقدة لا تخضع للضوابط الشرعية و لا تتحدد بالأعراف الاجتماعية.
* النساء يتحدثن:
تقول منال- معلمة عزباء-: أصبح الاقتران بموظفة عاملة إغراء لكثير من الشباب، لاسيما أصحاب الدخل المحدود، ولا يحتاج المرء إلى فطنة ليدرك أنّ سوق الزواج من الموظفات رائج جداً، فأسهُم الموظفة والجامعية أعلى من غيرها، لكن راتب الزوجة قد يعدُّ- في بعض الحالات- وبالاً عليها وأحد مصادر الشقاء في حياتها الأسرية، والمجتمعات العربية تضجُّ بالكثير من الأمثلة لحالات تغوُّل غير شرعي لدخل المرأة، وسرقة جهدها وعرقها، وتجنباً لهذه المشكلات لابد من الاتفاق بين الزوجين من البداية ووضع النقاط على الحروف فيُعرف مسبقاً من المسؤول عن الإنفاق؟ وإذا كان هناك تعاون من الزوجة فما حجم هذا التعاون بعيداً عن الإكراه؟ وماذا سيحدث في حال ترك الزوجة لعملها؟ إلى غير ذلك من أمور حتى يكون الزوجين على بينة، ويسير المركب بسلام.(/1)
الجوهرة - مديرة مدرسة - توافق منال في حديثها وتضيف: من المؤسف أن نجد من الأزواج- ممن رقّ دينه وقلّت مروءته- يأكل مال زوجته بغير حق، ويسلك في ذلك سبلاً شتّى فقد يهددها بالطلاق إن لم تعطه، أو يتملق ويظهر الحاجة بين يديها، وقد يلجأ إلى الاستدانة منها مع تبييت النيّة بعدم الوفاء، وقد يشركها معه في مشروع ما دون كتابة عقد بينهما، ثم يسلُّ يدها منه، وينفرد بالمشروع وحده، إلى غير ذلك من ألوان الأكل لمال الزوجة.
أم خالد ترى أن راتبها كان نقمة عليها وتقول: زوجي كان لطيفاً جداً في بداية زواجنا ولم يطلب مني أي شيء خلال العام الأول من الزواج، ولم يسألني حتى عن راتبي وهذا جعلني مطمئنة تجاهه لكني اكتشفت أن صمته كان مصيدة خطَّط لها بعناية، فذات يوم جاءني وطلب مني مبلغاً كبيراً من المال، وقال لي إنه لم يطلب مني ريالاً واحداً منذ أن تزوجنا وأنه في مشكلة يحتاج إلى مال لحلها؛ ومن ثم فالأفضل أن يقترض من زوجته بدلاً من اللجوء إلى أصدقائه؛ فأعطيته ما طلب دون تردد، لكن بعد مدة لاحظت فتوراً في علاقتنا الزوجية، وتفاقم الوضع بعد أن علمت بزواجه من أخرى، وكان وقع الصدمة أشد إيلاماً عندما علمت بأنه تزوج بمالي؛ فطلبت الطلاق ولكني إلى الآن كالمعلقة فلم أحصل على الطلاق ولا شيء يثبت أنه مدين لي بمبلغ كبير من المال.(/2)
أما نوف - موظفة- فترى أن راتب الزوجة ملكها ومن حقها أن تصرفه على نفسها، وهي غير مطالبة بالمساهمة في مصروف البيت، وترفض نوف أن تصرف الزوجة راتبها على المنزل والأولاد، ولا تهتم بشكلها ولا تهتم بزينتها ومن ثم تتحول إلى شخص مرهق طول الوقت، في حين هو يخرج ويحب عليها وربما يتزوج بأخرى تصرف على نفسها وتهتم بشكلها ومظهرها، فما الذي تستطيع أن تفعله امرأة ساهمت في شراء المنزل ومستلزمات الأبناء وربما في أقساط السيارة؛ ومن ثم عندما يريد أن يخرجها زوجها أو يطلقها تخرج صفر اليدين ولا تستطيع أن تثبت حقها في أي شيء من ذلك؟!
وتؤكد نورة كلام نوف وتسأل: ما الفائدة وهي لا تستطيع أن تنفق ولو القليل من راتبها على احتياجاتها الخاصة، وإنما أصبحت مطالبة بدفع راتب السائق والخادمة شهريّاً، إضافة إلى تسديد أقساط سيارة الزوج أو الابن، وأضافت أنها مطالبة بتسديد جميع فواتير المنزل من كهرباء وهاتف وماء حتى لا تقطع عليها وعلى أطفالها الخدمات، جراء تجاهل زوجها المستمر لتسديد ما عليه من التزامات، بحجة توفير ما يتسلمه شهريّاً للمضاربة فيه بسوق الأسهم، مشيرة- بأسى عميق- إلى أن المرأة وخاصة العاملة فقدت مع كثرة المسؤوليات الملقاة على عاتقها الكثير من أنوثتها؛ حيث أصبحت هي التي تدعو السباك لإجراء بعض الإصلاحات المنزلية، وهي التي تهاتف البقال أو حتى مديري المدارس لمتابعة سير الأبناء الدراسي.
وتضيف فوزية: في بعض الأحيان يكون الزوج عاطلاً، ولا يبحث له عن عمل بل يحتال على مال زوجته، ويطالبها بالإنفاق، وكأن هذا حق ثابت لا نقاش فيه، وهنا تعاني المرأة الأمرّين: فهي بين مشقة العمل وعناءه، وأعباء البيت وهمومه..
* يريدونها موظفة!!(/3)
يقول فهد العتيبي: بالإمكان تصنيف نظرة الراغبين في الزواج من المرأة العاملة إلى عدة تصنيفات: فهناك من يرغب في الزواج من موظفة طمعاً في مالها أو راتبها، ويعتبرها مصدر دخل ثابت يرفع عن كاهله الكثير من الأعباء فيلح عليها بالمشاركة في كل مصروفات المنزل، وهذا الصنف يضم شريحة كبيرة من الذين يعملون في وظائف ذات رواتب متدنية. وهناك من يستغل راتب الزوجة لتحقيق أحلامه الشخصية، كشراء سيارة فارهة، لا يستطيع أن يشتريها من راتبه أو شراء مسكن خاص به، أو غير ذلك من أحلامه التي لا تنتهي. أما الصنف الثالث وهو قليل فيؤمن بضرورة مساهمة المرأة في المجتمع لتحقيق ذاتها والإفادة من قدراتها في نفع الآخرين، لاسيما إذا كانت متخصصة في مجالات يحتاج إليها المجتمع.
وفي نفس السياق يقول مصطفى: لما فكرت في الزواج، فكرت في المرأة الموظفة؛ لأن ظروفي المادية لا تساعدني على تكوين أسرة نظراً لارتفاع متطلبات المعيشة، لكن هذا لا يعني أنني أريد كل راتبها، بل جزءاً قد يكون يسيراً تساعدني به على المصاريف مثل سداد فواتير الماء والكهرباء، وأعرف أن المرأة حرة في راتبها غير أن هذا لا يعني أن لا تساعد زوجها إن كان يستحق ذلك.
أما عبدالله فيقول: الأصل أن الرجال قوامون على النساء أي المسؤول عن الإنفاق والقوامة هو الرجل أما إن كان هناك جنوح من الرجل فينظر للمرأة على أنها مال فقط فأعتقد أن رجولته تحتاج لمراجعة، فالزواج شركة رأس مالها الحب والتفاهم ولا حق للرجل في التصرف في مال زوجته وإن أعوزته الحاجة لمالها فليكن ذلك بالتفاهم والاتفاق.
أبو خالد يرى أنه ليس من الخطأ تماماً أن نفكر بالمعايير المادية، مشكلتنا دائماً في أننا نعلي من شأن الجانب المعنوي والروحي ومن ثم نعزل كل ما هو مادي.(/4)
الحياة الزوجية شراكة بكل معنى الكلمة ومن هنا كما هي تفكر برجل مرتاح ماديّاً من حق الرجل أيضاً أن يفكر بامرأة تكون شريكة له في كل هموم حياته، وعندما تكون ذات دخل مادي مرتفع فهذا يعني أن حياته ستكون أكثر راحة-إن شاء الله-. والرسول- صلى الله عليه وسلم- أشار إلى أن المرأة تنكح لمالها أيضاً برغم تأكيده على ذات الدين، فلماذا تحرِّمن على الرجل ما تبحنه لأنفسكن، فالتفكير في المعايير المادية شيء طبيعي، لكن الخطأ أن نفكر فيها فقط ونجعلها محور اهتمامنا.
* نعم للتعاون.. ولا للاستغلال:
صور الاستغلال لرواتب الزوجات من بعض الأزواج لايعكس بالضرورة الوجه المشرق للعلاقات الاجتماعية المتينة التي يفخر بها مجتمعنا الإسلامي، والمرتكزة على قوامة الرجل وشعوره بالمسؤولية نحو المرأة: أماً وزوجة وأختاً، حتى لو كنَّ ثريات، فالزوج في الإسلام هو المسؤول عن الإنفاق على الأسرة، حتى ولو كانت الزوجة غنيّة وتملك الملايين.
يقول الدكتور عقيل بن عبد الرحمن العقيل- عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية-: لا ينبغي أن نعطي الموضوع أكبر من حجمه فالخلافات الزوجية بسبب رواتب الزوجات العاملات موجودة لكنها لا تمثل شريحة كبيرة في المجتمع، فالكثير من الأزواج الذين لديهم زوجات عاملات بينهم اتفاق وتعاون وتكاتف واستطاعوا بناء حياتهم سويّاً في سعادة ووئام، فمحبة الزوجة لزوجها تطغى على الأمور المادية، وهناك بعض الزوجات كن يعملن قبل الزواج وعند الزواج اشترط عليهن الزوج ترك العمل فتركنه عن طيب خاطر منهن، فرضى الزوج ومصلحة البيت أولى.(/5)
ويضيف العقيل: إن الراتب الذي تتقاضاه الزوجة مقابل عملها حق لها لا يجوز الأخذ منه سواء لزوجها أو لغيره إلا الولد إذا كان محتاجاً لذلك فيأخذ منه بقدر حاجته، فالراتب حق للزوجة، فإذا أذن الزوج لزوجته بالعمل إذناً مطلقاً فالراتب حق لها لا يجوز أن يأخذه لا جميعه ولا بعضه إلا برضاها، أما إذا أذن الزوج لزوجته بالعمل واشترط أن له نصف الراتب أو ربعه مثلاً ورضيت بهذا الشرط فإنه يلزمها أن تعطيه القدر المشترط بينهما، وهنا أوجه نصحي لكل زوجين على التعاون والتكاتف فيما بينهما وألا تكون النظرة المادية السطحية هي الطاغية فالحياة الزوجية أكبر وأعظم، وعلى الزوج أن يسعى جاهداً في أسباب الرزق وأن يعلم أنه المخاطب بذلك شرعاً فإن أعطته زوجته العاملة شيئاً من راتبها فحسن وإن لم تعطه فينبغي أن يكون أكبر من أن ينزل لمستوى مجادلة الزوجة والخصام معها لأجل عرض دنيوي.
وعلى الزوجة أن تتعاون مع زوجها فإذا كان محتاجاً لراتبها أو شيء منه كأن يكون عليه ديون أو التزامات مالية فلا يليق أن تصرفه يمنة ويسرة بل عليها أن تكسب قلبه وتكون المبادرة منها.
* أفضل التدابير:
إذا كانت الدراسات الإحصائية والأبحاث المتعلقة بإنفاق المرأة وإعالتها للأسرة في كثير من الحالات أثبتت قدرتها على تحمل مشاق العمل والقيام بمسؤوليتها تجاه بيتها وأسرتها إلا أن رياح عاصفة واحدة في منزل الزوجية كفيلة بسحق ما جادت به حين يطالها الطلاق لتبقى رهينة محبسين: أولهما الإقصاء، وثانيهما نكران مالها، فكيف تتصرف المرأة حينها؟ وما التدابير التي تتخذها لضمان حقوقها المالية؟(/6)
الدكتور محمد عبد الرحيم- أستاذ الشريعة والقانون- يرجع ذلك إلى طبيعة الزوج وضعف المرأة وعدم قدرتها على الدفاع عن حقوقها، فالإسلام قد أحل للمرأة المكانة اللائقة بها في جميع المجالات، ومنها مجال الحقوق المالية، إذ جعلها بعد بلوغ سن الرشد كاملة الأهلية المالية، ولم يجعل لأحد عليها ولاية، ولا يجوز للزوج أن يتصرف استقلالاً في مال زوجته، أو أن يأخذ شيئاً من مهرها، أو ميراثها، أو راتبها، إلا إذا طابت به نفسها ووهبته إليه بطيب نفس منها دون كره أو إجبار.
وعن أفضل التدابير لضمان حقوق المرأة المالية يؤكد الدكتور محمد أن القول بأن الثقة المتبادلة بين الزوجين والمحبة بينهما أكبر من أي توثيق أو إشهاد هي عبارة حق يراد به باطل، إذ لا ينقص من حق الزوج ولا من كرامته أن يزود زوجته بما يضمن لها حقها، والأصل في العقود والمعاملات المالية بين الناس كتابتها ويستشهد في ذلك بما ورد في "آية الدين" في سورة البقرة وهي أطول آية في القرآن الكريم وفيها يأمرنا الله عز وجل بكتابة ما نجريه من معاملات وعقود، حفظاً للحقوق من الضياع، ومنعاً لحدوث الشقاق والمنازعات.
* رأي القانون:
فيما يتعلق بموقف القانون من التعاملات المادية بين الزوجين يشير أسامة العشماوي- المحامي والمستشار القانوني- إلى أن سبب تعرض المرأة للاستغلال المادي من جانب الزوج هو عدم وضع ضوابط واضحة منذ البداية في ما يتعلق بالتعاملات المادية بين الزوجين، وهذا ليس عيباً فالزوجة حينما تقول لزوجها: "هذا ميراثي" أو "هذه الأموال خاصة بي" وتجعلها بمعزل عن أموالهما الزوجية المشتركة، فإنها بهذه الوقفة الصريحة ترسم حدوداً واضحة تجنبهما كثير من المتاعب والأزمات، بشرط أن يكون ذلك باتفاق ورضا الطرفين .(/7)
ويقول العشماوي: إن التحايل على الزوجة بهدف استغلالها ماديّاً يدعى في القانون اختلاق أكاذيب، وهذه الأكاذيب تكون معقدة ومؤيدة بتصرفات معينة توحي للمرأة بأن زوجها في حالة من الضيق والحاجة، بحيث يستحوذ على أموالها، وهنا تتضرر المرأة بسبب فقد بعض أو كل أموالها، فضلاً عن الضرر النفسي الذي يلحق بها جراء خيانة زوجها الثقة التي منحته إياها، وفي هذه الحالة تكون أمام خيارين: الأول أن تطلب الطلاق والانفصال عن زوجها، والثاني أن تتناسى ما حدث وتحاول أن تكيف حياتها على هذا الأساس، مع مراعاة الحرص في تعاملاتها المالية مستقبلاً مع الزوج .
ويضيف المستشار العشماوي أن المرأة بطبيعتها أقل رغبة في الشكوى للمحاكم مما قد تتعرض له أو تعانيه من استغلال وظلم من جانب زوجها، وذلك من باب الحرص على كيان الأسرة واستمرار العلاقة الزوجية ولهذا فإن القليل النادر من مثل هذه القضايا يعرض على المحاكم، ويحل غالباً بالتسوية الودية، أو بتدخل الأهل والأصدقاء، أو بالمعالجة من الأصل عند ظهور خلاف في المراحل الأولى من الزواج.
* قليل من الفراسة:
تؤكد سيدة الأعمال نهلة منصور أنه ليس مطلوباً من المرأة أن تكون محامية أو سيدة أعمال، كي تحمي حقوقها فالمسألة أسهل من ذلك بكثير وتقول إن قليلاً من الفراسة والتفكير المنطقي هما كل ما يلزم، أما الثقة العمياء مرفوضة سواء أكانت بداعي حسن النية، أم الخجل أم الكسل أم الجهل، وما إلى ذلك من مبررات "واهية" قد تخدع بها المرأة نفسها .
وتشير إلى أنه لا يوجد ما يمنع المرأة من التحوط، فتأخذ حذرها في حدود "معقولة" بحيث تضمن حقوقها بما لا يخدش كرامة وكبرياء زوجها، "فمثلاً وبدلاً من التوكيل العام، يمكنها أن تكتب له توكيلاً خاصاً، بحدود معينة للتصرف".(/8)
وتؤكد نهلة منصور أن الزوج هو كل شيء بالنسبة إلى زوجته، ولذا لا ينبغي أن يفهم من كلامها أن جميع الرجال ليسوا أهلاً للثقة؛ بل على العكس، فإن معظمهم كذلك، ولكن المشكلات المادية تظل وراء كثير من الخلافات الأسرية وحالات الانفصال والطلاق والهجر .
* في السراء والضراء:
يؤكد الدكتور علي ليلة - أستاذ الاجتماع - أن الأصل في الأسرة أن تقوم على التكامل بين الزوجين، والإسهام بينهما في السراء والضراء، فالزواج شراكة إنسانية في أسمى معانيها، هذه الشراكة تقوم على التعاون والرحمة والإيثار والتضحية بين طرفي الزواج، أما إذا كان بينهما الأنانية، وتسلطت المصلحة المادية على المصلحة العامة للأسرة فسدت العلاقات الزوجية واضطربت الأسرة وخرَّجت للمجتمع أبناءً وفتياتٍ غير أسوياء، وأشار الدكتور ليلة إلى أن الزوجة ما دامت تعمل فلابد أن يعود ناتج أو بعض ناتج عملها (المرتب) للأسرة، ويكون إسهامها في نفقات البيت على حسب درجة ارتباط الزوجة بالأسرة، ورغبتها في الارتقاء والنهوض بها في مختلف أوجه الحياة، وهذا الإسهام يكون تعويضاً عن التقصير الذي ينتج من غيابها لساعات طويلة خارج البيت التي هي حق الزوج والأسرة.
أما إذا امتنعت الزوجة عن الإسهام بجزء من مرتبها في نفقات بيت الزوجية، وتمسكت بضرورة إسهام الزوج في أعمال المنزل فهذا غير مقبول منها على الإطلاق، ففي غياب المشاعر الإيثارية وقيم التضحية والعطاء في الأسرة لا تقوم حياة زوجية سعيدة ومستقرة، وحتى يتحقق هذا لابد أن يحرص كلا الزوجين على إسعاد زوجه بأي طريقة من طرق التضحية.
ويشير الدكتور أحمد أبوالعزايم- أستاذ الطب النفسي ورئيس جمعية حل الصراعات الأسرية بالقاهرة- إلى أن مسألة الإنفاق على بيت الزوجية وإسهام الزوجة العاملة فيه من أهم الموضوعات التي توليها الجمعية اهتماماً بالغاً، وتتدخل الجمعية لحل هذه المشكلة لأكثر من 60% من الأسر المصرية.(/9)
وقد أظهرت كل الدراسات النفسية- التي أجريت على آلاف العينات التي تعاني هذه المشكلة- على أهمية وضرورة إسهام الزوجة العاملة بجزء من مرتبها في نفقات البيت، وكلما كان هذا الإسهام فيه نوع من الرضا والسماحة كان التفاهم والاستقرار أكثر، وكانت السعادة والاستقرار هي سمات الأسرة العربية، سواء أكانت في مصر أم في غيرها من البلاد العربية أم الإسلامية.
* الثقة والفضل:
الدكتور أحمد عبد الله- أستاذ الطب النفسي- يقول: الأصل في إدارة شؤون الأسرة سواءً في الاقتصاديات أم في غير ذلك، إنما يقوم على الثقة والفضل، قال الله تعالى: {وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: من الآية237]، وفي إطار هذه الثقة، وفي ظلال هذا الفضل نتوقع من الزوجة أن تساهم بمقدار معقول تقدّره هي حسب ظروف البلد، وحسب احتياجاتها الأخرى التي تقوم بقضائها من ملبس وغيره باتفاق مع الزوج، وإذا كنا نرى أن العمل المناسب - الذي لا يجور على حق البيت والأسرة– هو مكسب حقيقي للمرأة وللأسرة وللمجتمع؛ فإننا في الوقت ذاته نرفض أن يكون هذا العمل مدخلاً لإحداث الخلل في بنية الأسرة، ويحدث هذا الخلل حين يغيب الحوار بين الزوجين حول مسائل الحياة ومنها النفقة، وفي الغالب فإن الرجل الكريم القادر لا يطلب من زوجته مالاً ينفق منه على البيت، وكذلك فإن المرأة الكريمة القادرة لا تنتظر تنبيهاً من أحد يدفعها أن تساهم في نفقات الأسرة؛ لأن هذا الكيان المشترك الذي يتكون من الأب والأم والأطفال- صغروا أم كبروا- مسؤولية مشتركة، تقوم فيها المرأة بالدور الأكبر في الرعاية والتربية، وتساعد ببعض المال بحسب الظروف والأحوال، مع أن الأصل الذي نميل إليه هو أن الرجل هو المسؤول عن الإنفاق بالكامل - على قدر دخله - ولو كانت زوجته ذات مال.(/10)
بإمعانِ النظر في النصوص الشرعية نجد أنّ الإسلام حمى مال الزوجة؛ فلم يجعل ليد الزوج عليه من سبيل؛ فأبقى لها حريّة التصرُّف في مالها إذا كانت عاقلة رشيدة، وليس للزوج حق في أن يتناول منه درهماً واحداً إلا عن طيب نفسها، وليس له حق في منعها من أن تتصرّف في مالها على وجه المعاوضة كالبيع والقرض والإجارة ونحوها، وليس له الحق في منعها من أن تنفق منه أو تنفقه على وجه التبرع كالصدقة والهبة.
ولا يعني ذلك أن تقبض المرأة يدها عن إعانة زوجها، كما لا يعني تصرُّفها في مالها أن تدع استشارة الزوج والاستنارة برأيه؛ بل اللائق بها أن تستشيره في شؤونها، وتعينه على نوائب الدهر خاصة في هذا العصر حيث خرجت المرأة للعمل، مما يكلّف الزوج الكثير.
فعليها أن تسدد وتقارب محاولة إرضاء زوجها مقابل تحمله لبعض التقصير منها في أداء حقوقها وإهمال أبنائها وبيتها. فله عليها حق من مالها وخصوصاً إذا كان ذا دخل محدود، فأين ستصرف راتبها إذا لم تساهم بجزء منه لزوجها وبيتها؟! لذا يمكنها أن تساهم في نفقة البيت وتعاون زوجها وتحمل عنه جزء من الأعباء الاقتصادية للأسرة. فذلك مما ينمّي الأُلفة ويرسِّخ دعائم المودَّة.
* الزواج الوقائي:
يشير الخبراء والمختصون إلى أنه إذا وصلت الأمور بين بعض الأزواج والزوجات إلى حد كبير من الخلاف والشقاق حول مسألة الإنفاق؛ فيجب أن يكون هناك خطة للعلاج على المدى الطويل، تشترك فيها وسائل الإعلام المختلفة، وكذلك المدرسة؛ بحيث تكثف التوعية من خلال هذه الوسائل على قيم الترابط والتماسك والتراحم والتعارف والإيثار والتضحية، فلا مانع للمرأة من العمل، وأن يكون لها دخل خاص بها، وأن تكون ذمتها المالية مستقلة عن زوجها، ولكن الإسهام في نفقات بيت الزوجية يعمل على بقاء الأسرة على قيم المودَّة والتراحم والتعاون والحب.(/11)
وتقع على المؤسسات المختلفة مسؤولية كبيرة في التوعية الدينية لتعريف الأزواج بحقوق كل منهم تجاه الآخر، وتبصيرهم بمسؤولياتهم الزوجية، مع ضرورة وضع برنامج (زواجي وقائي) لمراكز خدمة المجتمع، وفي المرحلة النهائية من الثانوية العامة للبنين والبنات ليعوا دورهم بحقيقة العلاقة الزوجية، وكيفية مواجهة الكثير من المشكلات بمختلف أنواعها ومنها كيفية التعامل مع رواتب الزوجة التي أصبحت من المشاكل التي تهدد استقرار الأسرة.(/12)
العنوان: رأي فلاسفة الغرب في الحُروب الصليبيّة ونتائجها (رأي جاك ريزلر من فلاسفة القرن الحاضر والأستاذ في المعهد الاسلامي في باريز)
رقم المقالة: 405
صاحب المقالة: دِ. شوكت الشطّي
-----------------------------------------
آراء جاك ريزلر :
أسباب الحروب الصليبية : تراجعت الدول المسيحية خلال 400 سنة أمام الاسلام المنتصر الذي كان يتقدم في إفريقية وصقلية وإسبانيا وآسيا حيث قبر المسيح عليه السلام ، وكان مما يغضب الحجاج المسيحيين الوافدين إلى القدس في كل عام أن يروا المسلمين قوامين على بيت المقدس . والواقع أن ظهور العثمانيين كدولة اسلامية جديدة أخذت تهدد الغرب بعد أن تقلص ظل العرب وزال خطرهم بتفرق كلمتهم . كان من العوامل الرئيسية في إيقاظ تلك الحروب إذ حكم السلجوقيون القدس سنة 1078 ودخلوا أنطاكية سنة 1084 ووقفت جنود سليمان العثماني في ضفة البوسفور المقابلة للقسطنطينية عاصمة المملكة البيزنطية طالب امبراطورها آلكسس مساندة نصارى الغرب له . وقد رأى في ذلك البابا فرصته لتوحيد الكنائس الشرقية والرومانية وصرف السادة الاقطاعيين عن مقاتلة بعضهم بعضاً وجمع كلمتهم على محاربة الأتراك والمسلمين فخاطبهم أوريان الثاني : كفاكم يقاتل بعضكم بعضاً فإن الأرض التي تزرعون لا تنتج ما يكفي أبناءها ، عليكم بالذهاب إلى آسيا واقتسام أراضيها وكان ظفر النورمان في صقلية على العرب والمسلمين مما شجعهم على هذه الحملة لما كانت هنالك عوامل أخرى منها : طمع الأمراء بالجاه والاثراء وطمع الفقراء بخيرات الشرق .
تتابعت الحروب الصليبية ما بين 1096 و1291 في تسعة حروب اجتازت الحملة الأولى آسيا الصغرى فقاومها الأتراك في سهول الأناضول وفي جبال طوروس وخيبوا آمالها .(/1)
ثم كانت حملة ثانية من جيش نظامي حطت رحالها في كيليكيا فاحتلت عدداً من مدنها واستولت على أنطاكية سنة 1096 قاومهم فيها جيش قادم من الموصل فلم ينجح في زحزحتهم عنها فهزم ثم تقدم الصليبيون فوصل منهم إلى القدس في 7 حزيران 1099 أربعين ألف مقاتل بعد معركة دامت يوماً ونصف اليوم وقد دخلها غودو فروادو بويون من ممر ودخلها النورمان من ثغر أحدثوه فيها فقتلوا جميع من صادفوه أمامهم . وقد انتخب غودو فلاروا ملكاً على القدس واستطاع أن يهزم جيشاً مؤلفاً من عشرين ألف مقاتل قدم من مصر . حقق بذلك الصليبيون أمنيتهم بعد أن قدموا في سبيلها خلال ثلاث سنوات ألواناً من التضحيات لم يسمع لها مثيل ولا يرقى لها وصف . تقاسم الصليبيون بعد ذلك سورية وفلسطين وأقاموا فيها ثلاث دول لاتينية هي دولة القدس ، ودولة أنطاكية ، ودولة طرابلس . وما لبثت هذه الدول اللاتينية أن حارب بعضها بعضاً كما هاجمهم أمراء حلب والموصل ودمشق والقاهرة حيث المقر الخليفي . وكان هؤلاء الأمراء المسلمون مختلفين اختلافاً لا يقل عن الاختلاف المتأصل بين الأمراء الصليبيين في الدول اللاتينية الثلاث وقد أقام الصليبيون قلاعاً ضخمة . ثم جاءت مرحلة فترت الحرب فيها وتأسست صلات تجارية بين الصليبيين والحكام المسلمين عرف خلالها الصليبيون أن المسلمين لم يكونوا كفرة وثنيين كما تصوره لهم خيالهم وأنهم مؤمنون فتأسست صلاة صداقة وتآلف بين المسلمين والصليبيين تطبعوا خلالها بأطباع الشرقيين واختلطوا بهم فسحروا بأساليب عيشهم ودماثة أخلاقهم كما تعلموا من صلاح الدين الرفق والحلم واللين وأدركوا تفوق الشرق على الغرب وما يتحلى سكانه من أدب رفيع وخلق قويم وتهذيب عال وحرية فكرية وما عليهم من تقدم صناعي وزراعي وعلمي وخبرة واسعة بالطب فأثر ذلك في نفوسهم فعادوا يقدرون معاني الحرية ويدركون أثر العلم في المجتمعات فرغبوا في الاقتباس مما عند المسلمين من تقدم وانسانية .(/2)
رد الفعل الإسلامي : كان نهب قافلة حجاج قادمة إلى مكة قام بها طاغية غشوم يدعى روناندو شايتون سبباً في إثارة رد الفعل ، كان صلاح الدين حينها سلطاناً على مصر يتحين الفرص والأسباب للقيام بعمل جذري يجلي الصليبيين عن الديار المقدسة فوجد في عمل الطاغية مبرراً لتدخله فقدم بجيشه من مصر إلى القدس فاستولى على طبريا في 10 تموز 1187 واستطاع في حطين أن يسحق جيشاً صليبياً مؤلفاً من 20.000 مقاتل أنهكهم الحر والعطش وأن يأسر غي لوزنيان ملك القدس إلى حكم المسلمين في 2 تشرين الأول 1187 فأظهروا من نبل المعاملة ما لم يعرفه الصليبيون وكان تصرف صلاح الدين إنسانياً إلى حد أذهل الصليبيين فقد قبل افتداء المحاربين بالمال ولما عجزوا عن ذلك أطلق سراحهم دون أي فداء وتحررت سورية من أيدي الصليبيين سنة 1187 باستثناء صور وطرابلس وبعض الحصون المجردة وقد أثر اندحار الفرنج في الغرب اندحاراً فظيعاً فتحرك فيه أمراء النصرانية الأقوياء وهم امبراطور ألمانيا وملك كل من فرنسة وانكلترة فاتجه إلى كيليكيا بارباراس فريدريك على رأس جيش مؤلف من مائة ألف مقاتل ألماني فمني بالفشل واتجه ريشار قلب الأسد نحو سورية وكان أحسن حظاً من زميله إذ استولى على قبرص . ووفق ثالثهم فيليب أوغست إلى تأمين خطوط الاتصال مع اللاتينيين المقيمين في عكا وغيرها من البلاد المقدسة .(/3)
حاصر قلب الأسد القدس في 27 آب 1189 فهب لنجدتها صلاح الدين ثاني يوم من حصارها وكان المحاصرون قلب الأسد بجنوده الانكليز ودوق النمسا مع ما تبقى لديه من جنود ألمان . عسكر الصليبيون في جبال الشاطئ وعسكر صلاح الدين تجاههم . واستمرت المعارك بين الطرفين مدة سنتين اشترك فيها ستمائة ألف مقاتل خسر فيها الصليبيون 120.000 مقاتل والمسلمون 190.000 ، دارت خلالها تسع معارك كبرى وأكثر من مئة معركة صغرى نفذت في إحداها عدد الحامية المسلمة المغوارة مما اضطرها للاستسلام في 12 تموز سنة 1191 شريطة أن تؤمن على حياتها وأن تدفع فدية مقدارها 200.000 دينار من الذهب وأن يعيد صلاح الدين الصليب الحقيقي الذي كان استولى عليه في حطين . ولما تأخرت فدية المسلمين إذ لم يستطيعوا دفعها في الوقت المحدد عمل قلب الأسد في أسراه المسلمين السيف وقتلهم جميعاً بوحشية فظيعة .
ثم جرت مفاوضات أدت إلى تقسيم البلاد المقدسة في 2 تشرين الثاني 1192 بين اللاتين والمسلمين وأقيمت في قبرص دولة مستقلة لتخدم مصالح الصليبيين كما أوجد في شمال أنطاكية دولة أرمنية صغيرة يرأسها أمير أرمني ونبيل فرنسي الغاية من إشادتها حماية الطريق للحجاج الصليبيين القاصدين لبيت المقدس وقد اقترح قلب الأسد دعم هذه المعاهدة بتزويج أخته ملكة صقلية من صلاح الدين على أن يحكما القدس المدولة . غير أن ذلك لم يتم وعاد قلب الأسد إلى انكلترة دون أن يدخل القدس .
نهاية الحروب الصليبية : قامت في بداية القرن الثالث عشر حملة جديدة قاصدة القاهرة فاستولت على دمياط وما لبث أن استعادها المصريون ، وقد استطاع في سنة 1229 فريدريك الثاني أن يحصل على إذن بالدخول إلى القدس ولكن المدينة سقطت بأيدي المسلمين سنة 1224 فلم يتح له ذلك .(/4)
جهزت بعد ذلك حملة أخرى برئاسة سان لويس اتجهت إلى دمياط سنة 1249 قاصدة بعدها القاهرة فهزمت وأسر الملك الفرنسي وفك أسره بافتدائه بمبلغ كبير من المال ولكنه لم يستسلم فجهز حملة جديدة وأصلح مراكز جيوشه التي كانت في سورية وطلب إمدادات من فرنسة لم تصله لذلك عاد إليها سنة 1254 وقد مات بالطاعون سنة 1270 في حملة صليبية جديدة ضد تونس كانت فاشلة ، ثم أنقذ بيبرس قازاك سنة 1263 ومدينة سه زارة سنة 1265 ومدينتي يافا وأنطاكية سنة 1268 فأمر بقتل رجال الحامية واستعبد 100.000 شخص . ثم هاجم خلفاؤه عكا واستولوا سنة 1291 على صور وصيدا وبيروت وطرطوس وألقي الصليبيون في البحر .
ولئن باء الصليبيون بالفشل في حملاتهم فقد استفادوا من مدنية الشرق فتمدنوا وظهر أثر ذلك في مجتمعهم الغربي على أن الحروب الصليبية تركت في الشرق الخراب وشعوراً بالمرارة يصعب أن تزول آثاره .
صلاح الدين : تذخر سيرة الحروب الصليبية بألوان من البطولات والتضحية كما تفيض بصور من البربرية والضراوة وأنواع من القساوة والوحشية اتصف بها الغربيون فتركت عند الشرقيين شعوراً بالألم والمرارة والسخط لم تذل بعد آثاره .
ولقد برز من بين الرجال الذين اشتركوا في هذا الصراع العنيف لا ببطولاتهم التي كانت صفات مألوفة تحسب بل بصفاتهم الانسانية البطل صلاح الدين فقد تميز عن غيره من الأبطال بفضائل تجعل منه عظيماً من أكابر العظماء الذين أسهموا في تقدم الانسانية وأرسوا قواعد التمدن الحقيقي .(/5)
ولد صلاح الدين سنة 1138م ، كردي الأصل تعلم منذ صغره الفروسية والظفر ببطولاتها على يدي والده الذي كان والياً في بعلبك ففي دمشق استوزر صلاح الدين في الثلاثين من عمره ثم صار والياً على مصر فاستولى على سورية بحفنة من الرجال ولما توفي الملك الفاطمي في مصر مخلفاً ثروة يعجز الميسورين عن حسابها وزرع ثروته وحظاياه دون أن يحتفظ بشيء منها لنفسه . تسلطن سنة 1175 فنشر العدل وأشاد الجوامع وفتح المدارس وأسس المشافي ونشط العمران وفتح الأقنية وأوجد السدود وأحدث جهازاً من الري ، فانتشرت الزراعة وازدهرت التجارة وزاد دخل الدولة زيادة مكنته من تخفيض الضرائب .
ولقد بدأ في حروبه مع الصليبين حامي الاسلام الحقيقي فاستولى على جميع ما أحدثه اللاتينيون من دول في جزيرة العرب وأجلاهم عنها .
لقد كان محارباً حليماً أطلق سراح الأسرى في القدس دون أن يطالبهم بالفدية وكانت عادة الصليبيين قتل الأسرى الذين لا يفتدون وعفا عن الملك غي دو لوزنيان ، على الرغم من نكثه بوعده في عدم حمل السلاح بوجه المسلمين . وتعج كتب السيرة عن الحروب الصليبية بمفاخره الإنسانية التي لا يحصى لها عد . وعلى الرغم من ألوان التسامح والحلم وسمو النفس الذي أظهرها صلاح الدين نحو الصليبيين لم يتورع قلب الأسد ريتشارد من قتل 2700 أسير في عكا لم يستطيعوا تأدية فدائهم . وقد ذاع سوء عمله بين العرب إلى حد وصفه جوانفيل بقوله كان الأمهات في البلاد العربية يخيفون أولادهم بالملك ريتشارد وكان الحوذيون إذا جفلت أحصنتهم هددوها بقلب الأسد . بينما لم يسمع عن صلاح الدين إلا بما يعطر سيرته من شهامة وعلو نفس وكرم أخلاق ومرؤة .(/6)
وقد عقد مع الصليبيين في عكا معاهدة تنص على أن للنصارى الحرية التامة في الذهاب إلى الأمكنة المقدسة دون تأدية أية ضريبة أو مكس فوق بعهده بأدب ولياقة فتدفق الحجاج إلى البيت المقدس . وإنه لمن العجب العجاب أن يرجو قلب الأسد بعدم السماح لزيارة البيت المقدس إلا للمرسل بهم من قبله فأجابه صلاح الدين إنه لا يستطيع ممانعة الحجاج الذين ابتعدوا عن ذويهم وأهليهم وأصدقائهم وبلادهم بدافع التقوى والايمان من أداء ما قدموا من أجله .
كان يكره صلاح الدين الجدل الفارغ والسحرة وكان مولعاً بسماع سيرة الرسول وأحاديثه وأعماله وقد وصفه مؤرخو المسلمين إنه كان متواضعاً حليماً ، تقياً ، جواداً ندي الكف صبوراً سموحاً لا يكتم غيظاً ولا يضغن . وإن عفته ورقته وتودده وزهده مضرب الأمثال فلم يخلف أرضاً ولا عقاراً ولا مزرعة ولم يجدوا في خزانته بعد موته إلا ديناراً واحداً وسبعة وأربعين درهماً مع أن موارد مصر وسورية واليمن وجميع الايالات العربية كانت بين يديه . ولكنه كان يصرفها في مساعدة البائسين من الشعب الذين أقضت الحروب مضاجعهم وأنهكتهم النكبات وأفقرتهم الويلات . توفي سنة 1193 فعم الحزن البلاد الاسلامية كلها التي كانت ترى فيه حامي الاسلام وقد أشادت البلاد المسيحية بذكره فشبهه دانتي بالاسكندر الكبير وأطراه الألمان بلسان كاتبهم ويدا ورفعه الأسبانيون إلى أسمى مكانة في الانسانية .(/7)
العنوان: رأي فلاسفة الغرب في الحُروب الصليبّية ونتائجها (رأي غوستاف لبون من فلاسفة القرن الغابر)
رقم المقالة: 404
صاحب المقالة: دِ. شوكت الشطّي
-----------------------------------------
آراء غوستاف لبون :
لقد بدأت الحروب الصليبية في زمن ذبلت فيه حضارة العرب واستولى الأتراك على بلادهم وبدأت مكانتهم العالمية بالانحسار مع أنهم كانوا قبل ذلك سادة أفريقية وأسبانيا والبحر الأبيض المتوسط وصقلية كلها ونصف فرنسة وجزءاً من إيطاليا حيث قرعوا فيها أبواب روما فدفعت لهم الجزية .
لقد شجع تفرق كلمة العرب الغرب على محاولة القضاء عليهم إذ رأوا في وثبتهم الروحية وثورتهم الحضارية ومبادئهم الانسانية ما يؤدي إلى تعريب الغرب كله .
لقد هال ذلك كله رجال الغرب الذين كانت السلطة في أيديهم فرغبوا في الخلاص نهائياً من كلمة العرب التي أقضت مضاجعهم وما زالت تقضها وأفقدت صوابهم وما زالت تفقده وهددت مكانتهم المبنية على السيطرة والتدجيل والخداع والتضليل فاندفعوا نحو الشرق وأوغلوا فيه مدة قرنين كاملين وكانت دعواهم الظاهرة انقاذ البيت المقدس من أيدي الكفرة الملحدين على حد زعمهم وكان هدفها الحقيقي اثراء البلاد الغربية من خيرات البلاد العربية واخماد صوت العروبة إلى الأبد ، ولقد أدى هذا وذاك إلى صراع عنيف بدأ من فلسطين حيث كان في قدوم جماعات من العالم الغربي إلى البيت المقدس مجال احتكاك دائم بين العرب والغربيين فكان يفد منهم في كل عام جماعات في شبه منظمات عسكرية فيقرعون الطبول ويزمرون بالمزامير وغير ذلك من مظاهر الابتهاج والفرح التي مكنهم منها العرب لما تحلوا به من تسامح ديني عظيم وأخلاق سامية وتهذيب رفيع علمهم احترام الأديان السماوية كلها والايمان برسلها جميعاً .(/1)
إلا أن سيطرة الأتراك على سورية حينها بدلت الحال فاشترط هؤلاء على الوافدين إلى القدس التزود بإذن مسبق فأغاظ عملهم هذا المدعو بطرس لرميت الذي سبق له أن كان محارباً قديماً وزوجاً فاشلاً مهوسا حول هوسه إلى دعوة تنادي في فرنسة وإيطاليا بتنظيم حملات عسكرية تزيح كابوس العرب الملحدين على حد زعمه عن القدس وفلسطين فتأثرت الجماهير بخطبه وانتقل صدى دعواه إلى الأمراء فساندوا حركته كما ساندها إمبراطور القسطنطينية إلكس كومن وقد خيل إلى كل مشترك في الحملة أنه ينال بذلك رضى السماء وتحسين معاشه على الغبراء فاندس في الصفوف كل طامع بالثراء وكل راغب بالوجاهة والعلاء وخيل إلى كل بائس على أرض الغرب الشقية أن إسهامه بالحملة مجلبة للسعادة والهناء . ولقد قدر عدد المشتركين بما يزيد عن المليون نسمة قاد أول حملة بطرس لرميت المذكور وفارس يدعى غوتية فاصطدمت الحملة مع السكان النصارى في بلاد البلغار فنهب رجال الحملة ضياعهم وقتلوا أهاليها ووقعت معارك عديدة أجبرتهم على الاسراع بالرحيل إلى القسطنطينية وما أن دخلوها حتى سلبوها مع أنها كانت في حكم دولة نصرانية وعاملوا سكانها بوحشية غريبة وضراوة عجيبة وقساوة لا توصف ثم اندفعوا إلى آسيا الصغرى فارتكبوا فيها من الفظائع ما تقشعر له الأبدان حتى قالت في ذلك أناكومن ابنة الامبراطور : إن قتل الأطفال وقطع أجسادهم قطعاً قطعاً وشيها كانت تسليتهم المفضلة ولقد اندفع الآسيويون إلى مقاومتهم حتى أبادوهم .(/2)
وتبعت هذه الحملة حملة أخرى من جيوش نظامية يبلغ عدد محاربيها (700.000) كاملة العدة وكان من بين قوادها غود فروا ودبويون وقواد آخرون استولوا على نيقية فقطعوا منها رؤوس الأسرى والجرحى وحملوها في سروج دوابهم وبعثروها في المدينة للارهاب ثم دخلوا سورية فتسلطوا عليها تسلط الجراد على الحقول النضرة حتى لم يعد فيها ما تتمون به جيوشهم مما أوقع الخلاف في صفوفهم حتى قاتل بعضهم بعضاً وانفصل عنهم بودان ليعمل في البلاد سلباً ونهباً فارتدت أفعالهم الظالمة عليهم إذ قلت المؤن وانتشرت المجاعة في صفوفهم وأخذت الأمراض الوبائية تفتك بهم فتكاً فزاد ذلك في تشاؤمهم وخيب آمالهم وآمال المغامر الكبير بطرس لرميت ففر من المعسكر وحنق عليه القواد حتى أن أحدهم تانكرمد استقبله بالعصي .
ولقد ساد الهرج والمرج في الجيوش الغربية وبلغ أفراد الجيش من الوحشية مبلغاً لم يسمع له مثيل في أظلم العهود البربرية فكانوا يقتلون من يصادفونه محارباً كان أم مسالماً طفلاً أم شيخاً ، عاجزاً أم غير عاجز كما أكد ذلك جميع المؤرخين الغربيين ووصف الراهب روبر وصف شاهد عيان ما وقع في القدس قال : كان الجنود الصليبيون يسيرون في الطرق والساحات العامة ويصعدون إلى سقوف المنازل فيقتلون الأولاد ويقطعونهم قطعاً قطعاً ، لا يرحمون ضعيفاً ولا عاجزاً وكانوا يشنقون الناس بالجملة ويبقرون البطون بحثاً عن الذهب وقد سال الدم في جميع الطرق أنهاراً ولم يكن بين هؤلاء جميعهم رجل واحد يتحلى حقاً بالروح المسيحية المسالمة .
يخاطب غوستاف لوبون الذي تنقل عنه أكثر ما جاء في هذا البحث القارئ بقوله : لك بعد هذا أن تنبئنا عن رأي الشرقيين المتمدنين في خصومهم الغربيين المتوحشين ودرجة ازدرائهم لهم حتى قال سعدي الشاعر الفارسي في الغربيين أنهم غير جديرين بكلمة الانسان تطلق عليهم .(/3)
لم يصل إلى أبواب القدس من حملة الصليبيين التي كان عدد المقاتلين فيها يزيد عن مليون سوى عشرين ألف نسمة وذلك في 15 تموز سنة 1099 وكان عملهم فيها غير مشرف خلافاً لما كان عليه عمل الخليفة عمر مع سكانها قبل بضعة قرون . وقد وصف رايمون داجيل ما وقع من الضراوة بقوله : لما استطاع جماعتنا الاستيلاء على الحصون والأبراج كنت ترى في الساحات والأبراج أيدي مبتورة وأرجلاً مهشمة ورؤوساً مقطوعة ولم يكتف الصليبيون في ذلك بل قرر مجلس ضم زعماءهم إفناء السكان عن بكرة أبيهم مسلمين كانوا أم نصارى أم يهوداً ، نساء وأطفالاً ، شيوخاً وكهولاً ، فوصف المؤرخون هذا العمل بأنه جنون مطبق ووحشية لا مثيل لها .(/4)
لقد كان لاستيلاء الغرب على القدس أثر كبير في العالم الغربي فخيل إليه أفول نجم العرب واخماد صوت العروبة كما كان له ردة فعل عند العرب فوحدوا كلمتهم واستطاعوا بعد ذلك طرد الغربيين بعد أن حكموها عشرين سنة ولم يكن هدف هؤلاء الظلام الحقيرين كما يقول لوبون إلا جمع المال فحل على أيدي الغرب في القدس البؤس والشقاء بعد أن كانت في عهدها العربي تنعم بالسعادة والهناء ولقد وصف المؤرخ المسيحي المعاصر المطران جاك فيتري سيرة القدس تحت حكم الصليبيين فقال لقد خلف الفاتحون جيلاً خبيثاً فاسداً وشريراً مؤلفاً من أولاد فاسقين منحطين ورجال منحلين ينقضون تعاليم الإله ففجعت أرض الميعاد بالمنافقين النجسين وباللصوص والزانيات والمهرجين ووصف غيوم تير أولاد الصليبيين بأنهم كانوا مبذرين مسرفين مندفعين وراء شهواتهم مهملين للدين حتى إذا حاول كاتب وصف حياتهم ناء حمل قلمه بما يسطر من أوزارهم . وبينما كان الصليبيون يخربون الديار كان العرب يشيدون البنيان وينشرون العمران ويستردون ما أضاعوا من بلاد وديار وكان تقدمهم في سورية عظيماً هال صليبي فلسطين فطلبوا العون من الغرب فوافتهم حملة ثانية رأسها لويس السابع ملك فرنسة وبلغ عدد المقاتلين فيها 100.000 وقاد أحد جيوشها كونراد الثالث من ألمانيا فأبيدت الحملة ولاذ الملك لويس السابع بالفرار إلى أنطاكية متبعاً طريقاً بحرية ولم تكن سيرة رجال الحملة الثانية لتختلف عن سيرة رجال الحملة الأولى فما من إثم إلا ارتكبوه وما من ضراوة إلا اتبعوها وما من قساوة إلا اتصفوا بها ويرد سان برنارد سبب فشل الحملة الثانية إلى تلك الأخلاق السيئة .(/5)
ويظهر في هذا الأوان صلاح الدين الأيوبي وما هو إلا عربي أو مستعرب عظيم فيضع نصب عينيه إنقاذ القدس وفلسطين من أيدي الغربيين فيخوض غمار الحرب مندفعاً باسم الله والانسانية ويأسر الملك دولوزينيان ويستعيد القدس سنة 187 ويضع حداً لأعمال السلب والنهب التي ارتكبها الصليبيون لم تعش مملكتهم اللاتينية في الشرق أكثر من ثمانية وثمانين سنة .
وقد تبع ذلك حملات غربية أخرى بلغ عددها ست حملات جهزت لزحزحة العرب عن فلسطين دون جدوى لقد استمرت الحملة الثانية ما بين 1192 و1198 وقد تزعمها فيليب أوغست ملك فرنسة وريشار قلب الأسد ملك انكلترا وفردريك بابروس امبراطور ألمانيا أي أكابر سلاطين أوروبا كلها . مات بابروس في آسيا الصغرى ولم يبلغ سورية من جيشه إلا بعض فلوله ، وأما فيليب أوغست فلم يقم في فلسطين إلا قليلاً بل قصد صيدا مخلفاً وراءه جيشه في فلسطين الذي ولى عليه دوق بورغون وهكذا بقيت القيادة الكاملة لقلب الأسد وحده فارتكب من الفظائع والقسوة والأعمال الوحشية ما فاق به وحشية رجال الحملة الأولى وكان همه السلب والنهب والقتل والتدمير .
يقول لوبون مقارناً بين العرب والغربيين ويؤيده في قوله جاك ريزلر الأستاذ المعاصر في جامعة باريز . لقد وفر صلاح الدين دماء صليبيي فلسطين وقدم لكل من فيليب أوغسط وقلب الأسد في مرضهما الأغذية والمرطبات والهدايا فأظهر بنبله هذا الفارق بين رجل السلطان المتمدن الانساني وصاحب السلطان المتوحش الأناني .(/6)
جهزت بعد ذلك الحرب الرابعة ما بين 1202- 1204 ورأسها بودوان وكونت الفلاندر فاتجه إلى فلسطين بالبحر بدلاً من الطرق البرية فلما بلغ القسطنطينية وكانت عاصمة لمملكة نصرانية قتلوا أهلها وسلبوا خيراتها التي كانت وافرة وخربوا مخلفات المدنيتين اليونانية واللاتينية التي كانت تذخر فيها مالم يعمله أفراد قبيلة من الهنود الحمر إذا سلطوا عليها فألقى في البحر كل ما لم يكن فضة أو ذهباً وضاعت في معمعان التخريب أثارده يموستون ونيودور وبوليب وغيرها إلى الأبد ولما أتخم دودوان ورجاله بالغنائم عدلوا من الذهاب إلى فلسطين وسما نفسه إمبراطوراً ولم يدم سلطانه وقد أدت إقامتهم القصيرة في القسطنطينية إلى ضياع الكنوز اللاتينية واليونانية .
وأما الحملتان الخامسة والسادسة فلم يكن لكل منهما شأن يرتفع مستواه عن غزوات لا شأن لها حتى أن الهدف فيهما لم يكن بلوغ فلسطين بل الاستيلاء على مصر طمعاً بالغنائم فلم تتقدم الجيوش فيها إلا قليلاً وعادت أدراجها تحارب مهزومة على أن جيشاً صغيراً ألمانياً كان يقوده فرديك الثاني اتجه نحو القدس . وقد وفق هذا الأمير إلى عقد معاهدة مع العرب تسمح له بدخول القدس كحليف لهم ثم عاد إلى أوروبا قانعاً بما حصل عليه . زالت بعد ذلك عن الحروب الصليبية الصفة التي كانت تظهر بها من اجتماع كلمة أوروبا كلها فيها على غزو آسيا وما فيها وعادت الحملات عبارة عن غزوات صغيرة يقوم بها مغامرون بقصد الاثراء يعمل كل منهم حسب أهوائه .(/7)
لقد بقيت فلسطين على الرغم من الحروب الصليبية الخمسة التي تلت الحرب الأولى بأيدي العرب ثم اعتزم سان لوي القيام بحملة جديدة هي الحرب السابعة . فخرج بخمسين ألف مقاتل متجهاً إلى مصر عن طريق البحر فنزل في دمياط واستولى عليها بسهولة ثم سار نحو القاهرة فتصدى له المصريون فهزموا جيشه وأسروا المليك ، فافتدى بالمال وذهب إلى سورية فأقام فيها سنتين عاد بعدهما إلى فرنسة دون زيارة القدس . وعلى الرغم من الفشل الذي مني به سان لوي استعمل بعد ستة عشر عاماً حملة ثامنة فخرج في 4 تموز سنة 1270 بثلاثين ألف رجل من المشاة وستة آلاف فارس متجهاً إلى تونس فحاصرها وأبان الحصار أصابه الطاعون فمات في 25 آب سنة 1270 ، وكانت هذه الحملة الحرب الثامنة من نوعها . توقفت الحملات الصليبية بعد ذلك الحين وظلت البلاد المقدسة بحماية العرب والمسلمين وما لبث أن أضاع الصليبيون ما كان بين أيديهم في فلسطين هكذا يصف غوستاف لوبون الحروب الصليبية ثم يبحث في النتائج التي تولدت من الصراع بين الغرب والشرق فنقول :(/8)
إن آراء المؤرخين متباينة في هذا الشأن ومما لاشك فيه أن في فشل الصليبيين من البقاء في بلاد الشام ومنها فلسطين خيبة أمل لما توخاه منها الغربيون في حروبهم المتكررة . على إننا إذا نظرنا إلى الحروب الصليبية وما تركته من آثار لدى المسهمين فيها نجد أنها كانت عاملاً في خلق الحضارة الغربية وعلينا لندرك ذلك الأثر أن نبحث عما كان عليه كل من الشرق والغرب في ذلك الحين . لقد كان الشرق آنئذ مزدهراً بالحضارة والعمران بما نفخ القرآن في العرب والبلاد التي خضعت لهم من تشجيع على العلم وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر وعدالة اجتماعية ومواخاة بين المؤمنين من بني الانسان . وأما الغرب فكان غارقاً في الجهالة ، غائصاً في البربرية فقد رأيناهم في حروبهم يرتكبون أعمالاً فيها منتهى الضراوة والوحشية والسفك والتدمير وكانوا ينزلون الدمار وينشرون الخراب حيثما حلوا وكانوا يسلبون وينهبون من يلاقوه عدواً كان أم حليفاً مسالماً كان أم محارباً فقد أبادوا في القسطنطينية التي حالفتهم الكنوز العديدة التي خلفتها الحضارة اللاتينية اليونانية .
ولقد كان من جراء الوحشية التي اتصف بها الصليبيون أن أبعدوا شقة التفاهم والمسالمة بين الغرب والشرق إذ رأى الشرق فيهم أقواماً غلاظاً متوحشة وضارية بعيدة عن تفهم روح الأديان السمحة فازدادت الهوة بينهما اتساعاً وعمقاً وكان العرب على حق في النظر إلى الغرب نظرة ملؤها التشاؤم وكان من أسوأ النتائج التي ولدتها الحرب الصليبية فقدان روح التسامح ، ذلك التسامح الذي أمرت به جميع الأديان واشتداد التعصب الديني والقسوة البربرية فقد اطبع التعصب الزميت عند الغربيين لا بطابع الهوس فحسب بل بطابع الجنون.(/9)
العنوان: رأي في ترتيب المعجم العربي الحديث
رقم المقالة: 363
صاحب المقالة: طه الراوي
-----------------------------------------
لما شعر علماء العربية الأولون بدبيب اللحن في اللغة المضرية المعربة، بسبب اختلاط بنيها بحمراء الأمم وصفرائها، فزعوا إلى جمعها وتدوينها وضبط مشكلها وإيضاح مبهمها، وسلكوا إلى ذلك طريقين:
الأول – يبتدئ باللفظ وينتهي بالمعنى.
الثاني – يبتدئ بالمعنى وينتهي باللفظ.
مثال الأول قولهم: القطار عدد من الابل مقطورة على نسق واحد. والقطر (بكسر القاف) النحاس، والقطر (بضم القاف) الجهة والناحية، والقطر (بفتح القاف) المطر. ومثال الثاني قولهم: ولد الناقة يسمى الحوار، وولد الفرس يسمى الفلو. وثمر النخلة عندما يصفر أو يحمر يسمى البسر، فإذا نضج فهو الرطب، فإذا تم جفافه فهو التمر... الخ.
والطريق الأول يسهل على القارئ فهم ما يمر أمام نظره وعلى سمعه من الألفاظ المبهمة؛ فإن من قرأ أو سمع كلاماً مشتملاً على ألفاظ استبهم عليه معناها رجع إلى معجم مؤلف على هذه الطريقة.
والطريق الثاني يسهل على الكاتب وغيره معرفة الألفاظ الدالة على الأشياء التي تقع تحت نظره والمعاني التي تمر بذهنه ولا يحضره اللفظ الدال عليها. فإذا رأى الإنسان شيئاً أو تصور معنى ولم يعرف اللفظ الدال عليهما فإنه يرجع إلى الكتب المؤلفة على هذه الطريقة. ومن ثم نجد أكثر الناس انتفاعاً بهذه الكتب أولئك الذين يعنون بالترجمة إلى العربية والتأليف في العلوم العصرية؛ لأنهم يجدون أمامهم من المعاني ما تحتاج إلى قوالب من الألفاظ لا تحضرهم، فيرجعون إلى هذه الكتب ليهتدوا بها إلى بغيتهم. وقد رأينا أن نسمي الطريق الأول ((بالطريق اللفظي)) لأن البدء فيه يكون بجانب اللفظ ومنه ينتقل إلى جهة المعنى، والطريق الثاني ((بالطريق المعنوي)) لأن البدء فيه يكون بجانب المعنى ومنه ينتقل إلى جهة اللفظ.(/1)
ولكل من الطريقين فروع ليس هذا موضع الافاضة في استقصائها. وكل ما نريد أن نذكره هنا أن الطريق المعنوي هو الطريق الذي مشى عليه رجال الصدر الأول من نقلة اللغة، فألفوا في ضروب من المعاني مثل خلق الإنسان وخلق الفرس والأنواء والنبات والنخل والكرم إلى غير ذلك من الأنواع. أما التأليف على الطريقة اللفظية فقد كان متأخراً في الزمان عن التأليف في الطريقة المعنوية. ويعتبر الخليل بن أحمد الفراهيدي ابنَ بَجْدَةِ هذا الطريق حين وضع كتاب ((العين)) أو وضع خطوطه الأساسية على بعض الأقوال؛ فقد وجه همه إلى ضبط اللغة وإحصاء كلمها والتمييز بين المهمل والمستعمل من الألفاظ، وتبعه أبو بكر بن دريد في جمهرته، ولكنه لم يتقيد بما تقيد به الخليل من الشروط الدقيقة والقيود الوثيقة معتذراً بقصور همم أهل زمانه وضعف عزائمهم وعدم صبرهم على المجاهدة والمجالدة. وقد حذا حذو هذين الإمامين إمام ثالث هو أبو غالب تمام بن غالب المعروف بابن التياني القرطبي المتوفى سنة 433هـ فإنه وضع كتاباً أتى فيه على ما في كتاب العين من صحيح اللغة وزاد عليه ما زاده ابن دريد في الجمهرة وسماه ((فتح العين)). وآخر من سلك هذا المسلك في التأليف – على ما نظن – أبو الحسن علي بن إسماعيل المعروف بابن سيده المتوفى سنة 458هـ فإنه ألف كتابه ((المحكم والمحيط الأعظم)). ومن أصحاب الطريق اللفظي من سلك في تأليفه مسلكاً آخر غير مسلك الخليل ومن تبعه، فرتب الألفاظ معتبراً أواخر حروفها الأصلية أبواباً وأوائلها فصولاً، ومن أشهر سالكي هذا المذهب الجوهري في كتابه ((صحاح اللغة))، وتبعه مجد الدين الشيرازي في قاموسه، وتبعهما خلق كثير. ومن أصحاب الطريق اللفظي من تنكب هذين المسلكين وسلك مسلكاً ثالثاً هو أوضح معالم من سابقيه، فبوب معجمه على ترتيب حروف الهجاء، واعتبر أصول أوائل الكلم أبواباً وما يليها من الحروف الأصلية ثم ما يثلثهما فصولاً، فتجد كلمة ((أسد)) مثلاً(/2)
قبل كلمة ((أسر))، وهذه قبل كلمة ((أسف))، وهذه كلها قبل كلمة ((أشر)). وأول من سلك هذا المسلك في الترتيب – على ما أظن – أبو الحسين أحمد بن فارس المتوفى سنة 390هـ في كتابه ((المجمل في اللغة))، وتبعه الزمخشري في كتابه ((أساس البلاغة))، وجاء بعده تلميذه ناصر بن عبد السيد المطرزي المتوفى سنة 610هـ فألف كتابه ((المغرب في لغة الفقهيات))، وسلك في ترتيبه مسلك شيخه في أساس البلاغة. وممن سلك هذا المسلك أحمد بن محمد المقري الفيومي المتوفى سنة 770هـ في كتابه ((المصباح المنير في غريب الشرح الكبير)). وكذلك سلك هذا المسلك من مؤلفي المعاجم الخاصة أبو السعادات ابن الأثير في كتابه ((النهاية في غريب الحديث والأثر)). وكذلك فعل الراغب الأصفهاني في مفرداته. وأتباع هذا المسلك كثيرون في المعاجم العامة والخاصة، منهم المؤلفون من المعاصرين. والمؤلفون على هذا النمط يعتبرون من الكلمة حروفها الأصلية، فيضعون كلمة اتصل – مثلاً – في باب الواو لأنها من مادة (و ص ل) ومثلها اتأد واتسع واتكأ واتسق واتهم واتكل لأنها من (و أ د) و (و س ع) و (و ك أ) و (و س ق) و (و هـ م) و (و ك ل). ويضعون كلمة تترى – مثلاً – في هذا الباب لأن مادتها (و ت ر). وفي هذا ما فيه من العسر على الذين لا علم لهم بمبادئ اللغة وأصول تصريفها.
ولهذا رأى بعضهم أن توضع المعاجم على أسلوب تكون العبرة فيه بحروف الكلمة كلها سواء في ذلك الأصلية والزائدة، فتوضع كلمة (تترى) مثلاً في باب التاء والتاء وما يثلثهما، وكلمة (اتقى) في باب الهمزة والتاء وما يثلثهما، وهكذا كما فعل واضعو معاجم البلدان؛ فإنك إذا راجعت معجم ياقوت في كلمة (أسورة) مثلاً تجدها في باب الهمزة والسين وما يليهما، وإذا طلبت هذه الكلمة في الصحاح وجدتها في فصل السين من باب الراء، وإذا طلبتها في المصباح وجدتها في باب السين والواو وما يثلثهما. قالوا: وفي هذا عنت ليس بالهين.(/3)
وقد سلك واضعو معاجم الأسماء والطبقات مسلك واضعي معاجم البلدان؛ فإنك تجد فيها اسم (المعلى) مثلاً في باب الميم والعين وما يليها، ولو طلبت هذه اللفظة في القاموس لوجدتها في فصل العين من باب الواو والياء، وإذا طلبتها في المصباح وجدتها في باب العين واللام وما يثلثهما. قالوا: فلماذا لا يسلك اللغويون في معاجمهم هذا المسلك على ما فيه من تسهيل المراجعة ولاسيما على أولئك الذين يتعسر عليهم تمييز أصول الكلمات من زوائدها ؟(/4)
ونحن نرى أن هذا الرأي على ما فيه من ظاهر جذاب، غير سديد؛ لأننا لو سلكنا في وضع معاجم اللغة هذا المسلك لجاءت ضخمة جدًّا كثيرة التكرار مضطربة الترتيب والتبويب؛ وذلك لما في لغتنا العزيزة من الوفرة في المشتقات والتنوع في المصادر والجموع؛ فإذا أردنا أن نأخذ مثالاً على ذلك ما اشتق من مادة (خرج) وما يتصل بها كان علينا أن نثبت كل واحدة من الكلمات الآتية في موضع يختلف عن موضع أخواتها: (خرج، يخرج، خرجاً، مخرجاً، مخارج، خارج، خراج، خوارج، أخرج، إخراج، استخرج، يستخرج، استخراج، المستخرج، أخاريج... إلخ). وكل كلمة تذكر في موضع تحتاج إلى تفسير قائم بنفسه، وفي هذا ما فيه من التطويل الذي لا طائل تحته؛ وكذلك القول في المصادر، فرب فعل له أكثر من مصدر واحد، مثل (كتب، ومصادره كتباً وكتاباً وكتابة وكتبة) فإذا أخذنا بهذا الترتيب المقترح وجب علينا أن نفرق هذه المصادر في مواضع شتى مع أنها في الترتيب التقليدي تجمع في موضع واحد. وكذلك القول في الجموع، فرب كلمة لها عدة جموع مثل (كاتب فإنك تجمعه على كتبة وكتاب وكاتبين)، فإذا نحن مشينا على الترتيب المقترح وجب علينا أن نفرق بين هذه الجموع في مواضع مختلفة مع أن جمعها في موضع واحد ألصق بحاجة المراجعين من تفريقها على مواضع شتى وتفسيرها في كل موضع. ولنضرب للقارئ مثلاً واضحاً في هذا الباب؛ فإنك إذا راجعت كلمة (أكمة) مثلاً في المصباح المنير وجدتها في فصل الهمزة والكاف وما يثلثهما على هذا الوجه: ((الأكمة تل وقيل شرفة كالرابية، وهو ما اجتمع من الحجارة في مكان واحد، وربما غلظ، وربما لم يغلظ، والجمع أكم وأكمات مثل قصبة وقصب وقصبات، وجمع الأكم إكام مثل جبل وجبال، وجمع الإكام أكم بضمتين مثل: كتاب وكتب، وجمع الأكم آكام مثل عنق وأعناق...)) هذه هي طريقة المعاجم التقليدية، وإذا أردنا أن ننهج منهج المعجم المقترح وجب علينا أن نفرق هذه الجموع الخمسة في خمسة مواضع، وأن نذكر(/5)
في كل موضع شرحاً على نمط الشرح الذي جاء في عبارة المصباح في كلمة (أكمة)، فنقول مثلاً في كلمة (آكام): ((إنها جمع أكم التي هي جمع الأكام التي هي جمع الأكم التي هي جمع الأكمة وهي تل وقيل شرفة كالرابية وهو ما اجتمع من الحجارة في مكان واحد، وربما غلظ وربما لم يغلظ))، وهكذا يلزمنا في كل جمع أن نرجع به إلى مفرده ثم نشرح معنى ذلك المفرد، وفي هذا ما فيه من إسراف في الجهد يمكن الاستغناء عنه بالطريقة المألوفة المبنية على الاقتصاد في كل شيء. أما القول بأن الكثيرين من الذين يحتاجون إلى مراجعة المعاجم لا يهتدون إلى أصل الكلمة فهو من المغالاة بمكان؛ لأن الذي لا يميز بين الأصول والزيادات ولو على سبيل الاجمال لا يحتاج إلى مراجعة المعاجم، فالمعاجم إنما توضع لأولئك الذين يملكون حظًّا ولو قليلاً من التفريق بين الأصول والزوائد؛ أما الكلمات التي يتعسر على جمهرة المتعلمين معرفة أصولها فلا مانع أن تذكر في موضع يسهل على المراجع العثور عليها ثم يشار إلى موضعها الأصلي؛ فتوضع كلمة (تترى) مثلاً في موضع تأتي فيه التاء والتاء وما يثلثهما ثم يشار إلى مراجعتها في مادة (وتر)، وكذلك يفعل في كلمة (اتصل) من الوصل و(اتعد) من الوعد وهكذا.(/6)
والذي نراه أن العربية محتاجة إلى معاجم تؤلف على الطريقة اللفظية على أنماط ثلاثة: مبسوط ووسيط وموجز: الأول للمتبحرين من العلماء، والثاني لأوساط المتعلمين، والثالث للمبتدئين منهم. وكذلك هي في حاجة إلى معاجم على الطريقة المعنوية مبسوطة ومتوسطة وموجزة، ليستعين بها الناقلون عن اللغات الأجنبية والمؤلفون في العلوم والفنون العصرية. وينبغي أن تبسط العبارة في كل هذه المعاجم بسطاً يوضح المقصود من كل كلمة، وأن يستعان على الايضاح بالصور، فإذا أريد إيضاح أعضاء الانسان في المعاجم المعنوية مثلاً يصور الإنسان ويشار إلى العضو إشارة تجعله مفهوماً جلياً، وكذلك إذا أريد بيان خلق الفرس أو خلق الجمل مثلاً؛ وهكذا يستعان بتصوير الأشجار والأزهار والبقول وغيرها تصويراً من شأنه أن يعين المراجع إعانة تامة على فهم ما يريد فهماً لا غموض فيه ولا غبار عليه.
ولاشك أن هذه الطريقة تستلزم جهوداً متضافرة من جماعات متآزرة. وأجدر من يعهد إليه بذلك هي المجامع اللغوية التي أنشئت وستنشأ في الممالك العربية؛ وقد بلغنا أن المجمع اللغوي في الكنانة مضطلع ببعض هذه المهمة. كان التوفيق حليفه.(/7)
العنوان: (رايس) و(أولبرايت).. والبحثُ عن الكنز المفقود في الشرق الأوسط
رقم المقالة: 1491
صاحب المقالة: معمر الخليل
-----------------------------------------
قبلَ أكثرَ من 15 عاماً، قام جيمس بيكر (وزيرُ الخارجية الأمريكي السابق) بتِسعِ رِحْلات خلالَ تسعةِ أشهر إلى منطقة الشرق الأوسط، قبل أن تعقد دولٌ عربية وأجنبية مؤتمرَ "مدريد" عام 1991م، الذي كان الأمريكيين يأمُلون أن يكون مؤتمراً للتصالح بين العرب والإسرائيليين. أما مادلين أولبرايت (وزيرة الخارجية الأمريكية خلال مدة حكم بيل كلينتون) فقد أمضت أكثر من عام للتحضير لقمة (واي ريفر) عام 1998م، الخاصة أيضاً بالشرق الأوسط، الذي أدى إلى اتفاق مؤقت بين الإسرائيليين والفلسطينيين.
ومع أن المؤتمرين لم ينجحا في حل جزء يسير من الأحجية السياسية بين العرب والصهاينة، إلا أن التحضير لهما كان غاية في الجد.. أو على الأقل هكذا بدا الأمرُ، أما اليومَ، فإن زيارةً خاطفة لوزيرة الخارجية الأمريكية (كونداليزا رايس)، للقاء الفلسطينيين والإسرائيليين، في حدود يوم وليلة، تأمُل حكومةُ الرئيس الأمريكي (جورج بوش) أن تكون كافيةً للإعداد لمؤتمر السلام، الذي سترعاه واشنطن في منتصف نوفمبر المقبل.
لذلك ليس من الغريب أن تكتب صحيفةُ (واشنطن بوست) الأمريكيةُ، مقالةً لها تزامنت مع زيارة رايس للمنطقة، قالت فيها: "إن إدارة بوش قد أخفقت حتى الآن، في إحداث استمالة جادة خلف آخر الجهود المبذولة في سبيل تحقيق السلام في الشرق الأوسط"، مضيفةً بالقول: "إن رايس -التي ذهبت اليوم إلى الشرق الأوسط لإجراء محادثات مع القادة الإسرائيليين والفلسطينيين- تثيرُ حولَها تساؤلات عما إذا كانت تقوم بما يكفي من الدبلوماسية، أو إذا كانت قد حددت أهدافاً محددة للمؤتمر الذي أعلن عنه الرئيسُ بوش".
الدبلوماسية لا تكفي:(/1)
المسألةُ -كما يبدو- رغبةٌ من إدارة بوش لإطلاق مبادرة تاريخية بين الإسرائيليين والعرب، ما دامت جَعْبة بوش الرئاسية تحتوي بقيةً كافية.. فالأشهُر القليلة التي تفصله عن الخروج من البيت الأبيض، ربما لا تمهله كثيراً لإطلاق مشروع دولي بهذا الحجم. والشرقُ الأوسط -بويلاته وآهاته- يبدو مثالياً لاستخدام سياسة العصا والجزرة مع بعض الدول. وإن كان التعنتُ الإسرائيلي الدائمُ عثرةً أمام المؤتمرات السابقة، فإن الضعفَ السياسي الذي يعانيه رئيسُ الحكومة الحالي (إيهود أولمرت)، سببٌ آخر في إطلاق مبادرةِ سلامٍ، قد تحظى بنجاح يُسجَّل لصالح بوش في عهده الذي شهد أحداثاً كبيرة وهامة، كهجمات الحادي عشر من سبتمبر، وإطلاق "الحرب ضد الإرهاب" وما تبعها من حرب مع القاعدة، واحتلال أفغانستان، واحتلال العراق، وتصعيد التوتر مرة أخرى مع روسيا، واللحظات الحرجة مع الملف الإيراني النووي، والفصول شبه الختامية للملف النووي لكوريا الشمالية، كل ذلك قد يُتوَّج بمؤتمر سلام، لا يفعل أكثر من تحريك المبادرة العربية التي تقدمت بها المملكةُ العربية السعودية منذ عام 2002م، في قمة بيروت، وهي المبادرة الخاصة بإذابة بعض الثلوج بين العرب والإسرائيليين، مقابل الحصول على مكاسب عربية، لن تتحقق بالعمل العسكري، ما دامت الدول العربية مبتلاةً بهذا الضعف والتفكك الذي تعانيه.
جميعُ الأطراف التي قد تحضر المؤتمر، تريد الحصولَ على مكاسب محددة وصعبة، وأصعبُ ما فيها أن كل طرف يبحث عن هدف مخالف للآخر.(/2)
فإدارةُ بوش تريد إنهاء مدة حكمه بعمل يضاف إلى سجل بوش الرئاسي، بغض النظر عن النجاح اللاحق الذي قد يحققه المؤتمرُ، وفي هذا الصدد كتبت صحيفةُ (هآرتس) الإسرائيلية في مقال لها نشرته يوم الأربعاء الماضي، تقول: "إن مؤتمر السلام المقرر عقدُه بواشنطن في نوفمبر المقبل، لن يكون لعقد مفاوضات، وإنما لإظهار الدعم لجهود الولايات المتحدة في إنهاء الصراع الفلسطيني الإسرائيلي استنادًا إلى حل الدولتين".
أما الإسرائيليون فيبحثون عن مجموعة من المبادئ الأساسية، من بينها ضمان أمن الإسرائيليين، لضمان معاودة تدفق اليهود من كل مكان في العالم لفلسطين المحتلة، ونزع سلاح الدول المجاورة، وفتح أسواق الدول العربية أمام البضائع العبرية. في حين يريد الفلسطينيون ضمانة أخرى! للحصول على تسوية نهائية، تُحْيي الآمال مرة أخرى في إقامة دولة فلسطينية ذات سيادة معترف بها دولياً، وطرح مشكلة اللاجئين الفلسطينيين خلال نكبة 1948م. وإن استطاعت واشنطن إيجاد أي شيء في خط الوسط بين مطالب هاتين الجهتين، فستكون محظوظة.
تحفظ عربي:
الحظ الأكبر للأمريكيين هذه المرة، أن الفلسطينيين الذين سيجلسون على طاولة المفاوضات مع الإسرائيليين في المؤتمر المرتقب، سيكونون من (حركة فتح)، التي تحاولُ الحصول على أكبر قدر ممكن من الاعتراف الدولي بها، ولو على أكتاف الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج.
فالحركة التي استولت على الضفة الغربية، وفتحت جبهة سياسية وأمنية ضد حركة حماس وحكومتها في قطاع غزة، ستكون سعيدةً جدًا لو تمكنت من عقد صفقة دولية مع الإسرائيليين، ضمنت من خلالها إقامةَ دولة ذات سيادة لها في الضفة، ووقف الاستيطان هناك، ولو لمدة من الزمن.(/3)
أما الإسرائيليون فسيكونون أكثرَ حرصاً على الاستفادة من الخلاف بين الأطراف الفلسطينية، للحصول على مكاسب أمام العالم، تؤخذ من الرئيس الفلسطيني الحالي أمام الملأ. في الوقت الذي يعلنون فيه أن قطاع غزة "كيانٌ معادٍ"، فهذا يشبه إعلان "حالة حرب" ضده. فيمدون يدهم لفلسطينيين، ويوجهون بالأخرى مدفعاً باتجاه فلسطينيين آخرين!
من بين الدول العربية التي يتوقع أن تكون حاضرةً للمؤتمر، المملكةُ العربية السعودية، التي تبحث بحثًا أساسيًا عن تحديد موعد معين لحل الخلافات الأساسية؛ كتحديد وضع نهائي للقدس المحتلة، ومناقشة مسألة اللاجئين الفلسطينيين، واستعادة الأراضي المحتلة بعد عام 1967م، وغيرها، وهو الأمر الذي كشف عنه وزيرُ الخارجية (سعود الفيصل)، خلال لقاء له مع الصحفيين بتاريخ 12 من سبتمبر الحالي، قائلا: "إن هذا المؤتمر، إذا لم يحمل مواضيعَ جادةً تهدُف إلى حل النزاع، ووضع المبادرة العربية كهدف رئيس فيه، وتوجد (أجندة) تفصل القضايا الفصل المطلوب، وأن تلتزم (إسرائيل) بالخروج من الأراضي التي احتلتها، فإن هذا المؤتمر لن يكون له أي هدف، وسيتحول إلى مفاوضات يطول أمدها".
وهو الأمر نفسه الذي أعلن عنه بعد ذلك أحمد أبو الغيط (وزير الخارجية المصري) الذي أكد أن المؤتمر يجب أن يكون واضحاً ومركزاً، بطريقة مماثلة للمفاوضات التي أدت إلى التوقيع على اتفاقية كامب ديفيد بين مصر و(إسرائيل) عام 1979م.
النتيجة المرتقبة:(/4)
من بين الأزمات التي تعيشُها ترتيباتُ المؤتمر القادم، إشكاليةُ وجود (أجندة) واضحة ومحددة، تُدعَى من خلالها الدول العربية، وهو الأمر الذي كشف عنه عمرو موسى (الأمين العام لجامعة الدول العربية) بتاريخ 13 من سبتمبر الحالي، عندما أعلن أن أية دولة عربية لن تشارك في المؤتمر الدولي، إلى أن يتم تحديد أهداف هذا المؤتمر، وتنسيق قائمة الأطراف المشاركة فيه، واصفاً المؤتمر من غير هذه الترتيبات بأنه سيكون "مجرد تضييع للوقت".
ملمحاً إلى إخفاقه قبل أن يبدأ، لما تواصله قواتُ الاحتلال الإسرائيلية من بناء مستوطنات جديدة في الأراضي الفلسطينية.
أما الأزمة الأخرى الأساسية، فهي أزمة تحديد الدول العربية التي ستدعى إلى حضور المؤتمر، خاصة وأن سوريا قد تكون إحدى هذه الدول، وهو أمر كشف عنه مسؤولون في السلطة الفلسطينية يوم السبت 22 من سبتمبر. إذ نقلت وكالاتُ الأنباء عن نمر حماد (مستشار الرئيس الفلسطيني) قوله: "إن وزيرة الخارجية الأمريكية أبلغت (عباسًا) بأن واشنطن (تعتزم) دعوة ست دول عربية، من بينها سوريا، إلى مؤتمر السلام". وأضاف بالقول: "إن واشنطن تود أن تشارك سوريا ولبنان والأردن ومصر والمملكة العربية السعودية وقطر، بالإضافة إلى السلطة الفلسطينية، في المؤتمر الذي ترعاه الولايات المتحدة".
وحسب ما ذكر حماد، فإن (رايس) أبلغت عباسًا، أن واشنطن تعتزم دعوة الدول العربية المفوضة من قبل جامعة الدول العربية لمتابعة مبادرة السلام العربية، التي كانت السعودية قد أطلقتها قبل 5 أعوام.(/5)
ويبدو أن التأجيل الحاصل في إنهاء هاتين الأزمتين، سببه انتظارُ رايس للنتائج التي قد يتوصل إليها كل من عباس وأولمرت، كي تكون أساساً في (أجندة) عمل المؤتمر، الذي على أساسه سوف تُقدم دعواتٌ لدول عربية محددة. وهو أمر كشفته صحيفةُ (هآرتس) الإسرائيلية أخيرا، إذ قالت: "إن المؤتمر يهدف إلى كسب الدعم الدولي لاتفاق المبادئ الذي يسعى رئيسُ السلطة الفلسطينية ورئيس الوزراء الإسرائيلي إلى التوصل إليه قبل بدء المؤتمر". مؤكدةً أن تأجيلَ الولايات المتحدة إرسالَ دعوات الحضور حتى الآن، سببه أن عقد المؤتمر يعتمدُ بالدرجة الأولى على نتائج المباحثات التي سيجريها أولمرت وعباس خلال الأسابيع القليلة المقبلة.
وفي حال كون كلام الصحيفة الإسرائيلية صحيحاً، فهذا يؤكد أن إدارة الرئيس الأمريكي لا تمتلك أية (أجندة) حقيقية أو واضحة لمؤتمر السلام، وستحضره دون أن يكون لديها هدف محدد، اللهم إلا أن يكون الهدف هو إقامة المؤتمر لإقامته فقط!
هل يستطيع؟
أمام الزيارات التي تتكرر، وتخفق دائماً، منذ أولبرايت وبيكر، وصولاً إلى رايس.. يبدو الأمرُ كأن وزراء الخارجية الأمريكيين يبحثون عن كنز مفقود في الشرق الأوسط.. فهل يحصل الأمريكيون على ذهبهم في كل زيارة يقومون بها إلى هناك؟!
هناك شعب فلسطيني كامل يعيش أوضاعاً صعبة في عدة دول عربية، يعرفون باسم "اللاجئين"، وأوضاع أكثر إيلاماً لشعب محاصر على خط النار مع احتلال يمتلك أكثر الأسلحة تطوراً، دون أن يتمكن هذا الشعبُ من الحصول على أي سلاح من الخارج، فضلاً عن الجوع وتأخر وصول الإعانات والرواتب الشهرية، ووجود 40% من السكان عاطلين عن العمل.
هناك أيضاً مناطق عربية محتلة لا يمكن أن تعود بالعمل العسكري المجرد، ليس بسبب قوة الدولة العبرية، ولكن بسبب الضعف والتشرذم في الصف العربي.(/6)
هناك مكان مقدس إسلامي لا يزال يرزح تحت السلاح والمعول الإسرائيلي، إرهاباً وحفراً في جنباته. يحلمُ ملايين المسلمين باسترجاعه وزيارته. هناك ملايين الأحلام المؤجلة لشعب صادَرَ الإعلام اليهودي العالمي صوتَه، فلا يصل إلى العالم كما هو.
هناك الكثير والكثير.. فهل يستطيع مؤتمرُ السلام الذي سترأسه رايس؛ تحقيقَ جزء ولو يسير منه؟! هل يستطيع؟!(/7)
العنوان: رتب حياتك من جديد (1)
رقم المقالة: 514
صاحب المقالة: د. ياسر بكار
-----------------------------------------
خلقنا الله - عزَّ وجلَّ - في هذه الدنيا لنقضيَ فيها وقتاً محدوداً، نسعى خلاله نحو تحقيق منهج الله في الأرض وعمارتها.
لكن نظرة عابرة على حياتنا وحياة الناس من حولنا تكفي لترى ما يسودُها من ضياع وتشتُّت وفوضى، لقد حان الوقت لأن نقف لحظةً، ونخطو خطوةً إلى الوراء، ونتفحَّص حياتنا, ونحاول إعادة ترتيبها من جديد.
إذا امتلكت الحماسة الكافية لفعل ذلك؛ فما رأيك أن نناقش معاً أهم الخطوات الأساسيَّة في هذه الرحلة؟.
ما هي أولويَّاتك؟
من الخطوات الأساسيَّة والمهمَّة التي يجب أن تبدأ بها إعادة ترتيب حياتك: أن تحدِّد أولويَّاتك؛ ما الشيء المهم بالنسبة لك؟ ما الذي تؤمن به؟ ما الذي تعتقد أنه يستحق البذل والتضحية؟
عندما تُطرح هذه الأسئلة على كثير من الناس, تجدهم يندفعون بالإجابة: الدين, المبادئ, الأسرة... لكن مسار حياتهم وأفعالهم لا تدلُّ على ذلك أبداً! هل تريد أن تعرف ما هو مهم في حياتك؟ وما الذي يستحق التضحية في نظرك أنت؟ انظر كيف تقضي وقتك كلَّ يوم، كيف تقدم عملاً على آخر ضمن جدول أعمالك، كيف تختار ما هو مهم وما هو أكثر أهمية.
إن إجابتك عن هذه الأسئلة هو المحدِّد الحقيقي لقيمك ولأولويَّاتك، وللأسف؛ كثيراً ما نُصدم عندما نكتشف الفرق الشاسع بين ما نعتقد أنه (أولويَّة)، وبين ما يخبرنا به واقعنا الحقيقي!!.
خطوة عملية:
خذ ورقة وقلماً، ورتِّب القيم التالية حسب أهميتها وأولويَّتها في نظرك: العبادة, العمل, الاستقامة الشخصية, العائلة (الوالدان والزوجة والأطفال), الصحة. قم بترتيب هذه القيم حسب أهميتها في نظرك.(/1)
لاحظ الفرق – مثلاً - بين مَنْ يضع الاستقامة الشخصية فوق العمل، وبين من يضع العمل فوق الاستقامة؛ سيغيِّر هذا الترتيب مسار حياتهما بالكامل! فالأول مستعد للتضحية بالعمل في سبيل الاستقامة الشخصية, في حين يضحِّي الآخر بالاستقامة من أجل العمل!! بعد الانتهاء من ترتيب القيم السابقة, تيقَّن أنك تُمضي وقتك بطريقة تلائم ترتيب أولويَّاتك، ستكتشف - في الأغلب - بأنك بحاجة إلى إعادة التخطيط ليومك من جديد.
حدِّد أهدافك:
حدِّد ما الذي تودُّ إنجازه؟ ما الذي تودُّ الحصول عليه؟ تخيَّل أنك تكتب قصة حياتك بعد عشرين سنة؟ أو ثلاثين سنة؟ ماذا ستروي فيها؟ جرِّب أن تكتب ما تودُّ أن يقوله أصدقاؤك وأفراد عائلتك عنك يوم وفاتك، بعد عمر مديد. ترى ماذا تريدهم أن يقولوا عنك؟!.
تقوم فكرة وضع الأهداف على مبدأ أن الأشياء تُصنع مرتين:
الأولى: في أذهاننا؛ عبر تكوين صورة واضحة التفاصيل لكل ما نودُّ الوصول إليه, وأيّ صورة ستأخذها حياتنا بعد سنة، أو خمس، أو عشر سنوات.
والثانية: على أرض الواقع؛ عبر العمل الجاد الموجَّه.. تماماً كما يفعل المهندس المعماري الذي يضع مخطَّطاًً كاملاً للبيت الذي يريد بناءه قبل أن يثبِّت فيه مسماراً واحداً. أكتبُ هذه الكلمات وأنا أستحضر في ذهني أشخاصاً كُثراً لا ينقصهم الذكاء أو الحماسة أو العمل الجاد, ولكنهم مشتَّتون تائهون لعدم وضوح أهدافهم.
قاعدة (80/20):
من الملاحظات الرائعة التي ستغير حياتك هي ما تعارف عليه الكُتَّاب بقاعدة (80/20).. إذ لاحظوا أن 80% من أهدافنا وقيمنا تتحقق بواسطة 20% من أعمالنا كل يوم، وسيكون في غاية الأهمية أن تحدد هذه الأعمال والنشاطات.
ابدأ من اليوم، وقبل أيِّ عمل, اسأل نفسك: هل يقع هذا العمل ضمن الـ(20%) من الأعمال ذات القيمة الكبرى؟ ستجد بطريقة مدهشة أنك استبعدت عشرات النشاطات التي كانت تشغل وقتك وتفكيرك دون مردودٍ مُجْدٍ.
قاعدة (الخطوة المحدِّدة نحو الهدف):(/2)
في الطريق نحو الوصول إلى أي هدف لاحظَ المتخصصون أن هناك أعمالاً يكون إنجازها أمراً في غاية الأهمية؛ بل محدِّداً وفارقاً بين مَنْ ينجح في أدائها وبين مَنْ لا ينجح, وبين مَنْ يقوم بها ومَنْ لا يقوم بها، مثل هذه الأعمال أو (الخطوات المحددة) ستنقلك من مستوى إلى مستوى آخر متقدِّم في طريقك نحو هدفك.
دعني أضرب لك مثالاً: إن كنت تطمح أن تصبح باحثاً في جامعة مرموقة، فالخطوة المحدِّدة هنا هي الحصول على شهادة علمية تقبلها الجامعة لمنحك وظيفة فيها، ولن يكون هناك أي وسيلة أخرى للحصول على هذه الوظيفة بدون تلك الشهادة العلمية, وهنا أصبحت كل خطوة تقودك للحصول على الشهادة العلمية هي من الخطوات المحدِّدة، وهذا يعني أن التركيز العقلي يجب أن يُصرف يوماً بعد يوم، وساعةً بعد ساعة، في هذا الاتجاه.
التَّسويف الإيجابي:
كي ترتب حياتك: هناك العديد من الأعمال والنشاطات التي تحتاج إلى تأجيلها والتَّسويف في إنجازها. كيف تعرف أن هذه الأعمالَ تحتاج إلى تأجيل أم لا؟ اسأل نفسك: هل لهذا العمل أثر مهم على المدى الطويل إن أُنجز أو لم ينجز؟ إن قضاء الأوقات في العبادة، ومع العائلة، وفي تنمية الذات، تترك أثراً عميقاً طويل المدى في حياتنا, في حين يَترك قضاء الأوقات مع الأصدقاء إلى ساعة متأخرة في الليل, والتسكُّع في الأسواق, ومشاهدة التلفاز, والانخراط في مشاريع لا تصبّ في هدفك الأساسي يترك كلُّ هذا أثراً ضئيلاً على المدى الطويل؛ ولذا يجب أن تسعى إلى تأجيلها والتَّسويف فيها قدر الإمكان.
وللحديث بقية...(/3)
العنوان: رتب حياتك من جديد (2)
رقم المقالة: 546
صاحب المقالة: د. ياسر بكار
-----------------------------------------
مع إشراقة كل يوم جديد، سيكون لدينا فرصة رائعة؛ لأن نعيد ترتيب حياتنا من جديد.. فرصة للتخلص من أعباء الفوضى، التي تذهب بأوقاتنا وجهودنا دون طائل.
تحدثتُ في مقالة الأسبوع الماضي عن خطوات أساسية في هذا الجانب وهي: ترتيب الأولويات, تحديد الأهداف, معرفة الأعمال ذات القيمة الكبرى, تحديد الخطوة المحددة نحو الهدف, التسويف الإيجابي، وهناك مجموعة أخرى من الخطوات المهمة، سنستعرضها في هذه المقالة.
حدد نِقاط قوتك:
لكل منا نقاط قوته ومناطقُ للتميز لديه.. كيف تتعرفها؟
سل نفسك: ما الشيء الذي أقوم به بطريقة مميزة وأتفوق به على بقية أقراني وزملائي؟
ما الشيء الذي أشعر بالارتياح والهدوء عند إنجازه؛ حيث يمر عليَّ الوقت دون أن أشعر به وأنا أزاول هذا العمل؟
عندما تحدد هذا العمل فأنت في الأغلب تتحدث عن إحدى نِقاط قوتك، الأمر ليس بهذه السهولة, بل يحتاج منك إلى الكثير من التأمل والمراجعة.
تأتي الخطوة التالية بأن تقوم بالتركيز على نقاط قوتك, وبناء حياتك العلمية والعملية عليها, وصرف وقتك - ذي القيمة الكبرى - كل يوم في أنشطة تنمِّي جوانب القوة لديك.
عندما كنا طلاباً كنا نسمع كثيراً هذه العبارة: "الحمد لله أنا جيد في مادة الرياضيات؛ ولذا فلن أدرسها, بل سأركز على مادة الكيمياء التي لا أحبُّها ولا أتقنها..!"، قد يكون هذا الموقف مقبولاً في مرحلة الإعداد العلمي المبكر, لكنه - بلا شك - يجب ألا يستمرَّ بقية حياتنا, فلو كنتُ مميزاً في (الرياضيات) فسأُلزم نفسي بها طَوال حياتي, وسأهرب من (الكيمياء) المادة التي لا أحبُّها ولا أتقنها، وهذا ينطبق على جوانبَ كثيرة؛ كمهارات البيع والقيادة والتحليل والشعر والخطابة وغيرها كثير.
إدارة الوقت:(/1)
إن الصفة الفارقة بين الناجحين وغيرهم هو طريقتهم في التعامل مع الوقت؛ فالوقت هو أغلى ما نملك، ولكننا للأسف نديره بأسوأ طريقة ممكنة!! هناك العديد من الطرق التي طرحها العلماء لإدارة الوقت، لكني أجد أن الفكرة الأساسية التي يجب أن يستند عليها تعاملنا مع الوقت، هي ما شرحها الكاتب المميز (ستيفن كوفي), إذ ينصح بتقسيم النشاطات إلى أربعة أقسام:
مربع (1)
مهم وعاجل:
"أخذ طفلي المريض إلى المستشفى, كتابة تقرير يخص اجتماع الغد, حضور حفل زفاف ابن عمي...". ... مربع (2)
مهم وغير عاجل:
"تقوية العلاقة مع زوجتي, بناء علاقات إيجابية مع العملاء, القراءة في موضوع متخصص, ممارسة الرياضة, حضور دورة تطوير ذاتي...".
مربع (3)
غير مهم وعاجل:
"زيارات في أماكن العمل, مكالمات هاتفية, متابعة نشرات الأخبار...". ... مربع (4)
غير مهم وغير عاجل:
"قضاء وقت طويل في مشاهدة التلفاز, التسكع في الأسواق, أنشطة غير مجدية, أفراد يضيعون وقتك".
تأمل الجدول السابق، وحدد كيف صرفت وقتك يوم أمس.
إن أفضل الأعمال وأكثرها أثراً في حياتك هي تلك الأعمال التي تقع في المربع (2)، أي الأعمال الهامة وغير المستعجلة.. فاحرص على أن تصرف فيها معظم وقتك الثمين.
حدد (غير الأولويات)!
كما أن ترتيب الأولويات هو أمر أساسي في إعادة ترتيب حياتك، فإن تحديد (غير الأولويات) أمر مهم أيضاً, وهي الأنشطة التي يمكن (بل يجب أحياناً) أن تقلع عن ممارستها؛ لما تستهلكه من جهد ووقت دون أن تدفعك نحو أهدافك وما تسعى إليه، إن المتميزين من الناس يتقنون التفريق بين النشاطات التي يجب أن يقوموا بها, والنشاطات التي يجب أن يحبسوا أنفسهم عنها مهما كانت مغرية.
فوِّض:(/2)
(سالم) مهندس بارع.. لديه مهارة خاصة في ابتكار المشاريع، وإتقان حساباتها، عندما تنظر إلى إنجازات (سالم) بعد عشرين سنة من عمله في هذه المهنة، ستُفاجأ بأنها قليلة لا تتناسب مع مهاراته وقدراته؛ أين المشكلة؟ كان (سالم) شديد الحرص على مسار العمل في المشروع الذي يتولاه, ويعتقد - سراً - أن العمل الذي لا يؤديه بنفسه أو تحت إشرافه المباشر هو عمل مشكوك فيه لا يُنجز بطريقة صحيحة. كانت مشكلة (سالم) في عدم قدرته على التفويض.. أي عدم قدرته على إسناد أجزاء من العمل إلى مصادر خارجية للقيام به, على الرغم من أن غيره قد يكون أقدرَ وأسرع في إنجازها. ومع قليل من التأمل, وجدت أن هذه المشكلة كانت وراء قصور العديد من المميزين عن تحقيق المزيد من الإنجازات.
عندما تبدأ بترتيب حياتك, حدد بالضبط الأعمال والنشاطات التي تقع ضمن دائرة قوتك ومهارتك (كما شرحت سابقاً)، وأما ما عداها فيجب أن تسنده إلى شخص آخر ليقوم به؛ ستوفر لك هذه الخطوة المزيد من الوقت والجهد الذي يمكنك أن تصرفه نحو المزيد من الإنجاز والاستمتاع.
أين تقع (عقدة التحكم) لديك؟
يشير العلماء بـ (عقدة التحكم Locus Of Control) إلى الطريقة التي تنظر بها نحو القوى والمسببات التي تسيِّر الأحداث من حولك، فلو كانت عقدة التحكم لديك داخلية، فهذا يعني أنك تشعر بالقدرة على التحكم في الأحداث، ومسارها ومصيرها، ونتائجها في المستقبل، ومن ثم الأمل في تغييرها، أما الصنف الثاني من الناس، فهو الذي ينظر إلى (عقدة التحكم) لديه على أنها خارجية؛ ولذا يميل إلى النظر إلى القوى الخارجية (أي الخارجة عن تأثيره) على أنها صاحبة اليد العليا في حياته، وما له إلا انتظار ضربة حظ تنتشله مما هو فيه من يأس وقنوط!!
إن إعادة النظر في عقدة التحكم لديك هي خطوة محددة وأساسية، نحو إعادة ترتيب حياتك والانطلاق من جديد.
ما هو وقتك الذهبي؟(/3)
لكل منَّا وقته الذهبي الخاص خلال اليوم، أي الوقت الذي يتقد فيه عقله ويشتعل فيه نشاطه نحو العمل المركَّز وذي القيمة الكبرى، يختلف هذا الوقت بين الناس, فقد يكون لدى البعض في ساعات الليل المتأخرة, أو في ساعات الصباح المبكرة، أو غير ذلك، إن قضاء ساعتين من العمل المركَّز في هذا الوقت، قد يعادل عمل ساعات طويلة في أوقات الانشغال بالأهل والموظفين.
خاتمة: إن الفرق بين المميزين وغيرهم، هو في قدرتهم كل يوم على مراجعة مسار حياتهم، وتنظيم طريقة تفاعلهم معها, تماماً كما يفعل القبطان الذي يوجه سفينته نحو وجهتها في بحر متلاطم الأمواج من خلال التغلُّب على آلاف المرات من انحرافها عن مسارها في عملية لا تنتهي من التعديل والتصحيح.
وفقنا الله وإياكم إلى كل خير، وجعلنا من المتميزين الناجحين(/4)
العنوان: رثاءُ الأحياء
رقم المقالة: 1837
صاحب المقالة: د. محمد جابر رجب البيومي
-----------------------------------------
رثاءُ الأحياء
رثاءُ الرَّاحلين
يُصاغ الرِّثاءُ شِعْرًا أو نثرًا في بكاء الرَّاحلين، وتَعْداد مآثرهم، ووصف الحُرْقة الكاوية لبُعادهم، فالرَّاحل العزيز إذًا لا يقرأ ما قيل فيه، وإن كان يتمنَّى أن يُقال عنه كلُّ جليلٍ نبيلٍ، ولكنَّ غرائب الحياة كثيرةٌ، ومن هذه الغرائب أن وجدنا أُناسًا قرؤوا مراثِيَهُم وهم أحياءٌ، لظروفٍ شاذَّةٍ جعلتهم يعرفون ما قيل عنهم، قبل أن يتجاوزوا البحرَ إلى الشاطئ المهيب.
ومن هؤلاء من سَعِدَ سعادةً تامَّةً بما قرأ في كلمة النَّعي، وأخذته النَّشْوَةُ، فبعث إلى من كتبها شاكرًا!!
ولنبدأْ بحديث الأستاذ الكبير (أحمد حسن الزَّيَّات)، صاحب مجلة "الرِّسالة" الشَّهيرة؛ حيثُ أذاعتْ بعضُ شركات الأنباء العالمية خبرَ وفاته دون تحقيقٍ؛ فنهض أديبانِ سعوديَّانِ لرثائه؛ هما الأستاذُ الكبير (عبدالله بن خميس) والأديب الفاضل (عبدالرحمن فيصل المعمَّر)، وقرأ الأستاذُ الزيَّات ما كُتِبَ عنه؛ فردَّ عليه بهذه الكلمة البليغة ذات الصِّدق المبين.
كلمة الزيات
أرسل الكاتبُ الكبيرُ إلى جريدة "السعودية" التي نشرتْ رثاءَه هذا الخطاب المؤثِّر:
"أَخَوَيَّ الأَعَزَّيْنِ: عبدالله بن خميس وعبدالرحمن بن فيصل بن معمَّر:(/1)
لأوَّل مرَّةٍ في تاريخ الإنسان يقوم ميتٌ لِيُعْذِرَ مَنْ نعاهُ، ويشكُرَ مَنْ رثاهُ، ولأوَّل مرَّةٍ في تاريخ الأدب يقوم كاتبان، يجوزُ عليهما ما يجوز على النَّاس في هذا العصر من كُفرانٍ بالجمال، ونكرانٍ للجميل، فيَنْثُرانِ معنى الوفاء نَثْرًا كأزهار الرَّوض، عَطِرَ الألفاظ، نَضِيرَ الجُمَلِ، على قبر كاتبٍ غريبٍ، لم يَرَيَاهُ في مكان، ولم يُعايِشاهُ في وطن، ولم يُلابِساهُ في صداقةٍ، وكلُّ ما بينهما وبينه صلةٌ أدبيَّةٌ عامَّةٌ، يكفي في التعبير عنها إذا قطعها الموتُ كلمةٌ مجملةٌ تُكتَبُ من وراء القلب، فتنفي الجُرْحَ وتدفع المَلام، وتَشْغَلُ حيِّزًا منَ المجلَّة.
ولكن ما كتبتُمَاه يا أَخَوَيَّ نمطٌ آخَرُ غيرُ ذلك كلِّه، عبراتٌ من الكَلِمِ لا يَسْكُبُها إلا قلبُ ابنٍ بارٍّ على أبٍ حنونٍ، وزفراتٌ من الأسى لا يَنْفُثُها إلا صدرُ مؤمنٍ أسيفٌ على أخٍ شهيد، وشهادتانِ لذوَيْ عدلٍ، كلُّ ما أتمنَّاهُ على أهْلي أن يُدْرِجوهُما في كَفَنِي؛ لألقى بهما الله!
لقد مِتُّ في (الجزيرة)، وكلُّ حيٍّ سيموت، ولقد بُعِثْتُ في (الجزيرة)، وكلُّ مَيْتٍ سيُبْعَثُ، والبَعْثُ عمرٌ جديدٌ، وأَجَلٌ مستأنفٌ.
والمُتَنَبِّي عاش طويلاً بعد أن بَعَثَ إلى سيف الدولة يقول:
يَا مَنْ نُعِيتُ عَلَى بُعْدٍ بِمَجْلِسِهِ كُلٌّ بِمَا زَعَمَ النَّاعُونَ مُرْتَهَنُ
وشتَّانَ بين مَن نعاني ونعى أبا الطيِّبِ؛ نعاهُ ناعِيهِ للشَّماتة والعِبْرة، ونعاني ناعِيَّ للأسف والحسرة، والفضلُ لكما يا أَخَوَيَّ في أنَّكُما حقَّقتُما لي أُمْنِيَّةً لم تحقَّقْ لحيٍّ من قبلي، وهي أن يقرأ الميِّتُ بعينيه ما كُتِبَ بعد موته!
فكري أباظة
يروي الصِّحافيُّ الكبير الأستاذ (فِكْرِي أباظة)، في كتابه "حواديت" هذه الطُّرْفَةَ (ص64)، تحت عنوان: (ميِّتٌ حيٌّ) ببعض التصرُّف:(/2)
"ما كِدْتُ أدخلُ في الصَّباح محلَّ (سيمونز) لتناول الفُطُور، حتى حدث ذعرٌ شديدٌ؛ فتياتُ المحلِّ الأجنبيات يَذْرِفْنَ الدُّموعَ، وقد سقط عاملٌ من العمَّال على ظهره حين رآني! فتساءلتُ؛ فعلمتُ أن خبر وفاتي كان قد ذاعَ، وتقدَّمَتْ إحدى الفتيات الأجنبيات بنسخةٍ من جريدة (الجورنال ديجبت)، فقرأتُ فيها بين خطوط الحِداد السَّوْداء نبأَ وفاتي مع صورتي، ورثاءً طويلا تفضَّل به زميلي الأستاذ (إدجار جلاَّد)، ثم تاريخَ حياتي بالتفصيل، وأخرجتْ فتاةٌ أخرى جريدة (البروجريه) وفيها نفس النَّعي ونفس الرِّثاء!
وتفسير الحكاية:
أن أخي المرحوم (شكري أباظة) تُوُفِّيَ بباريس قبل هذا النَّشر بأسبوعَيْن، وكان معروفًا بفرنسا، فرأتِ الإذاعة الفرنسية أن تقول عنه كلمةً، ولكنَّ المذيعَ المختصَّ في القسم العربي ظنَّ أن (فكري أباظة) هو المُتَوَفَّى لا (شكري أباظة)، وسَمِعَتْ شركةُ أنباء الشرق الأوسط المصريةُ نبأَ الوفاة من الإذاعة الفرنسية؛ فَوَزَّعتِ النبأَ على الجرائد، ولم تَتْنَبِهْ إلى خطأ الجرائد الفرنسية الصادرة في مصر؛ فكان ما كان من أمر الجريدتَيْن السابقتَيْن.
وسارعتُ بالاتِّصال (تليفونيًا) بالأستاذ (إدجار جلاَّد) الذي نشر خبرَ الوفاة والرِّثاء، فدَهِشَ وقال مستنكِرًا: مَنْ أنتَ؟ قلتُ: أنا - والله - (فكري أباظة)، لا أزالُ حيًّا أُرزق!
وتَهَدَّجَ صوتُ صديقي (إدجار جلاَّد)، وسمعت مزيجًا من الحزن والفرحة، وربما البكاء والضَّحك معًا.
وقد هَطَلَ مطرٌ من برقيَّات التَّعازي في الداخل والخارج على الأسرة؛ مشاطَرَةً في الحزن على الراحل العزيز"!!
صاحبُ "المقطَّم"
عاش (فارس نَمِر باشا) أحد أصحاب جريدة "المقطَّم" ثلاثةً وتسعين عامًا، شارك فيها في أعمالٍ تجاريةٍ وعلميةٍ وسياسية، وهذه الأخيرة كانت موضعَ النَّقد كثيرًا؛ لمساندته الاحتلال البريطاني؛ بحيث أصبحت جريدة "المقطَّم" لسانَ حال الاحتلال.(/3)
وقد مَرِضَ مَرَضَ الموت، وأحسَّ باقتراب أَجَلِهِ؛ فتَوَقَّعَ أن يُكْتَبَ عنه بعضُ ما لا يُرضِيهِ، ورأى أن تكون جريدة "المقطَّم" بين الجرائد لسانَ الثَّناء عليه.
وقبل وفاته بيومين، دعا كبار المحرِّرين بالجريدة، وطلب منهم أن يُعِدُّوا كلماتِ الرِّثاء، ليتأكدَ مما يقولون!!
وكان الموقف يدعو إلى تَرْضِيَةِ الراحل؛ فأُعِدَّت الصَّفحاتُ الخاصةُ بالنَّعي على نحوٍ يُرضي المريضَ المحتضِرَ؛ إذ جُلِّلتِ الصَّفحاتُ بالسَّواد، وفي أعلى الصحيفة الأولى من "المقطم" الصَّادر في 17/12/1951 بالخطِّ العريض: (فجيعةُ مصرَ والشَّرقِ في وفاة المرحوم الدكتور فارس نَمِر باشا)، وفي الصَّدْر صورته الكبيرة، مع مقالٍ تحت عنوان: (أسرة تحرير "المقطم" تبكي عميدها)، ومقالٌ آخَرُ تحت عنوان: (ترجمة حياة فقيد العلم والصَّحافة)، ومقال حارٌّ مؤثِّرٌ للأستاذ الكبير (وديع فلَسْطِين).
وانتقل الحديث إلى صفحاتٍ داخليةٍ، كلُّها تمجيدٌ للرَّاحل، وقد قرأ (فارس نَمِر) في لحظاته الأخيرة كلَّ ما أُعِدَّ، ولكنَّ هذا كلُّه شيءٌ، وما قاله التاريخ عن الرجل شيءٌ آخَرُ!
لستُ أريدُ أن أشير إلى سيرة (فارس نَمِر)، ولكني أقرأُ ما كُتِبَ عن جريدة "المقطَّم" في كُتُب مستقلة، فأراها كانت شَوْكَةً في جنْب مصرَ المستعمَرة، والذين يروْنَ أن مهادنة الاستعمار ضرورةٌ التجأ إليها أمثال (فارس نَمِر) -: ينسون أن المهادنة شيءٌ وتبرير الطغيان شيءٌ آخَر، وأنه لا يستوي في مَنْطِق الحقِّ كاتبٌ مخلصٌ كافحَ العدوَّ، وتعرَّض للنَّفي والسَّجْن والاضطهاد، وحُورِبَ في رزقه وأهله، مثل الشيخ (عبد العزيز الجاويش)، وكاتبٌ يملك الضِّياع الواسعة، والعَقاراتِ المتعدِّدةَ؛ لأنه يتمتع بنفوذ الغاصبين، ويحارب المخلِصين من رجال الوطن العزيز!
إن كل ما أعنيه في هذا المجال: أن أَعُدَّ (فارس نَمِر) ممن قرؤوا بعض ما يقال عنهم بعد الرَّحيل، وذلك بتدبيرٍ حصيف.(/4)
لقد نقل لي هذا التدبير أحدُ محرِّري جريدة "المقطَّم"؛ فالعهدة عليه فيما روى وحدَّثَ.
صالح جَوْدت
الشَّاعر الغَزَلي الرَّقيق صالح جودت، تحدَّث في مجلة (الثقافة -20/5/1939) عن صديقه شاعر الشَّباب (محمد عبدالمعطي الهَمْشري)؛ فذكر أنهما كانا صديقَيْن حميمَيْن بمدينة (المنصورة)، لا يكادان يفترقان إلا عند النَّوم، وقد جمع بينهما حُبُّ الشِّعر والجمال.
وفي ذات يومٍ قرآ معًا مقالاً حارًّا كتبه الأستاذ الكبير (محمد لطفي جمعة) في جريدة "البلاغ"، مودِّعًا الشابَّ الفقيد الشاعر (أحمد العاصي)؛ حيث مات منتَحِرًا في مَيْعَةِ شبابه، وكان على حظٍّ وافرٍ من الشَّاعرية، فتأثَّرَا كثيرًا بمقال الأستاذ (محمد لطفي جمعة)، وتساءلا؟ هل إذا مات أحدهما اليوم سيجد من يقوم برثائه كما فعل الأستاذ (جمعة)؟ وانتهيا إلى أن ذلك بعيدٌ بعيدٌ، ثم اقترحا أن يقوم كلُّ واحدٍ منهما برثاء أخيه فَوْرًا؛ لينشر الباقي ما قال الرَّاحلُ، وتفرَّقا على وجوب تنفيذ هذا الاقتراح، وبعد يومين قابل الأستاذ (الهَمْشري) صديقَه (صالحًا)، وأسمَعَه ما قاله في رثائه، وهو هذا:
أّيُّهَا السَّارِي تَمَهَّلْ فِي خُطَاكْ إِنَّ فِي الْقَبْرِ فُؤادًا مَا سَلاكْ
وَدَّعَ الأَحْلَامَ فِي رَقْدَتِهِ وَالأَمَانِيَّ، وَلَمْ يَذْكُرْ سِوَاكْ
وَإِذَا نَادَيْتَهُ فِي قَبْرِهِ هَبَّ فِي الْقَبْرِ مُجِيبًا لِنِدَاكْ
لَيْسَ يَبْغِي أَنْ يَرَى الْجَنَّةَ فِي نَفْخَةِ الصُّورِ، وَلَكِنْ أَنْ يَرَاكْ!!
وَضِريحِي بَيْنَ أَشْجَارِ الأَرَاكْ فَتَعَالَ، وَاسْقِهِ عَلِّي أَرَاكْ
إِنْ تَخِذْتَ الْيَوْمَ غَيْرِي فِي الْهَوَى فَأَنَا لِلآنَ لَمْ أَعْشَقْ سِوَاكْ
هَاتِفٌ فِي الْمَوْتِ يَدْعُونِي كَمَا كَانَ فِي الدُّنْيَا إِلَى وَكْرِ هَوَاكْ
أما الأستاذ صالح فقال إنَّه تشاءم أن يقول شِعرًا في رثاء شابٍّ مكتملِ القوَّة، ريَّان الحياة، ولم يَفِ بما تعهَّد.(/5)
ثم شاء القدر أن يموت (الهَمْشري) قريبًا، وأن يستشعر (صالحٌ) اللَّوعَةَ عليه؛ فيَرْثِيهِ رثاءً حقيقيًا، يقول فيه من قصيدةٍ بارعةٍ:
كُنْتُ أَلْقَاكَ وَالْحَيَاةُ تُجَافِي نِي وَإِعْصَارُهَا يَهُدُّ بِنَائِي
فَإِذَا مَا سَمِعْتُ ضِحْكَتَكَ العَذْ بَةَ أَحْبَبْتُ بَعْدَهَا أَعْدَائِي
وَتَمَشَّى السَّلامُ فِي جَوِّ نَفْسِي وَتَطَهَّرْتُ مِنْ طَويِلِ عَنَائِي
وَقَرَأْتُ الحَيَاةَ فِيكَ كِتَابًا شَاعِرِيَّ الآمَالِ والآلاءِ
تَطَأُ اليَّأسَ بِاعْتِدَاءِ الأَمَانِي وَتُذِلُّ الزَّمَانَ بِالْكِبْرِيَاءِ
وَتُغَنِّي وَتَنْهَبُ الْعُمْرَ نَهْبًا شَأْنَ مَنْ أُلْهِمَ اقْتِرَابَ الْفَنَاءِ
ويُخَيَّلُ إليَّ أنَّ قصيدة الهَمْشري السَّالفة لم تُقَلْ في إنسانٍ معيَّنٍ، ولكنها قيلتْ على لسان عاشقٍ مهجور .. هكذا فهمتُ، وإن خالفني الأستاذ (صالح جودت) فيما حكاه!(/6)
العنوان: رجال بين الأطفال والقرود!
رقم المقالة: 589
صاحب المقالة: إبراهيم الأزرق
-----------------------------------------
بدأت تظهر تيارات التغريب – التي كانت قبلُ منكَرةً - في الثلاثة القرون المتأخرة، ولعل من أعظم أسباب ظهورها: التفوق المادِّي، وخاصة العسكري، فتمكنت ثقافة الغربي المتغلب الآسنةُ من عقول أُشربت قلوبُ أصحابها تلك المادةَ الآسنة. ولايعني ذلك أن تقليد الغرب الكافر لم يكن له وجود في المجتمعات الإسلامية؛ بل كان له وجود لكن على نطاق أفراد يشار إليهم بالشذوذ، ويعرِفون أنهم يقارفون منكَراً، وإنما تابعوا الكافر ظاهراً تبعاً لنزواتهم وشهواتهم.
ولم يكن المسلمون قط ينظرون نظرة إكبار للغربي، ولا إعجاب بواقعه في الجملة، ومع تقلب الأحوال، وتغلب أهل البيئة المسترذلة فعالها بالأمس، تغيرت مفاهيم بعض من لم ترسخ في الدين قدمُه، ويبدو أن نظرية ابن خلدون في تأثُّر المغلوب بالغالب عملت ما قرَّره في نفوس أولئك؛ فطفِقوا يستحسنون ما جاء به الغرب على عجره وبجره.
وهؤلاء - إن أحسنا الظن بمقاصدهم- ظنوا أن التفوق المادِّيَّ قد نجم عن تلك المناهج، والأخلاق، والمبادئ، والصفات المستقدمة، التي لا علاقة لها في حقيقة الأمر بتقدم الغرب المادِّي؛ بل ربما كانت معوِّقاً، فهم مثل طفل طرق باب مِصعَد كَهْرَبائيٍّ فلم يفتح له، فصبر حيناً، ثم أخذ في الصياح، والقفز، والركل، فصادف أن فتح خارجٌ البابَ، فظن أن تلك النوعية من المصاعد إنما تفتح بالقفز أمامها، أو الركل والصياح!
وكأني بك تتبسم من تلك الفَعلة الطفوليَّة، وذلك الفهم الساذج، أليس كذلك؟
حُق لك ذلك، ولكني أنبئك بأعجب من هذا.(/1)
للأسف إذا تأملت واقع كثير ممن يُزعَمون مستنيرين وجدتهم ذلك الطفل في أحسن أحوالهم، وانظر إلى دعاة التفسخ، والانحلال، أو الحريات المطلقة، كيف يُلبِسون دعواهم لباس الحضارة، والتقدم، والرقي، بدعوى أنهم يريدوننا أن نتقدم لتصبح حال الدولة كحال الدول المتقدمة!
والعجب من استجابة بعض الناس لهم، فكم من مستقبح في الفطر، والشرائع، والعقول استحسنته فئام؟!
وأكثر بعداً وأشد سذاجة من هؤلاء آخرون رأوا تجارب قد نجحت في الغرب فأبَوا إلاّ تطبيقها بعُجَرها وبُجَرها، وقفزها وصياحها وركلها، مع إغفالهم أن من أسباب نجاحها هناك تلك البيئة، وما شاع فيها من قيم وأخلاقيات لاتتعارض مع بعض ما في ذلك النَّموذَج؛ بل قد يكون النَّموذَج قد وضع لخدمة تلك الأخلاقيات، ورفع تلك القيم لذلك المجتمع.
وهذا الصنف أضاف لخطأ الصنف الأول خطأ آخر؛ إذ أخذ من الغرب ما يخدُم مصالح الغرب، وقيمه، دون مصالح بني جنسه، وسارع لغرسه في أرض قومه؛ فأفسد بذلك قيمهم التي لايعني التقدم والرقي والازدهار شيئاً بغير رفعها، وإظهارها على حضارات الأمم.(/2)
وحتى لانظلم صغيرنا صاحب الِمصعد، ينبغي أن يقال: إن هؤلاء في أرقى أطوارهم يمثلون ذلك القرد الذي تحدث عنه "دون آدمز"، (Don Adams) في كتابه "المخططات التعليمية للمجتمعات المعاصرة"، (Educational Patterns In Contemporary Societies) حيث قال: "إن أبلغ مثل يضرب للأضرار التي تلحق بالشعوب بخطأ يصدر من المستشارين التعليميين الأجانب، ما جاء في حكاية شرقية، يصور موقف هؤلاء الماهرين تصويراً دقيقاً. زعموا أن ناحية من النواحي أصيبت بفيضان عظيم، تورط فيه قرد وسمكة، وكان القرد شاطراً ومحنكاً قد جرب مثل هذه الفيضانات، فتسلق فرع شجرة، وأمِن خطر هذا الفيضان، فوقع بصره على سمكة تكافح تيار الفيضان، وتطفو على سطح البحر، وحمل القرد العطف على هذه السمكة المسكينة، ورق لها قلبه، فنزل من الشجرة، وأنقذ السمكة بكل إخلاص من هذا الخطر، وجاء بها إلى الساحل، وألقاها على الرمل، حيث لاتصل إليها الأمواج، وكانت النتيجة ظاهرة لا تحتاج إلى تفسير"[1]. ومع وضوح النتيجة يصر قرود اليوم من التنويريين - وإن شئت فقل المقلدين - بحسن نية أو بسوء قصد - على إدخالنا جحر ضب لا أظن أنه يناسبنا! بحجة إنقاذ الأمة، وبدعوى القرد نفسها: الإشفاق على السمكة؛ عفواً الأمة!
وإذا تأملت مجال التعليم – مثلاً - وما يحاوله المستغربون من تجريد له عن قيم الأمة، ومبادئها التي أرستها الشريعة؛ لتكون حالها كحال الغرب علمت أن مصيرها سوف يكون مصير تلك السمكة، إذ كيف تعيش حضارة، وتنهض أمة بغير هُويِّة، ولا هدف تعلِّم وتربي؟!(/3)
ولعل هذا يفسر لنا الظاهرة التي عرضها مالك بن نبي بقوله: "حين كان الطالب الياباني يذهب إلى الغرب في أواخر القرن الماضي، كان يذهب ليتعلم التقنية، مع الحفاظ المتشدد على أخلاق بلاده، كما سيذهب بعده التلميذ الصيني المتواضع (نَسْيَانُ هَمَّاسِين)[2] ليتعلم في مختبر "جوليو كوري" بباريس؛ وليعود لبلاده بالمعلومات النووية التي تدهش العالم اليوم، بينما غالب ما يحدث للطالب، الذي يذهب من بلادنا، أن يعود بشهادة، ولكن بعد أن يترك روحه في مقاهي وخمارات الحي اللاتيني، أو النوادي الموجودة بسان حِرمَان!"، والله المستعان.
فرق بين من أخذ ما يحتاج، وعلم ما ينسجم مع دينه، وحضارته، وثقافته، فسخره في رفعتها، بعد أن ميز الغث من السمين، وبين من أخذ السمين، ثم توجه به نحو حضارة القوم.
وكذلك فرق بين من طبق النَّموذَج الغربي بحسناته وسيئاته، وما يناسب واقعه، وما لا يناسبه، وبين من هذَّبه فأخذ الصالح، وطرح غير المناسب أو ما لا عَلاقة لصناعة حضارة قومه به، فالأول يبني مستعمرة – كما يقال - في قعر بلاده، والآخر يصعد بها حتى تكون أرقى الأمم.
فمتى تعي ذلك القرود التي تصر على إحراقنا بنار الغرب؛ من أجل التنوير، ومتى يفهم طريقة الصعود بالأمة أطفال الصحافة؟!
ـــــــــــــــــــــ
[1] الكتاب من تأليف دون آدمز، ومعه ن. ذت، (N. Thut) طبع أول أمره في نيويورك عام (1964م).
[2] لست أدري هل شكلي للكلمات صحيح على حد عبارة مالك أو لا، ولعل المعنى صحيح! فكثير من أولئك هماسون وقد كان كثير من الشرقيين يعرضون عن الموسوسين بالصوارف التوافه.(/4)
العنوان: رجعية الفكر العلماني
رقم المقالة: 222
صاحب المقالة: خباب بن مروان الحمد
-----------------------------------------
لا يفتأ العلمانيُّون يرسِّخون في أذهان الناس أنَّ الفكر العلماني هو الفكر المتقدم والمتنامي ، المواكب للحضارة ، والساعي للرُّقي والنماء والنهضة !
وليس من شكٍّ أنَّ الدعاوى ما لم تقم عليها الدلائل والحجج لتثبتها ، تكون أقوالاً هلاميَّة كالسراب يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً !
وفي هذا المقال أزعم بأنَّ حقيقة الفكرة العلمانية لا تنفك عن التراث القديم بكلِّ قيمه ومبادئه وأشكاله ، وأنَّ حقيقة الفكر العلماني وجذوره ترجع إلى ما كانت عليه أيديولوجيَّة القرون اليونانيَّة الإغريقيَّة الكلاسيكيَّة القديمة ، إلاَّ أنَّ العلمانيَّة (تتمظهر) بالروح العصريَّة المتجددة ، فيعطيها أتباعها هالة من النفخ والظهور التنويري!
نعم ! قد يدَّعي العلمانيون خلاف ذلك من ناحية الجذور التأصيليَّة لفكرتهم ، ولا بأس أن نلقي بين حين وآخر حجراً في البركة العلمانيَّة الآسنة ؛ علَّها تفرز حراكاً ينقذ البعض من رجعية كاسدة .(/1)
إذا تتبَّعنا كتب العلمانيين وأفكارهم فلا نجد غالبها يختلف عمَّا كتبه الفلاسفة والمناطقة السابقون ، ذلك أنَّهم حين يستدلون أو يستندون إلى أقوالهم ومبادئهم ، نلحظ أقوال أولئك الأعلام اليونانيين القدماء وغيرهم ممَّن أتى بعدهم ، في رؤوس الاستشهادات في الخطاب العلماني ، وحتماً سنطالع هذه الأسماء في مدوَّنات العلمانيين ( أرسطو ـ فيثاغورس ـ دوركايم ـ هيراقليطس ـ أفلاطون ـ لاماراك ـ دارون ـ كانط ـ فولتير ) كما سنجد كذلك في كتاباتهم أسماء آباء الثورة الفرنسية : (جان جاك روسو ـ دومونتسكيو ـ فولتير) ممَّن يحاولون الاستشهاد بأقوالهم ، ولهذا فإنَّ المطالع لكثير من الكتابات العلمانيَّة الحاملة شعار التجديد والنهضة والتقدم الفكري ، سوف يفاجأحين يجد أولئك المجدِّدين العلمانيين ينحصر كلامهم في شرح ما قاله أولئك الفلاسفة اليونانيون ، أو شرح أدبيات المدرسة الأبيقورية ؛ إذ العلمانيون مقلِّدون لتلك المدرسة ، ولم يخرجوا عنها ، وحقاً :(كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم) البقرة(118) ولهذا فإنَّا نسائلهم : لقد قلتم في أدبياتكم : إنَّ أعيننا لم تُخلق في أقفيتنا للنظر إلى الوراء ، بل خُلقت في وجوهنا للنظر إلى الأمام ! فلماذا تعتزُّون كثيراً بتراث الإغريق واليونانيين ؟ أليسوا قوماً متخلِّفين حضارياً وتكنولوجياً مقارنة بزمننا المعاصر ؟ فلم الرجوع لأفكارهم والأخذ منها ما دمتم تقدميِّين ؟!
ثمَّ أليس هذا معناه أنَّكم تحجبون أعين الناس عن النور وتريدون إرجاعهم إلى الوراء ؟!
إنَّنا نحاكمكم بالمنطق نفسه الذي تحاكمون به المسلمين ، حين تدَّعون زوراً وبهتاناً بأنَّهم متخلفون وظلاميون !(/2)
وبالتأكيد فإنَّ بعض الغربيين اليوم مقتنع تماماً أنَّ العالم الغربي ، وإن ادَّعى العلمانيَّة والتقدميَّة ، فما زال يعيش في قرون الظلام وعصور التحجر ، فهذا (هارولد فينك) يقول : " إنَّ العالم الغربي لم يهضم بعد الديانات العظيمة التي نشأت في الشرق الأوسط إنَّه ـ أي : العالم الغربي ـ لم يخرج بعد من العصور المظلمة !".
وسأذكر في ثنايا السطور التالية شيئاً من التلاقح الفكري بين دعاوى العلمانيين الجاهليين (التقدميين) اليوم ، ودعاوى القرون السابقة الجاهلية ( الظلاميَّة) ، فالفكر هو الفكر . فقد التقت العلمانيَّة مع أفكار الجاهلية الرجعية في أشياء كثيرة ، مثلاً :
1ـ حين نقرأ في كتاب ربِّنا ـ جلَّ وتعالى ـ نجد أنَّه كان يصف الصراع العقدي الدائر بين الأنبياء ومن خالفهم من قومهم أو من بُعثوا إليهم ، ومن ذلك قصَّة الصراع بين نبي الله شعيب ـ عليه السلام ـ وقومه أهل مدين .
لقد آلَ بقومه ، بعد استمرار نبي الله شعيب ـ عليه السلام ـ في الدعوة إلى الله ، إلى أن : (قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنك لأنت الحليم الرشيد) وكلَّما قرأتُ هذه الآية ازددتُ عَجَباً ، لأنَّ منطق الجاهلية القديمة هو منطق الجاهليَّة الحديثة بجميع أبعادها ، فقوم شعيب حين دعاهم نبيهم إلى الإسلام ؛ رفضوا أن يكون للعبادة الوثيقة بالله صلة وتأثير على أرض الواقع ، ودنيا الناس، فقالوا:(أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا) . فهم لا يريدون للصلاة أن تحكم عاداتهم وطقوسهم الخاصة بهم ، ولا يريدون كذلك أن يكون للإسلام تأثير في مجرى الحياة الاقتصادية والمعاملات المالية ، ولهذا قالوا : ( أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء ) فهم لا يريدون أن يكون لصلواتهم وعباداتهم تأثير في مجرى السلوك الإنساني ، بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.(/3)
وهذا أمر بيِّن وهو من الوضوح بمكان ؛ فمنطق العلمانيين اليوم هو منطق أسلافهم بالأمس ، فلم تتغيَّر جاهلية اليوم عن جاهلية القرون المتقدمة!
2ـ يقول ـ تعالى ـ وهو يتحدَّث عن المنافقين :( وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا) الأحزاب (13).
حين يقلِّب المرء ناظريه عن سبب قول المنافقين : يا أهل يثرب ، ولم يتنادوا بالوحدة الإسلاميَّة مثلاً مع ادعائهم بأنهم مسلمون ، لوجد أن السبب في ذلك أنَّ المنافقين كانت الوطنيَّة والانتساب للبلد مقدَّماً عندهم على الدين ، وفي هذا يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي :"يريدون يا أهل المدينة ؛ فنادوهم باسم الوطن المنبئ عن التسمية ، فيه إشارة إلى أنًَّ الدين والأخوة الإيمانيَّة ، ليس له في قلوبهم قدر ، وأنَّ الذي حملهم على ذلك ، مجرد الخور الطبيعي" (تفسير الكريم الرحمن : 660) .
وكذلك هم العلمانيون في عصرنا ، تجدهم لا يطلقون ـ ألبتة ـ مصطلح الأُخُوَّة الإسلامية أو الإيمانية ، بل المصطلحات الجاهلية ؛ لأنَّ ولاءهم ليس للدين ، بل للمصالح المشتركة أولاً وآخراً !
3ـ يقول ـ تعالى ـ :(ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى ) ، أمَّا الليبراليون فنجد أفكارهم ترسِّخ الأفكار الجاهلية والرجعية القديمة ، والتي تدعو للرذيلة وعدم الطهر وإظهار النساء بمظهر العري والفحش ، ولهذا فإنَّ الله ـ تعالى ـ يقول :(والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً) .
بل كانت الجاهليَّة القديمة أعقل حيث كانت المرأة البغي حين تريد الذهاب للحج ، تضع يدها على فرجها وتقول :
اليومَ يَبدو بعضُه أو كلُّه وما بَدا منهُ (فلا) أُحلُّهُ
وأمَّا هؤلاء العلمانيون فإنَّ المرأة عندهم كائن مستخف به ، فتُعْرَض في دور البغاء ، وفي المسلسلات العارية ، وكأنَّ حال تلكم النساء العاريات تقول :
اليومَ يَبدو بعضُه أو كلُّه وما بَدا منهُ (فإني) أُحلُّهُ !(/4)
وهكذا العلمانيون فإنَّهم لا يريدون للإنسانيَّة إلاَّ أن تنحرف عن مسار ربِّها ، ودينها وشريعتها ، وتتحرر من القيود الفكرية !
إنَّها حريَّة (جون لوك ) تلك الحريَّة المنفرطة عن القيم والمبادئ .
ولو قارنَّا بين بيوت الدعارة في العصور الجاهليَّة القديمة وقت أن كانت تُرتاد ويُصرَّح لها ويدخل فيها السُّقط من القوم ، وكيف هي بيوت الدعارة والفجور في عصر القرن الغربي العلماني ! لوجدنا تشابهاً كبيراً في الأفعال والتصرفات بين علمانيي اليوم والجاهلية القديمة ، وكيف أنَّ الرذيلة والفساد شيئان لا تنفك عنهما تلكم الجاهليتان ، بل تسمح لهما وتصرِّح لأوكارهما !
أليس هذا قمَّة التخلف والرجوع لقرون العصور الكهفيَّة التي لم تكن تعبأ بانتشار الرذيلة ، بل تحارب من يحاربها ،كما هو حال القوم العلمانيين في هذه الأزمان المتحضِّرة ! وهذا رجوع إلى الوراء؛ لأن العري بأنواعه كان من مظاهر التخلف الإنساني في العصور القديمة، وحقاً : ما أشبه الليلة بالبارحة !
4ـ كثير من العلمانيين حين تقول لهم : قال الله ، وقال رسوله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ ؛ يقولون ـ عياذاً بالله ـ : دعنا من الله ! هذه الدنيا نشأت مصادفة ، والطبيعة هي التي أوجدتها ، وليس لله دخْل فيها ، وليس هناك إله مفارق للطبيعة ، ويتصرف بها كيف يشاء ، ولن يكون هناك بعث ولا نشور، وإنَّما هي أرحام تدفع وأرض تبلع ! على حدِّ قول الشاعر إيليا أبو ماضي في قصيدة له عنونها بـ (الطلاسم):
جئتُ لا أعلمُ من أينَ ؟ ولكنِّي أَتيتْ ولقد أَبصَرتُ قُدَّامي طَريقاً فمَشَيت
وسأَبقَى سائِراً إن شِئتُ هَذا أو أَبَيتْ كيفَ جِئتُ كيفَ أبصَرتُ طَريقي ؟!
لستُ أَدري !!
إلى آخره من التخبط الذي يكشف حالة الضياع التي يعيشها الإنسان عندما لا يدرك الهدف من وجوده !
لقد كان هذا الفكر هو فكر الدهريين ، والفكر اليوناني الرجعي القديم ! فهل يعقل هؤلاء أصول فكرهم التالد ؟!(/5)
حقاً ... إنَّه ترداد لقول الله ـ سبحانه وتعالى ـ حين قال على لسان كفَّار قريش: (وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلاَّ الدهر)! الجاثية (24).
5ـ من أشد ما يحاربه العلمانيون اليوم ؛ الحكم بشريعة الإسلام ، والتحاكم إلى النظام الإسلامي ، حيث المبدأ لديهم يقول بالتحاكم إلى الديموقراطية ، وهي الوجه السياسي للفكر العلماني . وحين ندقق في هذه الديموقراطيَّة نجد أنَّها تخلف وتعلق بالماضي ، الذي وضعه ورسمه فلاسفة اليونان قبل أكثر من ألفين وخمس مئة عام ، وبهذا الاعتبار نجد أن نظام الحكم الديموقراطي أقدم من النظام الإسلامي بألف سنة ، فهم ـ إذن ـ بهذا أولى وأحق بكلمة التخلف والرجعيَّة والظلاميَّة التي تعود للقرون القديمة !
6ـ حين كان يدعو نبينا محمد ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ كفار قريش لدين الإسلام، كانوا يرفضون الدخول في هذا الدين ، قائلين :(أجعل الآلهة إلهاً واحداً إنَّ هذا لشيء عجاب) فكفار قريش كانت حرية التدين لديهم مفتوحة ؛ فمنهم من يعبد الكواكب، ومنهم من يعبد الجن، ومنهم من يعبد الأصنام، ومنهم من يعبد الملائكة ... إلخ ، ولكنَّهم حين بيَّن لهم رسول الله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ أنَّ دين الإسلام هو الدين الحق ، وأنَّ ما عداه باطل ، انتفضوا ورفضوا دعوة الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ وقالوا :(أجعل الآلهة إلهاً واحداً إنَّ هذا لشيء عجاب)!
إنَّ هذا المنطق هو المنطق نفسه التي التقت به العلمانية مع أفكار جاهلية قريش ، إذ إنَّ أقبح شيء لدى العلمانيين اليوم أن تقول : إنَّ دين الإسلام هو الدين الحق، وما عداه من الأديان ما هي إلا أديان ضلالة وكفر لا تنفع معتنقها يوم القيامة !
أليس هذا رابطاً فكريّاً بين جاهلية اليوم وجاهلية الأمس ؟!
وأخيراً : لقد ذكَّرني العلمانيون بمثل أحفظه من قديم ، ينطبق على حالهم ، إذ يرمون غيرهم بصفات هي ألصق وأولى بهم :( رمتني بدائها وانسلت) !(/6)
العنوان: رجل كبير... إلى صلاة التراويح
رقم المقالة: 1213
صاحب المقالة: إبراهيم الدويش
-----------------------------------------
في صلاة التراويح والقيام: كنت في طريقي لأحد المساجد لصلاة التراويح، وقبل الأذان بدقائق مررت بمسجد آخر، ورأيت ذلك الرجل الكبير يتَّكِأُ على عُكَّازتين، ويدب على الأرض بمهل شديد، يسحب قدميه فتخط في الأرض خطًا، كان واضحًا أن المرض قد أنهكه، وأن التعب بلغ منه مبلغه، ومع ذلك خرج، لماذا؟
كل ذلك من أجل صلاة الجماعة، ومن أجل صلاة التراويح، فتذكرت عندها قول ابن مسعود - رضي الله تعالى عنه - عند مسلم وفيه: "وَلَقَدْ كَانَ الرَّجل يؤتى به يهادى بين الرجلين، حتى يقام في الصف".
ولا أنسى تلك العجوز مُحْدَوْدِبَة الظهر، متقاربة الخُطى، متسارعة الأنفاس، وهي تزحف إلى المسجد زحفًا، والعجب أنها صَلَّتْ واقفة، ورفضت الجلوس.
إيه أيتها النفوس! أليس لك بهذا معتبر؟! فما ملكت نفسي إلا ودمعةٌ تسيل على الخد، وأنا أردد: اللهم أعِنْهَا، اللهم يَسِّر عليها، اللهم تقبل منها، اللهم إن لم يكن هؤلاء من الفائزين برمضان، فمن؟! نحن الكسالى؟!
نحن الشباب أصحاب السواعد الفتية؟ أين أنت يا بن العشرين؟! أين أنت يا بن الثلاثين والأربعين من هؤلاء؟!(/1)
العنوان: رحلة.. هيا نجري
رقم المقالة: 133
صاحب المقالة: أحمد نجيب
-----------------------------------------
هيَّا نَجْرِي نَحْوَ المَلْعبْ
صَفِّقْ مَعَنا وامْرَحْ وَالعَبْ
هَذِى كُرتي مِثلُ الأرنبْ
تَجْري مَعَنا حتّى نَتْعَبْ
نَجْلِسُ حِينًا عِنْدَ النَّهر
وَسْطَ الظِّلِّ وَقتَ الظُّهرِ
وَنَرى الوَردَ رمزَ الحُسنِ
مالَ جَمالاً فَوقَ الغُصْنِ
غَنَّى الطَّيرُ حِينَ رآني
أهلاً أهلاً يا إخْواني
نَقْضِي يَومًا بينَ الزَّهْرِ
ثمَّ نَعودُ بعدَ العَصر(/1)
العنوان: رحمة الحبيب محمَّد صلى الله عليه وسلم
رقم المقالة: 144
صاحب المقالة: شيرين شاكر علي
-----------------------------------------
لقد منَّ الله على خلقه برسول كريم ، فكان الرحمة المهداة للعالمين يحدو بهم نحو طريق الفلاح ، ويضع خطط التغيير والإصلاح ، محفوفاً برعاية الله ، مستنيراً بهدي الله ، لا يأخذ الناس في دعوته بالمكر والحيلة ولا بالعنف والإكراه ، بل يترفق بهم ، ويلين لفظاظتهم ويخاطبهم بما يفهمون ، وهو يعلمهم ويرشدهم بما فيه مصلحة لهم من خيري الدنيا والآخرة .
وسنعرض هنا بعضاً من صور رحمته صلى الله عليه وسلم مع أهله وأصحابه وأزواجه وأمته ومع الأطفال ومع الحيوان والنبات ؛ ليزداد تعلقنا به صلوات ربي وسلامه عليه .
قال تعالى : { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}. الأنبياء - 107
فما المقصود بـ ( العالمين ) ؟
ذكر بعض أهل التفسير بأنهم جميع العالم المؤمن والكافر . فأما مؤمنهم فإن الله هداه به، وأما كافرهم فإنه دفع به عنه عاجل البلاء الذي كان ينزل بالأمم المكذّبة السابقة من العذاب والمسخ والخسف والقذف ، فهو أمان للخلق من العذاب إلى نفخة الصور، ويدخل معهم الملائكة أيضاً ، قال صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه السلام : هل أصابك من هذه الرحمة شيء ؟ قال : نعم كنت أخشى العاقبة فأمنت لثناء الله تعالى عليّ في القرآن بقوله سبحانه : {ذِى قُوَّةٍ عِندَ ذِى الْعَرْشِ مَكِينٍ } . (التكوير:20) .
ويأتي حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « لا تُنْزَعُ الرحمةُ إلاّ مِنْ شَقِّي » - رواه أحمد وأبو داود - ليحضنا على الرحمة مع جميع الخلق ، فيدخل المؤمن والكافر والبهائم والمملوك منها وغير المملوك ..(/1)
والشفقة لا تسلب من قلب امرئ إلا كان شقياً ؛ لأن الرحمة في الخلق رقة القلب ، والرقة في القلب علامة الإيمان ، فمن لا رقة له لا إيمان له ، ومن لا إيمان له شقي ، فمن لا يرزق الرقة شقي .. وكنتيجة لرحمتنا بمن حولنا يرحمنا الله ويحسن إلينا ويتفضل علينا ، فالرحمة مقيدة باتباع الكتاب والسنة .
وكان / صلى الله عليه وسلم / رحمة في الدين والدنيا ، أما في الدين ؛ فلأنه بعث والناس في جاهلية وضلالة ، وأهل الكتاب كانوا في حيرة من أمر دينهم لطول مكثهم وانقطاع تواترهم ووقوع الاختلاف في كتبهم ، فبعث الله تعالى نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم حين لم يكن لطالب الحق سبيل إلى الفوز والثبات ، فدعاهم إلى الحق وبيَّن لهم سبيل الثواب ، وشرع لهم الأحكام وميَّز الحلال عن الحرام . ثم إنما ينتفع بهذه الرحمة من كانت همته طلب الحق فلا يركن إلى التقليد ولا إلى العناد والاستكبار . وكان التوفيق قريناً له .. قال تعالى : { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ } (فصلت: من الآية44) ..أما في الدنيا فلأنهم تخلصوا بسببه من كثير من الذل والقتال والحروب ونصروا ببركة دينه .
ومن ذلك قوم شعيب الذين سألوا نبيهم :{أسقط علينا كسفاً من السماء إن كنت من الصادقين} فعاقبهم الله بعذاب يوم الظلة، إنه كان عذاب يوم عظيم، وأما نبي الرحمة ونبي التوبة المبعوث رحمة للعالمين فسأل إنظارهم وتأجيلهم لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده لا يشرك به شيئاً .
وكذلك الأحزاب لما أجلاهم عن المدينة بما أرسل عليهم من الريح والجنود الإلهية ، ولولا أن جعل الله رسوله رحمة للعالمين، لكانت هذه الريح عليهم أشد من الريح العقيم على عاد، ولكن قال تعالى: { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } . (لأنفال:33) .(/2)
ولقد أرسل الله رسوله رحمة للناس كافة ؛ ليأخذ بأيديهم إلى الهدى ، وما يهتدي إلا أولئك المتهيئون المستعدون وإن كانت الرحمة تتحقق للمؤمنين ولغير المؤمنين ، ولقد كانت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم رحمة لقومه ورحمة للبشرية كلها من بعده، والمبادئ التي جاء بها كانت غريبة في أول الأمر على ضمير البشرية ، لبعد ما كان بينهما وبين واقع الحياة الواقعية والروحية من مسافة ، ولكن البشرية أخذت من يومها تقرب شيئاً فشيئاً من آفاق هذه المبادئ .
فـ الرسالة المحمدية كانت رحمة للبشرية ، وما تزال ظلال هذه الرحمة وارفة لمن يريد أن يستظل بها، ويستروح فيها نسائم السماء الرخيمة في هجير الأرض المحرق وبخاصة هذه الأيام .
وإن البشرية اليوم لفي أشد الحاجة إلى حسن هذه الرحمة ونداها وهي حائرة شاردة في متاهات المادية وجحيم الحروب وجفاف الأرواح والقلوب ، ثم يظهر عنصر الرحمة الأصيل في تلك الرسالة ، عنصر التوحيد الذي ينقذ البشرية من أوهام الجاهلية ومن أثقال الوثنية ومن ضغط الوهم والخرافة والذي يقيم الحياة على قاعدتها الركينة ؛ فيربطها بالوجود كله وفق نواميس واضحة وسنن ثابتة ، تكفل لكل إنسان أن يقف مرفوع الرأس فلا تنحني الرؤوس إلا لله الواحد القهار .(/3)
وما بعث الله محمداً إلا لإنقاذ البشرية من شقاء الجاهلية ، فهو في سلمه وحربه رحمة للإنسانية ولهذا لم يقل سبحانه رحمة للمؤمنين وإنما قال للعالمين فالله تعالى جعله الرحمة المهداة رحم به الإنسانية جمعاء ؛ لأنه جاءهم بالخلاص من الشقاوة العظمى ، ونالوا على يديه الخيرات الكثيرة الدينية والدنيوية ، فعلَّمهم بعد الجهالة ، وهداهم بعد الضلالة وأنقذهم من براثن الشرك والوثنية ، فكان رحمة للعالمين ؛ حتى الكفار رُحموا به ، حيث أخرَّ الله عقوبتهم فلم يستأصلهم بالعذاب كالخسف والمسخ والغرق كما حدث للأمم السابقة إكراماً لرسوله عليه الصلاة والسلام : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ }، وحين حمل رسول الله السلاح ؛ إنما كان الغرض منه إنقاذ البشرية من الشقاء بقوة الحديد والنار كالطبيب الذي يستعمل المبضع لينقذ المريض من خطر داهم محقق .
حثه صلى الله عليه وسلم على الرحمة
عن عبد الله بن عَمرو بن العاص يَبْلُغُ به النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « الرّاحِمونَ يَرْحَمُهُمْ الرّحمن، ارْحَمُوا أَهْلَ الأرْضِ يَرْحَمْكُمْ أَهْلُ السّماءِ ، والرَّحِمُ شُجْنَةٌ مِنَ الرَّحْمن ، مَنْ وَصَلَها وَصَلَتْهُ، وَمَنْ قَطعها بَتَّتْه » . رواه الإمام أحمد والترمذي قال أبو عِيسَى : هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ .
وعن أبي موسى رضي الله عنه : أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( لن تؤمنوا حتى تراحموا ) قالوا : يارسول الله كلنا رحيم قال : (( إنه ليس برحمة أحدكم صاحبه ولكن رحمة العامة )) . رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح ..
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( أفضل المؤمنين رجل سمح البيع ، سمح الشراء ، سمح القضاء ، سمح الاقتضاء )) . رواه الطبراني في الأوسط ورجاله ثقات .(/4)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( غفر الله لرجل كان قبلكم ، كان سهلاً إذا باع ، سهلاً إذا اشترى ، سهلاً إذا اقتضى )) . رواه الترمذي وقال حديث حسن غريب والبخاري في البيوع .
رحمة الحبيب صلى الله عليه وسلم بأمَّته
ولقد اشتهر أن النبي عليه الصلاة والسلام لما كسرت رباعيته قال: «اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون»، فظهر أنه يوم القيامة يقول: «أمتي، أمتي» ، فهذا كرم عظيم منه في الدنيا وفي الآخرة، وإنما حصل فيه هذا الكرم وهذا الإحسان لكونه رحمة ، فإذا كان أثر الرحمة الواحدة بلغ هذا المبلغ ؛ فكيف كرم من هو رحمن رحيم؟.
و قد ورد في بعض كتب التفسير عند قوله تعالى :{وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّك فَتَرْضَى} [الضحى: 5] ، أنه لمَّا نزلت عليه هذه الآية قال: "اللهم لا أرضى يوم القيامة و واحد من أمَّتي في النار".
وعن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم : « إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ أُمَّتِي كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَاراً. فَجَعَلَتِ الدَّوَابُّ وَالْفَرَاشُ يَقَعْنَ فِيهِ. فَأَنَا آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ وَأَنْتُمْ تَقَحَّمُونَ فِيهِ » رواه مسلم وقال أبو عيسَى : هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ وقد روي من غير وجهٍ .
محبته لأمته أن لا يهلكهم الله ولو آذوه :(/5)
عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم - أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم : (( هل أتى عليك يوم كان أشدَّ من يوم أحُدٍ ؟ قال: لقد لَقِيتُ من قومك ما لقيت، وكان أشدَّ ما لقيتُ منهم يومَ العقبةِ إِذ عرَضتُ نفسي على ابنِ عبد يا ليل بن عبد كُلال فلم يُجِبني إلى ما أردتْ فانطلقتُ وأنا مَهمومٌ على وَجهِي، فلم أستَفق إلا وأنا بقرنِ الثَّعالب، فَرَفَعتُ رأسي، فإذا أنا بَسحابةٍ قد أظلَّتْني، فنظرتُ فإذا فيها جِبريل، فناداني فقال: إِن الله قد سمعَ قولَ قومكَ لك وما رَدوا عليك، وقد بعث اللهُ إِليكَ مَلَكَ الجبالِ لتأمرَهُ بما شِئتَ فيهم، فناداني ملكُ الجبال فسلم عليّ ثم قال: يا محمد، فقال: ذلكَ فيما شئتَ، إن شِئتَ أن أطبِقَ عليهم الأخْشَبَينِ. فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يُخرجَ الله من أصلابهم من يَعبُدُ اللهَ وحدَهُ لا يُشركُ بهِ شيئاً )) رواه مسلم .
دعاء رسول الله للميت :
عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ سَمِعَهُ يَقُولُ: سَمِعْتُ عَوْفَ بْنَ مَالِكٍ الأشجعي رضي الله عنه ، يَقُولُ: صَلَّى رَسُولُ اللّهِ عَلَى جِنَازَةٍ. فَحَفِظْتُ مِنْ دُعَائِهِ وَهُوَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ وَعَافِهِ. وَاعْفُ عَنْهُ. وَأَكْرِمْ نُزُلَهُ. وَوَسِّعْ مُدْخَلَهُ. وَاغْسِلْهُ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ، وَنَقِّهِ مِنَ الْخَطَايَا كَمَا نَقَّيْتَ الثَّوْبَ الأَبْيَضَ مِنَ الدَّنَسِ. وَأَبْدِلْهُ دَاراً خَيْراً مِنْ دَارِهِ. وَأَهْلاً خَيْراً مِنْ أَهْلِهِ وَزَوْجَاً خَيْراً مِنْ زَوْجِهِ. وَأَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ وَأَعِذْهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ (أَوْ مِنْ عَذَابِ النَّارِ)». قَالَ: حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنْ أَكُونَ أَنَا ذلِكَ الْمَيِّتَ . رواه مسلم (7/27) .(/6)
وفيه أن الاستغفار في حق الصغير لرفع الدرجات، وقيل المراد بالصغير والكبير الشاب والشيخ. وقد يكون سؤال من الله أن يغفر له ما كتب في اللوح المحفوظ أن يفعله بعد البلوغ من الذنوب حتى إذا كان فعله كان مغفوراً وإلا فالصغير غير مكلف لا حاجة له إلى الاستغفار .
الأمَّة المرحومة
إنَّ هذه الأمة .. الأمة المحمدية هي أمة مرحومة ؛ لأنها لا تجتمع على ضلالة ولا محرم ، واختلاف علمائها رحمة ، وكان اختلاف من قبلهم عذاباً، روى البيهقي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : قال رسول الله «اختلاف أصحابي رحمة» .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : أن قريش قالت للنبي صلى الله عليه وسلم : ادع لنا ربك أن يجعل لنا الصفا ذهباً ونؤمن بك قال : وتفعلون ؟ قالوا : نعم ، قال : فدعا فأتاه جبريل فقال : " إن ربك عز وجل يقرأ عليك السلام ويقول : إن شئت أصبح لهم الصفا ذهباً فمن كفر بعد ذلك منهم عذبته عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين وإن شئت حسنة لهم باب التوبة والرحمة قال : " بل باب التوبة والرحمة " . رواه أحمد (1/345) واللفظ له ، وقال : رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح .
أشد الناس عذاباً :
عن خالد بن حكيم بن حزام قال: « تناول أبو عبيدة رجلاً بشيء فنهاه خالد بن الوليد، فقال: أغضبت الأمير، فأتاه فقال: إني لم أرد أغضبك، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « إن أشدّ الناس عذاباً يوم القيامة أشد الناس عذاباً للناس في الدنيا» رواه الإمام أحمد .
وعن عائشةَ رضيَ اللَّه عنها قالت : سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في بيتي هذا: (( اللهمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شيئاً فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فاشْقُقْ عَلَيْهِ، وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمّتِي شَيْئاً فَرَفِقَ بهم فأَرْفُقْ بِهِ )) . رواه مسلم وابن حبان .
اختياره للأسهل في جميع الأمور :(/7)
عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : " ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين قط إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثماً فإن كان إثماً كان أبعد الناس منه وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه في شيء قط إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم بها لله " رواه البخاري .
وعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: " أَعْتَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ. حَتَّى ذَهَبَ عَامَّةُ اللَّيْلِ، وَحَتَّى نَامَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى. فَقَالَ: (( إِنَّهُ لَوَقْتُهَا. لَوْلاَ أَن أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي )) رواه مسلم ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( لولا أن أشق على أمتي لأخرت العشاء إلى ثلث الليل )) . رواه ابن حبان .
وعن بكر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( حياتي خير لكم تحدثون ويحدث لكم فإذا أنا مت كانت وفاتي خيراً لكم تعرض علي أعمالكم فإذا رأيت خيراً حمدت الله وإن رأيت شراً استغفرت الله لكم )) . رواه ابن سعد مرسلاً وقال البيهقي رجاله رجل الصحيح .
أدى الأضحية عن أمته :
عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه : « أن رسول الله ذبح كبشاً أقرن بالمصلى، أي بعد أن قال: بسم الله والله أكبر. وقال: اللهم هذا عني وعمن لم يضح من أمتي ».
جسد الأمَّة :
عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( ترى المؤمنون في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى عضواً تداعى له سائر جسَدِه بالسَّهَر والحُمَّى )) . رواه البخاري .
الفرق بين التوادد والتراحم والتعاطف :(/8)
قال ابن أبي جمرة : " الذي يظهر أن التراحم والتوادد والتعاطف وإن كانت متقاربة في المعنى لكن بينهما فرق لطيف ، فأما التراحم فالمراد به أن يرحم بعضهم بعضاً بأخوة الإيمان لا بسبب شئ آخر ، وأما التوادد فالمراد به التواصل الجالب المحبة كالتزاور والتهادي ، وأما التعاطف فالمراد به إعانة بعضهم بعضا كما يعطف الثوب عليه ليقويه " .
رحمة الحبيب صلى الله عليه وسلم بالصحابة
قال تعالى : { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَْمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ } . (آل عمران:159) .
ويمضي السياق القرآني في جولة جديدة .. جولة محورها شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم وحقيقته النبوية الكريمة وقيمة هذه الحقيقة الكبيرة في حياة الأمة المسلمة ؛ ومدى ما يتجلى فيها من رحمة الله بهذه الأمة وحول هذا المحور خيوط أخرى من المنهج الإسلامي في تنظيم حياة الجماعة المسلمة ، فنجد حقيقة الرحمة الإلهية المتمثلة في أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم وطبيعته الخيرة الرحيمة الهينة اللينة ، المعدة لأن تتجمع عليها القلوب وتتألف حولها النفوس .(/9)
يتوجه الخطاب إليه صلى الله عليه وسلم بطيب قلبه وإلى المسلمين بتذكيرهم نعمة الله عليهم به .. فهي رحمة الله نالته ونالتهم ؛ فجعلته صلى الله عليه وسلم رحيماً بهم ، ليناً معهم ولو كان فظاً غليظ القلب ما تألفت حوله القلوب ولا تجمعت حوله المشاعر . فالناس في حاجة إلى كنف رحيم وإلى رعاية فائقة ، وإلى بشاشة سمحة وود يسعهم وحلم لا يضيق بجهلهم وضعفهم ونقصهم .. في حاجة إلى قلب كبير يعطيهم ولا يحتاج منهم إلى عطاء ؛ ويحمل همومهم ولا يعينهم بهمة ويجدون عنده الاهتمام والرعاية والعطف والسماحة والود والرضاء وهكذا كان قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهكذا كانت حياته مع الناس ما غضب لنفسه قط ولا ضاق صدره بضعفهم البشري ، ولا احتجز لنفسه شيئاً من أعراض هذه الحياة ؛ بل أعطاهم كل ما كانت يداه في سماحة ندية ووسعهم حلمه وبره وعطفه ووده الكريم . وما من واحد منهم عاشره أو رآه إلا امتلأ قلبه بحبه ؛ نتيجة لما أفاض عليه صلى الله عليه وسلم من نفسه الكبيرة الرحيمة .
وكأن الله جل جلاله يقول له : فبرحمة الله يا محمد ورأفته بك، وبمن آمن بك من أصحابك، لنت لهم ، حتى احتملت أذى من نالك منهم أذاه، وعفوت عن ذي الجرم منهم جرمه، وأغضبت عن كثير ممن لو جفوت به وأغلظت عليه ، لتركك ففارقك ولم يتبعك ولا ما بعثت به من الرحمة، ولكن الله رحمهم ورحمك معهم .
قال تعالى : { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ } . (التوبة:128) .
اليسر في العبادات :
عن عثمان بن أبي العاص الثقفي رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من أَمَّ قوماً فليخفف فإنَّ منهم الكبير ، وفيهم المريض وإنَّ فيهم الضعيف ، وإن فيهم ذا الحاجة ، وإذا صلى أحدكم وحده فليُصلِّ كيف شاء " . رواه مسلم .(/10)
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فرأى رجلاً قد اجتمع الناس عليه وقد ظُلِّلَ عليه ، فقال : ما له ؟ ، قالوا : رجل صائم . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " ليس من البر أن تصوموا في السفر عليكم برخصة الله التي رخص لكم " . رواه البخاري (1946) .
وقال ابن عمر : " من لم يقبل رخصة الله كان عليه من الإثم مثل جبال عرفة ". وروى الطبري من طريق مجاهد قال : " إذا سافرت فلا تصم ، فإنك إن تصم قال أصحابك : اكفوا الصائم، ارفعوا للصائم، وقاموا بأمرك ، وقالوا فلان صائم، فلا تزال كذلك حتى يذهب أجرك " ..
وأخرج البخاري عن ابن عباس قال بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إذا هو برجل قائم في الشمسِ فسأل عنه فقالوا : هذا أبو إسرائيل نذر أن يقوم ولا يباع لا يستظل ولا يتكلم ويصوم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " مروه فليتكلم وليستظل وليقعد وليتم صومه " .(/11)
عن عَبْدَ اللّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما قَالَ: أُخْبِرَ رَسُولُ اللّهِ أَنَّهُ يَقُولُ: لأَقُومَنَّ اللَّيْلَ وَلأَصُومَنَّ النَّهَارَ مَا عِشْتُ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ : « آنْتَ الَّذِي تَقُولُ ذلِك؟» فَقُلْتُ لَهُ: قَدْ قُلْتُهُ يَا رَسُولَ اللّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ : « فَإِنَّكَ لاَ تَسْتَطِيعُ ذلِكَ. فَصُمْ وَأَفْطِرْ. وَنَمْ وَقُمْ: وَصُمْ مِنَ الشَّهْرِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ. فَإِنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا. وَذَلِكَ مِثْلُ صِيَامِ الدَّهْرِ» قُلْتُ: فَإِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِك. قَالَ: « صُمْ يَوْماً وَأَفْطِرْ يَوْمَيْنِ » قُلْتُ: فَإِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللّهِ قَالَ: « صُمْ يَوْماً وَأَفْطِرْ يَوْماً. وَذَلِكَ صِيَامُ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، وَهُوَ أَعْدَلُ الصِّيَامِ » قُلْتُ: فَإِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذلِكَ. قَالَ رَسُولُ اللّهِ : «لاَ أَفْضَلَ مِنْ ذلِك » قَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَمْرٍو رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا: لأَنْ أَكُونَ قَبِلْتُ الثَّلاَثَةَ الأَيَّامَ الَّتِي قَالَ رَسُولُ اللّهِ ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَهْلِي وَمَالِي » رواه البخاري ومسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إِيَّاكُمْ وَالْوِصَالَ )) قَالُوا: فَإِنَّكَ تُوَاصِلُ يَا رَسُولَ الله قَال:(( إِنَّكُمْ لَسْتُمْ فِي ذَلِكَ مِثْلِي. إِنِّي أَبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِيني فَاكْلَفُوا مِنَ الأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ )) . رواه البخاري ومسلم.(/12)
وذلك رحمة لهم ، فلا يمنع التحريم فإن من رحمته لهم أن حرمه عليهم، وأما مواصلته بهم بعد نهيه فلم يكن تقريراً بل تقريعاً وتنكيلاً، فاحتمل منهم ذلك لأجل مصلحة النهي في أكيد زجرهم، لأنهم إذا باشروا ظهرت لهم حكمة النهي وكان ذلك أدعى إلى قلوبهم لما يترتب عليهم من الملل في العبادة والتقصير فيما هو أهم منه وأرجح من وظائف الصلاة والقراءة وغير ذلك ، والجوع الشديد ينافي ذلك، وقد صرح بأن الوصال يختص به لقوله " لست في ذلك مثلكم " وقوله " لست كهيئتكم " هذا مع ما انضم إلى ذلك من استحباب تعجيل الفطر .
كرهه أن يحمل حقداً على أصحابه :
وروي عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال : " لا يبلغني أحد منكم عن أحد من أصحابي شيئاً فأني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر ". رواه أبو داود والترمذي .
فقد أُخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نسعى في تحصيل مقام سلامة صدورنا من الغل والحسد وغير ذلك ، فإن من كان غير سليم الصدر محروم من الخيرات كلها. فكان صلى الله عليه وسلم أحلم الناس ، وأرغبهم في العفو مع القدرة ، فإنه صلى الله عليه وسلم يتمنى أن يخرج من الدنيا وقلبه راض عن أصحابه من غير سخط على أحد منهم ، وهذا تعليم للأمة أو من مقتضيات البشرية .(/13)
ومن رحمته صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا رأى أحد أصحابه في حالة شدة وبأس يحزن لأجل ذلك حزناً شديداً ويرق قلبه ويبكي متأثراً من ذلك الموقف ، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : اشتكى سعد بن عبادة شكوى له ، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده مع عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم ، فلما دخل عليه فوجده في غاشية أهله فقال : قد قضى ، قالوا : لا يا رسول الله ، فبكى النبي صلى الله عليه وسلم فلما رأى القوم بكاء النبي صلى الله عليه وسلم بكوا فقال : " ألا تسمعون إن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب ولكن يعذب بهذا - وأشار إلى لسانه - أو يرحم وإن الميت يعذب ببكاء أهله عليه " وكان عمر رضي الله عنه يضرب فيه بالعصا ويرمى بالحجارة ويحثى بالتراب " . رواه البخاري ، ومسلم .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : أصابني جهد شديد فلقيت عمر بن الخطاب فاستقرأته آية من كتاب الله فدخل داره وفتحها عليَّ فمشيت غير بعيد فخررت لوجهي من الجهد والجوع ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على رأسي فقال : " يا أبا هريرة " . فقلت : لبيك رسول الله وسعديك ، فأخذ بيدي فأقامني وعرف الذي بي إلى رحله ، فأمر لي بعيس من لبن فشربت منه ثم قال : " عد فاشرب يا أبا هر " فعدت فشربت ، ثم قال : " عد " فعدت فشربت حتى استوى فسار كالقدح ، قال : فلقيت عمر وذكرت له الذي كان من أمري ، وقلت له : تولى ذلك من كان أحق به منك ياعمر ، والله لقد استقرأتك الآية ولأنا أقرأ لها منك . قال عمر : والله لأن أكون أدخلتك أحبُّ من أن يكون لي مثل حمر النعم " رواه البخاري ..(/14)
وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال : احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل، فأشْفَقْتُ إنْ أغْتَسِلَت أن أهْلِكَ فَتَيَمَّمْتُ ثُمَّ صَلَّيْتُ بِأصْحَابِي الصُّبْحَ فَذَكَروا ذَلِكَ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا عمرو صَلَّيْتَ بأصْحَابِكَ وَأنْتَ جُنُبٌ ؟ فأخْبَرْتُهُ بالَّذِي مَنَعَنِي مِنَ الاغْتِسَالِ وَقُلْتُ: إنِّي سَمِعْتُ الله يقولُ : { وَلاَ تَقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ إنَّ الله كَانَ بِكُمْ رَحِيماً } . فَضَحِكَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَقُلْ شَيْئاً » . رواه أبو داود .
إنه لا يجعل أيامهم كلها مواعظ :
قال ابن مسعود رضي الله عنه : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة في الأيام مخافة السآمة علينا " متفق عليه .
المعلم الحنون :
عن مسعود بن الحكم قال : صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم فعطس رجل من القوم فقلت : رحمك الله. فرماني القوم بأَبصارهم وضربوا بأَيديهم على أفخاذهم ، فلما رأيتُهم يُصْمتوني سكتُّ. قال: فدعاني النبي صلى الله عليه وسلم : بأبي وأمي ، ما رأيتُ معلِّماً أحسنَ تعليماً منه . ما ضرَبني ولا سبَّني ، ثم قال: « إنّ هذه الصَّلاةُ لا يَصْلُحُ فِيهَا شَيءٌ مِن كَلاَمِ الآدَمِيِّينَ، إنَّمَا هو التَّسْبِيحُ والتَّحْمِيدُ والتَّكْبِيرُ » .
ماعندك يا ثمامة :(/15)
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : بعث النبي صلى الله عليه وسلم خيلاً قبل نجد ، فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال ، فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " ما عندك يا ثمامة ؟ " فقال : عندي خير يا محمد إن تقتلني تقتل ذا دم ، وإن تُنعِم تُنعِم على شاكر . وإن كنت تُريد المال فسل منه ماشئت . فتُرك حتى كان الغد ، ثم قال له : " ما عندك يا ثمامة ؟ " قال : ما قُلتُ لك إن تُنعِم تُنعِم على شاكر . فتركه حتى كان بعد الغد ، فقال : " ما عندك يا ثمامة ؟ " قال : ما قُلتُ لك . فقال : " أطلقوا ثمامة " . فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل ثم دخل فقال : " أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمداً رسول الله . يا محمد ، والله ما كان على الأرض وجه أبغض إليَّ من وجهك ، فقد أصبح وجهك أحبَّ الوجوه إليَّ . والله ما كان من دين أبغض إليَّ من دينك ، فأصبح دينُك أحبَّ الدِّين إليَّ . والله ما كان من بلد أبغض إليَّ من بلدك ، فأصبح بلدك أحبَّ البلاد إليَّ . وإنَّ خيلك أخذتني وأنا أُريدُ العمرة . فماذا ترى ؟ فبشَّرهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره أن يعتمر فلما قدم مكة . قال له قائل : صبوت . قال : لا ولكن أسلمت مع محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم . ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبَّةُ حنطةٍ حتى يأذن فيها النبيُّ صلى الله عليه وسلم )) . رواه البخاري .
وصيته بالأنصار :
عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان في حجري جارية من الأنصار فزوجتها قالت فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عرسها فلم يسمع غناء ولا لعباً فقال : " يا عائشة هل غنيتم عليها أو لا تغنون عليها ثم قال إن هذا الحي من الأنصار يحبون الغناء " . رواه الإمام أحمد
الرحمة بالكبار والصغار :(/16)
عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قالَ : قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم : (( لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَلم يَعْرِفْ شَرَفَ كَبِيرِنا )) . وفي رواية : " ويعرف لعالمنا " رواه الترمذي وقال : حسن صحيح واللفظ له وأحمد .. أي من لا يكون من أهل الرحمة لأطفالنا ومن التوقير ولم يعظم كبيرنا وهو شامل للشاب والشيخ.
عن أَنَسِ بنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قال : قال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم : « مَا أَكْرَمَ شَابٌ شَيْخاً لِسِنِّهِ إِلاَّ قَيَّضَ الله لَهُ مَنْ يُكْرِمُهُ عِنْدَ سِنِّهِ » .
حبه للحسن والحسين وأسامة :
عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذني فيقعدني على فخذه ويقعد الحسن بن علي على فخذه الآخر ، ثم يضُمُّهما ثم يقول : " اللهم ارحمهما فإني أرحمهما " . رواه البخاري .
وروى الشيخان والترمذي عن البراء رضي الله عنه قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم والحسن على عاتقه يقول صلى الله عليه وسلم : (( اللهم إني أحبه فأحبه )).
وعن أنس رضي الله عنه قال : سئل النبي صلى الله عليه وسلم : أي أهل بيتك أحب إليك ؟ قال : " الحسن والحسين " وكان يقول لفاطمة رضي الله عنها : " أدعي أبني فيشمهما ويضمهما إليه " رواه الترمذي ؛ قال هذا حديث غريب .
تقبيل الأطفال :
عن عائشةَ رضيَ اللّه عنها قالت : (( جاء أعرابيٌّ إلى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: تقبلونَ الصبيانَ فما نُقبّلهم ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : " أوَ أملك لك أن نَزعَ اللّهُ من قلبِكَ الرحمة ؟! )) . رواه البخاري .(/17)
وعن عائشة رضي الله عنها قالت : قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن والحسين ابني علي وعنده الأقرع بن حابس التميمي فقال الأقرع : إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحداً قط ! فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: ( من لا يَرحَمُ لا يُرحَم) . رواه البخاري .
إبراهيم بن رسول الله :
عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على ابنه إبراهيم رضي الله عنه وهو يجود بنفسه – أي في حالة الاحتضار – فجعلت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم تذرفان فقال له عبد الرحمن بن عوف : وأنت يا رسول الله ! فقال : " يا ابن عوف إنها رحمة " ، ثم اتبعها بأخرى فقال : " العين تدمع ، والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون " . رواه البخاري .
وعن أنس رضي الله عنه قال : ما رأيت أحداً كان أرحم بالعيال من رسول الله صلى الله عليه وسلم . رواه مسلم في صحيحه .
بكائه على الصبي المحتضر :
عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال : " أرسلت ابنة النبي صلى الله عليه وسلم إليه: إنَّ ابناً لي قُبض ، فأتنا. فأرسل يُقرئ السلام ويقول :" إن لله ما أخذ وله ما أعطى ، وكل عنده بأجل مسمى . فلتصبر ولتحتسب " فأرسلت إليه تقسم عليه ليأتيها . فقام ومعه سعد بن عبادة ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وزيد بن ثابت ورجال ، فرفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبي ونفسه تتقعقع قال حسبته أنَّه قال : كأنها شَنَّ ففاضت عيناه . فقال سعد : يا رسول الله ما هذا ؟ فقال : (( هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده ، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء )) .
يحمل أمامة ويصلي بها :
عن أبي قتادةَ رضي الله عنه قال : ( خرجَ علينا النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأُمامَة بنتُ أبي العاص على عاتِقه فصلى ، فإذا ركعَ وضعها، وإذا رفعَ رفعَها) . رواه البخاري .(/18)
ومن شفقته صلى الله عليه وسلم ورحمته لأمامة أنه كان إذا ركع أو سجد يخشى عليها أن تسقط فيضعها بالأرض وكأنها كانت لتعلقها به لا تصير في الأرض فتجزع من مفارقته ، فيحتاج أن يحملها إذا قام ، واستنبط منه بعضهم عظم قدر رحمة الولد لأنه تعارض حينئذ المحافظة على المبالغة في الخشوع والمحافظة على مراعاة خاطر الولد فقدم الثاني، ويحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم إنما فعل ذلك لبيان الجواز .
حق اليتيم :
عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" خير بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يحسن إليه وشر بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يساء إليه " . رواه ابن ماجة .
عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من عال ثلاثة من الأيتام كان كمن قام ليله وصام نهاره وغدا وراح شاهراً سيفه في سبيل الله وكنت أنا وهو في الجنة أخوين كهاتين أختان " وألصق إصبعيه السبابة والوسطى . رواه ابن ماجة .
المسح على رأس اليتيم :
عن أبي هريرة رضي الله عنه « أن رجلاً شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قسوة قلبه فقال له : « إن أردت تلين قلبك، فأطعم المسكين، وامسح رأس اليتيم » الحاكم في المستدرك .
وعن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « من مسح رأس يتيم أو يتيمة لم يمسحه إلا لله ، كان له بكل شعرة مرت عليها يده حسنات ، ومن أحسن إلى يتيمة أو يتيم عنده ، كنت أنا وهو في الجنة كهاتين ، وقرن بين أصبعيه » . رواه أحمد وقال حديث غريب .
العمير والنغير :(/19)
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللّهِ أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقاً. وَكَانَ لِي أَخٌ يُقَالُ لَهُ أَبُو عُمَيْرٍ. قَالَ: أَحْسِبُهُ قَالَ: كَانَ فَطِيماً. قَالَ: فَكَانَ إِذَا جَاءَ رَسُولُ اللّهِ فَرَآهُ قَالَ: «أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ؟» قَالَ: فَكَانَ يَلْعَبُ بِهِ )) وفي يوم من الأيام رأى النبي صلى الله عليه وسلم عميراً يبكي فقال : " ما يبكيك يا عمير ؟ " فقال : يارسول الله لقد مات النغير . فجلس النبي صلى الله عليه وسلم ساعة يلاعبه ، فمر الصحابة فوجدوا النبي يلاعب عميراً ، فنظر إليهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال : " مات النغير فأردت أن ألاعب العمير" . رواه البخاري .
لعب البنات :
عن عائشة رضي الله عنها قالت : " دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي جاريتان تغنيان بغناء بعاث فاضطجع على بالحق وحول وجهه ودخل أبو بكر فانتهرني وقال : مزمارة الشيطان عند النبي صلى الله عليه وسلم " ، فأقبل عليه رسول الله عليه السلام فقال : " دعهما " ، فلما غفل غمزتهما فخرجتا وكان يوم عيد يلعب السودان بالدرق والحراب فإما سألت النبي صلى الله عليه وسلم وإما قال : " تشتهين تنظرين ؟ فقلت : نعم ، فأقامني وراءه خدي على خده وهو يقول: " دونكم يا بني أرفدة حتى إذا مللت قال : " حسبك " قلت : " نعم "، قال : " فاذهبي " . رواه البخاري .
فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤوفاً رحيماً ، حسن الخلق والمعاشرة بالمعروف مع الأهل والأزواج وغيرهم .
رفقه بخادمه الصغير :(/20)
قَالَ أَنَسٌ رضي الله عنه : كَانَ رَسُولُ اللّهِ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ خُلُقاً. فَأَرْسَلَنِي يَوْماً لِحَاجَةٍ فَقُلْتُ : وَاللّهِ لاَ أَذْهَبُ. وَفِي نَفْسِي أَنْ أَذْهَبَ لِمَا أَمَرَنِي بِهِ نَبِيُّ اللّهِ . فَخَرَجْتُ حَتَّى أَمُرَّ عَلَى صِبْيَانٍ وَهُمْ يَلْعَبُونَ فِي السُّوقِ. فَإِذَا رَسُولُ اللّهِ قَدْ قَبَضَ بِقَفَايَ مِنْ وَرَائِي. قَالَ: فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ وَهُوَ يَضْحَكُ. فَقَالَ: « يَا أُنَيْسُ أَذَهَبْتَ حَيْثُ أَمَرْتُكَ ؟ » قُلْتُ: نَعَمْ. أَنَا أَذْهَبُ ، يَا رَسُولَ اللّهِ " . رواه مسلم .
حبه صلى الله عليه وسلم للنساء :
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( حُبِّبَ إليَّ : النساء والطيبُ ، وجُعل قرة عيني في الصلاة )) . رواه النسائي وأحمد واللفظ لهما حديث حسن .
وعن أنس رضي الله عنه قال : رأى النبي صلى الله عليه وسلم النساء والصبيان مُقبلين قال : حسبت أنَّهُ قال : من عُرسٍ ، فقام النبي صلى الله عليه وسلم مُمثِلاً فقال : (( اللهم أنتُم مِن أَحبِّ النَّاس إِليَّ )) . قالها ثلاث مرات " رواه البخاري ، ولولا هذا الحب منه صلى الله عليه وسلم لما أكثر من توصيته بهم ولما رفع من قدرها بعد أن كانت ضعيفة وليس لها حق في الجاهلية ، فكان هذا مناسباًَ أن تجد المرأة مكاناً عظيماً في قلب الحبيب صلى الله عليه وسلم وياله من شرف كبير تميزن به .
حق الأم والأرملة والمسكين :
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : " جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي ؟ قال : أمك ، قال : ثم من ؟ قال : أمك ، قال : ثم من ؟ قال : أمك ، قال : ثم من ؟ قال : أبوك " رواه البخاري ..(/21)
وأخرج أبو يعلى ما رواه أبو هريرة رفعه : (( أنا أول من يفتح باب الجنة ، فإذا امرأة تبادرني فأقول : من أنت ؟ فتقول : أنا امرأة تأيمت على أيتام لي )) .
وكان لا يأنف أن يمشي مع الأرملة والمسكين فيقضي لهما الحاجة وقال عنهم في حديث أبي هريرة قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله ، أو القائم الليل ، الصائم النهار )) . رواه البخاري .
والساعي هو الذي يذهب ويجيء في تحصيل ما ينفع الأرملة والمسكين من معونة ونفقة ، والأرملة بالراء المهملة التي لا زوج لها سواء كانت تزوجت أم لا، وقيل هي التي فارقت زوجها، قال ابن قتيبة: سميت أرملة لما يحصل لها من الإرمال وهو الفقر وذهاب الزاد بفقد الزوج ، يقال أرمل الرجل إذا فني زاده ، والمسكين هو من لا شيء له، وقيل من له بعض الشيء .
بكاء الطفل سبب في تخفيف الصلاة :
عن أبي قتادةَ رضي الله عنه أنه قال: قال النبيِّ صلى الله عليه وسلم : ( إني لأقومُ في الصلاةِ أُريدُ أن أطوِّلَ فيها، فأَسمعُ بكاءَ الصبيِّ فأَتجوَّزُ في صلاتي كراهِيةَ أن أشُقَّ على أُمِّهِ ) . رواه البخاري .
حق الجار والنساء :(/22)
عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره، واستوصوا بالنساء خيرا فإنهن خلقن من ضلع وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه فإن ذهبت تقيمه كسرته وإن تركته لم يزل أعوج فاستوصوا بالنساء خيرا )) . رواه البخاري ، فجعل هنا من أساس الإيمان بالله واليوم الآخر وسبباً رئيسياً له أن لا تؤذي جارك بأي شئ كان سواء بالقول والسب والشتم ، أو بالفعل بوضع الأذى أمام بيته أو بتسليط أبناءك يؤذون أبناءه أو بإزعاجه في نومه أو غير ذلك ، وتحسن إليه إلى أبعد الحدود وتترفق به .. والجار هنا ليس فقط الذي يفصل بينك وبينه جدار واحد إنما قال العلماء فيه أنه قد يصل إلى أربعين بيتاً من كل جهة ، وإذا كان هذا الجار قريباً لك فإن له حقان : حق الرحم وحق الجار وقال في رسول الله : " مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه " ، وحتى وإن كان يهودياً فلا يسقط عنه حق الجار فإنه قد كان لرسول الله جاراً يهودياً وكان هذا الجار يؤذيه كثيراً وفي يوم من الأيام استفقد أذاه فلم يجده فلما ذهب إليه وجده مريضاً وعاده .. وكان هذا سبباً في إسلام الجار اليهودي .
من وصاياه للسرايا التي يبعثها للقبائل المشركة :
عن أنَسُ بنُ مَالِكٍ رضي الله عنه أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: « انْطَلِقُوا باسْمِ الله وَبالله وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ الله ، وَلا تَقْتُلُوا شَيْخاً فَانِياً وَلاَ طِفْلاً وَلا صَغيراً وَلا امْرَأةً ، وَلا تَغُلُّوا وَضُمُّوا غَنَائِمَكُم وَأصْلِحُوا وَأحْسِنُوا إنَّ الله يُحِبُّ المُحْسِنِينَ » . رواه أبو داود .
رفقاً بالقوارير :
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسيرٍ له ، فحدا الحادِي فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم : (( ارْفقْ يا أَنجَشهُ ، ويحك بِالقَوَارِير)) . رواه البخاري .
بساطته وسماحته بالنساء :(/23)
عن سعدَ بنَ أبي وقاص قال : « استأذنَ عمرُ على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وعندَهُ نساءٌ من قُريشٍ يُكلِّمنَهُ ويَستكثرنَهُ عاليةً أصواتهنَّ ، فلما استأذنَ عمرُ قمنَ يبتَدرْنَ الحجابَ، فأذنَ له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ورسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يضحكُ ، فقال عمرُ: أضحَكَ اللهُ سِنَّكَ يارسولَ الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " عَجِبتُ من هؤُلاء اللاتي كنَّ عِندي ، فلما سمِعنَ صوتكَ ابتدَرنَ الحجابَ ". قال عمرُ: فأنتَ يا رسولَ اللهِ كنتَ أحقَّ أن يَهبْنَ ، ثم قال : أي عدوّاتِ أنفُسِهنَّ، أتهبننَي ولا تَهبنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قلنَ: نعم، أنت أفظُّ وأغلظُ من رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : « والذي نفسي بيدهِ، ما لِقَيكَ الشيطانُ قطُّ سالكاً فجّاً إِلاّ سَلكَ فجّاً غيرَ فجك » . رواه البخاري .
لم يضرب أحداً قط :
عن عائشة رضي الله عنها قالت : (( ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا بيده قط ، ولا امرأة ، ولا خادماً إلا أن يجاهد في سبيل الله ، وما نيل من شئ قط ، فينتقم من صاحبه إلا أن ينتهك شيئا من محارم الله ، فينتقم لله )) . رواه ابن حبان في صحيحه .
ينصح أهل بيته بالرفق :
عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها : (( يا عائشة أرفقي فإن الله إذا أراد بأهل بيت خيراً دلهم على باب الرفق )) وفي رواية :" إذا أراد الله بأهل بيت خيراً أدخل عليهم الرفق " . رواه أحمد والمنذري وقال رواتهما رواة الصحيح .
عن عائشة رضي الله عنها قالت : جاءتني امرأة معها ابنتان تسألني ، فلم تجد عندي غير تمرة واحدة، فأعطيتها فقسمتها بين ابنتيها ثم قامت فخرجت ، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم فحدثته، فقال : (( من يلي من هذه البنات شيئاً فأحسن إليهن كن له ستراً من النار )) . رواه البخاري .
رحمة الأم بولدها :(/24)
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: « قَدِمَ على النبيّ صلى الله عليه وسلم سَبيٌ، فإذا امرأةٌ من السبي تحلب ثَديَها تَسقي ، إذا وَجدَت صَبيّاً في السبي أَخَذَته فألصَقَتْه ببَطنها وأرضَعَتْه. فقال لنا النبيُّ صلى الله عليه وسلم: أتُرَونَ هذهِ طارحةً وَلدَها في النار؟ قلنا: لا، وهي تَقدِر على أن لا تَطرَحهُ. فقال: اللّهُ أرحمُ بعبادِه من هذهِ بولَدِها» . رواه البخاري .
وصيته بالبنات :
عن محمد بن المنكدر قال: حدثني جابر يعني ابن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كُنَّ لَهُ ثَلاَثُ بَنَاتٍ يَؤْويِهُنَّ، وَيَرْحَمْهُنَّ، وَيُكَفُلهُنَّ، وَجِبَتْ لَهُ الجَنَّةُ البَتّة» قال: قيل: يا رسول الله فإن كانت اثنتين؟ قال: « وَإنْ كَانَتْ اثْنَتَيْنِ» قال: فرأى بعض القوم أن لو قالوا له: واحدة لقال: «وَاحِدَة» . رواه أحمد .
فضل تربية البنات :
عن ابن عباس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( من آوى يتيماً إلى طعامه وشرابه أوجب الله الجنة البتة ، إلا أن يعمل ذنباً لا يغفر. ومن عال ثلاث بنات أو مثلهن من الأخوات فأدبهن ورحمهن حتى يغنيهن الله أوجب الله له الجنة )) فقال رجل : يارسول الله واثنتين ؟ قال : واثنتين - حتى لو قالوا أو واحدة لقال واحدة - ، ومن أذهب الله بكريمتيه وجبت له الجنة " قيل : يارسول الله ! وماكريمتاه ؟ قال : عيناه . رواه في شرح السنَّة وإسناده حسن .
رحمة الحبيب صلى الله عليه وسلم بالخدم والعبيد
لا تعيير غلامك :(/25)
عنِ المَعْرورِ قال: لَقِيتُ أبا ذَرٍّ بالرَّبَذةِ وعليهِ حُلَّة، وعلى غُلامِه حُلَّة، فسألتُه عنْ ذلكَ فقال: إِنِّي سابَبْتُ رَجُلاً فعَيَّرتُه بأمِّه، فقال لي النبيُّ صلى الله عليه وسلم: « يا أبا ذَرّ، أعَيَّرتَهُ بأمِّهِ؟ إِنَّكَ امرُؤٌ فيكَ جاهِليَّة. إخْوانُكمْ خَوَلُكمْ، جَعَلَهمُ اللّهُ تحتَ أيدِيكُمْ. فَمَنْ كانَ أخوهُ تحتَ يدِه فلْيُطْعِمْهُ ممّا يأكُلُ، وَلْيُلْبِسْهُ ممَّا يَلْبَسُ، ولا تُكلِّفوهمُ ما يَغْلِبُهم، فإنْ كلَّفتموهُم فأعِينوهُم » . رواه البخاري .
أحرج الحقوق :
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اللهم إني أحرج حق الضعيفين اليتيم والمرأة " . رواه ابن ماجة .
حقوق المملوك :
روى ابن حبان في صحيحه مرفوعاً : (( للملوك طعامه وشرابه وكسوته ولا يكلف إلا ما يطيق ، فإن كلفتموهم فأعينوهم ولا تعذبوا عباد الله خلقاً أمثالكم )) .
وعن عمرو بن حريث أن النبي صلى الله عليه وسلم : (( ما خففت عن خادمك من عمله كان لك أجراً في موازينك )) . رواه ابن حبان .
وعن عبد الرحمن بن يزيد عن أبيه رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع : « أرقاءَكُمْ أَرقاءَكُمْ أَرقَاءَكُمْ أَطْعِمُوهُمْ مِمّا تَأْكُلُون وَاكْسُوهُمْ مِمّا تَلْبَسُونَ فَإنْ جَاؤوا بَذَنْبٍ لا تُرِيدُونَ أَنْ تَغْفِرُوهُ فَبِيعُوهُ عِبَادَ الله وَلا تُعَذِّبُوهُمْ » . رواه أحمد وأبو داود .
تفقده لخدم المسجد النبوي :(/26)
لقد كان رسول الله رغم انشغاله في أمور الدعوة والجهاد وأمور الدولة الإسلامية إلا أنه لم ينسى حتى الخادمة أو الخادم الذي كان يخدم المسجد النبوي وينظفه ؛ فإنه افتقده يوماً وهنا يروي لنا أبو هريرة - رضي الله عنه - القصة بتفاصيلها وهي أن أسود رجلاً أو امرأة كان يقم المسجد فمات ولم يعلم النبي صلى الله عليه وسلم بموته فذكره ذات يوم فقال : ما فعل ذلك الإنسان ؟ قالوا مات يا رسول الله ، قال : أفلا آذنتموني ؟ فقالوا : إنه كان كذا وكذا قصته ، قال : فحقروا شأنه ، قال : فدلوني على قبره فأتى قبره فصلى عليه " . رواه البخاري .
إطعام الخادم أمر ضروري :
وقد كان كثيراً ما يوصي المسلمين بخدمهم الذين يخدمونهم ، ويوصيهم أن يطعموهم معهم ، فإن لم يفعلوا ذلك فيناولونهم بعض الطعام لئلا تنكسر أنفسهم ، وخوفاً على مشاعرهم وهذا ما نحتاج إليه في أيامنا هذه ؛ فإنه إن كان من الواجب أن تطعمه معك فإنه من باب أولى أن لا تضربه ولا تهينه ولا تسبه كما يفعل الكثير في وقتنا الحاضر ، فإنها نفسٌ مؤمنة وربما تكون أفضل عند الله من رب الأسرة وهاهو سيدنا أبو هريرة رضي الله عنه يخبرنا حديث النبي صلى الله عليه وسلم فيقول : " إذا أتى أحدكم خادمه بطعامه فإن لم يجلسه معه فليناوله لقمة أو لقمتين أو أكلة أو أكلتين فإنه ولي علاجه " رواه البخاري في كتاب العتق ومسلم .
لا تضرب الخادم :
عن معاوية بن سويد قال : كنا بني مقرن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس لنا إلا خادم واحدة فلطمها أحدنا فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ( أعتقوها ) قالوا : ليس لهم خادم غيرها قال : " فليستخدموها فإذا استغنوا عنها فليخلوا سبيلها " . رواه مسلم .
ويشدد أيضاً من ضرب الخادم ولا يجد كفارة له إلا العتق روى مسلم وأبو داود وغيرهما مرفوعاً : (( من لطم مملوكاً له أو ضربه فكفارته أن يعتقه )) .(/27)
وهاهو خادمه أنس رضي الله عنه يحدثنا كيف كان تعامله صلى الله عليه وسلم معه فيقول : " خدمتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عشرَ سنين ، فما سبَّني سبَّةً قط ، ولا ضربني ضربةً، ولا انتهرني، ولا عبَس في وجهي، ولا أمرني بأمر فتوانيتُ فيه فعاتبني عليه، فإن عاتبني أحدٌ من أهله قال : « دَعُوه ، فَلَوْ قُدِّرَ شَيءٌ كَانَ » .
التنبيه لطريقة الضرب إن استلزم الأمر :
وروى أبو يعلي والطبراني: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا وصيفة له وهي تلعب فلم تجبه وقالت : لم أسمعك يا رسول الله ، فقال : " لولا خشية القود لأوجعتك بهذا السواك " .
اعفُ عن خادمك :
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ! كم نعفو عن الخادم ؟ فصمت ! ، ثم أعاد عليه الكلام ، فصمت ! فلما كان في الثالثة ، قال : " اعفوا عنه في كل يوم سبعين مرة " . رواه أبو داود وإسناده حسن .
رحمة الحبيب صلى الله عليه وسلم بالأعراب
بخل الأعرابي في دعائه :
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : (( قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة وقمنا معه ، فقال أعرابي وهو في الصلاة : اللهم ارحمني ومحمداً ، ولا ترحم معنا أحداً فلما سلم النبي صلى الله عليه وسلم قال للأعرابيّ : لقد حجرت واسعاً . يريد رحمة الله )) . رواه البخاري .
قال ابن بطال : أنكر صلى الله عليه وسلم على الأعرابي لكونه بخل برحمة الله على خلقه، وقد أثنى الله تعالى على من فعل خلاف ذلك حيث قال : { وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِْيمَانِ } (الحشر: من الآية10) .
الأعرابي اللين بعد أن كان فظاً :(/28)
وروي أن أعرابياً جاءه يطلب منه شيئاً فأعطاه ثم قال : أحسنت إليك ؟ قال الأعرابي : لا ولا أجملت ، فغضب المسلمون وقاموا إليه ، فأشار إليهم أن كفوا ثم قام ودخل منزله وأرسل صلى الله عليه وسلم إليه شيئاً ثم قال : أحسنت إليك ؟ قال : " نعم ، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيراً " ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : (( إنك قلت ما قلت وفي نفس أصحابي من ذلك شئ فإن أحببت فقل بين أيديهم ما قلت بين يدي حتى يذهب ما في صدورهم عليك )) ، قال : نعم . فلما كان الغد أو العشي جاء فقال صلى الله عليه وسلم : (( إن هذا الأعرابي قال ما قال فزدناه فزعم أنه رضي أكذلك ؟ )) قال: " نعم فجزاك الله من أهل وعشيرة خيراً " ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( مثلي ومثل هذا مثل رجل له ناقة شردت عليه فاتبعها الناس فلم يزيدوها إلا نفوراً فناداهم صاحبها خلُّوا بيني وبين ناقتي فإني أرفق بها منكم وأعلم فتوجه لها بين يديها فأخذ لها من قمام الأرض فردّها حتى جاءت واستناخت وشدّ عليها رحلها واستوى عليها وأني لو تركتكم حيث قال الرجل ما قال فقتلتموه دخل النار )) . رواه أحمد .
ومن يتأمّل هذا الحديثَ العظيم ، يجد كمال حُسن عِشرته، وسياسته مع خلقِ الله، وشَفقته عليهم، ورحمتِه بهم، ومعاشرتِه معهم ، وكمالِ الحرصِ والجِدّ على نفعهم ، وتمامِ مُلاطفته للجاهلينَ لِحَمْلهِ لأذَاهُم ، وتحمّله عنهم ، ولا غرابة في أحوالهِ وصفاتِه لأنّه شَكُورُ لِرَبّه والشّكُور لله يكونُ في غايةِ الرِّفْعةِ والكمالِ في جميع الأفعال، وسائر الخِصال .
أعرابي آخر فظ :(/29)
عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال : كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه برد نجراني غليظ الحاشية ، فأدركه أعرابي فجبذه جبذة حتى رأيت صفح أو صفحة عنق سول الله صلى الله عليه وسلم قد أثرت بها حاشية البرد من شدة جبذته ، فقال : يا محمد أعطني من مال الله الذي عندك ، فالتفت إليه فضحك ، ثم أمر له بعطاء » .
قمة العدل هو عدل رسول الله :
حتى أُتي بقلائد من ذهب وفضة فقسمها بين أصحابه فقام رجل من أهل البادية فقال: يا محمد والله لئن أمرك الله أن تعدل فما أراك تعدل، فقال: « وَيْحَكَ فَمَنْ يَعْدِلُ عَلَيْكَ بَعْدِي » فلما ولي قال: «رُدُّوهُ عَلَيَّ رُوَيْداً» ، روى جابر: أنه كان يقبض للناس يوم خيبر من فضة في ثوب بلال فقال له رجل: يا رسول الله اعدل فقال له رسول الله : « وَيْحَكَ فَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَعْدِلْ فَقَدْ خِبْتُ إِذَنْ وَخَسِرْتُ إِنْ كُنْتُ لاَ أَعْدِلُ» ، فقام عمر فقال: ألا أضرب عنقه فإنه منافق فقال: « مَعَاذَ الله أَنْ يَتَحَدَّثَ النَّاسُ أَنِّي أَقْتُلُ أَصْحَابِي » .
بول الأعرابي في المسجد :
عن أبي هُريرةَ رضي الله عنه أنَّ أعرابياً بال في المسجد، فثار إليه الناسُ ليَقَعوا به، فقال لهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: (( دَعوهُ وأهريقوا على بولهِ ذَنوباً من ماء أو سَجْلاً من ماء ـ فإنما بُعِثتم مُيسِّرين ولم تُبعثوا مُعسرين )) .رواه البخاري .(/30)
حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ - وَهُوَ عَمُّ إِسْحقَ - قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ رَسُولِ اللّهِ إِذْ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ، فَقَامَ يَبُولُ فِي الْمَسْجِدِ ، فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللّهِ : مَهْ مَهْ. فقَالَ رَسُولُ اللّهِ : «لاَ تُزْرِمُوهُ. دَعُوهُ» فَتَرَكُوهُ حَتَّى بَالَ. ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللّهِ دَعَاهُ فَقَالَ لَهُ : «إِنَّ هذِهِ الْمَسَاجِدَ لاَ تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ هذَا لِلْبَوْلِ وَالْقَذَرِ. إِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ الله عَزَّ وَجَلَّ وَالصَّلاَةِ، وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ» فَأَمَرَ رَجُلاً مِنَ الْقَوْمِ ، فَجَاءَ بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ، فَشَنَّهُ عَلَيْهِ " . رواه مسلم والبخاري .
صفح عن الأعرابي الذي أراد قتل رسول الله :
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال : « غَزَونا مع رسولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم غزوةَ نجدٍ، فلمّا أدركَتْهُ القائلة وهو في وادٍ كثيرِ العِضاهِ فنزلَ تحت شجرة واستظلَّ بها وعلَّق سيفَه، فتفرَّقَ الناسُ في الشجر يستظِلُّون. وبَينا نحنُ كذلك إذ دَعانا رسولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، فجِئنا، فإِذا أعرابيٌّ قاعدٌ بين يديه فقال: إِنَّ هذا أتاني وأنا نائم، فاخترَطَ سيفي، فاستيقَظْتُ وهو قائمٌ على رأسي مخترطٌ سيفي صلتاً، قال: من يَمنعُكَ مني؟ قلت : الله. فشامَه ثمَّ قعد ، فهو هذا. قال: ولم يُعاقبْهُ رسول اللّهِ صلى الله عليه وسلم » . رواه البخاري .
الجمعية النبوية للرفق بالحيوان(/31)
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (( كُنَّا مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم في سَفَرٍ فَانْطَلَقَ لِحَاجَتِهِ فَرَأيْنَا حُمَّرَةً مَعَهَا فَرْخَانِ فَأخَذْنَا فَرْخَيْهَا، فَجَاءَتْ الْحُمَّرَةُ فَجَعَلَتْ تَفْرُشُ جَاءَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم فقال: مَنْ فَجَّعَ هذِهِ بِوَلَدِهَا ؟ رُدُّوا وَلْدَهَا إلَيْهَا ، وَرَأى قَرْيَةَ نَمْلٍ قَدْ حَرَّقْنَاهَا فقال : مَنْ حَرَّقَ هذِهِ ؟ قُلْنَا: نَحْنُ ، قال: إنَّهُ لاَ يَنْبَغِي أنْ يُعَذِّبَ بالنَّارِ إلاَّ رَبُّ النَّارِ )) . رواه أحمد ، وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح .
وروى البخاري وغيره مرفوعاً : (( دخلت امرأة النار في هرة ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض )) ، وفي رواية له أيضاً : (( عذبت امرأة في هرة سجنتها حتى ماتت ، لا هي أطعمتها وسقتها إذا هي حبستها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض )) والخشاش بالمعجمتين والشينين المعجمتين : هو حشرات الأرض والعصافير ونحوهما.
حُد الشفرة دون أن تراك البهيمة :
فقد أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرفق في ذبح الحيوان والإحسان إليه في ذلك وقال لمن أضجع شاة وهو يحد شفرته : (( أتريد أن تميتها موتتين ؟ هلا حددت شفرتك قبل أن تضجعها ! )) . رواه الطبراني في الكبير والأوسط والحاكم واللفظ له وقال صحيح على شرط البخاري .
عن شداد بن أوس رضي الله عنه أنه قال: (( ثنتان حفظتهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة ، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وليحدّ أحدكم شفرته وليرح ذبيحته )) . رواه مسلم .
وقد حذر صلى الله عليه وسلم من اتخاذ الحيوان وكل ذي روح غرضاً ، أي هدفاً للرمي " رواه الشيخان. عن الضحاك عن بن عباس قال : " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل كل ذي روح إلا أن يُؤذي " .(/32)
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه دخل دَارَ الْحَكَمِ بْنِ أَيُّوبَ فرأى غلماناً نَصَبُوا دَجَاجَةً يَرْمُونَهَا. فَقَالَ أَنَسٌ: " نَهَى رَسُولُ اللّهِ أَنْ تُصْبَرَ الْبَهَائم " . رواه البخاري .
روى الحاكم وغيره : ( أن رجلا قال يا رسول الله إني لأرحم الشاة أن أذبحها فقال له : إن رحمتها رحمك الله) . يعني إذا ذبحتها فاذبحها وأنت راحم لها .
وكان يأمر بالرفق حتى في قتل الحيوانات فلا تجرها من رجلها ولا تعذبها قبل الموت ولكن كن رحيماً حتى وأنت تذبح الحيوان روى عبد الرزاق : (( أن جزارا فتح بابا على شاة ليذبحها فانفلتت منه حتى جاءت النبي صلى الله عليه وسلم فتبعها وأخذ يسحبها برجلها، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: اصبري لأمر الله، وأنت يا جزار فسقها سوقاً رفيقاً )) .
قتل العصافير :
قال صلى الله عليه وسلم : (( من قتل عصفوراً عج إلى الله يوم القيامة يقول : يا رب إن فلاناً قتلني عبثاً ولم يقتلني منفعة )) . رواه ابن حبان .
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: « مَا مِنْ إنْسَانٍ قَتَلَ عُصْفُورا فَمَا فَوْقَهَا بِغَيْرِ حَقِّهَا إلاَّ سَأَلَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهَا» قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا حَقُّهَا ؟ قَالَ: « يَذْبَحُهَا فَيَأْكُلُهَا وَلاَ يَقْطَعُ رَأْسَهَا يَرْمِي بِهَا » . رواه النسائي .
الرفق بالإبل :
عن عائشة رضي الله عنها : " أنها ركبت بعيراً وفيه صعوبة فجعلت تردده فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " عليك بالرفق " . رواه مسلم في صحيحه .(/33)
وعن عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما قال : (( ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم بغلته وأردفني خلفه ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تَبَرّز كان أحب ما تَبَرّز فيه هدف يستتر به أو حائش نخل ، فدخل حائطاً لرجل من الأنصار ، فإذا فيه ناضح له ، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم حن وذرفت عيناه ، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح ذفريه وسراته فسكن ، فقال : من رَبُّ هذا الجمل ؟ فجاء شاب من الأنصار فقال : أنا ، فقال : ألا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملَّكَكَ الله إياها فإنه شكاك إليّ وزعم أنك تجيعه وتدئبه ، ثم ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحائط فقضى حاجته ، ثم توضأ ثم جاء والماء يقطر من لحيته على صدره ، فأسر إليَّ شيئاً لا أحدث به أحداً فحرَّجْنا عليه أن يحدَّثنا ، فقال : لا أفشي على رسول الله صلى الله عليه وسلم سره حتى ألقى الله » . رواه أبو داود والإمام أحمد وقال شاكر: صحيح.
لا تطيلوا الجلوس على الحيوانات :
كان صلى الله عليه وسلم ينهى عن إرهاق الحيوان بإيقافه وإطالة الجلوس عليه من غير ضرورة إلى ذلك وقد دخل على قوم وهم وقوف على دواب لهم ورواحل ، فقال صلى الله عليه وسلم : (( اركبوها سالمة ودعوها سالمة ولا تتخذوها كراسي لأحاديثكم في الطرق والأسواق فرب مركوبة خير من راكبها وأكثر ذكراً لله منه )) . رواه الإمام أحمد .
عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال : (( إيَّاكُم أنْ تَتَّخِذُوا ظُهُورَ دَوَابِّكُمْ مَنَابِرَ فإنَّ الله إنَّمَا سَخَّرَهَا لَكُم لِتُبَلِّغَكُم إلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالغِيهِ إلاَّ بِشَقِّ الأنْفُسِ وَجَعَلَ لَكُم الأرْضَ فَعَلَيْهَا فاقْضُوا حَاجَاتِكُم )) .رواه أبو داود وقال إسناده حسن .
التحريش بين الحيوانات :(/34)
عن ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنه قالَ : « نَهَى رسولُ الله عن التَّحرِيشِ بَيْنَ البَهَائِمِ » رواه أبو داود ، وهو الإغراء وتهييج بعضها على بعض كما يفعل بين الجمال والكباش والديوك وغيرها. ووجه النهي أنه إيلام للحيوانات وإلعاب لها بدون فائدة بل مجرد عبث ، وكما يُفعل في الوقت الحاضر فيما يقال عنه رياضة الثيران وهو التحريش بها وتهييجها حتى لا يمكن السيطرة عليها ومن ثم قتلها ، فأين مايدعونه جمعية الرفق بالحيوان من هذه الرياضة الغير انسانية !.
الكلب العطشان :
عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال : (( بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش فوجد بئراً فنزل فشرب ثم خرج ، فإذا كلبٌ يلهث يأكل الثرى من العطش ، فقال الرجل : لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ بي ، فنزل فملأ خُفه ثُمَّ أمسكه بفيه ، فسقى الكلب فشكر الله له فغفر له )) قالوا : يارسول الله ، وإن لنا في البهائم لأجراً ، فقال : (( في كل ذات كبد رطبة أجراً )) . رواه البخاري ومسلم .
زيد بن سعنة يطالب رسول الله بماله بشدة :(/35)
روي ابن حبان في صحيحه أنه جاء أعرابي يشكو لرسول الله صلى الله عليه وسلم شدة العيش وزيد بن سعنة حبر من أحبار اليهود يسمع فقال زيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أنا أشتري منك كذا وكذا وسقا بكذا وكذا ، وأخرج المال وأعطى ثمانين ديناراً فدفعها إلى الرجل ، واتفقا على موعد معلوم يقضيه في حقه ولكنه جاء قبل الموعد ، يقول زيد : فدنوت من النبي صلى الله عليه وسلم وجذبت برديه جذبة شديدة حتى سقط عن عاتقه ثم أقبلت بوجه غليظ ، فقلت : ألا تقضيني يا محمد ، فوالله إنكم يا بني عبد المطلب لمطل ولقد كان لي بمخالطتكم علم . فغضب عمر وقال : أي عدو الله أتقول هذا لرسول الله ؟ فوالذي بعثه بالحق لولا ما أخاف فوته لسبقني رأسك ، ورسول الله ينظر إلى عمر ويبتسم لقوله ، ثم قال : " لأنا وهو أحوج إلى غير هذا ، أن تأمرني بحسن الأداء ، وتأمره بحسن التقاضي ، اذهب به يا عمر فاقض حقه وزده عشرين صاعاً من تمر مكان ما رعته " ، وبعد أن أعطاه عمر قال زيد : أتعرفني يا عمر ؟ قال : لا ، فمن أنت ؟ قال : أنا زيد بن سعنة ، قال : الحبر ، قلت : الحبر ، قال : فما دعاك إلى أن تفعل برسول الله صلى الله عليه وسلم ما فعلت وتقول له ما قلت ؟ فأجاب بأنه أراد أن يختبر عفوه صلى الله عليه وسلم .
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أنه قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللّهِ ادْعُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ، قَالَ : (( إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّاناً. وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً )) . رواه مسلم .
الأمان لقريش :(/36)
لما اطمأن الناس بعد الفتح قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على باب الكعبة فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده ، ألا كلُّ مأثرة أو دم أو مال يدعى فهو تحت قدمي هاتين إلا سدانة البيت وسقاية الحاج ، يا معشر قريش ، إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء ، الناس من آدم، وآدم من تراب ، ثم تلا هذه الآية : (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ )) ثم قال : يا معشر قريش .. ما تظنون أني فاعل فيكم ؟ قالوا : خير ، أخ كريم وابن أخ كريم ، قال : " اذهبوا فأنتم الطلقاء " .
وما يحصل الآن من تكالب الأعداء على نبينا محمد عليه الصلاة والسلام ، قابلته الأمَّة قاطبة بالحكمة المعهودة ، فوحدت صفوفها على اختلاف مذاهبها ، وجمعت كلمتها في نصرة نبيها ، وذلك دلالة واضحة على خيرية هذه الأمة ، أمة محمد عليه الصلاة والسلام ، فلنكن على الدوام دعاة الخير والهدى ، ولنلتزم هدي النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم ، ولننشر رسالته للناس كافة . والحمد لله رب العالمين .(/37)
العنوان: أخلاق خاتم الأنبياء وإعجازها
رقم المقالة: 145
صاحب المقالة: أمل حميد محمد العوفي
-----------------------------------------
شكر وتقدير
الحمد لله تبارك وتعالى حمداً كما يحب ويرضى ، وأشكره شكراً كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه ، فهو سبحانه ولي كل نعمة ، وبتوفيقه تتم الصالحات ، وأصلي وأسلم على نبيه سيد المرسلين محمد وعلى آله وصحبه والسائرين على سنته إلى يوم الدين .
ثم امتثالاً لتوجيه النبي الكريم عليه أزكى التحية والتسليم كما جاء في الحديث النبوي الشريف " من لا يشكر الناس ، لا يشكر الله "[1]، أرى من الواجب أن أسجل جزيل شكري وفائق تقديري لكل من أولاني معروفاً بتوجيه أو تشجيع خلال إنجازي لهذا البحث ، ولاسيما لأستاذي المشرف على البحث سعادة الدكتور توفيق علوان، الذي كان لتوجيهه ونصائحه الأثر الكبير في تصحيح مسار هذا البحث .
هذا ولا يفوتني في الختام أن أشكر لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية متمثلة في القائمين عليها – لتهيئة الفرص الثمينة للدراسة ، وتوفير التسهيلات التي ساعدتني على إنجاز العمل على الوجه المنشود .
لأولئك جميعاً، ولسائر أهل الفضل علي ، أقدم شكري ودعائي لهم بمزيد من فضل الله تعالى وحسن الختام ، إنه سميع مجيب .
تمهيد :
الحمد لله رب العالمين ، الهادي إلى صراطه المستقيم ، والصلاة والسلام على خاتم النبيين محمد النبي الأمي الأمين ، المبعوث رحمة للعالمين ، الذي أرسى قواعد الدين ورسم معالم التشريع الحكيم ، وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين .(/1)
والحمد للّه الذي شهدت له بالربوبية جميعُ مخلوقاته، وأقرَّت له بالإِلهية جميع مصنوعاته، وشهدت بأنّه اللّه الذي لا إلهَ إلا هو بما أودعها من عجائب صنعته، وبدائع آياته، وسبحان اللَّهِ وبحمده، عدد خلقه، ورِضَى نفسه، وَزِنَةَ عرشه، ومِدَاد كلماته. ولا إِلهَ إلا اللّه وحده، لا شريك له في إِلاهيته،كما لا شريك له في ربوبيته، ولا شبيه له في ذاته ولا في أفعاله ولا في صفاته، واللّه أكبر كبيراً، والحمد للّه كثيراً، وسبحان اللّه بكرة وأصيلا، وسبحان من سبَّحت له ا لسماواتُ وأملاكُها، والنجومُ وأفلاكها، والأرضُ وسكانها، والبحارُ وحِيتانها، والنجومُ والجبال، والشجر والدواب، والآكامُ والرّمال، وكلُّ رطب ويابس، وكل حي وميت {تُسَبّحُ لَهُ السّمَاوَاتُ السّبْعُ وَالأرْضُ وَمَن فِيهِنّ وَإِن مّن شَيْءٍ إِلاّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ وَلََكِن لاّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً}[2].(/2)
وأشهد أن لا إِله إلا اللّه وحدَه لا شريك له وأشهد أن محمد عبده ورسوله، كلمةٌ قامت بها الأرضُ والسماوات، وخُلِقت لأجلها جميع المخلوقات، وبها أرسل اللّه تعالى رسلَهُ، وأنزل كتبه، وشرع شرائعه، ولأجلها نُصِبَتِ الموازينُ، ووضِعَتِ الدواوين، وبها انقسمت الخليقة إلى المؤمنين والكفار، والأبرارِ والفجار، فهي منشأُ الخلق والأمر، والثوابِ والعقاب، وهي الحقُّ الذي خلقت له الخليقة، وعنها وعن حقوقها السؤال والحساب، وعليها يقع الثوابُ والعقابُ، وعليها أُسِّستِ المِلة، ولأجلها جُرِّدَتْ سيوفُ الجهاد، وهي حقُّ اللَّهِ على جميع العباد، فهي كلمةُ الإِسلام، ومفتاح دار السلام، وعنها يسأل الأولون والآخرون، فلا تزول قدما العبد بين يدي اللّه حتى يسأل عن مسألتين: ماذا كنتم تعبدون؟ وماذا أجَبتُم المرسلين؟ فجواب الأولى بتحقيق ((لا إله إلا اللّه)) معرفةً وإقراراً وعملاً،وجواب الثّانية بتحقيق ((أن محمَّداً رسول اللّه)) معرفةً وإقراراً، وانقياداً وطاعةً.
إنني لن أستطيع أن ألزم الحياد في بحثي هذا عن أحبّ إنسان الى قلبي: محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنني لا أكتب عن زعيم سياسي قدّم لشعبه أطروحته وعرض على أتباعه فكرته، ليقيم دولة في زاوية من زوايا الأرض، بل أكتب عن رسول ربّ العالمين، المبعوث رحمة للناس أجمعين. ولن ألزم الحياد وأنا أكتب عنه؛ لأنني لا أكتب عن خليفة من الخلفاء له جنود وبنود ولديه حشود وعنده قناطير مقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسّومة والأنعام والحرث، ولكنني أكتب عن الرحمة المهداة والنعمة المسداة: محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولن ألزم الحياد لأنني لا أتكلم عن سلطان من السلاطين قهر الناس بسيفه وسوطه، وأخاف الناس بسلطانه وهيمانه وصولجانه، لكنني أتكلم عن معصوم شرح الله صدره ووضع عنه وزره، ورفع له ذكره.(/3)
ولن ألزم الحياد لأنني لا أتكلم عن شاعر هدّار، أو خطيب ثرثار، أو متكلم موّار، أو فيلسوف هائم، أو روائي متخيل، أو كاتب متصنّع، أو تاجر منعم، بل أتحدث عن نبي خاتم، نزل عليه الوحي، وهبط عليه جبريل، ووصل سدرة المنتهى، له شفاعة كبرى، ومنزلة عظمى، وحوض مورود، ومقام محمود، ولواء معقود، فكيف ألزم الحياد إذاً؟ إنني أكتب عن أسوة وإمام جليل، أصلي فأذكره لأنه يقول: (( صلوا كما رأيتموني أصلي))[3]، أحجّ فأذكره لأنه يقول: ((لتأخذوا عني مناسككم))[4] ، في كل طرفة عين أذكره لأنه يقول: ((من رغب عن سنتي فليس مني))[5]، وفي كل لحظة أذكره لأن الله يقول: { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } [6]
أسباب البحث في ها الموضوع
لم يكتب لأحدٍ من البشر من الأثر والخلود والعظمة ما كتب لصاحب الخلق الكريم - صلى الله عليه وسلم،ولقد دونت في سيرته الكتب ، ودبجت في مديحه القصائد، وعمرت بذكره المجالس ، وبقيت عظمته قمة سامقة لاتطالها الظنون تقلبت به صروف الحياة من قوة وضعف ، وغنى وفقر ، وكثرة وقلة ، ونصر وهزيمة ، وظعن وإقامة ، وجوع وشبع ، وحزن وسرور ، فكان قدوة في ذلك كله، وحقق عبودية الموقف لربه كما ينبغي له . ظل في مكة ثلاث عشرة سنة ، وما آمن معه إلا قليل ، فما تذمّر ولا ضجر ، وجاءه أصحابه يشتكون إليه ويسألونه الدعاء والاستنصار فحلف على نصر الدين وتمام الأمر ، وأنكر عليهم أنهم يستعجلون ، فكان الأمر كما وعد ، علماً من أعلام نبوته ، ونصراً لأمر الله ، لا للأشخاص . وكان من نصره أن تأتيه وفود العرب من كل ناحية مبايعة على الإسلام والطاعة فما تغير ولا تكبّر ، ولا انتصر لنفسه من قوم حاربوه وآذوه وعاندوا دينه.(/4)
إن البحث في هذا الموضوع مِدَادُهُ دَمُ قلبي، ورقعته مُهْجَةُ نفسي، أحرره دفاعاً عن أحبِّ حبيب، وأرقُمه ذوداً عن أزكى مخلوق وأطهر بشر: محمد بن عبدالله، رسول رب العالمين، وخاتم الأنبياء والمرسلين . ونتيجة لما اطلعت عليه ما تناقلته بعض وكالات الأنباء من اقتراف الصحيفة الدنمركية (جيلاندز بوستن/Jyllands-Posten) لخطأ شنيع وانحرافٍ فظيع بنشرها ( 12 ) رسماً ( كاريكاتيرياً ) أو ساخراً يوم الجمعة 26 شعبان 1426هـ / 30 سبتمبر 2005 تصور الرسول في أشكال مختلفة ، وفي أحد الرسوم يظهر مرتدياً عمامة تشبه قنبلة ملفوفة حول رأسه ! وإمعاناً في غَيِّها طلبت الجريدة من الرسَّامين التقدم بمثل تلك الرسوم لنشرها على صفحاتها.
ولما بلغني الخبر كدَّرني كثيراً وأصابني بهمٍّ كبير، وأحزنني حزناً عظيماً، وقد عمدتُ بنفسي للنظر في موقع الصحيفة المذكورة على شبكة المعلومات العالمية (الإنترنت)، حتى وقفت على موقع الجريدة (Jyllands-Posten) في صفحاتها الصادرة بتاريخ 30 سبتمبر 2005م، فكان الخبر ليس كالمعاينة، حيث هالني ما رأيته، واقشعر جسمي، وبلغ بي ذلك كل مبلغ في النكير والاستهجان والامتعاض.
وهكذا كان الشأن عند عامة أهل الإسلام ممن بلغهم الخبر، حيث كان هذا العمل محل انتقاد واستهجان لديهم، ولدى غيرهم من العقلاء في أرجاء الأرض. وقد عمد إخواننا المسلمون في الدنمرك، ومعهم غيرهم من المواطنين الدنمركيين، وكذلك غيرهم من المقيمين في الدنمرك إلى إنكار هذه السخرية التي نالت أشرف إنسان في التاريخ.(/5)
فكُتبت المقالات ووُجهت الرسائل إلى الحكومة الدنمركية وإلى الصحيفة المعنية، مطالبين بالاعتذار عن هذا العمل والكَفِّ عن مثله مستقبلاً. وقد تظاهر في شهر أكتوبر الماضي أكثر من (5000 ) مسلم وغيرهم من المتعاطفين معهم في العاصمة كوبنهاجن ضد الصحيفة، وما يفوق المليون شخص في دول العالم الإسلامي وطالبوها بالاعتذار. غير أن السلطات الدنمركية ومسئولي الصحيفة رفضوا ذلك بمبررات حرية الإعلام والتعبير، وأنه لا شيء يستثنى من شموليته وحريته!!.
ولا زال مسئولو صحيفة ( جيلاندز بوستن / Jyllands-Posten ) والحزب الحاكم الذي تنتمي إليه يرفضون الاعتذار، وينوون الاستمرار في منهجهم المتهجم على الرسول الكريم الذي قال الله له : ) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ [7]( ،متجاهلين بذلك المواثيق والأعراف الدولية، غير مبالين بالاعتراضات المقدمة إليهم. فلذلك فإنه من الواجب الدفاع عن حبيبنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. إننا إذا تأملنا في خلفيات هذه التهجمات فلنا أن نقول أن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم أزكى البشرية. وأذكِّر الشعب الدنمركي وغيره من الشعوب النصرانية وغيرهم من أمم الأرض أن هذه السخريات ما هي إلا محض افتراء وكذب . فمحمدٌ رسول الله هو أطهر البشرية جمعاء وأزكاها، ولن تضيره هذه السخرية مهما عظمت أو تكاثرت، كما أخبرنا بذلك ربُّنا في القرآن العظيم. ونحن نعتقد أن الله سبحانه سيحمي سُمعة رسوله محمد عليه الصلاة والسلام ويصرف عنه أذى الناس وشتمهم بكل طريق، حتى في اللفظ . ففي " الصحيحين" عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : " ألا ترونَ كيف يَصْرِفُ الله عنِّي شَتْمَ قريشٍ ولعنَهم، يشتمون مُذَمَّمَاً، ويلعنون مُذَمَّمَاً، وأنا مُحَمَّدٌ ". فنَزَّه الله اسمَه ونَعْتَه عن الأذى، وصرف ذلك إلى من هو مُذَمَّم، وإن كان المؤذِي إنما قصد عينه".(/6)
إن تلك الرسوم التي دعت الجريدة الرسامين لرسمها ونشرتها على صفحاتها، إنها قطعاً لا تمثل رسول الله محمداً ، لا في رسمها، ولا في رمزها. لا في رسمها: أي ملامح الوجه، فوجه محمد هو الضياء والطهر والقداسة والبهاء، وجهه أعظم استنارةً وضياءً من القمر المسفر ليلة البدر، وجه محمد يفيض سماحةً وبِشْراً وسروراً، وجه محمد له طلعةٌ آسِرَةٌ، تأخذ بلب كل من رآه إجلالاً وإعجاباً وتقديراً. ولا في رمزها: فمحمد ما كان عابساً ، ولا مكشراً، وما ضرب أحداً في حياته، لا امرأة ولا غيرها[8].
تقول عائشة زوج رسول الله ، ورضي الله عنها: ما خُيِّرَ رسول الله بين أمرين إلا أخذ أيسرهما، ما لم يكن إثماً، فإن كان إثماً كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول الله لنفسه، إلا أن تُنْتَهَكَ حُرمة الله فينتقم لله بها " رواه البخاري ومسلم.
وإنه لمن الحسرة والبؤس على الصحيفة الدنمركية وعلى حكومة الدنمرك أن يكون مجرد علمهم عن محمد رسول الله هو ما استهزؤوا به، مما أوحت به إليهم الأنفس الشريرة، وصدق الله : { يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون }[9]
وأدعو هؤلاء المستهزئين برسول الله محمد عليه الصلاة والسلام، وأدعو غير المسلمين لأن يشرفوا أنفسهم بالاطلاع على سيرته عليه الصلاة والسلام، ليطلعوا على كمال الإنسانية في شخصه عليه الصلاة والسلام. وقد شهد لمحمد عقلاءُ البشر ومثقفوهم، حتى من أهل الملل الأخرى، شهدوا له بالنُّبل والطهر والفضائل الجمَّة، وسأورد طرفاً من تلك الشهادات في آخر هذا البيان.
الغاية من البحث:(/7)
إن البحث في موضوع أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم واجب على كل مسلم في معرفة أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم وبيان أخلاقه السامية. كما أن ما حدث أخيرا، أحيا كثيرا من القضايا المتعلقة بحقوق النبي صلى الله عليه وسلم، كادت أن تغيب، فتموت بين الحوادث المتداخلة من حروب، واحتلال، وكوارث، وأموال وتجارات ملهية، وفتن وشهوات مفسدة، وغفلة عن الله تعالى والدار الآخرة !! لقد تسبب المسيئون الى شخص الرسول الكريم في يقظة أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وقيامها بدينها، واعتزازها بنبيها، وتعاليمه. فهمت حقيقة الصراع بين الإيمان والكفر، والولاء والبراء، وأدركت معاني الآيات:(/8)
{ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون * ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور * إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا إن الله بما يعملون محيط } {ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا}. إن البحث في أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم وبيان إعجاز أخلاقه الكريمة غايته الإنتصار لرسول الله صلى الله عليه وسلم. إن البحث في أخلاق النبي غايته محاربة ما يشاع من مثل تلك الأقوال السخيفة المخجلة ؛ فإن الرسالة التي أدَّاها ذلك الرسول ما زالت السراج المنير مدة اثني عشر قرناً لنحو مائتي مليون من الناس. أفكان أحدكم يظن أن هذه الرسالة التي عاش بها ومات عليها هذه الملايين الفائقة الحصر والإحصاء أكذوبة وخدعة،ونحن إذ ندافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحمي بذلك ديننا وعقيدتنا , ونؤكد شيئاً من حبنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وبالإضافة الي ذلك كله فإن البحث في هذا الموضوع يهدف الي التأكيد على أربعة نقاط هامة هي كالتالي:
أولاً: دعوى حرية التعبير لا تجيز الإساءة لأحد.
إن ادعاء صحيفة ( Jyllands-Posten ) حرية التعبير في نشرها لتلك الرسوم الساخرة من محمد رسول الله، ادعاءٌ غير مسلَّم ولا مقنع، لأن جميع دساتير العالم ومنظماته تؤكد على احترام الرسل، وعلى احترام الشرائع السماوية، واحترام الآخرين وعدم الطعن فيهم بلا بينة.(/9)
وعلى الصحافيين الجديرين بصفتهم هذه أن يؤمنوا أن من واجبهم المراعاة الأمينة للمبادئ التي تم ذكرها. ومن خلال الإطار العام للقانون في كل دولة). ولذلك حين نطالب الصحيفة والحكومة الدنماركية بالاعتذار وبمنع تلك الإساءات لاحقاً فإننا نعتمد أيضاً على ميثاق صحفي شريف، جاء فيه : (سيقوم الصحافي ببذل أقصى طاقته لتصحيح وتعديل معلومات نشرت ووجد بأنها غير دقيقة على نحو مسيء).
ولا شك أن ما نشرته صحيفة (Jyllands-Posten) الدنماركية مسيءٌ لأكثر من مائتي ألف من مواطني الدنمارك، ومسيءٌ لأكثر من مليار وثلاثمائة مليون شخص، ومعهم غيرهم من المنصفين من أصحاب الملل الأخرى، كلهم يعظمون رسول الله محمد .وسيبقى ذلك العمل مُسيئاً لكل المسلمين ما بقيت هذه الحياة على وجه الأرض، وستبقى الدنمارك ـ إذا لم تعالج هذه الإساءة ـ مصدر قرف واشمئزاز ، بسبب بعض العقليات التي تقطن فيها،وتعادي الرُّسَلَ والشرائع السماوية وتسخر بها.
ثانياً: السخرية بالأنبياء لن تزيد العالم إلا شقاءً.(/10)
إنه لا يخفى أن العالم اليوم يشهد اضطرابات عديدة، أريقت فيها الدماء وأزهقت الأرواح، بغياً وعدواناً، بما يجعلنا أحوج ما نكون لنشر أسباب السلم والعدل، وخاصةً احترام الشرائع السماوية واحترام الأنبياء والمرسلين. فهذا المسلك يتحقق به حفظ ضرورات البشر في أرواحهم وأعراضهم وأموالهم، وغير ذلك من حقوقهم ومقومات عيشهم الكريم. وإن مثل هذه الأطروحات العدائية والاستفزازية لن تزيد العالم إلا شقاءً وبؤساً، ذلك أننا جميعاً بحاجة لمصادر الرحمة والهدى، والتي يسَّرها رب العالمين على يدي رسوله محمد ، فكان المستهزئون به عليه الصلاة والسلام، المشوهون لحقيقة حياته ورسالته ممن يَصُدُّ الناس عن الخير ويمنع من استقرار العالم وطمأنينته. وهذا الصنف من الناس توعده الله في كتابه ونَدَّدَ بسوء فعالهم: { الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً أُوْلَئِكَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ }[10]
وإنَّه لمن المؤسف لحال البشرية اليوم، مع ما وصلت إليه من التقدم في مجالات عديدة من علوم الدنيا، بما تتضمنه من الاكتشافات المبهرة، ثم يأتي في هذا الخضم من العواصم التي تدَّعي التحضر أصواتٌ مبحوحة وكتابات ساقطة تتردى معها تلك المجتمعات بسبب إسقاطات أخلاقية نحو المقدسات.
ثالثاً: الاستهزاء بالأنبياء مسلك الأشرار.(/11)
إن تلك الإساءة التي نشرتها صحيفة (جيلاندز بوستن) لم تخرج عن طريقة أصحاب المناهج الشريرة، الذين الذي حاربوا الأنبياء والمصلحين. وهذا ما أخبرنا الله به عنهم في القرآن الكريم : فقال تعالى : { فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَآؤُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ }[11]، وقال سبحانه عن اليهود: {كُلَّمَا جَاءهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ}[12]، وقال الله عزَّ وجلَّ: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ . وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ}[13].
رابعاً: الله يهدي من يشاء.
إن الصفات الحميدة ، والخلق القويم، والسمات المعجزة هي التي مهدت الطريق لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتخطت المصاعب .إن كثير من العالم الغربي قد شهد بإعجاز خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتميز شخصيته، وعلو شأنه، ونذكر هنا القليل من الكثير الذي ذكر:
1- يقول البروفيسور ( راما كريشنا راو ) في كتابه " محمد النبيّ " : " لا يمكن معرفة شخصية محمد بكل جوانبها. ولكن كل ما في استطاعتي أن أقدمه هو نبذة عن حياته من صور متتابعة جميلة، فهناك محمد النبيّ، ومحمد المحارب، ومحمد رجل الأعمال، ومحمد رجل السياسة، ومحمد الخطيب، ومحمد المصلح، ومحمد ملاذ اليتامى، وحامي العبيد، ومحمد محرر النساء، ومحمد القاضي، كل هذه الأدوار الرائعة في كل دروب الحياة الإنسانية تؤهله لأن يكون بطلا ".(/12)
2- يقول المستشرق الكندي الدكتور ( زويمر ) في كتابه " الشرق وعاداته " : إن محمداً كان ولا شك من أعظم القواد المسلمين الدينيين، ويصدق عليه القول أيضاً بأنه كان مصلحاً قديراً وبليغاً فصيحاً وجريئاً مغواراً، ومفكراً عظيماً، ولا يجوز أن ننسب إليه ما ينافي هذه الصفات، وهذا قرآنه الذي جاء به وتاريخه يشهدان بصحة هذا الادعاء.
3- يقول المستشرق الألماني (برتلي سانت هيلر) في كتابه "الشرقيون وعقائدهم" : كان محمد رئيساً للدولة وساهراً على حياة الشعب وحريته، وكان يعاقب الأشخاص الذين يجترحون الجنايات حسب أحوال زمانه وأحوال تلك الجماعات الوحشية التي كان يعيش النبيُّ بين ظهرانيها، فكان النبيُّ داعياً إلى ديانة الإله الواحد، وكان في دعوته هذه لطيفاً ورحيماً ، حتى مع أعدائه. وإن في شخصيته صفتين هما من أجلّ الصفات التي تحملها النفس البشرية، وهما : العدالة والرحمة.
4- ويقول الانجليزي ( برناردشو ) في كتابه "محمد"، والذي أحرقته السلطة البريطانية: إن العالم أحوج ما يكون إلى رجلٍ في تفكير محمد. هذا النبيُّ الذي وضع دينه دائماً موضع الاحترام والإجلال، فإنه أقوى دين على هضم جميع المدنيات، خالداً خلود الأبد. وإني أرى كثيراً من بني قومي قد دخلوا هذا الدين على بينة، وسيجد هذا الدين مجاله الفسيح في هذه القارة (يعني أوروبا). لكنّني اطّلعت على أمر هذا الرجل، فوجدته أعجوبةً خارقةً، وتوصلت إلى أنّه لم يكن عدوًّا للمسيحية، بل يجب أنْ يسمَّى منقذ البشرية. وفي رأيي أنّه لو تولّى أمر العالم اليوم، لَوُفِّقَ في حلّ مشكلاتنا ، بما يُؤَمِّنُ السلام والسعادة التي يرنو البشر إليها.(/13)
5- ويقول ( سنرستن الآسوجي ) أستاذ اللغات السامية، في كتابه "تاريخ حياة محمد" : إننا لم ننصف محمداً إذا أنكرنا ما هو عليه من عظيم الصفات وحميد المزايا. فلقد خاض محمدٌ معركة الحياة الصحيحة في وجه الجهل والهمجية، مُصِرَّاً على مبدئه، وما زال يحارب الطغاة حتى انتهى به المطاف إلى النصر المبين، فأصبحت شريعته أكمل الشرائع، وهو فوق عظماء التاريخ.
6- ويقول المستشرق الأمريكي ( سنكس ) في كتابه "ديانة العرب" : ظهر محمد بعد المسيح بخمسمائة وسبعين سنة، وكانت وظيفته ترقية عقول البشر، بإشرابها الأصول الأولية للأخلاق الفاضلة، وبإرجاعها إلى الاعتقاد بإله واحد، وبحياة بعد هذه الحياة.
7- ويقول (مايكل هارت) في كتابه "مائة رجل في التاريخ" : إن اختياري محمداً، ليكون الأول في أهم وأعظم رجال التاريخ، قد يدهش القراء، ولكنه الرجل الوحيد في التاريخ كله الذي نجح أعلى نجاح على المستويين: الديني والدنيوي.
8- ويقول الأديب العالمي (ليف تولستوي) الذي يعد أدبه من أمتع ما كتب في التراث الإنساني قاطبة عن النفس البشرية : يكفي محمداً فخراً أنّه خلّص أمةً ذليلةً دمويةً من مخالب شياطين العادات الذميمة، وفتح على وجوههم طريقَ الرُّقي والتقدم، وأنّ شريعةَ محمدٍ، ستسودُ العالم لانسجامها مع العقل والحكمة.
9- ويقول الدكتور (شبرك) النمساوي: إنّ البشرية لتفتخر بانتساب رجل كمحمد إليها، إذ إنّه رغم أُمّيته، استطاع قبل بضعة عشر قرنًا أنْ يأتي بتشريع، سنكونُ نحنُ الأوروبيين أسعد ما نكون، إذا توصلنا إلى قمّته.
10- ويقول الفيلسوف الإنجليزي ( توماس كارليل) الحائز على جائزة نوبل يقول في كتابه الأبطال : " لقد أصبح من أكبر العار على أي فرد متحدث هذا العصر أن يصغي إلى ما يقال من أن دين الإسلام كذب،وأن محمداً خدّاع مزوِّر.(/14)
تلكم بعض أقوال مشاهير العالم، في محمد نبي الرحمة عليه الصلاة والسلام، فلماذا المزايدات التي تضر ولا تنفع، وتهدم ولا تبني .
إن فضائل النبي صلى الله عليه وسلم لا تكاد تحصى كثرةً فهو منّة الله على هذه الأمة { لقد منَّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً منهم ... } امتدحه ربه ورفع منزلته فهو أول من تنشق عنه الأرض ,وأول من يدخل الجنة , وله المقام المحمود الذي يحمده عليه الأولون والآخرون , والحوض المورود ، إلى غير ذلك من الفضائل والخصائص التي اختص بها عن غيره , وهي مدونة في كتب الدلائل والشمائل والخصائص والفضائل , لقد شهد بفضل نبين صلى الله عليه وسلم القاصي والداني والصديق والعدو , وأنَّا لأحد أن يكتم فضائله صلى الله عليه وسلم وهي كالقمر في ضيائها , وكالشمس في إشراقها , ولعي أورد شيئاًً مما نطق به عقلاء القوم في مكانة النبي صلى الله عليه وسلم وعلو منزلته وسطرته أيديهم راغبين غير راهبين , مختارين غير مكرهين -ونحن إذ نورد شيئاً من كلامهم لا نورده حاجةً منا إليهم لتزكية المقام المحمدي فقد زكاه ربه وطهره ونقَّاه , وإنما نورد ذلك من باب ( وشهد شاهد من أهلها ) , ونورده – تنزلاً – مع مفتونٍ لا يقرأ إلا بالعجمية ولا يفهم إلا لغة أهلها؟! نخاطبه بلغته التي أعجب بها وهام في حبها.
المبحث الأول
الإعجاز في أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم
أولاً: طيب أصله المنيف صلى الله عليه وسلم.
هو سيد ولد آدم : أبو القاسم محمد ، و أحمد ، و الماحي الذي يمحى به الكفر ، و الحاشر الذي يحشر الناس على عقبه ، و والعاقب الذي ليس بعده نبي ، و المقفي ، و نبي الرحمة ، و نبي التوبة ، و نبي الملحمة . ابن عبد الله بن عبد المطلب بن هشام بن عبد مناف بن بن كلاب بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن معد بن عدنان ... من ولد أسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام[14].(/15)
قال الله تعالى : {الله أعلم حيث يجعل رسالته}[15]، ولما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان تلك الأسئلة عن صفاته عليه الصلاة والسلام قال: كيف نسبه فيكم؟ قال: هو فينا ذو نسب. قال: كذلك الرسل تبعث في أنساب قومها. يعني: في أكرمها أحساباً، وأكثرها قبيلة، صلوات الله عليهم أجمعين. فهو سيد ولد آدم وفخرهم في الدنيا والآخرة. أبو القاسم، وأبو إبراهيم، محمد، وأحمد، والماحي الذي يُمحَى به الكفر، والعاقب الذي ما بعده نبي، والحاشر الذي يحشر الناس على قدميه، والمقفّي، ونبي الرحمة، ونبي التوبة، ونبي الملحمة، وخاتم النبيين، وعبد الله[16].
قال البيهقي: وزاد بعض العلماء فقال: سماه الله في القرآن رسولاً، نبياً، أميّاً، شاهداً، مبشراً، نذيراً، وعياً إلى الله بإذنه، وسراجاً منيراً، ورؤوفاً رحيماً، ومذكراً، وجعله رحمة ونعمة وهادياً. وهو ابن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب ابن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، وهو من ولد إسماعيل لا محالة؛ على اختلاف كم أب بينهما.(/16)
وهذا النسب بهذه الصفة لا خلف فيه بين العلماء، فجميع قبائل عرب الحجاز ينتمون إلى هذا النسب، ولهذا قال ابن عباس وغيره في قوله تعالى : {قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى}[17]: لم يكن بطن من بطون قريش إلا ولرسول الله صلى الله عليه وسلم نسب يتصل بهم. وقد روي من طرق مرسلاً وموصولاً : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح؛ من لدن آدم إلى أن ولدني أبي وأمي، ولم يصبني من سفاح الجاهلية شيء)). وهذا رواه ابن عدي عن علي بن أبي طالب، وسند المرسل جيد. وثبت في ((صحيح البخاري)) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( بعثت من خير قرون بني آدم؛ قرناً فقرناً؛ حتى بعثت من القرن الذي كنت فيه))[18]، وفي ((صحيح مسلم)) من حديث واثلة بن الأسقع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: مخرج في ((الأحاديث الصحيحة)) (302). ((إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من بني إسماعيل بني كنانة، واصطفى من بني كنانة قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم))[19] ، ((أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، إن الله خلق الخلق فجعلني في خير خلقه ، وجعله فرقتين فجلعني في خير فرقة، وخلق القبائل فجعلني في خير قبيلة، وجعلهم بيوتاً فجعلني في خيرهم بيتاً، فأنا خيركم بيتاً وخيركم نفساً))[20]. صلوات الله وسلامه عليه دائماً أبداً إلى يوم الدين.
ثانياً: الإعجاز في خلقه صلى الله عليه وسلم.(/17)
ولدت همته عليه الصلاة والسلام معه يوم ولد، فمنذ طفولته زنفسه مهاجرة الى معالي الأمور ومكارم الخلق، لا يرضى بالدون ولا يهوى السفاسف، بل هو الطموح والسبّاق المتفرّد والمبرز المحظوظ، ولقد ذكر أهل السير أنه عليه الصلاة والسلام وهو طفل كان لجده عبدالمطلب فراش في ظل الكعبة لا يجلس عليه إلا هو لمنزلته، فجاء محمد صلى الله عليه وسلم فنازع الخدم حتى جلس عليه، وأبى أن يجلس دونه. وكان فيه قبل النبوة من سمات الريادة والزعامة والقيادة ما جعل قريش يسمونه الصادق الأمين، ويرضون حكمه ويعودون اليه في أمورهم. فلما منّ الله عليه بالبعثة تاقت نفسه إلى الوسيلة، وهي أعلى درجة في الجنة، فسأل الله إياها، وعلّمنا ان نسألها له من ربه، بلغ سدرة المنتهى، وحاز الكمال البشري المطلق، والفضيلة الإنسانية. ومن علوّ همّته رفضه للدنيا وعدم الوقوف مع مطالبها الزهيدة لولاياتها ومناصبها وقصورها ودورها.
لقد كان رسول الله أشد الناس تواضعاً، وأبعدهم عن الكبر، يمنع عن القيام له كما يقومون للملوك، وكان يعود المساكين، ويجالس الفقراء، ويجيب دعوة العبد، ويجلس في أصحابه كأحدهم، قالت عائشة : كان يخصف نعله، ويخيط ثوبه، ويعمل بيده كما يعمل أحدكم في بيته، وكان بشراً من البشر يَفْلِي ثوبه، ويحلب شاته، ويخدم نفسه .
كما روى البيهقي في دلائل النبوة،قال أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن القاضي حدثنا أبو بكر محمد بن جعفر الأنباري حدثنا جعفر بن محمد بن شاكر حدثنا حسين بن محمد حدثنا جرير بن حازم عن محمد بن سيرين عن أنس بن مالك قال: فزع الناس فركب النبي فرسا لأبي طلحة بطيئا ثم خرج يركض وحده فركب الناس يركضون خلفه فقال: لن تراعوا إنه لبحر... قال فوالله ما سبق بعد ذلك اليوم...(/18)
لقد كان رسول الله أصدق من تكلم، كلامه حق وصدق وعدل، لم يعرف الكذب في حياته جادّا أو مازحا، بل حرّم الكذب وذمّ أهله ونهى عنه[21]، وقال:" إنّ الصدق يهدي الى البر، وإن البرّ يهدي الى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صدّيقا.."[22]
وأخبر ان المؤمن قد يبخل وقد يجبن، لكنه لا يكذب أبدا، وحذر من الكذب في المزاح لإضحاك القوم، فعاش عليه الصلاة والسلام والصدق حبيبه وصاحبه، ويكفيه صدقا صلى الله عليه وسلم أنه أخبر عن الله بعلم الغيب، وائتمنه الله على الرسالة، فأداها للأمة كاملة تامة، لم ينقص حرفا ولم يزد حرفا، وبلّغ الأمانة عن ربه بأتمّ البلاغ، فكل قوله وعمله وحاله مبني على الصدق، فهو صادق في سلمه وحربه، ورضاه وغضبه، وجدّ وهزله، وبيانه وحكمه، صادق مع القريب والبعيد، والصديق والعدو، والرجل والمرأة، صادق في نفسه ومع الناس، في حضره وسفره، وحلّه وإقامته، ومحاربته ومصالحته، وبيعه وشرائه، وعقوده وعهوده ومواثيقه، وخطبه ورسائله، وفتاويه وقصصه، وقوله ونقله، وروايته ودرايته، بل معصوم من أن يكذب، فالله مانعه وحاميه من هذا الخلق المشين، قد أقام لسانه وسدّد لفظه، وأصلح نطقه وقوّم حديثه، فهو الصادق المصدوق، الذي لم يحفظ له حرف واحد غير صادق فيه، ولا كلمة واحدة خلاف الحق، ولم يخالف ظاهره باطنه، بل حتى كان صادقا في لحظاته ولفظاته وإشارات عينيه، وهو الذي يقول:" ما كان لنبي أن تكون له خائنة أعين"[23] ، وذلك لما قال له أصحابه: ألا أشرت لنا بعينك في قتل الأسير؟!(/19)
بل هو الذي جاء بالصدق من عند ربه، فكلامه صدق وسنّته صدق، ورضاه صدق وغضبه صدق، ومدخله صدق ومخرجه صدق، وضحكه صدق وبكاؤه صدق، ويقظته صدق ومنامه صدق {لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ}[24]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ}[25]، {فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ}[26]
ثالثاً: خلقه صلى الله عليه وسلم في القرآن.
وصف الله سبحانه وتعالى خلق الرسول صلى الله عليه وسلم في أيات عديدة في القرآن الكريم منها:
1- {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} يحبّك الملك والمملوك، والصغير والكبير، والرجل والمرأة، والغني والفقير، والقريب والبعيد، لأنك ملكت القلوب بعطفك، وأسرت الأرواح بفضلك، وطوّقت الأعناق بكرمك ، وعلمك جبريل، وهداك ربك، وصاحبتك العناية، ورافقتك الرعاية، وحالفك التوفيق ، البسمة على محياك، البِِشر على طلعتك، النور على جبينك، الحب في قلبك، الجود في يدك، البركة فيك، الفوز معك.(/20)
2- {ما أنت بنعمة ربك بمجنون}، لست مجنونا كما قال أعداؤك لكن عندك دواء المجانين، فلمجنون الطائش والسفيه التافه من خالفك وعصاك وحاربك وجفاك. وكيف يكون ذلك وأنت أكملهم عقلا، وأتمّهم رشدا، وأسدهم رأيا، وأعظمهم حكمة، واجلذهم بصيرة! وكيف تكون مجنونا وأنت أتيت بوحي يكشف الزيغ، ويزيل الضلال، وينسف الباطل، ويمحو الجهل، ويهدي العقل، وينير الطريق. لست مجنونا أنك على هدى من الله، وعلى نور من ربك، وعلى ثقة من منهجك، وعلى بيّنة من دينك، وعلى رشد من دعوتك، صانك الله من الجنون، بل عندك كل العقل وأكمل الرشد وأتم الرأي وأحسن البصيرة، فأنت الذي يهتدي بك العقلاء، ويستضيء بحكمتك الحكماء، ويقتدي بك الراشدون المهديّون. إنه كذب وافترى من وصفك بالجنون وقد ملأت الأرض حكمة والدنيا رشدا والعالم عدلا، فأين يوجد الرشد إلا عندك؟ وأين تكون الحكمة إلا لديم؟ وأين تحلّ البركة إلا معك؟ أنت أعقل العقلاء، وأفضل النبلاء، وأجلّ الحكماء. كيف يكون محمد مجنونا وقد قدّم للبشرية أحسن تراث على وجه الأرض، وأهدى للعالم أجلّ تركة عرفها الناس، وأعطى الكون أبرك رسالة عرفها العقلاء:
أخوك عيسى دعا ميتا فقام له وأنت أحييت أجيالا من الرمم(/21)
3- {وإنك لتهدي الى صراط مستقيم} أنت يا محمد مهمّتك الهداية، ووظيفتك الدلالة، وعملك الإصلاح.. أنت تهدي الى صراط مستقيم، لأنك تزيل الشبهات وتطرد الغواية وتذهب الضلالة، وتمحو الباطل وتشيد الحق والعدل والخير. أنت تهدي الى صراد مستقيم، فمن أراد السعادة فليتبعك، ومن أحبّ الفلاح فليقتد بك، ومن رغب في النجاة فليهتد بهداك. أحسن صلاة صلاتك، وأتمّ صيام صيامك، وأكمل حجّ حجك، وأزكى صدقة صدقتك، وأعظم ذكرك لربك. وأنت تهدي الى صراط مستقيم.. من ركب سفينة هدايتك نجا، من دخل دار دعوتك أمن، من تمسّك بحبل رسالتك سلم. فمن تبعك ما ذلّ، وما ضلّ وزلّ وما قل، وكيف يذلّ والنصر معك؟ وكيف يضل وكل الهداية لديك؟ وكيف يزل والرشد كله عندك؟ وكيف يقلّ والله مؤيدك وناصرك وحافظك؟ وإنك لتهدي الى صراط مستقيم لأنك وافقت الفطرة وجئت بحنيفية سمحة، وشريعة غرّاء، وملة كاملة، ودين تام. هديت العقل من الزيغ، وطهّرت القلب من الريبة، وغسلت الضمير من الخيانة، وأخرجت الأمة من الظلام، وحرّرت البشر من الطاغوت. وإنك لتهدي الى صراط مستقيم، فكلامك هدى، وحالك هدى، وفعلك هدى، و مذهبك هدى، فأنت الهادي الى الله، الدال على طريق الخير، المرشد لكل برّ، الداعي الى الجنة.(/22)
4- {يا أيها الرسول بلّغ ما أنزل إليك من ربك}، لقد أدّ رسول الله الرسالة كاملة كما سمعتها كاملة، بلّغها تامّة مثلما حملتها تامة، لا تنقص منها حرفا، ولا تحذف كلمة، ولا تغفل جملة. بلّغ ما أنزل إليك فهي أمانة في عنقك سوف تُسأل عنها، فبلغها بنصّها وروحها ومضمونها. بلّغ ما أنزل إليك من الوحي العظيم والهدى المستقيم والشريعة المطهّرة، فأنت مبلّغ فحسب، لا تزد في الرسالة حرفا، ولا تضف من عندك على المتن، لا تُدخل شيئا في المضمون، لأنك مرسل فحسب، مبعوث ليس إلا، مكلف ببلاغ، مسؤول عن مهمة. فمثلما سمعت بلغ، ومثلما حُمّلت فأدّ. بلّغ ما أنزل إليك، عرف من عرف، وأنكر من أنكر، استجاب من استجاب وأعرض من أعرض، أقبل من أقبل وأدبرمن أدبر. بلغ ما أنزل إليك، بلّغ الكل وادع الجميع، وانصح الكافة، الكبراء والمستضعفين، السادة والعبيد، والإنس والجن، الرجال والنساء، الأغنياء والفقراء، الكبار والصغار. بلّغ ما أنزل إليك.. فلا ترهب الأعداء ولا تخف الخصوم، ولا تخش الكفار، ولا يهولك سيف مصلت، أو رمح مشرع، أو منية كالحة، أو موت عابس، أو جيش مدجج، أو حركة حامية. بلّغ ما أنزل إليك فلا يغريك مال، ولا يعجبك منصب، ولا يزدهيك جاه، ولا تغرّك دنيا، ولا يخدعك متاع، ولا يردّك تحرّج.
5- {وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته} إذا لم تؤد الرسالة كاملة فكأنك ما فعلت شيئا، وإن لم توصلها تامّة فكأنك ما قمت بها حق القيام، ولو كتمت منها مقالة أو عطلت منها نصا أو أهملت منها عبارة فما بلّغت رسالة الله وما أدّيت أمانة الله، نريد منك أن تبلّغ رسالتنا للناس كما أُلقيت عليك، وكما نزل بها جبريل وكما وعاها قلبك.(/23)
6- {والله يعصمك من الناس} بلغ الرسالة كاملة ولا تخف أحدا، وكيف تخاف من أحد ونحن معك نحفظك ونمنعك ونحميك ونذبّ عنك؟! لن يقتلك أحد لأن الله يعصمك من الناس، ولن يطفئ نورك أحد لأن الله يعصمك من الناس، ولن يعطّل مسيرتك أحد لأن الله يعصمك من الناس، اصدع بما تؤمر، وقل كلمتك صريحة شجاعة قوية لأن الله يعصمك من الناس. اشرح دعوتك، وابسط رسالتك، وارفع صوتك، وأعلن منهجك، وما عليك لأن الله يعصمك من الناس. كل قوة في الأرض لن تستطيع لك، كلّ جبروت في الدنيا لا يهزمك، كل طاغية في المعمورة لن يقهرك، لأن الله يعصمك من الناس.
7- {ألم نشرح لك صدرك} أما شرحنا لك صدرك فصار وسيعا فسيحا لا ضيق فيه، ولا حرج ولا همّ ولا غمّ ولا حزن، بل ملأناه لك نورا وسرورا وحبورا. أما شرحنا لك صدرك وملأناه حكمة ورحمة وإيمانا وبرا وإحسانا. وشرحنا لك صدرك فوسعت أخلاق الناس، وعفوت عن تقصيرهم، وصفحت عن أخطائهم، وسترت عيوبهم، وحلمت على سفيههم، وأعرضت عن جاهلهم، ورحمت ضعيفهم. شرحنا لك صدرك فكنت كالغيث جوادا، وكالبحر كرما، وكالنسيم لطفا، تعطي السائل، وتمنح الراغب، وتكرم القاصد، وتجود على المؤمّل. شرحنا لك صدرك فصار بردا وسلاما يطفئ الكلمة الجافية، ويبرد العبارة الجارحة، فإذا العفو والحلم والصفح والغفران. شرحنا لك صدرك فصبرت على جفاء الأعراب، ونيل السفهاء، وعجرفة الجبابرة، وتطاول التافهين، وإعراض المتكبرين، ومقت الحسدة، وسهام الشامتين، وتجهّم القرابة. شرحنا لك صدرك فكنت بسّاما في الأزمات، ضحّاكا في الملمّات، مسرورا وأنت في عين العاصفة، مطمئنا وأنت في جفن الردى، تداهمك المصائب وأنت ساكن، وتلتفّ بك الحوادث وأنت ثابت، لأنك مشروح الصدر، عامر الفؤاد، حيّ النفس. شرحنا لك صدرك فلم تكن فظا قاسيا غليظا جافيا، بل كنت رحمة وسلاما وبرا وحنانا ولطفا، فالحلم يُطلب منك، والجود يُتعلّم من سيرتك، والعفو يؤخذ من ديوانك.(/24)
8- {ووضعنا عنك وزرك} حططنا عنك خطاياك وغسلناك من آثار الذنوب. فأنت مغفور لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، وأنت الآن نقيّ طاهر من كل ذنب وخطيئة، ذنبك مغفور، وسعيك مشكور، وعملك مبرور، وأنت في كل شأن من شؤونك مأجور، فهنيئا لك هذا الغفران، وطوبى لك هذا الفوز، وقرة عين لك هذا الفلاح.
9- {الذي أنقض ظهرك}: أثقل هذا الوزر كاهلك، وأضنى ظهرك حتى كاد ينقضه ويوهنه، فالآن أذهبنا هذا الثقل وأزلنا هذه التبعة، وأعفيناك من هذا الخطب، وأرحناك من هذا الحمل، فاسعد بهذه البشرى، وتقبّل هذا العطاء، وافرح بهذا التفضّل.(/25)
10- {ورفعنا لك ذكرك} لا أُذكر إلا تذكر معي، يقرن ذكرك بذكري في الأذان والصلاة والخطب والمواعظ، فهل تريد شرفا فوق هذا؟ يذكرك كل مصلّ وكل مسبّح وكل حاجّ وكل خطيب، فهل تطلب مجدا أعلى من هذا؟ أنت مذكور في التوراة والإنجيل، منوّه باسمك في الصحف الأولى والدواوين السابقة، اسمك يشاد به في النوادي، ويُتلى في الحواضر والبوادي، ويُمدح في المحافل، ويُكرر في المجامع. رفعنا لك ذكرك فسار في الأرض مسير الشمس، وعبر القارات عبور الريح، وسافر في الدنيا سفر الضوء، فكل مدينة تدري بك، وكل بلد يسمع بك، وكل قرية تسأل عنك. رفعنا لك ذكرك فصرت حديث الرّّكب، وقصة السّمر، وخبر المجالس، وقضية القضايا، والنبأ العظيم في الحياة. رفعنا لك ذكرك فما نُسي مع الأيام، وما مُحي مع الأعوام، وما شُطب مع قائمة الخلود، وما نُسخ من ديوان التاريخ، وما أغفل من دفتر الوجود، نُسي الناس إلا أنت، وسقطت الأسماء إلا اسمك، وأغفل العظماء إلا ذاتك، فمن ارتفع ذكره من العباد عندنا فبسبب اتّباعك، ومن حُفظ اسمه فبسبب الاقتداء بك. ذهبت آثار الدول وبقيت آثارك، ومُحيت مآثر السلاطين وبقيت مآثرك، وزالت أمجاد الملوك وخلّد مجدك، فليس في البشر أشرح منك صدرا، ولا أرفع منك ذكرا، ولا أعظم منك قدرا، ولا أحسن منك أثرا، ولا أجمل منك سيرا. إذا تشهّد متشهّد ذكرك معنا، وإذا تهجّد متهجّد سمّاك معنا، وإذا خطب خطيب نوّه بك معنا، فاحمد ربّك لأننا رفعنا لك ذكرك.
11- {فإن مع العسر يسرا* إن مع العسر يسرا} إذا ضاقت عليك السبل وبارت الحيل، وتقطعت الحبال وضاق الحال، فاعلم أن الفرج قريب وأن اليسر حاصل. لا تحزن، فإن بعد الفقر غنى، وبعد المرض شفاء، وبعد البلوى عافية، وبعد الضيق سعة، وبعد الشدّة فرحا.(/26)
12- {إنا فتحنا لك فتحا مبينا} لقد فتحنا لك يا محمد فتحا بيّنا ظاهرا مباركا، فتحنا لك القلوب فغرست بها الإيمان، وفتحنا لك الضمائر فبنيت فيها الفضيلة، وفتحنا لك الصدور فرفعت فيها الحق، وفتحنا لك البلدان فنشرت بها الهدى، وفتحنا لك كنز المعرفة وديوان العلم ومستودع التوفيق، وفتحنا بدعوتك القلوب الغلف والعيون العني والآذان الصمّ، وأسمعنا رسالتك الثقلين. فتحنا لك فتدفّق العلم النافع من لسانك، وفاض الهدى المبارك من قلبك، وسحّ الجود من يمينك. وفتحنا لك فحزت الغنائم وقسمتها، وجمعت الأرزاق ووزعتها، وحصلت على الأموال وأنفقتها. وفتحنا لك باب العلم وأنت الأميّ الذي ما قرأ وكتب، فصار العلماء ينهلون من بحار علمك. وفتحنا عليك الخير فوصلت القريب وأعطيت البعيد، وأشبعت الجائع وكسوت العاري، وواسيت المسكين، وأغنيت الفقير، بفضلنا ورزقنا وكرمنا. وفتحنا لك القلاع والمدن والقرى، فهيمن دينك، وارتفعت رايتك، وانتصرت دولتك، فأنت مفتوح عليك في كل خير وبرّ وإحسان ونصر وتوفيق.(/27)
13- {فاعلم أنه لا إله إلا الله}[27] فلا تشرك معه في عبوديته أحدا، ولا تعد من دونه إلها آخر، بل تصرف له عبادتك، وتخلص له طاعتك، وتوحّد قصدك له ومسألتك ودعاءك، فإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، فلا يستحق العبادة إلا هو، ولا يكشف الضرّ غيره، ولا يجيب دعوة المضطر سواه. فهو أحق من شُكر وأعظم من ذكر، وأرأف من ملك، وأجود من أعطى، وأحلم من قدر، وأقوى من أخذ، وأجلّ من قصد، وأكرم من ابتغي، فلا يدعى إله سواه، ولا رب يطاع غيره، فالواجب أن يُعبد وأن يُوحّد وأن يُخاف وأن يُطاع وأن يُرهب وأن يُخشى وأن يُحب.إن الله عز وجل هو المتفرد بالجمال والكمال والجلال، خلق الخلق ليعبدوه، وأوجد الإنس والجن ليوحّدوه، وأنشأ البريّة ليطيعوه، فمن أطاعه فاز برضوانه، ومن أحبّه نال قربه، ومن خافه أمن عذابه، ومن عظمه أكرمه، ومن عصاه أدّبه، ومن حاربه خذله، يذكر من ذكره، ويزيد من شكره، ويذلّ من كفره، له الحكم وإليه ترجعون. فأخلص له العبادة، لأنه لا يقبل الشريك، وفوّض إليه الأمر لأنه الكافي القويّ، واسأله فهو الغني، وخف عذابه لأنه شديد، واخش أخذه لأنه أليم، ولا تتعدّ حدوده لأنه يغار، ولا تحارب أولياءه، لأنه ينتقم، واستغفره فهو واسع المغفرة، واطمع في فضله لأنه كريم، ولذ بجنابه فهناك الأمن، وأدم ذكره لتنل محبته، وأدمن شكره لتحظى بالمزيد، وعظم شعائره لتفوز بولايته، وحارب أعداءه ليخصّك بنصره.
المبحث الثاني
أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم فى القيادة والحياة(/28)
لما كان الجِهَاد ذِروةَ سَنَامِ الإسلام وقُبَّتَه، ومنازِلُ أهله أعلى المنازل فى الجنة، كما لهم الرَّفعةُ فى الدنيا، فهم الأَعْلَوْنَ فى الدنُّيَا والآخِرةِ، كان رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فى الذَّروةِ العُليا منه، واسْتولى على أنواعه كُلَّها فجاهد فى اللَّهِ حقَّ جهاده بالقلب، والجَنانِ، والدَّعوة، والبيان، والسيفِ، والسِّنَانِ، وكانت ساعاته موقوفةً على الجهاد، بقلبه، ولسانه، ويده. ولهذا كان أرفعَ العَالَمِينَ ذِكراً، وأعظمَهم عند الله قدراً.
وأمره الله تعالى بالجِهاد مِن حينَ بعثه، وقال : {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِى كُلِّ قَرْيَةٍ نَّذِيراً * فَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَاداً كَبِيراً}[28]، فهذه سورة مكية أمر فيها بجهاد الكفار، بالحُجة، والبيان، وتبليغِ القرآن، وكذلكَ جهادُ المنافقِينَ، إنما هو بتبليغ الحُجَّة، وإلا فهم تحت قهر أهلِ الإسلام، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّنبِىُّ جَاهِدِ الكُفَّارَ وَالمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ، وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ، وَبِئْسَ المَصِيرُ}[29]، فجهادُ المنافقين أصعبُ مِن جهاد الكفار، وهو جهادُ خواصِّ الأمة، وورثةِ الرُّسل، والقائمون به أفرادٌ فى العالَم، والمشارِكُون فيه، والمعاونون عليه، وإن كانوا هُم الأقلين عدداً، فهم الأعظمون عند الله قدراً. ولما كان مِن أفضل الجهاد قولُ الحقِّ مع شدة المُعارِضِ، مثلَ أن تتكلم به عند مَن تُخاف سَطوتهُ وأذاه، كان للِرسلِ صلواتُ الله عليهم وسلامُهُ مِن ذلك الحظُّ الأوفَرُ، وكان لنبينا صلواتُ الله وسلامُه عليه من ذلك أكملُ الجهاد وأتمُّه.(/29)
ولما كان جهاد أعداءِ الله فى الخارج فرعاً على جهادِ العبد نفسه فى ذاتِ الله، كما قال النبىُّ صلى الله عليه وسلم: ((المجاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فى طَاعَةِ الله، والمُهاجِرُ مَنْ هَجَرَ ما نَهَى الله عنه)) كان جهادُ النفس مُقَدَّماً على جِهَادِ العدوِّ فى الخارج، وأصلاً له، فإنه ما لم يُجاهِدْ نفسه أوَّلاً لِتفعل ما أُمِرَتْ به، وتتركَ ما نُهيتْ عنه، ويُحارِبْهَا فى الله، لم يُمكِنْهُ جهادُ عدوه فى الخارج،فكيف يُمكِنُهُ جهادُ عدوه والانتصاف منه، وعدوُّه الذى بين جنبيه قاهرٌ له، متسلِّطٌ عليه، لم يُجاهده، ولم يُحاربه فى الله، بل لا يُمكنه الخروجُ إلى عدوِّه، حتى يُجاهِدَ نفسَه على الخروج.
فهذان عدوَّانِ قد امْتُحِنَ العبدُ بجهادهما، وبينهما عدوٌ ثالث، لا يمكنه جهادُهما إلا بجهاده، وهو واقف بينهما يُثَبِّطُ العبدَ عن جهادهما، ويُخَذِّلُه، ويُرجِفُ به، ولا يزالُ يُخَيِّل له ما فى جهادهما مِن المشاق، وتركِ الحظوظ، وفوتِ اللذاتِ، والمشهيات، ولا يُمكنه أن يُجاهِدَ ذَيْنِكَ العدويْنِ إلا بجهاده، فكان جهادُه هو الأصلَ لجهادهما، وهو الشيطان، قال تعالى : {إنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌ فاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً}[30]. والأمر باتخاذه عدواً تنبيه على استفراغ الوُسع فى مُحاربته ومجاهدته، كأنَّهُ عدو لا يَفْتُر، ولا يُقصِّر عن محاربة العبد على عدد الأنفاس.(/30)
فهذه ثلاثة أعداء، أُمِرَ العبدُ بمحاربتها وجهادها، وقد بُلى بمحاربتها فى هذه الدار، وسُلِّطَتْ عليه امتحاناً من الله له وابتلاءً، فأعطى اللَّهُ العبدَ مدداً وعُدَّةً وأعواناً وسلاحاً لهذا الجِهَادِ، وأعطى أعداءه مدداً وعُدَّةً وأعواناً وسِلاحاً، وبَلاَ أحدَ الفريقين بالآخر، وجعل بعضَهم لبعض فتنة لِيَبْلُوَ أخبارهم، ويمتحِنَ من يَتولاَّه، ويتولَّى رسُلَهُ ممن يتولَّى الشيطانَ وحِزبه، كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أتَصْبِرُونَ، وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً}[31] ، وقال تعالى: {ذَلِكَ، وَلَوْ يَشَاءُ اللهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَاْ بَعْضَكُمْ بِبَعَضٍ}[32] ، وقال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ المُجَاهِدِينَ مِنُكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَاْ أَخْبَارَكُمْ}[33]. فأعطى عباده الأسماعَ والأبصارَ، والعُقول والقُوَى، وأنزل عليهم كُتُبَه، وأرسلَ إليهم رسُلَه، وأمدَّهم بملائكته، وقال لهم: {أَنِّى مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ}[34]، وأمرهم من أمره بما هو مِن أعظم العونِ لهم على حرب عدوهم، وأخبرهم أنَّهم إن امتثلوا ما أمرهم به، لم يزالوا منصورين على عدوه وعدوِّهم، وأنه إن سلَّطه عليهم، فلتركهم بعضَ ما أُمروا به، ولمعصيتهم له، ثم لم يُؤُيسهُم، ولم يُقنِّطْهُمْ،بل أمرهم أن يسْتَقْبِلُوا أمرهم، ويُداووا جِرَاحَهُم، ويَعُودوا إلى مُناهضةِ عدوهم فينصَرهم عليهم، ويُظفرَهم بهم، فأخبرهم أنه معَ المتقين مِنهم، ومعَ المحسنينَ،ومعَ الصابرين، ومعَ المؤمنين، وأنه يُدافع عن عباده المؤمنين ما لا يدافعون عن أنفسهم، بل بدفاعه عنهم انتصروا على عدوِّهم، ولولا دفاعُه عنهم، لتخطّفهم عدوُّهم، واجتاحهم. وهذه المدافعةُ عنهم بحسب إيمانِهم، وعلى قَدْرِهِ، فإن قَوِىَ الإيمانُ، قويتِ المُدافعة، فمَن وجد خيراً، فليحمَدِ الله، ومَن وجد غيرَ ذِلكَ، فلا(/31)
يلومنَّ إلا نفسه. وأمرهم أن يُجاهدوا فيه حقَّ جهاده، كما أمرهم أن يتَّقوه حقَّ تُقاته، وكما أن حقَّ تُقاته أن يُطاع فلا يُعصى، ويُذكَرَ فلا يُنسى، ويُشكَر فلا يُكفر، فحقُّ جهاده أن يُجاهِدَ العبد نفسَه لِيُسْلِم قلبه ولِسانه وجوارِحه للهِ فيكون كُلُّه لله، وباللهِ، لا لنفسِه، ولا بنفسه، ويُجاهدَ شيطانه بتكذِيبِ وعدِهِ، ومعصيةِ أمرهِ، وارتكابِ نهيه، فإنه يَعِدُ الأمانِىَّ، ويُمَنِّى الغُرورَ، ويَعِدُ الفقَر، ويأمرُ بالفحشاء، وينهى عن التُّقى والهُدى، والعِفة والصبرِ، وأخلاقِ الإيمان كُلِّهَا، فجاهده بتكذِيبِ وعده، ومعصيةِ أمره، فينشأُ له من هذين الجهادين قوةٌ وسلطان، وعُدَّة يُجاهد بها أعداءَ اللهِ فى الخارج بقلبه ولسانه ويده ومالِه، لتِكونَ كلمةُ الله هى العليا[35].
المبحث الثالث
مواقف من خلق الرسول
كان النبي صلى الله عليه وسلم يمتاز من جمال خَلْقه وكمال خُلُقه بما لا يحيط بوصفه البيان، وكان من أثره أن القلوب فاضت بإجلاله، والرجال تفانوا في حياطته وإكباره، بما لا تعرف الدنيا لرجل غيره، فالذين عاشروه أحبوه إلى حد الهيام، ولم يبالوا أن تندق أعناقهم ولا يخدش له ظُفْر، وما أحبوه كذلك إلا لأن أنصبته من الكمال الذي يحبب عادة لم يرزق بمثلها بشر . وفيما يلي نورد ملخص الروايات في بيان جماله وكماله مع اعتراف العجز عن الإحاطة .
1-كمال النفس ومكارم الأخلاق:(/32)
كان النبي صلى الله عليه وسلم يمتاز بفصاحة اللسان، وبلاغة القول، وكان من ذلك بالمحل الأفضل، والموضع الذي لا يجهل، سلامة طبع، ونصاعة لفظ، وجزالة قول، وصحة معان، وقلة تكلف، أوتي جوامع الكلم، وخص ببدائع الحكم، وعلم ألسنة العرب، يخاطب كل قبيلة بلسانها، ويحاورها بلغتها، اجتمعت له قوة عارضة البادية وجزالتها، ونصاعة ألفاظ الحاضرة ورونق كلامها، إلى التأييد الإلهي الذي مدده الوحي . وكان الحلم والاحتمال، والعفو عند المقدرة، والصبر على المكاره، صفاتٌ أدبه الله بها، وكل حليم قد عرفت منه زلة، وحفظت عنه هَفْوَة، ولكنه صلى الله عليه وسلم لم يزد مع كثرة الأذي إلا صبرا، وعلى إسراف الجاهل إلا حلما، وقالت عائشة : ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً، فإن كان إثما كان أبعد الناس عنه، وما انتقم لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله بها . وكان أبعد الناس غضباً، وأسرعهم رضاً . وكان من صفة الجود والكرم على مالا يقادر قدره، كان يعطي عطاء من لا يخاف الفقر، قال ابن عباس : كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وأجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل يلقاه في كل ليلة من رمضان، فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة . وقال جابر : ما سئل شيئاً قط فقال : لا[36] .(/33)
وكان من الشجاعة والنجدة والبأس بالمكان الذي لا يجهل، كان أشجع الناس، حضر المواقف الصعبة، وفر عنه الكماة والأبطال غير مرة، وهو ثابت لا يبرح، ومقبل لا يدبر، ولا يتزحزح، وما شجاع إلا وقد أحصيت له فَرَّة، وحفظت عنه جولة سواه، قال علي : كنا إذا حمي البأس واحمرت الحَدَقُ، اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه . قال أنس : فزع أهل المدينة ذات ليلة، فانطلق ناس قِبَلَ الصوت، فتلقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعاً، وقد سبقهم إلى الصوت، وهو على فرس لأبي طلحة عُرْي، في عنقه السيف، وهو يقول : ( لم تُرَاعوا، لم تُرَاعوا ) . وكان أشد الناس حياء وإغضاء، قال أبو سعيد الخدري : كان أشد حياء من العذراء في خِدْرها، وإذا كره شيئاً عرف في وجهة . وكان لا يثبت نظره في وجه أحد، خافض الطرف . نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء، جُلُّ نظره الملاحظة، لا يشافه أحداً بما يكره حياء وكرم نفس، وكان لا يسمي رجلاً بلغ عنه شيء يكرهه، بل يقول . ( ما بال أقوام يصنعون كذا ) . وكان أعدل الناس، وأعفهم، وأصدقهم لهجة، وأعظمهم أمانة، اعترف له بذلك مجاوروه وأعداؤه، وكان يسمي قبل نبوته الأمين، ويُتَحاكم إليه في الجاهلية قبل الإسلام، روي الترمذي عن على أن أبا جهل قال له : إنا لا نكذبك، ولكن نكذب بما جئت به، فأنزل الله تعالى فيهم : { فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ } [ الأنعام : 33 ] . وسأل هرقل أبا سفيان، هل تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ قال : لا .(/34)
وكان أوفي الناس بالعهود، وأوصلهم للرحم، وأعظمهم شفقة ورأفة ورحمة بالناس، أحسن الناس عشرة وأدباً، وأبسط الناس خلقاً، أبعد الناس من سوء الأخلاق، لم يكن فاحشاً، ولا متفحشاً، ولا لعاناً، ولا صخابا في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح، وكان لا يدع أحدا يمشي خلفه، وكان لا يترفع على عبيده وإمائه في مأكل ولا ملبس، ويخدم من خَدَمَه، ولم يقل لخادمه أف قط، ولم يعاتبه على فعل شيء أو تركه، وكان يحب المساكين ويجالسهم، ويشهد جنائزهم، ولا يحقر فقيراً لفقره . كان في بعض أسفارة فأمر بإصلاح شاة، فقال رجل : على ذبحها، وقال آخر : على سلخها، وقال آخر على طبخها، فقال صلى الله عليه وسلم : ( وعلي جمع الحطب ) ، فقالوا : نحن نكفيك . فقال : ( قد علمت أنكم تكفوني ولكني أكره أن أتميز عليكم، فإن الله يكره من عبده أن يراه متميزاً بين أصحابه ) ، وقام وجمع الحطب .(/35)
ولنترك هند بن أبي هالة يصف لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ قال هند فيما قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم متواصل الأحزان، دائم الفكرة، ليست له راحة، ولا يتكلم في غير حاجة، طويل السكوت، يفتتح الكلام ويختمه بأشداقه ـ لا بأطراف فمه ـ ويتكلم بجوامع الكلم، فصلاً، لا فضول فيه ولا تقصير، دمثاً ليس بالجافي ولا بالمهين، يعظم النعمة وإن دقت، لايذم شيئاً، ولم يكن يذم ذواقاً ـ ما يطعم ـ ولا يمدحه، ولا يقام لغضبه إذا تعرض للحق بشيء حتى ينتصر له، لا يغضب لنفسه، ولا ينتصر لها ـ سماحة ـ وإذا أشار أشار بكفه كلها، وإذا تعجب قلبها، وإذا غضب أعرض وأشاح، وإذا فرح غض طرفه، جل ضحكه التبسم، ويفتر عن مثل حب الغمام . وكان يخزن لسانه إلا عما يعنيه، يؤلف أصحابه ولا يفرقهم، يكرم كريم كل قوم، ويوليه عليهم، ويحذر الناس، ويحترس منهم من غير أن يطوي عن أحد منهم بشره . يتفقد أصحابه، ويسأل الناس عما في الناس، ويحسن الحسن ويصوبه، ويقبح القبيح ويوهنه، معتدل الأمر، غير مختلف، لا يغفل مخافة أن يغفلوا أو يملوا، لكل حال عنده عتاد، لا يقصر عن الحق، ولا يجاوزه إلى غيره . الذين يلونه من الناس خيارهم، وأفضلهم عنده أعمهم نصيحة، وأعظمهم عنده منزلة أحسنهم مواساة ومؤازرة .(/36)
كان دائم البشر، سهل الخلق، لين الجانب، ليس بفظ، ولا غليظ، ولا صَخَّاب، ولا فحاش، ولا عتاب، ولا مداح، يتغافل عما لا يشتهي، ولا يقنط منه . قد ترك نفسه من ثلاث : الرياء، والإكثار، وما لا يعنيه، وترك الناس من ثلاث : لا يذم أحداً، ولا يعيره، ولا يطلب عورته، ولا يتكلم إلا فيما يرجو ثوابه، إذا تكلم أطرق جلساؤه، كأنما على رءوسهم الطير، وإذا سكت تكلموا . لا يتنازعون عنده الحديث، من تكلم عنده أنصتوا له حتى يفرغ، حديثهم حديث أولهم، يضحك مما يضحكون منه، ويعجب مما يعجبون منه، ويصبر للغريب على الجفوة في المنطق، يقول : إذا رأيتم صاحب الحاجة يطلبها فأرفدوه، ولا يطلب الثناء إلا من مكافئ . وقال خارجة بن زيد : كان النبي صلى الله عليه وسلم أوقر الناس في مجلسه، لا يكاد يخرج شيئاً من أطرافه، وكان كثير السكوت، لا يتكلم في غير حاجة، يعرض عمن تكلم بغير جميل، كان ضحكه تبسماً، وكلامه فصلا لا فضول ولا تقصير، وكان ضحك أصحابه عنده التبسم توقيراً له واقتداء به [37].
2-خلق الصبر عند رسو ل الله صلى الله عليه وسلم:(/37)
إنه لا يعلم أحد مرّ به من المصائب والمصاعب والمشاق والأزمات كما مرّ به صلى الله عليه وسلم، وهو صابر محتسب {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ}[38]، صبرعلى اليتم والفقر والعوز والجوع والحاجة والتعب والحسد والشماتة وغلبة العدو أحيانا، وصبر على الطرد من الوطن والإخراج من الدار والإبعاد عن الأهل، وصبر على قتل القرابة والفتك بالأصحاب وتشريد الأتباع وتكالب الأعداء وتحزّب الخصوم واجتماع المحاربين وصلف المغرضين وكبر الجبارين وجهل الأعراب وجفاء البادية ومكر اليهود وعتوّ النصارى وخبث المنافقين وضرواة المحاربين، وصبر على تجهّم القريب وتكالب البعيد، وصولة الباطل وطغيان المكذبين.. صبر على الدنيا بزينتها وزخرفها وذهبها وفضتها، فلم يتعلق منها بشيء، وصبر على إغراء الولاية وبريق المنصب وشهوة الرئاسة، فصدف عن ذلك كله طلبا لمرضاة ربه، فهو صلى الله عليه وسلم الصابر المحتسب في كل شأن من شؤون حياته، فالصبر درعه وترسه وصاحبه وحليفه، كلما أزعجه كلام أعدائه تذكّر {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ}[39]، وكلما بلغ به الحال أشدّه والأمر أضيقه تذكّر {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ}[40]، وكلما راعه هول العدو وأقضّ مضجعه تخطيط الكفار تذكّر {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ}[41].
وصبره صلى الله عليه وسلم صبر الواثق بنصر الله، المطمئن الى وعد الله، الراكن الى مولاه، المحتسب الثواب من ربّه جلّ في علاه، وصبره صبر من علم أن الله سوف ينصره لا محالة، وأن العاقبة له، وأن الله معه، وأن الله حسبه وكافيه، يصبر صلى الله عليه وسلم على الكلمة النابية فلا تهزه، وعلى اللفظة الجارحة فلا تزعجه، وعلى الإيذاء المتعمّد فلا ينال منه.(/38)
مات عمه فصبر، وماتت زوجته فصبر، وقتل حمزة فصبر، وأبعد من مكة فصبر، وتوفي ابنه فصبر، وتوفي ابنه فصبر، ورميت زوجته الطاهرة فصبر، وكُذّب فصبر، قالوا له شاعر كاهن ساحر مجنون كاذب مفتر فصبر، أخرجوه، آذوه، شتموه، سبّوه، حاربوه، سجنوه.. فصبر، وهل يتعلّم الصبر إلا منه؟ وهل يُقتدى بأحد في الصبر إلا به؟ فهو مضرب المثل في سعة الصدر وجليل الصبر وعظيم التجمّل وثبات القلب، وهو إمام الصابرين وقدوة الشاكرين صلى الله عليه وسلم.
3-خلق الكرم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم:
فهو أكرم من خلق الله، وأجود البرية نفسا ويدا، فكفّه غمامة بالخير، ويده غيث الجود، بل هو أسرع بالخير من الريح المرسلة، لا يعرف "لا" إلا في التشهد:
كا قال "لا" قط إلا في تشهدّه لولا التشهد كانت لاؤه نعم
يعطي عليه الصلاة والسلام عطاء من لا يخشى الفقر؛ لأنه بعث بمكارم الأخلاق، فهو سيد الأجواد على الإطلاق، أعطى غنما بين جبلين، وأعطى كل رئيس قبيلة من العرب مائة ناقة، وسأله سائل ثوبه الذي يلبسه فخلعه وأعطاه، وكان لا يردّ طالب حاجة، قد وسع الناس برّه، طعامه مبذول وكفه مدرار، وصدره واسع، وخلقه سهل، ووجه بسّام:
تراه إذا ما جئته متهللا كأنك تعطيه الذي أنت سائله(/39)
ينفق مع العدم ويعطي مع الفقر، يجمع الغنائم ثو يوزعها في ساعة، ولا يأخذ منها شيئا، مائدته صلى الله عليه وسلم معروضة لكل قادم، وبيته قبلة لكل وافد، يضيف وينفق ويعطي الجائع بأكله، ويؤثر المحتاج بذات يده، ويصل القريب بما يملك، ويواسي المحتاج بما عنده، ويقدّم الغريب على نفسه، فكان صلى الله عليه وسلم آية في الجود والكرم، حتى لا يقارن به أجواد العرب كحاتم وهرم ابن جدعان؛ لأنه يعطي عطاء من لا يطلب الخلف إلا من الله، ويجود جود من هانت عليه نفسه وماله وكل ما يملك في سبيل ربه ومولاه، فهو أندى العالمين كفا، وأسخاهم يدا، وأكرمهم محتدا، قد غمر أصحابه وأحبابه وأتباعه، بل حتى أعداءه ببرّه وإحسانه وجوده وكرمه وتفضله، أكل اليهود على مائدته، وجلس الأعراب على طعامه، وحفّ المنافقون بسفرته، ولم يُحفظ عنه صلى الله عليه وسلم أنه تبرّم بضيف أو تضجّر من سائل أو تضايق من طالب، بل جرّ أعرابي برده حتى أثّر في عنقه وقال له: أعطني من مال الله الذي عندك، لا من مال أبيك وأمّك، فالتفت إليه صلى الله عليه وسلم وضحك وأعطاه، وجاءته الكنوز من الذهب والفضة وأنفقها في مجلس واحد ولم يدّخر منها درهما ولا دينارا ولا قطعة، فكان أسعد بالعطية يعطيها من السائل.
4-خلق الرحمة عنده صلى الله عليه وسلم:
كان هَدْيُه صلى الله عليه وسلم بإحقاق الصدقة ،أكملُ هَدْى في وقتها، وقدْرِها، ونِصابها، وَمَنْ تَجِبُ عليه، ومَصْرِفِها . وقد راعى فيها مصلحةَ أربابِ الأموال، ومصلحة المساكين، وجعلها اللَّه سبحانه وتعالى طُهرةً للمال ولصاحبه، وقيَّد النعمة بها على الأغنياء، فما زالت النعمةُ بالمال على مَن أدَّى زكاتَه، بل يحفظُه عليه ويُنميه له، ويدفعُ عنه بها الآفاتِ، ويجعلُها سُوراً عليه، وحِصناً له، وحارساً له .فجعلها فى أربعة أصناف من المال: وهى أكثرُ الأموال دَوَراناً بين الخلق، وحاجتُهم إليها ضرورية .(/40)
ثم إنه أوجبها مَرَّةً كلَّ عام، وجعل حَوْل الزروع والثمار عند كمالِها واستوائها، وهذا أعدلُ ما يكون، إذ وجوبُها كلَّ شهر أو كُلَّ جمعة يضُرُّ بأرباب الأموال، ووجوبُها فى العمر مرة مما يضرُّ بالمساكين، فلم يكن أعدلَ مِن وجوبها كُلَّ عام مرة . ثم إنه فاوَتَ بين مقادير الواجب بحسب سعى أرباب الأموال فى تحصيلها، وسهولةِ ذلك، ومشقته، فأوجب الخُمس فيما صادفه الإنسان مجموعاً محصَّلاً من الأموال، وهو الرِّكاز . ولم يعتبر له حَوْلاً، بل أوجب فيه الخُمسَ متى ظفر به .
وأوجب نصفه وهو العُشر فيما كانت مشقةُ تحصيله وتعبه وكُلفته فوقَ ذلك، وذلك فى الثمار والزروع التى يُباشر حرث أرضها وسقيها وبذرها، ويتولَّى اللَّه سقيها مِن عنده بلا كُلفة من العبد، ولا شراء ماءٍ، ولا إثارة بئرٍ ودولابٍ . وأوجب نِصف العُشر، فيما تولى العبد سقيَه بالكُلفة، والدَّوالى، والنواضِح وغيرها . وأوجب نِصف ذلك، وهو ربعُ العُشر، فيما كان النَّماء فيه موقوفاً على عمل متصلٍ مِن رب المال، بالضرب فى الأرض تارة، وبالإدارة تارة، وبالتربص تارة، ولا ريبَ أن كُلفة هذا أعظم من كُلفة الزرع والثمار، وأيضاً فإن نمو الزرع والثمار أظهرُ وأكثر من نمو التجارة، فكان واجبُها أكثرَ من واجب التجارة، وظهورُ النمو فيما يُسقى بالسماء والأنهار، أكثرُ مما يُسقى بالدوالى والنواضح، وظهورهُ فيما وجد محصلاً مجموعاً، كالكنز، أكثر وأظهر من الجميع .(/41)
ثم إنه لما كان لا يحتمل المواساةَ كلُّ مال وإن قلَّ، جعل للمال الذى تحتمله المواساة نُصُباً مقدَّرةً المواساة فيها، لا تُجْحِفُ بأرباب الأموال، وتقع موقِعها من المساكين، فجعل للوَرِقِ مائتى درهم، وللذهب عشرين مثقالاً، وللحبوبِ والثمار خمسةَ أوسق، وهى خمسة أحمال من أحمال إبل العرب، وللغنم أربعين شاة، وللبقر ثلاثين بقرة، وللإبل خمساً، لكن لما كان نِصابها لا يحتمل المواساة من جنسها، أوجب فيها شاة . فإذا تكررت الخمس خمس مرات وصارت خمساً وعشرين، احتمل نصابُها واحداً منها، فكان هو الواجب.
ثم إنه لما قَدَّرَ سِنَّ هذا الواجب فى الزيادة والنقصان، بحسب كثرة الإبل وقلَّتِها من ابن مَخاض، وبنت مَخاض، وفوقه ابنُ لَبُون، وبنت لَبون، وفوقه الحِقُّ والحِقَّة، وفوقَه الجَذَعُ والجَذَعَة، وكلما كثُرت الإبلُ، زاد السِّن إلى أن يصل السِّنُ إلى مُنتهاه، فحينئذٍ جعل زيادة عدد الواجب فى مقابلة زيادة عدد المال . فاقتضت حكمته أن جعل فى الأموال قَدْراً يحتمل المواساة، ولا يُجحِفُ بها، ويكفى المساكين،ولا يحتاجُون معه إلى شئ، ففرض فى أموال الأغنياء ما يكفى الفقراء، فوقع الظلمُ من الطائفتين،الغنيُّ يمنعُ ما وجب عليه، والآخذ يأخذ ما لا يستحقه، فتولَّد من بين الطائفتين ضررٌ عظيم على المساكين وفاقةٌ شديدة، أوجبت لهم أنواع الحيل والإلحاف فى المسألة.
والله سبحانه تولَّى قَسْمَ الصدقة بنفسه، وجزَّأها ثمانيةَ أجزاء، يجمعُها صِنفانِ من الناس، أحدهما: مَن يأخذ لحاجة، فيأخذ بحسب شدة الحاجة، وضعفها، وكثرتِها، وقِلَّتها، وهم الفقراءُ والمساكين، وفى الرقاب، وابن السبيل . والثانى: مَن يأخذ لمنفعته وهم العاملون عليها، والمؤلَّفةُ قلوبُهم، والغارِمون لإصلاح ذاتِ البَيْن، والغُزاةُ فى سبيل اللَّه، فإن لم يكن الآخِذُ محتاجاً، ولا فيه منفعة للمسلمين، فلا سهم له فى الزكاة[42] .
5- شجاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم:(/42)
هذا مما تناقلته الأخبار وسار مسير الشمس في رابعة النهار، فكان أثبت الناس قلبا، وكان كالطود لا يتزعزع ولا يتزلزل، ولا يخاف التهديد والوعيد، ولا ترهبه المواقف والأزمات، ولا تهزه الحوادث والملمّات، فوّض أمره لربه وتوكل عليه وأناب إليه، ورضي بحكمه واكتفى بنصره ووثق بوعده، فكان عليه الصلاة والسلام يخوض المعارك بنفسه ويباشر القتال بشخصه الكريم، يعرّض روحه للمنايا ويقدّم نفسه للموت، غير هائب ولا خائف، ولم يفرّ من معركة قط، وما تراجع خطوة واحدة ساعة يحمي الوطيس وتقوم الحرب على ساق وتشرع السيوف وتمتشق الرماح وتهوي الرؤوس ويدور كأس المنايا على النفوس، فهو في تلك اللحظة أقرب أصحابه من الخطر، يحتمون أحيانا وهو صامد مجاهد، لا يكترث بالعدوّ ولو كثر عدده، ولا يأبه بالخصم ولو قوي بأسه، بل كان يعدل الصفوف ويشجع المقاتلين ويتقدم الكتائب.
وقد فرّ الناس يوم حنينن وما ثبت إلا هو وستة من أصحابه، ونزل عليه )فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ([43] ، وكان صدره بارزا للسيوف والرماح، يصرع الأبطال بين يديه ويذبح الكماة أمام ناظريه وهو باسم المحيا، طلق الوجه، ساكن النفس.
وقفت وما في الموت شك لواقف كأنك في جفن الرّدى وهو نائم
تمرّ بك الأبطال كلمى هزيمة ووجهك وضّاح وثغرك باسم(/43)
وقد شُجّ عليه الصلاة والسلام في وجهه وكسرت رباعيته، وقتل سبعون من أصحابه، فما وهن ولا ضعف ولا خار، بل كان أمضى من السيف. وبرز يوم بدر وقاد المعركة بنفسه، وخاض غمار الموت بروحه الشريفة. وكان أول من يهبّ عند سماع المنادي، بل هو الذي سنّ الجهاد وحثّ وأمر به. وتكالبت عليه الأحزاب يوم الخندق من كل مكان، وضاق الأمر وحلّ الكرب، وبلغت القلوب الحناجر، وظن بالله الظنون، وزلزل المؤمنون زلزالا شديدا، فقام صلى الله عليه وسلم يصلي ويدعو ويستغيث مولاه حتى نصره ربّه وردّ كيد عدوّه وأخزى خصومه وأرسل عليهم ريحا وجنودا وباؤوا بالخسران والهوان.
ونام الناس ليلة بدر وما نام هو صلى الله عليه وسلم، بل قام يدعو ويتضرّع ويتوسل الى ربه ويسأله نصره وتأييده، فيا له من إمام وما أشجعه! لا يقوم لغضبه أحد، ولا يبلغ مبلغه في ثبات الجأش وقوة القلب مخلوق، فهو الشجاع الفريد والصنديد الوحيد الذي كملت فيه صفات الشجاعة وتمّت فيه سجايا الإقدام وقوة البأس، وهو القائل:" والذي نفسي بيده لوددت أنني أقتل في سبيل الله ثم أحيا ثم أقتل"[44]
6- زهد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم:(/44)
كان زهده صلى الله عليه وسلم زهد من علم فناء الدنيا وسرعة زوالها وقلة زادها وقصر عمرها، وبقاء الآخرة وما أعدّه الله لأوليائه فيها من نعيم مقيم وأجر عظيم وخلود دائم، فرفض صلى الله عليه وسلم الأخذ من الدنيا إلا بدقر ما يسدّ الرمق ويقيم الأود، مع العلم أن الدنيا عرضت عليه وتزيّنت له وأقبلت إليه، ولو أراد جبال الدنيا أن تكون ذهبا وفضة لكانت، بل آثر الزهد والكفاف، فربما بات جائعا ويمرّ الشهر لا توقد في بيته نار، ويستمر الأيام طاويا لا يجد رديء التمر يسدّ به جوعه، وما شبع من خبز الشعير ثلاث ليال متواليات، وكان ينام على الحصير حتى أثّر في جنبه، وربط الحجر على بطنه من الجوع، وكان ربما عرف أصحابه أثر الجوع في وجهه عليه الصلاة والسلام، وكان بيته من طين، متقارب الأطراف، داني السقف، وقد رهن درعه في ثلاثين صاعا من شعير عند يهودي، وربما لبس إزارا ورداء فحسب، وما أكل على خوان قط، وكان أصحابه ربما أرسلوا له الطعام لما يعلمون من حاجته إليه، كل ذلك إكراما لنفسه عن أدران الدنيا، وتهذيبا لروحه وحفظا لدينه ليبقى أجره كاملا عند ربه، وليتحقق له وعد مولاه ) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى([45] ، فكان يقسم الأموال على الناس ثم لا يحوز منها درهما واحدا، ويوّزع الإبل والبقر والغنم على الأصحاب والأتباع والمؤلفة قلوبهم ثم لا يهب بناقة ولا بقرة ولا شاة، بل يقول عليه الصلاة والسلام:" لو كان لي كعضاة ـ أي شجر ـ تهامة مالا لقسمته ثم لا تجدوني بخيلا ولا كذابا ولا جبانا"[46].
وراودته الجبال الشمّ من ذهب عن نفسه فأراها أيما شمم(/45)
بل وكان عليه الصلاة والسلام الأسوة العظمى في الإقبال على الآخرة وترك الدنيا وعدم الإلتفات إليها أو الفرح بها أو جمعها أو التلذذ بطيباتها أو التنعم بخيراتها، فلم يبن قصرا، ولم يدّحر مالا، ولم يكن له كنز ولا جنة يأكل منها، ولم يخلف بستانا ولا مزروعة، وهو القائل:" لا نورّث، ما تركناه صدقة"[47]، وكان يدعو بقوله وفعله وحاله الى الزهد في الدنيا والاستعداد للآخرة والعمل. إن ما نظر إليه صلى الله عليه وسلم وهو إمام المسلمين وقائد المؤمنين وأفضل الناس أجمعين يسكن في بيت طين وينام على حصير بال ويبحث عن تمرات تقيم صلبه، وربما اكتفى باللبن.
بل خُيّر بين أن يكون ملكا رسولا أو عبدا رسولا فاختار أن يكون عبدا رسولا، يشبع يوما ويجوع يوما، حتى لقي الله عز وجل. ومن زهده في الدنيا سخاؤه وجوده كما تقدم، فكان لا يرد سائلا ولا يحجب طالبا ولا يخيّب قاصدا، وأخبر أن الدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة، وقال:" كن في الدنيا كأنك غريب او عابر سبيل"[48]. ويروى عنه أنه قال:" ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس"[49]. وقال:" مالي وللدنيا، إنما مثلي ومثل الدنيا كمثل رجل قال في ظل شجرة ثم قام وتركها"[50] ، وقال:" الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالما أو متعلما"[51] ، وقال:" ليس لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت"[52]
7-تواضع محمد صلى الله عليه وسلم:(/46)
كان صلى الله عليه وسلم عجيبا في ذلك، فتواضعه تواضع من عرف ربّه مهابة، واستحيا منه وعظمه وقدّره حقّ قدره، وتطامن له وعرف حقارة الجاه والمال والمنصب، فسافرت روحه الى الله وهاجرت نفسه الى الدار الآخرة، فما عاد يعجبه شيء مما يعجب أهل الدنيا، فصار عبدا لربه بحق: يتواضع للمؤمنين، يقف مع العجوز ويزور المريض ويعطف على المسكين، ويصل البائس ويواسي المستضعفين ويداعب الأطفال ويمازح الأهل ويكلم الأمة، ويواكل الناس ويجلس على التراب وينام على الثرى، ويفترش الرمل ويتوسّد الحصير، قد رضي عن ربّه، فما طمع في شهرة أو منزلة أو مطلب أرضي أو مقصد دنيوي، يكلم النساء بلطف، ويخاطب الغريب بودّ، ويتألف الناس ويتبسّم في وجوه أصحابه[53] يقول:" إنما أنا عبد: آكل كما يأكل العبد واجلس كما يجلس العبد"[54] ، ولما رآه رجل ارتجف من هيبته قال:"هوّن عليك، فإني ابن امرأة كانت تاكل القديد بمكة"[55].
وكان يكره المدح، وينهى عن إطرائه ويقول:" لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، فإنما أنا عبدالله ورسوله، فقولوا عبدالله ورسوله"[56] ، وكان ينهى أن يقام له، وأن يوقف على رأسه، وكان يجلس حيثما انتهى به المجلس، وكان يختلط بالناس كأنه أحدهم، ويجيب الدعوة ويقول:" لو دعيت الى كراع لأجبت، ولو أهدي إليّ ذراع لقبلت"[57](/47)
وكان يحب المساكين، ويروى عنه قوله: "اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا، واحشرني في زمرة المساكين"[58]. وكان يحرّم الكبر وينهى عنه، ويبغض أهله ويقول:" يحشر المتكبرون يوم القيامة في صورة الذر، يغشاهم الذل من كل مكان"[59]. ويروي عن ربه أنه قال:"الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحدا منها قذفته في النار"[60]، فكان صلى الله عليه وسلم محببا الى القلوب: تأخذه الجارية بيده فيذهب معها، ويزور أم أيمن وهي مولاة. ولما مدحه وفد عامر بن صعصعة وقالوا: أنت خيرنا وأفضلنا وسيدنا وابن سيدنا قال لهم:" يا أيها الناس! قولوا بقولكم أو ببعض قولكم، لا يستجريّنكم الشيطان"[61] ، وغضب لما قال له رجل: ما شاء الله وشئت، وقال:" ويحك! أجعلتني والله عدلا؟ بل ما شاء الله وحده"[62]
وكان يحمل حاجة أهله ويخصف نعله ويرقع ثوبه ويكنس بيته ويحلب شاته ويقطع اللحم مع أهله، ويقرّب الطعام لضيفه، ويباسط زوّاره ويسأل عن اخبارهم، ويتناوب ركوب الراحلة مع رفيقه، ويلبس الصوف ويأكل الشعير، وربما مشى حافيا، وينام في المسجد، ويركب الحمار، ويردف على الدابة، ويعاون الضعيف ويتفقد السرية، ويكون في آخرهم فيساعد من احتاج، ويرافق الوحيد منهم. فصلى الله عليه وسلم ما تحرّك بذكره اللسان، وسارت بأخباره الركبان، وردّد حديثه الإنس والجان.
8-الحلم عند رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم:(/48)
ما دام أنه رسول الله فلا بد أن يكون أحلم الناس وأوسعهم صدرا، وألينهم عريكة وأدمثهم خلقا وألطفهم عشرة، فقد كان يطظم غيظه ويعفو ويصفح ويغفر لمن زلّ، ويتنازل عن حقوقه الخاصة ما لم تكن حقوقا لله. وقد عفا عمن ظلمه وطره من وطنه وآذاه وسبّه وشتمه وحاربه، فقال لهم يوم الفتح:" اذهبوا فأنتم الطلقاء"[63]. وعفا عن ابن عمّه سفيان بن الحارث يوم الفتح لما وقف أمامه وقال له: تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين، فقال عليه الصلاة والسلام: { لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ }[64].
وقد واجهه الأعراب بالجفاء وسوء الأدب، فحلم وصفح، وقد امتثل أمر ربه في قوله: { فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ }[65]، فكان لا يكافئ على السيئة بالسيئة، بل يعفو ويصفح، وكان لا ينفذ غضبه إذا كان لنفسه، ولا ينتقم لشخصه، بل إذا غضب ازداد حلما، وربّما تبسّم في وجه من أغضبه، ونصح أحد أصحابه فقال:"لا تغضب، لا تغضب، لا تغضب"[66]، وكان يبلغه الكلام السيء فيه، فلا يبحث عمن قاله ولا يعاتبه ولا يعاقبه. وورد عنه أنه قال:" لا يبلغني أحد منكم ما قيل فيّ، فإني أحب أن أخرج إليك وأنا سليم الصدر"[67]، وبلّغه ابن مسعود كلاما قيل فيه، فتغيّر وجهه وقال: "رحم الله موسى، أوذي بأكثر من هذا فصبر"[68] . وقد أوذي من خصومه في رسالته وعرضه وسمعته وأهله، فلما قدر عليهم عفا عنهم وحلم عليهم، وقال:" من كف غضبه كف الله عنه عذابه"[69] وقال له رجل: اعدل، فقال:" خبت وخسرت إذا لم أعدل"[70] ، ولم يعاقبه بل صفح عنه. وواجه بعص اليهود بما يكره، فعفا وصفح، وقد وسع بخلقه وتسامحه الناس، وأطفأ بحلمه نار العداوات ممتثلا قول ربه: { ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ }[71](/49)
وكان مع أهله أحلم الناس، يمازحهم ويلاطفهم ويعفو عنهم فيما يصدر منهم، ويدخل عليهم باسما ضحاكا، يملأ قلوبهم وبيوتهم أنسا وسعادة، يقول خادمه أنس بن مالك: خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين ما قال لي في شيء فعلته: لم فعلت هذا؟ ولا شيء لم أفعله: لم لم تفعل هذا؟ وهذا غاية الحلم ونهاية حسن الخلق، وقمة جميل السجايا ولطيف العشرة، بل كان كل من رافقه أو صاحبه أو بايعه يجد من لطفه وودّه وحلمه ما يفوق الوصف، حتى تمكن حبّه من القلوب فتعلقت به الأرواح ومالت له نفوس الناس بالكلية
9- رحمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم:
لقد وصفه ربه بقوله: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ }[72]، فهو رحمة للبشرية.. ورد عنه أنه قال:" إنما أنا رحمة مهداة"[73]. ورأى ولد إحدى بناته تفيض روحه، فبكى، فلما سئل عن ذلك قال:" هذه رحمة يضعها الله في قلب من يشاء من عباده، وإنما يرحم الله من عباه الرحماء"[74] ،وكان رحمة على القريب والبعيد، عزيز عليه أن يدخل على الناس مشقة، فكان يخفف بالناس مراعاة لأحوالهم، وربما أراد أن يطيل في الصلاة فيسمع بكاء الطفل فيخفف لئلا يشق على أمه. ولما بكت أمامة بنت زينب ابنته حملها وهو يصلي بالناس، فإذا سجد وضعها، وإذا قام رفعها.[75]
فهو صلى الله عليه وسلم سهل ميسّر رحيم في رسالته ودعوته وعبادته وصلاته وصومه وطعامه وشرابه ولباسه وحله وترحاله وأخلاقه، بل حياته مبنية على اليسر؛ لأنه جاء لوضع الآصار والأغلال عن الأمة، فليس اليسر أصلا إلا معه، ولا يوجد اليسر إلا في شريعته، فهو اليسر كله، وهو الرحمة والرفق بنفسه، صلى الله عليه وسلم.(/50)
كان صلى الله عليه وسلم أكثر الناس ذكرا لربه، حياته كلها ذكر لمولاه، فدعوته ذكر وخطبه ذكر ومواعظه ذكر وعبادته ذكر وفتاويه ذكر، وليله ونهاره وسفره وإقامته بل أنفاسه كلها ذكر لمولاه عز وجل، فقلبه معلق بربه، تنام عينه ولا ينام قلبه، بل النظر اليه يذكّر الناس بربّهم، وكل مراسيم حياته ومناسباته وذكر لخالقه جلّ في علاه.
وكان صلى الله عليه وسلم يحث الناس على ذكر ربهم، فيقول:"سبق المفردون: الذاكرون الله كثيرا والذاكرات"[76] ، ويقول:" مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكره كمثل الحيّ والميت"[77]. ويقول:" لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله"[78]. وأخبر أن أفضل الناس أكثرهم ذكرا لربه، وروى عن ربّه عز وجل قوله:" أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت شفتاه"[79]. ويقول:" من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم"[80]. وله عليه الصلاة والسلام عشرات الأحاديث الصحيحة التي تحث على الذكر وترغّب فيه، والتهليل والتسبيح والتحميد والتكبير والحوقلة والاستغفار والصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم.
وكان يذكّر الناس بأجر الذكر وما يترتب على ذلك من ثواب، وذكر الأعداد في ذلك مع ذكر المناسبات، وعمل اليوم والليلة، فهو صلى الله عليه وسلم الذاكر الشاكر الصابر، وهو الذي ذكّر الأمة بربها وعلمها تعظيمه وتسبيحه، وبيّن لها فوائد الذكر ومنافعه. فهو أسعد الناس بذكر ربه، وأهنؤهم عيشا بهذه النعمة، وأصلحهم حالا بهذا الفضل، فكان له أوراد من الأذكار مع حضور قلب وخشوع وخضوع وهيبة وخوف ومحبة ورجاء وطمع في فضل ربه.
10-شجاعة الرسول صلى الله عليه وسلم:(/51)
الرسول صلى الله عليه وسلم أشجع الناس قلبا، ويكفي شجاعته مثلا أنه ما فرّ من معركة قط، وما تأخر عن القتال، وما نكص عند النزال، بل كان إذا حمي الوطيس وقامت الحرب على ساق واحمرّت الحدق وتطايرت الرؤوس على أطراف السيوف وتكسّرت الرماح على الجماجم، حينها تجد سيد الخلق صلى الله عليه وسلم ثابت الجأش ساكن النفس، عنده من الطمأنينة والثقة بربّه ما يكفي أمة وما يفيض على جيش.
أما كان في الغار مع أبي بكر الصديق وقد أحاط بالغار كفار قريش معهم السيوف المصلتة والقلوب الحاقدة يريدون روحه صلى الله عليه وسلم بأي ثمن، وهو أعزل من السلاح؟ فلما رأى تخوف أبي بكر عليه قال:" يا أبا بكر، ما ظنّك باثنين الله ثالثهما"[81]. وهذا غاية الثبات ونهاية الشجاعة. ويفرّ المسلمون في حنين ولا يبقى إلا ستة من الصحابة، فيتقدم صلى الله عليه وسلم على بغلته الى جيش الكفار المدجج بالسلاح الكثير العدد القوي البأس، فيرميهم بحفنة تراب بيده ويقول:" شاهت الوجوه"[82]
11-الوفاء عند رسول الله صلى الله عليه وسلم:
وكان إذا وعد وفى، فلم يحفظ عنه أعداؤه خلفا لوعد، ولا خيانة لعهد، مع حرصهم الشديد على الظفر بعثرة له أو زلّة، ولكن هيهات، عاش عمره كله سلماً وحربا ورضىً وغضباً وحلاً وترحالاً، عاش حالة واحدة من الصدق والأمانة، فهل الصدق إلا ما كان عليه؟ وهل الأمانة إلا منه وإليه؟
لقد وعده رجل في مكان، فانتظر صلى الله عليه وسلم في ذلك المكان ثلاثة أيام، ليفي بوعده. لقد عاهد المشركين واليهود وهم أشد الناس عداوة له، فما خان ولا خلف بالعهد، ولا نقض لميثاق. وحق له أن يكون أوفى الناس بوعده وأصدقهم في عهده، وهو الذي جاء بشريعة الصدق والوفاء، وحذّر من الخيانة ونقض الميثاق[83]، أليس هو القائل:" آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان"[84].
12-الرسول صلى الله عليه وسلم معلما[85]:(/52)
بعث صلى الله عليه وسلم معلما الناس يعلم الناس مكارم الأخلاق ومعالي الأمور وأشرف الخصال وأنبل السجايا. فعلّم صلى الله عليه وسلم بوعظه الذي كان يهز به القلوب فكأنه منذر جيش يقول صبّحكم ومساكم، وكان إذا وعظ علا صوته واشتدّ غضبه واحمرّت عيناه، فلا تسمع إلا بكاء ونحيبا وحنينا وأنينا وتفجّعا وتوجعّا وندما وحسرة وتوبة ورجوعا وإنابة. {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً}[86] " من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهّل الله له به طريقا الى الجنة"[87] ، لقد علّم صلى الله عليه وسلم بخطبه القيمة الناعة في مناسبات العبادات، فكانت فيضا من الهدى ونهرا من النور، تزيد الإيمان وترفع اليقين ، وعلّم صلى الله عليه وسلم بفتواه لمن سأله، فكان أفقه الناس وأعظمهم إجابة وأكثرهم إصابة، وأعرفهم بما يصلح للسائل ، وعلّم صلى الله عليه وسلم بوصاياه ونصائحه التي تصل الى القلوب وتملأ النفوس تقوى وصلاحا. وعلّم بضرب الأمثال التي يعرفها الناس، وتوضيح المعاني بأمور محسوسة تقرب المعنى وتزيل الإشكال وترفع الوهم ، وعلّم صلى الله عليه وسلم بالقصص الجذاب الخلاب الذي يثير في النفوس الإعجاب والإنصات والاستجابة ، وعلّم صلى الله عليه وسلم بالقدوة الحية المتمثلة في سيرته العطرة وأخلاقه السامية وخصاله الجليلة التي أجمع على حسنها العقلاء وأحبها الأتقياء واقتدى بها الأولياء.(/53)
وأول كلمة نزلت عليه صلى الله عليه وسلم كلمة "اقرأ"، وهي من أعظم أدلة فضل العلم وقيمة المعرفة، وأمره الله أن يقول: رب زدني علما، ولم يأمره بطلب زيادة إلا من العلم لأنه طريق الرضوان وباب التوفيق وسبيل الفلاح، وامتنّ عليه ربّه بأن علّمه ما لم يكن يعلم من المعارف الإيمانية والفتوحات الربانية والمواهب الالهية، وقال له ربه: { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ }[88]. فبدأ بالعلم قبل القول والعمل، فكان صلى الله عليه وسلم أسوة العلماء وقدوة طلبةا لعلم في الاستزادة من العلم النافع والعمل الصالح، وقال:" مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث"[89]. فكانت مهمته الكبرى تعليم الكتاب والحكمة: { وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ }[90]. حتى خرج من أصحابه صلى الله عليه وسلم علماء وفقهاء وحكماء ومفسرون ومحدّثون ومفتون وخطباء ومربّون ملؤوا الدنيا علما وحكما ورشدا واستفاقة.(/54)
وقد حثّ عليه الصلاة والسلام على العلم ونشره وتعليمه فقال كما في حجة الوداع:" فليبلغ الشاهد الغائب، فرب مبلغ أوعى من سامع"[91]. وقال:" نضر الله امرءا سمع مقالتي فوعاها وحفظها وبلغها، فرب حامل فقه الى من هو أفقه منه"[92]. وقال:" بلّغوا عني ولو آية"[93]. وكانت حياته صلى الله عليه وسلم كلها تعليما لأمته، فصلاته وصيامه وصدقته وحجه وذكره لربه وكلامه وقيامه وقعوده وأكله وشربه، كل هذا تعليم وأسوة لمن آمن به واتبعه، وكان صلى الله عليه وسلم يتدرّج في التعليم، فما كان يلقي العلم على أصحابه جملة واحدة بل شيئا فشيئا {فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ}[94]، {لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً}[95]، فكان يمتثل هذا في تدريسه لأصحابه، وكان يبدأ صلى الله عليه وسلم بكبار المسائل والأهم فالمهم، ويكرر المسألة حتى تفهم عنه، ويعلّم تعليما علميا بالقدوة، كالوضوء أمام الناس ليأخذوا عنه، وصلاته لهم ليصلوا كصلاته، وقوله:" صلوا كما رأيتموني أصلي"[96]. وحجه بهم وقوله:" لتأخذوا عني مناسككم" [97]
مكارم أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم[98] :
منها وما يتعشق الكبراء يا من له الأخلاق ما تهوى العلا
ديناً يضيء بنوره الآناء لو لم تُقم ديناً لقامت وحدها
يُغري بهن ويُولع الكرماء زانتك في الخلق العظيم شمائل
وفعلت ما لا تفعل (الكرماء) وإذا سخوت بلغت بالجود المدى
لا يستهين بعفوك الجهلاء وإذا عفوت فقادراً ومقدراً
هذان في الدنيا هُما الرحماء فإذا رحمت فأنت أم أو أب
في الحق لا ضغن ولا بغضاء وإذا غضبت فإنما هي غضبة
ورضا الكثير تحلم ورياء وإذا رضيت فذاك في مرضاته
تعرو الندى وللقلوب بكاء وإذا خطبت فللمنابر هزة
جاء الخصوم من السماء قضاء وإذا قضيت فلا ارتباب كأنما
لجميع عهدك ذمة ووفاء وإذا أخذت العهد أو أعطيته(/55)
بالحق من ملف الهدى غزاء بك يا ابن عبدالله قامت سمحة
نادى بها الحكماء والعقلاء بنيت على التوحيد وهي حقيقة
والناس تحت لوائها أكفاء الله فوق الخلق فيها وحده
والأمر شوى والحقوق قضاء والدين يسر والخلافة بيعة
فالكل في حق الحياة سواء اتصفت أهل الفقر من أهل الغنى
ما لم ينل في رومة الفقهاء ظلموا شريعتك التي نلنا بها
حاد وحنت بالفلا وجناء صل عليك الله ما صحب الدجى
وَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ يَبْكِي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيمَا حَدَّثَنَا ابْنُ هِشَامٍ، عَنْ أَبِي زَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ[99]:
بِطَيْبَةَ رَسْمٌ لِلرَّسُولِ وَمَعْهَدُ مُنِيرٌ وَقَدْ تَعْفُو الرَّسُومُ وَتَهْمُدُ
وَلَا تَمْتَحِي الْآيَاتُ مِنْ دَارِ حُرْمَةٍ بِهَا مِنْبَرُ الْهَادِي الَّذِي كَانَ يَصْعَدُ
وَوَاضِحُ آثَارٍ وَبَاقِي مَعَالِمَ وَرَبْعٌ لَهُ فِيهِ مُصَلَّى وَمَسْجِدُ
بِهَا حُجُرَاتٌ كَانَ يَنْزِلُ وَسْطَهَا مِنْ اللَّهِ نُورٌ يُسْتَضَاءُ وَيُوقَدُ
مَعَارِفُ لَمْ تُطْمَسْ عَلَى الْعَهْدِآيُهَا أَتَاهَا الْبِلَى فَالْآيُ مِنْهَا تَجَدَّدُ
عَرَفْتُ بِهَا رَسْمَ الرَّسُولِ وَعَهْدَهُ وَقَبْرًا بِهَا وَارَاهُ فِي التُّرْبِ مُلْحِدُ
ظَلِلْتُ بِهَا أَبْكِي الرَّسُولَ فَأَسْعَدَتْ عُيُونٌ وَمِثْلَاهَا مِنْ الْجَفْنِ تُسْعَدُ
يُذَكِّرْنَ آلَاءَ الرَّسُولِ وَمَا أَرَى لَهَا مُحْصِيًا نَفْسِي فَنَفْسِي تَبَلَّدُ
مُفَجَّعَةً قَدْ شَفَّهَا فَقْدُ أَحْمَدَ فَظَلَّتْ لِآلَاءِ الرَّسُولِ تُعَدِّدُ
وَمَا بَلَغَتْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ عَشِيرَهُ وَلَكِنْ لِنَفْسِي بَعْدَ مَا قَدْ تَوَجَّدُ
أَطَالَتْ وُقُوفًا تَذْرِفُ الْعَيْنَ جُهْدَهَا عَلَى طَلَلِ الْقَبْرِ الَّذِي فِيهِ أَحْمَدُ
فَبُورِكْتَ يَا قَبْرَ الرَّسُولِ وَبُورِكَتْ بِلَادٌ ثَوَى فِيهَا الرَّشِيدُ الْمُسَدَّدُ(/56)
وَبُورِكَ لَحْدٌ مِنْكَ ضُمَّنَ طَيِّبًا عَلَيْهِ بِنَاءٌ مِنْ صَفِيحٍ مُنَضَّدُ
تَهِيلُ عَلَيْهِ التُّرَبَ أَيْدٍ وَأَعْيُنٍ عَلَيْهِ وَقَدْ غَارَتْ بِذَلِكَ أَسْعَدُ
لَقَدْ غَيَّبُوا حُلْمًا وَعِلْمًا وَرَحْمَةً عَشِيَّةَ عَلَّوْهُ الثَّرَى لَا يُوَسَّدُ
وَرَاحُوا بِحُزْنٍ لَيْسَ فِيهِمْ نَبِيُّهُمْ وَقَدْ وَهَنَتْ مِنْهُمْ ظُهُورٌ وَأَعْضُدُ
يُبَكُّونَ مَنْ تَبْكِي السَّمَوَاتُ يَوْمَهُ وَمَنْ قَدْ بَكَتْهُ الْأَرْضُ فَالنَّاسُ أَكَمَدُ
وَهَلْ عَدَلَتْ يَوْمًا رَزِيَّةُ هَالِكٍ رَزِيَّةَ يَوْمٍ مَاتَ فِيهِ مُحَمَّدُ ؟
تَقَطَّعُ فِيهِ مَنْزِلُ الْوَحْيِ عَنْهُمْ وَقَدْ كَانَ ذَا نُورٍ يَغُورُ وَيُنَجَّدُ
يَدُلُّ عَلَى الرَّحْمَنِ مَنْ يَقْتَدِي بِهِ وَيُنْقِذُ مِنْ هَوْلِ الْخَزَايَا وَيُرْشِدُ
إمَامٌ لَهُمْ يَهْدِيهِمْ الْحَقَّ جَاهِدًا مُعَلِّمُ صِدْقٍ إنْ يُطِيعُوهُ يُسْعَدُوا
عَفْوٌ عَنْ الزَّلَّاتِ يَقْبَلُ عُذْرَهُمْ وَإِنَّ يُحْسِنُوا فَاَللَّهُ بِالْخَيْرِ أَجْوَدُ
وَإِنْ نَابَ أَمْرٌ لَمْ يَقُومُوا بِحَمْلِهِ فَمِنْ عِنْدِهِ تَيْسِيرُ مَا يُتَشَدَّدُ
فَبَيْنَا هُمْ فِي نِعْمَةِ اللَّهِ بَيْنَهُمْ دَلِيلٌ بَهْ نَهْجُ الطَّرِيقَةِ يُقْصَدُ
عَزِيزٌ عَلَيْهِ أَنْ يَجُورُوا عَنْ الْهُدَى حَرِيصٌ عَلَى أَنْ يَسْتَقِيمُوا وَيَهْتَدُوا
عَطُوفٌ عَلَيْهِمْ لَا يُثَنَّى جُنَاحَهُ إلَى كَنَفٍ يَحْنُو عَلَيْهِمْ وَيَمْهَدُ
فَبَيْنَا هُمْ فِي ذَلِكَ النُّورِ إذْ غَدَا إلَى نُورِهِمْ سَهْمٌ مِنْ الْمَوْتِ مُقْصِدُ
فَأَصْبَحَ مَحْمُودًا إلَى اللَّهِ رَاجِعًا يُبَكِّيهِ حَقُّ الْمُرْسَلَاتِ وَيُحْمَدُ
وَأَمْسَتْ بِلَادُ الْحُرْمِ وَحْشًا بِقَاعُهَا لِغَيْبَةِ مَا كَانَتْ مِنْ الْوَحْيِ تُعْهَدُ
قِفَارًا سِوَى مَعْمُورَةِ اللَّحْدِ ضَافَهَا فَقِيدٌ يُبَكِّينَهُ بَلَاطٌ وَغَرْقَدُ(/57)
وَمَسْجِدُهُ فَالْمُوحِشَاتُ لِفَقْدِهِ خَلَاءٌ لَهُ فِيهِ مَقَامٌ وَمَقْعَدُ
وَبِالْجَمْرَةِ الْكُبْرَى لَهُ ثَمَّ أَوْحَشَتْ دِيَارٌ وَعَرَصَاتٌ وَرَبْعٌ وَمَوْلِدُ
فَبَكِّي رَسُولَ اللَّهِ يَا عَيْنُ عَبْرَةً وَلَا أَعْرِفَنَّكِ الدَّهْرَ دَمْعُكَ يُجْمَدُ
وَمَا لَكِ لَا تَبْكِينَ ذَا النِّعْمَةِ الَّتِي عَلَى النَّاسِ مِنْهَا سَابِغٌ يُتَغَمَّدُ
فَجُودِي عَلَيْهِ بِالدُّمُوعِ وَأَعْوِلِي لِفَقْدِ الَّذِي لَا مِثْلُهُ الدَّهْرَ يُوجَدُ
وَمَا فَقَدَ الْمَاضُونَ مِثْلَ مُحَمَّدٍ وَلَا مِثْلُهُ حَتَّى الْقِيَامَةِ يُفْقَدُ
أَعَفَّ وَأَوْفَى ذِمَّةً بَعْدَ ذِمَّةٍ وَأَقْرَبَ مِنْهُ نَائِلًا لَا يُنَكَّدُ
وَأَبْذَلَ مِنْهُ لِلطَّرِيفِ وَتَالِدٍ إذَا ضَنَّ مِعْطَاءٌ بِمَا كَانَ يُتْلَدُ
وَأَكْرَمَ صِيتًا فِي الْبُيُوتِ إذَا انْتَمَى وَأَكْرَمَ جَدًّا أَبْطَحِيًّا يُسَوَّدُ
وَأَمْنَعَ ذِرْوَاتٍ وَأَثْبَتَ فِي الْعُلَا دَعَائِمَ عِزٍّ شَاهِقَاتٍ تُشَيَّدُ
وَأَثْبَتَ فَرْعًا فِي الْفُرُوعِ وَمَنْبَتًا وَعُودًا غَذَّاهُ الْمُزْنُ فَالْعُودُ أَغْيَدُ
رَبَّاهُ وَلِيدًا فَاسْتَتَمَّ تَمَامُهُ عَلَى أَكْرَمِ الْخَيْرَاتِ رَبٌّ مُمَجَّدٌ
تَنَاهَتْ وَصَاةُ الْمُسْلِمِينَ بِكَفِّهِ فَلَا الْعِلْمُ مَحْبُوسٌ وَلَا الرَّأْيُ يُفْنَدُ
أَقُولُ وَلَا يُلْقَى لِقَوْلِي عَائِبٌ مِنْ النَّاسِ إلَّا عَازِبُ الْعَقْلِ مُبْعَدُ
وَلَيْسَ هَوَايَ نَازِعًا عَنْ ثَنَائِهِ لَعَلِّي بِهِ فِي جَنَّةِ الْخُلْدِ أَخْلَدُ
مَعَ الْمُصْطَفَى أَرْجُو بِذَاكَ جِوَارَهُ وَفِي نَيْلِ ذَاكَ الْيَوْمِ أَسْعَى وَأَجْهَدُ(/58)
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خُلقاً وأكرمهم وأتقاهم، عن أنس رضي الله عنه قال" كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقًا" - الحديث رواه الشيخان وأبو داود والترمذي. وعن صفية بنت حيي رضي الله عنها قالت "ما رأيت أحسن خلقًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم" - رواه الطبراني في الأوسط بإسناد حسن. قال تعالى مادحاً وواصفاً خُلق نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم {وَإِنّكَ لَعَلَىَ خُلُقٍ عَظِيمٍ}[100]
قالت عائشة لما سئلت رضي الله عنها عن خلق النبي عليه الصلاة والسلام ، قالت : (كان خلقه القرآن) صحيح مسلم. فهذه الكلمة العظيمة من عائشة رضي الله عنها ترشدنا إلى أن أخلاقه عليه الصلاة والسلام هي اتباع القرآن ، وهي الاستقامة على ما في القرآن من أوامر ونواهي ، وهي التخلق بالأخلاق التي مدحها القرآن العظيم وأثنى على أهلها والبعد عن كل خلق ذمه القرآن. وقال ابن كثير رحمه الله في تفسيره: ومعنى هذا أنه صلى الله عليه وسلم صار امتثال القرآن أمراً ونهياً سجيةً له وخلقاً ،فمهما أمره القرآن فعله ومهما نهاه عنه تركه، هذا ما جبله الله عليه من الخُلق العظيم من الحياء والكرم والشجاعة والصفح والحلم وكل خُلقٍ جميل.
عن عطاء رضي الله عنه قال: قلت لعبد الله بن عمرو أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة، قال: أجل والله إنه لموصوف في التوراة بصفته في القرآن يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وحرزًا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، لا فظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ولا يدفع بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء، بأن يقولوا لا إله إلا الله، ويفتح بها أعينًا عميًا وآذانًا صمًا وقلوبًا غلفًا -رواه البخاري.(/59)
أما حسن الخلق مع الناس فقد سبق أنه : كف الأذى والصبر على الأذى، وطلاقة الوجه وغيره. على الرغم من حُسن خلقه حيث كان يدعو الله بأن يحسّن أخلاقه ويتعوذ من سوء الأخلاق عليه الصلاة والسلام . عن عائشة رضي الله عنها قالت "كان صلى الله عليه وسلم يقول اللهم كما أحسنت خلقي فأحسن خلقي" - رواه أحمد ورواته ثقات. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال كان صلى الله عليه وسلم يدعو فيقول "اللهم إني أعوذ بك من الشقاق والنفاق وسوء الأخلاق" - رواه أبو داود والنسائي.
13-عدل النبي صلى الله عليه وسلم :
كان عدله صلى الله عليه وسلم وإقامته شرع الله تعالى ولو على أقرب الأقربين. قال تعالى: {يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَآءِ للّهِ وَلَوْ عَلَىَ أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ}[101] كان يعدل بين نسائه صلى الله عليه وسلم ويتحمل ما قد يقع من بعضهن من غيرة كما كانت عائشة ـ رضي الله عنها ـ غيورة.
فعن أم سلمة ـ رضي الله عنها أنها ـ أتت بطعامٍ في صحفةٍ لها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فجاءت عائشة، ومعها فِهرٌ ففلقت به الصحفة، فجمع النبي صلى الله عليه وسلم بين فلقتي الصحفة وهو يقول: (كلوا، غارت أُمكم ـ مرتين ـ ) ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم صحفة عائشة فبعث بها إلى أُم سلمة وأعطى صحفة أُم سلمة عائشة. رواه النسائي وصححه الألباني. قال عليه الصلاة والسلام في قصة المرأة المخزومية التي سرقت : ( والذي نفسي بيده لو كانت فاطمة بنت محمد , لقطعت يدها ).
14- عفو النبي صلى الله عليه وسلم:(/60)
عن أنس رضي الله عنه قال "كان النبي صلى الله عليه وسلم من احسن الناس خلقًا، فأرسلني يومًا لحاجة، فقلت له والله لا أذهب وفي نفسي أن أذهب لما أمرني به صلى الله عليه وسلم ، فخرجت حتى أمر على صبيان وهم يلعبون في السوق، فإذا النبي صلى الله عليه وسلم قد قبض بقفاي من ورائي، فنظرت إليه وهو يضحك فقال يا أنس أذهبت حيث أمرتك؟ قلت نعم، أنا أذهب يا رسول الله – فذهبت" رواه مسلم وأبو داود.
فعن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: بينما نحن في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء أعرابي ، فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : مَه مَه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لا تزرموه، دعوه) ، فتركوه حتى بال ، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه فقال له: (إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ، ولا القذر، إنما هي لذكر الله، والصلاة، وقراءة القرآن) قال: فأمر رجلاً من القوم فجاء بدلو من ماء فشنّه عليه. رواه مسلم.
فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رب العالمين في الحديث القدسي الذي يرويه عن ربه إن الله تعالى قالى: (... وما يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه...) رواه البخاري.
فقد كان صلى الله عليه وسلم يعرف حق ربه عز وجل عليه وهو الذي قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر على الرغم من ذلك كان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه ـ صلوات ربي وسلامه عليه ـ ويسجد فيدعو ويسبح ويدعو ويثني على الله تبارك وتعالى ويخشع لله عز وجل حتى يُسمع لصدره أزيز كأزيز المرجل.(/61)
فعن عبدالله بن الشخير ـ رضي الله عنه ـ قال: (أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ولجوفه أزيزٌ كأزيز المرجل من البكاء) رواه أبو داود وصححه الألباني. وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه، فقالت عائشة: لم تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: (أفلا أكون عبداً شكوراً) رواه البخاري.
وكان من تمثله صلى الله عليه وسلم للقرآن أنه يذكر الله تعالى كثيراً، قال عز وجل : {....وَالذّاكِرِينَ اللّهَ كَثِيراً وَالذّاكِرَاتِ أَعَدّ اللّهُ لَهُم مّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً}[102]، قال تعالى : {فَاذْكُرُونِيَ أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ}[103]، ومن تخلقه صلى الله عليه وسلم بأخلاق القرآن وآدابه تنفيذاً لأمر ربه عز وجل أنه كان يحب ذكر الله ويأمر به ويحث عليه، قال صلى الله عليه وسلم : (لأن أقول سبحانه الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر أحب إليَّ مما طلعت عليه الشمس) رواه مسلم، وقال صلى الله عليه وسلم : (مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكره ، مثل الحي والميت) رواه البخاري، وقال صلى الله عليه وسلم : (ما عمل ابن آدم عملاً أنجى له من عذاب الله من ذكر الله)[104]
لقد كان عليه الصلاة والسلام أكثر الناس دعاءً، وكان من أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول: (اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار) متفق عليه. وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنه كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم قبل موته: (اللهم إني أعوذ بك من شر ما عملت ومن شر ما لم أعمل)[105]
المبحث الرابع
شخصية غربية غيرت تاريخ الغرب (أودلف هتلر).(/62)
لا شك أنه من الغير العدل محاولة مقارنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بشخصية أخرى مهما كان لها وضعها أو تأثيرها في التاريخ. فإنه ظلم للشخصية أن يتم مقارنتها بشخصية الرسول العظيمة فتبدو صغيرة وتافهة عند مقارنتها مع شخصية غيرت مسيرة الحياة الإنسانية ومصير الإنسان على الأرض. فعلى الرغم من أن أدولف هتلر لم يكن رجلا ً عاديا ً كي تلفه عجلة الزمن , و تنثره وراءها غبارا ً تضيع أثاره في أرجاء الكون الفسيح , و ليس أدولف هتلر ملكا ً للشعب الألماني وحده , وإنه واحد من العظماء القلائل الذين كادوا يوقفون سير التاريخ و يبدلون إتجاهه و يغيرون شكل العالم , فهو إذن ملك التاريخ ، و لئن يكن هتلر الجندي لم يخلف وراءه سوى اسطورة يشوبها واقع هوة المأساة بعينها : مأساة دولة إنهارت أحلامها و نظام حكم تقوضت دعائمه و حزب تفرقت أركانه. إن ذكر شخص مثل أودلف هتلر ومثاليتها وشأنها عن الغرب لهو دليل واضح لإعجاز خلق الرسول صلى الله عليه وسلم ورفعة شأنه في العالمين.
سيرته الشخصية(/63)
لقد ولد أدولف هتلر في مساء 2 أبريل 1889 م , في قرية نمساوية صغيرة تسمى ( لبرونو ) ،وكان أبوه ألويس هتلر , يعمل موظف جمارك و كان ذا مسلك مثالي - كما يصفه هتلر - , أما والدته كلارا فقد كانت إبنة لأحد المزارعين، في السادسة من عمره دخل في مدارس التعليم الحكومية , و حصل على درجات عالية أثناء دراسته في المراحل الأولى , إلا أن مستواه الدراسي هبط في المراحل الأخيرة من التعليم العام .. يقول هتلر عن نفسه : ( في علاقاتي مع رفاقي بدأت أفكاري الشخصية تطبع تصرفاتي بطابع ٍ خاص , و على الرغم من حداثة سني , رحت أفكر في المستقبل , فما استهوتني مهنة و لا حرفة و ما راودني قط ميل إلى السير على منوال والدي , فقد بدت لي الوظيفة و كأنها حبل يشد المرء دائما ً إلى أسفل . و خيل لي في كل مرة كنت أحاول إقناع رفاقي بما يبدو لي صوابا ً ؛ بأنني خلقت محرضا و قائدا ً )[106].
بعد أن إنتهى هتلر من الثانوية في العام 1907 م , كان لديه ميول شديد لدراسة الفنون الجميلة , فتوجه إلى فيينا , و حاول الإلتحاق بأكاديمية الفنون الجميلة هناك , لكنه فشل في اختبار القبول .. و حاول مرة أخرى و فشل أيضا ً .. فسأل عميد الأكاديمية عن السبب فقال أنه يلمس من رسوماته ميلا ً أكبر لهندسة البناء لا للرسم الحر , و نصحه بالإلتحاق بكلية الهندسة .. لم يقتنع هتلر .. فعاد إلى قريته , و في تلك الأثناء ألم بوالدته مرض عضال , سرعان ما خطف روحها ..(/64)
وفي عام 1919 م ، انضم هتلر إلى حزب يميني متطرف في موينخ يُسمى ( حزب العمال الألماني ) ، وغير اسمه إلى ( حزب العمال الألماني الاشتراكي القومي ) . وأصبحت هذه الجماعات تعرف بعد ذلك باسم : ( الحزب النازيّ ) . دعا النازيون إلى اتحاد جميع الألمان في أمة واحدة ، كما دعوا إلى إلغاء معاهدة فرساي ، التي وقعتها ألمانيا بعد الحرب. كان هتلر سياسياً ومنظماً ماهراً، لذلك لقب بـ : ( الفوهرر ) أي القائد، كما نظّم جيشاً بالحزب خاصاً سماه (جنود العاصفة) . قاد الحزب النازي محاولة انقلاب سياسي في نوفمبر 1923 م ، وفشلت المحاولة وحكم على هتلر بالسجن لمدة 5 أعوام قضى منها عام واحد ثم أفرج عنه . وخلال هذا العام بدأ في تأليف كتابه ( كفاحي ) ، الذي ضمنه مبادئ الحركة النازية ، وقد أكمله في 1927م.
بدأ نجم هتلر في السطوع في 1928 م ، عندما فاز حزبه باثني عشر مقعداً في مجلس النواب , وفي عام 1930 م ، حدثت أزمة الكساد الاقتصادي العالمي ، فأستغلها هتلر بوعود قطعها لرجال الصناعة الألمانية تضمنت حمايتهم من المد الشيوعي . كان من نتائج هذه السياسة أن ارتفع عدد أعضاء حزبه في المجلس إلى 106 أعضاء ، وبرزت شخصية هتلر والتفت حولها الجماهير. وفي 13 يناير 1933 م ، عين الرئيس الألماني هندبنرغ، هتلر ، مستشاراً ( رئيساً للوزراء ) ، فأخذ يعمل على القضاء على خصوم النازية من الشيوعيين والاشتراكيين واليهود، مستخدماً وسائل مبتكرة في الدعاية . و بدأ الآن بتحقيق أهدافه القومية . وفي منتصف يوليو 1933 م ، حظرت الحكومة حرية الصحافة المعارضة للأهداف القومية و الوطنية للحزب النازي , وجميع نقابات العمال والأحزاب السياسية المضادة ، وكان الجستابو (الشرطة السرية) يطارد الأعداء والمعارضين للحكومة , برقابة شديدة , عجزوا معها عن فعل أي شيء.(/65)
وفي أغسطس 1934م ، توفي الرئيس الألماني هندبنرغ ، فحكم هتلر ألمانيا جميعها ، وأطلق على نفسه لقب ( فوهرر ـ أندر رايخسكانزلر) ؛ أي زعيم ألمانيا ومستشارها . ومنذ عام 1933، و هتلر يُعدْ ألمانيا للحرب ، لتكون زعيمة للعالم . وفي عام 1936 م ، أرسل هتلر قواته إلى منطقة الراين حيث حقق أول انتصاراته الإقليمية دون قتال . وفي مارس 1938 م ، اجتاحت قوات هتلر النمسا، فأصبحت جزءاً من ألمانيا . و عاد الفرع إلى الأصل , و تحقق هدف هتلر الأول , فجمع الأمة الألمانية تحت راية واحدة هي ألمانيا الأم .
في الأول من سبتمبر 1939 م ، اجتاحت ألمانيا بولندا بتحد ٍ سافر . فأعلنت ـ بعد يومين ـ كل من بريطانيا وفرنسا الحرب على ألمانيا . ثم اكتسحت جيوش هتلر بولندا خلال أسابيع قليلة. وفي ربيع 1940 م ، هزمت جيوش هتلر ـ بسهولة ـ الدنمارك والنرويج وهولندا وبلجيكا ولوكسمبرج وفرنسا. وواصلت بريطانيا الحرب منفردة، وتمكنت من الصمود ضد عدد كبير من الغارات الجوية الألمانية . وكانت تلك بداية الحرب العالمية الثانية .(/66)
وفي أبريل 1941 م ، غزت الجيوش الألمانية اليونان ويوغوسلافيا . فحدث تحالف بين أيطاليا و اليابان و ألمانيا مقابل التحالف الفرنسي البريطاني الأمريكي السوفييتي .. وفي يونيو من نفس العام ، بدأ هتلر الهجوم على روسيا ، واستولى على مساحات شاسعة من الاتحاد السوفيتي. غير أن السوفيت تمكنوا من سحق جيش ألماني قوامه 300 ألف رجل ، خلال معركة ( ستالينجراد ) التي استمرت خمسة شهور ( خلال عامي 1942، 1943 م ). وكانت هزيمة ألمانيا نقطة تحول رئيسية في الحرب. كما أن القوات الألمانية انهزمت أمام الإنجليز في معركة العلمين في مصر ، في النصف الثاني من عام 1942 م . ثم أخذ الجيش الألماني بالإنكسار حتى تراجع إلى ألمانيا فقط في العام 1945 م بعد خمس سنوات من القتال راح ضحيته ملايين البشر و أستخدمت فيه لأول مرة في التاريخ القنبلة النووية , لم يحتمل الفوهرر أدولف هتلر أصداء الهزيمة و إنهيار المخططات فأنتحر في مركز قيادته مع عشيقته ( إيفان براون ) تحت الأرض في 30 / نيسان / 1945 م , وبعد سبعة أيام أعلنت ألمانيا الإستسلام[107].
أقوال مؤثورة لهتلر
1- ( ... لست أدري أيهما روعني أكثر من الآخر : بؤس سواد الشعب المادي , أم إنخفاض مستواه الخلقي ؟ فقد لاحظت إنعدام الشعور بالواجب في اوساط العمال و الصناع فرب العائلة يهمل شؤون بيته و لا يهتم بتربية أولاده , لأن تحصيل الكفاف أو ما دون الكفاف يستأثر بإهتمامه . و إنعدام التربية البيتية في مجتمع كالمجتمع النمسوي , يؤدي حتما ً إلى استرخاء الوشائج التي تشد الأبناء إلى الأباء , و تشد بالتالي العائلة إلى الدولة .. مع العلم بأن الفقر هو صنو الجهل و صنو المرض , و متى ما اجتمع الثلاثة كفر الشعب بالدولة , و مات في النفوس كل شعور وطني... ).(/67)
2- ( ... كل طهارة يدعيها اليهود , هي طهارة ذات طابع خاص , فبعدهم عن النظافة يصدم النظر منذ أن تقع العين على يهودي . و لقد أضطررت لسد أنفي في كل مرة ألتقي بها أحد اليهود , لأن الرائحة التي تنبعث من أردانهم تنم عن العداء المستحكم بينهم و بين الماء و الصابون و لكن قذارتهم المادية ليست شيئا ً مذكورا ً بالنسبة إلى قذارة نفوسهم .. فقد اتشفت مع الأيام أنه ما من فعل مغاير للأخلاق , و مامن جريمة بحق المجتمع , إلا و لليهود فيها يد طولى ... ) ومن هذه المقولة يتبن التناقض في الشخصية والكفر بالديانات وعدم أحترام حقوق الإنسان.
3- ( ... أدركت أن العنف و الإرهاب هما سلاح الإشتراكية الديموقراطية , تشهره في وجوه الذين لا يجارونها , و أن تكتيكها في محاربة خصومه يقوم على تشويه سمعتهم بحملة من التشنيع تحطم أعصابهم , و قد تساءلت أكثر من مرة : لم َ لا يقوم في البلاد حزب أو حركة تقطع الطريق على الإشتراكية الديموقراطية بإعتمادها للتكتيك نفسه , جاعلة العنف و الإرهاب و سيلة لفرض عقيدتها و تخويف خصومها ؟ ... ) ويظهر من هذه الكلمات إعتناقه للعنف والإرهاب والقتل وانتهاك الإنسانية.
4- ( ... إن ما نسميه " الرأي العام " لا يرتكز دائما ً على الخبرة الشخصية ,و معرفة الأفراد معرفة حقيقية ... فهو في الغالي خاضع لتأثير الصحافة التي تتولى تنشئة الجمهور سياسيا ً بما تنشر من أخبار و تبث من آراء ... و قد أدهشتني السهولة التي يستطيع بها أرباب الصحافة أن يخلقوا تيارا ً معينا ً و أن يوجهوا الجمهور إلى وجهة تتعارض في بعض الاحيان مع مصلحة الجماعة , ففي بضعة أيام بإمكان الصحافة أن تجعل من حادث تافه قضية خطيرة تهز الدولة , و يمكنها كذلك أن تسدل الستار على القضايا الحيوية فلا يلبث الجمهور أن ينساها ... ) يظهر من ه>ه المقولة إنكاره للشورى وإحقاق الحق وانقياده للأهواء الشخصية التي يعمل على تنفيذها رغم أنف المجتمع!.(/68)
5- ( ... الدولة هي واسطة لغاية ما .و غايتها هي الحفاظ على جماعة من البشر ينتمون , روحيا ً و ماديا ً , إلى عنصر واحد , إلى جانب توفيرها أسباب النمو لهذه الجماعة..) من هذه المقولة يظهر إعتناقه لفكره العنصرية التي ينبذها الإسلام ، حيث لا يفرق الإسلام بين الشعوب ونوع الإنسان، بل يدعوا الى التوحيد والإجتماع وسيادة التعاون وروح المحبة في المجتمع.
أدولف هتلر يعتبر أكبر شرير عرفته الأنسانية وصاحب أضخم مجزرة بشرية شهدها العالم منذ من هذه اللمحة على حياه شخصية غربية غيرت مجري التاريخ الغربي ونقشت على تاريخها وصمة العار الذي يتغنى به ومازالت تعلق صوره وتعتز به. إن شخصيه في الواقع وإهتمامهم به على الرغم من المجازر والكوارث التي تسبب فيها ، لدافع قوى لبيان مسيرة وهدى الحبيب محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإظهار شأنه لعل الغشاوة تسقط عن أعينهم ، ويظهر لهم نور الإيمان ويقين الحق.
الخاتمة :
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم محلي بصفات الكمال المنقطعة النظير، أدبه ربه فأحسن تأديبه، حتى خاطبه مثنياً عليه فقال : {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}[108]، وكانت هذه الخلال مما قرب إليه النفوس، وحببه إلى القلوب، وصيره قائداً تهوي إليه الأفئدة، وألان من شكيمة قومه بعد الإباء، حتى دخلوا في دين الله أفواجاً .
وهذه الخلال التي أتينا على ذكرها خطوط قصار من مظاهر كماله وعظيم صفاته، أما حقيقة ما كان عليه من الأمجاد والشمائل فأمر لا يدرك كنهه، ولا يسبر غوره، ومن يستطيع معرفة كنه أعظم بشر في الوجود بلغ أعلى قمة من الكمال، استضاء بنور ربه، حتى صار خلقه القرآن .(/69)
قد أتينا في هذا البحث على أخلاق من الشمائل المحمدية، وجمل من علامات نبوته مقنعة ، في واحدة منها الكفاية والغنية ، وتركنا الكثير سوى ما ذكرنا ، واقتصرنا من الأحاديث الطوال على عين الغرض وفص المقصد ، ومن كثير الأحاديث وغريبها على ما صح واشتهر ، وحذفنا الإسناد في جمهورها ، طلباً للإختصار . وبحسب هذا البحث لو تقصي أن يكون ديواناً جامعاً يشتمل على مجلدات عدة. ومعجزات نبينا صلى الله عليه وسلم أظهر من سائر معجزات الرسل بوجهين : أحدهما : كثرتها ، وأنه لم يؤت نبي معجزةً إلا وعند نبينا مثلها ، أو ما هو أبلغ منها . وقد نبه الناس على ذلك ، فإن أردته فتأمل أخلاق من تقدم من الأنبياء.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صلَّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنَّك حَميد مجيد . اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنَّك حميد مجيد .
---
[1] - رواه الترمذي في باب ما جاء في الشرك لمن أحسن إليك ، وقال : هذا حديث صحيح .( سنن الترمذي بشرح تحفه الأحوذي : 6/87) .
[2] - سورة الإسراء: الاية 44ا.
[3] -صحيح البخاري 631
[4] - صحيح مسلم 1297
[5] - صحيح البخاري 5063، صحيح مسلم 1401
[6] - سورة الأحزاب، الأية 21.
[7] - سورة الأنبياء: الأية 107.
[8] - الشمائل المحمدية، للإمام أبي عيسى محمد بن سورة الترمزي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ص 197.
[9] - سورة يس : الاية30
[10] - سورةإبراهيم: الآية 3].
[11] -سورة آل عمران :الأية 184
[12] - سورة المائدة :الآية 70
[13] - سورة الأنعام: الايتين 33 -34.
[14] - الشمائل المحمدية، للإمام أبي عيسى محمد بن سورة الترمزي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ص 214.
[15] - سورة الأنعام: الآية 124.
[16] - القول الأقوم ، في معجزات النبي الأكرم،أبو يوسف محمد زايد،
[17] - سورة الشورى:الأية 23
[18] -خرج في الأحاديث الصحيحة ،809.(/70)
[19] -صحيح السيرة النبوية، للحافظ ابن كثير، الطبعة الأولى، المكتبة الإسلامية،عمان ، الأردن، ص 15.
[20] -صحيح السيرة النبوية، ما صحّ من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر أيامه، وغزواته وسراياه والوفود إليه، للحافظ ابن كثير، محمد ناصر الدين الألباني،الطبعة الأولى، المكتبة الإسلامية، عمان ، ص 15.
[21] - محمد صلى الله عليه وسلم كأنك تراه ، د. عائض بن عبدالله القرني ، الطبعة الأولى ، 2002 م ، دار ابن حزم ، بيروت لبنان ، ص 9.
[22] - أخرجه البخاري 6094 ومسلم 2607 عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه.
[23] - أخرجه أبو داود 4359، والنسائي 4067
[24] - سورة الأحزاب: الأية 8
[25] - سورة التوبة: الأية 119.
[26] - سورة محمد: الأية 21.
[27] - سورة محمد، الاية 19
[28] -سورة الفرقان:الأية 51-52.
[29] -سورة التوبة: الآية 73.
[30] -سورة فاطر : الأية 6
[31] - سورة الفرقان: الآية : 20.
[32] -سورة محمد:الآية 4.
[33] -سورة محمد: الاية 31
[34] - سورة الأنفال: الأية 12.
[35] - زاد المعاد في هدي خير العباد، للإمام العلامة شيخ الإسلام محمد بن أبى بكر الزرعى ابن قيم الجوزية، الجزء الثالث،ص 3
[36] - نور اليقين في سيرة سيد المرسلين، محمد الخضري بك، المكتبة العصرية، بيروت،2003م، ص 298.
[37] - الرحيق المختوم، صفي الرحمن المباركفوري،
[38] - سورةالنحل: الآية 127
[39] - سورة طه، الأية 130
[40] - سورة يوسف، الأية 18
[41] - سورة الأحقاف، الاية 35
[42] - زاد المعاد في هدي خير العباد، للإمام العلامة شيخ الإسلام محمد بن أبى بكر الزرعى ابن قيم الجوزية، الجزء الثاني،ص 3
[43] - سورةالنساء، الآية 84
[44] - أخرجه البخاري [36،2797] ومسلم 1876 عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[45] - سورة الضحى، الأية 5
[46] - أخرجه مالك في الموطأ 977، والطبراني في الأوسط 1864 والكامل لابن عدي 3\97.(/71)
[47] - أخرجه البخاري [3039، 3712]، ومسلم برقم 1758
[48] -أخرجه البخاري 6416 عن ابن عمر رضي الله عنهما
[49] - أخرجه ابن ماجه 4102 والطبراني في الكبير 10522 والحاكم 7833 عن سهل بن سعد الساعدي
[50] -أخرجه أحمد [3701، 4196] والترمذي 2377، وابن ماجه 4109 عن عبدالله بن مسعود وقال الترمذي حسن صحيح
[51] - أخرجه الترمذي 2322 وابن ماجه 4112 عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[52] -أخرجه مسلم 2958.
[53] - هذا الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم يامحب، أبو بكر جابر الجزائري، مكتبة العلوم والجكم بالمدينة المنورة، طبعة خاصة، ص 425.
[54] - أخرجه ابن أبي عاصم في الزهد 1\6، وابن سعد في الطبقات 1\371 .
[55] - أخرجه ابن ماجه 3312، والحاكم 4366 عن ابن مسعود، وانظر الكامل لابن عدي 6\286.
[56] - أخرجه البخاري 3445 عن ابن عباس رضي الله عنهما
[57] - أخرجه البخاري [2568، 5178].
[58] - أخرجه الترمذي 2352 عن أنس رضي الله عنه، وابن ماجه 4126 والحاكم 7911 عن أبي سعيد الخدري.
[59] - أخرجه أحمد 6639، والترمذي 2492، انظر كشف الخفاء 3236
[60] - أخرجه مسلم 2620 وأبو داود 4090 واللفظ له
[61] - أخرجه أحمد 15876 وأبو داود 4806
[62] - أخرجه أحمد [1842، 2557] والنسائي في السنن الكبرى 10825 عن ابن عباس رضي الله عنهما.
[63] - أخرجه الشافعي في الأم 7\361، والطبري في تاريخه 2\161 والبيهقي في السنن الكبرى 18055 انظر صحيح الجامع 4815.
[64] - أخرجه احمد 3750 وأبو داود 4860 والترمذي 3896 عن عبدالله بن مسعود.
[65] - سورة الحجر الأية 85
[66] - أخرجه البخاري، 6116.
[67] - أخرجه احمد 3750 وأبو داود 4860 والترمذي 3896 عن عبدالله بن مسعود.
[68] - أخرجه البخاري [ 3150، 3405] ومسلم 1062.
[69] - أخرجه أبو يعلى 4338 والبيهقي في الشعب 8311 وانظر العلل لابن أبي حاتم 1919 ومجمع الزاوئد 10\298.(/72)
[70] - أخرجه البخاري 3138 ومسلم 1063 واللفظ له عن جابر بن عبدالله
[71] -سورة المؤمنون ،الأية 96
[72] - الأنبياء، الأية 107
[73] - أخرجه الدارمي 15 مرسلا، والحاكم موصولا عن أبي هريرة برقم 100 وصححه.
[74] - أخرجه البخاري [ 1284، 6655] ومسلم 923 عن أسامة بن زيد رضي الله عنه.
[75] - أخرجه البخاري 516، ومسلم543 عن أبي قتادة رضي الله عنه.
[76] - أخرجه مسلم 2676 عن أبي هريرة رضي الله عنه
[77] - أخرجه البخاري 6407 ومسلم 779 عن أبي موسى رضي الله عنه
[78] - أخرجه أحمد [ 17227، 17245] والترمذي 3375 وابن ماجه 3793 انظر المشكاة 2279
[79] - أخرجه البخاري معلقا في كتاب التوحيد، باب قول الله { لاتحرك به لسانك}، وأحمد[10585، 10592] زابن ماجه3792 عن أبي هريرة رضي الله عنه
[80] - أخرجه البخاري 7405 ومسلم 2675 عن أبي هريرة رضي الله عنه
[81] - أخرجه البخاري [ 3653، 4663] ومسلم 2381 عن أبي بكر رضي الله عنه
[82] - أخرجه مسلم 1777 عن سلمة بن عمرو بن الأكوع رضي الله عنه.
[83] - محمد صلى الله عليه وسلم كأنك تراه ، د. عائض بن عبدالله القرني ، الطبعة الأولى ، 1422 هـ ـ 2002 م ، دار ابن حزم ، بيروت لبنان ، ص 35.
[84] - أخرجه البخاري [ 33، 2682] ومسلم 59 عن أبي هريرة رضي الله عنه
[85] - محمد صلى الله عليه وسلم كأنك تراه ، د. عائض بن عبدالله القرني ، الطبعة الأولى ، 1422 هـ ـ 2002 م ، دار ابن حزم ، بيروت لبنان ، ص 65.
[86] -سورة النساء، الأية 112.
[87] - أخرجه مسلم 2699 عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[88] - سورة محمد، الأية 19
[89] - أخرجه البخاري 79 ومسلم 2282
[90] -سورة البقرة ، الأية 129
[91] - أخرجه البخاري [1741، 7078] ومسلم 1679 عن أبي بكرة رضي الله عنه
[92] - أخرجه الترمذي 2658 عن ابن مسعود رضي الله عنه .
[93] - أخرجه البخاري 3461 عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما
[94] - سورة الاسراء، الأية 106(/73)
[95] - سورة الفرقان ، الاية 22
[96] - أخرجه البخاري 631 عن مالك بن الحويرث رضي الله عنه
[97] - أخرجه مسلم 1297 عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما.
[98] - قطوف من الشمائل المحمدية والأخلاق النبوية والآداب الإسلامية ، محمد بن جميل زينو
[99] - السِّيرَةُ النَّبَوِيَّةُ لِابْنِ هِشَام ، السيرة النبوية لابن هشام
[100] - سورة القلم: الآية 4
[101] - سورة النساء: الاية 135
[102] - سورة الأحزاب : الأية 35
[103] - سورة البقرة: الآية 152
[104] - أخرجه الطبراني بسندٍ حسن.
[105] - رواه النسائي وصححه الألباني.
[106] - كفاحي . أدولف هتلر , ترجمة : لويس الحاج , دار بيسان للنشر و التوزيع .
[107]- كفاحي . أدولف هتلر , ترجمة : لويس الحاج , دار بيسان للنشر و التوزيع .
[108] - سورة القلم : الآية 4(/74)
العنوان: رحمة الله تعالى
رقم المقالة: 1393
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ عمَّ برحمته جميع خلقه، خلقهم ورزقهم وأعطاهم، ورحم المؤمنين رحمة خاصة؛ فهداهم صراطه المستقيم، ووفقهم لعمل ما يرضيه، ثم منَّ عليهم بالخلد في دار النعيم.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ رحمه ربه وأكرمه بالرسالة، وجعله رحمة للناس أجمعين {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، وملأ قلبه بالرحمة فكان رحيمًا بأمته، مشفقًا عليها، يدلها على أسباب رحمة الله - تعالى - {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128]، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه {أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا} [الفتح: 29]، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله - عزَّ وجلَّ - فإن التقوى سبب لرحمة الله - تعالى - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحديد: 28]، وقال – سبحانه -: {وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات:10].
أيها الإخوة المؤمنون: من أسماء الرب جلَّ جلاله، وتقدست أسماؤه: الرحمن والرحيم، ومن صفاته العلى - جل في علاه -: الرحمة، وهي رحمة عامة شاملة، شملت جميع خلقه.
واسم الرحمن: دال على صفة ذاتية، واسم الرحيم: دال على صفة فعلية.(/1)
قال ابن القيم - رحمه الله تعالى -: "إن الرحمنَ دال على الصفة القائمة به سبحانه، والرحيم دالٌ على أن الرحمة صفته، والثاني دال على أنه يرحم خلقه برحمته، وإذا أردت فهم هذا فتأمل قوله: {وَكَانَ بِالمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب: 43]، {إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 117]، ولم يجئ قط (رحمن بهم) فعلم أن رحمن هو الموصوف بالرحمة، ورحيم هو الراحم برحمته"[1].
وقد جاء اسم الرحمن في القرآن في سبعة وخمسين موضعًا، وجاء اسم الرحيم في مائة وأربعة عشر موضعًا[2].
وهذا يؤكد اتصاف ربنا - جلَّ جلاله - بالرحمة، وأنه رحيم بخلقه؛ إذ كُرِّر ذلك في آيات كثيرة من كتاب الله تعالى.
وصفة الرحمة لله - تعالى - هي صفة كمال لائقة بذاته كسائر صفاته العلى، وليست كرحمة المخلوقين التي يعتريها النقص والعجز والضعف؛ بسبب نقصهم وعجزهم وضعفهم، والله - تعالى - له الكمال المطلق؛ فكانت له الرحمة الكاملة التي لا نقص فيها بوجه من الوجوه·
إنها رحمة رَحِمَ بها عباده من ملائكة وإنس وجن وحيوان، ورحم بها جميع مخلوقاته، وإذا كان ما في الوجود من آثار التدبير والتصريف الإلهي شاهدًا بملكه سبحانه؛ فإن ما لله - تعالى - على خلقه من الإحسان والإنعام شاهدٌ برحمةٍ تامةٍ وسعت كل شيء.
وآثار رحمته العامة والخاصَّة باديةٌ للعيان، ظاهرةٌ للعقلاء، أدركتها العقول، واستقرت في الفِطَر، وشاهدها الخلق.
فبرحمته - جلَّ في علاه - أوجد خلقه من العدم، ورباهم بالنعم، ودبرهم أحسن تدبير، وصرفهم أجمل تصريف.(/2)
وبرحمته - تعالى - أرسل إلينا رسله، وأنزل علينا كتبه، وهدانا من الضلالة، وبصَّرنا من العمى، وأرشدنا من الغي، {لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164].
وبرحمته - تبارك وتعالى - عرّفنا من أسمائه الحسنى، وصفاته العلى، وأفعاله الحكيمة ما عرفنا به أنه ربنا ومولانا ومعبودنا، وعلَّمنا ما لم نكن نعلم، وأرشدنا لمصالح ديننا ودنيانا {عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 5]، {وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: 113]، {فَاذْكُرُوا اللهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 239].
وبرحمته - تعالى - خلق الشمس والقمر والأنجم، وجعل الليل والنهار، وبسط الأرض وجعلها مهادًا وفراشًا وقرارًا وكفاتًا للأحياء والأموات {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان: 61-62].(/3)
وبرحمته ينشئ السحاب، وينزل الغيث، +ويُحْيي الأرض بعد موتها، ويخرج للأحياء من شجرها وخضرتها وثمارها، وسائر أرزاقها ما يأكلون وما يقتاتون، وسخر لهم ما في الأرض مما ينفعهم وينفع دوابهم، وسخر لهم ما يحملهم في البر والبحر والجو {فَانْظُرْ إِلَى آَثَارِ رَحْمَةِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي المَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الرُّوم: 50]، {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية: 13]، {وَالخَيْلَ وَالبِغَالَ وَالحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 8]، {وَسَخَّرَ لَكُمُ الفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي البَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ} [إبراهيم: 32]، {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الوَلِيُّ الحَمِيدُ} [الشُّورى: 28].
ومن رحمته - جلَّ جلاله - أنه أحوجَ الخلقَ بعضَهم إلى بعض لتتم مصالحهم، ولو أغنى بعضهم عن بعض لتعطلت مصالحهم، وانحل نظامهم، وكان من تمام رحمته بهم أن جعلَ فيهم الغني والفقير، والعزيز والذليل، والعاجز والقادر، والراعي والمرعي، ثم أفقر الجميع إليه، ثم عمَّ الجميع برحمته[3].
{أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزُّخرف: 32].
وبرحمته - جلَّ في علاه - وضع الرحمة بين عباده ليتراحموا بها، وكذلك بين سائر أنواع الحيوان، فهذا التراحم الذي بينهم بعض آثار الرحمة التي هي صفته ونعمته، واشتقَّ لنفسه منها اسم (الرحمن الرحيم) وبهذه الرحمة قوام العالم ونظامه.(/4)
قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله خلق الرحمة يوم خلق السموات والأرض مائة رحمة، كل رحمة طباق ما بين السموات والأرض)) وفي رواية: ((فأمسك عنده تسعًا وتسعين رحمةً، وأرسل في خلقه كلهم رحمة واحدة)) وفي رواية: ((إن لله مائة رحمة أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام، فبها يتعاطفون وبها يتراحمون، وبها تعطف الوحشُ على ولدها - وفي رواية: حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه - وأخَّر الله تسعًا وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة))؛ رواه الشيخان[4].
إن أوسع المخلوقات شيئًا عرش الرحمن الرحيم، وأوسعَ الصفاتِ رحمته؛ فاستوى على عرشه الذي وسع كل المخلوقات بصفة رحمته التي وسعت كل شيء، ولما استوى على عرشه باسم (الرحمن) الذي اشتقه من صفة الرحمة، وتسمى به دون خلقه، كتب بمقتضاه على نفسه يوم استوائه على عرشه حين قضى الخلق كتابًا فهو عنده، وضعه على عرشه أن رحمته سبقت غضبه، وكان هذا الكتابُ العظيمُ الشأنِ كالعهدِ منه – سبحانه - للخليقة كلها بالرحمة لهم، والعفو عنهم، والمغفرة والتجاوزِ والستر والإمهال والحِلم والأناة؛ فكان قيام العالم كله في السماء والأرض بمضمون هذا الكتاب، الذي لولاه لكان للخلق شأن آخر[5].وقد روى الشيخان من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((لما خلق الله الخلق كتب كتابه: إن رحمتي تغلب غضبي))، وفي رواية: ((إن رحمتي سبقت غضبي))[6].
وهذا موافق لقوله – سبحانه -: {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 12]، وهو - جلَّ ذكره - يكتب على نفسه ما شاء؛ لأنه لا آمر له ولا ناهي يوجب عليه ما يطالبه به، ولكنه – سبحانه - إذا وعد عباده وعدًا أنجزه {وَعْدَ الله لَا يُخْلِفُ اللهُ المِيعَادَ} [الزُّمر: 20]، {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ الله} [التوبة: 111].(/5)
ومن رحمته - تعالى - أنه يُعيذ من سخطه برضاه، ومن عقوبته بعفوه، ومن نفسه بنفسه.
وخَلْقُ الجنة وما فيها من النعيم المقيم ما هو إلا رحمةٌ منه – سبحانه - بعباده المؤمنين، فبرحمته خلقت، وبرحمته عمرت بأهلها، وبرحمته وصلوا إليها، وبرحمته طاب عيشهم فيها.
روى الشيخان من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما من أحد يُدخله عمله الجنة)). فقيل: "ولا أنت يا رسول الله"؟! قال: ((ولا أنا إلا أن يتغمدني ربي برحمة)) وفي رواية: ((إلا أن يتغمدني ربي برحمة منه وفضل))[7].
ومن رحمته - تعالى - أنه ما عذَّب العصاة من عباده إلا بعد أن ابتلاهم، وبيَّن لهم طريق الحقّ فرفضوه، ودلَّهم على الخير فما قبلوه، ولو شاء – سبحانه - لعذَّبهم بلا ابتلاء ولا اختبار، ولو فعل لكان ذلك عدلاً منه؛ لأنه خلقهم ويتصرف فيهم كيف شاء، ولكن رحمته - التي وسعت كل شيء - اقتضت أن يُعْذِرَ إليهم، ويقيمَ الحجة عليهم قبل أن يعذبهم {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165].
وآثار رحمة الله - تعالى - على خلقه ليس يحدها الحد، ولا يحصيها العد؛ ففي كل شأن من شؤون الخلق تجد آثارًا لرحمة أرحم الراحمين بهم.(/6)
قال ابن القيم - رحمه الله تعالى -: "وتأمل قوله - تعالى -: {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ القُرْآَنَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ البَيَانَ} [الرَّحمن: 1-4]. كيف جعل الخلق والتعليم ناشئًا عن صفة الرحمة، متعلقًا باسم الرحمن، وجعل معاني السورة مرتبطةً بهذا الاسم، وختمها بقوله: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الجَلَالِ وَالإِكْرَامِ} [الرَّحمن: 78]، فالاسم الذي تبارك هو الذي افتتح به السورة، وهو اسم "الرحمن" إذ مجئ البركة كلها منه، وبه وضعت البركةُ في كل مبارك... إلى أن قال - رحمه الله -: وإذا أراد الله بأهلِ الأرض خيرًا نشر عليهم أثرًا من آثار اسمه الرحمن، فعمر به البلاد وأحيا به العباد، وإذا أراد بهم شرًّا أمسك عنهم ذلك الأثر، فحلَّ بهم من البلاء بحسب ما أمسك عنهم من آثار اسمه الرحمن... وأنت لو تأملت العالم بعين البصيرة لرأيته ممتلئًا بهذه الرحمة الواحدة، التي أنزلها إلى الأرض كامتلاء البحر بمائه، والجو بهوائه، فسبحان أحكمِ الحاكمين وأرحم الراحمين"[8]!!
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {هُوَ اللهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [الحشر: 22].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله - تعالى - بفعل ما أمر، واجتنبوا الفواحش ما بطن منها وما ظهر، واعلموا أن الله شديد العقاب، وأنه غفور رحيم.(/7)
أيها المؤمنون: من آثارِ رحمة الله - تعالى - بعباده أن فتح للعصاة منهم أبواب التوبة، فمهما أسرفوا على أنفسهم في الذنوب، ومهما ارتكبوا من الشرك والكفر والعصيان فإنهم إذا تابوا وصدقوا مع الله - تعالى - قَبِل اللهُ توبتهم، وزكى أعمالهم، وعفا عن ماضيهم {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزُّمر: 53].
وروى الشيخان من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع بجنته أحد، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من جنته أحد))[9].
وأحظى الناس برحمة الله - تعالى - أهل طاعته، الذين آمنوا به، وصدقوا رسله، والتزموا شريعته، وجانبوا المعاصي والمحرمات. وإذا تسلط عليهم الشيطان فاستزلهم، وزين لهم المعصية؛ فوقعوا فيها، سرعان ما يرجعون ويتوبون {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 156]، {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ العَامِلِينَ} [آل عمران: 135-136].
وأبعد الناس عن رحمة الله - تعالى - مَن عبدوا غيره، وخضعوا لسواه، وقدموا أهواءهم على شريعته، وارتكبوا مناهيه، وخالفوا أوامره..(/8)
وبقدر قرب العبد من الله - تعالى - محبةً، وخوفًا، ورجاءً، وإنابة، والتزامًا بفرائضه يكون قربه من نيل رحمة الله - تعالى – وعفوه. وتبعدُ رحمة الله - تعالى - عن العبد بقدرِ ابتعاده عن شريعته.
فحذارِ أن تغرَّ العبدَ نفسُه فيتَّكل على رحمة الله - تعالى - بلا عمل صالح، فكما أنه – سبحانه - غفور رحيم فهو كذلك شديد العقاب، وسريع العقاب، وعزيز ذو انتقام، وبطشه شديد، وأخذه أليم {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآَخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ} [هود: 102-103].
أيها الإخوة: ما أحوج المسلمين في هذا العصر إلى النظر بعين الاعتبار واليقين إلى رحمة أرحم الراحمين؛ حيث تكالب الأعداء على دينهم، وأحاطت بهم المشكلات من كل جوانبهم، وعمت الأزمات بلدانهم، وزين لهم شياطين الجن والإنس من قوى ظالمة، ومنافقين موتورين أنه لا مخرج من هذه الأزمات والمشكلات إلا بتبديل دينهم، وتغيير شريعتهم، واستبدالها بما يرضي الكافرين والمنافقين، وهذا والله هو الابتلاءُ للمؤمنين الصادقين، وهو الفتنة لضعفاء الإيمان واليقين.
فإن ثبت المؤمنون على دينهم، ورفضوا تبديل شريعتهم، وتحملوا تبعات ذلك فإنهم قد أحسنوا، ورحمةُ الله - تعالى - قريب من المحسنين. ومن تزعزع منهم، وتفلت من دينه، وتنازل عن شريعة ربه؛ فإنه يضر نفسه ولا يضر الله شيئًا، وكيف يطلب رحمة الله - تعالى - من غيَّر دينه، وترك شريعته؟!(/9)
ومن رحمة الله - تعالى - بعباده المؤمنين أنه يثبتهم في الابتلاءات، ويربط على قلوبهم، ويقوي نفوسهم. وكلما زاد الظالمون في ابتلائهم ومحاولة فتنتهم لَحَظَ المؤمنون رحمة الله - تعالى - فطمعوا فيها، فثبتوا وتحملوا ألوان الأذى والعذاب؛ كما ثبت سحرة فرعون على إيمانهم لما هددهم فرعون بقوله: {فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى * قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ البَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آَمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 71-73].
لقد ذهبوا وذهب فرعون وجنده، وبقي ثباتهم على الحق مكتوبًا في صحائفهم؛ ليكون سببًا لرحمة الله - تعالى - لهم في قبورهم وفي آخرتهم، وما نفع فرعونَ كفرُه وعلوُّه وجبروته؛ بل كان سببًا في بعده عن رحمة أرحم الراحمين، فغضب الله عليه، وعذبه في قبره قبل نشره، ولعذاب الآخرة أخزى {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العَذَابِ} [غافر: 46].
ألا وصلُّوا وسلموا على خير خلق الله كما أمركم بذلك ربكم.
---
[1] "بدائع الفوائد" (1/28)، وشرح نونية ابن القيم (1/14) وأيضاً (2/37).
[2] انظر: "النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى" لمحمد النجدي (1/77).
[3] انظر: "مختصر الصواعق المرسلة" (2/303 ـ 304).(/10)
[4] أخرجه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - البخاري في التوحيد باب: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ} [آل عمران: 28]. (7404)، ومسلم في التوبة باب: سعة رحمة الله – تعالى - وأنها تغلب غضبه (2715 ـ 2725)، وأخرجه من حديث سلمان الفارسي - رضي الله عنه - مسلم (2735)، وهذه الروايات كلها لمسلم.
[5] "مختصر الصواعق المرسلة" (2/303 ـ 304).
[6] نفس الحديث المخرج في هامش (4) بلفظ آخر.
[7] أخرجه البخاري في المرضى باب: تمني المريض الموت (5673)، ومسلم في صفات المنافقين باب: لن يدخل أحد الجنة بعمله؛ بل برحمة الله – تعالى - (2816)، والرواية الأولى لمسلم، والثانية للبخاري.
[8] "مختصر الصواعق المرسلة" (2/304-305).
[9] أخرجه البخاري في الرقائق باب الرجاء مع الخوف (6469)، ومسلم في التوبة باب في سعة رحمة الله – تعالى - وأنها تغلب غضبه (2755)، واللفظ لمسلم.(/11)
العنوان: رحمة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالأسرى
رقم المقالة: 547
صاحب المقالة: محمد مسعد ياقوت
-----------------------------------------
في الوقت الذي كانت فيه الحروب الجاهلية لا تعرف أيسر قواعد أخلاقيات الحرب، ظهر النبي – صلى الله عليه وسلم - بمبادئه العسكرية؛ ليشرِّع للعالمين تصوراً شاملاً لحقوق الأسرى في الإسلام.
وفي هذا العصر الحديث، الذي نرى فيه المنظمات الدولية قد شرَّعت بنوداً نظرية – غير مفعَّلة ولا مطبَّقة – لحقوق الأسرى، كاتفاقية جنيف، بشأن معاملة أسرى الحرب، ورعايتهم جسدياً ونفسياً.
وخير دليل على عدم تطبيق هذه الاتفاقيات، ما فعله الصرب بمسلمي البوسنة والهرسك وكوسوفا، من مذابح يندى لها جبين البشرية، ولقد أنشأ الصرب معسكراتٍ أُعدت خصيصى لاغتصاب المسلمات.
وما يفعله الصهاينة في فلسطين، وما فعله الأمريكان في العراق وأفغانستان والسودان والصومال من فساد في الأرض، وإهلاك للحرث والنسل، ومذابح جماعية للأسرى والضعفاء، وهتكٍ للأعراض الطاهرة، في معتقلات – سرية أو علنية - لا تعرف أي معنى لكرامة الإنسان.
في حين نرى رسولنا – صلى الله عليه وسلم - يشرِّع قبل هذه المنظمات بمئات السنين حقوقاً شاملة وجامعة للأسرى، أضف إلى ذلك أن النبي – صلى الله عليه وسلم - لم يجعل هذه الحقوق بنوداً نظرية بعيدة عن واقع الحروب – كما هو الحال في عصرنا - بل جعلها منهجاً عملياً، وطبقها بنفسه في غزواته، وطبقها الصحابة والتابعون - من بعدهم - في السرايا والمعارك الإسلامية.
إن في إكرام النبي – صلى الله عليه وسلم - للأسرى، مظهراً فريداً من مظاهر الرحمة، في وقت كانت تُستَباح فيه الحرمات والأعراض.
"وكثيراً ما أطلق - صلى الله عليه وسلم - سراح الأسرى في سماحة بالغة، برغم أن عددهم بلغ في بعض الأحيان ستة آلاف أسير"[1].(/1)
يقول لويس سيديو: "والكل يعلم أنه - صلى الله عليه وسلم - رفض - بعد غزوة بدر- رأْيَ عمر بن الخطاب في قتل الأسرى، وأنه صفح عن قاتل عمِّه حمزة، وأنه لم يرفض - قط - ما طُلب إليه من اللطف والسماح"[2].
نماذج في معركة بدر (17 رمضان 2هـ)
لقد استشار النبي - صلى الله عليه وسلم – وزراءه من الصحابة في أُسارى بدر؛ فأشار عليه أبو بكر - رضي الله عنه - أن يأخذ منهم فدية؛ فهم بنو العم، والعفو عنهم أحسن، ولعل الله أن يهديهم إلى الإسلام، وقال عمر - رضي الله عنه -: "لا، والله ما أرى الذي رأى أبو بكر، ولكن أرى أن تمكننا فنضرب أعناقهم؛ فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها".
فهوى النبي – صلى الله عليه وسلم - ما قال أبو بكر، ولم يهوَ ما قال عمر، فلما كان من الغد أقبل عمر؛ فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبكى هو وأبو بكر؛ فقال عمر: "يا رسول الله، من أي شيء تبكي أنت وصاحبك؛ فإن وجدت بكاء، بكيت، وإن لم أجد بكاء، تباكيت؛ لبكائكما؟ فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: "أبكي للذي عرض على أصحابك من أخذهم الفداء؛ لقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة"، وأنزل الله – تعالى - قوله: { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} [الأنفال: 67].(/2)
وقد تكلم العلماء في أي الرأيين كان أصوب؛ فرَجَّحَت طائفة قول عمر؛ لهذا الحديث، ورجحت طائفة قول أبي بكر؛ لاستقرار الأمر عليه، وموافقته الكتاب الذي سبق من الله بإحلال ذلك لهم، ولموافقته الرحمة التي غلبت الغضب، ولتشبيه النبي – صلى الله عليه وسلم – لأبي بكر في ذلك بإبراهيم وعيسى، وتشبيهه لعمر بنوح وموسى، ولحصول الخير العظيم، الذي حصل بإسلام أكثر أولئك الأسرى، ولخروج من خرج من أصلابهم من المسلمين، ولحصول القوة التي حصلت للمسلمين بالفداء، ولموافقة رسول الله – صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر أولاً، ولموافقة الله له آخراً؛ حيث استقر الأمر على رأيه، ولكمال نظر الصديق؛ فإنه رأى ما يستقر عليه حكم الله آخراً، وغلَّب جانب الرحمة على جانب العقوبة[3].
وحين أُتي بالأسارى - بعد بدر - فرَّقهم النبي– صلى الله عليه وسلم - بين أصحابه وقال: ((استوصوا بهم خيراً))[4] ، وبهذه الوصية النبوية الرفيعة، تحقق في هذا الجيل الإسلامي الفضيل قول الله تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً} [الإنسان: 8].
وهذا أبو عزيز بن عمير، أخو مصعب بن عمير، يحدثنا عما رأى، فيقول: "كنت في الأسرى يوم بدر[5]، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((استوصوا بالأسارى خيراً))[6]. وكنت في رهط من الأنصار حين أقبلوا بي من بدر؛ فكانوا إذا قدَّموا غداءهم وعشاءهم خصوني بالخبز وأكلوا التمر؛ لوصية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إياهم بنا؛ ما تقع في يد رجل منهم كِسرة خبز إلا نفحني بها، قال: فأستحيي؛ فأردُّها على أحدهم؛ فيردها عليَّ ما يمسها"[7].
ويقول جابر بن عبدالله - رضي الله عنه -: "لما كان يوم بدر، أُتي بالعباس، ولم يكن عليه ثوبٌ؛ فنظر النبي – صلى الله عليه وسلم - له قميصاً؛ فوجدوا قميص عبدالله بن أُبي يقدر عليه فكساه النبي – صلى الله عليه وسلم - إياه"[8].(/3)
كان هذا الخُلق الكريم، الذي غرسه القائد الرحيم – صلى الله عليه وسلم - في أصحابه وجنده وشعبه، قد أثَّر في إسراع مجموعة من كبراء الأسرى وأشرافهم إلى الإسلام؛ فأسلم أبو عزيز عقب معركة بدر، بُعيد وصول الأسرى إلى المدينة، وتنفيذ وصية النبي - صلى الله عليه وسلم - وأسلم معه السائب بن عبيد.
وعاد الأسرى إلى بلادهم وأهليهم، يتحدثون عن محمد – صلى الله عليه وسلم - ومكارم أخلاقه، وعن محبته وسماحته، وعن دعوته، وما فيها من البر والتقوى والإصلاح والخير[9].
نموذج معركة بني المصطلق (شعبان 5هـ)
لقد أطلق المسلمون مَن في أيديهم، من أسرى بني المصطلق – بعد معركة معهم - وذلك أن جُوَيْرِيَة بنت الحارث - سيد بني المصطلق - وقعت في سهم ثابت بن قيس؛ فكاتبها؛ فأدى عنها رسول الله – صلى الله عليه وسلم - وتزوجها؛ فأعتق المسلمون بسبب هذا الزواج مئة رجل من بني المصطلق، قد أسلموا، وقالوا : "أصهار رسول الله، صلى الله عليه وسلم"[10].
فقد كره المسلمون أن يأسروا أصهار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت عائشة رضي الله عنها: "فما أعلم امرأة أعظم بركة على قومها منها"[11].
واستكثر الصحابة على أنفسهم أن يتملَّكوا أصهار نبيهم وقائدهم – صلى الله عليه وسلم - وحيال هذا العتق الجماعي، وإزاء هذه الأريحية الفذة؛ دخلت القبيلة كلها في دين الله.
إن مرد هذا الحدث التاريخي وسببه البعيد، هو حب الصحابة للنبي – صلى الله عليه وسلم - وتكريمهم إياه، وإكبارهم شخصه العظيم[12]، وتأسيهم بأخلاق قائدهم في معاملة الأسرى، التي عهدوها منه في حروب سابقة.
نموذج معركة حنين (10 شوال 8هـ)(/4)
يقول جان باغوت غلوب: "وكان انتصار المسلمين - على هوازن - في حُنين كاملاً، حتى أنهم كسبوا غنائم كثيرة، بين أعداد وفيرة من الإبل والغنم، كما أسروا عدداً ضخماً من الأسرى، معظمهم من نساء هوازن وأطفالها، وعندما عاد النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الطائف دون أن يتمكن من فتحها شرع يُقسِّم الغنائم والأسلاب بين رجاله، ووصل إليه وفدٌ من هوازن المهزومة، المغلوبة على أمرها؛ يرجوه إطلاق سراح النسوة والأطفال من الأسرى؛ وسرعان ما لبَّى النبي - صلى الله عليه وسلم - الطلب بما عُرف عنه من دماثة وتسامح، فلقد كان يَنشد من جديد في ذروة انتصاره، أن يكسب الناس، أكثر من نِشدانه عقابهم وقصاصهم"[13].
لقد تأثر مالك بن عوف - زعيم هوازن المهزومة - بهذا العفو الكريم، والخلق العظيم من سيدنا محمد – صلى الله عليه وسلم - بعدما أطلق له كل الأسرى من قومه.
فجادتقريحته لمدح النبي – صلى الله عليه وسلم - فأخذ يُنشد أبياتاًً من الشعر، يشكر فيها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قائلاً:
مَا إنْ رَأَيْتُ وَلاَ سَمِعْتُ بِمِثْلِهِ فِي النَّاسِ كُلِّهِمُ بِمِثْلِ مُحَمَّدِ
أَوْفَى وَأَعْطَى لِلْجَزِيلِ إذَا اجْتُدِي ومَتَى تَشَأْ يُخْبِرْكَ عَمَّا فِي غَدِ
إذَا الْكَتِيبَةُ عَرَّدَتْ[14] أَنْيَابَهَا بِالسَّمْهَرِيِّ وضَرْبِ كُلِّ مُهَنَّدِ
فَكَأَنَّهُ لَيْثٌ عَلَى أَشْبَالِهِ وَسْطَ الْهَبَاءَةِِ[15] خَادِرٌ[16] فِي مَرْصَدِ[17].
نماذج أخرى:
* هبط على النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلح الحديبية (في ذي القعدة 6هـ)، ثمانون رجلاً متسلحين، من جبل التنعيم[18] يريدون قتله، فأسرهم، ثم منَّ عليهم[19].
* أُسر ثُمامة بن أَثال سيد بني حنيفة؛ فربطه الصحابة في سارية بالمسجد النبوي، ثم أطلقه النبي – صلى الله عليه وسلم - فأسلم[20].(/5)
* ورأى الرسولُ أسارى بني قريظة، موقوفين في قيظ النهار تحت الشمس؛ فأمر مَن يقومون بحراستهم قائلاً: ((لا تجمعوا عليهم حرَّ هذا اليوم وحرَّ السلاح، قيلوهم حتى يبردوا))، وقد سُئل الإمام مالك - رحمه الله -: أيعذَّب الأسير إن رُجي أن يدل على عورة العدو؟ فأجاب قائلاً: ما سمعت بذلك[21]، وبذلك يحرم الإسلام تعذيب الأسرى، ويرفض إهانتهم، ويقرر عدم إهمالهم، كما لا يجوز تعذيب الأسير، ولا إهانته للحصول على معلومات عسكرية منه.
* وأعطى رسول الله كسوة ونفقة لابنة حاتم الطائي عندما وقعت أسيرة في أيدي المسلمين، بل حملها حتى خرجت مع بعض أناس من قومها[22].
* وأطلق يوم فتح مكة (رمضان 8هـ) جماعة من قريش فكان يقال لهم: الطلقاء[23].
وبعدُ، فهذه نماذج، تبين لنا مدى رحمة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالأسرى، وهذه المواقف وغيرها تكشف الستار عن شخصية بلغت من السمو والرفعة مبلغاً بعيداً، شخصية تحرك الأفئدة نحوها، بفيض عارم من الرحمة والعفو والسماحة.
ــــــــــــــــــــــ
[1] مولانا محمد علي؛ حياة محمد وسيرته، ص 269.
[2] لويس سيديو؛ (نقلاً عن كتاب الإسلام بين الإنصاف والجحود، ص 134).
[3] ابن القيم؛ زاد المعاد 3/99.
[4] ابن كثير؛ البداية والنهاية 3/307.
[5] أيام كان على غير الإسلام، وكان في جيش المشركين.
[6] ابن هشام 1/644.
[7] ابن هشام 1/644، وابن سيد الناس؛ عيون الأثر 1/393.
[8] البخاري (2846) وانظر: ابن حجر العسقلاني- فتح الباري 6/144.
[9] انظر: علي محمد الصلابي؛ السيرة النبوية، 2/42.
[10] ابن كثير؛ البداية والنهاية، 4/159.
[11] ابن كثير؛ البداية والنهاية، 4/159.
[12] انظر: علي محمد الصلابي؛ السيرة النبوية 2/184.
[13] جان باغوت غلوب؛ الفتوحات العربية الكبرى ص 157- 158.
[14] عردت؛ اشتدت وضربت، القاموس المحيط 1/313.
[15] الهباءة؛ غبار الحرب, مختار الصحاح، ص689.(/6)
[16] الخادر؛ المقيم في عرينه، والخدر ستر يمد للجارية من ناحية البيت.
[17] انظر: ابن هشام؛ السيرة النبوية 4/144، والبيهقي؛ دلائل النبوة 5/270، برقم (5440)، وعلي محمد الصلابي؛ السيرة النبوية ص 405، 406.
[18] جبل التنعيم؛ موضع بمكة في الحِل، وهو الآن مدينة صناعية بالمملكة العربية السعودية. انظر:معجم البلدان 2/49، ومعجم معالم الحجاز 2/44.
[19] انظر: ابن القيم؛ زاد المعاد 3/99.
[20] انظر: ابن القيم؛ زاد المعاد 3/99.
[21] انظر: وهبة الزحيلي- آثار الحرب، ص 414.
[22] ممدوح إبراهيم الطنطاوي؛ أخلاقيات الحرب في الإسلام، مجلة الجندي المسلم؛ العسكرية الإسلامية العدد 112.
[23] انظر: صحيح مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب قوله تعالى؛ {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ}، برقم (1808)، وابن القيم؛ زاد المعاد 5/59.(/7)
العنوان: رحيل النبي عليه الصلاة والسلام (1)
رقم المقالة: 554
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
من ابتداء مرضه إلى وفاته
الحمدلله؛ كتب الموت على الأحياء، وجعل الآخرة للحساب والجزاء، نحمده حمد الشاكرين، ونستغفره استغفار المذنبين، ونسأله من فضله العظيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ تفرد بالخلق والأمر، وبالتدبير والملك، فلا رب لنا سواه، ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، وأشهد أن نبينا وحبيبنا وقرة أعيننا محمدا عبد الله ورسوله، وصفيه وخليله؛ لو كتب البقاء في الدنيا لأحد من الناس لكان هو أولى الناس بالخلد فيها {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الخَالِدُونَ} [الأنبياء:34] صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه؛ فقدوا الآباء والأمهات، والأولاد والزوجات، والإخوان والأخوات، وما فجعوا بشيء أعظم من فقدهم للنبي صلى الله عليه وسلم، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فأوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله عز وجل، والعمل والصالح، والحذر من الدنيا وفتنتها؛ فإن الدنيا دار عمل وليست دار قرار، وإن الآخرة هي دار القرار، فخذوا من دنياكم لأخراكم {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآَخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [النساء:77 ].
أيها الناس: مولد النبي صلى الله عليه وسلم، وبعثته للناس نبيا ورسولا، وهاديا ومعلما، ثم هجرته إلى المدينة، وبناء دولة الإسلام؛ كانت أحداثا هي أعظم الأحداث في تاريخ هذه الأمة، بل في التاريخ كله، ثم كانت الفاجعة بوفاته صلى الله عليه وسلم أكبر فاجعة عند المؤمنين به.(/1)
وقبل وفاته صلى الله عليه وسلم علم بدنو أجله، واقتراب رحيله؛ فودع أصحابه رضي الله عنهم في حجته وقال ( لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا ) وألمح إلى أصحابه بذلك في خطبة خطبها؛ كما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس على المنبر فقال: إن عبدا خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء وبين ما عنده فاختار ما عنده فبكى أبو بكر وقال: فديناك بآبائنا وأمهاتنا، فعجبنا له، وقال الناس: انظروا إلى هذا الشيخ يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا وبين ما عنده وهو يقول: فديناك بآبائنا وأمهاتنا، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخير وكان أبو بكر هو أعلَمَنا به) رواه البخاري.
وأخبر بذلك معاذ بن جبل رضي الله عنه لما بعثه لليمن فجعل يوصيه فلما فرغ من وصيته قال: (يا معاذ إنك عسى أن لا تلقاني بعد عامي هذا، أو لعلك أن تمر بمسجدي هذا أو قبري فبكى معاذ جَشَعَا - أي فزعا - لفراق رسول الله صلى الله عليه وسلم) رواه أحمد.
وصرح به لابنته فاطمة رضي الله عنها فقال: (إن جبريل كان يعارضني القرآن كل سنة مرة، وإنه عارضني العام مرتين، ولا أَراه إلا حضر أجلي، وإنك أول أهل بيتي لحاقاً بي).
كان سببَ ذلك مرضٌ شديد ألم به، وبدايته سنة سبع في فتح خيبر؛ إذ سمَّه اليهود في شاة قدموها له هدية، فأكل منها، وما زال أثر السم فيه حتى قبضه الله تعالى إليه بسببه.(/2)
وأول ما جاءه الوجع إثر عودته من جنازة أحد الصحابة في البقيع؛كما قالت عائشة رضي الله عنها: (رجع إليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم من جنازة بالبقيع وأنا أجد صداعا في رأسي وأنا أقول: وارأساه، قال: بل أنا وارأساه، قال: ما ضرك لو مت قبلي فغسلتك وكفنتك ثم صليت عليك ودفنتك، قلت: لكني أو لكأني بك والله لو فعلت ذلك لقد رجعت إلى بيتي فأعرست فيه ببعض نسائك، قالت: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بدئ بوجعه الذي مات فيه) رواه أحمد.
ولما أحس عليه الصلاة والسلام بقرب وفاته استغفر للأموات من الصحابة رضي الله عنهم؛ كما روى أبو مويهبة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنه فقال: (بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم من جوف الليل فقال: يا أبا مويهبة إني قد أمرت أن أستغفر لأهل البقيع فانطلق معي، فانطلقت معه، فلما وقف بين أظهرهم قال: السلام عليكم يا أهل المقابر، ليهنِ لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح فيه الناس، لو تعلمون ما نجاكم الله منه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، يتبع أولهَا آخرُها، الآخرةُ شرٌّ من الأولى، قال: ثم أقبل عليَّ فقال: يا أبا مويهبة، إني قد أوتيت مفاتيحَ خزائنِ الدنيا والخلدَ فيها ثم الجنة، وخُيِّرتُ بين ذلك وبين لقاء ربي عز وجل والجنة، قال: قلت: بأبي وأمي فخذ مفاتيحَ الدنيا والخلدَ فيها ثم الجنة، قال: لا والله يا أبا مويهبة، لقد اخترت لقاء ربي عز وجل والجنة، ثم استغفر لأهل البقيع ثم انصرف فبدئ رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجعه الذي قبضه الله عزوجل فيه حين أصبح) وفي رواية (فما لبث بعد ذلك إلا سبعا أو ثمانيا حتى قبض صلى الله عليه وسلم) رواه أحمد.(/3)
وكما استغفر عليه الصلاة والسلام لأهل البقيع استغفر كذلك لشهداء أحد رضي الله عنهم، وودع الأحياء والأموات؛ كما روى عقبة بن عامر رضي الله عنه فقال: (صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتلى أحد بعد ثماني سنين كالمودع للأحياء والأموات، ثم طلع المنبر فقال: إني بين أيديكم فَرَط وأنا عليكم شهيد، وإن موعدكم الحوض، وإني لأنظر إليه من مقامي هذا، وإني لست أخشى عليكم أن تشركوا، ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوها قال: فكانت آخر نظرة نظرتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) رواه الشيخان.
وكان في مرضه يدور على نسائه ويقول: (أين أنا غدا ؟ أين أنا غدا ؟حرصا على بيت عائشة، قالت عائشة رضي الله عنها: فلما كان يومي سكن) وفي رواية يقول (أين أنا غدا استبطاء ليوم عائشة) رواه الشيخان.
ولما ثقل صلى الله عليه وسلم، واشتد به وجعه، بعث إلى نسائه فاجتمعن فاستأذنهن أن يمرض في بيت عائشة رضي الله عنها، وقال: إني لا أستطيع أن أدور بينكن فإن رأيتن أن تأذنَّ لي فأكون عند عائشة فعلتن، فأَذِنَّ له، فخرج صلى الله عليه وسلم بين العباس وعلي رضي الله عنهما تخط رجلاه الأرض من شدة مرضه، حتى دخل بيت عائشة.
وقال صلى الله عليه وسلم :يا عائشة، ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أوانُ انقطاعِ أَبْهَرِي من ذلك السم، وهو شريان متصل بالقلب.
واشتدت حرارة جسده صلى الله عليه وسلم من المرض حتى إنه ليوعك كما يوعك رجلان، ودخل عليه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه وهو يوعك قال : (فوضعت يدي عليه فوجدت حره بين يدي فوق اللحاف، فقلت: يا رسول الله، ما أشدها عليك! قال: إنا كذلك يضعف لنا البلاء، ويضعف لنا الأجر)، وقالت عائشة رضي الله عنها تصف وجعه: (ما رأيت رجلاً أشدَّ عليه الوجعُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم) رواه الشيخان.(/4)
وآخر صلاة أمَّ الناس فيها كانت صلاة المغرب؛ كما روت أم الفضل بنتُ الحارث رضي الله عنها فقالت: (خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عاصب رأسه في مرضه فصلى المغرب فقرأ بالمرسلات، قالت: فما صلاها بعد حتى لقي الله) رواه الترمذي وقال:حسن صحيح.
فلما حضرت العشاء ما قدر أن يخرج إليهم من شدة مرضه صلى الله عليه وسلم، قالت عائشة رضي الله عنها: (ثقل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أصلى الناس؟ قلنا: لا، وهم ينتظرونك يا رسول الله، قال: ضعوا لي ماء في المِخْضَب، ففعلنا فاغتسل ثم ذهب لينوء فأغمي عليه، ثم أفاق فقال: أصلى الناس ؟ قلنا: لا وهم ينتظرونك يا رسول الله، فقال: ضعوا لي ماء في المخضب، ففعلنا فاغتسل، ثم ذهب لينوء فأغمي عليه، ثم أفاق فقال: أصلى الناس؟ قلنا: لا وهم ينتظرونك يا رسول الله، فقال: ضعوا لي ماء في المخضب، ففعلنا فاغتسل، ثم ذهب لينوء فأغمي عليه ثم أفاق، فقال: أصلى الناس؟ فقلنا: لا وهم ينتظرونك يا رسول الله، قالت: والناس عكوف في المسجد ينتظرون رسول الله صلى الله عليه وسلم لصلاة العشاء الآخرة، قالت: فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر أن يصلي بالناس...فصلى بهم أبو بكر تلك الأيام، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد من نفسه خفة فخرج بين رجلين - كأني أنظر رجليه تخطان من الوجع - لصلاة الظهر وأبو بكر يصلي بالناس فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر فأومأ إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يتأخر وقال لهما: أجلساني إلى جنبه، فأجلساه إلى جنب أبي بكر، وكان أبو بكر يصلي وهو قائم بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم، والناس يصلون بصلاة أبي بكر والنبي صلى الله عليه وسلم قاعد) رواه مسلم.(/5)
واشتد به صلى الله عليه وسلم المرض عقب ذلك، فلم يخرج إليهم، وظل أبو بكر رضي الله عنه يصلي بالناس، ومكث في مرضه ثلاثة عشر يوما، وكان عنده بضعة دنانير فسأل عنها عائشة فقالت رضي الله عنها : (هي عندي، قال: تصدقي بها، قالت: فشغلت به، ثم قال: يا عائشة ما فعلت تلك الذهب؟ فقلت: هي عندي، فقال: ائتني بها، قالت: فجئت بها فوضعها في كفه ثم قال: ما ظَنُّ محمد أن لو لقي الله وهذه عنده؟! ما ظن محمد أن لو لقي الله وهذه عنده ؟! أنفقيها) رواه أحمد، وفي روية: (قال عليه الصلاة والسلام: ابعثي بها إلى علي، فتصدق علي رضي الله عنه بها).
وفي آخر ليلة له في الدنيا - وهي ليلة الاثنين - أمسى رسول الله صلى الله عليه وسلم في جديد الموت - وهو أوله - وانتهى وقود سراج عائشة رضي الله عنها، فأرسلت بمصباح لها إلى امرأة من نسائها فقالت: اهدي لنا في مصباحنا من عكتك السمن فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمسى في جديد الموت.
ودخلت عليه ابنته فاطمة رضي الله عنها وهو يجد من كرب الموت ما يجد فقالت فاطمة رضي الله عنها: (واكرب أبتاه، فقال صلى الله عليه وسلم: لا كرب على أبيك بعد اليوم، إنه قد حضر من أبيك ما ليس بتارك منه أحدا، الموافاةُ يوم القيامة) رواه ابن ماجه.
وعرف العباس في وجه النبي صلى الله عليه وسلم الموت، وقال: (إني والله لأرى رسول الله صلى الله عليه وسلم سوف يتوفى من وجعه هذا، إني لأعرف وجوه بني عبد المطلب عند الموت) رواه البخاري.(/6)
ولما أصبح يوم الاثنين والصحابة رضي الله عنهم صفوف في الصلاة كشف رسول الله صلى الله عليه وسلم ستر الحجرة قال أنس رضي الله عنه :فنظر إلينا وهو قائم كأن وجهه ورقة مصحف - أي: عبارة عن الجمال البارع، وحسن البشرة، وصفاء الوجه واستنارته - ثم تبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ضاحكا قال: فبهتنا ونحن في الصلاة من فرح بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم - وفي رواية: فهممنا أن نفتتن من الفرح برؤية النبي صلى الله عليه وسلم - ونكص أبو بكر على عقبيه ليصل الصف، وظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خارج للصلاة، فأشار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده أن أتموا صلاتكم، قال: (ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرخى الستر) وفي رواية: ( فحمد الله على ما رأى من حسن حالهم، ورجاء أن يخلفه الله فيهم بالذي رآهم فقال: يأيها الناس أيما أحد من الناس أو من المؤمنين أصيب بمصيبة فليتعز بمصيبته بي عن المصيبة التي تصيبه بغيري فإن أحدا من أمتي لن يصاب بمصيبة بعدي أشد عليه من مصيبتي).
وغشي عليه ورأسه على فخذ عائشة رضي الله عنها، فجعلت عائشة تقرأ عليه المعوذات وتنفث، وتدعو له بالشفاء فأفاق وسمعها تدعو بشفائه فقال عليه الصلاة والسلام: (لا بل أسأل الله الرفيق الأعلى مع جبريل وميكائيل وإسرافيل) قالت عائشة رضي الله عنها: (وأخذته بحة شديدة فسمعته يقول: مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، فعلمت أنه خُيِّر).(/7)
ودخل أخوها عبد الرحمن بن أبي بكر على النبي صلى الله عليه وسلم وهي مسندته إلى صدرها ومع عبد الرحمن سواك رطب يستن به فأبَّده رسول الله صلى الله عليه وسلم بصره قالت رضي الله عنها: (فأخذت السواك فقضمته ونفضته وطيبته ثم دفعته إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستن به فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استن استنانا قط أحسن منه - وكان بين يديه ركوة أو علبة فيها ماء فجعل يدخل يده في الماء فيمسح بها وجهه ويقول: لا إله إلا الله إن للموت سكرات، ثم نصب يده فجعل يقول: في الرفيق الأعلى حتى قبض ومالت يده – وفي رواية : فما عدا أن فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع يده أو إصبعه ثم قال: في الرفيق الأعلى، في الرفيق الأعلى، في الرفيق الأعلى، ثم قضى، وكانت تقول: مات بين حاقنتي وذاقنتي) قالت: (فخرجت من فيه نطفة باردة فوقعت على ثغرة نحري فاقشعر لها جلدي فظننت أنه غشي عليه فسجيته ثوبا) قالت: (فلما خرجت نفسه لم أجد ريحا قط أطيب منها)، (وسجي صلى الله عليه وسلم بثوب حِبَرَةٍ) ومات خير البرية، وأزكى البشرية، خاتم الأنبياء والمرسلين، وكانت المصيبة به أعظم المصيبة عند المؤمنين، ووقع قول الله تعالى {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزُّمر:30] فصلوات ربي وسلامه عليه صلاة وسلاما دائمين ما تعاقب الليل والنهار، والحمد لله على كل حال، اللهم أجرنا والمسلمين أجمعين في المصيبة به، واخلف لنا خيرا منها، واحشرنا في زمرته، وأوردنا حوضه، وأسقنا بيده الشريفة كأسا لا نظمأ بعدها أبدا، وارزقنا مرافقته في الجنة، آمين يا رب العالمين، وأقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم...
الخطبة الثانية(/8)
الحمد لله على قضائه وقدره، والشكر له على إحسانه ولطفه، لا يقضي قضاء لمؤمن إلا وهو خير له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه.
أيها المسلمون: جمع الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بين النبوة والشهادة؛ وذلك أن اليهود قتلوه بالسم، قال ابن مسعود رضي الله عنه: (لأن أحلف تسعا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل قتلا أحب إليَّ من أن أحلف واحدة انه لم يقتل، وذلك بأن الله جعله نبيا واتخذه شهيدا) رواه أحمد وصححه الحاكم.
واليهودية التي سمَّت النبي صلى الله عليه وسلم ما فعلت ذلك إلا عن ملأ من سادتها وكبار قومها من رؤوس اليهود؛ حسدا للنبي صلى الله عليه وسلم، وحسدا لهذه الأمة أن بعث خاتم الرسل منها، ودليل ذلك ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه فقال: (لما فتحت خيبر أهديت للنبي صلى الله عليه وسلم شاة فيها سم فقال النبي صلى الله عليه وسلم:اجمعوا إلي من كان ها هنا من يهود فجمعوا له، فقال: إني سائلكم عن شيء فهل أنتم صادقي عنه؟ فقالوا: نعم...قال: هل جعلتم في هذه الشاة سما؟ قالوا: نعم قال: ما حملكم على ذلك؟ قالوا: أردنا إن كنت كاذبا نستريح، وإن كنت نبيا لم يضرك) رواه البخاري.(/9)
ومن فعلوا ذلك بالنبي صلى الله عليه وسلم فلن يتورعوا عن فعل أي شيء بالمسلمين، وشواهد ذلك ماثلة للعيان في فلسطين، فهم أعداء هذه الأمة إلى يوم القيامة، ومن شايعهم من إخوانهم النصارى فهم أعداء المسلمين أيضا، وإن أراد المنافقون والجاهلون غير ذلك، وزعموا صداقتهم وأخوتهم، وحسنوا لدى المسلمين صورتهم؛ فإن الأحداث تفضحهم، وضغائنهم علينا تبدو منهم، ومن والى النبي صلى الله عليه وسلم وأحبه عادى أعداءه من اليهود والنصارى والمنافقين وكرههم، وامتلأ قلبه بالغيظ لله تعالى عليهم؛ بسبب كفرهم بربهم، وقتلهم لأنبيائهم، ومعاداتهم لأتباع الرسل عليهم السلام، وهذا أصل عظيم في دين الإسلام وإن كرهه من كرهه؛ إذ كيف يحب المؤمن من كفروا بالله تعالى، وقتلوا أنبياءه عليهم السلام.(/10)
إن الحزن على فقد النبي صلى الله عليه وسلم، والتعبير عن محبته لن يكون في الاحتفال بمولده أو بعثته أو هجرته، أو اختراع بدع ما أنزل الله تعالى بها من سلطان، ولكن التعبير الصادق عن محبته يكون في موالاته وموالاة أوليائه، ومعاداة أعدائه.. يكون في اقتفاء أثره، وتحكيم شرعه، والتزام هديه، ولئن فقدنا نبينا صلى الله عليه وسلم ولم نره، فإن سنته بين أيدينا، فمن يلتزمها من؛ محبةً له ولما جاء به من الحق والهدى؟!! وما أسهل ادعاء محبته صلى الله عليه وسلم، ولكن عند التطبيق لا يثبت إلا القلائل من الرجال والنساء الذين يجانبون ما حرم الله تعالى وإن اشتهته نفوسهم، وولغ فيه غيرهم؛ محبة للنبي صلى الله عليه وسلم، وامتثالا لأمره، واجتنابا لنهيه. وقد قال الله تعالى {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الكَافِرِينَ} [آل عمران:31-32] وفي الآية الأخرى {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ} [الحشر:7] .
إن هؤلاء المحبين للنبي صلى الله عليه وسلم هم من يسألون عن سنته ويتعلمونها، ويدرسون حديثه ويحفظونه؛ ليَعْمَلُوا بها، وليُعَلِّمُوها غيرهم، ويدعوا الناس إلى امتثالها.
إنهم من يدمنون على قراءة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في حله وترحاله، وسفره وغزواته، وهديه وعباداته، وأخلاقه وصفاته، في بيته ومع أسرته ومع أصحابه ومع الناس أجمعين؛ ليلمسوا السنن، ويقتفوا الأثر؛ وذلك من شدة محبتهم له، وشوقهم إليه، فلا يشغلهم عن سيرته وأخباره شاغل.. لا غنى لقلوبهم عنها، ولا يستبدلون غيرها بها.(/11)
فانظروا يا عباد الله هل أنتم كذلك، فمن كان كذلك فليحمد الله تعالى على ما أعطاه، وليسأله الثبات، وليزدد خيرا إلى خيره، ومن كان مقصراً فليراجع نفسه، وليدرك ما بقي من أيامه، وليعوض ما مضى من تفريطه في حق النبي صلى الله عليه وسلم وسنته وسيرته، فالسعيد من سعد بالنبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، والشقي من حُجز عن حوضه لتقصيره وإحداثه وتبديله.
وصلوا وسلموا...(/12)
العنوان: رحيل النبي عليه الصلاة والسلام (2)
رقم المقالة: 551
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
الوفاة والدفن والحزن
الحمدلله الحي الذي لا يموت، القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم؛ كتب الموت على الأحياء، وتفرَّد بالعز والبقاء، نحمده على نعمه العظيمة، وآلائه الجسيمة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجَلَالِ وَالإِكْرَامِ} [الرَّحمن:27]، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ ما وترت أمته بشيء أعظم من وترها به فبكته القلوب قبل العيون، وفقده أزواجه وأصحابه والمؤمنون، فبآبائنا هو وأمهاتنا، كم من خير ناله المؤمنون بدعوته؟! وكم عذاب رفع عنهم باستغفاره ومسألته؟! فهو أمانهم ما دام فيهم، فلما قبضه الله تعالى إليه بقي فيهم ما علمهم من الهدى والقرآن {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال:33] صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه؛ ما فرحوا بشيء أعظم من فرحهم بالنبي عليه الصلاة والسلام، وما حزنوا على شيء أشد من حزنهم لما فقدوه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين...(/1)
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واعلموا أن الدنيا لو كان لها وزن عند الله تعالى لأنالها أحب خلقه إليه، وأخلصهم له، النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، ولكن الله تعالى جعلها دار امتحان وبلاء، ومهما طال عمر الواحد فيها فهو مفارقها إلى دار الحساب والجزاء، ولا نجاة له إلا بعمله الصالح، وقد خاطب الله تعالى خيرة خلقه وأفضل رسله عليه الصلاة والسلام بذلك {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الخَالِدُونَ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء:35] فتزودوا -عباد الله- من دنياكم لأخراكم، ومن حياتكم لموتكم {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزَّلزلة:8].
أيها الناس: لما أكمل الله تعالى دينه، وأتم نعمته، ورضي دينه لعباده، وبلغ رسوله عليه الصلاة والسلام ما كلف بإبلاغه؛ أذن سبحانه بقبض رسوله، وأعلمه بدنو أجله، فحج بالناس حجة الوداع، وعلمهم مناسكهم، وقال لهم (أيها الناس إني والله لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد يومي هذا بمكاني هذا) وفي رواية قال عليه الصلاة والسلام (فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه). وخص بعض أصحابه وبعض أهل بيته فصرح لهم بدنو أجله، وقرب وفاته، وعرَّض لعامة الناس بذلك في خطبة خطبها، ففهمها أبو بكر رضي الله عنه فبكى وفداه بالآباء والأمهات، وخفيت على غيره.
كان اليهود في خيبر قد وضعوا له عليه الصلاة والسلام السم في شاة فأكل منها، مدعين بأنه إن كان نبيا لم يضره، وإن كان كذابا ارتاحوا منه. فأثر فيه ذلك السم، ولا يزال يجد أثره بين الحين والآخر، بصداع يشتد عليه حتى يعصب رأسه من شدة الألم، وحمى تأخذه حتى يفرغ على نفسه سبع قرب يخففها.(/2)
واشتد به عليه الصلاة والسلام المرض فثقل عن الصلاة بالناس، ووكل أبا بكر رضي الله عنه بالنيابة عنه، وآخر صلاة أمَّ الناس فيها كانت صلاة المغرب قرأ فيها بالمرسلات.
وفي آخر لحظاته خُيِّر عليه الصلاة والسلام بين الدنيا والآخرة فاختار الآخرة؛ كما روت عائشة رضي الله عنها فقالت: (كنت أسمع أنه لن يموت نبي حتى يخير بين الدنيا والآخرة، قالت: فسمعت النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه وأخذته بحة يقول: مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا، قالت: فظننته خُيِّر حينئذ) متفق عليه.
وبات عليه الصلاة والسلام ليلة الاثنين وقد بدأه الموت، ورأى ذلك منه عمه العباس وزوجه عائشة رضي الله عنهما، فلما أصبح وحضرت صلاة الفجر وجد من نفسه عليه الصلاة والسلام خفة ونشاطا فأرخى ستر حجرته ينظر إلى أصحابه رضي الله عنهم وهم صفوف في الصلاة، فتبسم فرحا بما رأى من عبادتهم لربهم، واجتماع أمرهم، وتآلف قلوبهم. وفرحوا هم رضي الله عنهم برسول الله صلى الله عليه وسلم، وظنوا أنه خارج إليهم، فتأخر أبو بكر في الصف، فأومأ إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يبقى، ثم أرخى عليه الصلاة والسلام الستر.
ولما اشتد الضحى، وارتفعت الشمس حضره الموت، وبين يديه عليه الصلاة والسلام علبة بها ماء فكان يخفف عن نفسه سكرات الموت بالماء، فيدخل يديه في العلبة، ويمسح بهما وجهه وهو يقول: لا إله إلا الله، إن للموت سكرات، ثم نصب يده فجعل يقول: (اللهم في الرفيق الأعلى حتى قبض ومالت يده) رواه البخاري.
قالت عائشة رضي الله عنها: (ووجدت رسول الله صلى الله عليه وسلم يثقل في حجري، قالت فذهبت أنظر في وجهه فإذا بصره قد شخص وهو يقول: بل الرفيقُ الأعلى من الجنة فقلت: خُيِّرت فاخترت والذي بعثك بالحق، قالت: وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم) رواه أحمد.(/3)
وحولته عائشة رضي الله عنها من حجرها إلى وسادة، وسجته بثوب حِبَرَة، وهي من ثياب اليمن، وحزنت أشد الحزن، وبهتت بما رأت.
وأول من دخل عليه بعد موته عليه الصلاة والسلام عمر بن الخطاب والمغيرة بن شعبة رضي الله عنهما، استأذنا على عائشة فأذنت لهما وجذبت إليها الحجاب، فنظر عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مسجى فقال: واغشياه! ما أشد غشي رسول الله صلى الله عليه وسلم! ثم قاما، فلما دنوا من الباب قال المغيرة: يا عمر، مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: كذبت بل أنت رجل تحوسك فتنة، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يموت حتى يفني الله عز وجل المنافقين.
وبدأ الناس يتناقلون خبر وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فقال عمر رضي الله عنه والله لا أسمع أحدا يذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض إلا ضربته بسيفي هذا. وكان الناس أميين لم يكن فيهم نبي قبله فأمسك الناس.
وكان أبو بكر رضي الله عنه في منزله الذي بالسُّنُح من عوالي المدينة، فجاء رضي الله عنه على فرسه وعمر قائم في المسجد يخطب، فدخل أبو بكر على عائشة فرفعت الحجاب، فنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أتاه من قبل رأسه فحدر فاه وقبَّل جبهته، ثم قال: وانبياه، ثم رفع رأسه ثم حدر فاه وقبَّل جبهته ثم قال: واصفياه، ثم رفع رأسه وحدر فاه وقبَّل جبهته وقال: واخليلاه، ثم قال: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم.رواه أحمد.
وفي رواية للبخاري: فجاء أبو بكر فكشف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبله قال بأبي أنت وأمي طبت حيا وميتا والذي نفسي بيده لا يذيقك الله الموتتين أبدا.(/4)
خرج أبو بكر رضي الله عنه من حجرة عائشة وعمر رضي الله عنه يخطب في الناس ويقول: لا أسمع أحدا يزعم أن محمدا قد مات ولكنْ أَرسل إليه ربُه كما أَرسل إلى موسى ربه فقد أرسل الله إلى موسى فلبث عن قومه أربعين ليلة والله إني لأرجو أن تقطع أيدي رجال وأرجلهم يزعمون أنه مات.
فأقبل عليه أبو بكر فقال: أيها الحالف على رسلك فلما تكلم أبو بكر جلس عمر فحمد الله أبو بكر وأثنى عليه وقال: ألا من كان يعبد محمدا صلى الله عليه وسلم فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت وقال{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزُّمر:30] وقال {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144] فنشج الناس يبكون)رواه البخاري.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: والله لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر، فتلقاها منه الناس كلهم، فما أسمع بشرا من الناس إلا يتلوها.
وقال عمر رضي الله عنه: وإنها لفي كتاب الله تعالى؟! ما شعرت إنها في كتاب الله تعالى!!.
وفي رواية قال عمر رضي الله عنه: والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعقرت حتى ما تقلني رجلاي وحتى أهويت إلى الأرض حين سمعته تلاها علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد مات)رواه البخاري.
قال ابن عمر رضي الله عنهما: فوالذي نفسي بيده لكأنما كانت على وجوهنا أغطية فكشفت.
وانشغل الناس يومهم ذاك بمبايعة أبي بكر رضي الله عنه بالخلافة.(/5)
فلما أصبحوا يوم الثلاثاء (أرادوا غسل النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: والله ما ندري أنجرد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ثيابه كما نجرد موتانا أم نغسله وعليه ثيابه؟ فلما اختلفوا ألقى الله تعالى عليهم النوم حتى ما منهم رجل إلا وذقنه في صدره، ثم كلمهم مكلم من ناحية البيت لا يدرون من هو: أن اغسلوا النبي صلى الله عليه وسلم وعليه ثيابه، فقاموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فغسلوه وعليه قميصه، يصبون الماء فوق القميص ويدلكونه بالقميص دون أيديهم وكانت عائشة رضي الله عنها تقول: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسله إلا نساؤه) رواه أبو داود.
وأمرهم أبو بكر رضي الله عنه أن يغسله بنو أبيه؛ لأنهم أقرب الناس إليه، فغسله علي والفضل بن العباس وأسامة بن زيد وشقران مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال علي رضي الله عنه: (غسلت رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلت أنظر ما يكون من الميت فلم أر شيئا، وكان طيبا حيا وميتا صلى الله عليه وسلم) رواه الحاكم وصححه.
ثم كفنوه عليه الصلاة والسلام في ثلاثة أثواب بيض سُحُولية ليس فيها قميص ولا عمامة.
وقال الصحابة لأبي بكر رضي الله عنه: (يا صاحب رسول الله أيصلى على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، فقالوا: وكيف؟ قال: يدخل قوم فيكبرون ويصلون ويدعون ثم يخرجون، ثم يدخل قوم فيكبرون ويصلون ويدعون ثم يخرجون حتى يدخل الناس. قالوا: يا صاحب رسول الله، أيدفن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، قالوا: أين؟ قال: في المكان الذي قبض الله فيه روحه فإن الله لم يقبض روحه إلا في مكان طيب)رواه الترمذي في الشمائل.
فحفروا له في المكان الذي مات فيه، ولحد قبره الذي سوى قبور شهدا بدر رضي الله عنهم، ونزل في قبره عليه الصلاة والسلام: العباس وعلي والفضل وقُثَم ابني العباس وأسامة بن زيد وعبد الرحمن بن عوف.(/6)
فلما وضع في لحده صلى الله عليه وسلم قال المغيرة رضي الله عنه: قد بقى من رجليه شيء لم يصلحوه، قالوا: فادخل فأصلحه فدخل وأدخل يده فمس قدميه، فقال: أهيلوا عليَّ التراب، فأهالوا عليه التراب حتى بلغ أنصاف ساقيه، ثم خرج فكان رضي الله عنه يقول: أنا أحدثكم عهدا برسول الله صلى الله عليه وسلم) رواه أحمد.
ودفن عليه الصلاة والسلام ليلة الأربعاء، ورفع قبره نحوا من شبر، وجعل مسنما.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم....
وأقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمدلله على ما قضى وقدَّر؛ لا يقضي قضاء لمؤمن إلا كان خيرا له، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فعليه السخط، نحمده حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [البقرة:281]
أيها المسلمون: كانت وفاة النبي عليه الصلاة والسلام حدثا مهما في تاريخ الإسلام والمسلمين، وهي أعظم مصيبة أصيب بها أتباعه في كل زمان ومكان، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لأمته لما أحس بدنو أجله، وأمرهم باستحضار المصيبة به عليه الصلاة والسلام عند أي مصيبة تنزل بأحدهم؛ ليتسلى بذلك فإنه عليه الصلاة والسلام قال في مرضه الذي مات فيه: (يأيها الناس، أيما أحد من الناس أو من المؤمنين أصيب بمصيبة فليتعز بمصيبته بي عن المصيبة التي تصيبه بغيري فإن أحدا من أمتي لن يصاب بمصيبة بعدي أشد عليه من مصيبتي) رواه ابن ماجه.(/7)
وأحس الصحابة بعد دفنه عليه الصلاة والسلام بعظيم الأسى، والتاعت قلوبهم بفقدهم له إماما ومعلما وهاديا فابنته فاطمة رضي الله عنها قالت: (يا أنس، أطابت أنفسكم إن دفنتم رسول الله صلى الله عليه وسلم في التراب ورجعتم) رواه أحمد وفي رواية للبخاري قالت فاطمة رضي الله عنها: (يا أنس أطابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم التراب).
وقد بين أنس رضي الله عنه حالهم بمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم مهاجرا، ثم حالهم بوفاته عليه الصلاة والسلام فقال: (لما كان اليوم الذي قدم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أضاء منها كل شيء فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء، وقال ما نفضنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الأيدي حتى أنكرنا قلوبنا) رواه أحمد.
وروى موسى بن عقبة أن حاضنة النبي صلى الله عليه أم أيمن رضي الله عنها بكت عقب وفاته، فقيل لها: ما يبكيك؟ قد أكرم الله نبيه فأدخله جنته، وأراحه من نصب الدنيا، فقالت إنما أبكي على خبر السماء كان يأتينا غضا جديدا كل يوم وليلة فقد انقطع ورفع فعليه أبكي فعجب الناس من قولها).
وثبت في الصحيح أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما زاراها فبكت وقالت:أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء فهيجتهما على البكاء فجعلا يبكيان معها)رواه مسلم.
وقد وصف إمام أهل السير محمد بن إسحاق رحمه الله تعالى حال الصحابة عقب وفاة النبي عليه الصلاة والسلام فقال: (لما توفي رسول الله ارتدت العرب واشرأبت اليهودية والنصرانية ونجم النفاق وصار المسلمون كالغنم المطيرة في الليلة الشاتية لفقد نبيهم حتى جمعهم الله تعالى على أبي بكر رضي الله عنه).
وأهل السير على مر العصور لما دونوا أحداث مرضه ووفاته عليه الصلاة والسلام قالوا: إن لله وإنا إليه راجعون؛ طلبا للأجر، وتطبيقا للآية القرآنية، وامتثالا للسنة النبوية. فنقول كما قالوا: إنا لله وإنا إليه راجعون.(/8)
ومما يعزي المؤمن في وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، ويسلي حزنه عليه ما روى أبو موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله عز وجل إذا أراد رحمة أمة من عباده قبض نبيها قبلها فجعله لها فرطا وسلفا بين يديها وإذا أراد هلكة أمة عذبها ونبيها حي فأهلكها وهو ينظر فأقر عينه بهلكتها حين كذبوه وعصوا أمره) رواه مسلم.
فنسأل الله تعالى بمنه وكرمه أن يجعل نبينا وإمامنا وقرة أعيننا محمدا صلى الله عليه وسلم فرطا لنا، وسلفا بين أيدينا، ومستقبلا لنا بعد البعث على حوضه ليسقينا بيده الشريفة شربة لا نظمأ بعدها أبدا، آمين يا رب العالمين.
ولئن فقدت أمة الإسلام حبيبها ونبيها محمدا عليه الصلاة والسلام فإن سنته الشريفة، وهديه المبارك بين أيدينا، قد حفظها الله تعالى لنا كيما ننهل من معينها، ونلتزم أحاديثها. فمن أحب النبي صلى الله عليه وسلم أحب سيرته وسنته، وأحب من يلتزمها من عباد الله تعالى، وأبغض من يبغضها أو ينتقصها أو يسخر بشيء منها أو يردها لرأي رآه، أو قول سمعه.
وليست محبة النبي صلى الله عليه وسلم في الاحتفال بمولده، ولا في إنشاد القصائد البدعية والشركية في إطرائه ومدحه، بل كل ذلك من المحدثات التي لا يرضاها الله تعالى ولا رسوله عليه الصلاة والسلام، وقد حذر منها في غير ما حديث، وقال عليه الصلاة والسلام: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد) وقال عليه الصلاة والسلام: (وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة) فالتزموا عباد الله سنته، واتبعوا ولا تبتدعوا، وصلوا عليه وسلموا....(/9)
العنوان: رد القول بأن الإسلام وسط بين الرأسمالية والاشتراكية
رقم المقالة: 884
صاحب المقالة: د. محمد رجاء غبجوقة
-----------------------------------------
الرد على القول بأن الإسلام وسط بين الرأسمالية
والاشتراكية في مجال الحرية الاقتصادية
تقديم:
من القضايا الأساسية المطروحة على مفكري العالم الإسلامي المعاصرين، ودعاة الالتزام بمقتضيات الشرع الإسلامي، في بناء مجتمع إسلامي محتكم في كل نشاطاته، وجوانب حياته إلى تعاليم الشريعة الإسلامية، قضية الاقتصاد. كيف نقيم اقتصاداً إسلامياً؟ وكيف ننظمه؟ وكيف نديره؟
وقبل أن يصل المفكرون المسلمون إلى جواب عن هذه الأسئلة، لابد أن يحرروا بعض المفاهيم والمقاصد، ويحددوا بعض الأهداف والغايات، كما يطرحها الإسلام، في ضوء الشريعة الإسلامية؛ وذلك أمام السبق المادي الهائل الذي حققته الحضارة الغربية المعاصرة في كل المجالات. وفى مجال الاقتصاد بصفة خاصة. وما ترتب عليه من سيادة لمفاهيم وأنماط فكرية وتطبيقية، بعيدة كل البعد عن توجه الإسلام؛ ولكنها مع ذلك حققت لنفسها الهيمنة، بسبب ما لها من بريق وإغراء، يخاطب حاجات الإنسان المادية العاجلة، في غياب فكر إسلامي حي، وممارسة إسلامية مقنعة، أساس هذا الغياب انفصال المسلم عن عقيدته الصافية، وفكره النابض، وشريعته المنضبطة.
ونتيجة لكل هذا، نجد المسلمين اليوم يواجهون صعوبات كبيرة، في إعادة بناء مجتمعهم، وفقاً لمنطلقات العقيدة الإسلامية، ومقتضياتها. فهم ما زالوا في مرحلة السعي والمحاولة؛ من خلال ما يبذله مفكروهم المخلصون، وعلماؤهم العاملون، من جهود في مجال البحث والدراسة، وتحرير المفاهيم، وتوضيح المقاصد، تمهيداً لخلق أرضية مناسبة، تساعد على بناء النموذج الإسلامي الصحيح للحياة الإنسانية على الأرض.(/1)
ولعل هذا البحث، الذي يسعد مركز البحوث التربوية – بكلية التربية – جامعة الملك سعود، أن يقدمه للنشر، تحت عنوان "الرد على القول: بأن الإسلام وسط بين الرأسمالية والاشتراكية، في مجال الحرية الاقتصادية" أقول: لعله يسهم – في ضوء توجهه الإسلامي – في توضيح بعض من تلك المفاهيم والمقاصد، التي تعاني من الخلط والضبابية، في مجال الاقتصاد والممارسة الاقتصادية.
فجزى الله الباحث الدكتور محمد رجاء غبجوقة كل خير، ونفع بجهده، وأعانه، وجميع المخلصين على خير. إنه جواد كريم. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
مدير مركز البحوث التربوية
د. محمد بن شحات الخطيب
المحتوى
ملخص البحث ((باللغة العربية)).
ملخص البحث ((باللغة الإنكليزية)).
المقدمة.
بيان تمهيدي موجز لمنهج الإحالات وغيرها من رموز البحث.
الفصل الأول: بيان مدى حرية الإنسان الاقتصادية في ظل المذاهب الوضعي:
الفرع الأول: مدى حرية الفرد الاقتصادية في المذاهب الرأسمالية.
المبحث الأول: مدى حرية الفرد في التملك والتصرف والإنتاج.
المبحث الثاني: مدى حرية الدولة في التدخل في نشاط الأفراد وحرياتهم.
المبحث الثالث: مدى حرية الدولة في القيام بالنشاطات الاقتصادية المنافسة لنشاط الأفراد.
الفرع الثاني: مدى حرية المجتمع الاقتصادية في ظل المذهب الاشتراكي.
المبحث الأول: سمات الاقتصاد الشيوعي.
المبحث الثاني: أهم مظاهر التطبيق العملي للشيوعية وآثاره.
الفرع الثالث: مدى الحرية الاقتصادية في الاتجاه المعتدل.
المبحث الأول: مدى الحرية الاقتصادية في الاتجاه المعتدل قي المذهب الرأسمالي.
المبحث الثاني: مدى الحرية الاقتصادية في الاتجاه المعتدل في المذهب الاشتراكي.
أولا- مدى الحرية في الاتجاه المعتدل في المذهب الاشتراكي داخل العالم الشيوعي.
ثانيا- مدى الحرية في الاتجاه المعتدل في المذهب الاشتراكي خارج نطاق العالم الشيوعي.
الفرع الرابع: مقارنة بين المذاهب الوضعية.(/2)
خاتمة الفصل الأول.
الفصل الثاني: في بيان مدى حرية الإنسان الاقتصادية في ظل الإسلام:
الفرع الأول: تنظيم علاقة الإنسان بالأموال والثروات بحسب أنواع الأموال ووظائفه.
المبحث الأول: تنظيم علاقة الإنسان بالأموال والثروات بحسب أنواعها.
المبحث الثاني: تنظيم علاقة الإنسان بالأموال والثروات بحسب وظائفها.
الفرع الثاني: تنظيم علاقة الإنسان بالأموال والثروات بحسب منهج التصرف فيها.
المبحث الأول: توجيهات الإسلام الاقتصادية فيما أمر به أو رغب فيه.
المبحث الثاني: توجيهات الإسلام الاقتصادية فيما نهى عنه أو رغب عنه.
الفرع الثالث: تنظيم العلاقة الاقتصادية بين الراعي والرعية.
المبحث الأول: في وظيفة ولي الأمر في الدولة الإسلامية في المجال الاقتصادي.
المبحث الثاني: ما يجوز لولي الأمر أن يقوم به في مجال النشاط الاقتصادي والإنتاج.
أولاً – الأسباب المسوغة لقيام الدولة بنشاط اقتصادي.
ثانياً – الحدود التي يلتزم بها ولي الأمر حين قيامه بنشاط اقتصادي لتلبية احتياجات الأمة.
المبحث الثالث: المعالم الرئيسية لعلاقة الراعي بالرعية.
خاتمة الفصل الثاني.
الفصل الثالث: نتيجة المقارنة بين الإسلام والاقتصاد الوضعي في مدى الحرية الاقتصادية:
الفرع الأول: نتيجة ما يتعلق بأصل الحرية الاقتصادية.
الفرع الثاني: الفارق بين الإسلام والمذاهب الوضعية فيما اتفقت عليه المذاهب الوضعية في مجال الحرية.
الفرع الثالث: الفارق بين الإسلام والمذاهب الوضعية فيما اختلفت عليه المذاهب الوضعية في مجال الحرية.
خاتمة الفصل الثالث.
ثبت الإحالات والمراجع.
ثبت-الحواشي.
ملخص البحث(/3)
إن من أبرز الموضوعات الاقتصادية وأهمها في هذا العصر، موضوع الحرية الاقتصادية. وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن الحرية الاقتصادية في الإسلام وسط بين المذهبين الرأسمالي والاشتراكي في هذه الناحية، وهذا يعنى أن الإسلام يشبه في مجال الحرية – أو يماثل – مذهب المعتدلين من الرأسماليين والاشتراكيين. ولكن الحقيقة هي أن الحرية الاقتصادية نعمة من الله ومنحة منه للإنسان الذي استخلفه الله في الأرض، وكلفه بوظيفة العمارة فيها؛ فله من الحرية ما يساعده على القيام بها، حرية منظمة مقيدة بأحكام الشريعة الإسلامية.
ويختلف الاقتصاد الوضعي عن ذلك؛ فهو لا يؤمن بأن الإنسان مقيد بشرع سماوي يوجهه، وإنما يختار ما يشاء حسب رغبته، وتكون نتيجة ذلك جعل الإنسان صاحب حرية مطلقة حقيقية يتصرف بها كيف يشاء، إلا أن الوضعيين يختلفون فيما بينهم فيمن توجه إليه الحرية: أهي الجماعة؟ أم الفرد؟ أم هما معاً بحيث توزع بينهما؟ وقد كان لهذا
الاختلاف بين الإسلام والاقتصاد الوضعي آثاره الواضحة في المضمون والتطبيق، ويتلخص في أن الإسلام يوزع بين الفرد والمجتمع حرية منظمة مقيدة بأحكام الشريعة الإسلامية الربانية، بينما يوزع الاتجاه المعتدل في الاقتصاد الوضعي حرية مطلقة لا يقيدها إلا إرادة واضعيها التي لا تخضع إلا لأهوائهم. وهذا ما قصدنا إبرازه وتوضيحه في هذا البحث. والله من وراء القصد، وهو ولي التوفيق.
Summary of Research(/4)
Of the most prominent and important economical subjects in this era is the economical freedom. Some researchers went to say that freedom in Islam Iies some Where between capitalist and socialist beliefs. As such ، Islam's economical freedom is similar to the understanding of moderates' belief. But in fact ، the economical freedom is agift of allah to human beings who were appointed as successor by Allah to fill earth With life. To fulfill this appointment ، human beings were given enough freedom that assists them in performing this mission. Although (sharia'a).
Mean while ، man made economy laws are different in the fact that they do not believe of human beings as restricted by a heavenly law which directs them but instead human beings selects ، Whatever they want according to their desires. The result is that human beings shall have an actual absolute freedom which they.
exercise as they wish.
But some positivists differ on whom shall be given freedom? Is it the individual or the group or both together by distributing it between them? However ، such differences between Islam and positive economy has an obvious effects in content and practice and that is what we intended to highlight in this research.
May Allah Support Our Purpose
May Allah Grant us with success
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه.
وبعد: فإن موضوع الحرية مهم جداً في جميع جوانب الحياة البشرية بعامة. ومنها الجانب الاقتصادي الذي أولاه الإنسان اهتماماً كبيراً، وهذا الموضوع يستقي أهميته وخطورته من أمرين:(/5)
أولهما: كون الحرية من حيث طبيعتها وحدودها نابعة مما يعتنقه الإنسان من معتقدات ومبادئ.
وثانيهما: تأثيرها في سلوك الإنسان وتصرفاته في جميع جوانب الحياة البشرية.
ولقد كان فقدان الحرية الاجتماعية - بعامة - والحرية الاقتصادية منها – بخاصة - في مجتمعات بشرية – بشكل أو بآخر – سبباً لنشوء أوضاع غير طبيعية[1] وإضرابات مؤثرة[2] أثمرت بدورها أوضاعاً مناقضة لها في بعضها ومختلفة عن سابقتها في بعضها الآخر[3]. وكانت ولا تزال تلتقي بأجمعها عند عدم التزام الاعتدال والحدود الطبيعية السليمة. ولقد استقرت الأحوال أخيراً في عصرنا الحاضر، بعد تطور العلوم والمعارف - بعامة - وعلم الاقتصاد – بخاصة - على نتائج خطيرة كان لها أثرها الكبير والبعيد على وجهة المجتمعات الحديثة في جميع نواحي حياتها، وفى مقدمتها ناحية الحياة الاقتصادية. والبحث في هذا الموضوع ذو شقين:
أولهما: يتعلق بالمبادئ والركائز الأساسية التي تقوم عليها الحرية الاقتصادية في الإسلام؛ حيث أعرض في مقدمة تمهيدية ما تتضمنه المذاهب الوضعية، وأقوم بعد ذلك ببيان المبادئ والركائز الأساسية للحرية الاقتصادية في الإسلام، وفى ذلك كله أقتصر على ما يخدم موضوع البحث.
وثانيهما: يتعلق بما تؤدي إليه معرفة تلك المبادئ من ثمرات ونتائج تعين على الوصول إلى أمرين:
أ- إثبات المراد الذي عقدتُ هذا البحث من أجله، ويدل عليه عنوان البحث.
ب- دفع الأوهام التي ثارت حول هذا الموضوع، وتوضيح أن الإسلام فريد في مضمونه ومثالي في تحقيقه لمصالح البشر.(/6)
وإذا عرف أن هذا التقسيم يعنى أن يتضمن الشق الأول المقدمات التي لابد من معرفتها للوصول إلى النتائج المطلوبة؛ فإن مما لا بأس به الإشارة إلى أنه سيذكر فيه من تلك المقدمات المسلمة – بإيجاز مناسب، مع قضاء الغرض المطلوب بإذن الله – أن المذهب الرأسمالي في أساسه مذهب حرية الفرد، يمنحها لكل فدر حريةً مطلقةً من الناحية النظرية، وهي من الناحية الواقعية العملية من نصيب الأغنياء والأقوياء. وأن المذهب الاشتراكي يوجه الحرية الاقتصادية المطلقة إلى المجتمع ممثلاً بالدولة وسلطتها. وأن الإسلام يقوم على مبدأ أساسي مهم، وهو: أن الكون كله لله وحده، وأن الإنسان مجرد مستخلف في الأرض مكلف بالعمارة فيها في حدود شرع الله، وأن الإسلام يمنح كلاً من الفرد والمجتمع حقوقاً متوازنة ومتناسقة ومتكاملة ضمن ما يقيم المصالح ويدرأ المفاسد.
كما يتضمن الشق الثاني المخصص لبيان النتائج والثمرات: العرض والنقد، ومن بعدهما تصويب مقولة القائلين بأن الإسلام وسط بين الرأسمالية والاشتراكية في مجال الحرية الاقتصادية، وأنه اشتمل على محاسنهما وأبعد مساوئهما[4].
هذا، وقد استدعى منح هذا الموضوع – بمختلف جوانبه – حقه من التوضيح، جعلَ بيانِهِ في ثلاثة فصول:
الفصل الأول: لبيان مدى حرية الإنسان الاقتصادية في ظل المذاهب الوضعية.
الفصل الثاني: لبيان مدى حرية الإنسان الاقتصادية في ظل الإسلام.
الفصل الثالث: لبيان ثمرة النظر فيهما.
كما لا يفوتني أن أشير إلى أهمية توضيح الرموز المستخدمة في البحث لخدمة الإحالة إلى مصادر البحث، وكذلك بيان ما هو مستخدم لقراءة الحواشي، وقد جعلت لتوضيح ذلك كله – قبل الشروع في فصول البحث – بياناً تمهيدياً موجزاً لمنهج الإحالات وغيرها من رموز البحث.
بيان تمهيد
لمنهج الإحالات وغيرها من رموز البحث(/7)
لاشك أن الرموز تخدم البحث من جهة توضيح معاني إضافية يحتاج إلى معرفتها من يقرأ البحث، وينبغي الإشارة إليها في مناسباتها من عبارات البحث توثيقاً لها من جهة حين تحتاج إليه، أو رفعاً لِلَّبْس والغموض اللذين قد يقترنان بمضمون البحث في ذهن القارئ. والرموز هذه إشارات مختصرة تؤدي معاني معينة، فهي على ضآلة حجمها تؤدي خدمة جليلة، إلا أن هذه الإشارات إذا لم تكن واضحة في دلالاتها على المطلوب في ذهن القارئ لا تفي بالمطلوب، بل تزيد الغموض غموضاً، وتكون سبباً في شرود الذهن وضياع المعنى المقصود من نصوص البحث؛ لذا فإني عقدت هذا البيان لتوضيح المنهج الذي سلكته في الرموز المستخدمة أرقاماً كانت أو حروفاً أو إشارات تكون بين يدي من يقرأ البحث كي لا يكون أمامه أية عقبة تحول دون بلوغ المطلوب في البحث. وفيما يلي بيان هذه الرموز مقسمة إلى صنفين يتعلق أولهما برموز البحث والثاني برموز الإحالات.
1- رموز البحث
ويقصد بها الإشارات التي لها دلالات تخدم الأمانة العلمية في البحث من جهة، كما تخدم نصوص ومعاني البحث من جهة أخرى، وهي تتلخص فيما يلي:
1- جعلت نصوص القرآن والسنة – أي: الآيات والأحاديث – بين قوسين كبيرتين مزدوجتين تحيطان بالنص في بدايته ونهايته، هكذا (( )) تمييزاً لهذه النصوص الشريفة عن غيرها.
2- جعلت النصوص المقتبسة بألفاظها – حرفياً – بين قوسين هكذا – ( )- وهذا إذا لم يختصر النص، أو لم يذكر بمعناه فقط.
3- جعلت الكلمات أو العبارات التي تحتاج إلى إبراز لسبب من الأسباب – ككونها موضحة أو.. – بين قوسين صغيرتين هكذا (( )).
4- وأما الجمل الاعتراضية وما في حكمها فقد جعلت بين خطي الاعتراض الأفقيين هكذا.
2- رموز الإحالات
لقد استخدمت في البحث في هذه الناحية صنفين من الرموز أحدهما للإحالة على الحواشي والثاني للإحالة على المصادر.(/8)
أ- رموز الإحالة على الحواشي المتضمنة للتوضيحات أو التعليقات، وإنْ تضمّنت إحالة على المصادر تكون بكتابة رقم مجرد عن علامات تحيط به، ويكون الرقم مسلسلاً بحسب ترتيبه بين الإحالات التي من الصنف نفسه – إحالات الحواشي – دون أن يكون لهذا الرقم علاقة بأرقام المصادر المحاطة بعلامات تميزها، كما سيأتي بيانها فيما يلي.
ب- رموز الإحالة على المصادر العلمية سواء كانت الإحالة في صلب عبارات البحث أو في الحواشي. وقد جعلت للمصادر أرقاماً تشير إلى ترتيب كل مصدر في ثبت الإحالات على المصادر، وهذا الترتيب لا يعتمد على اسم المؤلف أو اسم الكتاب من حيث الترتيب المعجمي – أي: كما في المعاجم اللغوية – وإنما سلكت فيه المسلك المتبع حاليا في كثير من الجهات العلمية، وهو ترتيب الإحالة على المصدر – من بين الإحالات الأخرى على المصادر الأخرى – أي: أول مرة يحال فيها على كل مصدر – سواء كانت الإحالة في البحث مباشرة على المصدر أو الموضع الذي تكون فيه إحالة على حاشية تشتمل على إحالة على مصدر، حيث تدخل جميع الإحالات على المصادر في ترتيب واحد. وفيما يلي البيان التفصيلي لكيفية الإحالة على المصادر:
أ- جعلت الإحالات على المصادر إجمالاً بين علامتين هكذا [ ].
ب- جعلت أول رقم داخل العلامتين المذكورتين يشير إلى رقم الإحالة على المصدر كما ذكرت آنفاً.
ج- جعلت بعد هذا الرقم الفاصلة المعهودة هكذا( ،) وبعدها الحرف الذي يدل على رقم الجزء أو المجلد إن كان المصدر مؤلفاً من عدة أجزاء أو مجلدات، وهذا الحرف هو: (ج) وأتبعتُ هذا الحرف برقم يدل على رقم الجزء، هكذا ج3 أو ج2..........
د – بعدما سبق – في حالة كون المصدر أجزاء متعددة أو دون ذكر رمز الجزء ورقمه إذا كان المصدر كتاباً واحداً، جعلت للصفحة الحرف الذي يدل عليها وهو ص مسبوقاً بفاصلة تفصله عما قبله وبعد الحرف رقم الصفحة المحال عليها من المصدر.(/9)
ه – إذا كانت الإحالة على مصدرين معاً يتّبع للإحالة على المصدر الثاني ما اتبع للإحالة على المصدر الأول مع الفصل بينهما بفاصلة منقوطة تحتها، هكذا (؛)
و – جعلت الأرقام التي تدل على المصادر المحال عليها في ثبت الإحالات على المصادر في آخر البحث محاطة بين العلامتين [ ] بحيث تؤكد كون العلامتين دليلين على المصادر كما جعلت الأرقام التي تدل على الحواشي في ثبت الحواشي غير محاطة بعلامة ما كما هي الحال في صلب البحث، وقد سبق بيان ذلك.
أسال الله التوفيق للصواب والبعد عن الزلل، وهو من وراء القصد.
الفصل الأول[5]
بيان مدى حرية الإنسان الاقتصادية في ظل المذاهب الوضيعة
لما كان الإنسان في ظل المذاهب الوضيعة هو الذي يخطط لنفسه معيشته كيفما يشاء، ويخطط لما يقدر عليه من الكائنات كما يشاء، ويتصرف حسب مشيئته ورغبته، ولا يرى لأحد من غير البشر سلطانا على البشر؛ فإن من الطبيعي أن يكون ثمرة هذا الموقف من المذاهب الوضيعة جعل الإنسان – أي: الجنس البشري – صاحب حرية مطلقة في التصرفات، يمنح نفسه بنفسه ما شاء منها، ويقيد نفسه بما يريد من قيود حين يرغب في ذلك، كما أنه يتحلل من تلك القيود أو بعضها حين يشاء، ولا يشاركه في كل ذلك أيُّ كائن آخر من غيره.(/10)
والوضعيون: مابين منكر لإله خالق له السلطة على الإنسان وغيره من الكائنات، وما بين متجاهل متغافل غير آبه به، أو متصور لإله لم يشرع للإنسان إلا ما يطلق يده في الكون. والنتيجة واحدة بالنسبة للجميع، وهي: أن البشر يخططون لأنفسهم معيشتهم كما يشاؤون، ويرسمون لحياتهم الاجتماعية – بعامة - والجانب الاقتصادي منها – بخاصة - دون أن يقرِّوا بقيد يقيدهم من خارج إرادتهم، من إله كان أو دين. وإذا قيّدوا أنفسهم بشيء، فلهم أن يغيروه أو يعدّلوه أو يلغوه حسب رغبتهم ومشيئتهم. وهذا يعني أنهم يجعلون للجنس البشري – من حيث المبدأ – الحق الكامل والمطلق في أن يختار لنفسه ما يشاء، ويعدّل ما اختاره أو يغيّره كما يريد، دون أي قيد خارجي؛ ويكون له نتيجة ذلك: حرية مطلقة في جميع المجالات، يختار ما يشاء كما يحب ويرغب.(/11)
وهذا لا يعنى اتفاقهم كلياً في هذا المجال؛ بل إن بعضهم يوجه تلك لحرية إلى الأفراد، وليس للجماعات منها شيء إلا استثناء وفى حدود ما يخدم الأفراد، وهم أتباع المذهب الرأسمالي الأصلي ذي الاتجاه الفردي الحر الخالص. وبعضهم يوجهها – في الأصل – للمجتمعات العامة، دون أن يدع منها للأفراد إلا في حدود ما يخدم مصلحة الجماعة وحدها، وهم أصحاب المذهب الاشتراكي الشيوعي ذي الاتجاه الجماعي الموجّه. ثم إن فئات من الرأسماليين وفئات أخرى من الاشتراكيين نهجوا منهجاً آخر معتدلاً، بحيث تجعل الحرية المطلقة هذه توزّع بين الأفراد والمجتمعات حسب مناهج تخلتف فيها فئات هذه المجموعة، من حيث نسبة ما يمنح من الحرية لكلٍّ من الأفراد والمجتمعات. وهذا الاتجاه المعتدل يسمّيه بعض الاقتصاديين ((النظام الاقتصادي المختلط)) أو ((المذهب المختلط))[6] وهو في الحقيقة أقرب إلى أن يكون مجرد ((اتجاه)) للاعتدال من قِبَل بعض أتباع المذهبين المذكورين. وسوف نلقي الضوء على كل واحد من المذهبين والاتجاه المعتدل في فرع خاص به بما فيه الكفاية، وفي حدود ما يخدم الهدف من البحث. ثم نبرز بعد ذلك ما يسفر عنه عرضها من عظمة الإسلام ومزاياه.
الفرع الأول
مدى حرية الفرد الاقتصادية في المذهب الرأسمالي
يذهب الاقتصاديون الرأسماليون إلى القول بأن كل فرد من أفراد الجنس البشري له الحق الكامل والحرية المطلقة في القيام بما يشاء للحصول على الثروة أو تنميتها أو التصرف بها، دون أي قيد [4،ص46] مما يعنى ذلك إطلاق الحرية للإنسان فيما يملكه، وما ذلك إلا لأن الإنسان يتصرف فيما يملكه حقاً طبيعياً وملكية مطلقة لا حدود لها. ولقد كان من آثار ذلك مايلي:
1- عدم الاكتفاء بمنح الفرد حرية تملك أدوات الإنتاج؛ فقد امتد إلى إطلاق العنان لأصحاب المال والجاه كي يستثمروا ثروتهم وينموها بالطريقة التي يختارونها [4، ص 46] - أي: بغض النظر عن طبيعتها سليمة كانت أو سقيمة.(/12)
2- إبعاد الدولة عن التدخل في النشاط الاقتصادي للأفراد؛ لأن في ذلك انتقاصاً من حق الإنسان الطبيعي في الحرية المطلقة [4، ص 46]، وإن يكن للدولة مجال فهو قاصر على حراسة حريات الأفراد ومصالحهم الاقتصادية، إضافة إلى قيام الدولة بالخدمات والمصالح الاقتصادية التي يحجم عنها الأفراد لعجزهم أو لانعدام الربح الذي يحفزهم للقيام بها [5، ص 39 – 40؛ 6، ص 85].
3- عدم الالتزام بالمبادئ الخلقية[7]، ومخالفة أصول التعامل الإنساني السوي ممن يقدر على ذلك وتسمح له ظروفه وأوضاعه، بهدف تحقيق آماله وأمنياته الذاتية. فكان من أثر ذلك أن تفشى عدم التقيد بأصول الكسب الشريف، وانعدام الشعور النبيل تجاه الآخرين. بل ألبس كل منهما اللباس الشرعي؛ فاستقر التعامل العام على أساس الأثرة والسعي لجلب المنفعة الذاتية.
4- انعدام الاستقرار الاجتماعي بشكل عام، والاستقرار النفسي والاقتصادي منه لقاعدة المجتمع الحضاري العريضة بشكل خاص. مما أدى ويؤدي إلى سلسلة مستمرة من الاضطرابات، انتهت وتنتهي بوصول القائمين بها في كل حين إلى شيء مما رغبوا فيه، بالانتزاع من أفواه الأغنياء والأقوياء المتغلبين[8].
ويمكننا أن نستخلص ما أوردناه في الفقرتين السابقتين الأخيرتين – 3 و4 – ما سيأتي بيانه من جوانب الحرية في الاقتصاد الرأسمالي مستفادة من مؤسساته المختلفة، وسوف نجملها في المباحث الثلاثة التالية:
مدى حرية الفرد في التصرف والإنتاج والتملك.
مدى حرية الدولة في التدخل في نشاط الأفراد.
مدى حرية الدولة في القيام بالنشاطات الاقتصادية المنافسة لنشاط الأفراد.
كما نتبعها بالنتيجة النهائية التي تسفر عنها.
المبحث الأول
مدى حرية الفرد في التملك والتصرف والإنتاج(/13)
يجعل المذهب الرأسمالي من الفرد والنشاط الخاص المحور الرئيسي للحياة الاجتماعية - بعامة - والاقتصادية منها – بخاصة -. فيختصّ الأفراد – ومن في حكمهم من الجمعيات والشركات – بجميع أوجه النشاط الاقتصادي، من حرية للتملك أو الإنتاج أو التصرف.
ومما يدل على مدى حرية الفرد، أحد تعريفات النظام الرأسمالي الذي ينص على أنه (النظامُ الاقتصاديُّ الذي يمتلكُ فيه الأفرادُ – آحاداً أو جماعات[9] – الموارد الإنتاجية ملكية خاصة، كما لهم الحق في استخدام مواردهم بأية طريقة يرونها مناسبة) [2، ص 16]. فالتعريف يتضمن حق الفرد في استخدام ممتلكاته ومواهبه وطاقاته بالطريقة التي تحقق له رغباته الذاتية [2، ص 16] دون قيود. وقد بُنِي على هذا الأساس جميع مؤسسات النظام الرأسمالي.
فإطلاق الحرية يعم ما كان متعلقاً بالتملك أو الإنتاج أو التصرف بالثروات الخاصة. وفيما يلي ما يوضح ذلك باختصار:
أ- الملكية الخاصة: هي الأساس الذي يعتمد عليه النظام الرأسمالي [2، ص 23]. حيث يكون لصاحب المورد مطلق الحرية في الاستعانة بطريقة الاستخدام والاستثمار، كما يشجع النظام تراكم الثروات بأية طريقة ممكنة؛ لأنها وسيلة تنمية الطاقة الإنتاجية الإجمالية في المجتمع [2، ص 23].
فالحرية هذه تشمل وسائل الإنتاج وأساليبه وأدواته، كما تشمل المواد المنتجة والفئات التي يلبي المجتمع رغباتها في الإنتاج، إلى غير ذلك مما يمنحه القدرة الكاملة على توجيه ممتلكاته في الإنتاج وغيره إلى ما يراه أفضل في تحقيق مصالحه الذاتية. وهذا الأمر ساعد ويساعد بشكل طبيعي على توسيع الفوارق في الثروات والمكاسب بين أفراد المجتمع ومؤسساته [2، ص 23 - 26] وتغلب الأغنى والأقوى على الأضغف والأقل ثروة [2، ص 48]. ولذا فإن من الطبيعي أن يُرى في ظل هذا النظام ثروات صغيرة تصير ضحية أصحاب الثروات الضخمة.(/14)
ويفسرون ذلك بأن الثروات كلما ضخمت تمكن أربابها من تلبية حاجات المستهلكين، وتقديم الأفضل لمن يريده، والأيسر ثمناً لمن يحتاجه [2، ص 27، 7، ص 201 وما بعدها]، ويجعلون هذا التأويل مسوغاً لجعل المجتمع موجهاً – بشكل أو بآخر – سواء سعد عامته ورضوا أو شقوا وسخطوا – من قلة من أصحاب رؤوس الأموال الضخمة [7، ص 201] الذين يكون معظمهم غير عابئ بما هو خير للمجتمع، وبما يصلح شؤونه ومعيشة أفراده، وبخاصة منهم المحتاجون والضعفاء الذين يشكلون السواد الأعظم من الأمة.
ب – وأما الإرث فليس هناك قيود أو حدود لتوزيع الميراث، بل إن الأمر كله متروك لصاحب الممتلكات، وقد يوصي لشخص واحد أو عدة أشخاص [2، ص 24 - 25]. وقد تخرج الوصية عن حدود الأقارب والبشر كي تصير للحيوانات أو غيرها، مادام صاحب الثروة غير مقيد بقيود معينة.
ج – وأما حافز الربح فقد كان ولا يزال في ظل النظام الرأسمالي مرتبطاً بالاستغلال [2، ص 27] الذي ييسّر بشتّى أنواعه وأشكاله، ويساعد به قدرة المستغلين وإمكاناتهم [2، ص 28].
د- وفى ميدان المنافسة في النشاطات الاقتصادية، فإنها – أي: المنافسة – لا تتحقق بشكل تام، بسبب عدم التكافؤ بين القدرات الكبيرة والضئيلة في رؤوس الأموال والخبرات؛ فيكون ظهور الاحتكارات وتفشيها أمراً ملازماً للملكية الخاصة المطلقة وللحرية في النشاط الاقتصادي وللسعي في تحقيق أكبر قدر ممكن من الربح[10] [2، ص 28 - 29].
ومما يدعم هذا الأمر ويقويه ما يقوم به المحتكرون من تقليل كلفة السلعة لتصير رخيصة في الأسواق، وتزول المنافسة ويرسخ الاحتكار، ويكون تقليل كلفة السلعة مساعداً على انتشارها بين عامة الناس من الفقراء المحتاجين على حساب الجودة الحقيقية، إلا أن هذا العيب تتم تغطيته بتحسين المظهر، وبإضافة بعض الصفات الخداعة [2، ص 44 – 45 وص 48 وما بعدها وص 54 وما بعدها].
المبحث الثاني
مدى حرية الدولة في التدخل في نشاط الأفراد وحرياتهم(/15)
النظام الاقتصادي الرأسمالي يمنع الدولة من التدخل في النشاط الاقتصادي للأفراد كي لا تتعرض حقوقهم الطبيعية في الحرية المطلقة من الانتقاص. ويقتصر مجالها – أي: الدولة – على حراسة حريات الأفراد ومصالحهم الاقتصادية، إضافة إلى القيام بالخدمات العامة الاقتصادية التي يعزفون عنه؛ لعجزهم أو لعدم توافر ما يحفزهم على القيام بها، بسبب عدم إثمارها للربح المطلوب [4، ص 46؛ 5، ص 39 – 40؛ 6، ص 85]. وهذا يعنى أن الدولة مسخّرة لخدمة الأفراد بشكل مباشر أحياناً، وبشكل غير مباشر أحياناً أخرى. ويكون سَنّ القوانين اللازمة لحماية الممتلكات وتنفيذ العقود بأنواعها، واجب الدولة ومسؤولياتها الأساسية [2، ص 22]. وينبني على ذلك:
1- جعل السلطة التشريعية مسؤولة عن إصدار التشريعات والقوانين التي تحمي حقوق الأفراد ومصالحهم المطلقة، وتحرس حرياتهم وممتلكاتهم.
2- إلزام السلطة التنفيذية بتنفيذ ذلك الذي أصدرته السلطة التشريعية. ولا تقوم بشيء يتعارض معه، أو يتعارض مع مصالح الأفراد الاقتصادية وغيرها.
3- تكون وظيفة السلطة القضائية حماية الممتلكات والعقود ومختلف أنواع النشاط والمصالح الاقتصادية الخاصة، ومنع كل تجاوز لذلك، أو تعرّض لحقوق الأفراد أو لحرياتهم.
المبحث الثالث
مدى حرية الدولة في القيام بالنشاطات الاقتصادية المنافسة لنشاط الأفراد
يقتصر دور الحكومة في أصل النظام الاقتصادي الرأسمالي على الدفاع والأمن العام، وحماية الملكية الخاصة والمنافسة، وكفالة النشاط الاقتصادي وضمان الوفاء بالعقود والتعهدات؛ وذلك بسن القوانين اللازمة لذلك [4، ص 46، 5 ، ص 39 – 40؛ 6، ص 85؛ 2، ص 30]. وقد سبق بيان ذلك في حدود ما يتعلق بالجانب الاقتصادي.
أما ما يتعلق بدور الدولة في النشاطات الاقتصادية من جانبها الإيجابي الفعال في أصل النظام الرأسمالي، فيمكن حصره إجمالاً فيما يلي:
1- إصدار العملة وتحديد فئاتها.(/16)
2- تقرير الموازين والمكاييل والمقاييس التي تتطلبها الحياة الاقتصادية في حالة البيع والشراء.
3- فرض الضرائب اللازمة لتحويل المهام السابقة المذكورة، بحيث
لا تؤثر تلك الضرائب على خيارات المستهلكين، أو حسن توظيف الموارد [2، ص 30].
هذا ونخلص مما ذكرناه في المباحث الثلاثة إلى نتيجة واضحة، وهي قيام المذهب الرأسمالي على أساس إطلاق العنان للفرد، بمنحه الحرية المطلقة في التصرف لكسب المال. وقد كان من أثر ذلك أن فسح المجال للفئات الغنية والقوية، كي تتحكم بسائر طبقات المجتمع بما لها من قدرات، وتلحق بها صنوف الظلم والاستغلال، إشباعاً لروح الأثرة والتعامي عن المثل والحقوق الإنسانية العامة الحقيقة.
الفرع الثاني
مدى حرية المجتمع الاقتصادية في ظل المذهب الاشتراكي
يذهب الاشتراكيون من الاقتصاديين إلى أن منح الحرية الاقتصادية للفرد – بخاصة – يؤدي إلى ترسيخ التفاوت الطبقي بين أفراد المجتمع، وإلى نشر الظلم الاجتماعي، ويتلوهما عدم استقرار الحياة الاجتماعية بعامة، والجانب الاقتصادي منها بشكل خاص؛ لذا فإن الواجب عند الاشتراكيين جعل الحرية المطلقة للمجتمع عامة ممثلاً بالدولة وسلطتها الحاكمة باسمه، فلا يستأثر بها فرد دون فرد أو طبقة أو فئة دون أخرى [8، ص 33 وما بعدها؛ 4، ص 108 وما بعدها]، ولا يبقى ثم مجال لتسلط بعض الناس على غيرهم، إذ يكون الناس كلهم سواء بحكم كونهم أفراداً في هذا المجتمع، فيكون لزاماً عليهم الخضوع المطلق للنظام العام وخدمة المصلحة الاقتصادية العامة وحدها. وهذا يستدعي تغيير المؤسسات الاقتصادية الرأسمالية، وإناطة المسئولية بنظام التخطيط المركزي [2، ص 73]. الذي تهيمن عليه الدولة وتوجهه. وفيما يلي بيان سمات الاقتصاد الشيوعي، ومن بعدها بعض مظاهر التطبيق العملي وآثاره، وذلك في المبحثين التاليين:
المبحث الأول
سمات الاقتصاد الشيوعي(/17)
يتسم الاقتصاد الشيوعي إجمالاً بسمات عامة رغم تنوع أشكاله واختلاف مناهجه. ومن أهم هذه السمات ما يلي:
السمة الأولى: جعل العقارات الإنتاجية مملوكة من قبل الدولة، ومن ثم فإن كل إنسان يعتمد في معيشته على الحكومة [7، ص 223].
وهذا يعني:
1- إلغاء الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، وتحويلها إلى ملكية عامة [2، ص 74]، تديرها الدولة وتتصرف بها ممثلة بالجهاز الحاكم الذي هو الحزب الشيوعي، حيث يديرها إدارة شاملة [2، ص 83].
2- إلغاء حافز الربح نهائياً [2، ص 74]، أي: أن ما تدره المشروعات الإنتاجية من أرباح تؤول فائدتها إلى المجتمع وليس إلى الفرد.
3- إناطة مسؤولية توزيع الدخل بالدولة، فتقوم بالتوزيع على أساس القضاء على الفوارق الموجودة في الدخل، بإلغاء العوائد الناتجة عن الإيجارات والفوائد والميراث [2، ص 74].
السمة الثانية: إخضاع جميع العمال للتنجيد الشديد من قبل الحكومة [7، ص 223]، بحيث تنحصر فرص العمل في اتحادات العمال الشيوعية [7، ص 224 وص 229]. وتكون هذه الاتحادات حارسة لمصالح الحكومة ومثبتة لسلطتها، وليس للعمال من ذلك كله نصيب [7، ص 226].
السمة الثالثة: توجيه الإنتاج إلى توفير الصناعات الثقيلة والمعدات الحربية، بدلاً من توفير السلع الاستهلاكية التي يحتاجها عامة الشعب [7، ص 223 وص 248]. ولعل هذا جزء من كون التخطيط المركزي متحكماً في الحياة العامة بشكل عام والجانب الاقتصادي منها بشكل خاص. إذ إن هذا التخطيط يجعل رغبة الجهاز الحاكم هي المؤثرة على الخطط العامة، وليست رغبة المستهلكين أو المحتاجين أو المجتمع بوجه عام [2، ص 84 و85].
السمة الرابعة: ميل السياسات الخاصة بالضرائب والأجور إلى محاباة جماعة من عليه القوم من موظفي الحكومة، وزعماء الحزب، والرجال التنفيذيين في مجال الصناعة، والقادة في ميدان العلوم، وأشباههم.
المبحث الثاني
أهم مظاهر التطبيق العملي للشيوعية وآثاره(/18)
إن السمات المذكورة في المبحث السابق، تسوق كل فكر واع إلى استخلاص نتائج واضحة متوقع حصولها قبل رؤيتها على أرض الواقع، من خلال تطبيق المبادئ والقواعد التي يقوم عليها المذهب الاشتراكي. فكيف إذا وقعت وسادت في الأقطار التي حكمتها الشيوعية.
ويمكن إجمال النتائج التي تمخضت عن تطبيق الشيوعية فيما يلي:
1- قلة الحافز المادي للإنتاج [2، ص 74] أحياناً، بل فقدان هذا الحافز – لإلغائه - [2، ص 94] أحياناً أخرى.
2- حدوث التفاوت في الدخل وعدم تكافؤ الفرص الاقتصادية، وذلك لاستئثار القلة المنضوية في الحزب الحاكم بالفرص الاقتصادية المثلى والدخل الأعلى [2، ص 106 - 107] بل إنه ظهر عوار ما زعمه فلاسفة الشيوعية وقادتها واقتصاديوها، من أنهم قصدوا بإنشاء مذهبهم علاج ما في الرأسمالية من طبقية في المعيشة؛ حيث ظهر في ظل الشيوعية ما هو أنكى مما في الرأسمالية، حيث تشكلت عندهم طبقات اقتصادية أكثر في مجتمعهم، كما ظهرت الفوارق الطبقية في الميادين الأخرى الاجتماعية والسياسية [7، ص 240 – 243 وص 2254 و245].
3- عدم اعتراف الشيوعية بالملكية الفردية، إلا فيما يتعلق بالسلع الاستهلاكية مثل: الملابس، والكتب، والأثاث المنزلي... إلخ [7، ص 224]. فلا يسمح للأفراد بتملك أدوات الإنتاج. وتعتبر الشيوعية امتلاك العقارات الخاصة في ظل الرأسمالية، كالسرقة [7، ص 180] ولهذا لا تدفع الحكومات الشيوعية حين تستولي على الممتلكات الخاصة، أية تعويضات لأصحابها [7، ص 181].
4- وإذا كانت الدولة تملك وتدير جميع العقارات الإنتاجية في ميادين الزراعة والصناعة والنقل، فإن مما ترتب على هذا: كون العاملين في هذه الميادين تابعين للدولة اقتصادياً [7، ص 224].(/19)
5- نظراً لكون النظام النقدي والمالي والاقتصادي بعامة، والمؤسسات المالية منها بخاصة في قبضة الدولة [2، ص 86 وما بعدها وص 91 وما بعدها]، ونظراً لكون العمالة تابعة للدولة ومرتبطة بها ارتباطاً شبه تام، فإن المدخرات الشخصية من قبل عامة الناس في المؤسسات المالية تكون شكلاً من أشكال الثروات المصادرة من قِبل الدولة [2، ص 225].
الفرع الثالث
مدى الحرية الاقتصاد في الاتجاه المعتدل
يقصد بالاتجاه المعتدل ما ذهب إليه بعض فئات من أرباب المذهبين الوضعيين: الرأسمالي والاشتراكي – الشيوعي – وغيرهما من الاشتراكيين الغربيين، من تجنب التطرف الذي ذهب إليه أصحاب المذهبين الرأسمالي والشيوعي الأصليين. ويمكننا أن نقسم الكلام عن هذا الاتجاه في مبحثين: يخصص أحدهما للاتجاه المعتدل في المذهب الرأسمالي، والثاني للاتجاه المعتدل في المذهب الاشتراكي. ولكن لابد من الإشارة إلى أن هذا الاتجاه عموماً إنما يقوم على مبدأ توزيع الحرية الاقتصادية الأصلية الفردية أو الجماعية عليهما معاً مع اختلاف في نسبة ما يمنح من الحرية لكل منهما. فهو يوزع الحرية الاقتصادية المطلقة بين الفرد والمجتمع.
المبحث الأول
مدى الحرية الاقتصادية في الاتجاه المعتدل في المذهب الرأسمالي(/20)
بعد أن لمس أرباب المذهب الرأسمالي آثار تطبيقه حسب أصوله التي بني عليها المذهب، والتي قامت – أي: هذه الأصول – على مبدأ التطرف للفرد على حساب الجماعة، اضطر العديد من الرأسماليين إلى إخراج جزء من الحرية الفردية إلى حيز الجماعة؛ لمشاطرة الفرد في بعض ما منحه إياه أصل المذهب. ولست هنا في صدد بيان الأسباب التي دعت إلى هذا الاعتدال من قبل بعض الرأسماليين في بداية الأمر، ثم قبوله من قبل جمهرتهم، سواء رضي منهم من رضي، أو كره منهم من كره، فقد اضطروا إلى منح ما كانوا يعتقدونه حقاً خلاصاً للأفراد – والمنتفع الأول والأكبر هم الأغنياء والأقوياء – حفاظاً على سائر ما اكتسبوه، بالاعتماد على قدراتهم المالية والفكرية وغيرهما، فإن معظم الناس وعامتهم فقراء ضعفاء يستغلون، ولكن ظروفهم وأحوالهم جمعتهم على دفع الظلم بظلم مماثل أو أعظم إذا لم يُعْطَوا بعض ما يستحقون. وهذا ما كان من ظواهر أوائل هذا العصر وحتى عهد قريب، حيث كان العمال يجتمعون في كثير من أقطارهم – والفلاحون في بعضها - من خلال نقاباتهم وجمعياتهم، على سلسلة من الاضطرابات والمظاهرات والاحتجاجات التي كان من نتائجها: رفع أجورهم أحياناً، وتقليل ساعات عملهم في بعض الأحيان، ومنحهم بعض ما كانوا يطالبون به من الحقوق أحياناً أخرى. كل ذلك كان يحصل في عالم الرأسمالية المتحضر المتقدم، مما ينبغي أن ينعدم فيه مثل هذا الأمر، من فقر أو احتجاج أو تظلم من قاعدة الأمة العريضة وعمود حياتها الاقتصادية. وما ذكرناه في هذا المجال لا يحتاج إلى برهان لكثرته وانتشاره وتجاوزه كل حدود الإخفاء من قبل رعاة المذهب، أو الجهل من قبل غيرهم. ولكن السؤال الذي يرد الآن في هذا المجال.. مجال تعديل المذهب الرأسمالي بحيث يصير للجماعة بعض ما كان خالصاً للفرد – هو: ما مدى هذا التعديل؟ وما مدى التغيير في أصول المذهب وقواعده وتطبيقاته؟. ويمكننا في هذا المجال أن نجمل في نقاط بعض م(/21)
جرى من التعديل في النظام الرأسمالي، سواء ما كان من ترسيخ لحرية الفرد وقوته، أو منح للمجتمع بعض ما كان للفرد:
1- تأثرت المنافسة بكبر حجم المنشآت، وانتظام العمال في شكل نقابات، مما أعطى كلا من المنشآت والعمال قوة احتكارية؛ فأصبحت أسعار السلع تتحدد بقرارات إدارية في بعض الأحيان أكثر مما تتحدد بالعرض والطلب. كما أن أجور العمال صارت تتحدد أحياناً بالمفاوضات والتهديد بالإضراب من قبل النقابات العمالية [2، ص 44].
2- تدخلت الدولة وصارت تفرض الضرائب التصاعدية لتحسين توزيع الدخل، وهو مما يساعد على إفشال نظام السوق التلقائي إلى حد كبير، ذلك النظام الذي كان يؤدي إلى كثير من الاضطرابات والهزات الاجتماعية – الاضطرابات والمظاهرات – التي هددت النظام الرأسمالي بالانهيار، وصار قسط من هذه الضرائب لتقديم الخدمات والمساعدات بدرجات تتفاوت حسب الدول وظروفها [2، ص 45].
3- مع ازدياد الاحتكارات تدخلت الدولة لتنظيم الصناعات ذات التكاليف المتناقصة، بهدف حماية المستهلك من الأسعار الاحتكارية [2، ص 46]، وغير ذلك من صنوف تدخل الدولة في حرية النشاط الاقتصادي والربح، وتحول دور الدولة من السلبية إلى تنظيم الحياة الاقتصادية والنشاط الاقتصادي للفرد ، بحيث صارت تتدخل إيجابياً لصالح الخدمات والمرافق الاجتماعية وطبقات العمال والفلاحين [2، ص 47 - 48].
ومن الممكن القول في نهاية المطاف إنه مع حدوث بعض التغيير في بعض نواحي مؤسسات النظام الاقتصادي الرأسمالي، فقد استمرت هذه المؤسسات في جوهرها في السير على أصول المنهج الرأسمالي أثناء تطبيق التعديلات التي طرأت على هذا النظام[11] [2، ص 16 - 17]، وأن ما جرى من التعديلات في مسار المذهب الأصلي، إنما هو بسبب الضغط الحاصل من قبل القاعدة الواسعة المحتاجة، وليس بسبب الشعور بواجب إنساني في الأصل ولا الشعور بضرورة التقيد بدين سماوي ما، كما هي الحال في الإسلام.
المبحث الثاني(/22)
مدى الحرية الاقتصادية في الاتجاه المعتدل في المذهب الاشتراكي
مقدمة
لقد سبق الحديث عن الاشتراكية الأصلية المتمثلة بالشيوعية. ويحسن هنا أن نشير إلى بعض الأمور التي توضح نشوء الاشتراكية المعتدلة، لأن ذلك يؤدي إلى إبراز النتيجة، وهي مدى الحرية في الاتجاه المعتدل في المذهب الاشتراكي.
إن النداء للانتقال إلى حلول الجماعة محل الفرد مطلقاً – أي: التطرف إلى الجماعة – في مجالات الحياة بعامة، والاقتصاد منها بخاصة، لم يكن من قبل جميع خصوم الرأسمالية والنزعة الفردية من الاشتراكيين، وإنما كان ذلك منحصراً في نطاق اشتراكيي العالم الشيوعي. إذ ذهب المفكرون والاقتصاديون من الاشتراكيين خارج العالم الشيوعي إلى عدم التطرف في محاباة الجماعة، وذلك لأسباب اجتماعية وسياسية. فإنهم يعيشون في أنظمة ديمقراطية يقوم الحكم فيها على الانتخاب والاختيار حسب رغبة معظم الناس، وعامة الناس لا يرغبون العنف والقهر في الحكم، كما أن أصحاب رؤوس الأموال يرغبون في بقاء أموالهم بأيديهم. ولهذا فإن الاشتراكيين الغربيين اضطروا إلى نهج منهج معتدل يغري عامة الناس لاختيارهم في تسيير دفة الحكم وتوجيه الاقتصاد دونما مساس بالهيكل العام الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، فمزجوا ببعض أصول الاشتراكية – بعد تخفيفها – بعض ما فيه احترام الحرية الفردية في مجال الحياة بعامة والاقتصاد منها بخاصة. فصارت الاشتراكية خارج أسوار العالم الشيوعي – إجمالاً – ذات صبغة معتدلة وفى نطاق ضيق [7، ص 181].
بل إن هذا الاعتدال سرى فيما بعد إلى داخل العالم الشيوعي نفسه، حيث تسرب إليه النهج المعتدل من الاشتراكية [2، ص 97 وما بعدها] تدريجياً حتى آل الأمر إلى تحول بعض أقطاره إلى الرأسمالية، بعد سلسلة من الحوادث السياسية والعسكرة السريعة المتلاحقة[12].(/23)
وبعد هذا البيان الموجز للاعتدال وأسبابه ومكانه، ننتقل إلى موضوع ((مدى الاعتدال في الحرية)). وهنا نقول: إن مدى الحرية اختلف واختلفت نسبته وميدانه بحسب اختلاف الظروف والأحوال [2، ص 97 - 107]. وسنجتزئ لبيان ذلك أمثلة عما في داخل العالم الشيوعي، أولاً، ثم نذكر مما في خارج نطاق العالم الشيوعي بإيجاز ما يوضح الاشتراكية فيه.
أولاً - مدى الحرية في الاتجاه المعتدل في المذهب الاشتراكي داخل العالم الشيوعي:
1- في الاتحاد السوفيتي – سابقاً – اضطر الاتحاد السوفيتي إلى منح المزارعين قطعاً من الأرض خاصة، لفلاحتها من قبلهم ولمصلحتهم الخاصة [2، ص 98]، وذلك نظراً لرفض المزارعين أشكال المزارع الجماعية. وكذلك أيضاً زيدت الحوافز المالية للمزارعين والعمال والصناعيين لزيادة الإنتاج، بل زيدت الصلاحيات الإدارية والتنفيذية لمديري المشروعات مع المزيد من الحوافز [2، ص 98 - 99].
2- في ألمانيا الشرقية: زيدت الأسعار على كثير من السلع، وربطت الأسعار بالتكاليف لمزيد من الفعالية في استخدام الموارد. واعتبر رأس المال كعامل حقيقي في الإنتاج، كالعمل. وهذا اعتراف بأن العمل ليس هو المصدر الوحيد للقيمة – حسب النظرية الماركسية - [2، ص 99].
3- في الصين الشعبية: تمّ إدخال مبدأ تحقيق أقصى الأرباح في المشروعات الإنتاجية. وألزمت المشروعات دفع تكاليف رأس المال على شكل فوائد كما تم إيجاد نوع من السوق الموجهة لتحديد رغبة المستهلكين بدلاً من تحديدها بواسطة المخططين [2، ص 99 - 100].
ثانياً- مدى الحرية في الاتجاه المعتدل في المذهب الاشتراكي خارج نطاق العالم الشيوعي:(/24)
وأما نهج الأحزاب الاشتراكية خارج نطاق العالم الشيوعي في مجال حرية النشاط الاقتصادي، فلا يعدو تأثيرها – إذا وصلت إلى سدة الحكم – إصدار بعض القوانين التي تجعل بعض المرافق العامة أو المصانع الكبيرة أو الشركات الكبرى، ملكاً للدولة بعد نقل ملكيتها عن طريق التأميم، وذلك بعد تعويض أصحابها كامل حقوقهم، وغالباً ما تكون هذه المرافق أو المصانع في وضع مالي غير محمود، بأن تكون خاسرة أو ذات ربح غير كاف. ولا يكون وصول تلك الأحزاب إلى الحكم إلا بعد وعود في برامجها الانتخابية أنها ستسير في حال فوزها بالحكم على النهج الذي يرضى الناخبين وليس على نهج التطرف الذي يخشونه. وبذلك يكون تأثيرها – أي: تلك الأحزاب – غير ذي بال في مجال النهج الاشتراكي.
الفرع الرابع
مقارنة بين المذاهب الوضعية في مدى الحرية الاقتصادية
بعد أن تحدثنا عن طبيعة الحرية الاقتصادية ومداها في ظل كل من المذهبين الوضعيين والاتجاه المعتدل بينهما، فإننا نستطيع أن نجمل ما يمكن استنتاجه مما ذكرناه عن هذا الموضوع فيما يلي:
1- من الواضح أن كلاً من المذهبين الأصليين: الرأسمالي، والاشتراكي الشيوعي، يتسمان بجعل الحرية الموجهة مطلقة – إلى جانب التطرف نحو من توجه إليه الحرية -. فالجميع لا يختلفون في أن مصدر الحرية هو ما يخططه الجنس البشري ممثلاً بعلمائه وخبرائه. وهم غير مقيدين ولا موجهين من أحد غير البشر، ولا يتلقون الأحكام من أحد سوى ما يرونه لأنفسهم بأنفسهم. فهم لا يقولون بأي قيد من غير البشر يقيد الحرية البشرية في اتخاذ أي قرار يوجهها إلى الجهة المختارة المرغوبة من قبلهم.(/25)
2- ومن الواضح في الاتجاه المعتدل الذي لا ينفي أربابه انتسابهم إلى المذهبين المذكورين، كونهم مقرين بما أقر به غيرهم من أرباب المذهبين من كون إرادتهم جميعاً – كأفراد من الجنس البشري وممثلين لإرادته ورغباته – غير مقيدة بأي قيد خارجي، وأن الحرية البشرية مطلقة في الجانب الاقتصادي وغيره من جوانب الحياة البشرية، فيختار الإنسان ما يشاء، ويسلك ما يشاء، وإن قيد نفسه ببعض قيود، فله أن يتحلل منها بما يشاء كما يشاء حين يريد ذلك.
3- إنه لا يختلف الاتجاه المعتدل عن المذهبين الأصليين في أصل الحرية وطبيعتها ومصدرها وطبيعته، ولكنه يختلف عنهما فيما يتعلق بالتصرف في منهج الحرية، للفرد كما في الرأسمالية الأصلية أو للجماعة في الاشتراكية الشيوعية الأصلية. فأربابه يقومون باجتزاء قسط ما من الحرية الموجهة في أصل المذهب إلى جهة ما. فيوجهونه – أي: ذلك القسط إلى الجهة الأخرى سواء كان القسط ضئيلاً أو كبيراً، ولكنه غالباً ما يكون ضئيلاً، كما أن هذا الجزء ومقداره يتبعان الظروف التي تحيط الموجهين لدفة الاقتصاد، مما يفسر استمرار انتماء المعتدلين من كل من المذهبين إلى المذهب الأصلي.
4- إن المعتدلين لم يخالفوا غيرهم من الرأسماليين والاشتراكيين في أصل مبدأ الحرية البشرية المطلقة، وإنما خالفوهم فيمن توجه إليه الحرية من الجنس البشري. فبينما يقومون هم بالتوزيع بين الفرد والجماعة للحفاظ على الاستقرار الاقتصادي ولو نسبياً يقول الآخرون في المذهبين بالتوجيه للحرية إلى واحد منهما – الفرد أو الجماعة – وما كان التوزيع ليحصل على يد المعتدلين إلا لشعورهم أنه سبيل للإبقاء على أصل مبادئ المذهبين الأصليين. فالتنازل عن جزء مما يمتاز به من وجهت له الحرية في المذهبين خير من أن يذهب كله.(/26)
5- إن أصحاب الاتجاه المعتدل ليس لديهم مذهب مستقل خاص يتميزون به عن غيرهم، كما هي الحال عند الرأسماليين أو الاشتراكيين. لذا فإنه لا يصح إطلاق لفظ ((مذهب)) على منهجهم، سواء باسم ((المذهب المختلط)) أو ((المذهب المعتدل))؛ لأن أصحاب هذا الاتجاه هم من الرأسماليين أو الاشتراكيين المتمسكين بمذاهبهم الأصلية، إلا أنهم يعتبرون فئات تركت جانب التطرف الذي في أصل مذاهبهم، وصاروا يمزجون منهج المذهب الأصلي بشيء محدود من المنهج الآخر، بحيث صار الاعتدال سمة واضحة لهم.
خاتمة الفصل الأول
مما ذكرنا نخلص إلى نتيجة موجزة في طبيعة الحرية الاقتصادية ومداها في ظل الاقتصاد الوضعي، ألا وهي: أن البشر هم الذين يخططون لأنفسهم، ويمنحون لأنفسهم مايشاؤون من الحرية الاقتصادية وغيرها، دون أن يساورهم أي شعور بأنهم محكومون أو موجهون بإرادة فوق إرادتهم. والاقتصاديون الوضعيون يشعرون – أو يعتقدون – بأنهم هم الذين يمثلون الجنس البشري، وأنه حري بهم أن يخططوا له وينفذوا ما يخططون. وإذا حدث أن وضعوا قيداً من القيود في جانب من الجوانب أو نشاط من النشاطات، فإن لهم أن يرفعوا القيد متى شاؤوا، أو يبدلوه بغيره إذا أرادوا؛ فيكون ذلك في حقيقة الأمر إعلاناً واضحاً لمبدأ إطلاق حرية الجنس البشري في الحرية الاقتصادية وغيرها. وفى اتخاذ ما يراه مناسباً في ذلك من تقييد أو تقيد أو عدمهما.
الفصل الثاني
في بيان مدى حرية الإنسان الاقتصادية في ظل الإسلام
لمعرفة مدى حرية الإنسان الاقتصادية في ظل الإسلام، لا بد من الإشارة إلى ثلاثة أمور تكون بمثابة التمهيد لما نقصد بيانه في هذا الفصل. وهي مكانة الإنسان في هذا الوجود، ووظيفته التي كلف بها، وأن الله مالك الكون كله.(/27)
1- فقد صرحت آيات الكتاب الكريم بأن ملك الكائنات لله وحده. قال تعالى: {لِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}[13]، مما يدل على انفراد الله تبارك وتعالى بملكية الكون كله بما فيه الإنسان نفسه.
2- ولقد بين الله تبارك وتعالى المقام الرفيع الذي جعله للإنسان قبل خلقه وبعده، قال تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً}[14]، وهو مقام يشمل الجنس البشري من بعد آدم عليه السلام كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ}[15]،إلا أن هذا المقام لا يستمر إلا لمن كان أهلاً له، وهو من قام بما يقتضيه مقام الخلافة [9، ص 155 - 156].(/28)
3- ومقتضى الخلافة هو القيام بالوظيفة التي أناطها الله تبارك وتعالى بالإنسان، وتتمثل هذا الوظيفة بالعمارة في الأرض على أساس المنهج الرباني المنزل على الإنسان، وفي حدود ما منحه الله تبارك وتعالى للإنسان، من قدرات وطاقات، بما تتحقق به مصلحة الإنسان كجنس بجميع أشكالها ومظاهرها ديناً ودنيا وأخرى. قال تعالى: {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا}[16] فمن قام بواجبه من العمارة في الأرض على النهج الذي يرضي الله سبحانه، فقد ثبت له مقام التشريف مقام الخلافة في الأرض. قال الراغب الأصفهانى[17]: (الخلافة: النيابة عن الغير إما لغيبة المنوب عنه، وإما لموته، وإما لعجزه وإما لتشريف المستخلف. وعلى هذا الوجه الأخير استخلف الله أولياءه في الأرض) [9، ص 155 - 156]. والعمارة المطلوبة كاملة، تشمل جميع جوانب الحياة البشرية: الروحية والفكرية والنفسية الغريزية والجسدية المادية. وجميع الصلات البشرية بأنواعها ومراتبها، بالخالق تبارك وتعالى وبأفراد الجنس البشري الآخرين وبالكائنات الأخرى، حتى جعل الله له كل عمل صالح بنية صالحة مخلصة – مهما كان نوع العمل ومجاله – عبادة يتقرب بها إلى الله تبارك وتعالى، ولو كان نفعه مادياً يعود على العامل نفسه أو غيره، وسواء كان بمقابل أو بدون مقابل. ومما يشهد لذلك ما روي أن جمعاً من الصحابة رأوا شاباً قويا يسرع إلى عمله، فقال أحدهما: لو كان هذا في سبيل الله. فرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تقولوا هذا؛ فإنه إن كان يسعى على ولده صغاراً فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، وإن كان يسعى على نفسه يعفها فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى رياء ومفاخرة فهو في سبيل الشيطان))[18].(/29)
إن الإنسان مخلوق مملوك لله تعالى، وهو كسائر الكائنات المخلوقة المملوكة لله تعالى. إلا أن الله جل وعلا ميز الإنسان بتكريمه واستخلافه، فسير له الأسباب التي تعينه على القيام بمقتضى الخلافة، وهى العمارة بأكمل صورها وأمثلتها. فبعد أن خلقه الله في أحسن تقويم[19] سخر له من الكائنات بقدر ما يحتاجه في معيشته وأداء وظيفته وتكاليفه[20]. ومنحه من المواهب والطاقات ما يعينه
على ذلك أيضاً[21] بث في ذات الإنسان من الغرائز والدوافع ما يحمله على القيام بما أنيط به. ثم إن الله سبحانه أذن للإنسان – بل أمره – أن يستعين بما يقدر عليه ويعينه على بلوغ حاجاته ورغباته ويسعى في مناكب الأرض[22]. فهذا كله يعنى ما يلي:
1 - إن الحرية المطلقة في التصرف بالكائنات كلها هي لله تعالى وحده؛ لأنه مالكها الوحيد ملكية مطلقة دائمة، وأنه وحده الذي يملك منح قسط من تلك الحرية لأي من الخلق.
2 - إنه ليس للإنسان من الحرية في هذه الحياة كلها إلا ما منحه إياها الخالق المالك للكون؛ لأن الإنسان نفسه مملوك لله ولا يملك شيئاً فله ما يمنحه خالقه من حق الاختصاص[23] وحق التصرف[24] وحق الانتفاع[25]، ضمن ما يمكن تسميته بملكية مقيدة مجازية – إن صح التعبير- وعلى هذا الأساس يكون للإنسان من الحرية: حرية ((مقيدة)) بأحكام الله وشريعته ((مجازية))؛ لأن الحرية الحقيقية لله وحده، حرية تنظمها نصوص كتاب الله وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام والأحكام الشرعية المقتبسة منهما. وسوف يأتي فيما بعد كون الشريعة ((منظمة)) لتصرفات الإنسان دون تكبيل، تنظيماً يشتمل على توجيه معيشته إلى ما ينفعه ويفيده، ويصرفه عما يؤذيه ويضره، تنظيماً خالياً مما يجعل الإنسان في ضيق وحرج، بل إنه يرفع عن الإنسان كل إصر وحرج[26]، ويبني له وييسر كل مصلحة يحتاجها وينشد الوصول إليها. وسوف نعرف ذلك بإذن الله من خلال الفروع الثلاثة التالية وخاتمتها.
الفرع الأول(/30)
تنظيم علاقة الإنسان بالأموال والثروات بحسب أنواع الأموال ووظائفها
وسوف يكون الحديث هنا في مبحثين: أولهما يتعلق بأنواع الأموال والثروات، والثانى بوظائفها:
المبحث الأول
تنظيم علاقة الإنسان بالأموال والثروات بحسب أنواعها
يتمثل تنظيم الإسلام لعلاقة الإنسان بالثروات التي خلقها الله وأحاط الإنسان بها، بتنويع الأحكام الشرعية التي يطلب من الإنسان المسلم تطبيق ما تقتضيه – أي تلك الأحكام الشرعية. وتنوعها مرتبط بمدى نفعها وضررها. وهي – أي أنواع الأحكام الشرعية - خمسة عند جمهور الفقهاء وسبعة عند الحنفية كما هي معلومة في كتب الأصول. فالمتفق عليه منها: الفرض والندب والإباحة والكراهة والتحريم. وزاد الحنفية الواجب وسطاً بين الفرض والندب أو الاستحباب، كما زادوا حكماً آخر، يجعل الكراهة نوعين: كراهة تنزيه يقصد بها ما يقصده الجمهور من مطلق الكراهة، وكراهة التحريم التي هي دون التحريم. وهذا التنوع راجع إلى مدى ثبوت الأدلة المشتملة على الأحكام، أو إلى كثرة الأدلة وقلتها، أو إلى تنوع وتعدد دلالاتها... إلخ. ومختصر الكلام في هذا الموضوع: إن الأموال والثروات إما أن تكون نافعة أو ضارة. وكل منهما متفاوت في درجاته، أو متنوع في أشكال نفعه أو ضرره، أو بقدر الحاجة إلى النافع. وبقدر نفعه يكون الطلب، كما أنه بقدر الفساد الذي يلحق من الضار يكون النهي عنه، إضافة إلى اختلاف طبيعة(/31)
النهي والطلب بحسب كون الضار والنافع بذاته أو بأمر طارئ، فما كان بذاته مستمراً ثبتت أحكامه، وما كان لطارئ زال الحكم بزاول سببه. وهذا يعني أنه ما حكم الشرع بضرر شيء وحرمته مطلقاً، استمر حكمه أبداً، وكذلك العكس إن وجد. ومثال ذلك: الخنزير والميتة والدم، فإنه لا يجوز الانتفاع بها فيلزمها حكم التحريم. وما حكم الشرع بكونه محرماً لسبب، اقترن حكمه به ما دام السبب باقياً. فالخمر إذا بقيت على صفاتها المذمومة، استمر تحريمها من جميع وجوهها، وإذا تخللت بفعل الشمس – مثلاً – تحول حكمها إلى الحلال كما في كتب الفقه. وعندما يدقق النظر في الأشياء المحرمة يلحظ فيها الضرر الحقيقي بالإنسان أو بيئته الطبيعية أو الاجتماعية، كما يلحظ النفع والفائدة في الأشياء المطلوبة، سواء في ذلك كله ما ظهر ضرره أو نفعه للإنسان، أو خفي.
المبحث الثاني
تنظيم علاقة الإنسان بالأموال والثروات بحسب وظائفها
لما كانت وظيفة الإنسان في هذه الحياة الدنيا قيامه بالعمارة المطلوبة على الوجه الأمثل. وهذه العمارة تتجلى في كل مجال وفى كل شيء بحسبه؛ فكما أن العمارة الروحية تكون بحسن الإقبال القلبي على الله تعالى ودوام ذكره وعبادته وطاعته، وأن العمارة العقلية تكون بالتزود من المعرفة وإعمال الفكر، فإن العمارة المادية تكون في مجالات المادة، وهي البيئة الطبيعية المحيطة بالإنسان، والتي تعتبر وعاء الأموال والثروات الاقتصادية. وعلى هذا فإن وظيفة الإنسان تجاه الأموال والثروات التي خلقها الله هي أن يحسن استخدامها فيما خلقها الله له وأن ينتفع بها فيما يحقق مصالحه ويدفع عنه المفاسد.(/32)
وإذا نظرنا فيما أورده الفقهاء في كتبهم رأينا الأموال تنقسم إلى قسمين رئيسين: أحدهما ما خلقه الله لينتفع به إجمالاً [12، ج1، ص 222]. والثانى ما خلقه ليتوسل به – إجمالاً – في الحصول على ما ينفع[27] [12، ج1، ص 222]. وهو الأثمان. والأول هو العروض. ويشمل كل شيء ما عدا الأثمان [14، ج2، ص 228]. فإذا كانت وظيفة الأثمان التوسط في تداول الأشياء النافعة إلى أن تصير في أيدي من ينتفع بها. فإن قيام الإنسان بتيسير أدائها لوظيفتها هو الأمر الطبيعي، كما أن من الطبيعي عمل الإنسان في إيصال الأشياء النافعة لمن ينتفع بها. وينبني على ذلك: أن إخلال الإنسان بالتصرف الطبيعي بتلك الأشياء عروضاً أو نقوداٌ، يعتبر إخلالاً بالوظيفة التي أنيطت به. فالاكتناز الذي تمنع به النقود عن التداول بين الناس بحجب حقوق الله وحقوق العباد[28] عن أدائها منها، والاحتكار الذي تمنع به العروض عن أن ينتفع بها من يحتاجها سعياً لربح طائل يربحه التاجر باستغلال احتياج المحتاج، أمران غير مقبولين وكلاهما غير سليمين. وقد وردت نصوص في منعهما، مثل آية تحريم الكنز[29] في موضوع الاكتناز، وحديث: ((لا يحتكر إلا خاطئ))[30] وحديث: ((من احتكر حكرة يريد أن يغلي بها على المسلمين فهو خاطئ، وقد برئت منه الذمة))[31] في موضوع الاحتكار.
الفرع الثاني
تنظيم علاقة الإنسان بالأموال والثروات بحسب منهج التصرف بها(/33)
نظم الإسلام منهج تعامل الإنسان مع البيئتين الاجتماعية والطبيعية في جميع مجالات الحياة بعامة والجانب الاقتصادي منها بخاصة. فرسم له سبل الخير وكل ما يحقق مصالحه العاجلة والآجلة، ويسرها له. كما بصره بالسوء والشر والفساد ونهاه عنها، وأمره بالابتعاد عن كل ما يؤدي إليها. ولعل من أهم ما ينبغي الإشارة إليه مما نهى عنه الإسلام في المجال الاقتصادي وهو من أشد الآفات فتكاً بالثروات الطبيعية والقدرات الاجتماعية، أمرين: أولهما الإسراف والتبذير، والثانى الانحراف بالثروات لتستخدم في المعاصي التي تمثل مهالك الإنسان ومهاويه في دنياه وآخرته.
فالإسراف والتبذير يؤديان إلى ضياع جزء من الثروة عن الانتفاع به، عظم ذلك الجزء أو ضؤل. وقد يؤديان إلى الإضرار بالمسرف المبذر. إضافة إلى تفويت الفرصة على المحتاجين بعدم الانتفاع بما ضاع. وقبل ذلك كله فإن فيه استهتاراً بنعم الله وفضله. قال تعالى: {وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}[32] وقال جل شأنه: {وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ}[33]. وأما الانحراف فإنه أسوأ من الإسراف والتبذير، حيث يشتمل على مساوئهما وزيادة. فهو مثلهما في كونه مضيعة للمال من غير فائدة، وأن فيه تفويتاً للمحتاج ما يحتاج إليه أو بعضه، كما أن فيه استهتاراً بنعم الله، وهو – أيضاً – ينطوي على مكابرة لله في نعمه باستخدامها فيما يبغضه. ويزيد الانحراف على الإسراف والتبذير بأن فيه إضراراً بذات المنحرف في جسمه أو عقله أو روحه، أو في مجموعها كلها، كشرب الخمر وأكل الخنزير وما شابههما.
وأما المنهج الذي بين الإسلام فيه للإنسان – أي للجنس البشري – ما يحقق له مصالحه ويبلغه الخير في جميع شؤونه بعامة وفى ناحيته المعيشية منها بخاصة، فيمكن إيجازه بالإشارة إلى بعض عناصره الرئيسة في المبحثين التاليين:
المبحث الأول(/34)
توجيهات الإسلام الاقتصادية فيما أمر به أو رغب فيه
أرشد الإسلام البشر إلى منهج، وطلب منهم سلوكه والالتزام به لتستقيم به معيشتهم في ديناهم، وينالوا الجزاء الكريم الأوفى في أخرهم. ويمكن إبراز أهم عناصره فيما يلي:
1- إرشاد الجنس البشري إلى الحق والعدل والخير ومطالبته بها. فإن الله خلق الأرض واستخلف الإنسان عليها ليقوم بمهمة العمارة على النحو الذي يليق بمكانته التي منحها الله إياه مادياً وفكرياً ووجدانياً وروحياً، سواء كان ذلك من الناحية الاجتماعية البشرية أو الطبيعية الكونية. وكل ذلك ضمن حدود الله وأحكام شريعته الآمرة بالحق الذي يستقيم به الكون كله، والعدل الذي تستقر به الحياة البشرية والخير الذي تتحقق به السعادة والهناء لكل إنسان، فرداً كان أو جماعة.
2- توجيه الإنسان إلى الأخلاق الكريمة التي تتحقق بها استقامة السلوك الإنسانى فرداً أو جماعة، وتستقر بها الحياة الاقتصادية، ويقوى بها النشاط الاقتصادي، وترسخ الفضيلة بجميع مظاهرها وعناصرها في النفوس، فلا تنافر ولا تناحر، وإنما التزام بالصدق والأمانة والعفة والاستقامة وحسن التصرف بالثروات الطبيعية وحسن النية والظن بالآخرين والثقة المتبادلة مع المحيط الاجتماعي والتنافس على فعل الخير والتسابق في استقامة العمل والتعامل.
3- التوجيه لصنوف الإنفاق على المحتاجين – على اختلاف أصنافهم وطبقاتهم – ضمن نظام فعال يشتمل على شطرين.
الشطر الأول: إلزامي يمثل نسبة ضئيلة من أموال الأغنياء.
وهو الزكاة المفروضة[34].(/35)
الشطر الثاني: تطوعي، وأبوابه كثيرة ومفتحة لا حدود معينة لها إلا أن تكون ضمن طاقة المنفق وقدرته على التبرع دون إخلال بمسؤولياته والتزاماته. ويشمل هذا الشطر صنوف البر والإحسان. ويكون حكم عدم الإلزام بهذا النوع في الحالات الطبيعية المعتادة[35]. إلا أن هذا الشطر قد يتحول في بعض أبوابه في بعض الظروف والأحوال إلى واجب شرعي يلزم القادر بفعله، فيتحول حكمه من تطوع اختياري إلى واجب إلزامي، كما في أوقات الكوارث والجوائح العامة[36]. وقد يتحول هذا الشطر في بعض الأحيان في بعض حالاته إلى محظور منهي، وذلك حين يؤدي إلى التهرب عن بعض المسؤوليات، أو عن أداء حقوق شرعية ثابتة، كالوصية لجهات بر بما يتجاوز حدود ثلث التركة حيث يكون التعدي على حقوق الورثة، ومثل ذلك أيضاً: المبالغة في الصدقات ممن عليه ديون لم يؤدها لغرمائه... إلخ.
4- إقرار مبدأ المساواة بين الحقوق والواجبات بين الناس مع مبدأ تكافؤ الفرص، مما يحفظ للفقراء والضعفاء حقوقهم، مع ضمان المعيشة الكريمة بموجب ما ورد في الإسلام من الأحكام المتعلقة بالضمان الاجتماعي بمختلف أنواعها وفروعها، كما حفظ للأغنياء وذوي المكاسب حقوقهم وثمرات كسبهم مع تكليفهم ببعض الواجبات اليسيرة المناسبة[37]. وقد جعل الإسلام العلاقة بين الفقراء والضعفاء وبين الأغنياء والأقوياء من جهة، وبين الفرد والمجتمع من جهة أخرى، قائمة على التوازن والتكافؤ مع المحبة والثقة المتبادلتين.
5- تنظيم التصرفات على الوجه الذي يتحقق به لكل فرد في المجتمع، مع نفسه أو مع مجتمعه أو مع البيئة الطبيعية، جلب المصلحة ودرء المفسدة، ويتجلى ذلك فيما يلي:
أ - التصرفات المنظمة للمعاملات المالية، سواء منها المنظم لنقل الملكية كالبيع والهبة، أو المنظم لنقل حقوق الانتفاع كالإجارة أو الإعارة، أو المنظم لتوثقة الحقوق كالرهن والضمان أو غير ذلك.(/36)
ب- التصرفات المتعلقة بالكسب والإنتاج في ميادين الزراعة والصناعة والتجارة. ويلحق بها ما يعرف بإحياء الموات والإقطاع[38] – بمدلوله الشرعي.
ج – التصرفات المتعلقة بالخلافة عن الإنسان في ماله والمضافة إلى ما بعد الموت، وتسمى في الشرع ((الوصايا)) وقد نظمها الإسلام بشكل يجعلها تؤتي ثماراً طيبة، وتنفي الخبث عن البناء الاجتماعي الأسري، وغيره مما هو أوسع من الأسرة والحفاظ على ثروات المجتمع الأخلاقية والوجدانية والمادية الطبيعية. ومن الأحكام التي يجدر أن يشار إليها في توضيح هذه المعاني، حصر حدود الوصية بثلث المال الموروث، حفاظاً على حقوق الورثة ورابطة القرابة، كما أن عدم جواز الوصية لوارث هو لمنع جعل الوصية تكأة في تغيير المنهج الرباني الأمثل في توزيع الميراث بين الورثة والعبث به عن طريق الوصية بزيادة نصيب بعضهم على حساب غيرهم.
د- تنظيم الخلافة عن صاحب الثروة بعد وفاته بالإرث بعد مراجعة رغبته عن طريق الوصية – بالحدود والضوابط المشار إليها آنفاً – والتي توفر المصالح الأسرية والاجتماعية والدينية ودوافع الخير في نفس المورث قبيل وفاته. وهذا التنظيم ملزم. وهو مما انفرد به الإسلام عن أي نظام آخر من حيث المبدأ، ومن حيث دقته وتلبيته لحاجات المجتمع البشري – أفراداً وجماعات – كي تسلم وتقوى أواصره، ويكون عاملاً من عوامل عظمة الإسلام وبناء المجتمع السعيد الأمثل الخالي من عناصر الاضطراب والخلل والانحراف والفوضى. وقد جعل الإسلام دعائم التنظيم الإسلامي للميراث أموراً مهمة ثلاثة [1، ص 57 ] هي:
1- مراعاة مدى القرابة في منح النصيب من الميراث ضئيلاً كان أو جليلاً. حيث جعل النسبة من حصة الميراث تزيد بحسب قوة القرابة.
2- مراعاة مدى الحاجة إجمالاً، بحيث جعل الأحوج – إجمالاً – بمقتضى السنن المعيشية البشرية العامة أعظم نصيباً من الميراث.(/37)
3- مراعاة مبدأ توزيع الميراث، مما جعل الثروات في طريقها إلى الانتشار وتعميم الفائدة والثمرات أكثر مما كانت عليه قبل وفاة المورث.
6- إن الإسلام حث الإنسان على الكسب والعمل في شتى الميادين الجائزة، وجعل ثمرة كسبه له. بل إن الإسلام جعل من واجبات المحيط الاجتماعي احترام ثمرة كسب الإنسان. ومما ورد في السنة النبوية المطهرة في ذلك:
أ- ((ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده)) رواه أحمد والبخاري من حديث المقدام رضي الله عنه [11، ج3، ص 81].
ب- ((إن قامت الساعة وفى يد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليغرسها)) رواه أحمد والبخاري في الأدب من حديث أنس رضي الله عنه [11، ج1، ص 267].
ج- ((كل المسلم على المسلم حرام، ماله وعرضه ودمه)) رواه أبو داود وابن ماجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه [11، ج2، ص 322].
المبحث الثاني
توجيهات الإسلام الاقتصادية فيما نهى عنه أو رغب عنه
نورد فيما يلي أهم ما أمر الإسلام بالابتعاد عنه والحذر من فعله، على عكس ما أوردناه في القسم السابق:
1- منع الاستغلال بجميع أصنافه في التصرفات، سواء ما كان منها من صنوف الاستغلال التي تكون بين الأفراد بعضهم مع بعض، أو بين الأفراد وبين المجتمع. ممثلاً بالدولة؛ لأن ذلك يؤذي الحياة الاجتماعية بعامة، والنشاط الاقتصادي بخاصة.
2- منع الأعمال الضارة والتعامل الضار، سواء من ذلك ما كان راجعاً إلى بعض الأشياء لذاتها كالخنزير، أو ما كان منها راجعاً إلى صفة تتصف بها كالخمر أو ما كان منها راجعاً إلى سوء استخدامه كالربا.
3- منع العبث الذي يحتمل أن يصدر من صاحب الثروة مضافاً إلى ما بعد وفاته – على شكل وصايا – ويكون من الممكن أن يلحق الضرر بالروابط الأسرية والاجتماعية والثروات الاقتصادية.(/38)
فهذه الأمور المذكورة تتضمن قيوداً فعلية وتوجيهاً عملياً للتصرفات والمعاملات. فما التوجيه العام الإجمالي فيها؟
إن التوجيه هو فتح باب الخير للناس جميعاً كي يلجوا فيه ويسرحوا بحرية كاملة مع تشجيع التنافس فيه. إضافة إلى الحفاظ على مبدأ تكافؤ الفرص، والحفاظ أيضاً على الحقوق من أن تطول إليها أيدي الأقوياء والأغنياء بالعدوان.
وأما القيود فهي: كل حكم يمنع من أي فعل يضر بالفرد أو بالمجتمع أو بالعلاقة بينهما – العلاقات الاجتماعية – أو بالعلاقة بالبيئة الطبيعية وثرواتها. والكل – على اختلاف مراتب الغنى والقوة الاجتماعية – يخضع لرقابة النظام وأحكامه دون محاباة لطرف ما أو تجاوز مع أحد أو إغضاء عنه.
وقد أثمرت الأحكام هذه كلها حرية بناءة خالية عن جميع الآفات المؤدية إلى الإخلال أو الهدم للنظام الاجتماعي أو الاقتصادي أو ثروات الأمة أفراداً أو جماعات.
وبذلك يكون الإسلام الدين الكامل المشتمل على ما يوجه الإنسانية إلى سبل السعادة والرفاه، ويصرفها عن كل أذى وسوء، بنظام يشتمل على عناصر القوة الموجهة لحرية اقتصادية منظمة بعيدة عن الأهوال والشهوات العابثة المهلكة للفرد والمجتمع. ويعمل كل منهما – أي الفرد والمجتمع – بأمان وثقة واطمئنان، في كل ما يحقق مصالحه ورغباته، ويصرف عنه كل سوء وتجاوز وعدوان.
الفرع الثالث
تنظيم العلاقة الاقتصادية بين الراعي والرعية
إن العلاقات الاقتصادية في الإسلام لا تقتصر على الأفراد بعضهم مع بعض، وإنما تتجاوز تلك الحدود إلى تنظيم العلاقات الاقتصادية بين أفراد الأمة وبين ولاة الأمر فيها. وولي الأمر العام وأعوانه لا تقتصر علاقاتهم بالأمة في ناحية الجهاد – مثلاً – أو بعض النواحي الأخرى، وإنما تشمل سائر النواحي، وفى مقدمتها الناحية الاقتصادية التي لها أثرها الكبير في استقرار كيان الأمة ونموها، لذا فإن من المهم إبراز هذا الجانب في الفرع الذي شرعنا فيه.(/39)
ولكي نتمكن من توضيح العلاقة بين الرعية – الأمة أفراداً أو جماعات – وبين الراعي – وهو ولي الأمر العام ومن ينيبه في رعاية شئوون الأمة وتصريف أمورها – فإنه لابد من بيان وظيفة ولي الأمر في الدول الإسلامية – على وجه الإجمال - ثم نشرع في بيان ما يمكن أن يقوم به ولي الأمر. ثم ننتقل إلى بيان المعالم الرئيسة أو أهمها في علاقة الراعي بالرعية، بشكل يمكن من بيان تميز الإسلام عن الاقتصاد الوضعي في الموضوع الذي يدور البحث حوله وهو: مدى الحرية الممنوحة للجنس البشري في مجال الاقتصاد. ويكون بيان كل واحد من هذه الأمور الثلاثة في مبحث خاص به.
المبحث الأول
في وظيفة ولي الأمر في الدولة الإسلامية في المجال الاقتصادي
لولي الأمر في الدولة الإسلامية وظائف[39] [16، ص5 وص 15 - 16]. يمكن اختصار أهمها فيما يلي:
1- حراسة نظام الإسلام. وذلك بإقامة أحكامه كلها بعامة والجانب الاقتصادي منها بخاصة. كالإشراف على شئون الفيء، واستثمار الأراضي العامة – حسب اجتهاد بعض الفقهاء.
2- حراسة حقوق الناس العامة – والخاصة، وبخاصة منها الحقوق المالية، مع الحفاظ عليها من الضياع والعدوان، كالزكاة والحقوق المترتبة على المعاملات المالية بين الناس عن طريق القضاء [16، ص5 وص 15 - 16].
3 - إقامة المرافق العامة – أي ما يعم به صلاح المسلمين – ورعايتها ضمن حدود الإمكانات المتيسرة [15، ص 417] بادئاً بالمرافق المهمة ثم بما دونها أهمية. ومن الأمثلة المناسبة المثبتة لذلك:
أ- أنه حمى رسول الله صلى الله عليه وسلم النقيع – وهو موضع بالمدينة – لخيل المسلمين [15، ص417].
ب- أنه حمى عمر رضي الله عنه الأرض لنعم الصدقة إلى أن توضع مواضعها وتفرق في أهلها.
المبحث الثاني
ما يجوز لولي الأمر أن يقوم به في مجال النشاط الاقتصادي والإنتاج(/40)
نظراً لكون ولي الأمر العام منصوباً لخدمة مصالح المسلمين، فإنه لا ينبغي أن ينشغل عن مهمته الأساسية بنشاطات أخرى اقتصادية. ويستثنى من ذلك ما يستدعيه الوفاء بحاجات الأمة والبلاد في حال عدم توافر ما يغطيها من الأموال في بيت مال المسلمين. وإذا كان لبيت المال موارد معروفة من أموال الفيء[40] والزكاة والأخماس[41] وغيرها، فإن له أيضاً مصارف توجه إليها تلك الأموال، معينة كانت تلك المصارف – كما في الزكاة مثلاً – أو غير معينة – كما في الفيء وتوابعه. ولقد ذكر الفقهاء – كما سبقت الإشارة إليه في المبحث السابق – أن من واجب ولي الأمر قيامه بما يحقق مصالح المسلمين، وهو يشمل إقامة المرافق العامة ورعايتها، كالمواصلات البرية والبحرية والجوية، والاتصالات السلكية واللاسلكية، والتعليم، والصحة، و... إلخ. ومما يمكن أن يحدث هو عجز بيت المال عن تغطية احتياجاته بموارده الطبيعية المعتادة في حال الإصابة بجدب أو غيره من الجوائح، مع اتساع الحاجات وتنوعها، فيؤول الأمر إلى أحد سبيلين لمواجهة تلك الحاجات من قبل ولي الأمر: السبيل الأول قيام ولي الأمر بجباية أموال إضافية. والسبيل الثاني: قيامه ببعض ألوان النشاط الاقتصادي لحساب بيت المال.
ولما كانت جباية أموال جديدة غير الأموال المعروفة المعتادة أمراً غير مقبول شرعاً إلا في حال الضرورة، فإنه يكون حينئذ قيام ولي الأمر ببعض أنواع النشاط الاقتصادي – عن طريق جهاز اقتصادي ينشئه ولي الأمر ويستعين به – أمراً جائزاً على أن لا يتسبب في ضعف قيامه بواجباته الأصلية من جهة، وأن لا يؤدي إلى زعزعة النشاط الاقتصادي المشروع لأفراد الأمة، حيث إن حدوث أي من هذين الأمرين قد يؤدي إلى الإخلال بالنظام العام، إلى جانب الإخلال بالنشاط الاقتصادي العام، وتصير الدولة منافسة للأفراد في نشاطهم، ويحل عدم التكافؤ بين أطراف النشاط الاقتصادي.(/41)
ويجدر بنا أن نبين هنا البيان الكافي الموجز لأمرين مهمين:
أولهما: الأسباب التي تسوغ للدولة ممثلة بولي الأمر العام ومن ينيبه من الأجهزة
المختلفة المتنوعة – الجهاز الإداري على سبيل المثال – القيام بالنشاط الاقتصادي.
وثانيهما: الحدود – الأحكام والقواعد – التي يلتزم بها ولي الأمر حين يقوم بتلبية احتياجات الأمة والبلاد عن طريق القيام بنشاط اقتصادي ما.
وسوف يتكشف من خلال بيانهما – بإذن الله – مدى حرية الدولة في القيام بالنشاط الاقتصادي، على أن يكون في الحسبان ما قد سبقت الإشارة إليه من بعض الضوابط التي تحكم قيام الدولة بأي نشاط اقتصادي.
أولاً – الأسباب المسوغة لقيام الدولة بنشاط اقتصادي:
لعل ما يجيز – إن لم يحبذ – للدولة القيام بنشاط اقتصادي مشتمل على دخولها – أي الدولة – في مسوغات إنتاجية زراعية أو صناعية أو تجارية أو غيرها، ما يلي من الأسباب:
أ- احتياج بيت المال لأموال لم تتوافر فيه من المصادر الشرعية المعتادة بقدر كاف، مما يؤدي إلى عدم توافر ما يغطي نفقات مهمة كالنفقات الإدارية أو القضائية أو الصحية أو... مما يشابهها. ومن المعلوم أن العجز عن نفقات مرافق عامة ضرورية كالتي أشرنا إليها يعني اختلال المعيشة والنظام العام، ووقوع الفساد وانتشاره.
ب- تلبية حاجات الرعية من منتجات لم تلب من قبل الأفراد أو من منتجات مرتفعة الأسعار لدرجة ترهق كاهل الناس أو المحتاجين مع احتمال السوق لكميات أكبر من المنتجات، بحيث يساعد نشاط الدولة في إنتاج هذه المنتجات المطلوبة على جعل الأسعار مناسبة للمحتاجين من جهة ولا تلحق الأذى والضرر – الخسارة بالمنتجين الآخرين من أفراد الأمة، وتتحقق بذلك المصلحتان الخاصة والعامة، وتدرأ المفسدة التي أدت إلى هذا التدخل بالإنتاج المحدود.(/42)
ج- تدعيم المستوى المعيشي لمن هم في حكم الفقراء ممن لا يملكون فائضاً عن حاجاتهم المعيشية، بإقامة مرافق مساعدة لهؤلاء تحميهم من هبوط مستوى معيشتهم إلى الفاقة والاحتياج إلى الصدقات والمعونات.
د- تنشيط الحركة الاقتصادية بإبراز فائدة بعض النشاطات الاقتصادية عن طريق توجيه انتباه الرعية إليها بالتطبيق العملي وإغرائهم بثمراتها الاقتصادية.
هـ- الدخول مع الأفراد المحتاجين بمشاريع مشتركة يعملون فيها، وتشترك الدولة ببعض طاقاتها المتوافرة لديها – عن طريق أموال الفيء، مثلاً – فيكون في ذلك تشغيل العاطلين، وتقليل المحتاجين الذين يرجع السبب في احتياجهم إلى عدم عثورهم على عمل يتناسب مع مواهبهم وقدراتهم وخبراتهم.
ثانياً – الحدود التي يلتزم بها ولي الأمر حين قيامه بنشاط اقتصادي لتلبية احتياجات الأمة:(/43)
إن الأحكام والقواعد الشرعية التي تحكم الدولة حين قيامها بشيء من أنواع النشاطات الاقتصادية المشتلمة على المشروعات الإنتاجية، إن هذه الأحكام والقواعد هي تلك التي تحكم نشاط الأفراد والجماعات دون أن تتميز عنها. بل إن جانب الأفراد يحظى بالحماية لكونه الجانب الأضعف، حيث إن الجانب الأضعف يحظى في ظل الإسلام بمزيد رعاية وعناية وحماية، كي يكون المجتمع بجميع عناصره في توازن عام لا يطغى فيه أحد على أحد، يحكم فيه الحق والعدل جميع الأطراف. وضماناً لذلك، وترسيخاً للشعور بالاطمئنان لدى عامة أفراد الأمة، منع كل من يعمل في الأجهزة العامة – إدارية كانت أو قضائية أو غيرهما – من أي لون من الألوان استخدام السلطة تشهياً أو لمصلحة خاصة، كما منع من بعض التصرفات كأخذ الهبات أو إبرام العقود التي يظهر فيها تجاوز الحد الطبيعي – زيادة أو نقصاً – في تحديد أحد البدلين أو كليهما، بل إنه إذا رأى ولي الأمر في ثروة أحد ممن يقومون بالأعمال العامة نماء ظاهراً في موضع تهمة، يكون لولي الأمر في مثل هذه الحالة انتزاع الثروة التي هي موضع التهمة من ذلك العامل في المصلحة العامة، ولو كان لذلك المتهم أدلة تبرئ ساحته، كما حصل مع أبي هريرة رضي الله عنه لدى الخليفة عمر رضي الله عنه [15، ص381 - 382] مما يؤكد التوازن بين الفرد والمجتمع على نحو يحفظ الحقوق لأصحابها ويقيم العدل ويؤمن المصالح ويدرأ المفاسد ويعالج الآفات ويلبي الحاجات تحت مظلة أحكام الله التي يخضع لها الجميع على حد سواء.
المبحث الثالث
المعالم الرئيسية لعلاقة الراعي بالرعية(/44)
يجدر بنا أن نوضح هنا أن ما ذكرناه من نشاط للدولة في مجال الإنتاج وغيره من ألوان النشاطات الاقتصادية وغير ما تتحمله الدولة ممثلة بولي الأمر من المسؤوليات المنوطة بولي الأمر والوظائف الموكلة إليه بحكم الشرع، فلولي الأمر وسائل خاصة يستعين بها للقيام بمهامه الأصلية تختلف عما ينتهجه حين يريد القيام بنشاط اقتصادي كالإنتاج ونحوه، فإن قيام الدولة بأداء مهامها يعتمد على أسس معروفة بقواعد السياسة الشرعية التي تجعل للدولة مزية في التطبيق والإلزام تمتاز بها عن الأفراد، أما حين يريد القيام بنشاط اقتصادي كالأفراد فإن الذي يحكم التصرفات في مجاله هو الأحكام والقواعد الشرعية العامة التي تحكم جميع أفراد الأمة، ويستوي في ذلك الراعي والرعية، ومثال ما تمتاز به الدولة في مجال قواعد السياسة الشرعية: إمكانية انفراد ولي الأمر في إلزام صاحب أرض ما يحتاج إليها حاجة ماسة في توسيع مسجد أو طريق لعامة الناس أو نحوهما، إلزامه بالتنازل عنها للمصلحة العامة مقابل قيمتها الحقيقية يقدمها له ولي الأمر تعويضاً عن أرضه. ومن الجدير بالذكر أن مثل هذا التصرف الذي تقدم فيه المصلحة العامة على المصلحة الخاصة يكون مقيداً بحال الضرورة وهي تقدر بقدرها. وهذا ما يفهم من قول عمر [15، ص418 - 419].
خاتمة الفصل الثاني
بعد هذا العرض الموجز لما في الإسلام مما يتعلق بالحرية الاقتصادية ومدى ما للجنس البشري منها فإنه يستنتج أن الإسلام لا يقول بحرية مطلقة للجنس البشري بأي شكل من الأشكال؛ لأنها لله تعالى وحده(/45)
الخالق المالك للكون كله، وليس للإنسان إلا ما منحه الله للحرية مقيدة بأحكام الإسلام وقواعده تتمثل بحرية الاختصاص والانتفاع والتصرف. وهي حرية منظمة غير مكبلة، موزعة بين الفرد والمجتمع توزيعاً يقوم على جلب المصلحة ودرء المفسدة، ويقيم مبدأ التكافؤ بين الأفراد من جهة وبينهم وبين المجتمع من جهة أخرى، بشكل يتحقق معه التوازن الاجتماعي بعامة والاقتصادي منه بخاصة، ويستقر به الحق ويقوم العدل، وتقوم الدولة ممثلة بولي الأمر – الإمام العام – بحماية السلوك الاجتماعي المثالي العام ((مبادئ الأخلاق الكريمة)) وحراسة المصالح العامة والخاصة على حد سواء على أساس النظام العام الذي جاء به الإسلام دون مماراة لأحد. كما تقوم الدولة بتلبية حاجات المجتمع سواء بخدمة المحتاجين، أو بإنشاء المرافق العامة، أو بتغذيتها وحمايتها وحراستها، مع عدم الإخلال بالحقوق الخاصة بالرعية، حتى غدا الإسلام الدين المثالي الواقعي القائم على الحق والعدل والتطبيق العملي الرفيع لكل ما ورد فيه، فكان – بحق، وإلى أن يرث الله الأرض وما عليها – خير دين أنزله الله على خير نبي، لتعمل به خير أمة على وجه الأرض. دين سما على غيره بكماله وقوته وكفالة الله له بحفظه إلى أن يرث الله الأرض وما عليها.
الفصل الثالث
نتيجة المقارنة بين الإسلام والاقتصاد الوضعي في مدى الحرية الاقتصادية(/46)
بعد أن انتهينا من العرض الموجز لما يتضمنه كل من الاقتصاد الوضعي بمختلف مناهجه والاقتصاد الإسلامي، وذلك في مجال مدى الحرية الاقتصادية التي يمكن أن يتمتع بها الجنس البشري من خلال المذاهب الاقتصادية المختلفة، وبعد أن أدركنا مدى الاختلاف بين ما في المذاهب الوضعية وبين ما اشتمل عليه الإسلام، فإننا نرى بيان نتيجة الحديث عنهما في ثلاثة نواح، أولاها: في أصل الموضوع. وثانيتها: فيما اتفقت المذاهب الوضعية على مخالفة الإسلام فيه. وثالثتها: فيما اختلفت فيه. وذلك في الفروع الثلاثة التالية:
الفرع الأول
نتيجة ما يتعلق بأصل الحرية الاقتصادية
يبدو للناظر فيما ذكر من مذاهب الوضعيين أن لهم في موضوع الإيمان بالله وبدين منزل وجهتين مختلفتين. فهم ما بين منكر للأديان وجاحد للإيمان بالله أصلاً وناهج منهج الإلحاد اعتقاداً وتطبيقاً عملياً، وما بين مؤمن بإله ودين – في الجملة – ولكن لا يؤمن بأن هذا الدين – بعد أن انتهى إلى ما انتهى إليه – يقيده بشيء دون رغبة الإنسان وإرادته. فكانت نتيجة ما لدى الفريقين –الملحدين وأهل الأديان غير الإسلام – واحدة، وهي: جعل الحرية المطلقة من نصيب الجنس البشري في تصرفاته كلها، وكأنه مالك الكون والمتصرف الوحيد به وليس أحداً غيره، وكأنه ليس للكون خالق مالك أمر بما يشاء من الشرائع يجب على الإنسان أن يطيع أحكامه بكل ما منحه الله من القدرة حيث إن عليه وظيفة العمارة في الأرض بمقتضى مكانته كخليفة في الأرض، فكان من نتيجة ذلك كله ما كان من هؤلاء الوضعيين من جعل الحرية لجنس البشر حرية ذاتية مطلقة وليست ممنوحة من أحد ولا مقيدة بقيد إلا بما يشاؤه الإنسان نفسه حين يرغب في التقيد، أو يقيده إنسان مثله فرداً كان أو جماعة. وأما في الإسلام: فالحال على نقيض ما عليه الاقتصاد الوضعي تماماً كما بينا ذلك.(/47)
فإن قيل: إن بين الإسلام وبين الاتجاه المعتدل في الاقتصاد الوضعي شبهاً، حيث يشتركان في مبدأ توزيع الحرية بين الفرد والمجتمع، والجواب عنه: إن هذا القول مردود. فإن الشبه موهوم. حيث إن الذي يوزعه الاتجاه المعتدل بين الفرد والمجتمع حرية مطلقة. أما الإسلام فيوزع منذ البداية حرية مقيدة بأحكام الإسلام وقواعده. فثبت الاختلاف بل التباين بين الإسلام وغيره.
الفرع الثاني
الفارق بين الإسلام والمذاهب الوضعية فيما اتفقت عليه المذاهب الوضعية في مجال الحرية
إذا أردنا أن نبين الفارق بين الإسلام والمذاهب الوضعية فيما اتفق عليه الوضعيون في مجال الحرية الاقتصادية، فإنه لا بد من معرفة ما اتفقت عليه المذاهب الوضعية – إجمالاً – مع استبعاد موضوع واحد في الفرع السابق. وأما بيان الموضوعات الأخرى فهو فيما يلي:
1- إن الأخلاق – كمثل توجه السلوك بدافع ذاتي دون ارتباط بمصلحة مادية آنية – ليست موجودة في الاقتصاد الوضعي، لعدم وجودها إجمالاً في المجتمعات غير الإسلامية في الحياة العامة.
2- في مجال الحرية: الإنسان هو الذي يتحكم بمدى ما للإنسان – فرداً كان أو جماعة – من الحرية الاقتصادية. وقد يعطيها للفرد وحده، أو للجماعة وحدها، وقد يوزعها بينهما.
3- كلما ازدادت قوة أحد في ظل نظام وضعي، اتسع مدى حريته على حساب الآخرين الأدنين قوة. فمدى الحرية منوط بمدى القوة زيادة أو نقصاً. ولقد أدى هذا الأمر إلى تعسف الأقوى وانحرافه – ويشكل قوة في المجتمع – على حساب الجهة الأخرى التي تشكل الكثرة الكاثرة في المجتمع. ومهما يكن من اعتدال فإن الحرية كلها صارت صيداً لا يقتصر القادر عليها من أن يقتنص منها أقصى ما يقدر عليه. وقد رأينا أصول المذهبين حكمت ووجهت – إجمالاً – المعتدلين كغيرهم.(/48)
4- إن المسفيدين من الحرية بالشكل الأكمل هم قلة- إجمالاً – بالنسبة إلى غيرهم من عامة الناس الذين يحكمهم أي نظام وضعي. وإذا عرفنا مجمل ما عليه المذاهب الوضعية في مجال الحرية الاقتصادية ومداها، فقد بقي أن نوضح الفارق بين الإسلام وتلك المذاهب – والحديث كله ضمن حدود ما اتفق عليه الوضعيون.
1- في مجال الأخلاق: يقف الإسلام موقفاً يخالف به غيره مخالفة تامة، حيث يجعل لها كل الاعتبار، ويدعمها بالثواب والعقاب، ويرتب عليها كثيراً من الأحكام.
2-3- وأما الذي يتحكم في مدى الحرية الاقتصادية في الإسلام فهو الشرع الرباني وليس الإنسان. لذا فإنه لا مجال لعبث الأهواء الجامحة أو الحيل الماكرة أو القوة الباطشة.
ومن نتيجة ذلك كون الحق والعدل أساس الحرية وإطارها؛ لأن الخلق عيال الله فهم عنده سواء، لا فرق بينهم إلا بالإخلاص وصدق الطاعة والعمل الصالح. وقد بينا أن كلاً من الضعيف والفقير والعاجز يحظى بالرعاية والحماية من القوي والغني والقادر، فيتحقق التكافؤ التام في الحرية الاقتصادية نظرياً وعملياً، فتعم الثمرة على أوسع مدى وأمثله.
4- ونتيجة لما سبق فإن القوة لا توسع من مدى الحرية ولا تزيدها في الإسلام، وإنما العبرة ((كما ذكرنا)) للحق ومعاملة الناس جميعاً على أساس العدل المجرد.
وبهذه العجالة يظهر التباين التام بين الإسلام وغيره من المذاهب الاقتصادية فيما اتفقت عليه تلك المذاهب في مجال الحرية.
الفرع الثالث
الفارق بين الإسلام والمذاهب الوضعية فيما اختلفت فيه المذاهب الوضعية في مجال الحرية
إن تعداد الأمور التي اختلفت فيها المذاهب بعضها عن بعض، يطول لكونه شاملاً لمعظم نواحي الحياة، بل قد يشملها كلها.
ومجمل الكلام في هذا الموضوع أنه ما حدث اختلاف بينها في أمر إلا وظهر تطرف في كل من المذهبين، حتى وفي الاتجاه المعتدل أيضاً في بعض النواحي.
فمما اختلف فيه المذهبان:(/49)
1- ملكية العقارات الإنتاجية الخاصة حين يثبتها مطلقاً دون حدود النظام الرأسمالي ويمنعها مطلقاًُ النظام الشيوعي.
2- إخضاع العمال للتجنيد العام في مزارع جماعية وما شابهها. إذ يثبتها النظام الشيوعي بشكل واسع جداً. وأما النظام الرأسمالي فيمنعه.
3- الإنتاج موجه حسب رغبة الحكومة في النظام الشيوعي، وأما في النظام الرأسمالي فهو موجه إجمالاً لما تتجه إليه السوق بالطلب، أي لرغبة القادرين على الشراء من الناس.
4- الخلافة عن الميت بميراث أو وصية: تكون حسب الرغبة المطلقة لصاحب الثروة، وهو الذي يوجهها إلى من يشاء في النظام الرأسمالي. وأما في النظام الشيوعي فالثروة للمجتمع، وهي ملك له ويرث صاحب الثروة.
وأما الإسلام فإنه لا يسرف ولا يتطرف في أية ناحية من نواحي الحياة الاقتصادية ولا النشاط الاقتصادي وإنما يمنح كل ذي حق حقه. فقد جعل لكل إنسان ثمرة كسبه، لا حق لأحد فيما يكسبه إلا جزءاً يسيراً منه يكون ضماناً اجتماعياً للمحتاجين ينقذهم ولا يرهقه ولا يثبط من عزيمته في الكسب والإنتاج موجه حسب رغبة المنتج والمحتاج ويكون ذلك بتكامل جهود المنتجين ومؤسسات الضمان الاجتماعي والدولة.
وأما الخلافة عن الميت فهي بموجب نظام دقيق يراعي القرابة والحاجة والتوزيع. ولا يجعلها معرضة لعبث صاحب الهوى ولا يلغيها. بل هي قائمة على أسس بناءة لمصالح الأسرة والمجتمع، ضمن إطار مثالي ودقيق.
خاتمة الفصل الثالث(/50)
وبما ذكرناه في هذا الفصل الأخير بخاصة ومع ما قبله بعامة يظهر الفارق بين الإسلام والمذاهب الاقتصادية الوضعية، على نحو تبرز فيه مزية الإسلام وقوة نظامه في جميع الجوانب بعامة والجانب الاقتصادي بخاصة، تترسخ به الحياة الاقتصادية المستقرة والاطمئنان الفردي والاجتماعي في مجال النشاط الاقتصادي بجميع فروعه وجوانبه، ضمن نطاق نظام مثالي رائع ودقيق يحقق المصالح ويدرأ المفاسد ويعمق جذور التوازن في المجتمع المسلم وبخاصة منه في جانب المعيشة – أي الجانب الاقتصادي.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
ثبت الإحالات والمراجع
1- العسال، أحمد محمد؛ وعبد الكريم، فتحي أحمد. النظام الاقتصادي في الإسلام. ط3، القاهرة: مكتبة وهبة، 1400هـ.
2- عبد الله، محمد حامد. النظم الاقتصادية المعاصرة. ط1، الرياض. جامعة الملك سعود بالرياض، 1987م.
3- بلول، محمد مختار. نظام اقتصادي إسلامي وليس اقتصاداً إسلامياً. صحيفة الشرق الأوسط ع 2992، 1987م.
4- مارليو، ليو، مآل الرأسمالية. تعريب على الحمامصي. القاهرة: مكتبة النهضة المصرية، 1946م.
5- هاشم، إسماعيل. المدخل إلى أسس علم الاقتصاد الإسكندرية: دار الجامعات المصرية، 1980م.
6- خياطة، عبد الوهاب. مبادئ في علم الاقتصاد والتخطيط. دمشق: مطبعة المفيد الجديدة، 1968م.
7- اينشتين، وليم. الديمقراطية والشيوعية. ترجمة وديع سعيد. القاهرة: دار الكرنك للنشر والطبع، 1965م.
8- قريصة، صبحي تادرس؛ وزميلاه. مقدمة في علم الاقتصاد والتخطيط. الإسكندرية: دار الجامعات المصرية، 1980م.
9- الأصفهانى، الراغب. المفردات في غريب القرآن. تحقيق محمد سيد كيلاني. القاهرة: مصطفى البابي الحلبي، 1381هـ/1961م.
10- الزركلي، خير الدين. الأعلام. ط3، بيروت، 1389هـ.(/51)
11- النبهاني، يوسف. الفتح الكبير في ضم الزيادة إلى الجامع الصغير، وهما للجلال السيوطي. القاهرة: دار الكتب العربية الكبرى.
12- ابن رشد، أبو الوليد محمد القرطبي، بداية المجتهد ونهاية المقتصد. ط2. القاهرة: دار الكتب الإسلامية، 1403هـ.
13- ابن عابدين، محمد أمين. مجموعة رسائل ابن عابدين. القاهرة: دار إحياء التراث العربي.
14- ابن نجيم، زين العابدين. البحر الرائق شرح كنز الرقائق. كراتشي: ايج ايم، سعيد كومپاني.
15- الزاوي، الطاهر أحمد. ترتيب القاموس المحيط على طريقة المصباح المنير وأساس البلاغة. القاهرة: عيسى البابي الحلبي وشركاه، ط2.
16- أبو عبيد، القاسم بن سلام. الأموال. ط1، القاهرة، مكتبة الكليات الأزهرية، 1968م.
17- الماوردي، أبو الحسن علي بن محمد. الأحكام السلطانية. ط3، القاهرة، مصطفى البابي الحلبي بمصر، 1393هـ.
ـــــــــــــــــــــــــ
[1] كما كانت عليه الحال بأوروبا في العصور الوسطى.
[2] كما حدث ضد الكنيسة والأباطرة في أوروبا.
[3] كما هي الحال في أوروبا بعد الثورة الفرنسية والثورة الصناعية التي تلتها، واللتين غيرتا وضع أوروبا. وكما هي الحال في روسيا وما كان يدور في فلكها – زمان وجود الاتحاد السوفيتي – وذلك بعد أن كان الإقطاع والرأسمالية من بعده يغلبان على أوضاع مجتمعاتها قبل حلول الاشتراكية محلها.
[4] على سبيل المثال انظر: [1، ص77 - 78]. وينبغي أن لا يغفل – في هذا المجال – أن بعض الباحثين يردون على هذه المقالة، بأن الإسلام لا يمكن أن يكون وسطاً بين مذاهب وضعية بشرية؛ لأنه شرع رباني منزل من عند الله. وهذا الكلام وإن يكن صحيحاً وثابتاً، إلا أنه لا يتضمن ما يرد على الخصوم في مجال دعواهم، فلا يكون له أثر إيجابي عملي.
[5] عندما تطلق كلمة ((الإنسان)) معرفة في هذا البحث عموماً: يقصد بها ((الجنس البشري)) كجنس وليس أفراداً منه أو مجتمعات.(/52)
[6] مع أن هذه التسمية وغيرها، مثل ((النظام المختلط)) أوردها بعض الاقتصاديين، مثل [2، ص109 وما بعدها؛ 3، ص8]، فإني لا أميل إليها، وإنما أختار ((الاتجاه المعتدل)) للأسباب التالية:
أ- لأنه ليس مذهباً مستقلاً عن غيره، محدد الأسس والمعالم، وإنما هو مجرد اتجاه نحو الاعتدال من بعض أتباع كل من المذهبين.
ب- لأنه مجرد تعديل جزئي يقوم به بعض أتباع المذهبين. لما يرون فيهما من التعسف والإسراف فيما يتجهان إليه.
جـ- لأنه لم يخرج أصحاب هذا الاتجاه إجمالاً عن أسس المذهبين الأصليين.
د- لأنهم تمسكوا بالانتماء إلى المذهبين الأصليين، واستمروا في ذلك.
[7] يقصد بالمبادئ الخلقية هنا بالدرجة الأولى: المستوى المثالي في التعامل على النحو الذي جاء به الإسلام وحث عليه الناس. ومنه على سبيل المثال: حب الخير للآخرين كحبه للذات، وكراهية الأذى والسوء للآخرين ككراهيتهما للذات، بحيث يكون من نتاج ذلك عدم إلحاق الأذى بأي طرف آخر في سبيل جلب مصلحة للذات. وانتفاء المبادئ الخلقية الأصلية بعامة، والمثال الذي ذكرناه بخاصة، من أصول الاقتصاد الرأسمالي وتصرفات أربابه. بل ينطبق أيضاً على سائر المذاهب الوضعية إجمالاً، بشكل أو بآخر. وسيرد ما يشهد لذلك فيما بعد في مواضعه المناسبة.(/53)
[8] منشأ هذه الحالة قيام طبقة أصحاب الثروات عملياً بحرمان الطبقات الأخرى من حقوقها الإنسانية المشروعة وثمرات كسبها الطبيعية، وذلك نتيجة تحكم روح الأثرة في نفوس أصحاب الثروات، وتسلطهم بما لهم من القدرات، وإمكان استغلال حاجة المحتاجين، مما أدى ذلك إلى ثورة الطبقات العاملة والفقيرة. وفورتها في كل مناسبة حانت أو تحين لها للحصول على بعض حقوقها المهضومة، فإن إطلاق حرية الناس بعضهم على بعض لا يفيد إلا أرباب القوى والأموال. ولما كان العمال والمحتاجون يشكلون أكثرية المجتمع، واتحادهم في اتجاههم يؤدي إلى نقيض سعي أصحاب الثروات، لذا فإن تأسيس المؤسسات التشريعية والاجتماعية صار وسيلة مفيدة لامتصاص ما في نفوس الفقراء الثائرين من مشاعر الغضب، فيمنحون عن طريقها بعض حقوقهم- من باب ذر الرماد في العيون - دون أن يؤثر ذلك تأثيراُ ذا بال في أحوال الأغنياء، فهم استطاعوا بذلك أن يحافظوا على مكاسبهم ومناهجهم في الكسب، بل إنهم تمكنوا في معظم الأحيان من زيادتها بتوجيه تلك المؤسسات لمآربهم بشكل أو بآخر، وكان من نتيجة ذلك بقاء طبقة أصحاب رؤوس الأموال الضخمة المستغلة دون أن تمس مصالحها بأذى يذكر، إلا مزيداً من ابتكار فنون الاستغلال.
[9] يقصد بـ ((الجماعات)) الجماعات المحدودة التي لها الصفة الخاصة كالأفراد.
[10] يعتبر ضعف تحقق المنافسة الحقيقية في الاقتصاد الرأسمالي ظاهرة غالبة فيه، لذا فإن من المعترف به أن يعتبر هذا أعظم نقد ضده [7، ص 209].(/54)
[11] ويلاحظ أن الرأسمالية اتجهت – ولو جزئياً – بعد أيامها الأولى إلى الاعتدال، وهذا الاتجاه ظهر ويظهر بمظهر تغيير أسلوب التطبيق وكيفية التعامل مع الجهة المهملة نسبياً من الرعاية الضرورية. ويتمثل هذا التغيير ببعض أشكال العناية والاهتمام – وقد أشرنا إلى أهمها – اللذين لا يخلان بهيكل المذهب العام ومعظم مبادئه الرئيسية. ولكن بعض الرأسماليين المتمسكين بكامل الأصول الأولى للمذهب لا يرضون بالتعديلات الجديدة المتزايدة، ويعتبرون ذلك خروجاً عن المبادئ والأركان الرئيسية للمذهب وتشويها له وليس تحسيناً. وهذا ما أطنب في الحديث عنه ((لوي مارليو)) حيث اعتبر ما طرأ من تغيير على المذهب الرأسمالي طمساً لأصوله، وسعياً في تقويض دعائم النظام الطبيعي المثالي، ونصح بالرجوع عنه إلى ما كان عليه من الانسجام مع قواعده الطبيعة، إذ بها يتمكن من الوصول إلى خبراتها والاستقرار على وضع سليم [4، ص 46]. والدول الرأسمالية الآن متفاوتة فيما أجرته من تعديل في أصل مذهب الرأسمالية، فأكثرها سعياً في القرب من التوازن بين الفرد والمجتمع: الدول الإسكندنافية. بينما تعتبر الولايات المتحدة أقرب من أصول المذهب [2، ص 45 وما بعدها].
[12] كما حدث أخيراُ في الاتحاد السوفيتي المنهار المتفكك، ودول أوروبا الشرقية التي كانت تدور في فلكه.
[13] سورة المائدة، الآية 130؛ وسورة الشورى، الآية 19.
[14] سورة البقرة، الآية 30.
[15] سورة فاطر، الآية 39.
[16] سورة هود، الآية 61.
[17] هو: أبو القاسم، حسين بن محمد بن المفضل، المعروف بالراغب الأصفهاني. توفي سنة 502 هـ [10، ج2، ص279].
[18] أخرجه الطبراني في معجمه الكبير، من حديث كعب بن عجرة [11، ج1، ص368 - 369].
[19] قال تعالى في سورة التين، الآية 4 {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}.(/55)
[20] تدل على ذلك آيات كثيرة في القرآن الكريم تفيد امتنان الله على عباده بأنواع النعم التي منها تسخير الله كثيراً من الكائنات للإنسان، ويرجع لمعرفة تلك الآيات إلى المعجم المفهرس لآيات القرآن الكريم مادة ((سخر)) على سبيل المثال.
[21] كالحواس والعقل وغيرهما.
[22] مما يدل على ذلك، قوله تعالى {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} سورة الملك، الآية 15.
[23] هو حق حيازة الأشياء، ووجوب احترام ذلك الحق من قبل الآخرين بعدم الاعتداء عليه. ويعبر عن ذلك في المعتاد بحق الملكية – أي الملكية المجازية – لأن الملكية الحقيقية لله تعالى وحده، كما سبق بيان ذلك. وهذا الحق قد أشارت إليه نصوص، كقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ} سورة النساء الآية 29، وحديث ((كل المسلم على المسلم حرام ماله وعرضه ودمه)) رواه أبو داود وابن ماجة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه [11، ج2، ص322].
[24] بأي نوع من أنواع التصرفات الناقلة لحق الحيازة أو حق الانتفاع، مثل الهبة والبيع والإجارة والإعارة والرهن و... إلخ.
[25] أي: حق التمتع بمنافع الأشياء ضمن الحدود الجائزة شرعاً، كالسكنى للبيوت ونحو ذلك.
[26] قال تعالى {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} سورة الحج الآية 78. وقال {يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} سورة البقرة، الآية 185.
[27] وقد ورد بهذا المعنى في [13، ج2، ص57].
[28] حقوق الله كالزكاة، وحقوق العباد كحقوق الوالدين.
[29] سورة التوبة، الآيتان 34، 35.
[30] رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث معمر بن عبد الله رضي الله عنه [11، ج3، ص355].(/56)
[31] رواه أحمد والحاكم في المستدرك من حديث أبي هريرة رضي الله عنه [11، ج3، ص150].
[32] سورة الأعراف، الآية 31.
[33] سورة الإسراء، الآيتان 26 و27.
[34] يشهد لهذا قول الرسول صلى الله عليه وسلم ((ليس في المال حق سوى الزكاة)) رواه ابن ماجه من حديث فاطمة بنت قيس رضي الله عنها [11، ج3، ص63].
[35] ويشهد لهذا قول الرسول صلى الله عليه وسلم ((إن في المال لحقاً سوى الزكاة)) رواه الترمذي من حديث فاطمة بنت قيس رضي الله عنها [11، ج1، ص401].
[36] ويشهد لهذا قول الرسول صلى الله عليه وسلم ((إن في المال لحقاً سوى الزكاة)) رواه الترمذي من حديث فاطمة بنت قيس رضي الله عنها [11، ج1، ص401].
[37] إشارة إلى الزكاة المذكورة آنفاً.
[38] في القاموس ((أقطعه قطيعة: أي طائفة من أرض الخراج)) [15، ج3، ص649]. وفى الأموال لأبي عبيد ما يفهم منه أنه: منح ولي الأمر قطعة من الأرض العامة لمن يشتثمرها [16، ص386 وما بعدها].
[39] قد عبر المارودي عن وظائف ولي الأمر بقوله ((الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا)) [17، ص5].
[40] في كتاب ((الأموال)) لأبي عبيد ((وأما مال الفيء: فما اجتبي من أموال أهل الذمة مما صولحوا عليه من جزية رؤوسهم التي بها حقنت دماؤهم وحرمت أموالهم، ومنها خراج الأرضين التي افتتحت عنوة....)) [16، ص25]. وفي بداية المجتهد ((كل ما صار للمسلمين من الكفار من قبل الرعب والخوف من غير أن يوجف عليه بخيل أو رجل)) [12، ج1، ص467].
[41] الأخماس: ج خمس. ويقصد به خمس الغنائم الذي بينت آيات الغنائم في سورة الأنفال مصارفه.(/57)
مما يؤيد هذا ويدل عليه ما ورد في حديث أسلم، قال سمعت عمر وهو يقول لهني حين استعمله على حمى الربدة ((يا هني: اضمم جناحك عن الناس واتق دعوة المظلوم فإنها مجابة وأدخل رب الصريمة والغنيمة، ودعني من نعم ابن عفان ونعم ابن عوف فإنهما إن هلكت ماشيتهما رجعا إلى نخل وزرع، وإن المسكين إن هلكت ماشيته يصرخ: يا أمير المؤمنين. أذلك أهون علي أم غرم الذهب والفضة؟)) [16، ص418 - 419].(/58)
العنوان: رسائل إلى الحجاج والمعتمرين
رقم المقالة: 1732
صاحب المقالة: إسلام محمود دربالة
-----------------------------------------
رسائل إلى الحجاج والمعتمرين
مقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70- 71].
أما بعد:
فهذه رسائل كتبتها لك أخي الحاج والمعتمر أسأل الله أن تلقى القبول عندك، وأن يعم بها الخير والنفع.
ذكرت فيها أركانًا وسننًا وآدابًا ونصائح ووقفات، ينتفع بها الحاج والمعتمر في أعمال الحج والعمرة، عسى أن تكون هذه الرسائل معينة على تصحيح العبادة، وتقويم الخلل والتنبيه على مواطن الزلل.
نفعني الله وإياك بها، ورزقنا جميعًا العلم النافع والعمل الصالح، اللهم اشرح قلوبنا لذكرك، وحبب إلينا طاعتك، وألهمنا رشدنا يا كريم.
وكتبه إسلام محمود دربالة
التشويق إلى حج البيت العتيق(/1)
الحمد لله الذي فرض على عباده حج بيته العتيق، وجعل الشوق إلى زيارته حاديًا لهم ورفيقًا، والصلاة والسلام على من أنار الله به الدرب والطريق، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين... أما بعد:
* فإن الله تعالى فرض على عباده الحج إلى بيته العتيق في العمر مرة واحدة، وجعله أحد أركان الإسلام الخمسة التي بني عليها، لقوله صلى الله عليه وسلم : ((بُني الإسلام على خمس...)) وذكر منها: ((حج بيت الله الحرام))؛ متفق عليه.
* فالحج فريضة ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع.
* ولما كانت النفوس مجبولة على محبة الأوطان وعدم مفارقتها، رغب الشارع في الحج ترغيبًا شديدًا، وجعل له فضائل جليلة، وأجورًا كبيرة، لأنه يتطلب مفارقة الأوطان والمألوفات من أهل ومال وصاحب وعشيرة، وكذلك حثًّا للعباد على قصد هذا البيت بالحج والزيارة، وتشويقًا لهم إلى رؤية تلك المعالم التي هبط فيها الوحي، ونزلت فيها الرسالة.
أخي سارع ولا تتأخر.
* قال تعالى: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97].
* وقال صلى الله عليه وسلم: ((من أراد الحج فليتعجل، فإنه قد يمرض المريض، وتضل الضالة، وتعرض الحاجة))؛ أحمد وابن ماجه وحسنه الألباني.
* وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لقد هممت أن أبعث رجالاً إلى هذه الأمصار، فننظر كل من كانت له جدة ولم يحج، فيضربوا عليه الجزية، ما هم بمسلمين.. ما هم بمسلمين.
الحج يهدم ما كان قبله.(/2)
* عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: لما جعل الله الإسلام في قلبي، أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: ابسط يدك فلأبايعك، فبسط، فقبضت يدي. فقال: ((مالك يا عمرو؟)) قلت: أشترط. قال: ((تشترط ماذا؟)) قلت: أن يغفر لي. قال: ((أما علمت أن الإسلام يهدم ما قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله؟)) رواه مسلم.
الحج طهارة من الذنوب
* عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه)) لفظ البخاري.
* ولفظ مسلم: ((من أتى هذا البيت)) وهو يشمل العمرة. وعند الدار قطني: ((من حج واعتمر)). والرفث: الجماع، أو التصريح بذكر الجماع أو الفحش من القول.
* قال الأزهري: هي كلمة جامعة لما يريد الرجل من المرأة. والفسوق: المعاصي. ومعنى: ((كيوم ولدته أمه)) أي بلا ذنب. قال ابن حجر: وظاهره غفران الصغائر والكبائر والتبعات.
الحج من أفضل أعمال البر
* عن أبي هريرة قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم: "أي الأعمال أفضل؟ قال: ((إيمان بالله ورسوله)). قيل: "ثم ماذا؟" قال: ((جهاد في سبيل الله)). قيل: "ثم ماذا؟" قال: ((حج مبرور))؛ متفق عليه.
* قال أبو الشعثاء: نظرت في أعمال البر، فإذا الصلاة تجهد البدن، والصوم كذلك، والصدقة تجهد المال، والحج يجهدهما.
فضل الحج المبرور
* عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)) متفق عليه.
* والحج المبرور: هو الذي لا يخالطه إثم. وقيل: المتقبل. وقيل: الذي لا رياء فيه ولا سمعة، ولا رفث ولا فسوق. وقيل: علامة بر الحج أن تزداد بعده خيرًا، ولا يعاود المعاصي بعد رجوعه.
* وعن الحسن البصري قال: الحج المبرور؟ أن يرجع زاهدًا في الدنيا راغبًا في الآخرة.(/3)
* وروي أن الحج المبرور هو إطعام الطعام، وطيب الكلام، وإفشاء السلام. والصحيح أنه يشمل ذلك كله.
الحج جهاد المرأة
* عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت يا رسول الله! ألا نغزو ونجاهد معكم؟ فقال: ((لكن أحسن الجهاد وأجمله الحج، حج مبرور)) قالت عائشة: فلا أدع الحج بعد إذ سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ متفق عليه.
* وعن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: "جهاد الكبير والضعيف والمرأة: الحج والعمرة"؛ النسائي وحسنه ا لألباني.
الحج والعمرة ينفيان الفقر والذنوب
* عن جابر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أديموا الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب، كما ينفي الكير خبث الحديد))؛ رواه الطبراني والدارقطني وصححه الألباني.
* وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة، وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة))؛ أحمد والترمذي وصححه الألباني.
الرسالة الأولى
الإخلاص
الإخلاص لله سبحانه وتعالى هو الركن الأول من أركان العمل الصالح قال عز وجل: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110].
فليكن حجك أخي الكريم أختي الكريمة خالصًا لله عز وجل لا رياء فيه ولا سمعة بل ابتغاء مرضاة الله، لا لأجل أن تتباهى بحجك، ولا لأجل أن يقال عنك: الحاج فلان، فالإخلاص الإخلاص.
الرسالة الثانية
المتابعة لرسول الله(/4)
النبي صلى الله عليه وسلم هو قدوتنا وأسوتنا في كلِّ صغيرةٍ وكبيرةٍ، والفوز والنجاة في متابعته والسعادة والهناء في هديه، قال عز وجل: { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} [الأحزاب:21]. وقال عز وجل: { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران: 31].
فجعل متابعة الرسول من لوازم محبته ومن الأدلة على صدق المحبة، فهل أنت تحب رسول الله صلى الله عليه وسلم حقًّا؟.
الرسالة الثالثة
العلم الصحيح هو الطريق إلى العبادة الصالحة
قال عز وجل: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11].
وقال صلى الله عليه وسلم: ((فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب)) فالعلم هو السبيل الصحيح لاعتقاد صحيح ولعملٍ صالحٍ قويم.
لأنك بالعلم تعرف مراد الله، وتعرف هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحرص قبل كل عبادة من العبادات على تعلم أركانها وشروطها وواجباتها وسننها حتى تفعلها، واحرص على معرفة ما يبطل الأعمال وينقضها ويفسدها حتى تبتعد عنه.
الرسالة الرابعة
التوحيد أولاً
التوحيد هو أول أركان الإسلام ولا تصح عبادة من العبادات إلا بتحقيق العبد للتوحيد، وهو الذي أرسل الله لأجله الرسل وأنزل الكتب قال عز وجل: { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36].
وقال عز وجل: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد: 19].
إلا أن بعض من ينتسب إلى الإسلام قد يقع في أفعال أو يأتي بأقوال تنافي التوحيد وتنقضه أو تخدش في كماله الواجب.
ومن ذلك: النذر لغير الله كمن ينذر للأولياء، وأصحاب القبور.(/5)
- وكذلك الاستغاثة بغير الله، ودعاء غير الله، وطلب الحاجات من غير الله: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إذَا دَعَاهُ} [النمل: 62].
- وكذلك الحلف بغير الله كالحلف بالآباء والأمهات، كمن يقول: والنبي والحسين ورحمة أبي.. وما شابه.
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ((من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت))؛ رواه البخاري ومسلم. فاحرص أخي على معرفة أركان التوحيد وأسسه حتى تحافظ عليها، وكذلك معرفة نواقضه وما يضاده من باب قول القائل.
عرفت الشر لا للشر ولكن لتوقيه ومن لا يعرف الشر من الخير يقع فيه
الرسالة الخامسة
احذر البدعة
البدعة في الدين: هي ما أحدث في دين الله، ولم يكن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن ما لم يكن في زمان رسول الله دينٌ فلا يكون دينًا أبدًا.
والخير كل الخير في اتباع من سلف، والشر كل الشر في ابتداع من خلف، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إياكم ومحدثات الأمور))؛ رواه أحمد والترمذي وابن ماجه وصححه الألباني
وابن مسعود - رضي الله عنه- يقول: اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم.
فاحذر أخي الكريم - كل الحذر- من الوقوع في البدع؛ فإنها من أخطر مداخل الشيطان بعد الشرك بالله.
فاحرص على معرفة السنن وجانب البدع، ولا يكون ذلك إلا بالعلم النافع وسؤال أهل العلم.
الرسالة السادسة
من آداب الحج والعمرة
آداب الحج تنقسم إلى قسمين: آداب واجبة، وآداب مستحبة.
فأما الآداب الواجبة: فهي أن يقوم الإِنسان بواجبات الحج وأركانه، وأن يتجنب محظورات الإحرام الخاصة, والمحظورات العامة، الممنوعة في الإِحرام وفي غير الإِحرام، لقوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197].(/6)
وأما الآداب المستحبة في سفر الحج: فهي أن يقوم الإِنسان بكل ما ينبغي له أن يقوم به: من الكرم بالنفس والمال والجاه، وخدمة النفس, و خدمة إخوانه, وتحمل أذاهم، والكف عن مساوئهم، والإِحسان إليهم، سواء كان ذلك بعد تلبسه بالإِحرام، أو قبل تلبسه بالإِحرام؛ لأن هذه آداب عالية فاضلة، تطلب من كل مؤمن في كل زمانٍ ومكانٍ، وكذلك الآداب المستحبة في نفس فعل العبادة كأن يأتي الإِنسان بالحج على الوجه الأكمل، فيحرص على تكميله بفعل مستحباته القولية والفعلية.
الرسالة السابعة
الحج وأركانه
الحج: هو أن يحرم المسلم من الميقات ويخرج إلى منى ثم إلى عرفة ثم إلى مزدلفة ثم إلى منى مرةً ثانية، ويطوف ويسعى، ويستكمل أفعال الحج.
والحج فرضٌ بإجماع المسلمين، وهو أحد أركان الإسلام.
وللحج شروط وجوب هي:
1- الإسلام.
2- العقل.
3- البلوغ.
4- الحرية.
5- القدرة على الحج بالمال والبدن.
أما أركانه فهي أربعة:
1- الإحرام.
2- الوقوف بعرفة.
3- الطواف.
4- السعي.
من أخل بشيء من هذه الأركان لم يتم نُسكه ولم يصح حجه.
وأما واجباته فهي:
1- أن يكون الإحرام من الميقات.
2- أن يقف بعرفة إلى الغروب.
3- أن يبيت بمزدلفة.
4- أن يبيت بمنى ليلتين بعد العيد.
5- أن يرمي الجمرات.
6- أن يطوف للوداع.
من أخل بشيءٍ من هذه الواجبات عامدًا فعليه الإثم والفدية، والفدية هي شاةٌ يذبحها ويفرقها في مكة، وإن كان غير متعمدٍ فلا إثم عليه لكن عليه الفدية.
الرسالة الثامنة
محظورات الإحرام
1- الجماع.
2- المباشرة بشهوة وكل مقدمات الجماع.
3- عقد النكاح.
4- خطبة النساء.
5- قتل الصيد.
6- الطيب بعد عقد النية بالإحرام سواء في البدن أو الثوب.
7- لبس الرجل القميص والبرنس والسراويل والعمائم والخفاف.
8- تغطية الرجل رأسه بملاصق معتاد كالطاقية والعمامة والغترة، ويجوز الاستظلال بما ليس بملاصق كالخيمة والشمسية وسقف السيارة.(/7)
9- ومن المحظورات في الحج لبس المرأة النقاب والقفازين، ولا بأس أن تسدل من أعلى رأسها ما يغطي وجهها بحضرة الأجانب، وإنما المنهي هو لبس النقاب، وكذلك لها أن تغطي يدها بجزءٍ من ثوبها.
الرسالة التاسعة
صفة الحج
نذكر هنا صفة الحج على سبيل الإِجمال والاختصار فنقول: إذا أراد الإِنسان الحج أو العمرة، فتوجه إلى مكة في أشهر الحج، فإن الأفضل أن يحرم بالعمرة أولاً ليصير متمتعًا، فيحرم من الميقات بالعمرة. وعند الإِحرام يغتسل كما يغتسل من الجنابة، ويتطيب في رأسه ولحيته، ويلبس ثياب الإِحرام، ويحرم عقب صلاة فريضة، إن كان وقتها حاضرًا، أو نافلة ينوي بها سنة الوضوء، لأنه ليس للإِحرام نافلة معينة، إذ لم يرد ذلك عن النبي ثم يلبي فيقول: "لبيك اللهم عمرة، لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك"، ولا يزال يلبي حتى يصل إلى مكة.
فإذا شرع في الطواف قطع التلبية، فيبدأ بالحجر الأسود يستلمه ويقبله إن تيسر، وإلا أشار إليه، ويقول: "بسم الله والله أكبر، اللهم إيمانًا بك، وتصديقًا بكتابك، ووفاءً بعهدك، واتباعًا لسنة نبيك محمد"، ثم يجعل البيت عن يساره ويطوف سبعة أشواط، يبتدئ بالحجر ويختتم به. وفي هذا الطواف يسنُّ أن يرمل في الثلاثة أشواط الأولى، بأن يسرع المشي ويقارب الخطى، وأن يضطبع في جميع الطواف، بأن يخرج كتفه الأيمن، ويجعل طرفي الرداء على الكتف الأيسر. فإذا أتم الطواف صلي ركعتين خلف المقام. وفي طوافه كلما حاذى الحجر الأسود كبّر, ويقول بينه وبين الركن اليماني: "ربنا آتنا في الدنيا حسنةً، وفي الآخرة حسنةً، وقنا عذاب النار"، ويقول بقية طوافه ما شاء من ذكرٍ ودعاء.(/8)
وليس للطواف دعاءٌ مخصوص لكل شوط، وعلى هذا فينبغي أن يحذر الإِنسان من هذه الكتيبات التي بأيدي كثيرٍ من الحجاج، والتي فيها لكل شوطٍ دعاءٌ مخصوص، فإن هذا بدعة لم ترد عن رسول الله وقد قال النبي: ((كل بدعةٍ ضلالة))؛ أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي وفال: حسنٌ صحيح.
ويجب أن يتنبه الطائف إلى أمرٍ يخل به بعض الناس في وقت الزحام: فتجده يدخل من باب الحِجْر، ويخرج من الباب الثاني، فلا يطوف بالحجر, وهذا خطأٌ؛ لأن الحِجْر أكثره من الكعبة، فمن دخل من باب الحجر وخرج من الباب الثاني، لم يكن قد طاف بالبيت، فلا يصح طوافه.
وبعد الطواف يصلي ركعتين خلف مقام إبراهيم إن تيسر له، وإلا ففي أي مكان من المسجد، ثم يخرج إلى الصفا، فإذا دنا منه قرأ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللهِ} [البقرة: 158], ولا يعيد هذه الآية بعد ذلك، ثم يصعد على الصفا ويستقبل القبلة، ويرفع يديه، ويكبر الله ويحمده، ويقول: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيءٍ قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده". ثم يدعو بعد ذلك، ثم يعيد الذكر مرةً ثانية، ثم يدعو، ثم يعيد الذكر مرةً ثالثة.
ثم ينزل متجهًا إلى المروة، فيمشي إلى العلم الأخضر - أي العمود الأخضر- ويسعى من العمود الأخضر إلى العمود الثاني سعيًا شديدًا، أي يركض ركضًا شديدًا، إن تيسر له ولم يتأذّ أو يؤذ أحدًا، ثم يمشي بعد العلم الثاني إلى المروة مشيًا عاديًا، فإذا وصل المروة، صعد عليها واستقبل القبلة ورفع يديه، وقال مثل الذي قال على الصفا، فهذا شوط.
ثم يرجع إلى الصفا من المروة، وهذا هو الشوط الثاني، ويقول فيه ويفعل كما قال في الشوط الأول وفعل.(/9)
فإذا أتم سبعة أشواط - من الصفا للمروة شوط، ومن المروة للصفا شوطٌ آخر. فإذا أتم سبعة أشواط - فإنه يقصّر شعر رأسه، ويكون التقصير شاملاً لجميع الرأس، بحيث يبدو واضحًا في الرأس. والمرأة تقصر من كل طرف رأسها بقدر أُنملة، ثم يحلّ من إحرامه حلاًّ كاملاً, فيتمتع بما أحل الله له من النساء والطيب واللباس وغير ذلك.
فإذا كان يوم الثامن من ذي الحجة أحرم بالحج، فاغتسل، وتطيب, ولبس ثياب الإِحرام، وخرج إلي منى فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، خمس صلوات، يصلي الرباعية ركعتين، وكل صلاةٍ في وقتها، فلا جمع في منى، وإنما هو القصر فقط.
فإذا طلعت الشمس يوم عرفة، سار إلى عرفة، فنزل بنمرة إن تيسر له، وإلا استمر إلى عرفة فينزل بها، فإذا زالت الشمس، صلى الظهر والعصر قصرًا وجمع تقديم، ثم يشتغل بعد ذلك بذكر الله، ودعائه، وقراءة القرآن، وغير ذلك مما يقرب إلى الله تعالى، وليحرص على أن يكون آخرَ ذلك اليوم مُلِحًّا في دعاء الله فإنه حريٌّ بالإِجابة. فإذا غربت الشمس، انصرف إلى مزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء جمعًا وقصرًا، ثم يبقى هناك حتى يصلي الفجر، ثم يدعو الله إلى أن يسفر جدًّا، ثم يدفع بعد ذلك إلى منى، ويجوز للإِنسان الذي يشق عليه مزاحمة الناس، أن ينصرف من مزدلفة قبل الفجر، لأن النبي رخص لمثله.
فإذا وصل إلى منى بادر فرمى جمرة العقبة الأولى قبل كل شيء بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة، ثم ينحر هديه، ثم يحلق رأسه، وهو أفضل من التقصير، وإن قصره فلا حرج، والمرأة تقصر من أطرافه بقدر أنملة. وحينئذٍ يحل التحلل الأول، فيباح له جميع محظورات الإِحرام ما عدا النساء. فينزل بعد أن يتطيب ويلبس ثيابه المعتادة ينزل إلى مكة، فيطوف طواف الإِفاضة سبعة أشواط بالبيت، ويسعى بين الصفا والمروة, سبعة أشواط، وهذا الطواف والسعي للحج، كما أن الطواف والسعي الذي حصل منه أول ما قدم للعمرة، وبهذا يحلّ من كل شيءٍ حتى من النساء.(/10)
ولنقف هنا لننظر ماذا فعل الحاج يوم العيد؟ فالحاج يوم العيد: رمى جمرة العقبة, ثم نحر هديه، ثم حلق أو قصر, ثم طاف، ثم سعى، فهذه خمسة أنساك يفعلها على هذا الترتيب، فإن قدم بعضها على بعض فلا حرج؛ لأن النبي كان يُسأل يوم العيد عن التقديم والتأخير، فما سئل عن شيء قُدّم ولا أُخر يومئذ إلا قال: ((افعل ولا حرج))؛ رواه البخاري ومسلم، فإذا نزل من مزدلفة إلى مكة، وطاف وسعى، ثم خرج ورمى فلا حرج، ولو رمى ثم حلق قبل أن ينحر، فلا حرج, ولو رمى ثم نزل إلى مكة وسعى و طاف فلا حرج، ولو رمى ونحر وحلق ثم نزل إلى مكة وسعى قبل أن يطوف لا حرج، المهم أن تقديم هذه الأنساك الخمسة بعضها على بعض لا بأس به، لأن الرسول ما سئل عن شيء قُدم ولا أُخر يومئذ إلا قال: ((افعل ولا حرج)) وهذا من تيسير الله ورحمته بعباده.
وقد بقى من أفعال الحج: المبيت في منى ليلة الحادي عشر، وليلة الثاني عشر، وليلة الثالث عشر لمن تأخر، لقول الله تعالى: {وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} [البقرة: 203]. فيبيت الحاج بمنى ليلة الحادي عشر، وليلة الثاني عشر، ويجزئ أن يبيت في هاتين الليلتين معظم الليل.
فإذا زالت الشمس من اليوم الحادي عشر، رمى الجمرات الثلاث؛ يبدأ بالصغرى وهي الأولى التي تعتبر شرقية بالنسبة للجمرات الثلاث فيرميها بسبع حصيات متعاقبات، يُكَبِّر مع كل حصاة، ثم يتقدم عن الزحام قليلاً، و يقف مستقبلاً القبلة, رافعًا يديه, يدعو الله دعاءً طويلاً, ثم يتجه إلى الوسطى فيرميها بسبع حصيات متعاقبات، يكبر مع كل حصاة، ثم يتقدم قليلاً عن الزحام، ويقف مستقبلاً القبلة، رافعًا يديه، يدعو الله تعالى دعاءً طويلاً، ثم يتقدم إلى جمرة العقبة، فيرميها بسبع حصيات متعاقبات، يكبر مع كل حصاة، ولا يقف عندها؛ اقتداءً برسول الله.(/11)
وفي ليلة الثاني عشر، يرمي الجمرات الثلاث كذلك، وفي اليوم الثالث عشر - إن تأخر - يرمي الجمرات الثلاث كذلك.
ولا يجوز للإنسان أن يرمي الجمرات الثلاث في اليوم الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر قبل الزوال؛ لأن النبي لم يرم إلا بعد الزوال، وقال: ((خذوا عني مناسككم))؛ رواه مسلم والبيهقي وهذا لفظ البيهقي، وكان الصحابة يتحينون الزوال، فإذا زالت الشمس رمَوْا، ولو كان الرمي قبل الزوال جائزًا لبيَّنه النبي لأمته، إما بفعله، أو قوله، أو إقراره، ولمّا اختار النبي وسط النهار للرمي، وهو شدة الحر، دون الرمي في أوله الذي هو أهون على الناس، عُلم أن الرمي في أول النهار لا يجوز، لأنه لو كان من شرع الله، لكان هو الذي يُشْرَع لعباد الله، لأنه الأيسر، والله إنما يشرع لعباده ما هو الأيسر. ولكن يمكنه إذا كان يشقُّ عليه الزحام، أو المضي إلى الجمرات في وسط النهار، أن يؤخر الرمي إلى الليل، فإن الليل وقت للرمي، إذ لا دليل على أن الرمي لا يصح ليلاً، فالنبي وقَّت أول الرمي ولم يوَقِّت آخره، والأصل فيما جاء مطلقًا، أن يبقى على إطلاقه حتى يقوم دليل على تقييده بسبب أو وقت.(/12)
ثم ليحذر الحاج من التهاون في رمي الجمرات، فإن من الناس من يتهاون فيها حتى يوكل من يرمي عنه، وهو قادر على الرمي بنفسه، وهذا لا يجوز ولا يجزئ، لأن الله تعالى يقول في كتابه: {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للهِ} [البقرة: 196]. والرمي من أفعال الحج، فلا يجوز له الإِخلال به، ولأن النبي لم يأذن لضَعَفَة أهله أن يوكلوا من يرمي عنهم؛ بل أذن لهم بالذهاب من مزدلفة في آخر الليل، ليرموا بأنفسهم قبل زحمة الناس. ولأن النبي لم يأذن للرعاة الذين يغادرون منى في إبلهم، لم يأذن لهم أن يوكلوا من يرمي عنهم، بل أذن لهم أن يرموا يومًا ويدعوا يومًا ليرموه في اليوم الثالث. وكل هذا يدل علي أهمية رمي الحاج بنفسه, و أنه لا يجوز أن يوكل أحدًا, ولكن عند الضرورة لا بأس بالتوكيل، كما لو كان الحاج مريضًا أو كبيرًا لا يمكنه الوصول إلى الجمرات، أو امرأة حاملاً تخشى على نفسها أو ولدها, ففي هذه الحال يجوز التوكيل.
ولولا أنه ورد عن الصحابة أنهم كانوا يرمون عن الصبيان، لقلنا: إن العاجز يسقط عنه الرمي، لأنه واجب عجز عنه، فيسقط عنه لعجزه عنه، ولكن لما ورد جنس التوكُّل في الرمي عن الصبيان، فإنه لا مانع من أن يلحق به من يشابههم في تعذر الرمي من قبل نفسه.
المهم أنه يجب علينا أن نُعظم شعائر الله، وألا نتهاون بها، وأن نفعل ما يمكننا فعله بأنفسنا لأنه عبادة، كما قال النبي: ((إنما جُعل الطواف بالبيت وبالصفا والمروة، ورمي الجمرات لإقامة ذكر الله))؛ أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وقال: حسن صحيح.(/13)
وإذا أتم الحج، فإنه لا يخرج من مكة إلى بلده، حتى يطوف للوداع، لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان الناس ينفرون من كل وجه، فقال النبي: ((لا ينفرن أحدٌ حتى يكون آخر عهده بالبيت))؛ رواه البخاري ومسلم؛ إلا إذا كانت المرأة حائضًا أو نُفَساء، وقد طافت طواف الإِفاضة، فإن طواف الوداع يسقط عنها، لحديث ابن عباس رضي الله عنهما: "أُمِر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت، إلا أنه خفف عن الحائض"؛ رواه البخاري ومسلم، ولأن النبي لما قيل له: إن صفية قد طافت طواف الإِفاضة، قال: ((فلتنفر إذًا))؛ أخرجه البخاري ومسلم وأحمد وهذا لفظه، وكانت حائضًا.
ويجب أن يكون هذا الطواف آخر شيء، وبه نعرف أن ما يفعله بعض الناس، حين ينزلون إلى مكة، فيطوفون طواف الوداع، ثم يرجعون إلى منى، فيرمون الجمرات، ويسافرون من هناك، فهذا خطأ، ولا يجزئهم طواف الوادع، لأن هؤلاء لم يجعلوا آخر عهدهم بالبيت، وإنما جعلوا آخر عهدهم بالجمرات.
الرسالة العاشرة
المرأة في الحج
الحج هو نصيب المرأة المسلمة من الجهاد لحديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت يا رسول الله هل على النساء جهاد؟ قال: ((نعم عليهن جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة))؛ رواه أحمد وابن ماجه.
للحج شروط عامة للرجل والمرأة وهي الإسلام والعقل والحرية والبلوغ والاستطاعة المالية.
1- المحرم: وتختص المرأة باشتراط وجود المحرم الذي يسافر معها للحج وهو زوجها أو من تحرم عليه تحريمًا أبديًّا بنسب: كأبيها وابنها وأخيها أو بسبب مباح كأخيها من الرضاع أو زوج أمها أو ابن زوجها.
والدليل على ذلك حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يخطب: ((يقول لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم ولا تسافر إلا مع ذي محرم)).
فقام رجل فقال: يا رسول الله إن امرأتي خرجت حاجة وإني اكتتبت في غزوة كذا وكذا فقال له صلى الله عليه وسلم: ((انطلق فحج مع امرأتك))؛ متفق عليه.(/14)
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تسافر المرأة ثلاثًا إلا مع ذي محرم))؛ متفق عليه.
والأحاديث في هذا كثيرة تنهى عن سفر المرأة للحج وغيره بدون محرم لأن المرأة ضعيفة يعتريها ما يعتريها من العوارض والمصاعب في السفر لا يقوم بمواجهتها إلا الرجال وهي مطمع للفساق فلا بد من محرم يصونها ويحميها.
ويشترط في المحرم الذي تصحبه المرأة في حجها:
العقل والبلوغ والإسلام فإن أيست من وجود المحرم لزمها أن تستنيب من يحج عنها.
2- وإذا كان الحج نفلاً اشترط إِذْن زوجها لها بالحج، لأنه يفوت به حقه عليها، وللزوج حق في منعها من حج التطوع.
3- يصح أن تنوب المرأة عن الرجل في الحج والعمرة باتفاق العلماء كما يجوز أن تنوب عن امرأة أخرى سواء كانت بنتها أو غير بنتها.
4- إذا اعترى المرأة وهي في طريقها إلى الحج حيض أو نفاس فإنها تمضي في طريقها وتكمل حجها وتفعل ما تفعله النساء الطاهرات غير أنها لا تطوف بالبيت فإن أصابها ذلك عند الإحرام فإنها تحرم؛ لأن عقد الإحرام لا تشترط له الطهارة.
5- وتفعل المرأة عند الإحرام كما يفعل الرجل من حيث الاغتسال والتنظيف بأخذ ما تحتاج إلى أخذه من شعر وظفر.
6- عند نية الإحرام تخلع المرأة البرقع والنقاب إذا كانت لابسة لهما قبل الإحرام؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تنتقب المرأة المحرمة))؛ رواه البخاري. وتغطي وجهها بغير النقاب والبرقع بأن تضع عليه الخمار أو الثوب عند رؤية الرجال غير المحارم لها وكذا تغطي كفيها عنهم بغير القفازين بأن تضع عليهما ثوبًا لأن الوجه والكفين عورة يجب سترها عن الرجال الأجانب في حالة الإحرام وغيرهما.(/15)
7- يجوز للمرأة حال إحرامها أن تلبس ما شاءت من الملابس النسائية التي لا زينة فيها ولا مشابهة لملابس الرجال وليست ضيقة تصف حجم أعضائها ولا شفافة لا تستر ما وراءها وليست قصيرة تنحسر عن رجليها أو يديها بل تكون ضافية كثيفة واسعة.
وأجمع أهل العلم على أن للمحرمة لبس القميص والدروع والسراويلات والخمر والخفاف ولا يتعين عليها أن تلبس لونًا معينًا من الثياب كالأخضر وإنما تلبس ما شاءت بشرط الحشمة والتستر، ويجوز لها استبدال ثيابها بغيرها إذا أرادت.
8- يسن للمرأة أن تلبي بعد الإحرام بقدر ما تسمع نفسها وإنما كره لها رفع الصوت مخافة الفتنة بها، ولهذا لا يسن لها أذان ولا إقامة والمسنون لها في التنبيه في الصلاة التصفيق دون التسبيح.
9- يجب على المرأة في الطواف التستر الكامل وخفض الصوت وغض البصر وعدم مزاحمة الرجال وخصوصًا عند الحجر الأسود أو الركن اليماني، وتطوف في أقصى المطاف لأن المزاحمة حرام لما فيها من الفتنة وأما القرب من الكعبة وتقبيل الحجر فهما سنتان مع تيسرهما ولا ترتكب محرمًا لأجل تحقيق سنة. والسنة في حقها أن تشير إلى الحجر إذا حاذته من بعيد.
10- وطواف النساء وسعيهن مشي كله وأجمع أهل العلم أنه لا رمل على النساء حول البيت ولا بين الصفا والمروة وليس عليهن اضطباع.
11- أما عن ما تفعله المرأة الحائض من مناسك الحج وما لا تفعله حتى تطهر. فإن الحائض تفعل كل مناسك الحج من إحرام ووقوف بعرفة ومبيت بمزدلفة ورمي الجمار، ولا تطوف بالبيت حتى تطهر؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة: ((افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري)). ولا تسعى المرأة الحائض بين الصفا والمروة لأن السعي لا يصح إلا بعد طواف النسك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسع إلا بعد الطواف. وقال جمهور العلماء أن الحاج لو سعى قبل الطواف لم يصح سعيه.(/16)
تنبيه: لو طافت المرأة وبعد أن انتهت من الطواف أصابها الحيض؛ فإنها في هذه الحالة تسعى، لأن السعي لا تشترط له الطهارة.
12- يجوز للنساء أن ينفرن مع الضعفة من مزدلفة بعد غيبوبة القمر ويرمين جمرة العقبة عند الوصول إلى منى خوفًا عليهن من الزحام.
13- المرأة تقصر من رأسها للحج والعمرة من رؤوس شعر رأسها قدر أُنملة ولا يجوز لها الحلق. والأنملة: هي رأس الأصبع.
14- المرأة الحائض إذا رمت جمرة العقبة وقصرت من رأسها فإنها تحل من إحرامها ويحل لها ما كان محرمًا عليها بالإحرام إلا أنها لا تحل للزوج إلا بعد طواف الإفاضة. فإن مكنته من نفسها قبل ذلك وجبت عليها الفدية وهي ذبح شاة في مكة وتوزيعها على فقراء الحرم.
15- إذا حاضت المرأة بعد طواف الإفاضة فإنها تسافر متى أرادت ويسقط عنها طواف الوداع لحديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: حاضت صفية بنت حيي بعدما أفاضت، قالت: فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ((أحابستنا هي؟)) قلت: "يا رسول الله إنها قد أفاضت وطافت بالبيت ثم حاضت بعد الإفاضة". قال: ((فلتنفر إذن))؛ متفق عليه.
وعن ابن عباس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الناس بأن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن المرأة الحائض والنفساء.
الرسالة الحادية عشر
أعياد المسلمين وأفراحهم
الإسلام دين البهجة والسرور وهو لا يحرم على العباد إلا ما يضرهم، ولا يشرع لهم إلا ما فيه مصلحة لهم.
وقد شرع لنا رب العزة والجلال عيدان:
أما الأول فهو عيد الفطر بعد أن يتم العباد صيام شهر رمضان.
والثاني يوم الأضحى وهو اليوم العاشر من ذي الحجة، واليوم العاشر والحادي عشر والثاني عشر تُعرف بأيام التشريق.(/17)
قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر الله عز وجل)). فاحذر أخي الحاج من المعاصي التي تقع من بعض الناس في أيام الأعياد وأيام التشريق من تبرج النساء، وإبرازهن الزينة للأجانب والاختلاط بين الرجال والنساء، وفي الحديث: ((ما تركت فتنة أضر على الرجال من النساء))؛ رواه البخاري ومسلم، واحذر الملاهي والمعازف المحرمة من الأغاني الماجنة والموسيقى والنظر إلى النساء الكاسيات العاريات، ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر، والحرير، والخمر، والمعازف))؛ أخرجه البخاري تعليقًا، وأبو داود وغيره متصلاً وهو صحيح.
واحذر الغيبة والنميمة والكذب ففي الحديث: ((لا يدخل الجنة قتات))؛ متفق عليه.
واحذر التشبه بالكفار في اللباس والعادات والأعياد فالمسلم له شخصيته المميزة: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143].
الرسالة الثانية عشر
لبيك اللهم لبيك
التلبية: هي استجابة العباد لدعوة ربهم، فهم يأتون بيته استجابة لأمره وامتثالاً لمراده ولسان حالهم ومقالهم استجبنا لك يا ربنا وأجبناك إجابة تلو إجابة.
فأنت أيها الحاج أعلنت الاستسلام والخضوع لأمر الله، فاحذر معصية الله ومخالفة أمره.
واحذر من دعاء غير الله أو النذر لغير الله واطلب حوائجك من ملك السموات والأرض الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وتذلل بين ويديه وحدك عسى أن يشملك برحمته ويمن عليك بغفرانه.
الرسالة الثالثة عشر
العمرة: أحكامها وآدابها
العمرة في اللغة: بمعنى الزيارة.
وهي ما اشتمل على هيئتها من الأركان والواجبات والمستحبات، ومن الإحرام من الميقات والطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة والحلق أو التقصير وقد اختلف العلماء في وجوبها فمنهم من قال: إنها واجبة ومنهم من قال إنها سنة والظاهر وجوبها لكن وجوبها دون وجوب الحج.
وشروط وجوبها:
1- الإسلام.
2- العقل.(/18)
3- البلوغ.
4- الحرية.
5- القدرة بالمال والبدن.
وأما أركان العمرة فهي:
1- الإحرام.
2- الطواف.
3- السعي.
وواجباتها:
1- أن يكون الإحرام من الميقات.
2- الحلق أو التقصير.
وما عدا ذلك فهو من السنن ومن أخل بشيء من واجبات العمرة متعمدًا فعليه الإثم والفدية.
وإن كان غير متعمد فلا إثم عليه لكن عليه الفدية.
الرسالة الرابعة عشر
أخطاء يقع فيها الحجيج
أخي الحاج الكريم هناك بعض الأخطاء يقع فيها كثيرٌ من الحجاج إما جهلاً أو نسيانًا أو تهاونًا، وسأذكر لك بعضًا منها حتى تتجنبها ليسلم لك حجك بإذن الله تعالى.
أولاً: الأخطاء التي يرتكبها بعض الناس في الإحرام:
- ترك الإحرام من الميقات.
- الاضطباع عند الإحرام وهو: أن يخرج كتفه الأيمن ويجعل طرف ردائه على كتفه الأيسر، والاضطباع يكون عند طواف القدوم فقط.
- اعتقاد بعضهم أنه يجب أن يصلي ركعتين عند الإحرام.
ثانيًا: الأخطاء ما بين الميقات إلى المسجد الحرام:
- ترك التلبية والانشغال عنها بالكلام، وأخطر من ذلك قضاء الوقت بالمحرمات كسماع الأغاني.
- التلبية بصوتٍ جماعي والسنة أن يلبي كل حاج بمفرده بدون أن يكون هناك من يقول التلبية ويتبعه الناس.
ثالثاً: الأخطاء عند دخول المسجد الحرام:
- اعتقاد وجوب الدخول من باب معين إلى الحرم، فتجد بعض الحجاج يتعب نفسه بالسؤال عن باب العمرة أو باب الفتح أو غيره، والأمر واسع - ولله الحمد - فلك أن تدخل من أي باب تيسر لك.
- الابتداع بأدعية معينة عند دخول الحرم.
وليس هناك دعاء خاص لدخول الحرم، وإنما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاء لدخول جميع المساجد ومنها الحرم مثل قوله: ((بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله، اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك))؛ رواه أبو داود والترمذي وأصله عند مسلم
رابعًا: الأخطاء في الطواف:(/19)
النطق بالنية عند الطواف، فبعض الناس يقول: اللهم إني نويت أن أطوف بالبيت سبعة أشواط وهذا لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا صحابته الكرام.
- عدم البدء بالطواف من عند الحجر الأسود.
- المزاحمة الشديدة عند الحجر الأسود والركن اليماني.
- الظن أن تقبيل الحجر شرطٌ لصحة الطواف.
- تقبيل الركن اليماني بينما السنة استلامه أو الإشارة إليه.
- الظن أن استلام الحجر والركن اليماني من أجل التبرك، بينما هو متابعة للنبي صلى الله عليه وسلم.
- الرمل: وهو الإسراع بالمشي مع تقارب الخطا- في جميع الأشواط. والسنة: الرمل في الثلاثة الأشواط الأولى ويمشي ما بين الركن اليماني والحجر الأسود.
- تخصيص كل شوط بدعاء معين. وتزداد هذه البدعة إذا حمل الطائف كتيبًا يقرأ منه وهو لا يعرف معنى ما يقول.
- الدخول من باب الحجر في الطواف وهذا خطأٌ عظيم.
- عدم الالتزام بجعل الكعبة عن يساره مثل من يمسك نساءه، ويحجر عليهم مع صاحبه، فيضطر إلى جعل الكعبة عن يمينه أو أمامه أو خلفه، وهذا قد لا يصح منه طوافه؛ لأن من شروط الطواف أن تكون الكعبة عن يساره.
- استلام جميع أركان الكعبة.
- رفع الصوت بالدعاء وهذا يذهب الخشوع، ويسقط هيبة البيت، ويشوش على الطائفين، والتشويش على الناس في عبادتهم أمرٌ منكر.
- الظن أن ركعتي الطواف لابد أن تكون قريبًا من المقام فتجده يضيق على الناس وعلى الطائفين، ويحصل بذلك أذًى شديد.
- تطويل ركعتي الطواف وهذا مخالفٌ للسنة؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يخففهما، وهو بتطويله يؤذي الطائفين، ويحجز على الآخرين الذين هم أولى منه بالمكان.
- تخصيص دعاء للمقام، وتزداد هذه البدعة إذا كان الدعاء جماعيًا.
- التمسح بالمقام وهذا لم يرد فيه نص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
خامسًا: الأخطاء في السعي:
- النطق بالنية.
- رفع اليدين على الصفا والإشارة بهما نحو الكعبة كما في الصلاة.(/20)
- المشي مشيًا واحدًا بين الصفا والمروة وترك السعي الشديد بين العلمين، وهذا للرجال فقط، أما النساء فتمشي مشيًا واحدًا.
وعكس ذلك بحيث يسعى سعيًا شديدًا في جميع السعي. فيحصل بذلك مفسدتان: الأولى: مخالفة السنة. والثانية: إتعاب نفسه ومزاحمة الآخرين والمشقة عليهم. ومن الناس من يفعل ذلك تعجلاً في إنهاء العبادة، وهذا شر ممن قبله؛ إذ أن هذا ينبئ عن التبرم من العبادة. وهذا خطأٌ عظيم فينبغي أن يؤدي العبادة بانشراح صدر وفرح وخشوع.
- تلاوة آية: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ} [البقرة: 158] عند كل صعود على الصفا والمروة. وإنما الذي ورد تلاوتها عند أول السعي حين الصعود على الصفا.
- تخصيص كل شوط بدعاء معين.
- الدعاء من كتاب فيقرأ كلامًا لا يعرف معناه.
- البداءة بالسعي من المروة.
- اعتبار الشوط الواحد من الصفا إلى الصفا، فيصبح السعي مضاعفًا.
- السعي في غير نسك. لاعتقاد بعض الناس التنفل بالسعي وأنه مثل الطواف.
سادسًا: الأخطاء في الحلق أو التقصير:
- حلق بعض الرأس.
- قص شعرات قليلة من رأسه ومن جهة واحدة، وهذا مخالف للآية: {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح: 27]، بينما السنة تعميم جميع الرأس بالحلق أو التقصير.
- الحلق أو التقصير بعد لبس ثيابه من العمرة، والواجب أن يفعل ذلك وهو بثياب الإحرام، فمن فعل ذلك جهلاً منه فلا حرج عليه لكن يلزمه أن يعود إلى إحرامه ويحلق ثم يحل.
سابعًا: الأخطاء التي تقع في يوم التروية - اليوم الثامن من ذي الحجة:
- اعتقاد وجوب الركعتين عند الإحرام، واعتقاد وجوب الإحرام بلباس جديد.
- الاضطباع بعد الإحرام. والاضطباع لا يشرع إلا في طواف القدوم فقط.
- اعتقاد أنه لا يصح الإحرام للحج بالثياب التي أحرم بها بالعمرة.
- ترك الجهر بالتلبية عند الذهاب إلى منى.
- الذهاب إلى عرفة مباشرةً.
- البقاء في مكة وعدم الذهاب إلى منى.
- الجمع بين الصلوات بمنى.(/21)
- إتمام الصلاة بمنى بينما السنة قصرها.
ثامنًا: الأخطاء التي تقع في الذهاب إلى عرفة والوقوف بها:
- ترك الجهر بالتلبية حين الخروج إلى عرفة.
- الوقوف خارج حدود عرفة.
- الاتجاه إلى الجبل دون القبلة.
- الظن بوجوب الوقوف خلف الجبل.
- الاعتقاد أن للجبل قدسية خاصة فيصعدون إليه، ويصلون فيه ويعلقون على أشجاره.
- الظن بوجوب صلاة الظهر يوم عرفة مع الإمام في مسجد نمرة، مع وجود المشقة.
- الخروج من عرفة قبل غروب الشمس.
- إضاعة الوقت بغير فائدة، ويزداد الأمر إثمًا إذا أضيع الوقت بالأمور المحرمة مثل: التصوير، وسماع المحرمات: كالأغاني والمعازف، والكلام البذيء، وإيذاء الناس.
تاسعًا: الأخطاء التي تقع في الدفع إلى مزدلفة:
- الإسراع الشديد.
- النزول قبل الوصول إلى مزدلفة.
- صلاة المغرب والعشاء في الطريق قبل الوصول إلى مزدلفة.
- تأخير صلاة العشاء عن وقتها بحجة عدم الوصول إلى مزدلفة. حيث إن بعض الحجاج تتأخر بهم السيارات في الطريق فلا يصلون إلى مزدلفة إلا بعد منتصف الليل أو قرب الفجر فيؤخرون الصلاة حتى يصلوا إلى مزدلفة وهذا خطأٌ كبيرٌ.
- صلاة الفجر قبل وقتها: فبعض الحجاج- هداهم الله - لا يرقبون وقت طلوع الفجر، فما أن يسمعوا أن أحدًا من الحجاج أذن إلا ويبادرون بالصلاة.
- الخروج من مزدلفة ليلاً وعدم المبيت بها.
- إحياء الليل بالصلاة أو الدعاء.
- البقاء فيها حتى تطلع الشمس.
- الظن بأن الحصى لا يصح إلا أن يكون من مزدلفة مع أنه لم يرد أن النبي صلى الله عليه وسلم التقط الحصى من مزدلفة.
عاشرًا: في رمي الجمار:
وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم الحكمة من رمي الجمار بقوله: ((إنما جعل الطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة، ورمي الجمار لإقامة ذكر الله لا لغيره))؛ أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي، وقال: حسن صحيح
فمن الأخطاء في الرمي:
- غسل الحصى أو تطييبه.
- الظن بأن هذه الجمرات شياطين، فيحدث من ذلك مفاسد منها:(/22)
- أن هذا الظن خطأ، فإنما نرمي هذه الجمرات إقامةً لذكر الله وتحقيقًا للتعبد لله عز وجل.
- يأتي الإنسان بغيظ وحنق وقوة فتجده يؤذي الناس فيتقدم كأنه جمل هائج.
- أن الإنسان لا يستحضر أنه يتعبد الله تعالى بهذا الرمي؛ فهو يستبدل بالذكر المشروع الذكر غير المشروع بناءً على هذا الظن، فتجده يأخذ الأحجار الكبيرة والخشب والنعال.
- الظن بأنه لابد أن تصيب الحصاة العمود.
- التوكيل بالرمي مع القدرة عليه.
- الظن بأنه لا يجوز الرمي إلا بحصى مزدلفة.
والصحيح: أنه يجوز الرمي بكل حصاة من أي مكان.
- الرمي من غير ترتيب أو منكسًا. فإن كان جاهلاً أُمر أن يعيد في وقته وإن كان قد خرج وقته فلا حرج عليه لجهله.
- الرمي قبل وقت الرمي.
- الرمي بأقل من سبع حصيات.
- ترك الوقوف للدعاء بعد الجمرة الأولى والثانية.
- الرمي زائدًا عن المشروع سواء بالعدد أو المرات.
الحادي عشر: الأخطاء التي تقع في منى:
- ترك المبيت بها من غير عذر.
- عدم التأكد والبحث التام عن مقام له بها فيتعذر بعدم وجود المحل فيقيم في مكة أو العزيزية.
- ا لخروج من منى قبل الزوال من اليوم الثاني عشر.
الرسالة الخامسة عشر
نصائح طبية
الحج موسم إسلامي فريد، يتجمع فيه على بقعة واحدة ولعدة أسابيع أكثر من مليوني مسلم من جميع أنحاء العالم.. ولا شك أن الحج يفرض على الحاج عددًا من الأمور، فهناك مصاعب السفر، والمشي أثناء تأدية الشعائر الدينية. وتقلبات الجو في مكة المكرمة والمدينة المنورة أثناء فصل الصيف..
ولا غرابة إذن أن يشعر العديد من الحجيج بالتعب والإرهاق نتيجة التعرض لطارئ التغيرات، كما أن ذلك قد يزيد الأعباء الملقاة على القلب والصدر أو الكليتين عند المصابين بمرض في هذه الأعضاء.
ولما كانت تأدية مشاعر الحج تتم في وقت محدد، فإن العديد منهم يتردد في طلب الاستشارة الطبية، كما أن هناك عددًا منهم يتعجل في طلب الخروج من المستشفى كي لا تفوته إحدى شعائر الحج.(/23)
ومما يسعد النفس أن نجد عددًا من الدراسات الطبية قد نشرت حديثًا في بعض المجلات الطبية. فكانت من بينها دراسة عن ضربات الشمس التي يتعرض لها الحجاج، وأخرى عن المشاكل الطبية والجراحية التي تحدث عندهم بشكل عام، ودراسات عن المشاكل الكلوية وأخرى عن التهاب السحايا وغيرها..
التهاب الأمعاء أكثر الأمراض انتشار في الحج. نشر الدكتور حسن الغزنوي من جامعة الملك عبد العزيز بجدة عام 1988 م دراسة نشرت في مجلة "Saudi Medical Journal " قد أجريت على عدد من الحجيج، وأظهرت الدراسة أن التهاب المعدة والأمعاء كان أكثر الأمراض شيوعًا بين الحجيج، وخاصة عند المصريين والسوريين. وكان المسنون أكثر عرضة للإصابة به.
أما المرض الثاني فكان التهاب الرئة حيث ترافق بنسبة عالية من الوفيات عند من هم فوق الخمسين.
ولكن السبب الرئيس للوفيات عند الحجاج كان (ضربة الشمس Heat Stroke ) حيث كانت مسؤولة عن 28% من الوفيات عند الحجاج. وكان الْمُسِنُّون والنساء أكثر عرضة للوفاة من الاختناق بسبب الازدحام أثناء رمي الجمرات.
أمراض القلب عند الحجيج
لا شك أن هناك العديد من مرضى القلب الذين يأتون إلى الحج كل عام. وقد قام الدكتور محمد يوسف من مستشفى الملك عبد العزيز بالمدينة المنورة بإجراء دراسة في موسم حج عام 1413 هـ، وخلال ذلك الموسم أدخل 754 حاجًا إلى المستشفى مصابًا بمشاكل طبية باطنية. وكانت نسبة المصابين بالأمراض الصدرية 73 % من الحالات، في حين كان نسبة المصابين بمرض قلبي 61 %. وكان ربع مرضى القلب مصابًا بمرض في شرايين القلب التاجية، أما الربع الآخر فكان مصابًا بارتفاع ضغط الدم وبلغت نسبة الذين أصيبوا بجلطة في القلب 16 % من الحالات. وللأسف فقد كان معظم المرضى مصابًا بأكثر من مرض واحد.. وقد توفي خلال تلك الفترة 57 حاجًا، وكانت جلطة القلب مسؤولة عن نصف هذه الوفيات.(/24)
وأكد الباحث في بحثه الذي قدم في اجتماع جمعية أمراض القلب عام 1995 م أن توقف المرضى عن تناول الدواء كان السبب وراء دخول الكثيرين منهم إلى المستشفيات.. ومن المشاكل التي يواجهها الأطباء في معالجة الحجاج صعوبة التفاهم مع المريض بسبب عائق اللغة، وعدم وجود تقارير طبية لدى المرضى تنبئ عن حالتهم الصحية قبل مجيئهم إلى الحج.
ضربة الشمس عند الحجيج
ضربة الشمس حالة طبية إسعافية تتميز بارتفاع درجة حرارة الجسم إلى ما فوق 40 ْ م، وانعدام التعرق، وحدوث اضطرابات في الجهاز العصبي تتراوح ما بين الاختلاط الذهني وفقدان الوعي (السبات). وفي المملكة العربية السعودية، وحيث الحرارة أثناء فصل الصيف قد تصل إلى 48 ْ م، إن حالات ضربة الشمس عادة قليلة عند السكان المحليين نظرًا لاعتيادهم على تحمل مثل تلك الدرجات. ولكن حدوث ضربة الشمس يزداد بشكل واضح أثناء موسم الحج، حينما يأتي فصل الصيف، عند الوافدين من الحجاج. وتحدث حالات ضربة الشمس عادة في الأسبوعين الأولين من شهر ذي الحجة على الطريق المؤدية من مكة المكرمة إلى عرفات فمنى فمكة المكرمة، بسبب الزحام والجو الحار وعوامل أخرى عديدة.. وقد وضُعِت ترتيبات خاصة للوقاية، ولعلاج حالات ضربات الشمس في مراكز متخصصة في مكة المكرمة ومنى وعرفات.. وتحتوي هذه المراكز على وحدات خاصة لتبريد الجسم أطلق عليها اسم (وحدات مكة المكرمة لتبريد الجسم)، وقد نشرت المجلة الطبية السعودية عام 1986 م دراسة قورنت فيها طريقتان من طرق التبريد، الأولى: وهي طريقة التبريد السريع بواسطة (وحدة مكة المكرمة لتبريد الجسم) وأما الثانية: فكانت الطريقة التقليدية البسيطة للتبريد، وذلك بتغطية جسم المريض بصفائح من الشاش المرطب مع رذاذ الماء العادي في درجة حرارة الغرفة على المريض، وتعريضه لتيار هوائي من جميع الاتجاهات بمراوح كهربائية. ولم يكن هناك أي اختلاف يذكر في زمن التبريد، أو النتائج النهائية بين(/25)
المجموعتين، مما يوحي بأن الطريقة العادية والبسيطة ما زالت وسيلة فعالة في علاج هذه الحالات.
ويعزو الباحثون سبب كثرة حدوث ضربة الشمس عند الحجيج إلى عدة عوامل منها:
1. ارتفاع حرارة الجو والرطوبة أثناء الليل عندما يكون موسم الحج في الصيف.
2. ازدحام الحجيج وما ينجم عنه من قلة حركة الهواء.
3. عدم التعود على الجو الحار.
4. الأعمال المجهدة التي يقوم بها الحجاج كالمشي، وخاصة في منتصف النهار وإصرار بعض الحجاج على صعود جبل الرحمة يوم عرفات، والمسير لعدة كيلومترات.
5. ازدحام السيارات والباصات، وعدم وجود مكيفات هوائية في العديد منها.
6. الإصابة السابقة للعديد من هؤلاء المرضى بأمراض مختلفة كمرض السكر والأمراض القلبية وغيرها.
7. البدانة.
8. الجفاف.
9. الشيخوخة.
التغيرات القلبية في ضربة الشمس
نشرت مجلة "Journal of Saudi Heart Association " عام 1994 م عددًا من الدراسات التي قدمها الباحثون في مؤتمر أمراض القلب الذي عقد في مدينة الدمام في شهر كانون الثاني يناير 1994 م. ومن هذه الأبحاث بحث قدمه الدكتور ليث ميمش من مستشفى الملك فيصل التخصصي بالرياض، حيث قام وزملاؤه بدراسة التغيرات التي تحدث في تخطيط القلب عند 28 مريضا أصيب بالإعياء الحراري Heart Exhanstion و 34 مريضًا أصيبوا بضربة الشمس. وتبين أن تخطيط القلب كان غير طبيعي عند 29 من أصل 34 مريضًا.
وكان تسرع القلب الجيبي Sinus Tachycardio هو الصفة الغالبة عند كثير من المرضى. كما كانت هناك تبدلات في تخطيط القلب توحي بوجود نقص في تروية العضلة القلبية.
وقدم الأستاذ الدكتور محمد نوح من مستشفى جامعة الملك خالد بالرياض دراسة أجريت على 51 حاجًا مصابًا بضربة الشمس بواسطة تخطيط القلب بالأمواج فوق الصوتية. فتبين أن 17 % من هؤلاء كان مصابًا باضطراب موضعي في حركية عضلة القلب. كما حدث انصباب في التامور (الغشاء المغلف لعضلة القلب) في ربع الحالات.(/26)
الأمراض الطفيلية في الحج
أجرى الدكتور سروات من مستشفى النور بمكة المكرمة دراسة نشرت في مجلة "J.Egypt Soc. Parasitology " عام 1993 م حول نسبة حدوث الأمراض الطفيلية عند الحجاج. فكان من أكثرها شيوعًا حدوث الإسهالات نتيجة الإصابات بطفيلي الجيارديا. وهو مرض شائع الحدوث في البلدان النامية، ويمكن التعرف على هذا المرض بواسطة فحص البراز. كما يمكن معالجته بسهولة بواسطة عقار يدعى "Flagyl Metronidazole " كما شوهدت بعض حالات من الملاريا والبلهارسيا. وأكد الباحثون أن فحص البول والبراز يظل وسيلة فعالة جدًّا في تشخيص هذه الأمراض.
ينصح الحاج قبل مجيئه بمراجعة طبيبه، والحصول على تقرير طبي بالحالة المرضية كما ينصح بالتزود بكمية كافية من الدواء كي لا ينقطع عن تناول أدويته الموصوفة له من قبل. وهناك عدد من الوصايا العامة للحجاج أهمها:
1. الاعتناء بنظافة الطعام والشراب، وغسل الخضراوات والفواكه جيدًا.
2. تجنب التعرض للشمس لفترات طويلة، والابتعاد عن أماكن الازدحام قدر الإمكان
3. أخذ قسط كاف من الراحة والنوم.
4. ارتداء الملابس القطنية الخفيفة الواسعة والفاتحة اللون.
5. الإكثار من السوائل في الأيام الحارة وخاصة في يوم عرفات.
6. الإقلال من المجهود العضلي كالمشي في الأسواق عند اشتداد حرارة الجو
7. استشارة الطبيب فور الشعور بأي توعك أو مرض.
الرسالة السادسة عشر
في رحاب مسجد النبي صلى الله عليه وسلم.
زيارة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم سنة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى))؛ رواه البخاري ومسلم.
وإذا سافر المعتمر أو الحاج إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فليكن قصده الأول الصلاة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه على الوجه المشروع من غير بدعٍ ولا غلو.(/27)
واعلم أخي الكريم أنه لا علاقة بين الحج والعمرة وزيارة مسجد النبي ولكن أهل العلم رحمهم الله يذكرونه في باب الحج لأن الناس في الأزمان السالفة كان يشق عليهم أن يفردوا الحج والعمرة في سفر، وزيارة المسجد النبوي في سفر، فكانوا إذا اعتمروا مروا على المدينة لزيارة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن آداب زيارة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم السلام على النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه في أدب وعدم فعل البدع من التمسح بالجدران أو التبرك بها، والحذر من الشرك المخرج عن الملة من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم وطلب تفريج الكربات منه وغير ذلك.
فإن هذا من الشرك الذي لا يجوز فإن النبي صلى الله عليه وسلم لا يملك لنفسه ضرًّا ولا نفعًا، ولا يملك لغيره نفعًا ولا ضرًا: {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا} [الجن: 21]. {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأعراف: 88].
فالرسول صلى الله عليه وسلم بشر محتاجٌ إلى الله عز وجل، ولا يملك أن يجلب نفعًا لأحد ويدفع ضرًا عن أحد.
الرسالة السابعة عشر
مزارات مكة والمدينة
تشرع زيارة البقيع ومسجد قُباء فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأتي البقيع ويسلم على أهله وأمر بزيارة القبور فقال: ((زوروا القبور فإنها تذكر الآخرة))؛ أخرجه مسلم وابن ماجه وغيرهما وهذا لفظ ابن ماجه.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يزور مسجد قباء ويصلي فيه ركعتين وقد تقدم زيارة المسجد النبوي وقبر النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، وأما زيارة جبل ثور وغار حراء في مكة فلا أصل له ولا تشرع زيارته، ولا تشرع زيارة المساجد السبعة في المدينة لأنه لا يوجد دليل على استحباب زيارة مواضع في مكة والمدينة غير ما ذكرنا، ومن ادعى غير ذلك فعليه الدليل.
الرسالة الثامنة عشر
الصلاة الصلاة(/28)
كانت آخر وصية من وصايا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم))؛ أخرجه أحمد وابن ماجه وصححه الألباني.
وقال صلى الله عليه وسلم ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر))؛ أخرجه أحمد والترمذي وغيرهما وقال الترمذي: حسن صحيح غريب، فاحذر أن تكون ممن جاؤوا إلى الحج وفرطوا في الصلاة فأي حج ذلك وأي عمرة تلك وأنت تارك للصلاة، فالحذر الحذر من التهاون بها.
{وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه: 132].
الرسالة التاسعة عشر
الحج وأثره
نعمة عظيمة أن يصطفيك الله عز وجل وييسر الله لك الحج فاحمد النعمة وصنها وحافظ على آثارها وفضلها واسأل الله عز وجل قبول حجك وعمرتك واعلم أن التوفيق لهذه العبادة من النعم المستحقة للشكر.
فحافظ على أوامر الله واجتنب نواهيه وتعلم الخير وأرشد الناس إليه واحرص عليه، نشئ أبنائك تنشئة إيمانية واحملهم على الخير وانههم عن الشر، وأمر أهلك بالخير والحجاب، وستر العورات وانههن عن التبرج والسفور، ومقارفة المحرمات وفعل المنكرات.
واحرص على التوحيد ركن الإسلام الأول صنه عما يقدح فيه أو يخدش جنابه، وادع إلى سبيل ربك بعد التعلم واحرص على العمل بما تعمل فلا نجاة ولا فلاح بدون عمل.
الرسالة العشرون
خاتمة ودعاء
اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي. اللهم استر عوراتي, وآمن روعاتي اللهم احفظني من بين يدي ومن خلفي, وعن يميني وعن شمالي ومن فوقي, وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي.
اللهم عافني في بدني اللهم عافني في سمعي, اللهم عافني في بصري. لا إله إلا أنت. اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر ومن عذاب القبر, لا إله إلا أنت.
اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني, وأنا عبدك, وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت, أعوذ بك من شر ما صنعت, أبوء لك بنعمتك علي, وأبوء بذنبي, فاغفر لي, إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت.(/29)
اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن, وأعوذ بك من العجز والكسل, ومن البخل والجبن, وأعوذ بك من غلبة الدين, وقهر الرجال.
اللهم اجعل أول هذا اليوم صلاحًا وأوسطه فلاحًا, وآخره نجاحًا, وأسألك خيري الدنيا والآخرة يا أرحم الراحمين.
اللهم إني أسألك الرضى بعد القضاء, وبرد العيش بعد الموت, ولذة النظر إلى وجهك الكريم, والشوق إلى لقائك, في غير ضراء مضرة, ولا فتنة مضلة, وأعوذ بك أن أَظلم أو أُظلم, أو أَعتدي أو يُعتدى علي, أو أكتسب خطيئة أو ذنبًا لا تغفره.
اللهم إني أعوذ بك أن أرد إلى أرذل العمر.
اللهم اهدني لأحسن الأعمال والأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت.. واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت.
اللهم أصلح لي ديني, ووسع لي في داري وبارك لي في رزقي.
اللهم إني أعوذ بك من القسوة والغفلة والذلة والمسكنة وأعوذ بك من الكفر والفسوق والشقاق والسمعة والرياء. وأعوذ بك من الصمم والبكم والجذام وسيئ الأسقام.
اللهم آت نفسي تقواها, وزكها, أنت خير من زكاها, أنت وليها ومولاها.
اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع, وقلب لا يخشع, ونفس لا تشبع, ودعوة لا يستجاب لها.
اللهم إني أعوذ بك من شر ما عملت, ومن شر ما لم أعمل, وأعوذ بك من شر ما علمت, ومن شر ما لم أعلم.
اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك, وتحول عافيتك, وفجاءة نقمتك, وجميع سخطك.
اللهم إني أعوذ بك من منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء والأدواء, وأعوذ بك من غلبة الدين, وقهر العدو, وشماتة الأعداء.
اللهم أصلح لي ديني, الذي هو عصمة أمري, وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي, وأصلح لي آخرتي, التي إليها معادي, واجعل الحياة زيادة لي في كل خير, واجعل الموت راحة لي من كل شر, رب أعني ولا تعن علي, وانصرني ولا تنصر علي, واهدني ويسر الهدى لي.(/30)
اللهم اجعلني ذكّارًا لك, شكّارًا لك, مطواعًا لك, مخبتًا إليك, أواهًا منيبًا, رب تقبل توبتي, واغسل حوبتي, وأجب دعوتي, وثبت حجتي, واهد قلبي وسدد لساني, واسلل سخيمة صدري.
اللهم إني أسألك الثبات في الأمر, والعزيمة على الرشد, أسألك شكر نعمتك وحسن عبادتك, وأسألك قلبًا سليمًا, ولسانًا صادقًا, وأسألك من خير ما تعلم, وأعوذ بك من شر ما تعلم, وأستغفرك مما تعلم, وأنت علام الغيوب.
اللهم ألهمني رشدي, وقني شر نفسي. اللهم إني أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات, وحب المساكين, وأن تغفر لي وترحمني, وإذا أردت بعبادك فتنة, فتوفني إليك منها غير مفتون.
اللهم إني أسألك حبك, وحب من يحبك, وحب كل عمل يقربني إلى حبك.
اللهم إني أسألك خير المسألة, وخير الدعاء وخير النجاح, وخير الثواب, وثبتني وثقل موازيني, وحقق إيماني, وارفع درجتي, وتقبل صلاتي, واغفر خطيئاتي, وأسألك الدرجات العلى من الجنة.
اللهم إني أسألك فواتح الخير, وخواتمه, وجوامعه, وأوله وآخره, وظاهره وباطنه والدرجات العلى من الجنة اللهم إني أسألك أن ترفع ذكري, وتضع وزري, وتطهر قلبي, وتحصن فرجي, وتغفر لي ذنبي, وأسألك الدرجات العلى من الجنة, اللهم إني أسألك أن تبارك في سمعي, وفي بصري, وفي روحي, وفي خَلقي, وفي خُلقي, وفي أهلي, وفي محياي, وفي عملي, وتقبل حسناتي, وأسألك الدرجات العلى من الجنة.
اللهم إني أعوذ بك من جهد البلاء, ودرك الشقاء, وسوء القضاء, وشماتة الأعداء, اللهم مقلِّب القلوب, ثبت قلبي على دينك.
اللهم مصرِّف القلوب والأبصار, صرِّف قلوبنا على طاعتك. اللهم زدنا ولا تنقصنا, وأكرمنا ولا تهنا, وأعطنا ولا تحرمنا, وآثرنا ولا تؤثر علينا. اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها, وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.(/31)
اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك, ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك, ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا, ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا ما أحييتنا واجعلها الوارث منا, واجعل ثأرنا على من ظلمنا, وانصرنا على من عادانا, ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ولا تجعل مصيبتنا في ديننا ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا.
اللهم إني أسألك موجبات رحمتك, وعزائم مغفرتك, والغنيمة من كل بر, والسلامة من كل شر, والفوز بالجنة, والنجاة من النار.
اللهم لا تدع لنا ذنبًا إلا غفرته, ولا عيبًا إلا سترته, ولا همًّا إلا فرجته, ولا دينًا إلا قضيته, ولا حاجة من حوائج الدنيا والآخرة هي لك رضا ولنا صلاح إلا قضيتها يا أرحم الراحمين.
اللهم إني أسألك رحمة من عندك, تهدي بها قلبي, وتجمع بها أمري, وتلم بها شعثي, وتحفظ بها غائبي وترفع بها شاهدي, وتبيض بها وجهي, وتزكي بها عملي, وتلهمني بها رشدي, وترد بها الفتن عني, وتعصمني بها من كل سوء.
اللهم إني أسألك الفوز يوم القضاء, وعيش السعداء, ومنازل الشهداء, ومرافقة الأنبياء والنصر على الأعداء.
اللهم إني أسألك صحة في إيمان, وإيمانًا في حسن خلق, ونجاحًا يتبعه فلاح, ورحمة منك وعافية منك ومغفرة منك ورضوانا.
اللهم إني أسألك الصحة والعفة, وحسن الخلق, والرضاء بالقدر. اللهم إني أعوذ بك من شر نفسي, ومن شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها, إن ربي على صراط مستقيم.
المراجع
- موسوعة الحديث الشريف - شركة حرف للبرمجيات
- الموسوعة الحديثية المصغرة - مركز نور الإسلام لأبحاث القرآن والسنة
- سلسلة فقه العبادات لشيخنا محمد بن صالح العثيمين - طبعة مركز الدكتور عبد الوارث الحداد
- رسائل للحجاج والمعتمرين - لشيخنا يحيى بن إبراهيم اليحيى - طبعة دار المسلم.
- منهج السالكين وتوضيح الفقه في الدين - للشيخ عبد الرحمن السعدي - طبعة المكتبة الإسلامية.(/32)
- مقال للدكتور حسان شمسي باشا بعنوان (أبحاث طبية في الحج) - شبكة الإنترنت.
- القول السديد في وجوب الاهتمام بالتوحيد - إسلام محمود دربالة - طبعة دار الآفاق.(/33)
العنوان: رسائل إلى الطبيب المسلم
رقم المقالة: 1080
صاحب المقالة: خاص: الألوكة
-----------------------------------------
كُتيِّب صغير الحجم، عظيم النفع، أعده الدكتور طارق الخويطر، ووجه به خمس عشرة رسالة إلى الطبيب المسلم..
ذكَّره في الرسالة الأولى: بنعم الله عليه في تحصيل هذا العلم النافع، ذي المكانة الرفيعة في نفوس الناس.
وفي الرسالة الثانية: أوصاه باحتساب الأجر في علاج المرضى، وحذَّره أن يكون همه في تحصيل المال، واستغلال حاجة الناس إلى خدماته؛ لتحقيق عَرَض زائل.
وفي الرسالة الثالثة: أوصاه بالمبادرة إلى الصلاة، وأدائها في وقتها، في جماعة، وذكَّره بما يحصل له -بذلك- من فوائد عظيمة.
وفي الرسالة الرابعة: حثَّه على تعلُّم العلم الشرعي، وفِقه أحكام المرضى؛ ليستفيد من ذلك في تعليم المرضى ما يَلزَمهم منه، وذلك مما يقوي صلة المرضى به.
وفي الرسالتين الخامسة والسادسة: ناشده الالتزام بتوجيه الشرع فيما يتعلق بالخَلوة بالمرأة الأجنبية، والالتزام بالكشف على موضع الألم فقط، دون الالتفات لسائر الجسد.
وكانت الرسالة السابعة: وِصاة بحفظ أسرار المريض.
وفي الرسائل الثامنة والتاسعة والعاشرة: دعاه لمراعاة نفسية المريض، ودعوته إلى الصالحات، وتوجيهه، ونُصحه، ورفع معنوياته؛ ليجمع بين طب الأبدان، وطب القلوب.
وفي الرسالة الحادية عشرة: طالبه بتذكير المريض بمحاسن الصبر، وضربِ الأمثلة بصبر الأنبياء والصالحين.
وفي الرسالتين الثانية عشرة والثالثة عشرة: ناشده الرِّفق بالمريض، وتقبُّلَ الألفاظ الصادرة عن بعض المرضى.
وفي الرسالة الرابعة عشرة: دعاه للمبادرة إلى تلبية طلبات الاستدعاء والطوارئ في أي وقت كان، وعدم التثاقل والتأخر عن تلبية هذه الطلبات؛ وذلك لما تحققه سرعة الاستجابة من منافع للمرضى وذويهم، وما يسببه التأخر والتثاقل من أضرار بصحتهم؛ تجلِب الأذى الحسي للمريض، والأذى المعنوي لذويه.(/1)
وفي الرسالة الخامسة عشرة الأخيرة: حثَّه على استصحاب الدِّين والأمانة في العمل الخاص، وعدم الرُّكون إلى مُطالبة أصحاب المستشفيات الخاصة بعمل أكبر قدْر من الفحوص والتحاليل الزائدة عن الحاجة؛ من أجل مصلحة المستشفى، وإرضاء أصحابه!
وبعد هذه الرسائل المفيدة؛ فماذا يَضير الطبيب لو أنه صرف بعض أوقاته في تعلم العلم الشرعي؛ ليكون له أسوة في كثير من السلف، الذين لم يحرمهم التخصص الدقيق من المشاركة القوية في فنون العلم الأخرى، التي تصل -في كثير من الأحيان- إلى درجة التخصص؛ ليحقق بذلك منفعةً شخصية؛ بما يجره لنفسه من فوائد، بتحقق حسن العبادة، وتصحيح المعاملة؛ ومنفعةً عامة؛ بإفادة العباد بما يلزمهم من أحكام المرض؟!!
وهذه الرسائل، وإن كان الخطاب فيها بصيغة المذكر؛ إلا أن الطبيبة المسلمة تُطالَب بما يطالب به الطبيب المسلم؛ من الالتزام بأوامر الشرع، والتحلي بمكارم الأخلاق.. ولأجل ذلك؛ فإن هذا الكتاب سيفيد الطبيبة المسلمة كثيراً، ونأمل أن يخصَّها الدكتور طارق الخويطر في الطبعة الثانية بالعناية، ويحبوها من النصح الواجب.(/2)
العنوان: رسائل الى المرأة في الحج
رقم المقالة: 1734
صاحب المقالة: مازن عبد الكريم الفريح
-----------------------------------------
رسائل الى المرأة في الحج
المقدمة:
الرسالة الأولى: قبل الشروع في الحج
الرسالة الثانية: محظورات المرأة الإحرام
الرسالة الثالثة: لباس المرأة المحرمة
الرسالة الرابعة: كيف تعتمر المرأة وتحج؟
الرسالة الخامسة: المرأة الحائض في الحج
الرسالة السادسة: زينة المرأة في الحج
الرسالة السابعة: المرأة وأطفالها في الحج
الرسالة الثامنة: محذورات شرعية
الدرس الأول: كيف تقضي المرأة وقتها في بيتها؟
الرسالة التاسعة: دروس تربوية ونصائح إيمانية
الدرس الثاني: كيف تكون زيارتك هادفة؟
الدرس الثالث: توجيهات في تربية الأبناء.
الدرس الرابع: احذري الشرك!!
الرسالة العاشرة: إنه ألخوف من عدم قبول العمل
المقدمة
…إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
…فالحج ركن من أركان الإسلام..تهفو إليه القلوب المسلمة، وتلبي له الأفئدة المؤمنة الموحدة.. على اختلاف أجناسها وتعدد ألوانها واختلاف قبائلها وأنسابها قائلة: لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك..إن الحمد والنعمة لك والملك.. لا شريك لك.. مستجيبة لذلك النداء الذي أذن به أبونا إبراهيم عليه السلام فجاءت قوافل المؤمنين من كل فج عميق ليطوفوا بالبيت العتيق..
أرى الناس أصنافا ومن كل بقعة …إليك انتهوا من غربة وشتات(/1)
وأنت أيتها الأخت المسلمة.. هنيئاً لك هذه الاستجابة، وإقدامك على هذه الطاعة وقد تركت خلفك الأهل والأصحاب والأولاد والأحباب طمعاً بما عند خالقك الوهاب التواب.. ورغبة في نيل عظيم الأجر والثواب، وأملاً في التخلص من الذنوب والأوزار كما أخبر بذلك النبي المختار صلى الله عليه وسلم فقال: ((من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته امه)) و ((الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)).
ألا ما أعظمها من عبادة يمحو بها الله الخطيئات ويهدم ما قبلها من السيئات، ويرفع بها الدرجات!! وما أجلها من طاعة وفريضة ينبغي أن تحرص المسلمة على أدائها بالكيفية التي شرعها الله - عز وجل - وكما أداها رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال: ((خذوا عني مناسككم)).
…وعوناً لك - أيتها الأخت - في حج مبرور موافق للسنة أحببنا أن نلخص لك بعض أحكام الحج التي تتعلق بالمرأة: وقد قمنا بجمعها وترتيبها من مصادر عدة، قد يصعب على الكثيرات من النساء الرجوع إليها أو فهم عباراتها ولهذا خصصناك بهذه الرسالة بأسلوب بسيط وعبارة سهلة الفهم، مكتفين بما تمس الحاجة إليه، وما يتكرر السؤال عنه، منبهين على بعض الأمور التي يحسن بالمرأة المسلمة أن تتنبه إليها.
…أسأل الله عز وجل أن يتقبل منا ومنكم صالح أعمالنا، ويغفر ذنوبنا وأن يجعل حجنا حجاً مقبولا وسعياً مشكوراً إنه شكور غفور.. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الرسالة الأولى: قبل الشروع بالحج
أولاً: هناك أمور لا بد من مراعاتها قبل الشروع بالحج:
1- استئذان الزوج:
(أ) يستحب للزوجة أن تستأذن زوجها في حجة الفريضة، فإن أذن لها وإلا خرجت بغير إذنه. ولا يجوز للرجل أن يمنع زوجته من حج الفريضة إذا تمت شروطه وتيسر لها فعله؛ لأن الحج يجب على الفور ولا يجوز تأخيره مع القدرة.
أما في الحج النفل (أو التطوع) فللزوج أن يمنع زوجته من ذلك ولا يجوز لها الحج تطوعاً إلا بإذنه.(/2)
(ب) وليس للوالد أو الأم منع ابنتهما من حج الفرض، وليس للبنت طاعة والديها في ترك فرض الحج إذا تيسر لها وكان لها محرم.
2- وجود محرم:
من شروط وجوب الحج على المرأة وجود محرم لها؛ إذ يحرم على المرأة أن تسافر بدون محرم، يستوي في ذلك المرأة الشابة والعجوز، والجميلة والشوهاء، وسواء كانت ستسافر في طائرة أم في سيارة؛ لحديث ابن عباس إنه سمع الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ((ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم))؛ متفق عليه.
تنبيه: المرأة المعتدة لوفاة زوجها لا تخرج للحج لأن الله نهى المعتدات عن الخروج من بيوتهن.
التوبة النصوح:
أيتها الأخت.. اعلمي أن الله لا يقبل الأعمال إلا من المتقين {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27] ولا تقوى لمن أصر على الذنوب والمعاصي فابدئي رحلتك مع الله بالتوبة النصوح وأقبلي عليه فإنه يفرح بتوبة عبده وأمته فرحا وصفه لنا الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: ((لله أشد فرحاً بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة "أي في صحراء قاحلة" فانفلتت "هربت" منه وعليها طعامه وشرابه فأيس منها فأتى شجرة فاضطج في ظلها"انتظاراً للموت هلكاً"فبينما هو كذلك فإذا هو بها قائمة عنده فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح))؛ متفق عليه.
وأن من تمام توبتك أن تحرصي على اجتناب المحرمات القولية..والفعلية كالغيبة والنميمة والتبرج وسماع ما حرم الله عليك سماعه من الأغاني وغيرها...
الإخلاص:
فكما أنه سبحانه لا يقبل الأعمال إلا من المتقين، فهو سبحانه لا يقبلها إلا إذا كانت خالصة لوجهه الكريم..
فمن جاءت إلى الحج سمعة ورياءً فقد أحبطت أجرها وباءت بإثمها. يقول الله يوم القيامة ((اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون)).
الوصية:(/3)
اكتبي وصيتك قبل أن تسافري إذا كان لك ما توصين به. قال بعض أهل العلم ((إذا كان على المرأة ديون أو ودائع أو حقوق واجبة وليس هناك ما يثبتها إلا الوصية فيجب كتابتها. أما الوصية من مالها فيستحب أن توصي بما لا يتجاوز الثلث.
تعلم أحكام الحج:
وهذا أمر مهم يغفل عنه الكثير من الناس عند أداء المناسك وهم يجهلون أحكامها مما يؤدي إلى ارتكاب المحظورات والوقوع في البدع والمخالفات.. وهذا التعلم لأحكام الحج واجب على من وجب عليه الحج بناءً على قاعدة (ما لا يتم الواجب إلا به واجب) والعلم يمكن أن يتم بالسؤال لأهل العلم أو القراءة في كتب مناسك الحج أو الاستماع لبعض الدروس والمحاضرات التي توضح الطريقة الصحيحة لأداء فريضة الحج.
التطعيم:
يجب على المسلمة أن تتوكل على الله في جميع أمورها صغيرها وكبيرها والله خير حافظاً وهو أرحم الراحمين، ومع هذا التوكل ينبغي أن تتخذي الأسباب التي جعلها الله سبباً في الوقاية من الأمراض والأوبئة ومن ذلك التطعيم ضد الحمى الشوكية وغيرها من الأوبئة التي ينصح الأطباء بأخذ التطعيمات ضدها.
ثانيا: حاجات يفضل اصطحابها معك.
هناك أشياء ننصحك باصطحابها معك في رحلة الحج نظرا لأهميتها ولحاجتك إليها ومنها:
مصحف: ليمكنك من قراءة وردك في المخيم أو في السيارة وخير ما يستغل فيه الوقت أثناء هذه الرحلة الإيمانية هو القراءة من كتاب الله عز وجل.. كل حرف لك فيه حسنة والحسنة بعشر أمثالها..
مسجل صغير مع بطاريات: ليمكنك من الاستماع إلى المحاضرات من خلاله في أوقات فراغك أو عند تنقلك بين المشاعر.
أشرطة للقرآن الكريم والمحاضرات الإسلامية المفيدة.
كتب مفيدة: ولا بد أن يكون معك كتاب عن مناسك الحج حتى تتمكني من الرجوع إليه عند الحاجة.
فوط صحية:-
اصطحبي ما تحتاجين إليه من الأدوية ولا سيما إذا كنت مصابة ببعض الأمراض المزمنة كالسكري والضغط والصداع النصفي.
الرسالة الثانية: محظورات المرأة في الإحرام(/4)
محظورات قبل الإحرام وبعده!!
هناك أمور محرمة على المحرم وغير المحرم ولكن حرمتها على المحرم أغلظ وآكد فيجب عليه أن يبتعد عنها ويتحرز عنها وأن يتحرز الوقوع فيها مثل الغيبة والنميمة والكذب وقول الزور وسماع المحرمات والنظر إلى المحرم والمشاتمة والمخاصمة والجدال - في غير إحقاق الحق- والفسوق وصدق الله العظيم إذ يقول: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجّ} [البقرة:197]، لذلك يستحب للمرأة قلة الكلام إلا فيما ينفع صيانة لنفسها عن اللغو والوقوع في الكذب وما لا يحل فإن من كثر كلامها كثر سقطها وفي الحديث عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت)) متفق عليه؛ ولذا فإن المرأة المسلمة تشتغل بالتلبية وذكر الله تعالى وقراءة القرآن أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر أو تعليم لجاهل وإن تكلمت بما لا مأثم فيه فهذا مباح ولكن لا تكثر..
محظورات الإحرام:
إزالة شعر الرأس بحلق أو غيره كبعض المواد المزيلة للشعر لقوله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُؤوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] وألحلق جمهور أهل العلم شعر بقية الجسم بشعر الرأس وعلى هذا فلا يجوز للمحرمة أن تزيل أي شعر كان في بدنها.
تقليم الأظافر:
فقد أجمع العلماء على أن المحرم ممنوع من تقليم أظافره فإن انكسر الظفر فله إزالته قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم، على المحرم أن يزيل ظفره بنفسه إذا أنكسر لأن بقاءه يؤلمه.(/5)
التطيب في البدن والثوب: لقوله صلى الله عليه وسلم ((لا تلبسوا من الثياب شيئا مسه الزعفران ولا الورس)) متفق عليه... قال ابن عبد البر ((لا خلاف في هذا بين العلماء)) وقال في المحرم الذي وقصته راحلته وهو واقف بعرفة ((ولا تقربوه طيبا)) فدل هذا على أن المحرم ممنوع من قربان الطيب ولا يجوز للمحرم شم الطيب عمدا ولا خلط قهوته بالزعفران الذي يؤثر في طعم القهوة أو رائحتها ولا خلط الشاي بماء الورد ونحوه مما يظهر فيه طعمه أو ريحه
لبس النقاب والقفازين: لقوله صلى الله عليه وسلم ((لا تتنقب المرأة الحرم (أي المحرمة) ولا تلبس القفازين))؛ رواه البخاري.
عقد النكاح: فلا يجوز تزويج المحرمة لقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب)) رواه مسلم. ومتى تزوج المحرم أو تزوجت المحرمة فالنكاح باطل.
الجماع ومقدماته من لمس بشهوة أو تقبيل أو غيره.. والجماع في الفرج قبل التحلل الأول يوجب فساد حج الرجل والمرأة جميعا.
التعرض لصيد البر بالقتل أو الذبح أو الإعانة عليه: لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُم} [المائدة: 95] عام في النوعين الرجال والنساء.
تنبيه: يجوز قتل كل ما فيه إيذاء للناس في أنفسهم وأموالهم.. بدليل ما روت عائشة رضي الله عنها قالت: أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بقتل خمس فواسق في الحل والحرم: الحدأة والغراب والفأرة والعقرب والكلب العقور))؛ متفق عليه
إذا فعلت المرأة شيئا من محظورات الإحرام:
إذا ارتكبت المرأة المحرمة شيئاً من المحظورات فلها ثلاث حالات:
أن تكون ناسية أو جاهلة أو مكرهة أو نائمة فلا شيء عليها لا إثم ولا فدية ولا فساد نسك لقوله تعالى: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286].(/6)
لكن متى زال العذر فعلمت الجاهلة وذكرت الناسية واستيقظت النائمة.. وجب عليها التخلي عن المحظور. أن ترتكب.. المحظور متعمدة، ولكن لعذر فعليها ما يترتب على فعل ولا إثم عليها لقوله تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196].
أن تفعل المحظور عمداً بلا عذر يبيحه فعليها ما يترتب على فعل المحظور مع الإثم.
أقسام المحظورات باعتبار الفدية:
تنقسم محظورات الإحرام باعتبار الفدية إلى أربعة أقسام:
أولاً: ما لا فدية فيه وهو عقد النكاح
ثانيا: ما فديته بدنة أو بقرة وهو الجماع في الحج قبل التحلل الأول (الجماع قبل التحلل الأول يترتب عليه أربعة أمور:
فساد الحج.
وجوب الفدية وهي بدنة أو بقرة.
إتمام الحج الذي جامع فيه.
قضاؤه من السنة القادمة بدون تأخير.
ثالثا: ما فديته جزاؤه أو ما يقوم مقامه وهو قتل الصيد
رابعا: ما فديته صيام أو صدقة أو نسك (بالنسبة لبقية المحظورات غير الثلاثة السابقة)
كما في قوله تعالى: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] والصيام مقداره ثلاثة أيام والصدقة مقدارها ثلاثة أصعة من الطعام لستة مساكين (لكل مسكين كيلو ونصف تقريباً) أما النسك فهو ذبح شاة.
الرسالة الثالثة: لباس المرأة المحرمة
قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن المرأة ممنوعة مما منع الرجال منه (يعني محظورات الإحرام إلا لبس اللباس) وهذه بعض الأحكام التي تتعلق بلباس المرأة المحرمة:(/7)
المرأة تحرم بما شاءت من الثياب إذ ليس للإحرام بالنسبة للمرأة ملابس مخصوصة كما تظن بعض النساء ولكن يجب أن تتصف ثيابها بالصفات الشرعية: كأن تكون فضفاضة غير ضيقة، ومتينة غير شفافة، والأفضل أن تكون غير لافته للنظر أي ليست بثياب زينة منعاً للفتنة عندما تختلط بالرجال في بعض المناسك.
يحرم على المرأة المحرمة لبس القفازين والنقاب لما رواه أبو داود ((المحرمة لا تتنقب ولا تلبس القفازين))؛ ولكن إن مر بها الرجال الأجانب وجب عليها تغطية وجهها بغطاء الرأس لعموم الأدلة على وجوب ستر المرأة وجهها حال وجود الرجال الأجانب بالقرب منها كما كانت نساء السلف يفعلن قالت عائشة ((كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم (محرمات) فإذا حاذونا (أي قابلونا) سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها فإذا جاوزونا كشفناه أخرجه أبو داود وغيره.
يحرم على المرأة المحرمة لبس الثياب المطيبة، لما رواه البخاري عن عائشة قالت - وهي محرمة – "لا نتلثم و لا نتبرقع ولا نلبس ثوبا بورس ولا زعفران".
يجوز للمرأة المحرمة أن تلبس ما شاءت من ألوان الثياب كالأسود والأحمر والأصفر وليس للون الأخضر مزية على غيره من الألوان.
للمرأة المحرمة أن تغير ثيابها التي أحرمت بها أو استبدالها بأخرى نظيفة.
من تبرقعت في الإحرام جاهلة للحكم أو ناسية للإحرام فلا شيء عليها وحجتها أو عمرتها صحيحة إنما الفدية على المتعمد العالم بالحكم الذاكر له.
يجوز للمرأة أن تلبس الجوارب وهي محرمة بل هي أفضل للمرأة وأستر لقدميها.
الرسالة الرابعة: كيف تعتمر المرأة وتحج؟
في هذا المبحث عرض لثلاثة أمور:
أولا: ذكر مجمل الخطوات التي تتبعها المرأة التي تريد الحج (التمتع)
ثانيا: تلخيص لأعمال المتمتعة على شكل مخطط توضيحي.
ثالثا: تلخيص لأعمال (المفردة) و (القارنة) على شكل مخطط توضيحي.
وإليك - أيتها الأخت - هذه الأمور بالترتيب:(/8)
أولا: مجمل الخطوات التي تتبعها المرأة التي تريد الحج متمتعة.
ملحوظة: نسك التمتع هو أفضل الأنساك لو لم يسق الهدي لأن النبي صلى الله عليه وسلم حث عليه وأمر به أصحابه وقال صلى الله عليه وسلم: ((لو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي))؛ رواه مسلم أي لم يمنعه من التحلل إلا سوق الهدي وإلا لكان متمتعاً.
يستحب للمرأة قبل إحرامها بالعمرة أو الحج:
الاغتسال: ولو كانت المرأة حائضاً أو نفساء لقوله صلى الله عليه وسلم لأسماء بنت عميس حين نفست في ذي الحليفة في حجة الوداع: ((اغتسلي وَاسْتَثْفِري بثوب وأحرمي))؛ رواه مسلم.
التطيب في البدن: فقد كانت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يتطيبن قبل إحرامهن وكان يراهن النبي صلى الله عليه وسلم ولا ينكر عليهن ذلك قالت عائشة: "كنا نخرج مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة فنضمخ جباهنا بالمسك المطيب عند الإحرام فإذا عرقت إحدانا سال على وجهها فيراها النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينهاها" التنظف: بقص الأظافر، ونتف الإبط، وحلق العانة.
الخضاب: تخضب يديها بحناء.
وكل ذلك مستحب وليس بواجب قال ابن المنذر: "أجمع أهل العلم على أن الإحرام جائز بغير اغتسال وأنه (أي الاغتسال للإحرام) غير واجب".
وتحرم المرأة - بعد ذلك - بلباسها المعتاد فلها أن تحرم بما شاءت من الثياب المباحة ويحرم عليها تغطية وجهها بنقاب أو خمار أو ثوب وكذلك لا تلبس القفازين (وهو غطاء اليدين) ولكن يجب عليها ستر وجهها عند وجود رجال أجانب بخمارها أو بثوب تسدله من على رأسها على وجهها درءً للفتنة كما كانت تفعل عائشة رضي الله عنها ونساء السلف.(/9)
وتحرم المرأة - كالرجل - من أماكن متعددة في الشرع لا يجوز تجاوزها لمن أرادت الحج أو العمرة إلا وهي محرمة و هذه الأماكن تسمى بالمواقيت (المكانية) وهي: ذو الحليفة - رابغ (وكانت قديما الجحفة) - يلملم - قرن المنازل - ذات عرق.. والمرأة التي منزلها دون هذه المواقيت تحرم لحجها من منزلها مثل أهل مكة وجدة وأهل مكة يحرمون للعمرة من أدنى الحل خارج مكة.
تنبيه:
السنة أن تحرم المرأة من الميقات فإن أحرمت من قبل الميقات فإحرامها صحيح و لا شيء عليها ولكنها تركت السنة.
من جاوزت الميقات بدون إحرام رجعت وأحرمت من الميقات ولا شيء عليها فإن أحرمت بعد أن تجاوزت الميقات ولم ترجع إليه فعليها دم (شاة تذبح ويوزع لحمها على فقراء الحرم)
يستحب أن يكون الإحرام عقب صلاة فرض أو تطوع كسنة الوضوء أو الضحى أو الوتر وتحية المسجد، والنية بالإحرام بالقلب.
ثم تنطق بما نوت من الأنساك فتقول التي أرادت التمتع (لبيك عمرة) ثم تبدأ بالتلبية (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك). ويستحب الإكثار من التلبية ولكن لا ترفع صوتها بها إلا بقدر ما تسمع نفسها ورفيقتها التي بجانبها لأن أمور المرأة مبنية على أساس الستر لها وخفض الصوت هو الذي يتفق وهذا الأساس.
وبمجرد الدخول في الإحرام يحرم عليها عدة أمور تسمى محظورات الإحرام وقد ذكرناها في مبحث (محظورات الإحرام)
فإذا وصلت المحرمة إلى المسجد الحرام قدمت رجلها اليمنى في الدخول ودعت بدعاء دخول المسجد (بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله، اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وبسلطانه القديم من الشيطان الرجيم) فإذا وصلت إلى الكعبة قطعت التلبية قبل أن تشرع بالطواف.(/10)
ثم تأتي الحجر الأسود فتستلمه إن تيسر لها استلامه فإن لم تستطع بدأت بالطواف بمحاذاته وتشير إليه قائلة (بسم الله والله أكبر) ثم تجعل البيت عن يسارها وتطوف سبعة أشواط.
وإذا وصلت الركن اليماني استلمته إن تيسر لها استلامه وإلا مضت دون أن تشير إليه بيدها وتقول بين الركنين (اليماني والحجر الأسود): {رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201] وتدعو في سائر الأشواط بما أحبت ولو قرأت القرآن أو رددت بعض الأذكار فلا بأس.
إذا أكملت المحرمة طوافها جاءت إلى مقام إبراهيم وصلت ركعتين تقرأ في الركعة الأولى بعد الفاتحة (قل يا أيها الكافرون)، وفي الثانية بعد الفاتحة (قل هو الله أحد) فإن لم يتيسر لها صلاة الركعتين خلف المقام ففي أي مكان في المسجد.
تنبيهات حول الطواف:
يشترط لصحة الطواف الطهارة (الكبرى والصغرى) فلا يجوز للمرأة أن تطوف بالبيت وهي حائض أو نفساء أو بغير وضوء قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة وقد حاضت وهي في الحج ((افعلي كما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري))؛ متفق عليه.
لا ترمل المرأة في الطواف ولا تضطبع ويستحب لها أن لا تدنو من البيت حال طواف الرجال وازدحامهم.
لا ينبغي للمرأة المسلمة أن تزاحم الرجال عند الحجر الأسود ولا يجوز لها أن تكشف وجهها أمام الرجال الأجانب لتقبيل الحجر لأن في ذلك مفسدة عظيمة وفتنة كبيرة.(/11)
من أعظم المنكرات والكبائر والموبقات تبرج النساء في الطواف والسعي وسائر الحرم بالتعطر وإظهار الحلي وما فيه من الشهرة من اللباس وكشفهن لوجوههن وخاصة عند استلام الحجر وتقبيله فإن الفتنة من أعظم الإلحاد والإفساد في الحرم قال تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25]، والإلحاد هو الميل عن الحق قصدا فالسيئة معظمة في الحرم بمكة فرب امرأة طافت تبتغي الغفران فخرجت بسبب تبرجها وفتنتها محملة بالأوزار حيث استحوذ عليها الشيطان: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِم الشَّيْطَانُ فَانْسَاهُمْ ذِكْرَ الله} [المجادلة: 19].
تجتهد المرأة في الطواف في الأوقات التي تقل فيها زحمة الرجال بقدر الإمكان.
ثم تذهب إلى المسعى فإذا وصلت الصفا قرأت {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 158] ولا تقرؤها إلا في هذا الموضع ثم تستقبل الكعبة وترفع يديها فتحمد الله وتدعو بما شاءت. وكان دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم الله أكبر (ثلاثا) لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير لا إله إلا الله وحده أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده) ثم تتجه ماشية إلى المروة فإذا وصلت إلى المروة تكون قد أكملت شوطا وتستمر في سعيها بين الصفا والمروة سبعة أشواط وفي أثناء سعيها تقول ما أحبت من ذكر وقراءة قرآن ودعاء.
تنبيه:
لا يشترط الطهارة لصحة السعي ولكن تستحب.
لا تركض المرأة بين العلمين أو الميلين الأخضرين؛ لأنها مأمورة بالاستتار.
وبعد الانتهاء من السعي تقصر المرأة شعرها قدر أنملة (أي سنتيمتر واحد تقريباً) من جميع ضفائرها وبهذا تتحلل من عمرتها وتحل لها جميع محظورات الإحرام.
تنبيه:(/12)
لا يجوز للمرأة أن تكشف شعرها أمام الرجال الأجانب من أجل أن تقصر من شعرها بل يجب أن تذهب إلى مكان لا يراها فيه الرجال كي تقصر من شعرها.
أعمال الحج:
في ضحى يوم التروية - وهو اليوم الثامن من ذي الحجة - تحرم المرأة بالحج من المكان الذي هي فيه وتفعل قبل الإحرام بالحج ما فعلته قبل إحرامها بالعمرة من الاغتسال والتطيب والتنظيف ثم تلبي بالحج وتقول: لبيك حجا ثم تبدأ بالتلبية: (لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك).
ثم تذهب إلى منى إن كانت خارجها - فتصلي فيها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر قاصرة الصلاة الرباعية من غير جمع لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل هذا.
فإذا طلعت الشمس من يوم التاسع (يوم عرفة) سارت من منى إلى عرفة ويسن لها أن تنزل بنمرة إلى الزوال إن تيسر ذلك ثم تتحول منها إلى عرفة وإلا مضت إلى عرفة ابتداءً فتقف فيها حتى الغروب وتصلي هناك الظهر والعصر جمعاً وقصراً (إذا أذن الظهر صلت الظهر ركعتين ثم أقامت لصلاة العصر وصلتها ركعتين أيضاً)
تنبيه:
الجمع والقصر لجميع الحجاج حتى أهل مكة.
لا يشترط للوقوف بعرفة الطهارة وقد وقفت عائشة بعرفة وهي حائض.
ثم تتفرغ للدعاء والذكر وقراءة القرآن والدعاء في يوم عرفة خير دعاء؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير) وتراعي في دعائها:
استقبال القبلة، رفع اليدين، حضور القلب، الإلحاح في الدعاء وعدم الاعتداء فيه
ويجب الوقوف بعرفة حتى تغرب الشمس لفعله صلى الله عليه وسلم هذا ولمخالفة أهل الجاهلية الذين كانوا يدفعون (أي يغادرون) إلى مزدلفة قبل الغروب.
تنبيه: من غادر عرفة قبل الغروب فعليه دم أي ذبح شاة كفارة تركه واجب البقاء بعرفة إلى غروب الشمس.(/13)
فإذا غربت الشمس غادرت عرفة متجهة نحو مزدلفة ملبية ذاكرة لله عز وجل فإذا وصلتها صلت المغرب والعشاء فيها قصراً وجمعاً، تقيم فتصلى المغرب ثلاث ركعات ثم تقيم وتصلي العشاء ركعتين.
الوقوف بمزدلفة مشروع في حق النساء كما هو مشروع في حق الرجال ولكن رخص للمرأة أن تخرج من مزدلفة بعد منتصف الليل إلى منى لترمي جمرة العقبة قبل الزحمة لحديث عائشة قالت: استأذنت سودة (أم المؤمنين) رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة المزدلفة تدفع قبله - أي تخرج من مزدلفة قبل طلوع الفجر - وقبل حطمة الناس - أي زحمتهم - وكانت امرأة ثبطة فأذن لها) (ومعنى ثبطة: أي بطيئة الحركة لعظم جسمها)
لا بأس بخروج محارم المرأة ومن معه ضعفه (كالصبية أو المرضى وكبار السن) من مزدلفة قبل طلوع الفجر لحديث ابن عباس قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في الضعفة من جمع (أي مزدلفة بليل)؛ رواه مسلم.
ما يفعله بعض العامة من لقط حصى الجمار من حين وصوله إلى مزدلفة قبل الصلاة واعتقاد كثير منهم أن ذلك مشروع فهو غلط ولا أصل له والنبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر أن يلتقط الحصى إلا بعد انصرافه من المشعر إلى منى ومن أي موضع لقط الحصى أجزأه ذلك ولا يتعين لقطه من مزدلفة بل يجوز لقطه من منى والسنة التقاط سبع في هذا اليوم يرمي بها جمرة العقبة اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم أما في الأيام الثلاثة فيلتقط من منى كل يوم إحدى وعشرين حصاة يرمى بها الجمرات الثلاث ولا يستحب غسل الحصى بل يرمى بها من غير غسل لأن ذلك لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ولا يرمى بحصى قد رمي به.(/14)
فإذا وصلت المرأة منى في يوم العاشر من ذي الحجة ويسمى يوم النحر وهو يوم العيد - أتت جمرة العقبة (الجمرة الكبرى) فرمتها بسبع حصيات الواحدة تلو الأخرى سبع مرات ويستحب أن تكبر مع كل حصاة فتقول (الله أكبر وتقطع التلبية مع ابتداء الرمي. بعد رمي جمرة العقبة تنحر هديها - إن تيسر - وإلا وكلت محرمها أو غيره ولها أن تؤخر الذبح لأن مدة الذبح يمتد إلى غروب شمس اليوم الثالث من أيام التشريق في أصح أقوال أهل العلم فتكون مدة الذبح يوم النحر وثلاثة أيام بعده.
ثم تقصر من شعرها مقدار أنملة (سنتمتر واحد تقريبًا) لتحذر المرأة من أن تكشف شعرها أمام الرجال الأجانب من أجل التقصير لأن ذلك محرم عليها بل تستتر في مكان لا يراها فيه الرجال الأجانب.
وبأدائها لهذا النسك تكون حل لها كل شيء من محظورات الإحرام إلا الجماع وهذا يسمى بالتحلل الأول.
ثم تذهب إلى مكة فتطوف بالبيت طواف الإفاضة وتصلي ركعتين خلف المقام وإلا في أي مكان في المسجد وتسعى بعد ذلك سعي الحج.
تنبيه:
إن حاضت المرأة قبل طواف الإفاضة أو كانت حائضاً ولم تطهر فإنها تنتظر حتى تطهر لأنه لا يجوز للحائض أن تطوف بالبيت فإن اضطرت للرجوع إلى بلدها ولا تتمكن من البقاء والرجوع مرة أخرى إلى مكة جاز لها أن تطوف وهي حائض للضرورة كما أفتى شيخ الإسلام ابن تيمية وقد ذكرناه مفصلا في مبحث الحائض في الحج فليراجع)
ثم ترجع إلى منى مرة أخرى إذ يجب المبيت بمنى في الليلة الأولى والثانية من أيام التشريق أما ليلة الثالث عشر من ذي الحجة فالمسلم مخير بين التعجل - وعندئذ لا بد في مغادرة منى قبل غروب شمس اليوم الثاني عشر - وبين التأخر فيبيت ليلة الثالث عشر وهذا أفضل أجرا لأن النبي صلى الله عليه وسلم تأخر.(/15)
وفي أيام التشريق الحادي عشر والثاني عشر (والثالث عشر لمن تأخرت) ترمي المرأة الجمرات الثلاث بعد الزوال كل جمرة بسبع حصيات تكبر مع كل حصاة ويستحب لها أن تدعو بما شاءت بعد رميها للجمرة الصغرى والوسطى.. أما إذا انتهت من رمي جمرة العقبة فإنها تمضي ولا تدعو عندها، هكذا فعل الرسول صلى الله عليه وسلم ويجب رمي الجمرات بالترتيب (الصغرى ثم الوسطى ثم الكبرى)
تنبيه:
تلتقط الحصى لرمي الجمار من منى
ينبغي أن تحرص المرأة على اختيار الوقت الذي تقل فيه الزحمة مثل الرمي في المساء.
إن أحبت المرأة التعجل رمت الجمار في اليوم الثاني عشر من ذي الحجة وغادرت منى قبل غروب الشمس من ذلك اليوم.
تنبيه: فإن غربت شمس يوم الثاني عشر وهي في منى لم تخرج منها حتى ترمي من غد (اليوم الثالث عشر) بعد الزوال.
بعد انتهاء أيام الرمي سواء للمتعجلة أم المتأخرة يجب أن تأتي مكة فتطوف طواف الوداع إلا أنها إذا كانت حائضا أو نفساء سقط عنها طواف الوداع ولا شيء عليها.. فتنصرف راجعة إلى بلدها.
وبهذا تنتهي أعمال الحج للمتمتعة.
ثانيا: تلخيص أعمال المتمتعة:
أعمال العمرة
الإحرام من الميقات في أشهر الحج
وتقول عند إحرامها لبيك اللهم عمرة، وعندما تصل مكة تطوف بالبيت سبعة أشواط مبتدئة بالحجر الأسود ثم تصلي بعد الطواف ركعتين خلف المقام.
السعي بين الصفا والمروة سبعة أشواط مبتدئة بالصفا.
التقصير: تقصر من شعرها قدر أنملة (1 سنتيمتر تقريباً)وبهذا تتحلل وتنتهي أعمال العمرة.
أعمال الحج:
يوم الثامن من ذي الحجة (يوم التروية) الإحرام بالحج من المكان الذي هي فيه وتقول: لبيك اللهم حجاً.
يوم التاسع (بعد الزوال) الوقوف بعرفة حتى غروب الشمس.
يوم التاسع (ليلة العاشر من ذي الحجة) البقاء في مزدلفة حتى منتصف الليل (للنساء والضعفة)
يوم العيد (يوم النحر)
رمي جمرة العقبة بسبع حصيات، ذبح الهدي
التقصير من الشعر قدر أنملة
طواف الإفاضة مع سعي الحج.(/16)
المبيت في منى ليلة الحادي عشر والثاني عشر (لمن أرادت التعجل) وليلة الثالث عشر (لمن أرادت التأخر) مع رمي الجمار الثلاث في تلك الأيام بعد الزوال كل جمرة بسبع حصيات.
طواف الوداع:
(المرأة الحائض يسقط عنها طواف الوداع)
انتهت مناسك حج التمتع.
ثالثا: تلخيص أعمال الحج لمن أرادت نسك "الإفراد" أو القرآن
لا تختلف أعمال "المفردة" عن أعمال "القارنة" إلا في أمرين:
النية: فتقول من أرادت الحج (مفردة) عند إحرامها: لبيك حجا أما القارنة فتقول عند إحرامها: لبيك عمرة وحجا أو أنها تحرم بالعمرة ثم تدخل عليها الحج قبل طواف العمرة.
الهدي: يجب على القارنة أن تذبح هديا فإن لم تستطع فتصوم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعت إلى أهلها إن لم تكن من أهل مكة.
أما المفردة فليس عليها هدي
وإليك أيتها الأخت مجمل أعمال الحج لهذين النسكين:
الإحرام عند الميقات:
تقول القارنة: لبيك اللهم حجاً وعمرة
تقول المفردة: لبيك اللهم حجاً
طواف القدوم، والسعي لمن أرادت أن تقدم سعي الحج (والبقاء على الإحرام وعدم التحلل منه حتى يوم العيد..)
يوم التاسع (بعد الزوال) الوقوف بعرفة حتى الغروب.
يوم التاسع (ليله العاشر) من ذي الحجة البقاء في مزدلفة حتى منتصف الليل (للنساء والضعفة)
يوم العيد.. (يوم النحر) العاشر من ذي الحجة.
رمي جمرة العقبة بسبع حصيات
ذبح الهدي (للمتمتعة)
التقصير من الشعر قدر أنملة.
طواف الإفاضة مع سعي الحج للتي لم تسع مع طواف القدوم.
المبيت في منى ليلة الحادي عشر والثاني عشر (لمن أرادت التعجل) وليلة الثالث عشر (لمن أرادت التأخير) مع رمي الجمار الثلاث في تلك الأيام بعد الزوال كل جمرة بسبع حصيات.
طواف الوداع.
(المرأة الحائض يسقط عنها طواف الوداع)
انتهت مناسك الحج للقارنة والمفردة.
الرسالة الخامسة: المرأة الحائض في الحج(/17)
لا تقلقي أيتها الأخت عند نزول دم الحيض وأنت في الحج فهذا شيء قد كتبه الله على بنات آدم.. وديننا - ولله الحمد - دين يسر ورفع للحرج، وقد شرع للحائض أحكاماً تتناسب مع حالتها ووضع مناسك مراعاة لظروفها فلله الحمد والمنة.. وإليك جملة من الأحكام والفتوى قد تحتاجين إليها في حال حيضتك:
القاعدة التي ينبغي أن تعرفها كل امرأة هي: أن الحائض تفعل ما يفعله الحاج في جميع مناسك الحج إلا الطواف بالبيت فلا تطوف حتى تطهر.
ودليل ذلك ما أخرجه البخاري في قصة عائشة رضي الله عنها عندما حاضت وهي في طريقها إلى الحج. قالت: فدخل علي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي فقال: ((ما يبكيك))، قلت: "لوددت أني لم أحج هذا العام" قال: ((لعلك نفست)) (أي حضت) قلت: "نعم" قال: ((فإن ذلك شيء كتبه الله على بنات آدم. فافعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري)).
لا حرج على المرأة أن تحرم بالحج والعمرة وهي حائض إذ أن الحيض لا يمنع انعقاد النية بالنسك.
يستحب أن تغتسل الحائض عند الإحرام؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لأسماء بنت عميس لما نفست بعبد الرحمن بن أبي بكر ((اغتسلي واستثفري))
لا حرج على المرأة الحائض أن تلبي وتقرأ الأدعية المكتوبة في كتب مناسك الحج ولا بأس أن تقرأ القرآن عن ظهر قلب (أي دون أن تمس المصحف) لأنه لم يرد نص صحيح صريح يمنع الحائض والنفساء من قراءة القرآن وإنما ورد في الجنب خاصة بأن لا يقرأ القرآن وهو جنب لحديث علي بن أبي طالب أما الحائض والنفساء فورد فيهما حديث ابن عمر: ((لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئا من القرآن))؛ ولكنه حديث ضعيف (أي لا يصلح حجة الاحتجاج به في منع الحائض والنفساء من قراءة القرآن؛ كما يجوز لها - للحائض والنفساء - أن تقرأ في كتب التفاسير وكتب الأحكام من باب أولى.(/18)
إن أحرمت امرأة بالعمرة وحاضت قبل أن تطوف فإنها تبقى على إحرامها بالعمرة فإن طهرت قبل اليوم التاسع (يوم الوقوف بعرفة وأمكنها إتمام عمرتها أتمتها ثم أحرمت بعد ذلك بالحج وذهبت إلى عرفة لإكمال بقية المناسك فإن لم تطهر قبل يوم عرفة فإنها تدخل الحج على العمرة فتقول: "اللهم إني أحرمت بحج مع عمرتي" فتصير قارنة وتقف مع الناس و تكمل بقية المناسك - كما يفعل الحاج - غير أنها تؤخر الطواف والسعي يوم العيد حتى تطهر فإن طهرت طافت طواف الإفاضة وسعت سعي الحج ويكفيها ذلك عن طواف وسعي المعتمرة وعليها هدي قران كما على المتمتع.
إذا حاضت المرأة قبل طواف الوداع سقط عنها طواف الوداع أما إذا حاضت قبل طواف الإفاضة فعليها أن تنتظر حتى تطهر فتطوف بالبيت وهي طاهر ولا يسقط عنها طواف الإفاضة بأي حال من الأحوال.
تنبيه:
إذا حاضت قبل طوافها الإفاضة فيجب عليها البقاء بمكة حتى تطهر وتكمل حجها، فإن لم تستطع البقاء في مكة فلا مانع من سفرها مع محرمها إلى بلدها أو غيره ثم ترجع مع محرمها بعد الطهر لكي تكمل مناسك حجها.. ولكن لا يجوز لزوجها أن يقربها حتى تطوف طواف الإفاضة (التحلل الثاني)
إذا حاضت المرأة قبل طواف الإفاضة ولا تستطيع الانتظار ولا العودة مرة أخرى إلى مكى.. فماذا تفعل؟
قال الشيخ ابن عثيمين "إذا كان الأمر كما ذكر: امرأة لم تطف طواف الإفاضة وحاضت ويتعذر أن تبقى في مكة أو أن ترجع إليها لو سافرت قبل أن تطوف ففي الحالة يجوز لها أن تستعمل واحداً من أمرين: فإما أن تستعمل إبراً توقف هذا الدم وتطوف وإما أن تتلجم بلجام يمنع سيلان الدم إلى المسجد وتطوف للضرورة وهذا القول ذكرناه هو القول الراجح وبه قال شيخ الإسلام ابن تيمية".
لا حرج في استعمال المرأة حبوب منع العادة الشهرية في أيام الحج لأن فيها فائدة ومصلحة حتى تطوف مع الناس وحتى لا تتعطل رفقتها بشرط السلامة من الضرر.(/19)
يجوز للمرأة الحائض أن تجلس في المسعى انتظاراً لرفقتها لأن المسعى لا يعتبر المسجد الحرام.
النفساء كالحائض فيما ذكرناه من الأحكام.
الرسالة السادسة: زينة المرأة في الحج
لوحظ في هذه الأيام ما تفعله بعض النساء من الاهتمام بزينتهن أثناء فترة الحج ونظراً لما قد يقع من مخالفات ومحظورات في هذا الأمر نسوق هذا المبحث ولكن قبل ذكر بعض الأحكام المتعلقة بالزينة لا بد أن تعلم المرأة المسلمة أنها جاءت إلى هذه البقاع الطاهرة المقدسة لكي تنشغل بعبادة الله والتقرب إليه بأداء مناسك الحج وغيرها من الطاعات والقربات.. وقد قال تعالى: {وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَات} [البقرة:203] وقال: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج: 28]، {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آَبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} [البقرة: 200] مما يعني أن المرء ينبغي أن يكون متصلا بالله عز وجل مشغولا بما يقربه من مولاه.. وقد قال بعض أهل العلم أن المستحب أن يبقى الحاج أشعث واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يباهي بأهل عرفات أهل السماء فيقول لهم انظروا إلى عبادي جاءوني شعثاً غبراً)).. وقال النووي رحمه الله: يستحب لها: ترك الترف والزينة في سفرها وترك الشبع المفرط إذا ثبت هذا فإليك أيتها الأخت بعض الأحكام المتعلقة بزينة المرأة في الحج التي يجب على المرأة الالتزام بها:
يحرم على المحرمة أن تقص شيئا من شعرها (سواء كان شعر الرأس أو غيره من شعر البدن فهي سواء في الحرمة)(/20)
يحرم على المحرمة أن تتطيب أو تلبس الملابس المطيبة أو تدهن بدنها بدهن مطيب كما يحرم على المرأة المحرمة وغير المحرمة أن تتطيب ثم تخرج لتختلط بمجامع الرجال الأجانب في مناسك الحج وغيرها من الأمكنة لما يترتب على ذلك من فتنة وفساد عظيم. وإذا كانت المرأة المسلمة قد نهيت من الخروج إلى المسجد وهي متطيبة فما بالك بالخروج للأسواق.. فلا شك أن الحرمة أعظم و النهي في ذلك أشد أما في حالة كونها غير محرمة وهي في معزل عن الرجال الأجانب فلها أن تتطيب كما فعلت عائشة رضي الله عنها.
للمحرمة أن تدهن بدنها بدهن لا طيب فيه قال ابن المنذر: أجمع عوام أهل العلم على أن للمحرم أن يدهن بدنه..
يجوز للمرأة أن تحرم وبيدها أسورة ذهب أو خواتم ونحو ذلك ويشرع لها ستر ذلك عن الرجال غير المحارم خشية الفتنة بها وقد روى الإمام أحمد في المناسك عن عائشة أنها قالت: تلبس المحرمة ما تلبس وهي حلال من خزها وقزها وحليها. ومع هذا إلا أن بعض أهل العلم قد قال بكراهية الحلي والزينة للمرأة في الحج لما فيه من منافاة ما ينبغي أن تكون عليه المسلمة في هذه العبادة من تجرد عن زخرف الحياة الدنيا ومتاعها؛ ولذلك قال ابن المنذر رحمه الله لا يجوز المنع منه - يقصد الحلي ونحوه – بغير حجة ويحمل كلام أحمد والخزفي في المنع على الكراهية لما فيه من الزينة. لا بأس بنظر المرأة المحرمة في المرآة ونقل ابن المنذر عدم الكراهية عن ابن عباس وأبي هريرة وطاووس والشافعي. وقال بعض أهل العلم: بكراهة ذلك إلا للضرورة.
للمرأة أن تختضب بالحناء عند الإحرام لما روي عن ابن عمر أنه قال من السنة أن تخضب المرأة يديها بالحناء ولأنه من الزينة فاستحب عند الإحرام كالطيب و لا بأس بالخضاب في حال إحرامها فقد قال عكرمة: كانت عائشة وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم يختضبن بالحناء وهن حرم.(/21)
يكره للمحرمة أن تكتحل بالإثمد أو الأسود؛ لورود بعض الآثار في كراهية اكتحال المحرمة بهما إلا لحاجة أما من أجل الزينة فينبغي للمحرمة أن تتجنبه.. فإن اكتحلت المحرمة بهما فلا فدية عليها.
الرسالة السابعة: المرأة وأطفالها في الحج
قد تصطحب بعض النساء أطفالهن معهن إلى الحج ولذلك أحببت أن نلخص جملة الأحكام المتعلقة بحج الصغار واعتمارهم.
من هم الصغار؟
نقصد بالصغار الأطفال من الذكور والإناث الذين لم يبلغوا الحلم أي لم يبلغوا سن البلوغ.
يصح حج الصبي والصبية ولكن لا يجزئهما عن حجة الإسلام. وفي حديث ابن عباس (أن امرأة رفعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم صبيا فقالت: "ألهذا حج؟" قال: ((نعم، ولك أجر))؛ رواه مسلم قال الترمذي. أجمع أهل العلم على أن الصبي إذا حج قبل أن يدرك سن البلوغ فعليه الحج إذا بلغ ولا تجزئ عنه تلك الحجة حجة الإسلام المفروضة عليه.
يفعل بالصغير في الإحرام ما يفعله الكبير في إحرامه فيجرد الصغير مما لا يجوز لبسه بالنسبة للرجال إن كان ذكرا وتجرد مما لا يجوز لبسه بالنسبة للنساء إن كانت أنثى.
يصح الإحرام عن الطفل (ذكراً كان أم أنثى) من قبل وليه ولو كان الولي محرما وسواء حج عن نفسه أو لم يحج بعد حجة الإسلام الواجبة عليه.
كل ما يمكن للطفل فعله من أعمال الحج بنفسه لزمه فعله ولا ينوب غيره عنه فيه كالوقوف بعرفة والمبيت بمزدلفة ونحوهما وما عجز عنه قام الولي نيابة عنه مثل التلبية والرمي.. قال جابر رضي الله عنه: "حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا النساء والصبيان فلبينا عن الصبيان ورمينا عنهم" رواه أحمد.
ولكن من أراد أن يرمي عن الصبيان فلا بد أن يرمي عن نفسه أولا ثم يرمي عنهم ثانيا.
بالنسبة للطواف إن أمكن للصغير المشي مشى وطاف بنفسه وإلا طيف به محمولاً أو راكباً ولا فرق بين أن يكون الحامل له محرما أو غير محرم أسقط الفرض عن نفسه أم لم يسقطه.
تنبيهات:(/22)
لا يترك الصغار يلعبون في ساحات الحرم وأروقته حتى لا يتسبب ذلك في إزعاج المصلين وبهذا يأثم الولي لأن الصغار لا يدركون تأثير تصرفاتهم.
الأطفال غير المميزين والذين لا يستطيعون قضاء حاجاتهم في الحمامات يجب على المرأة ان تقوم بتحفيظهم حفاظا على طهارة سجاد الحرم وساخاته.
الرسالة الثامنة: محظورات شرعية
احذري.... من التبرج ولتكن ثيابك سابغة ساترة بدنك. ومتى ما مر بك رجال أجانب وجب عليك ستر الوجه ولو كنت محرمة.
احذري.. الاختلاط بالرجال الأجانب في جميع مناسك الحج - قدر الإمكان - واجتهدي في أداء المناسك في الأوقات التي يقل فيها الزحام نسبياً مثل الرمي في المساء.
احذري.. الابتداع في الدين وتقليد الجهلة في أخطائهم وعليك أن تتعلمي أحكام النسك الذي تريدين أداءه قبل القيام به وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم ((خذوا عني مناسككم)) ولذا ننصحك باقتناء أحد كتب المناسك.
احذري.. الغيبة والنميمة والمراء والجدل وكثرة الكلام في أمور الدنيا، خاصة وأنت في هذه البقاع الطاهرة والأيام الفاضلة فأكثري فيها من الذكر والدعاء.
احذري.. استفتاء العوام من الناس ممن ليست لهم معرفة بالعلم الشرعي وليكن سؤالك عما أشكل عليك من الأحكام الشرعية لأهل الذكر الذين أمرنا الله تعالى بسؤالهم قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْر إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء: 7].
احذري.. الطواف بالبيت وأنت على غير طهارة. كما يحرم عليك دخول المسجد وأنت حائض أو نفساء أو جنب ولا يمنعك حياؤك أن تخبري محرمك بذلك.
احذري.. إضاعة الوقت فيما لا ينفع ولا تكثري من التجول في الأسواق فإن كان و لا بد للحاجة فاحرصي على قضائها بأسرع وقت وليكن محرمك معك.(/23)
احذري.. التكبر على أخواتك المسلمات والسخرية منهن وتعرفي على النساء الصالحات معك في المخيم (أو الحملة) وطدي صلتك بهن لكي يكّن عوناً لك على طاعة الله قال صلى الله عليه وسلم ((المرء على دين خليله)).
احذري.. التسخط والتبرم والتشكي من متاعب المناسك ومصاعب الحج واعلمي أنك في جهاد تؤجرين عليه بتكفير السيئات ورفع الدرجات. قال صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها في عمرتها: ((إن لك من الأجر على قدر نصبك ونفقتك))؛ الحديث صحيح رواه الحاكم وقال صلى الله عليه وسلم: ((ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها خطاياه)) متفق عليه.
احذري.. الاغترار بما أديت من الطاعات والتفاخر بما عملت من القربات، واعلمي أن الرياء محبط للعمل قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر: الرياء يقول الله يوم القيامة إذا جزى الناس بأعمالهم، اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء)) الحديث صحيح.
الرسالة التاسعة:دروس تربوية ونصائح إيمانية
أيام الحج.. فرصة كبيرة لطرح هذه النصائح الإيمانية والتذكير ببعض اللافتات التربوية في مجالس النساء ومخيماتهن يقول الله جل جلاله: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: 55] وإليك أيتها الأخت هذه النصائح لتستفيدي منها لنفسك ولتوجهي بها غيرك:
الدرس الأول: كيف تقضي المرأة وقتها في بيتها؟
الدرس الثاني: كيف تكون زيارتك هادفة؟
الدرس الثالث: توجيهات في تربية الأبناء
الدرس الرابع: احذري الشرك
الدرس الأول
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أيتها الأخت المسلمة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛…وبعد:(/24)
فاعلمي أن الوقت نعمة لمن شغله بالصالحات ونقمة لمن جعله سياحة في دنيا المنكرات والمحرمات، وحجة على من هدره بالسفاسف والترهات، حيث قضى الليالي والأيام في اجتماعات اللهو الآثمة وسماع الأغاني الماجنة، ورؤية الأفلام المحرمة.
والمسلمة تدرك بلا شك أنها مسؤولة بين يدي ربها عز وجل عن وقتها وعن شبابها وتسمع هاتفا في قلبها في كل يوم يقول: "يا ابن آدم أنا خلق جديد وعلى عملك شهيد فتزود مني بعمل صالح رشيد فإني إذا مضيت لا أعود إلى يوم القيامة" ولذا فإن الأخت المسلمة حريصة أشد الحرص على استغلال وقتها وحسن استثماره كما قال الحسن البصري: "أدركت أقواما كانوا على أوقاتهم أشد منكم حرصاً على دراهمكم ودنانيركم"
واعلمي - حفظك الله - أن كثيراً من النساء لا يحسن استثمار أوقات فراغهن وهن في البيوت؛ بل ربما عصت ربها برؤية مسلسلة هادمة أو قراءة مجلة فاسدة أو غيبة ونميمة عبر مكالمة هاتفية تافهة؛ ولذا أحببت أن أذكر ببعض الوسائل التي تستثمرين بها وقتك في بيتك ومنها:
أولا: المحافظة على الصلوات الخمس في أوقاتها والإكثار من السنن والنوافل. وقد قال الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم عند فراغه {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ}. وقال صلى الله عليه وسلم: ((من ثابر على اثنتي عشرة ركعة في اليوم والليلة دخل الجنة))؛ حديث صحيح
ثانيا: القيام بالواجبات الزوجية وتأدية المسئوليات الأسرية ومن أهمها:
- طاعة الزوج بالمعروف والقيام على خدمته
- تربية الأولاد تربية إيمانية مكينة (انظري: الدرس الأول)
- القيام بحق الوالدين والإحسان إليهما.
- ترتيب المنزل وحسن تدبير شؤونه.
قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: ((كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته.. والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها))
ثالثا: القراءة في الكتب الإسلامية للتفقه في الدين وعبادة الله تعالى والدعوة إليه على بصيرة.(/25)
رابعاً: المتابعة لأحوال المسلمين في العالم من خلال الاطلاع على بعض المجلات ذات الصبغة الإسلامية مثل (الدعوة، المجتمع، الإصلاح..) ومن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم.
خامساً: الاستماع إلى تلاوة كتاب الله ودروس المشايخ والدعاة من خلال الشريط الإسلامي وإذاعة القرآن الكريم.
سادساً: العكوف على كتاب الله حفظاً وتفسيراً مع الالتحاق - إن استطعت - بمدارس تحفيظ القرآن المسائية بالاتفاق مع أخواتك الطيبات ليكون ذلك عونا لك على الاستمرار في الحفظ.
سابعا: صلة الأرحام بواسطة الهاتف والسؤال عن أحوالهم وإدخال السرور إلى قلوبهم بالكلمة الطيبة لتقوى الألفة وتتوثق عرى المحبة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سره أن يبسط له في رزقه وأن ينسأ له في أجله فليصل رحمه)) البخاري ومسلم.
ثامنا: إتقان بعض فنون التدبير المنزلي. وأهمها الطبخ والخياطة، فالمرأة الصالحة (ربة بيت) تحسن القيام بشؤون بيتها وتتقنها وقد كانت فاطمة بنت محمد - رضي الله عنها - تطبخ وتنظف وتستسقي بالقربة حتى أثر ذلك في بدنها.
عاشراً: إعداد المسابقات الثقافية والتربوية المفيدة ومن ثم طرحها على الأخوات أو الأبناء لتستجم النفوس وتنبسط القلوب.
وبعد؛ فهذا غيض من فيض وسائل استثمار الوقت في البيوت وقليل من النساء من توفق للعمل بها فكوني أنت أيتها الأخت المسلمة من هذا القليل. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ)) حديث صحيح.
أسأل الله أن يجعلنا وإياكن من الذين وفقهم الله للعمل بطاعته وجنبهم معصيته والحمد لله رب العالمين..
الدرس الثاني: كيف تكون زيارتك هادفة؟(/26)
إن الكثير من اللقاءات بين النساء تحولت إلى مباريات في أفضل طعام يقدم وأحسن بدلة ترتدي وأجمل حلي يلبس إضافة إلى ما يدور في تلك اللقاءات من غيبة ونميمة ولغو وثرثرة ناشئة من الفراغ وضعف الإيمان وهذا وغيره - لا شك - يجر إلى مفاسد عظيمة من إضاعة الأوقات وهدر للجهود والطاقات وتبديد للأموال وتضييع للأمانات ولذا أضع بين يديك - أيتها الأخت المسلمة - بعض الوسائل والأساليب التي تجعل من زيارتك هادفة:
أولا: المناصحة في مجال تربية الأبناء والاستفادة من الخبرات والتجارب العملية في ذلك فأما أجدر الأخوات المسلمات أن يعرضن في لقاءاتهن موضوعات تدور حول كيفية تربية الأبناء تربية إسلامية.
(كتب مقترحة: "تربية الأولاد" لعبدالله علوان. "دور البيت" في تربية المسلم لخالد شنوت. "بصمات على ولدي"
ثانياً الإصلاح بين المؤمنات.. فإذا حصلت جفوة بين القلوب جاءت الزيارة الهادفة كي تصلح بين القلوب المتنافرة وتغسل ما أصابها من نزغات الشيطان بالتذكير بأجر من كظم غيظه وعفا عن الناس قال الله تعالى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء: 114].
ثالثا: القراءة في بعض كتب أهل العلم.. فيخصص جزء من وقت اللقاء للقراءة على (الزائرات) بعض الفوائد الإيمانية والنكات العلمية.
رابعاً: المناصحة والمشاورة في أمور الدعوة.. فالمرأة المسلمة ينبغي أن يكون لها دور بارز في الدعوة في صفوف النساء ولذا فإن عليها أن تتعاون مع بعض أخواتها على عقد لقاء دوري يتشاورن في كيفية الدعوة وسبل نشرها وتطوير وسائلها وتقويم أساليبها.(/27)
خامساً: المسابقات الثقافية والتربوية: من أفضل الوسائل لاستغلال أوقات اللقاءات وخصوصا المسابقات الإيمانية وطرح الأسئلة التربوية على الزائرات.. والأخوات اللاتي يتعذرن بضيق الوقت للإعداد لمثل هذه المسابقات يمكن أن ينتقين بعض المسابقات المعروضة في المكتبات وهي على شكل بطاقات أو على شكل كتب جاهزة (مسابقات جاهزة)
سادسا: الاستماع إلى محاضرة مسجلة ثم النقاش في عناصر هذه المحاضرة مع إهداء شريط مناسب ليكون محل نقاش اللقاء القادم
استضافة بعض الأخوات الداعيات اللاتي عندهن المقدرة على إلقاء كلمة وموعظة.
ثامنا: الاطلاع على المجلات ذات الصبغة الإسلامية؛ لأن العديد من المجلات خصصت بعض صفحاتها لعرض موضوعات تخص النساء؛ لذا يمكن للأخوات أن يخصصن جزءاً من وقت زيارتهن لإلقاء الضوء على موضوعات مثل هذه المجلات (من هذه المجلات: المجتمع، الدعوة، النور، الأسرة، الإصلاح).
تاسعا: المناصحة في شؤون البيت وطرق تنظيمه وترتيبه واكتساب الخبرة في حسن تدبيره مع التحذير من الإسراف والترف والتفاخر والغرور بمتاع الدنيا.
عاشرا: المناصحة في طرق العلاقات الزوجية وما ينبغي أن تكون عليه المرأة المسلمة في تعاملها مع زوجها مع التحذير من كشف أسرار الزوج ونشر عيوبه.
أيتها الأخت المسلمة هذه بعض الوسائل والأساليب التي تجعل من زيارتك هادفة، والحرة تكفيها الإشارة ومما تجدر الإشارة إليه ويتأكد التنبيه عليه أن هذه الوسائل والأساليب لن تؤتي ثمارها وتحقق أهدافها إلا إذا أعددت لها عدتها قبل موعد الزيارة.. فعليك أن تهتمي بما ستنفعين به أخواتك المؤمنات في اللقاء اهتماما يفوق اهتمامك بجمال فستانك وأناقة مظهرك.
أسأل الله أن يحفظك ويرعاك ويثبتنا وإياك على الحق والحمد لله رب العالمين.
الدرس الثالث: توجيهات في تربية الأبناء
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه؛ وبعد:(/28)
أيتها الأخت المسلمة: إن تربية الأبناء مهمة جليلة وأمانة عظيمة ستسألين عنها بين يدي ربك عز وجل كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته.. والمرأة راعية في بيت زوجها وولده) متفق عليه ولهذا فإنا نهديك هذه التوجيهات لعلها تكون عوناً لك في أداء هذه الأمانة:
كوني قدوة صالحة لأبنائك فإذا وعدت فأنجزي وإذا قلت فاصدقي. عن عبدالله بن عامر رضي الله عنه قال أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتنا وأنا صبي فذهبت أخرج لألعب فقالت أمي: يا عبد الله تعال أعطيك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أردت أن تعطيه؟ قالت: أعطيه تمراً قال صلى الله عليه وسلم أما أنك لو لم تعطيه شيئا كتبت عليك كذبه). السلسلة الصحيحة للألباني.
تفرغي لتربية أبنائك وقومي بجميع مسؤلياتك وواجباتك نحوهم و لا تنشغلي عنهم بالحفلات المسائية والمكالمات الهاتفية والتجول في الأسواق التجارية وإياك وتركهم للخادمات.. قال القائل:
ليس اليتيم من انتهى أبواه من هم الحياة وخلفاه ذليلاً
إن اليتيم من تلقى له أمّا تخلت أو أباً مشغولا
بادري في تقويم سلوك أبنائك وتأديبهم منذ نعومة أظفارهم حتى لا يشبوا على مساوئ الأخلاق فيصعب علاجها بعد ذلك وقد درجوا عليها.
قد ينفع الأدب الأولاد في صغر وليس ينفعهم من بعده أدب
إن الغصون إذا عدلتها اعتدلت ولا يلين ولو لينته الخشب
طهري لسانك من السباب والشتم واللعن واعلمي أن أبناءك سيحفظون تلك العبارات وسيرددون تلك الكلمات قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذئ)) رواه الترمذي بإسناده حسن.
احذري الدعاء على الأبناء عندما يقعون في الخطأ وليكن دعاؤك لأبنائك بالهداية هو ديدنك واعلمي أن الدعاء على الأولاد منهي عنه شرعا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تدعوا على أولادكم، لا توافقوا من الله ساعة يسأل فيها عطاء فيستجاب لكم))؛ رواه مسلم(/29)
الضرب إنما جاز لضرورة فاستخدميه بقدر الضرورة ولا تجعليه وسيلة لشفاء غيظك وتنفيس غضبك سئل الإمام أحمد - رحمه الله - عن ضرب المعلم الصبيان فقال على قدر ذنوبهم ويتوقى بجهده الضرب وإن كان صغيرا لا يعقل فلا يضربه.. ا هـ "الآداب الشرعية" لابن مفلح.
وجهي أبناءك حال فراغهم وساعديهم في الإفادة من أوقات الفراغ بالنافع المفيد والعمل الصالح الرشيد (كحفظ كتاب الله والتدرب على المهارات العلمية والأدبية وأدركي جيدا قول القائل:
إن الشباب والفراغ والجدة مفسدة للمرء أي مفسدة
ونقترح عليك هذه الأمور:
كوني لهم مكتبة منزلية تضم كتباً إسلامية في العلوم الشرعية والأدبية والفكرية لتطوير ملكاتهم الثقافية مع تشجيعهم على القراءة والبحث.
شجعيهم على الالتحاق بحلق تحفيظ القرآن في المساجد مع رصدك مكافأة للمجد والمحاسبة للمقصر.
شجعيهم على التسجيل في مكتبات المساجد حيث الصحبة الصالحة والبرامج النافعة والتوجيه القويم.
أرشدي أبناءك لصحبة الخيار وحذريهم من صحبة الأشرار واعلمي أن الصحبة لها أثر كبير في صياغة شخصية الأبناء وسلوكياتهم فالمرء على دين خليله والصاحب ساحب.
أبعدي عن أبنائك المجلات الساقطة والأفلام الهابطة والأغاني الماجنة مع متابعتك الدائمة لما يقرؤونه أو يسمعونه أو يشاهدونه عبر وسائل الإعلام المختلفة لتوجيههم ونصحهم.
اعدلي بين أبنائك في المعاملة واعلمي أن تخصيص أحدهم بالهبات دون بقية إخوانه يغرس في نفوسهم الحسد والبغضاء وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجور في معاملة الأبناء.
الدرس الرابع:احذري الشرك!!
المرأة المسلمة.. تشهد أن لا إله إلا الله وتعمل بمقتضاها وتتجنب نواقضها.. ومن النواقض.
الاستهزاء بشيء من دين الله:(/30)
إذ أن الاستهزاء بالله ورسوله أو سنة رسوله (كالحجاب أو اللحية على سبيل المثال) كفر وردة يخرج الإنسان به من الإسلام.. ولو كان على سبيل المزاح لقوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } [التوبة: 65 ، 66].
المرأة المسلمة.. توالي من والى الله وتعادي من عادى الله ورسوله والمؤمنين.. وتحب أهل الطاعة لطاعتهم وتبغض أهل المعصية بقدر معصيتهم.
{إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة: 55]
والناس عند الأخت المسلمة ثلاثة: "من رسالة الولاء والبراء" للفوزان.
القسم الأول: من يحب محبة خالصة لا معادة معها وهم المؤمنون الخلص من الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين
القسم الثاني: من يبغض ويعادي بغضا ومعاداة خالصين لا محبة معهما وهم الكفار الخلص على مختلف أجناسهم.
القسم الثالث: من يحب من وجه ويبغض من وجه: وهم عصاة المؤمنين.
المرأة المسلمة.. تعتقد وتؤمن بأن الأمة لو اجتمعت على أن تضرها بشيء لم تضرها إلا بشيء قد كتبه الله عليها ولو اجتمعت على أن تنفعها بشيء لم تنفعها إلا بشيء قد كتبه الله لها.
{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنعام: 17]
لذا فإذا حلت بدارها مصيبة أو نزلت بساحتها شدة لجأت إلى الحي القيوم لأنها تعلم بأنه لا يكشف ضرها أحد إلا الله.
لم تلجأ إلى كاهن أو ساحر أو مشعوذ لأنها تعلم أن: ((من آتى عرافا فسأله عن شيء فصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم))؛ والحديث صحيح.(/31)
المرأة المسلمة.. تتجنب ما ينافي التوحيد من التمائم الشركية والرقى غير الشرعية.. لقوله صلى الله عليه وسلم: ((من علق تميمة فلا أتم الله له)) وفي رواية: ((من علق تميمة فقد أشرك))؛ حديث صحيح.
وتعتقد أن الذي يحبب المرأة إلى زوجها هو الله وحده وهو وحده بيده قلوب بني ادم يقلبها كيف يشاء.. وأما ما يصنعه المشعوذون والسحرة من أشياء يزعمون أنها تحبب المرأة إلى زوجها فهذا شرك والعياذ بالله..
ولذلك قال عليه أفضل الصلاة والسلام: ((إن الرقى والتمائم والتوله شرك))؛ حديث صحيح
الرسالة العاشرة
... إنه الخوف من عدم القبول
أيتها الأخت الفاضلة.. إنها والله نعمة عظيمة أن وفقك الله لأداء فريضة الحج والإقبال عليه بالذكر والدعاء في هذه البقاع المقدسة والأيام الفاضلة.. ولكن هناك ثمة هم يعتلج في قلوب المؤمنين.. ألا تعرفين ما هو؟... إنه الخوف من عدم القبول!!
فكم من الناس ليس له من حجه إلا المشقة والتعب؟!.. وكم منهم من قال لبيك اللهم لبيك.. فقيل له لا لبيك ولا سعديك.. وحجك مأزور لا مأجور.. ولهذا كان السلف يجتهدون في العمل الصالح فإذا فعلوه وقع عليهم الهم أيقبل أم لا؟ ولهذا قال علي رضي الله عنه: كونوا لقبول العمل أشد اهتماما منكم بالعمل. ألم تسمعوا قول الله تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27]
أختي في الله: أن من أهم علامات قبول العمل:
التوبة النصوح من جميع الذنوب الماضية والعزيمة الصادقة على الاستقامة على الطاعة في الأيام القادمة فما أحسن الحسنة بعد السيئة تمحوها وأحسن منها الحسنة بعد الحسنة تتلوها.. وما أقبح السيئة بعد السيئة تمحقها إثرها..
أيتها الأخت الكريمة: إنك اليوم تتقلبين في عز الطاعة.. فاحذري أن تتردي غدا في ذل المعصية وتسقطي في هوان الغفلة.(/32)
يا حفيدة عائشة: أنت أرفع قدراً من موضة وافدة وأسمى منزلة من تمثيلية هابطة وأجل شرفاً من مجلة ساقطة.. كما إن سمعك والله أطهر من أن تلوثه نغمات موسيقية أو نزغات شيطانية..
يا حفيدة عائشة: أبناؤك أمانة في عنقك فربيهم على الإيمان واغرسي فيهم حب الله ورسوله.. وجنبيهم المنكرات وحذريهم من رفقة السوء.
وكوني لهم قدوة في طاعتك لربك وحسن خلقك.
يا حفيدة عائشة: إن زوجك يحب أن يراك زوجة صالحة.. إذا نظر إليك سرته وإذا أمرك أطعته كما أن من حقه عليك أن تأمريه بالمعروف وتدليه عليه وتنهيه عن المنكر وتحذريه منه.
يا حفيدة عائشة: إن الصاحب ساحب.. فأحسني اختيار من تصحبين ولتكن من الصالحات العابدات واحذري صحبة العابثات الغافلات ولو كن أقرب الناس إليك وألصقهن بك فالمرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل أو كما قال المصطفى عليه الصلاة والسلام..(/33)
العنوان: رسالة المسجد في العالم عبر التاريخ
رقم المقالة: 355
صاحب المقالة: محمد حسين الذهبي
-----------------------------------------
((إن أخص وظائف المسجد وهي ((التوجيه الديني)) بوجه عام يزاحمه فيها الآن مؤسسات اجتماعية كثيرة، يتوافر لها من الإمكانات المادية والبشرية والفنية ما لا يتوافر أقله للمسجد!..
فإذا أضفنا لهذا كله ما آل إليه المسجد ((الآن)) من كونه ((مؤسسة رسمية)) وأن ما يمارس فيها من دعوة وتوجيه إنما يتم على أنه عمل وظيفي تحدده دوافع الوظيفة وتحد منه أو تقيده مسؤولياتها، بدت لنا الفوارق جلية وحادة..
بين ((مسجد اليوم)) و...((مسجد الأمس))..!
((لقد تطور المجتمع وتخلف المسجد، فحدث ما يعانيه الآن من انفصام بينه وبين الحياة.!)).
أ. رسالة المسجد في عصور ازدهارها.
ب. أوضاع المساجد في العالم في العصر الحاضر.
المسجد هو تسمية إسلامية لمكان العبادة. وقد لوحظ في هذه التسمية معنى الأصل الذي اشتقت منه الكلمة، وهو السجود الذي يعني الخضوع الكامل لله سبحانه! ذلك الخضوع الذي يأخذ أسمى صوره في الصلاة وفي ذلك الركن الخاص منها الذي نقل إليه لفظ ((السجود)) فكأن الصلاة أخص ما بني له المسجد!(/1)
ولليهود والنصارى تسميات لأماكن عبادتهم ذكر منها القرآن الكريم ((الصوامع)) و((البيع)) ((والصلوات)) وسلكها مع المساجد في سلك واحد {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} وقد عمم القرآن استخدام لفظ ((المسجد)) فأطلقه على أماكن العبادة لدى اليهود والنصارى {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} فأطلق لفظ مسجد على ما أقام أولو الأمر والذين عاصروا معجزة أهل الكهف من بناء، وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم في شأن اليهود والنصارى وتحذيراً من صنيعهم ((اتّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِد)).
في عرف القرآن يسوغ إطلاق لفظ ((مسجد)) على كل مكان اتخذ لعبادة الله وذكره
ولا تكاد توجد جماعة إنسانية ضربت بهم في الحضارة إلا وفي نسيج حضارتها ما يقابل ((المسجد)) عند المسلمين، أو البيعة عند النصارى، أو الصلاة عند اليهود، كما هو الحال عند قدماء المصريين والهنود والفرس والإغريق. ويطلق عادة على هذه الأماكن لفظ ((معبد)) أو ما يشبهه!
وبغض النظر عن صحة العقيدة أو فسادها لدى هذه الجماعة أو تلك فهذه المعابد تحتل مكاناً له دلالته في سجل الحضارة الإنسانية وتاريخها الطويل، وهي تعبر في قوة وعمق عن تجربة مستمرة ومحاولة متصلة دائبة، لم تنقطع من جانب الإنسان بهدف التعرف والاتصال بتلك القوة التي أحسها رغم خفائها – تغمر عقله ووجدانه وهو مبعثر في الطريق قبل أن تأخذ هداية السماء بيده وتهديه إلى خالقه.(/2)
إن اللحظة التي بنى فيها الإنسان لنفسه مسكناً يأوي إليه، يبني فيها كذلك لإلهه أو آلهته ((معبداً)) يفزع إليه، مدفوعاً بإحساس غامر بالحاجة إلى الاتصال به أو بها وإلى التعبير عن شعوره تجاهه أو تجاهها، وقد وجه الإنسان القديم من طاقاته وإمكاناته المادية وإبداعه الفني لهذه ((المعابد)) ما لم يوجه بعضه إلى مسكنه الذي يعيش فيه.
((المعبد)) إذن عنصر أصيل في حضارة الإنسان عبر التاريخ!
وقد حدثنا القرآن عن البيت العتيق وأخبرنا أنه أول بيت وضع للناس. {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ} وحين حدثنا عن هذا البيت جعله مرة ((البيت)) معرفاً بلام التعريف {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا} ومرة بالإضافة إليه سبحانه {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} ويصف ما قام به إبراهيم واسماعيل فيقول: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ..} يرفع القواعد وكأنما كانت موجودة من قبل، أرشد الله إبراهيم عليه السلام إلى مكانها، كما يشير إلى ذلك قول الله تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ}.
توحي إلينا الآيات الكريمة إيحاء خفياً أن هذا البيت قديم موغل في القدم وإن لم تسعفنا مصادر التاريخ المسجل بأوليته الأولى، وهذا هو المتسق مع قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِْنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} وإذا كان التدين – في صورة ما – ظاهرة عامة لازمت الإنسان في كل فترات تاريخه فقد قوى هذا الفهم وتأكد!
مهما يكن من أمر فإن للمسجد في الإسلام وفي حضارته مكاناً سامياً ومنزلة جد خطيرة(/3)
حدد القرآن أمام المسلمين الغاية من خلق الإنسان بقوله {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِْنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} وعلمهم أن يكون هذا أساس حضارتهم {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَْرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُْمُورِ}.
ونبههم إلى انحرافات الحضارات التي قامت من قبل {تِلْكَ الدَّارُ الآْخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَْرْضِ وَلاَ فَسَادًا}!
كان هذا توجيه القرآن للمسلمين وقد وعوه جيداً وطبقوه!
لقد شاء الله أن تكون المدينة المنورة المهد الأول الذي مكن فيه للإسلام وللمسلمين، وجاء الإسلام إلى المدينة وافداً مهاجراً ليتخذ منها قاعدة لبناء دولته وحضارته ومجتمعه.
فماذا حدث منذ اللحظة الأولى لهذا التمكين؟!
إن ((المسجد)) هو أول ثمار تمكين الله للمسلمين في الأرض، وهو فاتحة تاريخهم الحضاري!
لقد ألزمهم ربهم بإقامة الصلاة متى مكن لهم، فأصبحت إقامتها أول إلتزام من جانبهم – بعد توحيد خالقهم – وكان اختطاط المسجد ورفعه تعبيراً عملياً عن هذا الإلتزام وإعلاناً عن عزم على الوفاء به!
رسالة المسجد في عصور ازدهارها
بدأ النبي صلى الله عليه وسلم حياة الإسلام في المدينة بإقامة المسجد، وفعله هذا سنة للمسلمين من بعده، وله دلالة بالغة الخطر لمن يريد أن يتفهم روح الإسلام ويتعرف على أساس حضارته، ولمن يريد أن يدرك مكان ((المسجد)) في مجتمع الإسلام!
إنه يعني – في فهمنا – إلتزام المسلمين بتوجيه حضارتهم – كلياً وجزئياً – إلى غايات ووسائل لتكون في خدمة دينهم، وغاية دينهم في النهاية إنما تتمثل في إعلاء كلمة الله في الأرض، والمسجد هو مركز هذا التوجيه.(/4)
مكان المسجد في حياة المسلمين إذن جد خطير، والقرآن الكريم يضفي على أماكن العبادة عامة قيمة سامية ويمنحها جلالاً وقدسية! وحسبك أن يقرر القرآن أن حمايتها والحفاظ عليها واجب تشرع من أجله الحرب ويجب الجهاد {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا}.
نستطيع أن نقول مطمئنين إن ((المسجد)) هو المؤسسة الحضارية الأولى في مجتمع الإسلام، ومعنى هذا أن للمسجد وعليه معاً أن يقوم بدور يتكافأ مع مكانه من هذه الحضارة وهو دور يقوم به تجاه سائر ما يقيمه المجتمع من مؤسسات! ولا يفهم هذا الدور الأعلى أنه إعلام كامل شامل بهذا الدين.
لقد كان ((المسجد)) في عهد النبوة – واستمر في عصور الإسلام الأولى – هو مركز التوجيه والإشعاع الفكري، والأخلاقي، والتربوي، والأدبي، والاجتماعي.
وقد استطاع المسجد في تلك العصور أن يكون مجالاً تحيا فيه القيم الإسلامية وتمارس فيه أنماط السلوك العملي التي تجسد هذه القيم، مما أتاح للمسلمين حرية فكرية منقطعة النظير. ومن حول سواري المساجد قامت مذاهب ونشأت تيارات في الفقه والفلسفة والتوحيد والنحو والأدب والنقد، وقامت المحاورات والمناظرات، وكان ((المسجد)) بما له من قدسية ضماناً لهذه الحرية الفكرية التي يفخر بها تاريخ المسلمين!
أوضاع المساجد في العالم في العصر الحاضر
لم يستمر هذا الدور الخصب الذي نهض به المسجد في عصوره الأولى!
وإنما أخذ يضيق وينكمش حتى جاءت فترة اقتصر فيها على أداء الصلوات وعلى إلقاء خطب الجمعة وبعض الدروس التي لا تسمن ولا تغني من جوع! وتاريخ الدواوين التي كانت تقرأ على المنابر، أو تحفظ وتلقى، مثال واضح!(/5)
ومن الظواهر الغريبة أنه كلما زادت العناية بالمظهر الخارجي للمسجد لم نجد وراء هذا المظهر إلا ضحالة وعجزاً وقصوراً عن وفائه برسالته، وكأنها عملية تعويض يراد من خلالها ستر هذا الفراغ!
إن أشد أبنية المساجد ضخامة وأعظمها فناً وزخرفة ينتمي لفترات من تاريخ المسلمين تخلفوا فيها ديناً ودنيا على نحو يجعل هذه الأبنية ظاهرة في حاجة إلى تفسير!!
ولو تساءلنا عن عوامل إزدهار المسجد ودوره في فترات سلفت من تاريخنا لوجدنا عاملين أساسيين يقفان وراء هذا الإزدهار:
أولهما: يرجع إلى المسجد نفسه ويتمثل في اقتدار المسجد على أداء دوره في توجيه الحياة.
وثانيهما: يرجع إلى المجتمع ويتمثل في الطابع الديني الذي كان يسيطر على حياة الناس ويصبغها صبغة دينية شاملة.
ويضاف لهذين العاملين عامل ثالث يكملهما: ذلك أن مجتمع تلك العصور لم تكن فيه مؤسسات إجتماعية تزاحم المسجد وتنافسه في دوره الذي كان يستقل به غير مشارَك ولا مدافَع!
فقد قضى تطور المجتمع أن تقوم فيه مؤسسات متنامية أخذت لها أدواراً تضطلع بها فقامت المدرسة إلى جانب المسجد وأصبحت هي المسئولة عن مهمة تعليم النشء وتربيته! وتحولت مظاهر الحكم والسلطان من ((المسجد)) إلى مواقع أخرى في المجتمع تمارس فيها ومنها عمليات التشريع والتوجيه والتخطيط والتنفيذ الكبرى ذات الأثر البعيد في صياغة الحياة!
بل إن أخص وظائف المسجد وهي ((التوجيه الديني)) بوجه عام يزاحمه فيها الآن مؤسسات اجتماعية كثيرة يتوافر لها من الإمكانات المادية والبشرية والفنية ما لا يتوافر أقله للمسجد!!
وأخطر من هذا أن الأمر تجاوز المزاحمة والمنافسة إلى المناهضة والمقاومة فجدت أشياء، وحدثت أمور شديدة التأثير والجذب للناس، توجههم نحو غايات، وتدعوهم إلى مسالك، وتدفعهم في شعاب كثيراً ما تتناقض وتتصادم مع ما يدعو إليه المسجد وما يقدمه من توجيه!(/6)
- فإذا أضفنا لهذا كله ما آل إليه ((المسجد)) الآن من كونه مؤسسة رسمية وأن ما يمارس فيه من دعوة وتوجيه إنما يتم على أنه عمل وظيفي تحدده دوافع الوظيفة وتحد منه أو تقيده مسئولياتها بدت لنا الفوارق جلية وحادة بين مسجد اليوم ومسجد الأمس!
- إن صورة ((المسجد)) المعاصر لا تبدو غريبة إذا وضعناه في الإطار العام لحياة المجتمع المعاصر، فهو جزء منه يتأثر به إيجاباً وسلباً، ويتحدد دوره بحسب وضعه في هذا المجتمع ومكانه منه!
- اقتصار المسجد الآن على كونه مكاناً لأداء الصلوات وما يتبعها من خطابة دينية وعظات أو دروس يبدو وكأنه نتيجة طبيعية بل حتمية لما آل إليه المجتمع من تطور!
- ويخيل إلينا أنه لو سارت الأمور في اتجاهها الذي نراه فالاحتمال القريب أن يزداد ((المسجد)) انفصالاً عن الحياة ويزداد دوره في توجيهها تقلصاً وانكماشاً!!
- كان ((المسجد)) قاعدة الحضارة الإسلامية وكل ما يشعه المسجد مفتاح هذه الحضارة وكان ما يصدر عنه يطبع الحياة بطابعه، فهل هو الآن كذلك؟
- إنه لا يزيد في أحسن الأحوال – فوق وظيفته التقليدية كمكان للصلاة – عن كونه مصدراً لمعرفة دينية هزيلة لا تستطيع أن تصمد في معركة توجيه الحياة مع أمواج التيارات الفكرية السابحة في كل اتجاه، متذرعة بكل الوسائل والأساليب!
- تطور المجتمع وتخلف المسجد، فحدث ما يعانيه الآن من انفصام بينه وبين الحياة!
- إن الحياة المعاصرة قد تبدو – في ظاهرها – مستغنية أو معرضة عن توجيه المسجد، لكن حقيقتها أنها أشد ما تكون حاجة إلى هذا التوجيه بشرط أن يرتفع هذا التوجيه إلى مستوى يجعله أهلاً لأن يستمع إليه، قادراً على الصمود عند مقارنته بسواه، متجاوزاً هذا المدى لينتزع التسليم بحقه في الهيمنة على كل ما عداه ثقة فيه واطمئناناً إليه واستشرافاً للمنفعة الحقيقية فيه!(/7)
العنوان: رسالة شهر رمضان
رقم المقالة: 1253
صاحب المقالة: خالد الحموي
-----------------------------------------
الحمد لله وحده، وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحبه، وبعد:
فهذه نصائحٌ وتوجيهاتٌ موجزةٌ مفيدةٌ، تتعلَّق بشهر رمضان، وما يُنْدَبُ فيه من الأعمال، وما يُلاحظ على الكثير من المسلمين فيه من الخلل والنَّقص، وإرشاداتٌ إلى الخيرات التي ينبغي للمسلم الناصح لنفسه أن يسابق إليها، حتى يحظى بالعِزَّة والتَّمكين، ويغفر الله له ما تقدَّم من ذنبه. وقد كتبها أخونا الشاب: خالد الحمُّودي، أحد طلبة العلم المعروفين بحبِّ الخير والنَّصيحة للمسلمين، وفَّقه الله تعالى وشفاه، وعافانا وإيَّاه. فينبغي للمسلم التَّأمُّل فيها، والحرص على تطبيقها حَسَب القدرة.
وفَّق الله الجميع لما يحبُّه ويرضاه، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
كتبه: عبدالله بن عبدالرحمن الجبرين
عضو الإفتاء، 18شعبان 1416هـ
أخي المسلم.. أختي المسلمة:
سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، وبعد:
أبعثُ إليكم هذه الرسالة، محمَّلةً بالأشواق والتحيَّات العَطِرَة، أزفُّها إليكم من قلبٍ أحبَّكم في الله، نسأل الله أن يجمعنا بكم في دار كرامته.
وبمناسبة قدوم شهر رمضان؛ أقدِّم لكم هذه النصيحة هديةً متواضعةً، وما أتيتُ فيها بجديدٍ، ولكن هي موعظةٌ وذكرى، والذِّكرى تنفع المؤمنين.
أرجو أن تقبلوها بصدرٍ رحْبٍ، وتبادلوني النُّصح والدُّعاء، حفظكم الله ورعاكم، وسدَّد على طريق الخير خطاكم.
أولاً: لقد خصَّ الله رمضان عن غيره من الشهور بكثير من الخصائص والفضائل، منها:
- خُلُوف فَمِ الصَّائم أطيبُ عند الله من رِيح المِسْك.
- تستغفر الملائكة للصَّائمين حتى يُفْطروا.
- يُزيِّن الله في كل يوم جنَّته ويقول: ((يوشِك عبادي الصالحون أن يلقوا عنهم المئونة والأذى، ثم يصيروا إليكِ)).
- تُصَفَّدُ فيه الشَّياطين.
- تُفتح فيه أبواب الجنة، وتُغلق فيه أبواب النار.(/1)
- فيه ليلة القدر، هي خيرٌ من ألف شهرٍ، مَنْ حُرِمَ خيرَها؛ فقد حُرِمَ الخيرَ كلَّه.
- يُغْفَرُ للصَّائمين في آخر ليلةٍ من رمضان.
- لله عتقاء من النَّار، وذلك كل ليلة في رمضان.
فيا أخي الكريم، ويا أختي الكريمة:
شهرٌ هذه خصائصه وفضائله، بأيِّ شيءٍ نستقبله؟ بالانشغال واللَّهو وطول السَّهر؟! أو نتضجَّر من قدومه، ويَثْقُل علينا؟!! نعوذ بالله من ذلك كله.
ولكنَّ العبد الصالح يستقبله بالتَّوبة النَّصوح والعزيمة الصادقة.
سائلين الله الإعانة على حُسْن عبادته.
ثانيًا: الأعمال الصالحة التي تجب أو تتأكَّد في رمضان:
الصَّوْمُ:
قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((كلُّ عمل آدمَ له، الحَسَنة بعشْر أمثالها، إلى سبعمائة ضعفٍ. يقول الله - عزَّ وجلَّ -: إلاَّ الصِّيام؛ فإنه لي، وأنا أجزي به؛ تَرَكَ شهوَته وطعامَه وشرابَه من أجلي! للصَّائم فرحتان: فرحةٌ عند إفطاره، وفرحةٌ عند لقاء ربِّه، ولخُلُوف فَمِ الصَّائم أطيبُ عند الله من ريح المِسْك))؛ أخرجه البخاريُّ ومُسْلِمٌ.
لا شكَّ أنَّ هذا الثواب الجزيل لا يكون لمن امتنع عن الطعام والشراب فقط، وإنما كما قال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم: ((مَنْ لم يَدَعْ قولَ الزُّور والعمل به والجهل؛ فليس لله حاجةٌ في أن يَدَعَ طعامَه وشرابَه))؛ أخرجه البخاريُّ.
وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((الصَّوْم جُنَّة، فإذا كان يوم صوم أحدكم؛ فلا يَرْفُثْ ولا يجهل، فإن سابَّه أحدٌ؛ فليقلْ: إني امرؤٌ صائمٌ))؛ أخرجه البخاريُّ ومُسْلِمٌ.
فإذا صُمْتَ يا عبد الله؛ فليَصُمْ سمعُكَ وبصرُكَ ولسانُكَ وجميعُ جوارحك، ولا يَكُنْ يوم صومك ويوم فِطْرِكَ سواءٌ؛ كما رُوِيَ ذلك عن جابر.
القيامُ:
قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَنْ قام رمضان إيمانًا واحتسابًا؛ غُفِرَ له ما تقدَّم من ذَنْبِه))؛ رواه البخاريُّ ومُسْلِمٌ.(/2)
وهذا تنبيهٌ هامٌّ: ينبغي لك - أخي المسلم - أن تُكْمِلَ التَّراويح مع الإمام؛ حتى تُكْتَبَ في القائمين، فقد قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَنْ قام مع إمامه حتى ينصرِف؛ كُتِبَ له قيام ليلةٍ))؛ رواه أهلُ السُّنَن.
الصَّدَقَةُ:
كان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أجْوَدَ النَّاس، وكان أجْوَدُ ما يكون في رمضان، كان أجْوَد بالخير من الرِّيح المُرْسَلَة، وقد قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أفضلُ الصَّدَقَة صَدَقَةٌ في رمضان))؛ أخرجه التِّرْمِذِيُّ.
ولها أبوابٌ وصورٌ كثيرةٌ؛ منها:
أ- إطعامُ الطَّعام:
قال تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا * وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا} [الإنسان: 8-12]
فقد كان السَّلَف الصَّالح يحرصون على إطعام الطِّعام، ويقدِّمونه على كثيرٍ منَ العبادات، سواءٌ كان ذلك بإشباع جائعٍ أو إطعام أخٍ صالحٍ؛ فلا يُشْتَرط في المُطْعَم الفقر؛ فلقد قال - رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أيُّما مؤمنٍ أطعم مؤمنًا على جوعٍ؛ أطعمه الله من ثمار الجنَّة، ومن سقى مؤمنًا على ظمأ؛ سقاه الله من الرَّحيق المختوم))؛ رواه التِّرْمِذِيُّ بسندٍ حَسَنٍ.
وكان منَ السَّلف مَنْ يُطْعِم إخوانه وهو صائمٌ، ويجلس يخدمهم ويروِّحهم، منهم الحسن وابن مبارك.
قال أبو السَّوَّار العَدَوي: "كان رجالٌ من بني عَدِيٍّ يصلُّون في هذا المسجد، ما أفْطَرَ أحدٌ منهم على طعامٍ قطُّ وحده، إن وجد مَنْ يأكل معه أَكَلَ، وإلا أخرج طعامه إلى المسجد؛ فأكله مع النَّاس، وأكل النَّاس معه.(/3)
وعبادة إطعام الطَّعام ينشأ عنها عباداتٌ كثيرةٌ؛ منها: التودُّد والتحبُّب إلى إخوانك الذين أطعمتهم؛ فيكون ذلك سببًا في دخول الجنَّة: ((لا تدخلوا الجنَّة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابُّوا))؛ رواه مُسْلِمٌ. كما ينشأ عنها مجالسة الصَّالحين، واحتساب الأجر في معونتهم على الطَّاعات التي تقوُّوا عليها بطعامِكَ.
ب- تفطير الصَّائمين:
قال صلَّى الله عليه وسلَّم: ((مَنْ فَطَّر صائمًا؛ كان له مثل أجره، غير أنَّه لا يَنْقُصُ من أجر الصائم شيءٌ))؛ أخرجه أحمد والنَّسائيُّ، وصحَّحه الأَلْبَانِيُّ.
الاجتهاد في قراءة القرآن:
احرص - أخي في الله - على قراءة القرآن بتدبُّرٍ وخشوعٍ؛ فقد كان السَّلف - رحمهم الله - يتأثَّرون بكلام الله - عزَّ وجلَّ.
أخرج البَيْهَقِيُّ عن أبي هُرَيْرَةَ - رضيَ الله عنه - قال: ((لما نَزَلَتْ: {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ} [النجم: 59] بكى أهل الصُّفَّة حتى جَرَتْ دموعهم على خدودهم، فلمَّا سمع رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - حِسَّهُم بكى معهم، فبكينا ببكائه؛ فقال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا يَلِجُ النَّار مَنْ بكى من خشية الله))؛ رواه التِّرْمِذِيُّ والنَّسائيُّ.
الجلوس في المسجد حتى تطلع الشمس:
كان النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - إذا صلَّى الغَدَاة (الفجر) جلس في مُصلاَّه حتى تطلع الشَّمس؛ أخرجه مُسْلِمٌ.
وأخرج التِّرْمِذِيُّ عن أنسٍ - رضيَ الله عنه - عن النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنه قال: ((مَنْ صلَّى ركعتَيْن؛ كانت له كأجر حجَّةٍ وعُمْرَةٍ، تامَّةٍ تامَّةٍ تامَّةٍ))؛ صحَّحه الأَلْبَانِيُّ. هذا في كلِّ يومٍ؛ فكيف بأيام رمضان؟!.
الاعتكافُ:
كان النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - يعتكِف في كلِّ رمضان عشرة أيَّام، فلمَّا كان العام الذي قُبِضَ فيه؛ اعتكف عشرين يومًا))؛ أخرجه البخاريُّ.(/4)
العُمْرَة في رمضان:
ثبت عنِ النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنه قال: ((عُمْرَةٌ في رمضان تَعْدِلُ حجَّة))؛ أخرجه البخاريُّ ومُسْلِمٌ.
تحرِّي ليلة القَدْر:
قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 1-3] قال صلَّى الله عليه وسلَّم: ((مَنْ قام ليلة القَدْر إيمانًا واحتسابًا؛ غُفِرَ له ما تقدَّم من ذَنْبِه))؛ أخرجه البخاريُّ ومُسْلِمٌ.
وكان النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يتحرَّى ليلة القَدْر، ويأمر أصحابه بتحرِّيها، وكان يوقِظ أهله في ليالي العشر؛ رجاء أن يدركوا ليلةَ القَدْر، وهي في العشر الأواخر من رمضان، وهي في الوِتْر من لياليه أحرى، وفي "الصحيح" عن عائشة قالت: يا رسول الله، إن وافقتُ ليلة القَدْر، ماذا أقول؟ قال: ((قولي: اللَّهم إنَّك عَفُوٌّ تحبُّ العَفْوَ؛ فاعْفُ عني)).
الإكثار منَ الذِّكْر والدُّعاء والاستغفار:
أخي الكريم… أخي المبارك:
أيام وليالي رمضان أزمنة فاضلة؛ فاغتنمها بالإكثار من الذِّكْر والدُّعاء، وخاصَّةً في أوقات الإجابة، ومنها:
- عند الإفطار؛ فللصائم عند إفطاره دعوةٌ لا تُرَدُّ.
- ثُلُثُ الليل الأخير، حين ينزل ربُّنا - تبارك وتعالى – ويقول: هل من سائلٍ فأعطيه؟ هل من مستغفِرٍ فأغفر له؟ البخاريُّ ومُسْلِمٌ.
- الاستغفار بالأسْحار، قال تعالى: {وبالأسحار هم يستغفرون} [الذاريات: 18].
- تحرِّي ساعة الإجابة يوم الجمعة، وأحراها آخر ساعةٍ من نهار يوم الجمعة.
ملاحظاتٌ ومخالفاتٌ يجب تجنُّبها:
- جعل الليل نهارًا والنهار ليلاً.
- النَّوْم عن بعض الصلوات المكتوبة.
- الإسراف في المأكل والمشرَب.
- التلثُّم والعصبيَّة الزَّائدة في أثناء القيادة.
- إضاعة الأوقات.
- تبكير السُّحور، والنَّوْم عن صلاة الفجر.
- قيادة السيَّارة بسرعة جنونيَّة قُبَيْل موعد الإفطار.(/5)
- عدم تأدية صلاة التَّراويح كاملةً.
- افتراش الأرصفة، واجتماع الشَّباب على معصية الله.
- الاجتماع مع زملاء العمل وقت الدَّوام، وتجريح الصيام بالغِيبة والنَّميمة.
- انشغال المرأة غالب وقتها بالمطبخ والأسواق.
أخيرًا.. أخي:
أظنُّ أني قد أَطَلْتُ عليكَ وأنا أَحُثُّكَ على اغتنام الوقت، ولكن؛ أتأذن لي أن نُعَرِّجَ سويًّا على أمرٍ مُهمٍّ؛ بل هو مهمٌّ جدًّا؟ أتدري ما هو؟ إنه الإخلاص.. نعم الإخلاص! فكم من صائمٍ ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش، وكم من قائمٍ ليس له من قيامه إلا السهر والتعب! أعاذنا الله وإيَّاك من ذلك، ولذلك نجد النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - يؤكِّد على هذه القضية بقوله: ((إيمانًا واحتسابًا))، فنسأل الله لنا ولكم الإخلاص في القول والعمل، وفي السِّر والعَلَن.
فيا راعيَ الخير أقْبِلْ، ويا راعيَ الشرِّ أقْصِرْ.
فاغتنم أخي فرصة العُمْر، فالعمر محدودٌ، أما تفكَّرْتَ: أين الذين صاموا معنا رمضان الماضي؟ منهم منِ اختطفه مَلَك الموت، ومنهم مَنْ مرض فلم يقوَ على الصِّيام والقيام؛ فاحمد الله - أخي في الله - وتزوَّد مادُمْتَ في زمن الإمهال، وخير الزَّاد التَّقوى.
اللَّهم وفقنا لصيام رمضان وقيامه، واجعلنا فيه منَ المقبولين، واجعلنا فيه من عتقائك من النَّار، آمين.
ثالثًا: الأدعية والأذكار:(/6)
يسأل كثيرٌ منَ النَّاس عن الأدعية التي تُقال في صلاة التهجُّد والقيام، وذلك لإطالة الرُّكوع والسُّجود فيها؛ فوجدتُ رسالةً قيِّمةً للأخ الشَّيْخ: رياض الحقيل، رأيتُ أن أورِدَها كما ذكر - جزاه الله خيرًا - وقد تضمَّنَتْ بعض الأدعية النبويَّة التي تُقال في الرُّكوع، والسُّجود، والجِلْسَة بين السَّجدتَيْن، وغيرها، ليَسْهُلَ على المصلِّين حفظُها، وترديد بعضها في صلاة القيام والتَّهجُّد، وخاصةً في ليالي العشر الأواخر، التي يُطيل فيها المصلُّون الرُّكوع والسُّجود بين يَدَي ربِّ العالمين، نسأل الله القَبول.
وقد يكون البعض لا يعرف هذه الأذكار، أو يَصْعُب عليه جمعها، أو يدعو بما لم يثبت، والأولى الاقتصار على ما ثبت؛ ليَحْصُلَ لك أجرُ المتابعة والاقتداء.
أولاً: أذكار الرُّكوع:
قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أمَّا الرُّكوع؛ فعظِّموا فيه الرَّب))؛ رواه مُسْلِمٌ. فنقول: "سبحان ربي العظيم" ثلاثًا، أو أكثر من ذلك، أو: "سبحان ربِّيَ العظيم وبحمده" ثلاثًا.
ثم تتخيَّر من هذه الأذكار ما شئتَ وتنوِّع؛ فهذه تارةٌ، وتلك تارةٌ:
- سبحانك اللَّهم وبحمدك، اللَّهم اغفر لي.
- اللَّهم لك ركعتُ، وبك آمنتُ، ولك أسلمتُ، أنت ربِّي، خَشَعَ لك سمعي وبصري، ومخي وعظمي - وعظامي – وعصبي، وما استقلَّت به قدمي، لله رب العالمين. وفي رواية: وعليك توكَّلتُ، أنت ربِّي، خَشَعَ سمعي وبصري، ودمي ولحمي، وعظمي وعصبي لله رب العالمين.
- سبُّوحٌ قدُّوسٌ، ربُّ الملائكة والرُّوح.
- سبحان ذي الجبروت والملكوت، والكبرياء والعَظَمَة.
ثانيًا: بعد الرَّفع من الرُّكوع:
فنقولُ: ربَّنا ولك الحمد. وتارةً: لك الحمد. وتارةً: اللَّهم ربَّنا لك الحمد، أو: اللَّهم ربَّنا ولك الحمد.
ثم تتخيَّر من هذه الأدعية ما شئتَ:
- ربَّنا ولك الحمد، حمدًا كثيرًا طيِّبًا مبارَكًا فيه – أو: مبارَكًا عليه - كما يحبُ ربُّنا ويرضى.(/7)
- أو تزيد: مِلْءَ السَّموات، ومِلْءَ الأرض، وما بينهما، ومِلْءَ ما شئتَ من شيءٍ بعده، أهل الثناء والمَجْد، أحقُّ ما قال العبد، وكلُّنا لك عبدٌ، اللَّهم لا مانع لما أعطيتَ، ولا معطيَ لما منعتَ، ولا ينفع ذا الجدِّ منك.
- أو: لربِّيَ الحمد.. لربِّيَ المَجْدُ. تكرِّرُها كثيرًا.
- أو تزيد: اللَّهم طهِّرني بالثَّلج والبَرَد والماء البارد، اللَّهم طهِّرني منَ الذُّنوب والخطايا، كما ينقَّى الثوب الأبيض منَ الدَّنَس.
ثالثًا: أذكار السُّجود:
قال عليه الصلاة والسلام: ((وأمَّا السُّجود؛ فاجتهدوا في الدُّعاء، فقَمِنٌ - أي: حريٌّ وجديرٌ - أن يُستجابَ لكم))؛ رواه مُسْلِمٌ.
وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أقرب ما يكون العبد من ربِّه وهو ساجدٌ؛ فأكثروا الدُّعاء فيه))؛ رواه مُسْلِمٌ.
فنقولُ: "سبحان ربِّيَ الأعلى" ثلاثًا، أو تكرِّرها كثيرًا، أو: سبحان ربِّيَ الأعلى وبحمده (ثلاثًا).
- سبحانك اللَّهم ربَّنا وبحمدك، اللَّهم اغفر لي.
- سبُّوحٌ قدُّوسٌ، ربُّ الملائكة والرُّوح.
- اللَّهم لك سجدتُ، وبك آمنتُ، ولك أسلمتُ، وأنت ربِّي، سجد وجهي للذي خلقه وصوَّره فأحسن صوره، وشقَّ سمعه وبصره؛ فتبارك الله أحْسَنَ الخالقين.
- اللَّهم اغفر لي ذنبي كلَّه، دِقَّه وجُلَّه، وأوَّله وآخرَه، وعلانيته وسرَّه.
- سجد لك سَوَادي وخيالي، وآمن بك فؤادي، أبوء بنعمتك عليَّ، هذي يدي وما جنيتُ على نفسي.
- سبحان ذي الجبروت والملكوت، والكبرياء والعَظَمَة.
- سبحانك اللَّهم وبحمدك، لا إله إلا أنت.
- اللَّهم اغفر لي ما أسررتُ وما أعلنتُ، اللَّهم اجعل في قلبي نورًا، واجعل من تحتي نورًا، واجعل من فوقي نورًا، وعن يميني نورًا، وعن يساري نورًا، واجعل أمامي نورًا، وعَظِّم لي نورًا.
- اللَّهم إني أعوذ برضاك من سَخَطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناءً عليكَ، أنت كما أثنيتَ على نفسك.(/8)
- اللَّهم اغفر ما أسررتُ وما أعلنتُ.
رابعًا: أذكار الجِلْسة بين السَّجدتَيْن:
- ربِّ اغفر لي.. ربِّ اغفر لي.. ربِّ اغفر لي.
- أو تزيد - كما في روايةٍ أخرى يقوِّيها الشيخ الألْبَانِيُّ -: اللَّهم ربِّ اغفر لي، وارحمني واجبرني، وارفعني واهدني، وعافني وارزقني.
خامسًا: أذكار سجود التِّلاوة:
- سبحان ربِّيَ الأعلى.
- سجد وجهي للذي خلقني، وشق سمعه وبصره، بحوله وقوته.
- اللَّهم اكتب لي بها عندك أجرًا، وضع عنِّي بها وِزْرًا،واجعلها لي عندك ذُخْرًا، وتقبَّلْها منِّي كما تقبَّلتها من عبدك داود.
سادسًا: إذا انتهيتَ من صلاة الوِتْر، فيستحبُّ أن تقول:
سبحان الملك القدُّوس (ثلاثًا)، وترفع بها صوتَك.
ثم أوصيكَ أخي الحبيب.. أختي المسلمة:
بالإكثار من الاستغفار، والتَّسبيح، والتَّهليل، والدُّعاء، والابتهال، والتضرُّع إلى الله - جلَّ وعلا - بأن ينصر الإسلام والمسلمين، وأن يجمع كلمتهم على الحق، كما تدعو لنفسك وأهلك وللمسلمين بخيرَيِ الدُّنيا والآخرة.
كما أوصيكَ أن تُكْثِرَ من قول: "اللَّهم إنَّك عَفُوٌّ تحبُّ العفو؛ فاعفث عنِّي"، وخاصةً في ليالي الوِتْر من العشر الأواخر؛ كما علَّم النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - عائشة - رضيَ الله عنها - أن تدعو بهذا في ليلة القَدْر.
وختامًا أخي الحبيب.. أختي المسلمة:
لابدَّ من استحضار معاني هذه الأدعية والأذكار، والتدبُّر لها عند ذكرها، ((فإنَّ الله لا يستجيبُ دعاءً من قلبٍ غافلٍ لاهٍ))؛ السِّلسلة الصَّحيحة للأَلْبَانِي.
وكذا عليك استحضار النيَّة والخشوع عند ذكرها؛ لعلَّ الله أن ينفعنا ويرفعنا بذِكْره ودعائه.
وقبل الوداع:
أطلب منك أخي الحبيب.. أختي المسلمة - ألاَّ تنسوا مَنْ أعدَّ هذه الرسالة، ومَنْ كتبها ونقلها لكم بدعوةٍ خالصةٍ من القلب.
تقبَّل الله منَّا ومنكم، وإلى لقاءٍ، والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(/9)
محبُّكم في الله، الرَّاجي عفوَ ربِّه: خالد بن عبدالله الحمُّودي.
ملاحظة:
جميع الأحاديث التي أوردناها ثابتةٌ - إن شاء الله - صحَّحها الشيخ الأَلْبَانِيُّ، أو حسَّنها، أو صحَّحها الأرناؤوط - حفظهم الله.
المراجع:
(الأذكار للنووي، صفة صلاة النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، صحيح الكَلِم الطيِّب، صحيح التِّرْمِذِيّ، صحيح ابن ماجه، أبي داود، جامع الأصول لابن الأثير بتحقيق الأرناؤوط ج 4، وصحيح الوابل الصَّيِّب من الكَلِم الطيب لابن القيم والهلالي وغيرها).
تنبيهٌ: الأذكار والأدعية التي ذكرناها ليست جميعها خاصَّة بصلاة القيام في رمضان؛ بل هي لكلِّ صلاة، فليُنَتَبَّه لهذا.(/10)
العنوان: رسالة في الدعوة إلى الله (نبذة)
رقم المقالة: 1619
صاحب المقالة: خاص: الألوكة
-----------------------------------------
الفقيه المجتهد الغيور، الشيخ محمد بن صالح العثيمين، من مدينة عنيزة بالقصيم، برزَ في الدعوة والدروس والفتوى، وعُرف بالزهد والنصح للمسلمين، وله أكثر من 200 رسالة، توفي يوم 15/10/1428هـ.. يرحمه الله.
وقد كتب الشيخ بمناسبة حضوره للمؤتمر العالمي لتوجيه الدعوة وإعداد الدعاة، المنعقد في الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية 24-29/2/1397هـ، رسالةً بعنوان:
رسالة في الدعوة إلى الله/ محمد بن صالح العثيمين. طبعت بإشراف مؤسسة الشيخ محمد بن صالح العثيمين الخيرية، مدار الوطن للنشر، طبعة عام 1424هـ؛ سلسلة مؤلفات فضيلة الشيخ؛ (75).
وقد جاءت هذه الرسالة المختصَرة القيّمة على التفصيل التالي:
الفصل الأول:
في وجوب الدعوة إلى الله تعالى وبيان فضلها. ومما جاء في ثنايا هذا الفصل:
أن الدعوة إلى الله تعالى دعوة خير وحق، ودعوة إلى الإيمان بالله وإلى عبادته، وإلى كل عقيدة سليمة، وهي من النصيحة لله تعالى، ودعوةٌ إلى اتّباع الصراط المستقيم وإلى مكارم الأخلاق وحفظ الحقوق.
الفصل الثاني:
في وسائل الدعوة إلى الله وكيفيتها. وهي: المشافهة المباشِرة، وغير المباشرة (عن طريق المذياع مثلاً)، والكتابة عن طريق التأليف والنشر بالوسائل كافة. وتطرق المؤلف بعد ذلك إلى كيفية الدعوة؛ من حيث الخطاب، حسب حال المدعوّ.
الفصل الثالث:
في مجال الدعوة إلى الله، وذكر الشيخُ ميادينها، فقال:
1- الاتصالات الشخصية، فيقصد الداعية شخصاً ما، ويدعوه إلى الله.
2- الأماكن العامة، كالمساجد والتجمعات ومواسم الحج والأندية والمقاهي...
3- أمكنة الدراسة، كالمعاهد والمدارس والجامعات.. وبمختلف الطرق.
الفصل الرابع:
فيما ينبغي أن يكون عليه الداعي من الصفات والأفعال:
1- الإخلاص لله تعالى في عمله.(/1)
2- أن يعتقد أنه بهذه الدعوة وارثٌ للنبي صلى الله عليه وسلّم.
3- أن يكون ثابتاً في دعوته، واثقاً لا تزعزعه المضايقات.
4- أن يصبر على ما يناله من أذى، ويصابِر في بيان الحق والدعوة والمجادلة فيه، وأن يتسم بطول النفَس.
5- أن يسلك طريق الحكمة في الدعوة إلى الله، حسب الحال والمقام. واستشهد الشيخ في ذلك بالتدرج في تشريع تحريم الخمر.
6- أن يكون الداعي عالماً بشريعة الله، وبالأحوال النفسية والعلمية والعملية لمن يدعوهم.
7- أن يكون على جانب كبير من الدين والأخلاق، ليكون قدوة صالحة في ذلك.
8- أن يكون وقوراً في هيئته وقوله وفعله بدون جفاء، ليكون أهلاً للتوقير؛ فلا يطمع فيه المبطِلون، ولا يستخفّه المخلصون، يجِدُّ في موضع الجِدّ، ويمزح في موضع المزاح..
الفصل الخامس:
في أسباب نجاح الدعوة. ونلخصها هنا في النقاط التالية:
1- تطبيق ما سبق في الفصلين الثاني والرابع.
2- أن يكون للدعوة سنَد من ذّوي السُّلطة في الدولة، فإن الدعوة والسُّلطة هما دعامتا إصلاح الأمة.
3- أن تصادف الدعوة محلاًّ قابلاً ومنبتاً خصباً، بحيث يستعدّ لقَبولها المتلقّون.
4- أن يكون لدى الداعي أملٌ كبير -بعيد عن اليأس- بنجاح دعوته.
.. نسأل الله تعال أن يجعلنا دعاةً إلى الخير، نُهاةً عن الشر.. آمين.(/2)
العنوان: رسالة من الجنة
رقم المقالة: 1663
صاحب المقالة: أغيد الطباع
-----------------------------------------
رسالة من الجنة .. "إهداء إلى رضوان"
لا تَحْزَنِي أُمَّاهْ لا تَشْتَكِي بِالآهْ
فَجِرَاحُ قَلْبِيَ قَدْ مَضَتْ وَالْقَيْدُ لَنْ أَخْشَاهْ
رُوحِي تُحَلِّقُ فِي الْعُلا وَالْفَجْرُ لاحَ سَنَاهْ
وَالشَّوْكُ بَاتَ حُقُولَ زَهْرٍ مِنْ دَمِي رَيَّاهْ
ظُلْمُ اللَّيَالِي وَانْقَضَى وَتَقَادَمَتْ ذِكْرَاهْ
وَالْحُورُ نَحْوِيَ أَقْبَلَتْ بِالْبِشْرِ يَا أُمَّاهْ
لا تَحْزَنِي أُمَّاهْ لا تَشْتَكِي بِالآهْ
كَمْ مَرَّةٍ عُدْتُ وَقَدْ فَارَقْتُ يَا أُمَّاهْ
كَمْ فَاضَتِ الْعَيْنُ وَكَمْ وَدَّعْتُ مَنْ أَهْوَاهْ
شَوْقٌ حَيَاتِي كُلُّهَا وَالشَّوْقُ مَا أَحْلاهْ
حِينَ يُتَوِّجُهُ اللِّقَا يَا أُمِّ مَا أَحْلاهْ
لا تَحْزَنِي أُمَّاهْ لا تَشْتَكِي بِالآهْ
أَقْسَمْتُ يَوْمًا يَا حَبِيبَةُ أَنْ أَنَالَ رِضَاهْ
وَنَهَرْتُ نَفْسِي وَالهَوَى مُسْتَمْسِكًا بِهُدَاهْ
أَبْقَيْتُ رَأْسِي عَالِيًا لا يَنْحَنِي لِسِوَاهْ
وَهَتَفْتُ مِنْ عُمْقِ الدُّجَى أَللَّهُ يَا أَللَّهْ
لا تَحْزَنِي أُمَّاهْ لا تَشْتَكِي بِالآهْ
نَبَرَاتُ صَوْتِكِ لَمْ تَزَلْ لَحْنًا وَمَا أَشْجَاهْ
فِي جَنَّةِ الرَّحْمَنِ أُصْغِي مُنْصِتًا لِصَدَاهْ
كَمْ كَانَ قَبْلاً نَاصِحِي وَمُوَجِّهِي لِرِضَاهْ
لا تَحْزَنِي لا تَشْتَكِي فَالْغَرْسُ طَابَ جَنَاهْ
لا تَحْزَنِي أُمَّاهْ لا تَشْتَكِي بِالآهْ
قُولِي بُنَيَّ مَضَى وَلَكِنْ فِي غَدٍ أَلْقَاهْ
فِي دَارِ خُلْدٍ قَدْ غَدَتْ بَعْدَ الْعَنَى* سُكْنَاهْ
.. بَعْدَ الْعَنَى* سُكْنَاهْ
تعليق " حضارة الكلمة":
الأخ / أغيد،
نشكر لكم هذا التواصل مع قسمنا الجديد، ونسعد كثيراً إذا رأينا هذه النزعة الإسلامية متجلية في أدب الشباب شعراً ونثراً(/1)
النصّ يتحدث عن الشهيد والشهادة ويخاطب الأم.. وقد تميزت فيه صور جميلة وتراكيب سلسة، مثل: "ظُلْمُ اللَّيَالِي وَانْقَضَى، وَتَقَادَمَتْ ذِكْرَاهْ"، كما تميّز بذِكر جانب التربية الإسلامية للأم، كقولك: " كَمْ كَانَ قَبْلاً نَاصِحِي وَمُوَجِّهِي..".. وهذا كله يحسَب في صالح القصيدة.
هنا.. أهم ما ننصح به الشاعر هو محاولة التميّز عن غيره قدر المستطاع، فقد تكررت عبارات وأخيلة تضمنتها القصيدة عند غيره من الشعراء.
كما نلاحظ كثرة الخلط بين وزنَي البحر الرجز والبحر الكامل الأحذّ، كقولك "حِينَ يُتَوِّجُهُ اللِّقَا؛ مُتَعِلُن متَفاعِلن".. وهذا يؤثر على ذائقة المتلقي الإيقاعية؛ ويفقد القصيدة جزءًا مهمًّا من رونقها وهو التأثير بالسماع.
نرجو لكم التوفيق .. والتميز في الأدب الإسلامي.
* الْعَنَى، الصحيح: العَنا.(/2)
العنوان: رسول السلام
رقم المقالة: 410
صاحب المقالة: محمود توفيق حسين
-----------------------------------------
قد يقول البعض - في كل هذه الأجواء التي تعايشها وتكابدها البشرية، وكل الأزمات الأخلاقية، من تنافسٍ وأحقادٍ وحروبٍ ورغبةٍ محمومةٍ في النمو بلا حدود -: ألا يحتاج هذا المناخ إلى رسالة سماوية جديدة؛ تواكب هذا التعقد في نمط الحياة، الذي لا تشبه الحياة التي عاصرها الرسل؟!
الرد على هذا المنطق والاستفسار يسير جداً، وهو:
أولاً: إن هذه النظرة مرتبطة بالإحساس بالزمن بمفهومه البشري؛ فالحقيقة أن الألفي عام السابقة، على الرغم من أنها مليئة بأحداث جسيمة، وشهدت انطلاقة في قدرة الإنسان على السيطرة على الموارد الطبيعية - إن المفاهيم الأساسية من خير وحق وعدل قد استقرت، ولم يضف الإنسان بفكره عليها الكثير، بل ربما كانت بعض الفلسفات الحديثة جعلت حتى هذه البديهيات محل شك.
ثانياً: الثابت أن الدول الناضجة سياسياً وعمرانياً، لم تكن حاضنة جيدة للأديان في السابق، بل إنها كثيراً ما تركت آثاراً سلبية على الرسالات، وتركت فيها بعض آثار معتقداتها السابقة، والشيء الجيد أن هناك نصوصاً خلَّفها الأنبياء وهي الأساس في دراسة الأديان للبحث عن حلول لأزمات الإنسان العصري.
لكن كيف نتحقق من كون دينٍ ما هو من عند الله؟ وكيف نتحقق أن تلك الشخصية التاريخية كانت شخصية نبي حقيقي؟
عندما أفكر في أمر كهذا؛ أحاول دائماً توقع ما سيفعله شخص مخادع وشديد الذكاء أراد أن يعامله الناس كنبي؛ في حين أنه لا علاقة له بالسماء.
* إنه لن يطلب من التابعين تضحيات والتزامات شاقة؛ قد تضعف من قدرته على استقطاب الناس.
ماذا عن النبي محمد؟(/1)
* دعا إلى المساواة بين الناس جميعاً دون الالتفات إلى العرق، وهذا يتعارض مع كون الرق من أقوى المحركات للاقتصاد في تلك الفترة، وكان مقبولاً أخلاقياً في كل المجتمعات، ثم إن هذا يتعارض مع إيمان كثير من الشعوب، وأحياناً الأديان بوجود فوارق بين البشر على أساس عنصري، كان من ضمنها إيمان العرب.
* دعا إلى تجاهل كل أنواع الثأر التي كانت قبل عهده، أياً كانت مكانة القتيل وعائلته، وهذا يتعارض مع كون الأخذ بالثأر عرفاً اجتماعياً لا يستطيع الإنسان الفكاك منه، إلا بأن يترك قومه بعد أن ترك ثأره.
* نهى عن شرب الخمر ولعب القمار والزنى، وهي وسائل ترفيه، ما زالت لها أهمية كبرى في المجتمعات الحديثة، وبالطبع كانت هي كل شيء بعد التجارة في مجتمع صحراوي خشن.
* نهى عن الربا، ومعروف أن الربا هو خدمة مالية قديمة، كان الأقدمون يبالغون في استخدامها بصورة تضر الفقراء، وطبعاً كانت وسيلة للكسب السهل المعدوم المخاطرة.
هذه هي بعض الأشياء التي طلب محمد - صلى الله عليه وسلم - من قومه أن يُعرضوا عنها، ويبدؤوا حياة جديدة، كل هذا وسط جو من المعاناة، والتنكيل الشديد، من سيدعو إلى كل ذلك بدون أي ضعف وفي مواجهة مجتمع لا يقبل التغيير.
* لكنه بدراسة السلوك فيما قبل ادعاء النبوة، أو بعد ادعائها، ومقارنته بالتعاليم والوصايا للاتباع - سنجد – لاشك - بعض التناقض، خصوصاً إذا توفر الكثير عن حياة هذا الشخص؛ لذا الأفضل للمدعي أن يتجنب الاختلاط الدائم بأتباعه، معلوم أن النبي محمداً كان يلقب قبل البعثة بالصادق الأمين.(/2)
لنضع في اعتبارنا أننا نتكلم عن مجتمع قبلي، الناس فيه متلاصقة، ويعرف بعضها بعضاً بصورة جيدة، وأعمالهم لا تشغل كل وقتهم، وهو ما يعطي فرصة أفضل لأن يدرس الإنسان من يعيشون حوله من الأقرباء، وهذا يسمح بتكوين رؤية واضحة لشخص ولد بينهم، وكبر حتى بلغ سن الأربعين، حتى إن سادة قومه الذين عادوه لا يُذكر لهم عداءٌ معه قبل الرسالة قط.
ويسترعي انتباهنا أنه - صلى الله عليه وسلم - كان قبل البعثة كثير الصمت، طويل التأمل؛ ولذا لم يكن مجادلاً، وهذا يوحي بأن هناك شيئاً ما يختمر في ذهنه - كعادة المتمردين على الواقع - ثم إن عدم جداله ينفي عنه شبهة حب الظهور والتفرد؛ فلم يكن يجادل أهله في الأشياء التي عَافها، ومن ضمنها الاحتفال بالأصنام، وكان حاله إذا وجد أهله يسارعون إلى خير سارع معهم، وإذا سارعوا إلى ما يكره تركهم وشأنهم.
أما بعد البعثة فكان - هو نفسه - نموذجاً للسلوك والخلق الذي يدعو إليه، الصدق والأمانة، والرحمة والتواضع، والإيثار والكرم، وعفة اللسان والحلم، هذا لمدة 23 سنة بعد البعثة، وشريحة الصحابة القريبة منه - للتعلم - كانت شريحة كبيرة، وشاهدوه في بيعه وشرائه، وأحلافه واتفاقياته وحروبه، وأكله وشربه.
ولنضع في اعتبارنا أن العرب لم تكن كأمم الشرق المغرقة في الروحانيات، وإضفاء القداسة على إنسان أو شجرة أو كوكب أو ثعبان، بمعنى أنه لم يكن عندهم حس روحي عالٍ يسمح لأحد بالتأثير فيهم، ويفقدهم قدرتهم على النظرة النقدية،كانوا قوماً على الفطرة يرون الأشياء على حقيقتها، حتى إيمانهم بالله قبل البعثة كان قائماً على منطق استدلالي يسير "الموجود يدل على الواجد".(/3)
* المدعي لابد أن يكون طقسياً في كلامه وفي زيه وفي سلوكه؛ بحيث يبدو كأنه شخصية مغلفة بالأسرار؛ فهذا يسهل من مهمة التأثير في البشر، الحقيقة أن محمداً وموسى وعيسى كانوا من الناس، عَلموا وتألموا وكافحوا ولم يلبسوا تيجاناً من ذهب، بل ساروا في طريق مليء بالأشواك، حتى إننا لا يتعين علينا أن نتخيلهم محاطين بهالات من النور، في أثناء مشيهم في الأسواق ومخاطبتهم للناس.
* ليس من المنطقي أن يتنبأ المدعي لقومه بأي شيء مستقبلي؛ لأن هذا يضع سمعته في المحك، لقد تحولت نبوءات النبي محمد إلى وقائع شاهدها الناس - وهذا مما يعلِّم الله رسله -وسأذكر نبوءتين موثقتين في القرآن الكريم، وقد تلا محمد هاتين النبوءتين على الناس من خلال قراءته للقرآن، ومن ذلك أنه:
هناك سورة تتوقع لعمه وزوجة عمه أن يموتا على الكفر وهذا لايعتبر من قبيل الرهان المأمون، خاصة إذا عرفنا أن هذا العم وزوجته كانا ضمن المجموعة التي تؤذي الرسول – صلى الله عليه وسلم - وقد آمن البعض منهم بعد ذلك، بالطبع توقعُ السلوكِ البشري حتى الآن أمر صعب جداً، أو يكاد يكون غير علمي.
النبوءة الثانية جاءت بعد هزيمة الروم على يد الفرس، جاءت على صورة بشرى للمسلمين بأنه بعد عدة سنوات سينتصر الروم؛ حيث إن أتباع الديانات السماوية أقرب للمسلمين من غيرهم من الأمم، ولنأخذ في الاعتبار أنه لم يكن لديه أي بيانات عن التعبئة هنا، أو هناك، وأنه إلى الآن يظل أمر الجزم بنتيجة حرب ضخمة بين قوتين متكافئتين أمراً تكتنفه الصعوبة حتى الآن على الإستراتيجيين.
لكن لماذا يختار الله أمماً بسيطة لتكون مركزاً للديانات؟
أنا أعتقد أن الأمم المتقدمة يكون لديها تراث فلسفي ضخم تعتد به، وأفكار بشرية قد تترك بصمة على الدين في فترة الاحتضان، في حين تتلقى الأمم البسيطة الرسالة بطريقة محايدة، ويتحول رجالها ونساؤها إلى مسؤولين عن نقل تلك الرسالة بنقائها الأول.(/4)
كان العرب متميزين بالقدرة على حفظ أيامهم وشعرهم وأنسابهم؛ وهذا مكَّنهم من حفظ النص الإلهي على صورته؛ حتى لا يتحول بعد مدة إلى تأريخات متعددة.
ثم إن تميزهم في الحفظ مكَّننا نحن - المعاصرين - من الاطلاع على نواح عديدة في حياة النبي بوصفه نبيّاً، وقائداً، وزوجاً، وصاحباً، وأباً، وجداً، وحاله في الشدة والرخاء والغضب والسرور، وهذا ما مكَّننا من أن نتعرفه تعرفاً مانعاً للجهالة، وهذا للأسف ما لا نحصل عليه عندما نحاول مراجعة سيرة إخوانه الأنبياء، وكلهم قدوة حسنة لنا.
العلاقة التي تربط الأنبياء بعضهم ببعض لا يدرك كُنْهها إلا مَن تناول هذا الأمر بعقلية مفتوحة لاتغلفها أحكام مسبقة، ولا تعصب لعنصر، ولا استنادٌ على الحالة المدنية لكل أمة حالياً.
لو استندنا على الحالة المدنية فإننا سنتحصل في أوقات مختلفة على دلالات مختلفة، فلننظر إلى حال العرب والمسلمين وقت التوسع الإمبراطوري، والتقدم العلمي تحت راية إسلامية موحدة، ولننظر إلى حال اليونان التي كانت رائدة المدنية في عصور الوثنية ثم تحولت في ظل المسيحية إلى مجرد كيان تابع للدولة التركية، سيقول قائل: "جيد أن نحترم كل الأنبياء لكن هناك اختلافاً وتناقضاً في بعض الأحيان على مستوى النصوص، وعلى مستوى العقيدة في كل دين، إننا لا نملك آلة نستقلها إلى الأزمنة القديمة لنشاهد التجارب والأشخاص والملابسات حتى نحكم من خلال المعاينة".
هذا صحيح، ولهذا لم يعد أمامنا إلا مراجعة نصوصنا جميعاً، ونحن – المسلمين - ندعم ونوفر نطاقاً واسعاً من الفحص لتراثنا، على أن المطلوب أن يحدث ذلك في جو علمي وقور، وألا يترك أمر التعرف على الآخَر لمحبي الظهور، وهذا الحوار العلمي المنِتج سيوفر في الحد الأدنى احتراماً متبادلاً للأنبياء والأديان.
فلنضع القرآن محلاً للدراسة على مستويين:
1- دراسة تواؤم النصوص بعضها مع بعض.
2- دراسة تواؤم النصوص مع الظواهر العلمية.(/5)
وسيكون مدخلاً معقولاً إذا تعرفنا هذا النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - أولاً من خلال شهادة الذين عادوه عندما شهدوا له أمام حكام الروم والحبشة بعدم كذبه أبداً، وسيكون مدخلاً جيداً أن ننظر إلى ثلاثة مواقف مرت بحياة النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت ستضعف من إرادته لوكان طامعاً في الزعامة، أو حتى وضع اجتماعي شريف، وهي:
* عرض سادة قومه عليه السيادة والملك على أن يترك أمر الدعوة، وكان هذا في السنين الأولى الصعبة التي ما زال المسلمون فيها مستضعفين، وهي صفقة مغرية لأي طامع، وقد يضعف أمامها المصلح الاجتماعي.
*حوصر هو وأهله مدة ثلاث سنوات؛ حتى أكلوا الأوراق والجلود، وهذه درجة من الأذى ربما لا يقبل المصلح أن يكون سبباً وحيداً فيها لأهله؛ بحيث إن تراجعه في هذه الحالة لا يُلام عليه.
* عندما فتح مكة التي اضطهده أهلها – وهم أهله - دخلها متواضعاً ليس عليه كبرياء القادة المنتصرين، خافضاً بصره إلى الأرض، وغفر لأهله وصفح عن الإساءة.
ومن الجيد - أيضاً - أن نتذكر أن الدعوة استمرت 23 سنة، بعدها وُلدت أمة جديدة مختلفة استطاعت أن تقهر الأمم التي كانت قوية في ذلك الزمن، وبسطت سيطرتها على مناطق من آسيا وأفريقيا وأوروبا، ولم يكونوا معتمدين على أي رصيد حضاري ومدني يُعتَمد عليه.
إن شخصاً فعل كل هذا يستحق دراسة موضوعية لسلوكه وكفاحه، وهذا هو المدخل الجيد إلى قراءة القرآن الكريم قراءة منصفة.
إن مقاربةً جديدةً لرسالة محمد – صلى الله عليه وسلم - هي ضرورة إنسانية وحضارية وأخلاقية، في ظل إدراكنا أن هذا العصر الحديث لن يظهر فيه أنبياء جدد، ولا رسالات جديدة، فإنه يتحتم علينا إعادة اكتشاف كل التراث الديني للأديان السماوية؛ بحيث يتحول هذا العالم الذي أصبح قرية صغيرة مشحونة بالغضب إلى قرية صغيرة يحكمها العدل والحب والسلام.(/6)
العنوان: رسول الله صلى الله عليه وسلم الرحمة المهداة
رقم المقالة: 167
صاحب المقالة: محمد علي الخطيب
-----------------------------------------
الحمد لله الرحمن الرحيم العفو الكريم، نحمده سبحانه أن أرسل إلينا رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم رحمةً للعالمين، يتلو عليهم آياته، ويزكيهم، ويعلمهم الكتاب والحكمة، و{يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ}الأعراف157 ؛ ليخرجهم من الظلمات إلى النور، ومن عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها. صلى الله عليه وعلى إخوانه إبراهيم وموسى وعيسى وزكريا ويحيى وسائر النبيين، وبعد:
فقد دفعني إلى المشاركة في حملة موقع الألوكة لنصرة النبي صلى الله عليه وسلم حبي لرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يخالط مشاشة قلبي، ويجري في عروقي، وواجب النصرة له، والذب عن حياضه، وطمعي بالفوز الكبير بأجر الدفاع عن الحبيب المصطفى، وأن أكون لسان حسان، فأقوم مقامه بأن أدفع عن نبي الرحمة المطاعن، وأجلي الشبهات التي يثيرها حوله خصومه عن جهلٍ بسيرته وهديه ودينه ودعوته، وتعصبٍ ذميمٍ يحجب القلب عن رؤية الحق، والإذعان له. والله أسأل أن يتقبل مني هذا العمل، وأن يفتح به قلوباً غلفاً وأعيناً عمياً وآذاناً صمَّاً.
1 - أهمية الموضوع:(/1)
تنبع أهمية البحث من المرحلة التي تمرُّ فيها الأمة، حيث أغرى ضعفها عدوها بالجرأة عليها حتى اقتحم حماها، وانتهك محارمها، وشنَّ الغارة على رسولها، فصورَّه بأقبح صورة، وطعنه بأقبح النعوت، وألصق به النقائص، ورماه بالرذائل، وهو منها براء، بل هو الكامل المبرء من كل عيب والمثل الأعلى والأسوة الحسنة للبشرية. وقد كتبت هذا البحث في الرد على تلك الأباطيل، وبخاصة الشبهة التي تطعن في رحمته صلى الله عليه وسلم، وتصمه بالعنف والإرهاب والغلظة. وكتبته بلسان القوم، وإن كنت لا أتقن لسانهم، ولكني حاولت أن يكون قريباً إلى طريقتهم في التفكير، ومنهجهم في البحث، وتقديسهم للعقل، فكتبت بحثي على طريقتهم، وحصرت استدلالي في الأدلة والحجج العقلية والتاريخية والمادية المحسوسة مع إثارة الوجدان ومناشدة الفطرة ؛ ليكون ذلك أدعى إلى قبول الحق والإذعان له.
2 - هدف البحث:
الدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذب عن حياضه، وتفنيد شبهات خصومه، وخاصة الشبهة التي روج لها الإعلام الغربي في الآونة الأخيرة، والصورة التي أبرزته للناس على أنه فظٌّ غليظٌ جافٍٍ بل مجرم حرب! وفي الوقت نفسه التعريف به، وتقديمه لأهل الغرب الذين لا يعرفون عنه إلا الشبهات والافتراءات والمطاعن. وهو الغرض الذي ترمي إليه مسابقة (انصر نبيك وكن داعياً) الني دعت إليها، واحتضنتها) حملة موقع الألوكة لمناصرة النبي صلى الله عليه وسلم.
3 - منهج البحث:(/2)
ركز البحث على تفنيد الشبهة السالفة الذكر، وتعرض لشمائله الشريفة وخص منها بالبيان والتفصيل رحمته وما يتصل بها، ولكني قدَّمت له بتصوير رسول الله خلْقاً وخُلُقاً، وكتبت نبذةً يسيرة عن سيرته توطئة للموضوع، ومدخلاً ضرورياً له. وقد كتبته بلغة سهلة، غير إنها تخاطب العقل، وتحرك الوجدان، واعتمدت على كتب السيرة والشمائل والحديث النبوي إضافة إلى بعض المصادر الأخرى المتعلقة بالموضوع. وقد قمت بتخريج الأحاديث والأخبار الواردة في البحث، ولكن لم استقصها جميعها، وخاصة ما يتعلق بشمائله ونعته ؛ لكثرتها ؛ ولأنها لو خرَّجتها جميعها لاحتلت مساحة لا تسمح بها حدود البحث غير إني أحلت إلى مراجعها من كتب السيرة والشمائل.
4 - صعوبات البحث:
لم أجد صعوبة تذكر بيد إن الوقت المتاح للبحث قصيرٌ رغم التمديد له، ولم يسعفني بالفرصة الكافية لرصد صورة محمد رسول الله في أعين المستشرقين من مصادرها ومظانها الأصلية. ومن الصعوبات الجديرة بالذكر حمل القلم على الكتابة بلغة القوم كما أسلفت، فقد درجنا على خطاب بني جلدتنا، وهم يعرفون رسول الله كما يعرفون أبناءهم، ويؤمنون به، وإن هجروا كثيراً من أخلاقه وآدابه، أما الغربيون فيجهلون سيرته وشمائله وشخصيته ماعدا الشبهات والظنون إلا من رحم ربي!
5 - الدراسات السابقة:
كتب السيرة والشمائل كثيرة جداً لا حصر لها، وقد استفدت منها في جمع مادة البحث، وعلى رأسها كتب المتون كالبخاري ومسلم وكتب السنن وسواها ثم كتب السيرة والتاريخ، وفي أولها السيرة النبوية لابن هشام وسيرة ابن كثير ومصادر حديثة في السيرة من مثل: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية لمهدي رزق الله أحمد، والرحيق المختوم للمباركفوري، وفقه السيرة للغزالي. أما في الرحمة خاصة، وهو موضوع بحثي فقد وقعت على بعض بحوث مختصرة جداً لا تفي بالغرض، ليس غير.(/3)
ولم أعثر فيما اطلعت عليه على كتاب أو حتى بحث يتناول رحمة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشمول والعلمية والاستقلال الذي سار عليه البحث الذي بين يدي، وهذه النتيجة أقولها في حدود علمي القليل وبحسب اطلاعي والله أعلم.
وفي ختام هذه التوطئة أتوجه بخالص الشكر والامتنان إلى القائمين على موقع الألوكة لنصرة النبي صلى الله عليه وسلم والعاملين فيه، والباذلين في محبة المصطفى أموالهم وأنفسهم، راجياً من المولى سبحانه أن ينالوا شفاعته وأن يشربوا من يده الشريفة شربةً لا يظمأون بعدها أبداً لا أريد الإطالة، فهذا جهد الغرّ المقل في هذا الميدان، فإذا كنت قد أصبت فمن الله، و إن كنت قد قصرَّت فهذه صفة الإنسان، و الله ولي التوفيق.
تمهيد:
أبدأ بحثي بكلمة المستشرق الإسباني "جان ليك" في كتابه (العرب) قال: "لا يمكن أن توصف حياة محمد صلى الله عليه وسلم بأحسن مما وصفها الله بقوله: ((وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ))[1]. كان محمد صلى الله عليه وسلم رحمة حقيقية، وإني أصلي عليه بلهفة وشوق ". واستوقفتني عبارته " كان محمد صلى الله عليه وسلم رحمة حقيقية "، وكأنه يغمز فيها من أبطال الرحمة الزائفة الذين يلبسون للناس مسوك الضأن من اللين، وقلوبهم قلوب الذئاب.(/4)
إذا قرأت القرآن الكريم فستصادفك آية كريمة تصف الرسول محمداً صلى الله عليه وسلم {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}[2]! قد تهزُّ رأسك، وتمطُّ شفتيك متعجباً ومنكراً، فالصورة التي ترسمها في مخيلتك عن محمدٍ صورة مرعبة منفرة، وربما تقفز إلى ذاكرتك صورة نيرون أو جنكيز خان أو هولاكو أو ستالين مثلاً، وأنا لا ألومك، ولا أحملك المسؤولية، فالمكتبة الغربية ووسائل الإعلام المتنوعة تضخ سيلاً من الأكاذيب والاتهامات والشبهات عبر الكتاب والمقالة والرواية والفيلم والرسم والكاريكاتير وغيره من قنوات الإعلام والبث المباشر وغير المباشر ووسائل التعبير والتأثير الكثيرة الشديدة الخطر؛ لتشويه الصورة الوضيئة لرسول الله أخي عيسى بن مريم عليهما أفضل الصلاة والتسليم، وهي الشبهات نفسها التي كان المستشرقون - وبخاصة المتقدمون منهم - يلقونها إلى الناس من قبل، مثل: جب، وأرنست رينان الذي ينكر أيَّ أثرٍ للعرب في الفلسفة والعلوم[3]، و مونتغمري وات، ودانتي الذي وضع النبي عليه الصلاة والسلام في طبقة سفلى من طبقات الجحيم.
وربما يرسِّخ في ذهنك هذه الصورة ما تراه أحياناً من سلوك بعض الأفراد المسلمين أو الجماعات المتطرفة، المجافي للتحضر والتأنق، المنافي للقيم الإنسانية والمثل العليا، ولكن ألا ترى معي أنه من الظلم البين أن تحمِّل رسول الرحمة تبعة أخطائهم، لأنه لا يرضى عنها، ولأنها تنافي قيم الإسلام وتعاليمه.
قد لا تقتنع بهذا الكلام المباشر؛ لأن صورة الإسلام ورسوله - في أذهان كثير من الغربيين - ما تزال يكتنفها شيءٌ من الغموض والغبش وسوء الظن، غرستها في النفوس والعقول شبهات ألقاها أساطين الاستشراق ورواسب أخرى تاريخية وثقافية وعقدٌ نفسية موروثة.(/5)
وقد رأيت من واجبي كإنسان أولاً ثم مسلم محبٍّ لمحمد صلى الله عليه وسلم ثانياً أن أقدِّم للقارئ الغربي تعريفاً سهلاً بسيطاً بمحمد، وأن أحاول تصحيح الصورة المغلوطة في الذهنية الغربية عنه، وأنا لن أحاول تجميل صورته ؛ لأنها جميلة لا تحتاج إلى إضافة ولا إلى " ماكياج "!. وقد ترددت في البداية، ورن في أذني هاتفٌ يهزأ بجهدي، ويقول لي: أنت كمن يضيء شمعة في مهب ريح عاتية عصفت في ظلمة ليلٍ بهيم، فهل تراها تصمد أو تبدد تلك العتمة! وماذا عساها أن تجدي هذه الوريقات؟ وهل تملك مواجهة هذا التيار الجارف من تشويه التاريخ وطمس الحقائق؟. لم أعر هذه الوساوس بالاً، ولم تفت في عضدي، فقد علمني رسول الإنسانية صلى الله عليه وسلم ألا أزدري من المعروف شيئاً، وإن قل! وأن أزرع فسيلة وإن قامت الساعة!. ومما شجعني على المضي في كتابة هذه السطور ما أعرفه من ذكاء القارئ الغربي وما يتمتع به من الموضوعية والتجرد للحقيقة العلمية، ولكن أكاد أجزم أنه لن ينتفع أحدٌ من قراءاته لهذه الرسالة المتواضعة إذا دخل عليها، وهو يحمل مقررات سابقة وأحكام مبرمة من موروثاته الثقافية والتاريخية، لأنها ستحول حتماً بينه وبين قلبه، والأجدر بالباحث الحق عن الحق أن يعرض المعلومات التي يقرؤها على عقله، ويختبرها كما يختبر الباحث في العلوم التجريبية المعطيات المادية لديه.(/6)
وهذه الرسالة لن تعرض عليك السيرة النبوية أو الشمائل المحمدية كلها والتي جمعت المحاسن طراً حتى استحق ذلك الثناء الذي سمعته من الرب سبحانه، وصدَّرت رسالتي به، وهو قوله سبحانه: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}[4]، فقد كان - بأبي هو وأمي - أرحم الناس وأعف الناس وأشجع الناس وأحلم الناس وأكرم الناس وأبر الناس، وأنصح الناس للناس، وأكثرهم تواضعاً، وأوسعهم صدراً وأرفعهم قدرًا، وأشرفهم نفسًا، وأشدهم صبراً، وأقومهم بحق الله وتبليغ رسالته، وأخشاهم لله وأتقاهم له، وقد حفظ لنا تاريخ الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرته اعترافات شتى من أصدقائه وأعدائه بعلو همته وسمو غايته وجمال عفته وعزة زهده. لن أتناول كل هذه الأخلاق العظيمة، فهذا يحتاج إلى مجلدات، وقد كُتِبَ فيها مجلدات كثيرة حقاً، ولكني اخترت واحدة من أعظم أخلاقه، ألا وهي رحمته صلى الله عليه وسلم!. لماذا رحمته وليس سخاؤه أو شجاعته أو عدله؟ والجواب: لأنها أعظم أخلاقه، ولأنها روح رسالته وصبغتها التي صبغها الله بها، ولأنها تعطي هذه الرسالة أهم خصائصها ألا وهي عالميتها وخلودها: {مَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}[5].(/7)
وإنَّ مما يدعو إلى العجب أن أبرز مطاعن الغربيين لرسول الله صلى الله عليه وسلم هي الطعن في رحمته، وهي من أخص أخلاقه صلى الله عليه وسلم وأعظمها إطلاقاً وألصقها بشخصيته، بل هي محمد نفسه، تجسدت فيه، فلا تفارقه في سائر أوقاته وأحواله وظروفه حتى في حالات غضبه وغيظه، وهذا يدعوني إلى إفرادها بالحديث ذباً عن عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتفنيداً للرسالة المشينة التي حاولت تلك الرسوم الشوهاء توصيلها إلى عقول الناس البسطاء، وتعريفاً برحمة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي طعنت تلك الصور بها، وحاولت إخراجه للناس بصورة فظ غليظ أو مجرم حرب متعطش للدماء، سبحانك هذا بهتانٌ عظيم ! وقبل أن أعرفك بالرحمة المهداة أحببت أن أنقل إليك صورة محمد صلى الله عليه وسلم كما وصفها أصحابه، وهي صورة دقيقة كاملة التفاصيل تقريباً، حتى لكأنك تراه،! لتقارن بين الصور الشوهاء التي صورها بعض رسامي الكاريكاتير الدانمركيين، وأملتها عليهم خيالاتهم المريضة، وبين صورة محمد الأخاذة الوضيئة، راجياً لك المتعة والفائدة والهداية وتصحيح الصورة المقلوبة.
الفصل الأول: تعريفٌ عامٌ برسول الله صلى الله عليه وسلم
المبحث الأول: صورة محمد صلى الله عليه وسلم
النقطة الأولى: محمدٌ صلى الله عليه وسلم كأنك تراه[6]:(/8)
أبيض أزهر اللون ليس بأبيض، ولا آدَم، مستنير مشرق الوجه مشرب بياضه حمرة كأن الشمس تجري في وجهه، أسيَل الجبين[7]، مسنون الخدين، وجهه بين الاستدارة والإسالة، إذا سُرّ استنار وجهه حتى كأنه قطعة قمر، مليحٌ كأنما صيغ من فضة، لا أوضأ ولا أضوأ منه. وصفه جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة إضحيان (مقمرة)، وعليه حُلَّة حمراء، فجعلتُ أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى القمر، فإذا هو عندي أحسنُ من القمر"[8]. عظيم الهامة، ضخم الرأس، واسع الجبهة، أكحل العينين وليس بأكحل، أهدب الأشفار، مستقيم الأنف، أقنى أي طويل في وسطه بعض ارتفاع، مع دقة أرنبته (ما لان من الأنف)، واسع الفم جميلُه، من أحسن عباد الله شفتين وألطفهم ختم فم، أشنب (مُحَدَّدُ الأَسْنانِ مع بَياضُ وبَريقُ) مفلج الأسنان بعيد ما بين الثنايا والرباعيات، إذا تكلم رُئِيَ كالنور يخرج من بين ثناياه. وكان في صوته صهل (بحة). من أحسن عباد الله عنقًا، لا ينسب إلى الطول ولا إلى القصر، ما ظهر من عنقه يتلألأ في بياض الفضة وحمرة الذهب، وما غُيِّبَ في الثياب من عنقه فما تحتها فكأنه القمر ليلة البدر، بعيد ما بين المنكبين (عريض أعلى الظهر)، سواء البطن والصدر، عريض الصدر، من لُبَّتِه إلى سُرَّتِه شعر يجري كالقضيب، أشْعَر الذراعين والمنكبين، كَتِفاه عريضان عظيمان، ضخم الكفين ممتلئة لحمًا، غير إنّها ألين من الحرير، وأبرد من الثلج، وأطيب رائحة من المسك. مرتفع الأخمصين[9]، أملس القدمين ليس في ظهورهما تكسر، سشن الكفين والقدمين[10] ليس بالطويل البائن ولا بالقصير.(/9)
وكان صلى الله عليه وسلم إذا مشى أسرع حتى لكأن الأرض تطوى له، ليس فيه كسل، شديد الحركة، قوي الأعضاء غير مسترخ في المشي، وإذا التفت التفت معًا بجميع أجزائه، فلا يلوي عنقه يمنة أو يسرة، وعلى أعلى كتفه الأيسر خاتم النبوة، وهو خاتم أسود اللون، ويبلغ حجمه قدر بيضة الحمامة. رائحته أطيب من المسك، وعرقه كأنه اللؤلؤ، عن أنس خادمه قال: دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فَقَال (أي نام) عندنا، فعرِقَ وجاءت أمي بقارورة فجعلت تَسلُتُ العَرَق، فاستيقظ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا أم سُلَيم ما هذا الذي تصنعين؟ " قالت: "عَرَق نجعله في طيبنا وهو أطيَب الطيب"[11]، وكان صلى الله عليه وسلم إذا صافحه الرجل وجد ريحه، وإذا وضع يده على رأس صبي فيظل يومه يُعرَف من بين الصبيان بريحه على رأسه. يقول جابر بن سمرة: ما سلك رسول الله صلى الله عليه وسلم طريقًا فيتبعه أحد إلا عرف أنه قد سلكه من طيب عرقه[12]، وقد كنت صبيًا، فمسح خدي فوجدت ليده بردًا أو ريحًا كأنما أخرجها من جونة عطار.
ويمتاز صلى الله عليه وسلم بفصاحة اللسان، وبلاغة القول، أوتي جوامع الكلم، وخص ببدائع الحكم، وعلم ألسنة العرب، يخاطب كل قبيلة بلسانها، ويحاورها بلغتها، لا ينطق إلا حقاً، ولا يقول إلا صدقاً، لم يجرِّب عليه قومه كذباً قط، قبل الرسالة ولا بعدها. وكان أعدل الناس، وأعفهم، وأصدقهم لهجة، وأعظمهم أمانة صلى الله عليه وسلم.
وكان كلامه صلى الله عليه وسلم بَيِّن فَصْل ظاهر يحفظه من جَلَس إليه، وكان يُحَدِّث حديثاً لو عَدَّه العادُّ لأحصاه، ويعيد الكلمة ثلاثاً لِتُعقَل عنه، لا يُحَدِّث حديثاً إلا تبَسَّم وكان مِن أضحك الناس وأطيَبَهم نَفسًا، كثير التبسم، ولا يضحك إلا تَبَسُّماً، وكان إذا ضحك بانت أضراسه من غير أن يرفع صوته. طويل الصمت، لا يتكلم في غير حاجة، يعرض عمن تكلم بغير جميل، من رآه هابه، ومن خالطه أحبه.(/10)
قال خارجة بن زيد : كان النبي صلى الله عليه وسلم أوقر الناس في مجلسه، لا يكاد يخرج شيئاً من أطرافه، وكان كثير السكوت، لا يتكلم في غير حاجة، يعرض عمن تكلم بغير جميل، كان ضحكه تبسماً، وكلامه فصلاً لا فضول ولا تقصير، وكان ضحك أصحابه عنده التبسم؛ توقيراً له واقتداء به .
وكان صلى الله عليه وسلم حليماً لا يعجل، ولا يعاقب على السيئة بالسيئة، لم تعرف منه زلة، ولم تحفظ عنه هَفْوَة، يعفو عند المقدرة، ويصبر على المكاره، لم يزد مع كثرة الأذى إلا صبراً، وعلى سفه الجاهل إلا حلماً، وكان أبعد الناس غضباً، وأسرعهم فيئاً.
وكان صلى الله عليه وسلم جواداً سمحاً سخياً ندياً، يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، ما سئل شيئاً قط فقال : لا . وكان أشجع الناس، لم يحفظ عليه فرة، وفر عنه الكماة والأبطال غير مرة في أحد وحنين، وهو ثابت لا يبرح، صابرٌ لا يتزحزح، لم يولِّ دبره لعدوٍ قط.
وكان صلى الله عليه وسلم أشد حياء من العذراء في خِدْرها، وإذا كره شيئاً عرف في وجهه. وكان لا يثبت نظره في وجه أحد، يخفض طرفه ، نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء، جُلُّ نظره الملاحظة، لا يجابه أحداً بما يكره حياء وكرم نفس، وكان لا يسمي رجلاً بلغ عنه شيء يكرهه، بل يبهم، ويقول : ( ما بال الرجل أو ما بال أقوام ؟) .
وكان صلى الله عليه وسلم أشد الناس تواضعاً، يخصف نعله، ويرقع ثوبه، ويعمل بيده، و يَفْلِي ثوبه، ويحلب شاته، ويخدم نفسه، بعيداً عن الكبر، يمنع الناس عن القيام له كما يقومون للملوك، وكان يعود المساكين، ويجالس الفقراء، ويجلس في أصحابه كأحدهم، وكان – بأبي هو وأمي - لا يدع أحدا يمشي خلفه، ولا يترفع على غيره ولو عبده أو أمته في مأكل ولا ملبس، ويخدم من خَدَمَه، ولم يقل لخادمه أف قط، وكان يحب المساكين ويجالسهم، ويشهد جنائزهم، ولا يحقر فقيراً لفقره ، ويدعو فيقول: " اللهم أحيني مسكيناً وأمتني مسكيناً واحشرني في زمرة المساكين"[13].(/11)
عن خباب قال: جاء الأقرع بن حابس التميمي وعيينة بن حصن الفزاري فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع صهيب وبلال وعمار وخباب قاعدا في ناس من الضعفاء من المؤمنين فلما رأوهم حول النبي صلى الله عليه وسلم حقروهم فأتوه فخلوا به وقالوا: إنا نريد أن تجعل لنا مجلسا تعرف لنا به العرب فضلنا فإن وفود العرب تأتيك فنستحيي أن ترانا العرب مع هذه الأعبد فإذا نحن جئناك فأقمهم عنك فإذا نحن فرغنا فاقعد معهم إن شئت. قال: (نعم) قالوا: فاكتب لنا عليك كتاباً قال: فدعا بصحيفة ودعا عليا ليكتب - ونحن قعود في ناحية - فنزل جبرائيل عليه السلام فقال: {وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} (الأنعام: 52)، فألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيفة من يده ثم دعانا، فدنونا منه حتى وضعنا ركبنا على ركبته، وهو يقول: {سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ}[14].
وكان صلى الله عليه وسلم أوفى الناس بالعهود، وأوصلهم للرحم، وأعظمهم شفقة ورأفة ورحمة بالناس، أحسن الناس عشرة وأدباً، وأبسط الناس خلقاً، أبعد الناس من سوء الأخلاق، لم يكن فاحشاً، ولا متفحشاً، ولا لعاناً، ولا صخَّابا في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح[15].
وصفه هند بن أبي هالة فيما يرويه عنه الحسن بن علي رضي الله عنهما[16] فقال :(/12)
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم متواصل الأحزان، دائم الفكرة، ليست له راحة، ولا يتكلم في غير حاجة، طويل السكوت، يفتتح الكلام ويختمه بأشداقه ـ لا بأطراف فمه ـ ويتكلم بجوامع الكلم، فصلاً، لا فضول فيه ولا تقصير، دمثاً ليس بالجافي ولا بالمهين، يعظم النعمة وإن دقت، لايذم شيئاً، ولم يكن يذم ذواقاً ـ ما يطعم ـ ولا يمدحه، ولا يقام لغضبه إذا تعرض للحق بشيء حتى ينتصر له، لا يغضب لنفسه، ولا ينتصر لها ـ سماحة ـ وإذا أشار أشار بكفه كلها، وإذا تعجب قلبها، وإذا غضب أعرض وأشاح، وإذا فرح غض طرفه، جل ضحكه التبسم، ويفتر عن مثل حب الغمام .
وكان يخزن لسانه إلا عما يعنيه، يؤلف أصحابه ولا يفرقهم، يكرم كريم كل قوم، ويوليه عليهم، ويحذر الناس، ويحترس منهم من غير أن يطوي عن أحد منهم بشره .
يتفقد أصحابه، ويسأل الناس عما في الناس، ويحسن الحسن ويصوبه، ويقبح القبيح ويوهنه، معتدل الأمر، غير مختلف، لا يغفل مخافة أن يغفلوا أو يملوا، لكل حال عنده عتاد، لا يقصر عن الحق، ولا يجاوزه إلى غيره . الذين يلونه من الناس خيارهم، وأفضلهم عنده أعمهم نصيحة، وأعظمهم عنده منزلة أحسنهم مواساة ومؤازرة .
كان لا يجلس ولا يقوم إلا على ذكر، ولا يوطن الأماكن، إذا انتهي إلى القوم جلس حيث ينتهي به المجلس، ويأمر بذلك، ويعطي كل جلسائه نصيبه حتى لا يحسب جليسه أن أحداً أكرم عليه منه، من جالسه أو قاومه لحاجة صابره حتى يكون هو المنصرف عنه، ومن سأله حاجة لم يرده إلا بها أو بميسور من القول، وقد وسع الناس بسطه وخلقه، فصار لهم أبا، وصاروا عنده في الحق متقاربين، يتفاضلون عنده بالتقوي، مجلسه مجلس حلم وحياء وصبر وأمانة، لا ترفع فيه الأصوات، ولا تؤبن فيه الحرم، يتعاطفون بالتقوي، يوقرون الكبير، ويرحمون الصغير، ويرفدون ذا الحاجة، ويؤنسون الغريب .(/13)
كان دائم البشر، سهل الخلق، لين الجانب، ليس بفظ، ولا غليظ، ولا صَخَّاب، ولا فحاش، ولا عتاب، ولا مداح، يتغافل عما لا يشتهي، ولا يقنط منه . قد ترك نفسه من ثلاث : الرياء، والإكثار، وما لا يعنيه، وترك الناس من ثلاث : لا يذم أحداً، ولا يعيره، ولا يطلب عورته، ولا يتكلم إلا فيما يرجو ثوابه، إذا تكلم أطرق جلساؤه، كأنما على رءوسهم الطير، وإذا سكت تكلموا . لا يتنازعون عنده الحديث، من تكلم عنده أنصتوا له حتى يفرغ، حديثهم حديث أولهم، يضحك مما يضحكون منه، ويعجب مما يعجبون منه، ويصبر للغريب على الجفوة في المنطق، يقول: "إذا رأيتم صاحب الحاجة يطلبها فأرفدوه "، ولا يطلب الثناء إلا من مكافئ . ا.هـ
وعلى الجملة، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم كامل الوصف، منقطع النظير، وهذا سبب نجاحه في دعوته وسرُّ اجتماع القلوب عليه.
وهذه الخلال والخصال التي ذكرتها إن هي إلا غيضٌ من فيض وقطرة من بحر، والمقام لا يسمح بالتفصيل، وإنما أردت التمهيد للبحث فحسب.
النقطة الثانية: اسمه ونسبه صلى الله عليه وسلم:
هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، ويرجع نسبه إلى" عدنان " من ولد إسماعيل عليه السلام الذبيح بن إبراهيم الخليل أبي إسحاق عليهم جميعاً الصلاة والسلام.
وهو خير أهل الأرض نسباً على الإطلاق، فلنسبه من الشرف أعلى ذروة، وأعداؤه كانوا يشهدون له بذلك، ولهذا شهد له به عدوه إذ ذاك أبو سفيان بين يدي ملك الروم هرقل في قصة شائقة، تعدُّ من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم، ويمكن الرجوع إليها في صحيح البخاري[17].
ولرسول الله محمد عدة أسماء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لي خمسة أسماء: أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله به الكفر، وأنا الحاشر الذي يُحشر الناس على قدمي (أي يُحشر الناس إثر بعثه)، وأنا العاقب"[18] والعاقب الذي ليس بعده نبي.(/14)
وورد اسمٌ آخر يتعلق بالبحث، وهو " نبي الرحمة "، فقد جاء رجلٌ ضريرُ البصر النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: ادعُ اللَّهَ تعالى أن يعافيني، قال: "إنْ شِئْتَ دَعَوْتُ، وَإِنْ شِئْتَ صَبرْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ " قال: فادعُه، فأمره أن يتوضأَ فيُحسنَ وضوءَه ويدعوَ بهذا الدعاء: " اللَّهُمَّ إني أسألُكَ وأتَوَجَّهُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ نَبِيّ الرَّحْمَةِ صلى الله عليه وسلم، يا مُحَمَّدُ! إني تَوَجَّهْتُ بكَ إلى رَبّي في حاجَتِي هَذِهِ لِتُقْضَى لي، اللَّهُمَّ فَشَفِّعْهُ فيّ "[19].
ومحمد أشهر الأسماء، وبه سمي في التوراة صريحاً بما يوافق عليه كل عالم من مؤمني أهل الكتاب[20]، ومن أسمائه أحمد وهو الاسم الذي سماه به المسيح عليه السلام.
و" محمد " سمي به في التوراة لكثرة الخصال المحمودة التي وصف بها هو ودينه وأمته فيها، وفي معاجم اللغة المُحَمّدُ: الذي كثُرت خصاله الحميدة ؛ وما سُمِّي الرسول محمُدًا إلَّا لأنّه محمّدٌ أي إن اسمه هو صفته، فطابق الاسم المسمَّى[21]. وهو اسم لا تكاد العرب تعرفه؟! وكان المشركون يشتمونه، ويسمونه مذمماً! على نقيض معنى اسمه، على نحو مشابه لما فعلته بعض الصحف الأوربية في وقت سابق، ولكن الرسول الحليم لم يكن ليضيق صدره، بل يجيب ببراعته اللغوية وحنكته السياسية قائلاً لأصحابه: " ألا تعجبون كيف يصرف الله عني شتم قريش، ولعنهم؟ يشتمون مذممًا، ويلعنون مذممًا، وأنا محمد! "[22].
ومعنى (يصرف الله عني) أي لعنهم وشتمهم فلا يصيبني، لأنهم يلعنون ويشتمون غيري الذي يسمى مذمماً، بينما اسمي محمد صلى الله عليه وسلم. وكان كفار قريش لشدة كراهتهم له صلى الله عليه وسلم لا يسمونه باسمه الدال على المدح، فيعدلون إلى ضده فيقولون:(/15)
مذمم، وهو ليس اسمه ولا معروفاً به، فكان الذي يقع منهم مصروفاً إلى غيره بالبداهة، فيحصل ضد قصدهم، ويرد الله تعالى كيدهم في نحرهم، ليموتوا في غيظهم. ولكن ينبغي الإشارة إلى أن نعت قريشٍ محمداً بمذمم إنما أتى بعد الرسالة والخصومة فيها، وكان قبلها يدعى عندهم "الصادق الأمين".
ألا تتفق معي أن دفاع محمد صلى الله عليه وسلم عن نفسه كان هادئاً جداً بيد إنه مفحمٌ للخصم، يكاد يقتله غيظاً وحنقاً، ولو قُدِّرَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعيش إلى أيامنا ؛ واطلع على تلك الصور سيئة الذكر لأجاب بمثله!.
والشيء بالشيء يذكر، فقد ذكَّرني دفاع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نفسه بما روته لنا حبيبته المبرَّأة عائشة قالت: استأذن رهط من اليهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا:
السام عليكم! (والسام الموت) قالت عائشة غاضبةً: بل عليكم السام واللعنة.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عائشة إن الله يحب الرفق في الأمر كله. قالت: ألم تسمع ما قالوا؟ قال: قد قلت: وعليكم[23]. وهذا الرفق منه من تجليات رحمته صلى الله عليه وسلم ومن دلائل نبوته!
وفي غزوة أحد أشرف أبو سفيان قائد جيش المشركين في زهو وغرور إثر نصر اختطفه من المسلمين على حين غرة، فقال: أفي القوم محمد؟. فقال رسول الله: لا تجيبوه! فقال: أفي القوم ابن أبي قحافة؟ فقال: لا تجيبوه. فقال: أفي القوم ابن الخطاب؟ فقال: إنَّ هؤلاء قُتِلوا فلوا كانوا أحياءً لأجابوا. فلم يملك عمر نفسه، فقال: كذبت يا عدو الله أبقى الله عليك ما يسوؤك! فقال أبو سفيان: أعل هبل!. فقال النبي: أجيبوه! قالوا: ما نقول؟ قال: قولوا الله أعلى وأجل. فقال أبو سفيان: لنا العزَّى ولا عزَّى لكم. فقال النبي: أجيبوه! قالوا: ما نقول؟ قال: قولوا الله مولانا ولا مولى لكم. قال أبو سفيان:
يوم بيوم بدر والحرب سجال وتجدون مثلة لم آمر بها ولم تسؤني![24].(/16)
هكذا كان رسول الهدى صلى الله عليه وسلم يدير الحرب الإعلامية بعفةٍ وأدبٍ وطهارةٍ واحترامٍ وصدقٍ وهدوءٍ واعتدالٍ دون إسفافٍ في الكلام أو فجورٍ في الخصومة أو خنوعٍ للتهمة أو رضىً بالدون!.
النقطة الثالثة: شبهة والرد عليها:
قد تعترض وتقول: ولكن ردة فعل أتباعه على الإساءة إليه في الآونة الأخيرة كانت 0غاضبة جداً، وبعضها بلغ حد العنف والترويع؟.
أن تغضب أمة أسيء إليها فهذا من حقها خاصة إذا كانت الإساءة إلى أعظم حرماتها وأعز من تحب: رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أحب إليها من الوالد والولد!. عندما قدَّم المشركون الصحابي زيد بن الدثنة ؛ ليقتلوه. واجتمع رهط من قريش فيهم أبو سفيان بن حرب، فقال له أبو سفيان حين قدم ليقتل: أنشدك الله يا زيد أتحب أن محمداً عندنا الآن في مكانك نضرب عنقه وأنك في أهلك؟. قال: والله ما أحب أن محمداً الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأني جالس في أهلي. قال: يقول أبو سفيان: ما رأيت من الناس أحدا يحب أحدا كحب أصحاب محمد محمداً!![25].(/17)
ثمَّ هل تريدون منا أن نغمض أعيننا, ونصم آذاننا, ونلجم ألسنتنا، وكأن شيئاً لم يحدث؟!.. وأَنَّى لإنسانٍ مكرَّمٍ فضلاً عن مؤمن غيور يسمع ويرى حبيبه - الرحمة المهداة للعالمين من الرحمن الرحيم - يُستهزَأُ به، ويُسخرُ منه بالكلمة المقروءة والمسموعة وبالصورة والكاريكاتير، ثم يدفن رأسه، ويؤثر الصمت!؟ وهل يوقف الصمت عدواناً، أم يغري بالتمادي والتطاول؟ وماذا يبقى للأمة من كرامة يوم يُنال من مقام نبيها وإمامها، ويتطاول عليه بهذه الصورة الوقحة السافرة، ثم لا يُنتصَرُ له، ولا يُذاد عن حياضه؟!. أينتصر الوثنينون وعبَّاد الحجر والبقر لرموزهم ومقدساتهم، فتقوم الدنيا ولا تقعد لتمثال بوذا مثلاً في أيام طالبان أو لصورة له أيضاً امتهنت وصوِّرت على لباس سباحة في تايلند - وهذا حقهم، وحق كلِّ أمة أن تذود عن مقدساتها، وتتصدى لحملة الكراهية والاحتقار التي تشنها بعض بؤر العنصرية الآسنة - بينما يرفع بعضهم عقيرته ينتقد المسلمين، ويطالبهم بالعقلانية وعدم الانجرار وراء العاطف.(/18)
لن نبادل السب والإهانة والاستهزاء بمثله , لأنه ليس من خلقنا، وديننا ينهانا عنه, ثم إننا نحن المسلمين نُجل الرسل جميعاً، ونوقرهم، ونصدقهم، و{لا نفرِّق بين أحد من رسله}[26]. ونحن إذ نغضب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإننا نغضب لإبراهيم وموسى وزكريا ويحيى وعيسى ؛ لأن الإهانة لمحمد إهانة لجميع إخوانه فالأنبياء أخوة لعلات، أبوهم واحدٌ، وأمهاتهم شتى كما جاء على لسان رسول الله[27] الذي يقول: (أنا أولى الناس بابن مريم، والأنبياء أولاد علات، ليس بيني وبينه نبي)[28]. أي أنا أخص الناس بعيسى وأقربهم إليه، لأنه بشَّر به[29]، ولأنه لا نبي بينهما، فكأنهما في زمن واحد. (والأنبياء أولاد علات) هم الأخوة لأبٍ واحدٍ من أمهات مختلفة، والمعنى: أن شرائعهم متفقة من حيث الأصول، و(دينهم واحد) هو دين التوحيد وإن اختلفت من حيث الفروع، حسب الزمن، وحسب العموم والخصوص.(/19)
ونحن إذ نغضب لرسولنا صلى الله عليه وسلم، فإننا لا ندعو إلى فتنة، ولا نحرِّض على ترويع، ولكننا – في الوقت ذاته - لا نرضى أن تمر واقعة بهذا الخطر دونما حساب ولا عقاب للأيدي الآثمة التي اقترفت هذه الجريمة، بيد إننا ندعو إلى أن تكون ردة الفعل على هذا الحادث من قبل المسلمين مدروسة وهادئة، وأن توظف بشكل إيجابي من أجل إعادة تصحيح علاقة الإنسانية – ولا أقول المسلمين وحدهم - برسولها الذي بعثه الله رحمة للعالمين، بحيث تصير طريقته الحميدة وسيرته العطرة محور اهتمامها ومنهاج حياتها، لتطهِّر نفسها من أوحال الحضارة المادية المعاصرة، ولا أقصد التكنولوجيا فهي من حسناتها لو سُخِّرت وسيِّرت في وجهتها الصحيحة، وليس عند المسلمين مشكلة مع التكنولوجيا أو صراعاً مع العلم مثل الصراع الذي وقع بين الكنيسة والعلم وعانت منه أوربا لأحقابٍ طويلة. فطلب العلم الدنيوي في ديننا عبادة وفريضة، ولم يقل الله قط أن علم الدنيا غباء، أو أريد أن أهدم حكمة الحكماء، وأحطم عقل العقلاء كما زعم بولس الرسول، ولم تحل اللعنة على من يقول بكروية الأرض أو يربط بين الظواهر الطبيعية وقانون السببية، ولم يسجن في ديار الإسلام عالم أو يحرق بالنار بسبب آرائه ونتائجه العلمية، ولم نحرق كتب العلوم والفلسفة مثلما أحرق أساقفة أسبانيا كتباً تجاوز عددها المليون وخمسمئة ألف كتاب من ثمار حضارة وثقافة عاشت ثمانية قرون[30]. كلُّ ذلك لم يقع في بلاد الإسلام ولكنه للأسف وقع في أوربا[31].
أجدني قد استطردت، وأعود لأقول أنه ما ينبغي لوسائل الإعلام وتقنيات التأثير والخداع أن تخدع حواسنا، وتضلل عقولنا، وتمسخ فطرتنا التي فطرنا الله عليها، وتميل بنا عن الجادة.
المبحث الثاني: لمحة وجيزة عن سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم:(/20)
ليس غرضي من البحث عرض السيرة النبوية، فالموضوع الذي يتناوله بحثي هو "محمدٌ رحمة للعالمين"، ولكن رأيت أنه لا بد من التوطئة له بلمحة وجيزة عن سيرته وعرض الخطوط العريضة في حياته، إذ كيف أتكلم عن صفةٍ ما والقارئ لا يعرف الموصوف أو يجهل أوليات حياته؟.
النقطة الأولى: ولادته ورضاعته وحضانته صلى الله عليه وسلم:
ولد صلى الله عليه وسلم في مكة، عام الفيل الذي نصر الله فيه بيته على عدوه من الحبشة - بقيادة أبرهة الذي أراد هدم الكعبة - نصرًا لا صنع للبشر فيه، إرهاصًا وتقدمة للنبي صلى الله عليه وسلم الذي ولد في مكة، ونبت فيها، وتعظيماً للبيت الحرام.(/21)
ولد صلى الله عليه وسلم يتيماً ثم ماتت أمه ولمَّا يستكمل إذ ذاك سبع سنين، فأوصد الباب في وجه الذين يفترون الكذب، إذ قد يزين لهم الشيطان زخرف القول بأن محمداً زرع أبويه وثمرة تربية وتنمية أسرية!. ثم كفله جده عبد المطلب وتوفي ولرسول الله صلى الله عليه وسلم نحو ثمان سنين، ثم كفله عمه أبو طالب واستمرت كفالته له، فلمَّا بلغ ثنتي عشرة سنة خرج به عمه إلى الشام حيث رآه بحيرى الراهب، وبشَّر عمه بأنه سيكون لابن أخيه شأن عظيم (أي النبوة)، وأمره ألا يقدم به إلى الشام خوفاًَ عليه من يهود، فبعثه عمه مع بعض غلمانه إلى مكة!. وقد استغلَّ بعض المستشرقين الزيارة الخاطفة لبصرى، ليزعم أن محمداً ابن اثني عشر ربيعاً قد أخذ عن بحيرى الراهب علم الكتاب الذي عنده، وبنى عليه دعوى النبوة! ولكنَّ آيات القرآن كانت تتنزل على محمدٍ نجوماً بحسب الوقائع والأحداث المستجدة، فهل أحاط بها بحيرى علماً؟! وهل أخبر بالغار وببدرٍ وأحدٍ وحادثة الإفك وغيرها من الوقائع التي نزل القرآن بشأنها؟. وكان من الإنصاف وقد بنوا على واقعة لقائه ببحيرى أن يأخذوا بكل تفاصيلها، وفيها البشارة بنبوة محمد والإقرار بها، فلماذا يتقوَّلون عليه بأنه استفاد دعوى النبوة من راهب بصرى، ويغمضون أعينهم عما ورد في الواقعة التاريخية من بشارة الراهب لعمه!؟.
النقطة الثانية: شبابه ومشاركته قومه في معاليهم صلى الله عليه وسلم:
ولما بلغ الرسول محمد صلى الله عليه وسلم خمسًا وعشرين سنة خرج إلى الشام في تجارة فوصل إلى "بصرى"، وهي أقصى ما وطئته قدماه من أرض الشام. ثم رجع؛ ليتزوج عقيب رجوعه خديجة بنت خويلد بنت الأربعين، وهي التي خطبته لما عرفت من صدقه وأمانته وبركته في رحلته التجارية، وكان قد خطبها أكابر قومها فأبت، وهي أول امرأة تزوجها، ولم ينكح عليها غيرها حتى ماتت، وأحبها حباً عظيماً لم ير مثله، ووفَّى لها في حياتها وبعد موتها.(/22)
وحُبِّبَ إليه قبل بعثته الخلوة والتعبد لربه، وكان يخلو بـ "غار حراء"، يتعبد فيه الليالي ذوات العدد، وبُغِّضت إليه الأوثان ودين قومه فلم يكن شيء أبغض إليه من ذلك، وهاتان أمارتان من أمارات النبوة: الخلوة وبغض الأوثان، فتدبر! وقد اجتنب مجمد ما كان عليه قومه من رذائل الجاهلية وأوضارها، فلم يغمس يده في شيءٍ منها، إلا إنه أسهم في حلف الفضول الذي عقد لنصرة المظلوم، وحرب الفجار، وبناء الكعبة، ونحو ذلك من مآثرهم.
فلما كمل له أربعون سنة أشرق عليه نور النبوة، وأكرمه الله تعالى برسالته، وبعثه إلى الناس كافة: أبيضهم وأسودهم عربيهم وأعجميهم، منذ اليوم الأول من دعوته، ولم يتطور خطابه الدعوي - كما يحلو لبعضهم أن يزعم -، تمشياً مع ظروف دعوته ومدى نجاحها، أي أنه خصَّ به قومه، ثم لمَّا اتسعت دولته كبرت طموحاته، وصبغ دعوته بالصبغة العالمية.(/23)
وكان مبعثه صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين لثمان مضين من ربيع الأول على قول الأكثرين سنة إحدى وأربعين من عام الفيل. وفي يوم سابعه ختنه جده عبد المطلب، وصنع له مأدبة، وسماه محمداً، وهو اسم لا تكاد العرب تعرفه، وأرضعته ثويبة مولاة أبي لهب أياماً، ثم أرضعته حليمة السعدية، وحضنته أمه آمنة بنت وهب، والفاضلة الجليلة أم أيمن بركة الحبشية. ولا يلتفت إلى الروايات الواهية التي تزعم أنه ولد مختوناً بل ختن على عادة العرب، وكانت ولادته عادية كسائر البشر، غير إن بعض الأخباريين والقُصَّاص أحاطوها بالخوارق، وبالغوا فيها، يقصدون رفع منزلته، فأساؤوا ؛ لأن مقامه عالٍ رفيع الدرجات، ولا يحتاج إلى حشو السيرة بالأوهام والمبالغات أو لعلهم أرادوا بذلك أن يضاهوا بولادته ولادة سيدنا المسيح عليه السلام، وغاب عنهم أن رسول الله لم يبعث بالخوارق ولكنه بعث برسالةٍ تخاطب العقل الإنساني، وتتحداه، وتقدم مفهوماً جديداً للإعجاز، افتقرت إليه الرسالات السماوية السابقة بسبب تغير الزمان وتطور بني الإنسان.
النقطة الثالثة: بعثته وأول ما نزل عليه صلى الله عليه وسلم:(/24)
بعثه الله على رأس أربعين وهي سن الكمال، وكان أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمر النبوة الرؤيا الصادقة واستمر ذلك ستة أشهر، ثم أكرمه الله تعالى بالنبوة، فجاءه الملك وهو في خلوته بغار حراء، فقال له: {اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذي علَّم بالقلم * علَّم الإنسان ما لم يعلم}[32]، فرجع إلى أهله خائفاً، يرجف فؤاده حتى دخل على خديجة بنت خويلد. فقال: زملوني، زملوني، فزملوه حتى ذهب عنه الروع. فقال لخديجة: - وأخبرها خبر الغار - لقد خشيت على نفسي!. فقالت خديجة: كلا والله ما يخزيك الله أبداً. إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتقري الضيف وتكسب المعدوم وتعين على نوائب الحق!. وانطلقت به خديجة حتى أتت به ابن عمها ورقة بن نوفل، وكان قد تنصر في الجاهلية، ويكتب من الإنجيل بالعبرانية، وكان شيخاً كبيراً قد عمي. فقالت له خديجة: يا ابن عم اسمع من ابن أخيك. فقال له ورقة: يا ابن أخي، ماذا ترى؟ فأخبره رسول صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى.
فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزل الله به على موسى، يا ليتني فيها جذع، ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أومخرجي هم؟). قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا[33]، وأسلم ورقة، ليسجِّل التاريخ أن أول رجل يصدِّقُ محمداً ويعتنق دينه هو عالمٌ من أهل الكتاب، وهذا شاهدٌ ثانٍ بعد بحيرى، ثم لم ورقة ينشب أن توفي، ورآه النبي صلى الله عليه وسلم في المنام في هيئة حسنة. ولا ريب أن أهل الكتاب أولى بمحمد صلى الله عليه وسلم من سائر الناس، لأنهم أهل دين سماوي، وكانوا يعرفون محمداً بأوصافه أكثر مما يعرفون أبناءهم، وكان اليهود ينتظرونه ويستفتحون به على خصومهم، فلما خرج من العرب كفروا به عصبية وحسداً من عند أنفسهم.
النقطة الرابعة: الأوائل:(/25)
ثم حمي الوحي، وأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالدعوة، فدعا قومه إلى الإسلام، فحاز قصب السبق صديقه ووزيره أبو بكر، وزوجته خديجة، وابن عمه علي بن أبي طالب وكان ابن ثمان سنين، يعيش في كنف رسول الله صلى الله عليه وسلم وكفالته.
وهؤلاء نواة الإسلام: حرٌّ وعبدٌ وامرأة وفتىً!، ومنهم انبثق الدين، وسرى في الناس، وعم نوره في البقاع. أما العبد الذي بادر إلى الإسلام فزيد بن حارثة حب رسول صلى الله عليه وسلم، وكان غلاماً لخديجة، وهبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم لمَّا تزوجها.
وتعرَّف عليه أهله، فأبى أن يرجع معهم، وآثر رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم.
النقطة الخامسة: تعذيب المستضعفين:(/26)
ودخل الناس في دين الله واحداً بعد واحدٍ، وقريش لا تنكر ذلك حتى بادأهم بعيب دينهم وأصنامهم وأنها لا تضر ولا تنفع، فحينئذ ناصبوه العداوة، فحمى الله رسوله صلى الله عليه وسلم بعمه أبي طالب، لأنه كان شريفا معظماً في قومه. وكان من حكمة أحكم الحاكمين بقاؤه على دين قومه، لما في ذلك من المصالح التي تبدو لمن تأملها. وأما أصحابه فمن كان له عشيرة تحميه امتنع بعشيرته، وسائرهم صبَّ عليهم المشركون العذاب صبَّاً، وفتنوهم عن دينهم فتوناً، منهم عمار بن ياسر، وأمه سمية وأهل بيته الذين عُذِّبوا في الله عذاباً شديداً، حتى قضى ياسر نحبه، ومرَّ أبو جهل بسمية - أم عمار - وهي تعذب، فطعنها بحربة في فرجها فقتلها، ليسجل التاريخ أن أول شهيدٍ في الإسلام امرأة!. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مرَّ بهم - وهم يعذبون في الرمضاء – يسمع أنينهم، فيقول: "صبرا يا آل ياسر، فإن موعدكم الجنة"![34]. لم يعدهم ويمنيهم بالسعة والدولة والجاه والمناصب بل وعدهم الجنة، وبمثله وعد أصحاب العقبة فيما بعد، ولم يعهد إلى أحد بشيء من متاع الدنيا ومناصبها – كما يفعل عادة أصحاب المطامع وزعماء الإصلاح والثورات -، فهل هذا وعد ملك أم نبي؟. رويَ أنه صلى الله عليه وسلم أتى بني عامر بن صعصعة، فدعاهم إلى الله، وعرض عليهم نفسه، فقال له رجل منهم يقال له بيحرة بن فراس: والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب!.(/27)
ثم قال له: أرأيت إن نحن تابعناك في أمرك ثم أظهرك الله على من يخالفك أيكون لنا الأمر من بعدك؟ قال: ((الأمر لله يضعه حيث يشاء!)). فقال له: أفنهدف نحورنا للعرب دونك فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا! لا حاجة لنا بأمرك، فأبوا عليه[35]. ((الأمر لله يضعه حيث يشاء!)): عبارة قالها محمدٌ في أصعب أيامه، فلو كان محمدٌ مثل غيره من أصحاب المطامع والطموحات لأعطى بني عامر بن صعصعة ما يطلبون، ولأغرقهم بالوعود ومنَّاهم بالأماني، ليصل إلى مآربه،
كمرشحي الانتخابات الذين يغرقون ناخبيهم بالوعود التي يسيل لها لعابهم، ويستثيرون غرائزهم ومطامعهم بالأماني الكذَّابة والأحلام الخلَّابة. ولكنه محمد رسول الله حقاً وصدقاً، يقول بتواضعٍ وصراحة: ليس له من الأمر شيء، فالأمر لله يضعه حيث يشاء! أين علماء التحليل النفسي، ليتدارسوا هذه الدلائل وأسرارها ومغازيها، وليعلموا أن هذا الرجل لا ينطق عن الهوى!.
النقطة السادسة: الهجرة إلى الحبشة:
واشتد أذى المشركين على من أسلم، وفُتِنَ منهم من فتن حتى يقولوا لأحدهم: اللات والعزى إلهك من دون الله؟
فيقول: نعم! وحتى إن الجعل ليمر بهم فيقولون: وهذا إلهك من دون الله، فيقول: نعم[36]. فلما اشتد البلاء أذن الله سبحانه لهم بالهجرة الأولى إلى أرض الحبشة، وإنما اختار لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الحبشة، لأن أهلها نصارى أهل كتاب، وفيها ملكاً عادلاً لا يظلم الناس عنده!. فأقام المهاجرون عند النجاشي على أحسن حال، فبلغ ذلك قريشاً فأرسلوا وفداً، ليكيدوهم عند النجاشي، فرجعوا بالفشل[37]. وظلَّ المهاجرون عند النجاشي ينشر عليهم ظله وحمايته حتى رجعوا إلى المدينة المنورة سنة سبع للهجرة.
النقطة السابعة: حصار الشعب وما بعده:(/28)
اشتد أذى المشركين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فحصروه وأهل بيته في شعب أبي طالب ثلاث سنين، حتى بلغهم الجهد وسمع أصوات صبيانهم بالبكاء من وراء الشعب، و بدأ حبس الرسول صلى الله عليه وسلم في هلال المحرم سنة سبع من البعثة وخرج من الحصار وله تسع وأربعون سنة، وبعد ذلك بأشهر مات عمه أبو طالب، ثم ماتت خديجة بعد ذلك بيسير، فاشتد أذى الكفار له، فخرج إلى الطائف هو وزيد بن حارثة يدعو إلى الله تعالى وأقام به أياماً، فلم يجيبوه وآذوه وأخرجوه ورجموه بالحجارة حتى أدموا كعبيه، وكان أشد عليه من يوم أحد، فأرسل الله إليه ملك الجبال يستأذنه بإهلاك قومه، وأن يطبق عليهم جبلي مكة إن أراد، ولكن الرسول الرحيم صلى الله عليه وسلم أجاب: ((بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده، لا يشرك به شيئا))[38].
الفرج بعد الشدة: وفي طريقه لقي عداساً النصراني من نينوى، فآمن به وصدَّقه، وهو شاهدٌ ثالثٌ من أهل الكتاب[39]، وعندما رجع إلى مكة، لم يدخلها إلا في جوار المطعم بن عدي ؛ اتقاء بطش قريش وفتكها، وبعدها أُسرِيَ به صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى ثم عُرِج به إلى فوق السموات، للقاء ربه، ليطمئنَّ قلبه، فخاطبه ربه سبحانه، وفرض عليه الصلوات الخمس، وقيل كان ذلك مناماً، وهذا قولٌ لا يصح، فإنَّ محمداً لم يسرِ بقدرته أو بنفسه، وإنما أسريَ به، وما ذلك على الله بعزيز.
النقطة الثامنة: دعوة القبائل ولقاء الأنصار:(/29)
أقام صلى الله عليه وسلم بمكة يدعو القبائل إلى الله تعالى، ويعرض نفسه عليهم في مواسم الحج، وأن يؤووه حتى يبلغ رسالة ربه ولهم الجنة ليس غير، فلم تستجب له قبيلة، فلما رأى الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس إلى الله، وتأملوا أحواله، وقد سمعوا عنه من أهل الكتاب، قال بعضهم لبعض: " تعلمون والله يا قوم أن هذا الذي توعدكم به اليهود، فلا يسبقونكم إليه ". وكان اليهود ينتظرون مبعثه، وقدَّر الله بعد ذلك أن اليهود يكفرون به حسداً من عند أنفسهم، ولكن نفراً من خيار بني إسرائيل صدَّقوا بمحمدٍ واتبعوه بعد أن عرفوه بنعته الوارد في كتبهم، منهم عبد الله بن سلام، وقصة إسلامه في السيرة عجيبة فيها أمارات قوية على نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم.
البشارة برسول الله صلى الله عليه وسلم: والبشارة برسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة والإنجيل ثابتة، وما تزال كثيرٌ من نصوص الكتاب المقدس المعاصر تحمل هذه البشارة بدلالة قاطعة صريحة، من مثل ما ورد في سفر التثنية 33: 2-3: النص (1): ((جاء الرب من سيناء وأشرق لهم من ساعير وتلألأ من جبل فاران)) (2) ((عشرة آلاف قديس معه)).. ((وعن يمينه نار الشريعة لهم فأحب الربُّ الشعب)).. ((وحمى من ينتسبون إليه))[40]. وفاران هي مسكن إسماعيل، كما تذكر التوراة نفسها في سفر التكوين: 21: 21، تقول: ((وسكن – أي إسماعيل – في برية فاران)).(/30)
والنصوص التي تبشر بمحمد في الكتاب المقدس كثيرة، أكتفي بالإشارة إليها لمن يود مراجعتها والنظر فيها[41]، فمنها: (حبقوق 3: 3-6) وفيها ذكر تيماء، (أشعياء 21: 13 – 17)، وفيه ذكر ((وحي من بلاد العرب الوعرة)) وفناء مجد قيدار ومن نسله قريش، ووقع ذلك في غزوة بدر، و بشارة أشعيا عن العاقر تجدها في (أشعياء فصل 54)، وغلاطية 4: 24 – 27، والبشارة لموسى عليه السلام في (التثنية 18: 15 – 20)، وتقول: ((أقيم لهم نبياً من وسط إخوتهم مثلك، واجعل كلامي في فمه، فيكلمهم بكل ما أوصيه به...)). وكذلك بشَّر به المسيح، ففي إنجيل يوحنا 15: 26: " فمتى جاء هو أي روح الحق، أرشدكم إلى الحق كله لأنه لن يتكلم من عنده بل يتكلم بما يسمع، ويخبركم بما سيحدث، سيمجدني لأنه
يأخذ مما لي ويخبركم به"[42]. وما بشارة عيسى إلا محمد، قرأها رجلٌ عظيمٌ من أهل الكتاب، وعرف علامات النبي الأمي، فخرج يبحث عنه، ويتنقل بين المدن، حتى حطَّ رحاله في يثرب، فلقيه وعرفه وآمن به، واسمه سلمان الفارسي الذي صار فيما بعد من كبار أصحابه.
النقطة التاسعة: لقاء الأنصار والهجرة:
ولقي الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم وبايعوه ووعدوه أن ينصروه ويمنعوه حتى يبلغ رسالة ربه، ثم هاجر إليهم مع أصحابه. وهناك في يثرب التي سمَّاها المدينة جمع الله عليه أهل يثرب من قبيلتي الأوس والخزرج أخوةً متحابين بعد عداوة وقعت بينهم بسبب قتيل، فلبثت بينهم الحرب مائة وعشرين سنة إلى أن أطفأها الله بالإسلام، وألف بينهم برسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك قوله: {واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً}[43] ولكن المشركين ازداد حنقهم على الإسلام وأهله، فشنوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم سلسلة من الحروب المتتابعة، مما اضطر المسلمين إلى الدفاع عن أنفسهم، وإذن الله لهم بالقتال بأنهم ظُلموا، بعد أن أمروا بكف أيديهم.(/31)
النقطة العاشرة: رسالة عالمية ودعوة عامة:
واستطاع رسول الله بعد فترة أن ينتزع من قريش صلحاً سمِّي صلح الحديبية، ليتفرغ للدعوة ونشر الرسالة، فبعث رسلاً سفراء من أصحابه، وكتب معهم كتباً إلى الملوك، يدعوهم فيها إلى الإسلام إذ أرسله الله للناس كافة و رحمة للعالمين: فبعث إلى قيصر ملك الروم؛ و كسرى ملك فارس; والنجاشي ملك الحبشة، المقوقس ملك الإسكندرية; وجيفر وعياد ابني الجلندى الأزديين ملكي عمان; وثمامة بن أثال وهوذة بن علي الحنفيين ملكي اليمامة; والمنذر بن ساوى العبدي ملك البحرين; والحارث بن أبي شمر الغساني، ملك تخوم الشام، وجبلة بن الأيهم الغساني، والحارث بن عبد كلال الحميري ملك اليمن. واختلف جواب الملوك على كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمنهم من آمن كالنجاشي، ومنهم من رد رداً جميلاً كالمقوقس وهرقل، ومنهم من رد رداً قبيحاً مثل كسرى الذي مزَّق الكتاب، وبعضهم قتل السفير[44].
النقطة الحادية عشرة: نجاح الدعوة وأثرها:(/32)
نجح رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوته على نطاق واسع تتحير له العقول، فقد دانت لها الجزيرة العربية، وزالت الجاهلية بتقاليدها الفاسدة وأعرافها الباطلة وأوضاعها الجائرة وتصوراتها العليلة حتى حطمت الأصنام، وجلجل صوت الأذان يشق أجواء الفضاء ويملا الآفاق. وتوحدت الشعوب والقبائل المتناثرة، وخرج الإنسان من عبادة العباد إلى عبادة اللّه، وتحقق العدل والمساواة، وألغيت الطبقية واندثرت العصبية الجاهلية، وإنما الناس كلهم عباد اللّه، إخوان متحابون، متمثلون لأحكامه، أذهب اللّه عنهم عُبِّيَّةَ الجاهلية ونخوتها وتعاظمها بالآباء، ولم يبق هناك فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوي، الناس كلهم بنو آدم، وآدم من تراب . وهكذا تحققت - بفضل هذه الدعوة - الوحدة الإسلامية، والوحدة الإنسانية، والعدالة الاجتماعية، وانعدلت القيم والمقاييس، وتغير وجه الأرض، وازدهرت في الجزيرة العربية نهضة مباركة، وحضارة زاهرة، وتألقت وازدانت.
النقطة الثانية عشرة: حجة الوداع:
بعد أن تحقق إبلاغ الرسالة للناس كافة، واكتمل بناء المجتمع الإسلامي على أساس التوحيد، وشاء اللّه أن يري رسوله صلى الله عليه وسلم ثمار دعوته، التي عاني في سبيلها ثلاثة وعشرين عاماً حافلاً بالجهد والجهاد والاجتهاد والبلاء والإيذاء، وأحس رسول الله صلى الله عليه وسلم بدنو أجله، ولذلك قصد رسول الله صلى الله عليه وسلم الحج، ليجتمع بالأمة الإسلامية، فيأخذوا منه أصول الدين وكلياته، ويأخذ منهم الشهادة على أنه أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة .(/33)
وفي اليوم التاسع من ذي الحجة يوم عرفة، وقد اجتمع حوله مئة ألف وأربعة وأربعون ألفاً من الناس، فقام فيهم خطيباً، وألقى هذه الخطبة الجامعة وتضمنت أول إعلانٍ عامٍ لحقوق الإنسان عرفته البشرية، أعلن فيها المساواة والعدل وحرمة الدماء والأموال وحقوق النساء، ووضع دماء الجاهلية وأموالها الربوية، وبدأ بربا عمه العباس، قال فيها[45]: "أيها الناس، اسمعوا قولي، فإني لا أدرى لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبداً. أيها الناس، إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم، كحرمة يومكم هذا، وكحرمة شهركم هذا، وإنكم ستلقون ربكم، فيسألكم عن أعمالكم، وقد بلغت، فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها. وإن كل ربا موضوع، ولكن لكم رؤوس أموالكم، لا تظلمون ولا تظلمون، قضى الله أنه لا ربا، وإن ربا عباس بن عبد المطلب موضوع كله. وإن كل دم كان في الجاهلية موضوع، وإن أول دمائكم أضع دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبدالمطلب، وكان مسترضعاً في بني ليث، فقتلته هذيل، فهو أول ما أبداً به من دماء الجاهلية.
وجاء فيها أيضاً: أما بعد: أيها الناس، فإن لكم على نسائكم حقاً، ولهن عليكم حقاً..... إلخ. ا.هـ وبعد أن فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من إلقاء الخطبة نزل عليه قوله تعالى : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا } (المائدة : 3) ، ولما نزلت بكى عمر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ( ما يبكيك ؟ ) قال : أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا، فأما إذا كمل فإنه لم يكمل شيء قط إلا نقص، فقال : ( صدقت ) [46] . وأقام أيام التشريق بمني يؤدي المناسك ويعلم الشرائع، ويذكر الله، ويقيم سنن الهدي من ملة إبراهيم، ويمحو آثار الشرك ومعالمها .(/34)
ولما قضى مناسكه حث الركاب إلى المدينة المطهرة، لا ليأخذ حظاً من الراحة، بل ليستأنف الكفاح، ويجهز جيشاً كبيراً في صفر سنة 11هـ، وأمَّر عليه أسامة بن زيد بن حارثة، وأمره أن يوطئ الخيل تُخُوم البلقاء والداروم من أرض فلسطين، يبغي بذلك إرهاب الروم، وإعادة الثقة إلى قلوب العرب الضاربين على الحدود، حتى لا يحسبن أحد أن بطش الروم لا معقب له، وأن الدخول في الإسلام يجر على أصحابه الحتوف فحسب . وانتدب الناس يلتفون حول أسامة، وينتظمون في جيشه، حتى خرجوا ونزلوا الجُرْف، على فَرْسَخ من المدينة، إلا أن الأخبار المقلقة عن مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم ألزمتهم التريث، حتى يعرفوا ما يقضي الله به، وقد قضي الله أن يختار رسوله، ويقبضه إليه، وأن يكون هذا أول بعث ينفذ في خلافة أبي بكر الصديق.
النقطة الثالثة عشرة الأخيرة: مرضه وموته - بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم:(/35)
روى ابن إسحاق: عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت رجع رسول صلى الله عليه وسلم من البقيع، فوجدني وأنا أجد صداعا في رأسي، وأنا أقول: وارأساه، فقال: بل أنا والله يا عائشة وارأساه. قالت: ثم قال: وما ضركِ لو متِّ قبلي، فقمتُ عليك وكفنتكِ، وصليت عليك ودفنتك؟ قالت قلت: والله لكأني بك، لو قد فعلت ذلك لقد رجعت إلى بيتي، فأعرست فيه ببعض نسائك، قالت فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتتامَّ به وجعه، وهو يدور على نسائه حتى استعزَّ به وهو في بيت ميمونة، فدعا نساءه، فاستأذنهن في أن يمرض في بيتي، فأذنَّ له. ولمَّا كان يوم الاثنين الذي قبض فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى الناس وهم يصلون الصبح، فرفع الستر، وفتح الباب، فقام على باب عائشة، فكاد المسلمون يفتنون في صلاتهم - فرحاً به حين رأوه وتفرَّجوا عنه – فأشار إليهم أن اثبتوا على صلاتكم قال وتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سروراً، لما رأى من هيئتهم في صلاتهم، وما رئي أحسن منه تلك الساعة. ثم رجع وانصرف الناس، وهم يرون أنه قد شفي. وخرج أبو بكر إلى أهله بـ " السنح " بعد أن اطمأنَّ على رسول الله غير إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يلبث أن توفي حين اشتد الضحى من ذلك اليوم.(/36)
واضطرب الناس إثر سماعهم خبر موته، فقام فيهم أبو بكر خطيباً، فحمد الله تعالى وأثنى عليه. ثم قال: " أيها الناس، إنه من كان يعبد محمدا. فإن محمدا قد مات. ومن كان يعبد الله تعالى، فإن الله حي لا يموت. قال ثم تلا هذه الآية: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين}[47]. وكاد الناس بعد وفاته أن يختلفوا، ولكنَّ الله سلَّم، وجمع كلمتهم على أبي بكر الصديق، فبايعه الناس عبر انتخاب من الأمة، لا عهد للعرب بل للعالم به آنذاك، وخطب فيهم خطبة الحكم، فحمد الله وأثنى عليه بالذي هو أهله. ثم قال: ((أما بعد أيها الناس فإني قد وليت عليكم، ولست بخيركم فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني. الصدق أمانة والكذب خيانة. والضعيف فيكم قوي عندي، حتى أريح عليه حقه إن شاء الله. والقوي فيكم ضعيف حتى آخذ الحق منه إن شاء الله. لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل. ولا تشيع الفاحشة في قوم قط إلا عمهم الله بالبلاء. أطيعوني ما أطعت الله ورسوله. فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم))[48]. واستمرَّ نظام الحكم شورى بين الناس طيلة فترة الخلافة الراشدة، لينقلب بعد ذلك ملكاًُ عضوضاً وجبرية جرت على الأمة الويلات، كما أخبر به صلى الله عليه وسلم.
هذه نبذة يسيرة من سيرة محمد، رأيت أنه لا بدَّ منها بين يدي البحث، وأردت أن توطِّئ له، وتكون كالمقدمة، إذ ليس من الحكمة أن أحدثك عن شمائل محمد وخصائصه، وأنت تجهل سيرته جهلاً مطبقاً أو لا تعرف عنه إلا النذر اليسير المشوَّش.
الفصل الثاني: رَحْمَةً لِلْعَالَمِين (الرحمة المهداة من رب العالمين)
المبحث الأول: خصائص رحمته صلى الله عليه وسلم
النقطة الأولى: الرحمة صفة الرب سبحانه:(/37)
يحاول بعضهم النيل من صفات الرب سبحانه، ويقولون: أنَّى لمحمدٍ أو للمسلمين عامة أن يتصفوا بالرحمة، وربهم الذي يعبدوه ويتوجهوا إليه في صلاتهم يتصف بالقسوة والمكر والبطش والانتقام، وأسماؤه تدلُّ عليه: القهار، المتكبر، المهيمن..... إلخ. وحسبك أن تتخيل النار التي أعدها للكفار، وهم طبعاً غير المسلمين، وترى بعض صورها وأوصافها كما وردت في القرآن وعلى لسان محمد صلى الله عليه وسلم من الزقوم والحميم والصديد والسلاسل والأغلال والسعير، وخاصة في رحلة الإسراء والمعراج التي اطلعه ربه على بعض عذاب أهلها مما تقشعر لهوله الأبدان وتشيب له الولدان!. لنقرأ معاً على سبيل المثال هذه الآيات: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ * فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ * لَّا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ * إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ * وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ * وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَ آبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ * قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ* لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ * ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ * لَآكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ * فَمَالِؤُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ * فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ * هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ}[49].(/38)
ولم يقتصر هذا العذاب الأليم على الآخرة بل يعجِّل الرب عذابه وفتكه، ويُحلُّ غضبه وانتقامه على العصاة والمذنبين في الدنيا بالخسف والمسخ والزلزلة والصاعقة والريح العقيم والطوفان الذي أباد سكان المعمورة إلا أهل السفينة! ثمَّ يردف أصحاب هذه الشبهة قائلين: إذا كان ربُّ محمد - سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً - بهذه الصورة من القسوة والانتقام والبطش بأعدائه فلا يلام محمدٌ - حاشا له - في فظاظته وقسوته!؟
هذه الصورة التي ينقلها هؤلاء للرب سبحانه ليست صورة صحيحة، فإن لله تسعة وتسعين اسماً أو يزيد، يغلب عليها الأسماء التي تدلُّ على الرحمة والحنان والعفو والمغفرة والحب والكرم، من مثل: الرحمن، الرحيم, الغفار, الغفور الودود ,العفو, التواب, البر ,الكريم, الأكرم, الرؤوف, الحفيظ اللطيف, الستير الشافي, النصير, المولى ,الرب..... إلى آخر هذه الأسماء الحسنى بيد أن هناك أسماء أخرى لله سبحانه تظهر قدرته وعظمته وجلاله، لأنه سبحانه يتصف بالكمال، واتصافه بالرحمة فقط يغري بالشر، ويجرِّئ مرضى القلوب على التمادي في الضلال.(/39)
بل إن العبد نفسه إذا اتصف بالرحمة دون حزم وبالرفق دون عزم فإنه يعيبه ذلك، فإذا كان الكمال البشري يقتضي اتصاف الإنسان بصفات القوة والشدة إلى جانب صفات الرحمة والرفق، فما بالك بالرب سبحانه؟. إن رحمة من غير قوة وعفواً من غير مقدرة ضعفٌ مقيت، وإن ربَّاً برَّاً رحيماً رحمة خالصة، لا قوة تحميها من استغلال مرضى القلوب، يقول لعباده: اصنعوا ما شئتم فإني قد غفرت لكم! يغري عباده باقتراف الموبقات، ويحولُّهم إلى شعوبٍ من عتاة المجرمين!! أما ربنا سبحانه فإنه يتصف بصفات القوة والرحمة معاً، غير إن رحمته سبقت غضبه! وكما وصف الله نفسه، وأمر رسوله بتبليغ الناس حتى يكونوا على بصيرة من أمرهم، وعلمٍ بربهم سبحانه، فقال: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَ أَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ}[50]. ولذلك نجد القرآن الكريم يستخدم في منهجه التربوي التعزيز بشقيه: السلبي والإيجابي، فيعمد إلى الإثارة والتشويق تارة وإلى التخويف والتحذير أخرى، ويستعمل الترغيب والترهيب غير إن الأصل في التربية الإسلامية هو التبشير والتيسير، وتقديم الرجاء على الخوف، وتحريم اليأس والقنوط من رحمة الله التي وسعت كل شيء. روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لما قضى الله الخلق كتب في كتابه، فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي غلبت غضبي)[51]. وحتى تعرف سعة رحمة الله اقرأ ما رواه البخاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول: (إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة، فأمسك عنده تسعاً وتسعين رحمة، وأرسل في خلقه كلهم رحمة واحدة، فلو يعلم الكافر بكل الذي عند الله من الرحمة لم ييأس من الجنة، ولو يعلم المؤمن بكل الذي عند الله من العذاب لم يأمن من النار)[52]. ومن مظاهر رحمته مغفرته لذنوب عباده، وتجاوزه عن زلاتهم، فعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن أناسا من أهل الشرك، كانوا قد(/40)
قتلوا وأكثروا، وزنوا وأكثروا، فأتوا محمداً صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن الذين تقول وتدعو إليه لحسن، لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة، فنزل: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً * {إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} (الفرقان: 68 – 70). ونزل: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (الزمر: 53) وفي هذا المعنى حديث النزول، وفيه: (إن الله تعالى يمهل حتى إذا كان ثلث الليل الآخر نزل إلى سماء الدنيا، فنادى: هل من مستغفر؟ هل من تائب؟ هل من سائل؟ هل من داع؟ حتى ينفجر)[53]. وقد مثَّل رسول الله رحمة ربه بمثال، روى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: قدم على النبي صلى الله عليه وسلم سبي، فإذا امرأة من السبي قد تحلب ثديها تسقي، إذا وجدت صبياً في السبي أخذته، فألصقته ببطنها وأرضعته، فقال لنا النبي صلى الله عليه وسلم: (أترون هذه طارحة ولدها في النار). قلنا: لا، وهي تقدر على أن لا تطرحه، فقال: (لله أرحم بعباده من هذه بولدها)[54]. و(أرحم) أي أكثر رحمة، ورحمته تعالى إحسانه لعباده، ودفعه النقمة والعذاب عنهم، وعدم مؤاخذتهم على ما كسبوا. وقد تخلَّق محمدٌ بخلق ربه مما يليق بالعبد وعلى قدره من الرحمة والرأفة والعفو، حتى امتدحه ربه بها وأثنى عليه فقال: {قَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم(/41)
بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}[55].
النقطة الثانية: الرحمة جوهر رسالته ومادتها:
وجوهر شخصيته صلى الله عليه وسلم، وليست صفة عارضة عجبت أشد العجب لتلك الصورة التي قدمت محمداً صلى الله عليه وسلم إلى الناس كرجل مجرم شرير تلفُّ رأسه قنبلة مدمرة، وتتهمه بالإرهاب والتطرف والقسوة! وإن لم تكن هذه الشبهة الداحضة جديدة ولا الأولى من نوعها، فالغارة على شخصية محمد صلى الله عليه وسلم قديمة، لا تكاد تهدأ حتى تبدأ، ولا تنطفئ حتى تسعَّر!. ولكن أليس من المفارقة أن يطعن الرجل في أخص صفاته: رحمته التي غلبت غضبه، وصبغت حياته، وسبقت سائر صفاته الأخرى، دون إخلالٍ بالتوازن الذي تتمتع به شخصيته الآسرة صلى الله عليه وسلم حتى قال – بأبي هو وأمي: ((إنما أنا رحمة))، وبهذه العبارة الوجيزة قدَّم محمدٌ نفسه للناس؟. ومن قبل بشر به أخوه عيسى، وأنه يأتي رحمة بعد غضب، ففي برنابا 72: 14 – 17: "في ذلك الوقت يرحم الله العالم فيرسل رسوله للعالم...وسيأتي بقوة عظيمة على الفجار ويبيد عبادة الأصنام من العالم، وإني أُسرَّ بذلك لأنه بواسطته سيعلن ويمجَّد الله، ويظهر صدقي". و لابد من الإشارة إلى أن هذا الإنجيل قد صرَّح باسم الرسول محمد مراراً، ولكن الكنيسة لم تعترف به[56].(/42)
ويحقُّ لي أن أسأل: كيف يُنعت محمد بالقسوة والغلظة، وبالرحمة أرسل، ومن أجلها بُعِث، فهي جوهر رسالته ومادتها، كما قال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِين}[57]؟، فرسالته صلى الله عليه وسلم رحمة كلها حتى الحزم والقوة والعدل والشجاعة التي بلغ فيها منتهاها، تتجلى فيها رحمته، فإليها كان يدعو وبها، فهي أسلوبه ومنهجه وسياسته، وهي مناط نجاحه وتوفيقه في دعوته، رحمة لم يكن يصطنعها ويتملق بها شعبه بل فُطِر عليها، ولا أستطيع أن أقول أنها كانت بعضاً منه، لأن هذا التعبير فيه قصورٌ مخلٌّ، فقد كانت الرحمة تسري في أوصاله كالماء في العود الرطب وكالروح في الجسد، ولهذا اجتمع عليه أصحابه، وأحبوه حباً لم ير مثله قط، ولم يُسمع بمثله قط، وكأني بك ترغب أن ترى بعض صور هذا الحب.
النقطة الثالثة: رحمته سرُّ نجاحه صلى الله عليه وسلم:(/43)
لقد كانت رقة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ورحمته وشفقته من عوامل نجاحه التي استعملها واستغلها واستفاد منها في دعوته، قال الله تعالى:{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِك}[58]. ورحمته صلى الله عليه وسلم بعدٌ من أبعاد فطنته حيث اتخذها شِبَاكاً ؛ لصيد القلوب والاستيلاء عليها، ومفتاحًا سحريًّا فتح به مغاليق أقفال صدئة موصدة لا أمل البتة بفتحها، ولا يعني هذا أنه كان يتصنع الرحمة، ويتخذها ذريعة للوصول إلى مآربه السياسية – كما أسلفت - بل كانت طبيعته وفطرته التي فطره الله عليها ؛ وكان حرياً بها، وهذا من مظاهر حكمته سبحانه، والحكمة تعني وضع الشيء في موضعه، ولذلك خصَّ محمداً بهذا الفضل، واجتباه من بين سائر الناس بالرسالة الخاتمة، وبعثه رحمة للعالمين. وشتان ما بين رحمة خالصة فطرية إنسانية وأخرى تحركها الأغراض، وتقوم على المصالح، فإذا وصلت إلى مآربها اختفت مظاهر هذه الرحمة الصناعية، ليرجع ذاك الرحيم المزعوم إلى طبيعته الوحشية الغالبة من قسوة وفتك غلظة وفظاظة.
النقطة الرابعة: رحمة عامة:(/44)
كانت رحمة محمد صلى الله عليه وسلم رحمة عامة شاملة للإنسانية كلها بجميع ألوانها وأطيافها وتنوعاتها بل للوجود بأسره. إن رحمة المرء ولده ووالده وزوجه وقريبه رحمة فطرة، يستوي فيها سائر الخلق إلا من تحجَّر قلبه، ولكن الرحمة التي يكلفنا بها الإسلام هي الرحمة بالعامة، بأهل الأرض كافة، ويجعلها شرط اكتمال الإيمان، فليس بمؤمنٍ من لا يرحم: عن أبي موسى رضي الله عنه: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لن تؤمنوا حتى تراحموا!) قالوا: يا رسول الله كلنا رحيم! قال: ((إنه ليس برحمة أحدكم صاحبه ولكن رحمة العامة))[59]. فهي رحمة للخلق كافة، وتشمل جميع الناس دون قيدٍ أو استثناء، بدليل حديث عبد الله بن عَمرو بن العاص يَبْلُغُ به عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: « الرّاحِمونَ يَرْحَمُهُمْ الرّحمن، ارْحَمُوا أَهْلَ الأرْضِ يَرْحَمْكُمْ أَهْلُ السّماءِ، والرَّحِمُ شُجْنَةٌ مِنَ الرَّحْمن، مَنْ وَصَلَها وَصَلَتْهُ، وَمَنْ قَطعها بَتَّتْه»[60] فالرحمة بالخلق شرطٌ لتحصيل رحمة الخالق، بحسب عبارة الحديث: " ارْحَمُوا أَهْلَ الأرْضِ يَرْحَمْكُمْ أَهْلُ السّماءِ".(/45)
أخلاقه صلى الله عليه وسلم إنسانية وليست عنصرية أو مصلحية وأعيذك بالله – أخي القارئ – أن تحسب أن أخلاقه صلى الله عليه وسلم كانت أخلاقاً ذرائعية نفعية، يتخذها سلماً لتحصيل مطالبه وتحقيق رغائبه، ثم إذا بلغ المرام نكث وغدر وعقَّ - حاشاه وصانه مولاه وحماه – ولم تكن أخلاقه خاصة بأصحابه أو بني قومه دون سواهم من سائر الناس كأخلاق العنصريين الضيقة التي لا تستوعب إلا بني جنسهم أو دينهم، وتضيق على سائر الملل والنحل بل كانت أخلاقه إنسانية عامة، وسعت المسلم وغير المسلم، والكبير والصغير والمرأة والرجل والإنسان والحيوان والطير. إن الإسلام يعتبر الناس جميعا أسرة واحدة، الأسرة البشرية يعتبرها الإسلام أسرة تنتمي إلى رب واحد وإلى أب واحد " أيها الناس إن ربكم واحد وإن أباكم واحد كلكم لآدم وآدم من تراب" هكذا قال محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال القرآن في خطابه العالمي: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وأُنثَى وجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم}[61] وما أحسن تعبير الشاعر:
إذا كان أصلي من تراب فكلها بلادي وكل العالمين أقاربي
ولم يكن هذا من قبيل الأخلاق الماسونية الخادعة التي اتخذت من " الإنسانية" وشعاراتها الزائفة المتمثلة في " الحرية والعدالة والمساواة " ستارًا لخداع الإنسان، وشباكاً لاستلاب عقله، والاستيلاء على مقدراته وتدمير مقوماته. ولم تكن شبيهة بالأخلاق التوراتية والتلمودية، لأن ما يرد في النصّ التوراتي من وصايا تدعو إلى المحبة والخير والعدالة فإنّها وصايا عنصرية ضيقة تخصّ اليهود فقط شعب الله المختار كما ينعتون أنفسهم أو أبناء الله وأحباءه، ولا يجوز أن تطبقّ على الأجانب والأغيار.(/46)
إن الرحمة الإنسانية التي كان الرسول صلى الله عليه وسلم يمثلها لم تكن من هذا النوع أبدًا، ويجب ألا تخلط بها. اليهودي يحقُّ له أن يسرق الأغيار، وأن يزني مع نسائهم، وأن يقرضهم بالرّبا، ويشهد بالزور، ويسرق، ويشتهي النساء الأجنبيات، ويغدر، ويغتصب كل من هو غير يهودي فقط، لكنّه لا يحقّ له هذا مع اليهودي، لأنّ اليهوديّ أخوه الودود بينما الأجنبي عدّوه اللدود. وهذا دون شّك يعبّر عن انعدام الرحمة الإنسانية التي يزخر بها ديننا الإسلامي. وإنّ الباحث في النصوص التوراتية يجدها تكرّس هذه النزعة وتنسبها إلى "يهوه" حتى تأخذ صفة الشرعية والديمومة، ونقرأ فيها على سبيل المثال: " للأجنبي تقرض بربا، ولكن لأخيك لا تقرض بربا، لكي يباركك الرب إلهك في كل ما تمتد إليه يدك في الأرض التي أنت داخل إليها لتمتلكها " (التثنية 23: 20).
"إذا افتقر أخوك عندك وبيع لك فلا تستعبده استعباد عبد. ولا تتسّلط عليه بعنف وإلى آبائه يرجع، وأمّا عبيدك الذين يكونون لك. فمن الشعوب الذين حولكم منهم تقتنون عبيداً وإماءً وأيضاً من أبناء المستوطنين النازلين في أرضكم منهم تقتنون ومن عشائرهم الذين عندكم. الذين يلدونهم في أرضكم فيكونون ملكاً لكم وتستملكونهم لأبنائكم من بعدكم ميراث ملك. تستعبدونهم إلى الدهر وأمّا إخوتكم بنو إسرائيل فلا يتسّلط إنسان على أخيه بعنف" (سفر اللاويين / 46:25).(/47)
إن هذه النصوص المقدسة عندهم تغذي نزعة العنصرية والعزلة والتسّلط والفوقية وضرورة القسوة والانتقام واستعباد الشعوب والأمم، ومثل هذه النصوص لا تجدها في القرآن ولا في السنة، وما ورد من نصوصٍ تأمر بالشدة والغلظة مع الآخر، فهي واردة في سياق تاريخي معين، لأن هذا الآخر ليس إلا محارب معتدٍ على حقوق المسلمين وحرماتهم، أما أهل الذمة والمستأمنين والمعاهدين من اليهود والنصارى فهؤلاء ينشر عليهم الإسلام ظله وحمايته، ويكفل لهم جميع حقوقهم، وحسبهم أن من آذاهم فقد آذى رسول الله نفسه!. هكذا أعلن نبي الرحمة والتسامح إذ قال: "ألا من ظلم معاهدا أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس فأنا حجيجه (أي أنا الذي أخاصمه وأحاجه) يوم القيامة " رواه أبو داود. (ومعاهداً) ذمياً من أهل العهد أي الأمان والميثاق. وإذا كان الأمر كذلك، ألا يحق لي أن أتعجب من الدعوة إلى تغيير نصوص القرآن الداعية إلى الكراهية بزعمهم، بينما تفوح رائحة العنصرية البغيضة من حروف " الكتاب المقدس " عندهم؟
وإذا كان الإسلام يثير الكراهية الدينية، ويؤجج نار الصراع البغيض بين البشر - كما يزعم بعضهم - فكيف يبيح القرآن إذن للمسلم الزواج باليهودية والنصرانية والأكل من ذبائح أهل الكتاب؟ كيف يدعونا إلى كراهيتهم ثم يبيح لنا مصاهرتهم، ألا ساء ما يفترون؟ كيف يرخص لنا البر بهم والقسط إليهم ثم يحضُّ على بغضهم كما يدَّعون؟ أليست هذه جسور متينة من العلاقات يبنيها الإسلام، لتقوية وشائج القربى وأواصر المودة بين بني البشر؟ ولكن العيب كامنٌ في القراءة المبتورة للنصوص، والفهم الناقص الذي لا يرى اللوحة مكتملة، ولكن ينظر إلى جزءٍ منها، منفصلاً عن بقية الأجزاء، فيظهر مشوشاً مشوهاً إلى حدٍّ كبيرٍ!
النقطة الخامسة: رحمة حقيقية:(/48)
غير إن رحمته الواسعة وشفقته الشاملة لم تبق مجرد تعاليم نظرية أو كما يقال حبراً على ورق، شأنها كشأن سائر خصاله وخلاله التي ترجمها إلى الحياة العملية بدقة تدعو إلى التقدير والتدبر والمقارنة مع كثير من زعماء الكلام والخطباء الثرثارين المتشدقين بل مؤسسات الشعارات الجوفاء التي تتغنى بالحرية والمساواة والإخاء وهي من ألدِّ أعدائها، ولعل من المناسب أن نستحضر شهادة حبيبة رسول الله وابنة حبيبه وزوجته السيدة عائشة رضي الله عنها عندما سئلت عن خلقه، فأجابت بعبارة وجيزة بليغة معبرة: " كان خلقه القرآن " رواه أحمد، ومَنْ أعرفُ بالرجل من زوجه وأهله؟ والأمثلة من سيرته تؤكد شهادة زوجته وتوثقها، وأعماله صلى الله عليه وسلم تصدِّقُ أقواله ولا تخالفها، وهذا من دلائل نبوته، وهي عندي أعظم من الخوارق وأشد تأكيداً لصدقه صلى الله عليه وسلم.
النقطة السادسة: ذروة الكمال الإنساني:
بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذروة الكمال الإنساني في سائر أخلاقه وخصاله وفي جميع جوانب حياته، وهو وجهٌ آخر من وجوه إعجازه الأخلاقي. ولو كان تفوق محمد صلى الله عليه وسلم في جانب الكرم والسخاء لكان أمراً مألوفاً جرت به العادة، فحاتم الطائي كان مضرب المثل في الكرم حتى إنه ذبح فرسه وقدمه طعاماً لضيفانه، وعنترة كان مثالاً في الشجاعة والفروسية، لم يبل في الحروب أحدٌ بلاءه، وقيس بن سعد بن عبادة بلغ الذروة في الدهاء، ولولا الورع ما غلبه خصومه في خصومة قط، والأحنف بن قيس اشتهر بالحلم، وأخباره في ذلك غريبة عجيبة، بيد أن تفوق محمد صلى الله عليه وسلم كان شاملاً لكافة هذه الجوانب، وبلغ ذروتها، وتربع على عرشها دون منازع.
النقطة السابعة: التوازن الأخلاقي:(/49)
وخاصية أخرى تميز كمال محمد صلى الله عليه وسلم، وهو التوازن في أخلاقه، فهو رحيم دون ضعف، متواضع بغير ذلة، محاربٌ لا يغدر، سياسيٌّ لا يكذب، يستخدم الحيلة في الحرب ولكن لا ينقض العهود والمواثيق، آمن خصومه بصدقه وأمانته، يجمع بين التوكل والتدبير، وبين العبادة والعمل، وبين الرحمة والحرب، وبين إدارة شؤون أسرته الكبيرة، فقد جمع بين تسع زوجات، وإدارة المجتمع والدولة، ويعطي لكلِّ ذي حقٍّ حقه، ولم تشْكُ واحدة من أزواجه يوماً من سوء عشرته، ولكن اشتكين ذات مرة من خشونة العيش، فخيَّرهنَّ بين البقاء معه أو أن يسرحهن سراحاً جميلاً فاخترنه دون تردد!. والمقصود أن صفات محمد وخصائصه تعمل ضمن منظومة متناسقة متناغمة، تتشابك جميعها لتأدية أغراضها، فلا تتوسع صفة أو تقوى على حساب أخرى، ولا تعمل إحداها ضد الصفة التي تقابلها. ووجه العظمة يتجلى لك من خلال الموازنة مع الناجحين في الحياة كأرسطو، ونابليون، ومحمد علي كلاي، وشكسبير، وشوقي، ومارادونا وسواهم، حيث يقتصر نجاحهم ونبوغهم على مجالاتٍ وميادين معينة، فهذا في السياسة، وذاك في الأدب، والآخر في الرياضة مثلاً، ولكنهم يفشلون في مجالات غيرها، وقد تكون أكثر أهمية منها، وقد تجد الرئيس الناجح في إدارة شؤون دولته المترامية الأطراف غير إنه فاشل في علاقاته الزوجية وفي إدارة بيته مثلاً.(/50)
ومظهرٌ آخر للتوازن هو ثبات أخلاقه، فمحمدٌ هو محمدٌ في رضاه وغضبه، وفي سلمه وحربه، وفي عسره ويسره، ومنشطه ومكرهه، وفي بيته وسوقه ومسجده، مع أزواجه وأولاده، ومع أصحابه، وفي جميع أحواله وشؤونه. وهذا الثبات قليلٌ في الناس أو نادرٌ، فترى الشخص في رضاه فإذا ما غضب صار شخصاً آخر كأنه ليس هو، وترى الشخص ضحَّاكاً بسَّاماً بين زملائه فإذا دخل بيته عبس وبسر، وتتعرف على الرجل في الحضر فتراه في وجه، ويجمعك به السفر فيسفرُ لك عن وجه آخر، وترى زعيماً ما يفيض في السلم رقة وحناناً فإذا ما اشتعلت الحرب تحول إلى وحش فاتك! وترى السخي الجواد في الرخاء فإذا أصابته شدة ضنَّ بماله، وأمسك عن الإنفاق، أما محمد فقد كان سخياً ندياً في سائر أحواله، وكان رحيماً في سائر أحواله، وعلى ذلك فقس بقية الشمائل المحمدية، ولعلك الآن وصلت إلى الفكرة التي أحاول تقديمها إليك. كان محمد صلى الله عليه وسلم يملك القدرة على الجمع بين النقائض أو هكذا تبدو للناس، وهذا معجزة بحد ذاته ولكن ليست من الخوارق التي اشتهرت عن الأنبياء، وسيرته صلى الله عليه وسلم غنية بالأمثلة والشواهد التي تدلُّ على توازنه الخلقي، منها ما رواه البخاري عن خارجة بن زيد بن ثابت: أن أم العلاء، امرأة من الأنصار بايعت النبي صلى الله عليه وسلم، أخبرته: أنه اقتسم المهاجرون قرعة، فطار لنا عثمان بن مظعون - أي وقع في سهمنا وحصتنا -، فأنزلناه في أبياتنا، فوجع وجعه الذي توفي فيه، فلما توفي وغسل وكفن في أثوابه، دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: رحمة الله عليك يا أبا السائب، فشهادتي عليك: لقد أكرمك الله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (وما يدريك أن الله أكرمه؟). فقلت: بأبي أنت يا رسول الله، فمن يكرمه الله؟ فقال: (أما هو فقد جاءه اليقين - الموت -، والله إني لأرجو له الخير، والله ما أدري، وأنا رسول الله، ما يفعل بي). قالت: فو الله لا أزكي أحدا بعده أبدا[62].(/51)
فالرسول دخل على عثمان لما مات وذرفت عيناه بالدموع حزناً على فقد رجلٍ من أصحابه، ولكنه في الوقت نفسه لم يأذن لأم العلاء أن تقول كلاماً تفجره العاطفة، ويخالف الشرع، ونهاها عنه، وهنا وجه الاستشهاد بقصة عثمان بن مظعون إذ جمع الرسول بين الرحمة التي تجلت في مشاعر الحزن على صاحبه والعاطفة الجياشة وبين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وضبط اللسان والجوارح بميزان الشرع الحنيف في موقف تطغى فيه العاطفة، وتستولي على النفوس، عندما أنكر على أم العلاء قولها في رثاء ابن مظعون: " فشهادتي عليك: لقد أكرمك الله!".
وإذا كان بعض الناس قد تحجرت عاطفته، فلا تتحرك لشيء، ولا ترقُّ لشيء، قلوبهم كالحجارة أو أشد قسوة، لكن محمداً يفيض عاطفة ورحمة، فيفرح حتى يشرق وجهه، ويحزن، حتى إنه مرَّ عامٌ عليه يسمى عام الحزن، ويغضب حتى تحمرَّ وجنتاه، ويبكي حتى تبتل لحيته، ويضحك حتى تبدو نواجذه، وذاك هو الإنسان!.(/52)
بيد أنك تجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع أحواله: في غضبه وفرحه وحزنه وضحكه وبكائه، موزوناً معتدلاً، لا يخرجه الانفعال عن حده: فلا الفرح يبطره، ولا الحزن ينسيه، ولا يستطيع الغضب أن يغتصب منه زمام أمره وقياد نفسه. ويحضرني في هذا المقام قصة من حياة محمد صلى الله عليه وسلم، لتقارن فيها بين صورة محمد صلى الله عليه وسلم في فرحه وأخرى في حزنه. في الأولى منهما يستقبل مولوده الذكر الوحيد بعد أن فقد جميع أولاده، وفي الأخرى يودعه وهو ينازعه الموت. يروي لنا خادمه أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ولد لي الليلة غلام. فسميته باسم أبي إبراهيم (أي الخليل)". ثم دفعته إلى أم سيف، امرأة قيِّن (حداد) يقال له: أبو سيف. فانطلق يأتيه واتبعته، فانتهينا إلى أبي سيف وهو ينفخ بكيره، قد امتلأ البيت دخاناً، فأسرعت المشي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا أبا سيف! أمسك. جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمسك، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم بالصبي، فضمه إليه، ودعا له. هذا عند ولادة الغلام، ثم إن الغلام حضره الموت، وقد بلغ سنتين من عمره، فماذا فعل أبوه رسول الله؟ قال خادمه أنس نفسه: لقد رأيته وهو يجود بنفسه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدمعت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال "تدمع العين ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضى ربنا. والله يا إبراهيم! إنا بك لمحزونون"[63]. وما أخالك إلا عرفت ما أريده من إيراد القصة في هذا الموضع، ومحل الاستشهاد فيها، غير إن هناك شاهدٌ آخر في القصة أعظم مما ذكرت، ويدخل في دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم، فقد روى المغيرة بن شعبة أنه انكسفت الشمس يوم مات إبراهيم، فقال الناس: انكسفت لموت إبراهيم!. فبماذا أجاب محمد؟ وهل جاراهم فيما اعتقدوه؟ أليست هذه الحادثة فرصة سانحة ؛ ليثبت محمدٌ صلى الله عليه وسلم مركزه بين الناس، ويدعم دعواه(/53)
بالنبوة ولو جاء ذلك على حساب الحقائق العلمية والكونية؟ لو كان محمدٌ كذَّاباً – حاشا له – لفعل ذلك دون تردد، ولكن الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم صحح للناس اعتقادهم الخاطئ، وقال لهم: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتموهما فادعوا الله وصلوا حتى ينجلي)[64].
المبحث الثاني: من تجليات الرحمة:
النقطة الأولى: الرفق واللين والسهولة:
للرفق مكانة عظيمة في ديننا، والرفق ضد العنف والتغليظ والشدة، وهو حسن المعاشرة واللطف والرقة والشفقة واللين والتواضع والتؤدة والتأني ويشمل الرفق:
الصغار والضعفاء والزوجة والجاهل وسائر الناس بل والحيوان والطير.
والرفق من أخلاق النبوة وآدابها، يمنح صاحبه الجمال ويكسو أعماله به، ومن يحرمه حُرم الخير كله. والرفيق من الناس هو كل هين لين قريب سهل، يألف الناس ويألفهم. عن جرير: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من يحرم الرفق يحرم الخير))[65].
وعن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يا عائشة إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف وما لا يعطي على ما سواه))[66].
وعن عائشة أيضاً: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه))[67]. والأحاديث والأخبار الواردة في الرفق لا حصر لها، وقد أوردت كثيراً منها في الفصل الثالث من البحث، كالرفق بالحيوان والرفق بالمرأة والطفل والمتعلم والرفق بالنفس وبالناس.
النقطة الثانية: السماحة في المعاملات المالية:(/54)
السماحة صفة الإسلام وخصيصة له، يتميز بها عن سائر الأديان والمذاهب، ولذلك نهى عن الرهبانية والتبتل وترك الشهوات المباحة، رحمة بالناس، وورد في الحديث الصحيح: ((أحب الدين إلى الله الحنيفة السمحة))[68] و(السمحة) تعني السهلة التي لا تشدد فيها ولا عنت، ولا حرج فيها ولا تضييق. وقد ذمَّ الشرع الغلو والتنطع بالحمل على النفس فيما لم يأذن فيه الله تعالى، وإنما ندب إلى الشدة على الأعداء المحاربين، وفي نطاق الحرب زماناً ومكاناً، وسيأتي تفصيله.
ومن آداب التجارة في الإسلام: السماحة في المعاملة، واستعمال معالي الأخلاق، وترك المشاحة والتضييق على الناس بالمطالبة، وإنظار المعسر، والتساهل في المعاوضات المالية كالبيع والشراء والدين والإجارة ونحوها والجود والكرم والعطاء بين المتعاقدين. والآثار الواردة في ذلك كثيرة، منها ما ورد في صحيح البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (رحم الله رجلاً سمحاً - جواداً متساهلاً يوافق على ما طلب منه - إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى - أي طلب حقه -). وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((غفر الله لرجل كان قبلكم، كان سهلاً إذا باع، سهلاً إذا اشترى، سهلاً إذا اقتضى))[69]. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((كان الرجلُ يُداينُ الناس، فكان يقولُ لفتاهُ: إذا أتيتَ مُعسِراً فتجاوَز عنه، لعلَّ اللهَ أن يَتجاوَز عنا، قال: فلَقِيَ اللهَ فَتجاوَزَ عنه))[70]. ومصداقه من كتاب الله قوله سبحانه: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}[71].
النقطة الثالثة: حسن الخلق والرفق في الدعوة والمعاملة:(/55)
حسن الخلق والرفق ولين الجانب وبشاشة الوجه تحبب صاحب الدعوة إلى الناس، وتقربهم منه، بخلاف الغلظة والعنف والخشونة في التعامل فإنها تنفرهم منه، وتبغض الإسلام إلى قلوبهم، فيكون هذا الداعية الفظ الغليظ فتنة لهم لا رحمة.
ومن الرفق حسن الخطاب، والآيات فيه كثيرة منها: {وقولوا للناس حسناً}[72]. وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن}[73] وقوله: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن}[74]، لأن اللين في الخطاب أدعى إلى إجابة المدعوين أما المخاشنة لهم ربما تنفرهم عن الإجابة أو أشد من ذلك من وقوع التسابِّ والخصومة والعنف، وهو ما لا يرضاه الله. ولذلك أمر الله رسوليه موسى وهارون عليهما السلام حين بعثهما إلى فرعون بالرفق واللين في قوله: {فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى}[75]. وقرأ رجل عند يحيى بن معاذ هذه الآية: {فقولا له قولاً ليناً} فبكي يحيى وقال: إلهي هذا رفقك بمن يقول أنا الإله فكيف رفقك بمن يقول أنت الإله؟.
والقرآن الكريم يقرر بوضوح أن الخشونة والغلظة فتنة لا دعوة، فقد خاطب الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}[76] ولا غرو أن وجدناه صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقًا، وأكثرهم رفقًا، وألطفهم عشرة، يعفو عن المسيء، ويصفح عن المخطئ حتى وصفه مولاه سبحانه: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم}[77].
النقطة الرابعة: التيسير:(/56)
تتجلى رحمة الله تعالى في يسر الأحكام الشرعية العملية وهي خصيصة من خصائص التشريع الإسلامي، وصفة عامة للشريعة الإسلامية في أحكامها الأصلية التي تلزم المكلفين. قال الشاطبي: إن الشارع لم يقصد إلى التكليف بالشاق والإعنات فيه[78]. والنصوص الدالة على ذلك كثيرة، كقوله تعالى في بيان وظيفة الرسول وطبيعة الرسالة: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (الأعراف: 157)، ونصوص أخرى تبين ذلك صراحة كقوله: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (البقرة: 286)، ومنها ما امتن الله تعالى به في سياق بيان بعض الأحكام الفرعية من أنه لا يكلف نفسا إلا وسعها، كقوله تعالى: {والذين آمنوا وعملوا الصالحات لا نكلف نفسا إلا وسعها أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون}[79] وقوله جل وعلا: {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها}[80] وقوله: {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف(/57)
نفسا إلا وسعها}[81]. ومن اليسر إعفاء الصغير، والمجنون، والنائم من سريان الأحكام التكليفية عليهم، وإعفاء النساء من وجوب صلاة الجمعة والجماعة. وهذا معنى كثير من الاشتراطات التي تشترط لوجوب حقوق الله تعالى من العبادات،
والحدود، وبعض حقوق العباد كحق القصاص، وحق حد القذف، فقد اشترط فيها جميعا البلوغ والعقل، واشترط في حد الزنى أربعة شهود تقليلاً لحالات وجوب الحد، تخفيفاً وتيسيراً، واشترط للرجم لشدته الإحصان تخفيفاً عن غير المحصن، واستثنى الولي الفقير من عدم جواز الأكل من مال اليتيم ؛ تخفيفاً عنه، فقد أذن له أن يأكل ولكن بالمعروف[82]، ومسائل غيرها كثيرة.
ومنها ما علم في مواضع كثيرة من السنة النبوية أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتفادى ما يكون سبباً لتكاليف قد تشق على المسلمين، وكان يتجنب أن يصنع شيئاً يكون فيه مشقة على أصحابه إذا اقتدوا به فيه، كما قال تعالى: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} (التوبة: 128)، فمن ذلك أنه صلى الله عليه وسلم كان يحث أصحابه على ترك السؤال لئلا تفرض عليهم فرائض بسبب سؤالهم. فقد سأله رجل عن الحج:(/58)
أفي كل عام هو؟ فقال: ((لو قلت نعم لوجبت، ولما استطعتم، ذروني ما تركتكم)) صحيح مسلم. وقال: ((لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء)) وقال: ((ولولا أن أشق على أمتي ما قعدت خلف سرية)) والحديثان في صحيح البخاري. وفي سنن الترمذي: ((لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم أن يؤخروا العشاء إلى ثلث الليل أو نصفه)) وقال لبعض أصحابه: ((ما بالكم تأتوني قلحاً لا تسوكون؟ لولا أن أشق على أمتي لفرضت عليهم السواك كما فرضت عليهم الوضوء))[83] رواه أحمد. وكان صلى الله عليه وسلم يحب اليسر على الناس، ويأمر به. قالت عائشة: خرج النبي صلى الله عليه وسلم من عندي وهو مسرور طيب النفس ثم رجع إلي وهو كئيب، فقال: ((إني دخلت الكعبة ولو استقبلت من أمري ما استدبرت ما دخلتها إني أخاف أن أكون قد شققت على أمتي))[84] وتقع المشقة والتعب على الأمة ؛ لقصدهم الاتباع لرسول الله في دخول الكعبة وذاك لا يتيسر لغالبهم إلا بتعب. وقد وقع الإجماع على عدم قصد المشقة والعنت في التكليف، وأنها وضعت على قصد الرفق والتيسير، وعلى هذا لم يزل أهل العلم والفتيا في الأمة على طلب اليسر على الناس. كما قال تعالى: {يُريد الله بِكُم اليُسْر ولا يُريدُ بِكُم العُسْر}[85]، وقوله: " لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها سيجعل الله بعد عسر يسرا "[86]، وقال صلى الله عليه وسلم: "يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا "[87]. وجاء في وصفه عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((ما خير النبي صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يأثم فإذا كان الإثم كان أبعدهما منه والله ما انتقم لنفسه في شيء يؤتى إليه قط حتى تنتهك حرمات الله فينتقم لله))[88] وورد في الكتاب العزيز أنَّ من أبرز أوصاف الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أنه: {يُحِلّ لهم الطيبات ويُحرِّم عليهم الخبائث ويَضعُ عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم}[89]. وقال عليه الصلاة والسلام: ((إن الدين يسر(/59)
ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا وأبشروا))[90] وقال أيضا: ((إن الله تعالى لم يبعثني معنتاً، ولا متعنتاً، ولكن بعثني معلماً ميسراً))[91] ومن أنواع اليسر ما يسميه الأصوليون والفقهاء اليسر التخفيفي، وهو ما وضع في الأصل ميسراً، غير أنه طرأ فيه الثقل بسبب ظروف استثنائية، وأحوال تخص بعض المكلفين، فيخفف الشرع عنهم من ذلك الحكم الأصلي، كأحكام المريض والمسافر وصلاة الخوف والمطر ونحوها[92]، وتفصيل ذلك يطول، والبحث يضيق عنه.
النقطة الخامسة: الرخص الشرعية:
الرخصة في اللغة اليسر والسهولة. وفي الشريعة: عبارة عما وسع للمكلف في فعله لعذر، وعجز عنه مع قيام السبب المحرم. كتناول الميتة عند الاضطرار، وسقوط أداء رمضان عن المسافر. وهذا هو المراد من عبارات الأصوليين، وهو المعنى الحقيقي للرخصة. ويقابلها العزيمة التي هي عبارة عما لزم العباد بإيجاب الله تعالى.(/60)
وقد شرعت الرخص لرفع الضيق المؤدي في الغالب إلى الحرج والمشقة لفقدان المصالح الضرورية. ورفع الحرج مقصد من مقاصد الشريعة وأصل من أصولها، فإن الشارع لم يقصد إلى التكليف بالشاق والإعنات فيه، وقد دل على ذلك الكتاب والسنة وانعقد الإجماع على ذلك. فمن الكتاب قوله تعالى: {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم}[93] وقوله تعالى: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر}[94] وقوله تعالى: {يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفاً}[95]. ومن السنة قول النبي صلى الله عليه وسلم: {بعثت بالحنيفية السمحة} رواه أحمد. وانعقد الإجماع على عدم وقوع الحرج في التكليف، وهو يدل على عدم قصد الشارع إليه، ولو كان واقعا لحصل في الشريعة التناقض والاختلاف، وذلك منفي عنها، فإنه إذا كان وضع الشريعة على قصد الإعنات والمشقة، وقد ثبت أنها موضوعة على قصد الرفق والتيسير، كان الجمع بينهما تناقضاً واختلافاً، وهي منزهة عن ذلك[96]. ولكن قد يقع الحرج لظروف استثنائية تلم بالمكلف، فيقتضي ذلك رفع الحرج عنه. ورفع الحرج: إزالة ما في التكليف الشاق من المشقة برفع التكليف من أصله أو بتخفيفه أو بالتخيير فيه، أو بأن يجعل له مخرجاً، ورفع الحرج لا يكون إلا بعد الشدة خلافاً للتيسير.(/61)
ثم ما ثبت أيضاً من مشروعية الرخص، وهو أمر مقطوع به، ومما علم من دين الأمة بالضرورة، كرخص القصر، والفطر، والجمع، وتناول المحرمات في الاضطرار. فإن هذا نمط يدل قطعاً على مطلق رفع الحرج والمشقة. وكذلك ما جاء من النهي عن التعمق والتكلف لما يسببه من الانقطاع عن دوام الأعمال. ولو كان الشارع قاصداً للمشقة في التكليف لما كان ثم ترخيص ولا تخفيف[97]؛ ولأجل ذلك لم يجب شيء من الأحكام على الصبي العاقل لقصور البدن، أو لقصوره وقصور العقل، ولا على المعتوه البالغ لقصور العقل. ولم يجب قضاء الصلاة في الحيض والنفاس، وانتفى الإثم في خطأ المجتهد، وكذا في النسيان والإكراه. ومنه القاعدة الفقهية:
المشقة تجلب التيسير " قال الفقهاء: على هذه القاعدة يتخرج جميع رخص الشرع كالتخفيف لأجل السفر والمرض ونحوها. ومثلها قاعدة: الضرورات تبيح المحظورات.
كأكل الميتة عند المخمصة وإساغة اللقمة بالخمر ونحوها. قال الشاطبي: إن الأدلة على رفع الحرج في هذه الأمة بلغت مبلغ القطع[98].(/62)
والرخص الشرعية من مظاهر التيسير ورفع الحرج، والأخذ بها لا يدلُّ على ضعف الإيمان كما يتوهم بعض الناس، بل قال رسول صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته))[99] وفي رواية في صحيح ابن حبان أيضاً وإسنادها قوي: ((كما يحب أن تؤتى عزائمه)). وقد يقبل من المسلم أن يشدد على نفسه بقدر، ويعمل بالعزائم، ويدع أحياناً بعض الرخص والتيسيرات في الدين ؛ لنشاطٍ وسعةٍ يجدها من نفسه أو لشبابٍ وفراغٍ وعلو همة، ولكن الذي لا يقبل منه بحال أن يلزم بذلك عامة الناس، وخاصة إن جلب عليهم الحرج في دينهم، والعنت في دنياهم، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أطول الناس صلاة إذا صلى لنفسه، حتى إنه كان يقوم بالليل فيطيل القيام حتى تتورم قدماه عليه الصلاة والسلام، ولكنه كان أخف الناس صلاة إذا صلى بالناس، مراعياً ظروفهم وأعمالهم وتفاوتهم في القدرة والاحتمال، وقال: ((إذا صلى أحدكم بالنّاس فليخفف، فإن فيهم الضعيف والسقيم والكبير، وإذا صلى أحدكم لنفسه فليطول ما يشاء))[100]. وقال لمعاذ لما أطال الصلاة بالقوم: ((أفتَّان أنت يا معاذ؟! وكررها ثلاثاً)). وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد إطالتها، فأسمع بكاء الصبي، فأتجوز في صلاتي، مما أعلم من شدة وجد أمه من بكائه))[101].
النقطة السادسة: التدرج في الدعوة والتعليم والتربية والتأديب والتشريع والحدود:(/63)
والتدرج بالناس في الدعوة والتعليم، وهو من مظاهر التبشير المطلوبة من الدعاة بتوجيه إمامهم صلى الله عليه وسلم القائل: (يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا)[102]. فلا يُطالبُ حديث العهد بالإسلام بأداء جميع التكاليف الشرعية، وأن نشدد عليه في ذلك، كما نشدد على المسلم الذي ولد في الإسلام، ورضع مناهجه ونشأ عليه، وتربى في أحضانه، وورث ثقافته وتقاليده من أسرته ومجتمعه أو كالمسلم الملتزم الذي ارتقى في درجات الخير، وأصبح أسوة للناس، بل نترفق بحديث عهد بالإسلام، ونتألف قلبه، ونتدرج به شيئاً فشيئاً ؛ خشية الإعنات له. ويسميهم القرآن المؤلفة قلوبهم، ويعطون سهماً من الزكاة، وتأليف قلوبهم لا يقتصر على ذلك.
والتدرج أسلوب من أساليب الدعوة والتربية والتشريع استخدمه الإسلام في بناء الفرد والمجتمع والدولة، وتحريم الخمر مثالٌ مناسب للتدرج، فقد جاء تحريمه على أربعة مراحل، رحمة بالناس، وقد نجح نجاحاً منقطع النظير في تجفيف هذه العين الآسنة وصد الناس عنها، وكانوا من قبل يعشقونها، ويتغنى شعراؤهم بها، فلما نزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ}[103] قالوا: انتهينا انتهينا!!
النقطة السابعة: الوسطية أو الاعتدال والتوازن:(/64)
إن التوازن سمة الكون كله على اتساعه وضخامته، وهو سمة الإنسان السويّ الذي لم تنحرف فطرته، وسمة الإنسان الصالح المسلم، وثمرة المنهج الموزون الذي وضعه خالق الكون وخالق الحياة وخالق الإنسان. و التوازن معنى واسع يشمل كل نشاط الإنسان وطاقاته المتنوعة، فهو ((توازن بين طاقة الجسم وطاقة العقل، وطاقة الروح، توازن بين ماديات الإنسان ومعنوياته، توازن بين ضروراته وأشواقه، توازن بين الواقع والخيال، توازن بين الإيمان بالشهادة والإيمان بالغيب، توازن بين الفردية والجماعية، توازن في النظم الاقتصادية و الاجتماعية والسياسية، توازن في كل شيء في الحياة))[104]. إن التوازن هو أساس نظرة الإسلام إلى الحياة والإنسان، فالإسلام يوازن بشكل دقيق ملحوظ بين مختلف القوى والطاقات، كما أنه يقع في مركز وسط بين المادية المفرطة التي تحصر مساحة الحياة بما يقع في نطاق الحواس، والروحانية المغرقة التي تهمل عالم المادة وتستقذره وتلغيه من حسابها. إلا إن بلوغ فضيلة التوازن مهمة صعبة وتكليف عسير، لما غلب على الإنسان من الظلم والجهل. ولذلك تحتاج الاستقامة على منهج التوازن إلى تعب ونصب ومراقبة، وهو هدف جدير بأن ينصب له الإنسان، لأنه يحرز له منتهى السعادة والاستقرار والأمن في حياته الروحية و المادية، وفي داري الدنيا والآخرة. ولا نبالغ إذا قلنا إن أكثر ما يصيب الناس من توتر وقلق وجزع وهلع وتعاسة وشقاوة ما هو إلا ثمرة اختلال التوازن أو فقدانه جزئياً أو كلياً، وبتعبير آخر هو ثمرة الطغيان والانحراف. ولذلك يحرص الإسلام على تحقيق التوازن رحمة بالناس، واستدامته في كل صغيرة وكبيرة في حياتهم، وفي كل تشريع من تشريعاته، ويجعله سمة ثابتة وأصيلة في منهجه، وهدف أساسي له يستنفر له كل طاقات الإنسان وقدراته[105].
النقطة الثامنة: التسامح والعفو:(/65)
من معاني العفو: إسقاط الحق وترك المطالبة، يقال: عفوت عن فلان إذا تركت مطالبته بما عليه من الحق، ومنه قوله تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (آل عمران: 134). أي التاركين مظالمهم عندهم لا يطالبونهم بها. والعفو من معالي الأخلاق، وندب إليه الشرع، وحث عليه، والآيات والأحاديث في الترغيب بالعفو كثيرة، منها ما وصف الله به عباد الرحمن، فقال: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً} (الفرقان: 63) وقال أيضاً: {فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون} (الزخرف: 89).
والعفو من أعظم أخلاق محمد صلى الله عليه وسلم، وقد ذهبت كلمته: ((اذهبوا فأنتم الطلقاء)) مثلاً، بعد أن أمكنه الله من رقاب أعدائه من مشركي قريش، متأسياً بأخيه يوسف الصديق الذي عفا عن إخوته، قائلاً لهم: لا تثريب عليكم اليوم!. ومن أجمل قصص العفو قصة أبي بكر بن أبي قحافة رضي الله عنه – وزير رسول الله وخليفته من بعده - ومسطح بن أثاثة وذلك أنه كان ابن بنت خالته وكان من المهاجرين البدريين المساكين، وأبو بكر ينفق عليه لمسكنته وقرابته، فلما وقع أمر الإفك وهو اتهام المنافقين لعائشة بنت أبي بكر وزوج النبي بالزنا، خاض فيه مسطح، فغضب أبوها، وحلف ألا ينفق على مسطح، ولا ينفعه بنافعة أبداً، ولكن الله سبحانه دعاه إلى العفو والصفح، فقال: {ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون ان يغفر الله لكم والله غفور رحيم} (النور: 22). فقال أبوبكر: بلى أي رب! والله إني لأحب أن يغفر الله لي فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه وقال: لا أنزعها منه أبداً[106]. والصفح ترك المؤاخذة، وهو أبلغ من العفو، ولذلك قال تعالى: {فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره} (البقرة: 109) وقد يعفو الإنسان ولا يصفح ولكن أبا بكر عفا وصفح.(/66)
الفصل الثالث: رحمة حقيقية
لم تبق رحمته صلى الله عليه وسلم مجرد تعاليم نظرية أو مواعظ جوفاء، بل ترجمها إلى الحياة العملية بدقة تدعو إلى التقدير وتغري بالتدبر في أسرار هذه الظاهرة الفذة، أما الصور والأمثلة من سيرته على رحمته فكثيرةٌ جداً، وأعماله تصدِّقُ أقواله ولا تخالفها، وهذا من دلائل صدقه صلى الله عليه وسلم في دعوته.
المبحث الأول: صور من الرحمة المهداة
أما صور ومظاهر الرحمة في حياته وسيرته مع أهله وأولاده وأقاربه وأصحابه ومع سائر الناس، بل مع الحيوان والطير، فإنه يصعب حصرها واستقصاؤها، ولكن سأعرض صوراً من رحمته صلى الله عليه وسلم، استقيتها من ثنايا سيرته، وإن كانت سيرته رحمة كلها ورفقاً وليناً وخلقاً كريماً، لا تملك إلا الإعجاب به وإن لم تكن من أتباعه بل حتى لو كنت من عدوه، فقد كان صلى الله عليه وسلم يتمتع بشخصية جذابة آسرة، ووصفت أخلاقه بأنها كانت معجزة، أي لا يملك أحدٌ من الناس أن يدانيها فضلاً عن أن يضاهيها، وكان كثيرٌ من المشركين الذين يقابلون محمداً ؛ لمحاولة إقناعه والتأثير عليه بترك دعوته، يخفقون في هذه المهمة وربما وقع بعضهم في شراك رحمته، وأعلن الإسلام على رؤوس الأشهاد، ويحضرني صورٌ وشواهد كثيرة من السيرة لا مجال لسردها.
النقطة الأولى: رحمته صلى الله عليه وسلم بالأطفال:(/67)
هذا رجل بدوي غليظ القلب يدخل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلنر تعليق البدوي عندما رأى رحمة الرسول الكريم بأولاده ومزاحه ولعبه معهم وتقبيله لهم! عن أَبي هُرَيْرَةَ قالَ: «أَبْصَرَ اْلأَقْرَعُ بنُ حَابِسٍ الّنبيّ صلى الله عليه وسلم وهُوَ يُقَبّلُ الْحَسَنَ فقالَ إنّ لي مِنَ الْوَلَدِ عَشَرَةً ما قَبّلْتُ أحَداً مِنْهُمْ، فقالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «إنّهُ مَن لاَ يَرْحَمْ لا يُرْحَمْ»[107]. قانون حاسم ثابت صاغه محمد ببلاغته المعروفة لا يحابي فيه القساة الجفاة، ولا يجاملهم أو يسايرهم، وعقوبة زاجرة لغلاظ الأكباد الذين جفت الرحمة من قلوبهم، فمن لا يرحم الخلق لا يرحمه الخالق: "إنّهُ مَن لاَ يَرْحَمْ لا يُرْحَمْ" كلماتٌ خالدة من جوامع الكلم التي أوتيها صلى الله عليه وسلم. وتحكي أمّ خالدٍ بنت خالدِ بن سعيد – من ذكريات الطفولة - عن زيارتها لرسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم برفقة أبيها، وكانت حديثة السن، قالت: أتيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم مع أبي وعليّ قميصٌ أصفرُ, قال رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم: «سَنَه سَنه», قال عبدُ اللّه وهي بالحبشية: حسنة. قالت: فذَهبتُ ألعبُ بخاتم النبوّةِ، فزَبرَني أبي، قال رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم: «دَعْها». ثم قال: «أبلِي وأخْلِقي ثم أبلي وأخلقي ثم أبلي وأخلقي »[108](1). إنها النبوة! أخلاق نبي لا ملك، تواضع ورحمة لا حدود لها. وانظر – رعاك الله - كيف تركَ الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الصبية الصغيرة حتى تَلعبَ به، وتعبث كما يحلو لها بخاتم النبوة على كتفه، فلا ينهرها ثم تراه يمازِحُها ويلاعبها ويخاطبها بلغتها لغة أهل الحبشة، وكانت قد نشأت فيها، ويستحسن ثوبها تطييباً لخاطرها! الملوك لا يفعلون ذلك!(/68)
ومن تواضعه ورحمته أنه صلى الله عليه وسلم كان يسلم على الصبيان في الطرقات، ويمسح على رؤوسهم ووجوههم، فعن جابر بن سمرة رضي الله عنه، قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الأولى، ثم خرج إلى أهله، وخرجت معه، فاستقبله ولدان، فجعل يمسح خدِّي أحدهم واحدًا واحدًا. قال: وأما أنا فمسح خدي. قال: فوجدت ليده بردًا أو ريحًا كأنما أخرجها من جونة عطار[109]. نعم، كثيراً ما نرى بعض الزعماء السياسيين يسلمون على الأطفال ويلاطفونهم، ولكن ذلك غالباً ما يحدث تحت الأضواء، وفي المناسبات أو قبيل الانتخابات فحسب!.
رحمة الرسول صلى الله عليه وسلم بغلامٍ يهودي:(/69)
كان غُلامٌ يهوديّ يَخدُمُه صلى الله عليه وسلم فمَرِضَ, فأتاهُ النبيّ صلى الله عليه وسلم يَعودُهُ, فقعَد عندَ رأسهِ فقال لهُ: «أسلِمْ». فنظَرَ إلى أبيهِ وهوَ عندَهُ, فقال له: أطِعُ أبا القاسِم صلى الله عليه وسلم، فأسلمَ،فخَرَجَ النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو يقول: «الحمدُ للّهِ الذي أنقَذَهُ منَ النار»[110]. قد تعترض وتقول: وهل دعوة الغلام إلى الإسلام رحمة؟ وربما يقول شيطانك على لسانك: هذا تغريرٌ بطفل صغير لا يقدر على التمييز!. ولن أتأخر عليك بالجواب لأبدد لك هذه الريبة التي تتردد في صدرك، وأقول لك: إن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم يرى في دعوته للغلام إنقاذاً له من نار جهنم، وهو في نظرنا ليس مجرد رأي بل هو الحق لا ريب فيه! أليس إنقاذك لشخص ما من حريق اندلع في بيته أو مكتبه مثلاً، يريد أن يلتهمه رحمة له؟ فما بالك إذا كان إنقاذك إياه من نار جهنم؟ وهذا شعور رسول الله وعاطفته النبيلة الجياشة تجاه سائر الناس، ويحضرني حديث عنه صلى الله عليه وسلم، يمثِّل فيه لرحمته بتصوير رائع بليغ، فيقول: «مَثَلِى وَمَثَلُكُمْ كَمَثَلِ رَجُلٍ أَوْقَدَ نَاراً فَجَعَلَ الْفَرَاشَ وَالْجَنَادِبَ يَقَعْنَ فِيهَا - قَالَ - وَهُوَ يَذُبُّهُنَّ عَنْهَا - قَالَ - وَأَنَا آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ عَنِ النَّارِ وَأَنْتُمْ تَفَلَّتُونَ مِنْ يَدِى »[111]. هل رأيت المشهد التصويري العجيب لرحمة هذا النبي الحبيب؟ أليس من الحيف والظلم البشع أن يصوَّر في مشهدٍ مخالف تماماً كذلك المشهد المرعب الذي صورته فيه صحيفة (جلاندز بوستن) الدنمركية وأخواتها الأوربيات؟ ولكنه قلب الحقائق، تلك الصنعة التي أجادها بعض بني البشر، وتفوقوا فيها على الشياطين أنفسهم! والتعصب الممقوت الذي لم تستطع الحضارة المعاصرة التحرر من أسره إلا بعض المنصفين والعقلاء الذين مجدوا محمداً صلى الله عليه وسلم، واعترفوا بعبقرية العرب وأثرهم في الحضارة(/70)
الإنسانية[112].
النقطة الثانية: رحمته صلى الله عليه وسلم بأهله:
أولى الناس برحمة الرجل هم أهله أي زوجته وأولاده، فإذا لم يرحمهم فمن يرحم؟! ولذلك كان رسول الله من أرحم الناس بأهله، ويقول: «خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِهِ وَأَنَا خَيْرُكُمْ لأَهْلِى»[113].
رحمته صلى الله عليه وسلم بأزواجه: تزوج رسول الله بثلاث عشرة زوجة، أولاهن خديجة، ولم يتزوج عليها حتى توفيت، وجمع بين تسعٍ في آن واحدٍ: عائشة بنت أبي بكر، وحفصة بنت عمر بن الخطاب، وأم حبيبة بنت أبي سفيان بن حرب، وأم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة، وسودة بنت زمعة بن قيس، وزينب بنت جحش بن رئاب، وميمونة بنت الحارث بن حزن، وجويرية بنت الحارث بن أبي ضرار، وصفية بنت حيي بن أخطب. وكان صلى الله عليه وسلم نعم الزوج، يغدق عليهنَّ من حبه وعطفه وحنانه، ويعدل بينهن فلا يجور ولا يميل، وكان يقوم بمهنتهم وخدمتهم، ويعمل بيده، ويكنس بيته، ويخصف نعله، ويحلب شاته، ويرقع ثوبه.
وبلغت رقته الشديدة مع زوجاته أنه يشفق عليهن حتى من إسراع الحادي في قيادة الإبل اللائي يركبنها، فقد كان ذات مرة في سفر، وكان هناك غلام اسمه أنجشة يحدو ببعض أمهات المؤمنين وأم سليم، فاشتد بهن في السياق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "رويدك يا أنجشة[114] سوقك بالقوارير"[115]. أي أمهل وارفق و(القوارير) جمع قارورة، وكني بذلك عن النساء ؛ لضعف بنيتهن ورقتهن ولطافتهن، فشبهن بالقوارير من الزجاج، وفيها ملاطفة وتودد إلى النساء.(/71)
وكان يوصي بالنساء خيراً، ويحذر الأزواج من ظلمهن، إذ كان يقول: «ألاَ واسْتَوْصُوا بالنّسَاءِ خَيراً, فإنّمَا هُنّ عَوانٍ عِنْدَكمْ لَيْسَ تَمْلِكُونَ مِنْهُنّ شَيْئاً غَيْرَ ذلِكَ , إلاّ أَنّ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيّنَةٍ فَإِنْ فَعَلْنَ فَاهجُرُوهُنّ في المضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنّ ضَرْباً غَيْرَ مُبَرّحٍ، فَإنْ أطَعْنكُمُ فَلاَ تَبْغُوا علَيْهِنّ سَبِيلاً. أَلاَ إنّ لَكُمْ عَلَى نِسَائِكُم حَقّاً، ولِنسَائِكمْ عَلَيْكُمْ حَقاً . فَأَمّا حَقكّمْ عَلَى نِسَائِكُمْ فَلاَ يُوطِئنَ فُرُشَكُمْ مَنْ تَكْرَهُونَ ولاَ يَأْذَنّ في بُيُوتِكُمْ لِمَنْ تَكْرَهُونَ. ألاَ وحَقهُنّ عَلَيْكُمْ أنْ تُحسِنُوا إِلَيْهِنّ فِي كِسْوَتِهِنّ وطَعَامِهِن »[116].
النقطة الثانية: شبهة والرد عليها: ضرب الزوجة غلظة وفظاظة لا رحمة!
قد تتعجب وتسأل مستنكراً: أين رحمة محمد صلى الله عليه وسلم بالزوجة، وشريعته تبيح ضربها؟
وقبل أن أبدأ بالرد أذكرك بأن ضرب الزوجات قد غدا اليوم ظاهرة عالمية ومشكلة عامة، لا تخص المسلمين فقط ولكن تستفحل عند غير المسلمين والأمريكيين خاصة، انتقاماً لا تأديباً، وبغلظة وفظاظة لا ضرباً غير مبرِّحٍ كما اشترطه فقهاؤنا، ومثَّلوا له بالضرب بسواك ونحوه.
وأمرٌ آخر أنبِّه إليه، وهو أن المذاهب والشرائع الوضعية التي كانت تسود العالم آنذاك، كانت تشرِّعُ العنف ضدَّ المرأة إلى حد القتل! وبعد أن قررت نقطتين هامتين في هذه المسألة أشرع بالرد على الشبهة، لأقول:(/72)
إن الإسلام لا يقرُّ العنف ضد المرأة، غير إن الشرع أباح استخدام الضرب للتأديب في نطاقٍ ضيقٍ جداً، وذلك خاصٌّ بالمرأة الناشز التي خرجت عن قوامة زوجها، وشكلت تهديداً لنظام الأسرة، وأصرت عليه، إذ لا يبيح الإسلام اللجوء إلى الضرب إلا بعد استخدام الوعظ كمرحلة أولى ثم يجرَّب الهجر في المضاجع أثناء النوم بشروط وضوابط فقهية، تراجع في مظانها، ولا يهجر إلا في البيت، فإذا لم يجد الوعظ ولا الهجر فلا حرج من اللجوء إلى ضربٍ غير مبرح، هو إلى التهديد أقرب منه إلى التنفيذ، إذا وجد المصلحة في ذلك، ومثل هذه المرأة التي لم يصلحها وعظٌ ولا هجرٌ - والهجر عند النساء أشدُّ من الضرب نفسه ؛ لرقتهن وغلبة العاطفة عليهن – غالباً ما تكون في حالة شذوذٍ نفسي، وقد ينفع فيه العقاب البدني كحلٍّ أخيرٍ، وهو - رغم ما فيه من ضررٍ على المرأة - خيرٌ من الطلاق وتمزيق الأسرة، وهي أشبه ما تكون بقانون الطوارئ أو الضرورة التي تباح في بعض الحالات الاستثنائية، ولكن بعض الأزواج لا يضع عصاه، وهذا تعسفٌ في استعمال الحق، لا يقبله الإسلام.
وإذا كان لابدَّ من كلمة أخيرة، فأقول: إن التشريع الإسلامي في هذه القضية موزون ومعتدل ومنطقي بالنظر العام إلى نظامه القانوني الذي يعطي الرجل حق القوامة على الأسرة أي رئاسة مؤسسة البيت وتدبير شؤونه، ومثل هذه السلطة لا بد لها من قوة تجعلها نافذة وفاعلة وضابطة وإلا فإنها ستبقى حبراً على ورقٍ ليس غير، إلا إن عماد هذه القوة الداعمة هو الوازع الديني عند المرأة قبل أيِّ شيءٍ آخر.
النقطة الثالثة: شبهةٌ أخرى! زواجه صلى الله عليه وسلم من عائشة :(/73)
و يتملكني شعورٌ أن بعض الحالات التي نثيرها بين ثنايا هذا البحث، قد لا تجد لديك القدرة على هضمها أو الاقتناع بها ؛ لعوامل ثقافية وحضارية وغيرها تفرض مثل هذا الاختلاف في وجهات النظر، غير أني أريد أن أذكرك وأنت تقرأ حياة محمد أن تعيش زمانه ومجتمعه، وتحكم على كثيرٍ من الأمور بمنطق زمانه ومجتمعه وموازينهما لا بمنطقك وقناعاتك، ولا يعني كلامي هذا بحال من الأحوال أني أقيِّد الإسلام بزمانه ومكانه وأهله الأولين، لأنه رحمة عامة وشاملة تتجاوز حدود الزمان والمكان، وتتجاوز عصر نزوله، وتخرج عن حدود أرض العرب التي أشرقت عليها شمس الرسالة، فالإسلام صالحٌ لكل زمان ومكان بل – بتعبيرٍ أقوى وأصح - لا يصلح لكلِّ زمان ومكان إلا الإسلام، ولكن ما قصدته هو اعتبار العرف واختلاف الزمان والمكان في النظر إلى كثيرٍ من الأمور، وأضرب لك مثلاً زواج رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيدة عائشة، وهي بنت تسع سنوات، قد يقفُّ شعر رأسك، وتصرخ: هذا ظلم!.
ولكن رويدك قليلاً: ألم يكن لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم أعداءٌ وخصومٌ؟. بلى إنهم كثيرون جداً وأعداءٌ ألداء أيضاً، ويرصدون كل حركاته وسكناته، ويتصيدون له الأخطاء!(/74)
والسؤال: لماذا لم يشنعوا عليه مثل هذا الزواج؟ لماذا كفُّوا ألسنتهم عن إثارة هذه الشبهة في وقتها؟. والجواب سهلٌ جداً، يفطن له اللبيب وغير اللبيب: إن هذا الزواج مقبولٌ اجتماعياً، وأعرافهم تقرُّه وتتقبله، ولا ترى فيه بأساً. ثمَّ إن البنات يتفاوتن في سن النضج من بيئة إلى أخرى، بل يختلفن في بيئة بعينها، وكثيراً ما ترى البنت الحديثة السن بين أترابها، فتجدها امرأة مكتملة جسداً وعقلاً! وأزيدك بما يؤيد هذا الكلام، وهو أن محمداً صلى الله عليه وسلم لم يكن الخاطب رقم واحد لعائشة، فقد سبقه إلى خطبتها آخرون! وأترك الفرصة لصاحبة الشأن – وهي التي لم تتذمر يوماً من هذا الزواج بل كانت أسعد امرأة به -؛ لتروي لنا قصة خطبة رسول الله لها :
قَالَتْ عَائِشَةُ: لَمَّا مَاتَتْ خَدِيْجَةُ جَاءتْ خَوْلَةُ بِنْتُ حَكِيْمٍ، فَقَالَتْ:
- يَا رَسُوْلَ اللهِ! أَلاَ تَزَوَّجُ؟
قَالَ: (وَمَنْ؟ (قَالَتْ: إِنْ شِئْتَ بِكْراً، وَإِنْ شِئْتَ ثَيِّباً) .
قَالَ: (مَنِ البِكْرُ، وَمَنِ الثَّيِّبُ)؟
قَالَتْ: أَمَّا البِكْرُ؛ فَعَائِشَةُ ابْنَةُ أَحَبِّ خَلْقِ اللهِ إِلَيْكَ، وَأَمَّا الثَّيِّبُ ؛ فَسَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ، قَدْ آمَنَتْ بِكَ، وَاتَّبَعَتْكَ .
قَالَ: (اذْكُرِيْهِمَا عَلَيَّ).
قَالَتْ: فَأَتَيْتُ أُمَّ رُوْمَانَ، فَقُلْتُ : يَا أُمَّ رُوْمَانَ! مَاذَا أَدْخَلَ اللهُ عَلَيْكُمْ مِنَ الخَيْرِ وَالبَرَكَةِ؟
قَالَتْ: مَاذَا؟
قَالَتْ: رَسُوْلُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَذْكُرُ عَائِشَةَ .
قَالَتْ: انْتَظِرِي، فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ آتٍ.
فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: أَوَ تَصْلُحُ لَهُ
وَهِيَ ابْنَةُ أَخِيْهِ.
فَقَالَ رَسُوْلُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : (أَنَا أَخُوْهُ وَهُوَ أَخِي، وَابْنَتُهُ تَصْلُحُ لِي).
فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَتْ لِي أُمُّ رُوْمَانَ :(/75)
إِنَّ المُطْعِمَ بنَ عَدِيٍّ كَانَ قَدْ ذَكَرَهَا عَلَى ابْنِهِ، وَوَاللهِ مَا أُخْلِفُ وَعْداً قَطُّ.
قَالَتْ: فَأَتَى أَبُو بَكْرٍ المُطْعِمَ، فَقَالَ: مَا تَقُوْلُ فِي أَمْرِ هَذِهِ الجَارِيَةِ؟
قَالَ: فَأَقْبَلَ عَلَى امْرَأَتِهِ، فَقَالَ: مَا تَقُوْلِيْنَ؟
فَأَقْبَلَتْ عَلَى أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَتْ: لَعَلَّنَا إِنْ أَنْكَحْنَا هَذَا الفَتَى إِلَيْكَ تُدْخِلُهُ فِي دِيْنِكَ .
فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ: مَا تَقُوْلُ أَنْتَ؟
قَالَ: إِنَّهَا لَتَقُوْلُ مَا تَسْمَعُ.
فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ، وَلَيْسَ فِي نَفْسِهِ مِنَ المَوْعِدِ شَيْءٌ، فَقَالَ لَهَا :
قُوْلِي لِرَسُوْلِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَلْيَأْتِ.
فَجَاءَ، فَمَلَكَهَا .
النقطة الرابعة: شبهة واهية والرد عليها: رحمته بالنساء ليست إلا شهوة عارمة!
والشيء بالشيء يذكر، فإنَّ من الشبهات التي أثارها خصوم محمد حول حياته الزوجية، أنه كان تواقاً للنساء، شغوفاً بهنَّ، قد أسرن لبه وعقله، وقد أكثر منهنّ حتى بلغن إحدى عشرة زوجة أو أكثر، وأن هذا الذي تسميه رحمةً بالنساء ليس إلا شهوة عارمة مكبوتة وشبقاً جنسياً يستعر في صدره!!!، ولا شك أن من يقول هذا لا حظَّ له من المعرفة بسيرته صلى الله عليه وسلم، وليس له أدنى علم بمعيشته وطريقة حياته عليه الصلاة والسلام.
ونلخِّص الإجابة عن هذه الشبهة فيما يأتي:(/76)
أولاً: ليس حبُّ النساء والميل إليهنَّ عيباً في الرجل بل إنَّ مما يُمتدح به الرجل فحولته، ولو قيلَ: إن محمداً كان عنيناً مثلاً لكان ذماً يعيبه ونقصاً يلحقه – حاشا له -، أما أن يقال: إنه يحبُّ النساء، فإنه في نظري مدح لا قدح، فكلُّ الرجال الأسوياء يحبون النساء!. ثمَّ ما بالُ هؤلاء الخصوم يتخذ واحدهم الأخدان والخليلات بالعشرات بالسر والعلن خارج نظام الزواج، ثم ينكر على محمد تعدد الزوجات تحت مظلة الحياة الأسرية الكريمة التي تكفل فيها الحقوق، وتُصان الكرامة، وتحفظ الأبدان والأديان؟! لماذا يبيحون لأنفسهم من الحرام الخبيث الآسن ما يحرمونه على غيرهم من الحلال الطيب النظيف؟.
وأمرٌ آخر أحب أن ألفت نظرك إليه، وهو أن الإسلام لا يستقذر الجنس، ولا ينظر إليه على أنه رجسٌ، كما هو الشأن في بعض المذاهب والديانات التي تفرض الرهبانية، وتحرم الزواج، فالحياة الجنسية في الإسلام حياة طيبة فاضلة، قد ارتقى بها الإسلام إلى درجة العبادة، نعم العبادة، فالمسلم وهو يمارس الجنس مع زوجته يكون في عبادة، ويحتسب له أجرها، فهل تجد مثل هذا السمو بالعلاقة الجنسية في دينٍ آخر؟. عن أبي ذر ؛ أن ناساً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم:(/77)
يا رسول الله! ذهب أهل الدثور بالأجور! يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم. قال: " أو ليس قد جعل الله لكم ما تصدقون؟ إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة (أي الجماع)". قالوا: يا رسول الله! أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: " أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجراً"[117]. يقول الإمام النووي في شرحه على مسلم: " فالجماع يكون عبادة إذا نوى به قضاء حق الزوجة ومعاشرتها بالمعروف الذي أمر الله تعالى به، أو طلب ولد صالح، أو إعفاف نفسه أو إعفاف زوجته، ومنعهما جميعا من النظر إلى حرام أو الفكر فيه أو الهم به أو غير ذلك من المقاصد الصالحة ". ((إن الإسلام لا يرفض الحياة الجنسية، لأنه يدعو إلى حياة طبيعية وسعادة الحب، بقدر ما يدعو إلى صحة البدن والقوة والشجاعة والجهاد وكسب المال، ولأنه يعارض الإعراض عن الدنيا كما يعارض الإسراف فيها. يطالبنا الإسلام بجني ((الثمار السماوية)) إضافة إلى ((الثمار الأرضية)) ويسمح للإنسان أن تمتد يداه – اللتان رفعتا إلى الله متذللة بالدعاء قبل قليل – نحو مسرات الدنيا، ولا تعلمنا الآداب الإسلامية الإلحاح في ذكر المحرمات، لأن الإسلام لا يسعى لإقامة جدار يحوط جميع الأنهار التي يمكنها إرواء العطش. ولا يطالب الإسلام بالقضاء على الشهوات بل يطالب بالسيطرة عليها ولا يسعى لقطع الشهوة الجنسية لكنه يضع لها الضوابط والحدود))[118].(/78)
ثانياً: إن التعدد في الزواج ليس مما يعاب به الأنبياء، وقد عدَّد الأنبياء قبل محمد صلى الله عليه وسلم فإبراهيم عليه السلام تزوج سارة ثم هاجر، و يعقوب عليه السلام تزوج بأربع نسوة، و داود عليه السلام تزوج بأكثر مما تزوج رسول الله بل يتهمه العهد القديم بأنه - حاشا له - زنى بامرأة أوريا وقتل زوجها بالحيلة، ثم أخذها[119]، وتزوج سليمان عليه السلام بألف امرأة، سبعمائة منهن حرائر من بنات السلاطين وثلثمائة جوار[120] كما هو مصرح به في الباب الحادي عشر من سفر الملوك الأول.
ثالثاً: إن التعدد لم يكن مما يعاب عند العرب، وكان سنةً جارية في حياتهم، وعندما حصر الإسلام التعدد في أربع، كان الرجل يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول: عندي ست زوجات أو تسع أو عشر أو أكثر، فبم تأمرني؟. فيأمره بأن يمسك أربعاً منهن ويسرح الأخريات! وإلا لو لم يكن التعدد شائعاً عندهم لاتخذوا تعدد الرسول مطعناً، ولم يرد ذلك على لسان أحدٍ منهم.
رابعاً: إن زواجه صلى الله عليه وسلم، لم يكن بهدف التمتع وإشباع الشهوة، وإن كان ذلك أمراً فطريا ًسائغاً لا يعاب الإنسان به، وقد كان تعدد الزوجات سائداً بين العرب آنذاك بلا حد - كما قدَّمت -، ومع ذلك فإن هدف الرسول صلى الله عليه وسلم من زواجه كان أسمى من ذلك وأعلى، إذ أراد بتعدد الزوجات تحقيق غايات شريفة، ومراعاة مصالح عظيمة اقتضتها طبيعة الرسالة وضرورة الدعوة ؛ فالزواج يوثق عرى الترابط الأسري، ويمدُّ في رقعة الصلات الاجتماعية ؛ لتنتشر الدعوة، وتفتَّح الأبواب والطرق، ليبلِّغ الرسول الرسالة.
ومن المصالح تأليف قلوب الخصوم كزواج محمد صلى الله عليه وسلم برملة بنت أبي سفيان زعيم قريش آنذاك وخصمه اللدود الذي سُرَّ بهذا الزواج رغم العداوة المشتعلة بينهما.(/79)
وزواجه من جويرية بنت الحارث زعيم بني المصطلق الذي كان بركة على قومها بعد أن لحقت بهم هزيمة نكراء، ومفتاحاً لقوبهم لينفذ منها نور الإسلام. وزواجه من صفية بنت حيي بن أخطب بنت ملك اليهود التي وقعت أسيرة حرب في سهم جندي، فقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنها لا تصلح إلا لك!، ورقَّ لها رسول الله، ووهبها حريتها، واتخذها حليلة له تقديراً لمنزلتها في بني قومها وتطييباً لخاطرها، فهل في فعله صلى الله عليه وسلم ما يلامُ عليه؟.
ومن المقاصد الشرعية أيضاً لزواج النبي الإحسان إلى أصحابه من ذوي السبق في الجهاد والدعوة معه، فقد تزوج أرملة صاحبه الوفي أبي سلمة بعد أن قضى نحبه، وخلفها وراءه دون عائل، فضمها رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه؛ عطفاً عليها، وتقديراً لتضحياتها الجسام، فهي رمز من رموز مأساة الهجرة.
ومن أعظم المصالح إطلاقاً المصلحة العلمية، وهي نقل أحوال النبي صلى الله عليه وسلم كافةً في حله وترحاله وبخاصة حياته الأسرية بتفصيلاتها الكثيرة الدقيقة حتى الخصوصيات منها، مما لا يستطيع رجل واحد ولا امرأة واحدة نقله أو حصره، وذلك لأن رسول الله قدوة للناس في سائر أحواله، ويدخل في هذا المقصد تعليم النساء أمور دينهن، ونحو ذلك مما فيه مصلحة عامة. وقد لعبت أمهات المؤمنين دوراً بارزاً في تعليم الناس وإرشادهم، وبخاصة السيدة عائشة الفقيهة العالمة التي كانت تستدرك على الصحابة، وحققن هدفاً أساسياً من أهداف زواجه صلى الله عليه وسلم.(/80)
خامساً: ومن هذا القبيل زواج الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش، فإنه من أقوى الردود على الشبهة، فقد كان هذا الزواج مغرماً لا مغنماً، وامتحاناً ثقيلاً لمحمد، لم يكد يقدم عليه من شدة حيائه وتحرجه وخشية الأذى من قريش لولا أن الله أمره به ؛ لإبطال التبني، وكان تقليداً شائعاً عند العرب، فمنعه الإسلام لما يترتب عليه من الكذب والتزوير وضياع الحقوق، ولكن كيف جاء التحريم؟ كان محمدٌ صلى الله عليه وسلم نفسه قد تبنى مولاه زيد بن حارثة، ونسبه إليه، حتى كان يدعى بين القوم زيد بن محمد، وكان ذلك قبل البعثة، فأعتقه، وبعد أن بُعث زوجه من قريبته زينب بنت جحش على كرهٍ منها، فهي حرةٌ من ذؤابة قريش، وهو مولى!، ولذلك فشلت هذه العلاقة الزوجية، وتدخَّل رسول الله لإصلاح ذات البين مراراً ولكن دون جدوى ؛ ليفاجأ بعد ذلك بالوحي يأمره بترك زيدٍ وشأنه في تطليق زينب، لأن الأمر سيؤول إلى أن يتزوج بها؛ لإبطال عادة التبني، وليعلم الناس أن أدعياءهم ليسوا أبناءهم، وكان مثل هذا الزواج محرماً في أعراف الجاهلية وقوانينها، فاعترى رسول الله صلى الله عليه وسلم همٌّ وقلقٌ، وساوره الخوف من لغط الناس عندما يرون نظام التبني الذي ألفوه ينهار أمام أعينهم، وما سيقولونه عنه: محمدٌ تزوج بزوج ابنه وما هي بزوجه َ!. ومن شدة تحرجه وحيائه من الموقف، وخشيته من حربٍ إعلامية مرتقبة، أخفاه في نفسه رجاء أن يعفيه الله منه بل كان زيد يأتيه يشكو امرأته، ويستأذنه في طلاقها، فينهاه عن ذلك، ويقول له: {أمسك عليك زوجك}! ولكن الله سبحانه لم يعف نبيه من هذا التكليف الثقيل بل عاتبه عتاباً مرَّاً، ولامه على تردده، وحضه على إنفاذ أمر الله سبحانه بإنفاذ رغبة زيد بتطليق زينب، ومن ثمَّ يتزوج منها، وإن قالت العرب: إن محمداً تزوج حليلة ابنه أو مطلقته! لأن زيداً ليس بولدك، والتبني تقليدٌ باطلٌ وعرفٌ جاهليٌّ يجب هدمه، وإعلان هدمه سيتم أمام(/81)
الأشهاد، ولا يهدمه قولٌ، وإنما يبطله رسول الله نفسه بزواجه من زينب ؛ لأن زوجها السابق إنما هو زيدٌ بن حارثة، وليس زيداً بن محمد، {وما كان محمدٌ أبا أحدٍ من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين}[121]. عندئذٍ لم يجد رسول الله صلى الله عليه وسلم مفراً من تنفيذ التكليف الإلهي، {وكان أمر الله مفعولاً}[122]. وقد نفذت عائشة إلى لب الحقيقة عندما قالت: "لو كتم رسول الله شيئاً من الوحي لكتم هذه الآية! " تقصد قوله تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً} (الأحزاب: 37)، وهذا من أظهر دلائل النبوة.(/82)
خامساً: إن مما يؤكد لك أنَّ زواج محمد لم يكن من باب التوسع والسرف في الشهوة والتمتع على عادة الملوك قديماً، أنه صلى الله عليه وسلم لم يتزوج بكراً إلا زوجة واحدة، وهي عائشة الصدَّيقة العالمة الفقيهة، وغالب من يكون التمتع هدفه يحرص على الأبكار بل إنَّ محمداً نفسه حضَّ جابر بن عبد الله على زواج البكر، فقال له: ((هلَّا تزوجت بكراً تلاعبها وتلاعبك))[123]. فما باله يرغِّب بالأبكار وينكح الأرامل؟ أيفعل ذلك طالب شهوة أم صاحب دعوة؟ ثم إنَّ مما لا ينبغي أن تغفل عنه أنه لم يعدد إلا بعد موت خديجة رضي الله عنها، وقد بلغ الخمسين من عمره، ومن أراد التمتع والشهوة فإنه يتزوج في الشباب ؛ لأنه سنُّ القوة الجنسية العارمة ثم تبدأ بالذبول! فما مكان الشهوة في حياة رجل عزف عنها وهو شاب، أيغرق فيها وهو شيخ؟. ونقول أيضاً: أين مكان الشهوة والمتعة في حياة رجل لم يسترح ساعة من عناء الجهاد والعمل، فالمهام العظيمة والأعمال الجليلة التي كان يقوم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد البعثة، كانت تشغل وقته وجهده، ولم يعرف عنه أنه كان ينشغل بالنساء والملذات عن تلك المهمات، فقد كان داعياً إلى الله لا يهدأ، ومجاهداً في سبيله لا يفتر، ومعلماً للناس الخير، وحاكماً بينهم بالعدل، وعابداً يقوم حتى تتفطر قدماه، ويصوم حتى يظن أصحابه أنه لا يفطر، ولكنه مع ذلك كله كان زوجاً مثالياً ناجحاً في إدارته لبيوته[124].(/83)
ثمّّ هناك شاهدٌ آخر يدحض هذه الشبهة الواهية، فالمعهود بملوك المتعة وأمراء اللذة، أنهم يغرقون محظياتهم من الجميلات في جو من المتع والمسرات، ويغدقون عليهم من الهدايا والتحف والنفائس والأعطيات، ويسرفون في المآكل والمشارب والملابس والمراكب، لكننا نفاجأ ببساطة حياة النبي صلى الله عليه وسلم وزهده بالدنيا وزينتها، حتى أثّر الحصير في جنب النبي صلى الله عليه وسلم، فرقَّ له عمر بن الخطاب حين رآه، فبكى، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما يبكيك؟)، فقال: "يا رسول الله، إن كسرى وقيصر فيما هما فيه، وأنت رسول الله "، فقال له: (أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟)[125].(/84)
لقد كانت بيوت محمد صلى الله عليه وسلم غاية في البساطة والتواضع، ضيقة لا تكاد تتسع له ولزوجاته، خاوية مقفرة تفتقر إلى الضروريات فضلاً عن الكماليات. وكذلك الحال بالنسبة لطعامه وشرابه، حتى إنَّ نساءه سألنه ذات مرة زيادة النفقة، فخيرهنَّ بين البقاء معه والرضى بحياة الكفاف التي اختارها لنفسه وبين الطلاق، فاخترنه دون تردد، وهذه زوجته عائشة رضي الله عنها تروي لعروة ابن أختها عن شظف العيش في بيوت الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، تقول: (ابن أختي إن كنا لننظر إلى الهلال، ثم الهلال، ثلاثة أهلة في شهرين، وما أوقدت في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نارٌ، فقلت: يا خالة ما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان، التمر والماء)[126]. بالله عليك هل هذه معيشة رجلٍ شهواني ينشد اللذات ويعكف عليها، وهو قادرٌ لو شاء أن يعيش عيشة الملوك وخاصة بعد أن توطدت أركان دولته واتسعت رقعتها، ولكنه اختار حياة الكفاف، ليس تحريماً للطيبات، فالإسلام يحلها، وينكر على من حرمها، ولكن مواساة لأصحابه وكان جلهم من الفقراء، وحذراً من التعلق بالدنيا والاستغراق في اللذات والغفلة عن الباقيات!؟. ثمَّ لو كانت النساء الجميلات غاية محمدٍ صلى الله عليه وسلم وما يصبو إليه، لقبل عرض قريش في أول طريقه إذ عرضوا عليه أن يزوجوه بأجمل بناتهم وعرضوا عليه الملك والمال على أن يترك دعوته فأبى ذلك كلَّ الإباء! وقد تنبه الفيلسوف الإنجليزي توماس كارليل إلى فساد مثل هذه الشبه، وشهد لمحمدٍ بالنزاهة والعفة والطهارة، فقال: " وما كان محمد أخا الشهوات، برغم ما اتهم به ظلماً وعدواناً...ونخطئ إذا حسبناه رجلاً شهوانياً لا هم له إلا قضاء مآربه من الملذات ". وهكذا - عزيزي القارئ - نجد أن هذه الشبهة داحضة، لا ينهض بها دليل من عقل ولا واقع، وهي ساقطة الاعتبار من كل وجه، ولا تأثير لها على شخصية كملت من جوانبها كافة.(/85)
النقطة الخامسة: رحمته صلى الله عليه وسلم ببناته:
وإذا كان أهل الجاهلية يكرهون البنات، ويتشاءمون منهن، بل وتبلغ الغلظة والقسوة مداها أحياناً بوأدهن، ولكن رسول الرحمة صلى الله عليه وسلم يحب بناته، ويحسن إليهن، ويتواضع لهن، ويرق لهن، ويعطف عليهن، حتى وهو في صلاته بين يدي ربه سبحانه، وصلاة المسلمين يحرم فيها الكلام أو العبث! يحدثنا أبو قتادةَ قال: خرجَ علينا النبيّ صلى الله عليه وسلم وأُمامَة بنتُ أبي العاص على عاتِقه فصلى, فإذا ركعَ وضعها, وإذا رفعَ رفعَها[127]. ومن ألطف أخباره وأرقها ما رواه لنا علي صهره أن فاطمة ابنة رسول الله عليها السلام اشتكت ما تلقى من الرحى مما تطحن حتى أثَّر في يديها، فبلغها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بسبي (رقيق)، فأتته تسأله خادماً، فلم توافقه (تصادفه)، فذكرت لعائشة حاجتها، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك عائشة له، فأتانا وقد دخلنا مضاجعنا (أي اضطجعنا في فراشنا لننام)، فذهبنا لنقوم، فقال: (على مكانكما)، "فجاء فقعد بيني وبينها"[128]، حتى وجدت برد قدميه على صدري، فقال: (ألا أدلكما على خير مما سألتماه، إذا أخذتما مضاجعكما فكبرا الله أربعا وثلاثين، واحمدا الله ثلاثا وثلاثين، وسبحا ثلاثا وثلاثين، فإن ذلك خير لكما مما سألتماه)[129]. ولكن لمَ لمْ يعط محمدٌ ابنته فاطمة خادماً؟ وهنا تبرز عظمة رسول الله، فهو لا يؤثر بناته ولا زوجاته على نساء المسلمين بشيء، ليس لقسوة في قلبه، فهو - كما رأيناه في تفاصيل القصة – يفيض رحمة وحباً وحناناً وشفقة، ولكنه التوازن الذي حدثتك عنه، فإنَّ كثيراً من أصحاب المكانة والنفوذ تحمله الشفقة على أولاده وأقاربه إلى إيثارهم وتفضيلهم على سائر الناس. وهذه قصة أخرى تظهر رأفته ببناته، ولكنها في الوقت نفسه تؤكد على أن العاطفة لم تكن لتميل به عن الجادة. عن السيدة عائشة أن أبا العاص بن الربيع صهر رسول الله صلى الله عليه(/86)
وسلم كان فيمن شهد بدراً مع المشركين، فأسره عبد اللّه بن جبير بن النعمان الأنصاري، فلما بعث أهل مكة في فداء أساراهم قدم في فداء أبي العاص أخوه عمرو بن الربيع، وبعثت معه زينب بنت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وهي يومئذ بمكة بقلادة لها، كانت لأمها خديجة بنت خويلد، فأدخلتها عليه بتلك القلادة، فبعثت بها في فداء زوجها أبي العاص، فلما رأى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم القلادة عرفها، فرقَّ لها، وترحم على خديجة، وقال: إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها، وتردوا عليها متاعها فافعلوا!، قالوا: نعم يا رسول اللّه، فأطلقوا أبا العاص، وردوا على زينب قلادتها، وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم على أبي العاص أن يخلي سبيلها إليه، فوعده ذلك وفعل[130]، انتهى .
وكان صلى الله عليه وسلم يحض على تربية البنات ورعايتهن، ويبشر من يحسن إليهنَّ بالأجر العظيم، عن عائشةَ زوجِ النبي صلى الله عليه وسلم قالت: جاءتني امرأةٌ معها ابنتانِ تَسألني, فلم تجدْ عندي غيرَ تمرةٍ واحدة, فأعطيتها, فَقَسَمَتْها بينَ ابنتيها, ثم قامت فخرَجَت، فدخلَ النبيّ صلى الله عليه وسلم فحدّثتُه, فقال:« من يَلي من هذهِ البناتِ شيئاً فأحسَن إليهنّ كنّ له سِتراً من النار»[131]. وتذكَّر أن هذه التعاليم يُخاطبُ بها مجتمعاً كان يكره البنات إلى حد الوأد!. ومن عجيب رقته ورأفته صلى الله عليه وسلم أنه كان يقف للصلاة يريد إطالتها، فيسمع بكاء طفل في أثنائها يكون برفقة أمه التي تصلي مع رسول الله صلاة الجماعة؛ فإذا به يخفف صلاته ويتَجوَّز فيها ؛ شفقة على الطفل وأمه، يقول - بأبي هو وأمي –: "إني لأدخل الصلاة أريد إطالتها، فأسمع بكاء الصبي فأخفف من شدة وَجْد أمه به"[132].
النقطة السادسة: رحمته صلى الله عليه وسلم بالأرامل واليتامى:(/87)
كان يحث على رحمة الأرامل والمساكين ورعاية من لا راعٍ له، فيقول صلى الله عليه وسلم: ((الساعي على الأرملةِ والمسكين كالمجاهدِ في سَبيلِ الله: كالقائم لا يَفتُر وكالصائم لا يُفطِر))[133]، فكافل الأرملة والمسكين كالمجاهد سواءً بسواء، والجامع بينهما الرحمة، فالمجاهد أيضاً رسالته وغايته التي خرج من أجلها "رحمة للعالمين " وإنقاذ الناس وتخليصهم من الجور والظلم.
رحمته باليتامى: وشملت رحمته اليتيم، ومن أولى بها منه، وحضَّ على كفالة الأيتام وإيوائهم، وهو الذي ذاق مرارة اليتم، إذ حُرِم صلى الله عليه وسلم من أبويه، فلم تكتحل عيناه برؤية أبيه، ثم لم يلبث أن فقد أمه بعيد فطامه، فآواه ربه سبحانه ورعاه، وامتنَّ عليه بهذه النعمة قائلاً: {ألم يجدك يتيماً فآوى}[134]، وأمره بشكر النعمة بألا يقهر يتيماً أو يظلمه، وأن يجبر كسر قلبه. عن سِهْلِ بنِ سَعْدٍ قالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «أنَا وَكَافِلُ اليَتِيمِ في الْجَنّةِ كَهَاَتَيْنِ، وأَشاَرَ بإِصْبعَيْهِ يَعْنِي السّبّابَةَ وَالوُسْطَي»[135] ومن أخباره صلى الله عليه وسلم في هذا الجانب، أنه عندما قُتِل جعفر أمهل آل جعفر ثلاثاً، ثم أتاهم فقال: " لا تبكوا على أخي بعد اليوم ". ثم قال: "ادعوا لي بني أخي ". فجيء بنا كأنَّا أفرخ فقال: " ادعوا لي الحلاق " فأمره فحلق رؤُوسنا[136]. ثم لما رجع رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلى أهله، قال لهم:(إن آل جعفر قد شغلوا بشأن ميتهم، فاصنعوا لهم طعاماً)[137].
النقطة السابعة: رحمته صلى الله عليه وسلم بالخدم والعبيد:(/88)
وتعال لنستمع إلى خادمه أنس رضي الله عنه يحدثنا عن رحمته وشفقته ولينه وعطفه وحنانه، وإن شهادة الخادم لصادقة، وخاصة أنس الذي خدمه تسع سنين، وكان معه كظله، في سائر أحواله، في حضره وسفره وصحته مرضه وشبعه وجوعه، وبتقلب الأحوال تختبر أخلاق الرجال، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ. قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم أَحْسَنَ النّاسِ خُلُقاً. فَأَرْسَلَنِي يَوْماً لِحَاجَةٍ.
فَقُلْتُ: وَاللّهِ لاَ أَذْهَبُ، وَفِي نَفْسِي أَنْ أَذْهَبَ لِمَا أَمَرَنِي بِهِ نَبِيّ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، فَخَرَجْتُ حَتّىَ أَمُرّ عَلَىَ صِبْيَانٍ وَهُمْ يَلْعَبُونَ فِي السّوقِ، فَإِذَا رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ قَبَضَ بِقَفَايَ مِنْ وَرَائِي، قَالَ: فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ وَهُوَ يَضْحَكُ، فَقَالَ: «يَا أُنَيْسُ أَذَهَبْتَ حَيْثُ أَمَرْتُكَ؟» قُلْتُ: نَعَمْ، أَنَا أَذْهَبُ, يَا رَسُولَ اللّهِ. قَالَ أَنَسٌ: وَاللّهِ لَقَدْ خَدَمْتُهُ تِسْعَ سِنِينَ، مَا عَلِمْتُهُ قَالَ لِشَيْءٍ صَنَعْتُهُ: لِمَ فَعَلْتَ كَذَا وَكَذَا؟ أَوْ لِشَيْءٍ تَرَكْتُهُ: هَلاّ فَعَلْتَ كَذَا وَكَذَا[138]. وفي رواية[139]. فما أمرني بأمر فتوانيت عنه أو ضيعته فلامني أحد من أهل بيته إلا قال: «دعوه فلو قدر أو قضي أن يكون كان». وكان يوصي أصحابه بالعفو عن الخادم. روى أبو داود عن عبد الله بن عمر قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله كم نعفو عن الخادم؟ فصمت، ثم أعاد عليه الكلام فصمت. فلما كان في الثالثة قال: "اعفوا عنه في كلِّ يومٍ سبعين مرَّةً ". فإذا ضرب السيد عبده أو مملوكه فكفارته عتقه. كان لدى بني مقرّن خادمة، فلطمها أحدهم، فجاءت تشتكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم باكية، فاستدعى الرسول صلى الله عليه وسلم مالكها قائلاً له: "أَعتِقوها"، فقالوا: ليس لهم خادم غيرها. قال: "فليستخدموها، فإذا(/89)
استغنوا عنها، فليخلّوا سبيلها[140]. والقصة نفسها يرويها معاوية بن سويد، قال: لطمت مولى لنا فهربت. ثم جئت قبيل الظهر فصليت خلف أبي. فدعاه ودعاني. ثم قال: امتثل منه (اقتص منه). فعفا. ثم قال: كنا، بني مقرن، على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. ليس لنا إلا خادم واحدة. فلطمها أحدنا.
فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال (أعتقوها) قالوا: ليس لهم خادم غيرها. قال (فليستخدموها فإذا استغنوا عنها. فليخلوا سبيلها). وعن هلال بن يساف قال: كنا نزولاً في دار سويد بن مُقرِّن، وفينا شيخ فيه حِدَّةٌ ومعه جارية له فلطم وجهها، فما رأيت سويداً أشدَّ غضباً منه ذاك اليوم. قال: عجز عليك إلا حرُّ وجهها؟ لقد رأيتنا سابع سبعةٍ من ولد مقرِّن وما لنا إلا خادم، فلطم أصغرنا وجهها، فأمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بعتقها. (ج/ص: 2/764).
رحمته صلى الله عليه وسلم بالعبيد:(/90)
هل تعرف آخر كلمات تفوَّه بها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وهو يجود بنفسه وقد حضره الموت؟. عن عليّ قال: كان آخر كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم "الصلاة الصلاة، اتقوا الله فيما ملكت أيمانكم". إنه يوصي بالعبيد، وهو يعالج سكرات الموت!. وعن المعرور قال: لقيت أبا ذر بالربذة، وعليه حلة (ثوبان، إزار ورداء)، وعلى غلامه (عبده ومملوكه) حله، فسألته عن ذلك، فقال: إني ساببت رجلا فعيرته بأمه (قال له: يا بن السوداء)، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أبا ذر، أعيرته بأمه، إنك امرو فيك جاهلية (خصلة من خصال الجاهلية، وهي التفاخر بالآباء)، إخوانكم خولكم ((العبيد والخدم هم إخوانكم في الدين أو الآدمية))، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده، فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم)[141] وفي رواية أبي داود، قال: " إنهم إخوانكم فضلكم الله عليهم، فمن لم يلائمكم فبيعوه، ولا تعذبوا خلق اللّه"[142]. وقد رغَّب الإسلام بتحرير العبيد، ويسمى العتق، عن سعيد بن مرجانة، صاحب علي بن حسين، قال: قال لي أبو هريرة رضي الله عنه: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أيما رجل أعتق امرأ مسلما، استنقذ الله بكل عضو منه عضواً منه من النار)[143]. قال سعيد بن مرجانة: فانطلقت به (أي بالحديث) إلى علي بن حسين، فعمد علي بن حسين رضي لله عنهما إلى عبد له، قد أعطاه به عبد الله بن جعفر عشرة آلاف درهم، أو ألف دينار، فأعتقه. وعن أبي مسعود الأنصاري قال: كنت أضرب غلاماً لي، فسمعت من خلفي صوتاً "اعلم أبا مسعود" مرتين " للَّهُ أقدر عليك منك عليه! ". من صاحب هذا الصوت؟
يقول أبو مسعود: فالتفتُّ فإِذا هو النبيُّ صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول اللّه، هو حرٌ لوجه الله تعالى. قال: " أما إنك لو لم تفعل للفعتك النار - أو لمستك النار-"[144].
شبهة والرد عليها:(/91)
ولربَّ قائلٍ يقول: عجبتُ لرحمة محمدٍ بالعبيد والمماليك، وحسن معاملته لهم، وحفظه لحقوقهم، ولكن لماذا أقرَّ الرق، ولم يلغه إلغاءً كاملاً!؟. والرد بإيجاز أن الإسلام يكره الرق ويجفف منابعه، ويحب العتق، ويشجع عليه، ويفتح أبوابه، ويرغِّبُ أتباعه به بل يلزمهم به في كثيرٍ من كفارات الذنوب، من مثل كفارة الظهار واليمين والقتل وسواها. والذنوب لا تنتهي، فالكفارات بابٌ مفتوحٌ من أبواب العتق. ولم يكتف بذلك بل حضَّ على العتق، حتى قال صلى الله عليه وسلم: (من أعتق رقبة مسلمة أعتق الله بكل عضو منه عضوا من النار حتى فرجه بفرجه) متفقٌ عليه.
والإسلام يتشوف إلى الحرية بيد أن الإسلام لا يستطيع أن يلغي الرق إلغاءً كاملاً رغم شدة توقه إلى الحرية، وذلك لأسباب منها: عجز الدولة الإسلامية آنذاك عن استيعاب العبيد بعد تحريرهم، وتأمين الكفاية لهم أو توفير فرص العمل لهم على الأقل، وسبب آخر جوهريٌّ، وهو أن الرق كان آنذاك نظاماً عالمياً راسخاً وعرفاً دولياً سائداً، ولا يقدر الإسلام وحده على إلغائه من جانبٍ واحدٍ، وكان لابدَّ من اتفاقٍ دوليٍ عامٍّ على تحريمه، وهذا ما كان متعذراً في عصره بل إن الرق استمرَّ حتى القرون المتأخرة، واستفحل في أوربا وأمريكا خاصة التي أقامت امبراطوريتها على أشلاء الحمر والسود، وشهدت النخاسة فيها ازدهاراً منقطع النظير، وانحدرت معاملة الرقيق إلى الحضيض من حيث إلغاء آدميته وعدم الاعتراف بإنسانيته!
النقطة الثامنة: رحمته صلى الله عليه وسلم بالمرضى والمعوقين:
وشملت رحمته صلى الله عليه وسلم حتى المعوقين عقلياً، عَنْ أَنَسٍ أَنّ امْرَأَةً كَانَ فِي عَقْلِهَا شَيْءٌ. فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللّهِ إِنّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً!.(/92)
فَقَالَ: « يَا أُمّ فُلاَنٍ! انظري أَيّ السّكَكِ شِئْتِ، حَتّىَ أَقْضِيَ لَكِ حَاجَتَكِ » فَخَلاَ مَعَهَا فِي بَعْضِ الطّرُقِ، حَتّىَ فَرَغَتْ مِنْ حَاجَتِهَا[145]. فهذه أخلاق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. وفي حادثة أخرى عبس الرسول محمد صلى الله عليه وسلم في وجه رجل أعمى جاءه يسأله عن أمرٍ من أمور دينه، وكان يجلس إلى رجالٍ من رؤساء قومه، يستميلهم إلى دينه، ويطمع بإسلامهم، فلم يتركه ربه سبحانه - رغم أن الأعمى لم ير عبوسه، ولم يفطن إليه -، وأنزل عليه آيات من القرآن تعاتبه عتاباً مراً: لم عبس في وجه هذا الأعمى المسكين؟ أما الآيات فهي في سورة تسمى "عبس "!، يقول الله فيها: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَن جَاءهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى * كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ * فَمَن شَاء ذَكَرَهُ}[146]. فهل يعقل أن تكون هذه الآيات من اختلاق محمد صلى الله عليه وسلم؟ وهل يعقل أن يكون المرسل والمستقبل فيها ذاتٌ واحدةٌ؟. وكيف يلوم محمدٌ نفسه هذا اللوم الشديد، وبصوتٍ مسموعٍ؟. قد يلوم المرء نفسه سراً في خلوته أما أن يلومها جهاراً في آيات يتلوها أصحابه آناء الليل وأطراف النهار، فهذا لا يفسره إلا الإذعان والإيمان بظاهرة الوحي. ولها أشباه ونظائر اعتبرها العلماء من دلائل النبوة لا مجال لسردها في هذه العجالة.(/93)
ومن الرحمة بالمعوقين مراعاة الشريعة لهم في كثيرٍ من الأحكام التكليفية، والتيسير عليهم ورفع الحرج عنهم، فعن زيد بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أملى عليه: {لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله}. قال: فجاءه ابن أم مكتوم (الأعمى) وهو يملها علي (أي يقرؤها عليه ليكتبها)، فقال: يا رسول الله، لو أستطيع الجهاد لجاهدت، وكان رجلا أعمى، فأنزل الله تبارك وتعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم، وفخذه على فخذي، فثقلت علي حتى خفت أن ترض فخذي (من ثقل الوحي)، ثم سري عنه، فأنزل الله عز وجل: {غير أولي الضرر}[147]. وهذه الرخص الشرعية من تجليات الرحمة في التشريع الإسلامي، وأمثالها كثيرٌ جداً.
ومن أخباره في الرحمة بالمعوقين أنَّ رجلاً ضريرَ البصرِ أتى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فقَالَ: ادعُ اللَّهَ أنْ يُعافيني، قَالَ إنْ شِئتَ دَعوتُ، وإنْ شِئتَ صبرتَ فهوَ خيرٌ لكَ، قَالَ فادعُهْ، قَالَ فأمرَهُ أنْ يتوضَّأ فيُحسنَ وُضُوءَهُ ويدعو بهَذَا الدُّعاءِ: الَّلهُمَّ إنِّي أسألكَ وأتوجَّهُ إليكَ بنبيِّكَ مُحَمَّد نبيِّ الرَّحمةِ إنِّي توجَّهتُ بكَ إِلى رَبِّي في حاجتي هذِهِ لتُقْضَى لي، الَّلهُمَّ فَشَفِّعْهُ فيَّ "[148].
النقطة التاسعة: رحمته صلى الله عليه وسلم بالمتعلمين:
الرحمة بالمتعلمين والعلاقة الحميمة بين المعلم وتلاميذه شرطٌ ضروري لنجاح عملية التعليم، وهذا ما حققه الرسول الرحيم، ونجح نجاحاً باهراً في استلاب قلوب أصحابه. ومن رحمته صلى الله عليه وسلم في التربية والتعليم ما رواه لنا مُعَاوِيَةَ بنِ الْحَكَمِ السّلَمِيّ قال: صَلّيْتُ مَع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فَعَطَسَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ, فَقُلْتُ: يَرْحَمُكَ الله, فَرَمَانِي الْقَوْمُ بِأبْصَارِهِمْ، فَقُلْتُ: وَاثُكْلَ أُمَيّاهُ, مَا شَأْنُكُم تَنْظُرونَ إلَيّ؟ قال:(/94)
فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ بِأيْدِيهِمْ عَلَى أفْخَاذِهِمْ فَعَرَفْتُ أنّهُمْ يُصَمّتُونِي، فَلَمّا رَأيْتُهُمْ يُسكّتُونِي سكَتّ، فَلَمّا صَلّى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بِأبِي وَأُمّي مَا ضَرَبَني وَلا كَهَرَني وَلا سَبّنِي, ثُمّ قال:«إنّ هَذِهِ الصّلاَةَ لا يَحِلّ فيها شَيْءٌ مِنْ كَلامِ النّاسِ هَذَا إنّمَا هُوَ التّسْبِيحُ وَالتّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ»[149]. ومن غرائب أخباره في الرفق واللين والرحمة بالمتعلمين قصة الأعرابي الذي بال في المسجد! عن أنس رضي الله عنه قال: بينما نحن في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء أعرابي[150] فقام يبول في المسجد وأصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم يصيحون به: مه مه! (أي اترك)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تزرموه دعوه!" (لا تقطعوا بوله)، فترك الصحابة الأعرابي يقضي بوله، ثم دعا الرسول عليه الصلاة والسلام الأعرابي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأعرابي: " إن المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول والقذر إنما هي لذكر الله والصلاة وقراءة القرآن ". وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين صبوا عليه دلوا من الماء. فقال الأعرابي: اللهم ارحمني ومحمدا ولا ترحم معنا أحدا!!! فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "لقد تحجرت واسعًا، (أي ضيقت واسعًا)"[151].
النقطة العاشرة: رحمته صلى الله عليه وسلم برعيته:(/95)
كان الرسول صلى الله عليه وسلم أقرب إلى المؤمنين من أنفسهم وأولى بها منهم، كما وصفه الله تعالى بقوله:{النبي أَوْلَى بالمؤمنين من أنفسهم}[152]. ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن توفِّي وعليه ديْن فعليّ قضاؤه، ومن ترك مالاً فهو لورثته". ولا ريب أن كفالة الدولة لرعاياها ورعايتهم مادياً ومعنوياً يعدُّ رحمة، لم نعرفها عند الدول والحكومات قديماً، وقد سبق بها محمد صلى الله عليه وسلم الدولة الحديثة في هذا الجانب. وإليك قصة جمل جابر مع نبي الرحمة، فهي تصلح شاهداً لرعاية الإمام لأصحابه ورعيته، وتفقده أحوالهم[153]: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فكنت على جمل ثفال (بطيء) وإنما هو في آخر القوم، فمر بي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (من هذا؟.). قلت: جابر بن عبد الله. قال: (ما لك؟). قلت: إني على جمل ثفال. قال: (أمعك قضيب؟). قلت: نعم. قال: (أعطينه). فأعطيته فضربه فزجره، فكان من ذلك المكان من أول القوم. قال:(بعنيه). فقلت: بل هو لك يا رسول الله. قال: (بعنيه قد أخذته بأربعة دنانير، ولك ظهره إلى المدينة). فلما دنونا من المدينة أخذت أرتحل: قال: (أين تريد). قلت تزوجت امرأة قد خلا منها. قال: (فهلا جارية تلاعبها وتلاعبك). قلت: إن أبي توفي، وترك بنات فأردت أن أنكح امرأة قد جربت خلا منها. قال: (فذلك). فلما قدمنا إلى المدينة قال: (يا بلال اقضه وزده). فأعطاه أربعة دنانير وزاده قيراطاً!
النقطة الحادية عشرة: رحمته صلى الله عليه وسلم بخصومه:(/96)
بل تجاوزت رحمته كل حد، وفاقت الوصف، وغلبت غضبه، وأطفأت غيظه في أشد المواقف وأفظعها، كيف؟ عن عُرْوَة بْن الزّبَيْرِ أَنّ عَائِشَةَ زَوْجَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم حَدّثَتْهُ أَنّهَا قَالَتْ لِرَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: يَا رَسُولَ اللّهِ! هَلْ أَتَىَ عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟ فَقَالَ: ((لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ, وَكَانَ أَشَدّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ , إذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلاَلٍ , فَلَمْ يُجِبْنِي إلَىَ مَا أَرَدْتُ, فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَىَ وَجْهِي, فَلَمْ أَسْتَفِقْ إلاّ بِقَرْنِ الثّعَالِبِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلّتْنِي, فَنَظَرْتُ فَإذَا فِيهَا جِبْرِيلُ, فَنَادَانِي، فَقَالَ: إنّ اللّهَ عَزّ وَجَلّ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدّوا عَلَيْكَ, وَقَدْ بَعَثَ إلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ. قَالَ: فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ وَسَلّمَ عَلَيّ، ثُمّ قَالَ: يَا مُحَمّدُ! إنّ اللّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ, وَأَنَا مَلَكُ الْجِبَالِ, وَقَدْ بَعَثَنِي رَبّكَ إِلَيْكَ لِتَأْمُرَنِي بِأَمْرِكَ، فَمَا شِئْتَ؟ إنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الأَخْشَبَيْنِ»، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّه ِ صلى الله عليه وسلم)): بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللّهُ مِنْ أَصْلاَبِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللّهَ وَحْدَهُ, لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً »[154]. ونحو هذا أو قريب منه ما رواه أبو هريرةَ رضي اللهُ عنهُ قال: ((قَدِمَ طُفَيلُ بنُ عمرو الدّوسِيّ وأصحابهُ على النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسولَ اللهِ إنّ دَوساً عَصَتْ وأبَتْ, فادْعُ اللهَ عليها, فرفع يديه فقيل: هلَكَتْ دَوسٌ. قال: اللهمّ اهدِ دَوساً وائْتِ(/97)
بهم))[155]. وعن عبد الله بن مسعود قال: لما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائم حنين بالجعرانة ازدحموا عليه , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن عبداً من عباد الله بعثه الله إلى قومه فضربوه وشجّوه, قال: فجعل يمسح الدم عن جبهته ويقول: رب اغفر لقومي إنهم لا يعلمون)) قال عبد الله: كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح الدم عن جبهته يحكي الرجل ويقول: ((رب اغفر لقومي إنهم لا يعلمون))[156].
رحمته صلى الله عليه وسلم بالمنافقين والمشركين كان رحمة للمنافقين أيضًا إذ تجاوز عنهم، رغم أنه كان يعرف دخائل نفوسهم وأضغان قلوبهم، حتى إنه أسرَّ بأسمائهم إلى أحد أصحابه حُذيفة رضي الله عنه، وخصَّه بذلك، وكان بوسعه لو شاء أن يفضحهم ويعاقبهم، ومع ذلك فلم يفضح سرهم، ولم يهتك سترهم ؛ رحمة بهم وتأليفاً لقلوبهم، رجاء أن يتوبوا ويرجعوا ويطهِّروا أنفسهم من النفاق. وكذلك كان محمد رحمة للكافرين، لأن الله سبحانه رفع عنهم العذاب بفضله وحرمته: {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون}[157]. فتأمل قدر النبي صلى الله عليه وسلم ومنزلته! ورغم إيذائهم له واستهزائهم به ومحاولتهم قتله إلا إنه كان لا يدعو عليهم شفقةً عليهم بل يدعو لهم رأفة بهم، وكان يقول: "إني لم أُبعث لعّاناً، وإنما بُعثت رحمة".
النقطة الثانية عشرة: رحمته صلى الله عليه وسلم بالأسارى:(/98)
قال ابن القيم في كتابه " زاد المعاد ": " وهبط عليه فى صلح الحديبية ثمانون متسلحون يريدون غرته فأسرهم ثم منَّ عليهم، وأسر ثمامة بن أثال سيد بني حنيفة فربطه بسارية المسجد ثم أطلقه فأسلم. واستشار الصحابة في أسارى بدر فأشار عليه الصديق أن يأخذ منهم فدية تكون لهم قوة على عدوهم، ويطلقهم لعل الله أن يهديهم إلى الإسلام وقال عمر: لا والله ما أرى الذي رأى أبو بكر ولكن أرى أن تمكننا فنضرب أعناقهم فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها، فهوي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يهو ما قال عمر فلما كان من الغد أقبل عمر فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يبكى هو وأبو بكر فقال: يا رسول الله! من أي شئ تبكي أنت وصاحبك فإن وجدت بكاء بكيت وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أبكي للذي عرض على أصحابك من أخذهم الفداء لقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة " وأنزل الله: {ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض} (الأنفال: 67). وقد تكلم الناس في أي الرأيين كان أصوب فرجحت طائفة قول عمر لهذا الحديث ورجحت طائفة قول أبي بكر لاستقرار الأمر عليه وموافقته الكتاب الذي سبق من الله بإحلال ذلك لهم ولموافقته الرحمة التي غلبت الغضب، ولتشبيه النبي صلى الله عليه وسلم له في ذلك بإبراهيم وعيسى وتشبيهه لعمر بنوح وموسى ولحصول الخير العظيم الذي حصل بإسلام أكثر أولئك الأسرى ولخروج من خرج من أصلابهم من المسلمين ولحصول القوة التي حصلت للمسلمين بالفداء ولموافقة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر أولاً ولموافقة الله له آخراً حيث استقر الأمر على رأيه ولكمال نظر الصديق فإنه رأى ما يستقر عليه حكم الله آخراً وغلب جانب الرحمة على جانب العقوبة "[158]ا.هـ
النقطة الثالثة عشرة: رحمته صلى الله عليه وسلم بالحيوان والطير:(/99)
وإذا كان الأوربيون يتباهون بالرفق بالحيوان، و يرعون القطط والكلاب، ليس عن رحمة، ولكن من أجل اللعب والتسلية، وإلا فبم تفسر مثلاً مصارعة الثيران التي تسفح فيها دماء ذلك الحيوان المسكين ؛ لاستجلاب المتعة إلى تلك القلوب الخاوية القاسية التي أفسدتها الحضارة الحديثة! أنا لا أدَّعي أن الرحمة نزعت من قلوب الأوربيين، ولكن ألا يدعو إلى التهمة وسوء الظن رفقهم المزعوم بالحيوان، وظلمهم ووحشيتهم مع بني الإنسان، وأقصد الإنسان في فلسطين والبوسنة والعراق وغوانتنامو وأخواتها! ألا يدعو ذلك إلى سوء الظن بالرفق المزعوم؟
نهى صلى الله عليه وسلم عن تعذيب الحيوان: أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه عن امرأة دخلت النار بسبب تعذيبها هرة! فقال: «عُذّبَتِ امرأةٌ في هِرّةٍ حَبَسَتْها حتى ماتَتْ جوعاً، فدَخَلَتِ فيها النارَ، قال: فقال: لا أنتِ أطعَمْتِها ولا سقَيْتِها حين حبَسْتِها، ولا أنتِ أرسَلْتِها فأكَلَتْ من خَشاشِ الأرضِ »[159]. فهذا حقٌّ من حقوق الحيوان: توفير الطعام له، وعدم إيذائه.(/100)
رحمته صلى الله عليه وسلم بالجمل: ودَخَلَ مرةً حَائِطاً لِرَجُلٍ مِنَ الأنْصَارِ فَإذَا جَمَلٌ، فَلَمّا رَأى الجملُ النّبيّ صلى الله عليه وسلم حَنّ وَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ، فَأتَاهُ النّبيّ صلى الله عليه وسلم فَمَسَحَ ذِفْرَاهُ فَسَكَتَ، فَقَالَ: «مَنْ رَبّ هَذَا الْجَمَلِ (أي صاحب) لِمَنْ هَذَا الْجَمَلُ؟ فَجَاءَ فَتًى مِنَ الأنْصَارِ فَقالَ: لِي يا رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ: «أفَلاَ تَتّقِي الله في هَذِهِ البَهِيمَةِ التي مَلّكَكَ الله إيّاهَا فإنّهُ شَكَا إلَيّ أنّكَ تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُهُ»[160]. ومَرّ صلى الله عليه وسلم بِبَعِيرٍ هزيل قَدْ لَحِقَ ظَهْرُهُ بِبَطْنِهِ من جوعه، فقالَ: «اتّقُوا الله في هَذِهِ الْبَهَائِم المُعْجَمَةِ فَارْكَبُوهَا صَالِحَةً وَكُلُوهَا صَالِحَةً»[161]. وهذا حقٌّ آخر من حقوق الحيوان، وهو حقه في الطعام والراحة، وألا يحمَّلَ فوق طاقته.
وكان يحذر صلى الله عليه وسلم من اتخاذ الدواب والحيوانات لغير الغرض الذي خُلِقت من أجله، فيقول:« إيّايَ أنْ تَتّخِذُوا ظُهُورَ دَوَابّكُمْ مَنَابِرَ فإنّ الله إنّمَا سَخّرَهَا لَكُم لِتُبَلّغَكُم إلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالغِيهِ إلاّ بِشَقّ الأنْفُسِ وَجَعَلَ لَكُم الأرْضَ فَعَلَيْهَا فاقْضُوا حَاجَاتِكُم[162]. وهذا من الحقوق ألا تتخذ منابر للخطابة، وألا يوقف عليها، لأنها لم تُخلق لذلك أي لا يجوز استعمالها خارج وظيفتها وما سخرت له، ولذلك حرم ديننا مناقرة الديوك ومناطحة الكباش ومثلها مصارعة الثيران التي تزدهر تجارتها في أسبانيا.(/101)
رحمته صلى الله عليه وسلم الطير والنمل: وشملت رحمته صلى الله عليه وسلم الطير والنمل، فعنْ عبد الرحمن بن عبد الله عنْ أبِيهِ قال: «كُنّا مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم في سَفَرٍ فَانْطَلَقَ لِحَاجَتِهِ فَرَأيْنَا حُمّرَةً مَعَهَا فَرْخَانِ فَأخَذْنَا فَرْخَيْهَا. فَجَاءَتْ الْحُمّرَةُ فَجَعَلَتْ تَفرُشُ فَجَاءَ النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: مَنْ فَجّعَ هَذِهِ بِوَلَدِهَا, رُدّوا وَلْدَهَا إلَيْهَا, وَرَأى قَرْيَةَ نَمْلٍ قَدْ حَرّقْنَاهَا فقال: مَنْ حَرّقَ هَذِهِ؟ قُلْنَا: نَحْنُ, قال: إنّهُ لاَ يَنْبَغِي أنْ يُعَذّبَ بالنّارِ إلاّ رَبّ النّارِ»[163]. وكان ذلك في سفر بل غزو، فأين هذا القائد البر الرحيم من قادة الجيوش الغابرة والمعاصرة التي إذا دخلت قرية أفسدوها واستباحوا دماء أهلها وأموالها، ودمروها تدميراً. هل يعرف الغرب أخلاق رسولنا الكريم وسيرته العطرة؟. ربما يعرفها بعض صالحيهم وعلمائهم، أما السواد الأعظم من الناس، فلا يعرفون شيئاً عنه، بل صوَّره لهم شياطينهم في صورة مرعبة مفزعة ؛ تدعو إلى كراهيته، وتجاوز الحد إلى الاستهزاء به! فمن الملوم: هؤلاء الرعاع البسطاء أم علماؤنا ودعاتنا ثم وسائل إعلامنا التي سلطت الضوء على سقط المتاع، وهجرت الرحمة المهداة؟. وعَنْ عَائِشَةَ, أنها رَكِبَتْ بَعِيراً، فَكَانَتْ فِيهِ عُوبَةٌ، فَجَعَلَتْ تُرَدّدُهُ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «عَلَيْكِ بِالرّفْقِ». وفي رواية: «يَا عَائِشَةُ إِنّ اللّهَ رَفِيقٌ يُحِبّ الرّفْقَ. وَيُعْطِي عَلَىَ الرّفْقِ مَا لاَ يُعْطِي عَلَىَ الْعُنْفِ. وَمَا لاَ يُعْطِي عَلَىَ مَا سِوَاهُ»[164].(/102)
الرحمة حين ذبح الحيوان: بل كان يأمر بالرفق والرحمة بالحيوان حتى وهو يُذبح، فهل عرفت أمة الرحمة حين الذبح والرحمة في الحرب، فيقول صلى الله عليه وسلم: ((إنّ الله كَتَبَ الإحْسَانَ عَلى كُلّ شَيْءٍ فَإذَا قَتَلْتُمْ فأَحْسِنُوا القِتْلَةَ وإذَا ذَبَحْتُمْ فأَحْسِنُوا الذّبْحَةَ وليُحِدّ أحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ وليُرِحْ ذَبِيحَتَهُ))[165].
شبهةٌ وردٌ: ذبائح الأضاحي: ديننا موزون، وهذا الوزن تراه في أخلاقه، وبعض الناس يرى جانباً منها فيسيء الفهم، وكان ينبغي أن يفهمها كما جاءت في سياقها وألا يغفل عن جوانب مقابلة تكملها. وقد تعالت أصواتٌ بالنكير على المسلمين في موسم الحج، واتهامهم بالقسوة والوحشية لأنهم يذبحون الأنعام بالجملة، ويلقونها بالعراء، يتقربون بهذا الذبح لتحصيل رضى الرب سبحانه! وهذا النقد مليءٌ بالظلم والمغالطات، فالأضاحي شعيرةٌ دينية، وواجب من واجبات الحج، بقصد إغناء الفقراء وسد جوعتهم، وقد بات اليوم جميع فقراء العالم الإسلامي يستفيدون من لحوم الأضاحي. والإسلام وإن كان ينادي بالرحمة بالحيوان، فإن هذا لا يقتضي تحريم ذبحها، لأنها خُلِقت لذلك، وتعدُّ غذاءً ضرورياً لحفظ صحة الإنسان. وجميع الأسوياء من بني البشر يتناولون لحومها، وكثيرٌ من الشواذ أصحاب الرحمة المفرطة، يمتنعون عن أكل لحوم الحيوانات رحمة بها، ولكنهم لا يتورعون عن سفك دم بني الإنسان. أما نظام الإسلام فهو نظامٌ موزونٌ معقولٌ واقعي، ولا يقوم على العواطف المجنحة والخيالات المريضة!. وقد فطن إلى هذا التوازن توماس كارلايل الكاتب الإنجليزي المعروف في كتابه: (الأبطال)، وقد عقد فيه فصلاً رائعًا عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال فيه: " إني لأحب محمدًا - صلى الله عليه وسلم - لبراءة طبعه من الرأي والتصنع. ولقد كان ابن القفار هذا رجلاً مستقل الرأي لا يعول إلا على نفسه ولا يدعي ما ليس فيه ولم يكن متكبرًا ولكنه لم يكن ذليلاً، فهو(/103)
قائم في ثوبه المرقع كما أوجده الله وكما أراده، يخاطب بقوله الحر المبين قياصرة الروم وأكاسرة العجم يرشدهم إلى ما يجب عليهم لهذه الحياة وللحياة الآخرة. وكان يعرف لنفسه قدرها.. وكان رجلاً ماضي العزم لا يؤخر عمل اليوم إلى غد... "دخل الجنة رجلٌ في كلب: وإذا كانت امرأة دخلت النار في هرة، فقد دخل الجنة رجلٌ في كلب، ماذا فعل ذلك الرجل؟ يقول صلى الله عليه وسلم: ((بينا رجلٌ يَمشي فاشتدّ عليه العَطَشُ, فنَزَلَ بِئراً فشَرِبَ منها, ثمّ خرَجَ فإذا هو بكَلْبٍ يَلْهَثُ يأكُلُ الثّرَى مِنَ العَطَشِ, فقال: لقد بَلَغَ هذا مِثْلُ الذي بَلَغَ بي .
فمَلأَ خُفّهُ ثمّ أمسَكَهُ بفيه، ثمّ رَقِيَ فسَقَى الكلْبَ، فشَكَرَ اللهُ لهُ فغَفَرَ له. قالوا: يارسول الله، وإنّ لنا في البهائِمِ أجْراً؟ قال: «في كلّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أجر»[166]. ألا تعجب! بل الأعجب ما رواه أَبِو هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه، والحديث في البخاري - قَالَ قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم: «بَيْنَمَا كَلْبٌ يُطِيفُ بِرَكِيَّةٍ كَادَ يَقْتُلُهُ الْعَطَشُ، إِذْ رَأَتْهُ بَغِىٌّ مِنْ بَغَايَا بَنِى إِسْرَائِيلَ، فَنَزَعَتْ مُوقَهَا فَسَقَتْهُ، فَغُفِرَ لَهَا بِهِ» فهذه بغي أي امرأة تمتهن الدعارة، تدخل الجنة برحمتها كلباً فواعجباً!. وهذا الحديث لا يهون من معصيتها، ولكنه يعظِّم من قدر عملها، فالرحمة تثقل الميزان.(/104)
رحمته صلى الله عليه وسلم بالحمار: وإليك رحمته صلى الله عليه وسلم بالحمار نعم بالحمار، هذا الحيوان المسكين الذي يسب ويشتم ويضرب ويجلد دون أن تأخذهم به شفقة، يدافع عنه نبي الرحمة، ويقرر له حقوقه المادية والأدبية، وليسمع الظلمة الذين شمل جورهم وظلمهم الإنسان والحيوان والطير وسائر الدواب والهوام، وليتوبوا إلى الله توبة نصوحاً، عن جَابِرٍ: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم مُرّ عَلَيْهِ بِحِمَارٍ قَدْ وُسِمَ في وَجْهِهِ فقال:«أمَا بَلَغَكُمْ أنّي لَعَنْتُ مَنْ وَسَمَ الْبَهِيمَةَ في وَجْهِهَا أو ْضَرَبَهَا في وَجْهِهَا، فَنُهِيَ عن ذَلِكَ »[167].
الفصل الثالث: الرحمة في العقوبات والجهاد
المبحث الأول: الرحمة في العقوبات:
وربما يحلو لبعضهم أن ينقض ما بنيناه بسهولة، فيقول لنا: ولكن قانون العقوبات في الإسلام يتعارض مع الرحمة، بل يتصف بالقسوة والغلظة، قتل، وقطع، وجلد، ونفي، وتغريم مال، وتعزير! وقد قطع محمد المرأة المخزومية التي سرقت، ورجم ماعز والمرأة الغامدية، وقطَّع أيدي وأرجل العرنيين، فأين الرحمة في ذلك؟!.(/105)
لا تروِّعنك هذه الشبهة فأمرها هين، وتفنيدها يسير، فالإسلام في ضبط المجتمع لا يعتمد على العقوبات، ولكنه يصلحه ويهذبه ويرتقي به بالتربية وتطهير النفوس وغرس القيم والمثل والوازع الديني الذي يتمتع بقوة ضبطٍ ذاتية لا يمكن أن يرقى إليها أي قانون وضعي، ويرافق التربية تطهير المجتمع من مثيرات الجريمة التي تغري بها، ويحول دون نشوء ظروفها التي تنمو فيها، فيحارب الفقر والمرض والبطالة والإثارة والظلم الاجتماعي، ثم بعد ذلك تأتي العقوبة كرادعٍ لمن تسوِّل له نفسه ارتكاب الجرائم وتهديد أمن المجتمع والدولة، وهي إلى التهديد والزجر أقرب منها إلى إيقاع العقوبة، ذلك لأن الإسلام وضع شروطاً لإقامة الحدود والعقوبات بالغة الدقة ؛ توخياً للعدالة ودرءاً للعقوبة ما أمكن، وهي مظهرٌ من مظاهر الرحمة أيضاً، ويمكنك أن تختبر حقيقة هذا الكلام بالرجوع إلى تاريخ القضاء في الإسلام، لتتأكد بنفسك من ندرة تنفيذ هذه العقوبات، ويمكنك أن تعدَّ على أصابع يدٍ واحدة الحدود التي نفذها الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي الوقت نفسه ستطَّلع على مجتمع ينعم بالأمن والعافية والازدهار، وبذلك تعلم أن هذه العقوبات التي شرعها الإسلام، تتوافق وتتناغم مع موجب أسماء الله وصفاته من حكمته ورحمته ولطفه وإحسانه وعدله، ومع الرحمة التي تمتع بها رسوله ؛ لتزول عن الناس النوائب والمكاره، وتنقطع الأطماع عن التظالم والعدوان، ويقتنع كل إنسان بما آتاه مالكه وخالقه ؛ فلا يطمع في استلاب غيره حقه، وهذا يتسق تماماً مع وظيفة العقوبة، ألا وهي إقامة العدل وحماية المجتمع[168].(/106)
ولكن المهم هو أن شفقته الواسعة، ورحمته الباهرة لم تكن لتحول بينه وبين تطبيق الحدود الشرعية ؛ فكان يأخذ بقوة وحزم بوصية الله سبحانه: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ} (النور: 2).
ولم أجد شاهداً لهذا التوازن الدقيق المحكم أقوى من قصة المرأة المخزومية التي سرقت، فاغتمت قريش لها، لأنها ذات حسب ونسب وشرف، فكيف ينفذ عليها القانون؟ وأرادوا أن يشفعوا لها عند رسول الله، فقالوا ومن يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فكلمه أسامة! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتشفع في حد من حدود الله؟ ثم قام فاختطب ثم قال: "إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها" والحديث يشير إلى أن القطع عقوبة قديمة جاءت بها الشرائع السابقة، ولم يخترعها الإسلام.(/107)
إن تنفيذ الحدود والعقوبات وإن كان فيها أذى لبعض الأفراد ولكنها رحمة بالعامة، يقول الشيخ محمد أبو زهرة: ((وإذا كانت العقوبات بكل صورها أذى لمن ينزل به، فهي في آثارها رحمة بالمجتمع، ولسنا نريد الرحمة تلك الشفقة التي تنبعث من الانفعال النفسي، بل نريد من الرحمة العامة بالناس أجمعين التي لا تغرق بين قبيل وقبيل ولا جنس وجنس....، وهي الرحمة التي نزلت من أجلها الشرائع السماوية وحاول ابن الأرض أن يحققها فتقاصرت همته دون ذلك، بسبب ما توارثه من الأحقاد والحسد والتي اصطبغت بها القوانين التي سنها البشر. أما شرائع السماء فإنها تنزل من عند رب البرية الرحمن الذي وسعت رحمته كل شيء. وليس من الرحمة الرفق بالمجرمين، ولا الشفقة عليهم بل الرأفة بهم قسوة بالمجتمع بأسره فالرحمة هي الرحمة بالكافة، وينبغي التفريق بين الرحمة وبين انفعالاتنا النفسية. فالرحمة تتجلي في تحقيق العدل، ولا رحمة في ظلم أو إقرار باطل ولا نقصد التحرر من الرحمة الخاصة، ولكن إذا تعارضت العاطفة مع العدل وجب تقديمه على الرحمة))[169].(/108)
ولا يليق بك أن تكون عجولاً في الحكم قاصر النظر كأولئك الذين يطعنون في الإسلام، ويتهمون نظامه الجزائي بالقسوة، فهؤلاء ينظرون إلى الأمور بعينٍ عوراء، فهم لا يرون إلا العقوبة، ويتعامون عن الجريمة! يقولون: قطع اليد عدوان على حقوق الإنسان، وإهدار لكرامته، وتعطيلٌ لفعاليته!. ولكن لماذا لا تنظرون إلى الجريمة وآثارها في المجتمع، من ترويعٍ للآمنين، وتخريبٍ للعمران، وزعزعة للأمن، وقتلٍ وفتك وعدوانٍ على أرواح الناس وأعراضهم وأموالهم. والواقع أن السارق مثلاً لا تقف جريمته عند حد السرقة، فالسارق إذا وجد من يقاومه قد يقتله، وقد يصادف امرأة، فيغتصبها، وقد يتلف، ويحرق، وقد، وقد......... وهكذا في سلسلة من الجرائم البشعة التي تخل بأمن المجتمع، وتهد استقراره، ولا تنتهي عند حدٍ، واقرأ إن شئت أخبار الحوادث المروعة التي تملأ صفحات الجرائد والمجلات، وتقشعر لهولها الأبدان!. نعم، قد يتضرر من حد السرقة بعض أفراد من شواذ الناس، ولكن المجتمع بأسره سيعيش في أمان، وهذا ما فعله الإسلام عندما نجح في تطهير المجتمع من الجريمة، وتحقيق الأمن والسلامة، فأيهما أولى بالرحمة: مجرمون من آحاد الناس وشواذهم أم المجتمع كله!؟. نعم، بعض الناس ينظر إلى العقوبات في الإسلام مبتورة عن النظام الإسلامي العام برمته، وفي هذا تشويه وتشويش، ولا يعطي صورة صحيحة وكاملة، وهذا خطأ، وخطأ آخر يقع فيه بعض من ينتقد نظام العقوبات، وهو أنه ينظر إليه من خلال مجتمع يعايشه، حافلٍ بمثيرات الجريمة ودواعيها، من بطالة وفقر وتفاوت طبقي وظلم اجتماعي وإثارة الغرائز الحيوانية، فيتخيل ساعتئذٍ صورة مفزعة منفرة للمجتمع، يتكاثر فيه مقطوعو الأطراف، وتندر الحجارة من كثرة الرجم، وتزدهر مهنة الجلادين!. وهذا وهمٌ باطلٌ وتصورٌ خاطئٌ، ولا أريد الإطالة ههنا، ولكن أذكرك بعامٍ مرَّ على المسلمين، يسمى عام الرمادة، وقعت فيه مجاعة شديدة، مما حدا بالخليفة الفاروق(/109)
إلى رفع حد السرقة! لماذا؟. لأن الجوع بيئة خصبة ملجئة للسرقة، والحدود تدرأ بالشبهات، ولا تطبَّق إلا في مجتمعٍ نظيفٍ موزون.
إن الإسلام يعتمد على الإرهاب بالعقوبة أكثر من إيقاع العقوبة بحد ذاتها، ولذلك يشترط حضور حشد من الجماهير، ليروا تنفيذ الحكم، فيزحف الخوف إلى قلوبهم، ويقتل بذرة الجريمة فيها، ويسلم المجتمع من آثارها المدمرة. فما أحوجنا إلى تطبيق هذه التشريعات العظيمة الجليلة التي تصان بها الحقوق، وتحفظ به الحياة في هذا العصر الذي استفحلت فيه الجريمة، وزرعت مافيا الفساد الرعب والقلق في قلوبنا وبيوتنا، وعلى هؤلاء الذين يزعمون أن تنفيذ هذه الحدود قسوة أن يذكروا خطر الجريمة على الفرد والمجتمع والدولة بل تجاوزت الجريمة في أيامنا حدود الدولة، لتشكل خطراً على النظام العالمي بأسره.
وهناك وجهٌ آخر للرحمة في الحدود، ولكن لا يفقهه إلا من آمن بالله واليوم الآخر، وهو أن العبد إذا أصاب حداً من حدود الله، وعوقب به، فإنه يكون كفارة له. وهذا ما دفع بعض المجرمين إلى الإقرار بجرائمهم، وطالبوا رسول الله بتطهيرهم، ومنهم ماعز بن مالك رضي الله عنه الذي جاء رسول الله، وقد زنى فقال له: "طهِّرْني يا رسول الله! " أي أقم عليَّ الحد! فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، لعله يرجع ويتوب إلا أن ماعزاً أبى إلا الحد، وكرر طلبه، وألح على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر بتطهيره، في قصة طويلة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد تاب توبة لو قُسِّمت بين أمة لَوَسِعتهم". ونحوه فعلت المرأة الغامدية.
وأكتفي بهذا القدر، فالحقُّ أبلج، والعيب ليس في الأبصار ولكن في القلوب الغلف، وصدق الله سبحانه القائل: {فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور}[170].
المبحث الثاني: الرحمة في الحرب(/110)
أما الجهاد الذي جاءت به شريعتنا، وعمل به رسولنا صلى الله عليه وسلم، والتي حاولت بعض تلك الصور تشويهه، فإنه يختلف عن الحروب القذرة التي تديرها الدول المجرمة والقوى المستكبرة، من حيث أغراضه وغاياته، ومن حيث نظامه وضوابطه وآدابه، فالجهاد في الإسلام يتميز بوضوح أهدافه، ووضوح وسائله، والتزامه بأحكام الشرع، ومكارم الأخلاق التي جاء بها الإسلام: قبل القتال، وأثناء القتال، وبعد القتال.
النقطة الأولى: مفهوم الجهاد في الإسلام وأغراضه:
وقبل ذلك لا بدَّ أن تعلم أن مفهوم الجهاد في الإسلام أوسع من القتال، وما القتال إلا أحد ميادينه، فالجهاد هو بذل أقصى الجهد بالدعوة والبلاغ المبين للرسالة، ويدخل فيه القتال عند الضرورة؛ لنصرة الدين وإزالة العقبات عن طريقه، وللدفاع عن النفس ورد العدوان عن الجماعة، وكذلك لرفع ظلم الجبابرة والطواغيت عن البشرية[171].
والجهاد في الإسلام يستخدم القوة في موضعها، وفي أوانها، وبقدر ما توجبه ضرورة الجهاد دون سرف أو تجاوز، ومع الأعداء المقاتلين الذين باشروا العدوان، وامتدت أيديهم بالسوء إلى الإسلام وأهله، ففتنوهم في دينهم أو عذبوا المستضعفين من المؤمنين أو أخرجوهم من ديارهم، أو نهبوا ثرواتهم وأموالهم، وجاروا على حقوقهم، أو الذين احتلوا أراضيهم، وانتهكوا حرماتهم، وداسوا مقدساتهم، فالجهاد هنا مشروعٌ بل مفروضٌ، عملاً بقول الله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}[172]، وما أظن هذا إلا محل اتفاقٍ بين جميع الشرائع والقوانين السماوية منها والوضعية.(/111)
فالجهاد في ديننا من حيث أهدافه لا يرمي إلى ظلم الأمم واستعبادها وتفتيتها ونهب خيراتها والاستكبار في الأرض وإشاعة الفساد والفوضى والفتن كما هو الحال في الحروب الصليبية قديماً، والحروب الاستعمارية الحديثة، وحروب أمريكا وحلفائها في أفغانستان والعراق وسواها، بل شُرِع الجهاد لدفع العدوان ورد الظلم، وهو حقٌّ كفلته كل الشرائع السماوية منها والوضعية، قال الله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}[173].(/112)
ومن تأمل سيرة النبي صلى الله عليه وسلم تبين له أنه لم يكره أحدًا على دينه قط، وأنه إنما قاتل من قاتله، وأما من هادنه فإنه صلى الله عليه وسلم لم يقاتله ما دام مقيماً على هدنته لم ينقض عهده، ولم يكره أحداً على الدخول في دينه البتة، وإنما دخل الناس في دينه اختياراً وطوعاً، فأكثر أهل الأرض دخلوا في دعوته لما تبين لهم الهدى وأنه رسول الله حقاً[174]. وضرب ابن القيم مثلاً أهل اليمن وأهل الشام وفارس ومسلمة اليهود، وكيف اختاروا الإسلام على أديانهم، طوعاً لا كرهاً[175]، بخلاف تاريخ انتشار المسيحية، فقد فرض الامبراطور شارلمان المسيحية على السكسونيين بحد السيف، وقام الملك النرويجي " أولاف تروجسون " بفرض المسيحية قهراً على أحد رؤساء القبائل المجاورة، مهدداً له بثعبان سامٍّ وجهه إلى عنقه، وكان القوط في الأندلس يجبرون اليهود على التنصر، ويعذبونهم بوحشية وبشاعة، وفي سنة 1454م أصدر البابا مرسوماً منح فيه "هنري البحار البرتغالي" الحق في أن يغزو وأن يحتل، ويخضع جميع الشعوب والأقاليم التي يسودها حكم أعداء المسيح، وأن يحتل، ويحوز البحار اللازمة للقضاء على انتشار ((طاعون الإسلام)). وكان مما جاء في هذا المرسوم البابوي ما يلي: " إن سرورنا لعظيم أن نعلم أن ابننا المحبوب هنري أمير البرتغال قد سار على خطى أبيه – الملك جون – بوصفه جندياً قديراً من جنود المسيح ؛ ليقضي على أعداء الله وأعداء المسيح من المسلمين والكفرة"[176]. فهذا يدل على شدة التعصب الديني عند النصارى، ولكن المسيح والمسيحية براءٌ من العدوان والعنف والتعصب الممقوت.(/113)
لقد سفكت باسم المسيحية وفي سبيلها دماء أغزر مما سفك في سبيل أية دعوة أخرى في تاريخ البشرية. بل إن القارة الأوربية التي هي مقر المسيحية هي وكر الحروب والدمار على طوال الألف الأخيرة من السنين[177]. وسنجد أنفسنا بعد قليل مضطرين للوقوف قليلاً عند سلسلة الحروب الصليبية الطاحنة التي شنتها أوربا ضد المسلمين وباسم رسول المحبة والسلام المسيح عليه الصلاة والسلام.
وعودٌ على بدءٍ، أقول: نحن – المسلمين - مأمورون بقتال من قاتلنا من الكفار أو صدَّ عن سبيل الله، فليس الكفر هو سبب قتالنا إياهم، ولكنه رد العدوان وإزالة الفتنة ؛ لإظهار دين الله، والمقصود بالفتنة ردِّ دعوة الإسلام ومنع الناس من اعتناقه وصرفهم عنه. قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِين}[178].(/114)
فمن لم يمنع المسلمين من إقامة دين الله، لا تشرع مقاتلته، لأنه لا مضرة علينا من كفره، وإنما مضرة كفره على نفسه، وهذا قول جمهور فقهاء الإسلام، وهو الذي يدل عليه الكتاب والسنة، فإن الله سبحانه قال: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينََ}[179] فقوله: {الذين يقتلونكم} تعليق للحكم بكونهم يقاتلوننا، فدل على أن رد العدوان علة الأمر بالقتال، ثم قال: {ولا تعتدوا} والعدوان: مجاوزة الحد، فدل على أن قتال من لم يقاتلنا عدوان، ويدل عليه قوله: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} فدل على أنه لا يجوز الزيادة، وأنه ينبغي الاقتصار على مقاتلة من يقاتل، وأن من الاعتداء مجاوزة قتل من يستحق القتل إلى قتل من لا يستحقه من النساء والأطفال والشيوخ ومن اعتزل[180].
قد تقول: هذا يفسر لنا غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم وحروبه التي خاضها، ولكن ما بال المسلمين اجتاحوا وسط أوربا، ووصلوا تخوم الصين مع الأخذ بعين الاعتبار أن الفتوحات الإسلامية قد جرت بعد موت الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكنه بدأ ذلك بنفسه عندما شنَّ حرباً على الروم في عقر دارهم؟.(/115)
والجواب على هذا الإشكال: أن الحرب ضرورة تفرضها طبيعة الاجتماع البشري، وسنة التدافع بين الناس الذي ذكره القرآن الكريم بقوله: {لَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ}[181] والدليل على هذه السنة الكونية أنه لم تخل الأرض في عصرٍ من العصور من الحروب والصراعات، ولن تخل!. وإذا قلبنا صفحات التاريخ لا نجد أمة من الأمم، ولا حقبة من الحقب، تكاد تخلو من الحروب مع الأمم المجاورة أو فيما بينهم وبالذات في ممالك وامبراطريات العالم القديم كقدماء المصريين والهكسوس والحيثين والآشوريين وأهل بابل وفينيقيا والفرس والإغريق وشعوب أوروبا من السلتين والقوطيين والغاليين والصقلبيين والجرمان والنورمان والتتر[182]. وكذلك الإغريق كانت الحروب عندهم قائمة على قدم وساق. ومن أشهرها حروب مورة (431-404 ق.م). ثم نشبت بينهم حروب صقلية (415- 413ق.م) وحرب الفرس 480 ق.م وحرب طروادة الضروس التي استمرت من سنة (1193 – 1114ق.م) وحروب اسكندر المقدوني الذي تمكن من إخضاع العالم لسيطرته وسلطانه بالقوة[183].
ولا يختلف الرومان كثيراً عن اليونان في نظرتهم الفوقية للشعوب الأخرى وعلاقتهم العدائية معها، وتاريخهم مليء بالحروب، كحروبهم مع إيطاليا واليونان وقرطاجنة ثم البلاد الشرقية وحرب الفرس. ولقد عظم الرومان الحرب حتى نصبوا لها الإله مارس وعظمها لليونان فنصبوا لها زيوس، وقدسها قدماء المصريون فصنعوا لها الإله حورس[184].(/116)
وإذا نظرنا في أمر الحرب بالنسبة للديانات لم نجد حرباً أقسى وأعنف مما هو موجود في الديانة اليهودية التي تعتبر الحرب فيها حرب إبادة واستئصال لكل معالم العدو. في الباب العشرين من كتاب الاستثناء هكذا: 10 (وإذا دنوت من قرية لتقاتلها ادعهم أولاً إلى الصلح) 11 (فإذا قبلت وفتحت لك الأبواب فكل الشعب الذي بها يخلص ويكونون لك عبيداً يعطونك الجزية) 12 (وإن لم ترد تعمل معك عهداً وتبتدئ بالقتال معك فقاتلها أنت) 13 (وإذا سلمها الرب إلهك بيدك اقتل جميع من بها من جنس الذكر بفم السيف) 14 (دون النساء والأطفال والدواب وما كان في القرية غيرهم، واقسم للعسكر الغنيمة بأسرها وكل من سلب أعدائك الذي يعطيك الرب إلهك) 15 (وهكذا فافعل بكل القرى البعيدة منك جداً وليست من هذه القرى التي ستأخذها ميراثاً) 16 (فأما القرى التي تعطى أنت إياها فلا تستحي منها نفساً البتة) 17 (ولكن أهلكهم إهلاكاً كلهم بحد السيف الحيثي والأموري والكنعاني والفرزي والحوايي واليابوسي كما أوصاك الرب إلهك). وهذا تكرر في الباب الثالث والعشرين من سفر الخروج، وفي الباب الثالث والثلاثين من سفر العدد، وفي الباب السابع من سفر الاستثناء، وفي مواضع كثيرة من أسفار العهد القديم، لا يمكن نقلها ههنا، ولا يتسع لها البحث، فظهر من عبارات العهد القديم أن اللّه أمر في حق القبائل الست، أعني الحيثانيين والأموريين والكنعانيين والفرزيين والحوايين واليابوسيين، أن يقتل بحد السيف كل ذي حياة منهم ذكورهم وإناثهم وأطفالهم، وهؤلاء يبلغ تعدادهم قريباً من ثمانين مليون نسمة أو يزيد حسب كتاب: " كشف الآثار في قصص أنبياء بني إسرائيل"[185]. وأمر فيما عداهم، أن يدعوا أولاً إلى الصلح، فإن رضوا به وقبلوا الإطاعة وأداء الجزية فيها، وإن لم يرضوا يحاربوا، فإذا حصل الظفر عليهم، يقتل كل ذكر منهم بالسيف ويسبي نساؤهم وأطفالهم، وينهب دوابهم وأموالهم، وتقسم على المجاهدين، وهكذا(/117)
يفعل بكل القرى التي هي بعيدة من قرى الأمم الست. يقول رحمة الله الهندي: "وهذه العبارة الواحدة تكفي من جوابهم عن تقريراتهم الواهية، وقد نقلها علماء الملة الإسلامية سلفاً وخلفاً في مقابلتهم لكنهم يسكتون عنها كأنهم لم يروها في كلام المخالف، ولا يجيبونه عنها لا بالتسليم ولا بالتأويل"[186]. وفي الباب الثالث والثلاثين من سفر العدد: 51 (مر بني إسرائيل وقل لهم إذا عبرتم الأردن وأنتم داخلون أرض كنعان) 25 (فأبيدوا كل سكان تلك الأرض واسحقوا مساجدهم واكسروا أصنامهم المنحوتة جميعها واعقروا مذابحها كلها) 55 (ثم أنتم إن لم تبيدوا سكان الأرض فالذين يبقون منهم يكونون لكم كأوتاد في أعينكم ورماح في أجنابكم ويشقون عليكم في الأرض التي تسكنونها) 56 (وما كنت عزمت أني أفعل بهم سأفعله بكم). وهكذا فأسفار اليهود المتداولة اليوم طافحة بأنباء القتل والتخريب والتدمير والإهلاك والسبي، فهي تقرر شريعة القتال، ولكن في أبشع صورها حيث تحكم بقتل كل ذي حياة من الحثيين ومن ذكر معهم ولو كان طفلاً أو امرأة أو كانوا بالملايين. ووحشية اليهود في حروبهم في فلسطين ومجازر دير ياسين وكفر قاسم وصبرا وشاتيلا وقانا وغزة وجنين غيرها دليل ماثل أمام أعيننا وثمرة للعنف والتطرف الذي تغذيه بهم النصوص الدينية المحرفة.(/118)
أما في الديانة المسيحية فإن تعاليم السيد المسيح عليه السلام التي تنادي: ((أحبوا أعداءكم، باركوا لأعينكم، أحسنوا إلى مبغضيكم))، ساعدت على توحيد دعائم السلام في العالم وتجنيبه ويلات الحروب طيلة ثلاثة قرون إلى أن جاء القديس " أوغسطين " من بداية القرن الرابع الميلادي ؛ ليسوّغ الحرب العادلة كما سماها، مؤيداً لها بعبارات للسيد المسيح جاءت في الإصحاح العاشر من إنجيل متى (العهد الجديد / 34): ((لا تظنوا أني جئت لألقي سلاماً بل سيفاً فإني جئت لأفرق الإنسان ضد أبيه والابنة ضد أمها والكنة ضد حماتها. وأعداء الإنسان أهل بيته. من أحب أباً أو أماً أكثر مني فلا يستحقني، ومن لا يأخذ صليبه ويتبعني فلا يستحقني، ومن وجد حياته يضيعها، ومن أضاع حياته من أجلي يجدها " 24 – 39" وقال في إنجيل لوقا في الإصحاح الثاني عشر: ((جئت لألقي ناراً على الأرض)). فماذا أريد لو أضطرمت ولي صبغة أصطبغها وكيف انحصر حتى تكتمل. أتظنون أني جئت لأعطي سلاماً. كلا أقول لكم بل انقساماً " 49 – 51 "))[187]. هذه الوجهة الجديدة في فلسفة النصرانية للحرب كان من ثمارها فيما بعد جروبٌ طويلة دامت قروناً، وحصدت ملايين الأرواح البريئة من المسيحيين أنفسهم، واستئصال ملايين المسلمين واليهود بعد أن لاقوا أبشع الظلم والعذاب في أقبية محاكم التفتيش السيئة الذكر على إثر سحق دولة الأندلس ومحو حضارتها وعلومها[188].(/119)
وعودٌ على بدء: فإن الفتوحات الإسلامية قد اجتمع فيها ضرورة التدافع حسب سنن الله في المجتمعات، وضرورة الدعوة ونشر الدين الحق، فالمسلمون إنما خرجوا من جزيرة العرب، لنشر دين الإسلام كلمة الله الأخيرة إلى البشرية التي جاءت لإتمام رسالة موسى وعيسى عليهما السلام، وهذا ما يجهله كثيرٌ من الناس، ويصدهم التعصب لأديانهم ومعتقداتهم عن قبول دين محمد صلى الله عليه وسلم أو الاعتراف بهذه الحقيقة، فالإسلام بنيان واحد أسهم في تشييده سائر الأنبياء من لدن آدم ونوح وإبراهيم وحتى آخرهم وخاتمهم محمد، وهم جميعاً أخوة يكمل كلٌّ منهم الآخر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يمثِّل لرسالة الإسلام التي حملها كافة الرسل: "إن مثلي ومثل الأنبياء قبلي، كمثل رجل بنى بنيانًا فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له، ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة؟
قال: "فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين"[189].(/120)
وأريد أن أنبِّه إلى أمرٍ آخر، يغفل عنه كثيرٌ من الناس، وأراه مهماً جداً وجوهرياً، وهو أن الجهاد ليس شريعة جديدة ابتدعها الإسلام، ولكنه فريضة قديمة، قام بها رسل الله موسى وداود وسليمان وغيرهم، وذلك أن الله سبحانه خلق الخلق لعبادته وحده لا شريك له، ولم يخلقهم عبثاً، فلمَّا خرج بعض عباده عن طاعته سبحانه، وتكبروا عن عبادته التي خلقوا لأجلها، وعبدوا من دونه الأوثان، واتخذ بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله، شرع الجهاد لإخراج الناس من عبادة الأوثان إلى عبادة الواحد الديان، فكان الجهاد من سنة الأنبياء إلى أن جاء نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فمضى على هذه الشريعة نفسها، وهي الجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله، وهذا يفسر لنا الفتوحات الإسلامية، إذ خرج العرب لحمل رسالة الل إلى الشعوب التي كانت آنذاك مستعبدة لملوكها وحكامها من الجبابرة والطواغيت، فكان من أعظم أهداف الفتوحات بعد نشر الإسلام تحرير الشعوب من نير الملوك الآلهة وتعسف الحكام المستبدين الذين استعبدوهم من دون الله، وهذا ما يفسِّر استقبال الشعوب المقهورة للفاتحين المسلمين ومؤازرتهم لهم أثناء الفتح.(/121)
وهذا الهدف الأسمى من الجهاد يعلمه كلُّ فرد في جيش المسلمين، ولا يغيب عن باله، جاءَ رجُلٌ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: الرجُلُ يُقاتلُ للمَغنم، والرجُلُ يُقاتلُ للذّكر، والرّجلُ يقاتلُ ليُرَى مكانهُ، فمَنْ في سبيلِ الله؟ قال: ((مَن قاتَلَ لتكونَ كلمةُ اللهِ هي العُليا فهو في سبيلِ الله))[190]. وفي معركة القادسية بعث أمير الجيش سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أحد جنوده واسمه ربعي بن عامر إلى رستم قائد الفرس فدخل ربعي عليه وقد زينوا مجلسه بالنمارق المذهبة والزرابي الحرير وأظهر اليواقيت واللآلئ الثمينة والزينة العظيمة وعليه تاجه وغير ذلك من الأمتعة الثمينة وقد جلس على سرير من ذهب ودخل ربعي بثياب رثة وسيف وترس وفرس قصيرة ولم يزل راكبها حتى داس بها على طرف البساط ثم نزل وربطها ببعض تلك الوسائد وأقبل وعليه سلاحه ودرعه وبيضته على رأسه فقالوا له: ضع سلاحك فقال: إني لم آتكم وإنما جئتكم حين دعوتموني فإن تركتموني هكذا وإلا رجعت فقال رستم: ائذنوا له فأقبل يتوكأ على رمحه فوق النمارق فخرق عامتها فقالوا له: ما جاء بكم؟ فقال: الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله ومن ضيق الدنيا إلى سعتها ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه ؛ لندعوهم إليه فمن قبل ذلك قبلنا منه ورجعنا عنه ومن أبى قاتلناه أبداً حتى نقفي إلى موعود الله. قالوا: وما موعود الله؟ قال: الجنة لمن مات على قتال من أبى والظفر لمن بقي فقال رستم قد سمعت مقالتكم فهل لكم أن تؤخروا هذا الأمر حتى ننظر فيه وتنظروا قال: نعم! كم أحب إليكم يوماً أو يومين؟ قال: لا بل حتى نكاتب أهل رأينا رؤساء قومنا فقال: ما سن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نؤخر الأعداء عند اللقاء أكثر من ثلاث، فانظر في أمرك وأمرهم، واختر واحدة من ثلاث بعد الأجل. فقال: أسيدهم أنت؟! قال: لا ولكن المسلمون كالجسد الواحد يجير أدناهم على(/122)
أعلاهم. فاجتمع رستم برؤساء قومه فقال: هل رأيتم قط أعز وأرجح من كلام هذا الرجل؟. فقالوا: معاذ الله أن تميل إلى شىء من هذا، تدع دينك إلى هذا الكلب، أما ترى إلى ثيابه؟ فقال: ويلكم لا تنظروا إلى الثياب، وانظروا إلى الرأي والكلام والسيرة! إن العرب يستخفون بالثياب والمأكل ويصونون الأحساب[191]". وبهذا يتبين أن المقصود من الجهاد هو رحمة الناس وهدايتهم للإسلام، وفسح السبيل أمامهم لمعرفة الحق، ودفع الظلم عنهم، وليس المقصود هو القتل والسلب واستعباد الناس.
قد تقول: كل الدول الطاغية والقوى المستكبرة تتذرع بالأغراض الشريفة والمقاصد الجليلة في شن حروبها، وتدَّعي تحرير الشعوب وجلب الحضارة والسعادة والحرية إليها! ولكن شتان بين دعاوى كاذبة مزيفة تقذف بها أبواق إعلامها الخادع رئاء الناس ؛ وبين حرب المسلمين التي كانت بركة ونعمة وتحريراً حقيقياً للشعوب من نير الطغيان السياسي وظلم الملوك المتألهين!.(/123)
ولقد عرفت بلادنا الاستعمار الأوربي الذي زعم أنه جالب الحضارة وناشر العمران، ولكنه ما إن تمكن فيها حتى أنشب أظفاره وأنيابه في جسم الأمة، فأفسد الأخلاق والآداب، وفصم عرى التماسك الاجتماعي ؛ وحاول هدم كل مقومات الأمة الثقافية والدينية والحضارية بل حال بين الناس وبين العلم والتهذيب والصلاح إلا طائفة على دينه فتح لها أبواب كلِّ شيء وأخرى تطاوعه وتنفذ مآربه ألقى إليها بالفتات، غير إنه فرض على الأمة تعلم لغات المستعمرين وتاريخهم وأديانهم، لأجل هدم مقوماتها الدينية والثقافية والقومية حتى لا يرجى لهم البرء من رق الاستعمار والتحرر من ربقته، كما هو معروف في جميع المستعمرات الأوربية، كبلاد الجزائر التي اقتلع الاحتلال الفرنسي لسان أهلها، وحاول أن يجتث دينها ويطمس حضارتها ويلغي خصوصيتها الثقافية، مستخدمين وسائل وأساليب وحيلاً غاية في الخسة والدناءة والبغي، فقد كان الفرنسيون في الجزائر على سبيل المثال يحرقون كل ما وقعت أيديهم عليه من كتاب أو مجلة أو جريدة أو حتى ورقةٍ مجرد ورقة كتبت حروفها بالعربية[192]، خلافاً لما كان عليه المسلمون الأولون في فتوحهم من العدل والإصلاح والتعمير وليس التخريب والتدمير، بشهادة المؤرخين الغربيين أنفسهم من مثل جوستاف لوبون صاحب العبارة الشهيرة: " ما عرف التاريخ فاتحاً أعدل ولا أرحم من العرب"[193]!.
النقطة الثانية: التوازن بين القوة والأخلاق:(/124)
إذا كانت الحرب ضرورة، فلا يعني الخضوع لغرائز الغضب والتعصب وإشباع نوازع الحقد والقسوة والأنانية. وإن سياسة الإسلام في الحرب كالسلم، لا تجاف الرحمة، ولا تنفصل عن الأخلاق، فالحرب لا تعني الفجور في الخصومة، ولا الجور في المعاملة، ولا الوحشية في القتال، ولا الانتقام والتشفي بعد القتال، كما قال سبحانه - وهو يعلم المؤمنين -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}[194]. و إذا كان لابد من الحرب، رداً لعدوانٍ أو دفعاً لفتنة، فلتكن حرباً تضبطها الأخلاق، وتحكمها الموازين، ولا تسيرها الشهوات والإحن. لتكن ضد الطغاة والمعتدين وذئاب البشر لا ضد البرآء والمسالمين والمستضعفين، وهذا واضح في تشريع القتال في القرآن ووجهته التي ارتضاها له عندما قال: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ}[195]. وبذلك غيَّر الإسلام أغراض الحروب وأهدافها التي كانت تضطرم نار الحرب لأجلها في الجاهلية قديمها وحديثها من النهب والسلب والقتل والإغارة والظلم والبغي والعدوان، وأخذ الثأر، والفوز بالوَتَر، وكبت الضعيف، وتخريب العمران، وتدمير البنيان، وهتك حرمات النساء، والقسوة بالضعاف والصبيان، وإهلاك الحرث والنسل، والعبث والفساد في الأرض، وهذا لا ينطبق على العرب بل كان هذا حال الحروب عند الروم والفرس وجميع شعوب الأرض، بينما الحرب - في الإسلام - تتجه إلى تحقيق أهداف نبيلة، وأغراض سامية، وغايات محمودة، وتتقيد بأخلاق الرحمة وآداب الإنسانية.(/125)
وهنا أمر أحب أن ألفت نظرك إليه، لأنك قد تقرأ بعض النصوص في القرآن والسنة، فتتوهم أنها تتعارض مع معاني الآية السابقة، خذ مثلاً قوله سبحانه: {فإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}[196] أو قوله: َ{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}[197]!. فهذه الآيات ونحوها يوهم ظاهرها التعارض مع ما سبق تقريره، وأنا أقول لك: ليس بينهما تعارض، ولكنه تعارض بالظاهر، فلكلِّ نصٍّ منها مجاله الذي يختلف عن الآخر، فالآية السابقة: {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين} أصلٌ ثابت من أصول تشريع الجهاد، وقاعدة كلية من قواعده تتصف بالعموم والشمول والثبات، بينما الآيات الأخرى جاءت في سياق تاريخي معين، ونزلت في عدو محارب، ما تزال الحرب بينه وبين المسلمين مستعرة، والمشركون هم الذين بدؤوها وسعروها، وكلما انطفأت أوقدوها، فلا يصح تنزيل هذه الآيات على قومٍ آخرين برءاء مسالمين، لأن الأصل في علاقات المسلمين بغيرهم السلم لا الحرب غير إن من أراد السلم فلا بدَّ له من قوةٍ تحميه، ولا مفر من الاستعداد للحرب، فالضرورة تقدَّر بقدرها[198]. ويقول الإمام محمد أبو زهرة في " العلاقات الدولية في الإسلام": "الأصل في العلاقات هو السلم... ولا يسمح الإسلام لأتباعه بالتدخل في شؤون الآخرين إلا لضرورة "[199] وقد انتقد بعض الباحثين فكرة عدم التدخل في شؤون الآخرين مطلقاً لأنها قد تكون قبيحة أحياناً وحسنة في أحيان أخرى لنصرة المظلومين مثلاً، ودفاعاً عن(/126)
الأقليات المضطهدة، وها هي الدول الكبرى اليوم تعطي هذا الحق لنفسها بحجة تعميم القيم الديمقراطية وحماية الأقليات ونحو ذلك!. ويقرر في نهاية المطاف أن التدخل في شؤون الآخرين لتحقيق مصالح إنسانية لا ضير فيها. ثم يخلص إلى نتيجة مفادها أن الأصل الحرب مع الدول المعتدية وإن كانت معاهدة أما الدول التي لم تُبَلَّغ الإسلام فالسلم هو الأصل[200]. ولكن أصحاب الخطاب الآخر المجافي للوسطية والاعتدال أساؤوا فهم النصوص، وأحلوها في غير محلها، وانتقوا منها ما يخدم أهواءهم، وأصدروا أحكامهم القاسية ضد غير المسلمين، مستشهدين بالنصوص نفسها التي نزلت في قريش مثلاً دون تحقيق لمناط الحكم بل لم ينج منهم المسلمون أنفسهم غير إن أصحاب هذا الخطاب لا يمثلون جمهور الأمة، لأن التيار العام والأقوى هو تيار معتدلٌ موزون، بيد إنه توصد في وجهه الأبواب، ولا تسلط عليه الأضواء!.(/127)
قد تقول: دعني من جماعات التطرف والترويع التي قد تكون استثناء من الأصل وخروجاً من القاعدة، أفرزتها ظروف وإحباطات وضغوط غير عادية، ومثيلاتها لا يكاد يخلو منها مجتمعٌ من المجتمعات الإسنانية، بيد أن بعض النصوص من الكتاب والسنة تدعو صراحة إلى ترويع الآمنين والاعتداء على البرءاء، مثل الآية التي تقول: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ}[201]؟!. ويذكرني هذا الفهم المغلوط للآية بقول الشاعر العربي:وكم من عائبٍ قولاً سليماً وآفته من الفهم السقيم فليس المراد من الآية العدوان والترويع، ولم يرد هذا المعنى في أي كتاب من كتب التفسير المعتمدة، وإنما تحضُّ الآية على الأخذ بأسباب القوة التي تزرع المهابة في نفوس الأعداء الذين يتربصون بنا الفرص، وهو جزءٌ أساسي من عملية الحرب الدفاعية، وهو المعروف اليوم بالسلم المسلح. والدفاع عن النفس وحماية الحقوق مباح عند جميع الأمم، وهو المراد بالآية الكريمة وما يشابهها من النصوص.(/128)
أما قوله صلى الله عليه وسلم: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم مني نفسه وماله إلا بحقه وحسابه على الله))[202]، فهذا النص ظاهره يوهم أن الإسلام يخيِّر الناس بين أمرين لا ثالث لهما: فإما أن تسلموا أو تقتلوا!. ولكن ظاهر هذا يتعارض مع المعاهدات التي أقامها الرسول مع اليهود في المدينة، وحسب الحديث كان ينبغي أن يكرههم على اعتناق الإسلام، فلم تركهم على دينهم؟ والكلام نفسه ينطبق على بقية البلاد التي فتحها المسلمون، فإنهم لم يكرهوا أهل تلك البلاد على الإسلام، ومن دخل منهم فيه فبملء إرادته واختياره. أما مقولة أن الإسلام انتشر بحد السيف، فشبهة واهية داحضة من وجوه عدة دينية وتاريخية بل الحس والواقع يدحض هذه الفرية وأقصد وجود طوائف اليهود والنصارى في بلاد المسلمين شرقها وغربها وتعايشهم مع أهلها، فلو عرف المسلمون محاكم التفتيش، ونقلوا خبرة الأسبان والأوربيين في التعذيب والاضطهاد الديني لما تركوا على ظهرها من يهودي ولا نصراني على غرار التطهير العرقي الذي وقع ضد المسلمين في الأندلس مثلاً بعد ثمانية قرون من الاستقرار فيها، وذهب ضحيته ملايين المسلمين واليهود. أما الإسلام فقد دعا إلى التسامح والعفو والرحمة، وأقرَّ مبدأ الحرية الدينية، ورفع شعار: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} البقرة256، ولذلك فإننا نقول بكل فخرٍ واعتزاز: إن المسلمين هم الأمة الوحيدة على مرِّ التاريخ التي لم تكره الشعوب الخاضعة لها على اعتناق دينها، وما يزال إلى أيامنا هذه طوائف اليهود والنصارى والصابئة والهندوس وسواهم يعيشون بيننا، وقد منحهم الإسلام حق ممارسة عباداتهم وطقوسهم، واحتفظوا بدور عبادتهم وأديرتهم وأساقفتهم، ويحقُّ للمستشرقة الألمانية د. زيغريد هونكَة أن يأخذها العجب، فتقول: ((هذا عجيبٌ حقاً، إن مثل هذا لم يقع من قبل، من هو الإنسان الذي لا يستنشق نسيم الحرية بعد الحكم(/129)
البيزنطي الجائر القاسي، وبعد هذه الاضطهادات الشنيعة التي جرت في أسبانيا، والاضطهادات المتواصلة التي قاسى اليهود الكثير من أهوالها؟ إن المسلمين السادة الجدد حماة البلاد وحكامها لم يتدخلوا في مسائل رعاياهم الداخلية: إنهم عادلون – هكذا كتب بطريرك القدس في القرن التاسع إلى بطريرك استنبول – والمسلمون لا يظلموننا أو يضطهدوننا. إنهم يمنحون مختلف أفراد رعاياهم من أصحاب العقائد الأخرى كل حرية في تأدية فرائضهم الدينية أو حقوقهم المدنية متى ما دفعوا الجزية وأطاعوا أولي الأمر))[203].
فالحديث الآنف الذكر: ((أمرت أن أقاتل الناس...))، إنما ورد في بيان ما يحقن دم الكافر المحارب في أرض القتال كما يبين أن المسلمين إنما يجاهدون لنشر دينهم، وليس لاستعباد الناس وظلمهم. والكلام حمَّال أوجه، ومن أراد الشبه حمله على غير وجهه لغاية في نفسه، ولو أنصف لجمع بين النصوص، وفهمها على ضوء سياسة الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرته .
النقطة الثالثة: آداب الجهاد وضوابطه والرحمة فيه:(/130)
وأرى من الضروري التوسع في الحديث عن آداب الجهاد وضوابطه والرحمة فيه، لتعلقها بموضوع البحث مباشرة، فقد شرع رسول الرحمة صلى الله عليه وسلم للحروب قواعد أخلاقية ألزم جنوده وأمراء جيوشه التقيد بها في مختلف الظروف، وأهمها الوفاء بالعهود والمواثيق، والرحمة في الحرب، والعدالة، والمعاملة بالمثل عند الضرورة[204]، عن صفوان بن عسال المرادي قال: ((بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية فقال: اغزوا بسم الله في سبيل الله ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا))[205]. وكان إذا جاء قوماً بِلَيْل لم يُغِرْ عليهم حتى يُصبِح، ونهي أشد النهي عن التحريق في النار، ونهي عن قتل الصبر، وقتل النساء وضربهن، وفي سنن أبي داود عن رباح بن ربيع قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة فرأى الناس مجتمعين على شىء فبعث رجلاً فقال: " انظر علام اجتمع هؤلاء؟ " فجاء فقال: على امرأة قتيل. فقال " ما كانت هذه لتقاتل! " قال وعلى المقدمة خالد بن الوليد، فبعث رجلاً فقال: " قل لخالد لا تقتلن امرأة ولا عسيفاً "[206]. وعن أنس بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " انطلقوا باسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله ولا تقتلوا شيخاً فانياً ولا طفلاً ولا صغيراً ولا امرأة ولا تغلوا وضموا غنائمكم وأصلحوا {وأحسنوا إن الله يحب المحسنين}"[207]. ونهي عن إهلاك الحرث والنسل وقطع الأشجار إلا إذا اشتدت إليها الحاجة، ولم يبق سواه سبيل . ووصى عند فتح مكة : (( لا تجهزن على جريح، ولا تتبعن مدبراً، ولا تقتلن أسيراً ))، وأمضى السنة بأن السفير لا يقتل. إلى غير ذلك من القواعد النبيلة التي طهرت الحروب من أدران الجاهلية حتى جعلتها جهاداً مقدساً .(/131)
ولم تكن هذه الوصايا مجرد كلامٍ يمضغ للدعاية، ولكنه كان يأخذ طريقه إلى التطبيق العملي، وشواهده وصوره كثيرة، ومنها فتح مكة وكان من أعظم أيام الإسلام، وعادة المنتصر أن يمتلئ زهواً وخيلاء وغروراً، وقد يسرف في القتل والانتقام؛ ليطفئ نار الحقد التي تشتعل في قلبه، ويشفي غليله من خصوم الأمس الذين وقعوا في قبضته، وقد كانت راية الأنصار في فتح مكة مع سعد بن عبادة، فلما مر بأبي سفيان قائد قريش المنهزم قال له مهدداً : اليوم يوم الملحمة، اليوم تُسْتَحَلُّ الحُرْمَة، اليوم أذل الله قريشاً . فلما حاذى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان قال : يا رسول الله، ألم تسمع ما قال سعد ؟ قال : (وما قال ؟ ) فقال : قال كذا وكذا . فقال عثمان وعبد الرحمن بن عوف : يا رسول الله، ما نأمن أن يكون له في قريش صولة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( بل اليوم يوم تُعَظَّم فيه الكعبة، اليوم يوم أعز الله فيه قريشاً )[208] ثم أرسل إلى سعد فنزع منه اللواء، ودفعه إلى ابنه قيس بن سعد. أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان يضع رأسه تواضعاً لله حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح، حتى إن شعر لحيته ليكاد يمس واسطة الرحل. ثم مشى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك، والمهاجرون والأنصار بين يديه وخلفه وحوله، حتى دخل المسجد، فأقبل إلى الحجر الأسود، فاستلمه، ثم طاف بالبيت، وفي يده قوس، وحول البيت ثلاثمائة وستون صنماً، فجعل يطعنها بالقوس، ويقول : {جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا }[209] ، { قُلْ جَاء الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ }[210]، والأصنام تتساقط على وجوهها . وبعد تطهير الكعبة صلى الرسول صلى الله عليه وسلم فيها ثم خطب أمام قريش ، وكانت قد ملأت المسجد صفوفاً، ينتظرون ماذا يصنع ؟ فأخذ بعضادتي الباب وهم تحته، فكان مما قاله في خطبته : (يا معشر قريش إن الله قد(/132)
أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء، الناس من آدم، وآدم من تراب، ثم تلا هذه الآية : {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}[211]. ثم قال : ( يا معشر قريش ما ترون أني فاعل بكم ؟ ) قالوا : خيرًا، أخ كريم وابن أخ كريم، قال : (فإني أقول لكم كما قال يوسف لإخوته : { لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ } اذهبوا فأنتم الطلقاء)![212]. فكيف ترى معاملته لأهل مكة بعد كل هذا التاريخ المشحون عداوة وبغضًا؟ وأنا أريدك أن تتخيل أن نابليون مثلاً هو ذاك الفاتح الظافر بدل محمد، فكيف سيتصرف؟ لن أسلمك للخيال، فقد استسلم لنابليون أهالي مدينة عكا سنة1779م بعد أن أعطاهم الأمان، ولكنه نقض عهوده، وأبادهم عن بكرة أبيهم!!.
النقطة الرابعة: فظائع الحروب الصليبية:
وتعال معي لترى الصور الفظيعة والمناظر المروِّعة وحمامات الدم والإبادة الجماعية التي قامت بها جيوش الحملات الصليبية التي بدأت أولاها في 1096م، وخرجت الأخيرة منها من أوروبا في 1250م، وذلك بقيادة رهبان النصارى وقساوستهم، و نقلها المؤرخون المعاصرون منهم والشهود لتلك الحوادث، وأقتصر على بيت المقدس. ماذا جرى فيه لما دخل الصليبيون بيت المقدس؟(/133)
قال ابن الأثير: " وقتل الفرنج بالمسجد الأقصى ما يزيد على سبعين ألفًا منهم جماعة كثيرة من أئمة المسلمين وعلمائهم وعبادهم وزهادهم ممن فارق الأوطان وجاور بذلك الموضع الشريف وأخذوا من عند الصخرة نيفًا وأربعين قنديلًا من الفضة وزن كل قنديل ثلاثة آلاف وستمائة درهم وأخذوا تنورًا من فضة وزنه أربعون رطلًا بالشامي وأخذوا من القناديل الصغار مائة وخمسين قنديلًا نقرة ومن الذهب نيفًا وعشرين قنديلًا وغنموا منه ما لا يقع عليه الإحصاء[213]. سبعون ألفاً في أسبوع، وفي بيت المقدس وحدها، ومن قبل أقاموا مجازر في أنطاكية وفي معرة النعمان التي أبادوا أهلها عن بكرة أبيهم، وقتلوا فيها مئة ألف! قال ابن الأثير في الكامل: "فوضع الفرنج فيهم السيف ثلاثة أيام فقتلوا ما يزيد على مائة ألف وسبوا السبي الكثير وملكوه". بل لم يسلم منهم إخوانهم في الملة من النصارى حتى اضطر البطريرك نفسه إلى الالتجاء إلى مصر؛ ليعيش في حماية العبيديين[214].
فهل تعثر في تاريخ الفتوحات الإسلامية على مثيلاتها؟!(/134)
قد تتهم هذا المؤرخ العربي بالمبالغة، فلندع المؤرخ الشهير ويلز Wills يحدثنا عن المذبحة الرهيبة حسب تعبيره، يقول: " حدثت ببيت المقدس مذبحة رهيبة وكان دم المقهورين يجري في الشوارع، حتى لقد كان الفرسان يصيبهم رشاش الدم وهم راكبون، وعندما أرخى الليل سدوله جاء الصليبيون وهم يبكون من فرط الفرح، وخاضوا الدماء التي كانت تسيل كالخمر في معصرة العنب واتجهوا إلى الناقوس ورفعوا أيديهم المضرجة بالدماء يصلون لله شكراً"[215]. وإذا اتهمت ويلز بالمبالغة فقد شهد شاهد عيان صليبي هو وليم الصوري، الذي نقل إلينا بالتصوير الحي مشاهد النصر بزهو وفخر! يقول[216]: "اندفعوا هنا وهناك خلال شوارع وساحات المدينة مستلين سيوفهم، وبحماية دروعهم وخوذهم، وقتلوا جميع من صادفوا من الأعداء بصرف النظر عن العمر أو الحالة، ودون تمييز، وقد انتشرت المذابح المخيفة في كل مكان، وتكدست الرؤوس المقطوعة في كل ناحية بحيث تعذر الانتقال على الفور من مكان لآخر إلا على جثث المقتولين، وكان القادة قد شقوا في وقت سابق طريقاً لهم بواسطة مسالك متنوعة إلى مركز المدينة تقريباً وأحدثوا عندما تقدموا قتلا لا يوصف، وتبع موكبهم حشد من الناس متعطش لدماء الأعداء ومصمم تصميماً كاملاً على إبادتهم» وقال أيضاً: " ولقد كانت المجزرة التي ارتكبت في كل مكان من المدينة مخيفة جداً، وكان سفك الدماء رهيباً جداً لدرجة عانى فيها المنتصرون من أحاسيس الرعب والاشمئزاز ". ويتابع الصوري وهو من مؤرخي الحروب الصليبية تصوير وحشية الصليبيين ومذابحهم المرعبة في بيت المقدس: " كان القسم الأكبر من الناس قد التجأ إلى ساحة الهيكل لأنها واقعة في قسم منعزل من المدينة، وكانت محمية حماية قوية بسور وأبراج وبوابات، إلا أن هروبهم لم ينقذهم حيث تبعهم تانكرد على الفور بالجزء الأكبر من الجيش، وشق طريقه إلى داخل الهيكل، ونقل معه - حسب إحدى الروايات بعد مذبحة مخيفة – كمية ضخمة من(/135)
الذهب والفضة والجواهر، هذا ومن المعتقد أنه أعاد هذه الكنوز سالمة بعد أن كان الصخب قد هدأ. وعلم القادة الآخرون- بعد أن كانوا قتلوا من واجهوا في الأجزاء المختلفة من المدينة - أن الكثير قد هربوا للالتجاء في الأروقة المقدسة للهيكل، ولذلك اندفعوا بالإجماع إلى هناك، ودخلت مجموعة كبيرة من الفرسان والرجالة قتلت جميع الذين كانوا قد التجأوا إلى هناك، ولم تظهر أي شفقة لأي واحد منهم، وغمر المكان كله بدم الضحايا. لقد كان بالفعل حكم الله القويم الذي قضى على الذين دنسوا حرم المسيح بطقوسهم الخرافية، وجعلوه مكاناً غريباً بالنسبة لأهله المؤمنين أن يكفِّروا عن خطاياهم بالموت وأن يطهروا الأروقة المقدسة بسفك دمائهم.. وبات من المحال النظر إلى الأعداد الكبيرة للمقتولين دون هلع، فقد انتشرت أشلاء الجثث البشرية في كل مكان، وكانت الأرض ذاتها مغطاة بدم القتلى، ولم يكن مشهد الجثث التي فصلت الرؤوس عنها والأضلاع المتناثرة في جميع الاتجاهات هو وحده الذي أثار الرعب في كل من نظر إليها، فقد كان الأرهب من ذلك هو النظر إلى المنتصرين أنفسهم وهم ملطخون بالدم من رؤوسهم إلى أقدامهم، إنه منظر مشؤوم جلب الرعب لجميع من واجهوهم. ويروى أنه هلك داخل حرم الهيكل فقط قرابة عشرة آلاف من الكفرة، بالإضافة إلى المطروحين في كل مكان من المدينة والشوارع والساحات، حيث قدر عددهم أنه كان مساوياً لعدد القتلى داخل حرم الهيكل.(/136)
وطاف بقية الجنود خلال المدينة بحثاً عن التعساء الباقين على قيد الحياة والذين يمكن أن يكونوا مختبئين في مداخل ضيقة، وطرق فرعية للنجاة من الموت، وسحب هؤلاء على مرأى الجميع وذبحوا كالأغنام، وتشكل البعض في زمر واقتحموا المنازل حتى قبضوا على أرباب الأسر وزوجاتهم وأطفالهم، وجميع أسرهم وقتلت هذه الضحايا، أو قذفت من مكان مرتفع حيث هلكت بشكل مأساوي. وادعى كل واحد من المغيرين ملكية دائمة للمنزل الذي كان قد اقتحمه، وذلك بالإضافة إلى تملك كل ما كان موجوداً فيه، لأن الحجاج كانوا قد اتفقوا قبل الاستيلاء على المدينة أن كل رجل يحصل على شيء بعد الاستيلاء على المدينة بالقوة يكون حقاً له وملكاً إلى الأبد دون إزعاج، ونتيجة لهذا فتش الحجاج المدينة بدقة قصوى، وقتلوا سكانها بجرأة، وتغلغلوا في أكثر الأماكن عزلة وبعداً، واقتحموا غرف الأعداء الخاصة جداً، وعلق كل منتصر درعه وأسلحته عند مدخل البيت الذي استولى عليه كإشارة لكل من يقترب منه، حتى لا يتوقف عنده بل ليتجاوز ذلك المكان لأنه أصبح ملكية لشخص آخر[217]»اهـ(/137)
ويعترف مؤرخو الحملات الصليبية ببشاعة السلوك البربري الذي أقدم عليه الصليبيون، فذكر مؤرخ صليبي ممن شهد هذه المذابح وهو "ريموند أوف أجيل"، أنه عندما توجه لزيارة ساحة المعبد غداة تلك المذبحة، لم يستطع أن يشق طريقه وسط أشلاء القتلى إلا بصعوبة بالغة، وأن دماء القتلى بلغت ركبتيه، وإلى مثل هذا القول أشار "وليم الصوري " وقال مؤرخ صليبي آخر وهو" أنتوني برج "[218] في تصوير فظائع النصارى في بيت المقدس التي تذكر بفظائع التتار لما دخلوا بغداد، والعجيب أنه يتحدث عنه بمشاعر سادية غريبة شاذة لا تمت إلى الإنسانية بصلة، ويسميه نصراً! يقول برج: " وبعد فوزهم بالنصر العظيم وبعد الحرارة والخوف وسفك الدماء في اليومين أو الثلاثة الأخيرة في حالة شعور مفرط هستيري تقريباً!!!، وبعد ذلك لم يشكوا لحظة في أن المسلمين المدافعين عن القدس كانوا كارهين للرب، ومدنسين للأماكن المقدسة، وعاملين لدى أعداء المسيح، وعابدين لشيء بغيض في مكان مهجور ذكر في الإنجيل، ولذلك قاموا بقتل كل رجل وامرأة وطفل وجدوهم في المدينة بفرح وباطمئنان تامين، وهم يرون أنهم كانوا ينفذون إرادة الرب!!!، ودامت المذبحة طوال الليل وقسماً من الليلة التالية. وعندما ذهب الراهب ريموند أوف أغيلرز لزيارة منطقة الهيكل في صباح اليوم التالي، وجدها قفراء مليئة بالجثث، بحيث أن المسجد الأقصى - وعلى لوائه يرفرف علم تانكرد - وقبة الصخرة كانا مليئين بجثث المذبوحين الذين وصلت دماؤهم لمستوى الركب، أما الناجون وحدهم من المدينة فكانوا الحاكم وطائفة من حرسه الذين سمح لهم ريموند بمغادرتها بعد دفع فدية ضخمة وتسليم خزائن هائلة، وذبح الباقون بما فيهم اليهود الذين حشدوا في معبدهم الرئيسي، ثم أضرمت النار في المبنى وهم أحياء، وعندما لم يبق من يقتلونه، سار المنتصرون خلال شوارع المدينة التي لا تزال مفروشة بالجثث وتفوح منها رائحة الموت، إلى كنيسة القيامة لتقديم الشكر للرب(/138)
لرحمته العظيمة المتنوعة، ومن أجل انتصار الصليب الذي فازوا بها باسمه. اهـ ولطامس نيوتن تفسير على الإخبار عن الحوادث المستقبلة المندرجة في الكتب المقدسة. وطبع هذا التفسير سنة 1803 في البلد لندن. ففي الصفحة 65 من المجلد الثاني في بيان تسلط أهل التثليث على أورشليم هكذا: (فتحوا أورشليم في الخامس عشر من شهور تموز الرومي سنة 1099 بعد ما حاصروا خمس أسبوعات (هكذا) وقتلوا غير المسيحيين، فقتلوا أزيد من سبعين ألفاً من المسلمين وجمعوا اليهود وأحرقوهم ووجدوا في المساجد غنائم عظيمة)[219] انتهى. هذا بعض ما ارتكبه الصليبيون من مجازر تقشعر لها الأبدان، ودماء أهريقت جرت أنهاراً، وكل ذلك فعلوه باسم المسيح، والمسيح عيسى عليه السلام منه براء، وبإرادة الرب! فأي ربٍّ هذا الذي يأمر بهذا الفجور؟! وأكرر لك عبارة الصوري: " ولذلك قاموا بقتل كل رجل امرأة وطفل وجدوهم في المدينة بفرح وباطمئنان تامين، وهم يرون أنهم كانوا ينفذون إرادة الرب " فتأمل!!. لقد فتح المسلمون القدس في صدر الإسلام في عهد عمر بن الخطاب، وحرروها من أيدي الصليبيين في عهد الملك صلاح الدين الأيوبي، فهل قابلوهم السيئة بالسيئة؟! أرجو أن تقرأ التاريخ، واقرأ كتاب الأمان من عمر رضي اللّه عنه لنصارى الشام لتوازن وتقارن ؛ لتعرف من الذين ينفذون إرادة الرب الرحمن الرحيم! ومن الرحماء ومن الإرهابيون؟ ولا يخفى هذا على لبيب! والفظائع التي صدرت عن النصارى لليهود وعن النصارى بعضهم إلى بعض أدهى وأمر، ولولا خشية التطويل والخروج عن الموضوع لسردتها، وأكتفي بهذا القدر، ولكن أقول لك قبل أن نغادر هذا الفصل: انظر إلى هؤلاء الطاعنين على محمد صلى الله عليه وسلم، المستهزئين به، هل قرأوا تاريخهم القديم منه والمعاصر المليء جوراً وظلماً لأهل ملتهم وغير ملتهم أم يتعامون عنه؟ اهـ
شبهةٌ قوية والرد عليها:(/139)
كأني بالقارئ الكريم يخاطبني بأصدق لهجة، ويقول: أود لو أصدقِّك فيما تقوله عن محمد الرؤوف الرحيم، ولكن أجد صعوبة بالغة في الثبات على هذه القناعة، لأن ما يرتكبه بعض المسلمين من قتل المدنيين وخطف السياح وترويع الآمنين يزرع ف نفسي الشك في الحقائق التي تقدمها عن الإسلام ونبيه محمد!. لا ألومك على هذا الاعتراض، فبعض الممارسات المروعة الشاذة تشوش الصورة على المستقبِل وتشوهها، ولكن هل من المعقول أن تلوم المسيح على ما يرتكبه النصارى من أخطاء؟ ثمَّ إن هؤلاء أقلية لا تمثِّل أمة بأسرها، فكيف تحمَّلُ أمةٌ جريرة طائفة قليلة منه، أخذت النصوص عن جهلٍ وهوى من غير فقه أو تدبر، والله عز وجل يقول: {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] وأغلب الدارسين والباحثين لهذه الظاهرة يفسرونها بأنها جاءت كردة فعل على الظلم الصارخ الذي يقع على المسلمين، وأن البطالة والفقر والإحباط والاحتلال كل ذلك عوامل ساهمت في نشوء هذه الظاهرة. وأنا لا أبرر تصرفاتهم، فالإسلام لا يقرُّها، وقد كفل حقوق غير المسلمين، وصان دماءهم وأموالهم وأعراضهم وسائر حقوقهم، والنبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: «مَن قَتلَ مُعاهِداً لم يرحْ رائحةَ الجنة, وإِنّ ريحَها توجَدُ من مَسيرةِ أربعين عاماً»[220]. ومن المعلوم أن شريعة الإسلام قد جاءت بحفظ الضروريات الخمس، وحرمت الاعتداء عليها وهى الدين والنفس والمال والعرض والعقل. ولا يختلف المسلمون فى تحريم الاعتداء على الأنفس المعصومة مسلمة كانت أو غير مسلمة.
خاتمة:(/140)
ما كتبته عن الرحمة المهداة لا يعدو أن يكون قطرة من بحر من سيرته العطرة وشمائله الكريمة وأخلاقه العظيمة صلى الله عليه وسلم، أهديها إلى إخواني من الغربيين والنصارى منهم خاصة، أردت أن أوصل إليهم رسالة وجهها إليهم رسول الإنسانية - وصيُّ السيد المسيح وبشارته وأخوه الأقرب - منذ أكثر من ألف وأربعمئة عام، ولكن انقطع بها البريد، وسد في وجهها الطريق، فعسى أن تصل، فتبلغ الأسماع، وتتأملها العقول، وتتفتح لها القلوب، ويسعد بها الناس في أوربا وأمريكا واليابان وغيرها، أو بتعبير آخر تكتمل سعادتهم، فهم يمتلكون أسباب السعادة المادية، ولكنهم يفتقرون إلى السعادة الروحية، ويفتقدون الأمن النفسي بسبب الخواء الروحي وطغيان النزعة المادية، فعسى أن يجمع الله لهم السعادة بشقيها: المادي والروحي. ولكن الدور الأهم يقع على عاتق المسلمين الذين ابتعدوا عن دينهم كثيراً، فأساؤوا إلى دينهم أكثر مما أحسنوا إليه، وحجبوا صورته المضيئة الجميلة بانحطاطهم المعرفي والأخلاقي.
وكما بدأت هذه الرسالة بكلمة المستشرق الإسباني " جان ليك " أختمها ببرقية عاجلة بعثها مرماديوك إلى المسلمين، يقول فيها: إن المسلمين يمكنهم أن ينشروا حضارتهم بنفس السرعة التي نشروها بها سابقاً، إذا رجعوا إلى الأخلاق التي كانوا عليها حينما قاموا بدورهم الأول، لأن هذا العالم الخاوي لا يستطيع أن يقف أمام حضارتهم!!. انتهت برقية مرماديوك، وأنا أبعثها بدوري إلى المسلمين في الغرب، لعلهم يدركون مغزاها!.
المراجع والمصادر
القرآن الكريم
مصادر السنة النبوية:
الكتب الستة: الجامع الصحيح للبخاري وصحيح مسلم وكتب السنن الأربعة - مسند الإمام أحمد – الموطأ للإمام مالك - المستدرك للحاكم - المعاجم الثلاثة للطبراني - شعب الإيمان للبيهقي وغيره.
* آثار الحرب في الفقه الإسلامي - دراسة مقارنة - دار الفكر - وهبة الزحيلي - ط4 - 1412هـ - 1992م.(/141)
* إظهار الحق - رحمة الله بن خليل الرحمن الهندي - دار الكتب العلمية – بيروت - ط1 - 1413هـ - 1993م.
* البداية والنهاية - للإمام إسماعيل بن كثير الدمشقي.
* تباشير الإنجيل والتوراة بالإسلام والتوراة بالإسلام ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم – د.نصر الله عبد الرحمن أبو طالب – دار الوفاء – المنصورة – ط1 – 1425هـ - 2005م.
* التبشير والاستشراق – محمد عزت إسماعيل الطهطاوي – الزهراء للإعلام العربي - القاهرة – ط1 – 1411هـ - 1991م.
* الحروب الصليبية – د. أحمد شلبي – مكتبة النهضة المصرية – القاهرة.
* دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة - د. موريس بوكاي - دار المعارف - ط 4 – ع. ت.
* زاد المعاد في هدي خير العباد – ابن قيم الجوزية - مؤسسة الرسالة – مكتبة المنار الإسلامية - بيروت – الكويت - الطبعة الرابعة عشر، 1407 – 1986م تحقيق: شعيب الأرناؤوط - عبد القادر الأرناؤوط.
* الرحيق المختوم – صفي الرحمن المباركفوري – دار ابن حزم – بيروت – ط1 – 1423هـ - 2002 م.
* السيرة النبوية - ابن هشام.
* السيرة النبوية – محمد ناصر الدين الألباني – المكتبة الإسلامية – عمان – ط1.
* السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية – دراسة تحليلية – د مهدي رزق الله أحمد – مطبعة مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية – الرياض - ط1 - 1412هـ - 1992م.
* شمس الله تسطع على الغرب – د. سيغريد هونكة – دار النهضة العربية – القاهرة - 1964م.
* صحيح السيرة النبوية – إبراهيم العلي – دار النفائس – الأردن - 1415هـ/ 1995م.
* فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير – الشوكاني.
* فقه السيرة - محمد الغزالي - دار البيان للتراث - القاهرة - ط1 - 1407هـ - 1987م.
* الكامل في التاريخ – ابن الأثير.
* الموسوعة الكويتية – مادة: (تيسير – رخصة – رفع الحرج).(/142)
* الموافقات في أصول الفقه - إبراهيم بن موسى اللخمي الغرناطي المالكي – دار المعرفة – بيروت - تحقيق: عبد الله دراز.
* منهج التربية الإسلامية، محمد قطب – دار الشروق – القاهرة.
* هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى- ابن قيم الجوزية - نشر الجامعة الإسلامية - المدينة المنورة.
المجلات والدوريات:
* مجلة المجتمع الكويتية - العدد 1109 - المرأة بين المجتمع الإسلامي والمجتمع الغربي - علي عزت بيغوفيتش.
* مجلة أمتي الكويتية – العدد الحادي عشر – ابن باديس كان أمة وحده.
ـــــــــــــــــــــــــــ
[1] الأنبياء: 107.
[2] القلم: 4.
[3] التبشير والاستشراق – محمد عزت إسماعيل الطهطاوي – الزهراء للإعلام العربي – القاهرة – ط1 – 1411هـ - 1991م – ص 109.
[4] القلم: 4.
[5] الأنبياء: 107.
[6] هذه الصورة جمعها الباحث من جملة الأحاديث الواردة في صفاته الخلقية صلى الله عليه وسلم.
[7] الأسيل: هو المستوي.
[8] رواه الترمذي.
[9] الأخمص من القدم ما بين صدرها وعقبها.
[10] أي غليظ الأصابع والراحة.
[11] صحيح مسلم.
[12] سنن الدارمي.
[13] رواه الترمذي عن أنس وصححه الألباني.
[14] صحيح السيرة النبوية – محمد ناصر الدين الألباني – المكتبة الإسلامية - عمان – ط1 – ص 222.
[15] سنن الترمذي وغيره عن عائشة / وانظر: الرحيق المختوم – صفي الرحمن المباركفوري – دار ابن حزم – بيروت – ط1 – 1423هـ - 2002 م – ص 474 (الصفات والأخلاق).
[16] رواه الحاكم في المستدرك والطبراني في المعجم الكبير والبيهقي في شعب الإيمان.
[17] صحيح البخاري - للإمام البخاري - الجزء الأول - بدء الوحي - باب: كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[18] صحيح البخاري - للإمام البخاري - الجزء الثاني - كتاب المناقب - باب: ما جاء في أسماء رسول الله صلى الله عليه وسلم / أخرجه مسلم في الفضائل - باب: في أسمائه صلى الله عليه وسلم - رقم: 2354.(/143)
[19] رواه الترمذي (469) و قال: حديث حسن صحيح، وابن ماجه (1384)، والحاكم 1/320.
[20] اقرأ في السيرة: إسلام حبر اليهود عبد الله بن سلام.
[21] المحيط: المَحْمَدَ , المُحَمّدُ.
[22] صحيح البخاري - للإمام البخاري - الجزء الثاني - كتاب المناقب – باب: ما جاء في أسماء رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[23] متفقٌ عليه.
[24] صحيح البخاري - للإمام البخاري - الجزء الثاني - كتاب الجهاد والسير - باب: ما يكره من التنازع والاختلاف في الحرب، وعقوبة من عصى إمامه.
[25] سيرة ابن هشام - جزء 4 - صفحة 125.
[26] البقرة: 285.
[27] صحيح البخاري - للإمام البخاري - الجزء الثاني- كتاب الأنبياء – باب: {واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها} /مريم: 16/. وأخرجه مسلم في الفضائل- باب: فضائل عيسى عليه السلام- رقم: 2365.
[28] صحيح البخاري - للإمام البخاري - الجزء الثاني - كتاب الأنبياء – باب: {واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها} /مريم: 16 / صحيح مسلم – للإمام مسلم - الجزء الرابع - كتاب الفضائل - باب فضائل عيسى عليه السلام.
[29] انظر: إظهار الحق - رحمة الله بن خليل الرحمن الهندي – دار الكتب العلمية – بيروت – ط1 – 1413هـ - 1993 م – ص 422.
[30] شمس الله تسطع على الغرب – زيغريد هونكَة - دار النهضة العربية – القاهرة - 1964م - ص 458.
[31] المرجع نفسه – ص (274- 278).
[32] العلق: 1- 5.
[33] صحيح البخاري - للإمام البخاري - الجزء الأول - بدء الوحي. - باب: كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم / صحيح مسلم - للإمام مسلم - الجزء الأول - كتاب الإيمان - باب بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[34] البداية والنهاية - للإمام إسماعيل بن كثير الدمشقي - الجزء الثالث - فصل تعذيب قريش للمسلمين لأتباعهم النبي عليه الصلاة والسلام.(/144)
[35] البداية والنهاية - للإمام إسماعيل بن كثير الدمشقي - الجزء الثالث - فصل في عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه الكريمة على أحياء العرب.
[36] السيرة النبوية - لابن هشام - المجلد الثاني - ذكر عدوان المشركين على المستضعفين ممن أسلم بالأذى والفتنة - فتنة المسلمين.
[37] البداية والنهاية – المرجع نفسه - فصل تعذيب قريش للمسلمين لأتباعهم النبي عليه الصلاة والسلام - باب هجرة أصحاب رسول الله من مكة إلى أرض الحبشة.
[38] صحيح البخاري - للإمام البخاري - الجزء الثاني - كتاب بدء الخلق – باب: إذا قال أحدكم: آمين، والملائكة في السماء، فوافقت إحداهما الأخرى، غفر له ما تقدم من ذنبه.
[39] البداية والنهاية - للإمام إسماعيل بن كثير الدمشقي - الجزء الثالث - فصل في ذهابه صلى الله عليه وسلم إلى أهل الطائف يدعوهم إلى دين الله.
[40] انظر: تباشير الإنجيل والتوراة بالإسلام والتوراة بالإسلام ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم – د. نصر الله عبد الرحمن أبو طالب – دار الوفاء – المنصورة – ط1 – 1425هـ - 2005م – ص 304 / إظهار الحق – المرجع السابق – ص 422.
[41] تباشير الإنجيل والتوراة بالإسلام والتوراة بالإسلام ورسوله محمد - المرجع السابق – 315 وما بعدها.
[42] المرجع نفسه – 355.
[43] آل عمران: 103.
[44] زاد المعاد - الجزء 1 – فصل في كتبه ورسله إلى الملوك - صفحة 119.
[45] السيرة النبوية - لابن هشام - المجلد السادس - خطبة الوداع / البداية والنهاية - للإمام إسماعيل بن كثير الدمشقي - الجزء الخامس - فصل خطبة النَّبيّ عليه الصلاة والسلام.
[46] البداية والنهاية - ا بن كثير - الجزء الخامس - فصل خطبة النَّبيّ عليه الصلاة والسلام في ثاني أيام التشريق.
[47] آل عمران: 144.
[48] سيرة ابن هشام – ج 6 – ص 82.
[49] الواقعة: 41 – 56.
[50] الحجر: 49 – 50.(/145)
[51] صحيح البخاري- للإمام البخاري - الجزء الثاني - كتاب بدء الخلق – باب: ما جاء في قول الله تعالى: {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه} (الروم: 27). وأخرجه مسلم في التوبة، باب: في سعة رحمة الله تعالى وأنها سبقت غضبه، رقم: 2751.
[52] صحيح البخاري - للإمام البخاري - الجزء الرابع - كتاب الرقاق – باب: الرجاء مع الخوف.
[53] أحمد في مسنده وصحيح مسلم عن أبي سعيد و أبي هريرة معه معا.
[54] صحيح البخاري- للإمام البخاري - الجزء الرابع - كتاب الأدب - باب: رحمة الولد وتقبيله ومعانقته / و أخرجه مسلم في التوبة، باب: في سعة رحمة الله تعالى وأنها سبقت غضبه، رقم: 2754.
[55] التوبة: 128.
[56] تباشير الإنجيل والتوراة بالإسلام ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم – ص363.
[57] الأنبياء – 107.
[58] آل عمران – 159.
[59] رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح.
[60] رواه الإمام أحمد والترمذي قال أبو عِيسَى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
[61] الحجرات: 13.
[62] صحيح البخاري - للإمام البخاري - الجزء الأول - كتاب الجنائز – باب: الدخول على الميت بعد الموت إذا أدرج في كفنه.
[63] صحيح مسلم. الإصدار- للإمام مسلم الجزء الرابع - كتاب الفضائل - باب رحمته صلى الله عليه وسلم الصبيان والعيال، وتواضعه، وفضل ذلك.
[64] صحيح البخاري - للإمام البخاري - الجزء الأول - كتاب الكسوف – باب: الدعاء في الخسوف.
[65] رواه مسلم.
[66] رواه مسلم.
[67] رواه مسلم.
[68] رواه البخاري.
[69] رواه الترمذي وقال حديث حسن غريب والبخاري في البيوع.
[70] متفق عليه.
[71] البقرة: 280.
[72] البقرة: 83.
[73] الإسراء: 53.
[74] العنكبوت: 46.
[75] طه: 44.
[76] آل عمران159.
[77] التوبة: 128.
[78] الموافقات - جزء 2 - صفحة 121.
[79] الأعراف: 42.
[80] البقرة: 233.
[81] الأنعام: 152.
[82] انظر: الموسوعة الكويتية – مادة: (تيسير – رخصة – رفع الحرج).(/146)
[83] رواه أحمد وإسناده ضعيف.
[84] رواه أصحاب السنن عدا النسائي.
[85] البقرة: 185.
[86] الطلاق: 7.
[87] متفقٌ عليه.
[88] رواه البخاري.
[89] الأعراف: 156.
[90] رواه البخاري.
[91] رواه مسلم.
[92] الموسوعة الفقهية الكويتية – مادة التيسير واليسر.
[93] المائدة: 6.
[94] البقرة: 185.
[95] النساء: 28.
[96] الموافقات - الشاطبي - جزء 2 - المسألة السادسة - صفحة 122.
[97] المرجع نفسه – ص 122.
[98] المرجع نفسه - ج 1 – ص 340.
[99] صحيح ابن حبان قال شعيب الأرنؤوط: إسناده قوي.
[100] رواه البخاري.
[101] رواه البخاري.
[102] رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
[103] المائدة90-91.
[104] منهج التربية الإسلامية، محمد قطب، 29 –30.
[105] المرجع نفسه، 31.
[106] الجامع لأحكام القرآن - محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح القرطبي أبو عبد الله- ج12 – ص 185.
[107] أخرجه البخاري ومسلم وأحمد.
[108] أخرجه البخاري في الأدب باب من تركَ صَبيةَ غيرهِ حتى تَلعبَ به, أو قبّلَها أو مازَحَها.
[109] أخرجه مسلم.
[110] أخرجه البخاري في الجنائز - باب إذا أسلم الصبي فمات هل يصلى عليه؟ وهل يعرض على الصبي الإسلام؟
[111] رواه البخاري وأحمد، وعند البخاري بلفظ الفراش.
[112] انظر: شمس الله تسطع على الغرب – د. سيغريد هونكة – دار النهضة العربية – القاهرة – 1964م.
[113] رواه الترمذي.
[114] غلام أسود حبشي، كان مملوكاً للنبي صلى الله عليه وسلم، يكنى أبا مارية.
[115] رواه البخاري ومسلم، أخرجه مسلم في الفضائل، باب: رحمة النبي صلى الله عليه وسلم للنساء وأمر السواق مطاياهن بالرفق بهن، رقم: 2323.
[116] أخرجه الترمذي في تفسير سورة التوبة وفي كتاب الرضاع باب حق المرأة على زوجها وقال: هَذَا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. ومَعْنَى قَوْله (عَوَانٍ عِنْدَكُمْ) يْعني أسيرات فِي أيْدِيكُم.(/147)
[117] صحيح مسلم - للإمام مسلم - الجزء الثاني - كتاب الزكاة - باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف.
[118] المجتمع، العدد 1109، المرأة بين المجتمع الإسلامي والمجتمع الغربي، علي عزت بيغو فيتش.
[119] العهد القديم - سفر صموئيل الثاني - الباب الحادي عشر / انظر: إظهار الحق – ص 473.
[120] إظهار الحق – ص 505 وما بعدها.
[121] الأحزاب: 40.
[122] الأحزاب: 37.
[123] صحيح البخاري - للإمام البخاري - الجزء الثاني - كتاب الجهاد والسير - باب: استئذان الرجل الإمام.
[124] فقه السيرة- محمد الغزالي -.
[125] رواه البخاري.
[126] متفق عليه.
[127] أخرجه البخاري في الأدب.
[128] اللفظ في رواية أخرى للبخاري.
[129] صحيح البخاري - للإمام البخاري - الجزء الثاني - كتاب الخمس – باب: الدليل على أن الخمس لنوائب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمساكين، وإيثار النبي صلى الله عليه وسلم أهل الصفة والأرامل، حن سألته فاطمة وشكت إليه الطحن والرحى: أن يخدمها من السبي، فوكلها إلى الله / و أخرجه مسلم في الذكر والدعاء والتوبة، باب: التسبيح أول النهار وعند النوم، رقم: 2727.
[130] رواه الحاكم في "المستدرك - في المغازي" ورواه ابن سعد في "الطبقات" أخرجه أبو داود في "سننه".
[131] أخرجه البخاري في الأدب.
[132] رواه البخاري.
[133] أخرجه البخاري في الأدب في باب الساعي على المِسكين و باب الساعي على الأرملة من حديث أبي هريرةَ.
[134] الضحى: 6.
[135] أخرجه البخاري في الصحيح في الأدب باب فضل من يعول يتيماً وأبو داود في الأدب باب في من ضم يتيماً.
[136] سُنَنُ أبي دَاوُد - للإمامِ أبي دَاوُد - الجزء الثاني - كتاب الترجل - باب في حلق الرأس.
[137] سنن ابن ماجه - للإمام ابن ماجه - الجزء الأول - كتاب الجنائز - باب ما جاء في الطعام يبعث إلى أهل الميت.
[138] أخرجه مسلم في فضائل النبي صلى الله عليه وسلم باب حسن خلقه.(/148)
[139] أخرجها الإمام أحمد (13442ط قرطبة).
[140] صحيح مسلم - للإمام مسلم - الجزء الثالث - كتاب الأيمان - باب صحبة المماليك، وكفارة من لطم عبده.
[141] صحيح البخاري - للإمام البخاري - الجزء الأول - كتاب الإيمان – باب: المعاصي من أمر الجاهلية، ولا يكفر صاحبها بارتكابها إلا بالشرك / وأخرجه مسلم في الإيمان والنذور، باب: إطعام المملوك مما يأكل، رقم: 1661.
[142] سُنَنُ أبي دَاوُد - للإمامِ أبي دَاوُد - الجزء الثاني - كتاب الأدب - باب في حق المملوك؟.
[143] صحيح البخاري - للإمام البخاري - الجزء الثاني - كتاب العتق - باب: ما جاء في العتق وفضله / وأخرجه مسلم في العتق، باب: فضل العتق، رقم: 1509.
[144] سُنَنُ أبي دَاوُد - للإمامِ أبي دَاوُد - الجزء الثاني - كتاب الأدب - باب في حق المملوك.
[145] أخرجه مسلم في الفضائل باب قرب النبي عليه السلام من الناس, وتبركهم به.
[146] عبس: 1-12.
[147] صحيح البخاري - للإمام البخاري - الجزء الثاني - كتاب الجهاد والسير.
[148] سنن الترمذي (وشرح العلل) - للإمام الترمذي - المُجَلَّد الخَامِس - أبواب الدعوات عَن رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
[149] أخرجه مسلم في الصلاة باب تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ماكان من إباحة.
[150] هو ذو الخويصرة اليماني رضي الله عنه.
[151] متفقٌ عليه، صحيح البخاري - للإمام البخاري - الجزء الرابع - كتاب
الأدب – باب: رحمة الناس والبهائم.
[152] الأحزاب: 6.
[153] صحيح السيرة النبوية – إبراهيم العلي – دار النفائس – الأردن - 1415هـ/1995م – ص 373.
[154] أخرجه مسلم في الجهاد باب مالقي النبي من أذى المشركين.
[155] أخرجه البخاري في الجهاد باب الدّعاءِ للمشركينَ بالهُدَى ليتَأَلّفَهم.
[156] أخرجه الإمام أحمد في المسند (4057) بسند حسن.
[157] الأنفال: 33.(/149)
[158] زاد المعاد في هدي خير العباد – ابن القيم - مؤسسة الرسالة – مكتبة المنار الإسلامية - بيروت – الكويت – ط 14 - 1407 – 1986 – ج3 – ص 99.
[159] أخرجه البخاري في المساقاة باب فضل سقي الماء.
[160] أخرجه أبو داود في الجهاد باب ما يؤمر به من القيام على الدواب والبهائم،بسند صحيح. و(ذفراه) أي الموقع الذي يعرق من قفا رأسه،(تدئبه) أي تتعبه بكثرة ما تستعمله، من الدأب.
[161] أخرجه أبو داود في الجهاد باب ما يؤمر به من القيام على الدواب والبهائم، وسنده حسن و(المعجمة) أي العجماء لأنها لا تنطق.
[162] أخرجه أبو داود في الجهاد باب في الوقوف على الدابة بسند حسن.
[163] أخرجه أحمد في المسند(1/404) وأبو داود في الجهاد باب كراهية حرق العدو بالنار وهو حديث صحيح.
وقوله (حمرة) الحمرة بتشديد الميم المفتوحة نوع من الطير الصغار. (تفرش) بالفاء أي تبسط جناحها حول النبي صلى الله عليه وسلم. وفي رواية (تعرِّش) بالعين أي: ترفرف بدنو من الأرض.
[164] أخرجه مسلم في البر والصلة باب الرفق وأبو داود في الجهاد باب ما جاء في الهجرة وفي الأدب باب في الرفق.
[165] أخرجه الترمذي: في الديات بابُ مَا جَاءَ فِي النّهْيِ عَنِ المُثْلَة والنسائي في الضحايا من الكبرى باب الأمر بإحداد الشفرة، وقال الترمذي: هَذَا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
[166] أخرجه البخاري في المساقاة باب فضل سقي الماء. والثرى: التراب الرطب.
[167] أخرجه أبو داود في الجهاد باب النهي عن الوسم في الوجه والضرب في الوجه والترمذي في الجهاد باب النهي عن التحريش بين البهائم وقال حسن صحيح. وهو كما قال.
[168] العقوبة في الفقه الإسلامي – أحمد فتحي بهنسي – دار الشرق – ط5 –1403هـ/1983م – ص 23.
[169] الجريمة والعقوبة في الفقه الإسلامي – محمد أبو زهرة – دار الفكر العربي – القاهرة – ع. ط – ع. ت – ص 11- 15.
[170] الحج: 46.(/150)
[171] آثار الحرب في الفقه الأسلامي – دراسة مقارنة – دار الفكر – وهبة الزحيلي ط4 – 1412هـ - 1992م – (ص 34 -37).
[172] البقرة: 190.
[173] الحج: 39 – 40.
[174] هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى- ابن قيم الجوزية – الجامعة الإسلامية - المدينة المنورة – ص 12.
[175] المرجع نفسه – ص 12.
[176] آثار الحرب في الفقه الأسلامي – ص 52.
[177] آثار الحرب في الفقه الأسلامي – ص 52.
[178] البقرة: 191 – 194.
[179] البقرة: 160.
[180] فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير - محمد بن علي الشوكاني - جزء 1 - صفحة 293.
[181] البقرة: 251.
[182] آثار الحرب في الفقه الإسلامي – الزحيلي – ص 40.
[183] المرجع نفسه – ص 41.
[184] المرجع نفسه – ص 42.
[185] انظر: إظهار الحق – ص 82.
[186] المرجع نفسه – ص 481.
[187] آثار الحرب في الفقه الإسلامي للزحيلي - ص40 وما بعدها.
[188] حضارة العرب – غوستاف لوبون – ط2 – ص335، عن آثار الحرب للزحيلي – ص50.
[189] متفقٌ عليه.
[190] أخرجه البخاري في الجهاد باب من قاتَلَ لتكونَ كلمةُ اللهِ هي العُليا.
[191] البداية والنهاية - ابن كثير - جزء 7 - صفحة 40.
[192] ابن باديس كان أمة وحده – مجلة أمتي – العدد الحادي عشر – ص 36.
[193] حضارة العرب – غوستاف لوبون - ص 40.
[194] المائدة: 8.
[195] البقرة: 190.
[196] التوبة: 5.
[197] التوبة: 123.
[198] آثار الحرب - الزحيلي – (130- 137).
[199] الجهاد والقتال في السياسة الشرعية – د.محمد خير هيكل – دار البيارق بيروت – توزيع دار ابن حزم بيروت – ط2 – 1417هـ - 1996.
[200] المرجع نفسه - ص818 – 820، 827.
[201] الأنفال: 60.
[202] متفقٌ عليه.
[203] شمس الله تسطع على الغرب – د. سيغريد هونكة – دار النهضة العربية - القاهرة – 1964م – ص.
[204] آثار الحرب – 141 وما بعدها.(/151)
[205] مسند أحمد بن حنبل - جزء 4 – رقم الحديث - 18122 - قال شعيب الأرنؤوط: صحيح لغيره وهذا إسناد ضعيف لضعف أبي الغريف.
[206] سنن أبي داود - جزء 2 – رقم الحديث 2669: قال الشيخ الألباني: حسن صحيح.
[207] سنن أبي داود - جزء 2 - رقم الحديث – 2614.
[208] السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية – دراسة تحليلية – د مهدي رزق الله أحمد – مطبعة مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية – الرياض - ط1 - 1412هـ - 1992 م – ص 564 / و رواه البخاري بلفظ: (كذب سعد ولكن هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة يوم تكسى فيه الكعبة).
[209] الإسراء: 8.
[210] سبأ: 49.
[211] الحجرات: 16.
[212] سيرة ابن هشام – ما قاله عليه السلام على باب الكعبة / وتجد الواقعة في معظم كتب السيرة في دخول الكعبة، وهي مستفيضة مشهورة، ويسمى أهل مكة الطلقاء.
[213] الكامل في التاريخ – ابن الأثير– الجزء السادس - ذكر ملك الفرنج لعنهم الله البيت المقدس / وانظر: العبر – ابن خلدون – ج5 – ص 84.
[214] الصليبيون في الشرق – نقولا زيادة – ص 104.
[215] كتاب الحروب الصليبية – د. أحمد شلبي – مكتبة النهضة المصرية - القاهرة – ص 52 نقلاً عن كتاب: صلى الله عليه وسلم lls Ashort History of the Middle east P. 74
[216] تاريخ الحروب الصليبية - (1/435) نقلاً عن الفتوح الإسلامية عبر العصور – د. عبد العزيز العمري - ص/215.
[217] المرجع السابق - ص/215.
[218] المرجع نفسه - ص/218.
[219] إظهار الحق – رحمة الله بن خليل الرحمن الهندي – دار الكتب العلمية - بيروت – ط1 – 1413هـ - 1993 م – ص 489.
[220] أخرجه البخاري في الجزية باب إِثمَ مَن قَتلَ مُعاهِداً بغير جُرمٍ.(/152)
العنوان: رسول الله
رقم المقالة: 129
صاحب المقالة: د. عبدالمعطي الدالاتي
-----------------------------------------
أنتَ الحبيبُ الأعظَمُ وَلَكمْ حَباكَ المُنعِمُ
يا سيِّدي، يا مُرْشِدي منكَ استضاءَ المُسْلمُ
الأرضُ تَضْرعُ للسماءْ تَهْفو إلى أسمى لقاءْ
بشراك – أحمدُ – واستَلِمْ قَبَسَ النُّبُوةِ في حِراءْ
الخيرُ منكَ تدفَّقا والكونُ أصبحَ مُورِقا
والنُّورُ في دنيا الورى من قلبِ أحمدَ أشْرَقا
أنتَ الذي يا سيِّدي بكَ أقْتَدي، بكَ أهْتَدي
طُفتُ البلادَ فلم أجِدْ إلاَّ غديرَكَ مَورِدي
أنتَ النَّبيُّ المُرسَلُ أنتَ الحبيبُ الأوَّلُ
ولكَ الهوى فيما مضى ولك الهوى المُستقبَلُ(/1)
العنوان: رضاع الكبير
رقم المقالة: 920
صاحب المقالة: الشيخ رفاعي سرور
-----------------------------------------
توطئة:
أولا: ابتداءً يجب أن لا ننسى أن لله سبحانه وتعالي هو الحَكَم، قوله الحق، وله الحكم، يفعلُ ما يشاء ويحكمُ ما يريد، وأنَّ رسولَ الله -صلي الله عليه وآله وسلم-هو المبلِّغ عن الله- سبحانه، وأنه داعٍ إلى الله بإذنه {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً} [ الأحزاب: 45-46]، فكل ما جاء به النبيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم، هو مما أذن الله به. وعلى المسلم أن يتلقى حكم الله بالقبول والانقياد {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً} [ الأحزاب: 36 ] وهذا هو معنى الإسلام، والمسلمُ لا يناقش الحكم، وإنما يناقشُ الدليل، ومن شك في الحكم نخاطبه بالتوحيد لا بالأحكام الشرعية، نبين له أن الله حكيم عليم فعال لما يريد، لا يُسأل عن ما يفعل.
ثانيا: جاءنا من النبي -صلى الله عليه وسلم- نص وبيان لمعنى هذا النص[1]، أو قل جاءنا الحكم الشرعي وتطبيقٌ عمليٌ لهذا الحكم على شخص الرسول -صلى الله عليه وسلم- أو على مَنْ معه من أصحابه -رضوان الله عليهم-. فنحن ملزمون بفهم النص الشرعي - أو الحكم الشرعي - كما فهمه الصحابةُ رضوان الله عليهم، ومن ثَمَّ الامتثال له كما امتثل الصحابة رضوان الله عليهم. أما تجريد منطوق القرآن الكريم أو الحديث الشريف من سياقه القولي أو العلمي ثم تفسيره بخلفيات عرفية أو لغوية، فهذا لا نعرفه، وهو مما يحرف به الكلم عن مواضعه.(/1)
- السياق العملي للحديث الذي ورد فيه رضاع الكبير، وما يستنبط من ذلك أَبَي حُذَيْفَةَ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ... تَبَنَّى سَالِماً... وَأَنْكَحَ أَبُي حُذَيْفَةَ سَالِماً - وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ ابْنُهُ -... بِنْتَ أَخِيهِ فَاطِمَةَ بِنْتَ الْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ؛ وَهِيَ يَوْمَئِذٍ مِنْ الْمُهَاجِرَاتِ الْأُوَلِ، وَهِيَ مِنْ أَفْضَلِ أَيَامَى قُرَيْشٍ.
فسالم ابنٌ لأبي حذيفة بالتبني، وزوجته سهلة هي أمه بالتبني، وكان لسالم بهذا التبني كلُّ أحكام البنوة بما فيها العلاقة بأهل البيت كما تصف الروايات:
- كُنَّا نَرَى سَالِماً وَلَداً[2]..
- يأوي معي ومع أبي حذيفة[3]..
- لَيْسَ لَنَا إِلَّا بَيْتٌ وَاحِدٌ[4]..
- ونحن في منزل ضيق[5]..
- يَدْخُلُ عَلَيَّ وَأَنَا فُضُلٌ[6]..
فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى آيات إبطال التبني {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} رُدَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أُولَئِكَ إِلَى أَبِيهِ، فَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ أَبُوهُ رُدَّ إِلَى مَوْلاَهُ.
فنشأ مع ذلك مشكلة إنسانية؛ حيث رد الحكمُ الشرعي سالما مولى أبي حذيفة بعدما كان ابناً له بالتبني، وهو ما زال في بيتهم وقد تزوج منهم.
فلما كان الوضعُ كذلك عرَضت سَهْلَةُ بِنْتُ سُهَيْلٍ (امْرَأَةُ أَبِي حُذَيْفَةَ) الأمرَ على النبي - صلى الله عليه وسلم -:
فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كُنَّا نَرَى سَالِماً وَلَداً، وَكَانَ يَدْخُلُ عَلَيَّ وَأَنَا فُضُلٌ[7]، وَلَيْسَ لَنَا إِلاَّ بَيْتٌ وَاحِدٌ. فَمَاذَا تَرَى فِي شَأْنِهِ؟
فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَرْضِعِيهِ خَمْسَ رَضَعَاتٍ؛ فَيَحْرُمُ بِلَبَنِهَا - وَكَانَتْ تَرَاهُ ابْناً مِنْ الرَّضَاعَةِ[8].(/2)
فَقَالَتْ: إِنِّي قَدْ أَرْضَعْتُهُ؛ فَذَهَبَ الَّذِي فِي نَفْسِ أَبِي حُذَيْفَةَ[9].
فأصبحت تراه ابناً من الرضاع بعد أن كانت تراه ابناً بالتبني.
وبذلك تم علاج حالة إنسانية معقدة؛ لأن سالماً بعد إبطال التبني أصبح ملزماً بالتعامل مع زوجة أبي حذيفة كأجنبية عنه، وهو الذي تربى في بيتها منذ طفولته كأمه التي ولدته؛ فكان هذا الحكم الذي يؤكد مدى إنسانية الشريعة...
أن ترضع زوجة أبي حذيفة سالما لتكون أمه من الرضاعة لتبقى العلاقة الأصلية التي كانت قائمة بحكم التبني.
- ورضاع سالم من أمه بالتبني ليس فيه أي حرج لعدة أسباب:
- لكونه حكماً شرعياً:
{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً} [ الأحزاب: 36 ]، {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء: 65].
- ولكونها قبل الرضاع أمه بالتبني:
ولكن يبقى أمرٌ نفسي وهو الحياء في إتمام الأمر وهو شيء طبيعي لا بد أن يحدث حتى لو كان سالما ابنها بالولادة.
وبفرض أن الارتضاع كان بالتقام الثدي فالحياءُ الذي حدث كان من الممكن أن يحدث لو طلبت أمٌّ من ابنها الطبيعي أن يرضع منها وهو في هذا السن..
ولكن الحياء لا يعني رد الحكم.. والالتزام بالحكم لا يعني إلغاء الحياء..
ومن هنا ضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إقراراً لحياء سهلة.
ضحك رسول الله؛ لأنه يبلغُ حكم الله في الأمر وهو يعلم ما قد يصيب سهلة (الأم بالتبني) من خجل وهي ترضعه.(/3)
حيث قَالَتْ: وَكَيْف أُرْضِعهُ وَهُوَ رَجُل كَبِير؟ فَتَبَسَّمَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: قَدْ عَلِمْتُ أَنَّهُ رَجُل كَبِير. وَفِي رِوَايَة لِمُسْلِمٍ قَالَتْ: إِنَّهُ ذُو لِحْيَة! قَالَ: ((أَرْضِعِيهِ)).
- عبارة جاءت في الحديث يجب التنبيه عليها:
((... فمكثتُ سنةً أو قريباً منها لا أحدثُ به رهبة له))؛ حيث قيل: إنها من كلام سهلة - زوجة أبي حذيفة - وأنها ظلت في خجل من إرضاع سالم ولم تخبر به إلا بعد عام!!
والحقيقة: أن هذه العبارة هي من كلام ابن أبي مليكة (راوي الحديث).
يقول النووي في شرحه على مسلم: ((قال فمكثت)) هذا قول ابن أبي مليكة... ((ثم لقيت القاسم)) عطفٌ على (فمكثت) فهو من مقول ابن أبي مليكة أيضاً[10].
ويؤكدُ ذلك قولُ القاسم الذي روى عنه أبو مليكة: ((حدِّث به ولا تهابه))، ولو كان الكلام لسهلة لكان: ((حدِّثي به ولا تهابيه)).
والرواية بتمامها:
أَخْبَرَنَا حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ، عَنْ سُفْيَانَ - وَهُوَ ابْنُ حَبِيبٍ - عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: جَاءَتْ سَهْلَةُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ سَالِماً يَدْخُلُ عَلَيْنَا وَقَدْ عَقَلَ مَا يَعْقِلُ الرِّجَالُ وَعَلِمَ مَا يَعْلَمُ الرِّجَالُ ؟ قَالَ: ((أَرْضِعِيهِ تَحْرُمِي عَلَيْهِ بِذَلِكَ)) .
فَمَكَثْتُ حَوْلاً لاَ أُحَدِّثُ بِهِ، وَلَقِيتُ الْقَاسِمَ فَقَالَ: حَدِّثْ بِهِ وَلاَ تَهَابُهُ[11] وكما لم يكن هناك حرجٌ عند سهلة.. كذلك لم يكن عند أبي حذيفة. ولكن الذي كان عند سهلة هو مجرد الحياء الطبيعي من موقف الرضاع.(/4)
كذلك لم يكن ما في نفس أبي حذيفة إلا تغير حكم سالم بعد إلغاء التبني (أصبح أجنبيّاً)؛ فلما أرضعت زوجته سالماً ذهب ما نفس أبي حذيفة؛ فعاد الأمر في نفس أبي حذيفة تجاه سالم كما كان وقت التبني.
فأصبحت الشبهة المثارة دليلا على إنسانية الشريعة التي تحسب للإسلام ولا تحسب عليه.
وليست هذه هي المسألة الوحيدة التي يراعي فيها الشرعُ الاعتبارات الإنسانية:
فمثلها حكم مشاركة اليتامى في الطعام والشراب برغم احتمال أن يصل الوصيَّ من مال اليتيم شيء، وفصلُ اليتيم في الطعام يمنع هذا الاحتمال، ولكن هذا الاحتمال (وصول شيء من مال اليتيم للوصي) أهونُ من أن يعيش اليتيم حياته وطعامه منفصلا عن الناس؛ خوفاً من أن يصيبوا من ماله شيئاً وفقاً لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} [النساء:10].
ومن هنا جاء قول الله عز وجل: {... وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لاعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة:220].
تبقي مسألتان:
الأولى: الطريقة التي رضع بها سالم:
وتفسير الرضاعة لغة يحتمل الطريقتين: التقام الثدي أو شرب اللبن بالقدح بعد حلبه من الثدي.
وقصر معنى الرضاعة لغة على (التقام الثدي) فقط قول خاطئ؛ بل يطلق الرضاع ويراد به السقاية أيضاً.(/5)
قال ابن منظور في لسان العرب في ثنايا مادة (موت): (وقول عمر رضي الله عنه في الحديث: اللَّبَنُ لا يموتُ[12] أَراد أَن الصبي إِذا رَضَِع امرأَةً مَيِّتةً حَرُمَ عليه من ولدها وقرابتها ما يَحْرُم عليه منهم لو كانت حَيَّةً، وقد رضعها، وقيل معناه: إِذا فُصِلَ اللبنُ من الثَّدْي وأُسْقِيه الصبيُّ فإِنه يحرم به ما يحرم بالرضاع، ولا يَبْطُل عملُه بمفارقة الثَّدْي؛ فإِنَّ كلَّ ما انْفَصل من الحَيِّ مَيِّتٌ إِلا اللبنَ والشَّعَر والصُّوفَ لضرورة الاستعمال[13][14].
وفهم السلف يحتمل المعنيين.
الثانية: خصوص الحكم بسالم أو عمومه للمسلمين:
والنصوص التي ناقشت المسألة ترجح القول بالتخصيص.
- أخبرنا الفضل بن موسى، نا عبيد الله بن أبي زياد القداح المكي، عن القاسم بن محمد أنه ذكر حديث سالم مولى أبي حذيفة في الرضاعة، قال: ثم لم يرخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في رضاع على فرق لأحد بعده[15].
وذهب الجمهورُ من الصحابة والتابعين والفقهاء إلى أنه لا يحرم من الرضاع إلا ما كان في الصغر[16] وهو رأي عامة أمهات المؤمنين؛ قال الزهري: قالت بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم: لا ندري لعل هذه كانت رخصةً لسالم خاصة[17].
قال الزهري: وكانت عائشة تفتي بأنه يحرم الرضاعُ بعد الفصال حتى ماتت[18].
وتكلم بعضُهم بأن من كانت حالته كحالة سالم - رضي الله عنه - مولى أبي حذيفة، جاز له ما جاز لسالم، ورد الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله - على هذا القول بقوله - رحمه الله في (الشرح الممتع 13/36): ((ليس مطلق الحاجة بل الحاجة الموازية لقصة سالم والحاجة الموازية لقصة سالم غير ممكنة لأن التبني أبطل فلما انتفت الحال انتفى الحكم)) اهـ.
وقال الشيخ ابن باز رحمه الله: ((حديث سالم مولى أبي حذيفة خاص بسالم كما هو قول الجمهور لصحة الأحاديث الدالة على أنه لا رضاع إلا في الحولين وهذا هو الذي نفتي به)) اهـ (مجموع فتاوى ابن باز 22/264).(/6)
((فمَنْ مِنَ الناس اليومَ له مثلُ حكم سالم في التبني؟ لا أحد. ثم بعد بطلان التبني احتاج سالم لهذا الحكم فكان جواب النبي صلى الله عليه وسلم لحاجته هذه التي لا تنطبق على غيره، فهي حالة خاصة انتهت بانتهاء أطرافها.
ومما يؤكد هذا الجواب - كما يبين ابنُ عثيمين - أن رضاعَ الكبير مُحَرَّم، ولا يجوز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: ((إيَّاكُم والدُّخول على النِّساء)) قالوا يا رسول الله، أرأيت الحمو – وهو قريب الزوج كأخيه مثلا – قال: ((الحمو الموت)) رواه البخاري (5232) ومسلم (2172). وكلنا يعلم أن الحمو في حاجة لأن يدخل بيت أخيه إذا كان البيت واحدا ولم يقل النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الحمو ترضعه زوجة أخيه" مع أن الحاجة ماسة لدخوله. فدل هذا على تحريمه للغير من باب أولى !))[19].
رضيع عائشة:
وبقصد التلبيس على القارئ أورد المتكلمون بهذه الشبهة أن أم المؤمنين عائشة أرسلت بسالم بن عبد الله بن عمر لأختها أم كلثوم. والحديث في الموطأ. وسالم هذا غير سالم مولى أبي حذيفة، وكان طفلا صغيرا. وهم أوردوا هذا الحديث دون أن يذكروا أن سالما - مولى ابن عمر - كان رضيعا لكي يفهم المستمع أن أم كلثوم كانت ترضع رجلا كبيرا بطلب من أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها -.
وهو ما أورده مسلم بقوله رضيع عائشة الذي جعل أصحاب الشبهة يقولون إن عائشة هي التي كانت ترضع الرجل الكبير.
ومعروف أن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لم تنجب حتى ترضع!
أما كلمة ((رضيع عائشة)) فمعناها أخوها من الرضاع يقول الفيروزآبادي في القاموس المحيط: ((ورَضِيعُكَ: أخوكَ من الرَّضاعةِ))[20].
كما أن سالماً كان تابعيّاً باتفاقِ الأئمة، وكانت أمه أرضعت عائشة وعاشت بعد النبي فولدته فلذلك قيل له: رضيع عائشة[21].(/7)
يجب تقريرُ أن طلب عائشة بالإرضاع كان لأطفال صغار، وأن ما ذُكر في الرواية ((فيمن كانت تحب أن يدخل عليها من الرجال)) هو باعتبار ما سيكون منهم بعد أن يصبحوا رجالا.
وهو ما جاء واضحا في رواية الموطأ أن عائشة أم المؤمنين فيمن كانت تحب أن يدخل عليها من الرجال تأمر أختها أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق وبنات أخيها أن يرضعن من أحبت أن يدخل عليها من الرجال.
فكانت عائشة تحب أن يدخلوا عليها بعد أن يصيروا رجالا؛ لتعلمهم أمر دينهم؛ التزاماً بقوله تعالى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً}[22] [ الأحزاب: 34].
ويؤكد ذلك ما رواه مالكٌ في الموطأ عن نافع أن سالم بن عبد الله بن عمر أخبره أن عائشة أم المؤمنين أرسلت به - وهو رضيع - إلى أختها أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق، فقالت: أرضعيه عشر رضعات حتى يدخل عليَّ.
فلو كانت تقصد بقولها: ((حتى يدخل عليَّ)) وهو طفل لم يكن للقول اعتبار؛ لأن الأطفال يدخلون على النساء بغير إذن.
فلا يكون لقولها ((حتى يدخل علي)) إلا معنى واحد وهو حتى يدخل علي عندما يكبر.
- وقد أبى سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يُدخلن عليهن أحداً بتلك الرضاعة فقد رفضوا الأمر من أساسه، وهو قصد إرضاع الأطفال صغاراً ليدخلوا كباراً، وليس الرفض لما فُهم خطأ بدخول الرجال للرضاع، والرواية واضحة في بيان ذلك كما في رواية مسلم عن زينب بنت أم سلمة أم المؤمنين عن أمها أنها كانت تقول: أبى سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يدخلن عليهن أحدا بتلك الرضاعة.
(ولم تقل الرواية: أن يدخلن عليهن أحدا للرضاعة).
وقلن لعائشة: والله ما نرى هذا إلا رخصة أرخصها رسول الله صلى الله عليه وسلم لسالم خاصة[23]...(/8)
وموضوعُ الرخصة المرفوضُ من أمهات المؤمنين ليس إرضاعَ الكبير كما كان من أمر سالم؛ ولكن موضوع الرخصة الذي تقصده عائشة هو الإرضاع بقصد التحريم فقط.
ويؤكدُ ذلك عملُها بهذا القصد، الذي شاركتها فيه حفصةُ فصنعت كما صنعت عائشة؛ فعن مالك عن نافع أن صفية بنت أبي عبيد أخبرته: أن حفصةَ أم المؤمنين أرسلت بعاصم بن عبد الله بن سعد إلى أختها فاطمة بنت عمر بن الخطاب ترضعه عشر رضعات ليدخل عليها وهو صغير يرضع ففعلت فكان يدخل عليها[24].
يبقى في نهاية البحث أن ننبه على أمرين مما نلاحظه في سياق طرح هذه الشبهة والتعامل معها:
الأمر الأول: هو ما يفعله الخبثاء الماكرون، حين يتكلمون بأن إرضاع الكبير أمر عادي في الشريعة الإسلامية، وأن كل مسلمة تستطيع لو شاءت أن تخرج ثديها وترضع من شاءت من الرجال، وهو أمر يُطرح مصحوبا بالغمز واللمز وما لا يصح ذكره من الكلام، ونحب أن نَلفِت نظر القارئ إلى أن هذا في رؤوسهم فقط وليس في الشريعة الإسلامية، فكما رأيت - أخي القارئ - أنها حالة فردية وليست حكما شرعيا عاما معمولا به بين المسلمين، وحتى هذه الحالة الخاصة لم يكن فيها إرضاع بالمعنى المطروح، بل إن كثيرا من المسلمين لم يكونوا يعلمون شيئا عن هذا الأمر حتى تكلم به النصارى، ومن لف لفهم.
وهكذا كثير من شبهات النصارى، مصدرُها الرئيسُ هو الكذب والتلبيس، ولذا نقول: إننا لا نواجه شبهاتٍ حقيقية وإنما نواجه عقليةً مجرمة آثمة هي التي تفتعل هذه الشبهات. ويسعنا أن نقول إن الخلل ليس في النصوص وإنما في النفوس التي تتعامل مع هذه النصوص.(/9)
الأمر الثاني: هناك بعضُ الطيبين ممن يتصدون للرد على شبهات النصارى فيتسرعون بالفتوى بما في صدروهم، ولا يكلفون أنفسهم عناء البحث في أقوال سلف الأمة وعلمائها فيما يتعلق بالمسألة محل النظر، وتراه يسارع إلى رد الحديث ويدعي الاستحالة العقلية أن يكون هذا من كلام رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أو من أحكام الشريعة الإسلامية. ونقول لهؤلاء: اتقوا الله ولا تقولوا على الله بغير علم فقد حرم ربكم القول بغير علم. قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ الأعراف: 33].
ـــــــــــــــــــــــ(/10)
[1] وهذا هو معنى البلاغ المبين المذكور في ستة مواضع من كتاب الله {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [التغابن: 12]. {وَإِن تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [العنكبوت: 18] {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [النور: 54]. {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ} [النحل: 82]. {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النحل: 35]. {وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ} [المائدة: 92]. ويشير إلى هذا المعنى تكرر لفظ الطاعة مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - في آية المائدة والنور والنساء.
[2] موطأ مالك-بَاب مَا جَاءَ فِي الرَّضَاعَةِ بَعْدَ الْكِبَرِ (1113).
[3] مصنف عبد الرزاق-باب رضاع الكبير (13886).
[4] موطأ مالك-بَاب مَا جَاءَ فِي الرَّضَاعَةِ بَعْدَ الْكِبَرِ (1113).
[5] مصنف عبد الرزاق-باب رضاع الكبير (13885).
[6] موطأ مالك-بَاب مَا جَاءَ فِي الرَّضَاعَةِ بَعْدَ الْكِبَرِ (1113).
[7] فضل: متبذلة في ثياب المهنة، يقال: تفضلت المرأة إذا لبست ثياب مهنتها، أو كانت في ثوب واحد.
[8] موطأ مالك-بَاب مَا جَاءَ فِي الرَّضَاعَةِ بَعْدَ الْكِبَرِ (1113).(/11)
[9] مسلم (2637).
[10] شرح النووي لصحيح مسلم (2/1076).
[11] النسائي (3335).
[12] مصنف عبد الرزاق (8784).
[13] لسان العرب (2/90).
[14] لسان العرب (2/90).
[15] مسند إسحاق بن راهويه (2/140).
[16] سبل السلام (1/170).
[17] مصنف عبد الرزاق (13885).
[18] مصنف عبد الرزاق (13885).
[19] من مقال للشيخ / أشرف عبد المقصود منشور بصحيفة المصريون الإلكترونية بتاريخ 16/5 / 2007م بعنوان حديث رضاع الكبير بين الجرأة على السنة والفهم المغلوط لها.
[20] القاموس المحيط (1/932).
[21] عمدة القاري (20/97)، وتحفة الأحوذي (4/98).
[22] الحكمة هنا هي السنة، وكل نبي من الأنبياء كان له حكمة شارحه للكتاب الذي جاء به. قال الله {وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران :81].
[23] مسلم (1454).
[24] الموطأ (2/603).(/12)
العنوان: رغيف.. ورغيف..! (قصة)
رقم المقالة: 2014
صاحب المقالة: سلوى عبدالمعبود محمد قدرة
-----------------------------------------
مدّت يدها الصغيرة.. أناملها ترتعش.. شفتاها أطبقتا على الكلماتِ تعتصرهما وكأنها ترفض السماح لها بالانطلاق..
صاح الرجلُ في خشونةِ بائعٍ متحجر: ما تريدين..؟ هيا انطقى..؟
ازداد تلعثُمها وهى تدفع بالحروف إلى الهواء: رغيفَيْ.. خبز..!
ضجّ الواقفونَ بالصخَبِ.. ارتفعتِ الأصوات.. هذا يسخر، وذاك يتضاحكُ...
تبادل البعض نكتةَ الصباح:
- الطفلة تريد رغيفَين...!
- ياللأيام..!
- تتقدمنا طفلةٌ تطلبُ رغيفَين...!
- ياللمسكينة ! لم تعرف القانونَ بعدُ...!
- بعد عشرةِ أعوامٍ يا صغيرة قد تستطيعين تحقيق هذا الحلم..!
التفتتْ إلى الصفّ الطويل المنتظِم... انتابها خوفٌ وفزع.. همستْ للرجُلِ تستعطفه:
معى نقود أيها السيد...!
ابتسم الرجل... أسرعتْ تمدُّ يدها في ثنايا ثوبها الممزق.. ارتسمتْ على وجهها البريء فرحة الفَوز وهى تلوّح له بالنقود...
هتفتْ كمن يرفع رايةَ النصر فوق تلٍّ عالٍ: تفضل...!
عادَ الرجل إلى خشونته وهو يقذف في وجهها برغيفٍ واحد ويصيح: مَن في الصفّ؟ هيّا خُذ رغيفك وارحل...
احتضنتْ رغيفها وسحبت أقدامها الضعيفة المرتعشةَ، ومضت..
في اليوم التالي عادت إلى ذات المخبز.. وقفت أمامَ ذات الرجل المتجهم..
قالت بنبرة فيها شيء من قوة: رغيفان من فضلك..!
هتفَ الوقوف، وماج الصف...! ألم تفهمِ الطفلةُ القانون بعدُ.. ياللغباء!
تناولتْ رغيفَها المقذوف، واحتضنته، ومضت..!
في الغد عادت إلى ذات الصف... نبرتها ازدادت قوة وإصراراً... صوتها ازداد ارتفاعًا... أصابعها الصغيرة ما عادت ترتعش..
قالت بلهجةٍ آمرة: رغيفان من فضلك...!
وتلعثمتِ الكلمات على شفتَي الرجل الخشن..:
ماذا؟.. رغيفان..؟... ألمْ..(/1)
قاطعتْهُ: رغيفٌ واحد يكفينى أيها السيد... الرغيف الثاني سأرسله إلى طفلة مثلي.. في مثل عمري... وأحلامي... مُنع عنها الطعام..
ألم ترَها مثلي فى نشرات الأخبار؟ ألم تصطدم عيناها بعينيك وهى تبحث عمن قد يحمل لها الطعام والكساء، ولأهلها الدواء؟
إنها على بعد أميال.. هناك في غزة!
نظر القومُ إلى الطفلة... عادوا يمعنون النظر من جديد...! إنها ذات الطفلة التى تصر كل يوم على أن تقول: رغيفان.. من فضلك..؟
عادوا إلى الرجل يصوّبون أنظارَهم إليه... كان الرجل قد ألقى بجسمه على كرسى متهالك مثله.. وسقطَ بعينيه على الأرض..
عادت تقول: إذا لم تعطني ما أريد، فسأرسل إليها هذا الرغيف...
تسللت الرقة إلى كلمات الرجل وهو يقول متوسلاً: ابتعدي يا صغيرة... فى الأرض أشواك كثيرة!
في اليوم التالي، لم تكن هناك الطفلة.. بحث عنها الرجل بين الصفوف، بحثتْ عنها العيون الحائرة بين الوقوف...
سادَ الوجوم، ونوعٌ ما من الألم... إن البشرَ يتآلفونَ في مواقف المحن...
تردّد صوتُها في أسماعهم: رغيفان من فضلك!
فجأة، مدّ الرجُل الصامتُ يده برغيفين... وقال: هاك يا فتاة.. رغيفٌ لك وآخرُ لتلك في نشرات الأخبار!
عادَ يسأل بوجهٍ فيه ملامح تحدٍّ: مَن التالي؟
أحدُهم أجاب: رغيفان من فضلك..
آخر قال مؤكداً: نعم رغيفان! ليست طفلةً واحدة في تلك النشرات.
ـــــــــــــــــــــــ
نبذة عن الكاتبة:
سلوى عبد المعبود محمد قدرة، كاتبة إسلامية، نُشر لها في مجلات: المختار الاسلامي، مجلة الشقائق، مجلة المتميزة، المستقبل الإسلامي، شهد الفتيات،كما نشرت لها مقالات نقدية أدبية بمجلة المجتمع الكويتية، ولها من المؤلفات: الأسرة المسلمة (اجتماعي)، رسالتان من امرأة مسلمة (عن البوسنة والهرسك)، ومجموعتان قصصيتان تحت الطبع: اليوم لا تغرد العصافير، والزجاج المهشم.(/2)
يرحب قسم "حضارة الكلمة" بالأديبة الإسلامية سلوى عبد المعبود قدرة.. ونشكرها على هذا التفاعل مع الموقع..
كما نتمنى أن تزوّدنا بكل جديد مفيد في خدمة الأدب والنقد الإسلاميَين.
.. وفقكم الله لما فيه الخير.(/3)
العنوان: رمضان بداية للحلال
رقم المقالة: 1218
صاحب المقالة: عبدالله بن عيسى
-----------------------------------------
كان يعمل في إحدى الجهات المشبوهة، في وظيفة مرموقة، وبراتبٍ يتجاوز العشرة آلاف ريال، وفي يومٍ من الأيام أصابته صحوة ضمير؛ فاتصل بأحد العلماء الأجلاء؛ يسأله عن عمله ذلك: أحلالٌ هو أم حرامٌ؟ فأجابه الشيخ بأن عمله المذكور حرامٌ، وأن عليه أن يتركه، ويبحث عن عملٍ آخر.
لم يتردَّد في ترك العمل الحرام، والبحث عن عملٍ آخر حلال، ولو براتبٍ أقلّ. فالمطلوب: أن يأكل حلالاً، ويُطعِم أولادَه الحلال، ووجد عملاً.
كان ذلك في شهر رمضان المبارك، ومضى شوَّال وذو القعدة، وفي غرَّة شهر ذي الحجة - عزم على الحج، ومضى ... وفي الميقات خلع ثيابه ولبس ملابس الإحرام، وانطلق ملبِّيًا مع ضيوف الرحمن الذين جاؤوا من كل فجٍّ عميق؛ ليشهدوا منافعَ لهم، ويذكروا اسم الله في أيامٍ معلوماتٍ.
وفي عرفات - وما أدارك ما عرفات - يوم يباهي الله بعباده ملائكتَه - وقف هذا الرجل تحت أشعة الشمس الحارقة يسقي الحُجَّاج بيده ماءً باردًا سبيلاً سلسبيلاً؛ يبتغي بذلك الأجر والثواب من الله الكريم المنَّان، وبينا هو كذلك؛ إذ فاضت روحه على ذلك الصعيد الطيِّب؛ صعيد عرفات!
لقد شاء الله - عزَّ وجلَّ - أن يختاره في ذلك اليوم الكريم، وفي هذه المناسبة العظيمة؛ ليُبعث يوم القيامة ملبِّيًا كما جاء في الحديث. يده التي كان يكتب بها الحرام - تحولت إلى يدٍ طاهرةٍ كريمةٍ، تحمل الماء العذب الرَّقراق لأكرم الضيوف، وفي أطهر البقاع.
إنه فضل الله، يؤتيه مَنْ يشاء، ويَمُنُّ به على منِ اختار طريق الخير بديلاً لطريق الشرّ، مهما كلَّفه ذلك من التَّضحيات، فيا لها من خاتمةٍ حسنةٍ.
جاء في الأثر: ((مَنْ ترك شيئاً لله؛ عوَّضه الله خيرًا منه)).(/1)
العنوان: رمضان بين الواقع والواجب
رقم المقالة: 1254
صاحب المقالة: فيصل بن علي البعداني
-----------------------------------------
رمضان من مواسم الخيرات التي امتن الله تعالى بها على عباده، ليقوى إيمانهم، وتزداد فيه تقواهم، وتتعمَّقَ صِلَتُهم بِربِّهم، قال تعالى: {يَا أََيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].
والمتأمّل في النصوص الشرعية الواردة في الصيام، التي تتحدث عن حِكَم الصيام وغاياته في الشريعة وفي واقعنا معاشر المسلمين يجد بونًا كبيرًا لدى أكثر عامة الأمة وكثير من شباب الصحوة بين الواقع والواجب. وسأحاول بإذن الله تعالى أن أتلمس أبرز الأسباب التي أدت إلى هذا التباين، معرجًا على شيء مما ييسر الله تعالى له من طرق العلاج.
أولاً: الأسباب: هناك أسباب كثيرة من أبرزها:
1- الجهل بأهداف وحِكَم الصيام وغاياته: يعد الجهل بأهداف وحكم الصيام وغاياته في الشريعة لدى كثير من المسلمين، وقيامهم بالتطبيق تقليدًا ومسايرة للمجتمع من دون التأمل والدراسة من أبرز أسباب هذا التباين، يقول الشيخ الدوسري: "فإن لم يكن البشر واعين لحكمة التشريع الإلهي وثمراته في الدنيا قبل الآخرة، فإنَّهم لن يطبقوه على تمامه، أو على الوجه الصحيح".
ويمكن إيجاز أهم تلك الحكم فيما يلي:
• تحقيق التقوى: تعد التقوى من أبرز حكم الصيام. يقول الرازي: "إن الصوم يورث التقوى لما فيه من انكسار الشهوة وانقماع الهوى ؛ فإنه يردع عن الأشر والبطر والفواحش، ويهون لذات الدنيا ورياستها، وذلك لأن الصوم يكسر شهوة البطن والفرج، فمن أكثر منه هان عليه أمر هذين، وخفت عليه مؤونتهما، فكان ذلك رادعًا له عن ارتكاب المحارم والفواحش، ومهونًا عليه أمر الرياسة في الدنيا، وذلك جامع لأسباب التقوى".(/1)
• التربية على الصبر وقوة الإرادة: التربية على الصبر من أبرز مرامي الصيام حتى سمى النبي - صلى الله عليه وسلم - شهر الصيام: بشهر الصبر إذ في الصوم (تربية لقوة الإرادة على كبح جماح الشهوات وأنانية النفوس، ليقوى صاحبها على ترك مألوفاته أكلاً أوشربًا أو متاعًا، فيكون قوي الإرادة في الإقدام على أوامر الله، -صلى الله عليه وسلم- التي من أعظمها حمل الرسالة المحمدية والدفع بها إلى الأمام، ساخرًا بما أمامه من كل مشقة وصعوبة، والصوم يمثل ضربًا من ضروب الصبر، الذي هو الثبات في القيام بالواجب في كل شأن من شؤون الحياة) إذ يُصَبّر فيه الإنسان نفسه على طاعة الله تعالى بالوقوف عند حدوده فعلاً وتركًا، قال تعالى بعد أن ذكر شيئًا من أحكام الصيام: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا} [البقرة: 187]، كما يضبطها ويمنعها عن لذاتها طواعية وامتثالاً لأمر الله تعالى وطلبًا لثوابه، وفي ذلك من التربية على قوة العزيمة والإرادة ما يجعل الإنسان متحكمًا في أهوائه وشهواته.
• التربية على الاستسلام والخضوع لله تعالى: يربي الصيامُ المسلم على ضبط نفسه الأمَّارة بالسوء، ويمكنه من السيطرة عليها والإمساك بزمامها، بحيث لايكون مستسلمًا لها بل مستسلمًا لأوامر ربه خاضعًا منقادًا لنواهيه، مؤثرًا لمحابه سبحانه، مقدمًا لها على رغائب الجسد وشهواته.(/2)
• إنشاء الخوف من الله تعالى ومراقبته: الصيام عبادة خالصة بين العبد وربه، ولذا فإنه يربي في المسلم الخوف من الله تعالى ومراقبته والتطلع لثوابه، إذ بإمكانه أن يُظهر الصيام أمام الخلق وهو غير صائم أصلاً، سواء أكان عن طريق تناول شيء من المفطرات، أو بمجرد فقدان النية، وإن أمسك عنها طوال النهار، وفي ذلك من ظهور صدق الإيمان وكمال العبودية وقوة المحبة لله تعالى ورجاء ماعنده ماجعل جزاء الصيام عند الله تعالى أعظم من جزاء جل العبادات، قال الله تعالى في الحديث القدسي: (كل عمل ابن آدم يضاعف، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ماشاء الله عزوجلّ، إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه من أجلي...).
قال ابن القيم: (والعباد قد يطلعون منه على ترك المفطرات الظاهرة، وأما كونه ترك طعامه وشرابه وشهوته من أجل معبوده فهو أمر لايطلع عليه بشر، وذلك حقيقة الصوم).
• لمّ شعث القلب، والتفكر في ملكوت الله تعالى: لما كان فضول الطعام والشراب والكلام والمنام ومخالطة الأنام مما يزيد القلب شعثًا ويشتته في كل وادٍ، ويقطعه عن سيره إلى الله تعالى، أو يضعفه أو يعوقه ويوقفه، اقتضت رحمة الله تعالى بعباده أن شرع لهم من الصوم مايذهب فضول الطعام والشراب، ويستفرغ من القلب أخلاط الشهوات وشرع لهم من العبادات أثناءه من اعتكاف وقيام ودعاء وتلاوة قرآن مايذهب فضول الكلام والمنام ومخالطة الأنام. ولذا صحَّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: (الصوم جُنَّة وحصن حصين من النار) بل عدَّه حِصنًا لِلمُؤْمِنِ، وذلك لكونه: كاسرًا للشهوة ومضعفًا لها، قال: ((خِصاءُ أمَّتي الصيام)) وقال: ((يامعشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء)).(/3)
• ومضيقًا على الشيطان مجاريه بتضييق مجاري الطعام والشراب قال: ((إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم))، فتسكن بذلك وساوس الشيطان. كما أنَّ القلب في حال الصيام يتفرغ للتَّفَكُّر في آيات الله تعالى وملكوته؛ لأنَّ الإفراط في تناوُل الشهوات يستوجب الغفلة، وربما يقسي القلب ويعمي عن الحق، قال ابن رجب: وخلوّ الباطن من الطعام والشراب ينور القلب ويوجب رقته ويزيل قسوته ويخليه للذكر والفكر.
• معرفة العباد لما هم فيه من نعم، وتذكر الأغنياء لحال إخوانهم الفقراء: يحصل للأغنياء نتيجة امتناعهم عن الطعام والشراب في نهار الصيام مشقة، فيوجب ذلك لهم معرفة قدر نعمة الله تعالى عليهم بالغنى؛ حيث مكنهم من تلك النعم طوال العام مع ابتلاء عبادٍ له آخرين بالحرمان؛ مما يستوجب الشكر لله تعالى على ذلك. كما أن الفقراء ينظرون في العطايا التي يعطاها العباد خلال هذا الشهر من خلو الذهن للتفكر والعبادة والذكر نتيجة الجوع وخلو البطن، ويرون أن حالهم مقاربة لذلك في غالب العام، وأنهم مؤهلون لاستغلال تلك النعم طوال الوقت مما يستدعي شكرها. كما أن الصيام يجعل الأغنياء يتذكرون حال من حولهم من إخوانهم الفقراء، ويدعوهم إلى رحمة المحتاجين ومواساتهم بما يمكن من ذلك.
• قوة الأجساد وصحتها: الأصل في مشروعية الصيام أنه يقوي الإيمان ويكسب العبد التقوى التي تحجزه عن المعاصي والآثام إلا أن له حكمًا وفوائد أُخَر، من أبرزها: ما اتضح في عصرنا من تقويته للأجساد وأثره في صحتها بالوقاية من العلل والأمراض الجسمية والنفسية.
2- تعليق الصيام بالتروك فقط: يعتقد كثير من الناس أن الصيام جملة من التروك فقط، متناسين أن الله تعالى شرع الصيام وشرع معه جملة من الأعمال التي تتظافر لتحقيق غايات الصوم وآثاره المرجوة منه، ولعلَّ من أبرز تلك الأعمال التي دلت عليها النصوص:(/4)
• قيام الليل، قال: ((مَنْ قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِرَ له ماتقدم من ذنبه)).
• العمرة، قال: ((عمرة في رمضان كحجة معي)).
• تفطير الصائمين، قال: ((من فطر صائمًا كان له مثل أجره، غير أنه لاينقص من أجر الصائم شيئًا)).
• قراءة القرآن وختمه: قال: ((الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب منعته الطعام والشراب فشفعني فيه، ويقول القرآن منعته النوم بالليل فشفعني فيه، قال: فيشفعان))، وثبت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يلقاه جبريل في كل سنة في رمضان، فيعرض عليه النبي -صلى الله عليه وسلم - القرآن.
• الصدقة: عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم- أجود الناس بالخير، وكان أجود مايكون في شهر رمضان)). قال الشافعيُّ: (أحب للرجل الزيادة بالجود في شهر رمضان اقتداءً بالرسول - صلى الله عليه وسلم - لحاجة الناس فيه إلى مصالحهم، ولتشاغُلِ كثيرٍ منهم بالصوم والصلاة عن مكاسبهم).
• الاعتكاف: عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعتكف العشر الأواخر من رمضان)). قال الزهري: (عجبًا للمسلمين تركوا الاعتكاف، مع أن النبي - صلى الله عليه وسلم – ما تركه مُنْذُ قدم المدينة حتى قبضه الله عز وجل).
• الدعاء: حيث ذكر الله تعالى في ثنايا آيات الصيام قوله: {وَإذَا سَأََلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذَا دَعَانِ} [البقرة: 186] ليرغب الصائم في كثرة الدعاء، وقال: (ثلاث دعوات مستجابات: دعوة الصائم، ودعوة المظلوم، ودعوة المسافر).(/5)
• التوبة: رمضان موسم التوبة والعودة إلى الله - عز وجل - وذلك لعظيم جوده تعالى وفضله في كل وقت، وفي هذا الشهر خاصة، حيث تصفد الشياطين، وله سبحانه في كل ليلة من رمضان عتقاء من النار بالإضافة إلى تهيؤ الإنسان بالصوم وسائر العبادات لذلك، ولذا قال: ((رغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له)).
• الاجتهاد في العمل مطلقًا في العشر الأواخر: عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: (كان - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل العشر أحيا الليل، وأيقظ أهله وجَدَّ وشَدَّ المئزرَ) وقالت - رضي الله عنها – أيضًا: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره).
والأفعال المشروعة في رمضان كثيرة، فالمفترض في حق المسلم أن يحرص على شغل وقته بما يعود عليه بالنفع أكثر عند لقاء الله عز وجلَّ.
3- عدم استشعار أثر المعاصي على الصيام: الذنوب سبب حرمان الله للعبد من الاستفادة من الصيام وتحقيقه التقوى فيه، قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} [الشورى: 30] ولذا فإن: (الصوم ينقص ثوابه بالمعاصي وإن لم يبطل بها، فقد لايحصل الصائم على ثواب مع تحمله التعب بالجوع والعطش لأنه لم يصم الصيام المطلوب). وقد وردتْ عدَّةَ أحاديث تبيّن ذلك المعنى وتُجَلّيه منها قوله: ((رُبَّ صائم ليس له من صيامه إلا الجوع، ورُبَّ قائمٍ ليس له من قيامه إلا السهر)) وقال: ((ليس الصيام من الأكل والشرب، إنما الصيام من اللغو والرفث، فإن سابك أحد، أو جهل عليك، فقل: إني صائم))، وقال - صلى الله عليه وسلم – ((مَنْ لم يَدَعْ قَوْلَ الزُّور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامَهُ وشرابه)).
4- أخطاء بعض الصائمين: يقع بعض الصائمين في أخطاء منها:(/6)
• الإسراف في الإنفاق: الأصل في الصيام أنه مدرسة عملية للاقتصاد وتعويد النفس الجلد، وقوة التحمل عند الأزمات، وضبط النوازع والرغبات، ولكن الذي يحصل في واقع الكثير من المسلمين في وقتنا الحاضر العكس، حيث تزداد النفقات وتتجاوز حد الاعتدال إلى التبذير والإسراف.
• التوسع في تناول الأطمعة والأشربة وسائر الملذات: صار موسم الصيام في حياة أناسٍ موسمًا لتنْويع المآكل والمشارب وتناوُلِ الملذَّات، ولا يَخْفَى ما في ذلك من منافاةٍ لِغَرَضِ الصيام ومراميه.
• السهر في الليل والنوم في النهار: ينقلب الحال في رمضان في حياة الكثيرين، فيصبح الليل نهارًا والنهار ليلاً؛ بحيث يصبح الليل وقتًا للاجتماع والسهر، والنهار وقتًا للنوم والكسل، هذا إذا لم يُصَاحِبْ ذلك اجتماع على مُحَرَّماتٍ وتضييعٍ للواجبات، وعدم القيام بالعبادات كما يجب.
• التعلق بالدنيا وعدم الاهتمام بشأن الآخرة: مع دخول رمضان يزداد انشغال كثيرين بتجاراتهم وبيعهم وشرائهم، ويأخذ ذلك منهم جل الليل والنهار، ومع أن البيع والشراء حلالان في الإسلام، إلا أنَّ المذموم من ذلك، هو تعلق القلب بمتاع الدنيا، وإعطاء كل جهدِه ووقته لذلك مع إغفال المرء لحظ نفسه في الآخرة وحاجتها إلى أعمال صالحة تهذبها، وتزيل عنها درنها وشوائِبَهَا.
• مخالطة البطالين: وهم مضيعو أوقات العباد فيما لا يعود عليهم بنفع ديني أو دنيوي وليس من شرطهم الإفساد والانحراف عن جادة الحق الصواب ومخالطة العبد لهم وإكثاره من ذلك يعود عليه بالندم والحسرة في كل وقت فكيف في مواسم الخيرات؟!
• أخطاء في أداء بعض العبادات: يحرص بعض الموفقين للخيرات على القيام ببعض العبادات، ولكن يعتري تطبيقهم بعض الأخطاء.
• ومن ذلك:(/7)
أ- التأخر عن الصلاة: وذلك للتأخر في الخروج من المنزل لصلاة العشاء والتراويح والذهاب إلى مسجدٍ بعيدٍ ليُصَلِّيَ مع إمامٍ يُجِيدُ القراءة، وقد يؤدي ذلك التَّأَخُّرُ إلى فوات صلاة الجماعة أو بعضها، مع أنَّ صلاة الجماعة واجبة على الأرجح، وصلاة التراويح نافلة.
ب- تشدد بعض الحريصين على الاتباع في تحديد عدد صلاة التراويح، مما يؤدي ببعضهم إلى أن لا يصلي مع إمامه حتى ينصرف إذا كان يزيد على الحد المعروف عنده، وأحسب أن هذا اجتهاد مأجور إن شاء الله، لكن أخشى أن يفوته أجر قيام ليلة مع ما يُصاحِبُ ذلك عند بعضهم من البغضاء والشحناء بين المختلفين في العدد.
جـ- حرص بعض المسلمين على ختم القرآن في رمضان مرة أو أكثر: ولا إشكال في ذلك لثبوت مشروعيته، ولكن الإشكال في كيفية تلاوتهم إذ يهذّ بعض القُرَّاءِ في التراويح وغيرها القرآن هذًّا كهذِّ الشعر بدون تدبر لمعانيه وتفهُّمٍ لأحكامه، وقد قال الله تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [ص: 29].
صحيحٌ أنَّه ثَبَتَ عن بعض السلف أنه كان يختم القرآن في رَمَضَانَ كُلَّ ليلة، حتى قال الزهري: (إذا دخل رمضان فإنما هو قراءة القرآن وإطعام الطعام) ولكن خير الهدي هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي قال: ((لا يفقه من قرأ القرآن في أقلَّ مِنْ ثلاث)).
د- يحْرِصُ بَعْضُ المسلمين على الاعتكاف، ولكن قد يعتكفون جماعات، فيحلو بينهم الحديث وتتَّسع أبوابه، ويكون الاعتكاف موضع عشرة ومجلبة للزائرين، يقول ابن القيم بعد ذكره لهدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في الاعتكاف: (كل هذا تحصيل لمقصود الاعتكاف وروحه، عكس ما يفعله الجهال من اتخاذ المعتكف موضع عشرة، ومجلبة للزائرين وأخذهم بأطراف الأحاديث بينهم، فهذا لون والاعتكاف النبوي لون).(/8)
تتفتح أبواب الخير وطرقه على الصالحين في رمضان بشكل لا يمكن العبد الإحاطة بها جميعًا، مما يتطلب منه المفاضلة بين الأعمال واختيار ما يكون أصلح لقلبه وأكثر نفعًا لأهله ومجتمعه، والملاحظ في واقع كثير من الصالحين أنه يريد الإحاطة بكل خير يمكنه القيام به فلا يقوم بشيء منها، أويقوم بأعمال خيرة يمكنه أن يقوم بأفضل منها، أو يوكل القيام بها إلى شخص حوله لا يمكن أن يقوم بشيء منها بدون ذلك ويقوم هو بغيرها.
5- الوسائل الإعلامية والعلاقات الاجتماعية: لوسائل الإعلام سواء أكانت مرئية أو مسموعة أو مقروءة دور كبير في تشتيت أذهان كثير من الصائمين وبالأخص الشباب والنساء، وبالتالي إشغالهم عن استيعاب غايات الصيام ومراميه، والاستفادة منها في إصلاح النفوس والمجتمعات بالشكل المطلوب، وذلك من خلال المواد التي تُقَدِّمُها تلك الوسائل والتي تَصُبُّ غالبًا في الجانب الترويحي، وما تبقى من مجالات تكون في الغالب سطحية مع اشتمال كثير منها على جوانب محرمة.
كما أن للتوسع في العلاقات الاجتماعية بين الأسر والأصدقاء دورًا ملحوظًا في إضاعة الأوقات، ولذا فإني أرى أن الخير للمسلم أن يقلل من علاقاته تلك في هذا الشهر ما أمكن، وأن يجعلها مقصورة على الصِّلَةِ أوِ المواساة والدعوة إلى الله تعالى، وتدارُس أحكام الإسلام وتعاليمه.
ثانيًا: العلاج: كانت تلك أبرز الأسباب لتلك الظاهرة، ولعل من أبرز وسائل علاجها بالإضافة إلى معالجة مُسَبّبات تلك الأسباب وآثارها، ما يلي:
1- أن يقوم العلماء والدعاة بدورهم في التربية والتوجيه للأمة، سواء عن طريق الاختلاط بالناس لتعليمهم، أو تقديم القدوات الحسنة لهم، عن طريق السلوك والممارسات المنضبطة بالشرع.(/9)
2- أن يستوعب المسلم حقيقة وظيفته في الحياة، وأهمية الوقت بالنسبة إليه؛ ليكون ذلك دافعًا له للجدية في حياته، والموازنة بين مايمكن أن يقوم به من أفعال، ولكي يستفيد من نعمة الوقت بشكل أفضل، بعيدًا عن الإغراق في المباحات والمستحبات على حساب الفرائض والواجبات، كما عليه أن يقوم بترويض نفسه على القيام بالأعمال الصالحة، كالتبكير للصلاة، والجلوس بعد الفجر في المسجد إلى طلوع الفجر.. ونحوها، ليتعود على ممارستها والاستمرار عليها بعد رمضان.
3- أن يعمل الجميع على تعميق روح الاتباع للنبي - صلى الله عليه وسلم - والتأسي به في سائر شؤون الحياة عمومًا وفي شهر الصيام خصوصًا، وهذا يتطلب تعلم فقه الصيام وآدابه، واستيعاب حِكَم الصيام وغاياته، وتقريب الوسائل التي تتيح لسائر فئات الأمة الاستفادة من الصيام في تهذيب النفوس، ونشر الخير والفضيلة ومحاربة الشر والرذيلة، بشكل أفضل.
4- أن تقوم مؤسسات التوجيه سواء أكانت إعلامية أو تعليمية أو تربوية أو تروحية بدورها التوجيهي المنطلق من ديننا والمدرك لطبيعة التحديات التي تمر بها أمتنا عن طريق نشر الجدية، والاستمساك بالدين بقوة في سائر حياة الأمة عمومًا، والشباب منهم على وجه الخصوص.
5- أن يعيد الدعاة أفرادًا ومؤسسات تقويم برامجهم الدعوية سواء من حيث الكم أو الكيف حتى تساعد بشكل أفضل على معالجة هذا التباين، وتعمل على إزالة وتصحيح آثاره حتى تتحقق تقوانا ويقوى إيماننا بإذن الله تعالى.
والله نسأل أن يجعلنا من المقبولين.(/10)
العنوان: رمضان شهر السلام
رقم المقالة: 1446
صاحب المقالة: عمر الشعبي
-----------------------------------------
تمتلئ النفسُ المسلمة في رمضانَ بمشاعر القُدسِيَّة والجلال، والأمن والإيمان، والتطَلُّع والسُّمُوِّ إلى عالم أعظم، وحياةٍ أفضَل وأكرم. وأينما تَوَجَّهْتَ تَرَ مظاهرَ العبودية المُشرِّفة لله، وإقامة شعائر الدين الحنيف. من وحي هذا الشَّهر كتبت:
حُبٌّ، إِيمانٌ، غُفْرَانٌ أَمْنٌ وسَلامٌ رَمَضَانُ
صَبْرٌ، ورَجَاءٌ وَدُعَاءٌ نُورٌ وَسُرُورٌ وَحَنَانُ
اللهُ تَجَلَّى فِيهِ لَنَا؟ بِالرَّحْمَةِ نِعْمَ الرَّحْمَنُ
وحَبَانَا فِيهِ شَمْسَ هُدًى سُورَاتٍ هُنَّ الْفُرْقَانُ
وتَفَاوَحَ فِي كُلِّ مَكَانٍ أَرَجُ التَّقْوَى وَالْإِيمَانُ
وَعَلا التَّرْتِيلُ هُنَا وَهُنَا كَ، وَدَوَّى ذِكْرٌ وأَذَانُ
ومَلَائِكَةُ الرَّحْمَنِ تَقُو لُ: سَلامُ اللهِ ورِضْوَانُ
وجِنَانُ الخُلْدِ مُفَتَّحَةٌ بُشْرَى لِلصَّائِمِ تَزْدَانُ
تِلْكَ النُّعْمَى كانَتْ وَعْدًا وجَزَاءُ الْمُحْسِنِ إِحْسَانُ
والنَّارُ بِقُدْرَتِهِ حُجِبَتْ لِلشَّهْرِ وصُفَّدَ شَيْطَانُ
أَكْرِمْ يَا رَبِّ بِهِ شَهْرًا! رَوْحٌ لُقْيَاهُ وَرَيْحَانُ!
زَانَتْهُ صَلاةٌ وصِيَامٌ ودُعَاءٌ طَالَ وَقُرآنُ(/1)
العنوان: رمضانُ.. شهرُ الغفران
رقم المقالة: 1514
صاحب المقالة: الشيخ حسين مسعود القحطاني
-----------------------------------------
الحمدُ لله غافرِ الذنوب، ومفرِّج الكروب، وساتر العيوب، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له عالم الغيوب، وأشهد أن محمداً عبدُه ورسوله، نبينا المحبوب، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أصحابِ العمل المرغوب، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الفوز بالمطلوب والنجاة من المرهوب.
أخي الكريم، أختي الكريمة
من منّا يَسْلَمُ من الخطأ، أو الوقوع في الزلل، أو مقارفة الذنب، فكلنا ذو خطأ وخير الخطّائين التوابون المستغفرون.
من ذا الذي ما ساء قط ومن له الحسنى فقط
ومهما بلغت ذنوبناً ومعاصينا، فالله –تعالى- يغفرُها، فإنَّ من أسمائه جلّ وعلا (الغَفُورَ)، ومن صفاته (المغفرة) وهذا يدل على حاجة العباد إلى مغفرة ذنوبهم، ويدل على عدم عصمتهم من الوقوع في الذنب؛ قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53].
وقال عليه الصلاة والسلام: (والذي نفسي بيده، لولم تُذنِبوا لَذَهَبَ الله بكم، ولَجَاءَ بقومٍ يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم) رواه مسلم.
ورمضانُ هو شهر الغفران، إذ تكثر فيه أسبابُ المغفرة؛ لأنه شهرُ الرحمة، وشهر المغفرة، وشهر العتق من النار، وشهر الإحسان، فهو فرصةٌ عظمى لمحو الذنوب والمعاصي والوقاية من النار.
أتاك شهر السعد والمكرُماتْ فحيّه في أجمل الذكرياتْ
يا موسم الغفران أتحفتنا أنت المُنى يا زمن الصالحاتْ
أخي الكريم - أختي الكريمة
من لم يغفر الله له في رمضان فمتى سيغفر الله له؟ ومن لم يحقق الأسباب الجالبة للمغفرة فماذا يرجو من ربه بعد ذلك؟(/1)
قال رسول الله -صلى الله علية وسلم-: "رَغِمَ أنفُ رجل دخل عليه رمضانُ ثم انسلخ قبل أن يغفر له..." الحديث [أخرجه الترمذي والحاكم وصححه الألباني].
ومعنى (رغم أنف رجل) أي ذلّ عن كُرهٍ، وأرغمه الذل، كما أشار الفيروزأبادي في القاموس المحيط، والمعنى -والله أعلم- ذلّ أنفُ رجُلٍ ودُسّ في الرَّغام -وهو التراب- دخل عليه رمضانُ ولم يُغفر له فيه.. (نسأل الله السلامة).
ولخطورة الأمر نجدُ اللهَ –تعالى- نوّعَ أسبابَ المغفرة في رمضان، من أجل أن يغفر ذنوبَ العباد خلال هذا الشهر، ويخرج كل مسلم من هذا الشهر كيومَ ولَدَته أمُّه، ليس عليه من الذنوب شيء.
فمن أسباب المغفرة في رمضان:
1) الصيام بالنهار إيماناً بالله، وامتثالاً لأمره، واحتساباً للأجر والثواب من عند الله تعالى، يقول عليه الصلاة والسلام: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غُفِر له ما تقدم من ذنبه) متفق عليه، وفي الحديث الآخر قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله تبارك وتعالى فرض صيام رمضان عليكم، وسننت لكم قيامه؛ فمن صامه وقامه إيماناً واحتساباً خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه) [رواه النسائي واللفظ له، وأحمد وقال الشيخ أحمد شاكر: إسناده صحيح].
2) القيام بالليل إيماناً بالله واحتساباً للأجر من عند الله، لا لرياءٍ ولا لسمعةٍ ولا لدنيا ولا لصحةٍ، وإنما طلباً للثواب من الله جلّ وعلا؛ يقول صلى الله عليه وسلم: "من قام رمضان إيماناً واحتساباً غُفِر له ما تقدم من ذنبه" متفق عليه.
3) قيام ليلة القدر إيماناً واحتساباً؛ لأنها ليلةٌ خيرٌ من ألف شهر؛ من حُرِم خيرها فقد حُرم؛ قال عليه الصلاةُ والسلام: (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غُفِر له ما تقدم من ذنبه) متفق عليه.(/2)
4) الصدقة، وهي من القربات العظيمة، التي تُطهّر المال، وتدفع البلاء، وتُكفّر السيئات؛ قال تعالى: {وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 35]، وقال عليه الصلاة والسلام: (الصوم جُنّة، والصدقة تُطفئ الخطيئة كما يُطفئ الماء النار) [رواه الترمذي وأحمد وصححه الألباني].
وقد كان رسولنا -عليه الصلاة والسلام- أجودَ الناس، وأجودَ ما يكون في رمضان؛ حين يلقاه جبريل، إذ كان أجود من الريح المُرسلة.
ومن أجلّ أعمال الصائم: تفطير الصوّام؛ ففي الحديث: (من فطّر صائماً كان له مثلُ أجره غير أنه لا يَنقُصُ من أجر الصائم شيئاً) [رواه الترمذي وابن ماجه وصححه الألباني].
5) العُمْرة؛ فهي مما يُكفّر الذنوب، ويطهّر القلوب؛ قال صلى الله عليه وسلم: ( العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة) متفق عليه، والعمرة في رمضان أعظم منها في غيره، وقد جاء في الصحيحين عن رسولنا -عليه الصلاة والسلام- أنه قال: (عُمرةٌ في رمضان تعدل حِجّة) وفي رواية (كحجّة معي)، ويا له من فوزٍ عظيم أن يكون المعتمرُ في رمضان كمن حج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكمن صحبه في إحرامه وفي طوافه وفي سعيه وفي كل مناسكه.(/3)
6) الدعاء في الأوقات الفاضلة من هذا الشهر الكريم، وخصوصاً ليلةَ القدر؛ فقد سميت بذلك لعظم قدرها، وجلالة مكانتها عند الله، ولكثرة مغفرة الذنوب وستر العيوب بها، فهي بحق ليلة المغفرة، وقد ورد في فضل الدعاء فيها أن عائشة -رضي الله عنها- قالت: يا رسول الله ماذا أقول لو أدركت ليلة القدر؟ قال: "قولي: اللهم إنك عفُوّ تحب العفو فاعفُ عني" [رواه الترمذي وابن ماجه وصححه الألباني]. وقد كان ابنُ عمر -رضي الله عنهما- يقول عند فطره: (اللهم يا واسع المغفرة اغفر لي)، وأسباب المغفرة في هذا الشهر كثيرة، فأين من يحققُها ويحرص على طلبها؟ من أجل أن يغفر الله ذنبه ويرضى عنه.
نسأل الله أن يغفر ذنوبنا، وأن يستر عيوبنا، وأن ييسر أمورنا، وأن يجعلنا من عباده الصالحين، وأن يرضى عنا وأن يثبتنا على الحق حتى نلقاه، وأن يجعلنا نخرج من ذنوبنا في شهرنا هذا كيوم ولدتنا أمهاتُنا.
إنه على كل شيء قدير.(/4)
العنوان: رمضان شهر المراجعات الذاتية
رقم المقالة: 1255
صاحب المقالة: محمد إبراهيم زيدان
-----------------------------------------
لَوْ تأمَّل كُلُّ إنسان في ذاته، واستقرأ حياته وأوضاعه، لوجد أن له أفكارًا يتبناها، وصفات نفسية وشخصية يحملها، وسلوكًا معينًا يمارسه، وأنه يعيش ضمن وضع وقالب يؤطر حياته الشخصية والاجتماعية.
والسؤال الذي يجب أن يطرحه الإنسان على نفسه هو: هل هو راضٍ عن الحالة التي يعيشها؟ وهل يعتبر نفسه ضمن الوضع الأفضل والأحسن؟ أم أنه يعاني من نقاط ضعف وثغرات؟ وهل أن ما يحمله من أفكار وصفات، وما يمارسه من سلوك، شيء مفروض عليه لا يمكن تغييره أو تجاوزه؟ أم أنه إنسان خلقه اللَّه حرًّا ذا إرادة واختيار؟
إنَّ هذه التساؤلات كامنة في نفس الإنسان، وتبحث عن فرصة للمكاشفة والتأمل، يتيحها الإنسان لنفسه، لينفتح على ذاته، وليسبر غورها، ويلامس خباياها وأعماقها.
ورغم حاجة الإنسان إلى هذه المكاشفة والمراجعة، إلاّ أن أكثر الناس لا يقفون مع ذاتهم وقفة تأمل وانفتاح: لأسباب أهمها ما يلي:
أولاً: الغرق في أمور الحياة العملية، وهي كثيرة، ما بين ماله قيمة وأهمية، وما هو تافه وثانوي.
ثانيًا: وهو الأهم، أنَّ وَقْفَةَ الإنسان مع ذاته، تَتَطَلَّبُ منه اتّخاذ قرارات تغييرية بشأن نفسه، وهذا ما يَتَهَرَّبُ منه الكثيرون، كما يَتَهَرَّبُ البعض من إجراء فحوصات طبية لجسده، خوفًا من اكتشاف أمراض تلزمه الامتناع عن بعض الأكلات، أو أخذ علاج معين.
دعوة إلى مكاشفة الذات:
في تعاليم الإسلام دعوة مكثفة للانفتاح على الذات ومحاسبتها، بعيدًا عن الاستغراق في الاهتمامات المادية، والانشغالات الحياتية، التي لا تنتهي. فقد ورد في الأثر: ((حاسِبُوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن تُوزنوا)).(/1)
إن لحظات التأمل ومكاشفة الذات، تتيح للإنسان فرصة التعرف على أخطائه ونقاط ضعفه، وتدفعه لتطوير ذاته نحو الأفضل. فثمرة المحاسبة إصلاح النفس.
ولعلَّ من أهداف قيام الليل، حيث ينتصب الإنسان خاشعًا أمام خالقه، وسط الظلام والسكون، إتاحة هذه الفرصة للإنسان.
وكذلك فإن عبادة الاعتكاف قد يكون من حكمتها هذا الغرض، والاعتكاف هو اللبث في المسجد بقصد العبادة، لثلاثة أيام أو أكثر مع الصوم، بحيث لا يخرج من المسجد إلا لحاجة مشروعة.
ولا يوجد شهرٌ آخَرُ يُمَاثِلُ شَهْرَ رمضان في هذه الخاصية، فهو خير شهر يقف فيه الإنسان مع نفسه متدبرًا متأملاً، ففيه تتضاعف الحسنات، وتُمْحى السيئات كما روي عن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلَّم -، وفي هذا الشهر فُرْصَةُ عُمْرٍ كُبْرَى لِلْحُصُولِ على مغفرة اللَّه فـ ((إنَّ الشقيَّ مَنْ حُرِمَ غُفرانَ اللَّهِ في هذا الشَّهْرِ العظيم)) كما في الحديث النبوي، وَقَدْ يغفل البعض عن أنَّ حُصُولَ تلك النتائج هو بحاجة إلى توجه وسعي.(/2)
فهذا الشهر ينبغي أن يشكل شهر مراجعة وتفكير وتأمل ومحاسبة للنفس، إذ حينما يمتنع الإنسان في هذا الشهر الكريم عن الطعام والشراب، وبقية الشهوات التي يلتصق بها يوميًا، فإنه يكون قد تخلص من تلك الا نجذابات الأرضية، مما يعطيه فرصة للانتباه نحو ذاته ونفسه، وتأتي تلك الأجواء الروحية التي تحث عليها التعاليم الإسلامية، لتحسّن من فرص الاستفادة من هذا الشهر الكريم، فصلاة الليل مثلاً فرصة حقيقية للخلوة مع اللَّه، ولا ينبغي للمؤمن أن يفوت ساعات الليل في النوم، أو الارتباطات الاجتماعية، ويحرم نفسه من نصف ساعة ينفرد فيها مع ربه، بعد انتصاف الليل، وهو بداية وقت هذه الصلاة المستحبة العظيمة، وينبغي أن يخطط المؤمن لهذه الصلاة، حتى تؤتي أفضل ثمارها ونتائجها، فيؤديها وهو في نشاط وقوة، وليس مجرد إسقاط واجب أو مستحب، بل يكون غرضه منها تحقيق أهدافها قال عز وجل: {وَمِنْ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79].
وقراءة القرآن الكريم والتي ورد الحث عليها في هذا الشهر المبارك، فهو شهر القرآن يقول تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185]، وفي الحديث الشريف: ((لكل شيء ربيع وربيع القرآن شهر رمضان)) هذه القراءة إنما تخدم توجه الإنسان للانفتاح على ذاته، ومكاشفتها وتلمس ثغراتها وأخطائها، لكن ذلك مشروط بالتدبر في تلاوة القران، والاهتمام بفهم معانيه، والنظر في مدى الالتزام بأوامر القران ونواهيه.
إن البعض من الناس تعودوا أن يقرأوا ختمات من القران في شهر رمضان، وهي عادة جيدة، لكن ينبغي أن لا يكون الهدف طي الصفحات دون استفادة أو تمعن.(/3)
وإذا ما قرأ الإنسان آية من الذكر الحكيم، فينبغي أن يقف متسائلاً عن موقعه مما تقوله تلك الآية، ليفسح لها المجال للتأثير في قلبه، وللتغيير في سلوكه، ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن هذه القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد، قيل: يا رسول اللَّه فما جلاؤها؟ قال: تلاوة القران وذكر الموت)).
وبذلك يعالج الإنسان أمراض نفسه وثغرات شخصيته فالقران شِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ.
والأدعية المأثورة في شهر رمضان، كلها كنوز تربوية روحية، تبعث في الإنسان روح الجرأة على مصارحة ذاته، ومكاشفة نفسه، وتشحذ همته وإرادته، للتغير والتطوير والتوبة عن الذنوب والأخطاء. كما تؤكد في نفسه عظمة الخالق وخطورة المصير، وتجعله أمام حقائق وجوده وواقعه دون حجاب.
مجالات التأمل الذاتي:
إن حاجة الإنسان إلى التأمل والمراجعة لها أهمية قصوى في أبعاد ثلاثة:
البعد الأول: المراجعة الفكرية:
أن يراجع الإنسان أفكاره وقناعاته، ويتساءل عن مقدار الحق والصواب فيها، ولو أن الناس جميعًا راجعوا أفكارهم وانتماءاتهم، لرُبَّما استطاعوا أن يغيروا الأخطاء والانحرافات فيها، غَيْرَ أنَّ لسانَ حالِ الكثير مِنَ النَّاس {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف: 23] وليكن الإنسان حرًّا مع نفسه، قويًّا في ذاته. إذا ما اكتشف أنه على خطأ ما، فلا يتهيَّب أو يَتَرَدَّد مِنَ التغيير والتصحيح.
البعد الثاني: المراجعة النفسية:(/4)
أَنْ يُرَاجِعَ الإنسان الصفات النَّفْسِيَّةَ التي تَنْطَوِي عليها شخصيته، فهل هو جبان أم شجاع؟ جريء أم متردد؟ حازم أم لين؟ صادق أم كاذب؟ صريح أم ملتو؟ كسول أم نشيط؟.. الخ. وليطرح الإنسان على نفسه عددًا من الأسئلة التي تَكْشِفُ عن هذا البعد، مثل: ماذا سأفعل لو قصدني فقيرٌ في بَيْتِي؟ ماذا سأفعل لو عَبِثَ الأطفال بأثاث المنزل؟ ماذا سأفعل لو حَدَثَ أمامي حادثُ سَيْرٍ؟ وَكَيْفَ سَيَكُونُ رَدُّ فِعْلِي لو أُسِيءَ إلَيَّ في مكان عام؟ وكيفَ أُقَرِّرُ لَوْ تعارضت مصلحتي الشخصية مع المبدأ أو المصلحة العامة؟
وتأتي أهمية هذه المراجعة في أن الإنسان ينبغي أن يقرر بعدها أن يصلح كل خلل نفسي عنده، وأن يعمل على تطوير نفسه، وتقديمها خطوات إلى الأمام.
البعد الثالث: المراجعة الاجتماعية والسلوكية:
أن يراجع الإنسان سلوكه وتصرفاته مع الآخرين، بدءًا من زوجته وأطفاله، وانتهاءً بخدمه وعماله، مرورًا بأرحامه وأصدقائه، وسائر الناس، ممن يتعامل معهم أو يرتبط بهم.
وهذا الشهر الكريم هو خير مناسبة للارتقاء بالأداء الاجتماعي للمؤمن، ولتصفية كل الخلافات الاجتماعية، والعقد الشخصية، بين الإنسان والآخرين، وقد حثت الروايات الكثيرة على ذلك، إلى حد أن بعض الروايات تصرّح: بأن مغفرة اللَّه وعفوه عن الإنسان يبقى مجمدًا فترة طويلة، حتى يزيل ما بينه وبين الآخرين من خلاف وتباعد، حتى وإن كانوا هم المخطئين في حقه، وحتى لو كان أحدهما ظالمًا والآخر مظلومًا فإنهما معًا يتحملان إثم الهجران والقطيعة، إذ المظلوم منهما يتمكن من أن يبادر لأخيه بالتنازل وإزالة الخلاف.(/5)
فما أوضحها من دعوة للمصالحة الاجتماعية، وما أعظمها من نتيجة لو تحققت خلال هذا الشهر الكريم، وما أكبر منزلة تلك القلوب التي تستطيع أن تتسامى على خلافاتها، وتتصالح في شهر القرآن، من أجل الحصول على غفران اللَّه؟ من هنا يحتاج الإنسان حقًا إلى قلب طاهر متزكي، ونية خير صادقة، فاسألوا اللَّه ربكم بنيات صادقة وقلوب طاهرة.
من جانب آخر فقد تسيطر على الإنسان بعض العادات والسلوكيات الخاطئة، ومهما كان عمقها في نفس الإنسان، والتصاقه بها، فإن الإرادة أقوى من العادة، وشهر رمضان أفضل فرصة لنفض وترك العادات السيئة الخاطئة.
فهنيئًا لمن يستفيد من أجواء هذا الشهر المبارك في المكاشفة مع ذاته، وإصلاح أخطائه وعيوبه، وسد النواقص والثغرات في شخصيته، فيراجع أفكاره وآراءه، ويدرسها بموضوعية، ويتأمل صفاته النفسية ليرى نقاط القوة والضعف فيها، ويتفحص سلوكه الاجتماعي، من أجل بناء علاقات أفضل مع المحيطين به.
وبهذه المراجعة والتراجع عن الأخطاء، يتحقق غفران اللَّه تعالى للإنسان في شهر رمضان، أما إذا بقي الإنسان مسترسلاً سادرًا في وضعه وحالته، فإنه سيفوّت على نفسه هذه الفرصة العظيمة، وسينتهي شهر رمضان، دون أن يترك بصمات التأثير في شخصيته وسلوكه، وبالتالي فقد حرم نفسه من غفران اللَّه تعالى، وحقًا أن من لا يستفيد من هذه الفرصة ولا يستثمر هذه الأجواء الطيبة يكون شقيًّا.(/6)
العنوان: رمضانُ في بلدان المسلمين
رقم المقالة: 1444
صاحب المقالة: خاص: الألوكة
-----------------------------------------
منحة ربانية:
رمضانُ منحةٌ ربانية؛ يستقبلُها المسلمون في كل مكانٍ بالفرح والسرور؛ طمعًا في الفوز بالوعد الرباني "..كلُّ عملِ ابن آدمَ له، إلا الصومَ فإنه لي، وأنا أجزي به"، وبشرى النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه".. لكن هذه الفرحة برمضان تختلفُ من بلد لآخر، وقد تختلطُ بتقاليدَ دخيلةٍ على الصوم.. وهذه جولةٌ في أحوال بلدان المسلمين مع رمضان نرصدُها من خلال الطلاب المبتعثين من تلك البلدان..
المجاهدون في طلب العلم:
أبو بكر سيلوري (تنزانيا): في بلادنا نستقبلُ رمضانَ قبل قدومه بأسبوعين؛ إذ نبدأ في الصيام التدريجي غيرِ المتواصل، ونعلقُ الزيناتِ في الشوارع وعلى المساجد والمحالّ، ونتبادلُ التهاني بقرب قدوم رمضان، وقد بلغ حرصُ المسلمين على الصيام أنَّ هناك من علماء الإسلام مَنْ وصف المفطر بلا عذر بأنه "كافر زنديق".
ويغلب على مائدة المسلمين في (تنزانيا) أطعمةٌ وليدةُ البيئة؛ فنجدُ الأسماكَ متوفرة بكثرة، والأرزَ والخضراواتِ، والسكريات والفواكه الموجودة في المنطقة الاستوائية، ويسهر المسلمون في أداء صلاة التراويح والدروس الدينية حتى السحور، ويُكرَّم حَفَظةُ القرآن الكريم في احتفالات شعبية تحضرُها القياداتُ الدينية وترصد لها مبالغ مالية وجوائز عينية تشجيعية.
احتفال نيجيريا:(/1)
وعن كيفية احتفال مسلمي (نيجيريا) برمضان قال سيكا بولا محمد: احتفالُنا بقدوم رمضان يبدأ قبل إعلان موعده رسميًا بثلاثة أيام، إذ تتبادلُ القبائلُ المسلمة الزيارات؛ لأن أكثر سكان (نيجيريا) من المسلمين؛ إذ يبلغُ عددُ المسلمين أكثر من 80% من السكان، ويجدَّد كلُّ شئ في منازل المسلمين، وتقامُ الحفلات الجماعية لدى القبائل الكبرى مثل (الجوريا) و(الأمالا) و(الأيباما) الذين يتبعون المذهب المالكي، ويأخذ أهلُ نيجيريا برؤية الهلال في السعودية في بداية الصوم ونهايته، وتبدأ النساء منذ اليوم الأول في إعداد الوجبات الرمضانية الشهيرة مثل "الكونو" وهو مكون من الذرة والدهن والسكر، هذا بالنسبة للإفطار، أما أشهر أطعمة السحور فهو "توود"، وهو مكون أساسًا من الذرة، ويؤكل مع "الإدام" أو ما يشبه الصلصة، وتؤكل حلوى "تاليه" بعد السحور، وهى تشبه الكنافة، ويعد البرتقالُ والموز الفاكهةَ الرئيسة الموجودة على كل الموائد، ويتزاحم المصلون في المساجد الكبرى الشهيرة، ويصطحبون معهم أطفالهم الذين يحملون أشياء قريبة من (الفوانيس) وتسمى (تاشير)، ولدينا (المسحراتي) الذي يحمل معه (جروه) أو (كاهو)، وهى تشبه الطبلة لإيقاظ المسلمين للسحور.
الصومال المسلمة:
وعن استقبال رمضان بالصومال يقول عبدالله: الصومال بلد مسلم؛ فليس هناك أي مذهب أو ديانة أخرى، ويستقبل الصوماليون رمضان بكل حفاوة وتَرْحاب، وقد يطلقون الطَّلَقاتِ الناريةَ تعبيرًا عن فرحتهم.
ومائدة الإفطار الصومالية تتكون من مأكولات ومشروبات خفيفة؛ إذ يتناول الصائم بعضًا من عصير المانجو أو الجوافة، كما يتناول الموز وهو موجود بكثرة هناك، وكذلك البطيخ والباباي، ويعد اللبنُ وجبةً أساسية في الصومال وخاصة في المناطق الجنوبية، بعد ذلك يتوجه الصائمُ لأداء صلاة المغرب، وبعد العودة من الصلاة يتناول إفطارًا مكونًا من الأرز والخضراوات والشعيرية و(المكرونة) والعصيدة واللحوم.(/2)
في العشر الأواخر يجتهد الصوماليون في العبادة والاعتكاف والقيام، ويقوم الوعاظ بترجمة فورية للقرآن من اللغة العربية إلى اللغة الصومالية.
أهل (إريتريا) يتسابقون:
شهر رمضان في إريتريا له مذاق خاص، يقول محمدي عبدالملك: في هذا الشهر الكريم تكتظ المساجدُ بالمصلين رجالا ونساء، ويكون في كل مسجد جدول يحدد المشايخ الذين يقدمون الدروس الدينية التي تعقد بعد صلاتي الظهر والعصر، وأول ما يقدَّم للصائم في الإفطار (المديدة) الساخنة المخلوطة باللحم، ومائدة إفطار رمضان تتكون من الكسرة العادية والعصيدة.
وبعد صلاة العشاء والتراويح يعودُ الناسُ إلى منازلهم لتناول طعام العشاء الذي يتكون من أرز ولحم وشعيرية و(مكرونة)، وفي السحور يتناول الناس العصيدة، وبعدها يتناولون الجبنة.
وهناك عادات دائمة في العاصمة (أسمرا) حيث يحرص الناس على إحضار المأكولات إلى المساجد كل يوم جمعة واثنين رحمة وترحمًا على موتاهم ابتداء من الخامس عشر من رمضان.
مسلمو تركيا:
وعن تمسك مسلمي تركيا بدينهم برغم محاولات التغريب والعلمنة قال بولار جاوية: برغم سيطرة العلمانية على تركيا إلا أنها ما زالت دولةً يعتز أهلُها بإسلامهم؛ إذ يستقبلون رمضان بالفرحة الشديدة وإطلاق النيران في الهواء ابتهاجًا بقدومه، وعندنا حلوى رمضانية شهيرة تسمى (رمضان شكرى) و(رمضان طاتليس) والبقلاوة والكنافة والقطايف والمهلبية، ولدينا خبز شهير يسمى (بيدا) وهو خبز مستدير يوضع عليه السمسم وهو محشو باللحم، ولدينا لحم بالعجين، ومن كثرة اهتمام الشعب التركي بالحلوى الرمضانية يطلق على عيد الفطر (شكر بإيرامي) أي حلوى العيد.
مذاق باكستاني:(/3)
عن مذاق رمضان في باكستان المسلمة يقول إحسان ضياء الرحمن: رمضان في بلدي باكستان له مذاق خاص؛ إذ تكون المساجدُ عامرة عن آخرها وهى منتشرة بكثرة، حيث يقضى الأهالي أوقاتا طويلة في العبادة، وأشهر الأكلات الرمضانية (البكولة) وهى قطع صغيرة من العجينة محشوة بلحم صغيرة وبصل محمر في الزيت، ولا بد أن يكون بجانبها مشروب شهير هو (روح أفزا) وهو مستخرج من النباتات والأعشاب. ونحن في باكستان نعد البهارات والحريفات شيئًا أساسيًا في كل أطعمتنا في رمضان وغيره، ويكثر الاعتكاف طوال الشهر، ويقوم أهل الخير بعمل ما يشبه (موائد الرحمن) للمعتكفين في المساجد، كما تنتشر الكثير من الأطعمة ذات الأصول الأفغانية حتى إن العاصمة (إسلام آباد) تنتشر فيها بكثرة المطاعمُ الأفغانية، ويعد الأرز أساسيًا في الوجبات، وبجانبه اللحوم بأنواعها، والفواكه المتنوعة، وأشهر مسجد في (إسلام آباد) هو مسجد الملك فيصل الذي يعد تحفة معمارية.
13 ألف جزيرة إندونيسية:
وعن كيفية احتفال أكبر دولة إسلامية برمضان يقول تاج الإسلام عبدالرحيم: رمضان في بلادي له مذاق خاص؛ حيث نجد تقاليد خاصة به تختلف من قبيلة لأخرى ومن جزيرة لأخرى، ولنا أن نتصور أن (إندونيسيا) تتكون من أكثر من 13 ألف جزيرة، لكل منها عاداتها وتقاليدها ووجباتها المفضلة، إلا أن الأرز هو القاسم المشترك بين جميع الأكلات التي تختلف فيما يضاف إليه، كما أن الموز وجوز الهند والمشروبات المستخلصة من النباتات والأعشاب تعد أساسية على كل الموائد، وبرغم أن الاحتفال برمضان يكون طبيعيا بإظهار الفرحة بقدومه إلا أن هناك حربًا شديدة من العلمانيين التغريبيين ضد كل ما هو إسلامي؛ حتى إنهم ينصحون المسلمين بالامتناع عن الصوم حفاظا على صحتهم! ومع الأسف الشديد نجحوا في هذا نسبيًا، بل نجح دعاة التنصير في تنصير قرى كاملة! في الوقت الذي ترتكب فيه مجازر ضد مسلمي الجزر المنعزلة البعيدة عن العاصمة (جاكرتا).(/4)
وعن تأثير الكوارث التي مرت بها إندونيسيا، وخاصة تسونامي، والزلازل المتعاقبة في نفوس هؤلاء الطلاب يقول حسن إيمال: نحن نجاهد في سبيل طلب العلم، وعشنا في الغربة لنخدم ديننا ونقاوم التبشير بنشر الوعي الديني بين المسلمين لدينا، وخاصة أن المسيحية والهندوسية والبوذية ديانات تتنافس وتتعاون أحيانا ضد كل ما هو إسلامي في إندونيسيا التي لا يريدونها إسلامية إطلاقا، بل يؤيدون أعداء المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، ولهذا نحن نعد أنفسنا في جهاد حقيقي، وعندما فقدنا ذوي قرابتنا في تسونامي وغيره من الزلازل كان حزننا شديدًا ولكننا زدنا تصميمًا على مواصلة ما جئنا من أجله ونقول: (إنا لله وإنا إليه راجعون).
تميز ماليزي:
ويصف الطالب عبدالقيوم أبوجا سليمان كيفية قضاء شعب (ماليزيا) لرمضان فيقول: عاداتُنا الغذائية في رمضان على عكس الأطعمة العربية الثقيلة التي يؤدي الإسرافُ في تناولها في رمضان إلى كثير من الأمراض؛ فنحن الماليزيين نقتصدُ في الطعام، ونوفر فيه؛ لأننا نفهم حكمة الصوم ونطبقها، ولهذا فإن الاحتفال الحقيقي به لدينا ليس بالأكل والشرب فقط كما هو حال كثير من الشعوب، وإنما يمتد إلى الاحتفال الحقيقي بالأكثار من العبادة في المساجد وإتقان العمل.
عادات مدغشقر:(/5)
يرى الطالب أحمد بجوتي أن المسلمين في (مدغشقر) برغم أنهم يمثلون 10% من إجمالي عدد السكان البالغ 26 مليونًا، إلا أنهم متماسكون، ولهم عاداتهم الرمضانية؛ إذ تعد وجبة (الكونو) أساسية في الإفطار، وللعلم فإن هذه الأكلة تنتشر في وسط وغرب إفريقيا، كما أننا نعشق الموز المقلي في الزيت، ويعد من أشهى الأطعمة لدينا، كما أن مسلمي مدغشقر الذين ينتمي معظمُهم إلى الجذور العربية وتحديدًا اليمن يحرصون على تناول الوجبات العربية الشهيرة؛ لأن هذا يجعلهم ذوي هوية عربية متميزة عن غيرها، ونطالب الدول الإسلامية بمساعدتنا في نشر الوعي الديني ومضاعفة عدد المنح الدراسية في الجامعات العربية والإسلامية.(/6)
العنوان: رمضان والإيمان
رقم المقالة: 1462
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
الحمد لله الجواد الكريم؛ هدانا للإيمان، وعلمنا القرآن، وجعلنا من خير أمة أخرجت للناس، نحمده على ما هدانا، ونشكره على ما اجتبانا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ أرسل إلينا أفضل رسله، واختصنا بخاتمة كتبه، وهدانا لمعالم دينه {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ الله الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الرُّوم:30] وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله؛ اختاره الله تعالى رسولا لهذه الأمة، واختار له أمته، فكان أفضل نبي لخير أمة، قال عليه الصلاة والسلام (ما من الْأَنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إلا أُعْطِيَ ما مِثْلهُ آمَنَ عليه الْبَشَرُ وَإِنَّمَا كان الذي أوتيته وَحْيًا أَوْحَاهُ الله إليَّ فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يوم الْقِيَامَةِ) صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه؛ أوتوا الإيمان قبل العلم والقرآن؛ فقوي إيمانهم، وصلحت قلوبهم، وزكت أعمالهم، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.(/1)
أما بعد: فاتقوا الله تعالى واشكروه على ما منَّ به عليكم من الإيمان، وإدراك رمضان؛ فكم في القبور من أناس فاتهم هذا الموسم العظيم، ففاتهم من الخير كثير، وشُكْرُ الله تعالى يكون باستعمال نعمته فيما يرضيه، وعمارة رمضان بطاعته، واجتناب معصيته؛ فإن ذلك من أسباب زيادة الإيمان، وصلاح القلوب، وتمام النعم {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7] فأروا الله تعالى من أنفسكم خيرا في هذا الشهر الكريم؛ فإنكم في بدايته، ومن عاش منكم أدرك نهايته، والأيام تمر سواء بسواء على أهل التشمير والطاعة وعلى أهل التفريط والمعصية.
أيها الناس: من أعظم النعم التي يُنْعِم الله تعالى بها على العبد أن يهديه للإيمان به سبحانه وبملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره؛ فإن في الإيمان بذلك راحةَ القلب وطمأنينتَه، ونورَ البصيرة ونفاذَها، وصحةَ العمل واستقامتَه، وكم من أناس في الأرض يتعبدون لأوثانهم على غير هدى، فما كان عملهم مبرورا، ولا كان سعيهم مشكورا {ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف:104].
وقد أمر الله تعالى عباده بالإيمان في كثير من آي القرآن؛ لنيل رضوانه سبحانه، ولنجاة نفوسهم من العذاب{قُولُوا آَمَنَّا بِالله وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} [البقرة:136] الآية.
وفي آية أخرى{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا آَمِنُوا بِالله وَرَسُولِهِ وَالكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ} [النساء:136](/2)
وبين سبحانه أن البر الذي يطلبه الناس إنما هو في الإيمان {لَيْسَ البِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ وَلَكِنَّ البِرَّ مَنْ آَمَنَ بِالله وَاليَوْمِ الآَخِرِ وَالمَلَائِكَةِ وَالكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} [البقرة:177].
ولما ذكر سبحانه ما أعد للمتقين من عباده في الجنة بيَّن عز وجل أنهم {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:16] ونوه عز وجل بدعائهم حين قالوا {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آَمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآَمَنَّا} [آل عمران:193]
وأثنى سبحانه على المؤمنين من الجن لما قالوا {وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الهُدَى آَمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا} [الجنّ:13] بل إنهم رضي الله عنهم دعوا أقوامهم إلى الإيمان فقالوا {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ الله وَآَمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأحقاف:31].
وامتدح عز وجل المؤمنين من أهل الكتاب لما عرفوا الحق في الإسلام، وتُليت عليهم آيات القرآن ففاضت أعينهم بالدمع خشوعا وتصديقا، وأعلنوا إيمانهم بمحمد عليه الصلاة والسلام {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة:83].(/3)
ونوه عز وجل بسحرة فرعون لما آمنوا بالله تعالى، واتبعوا موسى عليه السلام عندما استبان لهم الحق، وظهرت لهم الآيات، وذكر سبحانه خبرهم في قرآن يتلى إلى يوم الدين {قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ العَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الأعراف:122] ولما هددهم فرعون بالعذاب والنكال ما زادهم ذلك إلا تاكيدا لإيمانهم، وثباتا على دينهم، وخاطبوا فرعون بعزة وإباء فقالوا {إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ * وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آَمَنَّا بِآَيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} [الأعراف:126].
والإيمان سبب لرفع العذاب عن الأمة المؤمنة، كما أن عدم الإيمان سبب لهلاك الناس، وما عُذِّبت الأمم السالفة من لدن نوح عليه السلام إلا بسبب رفضهم للإيمان الذي جاء به الرسل عليهم السلام، وإصرارهم على الكفر بالله تعالى، في حين أن قوم يونس عليه السلام نُجُّوا من العذاب بسبب إيمانهم {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آَمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آَمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس:98].
وأهل الإيمان هم الأتباع الحقيقيون لإمام الحنفاء إبراهيم عليه السلام {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ المُؤْمِنِينَ} [آل عمران:68] وهم أولياء الله تعالى وأصفياؤه، المخصوصون ببشارته ورضوانه {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ الله لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ البُشْرَى فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ} [يونس:64].(/4)
والإيمان سبب للأمن والتثبيت في الدنيا والآخرة {الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82] وفي آية أخرى {يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ} [إبراهيم:27].
وكان جزاؤهم في الآخرة على إيمانهم جنات النعيم {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآَخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ} [يونس:10].
والفردوس الأعلى من الجنة هو نُزُل من تَرَقَّوا في إيمانهم إلى أن حازوا كماله أو قاربوا ذلك {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الفِرْدَوْسِ نُزُلًا} [الكهف:107].
وإذا كانت تلك بعض آثار الإيمان ونتائجه أفلا يكون الإيمان أعظم نعمة منَّ الله تعالى بها على عباده المؤمنين؟! بلى وربي إنه لكذلك.(/5)
والإيمان هو الإقرار بما يجب الإقرار به، وهو يقود إلى العمل؛ إذ ليس هو بالتحلي ولا بالتمني، ولكن الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل، فالأعمال الصالحة جزء من الإيمان، وهي براهين عليه، ومن زعم أنه مؤمن ولم يعمل صالحا فإن تركه للعمل يُكَذِّب زعمه، وهذه الحقيقة مقررة في القرآن، ولا قول لأحد فيها بعد كلام الله تعالى؛ ففي الأنفال {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2] وفي التوبة {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [التوبة:124] وفي الفتح {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:4] وقال النبي عليه الصلاة والسلام:(الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ أو بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لَا إِلَهَ إلا الله وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عن الطَّرِيقِ وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ من الْإِيمَانِ)رواه الشيخان واللفظ لمسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(/6)
وواجب على المسلم أن يترقَّى في درجات الإيمان، ويسعى لتحصيل كماله بإصلاح قلبه، واستقامته على أمر الله تعالى، والإكثار من الأعمال الصالحة؛ فإنها من أفراد الإيمان وأجزائه، وكلما أكثر المسلم منها ازداد إيمانه، وعليه أن يجتنب المعاصي فإنها سبب لنقص الإيمان، ومصداق ذلك حديثُ ابنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:( لَا يَزْنِي الْعَبْدُ حين يَزْنِي وهو مُؤْمِنٌ، ولا يَسْرِقُ حين يَسْرِقُ وهو مُؤْمِنٌ، ولا يَشْرَبُ حين يَشْرَبُ وهو مُؤْمِنٌ، ولا يَقْتُلُ وهو مُؤْمِنٌ، قال عِكْرِمَةُ: قلت لابنِ عَبَّاسٍ: كَيْفَ يُنْزَعُ الْإِيمَانُ منه؟ قال: هَكَذَا، وَشَبَّكَ بين أَصَابِعِهِ، ثُمَّ أَخْرَجَهَا، فَإِنْ تَابَ عَادَ إليه هَكَذَا، وَشَبَّكَ بين أَصَابِعِهِ)رواه البخاري.
وروى أَبو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(إذا زَنَى الرَّجُلُ خَرَجَ منه الْإِيمَانُ فكان عليه كَالظُّلَّةِ فإذا انْقَطَعَ رَجَعَ إليه الْإِيمَانُ)رواه أبو داود. وفي لفظ للحاكم(من زنا وشَرِبَ الخَمْرَ نَزَعَ اللهُ منه الإِيمانَ كما يَخْلَعُ الإِنسَانُ القَمِيصَ من رَأْسِه)
أسأل الله تعالى أن يثبتنا على الإيمان، وأن يهدينا لزيادته بالأعمال الصالحة، واجتناب المعاصي، إنه سميع مجيب. وأقول ما تسمعون.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله –عباد الله- واعملوا صالحا {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزَّلزلة:8].(/7)
أيها المسلمون: من رأى حال المؤمنين في رمضان وهو لا يعرف معنى الإيمان فإنه سيعجب أشدَّ العجب من طاعتهم لله تعالى، ومبادرتهم إلى ترك ما يحتاجون إليه، ومفارقة ما يتلذذون به من الطعام والشراب والنكاح، لا يفعلون ذلك طلبا للدنيا، ولا لأجل الخلق؛ وإنما طاعة لله تعالى، ولا رقيب عليهم في ذلك إلا هو سبحانه وتعالى، ولو أفطروا سِرَّاً لما علم بهم أحد سوى خالقهم عز وجل، ولو كَثُر المفطرون لاشتهر ذلك في المسلمين ولو حاولوا إخفاءه، ولكن المشهور والمشاهد أن عموم المسلمين يلتزمون بفريضة الصيام، وقلَّ فيهم من يُخِّلُ بها حتى من هم مقصرون في الفرائض الأخرى كالصلاة وغيرها.
إن الصائم يجوع فلا يأكل، ويظمى فلا يشرب، ويضحى فلا يفطر، ويُجْهَدُ أشدَّ الجَهْدِ إذا كان عمله شاقَّا فيصبر إلى غروب الشمس، وكان قادرا على أن يتخفى فيفطر، ويختلق لنفسه المعاذير.
وفي بلاد الكفر مؤمنون صائمون، يعملون في المزارع والمصانع والأسواق وغيرها، ويرون غيرهم يأكلون ويشربون ويتمتعون وهم ممسكون عن شهواتهم باختيارهم مع أن الداعي يدعوهم إلى ترك الصيام.
فما الذي جعل هؤلاء وأولئك يصومون، ويَحْرِمون أنفسهم ما أُودِعَ في بني آدم من شهوات الطعام والشراب والنكاح؟
ما الذي يجعلهم يلتزمون بوقت إمساكهم ووقت إفطارهم لا يُخِلُّون بشيء من ذلك، ولا يَضْعُفُون أمام الشهوات التي تحيط بهم من كل جانب؟
إنه –يا عباد الله- الإيمان الذي وقر في قلوبهم، وصدقته أعمالهم، فيصومون قربة لله تعالى، ويراقبونه عز وجل في صيامهم، ولا يخشون في ذلك أحدا إلا اللهَ تعالى، ولا يلتفتون إلى المفطرين وشهواتهم.. قد روضوا نفوسهم على الصبر والمصابرة والمرابطة في طاعة الله تعالى.
سمعوا نداء الرب جل جلاله لهم فأرعوا له أسماعهم، ووعته قلوبهم، وبادرت إلى امتثاله جوارحهم، وأجابوا: سمعنا وأطعنا.(/8)
ناداهم ربهم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183] فسارعوا إلى الاستجابة والامتثال.
إنهم ما صاموا إلا إيمانا بالله تعالى، وامتثالا لأمره، ورضا بدينه، وطلبا لمرضاته.
ما تركوا طعامهم وشرابهم، وجانبوا نسائهم إلا لأجل الله تعالى، وفي ذاته عز وجل فقال الرب جل جلاله في الصائم (يَتْرُكُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهْوَتَهُ من أَجْلِي الصِّيَامُ لي وأنا أَجْزِي بِهِ) رواه البخاري.
يطلبون بصيامهم وقيامهم الأجر من الله تعالى، ولا أجرَ على صيامٍ ولا قيامٍ إلا إذا كان عن إيمان، والمؤمنون هم المخاطبون بالصيام والقيام، ولو صام غيرهم فلا أجر لهم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:(من قام لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ من ذَنْبِهِ وَمَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ من ذَنْبِهِ)
(ومن قام رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ من ذَنْبِهِ)رواه الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
فالمؤمن يصوم ويقوم إيمانا بالله تعالى، وإيمانا بأنه عبد لله سبحانه، وإيمانا بأن الله تعالى قد فرض الصيام وشرع القيام، وإيمانا بأن الله تعالى لا يشرع له، ولا يفرض عليه إلا ما هو خير له في الدنيا والآخرة، وإيمانا بأن الله تعالى مطلع عليه، يعلم سره وجهره، ويحصي عليه عمله، وإيمانا بأن الله تعالى يجازيه على صيامه وقيامه أعظم الجزاء، فيحتسب ذلك عند عز وجل، وإيمانا بأن الله تعالى سيعاقب من أفطروا في نهار رمضان لكفرهم أو لفسقهم، فيفرُّ بالصوم من عقاب الله تعالى.(/9)
إنه يؤمن بالبعث بعد الموت، وبحشر الناس وحسابهم، وبالثواب والعقاب، ويؤمن أن ذلك لله تعالى وليس لأحد سواه؛ فيطلب ثوابَ من يملك الثواب، ويفرُّ من عقاب من يملك العقاب، ويتقي عذابه بطاعته، والتزام فرائضه وإن ناله بعض المشقة من صيامه وقيامه، التي يعقبها راحة أبدية، وسعادة سرمدية.
ومن هنا نعلم - أيها الإخوة - شدة ارتباط الصيام بالإيمان، ولماذا خوطب به المؤمنون، ولماذا لا ينال ثواب الصيام والقيام إلا من صام وقام إيمانا واحتسابا.
جعلنا الله تعالى من أهل الإيمان والإحسان، وثبتنا عليه إلى الممات.
وصلوا وسلموا....(/10)
العنوان: رمضانُ والتسابُقُ إلى الخيرات
رقم المقالة: 1439
صاحب المقالة: د. حسين الشامي
-----------------------------------------
فرَضَت العدالةُ الإلهية الصومَ لكي يشعرَ الغنيُّ بجوع الفقير، والمُوسِرُ بحال المحروم؛ يقولون: لا يعرفُ أربعةً إلا أربعةٌ: لا يعرف قدرَ الشباب إلا الشيوخُ، ولا يعرف قدرَ العافية إلا أهلُ البلاء، ولا يعرف قدرَ الحياة إلا الموتى، ولا يعرف جوعَ الفقير المسكين إلا الصائمُ.
وقد دارت عجلةُ الزمن، وظلّلتنا نفحاتُ الشهر المبارك لإنقاذ الفقير المسكين، ولاختبار المؤمن الصبور المتمسك بدينه، وحتى يشعر الغنيُّ بالآم الجوع -ومع الجوع تسمو الروحُ- فحينئذٍ يمسح دموعَ الفقراء، وها هو ذا نداء المولى -عز وجل- أنْ حيَّ على الصلاة، حي على الفلاح، حي على العبادة، حي على الطاعة، حي على الصدقات، حي على تلاوة القرآن؛ إنه شهرُ رمضان المعظم المكرم، الذي أنزل فيه القرآنُ هدى للناس وبيناتٍ من الهدى والفرقان.
وإذا كانت الصدقةُ في غير رمضان مطلوبةً، فهي في رمضان أكثر إلحاحاً، والحلم في غير رمضان عظيم، ولكنه في رمضان أعظم؛ بمعنى أنك لا ترفث، ولا تشتم، ولا تسب، ولا تصخب، وإذا أهانك إنسان فقل هذه العبارة الجميلة التي إن دلت على شيء فإنما تدل على سماحة الإسلام، وهي ((اللهم إني صائم)).
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((قال الله -عز وجل-: كلُّ عملِ ابنِ آدم له، إلا الصيامَ، فإنه لي وأنا أجزي به، والصيامُ جنة، فإذا كان يومُ صوم أحدكم، فلا يرفث يومئذ ولا يسخب، فإن سابّه أحدٌ أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم، والذي نفسُ محمد بيده لَخُلوفُ فم الصائم أطيبُ عند الله يوم القيامة من ريح المسك، للصائم فرحتان يفرحُهما؛ إذا أفطر فرِحَ بفطره، وإذا لقي ربَّه فرح بصومه))، رواه البخاري ومسلم.(/1)
والصومُ هو العبادة الوحيدة الخالية من الرياء، ولذا فهو يربي في الإنسان ملكةَ المراقبة لله عز وجل، وهو العبادة التي تتخلصُ بها من إسراف الشهوات وسلطان العادات، وتسمو بالإنسان إلى التشبه بالملائكة الكرام، وبالصوم يمكنك حكمُ نفسك بنفسك حين تتعود نفسُك الصبرَ، والصبرُ نصفُ الإيمان.
وبالصيام تعتادُ الرحمةَ؛ لأنك ذقت ألم الجوع في رمضان، ولذلك قيل ليوسف عليه السلام: لماذا تجوع وأنت على خزائن الأرض؟ فقال: أخاف أن أشبع فأنسى الجائع.
وبالصيام تعتادُ الأمانةَ، ويقظةَ الضمير، والطاعةَ والوفاءَ والإخلاصَ؛ لأنه لا رقيب عليك إلا خالقك جل وعلا. هذا شهر الفتح والربح الجليل، هذا منهل الإحسان، وهذا ميدان تسابق الأخيار بالخيرات إلى الدار الآخرة، فشَمّروا عن ساعد الجد، وقدّموا فيه من فضائل الأعمال، وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله إن الله بما تعلمون بصير.
وفى الحديث المتفق عليه عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: ((كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أجودَ الناس بالخير، وكان أجودَُ ما يكون فى رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل عليه السلام يلقاه في كل ليلة من رمضان، فيدارسه القرآن، فلرسول الله –صلى الله عليه وسلم- أجودُ بالخير من الريح المرسلة)).
وعن أنس قال: قيل يا رسول الله أيُّ الصدقة أفضل؟ قال: ((صدقةُ رمضان)).
وعلى المسلم أن يجتهد في العبادة في العشر الأواخر من رمضان؛ ففي الحديث المتفق عليه عن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: ((كان إذا دخل العشر الأواخر من رمضان أحيا الليل، وأيقظ أهله، وشد المئزر)).
وشدُّ المئزر كناية عن اعتزال النساء للاشتغال بالعبادة وإحياء الليل بالصلاة وغيرها من الطاعات.(/2)
ولأنّ الصائمَ قائمُ بعبادةٍ عظيمة، فقد ترك الحلالَ في نهار رمضان من مأكل ومشرب ومنكحٍ طاعةً لربه، وتنفيذًا لأمره وفرضه، وطمعًا في رضاه وجنته واستسلاماً له وخضوعاً فلا ينبغي له أن يجهل مع الجاهلين، ولا يليق به أن يسب أو يلغو، وإنما عليه أن يحفظ لسانه، وأن يصونه؛ فعن أبى هريرة –رضي الله الله- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((ليس الصيام من الأكل والشرب، إنما الصيام من اللغو والرفث؛ فإن سابك أحد أو جهل عليك فقل إني صائم إني صائم)).
وقولُ الزور هو فى كل الأحوال لا يجوزُ، ولكنه قد يضيع ثواب الصيام، وربما لا يقبل الله عز وجل هذا الصيام؛ فعن أبى هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((من لم يَدَعْ قولَ الزورِ والعملَ به فليس لله حاجةٌ في أن يدعَ طعامَه وشرابه)).
وهناك أمرٌ مستحب نحن أحوجُ ما نكون إلى الاهتمام به، وهو دعاء الصائم، والدعاء هو العبادة، وقد أوجب الله تعالى على عباده أن يسألوه؛ قال تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] وجاء في آيات الصيام قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186].
ويستحب للصائم أن يدعو في حال صومه بمهمات الآخرة والدنيا له ولمن يحب من المسلمين.
فعن أبى هريرة –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: ((ثلاثة لا ترد دعوتهم: الصائم حتى يفطر، والإمام العادل، والمظلوم)).(/3)
وشهرُ رمضان فرصةٌ عظيمة من فرص الخير لمن اغتنمها. فرُوِي عن أبى هريرة –رضي الله عنه- مرفوعا: ((بمحلوف رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أتى على المسلمين شهر خير لهم من رمضان، ولا أتى على المنافقين شهر شر من رمضان، وذلك لما يعد المؤمنون فيه من القوة للعبادة، وما يعد فيه المنافقون من غفلات الناس وعوراتهم، هو غنم المؤمن يغتنمه الفاجر)).(/4)
العنوان: رمضانُ والتهديدُ بالاجتياح
رقم المقالة: 1498
صاحب المقالة: د. يوسف كامل إبراهيم
-----------------------------------------
رمضانُ والتهديدُ بالاجتياح
فرصةٌ للوحدة وتجاوز مرحلة الاختلاف
إنَّ حالةَ الانقسام داخلَ الساحة الفِلَسطينية، وواقعَ الانفصالِ بين الضفةِ الغربية وقطاع غزة، واقعٌ بات لا يُرضي أحدًا يدَّعي حرصَه على القضية الفلسطينية، فحالةُ الانقسام أضعفت الموقفَ الفلسطيني، كما أنها شجعت الطرفَ الصهيوني بتشديد الحصار وممارسة القمع على الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة، فكُلَّ يوم نسمعُ عن اجتياحاتٍ ومداهماتٍ واعتقالاتٍ وشهداءَ في جميع مدنِ وقرى الضفة الغربية، وأما في قطاع غزة فالحصارُ مشدد، والدبابات تحتشد على طول الحدود، والدولةُ الحريصة على الشعب الفلسطيني تدعو ليلَ نهار بضرورة العودة إلى الحوار، وإعادة ترتيب البيت الفلسطيني، فنائبُ وزير الخارجية الروسي (ألكسندر سلطانوف) دعا خلالَ زيارته للقاهرة إلى الاستئناف الفوري للحوار بين حماس وقيادة السلطة جاعلاً ذلك هو السبيل الوحيد لتجاوز الحالة القائمة، وتعكسُ هذه التصريحاتُ الفهمَ الروسي الدقيق لخلفياتِ وحقيقةِ الأحداث والأوضاع على الساحة الفلسطينية، وتؤكدُ الإدراكَ الروسي المتزايد لأهمية الأخذ بعين الاعتبار لمواقف حركة حماس وعدم إمكانية تجاوزها، وتمثلُ إدانةًَ -وإن كانت غير مباشرة- لمواقف السلطة التي ما زالت تتمسكُ برفض الحوار.
في الوقت نفسه قال وزيرُ الخارجية السعودي الأمير (سعود الفيصل): لا يمكن حلُّ القضية الفلسطينية دون وحدةِ الموقف الفلسطيني طريقِها للنجاح.(/1)
في ظل المواقف الداعية إلى الحوار والتفاهم وإعادة ترتيب البيت الفلسطيني، نجدُ العدوَّ الصهيوني يقوم بحشد دباباته على طول الشريط الحدودي مع قطاع غزة في ظل تهديدات صدرت عن قيادات كبيرة من الطرف الصهيوني بضرورة اجتياح قطاع غزة، وفي ظل توقع الكثير من المراقبين والمحليين أنَّ الدولة الصهيونية ستوجّه ضربة قوية لقطاع غزة، فإنه تصبح هناك حاجةٌ ماسة وكبيرة للإسراع بإعادة لم الشمل داخل البيت الفلسطيني وإنهاء حالة الفراق والانقسام، وأننا بحاجة ماسة إلى كل جهد مخلص يُصلح أوضاعَ الشعب الفلسطيني وعلاقاته السياسية والاجتماعية على أساس صون وحماية مشروع التحرر الوطني، في مواجهة مخططات الاحتلال الحاقدة.
في ظل هذه الأوضاع يُهل علينا شهرُ رمضان المبارك، وشعبُنا في أمس الحاجة إلى نفحات رمضان المباركة التي نستلهم منها قيمَ الصبر والثبات والاتحاد في مواجهة الشيطان، نستشعرُ عظمةَ رمضان، شهرِ الجهاد والتضحية، وما تحمله ذكرياتُ رمضان من أمجاد وانتصارات تحققت بفضل الوحدة والترابط، نستذكرُ أمجادَ بدر الكبرى التي صنعها رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، نستذكرُ فتحَ مكة وكلَّ انتصارات الإسلام الخالدة.
فما أحوَجَنا في رمضان أن نلبي نداءَ ربنا: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103]، وأن نُحيي سنةَ نبينا؛ فنصومَ عن الكلام السيئ والممارسات السيئة، ونكف يدنا عن التطاول والاعتداء على أبناء شعبنا، ونحيا بالعدل والحرية والإخاء، وننبذ الفرقة والانقسام.
شعبُنا بجميع فئاته السياسية مطالَبٌ -أكثرَ من أي وقت مضى- بالتمسك بالوحدة ومقومات الوحدة قولا وعملا، ورفض الانقسام السياسي والجغرافي، والشروع الفوري بتهيئة أجواء المصالحة عبر الكف عن التحريض الإعلامي والمناكفات السياسية، والتفرغ لمواجهة الاحتلال الذي لا يميز بين أبيض وأسود، وأن لا نستقوي بالمحتل؛ لأن الرهان على المحتل رهان خاسر.(/2)
قضيتُنا وواقعُنا اليوم بحاجة إلى التلاحم والتعاضد، نحتاج إلى الأيدي التي تبني لا الأيدي التي تهدم، المسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضا، شعبُنا وقضيتنا بحاجة إلى كل عمل مخلص يُصلح لنا أوضاعَنا وعلاقاتنا السياسية والاجتماعية، على أساس الشركة السياسية الحقيقية، وعلى قاعدة صون وحماية مشروعنا الوطني والتفرغ لمواجهة مخططات الاحتلال.
رمضان والتهديد بالاجتياح فرصةٌ للوحدة وتجاوزِ مرحلة الاختلاف والتفرغِ لحل مشاكل شعبنا، فلن يكون هناك كاسب من هذا الواقع إلا المحتل، ولن يكون هناك خاسر إلا شعبنا وقضيتنا ومشروعنا الوطني.(/3)
العنوان: رمضان والجود
رقم المقالة: 1464
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70-71].
أما بعد: فإن رمضان يمتاز عن غيره من الشهور بأنه الشهر الذي بعث فيه نبي الإسلام، ونزل فيه الأمين بالوحي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو شهر الوحي، وشهر القرآن، وشهر الجود والعطاء؛ إذ إن الله - تعالى - قد جاد على عباده بنزول القرآن، وإرسال خاتم الرسل؛ لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، وأيُّ جود أعظم من هذا الجود؟!
ويجود الله - تعالى - على عباده فيه بالرحمة والمغفرة والعتق من النار، ثم إن أجودَ الناس وأجزلهم عطاءً، وأسخاهم نفسًا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كان أجود ما يكون في رمضان، فاجتمع الجودان جودُ رمضان، وجودهُ صلى الله عليه وسلم.(/1)
وكان جوده بجميع أنواع الجود من بذل العلم والمال، وبذل نفسه لله - تعالى - في إظهار دينه وهداية عباده، وإيصال النفع إليهم بكل طريق من إطعامِ جائعهم، وقضاء حوائجهم، وتحمل أثقالهم، لم يزل على هذه الخصال الحميدة منذ نشأ[1]؛ حتى قالت خديجة في أول بعثه: "والله لا يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتقري الضيف، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق"[2].
كان الجود سجية له - صلى الله عليه وسلم - جبله الله عليها، وزاد جوده وكرمُه بعد البعثة، وتحمُّلِ الرسالة أضعافًا مضاعفة، فهو أكملُ الناس إيمانًا، وأعلمهم وأيقنهم أن ما عند الله خير وأبقى، فكان لا يمسك من المال شيئًا، قال أنس بن مالك - رضي الله عنه -: "كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أحسنَ الناس، وكان أجود الناس، وكان أشجعَ الناس"؛ متفق عليه[3]، وفي صحيح مسلم عنه - رضي الله عنه - قال: "ما سُئل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على الإسلام شيئًا إلا أعطاه، فجاءَه رجل فأعطاه غنمًا بين جبلين فرجع إلى قومه، فقال: يا قوم، أسلموا؛ فإن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - يعطي عطاءً لا يخشى الفاقة"[4].
قال أنس: "إن كان الرجلُ ليسلم ما يريدُ إلا الدنيا، فما يمسي حتى يكون الإسلامُ أحبَّ إليه من الدنيا وما عليها"[5].
وقال صفوان بن أمية - رضي الله عنه -: "والله لقد أعطاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أعطاني، وإنه لأبغض الناس إليَّ فما برح يعطيني؛ حتى إنه لأحبُّ الناس إليَّ". قال الزهري - رحمه الله تعالى -: "أعطاه يوم حنين مائة من النعم ثم مائة ثم مائة"[6]. وقال الواقدي: "أعطاه يومئذ واديًا مملوءًا إبلاً ونَعَمًا؛ حتى قال صفوان: "أشهد ما طابت بهذا إلا نفسُ نبي"[7]. وأخبر عنه جابُر بن عبدالله - رضي الله عنهما - فقال: "ما سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئًا قط فقال: لا"[8].(/2)
وكان - صلى الله عليه وسلم - يُقدِّم الناس على نفسه فقد روى البخاري من حديث سهل - رضي الله عنه – "أن امرأة جاءت النبي - صلى الله عليه وسلم - ببردةٍ منسوجة فيها حاشيتها، أتدرون ما البردة؟ قالوا: الشملة، قال: نعم، قالت: "نسجتها بيدي فجئت لأكسوَكَها". فأخذها النبي - صلى الله عليه وسلم - محتاجًا إليها، فخرج إلينا وإنها إزاره، فحسَّنَها فلان، فقال: "اكسنيها ما أحسنها"! قال القوم: "ما أحسنت، لبسها النبي - صلى الله عليه وسلم - محتاجًا إليها، ثم سألته وعلمت أنه لا يرد"؟! قال: "إني والله ما سألته لألبسها، إنما سألته لتكون كفني". قال سهل: "فكانت كفنه"[9].
قال ابن رجب - رحمه الله تعالى -: "وكان جوده - صلى الله عليه وسلم - كله لله - عز وجل - وفي ابتغاء مرضاته؛ فإنه كان يبذل المال إما لفقير أو محتاج، أو ينفقه في سبيل الله، أو يتألَّفُ به على الإسلام مَن يقوى الإسلام بإسلامه... وكان يؤثر على نفسه وأهله وأولاده، فيعطي عطاءً يعجز عنه الملوك مثلُ كسرى وقيصر، ويعيش في نفسه عيش الفقراء، فيأتي عليه الشهرُ والشهران لايُوقَدُ في بيته نار، وربما ربط على بطنه الحجر من الجوع. وكان قد أتاه - صلى الله عليه وسلم - سبيٌ مرة فشكت إليه فاطمةُ ما تلقى من خدمة البيت، وطلبت منه خادمًا يكفيها مؤنة بيتها، فأمرها أن تستعين بالتسبيح والتكبير والتحميد عند نومها وقال: ((لا أعطيك وأدع أهل الصفة تطوى بطونهم من الجوع))[10]. وكان جودُه - صلى الله عليه وسلم - يتضاعفُ في شهر رمضان على غيره من الشهور كما أن جودَ ربه يتضاعف فيه أيضًا؛ فإن الله جبله على ما يحبه من الأخلاق الكريمة؛ وكان على ذلك من قبل البعثة...(/3)
كان - صلى الله عليه وسلم - يجاور في حراء من كل سنةٍ شهرًا يطعم من جاءه من المساكين، حتى إذا كانت سنة بعثه للناس نبيًّا وهاديًا؛ خرج إلى حراء كما كان يخرج كل عام، حتى إذا كانت الليلة التي أكرمه الله - تعالى - برسالته، ورحم العباد بها، جاءه جبريلُ من الله - عز وجل - ثم كان بعد الرسالة جودُه في رمضان أضعاف ما كان قبل ذلك حيث كان جبريل يدارسه القرآن.
فجبريل أفضل الملائكة، والقرآن أشرف الكتب، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - خير البشر، وخاتم الرسل، فاجتمع الشرف كله في هذا الاجتماع، وتلك المدارسة.
ولقد كان هذا القرآن لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خلقًا، يرضى لرضاه، ويسخط لسخطه، ويسارع إلى ما حث عليه، ويمتنع مما زجر عنه؛ فلهذا كان يتضاعف جوده في هذا الشهر لقرب عهده بمخالطة جبريل - عليه السلام - وكثرة مدارسته له هذا الكتاب الكريم الذي يحث على المكارم والجود"[11].
أيها الإخوة: ولنا في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسوة، وهو لنا قدوة، وقد كان يجود في رمضان. مع ما في الجود في هذا الشهر من فوائد لا تحصى ومزايا لا تعد، حيث شرف الزمان، ومضاعفة أجر العمل، والصدقةُ فيه تعين الفقراء الصائمين القائمين الذاكرين على الطاعة، فيستوجبُ المعينُ لهم مثلَ أجرهم، ((ومن فطر صائمًا فله مثلُ أجره من غير أن ينقص من أجر الصائم شيء))[12]. وتفطير الصائمين جودٌ وكرم.
وإذا كان الله يجود على عباده في رمضان بالرحمة والمغفرة والعتق من النار لا سيما في ليلة القدر، فأولى أن يستحق ذلك أهل الجود الذين يرحمون عباد الله وقد قال - صلى الله عليه وسلم – ((إنما يرحم الله من عباده الرحماء))؛ متفق عليه[13] فمن جاد على عباد الله - تعالى - جاد الله عليه بالفضل والعطاء.(/4)
ينضم إلى هذا الفضل العظيم أن الجمع بين الصيام والصدقة من موجبات الجنة، قال النبي - عليه الصلاة والسلام -: ((إن في الجنة غرفًا يُرى ظهورُها من بطونها، وبطونُها من ظهورها)). قالوا: "لمن هي يا رسول الله"؟! قال: ((لمن طيَّب الكلام، وأطعم الطعام، وأدام الصيام، وصلى بالليل والناس نيام))؛ أخرجه أحمد والترمذي[14]. وهذه الخصال كلها تكون في رمضان، فيجتمع فيه للمؤمن الصيامُ والقيامُ والصدقةُ وطيبُ الكلام.
بل إن من معاني الصيامِ العظيمةِ: إحساسَ الأغنياء بحاجة إخوانهم الفقراء فيسدوا حاجتهم، ويجودوا عليهم، سئل أحد السلف: "لمَ شرع الصيام"؟ قال: "ليذوق الغني طعم الجوع؛ فلا ينسى الجائع". لذا كان كثير من السلف يواسون من إفطارهم، أو يؤثرون به ويجوعون.
كان ابن عمر - رضي الله عنهما - يصوم ولا يفطر إلا مع المساكين فإذا منعهم أهلهُ عنه لم يتعشَّ تلك الليلة. وكان إذا جاءَه سائلٌ وهو على طعامه أخذ نصيبه من الطعام، وقام فأعطاه السائل، فيرجع وقد أكلَ أهله ما بقي في الجفنة؛ فيُصبحَ صائمًا ولم يأكل شيئًا.
واشتهى أحد الصالحين من السلف طعامًا، وكان صائمًا، فوضِع بين يديه عند فطوره فسمع سائلاً يقول: "من يقرض المليّ الوفيّ الغني"؟ فقال: "عبدُه المعدمُ من الحسنات". فقام فأخذ الصحفة فخرج بها إليه وبات طاويًا!
وجاء سائلٌ إلى الإمام أحمد فدفع إليه رغيفين، كان يُعدهما لفطره، ثم طوى وأصبح صائمًا.
فلله درُّ تلك النفوس ما أسخاها! وما أشد إيثارها! وما أعظم رغبتها فيما عند مولاها! قال الشافعي - رحمه الله تعالى -: "أُحِبُّ للرجلِ الزيادةَ بالجود في شهر رمضان اقتداءً برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولحاجة الناس فيه إلى مصالحهم، ولتشاغل كثيرٍ منهم بالصوم والصلاة عن مكاسبهم"[15].(/5)
فأين الأغنياء والموسرون؟! شهر الجود دونكم فجودوا جاد الله عليكم {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا} [المزمل: 20] {إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ} [التغابن: 17]. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله ((واتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة))[16].
أيها الإخوة المؤمنون:
كون رمضانَ شهرًا للجود والإنفاق ليس معناه أن ينقلب موسمًا للتسول وتجارة الذل، وإيذاء الناس في المساجد والطرق والأسواق، وفي كل مكان، فتلك تجارة مذمومة، وصاحبها إن لم يكن محتاجًا فهو يأكل سحتًا ونارًا.
وأكثر هؤلاء السُّؤال إنما يسألون الناس تكثرًا، قد امتهنوا تلك المهنة الرديئة! والمحتاجون حقًّا أكثرُهم لا يسألون، فقد أخبر الله - تعالى – عنهم، وهو أعلم بحال الجميع قائلاً: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلحَافًا} [البقرة: 273]، هذا هو وصف المحتاجين حقًّا، وليسوا أولئك الطوّافين على الناس. لذا كان عكرمة مولى ابنِ عباس إذا رأى السُّؤال يوم الجمعة سبَّهم ويقول: "كان ابنُ عباسٍ يسبهم ويقول: "لا تشهدون جمعة ولا عيدًا إلا للمسألة والأذى. وإذا كانت رغبةُ الناس إلى الله كانت رغبتهم إلى الناس"[17].(/6)
وقد أعان الموسرون على بروز تلك الظاهرة السيئة؛ حينما يدفعون صدقاتهم وزكواتهم إلى أقرب سائل، ولا يتحرون حاله، فأسهموا في زيادة جشع السائلين، وحرموا منها محتاجين متعففين، ظاهرهم الاستغناء والله أعلم بحالهم!
فيأيها الإخوة: حتى تبرأ الذمةُ في دفع الزكاة، وتُقبلَ الصدقات لابد من التحري والبحث عن المحتاجين المتعففين، الذين لايسألون الناس. فمن دفع زكاته إلى غني، وقد فرط في التحري لم تبرأ ذمته منها، واستعينوا بأهل العلم والصلاح؛ ليدلوكم عليهم، ثم إن من مقاصد الزكاة أن يخالط الأغنياء الناس، ويطلعوا على أحوال الفقراء، لا أن يتخلصوا من الزكاة كيفما اتفق.
ومن الخطأ - أيها المسلم - أن تستمر في دفع زكاتك لأناس كانوا فقراء، ثم أغناهم الله - تعالى - بعد ذلك، كذلك من الخطأ أن تدفع الزكاة إلى محتاج، مع العلم بوجود من هو أشد حاجة منه إلا القرابةَ فلهم حقهم، فاتقوا الله - تعالى - وتحرّوا في صدقاتكم؛ حتى يحصل الغرض الذي شرعت من أجله، وحتى تكون مقبولة عند الله - تعالى - ثم صلوا وسلموا على نبيكم كما أمركم بذلك ربكم.
---
[1] "لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف" للعلامة ابن رجب الحنبلي (306).
[2] قطعة من حديث طويل أخرجه البخاري في بدء الوحي (3) ومسلم في الإيمان باب بدء الوحي برسول الله - صلى الله عليه وسلم - (160).
[3] أخرجه البخاري في الجهاد باب الشجاعة في الحرب والجبن (2820) ومسلم في الفضائل باب شجاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - وتقدمه للحرب (2307).
[4] أخرجه مسلم في الفضائل باب في سخائه - صلى الله عليه وسلم - (2312).
[5] أخرجه مسلم في الفضائل باب في سخائه - صلى الله عليه وسلم - (2312).
[6] صحيح مسلم كتاب الفضائل باب في سخائه - صلى الله عليه وسلم - (2313) والنسائي في الزينة باب لبس البرود (8/204) وابن ماجه في اللباس باب لباس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (3555).(/7)
[7] انظر: مغازي الواقدي (2/854).
[8] أخرجه البخاري في الأدب باب حسن الخلق والسخاء وما يكره من البخل (6034) ومسلم في الفضائل باب في سخائه - صلى الله عليه وسلم - (2311).
[9] أخرجه أحمد (5/334) والبخاري في الجنائز باب من استعد للكفن في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم ينكر عليه واللفظ له (1277) والنسائي في الزينة باب لبس البرود (8/204).
[10] جزء من حديث أخرجه أحمد (1/79-106-153) والبخاري في فضائل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - باب مناقب علي بن أبي طالب (3705).
[11] "لطائف المعارف" ( 308-309 ).
[12] جاء ذلك في حديث زيد بن خالد عند الإمام أحمد (4/114 ) والترمذي في الصوم باب ما جاء في فضل من فطَّر صائمًا وقال: حسن صحيح (807) وابن ماجه في الصيام باب في ثواب من فطَّر صائمًا (1746).
[13] أخرجه البخاري في الجنائز باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم – ((يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه إذا كان النوح من سنته)) (1284) ومسلم في الجنائز باب البكاء على الميت (923).
[14] أخرجه الترمذي في البر والصلة باب ما جاء في قول المعروف وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عبدالرحمن بن إسحاق وقد تكلم بعض أهل الحديث في عبدالرحمن هذا من قِبَل حفظه وهو كوفي... (1984) (2527) وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي (1616) و (2051) وفي "مشكاة المصابيح" (2335). وأخرجه أحمد من حديث أبي مالك الأشعري - رضي الله عنه - (5/343). وأخرجه الحاكم عن ابن عمر - رضي الله عنهما - وقال: صحيح ووافقه الذهبي (1/80-321 ).
[15] "لطائف المعارف" (315)، والآثار التي قبله منه أيضًا.
[16] حديث أخرجه البخاري في الزكاة باب الصدقة قبل الرد (1413) وباب اتقوا النار ولو بشق تمرة والقليل من الصدقة (1417).
[17] "سير أعلام النبلاء" (5/19).(/8)
العنوان: رمضان والقرآن
رقم المقالة: 1482
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا} [الكهف: 1] أحمده وأشكره وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أخشى الناس لربه، وأتقاهم لمولاه، وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تَبِعَهُمْ بإحسان إلى يوم الدين.أمَّا بعد:
ففي رمضان يُقْبِلُ كثير من الناس على كتابِ الله تعالى قراءة وحفظًا، وأحيانًا تفسيرًا وتدبُّرًا، وما ذاك إلا لأنَّ رمضانَ مَوْسِمُ لِلْخَيْرَات، تتنوع فيه الطاعات، وينشط فيه العباد بعد أن سُلْسِلَتِ الشَّياطينُ، وفُتِّحَتْ أبْوابُ الجِنان، وغُلِّقَتْ أبوابُ النِّيران.
ورمضان هو الشهر الذي أنزل فيه القُرْآنُ، {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة: 185]، وكان جبريل يدارس فيه رسول الله القرآن، فالحديث عن القرآن في رمضان، له مناسبته وله خصوصيته لا سيما مع إقبال الناس عليه.
من فضائل القرآن:
1- أنه هدى: وصف هذا القرآن بأنه {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2] أي: يهتدون بآياته ومعانيه؛ حتى يخرجهم من ظلمات الشرك والجهل والذنوب إلى نور التوحيد والعلم والطاعة.يهتدون به فيما يعود عليهم بالصلاح في دنياهم وأخراهم كما قال الله سبحانه: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً} [الإسراء: 9].(/1)
2- أن عِبره أعظم العبر، ومواعظه أبلغ المواعظ، وقصصه أحسن القصص: كما في قول الله تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [يوسف: 3].
3- أنه شفاء: كما في قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57}.
شفاء للصدور من الشبه والشكوك والريب والأمراض التي تفتك بالقلوب والأبدان؛ ولكن هذا الشفاء لا ينتفع به إلا المؤمنين كما في قول الله تعالى: {وَنُنَزلُ منَ القُرآن مًا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحمَةٌ لِلمُؤمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَلِمِينَ إلا خَساراً} [الإسراء: 82]، وقال تعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} [فصلت: 44] [انظر تفسير ابن كثير 2/256].
4- أنه حَسَمَ أكثر الخلاف بين اليهود والنصارى في كثير من مسائلهم وتاريخهم وأخبارهم؛ كاختلافهم في عيسى وأمِّه عليهما السلام، واختلافهم في كثير من أنبيائهم، قال الله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ * وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} [النمل: 77،76] [انظر تفسير ابن كثير 3/795] فأهل الكتاب لو كانوا يعقلون لأخذوا تاريخَهُم وأخبار سابقيهم من هذا الكتاب الذي {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت: 42].
لكن كيف يفعل ذلك أهل الكتاب، وكثير من المؤمنين قد زهدوا في كتابهم، وتبعوا اليهود والنصارى حذو القذة بالقذة؟!
فالمؤمن بهذا الكتاب يمتلك من أخبار الصدق ما لا يمتلك اليهود والنصارى عن دينهم الذي زورت كثير من حقائقه وأخباره على أيدي أحبار السوء، ورهبان الكذب.(/2)
5- أن القرآن العظيم حوى كثيرًا من علوم الدنيا تصريحًا، أو تلميحًا، أو إشارة، أو إيماء: ولا يزال البحث العلمي في علوم الإنسان، والحيوان، والنبات والثمار، والأرض، والبحار، والفضاء، والأفلاك، والظواهر الكونية والأرضية يتوصل إلى معلومات حديثة مهمة، ذكرها القرآن قبل قرون طويلة؛ مما جعل كثيرًا من الباحثين الكفار يؤمنون ويهتدون.وقد قال الله تعالى: {وَنَزَلنَا عَلَيكَ الكِتَابَ تِبيَاناً لِكُلِ شَىْءٍ} [النحل:89] وقال سبحانه: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ} [الأنعام:38].فكل ما يحتاج إليه البشر لإصلاح حالهم ومعادهم موجود في القرآن كما دلَّتْ على ذلك هاتان الآيتان.ولا يعني ذلك الاكتفاء به عن السنة النبوية؛ لأنَّ مَنِ اتبع القرآن، وعمل بما فيه لابد أن يأخذ السنة ويعمل بما فيها؛ ذلك أن القرآن أحال على السنة في كثير من المواضع كما في قول الله تعالى: {وَمَا آتاكُمُ الرسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُم عَنهُ فانتهُوا} [الحشر:7] وقوله سبحانه: {مَن يُطِعِ الرَسولَ فقَد أطاعَ اللّهَ} [النساء:80] وبين سبحانه وتعالى أنَّ مَنْ أحبَّهُ فلا بد أن يتبع رسوله كما في قوله سبحانه: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [آل عمران:31] واتّباع الرسول متمثِّلٌ في الأخذ بسُنَّتِه، والعمل بما فيها.
6- يتميز القرآن بميزة تظهر لكل أحد وهي: سهولة لفظه، ووضوحُ معناه: كما قال الله تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} [القمر :17].(/3)
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: أي سهّلنا لفظه، ويسَّرنا معناه لمن أراد؛ ليتذكر الناس [تفسير ابن كثير:4/411].وقال مجاهد: (هوَّنا قراءته) [تفسير الطبري:27 /96]، وقال السُّدِّي: (يسَّرنا تلاوته على الألسن) [تفسير ابن كثير:4/411]، وروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قوله: (لولا أن الله يسَّره على لسان الآدميين ما استطاع أحد من الخلق أن يتكلم بكلام الله عز وجل) [تفسير ابن كثير:4/411].
وقال الله سبحانه وتعالى: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً} [مريم: 97].
وهذه آية من أعظم الآيات، ودليل من أوضح الأدلة على عظمة هذا القرآن وإعجازه؛ فحفظه وإتقانه أيسر وأهون من سائر الكلام.وقراءته ميسرة؛ حتى إن بعض الأعاجم ليستطيع قراءته وهو لا يعرف من العربية سواه، وحتى إن كثيرًا من الأُميين لا يستطيع أن يقرأ غيره.
وأمَّا المعنى: فتجد أنَّ كلاً مِنَ النَّاس يأخذ منه حَسَبَ فَهْمِه وَإِدْرَاكِهِ؛ فالعامّيُّ يَفْهَمُه إجْمالاً، وطالِبُ العِلْمِ يَأْخُذُ مِنْهُ على قَدْرِ عِلْمِهِ، والعالم البَحْرُ يغوص في معانيه التي لا تنتهي؛ حتى يستخرج منه علومًا وفوائدَ ربما أمضى عمره في سورة أو آية واحدة ولم ينته من فوائدها ومعانيها.
قيل إنَّ شيخ الإسلام أبا إسماعيل الهروي - رحمه الله تعالى - عقد على تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء: 101] ثلاثمئة وستين مجلسًا [السير للذهبي: 18/ 514].
وتصانيف العلماء في سورة أو آية واحدة كثيرة ومشهورة؛ وما ذاك إلا لغزارة المعاني والعلوم التي حواها هذا الكتاب العظيم.
لماذا أنزل القرآن؟(/4)
المقصود الأعظم من إنزاله: فهم معانيه، وتدبر آياته، ثم العمل بما فيه كما قال الله تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} [ص: 29] وقال تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا} [الفرقان:50] وقال سبحانه: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراًً} [النساء:82] وقال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24]، وكُلَّما كثر تدبر العبد لآياته عظم انتفاعه به، وزاد خشوعه وإيمانه.
ولذا كان النبي أخشع الناس وأخشاهم وأتقاهم؛ لأنه أكثرهم تدبرًا لكلام الله تعالى.قال ابن مسعود رضي الله عنه: (قال لي رسول الله : اقرأ عليّ القرآن، فقلت: يا رسول الله، أقرأ عليك وعليك أنزل!، قال: إني أشتهي أن أسمعه من غيري، قال: فقرأت النساء، حتى إذا بلغت {فَكَيفَ إذَا جِئنَا مِن كُلِ أُمَةِ بِشَهِيدِ وَجِئنَا بِك عَلَى هَاؤُلآءِ شَهِيداً} [النساء: 41] رفعت رأسي، أو غمزني رجل إلى جنبي فرفعت رأسي، فرأيت دموعه تسيل) [رواه البخاري: 5505، ومسلم: 800].
ولا شكَّ في أنَّ تَدَبُّرَ القرآن والانتفاع به يقود إلى الزهد في الدنيا، والرغبة في الآخرة، يقول الحسن رحمه الله: (يا ابن آدم، والله إن قرأت القرآن ثم آمنت به ليطولن في الدنيا حُزنُك، وليشتَدَّنَّ في الدنيا خوفُك، وليكثرن في الدنيا بكاؤك) [نزهة الفضلاء:1/ 448].
كمِ اهتدى بهذا القرآن من أُناسٍ كانوا مِنَ الأشقياء؟ نقلهم القرآنُ مِن الشقاء إلى السعادة، ومن الضلال إلى الهدى، ومن النار إلى الجنَّة.(/5)
قوم ناوؤوا رسول الله ، وناصبوه العداء، وأعلنوا حربه؛ سمعوا هذا القرآن فما لبثوا إلا يسيرًا حتى دخلوا في دين الله أفواجًا، ثم من أتى بعدهم كان فيهم من كان كذلك، وأخبارهم في ذلك كثيرة مشهورة.
ولعل من عجائب ما يذكر في هذا الشأن: (قصة توبة الإمام القدوة الفضيل بن عياض - رحمه الله تعالى -؛ إذ كان شاطرًا يقطع الطريق، وكان سببُ توبته أنه عشق جارية، فبينا هو يرتقي الجدران إليها؛ إذ سمع تاليًا يتلو قول الله تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} [الحديد:16] فلما سمعها، قال: بلى يا رب! قد آن، فرجع، فأواه الليل إلى خربة، فإذا فيها سابلة - أي قافلة - فقال بعضهم: نرحل، وقال بعضهم: حتى نصبح؛ فإن فضيلاً على الطريق يقطع علينا، قال: ففكرت، وقلت: أنا أسعى بالليل في المعاصي، وقوم من المسلمين ها هنا يخافونني، وما أرى الله ساقني إليهم إلا لأرتدع، اللهم إنّي تبت إليك، وجعلت توبتي مجاورة البيت الحرام) [نزهة الفضلاء: 2/ 600].
فرحم الله الفضيل بن عياض، قادته آية من كتاب الله تعالى إلى طريق الرشاد فكان من العباد المتألهين، ومن العلماء العاملين، فهل نتأثر بالقرآن ونحن نقرؤه ونسمعه بكثرةٍ في هذه الأيام؟!
هل ينتفع أهل الكفر والعصيان بالقرآن؟
الكفار لا ينتفعون بالقرآن بسبب إعراضهم عنه، وتكذيبهم له.(/6)
وأما أهلُ المعاصي والفجور فهم أقلُّ انتفاعًا به بسبب هجرانهم له، وانكبابهم على شهواتهم، قال الله تعالى: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَاباً مَّسْتُوراً * وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْاْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً} [الإسراء:46،45].هذا حال الكفار والمنافقين قد حجبوا عن الانتفاع به.
أمَّا أهلُ المعاصي فقد اكتفَوْا بغيره بديلاً عنه حتى هجروه؛ لذا عظمت شكاية الرسول إلى الله تعالى منهم كما في قول الله سبحانه: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً} [الفرقان:30] ذكر ابن كثير رحمه الله: (أنهم عدلوا عنه من شعر أو قول أو غناء أو لهو أو كلام أو طريقة مأخوذة من غيره) [تفسير ابن كثير:3/ 507].
وكم من أناس في هذا الزمن ولعوا بالغناء والمعازف حتى لا تفارق أسماعهم، وهجروا كلام الله حتى لا يطيقون سماعه، ولا تجتمع محبة القرآن ومحبة الغناء في قلب واحد.
بيوت يُحيى ليلها، ويقضى نهارها في سماع الغناء والمعازف؛ حتى إن أصواتها لتنبعث من وراء الجدران؛ مبالغة في الجهر والعصيان.
بيوت خلت من ذكر الرحمن، وعلا ضجيجها بمزمار الشيطان؛ حتى انتشرت الشياطين في أرجائها وأركانها، وجالت في قلوب أصحابها؛ فحرفتهم عن سبيل الهدى والرشاد إلى سبيل الغي والفساد، فكثرت فيهم الأمراض النفسية، والانفعالات العصبية، والأحلام المزعجة فكانوا كمن قال الله تعالى فيهم: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المجادلة:19].(/7)
ويخشى على من كان كذلك أن يختم له بالسوء، وأن ينعقد لسانه حال إحتضاره عن شهادة الحق، وقد اشتهرت حوادث كثيرة في ذلك.
وما راجت سوق الغناء والمعازف، وكثر المغنون والمغنيات إلا بسبب كثرة السامعين والسامعات فلا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم.
أمَّا أهل الإيمان والقرآن ففرحهم بلقاء ربهم لا يوصف؛ عظموا كتاب الله عز وجل فرزقهم الله حسن الختام، وأكثروا قراءته وتدبره والعمل به؛ فاستقبلتهم الملائكة في مواكب مهيبة، تبشرهم بالرضى والجنان، فشوهدوا حال إحتضارهم وهم في أمن وطمأنينة.
(هذا الإمام المقرىء المحدثُ الفقيهُ أبو بكر بن عياش - رحمه الله تعالى - لما حَضَرَتْهُ الوفاة بكت أخته! فقال لها: ما يبكيك؟ انظري إلى تلك الزاوية فقد ختم أخوك فيها ثمانية عشر ألف ختمة) [نزهة الفضلاء: 675].
فهل يستوي هذا مع من سمع آلاف الأغاني، وقضى آلاف الساعات في العصيان؟ كلا والله لا يستويان.
ومما يُؤسَفُ له أن يربَّى الأولاد الصغار على الأغاني والمعازف، ويفاخر بهم في هذا الشأن كما يفاخر أهل القرآن بأولادهم في حفظ القرآن!! وتلك مصيبة أن يربى أهل القرآن على مزمار الشيطان، وكان الأولى؛ بل الواجب أن يربَّوْا على كلام الله تعالى.ورمضان أنزل فيه القرآن، وهو فرصة لإحياء مساجدنا وبيوتنا بكلام الله تعالى، لا سيما مع إقبال الناس على القرآن.
وينبغي للصائمين ألا يذروا في بيوتهم شيئًا يزاحم القرآن، لا سيما إذا كان يعارضه ويناقضه، كما هو الحال في كثير من البرامج الفضائية والتلفازية التي ينشط أهل الشر في عرضها وتزيينها في رمضان؛ بقصد جذب المشاهدين إلى قنواتهم، والتي لا تزال تزاحم القرآن والذكر وسائر العبادات في هذا الشهر العظيم.
أسأل الله الغفور الرحيم أن يتغمدنا برحمته، وأن يصلح سرنا وعلانيتنا، وأن يجعلنا من عباده المقبولين، إنه سميع مجيب، والحمد لله رب العالمين.(/8)
العنوان: رمضان والمجاهدة
رقم المقالة: 1483
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعدُ: فإن الله - تعالى - قد جعل الدنيا دارَ بلاءٍ وامتحان، وجِهادٍ ومُجَاهدة، وصَبْر ومُصَابرة لعباده، فمنِ اجتاز البلاءَ، وصبر في ذات الله – تعالى - وجَاهَد في سبيله كان حقًّا على الله - تعالى - أن يَرْضَى عنه، ويُدْخِلَهُ الجنَّة.
والعبدُ منذ تكليفه إلى أن يُرْفع عنه التكليفُ يَخُوض معركةً مع نفسه وشيطانِه، فنفسه تَدْعُوه إلى هواها، وشيطانُه يَؤُزُّه إلى ما يُرْدِيه ويُهْلِكُه، والناس على فريقَيْنِ: من يَغْلِبُه شيطانه، ويَرْكَن إلى دنياه فيعب من شهواته، ويَنْسَى حقوق ربه، فمصيرُه ما ذكر الله - تعالى - بقوله: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآَثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 37 – 39].
وعكسه من غلب شيطانه، وقَهَر نفسه، ولم يَرْكَنْ إلى الدنيا، وتمتع بما أَحَلَّ الله له من الشهوات، ولم يُجَاوِز ذلك إلى ما حَرَّم الله عليه، وقام بحقّ الله - تعالى - خير قيام؛ فهو السعيدُ المذكور في قوله – تعالى -: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات 40 - 41].
من أحب الله – تعالى - وعَظَّم شعائره؛ خالف هواه إلى ما يحب الله – تعالى - وقصر نفسه على ما أحلَّ الله له. ومن أَتْبَعَ نفسه هواها، وأَرْخَى لها زِمَامها، ففي محبته لله - تعالى - نَقْصٌ بقدر اتِّبَاعِه لهواه، وعصيانه لربه.
قال أبو عمرو بن بُجيد - رحمه الله تعالى -: "من كَرُم عليه دينه، هَانَتْ عليه نفسه" [فتح الباري لابن حجر 11/345].(/1)
وقال شيخ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله تعالى -: "مَحَبَّة الله تُوجِب المُجَاهَدة في سبيله قطعًا؛ فإنَّ من أحب الله، وأحبه الله، أحب ما يُحِبُّه الله، وأبغض ما يُبْغِضُه الله، ووالى من يُواليه الله، وعَادَى من يُعاديه الله، لا تكون مَحَبَّة قط إلاَّ وفيها ذلك بحسب قوتها وضعفها؛ فإن المحبةَ تُوجِبُ الدُّنُوّ من المحبوب، والبُعْد عن مكروهاته، ومتى كان مع المحبة نَبْذ ما يبغضه المحبوب، فإنها تكون تامَّةً" [قاعدة في المحبة: 89].
جهاد النفس:
إن مُعالجةَ النَّفْس ومُجَاهَدتها من أعظم أنواع الجهاد؛ لأنه جِهَاد يَسْتَغْرِقُ العمر كله، وإذا طال الأَمَد ضعفتِ النفس، فاحتاجت إلى مُجَاهدة أكثر. يقول سُفْيان الثوري - رحمه الله تعالى -: "ما عَالَجْتُ شيئًا أشد عليَّ من نفسي: مرة لي؛ ومرة علي" [الحلية 7/5 – 62].
وكان عمر - رضي الله عنه - يُخَاطِب نفسه، ويَقْهَرها حتى لا تَجْمح به، فتُخْرِجه عن الجادَّة. دخل - رضي الله عنه - حائطًا فبدأ يُخَاطِب نفسه ويحاسبها، قال أنس - رضي الله عنه -: فسمعته يقول: "عمر بن الخطاب أمير المؤمنِينَ، بَخٍ بَخٍ، واللهِ يا ابن الخطاب لتَتَّقِيَنَّ الله، أو ليُعَذِّبَنَّك" [الموطأ 2/992].
إن الإنسانَ قد يُجَاهِد غيره؛ لكنه يَنْسَى نفسه التي تحتاج إلى جِهَاده، فيَذَرُها تركب هواها، وتنالُ مطلوبها، ولا يَحْسب أنها تحتاج إلى مجاهدة؛ بل قد يُنْكِر ذلك، ويرى أنه على أحسن حال، أو على الأقل ليس أَسْوَأَ الناسِ، وهذا يُقْعِدُه عن المجاهدة، فيسير في الرَّدى، ويُوشِك أن يهلك. وفي هذا المعنى قال علي - رضي الله عنه -: "أولُ ما تُنكِرُون من جِهادِكُم أنفُسُكم" [جامع العلوم والحكم 1/196].
ولما سأل رَجُلٌ عبدَالله بن عمر - رضي الله عنهما - عن الجِهَاد قال - رضي الله عنه -: "ابْدَأْ بنفسك فجاهدها، وابدأ بنفسك فاغْزها" [جامع العلوم والحكم 1/196].(/2)
إن الخُطْوة الأولى لمجاهدة النفس: الاعترافُ بأنها تحتاج إلى مُجَاهدة، والنظر إلى نَقْصِها، وعَيْبِها، وخَطَئِها، ومقارنة ذلك بالنفوس التي تفضلها وتتفوق عليها. ومن لم يعترفْ بتقصيره وخطئِه فكيف يُجَاهد نفسه؟! وكيف يستمر على المجاهدة العمر كله؟!
قال أبو يزيد البسْطَامِيّ: "عملتُ في المجاهدة ثلاثين سنة، فما وجدتُ شيئًا أشد عليَّ من العلم ومتابعته..." [الحلية: 10/36].
ويقول أيضًا: "عالَجْتُ كل شيء؛ فما عَالَجْتُ أصعب من مُعَالَجَة نفسي، وما شيء أهون عليَّ منها" [الحلية: 10/36، وصفة الصفوة 4/107].
وما دامتِ النفس ضعيفةً، والشيطانُ مَوْجُودًا فإنَّ العبد يحتاج إلى مجاهدة دائمة، ولا سيما أن الشيطانَ لا يَكِلّ ولا يَمَلّ مِنْ قذف وساوسه، وخطراته في قلوب العباد. وعلاجُ ذلك دَوَام المجاهدة.
عن سَبْرَة بن أبي فَاكِه - رضي الله عنه - قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن الشيطانَ يقعد لابن آدم بِأَطْرُقِه، قعد في طريق الإسلام، فقال: تُسْلِمُ وَتَذَرُ دينك ودين آبائك، وآباء آبائك؟ فعَصَاه وأسْلَم، وقعد له بطريق الهِجْرة، فقال: تُهَاجِر وتذر أرضك وسماءك؟ وإنما مَثَلُ المُهاجِر؛ كمثل الفَرس في الطِّوَل، فعصاه فهاجر، ثم قعد له بطريق الجِهَاد، فقال: تُجَاهِد؟ فهو جَهْدُ النفس والمال، فتُقاتل فتُقْتَل؛ فتُنْكَحُ المرأةُ، ويُقْسَم المال؟! فعصاه فجاهد))، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((فمَنْ فَعَل ذلك كان حقًّا على الله أن يُدْخِلَه الجنة، وإن غَرِق كان حقًّا على اللهِ أن يُدْخِلَه الجنة، أو وقَصَتْهُ دابته كان حقًّا على الله أن يُدْخِلَهُ الجنة))؛ رواه أحمد 3/483، والنسائي 6/21، وصححه ابن حبان 4593.
الجهاد في الطاعات:(/3)
كما أن اجتنابَ المعاصي يَحْتاج إلى مُجَاهدة للشيطان، ومقاومةٍ للنفس الأمَّارة بالسُّوء، فإن التزام الطاعة والمحافظة عليها، وأداء الفرائض والمَنْدُوبات يحتاج إلى مُجَاهدةِ النفس المَيَّالَة بطبعها إلى الرَّاحة والكَسَل، وإلى مُجاهَدة الشيطان الذي يُثَبِّط العَزَائم، ويضعف الهِمَم، ويزين للعبد ترك اكتساب الحسنات. وهذا هو دَأْب الصالحين من عِبَاد الله – تعالى - من النبيين والصحابة، والتابعين لهم بإحسان: دوام المجاهدة في سبيل الله – تعالى - وقَهْر النفس على اكتساب الحسنات، وترك السيئات.
ومن صدق مع الله – تعالى - واجْتَهَد في هذا الباب وفَّقَهُ الله للهُدى، وبلَّغه ما تَمَنَّى، وضعف تَسَلُّط الشيطان عليه، كما قال الله – سبحانه -: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69]، فالهِدَاية من الله – تعالى - ويستحقها المُحْسِنُون من عباده، الذين جاهدوا في الله - تعالى - حتى بلغهم الله ما أرادوا من الهِدَاية.
وواقع المُجَاهِدِين يدُلّ على ذلك: فهذا نبي الله يوسف - عليه السلام - دعاه الشيطان إلى مُقَارَفَة الحرام مع امرأة العزيز، التي زَيَّنَتْ لها نفسُها الأمَّارة بالسوء عمَلَها فراوَدَتْهُ عن نفسه؛ لكنه - عليه السلام - جاهد نفسه، ولم يستَسْلِم للشيطان ولِهَواه، فقال: {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [يوسف: 23]، واعترف بعجزه وضعفه رغم مُجَاهدته، وسأل الله – تعالى - العافيةَ من هذا الابتلاءِ، ودعا فقال: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ * فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [يوسف: 33 - 34].(/4)
وهذه الاستجابةُ من الله - تعالى - ليوسُفَ - عليه السلامُ - كانت بعد مجاهدة منه، وصِدْق في التَّوَجُّه إليه تبارك وتعالى.
ولما سألَ رجلٌ النبي - صلى الله عليه وسلم - مُرَافَقَته في الجنة قال له: ((أَعِنِّي على نفسِك بكثرة السُّجود))؛ رواه مسلم 489، وهذا يحتاج إلى مجاهدة، إذا حققها العبد بلغ ما تمنى، وأعطاه الله ما سأل؛ إذ نَيْلُ المطالبِ يحتاج إلى عمل، ولا تُنَالُ بالتمني فقط، فإذا اجتمع العمل مع صِدْق التَّوَجُّهِ إلى الله - عز وجلَّ - نال العبد ما أراد.
قال أُبَيّ بن كَعْب - رضي الله عنه -: "كان رجل لا أعلم رجلاً أبعد من المسجد منه، وكان لا تُخْطِئُه صلاةٌ، قال: فقيل له: لو اشتريت حمارًا تركبه في الظلماء وفي الرَّمْضَاء، قال: ما يَسُرُّنِي أن منزلي إلى جَنْب المسجد، إني أُريد أن يكتب لي مَمْشَاي إلى المسجد، ورُجُوعي إذا رجعت إلى أَهْلي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((قد جمع الله لك ذلك كله))؛ رواه مسلم 663.
علاقة الصيام بالمجاهدة:
تتجلى المُجَاهدة في الصيام أكثر من غيره من العبادات. فالعبد في رمضان يُجَاهد نفسه، ويكبح شهوته؛ إرضاءً لله – تعالى - يشتهي الطعام فلا يأكله، ويظمأ فيرى الماءَ ولا يشربه، ويجاهد نفسه عن سائر المُفَطِّرَات؛ ابتغاءَ رِضْوان الله تعالى.
فالصيام يُدَرِّبُ الصائم على المجاهدة؛ حتى تَرْتاضَ نفسُه عليها، ومن قدر على الصيام عن المُفَطِّرات طوال النهار فهو قادر على الصيام عن المُحَرَّمَات طوال الليل، ومن صام عن المُحَرَّمات في رمضانَ، فقد أثبت أنه قادر على تركها في غير رمضان، وهذه هي المُجَاهدة.
إننا – معشرَ الصائمين – قد استطعنا كَبْح شهواتنا المباح منها، والمُحَرَّم في نهار رمضان، فلماذا لا نكبح نفوسنا عن الحرام في ليالي رمضان؟!(/5)
إننا جاهَدْنا نفوسنا في النهار، فقضَيْنا أوقاتنا فيما يرضي الله - تعالى - من: قراءة قرآن، وذِكْر، ودعاء، فلماذا لا نفعل ذلك في الليل؟ ولماذا لا نفعل ذلك في غير رمضان؟!
إن مُجَاهدتنا لأنفسنا وشياطيننا في نهار رمضان تدلُّ على قدرتنا على المجاهدة، وبراعتنا في قَهْر نفوسنا، ودَحْر شياطيننا، فلماذا لا نسْتَمِرّ على تلك المجاهدة حتى تُكْتَبَ لنا الهداية، وننالَ درجة الإحسان التي هي ثمن المجاهدة الصادقة؟!
إن كثيرًا من البرامج السمعيَّة والمرئيَّة في الإذاعات والفضائيات العربية، هي مَيْدان لإبليس وجندِه من شياطين الجنّ والإنس، وتحتاج منَّا إلى مجاهدة قوية؛ لدفع شرها عن أنفسنا؛ وذلك بإنكارها وعدم قَبُولها، وحِفْظ أنفسنا وبُيُوتنا وأولادنا منها. وإذا ضعفنا أمامها وما فيها من زُخْرف ومؤثرات ومُشَوقات؛ فإننا بذلك نثبت انهزامنا مع أنفسنا، وانتصار الشيطان والهَوى علينا، وهذا هو السبب الرئيس لضعفنا وذلتنا؛ لأن مجموع هزائم كل واحد منا شَكَّلَتْ كمًّا كبيرًا من الهزائم والانتكاسات، حتى صارت أمتُنا أعدادًا لا قيمة لها، وصَدَق فينا وصف الغُثائيَّة الذي أخبرنا به النبي - صلى الله عليه وسلم - إلاَّ من رحم الله، وقليل ما هم.
أسأل الله - تبارك وتعالى - أن يأخذَ بأيدينا إلى البر والتقوى، وأن يُصْلِحَ قلوبنا وأعمالنا، وأن يهدينا صراطه المستقيم، وأن يُعينَنا على أنفسنا، وشهواتِنا، وعلى شياطين الإنس والجن، إنه على ذلك قديرٌ، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.(/6)
العنوان: رمضان والمواساة
رقم المقالة: 1481
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
الحمد لله والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمُرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعدُ: فإن من طبيعةِ الإنسان الغفْلةَ والنسيانَ، ومن صفات الدنيا الغرورَ والإلْهَاءَ، وإذا ما اجتمع على الإنسان غفلةٌ ونِسيانٌ، ومتاعُ الدنيا وزخرفُها فإن قلبَه يقْسُو، ونفسَه تعصي، ومن ثَمَّ يضْعُف إيمانه بالله – تعالى - وتَقِلّ رغبتُه في الدار الآخرة، ويجتمع همُّه كله للدنيا؛ ففي حُظوظِها يُنافِس، وفي سبيلها يُجَاهد.
وإذا ما انتشر في البشرية كلها هذا الداءُ الوَبيل؛ فإنهم يستحيلون إلى وحوش كاسِرَة يأكل بعضها بعضًا، فلا يرحمون في ضعيف ضعفه، ولا يرأفون بمسكين، ولا يَرِقُّون ليتيم، ولا يعرفون حقَّ قريب أو بعيد!!
ولهذا فإن الله - تعالي - قد رحم البشريَّة بالنُّبُوءات، وشَرع لها الشرائع التي تدلها على التوحيد والإيمان، وتُهَذِّب فيها السلُوك والوجدان، وتزرع فيها الرحمةَ والرأفةَ بالعِباد؛ فبرحْمَة الله - تعالى - يتراحَمُون؛ وبها يَتَواصلُون ويتعاطفُون، ويَرِق قويُّهم لضعيفِهم، ويُعِين قادرُهم عاجزَهم، ويَحْنو كبيرُهم على صغيرهم.(/1)
وهذه الخصالُ الحميدة يَتَحَلَّى بها أهل الإسلام والإيمان، وإذا ما ضَعُف إيمانُهم، أو قَلَّ إحسانُهم، أو فَترتْ عزائمُهم، أو تسلَّطَتْ عليهم شياطينُهم فجمحت بهم إلى زخارف الدنيا جاءهم ما يذكرهم ربهم، ويزيد في إيمانهم، ويُجَدِّد رغبتهم في الآخرة، كما في شهر رمضان الذي يعود كل عام، تنبعثُ فيه النفوس من كَسَلِها، ويتجدد نشاطها، وتقوى عزائمها، ويزداد إيمان المؤمِنينَ، وتَشْتَدّ رغبتهم فيما عند الله – تعالى - فلا تراهم إلا رُكَّعًا سُجَّدًا، يذكرون الله - تعالى - ويتلون كتابه، ويُخْلِصُون الدعاء له وحده، ويرجُون رحمته، ويخافون عذابَه، مع محبة وخشوع وإنابة؛ فَتَزْكو نُفُوسُهم، وتَرِقّ قلوبهم، وتجود مدامعُهم، وترخص الدنيا في ميزانهم؛ فيرفع عنهم التحاسُد والتباغُض والتقاطُع؛ لأن الحسد والبغْضاءَ والقَطيعةَ أخلاقٌ فاسدةٌ، كان سببَها حبُّ الدنيا، وقد سَما بهم إيمانُهم عن الدنيا؛ فأصبحوا من طُلاَّب الآخرة.
إنك ترى مظاهر ذلك في رمضان أينما يَمَّمْتَ وجهك في بلد من بُلدان المسلمين، أو أي بقعة فيها مسلمون يصومون لله - تعالى - ويُصَلُّون.
ترى كَثْرة المتصدقِينَ، وتُشاهد مَوائدَ لإفطار الصائمينَ، وتَلْحَظ المواساة بين الناس. وهذا مقصدٌ عظيم من مقاصد الصوم، ومعنًى أراده الشارع الحكيم؛ ليُهَذِّب الأخلاق، ويسْمُوَ بنفوس الصائمِينَ؛ كما سئل أحد السلف: "لِمَ شُرع الصيام؟" قال: "ليذوق الغني طعم الجوع فلا ينسى الجائع" [لطائف المعارف: 315].
المُواساة عند سلفنا:(/2)
إن الصيام طريقٌ إلى المُواساة، ومسلك من مسالك الإحسان. ومن حَقَّقَ الصيام الشرعي الذي أمره الله - تعالى - به، واجتنبَ ما يُخِلّ به من قول الفُحْش أو سماعه، أو النظر إلى الحرام أو فعله؛ فهو حَرِيّ أن يُواسي إخوانه، ويُحسن إلى الناس. قدوته في ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي كان الإحسانُ إلى الناس ومواساتُهم خُلُقًا من أخلاقه - عليه السلام - كما قال عثمان بن عفان - رضي الله عنه -: "إنا واللهِ قد صَحِبْنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في السفر والحَضَر، يعود مَرْضانا، ويتبع جنائزنا، ويَغْزُو معنا، ويُواسينا بالقليل والكثير، وإن ناسًا يُعْلِمُوني به عسى أن لا يكون أحدهم رآه قَط"؛ رواه أحمد: 1/69.
وهكذا سار صحابتُه - رضي الله عنهم - والتابعون لهم بإحسان على هذا المنهج القويم من مُواساة إخوانهم، والإحسان إليهم، ويزداد هذا الخُلُق فيهم إذا كانوا صِيامًا؛ كما كان ابنُ عمر - رضي الله عنهما - يصوم ولا يفطر إلا مع المساكين، فإذا منعهم أهله عنه لم يَتَعَشَّ تلك الليلة! وكان إذا جاءه سائلٌ، وهو على طعامه أخذ نصيبه من الطعام، وقام فأعْطَاه السائلَ، فيرجع وقد أكل أهلُه ما بقيَ في الجَفْنَة، فيصبح صائمًا ولم يأكلْ شيئًا.
واشتهى أحد الصالحين طعامًا وكان صائمًا، فَوُضِع بين يديه عند فطوره، فسمع سائلاً يقول: "من يُقرض الْمَلِيّ الوفِيّ الغني"، فقال: "عبده المعدم من الحسنات؛ فقام فأخذ الصَّحْفَة فخرج بها إليه، وبات طَاويًا".
وجاء سائلٌ إلى الإمام أحمد - رحمه الله تعالى - فدفع إليه رغيفَيْنِ كان يعدهما لفطره، ثم طوى، وأصبح صائمًا.
قال الشافعي - رحمه الله تعالى -: "أُحِبُّ للرجل الزيادة بالجُود في شهر رمضان؛ اقتداءً برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولحاجة الناس فيه إلى مصالحهم؛ ولتشاغل كثير منهم بالصوم والصلاة عن مكاسبهم" [لطائف المعارف: 315].(/3)
إنَّ رمضان شهر المُواساة؛ فالشبعان من المسلمينَ يصوم ويجوع؛ ليُواسي إخوانه الجَوْعَى، ويُقَاسِمهم طعامه؛ ولربما لو لم يَصُمْ ولم يصبه الجوع ما تذكرهم.
وصاحب الثراء يصوم كذلك؛ ليتذكر حال إخوانه الفقراء والمُحْتاجِينَ؛ فيَدْفَع لهم زكاته، ويتصدق عليهم من فضول أمواله.
وكم في الناس من أثرياء كانوا من قبل فُقَراء مُعْدمِينَ قد ذَاقوا قرص الجوع، وأَلَم الحِرْمان، أنعم الله عليهم بالخير الوفير، فأصابهم الثراء بعد الفقر، فأسرفوا في رزق الله – تعالى - لهم، ولم يُؤَدُّوا حقه عليهم، ونَسُوا أن لهم إخوانًا لا زالوا يذُوقُون قرص الجوع الذي ذاقوه هم من قبلُ، ويُعالِجُون الفقر الذي أصابهم فيما مَضَى، فإذا ما صَامُوا وجاعوا تذكروا ماضيهم البَئِيس، وما أنعم الله عليهم به من الغنى والخير، فشكروا الله - تعالى - على ذلك، وتابوا من سرفهم، وواسَوا إخوانهم المحْرُومِينَ.
حادثة في عبرة:
ذكر الشيخ السباعي - رحمه الله تعالى - أنه يعرف أبًا كان ذا نِعْمة ومال وفِيرٍ، وقد عود أولاده الطعام الطيب، واللِّباس الفاخر، ثم قَدَّر الله - تعالى - عليه الفقر، فأعسر بعد اليسر، فجاء رمضان وهو لا يجد ما يُنْفِق؛ كما كان يُنْفِق من قبل، وله من مكانته وحيائِه ما يمنعه أن يسألَ الناس صدقة أو دَيْنًا، فلم يكن يستطيع أن يقدمَ لعائلته ما تفطر عليه إلا الجبن والزيتون والفول، واحتمل أبناؤه ذلك أول يوم، وثانيه، حتى قال صغيرُهم في اليوم الثالث: "يا أبتِ، لقد أحرق بُطونَنا الجبنُ والزيتونُ، ونحن صيام نحتاج إلى ما يبل الأُوَام، ويُرطب الجوف في هذا الحر الشديد، ويكاد يغمى علينا من روائح الطعام عند جيراننا، فلماذا لا تطعمنا كما يطعم جارُنا أولادَه؛ وكما كنت تُطْعِمُنا من قبلُ؟ وطفرت دمعة من عين الصبي.(/4)
خرج الأب بعدها إلى جانب مظلم من الدار ثم بكى؛ لأنه لا يريد أن تتفتح قلوب أبنائه أول ما تتفتح في الحياة على غدر المجتَمع؛ وقسوة الناس الذين لم يرحموا فيه عُسْرَه، وتحولَه من الغنى إلى الفقر. [أحكام الصيام وفلسفته: 65].
لا تنس إخوانك!!
إذا ما اقتربتِ الشمس من مغيبها، وتهيأَتِ الأسرة لإفطارها، ومُدَّتِ الموائد بأنواع الطعام والشراب هل تتذكر – أخي الصائم – إخوانًا لك شَرَّدَتْهُم قُوَى الظلم والطغيان فهم في العَراء، لا بُيوتَ تُكنُّهم، ولا لباس يَقِيهم بأسهم، يبيتون بلا طعام، ويتسحرون بلا سحور، ويفطرون على ماء، يتسولُون الجمعيات التنصيريَّة بُلْغَة من عيش، أو كفًّا من دقيق، أو رغيفًا من خبز، فلا تدفع إليهم إلا بعد مُساومتهم على دينهم، وعلى صلاتهم، وصومهم!!
إنهم إخوانٌ لك قد شهدوا شهادة الحق، وصدقوا المرسلين، كان ثباتُهم على دينهم، ومطالبتهم بحقوقهم سببًا في تشريدهم من ديارِهم، وحشْرِهم في مَلاجِئ تفتقد ضروريات الحياة، فهلاَّ شعرت بهم وأنت تتهيأُ لإفطارك، واقتصدتَ في مائدتك، ودفعتَ إليهم حق الله - تعالى - عليك، وحق أُخُوَّتِهم لك، ورفعت أَكُفَّ الضراعة بالدعاء لهم؟!
فإن كنت في كل ليلة تفرح بفطرك، فإن تلك الفرحة قد نسوها مُذْ شُرِّدُوا من أوطانهم، أسأل الله - تعالى - أن يُفرِّجَ عنهم، وأن لا يحرمَهم الفرحة الثانية، كما أسأله - عز وجل - أن لا يعذبَنِي بنسيانهم، وأن لا يجعل فرحتي وإياك واحدة، وأن يجمع لي ولك بين الفرحتَيْنِ اللَّتين ذكرهما النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: ((للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح؛ وإذا لقي ربه فرح بصومه))؛ رواه البخاري 1904، ومسلم 1150.
وأنا وأنت في كل يوم – بحمد الله وشكره – نحس الفرحة الأولى عند فطرنا، فعسى أن لا نُحْرَمَ الثانية بتقصيرنا في حق إخواننا.
انتبه للمستحقين واحذر المُتسَوِّلِينَ:(/5)
بسبب ضعف المُوَاساة بين الناس، وعدم اتصال الأغنياء بالفقراء، وتَلَمُّس حاجاتهم؛ صار الأغنياء يحتارون أين يضعون صدقاتهم؟، ولمن يدفعون زكواتهم؟! فظهر لهم في طُرقاتهم ومساجدهم، وأسواقهم، ووظائفهم تُجَّار يتاجرون بالسؤال، ويتقمَّصُون شخصيات الفُقراء وأصحاب العاهات، وكثير منهم ليس بمحتاج؛ ولكنه يسأل الناس تكثُّرًا، والمحتاج منهم حقًّا لا خوف عليه؛ لأنه سيجد من الناس من يُعطيه؛ ولكن الخوف على أُسَر منعها التَّعَفُّفُ والكرامةُ أن تُخْرِج نساءها وأطفالها يسألون الناسَ؛ فباتوا طاوِين جائعِينَ، إن فَطِن لهم رجل صالح يتحسَّس أحوال المُحْتاجينَ حقًّا جاءهم الفرج؛ وإلا بقوا في بؤسهم إلى ما شاء الله تعالى.
ولو أن الناس كفوا أيديهم عن السائلين، وخالط الأغنياءُ الفقراءَ؛ لوقعت الزكوات والصدقات في أيدي من يَسْتَحِقُّها؛ ولقُضِيَ على مظاهر التسول المذموم.
أما والذي جعل الصيام مساواة بين الناس، ومواساة للبؤساء والمُعْدمِين لو أن كل صائم مقتدر أطعم صائمًا معوزًا، ولو أن كل أسرة مُوسِرَة أسعفتْ عائلة مُعْسِرة؛ لما بقي في المسلمين بائسٌ ولا فقيرٌ؛ ولكان الصيام مَوْسمًا للخير لا تنتهي بركاتُه وحسناتُه؛ ولحققنا الخيريَّة التي وصفنا الله - تعالى - بها بقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]، فَفَتِّش – أخي الصائم – عن جيرانك، فَتِّش عن أقاربك، فَتِّش عن إخوانك اللاَّجِئينَ، وحذار أن تنسى بِرَّهم وإسعادهم، وإشراكهم معك في نعمة الله - تعالى - عليكم.(/6)
أيها الصائم: اذكر حين تجتمع مع زوجك وأطفالك؛ لتَمْلَؤُوا بطونكم ريًّا وشبعًا، اذكر في تلك اللحظات جَوْع الجائعين، ولوعة المُلْتَاعينَ، وعبرات البائسينَ، واخش أن لا يتقبلَ الله لك صيامًا ولا طاعة، وحولك بُطونٌ جائعةٌ تستطيع إشباعها، ونفوس حائرة تملك إسعادها، واذكر قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ليس المؤمنُ الذي يشبع وجاره جائع إلى جنبه))؛ رواه البخاري في الأدب المفرد: 112.
وتحرّ في صدقاتك أهل الحاجات، ولا تتخلص منها بإلقائها في يد أقرب سائل؛ فإن الذمة لا تَبْرأ إلا بعد الاجتهاد والتَّحَرِّي، واسأل أهل الخبرة في ذلك من الصالحين، والعاملينَ في مجالات البر والإحسان إن كنت تعجز عن البحث بنفسك. واجعل نصب عينك قول المولى - عز وجل -: {وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المزمل: 20].
أسأل الله - تعالى - بِمَنِّهِ وكرمه أن يتقبلَ صيامي وصيامَك وصيام المسلمين، وأن يجعلنا من عباده الصالحين، والحمد لله رب العالمين، وصلى وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين.(/7)
العنوان: رمضان وسلامة القلوب
رقم المقالة: 252
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
الحمد لله؛ اختار لنا من الدين أحسنه، ومن الشريعة أكملها، أحمده على ما من به علينا من عظيم النعم، وأشكره فكم دفع عنا من النقم، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ شرع الصيام تطهيرا للقلوب، وزكاء للنفوس، وصلاحا للعباد في المعاش والمعاد (وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون) وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وخيرته من خلقه؛ كان يصوم حتى يقول أصحابه لا يفطر، ويفطر حتى يقولوا لا يصوم، وما استكمل صيام شهر إلا رمضان، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين0
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه؛ فإنكم في شهر تتأكد فيه التقوى (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون)0
أيها الناس: امتن الله تعالى على المؤمنين بأن جمع قلوبهم على الإيمان، ووحد كلمتهم ضد الأعداء، وجعلهم إخوة متحابين متعاونين، وحين كانت الثارات والحروب بين قبيلتي الأنصار: الأوس والخزرج جاء الله تعالى بالإسلام الذي جمعهم بعد التفرق، ووحدهم بعد الشتات، وأبدل ما في قلوبهم من البغضاء والشحناء محبة ووئاما وإيثارا (واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا) بل امتن الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم بتأليفه سبحانه بين قلوبهم، وجمعه لكلمتهم، وما كان النبي صلى الله عليه وسلم ليجمعهم ولو أنفق كنوز الأرض في سبيل ذلك؛ لتمكن الشيطان منهم، وامتلاء قلوبهم بالضغينة والشحناء، فمن رحمة الله تعالى أن أزال ذلك من قلوبهم ببركة الإسلام، وغسل قلوبهم من الأحقاد بماء الإيمان (وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز)(/1)
إن سلامة القلوب وصلاحها يكون باستقامتها على أمر الله تعالى، وإذا استقام قلب العبد ضمن صاحبه طهارته من الشرك والنفاق والرياء والحسد والغش للمسلمين، ومن كان سليم القلب فاز في الدنيا والآخرة0
وأصحاب القلوب السليمة يدركون من الأجر، ويبلغون من المنازل بطهارة قلوبهم ونقائها ما لا يبلغه الصائمون القائمون بصيامهم وأعمالهم الصالحة؛ كما روى أنس بن مالك رضي الله عنه فقال: (كنا جلوسا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة، فطلع رجل من الأنصار تَنْطِفُ لحيتُه من وضوئه قد تعلَّق نعليه في يده الشمال، فلما كان الغدُ قال النبي صلى الله عليه وسلم مثلَ ذلك، فطلع ذلك الرجل مثلَ المرةِ الأولى، فلما كان اليومُ الثالثُ قال النبي صلى الله عليه وسلم مثلَ مقالتِه أيضا، فطلع ذلك الرجلُ على مثل حاله الأولى، فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم تبعه عبد الله بن عمرو بن العاص فقال:إني لاحيتُ أبي فأقسمت أن لا أدخل عليه ثلاثا فإن رأيت أن تؤويَني إليك حتى تمضيَ، فعلتُ، قال: نعم، قال أنس: وكان عبد الله يحدث أنه بات معه تلك الليالي الثلاث فلم يره يقوم من الليل شيئا غير أنه إذا تعارَّ وتقلَّب على فراشه ذكر الله عز وجل وكبَّر، حتى يقومَ لصلاة الفجر، قال عبد الله: غير أني لم أسمعه يقول إلا خيرا، فلما مضت الثلاث ليال وكدت أن احتقر عمله قلت: يا عبد الله، إني لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا هَجْرٌ ثَمَّ، ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لك ثلاث مرار: يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة فطلعت أنت الثلاثَ مرار فأردت أن آوي إليك لأنظر ما عملُك فاقتدى به، فلم أرك تعمل كثير عمل فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال: ما هو إلا ما رأيت، قال: فلما وليت دعاني فقال: ما هو إلا ما رأيت غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشا، ولا أحسد أحدا على خير أعطاه الله إياه،(/2)
فقال عبد الله: هذه التي بلغت بك وهى التي لا نطيق) رواه أحمد بإسناد على شرط الشيخين0
وفي حديث آخر حكى النبي صلى الله عليه وسلم عمن سلمت قلوبهم من الضغائن والأحقاد بأنهم أفاضل الناس؛ كما جاء في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (أي الناس أفضل ؟ قال: كل مخموم القلب صدوق اللسان، قالوا: صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب ؟ قال: هو التقي النقي لا إثم فيه ولا بغي ولا غل ولا حسد) رواه ابن ماجه بإسناد صحيح0
وامتدح الله تعالى من جاءوا بعد الصحابة رضي الله عنهم فسلمت قلوبهم عليهم وعلى عموم المسلمين، ونوه الله تعالى بدعائهم في قرآن يتلى إلى يوم القيامة (والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم)0
وأرشد الله سبحانه وتعالى إلى كيفية التعامل مع من ناصبك العداء من إخوانك المسلمين بأن تقابل إساءته بالإحسان، وترد جهله بالحلم، ولا تستسلم لعمل الشيطان وكيده ووسوسته الذي يدفعك إلى الانتصار والانتقام دفعا (ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولى حميم، وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم، وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم)
وصاحب القلب السليم على إخوانه المسلمين متصف بصفات أهل الجنة، الذين سلمت قلوب بعضهم على بعض من الغل والكراهية بتطهير الله تعالى لها (ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين)، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم حالهم في الجنة فقال (لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم على قلب رجل واحد) رواه البخاري0(/3)
إن قلوب العباد تفسدها الضغائن والشحناء والحسد والأحقاد؛ حتى يشقى بها أصحابها في الدنيا، فلا يهنأون بعيش، ولا يرتاح لهم بال، ولا ترفع لهم أعمال، مع ما يفوتهم من الخير الكثير، بل ويفوتون الخير على غيرهم بسبب ما في قلوب بعضهم على بعض، ولتعلموا - أيها الإخوة - أن ليلة القدر رفع العلم بها في سنة من السنوات بسبب خصومة وقعت بين رجلين؛ كما روى عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال:(خرج النبي صلى الله عليه وسلم ليخبرنا بليلة القدر فتلاحى رجلان من المسلمين فقال خرجت لأخبركم بليلة القدر فتلاحى فلان وفلان فرفعت 000) رواه البخاري0
وأما عدم رفع العمل الصالح بسبب الشحناء فجاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين ويوم الخميس فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئا إلا رجلا كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقال: انظروا هذين حتى يصطلحا، انظروا هذين حتى يصطلحا، انظروا هذين حتى يصطلحا) رواه مسلم، وفي رواية لأحمد (تعرض الأعمال في كل اثنين وخميس فيغفر الله عز وجل لكل عبد لا يشرك به شيئا إلا المتشاحنين يقول الله للملائكة: ذروهما حتى يصطلحا)
وكم في المسلمين من التقاطع والتدابر بسبب خلافات يمكن علاجها، وإزالة أسبابها ؟! كم في القرابات والأرحام والأصهار من الشحناء والبغضاء، والحسد والهجران، والتفرق والاختلاف بسبب إرث لم يقسم، أو مزارع ميتة لا تساوي شيئا، يدفعون أضعاف أثمانها للغرباء عنهم، ويعزُّ على الواحد منهم أن يتنازل عن شبر واحد منها لقريبه، ولم تكن الأرض هي السبب، ولا الإرث هو المشكلة، إنْ هي إلا تعلات تجعل في الواجهة، وأعذار تبدى للناس عند المناقشة، ولكن المشكلة الحقيقية هي في قلوب امتلأت بالضغائن، واسودت بالأحقاد، فتمنى القريب معها لقريبه كل سوء، وحسده على كل خير 00(/4)
أرحام جمعتها أواصر الرحم، ووشائج القربى، ففرقتها الأحقاد، ومزقتها الضغائن، ويا ويل قاطعيها من الرحمن جل جلاله؛ إذ أوجب صلتها، وحرم قطيعتها، وقال سبحانه في الحديث القدسي:(أنا الرحمن وهي الرحم، شققت لها اسما من اسمي، من وصلها وصلته، ومن قطعها بتته) رواه أبو داود0
وكم في الجيران من قلوب لا تخلو من كدر الحسد والغل والكراهية، بيوتهم متجاورة وربما متلاصقة، ويسلكون في ذهابهم وإيابهم طريقا واحدة، ويشاهد بعضهم بعضا صباحا ومساء، بل يصطفون في مسجد حيهم خلف إمام واحد، قد التصقت أكعبهم ومناكبهم في عبادة من أجلِّ العبادات وأعظمها عند الله تعالى، ولكن بينهم من التنافر والتباعد أبعد مما بين المشرق والمغرب، وإذا جمعهم الله تعالى على غير ميعاد في سوق أو وليمة أو عند باب المسجد أعرض هذا وتنحى ذاك، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام0
ولو فتشت عن كثير من أسباب الغل والكراهية، والتدابر والقطيعة، لوجدتها أسبابا تافهة، ولكنه الشيطان الذي أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن في التحريش بينهم0
إنها عزة متوهمة، وقوة مزعومة تمنع الواحد من المتخاصمين أن يزيل أسباب الخلاف، ويدحر الشيطان، ويبدأ صاحبه بالسلام، وتمضي الأيام وهما على قطيعتهما، فلا ترفع إلى الله تعالى أعمالهما؛ لأن رفع الأعمال مشروط باصطلاحهما، وإزالة الشحناء بينهما، وصفاء قلب كل واحد منهما على صاحبه0
ولو مات أحدهما وهما على قطيعتهما لندم الآخر، ومن ختم حياته بهجران أخيه المسلم فبئس الخاتمة، فإن كان جارا له فبئس الجار، وإن كان ذا رحم فالأمر أشد، والمعصية أكبر، وبقدر قرب رحمه منه مع هجره له يزداد الإثم، وتعظم شناعة الهجر والقطيعة، كيف ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:(لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث فمن هجر فوق ثلاث فمات دخل النار)رواه أبو داود0 هذا في حق المسلم عموما، فكيف إذا بالجار، ثم كيف بذي الرحم والقرابة؟!(/5)
فإن بلغ الهجر بينهما سنة كاملة فالأمر أخطر، والإثم أشد؛ لما جاء في حديث أبي خراش السلمي رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:(من هجر أخاه سنة فهو كسفك دمه) رواه أبو داود0فكيف إذا بهجران وتقاطع يمتد سنوات كثيرة ؟! نعوذ بالله تعالى من ذلك، ونسأله سبحانه أن يطهر قلوبنا من الحقد والحسد والضغينة، وأن يجعلها قلوبا سليمة (ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم) 0
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم 0
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين0
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واعمروا أوقاتكم بذكره وشكره وحسن عبادته؛ فإن الأعمار تمضي، والأعمال تكتب، ولا ينفع العبد في آخرته بعد رحمة الله تعالى إلا ما قدم من عمل صالح في الحياة الدنيا (يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد)0
أيها الناس: شهر رمضان شهر خير وبركة وإحسان، وهو فرصة عظيمة لتطهير القلوب من أدران الحسد والبغضاء، والكراهية والشحناء0
إنه فرصة لوصل أرحام قطعت، وزيارة إخوان هجروا00
إنه مناسبة جليلة لإزالة أسباب الخلاف والنزاع بين المتخاصمين، ووضع حد للمتهاجرين والمتقاطعين،
إنه فرصة لأن تسمو فيه النفوس على حظوظها، وتتطهر فيه القلوب من أدرانها وغلوائها، فتمتد فيه الأيدي بالمصافحة بعد سنوات الانقباض، وتطرق فيه الأبواب للزيارة بعد طول الجفاء والهجران، وتجتمع فيه الأرحام بعد التفرق والانقطاع0(/6)
إن رمضان قد جمع المسلمين في وقت إمساكهم وإفطارهم، وضيق مجاري الشيطان في عروقهم، فصار للصائمين فيه إقبال على الخير والإحسان، ومشاهد ذلك ظاهرة للعيان في موائد الإفطار، وكثرة البر والصدقات، ومساعدة الناس، فلماذا لا يمتد هذا الإحسان إلى مواطن النزاع، ومواضع الخلاف، فتزال أسبابها، ويستعلي على حظوظ النفس أصحابها، فيستبقون إلى من قطعوا وهجروا بالمصافحة والاعتذار استباقهم إلى سائر أنواع البر والإحسان، ورمضان هو الفرصة المواتية لذلك، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الصيام سبب لإزالة ما في القلوب من الإحن والغش والدغل، فتكون النفوس أقرب ما تكون إلى الصفح والعفو والمسامحة، قال النبي صلى الله عليه وسلم:(من سره أن يذهب كثير من وحر صدره فليصم شهر الصبر أو ثلاثة أيام من كل شهر) رواه أحمد، وفي رواية للنسائي (ألا أخبركم بما يذهب وحر الصدر صوم ثلاثة أيام من كل شهر)
وجاء في حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:(صوم شهر الصبر وثلاثة أيام من كل شهر صوم الدهر، ويذهب مغلة الصدر قال: قلت: وما مغلة الصدر ؟ قال: رجس الشيطان) رواه أحمد0
قال الخطابي رحمه الله تعالى: مغل الصدر ما يجده الواجد في صدره من الغل والفساد0
وجاء في غير ما حديث أن الصيام جنة يستجن بها العبد، ومن جملة ما يستجن منه العبد بالصيام الأحقاد والشحناء والبغضاء، حتى يكون قلبه سليما على إخوانه المسلمين0
ألا فاتقوا الله ربكم أيها المسلمون، وأصلحوا ذات بينكم، وطيبوا قلوبكم على إخوانكم، وصلوا ما قطعتم من أرحامكم، وأزيلوا أسباب الخلاف والنزاع بينكم، وخذوا بوصية نبيكم صلى الله عليه وسلم التي وصاكم بها فقال عليه الصلاة والسلام (لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال)
وصلوا وسلموا على نبيكم000(/7)
العنوان: رمضان وعطايا الرحمن
رقم المقالة: 1259
صاحب المقالة: ناصر بن مقحم النفيعي
-----------------------------------------
تمر الشهور وتتقلب السنوات ويظلنا شهر رمضان ليعيد إلينا المعاني الكبيرة التي تشكل بمجموعها معالم الحياة الإسلامية وقيم الدين التي يجب أن لا تغيب عن حياة المسلم والعبادات في الإسلام لا تغني فيها الواحدة عن الأخرى. حيث إنها في مجموعها وتكاملها تشكل بناء الشخصية الإسلامية فهي جميعًا غذاء العقيدة والتعبير الإيجابي عنها والعمل بها.
إن الإنسان مفطور على الخير ومدفوع بدوافعه، ومعرض كذلك لنوازع الشر وطريق الخير واحد وطرق الشر كثيرة، على رأس كل واحد منها شيطان يغري بها. ونزوع الإنسان إلى الشر قائم فلابد له من حراسة ويقظة وتزود بطاقات تغلب دوافع الخير على نوازع الشر، ولا يتأتى هذا إلا بالعبادات عامة وبصيام رمضان خاصة.
رمضان شهر القرآن:
يقول الله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ القُرْآنُ} [البقرة: 185].
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنَّ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "كان يلقاه جبريل في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن"[1].
وعن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقول الرب تبارك وتعالى: من شغله القرآن عن ذكري وسألني أعطيته أفضل ما أعطي السائلين"[2].
رمضان شهر القيام:
روى النسائي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ الله فرض صيام رمضان وسننت لكم قيامه، فمن صامه وقامه إيماناً واحتسابا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه"[3].
وقال المصطفى صلى الله عليه وسلم: " من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه"[4].
لم لا والصيام يؤدي إلى التقوى. لهذا نرى الصائم يدفعه تقواه دائماً إلى هجر مضجعه من أجل قيام الليل، وقراءة القرآن، وذكر الرحمن، إنها بعينها كل الصفات التي عددها الله لنا في كتابه الكريم.(/1)
روي عن لقمان الحكيم أنه قال: يا بني إذا امتلأت المعدة نامت الفكرة، وخرست الحكمة، وقعدت الأعضاء عن العبادة.
رمضان شهر الاستغفار:
يقول الله عز وجل: {وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 18]، فالصائم لابد أن يقوم في جوف الليل ليتناول طعام سحوره حتى يستطيع أن يواصل صومه، وفي أثناء ذلك يذكر الله ويكبر ويستغفر وقت السحور.
رمضان شهر الفكر والتسبيح:
في رمضان يكاد يكون التسبيح والذكر في كل وقت في نهاره وليله فحين الفطور يذكر الصائم ربه ويحمده ويسبحه، كذلك حين السحور وعند أطراف النهار، وعقب كل صلاة نافلة أم ومكتوبة. وفي كل لحظة لأنه يتذكر فيها ربه وأنه عز وجل يراقبه فيبتعد عما يغضبه.
رمضان شهر التراويح:
إن صلاة التراويح في ليالي رمضان سنة مؤكدة حتى يشعر الصائم بعد فطوره أنه لا يزال متصلاً بالله وحتى يشعر الصائم أيضاً بتلك الراحة، إن الصائم يؤديها بعد صلاة العشاء فيصليها ركعتين ركعتين حتى يصل إلى تمامها ثم تختم بصلاة الوتر.
إن صلاة التروايح هي جزء من قيام الليل ويفضل صلاتها في جماعة المسجد لإمكان قراءة القرآن كله أو معظمه على مدار ليال رمضان.
رمضان شهر الاعتكاف:
إنَّ معنى الاعتكاف هو مكوث الصائم في المسجد للذكر والصلاة والتسبيح والتهجد والدعاء وقراءة القرآن والاستغفار دون أن ينشغل بأمور الدنيا حتى النساء قال الله تعالى: {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي المَسَاجِدِ} [البقرة: 187]، وعن عائشة - رضى الله عنها - قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل العشر الأخير من رمضان شد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله"[5].
وما الاعتكاف إلا تهيئة للنفس والجسد، ليقبل المؤمن بعد ذلك على ربه راضيًا مرضيًّا، وحتى يطمئن في عبادته حتى يتوفر الإخلاص الكامل فيها، والتسليم لله رب العالمين.
رمضان فيه ليلة القدر:(/2)
قال الله تعالى: {لَيْلَةُ القَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 3]، ويقول سبحانه: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ} [الدخان: 3]، إنها ليلة تتنزل فيها الملائكة الكرام، فتتجمع حول قارئ القرآن ومن ثم تكون سلاما في سلام في ضياء، إنها في العشر الأواخر من رمضان، كما أخبرنا بذلك المصطفى عليه الصلاة والسلام حيث قال: "تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان"[6].
رمضان شهر الدعاء:
إن الدعاء هو العبادة يقول الله تبارك وتعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] وعن أبي هريرة - رضى الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ثلاثة لا ترد دعوتهم، الصائم حتى يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم"[7].
وهناك العديد من عطايا الرحمن:
منها ما عجله الله في حياتنا الدنيا وهي تلك التى تعود على صحتنا، فتقوي أبداننا وتشفي أجسادنا من أمراضها، وبصيامنا تستريح جميع أجهزة أجسامنا من شر وعاء فيها ألا وهو هذه المعدة، كما يساعد الصيام في تحريك تلك المشاعر نحو الإخلاص في الطاعات حينما تصح الأبدان فتصفوا النفس.
وفي نهاية الصيام من كل عام يأتي بعده يوم الجائزة، حينما يقبل العيد علينا بانشراح فنهلل ونكبر ونحمد الله لا لأن رمضان قد أدبر عنا، بل لأن الله قد أعاننا على أداء الفريضة المكتوبة علينا، قال تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا العِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185].(/3)
والعطية الأخرى هي عطية الآخرة تلك العطية الكبرى. ويكفي أن الله هو الذي أخذ على نفسه عهدا بأنه سبحانه وتعالى هو الذي سيجازي به لأن هذه العبادة هي سر بين الله وعبده لا يستطيع أن يحس بها أو يقدرها أي إنسان آخر غيره ذلك لأنها فريضة لا يتحرك فيها أي عضو من الجسم أمام أحد من الخلق مثل باقي الفرائض الأخرى التي قد تظهر للناس ويرون فاعلها.
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به"[8].
أسأل الله أن يتقبل من المسلمين صيامهم وقيامهم وأن يؤلف بين قلوبهم في هذا الشهر المبارك. وصلى لله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
ـــــــــــــــــــــــــــ
[1] رواه البخاري.
[2] رواه الترمذي.
[3] رواه النسائي.
[4] رواه الشيخان.
[5] رواه البخاري ومسلم، والإمام أحمد وأصحاب السنن إلا الترمذي.
[6] رواه البخاري.
[7] رواه الترمذي وابن ماجه والإمام أحمد.
[8] رواه البخاري.(/4)
العنوان: رمضانُ وفرصةُ التغيير
رقم المقالة: 1516
صاحب المقالة: الشيخ حسين مسعود القحطاني
-----------------------------------------
إن التغييرَ قضيةٌ بعيدةُ الغَوْر، واسعةُ الأفق، ولكنها تبدأ من الإنسان نفسه؛ يقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11]، ومعنى هذه الآية -كما قال ابن سعدي رحمه الله-: أن الله لا يغير ما بقومٍ من النعمة والإحسان، ورغد العيش، حتى يغيروا ما بأنفسهم؛ بأن ينتقلوا من الإيمان إلى الكفر، ومن الطاعة إلى المعصية، أو من شكر نعم الله –تعالى- إلى البطر بها، فيسلبهم الله إياها عند ذلك.
ورمضان فرصةٌ مواتية للتغيير، إذْ هبَّت نفحاتُ هذا الشهر الكريم على قلوبنا كالنسائم الباردة فأنعشتها، لتعلن سرعة التغيير الواقع في منظومة الحياة، ففي كل المظاهر التعبدية والاجتماعية والوظيفية، نجد كُلَّ شيء وقد تغيرَ من أجل رمضان، ولكن السؤال الأهم: هل رياحُ التغيير التي أحدثها هذا الضيفُ الكريم في حياتنا اكتسحت ما بدواخلنا لإحداث نقلةٍ رُوحية وجسدية تمكننا من التقدم في ركب القوم؟
إذا كان شهرُ رمضان أحدثَ في هذا الكون الشامخ تغييراً ملموساً لا ينكره أحد، إذ فتّحت أبوابُ الجنة، وغلّقت أبواب النار، وصفِّد الأعداء الألداء الشياطين، وينزل الملائكة الكرام مشاركين في سيدة الليالي ليلةِ القدر يملؤون الأرض، كل هذا على غير عادةٍ في غير رمضان، حصلت هذه التغييرات الكونية في سيد الشهور، أفلا تتغيرُ حياتُنا المريرة وأوضاعنا المأسوية في شهر ٍمُنح من الخصائص ما يعجز عن تدوينه المدادُ؟(/1)
إن كثيراً من الناس يشعرون بألم المعصية، ويحسون بمرارة الضياع والبعد عن الله تعالى، ولكنهم لا يتخذون القرار الحازم في جعل آلة التغيير تُدير حياتهم، تجد أحدَهم يُسوّف بالتوبة، وآخرَ ينتظر مناسبةً قادمة، وثالثًا يرقب وظيفةً، ورابعًا يتعذر بأعذار واهية، وهكذا، حتى لربما هجم على أحدهم هاذمُ اللذات (الموت)، وهو لا يزال في تقصيره وإعراضه عن ربه، فيندم حين لا ينفع الندم أو التصحيح، مع أن الفرص كانت تلوح أمامه لإخضاع نفسه، والتغيير الإيجابي كان في إمكانه، ولكن الإرادة الفولاذية، والعزيمة القوية، والخطوة التالية، لم يتمكن منها ولم تتمكن منه، مع أن القرار الشجاع الذي فيه سعادتُه وحياته كان بيده، إنه قرار البداية الذي من عنده لا من عند غيره.
أخي الكريم، أختي الكريمة
انظر إلى قصة من قتل مئة نفس، كيف وفقه الله تعالى إلى طريق التوبة، حينما بدأ يسأل، ويُلح في السؤال، ويبحث عن مخرج مما هو فيه، حينها هيأ الله له الخلاص ورزقه توبةً في آخر حياته. إن الله -جلّ وعلا- لم يكتب القرب من أحد إلا بسعيٍ منه وإقبال، ألا ترى أنه قال في الحديث القدسي: "من تقرّب إلى شبراً تقرّبت إليه ذراعاً، ومن تقرّب إلى ذراعاً تقرّبت إليه باعاً، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة " [متفق عليه].
أصلِح نفسَك، وهذِّبْها، وغيِّر من عاداتها القبيحة إلى عاداتٍ حسنة؛ فالمسلمُ الحق هو الذي يحققُ أقصى درجات الاستغلال لهذا الشهر العظيم، ليغيِّر ما بنفسه حتى يغيّر الله ما به، فإن غاية الصيام معالجةُ النفس وإصلاحها لتكتسب بعدها الإرادةَ الصارمة، والعزيمة الجادة على طريق الإصلاح؛ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].(/2)
أصلِح قلبَك، وغيّره، وطلِّق ما به من أمراض إلى الأبد خلال هذا الشهر، ففي رمضان تسلم القلوبُ من وَحَرها وحسدها وحقدها وغشها وخيانتها، وتسلم من الشحناء والبغضاء، ومن التهاجر والتقاطع، لتعود إلى فطرتها الحقيقة؛ قال عليه الصلاة والسلام: (صومُ شهر الصبر وثلاثةِ أيام من كل شهر يُذهبن وَحَرَ الصدر) [أخرجه البزار وصححه الألباني]، وسلامة القلب بها النجاة في الدنيا والآخرة.
أصلِح لسانَك، وطهّره، فهو أخطر جوارح الإنسان، صغيرٌ جِرْمُه، عظيمٌ جُرْمه، فبالصيام يسلم اللسانُ من قول الزور، ويسلم من العمل به، ويسلم من اللغو، ويسلم من اللعن، ومن الباطل، ومن الكذب، ومن الغيبة والنميمة وغيرها، قال رسول الهدى -عليه الصلاة والسلام-: (من لم يدَعْ قولَ الزور والعملَ به، فليس لله حاجةٌ في أن يدع طعامه وشرابه) [أخرجه البخاري]، ويقول: (ليس الصيامُ من الأكل والشراب، إنما الصيامُ من اللغو والرفث؛ فإن سابك أحد أو جهل عليك فقُل: إني صائم إني صائم) [أخرجه الحاكم وصححه الألباني]، وهكذا بقية الجوارح، وبقية الأعمال، تصلُح وتتغير نحو الأفضل لمن صدق مع خالقه، فيصدقه فيما يعمل.
أخي الكريم، أختي الكريمة
إن من لم ينصلحْ حالُه في رمضان، وتتغيرْ أوضاعُه، فقولوا لي بالله عليكم، متى ينصلحُ حالُه، وتتغير أوضاعُه، وعموماً إن كانت الفرصةُ قد فاتت غيرنا، ولم يتمكنوا من التغيير، بسبب موتٍ أو عارضٍ ما، فالفرصةُ سانحة أمامنا، والمجال لا يحتاج منا إلى تأخير، ولكن أين من يملك الشجاعةَ الكافية على امتلاك آلية التغيير التي يمنحها لنا رمضان.. يا صائم رمضان؟(/3)